كتب ابن القيم- شاملة - txt

كتاب – أحكام أهل الذمة – ابن قيم الجوزية

Codebeautify.org Text to HTML Converter

http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة [ أحكام أهل الذمة – ابن قيم الجوزية ] الكتاب : أحكام أهل الذمة المؤلف : محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله الناشر : رمادى للنشر – دار ابن حزم – الدمام – بيروت الطبعة الأولى ، 1418 – 1997 تحقيق : يوسف أحمد البكري – شاكر توفيق العاروري عدد الأجزاء : 3 باب الجزية سئل الشيخ الإمام العالم العلامة شمس الدين زاده الله من فضله عن كيفية الجزية الموضوعة على أهل الذمة بالبلاد الإسلامية وسبب وضعها وعن مقدار ما يؤخذ من الأغنياء ومن المتوسطين ومن الفقراء وعن حد الغني والمتوسط والفقير فيها وهل يثاب أولياء أمور المسلمين أمدهم الله تعالى على إلزامهم بها على حسب حالهم أم لا ؟ وهل يؤخذ من الغني والفقير والمتوسط ؟ وأجاب أما سبب وضع الجزية فهو قوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ممن تؤخذ الجزية فأجمع الفقهاء على أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب ومن المجوس وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد توقف في أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبدالرحمن بن عوف أن رسول الله أخذها من مجوس هجر ذكره البخاري وذكر الشافعي أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال ما أدري كيف أصنع في أمرهم فقال له عبدالرحمن بن عوف أشهد لسمعت رسول الله يقول سنوا بهم سنة أهل الكتاب وهذا صريح في أنهم ليسوا من أهل الكتاب ويدل عليه قوله تعالى أن يقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين فالله سبحانه حكى هذا عنهم ولم ينكره عليهم ولم يكذبهم فيه وأما حديث علي أنه قال أنا أعلم الناس بالمجوس كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه وإن ملكهم سكر فوقع على ابنته أو اخته فاطلع عليه بعض أهل مملكته فلما صحا جاؤوا يقيمون عليه الحد فامتنع منهم ودعا أهل مملكته وقال تعلمون دينا خيرا من دين آدم وقد أنكح بنيه بناته فأنا على دين آدم قال فتابعه قوم وقاتلوا الذين يخالفونه حتى قتلهم فأصبحوا وقد أسري بكتابهم ورفع العلم الذي في صدورهم فهم أهل كتاب وقد أخذ رسول الله وأبو بكر وأراه قال وعمر منهم الجزية فهذا حديث رواه الشافعي في مسنده وسعيد بن منصور وغيرهما ولكن جماعة من الحفاظ ضعفوا الحديث قال أبو عبيد لا أحسب ما رووه عن علي في هذا محفوظا وقد روى البخاري في صحيحه عن المغيرة بن شعبة أنه قال لعامل كسرى أمرنا نبينا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية وفي مسند الإمام أحمد والترمذي عن ابن عباس قال مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاءه النبي وشكوه إلى أبي طالب فقال يا ابن أخي ما تريد من قومك ؟ قال أريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية قال كلمة واحدة ؟ قال كلمة واحدة لا إله إلا الله قالوا أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق قال فنزل فيهم ص والقرآن ذي الذكر . . إلى قوله . . اختلاق وفي الصحيحين من حديث عمرو بن عوف الأنصاري أن رسول الله بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي وذكر أبو عبيد في كتاب الأموال عن الزهري قال قبل رسول الله الجزية من أهل البحرين وكانوا مجوسا وفي سنن أبي داود من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة فأخذوه فأتوا به فحقن له دمه وصالحه على الجزية وقال الزهري أول ما أخذت الجزية من أهل نجران وكانوا نصارى وفي صحيح البخاري عن ابن أبي نجيح قال قلت لمجاهد ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار ؟ قال جعل ذلك من قبل اليسار فاختلف الفقهاء فيمن تؤخذ منهم الجزية بعد اتفاقهم على أخذها من أهل الكتاب ومن المجوس فقال أبو حنيفة تؤخذ من أهل الكتاب والمجوس وعبدة الأوثان من العجم ولا تؤخذ من عبدة الأوثان من العرب ونص على ذلك أحمد في رواية عنه واحتج أرباب هذا القول على ذلك بحجج منها قوله في الحديث المتقدم وتؤدي إليكم بها العجم الجزية واحتجوا بحديث بريدة الذي رواه مسلم في صحيحه قال كان رسول الله إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكم فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا وفي هذا الحديث أنواع من الفقه منها وصية الإمام لنوابه وأمرائه وولاته بتقوى الله والإحسان إلى الرعية فبهذين الأصلين يحفظ على الأمير منصبه وتقر عينه به ويأمن فيه من النكبات والغير ومتى ترك هذين الأمرين أو أحدهما فلا بد أن يسلبه الله عزه ويجعله عبرة للناس فما إن سلبت النعم إلا بترك تقوى الله والإساءة إلى الناس ومنها أن الجيش ليس لهم أن يغلوا من الغنيمة ولا يغدروا بالعهد ولا يمثلوا بالكفار ولا يقتلوا من لم يبلغ الحلم ومنها أن المسلمين يدعون الكفار قبل قتالهم إلى الإسلام وهذا واجب إن كانت الدعوة لم تبلغهم ومستحب إن بلغتهم الدعوة هذا إذا كان المسلمون هم القاصدين للكفار فأما إذا قصدهم الكفار في ديارهم فلهم أن يقاتلوهم من غير دعوة لأنهم يدفعونهم عن أنفسهم وحريمهم ومنها إلزامهم بالتحول إلى دار الإسلام إذا كانوا مقيمين بين الكفار فإن أسلموا كلهم وصارت الدار دار الإسلام لم يلزموا بالتحول منها بل يقيمون في ديارهم وكانت دار الهجرة في زمن رسول الله هي دار الإسلام فلما أسلم أهل الأمصار صارت البلاد التي أسلم أهلها بلاد الإسلام فلا يلزمهم الانتقال منها ومنها أن الأعراب ليس لهم شيء في الفيء ولا في الغنائم ما لم يقاتلوا فإذا قاتلوا استحقوا من الغنيمة ما يستحقه من شهد الوقعة وأما الأعراب الذين لا يقاتلون الكفار مع المسلمين فليس لهم شيء في الفيء ولافي الغنيمة ومنها أن الجزية تؤخذ من كل كافر هذا ظاهر هذا الحديث ولم يستثن منه كافرا من كافر ولا يقال هذا مخصوص بأهل الكتاب خاصة فإن اللفظ يأبى اختصاصهم بأهل الكتاب وأيضا فسرايا رسول الله وجيوشه أكثر ما كانت تقاتل عبدة الأوثان من العرب ولا يقال إن القرآن يدل على اختصاصها بأهل الكتاب فإن الله سبحانه أمر بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية والنبي صلى الله عليه و سلم أمر بقتال المشركين حتى يعطوا الجزية فيؤخذ من أهل الكتاب بالقرآن ومن عموم الكفار بالسنة وقد أخذها رسول الله من المجوس وهم عباد النار لا فرق بينهم وبين عبدة الأوثان ولا يصح أنهم من أهل الكتاب ولا كان لهم كتاب ولو كانوا أهل كتاب عند الصحابةBهم لم يتوقف عمر رضي الله عنه في أمرهم ولم يقل النبي سنوا بهم سنة أهل الكتاب بل هذا يدل على أنهم ليسوا أهل كتاب وقد ذكر الله سبحانه أهل الكتاب في القرآن في غير موضع وذكر الأنبياء الذين أنزل عليهم الكتب والشرائع العظام ولم يذكر للمجوس مع أنها أمة عظيمة من أعظم الأمم شوكة وعددا وبأسا كتابا ولا نبيا ولا أشار إلى ذلك بل القرآن يدل على خلافه كما تقدم فإذا أخذت من عباد النيران فأي فرق بينهم وبين عباد الأوثان ؟ فإن قيل فالنبي لم يأخذها من أحد من عباد الأوثان مع كثرة قتاله لهم قيل أجل وذلك لأن آية الجزية إنما نزلت عام تبوك في السنة التاسعة من الهجرة بعد أن أسلمت جزيرة العرب ولم يبق بها أحد من عباد الأوثان فلما نزلت آية الجزية أخذها النبي ممن بقي على كفره من النصارى والمجوس ولهذا لم يأخذها من يهود المدينة حين قدم المدينة ولا من يهود خيبر لأنه صالحهم قبل نزول آية الجزية ادعاء يهود خيبر إسقاط الجزية عنهم ورد ذلك وهذه الشبهة هي التي أوقعت عند اليهود أن أهل خيبر لا جزية عليهم وأنهم مخصوصون بذلك من جملة اليهود ثم أكدوا أمرها بأن زوروا كتابا فيه أن رسول الله أسقط عنهم الكلف والسخر والجزية ووضعوا فيه شهادة سعد بن معاذ ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهما وهذا الكتاب كذب مختلق بإجماع أهل العلم من عشرة أوجه منهاأن أحدا من علماء النقل والسير والمغازي لم يذكر أن ذلك وقع البتة مع عنايتهم بضبط ما هو دون ذلك بكثير الثاني أن الجزية إنما نزلت بعد فتح خيبر فحين صالح أهل خيبر لم تكن الجزية نزلت حتى يضعها عنهم الثالث أن معاوية بن أبي سفيان لم يكن أسلم بعد فإنه إنما أسلم عام الفتح بعد خيبر الرابع أن سعد بن معاذ توفي عام الخندق قبل فتح خيبر الخامس أنه لم يكن في زمن رسول الله على أهل خيبر كلف ولا سخر حتى توضع عنهم السادس أنه لم يكن لأهل خيبر من الحرمة ورعاية حقوق المسلمين ما يقتضي وضع الجزية عنهم وقد كانوا من أشد الكفار عداوة لرسول الله وأصحابه فأي خير حصل بهم للمسلمين حتى توضع عنهم الجزية دون سائر الكفار ؟ السابع أن الكتاب الذي أظهروه ادعوا أنه بخط علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهذا كذب قطعا وعداوة علي رضي الله عنه لليهود معروفة وهو الذي قتل مرحبا اليهودي وأثخن في اليهود يوم خيبر حتى كان الفتح على يديه الثامن أن هذا لا يعرف إلا من رواية اليهود وهم القوم البهت أكذب الخلق على الله وأنبيائه ورسله فكيف يصدقون على رسول الله فيما يخالف كتاب الله تعالى ؟ التاسع أن هذا الكتاب لو كان صحيحا لأظهروه في أيام الخلفاء الراشدين وفي أيام عمر بن عبدالعزيز وفي أيام المنصور والرشيد وكان أئمة الإسلام يستثنونهم ممن توضع عنهم الجزية أو لذكر ذلك فقيه واحد من فقهاء المسلمين ولا يجوز على الأمة أن تجمع على مخالفة سنة نبيها وكيف يكون بأيدي أعداء الله كتاب من رسول الله ولا يحتجون به كل وقت على من يأخذ الجزية منهم ولا يذكره عالم واحد من علماء السلف ؟ وإن اغتر به بعض من لا علم له بالسيرة والمنقول من المتأخرين شنع عليه أصحابه وبينوا خطأه وحذروا من سقطته العاشر أن أئمة الحديث والنقل يشهدون ببطلان هذا الكتاب وأنه زور مفتعل وكذب مختلق ولما أظهره اليهود بعد الأربع مئة على عهد الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي أرسل إليه الوزير ابن المسلمة فأوقفه عليه فقال الحافظ هذا الكتاب زور فقال له الوزير من أين هذا ؟ فقال فيه شهادة سعد بن معاذ ومعاوية بن أبي سفيان وسعد مات يوم الخندق قبل خيبر ومعاوية أسلم يوم الفتح سنة ثمان وخيبر كانت سنة سبع فأعجب ذلك الوزير والمقصود أن النبي لم يأخذ الجزية من أحد من مشركي العرب لأن آية الجزية نزلت بعد عام تبوك وكانت عباد الأصنام من العرب كلهم قد دخلوا في الإسلام فأخذها النبي ممن لم يدخل في الإسلام من اليهود ومن النصارى ومن المجوس قال المخصصون بالجزية لأهل الكتاب المراد من إرسال الرسل وإنزال الكتب إعدام الكفر والشرك من الأرض وأن يكون الدين كله لله كما قال تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله وفي الآية الأخرى ويكون الدين كله لله ومقتضى هذا ألا يقر كافر على كفره ولكن جاء النص بإقرار أهل الكتاب إذا أعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فاقتصرنا بها عليهم وأخذنا في عموم الكفار بالنصوص الدالة على قتالهم إلى أن يكون الدين كله لله قالوا ولا يصح إلحاق عبدة الأوثان بأهل الكتاب لأن كفر المشركين أغلظ من كفر أهل الكتاب فإن أهل الكتاب معهم من التوحيد وبعض آثار الأنبياء ما ليس مع عباد الأصنام ويؤمنون بالمعاد والجزاء والنبوات بخلاف عبدة الأصنام وعبدة الأصنام حرب لجميع الرسل وأممهم من عهد نوح إلى خاتم الأنبياء والمرسلين ولهذا أثر هذا التفاوت الذي بين الفريقين في حل الذبائح وجواز المناكحة من أهل الكتاب دون عباد الأصنام ولا ينتقض هذا بالمجوس فإن رسول الله أمر أن يسن بهم سنة أهل الكتاب وهذا يدل على أن الجزية إنما تؤخذ من أهل الكتاب وأنها إنما وضعت لأجلهم خاصة وإلا لو كانت الجزية تعم جميع الكفار لم يكن أهل الكتاب أولى بها من غيرهم ولقال لهم حكم أمثالهم من الكفار يقاتلون حتى يسلموا أو يعطوا الجزية وأما تحريم ذبائحهم ومناكحتهم فاتفاق من الصحابة رضي الله عنهم ولهذا أنكر الإمام أحمد وغيره على أبي ثور طرده القياس وإفتاءه بحل ذبائحهم وجواز مناكحتهم ودعا عليه أحمد حيث أقدم على مخالفة أصحاب رسول الله والصحابة كانوا أفقه وأعلم وأسد قياسا ورأيا فإنهم أخذوا في الدماء بحقنها موافقة لقول رسول الله وفعله حيث أخذها منهم وأخذوا في الأبضاع والذبائح بتحريمها احتياطا وإبقاء لها على الأصل وإلحاقا لهم بعباد الأوثان إذ لا فرق في ذلك بين عباد الأوثان وعباد النيران فالأصل في الدماء حقنها وفي الأبضاع والذبائح تحريمها فأبقوا كل شيء على أصله وهذا غاية الفقه وأسد ما يكون من النظر الحكمة من إبقاء أهل الكتاب بين أظهرنا قالوا ولله تعالى حكم في إبقاء أهل الكتابين بين أظهرنا فإنهم مع كفرهم شاهدون بأصل النبوات والتوحيد واليوم الآخر والجنة والنار وفي كتبهم من البشارات بالنبي وذكر نعوته وصفاته وصفات أمته ما هو من آيات نبوته وبراهين رسالته وما يشهد بصدق الأول والآخر وهذه الحكمة تختص بأهل الكتاب دون عبدة الأوثان فبقاؤهم من أقوى الحجج على منكر النبوات والمعاد والتوحيد وقد قال تعالى لمنكري ذلك فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ذكر هذا عقب قوله وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون يعني سلوا أهل الكتاب هل أرسلنا قبل محمد رجالا يوحى إليهم أم كان محمد بدعا من الرسل لم يتقدمه رسول حتى يكون إرساله أمرا منكرا لم يطرق العالم رسول قبله ؟ وقال تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون والمراد بسؤالهم سؤال أممهم عما جاؤوهم به هل فيه أن الله شرع لهم أن يعبد من دونه إله غيره ؟ قال الفراء المراد سؤال أهل التوراة والإنجيل فيخبرونه عن كتبهم وأنبيائهم وقال ابن قتيبة التقدير واسأل من أرسلنا إليهم رسلا من قبلك وهم أهل الكتاب وقال ابن الأنباري التقدير وسل من أرسلنا من قبلك وعلى كل تقدير فالمراد التقرير المشركي قريش وغيرهم ممن أنكر النبوات والتوحيد وأن الله أرسل رسولا أو أنزل كتابا أو حرم عبادة الأوثان فشهادة أهل الكتاب بهذا حجة عليهم وهي من أعلام صحة رسالته إذ كان قد جاء على ما جاء به إخوانه الذين تقدموه من رسل الله سبحانه ولم يكن بدعا من الرسل ولا جاء بضد ما جاؤوا به بل أخبر بمثل ما أخبروا به من غير شاهد ولا اقتران في الزمان وهذه من أعظم آيات صدقه شبهة وجوابها وقال تعالى فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين وقد أشكلت هذه الآية على كثير من الناس وأورد اليهود والنصارى على المسلمين فيها إيرادا وقالوا كان في شك فأمر أن يسألنا وليس فيها بحمد الله إشكال وإنما أتي أشباه الأنعام من سوء قصدهم وقلة فهمهم وإلا فالآية من أعلام نبوته وليس في الآية ما يدل على وقوع الشك ولا السؤال أصلا فإن الشرط لا يدل على وقوع المشروط بل ولا على إمكانه كما قال تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وقوله قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذن لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا وقوله قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين وقوله ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ونظائره فرسول الله لم يشك ولم يسأل وفي تفسير سعيد عن قتادة قال ذكر لنا أن رسول الله قال لا أشك ولا اسأل وقد ذكر ابن جريج عن ابن عباس رضي الله عنهما قال فإن كنت في شك أنك مكتوب عندهم فاسألهم وهذا اختيار ابن جرير قال يقول تعالى لنبيه فإن كنت يا محمد في شك من حقيقة ما أخبرناك وأنزلنا إليك من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في نبوتك قبل أن أبعثك رسولا إلى خلقي لأنهم يجدونك مكتوبا عندهم ويعرفونك بالصفة التي أنت بها موصوف في كتبهم فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك كعبدالله بن سلام ونحوه من أهل الصدق والإيمان بك منهم دون أهل الكذب والكفر بك وكذلك قال ابن زيد قال هو عبدالله بن سلام كان من أهل الكتاب فآمن برسول الله وقال الضحاك سل أهل التقوى والإيمان من مؤمني أهل الكتاب ممن أدرك نبي الله ولم يقع هؤلاء ولا هؤلاء على معنى الآية ومقصدها وأين كان عبدالله بن سلام وقت نزول هذه الآية فإن السورة مكية وابن سلام إذ ذاك على دين قومه وكيف يؤمر رسول الله أن يستشهد على منكري نبوته بأتباعه ؟ وقال كثير من المفسرين هذا الخطاب للنبي والمراد غيره لأن القرآن نزل عليه بلغة العرب وهم قد يخاطبون الرجل بالشيء ويريدون غيره كما يقول متمثلهم إياك أعني واسمعي يا جارة وكقوله تعالى يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين والمراد أتباعه بهذا الخطاب قال أبو إسحاق إن الله تعالى يخاطب النبي والخطاب شامل للخلق والمعنى وإن كنتم في شك والدليل على ذلك قوله تعالى في آخر السورة قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله وقال ابن قتيبة كان الناس في عصر النبي أصنافا منهم كافر به مكذب وآخر مؤمن به مصدق وآخر شاك في الأمر لا يدري كيف هو فهو مقدم رجلا ويؤخر رجلا فخاطب الله تعالى هذا الصنف من الناس وقال فإن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد فسل قال ووحد وهو يريد الجمع كما قال يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم و يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه و وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه وهذا وإن كان له وجه فسياق الكلام يأباه فتأمله وتأمل قوله تعالى يقرأون الكتاب من قبلك وقوله إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون وقوله ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وهذا كله خطاب واحد متصل بعضه ببعض ولما عرف أرباب هذا القول أن الخطاب لا يتوجه إلا على النبي قالوا الخطاب له والمراد به هذا الصنف الشاك وكل هذا فرار من توهم ما ليس بموهوم وهو وقوع الشك منه والسؤال وقد بينا أنه لا يلزم إمكان ذلك فصلا عن وقوعه فإن قيل فإذا لم يكن واقعا ولا ممكنا فما مقصود الخطاب والمراد به ؟ قيل المقصود به إقامة الحجة على منكري النبوات والتوحيد وأنهم مقرون بذلك لا يجحدونه ولا ينكرونه وأن الله سبحانه أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه بذلك وأرسل ملائكته إلى أنبيائه بوحيه وكلامه فمن شك في ذلك فليسأل أهل الكتاب فأخرج هذا المعنى في أوجز عبارة وأدلها على المقصود بأن جعل الخطاب لرسوله الذي لم يشك قط ولم يسأل قط ولا عرض له ما يقتضي ذلك وأنت إذا تأملت هذا الخطاب بدا لك على صفحاته من شك فليسأل فرسولي لم يشك ولم يسأل والمقصود ذكر بعض الحكمة في إبقاء أهل الكتاب بالجزية وهذه الحكمة منتفية في حق غيرهم فيجب قتالهم حتى يكون الدين كله لله سبب وضع الجزية والمسألة مبنية على حرف وهو أن الجزية هل وضعت عاصمة للدم أو مظهرا لصغار الكفر وإذلال أهله فهي عقوبة ؟ فمن راعى فيها المعنى الأول قال لا يلزم من عصمها لدم من خف كفره بالنسبة إلى غيره وهم أهل الكتاب أن تكون عاصمة لدم من يغلظ كفره ومن راعى فيها المعنى الثاني قال المقصود إظهار صغار الكفر وأهله وقهرهم وهذا أمر لا يختص أهل الكتاب بل يعم كل كافر قالوا وقد أشار النص إلى هذا المعنى بعينه في قوله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فالجزية صغار وإذلال ولهذا كانت بمنزلة ضرب الرق قالوا وإذا جاز إقرارهم بالرق على كفرهم جاز إقرارهم عليه بالجزية بالأولى لأن عقوبة الجزية أعظم من عقوبة الرق ولهذا يسترق من لا تجب عليه الجزية من النساء والصبيان وغيرهم فإن قلتم لا يسترق عين الكتابي كما هي إحدى الروايتين عن أحمد كنتم محجوجين بالسنة واتفاق الصحابة فإن النبي كان يسترق سبايا عبدة الأوثان ويجوز لساداتهن وطأهن بعد انقضاء عدتهن كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في قصة سبايا أوطاس وكانت في آخر غزوات العرب بعد فتح مكة أنه قال لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة فجوز وطأهن بعد الاستبراء ولم يشترط الإسلام وأكثر ما كانت سبايا الصحابة في عصر النبي من عبدة الأوثان ورسول الله يقرهم على تملك السبي وقد دفع أبو بكر الصديق إلى سلمة بن الأكوع رضي الله عنهما امرأة من السبي نفلها إياه وكانت من عباد الأصنام وأخذ عمر وابنه رضي الله عنهما من سبي هوازن وكذلك غيرهما من الصحابة وهذه الحنفية أم محمد بن علي من سبي بني حنيفة وفي الحديث من قال كذا وكذا فكأنما أعتق أربع رقاب من ولد إسماعيل ولم يكونوا أهل كتاب بل أكثرهم من عبدة الأوثان قالوا وإذا جاز المن على الأسير وإطلاقه بغير مال ولا استرقاق فلأن يجوز إطلاقه بجزية توضع على رقبته تكون قوة للمسلمين أولى وأحرى فضرب الجزية عليه إن كان عقوبة فهو أولى بالجواز من عقوبة الاسترقاق وإن كان عصمة فهو أولى بالجواز من عصمته بالمن عليه مجانا فإذا جاز إقامته بين المسلمين بغير جزية فإقامته بينهم بالجزية أجوز وأحوز وإلا فيكون أحسن حالا من الكتابي الذي لا يقيم بين أظهر المسلمين إلا بالجزية فإن قلتم إذا مننا عليه ألحقناه بمأمنه ولم نمكنه من الإقامة بين المسلمين قيل إذا جاز إلحاقه بمأمنه حيث يكون قوة للكفار وعونا لهم وبصدد المحاربة لنا مجانا فلأن يجوز هذا في مقابلة مال يؤخذ منه يكون قوة للمسلمين وإذلالا وصغارا للكفر أولى وأولى يوضحه أنه إذا جازت مهادنتهم للمصلحة بغير مال ولا منفعة تحصل للمسلمين فلأن يجوز أخذ المال منهم على وجه الذل والصغار وقوة المسلمين أولى وهذا لا خفاء به يوضحه أن عبدة الأوثان إذا كانوا أمة كبيرة لا تحصى كأهل الهند وغيرهم حيث لا يمكن استئصالهم بالسيف فإذلالهم وقهرهم بالجزية أقرب إلى عز الإسلام وأهله وقوته من إبقائهم بغير جزية فيكونون أحسن حالا من أهل الكتاب وسر المسألة أن الجزية من باب العقوبات لا أنها كرامة لأهل الكتاب فلا يستحقها سواهم وأما من قال إن الجزية عوض عن سكني الدار كما يقوله أصحاب الشافعي فهذا القول ضعيف من وجوه كثيرة سيأتي التعرض إليها فيما بعد إن شاء الله تعالى قالوا ولأن القتل إنما وجب في مقابلة الحراب لا في مقابلة الكفر ولذلك لا يقتل النساء ولا الصبيان ولا الزمني والعميان ولا الرهبان الذين لا يقاتلون بل نقاتل من حاربنا وهذه كانت سيرة رسول الله في أهل الأرض كان يقاتل من حاربه إلى أن يدخل في دينه أو يهادنه أو يدخل تحت قهره بالجزية وبهذا كان يأمر سراياه وجيوشه إذا حاربوا أعداءهم كما تقدم من حديث بريدة فإذا ترك الكفار محاربة أهل الإسلام وسالموهم وبذلوا لهم الجزية عن يد وهم صاغرون كان في ذلك مصلحة لأهل الإسلام وللمشركين أما مصلحة أهل الإسلام فما يأخذونه من المال الذي يكون قوة للإسلام مع صغار الكفر وإذلاله وذلك أنفع لهم من ترك الكفار بلا جزية وأما مصلحة أهل الشرك فما في بقائهم من رجاء إسلامهم إذا شاهدوا أعلام الإسلام وبراهينه أو بلغتهم أخباره فلا بد أن يدخل في الإسلام بعضهم وهذا أحب إلى الله من قتلهم والمقصود إنما هو أن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله وليس في إبقائهم بالجزية ما يناقض هذا المعنى كما أن إبقاء أهل الكتاب بالجزية بين ظهور المسلمين لا ينافي كون كلمة الله هي العليا وكون الدين كله لله فإن من كون الدين كله لله إذلال الكفر وأهله وصغاره وضرب الجزية على رؤوس أهله والرق على رقابهم فهذا من دين الله ولا يناقض هذا إلا ترك الكفار على عزهم وإقامة دينهم كما يحبون بحيث تكون لهم الشوكة والكلمة والله أعلم 1 – فصل تقسيم الفيء والخمس وقد احتج بحديث بريدة هذا من يرى أن قسمة الفيء والخمس موكولة إلى اجتهاد الإمام يضعه حيث يراه أصلح وأهم والناس إليه أحوج كما يقول مالك ومن وافقه رحمهم الله تعالى قالوا والمهاجرون كانوا في ذلك الوقت أولى بذلك من غيرهم ولذلك لم يجعل فيه للأعراب شيء فإن المهاجرين خرجوا من ديارهم وأموالهم لله ووصلوا إلى المدينة فقراء وكان أحق الناس بالفيء هم ومن واساهم وآواهم قال القاضي عياض ولذلك كان النبي يؤثرهم بالخمس على الأنصار غالبا إلا أن يحتاج أحد من الأنصار وأما الشافعي رحمه الله تعالى فإنه أخذ بحديث بريدة رضي الله عنه في الأعراب فلم ير لهم شيئا من الفيء وإنما لهم الصدقة المأخوذة من أغنيائهم المردودة في فقرائهم كما أن أهل الجهاد وأجناد المسلمين أحق بالفيء والصدقة وذهب أبو عبيد إلى أن هذا الحديث منسوخ وأن هذا كان حكم من لم يهاجر أولا في أنه لا حق له في الفيء ولا في الموالاة للمهاجرين ولا في التوارث بينهم وبين المهاجرين قال تعالى والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا ثم نسخ ذلك بقوله وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض وبقوله لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية فلم يكن للأعراب إذ ذاك في الفيء نصيب فلما اتسعت رقعة الإسلام وسقط فرض الهجرة صار للمسلمين كلهم حق في الفيء حتى رعاة الشاء قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لئن سلمني الله ليأتين الراعي نصيبه من هذا المال لم يعرق فيه جبينه 2 – فصل لا يسوغ إطلاق حكم الله على مسائل الاجتهاد إلا ما علم حكم الله فيه يقينا وقوله فإن سألوك على أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا فيه حجة ظاهرة على أنه لا إطلاق حكم الله على ما لا يعلم العبد أن الله حكم به يقينا من مسائل الاجتهاد كما قال بعض السلف ليتق أحدكم أن يقول أحل الله كذا أو حرم كذا فيقول الله له كذبت لم أحل كذا ولم أحرمه وهكذا لا يسوغ أن يقول قال رسول الله لما لا يعلم صحته ولا ثقة رواته بل إذا رأى أي حديث كان في أي كتاب يقول لقوله أو لنا قوله وهذا خطر عظيم وشهادة على الرسول بما لا يعلم الشاهد وكذلك لا يسوغ له أن يخبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله بما لم يخبر به سبحانه عن نفسه ولا أخبر به رسوله عنه كما يستسهله أهل البدع بل لا يخبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله إلا بما أخبر به عن نفسه وأخبر به رسوله عنه وإذا كان النبي قد منع الأمير أن ينزل أهل الحصن على حكم الله وقال لعلك لا تدري أتصيبه أم لا فما الظن بالشهادة على الله والحكم عليه بأنه كذا أو ليس كذا والحديث صريح في أن حكم الله سبحانه في الحادثة واحد معين وأن المجتهد يصيبه تارة ويخطئه تارة وقد نص الأئمة الأربعة على ذلك صريحا قال أبو عمر بن عبدالبر ولا أعلم خلافا بين الحذاق من شيوخ المالكيين ثم عدهم ثم قال كل يحكي أن مذهب مالك في اجتهاد المجتهدين والقائسين إذا اختلفوا فيما يجوز فيه التأويل من نوازل الأحكام أن الحق من ذلك عند الله واحد من أقوالهم واختلافهم إلا أن كل مجتهد إذا اجتهد كما أمر وبالغ ولم يأل وكان من أهل الصناعة ومعه آلة الاجتهاد فقد أدى ما عليه وليس عليه غير ذلك وهو مأجور على قصده الصواب وإن كان الحق من ذلك واحدا قال وهذا القول هو الذي عليه أكثر أصحاب الشافعي قال وهو المشهور من قول أبي حنيفة فيما حكاه محمد بن الحسن وأبو يوسف والحذاق من أصحابهم قلت قال القاضي عبدالوهاب وقد نص مالك على منع القول بإصابة كل مجتهد فقال ليس في اختلاف أصحاب رسول الله ورضي عنهم سعة إنما هو خطأ أو صواب وسئل أيضا ما تقول في قول من يقول إن كل واحد من المجتهدين مصيب لما كلف ؟ فقال ما هذا هكذا قولان مختلفان لا يكونان قط صوابا وقد نص على ذلك الإمام أحمد فقال في رواية بكر بن محمد عن أبيه إذا اختلفت الرواية عن النبي فأخذ رجل بأحد الحديثين وأخذ آخر بحديث آخر ضده فالحق عند الله في واحد وعلى الرجل أن يجتهد ولا يدري أصاب الحق أم أخطأ واصول الأئمة الأربعة وقواعدهم ونصوصهم على هذا وأن الصواب من الأقوال كجهة القبلة في الجهات وعلى هذا أكثر من أربعين دليلا قد ذكرناها في كتاب مفرد وبالله التوفيق والمقصود أن قول النبي في حديث بريدة فإنك لا تدري أتصيب حكم الله أن حكم الله واحد وأن المجتهد قد يصيبه وقد يخطئه كما قال في الحديث الآخر إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد فمن قال كل مجتهد مصيب للأجر بمعنى أنه مطيع لله في أداء ما كلف به فقوله صحيح إذا استفرغ المجتهد وسعه وبذل جهده 3 – فصل فلنرجع إلى الكلام في أحكام الجزية قال تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فالجزية هي الخراج المضروب على رؤوس الكفار إذلالا وصغارا والمعنى حتى يعطوا الخراج عن رقابهم واختلف في اشتقاقها فقال القاضي في الأحكام السلطانية اسمها مشتق من الجزاء إما جزاءا على كفرهم لأخذها منهم صغارا أو جزاءا على أماننا لهم لأخذها منهم رفقا قال صاحب المغني هي مشتقة من جزاه بمعنى قضاه لقوله لا تجزي نفس عن نفس شيئا فتكون الجزية مثل الفدية قال شيخنا والأول أصح وهذا يرجع إلى أنها عقوبة أو أجرة وأما قوله عن يد فهو في موضع النصب على الحال أي يعطوها أذلاء مقهورين هذا هو الصحيح في الآية وقالت طائفة المعنى من يد إلى يد نقدا غير نسيئة وقالت فرقة من يده إلى يد الآخذ لا باعثا بها ولا موكلا في دفعها وقالت طائفة معناه عن إنعام منكم عليهم بإقراركم لهم وبالقبول منهم والصحيح القول الأول وعليه الناس وأبعد كل البعد ولم يصب مراد الله من قال المعنى عن يد منهم أي عن قدرة على أدائها فلا تؤخذ من عاجز عنها وهذا الحكم صحيح وحمل الآية عليه باطل ولم يفسر به أحد من الصحابة ولا التابعين ولا سلف الأمة وإنما هو من حذاقة بعض المتأخرين وقوله تعالى وهم صاغرون حال أخرى فالأول حال المسلمين في أخذ الجزية منهم أن يأخذوها بقهر وعن يد والثاني حال الدافع لها أن يدفعها وهو صاغر ذليل واختلف الناس في تفسير الصغار الذي يكونون عليه وقت أداء الجزية فقال عكرمة أن يدفعها وهو قائم ويكون الآخذ جالسا وقالت طائفة أن يأتي بها بنفسه ماشيا لا راكبا ويطال وقوفه عند إتيانه بها ويجر إلى الموضع الذي تؤخذ منه بالعنف ثم تجر يده ويمتهن وهذا كله مما لا دليل عليه ولا هو مقتض الآية ولا نقل عن رسول الله ولا عن الصحابة أنهم فعلوا ذلك والصواب في الآية أن الصغار هو التزامهم لجريان أحكام الملة عليهم وإعطاء الجزية فإن التزام ذلك هو الصغار وقد قال الإمام أحمد في رواية حنبل كانوا يجرون في أيديهم ويختمون في أعناقهم إذا لم يؤدوا الصغار الذي قال الله تعالى وهم صاغرون وهذا يدل على أن الذمي إذا بذل ما عليه والتزم الصغار لم يحتج إلى أن يجر بيده ويضرب وقد قال في رواية مهنا بن يحيى يستحب أن يتعبوا في الجزية قال القاضي ولم يرد تعذيبهم ولا تكليفهم فوق طاقتهم وإنما أراد الاستخفاف بهم وإذلالهم قلت لما كانت يد المعطي العليا ويد الآخذ السفلة احترز الأئمة أن يكون الأمر كذلك في الجزية وأخذوها على وجه تكون يد المعطي السفلى ويد الآخذ العليا قال القاضي أبو يعلى وفي هذا دلالة على أن هؤلاء النصارى الذين يتولون أعمال السلطان ويظهر منهم الظلم والاستعلاء على المسلمين وأخذ الضرائب لا ذمة لهم وأن دماءهم مباحة لأن الله تعالى وصفهم بإعطاء الجزية على وجه الصغار والذل وهذا الذي استنبطه القاضي من أصح الاستنباط فإن الله سبحانه وتعالى مد القتال إلى غاية وهي إعطاء الجزية مع الصغار فإذا كانت حالة النصراني وغيره من أهل الجزية منافية للذل والصغار فلا عصمة لدمه ولا ماله وليست له ذمة ومن ها هنا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه تلك الشروط التي فيها صغارهم وإذلالهم وأنهم متى خرجوا عن شيء منها فلا عهد لهم ولا ذمة وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل الشقاق والمعاندة وسنذكر إن شاء الله في آخر الجواب الشروط العمرية وشرحها 4 – فصل ليست الجزية أجرة عن سكنى الدار قد تبين بما ذكرنا أن الجزية وضعت صغارا وإذلالا للكفار لا أجرة عن سكنى الدار وذكرنا أنها لو كانت أجرة لوجبت على النساء والصبيان والزمني والعميان ولو كانت أجرة لما أنفت منها العرب من نصارى بني تغلب وغيرهم والتزموا ضعف ما يؤخذ من المسلمين من زكاة أموالهم ولو كانت أجرة لكانت مقدرة المدة كسائر الإجارات ولو كانت أجرة لما وجبت بوصف الإذلال والصغار ولو كانت أجرة لكانت مقدرة بحسب المنفعة فإن سكنى الدار قد تساوي في السنة أضعاف الجزية المقدرة ولو كانت أجرة لما وجبت على الذمي أجرة دار أو أرض يسكنها إذا استأجرها من بيت المال ولو كانت أجرة لكان الواجب فيها ما يتفق عليه المؤجر والمستأجر وبالجملة ففساد هذا القول يعلم من وجوه كثيرة مقدار الجزية وقد اختلف أئمة الإسلام في تقدير الجزية فقال الشافعي رحمه الله تعالى ويجعل على الفقير المعتمل دينار وعلى المتوسط ديناران وعلى الغني أربعة دنانير . وأقل ما يؤخذ دينار وأكثره ما وقع عليه التراضي ولا يجوز أن ينقص من دينار وقال أصحاب مالك أكثر الجزية أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الورق ولا يزاد على ذلك فإن كان منهم ضعيف خفف عنه بقدر ما يراه الإمام وقال ابن القاسم لا ينقص من فرض عمر رضي الله عنه لمعسر ولا يزاد عليه لغني وقال القاضي أبو الحسن لا حد لأقلها قال وقيل أقلها دينار أو عشرة دراهم وقال أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله تعالى يوضع على الغني ثمانية وأربعون درهما وعلى المتوسط أربعة وعشرون وعلى الفقير اثنا عشر ثم اختلفوا في حد الغني والفقير والمتوسط قالوا والمختار أن ينظر في كل بلد إلى حال أهله وما يعتبرونه في ذلك فإن عادة البلاد في ذلك مختلفة وأما الإمام أحمد رحمه الله تعالى فقد اختلفت الرواية عنه فنقل أكثر أصحابه عنه أنها مقدرة الأقل والأكثر فيؤخذ من الفقير المعتمل اثنا عشر درهما ومن المتوسط اربعة وعشرون ومن الموسر ثمانية وأربعون قال حرب في مسائله سألت أبا عبدالله قلت خراج الرؤوس إذا كان الذمي غنيا ؟ قال ثمانية وأربعون درهما قلت فإن كان دون ذلك ؟ قال أربعة وعشرون قلت فإن كان دون ذلك ؟ قال اثنا عشر قلت فليس دون اثني عشر شيء ؟ قال لا وقال في رواية ابنه صالح وإبراهيم بن هانىء وأبي الحارث أكثر ما يؤخذ في الجزية ثمانية وأربعون والمتوسط أربعة وعشرون والفقير اثنا عشر زاد في رواية أبي الحارث أن عمر ضرب على الغني ثمانية وأربعين وعلى الفقير اثني عشر قال الخلال والذي عليه من قول أبي عبدالله أن للإمام أن يزيد في ذلك وينقص وليس لمن دونه أن يفعل ذلك وقد روى يعقوب بن بختان خاصة عن أبي عبدالله أنه لا يجوز للإمام أن ينقص من ذلك وروى عن أبي عبدالله أصحابه في عشرة مواضع أنه لا بأس بذلك قال ولعل أبا عبدالله تكلم بهذا في وقت والعمل من قوله على ما رواه الجماعة أنه لا بأس ولإمام أن يزيد في ذلك وينقص وقد أشبع الحجة في ذلك وقال الأثرم سمعت أبا عبدالله يسأل عن الجزية كم هي قال وضع عمر رضي الله عنه ثمانية وأربعين وأربعة وعشرين واثني عشر قيل له كيف هذا ؟ قال على قدر ما يطيقون قيل فيزداد في هذا اليوم وينقص ؟ قال نعم يزاد فيه وينقص على قدر طاقتهم وعلى قدر ما يرى الإمام وقال أبو طالب سألت أبا عبدالله عن حديث عثمان بن حنيف تذهب إليه بالجزية ؟ قال نعم قلت ترى الزيادة ؟ قال لمكان قول عمر رضي الله عنه فإن زاد فأرجو أن لا بأس إذا كانوا مطيقين مثل ما قال عمر رضي الله عنه وقال احمد بن القاسم سئل أبو عبدالله عن جزية الرؤوس وقيل له بلغك أن عمر رضي الله عنه جعلها على قدر اليسار من أهل الذمة اثني عشر وأربعة وعشرين وثمانية وأربعين ؟ قال على قدر طاقتهم فكيف يصنع به إذا كان فقيرا لا يقدر على ثمانية وأربعين ؟ قال إنما هو على قدر الطاقة قيل فيزاد عليهم أكثر من ثمانية وأربعين ؟ قال على حديث الحكم عن عمرو بن ميمون أنه قال والله إن زدت عليهم درهمين لا يجهدهم قال وكانت ثمانية وأربعين فجعلها خمسين قال ولم يبين قوله من الزيادة أكثر من هذا قلت لأبي عبدالله يحكى عن الشافعي أنه قال إذا سأل أهل الحرب أيؤدوا إلى الإمام عن رؤوسهم دينارا لم يجز له أن يحاربهم لأنهم قد بذلوا ما حد النبي فأعجبه هذا وفكر فيه ثم تبسم وقال مسألة فيها نظر وقال صالح بن احمد سألت أبي أي شيء تذهب في الجزية ؟ قال أما أهل الشام فعلى ما وصف عمر رضي الله عنه أربعة دنانير وكسوة وزيت وأما أهل اليمن فعلى كل حالم دينار وأما أهل العراق فعلى ما يؤخذ منهم وقال الأثرم لأبي عبدالله على أهل اليمن دينار شيء لا يزاد عليهم ؟ قال نعم قيل له ولا يؤخذ منهم ثمانية وأربعون ؟ قال كل قوم على سننهم ثم قال أهل الشام خلاف غيرهم أيضا وكل قوم على ما قد جعلوا عليه فقد ضمن مذهبه أربع روايات إحداها أنه لا يزاد فيها ولا ينقص على ما وضعه عمر رضي الله عنه والثانية تجوز الزيادة والنقصان على ما يراه الإمام قال الخلال وهو الذي عليه العمل والثالثة تجوز الزيادة دون النقصان والرابعة أن اهل اليمن خاصة لا يزاد عليهم ولا ينقص 5 – فصل الأصناف التي تؤخذ منها الجزية ولا يتعين في الجزية ذهب ولا فضة بل يجوز أخذها مما تيسر من أموالهم من ثباب وسلاح يعملونه وحديد ونحاس ومواش وحبوب وعروض وغير ذلك وقد دل على ذلك سنة رسول الله وعمل خلفائه الراشدين وهو مذهب الشافعي وأبي عبيد ونص عليه أحمد في رواية الأثرم وقد سأله يؤخذ في الجزية غير الذهب والفضة ؟ قال نعم دينار أو قيمته معافر والمعافر ثياب تكون باليمن وذهب في ذلك إلى حديث معاذ رضي الله عنه الذي رواه في مسنده بإسناد جيد عن معاذ رضي الله عنه أن رسول الله لما بعثه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر ورواه أهل السنن وقال الترمذي حديث حسن وكذلك أهل نجران لم يأخذ في جزيتهم ذهبا ولا فضة وإنما أخذ منهم الحلل والسلاح فروى أبو داود في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال صالح رسول الله أهل نجران على ألفي حلة النصف في صفر والنصف في رجب يؤدونها إلى المسلمين وعلى ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يقرون بها والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمن كيد أو غدرة على ألا يهدم لهم بيعة ولا يخرج لهم قس ولا يفتنون عن دينهم مالم يحدثوا حدثا أو يأكلوا الربا وهو صريح في أن أهل الذمة إذا أحدثوا في الإسلام أو لم يلتزموا ما شرطوا عليهم فلا ذمة لهم وقد دل على ذلك القرآن والسنة واتفاق الصحابة رضي الله عنهم كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى قال الزهري أول من أعطى الجزية أهل نجران وكانوا نصارى وقد أخذ منهم الحلل وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذ النعم في الجزية وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يأخذ الجزية من كل ذي صنعة من متاعه من صاحب الإبر إبرا ومن صاحب المسان مسان ومن صاحب الحبال حبالا ثم يدعو الناس فيعطيهم الذهب والفضة فيقتسمونه ثم يقول خذوا فاقتسموا فيقولون لا حاجة لنا فيه فيقول أخذتم خياره وتركتم شراره لتحملنه الجزية غير مقدرة بالشرع فيؤخذ من عروضه بقدر ما عليه من الجزية هذه سنة رسول الله وخلفائه التي لا معدل عنها فقد تبين أن الجزية غير مقدرة بالشرع تقديرا لا يقبل الزيادة والنقصان ولا معينة الجنس قال الخلال العمل في قول أبي عبدالله على ما رواه الجماعة أنه لا بأس للإمام أن يزيد في ذلك وينقص على ما رواه عنه أصحابه معينة الجنس في عشرة مواضع فاستقر قوله على ذلك وهذا قول سفيان الثوري وأبي عبيد وغيرهم من أهل العلم وأول من جعل الجزية على ثلاث طبقات عمر بن الخطاب رضي الله عنه جعلها على الغني ثمانية وأربعين درهما وعلى المتوسط أربعة وعشرين وعلى الفقير اثني عشر وصالح بني تغلب على مثلي ما على المسلمين من الزكاة وهذا يدل على أنها إلى رأي الإمام ولولا ذلك لكانت على قدر واحد في جميع المواضع ولم يجز أن تختلف وقال البخاري قال ابن عيينة عن ابن أبي نجيح قلت لمجاهد ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار قال جعل ذلك من أجل اليسار وقد زادها عمر أيضا على ثمانية وأربعين فصيرها خمسين درهما واحتج الشافعي رحمه الله تعالى بأن الواجب دينار على الغني والفقير والمتوسط بأن النبي قدرها بذلك في حديث معاذ رضي الله عنه وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا ولم يفرق بين غني وفقير وجعلهم ثلاث طبقات وسنة رسول الله أحق أن تتبع من اجتهاد عمر ونازعه الجمهور في ذلك وقالوا لا منافاة بين سنة رسول الله وبين ما فعله عمر رضي الله عنه بل هو من سنته أيضا وقد قرن رسول الله بين سنته وسنة خلفائه في الاتباع فما سنه خلفاؤه فهو كسنته في الاتباع وهذا الذي فعله عمر رضي الله عنه اشتهر بين الصحابة ولم ينكره منكر ولا خالفه فيه واحد منهم البتة واستقر عليه عمل الخلفاء والأئمة بعده فلا يجوز أن يكون خطأ أصلا وقد نص الشافعي على استحباب العمل به فقال الواجب على كل رجل دينار لا يجزئ أقل من ذلك فإن كان الذمي مقلا ولم يكن موسرا ولا متوسطا عقد له الإمام الذمة على دينار في كل سنة وإن كان متوسطا فيستحب أن يقول له الإمام جزية مثلك ديناران فلا أعقد لك ذمة على أقل منهما ويحمل عليه بالكلام فإن لم يقبل حمل عليه بعشيرته وأهله فإن لم يقبل وأقام على بذل الدنيار قبل منه وعقدت له الذمة وإن كان موسرا فيستحب أن يقال له جزية مثلك أربعة دنانير لا أقبل منك أقل منها ويتحامل عليه بالكلام ويحمل عليه بعشيرته وقومه فإن لم يفعل واقام على بذل الدينار قبل منه وعقدت له الذمة عليه قلت ولا يخلو حديث معاذ من أحد وجوه ثلاثة الأول أن يكون أمره بذلك لأن الغالب على أهل ذمة اليمن إذ ذاك الفقر وقد أشار مجاهد إلى ذلك في قوله إنما جعل على أهل الشام ثمانية وأربعون درهما من أجل اليسار الوجه الثاني أنهم كانوا قد أقروا بالجزية ولم يتميز الغني منهم من الفقير والصحابة إذ ذاك لم يسكنوا اليمن بل كانوا مع النبي إذ هو حي بين أظهرهم فلما لم يتفرغوا لتمييز غنيهم من فقيرهم جعل رسول الله الجزية كلها طبقة واحدة فلما مات رسول الله وتفرق الصحابة في البلاد وسكنوا الشام تفرغوا لتمييز طبقات أهل الذمة ومعرفة غنيهم وفقيرهم ومتوسطهم فجعلوهم ثلاث طبقات وأخذوا من كل طبقة ما لا يشق عليهم إعطاؤه الوجه الثالث أن النبي لم يقدرها تقديرا عاما لا يقبل التغيير بل ذلك موكول إلى المصلحة واجتهاد الإمام فكانت المصلحة في زمانه أخذها من أهل اليمن على السواء وكانت المصلحة في زمن خلفائه الراشدين أخذها من أهل الشام ومصر والعراق على قدر يسارهم وأموالهم وهكذا فعل رسول الله فإنه أخذها من أهل نجران حللا في قسطين قسط في صفر وقسط في رجب وقال مالك عن نافع عن أسلم أن عمر رضي الله عنه ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق أربعين درهما ومع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام وقال الليث بن سعد عن كثير بن فرقد ومحمد بن عبدالرحمن بن غنج عن نافع عن أسلم عن عمر رضي الله عنه أنه ضرب الجزية على أهل الشام أو قال على أهل الذهب أربعة دنانير وأرزاق المسلمين من الحنطة مدين وثلاثة أقساط زيت لكل إنسان كل شهر وعلى أهل الورق أربعين درهما وخمسة عشر صاعا لكل إنسان قال ومن كان من أهل مصر فإردب كل شهر لكل إنسان قال ولا أدري كم ذكر لكل إنسان من الودك والعسل وعلى هذا فلو كان فيهم من لا يقدر إلا على بعض دينار لوجب قبوله منه بحسب قدرته وهذا قياس جميع الواجبات إذا قدر على أداء بعضها وعجز عن جميعها كمن قدر على أداء بعض الدين وإخراج بعض صاع الفطرة وأداء بعض النفقة إذ لا يقدر على تمامها وغسل بعض أعقابه إذا عجز عن غسل جميعها وقراءة بعض الفاتحة في الصلاة إذا عجز عن جميعها ونظائر ذلك قال أبو عبيد والذي اخترناه أن عليهم الزيادة كما يكون لهم النقصان وللزيادة التي زادها عمر رضي الله عنه على وظيفة النبي للزيادة التي زادها هو نفسه حين كانت ثمانية وأربعين فجعلها خمسين ولو عجز أحدهم عن دينار لحطه من ذلك حتى قد روي عنه أنه أجرى على شيخ منهم من بيت المال وذلك أنه مر به وهو يسأل على الأبواب وفعله عمر بن عبدالعزيز وقال أبو عبيد ولو علم عمر أن فيها سنة مؤقتة من رسول الله ما تعداها إلى غيرها 6 – فصل ولا يحل تكليفهم مالا يقدرون عليه ولا تعذيبهم على أدائها ولا حبسهم وضربهم قال أبو عبيد ثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه وعن هشام بن حكيم بن حزام أنه مر على قوم يعذبون في الجزية بفلسطين فقال هشام سمعت رسول الله يقول إن الله يعذب يوم القيامة الذين يعذبون الناس في الدنيا وقال الزهري عن عروة بن الزبير إن عياض بن غنم رأى نبطا يشمسون في الجزية فقال لصاحبهم إني سمعت رسول الله يقول إن الله تبارك وتعالى يعذب يوم القيامة الذين يعذبون الناس في الدنيا قال الزهري عن عروة بن الزبير إن هشام بن حكيم هو الذي قال ذلك لعياض بن غنم قال نعيم بن حماد عن بقية بن الوليد عن صفوان بن عمرو عن شريح بن عبيد أن هشام بن حكيم قال ذلك لعياض بن غنم عن رسول الله فقال عياض لهاشم قد سمعت ما سمعت ورأيت ما رأيت أو لم تسمع رسول الله يقول من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده له علانية ولكن ليأخذ بيده فيخلو به فإن قبل منه فذاك وإلا فقد أدى الذي عليه قال وحدثنا نعيم ثنا بقية بن الوليد عن صفوان بن عمرو عن عبدالرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتي بمال كثير أحسبه قال من الجزية فقال إني لأظنكم قد أهلكتم الناس قالوا لا والله ما أخذنا إلا عفوا صفوا قال بلا سوط ولا نوط قالوا نعم قال الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني قال وحدثنا أبو مسهر ثنا سعيد بن عبدالعزيز قال قدم سعيد بن عامر بن حذيم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما أتاه علاه بالدرة فقال سعيد سبق سيلك مطرك إن تعاقب نصبر وإن تعف نشكر وإن تستعتب نعتب فقال ما على المسلم إلا هذا مالك تبطئ بالخراج فقال أمرتنا ألا نزيد الفلاحين على أربعة دنانير فلسنا نزيدهم على ذلك ولكنا نؤخرهم إلى غلاتهم فقال عمر رضي الله عنه لا عزلتك ما حييت قال أبو عبيد وإنما وجه التأخير إلى الغلة للرفق بهم ولم أسمع في استيداء الخراج والجزية وقتا من الزمان يجتبى فيه غير هذا قال وثنا مروان بن معاوية الفزاري عن خلف مولى آل جعدة عن رجل من آل أبي المهاجر قال استعمل علي بن أبي طالب رجلا على عكبراء فقال له على رؤوس الملأ لا تدعن لهم درهما من الخراج قال وشدد عليه القول ثم قال إلقني عند انتصاف النهار فأتاه فقال إني كنت أمرتك بأمر وإني أتقدم إليك الآن فإن عصيتني نزعتك لا تبيعن لهم في خراجهم حمارا ولا بقرة ولا كسوة شتاء ولا صيف وارفق بهم وافعل بهم وافعل بهم قال وحدثني الفضل بن دكين عن سعيد بن سنان عن عنترة قال كان علي يأخذ الجزية من كل ذي صنعة من صاحب الإبر إبرا ومن صاحب المسان مسان ومن صاحب الحبال حبالا ثم يدعو العرفاء فيعطيهم الذهب والفضة فيقتمسونه ثم يقول خذوا هذا فاقتسموه فيقولون لا حاجة لنا فيه فيقول أخذتم خياره وتركتم علي شراره لتحملنه قال أبو عبيد وإنما توجه هذا من علي رضي الله عنه أنه إنما كان يأخذ منهم هذه الأمتعة بقيمتها من الدراهم التي عليهم من جزية رؤوسهم ولا يحملهم على بيعها ثم يأخذ ذلك من الثمن إرادة الرفق بهم والتخفيف عليهم قال ومثل هذا حديث معاذ رضي الله عنه حين قال باليمن ائتوني بحميس أو لبيس آخذه منكم مكان الصدقة فإنه أهون عليكم وأنفع للمهاجرين بالمدينة وكذلك فعل عمر رضي الله عنه حتى كان يأخذ الإبل في الجزية وإنما يراد بهذا كله الرفق بأهل الذمة وألا يباع عليهم من متاعهم شيء ولكن يؤخذ مما سهل عليهم بالقيمة ألا تسمع إلى قول رسول الله أو عدله من المعافر فقد بين لك ذكر العدل أنه القيمة قال وحدثنا محمد بن كثير عن أبي رجاء الخراساني عن جسر قال شهدت كتاب عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى إلى عدي بن أرطاة قريء علينا بالبصرة أما بعد فإن الله سبحانه إنما أمر أن تؤخذ الجزية ممن رغب عن الإسلام واختار الكفر عتيا وخسرانا مبينا فضع الجزية على من أطاق حملها وخل بينهم وبين عمارة الأرض فإن في ذلك صلاحا لمعاشر المسلمين وقوة على عدوهم ثم انظر من قبلك من أهل الذمة قد كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه فلو أن رجلا من المسلمين كان له مملوك كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب كان من الحق عليه أن يقوته حتى يفرق بينهما موت أو عتق وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس فقال ما أنصفناك أن كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك ثم ضيعناك في كبرك قال ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه قال وحدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن محمد بن طلحة عن داود بن سليمان الجعفي قال كتب عمر بن عبدالعزيز إلى عبدالحميد بن عبدالرحمن سلام عليك أما بعد فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدة وجور في أحكام وسنن خبيثة سنتها عليهم عمال السوء وإن أقوم الدين العدل والإحسان فلا يكونن شيء أهم إليك من نفسك أن توطنها الطاعة لله عز و جل فإنه لا قليل من الإثم وأمرتك ألا تطرق عليهم أرضهم وألا تحمل خرابا على عامر ولا عامرا على خراب ولا تأخذ من الخراب إلا ما يطيق ولا من العامر إلا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض وأمرتك ألا تأخذ في الخراج إلا وزن سبعة ليس لها آس ولا أجور الضرابين ولا إذابة الفضة ولا هدية النيروز والمهرجان ولا ثمن المصحف ولا أجور البيوت ولا دراهم النكاح ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض فاتبع في ذلك أمري فقد وليتك في ذلك ما ولاني الله ولا تعجل دوني بقطع ولا صلب حتى تراجعني فيه وانظر من أراد من الذرية الحج فعجل له مئة يتجهز بها والسلام عليك قال عبدالرحمن قوله دراهم النكاح يريد به بغايا كان يؤخذ منهن الخراج وقوله الذرية يريد به من كان ليس من أهل الديوان 7 – فصل متى تجب الجزية وتجب الجزية في آخر الحول ولا يطالبون بها قبل ذلك هذا قول الإمام أحمد والشافعي وقال أبو حنيفة تجب بأول الحول وتؤخذ منه كل شهر بقسطه ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى أصل في الجزية وهي أنها عنده عقوبة محضة يسلك بها مسلك العقوبات البدنية ولهذا يقول إذا اجتمعت عليه جزية سنين تداخلت كما تتداخل العقوبات ولو أسلم وعليه جزية سنين سقطت كلها كما تسقط العقوبات ولو مات بعد الحول وقبل الأخذ سقطت عنه وفي الجامع الصغير ومن لم يؤخذ منه خراج رأسه حتى مضت السنة وجاءت السنة الأخرى لم يؤخذ منه وهذا عند أبي حنيفة وقالا تؤخذ منه فإن مات عند تمام السنة لم تؤخذ منه في قولهم جميعا وعلى هذا فلو كانت تجب بآخر الحول لاستقرت بمضيه ولم تسقط ولم تتداخل كالزكاة والدية والجزية وجبت بدلا عن القتل وعصمة الدم في حقه وعوضا عن النصرة لهم في حقنا وهذا إنما يكون في المستقبل لا في الماضي لأن القتال إنما يفعل لحراب قائم في الحال لا لحراب ماض وكذا النصرة في المستقبل لأن الناصر وقعت الغنية عنه وسر المسألة أن سبب الجزية قائم في الحال ويعطيها على المستقبل شيئا فشيئا بحسب احتمال المحل لتعويض الضربات في الحدود ولهذا قالوا تؤخذ كل شهر بقسطه فإنها لو أخرت حتى دخل العام الثاني سقطت كما قال محمد في الجامع وعلى هذا فلا تستقر عليه جزية أبدا ولا سبيل إلى أن تؤخذ سلفا وتعجيلا فأخذت مفرقة على شهور العام لقيام مقتضى لصدقته من الكفر وفي الأخذ من الذب عنه والنصرة وقال محمد في كتاب الزيادات في نصراني مرض السنة كلها فلم يقدر على أن يعمل وهو موسر أنه لا تجب عليه الجزية لأنها إنما تجب على الصحيح المعتمل وكذلك إن مرض نصف السنة أو أكثرها فإن صح ثمانية أشهر أو أكثر فعليه الجزية ولأن المريض لا يقدر على العمل فهو خال من الغنى وكذلك إذا مرض أكثر السنة أن الأكثر يقوم مقام الجميع وكذلك إذا مرض نصف السنة أن الموجب والمسقط تساويا فيما طريقه العقوبة وكان الحكم للمسقط كالحدود واحتج لهذا القول بأن الله سبحانه أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية وبأنها عقوبة وإذلال وصغار للكفر وأهله فلا يتأخر عن القدرة على أخذها قالوا وهذا على أصل من جعلها أجرة سكنى الدار أطرد فإن الأجرة تجب عقيب العقد وإنما أخذت منهم مقسطة بتكرر الأعوام رفقا بهم وليستمر نفع الإسلام بها وقوته كل عام بخراج الأرضين قال الأكثرون لما ضرب رسول الله الجزية على أهل الكتاب والمجوس لم يطالبهم بها حتى ضربها عليهم ولا ألزمهم بأدائها في الحال وقت نزول الآية بل صالحهم عليها وكان يبعث رسله وسعاته فيأتون بالجزية والصدقة عند محلهما واستمرت على ذلك سيرة خلفائه من بعده وهذا مقتضى قواعد الشريعة وأصولها فإن الأموال التي تتكرر بتكرر الأعوام إنما تجب في آخر العام لا في أوله كالزكاة والدية ولو أن رجلا أجل على رجل مالا كل عام يعطيه كذا وكذا لم يكن له المطالبة بقسط العام الأول عقيب العقد وأما قوله تعالى حتى يعطوا الجزية فليس المراد به العطاء الأول وحده بل العطاء المستمر المتكرر ولو كان المراد به ما ذكرتم لكان الواجب أخذ الجميع عقيب العقد وهذا لا سبيل إليه على أن المعنى حتى يلتزموا عطاء الجزية وبذلها وهذه كانت سنة رسول الله فيهم أنهم إذا التزموا له بذل الجزية كف عنهم بمجرد التزامهم ولهذا يحرم قتالهم إذا التزموها قبل إعطائهم إياها اتفاقا ولهذا قال في حديث بريدة فادعهم إلى الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم وإنما كان يدعوهم إلى الإقرار بها والتزامها دون الأخذ في الحال واختلف أصحاب الشافعي فقال بعضهم تجب بأول السنة دفعة واحدة ولكن تستقر جزءا بعد جزء وقال بعضهم معنى إضافة الوجوب إلى أول السنة انبساطه على جميع الأوقات لا أنها تجب دفعة واحدة بأول السنة وبنوا على ذلك الأخذ بالقسط إذا أسلم أو مات أو جن وقال بعضهم إنما يدخل وقت وجوبها عند انقضاء السنة وهذا هو المشهور 8 – فصل ولا جزية على صبي ولا امرأة ولا مجنون هذا مذهب الأئمة الأربعة وأتباعهم قال ابن المنذر ولا أعلم عن غيرهم خلافهم وقال أبو محمد في المغني لا نعلم بين أهل العلم خلافا في هذا قال أبو عبيد ثنا إسماعيل بن إبراهيم ثنا أيوب عن نافع عن أسلم مولى عمر رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه كتب إلىأمراء الأجناد أن يقاتلوا في سبيل الله ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم ولا يقتلوا النساء ولا الصبيان ولا يقتلوا إلا من جرت عليه المواسي وكتب إلى أمراء الأجناد أن يضربوا الجزية ولا يضربوها على النساء والصبيان ولا يضربوها إلا على من جرت عليه المواسي قال أبو عبيد يعني من أنبت وهذا الحديث هو الأصل فيمن تجب عليه الجزية ومن لا تجب عليه ألا قراه إنما جعلها على الذكور المذكورين دون الإناث والأطفال وأسقطها عمن لا يستحق القتل وهم الذرية وقد جاء في كتاب النبي إلى معاذ باليمن خذ من كل حالم دينارا تقوية لقول عمر رضي الله عنه ألا تراه خص الحالم دون المرأة والصبي إلا أن في بعض ما ذكرنا من كتبه الحالم والحالمة فنرى والله أعلم أن المحفوظ المثبت من ذلك هو الحديث الذي لا ذكر للحالمة فيه لأنه الأمر الذي عليه المسلمون وبه كتب عمر رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد فإن يكن الذي فيه ذكر الحالمة محفوظا فإن وجهه عندي أن يكون ذلك كان في أول الإسلام إذ كان نساء المشركين وولدانهم يقتلون مع رجالهم وقد كان ذلك ثم نسخ ثم ذكر حديث الصعب بن جثامة الذي في صحيح البخاري أن رسول الله بعث سرية فأصابت من أبناء المشركين فقال رسول الله هم من آبائهم قال أبو عبيد ثم جاء النهي بعد ذلك وذكر الأحاديث التي فيها النهي عن قتل النساء والذرية قلت لم يشرع رسول الله قتل النساء والذرية في شيء من مغازيه البتة والنبي نهى عن قتل النساء والذرية في مغازيه قبل إرسال معاذ إلى اليمن كما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله فأنكر رسول الله قتل النساء والصبيان ورأى الناس في بعض غزواته مجتمعين على شيء فبعث رجلا فقال انظر علام اجتمع هؤلاء فجاء فقال امرأة قتيل فقال ما كانت هذه لتقاتل وكان على المقدمة خالد بن الوليد فبعث رجلا فقال قل لخالد لا يقتلن امرأة ولا عسيفا وفي لفظ لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا ذكره أحمد وفي سنن أبي داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله قال انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا ولا صغيرا ولا امرأة ولا تغلوا وضموا غنائمكم وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين بل النهي عن قتل النساء وقع يوم الخندق ويوم خيبر كما في المسند من حديث ابن كعب ابن مالك عن عمه أن النبي حين بعث إلى ابن أبي الحقيق بخيبر نهى عن قتل النساء والصبيان وفي المعجم للطبراني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي مر بامرأة يوم الخندق مقتولة فقال من قتل هذه فقال رجل أنا يا رسول الله قال ولم قال نازعتني سيفي فسكت وهذا كله كان قبل إرسال معاذ إلى اليمن فالصواب أن ذكر الحالمة في الحديث غير محفوظ والله أعلم 9 – فصل المرأة إن بذلت الجزية من نفسها فإن بذلت المرأة الجزية أخبرت أنه لا جزية عليها فإن قالت أنا أتبرع بها قبل منها ولم تكن جزية ولو شرطته على نفسها ولها الرجوع متى شاءت وإن بذلت لتصير إلى دار الإسلام ولا تسترق مكنت من ذلك بغير شيء ولكن يشترط عليها التزام أحكام الإسلام وتعقد لها الذمة ولا يؤخذ منها شيء إلا أن تتبرع به بعد معرفتها أنه لا شيء عليها وإن أخذ منها شيء على غير ذلك رد إليها لأنها بذلته معتقدة أنه عليها وأن دمها لا يحقن إلا به فأشبه من أدى مالا إلى من يعتقد أنه له فتبين أنه ليس له ولو حاصر المسلمون حصنا ليس فيه إلا نساء فبذلن الجزية لتعقد لهن الذمة عقدت لهن بغير شيء وحرم استرقاقهن فإن كان معهن في الحصن رجال فسألوا الصلح لتكون الجزية على النساء والصبيان دون الرجال لم يصح وإن بذلوها على الجميع جاز وكان جزية على الرجال خاصة 10 – فصل أحكام أولاد أهل الذمة إذا بلغوا والمجنون إذا أفاق فإذا بلغ الصبي من أهل الذمة وأفاق المجنون لم يحتج إلى تجديد عقد وذمة بل العقد الأول يتناول البالغين ومن سيبلغ من أولادهم أبدا وعلى هذا استمرت سنة رسول الله وسنة خلفائه كلهم في جميع الأعصار حتى يومنا هذا لم يفردوا كل من بلغ بعقد جديد وقال الشافعي يخير البالغين والمفيق بين التزام العقد وبين أن يرد إلى مأمنه فإن اختار الذمة عقدت له وإن اختار اللحاق بمأمنه أجيب إليه وقال القاضي في الأحكام السلطانية وقول الجمهور أصح وأولى فإنه لم يأت عن النبي ولا عن أحد خلفائه تجديد العقد لهؤلاء ولا يعرف أنه عمل به في وقت من الأوقات ولا يهمل الأئمة مثل هذا الأمر لو كان مشروعا ولأنهم دخلوا في العقد تبعا مع أوليائهم كما كانوا يدخلون في عقد الهدنة تبعا ولأنه عقد مع الكفار فلم يحتج إلى استئنافه لهؤلاء كعقد المؤمنين وكيف يجوز إلحاقه بمأمنه وتسليطه على محاربتنا بماله ونفسه وأي مصلحة للإسلام في هذا وأي سنة جاءت به وأي إمام عمل به وإذا كان البلوغ والإفاقة في أول حول قومه أخذت منه الجزية في آخره معهم وإن كان في أثنائه أخذ منه في آخره بقسطه ولم يترك حتى يتم حوله لئلا يحتاج إلى إفراده لحول وضبط حول كل واحد منهم وذلك يفضي إلى أن يصير لكل واحد حول مفرد وقال أصحاب مالك وإذا بلغ الصبي أخذت منه عند بلوغه ولم ينتظر مرور الحول بعد بلوغه ووجه هذا أن بلوغه بمنزلة حصول العقد مع قومه وإذا صولحوا أخذت منهم الجزية في الحال ثم تؤخذ منهم بعد ذلك لكل عام كما فعل معاذ بأهل اليمن فإن النبي أمره حين بعثه إليهم أن يأخذ من كل حالم دينارا ثم استمر ذلك مؤجلا وهكذا فعل لما صالح أكيدر دومة وهكذا فعل خلفاؤه من بعده كانوا يأخذون الجزية من الكفار حين الصلح ثم يؤجلونها كل عام وهذا الذي أوجب لأبي حنيفة أن قال تجب بأول الحول 11 – فصل ومن كان يجن ويفيق فله ثلاثة أحوال أحدها أن يكون جنونه غير مضبوط فهذا يعتبر أغلب أحواله فيجعل من أهله الثاني أن يكون ذلك مضبوطا كيوم ويوم وشهر وشهر ونحوه ففيه وجهان أحدهما يعتبر الأغلب من حالته وهذا مذهب أبي حنيفة والثاني تلفق أيام إفاقته وعلى هذا الوجه ففي مقدار وقت جزيته وجهان أحدهما أنه إذا اجتمع له من أيام إفاقته حول أخذت منه الجزية والثاني تؤخذ منه في آخر كل حول بقدر إفاقته منه وإن كان يجن ثلث الحول ويفيق ثلثيه أو بالعكس ففيه الوجهان كما ذكرنا فإن استوت إفاقته وجنونه ولم يغلب أحدهما الآخر لفقت إفاقته بقدر اعتبار الأغلب لعدمه فتعين التلفيق الحال الثالث أن يجن نصف حول ثم يفيق إفاقة مستمرة أو يفيق نصفه ثم يجن جنونا مستمرا فلا جزية عليه في وقت جنونه وعليه منها بقدر ما أفاق من الحول 12 – فصل ولا جزية على فقير عاجز عن أدائها هذا قول الجمهور وللشافعي ثلاثة أقوال هذا أحدها والثاني يجب عليه وعلى هذا قولان أحدهما أنه يخرج من بلاد الإسلام أو لا سبيل إلى إقامته في دار الإسلام بغير جزية والثاني تستقر في ذمته وتؤخذ منه إذا قدر عليها والصحيح أنها لا تجب على عاجز عنها فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وإنما فرضها عمر رضي الله عنه على الفقير المعتمل لأنه يتمكن من أدائها بالكسب وقواعد الشريعة كلها تقتضي ألا تجب على عاجز كالزكاة والدية والكفارة والخراج و لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ولا واجب مع عجز ولا حرام مع ضرورة فإن قيل نحن لا نكلفه بها في حال إعساره بل تستقر دينا في ذمته فمتى أيسر طولب بها لما مضى كسائر الديون قيل هذا معقول في ديون الآدميين وأما حقوق الله تعالى فإنه إنما أوجبها على القادرين دون العاجزين فإن قيل الجزية أجرة عن سكنى الدار فتستقر في الذمة قيل انتفاء أحكام الإجارة عنها جميعها يدل على أنها ليست بأجرة فلا يعرف حكم من أحكام الإجارة في الجزية وقد تقدم أن عمر رضي الله عنه أجرى على السائل الذمي رزقه من بيت المال فكيف يكلف أداء الجزية وهو يرزق من بيت مال المسلمين 13 – فصل من لا تؤخذ منه الجزية من أهل الذمة ولا جزية على شيخ فان ولا زمن ولا أعمى ولا مريض لا يرجى برؤه بل قد أيس من صحته وإن كانوا موسرين وهذا مذهب أحمد وأصحابه وأبي حنيفة ومالك والشافعي في أحد أقواله لأن هؤلاء لا يقتلون ولا يقاتلون فلا تجب عليهم الجزية كالنساء والذرية قال الشافعي في القول الآخر تجب عليهم الجزية بناء على أنها أجرة السكنى وأنهم رجال بالغون موسرون فلا يقيمون في دار الإسلام بغير جزية وحديث معاذ يدل عليه بعمومه وحديث عمر يتناوله بعمومه أيضا فإنه أمر أن تضرب على من جرت عليه المواسي وإن الجزية إن كانت أجرة عن سكنى الدار فظاهر وإن كانت عقوبة على الكفر فكذلك أيضا فعلى التقديرين لا يقرون بغير جزية وأصحاب القول الأول يقولون لما لم يكن هؤلاء من أهل القتال لم يكن عليهم جزية كالنساء والصبيان وقد قال أحمد في رواية عنه من أطبق بابه على نفسه ولم يقاتل لم يقتل ولا جزية عليه 14 – فصل رهبان أهل الذمة فأما الرهبان فإن خالطوا الناس في مساكنهم ومعايشهم فعليهم الجزية باتفاق المسلمين وهم أولى بها من عوامهم فإنهم رؤوس الكفر وهم بمنزلة علمائهم وشمامستهم وإن انقطعوا في الصوامع والديارات لم يخالطوا الناس في معايشهم ومساكنهم فهل تجب عليهم الجزية فيه قولان للفقهاء وهما روايتان عن الإمام أحمد أشهرهما لا تجب عليه وهو قول محمد والثانية تجب عليه وهو قول أبي حنيفة إن كان معتملا وقال أحمد تؤخذ من الشماس والراهب وكل من أنبت وهو ظاهر قول الشافعي وعليه يدل ظاهر عموم القرآن والسنة ومن لم ير وجوبها احتج بأنه ليس من أهل القتال وقد أوصى الصديق رضي الله عنه بأن لا يتعرض لهم فقال في وصيته ليزيد بن أبي سفيان حين وجهه إلى الشام لا تقتل صبيا ولا امرأة ولا هرما وستمرون على أقوام في الصوامع احتبسوا أنفسهم فيها فدعهم حتى يميتهم الله على ضلالتهم وستجدون أقواما فحصوا عن أوساط رؤوسهم فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف 15 – فصل الذمي يترهب بعد ضرب الجزية عليه فإن ترهب بعد ضرب الجزية عليه وترك مخالطة الناس فهل تسقط الجزية عنه بذلك فلم أر لأصحابنا فيها كلاما فيحتمل أن يقال لا تسقط عنه وهو الذي ذكره مالك لأن ترهبه ليس بعذر له في إسقاط ما وجب عليه قالوا ولأنه يمكن أن يكون ترهبه لتسقط الجزية عنه واحتمل أن يقال بسقوطها فإنه مانع لو قارن العقد منع الجزية فأشبه العجز والجنون والصغر 16 – فصل فلاحو أهل الذمة وأما الفلاحون الذين لا يقاتلون والحراثون فظاهر كلام الأصحاب أن تؤخذ منهم الجزية لأنهم لم يستثنوهم مع من استثني وظاهر كلام أحمد أنه لا جزية عليهم فإنه قال من أطبق بابه على نفسه ولم يقاتل لم يقتل ولا جزية عليه وقال في المغني فأما الفلاح الذي لا يقاتل فينبغي ألا يقتل لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال اتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم في الحرب وقال الأوزاعي لا يقتل الحراث إذا علم أنه ليس من المقاتلة وقال الشافعي يقتل إلا أن يؤدي الجزية لدخوله في عموم المشركين وأما قول عمر فإن أصحاب النبي لم يقتلوهم حين فتحوا البلاد ولأنهم لا يقاتلون فأشبهوا الشيوخ والرهبان انتهى كلامه وظاهره أنه لا جزية عليهم 17 – فصل تؤخذ الجزية من أهل خيبر كغيرهم من أهل الذمة وأهل خيبر وغيرهم من اليهود في الذمة والجزية سواء لا يعلم نزاع بين الفقهاء في ذلك ورأيت لشيخنا في ذلك فصلا نقلته من خطه بلفظه قال والكتاب الذي بأيدي الخيابرة الذي يدعون أنه بخط علي في إسقاط الجزية عنهم باطل وقد ذكر ذلك الفقهاء من أصحابنا وأصحاب الشافعي وغيرهم كأبي العباس بن شريح والقاضي أبي يعلى والقاضي الماوردي وأبي محمد المقدسي وغيرهم وذكر الماوردي أنه إجماع وصدق قال هذا الحكم ثابت بالكتاب والسنة والإجماع ثابت بالعموم لفظا ومعنى وهو عموم منقول بالتواتر لم يخصه أحد من علماء الإسلام ولا دليل على شيء أوله الشرع فيمتنع تخصيصه بما لا تعرف صحته ولا وجد أيضا في الشريعة للمخصص فإن الواحد من المسلمين مثل أبي بردة ابن دينار وسالم أبي حذيفة إنما خص بحكم لقيام معنى اختص به وليس كذلك اليهود وأعقابهم بل الخيابرة قد صدر منهم محاربة الله ورسوله وفي قتال علي لهم ما يكونون به أحق بالإهانة فأما الإكرام وترك الجهاد إلى الغاية التي أمر الله بها في أهل دينهم فلا وجه له وأيضا فإن النبي لم يضرب جزية راتبة على من حاربه من اليهود لا بني قينقاع ولا النضير ولا قريظة ولا خيبر بل نفى بني قينقاع إلى أذرعات وأجلى النضير إلى خيبر وقتل قريظة وقاتل أهل خيبر فأقرهم فلاحين ما شاء الله وأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب لكن لما بعث معاذا إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر قلت ومقصود شيخنا أن أهل خيبر وغيرهم من اليهود كانوا في حكمه سواء فلم يأخذ الجزية من غيرهم حتى أسقطها عنهم فإن الجزية إنما نزلت فريضتها بعد فراغه من اليهود وحربهم فإنها نزلت في سورة براءة عام حجة الصديق رضي الله عنه سنة تسع وقتاله لأهل خيبر كان في السنة السابعة وكانت خيبر بعد صلح الحديبية جعلها الله سبحانه شكرانا لأهل الحديبية وصبرهم كما جعل فتح قريظة بعد الخندق شكرانا وجبرا لما حصل للمسلمين في تلك الغزوة وكما جعل النضير بعد أحد كذلك وجعل قينقاع بعد بدر وكل واقعة من وقائع رسول الله بأعداء الله اليهود كانت بعد غزوة من غزوات الكفار ولم تكن الجزية نزلت بعد فلما نزلت أخذها رسول الله من نصارى نجران وهم أول من أخذت منهم الجزية كما تبين وبعث معاذ فأخذها من يهود اليمن تزوير يهود خيبر كتابا في إسقاط الجزية عنهم فإن قيل فلم يأخذها من أهل خيبر بعد نزولها قيل كان قد تقدم صلحه لهم على إقرارهم في الأرض يتضمن ما يخرج منها ما شاء فوفى لهم عهدهم ولم يأخذ منهم غير ما شرط عليهم فلما أجلاهم عمر رضي الله عنه إلى الشام ظنوا أنهم يستمرون على أن يعفوا منها فزوروا كتابا بتضمن أن رسول الله أسقطها عنهم بالكلية وقد صنف الخطيب والقاضي وغيرهما في إبطال ذلك الكتاب تصانيف ذكروا فيها وجوها تدل على أن ذلك الذي بأيديهم موضوع باطل قال شيخنا ولما كان عام إحدى وسبع مئة أحضر جماعة من يهود دمشق عهودا ادعوا أنها قديمة وكلها بخط علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد غشوها بما يقتضي تعظيمها وكانت قد نفقت على ولاة الأمور من مدة طويلة فاسقطت عنهم الجزية بسببها وبأيديهم تواقيع ولاة فلما وقفت عليها تبين في نفسها ما يدل على كذبها من وجوه كثيرة جدا منها اختلاف الخطوط اختلافا متفاقما في تأليف الحروف الذي يعلم معه أن ذلك لا يصدر عن كاتب واحد وكلها نافية أنه خط علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومنها أن فيها من اللحن الذي يخالف لغة العرب ما لا يجوز نسبة مثله إلى علي رضي الله عنه ولا غيره ومنها الكلام الذي لا يجوز نسبته إلى النبي في حق اليهود مثل قوله أنهم يعاملون بالإجلال والإكرام وقوله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وقوله أحسن الله بكم الجزاء وقوله وعليه أن يكرم محسنكم ويعفو عن مسيئكم وغير ذلك ومنها أن في الكتاب إسقاط الخراج عنهم مع كونهم في أرض الحجاز والنبي لم يضع خراجا قط وأرض الحجاز لا خراج فيها بحال والخراج أمر يجب على المسلمين فكيف يسقط عن أهل الذمة ومنها أن في بعضها إسقاط الكلف والسخر عنهم وهذا مما فعله الملوك المتأخرون لم يشرعه الرسول وخلفاؤه وفي بعضها أنه شهد عنده عبدالله بن سلام وكعب بن مالك وغيرهما من أحبار اليهود وكعب بن مالك لم يكن من أحبار اليهود فاعتقدوا أنه كعب بن مالك وذلك لم يكن من الصحابة وإنما أسلم على عهد عمر رضي الله عنه ومنها أن لفظ الكلام ونظمه ليس من جنس كلام النبي ومنها أن فيه من الإطالة والحشو وما لا يشبه عهود النبي وفيها وجوه أخر متعددة مثل أن هذه العهود لم يذكرها أحد من العلماء المتقدمين قبل ابن شريح ولا ذكروا أنها رفعت إلى أحد من ولاة الأمور فعملوا بها ومثل ذلك مما يتعين شهرته ونقله قلت ومنها أن هذا لم يروه أحد من مصنفي كتب السير والتاريخ ولا رواه أحد من أهل الحديث ولا غيرهم البتة وإنما يعرف من جهة اليهود ومنهم بدأ وإليهم يعود 18 – فصل أحكام عبيد أهل الذمة وأما العبد فإن كان سيده مسلما فلا جزية عليه باتفاق أهل العلم ولو وجبت عليه لوجبت على سيده فإنه هو الذي يؤديها عنه وفي السنن والمسند من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله لا تصلح قبلتان في أرض وليس على مسلم جزية وإن كان العبد لكافر فالمنصوص عن أحمد أنه لا جزية عليه أيضا وهو قول عامة أهل العلم قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أنه لا جزية على العبد وقد روي عن النبي أنه قال لا جزية على عبد وفي رفعه نظر وهو ثابت عن ابن عمر وإن العبد محقون الدم فأشبه النساء والصبيان ولأنه لا مال له فهو أسوأ حالا من الفقير العاجز ولأنها لو وجبت عليه لوجبت على سيده إذ هو المؤدي لها عنه فيجب عليه أكثر من جزية ولأنه تبع فلم فلم تجب عليه الجزية كذرية الرجل وامرأته ولأنه مملوك فلم تجب عليه كبهائمه ودوابه وعن أحمد رواية أخرى أنها تجب عليه ونحن نذكر نصوص أحمد من الطريقين قال أبو طالب سألت أبا عبدالله عن العبد النصراني عليه جزية قال ليس عليه جزية وقال في موضع آخر قلت فالعبد ليس عليه جزية لنصراني كان أم لمسلم كما قال أبو محمد رضي الله عنه وقال عبدالله بن أحمد سألت أبي عن رجل مسلم كاتب عبدا نصرانيا هل تؤخذ من العبد الجزية من مكاتبته فقال إن العبد ليس عليه جزية والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم وقال أحمد ثنا يزيد ثنا سعيد عن قتادة عن سفيان العقيلي عن أبي عياض قال قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه لا تشتروا من رقيق أهل الذمة ولا مما في أيديهم لأنهم أهل خراج يبيع بعضهم بعضا ولا يقرن أحدكم بالصغار بعد إذ أنقذه الله منه قال حنبل سمعت أبا عبدالله قال أراد عمر أن يوفر الجزية لأن المسلم إذا اشتراه سقط عنه أداء ما يؤخذ منه والذمي يؤدي عنه وعن مملوكه خراج جماجمهم إذا كانوا عبيدا أخذ منهم جميعا الجزية وقال إسحاق بن منصور قلت لأبي عبدالله قول عمر لا تشتروا رقيق أهل الذمة قال لأنهم أهل خراج يؤدي بعضهم عن بعض فإذا صار إلى المسلم انقطع عنه ذلك 19 – فصل حكم من كان بعضه حرا من عبيد أهل الذمة ومن بعضه حر فقياس المذهب أن عليه الجزية بقدر ما فيه من الحرية 20 – فصل العبد من أهل الذمة إن أعتق فإن عتق العبد فهل تجب عليه الجزية فيه روايتان عن أحمد إحداهما أن الجزية واجبة عليه سواء كان المعتق مسلما أو كافرا وهذا ظاهر المذهب وقول أكثر أهل العلم منهم الإمام الشافعي وأبو حنيفة والليث بن سعد وسفيان الثوري وغيرهم والثانية لا جزية عليه ونص عليها في رواية بكر بن محمد عن أبيه أنه قال لأبي عبدالله النصراني الذي اعتق عليه الجزية قال ليس عليه جزية لأن ذمته ذمة مواليه ليس عليه جزية ووهن الخلال هذه الرواية وقال هذا قول قديم رجع عنه أحمد والعمل على ما رواه الجماعة وعن الإمام مالك روايتان أيضا إحداهما أن عليه الجزية إن كان المعتق له مسلما فلا جزية عليه إن عليه الولاء لسيده وهو شعبة من الرق وإنه عبد المسلم قلت وهي مسألة اختلف فيها التابعون فعمر بن عبدالعزيز أخذ منه الجزية والشعبي لم ير عليه جزية وقال ذمته ذمة مولاه حكاه أحمد عنهما 21 – فصل العبد من أهل الذمة إن أسلم ومن أسلم سقطت عنه الجزية سواء أسلم في أثناء الحول أو بعده ولو اجتمعت عليه جزية سنين ثم أسلم سقطت كلها هذا قول فقهاء المدينة وفقهاء الرأي وفقهاء الحديث إلا الشافعي وأصحابه فإنه قال إن أسلم بعد الحول لم تسقط لأنه دين استحقه صاحبه واستحق المطالبة به في حال الكفر فلم تسقط بالإسلام كالخراج وسائر الديون وله فيما إذا أسلم في أثناء الحول قولان أحدهما أنها تسقط والثاني أنها تؤخذ بقسطه والصحيح الذي لا ينبغي القول بغيره سقوطها وعليه تدل سنة رسول الله وسنة خلفائه وذلك من محاسن الإسلام وترغيب الكفار فيه وإذا كان رسول الله يعطي الكفار على الإسلام حتى يسلموا يتألفهم بذلك فكيف ينفر عن الدخول في الإسلام من أجل دينار فأين هذا من ترك الأموال للدخول في الإسلام قال سفيان الثوري عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه قال قال رسول الله ليس على مسلم جزية قال أبو عبيد تأويل هذا الحديث لو أن رجلا أسلم في آخر السنة وقد وجبت الجزية عليه أن إسلامه يسقطها عنه فلا تؤخذ منه وإن كانت قد لزمته قبل ذلك لأن المسلم لا يؤدي الجزية ولا تكون عليه دينا كما لا تؤخذ منه فيما يستأنف بعد الإسلام وقد روي عن عمر وعلي وعمر بن عبدالعزيز ما يحقق هذا المعنى حدثنا عبدالرحمن عن حماد بن سلمة عن عبيدالله بن رواحة قال كنت مع مسروق بالسلسلة فحدثني أن رجلا من الشعوب يعني الأعاجم أسلم وكانت تؤخذ منه الجزية فأتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين أسلمت والجزية تؤخذ مني فقال لعلك أسلمت متعوذا فقال أما في الإسلام ما يعيذني قال فكتب أن لا تؤخذ منه الجزية وحدثنا هشيم قال أخبرنا سيار عن الزبير بن عدي قال أسلم دهقان على عهد علي رضي الله عنه فقال له علي رضي الله عنه إن أقمت في أرضك رفعنا عنك جزية رأسك وأخذناها من أرضك وإن تحولت عنها فنحن أحق بها وحدثنا يزيد بن هارون عن المسعودي عن محمد بن عبيدالله الثقفي أن دهقانا أسلم فقام إلى علي فقال له علي أما أنت فلا جزية عليك وأما أرضك فلنا وحدثنا حجاج عن حماد بن سلمة عن حميد قال كتب عمر بن عبدالعزيز من شهد شهادتنا واستقبل قبلتنا واختتن فلا تأخذوا منه جزية قال أبو عبيد أفلا ترى أن هذه الأحاديث قد تتابعت عن أئمة الهدى بإسقاط الجزية عمن أسلم ولم ينظروا في أول السنة كان ذلك ولا في آخرها فهو عندنا على أن الإسلام أهدر ما كان قبله منها وإنما احتاج الناس إلى هذه الآثار في زمن بني أمية لأنه يروى عنهم أو عن بعضهم أنهم كانوا يأخذونها منهم وقد أسلموا يذهبون إلى أن الجزية بمنزلة الضرائب على العبيد يقولون لا يسقط إسلام العبد عنه ضريبته ولهذا اختار من اختار من القراء الخروج عليهم وقد روي عن يزيد بن أبي حبيب ما يثبت ما كان من أخذهم إياها حدثنا عبدالله بن صالح ثنا حرملة بن عمران عن يزيد بن أبي حبيب قال أعظم ما أتت هذه الأمة بعد نبيها ثلاث خصال قتلهم عثمان بن عفان وإحراقهم الكعبة وأخذهم الجزية من المسلمين والجزية وضعت في الأصل إذلالا للكفار وصغارا فلا تجامع الإسلام بوجه ولأنها عقوبة فتسقط بالإسلام وإذا كان الإسلام يهدم ما قبله من الشرك والكفر والمعاصي فكيف لا يهدم ذل الجزية وصغارها وإن المقصود تألف الناس على الإسلام بأنواع الرغبة فكيف لا يتألفون بإسقاط الجزية وكان رسول الله يعطي على الإسلام عطاء لا يعطيه على غيره وقد جعل الله سبحانه سهما في الزكاة للمؤلفة قلوبهم فكيف لا يسقط عنهم الجزية بإسلامهم وكيف يسلط الكفار أن يتحدثوا بينهم بأن من أسلم منهم أخذ بالضرب والحبس ومنع ما يملكه حتى يعطي ما عليه من الجزية 22 – فصل الكافر إن مات في أثناء الحول فإن مات الكافر في أثناء الحول سقطت عنه ولم تؤخذ بقدر ما أدرك منه وإن مات بعد الحول فذهب الشافعي إلى أنها لا تسقط وتؤخذ من تركته وهو ظاهر كلام أحمد وقال أبو حنيفة تسقط بالموت وحكاه أبو الخطاب عن شيخه القاضي قال أبو عبيد وأما موت الذمي في آخر السنة فقد اختلف فيه فحدثنا سعيد بن عفير عن عبدالله بن لهيعة عن عبدالرحمن بن جنادة كاتب حيان بن شريج وكان حيان بن شريج بعث إلى عمر بن عبدالعزيز وكتب إليه يستفتيه أيجعل جزية موتى القبط على أحيائهم فسأل عمر عن ذلك عراك بن مالك وعبدالرحمن يسمع فقال ما سمعت لهم بعقد ولا عهد إنما أخذوا عنوة بمنزلة الصيد فكتب عمر إلى حيان بن شريج يأمره أن يجعل جزية الأموات على الأحياء وكان حيان واليه على مصر قال وقد روي من وجه آخر عن معقل بن عبيدالله عن عمر بن عبدالعزيز أنه قال ليس على من مات ولا من أبق جزية يقول لا تؤخذ من ورثته بعد موته ولا يجعلها بمنزلة الدين ولا تؤخذ من أهله إذا هرب عنهم منها لأنهم لم يكونوا ضامنين لذلك قال الآخذون لها هي دين وجب عليه في حياته فلم يسقط بموته كديون الآدميين وقال المسقطون هي عقوبة فتسقط بالموت كالحدود ولأنها صغار وإذلال فزال بزوال محله وقولكم إنها دين فلا تسقط بالموت إنما يتأتى على أصل من لا يسقطها بالإسلام وأما من أسقطها بالإسلام فلا يصح منه هذا الاستدلال ولا ريب أن الجزية عقوبة وحق عليه ففيها الأمران فمن غلب جانب العقوبة أسقطها بالموت كما تسقط العقوبات الدنيوية عن الميت ومن غلب فيها جانب الدين لم يسقطها والمسألة تحتمله والله أعلم 23 – فصل إن اجتمعت على الذمي جزية سنين فإن اجتمعت عليه جزية سنين استوفيت كلها عند الجمهور وقال أبو حنيفة تتداخل وتؤخذ منه جزية واحدة وأجراها مجرى العقوبة فتتداخل كالحدود والجمهور جعلوها بمنزلة سائر الحقوق المالية كالدية والزكاة وغيرهما وقول الجمهور أصح إلا أن يناسب التخفيف عنه بترك أداء ما وجب عليه للمسلمين ولا سيما إذا كان ممن لا يعذر بالتأخير ولو قيل بمضاعفته عليه عقوبة له لكان أقوى من القول بسقوطها والله أعلم 24 – فصل حكم بذل الجزية أو الخراج من عين ما نعتقد أنه محرم وإذا بذلوا ما عليهم من الجزية أو الخراج أو الدية أو الدين أو غيره من عين ما نعتقد نحن محرما ولا يعتقدون تحريمه كالخمر والخنزير جاز قبوله منهم هذا مذهب أحمد وغيره من السلف قال الميموني قرأت على أبي عبدالله هل على أهل الذمة إذا اتجروا في الخمر والخنزير العشر أنأخذ منه فأملى علي قال عمر ولوهم بيعها لا يكون هذا إلا على الأخذ قلت كيف إسناده قال إسناده جيد وقال يعقوب بن بختان سألت أبا عبدالله عن خنازير أهل الذمة وخمورهم قال لا تقتل خنازيرهم فإن لهم عهدا وألا تؤخذ منهم خمرا ولا خنزيرا يكون لهم بيعها وقال عبدالله قلت لأبي فإن كان مع النصراني خمر وخنازير كيف يصنع بها فقال قال عمر ولوهم بيعها وقد قال بعض الناس يقوم عليهم وهو قول شنيع ولا أراه يعجبني وكذلك نقل عنه صالح سواء وقال أبو عبيد باب أخذ الجزية من الخمر والخنازير حدثنا عبدالرحمن عن سفيان ابن سعيد عن إبراهيم بن عبدالأعلى الجعفي عن سويد بن غفلة قال بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن ناسا يأخذون الجزية من الخنازير وقام بلال فقال إنهم ليفعلون فقال عمر رضي الله عنه لا تفعلوا ولوهم بيعها وحدثنا الأنصاري عن إسرائيل عن إبراهيم بن عبدالأعلى عن سويد بن غفلة أن بلالا قال لعمر إن عمالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج فقال لا تأخذوها منهم ولكن ولوهم بيعها وخذوا أنتم من الثمن قال أبو عبيد يريد أن المسلمين كانوا يأخذون من أهل الذمة الخمر والخنازير من جزية رؤوسهم وخراج أرضيهم بقيمتها ثم يتولى المسلمون بيعها فهذا الذي أنكره بلال ونهى عنه عمر ثم رخص لهم أن يأخذوا ذلك من أثمانها إذا كان أهل الذمة المتولين لبيعها لأن الخمر والخنازير مال من أموال أهل الذمة ولا يكون مالا للمسلمين ومما يبين ذلك ما حدثني به علي بن معبد عن عبيدالله بن عمرو عن الليث بن أبي سليم أن كمر كتب إلى العمال يأمرهم بقتل الخنازير ويقضي أثمانها لأهل الجزية من جزيتهم قال أبو عبيد فهو لم يجعلها قصاصا من الجزية إلا وهو يراها مالا من أموالهم فإذا مر الذمي بالخمر والخنازير على العاشر فإنه لا يطيب له أن يعشرها ولا يأخذ ثمن العشر منها وإن كان الذمي هو المتولي لبيعها أيضا وهذا ليس من الباب الأول ولا يشبهه لأن ذلك حق وجب على رقابهم وأرضيهم والعشر ها هنا إنما هو شيء يوضع على الخمر والخنازير أنفسها فلذلك ثمنها لا يطيب لقول رسول الله إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه قال أبو عبيد وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أفتى في مثل هذا بغير ما أفتى به في ذلك وكذلك عمر بن عبدالعزيز ثنا أبو الأسود المصري حدثنا عبدالله بن لهيعة عن عبدالله بن هبيرة الشيباني أن عتبة بن فرقد بعث إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأربعين ألف درهم صدقة الخمر فكتب إليه عمر بعثت إلي بصدقة الخمر وأنت أحق بها من المهاجرين وأخبر الناس بذلك وقال والله لا أستعملك على شيء بعدها قال فنزعه قال وحدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن المثنى بن سعيد الضبعي قال كتب عمر بن عبدالعزيز إلى عدي بن أرطاة أن ابعث إلي بتفصيل الأموال التي قبلك من أين دخلت فكتب إليه بذلك وصنفه له فكان فيما كتب إليه من عشر الخمر أربعة آلاف درهم قال فلبثنا ما شاء الله ثم جاء جواب كتابه إنك كتبت إلي تذكر من عشور الخمر أربعة آلاف درهم وإن الخمر لا يعشرها مسلم ولا يشتريها ولا يبيعها فإذا أتاك كتابي هذا فاطلب الرجل فارددها عليه فهو أولى بما كان فيها فطلب الرجل فردت عليه الأربعة الآلاف وقال أستغفر الله إني لم أعلم قال أبو عبيد فهذا عندي الذي عليه العمل وإن كان إبراهيم النخعي قد قال غير ذلك حدثنا يحيى بن سعيد القطان وعبدالرحمن بن مهدي كلاهما عن سفيان عن حماد عن إبراهيم في الذمي يمر بالخمر على العاشر قال يضاعف عليه العشور قال أبو عبيد وكان أبو حنيفة يقول إذا مر على العاشر بالخمر والخنازير عشر الخمر ولم يعشر الخنازير سمعت محمد بن الحسن يحدث بذلك عنه قال أبو عبيد وقول الخليفتين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعمر بن عبدالعزيز رحمه الله أولى بالاتباع ألا يكون على الخمر عشر أيضا انتهى وهذا الفرق هو محض الفقه فإنهم إذا تبايعوها فيما بينهم فقد تعاقدوا على ما يعتقدونه مالا فإذا أخذناه منهم أخذنا ما هو حلال عندهم وإن كانوا لا يعتقدونه كل سنة كما اكتسبوه بعقود أو مواريث أو أسباب من هبات ووصايا فغيرها لا يجوز في شرعنا وعاملونا به أو قضونا إياه مما لنا عليهم ساغ لنا أخذه وإن لم يسوغ في شرعنا تلك الأسباب التي حدها كما تأخذ المرأة من مهر في عقد نكاح لا نجيزه نحن وهم يعتقدونه نكاحا وهذا بخلاف ما سرقوه أو غصبوه أو اكتسبوه بوجه يعتقدون تحريمه كالربا فإنه حرام عليهم بنص التوراة وأما ما منعه الخليفتان فهو فرض العشر على نفس الخمر والخنازير إذا اتجروا فيها فهذا غير أخذ أثمانها منهم إذا كان لنا عليهم ذلك من وجه آخر فالفرق بين أن يكون المأخوذ من جهة الخمر والخنازير وبين أن يكون من جهة الجزية والدين والدية وغيرها ظاهر وبالله التوفيق 25 – فصل وأخذ الجزية من أهل الكتاب وحل ذبائحهم ومناكحتهم مرتب على أديانهم لا على أنسابهم فلا يكشف عن آبائهم هل دخلوا في الدين قبل المبعث أو بعده ولا قبل النسخ والتبديل ولا بعده فإن الله سبحانه أقرهم بالجزية ولم يشرط ذلك وأباح لنا ذبائحهم وأطعمتهم ولم يشرط ذلك في حلها مع العلم بأن كثيرا منهم دخل في دينهم بعد تبديله ونسخه وكانت المرأة من الأنصار تنذر إن عاش لها ولد أن تهوده فلما جاء الإسلام أرادوا منع أولادهم من المقام على اليهودية وإلزامهم بالإسلام فأنزل الله تعالى لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فأمسكوا عنهم ومعلوم قطعا أن دخولهم في دين اليهودية كان بعد تبديله وبعد مجيء المسيح ولم يسأل النبي أحدا ممن أقره بالجزية متى دخل آباؤه في الدين ولا من كان يأكل هو وأصحابه من ذبائحهم من اليهود ولا أحد من خلفائه البتة وكيف يمكن العلم بهذا أو يكون شرطا في حل المناكحة والذبيحة والإقرار بالجزية ولا سبيل إلى العلم به إلا لمن أحاط بكل شيء علما وأي شيء يتعلق به من آبائه إذا كان هو على دين باطل لا يقبله الله فسواء كان آباؤه كذلك أو لم يكونوا والنبي الجزية من يهود اليمن وإنما دخلوا في اليهودية بعد المسيح في زمن تبع وأخذها رسول الله وخلفاؤه من بعده من نصارى العرب ولم يسألوا أحدا منهم عن مبدأدخوله في النصرانية هل كان قبل المبعث أو بعده وهل كان بعد النسخ والتبديل أم لا وقد اختلف كلام الشافعي رحمه الله تعالى في الجزية والمناكحة فقال في المختصر وأصل ما أبني عليه أن الجزية لا تقبل من أحد دان دين كتاب إلا أن يكون آباؤه دانوا به قبل نزول الفرقان فلا تقبل ممن بدل يهودية بنصرانية أو نصرانية بمجوسية أو مجوسية بنصرانية أو بغير الإسلام وإنما أذن الله عز و جل بأخذ الجزية منهم على ما دانوا به قبل محمد وذلك خلاف ما أحدثوا من الدين بعده فإن أقام على ما كان عليه وإلا نبذ إليه عهده وأخرج من بلاد الإسلام بماله وصار حربا ومن بدل دينه من كتابية لم يحل نكاحها قال المزني قد قال في كتاب النكاح إذا بدلت بدين يحل نكاح أهله فهو حلال وهذا عندي أشبه وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى ومن يتولهم منكم فإنه منهم فمن دان منهم دين أهل الكتاب قبل نزول الفرقان وبعده سواء عندي في القياس وبالله التوفيق قال المنازعون له الكلام على هذا من وجوه أحدها أن يقال الأصل الذي تبني عليه لا بد أن يكون معلوما ثبوته بكتاب الله أو سنة رسوله نصا أو استنباطا فأين في كتاب الله عز و جل أو سنة رسوله أن الجزية لا تقبل ممن دان بدين إلا أن يكون آباؤه دانوا به قبل نزول الفرقان وأين يستنبط ذلك منهما أو من أحدهما فيكون أصلا منصوصا أو مستنبطا الثاني أن سكوت القرآن والسنة عن اعتبار ذلك في جميع المواضع وعن الإيماء إليه والدلالة عليه دليل على عدم اعتباره الثالث أن إطلاقهما وعمومهما المطردين في جميع المواضع متناول لكل من اتصف بتلك الصفة ولم يرد فيهما موضع واحد مخصص ولا مقيد فيجب التمسك بالعام حتى يقوم دليل على تخصيصه الرابع أن عمل النبي وسيرته في أهل الكتاب بعد نزول الآية مبين أنه المراد منهما وقد علم أنه لم يبن في أخذ الجزية وحل الذبائح والنكاح إلا على مجرد دينهم لا على آبائهم وأنسابهم الخامس أنه سبحانه قد حكم ولا أحسن من حكمه أنه من تولى اليهود والنصارى فهو منهم ومن يتولهم منكم فإنه منهم فإذا كان أولياؤهم منهم بنص القرآن كان لهم حكمهم وهذا عام خص منه من يتولاهم ودخل في دينهم بعد التزام الإسلام فإنه لا يقر ولا تقبل منه الجزية بل إما الإسلام أو السيف فإنه مرتد بالنص والإجماع ولا يصح إلحاق من دخل في دينهم من الكفار قبل التزام الإسلام بمن دخل فيه من المسلمين يوضحه الوجه السادس أن من دان بدينهم من الكفار بعد نزول الفرقان فقد انتقل من دينه إلى دين خير منه وإن كانا جميعا باطلين وأما المسلم فإنه قد انتقل من دين الحق إلى الدين الباطل بعد إقراره بصحة ما كان عليه وبطلان ما انتقل إليه فلا يقر السابع أن دين أهل الكتاب قد صار باطلا بمبعث رسول الله فلا فرق بين من اختاره بنفسه ممن لم يتقدم دخول آبائه فيه قبل ذلك وبين من دخل فيه ممن تقدم دخول آبائه فيه فإن كل واحد منهما اختار دينا باطلا وما على الرجل من أبيه وأي شيء يتعلق به منه الثامن أن تبعيته لأبيه منقطعة ببلوغه بحيث صار مستقلا بنفسه في جميع الأحكام فما بال تبعية الأب بعد البلوغ أثرت في إقراره على دين باطل قد قطع الإسلام تبعيته فيه التاسع أن ذلك الدين قد علم بطلانه ونسخه قطعا بمجيء المسيح فقد أقر على دين دخل فيه آباؤه بعد نسخه وتبديله العاشر أن نسبة من دخل في اليهودية بعد بعث المسيح وترك دين المسيح كنسبة من دخل في النصرانية بعد مبعث رسول الله إذ كلاهما دخل في دين باطل منسوخ الحادي عشر أن آباء هذا الكتابي لو أدركوا دين الإسلام فدخلوا فيه وأقام هو على دينه بعد بلوغه لأقررناه ولم نتعرض له مع اعتراف آبائه ببطلان دينهم الذي كانوا عليه فإذا أقر على دين قد اعترف آباؤه ببطلانه فكيف لا يقر على دين دخل آباؤه فيه وهم معتقدون صحته الثاني عشر أن النبي قبل أن يؤمر بالجهاد كان يقر الناس على ما هم عليه ويدعوهم إلى الإسلام بل كانت المرأة تسلم وزوجها كافر فلا يفرق الإسلام بينهما ولم ينزل تحريم المسلمة على الكافر إلا بعد صلح الحديبية وكان النبي مع الناس في الدعوة مراتب فإنه أمر أولا أن يقرأ باسم ربه ثم أمر ثانيا أن يقوم نذيرا فأمر بإنذار عشيرته وقومه ودعوتهم إلى الله تعالى ثم أمر بإنذار الناس والصبر والعفو والهجر لمن آذاه ثم أمر بالهجرة ثم أمر بقتال من قاتله ثم أمر بالجهاد العام ثم بضرب الجزية على أهل الكتاب فضربها عليهم وألحق بهم المجوس وكانت العرب من عباد الأوثان قد دخلوا كلهم في الدين وكان يقر الناس على ما هم عليه حتى يأتيه الأمر من الله بما يأخذهم به ويفعله معهم فلما جاءه أمره بالهجرة بادر إلى امتثاله ثم جاءه الأمر بالجهاد فقام به حق القيام ثم جاءه الأمر بالتفريق بين المؤمنات والكفار في النكاح ثم جاءه الأمر بصلح الكفار بتوادعهم ثم جاءه الأمر بأخذ الجزية منهم وإقرارهم على دينهم ولا يتعرض لهم ما لم ينقصوه شيئا مما شرط عليهم فلم يكن قبل الهجرة والجهاد يمنع من أراد التهود أو التنصر من أهل الأوثان فلما علت كلمة الإسلام وصار للمسلمين الغلبة والقهر منع من أراد منهم التهود أو التنصر بعد أن أقر بالإسلام وأمر بقتله إن لم يراجع دين الإسلام ولم يمنع يهوديا من نصرانية ولا نصرانيا من يهودية كما منع المسلم منهما وقد علم أن من أبناء الأنصار من دخل في اليهودية بعد النسخ والتبديل كما روى أبو داود في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كانت المرأة تكون مقلاتا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا لا ندع أبناءنا فأنزل الله عز و جل لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي قال أبو داود المقلات التي لا يعيش لها ولد وهو يدل على أن من تهود وإن كان أصله غير يهودي فإنه مثلهم والنبي لم يمنع قبل فرض الجهاد ولا بعده وثنيا دخل في دين أهل الكتاب بل ولا يهوديا تنصر أو نصرانيا تهود أو مجوسيا دخل في التهود والتنصر بل جمهور الفقهاء اليوم يقررونه على ذلك كما هو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات عنه وعنه رواية ثانية لا يقبل منه إلا الإسلام وعنه رواية ثالثة لا يقبل منه إلا الإسلام أو دينه الأول إن كان دينا يقر أهله عليه الثالث عشر أنه لو لم يعرف له أب لكونه لقيطا أو انقطع نسبه من أبيه بكونه ولد زنى فإن ذلك لا يمنع اعتباره في دينه بنفسه ولو كان من شرط ذلك دخول آبائه في الدين قبل النسخ والتبديل لم يثبت لهذا حكم دينه ولم يقر عليه لعدم أبيه حسا وشرعا إذ تبعيته هنا منتفية وإنما له حكم نفسه ولهذا قال الإمام أحمد ومن تبعه إنه يحكم بإسلامه في هذه المواضع وفيما إذا مات أبواه أو أحدهما وهو دون البلوغ لأنه إنما كان كافرا تبعا لهما وإلا فهو على الفطرة الأصلية فإذا لم يكن له من يتبعه على دينه كان مسلما لأن مقتضى الفطرة موجود والمغير لها مفقود فأحمد اعتبر في بقائه على دينه وجود أبويه لتتحقق التبعية والشافعي لم يعتبر بقاء الأبوين ولا وجودهما في كونه تبعا لهما فإذا كان قد أقره على الدين الباطل حيث لا تتحقق تبعية الأبوين علم أن إقراره لم يكن لأجل آبائه وهو ظاهر الرابع عشر قوله وإنما أذن الله تعالى بأخذ الجزية منهم على ما دانوا به قبل محمد وذلك خلاف ما أحدثوا من الدين بعده فيقال إن أريد بما دانوا به قبل محمد فذلك إنما هو قبل مبعث المسيح فلا تقبل من يهودي جزية إلا أن يعلم أن آباءه توارثوا اليهودية قبل مبعث المسيح فإنها بطلت بمبعثه كما بطلت هي والنصرانية وسائر الأديان بمبعث رسول الله وإن أريد به ما دانوا به قبل مبعثه وإن كان باطلا منسوخا فما الفرق بين ذلك وبين ما دانوا به بعد المبعث قبل أن تبلغهم الدعوة وتقوم عليهم الحجة ؟ فإنك إنما اعتبرت وقت مبعثه خاصة وإن أريد به ما دانوا به قبل قيام الحجة عليهم انتقض ذلك من وجهين أحدهما أنك لم تعتبر ذلك وإنما اعتبرت نفس المبعث الثاني أن الدين إذا كان باطلا قبل المبعث لم يكن لتمسك الآباء به أثر في إقرار الأبناء الخامس عشر أنهم إذا دانوا بدين قد أقر أهله عليه بعد المبعث مع بطلانه قطعا فقد أقروا على دين مبدل منسوخ وأخذت منهم الجزية عليه السادس عشر أن قوله بخلاف ما أحدثوا من الدين بعده يشعر بأنه كان صحيحا إلى زمن المبعث فأحدثوا بعد المبعث دينا آخر غيره فكذلك لا يقرون عليه وهذا خلاف الواقع فإنهم كانوا قد أحدثوا وبدلوا قبل مبعث رسول الله فلما بعث على ذلك الإحداث والتبديل وانضاف إليه إحداث آخر وتبديل آخر فلم يكن دينهم قبل المبعث سالما من الإحداث والتبديل بل كان كله قد انتقض إلا الشيء القليل منه السابع عشر قوله فإن أقام على ما كان عليه وإلا نبذ إليه عهده فيقال متى سار رسول الله وخلفاؤه في أهل الذمة هذه السيرة ؟ ومتى قال هو أو أحد من خلفائه ليهودي أو نصراني متى دخل أباؤك في الدين ؟ فإن كانوا دخلوا فيه قبل مبعثي وإلا نبذت إليك العهد وأيضا فإن الذي كان عليه باطل قطعا سواء أدرك آباؤه حقه أو لم يدركوه فهو مقيم على ما كان عليه آباؤه من الباطل الثامن عشر أن إقراره بين أظهر المسلمين على باطل دينه بالجزية والذل والصغار والتزام أحكام الملة وكف شره عن المسلمين خير وأنفع للمسلمين من أن يخرج بماله إلى بلاد الكفار المحاربين فيكون قوة للكفار محاربا للإسلام ممتنعا من أداء الجزية وجريان أحكام الملة عليه مع إقامته على الدين الباطل التاسع عشر قوله ومن بدل دينه من كتابية لم يحل نكاحها فيقال إذا كان العلم بكون الكتابية دخل آباؤها في الدين قبل النسخ والتبديل شرطا في حل نكاحها لم يحل نكاح امرأة من أهل الكتاب حتى يعرف أن آباءها كانوا كذلك وهذا لا سبيل إلى العلم به إلا من جهتهم وخبرهم لا يقبل في ذلك والمسلمون لا علم لهم بذلك فلا يحل نكاح امرأة كتابية أصلا وهذا خلاف نص القرآن ولا يقال من لم يعلم حال أبويها جاز نكاحها فإن شرط الحل إذا لم يعلم ثبوته امتنع ثبوت الحل والصحابة رضي الله عنهم تزوجوا منهم ولم يسألوا عن ذلك وقد ألزم المزني الشافعي بالنكاح فقال الشافعي في كتاب النكاح إذا بدلت بدين يحل نكاح أهله فهو حلال قال المزني وهذا عندي أشبه ثم احتج بقول ابن عباس رضي الله عنهما في تأويل قوله تعالى ومن يتولهم منكم فإنه منهم وهذا من أحسن الاحتجاج ثم قال المزني فمن دان منهم دين أهل الكتاب قبل نزول الفرقان وبعده سواء عندي في القياس الوجه العشرون أنه لو صح اشتراط ذلك الشرط لم يبح لنا ذبيحة أحد من أهل الكتاب لأنا لا نعلم متى دخل آباؤه في الدين والجهل بوجود الشرط كالعلم بانتفائه في امتناع ثبوت الحكم قبل تحققه وقد قال الشافعي رحمه الله تنصرت قبائل من العرب قبل أن يبعث الله محمدا وينزل عليه الفرقان فدانت بدين أهل الكتاب فأخذ عليه الصلاة و السلام الجزية من أكيدر دومة وهو رجل يقال من غسان أو كندة ومن أهل ذمة اليمن وعامتهم عرب ومن أهل نجران وفيهم عرب فدل ما وصفت على أن الجزية ليست على الأحساب وإنما هي على الأديان فقد صرح رحمه الله تعالى بعدم اعتبار الأنساب في الجزية وأخبر أنها على الأديان ومعلوم أن هذا لا فرق بينه وبين أن يكون الآباء دانوا بالدين قبل تبديله أو لم يكونوا كذلك وكون الآباء قد دخلوا في الدين قبل نزول القرآن بعد بطلانه وتبديله لا أثر له فإنهم بين المبعث وضرب الجزية كانوا قد دخلوا في دين يقرون عليه ونكتة المسألة أنهم بعد المبعث وإن دخلوا في دين باطل قد دخلوا في دين يقرون عليه وذلك قبل الأمر بالجهاد فهذه الوجوه ونحوها وإن كانت مبطلة لهذا الأصل فإنها من أصول الشافعي رحمه الله تعالى وقواعده فمن كلامه وكلام أمثاله الأئمة استفدناها ومنه ومنهم تعلمناها ولم نخرج فيها عن أصوله وقواعده وليس المعتنون بالوجوه والطرق واختلاف المنتسبين إليه والاعتناء بعباراتهم أقرب إليه منا ولا أولى به بل هذه طريقته وأصوله التي أوصى بها أصحابه فمن وافقه في نفس أصوله أحق به ممن أعرض عنها والله المستعان وقد قال أبو المعالي الجويني في نهايته بعد أن حكى كلام بعض أصحاب الشافعي إن من تنصر أو تهود بعد تبديل الدينين وتغيير الكتابين قبل مبعث نبينا نظر فإن تمسك بالدين غير مبدل وحذف التبديل ثم أدركه الإسلام قبلت الجزية منه وإن دخل في الدين المبدل ثم أدركه الإسلام لم يقبل منه وإن كان ذلك قبل المبعث وهل يقبل من أولاده ؟ فيه وجهان مبنيان على أن الجزية هل تؤخذ من أولاد المرتدين ؟ قال وهذا كلام مختلط لا تعويل عليه والمذهب القطع بأخذ الجزية ممن تمسك بالدين المبدل قبل المبعث وأدركه الإسلام نطرا إلى تغليب الحقن وإذا تعلق بالكتاب فليس كله مبدلا وغير المبدل منه ينتصب شبهة في جواز حقن دمه بالجزية إذ ذاك لا ينحط عن الشبهة التي تعلق بها المجوس فلا ينبغي أن يعتد بهذا بل الوجه القطع بقبول الجزية كما قدمنا انتهى وهذا الذي ذكره في غاية القوة وما ذكره من حكى كلامه مخالف للمعلوم المقطوع به من سنة رسول الله وبقي عليه درجة واحدة وهي القطع بأخذها ممن تهود بعد المبعث قبل الأمر بالقتال إذ كانوا مقرين على دينهم فقد دخل في دين باطل يقر أهله عليه كما تقدم 26 – فصل في بني تغلب وأحكامهم بنو تغلب بن وائل بن ربيعة بن نزار من صميم العرب انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية وكانوا قبيلة عظيمة لهم شوكة قوية واستمروا على ذلك حتى جاء الإسلام فصولحوا على مضاعفة الصدقة عليهم عوضا من الجزية واختلفت الرواية متى صولحوا ففي سنن أبي داود من حديث إبراهيم بن مهاجر عن زياد بن حدير قال قال علي لئن بقيت لنصارى بني تغلب لأقتلن المقاتلة ولأسبين الذرية فإني كتبت الكتاب بينهم وبين النبي ألا ينصروا أبناءهم لكن قال أبو داود هذا حديث منكر بلغني عن أحمد بن حنبل أنه كان ينكر هذا الحديث إنكارا شديدا وقال أبو علي اللؤلؤي لم يقرأه أبو داود في العرضة الثانيةانتهى وإبراهيم بن مهاجر ضعفه غير واحد والمشهور أن عمر هو الذي صالحهم قال أبو عبيد ثنا أبو معاوية ثنا أبو إسحاق الشيباني عن السفاح عن داود بن كردوس قال صالحت عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن بني تغلب بعدما قطعوا الفرات وأرادوا أن يلحقوا بالروم على ألا يصبغوا صبيا ولا يكرهوا على دين غير دينهم وعلى أن عليهم العشر مضاعفا من كل عشرين درهما درهم فكان داود يقول ليس لبني تغلب ذمة قد صبغوا في دينهم قال أبو عبيد قوله لا يصبغوا في دينهم يعني لا ينصروا أولادهم قال أبو عبيد وكان عبدالسلام بن حرب الملائي يزيد في إسناد هذا الحديث بلغني ذلك عنه عن الشيباني عن السفاح عن داود عن عبادة بن النعمان عن عمر وحدثني سعيد بن سليمان عن هشيم قال ثنا مغيرة عن السفاح بن المثنى عن زرعة ابن النعمان أو النعمان بن زرعة أنه سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكلمه في نصارى بني تغلب وكان عمر رضي الله عنه قد هم أن يأخذ منهم الجزية فتفرقوا في البلاد فقال النعمان لعمر يا أمير المؤمنين إن بني تغلب قوم عرب يأنفون من الجزية وليست لهم أموال إنما هم أصحاب حروث ومواش ولهم نكاية في العدو فلا تعن عدوك عليك بهم فصالحهم عمر رضي الله عنه على أن أضعف عليهم الصدقة واشترط عليهم ألا ينصروا أولادهم قال مغيرة فحدثت أن عليا قال لئن تفرغت لبني تغلب ليكونن لي فيهم رأي لأقتلن مقاتلتهم ولأسبين ذراريهم فقد نقضوا العهد وبرئت منهم الذمة حين نصروا أولادهم وحدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن شعبة عن الحكم عن إبراهيم عن زياد بن حدير أن عمر رضي الله عنه أمره أن يأخذ من نصارى بني تغلب العشر ومن نصارى أهل الكتاب نصف العشر قال أبو عبيد والحديث الأول حديث داود بن كردوس وزرعة هو الذي عليه العمل أن يكون عليهم الضعف مما على المسلمين ألا تسمعه يقول من كل عشرين درهما درهم وإنما يؤخذ من المسلمين إذا مروا بأموالهم على العاشر من كل أربعين درهما درهم فذلك ضعف هذا وهو المضاعف الذي اشترط عمر عليهم وكذلك سائر أموالهم من المواشي والأرضين يكون عليها في تأويل هذا الحديث الضعف أيضا فيكون في كل خمس من الإبل شاتان وفي العشر أربع شياه ثم على هذا ما زادت وكذلك الغنم والبقر وعلى هذا الحب والثمار فيكون ما سقته السماء فيه عشران وفيما سقي بالغرب عشر وفي حديث عمر رضي الله عنه وشرطه عليهم أن يكون على أموال نسائهم وصبيانهم مثلما على أموال رجالهم وكذلك يقول أهل الحجاز انتهى فهذا الذي فعله عمر رضي الله عنه وافقه عليه جميع الصحابة والفقهاء بعدهم ويروى عن عمر بن عبدالعزيز أنه أبى عليهم إلا الجزية وقال لا والله إلا الجزية وإلا فقد آذنتم بالحرب ولعله رأى أن شوكتهم ضعفت ولم يخف منهم ما خاف عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإن عمر رضي الله عنه كان بعد مشغولا بقتال الكفار وفتح البلاد فلم يأمن أن يلحقوا بعده فيقوونهم عليه وعمر بن عبدالعزيز أمن ذلك وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال لئن بقيت لهم لأقتلن مقاتلتهم ولأسبين ذريتهم فإنهم نقضوا العهد ونصروا أولادهم وعلى هذا فلا تجري هذه الأحكام التي ذكرها الفقهاء فيهم فإنهم ناقضون للعهد ولكن العمل على جريانها عليهم فلعل بعض الأئمة جدد لهم صلحا على أن حكم أولادهم حكمهم كسائر أهل الذمة والله أعلم 27 – فصل كيفية أخذ الصدقة من بني تغلب فتؤخذ الصدقة منهم مضاعفة من مال من تؤخذ منه الزكاة لو كان مسلما من ذكر وأنثى وصغير وكبير وزمن وصحيح وأعمى وبصير هذا قول أهل الحجاز وأهل العراق وفقهاء الحديث منهم الإمام أحمد وأبو عبيد إلا أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى استثنى الصبيان والمجانين بناء على أصله في أنه لا زكاة عليهم ولا تؤخذ الصدقة مضاعفة من أرضهم كما تؤخذ من أرض الصبي والمجنون المسلم الزكاة وأما الشافعي رحمه الله تعالى فإنه قال المأخوذ منهم جزية وإن كان باسم الصدقة فلا تؤخذ إلا ممن تؤخذ منه الجزية فلا تؤخذ من امرأة ولا صبي ولا مجنون وحكمها عنده حكم الجزية وإن خالفتها في الاسم قال الشافعي رحمه الله تعالى وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال هؤلاء حمقى رضوا بالمعنى وأبوا الاسم وقال النعمان بن زرعة خذ منهم الجزية باسم الصدقة قال الشافعي رحمه الله تعالى واختلفت الأخبار عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في نصارى العرب من تنوخ وبهراء وبني تغلب فروي عنه أنه صالحهم على أن يضعف عليهم الجزية ولا يكرهوا على غير دينهم وهكذا حفظ أهل المغازي فقالوا رامهم عمر رضي الله عنه على الجزية فقالوا اردد ما شئت بهذا الاسم لا اسم الجزية فراضاهم على أن أضعف عليهم الصدقة وقال للمعشر فإذا أضعفتها عليهم فانظر إلى مواشيهم وذهبهم وورقهم وأطعمتهم وما أصابوا من معادن بلادهم وركازها وكل ما أمر أخذ فيه من مسلم خمس فخذ خمسين وعشر فخذ عشرين ونصف عشر فخذ عشرا وربع عشر فخذ نصف عشر وكذلك مواشيهم فخذ الضعف منهم وكل ما أخذ من عشر ذمي فمسلكه مسلك الفيء وما أتجر به نصارى العرب وأهل دينهم وإن كانوا يهودا تضاعف عليهم فيه الصدقة انتهى قالوا ولأنهم أهل ذمة فكان الواجب عليهم جزية لا صدقة كغيرهم من أهل الذمة قالوا ولأنه مال يؤخذ من أهل الكتاب لحقن دمائهم فكان جزية كما لو أخذ باسم الجزية قالوا ولأن الزكاة طهرة وهؤلاء ليسوا من أهل الطهرة قالوا ولأن عمر رضي الله عنه إنما سألهم الجزية لم يسألهم الصدقة فالذي سألهم إياه عمر رضي الله عنه هو الذي بذلوه بغير اسمه قالوا ولأن نساءهم وصبيانهم ومجانينهم ليسوا من أهل الزكاة ولا من أهل الجزية فلا يجوز أن يؤخذ منهم واحد منهما قالوا ولأن المأخوذ منهم مصرف الفيء لا مصرف الصدقة فيباح لمن يباح له أخذ الجزية قال أصحاب أحمد المتبع في ذلك فعل عمر رضي الله عنه وهم سألوه أن يأخذ منهم ما يأخذ من المسلمين ويضعفه عليهم فأجابهم إلى ذلك وهو يأخذ من صبيان المسلمين ونسائهم ومجانينهم وذلك هو الزكاة وعلى هذا البذل والصلح دخلوا وبه أقروا قالوا ويدل عليه قوله من كل عشرين درهما درهم فهذا غير مذهب الجزية بل مذهب الصدقة قالوا فشرط عمر رضي الله عنه يقتضي أن يكون على أموال نسائهم وصبيانهم ما على أموال رجالهم قالوا ولفظ الصلح إنما وقع على الصدقة المضاعفة لا على الجزية وهم الذين بذلوا ذلك فيؤخذ منهم ما التزموه قالوا ولأن نساءهم وصبيانهم صينوا عن السبي بهذا الصلح ودخلوا في حكمه فجاز أن يدخلوا في الواجب به كالرجال العقلاء قال أبو عبيد وهذا أشبه لأنه عمهم بالصلح فلم يستثن منهم صغيرا دون كبير والله أعلم 28 – فصل فقراء بني تغلب وعلى هذا فمن كان منهم فقيرا وله مال غير زكوي كالدور وثياب البذلة وعبيد الخدمة فلا شيء عليه كما لا يجب ذلك على أهل الزكاة من المسلمين ولا يؤخذ من أقل من نصاب وإن كان المأخوذ من أحدهم أقل من جزية كفى وقال في الرعاية يحتمل أن يكمل الجزية وفي مصرفه روايتان إحداهما أنه مصرف الفيء وهذا اختيار القاضي أبي يعلى وهو الصحيح وهو مذهب الشافعي لأنه مأخوذ من مشرك وهو جزية باسم الصدقة والثانية أن مصرفه مصرف الصدقة وهي اختيار أبي الخطاب لأنه معدول به عن الجزية في الاسم والحكم والقدر فيعدل بمصرفه عن مصرفها قال الشيخ أبو محمد المقدسي والأول أقيس وأصح لأن معنى الشيء أخص به من اسمه ولهذا لو سمي رجل أسدا أو نمرا أو أسود أو أحمر لم يصر له حكم المسمى بذلك قال ولأن هذا لو كان صدقة على الحقيقة لجاز دفعها إلى فقراء من أخذت منهم لقول النبي أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم 29 – فصل هل نأخذ الجزية من التغلبي بدلا من الصدقة فإن بذل التغلبي الجزية وتحط عنه الصدقة فهل يقبل منه فيه وجهان أحدهما لا يقبل منه لأن الصلح وقع على هذا فلا يغير والثاني يقبل منه لقوله تعالى حتى يعطوا الجزية وهذا قد أعطى الجزية ولأن الجزية هي الأصل والصدقة بدل فإذا بذل الأصل حرم قتله ولأن الجزية هي الصغار والذل الذي أنفوا منه فترك لمصلحة فإذا زالت المصلحة وأقروا به والتزموه قبل منهم وهذا أرجح والله أعلم وأما إن كان باذل الجزية منهم حربيا لم يدخل تحت الصلح فإنها تقبل منه قولا واحدا ولا يلزمه ما صالح عليه إخوانه وإن أراد الإمام نقض صلحهم وإلزامهم بالجزية لم يكن له ذلك لأن عقد الذمة على التأبيد وقد عقد معهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلم يكن لغيره نقضه ما داموا على العهد 30 – فصل هل تؤخذ الصدقة من غير بني تغلب وهذا الحكم يختص ببني تغلب نص عليه أحمد وقال علي بن سعيد سمعت أحمد يقول أهل الكتاب ليس عليهم في مواشيهم صدقة ولا في أموالهم إنما تؤخذ منهم الجزية إلا أن يكونوا صولحوا على أن تؤخذ منهم كما صنع عمر رضي الله عنه بنصارى بني تغلب حين أضعف عليهم الصدقة في صلحه إياهم وقال صالح بن أحمد قلت لأبي هل على نساء أهل الذمة وصبيانهم ونخيلهم وكرومهم وزروعهم ومواشيهم صدقة قال ليس عليهم فيها شيء إلا على نصارى بني تغلب وكذلك قال في رواية ابن منصور وقال حرب بن إسماعيل قلت لأحمد فالذي تكون له الغنم أو الإبل هل تؤخذ منهم قال كيف تؤخذ منهم إلا نصارى بني تغلب فإنها تضاعف عليهم قال وكذلك قال قوم في أرضهم تضاعف عليهم أراه قال إن اشتروا من المسلمين وقال الميموني قرأت على أبي عبدالله هل على أهل الذمة صدقة في إبلهم وبقرهم وغنمهم فأملى علي ليس عليهم وقال الزهري لا نعلم في مواشي أهل الذمة صدقة إلا بني تغلب قال وعمر رضي الله عنه لما أقرهم على النصرانية أضعف عليهم لأنهم عرب قلت وتذهب إلى أن يؤخذ من مواشي بني تغلب خاصة قال نعم قلت وتضعف عليهم على ما فعل عمر رضي الله عنه قال نعم وقال القاضي وأبو الخطاب حكم من تنصر من تنوخ وبهراء أو تهود من كنانة وحمير أو تمجس من تميم حكم بني تغلب سواء وهذا مخالف لنص أحمد ولعموم الأدلة فلا يلتفت إليه وإنما أخذ ذلك قياسا على نصارى بني تغلب وقد حكينا كلام الشافعي أن هذا الحكم في نصارى بني تغلب وتنوخ وبهراء والمحفوظ عن عمر رضي الله عنه إنما هو في نصارى بني تغلب خاصة وقد ظن القاضي وأبو الخطاب أن ذلك لكونهم عربا فألحقوا بهم هذه القبائل وهذا لا يصح وقد نص أحمد على الفرق كما ذكرنا نصوصه قال الشيخ في المغني ولنا عموم قوله تعالى حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وأن النبي بعث معاذا إلى اليمن فقال خذ من كل حالم دينارا وهم عرب وقبل الجزية من أهل نجران وهم من بني الحارث بن كعب قال الزهري أول من أعطى الجزية أهل نجران وكانوا نصارى وأخذ الجزية من أكيدر دومة وهو عربي وحكم الجزية ثابت بالكتاب والسنة في كل كتابي عربيا كان أو غير عربي إلا ما خص به بنو تغلب لمصالحة عمر رضي الله عنه إياهم ففي من عداهم يبقى الحكم على عموم الكتاب وشواهد السنة ولم يكن بين غير بني تغلب وبين أحد من الأئمة صلح كصلح بني تغلب فيما بلغنا ولا يصح قياس غير بني تغلب عليهم لوجوه أحدها أن قياس سائر العرب عليهم يخالف النصوص التي ذكرناها ولا يصح قياس المنصوص عليه على ما يلزم منه مخالفة النص الثاني أن العلة في بني تغلب الصلح ولم يوجد الصلح مع غيرهم ولا يصح القياس مع تخلف العلة الثالث أن بني تغلب كانوا ذوي قوة وشوكة لحقوا بالروم وخيف منهم الضرر إن لم يصالحوا ولم يوجد هذا لغيرهم فإن وجد هذا لغيرهم فامتنعوا من أداء الجزية وخيف الضرر بترك مصالحتهم فرأى الإمام مصالحتهم على أداء الجزية باسم الصدقة جاز ذلك إذا كان المأخوذ منهم بقدر ما يجب عليهم من الجزية أو زيادة وقد ذكر ذلك الشيخ أبو إسحاق في المهذب ونص عليه أحمد والحجة في هذا قصة بني تغلب وقياسهم عليهم قال علي بن سعيد سمعت أحمد يقول أهل الكتاب ليس عليهم في مواشيهم صدقة ولا في أموالهم إنما تؤخذ منهم الجزية إلا أن يكونوا صولحوا على أن يؤخذ منهم كما صنع عمر رضي الله عنه بنصارى بني تغلب حين أضعف عليهم الصدقة في صلحه إياهم إذا كانوا في معناهم أما قياس من لم يصالح عليهم في جعل جزيتهم صدقة فلا يصح والله أعلم انتهى 31 – فصل في مناكحة وحل ذبائح نصارى العرب وأما مناكحتهم وحل ذبائحهم ففيها قولان للصحابة وهما روايتان عن الإمام أحمد إحداهما لا تحل وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه والشافعي رحمه الله وطرد الشافعي المنع في ذبائح العرب من أهل الكتاب كلهم واختلف في مأخذ هذا القول فقالت طائفة لم يتحقق دخولهم في الدين قبل التبديل فلا يثبت لهم حكم أهل الكتاب وهذا المأخذ جار على أصل الشافعي وقد عرفت ما فيه وقالت طائفة أخرى إنهم لم يدينوا بدين أهل الكتاب بل انتسبوا إليه ولم يتمسكوا به عملا وهذا مأخذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه قال إنهم لم يتمسكوا من دينهم إلا بشرب الخمر وهذا المأخذ أصح وأفقه والقول الثاني أنه تحل مناكحتهم وذبائحهم وهذا هو الصحيح عن أحمد رواه عنه الجماعة وهو آخر الروايتين عنه قال إبراهيم بن الحارث وكان آخر قوله أنه لا يرى بذبائحهم بأسا وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما وروي نحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبه قال الحسن والنخعي والشعبي وعطاء الخراساني والحكم وحماد وإسحاق وأبو حنيفة وأصحابه قال الأثرم وما علمت أحدا كرهه من أصحاب النبي إلا عليا رضي الله عنه وذلك لدخولهم في عموم قوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وقوله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ولأنهم أهل كتاب يقرون على دينهم ببذل المال فتحل ذبائحهم ونساؤهم كبني إسرائيل 32 – فصل في أحكام الضمان في الجزية وقعت مسألة وهي هل يصح ضمان الجزية عمن هي عليه أم لا فكان الجواب لا يخلو إما أن يكون الضامن مسلما أو كافرا فإن كان مسلما لم يصح ضمانه لأن الجزية صغار فلا يجوز للمسلم أن يضمنها عن الكافر لأنه يصير مطالبا بها وهو فرع على المضمون عنه فلا يصح ذلك كما لو ضمن ما عليه من العقوبة وإن كان الضامن ذميا فإن ضمنها بعد الحول صح ضمانه لأنه ضمن دينا مستقرا على من هو في ذمته وإن كان بمعرض من السقوط بالإسلام فهذا لا يمنع صحة الضمان كما يصح ضمان الصداق قبل الدخول وإن كان بمعرض سقوطه كله أو نصفه وكما يصح ضمان ثمن البيع قبل قبضه وإن كان بصدد السقوط بتلفه وإن ضمنها قبل الحول فهذا ينبني على ضمان ما لم يجب والجمهور يصححونه والشافعي يبطله فإذا صححناه صح ضمان الذمي للجزية كما يصح ضمان ما يداينه به أو ما يتلفه عليه وغايته أنه ضمان معلق بشرط وذلك لا يبطله فإن الضمان يجري مجرى النذر فإنه التزام فلا ينافيه التعليق بالشرط ولأصحاب الشافعي وجهان في صحة ضمان المسلم للجزية عن الذمي قال بعضهم وذلك مبني على أنه هل يجب عند أداء الجزية الصغار من جر اليد والانتهار والإذلال أم لا فإن أوجبناه لم يصح الضمان وإن لم نوجبه صح قال الجويني في نهايته والأصح عندي تصحيح الضمان فإن ذلك لا يقطع إمكان توجيه الطلب على المضمون عنه قلت وعلى هذا المأخذ فينبغي ألا يصح ضمان الذمي أيضا للجزية لأنه يفضي إلى سقوط الصغار عن المضمون عنه إذا أدى الضامن كما أجروا الخلاف في توكيل الذمي الذمي في أداء الجزية عنه ولم أر لأصحابنا في هذه المسألة كلاما إلا ما ذكره أبو عبدالله بن حمدان في رعايته فقال وهل للمسلم أن يتوكل لذمي في أداء جزيته أو أن يضمنها عنه أو أن يحيل الذمي عليه بها يحتمل وجهين أظهرهما المنع انتهى وعلى هذا يجري الخلاف فيما إذا تحملها عنه مسلم أو ذمي والحمالة أن يقول أنا ملتزم لما على فلان بشرط براءة ذمته منه وقد اختلف الفقهاء في أصل هذه الحمالة فالشافعي وأحمد لا يصححانها هكذا ذكره أصحابه عنه ولا نص له في المنع والصحيح الجواز وهو مقتضى أصوله وهو اختيار شيخنا وهو مذهب مالك وأبي حنيفة قالت الحنفية المضمون له بالخيار إن شاء طالب الأصل وإن شاء طالب الضامن إلا إذا اشترط فيه براءة الأصل فحينئذ تنعقد حوالة اعتبارا بالمعنى كما أن الحوالة بشرط ألا يبرأ المحيل تكون كفالة فعندهم تصح الحوالة بشرط ألا يبقى الدين في ذمة المحيل وينقلب ضمانا ويصح الضمان بشرط براءة المضمون عنه وتنقلب حوالة وهذا صحيح لا يخالف نصا ولا قياسا ولا يتضمن غررا فالصواب القول به والمقصود أن المسلم لو تحمل عن الذمي بالجزية لم يصح تحمله وإن تحمل بها ذمي آخر عنه احتمل وجهين والذي يظهر في هذا كله التفصيل في مسألة الحوالة والحمالة والضمان والتوكيل في الدفع أنه إن فعله لعذر من مرض أو غيبة أو حبس أو نحوه جاز وإن فعله غيرة وأنفة وهربا من الصغار لم يجز ذلك والله أعلم 33 – فصل في السامرة واختلاف الفقهاء فيهم هل يقرون بالجزية أم لا فذهب الجمهور إلى إقرارهم بالجزية وتردد الشافعي فيهم فمرة قال لا تؤخذ منهم الجزية وقال في موضع آخر تؤخذ منهم وقال في الأم ينظر في أمرهم فإن كانوا يوافقون اليهود في أصل الدين ولكنهم يخالفونهم في الفروع لم تضر مخالفتهم فيقرون على دينهم فتؤخذ منهم الجزية وإن كانوا يخالفونهم في أصل الدين لم يقروا على دينهم ببذل الجزية هذا نقل الربيع عنه وأما المزني فنقل عنه أنهم صنف من اليهود فتؤخذ منهم الجزية واختلف أصحابه في حكمهم فقال بعضهم يقرون بالجزية وقال بعضهم لا يقرون بها وقال أبو إسحاق المروزي لم يكن الشافعي يعرف حقيقة أمر دينهم فتوقف في ذلك ثم بان له أنهم من جملة أهل الكتاب فرجع إلى ذلك وألحقهم بهم وهذا الذي قاله المروزي هو الصواب المقطوع به وغلط من قال لا يقرون بالجزية ويقرالمجوس بها لأن لهم شبهة كتاب وهذا من العجب أن يقر قوم يعبدون النار ويعتقدون أن للعالم إلاهين اثنين النور والظلمة ولا يؤمنون ببعث ولا نشور ولا أن الله يبعث من في القبور ويرون نكاح الأمهات والبنات ولا يؤمنون برسول ولا يحرمون شيئا مما يحرمه الأنبياء ولا يقر السامرة بالجزية مع أنهم يؤمنون بموسى والتوراة ويدينون بها ويؤمنون بالمعاد والجنة والنار ويصلون صلاة اليهود ويصومون صومهم ويستنون بسنتهم ويقرؤون التوراة ويحرمون ما يحرمه اليهود في التوراة ولا يخالفون اليهود في التوراة ولا في موسى وإن خالفوهم في الإيمان بالرسل فإن السامرة لا يؤمنون بنبي غير موسى وهارون ويوشع وإبراهيم فقط ويخالفونهم في القبلة فاليهود تصلي إلى بيت المقدس والسامرة تصلي إلى جبل عزون ببلد نابلوس وتزعم أنها القبلة التي أمر الله موسى أن يستقبلها وأنهم أصابوها وأخطأتها اليهود وأن الله أمر داود أن يبني بيت المقدس بجبل نابلوس وهو عندهم الطور الذي كلم الله عليه موسى فخالفه داود وبناه بإيليا فتعدى وظلم بذلك ولغتهم قريبة من لغة اليهود وليست بها وهم فرق كثيرة تشعبت عن فرقتين دوسانية وكوسانية فالكوسانية تقر بالمعاد وحشر الأجساد والجنة والنار والدوسانية تزعم أن الثواب والعقاب في الدنيا وبينهما اختلاف في كثير من الأحكام وهذه الأمة من أقل الأمم في الأرض وأحمقها وأشدها مجانبة للأمم وأعظمها آصارا وأغلالا وإذا أردت معرفة نسبتهم إلى اليهود فهم فيهم كالرافضة في المسلمين وهذه الأمة لم تحدث في الإسلام بل هي أمة موجودة قبل الإسلام وقبل المسيح وقد فتح الصحابة الأمصار فأجمعوا على إقرارهم بالجزية وكذلك الأئمة والخلفاء بعدهم فعدم إقرارهم بالجزية تخطية لهم وهذا مما لا سبيل إليه 34 – فصل في الصابئة وقد اختلف الناس فيهم اختلافا كثيرا وأشكل أمرهم على الأئمة لعدم الإحاطة بمذهبهم ودينهم فقال الشافعي رحمه الله تعالى هم صنف من النصارى وقال في موضع ينظر في أمرهم فإن كانوا يوافقون النصارى في أصل الدين ولكنهم يخالفونهم في الفروع فتؤخذ منهم الجزية وإن كانوا يخالفونهم في أصل الدين لم يقروا على دينهم ببذل الجزية واختلف أصحابه فقال أبو سعيد الاصطخري ليسوا من النصارى ولا يجوز إقرارهم على دينهم قال لأنهم يقولون إن الفلك حي ناطق وإن الكواكب السبعة آلهة فهم في حكم عبدة الأوثان واستفتى القاهر بالله العباسي الفقهاء فيهم فأفتاه أبو سعيد أنهم لا يقرون فأمر بقتلهم فبذلوا مالا عظيما فتركهم وأما أقوال السلف فيهم فذكر سفيان عن ليث عن مجاهد قال هم قوم بين اليهود والمجوس ليس لهم دين وفي تفسير شيبان عن قتادة قال الصابئة قوم يعبدون الملائكة قال محمد بن جرير واختلف أهل التأويل فيمن يلزمه هذا الاسم من أهل الملل فقال بعضهم يلزم كل خارج من دين إلى دين غير دينه وقالوا الذي عنى الله بهذا الاسم قوم لا دين لهم ثم ذكر عن عبدالرزاق عن سفيان عن ليث عن مجاهد قال الصابئون قوم ليسوا يهود ولا نصارى ولا دين لهم وحكي عن حجاج عن مجاهد قال الصابئون بين المجوس واليهود لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم وقال ابن جريج قلت لعطاء الصابئون زعموا أنهم ليسوا بمجوس ولا يهود ولا نصارى قال قد سمعنا ذلك وقال ابن وهب قال ابن زيد الصابئون أهل دين من الأديان كانوا بجزيرة الموصل يقولون لا إله إلا الله وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول لا إله إلا الله قال ولم يؤمنوا برسول الله عز و جل فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي وأصحابه هؤلاء الصابئون يشبهونهم بهم وقال سعيد عن قتادة هم يعبدون الملائكة ويصلون إلى القبلة ويقرؤون الزبور وقال سفيان عن السدي هم طائفة من أهل الكتاب وقال ابن جرير الصابئ المستحدث سوى دينه دينا كالمرتد من أهل الإسلام عن دينه وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره تسميه العرب صابئا يقال منه صبأ فلان يصبأ صبأ ويقال صبأت النجوم إذا طلعت وصبأ علينا فلان إذا طلع قلت الصابئة أمة كبيرة فيهم السعيد والشقي وهي إحدى الأمم المنقسمة إلى مؤمن وكافر فإن الأمم قبل مبعث النبي نوعان نوع كفار أشقياء كلهم ليس فيهم سعيد كعبدة الأوثان والمجوس ونوع منقسمون إلى سعيد وشقي وهم اليهود والنصارى والصابئة وقد ذكر الله سبحانه النوعين في كتابه فقال إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وكذلك قال في المائدة وقال في سورة الحج إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد فلم يقل ها هنا من آمن منهم بالله واليوم الآخر لأنه ذكر معهم المجوس والذين أشركوا فذكر ست أمم منهم اثنتان شقيتان وأربع منهم منقسمة إلى شقي وسعيد وحيث وعد أهل الإيمان والعمل الصالح منهم بالأجر ذكرهم أربع أمم ليس إلا ففي آية الفصل بين الأمم أدخل معهم الأمتين وفي آية الوعد بالجزاء لم يدخلها معهم فعلم أن الصابئين فيهم المؤمن والكافر والشقي والسعيد وهذه أمة قديمة قبل اليهود والنصارى وهم أنواع صابئة حنفاء وصابئة مشركون وكانت حران دار مملكة هؤلاء قبل المسيح ولهم كتب وتآليف وعلوم وكان في بغداد منهم طائفة كبيرة منهم إبراهيم بن هلال الصابئ صاحب الرسائل وكان على دينهم ويصوم رمضان مع المسلمين وأكثرهم فلاسفة ولهم مقالات مشهورة ذكرها أصحاب المقالات وجملة أمرهم أنهم لا يكذبون الأنبياء ولا يوجبون اتباعهم وعندهم أن من اتبعهم فهو سعيد ناج وأن من أدرك بعقله ما دعوا إليه فوافقهم فيه وعمل بوصاياهم فهو سعيد وإن لم يتقيد بهم فعندهم دعوة الأنبياء حق ولا تتعين طريقا للنجاة وهم يقرون أن للعالم صانعا مدبرا حكيما منزها عن مماثلة المصنوعات ولكن كثيرا منهم أو أكثرهم قالوا نحن عاجزون عن الوصول إلى جلاله بدون الوسائط والواجب التقرب إليه بتوسط الروحانيين المقدسين المطهرين عن المواد الجسمانية المبرئين عن القوى الجسدية المنزهين عن الحركات المكانية والتغييرات الزمانية بل قد جبلوا على الطهارة وفطروا على التقديس قالوا وإنما أرشدنا إليهم معلمنا الأول هرمس فنحن نتقرب إليهم وبهم وهم آلهتنا وشفعاؤنا عند رب الأرباب وإله الآلهة فالواجب عليا أن نطهر نفوسنا عن الشبهات الطبيعية ونهذب أخلاقنا عن علائق القوة العصبية حتى تحصل المناسبة بيننا وبين الروحانيات فحينئذ نسأل حاجاتنا منهم ونعرض أحوالنا عليهم ونصبو في جميع أمورنا إليهم فيشفعون لنا إلى خالقنا وخالقهم ورازقنا ورازقهم وهذا التطهير والتهذيب لا يحصل إلا برياضتنا وفطام أنفسنا عن دنيات الشهوات وذلك إنما يتم بالاستمداد من جهة الروحانيات والاستمداد هو التضرع والابتهال بالدعوات وإقامة الصلوات وإيتاء الزكوات والصيام عن المطعومات والمشروبات وتقريب القرابين والذبائح وتبخير البخورات مع العزائم ليحصل لنفوسنا استعداد إلى الاستمداد العالي من غير واسطة فيكون حكمنا وحكم الأنبياء في ذلك واحدا قالوا والأنبياء أتوا بتزكية النفوس وتهذيبها وتطهير الأخلاق من الرذائل فمن أطاعهم فهو سعيد قالوا والروحانيات هي الأسباب المتوسطة في الاختراع والإيجاد وتصريف الأمور من حال إلى حال وهي تستمد القوة من الحضرة القدسية وتفيض الفيض على الموجودات السفلية فمنها مدبرات الكواكب السبعة السيارة في أفلاكها وهي هياكلها فلكل روحاني هيكل وهو فلك ونسبة الروحاني إلى ذلك الهيكل الذي اختص به نسبة الروح إلى الجسد فهو ربه ومدبره ويقولون الهياكل آباء والعناصر أمهات فتفعل الروحانيات تحريكها على قدر مخصوص ليحصل من حركتها انفعالات في الطبائع والعناصر فيحصل من ذلك تركيبات وامتزاجات في المركبات تركب عليها نفوس روحانية مثل أنواع النبات وأنواع الحيوانات ثم قد تكون التأثيرات كلية صادرة عن روحاني كلي وقد تكون جزئية صادرة عن روحاني جزئي ومنها مدبرات الآثار العلوية الظاهرة في الجو كالمطر والثلوج والبرد والرياح والصواعق والشهب والرعد والبرق والسحاب والآثار السفلية كالزلازل والمياه وغيرها قالوا ومدبرات هادية سارية في جميع الكائنات حتى لا يرى بوجودها خال عن قوة وهداية بحسب قبوله واستعداده وأما أحوال الروحانيات من الروح والريحان والنعمة واللذة والراحة والبهجة والفرح والسرور في جوار رب الأرباب فمما لا يخطر على قلب بشر طعامهم وشرابهم التسبيح والتقديس والتهليل والتمجيد وأنسهم بذكر الله تعالى وطاعته فهم بين قائم وراكع وساجد وقاعد لا يريد تبديل حالته التي هو فيها بغيرها إذ لذته وبهجته وسروره فيما هو فيه قالوا والروحانيات مبادئ الموجودات ومواد الأرواح والمبادئ أشرف ذاتا وأسبق وجودا وأعلى رتبة من سائر الموجودات التي حصلت بتوسطها فعالمها عالم الكمال والمبدأ منها والمعاد إليها والمصدر عنها والمرجع إليها والأرواح لها نزلت من عالمها حتى اتصلت بالأبدان وتوسخت بأوضار الأجسام ثم تطهرت عنها بالأخلاق الزكية والأعمال المرضية حتى انفصلت عنها فصعدت إلى عالمها الأول فالنزول هو النشأة الأولى والصعود هو النشأة الأخرى قالوا وطريقنا في التوسل إلى حضرة القدس ظاهر وشرعنا معقول فإن قدامانا من الزمان الأول لما أرادوا الوسيلة عملوا أشخاصا في مقابلة الهياكل العلوية على نسب وإضافات وأحوال وأوقات مخصوصة وأوجبوا على من يتقرب بها إلى ما يقابلها من العلويات لباسا وبخورا وأدعية مخصوصة وعزائم يقربونها إلى رب الأرباب ومسبب الأسباب وتلقينا ذلك عن مرعاديموت وهرمس فهذا بعض ما نقله أرباب المقالات عن دين الصابئة وهو بحسب ما وصل إليهم وإلا فهذه الأمة فيهم المؤمن بالله وأسمائه وصفاته وملائكته ورسله واليوم الآخر وفيهم الكافر وفيهم الآخذ من دين الرسل بما وافق عقولهم واستحسنوه فدانوا به ورضوه لأنفسهم وعقد أمرهم أنهم يأخذون بمحاسن ما عند أهل الشرائع بزعمهم ولا يوالون أهل ملة ويعادون أخرى ولا يتعصبون لملة على ملة والملل عندهم نواميس لمصالح العالم فلا معنى لمحاربة بعضها بعضا بل يؤخذ بمحاسنها وما تكمل به النفوس وتتهذب به الأخلاق ولذلك سموا صابئين كأنهم صبؤوا عن التعبد بكل ملة من الملل والانتساب إليها ولهذا قال غير واحد من السلف ليسوا يهودا ولا نصارى ولا مجوسا وهم نوعان صابئة حنفاء وصابئة مشركون فالحنفاء هم الناجون منهم وبينهم مناظرات ورد من بعضهم على بعض وهم قوم إبراهيم كما أن اليهود قوم موسى والحنفاء منهم أتباعه وبالجملة فالصابئة أحسن حالا من المجوس فأخذ الجزية من المجوس تنبيه على أخذها من الصابئة بطريق الأولى فإن المجوس من أخبث الأمم دينا ومذهبا ولا يتمسكون بكتاب ولا ينتمون إلى ملة ولا يثبت لهم كتاب ولا شبهة كتاب أصلا ولهذا لما ظهرت فارس على الروم فرح المشركون بذلك لأنهم مثلهم ليسوا أهل كتاب وساء ذلك المسلمين فلما ظهرت الروم على فارس فرح المسلمون لأن النصارى أقرب إليهم من المجوس من أجل كتابهم وكل ما عليه المجوس من الشرك فشرك الصابئة إن لم يكن أخف منه فليس بأعظم منه وقد تردد الشافعي رحمه الله تعالى في أخذ الجزية منهم في موضع وقطع بأخذها منهم في موضع وعلق القول في موضع كما حكينا لفظه 35 – فصل في حكم استسلاف الجزية فإن قيل فهل للإمام أن يستسلف منهم الجزية قلنا ليس له ذلك إلا برضاهم كما ليس له أن يستسلف الزكاة إلا برضا رب المال بل الجزية أولى بالمنع فإنها تسقط بالإسلام وبالموت في أثناء السنة وتتداخل عند أبي حنيفة فهي تتعرض للسقوط قبل الحول وبعده فإن قيل فهل له أن يأخذ منهم في أثناء السنة بقسط ما مضى منها قيل هذا فيه نزاع فأبو حنيفة يجوز أن يأخذ في كل شهر بقسطه ولأصحاب الشافعي في ذلك وجهان قال أبو المعالي الجويني أظهرهما أنه ليس له ذلك فإن المطالبة في آخر السنة عند استمرار الأحوال بذلك جرت سنن الماضين وسنن المتقدمين والجزية موضوعها على الإمهال كالزكاة فإن قيل فما تقولون لو سقط عنه الوجوب في أثناء السنة بموت أو عمى أو زمانة أو إسلام هل تؤخذ منه بقسط ما مضى قيل الصحيح من المذهب أنها تسقط عنه وألا يطالب بقسط ما مضى ومن الأصحاب من لم يحل في ذلك نزاعا ولكن أبا عبدالله بن حمدان حكى في ذلك وجهين فقال ومن أسلم في الحول أو مات أو جن جنونا مطبقا أو أقعد أو عمي فيه وجهان فإن قيل فإن اتفق اجتماع ديون الآدميين والجزية فهل تقدم الجزية أو الديون قيل أما أصحاب الشافعي فبنوا ذلك على الأصل وقالوا هذا مستحق بالجزية يحق حقوق الله كالزكاة ويحق حقوق الآدميين وليست من القرب فعلى هذا تقع المحاصة بينها وبين غيرها من الديون ومنهم من قال هي من حقوق الله فإنه لا مستحق لها معينا ولا تسقط بإسقاط الآدمي وهي عقوبة على الكفر وصغار لأهله وعلى هذا فيخرج على الأقوال الثلاثة في تقديم حق الله أو حق الآدمي أو وقوع المحاصة ولأصحاب أحمد أيضا ثلاثة أوجه مثل هذه 36 – فصل في الجزية والخراج وما بينهما من اتفاق وافتراق الخراج هو جزية الأرض كما أن الجزية خراج الرقاب وهما حقان على رقاب الكفار وأرضهم للمسلمين ويتفقان في وجوه ويفترقان في وجوه فيتفقان في أن كلا منهما مأخوذ من الكفار على وجه الصغار والذلة وأن مصرفهما مصرف الفيء وأنهما يجبان في كل حول مرة وأنهما يسقطان بالإسلام على تفصيل نذكره إن شاء الله تعالى ويفترقان في أن الجزية ثبتت بالنص والخراج بالاجتهاد وأن الجزية إذا قدرت على الغني لم تزد بزيادة غناه والخراج يقدر بقدر كثرة الأرض وقلتها والخراج يجامع الإسلام حيث نذكر إن شاء الله تعالى والجزية لا تجامعه بوجه ولذلك يجتمعان تارة في رقبة الكافر وأرضه ويسقطان تارة وتجب الجزية حيث لا خراج والخراج حيث لا جزية أصل الخراج وابتداء وضعه وأحكامه ونحن نذكر كيف أصل الخراج وابتداء وضعه وأحكامه أنواع أرض الخراج فنقول الأرض ستة أنواع أحدها أرض استأنف المسلمون إحياءها فهذه أرض عشر ولا يجوز أن يوضع عليها خراج بغير خلاف بين الأئمة قال أبو الصقر سألت أحمد عن ارض موات في دار الإسلام لا يعرف لها أرباب ولا للسلطان عليها خراج أحياها رجل من المسلمين فقال من أحيا أرضا مواتا في غير أرض السواد كان للسلطان عليه فيها العشر ليس له عليه غير ذلك وقال في رواية ابن منصور والأرضون التي يملكها ربها ليس فيها خراج مثل هذه القطائع التي أقطعها عثمان لسعد وابن مسعود وخباب وقد استشكل القاضي هذا النص وتأوله على أن عثمان أقطعهم منافعها وأسقط الخراج على وجه المصلحة لأن أرض السواد فتحت عنوة فهي خراجية وظاهر النص أن هذه الأرض قد صارت ملكا لهم بإقطاع الإمام وإذا ملكوها بمنافعها والخراج من جملة منافعها فإنه جار مجرى الأجرة فيملكونه بملك منافعها إذ لا يجب للإنسان على نفسه خراج فكأنه ملكهم الأرض وخراجها 37 – فصل النوع الثاني أرض أسلم عليها طوعا من غير قتال فهي له لا خراج عليها وليس فيها سوى العشر وهذا كان في المدينة وأرض اليمن وأرض الطائف وغيرها نص على ذلك أحمد في رواية حرب فقال أرض الرجل يسلم بنفسه من غير قتال وفي يده أرض فهو عشر وقال في موضع آخر أرض العشر الرجل يسلم وفي يده أرض فهو عشر مثل مكة والمدينة وأما قوله في رواية حنبل من أسلم على شيء فهو له ويؤخذ منه خراج الأرض فليس مراده أن يسلم على أرضه التي كانت بيده قبل الإسلام بغير خراج لأنه قد صرح أنه ليس في هذه الأرض غير العشر وإنما مراده أنه يسلم وفي يده أرض خراجية فتحها الإمام عنوة فهذه لا يسقط الخراج بإسلام من هي في يده كما سنذكره 38 – فصل النوع الثالث ما ملك عن الكفار عنوة وقهرا فهذه فيها روايتان إحداهما أنها تكون غنيمة تقسم بين الغانمين كالمنقول وتكون أرض عشر لا خراج عليها كما أحياه المسلمون الثانية أن الإمام بالخيار إن شاء قسمها وكانت كذلك عشرية غير خراجية وإن شاء وقفها على المسلمين ويضرب عيله خراجا يكون كالأجرة لها غير مقدر المدة بل إلى الأبد فهذه عشرية خراجية فإن استمرت في يد الكفار ففيها الخراج زرعوها أو لم يزرعوها ولا عشر عليهم وإن أسلموا لم يسقط الإسلام خراجها ويجب عليهم فيها العشر فيجتمع العشر والخراج بسببين مختلفين العشر على المغل والخراج على رقبة الأرض هذا قول الجمهور وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يجتمع العشر والخراج في أرض بل إن أخذ ممن هي في يده الخراج لم يؤخذ منه العشر وإن أخذ منه العشر لم يؤخذ منه الخراج وروي في ذلك حديث باطل لا أصل له وليس من كلام رسول الله لا يجتمع العشر والخراج وشبهة هذا القول أن الخراج في الأصل إنما هو جزية الأرض فهو بمنزلة خراج الرؤوس فهو على الكفار بمنزلة الجزية على رؤوسهم وهو عوض عن العشر الذي يجب بالإسلام وبدل عنه فلو لم يوضع على الأرض لتعطلت إذ كانت مع كافر عن العشر والخراج فكان في ذلك نقص على المسلمين فقام خراجها مقام العشر فإذا أسلموا أخذوا بالعشر ولم يجمع عليهم بين العشر والخراج في حال الإسلام كما لم يجمع عليهم بينهما في حال الكفر بل إذا سقطت الجزية بالإسلام وهي خراج الرؤوس فكذلك الخراج الذي هو جزية الأرض ولهذا كره الصحابة رضي الله عنهم للمسلم الدخول في أرض الخراج لأنه يسقط ما عليها من الخراج بدخوله فيها وأما الجمهور فنازعوه في ذلك وقالوا الخراج على رقبة الأرض زرعت أو لم تزرع والعشر في مغلها سواء كانت ملكا أو عارية أو إجارة ولم يوضع الخراج بدلا عن العشر بل وضع حقا للمسلمين في رقبة الأرض وإنما لم يجتمع على الكافر العشر والخراج لأن العشر زكاة وليس من أهلها فلا تؤخذ منه كما لم تؤخذ من مواشيه وأمواله قالوا وإنما كره الصحابة رضي الله عنهم الدخول في أرض الخراج لأن المسلم إذا دخل فيها التزم ما عليها من الخراج وهو صغار في الأصل فلا ينبغي أن يلتزمه ويقر به ولما كان تابعا للأرض كان باقيا ببقائها تابعا لها ويزول بزوالها وتعطيل نفعها كما تسقط الجزية بزوال الرقبة أو عجزها عن الأداء ولا تنافي بين اجتماع الحقين في العين الواحدة بسببين مختلفين كما تجب عليه في الصيد المملوك إذا أتلفه في الإحرام قيمته لمالكه والجزاء لحق الله وكما لو قتل أمة بالزنى غرم قيمتها لسيدها ولزمه الحد لله سبحانه وكذلك لو قتل عبدا خطألزمته قيمته لسيده والكفارة للمساكين ونظائر ذلك كثيرة وهذا النوع من الأرض هو المعروف بوضع الخراج 39 – فصل ويجوز بيع هذه الأرض وهبتها ورهنها وإجارتها ونص الإمام أحمد في رواية ابنه صالح على جواز جعلها صداقا وهذا صريح في جواز بيعها وهبتها وقال بعض المتأخرين من أصحابه لا يجوز نقل الملك فيها لأنها وقف فلا يجوز بيعها وهذا ليس بشيء فإنها تورث بالاتفاق والوقف لا يورث وتجعل صداقا بالنص والوقف لا يجوز فيه ذلك ومنشأ الشبهة إنهم ظنوا أن وقفها بمنزلة سائر الأوقاف التي تجري مجرى إعتاق العبد وتحريره لله وهذا غلط بل معنى وقفها تركها على حالها لم يقسمها بين الغانمين لا أنه أنشأ تحبيسها وتسبيلها على المسلمين هذا لم يفعله رسول الله ولا عمر ولا أحد من الأئمة بعده بل وقفها هو ترك قسمتها وإبقاؤها على حالها وضرب الخراج عليها يؤخذ ممن تكون في يده والوقف إنما امتنع بيعه لما في بيعه من إبطال وقفيته وأما هذه فإذا بيعت أو انتقل الملك فيها فإنها تنتقل خراجية كما كانت عند الأول وحق المسلمين في الخراج وهو لا يسقط بنقل الملك فإنها تكون عند المشتري كما كانت عند البائع كما تكون عند الوارث كما كانت عند مورثه ولهذا جاز بيع المكاتب ولم يكن بيعه مسقطا لسبب حريته بالأداء فإنه لا ينتقل إلى المشتري كما كان عند البائع 40 – فصل النوع الرابع ما صولح عليه المشركون من أرضهم على أن يقرها في أيديهم بخراج يضرب عليها وتكون الأرض لهم فهذا الخراج جزية تؤخذ منهم ما أقاموا على شركهم وتسقط عنهم بإسلامهم ولهم بيع هذه الأرض والتصرف فيها كيف شاؤوا فإن تبايعوها بينهم كانت على حكمها في الخراج وإن بيعت على مسلم سقط عنه خراجها وإن بيعت من ذمي فهل يسقط عنه خراجها ذكر القاضي فيه احتمالين أحدهما لا يسقط خراجها لبقاء كفره والثاني يسقط لخروجه بالذمة من عقد من صولح عليها وقد قال أحمد في رواية ابن منصور وذكر له قول سفيان ما كان من أرض صولح عليها ثم أسلم أهلها فقد وضع الخراج عنها وما كان من أرض أخذت عنوة ثم أسلم صاحبها وضعت عنه الجزية وأقر على أرضه بالخراج فقال أحمد جيد قال فقد نص على أن الخراج يسقط عن أرض الصلح بالإسلام قال القاضي وهذا محمول على أن تلك الأرضين لهم ولم يسقطها عن أرض العنوة لأنها وقف لجماعة المسلمين فهي أجرة عنها 41 – فصل النوع الخامس أرض جلا عنها أهلها فخلصها المسلمون بغير قتال فهذه حكمها حكم العنوة تترك وقفا ويضرب عليها خراج يكون أجرة لمن تقر في يده من مسلم وكافر ولا تتغير بإسلام ولا ذمة قال أحمد في رواية ابنه صالح وأبي الحارث كل أرض جلا عنها أهلها بغير قتال فهي فيء 42 – فصل النوع السادس أرض صالحناهم على نزولهم عنها وتكون ملكا لنا وتقر في أيديهم بالخراج فحكم هذه الأرض أيضا حكم أرض العنوة أنها تصير وقفا للمسلمين وتقر في أيديهم بالخراج ولا يسقط هذا الخراج بالإسلام ولا يمنعون من المناقلة فيها ويكون ذلك مناقلة عن حق الاختصاص لا بيعا لرقبة الأرض إذ ليست ملكا لهم وإنما يعاوضون على منفعة الاختصاص وليس في ذلك إبطال حق المسلمين من رقبة الأرض ولا نفعها فلا يمنعون منه ويكونون أحق بهذه الأرض ما أقاموا على صلحهم ولا تنتقل من أيديهم سواء أسلموا أو أقاموا على كفرهم كما لا تنتزع الأرض من مستأجرها وإن صاروا ذمة وضربت عليهم الجزية لم يسقط عنهم الخراج بل يجمع عليهم الخراج والجزية 43 – فصل أصل وضع الخراج وأما أصل وضع الخراج فقال أبو عبيد حدثنا الأنصاري محمد بن عبدالله قال أبو عبيد ولا أعلم إسماعيل بن إبراهيم إلا وقد حدثناه أيضا عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي مجلز لاحق بن حميد أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بعث عمار بن ياسر إلى أهل الكوفة على صلاتهم وجيوشهم وعبدالله بن مسعود على قضائهم وبيت مالهم وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض ثم فرض لهم في كل يوم شاة بينهم شطرها وسواقطها لعمار والشطر الآخر بين هذين ثم قال ما أرى قرية يؤخذ منها كل يوم شاة إلا سريعا خرابها قال فمسح عثمان الأرض فجعل على جريب الكرم عشرة دراهم وعلى جريب النخل خمسة دراهم وعلى جريب القصب ستة دراهم وعلى جريب البر أربعة دراهم وعلى جريب الشعير درهمين وعلى أهل الذمة في أموالهم التي يختلفون بها في كل عشرين درهما درهما وجعل على رؤوسهم وعطل النساء والصبيان من ذلك أربعة وعشرين كل سنة ثم كتب بذلك إلى عمر رضي الله عنه فأجازه ورضي به فقيل لعمر تجار الحرب كم نأخذ منهم إذا قدموا علينا قال فكم يأخذون منكم إذا قدمتم عليهم قالوا العشر قال فخذوا منهم العشر حدثنا أبو معاوية عن الشيباني عن محمد بن عبيدالله الثقفي قال وضع عمر رضي الله عنه على أهل السواد على كل جريب عامر أو غامر درهما وقفيزا وعلى جريب الرطبة خمسة دراهم وخمسة أقفزة وعلى جريب الشجر عشرة دراهم وعشرة أقفزة وعلى جريب الكرم عشرة دراهم وعشرة أقفزة وعلى رؤوس الرجال ثمانية وأربعين وأربعة وعشرين واثني عشر حدثنا إسماعيل بن مجالد عن أبيه مجالد بن سعيد عن الشعبي أن عمر رضي الله عنه بعث عثمان بن حنيف فمسح السواد فوجده ستة وثلاثين ألف ألف جريب فوضع على كل جريب درهما وقفيزا قال أبو عبيد فأرى حديث الشعبي هذا غير تلك الأحاديث ألا ترى أن عمر رضي الله عنه إنما كان أوجب الخراج على الأرض خاصة بأجرة مسماة في حديث مجالد وإنما يذهب الخراج مذهب الكراء وكأنه أكرى كل جريب بدرهم وقفيز في السنة وألغى من ذلك النخل والشجر فلم يجعل لها أجرة قال وهذا حجة لمن قال السواد فيء للمسلمين وإنما أهلها عمال لهم فيها بكراء معلوم يؤدونه ويكون باقي ما تخرج الأرض لهم وهذا لا يجوز إلا في الأرض البيضاء ولا يكون في النخل والشجر لأن قبالتهما لا تطيب بشيء مسمى فيكون بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه وقبل أن يخلق وهذا الذي كرهه الفقهاء من القبالة حدثنا شريك عن الأعمش عن عبدالرحمن بن زياد الإفريقي قال قلت لابن عمر إنا نتقبل الأرض فنصيب من ثمارها قال أبو عبيد يعني الفضل قال ذلك الربا العجلان حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن قال جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال أتقبل منك الأبلة بمئة ألف فضربه ابن عباس مئة وصلبه حيا حدثنا عبدالرحمن عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي هلال عن ابن عباس رضي الله عنهما قال القبالات حرام حدثنا عبدالرحمن عن شعبة عن جبلة بن سحيم قال سمعت ابن عمر يقول القبالات ربا قال أبو عبيد معنى هذه القبالة المكروهة المنهي عنها أن يتقبل الرجل النخل والشجر والزرع النابت قبل أن يستحصد ويدرك وهو مفسر في حديث يروى عن سعيد بن جبير حدثنا عباد بن العوام عن الشيباني قال سألت سعيد بن جبير عن الرجل يأتي القرية فيتقبلها وفيها النخل والشجر والزرع والعلوج فقال لا يتقبلها فإنه لا خير فيها قال أبو عبيد وإنما أصل كراهة هذا أنه بيع ثمر لم يبد صلاحه ولم يخلق بشيء معلوم فأما المعاملة على الثلث والربع وكراءالأرض البيضاء فليسا من القبالات ولا يدخلان فيها وقد رخص في هذين ولا نعلم المسلمين اختلفوا في كراهة القبالات انتهى وهذا الذي ذهب إليه أبو عبيد هو المعروف عند الأئمة الأربعة وجعلوا كراء الشجر بمنزلة بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه ونازعهم في ذلك آخرون وقالوا ليست إجارة الشجر من بيع الثمر في شيء وإنما هي بمنزلة إجارة الأرض لمن يقوم عليها ويزرعها ليستغلها وهذا مذهب الليث بن سعد وأحد الوجهين في مذهب أحمد اختاره شيخنا وأبو الوفاء ابن عقيل وهو الذي نختاره وقد فعله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما حكاه عنه الإمام أحمد في مسائل ابنه صالح أنه قبل حديقة أسيد بن حضير ثلاث سنين وقضى به دينا كان عليه ولم ينكره على عمر أحد من الصحابة مع شهرة هذه القصة وهذا إن لم يكن إجماعا إقراريا فهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولا نعلم له مخالفا ومن العجب أخذ أبي عبيد بحديث مجالد وهو ضعيف عن الشعبي عن عمر وهو منقطع وإنما فيه السكوت عن جريب الشجر لم يذكره بنفي ولا إثبات وتركه حديث أبي معاوية عن الشيباني عن محمد بن عبيدالله الثقفي وهؤلاء كلهم أئمة حفاظ وقد حفظ الثقفي ما لم يحفظ الشعبي وأنه جعل على جريب الكرم عشرة دراهم قال ولم يذكر النخل وهذا يدل على أنه حفظ القصة وميز بين ما ذكره وما لم يذكره فهذا عمر وعثمان بن حنيف قد وضعا على الشجر أجرة لازمة مؤبدة ولا مخالف لهم من الصحابة وقد صرح أبو عبيد والفقهاء من بعده بأن الخراج أجرة قال ومعنى الخراج في كلام العرب إنما هو الكراء والغلة ألا تراهم يسمون غلة الأرض والدار والمملوك خراجا ومنه حديث النبي أنه قضى أن الخراج بالضمان وكذلك حديثه الآخر أنه احتجم حجمه أبو طيبة فأمر له بصاعين وكلم أهله فوضعوا عنه من خراجه فسمى الغلة خراجا فأرض العنوة يؤدي أهلها إلى الإمام الخراج كما يؤدي مستأجر الأرض والدار كراءها إلى ربها الذي يملكها ويكون للمستأجر ما زرع وغرس فيها ولما علم أبو عبيد أن وضع الخراج على جريب الشجر إجارة له قال أرى حديث مجالد عن الشعبي هو المحفوظ وقام أبو عبيد وقعد في فعل عمر رضي الله عنه هذا وقال لا أعرف وجهه وهي القبالة المكروهة وقد بينا أن حديث الشيباني أصح وأصرح ويؤيده تقبيل حديقة أسيد بن حضير ومعه القياس ومصلحة الناس فإنه لا فرق في القياس بين إجارة الأرض لمن يقوم عليها حتى تنبت وبين إجارة الشجر لمن يقوم عليها حتى تطلع كلاهما في القياس سواء فإن قيل مستأجر الأرض هو الذي يبذرها قيل قد يستأجرها لما ينبت فيها من الكلأ وكونه يبذرها مثل قيامه على الشجر بالسقي والزبار والإصلاح وقد حكم الله سبحانه بصحة إجارة الظئر للبنها وهو بمنزلة إجارة الشجر لثمرها وطرد هذا ما جوزه مالك وغيره من إجارة الشاة والبقرة للبنها مدة معلومة وهذا أحد الوجهين في مذهب أحمد اختاره شيخنا والفرق بين إجارة الشجر لمن يخدمها ويقوم عليها حتى تثمر وبين بيع الثمرة قبل بدو صلاحها من ثلاثة أوجه أحدها أن العقد هنا وقع على بيع عين وفي الإجارة وقع على منفعة وإن كان المقصود منها العين فهذا لا يضر كما أن المقصود من منفعة الأرض المستأجرة للزراعة العين الثاني أن المستأجر يتسلم الشجر فيخدمها ويقوم عليها كما يتسلم الأرض وفي البيع البائع هو الذي يقوم على الشجر ويخدمها وليس للمشتري الانتفاع بظلها ولا رؤيتها ولا نشر الثياب عليها فأين أحد الرأيين من الآخر الثالث أن أجارة الشجر عقد على عين موجودة معلومة لينتفع بها في سائر وجوه الانتفاع وتدخل الثمرة تبعا وإن كان هو المقصود كما قلتم في نفع البئر ولبن الظئر أنه يدخل تبعا وإن كان هو المقصود وأما البيع فعقد على عين لم تخلق بعد فهذا لون وهذا لون وسر المسألة أن الشجر كالأرض وخدمته والقيام عليه كشق الأرض وخدمتها والقيام عليها ومغل الزرع كمغل الثمر فإن كان في الدنيا قياس صحيح فهذا منه وأما ما حكاه أبو عبيد عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم من منع القبالة فليس مما نحن فيه بل هو من القبالة الفاسدة وهي أن يستأجر الرجل الضيعة بكل ما فيها من زرع وشجر وعلوج وما فيها من إجارة بيوت أو حوانيت وغير ذلك فيتقبل الجميع ويدفع إلى ربها مالا معلوما فهذه إجارة فاسدة تتضمن أنواعا من المحذور كما يفعله كثير من الناس ويسمونها الكراء ولهذا قال ابن عمر رضي الله عنهما ذلك الربا ومعلوم أن إجارة الشجر بالدراهم والدنانير لا يدخلها ربا والذي منعها لم يمنعها لأجل الربا وهذا بين في حديث ابن عباس رضي الله عنهما حيث قال له الرجل أتقبل منك الأبلة فلم يطلب منه إجارة الشجر بل يتقبل البلد كله بما فيه ويدفع إليه مالا معلوما فهذا لا يجيزه أحد وقد صرح بهذا في حديث ابن عباس سعيد بن جبير فقال الرجل يأتي القرية فيتقبلها وفيها النخل والزرع والشجر والعلوج فهذه هي القبالات المحرمة لا التي فعلها أمير المؤمنين وأقره عليها جميع الصحابة ولا تتم مصلحة الناس إلا بها كما لا تتم مصلحتهم إلا بإجارة الأرض فإن الرجل يكون له البستان وفيه الأشجار الكثيرة ولا يمكنه أن يفرد كل نوع ببيع إذا بدا صلاحه والمساقاة من الفقهاء من يمنعها كأبي حنيفة ومنهم من يخصها بالنخل والكرم ومن جوزها في جميع الشجر فقد تتعذر عليه المساقاة في بستانه والرجل الذي له غرض في الثمار قد لا يحسن المساقاة فتتعطل مصلحة صاحب البستان ومصلحة المستأجر وفي هذا فساد لا تأتي به الشريعة ومصلحة الإجارة أعظم مما يقدر فيها من الفساد بكثير والشريعة جاءت بتقديم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة ولما كانت مصالح الناس لا تتم إلا بذلك وضع المانعون حيلا للجواز بأن يؤجروه بياض الأرض بأضعاف أضعاف ما تساوي ثم يساقونه على ثمر الشجر بأدنى أدنى ما يكون فلا الإجارة مقصودة لهما ولا المساقاة فقد دخلا على عقد لم يقصده واحد منهما فالذي قصده هذا وهذا حرام والذي عقدا عليه لم يقصداه ولم تكن هذه المسألة من مقصود الكتاب وإنما وقعت في طريق الخراج الذي هو أخو الجزية وشقيقها وقد أشار النبي إلى الخراج في الحديث الصحيح المتفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقال منعت العراق درهمها وقفيزها ومنعت الشام دينارها ومديها ومنعت مصر دينارها وإردبها وعدتم كما بدأتم ثلاث مرات والمعنى سيمنع ذلك في آخر الزمان 44 – فصل قدر الخراج المضروب على الأرض فأما قدر الخراج المضروب فمعتبر بما تحمله الأرض نص عليه أحمد في رواية محمد بن داود وقد سئل عن حديث عمر رضي الله عنه وضع على جريب الكرم كذا وعلى جريب الزرع كذا أهو شيء موظف على الناس لا يزاد عليهم أو إن رأي الإمام غير هذا زاد ونقص قال بل هو على رأي الإمام إن شاء زاد عليهم وإن شاء نقص وقال هو بين في حديث عمر رضي الله عنه إن زدت عليهم كذا لا يجهدهم إنما نظر عمر رضي الله عنه إلى ما تطيق الأرض فقد نص على أن ذلك موقوف على اجتهاد الإمام وليس بموقوف على تقدير عمر رضي الله عنه ونقل العباس بن محمد الخلال عن أحمد أنه قال والإمام يقره في أيديهم مقاسمة على النصف وأقل إذا رضي بذلك الأكرة يحملهم بقدر ما يطيقون ونص في موضع آخر أنه ليس للإمام أن يقهره على ما أقره عليه عمر رضي الله عنه وقال في رواية يعقوب بن بختان لا يجوز للإمام أن ينقص وله أن يزيد وقال في رواية ابن منصور ووضع عليها عمر رضي الله عنه يعني السواد الخراج على كل جريب درهما وقفيزا من الحنطة والشعير وما سوى ذلك من القصب والزيتون والنخل أشياء موظفة يؤدونها وقال خراج السواد على حديث الحكم عن عمرو بن ميمون قفيز ودرهم قال الخلال في جامعه أبو عبدالله يقول إن للإمام النظر في ذلك فيزيد عليهم وينقص على قدر ما يطيقون وقد ذكر ذلك عنه غير واحد وما قاله عباس الخلال عن أبي عبدالله فهو قول أول له انتهى وقد اختلفت الرواية عن عمر رضي الله عنه في قدر الخراج ففي حديث عمرو بن ميمون قال شهدت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأتاه ابن حنيف فجعل يكلمه فسمعناه يقول له تالله لئن وضعت على كل جريب من الأرض درهما وقفيزا لا يجهدها وفي حديث محمد بن عبيدالله الثقفي قال وضع عمر على أهل السواد على كل جريب عامر أو غامر درهما وقفيزا وعلى جريب الرطبة خمسة دراهم وذكر الشعبي عن عمر أنه بعث عثمان بن حنيف إلى السواد فوضع على جريب الشعير درهمين وعلى جريب الرطبة أربعة دراهم وعلى جريب القصب ستة دراهم وعلى جريب النخل ثمانية وعلى جريب الكرم عشرة وعلى جريب الزيتون اثني عشر هذا ما حكاه أبو عبيد قال أحمد أعلى وأصح حديث في أرض السواد حديث عمرو بن ميمون وهذا الاختلاف عن عمر رضي الله عنه يدل على أن الخراج ليس بمقدر شرعا بحيث لا تجوز فيه الزيادة ولا النقصان بل هو باعتبار الطاقة ويجب أن يكون وضع الخراج مراعى في كل أرض بحسب ما تحتمله وذلك يختلف من جهة جودة الأرض ورداءتها ومن جهة الزرع والشجر فإن منه ما تكثر قيمته ومنه ما تقل ومن جهة خفة مؤونة السقي وكثرتها فإن منها ما يشرب بالدوالي والنواضح ومنها ما يشرب بالأمطار والأنهار فلا بد لواضع الخراج من اعتبار هذه الأوصاف ليعلم قدر ما تحتمله الأرض فيقصد العدل في وضعه فلا يجحف بأربابها ولا بمستحقي الخراج ويجب عليه أن يدع لأرباب الأرض بقية يجبرون بها النوائب والجوائح كما أمر النبي في خرص الثمار في الزكاة أن يترك لأهل النخل الثلث أو الربع وقال إن في المال السابلة والعرية والواطئة 45 – فصل الخراج يوضع على الأرض وعلى الزرع ووضع الخراج ضربان أحدهما أن يوضع على الأرض والثاني أن يوضع علىالزرع فإن وضع على الأرض اعتبر حوله بالسنة الهلالية دون الشمسية وهي التي تعتبر بها الآجال شرعا كالزكاة والدية والجزية وغيرها وإن وضع على الزرع فإن جعله مقاسمة كان معتبرا بكمال الزرع وتصفيته وكان ذلك عامه وأجله وإن وضعه على مكيلته وأخذ على كل مقدار معين درهما أو نحوه اعتبر أيضا بكمال الزرع ووضعه على رقبة الأرض أحوط لأنه قد يفرط في زرعها فيتعطل خراجها وإذا وضع تأبد ما بقيت الأرض على حالها من شربها وقبولها للزرع فإن تعطلت وبارت أو انقطع شربها فهو نوعان أحدهما أن يكون ذلك من جهة أهلها وهم قادرون على إصلاحها فهذا لا يسقط الخراج لأنه بمنزلة الإجارة فإذا عطل المستأجر الانتفاع لم تسقط عنه الأجرة الثاني أن يكون بسبب لا صنع لهم فيه كانقطاع المياه وإجلاء العدو لهم عن أرضهم وجور لحقهم من العمال لم تمكنهم الإقامة عليه وتخرب الأرض بالأمطار والسيول ونحو ذلك فهذا يسقط الخراج عنهم حتى تعود الأرض كما كانت ويتمكنوا من الانتفاع بها وعلى الإمام أن يعمر الأرض من بيت المال من سهم المصالح ولا يجوز إلزامهم بعمارتها من أموالهم فإن سألهم أن يعمروها من أموالهم ويعتد لهم بما أنفقوا عليها من خراجها فرضوا بذلك جاز ولم يجبروا عليه إلا أن يكون سهم المصالح عاجزا عن ذلك ولا يضر بهم عمارتهم بالخراج وفي ذلك مصلحة لهم ولأصحاب الفيء فهذا يسوغ له إلزامهم به فإن أمكن الانتفاع بتلك الأرض بعد أن بارت لصيد أو مرعى جاز أن يستأنف عليها خراجا بحسب ما تحتمله ولا يجوز أن يحمل عليها خراج الأرض العامرة فإن قيل فهل للإمام أن يضع على الأرض الموات التي لا تزرع خراجا يكون على مصايدها ومراعيها قيل لا يجوز ذلك لأنها مباحة ومن أحياها ملكها فكيف يجوز أن يوضع عليها الخراج وسئل أحمد عن الصيد في أجمة قطربل وقيل له إنهم يمنعوننا أن نصيد فيها حتى نعطيهم شيئا فقال للسائل احرص على ألا تعطيهم شيئا فإن شارطتهم لا تخنهم 46 – فصل في زيادة منفعة الأرض زيادة عارضة فإن زادت منفعة الأرض زيادة عارضة لا يوثق بدوامها لم يجز أن يزيد في خراجها بذلك وإن وثق بدوام ذلك راعى المصلحة لأرباب الأرض وأرباب الفيء واعتمد في الزيادة ما يكون عدلا بين الفريقين 47 – فصل الأرض التي يمكن زرعها خراجها واجب وخراج الأرض إن أمكن زرعها واجب وإن لم تزرع نص عليه في رواية الأثرم ومحمد بن أبي حرب وقد سئل عن رجل في يده أرض من الخراج لم يزرعها يكون عليه خراجها قال نعم العامر والغامر وإذا كان خراج ما أخل بزرعه يختلف باختلاف الزرع أخذ منه فيما آجل بزرعه خراج أقل ما يزرع فيها لأنه لو اقتصر على زرعه لم يعارض فيه ولو كانت أرض الخراج لا يمكن زرعها في كل عام بل تراح في عام أو تزرع عاما دون عام روعي حالها في ابتداء وضع الخراج عليها واعتبر العدل لأهل الأرض وأهل الفيء في خصلة من ثلاث الأولى إما أن يجعل خراجها على الشطر من خراج ما يزرع في كل عام الثانية وإما أن يمسح كل جريبين منها بجريب ليكون أحدهما للمزروع والآخر للمتروك الثالثة وإما أن يضعه بكماله على مساحة المتروك والمزروع ويستوفي على أربابه الشطر من مساحة أرضهم وإذا كان خراج الزرع والثمار مختلفا باختلاف الأنواع فزرع أو غرس مالم ينص عليه اعتبر خراجه بأقرب المنصوصات شبها به 48 – فصل في نقل أرض الخراج إلى العشر ولا يجوز أن ينقل أرض الخراج إلى العشر ويعطل خراجها ولا أرض العشر إلى الخراج ويعطل عشرها بل إذا كانت خراجية وزرعت ما يجب فيه العشر اجتمعا فيها كما تقدم وإذا سقي بماء الخراج أرض عشر كان المأخوذ منها عشرا وإذا سقي بماء العشر أرض خراج كان المأخوذ منها خراجا اعتبارا بالأرض دون الماء وقال أبو حنيفة يعتبر حكم الماء فيؤخذ بماء الخراج الخراج وبماء العشر العشر وكأنه نظر إلى أن الماء مادة الزرع والأرض وعاء له فهو مستودع فيها كما لو وطئ رجل أمة غيره بريبة فأولدها فالولد للواطئ دون مالك الأمة واعتبار الأرض أولى لأن الخراج مأخوذ عن الأرض لا عن الماء والزرع إنما يكون في الأرض نحو من أخذ التراب والهواء المختص بها والبذر فهذه ثلاثة أجزاء يختص الأرض والماء جزء من أربعة وأما مسألة الوطء فهي حجة عليه فإنه لو وطئها عالما بأنها أمة الغير كان الولد لمالك الأم وإنما ألحق في هذه الصورة بالواطئ للسرية فإن الولد يتبع اعتقاد الواطئ شرطا ولو نزا فحل على رمكة فأولدها كان الولد لصاحب الرمكة دون صاحب الفحل بالاتفاق وأيضا فالماء ليس عليه خراج ولا عشر فلا يعتبر قال القاضي وعلى هذا الخلاف منع أبو حنيفة صاحب الخراج أن يسقي بماء العشر ومنع صاحب العشر أن يسقي بماء الخراج ولم يمنع أحمد واحدا منهما أن يسقي بأي الماءين شاء وقد قال أحمد في رواية صالح الخراج مثل الجزية على الرقبة وقال في رواية ابن منصور إنما هو جزية رقبة الأرض فدل على أنه على رقبة فالاعتبار بها دون الماء الذي لم يوضع عليه خراج 49 – فصل البناء في أرض الخراج هل يسقط الخراج عنها وإذا بنى في أرض الخراج دورا وحوانيت كان خراجها مستحقا عليه هذا ظاهر كلام أحمد لأن الخراج لا يتوقف على الزرع والغرس فإنه قال في رواية يعقوب بن بختان وقد سأله ترى أن يخرج الرجل عما في يده من دار أو ضيعة على ما وظف عمر رضي الله عنه على كل جريب فيتصدق به فقال ما أجود هذا فقال له يعقوب بلغني عنك أنك تعطي عن دارك الخراج فتتصدق به قال نعم قلت إنما كان أحمد يفعل ذلك لأن بغداد من أرض السواد التي وضع عليها عمر الخراج فلما بنيت مساكن راعى أحمد حالها الأولى التي كانت عليها من عهد عمر رضي الله عنه إلى أن صارت دورا قال القاضي وقد قيل إن مالا يستغنى عن بنائه في مقامه في أرض الخراج لزارعها وفلاحها عفو لا خراج عليه لأنه لا يستقل فيها إلا بمسكن يسكنه وما بناه للكراء والتوسعة التي لا يحتاج إليها فعليه خراجه قلت وهذا هو الذي استمر عليه عمل الناس قديما وحديثا وهو غير ما كان يفعله أحمد على أن أحمد كان يفعل ذلك احتياطا ولم يأمر به أهل بغداد عامة بل عد من جملة ورعه أنه كان يخرج الخراج عن داره فيتصدق به وغيره لم يكن يفعل ذلك ولا كان أحمد يلزم به الناس وقد صرح أصحاب أحمد والشافعي وغيرهم أنه لا خراج على المساكن 50 – فصل خراج الأرض التي تم تأجيرها على المؤجر وإذا أجر أرض الخراج أو أعارها فخراجها على المؤجر والمعير وقد قال أحمد في رواية أبي الصقر في أرض السواد يتقبلها الرجل يؤدي وظيفة عمر ويؤدي العشر بعد وظيفة عمر وظاهر هذا أن الخراج على المستأجر فإنه هو الذي يؤدي العشر وكذلك قال في رواية محمد بن أبي حرب وقد صرح به أبو حفص فقال باب الدليل على أن من استأجر أرضا فزرعها كان الخراج والعشر جميعا عليه دون صاحب الأرض ثم ساق في هذا الباب رواية أبي الصقر المتقدمة وقد يحتج لهذا القول بأن الخراج من تمام تربة الأرض فهو بمنزلة السقي والحرث وتهيئتها للزراعة بما يصلح لها والصواب القول الأول فإن منفعة الأرض إنما هي للمؤجر وما يأخذه من الأجرة عوض عن تلك المنفعة فلا يكون النفع له والخراج على غيره فانتفاعه بالأرض تارة يكون بنفسه وتارة يكون بنيابته والمستأجر نائب عنه وكذلك المستعير إنما دخل على أن ينتفع بالأرض مجانا والمذهب عند القاضي رواية واحدة وعند أبي حفص على روايتين وقد حكى أبو عبدالله بن حمدان في رعايته بعد أقوال فقال وخراج العنوة على ربها مسلما كان أو كافرا وعنه بل مستأجرها ومستعيرها وقيل بل على المستأجر دون المستعير وقيل عكسه قال القاضي وعندي أن كلام أحمد لا يقتضي ما قال أبو حفص لأنه إنما نص على رجل تقبل أرضا من السلطان فدفعها إليه بالخراج وجعل ذلك أجرتها لأنها لم تكن في يد السلطان بأجرة بل كانت لجماعة المسلمين والمسألة التي ذكرناها إذا كانت في يد رجل من المسلمين بالخراج المضروب فأجرها فإن الثاني لا يجب عليه الخراج بل يجب على الأول لأنها في يده بأجرة هي الخراج وهي في يد الثاني بأجرة عن الخراج 51 – فصل في اختلاف عامل الصدقة ورب الأرض وإذا اختلف العامل ورب الأرض في حكمها فادعى العامل أنها أرض خراج وادعى ربها أنها أرض عشر وقولهما ممكن فالقول قول المالك دون العامل فإن اتهم استحلف ويجوز أن يعتمد في مثل هذا على الشواهد الديوانية السلطانية إذا علم صحتها ووثق بكتابتها ولم يتطرق إليها تهمة 52 – فصل ادعاء رب الأرض دفع الخراج وإذا ادعى رب الأرض دفع الخراج لم يقبل قوله ولو ادعى دفع الزكاة ويعرفها بنفسه قبل قوله والفرق بينهما أن الزكاة عبادة فهي كالصوم والصلاة والاغتسال من الجنابة وقول المسلم في ذلك مقبول من غير يمين وأما الخراج فهو حق عليه بمنزلة الديون فلا يقبل قوله إلا ببينة فهو كالجزية 53 – فصل فيمن أعسر بالخراج ومن أعسر بالخراج أنظر به إلى يساره ولم يسقط بالإعسار وإن أعسر بالجزية سقطت عنه ولم تستقر في ذمته والفرق بينهما أن الجزية لا تجب مع الإعسار فهي كالزكاة والنفقة الواجبة وأما الخراج فهو أجرة الأرض فيجب مع اليسار والإعسار كأجرة الدور والحوانيت ولهذا لما ضربه عمر رضي الله عنه على الأرض لم يراع فيه فقيرا من غني 54 – فصل فيمن ماطل بالخراج وإذا مطل بالخراج مع يساره حبس حتى يؤديه فإن أصر على المطل رغم الحبس ضرب قال أصحابنا وهكذا كل من عليه حق إذا امتنع من أدائه ضرب حتى يؤديه فإن وجد له مال غير الأرض الخراجية بيع في أداء ما عليه مالا يضر به فلا تباع ثيابه ولا بقره ولا مسكنه ولا آلات الحرث فإن لم يوجد له غير الأرض الخراجية وكان في بيع بعضها ما يؤدي عنه خراجه ولا يضر به بيع منها بقدر ذلك أو أجره وقبض أجرته عوضا عن الخراج وإن أضر به بيعها لم يبع وأنظر إلى الميسرة 55 – فصل فيمن عجز عن عمارة أرض الخراج وإذا عجز رب الأرض عن عمارتها قيل له إما أن تؤجرها وإما أن ترفع يدك عنها لتدفع إلى من يقوم بعمارتها ولم تترك على خرابها وإن دفع خراجها لئلا تصير بالخراب مواتا أومأ إليه أحمد فقال في رواية حنبل من أسلم على شيء فهو له ويؤخذ منه خراج الأرض فإن ترك أرضه فلم يعمرها فذلك إلى الإمام يدفعها إلى من يعمرها لا تخرب تصير فيئا للمسلمين فقد منع من ترك عمارة أرض الخراج على وجه الخراب فإنها تصير بالخراب في حكم الموات فيتضرر أهل الفيء وغيرهم بتعطيلها وإن أدي عنها الخراج وهذا بخلاف ما لو أحيا أرضا ميتة ثم تركها لم يطالب بعمارتها نص عليه أحمد فقال في رواية حرب في رجل أحيا أرض الموات فيحفر فيها بئرا أو يسوق إليها ماء أو يحيط عليها حائطا ثم يتركها قال هي له قيل له فهل في ذلك وقت إذا تركها قال لا وكذلك قال في رواية أبي الصقر إذا أحيا أرضا ميتة وزرعها ثم تركها حتى عادت خرابا فهي له وليس لأحد أن يأخذها منه والفرق بين المسألتين أنه بإحيائها قد ملكها فهو مخير بن الانتفاع بملكه وبين تركه وغايتها أن تعود مواتا كما كانت وأما أرض الخراج فهي ملك لأصحاب الفيء فليس له تعريضها للخراب وتعطيلها عليهم 56 – فصل في الأرض التي لا ينالها الماء واختلفت الرواية عن أحمد فيما لا يناله الماء من الأرض هل يوضع عليه خراج أم لا وعنه في ذلك روايتان ووجه الوضع أن ما لا يناله الماء فينتفع به في مصالح الناس يكون بمنزلة ما يناله الماء ووجه المنع أنه لا ينتفع به ولا يمكن زرعه فهو كالفقير العاجز عن الجزية . واختلفت الرواية عنه في الموات الذي لا يمكن زرعه هل يوضع عليه الخراج على روايتين نص في إحداهما على أنه إن أمكن أن يحييه من هو في يده أو غيره أخذ منه وإلا فلا 57 – فصل من أحق بالأرض الخراجية ومن كانت بيده أرض خراجية فهو أحق بها بالخراج كالمستأجرة ويرثها وارثه على الوجه الذي كانت عليه بيد الموروث وليس للإمام نزعها من يده ودفعها إلى غيره فإن نزل هو عنها أو اشتراها غيره صار الثاني أحق بها 58 – فصل فيمن ظلم في أرضه الخراجية ومن ظلم في خراجه فهل له أن يحتسب بالقدر الذي ظلم فيه من العشر فيه روايتان عن أحمد إحداهما ليس له ذلك كما لو سرق متاعه لم يحتسب به من الزكاة وهذا أمر العشر والخراج يجبان بسببين مختلفين لمستحقين مختلفين فهذا للمساكين وهذا لأهل الفيء والثانية له أن يحتسب به لأنهما يجبان في الأرض بسبب المغل فإذا تعدى عليه العامل وجب فيه التقدير في أحدهما من ربح الآخر 59 – فصل للإمام إسقاط الخراج وتركه عن بعض أهل الذمة وللإمام ترك الخراج وإسقاطه عن بعض من هو عليه وتخفيفه عنه بحسب النظر والمصلحة للمسلمين وليس له ذلك في الجزية والفرق بينهما أن الجزية المقصود بها إذلال الكافر وصغاره وهي عوض عن حقن دمه ولم يمكنه الله من الإقامة بين أظهر المسلمين إلا بالجزية إعزازا للإسلام وإذلالا للكفر وأما الخراج فهو أجرة الأرض وحق من حقوقها وإنما وضع بالاجتهاد فإسقاطه كله بمنزلة إسقاط الإمام أجرة الدار والحانوت عن المكتري 60 – فصل في أحكام أرض مكة ولا خراج على مزارع مكة وإن فتحت عنوة وقيل يضرب عليها الخراج كسائر أرض العنوة وهذا القول من أقبح الغلط في الإسلام وهو مردود على قائله ومكة أجل وأعظم من أن يضرب على أرضها الجزية وهي حرم الله وأمنه ودار نسك الإسلام وقد أعاذها الله مما هو دون الخراج بكثير وهذا القول استدراك على رسول الله وعلى أبي بكر وعمر وعثمان والأئمة بعدهم إلى زمن هذا القائل وكيف يسوغ ضرب الخراج الذي هو أخو الجزية وشقيقها ورضيع لبنها على خير بقاع الله وأحبها إلى الله ودار النسك ومتعبد الأنبياء وقرية رسول الله التي أخرجته وحرم رب العالمين وأمنه ومحل بيته وقبلة أهل الأرض قال أبو عبيد صحت الأخبار عن رسول الله أنه افتتح مكة وأنه من على أهلها فردها عليهم فلم يقسمها ولم يجعلها فيئا فرأى بعض الناس أن هذا الفعل جائز للأئمة بعده ولا نرى مكة يشبهها شيء من البلاد من جهتين إحداهما أن رسول الله كان قد خصه الله من الأنفال والغنائم بما لم يجعله لغيره وذلك لقوله تعالى يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فنرى هذا كان خاصا له والجهة الأخرى أنه قد سن لمكة سننا لم يسنها لشيء من سائر البلاد حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن يوسف بن ماهك عن أمه عن عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله ألا تبني لك بيتا أو بناء يظلك من الشمس تعني بمنى فقال إنما هي مناخ لمن سبق وحدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مجاهد قال قال رسول الله إن مكة حرام حرمها الله لا يحل بيع رباعها ولا أجور بيوتها وحدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد قال قال رسول الله إن مكة حرام أراه رفعه قال مكة مناخ لا يباع رباعها ولا تؤخذ إجارتها ولا تحل ضالتها إلا لمنشد وحدثت عن محمد بن سلمة الحراني عن أبي عبدالرحيم عن زيد بن أبي أنيسة عن عبيد ابن عمير بنحوه وروايته لا تحل غنائمها حدثنا وكيع عن عبيدالله بن أبي زياد عن ابن أبي نجيح عن عبدالله بن عمرو قال من أكل أجور بيوت مكة فإنما يأكل في بطنه نار جهنم حدثنا أبو إسماعيل المؤدب عن عبدالله بن مسلم بن هرمز عن عطاء أنه كره الكراء بمكة حدثنا إسماعيل بن عياش عن ابن جريج قال قرأت كتاب عمر بن عبدالعزيز إلى الناس ينهى عن كراء بيوت مكة حدثنا إسحاق الأزرق عن عبدالملك بن أبي سليمان قال كتب عمر بن عبدالعزيز إلى أمير مكة ألا يدع أهل مكة يأخذون على بيوت مكة أجرا فإنه لا يحل لهم حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن عمر أنه نهى أن تغلق دور مكة دون الحاج وأنهم يضطربون فيما وجدوا منها فارغا حدثنا أبو إسماعيل يعني المؤدب عن عبدالله بن مسلم بن هرمز عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال الحرم كله مسجد حدثنا إسماعيل بن جعفر عن إسرائيل عن ثوير عن مجاهد عن ابن عمر الحرم كله مسجد قلت ويدل عليه قوله تعالى إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وهذا لمكة كلها قال أبو عبيد فإذا كانت مكة هذه سننها أنها مناخ من سبق إليها وأنها لا تباع رباعها ولا يطيب كراء بيوتها وأنها مسجد لجماعة المسلمين فكيف تكون هذه غنيمة فتقسم بين قوم يحوزونها دون الناس أو تكون فيئا فتصير أرض خراج وهي أرض من أرض العرب الأميين الذين كان الحكم عليهم الإسلام أو القتل فإذا أسلموا كانت أرضهم أرض العشر ولا تكون خراجا أبدا ثم جاء الخبر عن النبي مفسرا حين قال لا تحل غنائمها قال فليس تشبه مكة شيئا من البلاد لما خصت به فلا حجة لمن زعم أن الحكم على غيرها كالحكم عليها وليست تخلو بلاد العنوة سوى مكة من أن تكون غنيمة كما فعل رسول الله بخيبر أو تكون فيئا كما فعل عمر رضي الله عنه بأرض السواد وغيره من أرض الشام ومصر انتهى فغلط في مكة طائفتان طائفة ألحقت غيرها بها فجوزت ألا تقسم ولا يضرب عليها خراج ولا تكون فيئا وطائفة شبهت مكة بغيرها فجوزت قسمتها وضرب الخراج عليها وهي أقبح الطائفتين وأسوؤهم مقالة وبالله التوفيق 61 – فصل في كراهة الدخول في أرض الخراج وما نقل عن السلف في ذلك قال أبو عبيد حدثنا إسماعيل ويحيى بن سعيد عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سفيان العقيلي عن أبي عياض عن عمر رضي الله عنه قال لا تشتروا رقيق أهل الذمة فإنهم أهل خراج وأرضهم فلا تتبايعوها ولا يقرن أحدكم بالصغار بعد إذ أنجاه الله منه وقد ذكر الأنصاري عن أبي عقيل بشير بن عقبة عن الحسن قال قال عمر رضي الله عنه لا تشتروا رقيق أهل الذمة ولا أرضيهم قال فقلت للحسن ولم قال لأنهم فيء للمسلمين وقد ذكر الإمام أحمد هذا الأثر عن يزيد ثنا سعيد عن قتادة وقال حنبل سمعت أبا عبدالله قال وأراد عمر أن يوفر الجزية لأن المسلم إذا اشتراه سقط عنه أداء ما يؤخذ منه والذمي يؤدي عنه وعن مملوكه خراج جماجمهم إذا كانوا عبيدا أخذ منهم جميعا الجزية وقال إسحاق بن منصور قلت لأبي عبدالله قول عمر لا تشتروا رقيق أهل الذمة قال لأنهم أهل خراج يؤدي بعضهم عن بعض فإذا صار إلى المسلم انقطع عنه ذلك وفي المسألة عن أحمد روايتان منصوصتان إحداهما لا جزية عليه والثانية عليه الجزية وهو ظاهر كلام الخرقي فيؤديها عنه سيده وهو ظاهر المنقول عن عمر وعلي رضي الله عنهما قال أحمد ثنا يحيى ثنا عبدالوهاب عن سعيد عن قتادة أن عليا رضي الله عنه كان يكره ذلك يعني شراء رقيقهم ويقول من أجل أن عليهم خراجا للمسلمين وظاهر الأحاديث وجوبها على الرقيق فإنه لم يجيء في حديث واحد منها اختصاص ذلك بالأحرار ولأن الجزية ذل وصغار وهو أهل لذلك ولأنه قوي مكتسب فلم يقر في بلاد المسلمين بغير جزية وهذا القول هو الذي نختاره وقال مهنا بن يحيى الشامي أخبرنا إسماعيل بن علية عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن سفيان العقيلي عن أبي عياض قال قال عمر رضي الله عنه لا تبتاعوا رقيق أهل الذمة فإنما هم أهل خراج يبيع بعضهم بعضا وأرضهم فلا تتبايعوها ولا يقرن أحدكم بالصغار في عنقه بعد إذ أنقذه الله منه قال مهنا فسألته يعني أحمد عن سفيان العقيلي فقال روى عنه قتادة وأيوب السختياني قلت أي شيء روى أيوب عن سفيان فقال هذا الحديث وهو مرسل ولم يذكر فيه أبا عياض وسألته لم قال عمر لا تتبايعوا رقيق أهل الذمة قال لأنهم يؤدون الخراج وقال الميموني تذاكرنا قول عمر هذا فقال أبو عبدالله أظنه كرهه من أنهم جميعا في الأصل حيث أخذوا مماليك وإنما ملكوا هؤلاء بالقهر والغلبة منهم لهم فكره شراءهم واحتج لقوله أنه نهاهم عن شراء ما في أيدينا لأنهم إذا كان لهم أن يشتروا منا فلنا أن نشتري ما في أيديهم قال هذا معنى كلام أبي عبدالله وما أرى الميموني فهم ما قال أحمد وإلا فلا أدري ما معنى هذا الكلام وعمر رضي الله عنه إنما قال لأنهم أهل خراج يبيع بعضهم بعضا وفي لفظ يؤدي بعضهم عن بعض قال أحمد فإذا صار إلى المسلم انقطع عنه هكذا لفظه في رواية إسحاق بن منصور وقد صرح في رواية مهنا بهذا وقد سأله عن قول عمر رضي الله عنه ما معناه فقال إنهم يؤدون الخراج ويستعبد بعضهم بعضا فإذا اشتراه مسلم لم يكن عليه خراج قلت كأنه جعل استعباد بعضهم بعضا غير مؤثر في إسقاط الجزية عنهم وقد صرح به عمر رضي الله عنه في قوله إنهم أهل خراج يبيع بعضهم بعضا وللصحابة لا سيما الخلفاء منهم لا سيما عمر فقه ونظر لا تبلغه أفهام من بعدهم فكأن عمر رضي الله عنه لم يثبت لرقيقهم أحكام الرقيق التي تثبت لرقيق المسلم وعلم أنهم يبيع بعضهم بعضا وذلك لا يثبت الرق في الحقيقة فمنع المسلم من شرائه احتياطا ولم يسقط الجزية عن رقبته وألزمها من ادعى أنه رقيقه وهذا من أدق النظر وألطف الفقه وقد وافقه على ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكره للمسلم شراءهم وقال سعيد كان قتادة يكره أن يشترى من رقيقهم شيء إلا ما كان من غير بلادهم زنجيا أو حبشيا أو خراسانيا لا يبيع بعضهم بعضا قلت وهذه مسألة قد عم بها الإسلام ووقع السؤال عنها مرارا وهي بيع الكفار أولادهم للمسلمين هل يملكهم المسلمون بذلك ويحل استخدامهم فإن كانوا أهل حرب جاز الشراء منهم وملك المشتري الأولاد لأنه يجوز ملكهم بالسبي والرق فيجوز بالشراء وإن كانوا ذمة تحت الجزية لم يجز اشتراء أولادهم ولا يملكهم المشتري لأنهم ملتزمون لجريان أحكام الإسلام عليهم وذلك ينافي حكم الإسلام وإن كانوا أهل هدنة لم تجر عليهم أحكام الإسلام فهل يجوز شراء أولادهم منهم فيه وجهان والجواز أظهر فإنهم لم يلتزموا أحكام الإسلام ومن منع الشراء منهم قال قد أمنوا بالهدنة من السبي وهذا في حكم السبي والفرق بينهما ظاهر والله أعلم 62 – فصل وأما شراء أرض الخراج فقال أبو عبيد حدثني أبو نعيم حدثنا بكير بن عامر عن الشعبي قال اشترى عتبة بن فرقد أرضا على شاطئ الفرات ليتخذ فيها قضبا فذكر ذلك لعمر فقال ممن اشتريتها فقال من أربابها فلما اجتمع المهاجرون والأنصار عند عمر قال هؤلاء أهلها فهل اشتريت منهم شيئا قال لا قال فارددها على من اشتريتها منه وخذ مالك وحدثنا أبو نعيم عن سعيد بن سنان عن عنترة قال سمعت عليا يقول إياي وهذا السواد وقال أحمد حدثنا وكيع عن شريك عن الشيباني عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كره شراء أرض أهل الذمة وإنما كره الصحابة ذلك لأنه يدخل في التزامه الخراج وهو نوع من الصغار حتى كره ابن عباس قبالتها لذلك قال أبو عبيد حدثنا حجاج عن شعبة عن حبيب بن أبي ثابت قال تبعنا ابن عباس فسأله رجل فقال إني أكون بهذا السواد فأتقبل ولست أريد أن أزداد ولكني أدفع عني الضيم فقرأ عليه ابن عباس قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فقال لا تنزعوه من أعناقهم وتجعلوه في أعناقكم قال أبو عبيد وحدثنا أبو معاوية ويزيد عن الحجاج عن القاسم بن عبدالرحمن قال يزيد عن أبيه أن ابن مسعود اشترى من دهقان أرضا على أن يكفيه جزيتها قال أبو عبيد وفي غير حديث حجاج عن القاسم عن عبدالله قال من أقر بالطسق فقد أقر بالذل والصغار قال أبو عبيد أراه يعني بالشراء هاهنا الإكتراء لأنه لا يكون مشتريا والجزية على البائع وقد خرجت الأرض من ملكه قال وقد جاء مثله في حديث آخر حدثني ابن بكير عن الليث بن سعد عن عبيدالله بن أبي جعفر عن القرظي قال ليس بشراء أرض الجزية بأس يريد كراءها قال ذلك أبو الزناد فابن مسعود اكترى أرض الدهقان منه على أن يكفيه الدهقان جزيتها فلا يكون ملتزما للصغار وهذا قد يستدل به من يقول الخراج على المستأجر وإلا لم يكن للاشتراط على المؤجر معنى وهو عليه بدون هذا الشرط ويجاب عنه بأنه شرط لمقتضى العقد فهذا تأكيد له وتقرير وقال قبيصة بن ذؤيب من أخذ أرضا بجزيتها فقد باء بما باء به أهل الكتابين من الذل والصغار وقال مسلم بن مشكم من عقد الجزية في عنقه فقد برئ مما عليه رسول الله وقال عبدالله بن عمرو ألا أخبركم بالراجع على عقبيه رجل أسلم فحسن إسلامه وهاجر فحسنت هجرته وجاهد فحسن جهاده فلما قفل حمل أرضا بجزيتها فذلك الراجع على عقبيه وسئل عبدالله بن عمرو فقيل له أحدنا يأتي النبطي فيحمل أرضه بجزيتها فقال أتبدؤون بالصغار وتعطون أفضل مما تأخذون وقال ميمون بن مهران ما يسرني أن لي ما بين الرها إلى حران بخراج خمسة دراهم قال أبو عبيد فقد تتابعت الآثار بكراهة شراء أرض الخراج وإنما كرهها الكارهون من جهتين إحداهما أنها فيء للمسلمين والأخرى أن الخراج صغار وكلاهما داخل في حديثي عمر اللذين ذكرناهما أحدهما قوله ولا يقرن أحدكم بالصغار بعد إذ نجاه الله منه ووافقه على ذلك ابن مسعود وابن عباس وعبدالله بن عمرو وقبيصة بن ذؤيب وميمون بن مهران ومسلم بن مشكم في هذه الأحاديث التي ذكرناها ومذهبه في الفيء قوله لعتبة بن فرقد حين اشترى الأرض هؤلاء أهلها يعني المهاجرين والأنصار ووافقه على ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال علي لدهقان أسلم على عهده أما أنت فلا جزية عليك وأما أرضك فلنا قلت قوله لا جزية عليك يريد قد سقط عنك خراج رأسك وهو الجزية بإسلامك وهذا يدل على أن الإسلام لا يسقط الخراج المضروب على الأرض فإن شاء المسلم أن يقيم بها أقام بها وإن شاء نزل عنها فسلمها إلى ذمي بالخراج فإذا كانت الأرض خراجية ثم أسلم أقرت في يده بالخراج وهو إجارة حكمها حكم سائر الإجارات والخراج وإن شارك الإجارة في شيء فبينهما فروق عديدة منها أن الإجارة مؤقتة والخراج غير مؤقت ومنها أنه لا يكره استئجار المسلم لأرض الفيء ويكره دخوله فيها بالخراج كما فعل ابن مسعود قال أبو عبيد وأخبرني يحيى بن بكير عن مالك بن أنس أن رأيه كان هذا قال كل أرض افتتحت عنوة فهي فيء للمسلمين وأخبرني هو أو غيره عن مالك أنه كان ينكر على الليث بن سعد دخوله فيما دخل فيه من أرض مصر قال أبو عبيد وحدثني سعيد بن عفير عن ابن لهيعة ونافع بن يزيد وكان من خيارهم وأظنه قال ويحيى بن أيوب وشيوخهم أنهم كانوا ينكرون ذلك على الليث أيضا قال أبو عبيد وإنما دخل فيها الليث لأن مصر كانت عنده صلحا وكان يحدثه عن يزيد بن أبي حبيب فلذلك استجاز الدخول فيها كذلك حدثني عبدالله بن صالح وابن أبي مريم وغيرهما وحرمها آخرون لأنها كانت عندهم عنوة قال أبو عبيد وكان أبو إسحاق الفزاري يكره الدخول في بلاد الثغر لأنها عنوة ولم يتخذ بها زرعا حتى مات قال أبو عبيد ومع هذا كله أنه قد سهل في الدخول في أرض الخراج أئمة يقتدى بهم ولم يشترطوا عنوة ولا صلحا منهم من الصحابة عبدالله بن مسعود ومن التابعين محمد بن سيرين وعمر بن عبدالعزيز وكان ذلك رأي سفيان الثوري فيما يحكى عنه فأما حديث ابن مسعود فإن حجاجا حدثني عن شعبة عن أبي التياح عن رجل من طيء حسبته قال عن أبيه عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال نهى رسول الله عن التبقر في الأهل والمال قال ثم قال عبدالله فكيف بمال براذان وبكذا وبكذا قال أبو عبيد التبقر التوسع في المال وغيره وإنما هو مأخوذ من بقرت الشيء أي وسعته وذكر عن ابن سيرين أنه كانت له أرض من أرض الخراج فكان يعطيها بالثلث والربع وذكر عن عمر بن عبدالعزيز أنه أعطى أرضها بجزيتها من أرض السواد قال أبو عبيد وكان عمر بن عبدالعزيز يتأول بالرخصة في أرض الخراج أن الجزية التي قال الله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون إنما هي على الرؤوس لا على الأرض حدثنا عبدالله بن صالح عن الليث بن سعد عن عمر بن عبدالعزيز قال إنما الجزية على الرؤوس وليس على الأرض جزية قال فالداخل في أرض الخراج ليس بداخل في هذه الآية والذي يروى عن سفيان أنه قال إذا أقر الإمام أهل العنوة في أرضهم توارثوها وتبايعوها فهذا يبين لك أن رأيه الرخصة فيها قال فالعلماء قد اختلفوا في أرض الخراج قديما وحديثا وكلهم إمام إلا أن أهل الكراهة أكثر والحجة في مذهبهم أبين وقد احتج قوم من أهل الرخصة بإقطاع عثمان من أقطع من أصحاب النبي بالسواد قال وإنما كان اختلافهم في الأرض المغلة التي يلزمها الخراج من ذوات المزارع والشجر فأما المساكن والدور بأرض السواد فما علمنا أحدا كره شراءها وحيازتها وسكناها وقد اقتسمت الكوفة خططا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أذن في ذلك ونزلها من أكابر أصحاب النبي رجال منهم سعد بن أبي وقاص وعبدالله بن مسعود وعمار وحذيفة وسلمان وخباب وأبو مسعود وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين ثم قدمها علي فيمن معه من الصحابة فأقام بها خلافته كلها ثم كان التابعون بعد بها فما علمنا أحدا منهم ارتاب بها ولا كان في نفسه منها شيء وكذلك سائر السواد ذكر أحكام أهل الذمة في أموالهم أموالهم التي يتجرون بها في المقام أما أموالهم التي يتجرون بها في المقام أو يتخذونها للقنية فليس عليهم فيها صدقة فإن الصدقة طهرة وليسوا من أهلها وأما زروعهم وثمارهم التي يستغلونها من أرض الخراج فليس عليهم فيها شيء غير الخراج وأما ما استغلوه من الأرض العشرية فهي مسألة اختلف فيها السلف والخلف ونحن نذكر مذاهب الناس فيها وأدلة تلك المذاهب قال أبو عبيد أما أرض العشر تكون للذمي ففيها أربعة أقوال حدثنا محمد عن أبي حنيفة قال إذا اشترى الذمي أرض عشر تحولت أرض خراج قال قال أبو يوسف يضاعف عليه العشر قال أبو عبيد وكذلك كان إسماعيل بن إبراهيم ولم أسمعه منه يحدث به عن خالد الحذاء وإسماعيل بن مسلم ورجل ثالث ذكره أنهم كانوا يأخذون من الذمي بأرض البصرة العشر مضاعفا قال وكان سفيان بن سعيد يقول عليه العشر على حاله وبه كان يقول محمد بن الحسن أما مالك بن أنس فحدثني عنه يحيى بن بكير أنه قال لا شيء عليه فيها لأن الصدقة إنما هي على المسلمين زكاة لأموالهم وطهرة لهم ولا صدقة على المشركين في أرضهم ولا في مواشيهم إنما الجزية على رؤوسهم صغارا لهم وفي أموالهم إذا مروا بها في تجاراتهم وروى بعضهم عن مالك أنه قال لا عشر عليه ولكن يؤمر ببيعها لأن في إقراره عليها إبطالا للصدقة وكذلك يروى عن الحسن بن صالح أنه قال لا عشر عليه ولا خراج إلا إذا اشتراها الذمي من مسلم وهي أرض عشر وهذا بمنزلته لو اشترى ماشيته أولست ترى أن الصدقة قد سقطت عنه فيها وقد حكي عن شريك شيء شبيه بهذا أنه قال في ذمي استأجر من مسلم أرض عشر قال لا شيء على المسلم في أرضه لأن الزرع لغيره ولا شيء على الذمي لا عشر ولا خراج لأن الأرض ليست له هذا ما حكاه أبو عبيد وقال الخلال في الجامع باب الذمي يشتري أرض العشر أو أرض الخراج أو يستأجرها أخبرني محمد بن أبي هارون ومحمد بن جعفر قالا حدثنا أبو الحارث أن أبا عبدالله سئل عن أرض أهل الذمة قال من الناس من يقول ليس عليهم فيها شيء ومن الناس من يقول يضعف عليهم الخراج قلت له فما ترى قال فيها اختلاف ثم ذكر من رواية أبي الحارث وصالح واللفظ لصالح أنه قال لأبيه كم يؤخذ من أهل الذمة مما أخرجت أرضوهم فقال من الناس من يقول لا يكون عليهم إلا فيما تجروا ومن الناس من يقول يضاعف عليهم أخبرني حرب قال سألت أحمد عن الذمي يشتري أرض العشر قال لا أعلم عليه شيئا إنما الصدقة طهرة مال الرجل وهذا المشرك ليس عليه وأهل المدينة يقولون في هذا قولا حسنا يقولون لا يترك الذمي أن يشتري أرض العشر قال وأهل البصرة يقولون قولا عجبا يقولون يضاعف عليهم قال ويعجبني أن يحال بينه وبين الشراء أخبرني عصمة بن عصام قال حدثنا أبو بكر الصاغاني قال سمعت أبا عبدالله قال يمنع أهل الذمة أن يشتروا من أرض المسلمين قال أبو عبدالله وليس في أرض أهل الذمة صدقة إنما قال الله تعالى صدقة تطهرهم وتزكيهم بها فأي طهرة للمشركين وقال في رواية محمد بن موسى وأما ما كان للتجارة فمروا يعني على العشار فنصف العشر وأما أرضوهم فمن الناس من يقول يضاعف عليهم العشر وما أدري ما هو إنما الصدقة طهرة قال وقد روى حماد بن زيد عن أبيه عن عمر رضي الله عنه أنه ضاعف عليهم الخراج وهذا ضعيف وأما أهل الحجاز فحكي عنهم أنهم كانوا لا يدعونهم يشترون أرضهم ويقولون في شرائهم ضرر على المسلمين وقال إبراهيم بن الحارث سئل أبو عبدالله عن أرض يؤدى عنها الخراج أيؤدى عنها العشر بعد الخراج قال نعم كل مسلم فعليه أن يؤدي العشر بعد الخراج فأما غير المسلم فلا عشر عليه وقال في رواية بكر بن محمد عن أبيه عن أبي عبدالله وسأله عن الذمي الذي يشتري أرض المسلم قال أرى عليه زكاة قال وحكوا عن إسماعيل بن علية أنه ما كان يعرف هذا حتى ولي خالد الحذاء فكان يأخذ من أهل الذمة الخمس كأنه أضعف عليهم وحكوا عن سفيان ليس عليهم شيء وحكى لي رجل من أهل المدينة أن أهل المدينة لا يدعون ذميا يشتري من أموال المسلمين يقولون تذهب الزكاة قال أبو عبدالله لا أرى بأسا أن يشتري وليس عليه زكاة ماله ألا ترى أن أموالهم ليس عليها شيء إلا أن يختلفوا بها في بلاد المسلمين فأما لو كانت في منازلهم لم يكن عليهم فيها شيء وكذلك قال في رواية ابن القاسم إذا اشترى الذمي أرض العشر سقط عنه العشر قال وينبغي أن يمنعوا من شرائها وقال أليس يحكى أن مالكا يقول يمنعون من ذلك لأنهم إذا اشتروا ما حولنا ذهبت الزكاة وذهب العشر وهذا في أرض العشر فأما الخراج فلا وقال ابن مشيش سألت أبا عبدالله قلت المسلم يؤاجر أرض الخراج من الذمي قال لا يؤاجر الذمي وهذا ضرر وأهل المدينة وذكر مالكا يقولون لا تدع ذميا يزرع لأنه يبطل العشر إنما يكون عليه الخراج وقال جعفر بن محمد سمعت أبا عبدالله يقول لا تكرى أرض الخراج من أهل الكتاب لأنهم لا يؤدون الزكاة قال أحمد وحدثنا عفان قال حدثني سهيل ثنا الأشعث عن الحسن أنه قال في أهل الذمة إذا اشتروا شيئا من أرض العشر قال فيه الخمس قال أحمد أضعفه عليهم وهذا مذهب البصريين وقال أحمد ثنا هشيم أخبرنا يونس بن عبيد عن عمرو بن ميمون عن أبيه أنه كتب إلى عمر بن عبدالعزيز في مسلم زارع ذميا فكتب إليه عمر رحمه الله أن خذ من المسلم ما عليه من الحق في نصيبه وخذ من النصراني ما عليه قال الخلال والذي عليه العمل في قول أبي عبدالله أنه ما كان في أيديهم من صلح أو خراج فهم على ما صولحوا عليه أو جعل على أرضهم من الخراج وما كان من أرض العشر فيمنعون من شرائها لأنهم لا يؤدون العشر وإنما عليهم الجزية والخراج وذكر أبو عبدالله في قول أهل المدينة وأهل البصرة فأما أهل المدينة فيقولون لا يترك الذمي يشتري أرض العشر وأهل البصرة يقولون يضاعف عليهم قال ثم رأيت أبا عبدالله بعد ذكره لذلك والاحتجاج لقولهم مال إلى قول أهل البصرة أنه إذا اشترى الذمي أرض العشر يضاعف عليه وهو أحسن القول ألا يمكنوا أن يشتروا فإن اشتروا ضوعف عليهم كما تضاعف عليهم الزكاة إذا مروا على العاشر وهي في الأصل ليست عليهم لو لم يمروا بها على العاشر واتجروا في منازلهم لم يكن عليهم شيء فلما مروا جعلت عليهم وأضعف عليهم وهو بمعنى واحد وإلا فأرض المسلمين هم أحق بها من أهل الذمة وكذلك ما كان في أيديهم مما صولحوا عليه فإنما يضاعف عليهم العشر لأن في أرضهم العشر وإنما ينظر ما يخرج من الأرض يؤخذ منهم العشر مرتين هذا معنى ما كان في أيديهم وما اشتروه أيضا من أرض العشر على هذا النحو مضاعف عليهم قال وأنا أفسر ذلك من قول أبي عبدالله رحمه الله تعالى أخبرني عبدالملك بن عبدالحميد قال قال لي أبو عبدالله في أرض أهل الذمة من الناس من يتأول يأخذ من أرضهم الضعف قلت فإذا لم يكن أرض خراج فكيف نأخذ منهم الضعف قال ننظر إلى ما يخرج قلت فهذا إذن في الحب إذا أخرجت ننظر إلى قدر ما أخرجت فيؤخذ منه العشر ونضعف عليهم مرة أخرى قال نعم ثم قال ويؤخذ من أموال أهل الذمة إذا اتجروا فيها قومت ثم أخذ منها زكاتها مرتين يضعف عليهم فمن الناس من يشبه الزرع بهذا قال عبدالملك والذي لا أشك فيه من قول أبي عبدالله غير مرة أن أرض أهل الذمة التي في الصلح ليس عليها خراج إنما ينظر ما أخرجت يؤخذ منهم العشر مرتين قال عبدالملك قلت لأبي عبدالله فالذي يشتري أرض العشر ما عليه قال لي الناس كلهم يختلفون في هذا منهم من لا يرى عليه شيئا ويشبهه بماله ليس عليه فيه زكاة إذا كان مقيما بين أظهرنا وبما يثبته فيقول هذه أموال وليس عليه فيها صدقة ومنهم من يقول هذه حقوق لقوم ولا يكون شراؤه الأرض يذهب بحقوق هؤلاء والحسن يقول من اشتراها ضوعف عليه قلت فكيف يضعف عليه قال لأن عليه العشر فيؤخذ منه الخمس قلت يذهب إلى أن يضعف عليه فيؤخذ منه الخمس فالتفت إلي فقال نعم يضعف عليهم ثم قال لنا ويدخل على الذمي قال لا نرى بأن يأخذ لو أن رجلا موسرا منهم عمد إلى أرض من أرض العشر فاشتراها فلم يؤخذ منه شيء أضر هذا بحقوق هؤلاء وقال أبو طالب سألت أبا عبدالله عن الرجل من أهل الذمة يشتري أرض العشر يكون عليه فيها العشر أو الخراج قال عمر بن عبدالعزيز يضاعف عليه وقال بعض الناس إنما الخراج على ما كان في أيديهم وفي المال العشر أو نصف العشر قلت ما تقول أنت قال قول عمر والحسن يضعف عليهم فقلت فهو أحب إليك قال نعم قال الخلال فقد بين أبو عبدالله هاهنا مذهبه وحسن مذهب من جعل عليهم الضعف قال الخلال وأقوى من قول عمر بن عبدالعزيز والحسن في الزيادة عليهم ما روي عن عائذ بن عمرو وإن كان أبو عبدالله لم يذكره في هذه الأبواب فإنه قد رواه وهو صحيح والعمل عليه مع ما تقدم من قول أبي عبدالله الاختيار له أخبرنا عبدالله قال حدثني أبي حدثنا وهب بن جرير حدثنا شعبة عن أبي عمران الجوني قال سألت عائذ بن عمرو المزني عن الزيادة على أهل فارس فلم ير به بأسا وقال إنما هو خولكم قال الخلال وأخبرنا يعقوب بن سفيان أبو يوسف قال حدثني محمد بن فضيل قال ثنا سويد الكلبي حدثنا حماد بن سلمة عن شعبة عن أبي عمران الجوني عن عائذ بن عمرو فيما أخذ عنوة قال زيدوا عليهم فإنهم خولكم انتهى فهذا مذهب أحمد كما تراه أنه يجب عليهم عشران وعليه أكثر نصوصه واحتجاجه وكثير من أصحابه يحكي مذهبه أنه لا عشر عليه ومنهم من يقول وعنه عليهم عشران وإذا كانوا إذا اتجروا في غير بلادهم أخذ منهم ضعف ما يؤخذ من المسلمين مع جواز التجارة لهم وأنهم لا يسقطون بها حقا لمسلم فإذا دخلوا في الأرض العشرية بشراء أو كراء وهم ممنوعون من ذلك فلأن يؤخذ منهم ضعف ما يؤخذ من المسلم بطريق الأولى إذ لو لم يؤخذ منهم لتعطلت حقوق أرباب العشر وما عليه من المنقطعين من الجند والفقراء وغيرهم وفي ذلك فساد عظيم فإنا لو مكناهم من الدخول في أرض العشر وهم يعلمون أنه لا عشر عليهم لتهافتوا وتهالكوا عليها لكثرة المغل وقلة المؤونة فتذهب حقوق المسلمين وهذا باطل وقياس الأرض على المواشي والعروض قياس فاسد فإن المواشي والعروض لا تراد للتأبيد بل تتناقلها الأيدي وتختلف عليها الملاك والأرض إذا صارت لواحد منهم ولا عشر عليه فيها ولا خراج عض عليها بالنواجذ وأمسكها بكلتا يديه وعطل مصلحتها على أهل العشر ولهذا لما علم أبو حنيفة فساد هذا قال إذا اشترى أرض العشر تحولت خراجية ومذهب الشافعي في هذا أنهم لا يمكنون من شراء أرض العشر واكترائها وأنه لا شيء عليهم في زروعهم وثمارهم كما لا زكاة عليهم في مواشيهم وعروضهم ونقودهم وهو اختيار أبي عبيد وطائفة من أصحاب أحمد وهو المشهور عند أصحاب مالك ومذهبه الذي نص عليه منعهم من شراء أرض العشر فإن قيل فما مصرف ما يؤخذ من أرضهم قيل مصرفه مصرف ما يؤخذ من التغلبي وفيه روايتان كما تقدم أصحهما أنه مصرف الفيء فكذا هذا فإن قيل فلو باعها لمسلم أو أسلم فقال الأصحاب يسقط عنه أحد العشرين ويبقى الآخر وهو عشر الزكاة ولم يفصلوا وقياس المذهب التفصيل وأنه إن باعها أو أسلم قبل اشتداد الحب فكذلك وإن باعها بعد اشتداده ووجوب العشرين لم يسقط أحدهما وإن أسلم بعد اشتداد الحب وصلاح الثمر سقط عنه العشران أما عشر الزكاة فلأنه وقت الوجوب لم يكن من أهله وأما العشر المضاعف فإنما وجب بسبب الكفر فإذا أسلم سقط عنه كما تسقط الجزية بإسلامه فإن قيل فلو اشترى ذمي أرضا خراجية من تغلبي فما حكمها قيل قد اختلف في ذلك الأصحاب على ثلاثة أوجه أحدها أنه لا شيء عليه في نبتها كما لو اشتراها من مسلم والثاني عليه فيها عشر واحد والثالث عليها فيها عشران كما كان على التغلبي وهو الأقيس والأصح فإن قيل فما تقولون لو اشترى ذمي أرضا من مسلم لا عشر فيها مثل إن كانت دورا أو خانا ونحو ذلك فزرعها فهل يجب في زرعها شيء قيل لا يجب عليه شيء في هذه الصورة ولا يمنع من شرائها فإنه لم يسقط بذلك حق مسلم من الأرض وكذلك الحكم لو اشترى أرضا خراجية من ذمي فزرعها لم يكن عليه غير الخراج كما كانت في يد البائع وكما لو ورثها وقال أبو عبدالله بن حمدان في رعايته وإن اشترى ذمي أرضا خراجية أو أرض تغلبي جاز ولا شيء عليه في نبتها وقيل بل عشران وقيل بل عشر في نبت الخراجية لا فيما اشتراه من تغلبي قلت أما شراؤه أرض التغلبي فإنه يتوجه أن يجب عليه عشران كما كان يجب على التغلبي ولا يسقط بشرائه حق المسلمين الذي كان على أرض التغلبي بل إذا ضوعف عليه العشر بشرائها من مسلم حيث لم يكن واجبا فلأن يؤخذ منه ما كان واجبا على التغلبي أولى وأحرى وأما شراؤه للأرض الخراجية التي لا عشر عليها فهذا لا يتوجه فيه نزاع ولا نقبل ما ذكره من الأقوال ولا سيما إذا اشتراها من ذمي كما يدخل في عموم كلامه فهذا لم يقل أحد إن عليه فيها عشرين ولا عشرا فإن قيل يحمل كلامه على ما إذا اشتراها من مسلم قيل إن كانت عشرية مع كونها خراجية فقد تقدم حكمها وإن لم تكن عشرية بأن كانت دارا أو خانا جاز له شراؤها ولا عشر عليه في زرعها اتفاقا كما تقدم بل هذا من سوء التفريع والتصرف والله أعلم فإن قيل فما تقولون في إجارة الأرض العشرية للذمي قيل قد نص أحمد رحمه الله تعالى على صحة الإجارة مع الكراهة والفرق بينها وبين البيع أن البيع يراد للدوام بخلاف الإجارة والحكم في زرعه كالحكم في زرع ما اشتراه وقيل لا شيء عليه هاهنا وإن أوجبنا عليه العشرين في صورة الشراء ويكون كما لو اشترى الزرع وحده وهذا ليس بصحيح فإن الموجب لمضاعفة العشر عليه في صورة الشراء هو بعينه موجود في صورة الإجارة وأما شراؤه الزرع فإن اشتراه قبل اشتداد حبه لم يصح البيع وإن اشتراه بعد اشتداد حبه فزكاته على البائع فإن قيل فلو اشتراه مع الأرض قبل اشتداد الحب قيل حكمه حكم ما زرعه بنفسه 63 – فصل وأما أموالهم التي يتجرون بها من بلد إلى بلد فإنه يؤخذ منهم نصف عشرها إن كانوا ذمة وعشرا إن كانوا أهل هدنة وهذه مسألة تلقاها الناس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ونحن نذكر أصلها وكيف كان ابتداء أمرها واختلاف الفقهاء في ما اختلفوا فيه من أحكامها بحول الله وقوته وتأييده بعد أن نذكر مقدمة في المكوس وتحريمها والتغليظ في أمرها وتحريم الجنة على صاحبها وأمر رسول الله بقتله وأن قياسها على ما وضعه عمر رضي الله عنه على أهل الذمة من الخراج أو العشر كقياس أهل الشرك الذين قاسوا الربا على البيع والميتة على المذكى قال الإمام أحمد حدثنا يزيد بن هارون عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن عبدالرحمن بن شماسة التجيبي عن عقبة بن عامر أنه سمع رسول الله يقول لا يدخل الجنة صاحب مكس وقال أبو عبيد حدثنا يحيى بن بكير عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير قال سمعت رويفع بن ثابت يقول سمعت رسول الله يقول إن صاحب المكس في النار قال يعني العاشر حدثنا الهيثم بن جميل عن محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة عن طاووس عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال إن صاحب المكس لا يسأل عن شيء ويؤخذ كما هو فيرمى به في النار حدثنا حسان بن عبدالله عن يعقوب بن عبدالرحمن القاري عن أبيه قال كتب عمر بن عبدالعزيز إلى عدي بن أرطاة أن ضع عن الناس الفدية وضع عن الناس المائدة وضع عن الناس المكس وليس بالمكس ولكنه البخس الذي قال الله تعالى ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين فمن جاءك بصدقة فاقبلها منه ومن لم يأتك بها فالله حسيبه حدثنا نعيم عن ضمرة عن كريز بن سليمان قال كتب عمر بن عبدالعزيز إلى عبدالله بن عوف القاري أن اركب إلى البيت الذي برفح الذي يقال له بيت المكس فاهدمه ثم احمله إلى البحر فانسفه فيه نسفا قال أبو عبيد قد رأيته بين مصر والرملة حدثنا عثمان بن صالح عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن مخيس بن ظبيان حدثه عن عبدالرحمن بن حسان عن رجل من جذام عن مالك بن عتاهية قال قال رسول الله من لقي صاحب عشور فليضرب عنقه حدثنا ابن أبي مريم عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن مخيس بن ظبيان عن عبدالرحمن بن حسان قال أخبرني رجل من جذام قال سمع فلان بن عتاهية يقول سمعت رسول الله يقول إذا لقيتم عاشرا فاقتلوه يعني بذلك الصدقة يأخذها على غير حقها حدثنا حجاج عن ابن جريج قال أخبرني عمرو بن دينار قال أخبرني مسلم بن سكرة أنه سأل ابن عمر أعلمت أن عمر أخذ من المسلمين العشر قال لا أعلمه حدثنا عبدالرحمن عن سفيان عن إبراهيم بن مهاجر قال سمعت زياد بن حدير يقول أنا أول عاشر عشر في الإسلام قلت من كنتم تعشرون قال ما كنا نعشر مسلما ولا معاهدا كنا نعشر نصارى بني تغلب حدثنا عبدالرحمن عن سفيان عن عبدالله بن خالد العبسي عن عبدالرحمن بن معقل قال سألت زياد بن حدير من كنتم تعشرون قال ما كنا نعشر مسلما ولا معاهدا قلت فمن كنتم تعشرون قال تجار الحرب كما كانوا يعشروننا إذا أتيناهم حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن مسروق أنه قال والله ما علمت عملا أخوف عندي أن يدخلني الله النار من عملكم هذا وما تراني أن أكون ظلمت فيه مسلما أو معاهدا دينارا ولا درهما ولكني لا أدري ما هذا الحبل الذي لم يسنه رسول الله ولا أبو بكر ولا عمر قالوا فما حملك على أن دخلت فيه قال لم يدعني زياد ولا شريح ولا السلطان حتى دخلت فيه قلت هو سلسلة كان يعترض بها على النهر تمنع السفن من المضي حتى تؤخذ منهم الصدقة وكان مكانها يسمى السلسلة وأقام بها مسروق زمانا يقصر الصلاة كان عاملا لزياد وكان أبو وائل معه فما رأيت أميرا قط كان أعف منه ما كان يصيب شيئا إلا ما دخله وقيل للشعبي كيف خرج مسروق من عمله قال ألم تروا إلى الثوب يبعث به إلي القصار فيجيد غسله فكذلك خرج من عمله قال أبو عبيد وكان المكس له أصل في الجاهلية يفعله ملوك العرب والعجم جميعا فكانت سنتهم أن يأخذوا من التجار عشر أموالهم إذا مروا بها عليهم يبين ذلك ما في كتب النبي لمن كتب من أهل الأمصار مثل ثقيف والبحرين ودومة الجندل وغيرهم ممن أسلم أنهم لا يحشرون ولا يعشرون فعلمنا بهذا أنه كان من سنة الجاهلية مع أحاديث فيه كثيرة فأبطل الله تعالى ذلك برسوله وبالإسلام وجاءت فريضة الزكاة بربع العشر من كل مئتي درهم خمسة فمن أخذها منهم على وجهها فليس بعاشر لأنه لم يأخذ العشر إنما أخذ ربعه وهو مفسر في الحديث الذي يحدثونه عن عطاء بن السائب عن حرب بن عبيدالله الثقفي عن جده أبي أمه أن رسول الله قال ليس على المسلمين عشور إنما العشور على اليهود والنصارى قلت وفي المسند وسنن أبي داود عن رجل من بني تغلب قال سمعت رسول الله يقول ليس على المسلمين عشور إنما العشور على اليهود والنصارى قال أبو عبيد فالعاشر الذي يأخذ الصدقة بغير حقها كما جاء في الحديث مرفوعا وقد تقدم وكذلك وجه حديث ابن عمر لم يأخذ العشور إنما أراد هذا ولم يرد الزكاة وكيف ينكر ذلك وقد كان عمر وغيره من الخلفاء يأخذونه عند الأعطية وكان رأي ابن عمر دفعها إليهم وكذلك حديث زياد بن حدير ما كنا نعشر مسلما ولا معاهدا إنما أراد أنا كنا نأخذ من المسلمين ربع العشر ومن أهل الذمة نصف العشر قال وكان مذهب عمر فيما وضع من ذلك أنه كان يأخذ من المسلمين الزكاة ومن أهل الحرب العشر تاما لأنهم كانوا يأخذون من تجار المسلمين مثله إذا قدموا بلادهم فكان سبيله في هذين الصنفين بينا واضحا قال وكان الذي يشكل علي وجهه أخذه من أهل الذمة فجعلت أقول ليسوا بمسلمين فتؤخذ منهم الصدقة ولا من أهل الحرب فيؤخذ منهم مثل ما أخذوا منا فلم أدر ما هو حتى تدبرت حديثا له فوجدته إنما صالح على ذلك صلحا سوى جزية الرؤوس وخراج الأرضين حدثنا الأنصاري عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي مجلز قال بعث عمر عمارا وابن مسعود وعثمان بن حنيف إلى الكوفة ثم ذكر حديثا فيه طول قال فمسح عثمان الأرض فوضع عليها الخراج وجعل في أموال أهل الذمة التي يختلفون بها من كل عشرين درهما درهم وجعل على رؤوسهم وعطل من ذلك النساء والصبيان أربعة وعشرين وكتب بذلك إلى عمر رضي الله عنه فأجازه قال أبو عبيد فأرى الأخذ من تجارهم في أصل الصلح فهو الآن حق المسلمين عليهم وكذلك كان مالك بن أنس يقول حدثنيه عنه يحيى بن بكير قال إنما صولحوا على أن يقروا ببلادهم فإذا مروا بها للتجارة أخذ منها كلما مروا حدثنا معاذ بن معاذ عن ابن عون عن أنس بن سيرين قال بعث إلي أنس بن مالك رضي الله عنه فأبطأت عليه ثم بعث إلي فأتيته فقال إن كنت لأرى أني لو أمرتك أن تعض على حجر كذا وكذا ابتغاء مرضاتي لفعلت اخترت لك غير عملي فكرهته إني أكتب لك سنة عمر رضي الله عنه قلت اكتب لي سنة عمر فكتب يؤخذ من المسلمين من كل أربعين درهما درهم ومن أهل الذمة من كل عشرين درهما درهم وممن لا ذمة له من كل عشرة دراهم درهم قلت ومن لا ذمة له قال الروم كانوا يقدمون الشام حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم بن مهاجر عن زياد بن حدير قال استعملني عمر على العشر وأمرني أن آخذ من تجار أهل الحرب العشر ومن تجار أهل الذمة نصف العشر ومن تجار المسلمين ربع العشر وقال مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد قال كنت عاملا على سوق المدينة في زمن عمر فكنا نأخذ من النبط العشر وقال مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبدالله بن عمر عن أبيه قال كان عمر يأخذ من النبط من الزيت والحنطة نصف العشر لكي يكثر الحمل إلى المدينة ويأخذ من القطنية العشر ولهذا ذهب مالك إليه اتباعا لعمر وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى عامله بمصر من مر بك من أهل الذمة فخذ مما يديرون في التجارات من أموالهم من كل عشرين دينارا دينارا وما نقص فبحساب ذلك حتى يبلغ عشرة دنانير فإن نقصت ثلث دينار فلا تأخذ منها شيئا واكتب لهم بما تأخذ كتابا إلى مثله من الحول وقال عبدالله بن محمد بن زياد بن حدير كنت مع جدي زياد بن حدير على العشور فمر نصراني بفرس فقوموه عشرين ألفا فقال إن شئت أعطيتنا العين وأخذت الفرس وإن شئت أعطيناك ثمانية عشر ألفا قال أبو عبيد وإنما فعل عمر في العشر ما فعل لمصالحته إياهم عليه ولم يكن ذلك بعهد النبي لأن الذين صالحهم لم يكن شرط عليهم منه شيئا وكذلك دهر أبي بكر وإنما فتحت بلاد العجم في زمن عمر فلذلك كان الذي كان قال الشعبي أول من وضع العشر في الإسلام عمر رضي الله عنه قال أبو عبيد وكان ابن شهاب يتأول على عمر فيه شيئا غيره أحب إلينا منه حدثنا إسحاق بن عيسى عن مالك بن أنس رحمه الله تعالى قال سألت ابن شهاب لم أخذ عمر العشر من أهل الذمة فقال كان يؤخذ منهم في الجاهلية فأقرهم عمر على ذلك قال أبو عبيد والوجه الأول الذي ذكرناه من الصلح أشبه بعمر وأولى به وبه كان يقول مالك بن أنس نفسه وقال الإمام أحمد حدثنا سفيان عن هشام عن أنس بن سيرين قال بعثني أنس بن مالك على العشور فقلت تبعثني إلى العشور من بين عمالك فقال أما ترضى أن أجعلك على ما جعلني عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمرني أن آخذ من المسلمين ربع العشر ومن أهل الذمة نصف العشر 64 – فصل هل يؤخذ العشور من الذمي والحربي إذا عرف بهذا فاختلف الأئمة في ذلك هل يؤخذ من الذمي والحربي أم يختص الأخذ بالحربي فقال الشافعي رحمه الله تعالىلا يؤخذ من الذمي شيء وإن اضطرب في بلاد الإسلام كلها غير الحجاز فإن الجزية أثبتت له الأمان العام على نفسه وأهله وماله في المقام والسفر فإن دخل إلى أرض الحجاز فينظر في حاله فإن كان دخوله لرسالة أو نقل ميرة أذن له الإمام بغير شيء وإن كان لتجارة لا حاجة بأهل الحجاز إليها لم يأذن له إلا أن يشترط عليه عوضا بحسب ما يراه والأولى أن يشترط عليه نصف العشر لأن عمر رضي الله عنه شرط نصف العشر على من دخل الحجاز من أهل الذمة وأما الحربي فإن دخل إلينا لتجارة لا يحتاج إليها المسلمون لم يأذن له الإمام إلا بعوض يشرطه ومهما شرط جاز ويستحب أن يشرط العشر ليوافق فعل عمر وإن أذن مطلقا من غير شرط لم يؤخذ منه شيء لأنه أمان من غير شرط فهو كالهدنة قال ويحتمل أن يجب عليه العشر لأن عمر رضي الله عنه أخذه هذا نصه وأما أصحابه فتصرفوا في مذهبه وقالوا أما المعاهد فإذا دخل بلاد الإسلام تاجرا أخذ منه عشر ماله وإن دخل بلاد الإسلام من غير تجارة بأن أمنه مسلم فإن دخل غير الحجاز لم يطالب بشيء وإن دخل الحجاز بأمان مسلم فهل يطالب وإن لم يكن تاجرا فيه وجهان لأصحاب الشافعي قالوا وهل يفتقر أخذ العشر إلى شرط الإمام أو يكفي فيه شرط عمر بن الخطاب رضي الله عنه على وجهين قالوا وإذا رأى الإمام أن يحط من العشر في صنف تدعو الحاجة إليه جاز وإن رأى حط العشر بالكلية لتتسع المكاسب فهل له ذلك على وجهين أحدهما يجوز مراعاة للمصلحة والثاني وهو الأصح لا يجوز بل لا بد من أخذ شيء وإن قل وهل له أن يزيد على العشر إذا رأى فيه المصلحة فيه وجهان قالوا وإذا أخذ منه العشر في مال ثم عاد به في تلك السنة لم يكرر عليه الأخذ لأن ذلك بمثابة الجزية على رقبته فإن وافاه بمال آخر غيره في ذلك العام أخذنا عشره قالوا فإن كان المال المتردد به إلى الحجاز فهل يؤخذ منه كرة ثانية في العام فيه وجهان فهذا تحصيل مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه وأما مذهب الإمام مالك رضي الله عنه فيؤخذ العشر عنده من بضائع تجار الحرب وأما الذمي فإن اتجر في بلده لم يطالب بشيء وإن اضطرب في بلاد الإسلام أخذ منه العشر كلما دخل ولو مرارا في السنة من المال الصامت والرقيق والطعام والفاكهة وغيرها مما يتجر فيه ثم اختلف قول ابن القاسم وقول عبدالملك بن حبيب في المأخوذ هل هو عشر ما يدخل به وهو رأي ابن حبيب أو عشر ما يعوضه وهو رأي ابن القاسم قالوا وسبب الاختلاف هل المأخوذ منهم لحق الوصول إلى البلد الثاني أو لحق الانتفاع فيه قالوا ويتخرج على هذا فرعان أحدهما لو دخلوا ببضاعة أو عين ثم أرادوا الرجوع قبل أن يبيعوا ويشتروا فابن حبيب يوجب عليهم العشر كالحربيين وابن القاسم لا يوجبه لأنهم لم ينتفعوا فيه الفرع الثاني لو دخلوا بإماء فابن حبيب يمنعهم من وطئهن واستخدامهن ويحول بينهم وبينهن إذ لا يرى الشركة ولو باعوا في بلد ثم اشتروا فيه لم يؤخذ منهم إلا عشر واحد ولو باعوا في أفق ثم اشتروا بالثمن في أفق آخر أخذ منهم عشران قالوا ويخفف عن أهل الذمة فيما حملوه إلى مكة والمدينة من الزيت والحنطة خاصة فيؤخذ منهم نصف العشر هذا المشهور عن مالك وروى ابن نافع عنه أنه يؤخذ منهم العشر كاملا كما لو حملوا ذلك إلى غيرهما أو حملوا غيرهما إليهما وإذا دخل الحربي بأمان مطلق أخذ منه العشر لا يزاد عليه وتجوز مشارطته على أكثر من ذلك عند عقد الأمان على الدخول ولو اتجر بالخمر والخنزير وما يحرم علينا فروى ابن نافع عن مالك يتركونه حتى يبيعوه فيؤخذ منهم عشر الثمن فإن خيف من خيانتهم في ذلك جعل معهم أمين قال ابن نافع وذلك إذا جلبوه إلى أهل الذمة لا إلى أمصار المسلمين التي لا ذمة فيها وفي الواضحة لعبدالملك بن حبيب إذا نزل الحربي بخمر أو خنزير أراق الإمام الخمر وقتل الخنزير ولم ينزلهم مع بقائهما قال سحنون وإذا اشترى الذمي فأخذ منه العشر ثم استحق ما بيده أو رده بعيب رجع بالعشر قال أشهب ولو ثبت أن على الذمي دينا لمسلم لم يؤخذ منه عشر وإن ادعاه لم يصدق بمجرد قوله ولا يسقط بثبوته لذمي هذا تفصيل مذهب مالك رحمه الله تعالى 65 – فصل وأما تفصيل مذهب أحمد فقال الميموني قلت لأبي عبدالله من أين أخذوا من أموال أهل الذمة إذا اتجروا فيها الضعف على أي سنة هو قال لا أدري إلا أنه فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم قال تؤخذ منا زكاتنا ربع العشر وتضعف عليهم فتؤخذ منهم نصف العشر قال الميموني وقرأت على أبي عبدالله وإن اتجروا يعني أهل الذمة بأموالهم بين أظهرنا هل لنا فيها شيء فأملى علي ليس فيها شيء وإنما يؤخذ منهم إذا مروا بتجارتهم علينا قال صالح بن أحمد قلت لأبي تجب على اليهودي والنصراني الزكاة في أموالهم قال لا تجب عليهم ولكن إذا مروا بالعاشر فإن كانوا من أهل الذمة أخذ منهم نصف العشر من كل عشرين دينارا دينار يعني فإذا نقصت من العشرين فليس عليهم فيها شيء ولا تؤخذ منهم إلا مرة واحدة ومن المسلم من كل أربعين دينارا دينار قال الميموني وقرأت على أبي عبدالله وما عليهم يعني أهل الذمة في أموالهم التي يتجرون فيها إذا مروا بها علينا فأملى علي في السنة مرة كذا يروي إبراهيم النخعي عن عمر لا يأخذ في السنة إلا مرة قال حنبل سمعت أبا عبدالله يقول أهل الذمة إذا تجروا من بلد إلى بلد أخذ منهم الجزية ونصف العشر فإذا كانوا في المدينة لم يؤخذ منهم إلا الجزية وعلى المسلمين ربع العشر من كل أربعين درهما درهم وقال أبو الحارث كتبت إلى أبي عبدالله أسأله عن النصراني واليهودي إذا مرا على العاشر كم يأخذ منهما قال يؤخذ منهما نصف العشر من كل عشرين دينارا دينار قلت فإن كان مع الذمي عشرة دنانير قال يؤخذ منه نصف دينار قلت فإن كان أقل من عشرة دنانير قال إذا نقصت لا يؤخذ منه شيء قال أبو الحارث وقلت لأبي عبدالله إذا مر أهل الذمة بالعاشر مرتين يؤخذ منهم العشر كلما مروا قال لا يؤخذ منهم في السنة إلا مرة واحدة وإن مروا بالعاشر مرارا قلت فما أخذ من أهل الذمة فهي زكاة أموالهم قال ليس على أهل الذمة زكاة ولكن إذا مروا بالعاشر عشرهم في السنة مرة واحدة وقال سندي قال أبو عبدالله في الذمي يمر بالعاشر يأخذ منه نصف العشر فقيل في كم يؤخذ منه قال إذا كان معه نصف ما يجب على المسلمين فيه قال ولا يؤخذ منهم في السنة إلا مرة هكذا هو في الحديث وقال الميموني قال أبو عبدالله يؤخذ من أموال أهل الذمة إذا اتجروا فيها قومت عليهم ثم أخذ منهم زكاتها مرتين يضعف عليهم لقول عمر رضي الله عنه أضعفها عليهم فمن الناس من شبه الزرع بهذا وقال إسحاق بن منصور قلت لأبي عبدالله قول ابن عباس رضي الله عنهما في أموال أهل الذمة العفو فقال عمر رضي الله عنه جعل عليهم ما بلغك كأنه لم ير ما قال ابن عباس وروى الإمام أحمد بإسناده قال جاء شيخ نصراني إلى عمر رضي الله عنه فقال إن عاملك عشرني في السنة مرتين فقال ومن أنت قال هو الشيخ النصراني قال عمر رضي الله عنه أنا الشيخ الحنيفي ثم كتب إلى عامله أن لا تعشروا في السنة إلا مرة وأن الجزية والزكاة إنما تؤخذ في العام مرة 66 – فصل ومتى أخذ منهم مرة كتب لهم حجة بأدائهم لتكون وثيقة لهم وحجة على من يمرون به فلا يعشرهم يعشرهم مرة ثانية وإن مر ثانية بأكثر من المال الذي أخذ منه أخذ من الزيادة وحدها لأنها لم تعشر ولا يؤخذ منهم من غير مال التجارة شيء فلو مر بالعاشر منهم منتقل ومعه أموال أو سائمة لم يؤخذ منه شيء نص عليه أحمد وإن كانت ماشيته للتجارة أخذ منه نصف عشرها واختلفت الرواية في القدر الذي يؤخذ منه نصف العشر فروى عنه صالح من كل عشرين دينارا دينار يعني فإذا نقص من العشرين فليس عليه شيء لأن ما دون النصاب لا يجب فيه زكاة على المسلم ولا على التغلبي فلا يجب فيه شيء على الذمي كما فيما دون العشرة وروي عنه أن في العشرة نصف مثقال وليس فيما دونها شيء كما تقدم لفظه في رواية أبي الحارث لأن العشرة مال يبلغ واجبه نصف دينار فوجب فيه كالعشرين في حق المسلم ولأنه مال يتعشر فوجب في العشرة منه كمال الحربي هذا مذهبه المنصوص عنه وخالف ابن حامد نصه فقال يؤخذ عشر الحربي ونصف عشر الذمي مما قل أو كثر قال ابن عمر قال عمر خذ من كل عشرين درهما درهم ولأنه حق عليه واجب في قليل المال وكثيره كنصيب المالك في أرضه التي عامله عليها وهذا ضعيف جدا والمراد بقول عمر بيان القدر المأخوذ منه في كل قليل وكثير كقول النبي في الرقة ربع العشر وقوله فيما سقت السماء العشر 67 – فصل هل تؤخذ العشور المضروبة على الذمي من الخمر والخنزير واختلفت الرواية عن أحمد في الذمي يمر على العاشر بخمر أو خنزير فقال في موضع قال عمر ولوهم بيعها لا يكون إلا على الآخذ منها يعني من ثمنها وقد ذكرنا نصه في الجزية وقول عمر ووافقه على ذلك مسروق والنخعي ومالك وأبو حنيفة ومحمد في الخمر خاصة وذكر القاضي أن أحمد نص على أنه لا يؤخذ منها شيء وقد ذكرنا ذلك وأن المسألة رواية واحدة وأن أحمد إنما منع الأخذ من أعيانها لا من أثمانها وهو الذي قال فيه عمر بن عبدالعزيز الخمر لا يعشرها مسلم وهو الذي أنكره عمر بن الخطاب على عتبة بن فرقد حين بعث إليه بأربعين ألف درهم صدقة الخمر فكتب إليه عمر بعثت إلي بصدقة الخمر وأنت أحق بها من المهاجرين والله لا استعملتك على شيء بعدها فنزعه قال أبو عبيد ومعنى قول عمر ولوهم بيعها وخذوا أنتم من الثمن إن المسلمين كانوا يأخذون من أهل الذمة الخمر والخنازير من جزيتهم وخراج أرضهم بقيمتها ثم يتولى المسلمون بيعها فأنكره عمر ثم رخص لهم أن يأخذوا من أثمانها إذا كان أهل الذمة هم المتولين بيعها لأن الخمر والخنازير مال من أموال أهل الذمة ولا تكون مالا للمسلمين وذكر حديث سويد بن غفلة أن بلالا قال لعمر إن عمالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج فقال لا تأخذوها منهم ولكن ولوهم بيعها وخذوا أنتم من الثمن قال أصحابنا ويجوز أخذ ثمن الخمر والخنزير منهم عن جزية رؤوسهم وخراج أرضهم احتجاجا بقول عمر هذا ولأنها من أموالهم التي نقرهم على اقتنائها والتصرف فيها فجاز أخذ أثمانها منهم كأثمان ثيابهم قلت ولو بذلوها في ثمن مبيع أو إجارة أو قرض أو ضمان أو بدل متلف جاز للمسلم أخذها وطابت له قالوا وإذا مر الذمي بالعاشر وعليه دين بقدر ما معه أو ينقص عن النصاب فظاهر كلام أحمد أن ذلك يمنع أخذ نصف العشر منه لأنه حق يعيد له مال النصاب والحول فيمنعه الدين كالزكاة ولا يقبل قوله إلا ببينة من المسلمين وإن مر بجارية فادعى أنها ابنته أو أخته ففيه روايتان إحداهما يقبل قوله لأن الأصل عدم ملكه فيها والثانية لا يقبل إلا ببينة لأنها في يده فأشبهت بهيمته قال أبو الحارث كتبت إلى أبي عبدالله وسألته فقلت نصراني مر بعشار ومعه جارية فقال ابنتي أو أهلي قال يصدقه ولا يصدقه في أن يقول علي دين وقال يعقوب بن بختان قال أبو عبدالله في الذمي يمر بالعشار فيقول علي دين قال لا يقبل منه قيل فإن كان معه جارية فقال هي أهلي أو أختي قال هو واحد قال الخلال أشبه القولين لأبي عبدالله ما قال أبو الحارث يصدقه في الجارية ولا يصدقه في الدين وعلى هذا العمل من قوله قلت والفرق بينهما أن الأصل عدم الدين والأصل عدم الملك في الجارية وبالله التوفيق 68 – فصل الحربي المعاهد هل عليه العشر فهذا مذهبه في الذمي وأما الحربي المعاهد فإنه يؤخذ منه العشر قال حنبل سمعت أبا عبدالله يقول من كان من أهل الحرب فعليهم العشر ومن كان من أهل العهد فعليهم نصف العشر في السنة مرة واحدة ومراده بأهل العهد أهل الذمة وقال الميموني سألت أبا عبدالله فأملى علي على أهل الحرب العشر كما في حديث أنس بن مالك عن عمر وقال صالح قال أبي أهل الحرب إذا مروا بالعشار أخذ منهم العشر من العشرة واحد وفي موضع آخر قال قلت لأبي كم يؤخذ من أهل الحرب قال العشر من كل عشرة دنانير دينار قلت حديث عمر كم يأخذون منكم إذا قدمتم حدثنا محمد بن جعفر حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس أن عمر بعثه أميرا أو مصدقا وأمره أن يأخذ من المسلمين من كل أربعين درهما درهم ومن أهل الذمة من كل عشرين درهما درهم ومن أهل الحرب من كل عشرة واحدا 69 – فصل ويؤخذ منهم العشر في جميع أموال التجارة وقال القاضي إذا دخلوا بميرة بالناس إليها حاجة أذن لهم في الدخول بغير عشر ليكثر على المسلمين وهذا مذهب الشافعي ومنصوص أحمد وعمر بخلافه وقد روى مالك عن الزهري عن سالم عن أبيه عن عمر أنه كان يأخذ من النبط من القطنية العشر ومن الحنطة والزيت نصف العشر ليكثر الحمل إلى المدينة ولكن إذا رأى الإمام التخفيف عنهم رعاية لهذه المصلحة أو الترك بالكلية فله ذلك وهذا عارض لا أنه يترك تعشير الميرة بالكلية 70 – فصل ويؤخذ العشر من كل تاجر صغيرا كان أو كبيرا ذكرا أو أنثى وقال القاضي ليس على المرأة عشر سواء كانت حربية أو ذمية لكن إن دخلت الحجاز عشرت لأنها ممنوعة من الإقامة به وهذا التفصيل لا يوجد في شيء من نصوص أحمد البتة ولا تقتضيه أصوله لأنه يأخذ الصدقة من نساء بني تغلب وصبيانهم والأحاديث في هذا الباب عن الصحابة ليس فيها تفريق بين ذكر وأنثى ولا بين صغير وكبير وليس هذا بجزية وإنما هو حق يختص بمال التجارة لتوسعه في دار الإسلام وانتفاعه بالتجارة فيها فيستوي فيه الرجل والمرأة كالزكاة 71 – فصل ولا يعشرون في السنة إلا مرة واحدة ولا يؤخذ من أقل من عشرة دنانير نص عليهما أحمد وحكي عن أبي عبدالله بن حامد نأخذ من الحربي كلما دخل إلينا من قليل المال أو كثيره وهذا قول بعض الشافعية وهو مخالف لنص عمر ونص أحمد كما تقدم 72 – فصل عشر الأموال لا يؤخذ إلا من مال التجارة وإن جاء الحربي منتقلا إلينا بأهله وماله لم نأخذ منه شيئا إلا من تجارة معه نص على ذلك أحمد 73 – فصل ويؤخذ منهم العشر سواء أخذوه منا إذا دخلنا إليهم أو لم يأخذوه في ظاهر المذهب وعن أحمد رواية أخرى أنهم إن كانوا يأخذون منا إذا دخلنا أخذنا منهم وإلا فلا 74 – فصل وأما تفصيل مذهب أبي حنيفة وأهل العراق رحمهم الله تعالى فقال أبو حنيفة لا نأخذ منهم شيئا إلا أن يكونوا يأخذون منا فنأخذ منهم ذلك على وجه القصاص وحجة هذا القول حديث أبي مجلز أنه قال قيل لعمر كيف نأخذ من أهل الحرب إذا قدموا علينا قال كيف يأخذون منكم إذا دخلتم إليهم قالوا العشر قال فكذلك خذوا منهم وقال زياد بن حدير كنا لا نعشر مسلما ولا معاهدا قيل من كنتم تعشرون قال كفار أهل الحرب نأخذ منهم كما يأخذون منا وقال غيره من أهل العراق ولا يؤخذ منهم شيء حتى يبلغ مئتي درهم قالوا فإن قال علي دين أو ليس هذا المال لي وحلف عليه صدق على ذلك ولم يؤخذ منه شيء قالوا وإنما يؤخذ منه الصامت والمتاع والرقيق وما أشبهه من الأموال التي تبقى في أيدي الناس فإذا مر بالفواكه وأشباهها التي لا بقاء لها فإنه لا يؤخذ فيها منه شيء قالوا ولا يؤخذ منه في المال الواحد أكثر من مرة واحدة في السنة وإن مر به مرارا وكان سفيان الثوري يقول لا يؤخذ منه شيء حتى يبلغ مئة درهم فإذا بلغ مئة درهم أخذ منه نصف العشر فيه وبمقدار النصاب وبقدر الواجب قال أبو عبيد بعد أن حكى بعض هذه الأقوال وكل هذه الأقوال لها وجوه فأما الذين قالوا من أهل العراق إنه لا يؤخذ من الذمي شيء حتى يبلغ ماله مئتي درهم فإنهم شبهوه بالصدقة ذهبوا إلى أن عمر رضي الله عنه حين سمى ما يجب في أموال الناس التي تدار للتجارات إنما قال يؤخذ من المسلمين كذا ومن أهل الذمة كذا ومن أهل الحرب كذا ولم يوقت في أدنى مبلغ المال وقتا ثم قالوا رأيناه قد ضم أموال أهل الذمة إلى أموال المسلمين في حق واحد فحملنا وقت أموالهم على الزكاة إذ كان لأداء الزكاة حد محدود وهو المئتان فأخذنا أهل الذمة بها وألقينا ما دون ذلك وأما مالك وأهل الحجاز فقالوا الذي يؤخذ من أهل الذمة ليس بزكاة فينظر فيه إلى مبلغها وإلى حدها إنما هو فيء بمنزلة الجزية التي تؤخذ من رؤوسهم ألا ترى أنها تجب على الغني والفقير على قدر طاقتهم من غير أن يكون لأداء ما يملك أحدهم وقت يوقت وعلى ذلك صولحوا قالوا فكذلك ما مروا به من التجارات يؤخذ من قليلها وكثيرها وأما سفيان في توقيته بالمئة فإنه لما رأى أن الموظف على أهل الذمة هو الضعف مما على المسلمين في كل مئتين عشرة جعل فرع المال على حسب أصله فأوجب عليهم في المئة خمسة كما يجب عليهم في المئتين عشرة ليوافق الحكم بعضه بعضا وأسقط ما دون المئة كما عفي للمسلمين عما دون المئتين فصارت المئة للذمي كالمئتين للمسلمين فهذا رأيه في أهل الذمة ولست أدري ما وقت في أهل الحرب غير أنه ينبغي أن يكون في قوله إذ مر أحدكم بخمسين درهما وجب عليه فيها العشر قال أبو عبيد وقول سفيان هو عندي أعدل هذه الأقوال وأشبهها بالذي أراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى قد فسر ذلك في كتابه إلى زريق بن حيان الذي ذكرناه أنه كتب إليه من مر بك من أهل الذمة فخذ مما يديرون في التجارات من كل عشرين دينارا دينارا فما نقص فبحساب ذلك حتى يبلغ عشرة دنانير فإن نقصت ثلث دينار فلا تأخذ منه شيئا قال أبو عبيد فعشرة دنانير إنما هي معدولة بمئة درهم في الزكاة وهي عندنا تأويل حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع تفسير عمر بن عبدالعزيز ولا يوجد في هذا مفسر هو أعلم منه وهو قول سفيان قال فهذا ما جاء في توقيت أداء ما تجب فيه الحقوق من أموال أهل الذمة والحرب وأما قولهم في الذمي إذا ادعى أن عليه دينا واختيار سفيان وأهل العراق أن يقبل منه وقول مالك وأهل الحجاز إنه لا يقبل منه وإن أقام البينة على دعواه فإن الذي أختار من ذلك قول بين القولين فأقول إن كان له شهود من المسلمين على دينه قبل ذلك منه ولم يكن على ماله سبيل لأن الدين حق قد وجب لربه عليه وهو أولى به من الجزية لأنها وإن كانت حقا للمسلمين في عنقه فإنه ليس يحصي أهل هذا الحق فيقدر على قسم مال الذمي بينهم وبين هذا الغريم بالحصص ولا يعلم كم يؤخذ منه وقد علم حق هذا الغريم فلهذا جعلناه أولى بالدين من غيره وإن لم يعلم دين هذا الذمي إلا بقوله كان مردودا غير مقبول منه لأنه حق قد لزمه للمسلمين فهو يريد إبطاله بالدعوى وليس بمؤتمن في ذلك كما يؤتمن المسلمون على زكواتهم في الصامت إنما هذا فيء وحكمه غير حكم الصدقة وأما اختلافهم في ممره على العاشر مرارا في السنة وقول أهل العراق وسفيان فيه إنه لا يؤخذ منه إلا مرة واحدة وقول مالك وأهل الحجاز إنه يؤخذ منه كلما مر وإن كان ذلك في السنة مرارا إذا كان اختلافه من مصر إلى آخر سواه فإن الرواية في هذا للإمامين عمر بن الخطاب وعمر بن عبدالعزيز فقد كفينا النظر فيه حدثنا محمد بن كثير عن حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن زياد بن حدير أن أباه كان يأخذ من نصراني في كل سنة مرتين فأتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين إن عاملك يأخذ مني العشر في السنة مرتين فقال عمر رضي الله عنه ليس ذلك له إنما له في كل سنة مرة ثم أتاه فقال هو الشيخ النصراني فقال عمر رضي الله عنه وأنا الشيخ الحنيف قد كتبت لك في حاجتك حدثنا يزيد عن جرير بن حازم قال قرأت كتاب عمر بن عبدالعزيز إلى عدي بن أرطأة أن تأخذ العشور ثم تكتب بما تأخذ منهم البراءة فلا تأخذ منهم من ذلك المال ولا من ربحه زكاة سنة واحدة وتأخذ من غير ذلك المال إن مر به قال أبو عبيد فحديث عمر هذا هو عدل بين قول أهل الحجاز وقول أهل العراق أنه إن كان المال التالي هو الذي مر به بعينه في المرة الأولى لم يؤخذ منه تلك السنة ولا من ربحه أكثر من مرة لأن الحق الذي قد لزمه فيه قد قضاه فلا يقضى حق واحد من مال واحد مرتين وإن مر بمال سواه أخذ منه وإن جدد ذلك في كل عام مرارا إذ كان قد عاد إلى بلاده ثم أقبل بمال سوى المال الأول لأن المال الأول لا يجزئ عن الآخر ولا يكون في هذا أحسن حالا من المسلم ألا ترى أنه لو مر بمال لم يؤد زكاته أخذت منه الصدقة ثم إن مر بمال آخر في عامه ذلك لم يكن أخذت منه الزكاة أنها تؤخذ منه من ماله هذا أيضا لأن الصدقة لا تكون قاضية عن المال الآخر فهذا قدر ما في أهل الذمة فأما أهل الحرب فكلهم يقول إذا انصرف إلى بلاده ثم عاد بماله ذلك أو مال سواه إن عليه العشر كلما مر به لأنه إذا دخل دار الحرب بطلت عنه أحكام المسلمين فإذا عاد إلى دار الإسلام كان مستأنفا للحكم كالذي لم يدخلها قط لا فرق بينهما وكلهم يقول لا يصدق الحربي في شيء مما يدعي من دين عليه أو قوله إن هذا المال ليس لي ولكن يؤخذ منه على كل حال إلا أن أهل العراق يقولون يصدق الحربي في خصلة واحدة إذا مر بجوار فقال هؤلاء أمهات أولادي قبل منه ولم يؤخذ منه عشر قيمتهن قلت فقد حكى أبو عبيد الإتفاق على أن الحربي يعشر كلما دخل إلينا وفرق بينه وبين الذمي والذي نص عليه الإمام أحمد والشافعي أنه لا يؤخذ منه في السنة إلا مرة وبعض أصحاب أحمد والشافعي قال يؤخذ منه كلما دخل إلينا وقد تقدم نص أحمد في رواية حنبل وابنه صالح أنه لا يؤخذ منهم في السنة إلا مرة واحتج بحديث عمر وأعدل الأقوال في ذلك قول عمر بن عبدالعزيز وهو الذي اختاره أبو عبيد فإن المال الثاني له حكم نفسه لا يتعلق به حكم المال الأول كما لو أخذت الزكاة من مسلم لم ينسحب حكمها على ما لم يؤخذ من سائر أمواله ولا يؤخذ منه في السنة مرارا فهكذا مال المعاهد والله أعلم 75 – فصل في الأمكنة التي يمنع أهل الذمة من دخولها والإقامة بها قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء والله عليم حكيم وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال بينما نحن في المسجد خرج علينا النبي فقال انطلقوا إلى يهود فخرجنا معه حتى جئنا بيت المدراس فقام النبي فناداهم فقال يا معشر اليهود أسلموا تسلموا فقالوا قد بلغت يا أبا القاسم فقال ذلك أريد فقال أسلموا تسلموا فقالوا قد بلغت يا أبا القاسم فقال لهم رسول الله ذلك أريد ثم قالها الثالثة فقال اعلموا أنما الأرض لله ورسوله وإني أريد أن أجليكم من هذه الأرض فمن وجد منكم بماله شيئا فليبعه وإلا فاعلموا أنما الأرض لله ورسوله متفق عليه ولفظه للبخاري وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال يوم الخميس وما يوم الخميس قال اشتد برسول الله وجعه فقال ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا لا تضلون بعده أبدا فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا ماله أهجر استفهموه فقال ذروني الذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه فأمرهم بثلاث فقال أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو مما كنت أجيزهم والثالثة إما سكت عنها وإما قالها فنسيتها متفق عليه ولفظه للبخاري وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله فأجلى رسول الله بني النضير وأقر قريظة بعد ذلك فقتل رجالهم وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين إلا بعضهم لحقوا برسول الله فأسلموا فأمنهم وأجلى رسول الله يهود المدينة كلهم بني قينقاع وهم قوم عبدالله بن سلام ويهود بني حارثة وكل يهودي كان بالمدينة متفق عليه واللفظ لمسلم وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلما رواه مسلم وعن عائشة رضي الله عنها قالت آخر ما عهد رسول الله لا يترك بجزيرة العرب دينان رواه أحمد وفي مسنده أيضا عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله يا علي إن أنت وليت الأمر بعدي فأخرج أهل نجران من جزيرة العرب وفي المسند أيضا عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال آخر ما تكلم به رسول الله يقول أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب قال بكر بن محمد عن أبيه سألت أبا عبدالله عن قول النبي أخرجوا المشركين من جزيرة العرب قال إنما الجزيرة موضع العرب وأما موضع يكون فيه أهل السواد والفرس فليس هو جزيرة العرب موضع العرب الذي يكونون فيه وقال المروذي سئل أبو عبدالله عن قول النبي أخرجوا المشركين من جزيرة العرب قال هم الذين قاتلوا النبي ليست لهم ذمة ليس هم مثل اليهود والنصارى أي يخرجون من مكة والمدينة دون الشام يريد أن اليهود والنصارى يخرجون من مكة والمدينة قال إسحاق بن منصور قال أحمد ليس لليهود والنصارى أن يدخلوا الحرم حد جزيرة العرب وقال عبدالله بن حنبل حدثني أبي قال قال عمي جزيرة العرب يعني المدينة وما والاها لأن النبي أجلى يهود فليس لهم أن يقيموا بها وقال عبدالله بن أحمد سمعت أبي يقول حديث النبي لا يبقى دينان بجزيرة العرب تفسيره ما لم يكن في يد فارس والروم وقال الأصمعي كل ما كان دون أطراف الشام وقال إبراهيم بن هانئ سئل أبو عبدالله عن جزيرة العرب فقال ما لم يكن في يد فارس والروم قيل له ما كان خلف العرب قال نعم وفي المغني جزيرة العرب ما بين الوادي إلى أقصى اليمن قاله سعيد بن عبدالعزيز وقال الأصمعي وأبو عبيد هي من ريف العراق إلى عدن طولا ومن تهامة وما وراءها إلى أطراف الشام عرضا وقال أبو عبيدة هي من حفر أبي موسى إلى اليمن طولا ومن رمل يبرين إلى منقطع السماوة عرضا قال الخليل إنما قيل لها جزيرة العرب لأن بحر الحبش وبحر فارس والفرات قد أحاطت بها ونسبت إلى العرب لأنها أرضها ومسكنها ومعدنها وقول الإمام أحمد جزيرة العرب المدينة وما والاها يريد مكة واليمامة وخيبر والينبع وفدك ومخاليفها وما والاها وهذا قول الشافعي لأنهم لم يعجلوا من تيماء ولا من اليمن قلت وهذا يرد قول سعيد بن عبدالعزيز إنها ما بين الوادي إلى أقصى اليمن إلا أن يريد أوله وحديث أبي عبيدة صريح في أن أرض نجران من جزيرة العرب فإنه قال أخرجوا أهل نجران ويهود أهل الحجاز من جزيرة العرب وكذا قوله لعلي رضي الله عنه أخرج أهل نجران من جزيرة العرب قال أبو عبيد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد قال جاء أهل نجران إلى علي رضي الله عنه فقالوا شفاعتك بلسانك وكتابك بيدك أخرجنا عمر من أرضنا فردها إلينا صنيعة فقال ويلكم إن عمر كان رشيد الأمر ولا أغير شيئا صنعه عمر قال أبو معاوية قال الأعمش فكانوا يقولون لو كان في نفسه عليه شيء لاغتنم هذا قلت وهذا يدل على أن حديث علي رضي الله عنه الذي ذكرناه قبل غير محفوظ فإنه لو كان عنده عن النبي أمره بإخراج أهل نجران من جزيرة العرب لم يعتذر بأن عمر قد فعل ذلك وكان رشيد الأمر أو لعله نسي الحديث أو أحال على عمر رضي الله عنه قطعا لمنازعتهم وطلبهم فإن قيل فأهل نجران كان النبي قد صالحهم وكتب لهم كتاب أمن على أرضهم وأنفسهم وأموالهم فكيف استجاز عمر رضي الله عنه إخراجهم قيل قد قال أبو عبيد إنما نرى عمر قد استجاز إخراج أهل نجران وهم أهل صلح لحديث يروى عن النبي فيهم خاصة يحدثونه عن إبراهيم بن ميمون مولى آل سمرة عن ابن سمرة عن أبيه عن أبي عبيدة بن الجراح عن النبي أنه كان آخر ما تكلم به أن قال أخرجوا اليهود من الحجاز وأخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب فإن قيل زدتم الأمر إشكالا فكيف أمر بإخراجهم وقد عقد معهم الصلح قيل الصلح كان معهم بشروط فلم يفوا بها فأمر بإخراجهم قال أبو عبيد وإنما نراه قال ذلك لنكث كان منهم أو لأمر أحدثوه بعد الصلح قال وذلك بين في كتاب كتبه عمر رضي الله عنه إليهم قبل إجلائه إياهم منها حدثنا ابن أبي زائدة عن ابن عون قال قال لي محمد بن سيرين انظر كتابا قرأته عند فلان بن جبير فكلم فيه زياد بن جبير قال فكلمته فأعطاني فإذا في الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم من عمر أمير المؤمنين إلى أهل رعاش كلهم سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإنكم زعمتم أنكم مسلمون ثم ارتددتم بعد وإنه من يتب منكم ويصلح لا يضره ارتداده ونصاحبه صحبة حسنة فادكروا ولا تهلكوا وليبشر من أسلم منكم فإن أبى إلا النصرانية فإن ذمتي بريئة ممن وجدناه بعد عشر تبقى من شهر الصوم من النصارى بنجران أما بعد فإن يعلى كتب يعتذر أن يكون أكره أحدا منكم على الإسلام أو عذبه عليه إلا أن يكون قسرا جبرا ووعيدا لم ينفذ إليه منه شيء أما بعد فقد أمرت يعلى أن يأخذ منكم نصف ما عملتم من الأرض وإني لن أريد نزعها منكم ما أصلحتم وقال الشيخ في المغني فأما إخراج أهل نجران منها فلأن النبي صالحهم على ترك الربا فنقضوا عهده فإن قيل فرسول الله قد أقر أهل خيبر بها إلى أن قبضه الله وهي من جزيرة العرب وأصرح من هذا أنه مات ودرعه مرهونة عند يهودي بالمدينة على ثلاثين صاعا من شعير أخذه لأهله قيل أما إقرار أهل خيبر فإنه لم يقرهم إقرارا لازما بل قال نقركم ما شئنا وهذا صريح في أنه يجوز للإمام أن يجعل عقد الصلح جائزا من جهته متى شاء نقضه بعد أن ينبذ إليهم على سواء فلما أحدثوا ونكثوا أجلاهم عمر رضي الله عنه فروى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه لما فدع أهل خيبر عبدالله ابن عمر قام عمر خطيبا فقال إن رسول الله كان عامل يهود خيبر على أموالهم وقال نقركم ما أقركم الله تعالى وإن عبدالله بن عمر خرج إلى ماله هناك فعدي عليه من الليل ففدعت يداه ورجلاه وليس لنا هناك عدو غيرهم هم عدونا وتهمتنا وقد رأيت إجلاءهم فلما أجمع عمر رضي الله عنه على ذلك أتاه أحد بني أبي الحقيق فقال يا أمير المؤمنين أتخرجنا وقد أقرنا محمد وعاملنا على الأموال وشرط ذلك لنا فقال عمر رضي الله عنه أظننت أني نسيت قول رسول الله كيف بك إذا خرجت من خيبر تعدو بك قلوصك ليلة بعد ليلة فقال كانت هذه هزيلة من أبي القاسم فقال كذبت يا عدو الله قال فأجلاهم عمر رضي الله عنه وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر مالا وإبلا وعروضا من أقتاب وحبال وغير ذلك وفي صحيحه أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال أتى رسول الله أهل خيبر فقاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم وغلبهم على الأرض والزرع والنخل فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم ولرسول الله الصفراء والبيضاء والحلقة وهي السلاح ويخرجون منها واشترط عليهم ألا يكتموا ولا يغيبوا شيئا فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير فقال رسول الله لعم حيي واسمه سعية ما فعل مسك حيي الذي جاؤوا به من النضير ؟ قال أذهبته النفقات والحروب فقال العهد قريب والمال أكثر من ذلك وقد كان حيي قتل قبل ذلك فدفع رسول الله سعية إلى الزبير فمسه بعذاب فقال قد رأيت حييا يطوف في خربة ها هنا فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة فقتل رسول الله ابني أبي الحقيق وأحدهما زوج صفية بنت حيي بن أخطب وسبى رسول الله وذراريهم وقسم أموالهم بالنكث الذي نكثوا وأراد أن يجليهم منها فقالوا يا محمد دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها ولم يكن لرسول الله ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها ولا يفرغون أن يقوموا فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع وتمر ما بدا لرسول الله وكان عبيدالله بن رواحة يأتيهم في كل عام يخرصها عليهم ثم يضمنهم الشطر فشكوا إلى رسول الله شدة خرصه وأرادوا أن يرشوه فقال عبدالله أتطعمونني السحت ؟ والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي ولأنتم أبغض الناس إلي من عدلكم من القردة والخنازير ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على ألا أعدل عليكم فقالوا بهذا قامت السموات والأرض فكان رسول الله يعطي كل امرأة من نسائه ثمانين وسقا من تمر كل عام وعشرين وسقا من شعير فلما كان زمان عمر رضي الله عنه غشوا المسلمين وألقوا ابن عمر من فوق بيت ففدعوا يديه فقال عمر من كان له سهم بخيبر فليحضر حتى نقسمها بينهم فقسمها عمر رضي الله عنه بينهم فقال رئيسهم لا تخرجنا دعنا نكون فيها كما أقرنا رسول الله وأبو بكر فقال عمر رضي الله عنه لرئيسهم أتراه سقط علي قول رسول الله كيف بك إذا رقصت بك راحلتك نحو الشام يوما ثم يوما ثم يوما وقسمها عمر رضي الله عنه بين من كان شهد خيبر من أهل الحديبية وأما رهن النبي درعه عند اليهودي فلعله من اليهود الذين كانوا يقدمون المدينة بالميرة والتجارة من حولها أو من أهل خيبر وإلا فيهود المدينة كانوا ثلاث طوائف بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة فأما بنو قينقاع فحاربهم أولا ثم من عليهم وأما بنو النضير فأجلاهم إلى خيبر وأجلى بني قينقاع أيضا وقتل بني قريظة وأجلى كل يهودي كان بالمدينة فهذا اليهودي المرتهن الظاهر أنه من أهل العهد قدم المدينة بطعام أو كان ممن لم يحارب فبقي على أمانه فالله أعلم فهذا أصل إجلاء الكفار من أرض الحجاز ثم اختلف الفقهاء بعد ذلك قال مالك أرى أن يجلوا من أرض العرب كلها لأن رسول الله قال لا يجتمع دينان في جزيرة العرب وفي صحيح مسلم من حديث عمر رضي الله عنه سمع رسول الله يقول لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلما وقال الشافعي يمنعون من الحجاز وهو مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها وهي قراها أما غير الحرم منه فيمنع الكتابي وغيره من الاستيطان والإقامة به وله الدخول بإذن الإمام لمصلحة كأداء رسالة أو حمل متاع يحتاج إليه المسلمون وإن دخل لتجارة ليس فيها كثير حاجة لم يؤذن له إلا بشرط أن يؤخذ من تجارته شيئا ولا يمكن من الإقامة أكثر من ثلاث وقد أدخل بعض أصحاب الشافعي اليمن في جزيرة العرب ومنعهم من الإقامة فيها وهذا وهم فإن النبي بعث معاذا قبل موته إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا وأقرهم فيها وأقرهم أبو بكر بعده وأقرهم عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ولم يجلوهم من اليمن مع أمر رسول الله بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب فلم يعرف عن إمام أنه أجلاهم من اليمن وإنما قال الشافعي وأحمد يخرجون من مكة والمدينة واليمامة وخيبر وينبع ومخاليفها ولم يذكرا اليمن ولم يجلوا من تيماء أيضا وكيف يكون اليمن من جزيرة العرب وهي وراء البحر فالبحر بينها وبين الجزيرة ؟ فهذا القول غلط محض حكم دخول أهل الذمة الحرم وأما الحرم فإن كان حرم مكة فإنهم يمنعون من دخوله بالكلية فلو قدم رسول لم يجز أن يأذن له الإمام في دخوله ويخرج الوالي أو من يثق به إليه ولا يختص المنع بخطة مكة بل بالحرم كله وأما حرم المدينة فلا يمنع من دخوله لرسالة أو تجارة أو حمل متاع 76 – فصل فهذا تفصيل مذهب الشافعي رحمه الله تعالى وأما مذهب أحمد رحمه الله تعالى فعنده يجوز لهم دخول الحجاز للتجارة لأن النصارى كانوا يتجرون إلى المدينة في زمن عمر رضي الله عنه كما تقدم وحكى أبو عبدالله بن حمدان عنه رواية أن حرم المدينة كحرم مكة في امتناع دخوله والظاهر أنها غلط على أحمد فإنه لم يخف عليه دخولهم بالتجارة في زمن عمر رضي الله عنه وبعده وتمكينهم من ذلك ولا يؤذن له في الإقامة أكثر من ثلاثة أيام وقال القاضي أربعة وهي حد ما يتم المسافر الصلاة وإذا مرض بالحجاز جازت له الإقامة لمشقة الانتقال على المريض ويجوز أن يقيم معه من يمرضه وإن كان له دين على أحد وكان حالا أجبر غريمه على وفائه فإن تعذر وفاؤه لمطل أو غيبة مكن من الإقامة ليستوفي دينه وفي إخراجه ذهاب ماله وإن كان الدين مؤجلا لم يمكن من الإقامة ويوكل من يستوفيه لأن التفريط منه فإن أراد أن يضع ويتعجل فهل يجوز ذلك ؟ على روايتين منصوصتين أشهرهما المنع وأصحهما عند شيخنا الجواز والمنع قول ابن عمر رضي الله عنهما والجواز قول ابن عباس رضي الله عمر بن عنهما وروى ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك حديثا رواه الدارقطني أن رسول الله لما أجلى يهود بني النضير قالوا إن لنا ديونا لم تحل فقال ضعوا وتعجلوا وإسناده حسن ليس فيه إلا مسلم بن خالد الزنجي وحديثه لا ينحط عن رتبة الحسن فإن دعت الحاجة إلى الإقامة لبيع بضاعته فوق ثلاث ففيه وجهان أحدهما يجوز له ذلك لأن في تكليفه تركها أو حملها معه ضياع ماله وذلك يمنع الدخول بالبضائع ويضر بأهل الحجاز ويقطع الجلب عنهم وهذا هو الصحيح والثاني يمنع من الإقامة لأن له منها بدا فإن أراد الانتقال إلى مكان آخر من الحجاز جاز ويقيم فيه ثلاثة أيام أو أربعة ولا يدخلون إلا بإذن من الإمام أو نائبه وقيل يكفي إذن آحاد المسلمين هذا حكم غير الحرم قال أصحاب الإمام أحمد رحمهم الله تعالى ولا يمنعون من تيماء وفيد ونجران ونحوهن وقد تقدم الحديث المصرح بأن نجران من جزيرة العرب قالوا فإن دخلوا غير الحرم لم يجز إلا بإذن مسلم وأما الحرم فيمنعون دخوله بكل حال ولا يجوز للإمام أن يأذن في دخوله فإن دخل أحدهم فمرض أو مات أخرج وإن دفن نبش وهل يمنعون من حرم المدينة ؟ حكي عن أحمد رحمه الله تعالى فيه روايتان كما تقدم وقد صح عن النبي أنه أنزل وفد نصارى نجران في مسجده وحانت صلاتهم فصلوا فيه وذلك عام الوفود بعد نزول قوله تعالى إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا فلم تتناول الآية حرم المدينة ولا مسجدها 77 – فصل وأما تفصيل مذهب مالك رحمه الله تعالى فإنهم يقرون عنده في جميع البلاد إلا جزيرة العرب وهي مكة والمدينة وما والاهما وروى عيسى بن دينار عنه دخول اليمن فيها وروى ابن حبيب أنها من أقصى عدن وما والاها من أرض اليمن كلها إلى ريف العراق في الطول وأما في العرض فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام ومصر في المغرب والمشرق وما بين المدينة إلى منقطع السماوة ولا يمنعون من الاجتياز بها مسافرين ولكن لا يقيمون 78 – فصل وأما أبو حنيفة رحمه الله تعالى فعنده لهم دخول الحرم كله حتى الكعبة نفسها ولكن لا يستوطنون به وأما الحجاز فلهم الدخول إليه والتصرف فيه والإقامة بقدر قضاء حوائجهم وكأن أبا حنيفة رحمه الله تعالى قاس دخولهم مكة على دخولهم مسجد رسول الله ولا يصح هذا القياس فإن لحرم مكة أحكاما يخالف بها المدينة على أنها ليست عنده حرما فإن قيل الله سبحانه إنما منع المشركين من قربان المسجد الحرام ولم يمنع أهل الكتاب منه ولهذا أذن مؤذن النبي يوم الحج الأكبر أنه لا يحج بعد العام مشرك والمشركون الذين كانوا يحجون هم عبدة الأوثان لا أهل الكتاب فلم يتناولهم المنع قيل للناس قولان في دخول أهل الكتاب في لفظ المشركين الأول فابن عمر وغيره كانوا يقولون هم من المشركين قال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما لا أعلم شركا أعطم من أن يقول المسيح ابن الله وعزيز ابن الله وقد قال تعالى فيهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون والثاني لا يدخلون في لفظ المشركين لأن الله سبحانه جعلهم غيرهم في قوله إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا قال شيخنا والتحقيق أن أصل دينهم دين التوحيد فليسوا من المشركين في الأصل والشرك طارىء عليهم فهم منهم باعتبار ما عرض لهم لا باعتبار أصل الدين فلو قدر أنهم لم يدخلوا في لفظ الآية دخلوا في عمومها المعنوي وهو كونهم نجسا والحكم يعم بعموم علته فإن قيل فالآية نبهت على دخولهم الحرم عوضا عن دخول عباد الأوثان فإنه سبحانه قال وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله فإنها لما نزلت انقطع عنهم ما كان المشركون يجلبون إليهم من الميرة فأعاضهم الله بالجزية قيل ليس في هذا ما يدل على دخول أهل الجزية المسجد الحرام بوجه ما بل تؤخذ منهم الجزية وتحمل إلى من بالمسجد الحرام وغيره على أن الإغناء من فضل الله وقع بالفتوح والفيء والتجارات التي حملها المسلمون إلى مكة فإن قيل فالآية إنما منعت قربانهم المسجد الحرام خاصة فمن أين لكم تعميم الحكم للحرم كله ؟ قيل المسجد الحرام يراد به في كتاب الله تعالى ثلاثة أشياء نفس البيت والمسجد الذي حوله والحرم كله فالأول كقوله تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام والثاني كقوله تعالى إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد على أنه قد قيل إن المراد به ها هنا الحرم كله والناس سواء فيه والثالث كقوله سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام وإنما أسرى به من داره من بيت أم هانىء وجميع الصحابة والأئمة فهموا من قوله تعالى فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا أن المراد مكة كلها والحرم ولم يخص ذلك أحد منهم بنفس المسجد الذي يطاف فيه ولما نزلت هذه الآية كانت اليهود بخيبر وما حولها ولم يكونوا يمنعون من المدينة كما في الصحيح أن رسول الله مات ودرعه مرهونة عند يهودي على طعام أخذه لأهله فلم يجلهم رسول الله عند نزولها من الحجاز وأمر مؤذنه أن يؤذن بأن لا يحج بعد العام مشرك فإن قيل فما تقولون في دخولهم مساجد الحل ؟ قيل إن دخلوها بغير إذن منعوا من ذلك ولم يمكنوا منه لأنهم نجس والجنب والحائض أحسن حالا منهم وقد منعا من دخول المساجد وإن دخلواها بإذن مسلم ففيه قولان للفقهاء هما روايتان عن أحمد ووجه الجواز أن رسول الله الوفود من الكفار في مسجده فأنزل فيه وفد نجران ووفد ثقيف وغيرهم وقال سعيد بن المسيب كان أبو سفيان يدخل مسجد المدينة وهو على شركه وقدم عمير بن وهب وهو مشرك فدخل المسجد والنبي فيه ليفتك به فرزقه الله تعالى الإسلام ووجه المنع أنهم أسوأ حالا من الحائض والجنب فإنهم نجس بنص القرآن والحائض والجنب ليسا بنجس بنص السنة ولما دخل أبو موسى على عمر بن الخطاب وهو في المسجد أعطاه كتابا فيه حساب عمله فقال له عمر ادع الذي كتبه ليقرأه فقال إنه لا يدخل المسجد قال ولم ؟ قال إنه نصراني وهذا يدل على شهرة ذلك بين الصحابة ولأنه قد انضم إلى حدث جنابته حدث شركه فتغلظ المنع وأما دخول الكفار مسجد النبي فكان ذلك لما كان بالمسلمين حاجة إلى ذلك ولأنهم كانوا يخاطبون النبي في عهودهم ويؤدون إليه الرسائل ويحملون منه الأجوبة ويسمعون منه الدعوة ولم يكن النيي ليخرج من المسجد لكل من قصده من الكفار فكانت المصلحة في دخولهم إذ ذاك المسجد لكل من قصده من الكفار فكانت المصلحة في دخولهم إذ ذاك أعظم من المفسدة التي فيه بخلاف الجنب والحائض فإنه كان يمكنهما التطهر والدخول إلى المسجد وأما الآن فلا مصلحة للمسلمين في دخولهم مساجدهم والجلوس فيها فإن دعت إلى ذلك مصلحة راجحة جاز دخولها بلا إذن والله أعلم ذكر معاملتهم عند اللقاء وكراهة أن يبدأوا بالسلام وكيف يرد عليهم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه رواه مسلم في صحيحه وفي الصحيحين عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم السام عليك فقل وعليك هكذا بالواو وفي لفظ عليك بلا واو وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله قال إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم رواه أحمد هكذا وفي لفظ للإمام أحمد فقولوا عليكم بلا واو وعن عائشة رضي الله عنها قالت دخل رهط من اليهود على رسول الله فقالوا السام عليك ففهمتها فقلت عليكم السام واللعنة فقال رسول الله مهلا يا عائشة فإن الله يحب الرفق في الأمر كله فقلت يا رسول الله أو لم تسمع ما قالوا ؟ قال رسول الله قد قلت وعليكم متفق عليه واللفظ للبخاري وفي لفظ آخر قد قلت عليكم ولم يذكر مسلم الواو وفي لفظ للبخاري فقالت عائشة رضي الله عنها عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم قال مهلا يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش قالت أو لم تسمع ما قالوا ؟ قال أو لم تسمعي ما رددت عليهم ؟ فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب له في وعند مسلم قلت بل عليكم السام والذام وعنده أيضا عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال سلم ناس من يهود على رسول الله قالوا السام عليك يا أبا القاسم قال عليكم فقالت عائشة رضي الله عنها وغضبت ألم تسمع ما قالوا ؟ قال بلى قد سمعت فرددت عليكم إنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا وعن أبي بصرة رضي الله عنه قال قال رسول الله إنا غادون على يهود فلا تبدأوهم بالسلام فإن سلموا عليكم فقولوا وعليكم رواه الإمام أحمد وله أيضا عن عقبى بن عامر رضي الله عنه قال قال رسول الله إني راكب غدا إلى يهود فلا تبدأوهم بالسلام وإذا سلموا عليكم فقولوا وعليكم معنى السلام الوجه الأول ولما كان السلام اسما من أسماء الرب تبارك وتعالى وهو اسم مصدر في الأصل كالكلام والعطاء بمعنى السلامة كان الرب تعالى أحق به من كل ما سواه لأنه السالم من كل آفة وعيب ونقص وذم فإن له الكمال المطلق من جميع الوجوه وكماله من لوازم ذاته فلايكون إلا كذلك والسلام يتضمن سلامة أفعاله من العبث والظلم وخلاف الحكمة وسلامة صفاته من مشابهة صفات المخلوقين وسلامة ذاته من كل نقص وعيب وسلامة أسمائه من كل ذم فاسم السلام يتضمن إثبات جميع الكمالات له وسلب جميع النقائص عنه وهذا معنى سبحان الله والحمد لله ويتضمن إفراده بالألوهية وإفراده بالتعظيم وهذا معنى لا إله إلا الله والله أكبر فانتظم اسم السلام الباقيات الصالحات التي يثنى بها على الرب جل جلاله ومن بعض تفاصيل ذلك أنه الحي الذي سلمت حياته من الموت والسنة والنوم والتغير القادر الذي سلمت قدرته من اللغوب والتعب والإعياء والعجز عما يريد العليم الذي سلم علمه أن يعزب عنه مثقال ذرة أو يغيب عنه معلوم من المعلومات وكذلك سائر صفاته على هذا فرضاه سبحانه سلام أن ينازعه الغضب وحلمه سلام أن ينازعه الانتقام وإرادته سلام أن ينازعها الإكراه وقدرته سلام أن ينازعها العجز ومشيئته سلام أن ينازعها خلاف مقتضاها وكلامه سلام أن يعرض له كذب أو ظلم بل تمت كلماته صدقا وعدلا ووعده سلام أن يلحقه خلف وهو سلام أن يكون قبله شيء أو بعده شيء أو فوقه شيء أو دونه شيء بل هو العالي على كل شيء وفوق كل شيء وقبل كل شيء وبعد كل شيء والمحيط بكل شيء وعطاؤه ومنعه سلام أن يقع في غير موقعه ومغفرته سلام أن يبالي بها أو يضيق بذنوب عباده أو تصدر عن عجز عن أخذ حقه كما تكون مغفرة الناس ورحمته وإحسانه ورأفته وبره وجوده وموالاته لأوليائه وتحببه إليهم وحنانه عليهم وذكره لهم وصلاته عليهم سلام أن يكون لحاجة منه إليهم أو تعزز بهم أو تكثر بهم وبالجملة فهو السلام من كل ما ينافي كلامه المقدس بوجه من الوجوه وأخطأ كل الخطأ من زعم أنه من أسماء السلوب فإن السلب المحض لا يتضمن كمالا بل اسم السلام متضمن للكمال السالم من كل ما يضاده وإذا لم تظلم هذا الاسم ووفيته معناه وجدته مستلزما لإرسال الرسل وإنزال الكتب وشرع الشرائع وثبوت المعاد وحدوث العالم وثبوت القضاء والقدر وعلو الرب تعالى على خلقه ورؤيته لأفعالهم وسمعه لأصواتهم واطلاعه على سرائرهم وعلانياتهم وتفرده بتدبيرهم وتوحده في كماله المقدس عن شريك بوجه من الوجوه فهو السلام الحق من كل وجه كما هو النزيه البريء عن نقائص البشر من كل وجه ولما كان سبحانه موصوفا بأن له يدين لم يكن فيهما شمال بل كلتا يديه يمين مباركة كذلك أسماؤه كلها حسنى وأفعاله كلها خير وصفاته كلها كمال وقد جعل سبحانه السلام تحية أوليائه في الدنيا وتحيتهم يوم لقائه ولما خلق آدم وكمل خلقه فاستوى قال الله له اذهب إلى أولئك النفر من الملائكة فاستمع ما يحيونك به فإنها تحيتك وتحية ذريتك من بعدك وقال تعالى لهم دار السلام عند ربهم وقال والله يدعو إلى دار السلام وقد اختلف في تسمية الجنة بدار السلام فقيل السلام هو الله والجنة داره وقيل السلام هو السلامة والجنة دار السلامة من كل آفة وعيب ونقص وقيل سميت دار السلام لأن تحيتهم فيها سلام ولا تنافي بين هذه المعاني كلها الوجه الثاني وأما قول المسلم السلام عليكم فهو إخبار للمسلم عليه بسلامته من غيلة المسلم وغشه ومكره ومكروه يناله منه فيرد الراد عليه مثل ذلك أي فعل الله ذلك بك وأحله عليك والفرق بين هذا الوجه وبين الوجه الأول أنه في الأول خبر وفي الثاني طلب ووجه ثالث وهو أن يكون المعنى اذكر الله الذي عافاك من المكروه وأمنك من المحذور وسلمك مما تخاف وعاملنا من السلامة والأمان بمثل ما عاملك به فيرد الراد عليه مثل ذلك ويستحب له أن يزيده كما أن من أهدى لك هدية يستحب لك أن تكافئه بزيادة عليها ومن دعا لك ينبغي أن تدعو له بأكثر من ذلك ووجه رابع وهو أن يكون معنى سلام المسلم ورد الراد بشارة من الله سبحانه جعلها على ألسنة المسلمين لبعضهم بعضا بالسلامة من الشر وحصول الرحمة والبركة وهي دوام ذلك وثباته وهذه البشارة أعطوها لدخولهم في دين الإسلام فأعظمهم أجرا أحسنهم تحية وأسبقهم في هذه البشارة كما في الحديث وخيرهما الذي يبدأصاحبه بالسلام واشتق الله سبحانه لأوليائه من تحية بينهم اسما من أسمائه واسم دينه الإسلام الذي هو دين أنبيائه ورسله وملائكته قال تعالى أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه ترجعون ووجه خامس وهو أن كل أمة من الأمم لهم تحية بينهم من أقوال وأعمال كالسجود وتقبيل الأيدي وضرب الجوك وقول بعضهم أنعم صباحا وقول بعضهم عش ألف عام ونحو ذلك فشرع الله تبارك وتعالى لأهل الإسلام سلام عليكم وكانت أحسن من جميع تحيات الأمم بينها لتضمنها السلامة التي لا حياة ولا فلاح إلا بها فهي الأصل المقدم على كل شيء وانتفاع العبد بحياته إنما يحصل بشيئين بسلامته من الشر وحصول الخير والسلامة من الشر مقدمة على حصول الخير وهي الأصل فإن الإنسان بل وكل حيوان إنما يهتم بسلامته أولا وغنيمته ثانيا على أن السلامة المطلقة تتضمن حصول الخير فإنه لو فاته حصل له الهلاك والعطب أو النقص ففوات الخير يمنع حصول السلامة المطلقة فتضمنت السلامة نجاة العبد من الشر وفوزه بالخير مع اشتقاقها من اسم الله والمقصود أن السلام اسمه ووصفه وفعله والتلفظ به ذكر له كما في السنن أن رجلا سلم على النبي فلم يرد عليه حتى تيمم ورد عليه وقال إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهارة فحقيق بتحية هذا شأنها أن تصان عن بذلها لغير أهل الإسلام وألا يحيى بها أعداء القدوس السلام ولهذا كانت كتب النبي إلى ملوك الكفار سلام على من اتبع الهدى ولم يكتب لكافر سلام عليكم أصلا فلهذا قال في أهل الكتاب ولا تبدأوهم بالسلام 79 – فصل رد السلام على أهل الذمة وأما الرد عليهم فأمر أن يقتصر به على عليكم واختلفت الرواية في إثبات الواو وحذفها وصح هذا وهذا فاستشكلت طائفة دخول هذه الواو ههنا إذ هي للتقرير وإثبات الأول كما إذا قيل لك فعلت كذا وكذا وكذا فقلت وأنت فعلته أو قال فلان يصلي الخمس فتقول ويزكي ماله قالوا فالموضع موضع إضراب لا موضع تقرير ومشاركة فهو موضع بل عليكم لا موضع وعليكم فإذا حذف الواو كان إعادة لمثل قوله من غير إشعار بأنك علمت مراده وإذا أتيت بلفظة بل أشعرته أنك فهمت مراده ورددته عليه قصاصا والأول أليق بالكرم والفضل ولهذا السر والله أعلم دخلت الواو على أنه ليس في دخولها إشكال فإن الموت لا ينجو منه أحد وكأن الراد يقول الذي أخبرت بوقوعه علينا نحن وأنت فيه سواء فهو علينا وعليك وهذا أولى من تغليظ الراوي في إثباتها إذ لا سبيل إليه فإن قيل بل إليك سبيل قال الخطابي يرويه عامة المحدثين بالواو وابن عيينة يرويه بحذفها وهو الصواب قيل قد ضبط الواو عبدالله بن عمر وضبطها عنه عبدالله بن دينار وضبطها عنه مالك قال أبو داود في سننه كذلك رواه مالك عن عبدالله بن دينار ورواه الثوري أيضا عن عبدالله بن دينار فقال وعليكم انتهى وهذا الحديث قد أخرجه البخاري في صحيحه كما تقدم وحديث سفيان الثوري رواه البخاري ومسلم وهو بالواو عندهما وأما قول الخطابي وابن عيينة رواه بحذفهما فقد اختلف على ابن عيينة أيضا وجواب آخر ولعله أحسن من الجواب الأول أنه ليس في دخول الواو تقرير لمضمون تحيتهم بل فيه ردها وتقريرها لهم أي ونحن أيضا ندعو لكم بما دعوتم به علينا فإن دعاءهم قد حصل ووقع منهم فإذا رد عليهم المجيب بقوله وعليكم كان في ذكر الواو سر لطيف وهو أن هذا الذي طلبتموه لنا ودعوتم به هو بعينه مردود عليكم لا تحية لكم غيره والمعنى ونحن نقول لكم ما قلتم بعينه كما إذا قال رجل لمن يسبه عليك كذا وكذا فقال وعليك أي وأنا أيضا قائل لك ذلك وليس معناه أن هذا قد حصل لي وهو حصل لك معي فتأمله وكذلك إذا قال غفر الله لك فقلت ولك وليس المعنى أن المغفرة قد حصلت لي ولك فإن هذا علم غيب وإنما معناه أن الدعوة قد اشتركت فيها أنا وأنت ولو قال غفر الله لك فقلت لك لم يكن فيه إشعار بذلك وعلى هذا فالصواب إثبات الواو وبه جاءت أكثر الروايات وذكرها الثقات الأثبات والله أعلم 80 – فصل كيف نرد عليهم إذا تحقق لدينا أنهم قالوا السلام عليكم هذا كله إذا تحقق أنه قال السام عليكم أو شك فيما قال فلو تحقق السامع أن الذمي قال له سلام عليكم لا شك فيه فهل له أن يقول وعليك السلام أو يقتصر على قوله وعليك فالذي تقتضيه الأدلة الشرعية وقواعد الشريعة أن يقال له وعليك السلام فإن هذا من باب العدل والله يأمر بالعدل والإحسان وقد قال تعالى وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها فندب إلى الفضل وأوجب العدل ولاينافي هذا شيئا من أحاديث الباب بوجه ما فإنه إنما أمر بالاقتصار على قول الراد وعليكم بناء على السبب المذكور الذي كانوا يعتمدونه في تحيتهم وأشار إليه في حديث عائشة رضي الله عنها فقالت ألا ترينني قلت وعليكم لما قالوا السام عليكم ؟ ثم قال إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم والاعتبار وإن كان لعموم اللفظ فإنما يعتبر عمومه في نظير المذكور لا فيما يخالفه قال تعالى وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول فإذا زال هذا السبب وقال الكتابي سلام عليكم ورحمة الله فالعدل في التحية يقتضي أن يرد عليه نظير سلامه وبالله التوفيق 81 – فصل في عيادة أهل الكتاب قال المروذي بلغني أن أبا عبدالله سئل عن رجل له قرابة نصراني يعوده قال نعم قال الأثرم وسمعت أبا عبدالله يسأل عن الرجل له قرابة نصراني يعوده ؟ قال نعم قيل له نصراني قال أرجو ألا تضيق العيادة قال الأثرم وقلت له مرة أخرى يعود الرجل اليهود والنصارى ؟ قال أليس عاد النبي اليهودي ودعاه إلى الإسلام ؟ وقال أبو مسعود الأصبهاني سألت أحمد بن حنبل عن عيادة القرابة والجار النصراني قال نعم وقال الفضل بن زياد سمعت أحمد سئل عن الرجل المسلم يعود أحدا من المشركين قال إن كان يرى أنه إذا عاده يعرض عليه الإسلام يقبل منه فليعده كما عاد النبي الغلام اليهودي فعرض عليه الإسلام وقال إسحاق بن إبراهيم سألت أبا عبدالله عن الرجل يكون له الجار النصراني فإذا مرض يعوده ؟ قال يحيى فيقوم على الباب ويعذر إليه وقال مهنأ سألت أبا عبدالله عن الرجل يعود الكافر فقال إذا كان يرتجيه فلا بأس به ويعرض عليه الإسلام قلت له وترى إذا عاده يدعوه إلى الإسلام ؟ قال نعم وقال أبو داود سمعت أحمد يسأل عن عيادة اليهودي والنصراني فقال إذا كان يريد أن يدعوه إلى الإسلام نعم وقال جعفر بن محمد سئل أبو عبدالله عن الرجل يعود شريكا له يهوديا أو نصرانيا قال لا ولا كرامة فهذه ثلاث روايات منصوصات عن أحمد المنع والإذن والتفصيل فإن أمكنه أن يدعوه إلى الإسلام ويرجو ذلك منه عاده وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال كان غلام يهودي يخدم النبي فمرض فأتاه النبي يعوده فقعد عند رأسه فقال له أسلم فنظر إلى أبيه وهو وعنده فقال له أطع أبا القاسم فخرج النبي وهو يقول الحمد لله الذي أنقذه بي من النار وفي الصحيحين عن سعيد بن المسيب أن أباه أخبره قال لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة قال رسول الله لأبي طالب أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبدالله بن أبي أمية يا أبا طالب أترغب عن ملة عبدالمطلب ؟ فلم يزل رسول الله يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال آخر ما كلمهم هو على ملة عبدالمطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله أما والله لأستغفرن لك مالم أنه عنك فأنزل الله عز و جل ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وثبت عن النبي أنه عاد عبدالله بن أبي بن سلول رأس المنافقين وقال الأثرم حدثني مصرف بن عمرو الهمداني ثنا يونس يعني ابن بكير ثنا سعيد بن ميسرة قال سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول كان رسول الله إذا عاد رجلا على غير دين الإسلام لم يجلس عنده وقال كيف أنت يا يهودي يا نصراني ؟ 82 – فصل في شهود جنائزهم قال محمد بن موسى قلت لأبي عبدالله يشيع المسلم جنازة المشرك ؟ قال نعم وقال محمد بن الحسن بن هارون قيل لأبي عبدالله ويشهد جنازته ؟ قال نعم نحو ما صنع الحارث بن أبي ربيعة كان شهد جنازة أمه وكان يقوم ناحية ولا يحضر لأنه ملعون وقال أبو طالب سألت أبا عبدالله عن الرجل يموت وهو يهودي وله ولد مسلم كيف يصنع ؟ قال يركب دابته ويسير أمام الجنازة ولا يكون خلفه فإذا ارادوا أن يدفنوه رجع مثل قول عمر قلت أراد ما رواه سعيد بن منصور قال حدثني عيسى بن يونس عن محمد بن أبي إسماعيل عن عامر بن شقيق عن أبي وائل قال ماتت أمي نصرانية فأتيت عمر فسألته فقال اركب في جنازتها وسر أمامها قال الخلال حدثنا علي بن سهل بن المغيرة قال حدثني أبي سهل بن المغيرة حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي عن عبدالله بن كعب ابن مالك عن أبيه قال جاء قيس بن شماس إلى النبي فقال إن أمه توفيت وهي نصرانية وهو يحب أن يحضرها فقال له النبي إركب دابتك وسر أمامها فإذا ركبت وكنت أمامها فلست معها قال علي بن سهل رأيت أحمد بن حنبل يسأل أبي عن هذا الحديث فحدثه به وقال حنبل سألت أبا عبدالله عن المسلم تموت له أم نصرانية أو أبوه أو أخوه أو ذو قرابته وترى أن يلي شيئا من أمره حتى يواريه ؟ قال إن كان أبا أو أما أو أخا أو قرابة قريبة وحضره فلا بأس وقد أمر النبي علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يواري أبا طالب قلت فترى أن يفعل هو ذلك ؟ قال أهل دينه يلونه وهو حاضر يكون معهم حتى إذا ذهبوا به تركه معهم وهم يلونه قال حنبل وحدثنا عفان ثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران أن عبدالله بن ربيعة قال لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما إن أمي ماتت وقد علمت الذي كانت عليه من النصرانية قال أحسن ولايتها وكفنها ولا تقم على قبرها قال يوسف كنا معه في ناحية والنصارى يعجون مع أمه وقال إسحاق بن منصور قلت لأبي عبدالله الرجل يكون له جار مسلم ماتت أمه نصرانية يتبع هذا جنازتها ؟ قال لا يتبعها يكون ناحية منها وقال الأثرم سمعت أبا عبدالله يسأل عن شهود جنازة النصراني الجار قال على نحو ما صنع الحارث بن أبي ربيعة كان شهد جنازة أمه فكان يقوم ناحية ولا يحضر لأنه ملعون وقال صالح بن أحمد قلت لأبي رجل مسلم ماتت له أم نصرانية يتبع جنازتها ؟ قال يكون ناحية منها وقال سعيد بن منصور ثنا سفيان عن أبي سنان عن سعيد بن جبير قال سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن رجل مات أبوه نصرانيا قال يشهده ويدفنه قال الخلال كأن أبا عبدالله لم يعجبه ذلك ثم روى عن هؤلاء الجماعة أنه لا بأس به واحتج بالأحاديث يعني أنه رجع إلى هذا القول والله أعلم 83 – فصل في تعزيتهم قال حمدان الوراق سئل أبو عبدالله تعزى أهل الذمة ؟ فقال ما أدري أخبرك ما سمعت في هذا وقال الأثرم سئل أبو عبدالله أيعزى أهل الذمة ؟ فقال ما أدري ثم قال الأثرم حدثنا أبو سعيد الأشج ثنا إسحاق بن منصور السلولي ثنا هريم قال سمعت الأجلح عزى نصرانيا فقال عليك بتقوى الله والصبر وذكر الأثرم حدثنا منجاب بن الحارث ثنا شريك عن منصور عن إبراهيم قال إذا أردت أن تعزي رجلا من أهل الكتاب فقل أكثر الله مالك وولدك وأطال حياتك أو عمرك وقال الفضل بن زياد سألت أبا عبدالله كيف يعزى النصراني ؟ قال لا أدري ولم يعزيه ؟ وقال حرب ثنا إسحاق ثنا مسلم بن قتيبة ثنا كثير بن ابان عن غالب قال قال الحسن إذا عزيت الذمي فقل لا يصيبك إلا خير وقال عباس بن محمد الدوري سألت أحمد بن حنبل قلت له اليهودي والنصراني يعزيني أي شيء أرد إليه ؟ فأطرق ساعة ثم قال ما أحفظ فيه شيئا وقال حرب قلت لإسحاق فكيف يعزي المشرك ؟ قال يقول أكثر الله مالك وولدك 84 – فصل في تهنئتهم بزوجة أو ولد أو قدوم غائب أو عافية أو سلامة من مكروه ونحو ذلك وقد اختلفت الرواية في ذلك عن أحمد فأباحها مرة ومنعها أخرى والكلام فيها كالكلام في التعزية والعيادة ولا فرق بينهما ولكن ليحذر الوقوع فيما يقع فيه الجهال من الألفاظ التي تدل على رضاه بدينه كما يقول أحدهم متعك الله بدينك أو نيحك فيه أو يقول له أعزك الله أو أكرمك إلا أن يقول أكرمك الله بالإسلام وأعزك به ونحو ذلك فهذا في التهنئة بالأمور المشتركة وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول عيد مبارك عليك أو تهنأ بهذا العيد ونحوه فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب بل ذلك أعظم إثما عند الله وأشد مقتا من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك ولا يدري قبح ما فعل فمن هنأ عبدا بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه وقد كان أهل الورع من اهل العلم يتجنبون تهنئة الظلمة بالولايات وتهنئة الجهال بمنصب القضاء والتدريس والإفتاء تجنبا لمقت الله وسقوطهم من عينه وإن بلي الرجل بذلك فتعاطاه دفعا لشر يتوقعه منهم فمشى إليهم ولم يقل إلا خيرا ودعا لهم بالتوفيق والتسديد فلا بأس بذلك وبالله التوفيق 85 – فصل في المرأة الكافرة تموت وفي بطنها ولد مسلم قال حنبل سمعت أبا عبدالله يقول في امرأة نصرانية حملت من مسلم فماتت وفي بطنها حمل من مسلم فقال يروى عن واثلة تدفن بين مقابر المسلمين والنصارى وقال حنبل في موضع آخر قلت فإن ماتت وفي بطنها ولد منه أين ترى أن تدفن ؟ قال قد قالوا تدفن في حجرة من قبور المسلمين قال أبو داود سألت أحمد عن النصرانية تموت حبلى من مسلم قال فيها ثلاثة أقاويل وقال أرى أن تدفن ناحية من قبور المسلمين لو كانت مقبرة على حدة قلت ما الذي تختار ؟ فذكر قوله هذا وقال إسحاق بن منصور قلت لأبي عبدالله المرأة النصرانية إذا حملت من المسلم فماتت حملا ؟ قال حديث واثلة وقال الفضل بن زياد وأبو الحارث سمعت أحمد وسئل عن المرأة النصرانية تموت وفي بطنها ولد مسلم ؟ قال فيها ثلاثة أقاويل يقال تدفن في مقبرة المسلمين ويقال في مقابر النصارى قال أبو الحارث قال سمرة تدفن ما بين مقابر المسلمين والنصارى قيل له فما ترى ؟ قال لو كان لهؤلاء مقابر على حدة ما كان أحسنه قال الخلال أخطأ أبو الحارث في قوله سمرة إنما هو واثلة وقال أبو طالب سألت أحمد عن أم ولد نصرانية في بطنها ولد مسلم قال تدفن في ناحية ولا تكون مع النصارى لمكان ولدها ولا مع المسلمين فتؤذيهم وقال المروذي سألت أبا عبدالله عن النصرانية يكون في بطنها المسلم فتبسم وقال ما أحسن أن تدفن بين مقبرتين يعني مقابر المسلمين والنصارى قال المروذي وكأن كلام أبي عبدالله أنه لا يرى بأسا أن تدفن في مقابر المسلمين من أجل الذي في بطنها وسئل أيضا ما تقول في النصرانية تموت وفي بطنها ولد مسلم أين تدفن ؟ قال فيها ثلاثة أقاويل عن عمر تدفن مع المسلمين وعن واثلة تدفن بين مقابر المسلمين والنصارى وذكر آخر أنها تدفن مع النصارى قال أعجب إلي أن تدفن بينهما قلت فإن لم يوجد إلا مقابر المسلمين ؟ فتبسم ولم يكرهه قلت أما أثر واثلة فقال ابن أبي شيبة حدثنا جعفر بن عون عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن واثلة بن الأسقع في امرأة نصرانية في بطنها ولد من مسلم قال تدفن في مقبرة بين مقابر المسلمين والنصارى وأما أثر عمر فقال حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو قال ماتت امرأة بالشام وفي بطنها ولد من مسلم وهي نصرانية فأمر عمر أن تدفن مع المسلمين من أجل ولدها قالوا ويكون ظهرها إلى القبلة على يسارها لأن وجه الجنين إلى ظهر أمه فيكون حينئذ وجهه إلى القبلة على جنبه الأيمن قال أبو عبدالله بن حمدان في رعايته دفنت منفردة كالمرتد قلت ووجه هذا أنه لم يثبت له حكم الدين الذي انتقل إليه من التوارث والموالاة ودفعه إلى الكفار يتولونه وقد زال حكم الدين الذي كان عليه فيدفن وحده ولأصحاب الشافعي في الذمية تموت وفي بطنها ولد مسلم أربعة أوجه أصحها ما ذكرناه والثاني تدفن في مقابر المسلمين قال أصحاب هذا الوجه وتكون للولد بمنزلة صندوق مودع فيه والثالث تدفن في مقابر أهل دينها لأن الحمل لا حكم له يثبت أحكام الدنيا من غسله والصلاة عليه وغيرها فلم يثبت له شيء من أحكام أموات المسلمين فتفرد بهذا الحكم وحده والرابع أنها تدفن في طرف مقابر المسلمين 86 – فصل في المنع من استعمال اليهود والنصارى في شيء من ولايات المسلمين وأمورهم قال أبو طالب سألت أبا عبدالله يستعمل اليهودي والنصراني في أعمال المسلمين مثل الخراج ؟ قال لا يستعان بهم في شيء وقال أحمد ثنا وكيع ثنا مالك بن أنس عن عبدالله بن نيار عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله إنا لا نستعين بمشرك قال عبدالله قال أبي هذا خطأ أخطأ فيه وكيع إنما هو عن الفضل ابن أبي عبدالله عن عبدالله بن نيار عن عروة عن عائشة أن رسول الله خرج إلى بدر فتبعه رجل من المشركين فلحقه عند الحرة فقال إني أردت أن أتبعك وأصيب معك قال تؤمن بالله ورسوله ؟ قال لا قال ارجع فلن أستعين بمشرك ثم لحقه عند الشجرة ففرح بذلك أصحاب رسول الله وكان له قوة وجلد قال جئت لأتبعك وأصيب معك قال تؤمن بالله ورسوله ؟ قال لا قال ارجع فلن أستعين بمشرك ثم لحقه حتى ظهر على البيداء فقال له مثل ذلك قال أتؤمن بالله ورسوله ؟ قال نعم فخرج معه رواه مسلم في صحيحه بنحوه وفي مسند الإمام أحمد من حديث خبيب بن عبدالرحمن عن أبيه عن جده قال أتيت رسول الله وهو يريد غزوا أنا ورجل من قومي ولم نسلم فقلنا إنا نستحيي أن يشهد قومنا مشهدا لا نشهده معهم فقال أسلمتما ؟ فقلنا لا قال فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين قال فأسلمنا وشهدنا معه وفي السنن والمسند من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله قال لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا على خواتيمكم عربيا وفسر قوله لا تستضيئوا بنار المشركين يعني لا تستنصحوهم ولا تستضيئوا برأيهم والصحيح أن معناه مباعدتهم وعدم مساكنتهم كما في الحديث الآخر أنا بريء من كل مسلم بين ظهراني المشركين لا ترا ؟ آي نارهما وأما النهي عن نقش الخاتم بالعربي فهذا قد جاء مفسرا في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال اتخذ رسول الله خاتما من ذهب ثم ألقاه ثم اتخذ خاتما من ورق ونقش فيه محمد رسول الله وقال لا ينقش أحد على نقش خاتمي فإن كان الراوي حفظ اللفظ الآخر فيكون النهي عنه من باب حماية الذريعة لئلا يتطرق بنقش العربي إلى نقش محمد رسول الله فتذهب فائدة الاختصاص بالنقش المذكور والله أعلم وقال عبدالله بن احمد حدثنا أبي ثنا وكيع ثنا إسرائيل عن سماك ابن حرب عن عياض الأشعري عن أبي موسى رضي الله عنه قال قلت لعمر رضي الله عنه إن لي كاتبا نصرانيا قال مالك ؟ قاتلك الله أما سمعت الله تعالى يقول يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم ألا اتخذت حنيفا قال قلت يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه قال لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله وكتب إليه بعض عماله يستشيره في استعمال الكفار فقال إن المال قد كثر وليس يحصيه إلا هم فاكتب إلينا بما ترى فكتب إليه لا تدخلوهم في دينكم ولا تسلموهم ما منعهم الله منه ولا تأمنوهم على أموالكم وتعلموا الكتابة فإنما هي الرجال وكتب إلى عماله أما بعد فإنه من كان قبله كاتب من المشركين فلا يعاشره ولا يوازره ولا يجالسه ولا يعتضد برأيه فإن رسول الله لم يأمر باستعمالهم ولا خليفته من بعده وورد عليه كتاب معاوية بن أبي سفيان أما بعد يا أمير المؤمنين فإن في عملي كاتبا نصرانيا لا يتم أمر الخراج إلا به فكرهت أن أقلده دون أمرك فكتب إليه عافانا الله وإياك قرأت كتابك في أمر النصراني أما بعد فإن النصراني قد مات والسلام وكان لعمر رضي الله عنه عبد نصراني فقال له أسلم حتى نستعين بك على بعض أمور المسلمين فإنه لا ينبغي لنا أن نستعين على أمرهم بمن ليس منهم فأبى فأعتقه وقال اذهب حيث شئت وكتب إلى أبي هريرة رضي الله عنه أما بعد فإن للناس نفرة عن سلطانهم فأعوذ بالله أن تدركني وإياك أقم الحدود ولو ساعة من النهار وإذا حضرك أمران أحدهما لله والآخر للدنيا فآثر نصيبك من الله فإن الدنيا تنفد والآخرة تبقى عد مرضى المسلمين واشهد جنائزهم وافتح بابك وباشرهم وأبعد أهل الشر وأنكر أفعالهم ولا تستعن في أمر من أمور المسلمين بمشرك وساعد على مصالح المسلمين بنفسك فإنما أنت رجل منهم غير أن الله تعالى جعلك حاملا لأثقالهم 87 – فصل في حال خلفاء المسلمين مع أهل الذمة ودرج على ذلك الخلفاء الذين لهم ثناء حسن في الأمة كعمر بن عبدالعزيز والمنصور والرشيد والمهدي والمأمون والمتوكل والمقتدر ونحن نذكر بعض ما جرى حال عمر بن عبدالعزيز مع أهل الذمة فأما عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى فإنه كتب إلى جميع عماله في الآفاق أما بعد فإن عمر بن عبدالعزيز يقرأ عليكم من كتاب الله يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس جعلهم الله حزب الشيطان وجعلهم الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا واعلموا أنه لم يهلك من هلك من قبلكم إلا بمنعه الحق وبسطه يد الظلم وقد بلغني عن قوم من المسلمين فيما مضى أنهم إذا قدموا بلدا أتاهم أهل الشرك فاستعانوا بهم في أعمالهم وكتابتهم لعلمهم بالكتابة والجباية والتدبير ولا خيرة ولا تدبير فيما يغضب الله ورسوله وقد كان لهم في ذلك مدة وقد قضاها الله تعالى فلا أعلمن أن أحدا من العمال أبقى في عمله رجلا متصرفا على غير دين الإسلام إلا نكلت به فإن محو أعمالهم كمحو دينهم وأنزلوهم منزلتهم التي خصهم الله بها من الذل والصغار وآمر بمنع اليهود والنصارى من الركوب على السروج إلا على الأكف وليكتب كل منكم بما فعله من عمله وكتب إلى حيان عامله على مصر باعتماد ذلك فكتب إليه أما بعد يا أمير المؤمنين فإنه إن دام هذا الأحد في مصر أسلمت الذمة وبطل ما يؤخذ منهم فأرسل إليه رسولا وقال له اضرب حيان على رأسه ثلاثين سوطا أدبا على قوله وقل له من دخل في دين الإسلام فضع عنه الجزية فوددت لو أسلموا كلهم فإن الله بعث محمدا داعيا لا جابيا وأمر أن تهدم بيع النصارى المستجدة فيقال إنهم توصلوا إلى بعض ملوك الروم وسألوه في مكاتبة عمر بن عبدالعزيز فكتب إليه أما بعد يا عمر فإن هؤلاء الشعب سألوا في مكاتبتك لتجري أمورهم على ما وجدتها عليه وتبقي كنائسهم وتمكنهم من عمارة ما خرب منها فإنهم زعموا أن من تقدمك فعل في أمر كنائسهم ما منعتهم منه فإن كانوا مصيبين في اجتهادهم فاسلك سنتهم وإن يكونوا مخالفين لها فافعل ما أردت فكتب إليه عمر أما بعد فإن مثلي ومثل من تقدمني كما قال الله تعالى في قصة داود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وكتبإلى بعض عماله أما بعد فإنه بلغني أن في عملك كاتبا نصرانيا يتصرف في مصالح الإسلام والله تعالى يقول يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين فإذا أتاك كتابي هذا فادع حسان بن زيد يعني ذلك الكاتب إلى الإسلام فإن أسلم فهو منا ونحن منه وإن أبى فلا تستعن به ولا تتخذ أحدا على غير دين الإسلام في شيء من مصالح المسلمين فأسلم حسان وحسن إسلامه 88 – فصل حال أبي جعفر المنصور مع أهل الذمة وأما أبو جعفر المنصور فإنه لما حج اجتمع جماعة من المسلمين إلى شبيب بن شيبة وسألوه مخاطبة المنصور أن يرفع عنهم المظالم ولا يمكن النصارى من ظلمهم وعسفهم في ضياعهم ويمنعهم من انتهاك حرماتهم وتحربيهم لكونه أمرهم أن يقبضوا ما وجدوه لبني أمية قال شبيب فطفت معه فشبك أصابعه على أصابعي فقلت يا أمير المؤمنين أتأذن لي أن أكلمك بما في نفسي فقال أنت وذاك فقلت إن الله لما قسم أقسامه بين خلقه لم يرض لك إلا بأعلاها وأسناها ولم يجعل فوقك في الدنيا أحدا فلا ترض لنفسك أن يكون فوقك في الآخرة أحد يا أمير المؤمنين اتق الله فإنها وصية الله إليكم جاءت وعنكم قبلت وإليكم تؤدى وما دعاني إلى قولي إلا محض النصيحة لك والإشفاق عليك وعلى نعم الله عندك اخفض جناحك إذا علا كعبك وابسط معروفك إذا أغنى الله يديك يا أمير المؤمنين إن دون أبوابك نيرانا تأجج من الظلم والجور لا يعمل فيها بكتاب الله ولا سنة نبيه محمد يا أمير المؤمنين سلطت الذمة على المسلمين ظلموهم وعسفوهم وأخذوا ضياعهم وغصبوهم أموالهم وجاروا عليهم واتخذوك سلما لشهواتهم وإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا يوم القيامة فقال المنصور خذ خاتمي فابعث به إلى من تعرفه من المسلمين وقال يا ربيع اكتب إلى الأعمال واصرف من بها من الذمة ومن أتاك به شبيب فأعلمنا بمكانه لنوقع باستخدامه فقال شبيب يا أمير المؤمنين إن المسلمين لا يأتونك وهؤلاء الكفرة في خدمتك إن أطاعوهم أغضبوا الله وإن أغضبوهم أغروك بهم ولكن تولي في اليوم الواحد عدة فكلما وليت رجلا عزلت آخر 89 – فصل المهدي وأهل الذمة وأما المهدي فإن أهل الذمة في زمانه قويت شوكتهم فاجتمع المسلمون إلى بعض الصالحين وسألوه أن يعرفه بذلك وينصحه وكان له عادة في حضور مجلسه فاستدعي للحضور عند المهدي فامتنع فجاء المهدي إلى منزله وسأله السبب في تأخره فقص عليه القصة وذكر اجتماع الناس إلى بابه متظلمين من ظلم الذمة ثم أنشده بأبي وأمي ضاعت الأحلام … أم ضاعت الأذهان والأفهام من صد عن دين النبي محمد … أله بأمر المسلمين قيام إلا تكن أسيافهم مشهورة … فينا فتلك سيوفهم أقلام ثم قال يا أمير المؤمنين إنك تحملت أمانة هذه الأمة وقد عرضت على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها ثم سلمت الأمانة التي خصك الله بها إلى أهل الذمة دون المسلمين يا أمير المؤمنين أما سمعت تفسير جدك لقوله تعالى ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها أن الصغيرة التبسم والكبيرة القهقهة فما ظنك بأموال المسلمين وأماناتهم وأسرارهم وقد نصحتك وهذه النصيحة حجة علي ما لم تصل إليك فولى عمارة بن حمزة أعمال الأهواز وكور دجلة وكور فارس وقلد حمادا أعمال السواد وأمره أن ينزل إلى الأنبار وإلى جميع الأعمال ولا يترك أحدا من الذمة يكتب لأحد من العمال وإن علم أن أحدا من المسلمين استكتب أحدا من النصارى قطعت يده فقطعت يد شاهونة وجماعة من الكتاب وكان للمهدي على بعض ضياعه كاتب نصراني بالبصرة فظلم الناس في معاملته فتظلم المتظلمون إلى سوار بن عبدالله القاضي فأحضر وكلاء النصراني واستدعي بالبينة فشهدت على النصراني بظلم الناس وتعدي مناهج الحق ومضى النصراني فأخذ كتاب المهدي إلى القاضي سوار بالتثبت في أمره فجاء البصرة ومعه الكتاب وجماعة من حمقى النصارى وجاؤوا إلى المسجد فوجدوا سوارا جالسا للحكم بين المسلمين فدخل المسجد وتجاوز الموضع الذي كان يجب الوقوف عنده فمنعه الخدم فلم يعبأ بهم وسبهم ودنا حتى جلس عن يمين سوار ودفع له الكتاب فوضعه بين يديه ولم يقرأه وقال ألست نصرانيا فقال بلى أصلح الله القاضي فرفع رأسه وقال جروا برجله فسحب إلى باب المسجد وأدبه تأديبا بالغا وحلف ألا يبرح واقفا إلى أن يوفي المسلمين حقوقهم فقال له كاتبه قد فعلت اليوم أمرا يخاف أن يكون له عاقبة فقال أعز أمر الله يعزك الله 90 – فصل هارون الرشيد وأهل الذمة وأما هارون الرشيد فإنه لما قلد الفضل بن يحيى أعمال خراسان وجعفرا أخاه ديوان الخراج أمرهما بالنظر في مصالح المسلمين فعمرت المساجد والجوامع والصهاريج والسقايات وجعل في المكاتب مكاتب لليتامى وصرف الذمة عن أعمالهم واستعمل المسلمين عوضا منهم وغير زيهم ولباسهم وخرب الكنائس وأفتاه بذلك علماء الإسلام 91 – فصل المأمون وأهل الذمة وأما المأمون فقال عمرو بن عبدالله الشيباني استحضرني المأمون في بعض لياليه ونحن بمصر فقال لي قد كثرت سعايات النصارى وتظلم المسلمون منهم وخانوا السلطان في ماله ثم قال يا عمرو تعرف من أين أصل هؤلاء القبط فقلت هم بقية الفراعنة الذين كانوا بمصر وقد نهى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن استخدامهم فقال صف لي كيف كان تناسلهم في مصر فقلت يا أمير المؤمنين لما أخذت الفرس الملك من أيدي الفراعنة قتلوا القبط فلم يبق منهم إلا من اصطنعته يد الهرب واختفى بأنصنا وغيرها فتعلموا طبا وكتابا فلما ملكت الروم ملك الفرس كانوا سببا في إخراج الفرس عن ملكهم وأقاموا في مملكة الروم إلى أن ظهرت دعوة المسيح وفيهم يقول خالد بن صفوان من قصيدة له يمدح بها عمرو بن العاص رضي الله عنه ويحثه على قتلهم ويغريه بهم يا عمرو قد ملكت يمينك مصرنا … وبسطت فيها العدل والإقساطا فاقتل بسيفك من تعدى طوره … واجعل فتوح سيوفك الأقباطا فبهم أقيم الجور في جنباتها … ورأى الأنام البغي والإفراطا عبدوا الصليب وثلثوا معبودهم … وتوازروا وتعدوا الأشراطا وبقي في نفس المأمون منهم فلما عاد إلى بغداد اتفق لهم مجاهرة في بغداد بالبغي والفساد على معلمه علي بن حمزة الكسائي فلما قرأ عليه المأمون ووصل إلى قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم قال الكسائي يا أمير المؤمنين أتقرأ كتاب الله ولا تعمل به فأمر المأمون بإحضار الذمة فكان عدة من صرف وسجن ألفين وثمان مئة وبقي جماعة من اليهود منحازين إلى حماية بعض جهاته فخرج توقيعه بما نسخته أخبث الأمم اليهود وأخبث اليهود السامرة وأخبث السامرة بنو فلان فليقطع ما بأسمائهم من ديوان الجيش والخراج إن شاء الله تعالى ودخل بعض الشعراء على المأمون وفي مجلسه يهودي جالس فأنشده يا ابن الذي طاعته في الورى … وحكمه مفترض واجب إن الذي عظمت من أجله … يزعم هذا أنه كاذب فقال له المأمون أصحيح ما يقول قال نعم فأمر بقتله 92 – فصل المتوكل وأهل الذمة وأما المتوكل فإنه صرف أهل الذمة من الأعمال وغير زيهم في مراكبهم وملابسهم وذلك أن المباشرين منهم للأعمال كثروا في زمانه وزادوا على الحد وغلبوا على المسلمين لخدمة أمه وأهله وأقاربه وذلك في سنة خمس وثلاثين ومئتين فكانت الأعمال الكبار كلها أو عامتها إليهم في جميع النواحي وكانوا قد أوقعوا في نفس المتوكل من مباشري المسلمين شيئا وأنهم بين مفرط وخائن وعملوا عملا بأسماء المسلمين وأسماء بعض الذمة لينفوا التهمة وأوجب باسم كل واحد منهم مالا كثيرا وعرض على المتوكل فأغري بهم وظن ما أوجبوا من ذلك حقا وأن المال في جهاتهم كما أوجبوه ودخل سلمة بن سعيد النصراني على المتوكل وكان يأنس به ويحاضره فقال يا أمير المؤمنين أنت في الصحاري والصيد وخلفك معادن الذهب والفضة ومن يشرب في آنية الذهب والفضة ويملؤها ذهبا عوضا عن الفاكهة فقال له المتوكل عند من فقال عند الحسين بن مخلد وأحمد بن إسرائيل وموسى بن عبدالملك وميمون بن هارون ومحمد بن موسى وكل واحد من هؤلاء اسمه ثابت في العمل المقدم ذكره المرفوع للمتوكل فقال له المتوكل ما تقول في عبيدالله بن يحيى فسكت فقال بحياتي عليك قل لي ما عندك فقال قد حلفتني بحياتك ولا بد لي من صدقك على كل حال والله يا أمير المؤمنين لقد صاغ له صوالجة وأكرمن ثلاثين ألف دينار فقلت له أمير المؤمنين يضرب كرة من جلود بصولجان من خشب وأنت تضرب كرة من فضة بصولجان من فضة فالتفت المتوكل إلى الفتح بن خاقان وقال ابعث فأحضر هؤلاء وضيق عليهم فحضرت جماعة الكتاب وعلموا ما وقعوا فيه من الكافر فاجتمعوا إلى عبيدالله بن يحيى فأنفذ معهم كاتبه إلى سلمة وعاتبه فيما جرى منه فحلف إنني لم أفعل ما فعلته إلا على سكر ولم أقل ما قلته عن حقيقة فأخذ خطه بذلك فدخل عبيدالله بن يحيى على المتوكل وعرفه مأثمة أهل الذمة على المسلمين وغيرهم وأوقفه على خط سلمة وقال هذا قصده أن يخلو أركان دولة أمير المؤمنين من الكتاب المسلمين ويتمكن هو ورهطه منها وكان المتوكل قد جعل في موكبه من يأخذ المتظلمين ويحضرهم بين يديه على خلوة فأحضر بين يديه شيخ كبير فذكر أنه من أهل دمشق وأن سعيد بن عون النصراني غصبه داره فلما وقف المتوكل على قصة الشيخ اشتد غضبه إلى أن كادت تطير أزراره وأمره أن يكتب إلى صالح عامله برد داره قال الفتح بن خاقان فقمت ناحية لأكتب له بما أمرني فأتبعني رسولا يستحثني فبادرت إليه فلما وقف على الكتاب زاد فيه بخطه نفيت عن العباس لئن خالفت فيما أمرت به لأوجهن من يجيئني برأسك ووصل الشيخ بألف دينار وبعث معه حاجبا وكثر تظلم الناس من كتاب أهل الذمة وتتابعت الإغاثات وحج المتوكل تلك السنة فرئي رجل يطوف بالبيت ويدعو على المتوكل فأخذه الحرس وجاؤوا به سريعا فأمر بمعاقبته فقال له والله يا أمير المؤمنين ما قلت ما قلته إلا وقد أيقنت بالقتل فاسمع كلامي ومر بقتلي فقال قل فقال سأطلق لساني بما يرضي الله ورسوله ويغضبك يا أمير المؤمنين قد اكتنفت دولتك كتاب من الذمة أحسنوا الاختيار لأنفسهم وأساؤوا الاختيار للمسلمين وابتاعوا دنياهم بآخرة أمير المؤمنين خفتهم ولم تخف الله وأنت مسؤول عما اجترحوا وليسوا مسؤولين عما اجترحت فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك فإن أخسر الناس صفقة يوم القيامة من أصلح دنيا غيره بفساد آخرته واذكر ليلة تتمخض صبيحتها عن يوم القيامة وأول ليلة يخلو المرء في قبره بعمله فبكى المتوكل إلى أن غشي عليه وطلب الرجل فلم يوجد فخرج أمره بلبس النصارى واليهود الثياب العسلية وألا يمكنوا من لبس الثياب لئلا يتشبهوا بالمسلمين ولتكن ركبهم خشبا وأن تهدم بيعهم المستجدة وأن تطبق عليهم الجزية ولا يفسح لهم في دخول حمامات المسلمين وأن يفرد لهم حمامات خدمها ذمة ولا يستخدموا مسلما في حوائجهم لنفوسهم وأفرد لهم من يحتسب عليهم وكتب كتابا نسخته أما بعد فإن الله اصطفى الإسلام دينا فشرفه وكرمه وأناره ونصره وأظهره وفضله وأكمله فهو الدين لا يقبل غيره قال تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين بعث به صفيه وخيرته من خلقه محمدا فجعله خاتم النبيين وإمام المتقين وسيد المرسلين لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين وأنزل كتابا عزيزا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد أسعد به أمته وجعلهم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون وأهان الشرك وأهله ووضعهم وصغرهم وقمعهم وخذلهم وتبرأ منهم وضرب عليهم الذلة والمسكنة وقال قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وطبع على قلوبهم وخبث سرائرهم وضمائرهم فنهى عن ائتمانهم والثقة بهم لعداوتهم للمسلمين وغشهم وبغضائهم فقال يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون وقال يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا وقال لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء وقال يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين وقد انتهى إلى أمير المؤمنين أن أناسا لا رأي لهم ولا روية يستعينون بأهل الذمة في أفعالهم ويتخذونهم بطانة من دون المسلمين ويسلطونهم على الرعية فيعسفونهم ويبسطون أيديهم إلى ظلمهم وغشمهم والعدوان عليهم فأعظم أمير المؤمنين ذلك وأنكره وأكبره وتبرأ إلى الله منه وأحب التقرب إلى الله تعالى بحسمه والنهي عنه ورأى أن يكتب إلى عماله على الكور والأمصار وولاة الثغور والأجناد في ترك استعمالهم للذمة في شيء من أعمالهم وأمورهم والإشراك لهم في أماناتهم وما قلدهم أمير المؤمنين واستحفظهم إياه وجعل في المؤمنين الثقة في الدين والأمانة على إخوانهم المؤمنين وحسن الرعاية لما استرعاهم والكفاية لما استكفوا والقيام بما حملوا ما أغنى عن الاستعانة بالمشركين بالله المكذبين برسله الجاحدين لآياته الجاعلين معه إلها آخر لا إله إلا هو وحده لا شريك له ورجاء أمير المؤمنين بما ألهمه الله من ذلك وقذف في قلبه جزيل الثواب وكريم المآب والله يعين أمير المؤمنين على نيته في تعزيز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وحزبه فليعلم هذا من رأي أمير المؤمنين ولا يستعانن بأحد من المشركين وإنزال أهل الذمة منازلهم التي أنزلهم الله تعالى بها فاقرأ كتاب أمير المؤمنين على أهل أعمالك وأشعه فيهم ولا يعلمن أمير المؤمنين أنك استعنت ولا أحد من عمالك وأعوانك بأحد من أهل الذمة في عمل والسلام 93 – فصل المقتدر بالله وأهل الذمة وأما المقتدر بالله فإنه سنة خمس وتسعين ومئتين عزل كتاب النصارى وعمالهم وأمر ألا يستعان بأحد من أهل الذمة حتى أمره بقتل أبي ياسر النصراني عامل مؤنس الحاجب وكتب إلى نوابه بما نسخته عوائد الله عند أمير المؤمنين توفى على غاية رضاه ونهاية أمانيه وليس أحد يظهر عصيانه إلا جعله الله عظة للأنام وبادره بعاجل الاصطلام والله عزيز ذو انتقام فمن نكث وطغى وبغى وخالف أمير المؤمنين وخالف محمدا وسعى في إفساد دولة أمير المؤمنين عاجله أمير المؤمنين بسطوته وطهر من رجسه دولته والعاقبة للمتقين وقد أمر أمير المؤمنين بترك الاستعانة بأحد من أهل الذمة في عمل من الأعمال فليحذر العمال تجاوز أمير المؤمنين ونواهيه 94 – فصل الراضي بالله وأهل الذمة وكذلك الراضي بالله كثرت الشكاية من أهل الذمة في زمانه فكتب إليه الشعراء في ذلك فممن كتب إليه مسعود بن الحسين الشريف البياضي يا ابن الخلائف من قريش والأولى … طهرت أصولهم من الأدناس قلدت أمر المسلمين عدوهم … ما هكذا فعلت بنو العباس حاشاك من قول الرعية إنه … ناس لقاء الله أو متناس ما العذر إن قالوا غدا هذا الذي … ولى اليهود على رقاب الناس أتقول كانوا وفروا الأموال إذ … خانوا بكفرهم إله الناس لا تذكرن إحصاءهم ما وفروا … ظلما وتنسى محصي الأنفاس وخف الإله غدا إذا وفيت ما … كسبت يداك اليوم بالقسطاس في موقف ما فيه إلا شاخص … أو مهطع أو مقنع للراس أعضاؤهم فيه الشهود وسجنهم … نار وحارسهم شديد الباس إن تمطل اليوم الديون مع الغنى … فغدا تؤديها مع الإفلاس لا تعتذر عن صرفهم بتعذر ال … متصرفين الحذق الأكياس ما كنت تفعل بعدهم لو أهلكوا … فافعل وعد القوم في الأرماس وكتب إليه وقد صرف ابن فضلان اليهودي بابن مالك النصراني أبعد ابن فضلان تولي ابن مالك … بماذا غدا تحتج عند سؤالكا خف الله وانظر في صحيفتك التي … حوت كل ما قدمته من فعالكا وقد خط فيها الكاتبون فأكثروا … ولم يبق إلا أن يقولوا فذلكا فوالله ما تدري إذا ما لقيتها … أتوضع في يمناك أم في شمالكا 95 – فصل الآمر بالله وأهل الذمة وكذلك في ايام الآمر بأمر الله امتدت أيدي النصارى وبسطوا أيديهم بالجناية وتفننوا في أذى المسلمين وإيصال المضرة إليهم واستعمل منهم كاتب يعرف بالراهب ولقب بالأب القديس الروحاني النفيس أبي الآباء وسيد الرؤساء مقدم دين النصرانية وسيد البتركية صفي الرب ومختاره ثالث عشر الحواريين فصادر اللعين عامة من بالديار المصرية من كاتب وحاكم وجندي عامل وتاجر وامتدت يده إلى الناس على اختلاف طبقاتهم فخوفه بعض مشايخ الكتاب من خالقه وباعثه ومحاسبه وحذره من سوء عواقب أفعاله وأشار عليه بترك ما يكون سببا لهلاكه وكان جماعة من كتاب مصر وقبطها في مجلسه فقال مخاطبا له ومسمعا للجماعة نحن ملاك هذه الديار حربا وخراجا ملكها المسلمون منا وتغلبوا عليها وغصبوها واستملكوها من أيدينا فنحن مهما فعلنا بالمسلمين فهو قبالة ما فعلوا بنا ولا يكون له نسبة إلى من قتل من رؤسائنا وملوكنا في أيام الفتوح فجميع ما نأخذه من أموال المسلمين وأموال ملوكهم وخلفائهم حل لنا وبعض ما نستحقه عليهم فإذا حملنا لهم مالا كانت المنة عليهم وأنشد بنت كرم غصبوها أمها … وأهانوها فديست بالقدم ثم عادوا حكموها فيهم … ولناهيك بخصم يحتكم فاستحسن الحاضرون من النصارى والمنافقين ما سمعوه منه واستعادوه وعضوا عليه بالنواجذ حتى قيل إن الذي اختاط عليه قلم اللعين من أملاك المسلمين مئتا ألف وإثنان وسبعون ألفا ما بين دار وحانوت وأرض بأعمال الدولة إلى أن أعادها إلى أصحابها أبو علي بن الأفضل ومن الأموال مالا يحصيه إلا الله ثم انتبه الآمر من رقدته وأفاق من سكرته وأدركته الحمية الإسلامية والغيرة المحمدية فغضب لله غضب ناصر للدين وبار بالمسلمين وألبس الذمة الغيار وأنزلهم بالمنزلة التي أمر الله تعالى أن ينزلوا بها من الذل والصغار وأمر ألا يولوا شيئا من أعمال الإسلام وأن ينشئوا في ذلك كتابا يقف عليه الخاص والعام فكتب عنه ما نسخته الحمد لله المعبود في أرضه وسمائه والمجيب دعاء من يدعوه بأسمائه المنفرد بالقدرة القاهرة المتوحد بالقوة الظاهرة وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة هدى العباد بالإيمان إلى سبيل الرشاد ووفقهم في الطاعات لما هو أنفع زاد في المعاد وتفرد بعلم الغيوب فعلم من كل عبد إضماره كما علم تصريحه يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه الذي شرف دين الإسلام وعظمه وقضى بالعادة الأبدية لمن انتحاه وتيممه وفضله على كل شرع سبقه وعلى كل دين تقدمه فنصره وخذلها وأشاد به وأخملها وورفعه ووضعها ووطده وضعضعها وأبى أن يقبل دينا سواه من الأولين والآخرين فقال تعالى وهو أصدق القائلين ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين وشهد به لنفسه وأشهد به ملائكته وأولي العلم الذين هم خلاصة الأنام فقال تعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام ولما ارتضاه لعباده وأتم عليهم به نعمته أكمله لهم وأظهره على الدين كله وأوضحه إيضاحا مبينا فقال تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا وفرق به بين أوليائه وأعدائه وبين أهل الهدى والضلال وأهل البغي والرشاد فقال تعالى فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد وأمر تعالى بالثبات عليه إلى الممات فقال وبقوله يهتدي المؤمنون يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون وهو وصية إمام الحنفاء لبنيه وإسرائيل من بعده كما قال تعالى ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون وأشهد عليه الحواريون عبد الله ورسوله وكلمته عيسى بن مريم وهو الشاهد الأمين قال تعالى فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون وأمر تعالى رسوله أن يدعو أهل الكتاب إليه ويشهد من تولى منهم بأنه عليه فقال تعالى وقوله الحق المبين قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون وصلى الله على الذي رفعه باصطفائه إلى محله المنيف وبعثه إلى الناس كافة بالدين القيم الحنيف وجعله أفضل من كان وأفضل من يكون وأرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون فكانت نبوته لظهر الكفر قاصمة وشريعته لمن لاذ بها ولجأ إليها من كل شر عاصمة وحججه لمن عاند وكفر خاصمة حتى أذعن المعاندون واعترف الجاحدون وذل المشركون و جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون وأشرق وجه الدهر برسالته ضياء وابتهاجا ودخل الناس بدعوته في دين الله أفواجا وأشرقت على الوجوه شمس الإسلام واتسق قمر الإيمان وولت على أدبارها مهزومة عساكر الشيطان وB أصحابه وخلفائه الذين اتبعوا سنته وابتغوا في القيام بها رضوانه ووقفوا عند شرعه فأعزوا من أعزه وأهانوا من أهانه أما بعد فإن الله سبحانه ببالغ حكمته وسابغ نعمته شرف دين الإسلام وطهره من الأدناس وجعل أهله خير أمة أخرجت للناس فالإسلام الدين القويم الذي اصطفاه الله من الأديان لنفسه وجعله دين أنبيائه ورسله وملائكة قدسه فارتضاه واختاره وجعل خير عباده وخاصته هم أولياءه وأنصاره يحافظون على حدوده ويثابرون ويدعون إليه ويذكرون و يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون فهم بآيات ربهم يؤمنون وإلى مرضاته يسارعون ولمن خرج عن دينه يجاهدون ولعباده بجهدهم ينصحون وعلى طاعته يثابرون و على صلواتهم يحافظون وعلى ربهم يتوكلون وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون هذا وإن أمة هداها الله إلى دينه القويم وجعلها دون الأمم الجاحدة على صراط مستقيم توفي من الأمم سبعين هم خيرها وأكرمها على رب العالمين حقيقة بأن لا يوالي من الأمم سواها ولا يستعان بمن خان الله خالقه ورازقه وعبد من دونه إلها فكذب رسله وعصى أمره واتبع غير سبيله واتخذ الشيطان وليا من دونه ومعلوم أن اليهود والنصارى موسومون بغضب الله ولعنته والشرك به والجحد لوحدانيته وقد فرض الله على عباده في جميع صلواتهم أن يسألوه هداية سبيل الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وتجنبهم سبيل الذين أبعدهم من رحمته وطردهم عن جنته فباؤوا بغضبه ولعنته من المغضوب عليهم والضالين فالأمةالغضبية هم اليهود بنص القرآن وأمة الضلال هم النصارى المثلثة عباد الصلبان وقد أخبر تعالى عن اليهود بأنهم بالذلة والمسكنة والغضب موسومون فقال تعالى ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون وأخبر بأنهم وباؤوا بغضب على غضب وذلك جزاء المفترين فقال بئس ما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباؤوا بغضب على غضب و للكافرين عذاب مهين وأخبر سبحانه أنه لعنهم ولا أصدق من الله قيلا فقال يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا وحكم سبحانه بينهم وبين المسلمين حكما ترتضيه العقول ويتلقاه كل منصف بالإذعان والقبول فقال قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل وأخبر على ما أحل بهم من العقوبة التي صاروا بها مثلا في العالمين فقال تعالى فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ثم حكم عليهم حكما مستمرا في الذراري والأعقاب على مر السنين والأحقاب فقال وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب فكان هذا العذاب في الدنيا ببعض الاستحقاق ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق فهم أنجس الناس قلوبا وأخبثهم طوية وأردؤهم سجية وأولاهم بالعذاب الأليم أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم فهم أمة الخيانة لله ورسوله ودينه وكتابه وعباده المؤمنين ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين وأخبر عن سوء ما يستمعون ويقولون وخبث ما يأكلون ويجمعون فقال تعالى سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين وأخبر تعالى أنه لعنهم على ألسنة أنبيائه ورسله بما كانوا يكسبون فقال لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون وقطع الموالاة بين اليهود والنصارى وبين المؤمنين وأخبر أنه من تولاهم فإنه منهم في حكمه المبين فقال تعالى وهو أصدق القائلين يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين وأخبر عن حال متوليهم بما في قلبه من المرض المؤدي إلى فساد العقل والدين فقال فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ثم أخبر عن حبوط أعمال متوليهم ليكون المؤمن لذلك من الحذرين فقال تعالى ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين ونهى المؤمنين عن اتخاذ أعدائه أولياء وقد كفروا بالحق الذي جاءهم من ربهم وأنهم لا يمتنعون من سوء ينالونهم به بأيديهم وألسنتهم إذا قدروا عليه فقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق إلى قوله إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون وجعل سبحانه لعباده المسلمين أسوة حسنة في إمام الحنفاء ومن معه من المؤمنين إذ تبرأوا ممن ليس على دينهم امتثالا لأمر الله وإيثارا لمرضاته وما عنده فقال تعالى قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده وتبرأ سبحانه ممن اتخذ الكفار أولياء من دون المؤمنين وحذره نفسه أشد التحذير فقال لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير فمن ضروب الطاعات إهانتهم في الدنيا قبل الآخرة التي هم إليها صائرون ومن حقوق الله تعالى الواجبة أخذ جزية رؤوسهم التي يعطونها عن يد وهم صاغرون ومن الأحكام الدينية أن تعم جميع الذمة إلا من لا تجب عليه باستخراجها وأن يعتمد في ذلك على سلوك سبيل السنة المحمدية ومنهاجها وألا يسامح بها أحد منهم ولو كان في قومه عظيما وألا يقبل إرساله بها ولو كان فيهم زعيما وألا يحيل بها على أحد من المسلمين ولا يوكل في إخراجها عنه أحدا من الموحدين وأن تؤخذ منه على وجه الذلة والصغار إعزازا للإسلام وأهله وإذلالا لطائفة الكفار وأن تستوفى من جميعهم حق الاستيفاء وأهل خيبر وغيرهم في ذلك على السواء وأما ما ادعاه الخيابرة من وضع الجزية عنهم بعهد من رسول الله فإن ذلك زور وبهتان وكذب ظاهر يعرفه أهل العلم والإيمان لفقه القوم البهت وزوروه ووضعوه من تلقاء أنفسهم وتمموه وظنوا أن ذلك يخفى على الناقدين أو يروج على علماء المسلمين ويأبى الله إلا أن يكشف حال المبطلين وإفك المفترين وقد تظاهرت السنن وصح الخبر بأن خيبر فتحت عنوة وأوجف عليها رسول الله والمسلمون الخيل والركاب فعزم رسول الله على إجلائهم عنها كما أجلى إخوانهم من أهل الكتاب فلما ذكروا أنهم أعرف بسقي نخلها ومصالح أرضها أقرهم فيها كالأجراء وجعل لهم نصف الانتفاع وكان ذلك شرطا مبينا وقال نقركم فيها ما شئنا فأقر بذلك الخيابرة صاغرين وأقاموا على هذا الشرط في الأرض عاملين ولم يكن للقوم من الذمام والحرمة ما يوجب إسقاط الجزية عنهم دون من عداهم من أهل الذمة كيف وفي الكتاب المشحون بالكذب والمين شهادة سعد بن معاذ وكان قد توفي قبل ذلك بأكثر من سنتين وشهادة معاوية بن أبي سفيان وإنما أسلم عام الفتح بعد خيبر سنة ثمان وفي الكتاب المكذوب أنه أسقط عنهم الكلف والسخر ولم يكن على زمانه شيء من ذلك ولا على زمان خلفائه الذين ساروا في الناس أحسن السير ولما اتسعت رقعة الإسلام ودخل فيه الخاص والعام وكان في المسلمين من يقوم بعمل الأرض وسقي النخيل أجلى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه اليهود من خيبر ممتثلا أمر رسول الله أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب وقال لئن بقيت لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلما 96 – فصل ما يلزموا به من اللباس وما شابه ذلك من أجل تمييزهم عن المسلمين وأما الغيار فلم يلزموا به في عهد النبي وإنما اتبع فيه أمر عمر رضي الله عنه وكان بدء أمره أن خالد بن عرفطة أمير الكوفة جاءت إليه امرأة نصرانية وأسلمت فذكرت أن زوجها يضربها على النصرانية وأقامت على ذلك بينة فضربه خالد وحلقه وفرق بينه وبينها فشكاه النصراني إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأشخصه وسأله عن ذلك فقص عليه القصة فقال الحكم ما حكمت به وكتب إلى الأمصار أن يجزوا نواصيهم ولا يلبسوا لبسة المسلمين حتى يعرفوا من بينهم وكيف يجوز أن يستعان بهم على شيء أو يؤتمنوا على أمر من أمور المسلمين وقد سموا رسول الله في الذراع ولما حضرته الوفاة قال ما زالت أكلة خيبر تعاودني وهذا أوان انقطاع أبهري وقد رأى أمير المؤمنين لقيامه بما استحفظ من أمور الديانة وحفظ نظامها ولانتصابه لمصالح أمة جعله الله رأسها وإمامها ولرعاية ما يتميز به المسلمون على من سواهم ولجعل الكفار يعرفون بسيماهم أن يعتمد كل من اليهود والنصارى ما يصيرون به مستذلين ممتهنين لأن الله تبارك وتعالى يقول ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين فلتستأد جزية رؤوسهم أجمع من غير استثناء من حزب المشركين لأحد ولينبه في استخراجها والحوطة عليها إلى أبعد غاية وأمد وليفرق بين المسلمين وبينهم في الشبه والزي ليتميز ذوو الهداية والرشد من ذوي الضلالة والبغي وليوسموا بالغيار وشد الزنار وإزالة ما على المسلمين من تشبههم بهم من العار وليؤمروا بأن يغيروا من أسمائهم ما يختص به أهل الإيمان كمحمد وأحمد وأبي بكر وعمر وعلي وعثمان وكذلك الكنى المختصة بالمسلمين كأبي علي وأبي الحسن وأبي عبدالله وأبي الحسين فلتغير هذه الأسماء بما يليق بهم ويصلح لهم ولينسخ بالثاني المستجد السالف الأول وليقرر بالتعويض عنه على ما ليس فيه متأول ولولا أنهم لم يتقدم إليهم في ذلك بنهي ولا تحذير لنالهم مالا طاقة لهم به من النكال والتدمير فليحذروا التعرض لهذا العقاب الأليم والعذاب الوبيل وليكن الغيار وشد الزنار مما يؤمرون به بالحضرة وبالأعمال بالديار المصرية والأقاصي من صبغ أبوابهم وعمائمهم باللون الأغبر الرصاصي وليؤخذ كل منهم بأن يكون زناره فوق ثيابه وليحذر غاية الحذر أن يرى منصرفا إلا به وليمنع لابسه أن يستره بردائه وليحذر الراكب منهم أن يخفيه بالجلوس عليه لإخفائه ولا يمكنوا من ركوب شيء من أجناس الخيل والبغال ولا سلوك مدافن المسلمين ولا مقابرهم في نهار ولا ليل ولا يفسح لأحد منهم في المراكب المحلاة ولتكن توابيت موتاهم مشدودة بحبال الليف مكشوفة غير مغشاة وليمنعوا من تعلية دورهم على دور من جاورهم من المسلمين وجملة الأمر أن ينتهي فيهم إلى قوله عز و جل إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين 97 – فصل في سياق الآيات الدالة على غش أهل الذمة للمسلمين وعداوتهم وخيانتهم وتمنيهم السوء لهم ومعاداة الرب تعالى لمن أعزهم أو والاهم أو ولاهم أمور المسلمين قال تعالى ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم وقال تعالى ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم وقال تعالى لرسوله ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير وقال تعالى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون وقال تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا وقال تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا وقال تعالى مبشرا لمن والاهم بالعذاب الأليم بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون وقال تعالى ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون وقال تعالى كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون وقال تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم وقال تعالى ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول إلى قوله قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس وقال تعالى ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط وقد أخبر سبحانه عن أهل الكتاب أنهم يعتقدون أنهم ليس عليهم إثم ولا خطيئة في خيانة المسلمين وأخذ أموالهم فقال تعالى ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون والآيات في هذا كثيرة وفي بعض هذا كفاية 98 – فصل حكم تولية أهل الذمة بعض شؤون البلاد الإسلامية ولما كانت التولية شقيقة الولاية كانت توليتهم نوعا من توليهم وقد حكم تعالى بأن من تولاهم فإنه منهم ولا يتم الإيمان إلا بالبراءة منهم والولاية تنافي البراءة فلا تجتمع البراءة والولاية أبدا والولاية إعزاز فلا تجتمع هي وإذلال الكفر أبدا والولاية صلة فلا تجامع معاداة الكافر أبدا 99 – فصل الملك الصالح وأهل الذمة ولو علم ملوك الإسلام بخيانة النصارى الكتاب ومكاتبتهم الفرنج أعداء الإسلام وتمنيهم أن يستأصلوا الإسلام وأهله وسعيهم في ذلك بجهد الإمكان لثناهم ذلك عن تقريبهم وتقليدهم الأعمال وهذا الملك الصالح كان في دولته نصراني يسمى محاضر الدولة أبا الفضائل بن دخان ولم يكن في المباشرين أمكن منه وكان المذكور قذاة في عين الإسلام وبثرة في وجه الدين ومثالبه في الصحف مسطورة ومخازيه مخلدة مذكورة حتى بلغ من أمره أنه وقع لرجل نصراني أسلم برده إلى دين النصرانية وخروجه من الملة الإسلامية ولم يزل يكاتب الفرنج بأخبار المسلمين وأعمالهم وأمر الدولة وتفاصيل أحوالها وكان مجلسه معمورا برسل الفرنج والنصارى وهم مكرمون لديه وحوائجهم مقضية عنده ويحمل لهم الأدرار والضيافات وأكابر المسلمين محجوبون على الباب لا يؤذن لهم وإذا دخلوا لم ينصفوا في التحية ولا في الكلام فاجتمع به بعض أكابر الكتاب فلامه على ذلك وحذره من سوء عاقبة صنعه فلم يزده ذلك إلا تمردا فلم يمض على ذلك إلا يسير حتى اجتمع في مجلس الصالح أكابر الناس من الكتاب والقضاة والعلماء فسأل السلطان بعض الجماعة عن أمر أفضى به إلى ذكر مخازي النصارى فبسط لسانه في ذلك وذكر بعض ما هم عليه من الأفعال والأخلاق وقال من جملة كلامه إن النصارى لا يعرفون الحساب ولا يدرونه على الحقيقة لأنهم يجعلون الواحد ثلاثة والثلاثة واحدا والله تعالى يقول لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وأول أمانتهم وعقد دينهم بسم الأب والابن وروح القدس إله واحد فأخذ هذا المعنى بعض الشعراء وقال في قصيدة له كيف يدري الحساب من جعل الوا … حد رب الورى تعالى ثلاثة ثم قال كيف تأمن أن يفعل في معاملة السلطان كما فعل في أصل اعتقاده ويكون مع هذا أكثر النصارى أمانة ؟ وكلما استخرج ثلاثة دنانير دفع إلى السلطان دينارا وأخذ لنفسه اثنين ولا سيما وهو يعتقد ذلك قربة وديانة ؟ وانصرف القوم واتفق أن كبت بالنصراني بطنته وظهرت خيانته فأريق دمه وسلط على وجوده عدمه وفيه يقول عمارة اليمني قل لابن دخان إذا جئته … ووجهه يندى من القرقف لم تكفك الدنيا ولو أنها … أضعاف ما في سورة الزخرف فاصفع قفا الذل ولو أنه … بين قفا القسيس والأسقف ملكك الدهر سباب الورى … فاحلق لحاهم آمنا وانتف خلا لك الديوان من ناظر … مستيقظ العزم ومن مشرف فاكسب وحصل وادخر واكتنز … واسرق وخن وابطش ولا تضعف وابك وقل ما صلح لي درهم … فرد وصلب وابتهل واحلف واغتنم الفرصة من قبل أن … تقضي على الإنجيل والمصحف 100 – فصل في أحكام ذبائحهم قال تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ولم يختلف السلف أن المراد بذلك الذبائح قال البخاري قال ابن عباس طعامهم ذبائحهم وكذلك قال ابن مسعود ومجاهد وإبراهيم وقتادة والحسن وغيرهم وقال أحمد بن الحسن الترمذي سألت أبا عبدالله عن ذبائح أهل الكتاب فقال لا بأس بها فقلت إلى أي شيء تذهب فيه ؟ قال حديث عبدالله بن مغفل يوم فتح خيبر ولي جراب من شحم الحديث قال إسحاق أجاد وقال حنبل سمعت أبا عبدالله يقول تؤكل ذبيحة اليهودي والنصراني وقال إسحاق بن منصور قال أبو عبدالله لا بأس أن يذبح أهل الكتاب للمسلمين غير النسيكة وقال حنبل سمعت أبا عبدالله قال لا بأس بذبيحة أهل الكتاب إذا أهلوا لله وسموا عليه قال تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه والمسلم في قلبه اسم الله وما أهل لغير الله به مما ذبحوا لكنائسهم وأعيادهم يجتنب ذلك وأهل الكتاب يسمون على ذبائحهم أحب إلي وقال مهنا بن يحيى سألت أبا عبدالله عن ذبائح السامرة قال تؤكل هم من أهل الكتاب وقال عبدالله بن أحمد قال أبي لا بأس بذبائح أهل الحرب إذا كانوا من أهل الكتاب وقال ابن المنذر أجمع على هذا كل من يحفظ عنه من أهل العلم وتفردت الشيعة دون الأمة بتحريم ذبائحهم واحتجوا بأن الذكاة الشرعية لم تدركها وبأنه إجماع أهل البيت وبأن التسمية شرط في الحل ولا يعلم أنهم يسمون وخبرهم لا يقبل وبأنهم لو سموا لم يسموا الله في الحقيقة لأنهم غير عارفين بالله قالوا والآية مخصوصة بما سوى الذبائح لما ذكرنا من الدليل وهذا القول مخالف للكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم فلا يلتفت إليه وأما احتجاجهم بأن الذكاة الشرعية لم تدركها فإن أرادوا بالذكاة الشرعية ما أباح الله ورسوله الأكل بها فهذه ذكاة شرعية وإن أريد بها ذكاة المسلم لم يلزم من نفيها نفي الحل ويصير الدليل هكذا لأن ذكاة المسلم لم تدركها فغيروا العبارة وقالوا لم تدركها الذكاة الشرعية وأما قولهم إنه إجماع أهل البيت فكذب على أهل البيت وللشيعة طريقة معروفة يقولون لكل ما تفردوا به عن جماعة المسلمين هذا إجماع أهل البيت وهذا عبدالله بن عباس عالم أهل البت يقول كلوا من ذبائح بني تغلب وتزوجوا من نسائهم فإن الله يقول في كتابه ومن يتولهم منكم فإنه منهم فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم قال سليمان بن حرب ثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن عكرمة عنه وإنما دخلت عليهم الشبهة من جهة أن عليا رضي الله عنه كان يكره ذبائح نصارى بني تغلب قال محمد بن موسى قلت لأبي عبدالله نصارى بني تغلب تؤكل ذبائحهم ؟ فقال فيما أحسب هذا عن علي لا تؤكل ذبائحهم بإسناد صحيح وقال إسحاق بن منصور سألت أحمد عن ذبائح نصارى بني تغلب فقال ما أثبته عن علي وهذه مسألة تنازع فيها السلف والخلف وفيها عن أحمد روايتان وقال الأثرم قلت لأحمد ذبائح نصارى العرب ما ترى فيها ؟ بني تغلب وغيرهم من العرب فقال أما علي فكرهها وقال إنهم لم يتمسكوا من دينهم إلا بشرب الخمر وابن عباس رخص فيها وقد تقدمت المسألة وأما قولهم أن التسمية شرط في الحل فلعمر الله إنها لشرط بكتاب الله وسنة رسوله وأهل الكتاب وغيرهم فيها سواء فلا يؤكل متروك التسمية سواء ذبحه مسلم أو كتابي لبضعة عشر دليلا مذكورة في غير هذا الموضع وأما قولهم إنه لا يعلم هل سمي أم لا فهذا لا يدل على التحريم لأن الشرط متى شق العلم به وكان فيه أعظم الحرج سقط اعتبار العلم به كذبيحة المسلم فإن التسمية شرط فيها ولا يعتبر العلم بذلك وقد ثبت عن النبي أنه قيل له إن ناسا يأتوننا باللحم لا ندري أسموا الله أم لا فقال سموا أنتم وكلوا وقولهم إن قوله غير مقبول لو صح ذلك لم يجز بيعه ولا شراؤه ولا معاملته ولا أكل طعامه لأنه إنما يستند إلى قوله فيه وقولهم إنهم لا يسمون الله لأنهم غير عارفين به حجة في غاية الفساد فإنهم يعرفون أنه خالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم وإن جهلوا بعض صفاته أو أكثرها فالمعرفة التامة ليست بشرط لتعذرها وأصل المعرفة معهم وأما تخصيص الآية بما عدا الذبائح فمخالف لإجماع الصحابة ومن بعدهم وللسنة الصحيحة الصريحة ومستلزم لحملها على ما لا فائدة فيه فإن الفاكهة والحبوب ونحوها لا تسمى من طعامهم بخلاف ذبائحهم ففهم أصحاب رسول الله وجماعة المسلمين بعدهم أولى من فهم الرافضة وبالله التوفيق 101 – فصل لا فرق بين المعاهد والحربي في أحكام الذبائح إذا ثبت هذا فلا فرق بين الحربي والمعاهد لدخولهم جميعا في أهل الكتاب وأما نصارى بني تغلب ففيهم روايتان وهما قولان للصحابة رضي الله عنهم 102 – فصل مسائل في أحكام ذبائحهم وههنا خمس مسائل إحداها ما تركوا التسمية عليه الثانية ما سموا عليه غير الله الثالثة ما ذبحوه غير معتقدين حله وهو حلال عندنا الرابعة ما ذبحوه معتقدين حله هل يحرم علينا منه الشحوم التي يعتقدون تحريمها ؟ الخامسة ما ذبحوه فخرج لاصق الرئة ويسمونه الطريفا هل يحرم علينا أم لا ؟ ونحن نذكر هذه المسائل واختلاف الناس فيها ومأخذها بعون الله وتوفيقه فأما المسألة الأولى فمن أباح متروك التسمية إذا ذبحه المسلم اختلفوا هل يباح إذا ذبحه الكتابي ؟ فقالت طائفة يباح لأن التسمية إذا لم تكن شرطا في ذبيحة المسلم لم تكن شرطا في ذبيحة الكتابي وقالت طائفةلا يباح وإن أبيح من المسلم وفرقوا بينهما بأن اسم الله في قلب المسلم وإن ترك ذكره بلسانه وهذا مقتضى المنقول عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو ظاهر نص أحمد فإن أحمد قال في رواية حنبل لا بأس بذبيحة أهل الكتاب إذا أهلوا بها لله وسموا عليها قال تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه والمسلم في قلبه اسم الله فقد خرج بالفرق كما ترى ومن حرم متروك التسمية من المسلم فلهم قولان في متروكها من الكتابي أحدهما أنه يباح وهذا مروي عن عطاء ومجاهد ومكحول والثاني أنه يحرم كما يحرم من المسلم وهذا قول إسحاق وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم 103 – فصل المسألة الثانية إذا ذكروا اسم غير الله على ذبيحتهم كالزهرة والمسيح وغيرهما فهل يلحق بمتروك التسمية فيكون حكمه حكمه أو يحرم قطعا وإن أبيح متروك التسمية ؟ فيه روايتان منصوصتان عن أحمد أصحهما تحريمه . 3قال الميموني سألت أبا عبدالله عمن يذبح من أهل الكتاب ولم يسم ؟ فقال إن كان مما يذبحون لكنائسهم يدعون التسمية فيه على عمد إنما يذبح للمسيح فقد كرهه ابن عمر إلا أن أبا الدرداء يتأول أن طعامهم حل وأكثر ما رأيت منه الكراهية لأكل ما ذبح لكنائسهم وقال الميموني أيضا سألت أبا عبدالله عن ذبيحة المرأة من أهل الكتاب ولم تسم قال إن كانت ناسية فلا بأس وإن كان مما يذبحون لكنائسهم قد يدعون التسمية على عمد وقال في رواية ابنه عبدالله ما ذبح للزهرة فلا يعجبني أكله قيل له أحرام أكله ؟ قال لا أقول حرام ولكن لا يعجبني وقال في رواية حنبل يجتنب ما ذبح لكنائسهم وأعيادهم وقال أبو البركات في محرره وإن ذكروا عليه اسم غير الله ففيه روايتان منصوصتان أصحهما عندي تحريمه وقال الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأصحابه لا تؤكل ذبائحهم التي سموا عليها اسم المسيح قال القاضي إسماعيل في أحكام القرآن وكأن أهل الكتاب خصوا بإباحة ذبيحتهم حتى كأنها قد أهل بها لله مع الكفر الذي هم عليه فخرج ما أهل به لغير الله إذ كانوا قد أهلوا بها وأشركوا مع الله تعالى ولهذا الوضع فيما أحسب اختلف الناس فيما ذبح النصارى لأعيادهم أو ذبحوا باسم المسيح فكرهه قوم لأنهم أخلصوا الكفر عند تلك الذبيحة فصارت مما أهل به لغير الله ورخص في ذلك قوم على الأصل الذي أبيح من ذبائحهم فأما من بلغنا عنه الرخصة في ذلك فحدثنا علي بن عبدالله ثنا عبدالرحمن بن مهدي ثنا معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن عمير بن الأسود السكوني قال أتيت أهلي فإذا كتف شاة مطبوخة قلت من أين هذا ؟ قالوا جيراننا من النصارى ذبحوا كبشا لكنيسة جرجس قلدوه عمامة وتلقوا دمه في طست ثم طبخوا وأهدوا إلينا وإلى جيراننا قال قلت ارفعوا هذا ثم هبطت إلى أبي الدرداء فسألته وذكرت ذلك له فقال اللهم غفرا هم أهل الكتاب طعامهم لنا حل وطعامنا لهم حل ثنا علي ثنا زيد بن الحباب أخبرني معاوية بن صالح حدثني أبو الحكم التجيبي حدثني جرير بن عتبة أو عتبة بن جرير قال سألت عبادة بن الصامت عن ذبائح النصارى لموتاهم قال لا باس به ثنا علي ثنا الوليد بن مسلم قال سمعت الأوزاعي عن مكحول فيما ذبحت النصارى لأعياد كذا قال كله قد علم الله ما يقولون وأحل ذبائحهم وثنا علي ثنا الوليد بن مسلم قال سمعت عبدالرحمن بن يزيد بن جابر يقول سمعت القاسم بن مخيمرة قال كلها ولو سمعته يقول على اسم جرجس لأكلتها حدثنا علي ثنا الوليد بن مسلم ثنا أبو بكر بن عبدالله بن أبي مريم عن عبدالرحمن ابن جبير بن نفير عن أبيه قال كلها وبه إلى أبي بكر عن حبيب بن عبيد أن العرباض بن سارية قال كله ثنا سليمان بن حرب ثنا عبدالعزيز بن مسلم عن عبدالملك عن عطاء في النصراني يذبح ويذكر اسم المسيح قال كله قد أحل الله ذبائحهم وقد علم ما يقولون وذكر عن عطاء أيضا أنه سئل عن النصراني يذبح ويقول باسم المسيح فقال كل وقال إبراهيم في الذمي يذبح ويقول باسم المسيح فقال إذا توارى عنك فكل وقال عبدالله بن وهب حدثني حيوة بن شريح عن عقبة بن مسلم التجيبي وقيس بن رافع الأشجعي أنهما قالا حل لنا ما يذبح لعيد الكنائس وما أهدي من خبز أو لحم وإنما هو طعام أهل الكتاب قال حيوة فقلت أرأيت قول الله وما أهل لغير الله به فقال إنما ذلك المجوس وأهل الأوثان والمشركون وقال أيوب بن نجيح سألت الشعبي عن ذبائح نصارى العرب فقلت منهم من يذكر الله ومنهم من يذكر المسيح فقال كل وأطعمني قال القاضي إسماعيل وأما من بلغنا عنه أنه كره ذلك فحدثنا محمد بن أبي بكر ثنا ابن مهدي عن قيس عن عطاء بن السائب عن زاذان عن علي قال إذا سمعت النصراني يقول باسم المسيح فلا تأكل وإذا لم تسمع فكل فقد أحلت لنا ذبائحهم حدثنا علي ثنا جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه أن امرأة سألت عائشة فقالت إن لنا أظئارا من العجم لا يزالون يكون لهم عيد فيهدون لنا فيه أفنأكل منه فقالت أما ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه ولكن كلوا من أشجارهم حدثنا علي ثنا عبدالرحمن بن مهدي عن عبيدالله عن نافع عن ابن عمر قال ما ذبح للكنيسة فلا تأكله وقال حماد كل مالم تسمعهم أهلوا به لغير الله وكرهه مجاهد وطاوس وكرهه ميمون بن مهران وقال القاضي إسماعيل وكان مالك يكره ذلك من غير أن يوجب فيه تحريما قال المبيحون هذا من طعامهم وقد أباح الله لنا طعامهم من غير تخصيص وقد علم سبحانه أنهم يسمون غير اسمه قال المحرمون قد صرح القرآن بتحريم ما أهل به لغير الله وهذا عام في ذبيحة الوثني والكتابي إذا أهل بها لغير الله وإباحة ذبائحهم وإن كانت مطلقة لكنها مقيدة بما لم يهلوا به لغيره فلا يجوز تعطيل المقيد وإلغاؤه بل يحمل المطلق على المقيد قال الآخرون بل هذا من باب العام والخاص فأما ما أهل به لغير الله فعام في الكتابي وغيره خص منه ذبيحة الكتابي فبقيت الآية على عمومها في غيره قال الآخرون بل قوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم عام فيما أهلوا به لله وما أهلوا به لغيره خص منه ما أهل به لغيره فبقي اللفظ على عمومه فيما عداه قالوا وهذا أولى لوجوه أحدها أنه قد نص سبحانه على تحريم ما لم يذكر عليه اسمه ونهى عن أكله وأخبر أنه فسق وهذا تنبيه على أن ما ذكر عليه اسم غيره أشد تحريما وأولى بأن يكون فسقا الثاني أن قوله وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم قد خص بالإجماع وأما ما أهل به لغير الله فلم يخص بالإجماع فكان الأخذ بالعموم الذي لم يجمع على تخصيصه أولى من العموم الذي قد أجمع على تخصيصه الثالث أن الله سبحانه قال إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فحصر التحريم في هذه الأربعة فإنها محرمة في كل ملة لا تباح بحال إلا عند الضرورة وبدأ بالأخف تحريما ثم بما هو أشد منه فإن تحريم الميتة دون تحريم الدم فإنه أخبث منها ولحم الخنزير أخبث منها وما أهل به لغير الله أخبث الأربعة ونظير هذا قوله قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون فبدأبالأسهل تحريما ثم ما هو أشد منه إلى أن ختم بأغلظ المحرمات وهو القول عليه بلا علم فما أهل به لغير الله في الدرجة الرابعة من المحرمات الرابع أن ما أهل به لغير الله لا يجوز أن تأتي شريعة بإباحته أصلا فإنه بمنزلة عبادة غير الله وكل ملة لا بد فيها من صلاة ونسك ولم يشرع الله على لسان رسول من رسله أن يصلي لغيره ولا ينسك لغيره قال تعالى قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت الخامس أن ما أهل به لغير الله تحريمه من باب تحريم الشرك وتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير من باب تحريم الخبائث والمعاصي السادس أنه إذا خص من طعام الذين أوتوا الكتاب ما يستحلونه من الميتة والدم ولحم الخنزير فلأن يخص منه ما يستحلونه مما أهل به لغير الله أولى وأحرى السابع أنه ليس المراد من طعامهم ما يستحلونه وإن كان محرما عليهم فهذا لا يمكن القول به بل المراد به ما أباحه الله لهم فلا يحرم علينا أكله فإن الخنزير من طعامهم الذي يستحلونه ولا يباح لنا وتحريم ما أهل به لغير الله عليهم أعظم من تحريم الخنزير وسر المسألة أن طعامهم ما أبيح لهم لا ما يستحلونه مما حرم عليهم الثامن أن باب الذبائح على التحريم إلا ما أباحه الله ورسوله فلو قدر تعارض دليلي الحظر والإباحة لكان العمل بدليل الحظر أولى لثلاثة أوجه أحدها تأيده بالأصل الحاظر الثاني أنه أحوط الثالث أن الدليلين إذا تعارضا تساقطا ورجع إلى أصل التحريم 104 – فصل المسألة الثالثة إذا ذبحوا ما يعتقدون تحريمه كالإبل والنعام والبط وكل ما ليس بمشقوق الأصابع هل يحرم على المسلم اختلف فيه فأباحه الشافعي وأبو حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبه وهو قول جمهور أصحابه وحكى ابن أبي موسى في الإرشاد أنه لا يباح ما ذكاه اليهود من الإبل ووجه هذا أنه ليس من طعام المذكي ولأنه ذبح لا يعتقد الذابح حله فهو كذبيحة المحرم ولأن لاعتقاد الذابح أثرا في حل الذبيحة وتحريمها ولهذا لو ذبح المسلم ما يعتقد أنه لا يحل له ذبحه كالمغصوب كان حراما فالقصد يؤثر في التذكية كما يؤثر في العبادة وهذا مذهب مالك واحتج أصحابه على ذلك بقوله تعالى وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ولما كانت حراما عليهم لم تكن تذكيتهم لها ذكاة كما لا يكون ذبح الخنزير لنا ذكاة وهذا الدليل مبني على ثلاث مقدمات إحداها أن ذلك حرام عليهم وهذه المقدمة ثابتة بنص القرآن الثانية أن ذلك التحريم باق لم يزل الثالثة أنهم إذا ذبحوا ما يعتقدون تحريمه لم تؤثر الذكاة في حله فأما الأولى فهي ثابتة بالنص وأما الثانية فالدليل عليها سبب التحريم باق وهو العدوان قال تعالى ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون وبغيهم لم يزل بمبعث النبي بل زاد البغي منهم فالتحريم تغلظ بتغلظ البغي يوضحه أن رفع ذلك التحريم إنما هو رحمة في حق من اتبع الرسول فإن الله وضع عن أتباعه الآصار والأغلال التي كانت عليهم قبل مبعثه ولم يضعها عمن كفر به قال تعالى الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون وأما المقدمة الثالثة وهي أنهم إذا ذبحوا ما يعتقدون تحريمه لم يؤثر ذلك في الحل فقد تقدم تقريرها 105 – فصل المسألة الرابعة إذا ذبحوا ما يعتقدون حله فهل تحرم علينا الشحوم المحرمة عليهم هذا مما اختلف فيه قال عبدالله بن أحمد سألت أبي عن الشحوم تحرم على اليهود فقال وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون قال والقرآن يقول حرمنا وقال في آية أخرى بعد سورة المائدة وعلى الذين هادوا حرمنا يعني نزل بعد اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم قلت فيحل لمسلم أن يطعم يهوديا شحما قال لا لأنه محرم عليه وقال مهنا حدثني أحمد عن الزبيري عن مالك في اليهودي يذبح الشاة قال لا يأكل من شحمها قال أحمد هذا مذهب دقيق فاختلف أصحابه في ذلك فذهب ابن حامد وأبو الخطاب وجماعة إلى الإباحة وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وذهب القاضي وأبو الحسن التميمي إلى التحريم وصنف فيه التميمي مصنفا رد فيه على من قال بالإباحة واختاره أبو بكر أيضا وذهب مالك إلى الكراهة وهي عنده مرتبة بين الحظر والإباحة قال المبيحون القول بالتحريم خلاف القرآن والسنن والمعقول أما القرآن فإن الله يقول وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم قالوا وقد اتفقنا على أن المراد بذلك ما ذبحوه لا ما أكلوه لأنهم يأكلون الخنزير والميتة والدم قالوا وقد جاء القرآن وصح الإجماع بأن دين الإسلام نسخ كل دين كان قبله وأن من التزم ما جاءت به التوراة والإنجيل ولم يتبع القرآن فإنه كافر وقد أبطل الله كل شريعة كانت في التوراة والإنجيل وسائر الملل وافترض على الجن والإنس شرائع الإسلام فلا حرام إلا ما حرمه الإسلام ولا فرض إلا ما أوجبه الإسلام وأما السنة فحديث عبدالله بن مغفل الذي رواه البخاري في صحيحه أن جرابا من شحم يوم خيبر دلي من الحصن فأخذه عبدالله بن مغفل وقال والله لا أعطي أحدا منه شيئا فضحك رسول الله وأقره على ذلك وثبت في الصحيح أن يهودية أهدت لرسول الله شاة فأكل منها ولم يحرم شحم بطنها ولا غيره قالوا وأما المعقول فمن المحال الباطل أن تقع الذكاة على بعض شحم الشاة دون بعضها قالوا وقد قال تعالى وطعامكم حل لهم وهذا محض طعامنا قالوا وقد قال لهم المسيح ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وقد أحل سبحانه لهم الطيبات على لسان رسوله وهذا من الطيبات قال ابن حزم ويسألون عن الشحم والجمل أحلال هما اليوم لليهود أم حرام إلى اليوم فإن قالوا بل هما حرام عليهم إلى اليوم كفروا بلا مرية إذ قالوا إن ذلك لم ينسخه الله تعالى وإن قالوا بل هما حلال لهم صدقوا ولزمهم ترك قولهم الفاسد قال ونسألهم عن يهودي مستخف بدينه يأكل الشحم ذبح شاة يعتقد حل شحمها هل يحرم علينا الشحم أم لا فإن قلتم يحرم علينا كان محالا فإنه ذكى ما يعتقد حله ونحن نعتقد حله فمن أين جاء التحريم وإن قلتم لا يحرم علينا كانت ذبيحة هذا المستخف بدينه أحسن حالا من ذبيحة المتمسك بدينه وهذا محال قال ويلزمهم ألا يستحلوا كل ما ذبحه يهودي يوم سبت ولا أكل حيتان صادها يهودي يوم سبت وهذا مما تناقضوا فيه قال وقد روينا عن عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وعائشة أم المؤمنين وأبي الدرداء وعبدالله بن يزيد وابن عباس والعرباض بن سارية وأبي أمامة وعبادة بن الصامت وابن عمر رضي الله عنهم إباحة ما ذبحه أهل الكتاب دون اشتراط لما يستحلونه وكذلك عن جمهور التابعين كإبراهيم النخعي وجبير بن نفير وأبي مسلم الخولاني وضمرة بن حبيب والقاسم بن مخيمرة ومكحول وسعيد بن المسيب ومجاهد وعبدالرحمن بن أبي ليلى والحسن وابن سيرين والحارث العكلي وعطاء والشعبي ومحمد ابن علي بن الحسين وطاوس وعمرو بن الأسود وحماد بن أبي سليمان وغيرهم لم نجد عن أحد منهم هذا القول إلا عن قتادة ثم عن مالك وعبيدالله بن الحسن وهذا مما خالفوا فيه طائفة من الصحابة لا مخالف لهم وخالفوا فيه جمهور العلماء قال المحرمون إنما أباح الله سبحانه لنا طعام الذين أوتوا الكتاب والشحوم المحرمة عليهم ليست من طعامهم فلا تكون لنا مباحة والمقدمتان ظاهرتان غنيتان عن التقرير قالوا ولأنه شحم محرم على ذابحه فكان محرما على غيره بطريق الأولى فإن الذكاة إذا لم تعمل في حله بالنسبة إلى المذكي لم تعمل في حله بالنسبة إلى غيره وهذا كذبح المحرم الصيد فإنه لما كان حراما عليه ولم تفد الذكاة الحل بالنسبة إليه لم تفده بالنسبة إلى الحلال قالوا وطرد هذا تحريم الجمل إذا ذبحه اليهودي قالوا وأيضا فللقصد تأثير في حل الذكاة كما تقدم فإذا كان الذابح غير قاصد للتذكية لم تحل ذكاته ولا ريب أنه غير قاصد لتذكية الشحم فإنه يعتقد تحريمه وأنه بمنزلة الميتة قالوا ولا محذور في تجزء الذكاة فيحل بها بعض المذكى دون بعض فيكون ذكاة بالنسبة إلى ما يعتقد المذكي حله وليس ذكاة بالنسبة إلى ما يعتقد تحريمه فإن ما يأكله يعتقد ذكاته ويقصدها وما لا يأكله لا يعتقد ذكاته ولا يقصدها فصار كالميتة قالوا والمعتمد في المسألة أن الله سبحانه حرم ذلك عليهم والتحريم باق لم ينسخ إلا عمن التزم الشريعة الإسلامية ويدل على بقاء التحريم وجوه أحدها أن الله سبحانه أخبر أنه حرمه ولم يخبر بأنه نسخه بعد تحريمه وإنما يزول التحريم عمن التزم الإسلام الثاني أنه علل التحريم بالبغي وهو لم يزل بكفرهم بمحمد الثالث ما في الصحيح عن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها وفي المسند عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها وإن الله لم يحرم على قوم أكل شيء إلا حرم عليهم ثمنه فلو كان التحريم قد زال عنهم لم يلعنهم على فعل المباح قالوا ولا يمتنع ورود الشرع بإقرارهم على آصارهم وأغلالهم تغليظا عليهم وقد قال تعالى إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه فأخبر أنه جعل عليهم ولم يخبر بأنه رفعه عنهم وإنما يرفع عمن التزم أحكام الإسلام وفي بقاء تحريمه عليهم قولان للفقهاء وهما وجهان في مذهب أحمد وعلى أحد القولين يلزمهم به ولا يمكنهم من كسره وقد نص أحمد على بقاء تحريم الشحوم عليهم فقال في رواية ابنه عبدالله لا يحل لمسلم أن يطعم يهوديا شحما لأنه محرم عليه قال أبو بكر عبدالعزيز ويدل على التحريم أن المسلم لما لم تعمل ذكاته فيما حرم عليه فاليهودي أولى قال فذكاة اليهودي لا تعمل في الشحم كما لا تعمل ذكاة المسلم في الغدة وأذن القلب لنهي النبي قال وقد نص أحمد على ذلك فقال ابن منصور قلت لأحمد آكل أذن القلب فقال لا تؤكل وقال عبدالله قلت لأبي الغدة فقال لا تؤكل النبي كرهها وقد روى الدارقطني من حديث بقية بن الوليد عن أبي المنذر عن عبدالله بن زيد عن أم سلمة أن النبي سألها عن أذن القلب فقالت ألقيتها فقال طابت قدرك وحل أكله وقال أبو طالب قلت لأحمد حدثوني عن عبدالله بن يحيى بن أبي كثير فقال ثقة ثم قال من حدثك عنه قلت مسدد قال سمع منه باليمامة قلت رواه عن أبيه عن رجل من الأنصار أن النبي نهى عن أذن القلب قالوا وقد ثبت أن القصد في الذكاة معتبر ولهذا اختلفت باختلاف المذكين وعكسه إزالة النجاسة لما لم يكن القصد فيها معتبرا لم يعتبر باختلاف المزيلين قالوا وأما حديث عبدالله بن مغفل فجوابه من وجوه أحدها أنه لم يقل فأخذته فأكلته فلعله أخذه لغير الأكل الثاني أنه لعله كانت رغبته في الظرف لا في المظروف الثالث لعله كان مضطرا إلى أكله فلم ينهه عنه الرابع أنه لعله من ذبيحة مسلم ولا يتعين أن يكون من ذبيحة كتابي وهذا من أفسد الأجوبة فإنه دلي من الحصن والمسلمون محاصروه الخامس وهو أصح الأجوبة أنه لا يتعين كونه من الشحم المحرم عليهم بل الظاهر أنهم إنما كانوا يأكلون الشحوم المباحة لهم فيجوز لنا أكله كما يجوز لنا أكل ذبائحهم وأطعمتهم والظاهر أنه من شحم الظهر والحوايا وما اختلط بعظم فإنه هو الشحم الذي كانوا يأكلونه وأما أكل النبي من الشاة التي ذبحتها اليهودية فإنها كانت شاة مشوية والشاة إنما تشوى بعد نزع شحمها وهو إنما أكل من الذراع وليس بحرام وأما قولكم إنه من المحال أن تقع التذكية على بعض الشاة دون بعض فهذا ليس بمحال عقلا ولا شرعا أن تعمل الذكاة فيما يباح من الشاة دون ما يحرم منها أو يكره والشريعة طافحة من تبعض الأحكام وهو محض الفقه وقد جعل الله سبحانه البنت من الرضاعة بنتا في الحرمة والمحرمة وأجنبية في الميراث والإنفاق وكذلك بنت الزنى عند جمهور الأمة بنت في تحريم النكاح وليست بنتا في الميراث وكذلك جعل النبي ابن وليدة زمعة أخا لسودة بنت زمعة في الفراش وأجنبيا في النظر لأجل الشبه بعتبة فلا يستحيل أن تكون الشاة مذكاة بالنسبة إلى اللحم والشحم المباح غير مذكاة بالنسبة إلى الشحم المحرم وأما استدلالكم بقوله تعالى وطعامكم حل لهم وأن هذه الشحوم من طعامنا فلعمر الله إنها من طعامنا إذا ذكاها المسلم ومن تحل له فأما إذا ذكاها من يعتقد تحريمها فليست في هذه الحال من طعامه ولا من طعامنا وأما استدلالكم بقول المسيح ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وبقوله تعالى عن محمد صلى الله عليه و سلم ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث فهذا الإحلال إنما هو لمن آمن بالمسيح وبمحمد نعمة من الله عليه وكرامة له لا لمن أصر على كفره وتكذيبه وإنما هو لمن التزم الشريعة التي جاءت بالحل وأما سؤال ابن حزم هل الجمل والشحم اليوم حرام عليهم أم حلال لهم فإن قالوا حرام عليهم كفروا وإن قالوا حلال تركوا قولهم فكلام متهور مقدم على تكفير من لم يكفره الله ورسوله وعلى التكفير بظنه الفاسد ولا يستحق هذا الكلام جوابا لخلوه عن الحجة وهم يقلبون عليه هذا السؤال فيقولون له نحن نسألك هل أحل الله لهم هذه الشحوم مع إقامتهم على كفرهم بمحمد فأباحها لهم وطيبها في هذه الحال أم أبقاهم على ما هم عليه من الآصار والأغلال فإن قلت بل أباحها لهم وطيبها وأحلها مع بقائهم على اليهودية وتكذيب رسوله فهذا كفر وكذب على الله وعلى كتابه وإن قلت أبقاهم على ما هم عليه تركت قولك وصرت إلى قولنا فلا بد لك من واحد من هذين الأمرين وأحسن أحوالك أن تتناقض لتسلم بتناقضك من الكفر وأما سؤالك عن ذبيحة المستخف بدينه الذي يعتقد حل الشحوم فهذا السؤال جوابه فيه فإنه متى اعتقد حل الشحوم خرج عن اليهودية إما إلى الإسلام وإما إلى الزندقة فإن تحريم الشحوم ثابت بنص التوراة فإن كذب التوراة وأقام على يهوديته فليس بيهودي ولا تحل ذبيحته وإن آمن بالتوراة واعتقد حل الشحوم لأن شريعة الإسلام أبطلت ما سواها من الشرائع والواجب اتباعها فهذا الاعتقاد حق ولكن لا يبيح له الشحوم المحرمة إلا بالتزام شريعة الإسلام التي رفع الله بها عنهم الآصار والأغلال فإذا لم يلتزم شريعة الإسلام وأقام على اليهودية لم ينفعه اعتقاده دون انقياده شيئا كما لو اعتقد أن محمدا رسول الله ولم ينقد للإسلام ومتابعته وأما قوله ويلزمهم ألا يأكلوا ما ذبحه يهودي يوم سبت فهذا لا يمنع أن يلتزموه فإنهم إن اعتقدوا تحريم ما ذبحوه يوم السبت كان بمنزلة ما ذبحوه من دواب الظفر وإن لم يعتقدوا تحريمه كان من طعامهم فكان حلالا ولأصحاب هذا القول في بقاء تحريم السبت عليهم قولان وأما صيدهم الحيتان يوم السبت فخفي على أبي محمد أن غايتها أن تكون ميتة وميتة السمك حلال ولهذا لا يحرم ما صاده منه المجوسي والوثني في أصح قولي العلماء وهما روايتان عن الإمام أحمد في السمك والجراد فلم يتناقضوا فيه كما زعمت وأما فتاوى من ذكرت من الصحابة بحل ذبائح أهل الكتاب فنعم لعمر الله لا يعرف عنهم فيها خلاف وليس الكلام فيها والصحابة إنما أفتوا بحل جنس ذبائحهم وأنها تخالف ذبائح المجوس ولم يريدوا بذلك حل ما لا يعتقدونه حلالا من ذبائحهم وأطعمتهم فلا يحفظ عن الصحابة التصريح بهذا ولا هذا وبالله التوفيق المسألة الخامسة في الطريفا وهو ما لصقت رئته بالجنب هل يحرم علينا لكونهم لا يعتقدون حله أم لا فالجمهور لا يحرمونه وهذا هو الصواب قطعا لأن تحريم هذا إنما علم من جهتهم لا بنص التوراة فلا يقبل قولهم فيه بخلاف تحريم ذي الظفر والشحوم المحرمة وقد ذكرنا في كتاب الهداية سبب هذا التحريم ومن أين نشأ وأن التوراة لم تحرمه وأنهم غلطوا على التوراة في تحريمه وذكرنا نص التوراة وأنهم حملوه على غير محمله وذهب أصحاب مالك إلى تحريمه طردا لهذا الأصل وأنه ليس من طعامهم وهذا ليس بمنصوص عن مالك ولا هو مقتضى أصوله والذابح في هذه الصورة اعتقد حل المذبوح وأنه من طعامه بخلاف ذابح ذي الظفر وتحريم هذا غير ثابت بالنص بخلاف تحريم ذي الظفر فلا يصح إلحاق أحدهما بالآخر والله أعلم ذكر أحكام معاملتهم 106 – فصل في البيع والشراء منهم ثبت عن النبي أنه اشترى من يهودي سلعة إلى الميسرة وثبت عنه أنه أخذ من يهودي ثلاثين وسقا من شعير ورهنه درعه وفيه دليل على جواز معاملتهم ورهنهم السلاح وعلى الرهن في الحضر وثبت عنه أنه زارعهم وساقاهم وثبت عنه أنه أكل من طعامهم وفي ذلك كله قبول قولهم إن ذلك الشيء ملكهم قال حنبل سمعت أبا عبدالله في الرجل يجيئه الذمي يشتري منه المتاع فيماكسه مكاسا شديدا فيبيعه المتاع ثم يجيء بعد ذلك المسلم فيستقصي أيضا في شدة المكاس فيبيعه أغلى مما يبيع الذمي وربما باع الذمي أغلى قال أرجو ألا يكون به بأس 107 – فصل في شركتهم ومضاربتهم قد تقدم أن رسول الله شاركهم في زرع خيبر وثمرها قال إسحاق بن إبراهيم سمعت أبا عبدالله وسئل عن الرجل يشارك اليهودي والنصراني قال يشاركهم ولكن يلي هو البيع والشراء وذلك أنهم يأكلون الربا ويستحلون الأموال ثم قال أبو عبدالله ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل وقال إبراهيم بن هانئ سمعت أبا عبدالله قال في شركة اليهودي والنصراني أكرهه لا يعجبني إلا أن يكون المسلم الذي يلي البيع والشراء وقال الأثرم سألت أبا عبدالله عن مشاركة اليهودي والنصراني قال شاركهم ولكن لا يخلو اليهودي والنصراني بالمال دونه يكون هو يليه لأنه يعمل بالربا وقال إسحاق بن منصور قيل لأبي عبدالله قيل لسفيان ما ترى في مشاركة النصراني قال أما ما يغيب عنك فما يعجبني قال أحمد حسن وقال عبدالله بن أحمد حدثني عبدالأعلى ثنا حماد بن سلمة قال قال إياس بن معاوية إذا شارك المسلم اليهودي أو النصراني وكانت الدراهم مع المسلم فهو الذي يتصرف بها في الشراء والبيع فلا بأس ولا يدفعها إلى اليهودي والنصراني يعملان فيها لأنهما يربيان قال عبدالله سألت أبي عن ذلك فقال مثل قولإياس وقال العباس بن محمد الخلال قال أبو عبدالله في المسلم يدفع إلى الذمي مالا يشاركه قال أما إذا كان هو يلي ذلك فلا إلا أن يكون المسلم يليه وقال حنبل قال أبو عبدالله ما أحب مخالطته بسبب من الأسباب في الشراء والبيع هذا لفظه قال الخلال في الجامع يعني المجوسي لأن عصمة بين ذلك أخبرنا عصمة بن عصام حدثنا حنبل أن أبا عبدالله قال أما المجوسي فما أحب مخالطته ولا معاملته قال الخلال وأخبرني عبدالله بن حنبل قال حدثني أبي في موضع آخر قال سألت عمي قلت له ترى للرجل أن يشارك اليهودي والنصراني قال لا بأس إلا أنه لا تكون المعاملة في البيع والشراء إليه يشرف على ذلك ولا يدعه حتى يعلم معاملته وبيعه فأما المجوسي فلا أحب مخالطته ولا معاملته لأنه يستحل ما لا يستحل هذا قال حنبل وحدثنا أبو سلمة حدثنا جرير بن حازم قال سئل حماد عن مشاركة المجوسي قال لا بأس بذلك قيل له فيدفع إليه مالا مضاربة قال لا قال عبدالله بن حنبل قال عمي لا يشاركه ولا يضاربه وقال حرب سألت أحمد بن حنبل قلت ما قولك في شركة اليهودي والنصراني فكرهه وقال لا يعجبني إلا أن يكون المسلم هو الذي يلي الشراء والبيع قال حرب وحدثنا أبو أمية محمد بن إبراهيم حدثنا أبو صالح حدثنا بكير بن عمرو قال قال عطاء نهى رسول الله عن مشاركة اليهودي والنصراني إلا أن يكون الشراء والبيع بيد المسلم وهذا الحديث على إرساله ضعيف السند وقال وكيع عن ليث عن مجاهد وعطاء وطاووس أنهم كرهوا شركة النصراني وقال وكيع عن الفضل بن دلهم عن الحسن لا يشارك يهوديا ولا نصرانيا في شراء ولا بيع وقال سمعت أبا عبدالله قال لا أحب الرجل أن يشارك المجوسي ولا يعطيه ماله مضاربة ولا اليهودي ولا النصراني ويأخذ منهما وقال حرب قلت لأحمد رجل يدفع ماله مضاربة إلى الذمي تكرهه قال لا وقال وكيع عن سفيان عن معمر عن رجل عن الحسن خذ من اليهودي والنصراني ولا تعطهما قال الخلال استقرت الروايات عن أبي عبدالله بكراهة شركة اليهودي والنصراني إلا أن يكون هو يلي وتفرد حنبل من المجوس خاصة فذكر عن أبي عبدالله الكراهة له البتة قال وهم أهل ذلك لأنهم كما قال أبو عبدالله يستحلون ما لا يستحل هؤلاء قال وعلى هذا العمل من قوله وبالله التوفيق قلت الذين كرهوا مشاركتهم لهم مأخذان أحدهما استحلالهم ما لا يستحله المسلم من الربا والعقود الفاسدة وغيرها وعلى هذا تزول الكراهة بتولي المسلم البيع والشراء والثاني أن مشاركتهم سبب لمخالطتهم وذلك يجر إلى موادتهم وكره الشافعي مشاركتهم مطلقا وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال أكره أن يشارك المسلم اليهودي وابن عباس إنما كره مشاركتهم لمعاملتهم بالربا كذلك رواه الأثرم وغيره عنه من طريق أبي جمرة عنه لا يشاركن يهوديا ولا نصرانيا ولا مجوسيا لأنهم يربون والربا لا يحل وقد عللت طائفة كراهة مشاركتهم بأن كسبهم غير طيب فإنهم يبيعون الخمر والخنزير وهذه العلة لا توجب الكراهة فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال ولوهم بيعها وخذوا أثمانها وما باعوه من الخمر والخنزير قبل مشاركة المسلم جاز لهم شركتهم في ثمنه وثمنه حلال لاعتقادهم حله وما باعوه واشتروه بمال الشركة فالعقد فيه فاسد فإن الشريك وكيل والعقد يقع للموكل والمسلم لا يثبت ملكه على الخمر والخنزير فرع قال مهنا سألت أحمد عن مسلم ونصراني لهما على رجل نصراني مئة درهم فصالحه النصراني من حصته على خنزير أو على دن خمر بالذي له عليه قال يكون للمسلم على النصراني خمسون درهما فتأمل هذا الفقه كيف جعل ما قبضه النصراني من الخمر أو الخنزير من حصته وحده حيث لم يجز للمسلم مشاركته فيه وجعل الخمسين الباقية كلها للمسلم لأن المعاوضة صحت بالنسبة إلى النصراني ولم تصح بالنسبة إلى المسلم وهي معاوضة من أحد الشريكين فصححها في حقه دون شريكه 108 – فصل في استئجارهم واستئجار المسلم نفسه منهم أما استئجارهم فقد ثبت عن النبي أنه استأجر دليلا يدله على طريق الهجرة وكان مشركا فأمنه ودفع إليه راحلته هو والصديق وأما إيجارهم نفسه فهي مسألة تفصيل ونحن نذكر نصوص أحمد قال إسحاق بن إبراهيم سمعت أبا عبدالله وسأله رجل بناء أبني للمجوس ناووسا قال لا تبن لهم ولا تعنهم على ما هم فيه وقال محمد بن الحكم سألت أبا عبدالله عن الرجل المسلم يحفر لأهل الذمة قبرا بكراء قال لا بأس به وليس هذا باختلاف رواية قال شيخنا والفرق بينهما أن الناووس من خصائص دينهم الباطل فهو كالكنيسة بخلاف القبر المطلق فإنه ليس في نفسه معصية ولا من خصائص دينهم وقال إسحاق بن منصور قيل لأبي عبدالله يؤاجر الرجل نفسه من اليهود والنصراني قال لا بأس نعم حدثنا مهنا قال قلت لأحمد هل تكره للمسلم يؤاجر نفسه للمجوسي قال لا قال وسألت أحمد قلت يكري الرجل نفسه لمجوسي يخدمه ويذهب في حوائجه قال لا بأس قلت له فيقول له لبيك إذا دعاه قال لا وقد قال في رواية الأثرم إن آجر نفسه من الذمي في خدمته لم يجز وإن كان في عمل شيء جاز وقال في رواية أحمد بن سعيد لا بأس أن يؤاجر نفسه من الذمي فهذه ثلاث روايات عنه رواية مطلقة بالجواز ورواية مصرحة بالمنع في الخدمة خاصة ورواية مصرحة بالجواز في الخدمة وللشافعي قولان في إجارة نفسه له للخدمة وقد اختلف أصحاب أحمد في ذلك فمنهم من منع إجارة نفسه منه إجارة العين مطلقا للخدمة وغيرها وجوز إجارة نفسه منه على عمل في الذمة ومنهم من منع إجارة الخدمة خاصة وجوز إجارة العمل وهذه طريقة أكثر أصحابنا وفرقوا بينهما بأن إجارة الخدمة تتضمن حبس نفسه على خدمته مدة الإجارة وذلك فيه نوع إذلال للمسلم وإهانة له تحت يد الكافر فلم يجز كبيع العبد المسلم له قالوا ويحققه أن عقد الإجارة للخدمة يتعين فيه حبسه مدة الإجارة واستخدامه والبيع لا يتحقق فيه ذلك فإذا منع منه فالمنع من الإجارة أولى قالوا ولأنها بيع منافعه والمنافع تجري مجرى الأعيان فلا يجوز بيع رقبته ولا بعضها ولا منافعه من الذمي قالوا وهذا بخلاف الإجارة على الذمة فإنها لم تتضمن ذلك وإنما هي التزام لعمل مضمون في الذمة وتلخيص مذهبه أن إجارة المسلم نفسه للذمي ثلاثة أنواع أحدها إجارة على عمل في الذمة فهذه جائزة الثانية إجارة للخدمة فهذه فيها روايتان منصوصتان أصحهما المنع منها الثالثة إجارة عينه منه لغير الخدمة فهذه جائزة وقد آجر علي رضي الله عنه نفسه من يهودي يستقي له كل دلو بتمرة وأكل النبي من ذلك التمر هذا كله إذا كان الإيجار لعمل لا يتضمن تعظيم دينهم وشعائره فإن كانت الإجارة على عمل يتضمن ذلك لم يجز كما نص عليه أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم وقد سأله رجل بناء أبني ناووسا للمجوس فقال لا تبن لهم وقال الشافعي في كتاب الجزية من الأم وأكره للمسلم أن يعمل بناء أو نجارة أو غير ذلك في كنائسهم التي لصلاتهم وقال أبو الحسن الآمدي لا يجوز أن يؤجر نفسه لعمل ناووس ونحوه رواية واحدة فإن قيل فقد قال الخلال أخبرني أبو نصر إسماعيل بن عبدالله بن ميمون العجلي قال قال أبو عبدالله فيمن حمل خمرا أو خنزيرا أو ميتة لنصارى يكره أكل كرائه ولكنه يقضي للحمال بالكراء وإذا كان للمسلم فهو أشد كراهية قيل اختلف الأصحاب في هذا النص على ثلاث طرق إحداها إجراؤه على ظاهره وأن المسألة رواية واحدة قال ابن أبي موسى في الإرشاد وكره أحمد أن يؤجر المسلم نفسه لحمل ميتة أو خنزير لنصراني فإن فعل قضي له بالكراء وإن أجر نفسه لحمل محرم لمسلم كانت الكراهية أشد ويأخذ الكراء وهل يطيب له على وجهين أوجههما أنه لا يطيب له وليتصدق به وهكذا ذكر أبو الحسن الآمدي قال إذا آجر نفسه من رجل في حمل خمر أو خنزير أو ميتة كره نص عليه أحمد وهذه كراهة تحريم لأن النبي لعن حاملها إذا ثبت هذا فيقضى له بالكراء وغير ممتنع أن يقضى له بالكراء وإن كان محرما كإجارة الحجام فقد صرح هؤلاء بأنه يستحق الأجرة مع كونها محرمة عليه على الصحيح الطريقة الثانية تأويل هذه الرواية بما يخالف ظاهرها وجعل المسألة رواية واحدة أن هذه الإجارة لا تصح وهي طريقة ضعيفة فإنه صنف المجرد قديما ورجع عن كثير منه في كتبه المتأخرة الطريقة الثالثة تخرج هذه المسألة على روايتين إحداهما أن هذه الإجارة صحيحة يستحق بها الأجرة مع الكراهة للفعل والأجرة والثانية لا تصح الإجارة ولا يستحق بها أجرة وإن حملها وقد قال إسحاق بن منصور قلت لأبي عبدالله سئل الأوزاعي عن الرجل يؤجر لنطارة كرم النصراني فكره ذلك فقال أحمد ما أحسن ما قال لأن أصل ذلك يرجع إلى الخمر إلا أن يعلم أنه يباع لغير الخمر فلا بأس هذا لفظه فقد منع مرة إجارة نفسه لحفظ الكرم الذي يتخذ للخمر فأولى أن يمنع من إجارة نفسه على حمل الخمر وهذه طريقة القاضي في التعليق وطريقة أصحابه وهذا قياس مذهب أحمد ونصوصه في الخمر أنه لا يجوز إمساكها ويجب إراقتها وقد قال في رواية أبي طالب إذا أسلم وله خمر أو خنزير يصب الخمر ويسرح الخنزير قد حرما عليه وإن قتلها فلا بأس فقد نص على أنه لا يجوز إمساكها وفي حملها إمساك لها وقد لعن رسول الله حاملها فكيف تصح الإجارة على حملها وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد هذا كله فيما إذا استأجر الخمر والميتة حيث لا يجوز إقرارها أما إن استأجره لحملها للإراقة أو الإلقاء في الصحراء فإنه تجوز الإجارة على ذلك لأنه عمل مباح لكن إن كانت الأجرة لجلد الميتة لم تصح واستحق أجرة المثل وإن كان قد سلخ الجلد وأخذه رده على صاحبه وهذا مذهب مالك والشافعي قال شيخنا والأشبه طريقة ابن أبي موسى فإنها أقرب إلى مقصود أحمد وأقرب إلى القياس وذلك أن النبي لعن عاصر الخمر ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه فالعاصر والحامل قد عاوضا على منفعة تستحق العوض وليست محرمة في نفسها وإنما حرمت بقصد المعتصر والمستحمل فهو كما لو باع عنبا أو عصيرا لمن يتخذه خمرا وفات العصير والعنب في يد المشتري فإن مال البائع لا يذهب مجانا بل يقضي له بعوضه كذلك هاهنا المنفعة التي وفاها المؤجر لا تذهب مجانا بل يعطى بدلها فإن تحريم الانتفاع بها إنما كان من جهة المستأجر لا من جهته ثم نحن نحرم الإجارة عليه لحق الله سبحانه لا لحق المستأجر والمشتري بخلاف من استؤجر للزنى أو التلوط أو السرقة ونحو ذلك فإن نفس هذا الفعل محرم في نفسه فهو كما لو باعه ميتة أو خمرا أو خنزيرا فإنه لا يقضى له بثمنها لأن نفس هذه العين محرمة ومثل هذه الإجارة والجعالة لا توصف بالصحة مطلقا ولا بالفساد مطلقا بل يقال هي صحيحة بالنسبة إلى المستأجر بمعنى أنه تجب عليه الأجرة والجعل فاسدة بالنسبة إلى الآجر يعني أنه يحرم عليه الانتفاع بالمال ولهذا في الشريعة نظائر ونص أحمد على كراهة نطارة كرم النصراني لا ينافي هذا فإنا ننهاه عن هذا الفعل وعن ثمنه ثم نقضي له بكرائه ولو لم يفعل هذا لكان فيه منفعة عظيمة وإعانة للعصاة فإن من استأجروه على عمل يستعينون به على المعصية قد حصلوا غرضهم منه ثم لا يعطونه شيئا وإذا أخذ منهم العوض ينزع منه ثم يرد إليهم هنيئا موفرا فإن قيل فما تقولون فيمن سلم إليهم المنفعة المحرمة التي استأجروه عليها كالغناء والنوح والزنى واللواط قيل إن كان لم يقبض منهم العوض لم يقض له به باتفاق الأمة وإن كان قد قبض له لم يطب له أكله ولم يملكه بذلك والجمهور يقولون يرده عليهم لأنه قبضه قبضا فاسدا وهذا فيه روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد إحداهما أنه يرده عليهم والثانية لا يأكله ولا يرده بل يتصدق به قال شيخنا وأصح الروايتين أنه لا يرده عليه ولا يباح للأخذ ويصرف في مصالح المسلمين كما نص عليه أحمد في أجرة حمال الخمر ومن ظن أنها ترد على الباذل المستأجر لأنها مقبوضة بعقد فاسد فيجب ردها عليه كالمقبوض بعقد الربا ونحوه من العقود الفاسدة قيل له المقبوض بالعقد الفاسد يجب فيه التراد من الجانبين فيرد كل منهما على الآخر ما قبضه منه كما في عقود الربا وهذا عند من يقول المقبوض بالعقد الفاسد لا يملك فأما إذا تلف المعوض عند القابض وتعذر رده فلا يقضى له بالعوض الذي بذله ويجمع له بين العوض والمعوض فإن الزاني واللائط ومستمع الغناء والنوح قد بذلوا هذا المال عن طيب نفوسهم واستوفوا عوضه المحرم وليس التحريم الذي فيه لحقهم وإنما هو لحق الله وقد فاتت هذه المنفعة بالقبض والأصول تقتضي أنه إذا رد أحد العوضين يرد الآخر فإذا تعذر على المستأجر رد المنفعة لم يرد عليه المال الذي بذله في استيفائها وأيضا فإن هذا الذي استوفيت منفعته عليه ضرر في أخذ منفعته وعوضها جميعا بخلاف ما لو كان العوض خنزيرا أو ميتة فإن ذلك لا ضرر عليه في فواته فإنه لو كان باقيا أتلفناه عليه ومنفعة الغناء والنوح لو لم تفت لتوفرت عليه بحيث يتمكن من صرفها في أمر آخر أعني القوة التي عمل بها فإن قيل فيلزمكم على هذا أن تقضوا له بها إذا طالب بقبضها قيل نحن لا نأمر بدفعها ولا بردها كعقود الكفار المحرمة فإنهم إذا أسلموا قبل القبض لم نحكم بالرد لكن المسلم تحرم عليه هذه الأجرة لأنه كان معتقدا لتحريمها بخلاف الكافر فإذا طلب الأجرة قلنا له أنت فرطت حيث صرفت قوتك في عمل محرم فلا يقضى له بالأجرة فإذا قبضها ثم قال الدافع هذا المال اقضوا لي برده فإنه قبض مني باطلا قلنا له أنت دفعته بمعاوضة رضيت بها فإذا طلبت استرجاع ما أخذ منك فاردد إليه ما أخذته منه فإن في بقائه معه منفعة له فإن قال قد تعذر رد المنفعة التي استوفيتها منه قيل له فلا يجمع لك بين ما استمتعت به من منفعته وبين العوض الذي بذلته فيها . فإن قال أنا بذلت مالا يجوز بذله وهو أخذ مالا يجوز أخذه قيل وهو بذل لك من منفعته مالا يجوز له بذله واستوفيت أنت مالا يجوز استيفاؤه فكلاكما سواء فما الموجب لرجوعك عليه ولا يفوت عليك شيء وتفوت المنفعة عليه وكلاكما راض بما بذل مستوف لعوضه ؟ فإن قال ما بذلته أنا عين يمكن الرجوع فيها فيجب وما بذله منفعة لا يمكن الرجوع فيها إذا أمكن الرجوع في معوضها الذي بذلت في مقابلته أو إذا لم يمكن الأول مسلم والثاني هو محل النزاع فكيف يجعل مقدمته من مقدمات الدليل ؟ وقياسه على المقبوض عوضا عن الخمر والميتة لا يصح كما عرف الفرق بينهما على أنا لا نسلم أن مشتري الخمر إذا قبض ثمنها وشربها ثم طلب أن يعاد إليه المال أن يقضي له به بل الأوجه ألا يرد إليه الثمن ولا يباح للبائع أيضا لا سيما ونحن نعاقب الخمار يبيع الخمر بأن يحرق الحانوت التي يباع فيها نص عليه أحمد وغيره من العلماء فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حرق حانوتا يباع فيها الخمر وعلي بن أبي طالب حرق قرية يباع فيها الخمر وهذا على أصل من يرى جواز العقوبات المالية أطرد فإنه إذا جاز عقوبته بمال ينزع منه يفسده عليه ويحول بينه وبينه فأن لا يقضى له بمال أخرجه في المعصية ويمنع من استرجاعه أولى وأحرى وبالله التوفيق 109 – فصل إجارة دار المسلم لأهل الذمة فهذا حكم إجارة نفسه لهم وأما إجارة داره لأهل الذمة فقال الخلال باب الرجل يؤاجر داره للذمي أو يبيعها منه ثم ذكر عن المروذي أن أبا عبدالله سئل عن رجل باع داره من ذمي وفيها محاريب ؟ فاستعظم ذلك وقال نصراني ؟ لا تباع يضرب فيها الناقوس وينصب فيها الصلبان وقال لا تباع من الكافر وشدد في ذلك وعن أبي الحارث أن أبا عبدالله سئل عن الرجل يبيع داره وقد جاءه نصراني فأرغبه وزاده في ثمن الدار ترى أن يبيع منه وهو نصراني أو يهودي أو مجوسي ؟ قال لا أرى له ذلك يبيع داره من كافر يكفر فيها ؟ يبيعها من مسلم أحب إلي فهذا نص على المنع ونقل عنه إبراهيم بن الحارث قيل لأبي عبدالله الرجل يكري منزله من الذمي ينزل فيه وهو يعلم أنه يشرب فيه الخمر ويشرك فيه ؟ فقال ابن عون كان لا يكري إلا من أهل الذمة يقول يرعبهم قيل له كأنه أراد إذلال أهل الذمة بهذا ؟ قال لا ولكنه أراد أنه كره أن يرعب المسلمين يقول إذا جئته أطلب الكراء من المسلم أرعبته فإذا كان ذميا كان أهون عنده وجعل أبو عبدالله يعجب من ابن عون فيما رأيت وهكذا نقل الأثرم سواء ولفظه قلت لأبي عبدالله ومسائل الأثرم وإبراهيم بن الحارث يشتركان فيها غالبا ونقل عنه مهنا سألت أحمد عن الرجل يكري المجوسي داره أو دكانه وهو يعلم أنهم يربون ؟ فقال كان ابن عون لا يرى أن يكري المسلم ويقول أرعبهم في أخذ الغلة وكان يرى أن يكري غير المسلمين قال الخلال كل من حكى عن أبي عبدالله في الرجل يكري داره من ذمي فإنما أجابه أبو عبدالله على فعل ابن عون ولم ينقل لأبي عبدالله فيه قول وقد حكى عنه إبراهيم أنه رآه معجبا بقول ابن عون والذين رووا عن أبي عبدالله في المسلم يبيع داره من الذمي أنه كره ذلك كراهية شديدة فلو نقل لأبي عبدالله في السكنى كان السكنى والبيع عندي واحدا والأمر في ظاهر قول أبي عبدالله أنه لا يباع منه لأنه يكفر فيها وينصب الصلبان وغير ذلك والأمر عندي ألا يباع منه ولا يكرى لأنه معنى واحد قال وقد أخبرني أحمد بن الحسين بن حسان قال سئل أبو عبدالله عن حصين بن عبدالرحمن فقال روى عنه حفص لا أعرفه قال له أبو بكر هذا من النساك حدثني أبو سعيد الأشج سمعت أبا خالد الأحمر يقول حفص هذا نفسه باع دار حصين بن عبدالرحمن عابد أهل الكوفة من عون البصري فقال له أحمد حفص ؟ قال نعم فعجب أحمد من حفص بن غياث قال الخلال وهذا أيضا تقوية لمذهب أبي عبدالله فعلى هذا العمل من قوله أنه على الكراهية في الجميع قال شيخنا وعون هذا كان من أهل البدع أو من الفساق بالعمل فأنكر أبو خالد الأحمر على حفص بن غياث قاضي الكوفة أنه باع دار الرجل الصالح من مبتدع وعجب أحمد من فعل القاضي قال الخلال وإذا كان يكره بيعها من فاسق فكذلك من كافر وإن كان الذمي يقر والفاسق لا يقر لكن ما يفعله الكافر فيها أعظم وهكذا ذكر القاضي عن أبي بكر عبدالعزيز وقد ذكر قول أحمد في رواية أبي الحارث لا أرى أن يبيع داره من كافر يكفر بالله فيها يبيعها من مسلم أحب إلي فقال أبو بكر لا فرق بين الأجارة والبيع عنده فإذا أجاز البيع أجاز الإجارة وإذا منع البيع منع الإجارة ووافقه القاضي وأصحابه على ذلك قال شيخنا وتلخيص الكلام في ذلك أما بيع داره من كافر فقد ذكرنا منع أحمد منه ثم اختلف أصحابه في ذلك هل هذا تنزيه أو تحريم ؟ فقال الشريف أبو علي بن أبي موسى كره أحمد أن يبيع مسلم داره من ذمي يكفر فيها بالله تعالى ويستبيح المحظورات فإن فعل أساء ولم يبطل البيع وكذلك أبو الحسن الآمدي أطلق الكراهة مقتصرا عليها وأما الخلال وصاحبه والقاضي فمقتضى كلامهم تحريم ذلك وصرح به القاضي فقال لا يجوز أن يؤاجر داره أو بيته ممن يتخذه كنيسة أو بيت نار أو يبيع فيه الخمر سواء شرط أنه يبيع فيه الخمر أم لم يشرط لكنه يعلم أنه يبيع فيه الخمر وقد قال أحمد في رواية أبي الحارث لا أرى أن يبيع داره من كافر يكفر فيها بالله إلى آخر كلامه قال القاضي وقال أحمد أيضا في نصارى وقفوا ضيعة لهم البيعة لا يستأجرها الرجل المسلم منهم يعينهم على ما هم فيه قال وبهذا قال الشافعي ثم قال القاضي فإن قيل أليس قد أجاز أحمد إجارتها من اهل الذمة مع علمه بأنهم يفعلون فيها ذلك ؟ قيل المنقول عن أحمد أنه حكى قول ابن عون وعجب منه وذكر القاضي رواية الأثرم وهذا يقتضي أن القاضي لا يجوز إجارتها من ذمي وقد قال أبو بكر إذا أجاز البيع أجاز الإجارة وإذا منع منع قال شيخنا وكلام أحمد يحتمل الأمرين فإن قوله في رواية أبي الحارث يبيعها من مسلم أحب إلي يقتضي أنه منع تنزيه واستعظامه لذلك في رواية المروذي وقوله لا يباع من الكافر وتشديده في ذلك يقتضي التحريم وأما الإجارة فقد سوى الأصحاب بينها وبين البيع وما حكاه عن ابن عون فليس بقول احمد وإعجابه بفعله إنما هو لحسن مقصد ابن عون ونيته الصالحة ويمكن أن يقال ظاهر الرواية أنه أجاز ذلك فإن إعجابه بالفعل دليل جوازه عنده واقتصاره على الجواب بفعل رجل يقتضي أنه مذهبه في أحد الوجهين والفرق بين الإجارة والبيع أن ما في الإجارة من مفسدة الإعانة قد عارضه مصلحة أخرى وهي صرف إرعاب المطالبة بالكراء عن المسلم وإنزال ذلك بالكافر وصار ذلك بمنزلة إقرارهم بالجزية فإنه وإن كان إقرارا لكافر لكن لما تضمنه من المصلحة جاز ولذلك جازت مهادنة الكفار في الجملة فأما البيع فهذه المصلحة منتفية فيه وهذا ظاهر على قول ابن أبي موسى وغيره أن البيع مكروه غير محرم فإن الكراهة في الإجارة تزول بهذه المصلحة الراجحة كما في نظائرها فيصير في المسألة أربعة أقوال قال شيخنا وهذا الخلاف عندنا والتردد في الكراهة هو إذا لم يعقد الإجارة على المنفعة المحرمة فأما إن أجره إياها لأجل بيع الخمر أو اتخاذها كنيسة أو بيعة لم يجز قولا واحدا وبه قال الشافعي وغيره كما لا يجوز أن يكري أمته أو عبده للفجور وقال أبو حنيفة يجوز أن يؤاجرها لذلك قال أبو بكر الرازي لا فرق عند أبي حنيفة بين أن يشترط أن يبيع فيه الخمر وبين ألا يشترط لكنه يعلم أنه يبيع فيه الخمر أن الإجارة تصح ومأخذه في ذلك أنه لا يستحق عليه بعقد الإجارة فعل هذه الأشياء وإن شرط له ألا يبيع فيها الخمر ولا يتخذها كنيسة ويستحق عليه الأجرة بالتسليم في المدة فإذا لم يستحق عليه فعل هذه الأشياء كان ذكرها وترك ذكرها سواء كما لو اكترى دارا لينام فيها أو يسكنها فإن الأجرة تستحق عليه وإن لم يفعل ذلك وكذلك يقول فيما إذا استأجر رجلا لحمل خمر أو خنزير أنه يصح لأنه لا يتعين حمل الخمر بل لو حمل عليه بدله عصيرا استحق الأجرة فهذا التقييد عنده لغو فهو بمنزلة الإجارة المطلقة والمطلقة عنده جائزة وإن غلب على ظنه أن المستأجر يعصي فيها كما يجوز بيع العصير لمن يتخذه خمرا ثم إنه كره بيع السلاح في الفتنة قال لأن السلاح معمول للقتال لا يصلح لغيره وعامة الفقهاء خالفوه في المقدمة الأولى وقالوا ليس المقيد كالمطلق بل المنفعة المعقود عليها هي المستحقة فتكون هي المقابلة بالعوض وهي منفعة محرمة وإن جاز للمستأجر أن يقيم مثله مقامه وألزموه ما لو اكترى دارا ليتخذها مسجدا فإنه لا يستحق عليه فعل المعقود عليه ومع هذا فإنه أبطل هذه الأجارة بناء علىأنها اقتضت فعل الصلاة وهي لا تستحق بعقد إجارة ونازعه أصحابنا وكثير من الفقهاء في المقدمة الثانية وقالوا إذا غلب على ظنه أن المستأجر ينتفع بها في محرم حرمت الإجارة له لأن النبي لعن عاصر الخمر ومعتصرها والعاصر إنما يعصر عصيرا لكن إذا رأى أن المعتصر يريد أن يتخذه خمرا أو عصيرا استحق اللعنة وهذا أصل مقرر في غير هذا الموضع لكن معاصي الذمي قسمان أحدهما ما اقتضى عقد الذمة إقراره عليها والثاني ما اقتضى عقد الذمة منعه منها أو من إظهارها فاما القسم الثاني فلا ريب أنه لا يجوز على أصل أحمد أن يؤاجر أو يبايع إذا غلب على الظن أنه يفعل ذلك كالمسلم وأولى وأما القسم الأول فعلى ما قاله ابن أبي موسى يكره ولا يحرم لأنا قد أقررناه على ذلك وإعانته على سكنى هذه الدار كإعانته على سكنى دار الإسلام فلو كان هذا من الإعانة المحرمة لما جاز إقراره بالجزية وإنما كره ذلك لأنه إعانة من غير مصلحة لإمكان بيعها من مسلم بخلاف الإقرار بالجزية فإنه جاز لأجل المصلحة وعلى ما قاله القاضي لا يجوز لأنه إعانة على ما يستعين به على المعصية من غير مصلحة تقابل هذه المفسدة فلم يجز بخلاف إسكانهم دار الإسلام فإن فيه من المصالح ما هو مذكور في فوائد إقرارهم بالجزية 110 – فصل الكفار ممنوعون من الاستيلاء على أملاك المسلمين وحقيقة الأمر أن الكفار ممنوعون من الاستيلاء على ما ثبت للمسلمين فيه حق من عقار أو رقيق أو زوجة مسلمة أو إحياء موات أو تملك بشفعة من مسلم لأن مقصود الدعوة أن تكون كلمة الله هي العليا وإنما أقروا بالجزية للضرورة العارضة والحكم المقيد بالضرورة مقدر بقدرها ولهذا لم يثبت عن واحد من السلف لهم حق شفعة على مسلم وأخذ بذلك الإمام أحمد وهي من مفرداته التي برز بها على الثلاثة لأن الشقص يملكه المسلم إذا أوجبنا فيه شفعة لذمي كنا قد أوجبنا على المسلم أن ينقل الملك في عقاره إلى كافر بطريق القهر للمسلم وهذا خلاف الأصول والشفعة في الأصل إنما هي من حقوق أحد الشريكين على الآخر بمنزلة الحقوق التي تجب للمسلم على المسلم كإجابة الدعوة وعيادة المريض وكمنعه أن يبيع على بيع أخيه أو يخطب على خطبته قال عبدالله بن أحمد سألت أبي عن الذمي اليهودي والنصراني لهم شفعة ؟ قال لا قلت المجوسي ؟ قال ذاك أشد وقال حرب سألت أحمد قلت أهل الذمة لهم شفعة ؟ قال لا وقال أبو داود سمعت أبا عبدالله يسأل للذمي شفعة ؟ قال لا وذلك نقل أبو طالب وصالح وأبو الحارث والأثرم كلهم عنه ليس للذمي شفعة زاد أبو الحارث مع المسلم قال الأثرم قيل له لم ؟ قال لأنه ليس له مثل حق المسلم واحتج فيه قال الأثرم ثنا ابن الطباع ثنا هشيم أخبرنا الشيباني عن الشعبي أنه كان يقول ليس لذمي شفعة وقال سفيان عن حميد عن أبيه إنما الشفعة لمسلم ولا شفعة لذمي وقال احمد حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن حماد بن زيد عن ليث عن مجاهد أنه قال ليس ليهودي ولا لنصراني شفعة وقال الخلال أخبرني محمد بن الحسن بن هارون قال سئل أبو عبدالله وأنا أسمع عن الشفعة للذمي قال ليس للذمي شفعة ليس له حق المسلم أخبرني عصمة بن عصام حدثنا حنبل قال سمعت أبا عبدالله قال ليس ليهودي ولا لنصراني شفعة إنما ذلك للمسلمين بينهم وقال في رواية إسحاق بن منصور ليس لليهودي والنصراني شفعة قيل ولم ؟ قال لأن النبي قال لا يجتمع دينان في جزيرة العرب وهذا مذهب شريح والحسن والشعبي واحتج الإمام أحمد بثلاث حجج إحداها أن الشفعة من حقوق المسلمين بعضهم على بعض فلا حق للذمي فيها ونكتة هذا الاستدلال أن الشفعة من حق المالك لا من حق الملك الحجة الثانية قول النبي لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى اضيقه وتقرير الاستدلال من هذا أنه لم يجعل له حقا في الطريق المشترك عند تزاحمهم مع المسلمين فكيف يجعل لهم حقا إلى انتزاع ملك المسلم منه قهرا ؟ بل هذا تنبيه على المنع من انتزاع الأرض من يد المسلم وإخراجه منها لحق الكافر لنفي ضرر الشركة عنه وضرر الشركة على الكافر أهون عند الله من تسليطه على إزالة ملك المسلم عنه قهرا الدليل الثالث قوله لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ووجه الاستدلال من هذا أن النبي حكم بإخراجهم من أرضهم ونقلها إلى المسلمين لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله فكيف نسلطهم على انتزاع أراضي المسلمين منهم قهرا وإخراجهم منها ؟ وأيضا فالشفعة حق يختص العقار فلا يساوي الذمي فيه المسلم كالاستعلاء في البنيان يوضحه أن الاستعلاء تصرف في هواء ملكه المختص به فإذا منع منه فكيف يسلط على انتزاع ملك المسلم به قهرا وهو ممنوع من التصرف في هوائه تصرفا يستعلي فيه على المسلم ؟ فأين هذا الاستعلاء من استعلائه عليه بإخراجه من ملكه قهرا ؟ وأيضا فالشفعة وجبت لإزالة الضرر عن الشفيع وإن كان فيها ضرر بالمشتري فإذا كان المشتري مسلما فسلط الذمي على انتزاع ملكه منه قهرا كان فيه تقديم حق للذمي على حق المسلم وهذا ممتنع وأيضا فإنه يتضمن مع إضراره بالمسلم إضرارا بالدين وتملك دار المسلمين منهم قهرا وشغلها بما يسخط الله بدل ما يرضيه وهذا خلاف قواعد الشرع ولذلك حرم عليهم نكاح المسلمات إذ كان فيه نوع استعلاء عليهن ولذلك لم يجز القصاص بينهم وبين المسلمين ولا حد القذف ولا يمكنون من تملك رقيق مسلم وقد قال تعالى ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ومن أعظم السبيل تسليط الكافر على انتزاع أملاك المسلمين منهم وإخراجهم منها قهرا وقد قال تعالى لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة وهذا يقتضي مطلق المساواة بين المسلم والكافر لا نفي المساواة المطلقة فإنها منتفية عن كل شيئين وإن تماثلا وبهذه الآية احتج من نفي القصاص بينهم وبين المسلمين وأيضا فالذمي تبع لنا في الدار وليس بأصل من أهل الدار ولهذا عند الشافعي يؤدي الجزية أجرة لمكان السكنى والتبسط في دار الإسلام ولهذا متى نقض العهد ألحق بمأمنه وأخرج من دارنا وألحق بداره فهو في دار الإسلام أجري مجرى الساكن المنتفع لا مجرى الساكن الحقيقي وحق السكنى لا يقوى على انتزاع الشقص من يد مالكه وقد قال تعالى ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون وقال النبي لليهود اعلموا أن الأرض لله ورسوله فعباده الصالحون هم وارثوها وهم الملاك لها على الحقيقة والكفار فيها تبع ينتفعون بها لضرورة إبقائهم بالجزية فلا يساوون المالكين حقيقة ولهذا منعهم كثير من الأئمة من شراء الأرض العشرية لما في ذلك من إسقاط حق المسلم من العشر الذي يجب فكيف يسلطون على انتزاع نفس أرض المسلم وعقاره منه قهرا ؟ وأيضا فلو كانوا مالكين حقيقة لما أوصى النبي بإخراجهم من جزيرة العرب وقال لئن عشت لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب هذا مع بقائهم على عهدهم وعدم نقضهم له فلو كانوا مالكين لدورهم حقيقة لما أخرجهم منها ولم ينقضوا عهدا ولهذا احتج الإمام أحمد بذلك على أنه لا شفعة لهم على مسلم وهذا من ألطف ما يكون من الفهم وأدق ما يكون من الفقة وأيضا فالشفعة تقف على ملك ومالك فإذا اختصت الشفعة بملك دون مالك وهو العقار دون غيره فأولى أن تختص بمالك دون مالك وهو المسلم دون غيره وهذا على أصل من يقول الشفعة تثبت على خلاف القياس ظاهر جدا فإنها تسليط على انتزاع ملك الغير منه قهرا لمصلحة الشفيع فيجب أن يقتصر بها على ما قام عليه الدليل وثبت به الإجماع دون غيره وأما نحن فليست الشفعة عندنا على خلاف القياس ولكن حكمة الشارع وقياس أصوله أوجبتها دفعا لضرر الشركة بحسب الإمكان وإذا كان البائع قد رغب عن الشقص ورضي بالثمن فرغبته عنه لشريكه ليدفع عنه ضرر الشريك الدخيل أولى وهو يأخذ منه الثمن الذي يأخذه من الشريك ولا يفوت عليه شيء فهذا محض قياس الأصول ولكن هذا حق للمسلم على المسلم فلا حق للذمي فيه كسائر الحقوق التي لأهل الإسلام بعضهم على بعض وإذا كان كثير من الفقهاء يمنعون الذمي من التمليك بالإحياء كعبدالله بن المبارك والشافعي وأحمد في رواية وكثير من المالكية مع أن الإحياء لا يتضمن انتزاع ملك مسلم منه فلأن يمنع من انتزاع أرض المسلم وعقاره منه قهرا أولى وأحرى وأيضا فإذا منع من مشاركة المسلم في تجديد الملك فيما هو مشترك وفيه عمارة لدار الإسلام فأحرى أن يمنع من انتزاع عقار ثبت عليه ملك المسلم واختص به فإن إزالة الملك الخاص وانتزاعه من المسلم قهرا أشد ضررا من المشاركة فيما هو مشترك بين العموم وليس مع الموجبين للشفعة نص من كتاب الله ولا سنة من رسول الله ولا إجماع من الأمة وغاية ما معهم إطلاقات وعمومات كقوله قضى رسول الله فيما لم يقسم وقوله من كان له شريك في ربعة أو حائط فلا يحل أن يبيع حتى يؤذن شريكه ونحو ذلك مما لا يعرض فيه للمستحق وإنما سيقت لأحكام الأملاك لا لعموم الأملاك من أهل الملة وغيرها وليس معهم قياس استوى فيه الأصل والفرع في المقتضي للحكم فإن قياس الكافر على المسلم من أفسد القياس وكذلك قياس بعضهم من تجب له الشفعة بمن تجب عليه من أفسد القياس أيضا فإن الذمي يستحق عليه القصاص ولا يستحقه هو على المسلم ويستحق عليه حد القذف ولا يستحقه وكذلك المطلق في مرض الموت يستحق عليه الميراث ولا يستحقه وكذلك المسلم يستحق تعلية البنيان على الذمي ولا يستحقه الذمي عليه والمسلم يستحق نكاح الكافرة وشراء الرقيق الكافر ولا يستحق الذمي نكاح المسلمة ولا شراء الرقيق المسلم والمسلم يستأجر الكافر للخدمة دون العكس وكذلك قياس بعضهم الأخذ بالشفعة على الرد بالعيب من هذا النمط فإن الرد بالعيب من باب استدراك الظلامة وأخذ الجزء الفائت الذي يترك على الثمن في مقابلته فأين ذلك من تسليطه على انتزاع ملك المسلم منه قهرا واستيلائه عليه ؟ وكذلك قياس بعضهم ذلك على ثبوت الخيار في البيع هو من هذا الضرب فإن الخيار إن كان خيار شرط فهو شرطه له على نفسه وإن كان خيار مجلس فمن لا يثبته كيف يحتج به ؟ وإن ألزم به من يثبته فهو يفترق عنه بأن خيار المجلس هو موجب العقد شرعا فلا يتخلف عن العقد كالحلول والتقابض والسلامة وكذلك قياس بعضهم الأخذ بالشفعة على التملك بالإحياء مع أنه تملك بغير عوض يرجع إلى المسلمين فيقال من الذي سلم الحكم في هذه المسألة ؟ وقد تنازع فيها الفقهاء قديما وحديثا على أحوال أربعة أحدها أنه لا يملك بالإحياء في دار الإسلام وهذا اختيار أبي عبدالله بن حامد وهو منصوص الشافعي وقول طائفة من المالكية وأهل الظاهر الثاني أنه يملك به كالمسلم وهو المنصوص عن احمد في رواية حرب وإبراهيم بن هانىء ويعقوب بن بختان ومحمد بن أبي حرب وهو قول الحنفية وأكثر المالكية واختيار أكثر الأصحاب واستثنى المالكية ما أحياه بجزيرة العرب فإنه لا يملكه فإن فعل أعطي قيمة ما عمر ونزع منه والقول الثالث أنه إن أذن له الإمام ملك به وإلا لم يملك وهذا مذهب ابن المبارك الرابع أنه إن أحيا فيما بعد من العمران ملكه وإن أحيا فيما قرب من العمران لم يملكه وإن أذن فيه الإمام فإن فعل أعطي قيمة ما عمر ونزع منه وهذا قول مطرف وابن الماجشون والذين يملكونه بالإحياء اختلفوا فيما أحياه هل يلزمه عنه خراج أو عشر أو لا يلزمه شيء من ذلك ؟ فقال صاحب المحرر والذمي كالمسلم في الملك بالإحياء نص عليه لكن إن أحيا موات عنوة لزمه عنه الخراج وإن أحيا غيره فلا شيء عليه فيه ونقل عنه حرب عليه عشر ثمره وزرعه والمقصود أنا إن قلنا لا يملك الذمي بالإحياء بطل الاستدلال به وإن قلنا يملك به فالفرق بينه وبين تملكه بالشفعة من وجوه ثلاثة أحدها أنه بالإحياء لا ينتزع ملك مسلم منه بل يحيي مواتا لا حق فيه لأحد ينتفع به فهو كتملك المباحات من الحطب والحشيش والمعادن وغيرها الثاني أنه ليس في إحيائه ضرر على المسلم ولا قهر وإذلال له بخلاف تسليطه على إخراجه من داره وأرضه واستيلائه هو عليها الثالث أنه بالإحياء عامر للأرض الموات وفي ذلك نفع له وللإسلام بخلاف قهره للمسلم وأخذ أرضه وداره منه وإخراجه منها فقياس الأخذ بالشفعة على الإحياء باطل وعلى هذا فيجاب عن هذا القياس بالجواب المركب أنه إن لم يكن بين الإحياء والأخذ بالشفعة فرق فالحكم فيهما واحد وهو عدم الملك بهما وإن كان بينهما فرق بطل الالتزام به والله أعلم 111 – فصل في حكم أوقافهم ووقف المسلم عليهم أما ما وقفوه هم فينظر فيه فإن أوقفوه على معين أو جهة يجوز للمسلم الوقف عليها كالصدقة على المساكين والفقراء وإصلاح الطرق والمصالح العامة أو على أولادهم وأنسالهم وأعقابهم فهذا الوقف صحيح حكمه حكم وقف المسلمين على هذه الجهات لكن إن شرط في استحقاق الأولاد والأقارب بقاءهم على الكفر فإن أسلموا لم يستحقوا شيئا لم يصح هذا الشرط ولم يجز للحاكم أن يحكم بموجبه باتفاق الأمة فإنه مناقض لدين الإسلام مضاد لما بعث الله به رسوله وهو أبلغ في ذلك من أن يقف على أولاده ما داموا ساعين في الأرض بالفساد مرتكبين لمعاصي الله فمن تاب منهم أخرج من الوقف ولم يستحق منه شيئا وهذا لا يجيزه مسلم . 3فإن قيل فما تقولون لو وقفوا على مساكين أهل الذمة هل يستحقونه دون مساكين المسلمين أو يستحقه مساكين المسلمين دونهم أو يشتركون فيه ؟ قيل لا ريب أن الصدقة جائزة على مساكين أهل الذمة والوقف صدقة فها هنا وصفان وصف يعتبر وهو المسكنة ووصف ملغى في الصدقة والوقف وهو الكفر فيجوز الدفع إليهم من الوقف بوصف المسكنة لا بوصف الكفر فوصف الكفر ليس بمانع من الدفع إليهم ولا هو شرط في الدفع كما يظنه الغالط أقبح الغلط وأفحشه وحينئذ فيجوز الدفع إليه بمسكنته وإن أسلم فهو أولى بالاستحقاق فالفرق بين أن يكون الكفر جهة وموجبا وبين ألا يكون مانعا فجعل الكفر جهة موجبا للاستحقاق مضاد لدين الله تعالى وحكمه وكونه غير مانع موافق لقوله تعالى لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون فإن الله سبحانه لما نهى في أول السورة عن اتخاذ المسلمين الكفار أولياء وقطع المودة بينهم وبينهم توهم بعضهم أن برهم والإحسان إليهم من الموالاة والمودة فبين الله سبحانه أن ذلك ليس من الموالاة المنهي عنها وأنه لم ينه عن ذلك بل هو من الإحسان الذي يحبه ويرضاه وكتبه على كل شيء وإنما المنهي عنه تولي الكفار والإلقاء إليهم بالمودة ولا ريب أن جعل الكفر بالله وتكذيب رسوله موجبا وشرطا في الاستحقاق من أعظم موالاة الكفار المنهي عنها فلا يصح من المسلم ولا يجوز للحاكم تنفيذه من أوقاف الكفار فأما إذا وقفوا ذلك فيما بينهم ولم يتحاكموا إلينا ولا استفتونا عن حكمه لم يتعرض لهم فيه وحكمه حكم عقودهم وأنكحتهم الفاسدة وكذلك وقف المسلم عليهم فإنه يصح منه ما وافق حكم الله ورسوله فيجوز أن يقف على معين منهم أو على أقاربه وبني فلان ونحوه ولا يكون الكفر موجبا وشرطا في الاستحقاق ولا مانعا منه فلو وقف على ولده أو أبيه أو قرابته استحقوا ذلك وإن بقوا على كفرهم فإن أسلموا فأولى بالاستحقاق وكذلك إن وقف على مساكينهم وفقرائهم وزمناهم ونحو ذلك استحقوا وإن بقوا على كفرهم فإن أسلموا فأولى بالاستحقاق وأما الوقف على كنائسهم وبيعهم ومواضع كفرهم التي يقيمون فيها شعار الكفر فلا يصح من كافر ولا مسلم فإن في ذلك أعظم الإعانة لهم على الكفر والمساعدة والتقوية عليه وذلك مناف لدين الله وللإمام أن يستولي على كل وقف وقف على كنيسة أو بيت نار أو بيعة كما له أن يستولي على ما وقف على الحانات والخمارات وبيوت الفسق بل أولى فإن بيوت الكفر أبغض إلى الله ورسوله من بيوت الفسق وشعار الكفر أعظم من شعائر الفسق وأضر على الدين وإن كنا نقر بيوت الكفر الجائز إقرارها ولا نقر بيوت الفسق فما ذاك لأنها أسهل منها وأهون بل لأن عقد الذمة اقتضى إبرارهم عليها كما نقر الكافر على كفره ولا نقر الفاسق على فسقه فللأمام أن ينتزع تلك الأوقاف ويجعلها على القربات ونحن لم نقر أهل الذمة في بلاد الإسلام على أن يتملكوا أرض المسلمين ودورهم ويستعينوا بها على شعار الكفر وقد بينا أنهم في دار الإسلام تبع ولهذا قال الشافعي ومن وافقه إن الجزية تؤخذ منهم عوض سكناهم بين أظهر المسلمين وانتفاعهم بدار الإسلام وإلا فالأرض لله ولرسوله وعباده المسلمين الذين كتب الله في الزبور من بعد الذكر أنه يورثها عباده الصالحين وقد صرح بذلك المالكية في كتبهم فقال القاضي أبو الوليد ولا ظاهر عندي أنه لا يجوز الوقف على الكنيسة لأنه صرف صدقته إلى وجه معصية محضة كما لو صرفها في شراء خمر وأعطاها لأهل الفسق ونص الإمام أحمد على ما هو أبلغ من ذلك قال الخلال في جامعه باب النصارى يوقفون على البيع فيموت النصراني ويخلف أولادا فيسلمون أخبرني محمد بن أبي هارون الوراق أن إسحاق بن إبراهيم بن هانىء حدثهم وأخبرنا محمد بن علي ثنا يعقوب بن بختان قال سئل أبو عبدالله عن أقوام نصارى أوقفوا على البيعة ضياعا كثيرة فمات النصارى ولهم أبناء نصارى ثم أسلم بعد ذلك الأبناء والضياع بيد النصارى ألهم أن يأخذوها من أيدي النصارى ؟ قال أبو عبدالله نعم يأخذونها وللمسلمين أن يعينوهم حتى يستخرجوها من أيديهم . وهذا مذهب الشافعي أيضا قال الشيخ في المغني ولا نعلم فيه خلافا وذلك لأن ما لا يصح من المسلم الوقف عليه لا يصح من الذمي كالوقف على غير معين قال فإن قيل فقد قلتم إن أهل الكتاب إذا عقدوا عقودا فاسدة وتقابضوا ثم أسلموا أو ترافعوا إلينا لم ننقض ما فعلوه فكيف أجزتم الرجوع فيما وقفوه على كنائسهم ؟ قلنا الوقف ليس بعقد معاوضة وإنما هو إزالة للملك في الموقوف على وجه القربة فإذا لم يقع صحيحا لم يزل الملك فبقي بحاله كالعتق قال وقد روي عن أحمد في نصراني أشهد في وصيته أن غلامه فلانا يخدم البيعة خمس سنين ثم هو حر ثم مات مولاه وخدم سنة ثم أسلم ما عليه ؟ قال هو حر ويرجع على الغلام بأجرة خدمته مبلغ أربع سنين وروي عنه أنه حر ساعة مات مولاه لأن هذه معصية قال وهذه الرواية أصح وأوفق لأصوله ويحتمل أن قوله يرجع عليه بخدمة أربع سنين لم يكن لصحة الوصية بل لأنه إنما أعتقه بعوض اعتقد صحته فإذا تعذر الغرض بإسلامه كان عليه ما يقوم مقامه كما لو تزوج الذمي ذمية على ذلك ثم أسلم فإنه يجب عليه المهر كذا ههنا يجب عليه العوض والأول أولى انتهى كلامه فقد صرح في مسألة الوقف أنه ينزع ويدفع إلى أيدي أولاده الذين أسلموا وهذا تصريح منه ببطلان الوقف وأنه لما مات انتقل ميراثا عنه إلى أولاده ثم أسلموا بعد أن ورثوه وأما مسألة الوصية فلا تناقض ذلك لأن العتق فيها بعوض فإذا لم يصح رجع الوارث في مقابله وهو القيمة كما ذكره الشيخ 112 – فصل أحكام الوصية للكفار وقد قال أحمد في رواية حرب وقد سأله الرجل يوصي لقرابته وله قرابة مشركون هل يعطون شيئا ؟ قال لا إلا أن يسميهم وقال أبو طالب سألت ابا عبدالله عن الرجل يوصي لقرابته وفيهم يهودي أو نصراني ومسلمون ؟ قال سماهم ؟ قلت لا قال فلا يعطى اليهودي والنصراني يعطى المسلمون قلت فإن سمى اليهودي والنصراني ؟ قا إذا سماهم نعم وقد استشكل هذا من لم يدرك دقة فقه أبي عبدالله فقال بعض الأصحاب كأنه رأى أن وصيته لأقاربه وصلته لهم قرينة تدل على أنه أراد أهل الإسلام منهم والكفار وإن دخلوا في القرابة فيجوز تخصيصهم بقرينة تخرجهم فإذا سماهم فقد نص عليهم فيستحقون وقد تضمن جواب أحمد أمورا ثلاثة . أحدها صحة الوصية للذمي المعين وكذلك يصح الوقف عليه وفعلت صفية بنت حيي أم المؤمنين هذا وهذا قال سعيد بن منصور حدثنا سفيان عن أيوب عن عكرمة أن صفية بنت حيي باعت حجرتها من معاوية بمائة ألف وكان لها أخ يهودي فعرضت عليه أن يسلم فأبى فأوصت له بثلث المائة وقال الشيخ في المغني وروي أن صفية بنت حيي وقفت على أخ لها يهودي الأمر الثاني أن الوصية لا تصح للكفار وإن صحت للمعين الكافر فالفرق بين أن يكون الكفر جهة أو تكون الجهة غيره والكفر ليس بمانع كما أوصت صفية لأخيها وهو يهودي فلو جعل الكفر جهة لم تصح الوصية اتفاقا كما لو قال أوصيت بثلثي لمن يكفر بالله ورسوله ويعبد الصليب ويكذب محمدا بخلاف ما لو قال أوصيت به لفلان وهو كذلك فإن الوصية لا تصح على جهة معصية وفعل محرم مسلما كان الموصي أو ذميا فلو وصى ببناء كنيسة أو بيت نار أو عمارتهما أو الإنفاق عليهما كان باطلا قال في المغني وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وقال أصحاب الرأي يصح وأجاز أبو حنيفة الوصية بأرض تبنى كنيسة وخالفه صاحباه وأجاز أصحاب الرأي أن يوصي بشرب خمر أو خنازير ويتصدق به على أهل الذمة قال وهذه وصايا باطلة وأفعال محرمة لأنها معصية فلم تصح الوصية بها كما لو وصى بعبده أو أمته للفجور قال وذكر القاضي أنه لو وصى بحصر للبيع أو قناديل وما شاكل ذلك ولم يقصد إعظامها بذلك صحت الوصية لأن الوصية لأهل الذمة فإن النفع يعود إليهم والوصية لهم صحيحة قال والصحيح أن هذا مما لا تصح الوصية به لأن ذلك إنما هو إعانة لهم على معصيتهم وتعظيم لكنائسهم قال هذا ذكره القاضي في المجرد وهو من أوائل كتبه وقد رجع عن كثير منه وهذا مخالف لنص أحمد وقواعده وأصوله فإنه قد صرح ببطلان الوقف على البيعة وعود الوقف ملكا للورثة وقد منع أحمد المسلم من كراء منزله من الكافر فكيف يجوز الوصية بما يزين به الكنيسة وعملها ؟ وكذلك من ذكر جواز مثل هذه الوصية من أصحاب الشافعي فقد خالف نصوصه وأصوله فإنه قال في كتاب الجزية من الأم لو أوصى يعني الذمي بثلث ماله أو بشيء منه يبنى به كنيسة لصلاة النصارى أو يستأجر به خدم الكنيسة أو يعمر به أو ما في هذا المعنى كانت الوصية باطلة ولو أوصى أن يبنى بها كنيسة ينزلها مارة الطريق أو قفها على قوم يسكنونها جازت الوصية وليس في بنيان الكنيسة معصية إلا أن تتخذ لمصلى النصارى الذين اجتماعهم فيها على الشرك قال وأكره للمسلم أن يعمل بناء أو نجارة أو غير ذلك في كنائسهم التي لصلاتهم هذا لفظه قال في المغني والوقف على قناديل البيعة وفرشها ومن يخدمها ويعمرها كالوقف عليها لأنه يراد لتعظيمها وسواء كان الواقف مسلما أو ذميا قال أحمد في نصارى وقفوا على البيعة ضياعا كثيرة وماتوا ولهم أبناء نصارى فأسلموا والضياع بيد النصارى فلهم أخذها وللمسلمين عونهم يستخرجونها من أيديهم قال وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافا الأمر الثالث الذي تضمنه جوابه جواز التخصيص بقصد المتكلم وبالقرائن وهذا هو الواجب في كلام الواقفين والموصين والمقرين كما هو أصله في أيمان الحالفين والواجب طرد هذا الأصل في كلام للمكلف يترتب عليه أمر شرعي فإن الكلام إنما يترتب عليه موجبه لدلالته على قصد صاحبه فإذا ظهر قصده لم يجز أن يعدل عنه إلى عموم كلامه وإطلاقه فإن ذلك غلط وتغليط وجميع الأمم على اختلاف لغاتها تراعي مقاصد المتكلمين وإراداتهم وقرائن كلامهم ولو سئل أحدهم عن جاريته وقيل له إنها فاجرة فقال كلا بل هي عفيفة حرة لم يشكوا أنه لم يرد عتقها ولا خطر بباله فإلزامه بعتقها بمجرد ذلك خطأ واللفظ إنما يكون صريحا إذا تجرد عن القرائن الصارفة له عن موضوعه عند الإطلاق ولهذا لو وصل قوله أنت طالق بقوله من وثاق لم يكن صريحا وكذا لو دعي إلى غداء فقال والله لا أتغدى لم يشك هو ولا عاقل أنه لم يرد ترك الغداء أبدا إلى آخر العمر فإلزامه بما لم يرده قطعا بناء على إطلاق لفظ لم يرد إطلاقه وتعميم ما لم يرد عمومه إلزام بما لم يلزمه ولا ألزمه الله ورسوله به وبالله التوفيق 113 – فصل في أحكام نكاحهم ومناكحاتهم قال الله تعالى تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب إلى آخر السورة فسماها امرأته بعقد النكاح الواقع في الشرك وقال تعالى وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون فسماها امرأته والصحابة رضي الله عنهم غالبهم إنما ولدوا من نكاح كان قبل الإسلام في حال الشرك وهم ينسبون إلى آبائهم انتسابا لا ريب فيه عند أحد من أهل الإسلام وقد أسلم الجم الغفير في عهد النبي فلم يأمر أحدا منهم أن يجدد عقده على امرأته فلو كانت أنكحة الكفار باطلة لأمرهم بتجديد أنكحتهم وقد كان رسول الله يدعو أصحابه لآبائهم وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام وقد رجم رسول الله يهوديين زنيا فلو كانت أنكحتهم فاسدة لم يرجمهما لأن النكاح الفاسد لا يحصن الزوج وسيأتي الكلام في هذه المسألة وأيضا فإن النبي أمر من أسلم وتحته عشر نسوة أن يختار منهن أربعا ويفارق البواقي وأمر من أسلم وتحته أختان أن يمسك إحداهما ويفارق الأخرى ولو كانت أنكحتهم فاسدة لم يأمربالإمساك في النكاح الفاسد ولا رتب عليه شيئا من أحكام النكاح ولم ينص أحد من أئمة الإسلام على بطلان أنكحة الكفار ولا يمكن أحدا أن يقول ذلك وإنما اختلف الناس في مسألتين إحداهما في الكافر يطلق امرأته ثلاثا هل يصح طلاقه أم لا ؟ الثانية في المسلم يطلق الذمية ثلاثا فتنكح ذميا ثم يفارقها الثاني فهل تحل للأول ؟ مسألة الكافر يطلق امرأته ثلاثا فأما المسألة الأولى وهي وقوع الطلاق فلا يخلو إما أن يعتقد الكافر نفوذ الطلاق أو لا يعتقده فإن اعتقده نفذ طلاقه ولم يكن الإسلام شرطا في نفوذه هذا مذهب أحمد والشافعي وأبي حنيفة وأصحابه وقال مالك الإسلام شرط في وقوع الطلاق واحتج الجمهور بأن أنكحتهم صحيحة كما تقدم فإذا صح النكاح نفذ فيه الطلاق فإنه حكم من أحكام النكاح فترتب عليه كسائر أحكامه من التوارث والحل وثبوت النسب وتحريم المصاهرة وسائر أحكامه وقد قال تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء فسماه نكاحا وأثبت به تحريم المصاهرة وكان الظهار يعده أهل الجاهلية طلاقا وقام الإسلام حتى أبطل الله ما كان عليه أهل الجاهلية وشرع فيه الكفارة وكيف يحكم ببطلان نكاح ولد فيه سيد ولد آدم وزاده فضلا وشرفا لديه ؟ وقد صرح بأنه ولد من نكاح لا من سفاح قال الإمام أحمد في رواية مهنا في يهودي أو نصراني طلق امرأته طلقتين ثم أسلم وطلق أخرى لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره وإذا ظاهر من امرأته ثم أسلم أخبرناه أن عليه ظهارا وإذا تزوج بلا شهود ثم أسلما هما على نكاحهما وقال في رواية ابن منصور في نصراني آلى من امرأته ثم أسلم يوقف مثل المسلم سواء فإما أن يفيء وإما أن يطلق وقال في رواية حنبل في مسلم تحته نصرانية طلقها ثلاثا فتزوجت بنصراني تحل للأول لأنه زوج قال المبطلون لأنكحتهم هذا قول عبدالرحمن بن عوف ولا مخالف له من الصحابة وقد أقره عمر على هذا القول فقال أبو محمد بن حزم روينا من طريق قتادة أن رجلا طلق امرأته تطليقتين في الجاهلية وطلقة في الإسلام فسأل عمر فقال لا آمرك ولا أنهاك فقال له عبدالرحمن بن عوف لكني آمرك ليس طلاقك في الشرك بشيء قال وبهذا كان يفتي قتادة وصح عن الحسن وربيعة وهو قول مالك وأبي سليمان وأصحابهما قالوا وقد قال النبي في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه أوصيكم بالنساء خيرا فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله قالوا ووجه الدليل أن كلمة الله هي قوله فانكحوا ما طاب لكم من النساء فأخبر أن الحل كان بهذه الكلمة فكلمة الله هي إباحته للنكاح أو أراد بكلمة الله الإسلام وما يقتضيه من شرائط النكاح فدل على أن الفروج لا تستباح بغير كلمة الإسلام قالوا وأيضا فكل آية أباحت النكاح في كتاب الله سبحانه فالخطاب بها للمؤمنين فدل على أن المراد بكلمة الله الإسلام قالوا والمسألة إجماع من الصحابة وذكروا أثر عبدالرحمن المتقدم قالوا وكيف يحكم بصحة نكاح عري عن ولي ورضى وشاهدين ؟ قالوا وقد قال النبي امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل وأنتم تصححون أنكحتهم ولو وقعت بغير ولي فالحديث نص في بطلان مذهبكم قالوا وقد قال النبي كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد قالوا وهم يستبيحون النكاح بالخمر والخنزير وفي العدة بغير ولي ولا شهود وغير ذلك مما لا يستباح به في الإسلام فوجب الحكم ببطلانه قالوا ولو مات الحربي عن زوجته أو قتل ثم سبيت فإنها تستبرأ بحيضة ولا تعتد ولو كان نكاحها صحيحا لوجب أن تعتد وقد قال تعالى عنهم ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق وهذا يقتضي أنهم لا يدينون دين الحق في نكاح ولا غيره ومن لم يدن دين الحق في نكاحه فهو مردود قال المصححون لا حجة لكم في شيء مما ذكرتم أما أثر عبدالرحمن بن عوف فإن الإمام أحمد قال في رواية مهنا حديث يروى أن عبدالرحمن بن عوف قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنهم ليس طلاق أهل الشرك بشيء ليس له إسناد فهذا جواب أحمد وأجاب القاضي بأن هذا محمول على جواز أنكحتهم لذوات المحارم فإن الطلاق لا يقع فيها وهذا من أفسد الأجوبة وكيف يقول له عمر في نكاح أمه وابنته لا آمرك ولا أنهاك ؟ وكيف يقول له عبدالرحمن لكني آمرك ليس طلاقك بشيء ولم يكن في العرب من يستحل نكاح ذوات المحارم كالمجوس ؟ وعندي جواب آخر وهو أن الطلاق كان في الجاهلية بغير عدد كما قالت عائشة كان الرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة وإن طلقها مئة مرة أو أكثر حتى قال رجل لامرأته والله لا أطلقك فتبيني مني ولا أؤيك أبدا قالت وكيف ذلك ؟ قال أطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة رضي الله عنها فأخبرتها فسكتت عائشة حتى جاء النبي فأخبرته فسكت حتى نزل القرآن الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان قالت فاستأنف الناس الطلاق مستقبلا من كان طلق ومن لم يكن طلق رواه الترمذي متصلا ثم رواه عن عروة ولم يذكر فيه عائشة وقال هذا أصح وأما قوله واستحللتم فروجهن بكلمة الله فما أصحه من حديث وما أضعف الاستدلال به على بطلان أنكحة الكفار وقد أجاب عنه أصحاب الشافعي وأحمد بأن كلمة الله هي لفظ الإنكاح والتزويج اللذين لا ينعقد النكاح إلا بهما وهذا جواب في غاية الوهن فإن كلمة الله هي التي تكلم بها ولهذا أضيفت إليه وأما الإيجاب والقبول فكلمة المخلوق فلا تضاف إلى الله وإلا كان كل كلام تكلم به العبد يضاف إلى الرب وهذا باطل قطعا فإن كلمة الله كسمع الله وبصره وقدرته وحياته وعلمه وإرادته ومشيئته كل ذلك للصفات القائمة به لا للمخلوق المنفصل عنه والجواب الصحيح أن هذا خطاب للمسلمين ولا ريب أنهم إنما استحلوا فروج نسائهم بكلمة الله وإباحته أما المبتدأ نكاحها في الإسلام فظاهر وأما المستدام نكاحها فإنما استديم بكلمة الله أيضا فلا يمس الحديث محل النزاع بوجه وأما قولكم كل آية أباحت النكاح في القرآن فالخطاب بها للمسلمين فهذا الاستدلال من أعجب الأشياء فإن الأمة بعد نزول القرآن مأخوذة بأحكامه وأوامره ونواهيه وأما قبل ذلك فما أقره القرآن فهو على ما أقره وما غيره وأبطله فهو كما غيره وأبطله فأين أبطل القرآن نكاح الكفار ولم يقرهم عليه في موضع واحد ؟ على أن البيع والرهن والمداينة والقرض وغيرها من العقود إنما خوطب بها المؤمنون فهل يقول أحد إنها باطلة من الكفار ؟ وهل النكاح إلا عقد من عقودهم كبياعاتهم وإجاراتهم ورهونهم وسائر عقودهم ؟ وليس النكاح من قبيل العبادات المحضة التي يشترط في صحتها الإسلام كالصلاة والصوم والحج بل هو من عقود المعاوضات التي تصح من المسلم والكافر وأما قولهم المسألة إجماع من الصحابة فهو ذلك الأثر الذي لا يصح عن عبدالرحمن ولو صح لم يكن فيه حجة فأين قول رجل واحد من الصحابة فضلا عن جميعهم ؟ وأما قولكم كيف يحكم بصحة نكاح عري عن الولي والشهود وشروط النكاح فمن أضعف الاستدلال فإن هذه إنما صارت شروطا بالإسلام ولم تكن شروطا قبله حتى نحكم ببطلان كل نكاح وقع قبلها وإنما اشترطت في الإسلام في حق من التزم الإسلام وأما من لم يلتزمه فإن حكم النكاح بدونها كحكم ما يعتقدون صحته من العقود الفاسدة التي لا مساغ لها في الإسلام فإنها تصح منهم ولو أسلموا وقد تعاملوا بها وتقايضوا لم تنقض وأمضيت فإن قيل الإسلام صححها لهم وهكذا صحح النكاح قلنا لكن الإسلام لم يبطل ترتب آثارها عليها قبله فيجب ألا يبطل ترتب آثار النكاح عليه من الطلاق والظهار والإيلاء وأما استدلالكم بقوله أيما امرأة نكحت نفسها بدون إذن وليها فنكاحها باطل فهذا عجب منكم فإنها لو زوجها الولي كان النكاح فاسدا عندكم فإن قلتم الولي الكافر كلا ولي قيل نعم هذا في نكاح المسلمة فأما الكافرة فقد قال تعالى والذين كفروا بعضهم أولياء بعض وأما قوله كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ففي غاية الصحة والاستدلال به ضعيف من وجوه أحدها أن هذا في حق المسلمين وأما الكفار فإنا لا نرد عليهم كل ما خرج عن أمره فإنا نقرهم على عقودهم التي يعتقدون صحتها وإن لم تكن على أمر النبي الثاني أن إقرار الله تعالى ورسوله لهم على أحكام هذه الأنكحة هو من أمر الشارع ولا جرم ما كان منها على غير أمره فهو رد كنكاح المحارم وما لا يعتقدون صحته فأما ما اعتقدوا صحته فإقرارهم عليه من أمره الثالث أن هذا لا يمكن أن يستدل به على بطلان أنكحتهم كما لم يستدل به على بطلان عقود معاوضاتهم التي يعتقدون صحتها وإن وقعت على غير أمره وأما استبراء الحربية بحيضة إذا سبيت وحكمنا بزوال النكاح فليس ذلك لكون أنكحتهم كانت باطلة ولكن لتجديد الملك على زوجته وكونها صارت أمة للثاني واستولى على محل حق الكافر وأزاله وانتقلت من كونها زوجة إلى كونها أمة رقيقة تباع وتشترى وأما قوله تعالى عنهم ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب فلم يزيدوا بذلك على كونهم كفارا ومن نازع في كفرهم حتى يحتج عليه بذلك ؟ وهل وقع النزاع إلا في نكاح من هو كذلك ولا ريب أن هذا القدر كما لم يؤثر في بطلان عقود معاوضاته من البيع والشراء والإجارة والقرض والسلم والجعالة وغيرها لم يؤثر في بطلان نكاحه 114 – فصل في طلاق الكفار الذين لا يعتقدون وقوعه وأما إن كان الكافر لا يعتقد وقوع الطلاق ولا نفوذه فطلق فهل يصح طلاقه ففيه روايتان منصوصتان عن أحمد أصحهما أنه لا يصح طلاقه وهذاهو مقتضى أصوله فإنا نقرهم على ما يعتقدون صحته من العقود فإذا لم يعتقد نفوذ الطلاق فهو يعتقد بقاء نكاحه فيقر عليه وإن أسلم وأيضا فإن وجود هذا الطلاق وعدمه في حقه واحد فإنه لم يلتزم حكم الطلاق ولا اعتقد نفوذه فلم يلزمه حكمه وهذا التفصيل في طلاقه هو فصل الخطاب 115 – فصل المسلم إذا طلق الذمية فتزوجت ذميا ثم طلقها فهل تحل للأول ؟ وأما المسألة الثانية وهي إذا تزوجها الذمي فإنه يحلها للأول عند الجمهور لأنه زوج وهي امرأة له فيدخل في قوله تعالى فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فأطلق النكاح والزوج ولم يقيده بحر ولا عبد ولا مسلم ولا كافر وهذه قد نكحت زوجا غيره فتحل للأول ودليل كونه زوجا الحقيقة والحكم أما الحقيقة فلأن الزوج والتزويج حاصل فيه حسا وكفره لا يمنع ثبوت حقيقة الزوجية وأما الحكم فثبوت النسب ووجوب المهر والعدة والتمكين من الوطء وتخييره بين الأختين إذا أسلم وفي الأربع وغير ذلك من أحكام النكاح وثبوت الأحكام يدل على ثبوت الحقيقة 116 – فصل إذا ثبتت صحة نكاحهم فههنا مسائل المسألة الأولى إذا أسلم الزوجان أو أحدهما فإن كانت المرأة كتابية لم يؤثر إسلامه في فسخ النكاح وكان بقاؤه كابتدائه وإن كانت غير كتابية وأسلم الزوجان معا فهما على النكاح سواء قبل الدخول وبعده وليس بين أهل العلم في هذا اختلاف قال ابن عبدالبر أجمع العلماء على أن الزوجين إذا أسلما معا في حالة واحدة أن لهما المقام على نكاحهما مالم يكن بينهما نسب ولا رضاع وقد أسلم خلق في زمن النبي ونساؤهم وأقروا على أنكحتهم ولم يسألهم رسول الله عن شروط النكاح ولا عن كيفيته وهذا أمر علم بالتواتر والضرورة فكان يقينا ثم قال كثير من الفقهاء المعتبر أن يتلفظا بالإسلام تلفظا واحدا يكون ابتداء أحدهما مع ابتداء صاحبه وانتهاؤه مع انتهائه والصواب أن هذا غير معتبر ولم يدل على ذلك كتاب ولا سنة ولا اشترط رسول الله ذلك قط ولا اعتبره في واقعة واحدة مع كثرة من أسلم في حياته يقل يوما واحدا لرجل أسلم هو وامرأته تلفظا بالإسلام تلفظا واحدا لا يسبق أحدكما الآخر وهل هذا إلا من التكلف الذي ألغته الشريعة ولم تعتبره ؟ وليس لهذا نظير في الشريعة بل إذا أسلما في المجلس الواحد فقد اجتمعا على الإسلام ولا يؤثر سبق أحدهما الآخر بالتلفظ به وهذا اختيار شيخنا وإن أسلم أحدهما ثم أسلم الآخر بعده فاختلف السلف والخلف في ذلك اختلافا كثيرا فقالت طائفة متى أسلمت المرأة انفسخ نكاحها منه سواء كانت كتابية أو غير كتابية وسواء أسلم بعدها بطرفة عين أو أكثر ولا سبيل له عليها إلا بأن يسلما معا في آن واحد فإن أسلم هو قبلها انفسخ نكاحها ساعة إسلامه ولو أسلمت بعده بطرفة عين هذا قول جماعة من التابعين وجماعة من أهل الظاهر وحكاه أبو محمد بن حزم عن عمر بن الخطاب وجابر بن عبدالله وعبدالله بن عباس وحماد بن زيد والحكم بن عتيبة وسعيد بن جبير وعمر بن عبدالعزيز والحسن البصري وعدي بن عدي وقتادة والشعبي قلت وحكاية ذلك عن عمر بن الخطاب غلط عليه أو يكون رواية عنه فسنذكر من آثار عمر بن الخطاب رضي الله عنه خلاف ذلك مما ذكره أبو محمد وغيره فهذا قول وقال أبو حنيفة أيهما أسلم قبل الآخر فإن كان في دار الإسلام عرض الإسلام على الذي لم يسلم فإن أسلما بقيا على نكاحهما وإن أبيا فحينئذ تقع الفرقة ولا تراعى العدة في ذلك ثم اختلفوا فقال أبو حنيفة ومحمد الفسح ههنا طلاق لأن الزوج ترك الإمساك بالمعروف مع القدرة عليه فينوب القاضي منابه في التسريح بالإحسان فيكون قوله كقول الزوج وقال أبو يوسف لا يكون طلاقا لأنه سبب يشترك فيه الزوجان فلا يكون طلاقا كما لو ملكها أو ملكته فلو كانت المرأة مجوسية كانت الفرقة فسخا قولا واحدا قالوا والفرق أن المجوسية ليست من أهل الطلاق بخلاف الذمية وإن كانا في دار الحرب فخرجت المرأة إلينا مسلمة أو معاهدة فساعة حصولها في دار الإسلام تقع الفرقة بينهما لا قبل ذلك فإن لم تخرج من دار الحرب بأن حاضت ثلاث حيض قبل أن يسلم هو وقعت الفرقة حينئذ وعليها أن تبتدىء ثلاث حيض أخر عدة منه وهل هذه الفرقة فسخ أو طلاق ؟ فيه عن أبي حنيفة روايتان وهي فسخ عند أبي يوسف ولو أسلم الآخر قبل مضي ثلاث حيض فهما على نكاحهما فهذا قول ثان وقال مالك إن أسلمت المرأة ولم يسلم الرجل فإن كان قبل الدخول وقعت الفرقة وإن كان بعده فإن أسلم في عدتها فهما على نكاحهما وإن لم يسلم حتى انقضت عدتها فقد بانت منه فإن أسلم هو ولم تسلم هي عرض عليها الإسلام فإن أسلمت بقيا على نكاحهما وإن أبت انفسخ النكاح ساعة إبائها سواء كان قبل الدخول أو بعده وقال أشهب إنما تتعجل الفرقة إذا كان قبل الدخول وتقف على العدة إن كان بعد الدخول ثم قال ابن القاسم إذا عقل عنها حتى مضى لها شهر وما قرب منه وليس بكثير وهما على نكاحهما والفرقة حيث وقعت فسخ وعن ابن القاسم رواية أخرى أنها طلقة ثانية فهذا قول ثالث وقال ابن شبرمة عكس هذا وأنها إن أسلمت قبله وقعت الفرقة في الحين وإن أسلم قبلها فأسلمت في العدة فهي امرأته وإلا وقعت الفرقة بانقضاء العدة فهذا قول رابع وقال الأوزاعي والزهري والليث والإمام أحمد والشافعي وإسحاق إذا سبق أحدهما بالإسلام فإن كان قبل الدخول انفسخ النكاح وإن كان بعده فأسلم الآخر في العدة فهما على نكاحهما وإن انقضت العدة قبل إسلامه انفسخ النكاح فهذا قول خامس وقال حماد بن سلمة عن أيوب السختياني وقتادة كلاهما عن محمد بن سيرين عن عبدالله بن يزيد الخطمي أن نصرانيا أسلمت امرأته فخيرها عمر بن الخطاب رضي الله عنه إن شاءت فارقته وإن شاءت أقامت عليه وعبدالله بن يزيد الخطمي هذا له صحبة وليس معناه أنها تقيم تحته وهو نصراني بل تنتظر وتتربص فمتى أسلم فهي امرأته ولو مكثت سنين فهذا قول سادس وهو أصح المذاهب في هذه المسألة وعليه تدل السنة كما سيأتي بيانه وهو اختيار شيخ الإسلام وقال حماد بن سلمة عن قتادة عن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال في الزوجين الكافرين يسلم أحدهما هو أملك ببضعها ما دامت في دار هجرتها وقال سفيان بن عيينة عن مطرف بن طريف عن الشعبي عن علي هو أحق بها ما لم تخرج من مصرها فهذا قول سابع وقال ابن أبي شيبة ثنا معتمر بن سليمان عن معمر عن الزهري إن أسلمت ولم يسلم زوجها فهما على نكاحهما ما لم يفرق بينهما سلطان فهذا قول ثامن وقال داود بن علي إذا أسلمت زوجة الذمي ولم يسلم فإنها تقر عنده ولكن يمنع من وطئها وقال شعبة ثنا حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي في ذمية أسلمت تحت ذمي فقال تقر عنده وبه أفتى حماد بن أبي سليمان قلت ومرادهم أن العصمة باقية فتجب لها النفقة والسكنى ولكن لا سبيل له إلى وطئها كما يقوله الجمهور في أم ولد الذمي إذا أسلمت سواء فهذا قول تاسع ونحن نذكر مأخذ هذه المذاهب وما في تلك المآخذ من قوي وضعيف وما هو الأولى بالصواب فأما أصحاب القول الأول وهم الذين يوقعون الفرقة بمجرد الإسلام فلا نعلم أحدا من الصحابة قال به البتة وما حكاه أبو محمد بن حزم عن عمر وجابر وابن عباس فبحسب ما فهمه من آثار رويت عنهم مطلقة ونحن نذكرها قال شعبة أخبرني أبو إسحاق الشيباني قال سمعت يزيد بن علقمة يقول إن جده وجدته كانا نصرانيين فأسلمت جدته ففرق عمر بن الخطاب بينهما وليس في هذا دليل على تعجل الفرقة مطلقا بنفس الإسلام فلعله لم يكن دخل فيها أو لعله فرق بعد انقضاء العدة أو لعلها اختارت الفسخ دون انتظار إسلامه أو لعل هذا مذهب من يرى أن النكاح باق حتى يفسخ السلطان وقد روي عن عمر في هذا آثار يظن أنها متعارضة ولا تعارض بينها بل هي موافقة للسنة فمنها هذا ومنها ما تقدم حكايته عنه أنه خير المرأة إن شاءت أقامت عليه وإن شاءت فارقته ومنها ما رواه ابن أبي شيبة عن عباد بن العوام عن أبي إسحاق الشيباني عن يزيد بن علقمة أن عبادة بن النعمان الثعلبي كان ناكحا امرأة من بني تميم فأسلمت فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه إما أن تسلم وإما أن ننزعها منك فأبى فنزعها عمرBه وقد تمسك بها من يرى عرض الإسلام على الثاني فإن أبى فرق بينهما وهذه الآثار عن أمير المؤمنين لا تعارض بينها فإن النكاح بالإسلام يصير جائزا بعد أن كان لازما فيجوز للإمام أن يعجل الفرقة ويجوز له أن يعرض الإسلام على الثاني ويجوز إبقاؤه إلى انقضاء العدة ويجوز للمرأة التربص به إلى أن يسلم ولو مكثت سنين كل هذا جائز لا محذور فيه والنكاح له ثلاثة أحوال 1 – حال لزوم 2 – وحال تحريم وفسخ ليس إلا كمن أسلم وتحته من لا يجوز ابتداء العقد عليها 3 – وحال جواز ووقف وهي مرتبة بين المرتبتين لا يحكم فيها بلزوم النكاح ولا بانقطاعه بالكلية وفي هذه الحال تكون الزوجة بائنة من وجه دون وجه ولما قدم أبو العاص بن الربيع المدينة في زمن الهدنة وهو مشرك سألت امرأته زينب بنت رسول الله هل ينزل في دارها ؟ فقال إنه زوجك ولكن لا يصل إليك فالنكاح في هذ المدة لا يحكم ببطلانه ولا بلزومه وبقائه من كل وجه ولهذا خير أمير المؤمنين المرأة تارة وفرق تارة وعرض الإسلام على الثاني تارة فلما أبى فرق بينهما ولم يفرق رسول الله بين رجل وامرأته أسلم أحدهما قبل الآخر أصلا ولا في موضع واحد قال مالك قال ابن شهاب كان بين إسلام صفوان بن أمية وامرأته بنت الوليد بن المغيرة نحو من شهر أسلمت يوم الفتح وبقي صفوان حتى شهد حنينا والطائف وهو كافر ثم أسلم فلم يفرق النبي بينهما واستقرت عنده امرأته بذلك النكاح قال ابن عبدالبر وشهرة هذا الحديث أقوى من إسناده وقال الزهري أسلمت أم حكيم يوم الفتح وهرب زوجها عكرمة حتى أتى اليمن فارتحلت حتى قدمت عليه اليمن فدعته إلى الإسلام فأسلم وقدم فبايع النبي فثبتا على نكاحهما وقال ابن شبرمة كان الناس على عهد رسول الله يسلم الرجل قبل المرأة والمرأة قبل الرجل فأيهما أسلم قبل انقضاء عدة المرأة فهي امرأته فإن أسلم بعد العدة فلا نكاح بينهما وأسلم أبو سفيان عام الفتح قبل دخول النبي مكة ولم تسلم امرأته هند حتى فتح النبي مكة فثبتا على نكاحهما وخرج أبو سفيان بن الحارث وعبدالله بن أبي أمية فلقيا النبي عام الفتح بالأبواء فأسلما قبل نسائهما وقد ثبت أن النبي رد زينب ابنته على أبي العاص بالنكاح الأول بعد ست سنين قال أبو داود حدثنا عبدالله بن محمد النفيلي ثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله رد زينب على أبي العاص بالنكاح الأول لم يحدث شيئا وفي لفظ له بعد ست سنين وفي لفظ بعد سنتين قال شيخ الإسلام هذا هو الثابت عند أهل العلم بالحديث والذي روى أنه جدد النكاح ضعيف قال وكذلك كانت المرأة تسلم ثم يسلم زوجها بعدها والنكاح بحاله مثل أم الفضل امرأة العباس بن عبدالمطلب فإنها أسلمت قبل العباس بمدة قال عبدالله بن عباس كنت أنا وأمي ممن عذر الله بقوله إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ولما فتح النبي مكة أسلم نساء الطلقاء وتأخر إسلام جماعة منهم مثل صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما الشهرين والثلاثة وأكثر ولم يذكر النبي فرقا بين ما قبل انقضاء العدة وما بعدها وقد أفتى علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأنها ترد إليه وإن طال الزمان وعكرمة بن أبي جهل قدم على النبي المدينة بعد رجوعه من حصار الطائف وقسم غنائم حنين في ذي القعدة وكان فتح مكة في رمضان فهذا نحو ثلاثة أشهر يمكن انقضاء العدة فيها وفيما دونها فأبقاه على نكاحه ولم يسأل امرأته هل انقضت عدتك أم لا ولا سأل عن ذلك امرأة واحدة مع أن كثيرا منهن أسلم بعد مدة يجوز انقضاء العدة فيها وصفوان ابن أمية شهد مع النبي حنينا وهو مشرك وشهد معه الطائف كذلك إلى أن قسم غنائم حنين بعد الفتح بقريب من شهرين فإن مكة فتحت لعشر بقين من رمضان وغنائم حنين قسمت في ذي القعدة ويجوز انقضاء العدة في مثل هذه المدة قال وبالجملة فتجديد رد المرأة على زوجها بانقضاء العدة لو كان هو شرعه الذي جاء به لكان هذا مما يجب بيانه للناس من قبل ذلك الوقت فإنهم أحوج ما كانوا إلى بيانه وهذا كله مع حديث زينب يدل على أن المرأة إذا أسلمت وامتنع زوجها من الإسلام فلها أن تتربص وتنتظر إسلامه فإذا اختارت أن تقيم منتظرة لإسلامه فإذا أسلم أقامت معه فلها ذلك كما كان النساء يفعلن في عهد النبي كزينب ابنته وغيرها ولكن لا يمكنه من وطئها ولا حكم له عليها ولا نفقة ولا قسم والأمر في ذلك إليها لا إليه فليس هو في هذه الحال زوجا مالكا لعصمتها من كل وجه ولا يحتاج إذا أسلم إلى ابتداء عقد يحتاج فيه إلى ولي وشهود ومهر وعقد بل إسلامه بمنزلة قبوله للنكاح وانتظارها بمنزلة الإيجاب وسر المسألة أن العقد في هذه المدة جائز لا لازم ولا محذور في ذلك ولا ضرر على الزوجة فيه ولا يناقض ذلك شيئا من قواعد الشرع وأما الرجل إذا أسلم وامتنعت المشركة أن تسلم فإمساكه لها يضر بها ولا مصلحة لها فيه فإنه إذا لم يقم لها بما تستحقه كان ظالما فلهذا قال تعالى ولا تمسكوا بعصم الكوافر فنهى الرجال أن يستديموا نكاح الكافرة فإذا أسلم الرجل أمرت امرأته بالإسلام فإن لم تسلم فرق بينهما قال شيخنا وقد يقال بل هذا النهي للرجال ثابت في حق النساء ويقال إن قضية زينب منسوخة فإنها كانت قبل نزول آية التحريم لنكاح المشركات وهذا مما قاله طائفة منهم محمد بن الحسن قلت وهذا قاله غير واحد من العلماء قال أبو محمد بن حزم أما خبر زينب فصحيح ولا حجة فيه لأن إسلام أبي العاص كان قبل الحديبية ولم يكن نزل بعد تحريم المسلمة على المشرك وكذلك قال البيهقي قال شيخنا لكن يقال فهذه الآية كانت قبل فتح مكة بعد الحديبية ثم لما فتح النبي مكة رد نساء كثيرا على أزواجهن بالنكاح الأول لم يحدث نكاحا وقد احتبس أزواجهن عليهن ولم يأمر رجلا واحدا بتجديد النكاح البتة ولو وقع ذلك لنقل ولما أهملت الأمة نقله قلت وبهذا يعلم بطلان ما قاله أبو محمد بن حزم فإنه قال ولا سبيل إلى خبر صحيح بأن إسلام رجل يقدم على إسلام امرأته أو يقدم إسلامها عليه وأقرهما على النكاح الأول فإذ لا سبيل إلى هذا فلا يجوز أن يطلق على رسول الله لأنه إطلاق الكذب والقول بغير علم قال فإن قيل قد روي أن أبا سفيان أسلم قبل هند وامرأة صفوان أسلمت قبل صفوان قلنا من أين لكم أنهما بقيا على نكاحهما فلم يجددا عقدا ؟ وهل جاء ذلك قط بإسناد صحيح متصل إلى النبي أنه عرف ذلك فأقره ؟ حاش لله من هذا انتهى كلامه وهذا من أوابده وإقدامه على إنكار المعلوم لأهل الحديث والسير بالضرورة بل من له إلمام بالسنة وأيام الإسلام وسيرة رسول الله وكيفية إسلام الصحابة ونسائهم يعلم علما ضروريا لا يشك فيه أن النبي لم يكن يعتبر في بقاء النكاح أن يتلفظ الزوجان بالإسلام تلفظا واحدا لا يتقدم أحدهما على الآخر بحرف ولا يتأخر عنه بحرف لا قبل الفتح ولا بعده إلى أن توفاه الله عز و جل ويعلم علما ضروريا أنه لم يفسح عقد نكاح أحد سبق امرأته بالإسلام أو سبقته ثم أسلم الثاني لا في العدة ولا بعدها وكذلك أيضا يعلم أنه لم يجدد نكاح أحد سبقته امرأته بالإسلام أو سبقها ثم أسلم الثاني لا في العدة ولا بعدها وكذلك أيضا يعلم أنه لم يجدد نكاح أحد سبقته امرأته أو سبقها بالإسلام بحيث أحضر الولي والشهود وجدد العقد والمهر وتجويز وقوع مثل هذا ولا ينقله بشر على وجه الأرض يفتح باب تجويز المحالات وأنه كان لنا صلاة سادسة ولم ينقلها أحد وأذان زائد ولم ينقله أحد ومن هذا النمط وذلك من أبطل الباطل وأبين المحال فهذه سيرة رسول الله وأحواله وأحوال أصحابه بين أظهر الأمة تشهد ببطلان ما ذكره وأن إضافته إليه محض الكذب والقول عليه بلا علم فإن قيل فقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي رد ابنته على أبي العاص بمهر جديد ونكاح جديد رواه الترمذي فكيف تقولون إنه لم يجدد لأحد ممن تقدم إسلام امرأته نكاحا ؟ قيل هذا الحديث لا يصح عن رسول الله قاله أئمة الحديث قال الترمذي في إسناده مقال وقال الإمام أحمد هذا حديث ضعيف والحديث الصحيح الذي روي أنه أقرها على النكاح الأول هذا لفظه وقال الدارقطني هذا حديث لا يثبت والصواب حديث ابن عباس أن النبي ردها بالنكاح الأول وقال الترمذي في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه ردها بالنكاح الأول فكان إسلامها قبل إسلامه بست سنين ولم يحدث نكاحا هذا حديث حسن ليس بإسناده بأس فإن قيل الكلام مع من صحح هذا الحديث فإنه حديث مضطرب قد روي أنه كان بين إسلامهما سنتان وروي ست سنين ولا يصح واحد من الأمرين فإن زينب لم تزل مسلمة من بعث رسول الله وأبو العاص أسلم في السنة السادسة في زمن الهدنة فبين إسلامه وإسلامها ثمان عشرة سنة أو ما يزيد عليها وكذلك رواية من روى سنتين هي غلط قطعا فإن زينب لم تبق مشركة إلى السنة الرابعة من الهجرة والحديث من رواية ابن إسحاق وكلام الأئمة فيه معروف فالجواب أن يقال من أين لكم تقدم إسلام زينب من أول المبعث فإنها كانت تحت أبي العاص بن الربيع وهو مشرك وأصح ما في تقدم إسلامها حديث ابن عباس هذا وهو يقتضي أنها أسلمت حين هاجر النبي إلى المدينة وكذلك قال ابن شهاب أسلمت زينب وهاجرت بعد هجرة النبي وسيأتي ذكر ذلك على أنه كان إسلامها من حين المبعث كما حكى فيه الإجماع أبو محمد بن حزم فقال وقد أسلمت زينب في أول مبعث أبيها لا خلاف في ذلك ثم هاجرت إلى المدينة وزوجها كافر فكان بين إسلامها وإسلامه أزيد من ثمان عشرة سنة وقد ولدت في خلال ذلك علي بن أبي العاص وهذا الذي قاله أبو محمد هو الحق وأنها لم تزل مسلمة من حين بعث رسول الله ويمكن التوقيت بالسنتين أو بالست كان بين إسلامه وظهور إسلامها وإعلانه بالهجرة فإن نساء المؤمنات كن يستخفين من أزواجهن بالإسلام في مكة فلما هاجر رسول الله أظهر من هاجر معه منهن إسلامها وزينب هاجرت بعد رسول الله وبعد وقعة بدر فكان بين ظهور إسلامها بهجرتها وإسلام أبي العاص سنتان وأما الست سنين فهي بين ظهور الإسلام العام بالهجرة وإسلام أبي العاص على أن عبدالرزاق قد ذكر عن ابن جريج عن رجل عن ابن شهاب قال أسلمت زينب بنت رسول الله وهاجرت بعد النبي في الهجرة الأولى وزوجها أبو العاص بن الربيع بمكة مشرك ثم شهد أبو العاص بدرا مشركا فأسر ففدي وكان موسرا ثم شهد أحدا مشركا ورجع إلى مكة ومكث بها ما شاء الله ثم خرج إلى الشام تاجرا فأسر بطريق الشام أسره نفر من الأنصار فدخلت زينب على النبي فقالت إن المسلمين يجير عليهم أدناهم فقال وما ذاك يا زينب ؟ فقالت أجرت أبا العاص فقال قد أجرت جوارك ثم لم يجر جوار امرأة بعدها ثم أسلما فكانا على نكاحهما وكان عمر خطبها إلى النبي فذكر لها النبي ذلك فقالت أبو العاص يا رسول الله حيث علمت وقد كان نعم الصهر فإن رأيت أن تنتظره فسكت النبي عند ذلك قلت قوله ثم أسلما أي اجتمعا على الإسلام وإلا فزينب أسلمت قبله قطعا وهاجرت بعد بدر قطعا كما في المسند والسنن من حديث عائشة رضي الله عنها قالت لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب في فداء أبي العاص بمال وبعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة أدخلتها بها على أبي العاص قالت فلما رآها رسول الله رق لها رقة شديدة وقال إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها قالوا نعم وكان رسول الله أخذ عليه أو وعده أن يخلي سبيل زينب إليه فبعث رسول الله زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار فقال كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب فتصحباها حتى تأتيا بها وأما تعلقكم على محمد بن إسحاق فتعلق ضعيف وقد صحح الأئمة حديثه هذا وبينوا أنه أولى بالصحة من حديث عمرو بن شعيب أنه ردها بنكاح جديد وأن ذلك لا يثبت كما تقدم حكاية كلامهم وثناء الأئمةعلى ابن إسحاق وشهادتهم له بالإمامة والحفظ والصدق أضعاف أضعاف القدح فيه وقد أجيب عن حديث زينب رضي الله عنها بأجوبة كلها ضعيفة أو فاسدة ونحن نذكرها قال أبو عمر إن صح حديث ابن عباس هذا فلا يخلو من أحد وجهين إما أنها لم تحض ثلاث حيض حتى أسلم زوجها وإما أن الأمر فيها منسوخ بقوله تعالى وبعولتهن أحق بردهن في ذلك يعني في عدتهن وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء أنه عنى به العدة وقال ابن شهاب في قصة زينب هذه كان هذا قبل أن تنزل الفرائض قال قتادة كان هذا قبل أن تنزل سورة براءة بقطع العهود بين المسلمين والمشركين , وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي رد ابنته إلى أبي العاص بن الربيع بنكاح جديد وإذا كان هذا سقط القول في قصة زينب وكذلك قال الشعبي مع علمه بالمغازي إن النبي لم يرد زينب إلى أبي العاص إلا بنكاح جديد ولا خلاف بين العلماء في الكافرة تسلم ويأبى زوجها الإسلام حتى تنقضي عدتها أنه لا سبيل له عليها إلا بنكاح جديد وهذا كله يتبين به أن قول ابن عباس رضي الله عنهما ردها على النكاح الأول أنه أراد به على مثل الصداق الأول إن صح وحديث عمرو بن شعيب عندنا صحيح انتهى كلامه قلت أما كونها لم تحض في تلك السنين الست إلا ثلاث حيض فهذا مع أنه في غاية البعد وخلاف ما طبع الله عليه النساء فمثله لو وقع لنقل ولم ينقل ذلك أحد ولم يحد النبي بقاء النكاح بمدة العدة حتى يقال لعل عدتها تأخرت فلا التحديد بالثلاث حيض ثابت ولا تأخرها ست سنين معتاد وأما ادعاء نسخ الحديث فأبعد وأبعد فإن شروط النسخ منتفية وهي وجود المعارض ومقاومته وتأخره فأين معكم واحد من هذه الثلاثة ؟ وأعجب من هذا دعوى أن يكون الناسخ قوله تعالى وبعولتهن أحق بردهن في ذلك فإن هذا في المطلقات الرجعيات بنص القرآن واتفاق الأمة ولم يقل أحد أن إسلام المرآة طلقة رجعية يكون بعلها أحق بردها في عدتها والذين يحكمون بالفرقة بعد انقضاء العدة لا يوقعونها من حين الإسلام بخلاف الطلاق فإنه ينفذ من حين التطليق ويكون للزوج الرجعة في زمن العدة وأما قول الزهري إن هذا كان قبل أن تنزل الفرائض فكأنه أراد أن الحديث منسوخ فيقال وأين الناسخ من كتاب الله أو سنة رسوله ؟ فإن قال الناسخ له قوله تعالى لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن فيقال هذه الآية نزلت في قصة صلح الحديبية باتفاق الناس ورد زينب على أبي العاص كان بعد ذلك لما قدم من الشام في زمن الهدنة ولهذا قال النبي لزينب أكرمي مثواه ولكن لا يصل إليك امتثالا لقوله تعالى لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ثم ذهب أبو العاص إلى مكة فرد الودائع والأمانات التي كانت عنده ثم جاء فأسلم فردها عليه بالنكاح الأول وقوله إن ذلك كان قبل أن تنزل الفرائض لم يرد به فرائض الإسلام فابن شهاب أعلم وأجل من أن يريد ذلك والظاهر أنه إنما أراد فريضة تحريم نكاح المشرك والمشركة وأقصى ما يقال إن رد زينب على أبي العاص ونزول آية التحريم كانا في زمن الهدنة فمن أين يعلم تأخر نزول الآية عن قصة الزوجين لتكون ناسخة لها ؟ ولا يمكن دعوى النسخ بالاحتمال وأما قول قتادة كان هذا قبل أن تنزل سورة براءة بقطع العهود بين المسلمين والمشركين فلا ريب أنه كان قبل نزول براءة ولكن أين في سورة براءة ما يدل على إبطال ما مضت به سنة رسول الله من حين بعث إلى أن توفاه الله تعالى من عدم التفريق بين الرجل والمرأة إذا سبق أحدهما بالإسلام ؟ والعهود التي نبذها رسول الله إلى المشركين هي عهود الصلح التي كانت بينه وبينهم فهي براءة من العقد والعهد الذي كان بينه وبينهم ولا تعرض فيها للنكاح بوجه من الوجوه وقد أكد الله سبحانه البراءة بين المسلمين والكفار قبل ذلك في سورة الممتحنة وغيرها ولكن هذا لا يناقض تربص المرأة بنكاحها إسلام زوجها فإن أسلم كانت امرأته وإلا فهي بريئة منه وأما قوله وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه ردها بنكاح جديد فلو وصل إلى عمرو لكان حجة فإنا لا ندفع حديث عمرو ابن شعيب ولكن دون الوصول إليه مفاوز مجدبة معطشة لا تسلك فلا يعارض بحديثه الحديث الذي شهد الأئمة بصحته وأما قول الشعبي إن النبي لم يردها إلا بنكاح جديد فهذا إن صح عن الشعبي فإن كان قاله برأيه فلا حجة فيه وإن كان قاله رواية فهو منقطع لا تقوم به حجة فبين الشعبي وبين رسول الله مفازة لا يدرى حالها وأما قوله لا خلاف بين العلماء في الكافرة تسلم ويأبى زوجها الإسلام حتى تنقضي عدتها أنه لا سبيل له عليها إلا بنكاح فهذا قاله أبو عمر رحمه الله بحسب ما بلغه وإلا فقد ذكرنا في المسلمة مذاهب تسعة وذكرنا مذهب علي ولا يحفظ اعتبار العدة عن صاحب واحد البتة وأرفع ما فيه قول الزهري الذي رواه مالك عنه في الموطأ ولفظه أن أم حكيم بنت الحارث بن هشام أسلمت يوم الفتح بمكة وهرب زوجها عكرمة بن أبي جهل من الإسلام حتى قدم اليمن فارتحلت أم حكيم حتى قدمت على زوجها باليمن ودعته إلى الإسلام فأسلم وقدم على رسول الله فبايعه فثبتا على نكاحهما ذلك قال ابن شهاب ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى الله وإلى رسوله وزوجها كافر مقيم بدار الكفر إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها وأنه لم يبلغنا أن امرأة فرق بينها وبين زوجها إذا قدم وهي في عدتها فلا يعرف في اعتبار العدة غير هذا الأثر وأما قوله إنه ردها على النكاح الأول أي على مثل الصداق الأول فلا يخفى ضعفه وفساده وأنه عكس المفهوم من لفظ الحديث وقوله لم يحدث شيئا يأباه ونحن نذكر ألفاظ الحديث لنبين أنها لا تحتمل ذلك ففي المسند والسنن من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي رد ابنته زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول لم يحدث شيئا وفي لفظ بنكاحها الأول لم يحدث صداقا وفي لفظ شهادة ولا صداقا وفي لفظ لم يحدث نكاحا فهذا كله صريح في أنه أبقاهما على نفس النكاح الأول لا يحتمل الحديث غير ذلك وأما قوله فحديث عمرو بن شعيب عندنا صحيح فنعم إذا وصل إليه بسند صحيح وهذا منتف في هذا الحديث كما تقدم قال الترمذي في كتاب العلل سألت عنه محمد بن إسماعيل البخاري عن هذين الحديثين فقال حديث ابن عباس أصح في هذا الباب من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وذكر أبو عبيد عن يحيى بن سعيد القطان أن حجاج بن أرطاة وهو راويه عن عمرو بن شعيب لم يسمعه من عمرو وأنه من حديث محمد بن عبيدالله العرزمي عن عمرو قال البيهقي فهذا الحديث لا يعبأ به أحد يدري ما الحديث قال والذي ذكره بعض الناس في الجمع بين حديث عبدالله بن عمرو وحديث ابن عباس بأن قال علم عبدالله بن عمرو بتحريم الله سبحانه رجوع المؤمنات إلى الكفار فلم يكن ذلك عنده إلا بنكاح جديد , وأما ابن عباس فلم يعلم بتحريم الله عز و جل المؤمنات على الكفار حتى علم برد زينب على أبي العاص فقال ردها بالنكاح الأول لأنه لم يكن بينهما عنده فسخ نكاح قال البيهقي وليس هذا بجمع صحيح وما هو إلا سوء ظن بالصحابة حيث نسبهم إلى المجازفة برواية الحديث على ما وقع لهم من غير سماع وحديث عبدالله بن عمرو لم يثبته الحفاظ على ما قدمنا ذكره وابن عباس لم يقل ردها عليه بالنكاح الأول ولم يحدث شيئا إلا بعد إحاطة العلم به بنفسه أو عمن يثق به وكيف يشتبه على مثله نزول الآية في الممتحنة قبل رد النبي ابنته على أبي العاص وإن اشتبه ذلك عليه في وقت نزولها لم يشتبه على مثله الخبر بعد وفاة النبي وقد علم منازل القرآن وتأويله هذا بعيد لا يجوز الحمل عليه انتهى كلامه قال أصحاب هذا القول ثم نقول دعونا من هذا كله وهب أنه صح لكم جميع ما ذكرتم في قصة زينب فمن أين لكم أن المراعى في أمر أبي العاص وأمر هند وامرأة صفوان وأم حكيم وسائر من أسلم إنما هو العدة ومن أخبركم بهذا وليس في شيء من الأحاديث الصحاح ولا الحسان ذكر عدة في ذلك ولا دليل عليها أصلا من كتاب الله ولا سنة رسوله ولا إجماع الصحابة قالوا ولا عدة في دين الله إلا في طلاق أو خلع أو وفاة أو عتق تحت عبد أو حر فمن أين جئتمونا بهذه العدة وجعلتموها حدا فاصلا بين الزوج المالك للعصمة وغيره 117 – فصل حجة المعجلون للفرقة قال المعجلون للفرقة قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم قالوا فهذا حكم الله الذي لا يحل لأحد أن يخرج عنه وقد حرم فيه رجوع المؤمنة إلى الكافر وصرح سبحانه بإباحة نكاحها ولو كانت في عصمة الزوج حتى يسلم في العدة أو بعدها لم يجز نكاحها لا سيما والمهاجرة تستبرأبحيضة وهذا صريح في انقطاع العصمة بالهجرة وقوله ولا تمسكوا بعصم الكوافر صريح في أن المسلم مأمور ألا يمسك عصمة امرأته إذا لم تسلم فصح أن ساعة وقوع الإسلام منه تنقطع عصمة الكافرة منه وقوله تعالى لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن صريح في تحريم أحدهما على الآخر في كل وقت فهذه أربعة أدلة من الآية ودعونا من تلك المنقطعات والمراسيل والآثار المختلفة ففي كتاب الله الشفاء والعصمة قال الآخرون مرحبا وأهلا وسهلا بكتاب الله وسمعا وطاعة لقول ربنا ولكن تأولتم الآية على غير تأويلها ووضعتموها على غير مواضعها وليس فيها ما يقتضي تعجيل الفرقة إذا سبق أحدهما الآخر بإلغائها ولا فهم هذا منها أحد قط من أصحاب رسول الله ولا من التابعين ولا يدل على ما ذهبتم إليه أصلا أما قوله تعالى فلا ترجعوهن إلى الكفار فإنما يدل على النهي عن رد النساء المهاجرات إلى الله ورسوله إلى الكفار فأين في هذا ما يقتضي أنها لا تنتظر زوجها حتى يصير مسلما مهاجرا إلى الله ورسوله ثم ترد إليه ولقد أبعد النجعة كل الإبعاد من فهم هذا من الآية وكذلك قوله لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن إنما فيه إثبات التحريم بين المسلمين والكفار وأن أحدهما لا يحل للآخر وليس فيه أن أحدهما لا يتربص بصاحبه الإسلام فيحل له إذا أسلما وأما قوله ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن فهذا خطاب للمسلمين ورفع للحرج عنهم أن ينكحوا المؤمنات المهاجرات إذا بن من أزواجهن وتخلين عنهم وهذا إنما يكون بعد انقضاء عدة المرأة واختيارها لنفسها ولا ريب أن المرأة إذا انقضت عدتها تخير بين أن تتزوج من شاءت وبين أن تقيم حتى يسلم زوجها فترجع إليه إما بالعقد الأول على ما نصرناه وإما بعقد جديد على قول من يرى انفساخ النكاح بمجرد انقضاء العدة فلو أنا قلنا إن المرأة تبقى محبوسة على الزوج لا نمكنها أن تتزوج بعد انقضاء العدة شاءت أم أبت لكان في الآية حجة علينا ونحن لم نقل ذلك ولا غيرنا من أهل الإسلام بل هي أحق بنفسها إن شاءت تزوجت وإن شاءت تربصت فأما قوله تعالى ولا تمسكوا بعصم الكوافر فإنما تضمن النهي عن استدامة نكاح المشركة والتمسك بها وهي مقيمة على شركها وكفرها وليس فيه النهي عن الانتظار بها أن يسلم ثم يمسك بعصمتها فإن قيل فهو في التربص ممسك بعصمتها قلنا ليس كذلك بل هي متمكنة بعد انقضاء عدتها من مفارقته والتزوج بغيره ولو كانت العصمة بيده لما أمكنها ذلك وأيضا فالآية إنما دلت على أن الرجل إذا أسلم ولم تسلم المرأة أنه لا يمسكها بل يفارقها فإذا أسلمت بعده فله أن يمسك بعصمتها وهو إنما أمسك بعصمة مسلمة لا كافرة وأيضا فإن تحريم النساء المشركات على المؤمنين لم يستفد بهذه الآية بل كان ثابتا قبل ذلك بقوله ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن وإنما اقتضت هذه الآية حكمه سبحانه بين المؤمنين والكفار في النساء اللاتي يرتددن إلى الكفار واللاتي يهاجرن إلى المسلمين فإن الشرط كان قد وقع على أن من شاء أن يدخل في دين رسول الله وعهده دخل ومن شاء أن يدخل في دين قريش وعهدهم دخل فهاجر نسوة اخترن الإسلام وارتد نسوة اخترن الشرك فحكم الله أحسن حكم بين الفريقين في هذه الآية ونهى المسلمين فيها أن يمسكوا بعصمة المرأة التي اختارت الكفر والشرك فإن ذلك منع لها من التزوج بمن شاءت وهي في عصمة المسلم والعهد اقتضى أن من جاء من المسلمين رجالهم ونسائهم إلى الكفار يقر على ذلك ومن جاء من الكفار إلى المسلمين يرد إليهم فإذا جاءت امرأة كافرة إلى المسلمين زالت عصمة نكاحها وأبيح للمسلمين أن يزوجوها فإذا فاتت امرأة من المسلمين إلى الكفار فلو بقيت في عصمته ممسكا لها لكان في ذلك ضرر بها إن لم يمكنها أن تزوج وضرر به إن أمكنها أن تتزوج وهي في عصمته فاقتضى حكمه العدل الذي لا أحسن منه تعجيل التفريق بينه وبين المرأة المرتدة أو الكافرة عندهم لتتمكن من التزويج كما تتمكن المسلمة من التزويج إذا هاجرت فهذا مقتضى الآية وهي لا تقتضي أن المرأة إذا أسلمت وقعت الفرقة بمجرد إسلامها بينها وبين زوجها فلو أسلم بعد ذلك لم يكن له عليها سبيل فينبغي أن تعطى النصوص حقها والسنة حقها فلا تعارض بين هذه الآية وبين ما جاءت به السنة بوجه ما والكل من مشكاة واحدة يصدق بعضها بعضا قال شيخ الإسلام وأما القول بأنه بمجرد إسلام أحد الزوجين المشركين تحصل الفرقة قبل الدخول أو بعده فهذا قول في غاية الضعف فإنه خلاف المعلوم المتواتر من شريعة الإسلام فإنه قد علم أن المسلمين الذين دخلوا في الإسلام كان يسبق بعضهم بعضا بالتكلم بالشهادتين فتارة يسلم الرجل وتبقى المرأة مدة ثم تسلم كما أسلم كثير من نساء قريش وغيرهم قبل الرجال وروي أن أم سليم امرأة أبي طلحة أسلمت قبل أبي طلحة وتارة يسلم الرجل قبل المرأة ثم تسلم بعده بمدة قريبة أو بعيدة وليس لقائل أن يقول هذا كان قبل تحريم نكاح المشركين لوجهين أحدهما أنه لو قدر تقدم ذلك فدعوى المدعي أن هذا منسوخ تحتاج إلى دليل الوجه الثاني أن يقال لقد أسلم الناس ودخلوا في دين الله أفواجا بعد نزول تحريم المشركات ونزول النهي عن التمسك بعصم الكوافر فأسلم الطلقاء بمكة وهم خلق كثير وأسلم أهل الطائف وهم أهل مدينة وكان إسلامهم بعد أن حاصرهم النبي ونصب عليهم المنجنيق ولم يفتحها ثم قسم غنائم حنين بالجعرانة واعتمر عمرة الجعرانة ثم رجع بالمسلمين إلى المدينة ثم وفد وفد الطائف فأسلموا ونساؤهم بالبلد لم يسلمن ثم رجعوا وأسلم نساؤهم بعد ذلك فمن قال إن إسلام أحد الزوجين قبل الآخر يوجب تعجيل الفرقة قبل الدخول أو بعده فقوله مقطوع بخطئه ولم يسأل النبي أحدا ممن أسلم هل دخلت بامرأتك أم لا بل كل من أسلم وأسلمت امرأته بعده فهي امرأته من غير تجديد نكاح وقد قدم عليه وفود العرب وكانوا يسلمون ثم يرجعون إلى أهليهم فيسلم نساؤهم على أيديهم بعد إسلام أزواجهن وبعث عليا ومعاذا وأبا موسى إلى اليمن فأسلم على أيديهم من لا يحصيهم إلا الله من الرجال والنساء ومعلوم قطعا أن الرجل كان يأتيهم فيسلم قبل امرأته والمرأة تأتيهم فتسلم قبل الرجل ولم يقولوا لأحد ليكن تلفظك وتلفظ امرأتك بالإسلام في آن واحد لئلا ينفسخ النكاح ولم يفرقوا بين من دخل بامرأته وبين من لم يدخل ولا حدوا ذلك بثلاثة قروء ثم يقع الفسخ بعدها بل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد باشر ذلك بنفسه مع رسول الله وفي غيبته عنه قد قال هو أحق بها ما لم تخرج من مصرها وفي رواية عنه ما لم تخرج من دار هجرتها ولم يعجل الفرقة ولا حدها بثلاثة قروء وفي قضية زينب الشفاء والعصمة وكانت سنته أنه يجمع بين الزوجين إذا أسلم أحدهما قبل الآخر وتراضيا ببقائهما على النكاح لا يفرق بينهما ولا يحوجهما إلى عقد جديد فإذا أسلمت المرأة أولا فلها أن تتربص بإسلام زوجها أي وقت أسلم فهي امرأته وإذا أسلم الرجل فليس له أن يحبس المرأة على نفسه ويمسك بعصمتها فلا يكرهها على الإسلام ولا يحبسها على نفسه فلا يظلمها في الدين ولا في النكاح بل إن اختارت هي أن تتربص بإسلامه تربصت طالت المدة أو قصرت وإن اختارت أن تتزوج غيره بعد انقضاء عدتها فلها ذلك والعدة ههنا لحفظ ماء الزوج الأول وأيهما أسلم في العدة أو بعدها فالنكاح بحاله إلا أن يختار الرجل الطلاق فيطلق كما طلق عمر رضي الله عنه امرأتين له مشركتين لما أنزل الله تعالى ولا تمسكوا بعصم الكوافر أو تختار المرأة أن تزوج بعد استبرائها فلها ذلك وأيضا فإن في هذا تنفيرا عن الإسلام فإن المرأة إذا علمت أو الزوج أنه بمجرد الإسلام يزول النكاح ويفارق من يحب ولم يبق له عليها سبيل إلا برضاها ورضا وليها ومهر جديد نفر عن الدخول في الإسلام بخلاف ما إذا علم كل منهما أنه متى أسلم فالنكاح بحاله ولا فراق بينهما إلا أن يختار هو المفارقة كان في ذلك من الترغيب في الإسلام ومحبته ما هو أدعى إلى الدخول فيه وأيضا فبقاء مجرد العقد جائزا غير لازم من غير تمكين من الوطء خير محض ومصلحة بلا مفسدة فإن المفسدة إما بابتداء استيلاء الكافر على المسلمة فهذا لا يجوز كابتداء نكاحه للمسلمة وإن لم يكن فيه وطء كما لا يجوز استيلاؤه بالاسترقاق وإما بالوطء بعد إسلامها وهذا لا يجوز أيضا فصار إبقاء النكاح جائزا فيه مصلحة راجحة للزوجين في الدين والدنيا من غير مفسدة وما كان هكذا فإن الشريعة لا تأتي بتحريمه وكذلك الردة أيضا القول بتعجيل الفرقة فيها خلاف المعلوم من سنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين فقد ارتد على عهدهم خلق كثير ومنهم من لم ترتد امرأته ثم عادوا إلى الإسلام وعادت إليهم نساؤهم وما عرف أن أحدا منهم أمر أن يجدد عقد نكاحه مع العلم بأن منهم من عاد إلى الإسلام بعد مدة أكثر من مدة العدة ومع العلم بأن كثيرا من نسائهم لم ترتد ولم يستفصل رسول الله ولا خلفاؤه أحدا من أهل الردة هل عاد إلى الإسلام بعد انقضاء العدة أم قبلها بل المرتد إن استمر على ردته قتل وإن عاد إلى الإسلام فامرأته وماله باق عليه بحاله فماله وامرأته موقوف وفي تعجيل الفرقة تنفير لهم عن العود إلى الإسلام والمقصود تأليف القلوب على الإسلام بكل طريق 118 – فصل صحة العقود التي وقعت من أهل الذمة في الشرك ومن هذا أمر العقود التي وقعت منهم في الشرك فإن الذين أسلموا على عهد النبي لم يسأل أحدا منهم كيف كان عقدك على امرأتك وهل نكحتها في عدتها أم بعد انقضاء عدتها وهل نكحت بولي وشهود أم لا ولا سأل من كان تحته أختان هل جمعت بينهما في عقد واحد أم تزوجت واحدة بعد واحدة وقد أسلم على عهد رسول الله الخلق الذين أسلموا ودخلوا في دين الله أفواجا ولم يسأل أحدا منهم عن صفة نكاحه بل أقرهم على أنكحتهم إلا أن يكون حين الإسلام أحدهم على نكاح محرم كنكاح أكثر من أربع أو نكاح أختين فكان يأمره أن يختار أربعا منهن وإحدى الأختين سواء وقع ذلك في عقد أو عقود وإن كان متزوجا بذات محرم كامرأة أبيه أمره بفراقها وهذا قول أصحاب رسول الله وجمهور التابعين ومن بعدهم وأبو حنيفة ينظر إلى صفة العقد في الكفر هل له مساغ في الإسلام أم لا فإن كان له مساغ صححه وإلا أبطله فإن تزوج أكثر من أربع في عقد واحد فسد نكاح الجميع وإن كان في عقود ثبت نكاح الأربع وقد فسد نكاح من بعدهن من غير تخيير وكذلك الأختان والذي مضت به السنة قول الجمهور كما في السنن من حديث الضحاك بن فيروز عن أبيه قال أسلمت وعندي امرأتان أختان فأمرني النبي أن أطلق إحداهما وفي لفظ للترمذي اختر أيتهما شئت قال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل ومحمد بن جعفر قالا حدثنا معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبي اختر منهن أربعا فلما كان في عهد عمر طلق نساءه وقسم ماله بين بنيه فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فقال إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك ولعلك ألا تمكث إلا قليلا وأيم الله لتراجعن نساءك ولترجعن في مالك أو لأورثهن ولآمرن بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال قال أحمد وحدثنا محمد بن جعفر ثنا معمر أخبرنا ابن شهاب الزهري عن سالم عن أبيه قال أسلم غيلان بن سلمة وتحته عشر نسوة فقال رسول الله اختر منهن أربعا وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبدالسلام حدثنا إسحاق بن عبدالله عن أبي وهب الجيشاني عن أبي خراش الرعيني عن الديلمي قال قدمت على النبي وعندي أختان تزوجتهما في الجاهلية فقال إذا رجعت فطلق إحداهما ورواه الشالنجي عن الضحاك بن فيروز عن أبيه قال أسلمت وعندي امرأتان أختان فقال رسول الله اختر إحداهما وفي المسند من حديث قيس بن الحارث قال أسلمت وتحتي ثمان نسوة فأتيت النبي فقلت له ذلك فقال اختر منهن أربعا وحديث غيلان قد رواه الإمام أحمد والشافعي ومالك لكن مالكا أرسله عن الزهري ومعمر وصله وحكم الناس لمالك في إرساله وغلطوا معمرا في وصله وقالوا هو غير محفوظ قال الأثرم ذكرت لأبي عبدالله الحديث الذي رواه البصريون عن الزهري عن سالم عن أبيه أن غيلان أسلم وعنده عشر نسوة أصحيح هو قال لا ما هو صحيح قال مهنا سألت أحمد عن حديث معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر عن النبي أن غيلان أسلم وعنده عشر نسوة قال ليس بصحيح والعمل عليه كان عبدالرزاق يقول عن معمر عن الزهري مرسلا وقال مسلم بن الحجاج هذا الحديث رواه معمر بالبصرة متصلا هكذا فإن رواه عنه ثقة خارج البصريين حكمنا له بالصحة أو قال صار الحديث صحيحا وإلا فالإرسال أولى قال البيهقي فوجدنا سفيان بن سعيد الثوري وعبدالرحمن بن محمد وعيسى بن يونس وثلاثتهم كوفيون حدثوا به عن معمر متصلا قال ورواه يحيى بن أبي كثير وهو يمامي عن الفضل بن موسى وهو خراساني عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه عن رسول الله فصح الحديث بذلك والله أعلم وقد قال النسائي ثنا عمرو بن يزيد الجرمي ثنا سيف بن عبيدالله ثنا سرار بن مجشر عن أيوب عن نافع وسالم عن ابن عمر أن غيلان بن سلمة كان عنده عشر نسوة فأسلم وأسلمن معه فأمره النبي أن يختار منهن أربعا قال البيهقي قال لنا أبو عبدالله رواة هذا الحديث كلهم ثقات تقوم بهم الحجة وقال أبو علي الحافظ تفرد به سرار بن مجشر وهو بصري ثقة وبالجملة فشهرة القصة تغني عن إسنادها فالنبي خيره ولم يفرق بين الأوائل والأواخر ولم يستفصله ولو اختلف الحال لتعين الاستفصال فإن الرجل حديث عهد بالإسلام غير عارف بشرائع الأحكام وتفاصيل الحلال من الحرام فجعل الاختيار إليه ولم يحجر في ذلك عليه قال المنازعون قد ثبت عن النبي في حديث بريدة ومعاذ وغيرهما الأمر بدعاء الكفار إلى أن يكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين والمسلم ليس له أن يتزوج أكثر من أربع ولا أختين في عقد واحد وقد قال كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد وهذا نص في المسألة قاطع للنزاع قالوا ونكاح الخمس في عقد واحد لا يختلف فيه حكم البقاء والدوام في المنع فكان باطلا كنكاح ذوات المحارم قالوا ولا يرد علينا النكاح بغير شهود ولا ولي والنكاح في العدة لأن ذلك يمنع الابتداء دون البقاء قالوا وليس تحريم الخامسة من جهة الجمع فلم يختلف فيه حال الابتداء والاستدامة والإسلام والكفر كعقد المرأة على زوجين قالوا ولو باع ذمي درهما بدرهمين ثم أسلم قبل القبض لم يخير في أحد الدرهمين كذلك إذا أسلم وتحته أختان يجب ألا يخير في إحدى الأختين وبأن العقد على الخمس في حال الشرك لا يخلو من أحد أمرين إما أن تقولوا إنه صحيح أو فاسد ولا يجوز أن يقال إنه صحيح إذ لو كان كذلك لم يجز نقضه بعد الإسلام فثبت أنه فاسد وإذا كان فاسدا لم يصححه الإسلام كنكاح ذوات المحارم قالوا ولأنه عقد على عدد محرم فلا يثبت فيه التخيير كعقد السلم قالوا وأما الحديث فنحن أول آخذ به إذ المراد بقوله اختر منهن أربعا تعقد عليهن عقدا جديدا وكذلك قوله في الأختين اختر أيتهما شئت إنما هو تخيير ابتداء لا تخيير استدامة لما ذكرنا من الأدلة ولو كان تخيير استدامة لاحتمل أن يكون غيلان عقد عليهن في الحال التي كان يجوز فيها العقد على أكثر من أربع وذلك في أول الإسلام فإن القصر على أربع إنما وقع في سورة النساء وهي مدنية بالاتفاق سلمنا انتفاء ذلك فيجوز أن يكون النبي قد علم صورة الحال وأنه تزوجهن في عقد واحد فأمره أن يختار منهن أربعا يبتدئ نكاحهن ولا سبيل إلى العلم بانتفاء هذا قال المصححون الآن اشتد اللزام واحتد الخصام ووجب التحيز إلى فئة الحديث الذين قصدهم الانتصار له أين كان ومع من كان قالوا وأما احتجاجكم بقوله فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين فما أصحه من حديث وما أضعفه من استدلال وهل نازع في هذا مسلم حتى تحتجوا عليه به وهكذا نقول نحن وكل مسلم إن الرجل إذا أسلم فحينئذ يصير له ما للمسلمين وعليه ما عليهم وأما قبل ذلك فلم يكن كذلك فالحديث حجة عليكم فإنه لم يقل أخبرهم أن عليهم ما على المسلمين قبل الإسلام والذي على المسلم أنه لا يمكن من العقد على أختين ابتداء ولا استدامة وهكذا قوله كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد وليس أمره على الجمع بين الأختين والتزوج بأكثر من أربع فلذلك كان رد بالإسلام وهو لم يقل إن ما كان في الجاهلية مما يخالف أمري ومضى وانقضى فهو رد وإنما يرد منه ما قام الإسلام وهو على خلاف أمره وهكذا فعل سواء فإنه أبطل نكاح إحدى الأختين وما زاد على الأربع إذ ذلك خلاف أمره وجعل الخيرة في الممسكات إلى الزوج وهذا نفس أمره فما خالف هذا وهذا فهو رد فالحديث حجة على بطلان قولكم وبالله التوفيق وأما قولكم إن نكاح الخمس في عقد واحد لا يختلف فيه حكم الابتداء والدوام فكان باطلا كنكاح ذوات المحارم فجوابه من وجوه أحدها أن تحريم ما زاد على الأربع إنما كان من جهة الزيادة على العدد المباح والزيادة يمكن إبطالها دون النصاب فإن المفسدة تختص بها فلا معنى لتعدية الإبطال إلى النصاب فإن في ذلك إضرارا به وتنفيرا له عن الإسلام من غير مصلحة وقد أمكن إزالة المفسدة بمفارقة ما زاد على النصاب فيبقى النكاح في حق الأربع صحيحا فهذا محض القياس كما أنه مقتضى السنة وهذا بخلاف نكاح ذوات المحارم فإن المفسدة التي فيه لا تزول إلا ببطلان النكاح لقيام سبب التحريم الوجه الثاني أن تحريم الزائد على أربع إنما نشأ من جهة انضمامه إلى القدر الجائز وإلا فكل واحدة منهن لو انفردت صح العقد عليها بخلاف تحريم ذوات المحارم فإنه ثابت لذاتها وعينها فقياس أحد النوعين على الآخر فاسد الوجه الثالث أن تحريم الزائد على الأربع أخف من تحريم ذوات المحارم ولهذا أبيح لنبينا الزيادة على أربع ولم تبح له ذوات المحارم فلا يصح اعتبار أحد النوعين بالآخر ونحن لا ننظر إلى ابتداء العقد كيف وقع بل إلى حاله عند الإسلام ولهذا قد ساعدتم على أنه لو تزوجها بغير ولي ولا شهود ولا مهر أو في عدة ثم انقضت أو بغير تراض لم يبطله الإسلام فلذلك إذا عقد على خمس لم نبطله بالإسلام وإنما يبطل الزائد على النصاب وأما قولكم إن تحريم الزائد على الأربع إنما كان من جهة الجمع فلم يفترق الحال فيه بين الابتداء والاستدامة كعقد المرأة على زوجين فما أفسده من قياس فإن هذا مما لم تختلف فيه الشرائع ولا الطبائع ولا تسوغه أمة من الأمم على اختلاف أديانها وآرائها وأما الجمع بين الأختين وبين أكثر من أربع فقد كان جائزا في بعض الشرائع كما قال تعالى وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف والجمع بين أكثر من أربع قد فعله داود وسليمان وخاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وبالجملة فعقد الرجل على أكثر من امرأة مصلحة راجحة وعقد المرأة على أكثر من رجل مفسدة خالصة أو راجحة فاعتبار أحدهما بالآخر فاسد عقلا وطبعا وشرعا وأما قولكم لو باع ذمي درهما بدرهمين ثم أسلم لم يخير في أحد الدرهمين كذلك لا يخير في الأختين فما أفسده من قياس فإن الصرف إذا لم يقبض لم يلزم في العقد إن قبضه ثم أسلم أن يفسخ العقد فإنهم إذا تعاقدوا عقود الربا وتقابضوا ثم أسلموا لم نفسخها وإن لم يتقابضوا لم نمضها وهكذا النكاح فإنه إذا اتصل به الدخول وسبب التحريم قائم أبطلناه وإن كان قد انقضى لم نعرض له وإنما لم نخيره في أحد الدرهمين وخيرناه في إحدى الأختين لأنه لا فائدة له في تخييره في أحد الدرهمين ولا غرض له في ذلك ولا مصلحة بخلاف تخييره بين إحدى الأختين على أنه لا يمتنع أن يخير العقد في درهم بدرهم ويجعل له الخيار في أيهما شاء فنفي الحكم في ذلك غير معلوم بنص ولا إجماع وأما قولكم العقد على الخمس في حال الشرك إما أن يقع صحيحا أو فاسدا إلى آخره فجوابه من وجهين أحدهما أنه صحيح في الجميع فإذا أسلم فسخ العقد في إحداهن هذا جواب القاضي أبي يعلى قال وقد نص أحمد على هذا إذا تزوج الحربي أما وبنتا ثم أسلم قبل الدخول انفسخ نكاح الأم قال وهذا يدل على أنه قد صح النكاح في البنت حتى صارت هي من أمهات النساء فحرمت عليه ولو لم يكن صحيحا فيهما كان له أن يختار أيهما شاء لأنها لم تكن من أمهات النساء والجمع بين الأم والبنت في العقد كالجمع بين خمسة قال وإنما حكمنا بصحة العقد في الجميع لأن له أن يختار الخامسة بعد إسلامه ويستديم نكاحها على حديث غيلان وغيره ولا يجوز أن يستديم نكاحا حكمنا بفساده وقولكم إنه لو كان صحيحا لم يجز تغييره ونقضه بعد الإسلام كما لو عقد على أربع لا يصح لأن الإسلام لا يغير ما يطابق حكم الإسلام وما زاد على الأربع يخالف حكمه فلهذا غيره كما لو تعاقدا عقد صرف وأسلما قبل التقابض حكمنا بفساده وإن كان الصرف في الجملة جائزا ولأنه لو أسلم الوثني قبل الدخول انفسخ النكاح بعد الحكم بصحته ولأن تغييره بعد الإسلام إنما هو إلزام ولا يمتنع أن يوجب الإسلام إزالة أشياء لم تكن حال الكفر كالعبادات وعندي جواب آخر وهو أن العقد الذي وقع في حال الكفر على هذا الوجه لا يحكم له بصحة ولا فساد بل يقرون عليه كما يقرون على كفرهم فإن استمروا على الكفر لم نتعرض لعقودهم وإن أسلموا حكم ببطلان ما يقتضي الإسلام بطلانه من حين الإسلام لا قبل ذلك كالحكم في سائر عقودهم من بياعاتهم وغيرها فما كان قبل الإسلام فهو عفو لا نحكم له بأحكام الإسلام قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا فأمر بترك ما بقي دون رد ما قبض ولم يكن صحيحا بل كان عفوا كما قال سبحانه فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف فجعل له ما سلف من الربا وإن لم يكن مباحا له وكذلك سائر العقود له ما سلف منها ويجب عليه ترك ما يحرمه الإسلام وهذه الآية هي الأصل في هذا الباب جميعه فإنه تعالى لم يبطل ما وقع في الجاهلية على خلاف شرعه وأمر بالتزام شرعه من حين قام الشرع ومن تأمل حكم رسول الله في باب أنكحة الكفار إذا أسلموا عليها وجده مشتقا من القرآن مطابقا له وأما قولكم إنه عقد على أكثر من أربع فلم يصح فيه التخيير كعقد السلم فهل في القياس أفسد من هذا وهل يمكن أحدا أن يطرد هذا القياس فيفسخ كل نكاح وقع في الشرك وكل بيع وكل إجارة وكل عقد لم يستوف شروطه في الإسلام كالنكاح بلا ولي ولا شهود ولا مهر وكل عقد فاسد وقع فيه التقابض وأما قولكم إنكم أول من أخذ بالحديث فكلا بل أول من تلطف في رده بما لا يرد به وما تأولتم به الحديث من أن المراد به تخييره في ابتداء العقد على من شاء منهن باطل لوجوه أحدها قوله في بعض ألفاظه أمسك أربعا وفارق سائرهن وهذا يقتضي إمساكهن بالعقد الأول كما قال تعالى وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك وقوله فإمساك بمعروف ولا يعقل الإمساك غير هذا فإن قلتم يعني أمسك أربعا منهن تزوج أربعا خرج اللفظ عن القياس إلى الألغاز واللبس الذي يتنزه عنه كلام المبين عن الله الثاني أنه جعل الإمساك والاختيار إليه ولو كان المراد به العقد لكان الاختيار إليهن لا إليه لأنه لا يعقد عليهن إلا برضاهن الثالث أنه أمره بالاختيار وذلك واجب عليه ولو كان المراد تجديد العقد لم يجب عليه ولهذا لو أبى الاختيار أجبره عليه الحاكم فإن امتنع ضربه حتى يختار لأنه واجب عليه الرابع أن هذا التأويل لا يصح عندكم إلا إذا كان قد تزوجهن في عقد واحد فأما إذا تزوجهن بعقود متفرقة فإنه يصح نكاح الأربع الأول ويبطل نكاح من عداهن وحينئذ فيكون المراد من الحديث إذا كنت قد تزوجتهن في عقد واحد فنكاح الجميع باطل وذلك أن يتزوج أربعا منهن ومعلوم أن هذا لا يفهم أصلا من قوله اختر أربعا وفارق سائرهن ولا يفهم المخاطب ولا غيره هذا المعنى من هذا اللفظ البتة الخامس أن النبي لم يسأل هذا الحديث العهد بالإسلام الجاهل بالأحكام عن كيفية عقده ولا استفصله السادس ما رواه الشافعي عن عوف بن الحارث عن نوفل بن معاوية الديلي قال أسلمت وعندي خمس نسوة فقال النبي أمسك أربعا وفارق الأخرى فعمدت إلى أقدمهن صحبة عجوز عاقر معي منذ ستين سنة ففارقتها ففهم المخاطب من هذا اللفظ حقيقته وعمل بها السابع أنه قال للذي أسلم على أختين طلق أيتهما شئت وهذا لا معنى له على قول المنازع فإنه إن تزوج إحداهما بعد الأخرى فنكاح الثانية باطل وليست محلا للطلاق وإن تزوجهما معا فنكاحهما عنده باطل وليست واحدة منهما محلا للطلاق الثامن أن في بعض طرق الحديث أمسك إحداهما وهذا على قولكم لا يتأتى فإنه إن جمعهما في عقد لم يكن له سبيل على واحدة منهما حتى يمسكهما وإن سبق عقد إحداهما الأخرى كان الواجب عندكم أن يقال أمسك الأولى دون الثانية وهذا لا يصح أن يعبر عنه بقوله أمسك إحداهما وأيتهما شئت وأما قولكم إن هذا يجوز أن يكون في الوقت الذي كان يجوز فيه العقد على أكثر من أربع فجوابه من وجوه أحدها أنه لا يعلم أنه كان العقد على أكثر من أربع جائزا في وقت من الأوقات في الإسلام لا قبل الهجرة ولا بعدها ولو كان ذلك لنقل مع ما نقل من الناسخ والمنسوخ ولم ينقل أحد هذا قط فإن قيل نحن لم ندع أن ذلك أبيح لفظا ثم نسخ بل كان على أصل الإباحة والعفو حتى حرمه القرآن قيل هذا لا يصح فإن الأصل في الفروج التحريم إلا ما أباحه الله ورسوله كما أن الأصل في العبادات البطلان إلا ما شرعه الله ورسوله وعكس هذا العقود والمطاعم الأصل فيها الصحة والحل إلا ما أبطله الله ورسوله وحرمه وهذا تقرر في موضعه الثاني أن هذا لو كان مشروعا أو مباحا إباحة العفو لكان في المسلمين ولو رجل واحد يفعله في الإسلام قبل التحريم مع حرصهم على النكاح والاستكثار منه ألا ترى أنهم فعلوا المتعة لما كانت مباحة وشرب الخمر منهم من شربها قبل التحريم الثالث أن النبي لم يسأله عن وقت العقد هل كان قبل التحريم أو بعده كما لم يسأله عن كيفيته الرابع أن هذا لا يصح على أصول المنازع فإن أبا حنيفة قال إذا تزوج الحر بأربع نسوة ثم استرق فإنه يبطل نكاحهن ومعلوم أنه إنما حرم عليه نكاح ما زاد على الثنتين بالاسترقاق ونكاح الأربع وقع في الوقت الذي كان يجوز له فيه نكاحهن فكان يجب على ما ذكروا من التأويلات أن يختار منهن اثنتين لأنه عقد على أربع في حال كان ذلك مباحا له فيها ثم ورد التحريم وهذه المسألة ذكرها محمد بن الحسن في الجامع الكبير وأما قولكم إن النبي يجوز أن يكون علم الحال وأنه تزوجهن في عقد واحد فخيره بين أربع يبتدئ نكاحهن فهو باطل من الوجوه التي تقدمت ونزيدها ههنا وجها آخر وهو أن ذلك يتضمن تعليق الحكم على غير السبب المذكور في الحديث وإلغاء السبب الذي ذكر فيه وهذا باطل من الوجهين جميعا فإنه إنما علق الاختيار بكونه أسلم على أكثر من أربع وعندكم الاختيار إنما علق على اجتماعهن في عقد واحد لو كان اختيارا وبالله التوفيق من أسلم وتحته أم وابنتها فإن قيل ما تقولون لو أسلم وتحته أم وبنتها قيل إن أسلم قبل دخوله بواحدة منهما فسد نكاح الأم لأنها صارت من أمهات نسائه وثبت نكاح البنت لأنها ربيبة غير مدخول بأمها هذا مذهب أحمد وأحد قولي الشافعي اختاره المزني وقال في القول الآخر له أن يختار أيتهما شاء لأن عقد الشرك إنما يثبت له حكم الصحة إذا انضم إليه الاختيار فإذا اختار الأم فكأنه لم يعقد على البنت فلا تكون من أمهات نسائه والمنازعون له ينازعونه في هذه المقدمة ويقولون أنكحة الكفار صحيحة يثبت لها أحكام الصحة ولذلك لو انفردت إحداهما بالنكاح كان صحيحا لازما من غير اختيار ولهذا فوض إليه الاختيار ههنا ولا يصح أن يختار من ليس نكاحها صحيحا قالوا وقد قال تعالى وأمهات نسائكم وهذه من أمهات نسائه فتكون محرمة قالوا ولأنها زوجته فتحرم عليه كما لو طلق ابنتها في حال الشرك ولأنه لو تزوج البنت وحدها ثم طلقها حرمت عليه أمها إذا أسلم فإذا لم يطلقها وتمسك بنكاحها فأولى بالتحريم وإنما اختصت الأم بفساد نكاحها لأنها تحرم بمجرد العقد على البنت فلم يمكن اختيارها والبنت لا تحرم قبل الدخول بأمها فيتعين النكاح فيها 119 – فصل إذا أسلم الذمي وتحته أم وابنتها وقد دخل بهما أو بأحدهما وإن كان قد دخل حرمتا على التأبيد أما الأم فلكونها أم زوجته وأما البنت فلأنها ربيبته من زوجته التي دخل بها قال ابن المنذر أجمع على هذا كل من يحفظ عنه من أهل العلم وكذلك إن كان دخل بالأم وحدها لأن البنت ربيبته المدخول بأمها والأم حرمت بمجرد العقد على البنت وإن دخل بالبنت وحدها ثبت نكاحها وفسد نكاح أمها كما لو لم يدخل بهما ولو أسلم وله جاريتان إحداهما أم الأخرى وقد وطئهما جميعا حرمتا عليه على التأبيد وإن كان قد وطئ إحداهما حرمت الأخرى على التأبيد ولم تحرم الموطوءة وإن كان لم يطأ واحدة منهما فله وطء أيتهما شاء فإذا وطئها حرمت الأخرى على التأبيد 120 – فصل إذا طلق أحدهما أو ما زاد على الأربع فإن طلق إحداهما أو طلق ما زاد على الأربع ثبت النكاح في غير المطلقة وكانت المطلقة هي المفارقة ذكره شيخنا وهذا أحد الوجهين لأصحاب أحمد والشافعي وقال الأصحاب تكون المطلقة هي المختارة وينفسخ نكاح البواقي وهذا الذي قاله أصحاب الشافعي وأظنه نصه وقال أصحاب مالك ولكنه غير منصوص عنه وحجتهم أن الطلاق لا يكون إلا في زوجة قالوا فتطليقه لها اختيار لها ويقع عليها الطلاق لأنها زوجة وقد أوقع عليها الطلاق فتطلق وينفسخ نكاح البواقي باختيار المطلقات قال القاضي فإذا قال أمسكت هذه أو أمسكت نكاحها أو اخترتها أو اخترت نكاحها لزم نكاحها وانفسخ نكاح من عداها وإن قال فسخت نكاح هذه أو عقدها أو أخرجتها من حبالي أو تركتها ونحو ذلك كان ذلك فراقا لها فإن قال فارقتها أو فارقت عقدها أو سرحتها احتمل أن يكون فسخا لأنه يحتمله فتبين منه ويبقى نكاح البواقي واحتمل أن يكون اختيارا لها ويقع الطلاق لأنه صريح في الطلاق وإن قال طلقت هذه كان ذلك اختيارا لنكاحها وطلاقا لأن الطلاق لا يوقع إلا في زوجة فتطليقه لها يكون اختيارا وتطليقا فإن وطئ واحدة فقياس المذهب أنه يكون اختيارا لها لأنه قد نص على أن الوطء يكون رجعة لأن الوطء يدل على الرضى بها فحصل بذلك الإمساك ولهذا قلنا في الأمة إذا أعتقت تحت عبد لها الخيار فإن وطئها قبل الخيار بطل خيارها لأن تمكينها يدل على الرضى وكذلك إذا خيرها ثم وطئها كان وطؤها قطعا لخيارها لأنه يدل على الرغبة فيها والرجوع في طلاقها خلافا لأصحاب الشافعي لا يكون الوطء اختيارا عندهم لأنه لم يوضع لذلك وكذلك لا تحصل به الرجعة والدليل على أن الوطء اختيار أنه يوجب الاختيار باللفظ ومقصوده ومثاله فهو أقوى من مجرد قوله اخترتها لأن قوله اخترتها جعل اختيارا لدلالته على إيثاره لها ورضاه بها فوطؤها أقوى في الدلالة من مجرد اللفظ ولهذا كان الوطء رجعة عند جمهور العلماء وإنما نازع فيه الشافعي وحده إذا عرف هذا فالصواب أن تطليق إحداهن لا يكون اختيارا لها بل اختيارا لغير المطلقة والنبي لما قال للديلمي طلق إحداهما لم يرد بهذا أمسكها ولا فهم هو إمساكها من هذا اللفظ ولا فهمه أحد من أهل التخاطب وإنما فهم من قوله طلق أيتهما شئت اختيارا لها لنفذ الطلاق عليها وانفسخ نكاح الأخرى بأنه لم يخترها فيكون أمرا له بإرسال الاثنتين هذه بالتطليق والأخرى باختيار غيرها وقد صرح به أصحاب هذا القول فقالوا لا يكون الطلاق إلا في زوجة ففي ضمن تطليقه لها اختيار منه لها فينفذ الطلاق وتنقطع العصمة بينه وبين البواقي وهذا باطل قطعا وكيف يكون الطلاق الذي جعل لرفع النكاح وإزالته وحل قيده دالا على ضد موضوعه من الإمساك والاختيار وهل هذا إلا قلب الحقائق وهو بمنزلة جعل الإمساك والاختيار دليلا على الفراق والطلاق وأي فرق حقيقة أو لغة بين قوله أرسلتك وسيبتك وأخرجتك من نكاحي وطلقتك وأما قولهم إن الطلاق لا يكون إلا في زوجة فجوابه من وجوه أحدها أن الطلاق المضاف إلى زوجة لا يكون إلا في زوجة وأما الطلاق الذي هو عبارة عن اختيار غير المطلقة وإخراج المطلقة من نكاحه فلا يلزم أن يصادف زوجة الثاني أن الطلاق ههنا كناية عن التسيب والإرسال فهو بمنزلة قوله رغبت عنك أرسلتك فهو طلاق مقيد بقيد القرينة وهي من أقوى القرائن الثالث أنه كيف يمكن أن يقول هذا القول من يقول إن أنكحة الكفار صحيحة ولهذا قال ينفذ الطلاق في المطلقة وإذا كانت صحيحة فطلق واحدة صارت كأنها لم يعقد عليها وصار البواقي هن المعقود عليهن فكأنه أسلم وتحته أربع أو إحدى الأختين فقط فإن قيل بالإسلام زال صحة نكاح الجميع فلا يمكن أن يقال نكاح الخمس صحيح بعد إسلامه ولا يحكم ببطلان نكاحهن فإذا طلق واحدة علمنا أنها حينئذ زوجة ومن ضرورة كونها زوجة بطلان نكاح من عداها فإذا كان تحته ثمان فطلق أربعا علمنا أنهن حين الطلاق زوجاته فبالضرورة يكون نكاح من عداهن مفسوخا إذ لا يمكن أن يكون حال الطلاق نكاح الثمان صحيحا قيل هذه الشبهة التي لأجلها قالوا إن الطلاق يكون اختيارا وجواب هذه الشبهة أن النكاح بين الإسلام والاختيار موقوف لم ينفسخ بنفس الإسلام ولا بقي صحيحا لازما إذ لو انفسخ بنفس الإسلام لم يختر وهذا واضح ولهذا له أن يمسك من شاء من الثمان إلى تمام النصاب فما منهن واحدة إلا والنكاح في حقها صحيح إذا اختارها وباطل إذا أخرجه عن عصمته فالطلاق صادف هذه الزوجة الموقوفة ولا يلزم منه اجتماع الثمان في الإسلام في عقد لازم وليس المحذور سوى ذلك 121 – فصل اختلاف الدارين لا يوقع الفرقة واختلاف الدارين لا يوقع الفرقة وإنما التأثير لاختلاف الدين قال أحمد في رواية ابن القاسم الزوجان على نكاحهما ما دامت في العدة فإذا أسلمت فهما على نكاحهما لا يفرق بينهما وكان الشافعي يحتج على أصحاب أبي حنيفة إذا أسلمت وهي في دار الحرب ثم أسلم هو أنها امرأته وكذلك أقول وقال أبو حنيفة اختلاف الدارين يوقع الفرقة فعنده إذا خرجت الحربية إلينا مسلمة وخلفت زوجها في دار الحرب كافرا وقد دخل بها وقعت الفرقة بينهما في الحال وقد تناظر الشافعي هو ومحمد بن الحسن رحمهما الله تعالى في هذه المسألة وساق الربيع المناظرة فقال الشافعي إن قال قائل ما دليلك على ذلك قيل له أسلم أبو سفيان بن حرب بمر الظهران وهي دار خزاعة وخزاعة مسلمون قبل الفتح في دار الإسلام ورجع إلى مكة وهند بنت عتبة مقيمة على غير الإسلام فأخذت بلحيته وقالت اقتلوا الشيخ الضال ثم أسلمت هند بعد إسلام أبي سفيان بأيام كثيرة وكانت كافرة مقيمة بدار ليست بدار الإسلام يومئذ وزوجها مسلم في دار الإسلام وهي في دار حرب ثم صارت مكة دار إسلام وأبو سفيان بها مسلم وهند كافرة ثم أسلمت قبل انقضاء العدة فاستقرا على النكاح لأن عدتها لم تنقض حتى أسلمت وكان كذلك حكيم بن حزام وإسلامه وأسلمت امرأة صفوان بن أمية وامرأة عكرمة بن أبي جهل بمكة فصارت دارهما دار الإسلام وظهر حكم رسول الله بمكة وهرب عكرمة إلى اليمن وهي دار حرب وصفوان يريد اليمن وهي دار حرب ثم رجع صفوان إلى مكة وهي دار الإسلام وشهد حنينا وهو كافر ثم أسلم واستقرت عنده امرأته بالنكاح الأول ورجع عكرمة وأسلم فاستقرت عنده امرأته بالنكاح الأول وذلك أنه لم تنقض عدتها فقلت له ما وصفت لك من أمر أبي سفيان وحكيم وأزواجهما وأمر صفوان وعكرمة وأزواجهما أمر معروف عند أهل العلم بالمغازي فهل ترى ما احتججت به من أن الدار لا تغير من الحكم شيئا إذا دلت السنة على ما قلت وقد حفظ أهل المغازي أن امرأة من الأنصار كانت عند رجل بمكة فأسلمت وهاجرت إلى المدينة فقدم زوجها وهي في العدة فأسلم فاستقرا على النكاح انتهى كلامه وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان المشركون على منزلتين من النبي والمؤمنين مشركي أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه وكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر فإذا طهرت حل لها النكاح فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه فهذا هو الفصل في هذه المسألة وهو الصواب وليس هذا الحيض هو العدة التي قدرها كثير من الفقهاء أجلا لانقضاء النكاح بل هو استبراء بحيضة تحل بعدها للأزواج فإن شاءت نكحت وإن شاءت أقامت وانتظرت إسلام زوجها فمتى أسلم فهي امرأته انقضت العدة أو لم تنقض هذا الذي كان عليه أمر رسول الله وهو الصواب بلا ريب قالت الحنفية مر الظهران لم تكن صارت من بلاد الإسلام لأنها قريبة من مكة وهي كانت دار حرب فكان حكم ما قرب منها حكمها إلى أن استولى النبي على مكة وقهر أهلها وغلبهم فصارت هي وما حولها من دار الإسلام فثبت بهذا أن أبا سفيان أسلم في دار الحرب فلم تختلف به وبامرأته الدار قال الجمهور أبو سفيان أسلم بمر الظهران عند النبي وقد نزلها المسلمون الذين معه وثبتت أيديهم عليها وجرت أحكام الإسلام فيهم وإذا كان كذلك كانت من دار الإسلام وكانت في ذلك بمنزلة المدينة وسائر مدن الإسلام قالت الحنفية ولا حجة لكم في هروب عكرمة بن أبي جهل يوم الفتح وصفوان بن أمية إلى اليمن أو الطائف أو الساحل حتى وافاهما نساؤهما وأخذن لهما الأمان فإن مكة لما فتحت صار ما قرب منها من دار الإسلام فساحل البحر قريب منها والطائف وإن كانت دار كفر إذ ذاك فليس في القصة أنه وصل إليها بل قصدها ولعله لم يخرج من دار الإسلام ولم يصل إليها وأما اليمن فإنها كانت قد صارت دار إسلام وأقر أهل الكتاب منهم بالجزية وأما عباد الأوثان فأسلموا على يد علي ومعاذ وأبي موسى فلم تختلف الدار بين هؤلاء وبين نسائهم قال الجمهور دار الإسلام هي التي نزلها المسلمون وجرت عليها أحكام الإسلام وما لم تجر عليه أحكام الإسلام لم يكن دار إسلام وإن لاصقها فهذه الطائف قريبة إلى مكة جدا ولم تصر دار إسلام بفتح مكة وكذلك الساحل وأما اليمن فلا ريب أنه كان قد فشا فيهم الإسلام ولم يستوثق كل بلادها بالإسلام إلا بعد وفاة النبي في زمن خلفائه ولهذا أتوا بعد موت النبي أرسالا وفتحوا البلاد مع الصحابة وعكرمة لم يهرب من الإسلام إلى بلد إسلام وإنما هرب إلى موضع يرى أن أهله على دينه نزلنا عن هذا كله فالذين أسلموا وهاجروا قبل فتح مكة لم يفرق رسول الله بينهم وبين نسائهم قطعا مع اختلاف الدار قطعا ولو لم تكن الآثار متضافرة بذلك لكان القياس يقتضي عدم التفريق باختلاف الدار فإن المسلم لو دخل دار الحرب وأقام بها وامرأته مسلمة أو أقامت امرأة الحربي في دار الحرب وخرج هو إلى دار الإسلام بأمان لتجارة أو رسالة فإن النكاح لا ينفسخ فإن قلتم الدار لم تختلف بهما ههنا فعلا وحكما وإنما اختلفت فعلا لأن حكم المسلمة في دار الحرب حكمها في دار الإسلام وكذلك حكم المسلم فعلا قيل لكم إذا استوطنها كان من أهلها ولهذا إذا قتله جيش المسلمين ولم يعلموا حاله لم تجب عليهم الدية لأن الدار دار إباحة فلم يتعلق بالقتل وجوب الدية ولو تعمد قتل مسلم لم يجب عليه القود عندكم ولكان الحربي إذا دخل إلينا مستأمنا ثبت له حكم الدار ولهذا من قتله وجبت عليه ديته ولم يجز سبيه واسترقاقه وأخذ ماله وأيضا فالنكاح عقد من العقود فلم ينفسخ باختلاف الدارين كالبيع وغيره وأيضا فإن المسلم لو دخل دار الحرب وتزوج حربية صح النكاح ولو كان اختلاف الدارين يوجب فسخ النكاح لوجب ألا يصح النكاح بينهما لأن المسلم من أهل دار الإسلام وإن كان في دار الحرب والحربية من أهل دار الحرب فالدار مختلفة بينهما في الحقيقة ولا يجوز أن يقال إنهما مقيمان في دار واحدة فلم تختلف بهما لأنه لو كان كذلك لوجب أن تقع الفرقة بينه وبين امرأته التي في دار الإسلام لأنه قد اختلفت بهما الدار ولوجب إذا دخل الحربي دار الإسلام وله زوجة في دار الحرب أن ينفسخ النكاح بينهما لاختلاف الدار فلما لم ينفسخ علم أن المسلم إذا كان في دار الإسلام فهو من أهل دار الإسلام والحربي إذا كان في دار الإسلام فهو من أهل دار الحرب ومع هذا النكاح لا ينفسخ كذلك ههنا قالت الحنفية قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات الآية فالدلالة فيها من وجوه أحدها قوله لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وعندكم إذا خرج مسلما قبل أن تحيض ثلاث حيض فهي حل له وهو حل لها الثاني قوله وآتوهم ما أنفقوا ولو لم تقع الفرقة بينهما باختلاف الدارين لم تؤمر برد المهر عليه الثالث قوله ولا جناح عليكم أن تنكحوهن فأباح نكاحهن على الإطلاق وعندكم لا يباح نكاحها في الحال إذا كانت مدخولا بها الرابع قوله ولا تمسكوا بعصم الكوافر وفي المنع من العقد عليها تمسك بعصمة الكوافر قال الجمهور لا حجة لكم في شيء من ذلك فإن قوله تعالى لا هن حل لهم إنما هو في حال الكفر ولهذا قال فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ثم قال لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وأما قوله وآتوهم ما أنفقوا فقد تنازع الناس فيه فقالت طائفة هذا منسوخ وإنما كان ذلك في الوقت الذي كان يجب فيه رد المهر إلى الزوج الكافر إذا أسلمت امرأته وهذا عندكم أيضا منسوخ وأما من لم يره منسوخا فلم يجب عنده رد المهر لاختلاف الدارين بل لاختلاف الدين ورغبة المرأة عن التربص بإسلامه فإنها إذا حاضت حيضة ملكت نفسها فإن شاءت تزوجت وحينئذ ترد عليه مهره وإن شاءت أقامت وانتظرت إسلامه وأما قوله تعالى ولا جناح عليكم أن تنكحوهن فإنما ذلك بعد انقضاء عدتها ورغبتها عن زوجها وعن التربص بإسلامه كما قال تعالى فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا والمراد بعد انقضاء عدتها ورضاها وأما قوله ولا تمسكوا بعصم الكوافر فهذا لا يدل على وقوع الفرقة باختلاف الدار وإنما يدل على أن المسلم ممنوع من نكاح الكافرة المشركة ونحن لا نقول ببقاء النكاح مع شركها بل نقول إنه موقوف فإن أسلمت في عدتها أو بعدها فهي امرأته قالت الحنفية زوجان اختلفت بهما الدار فعلا وحكما فوجب أن تقع الفرقة بينهما أصله الحربية إذا دخلت دار الإسلام بأمان ثم أسلمت قبل الدخول وإذا سبي الزوج وأخرج إلى دار الإسلام فإن الفرقة تقع كذلك ههنا قال الجمهور هذا منتقض بما ذكرنا من انتقال المسلم إلى دار الحرب ودخول الحربية إلى دار الإسلام ودخول الحربي بأمان لتجارة أو رسالة وأما الحربية إذا دخلت دار الإسلام وأسلمت فالموجب للفرقة هناك اختلاف الدين دون اختلاف الدارين ألا ترى أنه لو وجد ذلك في دار واحدة كان الحكم كذلك وأما السباء فليست العلة في الفرقة فيه اختلاف الدارين ولا طريان الرق لأنا نحكم بالفرقة قبل حصول المرأة في دارنا بظهور الإمام عليها ولأنا لا نحكم بالفرقة بسبب طريان الرق عليهما ولهذا لو سبي الزوجان معا فهما على نكاحهما وإنما نحكم بالفرقة لأن الغالب أن السباء إذا وقع في أحد الزوجين فلا سبيل إلى معرفة بقاء الزوج أو هلاكه فينزل المجهول المشكوك فيه كالمعدوم قالوا ولا يلزمنا هذا إذا علمنا وجود الزوج في دار الحرب لأنه نادر والغالب عدم العلم به قالوا ولهذا المعنى حكمنا بإسلام الطفل بإسلام سابيه لأنه لا سبيل إلى معرفة أبويه غالبا فجعلناه كالمتحقق وإن علمنا وجودهما حكمنا بإسلامه أيضا لأنه نادر هذا جواب القاضي وأصحابه وهو بناء على أن الزوجين إذا سبيا معا فهما على نكاحهما وأن الفسخ لم يكن للاستيلاء على بضع المرأة وملكه وهذا هو المشهور عن أحمد والصحيح أن الفسخ لم يكن لهذه العلة بل للاستيلاء على جميع ملك الرجل وحقوقه وبضع زوجته من أملاكه وقد استولى عليه وملكه السابي كما ملك رقبتها فلا معنى لبقاء العصمة في البضع وحده دون سائر أملاكه ودون سائر أجزاء المرأة ومنافعها وعلى هذا فلا فرق بين أن تسبى وحدها أو مع الزوج وعلى هذا دل القرآن في قوله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم نزلت في السبايا فحرم الله نكاح المتزوجات إلا المسبيات إذا انقضت عدتهن لذلك قال أبو سعيد ولم يفرق بين أن تسبى وحدها أو مع زوجها وبين أن يعلم هلاك الزوج أو يعلم بقاؤه أو يشك فيه ولو كانت العلة إنما هي الجهل ببقاء الزوج وتنزيل المجهول كالمعدوم لما انفسخ النكاح مع العلم بوجوده في دار الحرب وقولهم إن هذا نادر والحكم للغالب قول في غاية الفساد فإن الحكم إذا ثبت لعلة زال بزوالها وليس بقاء الزوج في دار الحرب نادرا ولو كان نادرا وهو معلوم كان بمنزلة المفقود في المهلكة إذا علم بقاؤه ومثل هذا لا يقال فيه نادر نكاح الأول قائم ووجود الزوج مقطوع به هذا في غاية الفساد والصواب الذي دل عليه القرآن وسيرة النبي في السبايا والقياس أن النكاح ينفسخ بسباء المرأة مطلقا فإنها قد صارت ملكا للسابي وزالت العصمة عن ملك الزوج لها كما زالت عن ملكه لرقبتها ومنافعها وهذا اختيار أبي الخطاب وشيخنا وهو مذهب الشافعي وأما قولهم إنا إنما حكمنا بإسلام الطفل بإسلام سابيه لأنه لا سبيل إلى معرفة أبويه غالبا فجعلناه كالمحقق وإن علمنا وجودهما حكمنا بإسلامه أيضا لأنه نادر فالصحيح خلاف هذا القول وأنه يحكم بإسلامه تبعا لسابيه ولو كان مع الأبوين أو أحدهما فهذا نص الروايتين عن أحمد وهو مذهب الأوزاعي وأهل الشام فإن السابي له أحق به من أبويه وقد انقطعت تبعيته للأبوين بسباء المسلم له وهو مولود على الفطرة وإنما جعلناه على دين أبويه تبعا لهما فإذا زالت التبعية صار مالكه أولى به وصار تابعا له قالت الحنفية إن اختلاف الدارين يؤثر في قطع العصمة ألا ترى أن ذميا لو مات في دار الإسلام وخلف مالا وله ورثة من أهل الحرب في دار الحرب لم يستحقوا من إرثه شيئا وجعل ماله في بيت المال لاختلاف الدارين ولو كان ورثته ذميين في دار الإسلام لكانوا هم أحق بتركته من جماعة المسلمين لأنه لم يختلف به وبهم الدار وكذلك لو سبي من أهل الحرب دون أبويه فمات صلي عليه لأنه اختلف به وبأبويه الدار فانقطعت العصمة بينه وبينهما فصار مسلما بالدار كاللقيط ولو سبي مع أبويه أو أحدهما فمات لم يصل عليه لأنه لم يختلف به وبهما أو بأحدهما الدار قال الآخرون انقطاع الإرث بينهما لم يرجع إلى اختلاف الدارين لكن رجع إلى قطع الموالاة والنصرة ولهذا لو كان ذميا في دار الإسلام فدخل قريبه الحربي مستأمنا ليقيم مدة ويرجع إلى دار الحرب لم يتوارثا وإن كانت الدار واحدة وكذلك إذا سبي الصبي دون أبويه ومات فإنه يصلى عليه وإن كان موته في دار الحرب لأنا نحكم بإسلامه بإسلام سابيه وعلى أنا لا نسلم انقطاع التوارث بينهما فإن يعقوب بن بختان سأل أحمد عن رجل من أهل الذمة دخل بأمان فقتله رجل من المسلمين فقال يبعث بديته إلى أهل بلاده فقد نص على أن ديته ينفذ بها إلى بلاده وإنما أراد بذلك إلى ورثته لأنه لو لم يكن له ورثة كانت ديته في بيت المال وقد نص على ذلك في رواية أبي طالب في النصراني إذا مات وليس له وارث جعل ماله في بيت مال المسلمين والوجه فيه قوله تعالى وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وهذا عام في الذمي والمسلم وعام فيه إذا كان أهله في دار الإسلام أو دار الحرب ولأنهما قد اتفقا في الدين فجاز أن يتوارثا كما لو كانا في دار واحدة ولأنهما لو اجتمعا في دار توارثا فيجب أن يتوارثا وإن اختلفت بهما الدار دليله المستأمن يبين صحة هذا أن أحكام المستأمن والحربي مختلفة لأن المستأمن يحرم قتله وتضمن نفسه ويقطع بسرقة ماله والحربي بخلافه ولأن اختلاف الدارين لا يوجب انقطاع العصمة بدليل أنه لا يوجب فسخ الأنكحة وقولهم إن الميراث يثبت بالموالاة والنصرة واختلاف الدارين يمنع من ذلك لا يصح كما لم يصح إذا اختلفت الداران بالمسلمين ولأن هذا يبطل باليهود والنصارى فإنهم لا يتناصرون ويتوارثون عند المنازع لنا وعندنا على إحدى الروايتين ولا يتوارثون على الرواية الأخرى لا لهذه العلة لكن لاختلاف الدين فإن دينهم مختلف ولأن الصبي والمجنون والنساء يرثون ولا نصرة فيهم ولهذا لما كان للعقل طريقة النصرة لم يكن لهم مدخل فيه 122 – فصل على المسلم نفقة جميع نسائه قبل الاختيار ومن فروع هذه المسألة أنه قبل الاختيار هن على النكاح في حكم الإنفاق فعليه نفقة الجميع إلى أن يختار لأنهن محبوسات عليه وإن لم يكن النكاح صحيحا لازما بعد الإسلام ولأنهن في حكم الزوجات ولهذا أيتهن اختارها كانت زوجة من غير تجديد عقد 123 – فصل إذا زوج الكافر ابنه الصغير أكثر من أربع نسوة متى يختار ولو زوج الكافر ابنه الصغير أكثر من أربع نسوة ثم أسلم الزوج والزوجات لم يكن له الاختيار قبل بلوغه فإنه لا حكم لقوله وليس لأبيه الاختيار لأن ذلك حق يتعلق بالشهوة فلا يقوم غيره مقامه فيه وتحبس عليه الزوجات إلى أن يبلغ فيختار حينئذ وعليه نفقتهن إلى أن يختار هكذا قال أصحابنا والشافعية وهو في غاية الإشكال فإنه ليس في الإسلام مسلم تحته عشر نسوة مسلمات يبقى نكاحهن عدة سنين وفي ذلك إضرار بالزوجات في هذه المدة بحيث تبقى المرأة ممنوعة من الزوج عدة سنين محبوسة على صبي لا تدري أيختارها أم يفارقها وفي ذلك إضرار عظيم بها وهو منتف شرعا وقياس المذهب أن يختار عنه وليه كما لو كان مجنونا فإن قلتم والحكم في المجنون كذلك فهو في غاية الفساد إذ تبقى المرأة ما شاء الله من السنين محبوسة عليه وإن فرقتم بأن البلوغ له حد ينتهي الصبي إليه فلا يشق انتظاره بخلاف الجنون قيل أولا لا بد لهذا الفرق من شاهد بالاعتبار وقيل ثانيا لا ريب أنه يشق على المرأة الانتظار بضع عشرة سنة لا يدرى أيعيش الزوج حتى يصل إليها أم يموت قبل ذلك وقيل ثالثا والجنون قد يزول عن قرب أو بعد وإن لم يكن لزواله أمد شرعي وقد صرح الأصحاب بأنه إذا جن انتظر به عود عقله ثم يختار والصواب أن الولي يقوم مقامه في الموضعين 124 – فصل والاختيار واجب على الفور لأن النبي أمر به والأمر المطلق على الفور ولا سيما إذا تضمن التأخير إمساك المسلم أكثر من أربع وهذا لا يجوز فإن أبى الاختيار أجبر عليه بالحبس والضرب لأنه حق عليه وهو قادر على الإتيان به فأجبر عليه كإيفاء الدين قال الشيخ في الكافي وهكذا كل من عليه حق إذا امتنع من أدائه قال القاضي في الجامع فإن لم يختر حبسه ويكون الحبس ضربا من التعزير فإن لم يختر ضربه وعزره ويفعل ذلك ثانيا وثالثا حتى يختار لأن هذا حق تعين عليه ولا يقوم غيره مقامه فوجب حبسه وتعزيره حتى يفعله وهكذا إذا كان على رجل دين وله مال فائض لا يعرف بمكانه وامتنع من قضاء دينه فإن الحاكم يحبسه ويضربه 125 – فصل هل الاختيار يعد فراقا للبواقي فإذا اختار أربعا فهل يكون اختياره لهن فراقا لسائرهن أم لا يبن منه حتى يفارقهن بفعله فصرح الشيخ في المحرر وصاحب المغني أنهن يبن منه بنفس الاختيار ووقع في كلام بعض الأصحاب أنه يجب عليه أن يفارق غير المختارات وهذه العبارة توهم أنهن لا يبن حتى ينشئ لهن فراقا وحكاه الخطابي عن بعض أهل العلم قال وحديث فيروز الديلمي حجة لمن قال ذلك يعني قوله وفارق سائرهن ولو بن منه بنفس الاختيار لم يأمره بتحصيل الحاصل وهذا مذهب مالك والمسألة محتملة 126 – فصل إذا مات المسلم قبل الاختيار فإن مات قبل الاختيار فقال القاضي قياس المذهب يقتضي أنه يجب على جماعتهن عدة الوفاة لأن أكثر ما فيه أنه ممنوع من استدامة نكاح ما زاد على أربع وهذا لا يمنع من عدة الوفاة كالنكاح الفاسد إذا اتصل به الموت وجب فيه عدة الوفاة نص عليه وهذا أولى لأنا نحكم بصحة العقد في الجميع وتبعه الشيخ في المقنع وقال في الكافي والمغني والأولى أن من كانت منهن حاملا فعدتها بوضعه لأن ذلك تنقضي به العدة في كل حال ومن كانت آيسة أو صغيرة فعدتها عدة الوفاة لأنها أطول العدتين في حقها ومن كانت من ذوات الأقراء اعتدت أطول الأجلين من ثلاثة قروء أو أربعة أشهر وعشر لتنقضي العدة بيقين ولأن كل واحدة منهن يحتمل أن تكون مختارة أو مفارقة وعدة المختارة عدة الوفاة وعدة المفارقة ثلاثة قروء فأوجبنا أطولهما لتنقضي العدة بيقين كما قلنا فيمن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها عليه خمس صلوات وهذا مذهب الشافعي ولو قيل إن من كانت منهن حاملا اعتدت بالوضع ومن كانت حائلا فعدتها عدة الوفاة بكل حال لكان قويا لأن وضع الحمل يأتي على جميع العدة فلا عدة بعده وأما الحائل فلأن النكاح قبل الاختيار في حكم الثابت بدليل أن من اختارها منهن فهي زوجة من غير تجديد عقد ومن طلقها نفذ طلاقه وغايته أنه نكاح غير مستقر وهو آيل إلى الفسخ في حق بعضهن ولم يتعين المفسوخ نكاحها والأصل في كل واحدة منهن بقاء النكاح وهذا أولى إن شاء الله تعالى 127 – فصل ميراث من مات عنهن المسلم وهن أكثر من أربع فأما ميراثهن فقال القاضي فيهن أربع يستحققن الميراث وأربع لا يستحققنه فينظر فإن اصطلحوا على أن يكون ذلك بينهن على السواء أو على التفاضل أو يكون لبعضهن جاز وإن تشاحوا فقياس المذهب أنه يقرع بينهن فإذا وقعت القرعة لأربع منهن كان الميراث بينهن بالسوية قال وأصل هذا ما نص عليه أحمد في من طلق واحدة من نسائه لا بعينها أو بعينها لكنه أنسيها فإنه يقرع بينهن وتخرج بالقرعة فإن مات قبل ذلك أقرع الورثة وكان الميراث للبواقي منهن ومذهب الشافعي أن الميراث يوقف حتى يصطلحن عليه 128 – فصل المهر للنسوة إذا كن أكثر من أربع وأما المهر فينظر فإن كان بعد الدخول فالمهر واجب لكل واحدة منهن لأجل الدخول وكذلك إن كان قد دخل ببعضهن كان لها المهر وإن مات قبل الدخول نظر في السابق منهما إلى الإسلام فإن كان الزوج وجب عليه نصف المهر لأربع منهن كما أوجبنا الميراث لأربع منهن وإن كان السابق الزوجات فلا مهر لواحدة منهن لأن الفرقة جاءت من جهتهن قبل الدخول 129 – فصل فإن طلق الجميع فقال أصحابنا يخرج منهن أربع بالقرعة فيكن المختارات ويقع الطلاق بهن وينفسخ نكاح البواقي وله تجديد العقد عليهن فإن كان الطلاق ثلاثا فمتى انقضت عدتهن فله أن ينكح من الباقيات لأنهن لم يطلقن منه ولا يحل له المطلقات إلا بعد زوج وإصابة قلت وهذا بناء على أن الطلاق يكون اختيارا للمطلقات فيكن هن الزوجات ومن عداهن أجنبيات وعلى أنه إذا كان تحته أربع فطلقهن لم يحل له نكاح خامسة حتى تنقضي عدة واحدة منهن وعندي ينفذ الطلاق في الجميع لأنهن في حكم الزوجات قبل الاختيار وكل واحدة منهن صالحة للإبقاء من غير تجديد عقد وكون النكاح فاسدا لا في الجميع وآيلا إلى الفسخ فيما زاد علىالأربع لا يمنع وقوع الطلاق فإن الطلاق عندنا يقع في النكاح الفاسد الذي لا سبيل إلى الاستمرار به وهنا له سبيل إلى الاستمرار بكل واحدة على انفرادها ومع ثلاث أخر 130 – فصل فلو أسلم ثم طلق الجميع قبل إسلامهن ثم أسلمن في العدة أمر أن يختار أربعا منهن فإذا اختارهن تبينا أن طلاقه وقع بهن لأنهن زوجات ويعتددن من حين طلاقه وبان البواقي باختياره لغيرهن ولا يقع بهن طلاقه وله نكاح أربع منهن إذا انقضت عدة المطلقات لأن هؤلاء غير مطلقات والفرق بين هذه المسألة وبين التي قبلها أن طلاقهن قبل إسلامهن في زمن ليس له الاختيار فيه فإذا أسلمت تجدد له الاختيار حينئذ وفي التي قبلها طلقهن وله الاختيار والطلاق يصلح اختيارا وقد أوقعه في الجميع وليس بعضهن أولى من بعض فصرنا إلى القرعة لتساوي الحقوق 131 – فصل متى تبدأ المفارقات وإذا اختار منهن أربعا وفارق البواقي فهل العدة من حين الاختيار أم من حين الإسلام فيه وجهان أشهرهما أنها من حين الاختيار لأنهن إنما بن منه بالاختيار ووجه الوجه الثاني أنهن يبن منه بالإسلام وإنما يتبين ذلك بالاختيار فيثبت حكم البينونة من حين الإسلام كما إذا أسلم أحاد الزوجين ولم يسلم الآخر حتى انقضت عدتها فإنها تبين بانقضاء عدتها من حين الإسلام وفرقتهن فسخ لا طلاق وأما عدتهن فقال أصحابنا كعدة المطلقات ثلاثة قروء لأن عدة من انفسخ نكاحها كذلك وقال شيخنا عدتهن حيضة واحدة وكذلك عدة المختلعة وسائر من فسخ نكاحها لأن العدة إنما جعلت ثلاثة قروء لتمكن الزوج من الرجعة فيها وأما الفسوخ كالخلع وغيره فالمقصود منها براءة الرحم فيكتفي فيها بحيضة قال وبذلك أفتى النبي المختلعة قال وهو مذهب ابن عباس ولا يعرف له مخالف من الصحابة قلت له فما تقول في المطلقة تمام الثلاث فقال الطلقة الثالثة من جنس الطلقتين اللتين قبلها فكان حكمها حكمهما هذا إن كان في المسألة إجماع انتهى وإن ماتت إحدى المختارات أو بانت منه وانقضت عدتها فله أن ينكح واحدة من المفارقات وتكون عنده على طلاق ثلاث لأنه لم يطلقها قبل ذلك 132 – فصل من أسلم وتحته ثمان نسوة فأسلم منهن أربعا وإذا أسلم وتحته ثمان نسوة فأسلم أربع منهن فله اختيارهن وله الوقوف إلى أن يسلم البواقي فإن مات اللاتي أسلمن ثم أسلم الباقيات فله اختيار الميتات وله اختيار الباقيات وله اختيار بعض هؤلاء وبعض هؤلاء لأن الاختيار ليس بعقد وإنما هو تصحيح للعقد الأول في المختارات والاعتبار في الاختيار بحال ثبوته وصحته لا بحال وقوعه وحال ثبوته كن أحياء وإن أسلمت واحدة منهن فقال اخترتها جاز فإذا اختار أربعا على هذا الوجه انفسخ نكاح البواقي وإن قال اخترت فسخ نكاحها لم يصح لأن الفسخ إنما يكون فيما زاد على الأربع والاختيار للأربع إلا أن يريد بالفسخ الطلاق فيقع لأنه كناية ويكون طلاقه لها اختيارا لها ذكره أصحابنا والصحيح أنه يصح فإنه ما منهن واحدة إلا وله أن يختارها ويختار مفارقتها فإذا قال فسخت نكاح هذه فهو اختيار لفراقها وله أن يفارقها وحدها ويفارقها مع جملتهن ويفارقها مع الزائدات على النصاب فإذا قال اخترت فسخ نكاحها فكأنه قال هذه من المفارقات وهو لو اختار أربعا سواها ولم يصرح نفسخ نكاحها فكيف إذا صرح به فإن قيل هي زوجة والرجل لا يستقل بفسخ النكاح في غير المعينة قيل وإن كانت زوجة لكنه يخير في إبقائها ومفارقتها فإذا عجل مفارقتها كان اختيارا منه لأحد الأمرين وقولهم إن الفسخ إنما يكون فيما زاد على الأربع قلنا إن أردتم الانفساخ فصحيح فإنه إذا اختار أربعا انفسخ نكاح الزائد عليهن وإن أردتم أن إنشاء الفسخ بالاختيار لا يكون إلا فيما زاد على الأربع فليس كذلك فإن له أن يفارق الجميع بغير طلاق بل متى قال فارقت الجميع أو سيبتهن أو فسخت نكاحهن بن منه كما لو قال طلقتهن 133 – فصل من أسلم ولم تسلم نساءه حتى انقضت عدتهن وإذا أسلم قبلهن ولم يسلمن حتى انقضت عدتهن تبينا أنهن بن منه منذ اختلف الدينان فإن كان قد طلقهن قبل انقضاء عدتهن تبينا أن طلاقه لم يقع بهن وله نكاح أربع منهن إذا أسلمن فإن كان قد وطئهن في العدة تبينا أنه وطئ أجنبيات وكذلك إن آلى منهن أو ظاهر تبينا أن ذلك وقع في أجنبية فإن أسلم بعضهن في العدة تبينا أنها زوجة فيقع طلاقه بها فإذا وطئها بعد ذلك كان قد وطئ مطلقته وإن كانت المطلقة غيرها فوطؤه لها وطء لامرأته وإن طلق الجميع فأسلم أربع منهن أو أقل في عدتهن ولم يسلم البواقي تعينت الزوجية في المسلمات ووقع الطلاق بهن فإذا أسلم البواقي فله أن يتزوج منهن لأنه لم يقع طلاقه بهن قلت هذا مبني على أن الطلاق اختيار وقد علمت ما فيه وعلى أن البينونة إذا انقضت العدة تكون من حين الإسلام لا من حين الاختيار ويحتمل أن يقال إن البينونة إنما تقع من حين الاختيار لأن كل واحدة منهن قبل الاختيار في حكم الزوجة ولهذا له اختيارها وعليه نفقتها وإنما علم خروجها عن زوجيته باختيار غيرها فكان اختيار غيرها فراقا لها فتكون البينونة من حين تثبت مفارقتها وقد صرح الأصحاب بأنه إذا اختار منهن أربعا وفارق البواقي فعدتهن من حين الاختيار لا من حين إسلامه 134 – فصل إذا ماتت إحدى المختارات فله أن ينكح أخرى من البواقي وإن اختار أربعا وفارق البواقي فماتت إحدى المختارات أو بانت منه وانقضت عدتها فله أن ينكح من المفارقات تمام أربع وتكون عنده على طلاق ثلاث لأنهن لم يطلقهن قبل ذلك وإن اختار أقل من أربع بأن اختار واحدة من ثمان أو اختار ترك الجميع فقال في المغني أمر بطلاق أربع أو تمام أربع يعني أمر بطلاق أربع فيما إذا اختار ترك الثمان أو بتمام أربع فيما إذا اختار واحدة وترك السبع قال لأن الأربع زوجات لا يبن منه إلا بطلاق أو ما يقوم مقامه قلت اختياره ترك الجميع أو الأكثر كاف في فسخ نكاحهن فلأي شيء يؤمر بطلاق أربع في إحدى الصورتين وتمام أربع في الصورة الثانية أما قوله لأن الأربع زوجات لا يبن منه إلا بطلاق أو ما يقوم مقامه فلا ريب أن اختياره تركهن قائم مقام الطلاق في إحدى الصورتين فإنه إذا قال اخترت تركهن كان بمنزلة قوله اخترت فراقهن وهذا كاف في مفارقتهن واختياره بعضهن فسخ لنكاح من عدا المختارات فإن قوله اخترت هذه هو اختيار لها ومفارقة لمن عداها كما لو قال اخترت هؤلاء الأربع فإنه لا يلزمه أن يطلق الأربع البواقي بل بمجرد اختياره للأربع تبين منه البواقي فإن قيل الفرق بين الصورتين أنه إذا اختار أربعا كن هن الزوجات فانفسخ نكاح من سواهن لزيادتهن على النصاب فلا يحتاج أن يطلقهن ولا ينشيء ما يقوم مقام طلاقهن بخلاف ما إذا اختار واحدة من ثمان فإنه لا يكون اختيارها فراقا لمن عداها فلهذا أمرناه بطلاق أربع أو تمام أربع قيل هذا لا يصح أولا لأنه قد يريد فراق الجميع أو من عدا المختارة فكيف يؤمر بطلاق أربع وهو يريد فراق الثمان هذا لا معنى له وقوله اخترت تركهن ومفارقتهن ونحو ذلك قائم مقام الطلاق وكاف في فسخ نكاحهن وأيضا فإن قوله اخترت هذه جعل إبقاء لنكاح المختارة وفسخا لنكاح من عداها كما لو قال اخترت هؤلاء الأربع 135 – فصل فإن قال كلما أسلمت واحدة اخترتها فقال الأصحاب لا يصح لأن الاختيار لا يصح تعليقه على الشروط ولا يصح في غير معين ويحتمل أن يصح ولا يمتنع تعليق الاختيار على الشرط كما يصح تعليق الجعالة والولاية والوكالة والعتق والطلاق وكذلك يصح أيضا تعليق الرجعة بالشرط وإن قال كثير من أصحابنا وغيرهم لا يصح والأصل في الشروط الصحة والمسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا وكذلك الهبة يجوز تعليقها بالشرط كما ثبت ذلك في قوله أما ما كان لي ولبني عبدالمطلب فهو لك وكذلك هبة الثواب يجوز تعليقها بالشرط نحو اللهم إن كنت قبلت مني هذا العمل فاجعل ثوابه لفلان وكذلك الدعاء في صلاة الجنازة يجوز تعليقه بالشرط نحو اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه وإن كان مسيئا فتجاوز عنه وكذلك الإبراء يجوز تعليقه بالشرط وقد نص عليه أحمد والعجب ممن منع تعليقه وهو إسقاط محض فهو كالطلاق والعتق وكذلك الفسوخ كلها يجوز تعليقها بالشرط وقد صح عنه أميركم زيد فإن قتل فجعفر فإن قتل فعبدالله بن رواحة وفي سنن أبي داود من حديث طارق بن المرقع أنه قال من يعطي رمحا بثوابه فقال له رجل وما ثوابه قال أزوجه أول بنت تكون لي فلما ولدت طلبها منه بعد كبرها فحلف ألا يعطيها إياه إلا بصداق آخر وحلف الزوج ألا يصدقها غير ذلك فقال النبي أرى أن تتركها ثم قال لا تأثم ولا يأثم صاحبك ولم ينكر عليه الشرط ولم يقل له لا نكاح بينكما وقد نص أحمد وقبله ابن عباس على جواز تعليق النكاح بالشرط وهذا هو الصحيح فقال الأثرم سألت أبا عبدالله عن الرجل تزوج المرأة على أنه إن جاء بالمهر إلى كذا وكذا وإلا فلا نكاح بيننا فقال لا أدري فقيل له حديث ابن عباس النكاح ثابت والشرط فاسد قال نعم ونقل عنه ابن منصور إذا قال إن جئت بالمهر إلى كذا وكذا وإلا فليس بيننا نكاح فالنكاح والشرط جائزان وهذا هو الذي تقتضيه أصوله وقواعد مذهبه ومن ضعف هذه الرواية لم يضعفها بما يقتضي تضعيفها وغاية ما قالوا إن النكاح مما لا يدخله الخيار فشرطه فيه يفسده كالصرف والسلم فيقال نقنع منكم بسؤال المطالبة وهو تأثير الوصف في الأصل وثبوته في الفرع ثم نتبرع بالفرق بأن السلم والصرف يجب تسليم العوض فيه في مجلس العقد بخلاف النكاح قالوا الخيار ينفي الإباحة في وقت يقتضي إطلاق العقد ثبوته فصار كما لو تزوجها شهرا وحقيقة هذا القياس التسوية بين العقد المطلق والمقيد وهذا منتقض بسائر الشروط التي ثبتت في العقد المقيد دون المطلق ثم يقال كون العقد المطلق لا يقتضي ثبوتها لا يقتضي أن العقد المقيد لا يقتضي ثبوتها بل مقتضى العقد المقيد ما قيد به فهذا إذن مقتضى هذا العقد وإن لم يكن مقتضى العقد المطلق قالوا فقد قال أحمد في رواية حنبل المتعة حرام وكل نكاح فيه وقت أو شرط فهو فاسد قيل هذا لفظ عام وما ذكرناه عنه فهو خاص وكلام المغني يقيد مطلقه بمقيده وخاصه بعامه كيف وقد علم من مذهبه تخصيص هذا العام فإنه يصحح النكاح ألا يخرجها من دارها وألا يتزوج ولا يتسرى عليها ومتى فعل ذلك فلها الخيار وهذا نظير إن جاءها بالمهر إلى وقت كذا وإلا فلها الخيار فالصواب التسوية بينهما وقوله كل نكاح فيه وقت أو شرط فهو فاسد إنما أراد به شرط التحليل كما صرح به في غير موضع ولهذا قرنه بالمتعة والجامع بينهما أن المستمتع والمحلل لا غرض لهما في نكاح الرغبة فإن قيل قياس قواعده وأصوله بطلان هذا النكاح المشروط فيه الخيار لأنه قد أبطل نكاح المحلل لما فيه من الشرط المانع من لزومه قيل هو لم يبطل نكاح المحلل لذلك وإنما أبطله لأنه نكاح محرم ملعون فاعله منهي عنه ولهذا لو قصد بقلبه التحليل ولم يشرطه أو شرط أن يحلها للأول فقط ولم يشرط طلاقها كان نكاحا باطلا مع أنه لا شرط هناك يمنع لزومه وأحمد عنه في هذه المسألة ثلاث روايات منصوصات الأولى صحة النكاح والشرط وهي أنص الروايات عنه وأصرحها نقلها ابن منصور كما تقدم والثانية صحة النكاح وفساد الشرط كما نقل الأثرم والثالثة فساد الشرط والنكاح وهي التي نقلها حنبل باللفظ العام والمقصود أن تعليق الاختيار على الإسلام يصح ويصح تعليق الفسخ أيضا على الشرط وهو أولى بالصحة لأنه إزالة ملك فهو كتعليق الطلاق والعتاق وقال أصحابنا لا يصح ولهم في صحة تعليق الطلاق ههنا وجهان فإذا قال كل من تمسكت بدينها فهي طالق فهل يصح على وجهين ووجه البطلان أن الطلاق يتضمن الاختيار وهو مما لا يصح تعليقه بالشرط والمقدمتان ممنوعتان كما تقدم 136 – فصل اختياره في حال إحرامه بحج أو عمرة وإذا أسلم ثم أحرم بحج أو عمرة ثم أسلمن فله الاختيار لأن الاختيار استدامة للنكاح وتعيين للمنكوحة وليس بابتداء له وفيه وجه آخر أنه ليس له الاختيار وهو اختيار القاضي ومذهب الشافعي والخلاف ههنا كالخلاف في رجعة المحرم والصحيح في الموضعين الجواز لأنها إمساك فلا ينافيها الإحرام 137 – فصل إذا متن قبل الاختيار فله اختيار أربعا ويرثهن وإذا أسلم الجميع معه ثم متن قبل أن يختار فله أن يختار منهن أربعا فيكون له ميراثهن ولا يرث من الباقيات لأنهن لسن بزوجات وإن مات منهن أربع وبقي أربع فله اختيار الميتات فيرثهن وتبين الحيات وله اختيار الحيات فيستمر بهن ولا يرث الميتات وله اختيار بعض هؤلاء وبعض هؤلاء 138 – فصل إذا أسلم وتحته أختين متى يطأ الأخت المختارة وإذا تزوج أختين ودخل بهما ثم أسلم وأسلمتا معه فاختار إحداهما لم يطأها حتى تنقضي عدة أختها لئلا يكون واطئا لإحدى الأختين في عدة الأخرى وكذلك إذا أسلم وتحته ثمان قد دخل بهن فأسلمن معه فاختار أربعا وفارق البواقي لم يطأ واحدة من المختارات حتى تنقضي عدة واحدة من المفارقات فإذا انقضت عدة واحدة فله وطء أي المختارات شاء فإن انقضت عدة اثنتين فله وطء اثنتين وكذلك إلى تمام الأربع فإن كن خمسا ففارق إحداهن فله وطء ثلاث من المختارات دون الرابعة وإن كن ستا ففارق اثنتين فله وطء اثنتين من المختارات وإن كن سبعا ففارق ثلاثا فله وطء واحدة من المختارات وكلما انقضت عدة واحدة من المفارقات فله وطء واحدة من المختارات وهذا مبني على أن الرجل إذا طلق امرأته لم ينكح أختها ولا الخامسة في عدة المطلقة لئلا يكون جامعا لمائه في رحم أختين أو أكثر من أربع قال ذلك أصحابنا قياسا على نص أحمد فيما إذا طلق إحدى الأختين أو الخامسة وذلك لحديث زرارة بن أوفى ما أجمع أصحاب محمد على شيء ما أجمعوا على أن الأخت لا تنكح في عدة أختها ولأنه بذلك يكون جامعا ماءه في رحم أختين فلا يجوز كجمع العقد وأولى وعندي أنه إذا اختار أربعا جاز وطؤهن من غير انتظار لانقضاء عدة المفارقات وهو قول الجمهور لأن النبي أمره أن يمسك أربعا ويفارق سائرهن وأمر من تحته أختان أن يفارق أيتهما شاء وهو حديث عهد بالإسلام ولم يأمره أن ينتظر بوطء من أمسك انقضاء عدة من فارق ولا ذكر له ما يدل على ذلك بوجه وتأخير البيان لا يجوز عن وقت الحاجة والمفارقات قد بن عنه وخرجن عن عصمته وقد يسافرن إلى أهليهن وقد يذهبن حيث شئن فلا تعلم أحوالهن فما يدريه بانقضاء عدتهن فإن قلتم ينتظر علمه بذلك أو ينتظر حتى يصرن إلى حد الإياس فيحسب ثلاثة أشهر كان هذا في غاية البعد ولا تأتي الشريعة به وإن قلتم ينتظر مقدار ثلاث حيض فالحيضة قد يطول زمن مجيئها فلا يعلم متى تجيء فكيف تنقضي العدة بالشك فإن قلتم هذا بعينه وارد فيمن طلق إحدى الأختين أو واحدة من أربع فالجواب من وجهين أحدهما أن الحكم في صورة النقض لم يثبت بنص يجب التسليم له ولا إجماع لا تجوز مخالفته وأما ما ذكرتم من إجماع الصحابة فسألت شيخنا عنه فقال لي الظاهر أنه أراد عدة الرجعية وههنا يتحقق الإجماع وأما البائن فأين الإجماع فيها قال الشافعي والحجة على جواز ذلك انقطاع أحكام الزوجية بانقطاع أحكامها من الإيلاء والظهار واللعان والميراث وغير ذلك قال وهو قول القاسم وسالم وعروة وأكثر أهل دار السنة وحرم الله وقال مالك في الموطأعن ربيعة أن عروة والقاسم كانا يقولان في الرجل يكون عنده أربع فيطلق إحداهن البتة إنه يتزوج إذا شاء ولا ينتظر حتى تمضي عدتها وقال سعيد بن المسيب في رجل كان تحته أربع نسوة إن شاء تزوج الخامسة في العدة وكذلك قال في الأختين فطلق إحداهما إن شاء تزوج الثانية في العدة قال البيهقي ورويناه عن الحسن وعطاء وبكر بن عبدالله وخلاس بن عمرو الوجه الثاني الفرق بين المسألة المذكورة وبين مسألة الطلاق بأن في مسألة الإسلام تبينا أن المفارقات لم يكن زوجات بين الإسلام والاختيار وما قبل ذلك لا نحكم عليه بشيء فيجري وطؤهن قبل الإسلام مجرى وطء الشبهة بخلاف المطلقة فإنها كانت زوجه ظاهرا وباطنا فالعدة في حقها أثر من آثار نكاح صحيح لازم قابل للدوام فلا يلحق به الوطء في نكاح لا يجيزه الإسلام ولا نحكم له بالصحة 139 – فصل نقر أهل الذمة على الأنكحة الفاسدة بشرطين أحدهما ألا يتحاكموا فيها إلينا فإن تحاكموا فيها إلينا لم نقرهم على ما لا مساغ له في الإسلام الثاني أن يعتقدوا إباحة ذلك في دينهم فإن كانوا يعتقدون تحريمه وبطلانه لم نقرهم عليه كما لا نقرهم على الربا وقتل بعضهم بعضا وسرقة أموال بعضهم بعضا وقد رجم رسول الله اليهوديين لما زنيا ولم يقرهم على ذلك فإن قيل فهل تقرون المجوس على نكاح ذوات محارمهم لاعتقادهم جواز ذلك إذا لم يترافعوا إلينا قيل هذه المسألة فيها روايتان عن الإمام أحمد إحداهما أنهم يقرون على ذلك نص عليه في رواية مهنا وقد سأله عن المجوسي هل يحال بينه وبين التزويج بمحرم وذكر له حديث عمر فرقوا بين كل ذات محرم من المجوس فقال قال الحسن يعني البصري بعث النبي العلاء بن الحضرمي إلى البحرين فأقرهم على ذلك ولم يهجهم وقال في رواية أبي طالب لا يفرق بين حريمه وبينه إنما قال سنوا بهم سنة أهل الكتاب وليس هم أهل كتاب فإن قيل فهل تقرونهم على الزنى واللواط والربا وهو دون نكاح الأم والبنت قيل لا نقرهم عليه نص عليه أحمد في رواية إبراهيم بن أبان الموصلي في مجوسي في زقاق ليس له منفذ وطريق المسلمين عليه وهو يزني على الطريق فقال يخرج ولا يترك لأن المسلمين يزنون معه والفرق بين إقراره على نكاح محرمه وإقراره على الزنى والربا واللواط أن ذلك يتعدى ضرره إلى المسلمين وأما نكاح محرمه فيختص ضرره به دون المسلمين وعارض أحمد قول عمر رضي الله عنه بإقرار النبي فإن النبي أخذ الجزية من المجوس ولم يشترط عليهم ترك أنكحتهم ولم يفرق بينهم وبين أزواجهم من ذوات المحارم مع علمه بما هم عليه ومضى على ذلك الصديق رضي الله عنه خلفه وهم إنما بذلوا الجزية ليقروا على كفرهم وشركهم الذي هو أعظم من نكاح محارمهم فإقرارهم كإقرار اليهود على نكاح بنات الإخوة والأخوات وعلى سائر أنكحتهم الفاسدة والثانية لا يقرون فإن أحمد قال في مجوسي تزوج نصرانية قال يحال بينه وبينها قيل من يحول بينهما قال الإمام ذكره أبو بكر ثم قال لأن علينا ضررا في ذلك يعني بتحريم أولاد النصرانية علينا قال وهكذا يجيء على قوله في تزويج النصراني المجوسية قال في المغني ويجيء على هذا القول أن يحال بينهم وبين نكاح محارمهم فإن عمر رضي الله عنه كتب أن فرقوا بين كل ذي رحم من المجوسي وقال أحمد في مجوسي ملك أمة نصرانية يحال بينه وبينها ويجبر على بيعها لأن النصارى لهم دين فإن ملك نصراني مجوسية فلا بأس أن يطأها وقال أبو بكر عبدالعزيز لا يجوز له وطؤها أيضا لما ذكرنا من الضرر قلت لم يمنع أحمد من تزوج المجوسي بالنصرانية لما يلحقنا من الضرر بتحريم ابنتها علينا ولا خطر هذا التعليل ببال أحمد وأي ضرر علينا في ترك نكاح نسائهم بالكلية ولو كان التسبب إلى تحريم البنت ضررا علينا لكان في تحريم نكاح نسائهم مطلقا ضرر ولا ضرر علينا بحمد الله من ذلك بوجه من الوجوه وإنما مأخذ أحمد أن دين أهل الكتاب خير من دين المجوس فلا يجوز أن يمكن المجوسي والوثني أن يعلو امرأة دينها خير منه كما لا يمكن الذمي من نكاح مسلمة وعلى هذا فلا يمنع النصراني من تزويج المجوسية لأنه أعلى دينا منها وإن حرم علينا نحن نكاحها ولا يلزم من تحريمها علينا تحريمها على أهل الكتاب وألا نقرهم على نكاحها كما نقرهم على أكل الخنزير وشرب الخمر وإذا أقررنا المجوس على نكاح ذوات محارمهم فإقرار أهل الكتاب على مناكحتهم أولى وأحرى ولا يخرج من هذا النص عدم إقرار المجوس على نكاح ذوات محارمهم لما ذكرنا من مأخذه وكذلك نصه على مجوسي ملك أمة نصرانية يحال بينهما إنما ذلك لأن دينها أعلى من دينه وقد صرح بهذا التعليل بعينه فقال لأن النصارى لهم دين فإن كان الأصحاب إنما أخذوا هذه الرواية من هذا النص فليست برواية والمسألة رواية واحدة وقد تأملت نصوصه في هذا الباب في الجامع فلم أجد عنه نصا بأنهم لا يقرون على نكاح ذوات المحارم وأما تفريق عمر رضي الله عنه بينهم وبين ذوات محارمهم فاجتهاد منه رضي الله عنه وقد أقرهم رسول الله وأقروا زمن أبي بكر رضي الله عنه فلما عز الإسلام وذل المجوس في عهد عمر رضي الله عنه وكانوا أذل ما كانوا رأى أن يلزمهم بترك نكاح ذوات المحارم وأن يفرق بينهم وبينهن وعلى هذا فإذا قويت شوكة قوم من أهل الذمة وتعذر إلزامهم بأحكام الإسلام أقررناهم وما هم عليه فإذا ذلوا وضعف أمرهم ألزمناهم بذلك فهذا له مساغ إلا أنه قد يقال فقد صالحهم رسول الله وضرب عليهم الجزية ولم يشترط عليهم التفريق بينهم وبين ذوات محارمهم وهو لا يقر على ما لا يسوغ الإقرار عليه وقد يجاب عن ذلك بأنه أقرهم في ابتداء الأمر والملك فيهم والشوكة لهم وبلاد فارس وما والاها تحت قهرهم وملكهم فلما صارت ممالكهم للمسلمين وصاروا أهل ذمة منعهم عمر رضي الله عنه من ذلك وحال بينهم وبينه وهذا من أحسن اجتهاده رضي الله عنه وأقواه وأحبه إلى الله ورسوله فإن من أعظم القبائح التي يبغضها الله ورسوله نكاح الرجل أمه وابنته وعمته وخالته ولا ريب أن إزالة هذا من الوجود أحب إلى الله ورسوله من الإقرار عليه ويكفينا في ذلك النقل الصحيح عمن ضرب الله الحق على لسانه وقلبه ومن كانت السكينة تنطق على لسانه ومن وافق ربه في غير حكم ومن أمرنا نبينا باتباع سنته وهو أحب إلينا من النقل في ذلك عن أحمد والشافعي ومالك وأمثالهم من الأئمة رضي الله عنهم 140 – فصل نصراني تزوج يهودية أو العكس فإن قيل فما تقولون في نصراني تزوج يهودية أو بالعكس هل تقرونهم على ذلك أم لا وإذا فعلوه فما حكم هذا الولد قيل لا يخلو إما أن يعتقدوا حل ذلك أو تحريمه فإن اعتقدوا حله جاز ذلك ولم يعرض لهم فيه وإن اعتقدوا تحريمه لم نقرهم عليه فإنا لا نقرهم على نكاح يعتقدون بطلانه وأنه زنى وقد نص أحمد أنه إذا تزوج المجوسي كتابية يفرق بينهما وأطلق الجواب وظاهره التفريق وإن لم يترافعوا إلينا وأما إن تزوج الذمي وثنية أو مجوسية فهل يقر على ذلك فيه وجهان أحدهما يقر لأنه أعلى دينا منها فيقر على نكاحها كما يقر المسلم على نكاح الكتابية والثاني لا يقر لأنها لا يقر المسلم على نكاحها فلا يقر الذمي عليه وعندي أنه إن اعتقد جواز هذا النكاح أقر عليه وإن اعتقد تحريمه لم يقر فإن قيل فإن أسلموا على ذلك فهل يحتاج إلى تجديد النكاح أم يستمرون عليه قيل يحتمل أن يقال لا بد من تجديد النكاح لأن الأول لم يكن نكاحا يعتقدون صحته ويحتمل أن يقال وهو أصح لا يحتاج إلى تجديد نكاح والإسلام صحح ذلك النكاح كما يصحح الأنكحة الفاسدة في حال الكفر إذا لم يكن المفسد قائما وأما حكم الولد هل يتبع أباه أو أمه فالولد يتبع خير أبويه دينا فإن نكح الكتابي مجوسية فالولد كتابي وإن وطئ مجوسي كتابية بشبهة فالولد كتابي أيضا وإن كان أحدهما يهوديا والآخر نصرانيا فالظاهر أن الولد يكون نصرانيا وصرح به أصحاب أبي حنيفة فإن النصارى تؤمن بموسى والمسيح واليهود تكفر بالمسيح فالنصارى أقرب إلى المسلمين واليهود خير من منكري النبوات كلما كان إيمان الرجل بالنبوات أكثر كان خيرا ممن ينكر ما صدق به وأيضا فإن اليهود بعد مبعث عيسى خرجوا عن شريعة موسى وعيسى جميعا فإن شريعة موسى موقتة بمجيء المسيح فكان يجب عليهم اتباعه ولهذا قال تعالى لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ولذلك أبقى الله سبحانه للنصارى مملكة في العالم وسلب اليهود ملكهم وعزهم بالكلية إلى قيام الساعة 141 – فصول في أحكام مهورهم قال إسحاق بن منصور قلت لأبي عبدالله نصراني تزوج نصرانية على قلة من خمر ثم أسلما قال إن دخل بها فهو جائز وإن لم يكن دخل بها فلها صداق مثلها وقال مهنا سألت أبا عبدالله عن نصراني تزوج نصرانية على خنزير أو على دن خمر ثم أسلما فحدثني عن يحيى بن سعيد عن ابن جريح أنه قال لعطاء أبلغك أن رسول الله أقر أهل الجاهلية على ما أسلموا عليه من نكاح أو طلاق فقال ما بلغنا إلا ذلك فسألته ما قوله نكاح أو طلاق قال يقرون على نكاحهم وجوز طلاقهم في الجاهلية وقال الخرقي وما سمى لها وهما كافران فقبضته ثم أسلما وإن كانت حراما فليس لها غيره ولو لم تقبضه وهو حرام فلها عليه مهر مثلها أو نصفه حيث وجب ذلك وهذا الذي ذكره هو الذي دل عليه الكتاب وسيرة رسول الله وأصحابه في الكفار في هذا وفيما هو أعم منه من عقودهم ومعاملاتهم قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فأمر تعالى بترك ما بقي دون ما قبض وقال تعالى فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله وقد أسلم الخلق العظيم على عهد رسول الله وخلفائه وأصحابه فلم يتعرض لأحد منهم في صداق أصدقه في حال الكفر إلا أن يكون المفسد مقارنا للإسلام كنكاح أكثر من أربع ونكاح الأختين وكذلك ما مضى من بياعاتهم وسائر عقودهم ومواريثهم وهذا معلوم بالاضطرار من دينه وسيرته فإن لم يتقابضا ثم أسلما أو ترافعا إلينا فإن كان المسمى صحيحا حكمنا لها به أو بنصفه حيث يتنصف وإن كان حراما كالخمر والخنزير بطلت تسميته ولم نحكم به ثم اختلف الفقهاء بماذا نحكم لها به فقال الشافعي وأحمد وأصحابهما لها مهر المثل أو نصفه لأن التسمية بطلت بالإسلام فصارت كأن لم تكن فتعين المصير إلى مهر المثل كالتعويض وقال أبو حنيفة إن كان صداقها خمرا أو خنزيرا معينين فليس لها إلا ذلك وإن كانا غير معينين فلها في الخمر القيمة وفي الخنزير مهر المثل استحسانا قالوا لأن الملك في ذلك ثابت في حال الكفر ومعنى اليد وهو التصرف ثابت أيضا والمتخلف بالإسلام صورة اليد والمسلم غير ممنوع من إثبات اليد صورة والذي يمتنع إثبات اليد الصورية وأيضا فإذا عينا خمرا أو خنزيرا أجري تعيينه مجرى قبضه لتمكنها بالمطالبة متى شاءت ولإقرارنا لهم على تعيينه والتعاقد عليه وسر المسألة أن لها حق القبض في العين وأما إذا لم تعين فليس لها حق القبض ثم اختلف أبو حنيفة وأصحابه فقال أبو حنيفة يجب في الخمر القيمة وفي الخنزير مهر المثل وقال أبو يوسف لها مهر المثل فيهما وقال محمد لها القيمة فيهما ووجه قول محمد أن التسمية صحت في العقد وصحة التسمية تمنع المصير إلى مهر المثل لكن تعذر القبض بالإسلام فصار كما لو تعذر بالهلاك فوجبت القيمة وأبو يوسف يقول لو تعذر القبض كان الفساد في حق القبض بمنزلة الفساد في حق العقد فوجب مهر المثل وأبو حنيفة يقول الأصل صحة التسمية وهي تمنع المصير إلى مهر المثل إلا أنا استقبحنا في الخنزير إيجاب قيمته فأوجبنا مهر المثل لأن القيمة كانت واجبة قبل الإسلام أصلا في حق التسليم لا خلفا فإن القدرة على الأصل تمنع المصير إلى الخلف ولو جاءها بالقيمة ههنا أجبرت على القبول مع القدرة على الخنزير فدل على أنها وجبت أصلا فلا يمكن إيجابها بعد الإسلام خلفا ولا يمكن الإيجاب على ما كان قبل الإسلام لأنه إنما وجب قبله ضمنا لوجوب تسليم الخنزير وقد سقط وجوب التسليم بالإسلام ومن أوجب مهر المثل في هذه المقدمات أو في بعضها يقول الخمر لا قيمة له في الإسلام فهو كالخنزير فصار وجود تسميته كعدمها فقد خلا النكاح من التسمية المعتبرة شرعا فيجب مهر المثل قالوا وليس في شريعة الإسلام للخمر قيمة حتى نعتبرها ههنا وإنما يقومه الكفار ونحن لا نعتبر قيمته عندهم وليس له عندنا قيمة البتة ويقوي قول محمد أنها قد رضيت بإخراج بضعها على هذا المسمى والزوج إنما دخل على ذلك فلا يلزمه أكثر منه ولم يلزمه ولا ألزمه به الشارع وكون الخمر والخنزير لا قيمة له عندنا لا يمنع من اعتبار قيمته وقت العقد فإنها رضيت بماليته وانحصار المالية في هذا الجنس فإذا فات ما انحصرت فيه المالية بالإسلام صرنا إلى قيمته وقت العقد كما لو عدم ذلك الجنس ولا محذور في تقويم ذلك لتعيين مقدار الواجب للضرورة كما تقوم الحر عبدا في باب الأرش لتعيين مقدار الواجب يوضحه أن المسمى حال العقد كان مالا بالنسبة إليهم فكان متقوما بالنسبة إلى هذا العقد والمتعاقدين وبالإسلام فاتت ماليته فتعينت قيمته حين العقد وهذا القول هو الذي نختاره والله أعلم 142 – فصل قبض بعض المهر ووجوب مهر المثل فيما بقي كيف يكون فإن قبضت من المهر بعضه وبقي بعضه سقط منه بقدر ما قبض ووجب بحصة ما بقي من مهر المثل أو من القيمة على الخلاف فإن أصدقها عشرة زقاق خمر متساوية فقبضت خمسة وجب نصف مهر المثل أو قيمة الخمسة على ما تقدم فإن كان بعضها أكبر من بعض ففيه وجهان للقائلين بمهر المثل أحدهما يعتبر المقبوض والباقي بالكيل والثاني يعتبر العدد لأنه لا قيمة لها فاستوى كبرها وصغرها وهذا فاسد فإنه إذا أصدقها زقا كبيرا وآخر صغيرا فقبضت الكبير لم يكن الصغير نصف المهر كما لو أصدقها زقا فقبضت أربعة أخماسه وبقي خمسه وكذلك الوجهان فيما لو أصدقها عشرة خنازير بعضها شر من بعض فقبضت ما خيره دونه وأخس منه فإن أصدقها كلبا وخنزيرين وثلاثة زقاق خمر ففيه ثلاثة أوجه لأصحاب أحمد والشافعي أحدها يقسم على قدر قيمتها عندهم والثاني يقسم على عدد الأجناس فيجعل لكل جنس ثلث المهر فللكلب ثلثه وللخمر ثلثه والثالث يقسم على العدد كله فللكلب سدس المهر وللخنزير ثلثه وللخمر نصفه 143 – فصل التحاكم إلينا في أنكحة لا يقرون عليها قبل الدخول فإن نكحها نكاحا لا يقرون عليه إذا أسلموا كنكاح ذوات المحارم فأسلما قبل الدخول وترافعا إلينا فرق بينهما ولا مهر لها وإن دخل بها فهل يقضي لها بالمهر فهو على الخلاف فيمن وطئ ذات محرمة بشبهة وفيه عن أحمد ثلاث روايات إحداهن لها مهر المثل لأنه استوفى منها ما يقابله والثانية لا مهر لها لأن تحريمها تحريم أصلي لا يزول بحال فلم يوجب وطؤها مهرا كاللواط والثالثة يجب لمن تحل ابنتها كالعمة والخالة ولا يجب لمن تحرم ابنتها كالأم والأخت لغلظ التحريم في هذه وخفته في تلك وقد نص أحمد في رواية أبي بكر بن صدقة في المجوسية تكون تحت أخيها أو أبيها فيطلقها أو يموت عنها فترتفع إلى المسلمين تطلب مهرها أنه لا مهر لها ولم يفرق بين ما قبل الدخول وبعده بل صرح بسقوط المهر في الحالة التي يكمل بها وهو الموت وكذلك نص في رواية أحمد بن هشام في المجوسية تكون تحت أخيها أو أبيها فتموت أو يطلقها فلا صداق لها 144 – فصل نكاح الذمي الذمية بلا صداق فإن تزوج ذمي ذمية على أن لا صداق لها أو سكت عن ذكره فلها المطالبة بعوضه إن كان قبل الدخول وإن كان بعده فلها مهر المثل كما في نكاح المسلمين هذا قول الجمهور وقال أبو حنيفة إن تزوجها على أن لا مهر لها فلا شيء لها وإن سكت عن ذكره فعنه روايتان إحداهما لا مهر لها والأخرى لها مهر المثل قال من رجح هذا القول المهر وجب في النكاح لحق الله ولهذا لو أسقطاه وتعاقدا على أن لا مهر لها لم يسقط والذمي لا يطالب بحقوق الله من زكاة ولا حج ولا غير ذلك وأيضا فنحن نقرهم على أنكحتهم مالم يكن المفسد مقارنا للإسلام في حالة الترافع إلينا وعدم ثبوت المهر في هذه الحالة لا يقتضي فرضه فيها وما قبل ذلك لا يتعرض لهم فيه وهذا قول قوي جدا 145 – فصل في ضابط ما يصح من أنكحتهم وما لا يصح إذا ارتفعوا إلى الحاكم في ابتداء العقد لم نزوجهم إلا بشروط نكاح الإسلام لقوله عز و جل وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط وقوله وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك وإن أسلموا وترافعوا إلينا بعد العقد لم ننظر إلى الحال التي وقع العقد عليها ولم نسألهم عنها ونظرنا إلى الحال التي أسلموا أو ترافعوا فيها فإن كانت المرأة ممن يجوز عقد النكاح عليها الآن أقررناهما وإن كانت ممن لا يجوز ابتداء نكاحها فرق بينهما وعن أحمد ما يدل على أنا ننظر في المفسد فإن كان مؤبدا أو مجمعا على تحريمه لم نقرهم وإن لم يكن مؤبدا ولا مجمعا على تحريمه أقررناهم فإذا أسلما والمرأة بنته من رضاع أو زنى أو هي في عدة من مسلم متقدمة على العقد فرق بينهما لأن تحريم الرضاع مؤبد مجمع عليه وتحريم ابنته من الزنى وإن لم يكن مجمعا عليه فهو مؤبد والمعتدة من مسلم تحريمها وأن لم يكن مؤبدا فهو مجمع عليه وإن كانت العدة من كافر فروايتان منصوصتان عن أحمد مأخذ الإقرار أن المفسد غير مؤبد ولا مجمع عليه فإن من لا يرى صحة نكاح الكفار لا يوجب على من توفي زوجها الكافر عدة الوفاة وإن كانت الزوجة حبلى قبل العقد أو قد شرط فيه الخيار مطلقا أو إلى مدة هما فيها فوجهان أحدهما لا يقر عليه لقيام المفسد له والثاني يقر لأن المفسد غير مجمع عليه فمن الناس من يرى جواز نكاح الحبلى من الزنى ومنهم من يرى صحة النكاح المشروط فيه الخيار كما هي إحدى الروايات عن أحمد بل أنصها كما تقدم وإن أسلما وكان العقد بلا ولي أو بلا شهود أو في عدة قد انقضت أو على أخت وقد ماتت أقرا عليه لعدم مقارنة المفسد للإسلام وحكم حالةالترافع إلى الحاكم حكم حالة الإسلام في ذلك كله قال مهنا سألت أحمد عن يهودي أو نصراني أو مجوسي تزوج بغير شهود قال هو كذلك يقرون على ما أسلموا عليه قلت فإنه تزوج امرأة في عدتها ثم أسلما أيقران على ذلك قال نعم يقران على ذلك اليهودي والنصراني إذا تزوج امرأة في عدتها ثم أسلما جميعا يقران على نكاحهما قلت لأحمد بلغك في هذا شيء قال نعم حدثني يحيى بن سعيد عن ابن جريج قال قلت لعطاء بلغك أن رسول الله أقر أهل الجاهلية على ما أسلموا عليه قال ما بلغنا إلا ذلك قال مهنا وسألت أحمد عن حربي تزوج حربية بغير شهود ثم أسلما قال نعم يقران على ما أسلما عليه من أسلم على شيء أقر عليه قلت لأحمد حربي تزوج حربية في عدتها من طلاق أو وفاة بغير شهود ثم أسلما قال هما على نكاحهما من أسلم على شيء فهو عليه قال الخلال أخبرنا يحيى بن جعفر حدثنا عبدالوهاب حدثنا ابن جريج عن عمرو بن شعيب أن رسول الله أقر الناس على ما أسلموا عليه من طلاق أو نكاح أو ميراث توارثوا عليه قال ابن جريج فذكرت ذلك لعطاء فقال ما بلغنا إلا ذلك 146 – فصل في الكافر يكون وليا لوليته الكافرة دون المسلمة قال تعالى والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض وقال والذين كفروا بعضهم أولياء بعض قال حنبل سمعت أبا عبدالله يقول لا يزوج النصراني ولا اليهودي ولا يكون النصراني واليهودي وليا قال وسمعت أبا عبدالله قال لا يعقد نصراني ولا يهودي عقدة نكاح لمسلم ولا مسلمة ولا يكونان وليين ولا يكون إلا مسلما وقال في رواية الميموني وقد سأله رجل عن النصراني يكون وليا إذا كانت ابنته مسلمة قال السلطان أولى وقال مهنا سألت أبا عبدالله عن نصراني أو يهودي أسلمت ابنته أيزوجها أبوها وهو نصراني أو يهودي قال لا يزوجها إذا كان نصرانيا أو يهوديا فقلت له فإن زوجها قال لا يجوز النكاح يعني يرد النكاح قلت فعل وأذنت الابنة قال يعيد النكاح قلت يسافر معها قال لا يسافر معها ثم قال لي أحمد بن حنبل ليس هو بمحرم قال الخلال وقال في موضع آخر قلت لا يسافر معها قال نعم قال أبو بكر وهو الصواب وبينها مهنا مرة في قوله لا قلت فكيف يسافر معها ويقول يعيد النكاح إذا أنكحها بأمرها قال نعم هو يعيد نكاحها إذا أنكحها قلت فإن كانت مسلمة وأبوها نصراني وهي محتاجة يجبر أبوها على النفقة عليها قال لم أسمع في هذا شيئا قلت له فإن قوما يقولون لا يجبر على النفقة عليها فكيف تقول أنت قال يعجبني أن ينفق عليها فقلت له يجبر فقال يعجبني ولم يقل يجبر وقد تضمن هذا النص ثلاثة أمور أحدها أن الكافر لا يصح أن يزوج وليته المسلمة والثاني أنه يكون محرما والثالث أنه لا يجبر على النفقة مع اختلاف الدين وسنذكر الكلام في هاتين المسألتين عن قرب إن شاء الله تعالى قال حنبل حدثنا شريح بن النعمان حدثنا حماد بن سلمة عن جعفر بن أبي وحشية أن هانئ بن قبيصة زوج ابنته من عروة البارقي على أربعين ألفا وهو نصراني فأتاها القعقاع بن سور فقال إن أباك زوجك وهو نصراني لا يجوز نكاحه زوجيني نفسك فتزوجها على ثمانين ألفا فأتى عروة علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال إن القعقاع تزوج بامرأتي فقال لئن كنت تزوجت امرأته لأرجمنك فقال يا أمير المؤمنين إن أباها زوجها وهو نصراني لا يجوز نكاحه قال فمن زوجك قال هي زوجتي نفسها فأجاز نكاحها وأبطل نكاح الأب وقال لعروة خذ صداقك من أبيها قال حنبل قال أبو عبدالله إنما جعل الأمر إليها لأن الأب نصراني لا يجوز حكمه فيها فرد الأمر إليها ولا بد أن يجدد هذا النكاح الأخير إذا رضيت وإنما صير لها الأمر بالرضى ولا يجوز أن تزوج نفسها إلا بولي وعلي حينئذ السلطان فأجاز ذلك وليها وقال خذ مهرك من أبيها لأنه لم يكن دخل بها ولو كان دخل بها لكان المهر لها والعدة عليها وقال حرب قلت لأحمد امرأة أبوها نصراني وأخوها مسلم من يزوجها قال الأخ قلت فهل للمشركين من الولاية شيء قال لا وقال صالح قال أبي في امرأة لها أب ذمي ولها أخ مسلم قال لا يكون الذمي وليا 147 – فصل بيان ولاية الأب الذمي فإن تزوج المسلم ذمية بولايةأبيها الذمي فهل ينعقد النكاح فقال القاضي في الجامع لا يجوز النكاح على ظاهر كلام أحمد في رواية حنبل لا يعقد يهودي ولا نصراني عقد نكاح لمسلم ولا لمسلمة خلافا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما يجوز والدلالة عليه أن كل عقد افتقرت صحته إلى شهادة مسلمين لا يصح بولاية كتابي كما لو تزوج مسلمة قال وعلى هذا القياس لا يلي في مالها كما لا يلي في نكاحها وخالف القاضي أبو الخطاب فقال يجوز أن يزوج الكافر وليته الكافرة من مسلم قال لأنه وليها فصح تزويجه لها كما لو زوجها من كافر قال ولأنها امرأة لها ولي مناسب فلم يجز أن يليها غيره كما لو تزوجها ذمي قال الشيخ في المغني وهو أصح قلت هو مخالف لنص أحمد كما تقدم لفظه 148 – فصل ولاية المسلم على الكافرة ولا يلي المسلم نكاح الكافرة لما تقدم من قطع الموالاة بين المسلمين والكفار إلا أن يكون سلطانا أو سيدا لأمة فإن ولاية السلطان عامة وأما سيد الأمة فإن له أن يزوجها من كافر وإن لم يملك تزويج ابنته الكافرة من كافر والفرق بينهما أنه يزوجها بحكم الملك فجاز ذلك كما لو باعها من كافر بخلاف ابنته فإنه يزوجها بحكم الولاية وقد انقطعت باختلاف الدين كما انقطع التوارث والإنفاق فإن قيل فما تقولون في أم ولد الذمي إذا أسلمت هل يلي نكاحها قيل فيه وجهان لأصحابنا أحدهما يليه لأنها مملوكته فيلي نكاحها كالمسلم ولأنه عقد على منافعها فيليه كما يلي إجارتها والثاني لا يليه لقوله تعالى والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ولأنها مسلمة فلا يلي نكاحها كابنته قال الشيخ في المغني وهذا أولى لما ذكرنا من الإجماع يعني قول ابن المنذر أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن الكافر لا ولاية له على مسلم بحال وقد قال في المحرر ولا يلي مسلم نكاح كافرة إلا بالملك أو السلطنة ولا يلي كافر نكاح مسلمة إلا بملك يقر له عليها كمن أسلمت أم ولده أو مكاتبته أو مدبرته في وجه ويلي الكافر نكاح مولاته الكافرة من كافر ومسلم وهل يباشر تزويج المسلم في المسألتين أو بشرط أن يباشره بإذن مسلم أو الحاكم خاصة فيه ثلاثة أوجه قلت في المسألة الأولى الزوجة هي المسلمة والولي كافر وفي المسألة الثانية المولاة كافرة والزوج مسلم وقلت على الأوجه الثلاثة في المسألتين فالصواب أن يقرأ وهل يباشر تزويج المسلم في المسألتين ليعم الصورتين أي الشخص المسلم وأما على ما رأيته في النسخ وهل يباشر تزويج المسلمة فإنه يختص بالمسألة الأولى إلا أن يقال أراد النفس المسلمة وبكل حال فمن قال يباشر تزويج المسلم فحجته أنه يزوجها بحكم الملك في المسألة الأولى ويزوج الكافر بحكم الولاية في المسألة الثانية وهي ولاية على كافرة ولا ولاية له على الزوج فلا يمتنع تزويج الكافرة له ومن قال يعقده الحاكم خاصة فحجته انقطاع الولاية بين الكافر والمسلم فهذه المرأة في حكم من لا ولي لها في الصورة الأولى وأما في الثانية فلما كان الزوج مسلما وللولي عليه ولاية ما فإنه هو الذي يوجب له عقد النكاح والكافر ليس أهلا لذلك فكانت الولاية للحاكم ومن قال نأذن لمسلم يباشر العقد فلأنه ولي في الحقيقة ولكن اتصال هذا العقد بمسلم يمنع من مباشرة الكافر له فيباشره مسلم بإذن الولي جمعا بين الحقين حق الولي وحق المسلم 149 – فصل زواج المسلم بشهادة ذميين فإن تزوج المسلم ذمية بشهادة ذميين فنص أحمد على أنه لا يصح قال مهنا سألت أحمد عن رجل مسلم تزوج يهودية بشهادة نصرانيين أو مجوسيين قال لا يصلح إلا عدول وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة وأبو يوسف يصح النكاح وخرجه الأصحاب وجها في المذهب بناء على قبول شهادة بعضهم على بعض وحجة من أبطله قوله لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل وأن الشهادة إنما شرطت لإثبات الفراش عند التجاحد ولا يمكن إثباته بشهادة الكفار وبأن شهادتهم كلا شهادة فقد خلا النكاح عن الشهادة وبأن النكاح لو انعقد بشهادتهما لسمعت شهادتهما على المسلم فيما يرجع إلى حقوق النكاح من وجوب المهر والنفقة والسكنى وهذا ممتنع قال المجوزون الشهادة في الحقيقة للمسلم على الكافرة لأنهما يشهدان عليها بإثبات ملك بضعها له أصلا فهي في الحقيقة شهادة كافر على كافر ونحن نقبلها فنصحح العقد بها وأما حقوق النكاح فإنما تثبت ضمنا وتبعا ويثبت في التبع ما لا يثبت في المتبوع ونظائره كثيرة جدا 150 – فصل لا يكون الكافر محرما للمسلمة ولا يكون الكافر محرما للمسلمة نص عليه أحمد فقال أبو الحارث قيل لأبي عبدالله المجوسي محرم لأمه وهي مسلمة قال لا وقال أبو الحارث أيضا سئل أبو عبدالله عن امرأة مسلمة لها ابن مجوسي وهي تريد سفرا يكون لها محرما يسافر بها قال لا هذا يرى نكاح أمه فكيف يكون لها محرما وهو لا يؤمن عليها وقال مهنا سألت أحمد عن مجوسي تسلم ابنته وهو مجوسي يفرق بينه وبينها قال نعم إن كان يتقى منه فقلت له وأي شيء يتقى منه فقال يجامعها وقال أبو داود سئل أبو عبدالله عن المجوسي تسلم أخته يحال بينهما قال نعم إذا خافوا أن يأتيها قال وسمعت أبا عبدالله يسأل عن المجوسي يسافر بابنته أو يزوجها قال ليس هو لها بولي وقال علي بن سعيد سألت أحمد عن النصراني واليهودي يكونان محرما قال هما لا يزوجان فكيف يكونان محرما وقال مهنا سألت أبا عبدالله عن نصراني أو يهودي أسلمت ابنته أيزوجها أبوها وهو نصراني أو يهودي قال لا يزوجها فقلت له فإن زوجها قال لا يجوز النكاح قلت فعل وأذنت الابنة قال يعيد النكاح قلت يسافر معها قال لا يسافر معها ثم قال لي ليس هو بمحرم فقد نص على أن محرم المسلمة لا يكون كافرا فإن قيل فأنتم لا تمنعون من النظر إليها والخلوة بها وكونهما في بيت واحد قيل بل نمنعه إذا كان مجوسيا كما نص عليه أحمد وأما اليهودي والنصراني فلا يؤمن عليها في السفر أن يبيعها أو يقتلها بسبب عداوة الدين وهذا منتف في خلوته بها ونظره إليها في الحضر فافترقا والمقصود من المحرم كمال الحفظ والشفقة وعداوة الدين قد تمنع كمال ذلك 151 – فصل الإنفاق على الأقارب من أهل الكفر فإن قيل فما تقولون في وجوب الإنفاق على الأقارب مع اختلاف الدين لقوله تبارك وتعالى وعلى الوارث مثل ذلك واختلاف الدين يمنع الميراث قيل أما الأقارب مطلقا فلا تجب نفقتهم مع اختلاف الدين وأما عمود النسب ففيهم روايتان إحداهما لا تجب نفقتهم لذلك والثانية تجب لتأكد قرابتهم بالعصبة وحكى بعض الأصحاب في وجوب نفقة الأقارب مطلقا مع اختلاف الدين أنه إن منع وجوب الإنفاق منع في سائر الأقارب وإن لم يكن مانعا لم يمنع في حق قرابة الكلالة كالرق والغنى فأما أن يكون مانعا في قرابة دون قرابة فلا وجه له ولا يصح التعليل بتأكد القرابة لأن الأخ والأخت أقرب من أولاد البنات والذي يقوم عليه الدليل وجوب الإنفاق وإن اختلف الدينان لقوله تعالى ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا وليس من الإحسان ولا من المعروف ترك أبيه وأمه في غاية الضرورة والفاقة وهو في غاية الغنى وقد ذم الله تبارك وتعالى قاطعي الرحم وعظم قطيعتها وأوجب حقها وإن كانت كافرة قال تعالى واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام وقال تعالى والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل وفي الحديث لا يدخل الجنة قاطع رحم والرحم معلقة بساق العرش تقول يا رب صل من وصلني واقطع من قطعني وليس من صلة الرحم ترك القرابة تهلك جوعا وعطشا وعريا وقريبه من أعظم الناس مالا وصلة الرحم واجبة وإن كانت لكافر فله دينه وللواصل دينه وقياس النفقة على الميراث قياس فاسد فإن الميراث مبناه على النصرة والموالاة بخلاف النفقة فإنها صلة ومواساة من حقوق القرابة وقد جعل الله للقرابة حقا وإن كانت كافرة فالكفر لا يسقط حقوقها في الدنيا قال الله تعالى واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم وكل من ذكر في هذه الآية فحقه واجب وإن كان كافرا فما بال ذي القربى وحده يخرج من جملة من وصى الله بالإحسانإليه ورأس الإحسان الذي لا يجوز إخراجه من الآية هو الإنفاق عليه عند ضرورته وحاجته وإلا فكيف يوصى بالإحسان إليه في الحالة التي لا يحتاج إلى الإحسان ولا يجب له الإحسان أحوج ما كان إليه والله سبحانه وتعالى حرم قطيعة الرحم وإن كانت كافرة وترك رحمه يموت جوعا وعطشا وهو من أغنى الناس وأقدرهم على دفع ضرورته أعظم قطيعة فإن قيل فهل تقولون بدفع الزكوات والكفارات إليه قيل إن كان في المسألة إجماع معلوم لم يجز مخالفتهم وإن لم يكن فيها إجماع احتاج القول بعدم الجواز إلى دليل والفرق بين الزكاة والنفقة أن الزكاة حق الله فرضها على الأغنياء تصرف في جهات معينة وهي عبادة يشترط لها النية ولا تؤدى بفعل الغير ولا تسقط بمضي الزمان ولا تجوز على رقيقه وبهائمه والنفقة بخلاف ذلك فقياس أحد البابين على الآخر قياس فاسد ثم يقال إن لم يكن بينهما فرق ولا إجماع فالحق التسوية وإن كان بينهما فرق امتنع الإلحاق 152 – فصل جواز نكاح الكتابية ويجوز نكاح الكتابية بنص القرآن قال تعالى والمحصنات من المؤمنات المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والمحصنات هنا هن العفايف وأما المحصنات المحرمات في سورة النساء فهن المزوجات وقيل المحصنات اللاتي أبحن هن الحرائر ولهذا لم تحل إماء أهل الكتاب والصحيح الأول لوجوه أحدها أن الحرية ليست شرطا في نكاح المسلمة الثاني أنه ذكر الإحصان في جانب الرجل كما ذكره في جانب المرأة فقال إذا آتيتموهن أجورهن محصنين وهذا إحصان عفة بلا شك فكذلك الإحصان المذكور في جانب المرأة الثالث أنه سبحانه ذكر الطيبات من المطاعم والطيبات من المناكح فقال تعالى اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والزانية خبيثة بنص القرآن والله سبحانه وتعالى حرم على عباده الخبائث من المطاعم والمشارب والمناكح ولم يبح لهم إلا الطيبات وبهذا يتبين بطلان قول من أباح تزويج الزواني وقد بينا بطلان هذا القول من أكثر من عشرين وجها في غير هذا الكتاب والمقصود أن الله سبحانه أباح لنا المحصنات من أهل الكتاب وفعله أصحاب نبينا فتزوج عثمان نصرانية وتزوج طلحة بن عبيدالله نصرانية وتزوج حذيفة يهودية قال عبدالله بن أحمد سألت أبي عن المسلم يتزوج النصرانية أو اليهودية فقال ما أحب أن يفعل ذلك فإن فعل فقد فعل ذلك بعض أصحاب النبي وقال صالح بن أحمد حدثني أبي حدثنا محمد بن جعفر حدثنا سعيد عن قتادة أن حذيفة بن اليمان وطلحة بن عبيدالله والجارود بن المعلى وذكر آخر تزوجوا نساء من أهل الكتاب فقال لهم عمر طلقوهن فطلقوا إلا حذيفة فقال عمر طلقها فقال تشهد أنها حرام قال هي جمرة طلقها فقال تشهد أنها حرام فقال هي جمرة قال حذيفة قد علمت أنها جمرة ولكنها لي حلال فأبى أن يطلقها فلما كان بعد طلقها فقيل له ألا طلقتها حين أمرك عمر فقال كرهت أن يظن الناس أني ركبت أمرا لا ينبغي وقد تأولت الشيعة الآية على غير تأويلها فقالوا المحصنات من المؤمنات من كانت مسلمة في الأصل والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم من كانت كتابية ثم أسلمت قالوا وحملنا على هذا التأويل قوله تعالى ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن وأي شرك أعظم من قولها الله ثالث ثلاثة وقوله تعالى ولا تمسكوا بعصم الكوافر وأجاب الجمهور بجوابين أحدهما أن المراد بالمشركات الوثنيات قالوا وأهل الكتاب لا يدخلون في لفظ المشركين في كتاب الله تعالى قال تعالى لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين وقال تعالى إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا وكذلك الكوافر المنهي عن التمسك بعصمتهن إنما هن المشركات فإن الآية نزلت في قصة الحديبية ولم يكن للمسلمين زوجات من أهل الكتاب إذ ذاك وغاية ما في ذاك التخصيص ولا محذور فيه إذا دل عليه دليل الجواب الثاني جواب الإمام أحمد قال في رواية ابنه صالح قال الله تعالى ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن وقال في سورة المائدة وهي آخر ما أنزل من القرآن والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم 153 – فصل نكاح الأمة الكتابية فإن قيل فإذا كان قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم المراد به إحصان العفة لا إحصان الحرية فمن أين حرمتم نكاح الأمة الكتابية قيل الجواب من وجهين أحدهما أن تحريم الأمة الكتابية لم ينعقد عليه الإجماع فأبو حنيفة يجوزه وقد قال أحمد في رواية ابن القاسم الكراهة في إماء أهل الكتاب ليست بالقوية إنما هو شيء تأوله الحسن ومجاهد هذا نصه وهذا من نصه كالصريح بأنه ليس بمحرم وأقل ما في ذلك توقفه عن التحريم لكن قال الخلال توقف أحمد في رواية ابن القاسم لا يرد قول من قطع وقد روى عنه هذه المسألة أكثر من عشرين نفسا أنه لا يجوز فالمسألة إذن مسألة نزاع والحجة تفصل بين المتنازعين قال المبيحون قال الله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء فإذا طابت له الأمة الكتابية فقد أذن له في نكاحها وقال تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم ولم يذكر في المحرمات الأمة الكتابية وقال تعالى وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم والمراد بالصالحين من صلح للنكاح هذا أصح التفسيرين وذهبت طائفة إلى أنه الإيمان والأول أصح فإن الله سبحانه لم يأمرهم بإنكاح أهل الصلاح والدين خاصة من عبيدهم وإمائهم كما لم يخصهم بوجوب الإنفاق عليهم بل يجب على السيد إعفاف عبده وأمته كما يجب عليه الإنفاق عليه فإن ذلك من تمام مصالحه وحقوقه على سيده فقد أطلق الأمر بتزويج الإماء مسلمات كن أو كافرات ولم يمنع من تزويج الأمة الكافرة بمسلم قالوا وقد قال ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم فدل على جواز نكاح النوعين وأن هذا خير من هذا قالوا وقد أباح الله سبحانه وطأهن بملك اليمين فكذلك يجب أن يباح وطؤهن بعقد النكاح وعكسهن المجوسيات والوثنيات قالوا فكل جنس جاز نكاح حرائرهم جاز نكاح إمائهم كالمسلمات قالوا ولأنه يجوز نكاحها بعد عتقها فيجوز نكاحها قبله كالأمة المسلمة قالوا ولأنها يجوز للذمي نكاحها فجاز للمسلم نكاحها كالحرة الكتابية وعكسه الوثنية قالوا ولأنه تباح ذبيحتها فأبيح نكاحها كالحرة قال المحرمون قال الله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات فأباح تعالى نكاح الأمة بثلاثة شروط أحدها عدم الطول لنكاح الحرة والثاني إيمان الأمة المنكوحة والثالث خشية العنت فلا تتحقق الإباحة بدون هذه الأمور الثلاثة لأن الفرج كان حراما قبل ذلك وإنما أبيح على هذا الوجه وبهذا الشرط فإذا انتفى ذلك بقي على أصل التحريم قال المبيحون غاية هذا أنه مفهوم شرط والمفهوم عندنا ليس بحجة قال المحرمون نحن نساعدكم على أن المفهوم ليس بحجة ولكن الأصل في الفروج التحريم ولا يباح منها إلا ما أباحه الله ورسوله والله سبحانه إنما أباح نكاح الأمة المؤمنة فيبقى ما عداها على أصل التحريم على أن الإيمان لو لم يكن شرطا في الحل لم يكن في ذكره فائدة بل كان زيادة في اللفظ ونقصانا من المعنى وتوهما لاختصاص الحل ببعض محاله وكلام العقلاء فضلا عن كلام رب الأرض والسماء يصان عن ذلك يوضحه أن صفة الإيمان صفة مقصودة فتعليق الحكم بها يدل على أنها هي العلة في ثبوته ولو ألغيت الأوصاف التي علقت بها الأحكام لفسدت الشريعة لقوله والذين يرمون المحصنات وقوله والمحصنات من النساء ونظائره أكثر من أن تحصر قال المبيحون لا يمكنكم الاستدلال بالآية لأن الله سبحانه قال ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات فمن ما ملكت أيمانكم فلم يبح نكاح الأمة إلا عند عدم الطول لنكاح الحرة المؤمنة وقلتم لا يباح له نكاح الأمة إذا قدر على حرة كتابية فألغيتم وصف الإيمان في الأصل فكيف تنكرون على من ألغاه في البدل قال المحرمون واللفظ لأبي يعلى لو خلينا والظاهر لقلنا إيمان المحصنات شرط لكن قام دليل الإجماع على تركه ولم يقم دليل على ترك شرطه في الفتيات قلت لم يجمع على الأمة على أن إيمان المحصنات ليس شرطا بل أحد الوجهين للشافعية أنه إذا قدر على نكاح حرة كتابية ولم يقدر على نكاح حرة مسلمة فإنه ينتقل إلى الأمة وهذا قول قوي وظاهر القرآن يقتضيه وقد يقال إن آية النساء متقدمة على آية المائدة التي فيها إباحة المحصنات من أهل الكتاب قال تعالى اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم فحينئذ أبيح نكاح الكتابيات قال المحرمون قال الله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب والإحصان ههنا هو إحصان الحرية قال القاضي إسماعيل في أحكام القرآن يقع الإحصان على العفة ويقع على الحرية وإنما أريد بهذا الموضع الحرية لأنه لو أريد به العفة لما جاز لمسلم أن يتزوج نصرانية ولا يهودية حتى يثبت عفتها ولما جاز له أيضا أن يتزوج بهذه الآية مسلمة حتى يثبت عفتها لأن اللفظ جاء في الموضعين على شيء واحد فعلم أنهن الحرائر المؤمنات والحرائر هن أهل الكتاب لأن الله تعالى قال ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات وقد حدثنا علي بن عبدالله ثنا سفيان أخبرنا ابن أبي نجيح عن مجاهد لا يحل نكاح إماء أهل الكتاب لأن الله تعالى قال من فتياتكم المؤمنات حدثنا علي حدثنا يزيد بن زريع حدثنا يونس كان الحسن يكره أن يتزوج الأمة اليهودية والنصرانية وقال إنما رخص الله في الأمة المسلمة قال تعالى من فتياتكم المؤمنات ثم ذكر المنع من نكاح الأمة الكتابية عن إبراهيم ومكحول وقتادة ويحيى بن سعيد وعن الفقهاء السبعة وأرفع ما روي فيه عن جابر بن عبدالله قال القاضي حدثنا ابن أبي أويس حدثنا ابن أبي الزناد عن موسى بن عقبة عن أبي الزبير قال سألت جابرا عن الرجل له عبد مسلم وأمة نصرانية أينكحها إياه قال لا قال المبيحون لم يجمع الناس على أن الإحصان ههنا إحصان الحرية قال سفيان بن عيينة عن مطرف عن عامر والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم قال إذا أحصنت فرجها واغتسلت من الجنابة وصح عن مجاهد والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم قال هن العفايف قالوا ولو طولبتم بموضع واحد من القرآن أريد بالإحصان فيه الحرية لا يصلح لغيرها لم تجدوا إليه سبيلا والذي اطرد مجيء القرآن به في هذه اللفظة شيئان العفة والتزويج وأما الإسلام والحرية فلم يتعين إرادة واحد منهما باللفظ وقولكم إنه لو أريد به العفة لما جاز التزويج بالكتابية ولا بالمسلمة إلا بعد ثبوت عفتها فهذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة في غير موضع ومن محاسن الشريعة تحريم نكاح البغايا فإنه من أقبح الأمور والناس إذا اجتهدوا في تعيير الرجل قالوا زوج بغي ومثل هذا فطرة فطر الله عليها الخلق فلا تأتي شريعة بإباحته والبغي خبيثة والله سبحانه حرم الخبائث من المناكح كما حرمها من المطاعم ولم يبح نكاح المرأة إلا بشرط إحصانها وقال في نكاح الزواني وحرم ذلك على المؤمنين ولم ينسخ هذه الآية شيء ويكفي في نكاح الحرة عدم اشتهار زناها فإن الأصل عفتها فعفتها ثابتة بالأصل فلا يشق اشتراطها فإذا اشتهر زناها حرم نكاحها فإذا تابت فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له وأما ما ذكرتم عن جابر رضي الله عنه والتابعين من التحريم فقد عارضهم آخرون قال ابن أبي شيبة حدثنا جرير بن عبدالحميد عن مغيرة عن أبي ميسرة قال إماء أهل الكتاب بمنزلة حرائرهم قال المحرمون وأما قياسكم التزوج بالأمة الكتابية على وطئها فقياس فاسد جدا فإن واطئ الأمة بملك اليمين ينعقد ولده حرا مسلما فلا يضر وطء الأمة الكافرة بملك اليمين وأما واطئ الأمة بعقد النكاح فإن ولده ينعقد رقيقا لمالك الأمة وفي ذلك التسبب إلى إثبات ملك الكافر على المسلم فافترقا ولهذا يجوز وطء الأمة المسلمة بملك اليمين ولا يجوز وطؤها بعقد النكاح إلا عند الضرورة بوجود الشرطين وما ثبت للضرورة يقدر بقدرها ولم يجز أن يتعدى والضرورة تزول بنكاح الأمة المسلمة فيقتصر عليها كما اقتصر في جواز أكل الميتة ولحم الخنزير على قدر الضرورة قال المبيحون هذا ينتقض عليكم بما لو كانت الأمة الكافرة كبيرة لا يحبل مثلها أو كانت لمسلم فإن الولد لا يثبت عليه ملك كافر قال المحرمون أليس الجواز يفضي إلى هذا فيما إذا كانت الأمة لكافر وهي ممن تحبل ولم يفرق أحد بل القائل قائلان قائل بالجواز مطلقا وقائل بالمنع مطلقا والشارع إذا منع من الشيء لمفسدة تتوقع منه سد باب تلك المفسدة بالكلية ولهذا لما حرم نكاح الأمة إلا عند عدم الطول وخوف العنت خشية إرقاق الولد لم يبح نكاح العاقر التي لا تحبل ولا تلد بدون الشرطين قالوا وأما قولكم إنه لا يجوز نكاحها بعد العتق فجاز قبله فحاصله قياس الأمة الكتابية على الحرة وهو قياس باطل لما علم من الفرق وأما قولكم إنه يجوز للكافر نكاحها فجاز للمسلم فمن أبطل القياس فإن المجوسية يجوز للمجوسي نكاحها ولا يجوز للمسلم والخمر والخنزير مال عندهم دون المسلمين وأما قياسكم حل النكاح على حل الذبيحة فقياس فاسد فإن الرق لا تأثير له في الذبائح وله تأثير في النكاح قالوا وأما قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء فالمراد به ما حل وأذن فيه وهو سبحانه لم يأذن إلا في ثلاثة أصناف من النساء الحرائر من المسلمات والحرائر من الكتابيات والإماء من المسلمات فبقي الإماء الكتابيات لم يأذن فيهن فبقين على أصل التحريم ولما أذن في وطئهن بملك اليمين قلنا بإباحته وأما قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم ففي الآية ما يدل على التحريم وهو قوله محصنين غير مسافحين أي غير زناة والتزوج بمن لم يبح الله التزوج بها حرام باطل فيكون زنى على أنه عام مخصوص بالإجماع والعام إذا خص فمن الناس من لا يحتج به والأكثرون على الاحتجاج به لكنه إذا تطرق إليه التخصيص ضعف أمره وقيل التخصيص بالمفهوم والقياس وقول الصحابي وغير ذلك وأما قوله تعالى ولأمة مؤمنة خير من مشركة فمن استدل به فقد أبعد النجعة جدا وهو إلى أن يكون حجة عليه أقرب قالوا وحكمة الشريعة تقتضي تحريمها لاجتماع النقصين فيها وهما نقص الدين ونقص الرق بخلاف الحرة الكتابية والأمة المسلمة فإن أحد النقصين جبر بعدم الآخر وقالوا وقد كانت قضية المساواة في الكفاءة تقتضي كون المرأة كفؤا للرجل كما يكون الرجل كفؤا لها ولكن لما كان الرجال قوامين على النساء والنساء عوان عندهم لم يشترط مكافأتهن للرجال وجاز للرجل أن يتزوج من لا تكافئه لحاجته إلى ذلك فإذا فقدت صفات الكفاءة جملة بحيث لم يوجد منها صفة واحدة في دين ولا حرية ولا عفة اقتضت محاسن الشريعة صيانته عنها بتحريمها عليه فهذا غاية ما يقال في هذه المسألة والله أعلم 154 – فصل متى يكره نكاح الكتابية قال القاضي يكره نكاح الكتابية فإن فعل عزل عنها نص عليه في رواية ابن هانئ قلت هذا وهم من القاضي وإنما الذي نص عليه أحمد ما رواه عنه ابنه عبدالله قال أكره أن يتزوج الرجل في دار الحرب أو يتسرى من أجل ولده وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم لا يتزوج ولا يتسرى الأسير في دار الحرب وإن خاف على نفسه لا يتزوج وقال في رواية حنبل ولا يتزوج الأسير ولا يتسرى بمسلمة إلا أن يخاف على نفسه فإذا خاف على نفسه لا يطلب الولد ولم يقل أحمد أنه إذا تزوج الكتابية في دار الإسلام يعزل عنها ولا وجه لذلك البتة 155 – فصل النكاح من السامرة ويجوز نكاح السامرة فإنهم صنف من اليهود وإن كانوا فيهم بمنزلة أهل البدع في المسلمين فإنهم يدينون بزعمهم بالتوراة ويسبتون مع اليهود وأما الصابئة فهل تجوز مناكحتهم قال القاضي ظاهر كلام أحمد يقتضي روايتين إحداهما أنهم صنف من اليهود قال في رواية محمد بن موسى في الصابئين بلغني أنهم يسبتون فهؤلاء إذا سبتوا يشبهون اليهود والثانية أنهم صنف من النصارى قال في رواية حنبل الصابئون جنس من النصارى إذا كان لهم كتاب أكل من طعامهم قال القاضي فينظر في حالهم فإن وافقوا اليهود والنصارى في أصل دينهم وخالفوهم في الفروع جازت مناكحتهم وإن خالفوهم في أصل دينهم لم تجز مناكحتهم وقد تقدمت المسألة مستوفاة في أول الكتاب 156 – فصل نكاح الكتابيات المتمسكات بغير التوراة والإنجيل قال القاضي ومن كان متمسكا بغير التوراة والإنجيل كزبور داود وصحف شيث وإبراهيم هل يقرون على ذلك وهل تحل مناكحتهم وذبائحهم على وجهين أحدهما يقرون ويناكحون على ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور وقد سئل عن نكاح المجوس فقال لا يعجبني إلا من أهل الكتاب فأطلق القول في أهل الكتاب ولم يخص أهل الكتابين وقال في رواية حنبل قال تعالى ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن مشركات العرب الذين يعبدون الأصنام ففسر الآية على عبدة الأصنام وظاهر هذا أن ما عدا عبدة الأوثان غير منهي عن نكاحهن والوجه الثاني لا تجوز مناكحتهم ولا يقرون وهو قول أصحاب الشافعي وجه الأول قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب وهذا عام في كل كتاب ولأنه متمسك بكتاب من كتب الله أشبه أهل التوراة والإنجيل ووجه الثاني تعليلان أحدهما أن الكتاب ما كان منزلا كالتوراة والإنجيل والقرآن فأما ما لم يكن كذلك فليس بكتاب بل يكون وحيا وإلهاما كما قال النبي أتاني آت من ربي فقال صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة قال وأمرني أن آمر أصحابي بالتلبية ولم يكن ذلك قرآنا وإنما كان وحيا ولأن هذه الكتب وإن كانت منزلة ولكنها اشتملت على مواعظ ولم تشتمل على أحكام وهي الأمر والنهي فضعفت في بابها قلت ليس في الدنيا من يتمسك بهذه الكتب ويكفر بالتوراة والإنجيل البتة فهذا القسم مقدر لا وجود له بل كل من صدق بهذه الكتب وتمسك بها فهو مصدق بالكتابين أو أحدهما ولهذا لم يخاطبهم الله سبحانه في القرآن بخصوصهم بل خاطبهم مع جملة أهل الكتاب وأما قوله إن الكتاب عام في قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب فعرف القرآن من أوله إلى آخره في الذين أوتوا الكتاب أنهم أهل الكتابين خاصة وعليه إجماع المفسرين والفقهاء وأهل الحديث 157 – فصل نكاح الكتابيات مع كثرة النساء قال أحمد في رواية الميموني وقد سأله هل ينكح اليوم الرجل مع كثرة النساء من أهل الكتاب فقال نعم قد رخص لنا في ذلك غير واحد من أصحاب النبي وقال في رواية مهنا يزوج الرجل المرأتين من أهل الكتاب لا بأس به قيل له وثلاث قال وثلاث قيل له وأربع قال وأربع وذكره عن سعيد بن المسيب 158 – فصل نكاح المجوس وأكل ذبائحهم وأما المجوس فلا تحل مناكحتهم ولا أكل ذبائحهم وليس لهم كتاب نص على ذلك في رواية إسحاق بن إبراهيم وأبي الحارث وغيرهما فقال في رواية إسحاق لا فرج الله عمن يقول هذه المقالة يعني نكاح المجوس وأكل ذبائحهم ونص على أنه لا كتاب لهم في رواية الميموني فقال المجوس ليس لهم كتاب ولا تؤكل ذبيحتهم ولا ينكحون وقال في رواية محمد بن موسى وقد سئل أيصح عن علي أن المجوس أهل كتاب فقال هذا باطل واستعظمه جدا وقال إن قوما قد أساؤوا يقولون هذا القول وهو قول سوء فقد نص على تحريم مناكحتهم وعلى أنه لا كتاب لهم وقد ذكر ابن المنذر عن حذيفة أنه تزوج بمجوسية فقال له عمر طلقها ولكن ضعفه أحمد في رواية المروذي وقد سأله عن حديث ابن عون عن محمد أن حذيفة تزوج مجوسية فأنكره وقال الأخبار على خلافه قال المروذي قلت لأبي عبدالله ثبت عندك قال لا وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم روى الداناج وأبو وائل أنه تزوج يهودية وروى المروزي عن الشافعي قولين أحدهما تجوز مناكحتهم وبناهما على أنه هل لهم كتاب أم لا وأنكر غيره من أصحاب الشافعي هذا النقل والبناء وقال لو قلنا تحل مناكحتهم إذا قلنا لهم كتاب لوجب أن نقول لا يقرون بالجزية إذا قلنا لا كتاب لهم وقال أبو ثور تجوز مناكحتهم وأكل ذبائحهم قال المروذي قلت لأحمد إن أبا ثور يحتج بأنهم أهل كتاب فقال وأي كتاب لهم قال القاضي فإن قيل فكيف استجاز أحمد في رواية إبراهيم أن يدعو على من يجيز نكاح المجوس وهو مما يسوغ فيه الإجتهاد لأنكم قد رويتم ذلك عن حذيفة وأبي ثور وخرجه بعض أصحاب الشافعي قولا له قيل له أما ما روي عن حذيفة فقد بينا ضعفه وأما أبو ثور فيحتمل أن أحمد لم يظهر له خلافه في ذلك الوقت وكذلك هذا القائل من الشافعية لأنه حدث بعد أحمد ولم يظهر هذا في وقته عن الشافعي والذي يبين هذا ما قاله في رواية المروذي ما اختلف أحد في نكاح المجوس أو ذبائحهم اختلفوا في اليهود والنصارى فأما المجوس فلم يختلفوا وضعف ما جاء فيه قلت قوله لعله لم يظهر له خلافه جواب فاسد فإنه قد حكي له أن أبا ثور يجيز نكاح المجوس فقال أبو ثور كاسمه ودعا عليه وقال لا فرج الله عمن يقول بهذا القول والمسألة عنده مما لا يسوغ فيها الاجتهاد لظهور إجماع الصحابة على تحريم مناكحتهم وهذا مما يدل على فقه الصحابة وأنهم أفقه الأمة على الإطلاق ونسبة فقه من بعدهم إلى فقههم كنسبة فضلهم إلى فضلهم فإنهم أخذوا في دمائهم بالعصمة وفي ذبائحهم ومناكحتهم بالحرمة فردوا الدماء إلى أصولها والفروج والذبائح إلى أصولها 159 – فصل إجبار الزوجة الذمية على الطهارة للمسلم إجبار زوجته الذمية على الغسل من الحيض وقد قال أحمد في رواية حنبل يأمرها بالغسل من الجنابة فإن أبت لم يتركها وقد علق القول في رواية صالح في المشركة يجب عليها الغسل من الجنابة والحيض فإن لم تغتسل فلا شيء عليها الشرك أعظم قال القاضي وظاهر هذا أنه لم يوجب ذلك عليها عند امتناعها قال وهذا محمول على أنها امتنعت ولم يوجد من الزوج مطالبة بالغسل قال والدلالة على أن له إجبارها على ذلك أن بقاء الغسل يحرم عليه الوطء الذي يستحقه وكان له إجبارها عليه لاستيفاء حقه كما له إجبارها على ملازمة المنزل والتمكين من الاستمتاع ليتوصل بذلك إلى استيفاء حقه فأما الغسل من الجنابة فهل للزوج أن يجبرها عليه فقد أطلق القول في رواية حنبل وقال يأمرها بالغسل من الجنابة فإن أبت لم يتركها وظاهر هذا أن له إجبارها وقال في رواية مهنا في رجل تزوج نصرانية فأمرها بتركه يعني شرب الخمر فإن لم تقبل ليس له أن يمنعها وظاهر هذا يقتضي أنه لا يملك إجبارها على الغسل من الجنابة كما لم يملك إجبارها على الإمتناع من شرب الخمر لأنه يمنع من كمال الوطء ولا يمنع من أصله وجه الرواية الأولى أن بقاء الغسل عليها يمنعه من كمال الاستمتاع فإن النفس تعاف وطء من لا تغتسل من الجنابة فيفوته بذلك بعض حقه فكان له إجبارها كما كان له في الاغتسال من الحيض ووجه الثانية أن بقاء غسل الجنابة عليها لا يحرم عليه وطأها فلم يكن له إجبارها على ذلك ويفارق هذا غسل الحيض لأن بقاءه محرم عليها وهاتان الروايتان أصل لكل ما لم يمنعه من أصل الاستمتاع لكنه يمنعه من كماله هل له إجبارها عليه أم لا على روايتين في ذلك إحداهما له ذلك إذا كان عليها وسخ ودرن وأراد إجبارها على إزالته لأن النفس تعاف الإستمتاع مع وجوده والثانية ليس له ذلك وأما أخذ الشعر وتقليم الأظفار فينظر فإن طال الشعر واسترسل بحيث يستقذر ويمنع الاستمتاع فله إجبارها على إزالته رواية واحدة وإن لم يخرج عن حد العادة لكنه طال قليلا وكانت النفس تعافه فعلى الروايتين وكذلك الأظفار إن طالت وخرجت عن حد العادة فصار يستقبح منظرها ويتعذر الاستمتاع معها كان له إجبارها على إزالتها رواية واحدة وإن لم يخرج عن حد العادة لكن النفس تعافها فعلى الروايتين 160 – فصل منع الزوج زوجته الكتابية من دور العبادة وأما الخروج إلى الكنيسة والبيعة فله منعها منه نص عليه أحمد في رواية يعقوب بن بختان في الرجل تكون له المرأة النصرانية لا يأذن لها في الخروج إلى عيد النصارى أو البيعة وقال في رواية محمد بن يحيى الكحال وأبي الحارث في الرجل تكون له الجارية النصرانية تسأله الخروج إلى أعيادهم وكنائسهم وجموعهم لا يأذن لها في ذلك وقد علل القاضي المنع بأنه يفوت حقه من الاستمتاع وهو عليها له في كل وقت وهذا غير مراد أحمد ولا يدل لفظه عليه فإنه منعه من الإذن لها ولو كان ذلك لحقه لقال لا تخرج إلا بإذنه وإنما وجه ذلك أنه لا يعينها على أسباب الكفر وشعائره ولا يأذن لها فيه قال القاضي وإذا كان له منع المسلمة من إتيان المساجد فمنع الذمية من الكنيسة أولى وهذا دليل فاسد فإنه لا يجوز له منع المسلمة من المساجد وأعجب من هذا أنه أورد الحديث وأجاب عنه بجوابين فاسدين أحدهما أن المراد به صلاة العيد خاصة والثاني المراد به منعها من الحج إلى المسجد الحرام ولا يخفى بطلان الجوابين 161 – فصل منع الزوجة الكتابية من السكر وله منعها من السكر لأنه يتأذى به وهل له منعها من شرب ما لا يسكرها خرجه القاضي على الروايتين فيما يمنع كمال الاستمتاع دون أصله والمنصوص عليه في رواية مهنا أنه لا يمنعها فإنه قال في رجل تزوج نصرانية أله أن يمنعها من شرب الخمر قال يأمرها قيل له لا تقبل منه أله أن يمنعها قال لا وظاهر هذا أنه لم يجعل له منعها فإن شربت كان له إجبارها على غسل فمها من الخمر لأنه نجس يتعذر مع ذلك تقبيلها والاستمتاع بها فيه فإن قيل فلو أرادت المسلمة أن تشرب من النبيذ المختلف فيه ما لا يسكرها هل له منعها قيل نعم له منعها هذا الذي لا يحتمل المذهب غيره فإن أحمد يحد عليه فكيف تقر على شربها والإنكار بالحد من أقوى مراتب الإنكار وقال القاضي إن كانا حنبليين أو شافعيين لهما منعها منه لأنهما يعتقدان تحريمه وإن كانا حنفيين فهذا لا يمنعه الاستمتاع ولكن يمنعه ماله فيخرج على الروايتين والصحيح الأول قال وهل له منعها من الثوم والبصل والكراث يخرج على الروايتين وكذلك هل له منعها من الثياب الوسخة على الروايتين 162 – فصل أداء الزوجة الكتابية شعائرها التعبدية وقال أحمد في رواية مهنا وقد سأله هل يمنعها أن تدخل منزله الصليب قال يأمرها فأما أن يمنعها فلا وقال في رواية محمد بن يحيى الكحال في الرجل تكون له امرأة أو أمة نصرانية تقول اشتر لي زنارا فلا يشترى لها تخرج هي تشتري فقيل له جاريته تعمل الزنانير قال لا قال القاضي أما قوله لا يشتري هو الزنار لأنه يراد لإظهار شعائر الكفر فلذلك منعه من شرائه وأن يمكن جاريته من عمله لأن العوض الذي يحصل لها صائر إليه وملك له وقد منع من بيع ثياب الحرير من الرجال إذا علم أنهم يلبسونها وكذلك بيع العصير لمن يتخذه خمرا انتهى وليس له منعها من صيامها الذي تعتقد وجوبه وإن فوت عليه الاستمتاع في وقته ولا من صلاتها في بيته إلى الشرق وقد مكن النبي وفد نصارى نجران من صلاتهم في مسجده إلى قبلتهم وليس له إلزام اليهودية إذا حاضت بمضاجعته والاستمتاع بما دون الفرج هذا قياس المذهب وليس له حملها على كسر السبت ونحوه مما هو واجب في دينهم وقد أقررناهم عليه وليس له حملها على أكل الشحوم واللحوم المحرمة عليهم وهل له منعها من أكل لحم الخنزير يحتمل وجهين وهل له منعها من الخلوة بابنها وأبيها وأخيها فإن كانت مجوسية فله ذلك لأنهم يعتقدون حلها لهم فليسوا بذوي محرم وإن كانت يهودية أو نصرانية فليس له منعها من ذلك إذا كانوا مأمونين عليها وإن كان له منعها من السفر معهم كما تقدم نصه وذكرنا الفرق بين الموضعين وليس له منعها من قراءة كتابها إذا لم ترفع صوتها به فإن أرادت أن تصوم معه رمضان فهل له منعها من ذلك يحتمل وجهين أحدهما له ذلك لأنه لا يجب عليها وله منعها منه كما له منع المسلمة من صوم التطوع ترفيها لها والثاني ليس له ذلك لأنه لا حق له في الاستمتاع بها في نهار رمضان وإذا لم يكن له منعها من الصوم المنسوخ الباطل فأن لا يمنعها من صوم رمضان أولى وأحرى وقد يقال الفرق بينهما أنها تعتقد وجوب صيام دينها عليها وقد أقررناهم على ذلك فليس لنا أن نمنعهم منه بخلاف ما لا يعتقدون وجوبه ذكر أحكام مواريثهم بعضهم من بعض وهل يجري التوارث بين المسلمين وبينهم والخلاف في ذلك وحجة كل قول قال الله تعالى والذين كفروا بعضهم أولياء بعض وقال ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون وصح عن النبي أنه قال لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم وأنه قال لا يتوارث أهل ملتين شتى واتفق المسلمون على أن أهل الدين الواحد يتوارثون يرث اليهودي اليهودي والنصراني النصراني وقال النبي وهل ترك لنا عقيل من رباع وكان عقيل ورث أبا طالب دون علي وجعفر لأنه كان على دينه مقيما بمكة فورث رباعه بمكة وباعها فقيل للنبي يوم الفتح أين تنزل غدا في دارك بمكة فقال وهل ترك لنا عقيل من رباع وقال عمر في عمة الأشعث بن قيس لما ماتت يرثها أهل دينها ويتوارثون وإن اختلفت ديارهم فيرث الحربي المستأمن والذمي ويرثانه قال أحمد في رواية الأثرم فيمن دخل إلينا بأمان فقتل إنه يبعث بديته إلى ملكهم حتى يدفعها إلى ورثته وفي المسند وغيره أن عمرو بن أمية الضمري كان مع أهل بئر معونة فلما قتلوا أسلم هو ورجع إلى المدينة فوجد في طريقه رجلين من الحي الذين قتلوهم وكان معهما عهد من النبي وأمان فلم يعلم به عمرو فقتلهما فوداهما النبي ولا ريب أنه بعث بديتهما إلى أهلهما وهذا اختيار الشيخين أبي محمد وأبي البركات واحتج من نصر هذا القول بالعمومات المقتضية لتوريث الملة الواحدة بعضهم من بعض من غير تخصيص قالوا ومفهوم قوله لا يتوارث أهل ملتين يقتضي توارث أهل الملة وإن اختلفت ديارهم ولأن مقتضى التوريث قائم وهو القرابة فيعمل عمله ما لم يمنع منه مانع وقال القاضي وأصحابه لا يرث حربي ذميا ولا ذمي حربيا لأن الموالاة بينهما منقطعة وهي سبب التوارث فأما المستأمن فيرثه أهل الحرب وأهل الذمة وقال أبو حنيفة المستأمن لا يرثه الذمي لاختلاف دارهما ويرث أهل الحرب بعضهم بعضا سواء اتفقت ديارهم أو اختلفت وهذا مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة إذا اختلفت ديارهم بحيث كان لكل طائفة ملك ويرى بعضهم قتل بعض لم يتوارثوا لأنهم لا موالاة بينهم فجعلوا اتفاق الدار واختلافها ضابط التوارث وعدمه وهذا أصل لهم في اختلاف الدار انفردوا به قال في المغني ولا نعلم لهذا حجة من كتاب ولا سنة مع مخالفته لعموم السنن المقتضي للتوريث ولم يعتبروا الدين في اتفاقه ولا اختلافه مع ورود الخبر فيه وصحة العبرة به فإن المسلمين يرث بعضهم بعضا وإن اختلفت الدار بهم وكذلك الكفار ولا يرث المسلم كافرا ولا كافر مسلما لاختلاف الدين وإن اتحدت داراهما يعني اختلاف الدار ملغى في الشرع واختلاف الدين هو المعتبر 163 – فصل توارث أهل ملتين فإن اختلفت أديانهم فقد اختلف العلماء هل يتوارثون أم لا فقال الخلال في الجامع باب قوله لا يتوارث أهل ملتين أخبرني الميموني أن أبا عبدالله قال أما الأحاديث عن النبي أنه لا يرث مسلم كافرا فإنما عمرو بن شعيب فقط يرويه لا يتوارث أهل ملتين قال واحتج قوم في الملتين قالوا وإن كانوا أهل كتاب وهي ملل مختلفة أحكامهم لهؤلاء حكم ولهؤلاء حكم فلم يورثوا بعضهم من بعض قال الميموني ورأيت أكثر مذهبه أنه لا يورث بعضهم من بعض ثم ذكر عن إسحاق بن منصور أنه قال لأبي عبدالله لا يتوارث أهل ملتين شتى لا يرث اليهودي النصراني قال لا يرث هما ملتان مختلفتان ثم ذكر من مسائل الحسن بن ثواب قال سئل أبو عبدالله وأنا أسمع هل يرث المسلم الكافر قال لا يتوارث أهل ملتين أخبرني حرب أنه قال لأبي عبدالله واليهودي يرث النصراني فرخص في ذلك قال أبو بكر الخلال لا يتوارث أهل ملتين فحكى الميموني عن أبي عبدالله واحتجاجه أنه قال بتوريثهم قال وهذا كلام غير محكم إنما هو شيء ظنه عن أبي عبدالله والحسن بن ثواب قال عنه لا يتوارث أهل ملتين وأما حرب فقد قال إني قلت له لا يتوارث أهل ملتين قال لا يرث المسلم الكافر وحكى إسحاق بن منصور أنه لا يورثهم وهو قديم السماع وحكى حرب أنه يورث بعضهم من بعض ولا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم وهذا الذي اختاره الخلال هو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأهل الظاهر واختار أبو بكر عبدالعزيز الرواية الأخرى وأن الكفر ملل مختلفة لا يرث بعضهم بعضا وهو الذي نصره القاضي واختاره في تعليقه وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى وهو قول كثير من أهل العلم وقول أهل المدينة مالك وأصحابه لقوله لا يتوارث أهل ملتين شتى ولأنهم لا يتناصرون ولا يتعاقلون ولا يوالي بعضهم بعضا قال الشيخ في المغني ولم يسمع عن أحمد تصريح بذكر أقسام الملل قال القاضي الكفر ثلاث ملل اليهودية والنصرانية ودين من عداهم لأن من عداهم يجمعهم أنهم لا كتاب لهم وهذا قول شريح وعطاء وعمر ابن عبدالعزيز والثوري والليث وشريك والحكم ومغيرة الضبي وابن أبي ليلى والحسن بن صالح ووكيع قال الشيخ ويحتمل كلام أحمد أن الكفر ملل كثيرة فتكون المجوسية ملة وعباد الأوثان ملة وعباد الشمس ملة فلا يرث بعضهم بعضا روي ذلك عن علي وبه قال الزهري وربيعة وبعض فقهاء المدينة وأهل البصرة وإسحاق قال الشيخ في المغني وهو أصح الأقوال إن شاء الله تعالى لقول النبي لا يتوارث أهل ملتين شيئا ولأن كل فريقين منهم لا موالاة بينهم ولا اتفاق في دين فلم يرث بعضهم بعضا كالمسلمين والكفار والعمومات في التوريث مخصوصة فيخص منها محل النزاع بالخبر والقياس ولأن مخالفينا قطعوا التوريث بين أهل الحرب وأهل دار الإسلام مع اتفاقهم في الملة لانقطاع الموالاة فمع اختلاف الملة أولى وقول من خص الملة بعدم الكتاب غير صحيح فإن هذا وصف عدمي لا يقتضي حكما ولا جمعا ثم لا بد لهذا الضابط من دليل يدل على اعتباره ثم قد افترق حكمهم فإن المجوس يقرون بالجزية وغيرهم لا يقر بها وهم مختلفون في معبوداتهم ومعتقداتهم وآرائهم يستحل بعضهم دماء بعض ويكفر بعضهم بعضا فكانوا مللا كاليهود والنصارى وقد روي ذلك عن علي فإن إسماعيل بن أبي خالد روى عن الشعبي عن علي أنه جعل الكفر مللا مختلفة ولم يعرف له من الصحابة مخالف فكان إجماعا واحتج القاضي على ذلك بقوله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا فأثبت لكل شريعة دينا وقال تعالى ملة أبيكم إبراهيم واتبع ملة إبراهيم فلو كان من خالف دين النبي أهل ملة واحدة لم يخص إبراهيم بملة وقال النبي لا يقبل شهادة ملة على ملة إلا ملة الإسلام هذا يقتضي أن هناك مللا غير ملة الإسلام ولأن أحكامهم مختلفة بدليل أن المجوس لا تؤكل ذبيحتهم ولا تنكح نساؤهم ولا كتاب لهم واليهود والنصارى بخلاف ذلك ولأنهم مختلفون في النبي والكتاب كاختلاف المسلمين والكفار 164 – فصل في ذكر أحاديث هذا الباب وعللها قال الإمام أحمد ثنا سفيان عن يعقوب بن عطاء عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله قال لا يتوارث أهل ملتين شتى يعقوب هذا ليس بالقوي وقال الترمذي حدثنا حميد بن مسعدة ثنا حصين بن نمير عن ابن أبي ليلى عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه عن النبي قال لا يتوارث أهل ملتين قال الترمذي لا يعرف إلا من حديث ابن أبي ليلى وفيه ضعف وقال الدارقطني حدثنا أحمد بن محمد ثنا علي بن حرب ثنا الحسن بن محمد ثنا عمر بن راشد عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال لا يرث أهل ملة ملة وحدثنا أبو بكر النيسابوري ثنا بحر بن نصر ثنا ابن وهب أخبرني يونس قال أخبرني ابن شهاب عن علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن النبي قال لا يرث الكافر المسلم ولا يرث المسلم الكافر وذكر القاضي في التعليق حديثين لا أعرف حالهما أحدهما عن أبي هريرة قال قال رسول الله لا يرث أهل ملة ملة ولا تجوز شهادة ملة على ملة إلا أمتي تجوز شهادتهم على من سواهم قال رواه أبو بكر في أدب القضاء بإسناده الثاني قال وقال رسول الله لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر ولا يتوارث أهل ملتين وهذا السياق إن صح فهو ظاهر جدا وصريح في المسألة وأظنه جمع الحديثين في سياق واحد والله أعلم قال الذين جعلوا الكفر ملة واحدة قال الله عز و جل ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم وقال تعالى قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين فجعل لهم دينا واحدا كما جعل لليهود والنصارى ملة واحدة وقال النبي الناس حيز وأنا وأصحابي حيز والله تعالى قسم خلقه إلى كفار ومؤمنين فهؤلاء سعداء وهؤلاء أشقياء والكفر وإن اختلفت شعبه فيجمعه خصلتان الأولى تكذيب الرسول في خبره والثانية عدم الانقياد لأمره كما أن الإيمان يرجع إلى أصلين الأولى طاعة الرسول فيما أمر والثانية تصديقه بما أخبر قال الآخرون اشتراكهم في الكفر العام لا يوجب تساويهم في ملله فإنهم كلهم يشتركون في الجحيم على اختلاف مراتبهم في الكفر وقوله تعالى حتى تتبع ملتهم لا يدل على أن ملة اليهود هي ملة النصارى بل إضافة الملة إلى جميعهم لا يقتضي اشتراكهم في عين الملة وكذلك قوله لكم دينكم ولي دين لا يقتضي اشتراكهم في دين واحد بحيث يدين هؤلاء بعين ما يدين به هؤلاء بل المعنى لكل منكم دينه وملته والله سبحانه يذكر الحق والهدى والإسلام ويجعله واحدا ويذكر الباطل والضلال والكفر ويجعله متعددا قال تعالى وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله وقال تعالى الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات وقال تعالى وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه خط رسول الله خطا وقال هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال هذه سبل على كل سبيل شيطان يدعو إليه ثم قرأ قوله وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون 165 – فصل لا يرث الكافر المسلم بلا خلاف وأما توريث الكافر من المسلم فلم يختلف فيه أحد من الفقهاء أنه لا يرثه ولكن تنازعوا في مسألة وهي أن يسلم الكافر بعد موت قريبه المسلم وقبل قسم تركته فيسلم بين الموت وقسم التركة وفي ذلك روايتان عن الإمام أحمد إحداهما أنه يرثه نقلها عنه الأثرم وابن منصور وبكر بن محمد عن أبيه وهي اختيار الخرقي وبها قال الحسن وجابر بن زيد ونقل أبو طالب عنه لا يرث وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي قال الخلال في الجامع باب من أسلم على ميراث قبل أن يقسم أخبرني حرب قال سألت أحمد عمن أسلم على ميراث قبل أن يقسم قال دع هذه المسألة لا أقول فيها شيئا أخبرني محمد بن علي حدثنا حنبل قال قال أبو عبدالله من أسلم على ميراث قبل أن يقسم يورث من ذلك الميراث أخبرني محمد بن علي حدثنا الأثرم قال مذهب أبي عبدالله أنه من أسلم على ميراث قبل أن يقسم أنه يورث حدثنا إسحاق أنه قال لأبي عبدالله إن من أسلم على ميراث قبل أن يقسم قال يقسم له ما لم يقسم الميراث أخبرني محمد بن علي حدثنا صالح أنه قال لأبيه الرجل يسلم على ميراث هل يرث قال يروى عن عمر وعثمان أنهما كانا يورثانه وقال سعيد بن المسيب يورث المواريث أخبرني الميموني أنه سأل أبا عبدالله من أسلم على ميراث قال مسألة مشتبهة من يحتج فيها يقول الكفن من جميع المال ثم الوصية ثم الميراث ويحتج فيها بقول من قال الحامل المتوفى عنها زوجها نفقتها من جميع المال هذه حجة لمن ورثه يحتج بعد الموت بهذه الأشياء يقول أليس إنما وجبت الوصية والكفن بعد الموت فإسلام هذا أكبر إذا أسلم قبل أن يقسم قال الخلال ومذهب أبي عبدالله في مسألة عبدالملك أيضا أنه يرث إذا أسلم على ميراث قبل أن يقسم لأنه يذهب إلى هذه الأشياء التي احتج بها من الكفن والوصية وغير ذلك أخبرني عبدالله بن محمد حدثنا بكر بن محمد عن أبيه عن أبي عبدالله وسأله عمن أسلم على ميراث قبل أن يقسم فله الميراث قال فإذا أعتق العبد على ميراث لم يقسم له ثم ذكر من مسائل إسحاق بن إبراهيم قال سئل أبو عبدالله عن أقوام نصارى أوقفوا على البيعة ضياعا كثيرة فمات النصارى ولهم أبناء نصارى ثم أسلم بعد ذلك الأبناء والضياع بيد النصارى ألهم أن يأخذوها من أيدي النصارى قال أبو عبدالله نعم يأخذونها من أيديهم وللمسلمين أن يعينوهم حتى يستخرجوها من أيديهم فهذا مجموع ما ذكره الخلال من نصوص أحمد ولم أجد عنه نصا أنه لا يرث غير توقفه في رواية حرب فكأنهم جعلوا توقفه على روايتين وعموم أجوبته يقتضي التسوية بين الزوجة وغيرها وقد فصل فقال الزوجة لا ترث قولا واحدا والخلاف في غيرها ونازعه في ذلك القاضي وأصحابه قال المورثون قال أبو داود حدثنا حجاج بن أبي يعقوب ثنا موسى بن داود ثنا محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال النبي كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم وكل قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام فهذا الحديث رواه أبو الشعثاء وتأوله على عمومه وذهب إليه وهذا قسم أدركه الإسلام فيقسم على حكمه وقال أبو عبدالله بن ماجه في سننه حدثنا محمد بن رمح حدثنا عبدالله بن لهيعة عن عقيل أنه سمع نافعا يخبر عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال ما كان من ميراث قسم في الجاهلية فهو على قسمة الجاهلية وما كان من ميراث أدركه الإسلام فهو على قسمة الإسلام وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن عمرو بن أبي حكيم عن عبدالله بن بريدة عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود الديلي قال كان معاذ باليمن فارتفعوا إليه في يهودي مات وترك أخاه مسلما فقال معاذ إني سمعت رسول الله يقول إن الإسلام يزيد ولا ينقص فورثه وقال سعيد بن منصور حدثنا عبدالله بن المبارك عن حيوة بن شريح عن محمد بن عبدالرحمن بن نوفل عن عروة بن الزبير قال قال رسول الله من أسلم على شيء فهو له وهذا قد أسلم على ميراث قبل أن يقسم فيكون له قالوا وهذا اتفاق من الصحابة فذكر النجاد أن يزيد بن قتادة ماتت أمه فأسلم بعض أولادها فرفع ذلك إلى عثمان فسأل عن ذلك أصحاب النبي فقالوا يرثون ما لم يقسم وذكر ابن اللبان عن أبي قلابة عن حسان بن بلال المزني أن يزيد ابن قتادة العنزي حدث أن إنسانا من أهله مات وهو على غير دين الإسلام فورثته أختي وكانت على دينه قال ثم إن أبي أسلم وشهد مع رسول الله خيبر فتوفي فلبثت سنة وكان ترك نخلا ثم إن أختي أسلمت فخاصمتني في الميراث إلى عثمان فحدثه عبدالله بن أرقم أن عمر قضى أنه من أسلم على ميراث قبل أن يقسم فله نصيبه فقضى به عثمان فذهبت بذلك الأول وشاركتني في هذا وروى ابن اللبان أيضا عن ابن سيرين عن ابن مسعود له ميراثه فإن قيل فقد روي عن علي أنه لم يورث من أسلم وأعتق على ميراث قلنا فقد روى ابن اللبان عن الحسن عن علي رضي الله عنه قال إذا أسلم النصراني قبل أن يقسم الميراث فإنه يرث وإذا اختلفت الرواية عنه فإما أن تتعارضا وتتساقطا وإما أن يكون الأخذ برواية التوريث أولى لأنه يوافق قول غيره من الصحابة فإن قيل يحتمل أن يكون قوله من أسلم على ميراث قبل أن يقسم معناه من أسلم عند حضرة الموت لموروثه قبل أن يموت ويقسم ميراثه قيل هذا فاسد من وجوه أحدها أن سياق الآثار التي ذكرناها صريح في أن إسلامه كان بعد الموت لا قبله الثاني أنه علق الاستحقاق بالقسمة فقال من أسلم على ميراث قبل أن يقسم ولم يقل قبل أن يموت الموروث ولا يصلح أن يكون معنى قبل أن يقسم هو معنى قبل أن يموت موروثه والتأويل إذا خرج إلى هذا الحد فحش جدا الثالث أنه ليس في هذا كبير فائدة أن يقال من أسلم قبل موت موروثه ورثه فهذا أمر لا يخفى على أحد حتى يحتاج إلى بيان ولا يمتنع أن يوجد الاستحقاق بعد الموت ويكون في حكمه قبله كما قلتم فيمن حفر بئرا ومات ثم وقع فيها إنسان فإن الضمان متعلق بتركته كما لو وجد الوقوع في حال حياته فالحفر سبب الضمان وجد في حال الحياة والوقوع شرط في الضمان وجد بعد الموت والنسب سبب الإرث وجد قبل الموت والإسلام شرط في استحقاقه وجد بعد الموت فلا فرق بينهما ولأن لعدم القسمة تأثيرا في الاستحقاق بدليل أن الكفار إذا ظهروا على أموال المسلمين ثم ظهر عليها المسلمون قبل القسمة كان صاحبه أحق به وبعد القسمة لا حق له فيه يبين هذا أن المال قبل القسمة لا تتعين حقوق الورثة فيه حتى تستقر الوصية إن كانت إما بقبول أو رد فتتعين بالقسمة وأيضا فقد قال المنازعون لنا إن ما ينتقل إلى بيت المال عن ميت لا وارث له ينتقل إرثا فلو أسلم رجل بعد انتقال المال عن ميت إلى بيت المال استحق جزءا منه كما لو كان مسلما قبل الانتقال كذلك ههنا وهذا من فقه الصحابة رضي الله عنهم الذي عجز عنه كثير ممن بعدهم فإنهم أجروا حالة الموت قبل القسمة مجرى ما قبل الموت فإن التركة لم يقع عليها استيلاء الورثة وحوزهم وتصرفهم فكأنها في يد الميت حكما فهي ما بين الموت والقسمة لها حالة وسط فألحقت بما قبل الموت وكان أولى استصحابا لحال بقائها وأيضا فإن التركة قبل القسمة على ملك الميت فلو زادت ونمت وفيت ديونه من الزيادة ولو نصب مناجل وشبكة قبل الموت فوقع فيها صيد بعده وقبل القسمة كان على ملكه فتوفى منه ديونه وتنفذ منه وصاياه وأيضا فإن توريث المسلم قبل القسمة مما يرغب في الإسلام ويزيد فيه ويدعو إليه فلو لم يكن فيه إلا مجرد الاستحسان لكان ذلك من محاسن الشريعة وكمالها ألا يحرم ولد رجل ميراثه بمانع قد زال فعل المقتضي عمله فإن النسب هو مقتض للميراث ولكن عاقبه الشارع بالحرمان على كفره فإذا أسلم لم يبق محلا للعقوبة بل صار بالثواب أولى منه بالعقاب يوضحه أن زوال المانع قبل القسمة يجعله في حكم ما لم يكن أصلا فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له والنازع عن الكفر كمن لم يكفر فلا معنى لحرمانه وقد أكرمه الله بالإسلام ومال موروثه لم يتعين بعد لغيره بل هو في حكم الباقي على ملكه من وجه وفي حكم الزائل من وجه يوضحه أنه إذا أسلم قبل القسمة وقبل حيازة بيت المال التركة ساوى المسلمين في الإسلام وامتاز عنهم بقرابة الميت فكان أحق بماله وهذه المسألة مما برز به الإمام أحمد ومن قال بقوله وهي من محاسن الشريعة وعند أحمد فيها من الآثار عن الصحابة ما لم يبلغ غيره قال المانعون من التوريث التركة تنتقل بالموت إلى ملك الورثة ويستقر ملكهم عليها فيجب ألا يزول ملكهم عنها بالإسلام كما لا يزول بحدوث وارث آخر وهو أن يموت ويخلف أما وأختا فتتعلق الأم بولد آخر فإنه لا يرث لحدوثه بعد الحكم بالميراث للموجود قالوا ولأن من لم يكن وارثا عند الموت لم يصر وارثا بعده لأن فيه صيرورته وارثا بعد موت مورثه وهذا لا يعقل قالوا ولأنه لا يصير وارثا بعد القسمة فكذلك قبلها قالوا ولأنه لو عتق بعد الموت وقبل القسمة لم يرث كذلك ههنا ولا فرق بين الصورتين قال المورثون إنما حكمنا بالملك للموجودين من الورثة في الظاهر ملكا مراعى كما حكمنا بالملك لهم إذا كان الوارث قد حفر بئرا ونصب سكينا فإنا نحكم به في الظاهر فلو وقع في البئر إنسان بعد ذلك فإنه يرجع عليهم بالأرش وتبينا أن ذلك الحكم لم يكن صحيحا كذلك ههنا ويفارق هذا إذا حدث له وارث بعد ذلك لأن سبب الإرث لم يكن موجودا حال الموت والسبب ههنا موجود وهو النسب فجاز أن يرث بعد الموت والإسلام يبين صحة هذا أنه لو حفر العبد بئرا في حياة السيد ومات السيد فوقع فيها إنسان بعد موته تعلق الضمان بتركته ولو حفرها العبد بعد موت السيد ووقع فيها إنسان لم يتعلق بتركته وإن كان العبد مضافا إليه في الحالين وكان الفرق بينهما ما ذكرنا ولأنهم قد قالوا لو أعتق المسلم عبدا نصرانيا كان ميراثه مراعى فإن أسلم قبل موته ورثه بالولاء وإن مات قبل أن يسلم لم يرثه وهذا إلزام جيد لأنهم جعلوا الميراث مراعى على ما يحدث بعد العتق وأما إلزامهم في مسألة العبد إذا عتق بعد الموت وقبل القسمة فإلزام قوي جدا وقد نص أحمد على أنه لا يرث مفرقا بينهما وبين مسألة إسلام الكافر في جواب واحد ولكن قد سوى بينهما في الميراث الحسن وأبو الشعثاء حكاه ابن المنذر عنهما فالمسألتان من مسائل النزاع وفيهما ثلاثة أقوال أحدها عدم الميراث في المسألتين وهو قول الشافعي وأبي حنيفة ومالك والثاني ثبوت التوارث في المسألتين وهو قول الحسن وجابر بن زيد والثالث ثبوت التوارث في مسألة الكافر إذا أسلم دون العبد إذا عتق وهو مذهب الإمام أحمد ومن وافقه وفرق أصحاب هذا القول بين المسألتين بأن الكافر أقوى سببا من العبد لأن الكافر في حال كفره على صفة من يرث كافرا مثله ويعقل وينصر والعبد ليس على صفة من يرث ولا يعقل ولا ينصر فضعف في بابه بهذا فرق القاضي وجمهور أصحابه وفرق غيره بأن الكافر حر فمعه مقتضي الميراث والكفر مانع بخلاف العبد فإنه ليس معه مقتضي الميراث وليس بأهل فبالعتق تجدد المقتضي وبالإسلام زال المانع وفرق آخرون بأن الصحابة حكموا بتوريث الكافر يسلم دون العبد يعتق ويكفي تفريقهم عن تكلف طلب الفرق وفرق آخرون بأن الإسلام وجد من جهته فهو ممدوح عليه ومثاب عليه والعتق وجد من غير جهته فلا منة له فيه ولا ثواب وإنما هو لسيده فجاز أن يستحق بما يمدح عليه عوضا يكون ترغيبا له في الإسلام فإن قيل فما تقولون في الزوجة تسلم قبل قسمة الميراث قيل قد ذكر أبو بكر في كتاب الطلاق هذه المسألة فقال إذا أسلم على ميراث قبل أن يقسم كان داخلا في الميراث في أحد القولين والقول الآخر لا يرث وأما الزوجة فخارجة عن الميراث في القولين جميعا قال القاضي وظاهر كلام أحمد والخرقي أنها ترث وهو الصحيح عندي لأن المانع من الميراث إذا كان لاختلاف الدين فإذا زال قبل القسمة لم يمنع الإرث كالنسب ووجه قول أبي بكر أن إرث الزوجة بعقد النكاح على صفة وهي الاتفاق في الدين وبالموت قد زال العقد فإذا وجد الاتفاق بعد ذلك لم يؤثر كعدم العقد وليس كذلك النسب لأنه يورث به على صفة وبالموت لم يزل النسب فإذا وجد الاتفاق في الدين صادف سببا ثابتا فلهذا ورث يبين صحة هذا ما قلناه في المولى المناسب إذا فسق سقطت ولايته فإذا صار عدلا عادت ولايته لأن النسب باق لم يزل ولو استفاد الولاية بالحكم وفسق الحاكم سقطت ولايته فإن صار عدلا في الثاني لم تعد ولايته لأنها إنما استفادها بالعقد والعقد قد بطل فلم يؤثر وجود العدالة في الثاني وأجاب آخرون بالجواب المركب وهو إن لم يكن بين الصورتين فرق في مسألة العبد والزوجة والكافر فالصواب التسوية وإن كان بينهما فرق بطل الإلزام والله أعلم 166 – فصل ذكر الخلاف في توريث المسلم من الكافر وأما توريث المسلم من الكافر فاختلف فيه السلف فذهب كثير منهم إلى أنه لا يرث كما لا يرث الكافر المسلم وهذا هو المعروف عند الأئمة الأربعة وأتباعهم وقالت طائفة منهم بل يرث المسلم الكافر دون العكس وهذا قول معاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان ومحمد بن الحنفية ومحمد بن علي بن الحسين وسعيد بن المسيب ومسروق بن الأجدع وعبدالله بن مغفل ويحيى بن يعمر وإسحاق بن راهويه وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية قالوا نرثهم ولا يرثوننا كما ننكح نساءهم ولا ينكحون نساءنا والذين منعوا الميراث عمدتهم الحديث المتفق عليه لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم وهو عمدة من منع ميراث المنافق الزنديق وميراث المرتد قال شيخنا وقد ثبت بالسنة المتواترة أن النبي كان يجري الزنادقة المنافقين في الأحكام الظاهرة مجرى المسلمين فيرثون ويورثون وقد مات عبدالله بن أبي وغيره ممن شهد القرآن بنفاقهم ونهي الرسول عن الصلاة عليه والاستغفار له وورثهم ورثتهم المؤمنون كما ورث عبدالله بن أبي ابنه ولم يأخذ النبي من تركة أحد من المنافقين شيئا ولا جعل شيئا من ذلك فيئا بل أعطاه لورثتهم وهذا أمر معلوم بيقين فعلم أن الميراث مداره على النصرة الظاهرة لا على إيمان القلوب والموالاة الباطنة والمنافقون في الظاهر ينصرون المسلمين على أعدائهم وإن كانوا من وجه آخر يفعلون خلاف ذلك فالميراث مبناه على الأمور الظاهرة لا على إيمان القلوب والموالاة الباطنة والمنافقون في الظاهر ينصرون المسلمين على أعدائهم وإن كانوا من وجه آخر يفعلون خلاف ذلك فالميراث مبناه على الأمور الظاهرة لا على ما في القلوب وأما المرتد فالمعروف عن الصحابة مثل علي وابن مسعود أن ماله لورثته من المسلمين أيضا ولم يدخلوه في قوله لا يرث المسلم الكافر وهذا هو الصحيح وأما أهل الذمة فمن قال بقول معاذ ومعاوية ومن وافقهما يقول قول النبي لا يرث المسلم الكافر المراد به الحربي لا المنافق ولا المرتد ولا الذمي فإن لفظ الكافر وإن كان قد يعم كل كافر فقد يأتي لفظه والمراد به بعض أنواع الكفار كقوله تعالى إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا فهنا لم يدخل المنافقون في لفظ الكافرين وكذلك المرتد فالفقهاء لا يدخلونه في لفظ الكافر عند الإطلاق ولهذا يقولون إذا أسلم الكافر لم يقض ما فاته من الصلاة وإذا أسلم المرتد ففيه قولان وقد حمل طائفة من العلماء قول النبي لا يقتل مسلم بكافر على الحربي دون الذمي ولا ريب أن حمل قوله لا يرث المسلم الكافر على الحربي أولى وأقرب محملا فإن في توريث المسلمين منهم ترغيبا في الإسلام لمن أراد الدخول فيه من أهل الذمة فإن كثيرا منهم يمنعهم من الدخول في الإسلام خوف أن يموت أقاربهم ولهم أموال فلا يرثون منهم شيئا وقد سمعنا ذلك منهم من غير واحد منهم شفاها فإذا علم أن إسلامه لا يسقط ميراثه ضعف المانع من الإسلام وصارت رغبته فيه قوية وهذا وحده كاف في التخصيص وهم يخصون العموم بما هو دون ذلك بكثير فإن هذه مصلحة ظاهرة يشهد لها الشرع بالاعتبار في كثير من تصرفاته وقد تكون مصلحتها أعظم من مصلحة نكاح نسائهم وليس في هذا ما يخالف الأصول فإن أهل الذمة إنما ينصرهم ويقاتل عنهم المسلمون ويفتدون أسراهم والميراث يستحق بالنصرة فيرثهم المسلمون وهم لا ينصرون المسلمين فلا يرثونهم فإن أصل الميراث ليس هو بموالاة القلوب ولو كان هذا معتبرا فيه كان المنافقون لا يرثون ولا يورثون وقد مضت السنة بأنهم يرثون ويورثون وأما المرتد فيرثه المسلمون وأما هو فإن مات له ميت مسلم في زمن الردة ومات مرتدا لم يرثه لأنه لم يكن ناصرا له وإن عاد إلى الإسلام قبل قسمة الميراث فهذا فيه نزاع بين الناس وظاهر مذهب أحمد أن الكافر الأصلي والمرتد إذا أسلما قبل قسمة الميراث ورثا كما هو مذهب جماعة من الصحابة والتابعين وهذا يؤيد هذا الأصل فإن هذا فيه ترغيب في الإسلام وقد نقل عن علي في الرقيق إذا كان ابنا للميت أنه يشترى من التركة ويرث قال شيخنا ومما يؤيد القول بأن المسلم يرث الذمي ولا يرثه الذمي أن الاعتبار في الإرث بالمناصرة والمانع هو المحاربة ولهذا قال أكثر الفقهاء إن الذمي لا يرث الحربي وقد قال تعالى في الدية فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة فالمقتول إن كان مسلما فديته لأهله وإن كان من أهل الميثاق فديته لأهله وإن كان من قوم عدو للمسلمين فلا دية له لأن أهله عدو للمسلمين وليسوا بمعاهدين فلا يعطون ديته ولو كانوا معاهدين لأعطوا الدية ولهذا لا يرث هؤلاء المسلمين فإنهم ليس بينهم وبينهم إيمان ولا أمان ولهذا لما مات أبو طالب ورثه عقيل دون علي وجعفر مع أن هذا كان في أول الإسلام وقد ثبت في الصحيح أنه قيل له في حجة الوداع ألا تنزل في دارك فقال وهل ترك لنا عقيل من رباع وذلك لاستيلاء عقيل على رباع بني هاشم لما هاجر النبي ليس هو لأجل ميراثه فإنه أخذ دار النبي التي كانت له التي ورثها من أبيه وداره التي كانت لخديجة وغير ذلك مما لم يكن لأبي طالب فاستولى على رباع بني هاشم بغير طريق الإرث بل كما استولى سائر المشركين على ديار المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم كما استولى أبو سفيان بن حرب على دار أبي أحمد بن جحش وكانت دارا عظيمة فكان المشركون لما هاجر المسلمون من كان له قريب أو حليف استولى على ماله ثم لما أسلموا قال النبي من أسلم على شيء فهو له ولم يرد إلى الماجرين دورهم التي أخذت منهم بل قال هذه أخذت في الله أجورهم فيها على الله وقال لابن جحش ألا ترضى أن يكون لك مثلها في الجنة وكان المسلمون ينتظرون ما يأمر به في دار ابن جحش فإن ردها عليه طلبوا هم أن يرد عليهم فارسل إليه مع عثمان هذه الرسالة فسكت وسكت المسلمون وهذا كان عام الفتح فلما دخل مكة في حجة الوداع قيل له ألا تنزل في دارك فقال وهل ترك لنا عقيل من دار قال الشيخ وهذا الحديث قد استدل به طوائف من مسائل المسألة الأولى فالشافعي احتج به على جواز بيع رباع مكة وليس في الحديث أنه باعها قلت الشافعي إنما احتج بإضافة الدار إليه بقوله في دارك وأردفه بقوله تعالى وأخرجوا من ديارهم والمنازعون له يقولون الإضافة قد تصح بأدنى ملابسة فهي إضافة اختصاص لا إضافة ملك لأن الله سبحانه جعل الناس في الحرم سواء العاكف فيه والباد المسألة الثانية المنع من توريث المسلم من الكافر فإنه قد روي أنه قاله عقيب هذا القول وكان قد استولى على بعضها بطريق الإرث من أبي طالب وعلى بعضها بطريق القهر والغلبة والظاهر أنه استولى على نفس ملك النبي وداره التي هي له فإنه قيل له ألا تنزل في دارك فقال وهل ترك لنا عقيل من دار يقول هو أخذ داري ودار غيري من بني هاشم وكان عقيل لم يسلم بعد بل كان على دين قومه وكان حمزة وعبيدة بن الحارث وعلي وغيرهم قد هاجروا إلى المدينة مع النبي وجعفر هاجر إلى الحبشة فاستولى عقيل على رباع النبي وعلى رباع آل أبي طالب وأما رباع العباس فالعباس كان مستوليا عليها وكذلك الحارث بن عبدالمطلب كان بمكة ابنه أبو سفيان وابنه ربيعة وأما أبو طالب فلم يبق له لمكة إلا عقيل والنبي لم يكن له أخ فاستولى عقيل على هذا وهذا فلهذا قال وهل ترك لنا عقيل من رباع وإلا فبأي طريق يأخذ ملك النبي وهو حي ولم يكن هو وارثه لو كان يورث فتبين بهذا أن الكفار المحاربين إذا استولوا على أموال المسلمين ثم أسلموا كانت لهم ولم ترد إلى المسلمين لأنها أخذت في الله وأجورهم فيها على الله لما أتلفه الكفار من دمائهم وأموالهم فالشهداء لا يضمنون ولو أسلم قاتل الشهيد لم يجب عليه دية ولا كفارة بالسنة المتواترة واتفاق المسلمين وقد أسلم جماعة على عهد النبي وقد عرف من قتلوه مثل وحشي بن حرب قاتل حمزة ومثل قاتل النعمان بن قوقل وغيرهما فلم يطلب النبي أحدا بشيء عملا بقوله قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وكذلك المرتدون قد أسلم طليحة الأسدي بعد ردته وقد قتل عكاشة بن محصن فلم يضمنه أبو بكر وعمر وسائر الصحابة لا دية ولا كفارة وكذلك سائر من قتله المرتدون والمحاربون لما عادوا إلى الإسلام لم يضمنهم المسلمون شيئا من ذلك وهذا فيه نزاع في مذهب الشافعي وأحمد وطائفة من أصحابهما ينصرون الضمان وكثير من متأخري أصحاب أحمد يظن أن هذا هو ظاهر مذهبه وأن عدم الضمان هو قول أبي بكر عبدالعزيز ولم يعلم أن أحمد نص على قول أبي بكر وأن أهل الردة والمحاربين لا يضمنون ما أتلفوه من النفوس والأموال كأهل الحرب الكفار الأصليين فإن فيهن نزاعا في مذهب الشافعي وأحمد والصواب فيهم الذي عليه الجمهور وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهما وكذلك البغاة المتأولون من أهل القبلة كالمقتتلين بالجمل وصفين لا يضمنون ما أتلفه بعضهم على بعض في القتال وهذا هو المنصور عند أصحاب أحمد قال الزهري وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله متوافرون فأجمعوا أن كل دم أو جرح أصيب بتأويل القرآن فإنه هدر أنزلوهم منزلة الجاهلية يعني لما كانوا متأولين أنزلوهم منزلة أهل الجاهلية وإن كانوا مخطئين في التأويل كالكفار والمرتدين وإنما يضمن من كان يعلم أنه لا يحل له أن يقتل ويؤاخذ كالطائفتين المقتتلتين على عصبية وكل منهما يعلم أنه يقاتل عصبية لا على حق فهؤلاء تضمن كل طائفة ما أتلفته على الأخرى وفي ذلك نزل قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى والمحاربون قطاع الطريق العالمون بأن ما فعلوه محرم يضمنون وإذا تابوا قبل القدرة عليهم سقطت عنهم حدود الله كما تسقط عن الكفار الممتنعين إذا أسلموا قبل القدرة عليهم وهل يعاقبون بحدود الآدميين مثل أن يقتل أحدهم قصاصا فيه قولان للعلماء قيل يؤخذون بحقوق الآدميين كالقود وقيل لا يؤخذون وما كان معهم من أموال الناس يؤخذ بلا نزاع وما أتلفوه هل يضمنونه مع العقوبات البدنية فيه نزاع كالسارق فإنه إذا وجد معه المال أخذ سواء قطعت يده أو لم تقطع وإن كان قد أتلفه فهل يغرم مع القطع على ثلاثة أقوال قيل يغرم كقول الشافعي وأحمد وقيل لا يغرم كقول أبي حنيفة وقيل يغرم مع اليسار دون الإعسار كقول مالك والمقصود هنا أن قوله تعالى وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة دل به على أن المحاربين لا يرثون المسلمين ولا يعطون ديتهم فإنهم كفار والكفار لا يرثون المسلمين وقد قيل إن هذا فيمن أسلم ولم يهاجر فتثبت في حقه العصمة المورثة دون المضمنة كما يقول ذلك أبو حنيفة وغيره وقيل بل فيمن ظنه القاتل كافرا وكان مأمورا بقتله فسقطت عنه الدية لذلك كما يقوله الشافعي وأحمد في أحد القولين وهؤلاء يخصون الآية بمن ظاهره الإسلام وأولئك يخصونها بمن أسلم ولم يهاجر والآية في المؤمن إذا قتل وهو من قوم عدو لنا وهو سبحانه قال من عدو لكم ولم يقل من عدوكم فدل على أن القتل إذا كان خطأكمن رمى عرضا فأصاب مسلما فإنه لا دية فيه وإن علم أنه مسلم لأن أهله لا يستحقون الدية ولا يستحقها المسلمون ولا بيت المال فهؤلاء الكفار لا يرثون مثل هذا المسلم كما قال لا يرث الكافر المسلم لأنه حربي والمناصرة بينهم منقطعة فإنهم عدو للمسلمين والميراث لا يكون مع العداوة الظاهرة بل مع المناصرة الظاهرة وأهل الذمة ليسوا عدوا محاربا وقتيلهم مضمون فإذا ورث المسلم منهم كان هذا موافقا للأصول وقوله الكافر أريد به الكافر المطلق وهو المعادي المحارب لم يدخل فيه المنافق ولا المرتد ولا الذمي فإذا كان المؤمن يرث المنافق لكونه مسالما له مناصرا له في الظاهر فكذلك الذمي وبعض المنافقين شر من بعض أهل الذمة وقد ذهب بعضهم إلى أنه يرث المسلم الكافر بالموالاة وهو أحد القولين في مذهب أحمد نص عليه في رواية الجماعة حنبل وأبي طالب والمروذي والفضل بن زياد في المسلم يعتق العبد النصراني ثم يموت العتيق يرثه بالولاء واحتجوا بقوله الولاء لمن أعتق قال المانعون من التوريث له عليه الولاء ولكن لا يرث به قال المورثون ثبوت الولاء يقتضي ثبوت حكمه والميراث من حكمه وقال عبدالله بن وهب حدثنا محمد بن عمرو عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله قال لا يرث المسلم النصراني إلا أن يكون عبده أو أمته قالوا وهو إجماع الصحابة أفتى به علي وعبدالله بن عمر وجابر بن عبدالله فروى أبو بكر بإسناده عن الحارث عن علي رضي الله عنه لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم إلا أن يكون عبدا له أو أمته وكذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما قال المانعون المراد بهذا العبد القن إذا كان له مال ومات فإن سيده يأخذ ماله قال المورثون لا يصح هذا لأن العبد القن لا مال له فيورث عنه فعلم أنه أراد من كان عبده فأعتقه كما حملتم عليه قوله من قتل عبده قتلناه وقلتم معناه الذي كان عبده وكذلك قوله في بلال ألا إن العبد قد نام قالوا ولأن الميراث بالولاء من حقوق الملك فلم يمنع منه اختلاف الدين لولاية الكافر على أمته ولأن الشارع لم يجعله أحق بميراثه لنسب بينه وبينه وإنما ذلك جزاء على نعمة المعتق وهذا من محاسن الشريعة وكمالها فأحق الناس بهذا الميراث أحقهم بالإنعام عليه بالعتق يؤكده أن الميراث بالولاء يجري مجرى المعاوضة ولهذا يرث به المولى المعتق دون العتيق عوضا عن إحسانه إليه بالعتق قال المانعون الكفر يمنع التوارث فلم يرث به المعتق كالقتل قال المورثون القاتل يحرم الميراث لأجل التهمة ومعاقبة له بنقيض قصده وههنا علة الميراث الإنعام واختلاف الدين لا يكون من علله وهذه المسائل الثلاث من محاسن الشريعة وهي الأولى توريث من أسلم على ميراث قبل قسمته الثانية وتوريث المعتق عبده الكافر بالولاء الثالثة وتوريث المسلم قريبه الذمي وهي مسألة نزاع بين الصحابة والتابعين وأما المسألتان الأخيرتان فلم يعلم عن الصحابة فيهما نزاع بل المنقول عنهم التوريث قال شيخنا والتوريث في هذه المسائل على وفق أصول الشرع فإن المسلمين لهم إنعام وحق على أهل الذمة بحقن دمائهم والقتال عنهم وحفظ دمائهم وأموالهم وفداء أسراهم فالمسلمون يمنعونهم وينصرونهم ويدفعون عنهم فهم أولى بميراثهم من الكفار والذين منعوا الميراث قالوا مبناه على الموالاة وهي منقطعة بين المسلم والكافر فأجابهم الآخرون بأنه ليس مبناه على الموالاة الباطنة التي توجب الثواب في الآخرة فإنه ثابت بين المسلمين وبين أعظم أعدائهم وهم المنافقون الذين قال الله فيهم هم العدو فاحذرهم فولاية القلوب ليست هي المشروطة في الميراث وإنما هو بالتناصر والمسلمون ينصرون أهل الذمة فيرثونهم ولا ينصرهم أهل الذمة فلا يرثونهم والله أعلم 167 – فصل أقسام أهل العهد من الكفار الكفار إما أهل حرب وإما أهل عهد وأهل العهد ثلاثة أصناف – 1 أهل ذمة – 2 وأهل هدنة – 3 وأهل أمان وقد عقد الفقهاء لكل صنف بابا فقالوا باب الهدنة باب الأمان باب عقد الذمة ولفظ الذمة والعهد يتناول هؤلاء كلهم في الأصل وكذلك لفظ الصلح فإن الذمة من جنس لفظ العهد والعقد وقولهم هذا في ذمة فلان أصله من هذا أي في عهده وعقده أي فألزمه بالعقد والميثاق ثم صار يستعمل في كل ما يمكن أخذ الحق من جهته سواء وجب بعقده أو بغير عقده كبدل المتلف فإنه يقال هو في ذمته وسواء وجب بفعله أو بفعل وليه أو وكيله كولي الصبي والمجنون وولي بيت المال والوقف فإن بيت المال والوقف يثبت له حق وعليه حق كما يثبت للصبي والمجنون ويطالب وليه الذي له أن يقبض له ويقبض ما عليه وهكذا لفظ الصلح عام في كل صلح وهو يتناول صلح المسلمين بعضهم مع بعض وصلحهم مع الكفار ولكن صار في اصطلاح كثير من الفقهاء أهل الذمة عبارة عمن يؤدي الجزية وهؤلاء لهم ذمة مؤبدة وهؤلاء قد عاهدوا المسلمين على أن يجري عليهم حكم الله ورسوله إذ هم مقيمون في الدار التي يجري فيها حكم الله ورسوله بخلاف أهل الهدنة فإنهم صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم سواء كان الصلح على مال أو غير مال لا تجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمة لكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين وهؤلاء يسمون أهل العهد وأهل الصلح وأهل الهدنة وأما المستأمن فهو الذي يقدم بلاد المسلمين من غير استيطان لها وهؤلاء أربعة أقسام رسل وتجار ومستجيرون حتى يعرض عليهم الإسلام والقرآن فإن شاؤوا دخلوا فيه وإن شاؤوا رجعوا إلى بلادهم وطالبوا حاجة من زيارة أو غيرها وحكم هؤلاء ألا يهاجروا ولا يقتلوا ولا تؤخذ منهم الجزية وأن يعرض على المستجير منهم الإسلام والقرآن فإن دخل فيه فذاك وإن أحب اللحاق بمأمنه ألحق به ولم يعرض له قبل وصوله إليه فإذا وصل مأمنه عاد حربيا كما كان 168 – فصل هل تجوز الهدنة المطلقة دون تحديد مدة إذا عرف هذا فهل يجوز لولي الأمر أن يعقد الهدنة مع الكفار عقدا مطلقا لا يقدره بمدة بل يقول نكون على العهد ما شئنا ومن أراد فسخ العقد فله ذلك إذا أعلم الآخر ولم يغدر به أو يقول نعاهدكم ما شئنا ونقركم ما شئنا فهذا فيه للعلماء قولان في مذهب أحمد وغيره أحدهما لا يجوز قال به الشافعي في موضع ووافقه طائفة من أصحاب أحمد كالقاضي في المجرد والشيخ في المغني ولم يذكروا غيره والثاني يجوز ذلك وهو الذي نص عليه الشافعي في المختصر وقد ذكر الوجهين في مذهب أحمد طائفة آخرهم ابن حمدان والمذكور عن أبي حنيفة أنها لا تكون لازمة بل جائزة فإنه جوز للإمام فسخها متى شاء وهذا القول في الطرف المقابل لقول الشافعي الأول والقول الثالث وسط بين هذين القولين وأجاب الشافعي عن قول النبي لأهل خيبر نقركم ما أقركم الله بأن المراد نقركم ما أذن الله في إقراركم بحكم الشرع قال وهذا لا يعلم إلا بالوحي فليس هذا لغير النبي وأصحاب هذا القول كأنهم ظنوا أنها إذا كانت مطلقة تكون لازمة مؤبدة كالذمة فلا تجوز بالاتفاق ولأجل أن تكون الهدنة لازمة مؤبدة فلا بد من توفيتها وذلك أن الله عز و جل أمر بالوفاء ونهى عن الغدر والوفاء لا يكون إلا إذا كان العقد لازما والقول الثاني وهو الصواب أنه يجوز عقدها مطلقة ومؤقتة فإذا كانت مؤقتة جاز أن تجعل لازمة ولو جعلت جائزة بحيث يجوز لكل منهما فسخها متى شاء كالشركة والوكالة والمضاربة ونحوها جاز ذلك لكن بشرط أن ينبذ إليهم على سواء ويجوز عقدها مطلقة وإذا كانت مطلقة لم يمكن أن تكون لازمة التأبيد بل متى شاء نقضها وذلك أن الأصل في العقود أن تعقد على أي صفة كانت فيها المصلحة والمصلحة قد تكون في هذا وهذا وللعاقد أن يعقد العقد لازما من الطرفين وله أن يعقده جائزا يمكن فسخه إذا لم يمنع من ذلك مانع شرعي وليس هنا مانع بل هذا قد يكون هو المصلحة فإنه إذا عقد عقدا إلى مدة طويلة فقد تكون مصلحة المسلمين في محاربتهم قبل تلك المدة فكيف إذا كان ذلك قد دل عليه الكتاب والسنة وعامة عهود النبي مع المشركين كانت كذلك مطلقة غير مؤقتة جائزة غير لازمة منها عهده مع أهل خيبر مع أن خيبر فتحت وصارت للمسلمين لكن سكانها كانوا هم اليهود ولم يكن عندهم مسلم ولم تكن بعد نزلت آية الجزية إنما نزلت في براءة عام تبوك سنة تسع من الهجرة وخيبر فتحت قبل مكة بعد الحديبية سنة سبع ومع هذا فاليهود كانوا تحت حكم النبي فإن العقار ملك المسلمين دونهم وقد ثبت في الصحيحين أنه قال لهم نقركم ما شئنا أو ما أقركم الله وقوله ما أقركم الله يفسره اللفظ الآخر وأن المراد أنا متى شئا أخرجناكم منها ولهذا أمر عند موته بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب وأنفذ ذلك عمر رضي الله عنه في خلافته وقد ذكر طائفة منهم محمد بن جرير أن كل ذمة عقدت للكفار في دار الإسلام فهي على هذا الحكم يقرهم المسلمون ما احتاجوا إليهم فإذا استغنوا عنهم أخرجوهم من ديار المسلمين وهذا قول قوي له حظ من الفقه وقوله نقركم ما أقركم الله أراد به ما شاء الله إقراركم وقدر ذلك وقضى به أي فإذا قدر إخراجكم بأن يريد إخراجكم فنخرجكم لم نكن ظالمين لكم كما يقول القائل أنا أقيم في هذا المكان ما شاء الله وما أقامني ولم يرد بقوله ما أقركم الله إنا نقركم ما أباح الله بوحي وإن كان أراد ذلك فهذا معنى صحيح وهذا لا يمكن من غير النبي لكنه لم يرد إلا الإقرار المقضي كما قال ما شئنا وأيضا فقد ثبت بالقرآن والتواتر أن النبي نبذ إلى المشركين عهودهم بعد فتح مكة لما حج أبو بكر الصديق رضي الله عنه عام تسع فنبذ إلى المشركين عهودهم ذلك العام ولذلك أردف أبا بكر بعلي رضي الله عنهما لأن عادتهم كانت أنه لا يعقد العقود ويحلها إلا المطاع أو رجل من أهل بيته وقد أنزلت في ذلك سورة براءة فقال تعالى براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين الآيات فهو سبحانه أنزل البراءة إلى المشركين وجعل لهم سياحة أربعة أشهر وهي الحرم المذكورة في قوله فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وليست هذه الحرم هي الحرم المذكورة في قوله إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم قال شيخنا ومن جعل هذه هي تلك فقوله خطأ وذلك أن هذه قد بينها رسول الله في الحديث الصحيح بأنها ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وهذه ليست متوالية فلا يقال فيها فإذا انسلخت فإن الثلاثة إذا انسلخت بقي رجب فإذا انسلخ رجب بقي ثلاثة أشهر ثم يأتي الحرم فليس جعل هذا انسلاخا بأولى من ذلك ولا يقال لمثل هذا انسلخ إنما يستعمل هذا في الزمن المتصل ثم إن جمهور الفقهاء على أن القتال في تلك الحرم مباح فكيف يقول فإذا انسلخ ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب فاقتلوا المشركين وهو قد أباح فيها قتال المشركين وأيضا فهذه الآية نزلت عام حجة الصديق رضي الله عنه وكان حجه في ذي القعدة على العادة لأجل النسيء الذي كانوا ينسؤون فيه الأشهر وإنما استدار الزمان كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض لما حج النبي حجة الوداع في العام المقبل سنة عشر والله تعالى سير المشركين أربعة أشهر يأمنون فيها وتلك لا تنقضي إلا عاشر ربيع الأول وقد اختلف المفسرون في هذه الأشهر الحرم وهي أشهر التسيير على أقوال أحدها أنها هي الحرم المذكورة في قوله منها أربعة حرم وهذا يحكى عن ابن عباس ولا يصح عنه الثاني أن أولها يوم الحج الأكبر كما نقل عن مجاهد والسدي وغيرهما وهذا هو الصحيح وعلى هذا فيكون آخرها العاشر من شهر ربيع الآخر القول الثالث أن آخرها عاشر ربيع الأول قال شيخنا ولا منافاة بين القولين فإنه باتفاق الناس أن الصديق رضي الله عنه نادى بذلك في الموسم في المشركين إن لكم أربعة أشهر تسيحون فيها ويوم النحر كان ذلك العام بالاتفاق عاشر ذي القعدة فانقضاء الأربعة عاشر ربيع الأول فإنهم كانوا ينسؤون الأشهر فذو القعدة يجعلونه موضع ذي الحجة وصفر موضع المحرم وربيع الأول موضع صفر وربيع الآخر موضع الأول فالذي كانوا يجعلونه ذا الحجة هو ذو القعدة والذي جعلوه ربيع الآخر هو ربيع الأول فمن المفسرين من تكلم بعبارتهم إذ ذاك ومنهم من غير العبارة إلى ما استقر الأمر عليه والمقصود أن الله سبحانه قسم المشركين في هذه السورة إلى ثلاثة أقسام الأول أهل عهد مؤقت لهم مدة وهم مقيمون على الوفاء بعهدهم لم ينقصوا المسلمين شيئا مما شرطوا لهم ولم يظاهروا عليهم أحدا فأمرهم بأن يوفوا لهم بعهدهم ما داموا كذلك الثاني قوم لهم عهود مطلقة غير مؤقتة فأمرهم أن ينبذوا إليهم عهدهم وأن يؤجلوهم أربعة أشهر فإذا انقضت الأشهر المذكورة حلت لهم دماؤهم وأموالهم القسم الثالث قوم لا عهود لهم فمن استأمن منهم حتى يسمع كلام الله أمنه ثم رده إلى مأمنه فهؤلاء يقاتلون من غير تأجيل ومن لم يفرق بين هذا وهذا وظن أن العهود كلها كانت مؤجلة فهو بين أمرين أحدهما أن يقول يجوز للإمام أن ينبذ إلى كل ذي عهد عهده وإن كان مؤقتا فهذا مخالف لنص القرآن بقوله إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم وقد احتجوا بقوله وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء والآية حجة عليهم لأنه إنما أباح نبذ عهدهم إليهم إذا خاف منهم خيانة فإذا لم يخف منهم خيانة لم يجز النبذ إليهم بل مفهوم هذه الآية مطابق لمنطوق تلك الأمر الثاني أن يقول بل العهد المؤقت لازم كما دل عليه الكتاب والسنة وهو قول جماهير العلماء فيقال له فإذا كان كذلك فلم نبذ النبي العهد إلى جميع المعاهدين من المشركين وقد قال تعالى إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم فقد حرم نبذ عهد هؤلاء وأوجب إتمام عهدهم إلى مدتهم فكيف يقال إن الله سبحانه وتعالى أمر بنبذ العهود المؤقتة فقول من لا يجوز العهد المطلق قول في غاية الضعف كقول من يجوز نبذ كل عهد وإن كان مؤجلا بلا سبب فقوله سبحانه بعد هذا كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين فهؤلاء والله أعلم هم المستثنون في تلك الآية وهم الذين لهم عهد إلى مدة فإن هؤلاء لو كان عهدهم مطلقا لنبذ إليهم كما نبذ إلى غيرهم وإن كانوا مستقيمين كافين عن قتاله فإنه نبذ إلى جميع المشركين لأنه لم يكن لهم عهد مؤجل يستحقون به الوفاء وإنما كانت عهودهم مطلقة غير لازمة كالمشاركة والوكالة وكان عهدهم لأجل المصلحة فلما فتح الله مكة وأعز الإسلام وأذل أهل الكفر لم يبق في الإمساك عن جهادهم مصلحة فأمر الله به ولم يأمر به حتى نبذ إليهم على سواء لئلا يكون قتالهم قبل إعلامهم غدرا وهذا قد يستدل به على أن العقد الجائز كالشركة والوكالة لا يثبت حكم فسخه في حق الآخر حتى يعلم بالفسخ ويحتج به من يقول إن الوكيل لا ينعزل حتى يعلم بعزله قال غير واحد من السلف الأشهر الأربعة أمان لمن لم يكن له أمان ولا عهد فأما أرباب العهود فهم على عهودهم إلى انقضاء مدتهم وهذا لا يخالف قول من قال منهم إنها للمشركين كافة من له عهد ومن ليس له عهد كما قاله مجاهد والسدي ومحمد بن كعب فإن أرباب العهد المؤقت يصير لهم عهد من وجهين وقد قال ابن إسحاق هذه الأربعة أجل لمن كان رسول الله قد أمنه أقل من أربعة أشهر وكان أمانه غير محدود فأما من لا أمان له فهو حربي فبين ابن إسحاق أنها لأصحاب الأمان المطلق وإنما خالف من قبله هل دخل فيها من لم يكن له عهد أصلا وأما ما يروى عن الضحاك وقتادة أنها أمان لأصحاب العهد فمن كان عهده أكثر منها حط إليها ومن كان عهده أقل منها رفع إليها ومن لم يكن له عهد فأجله انسلاخ المحرم خمسون ليلة فهذا قول ضعيف وهو مبني على فهمين ضعيفين أحدهما أن الحرم آخرها المحرم وقد تقدم فساده والثاني أنه يجوز نقض العهد المؤجل المحدود وقد تقدم بطلانه والذين ظنوا أن العهد لا يكون إلا مؤقتا والوفاء واجب حاروا في جواز البراءة إلى المشركين فصاروا إلى ما يظهر فساده فقالت طائفة إنما يبرأ من نقض العهد وهذا باطل من وجوه كثيرة فإن من نقض العهد فلا عهد له ولا يحتاج هذا إلى براءة ولا أذان فإن أهل مكة الذين صالحهم النبي يوم الحديبية لما نقضوا العهد سار إليهم وكتم مسيره ودعا الله أن يكتم خبره عنهم ولما كتب إليهم حاطب بن أبي بلتعة بخبره أنزل الله فيه ما أنزل ولم يفجأ أهل مكة إلا ورسول الله وجنود الله قد نزلوا بساحتهم وهذا كان عام ثمان قبل نزول براءة وأيضا فالنبي أرسل أبا بكر وأردفه بعلي رضي الله عنهما يؤذن بسورة براءة فنبذ العهود إلى جميع المشركين مطلقا لم ينبذها إلى من نقض دون من لم ينقض وأيضا فالقرآن نبذها إلى المشركين وإنما استثنى من كان له مدة ووفاء فمن كان فيه هذان الشرطان لم ينبذ إليه وأيضا فإنه سبحانه قال كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم فجعل نفس الشرك مانعا من العهد إلا الذين لهم عهد مؤقت وهم به موفون وقالت طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد بل العهد الذي أمر بنبذه إنما هو منعهم من البيت وقتالهم في الشهر الحرام قالوا وهذا لفظ القاضي أبي يعلى وفصل الخطاب في هذا الباب أنه قد كان بين رسول الله وبين جميع المشركين عهد وهو أن لا يصد أحد عن البيت ولا يخاف أحد في الشهر الحرام فجعل الله عهدهم أربعة أشهر وكان بينه وبين أقوام منهم عهود إلى أجل مسمى فأمر بالوفاء لهم وإتمام عهدهم إذا لم يخش غدرهم وهذا أيضا ضعيف جدا وذلك أن منعهم من البيت حكم أنزل في غير هذه الآية في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وهذا المعنى غير معنى قوله براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين وأيضا فمنعهم من المسجد الحرام عام فيمن كان له عهد ومن لم يكن له عهد والبراءة خاصة بالمعاهدين كما قال تعالى براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ولم يقل إلى جميع المشركين كما قال هناك إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام وأيضا فمن له أجل يوفى له إلى أجله وهم الذين عاهدوه فما استقاموا لهم يستقيم لهم ومع هذا فهم ممنوعون من المسجد الحرام وأيضا فالمنع من المسجد الحرام كان ينادي به أبو بكر وأعوانه علي وغيره رضي الله عنهم أجمعين فينادون يوم النحر لا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان وأما نبذ العهود فإنما تولاه علي رضي الله عنه لأجل العادة التي كانت في العرب وأيضا فالأمان الذي كان لحجاج البيت لم يكن بعهد من النبي وأمان منه بل كان هذا دينهم في الجاهلية وقام الإسلام عليه حتى أنزل الله يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا فبهذه الآية منعوا لا بالبراءة من المعاهدين وقد كان أنزل الله فيهم يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا فنهوا عن التعرض لقاصديه مطلقا ثم لما منع منه المشركون وعلموا أنهم ممنوعون من جهة الله تعالى كان من أمنهم بعد ذلك ظالما لنفسه محاربا لله ورسوله وأما القتل في الشهر الحرام فقد كان محرما بقوله يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وفي نسخه قولان للسلف فإن كان لم ينسخ لم يكن في الآية إذن فيه وإن كان منسوخا فليس في البراءة ما يدل على نسخه ولا قال أحد من السلف إن هذه الآية أباحت القتال في الشهر الحرام وإنها الناسخة لتحريمه فإن هذه الآية إنما فيها البراءة من المعاهدين والشهر الحرام كان تحريمه عاما فلم يكن يجوز أن يقاتل فيه المحاربون وآية تحريم القتال فيه إنما نزلت بسبب ابن الحضرمي قبل ولم يكونوا معاهدين وإنما عاهدهم بعد بدر بأربع سنين وأيضا فإنه استثنى من الذين تبرأ إليهم من عاهده عند المسجد الحرام وأولئك لا يباح قتالهم لا في الشهر الحرام ولا غيره فكيف يكون الذي أباحه إنما هو القتال في الشهر الحرام وأيضا فالأشهر الحرم في قوله فإذا انسلخ الأشهر الحرم إن كانت الثلاثة ورجبا فهذا يدل على بقاء التحريم فيها فبطل هذا القول وإن كانت الأربعة التي أولها يوم الحج الأكبر عام حج أبو بكر رضي الله عنه وآخرها ربيع فقد حرم فيها قتال من ليس له عهد وأباح قتالهم إذا انقضت فلو كان إنما أباح قتال من كان يباح قتاله في الأشهر الحرم ولا عهد له فهذا محارب محض لا حاجة إلى تأجيله أربعة أشهر فإن قتاله كان مباحا عند هؤلاء في غير الأربعة وأيضا فعلى هذا التقدير إنما أباح الله قتل من نبذ إليه العهد إذا انقضت هذه الأربعة كما قال فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فلو كان قتال هؤلاء الذين نبذ إليهم العهود مباحا في غيرها لم يشترط في حله انقضاء الأربعة أشهر فإن ذلك يقتضي أن قتالهم مباح إذا انقضت الأربعة فإن المعلق بالشرط عدم عند عدمه فكيف يقال إن قتالهم كان مباحا سواء انقضت هذه أو لم تنقض وإنما كان يحرم قتالهم في تلك الأربعة لا مطلقا فهذه التكلفات التي يظهر فيها من تحريف القرآن ما يبين فسادها بناها أصحابها على أصل فاسد وهو أن المعاهدين لا يكون عهدهم إلا إلى أجل مسمى وهو خلاف الكتاب والسنة وخلاف الأصول وخلاف مصلحة العالمين فإذا علم أن المعاهدين يتناول النوعين وأن الله أمر بنبذ العهد الذي ليس بعقد لازم وأمر بالوفاء بالعهد اللازم كان في هذا إقرار للقرآن على ما دل عليه ووافقته عليه السنة وأصول الشرع ومصالح الإسلام والله المستعان ذكر أحكام أطفالهم وفيه بابان الباب الأول في ذكر أحكامهم في الدنيا والباب الثاني في ذكر أحكامهم في الآخرة الباب الأول ذكر أحكامهم في الدنيا لما كان الطفل غير مستقل بنفسه لم يكن له بد من ولي يقوم بمصالحه ويكون تابعا له وأحق من نصب لذلك الأبوان إذ هما السبب في وجوده وهو جزء منهما ولهذا كان لهما من الحق عليه ما لم يكن لأحد سواهما فكانا أخص به وأحق بكفالته وتربيته من كل أحد وكان من ضرورة ذلك أن ينشأ على دينهما كما ينشأ على لغتهما فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه فإن كانا موحدين مسلمين ربياه على التوحيد فاجتمع له الفطرة الخلقية وتربية الأبوين وإن كانا كافرين أخرجاه عن الفطرة التي فطره الله عليها بتعليمه الشرك وتربيته عليه لما سبق له في أم الكتاب فإذا نشأ الطفل بين أبويه كان على دينهما شرعا وقدرا فإن تعذر تبعيته للأبوين بموت أو انقطاع نسب كولد الزنى والمنفي باللعان واللقيط والمسبي والمملوك فاختلف الفقهاء في حكم الطفل في هذه الحال ونحن نذكر ذلك مسألة مسألة فأما المسألة الأولى وهي موت الأبوين أو أحدهما فاختلف فيها على ثلاثة أقوال أحدها أنه لا يصير بذلك مسلما بل هو على دينه وهذا قول الجمهور وربما ادعى فيه أنه إجماع معلوم متيقن لأنا نعلم أن أهل الذمة لم يزالوا يموتون ويخلفون أولادا صغارا ولا نعرف قط أن رسول الله أحدا من الخلفاء الراشدين بعده ولا من بعدهم من الأئمة حكموا بإسلام أولاد الكفار بموت آبائهم ولا نعرف أن ذلك وقع في الإسلام مع امتناع إهمال هذا الأمر وإضاعته عليهم وهم أحرص الناس على الزيادة في الإسلام والنقصان من الكفر وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه اختارها شيخنا رحمه الله الثاني أنه يحكم بإسلام الأطفال بموت الأبوين أو أحدهما سواء ماتا في دار الحرب أو في دار الإسلام وهذا قول في مذهب أحمد اختاره بعض أصحابه وهو معلوم الفساد بيقين لما سنذكره والقول الثالث أنه يحكم بإسلامهم إن مات الأبوان أو أحدهما في دار الإسلام ولا يحكم بإسلامهم إن ماتا في دار الحرب وهذا هو المنصوص عن أحمد وهو اختيار عامة أصحابه واحتجوا على ذلك بقول النبي كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه متفق عليه قالوا فجعل كفره بفعل أبويه فإذا مات أحدهما انقطعت التبعية فوجب إبقاؤه على الفطرة التي ولد عليها قالوا ولأن المسألة مفروضة فيمن مات أبواه في دار الإسلام وقضية الدار الحكم بإسلام أهلها ولذلك حكمنا بإسلام لقيطها وإنما ثبت الكفر للطفل الذي له أبوان تغليبا لتبعية الأبوين على حكم الدار فإذا عدما أو أحدهما وجب إبقاؤه على حكم الدار لانقطاع تبعيته للكافر قالوا ومما يوضح ذلك أن الطفل يصير مسلما تبعا لإسلام أبيه فكذلك إنما صار كافرا تبعا لكفر أبيه فإذا مات الأب زال من يتبعه في كفره فكان الإسلام أولى به لثلاثة أوجه أحدها أنه مقتضى الفطرة الأصلية التي فطر الله عليها عباده وإنما عارضها فعل الأبوين وقد زال العارض فعمل المقتضى عمله الثاني أن الدار دار الإسلام ولو اختلط فيها ولد الكافر بولد المسلم على وجه لا يتميزان حكمنا بإسلامهما تغليبا للدار ولو وجد فيها لقيط في محلة الكفار لا يعرف له أب حكمنا بإسلامه تغليبا للدار وإنما عارض الدار قوة تبعية الأبوين وقد زالت بالموت فعمل مقتضى الدار عمله الثالث أنه لو سبي الطفل منفردا عن أبويه كان مسلما عند الأئمة الأربعة وغيرهم بل ولو سبي مع أحد أبويه لكان مسلما في أصح الروايتين بل أسح القولين أنه يحكم بإسلامه ولو سبي معهما وهو مذهب الأوزاعي وأهل الشام وإحدى الروايتين عن أحمد فإذا حكم بإسلامه في بعض هذه الصور اتفاقا وفي بعضهما بالدليل الصحيح كما سنذكره مع تحقق وجود الأبوين وإمكان عوده إلى تبعيتهما فلأن نحكم بإسلامه مع تحقق عدم الأبوين واستحالة تبعيتهما أولى وأحرى وسر المسألة أنه تبع لهما في الإسلام والكفر فإذا عدما زالت تبعيته وكانت الفطرة الأولى أولى به يوضحه أنه لو مات أقاربه جميعا ورباه الأجانب من الكفار فإنه لا يجوز جعله كافرا إذ فيه إخراج عن الفطرة التي فطر الله عليها خلقه بلا موجب وهذا ممتنع إذ يتضمن إدخال من فطر على التوحيد في الكفر من غير تبعية لأحد من أقاربه وهذا في غاية الفساد فإذا عدم الأبوان لم تكن الولاية على الطفل لغيرهما من أقاربه كما لا تثبت على أطفال المسلمين بل تكون الولاية عليه للمسلمين وحينئذ فيكون محكوما بإسلامه كالمسبي بدون أبويه وأولى فإن قيل فهل تورثونه من الميت منهما ؟ قلنا نعم نورثه نقله الحربي فقال وكذلك من مات من الأبوين على كفره قسم له يعني للطفل الميراث وكان مسلما بموت من مات منهما وذلك كاف لأن إسلامه إنما يثبت بموت أبيه الذي استحق به الميراث فلم يتقدم الإسلام المانع عن الميراث على سبب استحقاقه ولأن الحرية المعلقة بالموت لا توجب الميراث فيما إذا قال سيد لعبد له إذا مات أبوك فأنت حر فمات أبوه فإنه يعتق ولا يرث فيجب أن يكون الإسلام المعلق بالموت لا يمنع الميراث فهناك موجب الميراث فلم يوجبه وهنا مانع الميراث علق بالموت فلم يمنعه وأيضا فكونه وارثا أمر ثابت له قبل الموت ولهذا يمنع المريض من التصرف في الزائد على الثلث من ماله فبالموت عمل المقتضى المتقدم لأخذ المال عمله وهو البعضية والبنوة وهذا بخلاف الإسلام فإنه لم يكن ثابتا له قبل الموت بل كان كافرا حكما وإنما تجدد له الإسلام بموت الأب وهناك لم يتجدد كونه وارثا بموت الأب وإنما تجدد بالموت انتقال التركة إليه وهذا ظاهر جدا فإن قيل فما تقولون لو مات أبوه الكافر وهو حمل هل يرثه ؟ قلنا لا يرثه لأنا نحكم بإسلامه بمجرد موته قبل الوضع نص على هذا أحمد فيسبق الإسلام المانع من الميراث لاستحقاق الميراث وهذا بناء على أنه لا يرث المسلم الكافر وأما على القول الذي اختاره شيخنا فإنه يرثه وكذلك لو كان الحمل من غيره فأسلمت أمه قبل وضعه بأن يموت الذمي ويترك امرأة أخيه حاملا من أخيه الذمي فتسلم أمه قبل وضعه فنحكم بإسلامه قبل استحقاقه الميراث فإن قيل فيلزمكم أن تحكموا بإسلام أولاد الزنى من أهل الذمة لانقطاع أنسابهم من آبائهم قيل قد التزمه أصحاب هذا القول وحكموا بإسلامهم طردا لهذه القاعدة وهذا ليس بجيد فإن من انقطع نسبه من جهة أبيه قامت أمه مقام أبيه في التعصيب ولهذا تكون أمه وعصباتها عصبة له يرثون منه كما يرث الأب وعصباته لانقطاع نسبه من جهة الأب ويلزمهم على هذا أن يحكموا بإسلام ولد الذمي إذا لاعن عليه لانقطاع نسبه من جهة الأب وهذا لا نعلم قائله من السلف وأما إذا اختلط أولاد الذمة بأولاد المسلمين ولم يتميزوا فإنه يحكم بإسلامهم نص عليه أحمد في رواية المروذي فإنه قال قلت لأبي عبدالله ما تقول في رجل مسلم ونصراني في دار ولهما أولاد فلم يعرف ولد النصراني من ولد المسلم ؟ قال يجبرون على الإسلام أحمد حكم بإسلام الأولاد ههنا لأن بعضهم مسلم قطعا وقد اشتبه بالكافر فغلب جانب الإسلام ولا يلزم من هذا الحكم بإسلام من انقطع نسبه من جهة أبيه لكونه ولد زنى أو منفيا بلعان إذ لم يوجد هناك من يغلب لأجله الإسلام بل ولا شبهة إسلام 169 – فصل متى يحكم بإسلام الطفل ونحن نذكر قاعدة فيما يقتضي الحكم بإسلام الطفل وما لا يقتضيه فنقول إسلام الصبي يحصل بخمسة أشياء متفق على بعضها ومختلف في بعضها الأول إسلامه بنفسه إذا عقل الإسلام فيصح عند الجمهور وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد وأصحابهم والذين قالوا بصحة إسلامه قالوا يصح باطنا وظاهرا حتى لو رجع عنه أجبر عليه ولو أقام على رجوعه كان مرتدا ومنصوص عن الشافعي أنه لا يصح إسلامه ولأصحابه وجهان آخران أحدهما أنه يوقف إسلامه فإن بلغ واستمر على حكم الإسلام تيقنا أنه كان مسلما من يومئذ وإن وصف الكفر تبينا أنه كان لغوا وقد عبر عن هذا بصحة إسلامه ظاهرا لا باطنا والوجه الثاني أنه يصح إسلامه حتى يفرق بينه وبين زوجته الكافرة ويورث من قريبه المسلم وهو اختيار الاصطخري قالوا وعلى هذا لو ارتد صحت ردته ولكن لا يقتل حتى يبلغ فإن رجع إلى الإسلام وإلا قتل وأما على منصوص الشافعي فقد يقال يحال بينه وبين أبويه وأهله الكفار لئلا يفتنوه فإن بلغ ووصف الكفر هدد وطولب بالإسلام فإن أصر رد إليهم وهل هذه الحيلولة مستحبة أو واجبة ؟ فيه وجهان أصحهما أنها مستحبة فيتلطف بوالديه ليؤخذ منهما فإن أبيا فلا حيلولة هذا في أحكام الدنيا فأما ما يتعلق بالآخرة فقال الأستاذ أبو إسحاق إذا أضمر كما أظهر كان من الفائزين بالجنة ويعبر عن هذا بصحة إسلامه باطنا لا ظاهرا قال في النهاية وفي هذا إشكال لأن من حكم له بالفوز لإسلامه كيف لا نحكم بإسلامه ؟ وأجيب عنه بأنه قد نحكم له بالفوز في الآخرة وإن لم تجر عليه أحكام الإسلام في الدنيا كمن لم تبلغه الدعوة والذين قالوا لا يصح إسلامه احتجوا بقول النبي رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ وهو حديث حسن قالوا ولأنه قول تثبت به الأحكام في حقه فلم يصح منه كالهبة والبيع والعتق والإقرار قالوا ولأنه غير مكلف فلم يصح إسلامه كالمجنون والنائم قالوا ولأنه قبل البلوغ في حكم الطفل الذي لا يعقل ما يقول ولهذا كانت أقواله هدرا قالوا ولأنه لو صح إسلامه لصحت ردته قال المصححون لإسلامه هو من أهل قول لا إله إلا الله وقد حرم الله على النار من قال لا إله إلا الله ومن قال لا إله إلا الله دخل الجنة قالوا وهو مولود على الفطرة التي فطر الله عليها عباده فإذا تكلم بكلمة الإسلام فقد نطق بموجب الفطرة فعملت الفطرة والكلمة عملهما قالوا وقد أشار النبي إلى هذا المعنى بقوله كل مولود يولد على الفطرة وفي لفظ على هذه الملة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه حتى يعرب عنه لسانه فإما شاكرا وإما كفورا فجعل الغاية إعراب لسانه عنه أي بيان لسانه عنه فإذا أعرب لسانه عنه صار إما شاكرا وإما كفورا بالنص ولأنه إذا بلغ سن التمييز وعقل ما يقول صار له إرادة واختيار ونطق يترتب عليه به الثواب وإن تأخر ترتب عليه العقاب إلى ما بعد البلوغ فلا يلزم من انتفاء صحة أسباب العقاب انتفاء صحة أسباب الثواب فإن الصبي يصح حجه وطهارته وصلاته وصيامه وصدقته وذكره ويثاب على ذلك وإن لم يعاقبه على تركه فباب الثواب لا يعتمد على البلوغ ولم يقم دليل شرعي على إهدار أقوال الصبي بالكلية بل الأدلة الشرعية تقتضي اعتبار أقواله في الجملة وقد أمر الله تعالى بابتلاء اليتامى وهو اختبارهم في عقودهم ومعاملاتهم ولهذا كان قول الجمهور أن ذلك يحصل بإذنه له في العقد ولا يحتاج إلى أن يأذن له في المراوضة ثم بعقد وليه وقد ذهب عبدالله بن الزبير وأهل المدينة وأحمد في إحدى الروايات إلى قبول شهادة الصبيان بعضهم على بعض في جراحاتهم إذا كانوا منفردين وقد ذهب جماعة من الفقهاء إلى صحة وصية الصبي وطلاقه وظهاره وإيلائه ولم يزل الصبيان يذهبون في حوائج أوليائهم وغيرهم ويقبلون قولهم في ثبوت الأسباب التي تقتضي الحل والحرمة ويعتمدون في وطء الفرج في الأمة والزوجة على قول الصبي فلم يهدر الشارع أقوال الصبي كلها بل إذا تأملنا الشرع رأينا اعتباره لأقواله أكثر من إهداره لها وإنما تهدر فيما فيه عليه ضرر كالإقرار بالحدود والحقوق فأما ما هو نفع محض له في الدنيا والآخرة كالإسلام فاعتبار قوله فيه أولى من إهداره إذ أن أصول الشرع تشهد باعتبار قوله فيه وأيضا فإن الإسلام عبادة محضة وطاعة لله وقربة له فلم يكن البلوغ شرطا في صحتها كحجه وصومه وصلاته وقراءته وأن الله تعالى دعا عباده إلى دار السلام وجعل طريقها الإسلام وجعل من لم يجب دعوته في ال