اقتضاء الصراط – ابن تيمية
|
[ اقتضاء الصراط – ابن تيمية ] الكتاب : اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم |
– اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أكمل لنا ديننا وأتم علينا نعمته ورضي لنا الإسلام دينا وأمرنا أن نستهديه صراطه المستقيم صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم اليهود ولا الضالين النصارى
واشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالدين القيم والملة الحنيفية وجعله على شريعة من الأمر أمره باتباعها وأمره بأن يقول هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما
وبعد فإني قد نهيت إما مبتدئا وإما مجيبا عن التشبه بالكفار في أعيادهم وأخبرت ببعض ما في ذلك من الأثر القديم والدلالة الشرعية وبينت بعض حكمة الشرع في مجانبة هدي الكفار من الكتابيين والأميين وما جاءت به الشريعة من مخالفة أهل الكتاب والأعاجم وإن كانت هذه قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة كثيرة الشعب وأصلا جامعا من أصولها كثير الفروع لكني نبهت على ذلك بما يسره الله تعالى وكتبت جوابا في ذلك لم يحضرني الساعة وحصل بسبب ذلك من الخير ما قدره الله سبحانه
ثم بلغني بأخرة أن من الناس من استغرب ذلك واستبعده لمخالفة عادة قد نشؤا عليها وتمسكوا في ذلك بعمومات وإطلاقات اعتمدوا عليها فاقتضاني بعض الأصحاب أن أعلق في ذلك ما يكون فيه إشارة إلى أصل هذه المسألة لكثرة فائدتها وعموم المنفعة بها ولما قد عم كثيرا من الناس من الابتلاء بذلك حتى صاروا في نوع جاهلية فكتبت ما حضرني الساعة مع أني لو استوفيت ما في ذلك من الدلائل وكلام العلماء واستقريت الآثار في ذلك لوجدت فيه أكثر مما كتبه
ولم أكن أظن أن من خاض في الفقه ورأى إيماآت الشرع ومقاصده وعلل الفقهاء ومسائلهم يشك في ذلك بل لم أكن أظن أن من وقر الإيمان في قلبه وخلص إليه حقيقة الإسلام وأنه دين الله الذي لا يقبل من أحد سواه إذا نبه على هذه النكتة إلا كانت حياة قلبه وصحة إيمانه توجب استيقاظه بأسرع تنبيه ولكن نعوذ بالله من رين القلوب وهوى النفوس اللذين يصدان عن معرفة الحق واتباعه
فصل
في حال البشر قبل البعثة المحمدية
اعلم أن الله سبحانه وتعالى أرسل محمدا صلى الله عليه و سلم إلى الخلق وقد مقت أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ماتوا أو أكثرهم قبل مبعثه
والناس إذ ذاك أحد رجلين إما كتابي معتصم بكتاب إما مبدل وإما منسوخ أو بدين دارس بعضه مجهول وبعضه متروك وإما أمي من عربي وعجمي مقبل على عبادة ما استحسنه وظن أنه ينفعه من نجم أو وثن أو قبر أو تمثال أو غير ذلك والناس في جاهلية جهلاء من مقالات يظنونها علما وهي جهل وأعمال يحسبونها صلاحا وهي فساد
وغاية البارع منهم علما وعملا أن يحصل قليلا من العلم الموروث عن الأنبياء المتقدمين مشوب بأهواء المبدلين والمبتدعين قد اشتبه عليهم حقه بباطله أو يشتغل بعمل القليل منه مشروع وأكثره مبتدع لا يكاد يؤثر في صلاحه إلا قليلا أو أن يكدح بنظره كدح المتفلسفة فتذوب مهجته في الأمور
الطبيعية والرياضية وإصلاح الأخلاق حتى يصل إن وصل بعد الجهد الذي لا يوصف إلى نزر قليل مضطرب لا يروي غليلا ولا يشفي عليلا ولا يغني من العلم الإلهي شيئا باطله أضعاف حقه إن حصل وأنى له ذلك مع كثرة الاختلاف بين أهله والاضطراب وتعذر الأدلة عليه والأسباب
فهدى الله الناس ببركة نبوة محمد صلى الله عليه و سلم وبما جاء به من البينات والهدى هداية جلت عن وصف الواصفين وفاقت معرفة العارفين حتى حصل لأمته المؤمنين به عموما ولأولي العلم منهم خصوصا من العلم النافع والعمل الصالح والأخلاق العظيمة والسنن المستقيمة ما لو جمعت حكمة سائر الأمم علما وعملا الخالصة من كل شوب إلى الحكمة التي بعث بها لتفاوتتا تفاوتا يمنع معرفة قدر النسبة بينهما فلله الحمد كما يحب ربنا ويرضى
ودلائل هذا وشواهده ليس هذا موضعها
ثم إنه سبحانه بعثه بدين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم وفرض على الخلق أن يسألوه هدايته كل يوم مرارا في صلاتهم ووصفه بأنه صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين غير المغضوب عليهم ولا الضالين
قال عدي بن حاتم رضي الله عنه أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو جالس في المسجد فقال القوم هذا عدي بن حاتم وجئت بغير أمان ولا كتاب فلما دفعت إليه أخذ بيدي وقد قال قبل ذلك إني لأرجو أن يجعل الله يده في يدي قال فقام بي فلقيته امرأة وصبي معها فقالا إن لنا إليك حاجة فقام معهما حتى قضى حاجتهما ثم أخذ بيدي حتى أتى بي داره فألقت له الوليدة وسادة فجلس عليها وجلست بين يديه فحمد الله
وأثنى عليه ثم قال ما يفرك أيفرك أن تقول لا إله إلا الله فهل تعلم من إله سوى الله قال قلت لا ثم تكلم ساعة ثم قال إنما يفرك أن تقول الله أكبر أو تعلم شيئا أكبر من الله قال قلت لا قال فإن اليهود مغضوب عليه والنصارى ضلال قال فقلت فإني حنيف مسلم قال فرأيت وجهه ينبسط فرحا
وذكر حديثا طويلا رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب وقد دل كتاب الله على معنى هذا الحديث قال الله سبحانه قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت والضمير عائد إلى اليهود والخطاب معهم كما دل عليه سياق الكلام
وقال تعالى ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم وهم المنافقون الذين تولوا اليهود باتفاق أهل التفسير وسياق الآية يدل عليه
وقال تعالى ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وذكر في البقرة قوله تعالى وباءوا بغضب من الله وفيها أيضا فباءوا بغضب على غضب وهذا بيان أن اليهود مغضوب عليهم
وقال في النصارى لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة إلى قوله قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا
أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل وهذا خطاب للنصارى كما دل عليه السياق ولهذا نهاهم عن الغلو وهو مجاوزة الحد كما نهاهم عنه في قوله يا أهل الكتب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه
واليهود مقصرون عن الحق والنصارى غالون فيه
فأما وسم اليهود بالغضب والنصارى بالضلال فله أسباب ظاهرة وباطنة ليس هذا موضعها
وجماع ذلك أن كفر اليهود أصله من جهة عدم العمل بعلمهم فهم يعلمون الحق ولا يتبعونه قولا أو عملا أولا قولا ولا عملا وكفر النصارى من جهة عملهم بلا علم فهم يجتهدون في أصناف العبادات بلا شريعة من الله ويقولون على الله مالا يعلمون ولهذا كان السلف كسفيان بن عيينة وغيره يقولون من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى وليس هذا أيضا موضع شرح ذلك
ومع أن الله قد حذرنا سبيلهم فقضاؤه نافذ بما أخبر به رسوله مما سبق في علمه حيث قال فيما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن
وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون شبرا بشبر وذراعا بذراع فقيل يا رسول الله كفارس والروم قال ومن الناس إلا أولئك
فأخبر أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى وهم أهل الكتاب ومضاهاة لفارس والروم وهم الأعاجم
وقد كان صلى الله عليه و سلم ينهى عن التشبه بهؤلاء وهؤلاء وليس هذا إخبارا عن جميع الأمة بل قد تواتر عنه أنه قال لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة وأخبر صلى الله عليه و سلم ان الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة و أن الله لا يزال يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم فيه بطاعته
فعلم بخبره الصدق أن لا بد أن يكون في أمته قوم متمسكين بهديه الذي هو دين الإسلام محضا وقوم منحرفين إلى شعبة من شعب دين اليهود أو إلى شعبة من شعب دين النصارى وإن كان الرجل لا يكفر بهذا الانحراف بل وقد لا يفسق أيضا بل قد يكون الإنحراف كفرا وقد يكون فسقا وقد يكون سيئة وقد يكون خطأ
وهذا الانحراف أمر تتقاضاه الطباع ويزينه الشيطان فلذلك أمر العبد بدوام دعاء الله سبحانه بالهداية إلى الاستقامة التي لا يهودية فيها ولا نصرانية أصلا
وأنا أشير إلى بعض أمور أهل الكتاب والأعاجم التي ابتليت بها هذه الأمة ليجتنب المسلم الحنيف الانحراف عن الصراط المستقيم إلى صراط المغضوب عليهم أو الضالين
قال الله سبحانه ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فذم اليهود على ما حسدوا المؤمنين على الهدى والعلم
وقد يبتلى بعض المنتسبين إلى العلم وغيرهم بنوع من الحسد لمن هداه الله لعلم نافع أو عمل صالح وهو خلق مذموم مطلقا وهو في هذا الموضع من أخلاق المغضوب عليهم
وقال الله سبحانه والله لا يحب كل مختال فخور الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله
فوصفهم بالبخل الذي هو البخل بالعلم والبخل بالمال وإن كان السياق يدل على أن البخل بالعلم هو المقصود الأكبر فلذلك وصفهم بكتمان العلم في غير آية مثل قوله تعالى وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه الآية وقوله تعالى إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا الآية وقوله إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار الآية وقوله تعالى وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن
فوصف المغضوب عليهم بأنهم يكتمون العلم تارة بخلا به وتارة اعتياضا عن إظهاره بالدنيا وتارة خوفا أن يحتج عليهم بما أظهروه منه
وهذا قد ابتلى به طوائف من المنتسبين إلى العلم فإنهم تارة يكتمون العلم بخلا به وكراهة أن ينال غيرهم من الفضل ما نالوه وتارة اعتياضا عنه برياسة أو مال ويخاف من إظهاره انتقاص رياسته أو نقص ماله وتارة يكون قد خالف غيره في مسألة أو اعتزى إلى طائفة قد خولفت في مسألة فيكتم من العلم ما فيه حجة لمخالفه وإن لم يتيقن أن مخالفه مبطل
ولهذا قال عبد الرحمن بن مهدي وغيره أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم
وليس الغرض تفصيل ما يحب وما يحتسب بل الغرض التنبيه على مجامع يتفطن اللبيب بها لما ينفعه الله به
وقال تعالى وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل
علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق الآية بعد أن قال وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين
فوصف اليهود بأنهم كانوا يعرفون الحق قبل ظهور النبي الناطق به والداعي إليه فلما جاءهم النبي الناطق به من غير طائفة يهوونها لم ينقادوا له فإنهم لا يقبلون الحق إلا من الطائفة التي هم منتسبون إليها مع أنهم لا يتبعون ما لزمهم في اعتقادهم
وهذا يبتلى به كثير من المنتسبين إلى طائفة معينة في العلم أو الدين من المتفقهة أو المتصوفة أو غيرهم أو إلى رئيس معظم عندهم في الدين غير النبي صلى الله عليه و سلم فإنهم لا يقبلون من الدين لا فقها ولا رواية إلاما جاءت به طائفتهم ثم إنهم لا يعلمون ما توجبه طائفتهم مع أن دين الإسلام يوجب اتباع الحق مطلقا رواية وفقها من غير تعيين شخص أو طائفة غير الرسول صلى الله عليه و سلم
وقال تعالى في صفة المغضوب عليهم من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ووصفهم بأنهم يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب والتحريف قد فسر بتحريف التنزيل وبتحريف التأويل
فأما تحريف التأويل فكثير جدا وقد ابتليت به طوائف من هذه الأمة
وأما تحريف التنزيل فقد وقع فيه كثير من الناس يحرفون ألفاظ الرسول ويروون أحاديث بروايات منكرة وإن كان الجهابذة يدفعون ذلك وربما تطاول بعضهم إلى تحريف التنزيل وإن لم يمكنه ذلك كما قرأ بعضهم وكلم الله موسى تكليما
وأما تطاول بعضهم إلى السنة بما يظن أنه من عند الله فكوضع الوضاعين الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه و سلم أو إقامة ما يظن أنه حجة في الدين وليس بحجة
وهذا الضرب من نوع أخلاق اليهود وذمها في النصوص كثير لمن تدبر في كتاب الله وسنة رسوله ثم نظر بنور الإيمان إلى ما وقع في الأمة من الأحداث
وقال سبحانه عن النصارى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته
وقال لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم إلى غير ذلك من المواضع
ثم إن الغلو في الأنبياء والصالحين قد وقع في طوائف من ضلال المتعبدة والمتصوفة حتى خالط كثيرا منهم من مذاهب الحلول والاتحاد ما هو أقبح من قول النصارى أو مثله أو دونه
وقال تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم الآية وفسره النبي صلى الله عليه و سلم لعدي بن حاتم رضي الله عنه بأنهم أحلوا الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم
وكثير من أتباع المتعبدة يطيع بعض المعظمين عنده في كل ما يأمره به وإن تضمن تحليل حرام أو تحريم حلال
وقال سبحانه عن الضالين ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله وقد ابتلى طوائف من المسلمين من الرهبانية المبتدعة بما الله به عليم
وقال الله سبحانه قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا فكان الضالون بل والمغضوب عليهم يبنون المساجد على قبور الأنبياء والصالحين وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم أمته عن ذلك في غير موضع حتى في وقت مفارقته الدنيا بأبي هو وأمي ثم إن هذا قد ابتلي به كثير من هذه الأمة
ثم إن الضالين تجد عامة دينهم إنما يقوم بالأصوات المطربة والصور الجميلة فلا يهتمون في أمر دينهم بأكثر من تلحين الأصوات
ثم إنك تجد أن هذه الأمة قد ابتليت من اتخاذ السماع المطرب بسماع القصائد بالصور والأصوات الجميلة لإصلاح القلوب والأحوال ما فيه مضاهاة لبعض حال الضالين
وقال سبحانه وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء
فأخبر أن كل واحدة من الأمتين تجحد كل ما عليه الأخرى وأنت تجد كثيرا من المتفقهة إذا رأى المتصوفة والمتعبدة لا يراهم شيئا ولا يعدهم إلا جهالا ضلالا ولا يعتقد في طريقهم من العلم والهدى شيئا وترى كثيرا من المتصوفة والمتفقرة لا يرى الشريعة والعلم شيئا بل يرى أن التمسك بهما منقطع عن الله وأنه ليس عند أهلها شيء مما ينفع عند الله
والصواب أن ما جاء به الكتاب والسنة من هذا وهذا حق وما خالف الكتاب والسنة من هذا وهذا باطل
وأما مشابهة فارس والروم فقد دخل منه في هذه الأمة من الآثار الرومية قولا وعملا والآثار الفارسية قولا وعملا مالا خفاء فيه على مؤمن عليم بدين الإسلام وبما حدث فيه
وليس الغرض هنا تفصيل الأمور التي وقعت في الأمة مما تضارع طريق المغضوب عليهم أو الضالين وإن كان بعض ذلك قد يقع مغفورا لصاحبه إما لاجتهاد أخطأ فيه وإما لحسنات محت السيئات أو غير ذلك
وإنما الغرض أن تتبين ضرورة العبد وفاقته إلى هداية الصراط المستقيم وأن ينفتح لك باب إلى معرفة الانحراف لتحذره
ثم إن الصراط المستقيم هو أمور باطنة في القلب من اعتقادات وإرادات وغير ذلك وأمور ظاهرة من أقوال وأفعال قد تكون عبادات وقد تكون أيضا عادات في الطعام واللباس والنكاح والمسكن والاجتماع والافتراق والسفر والإقامة والركوب وغير ذلك
وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ولا بد ارتباط ومناسبة فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أمورا ظاهرة وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعورا وأحوالا
وقد بعث الله عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه و سلم بالحكمة التي هي سنته وهي الشرعة والمنهاج الذي شرعه له
فكان من هذه الحكمة أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين وأمر بمخالفتهم في الهدى الظاهر وإن لم يظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة لأمور
منها أن المشاركة في الهدى الظاهر تورث تناسبا وتشاكلا بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال وهذا أمر محسوس فإن اللابس لثياب أهل العلم مثلا يجد من نفسه نوع انضمام إليهم واللابس لثياب الجند المقاتلة مثلا يجد في نفسه نوع تخلق بأخلاقهم ويصير طبعه مقتضيا لذلك إلا أن يمنعه من ذلك مانع
ومنها أن المخالفة في الهدى الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع
عن موجبات الغضب وأسباب الضلال والانعطاف إلى أهل الهدى والرضوان وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين وكلما كان القلب أتم حياة وأعرف بالإسلام الذي هو الإسلام لست أعني مجرد التوسم به ظاهرا أو باطنا بمجرد الاعتقادات التقليدية من حيث الجملة كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطنا أو ظاهرا أتم وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد
ومنها أن مشاركتهم في الهدى الظاهر توجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التمييز ظاهرا بين المهديين المرضيين وبين المغضوب عليهم والضالين إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية
هذا إذا لم يكن ذلك الهدى الظاهر إلا مباحا محضا لو تجرد عن مشابهتهم فأما إن كان من موجبات كفرهم فإنه يكون شعبة من شعب الكفر فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع ضلالهم ومعاصيهم
فهذا أصل ينبغي أن يتفطن له والله أعلم
فصل
في ذكر الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على الأمر بمخالفة الكفار والنهي عن التشبه بهم
لما كان الكلام في المسألة الخاصة قد يكون مندرجا في قاعدة عامة بدأنا بذكر بعض ما دل من الكتاب والسنة والإجماع على الأمر بمخالفة الكفار والنهي عن مشابهتهم في الجملة سواء كان ذلك عاما في جميع الأنواع المخالفة أو خاصا ببعضها وسواء كان أمر إيجاب أو أمر استحباب
ثم أتبعنا ذلك بما يدل على النهي عن مشابهتهم في أعيادهم خصوصا
وهنا نكتة قد نبهت عليها في هذا الكتاب وهي أن الأمر بموافقة قوم أو بمخالفتهم قد يكون لأن نفس قصد موافقتهم أو نفس موافقتهم مصلحة
وكذلك نفس قصد مخالفتهم أو نفس مخالفتهم مصلحة بمعنى أن ذلك الفعل يتضمن مصلحة للعبد أو مفسدة وإن كان ذلك الفعل الذي حصلت به الموافقة أو المخالفة لو تجرد عن الموافقة والمخالفة لم يكن فيه تلك المصلحة أو المفسدة ولهذا نحن ننتفع بنفس متابعتنا لرسول الله صلى الله عليه و سلم والسابقين من المهاجرين والأنصار في أعمال لولا أنهم فعلوها لربما قد كان لا يكون لنا فيها مصلحة لما يورث ذلك من محبتهم وائتلاف قلوبنا بقلوبهم وإن كان ذلك يدعونا إلى موافقتهم في أمور أخرى إلى غير ذلك من الفوائد كذلك قد نتضرر بموافقتنا الكافرين في أعمال لولا أنهم يفعلونها لم نتضرر بفعلها
وقد يكون الأمر بالموافقة والمخالفة لأن ذلك الفعل الذي يوافق العبد فيه أو يخالف متضمن للمصلحة والمفسدة ولو لم يفعلوه لكن عبر عنه بالموافقة والمخالفة على سبيل الدلالة والتعريف فتكون موافقتهم دليلا على المفسدة ومخالفتهم دليلا على المصلحة
واعتبار الموافقة والمخالفة على هذا التقدير من باب قياس الدلالة وعلى الأول من باب قياس العلة وقد يجتمع الأمران أعني الحكمة الناشئة من نفس الفعل الذي وافقناهم أو خالفناهم فيه ومن نفس مشاركتهم فيه وهذا هو الغالب على الموافقة والمخالفة المأمور بهما والمنهي عنهما فلا بد من التفطن لهذا المعنى فان به يعرف معنى نهي الله لنا عن اتباعهم وموافقتهم مطلقا ومقيدا
واعلم أن دلالة الكتاب على خصوص الأعمال وتفاصيلها إنما يقع بطريق الإجمال والعموم أو الاستلزام وإنما السنة هي التي تفسر الكتاب وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه
فنحن نذكر من آيات الكتاب ما يدل على أصل هذه القاعدة في الجملة ثم نتبع ذلك الأحاديث المفسرة لمعاني ومقاصد الآيات بعدها
قال الله سبحانه ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم
والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين
أخبر سبحانه أنه أنعم على بني إسرائيل بنعم الدين والدنيا وأنهم اختلفوا بعد مجيء العلم بغيا من بعضهم على بعض ثم جعل محمدا صلى الله عليه و سلم على شريعة من الأمر شرعها له وأمره باتباعها ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون وقد دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعته وأهواءهم هي ما يهوونه وما عليه المشركون من هديهم الظاهر الذي هو من موجبات دينهم الباطل وتوابع ذلك فهم يهوونه وموافقتهم فيه اتباع لما يهوونه ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين في بعض أمورهم ويسرون به ويودون أن لو بذلوا مالا عظيما ليحصل ذلك ولو فرض أن ليس الفعل من اتباع أهوائهم فلا ريب أن مخالفتهم في ذلك أحسم لمادة متابعتهم في أهوائهم وأعون على حصول مرضاة الله في تركها وأن موافقتهم في ذلك قد تكون ذريعة إلى موافقتهم في غيره فإن من حام حول الحمى أوشك أن يواقعه
وأي الأمرين كان حصل المقصود في الجملة وإن كان الأول أظهر
ومن هذا الباب قوله سبحانه والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق
فالضمير في أهوائهم يعود والله أعلم إلى ما تقدم ذكره وهم الأحزاب الذين ينكرون بعض ما أنزل إليه فدخل في ذلك كل من أنكر شيئا
من القرآن من يهودي أو نصراني أو غيرهما وقد قال ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم ومتابعتهم فيما يختصون به من دينهم وتوابع دينهم اتباع لأهوائهم بل يحصل اتباع أهوائهم بما هو دون ذلك
ومن هذا أيضا قوله تعالى ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهوائهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير
فانظر كيف قال في الخبر ملتهم وفي النهي أهواءهم لأن القوم لا يرضون إلا باتباع الملة مطلقا والزجر وقع عن اتباع أهوائهم في قليل أو كثير ومن المعلوم أن متابعتهم في بعض ما هم عليه من الدين نوع متابعة لهم في بعض ما يهوونه أو مظنة لمتابعتهم فيما يهوونه كما تقدم
ومن هذا الباب قوله سبحانه ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وأن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم
قال غير واحد من السلف معناه لئلا يحتج اليهود عليكم بالموافقة في القبلة فيقولوا قد وافقونا في قبلتنا فيوشك أن يوافقونا في ديننا فقطع الله بمخالفتهم في القبلة هذه الحجة إذ الحجة اسم لكل ما يحتج به من حق
وباطل إلا الذين ظلموا منهم وهم قريش فإنهم يقولون عادوا إلى قبلتنا فيوشك أن يعودوا إلى ديننا
فبين سبحانه أن من حكمة نسخ القبلة وتغييرها مخالفة الكافرين في قبلتهم ليكون ذلك أقطع لما يطمعون فيه من الباطل ومعلوم أن هذا المعنى ثابت في كل مخالفة وموافقة فإن الكافر إذا اتبع في شيء من أمره كان له من الحجة مثل ما كان أو قريب مما كان لليهود من الحجة في القبلة
وقال سبحانه ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات البينات وهم اليهود والنصارى الذين افترقوا على أكثر من سبعين فرقة ولهذا نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن متابعتهم في نفس التفرق والاختلاف مع أنه صلى الله عليه و سلم قد أخبر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة مع أن قوله لا تكن مثل فلان قد يعم مماثلته بطريق اللفظ أو المعنى وإن لم يعم دل على أن جنس مخالفتهم وترك مشابهتهم أمر مشروع ودل على أنه كلما بعد الرجل عن مشابهتهم فيما لم يشرع لنا كان أبعد عن الوقوع في نفس المشابهة المنهي عنها وهذه مصلحة جليلة
وقال سبحانه لموسى وهرون فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون وقال سبحانه وقال موسى لأخيه هرون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين وقال تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم إلى غير ذلك من الآيات
وما هم عليه من الهدى والعمل هو من سبيل غير المؤمنين بل من سبيل المفسدين والذين لا يعلمون وما يقدر عدم اندراجه في العموم فالنهي ثابت عن جنسه فيكون مفارقة الجنس بالكلية أقرب إلى ترك المنهي عنه ومقاربته في مظنة وقوع المنهي عنه
قال سبحانه وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ومتابعتهم في هديهم هي من اتباع ما يهوونه أو مظنة لا تباع ما يهوونه وتركها معونة على ترك ذلك وحسم لمادة متابعتهم فيما يهوونه
واعلم أن في كتاب الله من النهي عن مشابهة الأمم الكافرة وقصصهم التي فيها عبرة لنا بترك ما فعلوه كثير مثل قوله لما ذكر ما فعله بأهل الكتاب من المثلات فاعتبروا يا أولي الأبصار وقوله لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب وأمثال ذلك
ومنه ما يدل على مقصودنا ومنه ما فيه إشارة وتتميم للمقصود
ثم متى كان المقصود بيان أن مخالفتهم في عامة أمورهم أصلح لنا فجميع الآيات دالة على ذلك وإن كان المقصود أن مخالفتهم واجبة علينا فهذا إنما يدل عليه بعض الإيات دون بعض
ونحن ذكرنا ما يدل على أن مخالفتهم مشروعة في الجملة إذا كان هذا هو المقصود هنا
وأما تمييز دلالة الوجوب أو الواجب عن غيرها وتمييز الواجب عن غيره فليس هو الغرض هنا
وسنذكر إن شاء الله أن مشابهتهم في أعيادهم من الأمور المحرمة فإنه هو المسألة المقصودة هنا بعينها وسائر المسائل سواها إنما جلبها إلى هنا تقرير القاعدة الكلية العظيمة المنفعة
قال الله عز و جل المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير
بين الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات أخلاق المنافقين وصفاتهم وأخلاق المؤمنين وصفاتهم وكلا الفريقين مظهر للإسلام ووعد المنافقين المظهرين للإسلام مع هذه الإخلاق والكافرين المظهرين للكفر نار جهنم وأمر نبيه بجهاد الطائفتين
ومنذ بعث الله عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه و سلم وهاجر إلى المدينة صار الناس ثلاثة أصناف مؤمن ومنافق وكافر فأما الكافر وهو المظهر للكفر فأمره بين وإنما الغرض هنا متعلق بصفات المنافقين المذكورة في الكتاب والسنة
فإنها هي التي تخاف على أهل القبلة فوصف الله سبحانه المنافقين بأن بعضهم من بعض وقال في المؤمنين بعضهم أولياء بعض
وذلك لأن المنافقين تشابهت قلوبهم وأعمالهم وهم مع ذلك تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى فليست قلوبهم متوادة متوالية إلا ما دام الغرض الذي يؤمونه مشتركا بينهم ثم يتخلى بعضهم عن بعض بخلاف المؤمن فإنه يحب المؤمن وينصره بظهر الغيب وإن تناءت بهم الديار وتباعد الزمان
ثم وصف الله سبحانه كل واحدة من الطائفتين بأعمالهم في أنفسهم وفي غيرهم وكلمات الله جوامع
وذلك أنه لما كانت أعمال المرء المتعلقة بدينه قسمين أحدهما أن يعمل ويترك والثاني أن يأمر غيره بالفعل والترك ثم فعله إما أن يختص هو بنفعه أو ينفع به غيره فصارت الأقسام ثلاثة ليس لها رابع
أحدها ما يقوم بالعامل ولا يتعلق بغيره كالصلاة مثلا
والثاني ما يعمله لنفع غيره كالزكاة
والثالث ما يأمر غيره أن يفعله فيكون الغير هو العامل وحظه هو الأمر به
فقال سبحانه في وصف المنافقين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف وبإزائه في وصف المؤمنين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
والمعروف اسم جامع لكل ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح
والمنكر اسم جامع لكل ما كرهه الله ونهى عنه
ثم قال ويقبضون أيديهم قال مجاهد يقبضونها عن الإنفاق في سبيل الله وقال قتادة يقبضون أيديهم عن كل خير فمجاهد أشار إلى النفع بالمال وقتادة أشار إلى النفع بالمال والبدن وقبض اليد عبارة عن الإمساك كما في قوله تعالى ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط
وفي قوله وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وهي حقيقة عرفية ظاهرة من اللفظ أو هي مجاز مشهور
وبإزاء قبض أيديهم قوله في المؤمنين يؤتون الزكاة فإن الزكاة وإن كانت قد صارت حقيقة شرعية في الزكاة المفروضة فإنها اسم لكل نفع للخلق من نفع بدني أو مالي فالوجهان هنا كالوجهين في قبض اليد
ثم قال نسوا الله فنسيهم ونسيان الله ترك ذكره
وبإزاء ذلك قال في صفة المؤمنين يقيمون الصلاة فإن الصلاة أيضا تعم الصلاة المفروضة والتطوع وقد يدخل فيها كل ذكر الله إما لفظا وإما معنى قال ابن مسعود رضي الله عنه ما دمت تذكر الله فأنت في صلاة وإن كنت في السوق وقال معاذ بن جبل مدارسة العلم التسبيح
ثم ذكر ما وعد الله به المنافقين والكفار من اللعنة ومن النار والعذاب المقيم في الآخرة
وبإزائه ما وعد الله المؤمنين من الجنة والرضوان ومن الرحمة
ثم في ترتيب الكلمات وألفاظها أسرار كثيرة ليس هذا موضعها وإنما الغرض تمهيد قاعدة لما سنذكره إن شاء الله
وقد قيل إن قوله ولهم عذاب مقيم إشارة إلى ما هو لازم لهم في الدنيا والآخرة من الآلام النفسية غما وحزنا وقسوة ظلمة قلب وجهلا فإن للكفر والمعاصي من الآلام العاجلة الدائمة ما الله به عليم ولهذا تجد غالب هؤلاء لا يطيبون عيشهم إلا بما يزيل عقولهم ويلهي قلوبهم من تناول مسكر أو رؤية مله أو سماع مطرب ونحو ذلك
وبإزاء ذلك قوله في المؤمنين أولئك سيرحمهم الله فإن الله يعجل للمؤمنين من الرحمة في قلوبهم وغيرها بما يجدونه من حلاوة الإيمان ويذوقونه من طعمه وانشراح صدورهم للإسلام إلى غير ذلك من السرور بالإيمان والعلم النافع والعمل الصالح بما لا يمكن وصفه
ثم قال سبحانه في تمام خبر المنافقين كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا وهذه الكاف قد قيل إنها رفع خبر مبتدأ محذوف تقديره أنتم كالذين من قبلكم وقيل إنها نصب بفعل محذوف تقديره فعلتم كالذين من قبلكم كما قال النمر بن تولب … كاليوم مطلوبا ولا طالبا …
أي لم أر كاليوم والتشبيه على هذين القولين في أعمال الذين من قبل وقيل إن التشبيه في العذاب
ثم قيل العامل محذوف أي لعنهم وعذبهم كما لعن الذين من قبلكم وقيل هو أجود بل العامل ما تقدم أي وعد الله المنافقين كوعد الذين من قبلكم ولعنهم كلعن الذين من قبلكم ولهم عذاب مقيم كالذين من قبلكم فمحلها نصب ويجوز أن يكون رفعا أي عذاب كعذاب الذين من قبلكم
وحقيقة الامر على هذا القول أن الكاف تنازعها عاملان ناصبان أو ناصب ورافع من جنس قولهم أكرمت وأكرمني زيد والنحويون لهم فيما إذا لم يختلف العامل كقولك أكرمت وأعطيت زيدا قولان
أحدهما وهو قول سيبويه وأصحابه أن العامل في الاسم هو أحدهما وأن الآخر حذف معموله لأنه لا يرى اجتماع عاملين على معمول واحد
والثاني قول الفراء وغيره من الكوفيين أن الفعلين عملا في هذا الاسم وهو يرى أن العاملين يعملان في المعمول الواحد
وعلى هذا اختلافهم في نحو قوله عن اليمين وعن الشمال قعيد وأمثاله
فعلى قول الأولين يكون التقدير وعد الله المنافقين النار كوعد الذين من قبلكم ولهم عذاب مقيم كالذين من قبلكم أو كعذاب الذين من قبلكم ثم حذف اثنان من هذه المعمولات لدلالة الآخر عليهما وهم يستحسنون حذف الأولين
وعلى القول الثاني يمكن أن يقال الكاف المذكورة بعينها هي المتعلقة بقوله وعد وبقوله لعن وبقوله ولهم عذاب مقيم لأن الكاف لا يظهر فيها إعراب وهذا على القول بأن عمل الثلاثة النصب ظاهر
وإذا قيل إن الثالث يعمل الرفع فوجهه أن العمل واحد في اللفظ إذ التعلق تعلق معنوي لا لفظي
وإذا عرفت أن من الناس من يجعل التشبيه في العمل ومنهم من يجعل التشبيه في العذاب فالقولان متلازمان إذ المشابهة في الموجب تقتضي المشابهة في الموجب وبالعكس فلا خلاف معنوي بين القولين
وكذلك ما ذكرناه من اختلاف النحويين في وجوب الحذف وعدمه إنما هو اختلاف في تعليلات ومآخذ لا تقتضي اختلافا لا في إعراب ولا في معنى
فإذن الأحسن أن تتعلق الكاف بمجموع ما تقدم من العمل والجزاء فيكون التشبيه فيهما لفظيا
وعلى القولين الأولين يكون قد دل على أحدهما لفظا ودل على الآخر لزوما
وإن سلكت طريقة الكوفيين على هذا كان أبلغ وأحسن فإن لفظ الآية يكون قد دل على المشابهة في الأمرين من غير حذف وإلا فيضمر حالكم كحال الذين من قبلكم ونحو ذلك وهو قول من قدره أنتم كالذين من قبلكم ولا يسع هذا المكان بسطا أكثر من هذا فإن الغرض متعلق بغيره
وهذه المشابهة في هؤلاء بإزاء ما وصف الله به المؤمنين من قوله ويطيعون الله ورسوله فان طاعة الله ورسوله تنافي مشابهة الذين من قبلكم قال سبحانه كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا
فالخطاب في قوله كانوا أشد منكم قوة وقوله فاستمتعتم إن كان للمنافقين كان من باب خطاب التلوين والالتفات وهذا انتقال من الغيبة إلى الحضور كما في قوله الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين ثم حصل الانتقال من الخطاب إلى الغيبة في قوله أولئك حبطت أعمالهم وكما في قوله حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها وقوله وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فإن الضمير في قوله أولئك حبطت أعمالهم الأظهر أنه عائد إلى المستمتعين الخائضين من هذه الأمة كقوله فيما بعد ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم وإن كان الخطاب لمجموع الأمة المبعوث إليها فلا يكون الإلتفات إلا في الموضع الثاني
وأما قوله فاستمتعوا بخلاقهم ففي تفسير عبد الرزاق عن معمر عن الحسن في قوله فاستمتعوا بخلاقهم قال بدينهم ويروى ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه
وروي عن أبي عباس بنصيبهم من الآخرة في الدنيا وقال آخرون بنصيبهم من الدنيا
قال أهل اللغة الخلاق هو النصيب والحظ كأنه ما خلق للانسان أي ما قدر له كما يقال القسم لما قسم له والنصيب لما نصب له أي أثبت ومنه قوله تعالى ماله في الآخرة من خلاق و وماله في الآخرة من خلاق أي من نصيب وقول النبي صلى الله عليه و سلم إنما يلبس الحرير من لا خلاق له في الآخرة
والآية تعم ما ذكره العلماء جميعهم فإنه سبحانه قال كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فتلك القوة التي كانت فيهم كانوا يستطيعون أن يعموا بها للدنيا والآخرة وكذلك أموالهم وأولادهم وتلك القوة والأموال والأولاد هو الخلاق فاستمتعوا بقوتهم وأموالهم وأولادهم في الدنيا ونفس الأعمال التي عملوها بهذه القوة والأموال هي دينهم وتلك الأعمال لو أرادوا بها الله والدار الآخرة لكان لهم ثواب في الآخرة عليها فتمتعهم بها أخذ حظوظهم العاجلة بها فدخل في هذا من لم يعمل إلا لدنياه سواء كان جنس العمل من العبادات أو غيرها
ثم قال سبحانه فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا
وفي الذي وجهان أحسنهما أنها صفة المصدر أي كالخوض الذي خاضوه فيكون العائد محذوفا كما في قوله أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وهو كثير فاش في اللغة
والثاني أنه صفة الفاعل أي كالفريق أو الصنف أو الجيل الذي خاضوه كما لو قيل كالذين خاضوا
وجمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض لأن فساد الدين إما أن يقع بالاعتقاد الباطل والتكلم به أو يقع في العمل بخلاف الاعتقاد الحق والأول هو البدع ونحوها والثاني هو فسق الأعمال ونحوها
والأول من جهة الشبهات والثاني من جهة الشهوات
ولهذا كان السلف يقولون احذروا من الناس صنفين صاحب هوى قد فتنه هواه وصاحب دنيا أعمته دنياه
وكانوا يقولون احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون فهذا يشبه المغضوب عليهم الذين يعلمون الحق ولا يتبعونه وهذا يشبه الضالين الذين يعملون بغير علم
ووصف بعضهم أحمد بن حنبل فقال رحمه الله عن الدنيا ما كان أصبره وبالماضين ما كان أشبهه أتته البدع فنفاها والدنيا فأباها
وقد وصف الله أئمة المتقين فقال وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون فبالصبر تترك الشهوات وباليقين تدفع الشبهات
ومنه قوله في سورة العصر وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر وقوله واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار
ومنه الحديث المرسل عن النبي صلى الله عليه و سلم إن الله يحب البصير الناقد عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات
فقوله سبحانه فاستمتعتم بخلاقكم إشارة إلى اتباع الشهوات وهو داء العصاة
وقوله وخضتم كالذي خاضوا إشارة إلى اتباع الشبهات وهو داء المبتدعة وأهل الأهواء والخصومات وكثيرا ما يجتمعان فقل من تجد في اعتقاده فسادا إلا وهو ظاهر في عمله وقد دلت الآية على أن الذين كانوا من قبل استمتعوا وخاضوا وهؤلاء فعلوا مثل أولئك
ثم قوله فاستمتعتم و خضتم خبر عن وقوع ذلك في الماضي وهو ذم لمن يفعله إلى يوم القيامة كسائر ما أخبر الله به عن أعمال وصفات الكفار والمنافقين عند مبعث عبده ورسوله محمد صلى الله عليه و سلم فإنه ذم لمن يكون حاله حالهم إلى يوم القيامة
وقد يكون خبرا عن أمر دائم مستمر لأنه وإن كان بضمير الخطاب فهو كالضمير في نحو قوله اعبدوا واغسلوا واركعوا واسجدوا وآمنوا كما أن جميع الموجودين في وقت النبي صلى الله عليه و سلم وبعده إلى يوم القيامة مخاطبون بهذا الكلام لأنه كلام الله وإنما الرسول مبلغ عن الله
وهذا مذهب عامة المسلمين وإن كان بعض من تكلم في أصول الفقه اعتمد أن ضمير الخطاب إنما يتناول الموجودين حين تبليغ الرسول وأن سائر الموجودين دخلوا إما بما علمناه بالاضطرار من استواء الحكم كما لو خاطب النبي صلى الله عليه و سلم واحدا من الأمة وإما بالسنة وإما بالاجماع وإما بالقياس فيكون كل من حصل منه هذا الاستمتاع والخوض مخاطبا بقوله فاستمتعتم وخضتم وهذا أحسن القولين
وقد توعد الله سبحانه هؤلاء المستمتعين الخائضين بقوله أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون
وهذا هو المقصود هنا من هذه الآية وهو أن الله قد أخبر أن في هذه الأمة
من استمتع بخلاقه كما استمتعت الأمم قبلهم وخاض كالذي خاضوا وذمهم على ذلك وتوعدهم على ذلك
ثم حضهم على الاعتبار بمن قبلهم فقال ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود الآية
وقد قدمنا أن طاعة الله ورسوله في وصف المؤمنين بإزاء ما وصف به هؤلاء من مشابهة القرون المتقدمة وذم من يفعل ذلك وأمره بجهاد الكفار والمنافقين بعد هذه الآية دليل على جهاد هؤلاء المستمتعين الخائضين
ثم هذا الذي دل عليه الكتاب مشابهة بعض هذه الأمة للقرون الماضية في الدنيا وفي الدين وذم من يفعل ذلك دلت عليه أيضا سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وتأول هذه الآية على ذلك أصحابه رضي الله عنهم
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لتأخذن كما أخذت الأمم من قبلكم ذراعا بذراع وشبرا بشبر وباعا بباع حتى لو أن أحدا من أولئك دخل حجر ضب لدخلتموه قال أبو هريرة اقرؤا إن شئتم كالذين من قبلكمكانوا أشد منكم قوة الآية قالوا يا رسول الله كما صنعت فارس والروم وأهل الكتاب قال فهل الناس إلا هم
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية أنه قال ما أشبه الليلة بالبارحة هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال المنافقون الذين منكم اليوم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم قلنا وكيف قال أولئك كانوا يخفون نفاقهم وهؤلاء أعلنوه
وأما السنة فجاءت بالإخبار بمشابهتهم في الدنيا وذم ذلك والنهي عن ذلك وكذلك في الدين
فأما الأول الذي هو الاستمتاع بالخلاق ففي الصحيحين عن عمرو بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم هو صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فواوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم انصرف فتعرضوا له فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم حين رآهم ثم قال أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين فقالوا أجل يا رسول الله فقال أبشروا وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم
فقد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أنه لا يخاف على أمته فتنة الفقر وإنما يخاف بسط الدنيا وتنافسها وإهلاكها وهذا هو الاستمتاع بالخلاق المذكور في الآية
وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر فقال إني فرط لكم وأنا شهيد عليكم وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض أو مفاتيح الأرض وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها وفي رواية ولكني أخشى عليكم أن تنافسوا فيها وتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم قال عقبة فكان آخر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم على المنبر
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أي قوم أنتم قال عبد الرحمن بن عوف نكون كما أمرنا الله عز و جل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم تنافسون ثم تحاسدون ثم تدابرون أو تباغضون أو غير ذلك ثم تنطلقون إلى مساكن المهاجرين فتحملوا بعضهم على رقاب بعض
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال جلس رسول الله صلى الله عليه و سلم على المنبر وجلسنا حوله فقال إن مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح من زهرة الدنيا وزينتها فقال رجل أو يأتي الخير بالشر يا رسول الله فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقيل ما شأنك تكلم رسول الله ولا يكلمك وقال ورأينا أنه ينزل عليه فأفاق يمسح عنه الرحضاء وقال اين هذا السائل وكأنه حمده فقال إنه لا يأتي الخبر بالشر وفي رواية فقال أين السائل آنفا أو خير هو ثلاثا إن الخير لا يأتي إلا بالخير وإن مما
ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم إلا آكلة الخضر فإنها أكلت حتى إذا امتدت خاصرتها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت وإن هذا المال خضر حلو ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل أو كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع ويكون عليه شاهدا يوم القيامة
وروى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله سبحانه مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء
فحذر رسول الله صلى الله عليه و سلم فتنة النساء معللا بأن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء
وهذا نظير ما سنذكره من حديث معاوية عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال إنما هلك بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم يعني وصل الشعر
وكثير من مشابهات أهل الكتاب في أعيادهم وغيرها إنما يدعو إليها النساء
وأما الخوض كالذي خاضوا فروينا من حديث الثوري وغيره عن عبد الرحمن بن زياد بن أنغم الأفريقي عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إذا كان منهم من أتى أمة علانية كان من أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا من هي يا رسول الله قال ما أنا عليه اليوم وأصحابي رواه أبو عيسى الترمذي وقال هذا حديث غريب مفسر لا نعرفه إلا من هذا الوجه
وهذا الافتراق مشهور عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه وسعد ومعاوية وعمرو بن عوف وغيرهم وإنما ذكرت حديث ابن عمرو لما فيه من المشابهة
فعن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح
وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة يعني الأهواء كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة وقال إنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه فلا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به
هذا حديث محفوظ من حديث صفوان بن عمرو عن الأزهر بن عبد الله الحرازي وعن أبي عامر عبد الله بن يحيى عن معاوية ورواه عنه غير واحد منهم أبو اليمان وبقية وأبو المغيرة رواه أحمد وأبو داود في سننه وقد روى ابن ماجه هذا المعنى من حديث صفوان بن عمرو عن راشد بن سعد عن عوف بن مالك الأشجعي ويروى من وجوه أخر
فقد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم بافتراق أمته على ثلاث وسبعين فرقة واثنتان وسبعون لا ريب أنهم الذين خاضوا كخوض الذين من قبلهم
ثم هذا الاختلاف الذي أخبر به النبي صلى الله عليه و سلم إما في الدين فقط وإما في الدين والدنيا ثم قد يؤول إلى الدنيا وقد يكون الاختلاف في الدنيا فقط
وهذا الاختلاف الذي دلت عليه هذه الأحاديث هو مما نهى الله عنه في قوله سبحانه ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم وقوله إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء وقوله وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله
وهو موافق لما رواه مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه أقبل مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في طائفة من أصحابه من العالية حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه ودعا ربه طويلا ثم انصرف إلينا فقال سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة وسألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها وسألت ربي أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها
وروى أيضا في صحيحه عن ثوبان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما روى منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض
وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا ورواه البرقاني في صحيحه وزاد وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى يعبد فئام من أمتي الأوثان وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين
لا نبي بعدي ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى
وهذا المعنى محفوظ عن النبي صلى الله عليه و سلم من غير وجه يشير إلى أن الفرقة والاختلاف لا بد من وقوعهما في الأمة وكان يحذر أمته منه لينجو من الوقوع فيه من شاء الله له السلامة كما روى النزال بن سبرة عن عبد الله بن مسعود قال سمعت رجلا قرأ آية سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ خلافها فأخذت بيده فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه و سلم فذكرت ذلك له فعرفت في وجهه الكراهية وقال كلاكما محسن ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا رواه مسلم
نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين مامع الآخر من الحق لأن كلا القارئين كان محسنا فيما قرأه وعلل ذلك بأن من كان قبلنا اختلفوا فهلكوا ولهذا قال حذيفة لعثمان أدرك هذه الأمة لا تختلف في الكتاب كما اختلفت فيه الأمم قبلهم لما رأى أهل الشأم وأهل العراق يختلفون في حروف القرآن الاختلاف الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم
فأفاد ذلك شيئين
أحدهما تحريم الاختلاف في مثل هذا
والثاني الاعتبار بمن كان قبلنا والحذر من مشابهتهم
واعلم أن أكثر الاختلاف بين الأمة الذي يورث الأهواء تجده من هذا الضرب وهو أن يكون كل واحد من المختلفين مصيبا فيما يثبته أو في بعضه مخطئا في نفي ما عليه الآخر كما أن القارئين كل منهما كان مصيبا في القراءة بالحرف الذي علمه مخطئا في نفي حرف غيره فإن أكثر الجهل إنما يقع في النفي الذي هو الجحود والتكذيب لا في الإثبات لأن إحاطة الإنسان بما يثبته أيسر
من إحاطته بما ينفيه ولهذا نهيت هذه الأمة أن تضرب آيات الله بعضها ببعض لأن مضمون الضرب الإيمان بإحدى الآيتين والكفر بالأخرى إذا اعتقد أن بينهما تضادا إذ الضدان لا يجتمعان
ومثل ذلك ما رواه مسلم أيضا عن عبد الله بن رباح الأنصاري أن عبد الله ابن عمرو قال هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما فسمعت أصوات رجلين اختلفا في آية فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم يعرف في وجهه الغضب فقال إنما هلك من كان قبلكم من الأمم باختلافهم في الكتاب
فعلل غضبه صلى الله عليه و سلم بأن الاختلاف في الكتاب هو كان سبب هلاك من قبلنا وذلك يوجب مجانبة طريقهم في هذا عينا وفي غيره نوعا
والاختلاف على ما ذكره الله في القرآن قسمان
أحدهما أنه يذم الطائفتين جميعا كما في قوله ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك فجعل أهل الرحمة مستثنين من الاختلاف وكذلك قوله ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد وكذلك قوله وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم وقوله ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وقوله إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء وكذلك وصف اختلاف النصارى بقوله فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ووصف اختلاف اليهود بقوله وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله وقال فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون
وكذلك النبي صلى الله عليه و سلم لما وصف أن الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة قال كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة وفي الرواية الأخرى من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي
فبين أن عامة المختلفين هالكون من الجانبين إلا فرقة واحدة وهم أهل السنة والجماعة
وهذا الاختلاف المذموم من الطرفين يكون سببه تارة فساد النية لما في النفوس من البغي والحسد وإرادة العلو في الأرض بالفساد ونحو ذلك فيجب لذلك ذم قول غيره أو فعله أو غلبته ليتميز عليه أو يحب قول من يوافقه في نسب أو مذهب أو بلد أو صداقة ونحو ذلك لما في قيام قوله من حصول الشرف والرئاسة له وما أكثر هذا في بني آدم وهذا ظلم
ويكون سببه تارة أخرى جهل المختلفين بحقيقة الأمر الذي يتنازعان فيه أو الجهل بالدليل الذي يرشد به أحدهما الآخر أو جهل أحدهما بما مع الآخر من الحق في الحكم أو في الدليل وإن كان عالما بما مع نفسه من الحق حكما ودليلا
والجهل والظلم هما أصل كل شر كما قال سبحانه وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا
أما أنواع الاختلاف فهي في الأصل قسمان اختلاف تنوع واختلاف تضاد
واختلاف التنوع على وجوه منه ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقا مشروعا كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة حتى زجرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الاختلاف وقال كلاكما محسن
ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان والإقامة والاستفتاح
والتشهدات وصلاة الخوف وتكبيرات العيد وتكبيرات الجنازة إلى غير ذلك مما شرع جميعه وإن كان قد يقال إن بعض أنواعه أفضل
ثم نجد لكثير من الأمة في ذلك من الاختلاف ما أوجب اقتتال طوائف منهم كاختلافهم على شفع الإقامة وإيثارها ونحو ذلك وهذا عين المحرم ومن لم يبلغ هذا المبلغ فتجد كثيرا منهم في قلبه من الهوى لأحد هذه الأنواع والإعراض عن الآخر أو النهي عنه ما دخل به فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه و سلم
ومنه ما يكون كل من القولين هو في الواقع في معنى قول الآخر لكن العبارتان مختلفتان كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود والتعريفات وصيغ الأدلة والتعبير عن المسميات وتقسيم الأحكام وغير ذلك ثم الجهل أو الظلم هو الذي يحمل على حمد إحدى المقالتين وذم الأخرى
ومنه ما يكون المعنيان غيرين لكن لا يتنافيان فهذا قول صحيح وذلك قول صحيح وإن لم يكن معنى أحدهما هو معنى الآخر وهذا كثير في المنازعات جدا
ومنه ما يكون طريقتان مشروعتان ولكن قد سلك رجل أو قوم هذه الطريقة وآخرون قد سلكوا الأخرى وكلاهما حسن في الدين ثم الجهل أو الظلم يحمل على ذم أحدهما أو تفضيله بلا قصد صالح أو بلا علم أو بلا نية
وأما اختلاف التضاد فهو القولان المتنافيان إما في الأصول وإما في الفروع عند الجمهور الذين يقولون المصيب واحد وإلا فمن قال كل مجتهد مصيب فعنده هو من باب اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد
فهذا الخطب فيه أشد لأن القولين يتنافيان لكن نجد كثيرا من هؤلاء قد يكون القول الباطل الذي مع منازعه فيه حق ما أو معه دليل يقتضي حقا ما فيرد الحق في هذا الأصل كله حتى يبقى هذا مبطلا في البعض كما كان الأول مبطلا في الأصل كما رأيته لكثير من أهل السنة في مسائل القدر والصفات والصحابة
وغيرهم وأما أهل البدعة فالأمر فيهم ظاهر وكما رأيته لكثير من الفقهاء أو لأكثر المتأخرين في مسائل الفقه وكذلك رأيت منه كثيرا بين بعض المتفقهة وبعض المتصوفة وبين فرق المتصوفة ونظائره كثيرة
ومن جعل الله له هداية ونورا رأى من هذا ما يتبين له به منفعة ما جاء في الكتاب والسنة من النهي عن هذا وأشباهه وإن كانت القلوب الصحيحه تنكر هذا ابتداء لكن نور على نور ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
وهذا القسم الذي سميناه اختلاف التنوع كل واحد من المختلفين مصيب فيه بلا تردد لكن الذم واقع على من بغى على الآخر فيه وقد دل القرآن على حمد كل واحد من الطائفتين في مثل هذا إذا لم يحصل من أحداهما بغي كما في قوله ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وقد كان الصحابة في حصار بني النضير اختلفوا في قطع الأشجار والنخيل فقطع قوم وترك آخرون وكما في قوله وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما فخص سليمان بالفهم وأثنى عليهما بالعلم والحكم
وكما في إقرار النبي صلى الله عليه و سلم يوم بني قريظة وقد كان أمر المنادي ينادي لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة من صلى العصر في وقتها ومن أخرها إلى أن وصل إلى بني قريظة وكما في قوله صلى الله عليه و سلم إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد ولم يصب فله أجر ونظائره كثيرة
وإذا جعلت هذا قسما آخر صار الاختلاف ثلاثة اقسام
وأما القسم الثاني من الاختلاف المذكور في كتاب الله فهو ما حمد فيه إحدى الطائفتين وهم المؤمنون وذم فيه الأخرى كما في قوله تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات
وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا
فقوله ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر حمد لإحدى الطائفتين وهم المؤمنون وذم للآخرى
وكذلك قوله هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات الآية مع ما ثبت في الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه أنها نزلت في المقتتلين يوم بدر علي وحمزة وعبيدة بن الحرث والذين بارزوهم من قريش وهم عتبة وشيبة والوليد بن عتبة
وأكثر الاختلاف الذي يؤول إلى الأهواء بين الأمة من القسم الأول وكذلك آل إلى سفك الدماء واستباحة الأموال والعداوة والبغضاء لأن إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق ولا تنصفها بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل والأخرى كذلك
وكذلك جعل الله مصدر الإختلاف البغي في قوله وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم لأن البغي مجاوزة الحد وذكر هذا في غير موضع من القرآن ليكون عبرة لهذه الأمة
وقريب من هذا الباب ما خرجاه في الصحيحين عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم
فأمرهم بالإمساك عما لم يؤمروا به معللا ذلك بأن سبب هلاك الأولين
إنما كان لكثرة السؤال ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية كما أخبرنا الله عن بني إسرائيل من مخالفتهم أمر موسى في الجهاد وغيره وفي كثرة سؤالهم عن صفات البقرة التي أمرهم بذبحها
لكن هذا الاختلاف على الأنبياء هو والله أعلم مخالفة للأنبياء كما يقال اختلف الناس على الأمير إذا خالفوه
والاختلاف الأول مخالفة بعضهم بعضا وإن كان الأمران متلازمين أو أن الاختلاف على الأنبياء هو الاختلاف فيما بينهم فإن اللفظ يحتمله
ثم الاختلاف كله قد يكون في التنزيل والحروف كما في حديث ابن مسعود وقد يكون في التأويل كما يحتمله حديث عبد الله بن عمرو فإن حديث عمرو ابن شعيب يدل على ذلك إن كانت هذه القصة
قال أحمد في المسند حدثنا إسماعيل حدثنا داود بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن نفرا كانوا جلوسا بباب النبي صلى الله عليه و سلم فقال بعضهم ألم يقل الله كذا وكذا وقال بعضهم ألم يقل الله كذا وكذا فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فخرج فكأنما فقيء في وجهه حب الرمان فقال أبهذا أمرتم أو بهذا بعثتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض إنما ضلت الأمم قبلكم بمثل هذا إنكم لستم مما ههنا في شيء انظروا الذي أمرتكم به فاعملوا به والذي نهيتكم عنه فانتهواعنه
وقال حدثنا يونس حدثنا حماد بن سلمة عن حميد ومطر الوراق وداود ابن أبي هند أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر فذكر الحديث
وقال أحمد حدثنا أنس بن عياض حدثنا أبو حازم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال لقد جلست أنا وأخي مجلسا ما أحب أن لي به حمر النعم أقبلت أنا وأخي وإذا مشيخة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم جلوس
عند باب من أبوابه فكرهنا أن نفرق بينهم فجلسنا حجرة إذ ذكروا آية من القرآن فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم مغضبا قد احمر وجهه يرميهم بالتراب ويقول مهلا يا قوم بهذا أهلكت الأمم من قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتب بعضها ببعض إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا وإنما نزل يصدق بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه
وقال أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا داود بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر قال فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب قال فقال لهم ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض بهذا هلك من كان قبلكم قال فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم أشهده ما غبطت نفسي بذلك المجلس إذا لم أشهده
هذا حديث محفوظ عن عمرو بن شعيب رواه عنه الناس ورواه ابن ماجه في سننه من حديث أبي معاوية كما سقناه
وقد كتب أحمد في رسالته إلى المتوكل هذا الحديث وجعل يقول لهم في مناظرته يوم الدار إنا قد نهينا أن نضرب كتاب الله بعضه ببعض
وهذا لعلمه رحمه الله بما في خلاف هذا الحديث من الفساد العظيم
وقد روى هذا المعنى الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال حديث حسن غريب قال وفي الباب عن عمر وعائشة وأنس
وهذا باب واسع لم نقصد له ههنا وإنما الغرض التنبيه على ما يخاف على الأمة من موافقة الأمم قبلها إذ الأمر في هذا الحديث كما قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم أصل هلاك بني آدم إنما كان التنازع في القدر وعنه نشأ مذهب المجوس القائلين بالأصلين النور والظلمة ومذهب الصابئة وغيرهم القائلين
بقدم العالم ومذاهب كثير من مجوس هذه الأمة وغيرهم ومذاهب كثير ممن عطل الشرائع
فإن القوم تنازعوا في علة فعل الله سبحانه وتعالى لما فعله فأرادوا أن يثبتوا شيئا يستقيم لهم به تعليل فعله بمقتضى قياسه سبحانه على المخلوقات فوقعوا في غاية الضلال إما بأن زعموا أن فعله ما زال لازما له وإما بأن زعموا أن الفاعل اثنان وإما بأن زعموا بأنه يفعل البعض والخلق يفعلون البعض وإما بأن ما فعله لم يأمر بخلافه وما أمر به لم يقدر خلافه
وذلك حين عارضوا بين فعله وأمره حتى أقر فريق بالقدر وكذبوا بالأمر وأقر فريق بالأمر وكذبوا بالقدر حين اعتقدوا جميعا أن اجتماعهما محال وكل منهما مبطل بالتكذيب بما صدق به الآخر
وأكثر ما يكون ذلك لوقوع المنازعة في الشيء قبل إحكامه وجمع حواشيه وأطرافه ولهذا قال ما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه
والغرض من ذكر هذه الأحاديث هو التنبيه من الحديث والسنة على مثل ما في القرآن من قوله تعالى وخضتم كالذي خاضوا
ومن ذلك ما روى الزهري عن سنان بن أبي سنان الدؤلي عن أبي واقد الليثي أنه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى حنين ونحن حديثو عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينيطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم رواه مالك والنسائي والترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح ولفظه لتركبن سنة من كان قبلكم
وقد قدمت ما خرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه و سلم قال لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن
وما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لتأخذن أمتي مأخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا فارس والروم قال فمن الناس إلا أولئك
وهذا كله خرج منه مخرج الخبر عن وقوع ذلك والذم لمن يفعله كما كان يخبر عما يفعله الناس بين يدي الساعة من الأشراط والأمور المحرمات
فعلم أن مشابهة هذه الأمة اليهود والنصارى وفارس والروم مما ذمه الله ورسوله وهو المطلوب
ولا يقال فإذا كان الكتاب والسنة قد دلا على وقوع ذلك فما فائدة النهي عنه لأن الكتاب والسنة أيضا قد دلا على أنه لا يزال في هذه الأمة طائفة متمسكة بالحق الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه و سلم إلى قيام الساعة وأنها لا تجتمع على ضلالة ففي النهي عن ذلك تكثير لهذه الطائفة المنصورة وتثبيتها وزيادة إيمانها فنسأل الله المجيب أن يجعلنا منها
وأيضا لو فرض أن الناس لا يترك أحد منهم هذه المشابهة المنكرة لكان في العلم بها معرفة القبيح والإيمان بذلك فإن نفس العلم والإيمان بما كرهه الله خير وإن لم يعمل به بل فائدة العلم والإيمان أعظم من فائدة مجرد العمل الذي لم يقترن به علم فإن الإنسان إذا عرف المعروف وأنكر المنكر كان خيرا من أن يكون ميت القلب لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا
ألا ترى أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان رواه مسلم
وفي لفظ ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل
وإنكار القلب هو الإيمان بأن هذا منكر وكراهته لذلك
فإذا حصل هذا كان في القلب إيمان وإذا فقد القلب معرفة هذا المعروف وإنكار هذا المنكر ارتفع هذا الإيمان من القلب
وأيضا فقد يستغفر الرجل من الذنب مع إصراره عليه أو يأتي بحسنات تمحوه أو تمحو بعضه وقد تقلل منه وقد تضعف همته في طلبه إذا علم أنه منكر
ثم لو فرض أنا علمنا أن الناس لا يتركون المنكر ولا يعترفون بأنه منكر لم يكن ذلك مانعا من إبلاغ الرسالة وبيان العلم بل ذلك لا يسقط وجوب الإبلاغ ولا وجوب الأمر والنهي في إحدى الروايتين عن أحمد وقول كثير من أهل العلم على أن هذا ليس موضع استقصاء ذلك ولله الحمد على ما أخبر به النبي صلى الله عليه و سلم من أنه لا تزال من أمته طائفة ظاهرة على الحق حتى يأتي أمر الله
وليس هذا الكلام من خصائص هذه المسألة بل هو وارد في كل منكر قد أخبر الصادق بوقوعه
ومما يدل من القرآن على النهي عن مشابهة الكفار قوله سبحانه يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم قال قتادة وغيره كانت اليهود تقوله استهزاء فكره الله للمؤمنين أن يقولوا مثل قولهم وقال أيضا كانت اليهود تقول للنبي صلى الله عليه و سلم راعنا سمعك يستهزؤن بذلك وكانت في اليهود قبيحة
وروى أحمد عن عطية العوفي قال كان يأتي ناس من اليهود فيقولون راعنا سمعك حتى قالها ناس من المسلمين فكره الله لهم ما قالت اليهود
وقال عطاء كانت لغة في الأنصار في الجاهلية وقال أبو العالية إن
مشركي العرب كانوا إذا حدث بعضهم بعضا يقول أحدهم لصاحبه راعني سمعك فنهوا عن ذلك وكذلك قال الضحاك
فهذا كله يبين أن هذه الكلمة نهي المسلمون عن قولها لأن اليهود كانوا يقولونها وإن كانت من اليهود قبيحة ومن المسلمين لم تكن قبيحة لما كانت مشابهتهم فيها من مشابهة الكفار وطريقهم إلى بلوغ غرضهم
وقال سبحانه إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون
ومعلوم أن الكفار فرقوا دينهم وكانوا شيعا كما قال سبحانه ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وقال وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وقال ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وقال عن اليهود وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة
وقد قال تعالى لنبيه عليه الصلاة و السلام لست منهم في شيء وذلك يقتضي تبرؤه منهم في جميع الأشياء ومن تابع غيره في بعض أموره فهو منه في ذلك الأمر لأن قول القائل أنا من هذا وهذا مني أي أنا من نوعه وهو من نوعي لأن الشخصين لا يتحدان إلا بالنوع كما في قوله تعالى بعضكم من بعض وقوله عليه الصلاة و السلام لعلي أنت مني وأنا منك
فقول القائل لست من هذا في شيء أي لست مشاركا له في شيء بل أنا متبرئ من جميع أموره
وإذا كان الله قد برأ رسوله صلى الله عليه و سلم من جميع أمورهم فمن كان
متبعا للرسول صلى الله عليه و سلم حقيقة كان متبرئا منهم كتبرئه صلى الله عليه و سلم منهم ومن كان موافقا لهم كان مخالفا للرسول بقدر موافقته لهم
فإن الشخصين المختلفين من كل وجه في دينهما كلما شابهت أحدهما خالفت الآخر
وقال سبحانه وتعالى لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين
وقد روى مسلم في صحيحه عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآيات اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم بركوا على الركب فقالوا أي رسول الله كلفنا ما نطيق من الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد نزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله تعالى في إثرها آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك
المصير فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال نعم ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا قال نعم ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به قال نعم واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين قال نعم
فحذرهم النبي صلى الله عليه و سلم أن يتلقوا أمر الله بما تلقاه به أهل الكتابين وأمرهم بالسمع والطاعة فشكر الله لهم ذلك حتى رفع الله عنهم الآصار والأغلال التي كانت على من كان قبلهم
وقال الله في صفته صلى الله عليه و سلم ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فأخبر الله سبحانه أن رسوله عليه الصلاة و السلام يضع الآصار والأغلال التي كانت على أهل الكتاب
ولما دعا المؤمنون بذلك أخبرهم الرسول أن الله قد استجاب دعاءهم
وهذا وإن كان رفعا للإيجاب والتحريم فإن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته قد صح ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم وكذلك كان النبي عليه الصلاة و السلام يكره مشابهة أهل الكتابين في هذه الآصار والأغلال وزجر أصحابه عن التبتل وقال لا رهبانية في الإسلام وأمر بالسحور ونهى عن المواصلة وقال فيما يعيب أهل الكتابين ويحذرنا عن موافقتهم فتلك بقاياهم في الصوامع وهذا باب واسع جدا
وقال سبحانه وتعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم
وقال سبحانه ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم يعيب بذلك المنافقين الذين تولوا اليهود إلى قوله
لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو ابناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه إلى قوله أولئك حزب الله الا أن حزب الله هم المفلحون وقال تعالى إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياه بعض إلى قوله والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلى قوله والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم الآيات
فعقد الله سبحانه الموالاة بين المهاجرين والأنصار وبين من آمن من بعدهم وهاجر وجاهد إلى يوم القيامة والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه والجهاد باق إلى يوم القيامة
فكل شخص يمكن أن يقوم به هذان الوصفان إذ كان كثير من النفوس اللينة يميل إلى هجر السيئات دون الجهاد والنفوس القوية قد تميل إلى الجهاد دون هجر السيئات
وإنما عقد الله الموالاة لمن جمع بين الوصفين وهم أمة محمد صلى الله عليه و سلم الذين آمنوا به إيمانا صادقا
وقال إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ونظائر هذا في غير موضع من القرآن يأمر سبحانه بموالاة المؤمنين حقا الذين هم حزبه وجنده ويخبر أن هؤلاء لا يوالون الكافرين ولا يوادونهم
والموالاة والموادة وإن كانت متعلقة بالقلب لكن المخالفة في الظاهر أهون على المؤمن من مقاطعة الكافرين ومباينتهم
ومشاركتهم في الظاهر إن لم تكن ذريعة أو سببا قريبا أو بعيدا إلى نوع ما
من الموالاة والموادة فليس فيها مصلحة المقاطعة والمباينة مع أنها تدعو إلى نوع ما من المواصلة كما توجبه الطبيعة وتدل عليه العادة ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يستدلون بهذه الآيات على ترك الاستعانة بهم في الولايات
فروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قلت لعمر رضي الله عنه إن لي كاتبا نصرانيا قال مالك قاتلك الله أما سمعت الله يقول يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ألا اتخذت حنيفا قال قلت يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه قال لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله
ولما دل عليه معنى الكتاب وجاءت به سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وسنة خلفائه الراشدين التي أجمع الفقهاء عليها بمخالفتهم وترك التشبه بهم
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم أمر بمخالفتهم
وذلك يقتضي أن يكون جنس مخالفتهم أمرا مقصودا للشارع لأنه إن كان الأمر بجنس المخالفة حصل المقصود وإن كان الأمر بالمخالفة في تغيير الشعر فقط فهو لأجل ما فيه من المخالفة فالمخالفة إما علة مفردة أو علة أخرى أو بعض علة
وعلى جميع التقديرات تكون مأمورا بها مطلوبة للشارع لأن الفعل المأمور به إذا عبر عنه بلفظ مشتق من معنى أعم من ذلك الفعل فلا بد أن يكون ما منه الاشتقاق أمرا مطلوبا لا سيما إن ظهر لنا أن المعنى المشتق منه معنى مناسب للحكمة كما لو قيل للضيف أكرمه بمعنى أطعمه وللشيخ الكبير وقره بمعنى اخفض صوتك له أو نحوه وذلك لوجوه
أحدها أن الأمر إذا تعلق باسم مفعول مشتق من معنى كان ذلك المعنى علة
للحكم كما في قوله عز و جل فاقتلوا المشركين وقوله فأصلحوا بين أخويكم وقول النبي صلى الله عليه و سلم عودوا المريض وأطعموا الجائع وفكوا العاني وهذا كثير معلوم
فإذا كان نفس الفعل المأمور به مشتقا من معنى أعم منه كان نفس الطلب والاقتضاء قد علق بذلك المعنى الأعم فيكون مطلوبا بطريق الأولى
الوجه الثاني أن جميع الأفعال مشتقة سواء كانت هي مشتقة من المصدر أو كان المصدر مشتقا منها أو كان كل واحد منهما مشتقا من الآخر بمعنى أن بينهما مناسبة في اللفظ والمعنى لا بمعنى أن أحدهما أصل والآخر فرع بمنزلة المعاني المتضايفة كالأبوة والبنوة أو كالأخوة من الجانبين ونحو ذلك
فعلى كل حال إذا أمر بفعل كان نفس مصدر الفعل أمرا مطلوبا للآمر مقصودا له كما في قوله واتقوا الله وأحسنوا إن الله يحب المحسنين وفي قوله آمنوا بالله ورسوله وفي قوله اعبدوا الله ربي وربكم وفي قوله فعليه توكلوا فإن نفس التقوى والإحسان والإيمان والعبادة والتوكل أمور مطلوبة مقصودة بل هي نفس المأمور به
ثم المأمور به أجناس لا يمكن أن تقع إلا معينة وبالتعيين تقترن بها أمور غير مقصودة الفعل للآمر لكن لا يمكن العبد إيقاع الفعل المأمور به إلا مع أمور معينة له فإنه إذا قال فتحرير رقبة فلا بد إذا أعتق العبد رقبة أن يقترن بهذا المطلق تعيين من سواد أو بياض أو طول أو قصر أو عربية أو عجمية أو غير ذلك من الصفات لكن المقصود هو المطلق المشترك من هذه المعينات
وكذلك إذا قيل اتقوا الله وخالفوا اليهود فان التقوى تارة تكون بفعل واجب من صلاة أو صيام وتارة تكون بترك محرم من كفر أو زنا أو نحو ذلك فخصوص ذلك الفعل إذا دخل في التقوى لم يمنع دخول غيره
فإذا رؤي رجل هم بزنا فقيل له اتق الله كان أمرا له بعموم التقوى داخلا فيه الأمر بخصوص ترك ذلك الزنا لأن سبب اللفظ العام لا بد أن يدخل فيه
كذلك إذا قيل إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم كان أمرا بعموم المخالفة داخلا فيه المخالفة بصبغ اللحية لأنه سبب اللفظ العام
وسببه أن الفعل فيه عموم وإطلاق لفظي ومعنوي فيجب الوفاء به
وخروجه على سبب توجب أن يكون داخلا فيه لا يمنع أن يكون غيره داخلا فيه
وإن قيل إن اللفظ العام يقصر على سببه لأن العموم ههنا من جهة المعنى فلا يقبل من التخصيص ما يقبله العموم اللفظي
فإن قيل الأمر بالمخالفة أمر بالحقيقة المطلقة وذلك لا عموم فيه بل يكفي فيه المخالفة في أمر ما وكذلك سائر ما يذكرونه فمن أين اقتضى ذلك المخالفة في غير ذلك الفعل المعين
قلت هذا سؤال قد يورده بعض المتكلمين في عامة الأفعال المأمور بها ويلبسون به على الفقهاء
وجوابه من وجهين
أحدهما أن التقوى والمخالفة ونحو ذلك من الأسماء والأفعال المطلقة قد يكون العموم فيها من جهة عموم الكل لأجزائه لا من جهة عموم الجنس لأنواعه
فإن العموم ثلاثة أقسام عموم الكل لأجزائه وهو ما لا يصدق فيه الاسم العام ولا أفراده على جزئه
والثاني عموم الجمع لأفراده وهو ما يصدق فيه أفراد الاسم العام على آحاده
والثالث عموم الجنس لأنواعه وأعيانه وهو ما يصدق فيه نفس الاسم العام على أفراده
فالأول عموم الكل لأجزائه في الأعيان والأفعال والصفات كما في قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم فإن اسم الوجه يعم الخد والجبين والجبهة
ونحو ذلك وكل واحد من هذه الأجزاء ليس هو الوجه فإذا غسل بعض هذه الأجزاء لم يكن غاسلا للوجه لانتفاء المسمى بانتفاء جزئه
وكذلك في الصفات والأفعال إذا قيل صل فصلى ركعة وخرج بغير سلام أو قيل صم فصام بعض يوم لم يكن ممتثلا لانتفاء معنى الصلاة المطلقة والصوم المطلق
وكذلك إذا قيل أكرم هذا الرجل فأطعمه وضربه لم يكن ممتثلا لأن الإكرام المطلق يقتضي فعل ما يسره وترك ما يسوؤه كما قال النبي صلى الله عليه و سلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه فلو أطعمه بعض كفايته وتركه جائعا لم يكن مكرما له لانتفاء أجزاء الإكرام ولا يقال الإكرام حقيقة مطلقة وذلك يحصل باطعام أي شيء ولو لقمة
وكذلك إذا قال خالفوهم فالمخالفة المطلقة تنافي الموافقة في بعض الأشياء أو في أكثرها على طريق التساوي لأن المخالفة المطلقة ضد الموافقة المطلقة فيكون الأمر بأحدهما نهيا عن الآخر
ولا يقال إذا خالف في شيء ما فقد حصلت المخالفة كما لا يقال إذا وافقه في شيء ما فقد حصلت الموافقة
وسر ذلك الفرق بين مفهوم اللفظ المطلق وبين المفهوم المطلق من اللفظ فإن اللفظ يستعمل مطلقا ومقيدا فإذا أخذت المعنى المشترك بين جميع موارده مطلقها ومقيدها كان أعم من المعنى المفهوم منه عند إطلاقه وذلك المعنى المطلق يحصل بحصول بعض مسميات اللفظ في أي استعمال حصل من استعمالاته المطلقة أو المقيدة
وأما معناه في حال إطلاقه فلا يحصل بعض معانيه عند التقييد بل يقتضي أمورا كثيرة لا يقتضيها اللفظ المقيد فكثيرا ما يغلط الغالطون هنا
ألا ترى أن الفقهاء يفرقون بين الماء المطلق وبين المائية المطلقة الثابتة في
المني والمتغيرات وسائر المائعات فأنت تقول عند التقييد أكرم الضيف بإعطائه هذا الدرهم فهذا إكرام مقيد فإذا قلت أكرم الضيف كنت آمرا بمفهوم اللفظ المطلق وذلك يقتضي أمورا لا تحصل بحصول إعطائه الدرهم فقط
وأما القسم الثاني من أقسام العموم فهو عموم الجنس لأفراده كما يعم قوله تعالى اقتلوا المشركين كل مشرك
والقسم الثالث من أقسام العموم عموم الجنس لأعيانه كما يعم قوله صلى الله عليه و سلم لا يقتل مسلم بكافر جميع أنواع القتل المسلم والكافر إذا تبين هذا فالمخالفة المطلقة لا تحصل بالمخالفة في شيء ما إذا كانت الموافقة قد حصلت في أكثر منه وإنما تحصل بالمخالفة في جميع الأشياء أو في غالبها إذ المخالفة المطلقة ضد الموافقة المطلقة فلا يجتمعان بل الحكم للغالب
وهذا تحقيق جيد لكنه مبني على مقدمة وهي أن المفهوم من لفظ المخالفة عند الإطلاق يعم المخالفة في عامة الأمور الظاهرة
فإن خفي هذا الموضع المعين فخذ في الوجه الثاني وهو العموم المعنوي وهو أن المخالفة مشتقة فإنما أمر بها لمعنى كونها مخالفة كما تقدم تقريره وذلك ثابت في كل فرد من الأفراد المخالفة فيكون العموم ثابتا من جهة المعنى المعقول
وبهذين الطريقين يتقرر العموم في قوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار وغير ذلك من الأفعال وإن كان أكثر الناس إنما يفزعون إلى الطريق الثاني وقل منهم من يتفطن للطريق الأول وهذا أبلغ إذا صح
ثم نقول هب أن الإجزاء يحصل بأي يسمى مخالفة لكن الزيادة على القدر المجزئ مشروعة إذ كان الأمر مطلقا كما في قوله اركعوا واسجدوا ونحو ذلك من الأوامر المطلقة
الوجه الثالث في أصل التقرير أن العدول بالأمر عن لفظ الفعل الخاص به إلى لفظ أعم منه معنى كالعدول به عن لفظ أطعمه إلى لفظ أكرمه وعن لفظ فاصبغوا إلى لفظ فخالفوهم لا بد له من فائدة وإلا فمطابقة اللفظ
للمعنى أولى من إطلاق اللفظ العام وإرادة الخاص وليست هنا فائدة تظهر إلا تعلق القصد بذلك المعنى العام المشتمل على هذا الخاص وهذا بين عند التأمل
الوجه الرابع أن العلم بالعام عاما يقتضي العلم بالخاص والقصد للمعنى العام عاما يوجب القصد للمعنى الخاص فإنك إذا علمت أن كل مسكر خمر وعلمت أن النبيذ مسكر كان علمك بذلك الأمر العام وبحصوله في الخاص موجبا لعلمك بوصف الخاص كذلك إذا كان قصدك طعاما مطلقا أو مالا مطلقا وعلمت وجود طعام معين أو مال معين في مكان حصل قصدك له إذ العلم والقصد يتطابقان في مثل هذا والكلام يبين مراد المتكلم ومقصوده
فإذا أمر بفعل باسم دال على معنى عام مريدا به فعلا خاصا كان ما ذكرناه من الترتيب الحكمي يقتضي أنه قاصد بالأولى لذلك المعنى العام وأنه إنما قصد ذلك الفعل الخاص لحصوله به
ففي قوله أكرمه طلبان طلب للإكرام المطلق وطلب لهذا الفعل الذي يحصل به المطلق وذلك لأن حصول المعين مقتض لحصول المطلق وهذا معنى صحيح إذا صادف فطنة من الإنسان وذكاء انتفع به في كثير من المواضع وعلم به طريق البيان والدلالة
بقي أن يقال هذا يدل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع وهذا صحيح لكن قصد الجنس قد يحصل الاكتفاء فيه بالمخالفة في بعض الأمور فما زاد على ذلك لا حاجة إليه
قلت إذا ثبت أن الجنس مقصود في الجملة كان ذلك حاصلا في كل فرد من أفراده ولو فرض أن الوجوب سقط بالبعض لم يرفع حكم الاستحباب عن الباقي
وأيضا فإن ذلك يقتضي النهي عن موافقتهم لأنه من قصد مخالفتهم بحيث
أمرنا بإحداث فعل يقتضي مخالفتهم فيما لم تكن الموافقة فيه من فعلنا ولا قصدنا فكيف لا ينهانا عن أن نفعل فعلا فيه موافقتهم سواء قصدنا موافقتهم أو لم نقصدها
الوجه الخامس أنه رتب الحكم على الوصف بحرف الفاء فيدل هذا الترتيب على أنه علة له من غير وجه حيث قال إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم فإنه يقتضي أن علة الأمر بهذه المخالفة كونهم لا يصبغون فالتقدير اصبغوا لأنهم لا يصبغون وإذا كان علة الأمر بالفعل عدم فعلهم له دل على أن قصد المخالفة لهم ثابت بالشرع وهو المطلوب
يوضح ذلك أنه لو لم يكن لقصد مخالفتهم تأثير في الأمر بالصبغ لم يكن لذكرهم فائدة ولا حسن تعقيبه به
وهذا وإن دل على أن مخالفتهم أمر مقصود للشرع فذلك لا ينفي أن تكون في نفس الفعل الذي خولفوا فيه مصلحة مقصودة مع قطع النظر عن مخالفتهم فإن هنا شيئين
أحدهما أن نفس المخالفة لهم في الهدى الظاهر مصلحة ومنفعة لعباد الله المؤمنين لما في مخالفتهم من المجانبة والمباينة التي توجب المباعدة عن أعمال أهل الجحيم وإنما يظهر بعض المصلحة في ذلك لمن تنور قلبه حتى رأى ما اتصف به المغضوب عليهم والضالون من مرض القلب الذي ضرره أشد من ضرر أمراض الأبدان
والثاني أن نفس ما هم عليه من الهدى والخلق قد يكون مضرا أو منقصا فينهى عنه ويؤمر بضده لما فيه من المنفعة والكمال وليس شيء من أمورهم إلا وهو إما مضر أو ناقص لأن ما بأيديهم من الأعمال المبتدعة والمنسوخة ونحوها مضرة وما بأيديهم مما لم ينسخ أصله فهو يقبل الزيادة والنقص
فمخالفتهم فيه بأن يشرع ما يحصله على وجه الكمال ولا يتصور أن يكون شيء من أمورهم كاملا قط
فإذا المخالفة فيها منفعة وصلاح لنا في كل أمورنا حتى ما هم عليه من إتقان أمور دنياهم قد يكون مضرا بآخرتنا أو بما هو أهم منه من أمر دنيانا فالمخالفة فيه صلاح لنا
وبالجملة فالكفر بمنزلة مرض القلب أو اشد ومتى كان القلب مريضا لم يصح شيء من الأعضاء صحة مطلقة وإنما الصلاح أن لا تشابه مريض القلب في شيء من أموره وإن خفي عليك مرض ذلك العضو لكن يكفيك أن فساد الأصل لا بد أن يؤثر في الفرع ومن انتبه لهذا قد يعلم بعض الحكمة التي أنزلها الله فإن من في قلبه مرض قد يرتاب في الأمر بنفس المخالفة لعدم استبانته لفائدته أو يتوهم أن هذا من جنس أمر الملوك والرؤساء القاصدين للعلو في الأرض ولعمري إن النبوة غاية الملك الذي يؤتيه الله من يشاء وينزعه ممن يشاء ولكن ملك النبوة هو غاية صلاح من أطاع الرسول من العباد في معاشه ومعاده
وحقيقة الأمر أن جميع أعمال الكافر وأموره لا بد فيها من خلل يمنعها أن تتم له منفعة بها ولو فرض صلاح شيء من أموره على التمام لاستحق بذلك ثواب الآخرة ولكن كل أموره إما فاسدة وإما ناقصة
فالحمد لله على نعمة الإسلام التي هي أعظم النعم وأم كل خير كما يحب ربنا ويرضى
فقد تبين أن نفس مخالفتهم أمر مقصود للشارع في الجملة ولهذا كان الإمام أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة رضي الله عنهم يعللون الأمر بالصبغ بعلة المخالفة
قال حنبل سمعت أبا عبد الله يقول ما أحب لأحد إلا أن يغير الشيب
ولا يتشبه بأهل الكتاب لقول النبي صلى الله عليه و سلم غيروا الشيب ولا تشبهوا بأهل الكتاب
وقال إسحاق بن إبراهيم سمعت أبا عبد الله يقول لأبي يا أبا هاشم اختضب ولو مرة واحدة فأحب لك أن تختضب ولا تشبه باليهود
وهذا اللفظ الذي احتج به أحمد قد رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود قال الترمذي حديث حسن صحيح
وقد رواه النسائي من حديث محمد بن كناسة عن هاشم بن عروة عن عثمان ابن عروة عن أبيه عن الزبير عن النبي صلى الله عليه و سلم قال غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود ورواه أيضا من حديث عروة عن عبد الله بن عمر لكن قال النسائي كلاهما ليس بمحفوظ
وقال الدارقطني المشهور عن عروة مرسلا
وهذا اللفظ أدل على الأمر بمخالفتهم والنهي عن مشابهتهم فإنه إذا نهى عن التشبه بهم في بقاء بياض الشيب الذي ليس من فعلنا فلأن ينهى عن إحداث التشبه بهم أولى ولهذا كان هذا التشبه بهم يكون محرما بخلاف الأول
وأيضا ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى رواه البخاري ومسلم وهذا لفظه
فأمر بمخالفة المشركين مطلقا ثم قال أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى وهذه الجملة الثانية بدل من الأولى فإن الإبدال يقع في الجمل كما يقع في المفردات كقوله تعالى يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم
فهذا الذبح والاستحياء هو سوم العذاب كذلك هنا هذا هو المخالفة للمشركين المأمور بها هنا لكن الأمر بها أولا
فلفظ مخالفة المشركين دليل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع وإن عينت هنا في هذا الفعل فإن تقديم المخالفة علة تقديم العام على الخاص كما يقال أكرم ضيفك أطعمه وحادثه فأمرك بالإكرام أولا دليل على أن إكرام الضيف مقصود ثم عينت الفعل الذي يكون إكرامه إكراما له في ذلك الوقت
والتقرير من هذا الحديث شبيه بالتقرير من قوله لا يصبغون فخالفوهم وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس
فعقب الأمر بالوصف المشتق المناسب وذلك دليل على أن مخالفة المجوس أمر مقصود للشارع وهو العلة في هذا الحكم أو علة أخرى أو بعض علة وإن كان الأظهر عند الإطلاق أنه علة تامة
ولهذا لما فهم السلف كراهة التشبه بالمجوس في هذا وغيره كرهوا أشياء غير منصوصة بعينها عن النبي صلى الله عليه و سلم من هدى المجوس
وقال المروزي سألت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل عن حلق القفا فقال هو من فعل المجوس ومن تشبه بقوم فهو منهم
قال أيضا قيل لأبي عبد الله تكره للرجل أن يحلق قفاه أو وجهه فقال أما أنا فلا أحلق قفاي وقد روي فيه حديث مرسل عن قتادة في كراهيته وقال إن حلق القفا من فعل المجوس
قال وكان أبو عبد الله يحلق قفاه وقت الحجامة
وقال أحمد أيضا لا بأس أن يحلق قفاه قبل الحجامة وقد روى عنه ابن منصور قال سألت أحمد عن حلق القفا فقال لا أعلم فيه حديثا إلا ما يروى عن إبراهيم أنه كره قردايرقوس ذكر الخلال هذا وغيره
وذكر أيضا بإسناده عن الهيثم بن حميد قال حف القفا من شكل المجوس
وعن المعتمر بن سليمان التيمي قال كان أبي إذا جز شعره لم يحلق قفاه قيل له لم قال كان يكره أن يتشبه بالعجم
والسلف تارة يعللون الكراهة بالتشبه بأهل الكتاب وتارة بالتشبه بالأعاجم
وكلا العلتين منصوص في السنة مع أن الصادق صلى الله عليه و سلم قد أخبر بوقوع المشابهة لهؤلاء وهؤلاء كما قدمنا بيانه
وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم رواه أبو داود
وهذا مع أن نزع اليهود نعالهم مأخوذ عن موسى عليه السلام لما قيل له فاخلع نعليك
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب إكلة السحر
رواه مسلم في صحيحه
وهذا يدل على أن الفصل بين العبادتين أمر مقصود للشارع
وقد صرح بذلك فيما رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر لأن اليهود والنصارى يؤخرون
وهذا نص في أن ظهور الدين حاصل بتعجيل الفطر هو لأجل مخالفة اليهود والنصارى
وإذا كانت مخالفتهم سببا لظهور الدين فإنما المقصود بإرسال الرسل أن يظهر دين الله على الدين كله فتكون نفس مخالفتهم من أكبر مقاصد البعثة
وهكذا روى أبو داود من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا تزال أمتي بخير أو قال على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم
ورواه ابن ماجة من حديث العباس ورواه الإمام أحمد من حديث السائب ابن بريد وقد جاء مفسرا تعليله لا يزالون بخير ما لم يؤخرواالمغرب إلى طلوع النجوم مضاهاة لليهود وما لم يؤخروا الفجر إلى محاق النجوم مضاهاة للنصرانية
وقال سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية حدثنا الصلت بن بهرام عن الحارث بن وهب عن عبد الرحمن الصنابحي قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تزال أمتي على مسكة ما لم ينتظروا بالمغرب اشتباك النجوم مضاهاة لليهودية ومالم ينتظروا بالفجر محاق النجوم مضاهاة للنصرانية وما لم يكلوا الجنائز إلى أهلها
وقال سعيد بن منصور حدثنا عبيد الله بن زياد بن لقيط عن أبيه عن ليلى امرأة بشر بن الخصاصية قالت أردت أن أصوم يومين مواصلة فنهاني عنه بشر وقال إن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهاني عن ذلك وقال إنما يفعل ذلك النصارى صوموا كما أمركم الله وأتموا الصوم كما أمركم الله ثم أتموا الصيام إلى الليل فإذا كان الليل فأفطروا وقد رواه أحمد في المسند
فعلل النهي عن الوصال بأنه صوم النصارى وهو كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ويشبه أن يكون من رهبانيتهم التي ابتدعوها
وعن حماد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يواكلوها ولم يجامعوها في البيوت فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم النبي صلى الله عليه و سلم فأنزل الله عز و جل ويسألونك عن المحيض إلى آخر الآية فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اصنعوا كل شيء
إلا النكاح فبلغ ذلك اليهود فقالوا ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيءا إلا خالفنا فيه فجاء أسيد بن حصير وعباد بن بشر فقالا يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا أفلا نجامعهن فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأرسل في أثرهما فسقاهما فعرفنا أنه لم يجد عليهما رواه مسلم
فهذا الحديث يدل على كثرة ما شرعه الله لنبيه من مخالفة اليهود بل على أنه خالفهم في عامة أمورهم حتى قالوا ما يريد أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه
ثم إن المخالفة كما سنبينها تارة تكون في أصل الحكم وتارة في وصفه
ومجانبة الحائض لم يخالفوا في أصلها بل خالفوا في وصفها حيث شرع الله مقاربة الحائض في غير محل الأذى فلما أراد بعض الصحابة أن يتعدى في المخالفة إلى ترك ما شرعه الله تغير وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم
وهذا الباب باب الطهارة كان على اليهود فيه أغلال عظيمة فابتدع النصارى ترك ذلك كله بلا شرع من الله حتى إنهم لا ينجسون شيئا فهدى الأمة الوسط بما شرعه لها إلى الوسط من ذلك وإن كان ما كان عليه اليهود كان أيضا مشروعا فاجتناب مالم يشرع الله اجتنابه مقاربة لليهود وملابسة ما شرع الله اجتنابه مقاربة للنصارى وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه و سلم
وعن أبي أمامة عن عمرو بن عبسة قال كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة فإنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان قال فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارا فقعدت على راحلتي فقدمت عليه فإذا هو رسول الله صلى الله عليه و سلم مستخفيا جرآء عليه قومه فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة
فقلت له ما أنت فقال أنا نبي فقلت وما نبي فقال أرسلني الله فقلت بأي شيء أرسلك قال أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يوحد الله لا يشرك به شيء فقلت له فمن معك على هذا قال حر وعبد قال ومعه يومئذ أبو بكر وبلال فقلت إني متبعك قال إنك لن تستطيع ذلك يومك هذا ألا ترى حالي وحال الناس ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فائتني قال فذهبت إلى أهلي وقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة وكنت في أهلي فجعلت أستخبر الأخبار وأسأل الناس حتى قدم نفر من أهل يثرب أي من أهل المدينة فقلت ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة فقالوا الناس إليه سراع وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك فقدمت المدينة فدخلت عليه فقلت يا رسول الله أتعرفني قال نعم أنت الذي لقيتني بمكة قال فقلت يا نبي الله أخبرني عما علمك الله وأجهله أخبرني عن الصلاة قال صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ثم صل فإن الصلاة مشهودة محصورة حتى يستقل الظل بالرمح ثم أقصر عن الصلاة فإن حينئذ تسجر جهنم فإذا أقبل الفي فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار وذكر الحديث رواه مسلم
فقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت الغروب معللا ذلك النهي بأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان وأنه حينئذ يسجد لها الكفار
ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله تعالى وأكثر الناس قد لا يعلمون
أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان ولا أن الكفار يسجدون لها ثم إنه صلى الله عليه و سلم نهى عن الصلاة في هذا الوقت حسما لمادة المشابهة بكل طريق
ويظهر بعض فائدة ذلك بأن من الصابئة المشركين اليوم ممن يظهر الإسلام يعظم الكواكب ويزعم أنه يخاطبها بحوائجه ويسجد لها وينحر ويذبح وقد صنف بعض المنتسبين إلى الإسلام في مذهب المشركين من الصابئة والبراهمة كتبا في عبادة الكواكب توسلا بذلك زعموا إلى مقاصد دنيوية من الرئاسة وغيرها وهي من السحر الذي كان عليه الكنعانيون الذين كان ملوكهم النماردة الذين بعث الله الخليل صلوات الله وسلامه عليه بالحنيفية وإخلاص الدين كله لله إلى هؤلاء المشركين
فإذا كان في هذه الأزمنة من يفعل مثل هذا تحققت حكمة الشارع صلوات الله وسلامه عليه في النهي عن الصلاة في هذه الأوقات سدا للذريعة وكان في تنبيه على أن كل ما يفعله المشركون من العبادات ونحوها مما يكون كفرا أو معصية بالنية ينهى المؤمنون عن ظاهره وإن لم يقصدوا به قصد المشركين سدا للذريعة وحسما للمادة
ومن هذا الباب أنه صلى الله عليه و سلم كان إذا صلى إلى عود أو عمود جعله إلى حاجبه الإيمن أو الأيسر ولم يصمد له صمدا
ولهذا نهى عن الصلاة إلى ما عبد من دون الله في الجملة وإن لم يكن العابد يقصد ذلك ولهذا ينهى عن السجود لله بين يدي الرجل وإن لم يقصد الساجد ذلك لما فيه من مشابهة السجود لغير الله
فانظر كيف قطعت الشريعة المشابهة في الجهات وفي الأوقات وكما لا يصلى إلى القبلة التي يصلون إليها كذلك لا يصلى إلى ما يصلون له بل هذا أشد
فسادا فإن القبلة شريعة من الشرائع قد تختلف باختلاف شرائع الأنبياء أما السجود لغير الله وعبادته فهو محرم في الدين الذي اتفقت عليه رسل الله كما قال سبحانه وتعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة تعبدون
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه رأى رجلا يتكئ على يده اليسرى وهو قاعد في الصلاة فقال له لا تجلس هكذا فإن هكذا يجلس الذين يعذبون وفي رواية تلك صلاة المغضوب عليهم وفي رواية نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده روى هذا كله أبو داود
ففي هذا الحديث النهي عن هذه الجلسة معللا بأنها جلسة المعذبين وهذه مبالغة في مجانبة هديهم
وأيضا فقد روى البخاري عن مسروق عن عائشة أنها كانت تكره أن يجعل المصلي يده في خاصرته وتقول إن اليهود تفعله
ورواه أيضا من حديث أبي هريرة قال نهى عن التخصر في الصلاة وفي لفظ نهى أن يصلي الرجل متخصرا
قال وقال هشام وأبو هلال عن ابن سيرين عن أبي هريرة نهى النبي صلى الله عليه و سلم وهكذا رواه مسلم في صحيحه نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم
وعن زياد بن صبيح قال صليت إلى جنب ابن عمر فوضعت يدي على خاصرتي فلما صلى قال هذا الصلب في الصلاة وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم ينهى عنه رواه أحمد وأبو داود والنسائي
وأيضا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال اشتكى رسول الله صلى الله عليه و سلم فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع الناس تكبيره فالتفت إلينا فرآنا قياما فأشار إلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعودا فلما سلم قال إن كدتم آنفا تفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا ائتموا بأئمتكم إن صلى قائما فصلوا قياما وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا رواه مسلم وأبو داود من حديث الليث عن أبي الزبير عن جابر
ورواه أبو داود وغيره من حديث الأعمش عن أبي سفيان طلحة بن نافع القرشي عن جابر قال ركب رسول الله صلى الله عليه و سلم فرسا بالمدينة فصرعه على جذم نخلة فانفكت قدمه فأتيناه نعوده فوجدناه في مشربة لعائشة يسبح جالسا قال فقمنا خلفه فسكت عنا ثم أتيناه مرة أخرى نعوده فصلى المكتوبة جالسا فقمنا خلفه فأشار إلينا فقعدنا قال فلما قضى الصلاة قال إذا صلى الإمام جالسا فصلوا جلوسا وإذا صلى الإمام قائما فصلوا قياما ولا تفعلوا كما يفعل أهل فارس بعظمائها
وأظن في غير رواية أبي داود ولا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضا
ففي هذا الحديث أنه أمرهم بترك القيام الذي هو فرض في الصلاة وعلل ذلك بأن قيام المأمومين مع قعود الإمام يشبه فعل فارس والروم بعظمائهم في قيامهم وهم قعود
ومعلوم أن المأموم إنما نوى أن يقوى لله لا لإمامه
وهذا تشديد عظيم في النهي عن القيام للرجل القاعد ونهى أيضا عما يشبه ذلك وإن لم يقصد به ذلك ولهذا نهى عن السجود لله بين يدي الرجل وعن الصلاة إلى ما عبد من دون الله كالنار ونحوها
وفي هذا الحديث أيضا نهى عما يشبه فعل فارس والروم وإن كانت نيتنا غير نيتهم لقوله فلا تفعلوا
فهل بعد هذا في النهي عن مشابهتهم في مجرد الصورة غاية
ثم هذا الحديث سواء كان محكما في قعود الإمام أو منسوخا فإن الحجة منه قائمة لأن نسخ القعود لا يدل على فساد تلك العلة وإنما يقتضي أنه قد عارضها ما ترجح عليها مثل كون القيام فرضا في الصلاة فلا يسقط الفرض بمجرد المشابهة الصورية وهذا محل اجتهاد وأما المشابهة الصورية فإذا لم تسقط فرضا فإن تلك العلة التي علل بها رسول الله صلى الله عليه و سلم تكون سليمة عن معارض أو عن نسخ لأن القيام في الصلاة ليس بمشابهة في الحقيقة فلا يكون محذورا فالحكم إذا علل بعلة ثم نسخ مع بقاء العلة فلا بد أن يكون غيرها ترجح عليها وقت النسخ أو ضعف تأثيرها أما أن تكون في نفسها باطلة فهذا محال
هذا كله لو كان الحكم هنا منسوخا فكيف والصحيح أن هذا الحديث محكم قد عمل به غير واحد من الصحابة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم مع كونهم علموا بصلاته في مرضه الذي توفي فيه
وقد استفاض عنه صلى الله عليه و سلم الأمر به استفاضة صحيحة صريحة يمتنع معها أن يكون حديث مرض موته ناسخا له على ما هو مقرر في غير هذا الموضع إما بجواز الأمرين إذ فعل القيام لا ينافي فعل القعود وإما بالفرق بين المبتدئ للصلاة قاعدا وبين الصلاة التي ابتدأها الإمام قائما لعدم دخول هذه الصلاة في قوله وإذا صلى قاعدا ولعدم المفسدة التي علل بها ولأن بناء فعل آخر الصلاة على أولها أولى من بنائها على صلاة الإمام ونحو ذلك من الأمور المذكورة في غير هذا الموضع
وأيضا فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا اتبع جنازة لم يقعد حتى توضع في اللحد فتعرض له حبر فقال هكذا نصنع يا محمد قال فجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال خالفوهم
رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال الترمذي بشر بن رافع ليس بالقوي في الحديث
قلت قد اختلف العلماء في القيام للجنازة إذا مرت ومعها إذا شيعت وأحاديث الأمر بذلك كثيرة مستفيضة ومن اعتقد نسخها أو نسخ القيام للمارة فعمدته حديث علي وحديث عبادة هذا وإن كان القول بهما كليهما ممكنا لأن المشيع يقوم لها حتى توضع عن أعناق الرجال لا في اللحد فهذا الحديث إما أن يقال به جمعا بينه وبين غيره أو يكون ناسخا لغيره وقد علل بالمخالفة
ومن لا يقول به يضعفه وذلك لا يقدح في الاستشهاد والاعتضاد به على جنس المخالفة
وقد روى البخاري عن عبد الرحمن بن القاسم أن القاسم كان يمشي بين يدي الجنازة ولا يقوم لها ويخبر عن عائشة أنها قالت كان أهل الجاهلية يقومون لها يقولون إذا رأوها كنت في أهلك ما كنت مرتين
فقد استدل من كره القيام بأنه كان فعل الجاهلية
وليس الغرض هنا الكلام في عين هذه المسألة
وأيضا فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اللحد لنا والشق لغيرنا رواه أهل السنن الأربعة
وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اللحد لنا والشق لغيرنا رواه أحمد وابن ماجة وفي رواية لأحمد والشق لأهل الكتاب وهو مروي من طرق فيها لين لكن يعضد بعضها بعضا
وفيه التنبيه على مخالفتنا لأهل الكتاب حتى في وضع الميت في أسفل القبر
وأيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية متفق عليه
ودعوى الجاهلية ندب الميت وتكون دعوى الجاهلية في العصبية
ومنه قوله فيما رواه أحمد عن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا
وأيضا عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر بالاحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة وقال النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب رواه مسلم
ذم في هذا الحديث من دعا بدعوى الجاهلية وأخبر أن بعض أمر الجاهلية لا يتركه الناس كلهم ذما لمن لم يتركه
وهذا كله يقتضي أن ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم فهو مذموم في دين الإسلام وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذم وهذا كقوله سبحانه وتعالى ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى فإن ذلك ذم للتبرج وذم لحال الجاهلية الأولى وذلك يقتضي المنع من مشابهتهم في الجملة
ومنه قوله لأبي ذر رضي الله عنه لما عير رجلا بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية فإنه ذم لذلك الخلق ولأخلاق الجاهلية التي لم يجيء بها الإسلام
ومنه قوله تعالى إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين فإن إضافة الحمية إلى الجاهلية يقتضي ذمها فما كان أخلاقهم وأفعالهم فهو كذلك
ومن هذا ما رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن أبي يزيد أنه سمع ابن عباس قال ثلاث خلال من خلال الجاهلية الطعن في الانساب والنياحة ونسيت الثالثة قال سفيان ويقولون إنها الاستسقاء بالأنواء
وروى مسلم في صحيحه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت
فقوله هما بهم أي هاتان الخصلتان هما كفر قائم بالناس فنفس الخصلتين كفر حيث كانتا من أعمال الكفر وهما قائمتان بالناس
لكن ليس كل من قام به شعبة من شعب الكفر يصير بها كافرا الكفر المطلق حتى تقوم به حقيقة الكفر كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير بها مؤمنا حتى يقوم به أصل الإيمان وحقيقته وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله صلى الله عليه و سلم ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة وبين كفر منكر في الإثبات
وفرق أيضا بين معنى الاسم المطلق إذا قيل كافر أو مؤمن وبين المعنى المطلق للاسم في جميع موارده كما في قوله لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض
فقوله يضرب بعضكم بعض تفسير للكفار في هذا الموضع وهؤلاء يسمون كفارا تسمية مقيدة ولا يدخلون في الاسم المطلق إذا قيل كافر أو مؤمن كما أن قوله تعالى من ماء دافق سمى المني ماء تسمية مقيدة ولم يدخل في الاسم المطلق حيث قال فلم تجدوا ماء فتيمموا
ومن هذا الباب ما خرجاه في الصحيحين عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا وكان من المهاجرين رجل لعاب فكسع أنصاريا فغضب الأنصاري غضبا شديدا حتى تداعوا وقال
الأنصاري يا للأنصار وقال المهاجري ياللمهاجرين فخرج النبي صلى الله عليه و سلم فقال ما بال دعوى الجاهلية ثم قال ما شأنهم فأخبروه بكسعة المهاجري للأنصاري قال فقال النبي صلى الله عليه و سلم دعوها فانها منتنة وقال عبد الله بن أبي ابن سلول أو قد تداعوا علينا لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فقال عمر ألا نقتل يا رسول الله هذا الخبيث لعبد الله فقال النبي صلى الله عليه و سلم لا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه
ورواه مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال اقتتل غلامان غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار فنادى المهاجري يا للمهاجرين ونادى الأنصاري يا للأنصار فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال ما هذا أدعوى الجاهلية قالوا لا يا رسول الله إلا أن غلامين اقتتلا فكسع أحدهما الآخر فقال لا بأس لينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر وإن كان مظلوما فلينصره
فهاذان الإسمان المهاجرون والأنصار اسمان شرعيان جاء بهما الكتاب والسنة وسماهما الله بهما كما سمانا المسلمين من قبل وفي هذا وانتساب الرجل إلى المهاجرين والأنصار انتساب حسن محمود عند الله وعند رسوله ليس من المباح الذي يقصد به التعريف فقط كالانتساب إلى القبائل والأمصار ولا من المكروه أو المحرم كالانتساب إلى ما يفضي إلى بدعة أو معصية أخرى
ثم مع هذا لما دعا كل واحد منهما طائفة منتصرا بها أنكر النبي صلى الله عليه و سلم ذلك وسماها دعوى الجاهلية حتى قيل له إن الداعي بها إنما هما غلامان لم يصدر ذلك من الجماعة فأمر بمنع الظالم وإعانة المظلوم ليبين النبي صلى الله عليه و سلم أن المحذور من ذلك إنما هو تعصب الرجل لطائفته
مطلقا فعل أهل الجاهلية فأما نصرها بالحق من غير عدوان فحسن واجب أو مستحب
ومثل هذا ما روى أبو داود وابن ماجة عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله ما العصبية قال أن تعين قومك على الظلم
وعن سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال خيركم المدافع عن عشيرته مالم يأثم رواه أبو داود
وروى أبو داود أيضا عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية
وروى أبو داود أيضا عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي ردي فهو ينزع بذنبه
فإذا كان هذا التداعي في الأسماء وفي هذا الانتساب الذي يحبه الله ورسوله فكيف بالتعصب مطلقا والتداعي للنسب والإضافات التي ما هي إما مباحة أو مكروهة
وذلك أن الانتساب إلى الاسم الشرعي أحسن من الانتساب إلى غيره
ألا ترى إلى ما رواه أبو داود من حديث محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عبد الرحمن بن أبي عقبة عن ابي عقبة وكان مولى من أهل فارس
قال شهدت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم أحدا فضربت رجلا من المشركين فقلت خذها مني وأنا الغلام الفارسي فالتفت إلي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال هلا قلت خذها مني وأنا الغلام الأنصاري
حضه رسول الله صلى الله عليه و سلم على الانتساب إلى الأنصار وإن كان بالولاء وكان إظهار هذا أحب إليه من الانتساب إلى فارس بالصراحة وهي نسبة حق ليست محرمة
ويشبه والله أعلم أن يكون من حكمة ذلك أن النفس تحامي عن الجهة التي تنتسب إليها كان ذلك لله كان خيرا للمرء
فقد دلت هذه الأحاديث على أن إضافة الأمر إلى الجاهلية يقتضي ذمه والنهي عنه وذلك يقتضي المنع من كل أمور الجاهلية مطلقا وهو المطلوب في هذا الكتاب
ومثل هذا ما روى سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي أو فاجر سقي أنتم بنو آدم وآدم من تراب ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بآنفها النتن رواه أبو داود وغيره وهو صحيح
فأضاف العبية والفخر إلى الجاهلية يذمهما بذلك وذلك يقتضي ذمهما بكونهما مضافين إلى الجاهلية وذلك يقتضي ذم كل الأمور المضافة إلى الجاهلية
ومثله ما روى مسلم في صحيحه عن أبي قيس زياد بن رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات ميتة جاهلية ومن قاتل تحت راية عمياء يغضب لعصبية أو يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية فقتل قتل قتلة جاهلية ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهدها فليس مني ولست منه
ذكر صلى الله عليه و سلم في هذا الحديث الأقسام الثلاثة التي يعقد لها الفقهاء باب قتال أهل القبلة من البغاء والعداة وأهل العصبية
فالقسم الأول الخارجون عن طاعة السلطان فنهى عن نفس الخروج عن الطاعة والجماعة وبين أنه إن مات ولا طاعة عليه لإمام مات ميتة جاهلية فإن أهل الجاهلية من العرب ونحوهم لم يكونوا يطيعون أميرا عاما على ما هو معروف من سيرتهم
ثم ذكر الذي يقاتل تعصبا لقومه أو أهل بلده ونحو ذلك
وسمى الراية عمياء لأنه الأمر الأعمى الذي لا يدري وجهه فكذلك قتال العصبية يكون عن غير علم بجواز قتال هذا
وجعل قتلة المقتول قتلة جاهلية سواء غضب بقلبه أو دعا بلسانه أو ضرب بيده
وقد فسر ذلك فيما رواه مسلم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل ولا يدري المقتول على أي شيء قتل فقيل كيف يكون ذلك قال الهرج القاتل والمقتول في النار
والقسم الثالث الخوارج على الأمة إما من العداة الذين غرضهم الأموال كقطاع الطريق ونحوهم أو غرضهم الرياسة كمن يقتل أهل مصر الذين هم تحت حكم غيره مطلقا وإن لم يكونوا مقاتلة أو من الخارجين عن السنة الذين يستحلون دماء أهل القبلة مطلقا كالحرورية الذين قتلهم علي رضي الله عنه
ثم إنه صلى الله عليه و سلم سمى الميتة والقتلة ميتة جاهلية وقتلة جاهلية على وجه الذم لها والنهي عنها وإلا لم يكن قد زجر عن ذلك
فعلم أنه كان قد تقرر عند أصحابه أن ما أضيف إلى الجاهلية من ميتة وقتلة ونحو ذلك فهو مذموم منهي عنه وذلك يقتضي ذم كل ما كان من أمور الجاهلية وهو المطلوب
ومن هذا ما أخرجاه في الصحيحين عن المعرور بن سويد قال رأيت أبا ذر عليه حلة وعلى غلامه مثلها فسألته عن ذلك فذكر أنه ساب رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فعيره بأمه فأتى الرجل النبي صلى الله عليه و سلم فذكر ذلك له فقال له النبي صلى الله عليه و سلم إنك امرؤ فيك جاهلية وفي رواية قلت على ساعتي هذه من كبر السن قال نعم هم إخوانكم وخولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه
ففي هذا الحديث أن كل ما كان من أمر الجاهلية فهو مذموم لأن قوله فيك جاهلية ذم لتلك الخصلة فلولا أن هذا الوصف يقتضي ذم ما اشتمل عليه لما حصل به المقصود
وفيه أن التعبير بالأنساب من أخلاق الجاهلية
وفيه أن الرجل مع فضله وعلمه ودينه قد يكون فيه بعض هذه الخصال المسماة بجاهلية ويهودية ونصرانية ولا يوجب ذلك كفره ولا فسقه
وأيضا ما رواه مسلم في صحيحه عن نافع عن جبير بن مطعم عن ابن عباس
رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال أبغض الناس إلى الله ثلاثة ملحد في الحرم ومبتغ في الإسلام سنة جاهلية ومطل دم امرئ بغير حق ليريق دمه
أخبر صلى الله عليه و سلم أن أبغض الناس إلى الله هؤلاء الثلاثة وذلك لأن الفساد إما في الدين وإما في الدنيا فأعظم فساد الدنيا قتل النفوس بغير الحق ولهذا كان أكبر الكبائر بعد أعظم فساد الدين الذي هو الكفر
وأما فساد الدين فنوعان نوع يتعلق بالعمل ونوع يتعلق بمحل العمل
فأما المتعلق بالعمل فهو ابتغاء سنة الجاهلية
وأما ما يتعلق بمحل العمل فالالحاد في الحرم لأن أعظم محال العمل هو الحرم وانتهاك حرمة المحل المكاني أعظم من انتهاك حرمة المحل الزماني ولهذا حرم من تناول المباحات من الصيد والنبات في البلد الحرام مالم يحرم مثله في الشهر الحرام
ولهذا كان الصحيح أن حرمة القتال في البلد الحرام باقية كما دلت عليه النصوص الصحيحة بخلاف الشهر الحرام فلهذا والله أعلم ذكر صلى الله عليه و سلم الإلحاد في الحرم وابتغاء سنة جاهلية
والمقصود أن من هؤلاء الثلاثة من ابتغى في الإسلام سنة جاهلية فسواء قيل مبتغيا أو غير مبتغ فإن الابتغاء هو الطلب والإرادة فكل من أراد في الإسلام أن يعمل بشيء من سنن الجاهلية دخل في هذا الحديث
والسنة الجاهلية كل عادة كانوا عليها فإن السنة هي العادة وهي الطريق التي تتكرر لتتسع لأنواع الناس مما يعدونه عبادة أو لا يعدونه عبادة قال تعالى قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض وقال النبي صلى الله عليه و سلم لتتبعن سنن من كان قبلكم والاتباع هو الاقتفاء والاستثنان فمن عمل بشيء من سننهم فقد اتبع سنة جاهلية
وهذا نص عام يوجب تحريم متابعة كل شيء كان من سنن الجاهلية في أعيادهم وغير أعيادهم
ولفظ الجاهلية قد يكون اسما للحال وهو الغالب في الكتاب والسنة وقد يكون اسما لذي الحال
فمن الأول قول النبي صلى الله عليه و سلم لأبي ذر رضي الله عنه إنك امرؤ فيك جاهلية وقول عمر إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة وقول عائشة كان النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء وقولهم يا رسول الله كنا في جاهلية وشر أي في حال جاهلية أو طريقة جاهلية أو عادة جاهلية ونحو ذلك
فإن لفظ الجاهلية وإن كان في الأصل صفة لكنه غلب عليه الاستعمال حتى صار اسما ومعناه قريب من معنى المصدر
وأما الثاني فتقول طائفة جاهلية وشاعر جاهلي وذلك نسبة إلى الجهل الذي هو عدم العلم أو عدم اتباع العلم فإن من لم يعلم الحق فهو جاهل جهلا بسيطا فإن اعتقد خلافه فهو جاهل جهلا مركبا فإن قال خلاف الحق عالما بالحق أو غير عالم فهو جاهل أيضا كما قال تعالى وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما وقال النبي صلى الله عليه و سلم إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يفسق ولا يجهل ومن هذا قول بعض الشعراء … ألا لا يجهلن أحد علينا … فنجهل فوق جهل الجاهلينا …
وهذا كثير وكذلك من عمل بخلاف الحق فهو جاهل وإن علم أنه
مخالف للحق كما قال سبحانه إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة قال أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم كل من عمل سوءا فهو جاهل
وسبب ذلك أن العلم الحقيقي الراسخ في القلب يمتنع أن يصدر معه ما يخالفه من قول أو فعل فمتى صدر خلافه فلا بد من غفلة القلب عنه أو ضعف القلب عن مقاومة ما يعارضه وتلك أحوال تناقض حقيقة العلم فيصير جهلا بهذا الاعتبار
ومن هنا تعرف دخول الأعمال في مسمى الإيمان حقيقة لا مجازا وإن لم يكن كل من ترك شيئا من الأعمال كافرا أو خارجا عن أصل مسمى الإيمان وكذلك اسم العقل ونحو ذلك من الأسماء
ولهذا يسمي الله تعالى أصحاب هذه الأحوال موتى وعميا وصما وبكما وضالين وجاهلين ويصفهم بأنهم لا يعقلون ولا يسمعون
ويصف المؤمنين بأولي الألباب والنهى وأنهم مهتدون وأن لهم نورا وأنهم يسمعون ويعقلون
فإذا تبين ذلك فالناس قبل مبعث الرسول صلى الله عليه و سلم كانوا في حال جاهلية منسوبة إلى الجهل فإن ما كانوا عليه من الأقوال والأعمال إنما أحدثه لهم جهال وإنما يفعله جاهل وكذلك كل ما يخالف ما جاء به المرسلون من يهودية ونصرانية فهي جاهلية وتلك كانت الجاهلية العامة
فأما بعد ما بعث الله الرسول صلى الله عليه و سلم فالجاهلية المطلقة قد تكون في مصر دون مصر كما هي في دار الكفار وقد تكون في شخص دون شخص كالرجل قبل أن يسلم فإنه يكون في جاهلية وإن كان في دار الإسلام
فأما في زمان مطلق فلا جاهلية بعد مبعث محمد صلى الله عليه و سلم فإنه لا تزال من أمته طائفة ظاهرين على الحق إلى قيام الساعة
والجاهلية المقيدة قد تقوم في بعض ديار المسلمين وفي كثير من المسلمين كما قال صلى الله عليه و سلم أربع في أمتي من أمر الجاهلية وقال لأبي ذر إنك امرؤ فيك جاهلية ونحو ذلك
فقوله في هذا الحديث ومبتغ الإسلام سنة جاهلية يندرج فيه كل جاهلية مطلقة أو غير مقيدة يهودية أو نصرانية أو مجوسية أو صابئة أو وثنية أو شركية من ذلك أو بعضه أو منتزعة من بعض هذه الملل الجاهلية فإنها جميعها مبتدعها ومنسوخها صارت جاهلية بمبعث محمد صلى الله عليه و سلم وإن كان لفظ الجاهلية لا يقال غالبا إلا على حال العرب التي كانوا عليها فإن المعنى واحد
وفي الصحيحين عن نافع عن ابن عمر أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم على الحجر أرض ثمود فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين فأمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل العجين وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة
ورواه البخاري من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من بئارها ولا يستقوا منها فقالوا قد عجنا منها واستقينا فأمرهم النبي صلى الله عليه و سلم أن يطرحوا ذلك العجين ويهريقوا ذلك الماء
وفي حديث جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لما مر بالحجر لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فان لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم ما أصابهم
فنهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الدخول إلى أماكن المعذبين إلا مع البكاء خشية أن يصيب الداخل ما أصابهم
ونهى عن الانتفاع بمياههم حتى أمرهم مع حاجتهم في تلك الغزوة وهي غزوة العسرة وهي أشد غزوة كانت على المسلمين أن يعلفوا النواضج بعجين مائهم
وكذلك أيضا روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن الصلاة في أماكن العذاب
فروى أبو داود عن سليمان بن داود أخبرنا ابن وهب حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري أن عليا رضي الله
عنه مر ببابل وهو يسير فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة فلما فرغ قال إن حبيبي النبي صلى الله عليه و سلم نهاني أن أصلي في المقبرة ونهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة
ورواه أيضا عن أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أيضا أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة عن الحجاج بن شداد عن أبي صالح الغفاري عن علي بمعناه ولفظه فلما خرج منها مكان برز
وقد روى الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله بإسناد أصح من هذا عن علي رضي الله عنه نحوا من هذا أنه كره الصلاة بأرض بابل وأرض الخسف أو نحو ذلك
وكره الإمام أحمد الصلاة في هذه الأمكنة اتباعا لعلي رضي الله عنه
وقوله نهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة يقتضي أن لا يصلي في أرض ملعونة
والحديث المشهور في الحجر يوافق هذا فإنه إذا كان قد نهى عن الدخول إلى أرض العذاب دخل في ذلك الصلاة وغيرها من باب أولى
ويوافق ذلك قوله سبحانه عن مسجد الضرار لا تقم فيه أبدا فإنه كان من أمكنة العذاب قال سبحانه أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم
وقد روى أنه لما هدم خرج منه دخان
وهذا كما أنه ندب إلى الصلاة في أمكنة الرحمة كالمساجد الثلاثة ومسجد قباء فكذلك نهي عن الصلاة في أماكن العذاب
فأما أماكن الكفر والمعاصي التي لم يكن فيها عذاب إذا جعلت مكانا للايمان والطاعة فهذا حسن كما أمر النبي صلى الله عليه و سلم أهل الطائف
أن يجعلوا المسجد مكان طواغيتهم وأمر أهل اليمامة أن يتخذوا المسجد مكان بيعة كانت عندهم وكان موضع مسجده صلى الله عليه و سلم مقبرة للمشركين فجعله صلى الله عليه و سلم مسجدا بعد نبش القبور
فإذا كانت الشريعة قد جاءت بالنهي عن مشاركة الكفار في المكان الذي حل بهم فيه العذاب فكيف بمشاركتهم في الأعمال التي يعملونها واستحقوا بها العذاب
فإنه إذا قيل هذا العمل الذي يعملونه لو تجرد عن مشابهتهم لم يكن محرما ونحن لا نقصد التشبه بهم فيه فنفس الدخول إلى المكان ليس بمعصية لو تجرد عن كونه أثرهم ونحن لا نقصد التشبه بهم بل المشاركة في العمل أقرب إلى اقتضاء العذاب من الدخول إلى الديار فإن جميع ما يعملونه مما ليس من أعمال المسلمين السابقين إما كفر وإما معصية وإما شعار كفر أو شعار معصية وإما مظنة للكفر والمعصية وإما أن يخاف أن يجر إلى المعصية وما أحسب أحدا ينازع في جميع هذا ولئن نازع فيه فلا يمكنه أن ينازع في أن المخالفة فيه أقرب إلى المخالفة في الكفر والمعصية وأن حصول هذه المصلحة في الأعمال أقرب من حصولها في المكان
ألا ترى أن متابعة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في أعمالهم أنفع وأولى من متابعتهم في مساكنهم ورؤية آثارهم
وأيضا مما هو صريح في الدلالة ما روى أبو داود في سننه حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو النضر يعني هاشم بن القاسم حدثنا عبد الرحمن بن ثابت حدثنا حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من تشبه بقوم فهو منهم وهذا إسناد جيد فإن ابن أبي شيبة وأبا النضر وحسان بن عطية ثقات مشاهير أجلاء من رجال الصحيحين وهم أجل من أن يحتاجوا إلى أن يقال هم من رجال الصحيحين
وأما عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان فقال يحيى بن معين وأبو زرعة وأحمد بن عبد الله العجلي ليس به بأس وقال عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم هو ثقة وقال أبو حاتم هو مستقيم الحديث
وأما أبو منيب الجرشي فقال فيه أحمد بن عبد الله العجلي هو ثقة وما علمت أحدا يذكره بسوء وقد سمع منه حسان بن عطية وقد احتج الإمام أحمد وغيره بهذا الحديث
وهذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله ومن يتولهم منكم فإنه منهم
وهو نظير ما سنذكره عن عبد الله بن عمرو أنه قال من بنى بأرض المشركين وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم يوم القيامة
فقد يحمل هذا على التشبه المطلق فإنه يوجب الكفر ويقتضي تحريم أبعاض ذلك وقد يحمل على أنه صار منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه فإن كان كفرا أو معصية أو شعارا للكفر أو للمعصية كان حكمه كذلك
وبكل حال فهو يقتضي التشبه بهم بعلة كونه تشبها
والتشبه يعم من فعل الشيء لأجل أنهم فعلوه وهو نادر ومن تبع غيره في فعل لغرض له في ذلك إذا كان أصل الفعل مأخوذا عن ذلك الغير
فأما من فعل الشيء واتفق أن الغير فعله أيضا ولم يأخذه أحدهما عن صاحبه ففي كون هذا تشبها نظر لكن قد ينهى عن هذا لئلا يكون ذريعة إلى التشبه ولما فيه من المخالفة كما أمر بصبغ اللحى وإعفائها وإحفاء الشوارب مع أن قوله صلى الله عليه و سلم غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود دليل على أن التشبه بهم يحصل بغير قصد منا ولا فعل بل بمجرد ترك تغيير ما خلق فينا وهذا أبلغ من الموافقة الفعلية الاتفاقية
وقد روى في هذا الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن التشبه بالأعاجم وقال من تشبه بقوم فهو منهم ذكره القاضي أبو يعلى
وبهذا احتج غير واحد من العلماء على كراهة أشياء من زي غير المسلمين
قال محمد بن حرب سئل أحمد عن نعل سندي يخرج فيه فكرهه للرجل والمرأة وقال إن كان للكنيف والوضوء فلا بأس وأكره الصرار وقال هو من زي الأعاجم وقد سئل سعيد بن عامر عنه فقال سنة نبينا أحب إلينا من سنة باكهن
وقال في رواية المروذي وقد سأله عن النعل السندي فقال أما أنا فلا أستعملها ولكن إذا كان للطين أو المخرج فأرجو وأما من أراد الزينة فلا ورأى على باب المخرج نعلا سنديا فقال نتشبه بأولاد الملوك
وقال حرب الكرماني أيضا قلت لأحمد فهذه النعال الغلاظ قال هذه السندية إذا كانت للوضوء أو للكنيف أو لموضع ضرورة فلا بأس وكأنه كره أن يمشي بها في الأزقة قيل فالنعل من الخشب قال لا بأس بها أيضا إذا كان موضع ضرورة
قال حرب حدثنا أحمد بن نصر حدثنا حبان بن موسى قال سئل ابن المبارك عن هذه النعال الكرمانية فلم تعجبه وقال أما في هذه غنية عن تلك
وروى الخلال عن أحمد بن إبراهيم الدورقي قال سألت سعيد بن عامر عن لباس النعال السبتية فقال زي نبينا أحب إلينا من زي باكهن ملك الهند ولو كان في مسجد المدينة لأخرجوه من المدينة
سعيد بن عامر الضبعي إمام أهل البصرة علما ودينا من شيوخ الإمام أحمد قال يحيى بن سعيد القطان وذكر عنده سعيد بن عامر الضبعي فقال
هو شيخ البصرة منذ أربعين سنة وقال أبو مسعود بن الفرات ما رأيت بالبصرة مثل سعيد بن عامر
وقال الميموني رأيت أبا عبد الله عمامته تحت ذقنه ويكره غير ذلك وقال العرب عمائمها تحت أذقانها
وقال أحمد في رواية الحسن بن محمد يكره أن تكون العمامة تحت الحنك كراهة شديدة وقال إنما يتعمم بمثل ذلك اليهود والنصارى والمجوس
ولهذا أيضا كره أحمد لباس أشياء كانت شعار الظلمة في وقته من السواد ونحوه وكره هو وغيره تغميض العين في الصلاة وقال هو من فعل اليهود
وقد روى أبو حفص العكبري بإسناده عن بلال بن أبي حدرد قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم تمعددوا واخشوشنوا وانتعلوا وامشوا حفاة
وهذا مشهور محفوظ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب به إلى المسلمين وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في كلام الخلفاء الراشدين
وقال الترمذي حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ليس منا من تشبه بغيرنا لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع وتسليم النصارى الإشارة بالأكف قال وروى ابن المبارك هذا الحديث عن ابن لهيعة ولم يرفعه
وهذا وإن كان فيه ضعف فقد تقدم الحديث المرفوع من تشبه بقوم فهو منهم وهو محفوظ عن حذيفة بن اليمان أيضا من قوله وحديث ابن لهيعة يصلح للاعتضاد كذا كان يقول أحمد وغيره
وأيضا ما روى أبو داود حدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي حدثنا محمد بن ربيعة حدثنا أبو الحسن العسقلاني عن أبي جعفر بن محمد بن علي بن ركانة أو محمد بن علي بن ركانة عن أبيه أن ركانة صارع النبي صلى الله عليه و سلم فصرعه النبي صلى الله عليه و سلم قال ركانة سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول فرق ما بيننا وبين المشركين بالعمائم على القلانس
وهذا يقتضي أنه حسن عند أبي داود ورواه الترمذي أيضا عن قتيبة وقال غريب وليس إسناده بالقائم ولا نعرف أبا الحسن العسقلاني ولا ابن ركانة
وهذا القدر لا يمنع أن يعتضد بهذا الحديث ويستشهد به
وهذا بين في أن مفارقة المسلم المشرك في اللباس أمر مطلوب للشارع كقوله فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت
فإن التفريق بينهما مطلوب في الظاهر إذ الفرق بالاعتقاد والعمل بدون العمامة حاصل فلولا أنه مطلوب بالظاهر أيضا لم يكن فيه فائدة
وهذا كما أن الفرق بين الرجال والنساء لما كان مطلوبا ظاهرا وباطنا لعن صلى الله عليه و سلم المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء وقال أخرجوهم من بيوتكم ونفى الخنث لما كان رجلا متشبها في الظاهر بغير جنسه
وأيضا عن أبي غطفان المري سمعت عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول حين صام رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع قال فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم رواه مسلم في صحيحه
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود وصوموا يوما قبله ويوما بعده والحديث رواه ابن أبي ليلى عن داود بن علي عن أبيه عن جده ابن عباس
فتدبر هذا يوم عاشوراء يوم فاضل يكفر صيامه سنة ماضية صامه رسول الله صلى الله عليه و سلم وأمر بصيامه ورغب فيه ثم لما قيل له قبيل وفاته إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى أمر بمخالفتهم بضم يوم آخر إليه وعزم على فعل ذلك
ولهذا استحب العلماء منهم الإمام أحمد أن يصوم تاسوعا وعاشوراء وبذلك عللت الصحابة رضي الله عنهم
قال سعيد بن منصور حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار سمع عطاء عن ابن عباس يقول صوموا التاسع والعاشر خالفوا اليهود
وأيضا عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين رواه البخاري ومسلم
فوصف هذه الأمة بترك الكتابة والحساب الذي يفعله غيرها من الأمم في أوقات عبادتهم وأعيادهم وأحالها على الرؤية حيث قال في غير حديث صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وفي رواية صوموا من الوضح إلى الوضح أي من الهلال إلى الهلال
وهذا دليل على ما أجمع عليه المسلمون إلا من شذ من بعض المتأخرين المخالفين المسبوقين بالإجماع من أن مواقيت الصوم والفطر والنسك إنما تقام بالرؤية عند إمكانها لا بالكتاب والحساب الذي تسلكه الأعاجم من الروم والفرس والقبط والهند وأهل الكتاب من اليهود والنصارى
وقد روى غير واحد من أهل العلم أن أهل الكتابين قبلنا إنما أمروا بالرؤية أيضا في صومهم وعبادتهم وتأولوا على ذلك قوله تعالى كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ولكن أهل الكتابين بدلوا ولهذا نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن تقدم رمضان باليوم واليومين
وعلل الفقهاء ذلك بما يخاف من أن يزاد في الصوم المفروض ما ليس منه كما زاده أهل الكتاب من النصارى فإنهم زادوا في صومهم وجعلوه فيما بين الشتاء والصيف وجعلوا له طريقة من الحساب يتعرفونه بها
وقد يستدل بهذا الحديث على خصوص النهي عن أعيادهم فإن أعيادهم معلومة بالكتاب والحساب والحديث فيه عموم
أو يقال إذا نهينا عن ذلك في عيد الله ورسوله ففي غيره من الأعياد والمواسم أولى وأحرى أو لما في ذلك من مضارعة الأمة الأمية سائر الأمم
وبالجملة فالحديث يقتضي اختصاص هذه الأمة بالوصف الذي فارقت به غيرها وذلك يقتضي أن ترك المشابهة للأمم أقرب إلى حصول الوفاء بالاختصاص
وأيضا ففي الصحيحين عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع معاوية عام حج على المنبر وتناول قصة من شعر كانت في يد حرسي فقال يا أهل المدينة أين علماؤكم سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم ينهى عن مثل هذه ويقول إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذها نساؤهم
وفي رواية سعيد بن المسيب في الصحيح أن معاوية قال ذات يوم إنكم اتخذتم زي سوء وإن النبي النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن الزور قال وجاء رجل بعصا على رأسها خرقة قال معاوية ألا وهذا الزور قال قتادة يعني ما يكثر به النساء اشعارهن من الخرق
وفي رواية عن ابن المسيب في الصحيح قال قدم معاوية المدينة فخطبنا
وأخرج كبة من شعر فقال ما كنت أرى أن أحدا يفعله إلا اليهود إن رسول الله صلى الله عليه و سلم بلغه فسماه الزور
فقد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم عن وصل الشعر أن بني إسرائيل هلكوا حين أحدثه نساؤهم يحذر أمته مثل ذلك ولهذا قال معاوية ما كنت أرى أن أحدا يفعله إلا اليهود
فما كان من زي اليهود الذي لم يكن عليه المسلمون إما أن يكون مما يعذبون عليه أو مظنة لذلك أو يكون تركه حسما لمادة ما عذبوا عليه لا سيما إذا لم يتميز ما هو الذي عذبوا عليه من غيره فإنه يكون قد اشتبه المحظور بغيره فيترك الجميع كما أن ما يخبرون به لما اشتبه صدقه بكذبه ترك الجميع
وأيضا ما روى نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أو قال قال عمر إذا كان لأحدكم ثوبان فليصل فيهما فإن لم يكن له إلا ثوب فليتزر به ولا يشتمل اشتمال اليهود رواه أبو داود وغيره باسناد صحيح
وهذا المعنى صحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم من رواية جابر وغيره أنه أمر في الثوب الضيق بالاتزار دون الاشتمال وهو قول جمهور أهل العلم وفي مذهب أحمد قولان
وإنما الغرض أنه قال لا يشتمل اشتمال اليهود فان المنهي عنه إلى اليهود دليل على أن لهذه الإضافة تأثيرا في النهي كما تقدم التنبيه عليه
وأيضا فمما نهانا الله سبحانه فيه عن مشابهة أهل الكتاب وكان حقه أن يقدم في أوائل الكتاب قوله سبحانه ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون
فقوله ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب نهي مطلق عن مشابهتهم وهو خاص أيضا في النهي عن مشابهتهم في قسوة قلوبهم وقسوة القلوب من
ثمرات المعاصي وقد وصف الله سبحانه بها اليهود في غير موضع فقال تعالى فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون وقال تعالى ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين
وإن قوما من هذه الأمة ممن ينسب إلى علم أو دين قد أخذوا من هذه الصفات بنصيب يرى ذلك من له بصيرة فنعوذ بالله من كل ما يكرهه الله ورسوله ولهذا كان السلف يحذرون هذا
فروى البخاري في صحيحه عن أبي الأسود قال بعث أبو موسى إلى قراء البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرءوا القرآن فقال أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم وإنا كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها غير أني حفظت منها يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة
فحذر أبو موسى القراء أن يطول عليهم الأمد فتقسوا قلوبهم
ثم لما كان نقض الميثاق يدخل فيه نقض ما عهد الله إليهم من الأمر والنهي وتحريف الكلم عن مواضعه وتبديل وتأويل كتاب الله أخبر ابن مسعود رضي الله عنه بما يشبه ذلك
فروى الأعمش عن عمارة بن عمير عن الربيع بن أبي عميلة الفزاري حدثنا عبد الله حديثا ما سمعت حديثا هو أحسن منه إلا كتاب الله أو رواية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم فاخترعوا كتابا من عند أنفسهم اشتهته قلوبهم واستحلته أنفسهم وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون فقالوا اعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل فإن تابعوكم فاتركوهم وإن خالفوكم فاقتلوهم ثم قالوا لا بل أرسلوا إلى فلان رجل من علمائهم فاعرضوا عليه هذا الكتاب فإن تابعكم فلن يخالفكم أحد بعده وإن خالفكم فاقتلوه فلن يختلف عليكم بعده أحد فأرسلوا إليه فأخذ ورقة فكتب فيها كتاب الله ثم جعلها في قرن ثم علقها في عنقه ثم لبس عليها الثياب ثم أتاهم فعرضوا عليه الكتاب فقالوا أتؤمن بهذا فأوما إلى صدره فقال آمنت بهذا ومالي لا اومن بهذا يعني الكتاب الذي في القرن فخلوا سبيله وكان له أصحاب يغشونه فلما مات نبشوه فوجدوا القرن ووجدوا فيه الكتاب فقالوا ألا ترون قوله آمنت بهذا ومالي لا أومن بهذا إنما عنى هذا الكتاب فاختلف بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة وخير مللهم أصحاب ذي القرن قال عبد الله وإن من بقي منكم سيرى منكرا وبحسب امرئ يرى منكرا لا يستطيع أن يغيره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره
ولما نهى الله عن التشبه بهؤلاء الذين قست قلوبهم ذكر أيضا في آخر السورة حال الذين ابتدعوا الرهبانية فما رعوها حق رعايتها فعقبها بقوله يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم لئلا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
فإن الإيمان بالرسول هو تصديقه وطاعته واتباع شريعته وفي ذلك مخالفة للرهبانية لأنه لم يبعث بها بل نهى عنها وأخبر أن من اتبعه من أهل الكتاب كان له أجران وبذلك جاءت الأحاديث الصحيحة من طريق ابن عمر وغيره في مثلنا ومثل أهل الكتاب
وقد صرح صلى الله عليه و سلم بذلك فيما رواه أبو داود في سننه من حديث ابن وهب أخبرني سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء أن سهل بن أبي أمامة حدثه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة فقال إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم
هذا الذي في رواية اللؤلؤي عن أبي داود وفي رواية ابن داسة عنه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة في زمان عمر بن عبد العزيز وهو أمير بالمدينة فإذا هو يصلي صلاة خفيفة كأنها صلاة مسافر أو قريب منها فلما سلم قال يرحمك الله أرأيت هذه الصلاة المكتوبة أم شيء تنفلته قال إنها المكتوبة وإنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ثم غدا
من الغد فقال ألا تركب وننظر لنعتبر قال نعم فركبا جميعا فإذا بديار باد أهلها وانقضوا وفنوا خاوية على عروشها قال أتعرف هذه الديار فقال نعم ما أعرفني بها وبأهلها هؤلاء أهل ديار أهلكهم الله ببغيهم وحسدهم إن الحسد يطفئ نور الحسنات والبغي يصدق ذلك أو يكذبه والعين تزني والكف والقدم والجسد واللسان والفرج يصدق ذلك أو يكذبه
فأما سهل بن أبي أمامة فقد وثقه يحيى بن معين وغيره وروى له مسلم وغيره أما ابن أبي العمياء فمن أهل بيت المقدس ما أعرف حاله لكن رواية أبي داود للحديث وسكوته عنه يقتضي أنه حسن عنده وله شواهد في الصحيح
فأما ما فيه من وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم بالتخفيف ففي الصحيحين عنه أعني أنس بن مالك قال كان النبي صلى الله عليه و سلم يوجز الصلاة ويكملها
وفي الصحيحين أيضا عنه قال ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من صلاة النبي صلى الله عليه و سلم زاد البخاري وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتتن أمه
وما ذكره أنس بن مالك من التخفيف فهو بالنسبة إلى ما كان يفعله بعض الأمراء وغيرهم في قيام الصلاة فإن منهم من كان يطيل زيادة على ما كان النبي صلى الله عليه و سلم يفعله في غالب الأوقات ويخفف الركوع والسجود والإعتدال عما كان النبي ص – يفعله في غالب الأوقات ولعل أكثر الأئمة أو كثيرا منهم كانوا قد صاروا يصلون كذلك ومنهم من كان يقرأ في الآخريين مع الفاتحة سورة وهذا كله قد صار مذاهب لبعض الفقهاء
وكان الخوارج أيضا قد تعمقوا وتنطعوا كما وصفهم النبي صلى الله عليه و سلم بقوله يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم ولهذا لما صلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالبصرة قال عمران بن حصين لقد أذكرني
هذا صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانت صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم معتدلة كان يخفف القيام والقعود ويطيل الركوع والسجود وقد جاء هذا مفسرا عن أنس بن مالك نفسه
فروى النسائي عن قتيبة عن العطاف بن خالد عن زيد بن أسلم قال دخلنا على أنس بن مالك فقال صليتم قلنا نعم قال يا جارية هلمي لي وضوءا ما صليت وراء إمام أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم من إمامكم هذا قال زيد وكان عمر بن عبد العزيز يتم الركوع والسجود ويخفف القيام والقعود
وهذا حديث صحيح فإن العطاف بن خالد المخزومي قال فيه يحيى بن معين غير مرة هو ثقة وقال أحمد بن حنبل هو من أهل مكة ثقة صحيح الحديث روى عنه نحو مائة حديث وقال ابن عدي يروي قريبا من مائة حديث ولم أر بحديثه بأسا إذا حدث عنه ثقة
وروى أبو داود والنسائي من حديث عبد الله بن إبراهيم بن عمر بن كيسان حدثني أبي عن وهب بن مانوس سمعت سعيد بن جبير يقول سمعت أنس بن مالك يقول ما صليت وراء أحد بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه و سلم من هذا الفتى يعني عمر بن عبد العزيز قال فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات وفي سجوده عشر تسبيحات وقال يحيى بن معين إبراهيم بن عمر بن كيسان يماني ثقة وقال هشام بن يوسف أخبرني إبراهيم بن عمر وكان من أحسن الناس صلاة وابنه عبد الله قال فيه أبو حاتم صالح الحديث ووهب بن مانوس بالنون يقوله عبد الله هذا وكان عبد الرزاق يقوله بالباء المنقوطة بواحدة من أسفل وهو شيخ كبير قديم قد أخذ عنه إبراهيم هذا واتبع ما حدثه به ولولا ثقته عنده لما عمل بما حدثه به وحديثه موافق لرواية زيد بن أسلم وما أعلم فيه قدحا
وروى مسلم في صحيحه من حديث حماد بن سلمة أخبرنا ثابت عن أنس
ابن مالك قال ما صليت خلف أحد أوجز صلاة من رسول الله صلى الله عليه و سلم في تمام كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم متقاربة وكانت صلاة أبي بكر متقاربة فلما كان عمر رضي الله عنه مد في صلاة الفجر وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قال سمع الله لمن حمده قام حتى نقول قد أوهم ثم يسجد ويقعد بين السجدتين حتى نقول قد أوهم
ورواه أبو داود من حديث حماد بن سلمة أنبأنا ثابت وحميد عن أنس بن مالك قال ما صليت خلف رجل أوجز صلاة من رسول الله صلى الله عليه و سلم في تمام وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قال سمع الله لمن حمده قام حتى نقول قد أوهم ثم يكبر ثم يسجد وكان يقعد بين السجدتين حتى نقول قد أوهم
فجمع أنس رضي الله عنه في هذا الحديث الصحيح بين الإخبار بإيجاز النبي صلى الله عليه و سلم الصلاة وإتمامها وبين أن من إتمامها الذي أخبر به إطالة الاعتدالين وأخبر في الحديث المتقدم أنه ما رأى أوجز من صلاته ولا أتم
فيشبه والله أعلم أن يكون الإيجاز عاد إلى القيام والإتمام إلى الركوع والسجود لأن القيام لا يكاد يفعل إلا تاما فلا يحتاج إلى الوصف بالإتمام بخلاف الركوع والسجود والاعتدالين
وأيضا فإنه بإيجاز القيام وإطالة الركوع والسجود تصير الصلاة تامة لاعتدالها وتقاربها فيصدق قوله ما رأيت أوجز ولا أتم
فأما إن أعيد الإيجاز إلى لفظ لا أتم والإتمام إلى لفظ لا أوجز فإنه يصير في الكلام تناقضا لأن من طول القيام على قيامه صلى الله عليه و سلم لم يكن دونه في إتمام القيام إلا أن يقال الزيادة في الصورة تصير نقصا في المعنى وهذا خلاف ظاهر اللفظ فإن الأصل أن يكون معنى الإيجاز والتخفيف غير معنى الإتمام والإكمال ولأن زيد بن أسلم قال كان عمر يخفف
القيام والقعود ويتم الركوع والسجود فعلم أن لفظ الإتمام عندهم هو إتمام الفعل الظاهر
وأحاديث أنس كلها تدل على أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يطيل الركوع والسجود والاعتدالين زيادة على ما فعله أكثر الأئمة وسائر روايات الصحيح تدل على ذلك
ففي الصحيحين عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال إني لا آلو أن أصلي لكم كما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي بنا قال ثابت فكان أنس يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه وإذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما حتى يقول القائل قد نسي وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى نقول قد نسي
وفي رواية في الصحيح وإذا رفع رأسه بين السجدتين
وفي رواية للبخاري من حديث شعبة عن ثابت كان أنس ينعت لنا صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم فكان يصلي فإذا رفع رأسه من الركوع قام حتى نقول قد نسي
فهذا يبين لك أن أنسا أراد بصلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم إطالة الركوع والسجود والرفع فيهما على ما كان الناس يفعلونه وتقصير القيام عما كان الناس يفعلونه
وروى مسلم في صحيحه من حديث جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يسمع بكاء الصبي مع أمه وهو في الصلاة فيقرأ بالسورة الخفيفة أو بالسورة القصيرة
فبين أن التخفيف الذي كان يفعله صلى الله عليه و سلم هو تخفيف القراءة وإن كان يقتضي ركوعا وسجودا يناسب القراءة ولهذا قال كانت صلاته متقاربة أي يقرب بعضها من بعض
وصدق أنس فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقرأ في الفجر بنحو الستين إلى المائة يقرأ في الركعتين بطول المفصل بآلم تنزل وهل أتى وبالصافات وبقاف وربما قرأ أحيانا بما هو أطول من ذلك وأحيانا بما هو أخف
فأما عمر رضي الله عنه فكان يقرأ في الفجر بيونس وهود ويوسف ولعله علم أن الناس خلفه يؤثرون ذلك
وكان معاذ رضي الله عنه قد صلى خلف النبي صلى الله عليه و سلم العشاء الآخرة ثم ذهب إلى بني عمرو بن عوف بقباء فقرأ فيها بسورة البقرة فأنكر النبي صلى الله عليه و سلم ذلك وقال أفتان أنت يا معاذ إذا أممت الناس فخفف فإن من ورائك الكبير والضعيف وذا الحاجة هلا قرأت بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها ونحوهما من السور
فالتخفيف الذي أمر به النبي صلى الله عليه و سلم معاذا وغيره من الأئمة هو ما كان يفعله بأبي هو وأمي صلى الله عليه و سلم فإنه كما قال أنس كان أخف الناس صلاة في تمام وقد قال صلوا كما رأيتموني أصلي
ثم إن عرض حال عرف منها إيثار المأمومين للزيادة على ذلك فحسن فإنه صلى الله عليه و سلم قرأ في المغرب بطولى الطوليين وقرأ فيها بالطور
وإن عرض ما يقتضي التخفيف عن ذلك فعل كما قال في بكاء الصبي ونحوه
فقد تبين أن حديث أنس تضمن مخالفة من خفف الركوع والسجود تخفيفا كثيرا ومن طول القيام تطويلا كثيرا وهذا الذي وصفه أنس ووصفه سائر الصحابة
وروى مسلم في صحيحه وأبو داود في سننه عن هلال بن أبي حميد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه و سلم فوجدت قيامه فركعته فاعتداله بعد ركوعه فسجدته فجلسته بين السجدتين فجلسته ما بين التسليم والانصراف قريبا من السواء
وروى مسلم أيضا في صحيحه عن شعبة عن الحكم قال غلب على الكوفة رجل قد سماه زمن بن الأشعث قال فأمر أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود أن يصلي بالناس فكان يصلي فإذا رفع رأسه من الركوع قام قدر ما أقول اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد قال الحكم فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن أبي ليلى فقال سمعت البراء بن عازب يقول كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم وركوعه وإذا رفع رأسه من ركوعه وسجوده وما بين السجدتين قريبا من السواء قال شعبة فذكرته لعمرو بن مرة فقال قد رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى فلم تكن صلاته هكذا
وروى البخاري هذا الحديث ما خلا القيام والقعود قريبا من السواء وذلك لأنه لا شك أن القيام قيام القراءة وقعود التشهد يزيد على بقية الأركان لكن لما كان صلى الله عليه و سلم يوجز القيام ويتم بقية الأركان صارت قريبا من السواء
فكل واحدة من الروايتين تصدق الأخرى وإنما البراء تارة قرب ولم يحدد وتارة استثنى وحدد وإنما جاز أن يقال في القيام مع بقية الأركان قريبا بالنسبة إلى الأمراء الذين يطيلون القيام ويخففون الركوع والسجود حتى يعظم التفاوت
ومثل هذا أنه صلى الله عليه و سلم صلى صلاة الكسوف فقرأ في الركعة الأولى بنحو من سورة البقرة وركع فكان ركوعه نحوا من قيامه وكذلك سجوده ولهذا نقول في أصح القولين إن ركوع صلاة الكسوف وسجودها يكون قريبا من قيامه بقدر معظمه أكثر من النصف
ومن أصحابنا وغيرهم من قال إذا قرأ البقرة يسبح في الركوع والسجود بقدر قراءة مائة آية وهو ضعيف مخالف للسنة
وكذلك روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وغيره أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقول بعد الرفع من الركوع من الذكر ما يصدق حديث أنس والبراء وكذلك صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم التطوع فإنه كان إذا صلى بالليل وحده طول لنفسه ما شاء وكان يقرأ في الركعة بالبقرة وآل عمران والنساء ويركع نحوا من قيامه ويرفع نحوا من ركوعه ويسجد نحوا من قيامه ويجلس نحوا من سجوده
ثم هذا القيام الذي وصفه أنس وغيره بالخفة والتخفيف الذي أمر به النبي صلى الله عليه و سلم قد فسره النبي صلى الله عليه و سلم بفعله وأمره وبلغ ذلك أصحابه فإنه لما صلى على المنبر قال إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي وقال لمالك بن الحويرث وصاحبه صلوا كما رأيتموني أصلي
وذلك أنه ما من فعل في الغالب إلا وقد يسمى خفيفا بالنسبة إلى ما هو أطول منه ويسمى طويلا بالنسبة إلى ما هو أخف منه فلا حد له في اللغة وليس الفعل في الصلاة من العادات كالإحراز والقبض والاصطياد وإحياء الموات حتى يرجع في حده إلى عرف اللفظ بل هو من العبادات والعبادات يرجع في صفاتها ومقاديرها إلى الشارع كما يرجع في أصلها إلى الشارع ولأنه لو جاز الرجوع فيه إلى عرف الناس في الفعل أو في مسمى التخفيف لاختلفت الصلاة الشرعية الراتبة التي أمرنا بها في غالب الأوقات عند عدم المعارضات المقتضية للطول أو القصر اختلافا مباينا لا ضبط له ولكان لكل أهل عصر ومصر بل لكل أهل حي وسكة بل لأهل كل مسجد عرف في معنى اللفظ وفي عادة الفعل مخالفا لعرف الآخرين وهذا مخالف لأمر الله ورسوله حيث قال صلوا كما رأيتموني أصلي ولم يقل كما يسميه أهل أرضكم
خفيفا أو كما يعتادونه وما أعلم أحدا من العلماء يقول ذلك فإنه يفضي إلى تغيير الشريعة وموت السنن إما بزيادة وإما بنقص وعلى هذا دلت سائر روايات الصحابة
فروى مسلم في صحيحه عن زهير عن سماك بن حرب قال سألت جابر ابن سمرة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال كان يخفف الصلاة ولا يصلي صلاة هؤلاء قال وأنبأني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقرأ في الفجر بقاف والقرآن المجيد ونحوها
وروى أيضا عن شعبة عن سماك عن جابر بن سمرة قال كان النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ في الظهر بالليل إذا يغشى وفي العصر نحو ذلك وفي الصبح أطول من ذلك
وهذا يبين ما رواه مسلم أيضا عن زائدة عن سماك عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقرأ في الفجر بقاف والقرآن المجيد وكان صلاته بعد تخفيفا أنه أراد والله أعلم بقوله وكانت صلاته بعد أي بعد الفجر أي أنه يخفف الصلوات التي بعد الفجر عن الفجر فإنه في الرواية الأولى جمع بين وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم بالتخفيف وأنه كان يقرأ في الفجر بقاف
وقد ثبت في الصحيح عن أم سلمة أنها سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ في الفجر بالطور في حجة الوداع وهي طائفة من حول الناس تسمع قراءته وما عاش بعد حجة الوداع إلا قليلا والطور نحو من سورة قاف
وثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن أم الفضل سمعته وهو يقرأ والمرسلات عرفا فقالت يا بني لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخر ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ بها في المغرب
فقد أخبرت أم الفضل أن ذلك آخر ما سمعته يقرأ بها في المغرب وأم الفضل
لم تكن من المهاجرات بل هي من المستضعفين كما قال ابن عباس كنت أنا وأبي من المستضعفين الذين عذرهم الله فهذا السماع كان متأخرا
وكذلك في الصحيح عن زيد بن ثابت أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ في المغرب بطولى الطوليين وزيد من صغار الصحابة
وكذلك صلى بالمؤمنين في الفجر بمكة وأدركته سعلة عند ذكر موسى وهارون فهذه الأحاديث وأمثالها تبين أنه صلى الله عليه و سلم كان في آخر حياته يصلي في الفجر بطوال المفصل وشواهد هذا كثيرة ولأن سائر الصحابة اتفقوا على أن هذه كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم التي ما زال يصليها ولم يذكر أحد أنه نقص صلاته في آخر عمره عما كان يصليها وأجمع الفقهاء على أن السنة أن يقرأ في الفجر بطوال المفصل
وقوله ولا يصلي صلاة هؤلاء إما أن يريد به من كان يطيل الصلاة على هذا ومن كان ينقصها عن ذلك أي إنه كان صلى الله عليه و سلم يخففها ومع ذلك فلا يحذفها حذف هؤلاء الذين يحذفون الركوع والسجود والاعتدالين كما دل عليه حديث أنس والبراء أو كان أولئك الأمراء ينقصون القراءة أو القراءة وبقية الأركان عما كان النبي صلى الله عليه و سلم يفعله كما روى أبو قزعة قال أتيت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه وهو مكثور عليه فلما تفرق الناس عنه قلت إني لا أسألك عما سألك هؤلاء عنه قلت أسألك عن صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال مالك في ذلك من خير فأعادها عليه فقال كانت صلاة الظهر تقام فينظلق أحدنا إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يأتي أهله فيتوضأ ثم يرجع إلى المسجد ورسول الله صلى الله عليه و سلم في الركعة الأولى
وفي رواية مما يطولها رواه مسلم في صحيحه
فهذا يبين لك أن أبا سعيد رأى صلاة الناس أنقص من هذا
وفي الصحيحين عن أبي برزة قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي الصبح فينصرف الرجل فيعرف جليسه وكان يقرأ في الركعتين أو إحداهما ما بين الستين إلى المائة هذا لفظ البخاري
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال إن كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ليأمرنا بالتخفيف وإن كان ليؤمنا بالصافات رواه أحمد والنسائي
وعن الضحاك بن عثمان عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن سليمان بن يسار عن أبي هريرة قال ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه و سلم من فلان قال سليمان كان يطيل الركعتين الأوليين من الظهر ويخفف الأخيرتين ويخفف العصر ويقرأ في المغرب بقصار المفصل ويقرأ في العشاء بأوساط المفصل ويقرأ في الصبح بطوال المفصل رواه النسائي وابن ماجه وهو إسناد على شرط مسلم
والضحاك بن عثمان قال فيه أحمد ويحيى هو ثقة وقال فيه ابن سعد كان ثبتا
ويدل على ما ذكرناه ما روى مسلم في صحيحه عن عمار بن ياسر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة وإن من البيان لسحرا
فقد جعل طول الصلاة علامة على فقه الرجل وأمر باطالتها
وهذا الأمر إما أن يكون عاما في جميع الصلوات وإما أن يكون المراد به صلاة الجمعة
فإن كان اللفظ عاما فظاهر وإن كان المراد به صلاة الجمعة فإذا أمر بإطالتها مع كون الجمع فيها يكون عظيما من الضعفاء والكبار وذوي الحاجات ما ليس في غيرها ومع كونها تفعل في شدة الحر مسبوقة بخطبتين فالفجر ونحوها التي تفعل وقت البرد مع قلة الجمع أولى وأحرى والأحاديث في هذا كثيرة
وإنما ذكرنا هذا التفسير لما في حديث أنس من تقدير صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ قد يحسب من يسمع هذه الأحاديث أن فيها نوع تناقض أو يتمسك بعض الناس ببعضها دون بعض ويجهل معنى ما تمسك به
وأما ما في حديث أنس المتقدم من قول النبي صلى الله عليه و سلم لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ففيه نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن التشدد في الدين بالزيادة عن المشروع
والتشديد تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب ولا مستحب بمنزلة الواجب والمستحب في العبادات وتارة باتخاذ ما ليس بمحرم ولا مكروه بمنزلة المحرم والمكروه في الطيبات وعلل ذلك بأن الذين شددوا على أنفسهم من النصارى شدد الله عليهم لذلك حتى آل الأمر إلى ما هم عليه من الرهبانية المبتدعة
وفي هذا تنبيه على كراهة النبي صلى الله عليه و سلم لمثل ما عليه النصارى من الرهبانية المبتدعة وإن كان كثير من عبادنا قد وقعوا في بعض ذلك متأولين معذورين أو غير متأولين ولا معذورين
وفيه أيضا تنبيه على أن التشديد على النفس ابتداء يكون سببا لتشديد آخر يفعله الله إما بالشرع وإما بالقدر
فأما بالشرع فمثل ما كان النبي صلى الله عليه و سلم يخافه في زمانه من زيادة إيجاب أو تحريم كنحو ما خافه لما اجتمعوا لصلاة التراويح معه ولما كانوا يسألون عن أشياء لم تحرم ومثل أن من نذر شيئا من الطاعات وجب عليه فعله وهو منهي عن نفس عقد النذر وكذلك الكفارات الواجبة بأسباب
وأما القدر فكثيرا ما قد رأينا وسمعنا من كان يتنطع في أشياء فيبتلى أيضا بأسباب تشدد الأمور عليه في الإيجاب والتحريم مثل كثير من الموسوسين
في الطهارات إذا زادوا على المشروع ابتلوا بأسباب توجب حقيقة عليهم أشياء فيها عظيم مشقة ومضرة
وهذا المعنى الذي دل عليه الحديث موافق لما قدمناه في قوله تعالى ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم من أن ذلك يقتضي كراهة موافقتهم في الآصار والأغلال
والآصار ترجع إلا الإيجابات الشديدة والأغلال هي التحريمات الشديدة فان الإصر هو الثقل والشدة وهذا شأن ما وجب والغل يمنع المغلول من الانطلاق وهذا شأن المحظور وعلى هذا دل قوله سبحانه يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وسبب نزولها مشهور
وعلى هذا ما في الصحيحين عن أنس بن مالك قال جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه و سلم يسألون عن عبادة رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها فقالوا وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد غفر له الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقال أحدهم أما أنا فأصلي الليل أبدا وقال الآخر وأنا اصوم الدهر أبدا وقال الآخر وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم إليهم فقال أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وافطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني رواه البخاري وهذا لفظه ورواه مسلم ولفظه عن أنس أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه و سلم عن عمله في السر فقال بعضهم لا أتزوج النساء وقال بعضهم لا آكل اللحم وقال بعضهم لا أنام على فرش فحمد الله وأثنى عليه وقال ما بال أقوام قالوا كذا وكذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس
مني والأحاديث الموافقة لهذا كثيرة في بيان أن سنته التي هي الاقتصاد في العبادة وفي ترك الشهوات خير من رهبانية النصارى التي هي ترك عامة الشهوات من النكاح وغيره والغلو في العبادات صوما وصلاة
وقد خالف هذا بالتأويل ولعدم العلم طائفة من الفقهاء والعباد
ومثل هذا ما رواه أبو داود في سننه عن العلاء بن عبد الرحمن عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة أن رجلا قال يا رسول الله ائذن لي في السياحة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم بأن أمته سياحتهم الجهاد في سبيل الله
وفي حديث آخر إن السياحة هي الصيام والسائحون هم الصائمون ونحو ذلك وذلك تفسير لما ذكره الله تعالى في القرآن من قوله السائحون وقوله سائحات
وأما السياحة التي هي الخروج في البرية من غير مقصد معين فليست من عمل هذه الأمة ولهذا قال الإمام أحمد ليست السياحة من الإسلام في شيء ولا من فعل النبيين ولا الصالحين مع أن جماعة من إخواننا قد ساحوا السياحة المنهي عنها متأولين في ذلك أو غير عالمين بالنهي عنه من الرهبانية المبتدعة التي قال فيها النبي صلى الله عليه و سلم لا رهبانية في الإسلام
والغرض هنا بيان ما جاءت به الحنيفية من مخالفة اليهود فيما أصابهم من القسوة عن ذكر الله وعما أنزل من الهدى الذي به حياة القلوب ومخالفة النصارى فيما هم عليه من الرهبانية المبتدعة وإن كان قد ابتلي بعض المنتسبين منا إلى علم أو دين بنصيب من هذا ومن هذا ففيهم شبه بهؤلاء وهؤلاء
ومثل ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم غداة العقبة وهو على ناقته القط لي حصى فلقطت له سبع حصيات مثل حصى الخذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول أمثال هؤلاء فارموا ثم قال
أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين رواه أحمد والنسائي وابن ماجه من حديث عوف بن أبي جميلة عن زياد بن حصين عن أبي العالية عنه وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم
وقوله إياكم والغلو في الدين عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال
والغلو هو مجاوزة الحد بأن يزاد في حمد الشيء أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك
والنصارى أكثر غلوا في الاعتقادات والأعمال من سائر الطوائف وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن في قوله تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم
وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار وهو داخل فيه فالغلو فيه مثل رمي الحجارة الكبار ونحو ذلك بناء على أنه قد بالغ في الحصى الصغار ثم علل ذلك بأن ما أهلك من كان قبلنا إلا الغلو في الدين كما تراه في النصارى
وذلك يقتضي أن مجانبة هديهم مطلقا أبعد عن الوقوع فيما به هلكوا وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه أن يكون هالكا
ومن ذلك أنه صلى الله عليه و سلم حذرنا عن مشابهة من قبلنا في أنهم كانوا يفرقون في الحدود بين الاشراف والضعفاء وأمر أن يسوى بين الناس في ذلك وأن كثيرا من ذوي الرأي والسياسة قد يظن أن إعفاء الرؤساء أجود في السياسة
ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها في شأن المخزومية التي سرقت لما كلم أسامة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله تعالى إنما أهلك بنو إسرائيل أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها
وكان بنو مجزوم من أشرف بطون قريش واشتد عليهم أن تقطع يد امرأة منهم فبين النبي صلى الله عليه و سلم أن هلاك بني إسرائيل إنما كان في تخصيص رؤساء الناس بالعفو عن العقوبات وأخبر أن فاطمة ابنته التي هي أشرف النساء لو سرقت وقد أعاذها الله من ذلك لقطع يدها ليبين أن وجوب العدل والتعميم في الحدود لا يستثنى منه بنت الرسول فضلا عن بنت غيره
وهذا يوافق ما في الصحيحين عن عبد الله بن مرة عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال مر على النبي صلى الله عليه و سلم بيهودي محمم مجلود فدعاهم فقال أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم فقالوا نعم فدعا رجلا من علمائهم قال أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قال لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك نجده الرجم ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم فقال صلى الله عليه و سلم اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأمر به فرجم فأنزل الله عز و جل يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه يقول ائتوا محمدا فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا فأنزل الله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون في الكفار كلها
وأيضا ما روى مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله البجلي قال سمعت النبي صلى الله عليه و سلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول إني أبرأ إلى الله
أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت ابا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك
وصف رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الذين كانوا قبلنا كانوا يتخذون قبور الأنبياء والصالحين مساجد وعدى هذا الوصف بالأمر بحرف الفاء أن لا يتخذوا القبور مساجد وقال إنه صلى الله عليه و سلم ينهانا عن ذلك ففيه دلالة على أن اتخاذ من قبلنا سبب لنهينا إما مظهر للنهي وإما موجب للنهي
وذلك يقتضي أن أعمالهم دلالة وعلامة على أن الله ينهانا عنها أو أنها علة مقتضية للنهي وعلى التقديرين يعلم أن مخالفتهم أمر مطلوب للشارع في الجملة
والنهي عن هذا العمل بلعنة اليهود والنصارى مستفيض عنه صلى الله عليه و سلم
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وفي لفظ لمسلم لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
وفي الصحيحين عن عائشة وابن عباس قالا لما نزل برسول الله صلى الله عليه و سلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتنم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا
وفي الصحيحين أيضا عن عائشة أن أم سلمة وأم حبيبة ذكرتا لرسول الله صلى الله عليه و سلم كنيسة رأتاها بأرض الحبشة يقال لها مارية وذكرتا من حسنها وتصاوير فيها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله عز و جل
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم
زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج رواه أهل السنن الأربعة وقال الترمذي حديث حسن وفي بعض نسخه صحيح
فهذا التحذير منه صلى الله عليه و سلم واللعن عن مشابهة أهل الكتاب في بناء المسجد على قبر الرجل الصالح صريح في النهي عن المشابهة في هذا ودليل على الحذر عن جنس أعمالهم حيث لا يؤمن في سائر أعمالهم أن تكون من هذا الجنس
ثم من المعلوم ما قد ابتلي به كثير من هذه الأمة من بناء المساجد على القبور واتخاذ القبور مساجد بلا بناء وكلا الأمرين محرم ملعون فاعله بالمستفيض من السنة وليس هذا موضع استقصاء ما في ذلك من سائر الأحاديث والآثار إذ الغرض القاعدة الكلية وإن كان تحريم ذلك قد ذكره غير واحد من علماء الطوائف من اصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم ولهذا كان السلف من الصحابة والتابعين يبالغون في المنع مما يجر إلى مثل هذا وفيه من الآثار ما لا يليق ذكره هنا حتى روى أبو يعلى الموصلي بسنده حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن الحباب حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين حدثنا علي بن عمر عن أبيه عن علي بن الحسن أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه و سلم فيدخل فيها فيدعو فنهاه فقال ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم وأخرجه محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ في مستخرجه
وروى سعيد بن منصور في سننه حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل ابن أبي سهيل قال رآني علي الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال هلم إلى العشاء فقلت لا أريده فقال مالي رأيتك عند القبر قلت سلمت على النبي صلى الله عليه و سلم
فقال إذا دخلت المسجد فسلم ثم قال إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لا تتخذوا قبري عيدا ولا تتخذوا بيوتكم مقابر لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم ما أنت ومن بالأندلس إلا سواء
ولهذا ذكر الأئمة أحمد وغيره من أصحاب مالك وغيرهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه و سلم وقال ما ينبغي له أن يقول ثم أراد أن يدعو فإنه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره
فصل
في ذكر فوائد خطبته صلى الله عليه و سلم العظيمة في يوم عرفة
روى مسلم في صحيحه عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن ابيه عن جابر في حديث حجة الوداع قال حتى إذا زالت الشمس يعني يوم عرفة أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحرث كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم تسألون عني فماذا أنتم قائلون قالوا نحن نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس اللهم اشهد ثلاث مرات ثم أذن فأقام فصلى
الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا ثم ركب رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أتى الموقف وذكر تمام الحديث
فقوله صلى الله عليه و سلم كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع يدخل فيه كل ما كانوا عليه من العبادات والعادات مثل دعواهم يال فلان ويال فلان ومثل أعيادهم وغير ذلك من أمورهم
ثم خص بعد ذلك الدماء والأموال التي كانت تستباح باعتقادات جاهلية من الربا الذي كان في ذمم أقوام ومن قتيل قتل في الجاهلية قبل إسلام القاتل وعهده أو قبل إسلام المقتول وعهده إما لتخصيصها بالذكر بعد العام وإما لأن هذا إسقاط لأمور معينة يعتقدون أنها حقوق لا لسنن عامة لهم فلا تدخل في الأول كما لم تدخل الديون التي ثبتت ببيع صحيح أو قرض ونحو ذلك
ولا يدخل في هذا اللفظ ما كانوا عليه في الجاهلية واقره الله في الإسلام كالمناسك وكدية المقتول بمائة من الإبل وكالقسامة ونحو ذلك لأن أمر الجاهلية معناه مفهوم منه ما كانوا عليه مما لم يقره الإسلام فيدخل في ذلك ما كانوا عليه وإن لم ينه في الإسلام عنه بعينه
وأيضا ما روى أبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث عياش بن عباس عن أبي الحصين المصري يعني الهيثم بن شفي قال خرجت أنا وصاحب لي يكنى أبا عامر رجل من المعافر لنصلي بإيلياء وكان قاصهم رجل من الأزد يقال له أبو ريحانة من الصحابة قال أبو الحصين فسبقني صاحبي إلى المسجد ثم ردفته فجلست إلى جنبه فسألني هل أدركت قصص أبي ريحانة قلت لا قال سمعته يقول نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عشر عن الوشر والوشم والنتف وعن مكامعة الرجل الرجل بغير شعار ومكامعة المرأة المرأة بغير شعار وأن يجعل الرجل بأسفل ثيابه حريرا مثل الأعاجم أو يجعل على منكبيه حريرا
مثل الأعاجم وعن النهبى وركوب النمور ولبوس الخاتم إلا لذي سلطان وفي رواية عن أبي ريحانة قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم
وهذا الحديث محفوظ من حديث عياش بن عباس رواه عنه المفضل ابن فضالة وجيوة بن شريح المصري ويحيى بن أيوب وكل منهم ثقة وعياش بن عباس روى له مسلم وقال يحيى بن معين ثقة وقال أبو حاتم صالح وأما أبو الحصين الهيثم بن شفي قال الدارقطني شفي بفتح الشين وتخفيف الفاء وأكثر المحدثين يقولون شفي وهو غلط وأبو عامر الحجري الأزدي فشيخان قد روى عن كل واحد منهما أكثر من واحد وهما من الشيوخ القدماء
وهذا الحديث قد أشكل على أكثر الفقهاء من جهة أن يسير الحرير قد دل على جوازه نصوص متعددة ويتوجه تحريمه على الأصل وهو أن يكون صلى الله عليه و سلم إنما كره أن يجعل الرجل بأسفل ثيابه أو على منكبيه حريرا مثل الأعاجم فيكون المنهي عنه نوعا كان شعارا للأعاجم فنهى عنه لذلك لا لكونه حريرا فإنه لو كان النهي عنه لكونه حريرا لعم الثوب كله ولم يخص هذين الموضعين ولهذا قال فيه مثل الأعاجم والأصل في الصفة أن تكون لتقييد الموصوف لا لتوضيحه
وعلى هذا يمكن تخريج ما رواه أبو داود بإسناد صحيح عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين أن نبي الله صلى الله عليه و سلم قال لا أركب الأرجوان ولا ألبس المعصفر ولا ألبس القميص المكفف بالحرير فأومأ الحسن إلى جيب قميصه
قال قال ألا وطيب الرجال ريح لا لون له ألا وطيب النساء لون لا ريح له قال سعيد أراه قال إنما حملوا قوله في طيب النساء على أنها إذا خرجت فأما إذا كانت عند زوجها فلتطيب بما شاءت أو يخرج هذا الحديث على الكراهية فقط وكذلك قد يقال في الحديث الأول لكن في ذلك نظر
وأيضا ففي الصحيحين عن رافع بن خديج قال قلت يا رسول الله إنا لاقوا العدو غدا وليس معنا مدي أفنذبح بالقصب فقال ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر وسأحدثكم عن ذلك أما السن فعظم وأما الظفر فمدي الحبشة
نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن الذبح بالظفر معللا بأنها مدي الحبشة كما علل السن بأنه عظم
وقد اختلف الفقهاء في هذا فذهب أهل الرأي إلى أن علة النهي كون الذبح بالسن والظفر يشبه الخنق أو هو مظنة الخنق والمنخنقة محرمة وسوغوا على هذا الذبح بالسن والظفر المنزوعين لأن التذكية بالآلات المنفصلة المحددة لا خنق فيها
والجمهور منعوا من ذلك مطلقا لأن النبي صلى الله عليه و سلم استثنى السن والظفر مما أنهر الدم فعلم أنه من المحدد الذي لا يجوز التذكية به ولو كان لكونه خنقا لم يستثنه والمظنة إنما تقام مقام الحقيقة إذا كانت الحكمة خفية أو غير منضبطة فأما مع ظهورها وانضباطها فلا
وأيضا فإنه مخالف لتعليل رسول الله صلى الله عليه و سلم المنصوص في الحديث
ثم اختلف هؤلاء هل يمنع من التذكية بسائر العظام عملا بعموم العلة على قولين في مذهب أحمد وغيره
وعلى الأقوال الثلاثة فقوله صلى الله عليه و سلم أما الظفر فمدي الحبشة بعد قوله سأحدثكم عن ذلك يقتضي أن هذا الوصف وهو كونه مدي الحبشة له تأثير في المنع إما أن يكون علة أو دليلا على العلة أو وصفا من أوصاف العلة أو دليلها والحبشة في أظفارهم طول فيذكون بها دون سائر الأمم فيجوز أن يكون نهيه عن ذلك لما فيه من مشابهتهم فيما يختصون به
وأما العظم فيجوز أن يكون نهيه عن التذكية به كنهيه عن الاستنجاء به لما فيه من تنجيسه على الجن إذ الدم نجس
وليس الغرض هنا ذكر مسألة الذكاة بخصوصها فإن فيها كلاما ليس هذا موضعه
وأيضا في الصحيحين عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال البحيرة التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء وقال قال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم رأيت عمرو بن العاص الخزاعي يجر قصبه في النار كان أول من سيب السوائب
وروى مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة ابن خندف أخا بني كعب وهو يجر قصبه في النار
وللبخاري من حديث أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أبو خزاعة
هذا من العلم المشهور أن عمرو بن لحي هو أول من نصب الأنصاب حول البيت ويقال إنه جلبها من البلقاء من أرض الشام متشبها بأهل البلقاء وهو أول من سيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم أنه رآه يجر قصبه في النار وهي الأمعاء ومنه سمى القصاب بذلك لأنها تشبه القصب
ومعلوم أن العرب قبله كانوا على ملة أبيهم إبراهيم على شريعة التوحيد
والحنيفية السمحة دين أبيهم إبراهيم فتشبهوا بعمرو بن لحي وكان عظيم أهل مكة يومئذ لأن خزاعة كانوا ولاة البيت قبل قريش وكان سائر العرب متشبهين بأهل مكة لأن فيها بيت الله وإليها الحج ما زالوا معظمين من زمن إبراهيم عليه السلام فتشبه عمرو بمن رآه في الشام واستحسن بعقله ما كانوا عليه ورأى أن في تحريم ما حرمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي تعظيما لله ودينا فكان ما فعله أصل الشرك في العرب أهل دين إبراهيم وأصل تحريم الحلال وإنما فعله متشبها فيه بغيره من أهل الأرض فلم يزل الأمر يتزايد ويتفاقم حتى غلب على أفضل الأرض الشرك بالله عز و جل وتغير دينه الحنيف إلى أن بعث الله رسوله صلى الله عليه و سلم فأحيا ملة إبراهيم عليه السلام واقام التوحيد وحلل ما كانوا يحرمونه
وفي سورة الأنعام من عند قوله تعالى وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا إلى قوله قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها
بغير علم وحرموا ما رزقهم الله إلى آخر السورة خطاب مع هؤلاء الضرب ولهذا يقول تعالى في اثنائها سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء
ومعلوم أن مبدأ هذا التحريم ترك الأمور المباحة تدينا وأصل هذا التدين هو من التشبه بالكفار وإن لم يقصد المتدين التشبه بهم
فقد تبين لك أن من أصل دروس دين الله وشرائعه وظهور الكفر والمعاصي التشبه بالكافرين كما أن من أصل كل خير المحافظة على سنن الأنبياء وشرائعهم ولهذا عظم وقع البدع في الدين وإن لم يكن فيها تشبه بالكفار فكيف إذا جمعت الوصفين ولهذا جاء في الحديث ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع عنهم من السنة مثلها
وأيضا فقد روى أبو داود في سننه وغيره من حديث هشيم أخبرنا أبو بشر عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قال اهتم النبي صلى الله عليه و سلم للصلاة كيف يجمع الناس لها فقيل له انصب راية عند حضور الصلاة فاذا رأوها أذن بعضهم بعضا فلم يعجبه ذلك قال فذكروا له القنع شبور اليهود فلم يعجبه ذلك وقال هو من أمر اليهود قال فذكر له الناقوس فقال هو من فعل النصارى فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربه وهو مهتم لهم النبي صلى الله عليه و سلم فأري الأذان في منامه قال فغدا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره فقال يا رسول الله إني لبين نائم ويقظان إذ أتاني آت فأراني الأذان قال وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يوما قال ثم أخبر النبي صلى الله عليه و سلم فقال له ما منعك أن تخبرنا فقال سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا بلال قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله قال فأذن بلال قال أبو بشر فحدثني أبو عمير أن الأنصار تزعم أن عبد الله بن زيد لولا أنه كان يومئذ مريضا لجعله رسول الله صلى الله عليه و سلم مؤذنا
وروى سعيد بن منصور في سننه حدثنا أبو عوانة عن مغيرة عن عامر الشعبي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم اهتم بأمر الصلاة اهتماما شديدا ليتبين ذلك فيه وكان فيما اهتم به من أمر الصلاة أن ذكر الناقوس ثم قال هو من فعل النصارى ثم أراد أن يبعث رجالا يؤذنون الناس بالصلاة في الطرق ثم قال أكره أن أشغل رجالا عن صلاتهم بأذان غيرهم وذكر رؤيا عبد الله بن زيد
ويشهد لهذا ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي قلابة عن أنس قال لما كثر الناس ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه فذكروا أن ينوروا نارا ويضربوا ناقوسا فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة
وفي الصحيحين عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر قال كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون للصلاة وليس ينادي بهم أحد فتكلموا يوما في ذلك فقال بعضهم اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى وقال بعضهم قرنا مثل قرن اليهود فقال عمر أو تبعثون رجلا ينادي بالصلاة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا بلال قم فناد بالصلاة
ما يتعلق بهذا الحديث من شرح الأذان ورؤيا عبد الله بن زيد وعمر وأمر عمر أيضا بذلك وما روي من أن النبي صلى الله عليه و سلم كان قد سمع الأذان ليلة أسري به إلى غير ذلك ليس هذا موضع ذكره وذكر الجواب عما قد يستشكل منه
وإنما الغرض هنا أن النبي صلى الله عليه و سلم لما كره بوق اليهود المنفوخ
بالفم وناقوس النصارى المضروب باليد علل هذا بأنه من أمر اليهود وعلل هذا بأنه من أمر النصارى لأن ذكر الوصف عقيب الحكم يدل على أنه علة له وهذا يقتضي نهيه عن كل ما هو من أمر اليهود والنصارى هذا مع أن قرن اليهود يقال إن أصله مأخوذ عن موسى عليه السلام وأنه كان يضرب بالبوق في عهده وأما ناقوس النصارى فمبتدع إذ عامة شرائع النصارى أحدثها أحبارهم ورهبانهم
وهو يقتضي كراهية هذا النوع من الأصوات مطلقا في غير الصلاة أيضا لأنه من أمر اليهود والنصارى فإن النصارى يضربون بالنواقيس في أوقات متعددة غير أوقات عباداتهم
وإنما شعار الدين الحنيف الأذان المتضمن للاعلان بذكر الله سبحانه الذي به تفتح أبواب السماء وتهرب الشياطين وتنزل الرحمة
وقد ابتلي كثير من هذه الأمة من الملوك وغيرهم بهذا الشعار شعار اليهود والنصارى حتى إنا رأيناهم في هذا الخميس الحقير الصغير يبخرون البخور ويضربون له بنواقيس صغار حتى إن من الملوك من كان يضرب بالأبواق والدبادب في أوقات الصلوات الخمس وهو نفس ما كرهه رسول الله صلى الله عليه و سلم ومنهم من كان يضرب بها طرفي النهار تشبها منه كما زعم بذي القرنين ووكل ما دون ذلك إلى ملوك الأطراف
وهذه المشابهة لليهود والنصارى وللأعاجم من الروم والفرس لما غلبت على ملوك الشرق هي وأمثالها مما خالفوا به هدى المسلمين ودخلوا فيما كرهه الله ورسوله سلط الله عليهم الترك الكافرين الموعود بقتالهم حتى فعلوا في العباد والبلاد مالم يجر في دولة الإسلام مثله وذلك تصديق قوله صلى الله عليه و سلم
لتركبن سنن من كان قبلكم كما تقدم
وكان المسلمون على عهد نبيهم وبعده لا يعرفون وقت الحرب إلا بالسكينة وذكر الله تعالى
قال قيس بن عبادة وهو من كبار التابعين كانوا يستحبون خفض الصوت عند الذكر وعند القتال وعند الجنائز
وكذلك سائر الآثار تقتضي أنهم كانت عليهم السكينة في هذه المواطن مع امتلاء القلوب بذكر الله وإجلاله وإكرامه كما أن حالهم في الصلاة كذلك وكان رفع الصوت في هذه المواطن الثلاث عادة أهل الكتاب والأعاجم ثم قد ابتلى بها كثير من هذه الأمة وليس هذا موضع استقصاء ذلك
وأيضا فعن عمرو بن ميمون الأزدي قال قال عمر رضي الله عنه كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس ويقولون أشرق ثبير كيما نغير قال فخالفهم النبي صلى الله عليه و سلم وأفاض قبل طلوع الشمس وقد روى في هذا الحديث فيما أظنه أنه قال خالف هدينا هدي المشركين وكذلك كانوا يفيضون من عرفات قبل الغروب فخالفهم النبي صلى الله عليه و سلم بالإفاضة بعد الغروب وبهذا صار الوقوف إلى ما بعد الغروب واجبا عند جماهير العلماء وركنا عند بعضهم وكرهوا شدة الإسفار بالفجر صبيحة جمع
ثم الحديث قد ذكر فيه قصد المخالفة للمشركين
وأيضا فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة متفق عليه
وعن جبير بن نفير عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم علي ثوبين معصفرين فقال إن هذه من ثياب الكفار لا تلبسها رواه مسلم وعلل النهي عن لبسها بأنها من ثياب الكفار وسواء أراد أنها مما يستحله الكفار بأنهم يستمتعون بخلاقهم في الدنيا أو مما يعتاده الكفار لذلك كما أنه في الحديث قال إنهم يستمتعون بآنية الذهب والفضة في الدنيا وهي للمؤمنين في الآخرة ولهذا كان العلماء يجعلون اتخاذ الحرير وأواني الذهب والفضة تشبها بالكفار
ففي الصحيحين عن أبي عثمان الهندي قال كتب إلينا عمر رضي الله عنه ونحن بأذربيجان مع عتبة بن فرقد يا عتبة إنه ليس من كد أبيك ولا من كد أمك فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك وإياك والتنعم وزي أهل الشرك ولبوس الحرير فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن لبوس الحرير وقال إلا هكذا ورفع لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بإصبعيه الوسطى والسبابة وضمهما
وروى أبو بكر الخلال بإسناده عن محمد بن سيرين أن حذيفة بن اليمان أتى بيتا فرأى فيه حادثتين فيه أباريق الصفر والرصاص فلم يدخله وقال من تشبه بقوم فهو منهم
وفي لفظ آخر فرأى شيئا من زي العجم فخرج وقال من تشبه بقوم فهو منهم
وقال علي بن أبي صالح السواق كنا في وليمة فجاء أحمد بن حنبل فلما دخل نظر إلى كرسي في الدار عليه فضة فخرج فلحقه صاحب الدار فنفض يده في وجهه وقال زي المجوس زي المجوس
وقال في رواية صالح إذا كان في الدعوة مسكر أو شيء من منكر آنية المجوس الذهب والفضة أو ستر الجدران بالثياب خرج ولم يطعم
ولو تتبعنا ما في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه و سلم مع ما دل عليه كتاب الله لطال بنا القول
فصل
وأما الإجماع فمن وجوه
من ذلك أن أمير المؤمنين عمر في الصحابة رضي الله عنهم ثم عامة الأئمة بعده وسائر الفقهاء جعلوا في الشروط المشروطة على أهل الذمة من النصارى وغيرهم فيما شرطوه على أنفسهم أن نوقر المسلمين ونقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم قلنسوة أو عمامة أو نعلين أو فرق شعر ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتنى بكناهم ولا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ولا نبيع الخمور وأن نجز مقادم رءوسنا وأن نلزم زينا حيثما كان وأن نشد الزنانير على أوساطنا وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا ولا نظهر صليبا ولا كتبا من كتب ديننا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نضرب بنواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيفا ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين رواه حرب بإسناد جيد
وفي رواية أخرى رواها الخلال وأن لا نضرب بنواقيسنا إلا ضربا خفيفا في جوف كنائسنا ولا نظهر عليها صليبا ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون وأن لا نخرج صليبا ولا كتابا في سوق المسلمين ولا نخرج باعوثا والباعوث أنهم يخرجون مجتمعين كما نخرج يوم الأضحى والفطر ولا شعانينا ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نظهر النيران معهم
في أسواق المسلمين وأن لا نجاوزهم بالجنائز ولا نبيع الخمور إلى أن قال وأن نلزم زينا حيثما كنا وأن لا نتشبه بالمسليمن في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا في مراكبهم ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتني بكناهم وأن نجز مقادم رءوسنا ولا نفرق نواصينا وأن نشد الزنانير على أوساطنا
وهذه الشروط أشهر شيء في كتب الفقه والعلم وهي مجمع عليها في الجملة بين العلماء من الأئمة المتبوعين وأصحابهم وسائر الأئمة ولولا شهرتها عند الفقهاء لذكرنا ألفاظ كل طائفة فيها وهي أصناف
الصنف الأول ما مقصوده التمييز عن المسلمين في الشعور واللباس والأسماء والمراكب والكلام ونحوها ليتميز المسلم من الكافر ولا يشبه أحدهما الآخر في الظاهر ولم يرض عمر رضي الله عنه والمسلمون بأصل التمييز بل بالتمييز في عامة الهدى على تفاصيل معروفة في غير هذا الموضع
وذلك يقتضي إجماع المسلمين على التميز عن الكفار ظاهرا وترك التشبه بهم ولقد كان أمراء الهدى مثل العرين وغيرهما يبالغون في تحقيق ذلك بما يتم به المقصود
ومقصودهم من هذا التميز كما روى الحافظ أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده في شروط أهل الذمة عن خالد بن عرفطة قال كتب عمر رضي الله عنه إلى الأمصار أن لا يجزوا نواصيهم يعني النصارى ولا يلبسوا لبس المسلمين حتى يعرفوا
وقال القاضي أبو يعلى في مسألة حدثت في وقته أهل الذمة مأمورون بلبس الغيار فإن امتنعوا لم يجز لأحد من المسلمين صبغ ثوب من ثيابهم لأنه لم يتعين عليهم صبغ ثوب بعينه
قلت وهذا فيه خلاف هل يلزمون بالتغيير أو الواجب علينا إذا امتنعوا أن نغير نحن وأما وجوب أصل المغايرة فما علمت فيه خلافا
وقد روى أبو الشيخ الأصبهاني في شروط أهل الذمة بإسناده أن عمر كتب أن لا تكاتبوا أهل الذمة فيجري بينكم وبينهم المودة ولا تكنوهم وأذلوهم ولا تظلموهم ومروا نساء أهل الذمة أن لا يعقدن زناراتهن ويرخين نواصيهن ويرفعن عن سوقهن حتى نعرف زيهن من المسلمات فإن رغبن عن ذلك فليدخلن إلى الإسلام طوعا أو كرها
وروى أيضا أبو الشيخ بإسناده عن محمد بن قيس وسعيد بن عبد الرحمن بن حبان قال دخل ناس من بني تغلب على عمر بن عبد العزيز وعليهم العمائم كهيئة العرب فقالوا يا أمير المؤمنين ألحقنا بالعرب قال فمن أنتم قالوا نحن بنو تغلب قال أولستم من أواسط العرب قالوا نحن نصارى قال علي بجلم فأخذ من نواصيهم وألقى العمائم وشق رداء كل واحد شبرا يحترم به وقال لا تركبوا السروج واركبوا على الأكف ودلوا أرجلكم من شق واحد
وعن مجاهد بن الأسود قال كتب عمر بن عبد العزيز أن لا يضرب الناقوس خارجا من الكنيسة
وعن معمر أن عمر بن عبد العزيز كتب أن امنع من قبلك فلا يلبس نصراني قباء ولا ثوب خز ولا عصب وتقدم في ذلك أشد التقدم واكتب فيه حتى لا يخفى على أحد نهي عنه وقد ذكر لي أن كثيرا ممن قبلك من النصارى قد راجعوا لبس العمائم وتركوا لبس المناطق على أوساطهم واتخذوا الوفر والجمم وتركوا التقصيص ولعمري إن كان يصنع ذلك فيما قبلك إن ذلك بك ضعف وعجز فانظر كل شيء كنت نهيت عنه وتقدمت فيه إلا تعاهدته وأحكمته ولا ترخص فيه ولا تعد عنه شيئا
ولم أكتب سائر ما كانوا يأمرون به في أهل الكتاب إذ الغرض هنا التمييز وكذلك فعل جعفر بن محمد بن هرون المتوكل بأهل الذمة في خلافته واستشارته في ذلك الإمام أحمد بن حنبل وغيره وعهوده في ذلك وجوابات أحمد ابن حنبل له معروفة
ومن جملة الشروط ما يعود بإخفاء منكرات دينهم وترك إظهارها كمنعهم من إظهار الخمر والناقوس والنيران والأعياد ونحو ذلك
ومنها ما يعود بإخفاء شعار دينهم كأصواتهم بكتابهم
فاتفق عمر رضي الله عنه والمسلمون معه وسائر العلماء بعده ومن وفقه الله تعالى من ولاة الأمور على منعهم من أن يظهروا في دار الإسلام شيئا مما يختصون به مبالغة في أن لا يظهروا في دار الإسلام خصائص المشركين فكيف إذا عملها المسلمون وأظهروها هم
ومنها ما يعود بترك إكرامهم وإلزامهم الصغار الذي شرعه الله تعالى
ومن المعلوم أن تعظيم أعيادهم ونحوها بالموافقة فيها هو نوع من إكرامهم فإنهم يفرحون بذلك ويسرون به كما يغتمون بإهمال أمر دينهم الباطل
الوجه الثاني من دلائل الإجماع أن هذه القاعدة قد أمر بها غير واحد من الصحابة والتابعين في أوقات متفرقة وقضايا متعددة وانتشرت ولم ينكرها منكر
فعن قيس بن أبي حازم قال دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على امرأة من أحمس يقال لها زينب فرآها لا تتكلم فقال ما لها لا تتكلم قالوا حجت مصمتة فقال لها تكلمي فإن هذا لا يحل هذا عمل الجاهلية فتكلمت فقالت من أنت قال امرؤ من المهاجرين فقلت من أي المهاجرين قال من قريش قالت من أي قريش قال إنك لسؤل وقال أنا أبو بكر قالت ما بقاؤنا على هذا الأمر الصلح ! الذي جاء الله به بعد الجاهلية قال بقاؤكم عليه ما استقامت لكم أئمتكم قالت
وما الأئمة قال أما كان لقومكم رءوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم قالت بلى قال فهم أولئك على الناس رواه البخاري في صحيحه
فأخبر أبو بكر أن الصمت المطلق لا يحل وعقب ذلك بقوله هذا من عمل الجاهلية قاصدا بذلك عيب هذا العمل وذمه
وتعقيب الحكم بالوصف دليل على أن الوصف علة فدل على أن كونه من عمل الجاهلية وصف يوجب النهي عنه والمنع منه
ومعنى قوله من عمل الجاهلية أي إنه مما انفرد به أهل الجاهلية ولم يشرع في الإسلام فيدخل في هذا كل ما اتخذ من عبادة مما كان أهل الجاهلية يتعبدون به ولم يشرع الله التعبد به في الاسلام وإن لم ينوه عنه بعينه كالمكاء والتصدية فإن الله تعالى قال عن الكافرين وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية والمكاء الصفير ونحوه والتصدية التصفيق فاتخاذ هذا قربة وطاعة من عمل الجاهلية الذي لم يشرع في الإسلام
وكذلك بروز المحرم وغيره للشمس حتى لا يستظل بظل أو ترك الطواف بالثياب العادية أو ترك كل ما عمل في غير الحرم ونحو ذلك من أمور الجاهلية التي كانوا يتخذونها عبادات وإن كان قد جاء نهي خاص في عامة هذه الأمور بخلاف السعي بين الصفا والمروة وغيره من شعائر الحج فإن ذلك من شعائر الله وإن كان أهل الجاهلية قد كانوا يفعلون ذلك في الجملة
وقد قدمنا ما رواه البخاري في صحيحه عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى المسلمين المقيمين ببلاد فارس إياكم وزي أهل الشرك
وهذا نهي منه للمسلمين عن كل ما كان من زي المشركين
وقال الإمام أحمد في المسند حدثنا يزيد حدثنا عاصم عن أبي عثمان النهدي عن عمر أنه قال اتزروا وارتدوا وانتعلوا والبسوا الخفاف
والسراويلات والقوا الركب وانزوا نزوا وعليكم بالمعدية وارموا الأغراض وذروا التنعم وزي العجم وإياكم والحرير فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد نهى عنه وقال لا تلبسوا من الحرير إلا ما كان هكذا واشار رسول الله صلى الله عليه و سلم بإصبعيه
وقال أحمد حدثنا حسن بن موسى حدثنا زهير حدثنا عاصم الأحول عن أبي عثمان قال جاءنا كتاب عمر رضي الله عنه ونحن بأذربيجان يا عتبة ابن فرقد إياكم والتنعم وزي أهل الشرك ولبوس الحرير فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهانا عن لبوس الحرير وقال إلا هكذا ورفع لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم إصبعيه
وهذا ثابت على شرط الصحيحين
وفيه أن عمر رضي الله عنه أمر بالمعدية وهي زي بني معد بن عدنان وهم العرب فالمعدية نسبة إلى معد ونهى عن زي العجم وزي المشركين وهذا عام كما لا يخفى وقد تقدم هذا مرفوعا والله أعلم
وروى الإمام أحمد في المسند حدثنا أسود بن عامر حدثنا حماد بن سلمة عن ابي سنان عن عبيد بن آدم وأبي مريم وأبي شعيب أن عمر كان بلجابية فذكر فتح بيت المقدس قال حماد بن سلمة فحدثني أبو سنان عن عبيد بن آدم قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لكعب أين ترى أن أصلي فقال إن اخذت عني صليت خلف الصخرة فكانت القدس كلها بين يديك فقال عمر ضاهيت اليهودية لا ولكن أصلي حيث صلى
رسول الله صلى الله عليه و سلم فتقدم إلى القبلة فصلى ثم جاء فبسط رداءه فكنس الكناسة في ردائه وكنس الناس
قلت فصلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم في مسجد بيت المقدس في ليلة الإسراء قد رواها مسلم في صحيحه من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه قال فركبته حتى أتيت بيت المقدس قال فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء قال ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل عليع السلام اخترت الفطرة قال ثم عرج بنا إلى السماء وذكر الحديث
وقد كان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ينكر أن يكون صلى فيه لأنه لم يبلغه ذلك واعتقد أنه لو صلى فيه لوجب على الأمة الصلاة فيه
فعمر رضي الله عنه عاب على كعب الأحبار مضاهاة اليهودية أي مشابهتها في مجرد استقبال الصخرة لما فيه من مشابهة من يعتقدها قبلة باقية وإن كان المسلم لا يقصد أن يصلي إليها
وقد كان لعمر رضي الله عنه في هذا الباب من السياسات المحكمة ما هي مناسبة لسائر سيرته المرضية فإنه رضي الله عنه هو الذي استحالت ذنوب الإسلام بيده غربا فلم يفر عبقري فريه حتى صدر الناس بطعن فأعز الله به الإسلام وأذل
الكفر وأهله وأقام شعائر الدين الحنيف ومنع من كل أمر فيه نزوع إلى نقض عرى الإسلام مطيعا في ذلك لله ورسوله وقافا عند كتاب الله ممتثلا لسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم محتذيا حذو صاحبيه مشاورا في أموره للسابقين الأولين مثل عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت رضي الله عنهم وغيرهم ممن له علم أو فقه أو رأي أو نصيحة للاسلام وأهله حتى إن العمدة في الشروط على أهل الكتاب على شروطه وحتى منع من استعمال كافر أو ائتمانه على الأمة وإعزازه بعد أن أذله الله وحتى روى عنه أنه حرق الكتب العجمية وغيرها وهو الذي منع أهل البدع من أن ينبغوا وألبسهم ثوب الصغار حيث فعل بصبيغ بن عسل التميمي ما فعل في قصته المشهورة وستأتي عند ذكرها إن شاء الله تعالى في خصوص أعياد الكفار من النهي عن الدخول عليهم فيها ومن النهي عن تعلم رطانة الأعاجم ما يتبين به ثبوت قوة شكيمته في النهي عن مشابهة الكفار والأعاجم ثم ما كان عمر قد قرره من
السنن والأحكام والحدود فعثمان رضي الله عنه أقر ما فعله عمر وجرى على سنته في ذلك فقد علم موافقة عثمان لعمر في هذا الباب
وروى سعيد في سننه حدثنا هشيم عن خالد الحذاء عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب عن أبيه قال خرج علي رضي الله عنه فرأى قوما قد سدلوا فقال ما لهم كأنهم اليهود خرجوا من فهورهم ورواه ابن المبارك وحفص بن غياث عن خالد
وفيه أنه رأى قوما قد سدلوا في الصلاة فقال كأنهم اليهود خرجوا من فهرهم وقد روينا عن ابن عمر وأبي هريرة أنهما كانا يكرهان السدل في الصلاة
وقد روى أبو داود عن سليمان الأحول وعسل بن سفيان عن عطاء عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن السدل في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه ومنهم من رواه عن عطاء عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسلا لكن قال هشيم حدثنا عامر الأحول قال سألت عطاء عن السدل في الصلاة فكرهه فقلت عن النبي صلى الله عليه و سلم قال عن النبي صلى الله عليه و سلم والتابعي إذا أفتى بما رواه دل على ثبوته عنده
لكن قد روي عن عطاء من وجوه جيدة أنه كان لا يرى بالسدل بأسا وأنه كان يصلي سادلا فلعل هذا كان قبل أن يبلغه الحديث ثم لما بلغه رجع أو لعله نسي الحديث والمسألة مشهورة وهو عمل الراوي بخلاف روايته هل يقدح في روايته
والمشهور عن أحمد وأكثر العلماء أنه لا يقدح فيها لما تحتمله المخالفة من وجوه غير ضعف الحديث
وقد روى عبد الرزاق عن بشر بن رافع عن يحيى بن أبي كثير عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود أن أباه كره السدل في الصلاة قال أبو عبيدة وكان أبي يذكر أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عنه
وأكثر العلماء يكرهون السدل مطلقا وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي والمشهور عن أحمد
وعنه أنه إنما يكره فوق الإزار دون القميص توفيقا بين الآثار في ذلك وحملا للنهي عن لباسهم المعتاد
ثم اختلف هل السدل محرم يبطل الصلاة
فقال ابن أبي موسى فإن صلى سادلا ففي الإعادة روايتان أظهرهما لا يعيد
وقال أبو بكر عبد العزيز إن لم تبد عورته فلا يعيد باتفاق ومنهم من لم يكره السدل وهو قول مالك وغيره
والسدل المذكور هو أن يطرح الثوب على إحدى كتفيه ولا يرد أحد طرفيه على كتفه الأخرى هذا هو المنصوص عن أحمد وعلله بأنه فعل اليهود
وقال أحمد بن حنبل قال أبو عبد الله والسدل أن يسدل أحد طرفي الإزار ولا ينعطف به عليه وهو لبس اليهود وهو على الثوب وغيره مكروه في الصلاة
وقال صالح بن أحمد سألت أبي عن السدل في الصلاة فقال يلبس الثوب فإذا لم يطرح أحد طرفيه على الآخر فهو السدل وهذا هو الذي عليه عامة العلماء
وأما ما ذكره أبو الحسن الآمدي وابن عقيل من أن السدل هو إسبال الثوب بحيث ينزل عن قدميه يجره فيكون هو إسبال الثوب وحره المنهي عنه فغلط مخالف لعامة العلماء وإن كان الإسبال والجر منهيا عنه بالاتفاق والأحاديث فيه أكثر وهو محرم على الصحيح لكن ليس هو السدل
وليس الغرض هنا عين هذه المسألة وإنما الغرض أن عليا رضي الله عنه شبه السادلين باليهود مبينا بذلك كراهة فعلهم
فعلم أن مشابهة اليهود أمر كان قد استقر عندهم كراهته
وفهر اليهود بضم الفاء مدراسهم وأصلها بهرو هي عبرانية فعربت هكذا ذكره الجوهري وكذلك ذكر ابن فارس وغيره أن فهر اليهود مدراسهم وفي كتاب العين عن الخليل بن أحمد أن فهر اليهود مدراسهم
وسنذكر عن علي رضي الله عنه من كراهية التكلم بكلامهم ما يؤيد هذا
وأما ما في الحديث المذكور من النهي عن تغطية الفم فقد علله بعضهم بأنه فعل المجوس عند نيرانهم التي يعبدونها فعلى هذا تظهر مناسبة الجمع بين النهي عن السدل وعن تغطية الفم بما في كل منهما من مشابهة الكفار مع أن في كل منهما معنى آخر يوجب الكراهة ولا محذور في تعليل الحكم بعلتين
فهذا عن الخلفاء الراشدين
وأما سائر الصحابة رضي الله عنهم فكثير مثل ما قدمناه عن حذيفة بن اليمان أنه لما دعي إلى وليمة فرأى شيئا من زي العجم خرج وقال من تشبه بقوم فهو منهم
وروى أبو محمد الخلال بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سأله رجل أحتقن قال احتقن لا تبد العورة ولا تستن بسنة المشركين
قوله لا تستن بسنة المشركين عام
وقال أبو داود حدثنا الحسن بن علي حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا الحجاج بن حسان قال دخلنا على أنس بن مالك فحدثني أخي المغيرة قال وأنت
يومئذ غلام ولك قرنان أو قصتان فمسح رأسك وبرك عليك وقال احلقوا هذين أو قصوهما فإن هذا زي اليهود
علل النهي عنهما بأن ذلك زي اليهود وتعليل النهي بعلة يوجب أن تكون العلة مكروهة مطلوبا عدمها فعلم أن زي اليهود حتى في الشعر مما يطلب عدمه وهو المقصود
وروى ابن أبي عاصم حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد الواسطي عن عمران بن حدير عن أبي مجلز أن معاوية قال إن تسوية القبور من السنة وقد رفعت اليهود والنصارى فلا تشبهوا بهم يشير معاوية إلى ما رواه مسلم في صحيحه عن فضالة بن عبيد أنه أمر بقبر فسوي ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمر بتسويتها رواه مسلم
وعن أبي الهياج الأسدي عن علي أيضا قال أمرني النبي صلى الله عليه و سلم أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته ولا تمثالا إلا طمسته رواه مسلم
وسنذكر إن شاء الله تعالى عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال من بنى ببلاد المشركين وصنع نيروزهم ومهرجانهم حتى يموت حشر معهم يوم القيامة
وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها كرهت الاختصار في الصلاة وقالت لا تشبهوا باليهود هكذا رواه بهذا اللفظ سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عائشة وقد تقدم من رواية البخاري في المرفوعات
وروى سعيد حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن إسماعيل بن عبد الرحمن بن ذؤيب قال دخلت مع ابن عمر مسجدا بالجحفة فنظر إلى شرفات فخرج إلى موضع فصلى فيه ثم قال لصاحب المسجد إني رأيت في مسجدك هذا يعني الشرفات شبهتها بأنصاب الجاهلية فمر بها أن تكسر
وروى سعيد أيضا عن ابن مسعود أنه كان يكره الصلاة في الطاق وقال إنه من الكنائس فلا تشبهوا بأهل الكتاب
وعن عبيد بن أبي الجعد قال كان أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم يقولون إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المسجد يعني الطاقات
وهذا الباب فيه كثرة عن الصحابة
وهذه القضايا التي ذكرناها بعضها في مظنة الاشتهار وما علمنا أحدا خالف ما ذكرناه عن الصحابة رضي الله عنهم من كراهة التشبه بالكفار والأعاجم في الجملة وإن كان بعض هذه المسائل المعينة فيها خلاف وتأويل ليس هذا موضعه
وهذا كما أنهم مجمعون على اتباع الكتاب والسنة وإن كان قد يختلف في بعض أعيان المسائل لتأويل
فعلم اتفاقهم على كراهة التشبه بالكفار والأعاجم
الوجه الثالث في تقرير الإجماع ما ذكره عامة علماء الإسلام من المتقدمين والائمة المتبوعين وأصحابهم في تعليل النهي عن أشياء بمخالفة الكفار أو مخالفة الأعاجم وهو أكثر من أن يمكن استقصاؤه وما من أحد له أدنى نظر في الفقه إلا وقد بلغه من ذلك طائفة وهذا بعد التأمل والنظر يورث علما ضروريا باتفاق الأئمة على النهي عن موافقة الكفار والأعاجم والأمر بمخالفتهم
وأنا أذكر من ذلك نكتا في مذاهب الأئمة المتبوعين اليوم مع ما تقدم في أثناء الكلام عن غير واحد من العلماء
فمن ذلك أن الأصل المستقر عليه الأمر في مذهب أبي حنيفة أن تأخير الصلوات أفضل من تعجيلها إلا في مواضع يستثنونها كاستثناء يوم الغيم وكتعجيل الظهر في الشتاء وإن كان غيرهم من العلماء يقول إن الأصل أن التعجيل أفضل فيستحبون التأخير للفجر والعصر والعشاء والظهر إلا في الشتاء في غير الغيم
ثم قالوا يستحب تعجيل المغرب لأن تأخيرها مكروه لما فيه من التشبه باليهود وهذا أيضا قول سائر الأئمة وهذه العلة منصوصة كما تقدم
وقالوا أيضا يكره السجود في الطاق لأنه يشبه صنيع أهل الكتاب من حيث تخصيص الإمام بالمكان بخلاف ما إذا كان سجوده في الطاق وهذا أيضا ظاهر مذهب أحمد وغيره وفيه آثار صحيحة عن الصحابة ابن مسعود وغيره
وقالوا لا بأس أن يصلي وبين يديه مصحف معلق أو سيف معلق لأنهما لا يعبدان وباعتباره تثبت الكراهة إلى غيرهما ولا بأس أن يصلي على بساط فيه تصاوير لأن فيه استهانة بالصورة ولا يسجد على الصورة لأنه يشبه عبادة الصور وأطلق الكراهة في الأصل لأن المصلى معظم لله
قالوا ولو لبس ثوبا فيه تصاوير كره لأنه يشبه حامل الصنم ولا يكره تماثيل غير ذي روح لأنها لا تعبد
وقالوا أيضا إن صام يوم الشك ينوى أنه من رمضان كره لأنه تشبه بأهل الكتاب لأنهم زادوا في مدة صومهم
وقالوا أيضا فإذا غربت الشمس أفاض الإمام والناس معه على هيئتهم حتى يأتوا مزدلفة لأن فيه إظهار مخالفة المشركين
وقالوا أيضا لا يجوز الأكل والشرب والأدهان والتطيب في آنية الذهب والفضة للرجال والنساء للنصوص ولأنه تشبه بزي المشركين وتنعم بتنعم المترفين والمسرفين
وقالوا في تعليل المنع من لباس الحرير في حجة أبي يوسف ومحمد على أبي حنيفة في المنع من افتراشه وتعليقه والستر به لأنه من زي الأكاسرة والجبابرة والتشبه بهم حرام قال عمر إياكم وزي الأعاجم
وقال محمد في الجامع الصغير ولا يتختم إلا بالفضة
قالوا وهذا نص على أن التختم بالحجر والحديد والصفر حرام للحديث المأثور أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى على رجل خاتم أصفر فقال مالي أجد منك ريح الأصنام ورأى على آخر خاتم من حديد فقال مالي أرى عليك حلية أهل النار ومثل هذا كثير في مذهب أبي حنيفة وأصحابه
وأما مذهب مالك وأصحابه ففيه ما هو أكثر من ذلك حتى قال مالك فيما رواه ابن القاسم في المدونة لا يحرم بالأعجمية ولا يدعوا بها ولا يحلف قال ونهى عمر رضي الله عنه عن رطانة الأعاجم وقال إنها خب قال وأكره الصلاة إلى حجر منفرد في الطريق وأما أحجار كثيرة فجائز
قال ويكره ترك العمل يوم الجمعة كفعل أهل الكتاب يوم السبت والأحد
قال ويقال من تعظيم الله تعظيم ذي الشيبة المسلم قيل فالرجل يقوم للرجل له الفضل والفقه قال أكره ذلك ولا بأس بأن يوسع له في مجلسه قال وقيام المرأة لزوجها حتى يجلس من فعل الجبابرة وربما يكون الناس ينتظرونه فإذا طلع قاموا فليس هذا من فعل الإسلام وهو فيما ينهى عنه من التشبه بأهل الكتاب والأعاجم وفيما ليس من عمل المسلمين أشد من عمل الكوفيين وأبلغ مع أن الكوفيين يبالغون في هذا الباب حتى تكلم أصحاب أبي حنيفة في تكفير من تشبه بالكفار في لباسهم وأعيادهم
وقال بعض أصحاب مالك من ذبح بطيخة في أعيادهم فكأنما ذبح خنزيرا
وكذلك أصحاب الشافعي ذكروا هذا الأصل في غير موضع من مسائلهم كما جاءت به الآثار كما ذكر غيرهم من العلماء مثل ما ذكروه في النهي عن الصلاة في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها مثل طلوع الشمس وغروبها
ذكروا تعليل ذلك بأن المشركين يسجدون للشمس حينئذ كما في الحديث إنها ساعة يسجد لها الكفار
وذكروا في السحور وتأخيره أن ذلك فرق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب
وذكروا في اللباس النهي عما فيه تشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال
وذكروا أيضا ما جاء من أن المشركين كانوا يقفون بعرفات إلى اصفرار الشمس ويفيضون من جمع بعد طلوع الشمس وأن السنة جاءت بمخالفة المشركين في ذلك بالتعريف إلى الغروب والوقوف بجمع إلى قبيل طلوع الشمس كما جاء في الحديث خالفوا المشركين وخالف هدينا هدي المشركين
وذكروه أيضا في الشروط على أهل الذمة منعهم من التشبه بالمسلمين في لباسهم وغيره مما يتضمن منع المسلمين أيضا من مشابهتهم في ذلك تفريقا بين علامة المسلمين وعلامة الكفار
وبالغ طائفة منهم فنهوا عن التشبه بأهل البدع مما كان شعارا لهم وإن كان في الأصل مسنونا كما ذكره طائفة منهم في تسنيم القبور فإن مذهب الشافعي أن الأفضل تسطيحها ومذهب أحمد وأبي حنيفة أن الأفضل تسنيمها ثم قال طائفة من أصحاب الشافعي بل ينبغي تسنيمها في هذه الأوقات لأن شعار الرافضة اليوم تسطيحها ففي تسطيحها تشبه بهم فيماهو شعار لهم
وقالت طائفة بل نحن نسطحها فإذا سطحناها لم يكن تسطيحها شعار لهم
واتفقت الطائفتان على أن النهي عن التشبه بأهل البدع فيما هو شعار لهم وإنما تنازعوا في أن التسطيح هل يحصل به ذلك أم لا
فإذا كان هذا في التشبه بأهل البدع فكيف بالكفار
وأما كلام أحمد وأصحابه في ذلك فكثير جدا أكثر من أن يحصر وقد قدمنا منه طائفة من كلامه عند ذكر النصوص عند قوله صلى الله عليه و سلم من تشبه بقوم فهو منهم وقوله أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى لا تشبهوا بالمشركين وقوله إنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة
مثل قول أحمد ما أحب لأحد أن يغير الشيب لا يتشبه بأهل الكتاب
وقال لبعض أصحابه أحب إليك أن تخضب ولا تشبه باليهود وكره حلق القفا وقال هو من فعل المجوس وقال من تشبه بقوم فهو منهم
وقال أكره النعل الصرار وهو من زي العجم
وكره تسمية الشهور بالعجمية والأشخاص بالأسماء الفارسية مثل آذرماه وقال للذي دعاه زي المجوس ونفض يده في وجهه وهذا كثير في نصوصه لا ينحصر
وقال حرب الكرماني قلت لأحمد الرجل يشد وسطه بحبل ويصلي قال على القباء لا بأس به وكرهه على القميص وذهب إلى أنه من اليهود فذكرت له السفر وأنا نشد ذلك على أوساطنا فرخص فيه قليلا وأما المنطقة والعمامة ونحو ذلك فلم يكرهه إنما كره الخيط وقال هو أشنع
قلت وكذلك كره أصحابه أن يشد وسطه على الوجه الذي يشبه فعل أهل الكتاب فأما ما سوى ذلك فإنه لا يكره في الصلاة على الصحيح المنصوص بل يؤمر من صلى في قميص واسع الجيب أن يحتزم كما جاء في الحديث لئلا يرى عورة نفسه
وقال الفقهاء من أصحاب الإمام أحمد وغيره منهم القاضي أبو يعلى وابن عقيل والشيخ أبو محمد عبد القادر الجيلي وغيرهم في أصناف اللباس وأقسامه ومن اللباس المكروه ما خالف زي العرب واشبه زي الأعاجم وعادتهم ولفظ عبد القادر ويكره كل ما خالف زي العرب وشابه زي الأعاجم
وقال أيضا اصحاب أحمد وغيرهم منهم أبو الحسن الآمدي المعروف بابن البغدادي وأظنه نقله أيضا عن ابي عبد الله بن حامد ولا يكره غسل اليدين في الإناء الذي لا أكل فيه لأن النبي صلى الله عليه و سلم فعله وقد
نص أحمد على ذلك وقال لم يزل العلماء يفعلون ذلك ونحن نفعله وإنما تنكره العامة وغسل اليدين بعد الطعام مسنون رواية واحدة
وإذا قدم ما يغسل فيه اليد فلا يرفع حتى يغسل الجماعة أيديهم لأن الرفع من زي الأعاجم
وكذلك قال الشيخ أبو محمد عبد القادر الجيلي ويستحب أن يجعل ماء اليد في طشت واحدة لما روي في الخبر لا تبددوا يبدد الله شملكم وروي أنه صلى الله عليه و سلم نهى أن يرفع الطشت حتى يطف يعني يمتلئ
وقالوا أيضا ومنهم أبو محمد عبد القادر في تعليل كراهة حلق الرأس على إحدى الروايتين لأن في ذلك تشبها بالأعاجم وقال صلى الله عليه و سلم من تشبه بقوم فهو منهم
بل قد ذكر طوائف من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما كراهة أشياء لما فيها من التشبه بأهل البدع مثل ما قال غير واحد من الطائفتين ومنهم عبد القادر ويستحب أن يتختم في يساره للآثار ولأن خلاف ذلك عادة وشعار للمبتدعة
وحتى إن طوائف من أصحاب الشافعي يستحبون تسنيم القبور وإن كانت السنة عندهم تسطيحها
قالوا لأن ذلك صار شعار المبتدعة
وليس الغرض هنا تقرير أعيان هذه المسائل ولا الكلام على ما قيل فيها بنفي ولا إثبات وإنما الغرض بيان ما اتفقت عليه العلماء من كراهة التشبه بغير أهل الإسلام
وقد يتردد العلماء في بعض فروع هذه القاعدة لتعارض الأدلة فيها أو لعدم اعتقاد بعضهم اندراجه في هذه القاعدة مثل ما نقله الأثرم قال
سمعت أبا عبد الله يسأل عن لبس الحرير في الحرب فقال أرجو أن لا يكون به بأس قال وسمعت أبا عبد الله يسأل عن المنطقة والحلية فيها فقال أما المنطقة فقد كرهها قوم يقولون هي زي الأعاجم وكانوا يحتجزون العمائم
وهذا إنما علق القول فيه لأن في المنطقة منفعة عارضت ما فيها من التشبه
ونقل عن بعض السلف أنه كان يتمنطق فلهذا حكى الكلام عن غيره وأمسك ومثل هذا هل يجعل قولا له إذا سئل عن مسألة فحكى فيها جواب غيره ولم يردفه بموافقة ولا مخالفة فيه لأصحابه وجهان
أحدهما نعم لأنه لولا موافقته له لكان قد أجاب السائل بغيره لأنه إنما سأله عن قوله ولم يسأله أن يحكي له مذهب الناس
والثاني لا يجعل بمجرد ذلك قولا له لأنه إنما حكاه فقط ومجرد الحكاية لا يدل على الموافقة وفي لبس المنطقة أثر وكلام ليس هذا موضعه
ولمثل هذا تردد كلامه في القوس الفارسية فقال الأثرم سألت أبا عبد الله عن القوس الفارسية فقال إنما كانت قسي الناس العربية ثم قال إن بعض الناس احتج بحديث عمر رضي الله عنه جعاب وأدم
قلت حديث أبي عمرو بن حماس قال نعم قال أبو عبد الله يقول فلا تكون جعبة إلا للفارسية والنبل فإنما هو قرن
قال الأثرم قلت لأبي عبد الله في تفسير مجاهد قلوبنا في أكنة قال كالجعبة للنبل قال فإن كان يسمى جعبة لنبل فليس ما احتج به الذي قال هذا بشيء
ثم قال ينبغي أن يسأل عن هذا أهل العربية
قال أبو بكر قيل لأبي عبد الله الدراعة يكون لها فرج فقال كان لخالد بن معدان دراعة لها فرج من بين يديها قدر ذراع قيل لأبي عبد الله فيكون لها فرج من خلفها قال ما أدري أما من بين يديها فقد سمعت من خلفها فلم أسمع قال إلا أن في ذلك سعة له عند الركوب ومنفعة
قال وقد احتج بعض الناس في هذا بقوله تعالى وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ثم قال الأثرم قلت لأبي عبد الله واحتج بهذه الآية بعض الناس في القوس الفارسية ثم قلت إن أهل خراسان يزعمون أنه لا منفعة لهم في القوس العربية وإنما النكاية عندهم للفارسية قال كيف وإنما فتحت الدنيا بالعربية قال الأثرم قلت لأبي عبد الله ورأيتهم بالثغر لا يكادون يعدلون بالفارسية قال إنما رأيت الرجل بالشام متنكبا قوسا عربية
وروى الأثرم عن حفص بن عمر حدثنا رجاء بن مرجي حدثني عبد الله ابن بشر عن أبي راشد الحبراني وأبي الحجاج السكسكي عن علي رضي الله عنه قال بينما رسول الله صلى الله عليه و سلم يتوكأ على قوس له عربية إذ رأى رجلا معه قوس فارسية فقال ألقها فهي ملعونة ولكن عليكم بالقسي العربية وبرماح الفنا فبها يؤيد الله الدين وبها يمكن لكم في الأرض
ولأصحابنا في القوس الفارسية ونحوها كلام طويل ليس هذا موضعه
وإنما نبهت بذلك على أن مالم يكن من هدي المسلمين بل هو من هدي العجم أو نحوهم وإن ظهرت فائدته ووضحت منفعته تراهم يترددون فيه ويختلفون لتعارض الدليلين دليل ملازمة الهدي الأول ودليل استعمال هذا الذي فيه منفعة بلا مضرة مع أنه ليس من العبادات ولا توابعها وإنما هو من الأمور الدنيوية
وأنت ترى عامة كلام أحمد إنما يثبت الرخصة بالأثر عن عمر أو بفعل خالد بن معدان ليثبت بذلك أن ذلك كان يفعل على عهد السلف ويقرون عليه فيكون من هدي المسلمين لا من هدي الأعاجم وأهل الكتاب
فهذا هو وجه الحجة لا أن مجرد فعل خالد بن معدان حجة
وأما ما في هذا الباب عن سائر أئمة المسلمين من الصحابة والتابعين وسائر الفقهاء فأكثر من أن يمكن ذكر عشره
وقد قدمنا في أثناء الأحاديث كلام بعضهم الذي يدل على كلام الباقين وبدون ما ذكرناه يعلم إجماع الأمة على كراهة التشبه بأهل الكتاب والأعاجم في الجملة وإن كانوا قد يختلفون في بعض الفروع إما لاعتقاد بعضهم أنه ليس من هدي الكفار أو لاعتقاد أن فيه دليلا راجحا أو لغير ذلك كما أنهم مجمعون على اتباع الكتاب والسنة وإن كان قد يخالف بعضهم شيئا من ذلك بنوع تأويل والله أعلم
فصل
ومما يشبه الأمر بمخالفة الكفار الأمر بمخالفة الشياطين كما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا يأكلن أحدكم بشماله ولا يشربن بها فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها وفي لفظ إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ورواه مسلم أيضا عن الليث عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تأكلوا بالشمال فإن الشيطان يأكل بالشمال
فإنه علل النهي بالأكل والشرب بالشمال بأن الشيطان يفعل ذلك فعلم أن مخالفة الشيطان أمر مقصود مأمور به ونظائره كثيرة
وقريب من هذا مخالفة من لم يكمل دينه من الأعراب ونحوهم لأن كمال الدين بالهجرة فكان من آمن ولم يهاجر من الأعراب ونحوهم ناقصا قال الله سبحانه وتعالى الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم
ومثل ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم إلا إنها العشاء وهم يعتمون بالإبل
وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء فإنها في كتاب الله العشاء فإنها تعتم بحلاب الإبل
ورواه البخاري عن عبد الله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب قال والأعراب تقول هي العشاء
فقد كره موافقة الأعراب في اسم المغرب والعشاء بالعشاء والعتمة
وهذه الكراهة عند بعض علمائنا تقتضي كراهة هذا الاسم مطلقا وعند بعضهم إنما تقتضي كراهة الإكثار منه حتى يغلب على الاسم الآخر وهو المشهور عندنا
وعلى التقديرين ففي الحديث النهي عن موافقة الأعراب في ذلك كما نهى عن موافقة الأعاجم
فصل
واعلم أن بين التشبه بالكفار والشياطين وبين التشبه بالأعراب والأعاجم فرقا يجب اعتباره وإجمالا يحتاج إلى تفسير
وذلك أن نفس الكفر والتشيطن مذموم في حكم الله ورسوله وعباده المؤمنين ونفس الأعرابية والأعجمية ليست مذمومة في نفسها عند الله تعالى وعند رسوله
وعند عباده المؤمنين بل الأعراب منقسمون إلى أهل جفاء قال الله فيهم الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم وقال تعالى فيهم سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا وإلى أهل إيمان وبر قال الله فيهم ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربان عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم
وقد كان في أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ممن وفد عليه ومن غيرهم من الأعراب من هو أفضل من كثير من القرويين
فهذا كتاب الله يحمد بعض الأعراب ويذم بعضهم وكذلك فعل بأهل الأمصار فقال سبحانه وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم
فبين سبحانه أن المنافقين في الأعراب وذوي القرى وعامة السورة فيها الذم للمنافقين من أهل المدينة ومن الأعراب كما فيها الثناء على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وعلى الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون قربات عند الله وصلوات الرسول
وكذلك العجم وهم من سوى العرب من الفرس والروم والترك والبربر والحبشة وغيرهم ينقسمون إلى المؤمن والكافر والبر والفاجر كانقسام الأعراب
قال الله تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير
وقال النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي وفاجر شقي أنتم بنو آدم وآدم من تراب
وفي حديث آخر رويناه بإسناد صحيح من حديث سعد الجريري عن أبي نضرة حدثني أو قال حدثنا من شهد خطبة النبي صلى الله عليه و سلم بمنى في وسط أيام التشريق وهو على بعير فقال يا أيها الناس ألا إن ربكم عز و جل واحد ألا وإن أباكم واحد ألا لافضل لعربي على عجمي ألا لا فضل لأسود على أحمر إلا بالتقوى ألا قد بلغت قالوا نعم قال ليبلغ الشاهد الغائب وروى هذا الحديث عن أبي نضرة عن جابر
وفي الصحيحين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن بني فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالحو المؤمنين
فأخبر صلى الله عليه و سلم عن بطن قريب النسب أنهم ليسوا بمجرد النسب أولياءه إنما وليه الله وصالحو المؤمنين من جميع الأصناف
ومثل ذلك كثير بين في الكتاب والسنة أن العبرة بالأسماء التي حمدها الله وذمها كالمؤمنين والكافرين والبر والفاجر والعالم والجاهل
ثم قد جاء الكتاب والسنة بمدح بعض الأعاجم قال تعالى هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم
وفي الصحيحين عن سالم أبي الغيث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنزلت عليه سورة الجمعة وآخرين منهم لما يلحقوا بهم قال قائل من هم يا رسول الله فلم يراجعه حتى سأل ثلاثا
وفينا سلمان الفارسي فوضع رسول الله صلى الله عليه و سلم يده على سلمان الفارسي ثم قال لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء
وفي صحيح مسلم عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس أو قال من أبناء فارس حتى يتناوله
وفي رواية لو كان العلم عند الثريا لتناوله رجال من أبناء فارس
وقد روى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم أنهم من أبناء فارس إلى غير ذلك من آثار رويت في فضل رجال من أبناء فارس
ومصداق ذلك ما وجد في التابعين ومن بعدهم من أبناء فارس الأحرار والموالي مثل الحسن وابن سيرين وعكرمة مولى ابن عباس وغيرهم إلى من وجد بعد ذلك فيهم من المبرزين في الإيمان والدين والعلم حتى صار هؤلاء المبرزون أفضل من أكثر العرب
وكذلك في سائر أصناف العجم من الحبشة والروم والترك وغيرهم سابقون في الإيمان والدين لا يحصون كثرة على ما هو معروف عند العلماء إذ الفضل الحقيقي هو اتباع ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه و سلم من الإيمان والعلم باطنا وظاهرا فكل من كان فيه أمكن كان أفضل والفضل إنما هو بالأسماء المحمودة في الكتاب والسنة مثل الإسلام والإيمان والبر والتقوى والعلم والعمل الصالح والإحسان ونحو ذلك لا بمجرد كون الإنسان عربيا أو عجميا أو أسود أو أبيض ولا بكونه قرويا أو بدويا
وإنما وجه النهي عن مشابهة الأعراب والأعاجم مع ما ذكرناه من الفضل فيهم وعدم العبرة بالنسب والمكان مبني على أصل
وذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل سكنى القرى يقتضي من كمال الإنسان
في العلم والدين ورقة القلوب مالا يقتضيه سكنى البادية كما أن البادية توجب من صلابة البدن والخلق ومتانة الكلام مالا يكون في القرى هذا هو الأصل وإن جاز تخلف هذا المقتضى لمانع وكانت البادية أحيانا أنفع من القرى ولذلك جعل الله الرسل من أهل القرى فقال تعالى وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى وذلك لأن الرسل لهم الكمال في عامة الأمور حتى في النسب ولهذا قال الله سبحانه الأعراب اشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ذكر هذا بعد قوله إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم
فلما ذكر الله المنافقين الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه و سلم في التخلف عن الجهاد في غزوة تبوك وذمهم وهؤلاء كانوا من أهل المدينة قال سبحانه الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله فإن الخير كله أصله وفصله منحصر في العلم والإيمان كما قال سبحانه يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات وقال تعالى وقال الذين أوتوا العلم والإيمان وضد الإيمان إما الكفر الظاهر أو النفاق الباطن ونقيض العلم عدمه
فقال سبحانه عن الأعراب إنهم أشد كفرا ونفاقا من أهل المدينة وأحرى منهم أن لا يعلموا حدود الكتاب والسنة والحدود هي حدود الأسماء
المذكورة فيما أنزل الله من الكتاب والحكمة مثل حدود الصلاة والزكاة والصوم والحج والمؤمن والكافر والزاني والسارق والشارب وغير ذلك حتى يعرف من الذي يستحق ذلك الاسم الشرعي ممن لا يستحقه وما تستحقه مسميات تلك الأسماء من الأحكام
ولهذا روى أبو داود وغيره من حديث الثوري حدثني أبو موسى عن وهب بن منبه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال سفيان مرة ولا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه و سلم قال من سكن البادية جفا ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى السلطان افتتن
ورواه أبو داود أيضا من حديث الحسن بن الحكم النخعي عن عدي بن ثابت عن شيخ من الأنصار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم بمعناه وقال ومن لزم السلطان افتتن وزاد وما ازداد عبد من السلطان دنوا إلا ازداد من الله عز و جل بعدا
ولهذا كانوا يقولون لمن يستغلظونه إنك لأعرابي جاف إنك لجلف جاف يشيرون إلى غلظ عقله وخلقه
ثم لفظ الأعراب هو في الأصل اسم لبادية العرب فإن كل أمة لها حاضرة وبادية فبادية العرب الأعراب ويقال إن بادية الروم الأرمن ونحوهم وبادية الفرس الأكراد ونحوهم وبادية الترك التتار ونحوهم
وهذا والله أعلم هو الأصل وإن كان قد يقع فيه زيادة ونقصان
والتحقيق أن سكان البوادي لهم حكم الأعراب سواء دخلوا في لفظ الأعراب أم لم يدخلوا فهذا الأصل يوجب أن يكون جنس الحاضرة أفضل من جنس البادية وإن كان بعض أعيان البادية أفضل من أكثر الحاضرة مثلا
ويقتضي أن ما انفرد به أهل البادية عن جميع جنس الحاضرة أعني في زمن السلف من الصحابة والتابعين فهو ناقص عن فضل الحاضرة أو مكروه
فإذا وقع التشبه بهم فيما ليس من فعل الحاضرة المهاجرين كان ذلك إما مكروها أو مفضيا إلى المكروه وعلى هذا القول في العرب والعجم
فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم عبرانيهم وسريانيهم رومهم وفرسهم وغيرهم وأن قريشا أفضل العرب وأن بني هاشم أفضل قريش وأن رسول الله صلى الله عليه و سلم أفضل بني هاشم فهو أفضل الخلق نفسا وافضلهم نسبا
وليس فضل العرب ثم قريش ثم بني هاشم بمجرد كون النبي صلى الله عليه و سلم منهم وإن كان هذا من الفضل بل هم في أنفسهم أفضل وبذلك ثبت لرسول الله صلى الله عليه و سلم أنه أفضل نفسا ونسبا وإلا لزم الدور
ولهذا ذكر أبو محمد حرب بن إسماعيل بن خلف الكرماني صاحب الإمام أحمد في وصفه للسنة التي قال فيها هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم فيها وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام وغيرهم عليها فمن خالف شيئا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق وهو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم
فكان من قولهم أن الإيمان قول وعمل ونية وساق كلاما طويلا إلى أن قال ونعرف للعرب حقها وفضلها وسابقتها ونحبهم لحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم حب العرب إيمان وبغضهم نفاق ولا نقول بقول الشعوبية وأراذل الموالي الذين لا يحبون العرب ولا يقرون بفضلهم فإن قولهم بدعة وخلاف
ويروون هذا الكلام عن أحمد نفسه في رسالة أحمد بن سعيد الأصطخري عنه إن صحت وهو قوله وقول عامة أهل العلم
وذهبت فرقة من الناس إلى أن لا فضل لجنس العرب على جنس العجم وهؤلاء يسمون الشعوبية لانتصارهم للشعوب التي هي مغايرة للقبائل كما قيل القبائل للعرب والشعوب للعجم
ومن الناس من قد يفضل بعض أنواع العجم على العرب
والغالب أن مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عن نوع نفاق إما في الاعتقاد وإما في العمل المنبعث عن هوى النفس مع شبهات اقتضت ذلك ولهذا جاء في الحديث حب العرب إيمان وبغضهم نفاق مع أن الكلام في هذه المسائل لا يكاد يخلو عن هوى للنفس ونصيب للشيطان من الطرفين وهذا محرم في جميع المسائل
فإن الله قد أمر المؤمنين بالاعتصام بحبل الله جميعا ونهاهم عن التفرق والاختلاف وأمر بإصلاح ذات البين وقال النبي صلى الله عليه و سلم مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر وقال صلى الله عليه و سلم لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم الله وهذان حديثان صحيحان وفي الباب من نصوص الكتاب والسنة مالا يحصى
والدليل على فضل جنس العرب ثم جنس قريش ثم جنس بني هاشم ما رواه الترمذي من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله إن قريشا جلسوا فتذاكروا أحسابهم بينهم فجعلوا مثلك كمثل
نخلة في كبوة من الأرض فقال النبي صلى الله عليه و سلم إن الله خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم ثم خير القبائل فجعلني في خير قبيلة ثم خير البيوت فجعلني في خير بيوتهم فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا قال الترمذي هذا حديث حسن وعبد الله بن الحارث هو ابن نوفل
الكبا بالكسر والقصر والكبة الكناسة والتراب الذي يكنس من البيت وفي الحديث الكبوة وهي مثل الكبة
والمعنى أن النخلة طيبة في نفسها وإن كان أصلها ليس بذاك فأخبر صلى الله عليه و سلم أنه خير الناس نفسا ونسبا
وروى الترمذي أيضا من حديث الثوري عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله ابن الحارث عن المطلب بن أبي وداعة قال جاء العباس إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فكأنه سمع شيئا فقام النبي صلى الله عليه و سلم على المنبر فقال من أنا فقالوا أنت رسول الله صلى الله عليك وسلم قال أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ثم قال إن الله خلق الخلق فجعلني في خيرهم ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا وخيرهم نفسا قال الترمذي هذا حديث حسن كذا وجدته في الكتاب وصوابه فأنا خيرهم بيتا وخيرهم نفسا
وقد روى أحمد هذا الحديث في المسند من حديث الثوري عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن المطلب بن أبي وداعة قال قال العباس رضي الله عنه بلغه صلى الله عليه و سلم بعض ما يقول الناس قال فصعد المنبر فقال من أنا قالوا أنت رسول الله فقال أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب إن الله خلق الخلق فجعلني من خير خلقه وجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا
أخبر صلى الله عليه و سلم أنه ما انقسم الخلق فريقين إلا كان هو في خير الفريقين
وكذلك جاء حديث بهذا اللفظ
وقوله في الحديث خلق الخلق فجعلني في خيرهم ثم خيرهم فجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة يحتمل شيئين
أحدهما أن الخلق هم الثقلان أو هم جميع ما خلق في الأرض وبنو آدم خيرهم وإن قيل بعموم الخلق حتى يدخل فيه الملائكة فكان فيه تفضيل جنس بني آدم على جنس الملائكة وله وجه صحيح
ثم جعل بني آدم فرقتين والفرقتان العرب والعجم ثم جعل العرب قبائل فكانت قريش أفضل قبائل العرب ثم جعل قريشا بيوتا فكانت بنو هاشم أفضل البيوت
ويحتمل أنه أراد بالخلق بني آدم فكان في خيرهم أي ولد إبراهيم أو في العرب ثم جعل بني إبراهيم فرقتين بني إسماعيل وبني إسحاق أو جعل العرب عدنان وقحطان فجعلني في بني إسماعيل أو بني عدنان ثم جعل بني إسماعيل أو بني عدنان قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة وهم قريش
وعلى كل تقدير فالحديث صريح في تفضيل العرب على غيرهم
وقد بين صلى الله عليه و سلم أن هذا التفضيل يوجب المحبة لبني هاشم ثم لقريش ثم للعرب
فروى الترمذي من حديث أبي عوانة عن يزيد بن أبي زياد أيضا عن عبد الله بن الحرث حدثني المطلب بن أبي ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب أن العباس بن عبد المطلب دخل على رسول الله صلى الله عليه و سلم مغضبا وأنا عنده فقال ما أغضبك فقال يا رسول الله ما لنا ولقريش إذا تلاقوا بينهم تلاقوا بوجوه مبشرة وإذا لقونا لقونا بغير ذلك قال فغضب رسول الله
صلى الله عليه و سلم حتى احمر وجهه ثم قال والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله ثم قال أيها الناس من آذى عمي فقد آذاني فإنما عم الرجل صنو أبيه قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ورواه أحمد في المسند مثل هذا من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن يزيد هذا ورواه أيضا من حديث جرير عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحرث بن عبد المطلب بن ربيعة قال دخل العباس على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله إنا لنخرج فنرى قريشا تتحدث فإذا رأونا سكتوا فغضب رسول الله صلى الله عليه و سلم ودر عرق بين عينيه ثم قال والله لا يدخل قلب امرئ إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي
فقد كان عند يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحرث هذان الحديثان
أحدهما في فضل القبيل الذي منه رسول الله صلى الله عليه و سلم
والثاني في محبتهم وكلاهما رواه عنه إسماعيل بن أبي خالد
وما فيه من كون عبد الله بن الحرث يروي الأول تارة عن العباس وتارة عن المطلب بن أبي وداعة ويروي الثاني عن عبد المطلب بن ربيعة وهو ابن الحرث بن عبد المطلب وهو من الصحابة قد يظن أن هذا اضطراب في الأسماء من جهة يزيد وليس هذا موضع الكلام فيه فإن الحجة قائمة بالحديث على كل تقدير لا سيما وله شواهد تؤيد معناه
ومثله أيضا في المسألة ما رواه أحمد ومسلم والترمذي من حديث الأوزاعي عن شداد بن عمار عن واثلة بن الأسقع قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم هكذا رواه الوليد وأبو المغيرة عن الأوزاعي
ورواه أحمد والترمذي من حديث محمد بن مصعب عن الأوزاعي ولفظه
إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة الحديث وقال الترمذي هذا حديث صحيح
وهذا يقتضي أن إسماعيل وذريته صفوة ولد إبراهيم فيقتضي أنهم أفضل من ولد إسحق ومعلوم أن ولد إسحق الذين هم بنو إسرائيل أفضل العجم لما فيهم من النبوة والكتاب فمتى ثبت الفضل على هؤلاء فعلى غيرهم بطريق الأولى وهذا جيد إلا أن يقال الحديث يقتضي أن إسماعيل هو المصطفى من ولد إبراهيم وأن بني كنانة هم المصطفون من ولد إسماعيل وليس فيه ما يقتضي أن ولد إسماعيل أيضا مصطفون على غيرهم إذ كان أبوهم مصطفى وبعضهم مصطفى على بعض
فيقال لو لم يكن هذا مقصودا في الحديث لم يكن لذكر اصطفاء إسماعيل فائدة إذ كان لم يدل على اصطفائه ذريته إذ يكون على هذا التقدير لا فرق بين ذكر إسماعيل وذكر إسحق
ثم هذا منضما إلى بقية الأحاديث دليل على أن المعنى في جميعها واحد
واعلم أن الأحاديث في فضل قريش ثم في فضل بني هاشم فيها كثرة وليس هذا موضعها وهي تدل أيضا على ذلك إذ نسبة قريش إلى العرب كنسبة العرب إلى الناس وهكذا جاءت الشريعة كما سنومئ إلى بعضه
فإن الله تعالى خص العرب ولسانهم بأحكام تميزوا بها ثم خص قريشا على سائر العرب بما جعل فيهم من خلافة النبوة وغير ذلك من الخصائص ثم خص بني هاشم بتحريم الصدقة واستحقاق قسط من الفيء إلى غير ذلك من الخصائص فأعطى الله سبحانه كل درجة من الفضل بحسبها والله عليم حكيم الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس و الله أعلم حيث يجعل رسالته
وقد قال الناس في قوله تعالى وإنه لذكر لك ولقومك وفي
قوله لقد جاءكم رسول من أنفسكم أشياء ليس هذا موضعها
ومن الأحاديث التي تذكر في هذا المعنى ما رويناه من طرق معروفة إلى محمد بن إسحق الصنعاني
حدثنا عبد الله بن بكر السهمي حدثنا يزيد بن عوانة عن محمد بن ذكوان خال حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال إنا لقعود بفناء النبي صلى الله عليه و سلم إذ مرت بنا امرأة فقال بعض القوم هذه ابنة رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أبو سفيان مثل محمد في بني هاشم مثل الريحانة في وسط النتن فانطلقت المرأة فأخبرت النبي صلى الله عليه و سلم فجاء النبي صلى الله عليه و سلم يعرف في وجهه الغضب فقال ما بال أقوال تبلغني عن أقوام إن الله خلق السموات سبعا فاختار العليا منها وأسكنها من شاء من خلقه ثم خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم واختار من بني آدم العرب واختار من العرب مضر واختار من مضر قريشا واختار من قريش بني هاشم واختارني من بني هاشم فأنا خيار من خيار من خيار فمن أحب العرب فبحبي أحبهم ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم
وأيضا في المسألة ما رواه الترمذي وغيره من حديث أبي بدر شجاع بن الوليد عن قابوس ابن أبي ظبيان عن أبيه عن سلمان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك قلت يا رسول الله كيف أبغضك وبك هداني الله قال تبغض العرب فتبغضني قال الترمذي هذا حديث حسن غريب لا يعرف إلا من حديث أبي بدر شجاع بن الوليد
فقد جعل النبي صلى الله عليه و سلم بغض العرب سببا لفراق الدين وجعل بغضهم مقتضيا لبغضه
ويشبه أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم خاطب بهذا سلمان وهو سابق الفرس ذو الفضائل المأثورة تنبيها لغيره من سائر الفرس لما أعلمه الله من أن
الشيطان قد يدعو النفوس إلى شيء من هذا كما أنه صلى الله عليه و سلم لما قال يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا سلوني من مالي ما شئتم كان في هذا تنبيه لمن انتسب لهؤلاء الثلاثة أن لا يغتروا بالنسب ويتركوا الكلم الطيب والعمل الصالح
وهذا دليل على أن بغض جنس العرب ومعاداتهم كفر أو سبب للكفر
ومقتضاه أنهم أفضل من غيرهم وأن محبتهم سبب قوة الإيمان لأنه لو كان تحريم بغضهم كتحريم بغض سائر الطوائف لم يكن سببا لفراق الدين ولا لبغض الرسول بل كان يكون نوع عدوان فلما جعله سببا لفراق الدين وبغض الرسول دل على أن بغضهم أعظم من بغض غيرهم وذلك دليل على أنهم أفضل لأن الحب والبغض يتبع الفضل فمن كان بغضه أعظم دل على أنه أفضل ودل حينئذ على أن محبته دين لأجل ما فيه من زيادة الفضل ولأن ذلك ضد البغض ومن كان بغضه سببا للعذاب لخصوصه كان حبه سببا للثواب وذلك دليل على الفضل
وقد جاء ذلك مصرحا به في حديث آخر رواه أبو طاهر السلفي في فضل العرب من حديث أبي بكر بن أبي داود حدثنا عيسى بن حماد زغبة حدثنا علي بن الحسن الشامي حدثنا خليد بن دعلج عن يونس بن عبيد عن الحسن عن جابر ابن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حب أبي بكر وعمر من الإيمان وبغضهما من الكفر وحب العرب من الإيمان وبغضهم من الكفر
وقد احتج حرب الكرماني وغيره بهذا الحديث وذكروا لفظه حب العرب إيمان وبغضهم نفاق وكفر
وهذا الإسناد وحده فيه نظر لكن لعله روي من وجه آخر وإنما كتبته لموافقته معنى حديث سلمان فإنه قد صرح في حديث سلمان بأن بغضهم نوع
كفر ومقتضى ذلك أن حبهم نوع من إيمان فكان هذا موافقا له
ولذلك قد رويت أحاديث النكرة ظاهرة عليها مثل ما رواه الترمذي من حديث حصين بن عمر عن مخارق بن عبد الله عن طارق بن شهاب عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من غش العرب لم يدخل في شفاعتي ولم تنله مودتي قال الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حصين بن عمر الأحمسي عن مخارق وليس حصين عند أهل الحديث بذاك القوي
قلت هذا الحديث معناه قريب من معنى حديث سلمان فان الغش للنوع لا يكون مع محبتهم بل لا يكون إلا مع استخفاف بهم أو مع بغض لهم فليس معناه بعيدا
لكن حصين هذا الذي رواه قد أنكر أكثر الحفاظ أحاديثه قال يحيى بن معين ليس بشيء وقال ابن المديني ليس بالقوي روى عن مخارق عن طارق أحاديث منكرة وقال البخاري وأبو زرعة منكر الحديث وقال يعقوب بن شيبة ضعيف جدا ومنهم من يجاوز به الضعف إلى الكذب وقال ابن عدي عامة أحاديثه معاضيل ينفرد عن كل من روى عنه
قلت ولذلك لم يحدث أحمد ابنه عبد الله بهذا الحديث في الحديث المسند فانه قد كان كتبه عن محمد بن بشر عن عبد الله بن عبد الله بن الأسود عن حصين كما رواه الترمذي فلم يحدثه به وإنما رواه عبد الله عنه في المسند وجادة قال وجدت في كتاب أبي حدثنا محمد بن بشر وذكره
وكان أحمد رحمه الله على ما تدل عليه طريقته في المسند إذا رأى أن الحديث موضوع أو قريب من الموضوع لم يحدث به ولذلك ضرب على أحاديث الرجال فلم يحدث بها في المسند لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين
وكذلك روى عبد الله بن أحمد في مسند أبيه حدثنا إسماعيل أبو معمر حدثنا إسماعيل بن عياش عن زيد بن جبيرة عن داود بن الحصين عن عبيد الله ابن أبي نافع عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يبغض العرب إلا منافق وزيد بن جبيرة عندهم منكر الحديث وهو مدني ورواية إسماعيل بن عياش عن غير الشاميين مضطربة
وكذلك روى أبو جعفر محمد بن عبد الله الحافظ الكوفي المعروف بمطين حدثنا العلاء بن عمرو الحنفي حدثنا يحيى بن زيد الأشعري حدثنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أحب العرب لثلاث لأنه عربي والقرآن عربي ولسان أهل الجنة عربي قال الحافظ السلفي هذا حديث حسن
فما أدري أراد حسن إسناده على طريقة المحدثين أو حسن متنه على الاصطلاح العام وأبو الفرج بن الجوزي ذكر هذا الحديث في الموضوعات وقال قال الثعلبي لا أصل له وقال ابن حبان يحيى بن زيد يروي المقلوبات عن الاثبات فبطل الاحتجاج به والله أعلم
وأيضا في المسألة ما روى أبو بكر البزار حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا أبو أحمد حدثنا عبد الجبار بن العباس وكان رجلا من أهل الكوفة يميل إلى الشيعة وهو صحيح الحديث مستقيمه وهذا والله أعلم كلام البزار عن أبي إسحاق عن أوس بن ضمعج قال قال سلمان نفضلكم يا معاشر العرب لتفضيل رسول الله صلى الله عليه و سلم إياكم لا ننكح نساءكم ولا نؤمكم في الصلاة
وهذا إسناد جيد وأبو أحمد هو والله أعلم محمد بن عبد الله الزبيري من أعيان العلماء الثقات وقد أثنى على شيخه والجوهري وأبو إسحاق السبيعي أشهر من أن يثنى عليهما وأوس بن ضمعج ثقة روى له مسلم
وقد أخبر سلمان أن رسول الله صلى الله عليه و سلم فضل العرب فإما إنشاء وإما إخبار فإنشاؤه صلى الله عليه و سلم حكم لازم وخبره حديث صادق وتمام الحديث قد روي عن سلمان من غير هذا الوجه رواه الثوري عن أبي إسحاق عن أبي ليلى الكندي عن سلمان الفارسي أنه قال فضلتمونا يا معاشر العرب باثنتين لا نؤمكم في الصلاة ولا ننكح نساءكم رواه محمد بن أبي عمر العدني وسعيد بن منصور في سننه وغيرهما
وهذا مما احتج به أكثر الفقهاء الذين جعلوا العربية من الكفاءة بالنسبة إلى العجمي واحتج به أحمد في إحدى الروايتين على أن الكفاءة ليست حقا لواحد معين بل هي من الحقوق المطلقة في النكاح حتى إنه يفرق بينهما عند عدمها
واحتج أصحاب الشافعي وأحمد بهذا على أن الشرف مما يستحق به التقديم في الصلاة
ومثل ذلك ما رواه محمد بن أبي عمر العدني قال حدثنا سعيد بن عبيد أنبأنا علي بن ربيعة عن ربيع بن نضلة أنه خرج في اثني عشر راكبا كلهم قد صحب محمدا صلى الله عليه و سلم وفيهم سلمان الفارسي وهم في سفر فحضرت الصلاة فتدافع القوم أيهم يصلي بهم فصلى بهم رجل منهم أربعا فلما انصرف قال سلمان ما هذا ما هذا مرارا نصف المربوعة قال مروان يعني نصف الأربع نحن إلى التخفيف أفقر فقال له القوم صل بنا يا ابا عبد الله أنت أحقنا بذلك فقال لا أنتم بنو إسماعيل الأئمة ونحن الوزراء
وفي المسألة آثار غير ما ذكرته في بعضها نظر وبعضها موضوع
وأيضا فان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما وضع ديوان العطاء كتب الناس على قدر أنسابهم فبدأ بأقربهم نسبا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما انقضت العرب ذكر العجم هكذا كان الديوان على عهد الخلفاء الراشدين
وسائر الخلفاء من بني أمية وولد العباس إلى أن تغير الأمر بعد ذلك
وسبب هذا الفضل والله أعلم ما اختصوا به في عقولهم وألسنتهم وأخلاقهم وأعمالهم
وذلك أن الفضل إما بالعلم النافع وإما بالعمل الصالح والعلم له مبدأ وهو قوة العقل الذي هو الحفظ والفهم وتمام وهو قوة المنطق الذي هو البيان والعبارة والعرب هم أفهم من غيرهم وأحفظ وأقدر على البيان والعبارة ولسانهم أتم الألسنة بيانا وتمييزا للمعاني جمعا وفرقا يجمع المعاني الكثيرة في اللفظ القليل إذا شاء المتكلم الجمع جمع ثم يميز بين كل شيئين مشتبهين بلفظ آخر مميز مختصر كما نجده في لغتهم من جنس الحيوان فإنهم مثل يعبرون عن القدر المشترك بين الحيوان بعبارات جامعة ثم يميزون بين أنواعه في اسماء كل أمر من أموره من الأصوات والأولاد والمساكن والأظفار إلى غير ذلك من خصائص اللسان العربي التي لا يستراب فيها
وأما العمل فان مبناه على الأخلاق وهي الغرائز المخلوقة في النفس وغرائزهم أطوع للخير من غيرهم فهم اقرب للسخاء والحلم والشجاعة
والوفاء وغير ذلك من الأخلاف المحمودة لكن كانوا قبل الإسلام طبيعة قابلة للخير معطلة عن فعله ليس عندهم علم منزل من السماء ولا شريعة موروثة عن نبي ولا هم أيضا مشتغلون ببعض العلوم العقلية المحضة كالطب والحساب ونحوهما إنما علمهم ما سمحت به قرائحهم من الشعر والخطب وما حفظوه من أنسابهم وأيامهم وما احتاجوا إليه في دنياهم من الأنواء والنجوم أو من الحروب فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه و سلم بالهدى الذي ما جعل الله في الأرض ولا يجعل منه أعظم قدرا وتلقوه عنه بعد مجاهدته الشديدة لهم ومعالجتهم على نقلهم عن تلك العادات الجاهلية والظلمات الكفرية التي كانت قد أحالت قلوبهم عن فطرتهم فلما تلقوا عنه ذلك الهدى العظيم زالت تلك الريون عن قلوبهم واستنارت بهدى الله الذي أنزل على عبده ورسوله فأخذوا هذا الهدى العظيم بتلك الفطرة الجيدة فاجتمع لهم الكمال بالقوة المخلوقة فيهم والكمال الذي أنزل الله إليهم بمنزلة أرض جيدة في نفسها لكن
هي معطلة عن الحرث أو قد نبت فيها شجر العضاه والعوسج وصارت مأوى الخنازير والسباع فإذا طهرت عن المؤذي من الشجر والدواب وازدرع فيها أفضل الحبوب والثمار جاء فيها من الحرث مالا يوصف مثله فصار السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أفضل خلق الله بعد الأنبياء وصار أفضل الناس بعدهم من تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة من العرب والعجم
وكان الناس إذ ذاك الخارجون عن هذا الكمال قسمين إما كافر من اليهود والنصارى لم يقبل هدى الله وإما غيرهم من العجم الذين لم يشركوهم فيما فطروا عليه وكان عامة العجم حينئذ كفارا من الفرس والروم فجاءت الشريعة باتباع أولئك السابقين على الهدى الذي رضيه الله لهم وبمخالفة من سواهم إما لمعصيته وإما لنقيصته وإما لأنه مظنة النقيصة
فإذا نهت الشريعة عن مشابهة الأعاجم دخل في ذلك ما عليه الأعاجم الكفار قديما وحديثا ودخل في ذلك ما عليه الأعاجم المسلمون مما لم يكن عليه السابقون الأولون كما يدخل في مسمى الجاهلية العربية ما كان عليه أهل الجاهلية قبل الإسلام وما عاد إليه كثير من العرب من الجاهلية التي كانوا عليها ومن تشبه من العرب بالعجم لحق بهم ومن تشبه من العجم بالعرب لحق بهم ولهذا كان الذين تناولوا العلم والإيمان من أبناء فارس إنما حصل ذلك بمتابعتهم للدين الحنيف بلوازمه من العربية وغيرها ومن نقص من العرب إنما نقص بتخليهم عن هذا وإما بموافقتهم للعجم فيما جاءت السنة أن يخالفوا فيه فهذا أوجه
وأيضا فإن الله لما أنزل كتابه باللسان العربي وجعل رسوله مبلغا عنه الكتاب والحكمة بلسانه العربي وجعل السابقين إلى هذا الدين متكلمين به لم يكن سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إلا بضبط هذا اللسان وصارت معرفته من الدين وصار اعتياد التكلم به أسهل على أهل الدين في معرفة دين الله
وأقرب إلى إقامة شعائر الدين وأقرب إلى مشابهتهم للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار في جميع أمورهم
وسنذكر إن شاء الله بعض ما قاله العلماء من الأمر بالخطاب العربي وكراهة مداومة غيره لغير حاجة
واللسان تقارنه أمور أخرى من العلوم والأخلاق فإن العادات لها تأثير عظيم فيما يحبه الله وفيما يكرهه فلهذا أيضا جاءت الشريعة بلزوم عادات السابقين في أقوالهم وأعمالهم وكراهة الخروج عنها إلى غيرها من غير حاجة
فحاصله أن النهي عن التشبه بهم إنما كان لما يفضي إليه من فوت الفضائل التي جعلها الله للسابقين الأولين أو حصول النقائض التي كانت في غيرهم
ولهذا لما علم المؤمنون من أبناء فارس وغيرهم هذا الأمر أخذ من وفقه الله منهم نفسه بالاجتهاد في تحقيق المشابهة بالسابقين فصار أولئك من أفضل التابعين بإحسان إلى يوم القيامة وصار كثير منهم أئمة لكثير من غيرهم ولهذا كانوا يفضلون من الفرس من رأوه أقرب إلى متابعة السابقين حتى قال الأصمعي فيما رواه عنه أبو طاهر السلفي في كتاب فضل الفرس عجم أصبهان قريش العجم
وروى أيضا السلفي بإسناد معروف عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون عن أسامة بن زيد عن سعيد بن المسيب قال لو أني لم أكن من قريش لأحببت أن أكون من فارس ثم أحببت أن أكون من أصبهان
وروي بإسناد آخر عن سعيد بن المسيب قال لولا أني رجل من قريش لتمنيت أن أكون من أصبهان لقول النبي صلى الله عليه و سلم لو كان الدين معلقا بالثريا لتناوله ناس من فارس من أبناء العجم أسعد الناس بها فارس وأصبهان
قالوا وكان سلمان الفارسي من أهل أصبهان وكذلك عكرمة مولى
ابن عباس وغيرهما فإن آثار الإسلام كانت بأصبهان أظهر منها بغيرها حتى قال الحافظ عبد القادر الرهاوي رحمه الله ما رأيت بلدا بعد بغداد أكثر حديثا من أصبهان وكان أئمة السنة علما وفقها والعارفون بالحديث وسائر الإسلام المحض فيهم أكثر من غيرهم حتى إنه قيل إن قضاتهم كانوا من فقهاء الحديث مثل صالح بن أحمد بن حنبل ومثل أبي بكر بن أبي عاصم ومن بعدهم وأنا لا أعلم حالهم بأخرة
وكذلك كل مكان أو شخص من أهل فارس يمدح المدح الحقيقي إنما يمدح لمشابهة السابقين حتى قد يختلف في فضل شخص على شخص أو قول على قول أو فعل على فعل لأجل اعتقاد كل من المختلفين أن هذا أقرب إلى طريق السابقين الأولين فإن الأمة مجمعة على هذه القاعدة وهي فضل طريقة العرب السابقين وأن الفاضل من تبعهم وهو المطلوب هنا
وإنما يتم الكلام بأمرين
أحدهما أن الذي يجب على المسلم إذا نظر في الفضائل أو تكلم فيها أن يسلك سبيل العاقل الذي غرضه أن يعرف الخير ويتحراه جهده وليس غرضه الفخر على أحد ولا الغمط من أحد فقد روى مسلم في صحيحه عن عياض ابن حمار المجاشعي قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إنه أوحي إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد
فنهى سبحانه على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم عن نوعي الاستطالة على الخلق وهي الفخر والبغي لأن المستطيل إن استطال بحق فقد افتخر وإن كان بغير حق فقد بغى فلا يحل لا هذا ولا هذا
فإن كان الرجل من الطائفة الفاضلة مثل أن يذكر فضل بني هاشم أو قريش أو العرب أو الفرس أو بعضهم فلا يكون حظه استشعار فضل نفسه والنظر إلى ذلك فإنه مخطئ في هذا لأن فضل الجنس لا يستلزم
فضل الشخص كما قدمناه فرب حبشي أفضل عند الله من جمهور قريش
ثم هذا النظر يوجب نقصه وخروجه عن الفضل فضلا عن أن يستعلي عبدا أو يستطيل
وإن كان من الطائفة الأخرى مثل العجم أو غير قريش أو بني هاشم فليعلم أن تصديقه رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما أخبر وطاعته فيما أمر ومحبة من أحبه والتشبه بمن فضله الله والقيام بالدين الحق الذي بعث الله به عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه و سلم يوجب له أن يكون أفضل من جمهور الطائفة المفضلة وهذا هو الفضل الحقيقي
وانظر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين وضع الديوان وقالوا له يبدأ أمير المؤمنين بنفسه فقال لا ولكن وضعوا عمر حيث وضعه الله تعالى فبدأ بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم من يليهم حتى جاءت نوبته في بني عدي وهم متأخرون عن أكثر بطون قريش
ثم هذا الاتباع للحق ونحوه قدمه على عامة بني هاشم فضلا عن غيرهم من قريش
الثاني أن اسم العرب والعجم قد صار فيه اشتباه فإنا قد قدمنا أن اسم العجم يعم في اللغة كل من ليس من العرب ثم لما كان العلم والإيمان في أبناء فارس أكثر منه في غيرهم من العجم كانوا أفضل الأعاجم فغلب
لفظ العجم في عرف العامة المتأخرين عليهم فصارت حقيقة عرفية عامية فيهم
واسم العرب في الأصل كان إسما لقوم جمعوا ثلاثة أوصاف
أحدها أن لسانهم كان باللغة العربية
الثاني أنهم كانوا من أولاد العرب
الثالث أن مساكنهم كانت أرض العرب وهي جزيرة العرب التي هي من بحر القلزم إلى بحر البصرة ومن أقصى حجر باليمن إلى أوائل الشام بحيث تدخل اليمن في دارهم ولا تدخل فيها الشام وفي هذه الأرض كانت العرب حين البعث وقبله فلما جاء الإسلام وفتحت الأمصار سكنوا سائر البلاد من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب وإلى سواحل الشام وأرمينية وهذه كانت مساكن فارس والروم والبربر وغيرهم ثم انقسمت هذه البلاد قسمين
منها ما غلب على أهله لسان العرب حتى لا تعرف عامتهم غيره أو يعرفونه
وغيره مع ما دخل على لسان العرب من اللحن وهذه غالب مساكن الشام والعراق ومصر والأندلس ونحو ذلك وأظن أرض فارس وخراسان كانت هكذا قديما
ومنها ما العجمة كثيرة فيهم أو غالبة عليهم كبلاد الترك وخراسان وأرمينية وأذربيجان ونحو ذلك فهذه البقاع انقسمت إلى ما هو عربي ابتداء وما هو عربي انتقالا وإلى ما هو عجمي وكذلك الأنساب ثلاثة أقسام
قوم من نسل العرب وهم باقون على العربية لسانا ودارا أو لسانا لا دارا أو دارا لا لسانا
وقوم من نسل العرب بل من نسل هاشم ثم صارت العربية لسانهم ودارهم أو أحدهما
وقوم مجهولو الأصل لا يدرون أمن نسل العرب هم أو من نسل العجم وهم أكثر الناس اليوم سواء كانوا عرب الدار واللسان أو عجما في أحدهما
وكذلك انقسموا في اللسان ثلاثة أقسام
قوم يتكلمون بالعربية لفظا ونغمة
وقوم يتكلموا بها لفظا لا نغمة وهم المتعربون الذين ما تعلموا اللغة ابتداء من العرب وإنما اعتادوا غيرها ثم تعلموها كغالب أهل العلم ممن تعلم العربية
وقوم لا يتكلمون بها إلا قليلا
وهذان القسمان منهم من تغلب عليه العربية ومنهم من تغلب عليه العجمة ومنهم من يتكافأ في حقه الأمران إما قدرة وإما عادة
فإذا كانت العربية قد انقسمت نسبا ولسانا ودارا فإن الأحكام تختلف باختلاف هذا الانقسام خصوصا النسب واللسان
فإن ما ذكرناه من تحريم الصدقة على بني هاشم واستحقاق نصيب من الخمس ثبت لهم باعتبار النسب وإن صارت ألسنتهم أعجمية
وما ذكرنا من حكم اللسان العربي وأخلاق العرب يثبت لمن كان كذلك وإن كان أصله فارسيا وينتفي عمن لم يكن كذلك وإن كان أصله هاشميا
والمقصود هنا أن ما ذكرته من النهي عن التشبه بالأعاجم إنما العبرة فيه بما كان عليه صدر الإسلام من السابقين الأولين فكل ما كان إلى هداهم أقرب فهو المفضل وكل ما خالف ذلك فهو المخالف سواء كان المخالف ذلك اليوم عربي النسب أو عربي اللسان وهكذا جاء عن السلف
فروى الحافظ أبو طاهر السلفي في فضل العرب بإسناده عن أبي شهاب الحناط حدثنا جبار بن موسى عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي قال من ولد في الإسلام فهو عربي
وهذا الذي يروى عن أبي جعفر لأن من ولد في الإسلام فقد ولد في دار العرب واعتاد خطابها وهكذا كان الأمر
وروى السلفي عن المؤتمر الساجي عن أبي القاسم الخلال أنبأنا أبو محمد الحسن بن الحسين التولخي حدثنا علي بن عبد الله بن بشر حدثنا محمد بن حرب النشائي حدثنا إسحاق الأزرق عن هشام بن حسان عن الحسن عن أبي هريرة يرفعه قال من تكلم بالعربية فهو عربي ومن أدرك له اثنان في الإسلام فهو عربي هكذا فيه وأظنه ومن أدرك له أبوان
فهنا إن صح هذا الحديث فقد علقت العربية فيه بمجرد اللسان وعلقت في النسب بأن يدرك له أبوان في الدولة الإسلامية العربية
وقد يحتج بهذا القول أبو حنيفة على أن من ليس له أبوان في الإسلام أو في الحرية ليس كفؤا لمن له أبوان في ذلك وإن كان في العجمية والعتاقة
ومذهب أبي يوسف ذو الأب الواحد كذي الأبوان
ومذهب الشافعي وأحمد لا عبرة بذلك ونص عليه أحمد
وقد روى السلفي من حديث الحسن بن رشيق حدثنا أحمد بن الحسن بن هارون حدثنا العلاء بن سالم حدثنا قرة بن عيسى الواسطي حدثنا أبو بكر الهذلي عن مالك بن أنس عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال جاء قيس بن مطاطة إلى حلقة فيها صهيب الرومي وسلمان الفارسي وبلال الحبشي فقال هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل فما بال هؤلاء فقام معاذ بن جبل فأخذ بتلابيبه ثم أتى به إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره بمقالته فقام النبي صلى الله عليه و سلم مغضبا يجر رداءه حتى دخل المسجد ثم نودي إن الصلاة جامعة فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد أيها الناس إن الرب رب واحد والأب أب واحدوالدين دين واحد وإن العربية ليست لأحدكم بأب ولا أم إنما هي لسان فمن تكلم بالعربية فهو عربي فقام معاذ بن جبل فقال بم تأمرنا في هذا المنافق فقال دعه إلى النار فكان قيس ممن ارتد فقتل في الردة
هذا الحديث ضعيف وكأنه مركب على مالك لكن معناه ليس ببعيد بل هو صحيح من بعض الوجوه كما قدمناه
ومن تأمل ما ذكرناه في هذا الباب عرف مقصود الشريعة فيما ذكرناه من الموافقة المأمور بها والمخالفة المنهي عنها كما تقدمت الدلالات عليه وعرف بعض وجوه ذلك وأسبابه وبعض ما فيه من الحكمة
فصل
فإن قيل ما ذكرتموه من الأدلة معارض بما يدل على خلافه
وذلك أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه ولقوله تعالى
فبهداهم اقتده وقوله اتبع ملة إبراهيم وقوله يحكم بها النبيون الذين أسلموا وغير ذلك من الدلائل المذكورة في غير هذا الموضع
مع أنكم مسلمون لهذه القاعدة وهي قول عامة السلف وجمهور الفقهاء
ومعارض بما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ما هذا اليوم الذي تصومونه قالوا هذا يوم عظيم أنجى الله
فيه موسى وقومه وأغرق فيه فرعون وقومه فصامه موسى شكرا لله فنحن نصومه تعظيما له فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فنحن أحق بموسى منكم فصامه رسول الله صلى الله عليه و سلم وأمر بصيامه متفق عليه
وعن أبي موسى قال كان يوم عاشوراء تعده اليهود عيدا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فصوموه أنتم متفق عليه وهذا لفظ مسلم ولفظ البخاري تعظمه اليهود وتتخذه عيدا وفي لفظ له كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء ويتخذونه عيدا ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشاراتهم
وعن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم وكان المشركون يفرقون رءوسهم وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء وسدل رسول الله صلى الله عليه و سلم ناصيته ثم فرق بعد متفق عليه
قيل أما المعارضة بكون شرع من قبلنا شرعا لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه فذاك مبني على مقدمتين كلتاهما منفية في مسألة التشبه بهم
إحداهما أن يثبت أن ذلك شرع لهم بنقل موثوق به مثل أن يخبرنا الله في كتابه أو على لسان رسوله أو ينقل بالتواتر ونحو ذلك فأما مجرد الرجوع إلى قولهم أو إلى ما في كتبهم فلا يجوز بالاتفاق والنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان قد استخبرهم فأخبروه ووقف على ما في التوراة فإنما ذلك لأنه لا يروج عليه باطلهم بل الله سبحانه يعرفه ما يكذبون مما يصدقون كما أخبره بكذبهم غير مرة وأما نحن فلا نأمن أن يحدثونا بالكذب فيكون فاسق بل كافر قد جاءنا بنبأ فاتبعناه وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إذا حدثكم اهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم
المقدمة الثانية أن لا يكون في شرعنا بيان ختص لذلك فأما إذا كان
فيه بيان خاص بالموافقة أو بالمخالفة استغنى عن ذلك فيما ينهى عنه من موافقتهم ولم يثبت أنه شرع لمن كان قبلنا وإن ثبت فقد كان هدي نبينا صلى الله عليه و سلم وأصحابه بخلافه وبهم أمرنا نحن أن نتبع ونقتدي وقد أمرنا نبينا صلى الله عليه و سلم أن يكون هدينا مخالفا لهدي اليهود والنصارى وإنما تجيء الموافقة في بعض الأحكام العارضة لا في الهدي الراتب والشعار الدائم
ثم ذلك بشرط أن لا يكون قد جاء عن نبينا وأصحابه خلافه أو ثبت أصل شرعه في ديننا وقد ثبت عن نبي من الأنبياء أصله أو وصفه مثل فداء من نذر أو يذبح ولده بشاة ومثل الختان المأمور به في ملة إبراهيم عليه السلام ونحو ذلك وليس الكلام فيه
وأما حديث عاشوراء فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يصومه قبل استخباره لليهود وكانت قريش تصومه
ففي الصحيحين من حديث الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت كانت قريش تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصومه فلما هاجر إلى المدينة صامه وأمر بصومه فلما فرض شهر رمضان قال من شاء صامه ومن شاء تركه وفي رواية وكان يوم تستر فيه الكعبة
وأخرجاه من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصومه في الجاهلية فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه فلما فرض رمضان قال من شاء صامه ومن شاء تركه
وفيهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن أهل الجاهلية كانوا يصومون عاشوراء وأن رسول الله صلى الله عليه و سلم صامه والمسلمون قبل أن يفرض رمضان فلما فرض رمضان قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن عاشوراء يوم من أيام الله فمن شاء صامه ومن شاء تركه
فإذا كان أصل صومه لم يكن موافقا لأهل الكتاب فيكون قوله فنحن أحق بموسى منكم تأكيدا لصومه وبيانا لليهود أن الذي تفعلونه من موافقة موسى نحن أيضا نفعله فنكون أولى بموسى منكم
ثم الجواب عن هذا وعن قوله كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء من وجوه
أحدها أن هذا كان متقدما ثم نسخ الله ذلك وشرع له مخالفة أهل الكتاب وأمره بذلك وفي متن هذا الحديث أنه سدل شعره موافقة لهم ثم فرق شعره بعد ولهذا صار الفرق شعار المسلمين وكان من الشروط المشروطة على أهل الذمة أن لا يفرقوا شعورهم وهذا كما أن الله شرع في أول الأمر استقبال بيت المقدس موافقة لأهل الكتاب ثم إنه نسخ ذلك وأمر باستقبال الكعبة واخبر عن اليهود وغيرهم من السفهاء أنهم سيقولون ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها وأخبر أنهم لا يرضون عن رسول الله حتى يتبع قبلتهم وأخبره أنه إن اتبع أهواءهم من بعد ما جاءه العلم ماله من الله من ولي ولا نصير وأخبره أنه إن اتبع أهواءهم بعد الذي جاءه من العلم إنه إذن لمن الظالمين وأخبره أن لكل وجهة هو موليها وكذلك أخبره في غير موضع أنه جعل لكل شرعة ومنهاجا فالشعار من جملة الشرعة
والذي يوضح ذلك أن هذا اليوم عاشوراء الذي صامه وقال نحن أحق بموسى منكم قد شرع قبيل موته مخالفة اليهود في صومه وأمر صلى الله عليه و سلم بذلك ولهذا كان ابن عباس رضي الله عنهما وهو الذي كان يقول كان يعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء وهو الذي روى قوله نحن أحق بموسى منكم أشد الصحابة رضي الله عنهم أمر بمخالفة اليهود في صوم يوم عاشوراء وقد ذكرنا أنه هو الذي روى شرع المخالفة
وروى أيضا مسلم في صحيحه عن الحكم بن الأعرج قال انتهيت إلى
ابن عباس وهو متوسد رداءه في زمزم فقلت له أخبرني عن صيام يوم عاشوراء فقال إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما قلت هكذا كان يصومه محمد صلى الله عليه و سلم قال نعم
وروى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع يعني مع يوم عاشوراء
وقد مضى قول ابن عباس صم التاسع يعني والعاشر خالفوا اليهود هكذا ثبت عنه وعلله بمخالفة اليهود
قال يحيى بن منصور حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار سمع عطاء سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول صوموا التاسع والعاشر خالفوا اليهود
وروينا في فوائد داود بن عمرو عن إسماعيل بن علية قال ذكروا عند ابن أبي نجيح أن ابن عباس كان يقول يوم عاشوراء يوم التاسع فقال ابن أبي نجيح إنما قال ابن عباس أكره أن تصوم يوما فردا ولكن صوموا قبله يوما أو بعده يوما
ويحقق ذلك ما رواه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بصوم يوم عاشوراء العاشر من المحرم قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح
وروى سعيد بن منصور في سننه عن هشيم عن ابن أبي ليلى عن داود بن علي عن أبيه عن جده ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود صوموا يوما قبله أو يوما بعده رواه أحمد ولفظه صوموا قبله يوما أو بعده يوما
ولهذا نص أحمد على مثل ما رواه ابن عباس وأفتى به
فقال في رواية الأثر أنا أذهب في يوم عاشوراء إلى أن يصام يوم التاسع والعاشر لحديث ابن عباس صوموا التاسع والعاشر
وقال حرب سألت أحمد عن صوم يوم عاشوراء فقال نصوم التاسع والعاشر
وقال في رواية الميموني وأبي الحارث من أراد أن يصوم عاشوراء صام التاسع والعاشر إلا أن تشكل الشهور فيصوم ثلاثة ايام ابن سيرين يقول ذلك
وقد قال بعض أصحابنا إن الأفضل صوم التاسع والعاشر وإن اقتصر على العاشر لم يكره
ومقتضى كلام أحمد أنه يكره الاقتصار على العاشر لأنه سئل عنه فأفتى بصوم يومين وأمر بذلك وجعل هذا هو السنة لمن أراد صوم عاشوراء واتبع في ذلك حديث ابن عباس وابن عباس كان يكره إفراد العاشر على ما هو مشهور عنه
ومما يوضح ذلك أن كل ما جاء من التشبه بهم إنما كان في صدر الهجرة ثم نسخ ذلك لأن اليهود إذ ذاك كانوا لا يميزون عن المسلمين لا في شعور ولا في لباس لا بعلامة ولا غيرها
ثم إنه ثبت بعد ذلك في الكتاب والسنة والإجماع الذي كمل ظهوره في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما شرعه الله من مخالفة الكافرين ومفارقتهم في الشعار والهدى
وسبب ذلك أن المخالفة لهم لا تكون إلا بعد ظهور الدين وعلوه كالجهاد وإلزامهم بالجزية والصغار فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء لم يشرع المخالفة لهم فلما كمل الدين وظهر وعلا شرع ذلك
ومثل ذلك اليوم لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر لما عليه في ذلك من الضرر بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك
مصلحة دينية من دعوتهم إلى الدين والاطلاع على باطن أمرهم لإخبار المسلمين بذلك أو دفع ضررهم عن المسلمين ونحو ذلك من المقاصد الصالحة
فأما في دار الإسلام والهجرة التي أعز الله فيها دينه وجعل على الكافرين بها الصغار والجزية ففيها شرعت المخالفة وإذا ظهرت الموافقة والمخالفة لهم باختلاف الزمان ظهرت حقيقة الأحاديث في هذا
الوجه الثاني لو فرضنا أن ذلك لم ينسخ فالنبي صلى الله عليه و سلم وهو الذي كان له أن يوافقهم لأنه يعلم حقهم من باطلهم بما يعلمه الله إياه ونحن نتبعه فأما نحن فلا يجوز لنا أن نأخذ شيئا من الدين عنهم لا من أقوالهم ولا من أفعالهم بإجماع المسلمين المعلوم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه و سلم ولو قال رجل يستحب لنا موافقة أهل الكتاب الموجودين في زماننا لكان قد خرج عن دين الأمة
الوجه الثالث أن نقول بموجبه كان يعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء ثم إنه أمر بمخالفتهم وأمرنا نحن أن نتبع هديه وهدي أصحابه السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والكلام إنما هو في أنا منهيون عن التشبه بهم فيما لم يكن سلف الأمة عليه فأما ما كان سلف الأمة عليه فلا ريب فيه سواء فعلوه أو تركوه فإنا لا نترك ما أمر الله به لأجل أن الكفار تفعله مع أن الله لم يأمرنا بشيء يوافقونا عليه إلا ولا بد فيه من نوع مغايرة يتميز بها دين الله المحكم عما قد نسخ أو بدل
فصل
قد ذكرنا من دلائل الكتاب والسنة والإجماع والآثار والاعتبار ما دل على أن التشبه بهم في الجملة منهي عنه وأن مخالفتهم في هديهم مشروع إما إيجابا وإما استحبابا بحسب المواضع وقد تقدم بيان أن ما أمرنا الله ورسوله به
من مخالفتهم مشروع سواء كان ذلك الفعل مما قصد فاعله التشبه بهم أو لم يقصد وكذلك ما نهى عنه من مشابهتهم يعم ما إذا قصدت مشابهتهم أو لم تقصد فإن عامة هذه الأعمال لم يكن المسلمون يقصدون المشابهة فيها وفيها مالا يتصور قصد المشابهة فيه كبياض الشعر وطول الشارب ونحو ذلك
ثم اعلم أن أعمالهم ثلاثة أقسام
قسم مشروع في ديننا مع كونه كان مشروعا لهم أولا نعلم أنه كان مشروعا لهم لكنهم يفعلونه الآن
وقسم كان مشروعا ثم نسخه شرع القرآن
وقسم لم يكن مشروعا بحال وإنما هم أحدثوه
وهذه الأقسام الثلاثة إما ان تكون في العبادات المحضة وإما أن تكون في العادات المحضة وهي الآداب وإما أن تجمع العبادات والعادات فهذه تسعة أقسام
فأما القسم الأول وهو ما كان مشروعا في الشريعتين أو ما كان مشروعا لنا وهم يفعلونه فهذا كصوم عاشوراء أو كأصل الصلاة والصيام فهنا تقع المخالفة في صفة ذلك العمل كما سن لنا صوم تاسوعاء وعاشوراء كما أمرنا بتعجيل الفطر والمغرب مخالفة لأهل الكتاب وبتأخير السحور مخالفة لأهل الكتاب وكما أمرنا بالصلاة في النعلين مخالفة لليهود وهذا كثير في العبادات وكذلك في العادات
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اللحد لنا والشق لغيرنا
وسن توجيه قبور المسلمين إلى الكعبة تمييزا لها عن مقابر الكافرين
فإن أصل الدفن من الأمور المشروعة في الأمور العادية
ثم قد اختلفت الشرائع في صفته وهو أيضا فيه عبادات
ولباس النعل في الصلاة فيه عبادات وعادة ونزع النعل في الصلاة شريعة
كانت لموسى عليه السلام وكذلك اعتزال الحائض ونحو ذلك من الشرائع التي جامعناهم في أصلها وخالفناهم في وصفها
القسم الثاني ما كان مشروعا ثم نسخ بالكلية كالسبت أو إيجاب صلاة أو صوم ولا يخفى النهي عن موافقتهم في هذا سواء كان واجبا عليهم فيكون عبادة أو محرما علهم فيتعلق بالعادات فليس للرجل أن يمتنع من أكل الشحوم وكل ذي ظفر على وجه التدين بذلك وكذلك ما كان مركبا منهما وهي الأعياد التي كانت مشروعة لهم فإن العيد مشروع يجمع عبادة وهو ما فيه من صلاة أو ذكر أو صدقة أو نسك ويجمع عادة وهو ما يفعل فيه من التوسع في الطعام واللباس وما يتبع ذلك من ترك الأعمال الواجبة واللعب المأذون فيه في الأعياد لمن ينتفع باللعب ونحو ذلك ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم لما زجر أبو بكر رضي الله عنه الجاريتين عن الغناء في بيته قال دعهما يا ابا بكر فإن لكل قوم عيدا وإن هذا عيدنا وكان الحبشة يلعبون بالحراب يوم العيد والنبي صلى الله عليه و سلم ينظر إليهم
فالأعياد المشروعة يشرع فيها وجوبا أو استحبابا من العبادات مالا يشرع في غيرها ويباح فيها أو يستحب أو يجب من العادات التي للنفوس فيها حظ مالا يكون في غيرها كذلك ولهذا وجب فطر يوم العيدين وقرن بالصلاة في أحدهما الصدقة وقرن بها في الآخر الذبح وكلاهما من أسباب الطعام
فموافقتهم في هذا القسم المنسوخ من العبادات أو العادات أو كلاهما أقبح من موافقتهم فيما هو مشروع الأصل ولهذا كانت الموافقة في هذا محرمة كما سنذكره وفي الأول قد لا تكون إلا مكروهة
وأما القسم الثالث وهو ما أحدثوه من العبادات أو العادات أو كليهما فهو أقبح وأقبح فإنه لو أحدثه المسلمون لقد كان يكون قبيحا فكيف إذا
كان مما لم يشرعه نبي قط بل قد أحدثه الكافرون فالموافقة فيه ظاهرة القبح فهذا أصل
وأصل آخر وهو أن كل ما يتشابهون فيه من عبادة أو عادة أو كليهما فهو من المحدثات في هذه الأمة ومن البدع إذ الكلام فيما كان من خصائصهم وأما ما كان مشروعا لنا وقد فعله سلفنا السابقون فلا كلام فيه
فجميع الأدلة الدالة من الكتاب والسنة والاجماع على قبح البدع وكراهتها تحريما أو تنزيها تندرج هذه المشابهات فيها فيجتمع فيها أنها بدعة محدثه ومشابهة للكافرين وكل واحد من الوصفين يوجب النهي إذ المشابهة منهي عنها في الجملة ولو كانت في السلف والبدعة منهي عنها في الجملة ولو لم يفعلها الكفار فإذا اجتمع الوصفان صارا علتين مستقلتين في القبح والنهي
فصل
إذا تقرر هذا الأصل في مشابهة الكفار فنقول
موافقتهم في أعيادهم لا تجوز من الطريقين
الطريق الأول العام هو ما تقدم من أن هذا موافقة لأهل الكتاب فيما ليس من ديننا ولا عادة سلفنا فيكون فيه مفسدة موافقتهم وفي تركه مصلحة مخالفتهم حتى لو كانت موافقتهم في ذلك أمرا اتفاقيا ليس مأخوذا عنهم لكان المشروع لنا مخالفتهم لما في مخالفتهم من المصلحة لنا كما تقدمت الإشارة إليه فمن وافقهم فقد فوت على نفسه هذه المصلحة وإن لم يكن قد أتى بمفسدة فكيف إذا جمعهما
ومن جهة أنه من البدع المحدثة وهذه الطريق لا ريب في أنها تدل على كراهة التشبه بهم في ذلك فإن أقل أحوال التشبه بهم أن يكون مكروها
وكذلك أقل أحوال البدع أن تكون مكروهة ويدل كثير منها على تحريم التشبه بهم في العيد مثل قوله صلى الله عليه و سلم من تشبه بقوم فهو منهم فإن موجب هذا تحريم التشبه بهم مطلقا وكذلك قوله خالفوا المشركين ونحو ذلك مثل ما ذكرناه من دلالة الكتاب والسنة على تحريم سبيل المغضوب عليهم والضالين وأعيادهم من سبيلهم إلى غير ذلك من الدلائل
فمن انعطف على ما تقدم من الدلائل العامة نصا وإجماعا وقياسا تبين له دخول هذه المسألة في كثير مما تقدم من الدلائل وتبين له أن هذا من جنس أعمالهم التي هي دينهم أو شعار دينهم الباطل وأن هذا محرم كله بخلاف مالم يكن من خصائص دينهم ولا شعارا له مثل نزع النعلين في الصلاة فإنه جائز كما أن لبسهما جائز وتبين له أيضا الفرق بين ما بقينا فيه على عادتنا لم نحدث شيئا نكون به موافقين لهم فيه وبين أن نحدث أعمالا أصلها مأخوذ عنهم وقصدنا موافقتهم أو لم نقصد
وأما الطريق الثاني الخاص في نفس أعياد الكفار فالكتاب والسنة والإجماع والاعتبار
أما الكتاب فمما تأوله غير واحد من التابعين وغيرهم في قوله تعالى والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما
فروى أبو بكر الخلال في الجامع بإسناده عن محمد بن سيرين في قوله تعالى والذين يشهدون الزور قال هو الشعانين
وكذلك ذكر عن مجاهد قال هو أعياد المشركين
وكذلك عن الربيع بن أنس قال هو أعياد المشركين
وفي معنى هذا ما روي عن عكرمة قال لعب كان لهم في الجاهلية
وقال القاضي أبو يعلى مسألة في النهي عن حضور أعياد المشركين
وروى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده في شروط أهل الذمة عن الضحاك في قوله تعالى والذين لا يشهدون الزور قال أعياد المشركين
وبإسناده عن أبي سنان عن الضحاك والذين لا يشهدون الزور كلام الشرك
وبإسناده عن جويبر عن الضحاك والذين لا يشهدون الزور قال أعياد المشركين
وروى بإسناده عن عمرو بن مرة لا يشهدون الزور لا يمالئون أهل الشرك على شركهم ولا يخالطونهم
وبإسناده عن عطاء بن يسار قال قال عمر إياكم ورطانة الأعاجم وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم
وقول هؤلاء التابعين إنه أعياد الكفار ليس مخالفا لقول بعضهم إنه الشرك أو صنم كان في الجاهلية ولقول بعضهم إنه مجالس الخنا وقول بعضهم إنه الغناء لأن عادة السلف في تفسيرهم هكذا يذكر الرجل نوعا من أنواع المسمى لحاجة المستمع إليه أو لينبه به على الجنس كما لو قال العجمي ما الخبز فيعطى رغيفا ويقال له هذا بالإشارة إلى جنس لا إلى عين الرغيف
لكن قد قال قوم إن المراد شهادة الزور التي هي الكذب
وهذا فيه نظر فإنه قال لا يشهدون الزور ولم يقل لا يشهدون بالزور والعرب تقول شهدت كذا إذا حضرته كقول ابن عباس شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وقول عمر الغنيمة لمن شهد الوقعة وهذا كثير في كلامهم وأما شهدت بكذا فمعناه أخبرت به
ووجه تفسير التابعين المذكورين أن الزور هو المحسن المموه حتى يظهر بخلاف ما هو عليه في الحقيقة ومنه قوله صلى الله عليه و سلم المتشبع بمالم يعط كلابس ثوبي زور لما كان يظهر ما يعظم به مما ليس عنده
والشاهد بالزور مظهر كلاما يخالف الباطن ولهذا فسره السلف تارة بما يظهر حسنه لشبهة أو لشهوة وهو قبيح في الباطن فالشرك ونحوه يظهر حسنه للشهوة والغناء نحوه يظهر حسنه للشهوة
وأما أعياد المشركين فجمعت الشبهة والشهوة والباطل ولا منفعة فيها في الدين وما فيها من اللذة العاجلة فعاقبتها إلى ألم فصارت زورا وحضورها شهودها
وإذا كان الله قد مدح ترك شهودها الذي هو مجرد الحضور برؤية أو سماع فكيف بالموافقة بما يزيد على ذلك من العمل الذي هو عمل الزور لا مجرد شهوده
ثم مجرد هذه الآية فيها الحمد لهؤلاء والثناء عليهم ذلك وحده يفيد الترغيب في ترك شهود أعيادهم وغيرها من الزور ويقتضي الندب إلى ترك حضورها وقد يفيد كراهية حضورها لتسمية الله لها زورا
فأما تحريم شهودها من هذه الآية ففيه نظر
ودلالتها على تحريم فعلها أوجه لأن الله سماها زورا وقد ذم من يقول الزور وإن لم يضر غيره بقوله في المتظاهرين فقال وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وقال تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان اجتنبوا قول الزور ففاعل الزور كذلك
وقد يقال قول الزور أبلغ من فعله لأنه إذا مدحهم على مجرد تركهم شهوده دل على أن فعله مذموم عنده معيب إذ لو كان فعله جائزا والأفضل تركه لم يكن في مجرد شهوده أو ترك شهوده كبير مدح إذ شهود المباحات لا منفعة فيها وعدم شهودها قليل التأثير
وقد يقال هذا مبالغة في مدحهم إذ كانوا لا يحضرون مجالس البطالة وإن كانوا لا يفعلون هم الباطل والله تعالى قال وعباد الرحمن الذين
يمشون على الأرض هونا فجعل هؤلاء المنعوتين هم عباد الرحمن وعبودية الرحمن واجبة فتكون هذه الصفات واجبة وفيه نظر
إذ قد يقال في هذه الصفات ما لا يجب ولأن المنعوتين وهم المستحقون لهذا الوصف على وجه الحقيقة والكمال قال الله تعالى إنما المؤمنون الذين إذ ذكر الله وجلت قلوبهم وقال تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء وقوله صلى الله عليه و سلم ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان الحديث وقال ما تدعون المفلس ما تدعون الرقوب ونظائره كثيرة
فسواء كانت الآية دالة على تحريم ذلك أو كراهته أو استحباب تركه حصل أصل المقصود إذا المقصود بيان استحباب ترك موافقتهم أيضا فإن بعض الناس قد يظن استحباب فعل ما فيه موافقة لهم لما فيه من التوسيع على العيال أو من إقرار الناس على اكتسابهم ومصالح دنياهم فإذا علم استحباب ترك ذلك كان هو المقصود
وأما السنة فروى أنس بن مالك رضي الله عنه قال قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال ما هذان اليومان قالوا كنا نلعب فيهما في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما يوم الأضحى ويوم الفطر رواه أبو داود بهذا اللفظ حدثنا موسى بن إسمعيل ! حدثنا حماد عن حميد عن أنس ورواه أحمد والنسائي وهذا إسناد على شرط مسلم
فوجه الدلالة أن اليومين الجاهليين لم يقرهما رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة بل قال إن الله قد أبدلكم بهما يومين آخرين والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه ولهذا لا تستعمل هذه العبارة إلا فيما ترك اجتماعهما كقوله تعالى أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين
بدلا وقوله تعالى وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل وقوله تعالى فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم وقوله تعالى ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب
ومنه الحديث في المقبور فيقال له أنظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به خيرا منه مقعدا في الجنة ويقال للآخر انظر إلى مقعدك من الجنة أبدلك الله به مقعدا من النار وقول عمر رضي الله عنه للبيد ما فعل شعرك قل أبدلني الله به البقرة وآل عمران وهذا كثير في الكلام
فقوله صلى الله عليه و سلم قد أبدلكم الله بهما خيرا يقتضي ترك الجمع بينهما لا سيما قوله خيرا منهما يقتضي الاعتياض بما شرع لنا عما كان في الجاهلية
وايضا فقوله لهم إن الله قد أبدلكم لما سألهم عن اليومين فأجابوه إنهما يومان كانوا يلعبون فيهما في الجاهلية دليل على أنه نهاهم عنهما اعتياضا بيومي الإسلام إذ لو لم يقصد النهي لم يكن ذكر هذا الإبدال مناسبا إذ أصل شرع اليومين الواجبين الإسلاميين كانوا يعملونه ولم يكونوا ليتركوه لأجل يومي الجاهلية
وفي قول أنس ولهم يومان يلعبون فيهما وقول النبي صلى الله عليه و سلم إن الله قد أبدلكم بهما يومين خيرا منهما دليل على أن أنسا رضي الله عنه فهم من قول النبي صلى الله عليه و سلم أبدلكم بهما تعويضا باليومين المبدلين
وأيضا فإن ذينك اليومين الجاهليين قد ماتا في الإسلام فلم يبق لهما أثر على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا عهد خلفائه ولو لم يكن قد نهى الناس عن اللعب فيهما ونحوه مما كانوا يفعلونه لكانوا قد بقوا على العادة إذ العادات لا تغير إلا بمغير يزيلها لا سيما وطباع النساء والصبيان وكثير من الناس متشوقة إلى اليوم الذي يتخذونه عيدا للبطالة واللعب ولهذا قد يعجز كثير من الملوك
والرؤساء عن نقل الناس عن عاداتهم في أعيادهم لقوة مقتضيها من نفوسهم وتوفر همم الجماهير على اتخاذها فلولا قوة المانع من رسول الله صلى الله عليه و سلم لكانت باقية ولو على وجه ضعيف فعلم أن المانع القوي منه كان ثابتا وكل ما منع منه الرسول منعا قويا كان محرما إذ لا يعني بالمحرم إلا هذا وهذا أمر بين لا شبهة فيه فإن مثل ذينك العيدين لو عاد الناس إليهما بنوع ما مما كان يفعل فيهما إن رخص فيه كان مراغمة بينه وبين ما نهى عنه فهو المطلوب
والمحذور في أعياد أهل الكتابين التي نقرهم عليها أشد من المحذور في أعياد الجاهلية التي لا نقرهم عليها فإن الأمة قد حذروا مشابهة اليهود والنصارى وأخبروا أن سيفعل قوم منهم هذا المحذور بخلاف دين الجاهلية فإنه لا يعود إلا في آخر الدهر عند اخترام أنفس المؤمنين عموما ولو لم يكن أشد منه فإنه مثله على ما لا يخفى إذ الشر الذي له فاعل موجود يخالف على الناس منه أكثر من شر لا مقتضى له قوي
الحديث الثاني ما رواه أبو داود حدثنا شعيب بن إسحاق عن الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير حدثني أبو قلابة حدثني ثابت بن الضحاك قال نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ينحر إبلا ببوانة فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة فقال النبي صلى الله عليه و سلم هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد قالوا لا قال فهل كان فيها عيد من أعيادهم قالوا لا قال فقال النبي صلى الله عليه و سلم أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم
أصل هذا الحديث في الصحيحين وهذا الإسناد على شرط الصحيحين وإسناده كلهم ثقات مشاهير وهو متصل بلا عنعنة
وبوانة بضم الباء الموحدة موضع قريب من مكة وفيه يقول وضاح اليمن
أيا نخلتي وادي بوانة حبذا … إذا نام حراس النخيل جناكما …
وسيأتي وجه الدلالة منه
وقال أبو داود في سننه حدثنا الحسن بن علي حدثنا يزيد بن هرون أنبأنا عبد الله بن يزيد بن مقسم الثقفي من أهل الطائف حدثتني سارة بنت مقسم أنها سمعت ميمونة بنت كردم قالت خرجت مع أبي في حجة رسول الله صلى الله عليه و سلم فرأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم وسمعت الناس يقولون رسول الله صلى الله عليه و سلم فجعلت أبده بصري فدنا إليه أبي وهو على ناقة له معه درة كدرة الكتاب فسمت الأعراب والناس يقولون الطبطبية الطبطبية فدنا إليه أبي فأخذ بقدمه قالت فأقر له ووقف واستمع منه فقال يا رسول الله إني نذرت إن ولد لي ولد ذمر أن أنحر على رأس بوانة في عقبة من الثنايا عدة من الغنم قال لا أعلم إلا أنها قالت خمسين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم هل بها من هذه الأوثان شيء قال لا قال فأوف بما نذرت به لله قال فجمعها فجعل يذبحها فانفلتت منه شاة فطلبها وهو يقول اللهم أوف بنذري فظفر بها فذبحها
قال أبو داود حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو بكر الحنفي حدثنا عبد الحميد ابن جعفر عن عمرو بن شعيب عن ميمونة بنت كردم عن سفيان عن أبيها نحوه مختصرا شيء منه قال هل بها وثن أو عيد من أعياد الجاهلية قال لا قال قلت إن أمي هذه عليها نذر مشي فأقضيه عنها وربما قال ابن بشار أنقضيه عنها قال نعم
وقال حدثنا مسدد حدثنا الحارث بن عبيد أبو قدامة عبيد الله بن الاخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه و سلم فقالت يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف قال أوفي بنذرك قالت إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية قال لصنم قالت لا قال لوثن قالت لا قال أوفي بنذرك
فوجه الدلالة أن هذا الناذر كان قد نذر أن يذبح نعما إما إبلا وإما غنما وإما كانت قضيتين بمكان سماه فسأله النبي صلى الله عليه و سلم هل كان بها وثن من أوثان الجاهلية يعبد قال لا قال فهل كان بها عيد من أعيادهم قال لا فقال أوف بنذرك ثم قال لا وفاء لنذر في معصية الله
وهذا يدل على أن الذبح بمكان عيدهم ومحل أوثانهم معصية لله من وجوه
أحدها أن قوله فأوف بنذرك تعقيب للوصف بالحكم بحرف الفاء وذلك يدل على أن الوصف هو سبب الحكم فيكون سبب الأمر بالوفاء وجود النذر خاليا من هذين الوصفين فيكون وجود الوصفين مانعا من الوفاء ولو لم يكن معصية لجاز الوفاء به
والثاني أنه عقب ذلك بقوله لا وفاء لنذر في معصية الله ولولا اندراج الصورة المسئول عنها في هذا اللفظ العام وإلا لم يكن في الكلام ارتباط والمنذور في نفسه وإن لم يكن معصية لكن لما سأله النبي صلى الله عليه و سلم عن الصورتين قال له فأوف بنذرك يعني حيث ليس هناك ما يوجب تحريم الذبح هناك فكان جوابه صلى الله عليه و سلم فيه أمرا بالوفاء عند الخلو من هذا ونهى عنه عند وجود هذا وأصل الوفاء بالنذر معلوم فبين مالا وفاء فيه واللفظ العام إذا ورد على سبب فلا بد أن يكون السبب مندرجا فيه
والثالث أنه لو كان الذبح في موضع العيد جائزا لسوغ صلى الله عليه و سلم للناذر الوفاء به كما سوغ لمن نذرت الضرب بالدف أن تضرب به بل لأوجب الوفاء به إذ كان الذبح بالمكان المنذور واجبا فإذا كان الذبح بمكان عيدهم منهيا عنه فكيف الموافقة في نفس العيد بفعل بعض الأعمال التي تعمل بسبب عيدهم
يوضح ذلك أن العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر أو نحو ذلك فالعيد يجمع أمورا
منها يوم عائد كيوم الفطر ويوم الجمعة
ومنها اجتماع فيه ومنها أعمال تجمع ذلك من العبادات أو العادات وقد يختص العيد بمكان بعينه وقد يكون مطلقا
وكل من هذه الأمور قد يسمى عيدا
فالزمان كقوله صلى الله عليه و سلم ليوم الجمعة إن هذا يوم جعله الله للمسلمين عيدا
والاجتماع والأعمال كقول ابن عباس شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم
والمكان كقوله صلى الله عليه و سلم لا تتخذوا قبري عيدا
وقد يكون لفظ العيد اسما لمجموع اليوم والعمل فيه وهو الغالب كقول النبي صلى الله عليه و سلم دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا وإن هذا عيدنا
فقول النبي صلى الله عليه و سلم هل بها عيد من أعيادهم يريد اجتماعا معتادا من اجتماعاتهم التي كانت عندهم عيدا فلما قال لا قال له أوف بنذرك
وهذا يقتضي أن كون البقعة مكانا لعيدهم مانع من الذبح بها وإن نذر كما أن كونها موضع أوثانهم كذلك وإلا لما انتظم الكلام ولا حسن الاستفصال
ومعلوم أن ذلك إنما هو لتعظيم البقعة التي يعظمونها بالتعييد فيها أو لمشاركتهم في التعييد فيها أو لإحياء شعار عيدهم فيها ونحو ذلك إذ ليس إلا مكان الفعل أو نفس الفعل أو زمانه
فإن كان من أجل تخصيص البقعة وهو الظاهر فإنما نهى عن تخصيص البقعة لأجل كونها موضع عيدهم ولهذا لما خلت عن ذلك أذن في الذبح فيها وقصد التخصيص باق فعلم أن المحذور تخصيص بقعة عيدهم وإذا كان تخصيص بقعة عيدهم محذورا فكيف بنفس عيدهم
هذا كما أنه لما كرهها لكونها موضع شركهم بعبادة الأوثان كان ذلك أدل على النهي عن الشرك وعبادة الأوثان
وإن كان النهي لأن في الذبح هناك موافقة لهم في عمل عيدهم فهو عين مسألتنا إذ مجرد الذبح هناك لم يكره على هذا التقدير إلا بموافقتهم في العيد إذ ليس فيه محذور آخر
وإنما كان الاحتمال الأول أظهر لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يسأله إلا عن كونها مكان عيدهم ولم يسأله هل يذبح فيها وقت عيدهم ولأنه قال
هل كان بها عيد من أعيادهم فعلم أنه وقت السؤال لم يكن العيد موجودا وهذا ظاهر
فإن في الحديث الأخير أن القصة كانت في حجة الوداع وحينئذ لم يكن قد بقي عيد للمشركين
فإذا كان صلى الله عليه و سلم قد نهى أن يذبح بمكان كان الكفار يعملون فيه عيدا وإن كان أولئك الكفار قد أسلموا وتركوا ذلك العيد والسائل لا يتخذ المكان عيدا بل يذبح فيه فقط فقد ظهر أن ذلك سد للذريعة إلى بقاء شيء من أعيادهم خشية أن يكون الذبح هناك سببا لإحياء أمر تلك البقعة وذريعة إلى اتخاذها عيدا مع أن ذلك العيد إنما كان يكون والله أعلم سوقا يتبايعون فيها ويلعبون كما قالت له الأنصار يومان كنا نلعب فيهما في الجاهلية لم تكن أعياد الجاهلية عبادة لهم ولهذا فرق النبي صلى الله عليه و سلم بين كونها مكان وثن وكونها مكان عبد !
وهذا نهي شديد عن أن يفعل شيء من أعياد الجاهلية على أي وجه كان وأعياد الكفار من الكتابيين والأميين في دين الإسلام من جنس واحد كما
أن كفر الطائفتين سواء في التحريم وإن كان بعضه أشد تحريما من بعض ولا يختلف حكمهما في حق المسلم لكن أهل الكتابين أقروا على دينهم مع ما فيه من أعيادهم بشرط أن لا يظهروهاولا شيئا من دينهم وأولئك لم يقروا بل أعياد الكتابيين التي تتخذ دينا وعبادة أعظم تحريما من عيد يتخذ لهوا ولعبا لأن التعبد بما يسخطه الله ويكرهه أعظم من اقتضاء الشهوات بما حرمه ولهذا كان الشرك أعظم إثما من الزنا ولهذا كان جهاد أهل الكتاب أفضل من جهاد الوثنيين وكان من قتلوه من المسلمين له أجر شهيدين
وإذا كان الشارع قد حسم مادة أعياد أهل الأوثان خشية أن يتدنس المسلم بشيء من أمر الكفار الذين قد آيس الشيطان أن يقيم أمرهم في جزيرة العرب فالخشية من تدنسه بأوصاف الكتابيين الباقين أشد والنهي عنه أوكد كيف وقد تقدم الخبر الصادق بسلوك طائفة من هذه الأمة سبيلهم
والوجه الثالث من السنة أن هذا الحديث وغيره قد دل على أنه كان للناس في الجاهلية أعياد يجتمعون فيها ومعلوم أنه لما بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم محا الله ذلك عنه فلم يبق شيء من ذلك
ومعلوم أنه لولا نهيه ومنعه لما ترك الناس تلك الأعياد لأن المقتضى لها قائم من جهة الطبيعة التي تحب ما يصنع في الأعياد خصوصا أعياد الباطل من اللعب واللذات ومن جهة العادة التي ألفت ما يعود من العيد فإن العادة طبيعة ثانية وإذا كان المقتضى قائما قويا فلولا المانع القوي لما درست تلك الأعياد
وهذا يوجب العلم اليقيني بأن إمام المتقين صلى الله عليه و سلم كان يمنع أمته منعا قويا عن أعياد الكفار ويسعى في دروسها وطموسها بكل سبيل وليس في إقرار أهل الكتاب على دينهم إبقاء لشيء من أعيادهم في حق أمته
كما أنه ليس في ذلك إبقاء في حق أمته لما هم عليه في سائر أعمالهم من سائر كفرهم ومعاصيهم بل قد بالغ صلى الله عليه و سلم في أمر أمته بمخالفتهم في كثير من المباحات وصفات الطاعات لئلا يكون ذلك ذريعة إلى موافقتهم في غير ذلك من أمورهم ولتكون المخالفة في ذلك حاجزا ومانعا من سائر أمورهم فإنه كلما كثرت المخالفة بينك وبين أهل الجحيم كان أبعد لك عن أعمال أهل الجحيم
فليس بعد حرصه على أمته ونصحه لهم بأبي هو وأمي غاية وكل ذلك من فضل الله عليه وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون
والوجه الرابع من السنة ما خرجاه في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث قالت وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم وذلك يوم عيد فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا وفي رواية يا ابا بكر إن لكل قوم عيدا وإن عيدنا هذا اليوم
وفي الصحيحين أيضا أنه قال دعهما يا ابا بكر فإنها أيام عيد وتلك الأيام أيام منى
فالدلالة من وجوه
أحدها قوله إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا فإن هذا يوجب اختصاص كل قوم بعيدهم كما أنه سبحانه لما قال ولكل وجهة هو موليها وقال لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا أوجب ذلك اختصاص كل قوم بوجهتهم وبشرعتهم وذلك أن اللام تورث الاختصاص فإذا كان لليهود عيد وللنصارى عيد كانوا مختصين به فلا نشركهم فيه كما لا نشركهم في قبلتهم وشرعتهم
وكذلك أيضا على هذا لا ندعهم يشركوننا في عيدنا
الوجه الثاني قوله وهذا عيدنا فإنه يقتضي حصر عيدنا في هذا فليس لنا عيد سواه
وكذلك قوله وإن عيدنا هذا اليوم فإن التعريف باللام والإضافة يقتضي الاستغراق فيقتضي أن يكون جنس عيدنا منحصرا في جنس ذلك اليوم كما في قوله في الصلاة تحريمها التكبير وتحليلها التسليم
وليس غرضه صلى الله عليه و سلم الحصر في عين ذلك العيد أو عين ذلك اليوم بل الإشارة إلى جنس المشروع كما يقول الفقهاء باب صلاة العيد وصلاة العيد كذا وكذا ويندرج فيها صلاة العيدين وكما يقال لا يجوز صوم يوم العيد
وكذا قوله وإن هذا اليوم أي جنس هذا اليوم كما يقول القائل لما يعانيه من الصلاة هذه صلاة المسلمين ويقال لمخرج المسلمين إلى الصحراء وما يفعلونه من التكبير والصلاة ونحو ذلك هذا عيد المسلمين ونحو ذلك
ومن هذا الباب حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب رواه أبو دواد والنسائي والترمذي وقال حديث حسن صحيح
فإنه دليل على مفارقتنا لغيرنا في العيد والتخصيص بهذه الأيام الخمسة لأنه يجتمع فيها العيدان المكاني والزماني ويطول زمنه وبهذا يسمى العيد الكبير فلما كملت صفة التعييد حصر الحكم فيه لكماله أو لأنه هو عيد الأيام وليس لنا عيد هو ايام إلا هذه الخمسة
الوجه الثالث أنه رخص في لعب الجواري بالدف وتغنيهن معللا بأن لكل قوم عيدا وأن هذا عيدنا
وذلك يقتضي أن الرخصة معللة بكونه عيد المسلمين وأنها لا تتعدى إلى أعياد الكفار ولأنه لا يرخص في اللعب في أعياد الكفار كما يرخص فيه في أعياد المسلمين إذ لو كان ما يفعل في عيدنا من ذلك اللعب يسوغ مثله في أعياد الكفار أيضا لما قال فإن لكل قوم عيدا وإن هذا عيدنا لأن تعقيب الحكم بالوصف بحرف الفاء دليل على أنه علة فيكون علة الرخصة أن كل أمة مختصة بعيد وهذا عيدنا وهذه العلة مختصة بالمسلمين فلو كانت الرخصة معلقة باسم عيد لكان الأعم مستقلا بالحكم فيكون الأخص عديم التأثير
فلما علل بالأخص علم أن الحكم لا يثبت بالوصف الأعم وهو مسمى عيد فلا يجوز لنا أن نفعل في كل عيد للناس من اللعب ما نفعل في عيد المسلمين وهذا هو المطلوب
وهذا فيه دلالة على النهي عن التشبه بهم في اللعب ونحوه
والوجه الرابع من السنة أن أرض العرب ما زال فيها يهود ونصارى حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه في خلافته وكان اليهود بالمدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان قد هادنهم حتى نقضوا العهد طائفة بعد طائفة وما زال بالمدينة يهود وإن لم يكونوا كثيرا فانه صلى الله عليه و سلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي وكان في اليمن يهود كثير والنصارى بنجران وغيرها والفرس بالبحرين
ومن المعلوم أن هؤلاء كانت لهم أعياد يتخذونها ومن المعلوم أيضا أن المقتضي لما يفعل في العيد من الأكل والشرب واللباس والزينة واللعب والراحة ونحو ذلك قائم في النفوس كلها إذا لم يوجد مانع خصوصا نفوس الصبيان والنساء وأكثر الفارغين من الناس
ثم من كان له خبرة بالسير علم يقينا أن المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ما كانوا يشركونهم في شيء من أمرهم ولا يغيرون لهم عادة في أعياد
الكافرين بل ذلك اليوم عند رسول الله صلى الله عليه و سلم وسائر المسلمين يوم من الأيام لا يختصونه بشيء أصلا إلا ما قد اختلف فيه من مخالفتهم فيه كصومه على ما سيأتي إن شاء الله تعالى
فلولا أن المسلمين كان من دينهم الذي تلقوه عن نبيهم المنع من ذلك والكف عنه لوجب أو يوجد من بعضهم فعل بعض ذلك لأن المقتضى لذلك قائم كما يدل عليه الطبيعة والعادة فلولا المانع الشرعي لوجد مقتضاه
ثم على هذا جرى عمل المسلمين على عهد الخلفاء الراشدين
غاية ما كان يوجد من بعض الناس ذهاب إليهم يوم العيد للتنزه بالنظر إلى عيدهم ونحو ذلك فنهى عمر رضي الله عنه وغيره من الصحابة عن ذلك كما سنذكره فكيف لو كان بعض الناس يفعل بعض ما يفعلونه أو ما هو سبب عيدهم
بل لما ظهر من بعض المسلمين اختصاص يوم عيدهم بصوم مخالفة لهم نهى الفقهاء أو كثير منهم عن ذلك لأجل ما فيه من تعظيم ما لعيدهم أفلا يستدل بهذا على أن المسلمين تلقوا عن نبيهم صلى الله عليه و سلم المنع عن مشاركتهم في أعيادهم وهذا بعد التأمل بين جدا
الوجه الخامس من السنة ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع اليهو غدا والنصارى بعد غد متفق عليه
وفي لفظ صحيح بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له
وعن أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما قالا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود يوم السبت وللنصارى يوم الأحد فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة فجعل الجمعة والسبت والأحد وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضى لهم وفي رواية بينهم قبل الخلائق رواه مسلم
وقد سمى النبي صلى الله عليه و سلم الجمعة عيدا في غير موضع ونهى عن إفراده بالصوم لما فيه من معنى العيد
ثم إن في هذا الحديث ذكر أن الجمعة لنا كما أن السبت لليهود والأحد للنصارى واللام تقتضي الاختصاص
ثم هذا الكلام يقتضي الاقتسام إذا قيل هذه ثلاثة أثواب أو ثلاثة غلمان هذا لي وهذا لزيد وهذا لعمرو أوجب ذلك أن يكون كل واحد مختصا بما جعل له لا يشركه فيه غيره
فإذا نحن شاركناهم في عيدهم يوم السبت أو عيد يوم الأحد خالفنا هذا الحديث وإذا كان هذا في العيد الأسبوعي فكذلك في العيد الحولي إذ لا فرق بل إذا كان هذا في عيد يعرف بالحساب العربي فكيف بأعياد الكافرين العجمية التي لا تعرف إلا بالحساب الرومي القبطي أو الفارسي أو العبري ونحو ذلك
وقوله صلى الله عليه و سلم بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله أي من أجل كما يروى أنه قال أنا افصح العرب بيد أني من قريش واسترضعت في بني سعد ابن بكر
والمعنى والله أعلم أي نحن الآخرون في الخلق السابقون في الحساب والدخول إلى الجنة كما قد جاء في الصحيح إن هذه الأمة أول من يدخل الجنة من الأمم وإن محمدا صلى الله عليه و سلم أول من يفتح له باب الجنة
وذلك لأنا أوتينا الكتاب من بعدهم فهدينا لما اختلفوا فيه من العيد السابق للعيدين الآخرين وصار عملنا الصالح قبل عملهم فلما سبقناهم إلى الهدى والعمل الصالح جعلنا سابقين لهم في ثواب العمل الصالح ومن قال بيد ههنا بمعنى غير فقد أبعد
الوجه السادس من السنة ما روى كريب مولى ابن عباس رضي الله عنهما قال أرسلني ابن عباس وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم إلى أم سلمة رضي الله عنها أسألها أي الأيام كان النبي صلى الله عليه و سلم أكثرها صياما قالت كان يصوم يوم السبت والأحد أكثر ما كان يصوم من الأيام ويقول إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أحب أن أخالفهم رواه أحمد والنسائي وابن أبي عاصم وهو محفوظ من حديث عبد الله بن المبارك عن عبد الله بن محمد ابن عمر بن علي عن أبيه عن كريب وصححه بعض الحفاظ
وهذا نص في شرع مخالفتهم في عيدهم وإن كان على طريق الاستحباب وسنذكر حديث نهيه عن صوم يوم السبت وتعليل ذلك أيضا بمخالفتهم ونذكر حكم صومه مفردا عند العلماء وأنهم متفقون على شرع مخالفتهم في عيدهم وإنما اختلفوا هل مخالفتهم يوم عيدهم بالصوم لمخالفة فعلهم أو بالإهمال حتى لا يقصد بصوم ولا بفطر أو يفرق بين العيد العربي وبين العيد العجمي على ما سنذكره إن شاء الله تعالى
وأما الإجماع والآثار فمن وجوه
أحدها ما قدمت التنبيه عليه من أن اليهود والنصارى والمجوس ما زالوا في أمصار المسلمين بالجزية يفعلون أعيادهم التي لهم والمقتضي لبعض ما يفعلونه قائم في كثير من النفوس ثم لم يكن على عهد السلف من المسلمين من يشركهم في شيء من ذلك فلولا قيام المانع في نفوس الأمة كراهة ونهيا من ذلك وإلا لوقع ذلك كثيرا إذ الفعل مع وجود مقتضيه وعدم ما فيه واقع لا محالة والمقتضى
واقع فعلم وجود المانع والمانع هنا هو الدين فعلم أن الدين دين الإسلام هو المانع من الموافقة وهو المطلوب
الثاني أنه قد تقدم في شروط عمر رضي الله عنه التي اتفقت عليها الصحابة وسائر الفقهاء بعدهم أن أهل الذمة من أهل الكتاب لا يظهرون أعيادهم في دار الإسلام وسموا الشعانين والباعوث فإذا كان المسلمون قد اتفقوا على منعهم من إظهارها فكيف يسوغ للمسلمين فعلها أو ليس فعل المسلم لها أشد من فعل الكافر لها مظهرا لها
وذلك أنا إنما منعناهم من إظهارها لما فيه من الفساد إما لأنها معصية أو شعار المعصية وعلى التقديرين فالمسلم ممنوع من المعصية ومن شعائر المعصية ولو لم يكن في فعل المسلم لها من الشر إلا تجرئة الكافر على إظهارها لقوة قلبه بالمسلم فكيف بالمسلم إذا فعلها فكيف وفيها من الشر ما سنبنيه على بعضه إن شاء الله تعالى
الثالث ما تقدم من رواية أبي الشيخ الأصبهاني عن عطاء بن يسار هكذا رأيته ولعله عطاء بن دينار قال قال عمر إياكم ورطانة الأعاجم وإن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم
وروى البيهقي بإسناد صحيح في باب كراهة الدخول على أهل الذمة في كنائسهم والتشبه بهم يوم نيروزهم ومهرجانهم عن سفيان الثوري عن ثور بن يزيد عن عطاء بن دينار قال قال عمر لا تعلموا رطانة الأعاجم ولا تدخلو على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخطة تنزل عليهم
وبالإسناد عن الثوري عن عوف عن الوليد أو أبي الوليد عن عبد الله ابن عمرو قال من بنى ببلاد الأعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة
وروى بإسناده عن البخاري صاحب الصحيح قال قال لي ابن أبي مريم
أنبأنا نافع بن يزيد سمع سليمان بن أبي زينب وعمرو بن الحارث سمع سعيد ابن سلمة سمع أباه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال اجتنبوا أعداء الله في عيدهم
وروى بإسناد صحيح عن أبي أسامة حدثنا عون عن أبي المغيرة عن عبد الله ابن عمرو قال من بنى ببلاد الأعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة وقال هكذا رواه يحيى بن سعيد وابن أبي عدي وغندر وعبد الوهاب عن عوف بن أبي المغيرة عن عبد الله بن عمرو من قوله
وبالإسناد إلى أبي أسامة عن حماد بن زيد عن هشام بن محمد بن سيرين قال أتى علي رضي الله عنه بمثل النيروز فقال ما هذا قالوا يا أمير المؤمنين هذا يوم النيروز قال فاصنعوا كل يوم نيروزا قال أسامة كره رضي الله عنه أن يقول النيروز
قال البيهقي وفي هذا كراهة لتخصيص يوم بذلك لم يجعله الشرع مخصوصا به وهذا عمر رضي الله عنه نهى عن لسانهم وعن مجرد دخول الكنيسة عليهم يوم عيدهم فكيف بفعل بعض أفعالهم أو بفعل ما هو من مقتضيات دينهم أليست موافقتهم في العمل أعظم من الموافقة في اللغة أو ليس بعض أعمال عيدهم أعظم من مجرد الدخول عليهم في عيدهم وإذا كان السخط ينزل عليهم يوم عيدهم بسبب عملهم فمن يشركهم في العمل أو بعضه أليس قد يعرض لعقوبة ذلك
ثم قوله اجتنبوا أعداء الله في عيدهم أليس نهيا عن لقائهم والاجتماع بهم فيه فكيف بمن عمل عيدهم
وأما عبد الله بن عمرو فصرح أنه من بنى ببلادهم وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم
وهذا يقتضي أنه جعله كافرا بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور أو جعل ذلك
من الكبائر الموجبة للنار وإن كان الأول ظاهر لفظه فتكون المشاركة في بعض ذلك معصية لأنه لو لم يكن مؤثرا في استحقاق العقوبة لم يجز جعله جزاء من المقتضى إذ المباح لا يعاقب عليه وليس الذم على بعض ذلك مشروطا ببعض لأن أبعاض ما ذكره يقتضي الذم مفردا
وإنما ذكر والله أعلم من بنى ببلادهم لأنهم على عهد عبد الله بن عمرو وغيره من الصحابة كانوا ممنوعين من إظهار عيدهم بدار الإسلام وما كان أحد من المسلمين يتشبه بهم في عيدهم وإنما كان يتمكن من ذلك بكونه في أرضهم
وأما علي رضي الله عنه فكره موافقتهم في اسم يوم العيد الذي ينفردون به فكيف بموافقتهم في العمل
وقد نص أحمد على معنى ما جاء عن عمر وعلي رضي الله عنهما في ذلك وذكر أصحابه مسأله العيد
وقد تقدم قول القاضي أبي يعلى مسألة في المنع من حضور أعيادهم
وقال الإمام أبو الحسن الآمدي المعروف بابن البغدادي في كتابه عمدة الحاضر وكفاية المسافر
فصل
لا يجوز شهود أعياد النصارى واليهود نص عليه أحمد في رواية مهنا واحتج بقوله تعالى والذين لا يشهدون الزور قال الشعانين وأعيادهم فأما ما يبيعون في الأسواق في أعيادهم فلا بأس بحضوره نص عليه أحمد في رواية مهنا وقال إنما يمنعون أن يدخلوا عليهم بيعهم وكنائسهم فأما ما يباع في الاسواق من المأكل فلا وإن قصد إلى توفير ذلك وتحسينه لأجلهم
وقال الخلال في جامعه باب في كراهة خروج المسلمين في أعياد المشركين
وذكر عن مهنا قال سألت أحمد عن شهود هذه الأعياد التي تكون عندنا بالشام مثل طور يابور ودير أيوب وأشباهه يشهده المسلمون ويشهدون الأسواق ويجلبون الغنم فيه والبقر والرقيق والبر والشعير وغير ذلك إلا أنهم إنما يدخلون في الأسواق يشترون ولا يدخلون عليهم بيعهم قال إذا لم يدخلوا عليهم بيعهم وإنما يشهدون السوق فلا بأس وإنما رخص أحمد رحمه الله في شهود السوق بشرط أن لا يدخلوا عليهم بيعهم
فعلم منعه من دخول بيعهم
وكذلك أخذ الخلال من ذلك المنع من خروج المسلمين في أعيادهم فقد نص أحمد على مثل ما جاء عن عمر رضي الله عنه من المنع من دخول كنائسهم في أعيادهم وهو كما ذكرنا من باب التنبيه عن المنع من أن يفعل كفعلهم
وأما الرطانة وتسمية شهورهم بالأسماء العجمية
فقال أبو محمد الكرماني المسمى بحرب باب تسمية الشهور بالفارسية قلت لأحمد فإن للفرس أياما وشهورا يسمونها بأسماء لا تعرف فكره ذلك أشد الكراهة وروى فيه عن مجاهد أنه يكره أن يقال آذرماه وذي ماه قلت فإن كان اسم رجل أسميه به فكرهه وقال وسألت إسحاق قلت تاريخ الكتاب يكتب بالشهور الفارسية مثل آذرماه وذي ماه قال إن لم يكن في تلك الأسامي اسم يكره فأرجو
قال وكان ابن المبارك يكره إيزدان يحلف به وقال لا آمن أن يكون أضيف إلى شيء يعبد وكذلك الأسماء الفارسية
قال وكذلك أسماء العرب كل شيء مضاف
قال وسألت إسحاق مرة أخرى قلت الرجل يتعلم شهور الروم والفرس قال كل اسم معروف في كلامهم فلا بأس
فما قاله أحمد من كراهة هذه الأسماء له وجهان
أحدهما إذا لم يعرف معنى الاسم جاز أن يكون معنى محرما فلا ينطق المسلم بما لا يعرف معناه ولهذا كرهت الرقى العجمية كالعبرانية أو السريانية أو غيرها خوفا أن يكون فيها معان لا تجوز
وهذا المعنى هو الذي اعتبره إسحق ولكن إذا علم أن المعنى مكروه فلا ريب في كراهته وإن جهل معناه فأحمد كرهه
وكلام إسحق يحتمل أنه لم يكره
والوجه الثاني كراهة أن يتعود الرجل النطق بغير العربية فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون
ولهذا كان كثير من الفقهاء أو أكثرهم يكرهون في الأدعية التي في الصلاة والذكر أن يدعي الله أو يذكر بغير العربية
وقد اختلف الفقهاء في أذكار الصلاة هل تقال بغير العربية وهي ثلاث درجات أعلاها القرآن ثم الذكر الواجب غير القرآن كالتحريمة بالإجماع وكالتحليل والتشهد عند من أوجبه ثم الذكر غير الواجب من دعاء أو تسبيح أو تكبير وغير ذلك
فأما القرآن فلا يقرؤه بغير العربية سواء قدر عليها أو لم يقدر عند الجمهور وهو الصواب الذي لا ريب فيه بل قد قال غير واحد إنه يمتنع أن يترجم سورة أو ما يقوم به الإعجاز
واختلف أبو حنيفة وأصحابه في القادر على العربية
وأما الأذكار الواجبة فاختلف في منع ترجمة القرآن هل تترجم للعاجز عن العربية وعن تعلمها وفيه لأصحاب أحمد وجهان
أشبههما بكلام أحمد أنه لا يترجم وهو قول مالك وإسحق
والثاني يترجم وهو قول أبي يوسف ومحمد الشافعي
وأما سائر الأذكار فالمنصوص من الوجهين أنه لا يترجمها ومتى فعل
بطلت صلاته وهو قول مالك وإسحاق وبعض أصحاب الشافعي
والمنصوص عن الشافعي أنه يكره ذلك بغير العربية ولا يبطل
ومن أصحابنا من قال له ذلك إذا لم يحسن العربية
وحكم النطق بالعجمية في العبادات من الصلاة والقراءة والذكر كالتلبية والتسمية على الذبيحة وفي العقود والفسوخ كالنكاح واللعان وغير ذلك معروف في كتب الفقه
وأما الخطاب بها من غير حاجة في أسماء الناس والشهود كالتواريخ ونحو ذلك فهو منهي عنه مع الجهل بالمعنى بلا ريب وأما مع العلم به فكلام أحمد بين في كراهته أيضا فإنه كره آذرماه ونحوه ومعناه ليس محرما
وأظنه سئل عن الدعاء في الصلاة بالفارسية فكرهه وقال لسان سوء
وهو أيضا قد اخذ بحديث عمر رضي الله عنه الذي فيه النهي عن رطانتهم وعن شهود أعيادهم وهذا قول مالك أيضا فإنه قال لا يحرم بالعجمية ولا يدعو بها ولا يحلف بها وقال نهى عمر عن رطانة الأعاجم وقال إنها خب
فقد استدل بنهي عمر عن الرطانة مطلقا
وقال الشافعي فيما رواه السلفي بإسناد معروف إلى محمد بن عبد الله بن الحكم قال سمعت محمد بن إدريس الشافعي يقول سمى الله الطالبين من فضله في الشراء والبيع تجارا ولم تزل العرب تسميهم التجار ثم سماهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بما سمى الله به من التجارة بلسان العرب والسماسرة اسم من أسماء العجم فلا نحب أن يسمى رجل يعرف العربية تاجرا إلا تاجرا ولا ينطق بالعربية فيسمى شيئا بالعجمية وذلك أن اللسان الذي اختاره الله عز و جل لسان العرب فأنزل به كتابه العزيز وجعله لسان خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه و سلم ولهذا نقول ينبغي لكل أحد يقدر على تعلم العربية أن يتعلمها لأنها اللسان الأولى
بأن يكون مرغوبا فيه من غير أن يحرم على أحد أن ينطق بالعجمية
فقد كره الشافعي لمن يعرف العربية أن يسمى بغيرها وأن يتكلم بها خالطا لها بالعجمية وهذا الذي ذكره قاله الأئمة مأثور عن الصحابة والتابعين وقد قدمنا عن عمر وعلي رضي الله عنهما ما ذكرناه
وروى أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف حدثنا وكيع عن أبي هلال عن أبي بريدة قال قال عمر ما تعلم الرجل الفارسية إلا خب ولا خب رجل إلا نقضت مروءته
وقال حدثنا وكيع عن ثور عن عطاء قال لا تعلموا رطانة الأعاجم ولا تدخلوا عليهم كنائسهم فإن السخط ينزل عليهم
وهذا الذي رويناه فيما تقدم عن عمر رضي الله عنه
وقال حدثنا إسماعيل بن علية عن داود بن أبي هند أن محمد بن سعد بن أبي وقاص سمع قوما يتكلمون بالفارسية فقال ما بال المجوسية بعد الحنيفية
وقد روى السلفي من حديث سعيد بن العلاء البرذعي حدثنا إسحاق بن إبراهيم البلخي حدثنا عمر بن هرون البلخي حدثنا أسامة بن زيد عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من يحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالعجمية فإنه يورث النفاق
ورواه أيضا بإسناد آخر معروف إلى أبي سهيل محمود بن عمر العكبري حدثنا محمد بن الحسن بن محمد المقري حدثنا أحمد بن خليل ببلخ حدثنا إسحاق بن ابراهيم الجريري حدثنا عمر بن هارون عن أسامة بن زيد عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من كان يحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالفارسية فإنه يورث النفاق
وهذا الكلام يشبه كلام عمر بن الخطاب وأما رفعه فموضع تبين
ونقل عن طائفة منهم أنهم كانوا يتكلمون بالكلمة بعد الكلمة من العجمية
قال أبو خلدة كلمني أبو العالية بالفارسية
وقال منذر الثوري سأل رجل محمد بن الحنفية عن الخبز فقال يا جارية اذهبي بهذا الدرهم فاشتري به تنبييزا فاشترت به تنبييزا ثم جاءت به يعني الخبز
وفي الجملة فالكلمة بعد الكلمة من العجمية أمرها قريب وأكثر ما كانوا يفعلون إما لكون المخاطب أعجميا أو قد اعتاد العجمية يريدون تقريب الأفهام عليه كما قال النبي صلى الله عليه و سلم لأم خالد بنت خالد ابن سعيد بن العاص وكانت صغيرة قد ولدت بأرض الحبشة لما هاجر أبوها فكساها النبي صلى الله عليه و سلم قميصا وقال يا أم خالد هذا سنا والسنا بلغة الحبشة الحسن
وروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال لمن أوجعه بطنه أشكم بدرد وبعضهم يرويه مرفوعا ولا يصح
وأما اعتياد الخطاب بغير العربية التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله ولأهل الدار وللرجل مع صاحبه ولأهل السوق أو للأمراء أو لأهل الديوان أو لأهل الفقه فلا ريب أن هذا مكروه فإنه من التشبه بالأعاجم وهو مكروه كما تقدم
ولهذا كان المسلمون المتقدمون لما سكنوا أرض الشام ومصر ولغة أهلهما رومية وارض العراق وخراسان ولغة أهلهما فارسية وأهل المغرب ولغة أهلها بربرية عودوا أهل هذه البلاد العربية حتى غلبت على أهل هذه الأمصار مسلمهم وكافرهم وهكذا كانت خراسان قديما ثم إنهم تساهلوا في أمر اللغة واعتادوا الخطاب بالفارسية حتى غلبت عليهم وصارت العربية مهجورة عند كثير منهم ولا ريب أن هذا مكروه
وإنما الطريق الحسن اعتياد الخطاب بالعربية حتى يتلقنها الصغار في
الدور والمكاتب فيظهر شعار الإسلام وأهله ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام في فقه معاني الكتاب والسنة وكلام السلف بخلاف من اعتاد لغة ثم أراد أن ينتقل إلى أخرى فإنه يصعب عليه
واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيرا قويا بينا ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق
وأيضا فإن نفس اللغة العربية من الدين ومعرفتها فرض واجب فإن فهم الكتاب والسنة فرض ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب
ثم منها ما هو واجب على الأعيان ومنها ما هو واجب على الكفاية
وهذا معنى ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عيسى بن يونس عن ثور عن عمر بن يزيد قال كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أما بعد فتفقهوا في السنة وتفقهوا في العربية وأعربوا القرآن فإنه عربي
وفي حديث آخر عن عمر رضي الله عنه أنه قال تعلموا العربية فإنها من دينكم وتعلموا الفرائض فإنها من دينكم
وهذا الذي أمر به عمر رضي الله عنه من فقه العربية وفقه الشريعة يجمع ما يحتاج إليه لأن الدين فيه فقه أقوال وأعمال ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله وفقه السنة هو الطريق إلى فقه أعماله
وأما الاعتبار في مسألة العيد فمن وجوه
أحدها أن الأعياد من جملة الشرع والمناهج والمناسك التي قال الله سبحانه لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا وقال لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه كالقبلة والصلاة والصيام فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج فإن الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر
والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر بل الأعياد هي من أخص ما تتميز به بين الشرائع ومن أظهر ما لها من الشعائر فالموافقة فيها موافقة في أخص شرائع الكفر وأظهر شعائره ولا ريب أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة وشروطه
وأما مبدؤها فأقل أحواله أن تكون معصية وإلى هذا الاختصاص أشار النبي صلى الله عليه و سلم بقوله إن لكل قوم عيدا وإن هذا عيدنا وهذا أقبح من مشاركتهم في لبس الزنار ونحوه من علاماتهم فإن تلك علامة وضعية ليست من الدين وإنما الغرض منها مجرد التمييز بين المسلم والكافر وأما العيد وتوابعه فإنه من الدين الملعون هو واهله فالموافقة فيه موافقة فيما يتميزون به من أسباب سخط الله وعقابه
وإن شئت أن تنظم هذا قياسا تمثيليا قلت العيد شريعة من شرائع الكفر أو شعيرة من شعائره فحرمت موافقتهم فيها كسائر شعائر الكفر وشرائعه وإن كان هذا أبين من القياس الجزئي
ثم كل ما يختص به ذلك من عبادة وعادة فإنما سببه هو كونه يوما مخصوصا وإلا فلو كان كسائر الأيام لم يختص بشيء وتخصيصه ليس من دين الإسلام في شيء بل هو كفر به
الوجه الثاني من الاعتبار أن ما يفعلونه في أعيادهم معصية لله لأنه إما محدث مبتدع وإما منسوخ وأحسن أحواله ولا حسن فيه أن يكون بمنزلة صلاة المسلم إلى بيت المقدس هذا إذا كان المفعول مما يتدين به وأما ما يتبع ذلك من التوسع في العادات من الطعام واللباس واللعب والراحة فهو تابع لذلك العيد الديني كما أن ذلك تابع له في دين الإسلام فيكون بمنزلة أن يتخذ بعض المسلمين عيدا مبتدعا يخرجون فيه إلى الصحراء ويفعلون فيه من العبادات والعادات من جنس المشروع في يومي الفطر والنحر أو مثل أن ينصب بنية يطاف بها ويحج إليها
ويصنع لمن يفعل ذلك طعاما ونحو ذلك فلو كره المسلم ذلك لكره غير عادته ذلك اليوم كما يغير أهل البدع عاداتهم في الأمور العادية أو في بعضها بصنعهم طعاما أو زينة لباس أو توسيع في نفقة ونحو ذلك من غير أن يتعبدوا بتلك العادة المحدثة كان هذا من أقبل المنكرات فكذلك موافقة هؤلاء المغضوب عليهم والضالين وأشد
نعم هؤلاء يقرون على دينهم المبتدع والمنسوخ بشرط أن يكونوا مستسرين به والمسلم لا يقر على دين مبتدع ولا منسوخ لا سرا ولا علانية وأما مشابهة الكفار فكمشابهة أهل البدع وأشد
الوجه الثالث من الاعتبار يدل أنه إذا سوغ فعل القليل من ذلك أدى إلى فعل الكثير ثم إذا اشتهر الشيء دخل فيه عوام الناس وتناسوا أصله حتى يصير عادة للناس بل عيدا حتى يضاهى بعيد الله بل قد يزيد عليه حتى يكاد أن يفضي إلى موت الإسلام وحياة الكفر كما قد سوله الشيطان لكثير ممن يدعي الإسلام فيما يفعلونه في آخر صوم النصارى من الهدايا والأفراح والنفقات وكسوة الأولاد وغير ذلك مما يصير به مثل عيد المسلمين بل البلاد المصاقبة للنصارى التي قل علم أهلها وإيمانهم قد صار ذلك أغلب عندهم وأبهى في نفوسهم من عيد الله ورسوله على ما حدثني به الثقات ويؤكد صحة ذلك ما رأيته بدمشق وما حولها من أرض الشام مع أنها أقرب إلى العلم والإيمان
فهذا الخميس الذي يكون في آخر صوم النصارى يدور بدوران صومهم الذي هو سبعة أسابيع وصومهم وإن كان في أوائل الفصل الذي تسميه العرب الصيف وتسميه العامة الربيع فإنه يتقدم ويتأخر ليس له حد واحد من السنة الشمسية كالخميس الذي هو في أول نيسان بل يدور في نحو ثلاثة وثلاثين يوما لا يتقدم أوله عن ثاني شباط ولا يتأخر أوله عن ثاني آذار بل يبتدئون من الاثنين الذي هو اقرب إلى اجتماع الشمس والقمر في هذه المدة ليراعوا التوقيت الشمسي والهلالي
وكل ذلك بدع أحدثوها باتفاق منهم خالفوا بها الشريعة التي جاءت بها الأنبياء فإن الأنبياء ما وقتوا العبادات إلا بالهلال وإنما اليهود والنصارى حرفوا الشرائع تحريفا ليس هذا موضع ذكره
ويلي هذا الخميس يوم الجمعة الذي جعلوه بإزاء يوم الجمعة التي صلب فيها المسيح على زعمهم الكاذب يسمونها جمعة الصلبوت ويليه ليلة السبت التي يزعمون أن المسيح كان فيها في القبر وأظنهم يسمونها ليلة النور وسبت النور ويصنعون مخرقة يروجونها على عامتهم لغلبة الضلال عليها ويخيلون إليهم أن النور ينزل من السماء في كنيسة القيامة ! التي ببيت المقدس حتى يحملوا ما يوقد من ذلك الضوء إلى بلادهم متبركين به وقد علم كل ذي عقل أنه مصنوع مفتعل
ثم يوم السبت يطلبون اليهود ويوم الأحد يكون العيد الكبير عندهم الذي يزعمون أن المسيح قام فيه
ثم الأحد الذي يلي هذا يسمونه الأحد الحديث يلبسون فيه الجديد من ثيابهم ويفعلون فيه أشياء وكل هذه الأيام عندهم أيام العيد كما أن يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام وهم يصومون عن الدسم وما فيه الروح ثم في مقدمة فطرهم يفطرون أو بعضهم على ما يخرج من الحيوان من لبن وبيض ولحم وربما كان أول فطرهم على البيض ويفعلون في أعيادهم
وغيرها من أمور دينهم أقوالا وأعمالا لا تنضبط ولهذا تجد نقل العلماء لمقالاتهم وشرائعهم تختلف وعامته صحيح
وذلك أن القوم يزعمون أن ما وضعه رؤساء دينهم من الأحبار والرهبان من الدين فقد لزمهم حكمه وصار شرعا شرعه المسيح في السماء فهم في كل مدة ينسخون أشياء ويشرعون غيرها أشياء من الإيجابات والتحريمات وتأليف الاعتقادات وغير ذلك مخالفا لما كانوا عليه قبل ذلك زعما منهم أن هذا بمنزلة نسخ الله شريعة بشريعة أخرى
فهم واليهود في هذا الباب وغيره على طرفي نقيض اليهود تمنع أن ينسخ الله الشرائع أو يبعث رسولا بشريعة تخالف ما قبلها كما أخبر الله عنهم بقوله سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها والنصارى تجيز لأحبارهم ورهبانهم شرع الشرائع ونسخها فلذلك لا ينضبط للنصارى شريعة محكمة مستمرة على الأزمان
وغرضنا لا يتوقف على معرفة تفاصيل باطلهم ولكن يكفينا أن نعرف المنكر معرفة تميز بينه وبين المباح والمعروف والمستحب والواجب حتى نتمكن بهذه المعرفة من اتقائه واجتنابه كما نعرف سائر المحرمات إذ الفرض علينا تركها ومن لم يعرف المنكر لا جملة ولا تفصيلا لم يتمكن من قصد اجتنابه والمعرفة الجميلة كافية بخلاف الواجبات فإن الفرض لما كان فعلها والفعل لا يتأتى إلا مفصلا وجبت معرفتها على سبيل التفصيل
وإنما عددت أشياء من منكرات دينهم لما رأيت طوائف من المسلمين قد ابتلوا ببعضها وجهل كثير منهم أنها من دين النصارى الملعون هو وأهله
وقد بلغني أيضا أنهم يخرجون يوم الخميس الذي قبل ذلك أو يوم السبت أو غير ذلك إلى القبور ويبخرونها وكذلك يبخرون بيوتهم في هذه الأوقات وهم يعتقدون أن في البخور بركة ودفع أذى لا لكونه طيبا ويعدونه من القرابين
مثل الذبائح ويرقونه بنحاس يضربونه كأنه ناقوس صغير وبكلام مصنف ويصلبون على أبواب بيوتهم إلى غير ذلك من الأمور المنكرة ولست أعلم جميع ما يفعلونه وإنما ذكرت ما ذكرته لما رأيت كثيرا من المسلمين يفعلونه وأصله مأخوذ عنهم حتى إنه كان في مدة الخميس تبقى الأسواق مملوءة من أصوات هذه النواقيس الصغار وكلام الرقايين من المنجمين وغيرهم بكلام أكثره باطل وفيه ما هو محرم أو كفر
وقد ألقي إلى الجماهير العامة أو جميعهم إلا من شاء الله وأعني بالعامة هنا كل من لم يعلم حقيقة الإسلام فإن كثيرا ممن ينتسب إلى فقه أو دين قد شارك في ذلك ألقي إليهم أن البخور المرقي ينفع ببركته من العين والسحر والأدواء والهوام ويصورون في أوراق صور الحيات والعقارب ويلصقونها في بيوتهم زعما منهم أن تلك الصور الملعون فاعلها التي لا تدخل الملائكة بيتا هي فيه تمنع الهوام وهو ضرب من طلاسم الصابئة
ثم كثير منهم على ما بلغني يصلب على باب البيت
ويخرج خلق عظيم في الخميس المتقدم على هذا الخميس يبخرون المقابر ويسمون هذا المتأخر الخميس الكبير وهو عند الله الخميس المهين الحقير هو وأهله ومن يعظمه فإن كل ما عظم بالباطل من زمان أو مكان أو حجر أو شجر او بنية يجب قصد إهانته كما تهان الأوثان المعبودة وإن كانت لولا عبادتها لكانت كسائر الأحجار
ومما يفعله الناس من المنكرات أنهم يوظفون على الأماكن وظائف أكثرها كرها من الغنم والدجاج واللبن والبيض فيجتمع فيها تحريمان أكل مال المسلم أو المعاهد بغير حق وإقامة شعار النصارى ويجعلونه ميقاتا لاخراج الوكلاء على المزارع ويطحنون فيه ويصبغون فيه البيض وينفقون فيه النفقات الواسعة ويزينون أولادهم إلى غير ذلك من الأمور التي يقشعر منها قلب المؤمن الذي لم يمت قلبه بل يعرف المعروف وينكر المنكر
وخلق كثير منهم يضعون ثيابهم تحت السماء رجاء البركة من مريم تنزل عليها فهل يستريب من في قلبه أدنى حياة من الايمان أن شريعة جاءت بما قدمنا بعضه من مخالفة اليهود والنصارى لا يرضى من شرعها ببعض هذه القبائح
ويفعلون ما هو أعظم من ذلك يطلون أبواب بيوتهم ودوابهم بالخلوق والمغراء وغير ذلك من أعظم المنكرات عند الله فالله تعالى يكفينا شر المبتدعة وبالله التوفيق
واصل ذلك كله إنما هو اختصاص أعياد الكفار بأمر جديد أو مشابهتهم في بعض أمورهم
يوضح ذلك ان الأسبوع الذي يقع في آخر صومهم يعظمونه جدا بتسميته الخميس الكبير وجمعته الجمعة الكبيرة ويجتهدون في التعبد فيه مالا يجتهدون في غيره بمنزلة العشر الأواخر من رمضان في دين الله ورسوله والأحد الذي هو أول الأسبوع يصنعون فيه عيدا يسمونه الشعانين هكذا نقل بعضهم عنهم أن الشعانين هو أول أحد في صومهم يخرجون فيه بورق الزيتون ونحوه يزعمون أن ذلك مشابهة لما جرى للمسيح عليه السلام حين دخل إلى بيت المقدس راكبا أتانا مع جحشها فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فثار عليه غوغاء الناس وكان اليهود قد وكلوا قوما معهم عصى يضربونه بها فأورقت تلك العصي وسجد أولئك الغوغاء للمسيح فعيد الشعانين مشابهة لذلك الأمر وهو الذي سمي في شروط عمر وكتب الفقه أن لا يظهروه في دار الإسلام ويسمون هذا العيد وكل مخرج يخرجونه إلى الصحراء باعوثا فالباعوث اسم جنس لما يظهر به الدين كعيد الفطر والنحر عند المسلمين
فما يحكونه عن المسيح عليه الصلاة و السلام من المعجزات في حيز الإمكان لا نكذبهم فيه لإمكانه ولا نصدقهم لجهلهم وفسقهم
وأما موافقتهم في التعييد فإحياء دين أحدثوه أو دين نسخه الله
ثم الخميس الذي يسمونه الخميس الكبير يزعمون أن في مثله نزلت المائدة التي ذكرها الله في القرآن حيث قال قال عيسى بن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا الآيات فيوم الخميس هو يوم عيد المائدة ويوم الأحد يسمونه عيد الفصح وعيد النور والعيد الكبير ولما كان عيدا صاروا يصنعون فيه لأولادهم البيض المصبوغ ونحوه لأنهم فيه يأكلون ما يخرج من الحيوان من لحم ولبن أو بيض إذ صومهم هو عن الحيوان وما يخرج منه وإنما يأكلون في صومهم الحب وما يصنع منه من خبز وزبيب وشيرج ونحو ذلك
وعامة هذه الأعمال المحكية عن النصارى وغيرها مما لم يحك قد زينها الشيطان لكثير ممن يدعي الإسلام وجعل لها في قلوبهم مكانة وحسن ظن وزادوا في بعض ذلك ونقصوا وقدموا وأخروا إما لأن بعض ما يفعلونه قد كان يفعله بعض النصارى أو غيروه هم من عند انفسهم كما كانوا يغيرون بعض أمر الدين الحق لكن لما اختصت به هذه الأيام ونحوها من الأيام التي ليس لها خصوصية في دين الله وإنما خصوصها في الدين الباطل بل إنما أصل تخصيصها من دين الكافرين وتخصيصها بذلك فيه مشابهة لهم وليس لجاهل أن يعتقد أن بهذا تحصل المخالفة لهم كما في صوم يوم عاشوراء لأن ذلك فيما كان أصله مشروعا لنا وهم يفعلونه فإنا نخالفهم في وصفه فأما مالم يكن في ديننا بحال بل هو في دينهم المبتدع والمنسوخ فليس لنا أن نشابههم لا في أصله ولا في وصفه كما قدمنا قاعدة ذلك فيما مضى
فإحداث أمر ما في هذه الأيام التي يتعلق تخصيصها بهم لابنا هو مشابهة لهم في أصل تخصيص هذه الأيام بشيء فيه تعظيم وهذا بين على قول من يكره صوم يوم النيروز والمهرجان لا سيما إذا كانوا يعظمون ذلك اليوم الذي أحدث فيه ذلك العمل
ويزيد ذلك وضوحا أن الأمر قد آل إلى أن كثيرا من الناس صاروا في مثل هذا الخميس الذي هو عند الكفار عيد المائدة آخر خميس في صوم النصارى الذي يسمونه الخميس الكبير وهو الخميس الحقير يجتمعون في أماكن اجتماعات عظيمة ويصبغون البيض ويطبخون اللبن وينكتون بالحمرة دوابهم ويصطنعون الأطعمة التي لا تكاد تفعل في عيد الله ورسوله ويتهادون الهدايا التي تكون في مثل مواسم الحج وعامتهم قد نسوا أصل ذلك وعلته وبقي عادة مطردة كاعتيادهم بعيد الفطر والنحر وأشد واستعان الشيطان على إغوائهم في ذلك بأن الزمان زمان ربيع وهو مبدأ العام الشمسي فيكون قد كثر فيه اللحم واللبن والبيض ونحو ذلك مع أن عيد النصارى ليس هو يوما محدودا من السنة الشمسية وإنما يتقدم فيها ويتأخر في نحو ثلاثة وثلاثين يوما كما قدمناه
وهذا كله تصديق قول النبي صلى الله عليه و سلم لتتبعن سنن من كان قبلكم والسنن مشابهة الكفار في القليل من أمر عيدهم وعدم النهي عن ذلك
وإذا كانت المشابهة في القليل ذريعة ووسيلة إلى بعض هذه القبائح كانت محرمة فكيف إذا أفضت إلى ما هو كفر بالله من التبرك بالصليب والتعميد في المعمودية أو قول القائل المعبود واحد وإن كانت الطرق مختلفة ونحو ذلك من الأقوال والأفعال التي تتضمن إما كون الشريعة النصرانية واليهودية المبدلتين المنسوختين موصلة إلى الله وإما استحسان بعض ما فيها مما يخالف دين الله أو التدين بذلك أو غير ذلك مما هو كفر بالله وبرسوله وبالقرآن وبالإسلام بلا خلاف بين الأمة الوسط في ذلك
وأصل ذلك المشابهة والمشاركة
وبهذا يتبين لك كمال موقع الشريعة الحنيفية وبعض حكمة ما شرعه الله
لرسوله من مباينة الكفار ومخالفتهم في عامة أمورهم لتكون المخالفة أحسم لمادة الشر وأبعد عن الوقوع فيما وقع فيه الناس
واعلم أنا لو لم نر موافقتهم قد أفضت إلى هذه القبائح لكان علمنا بما فطرت الطبائع عليه واستدلالنا بأصول الشريعة يوجب النهي عن هذه الذريعة فكيف وقد رأينا من المنكرات التي أفضت إليها المشابهة ما قد يوجب الخروج من الإسلام بالكلية
وسر هذا الوجه أن المشابهة تفضي إلى كفر أو معصية غالبا أو تفضي إليهما في الجملة وليس في هذا المفضى مصلحة وما أفضى إلى ذلك كان محرما فالمشابهة محرمة والمقدمة الثانية لا ريب فيها فإن استقراء الشريعة في مواردها ومصادرها دل على أن ما أفضى إلى الكفر غالبا حرام وما أفضى إليه على وجه خفي حرام وما أفضى إليه في الجملة ولا حاجة تدعو إليه حرام كما قد تكلمنا على قاعدة الذرائع في غير هذا الكتاب
والمقدمة الأولى قد شهد بها الواقع شهادة لا تخفى على بصير ولا أعمى مع أن الإفضاء أمر طبيعي قد اعتبره الشارع في عامة الذرائع التي سدها كما قد ذكرنا من الشواهد على ذلك نحوا من ثلاثين أصلا منصوصة أو مجمعا عليها في كتاب إقامة الدليل على بطلان التحليل
الوجه الرابع من الاعتبار أن الأعياد والمواسم في الجملة لها منفعة عظيمة في دين الخلق ودنياهم كانتفاعهم بالصلاة والزكاة والصيام والحج ولهذا جاءت بها كل شريعة كما قال تعالى لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه وقال ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام
ثم إن الله شرع على لسان خاتم النبيين من الأعمال ما فيه صلاح الخلق على أتم الوجوه وهو الكمال المذكور في قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم
ولهذا أنزل الله هذه الآية في أعظم أعياد الأمة الحنيفية فإنه لاعيد في النوع أعظم من العيد الذي يجتمع فيه المكان والزمان وهو عيد النحر ولا عين من أعيان هذا النوع أعظم من يوم كان قد أقامه رسول الله صلى الله عليه و سلم بعامة المسلمين وقد نفى الله تعالى الكفر وأهله والشرائع هي غذاء القلوب وقوتها كما قال ابن مسعود رضي الله عنه ويروى مرفوعا إن كل آدب يحب أن تؤتى مأدبته وإن مأدبة الله هي القرآن ومن شأن الجسد إذا كان جائعا فأخذ من طعام حاجته استغنى عن طعام آخر حتى لا يأكله إن أكل منه إلا بكراهة وتجشم وربما ضره أكله أو لم ينتفع به ولم يكن هو المغذي الذي يقيم بدنه فالعبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته قلت رغبته في المشروع وانتفاعه به بقدر ما اعتاض من غيره بخلاف من صرف نهمته وهمته إلى المشروع فإنه تعظم محبته له ومنفعته به ويتم دينه به ويكمل إسلامه
ولهذا تجد من أكثر من سماع القصائد لطلب صلاح قلبه تنقص رغبته في سماع القرآن حتى ربما يكرهه ومن أكثر من السفر إلى زيارة المشاهد ونحوها لا يبقى لحج البيت المحرم في قلبه من المحبة والتعظيم ما يكون في قلب من وسعته السنة ومن أدمن على أخذ الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم لا يبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذاك الموقع ومن أدمن على قصص الملوك وسيرهم لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه ذاك الاهتمام ونظائر هذه كثيرة
ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع الله عنهم من السنة مثلها رواه الإمام أحمد
وهذا أمر يجده من نفسه من نظر في حاله من العلماء والعباد والأمراء والعامة وغيرهم
ولهذا عظمت الشريعة النكير على من أحدث البدع وحذرت منها لأن البدع لو خرج الرجل منها كفافا لا عليه ولا له لكان الأمر خفيفا بل
لا بد أن توجب له فسادا في قلبه ودينه ينشأ من نقص منفعة الشريعة في حقه إذا القلب لا يتسع للعوض والمعوض عنه
ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم في العيدين الجاهليين إن الله قد أبدلكم بهما يومين خيرا منهما فيبقى اغتذاء قلبه من هذه الأعمال المبتدعة مانعا من الاغتذاء أو من كمال الاغتذاء بتلك الأعمال النافعة الشرعية فيفسد عليه حاله من حيث لا يعلم كما يفسد جسد المغتذي بالأغذية الخبيثة من حيث لا يشعر
وبهذا يتبين لك بعض ضرر البدع
إذا تبين هذا فلا يخفى ما جعل الله في القلوب من التشوق إلى العيد والسرور به والاهتمام بأمره إنفاقا واجتماعا وراحة ولذة وسرورا وكل ذلك يوجب تعظيمه لتعلق الأغراض به فلهذا جاءت الشريعة في العيد بإعلان ذكر الله فيه حتى جعل فيه من التكبير في صلاته وخطبته وغير ذلك مما ليس في سائر الصلوات فأقامت فيه من تعظيم الله وتنزيل الرحمة خصوصا العيد الأكبر ما فيه صلاح الخلق كما دل على ذلك قوله تعالى وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم فصار ما وسع على النفوس فيه من العادات الطبيعية عونا على انتفاعها بما خص به من العبادات الشرعية فإذا أعطيت النفوس في غير ذلك اليوم حظها أو بعض الذي يكون في عيد الله فترت عن الرغبة في عيد الله وزال ما كان له عندها من المحبة والتعظيم فنقص بسبب ذلك تأثير العمل الصالح فيه فخسرت خسرانا مبينا
وأقل الدرجات أنك لو فرضت رجلين أحدهما قد اجتمع اهتمامه بأمر العيد على المشروع والآخر مهتم بهذا وبهذا فإنك بالضرورة تجد المتجرد للمشروع أعظم اهتماما به من المشرك بينه وبين غيره ومن لم يدرك هذا فلغفلته أو إعراضه وهذا أمر يعلمه من يعرف بعض أسرار الشرائع
وأما الإحساس بفتور الرغبة فيجده كل أحد فإنا نجد الرجل إذا كسا
أولاده أو وسع عليهم في بعض الأعياد المسخوطة فلا بد أن تنقص حرمة العيد المرضي من قلوبهم حتى لو قيل بل في القلوب ما يسع هذين قيل لو تجردت لأحدهما لكان أكمل
الوجه الخامس من الاعتبار أن مشابهتهم في بعض أعيادهم توجب سرور قلوبهم بما هم عليه من الباطل خصوصا إذا كانوا مقهورين تحت ذل الجزية والصغار فانهم يرون المسلمين قد صاروا فرعا لهم في خصائص دينهم فإن ذلك يوجب قوة قلوبهم وانشراح صدورهم وربما أطعمهم ذلك في انتهاز الفرص واستذلال الضعفاء وهذا أيضا أمر محسوس لا يستريب فيه عاقل فكيف يجتمع ما يقتضي إكرامهم بلا موجب مع شرع الصغار في حقهم
الوجه السادس من الاعتبار أن مما يفعلونه في عيدهم منه ما هو كفر ومنه ما هو حرام ومنه ما هو مباح لو تجرد عن مفسدة المشابهة ثم التمييز بين هذا وهذا يظهر غالبا وقد يخفى على كثير من العامة
فالمشابهة فيما لم يظهر تحريمه للعالم يوقع العامي في أن يشابههم فيما هو حرام وهذا هو الواقع
والفرق بين هذا الوجه ووجه الذريعة أنا هناك قلنا الموافقة في القليل تدعو إلى الموافقة في الكثير وهنا جنس الموافقة تلبس على العامة دينهم حتى لا يميزوا بين المعروف والمنكر
فذاك بيان الاقتضاء من جهة تقاضي الطباع بإدارتها وهذا من جهة جهل القلوب باعتقاداتها
الوجه السابع من الاعتبار ما قررته في وجه أصل المشابهة وذلك أن الله تعالى جبل بني آدم بل سائر المخلوقات على التفاعل بين الشيئين المتشابهين وكلما كانت المشابهة أكثر كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم حتى يؤول الأمر إلى أن لا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالعين فقط ولما كان بين الإنسان مشاركة
في الجنس الخاص كان التفاعل فيه أشد ثم بينه وبين سائر الحيوان مشاركة في الجنس المتوسط فلا بد من نوع تفاعل بقدره ثم بينه وبين النبات مشاركة في الجنس البعيد مثلا فلا بد من نوع ما من المفاعلة
ولأجل هذا الأصل وقع التأثر والتأثير في بني آدم واكتساب بعضهم أخلاق بعض بالمشاركة والمعاشرة وكذلك الآدمي إذا عاشر نوعا من الحيوان اكتسب من بعض أخلاقه ولهذا صارت الخيلاء والفخر في أهل الإبل وصارت السكينة في أهل الغنم وصار الجمالون والبغالون فيهم أخلاق مذمومة من أخلاق الجمال والبغال وكذلك الكلابون وصار الحيوان الإنسي فيه بعض أخلاق الإنس من المعاشرة والمؤالفة وقلة النفرة
فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي
وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين هم أقل كفرا من غيرهم كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقل إيمانا من غيرهم ممن جرد الإسلام
والمشاركة في الهدي الظاهر توجب أيضا مناسبة وائتلافا وإن بعد المكان والزمان فهذا أيضا أمر محسوس
فمشابهتهم في أعيادهم ولو بالقليل هو سبب لنوع ما من اكتساب أخلاقهم التي هي ملعونة وما كان مظنة لفساد خفي غير منضبط علق الحكم به ودار التحريم عليه
فنقول مشابهتهم في الظاهر سبب ومظنة لمشابهتهم في عين الأخلاق والأفعال المذمومة بل في نفس الاعتقادات وتأثير ذلك لا يظهر ولا ينضبط ونفس الفساد الحاصل من المشابهة قد لا يظهر ولا ينضبط وقد يتعسر أو يتعذر زواله بعد حصوله لو تفطن له وكل ما كان سببا إلى مثل هذا الفساد فإن الشارع يحرمه كما دلت عليه الأصول المقررة
الوجه الثامن من الاعتبار أن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة حتى إن الرجلين إذا كانا من بلد واحد ثم اجتمعا في دار غربة كان بينهما من المودة والموالاة والائتلاف أمر عظيم وإن كانا في مصر هما لم يكونا متعارفين أو كانا متهاجرين
وذلك لأن الاشتراك في البلد نوع وصف اختصا به عن بلد الغربة بل لو اجتمع رجلان في سفر أو بلد غريب وكانت بينهما مشابهة في العمامة أو الثياب أو الشعر أو المركوب ونحو ذلك لكان بينهما من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما وكذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضا مالا يألفون غيرهم حتى إن ذلك يكون مع المعاداة والمحاربة إما على الملك وإما على الدين وكذلك تجد الملوك ونحوهم من الرؤساء وإن تباعدت ديارهم وممالكهم بينهم مناسبة تورث مشابهة ورعاية من بعضهم لبعض وهذا كله بموجب الطباع ومقتضاها إلا أن يمنع عن ذلك دين أو غرض خاص
فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة فكيف بالمشابهة في أمور دينية فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين
وقال تعالى فيما يذم به أهل الكتاب لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا
يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون
فبين سبحانه وتعالى أن الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه مستلزم لعدم ولايتهم فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم
وقال سبحانه وتعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه
فأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يوجد مؤمن يواد كافرا فمن واد الكفار فليس بمؤمن
فالمشابهة الظاهرة مظنة المودة فتكون محرمة كما تقدم تقرير مثل ذلك
واعلم أن وجوه الفساد في مشابهتهم كثيرة فلنقتصر على ما نبهنا عليه والله أعلم
فصل
مشابهتهم فيما ليس من شرعنا قسمان
أحدهما مع العلم بأن هذا العمل هو من خصائص دينهم فهذا العمل الذي هو من خصائص دينهم إما أن يفعل لمجرد موافقتهم وهو قليل وإما لشهوة تتعلق بذلك العمل وإما لشبهة فيه تخيل أنه نافع في الدنيا وفي الآخرة وكل هذا لا شك في تحريمه لكن يبلغ التحريم في بعضه إلى أن يكون من الكبائر وقد يصير كفرا بحسب الأدلة الشرعية
وإما عمل لم يعلم الفاعل أنه من عملهم فهو نوعان
أحدهما ما كان في الأصل مأخوذا عنهم إما على الوجه الذي يفعلونه
وإما مع نوع تغيير في الزمان أو المكان أو الفعل ونحو ذلك فهو غالب ما يبتلى به العامة في مثل ما يصنعونه في الخميس الحقير والميلاد ونحوهما فإنهم قد نشئوا على اعتياد ذلك وتلقاه الأبناء عن الآباء وأكثرهم لا يعلمون مبدأ ذلك فهذا يعرف صاحبه حكمه فإن لم ينته وإلا صار من القسم الأول
النوع الثاني ما ليس في الأصل مأخوذا عنهم لكنهم يفعلونه أيضا فهذا ليس فيه محذور المشابهة ولكن قد تفوت فيه منفعة المخالفة فتوقف كراهة ذلك وتحريمه على دليل شرعي وراء كونه من مشابهتهم إذ ليس كوننا تشبهنا بهم بأولى من كونهم تشبهوا بنا فأما استحباب تركه لمصلحة المخالفة إذا لم يكن في تركه ضرر فظاهر لما تقدم من المخالفة
وهذا قد توجب الشريعة مخالفتهم فيه وقد توجب عليهم مخالفتنا كما في الزي ونحوه وقد يقتصر على الاستحباب كما في صبغ اللحية والصلاة في النعلين والسجود وقد تبلغ إلى الكراهة كما في تأخير المغرب والفطور
بخلاف مشابهتهم فيما كان مأخوذا عنهم فإن الأصل فيه التحريم لما قدمنا
فصل
العيد اسم جنس يدخل فيه كل يوم أو مكان لهم فيه اجتماع وكل عمل يحدثونه في هذه الأمكنة والأزمنة فليس النهي عن خصوص أعيادهم بل كل ما يعظمونه من الأوقات والأمكنة التي لا أصل لها في دين الإسلام وما يحدثونه فيها من الأعمال يدخل في ذلك
وكذلك تحريم العيد هو وما قبله وما بعده من الأيام التي تحدث فيها أشياء لأجله أو ما يحدث بسبب أعماله من أعمال حكمها حكمه فلا يفعل شيء من ذلك فإن بعض الناس قد يمنع من إحداث أشياء في أيام عيدهم كيوم الخميس
والميلاد ويقول لعياله أنا أصنع لكم في هذا الأسبوع أو الشهر الآخر وإنما المحرك له على إحداث ذلك وجود عيدهم ولولا هو لم يقتضوه ذلك فهذا من مقتضيات المشابهة لكن يحال الأهل على عيد الله ورسوله ويقضي لهم فيه من الحقوق ما يقطع استشرافهم إلى غيره فإن لم يرضوا فلا حول ولا قوة إلا بالله ومن أغضب أهله لله أرضاه الله وأرضاهم
وليحذر العاقل من طاعة النساء في ذلك ففي الصحيحين عن أسامة بن زيد قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما تركت بعدي على أمتي من فتنة أضر على الرجال من النساء
وأكثر ما يفسد الملك والدول طاعة النساء
وفي صحيح البخاري عن أبي بكر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة
وروى أيضا هلكت الرجال حين أطاعت النساء
وقد قال صلى الله عليه و سلم لإحدى أمهات المؤمنين حين راجعته في تقديم أبي بكر إنكن صواحب يوسف يريد أن النساء من شأنهن مراجعة ذي اللب كما في الحديث الآخر ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب ذي اللب من إحداكن
ولما أنشده الأعشى أعشى باهلة أبياته التي يقول فيها … وهن شر غالب لمن غلب …
جعل النبي صلى الله عليه و سلم يرددها ويقول هن شر غالب لمن غلب ولذلك امتن الله على زكريا عليه السلام حيث قال وأصلحنا له زوجه
قال بعض العلماء ينبغي للرجل أن يجتهد في الرغبة إلى الله في إصلاح زوجه له
فصل
أعياد الكفار كثيرة مختلفة وليس على المسلم أن يبحث عنها ولا يعرفها بل يكفيه أن يعرف في أي فعل من الأفعال أو يوم أو مكان أن سبب هذا الفعل أو تعظيم هذا المكان والزمان من جهتهم ولو لم يعرف أن سببه من جهتهم فيكفيه أن يعلم أنه لا أصل له في دين الإسلام فإنه إذا لم يكن له أصل فإما أن يكون قد أحدثه بعض الناس من تلقاء نفسه أو يكون مأخوذا عنهم فأقل أحواله أن يكون من البدع
ونحن ننبه على ما رأينا كثيرا من الناس قد وقعوا فيه
فمن ذلك الخميس الحقير الذي في آخر صومهم فإنه يوم عيد المائدة فيما يزعمون ويسمونه عيد العشاء وهو الأسبوع الذي يكون فيه من الأحد إلى الأحد عيدهم الأكبر فجميع ما يحدثه الإنسان فيه من المنكرات
فمنه خروج النساء وتبخير القبور ووضع الثياب على السطح وكتابة الأوراق وإلصاقها بالأبواب واتخاذ هذه الأيام موسما لبيع البخور وشرائه وكذلك شراء البخور في ذلك الوقت إذا اتخذ وقتا للبيع ورقي البخور مطلقا في ذلك الوقت أو غيره أو قصد شراء البخور المرقي فإن رقيا البخور واتخاذه قربانا هو دين النصارى والصابئين وإنما البخور طيب يتطيب بدخانه كما يتطيب
بسائر الطيب من المسك وغيره مما له أجزاء بخارية وإن لطفت أو له رائحة محضة وإنما يستحب التبخر حيث يستحب التطيب
وكذلك اختصاصه بطبخ أرز بلبن أو بسمن أو بعدس أو صبغ بيض ونحو ذلك
وأما القمار بالبيض أو بيع البيض لمن يقامر به أو شراؤه من المقامرين فحكمه ظاهر
ومن ذلك ما يفعله الأكارون من نقط البقر بالنقط الحمر أو نكت الشجر أيضا او جمع أنواع الثياب والتبرك بها والاغتسال بمائها
ومن ذلك ما قد يفعله النساء من أخذ ورق الزيتون أو الاغتسال بمائه أو قصد الاغتسال بشيء من ذلك فإن أصل ذلك ماء المعمودية
ومن ذلك ترك الوظائف الراتبة من الصنائع أو التجارات أو حلق العلم أو غير ذلك واتخاذه يوم راحة وفرح واللعب فيه بالخيل أو غيرها على وجه يخالف ما قبله وما بعده من الأيام
والضابط أنه لا يحدث فيه أمر أصلا بل يجعل يوما كسائر الايام فإنا قد قدمنا عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهاهم عن اليومين اللذين كانوا يلعبون فيهما في الجاهلية وأنه صلى الله عليه و سلم نهى عن الذبح بالمكان إذا كان المشركون يعيدون فيه
ومن ذلك ما يفعله كثير من الناس في أثناء الشتاء في أثناء كانون الأول لأربع وعشرين خلت منه ويزعمون أنه ميلاد عيسى عليه السلام فجميع ما يحدث فيه هو من المنكرات مثل إيقاد النيران وإحداث طعام واصطناع شمع وغير ذلك فإن اتخاذ هذا الميلاد عيدا هو دين النصارى وليس لذلك أصل في دين الإسلام ولم يكن لهذا الميلاد ذكر أصلا على عهد السلف الماضين بل
أصله مأخوذ عن النصارى وانضم إليه سبب طبيعي وهو كونه في الشتاء المناسب لإيقاد النيران ولأنواع مخصوصة من الأطعمة
ثم إن النصارى تزعم أنه بعد الميلاد بأيام أظنها أحد عشر يوما عمد يحيى عيسى عليهما السلام في ماء المعمودية فهم يتعمدون في هذا الوقت ويسمونه عيد الغطاس وقد صار كثير من جهال النساء يدخلن أولادهن إلى الحمام في هذا الوقت ويزعمن أن هذا ينفع الولد وهذا من دين النصارى وهو من أقبح المنكرات المحرمة
وكذلك أعياد الفرس مثل النيروز والمهرجان وأعياد اليهود أو غيرهم من أنواع الكفار أوالأعاجم والأعراب حكمها كلها على ما ذكرناه من قبل
وكما لا يتشبه بهم في الأعياد فلا يعان المسلم المتشبه بهم في ذلك بل ينهى عن ذلك فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تجب إجابة دعوته
ومن أهدى للمسلمين هدية في هذه الأعياد مخالفة للعادة في سائر الأوقات غير هذا العيد لم تقبل هديته خصوصا إن كانت الهدية مما يستعان بها على التشبه بهم في مثل إهداء الشمع ونحوه في الميلاد أو إهداء البيض واللبن والغنم في الخميس الصغير الذي في آخر صومهم
وكذلك أيضا لا يهدى لأحد من المسلمين في هذه الأعياد هدية لأجل العيد لا سيما إذا كان مما يستعان بها على التشبه بهم كما ذكرناه
ولا يبيع المسلم ما يستعين المسلمون به على مشابهتهم في العيد من الطعام واللباس ونحو ذلك لأن في ذلك إعانة على المنكرات
فأما مبايعتهم ما يستعينون هم به على عيدهم أو شهود أعيادهم للشراء فيها
فقد قدمنا أنه قيل للإمام أحمد هذه الأعياد التي تكون عندنا بالشام مثل طور يابور أو دير أيوب وأشباهه يشهده المسلمون يشهدون الأسواق ويجلبون فيه الغنم والبقر والدقيق والبر وغير ذلك إلا أنه يكون في الأسواق
يشترون ولا يدخلون عليهم بيعهم قال إذا لم يدخلوا عليهم بيعهم وإنما يشهدون السوق فلا بأس
وقال أبو الحسن الآمدي فأما ما يبيعون في الأسواق في أعيادهم فلا بأس بحضوره نص عليه أحمد في رواية مهنا
وقال إنما يمنعون أن يدخلوا عليهم بيعهم وكنائسهم وأما ما يباع في الأسواق من المأكل فلا وإن قصد إلى توفير ذلك وتحسينه لأجلهم
فهذا الكلام محتمل لأن يكون أجاز شهود السوق مطلقا بائعا أو مشتريا لأنه قال إذا لم يدخلوا عليهم كنائسهم وإنما يشهدون السوق فلا بأس هذا يعم البائع والمشتري لا سيما إن كان الضمير في قوله يجلبون عائدا إلى المسلمين فيكون قد نص على جواز كونهم جالبين إلى الأسواق
ويحتمل وهو أقوى أنه إنما أرخص في شهود السوق فقط ورخص في الشراء منهم ولم يتعرض للبيع منهم لأن السائل إنما سأله عن شهود السوق التي تقيمها الكفار لعيدهم وقال في آخر مسألته يشترون ولا يدخلون عليهم بيعهم وذلك لأن السائل مهنا بن يحيى الشامي وهو فقيه عالم
وكأنه والله أعلم قد سمع ما جاء في النهي عن شهود أعيادهم فسأل أحمد هل شهود أسواقهم بمنزلة شهود أعيادهم فأجاب أحمد بالرخصة في شهود السوق ولم يسأل عن بيع المسلم لهم إما لظهور الحكم عنده وإما لعدم الحاجة إليه إذ ذاك
وكلام الآمدي أيضا محتمل للوجهين لكن الأظهر فيه الرخصة في البيع أيضا لقوله إنما يمنعون أن يدخلوا عليهم بيعهم وكنائسهم وقوله وإن قصد إلى توفير ذلك وتحسينه لأجلهم
فما أجاب به أحمد من جواز شهود السوق فقط للشراء منها من غير دخول الكنيسة فيجوز لأن ذلك ليس فيه منكر ولا إعانة على معصية لأن نفس الابتياع منهم جائز ولا إعانة فيه على المعصية بل فيه صرف لما لعلهم
يبتاعونه لعيدهم عنهم الذي يظهر أنه إعانة لهم وتكثير لسوادهم فيكون فيه تقليل الشر وقد كانت أسواق في الجاهلية كان المسلمون يشهدونها وشهد بعضها النبي عليه السلام ومن هذه الأسواق ما كان يكون في مواسم الحج ومنها ما كان يكون لأعياد باطلة
وأيضا فإن أكثر ما في السوق أن يباع فيها ما يستعان به على المعصية فهو كما لو حضر الرجل سوقا يباع فيها السلاح لمن يقتل به معصوما أو العصير لمن يخمره فحضرها الرجل يشتري منها بل هو أجود لأن البائع في هذا السوق ذمي وقد أقروا على هذه المبايعة
ثم إن الرجل لو سافر إلى دار الحرب ليشتري منها جاز عندنا كما دل عليه حديث تجارة أبي بكر رضي الله عنه في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أرض الشام وهي حينذاك دار حرب وحديث عمر رضي الله عنه وأحاديث أخر بسطت القول فيها في غير هذا الموضع مع أنه لا بد أن تشتمل أسواقهم على بيع ما يستعان به على المعصية
فأما بيع المسلم لهم في أعيادهم ما يستعينون به على عيدهم من الطعام واللباس والريحان ونحو ذلك أو إهداء ذلك لهم فهذا فيه نوع إعانة على إقامة عيدهم المحرم وهو مبني على أصل وهو أنه لا يجوز أن يبيع الكفار عنبا أو عصيرا يتخذونه خمرا وكذلك لا يجوز بيعهم سلاحا يقاتلون به مسلما
وقد دل حديث عمر رضي الله عنه في إهداء الحلة السيراء إلى أخ له بمكة مشرك على جواز بيعهم الحرير لكن الحرير مباح في الجملة وإنما يحرم الكثير منه على بعض الآدميين ولهذا جاز التداوي به في أصح الروايتين ولم يجز بالخمر بحال وجازت صنعته في الأصل والتجارة فيه
فهذا الأصل فيه اشتباه فإن قيل بالاحتمال الأول في كلام أحمد جوز ذلك
وعن أحمد في جواز حمل التجارة إلى أرض الحرب روايتان منصوصتان
فقد يقال بيعها لهم في العيد كحملها إلى دار الحرب فإن حمل الثياب والطعام إلى أرض الحرب فيه إعانة على دينهم في الجملة وإذا منعنا منها إلى أرض الحرب فهنا أولى وأكثر أصوله ونصوصه تقتضي المنع من ذلك لكن هل هو منع تحريم أو تنزيه مبني على ما سيأتي
وقد ذكر عبد الملك بن حبيب أن هذا مما اجتمع على كراهته وصرح بأن مذهب مالك أن ذلك حرام
قال عبد الملك بن حبيب بن الواضحة كره مالك أكل ما ذبح النصارى لكنائسهم ونهى عنه من غير تحريم
وقال وكذلك ما ذبحوا على اسم المسيح والصليب أو أسماء من مضى من أحبارهم ورهبانهم الذين يعظمون فقد كان مالك وغيره ممن يقتدي به يكره أكل هذا كله من ذبائحهم وبه نأخذ وهو يضاهي قول الله تعالى وما أهل به لغير الله وهي ذبائحهم التي كانوا يذبحون لأصنامهم التي كانوا يعبدون
قال وقد كان رجال من العلماء يستخفون ذلك ويقولون قد أحل الله لنا ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون وما يريدون بها روى ذلك ابن وهب عن ابن عباس وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وسلمان بن يسار وعمر بن عبد العزيز وابن شهاب وربيعة بن عبد الرحمن ويحيى بن سعيد ومكحول وعطاء
وقال عبد الملك وترك ما ذبح لأعيادهم وأقستهم وموتاهم وكنائسهم أفضل
قال وإن فيه عيبا آخر أن كله من تعظيم شركهم
ولقد سأل سعيد المعافري مالكا عن الطعام الذي تصنعه النصارى لموتاهم يتصدقون به عنهم أيأكل منه المسلم فقال لا ينبغي أن يأخذه منهم لأنه إنما يعمل تعظيما للشرك فهو كالذبح للأعياد والكنائس
وسئل ابن القاسم عن النصراني يوصي بشيء يباع من ملكه للكنيسة
هل يجوز للمسلم شراؤه فقال لا يحل ذلك لأنه تعظيم لشعائرهم وشرائعهم ومشتريه مسلم سوء
وقال ابن القاسم في أرض الكنيسة يبيع الأسقف منها شيئا في مرمتها وربما حبست تلك الأرض على الكنيسة لمصلحتها إنه لا يجوز لمسلم أن يشتريها من وجهين
الواحد أن ذلك من العون على تعظيم الكنيسة
والآخر أنه من وجه بيع الحبس ولا يجوز لهم في أحباسهم إلا ما يجوز للمسلمين ولا أرى لحاكم المسلمين أن يتعرض فيها بمنع ولا تنفيذ ولا شيء
قال وسئل ابن القاسم عن الركوب في السفن التي تركب فيها النصارى إلى أعيادهم فكره ذلك مخافة نزول السخط عليهم بشركهم الذي اجتمعوا عليه
وكره ابن القاسم للمسلم أن يهدي إلى النصراني شيئا في عيدهم مكافأة له ورآه من تعظيم عيده وعونا لهم على كفرهم ألا ترى أنه لا يحل للمسلمين أن يبيعوا من النصارى شيئا من مصلحة عيدهم لا لحما ولا إداما ولا ثوبا ولا يعارون دابة ولا يعاونون على شيء من عيدهم لأن ذلك من تعظيم شركهم ومن عونهم على كفرهم وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك وهو قول مالك وغيره لم أعلمه اختلف فيه
فأكل ذبائح أعيادهم داخل في هذا الذي اجتمع على كراهته بل هو عندي أشد فهذا كله كلام ابن حبيب
قد ذكر أنه قد اجتمع على كراهة مبايعتهم ومهاداتهم ما يستعينون به على أعيادهم وقد صرح بأن مذهب مالك أنه لا يحل ذلك
وأما نصوص الإمام أحمد على مسائل هذا الباب
فقال إسحق بن إبراهيم سئل أبو عبد الله رحمه الله عن النصارى وقفوا
ضيعة للبيعة أيستأجرها الرجل المسلم منهم فقال لا يأخذها بشيء لا يعينهم على ما هم فيه
وقال أيضا سمعت أبا عبد الله وسأله رجل بناء أبنى للمجوس ناووسا قال لاتبن لهم ولا تعنهم على ما هم فيه
وقد نقل عن محمد بن الحكم وسأله عن الرجل المسلم يحفر لأهل الذمة قبرا بكراء قال لا بأس به
والفرق بينهما أن الناووس من خصائص دينهم الباطل كالكنيسة بخلاف القبر المطلق فإنه ليس في نفسه معصية ولا من خصائص دينهم
وقال الخلال باب الرجل يؤجر داره للذمي أو يبيعها منه وذكر عن المروزي أن أبا عبد الله سئل عن رجل باع داره من ذمي وفيها محاريبه فقال فيها نصراني واستعظم ذلك وقال لا تباع يضرب فيها بالناقوس وينصب فيها الصلبان وقال لا تباع من الكفار وشدد في ذلك
وعن أبي الحارث أن أبا عبد الله سئل عن الرجل يبيع داره وقد جاء نصراني فأرغبه وزاد في ثمن الدار ترى له أن يبيع داره منه وهو نصراني أو يهودي أو مجوسي قال لا أرى له ذلك يبيع داره من كافر يكفر بالله فيها يبيعها من مسلم أحب إلي
فهذا نص على المنع
ونقل عنه إبراهيم بن الحارث قيل لأبي عبد الله الرجل يكري منزله من الذمي ينزل فيه وهو يعلم أنه يشرب فيها الخمر ويشرك فيها قال ابن عون كان لا يكري إلا من أهل الذمة يقول يرعبهم قيل له كأنه أراد إذلال أهل الذمة بهذا قال لا ولكنه أراد أنه كره أن يرعب المسلم يقول إذا جئت أطلب الكراء من المسلم أرعبته فإذا كان ذميا كان أهون عنده
وجعل أبو عبد الله يعجب لهذا من ابن عون فيما رأيت وهكذا نقل الأثرم سواء ولفظه قلت لأبي عبد الله
ومسائل الأثرم وإبراهيم بن الحارث يشتركان فيها
ونقل عنه مهنا قال سألت أحمد عن الرجل يكري المجوسي داره أو دكانه وهو يعلم أنهم يزنون فقال كان ابن عون لا يرى أن يكري المسلمين يقول أرعبهم في أخذ الغلة وكان يرى أن يكري غير المسلمين
قال أبو بكر الخلال كل من حكى عن أبي عبد الله في رجل يكري داره من ذمي فإنما أجابه أبو عبد الله على فعل ابن عون ولم ينفذ لأبي عبد الله فيه قول وقد حكى عن إبراهيم أنه رآه معجبا بقول ابن عون والذين رووا عن أبي عبد الله في المسلم يبيع داره من الذمي أنه كره ذلك كراهة شديدة فلو نفذ لأبي عبد الله قول في السكنى كانت السكنى والبيع عندي واحدا والأمر في ظاهر قول أبي عبد الله أنه لا يباع منه لأنه يكفر فيها وينصب الصلبان أ , غير ذلك والأمر عندي أن لا تباع منه ولا تكرى لأنه معنى واحد
قال وقد أخبرني أحمد بن الحسين بن حسان قال سئل أبو عبد الله عن حصين بن عبد الرحمن فقال روى عنه حفص لا أعرفه قال له أبو بكر هذا من النساك حدثني أبو سعيد الأشج سمعت أبا خالد الأحمر يقول حفص هذا العدوي نفسه باع دار حصين بن عبد الرحمن عابد أهل الكوفة من عون البصري فقال له أحمد حفص قال نعم فعجب أحمد يعني من حفص بن غياث
قال الخلال وهذا أيضا تقوية لمذهب أبي عبد الله
قلت عون هذا كأنه من أهل البدع أو من الفساق بالعمل فقد أنكر أبو خالد الأحمر على حفص بن غياث قاضي الكوفة أنه باع دار الرجل الصالح من المبتدع وعجب أحمد أيضا من فعل القاضي
قال الخلال فإذا كان يكره بيعها من فاسق فكذلك من كافر وإن كان الذمي يقر والفاسق لا يقر لكن ما يفعله الكافر فيها أعظم
وهكذا ذكر القاضي عن أبي بكر عبد العزيز أنه ذكر قوله في رواية أبي الحارث لا أرى أن يبيع داره من كافر يكفر بالله فيها يبيعها من مسلم أحب إلي فقال أبو بكر لا فرق بين الإجارة والبيع عنده فإذا أجاز البيع أجاز الإجارة وإذا منع البيع منع الإجارة ووافقه القاضي وأصحابه على ذلك
وعن إسحق بن منصور أنه قال لأبي عبد الله سئل يعني الأوزاعي عن الرجل يؤاجر نفسه لنظارة كرم النصارى فكره ذلك وقال أحمد ما أحسن ما قال لأن أصل ذلك يرجع إلى الخمر إلا أن يعلم أنه يباع لغير الخمر فلا بأس
وعن أبي النضر العجلي قال قال أبو عبد الله فيمن يحمل خمرا أو خنزيرا أو ميتة لنصراني فهو يكره كل كرائه ولكنه يقضي للحمال بالكراء وإذا كان للمسلم فهو اشد كراهة
وتلخيص الكلام في ذلك أما بيع داره من كافر فقد ذكرنا منع أحمد منه ثم اختلف أصحابه هل هذا تنزيه أو تحريم
فقال الشريف أبو علي ابن أبي موسى كره أحمد أن يبيع مسلم داره من ذمي يكفر فيها بالله تعالى ويستبيح المحظورات فإن فعل أساء ولم يبطل البيع وكذلك أبو الحسن الآمدي أطلق الكراهة مقتصرا عليها
وأما الخلال وصاحبه والقاضي فمقتضى كلامهم تحريم ذلك وقد ذكرت كلام الخلال وصاحبه
وقال القاضي لا يجوز أن يؤاجر داره أو بيته ممن يتخذه بيت نار أو كنيسة أو يبيع فيه الخمر سواء شرط أنه يبيع فيه الخمر أو لم يشترط لكنه يعلم أنه يبيع الخمر فيه
وقد قال أحمد في رواية أبي الحارث لا أرى أن يبيع داره من كافر يكفر بالله فيها يبيعها من مسلم أحب إلي
قال أبو بكر لا فرق بين الإجارة والبيع عنده فإذا أجاز البيع أجاز الإجارة وإذا منع البيع منع الإجارة
وقال أيضا في نصارى أوقفوا ضيعة لهم للبيعة لا يستأجرها الرجل المسلم منهم يعينهم على ما هم فيه قال وبهذا قال الشافعي رحمه الله تعالى
فقد حرم القاضي إجارتها لمن يعلم أنه يبيع فيها الخمر مستشهدا على ذلك بنص أحمد على أنه لا يبيعها من الكافر ولا يستكري وقف الكنيسة
وذلك يقتضي أن المنع في هاتين الصورتين عنده منع تحريم
ثم قال القاضي في أثناء المسألة
فإن قيل أليس قد أجاز أحمد إجارتها من أهل الذمة مع علمه بأنهم يفعلون فيها ذلك
قيل المنقول عن أحمد أنه حكى قول ابن عون رضي الله عنه وعجب منه وذكر القاضي رواية الأثرم
وهذا يقتضي أن القاضي لا يجوز إجارتها من ذمي
وكذلك أبو بكر قال إذا أجاز أجاز وإذا منع منع وما لا يجوز فهو محرم وكلام أحمد رضي الله تعالى عنه محتمل الأمرين فإن قوله في رواية أبي الحارث يبيعها من مسلم أحب إلي يقتضي أنه منع تنزيه واستعظامه لذلك في رواية المروزي وقوله لا تباع من الكفار وشدد في ذلك يقتضي التحريم
وأما الإجارة فقد سوى الأصحاب بينها وبين البيع وما حكاه عن ابن عون وليس بقول له وإن إعجابه بفعل ابن عون إنما كان لحسن مقصد ابن عون ونيته الصالحة
ويمكن أن يقال بل ظاهر الرواية أنه أجاز ذلك فإن إعجابه بالفعل
دليل جوازه عنده واقتصاره على الجواب بفعل رجل يقتضي أنه مذهبه في أحد الوجهين
والفرق بين الإجارة والبيع أن ما في الإجارة من مفسدة الإعانة قد عارضه مصلحة أخرى وهو صرف إرعاب المطالبة بالكراء عن المسلم وإنزال ذلك بالكفار وصار ذلك بمنزلة إقرارهم بالجزية فإنه وإن كان فيه إقرار الكفار لكن لما تضمنه من المصلحة جاز وكذلك جازت مهادنة الكفار في الجملة
فأما البيع فهذه المصلحة منتفية فيه وهذا ظاهر على قول ابن أبي موسى وغيره أن البيع مكروه غير محرم فإن الكراهة في الإجارة تزول بهذه المصلحة الراجحة كما في نظائره
فيصير في المسألة أربعة اقوال
وهذا الخلاف عندنا والتردد في الكراهة هو فيما إذا لم يعقد الإجارة على المنفعة المحرمة فأما إن آجره إياها لأجل بيع الخمر واتخاذها كنيسة أو بيعة لم يجز قولا واحدا وبه قال الشافعي وغيره كما لا يجوز أن يكري أمته أو عبده للفجور
وقال أبو حنيفة يجوز أن يؤاجرها لذلك
قال أبو بكر الرازي لا فرق عند أبي حنيفة بين أن يشترط أن يبيع فيه الخمر وبين أن لا يشترط لكنه يعلم أنه يبيع فيه الخمر أن الإجارة تصح
ومأخذه في ذلك أنه لا يستحق عليه بعقد الإجارة فعل هذه الأشياء وإن شرط لأن له أن لا يبيع فيها الخمر ولا يتخذها كنيسة وتستحق عليه الأجرة بالتسليم في المدة فإذا لم يستحق عليه فعل هذه الأشياء كان ذكرها وترك ذكرها سواء كما لو اكترى دارا لينام فيها أو يسكنها فإن الأجرة تستحق عليه وإن لم يفعل ذلك وكذا يقول فيما إذا استأجر رجلا لحمل خنزير أو ميتة أو خمر أنه يصح لأنه لا يتعين حمل الخمر بل لو حمل عليه بدله
عصيرا لاستحق الأجرة فهذا التقييد عنده لغو فهو بمنزلة الإجارة المطلقة والمطلقة عنده جائزة وإن غلب على ظنه أن المستأجر يعصي فيها كما يجوز بيع العصير لمن يتخذه خمرا ثم إنه كره بيع السلاح في الفتنة قال لأن السلاح معمول للقتال لا يصلح لغيره
وعامة الفقهاء خالفوه في المقدمة الأولى وقالوا ليس المقيد كالمطلق بل المنفعة المعقود عليها هي المستحقة فتكون هي المقابلة بالعوض وهي منفعة محرمة وإن جاز للمستأجر أن يقيم غيرها مقامها وألزموه مالو اكترى دارا ليتخذها مسجدا فإنه لا يستحق عليه فعل المعقود عليه ومع هذا فإنه أبطل هذه الإجارة بناء على أنها اقتضت فعل الصلاة وهي لا تستحق بعقد الإجارة
ونازعه أصحابنا وكثير من الفقهاء في المقدمة الثانية وقالوا إذا غلب على ظنه أن المستأجر ينتفع بها في محرم حرمت الإجارة له لأن النبي صلى الله عليه و سلم لعن عاصر الخمر ومعتصرها والعاصر إنما يعصر عصيرا لكن إذا رأى أن المعتصر يريد أن يتخذه خمرا وعصره لذلك استحق اللعنة
وهذا أصل مقرر في غير هذا الموضع لكن معاصي الذمي قسمان
أحدهما ما اقتضى عقد الذمة إقراره عليها
والثاني ما اقتضى عقد الذمة منعه منها أو من إظهارها
فأما القسم الثاني فلا ريب أنه لا يجوز على أصلنا أن يؤاجر أو يبايع الذمي عليه إذا غلب على الظن أنه يفعل ذلك كالمسلم وأولى
وأما القسم الأول فعلى ما قاله ابن أبي موسى يكره ولا يحرم لأنا قد قررناه على ذلك وإعانته على سكنى الدار كإعانته على سكنى دار الإسلام فلو كان هذا من الإعانة المحرمة لما جاز إقرارهم بالجزية وإنما كره ذلك لأنه إعانة من غير مصلحة لا مكان بيعها من مسلم بخلاف الإقرار بالجزية فإنه جاز لأجل المصلحة
وعلى ما قاله القاضي لا يجوز لأنه إعانة على ما يستعين به على المعصية من غير مصلحة تقابل هذه المفسدة فلم يجز بخلاف إسكانهم دار الإسلام فإن فيه من المصالح ما هو مذكور في فوائد إقرارهم بالجزية
ومما يشبه ذلك أنه قد اختلف قول أحمد إذا ابتاع الذمي أرض عشر من مسلم على روايتين منع من ذلك في إحداهما قال لأنه لا زكاة على الذمي وفيه إبطال العشر وهذا ضرر على المسلمين قال وكذلك لا يمكنون من استئجار أرض العشر لهذه العلة
وقال في الرواية الأخرى لا بأس أن يشترى الذمى أرض العشر من مسلم
واختلف قوله إذا جاز ذلك فيما على الذمي مما تخرج هذه الأرض على روايتين قال في إحداهما لا عشر عليه ولا شيء سوى الجزية
وقال في الرواية الأخرى عليه فيما يخرج من هذه الأرض الخمس ضعف ما كان على المسلم ومن أصحابنا من حكى رواية أنهم ينهون عن شرائها فإن اشتروها ضعف عليهم العشر
وفي كلام أحمد ما يدل على هذه فإذا كان قد اختلف قوله في جواز تمليكهم رقبة الأرض العشرية لما فيه من رفع العشر فالمفسدة الدينية الحاصلة بكفرهم وفسقهم في دار كانت للمسلمين يعبد الله فيها ويطاع أعظم من منع العشر
ولهذا تردد هل يرفع الضرر بمنع التملك بالكلية أو مع تجويز البيع أما أن يعطل حق المسلم أو تؤخذ الزكاة من الكفار فكلاهما غير ممكن فكان منع التملك أسهل كما منعناه من تملك العبد المسلم والمصحف لما فيه من تمكين عدو الله من أولياء الله وكلام الله
وكذلك نمنعهم على ظاهر المذهب من شراء السبي الذي جرى عليه سهام المسلمين كما شرط عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أو يرفع الضرر بإبقاء
حق الأرض عليه كما يؤخذ ممن اتجر منهم في أرض المسلمين ضعف ما يؤخذ من المسلمين من الزكاة
ويتخرج أنه لا يؤخذ منه إلا عشر واحد كالمسألة الآتية وهذا في العشرية التي ليست خراجية
فأما الخراجية فقالوا ليس لذمي أن يبتاع أرضا فتحها المسلمون عنوة وإذا جوزنا بيع أرض العنوة كان حكم الذمي في ابتياعها كحكمه في ابتياع أرض العشر المحض إذ جميع الأرض عشرية عندنا وعند الجمهور بمعنى أن العشر يجب فيما أخرجت
وكذلك أرض الموات من أرض الإسلام التي ليست خراجية هل للذمي أن يتملكها بالإحياء
قال طائفة من العلماء ليس له ذلك وهو قول الشافعي وأبي حامد الغزالي وهذا قياس إحدى الروايتين عن أحمد في منعه من ابتياعها فإنه إذا لم يجز تملكها بالابتياع فبالإحياء أولى لكن قد يفرق بينهما بأن المبتاعة أرض عامرة ففيه ضرر محقق بخلاف إحياء الميتة فإنه لا يقطع حقا
والمنصوص عن أحمد وعليه الجمهور من أصحابه أنه يملكها بالاحياء وهو قول أبي حنيفة واختلف فيه عن مالك
ثم هل عليه فيها العشر فيه روايتان
قال ابن أبي موسى ومن أحيا من أهل الذمة أرضا مواتا فهي له ولا زكاة عليه فيها ولا عشر فيما أخرجت
وقد روي عنه رواية أخرى أنه لا خراج على أهل الذمة في أرضهم ويؤخذ منهم العشر مما يخرج يضاعف عليهم والأول أظهر
فهذا الذي حكاه ابن أبي موسى من تضعيف العشر فيما يملكه بالإحياء هو قياس تضعيفه فيما ملكه بالابتياع
لكن نقل حرب عنه في رجل من أهل الذمة أحيا مواتا قال هو عشري
ففهم القاضي وغيره من الأصحاب أن الواجب هو العشر المأخوذ من المسلم من غير تضعيف فحكوا في وجوب العشر فيها روايتين وابن أبي موسى نقل الروايتين في وجوب عشر مضعف
وعلى طريقة القاضي يخرج في مسألة الابتياع كذلك
وهذا الذي نقله ابن أبي موسى أصح فإن الكرماني ومحمد بن حرب وإبراهيم بن هانيء ويعقوب بن بختان نقلوا أن أحمد سئل وقال حرب سألت أحمد قلت إن أحيا رجل من أهل الذمة مواتا ماذا عليه قال أما أنا فأقول ليس عليه شيء قال وأهل المدينة يقولون في هذا قولا حسنا يقولون لا يترك الذمي أن يشتري أرض العشر قال وأهل البصرة يقولون قولا عجبا يقولون يضاعف عليه العشر
قال وسألت أحمد مرة أخرى فقلت إن أحيا رجل من أهل الذمة مواتا قال هو عشري وقال مرة أخرى ليس عليه شيء
وروى حرب عن عبيد الله بن الحسن العنبري أنه قيل له أخذكم للخمس من أرض الذمة التي في أرض العرب أبأثر عندكم أم بغير أثر قال ليس عندنا فيه أثر ولكن قسناه على ما أمر به عمر رضي الله عنه أن يؤخذ من أموالهم إذا اتجروا بها ومروا بها على عشار
فهذا أحمد رضي الله عنه سئل عن إحياء الذمي الأرض فأجاب أنه ليس عليه شيء وذكر اختلاف الفقهاء في مسألة اشترائه الأرض هل يمنع أو يضعف عليه العشر
وهذا يبين لك أن المسألتين عنده واحد وهو تملك الذمي الأرض العشرية سواء كان بابتياع أو إحياء أو غير ذلك وكذلك ذكر العنبري قاضي أهل البصرة أنهم يأخذون من جميع أرض أهل الذمة العشرية وذلك يعم ما ملك انتقالا أو ابتداء
وهذا يفيدك أن أحمد إذا منع الذمي أن يبتاع الأرض العشرية فكذلك يمنعه من إحيائها وأنه إذا أخذ منه فيما ابتاعه الخمس فكذلك فيما أحياه وأن من نقل عنه عشرا مفردا في الأرض المحياة دون المبتاعة فليس بمستقيم وإنما سببه قوله في الرواية الأخرى التي نقلها الكرماني هي أرض عشرية ولكن هذا كلام مجمل قد فصله ابو عبد الله في موضع آخر وبين مأخذه ونقل الفقه إن لم يعرف الناقل مأخذ الفقيه وإلا فقد يقع فيه الغلط كثيرا
وقد أفصح أرباب هذا القول بأن مأخذهم قياس الحراثة على التجارة فإن الذمي إذا اتجر في غير أرضه فإنه يؤخذ منه ضعف ما يؤخذ من المسلمين وهو نصف العشر فكذا إذا استحدث أرضا غير أرضه لأنه في كلا الموضعين قد أخذ يكتسب في غير مكانه الأصلي وحق الحرث والتجارة قرينان كما في قوله يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض وكذلك قال أحمد في رواية الميموني يؤخذ من أموال أهل الذمة إذا اتجروا فيها قومت ثم أخذ منهم زكاتها مرتين يضعف عليهم لقول عمر رضي الله عنه أضعفها عليهم
فمن الناس من قاس الزرع على ذلك
قال الميموني والذي لا أشك فيه من قول أبي عبد الله غير مرة أن أرض أهل الذمة التي في الصلح ليس عليها خراج إنما ينظر إلى ما أخرجت يؤخذ منهم العشر مرتين
قال الميموني قلت لأبي عبد الله فالذي يشتري أرض العشر ما عليه قال لي الناس كلهم يختلفون في هذا منهم من لا يرى عليه شيئا ويشبهه بماله ليس عليه فيه زكاة إذا كان مقيما ما كان بين أظهرنا وبماشيته فيقول هذه أموال وليس عليه فيها صدقة ومنهم من يقول هذه حقوق لقوم ولا يكون
شراؤه الأرض يذهب بحقوق هؤلاء منهم والحسن يقول إذا اشتراها ضوعف عليه العشر
قلت كيف يضعف عليه قال لأن عليه العشر فيؤخذ منه الخمس
قلت تذهب إلى أن يضعف عليه الخمس فيؤخذ منه الخمس فالتفت إلي وقال نعم يضعف عليه
قال وذاكرنا أبا عبد الله أن مالكا كان يرى أن لا يؤخذ منهم شيء وكان يحول بينهم وبين شراء الشيء منها
وهذه الرواية اختيار الخلال وهي مسألة كبيرة ليس هذا موضع استقصائها
والفقهاء أيضا يختلفون في هذه المسألة كما ذكره أبو عبد الله
فممن نقل عنه تضعيف العشر عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وغيره من أهل البصرة وبعضهم يرويه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو قول أبي يوسف
ومنهم من قال بل يؤخذ العشر على ما كان عليه كالقول الذي ذكره بعض أصحابنا ويروى هذا عن الثوري ومحمد بن الحسن وحكى عن الثوري لا شيء عليه كالرواية الأخرى عن أحمد وروي هذا عن مالك أيضا وعن مالك أنه يؤمر ببيعها وحكى ذلك عن الحسن بن صالح وشريك وهو قول الشافعي وقال أبو ثور يجبر على بيعها
وقياس قول من يضعف العشر أن المستأمن لو زرع في دار الإسلام لكان الواجب عليه خمسين ضعفا ما يؤخذ من الذمي كما أنه إذا اتجر في دار الإسلام يؤخذ منه العشر ضعفا ما يؤخذ من الذمي
فقد ظهر على إحدى الروايتين وقول طوائف من أهل العلم نمنعهم من أن يستولوا على عقار في دار الإسلام للمسلمين فيه حق من المساكن والمزارع كما نمنعهم أن يحدثوا في دار الإسلام بناء لعباداتهم من كنيسة أو بيعة أو صومعة لأن عقد الذمة اقتضى إقرارهم على ما كانوا عليه من غير تعد منهم
إلى الاستيلاء فيما ثبت للمسلمين فيه حق من عقار أو رقيق
وهذا لأن مقصود الدعوة أن تكون كلمة الله هي العليا وإنما أقروا بالجزية للضرورة العارضة والحكم المقيد بالضرورة مقدر بقدرها ولهذا لم يثبت لهم غير واحد من السلف حق شفعة على مسلم وأخذ بذلك أحمد رحمه الله وغيره لأن الشقص الذي يملكه مسلم إذا أوجبنا فيه شفعة لذمي كنا قد أوجبنا على المسلم أن ينقل الملك في عقاره إلى ذمي بطريق القهر للمسلم وهذا خلاف الأصول ولهذا نص أحمد على أن البائع للشقص إذا كان مسلما وشريكه ذمي لم يجب له شفعة لأن الشفعة في الأصل إنما هي من حقوق أحد الشريكين على الآخر بمنزلة الحقوق التي تجب على المسلم للمسلم كإجابة الدعوة وعيادة المريض وكمنعه وكفه أن يبيع على بيعه أو يخطب على خطبته وهذا كله عن أحمد مخصوص بالمسلمين وفي البيع والخطبة خلاف بين الفقهاء
وأما استئجار الأرض الموقوفة على الكنيسة وشراء ما يباع على الكنيسة فقد أطلق أحمد المنع أنه لا يستأجرها لا يعينهم على ما هم فيه وكذلك أطلقه الآمدي وغيره
ومثل هذا مالو اشترى من المال الموقوف للكنيسة الموصى لها به أو باع آلات يبنون بها كنيسة ونحو ذلك والمنع هنا أشد لأن نفس هذا المال الذي يبذله يصرف في المعصية فهو كبيع العصير لمن يتخذه خمرا بخلاف نفس السكنى فإنها ليست محرمة ولكنهم يعصون في المنزل فقد يشبه مالو قد باعهم الخبز واللحم والثياب فإنهم قد يستعينون بذلك على الكفر وإن كان الإسكان فوق هذا لأن نفس الأكل والشرب ليس بمحرم ونفس المنفعة المعقود عليها في الإجارة وهو اللبث قد يكون محرما
ألا ترى أن الرجل لا ينهى أن يتصدق على الكفار والفساق في الجملة وينهى أن يقعد في منزله من يكفر أو يفسق وقد تقدم تصريح ابن القاسم أن
هذا الشراء لا يحل وأطلق الشافعي المنع من معاونتهم على بناء الكنيسة ونحو ذلك
فقال في كتاب الجزية من الأم ولو أوصى يعني الذمي بثلث ماله أو شيء منه يبني به كنيسة لصلوات النصارى أو يستأجر به خدم للكنيسة أو تعمر به الكنيسة أو يستصبح به فيها أو يشتري بها أرض لتكون صدقة على الكنيسة أو تعمر من غلتها أو ما في هذا المعنى كانت الوصية باطلة ولو أوصى أن يبني كنيسة ينزلها مار الطريق أو وقفها على قوم يسكنونها جازت الوصية وليس في بنيان الكنيسة معصية إلا أن تتخذ لمصلى النصارى الذي اجتماعهم فيها على الشرك قال وأكره للمسلم أن يعمل بناء أو نجارا أو غير ذلك في كنائسهم التي لصلاتهم
وأما مذهب أحمد في الإجارة لعمل ناووس ونحوه فقال الآمدي لا يجوز رواية واحدة لأن المنفعة المعقود عليها محرمة وكذلك الإجارة لبناء كنيسة أو بيعة أو صومعة كالإجارة لكتب كتبهم المحرفة
وأما مسألة حمل الخمر والميتة والخنزير للنصراني أو للمسلم فقد تقدم لفظ أحمد أنه قال فيمن حمل خمرا أو خنزيرا أو ميتة لنصراني فهو يكره أكل كرائه ولكن يقضي للحمال بالكراء وإذا كان للمسلم فهو أشد زاد بعضهم فيها ويكره أن يحمل ميتة بكراء أو يخرج دابة ميتة ونحو هذا
ثم اختلف أصحابنا في هذا الجواب على ثلاث طرق
إحداها إجراؤه على ظاهره وأن المسألة رواية واحدة
قال ابن أبي موسى وكره أحمد أن يؤجر المسلم نفسه لحمل ميتة أو خنزير للنصراني قال فإن فعل قضى له بالكراء وإن أجر نفسه لحمل محرم لمسلم كانت الكراهة أشد ويأخذ الكراء وهل يطيب له على وجهين أوجههما أنه لا يطيب له ويتصدق به وهكذا ذكر أبو الحسن الآمدي قال إذا آجر نفسه من رجل لمحل خمر أو خنزير أو ميتة كره نص عليه وهذه كراهة
تحريم لأن النبي صلى الله عليه و سلم لعن حاملها ولكن يقضي له بالكراء وغير ممتنع أن يقضي بالكراء وإن كان محرما كأجر الحجام
فقد صرح هؤلاء بأنه يستحق الأجرة مع كونها محرمة عليه على الصحيح
الطريقة الثانية تأويل هذه الرواية بما يخالف ظاهرها وجعل المسألة رواية واحدة أن هذه الإجارة لا تصح وهي طريقة القاضي في المجرد وهي طريقة ضعيفة رجع عنها القاضي في كتبه المتأخرة فإنه صنف المجرد قديما
الطريقة الثالثة تخريج هذه المسألة على روايتين
إحداهما أن هذه الإجارة صحيحة يستحق بها الأجرة مع الكراهة للفعل وللأجرة
والثانية لا تصح الإجارة ولا يستحق بها أجرة وإن حمل وذلك على قياس قوله في الخمر لا يجوز إمساكها وتجب إراقتها
قال في رواية أبي طالب إذا أسلم وله خمر أو خنازير تصب الخمر وتسرح الخنازير قد حرما عليه وإن قتلها فلا بأس
فقد نص على أنه لا يجوز إمساكها ولأنه قد نص في رواية ابن منصور أنه يكره أن يؤاجر نفسه لنظارة كرم النصراني لأن أصل ذلك يرجع إلى الخمر إلا أن يعلم أنه يباع لغير الخمر
فقد منع من إجارة نفسه على حفظ الكرم الذي يتخذ للخمر فأولى أن يمنع من إجارة نفسه على حمل الخمر
فهذه طريقة القاضي في التعليق وتصرفه وعليها أكثر أصحابه مثل أبي الخطاب وهي طريقة من احتذى حذوه من المتأخرين
والمنصور عندهم الرواية المخرجة وهي مذهب مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد وهذا عند أصحابنا فيما إذا استأجر على حمل الخمر إلى بيته أو حانوته وحيث لا يجوز إقرارها سواء كان حملها للشرب أو مطلقا
فإذا كان يحملها ليريقها أو يحمل الميتة ليدفنها أو لينقلها إلى الصحراء لئلا يتأذى الناس بنتن ريحها فإنه يجوز الإجارة على ذلك لأنه عمل مباح ولكن إن كانت الأجرة جلد الميتة لم تصح واستحق أجرة المثل وإن كان قد سلخ الجلد وأخذه رده على صاحبه وهذا مذهب مالك وأظنه مذهب الشافعي أيضا ومذهب أبي حنيفة كالرواية الأولى
ومأخذه في ذلك أن الحمل إذا كان مطلقا لم يكن المستحق غير حمل الخمر
وأيضا فإن مجرد حملها ليس معصية لجواز أن تحمل لتراق أو تخلل عنده ولهذا إذا كان الحمل للشرب لم يصح ومع هذا فإنه يكره الحمل
والأشبه والله أعلم طريقة ابن أبي موسى فإنها أقرب إلى مقصود أحمد وأقرب إلى القياس
وذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم لعن عاصر الخمر ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه فالعاصر والحامل قد عاوضا على منفعة تستحق عوضا وهي ليست محرمة في نفسها وإنما حرمت لقصد المعتصر والمستحمل فهو كما لو باع عنبا أو عصيرا لمن يتخذه خمرا وفات العصير والخمر في يد المشتري فإن مال البائع لا يذهب مجانا بل يقضي له بعوضه
كذلك ههنا المنفعة التي وفاها المؤجر لا تذهب مجانا بل يعطي بدلها فإن تحريم الانتفاع بها إنما كان من جهة المستأجر لا من جهته
ثم نحن نحرم الأجرة عليه لحق الله سبحانه لا لحق المستأجر والمشتري بخلاف من استأجر للزنا أو التلوط أو القتل أو الغصب أو السرقة فإن نفس هذا العمل يحرم لا لأجل قصد المشتري فهو كما لو باعه ميتة أو خمرا فإنه لا يقضي له بثمنها لأن نفس هذه العين محرمة
ومثل هذه الإجارة والجعالة لا توصف بالصحة مطلقا ولا بالفساد مطلقا بل هي صحيحه بالنسبة إلى المستأجر بمعنى أنه يجب عليه مال الجعل والأجر
وهي فاسدة بالنسبة إلى الأجرة بمعنى أنه يحرم عليه الانتفاع بالأجرة والجعل ولهذا في الشريعة نظائر
وعلى هذا فنص أحمد على كراهة نظارة كرم النصراني لا ينافي هذا فإنا ننهاه عن هذا الفعل وعن ثمنه ونقضي له بكرائه ولو لم نفعل هذا لكان في هذا منفعة عظيمة للعصاة فإن كل من استأجروه على عمل يستعينون به على المعصية قد حصلوا غرضهم منه ثم لا يعطونه شيئا وما هم بأهل أن يعانوا على ذلك بخلاف من سلم إليهم عملا لا قيمة له بحال
نعم البغي والمغني والنائحة ونحوهم إذا أعطوا أجورهم ثم تابوا هل يتصدقون بها أو يجب أن يردوها على من أعطاهموها فيها قولان
أصحهما أنا لا نردها على الفساق الذين بذلوها في المنفعة المحرمة ولا يباح الأخذ بل يتصدق بها وتصرف في مصالح المسلمين كما نص عليه أحمد في أجرة حمل الخمر
ومن ظن أنها ترد على الباذل المستأجر لأنها مقبوضة بعقد فاسد فيجب ردها عليه كالمقبوض بالربا أو نحوه من العقود الفاسدة فيقال له المقبوض بالعقد الفاسد يجب فيه التراد من الجانبين فيرد كل منهما على الآخر ما قبضه منه كما في تقابض الربا عند من يقول المقبوض بالعقد الفاسد لا يملك كما هو المعروف من مذهب الشافعي وأحمد فأما إذا تلف المقبوض عند القابض فإنه لا يستحق استرجاع عوضه مطلقا
وحينئذ فيقال إن كان ظاهر القياس يوجب ردها بناء على أنها مقبوضة بعقد فاسد فالزاني ومستمع الغناء والنوح قد بذلوا هذا المال عن طيب نفوسهم واستوفوا العوض المحرم والتحريم الذي فيه ليس لحقهم وإنما هو لحق الله تعالى وقد فاتت هذه المنفعة بالقبض والأصول تقتضي أنه إذا رد أحد العوضين يرد الآخر فإذا تعذر على المستأجر رد المنفعة لم يرد عليه المال
وأيضا فإن هذا الذي استوفيت منفعته عليه ضرر في أحد منفعتيه وعوضهما جميعا منه بخلاف مالو كان العوض خمرا أو ميتة فإن ذلك لا ضرر عليه في فواتها فإنها لو كانت باقية أتلفناها عليه ومنفعة الغناء والنوح لو لم تفت لتوفرت عليه بحيث كان يتمكن من صرف تلك المنفعة في أمر آخر أعني من صرف القوة التي عمل بها
فيقال على هذا فينبغي أن يقضوا بها إذا طالب بقبضها
قيل نحن لا نأمر بدفعها ولا بردها كعقود الكفار المحرمة فإنهم إذا أسلموا على القبض لم نحكم بالقبض ولو أسلموا بعد القبض لم نحكم بالرد ولكن في حق المسلم تحرم هذه الأجرة عليه لأنه كان معتقدا لتحريمها بخلاف الكافر وذلك لأنه إذا طلب الأجرة قلنا له أنت فرطت حيث صرفت قوتك في عمل محرم فلا يقضى لك بأجرة
فإذا قبضها ثم قال الدافع هذا المال اقضوا لي برده فإنما أقبضته إياه عوضا عن منفعة محرمة قلنا له دفعته بمعاوضة رضيت بها فإذا طلبت استرجاع ما أخذه فرد إليه ما أخذته إذا كان له في بقائه معه منفعة فهذا ومثله يتوجه فيما يقبض من ثمن الميتة والخمر
وأيضا فمشتري الخمر إذا أقبض ثمنها وقبضها وشراها ثم طلب أن يعاد إليه الثمن كان الأوجه أن يرد إليه الثمن ولا يباح للبائع لا سيما ونحن نعاقب الخمار بياع الخمر بأن نحرق الحانوت التي يباع فيها نص على ذلك أحمد وغيره من العلماء فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حرق حانوتا يباع فيه الخمر وعلي ابن أبي طالب رضي الله عنه حرق قرية يباع فيها الخمر وهي آثار معروفة وهذه المسألة مبسوطة في غير هذا الموضع
وذلك لأن العقوبات المالية عندنا باقية غير منسوخة
فإذا عرف أصل أحمد في هذه المسائل فمعلوم أن بيعهم ما يقيمون به أعيادهم المحرمة مثل بيعهم العقار للسكنى وأشد بل هو إلى بيعهم العصير أقرب منه إلى بيعهم العقار لأن ما يبتاعونه من الطعام واللباس ونحو ذلك يستعينون به على العيد
إذ العيد كما قدمنا اسم لما يفعل من العبادات والعادات وهذه إعانة على ما يقام من العادات لكن لما كان جنس الأكل والشرب واللباس ليس محرما في نفسه بخلاف شرب الخمر فإنه محرم في نفسه
فإن كان ما يبتاعونه يفعلون به نفس المحرم مثل صليب أو شعانين أو معمودية أو تبخير أو ذبح لغير الله أو صور ونحو ذلك فهذا لا ريب في تحريمه كبيعهم العصير ليتخذوه خمرا وبناء الكنيسة لهم وأما ما ينتفعون به في أعيادهم للأكل والشرب واللباس فأصول أحمد وغيره تقتضي كراهته لكن كراهة تحريم كمذهب مالك أو كراهة تنزيه
والأشبه أنه كراهة تحريم كسائر النظائر عنده فإنه لا يجوز بيع الخبز واللحم والرياحين للفساق الذين يشربون عليها الخمر ولأن هذه إعانة قد تفضي إلى إظهار الدين الباطل وكثرة اجتماع الناس لعيدهم وظهوره وهذا أعظم من إعانة شخص معين
لكن من يقول هذا مكروه كراهة تنزيه يقول هذا متردد بين بيع العصير وبيع الخنزير وليس هذا مثل بيعهم العصير الذي يتخذونه خمرا لأنا إنما يحرم علينا أن نبيع الكفار ما كان محرم الجنس كالخمر والخنزير فأما ما يباح في حال دون حال كالحرير ونحوه فيجوز بيعه لهم
وأيضا فالطعام واللباس الذي يبتاعونه في عيدهم ليس محرما في نفسه وإنما الأعمال التي يعملونه بها لما كانت شعار الكفار نهي عنها المسلم لما فيها من مفسدة انجراره إلى بعض فروع الكفار فأما الكافر فهي لا تزيده من الفساد
أكثر مما هو فيه لأن نفس حقيقة الكفر قائمة به فدلالة الكفر وعلامته إذا كانت مباحة لم يكن فيها كفر زائد كما لو باعهم المسلم ثياب الغيار التي يتميزون بها عن المسلمين بخلاف شرب الخمر وأكل الخنزير فإنه زيادة في الكفر
نعم لو باعهم المسلم ما يتخذونه صليبا أو شعانين ونحو ذلك فهنا قد باعهم ما يستعينون به على نفس المعصية
ومن نصر التحريم يجيب عن هذا بأن شعار الكفر وعلامته ودلالته على وجهين
وجه نؤمر به في دار الإسلام وهو ما فيه إذلال الكفر وصغاره فهذا إذا ابتاعوه كان ذلك إعانة على ما يأمر الله به ورسوله فإنا نحن نأمرهم بلبس الغيار
ووجه النهي عنه هو ما فيه من إعلاء الكفر وإظهاره له كرفع أصواتهم بكتابهم وإظهار الشعانين وبيع النواقيس لهم وبيع الرايات والألوية لهم ونحو ذلك فهذا من شعائر الكفر التي نحن مأمورون بإزالتها والمنع منها في ديار الإسلام فلا يجوز إعانتهم عليها
وأما قبول الهدية منهم يوم عيدهم فقد قدمنا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أتي بهدية النيروز فقبلها
وروى ابن أبي شيبة في المصنف حدثنا جرير عن قابوس عن أبيه أن امرأة سألت عائشة قالت إن لنا أظآرا من المجوس وإنه يكون لهم العيد فيهدون لنا فقالت أما ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا ولكن كلوا من أشجارهم
وقال حدثنا وكيع عن الحكم بن حكيم عن أمه عن أبي برزة أنه كان له سكان مجوس فكانوا يهدون له في النيروز والمهرجان فكان يقول لأهله ما كان من فاكهة فكلوه وما كان من غير ذلك فردوه
فهذا كله يدل على أنه لا تأثير للعيد في المنع من قبول هديتهم بل حكمها
في العيد وغيره سواء لأنه ليس في ذلك إعانة لهم على شعائر كفرهم
لكن قبول هدية الكفار من أهل الحرب وأهل الذمة مسألة مستقلة بنفسها فيها خلاف وتفصيل ليس هذا موضعه
وإنما يجوز أن يؤكل من طعام أهل الكتاب في عيدهم بابتياع أو هدية أو غير ذلك مما لم يذبحوه للعيد فأما ذبائح المجوس فالحكم فيها معلوم فإنها حرام عند العامة
وأما ما ذبحه أهل الكتاب لأعيادهم وما يتقربون بذبحه إلى غير الله نظير ما يذبح المسلمون هداياهم وضحاياهم متقربين بها إلى الله تعالى وذلك مثل ما يذبحون للمسيح والزهرة فعن أحمد فيها روايتان أشهرهما في نصوصه أنه لا يباح أكله وإن لم يسم عليه غير الله تعالى ونقل النهي عن ذلك عن عائشة وعبد الله بن عمر
قال الميموني سألت أبا عبد الله عن ذبائح أهل الكتاب فقال إن كان مما يذبحون لكنائسهم فلا يحل فقال يدعون التسمية على عمد إنما يذبحون للمسيح
وذكر أيضا أنه سأل أبا عبد الله عمن ذبح من اهل الكتاب ولم يسم فقال إن كان مما يذبحون لكنائسهم فقال يتركون التسمية فيه على عمد إنما يذبحون للمسيح وقد كرهه ابن عمر إلا أن أبا الدرداء يتأول أن طعامهم حل وأكثر ما رأيت منه الكراهة لأكل ما ذبحوا لكنائسهم
وقال أيضا سألت أبا عبد الله عن ذبيحة المرأة من أهل الكتاب ولم تسم قال إن كانت ناسية فلا بأس وإن كان مما يذبحون لكنائسهم فقد يدعون التسمية فيه على عمد
قال المروزي قريء على أبي عبد الله وما ذبح على النصب قال على الأصنام وقال كل شيء ذبح على الأصنام لا يؤكل
وقال حنبل قال عمي أكره كل ما ذبح لغير الله والكنائس إذا ذبح لها وما ذبح أهل الكتاب على معنى الذكاة فلا بأس به وما ذبح يريد به غير الله فلا آكله وما ذبحوا في أعيادهم أكرهه
وروى أحمد عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي سألت ميمونا عما ذبحت النصارى لأعيادهم وكنائسهم فكره أكله
وقال حنبل سمعت أبا عبد الله قال لا يؤكل لأنه أهل لغير الله به ويؤكل ما سوى ذلك وإنما أحل الله من طعامهم ما ذكر اسم الله عليه قال الله عز و جل ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وقال وما أهل به لغير الله فكل ما ذبح لغير الله فلا يؤكل لحمه
وروى حنبل عن عطاء في ذبيحة النصراني يقول اسم المسيح قال كل قال حنبل سمعت أبا عبد الله يسأل عن ذلك قال لا تأكل قال الله ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه فلا أرى هذا ذكاته وما أهل لغير الله به
فاحتجاج أبي عبد الله بالآية دليل على أن الكراهة عنده كراهة تحريم وهذا قول عامة قدماء الأصحاب
قال الخلال في باب التوقي لأكل ما ذبحت النصارى وأهل الكتاب لأعيادهم وذبائح أهل الكتاب لكنائسهم كل من روى عن أبي عبد الله روى الكراهة فيه وهي متفرقة في هذه الأبواب
وما قاله حنبل في هاتين المسألتين ذكر عن أبي عبد الله ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وما أهل لغير الله به فإنما الجواب من أبي عبد الله فيما أهل لغير الله به وأما التسمية وتركها فقد روى عنه جميع أصحابه أنه لا بأس بأكل مالم يسموا عليه إلا في وقت ما يذبحون لأعيادهم وكنائسهم فإنه في معنى قوله تعالى وما أهل لغير الله به
وعند أبي عبد الله أن تفسير ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه إنما عني به الميتة وقد أخرجته في موضعه
ومقصود الخلال أن نهي أحمد لم يكن لأجل ترك التسمية فقط فإن ذلك عنده لا يحرم وإنما كان لأنهم ذبحوه لغير الله سواء كانوا يسمون غير الله أو لا يسمون الله ولا غيره ولكن قصدهم الذبح لغير الله
لكن قال ابن أبي موسى ويجتنب أكل كل ما ذبحه اليهود والنصارى لكنائسهم وأعيادهم ولا يؤكل ما ذبح للزهرة
والرواية الثانية أن ذلك مكروه غير محرم وهذا الذي ذكره القاضي وغيره وأخذوا ذلك فيما أظنه مما نقله عبد الله بن أحمد قال سألت أبي عمن ذبح للزهرة قال لا يعجبني قلت أحرام أكله قال لا أقول حراما ولكن لا يعجبني وذلك أنه أثبت الكراهة دون التحريم
ويمكن أن يقال إنما توقف عن تسميته محرما لأن ما اختلف في تحريمه وتعارضت فيه كالجمع بين الأختين ونحوه هل يسمى حراما على روايتين كالروايتين عنده في أن ما اختلف في وجوبه هل يسمى فرضا على روايتين
ومن أصحابنا من أطلق الكراهة ولم يفسر هل أراد التحريم أو التنزيه
قال أبو الحسن الآمدي ما ذبح لغير الله مثل الكنائس والزهرة والشمس والقمر فقال أحمد هو مما أهل به لغير الله أكرهه كل ما ذبح لغير الله والكنائس وما ذبحوا في أعيادهم أكرهه فأما ما ذبح أهل الكتاب على معنى الذكاة فلا بأس به
وكذلك مذهب مالك يكره ما ذبحه النصارى لكنائسهم أو ذبحوا على اسم المسيح أو الصليب أو أسماء من مضى من أحبارهم ورهبانهم
وفي المدونة وكره مالك أكل ما ذبحه أهل الكتاب لكنائسهم أو لأعيادهم من غير تحريم وتأول قول الله أو فسقا أهل لغير الله به
قال ابن القاسم وكذلك ما ذبحوا وسموا عليه اسم المسيح وهو بمنزلة ما ذبحوا لكنائسهم ولا أرى أن يؤكل
ونقلت الرخصة في ذبائح الأعياد ونحوها عن طائفة من الصحابة رضي الله عنهم وهذا فيما لم يسموا عليه غير الله فإن سموا غير الله في عيدهم أو غير عيدهم حرم في أشهر الروايتين وهو مذهب الجمهور وهو مذهب الفقهاء الثلاثة فيما نقله غير واحد وهو قول علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة منهم أبو الدرداء وأبو أمامة والعرباض بن سارية وعبادة بن الصامت وهو قول أكثر فقهاء الشام وغيرهم
والثانية لا يحرم وإن سموا غير الله وهو قول عطاء ومجاهد ومكحول والأوزاعي والليث
نقل ابن منصور أنه قيل لأبي عبد الله سئل سفيان عن رجل ذبح ولم يذكر اسم الله متعمدا قال أرى أن لا يؤكل قيل له أرأيت أن كان يرى أنه يجزي عنه فلم يذكر قال أرى أنه لا يؤكل قال أحمد المسلم فيه اسم الله يؤكل ولكن قد أساء في ترك التسمية النصارى أليس يذكرون غير اسم الله
ووجه الاختلاف أن هذا قد دخل في عموم قوله عز و جل وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وفي عموم قوله تعالى وما أهل لغير الله به لأن هذه الآية تعم كل ما نطق به لغير الله يقال أهللت بكذا إذا تكلمت به وإن كان أصله الكلام الرفيع فإن الحكم لا يختلف برفع الصوت وخفضه وإنما لما كانت عادتهم رفع الصوت في الأصل خرج الكلام على ذلك فيكون المعنى وما تكلم به لغير الله وما نطق به لغير الله
ومعلوم أن ما حرم أن تجعل غير الله مسمى فكذلك منويا إذ هذا مثل النيات في العبادات فإن اللفظ بها وإن كان أبلغ لكن الأصل القصد
الا ترى أن المتقرب بالهدايا والضحايا سواء قال أذبحه لله أو سكت فإن العبرة بالنية وتسميته الله على الذبيحة غير ذبحها لله فإنه يسمى على ما يقصد به اللحم وأما القربان فيذبح لله سبحانه ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم في قربانه اللهم منك ولك بعد قوله بسم الله والله أكبر لقوله تعالى إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين والكافرون يصنعون بآلهتهم كذلك فتارة يسمون آلهتهم على الذبائح وتارة يذبحونها قربانا إليهم وتارة يجمعون بينهما وكل ذلك والله أعلم يدخل فيما أهل لغير الله به فإن من سمى غير الله فقد أهل به لغير الله فقوله باسم كذا استعانة به وقوله لكذا عبادة له ولهذا جمع الله بينهما في قوله إياك نعبد وإياك نستعين
وأيضا فإنه سبحانه حرم ما ذبح على النصب وهي كل ما ينصب ليعبد من دون الله
وأما احتجاج أحمد على هذه المسألة بقوله تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه فحيث اشترطت التسمية في ذبيحة المسلم هل تشترط في ذبيحة الكتابي على روايتين وإن كان الخلال هنا قد ذكر عدم الاشتراط فاحتجاجه بهذه الآية يخرج على إحدى الروايتين
فلما تعارض العموم الحاظر وهو قوله تعالى وما أهل به لغير الله والعموم المبيح وهو قوله وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم اختلف العلماء في ذلك
والأشبه بالكتاب والسنة ما دل عليه أكثر كلام أحمد من الحظر وإن كان من متأخري أصحابنا من لا يذكر هذه الرواية بحال وذلك لأن عموم قوله تعالى وما أهل لغير الله به وما ذبح على النصب عموم محفوظ لم تخص منه صورة بخلاف طعام الذين أوتوا الكتاب فإنه يشترط له الذكاة المبيحة فلو ذكى الكتابي في غير المحل المشروع لم تبح ذكاته ولأن غاية الكتابي أن تكون ذكاته كالمسلم والمسلم لو ذبح لغير الله أو ذبح باسم غير الله لم يبح وإن كان يكفر بذلك فكذلك الذمي لأن قوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم سواء وهم وإن كانوا يستحلون هذا ونحن لا نستحله فليس كل ما استحلوه يحل لنا
ولأنه قد تعارض دليلان حاظر ومبيح فالحاظر أولى أن يقدم
ولأن الذبح لغير الله أو باسم غيره قد علمنا يقينا أنه ليس من دين الأنبياء عليهم السلام فهو من الشرك الذي أحدثوه فالمعنى الذي لأجله حلت ذبائحهم منتف في هذا والله تعالى أعلم
فإن قيل أما إذا سموا عليه غير الله بأن يقولوا باسم المسيح ونحوه فتحريمه ظاهر أما إذا لم يسموا أحدا ولكن قصدوا الذبح للمسيح أو للكوكب ونحوهما فما وجه تحريمه
قيل قد تقدمت الإشارة إلى ذلك وهو أن الله سبحانه قد حرم ما ذبح على النصب وذلك يقتضي تحريمه وإن كان ذابحه كتابيا لأنه لو كان التحريم لكونه وثنيا لم يكن فرق بين ذبحه على النصب وغيرها ولأنه لما أباح لنا طعام أهل الكتاب دل على أن طعام المشركين حرام فتخصيص ما ذبح على الوثن يقتضي فائدة جديدة
وأيضا فانه ذكر تحريم ما ذبح على النصب وما أهل به لغير الله وقد دخل فيما أهل به لغير الله ما أهل به أهل الكتاب لغير الله فكذلك كل ما ذبح على النصب فإذا ذبح الكتابي على ما قد نصبوه من التماثيل في الكنائس فهو مذبوح على النصب
ومعلوم أن حكم ذلك لا يختلف بحضور الوثن وغيبته فإنما حرم لأنه قصد بذبحه عبادة الوثن وتعظيمه وهذه الأنصاب قد قيل هي من الأصنام وقيل هي غير الأصنام
قالوا كان حول البيت ثلاثمائة وستون حجرا كان أهل الجاهلية يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها ويذبحون عليها وكانوا يعظمون هذه الحجارة ويعبدونها ويذبحون عليها وكانوا إذا شاءوا أبدلوا هذه الأحجار بحجارة هي أعجب إليهم منها ويدل على ذلك قول أبي ذر في حديث إسلامه حتى صرت كالنصب الأحمر يريد أنه كان يصير أحمر من تلوثه بالدم
وفي قوله وما ذبح على النصب قولان
أحدهما أن نفس الذبح كان يكون عليها كما ذكرناه فيكون ذبحهم عليها تقربا إلى الأصنام وهذا على قول من يجعلها غير الأصنام فيكون الذبح عليها لأجل أن المذبوح عليها مذبوح للأصنام أو مذبوح لها وذلك يقتضي تحريم كل ما ذبح لغير الله ولأن الذبح في البقعة لا تأثير له إلا من جهة الذبح لغير الله كما كرهه النبي صلى الله عليه و سلم من الذبح في مواضع أصنام المشركين ومواضع أعيادهم وإنما يكره المذبوح في البقعة المعينة لكونها محل شرك فإذا وقع الذبح حقيقة لغير الله كانت حقيقة التحريم قد وجدت فيه
والقول الثاني أن الذبح على النصب أي لأجل النصب كما قيل أولم رسول الله صلى الله عليه و سلم على زينب بخبز ولحم وأطعم فلان على ولده وذبح فلان على ولده ونحو ذلك ومنه قوله تعالى
لتكبروا الله على ما هداكم وهذا ظاهر على قول من يجعل النصب نفس الأصنام ولا منافاة بين كون الذبح لها وبين كونها كانت تلوث بالدم
وعلى هذا القول فالدلالة ظاهرة
واختلاف هذين القولين في قوله تعالى على النصب نظير الاختلاف في قوله تعالى ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام وقوله تعالى ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام
فإنه قد قيل المراد بذكر اسم الله عليها إذا كانت حاضرة
وقيل بل يعم ذكره لأجلها في مغيبها وشهودها بمنزلة قوله تعالى لتكبروا الله على ما هداكم
وفي الحقيقة مآل القولين إلى شيء واحد في قوله تعالى وما ذبح على النصب كما قد أومأنا إليه
وفيها قول ثالث ضعيف أن المعنى على اسم النصب وهذا ضعيف لأن هذا المعنى حاصلا من قوله تعالى وما أهل لغير الله به فيكون تكريرا لكن اللفظ يحتمله كما روى البخاري في صحيحه عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يحدث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح وذلك قبل أن ينزل على رسول الله صلى الله عليه و سلم الوحي فقدمت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم سفرة فيها لحم فأبى أن يأكل منها ثم قال زيد إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه
وفي رواية له وإن زيد بن عمرو بن نفيل كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض الكلأ ثم أنتم تذبحونها على غير اسم الله إنكارا لذلك وإعظاما له
وأيضا فان قوله تعالى وما أهل لغير الله به ظاهره أنه ما ذبح لغير الله مثل أن يقال هذا ذبيحة لكذا وإذا كان هذا هو المقصود فسواء لفظ به أو لم يلفظ وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه النصراني للحم وقال فيه باسم المسيح ونحوه كما أن ما ذبحناه نحن متقربين به إلى الله سبحانه كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم وقلنا عليه باسم الله فإن عبادة الله سبحانه بالصلاة له والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور فكذلك الشرك بالصلاة لغيره والنسك لغيره أعظم شركا من الاستعانة باسم هذا الغير في فواتح الأمور فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح والزهرة فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح والزهرة أو قصد به ذلك أولى
وهذا يبين لك ضعف قول من حرم ما ذبح باسم غير الله ولم يحرم ما ذبح لغير الله كما قاله طائفة من أصحابنا وغيرهم بل لو قيل بالعكس لكان أوجه فإن العبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله
وعلى هذا فلو ذبح لغير الله متقربا به إليه لحرم وإن قال فيه بسم الله كما يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين يتقربون إلى الأولياء والكواكب بالذبح والبخور ونحو ذلك وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال لكن يجتمع في الذبيحة مانعان
ومن هذا الباب ما قد يفعله الجاهلون بمكة شرفها الله وغيرها من الذبح للجن ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن ذبائح الجن
ويدل على المسألة ما قدمناه من أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن الذبح في مواضع الأصنام ومواضع أعياد الكفار
ويدل على ذلك أيضا ما رواه أبو داود في سننه حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا حماد بن مسعدة عن عوف عن أبي ريحانة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن معاقرة الأعراب قال أبو داود غندر وقفه على ابن عباس
وروى أبو بكر بن أبي شيبة في تفسيره حدثنا وكيع عن أصحابه عن عوف الأعرابي عن أبي ريحانة قال سئل ابن عباس عن معاقرة الأعراب فقال إني أخاف أن تكون مما أهل لغير الله به
وروى أبو إسحاق إبراهيم دحيم في تفسيره حدثنا أبي حدثنا سعيد بن منصور عن ربعي عن عبد الله بن الجارود قال سمعت الجارود قال كان من بني رباح رجل يقال له ابن وثيل شاعرا نافر أبا الفرزدق غالبا الشاعر بماء بظهر الكوفة على أن يعقر هذا مائة من إبله وهذا مائة من إبله إذا وردت الماء فلما وردت الإبل الماء قاما إليها بأسيافهما فجعلا ينسفان عراقيبها فخرج الناس على الحمر والبغال يريدون اللحم وعلي رضي الله عنه بالكوفة فخرج على بغلة رسول الله صلى الله عليه و سلم البيضاء وهو ينادي يا أيها الناس لا تأكلوا من لحومها فإنها أهل بها لغير الله
فهؤلاء الصحابة قد فسروا ما قصد بذبحه غير الله داخلا فيما أهل به لغير الله
فعلمت أن الآية لم يقتصر بها على التلفظ باسم غير الله بل ما قصد به التقرب إلى غير الله فهو كذلك وكذلك تفاسير التابعين على أن ما ذبح على النصب هو ما ذبح لغير الله
وروينا في تفسير مجاهد المشهور عنه الصحيح من رواية ابن أبي نجيح في قوله تعالى وما ذبح على النصب قال كانت حجارة حول الكعبة يذبح لها أهل الجاهلية ويبدلونها إذا شاءوا بحجارة أعجب إليهم منها
وروى ابن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل عن أشعث عن الحسن في قوله تعالى وما ذبح على النصب قال هو بمنزلة ما ذبح لغير الله
وفي تفسير قتادة المشهور عنه وأما ما ذبح على النصب فالنصب حجارة كان أهل الجاهلية يعبدونها ويذبحون لها فنهى الله عن ذلك
وفي تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس النصب أصنام كانوا يذبحون ويهلون عليها
فإن قيل فقد نقل إسماعيل بن سعيد قال سألت أحمد عما يقرب لآلهتهم يذبحه رجل مسلم قال لا بأس به
قيل إنما قال أحمد ذلك لأن المسلم إذا ذبحه سمى الله عليه ولم يقصد ذبحه لغير الله ولا يسمى غيره بل يقصد منه غير ما قصده صاحب الشاة فتصير نية صاحب الشاة لا أثر لها والذابح هو المؤثر في الذبح بدليل أن المسلم لو وكل كتابيا في ذبيحة فسمى عليها غير الله لم تبح ولهذا لما كان الذبح عبادة في نفسه كره علي رضي الله عنه وغير واحد من أهل العلم منهم أحمد في إحدى الروايتين عنه أن يوكل المسلم في ذبح نسيكته كتابيا لأن نفس الذبح عبادة بدنية مثل الصلاة ولهذا تختص بمكان وزمان ونحو ذلك بخلاف تفرقة اللحم فإن عبادة مالية ولهذا اختلف العلماء في وجوب تخصيص أهل الحرم
بلحوم الهدايا المذبوحة في الحرم وإن كان الصحيح تخصيصهم بها وهذا بخلاف الصدقة فإنها عبادة مالية محضة فلهذا قد لا يؤثر فيها نية الوكيل على أن هذه المسألة منصوصة عن أحمد محتملة
فهذا تمام الكلام في ذبائحهم لأعيادهم
فصل
فأما صوم أيام أعياد الكفار مفردة بالصوم كصوم يوم النيروز والمهرجان وهما يومان يعظمهما الفرس فقد اختلف فيهما لأجل أن المخالفة تحصل بالصوم أو بترك تخصيصه بعمل أصلا
فنذكر صوم يوم السبت أولا وذلك أنه روى ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر السلمي عن أخته الصماء أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أو عود شجرة وفي لفظ إلا عود عنب أو لحاء شجرة فليمضغه رواه أهل السنن الأربعة وقال الترمذي هذا حديث حسن وقد رواه النسائي من وجوه أخر عن خالد عن عبد الله بن بسر ورواه أيضا عن الصماء عن عائشة
وقد اختلف الأصحاب وسائر العلماء فيه
قال أبو بكر الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن صيام يوم السبت يتفرد به فقال اما صيام يوم السبت ينفرد به فقد جاء في ذلك الحديث حديث الصماء يعني حديث ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء عن النبي صلى الله عليه و سلم لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم قال أبو عبد الله فكان يحيى بن سعيد ينفيه وأبى أن يحدثني به وقد كان سمعه من ثور قال فسمعته من أبي عاصم
قال الأثرم وحجة أبي عبد الله في الرخصة في صوم يوم السبت أن الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبد الله بن بسر
ومنها حديث أم سلمة حين سئلت أي الأيام كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أكثر صياما لها فقالت يوم السبت والأحد
منها حديث جويرية أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لها يوم الجمعة أصمت أمس قالت لا قال أتريدين أن تصومي غدا فالغد هو يوم السبت
وحديث أبي هريرة نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن صوم يوم الجمعة إلا بيوم قبله أو بيوم بعده فاليوم الذي بعده هو يوم السبت
ومنها أنه كان يصوم شعبان كله وفيه يوم السبت
ومنها أنه أمر بصوم المحرم وفيه يوم السبت وقال من صام رمضان وأتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر وقد يكون السبت فيها وأمر بصيام أيام البيض وقد يكون فيها السبت ومثل هذا كثير
فهذا الأثرم فهم من كلام أبي عبد الله أنه توقف عن الأخذ بالحديث وأنه رخص في صومه حيث ذكر الحديث الذي يحتج به في الكراهة وذكر أن الإمام في علل حديث يحيى بن سعيد كان يتقيه ويأبى أن يحدث به فهذا تضعيف للحديث
واحتج الأثرم بما دل من النصوص المتواترة على صوم يوم السبت
ولا يقال يحمل النهي على إفراده لأن لفظه لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم والاستثناء دليل التناول وهذا يقتضي أن الحديث يعم صومه على كل وجه وإلا لو أريد إفراده لما دخل الصوم المفروض ليستثنى فإنه لا إفراد فيه فاستثناؤه دليل على دخول غيره بخلاف يوم الجمعة فإنه بين أنه إنما نهى عن إفراده
وعلى هذا فيكون الحديث إما شاذا غير محفوظ وإما منسوخا وهذه طريقة قدماء أصحاب أحمد الذين صحبوه كالأثرم وأبي داود
وقال أبو داود حديث منسوخ وذكر أبو داود بإسناده عن ابن شهاب أنه كان إذا ذكر له أنه نهى عن صيام السبت يقول ابن شهاب هذا حديث حمصي وعن الأوزاعي قال ما زلت له كاتما حتى رأيته انتشر بعد يعني حديث ابن بسر في صوم يوم السبت
قال أبو داود قال مالك هذا كذب وأكثر أهل العلم على عدم الكراهة
وأما أكثر أصحابنا ففهموا من كلام أحمد الأخذ بالحديث وحمله على الافراد فإنه سئل عن عين الحكم فأجاب بالحديث وجوابه بالحديث يقتضي اتباعه وما ذكر عن يحيى إنما هو بيان ما وقع فيه من الشبهة وهؤلاء يكرهون إفراده بالصوم عملا بهذا الحديث بجودة إسناده وذلك موجب للعمل به وحملوه على الافراد كصوم يوم الجمعة وشهر رجب
وقد روى أحمد في المسند من حديث ابن لهيعة حدثنا موسى بن وردان عن عبيد الأعرج حدثتني جدتي يعني الصماء أنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم السبت هو يتغذى فقال تعالي تغذي فقالت إني صائمة فقال لها أصمت أمس قالت لا قال كلي فإن صيام يوم السبت لا لك ولا عليك
وهذا وإن كان إسناده ضعيفا لكن تدل عليه سائر الأحاديث
وعلى هذا فيكون قوله لا تصوموا يوم السبت أي لا تقصدوا صيامه بعينه إلا في الفرض فإن الرجل يقصد صومه بعينه بحيث لو لم يجب عليه إلا صوم يوم السبت كمن أسلم ولم يبق من الشهر إلا يوم السبت فإنه يصومه وحده
وأيضا فقصده بعينه في الفرض لا يكره بخلاف قصده بعينه في النفل فإنه يكره ولا تزول الكراهة إلا بضم غيره إليه أو موافقته عادة فالمزيل
للكراهة في الفرض مجرد كونه فرضا لا للمقارنة بينه وبين غيره وأما في النفل فالمزيل للكراهة ضم غيره إليه أو موافقته عادة ونحو ذلك
قد يقال الاستثناء أخرج بعض صور الرخصة وأخرج الباقي بالدليل ثم اختلف هؤلاء في تعليل الكراهة
فعللها ابن عقيل بأنه يوم تمسك فيه اليهود ويخصونه بالإمساك وهو ترك العمل فيه والصائم في مظنة ترك العمل فيصير صومه تشبها بهم وهذه العلة منتفية في الأحد
وعلله طائفة من الأصحاب بأنه يوم عيد لأهل الكتاب يعظمونه فقصده بالصوم دون غيره يكون تعظيما له فكره ذلك كما كره إفراد عاشوراء بالتعظيم لما عظمه أهل الكتاب وإفراد رجب أيضا لما عظمه المشركون
وهذا التعليل قد يعارض بيوم الأحد فإنه يوم عيد النصارى فإنه صلى الله عليه و سلم قال اليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى
وقد يقال إذا كان يوم عيد فمخالفتهم فيه بالصوم لا بالفطر
ويدل على ذلك ما رواه كريب مولى ابن عباس قال أرسلني ابن عباس وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم إلى أم سلمة أسألها أي الأيام كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أكثر صياما لها قالت كان يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام ويقول إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أحب أن أخالفهم رواه أحمد وابن أبي عاصم والنسائي وصححه بعض الحفاظ
وهذا نص في استحباب صوم يوم عيدهم لأجل قصد مخالفتهم
وقد روى عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس رواه الترمذي وقال حديث حسن قال وقد روى ابن مهدي هذا الحديث عن سفيان ولم يرفعه
وهذان الحديثان ليسا بحجة على من كره صوم يوم السبت وحده وعلل ذلك بأنهم يتركون فيه العمل والصوم مظنة ذلك فإنه إذا صام السبت والأحد زال الإفراد المكروه وحصلت المخالفة بصوم يوم فطرهم
فصل
وأما النيروز والمهرجان ونحوهم من أعياد المشركين فمن لم يكره صوم يوم السبت من الأصحاب وغيرهم قد لا يكره صوم ذلك اليوم بل ربما يستحبه لأجل مخالفتهم وكرهها أكثر الأصحاب
وقد قال أحمد في رواية عبد الله حدثنا وكيع عن سفيان عن رجل عن أنس والحسن أنهما كرها صوم يوم النيروز والمهرجان
قال أبي هو ابان بن عياش يعني الرجل
وقد اختلف الأصحاب هل يدل مثل ذلك على مذهبه على وجهين
وعللوا ذلك بأنهما يوما تعظمهما الكفار فيكون تخصيصهما بالصوم دون غيرهما موافقة لهم في تعظيمهما فكره كيوم السبت
قال الإمام أبو محمد المقدسي وعلى قياس هذا كل عيد للكفار أو يوم يفردونه بالتعظيم
وقد يقال يكره صوم يوم النيروز والمهرجان ونحوهما من الأيام العجمية التي لا تعرف بحساب العرب بخلاف ما جاء في الحديثين من يوم السبت والأحد لأنه إذا قصد صوم مثل هذه الأيام العجمية أو الجاهلية كانت ذريعة إلى إقامة شعار هذه الايام وأحياء أمرها وإظهار حالها بخلاف السبت والأحد فإنهما من حساب المسلمين فليس في صومهما مفسدة فيكون استحباب صوم أعيادهم
المعروفة بالحساب العربي الإسلامي مع كراهة الأعياد المعروفة بالحساب الجاهلي العجمي توفيقا بين الآثار والله أعلم
فصل
ومن المنكرات في هذا الباب سائر الأعياد والمواسم المبتدعة فإنها من المنكرات المكروهات سواء بلغت الكراهة التحريم أو لم تبلغه
وذلك أن أعياد أهل الكتاب والأعاجم نهي عنها لسببين
أحدهما أن فيها مشابهة للكفار
والثاني أنها من البدع
فما أحدث من المواسم والأعياد فهو منكر وإن لم يكن فيه مشابهة لأهل الكتاب لوجهين
أحدهما أن ذلك داخل في مسمى البدع والمحدثات فيدخل فيما رواه مسلم في صحيحه عن جابر قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم ويقول بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين أصبعين السبابة والوسطى ويقول أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة
وفي رواية للنسائي وكل ضلالة في النار
وفيما رواه أيضا في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد
وفي لفظ في الصحيحين من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد
وفي الحديث الصحيح الذي رواه أهل السنن عن العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا
كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة
وهذه قاعدة قد دلت عليها السنة والإجماع مع ما في كتاب الله من الدلالة عليها أيضا
قال تعالى أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله أو أوجبه بقوله أو فعله من غير أن يشرعه الله فقد شرع من الدين مالم يأذن به الله ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكا لله شرع له من الدين مالم يأذن به الله
نعم قد يكون متأولا في هذا الشرع فيغفر له لأجل تأويله إذا كان مجتهدا الاجتهاد الذي يعفي فيه عن المخطئ ويثاب أيضا على اجتهاده لكن لا يجوز اتباعه في ذلك كمالا يجوز اتباع سائر من قال أو عمل قولا أو عملا قد علم الصواب في خلافه وإن كان القائل أو الفاعل مأجورا أو معذورا
وقد قال سبحانه اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون قال عدي بن حاتم للنبي صلى الله عليه و سلم يا رسول الله ما عبدوهم قال ما عبدوهم ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم
فمن أطاع أحدا في دين لم يأذن به الله من تحليل أو تحريم أو استحباب أو إيجاب فقد لحقه من هذا الذم نصيب كما يلحق الآمر الناهي أيضا نصيب
ثم قد يكون كل منهما معفوا عنه لاجتهاده ومثابا أيضا على الاجتهاد فيتخلف عنه الذم لفوات شرطه أو لوجود مانعه وإن كان المقتضي له قائما
ويلحق الذم من يبين له الحق فيتركه أو من قصر في طلبه حتى لم يتبين له أو عرض عن طلب معرفته لهوى أو لكسل أو نحو ذلك
وأيضا فإن الله عاب على المشركين شيئين
أحدهما أنهم أشركوا به مالم ينزل به سلطانا
والثاني تحريمهم مالم يحرمه الله عليهم
وبين النبي صلى الله عليه و سلم ذلك فيما رواه مسلم عن عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه و سلم قال قال الله تعالى إني جعلت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي مالم أنزل به سلطانا قال سبحانه سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء فجمعوا بين الشرك والتحريم والشرك يدخل فيه كل عبادة لم يأذن الله بها فإن المشركين يزعمون أن عبادتهم إما واجبة وإما مستحبة وإن فعلها خير من تركها
ثم منهم من عبد غير الله ليتقرب بعبادته إلى الله
ومنهم من ابتدع دينا عبدوا به الله في زعمهم كما أحدثه النصارى من أنواع العبادات المحدثة
وأصل الضلال في أهل الأرض إنما نشأ من هذين إما اتخاذ دين لم يشرعه الله أو تحريم مالم يحرمه الله ولهذا كان الأصل الذي بنى الإمام أحمد وغيره من الأئمة عليه مذاهبهم أن أعمال الخلق تنقسم إلى عبادات يتخذونها دينا ينتفعون بها في الآخرة أو في الدنيا والآخرة وإلى عادات ينتفعون بها في معايشهم
فالأصل في العبادات أن لا يشرع منها إلا ما شرعه الله
والأصل في العادات أن لا يحظر منها إلا ما حظره الله
وهذه المواسم المحدثة إنما نهى عنها لما حدث فيها من الدين الذي يتقرب به كما سنذكره إن شاء الله
واعلم أن هذه القاعدة وهي الاستدلال بكون الشيء بدعة على كراهته قاعدة عامة عظيمة وتمامها بالجواب عما يعارضها
وذلك أن من الناس من يقول البدع تنقسم إلى قسمين حسنة وقبيحة بدليل قول عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح نعمت البدعة هذه وبدليل أشياء من الأقوال والأفعال أحدثت بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم وليست بمكروهة أو هي حسنة للأدلة الدالة على ذلك من الإجماع أو القياس
وربما يضم إلى ذلك من لم يحكم أصول العلم ما عليه كثير من الناس من كثير من العادات ونحوها فيجعل هذا أيضا من الدلائل على حسن بعض البدع إما بأن يجعل ما اعتاده هو ومن يعرفه إجماعا وإن لم يعلم قول سائر المسلمين في ذلك أو يستنكر تركه لما اعتاده بمثابة من وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا وما أكثر ما قد يحتج بعض من يتميز من المنتسبين إلى علم أو عبادة بحجج ليست من أصول العلم التي يعتمد في الدين عليها
والغرض أن هذه النصوص الدالة على ذم البدع معارضة بما دل على حسن بعض البدع إما من الأدلة الشرعية الصحيحة أو من حجج بعض الناس التي يعتمد عليها بعض الجاهلين أو المتأولين في الجملة
ثم هؤلاء المعارضون لهم هنا مقامان
أحدهما أن يقولوا إذا ثبت أن بعض البدع حسن وبعضها قبيح فالقبيح ما نهانا عنه الشارع أما ما سكت عنه من البدع فليس بقبيح بل قد يكون حسنا فهذا مما قد يقوله بعضهم
المقام الثاني أن يقال عن بدعة سيئة هذه بدعة حسنة لأن فيها من المصلحة كيت وكيت
وهؤلاء المعارضون يقولون ليست كل بدعة ضلالة
والجواب أما أن القول أن شر الأمور محدثاتها وأن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار والتحذير من الأمور المحدثات فهذا نص رسول الله
صلى الله عليه و سلم فلا يحل لأحد أن يدفع دلالته على ذم البدع ومن نازع في دلالته فهو مراغم
وأما المعارضات فالجواب عنها بأحد جوابين
إما بأن يقال ما ثبت حسنه فليس من البدع فيبقى العموم محفوظا لا خصوص فيه
وإما أن يقال ما ثبت حسنه فهو مخصوص من هذا العموم فيبقى العموم محفوظا لا خصوص فيه
وإما أن يقال ما ثبت حسنه فهو مخصوص من العموم والعام المخصوص دليل فيما عدا صورة التخصيص فمن اعتقد أن بعض البدع مخصوص من هذا العموم احتاج إلى دليل يصلح للتخصيص وإلا كان ذلك العموم اللفظي المعنوى موجبا للنهي
ثم المخصص هو الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع نصا واستنباطا وأما عادة بعض البلاد أو أكثرها وقول كثير من العلماء أو العباد أو أكثرهم ونحو ذلك فليس مما يصلح أن يكون معارضا لكلام الرسول صلى الله عليه و سلم حتى يعارض به
ومن اعتقد أن أكثر هذه العادات المخالفة للسنن مجمع عليها بناء على أن الأمة أقرتها ولم تنكرها فهو مخطئ في هذا الاعتقاد فإنه لم يزل ولا يزال في كل وقت من ينهى عن عامة العادات المحدثة المخالفة للسنة ولا يجوز دعوى إجماع بعمل بلد أو بلاد من بلدان المسلمين فكيف بعمل طوائف منهم وإذا كان أكثر أهل العلم لم يعتمدوا على عمل علماء أهل المدينة وإجماعهم في عصر مالك بل رأوا السنة حجة عليهم كما هي حجة على غيرهم مع ما أوتوه من العلم والإيمان فكيف يعتمد المؤمن العالم على عادات أكثر من اعتادها عامة أو من قيدته العامة أو قوم مترئسون بالجهالة لم يرسخوا في العلم ولا يعدون من
أولي الأمر ولا يصلحون للشورى ولعلهم لم يتم إيمانهم بالله وبرسوله أو قد دخل معهم فيها بحكم العادة قوم من أهل الفضل عن غير روية أو لشبهة أحسن أحوالهم فيها أن يكونوا فيها بمنزلة المجتهدين من الأئمة والصديقين
والاحتجاج بمثل هذه الحجج والجواب عنها معلوم أنه ليس طريقة أهل العلم لكن لكثرة الجهالة قد يستند إلى مثلها خلق كثير من الناس حتى من المنتسبين إلى العلم والدين وقد يبدو لذوي العلم والدين فيها مستند آخر من الأدلة الشرعية والله يعلم أن قوله بها وعلمه لها ليس مستندا آخر من الأدلة الشرعية وإن كان شبهة وإنما هو مستند إلى أمور ليست مأخوذة عن الله ولا عن رسوله من أنواع المستندات إليها غير أولي العلم والإيمان وإنما يذكر الحجة الشرعية حجة على غيره ودفعا لما يناظره
والمجادلة المحمودة إنما هي بإبداء المدارك وإظهار الحجج التي هي مستند الأقوال والأعمال وأما إظهار الاعتماد على ما ليس هو المعتمد في القول والعمل فنوع من النفاق في العلم والجدل والكلام والعمل
وايضا لا يجوز حمل قوله صلى الله عليه و سلم كل بدعة ضلالة على البدعة التي نهى عنها بخصوصها لأن هذا تعطيل لفائدة هذا الحديث فإن ما نهى عنه من الكفر والفسوق وأنواع المعاصي قد علم بذلك النهي أنه قد أبيح محرم سواء كان بدعة أو لم يكن بدعة فإذا كان لا منكر في الدين إلا ما نهى عنه بخصوصه سواء كان مفعولا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لم يكن وما نهى عنه فهو منكر سواء كان بدعة أو لم يكن صار وصف البدعة عديم التأثير لا يدل وجوده على القبح ولا عدمه على الحسن بل يكون قوله كل بدعة ضلالة بمنزلة قوله كل عادة ضلالة أو كل ما عليه العرب والعجم فهو ضلالة ويراد بذلك أن ما نهى عنه من ذلك فهو الضلالة
وهذا تعطيل للنصوص من نوع التحريف والإلحاد ليس من نوع التأويل السائغ وفيه من المفاسد أشياء
أحدها سقوط الاعتماد على هذا الحديث فإن ما علم أنه منهي عنه بخصوصه فقد علم حكمه بذلك النهي ومالم يعلم فلا يندرج في هذا الحديث فلا يبقى في هذا الحديث فائدة مع كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخطب به في الجمع ويعده من جوامع الكلم
الثاني أن لفظ البدعة ومعناها يكون اسما عديم التأثير فتعليق الحكم بهذا اللفظ أو المعنى تعليق له بما لا تأثير له كسائر الصفات العديمة التأثير
الثالث أن الخطاب بمثل هذا إذا لم يقصد إلا الوصف الآخر وهو كونه منهيا عنه كتمان لما يجب بيانه وبيان لما يقصد ظاهره فإن البدعة والنهي الخاص بينهما عموم وخصوص إذ ليس كل بدعة جاء عنها نهي خاص وليس كل ما جاء فيه نهي خاص بدعة فالتكلم بأحد الاسمين وإرادة الآخر تلبيس محض لا يسوغ للمتكلم إلا أن يكون مدلسا كما لو قال الأسود وعنى به الفرس أو الفرس وعنى به الأسود
الرابع أن قوله كل بدعة ضلالة وإياكم ومحدثات الأمور إذا أراد بهذا ما فيه نهي خاص كان قد أحالهم في معرفة المراد بهذا الحديث على مالا يكاد يحيط به أحد ولا يحيط بأكثره إلا خواص الأمة ومثل هذا لا يجوز بحال
الخامس أنه إذا أريد به ما فيه النهي الخاص كان ذلك أقل مما ليس فيه نهي خاص من البدع فإنك لو تأملت البدع التي نهى عنها بأعيانها وما لم ينه عنها بأعيانها وجدت هذا الضرب هو الأكثر واللفظ العام لا يجوز أن يراد به الصور القليلة أو النادرة
فهذه الوجوه وغيرها توجب القطع بأن هذا التأويل فاسد لا يجوز حمل
الحديث عليه سواء أراد المتأول أن يعضد التأويل بدليل صارف أو لم يعضده فإن على المتأول بيان جواز إرادة المعنى الذي حمل الحديث عليه من ذلك الحديث ثم بيان الدليل الصارف له إلى ذلك
وهذه الوجوه تمنع جواز إرادة هذا المعنى بالحديث
فهذا الجواب عن مقامهم الأول
وأما مقامهم الثاني فيقال هب أن البدع تنقسم إلى حسن وقبيح فهذا القدر لا يمنع أن يكون هذا الحديث دالا على قبح الجميع لكن أكثر ما يقال إنه إذا ثبت أن هذا حسن يكون مستثنى من العموم وإلا فالأصل أن كل بدعة ضلالة
فقد تبين أن الجواب عن كل ما يعارض به من أنه حسن وهو بدعة إما بأنه ليس ببدعة وإما بأنه مخصوص فقد سلمت دلالة الحديث
وهذا الجواب إنما هو عما ثبت حسنه
فأما أمور أخرى قد يظن أنها حسنة وليست بحسنة أو أمور يجوز أن تكون حسنة ويجوز أن لا تكون حسنة فلا تصلح المعارضة بها بل يجاب عنها بالجواب المركب
وهو إن ثبت أن هذا حسن فلا يكون بدعة أو يكون مخصوصا وإن لم يثبت أنه حسن فهو داخل في العموم
وإذا عرفت أن الجواب عن هذه المعارضة بأحد الجوابين فعلى التقديرين الدلالة من الحديث باقية لا ترد بما ذكروا ولا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله صلى الله عليه و سلم الكلية وهي قوله كل بدعة ضلالة بسلب عمومها وهو أن يقال ليست كل بدعة ضلالة فإن هذا إلى مشاقة الرسول أقرب منه إلى التأويل
بل الذي يقال فيما يثبت به حسن الأعمال التي قد يقال هي بدعة إن هذا
العمل المعين مثلا ليس ببدعة فلا يندرج في الحديث أو إن اندرج لكنه مستثنى من هذا العموم لدليل كذا وكذا الذي هو أقوم من العموم مع أن الجواب الأول أجود
وهذا الجواب فيه نظر فإن قصد التعميم المحيط ظاهر من نص رسول الله صلى الله عليه و سلم بهذه الكلمة الجامعة فلا يعدل عن مقصوده بأبي هو وأمي صلى الله عليه و سلم
فأما صلاة التراويح فليست بدعة في الشريعة بل هي سنة بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم وفعله فانه قال إن الله فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه
ولا صلاتها جماعة بدعة بل هي سنة في الشريعة بل قد صلاها رسول الله صلى الله عليه و سلم في الجماعة في أول شهر رمضان ليلتين بل ثلاثا وصلاها أيضا في العشر الأواخر في جماعة مرات وقال إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة لما قام بهم حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح رواه أهل السنن
وبهذا الحديث احتج أحمد وغيره على أن فعلها في الجماعة أفضل من فعلها في حال الانفراد
وفي قوله هذا ترغيب في قيام شهر رمضان خلف الإمام وذلك أوكد من أن يكون سنة مطلقة وكان الناس يصلونها جماعة في المسجد على عهده صلى الله عليه و سلم ويقرهم وإقراره سنة منه صلى الله عليه و سلم
وأما قول عمر نعمت البدعة هذه فأكثر المحتجين بهذا لو أردنا أن نثبت حكما بقول عمر الذي لم يخالف فيه لقالوا قول الصاحب ليس بحجة فكيف يكون حجة لهم في خلاف قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن اعتقد أن قول الصاحب حجة فلا يعتقده إذا خالف الحديث
فعلى التقديرين لا تصلح معارضة الحديث بقول الصاحب
نعم يجوز تخصيص عموم الحديث بقول الصاحب الذي لم يخالف على إحدى الروايتين فيفيدهم هذا حسن تلك البدعة أما غيرها فلا
ثم نقول أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعة مع حسنها وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية وذلك أن البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداء من غير مثال سابق وأما البدعة الشرعية فكل مالم يدل عليه دليل شرعي
فإذا كان نص رسول الله صلى الله عليه و سلم قد دل على استحباب فعل أو إيجابه بعد موته أو دل عليه مطلقا ولم يعمل به إلا بعد موته ككتاب الصدقة الذي أخرجه أبو بكر رضي الله عنه فإذا عمل أحد ذلك العمل بعد موته صح أن يسمى بدعة في اللغة لأنه عمل مبتدأ كما أن نفس الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه و سلم يسمى بدعة ويسمى محدثا في اللغة كما قالت رسل قريش للنجاشي عن أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم المهاجرين إلى الحبشة إن هؤلاء خرجوا من دين آبائهم ولم يدخلوا في دين الملك وجاءوا بدين محدث لا يعرف
ثم ذلك العمل الذي يدل عليه الكتاب والسنة ليس بدعة في الشريعة وإن سمي بدعة في اللغة
فلفظ البدعة في اللغة أعم من لفظ البدعة في الشريعة
وقد علم أن قول النبي صلى الله عليه و سلم كل بدعة ضلالة لم يرد به كل عمل مبتدأ فإن دين الإسلام بل كل دين جاءت به الرسل فهو عمل مبتدأ وإنما أراد ما ابتديء من الأعمال التي لم يشرعها هو صلى الله عليه و سلم
وإذا كان كذلك فالنبي صلى الله عليه و سلم قد كانوا يصلون قيام رمضان على عهده جماعة وفرادى وقد قال لهم في الليلة الثالثة والرابعة لما اجتمعوا إنه لم يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهة أن يفرض عليكم فصلوا في بيوتكم فإن
أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة فعلل صلى الله عليه و سلم عدم الخروج بخشية الافتراض فعلم بذلك أن المقتضى للخروج قائم وأنه لولا خوف الافتراض لخرج إليهم فلما كان في عهد عمر جمعهم على قارئ واحد واسرج المسجد فصارت هذه الهيئة وهي اجتماعهم في المسجد على إمام واحد مع الإسراج عملا لم يكونوا يعملونه من قبل فسمي بدعة لأنه في اللغة يسمى بذلك وإن لم يكن بدعة شرعية لأن السنة اقتضت أنه عمل صالح لولا خوف الافتراض وخوف الافتراض قد زال بموته صلى الله عليه و سلم فانتفى المعارض
وهكذا جمع القرآن فإن المانع من جمعه على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم كان أن الوحي كان لا يزال ينزل فيغير الله ما يشاء ويحكم ما يريد فلو جمع في مصحف واحد لتعسر أو تعذر تغييره كل وقت فلما استقر القرآن بموته صلى الله عليه و سلم واستقرت الشريعة بموته صلى الله عليه و سلم أمن الناس من زيادة القرآن ونقصه وأمنوا من زيادة الايجاب والتحريم والمقتضي للعمل قائم بسنته صلى الله عليه و سلم فعمل المسلمون بمقتضى سنته وذلك العمل من سنته وإن كان يسمى هذا في اللغة بدعة وصار هذا كنفي عمر رضي الله عنه ليهود خيبر ونصارى نجران ونحوهم من أرض العرب فإن النبي صلى الله عليه و سلم عهد بذلك في مرضه فقال أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب وإنما لم ينفذه أبو بكر رضي الله عنه لاشتغاله عنه بقتال أهل الردة وبشروعه في قتال فارس والروم وكذلك عمر لم يمكنه فعله في أول الأمر لاشتغاله بقتال فارس والروم فلما تمكن من ذلك فعل ما أمر به النبي صلى الله عليه و سلم وإن كان هذا الفعل قد يسمى بدعة في اللغة كما قال له اليهود كيف تخرجنا وقد أقرنا أبو القاسم وكما جاءوا إلى علي رضي الله عنه في خلافته فأرادوا منه إعادتهم وقالوا كتابك بخطك فامتنع من ذلك لأن ذلك الفعل من عمر كان بعهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم وإن كان محدثا بعده ومغيرا لما فعله هو صلى الله عليه و سلم
وكذلك قوله صلى الله عليه و سلم خذوا العطاء ما كان عطاء فإذا كان عوضا عن دين أحدكم فلا تأخذوه فلما صار الأمراء يعطون مال الله لمن يعينهم على أهوائهم وإن كانت معصية كان من امتنع من أخذه متبعا لسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وإن كان ترك قبول العطاء من أولى الأمر محدثا لكن لما أحدثوا ما أحدثوه أحدث لهم حكم آخر بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم
وكذلك دفعه إلى أهبان بن صيفي سيفا وقوله قاتل به المشركين فإذا رأيت المسلمين قد اقتتلوا فاكسره فإن كسره لسيفه وإن كان محدثا حيث لم يكن المسلمون يكسرون سيوفهم على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم لكن هو بأمره صلى الله عليه و سلم
ومن هذا الباب قتال أبي بكر لمانعي الزكاة فإنه وإن كان بدعة لغوية من حيث إن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقاتل أحدا على إيتاء الزكاة فقط لكن لما قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله وقد علم أن الزكاة من حق لا إله إلا الله فلم يعصم مجرد قولها من منع الزكاة كما بينه في الحديث الآخر الصحيح حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وهذا باب واسع
والضابط في هذا والله أعلم أن يقال إن الناس لا يحدثون شيئا إلا لأنهم يرونه مصلحة إذ لو اعتقدوه مفسدة لم يحدثوه فإنه لا يدعو إليه عقل ولا دين فما رآه المسلمون مصلحة نظر في السبب المحوج إليه فإن كان السبب المحجوج إليه أمرا حدث بعد النبي صلى الله عليه و سلم لكن تركه النبي صلى الله عليه و سلم من غير تفريط منا فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه وكذلك إن
كان المقتضي لفعله قائما على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم لكن تركه النبي صلى الله عليه و سلم لمعارض قد زال بموته
وإما مالم يحدث سبب يحوج إليه أو كان السبب المحوج إليه بعض ذنوب العباد فهنا لا يجوز الإحداث فكل أمر يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم موجودا لو كان مصلحة ولم يفعل يعلم أنه لبس بمصلحة
وأما ما حدث المقتضى له بعد موته من غير معصية الخالق فقد يكون مصلحة
ثم هنا للفقهاء طريقان
أحدهما أن ذلك يفعل مالم ينه عنه وهذا قول القائلين بالمصالح المرسلة
والثاني أن ذلك لا يفعل مالم يؤمر به وهو قول من لا يرى إثبات الأحكام بالمصالح المرسلة وهؤلاء ضربان
منهم من لا يثبت الحكم إن لم يدخل تحت دليل من كلام الشارع أو فعله أو إقراره وهم نفاة القياس
ومنهم من يثبته بلفظ الشارع أو بمعناه وهم القياسيون
فأما ما كان المقتضى لفعله موجودا لو كان مصلحة وهو مع هذا لم يشرعه فوضعه تغيير لدين الله تعالى وإنما أدخله فيه من نسب إلى تغيير الدين من الملوك والعلماء والعباد أو من زل منهم باجتهاد كما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم وغير واحد من الصحابة إن أخوف ما أخاف عليكم زلة عالم أو جدال منافق بالقرآن وأئمة مضلون
فمثال هذا القسم الأذان في العيدين فإن هذا لما احدثه بعض الأمراء أنكره المسلمون لأنه بدعة فلو لم يكن كونه بدعة دليلا على كراهته وإلا لقيل هذا ذكر الله ودعاء للخلق إلى عبادة الله فيدخل في العمومات كقوله تعالى اذكروا الله ذكرا كثيرا وقوله تعالى ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله أو يقاس على الأذان في الجمعة فإن الاستدلال على حسن
الأذان في العيدين أقوى من الاستدلال على حسن أكبر البدع
بل يقال ترك رسول الله صلى الله عليه و سلم له مع وجود ما يعتقد مقتضيا وزوال المانع سنة كما أن فعله سنة
فلما أمر بالأذان في الجمعة وصلى العيدين بلا أذان ولا إقامة كان ترك الأذان فيهما سنة فليس لأحد أن يزيد في ذلك بل الزيادة في ذلك كالزيادة في أعداد الصلاة وأعداد الركعات أو الحج فإن رجلا لو أحب أن يصلي الظهر خمس ركعات وقال هذا زيادة عمل صالح لم يكن له ذلك وكذلك لو أراد أن ينصب مكانا آخر يقصد لدعاء الله فيه وذكره لم يكن له ذلك وليس له أن يقول هذه بدعة حسنة بل يقال له كل بدعة ضلالة
ونحن نعلم أن هذا ضلالة قبل أن نعلم نهيا خاصا عنها أو أن نعلم ما فيها من المفسدة
فهذا مثال لما حدث مع قيام المقتضي له وزوال المانع لو كان خيرا
فإن كل ما يبديه المحدث لهذا من المصلحة أو يستدل به من الأدلة قد كان ثابتا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ومع هذا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه و سلم فهذا الترك سنة خاصة مقدمة على كل عموم وكل قياس
ومثال ما حدثت الحاجة إليه من البدع بتفريط من الناس تقديم الخطبة على الصلاة في العيدين فإنه لما فعله بعض الأمراء أنكره المسلمون لأنه بدعة واعتذار من أحدثه بأن الناس قد صاروا ينفضون قبل سماع الخطبة وكانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم لا ينفضون حتى يسمعوا أو أكثرهم
فيقال له سبب هذا تفريطك فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان يخطبهم خطبة يقصد بها نفعهم وتبليغهم وهدايتهم وأنت تقصد إقامة رياستك وإن قصدت صلاح دينهم فلست تعلمهم ما ينفعهم فهذه المعصية منك لا تبيح لك إحداث معصية أخرى بل الطريق في ذلك أن تتوب إلى الله وتتبع سنة نبيه
وقد استقام الأمر وإن لم يستقم فلا يسألك الله إلا عن عملك لا عن عملهم
وهذان المعنيان من فهمهما انحل عنه كثير من شبه البدع الحادثة فإنه قد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ما أحدث قوم بدعة إلا نزع الله عنهم من السنة مثلها
وقد أشرت إلى هذا المعنى فيما تقدم وبينت أن الشرائع أغذية القلوب فمتى اغتذت القلوب بالبدع لم يبق فيها فضل للسنن فتكون بمنزلة من اغتذى بالطعام الخبيث
وعامة الأمراء إنما أحدثوا أنواعا من السياسات الجائرة من أخذ أموال لا يجوز أخذها وعقوبات على الجرائم لا تجوز لأنهم فرطوا في المشروع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلا فلو قبضوا ما يسوغ قبضه ووضعوه حيث يسوغ وضعه طالبين بذلك إقامة دين الله لا رياسة أنفسهم وأقاموا الحدود المشروعة على الشريف والوضيع والقريب والبعيد متحرين في ترغيبهم وترهيبهم للعدل الذي شرعه الله لما احتاجوا إلى المكوس الموضوعة ولا إلى العقوبات الجائرة ولا إلى من يحفظهم من العبيد والمستعبدين كما كان الخلفاء الراشدون وعمر بن عبد العزيز وغيرهم من أمراء بعض الأقاليم
وكذلك العلماء إذا أقاموا كتاب الله وفقهوا ما فيه من البينات التي هي حجج الله وما فيه من الهدى الذي هو العلم النافع والعمل الصالح وأقاموا حكمة الله التي بعث بها رسوله صلى الله عليه و سلم وهي سنته لوجدوا فيها من أنواع العلوم النافعة ما يحيط بعلم عامة الناس ولميزوا حينئذ بين المحق والمبطل من جميع الخلق بوصف الشهادة التي جعلها الله لهذه الأمة حيث يقول عز و جل وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ولا استغنوا بذلك عما ابتدعه المبتدعون من الحجج الفاسدة التي يزعم الكلاميون أنهم ينصرون بها أصل الدين ومن الرأي الفاسد الذي يزعم القياسيون أنهم يتمون
به فروع الدين وما كان من الحجج صحيحا ومن الرأي سديدا فذلك له أصل في كتاب الله وسنة رسوله فهمه من فهمه وحرمه من حرمه
وكذلك العباد إذا تعبدوا بما شرع الله من الأقوال والأعمال ظاهرا وباطنا وذاقوا طعم الكلم الطيب والعمل الصالح الذي بعث الله به رسوله لوجدوا في ذلك من الأحوال الزكية والمقامات العلية والنتائج العظيمة ما يغنيهم عما قد حدث من نوعه كالتغيير ونحوه من السماعات المبتدعة الصارفة عن سماع القرآن وأنواع من الأذكار والأوراد لفقها بعض الناس أو في قدره كزيادات من التعبدات أحدثها من أحدثها لنقص تمسكه بالمشروع منها وإن كان كثير من العباد والعلماء بل والأمراء قد يكون معذورا فيما أحدثه لنوع اجتهاد
فالغرض أن يعرف الدليل الصحيح وإن كان التارك له قد يكون معذورا لاجتهاده بل قد يكون صديقا عظيما فليس من شرط الصديق أن يكون قوله كله صحيحا وعمله كله سنة إذ قد يكون بمنزلة رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا باب واسع
والكلام في أنواع البدع وأحكامها وصفاتها لا يتسع له هذا الكتاب وإنما الغرض التنبيه على ما يزيل شبهة المعارضة للحديث الصحيح الذي ذكرناه والتعريف بأن النصوص الدالة على ذم البدع مما يجب العمل بها
والوجه الثاني في ذم المواسم والأعياد المحدثة ما تشتمل عليه من الفساد في الدين
واعلم أنه ليس كل واحد بل ولا أكثر الناس يدرك فساد هذاالنوع من البدع ولا سيما إذا كان من جنس العبادات المشروعة بل أولو الألباب هم الذين يدركون بعض ما فيه من الفساد
والواجب على الخلق اتباع الكتاب والسنة وإن لم يدركوا ما في ذلك من المصلحة والمفسدة فننبه على بعض مفاسدها
فمن ذلك أن من أحدث عملا في يوم كإحداث صوم أول خميس من رجب والصلاة في ليلة تلك الجمعة التي يسميها الجاهلون صلاة الرغائب مثلا وما يتبع ذلك من إحداث أطعمة وزينة وتوسيع في النفقة ونحو ذلك فلا بد أن يتبع هذا العمل اعتقاد في القلب
وذلك لأنه لا بد أن يعتقد أن هذا اليوم أفضل من أمثاله وأن الصوم فيه مستحب فيه استحبابا زائدا على الخميس الذي قبله والذي بعده مثلا وأن هذه الليلة أفضل من غيرها من ليالي الجمع وأن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في غيرها من ليالي الجمع خصوصا وسائر الليالي عموما إذ لولا قيام هذا الاعتقاد في قلبه أو في قلب متبوعه لما انبعث القلب لتخصيص هذا اليوم والليلة فإن الترجيح من غير مرجح ممتنع
وهذا المعنى قد شهد له الشرع بالاعتبار في هذا الحكم ونص على تأثيره فهو من معاني المناسبة المؤثرة فإن مجرد المناسبة مع الاقتران يدل على العلة عند من يقول بالمناسب القريب وهم كثير من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم ومن لا يقول إلا بالمؤثرة فلا يكتفى بمجرد المناسبة حتى يدل الشرع على أن مثل ذلك الوصف مؤثر في مثل ذلك الحكم وهو قول كثير من الفقهاء أيضا من أصحابنا وغيرهم
وهؤلاء إذا رأوا أن في الحكم المنصوص معنى قد أثر في مثل ذلك الحكم في موضع آخر عللوا ذلك الحكم المنصوص به
وهنا قول ثالث قاله كثير من أصحابنا وغيرهم أيضا وهو أن الحكم المنصوص لا يعلل إلا بوصف دل الشرع على أنه معلل به ولا يكتفى بكونه علل به نظير أو نوعه
وتلخيص الفرق بين الأقوال الثلاثة أنا إذا رأينا الشارع قد نص على الحكم ودل على علته كما قال في الهرة إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات فهذه العلة تسمى المنصوصة أو المومى إليها علمت مناسبتها أو لم تعلم فيعمل بموجبها باتفاق الطوائف الثلاث وإن اختلفوا هل يسمى هذا قياسا أو لا يسمى
ومثاله في كلام الناس ما لو قال السيد لعبده لا تدخل داري فلانا فإنه مبتدع أو فإنه أسود ونحو ذلك فإنه يفهم منه أنه لا يدخل داره من كان مبتدعا أو من كان أسود وهو نظير أن يقول لا تدخل داري مبتدعا ولا أسود ولهذا نعمل نحن بمثل هذا في باب الإيمان فلو قال لا لبست هذا الثوب الذي يمن به علي فلان حنث بما كانت منته فيه مثل منته وهو ثمنه ونحو ذلك
وأما إذا رأينا الشارع قد حكم بحكم ولم يذكر علته لكن قد ذكر علة نظيره أو نوعه مثل أنه جوز للأب أن يزوج ابنته الصغيرة البكر بلا إذنها وقد رأيناه جوز له الاستيلاء على مالها لكونها صغيرة فهل نعتقد أن علة ولاية النكاح هي الصغر مثلا كما أن ولاية المال كذلك أم نقول بل قد يكون لنكاح الصغيرة علة أخرى وهي البكارة مثلا فهذه العلة هي المؤثرة أي قد بين الشارع تأثيرها في حكم منصوص وسكت عن بيان تأثيرها في نظير ذلك الحكم
فالفريقان الأولان يقولان بها وهو في الحقيقة إثبات للعلة بالقياس فإنه يقول كما أن هذا الوصف أثر في الحكم في ذلك المكان كذلك يؤثر فيه في هذا المكان
والفريق الثالث لا يقول بها إلا بدلالة خاصة لجواز أن يكون النوع الواحد من الأحكام له علل مختلفة
ومن هذا النوع أنه صلى الله عليه و سلم نهى عن أن يبيع الرجل على
بيع أخيه أو أن يسوم الرجل على سوم أخيه أو يخطب الرجل على خطبة أخيه فيعلل ذلك بما فيه من فساد ذات البين كما علل به في قوله لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم وإن كان هذا المثال يظهر التعليل فيه مالا يظهر في الأول فإنما ذاك لأنه لا يظهر فيه وصف مناسب للنهي إلا هذا
وأكبر دليل خاص على العلة ونظيره من كلام الناس أن يقول لا تعط هذا الفقير فإنه مبتدع ثم يسأله فقير آخر مبتدع فيقول لا تعطه وقد يكون ذلك الفقير عدوا له فهل يحكم بأن العلة هي البدعة أم يتردد لجواز أن تكون العلة هي العداوة
وأما إذا رأينا الشارع قد حكم بحكم ورأينا فيه وصفا مناسبا له لكن الشارع لم يذكر تلك العلة ولا علل بها نظير ذلك الحكم في موضع آخر فهذا هو الوصف المناسب الغريب لأنه لا نظير له في الشرع ولا دل كلام الشارع وإيماؤه عليه
فجوز الفريق الأول اتباعه ونفاه الآخران وهذا إدراك لعلة الشارع بنفس عقولنا من غير دلالة منه كما أن الذي قبله إدراك لعلته بنفس القياس على كلامه والأول إدراك لعلته بنفس كلامه
ومع هذا فقد تعلم علة الحكم المعين بالصبر وبدلالات أخرى
فإذا ثبتت هذه الأقسام فمسألتنا من باب العلة المنصوصة في موضع المؤثرة في موضع آخر
وذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن تخصيص أوقات بصلاة أو بصيام وأباح ذلك إذا لم يكن على وجه التخصيص
فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال
لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوما قبله أو يوما بعده وهذا لفظ البخاري
وروى البخاري عن جويرية بنت الحارث أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال أصمت أمس قالت لا قال أتريدين أن تصومي غدا قالت لا فأفطري
وفي الصحيحين عن محمد بن عباد بن جعفر قال سألت جابر بن عبد الله وهو يطوف بالبيت أنهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن صيام يوم الجمعة قال نعم ورب هذا البيت وهذا لفظ مسلم
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تصوموا يوم الجمعة وحده ورواه أحمد
ومثل هذا ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صوما فليصم ذلك اليوم لفظ البخاري يصوم عادته
فوجه الدلالة أن الشارع قسم الأيام باعتبار الصوم ثلاثة أقسام
قسم شرع تخصيصه بالصيام إما إيجابا كرمضان وإما استحبابا كيوم عرفة وعاشوراء
وقسم نهى عن صومه مطلقا كيوم العيدين
وقسم إنما نهى عن تخصيصه كيوم الجمعة وسرر شعبان
فهذا النوع لو صيم مع غيره لم يكره فإذا خصص بالفعل نهى عن ذلك
سواء قصد الصائم التخصيص أو لم يقصده وسواء اعتقد الرجحان أو لم يعتقده
ومعلوم أن مفسدة هذا العمل لولا أنها موجودة في التخصيص دون غيره لكان إما أن ينهى عنه مطلقا كيوم العيد أولا ينهى عنه كيوم عرفة وتلك المفسدة ليست موجودة في سائر الأوقات وإلا لم يكن للتخصيص بالنهي فائدة
فظهر أن المفسدة تنشأ من تخصيص مالا خصيصة له كما أشعر به لفظ الرسول صلى الله عليه و سلم فإن نفس الفعل المنهي عنه أو المأمور به قد يشتمل على حكمة الأمر والنهي كما في قوله خالفوا المشركين
فلفظ النهي عن تخصيص وقت بصوم أو صلاة يقتضي أن الفساد ناشئ من جهة الاختصاص فإذا كان يوم الجمعة يوما فاضلا يستحب فيه من الصلاة والدعاء والذكر والقراءة والطهارة والطيب والزينة مالا يستحب في غيره كان ذلك في مظنة أن يتوهم أن صومه أفضل من غيره ويعتقد أن قيام ليلته كالصيام في نهاره لها فضيلة على قيام غيرها من الليالي فنهي النبي صلى الله عليه و سلم عن التخصيص دفعا لهذه المفسدة التي لا تنشأ إلا من التخصيص
وكذلك تلقي رمضان قد يتوهم أن فيه فضلا لما فيه من الاحتياط للصوم ولا فضل فيه في الشرع فنهى الني صلى الله عليه و سلم عن تلقيه لذلك
وهذا المعنى موجود في مسألتنا فإن الناس قد يخصون هذه المواسم لاعتقادهم فيها فضيلة ومتى كان تخصيص هذا الوقت بصوم أو بصلاة قد يقترن باعتقاد فضل ذلك ولا فضل فيه نهي عن التخصيص إذ لا ينبعث التخصيص إلا عن اعتقاد الاختصاص
ومن قال إن الصلاة والصوم في هذه الليلة كغيرها هذا اعتقادي ومع ذلك فأنا أخصها فلا بد أن يكون باعثه إما تقليده غيره وإما اتباع العادة
وإما خوف اللوم له ونحو ذلك وإلا فهو كاذب فالداعي إلى هذا العمل لا يخلو قط من أن يكون ذلك عن الاعتقاد الفاسد أو عن باعث آخر غير ديني وذلك الاعتقاد ضلال
فإنا قد علمنا يقينا أن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه وسائر الأئمة لم يذكروا في فضل هذا اليوم ولا في فضل صومه بخصوص وفضل قيام هذه الليلة بخصوصها حرفا واحدا وأن الحديث المأثور فيها موضوع وأنها إنما حدثت في الإسلام بعد المائة الرابعة
ولا يجوز والحال هذه أن يكون لها فضل لأن ذلك الفضل إن لم يعلمه النبي صلى الله عليه و سلم ولا أصحابه ولا التابعون ولا سائر الأئمة امتنع أن نعلم نحن من الدين الذي يقرب إلى الله مالم يعلمه النبي صلى الله عليه و سلم ولا الصحابة التابعون وسائر الأئمة وإن علموه امتنع مع توفر دواعيهم على العمل الصالح وتعليم الخلق والنصيحة أن لا يعلموا أحدا بهذا الفضل ولا يسارع إليه واحد منهم
فإذا كان هذا الفضل المدعى مستلزما لعدم علم الرسول وخير القرون ببعض دين الله أو لكتمانهم وتركهم ما تقتضي شريعتهم وعاداتهم أن لا يكتموه ولا يتركوه وكل واحد من اللازمين منتف إما بالشرع وإما بالعادة مع الشرع علم انتفاء الملزوم وهو الفضل المدعى
ثم هذا العمل المبتدع مستلزم إما لاعتقاد هو ضلال في الدين أو عمل دين لغير الله والتدين بالاعتقادات الفاسدة أو التدين لغير الله لا يجوز
فهذه البدع وأمثالها مستلزمة قطعا أو ظاهرة لفعل مالا يجوز فأقل أحوال المستلزم إن لم يكن محرما أن يكون مكروها وهذا المعنى سار في سائر البدع المحدثة
ثم هذا الاعتقاد يتبعه أحوال في القلب من التعظيم والإجلال وتلك الأحوال أيضا باطلة ليست من دين الله
ولو فرض أن الرجل قد يقول أنا لا أعتقد الفضل فلا يمكنه مع التعبد أن يزيل الحال الذي في قلبه من التعظيم والإجلال والتعظيم والإجلال لا ينشأ إلا بشعور من جنس الاعتقاد ولو أنه توهم أو ظن أن هذا أمر ضروري فإن النفس لو خلت عن الشعور بفضل الشيء امتنعت مع ذلك أن تعظمه ولكن قد تقوم به خواطر متقابلة
فهو من حيث اعتقاده أنه بدعة يقتضي منه ذلك عدم تعظيمه ومن حيث شعوره بما روي فيه أو بفعل الناس له أو بأن فلانا وفلانا فعلوه أو بما يظهر له فيه من المنفعة يقوم بفعله وتعظيمه
فعلمت أن فعل هذه البدع تناقض الاعتقادات الواجبة وتنازع الرسل ما جاءوا به عن الله وأنها تورث القلب نفاقا ولو كان نفاقا خفيفا
ومثلها مثل أقوام كانوا يعظمون أبا جهل أو عبد الله بن أبي بن سلول لرياسته وماله ونسبه وإحسانه إليهم وسلطانه عليهم فإذا ذمه الرسول أو بين نقصه أو أمر بإهانته أو قتله فمن لم يخلص إيمانه وإلا يبقى في قلبه منازعة بين طاعة الرسول التابعة لاعتقاده الصحيح واتباع ما في نفسه من الحال التابع لتلك الظنون الكاذبة
فمن تدبر هذا علم يقينا ما في حشو البدع من السموم المضعفة للايمان
ولهذا قيل إن البدع مشتقة من الكفر
وهذا المعنى الذي ذكرته معتبر في كل ما نهى عنه الشارع من أنواع العبادات التي لا مزية لها في الشرع إذا جاز أن يتوهم لها مزية كالصلاة عند القبور والذبح عند الأصنام ونحو ذلك وإن لم يكن الفاعل معتقدا للمزية لكن
نفس الفعل قد يكون مظنة للمزية وكما أن إثبات الفضيلة الشرعية مقصود فرع الفضيلة غير الشرعية مقصود أيضا
فإن قيل هذا يعارضه أن هذه المواسم مثلا فعلها قوم من أولي العلم والفضل الصديقين فمن دونهم وفيها فوائد يجدها المؤمن في قلبه وغير قلبه من طهارة قلبه ورقته وزوال آثار الذنوب عنه وإجابة دعائه ونحو ذلك مع ما ينضم إلى ذلك من العمومات الدالة على فضل الصلاة والصيام كقوله تعالى أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى وقوله صلى الله عليه و سلم الصلاة نور وبرهان ونحو ذلك
قلنا لا ريب أن من فعلها متأولا مجتهدا أو مقلدا كان له أجر على حسن قصده وعلى عمله من حيث ما فيه من المشروع وكان ما فيه من المبتدع مغفورا له إذا كان في اجتهاده أو تقليده من المعذورين وكذلك ما ذكر فيها من الفوائد كلها إنما حصلت لما اشتملت عليه من المشروع في جنسه كالصوم والذكر والقراءة والركوع والسجود وحسن القصد في عبادة الله وطاعته ودعائه وما اشتملت عليه من المكروه وانتفى موجبه بعفو الله لاجتهاد صاحبه أو تقليده وهذا المعنى ثابت في كل ما يذكر في بعض البدع المكروهة من الفائدة
لكن هذا القدر لا يمنع كراهتها والنهي عنها والاعتياض عنها بالمشروع الذي لا بدعة فيه كما أن الذين زادوا الأذان في العيدين هم كذلك بل اليهود والنصارى يجدون في عباداتهم أيضا فوائد وذلك لأنه لا بد أن تشتمل عباداتهم على نوع ما مشروع في جنسه كما أن قولهم لا بد أن يشتمل على صدق ما مأثور عن الانبياء ثم مع ذلك لا يوجب أن تفعل عباداتهم أو تروى كلماتهم لأن جميع المبتدعات لا بد أن تشتمل على شر راجح على ما فيها من الخير إذ لو كان خيرها راجحا لما أهملتها الشريعة
فنحن نستدل بكونها بدعة على أن إثمها أكثر من نفعها وذلك هو الموجب للنهي
وأقول إن إثمها قد يزول عن بعض الأشخاص لمعارض الاجتهاد أو غيره كما يزول اسم الربا والنبيذ المختلف فيهما عن المجتهدين من السلف ثم مع ذلك يجب بيان حالها وأن لا يقتدى بمن استحلها وأن لا يقصر في طلب العلم المبين لحقيقتها
وهذا الدليل كاف في بيان أن هذه البدع مشتملة على مفاسد اعتقادية أو حالية مناقضة لما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم وأن ما فيها من المنفعة مرجوح لا يصلح للمعارضة
ثم يقال على سبيل التفصيل إذا فعلها قوم ذوو فضل فقد تركها قوم في زمان هؤلاء معتقدين لكراهتها وأنكرها قوم كذلك وهؤلاء التاركون والمنكرون إن لم يكونوا أفضل ممن فعلها فليسوا دونهم في الفضل ولو فرضوا دونهم في الفضل فتكون حينئذ قد تنازع فيها أولو الأمر فترد إذن إلى الله والرسول وكتاب الله وسنة رسوله مع من كرهها لا مع من رخص فيها
ثم عامة المتقدمين الذين هم أفضل من المتأخرين مع هؤلاء التاركين المنكرين
وأما ما فيها من المنفعة فيعارضه ما فيها من مفاسد البدع الراجحة
منها مع ما تقدم من المفسدة الاعتقادية والحالية أن القلوب تستعذبها وتستغني بها عن كثير من السنن حتى تجد كثيرا من العامة يحافظ عليها مالا يحافظ على التراويح والصلوات الخمس
ومنها أن الخاصة والعامة تنقص بسبها عنايتهم بالفرائض والسنن وتفتر رغبتهم فيها فتجد الرجل يجتهد فيها ويخلص وينيب ويفعل فيها مالا يفعله في الفرائض والسنن حتى كأنه يفعل هذه البدعة عبادة ويفعل الفرائض والسنن عادة ووظيفة وهذا عكس الدين فيفوته بذلك ما في الفرائض والسنن من المغفرة والرحمة والرقة والطهارة والخشوع وإجابة الدعوة وحلاوة المناجاة إلى غير ذلك من الفوائد وإن لم يفته هذا كله فلا بد أن يفوته كماله
ومنها ما في ذلك من مصير المعروف منكرا والمنكر معروفا وما يترتب على ذلك من جهالة أكثر الناس بدين المرسلين وانتشار زرع الجاهلية
ومنها اشتمالها على أنواع من المكروهات في الشريعة مثل تأخير الفطور وأداء العشاء الآخرة بلا قلوب حاضرة والمبادرة إلى تعجيلها والسجود بعد السلام لغير سهو وأنواع من الأذكار ومقاديرها لا أصل لها إلى غير ذلك من المفاسد التي لا يدركها إلا من استنارت بصيرته وسلمت سريرته
ومنها مسارقة الطبع إلى الانحلال من ربقة الاتباع وفوات سلوك الصراط المستقيم وذلك أن النفس فيها نوع من الكبر فتحب أن تخرج من العبودية والاتباع بحسب الإمكان كما قال أبو عثمان النيسابوري رحمه الله ما ترك أحد شيئا من السنة إلا لكبر في نفسه ثم هذا مظنة لغيره فينسلخ القلب عن حقيقة الاتباع للرسول ويصير فيه من الكبر وضعف الايمان ما يفسد عليه دينه أو يكاد وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
ومنها ما تقدم التنبيه عليه في أعياد أهل الكتاب من المفاسد التي توجد في كلا النوعين المحدثين النوع الذي فيه مشابهة والنوع الذي لا مشابهة فيه
والكلام في ذم البدع لما كان مقررا في غير هذا الموضع لم نطل النفس في تقريره بل نذكر بعض أعيان هذه المواسم
فصل
قد تقدم أن العيد يكون اسما لنفس المكان ولنفس الزمان ولنفس الاجتماع
وهذه الثلاثة قد أحدث منها أشياء
أما الزمان فثلاثة أنواع ويدخل فيها بعض بدع أعياد المكان والأفعال
أحدها يوم لم تعظمه الشريعة أصلا ولم يكن له ذكر في وقت السلف
ولا جرى فيه ما يوجب تعظيمه مثل أول خميس من رجب وليلة تلك الجمعة التي تسمى الرغائب فإن تعظيم هذا اليوم والليلة إنما حدث في الإسلام بعد المائة الرابعة وروي فيه حديث موضوع باتفاق العلماء مضمونه فضيلة صيام ذلك اليوم وفعل هذه الصلاة المسماة عند الجاهلين بصلاة الرغائب وقد ذكر ذلك بعض المتأخرين من العلماء من الأصحاب وغيرهم
والصواب الذي عليه المحققون من أهل العلم النهي عن إفراد هذا اليوم بالصوم وعن هذه الصلاة المحدثة وعن كل ما فيه تعظيم لهذا اليوم من صنعة الأطعمة وإظهار الزينة ونحو ذلك حتى يكون هذا اليوم بمنزلة غيره من بقية الأيام وحتى لا يكون له مزية أصلا
وكذلك يوم آخر في وسط رجب تصلى فيه صلاة تسمى صلاة أم داود فإن تعظم هذا اليوم لا أصل له في الشريعة أصلا
النوع الثاني ما جرى فيه حادثة كما كان يجري في غيره من غير أن يوجب ذلك جعله موسما ولا كان السلف يعظمونه كثامن عشري ذي الحجة الذي خطب فيه النبي صلى الله عليه و سلم بغدير خم مرجعه من حجة الوداع فإنه صلى الله عليه و سلم خطب فيه خطبة وصى فيها باتباع كتاب الله ووصى فيها بأهل بيته كما روى مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم رضي الله عنه
فزاد بعض أهل الأهواء في ذلك حتى زعموا أنه عهد إلى علي رضي الله عنه بالخلافة بالنص الجلي بعد أن فرش له وأقعده على فرش عالية وذكروا كلاما باطلا وعملا قد علم بالاضطرار أنه لم يكن من ذلك شيء وزعموا أن الصحابة تمالؤا على كتمان هذا النص وغصبوا الوصي حقه وفسقوا وكفروا إلا نفرا قليلا
والعادة التي جبل الله عليها بني آدم ثم ما كان عليها القوم من الأمانة والديانة وما أوجبته شريعتهم من بيان الحق يوجب العلم اليقيني بأن مثل هذا يمتنع كتمانه
وليس الغرض الكلام في مسألة الإمامة وإنما الغرض أن اتخاذ هذا اليوم
عيدا محدث لا أصل له فلم يكن في السلف لا من أهل البيت ولا من غيرهم من اتخذ ذلك عيدا حتى يحدث فيه أعمالا إذ الأعياد شريعة من الشرائع فيجب فيها الاتباع لا الابتداع وللنبي صلى الله عليه و سلم خطب وعهود ووقائع في أيام متعددة مثل يوم بدر وحنين والخندق وفتح مكة ووقت هجرته ودخوله المدينة وخطب له متعددة يذكر فيها قواعد الدين ثم لم يوجب ذلك أن يتخذ مثال تلك الأيام أعيادا وإنما يفعل مثل هذا النصارى الذين يتخذون أمثال أيام حوادث عيسى عليه السلام أعيادا أو اليهود وإنما العيد شريعة فما شرعه الله اتبع وإلا لم يحدث في الدين ما ليس منه
وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام وإما محبة للنبي صلى الله عليه و سلم وتعظيما له والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه و سلم عيدا
مع اختلاف الناس في مولده فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضى له وعدم المانع منه ولو كان هذا خيرا محضا أو راجحا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه و سلم وتعظيما له منا وهم على الخير أحرص وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته باطنا وظاهرا ونشر ما بعث به والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان فإن هذه هي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وأكثر هؤلاء الذين تجدونهم حرصاء على أمثال هذه البدع مع مالهم فيها من حسن القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم به المثوبة تجدونهم فاترين
في أمر الرسول عما أمروا بالنشاط فيه وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه أو يقرأ فيه ولا يتبعه وبمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه أو يصلي فيه قليلا وبمنزلة من يتخذ المسابح والسجادات المزخرفة وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تشرع ويصحبها من الرياء والكبر والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها كما جاء في الحديث ما ساء عمل أمة قط إلا زخرفوا مساجدهم
واعلم أن من الاعمال ما يكون فيه خير لاشتماله على أنواع من المشروع وفيه أيضا شر من بدعة وغيرها فيكون ذلك العمل شرا بالنسبة إلى الاعراض عن الدين بالكلية كحال المنافقين والفاسقين
وهذا قد ابتلي به أكثر الأمة في الأزمان المتأخرة فعليك هنا بأدبين
أحدهما أن يكون حرصك على التمسك بالسنة باطنا وظاهرا في خاصتك خاصة من يطيعك واعرف المعروف وأنكر المنكر
الثاني أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شر منه فلا تدعو إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه أو بترك واجب أو مندوب تركه أضر من فعل ذلك المكروه ولكن إذا كان في البدعة نوع من الخير فعوض عنه من الخير المشروع بحسب الإمكان إذا النفوس لا تترك شيئا إلا بشيء ولا ينبغي لأحد أن يترك خيرا إلا إلى مثله أو إلى خير منه فإنه كما أن الفاعلين لهذه البدع معيبون قد أتوا مكروها فالتاركون أيضا للسنن مذمومون فإن منها ما يكون واجبا على الاطلاق ومنها ما يكون
واجبا على التقييد كما أن الصلاة النافلة لا تجب ولكن من أراد أن يصليها يجب عليه أن يأتي بأركانها وكما يجب على من أتى الذنوب أن يأتي بالكفارات والقضاء والتوبة والحسنات الماحية وما يجب على من كان إماما أو قاضيا أو مفتيا أو واليا من الحقوق وما يجب على طالبي العلم أو نوافل العبادة من الحقوق
ومنها ما يكره المداومة على تركه كراهة شديدة
ومنها ما يكره تركه أو يجب فعله على الأئمة دون غيرهم وعامتها يجب تعليمها والحض عليها والدعاء إليها
وكثير من المنكرين لبدع العبادات تجدهم مقصرين في فعل السنن من ذلك أو الأمر به
ولعل حال كثير منهم يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك العادات المشتملة على نوع من الكراهة بل الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا قوام لأحدهما إلا بصاحبه فلا ينهى عن منكر ولا يؤمر بمعروف يغني عنه كما يؤمر بعبادة الله وينهى عن عبادة ما سواه
إذ رأس الأمر شهادة أن لا إله إلا الله والنفوس قد خلقت لتعمل لا لتترك وإنما رأوا الترك مقصودا لغيره فإن لم يشتغل بعمل صالح وإلا لم تترك العمل السيء أو الناقص لكن لما كان من الأعمال السيئة ما يفسد عليها العمل الصالح نهيت عنه حفظا للعمل الصالح
فتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعيظمه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد ولهذا قيل للامام أحمد عن بعض الأمراء إنه أنفق على مصحف ألف دينار ونحو ذلك فقال دعه فهذا أفضل ما أنفق فيه الذهب أو كما قال
مع أن مذهبه أن زخرفة المصاحف مكروهة وقد تأول بعض الأصحاب أنه أنفقها في تجديد الورق والخط
وليس مقصود أحمد هذا وإنما قصده أن هذا العمل فيه مصلحة وفيه أيضا مفسدة كره لأجلها
فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا وإلا اعتاضوا الفساد الذي لا صلاح فيه مثل أن ينفقها في كتاب من كتب الفجور ككتب الأسماء أوالأشعار أو حكمة فارس والروم
فتفطن لحقيقة الدين وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية والمفاسد بحيث تعرف ما ينبغي من مراتب المعروف ومراتب المنكر حتى تقدم أهمها عند المزاحمة فإن هذا حقيقة العمل بما جاءت به الرسل فإن التمييز بين جنس المعروف وجنس المنكر وجنس الدليل وغير الدليل يتيسر كثيرا فأما مراتب المعروف والمنكر ومراتب الدليل بحيث تقدم عند التزاحم أعرف المعروفين فتدعو إليه وتنكر أنكر المنكرين وترجح أقوى الدليلين فإنه هو خاصة العلماء بهذا الدين فالمراتب ثلاث
أحداها العمل الصالح المشروع الذي لا كراهة فيه
والثانية العمل الصالح من بعض وجوهه أو أكثرها إما لحسن القصد أو لاشتماله مع ذلك على أنواع من المشروع
الثالثة ما ليس فيه صلاح أصلا إما لكونه تركا للعمل مطلقا أو لكونه عملا فاسدا محضا
فأما الأول فهو سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم باطنها وظاهرها قولها وعملها في الأمور العلمية والعملية مطلقا فهذا هو الذي يجب تعلمه وتعليمه والأمر به وفعله على حسب مقتضى الشريعة من إيجاب واستحباب
والغالب على هذا الضرب هو أعمال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان
وأما المرتبة الثانية فهي كثيرة جدا في طرق المتأخرين من المنتسبين إلى علم أو عبادة ومن العامة أيضا وهؤلاء خير ممن لا يعمل عملا صالحا مشروعا ولا غير مشروع أو من يكون عمله من جنس المحرم كالكفر والكذب والخيانة والجهل ويندرج في هذا أنواع كثيرة
فمن تعبد ببعض هذه العبادات المشتملة على نوع من الكراهة كالوصال في الصيام وترك جنس الشهوات ونحو ذلك أو قصد إحياء ليال لا خصوص لها كأول ليلة من رجب ونحو ذلك قد يكون حاله خيرا من حال البطال الذي ليس فيه حرص على عبادة الله وطاعته بل كثير من هؤلاء الذين ينكرون هذه الأشياء زاهدون في جنس عبادة الله من العلم النافع والعمل الصالح أو في أحدهما لا يحبونها ولا يرغبون فيها لكن لا يمكنهم ذلك في المشروع فيصرفون قوتهم إلى هذه الأشياء فهم بأحوالهم منكرون للمشروع وغير المشروع وبأقوالهم لا يمكنهم إلا إنكار غير المشروع
ومع هذا فالمؤمن يعرف المعروف وينكر المنكر ولا يمنعه من ذلك موافقة بعض المنافقين له ظاهرا في الأمر بذلك المعروف والنهي عن ذلك المنكر ولا مخالفة بعض علماء المؤمنين
فهذه الأمور وأمثالها مما ينبغي معرفتها والعمل بها
النوع الثالث ما هو معظم في الشريعة كيوم عاشوراء ويوم عرفة ويومي العيدين والعشر الأواخر من شهر رمضان والعشر الأول من ذي الحجة وليلة الجمعة ويومها والعشر الأول من المحرم ونحو ذلك من الأوقات الفاضلة فهذا الضرب قد يحدث فيه ما يعتقد أن له فضيلة وتوابع ذلك ما يصير منكرا ينهى عنه مثل ما أحدث بعض أهل الأهواء في يوم عاشوراء من التعطش والتحزن والتجمع وغير ذلك من الأمور المحدثة التي لم يشرعها الله ولا رسوله ولا أحد من السلف لا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا من غيرهم لكن لما أكرم الله فيه سبط نبيه أحد سيدي شباب أهل الجنة وطائفة
من أهل بيته بأيدي الفجرة الذين أهانهم الله وكانت هذه مصيبة عند المسلمين يجب أن تتلقى به أمثالها من المصائب من الاسترجاع المشروع فأحدث بعض أهل البدع في مثل هذا اليوم خلاف ما أمر الله به عند المصائب وضموا إلى ذلك من الكذب والوقيعة في الصحابة البرآء من فتنة الحسين وغيرها أمورا أخرى مما يكرهها الله ورسوله وقد روي عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين رضي الله عنهم قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أصيب بمصيبة فذكر مصيبته فأحدث لها استرجاعا وإن تقادم عهدها كتب الله له من الأجر مثلها يوم أصيب رواه الإمام أحمد وابن ماجه
فتدبر كيف روى مثل هذا الحديث الحسين بن علي رضي الله عنهما وعنه بنته التي شهدت مصابه
وأما اتخاذ أمثال أيام المصائب مأتما فليس هذا من دين المسلمين بل هو إلى دين الجاهلية أقرب ثم هم قد فوتوا بذلك ما في صوم هذا اليوم من الفضل
وأحدث بعض الناس فيه أشياء مستندة إلى أحاديث موضوعة لا أصل لها مثل فضل الاغتسال فيه أو التكحل أو المصافحة وهذه الأشياء ونحوها من الأمور المبتدعة كلها مكروهة وإنما المستحب صومه
وقد روى في التوسع فيه على العيال آثار معروفة أعلى ما فيها حديث إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه قال بلغنا أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته رواه ابن عيينة وهذا بلاغ منقطع لا يعرف قائله والأشبه أن هذا وضع لما ظهرت للعصبية بين الناصبة والروافضة فإن هؤلاء أعدوا يوم عاشوراء مأتما فوضع أولئك فيه آثارا تقتضي التوسع فيه واتخاذه عيدا وكلاهما باطل
وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال سيكون في ثقيف كذاب ومبير فكان الكذاب المختار بن أبي عبيد وكان يتشيع
وينتصر للحسين ثم أظهر الكذب والافتراء على الله وكان فيها الحجاج بن يوسف وكان فيه انحراف على علي وشيعته وكان مبيرا
وهؤلاء فيهم بدع وضلال وأولئك فيهم بدع وضلال وإن كانت الشيعة أكثر كذبا وأسوأ حالا
لكن لا يجوز لأحد أن يغير شيئا من الشريعة لأجل أحد وإظهار الفرح والسرور يوم عاشوراء وتوسيع النفقات فيه هو من البدع المحدثة المقابلة للرافضة وقد وضعت في ذلك أحاديث مكذوبة في فضائل ما يصنع فيه من الاغتسال والاكتحال وغير ذلك وصححها بعض الناس كابن ناصر وغيره ليس فيها ما يصح لكن رويت لأناس اعتقدوا صحتها فعملوا بها ولم يعلموا أنها كذب فهذا مثل هذا
وقد يكون سبب الغلو في تعظيمه من بعض المنتسبة لمقابلة الروافض
فإن الشيطان قصده أن يحرف الخلق عن الصراط المستقيم ولا يبالي إلى أي الشقين صاروا
فينبغي أن يجتنب هذه المحدثات
ومن هذا الباب شهر رجب فإنه أحد الأشهر الحرم وقد روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان إذا دخل شهر رجب قال اللهم بارك لنا في شهري رجب وشعبان وبلغنا رمضان ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم في فضل رجب حديث آخر بل عامة الأحاديث المأثورة فيه عن النبي صلى الله عليه و سلم كلها كذب والحديث إذا لم يعلم أنه كذب فروايته في الفضائل أمر قريب أما إذا علم أنه كذب فلا يجوز روايته إلا مع بيان حاله لقوله صلى الله عليه و سلم من روى عني حديثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين
نعم روي عن بعض السلف في تفضيل العشر الأول من رجب بعض الأثر وروي غير ذلك
فاتخاذه موسما بحيث يفرد بالصوم مكروه عند الإمام أحمد وغيره كما روى عن عمر بن الخطاب وأبي بكر وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم
وروى ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن صوم رجب رواه عن إبراهيم بن المنذر الحزامي حدثنا داود بن عطاء حدثني زيد بن عبد الحميد عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن سليمان بن علي عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما وليس بقوي
وهل الإفراد المكروه أن يصومه كله أو أن لا يقرن به شهر آخر فيه للأصحاب وجهان
ولولا أن هذا موضع الإشارة إلى رءوس المسائل لأطلنا الكلام في ذلك ومن هذا الباب ليلة النصف من شعبان فقد روى في فضلها من الأحاديث المرفوعة والآثار ما يقتضي أنها ليلة مفضلة وأن من السلف من كان يخصها بالصلاة فيها وصوم شهر شعبان قد جاءت فيه أحاديث صحيحة ومن العلماء من السلف من أهل المدينة وغيرهم من الخلف من أنكر فضلها وطعن في الأحاديث الواردة فيها كحديث إن الله يغفر فيها لأكثر من عدد شعر غنم بني كلب وقال لا فرق بينها وبين غيرها
لكن الذي عليه كثير من أهل العلم أو أكثرهم من أصحابنا وغيرهم على تفضيلها وعليه يدل نص أحمد لتعدد الأحاديث الواردة فيها وما يصدق ذلك من الآثار السلفية وقد روى بعض فضائلها في المسانيد والسنن وإن كان قد وضع فيها أشياء أخر
فأما صوم يوم النصف مفردا فلا أصل له بل إفراده مكروه وكذلك اتخاذه موسما تصنع فيه الأطعمة وتظهر فيه الزينة هو من المواسم المحدثة المبتدعة التي لا أصل لها
وكذلك ما قد أحدث في ليلة النصف من الاجتماع العام للصلاة الألفية في
المساجد الجامعة ومساجد الأحياء والدور والأسواق فإن هذا الاجتماع لصلاة نافلة مقيدة بزمان وعدد وقدر من القراءة مكروه لم يشرع فإن الحديث الوارد في الصلاة الألفية موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث وما كان هكذا لا يجوز استحباب صلاة بناء عليه وإذا لم يستحب فالعمل المقتضي لاستحبابها مكروه ولو سوغ أن كل ليلة لها نوع فضل تخص بصلاة مبتدعة يجتمع لها لكان يفعل مثل هذه الصلاة أو أزيد أو أنقص ليلتي العيدين وليلة عرفة كما أن بعض أهل البلاد يقيمون مثلها أول ليلة من رجب وكما بلغني أنه كان بعض أهل القرى يصلون بعد المغرب صلاة مثل المغرب في جماعة يسمونها صلاة بر الوالدين وكما بعض الناس يصلي كل ليلة في جماعة صلاة الجنازة على من مات من المسلمين في جميع الأرض ونحو ذلك من الصلوات الجماعية التي لم تشرع
وعليك أن تعلم أنه إذا استحب التطوع المطلق في وقت معين وجوز التطوع في جماعة لم يلزم من ذلك تسويغ جماعة راتبة غير مشروعة بل ينبغي أن تفرق بين البابين
وذلك أن الاجتماع لصلاة تطوع أو استماع قرآن أو ذكر الله ونحو ذلك إذا كان يفعل ذلك أحيانا فهذا أحسن فقد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه صلى التطوع في جماعة أحيانا وخرج على أصحابه وفيهم من يقرأ وهم يستمعون فجلس معهم يستمع وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا اجتمعوا أمروا واحدا يقرأ وهم يستمعون وقد ورد في القوم الذين يجلسون يتدارسون كتاب الله ورسوله وفي القوم الذين يذكرون الله من الآثار ما هو معروف
مثل قوله صلى الله عليه و سلم ما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا غشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده
وورد أيضا في الملائكة الذين يلتمسون مجالس الذكر فإذا وجد قوما يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم الحديث
فأما اتخاذ اجتماع راتب يتكرر بتكرر الأسابيع والشهور والأعوام غير الاجتماعات المشروعة فإن ذلك يضاهي الاجتماعات للصلوات الخمس وللجمعة والعيدين والحج وذلك هو المبتدع المحدث
ففرق بين ما يتخذ سنة وعادة فإن ذلك يضاهي المشروع
وهذا الفرق هو المنصوص عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة
فروى أبو بكر الخلال في كتاب الأدب عن إسحاق بن منصور الكوسج أنه قال لأبي عبد الله يكره أن يجتمع القوم يدعون الله ويرفعون أيديهم قال ما أكره للإخون إذا لم يجتمعوا على عمد إلا أن يكثروا
وقال إسحاق بن راهويه كما قال الإمام أحمد
وإنما معنى أن لا يكثروا أن لا يتخذوها عادة حتى يكثروا هذا كلام إسحاق
قال المروزي سألت أبا عبد الله عن القوم يبيتون فيقرأ قارئ ويدعون حتى يصبحوا قال أرجو أن لا يكون به بأس
وقال أبو السري الحربي قال أبو عبد الله وأي شيء أحسن من أن يجتمع الناس يصلون ويذكرون ما أنعم الله به عليهم كما قالت الأنصار
وهذه إشارة إلى أن ما رواه أحمد حدثنا إسماعيل أنبأنا أيوب عن محمد بن سيرين قال نبئت أن الأنصار قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة قالوا لو نظرنا يوما فاجتمعنا فيه فذكرنا هذا الأمر الذي أنعم الله به علينا فقالوا يوم السبت ثم قالوا لا نجامع اليهود في يومهم قالوا فيوم الأحد قالوا لا نجامع النصارى في يومهم قالوا فيوم العروبة وكانوا يسمون يوم الجمعة
يوم العروبة فاجتمعوا في بيت أبي أمامة أسعد بن زرارة فذبحت لهم شاة فكفتهم
وقال أبو أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي سألت أحمد بن حنبل عن القوم يجتمعون ويقرأ لهم القارئ قراءة حزينة فيبكون وربما أطفؤا السراج فقال لي أحمد إن كان يقرأ قراءة أبي موسى فلا بأس
وروى الخلال عن الأوزاعي أنه سئل عن القوم يجتمعون فيأمرون رجلا يقص عليهم قال إذا كان ذلك يوما بعد الأيام فليس به بأس
فقيد أحمد الاجتماع على الدعاء بما إذا لم يتخذ عادة
وكذلك قيد إتيان الأمكنة التي فيها آثار الأنبياء
قال سندي الخواتيمي سألنا أبا عبد الله عن الرجل يأتي هذه المشاهد ويذهب إليها ترى ذلك قال أما على حديث ابن أم مكتوم أنه سأل النبي صلى الله عليه و سلم أنه يصلي في بيته حتى يتخذ ذلك مصلى وعلى ما كان يفعل ابن عمر رضي الله عنهما يتبع مواضع النبي صلى الله عليه و سلم وأثره فليس بذلك بأس أن يأتي الرجل المشاهد إلا أن الناس قد أفرطوا في هذا جدا وأكثروا فيه
وكذلك نقل عنه أحمد بن القاسم ولفظه سئل عن الرجل يأتي هذه المشاهد التي بالمدينة وغيرها يذهب إليها قال أما على حديث ابن أم مكتوم
أنه سأل النبي صلى الله عليه و سلم أن يأتيه فيصلي في بيته حتى يتخذه مسجدا وعلى ما كان يفعله ابن عمر يتبع مواضع سير النبي صلى الله عليه و سلم وفعله حتى رؤي يصب في موضع ما فسئل عن ذلك فقال رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يصب ههنا ماء قال أما على هذا فلا بأس
قال ورخص فيه ثم قال ولكن قد أفرط الناس جدا وأكثروا في هذا المعنى فذكر قبر الحسين وما يفعل الناس عنده
وهذا الذي كرهه أحمد وغيره من اعتياد ذلك مأثور عن ابن مسعود وغسره لما اتخذ أصحابه مكانا يجتمعون فيه للذكر فخرج إليهم فقال يا قوم لأنتم أهدى من محمد أو لأنتم على شعبة ضلالة
وأصل هذا أن العبادات المشروعة التي تتكرر بتكرر الأوقات حتى تصير سننا ومواسم قد شرع الله منها ما فيه كفاية للعباد فاذا أحدث اجتماع زائد على هذه الإجتماعات معتاد كان ذلك مضاهاة لما شرعه الله وسنه وفيه من الفساد ما تقدم التنبيه على بعضه بخلاف ما يفعله الرجل وحده أو الجماعة المخصوصة أحيانا ولهذا كره الصحابة إفراد صوم رجب لما يشبه برمضان وأمر عمر رضي الله عنه بقطع الشجرة التي توهموا أنها الشجرة التي بايع الصحابة النبي صلى الله عليه و سلم تحتها بيعة الرضوان لما رأى الناس ينتابونها ويصلون عندها كأنها المسجد الحرام أو مسجد المدينة وكذلك لما رآهم قد عكفوا على مكان قد صلى فيه النبي صلى الله عليه و سلم عكوفا عاما نهاهم عن ذلك وقال أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد أو كما قال رضي الله عنه
فكما أن تطوع الصلاة فرادى وجماعة مشروع من غير أن يتخذ جماعة عامة متكررة تشبه المشروع من الجمعة والعيدين والصلوات الخمس فكذلك تطوع القراءة والذكر والدعاء جماعة وفرادى وتطوع قصد بعض
المشاهد ونحو ذلك كله من نوع واحد يفرق بين الكثير الظاهر منه والقليل الخفي والمعتاد وغير المعتاد وكذلك كل ما كان مشروع الجنس لكن البدعة اتخاذه عادة لازمة حتى يصير كأنه واجب ويترتب على استحبابه وكراهته حكم نذره واشتراط فعله في الوقف والوصية ونحو ذلك حيث كان النذر لا يلزم إلا في القرب
وكذلك العمل المشروط في الوقف لا يجوز أن يكون إلا برا ومعروفا على ظاهر المذهب وقول جمهور أهل العلم
وسنومئ إلى ذلك إن شاء الله
وهذه المسائل تفتقر إلى بسط أكثر من هذا لا يحتمله هذا الموضع وإنما الغرض التنبيه على المواسم المحدثة
وأما ما يفعل في هذه المواسم مما جنسه منهي عنه في الشرع فهذا لا يحتاج إلى ذكر لأن ذلك لا يحتاج أن يدخل في هذا الباب
مثل رفع الأصوات في المسجد أو اختلاط الرجال والنساء أو كثرة إيقاد المصابيح زيادة على الحاجة أو إيذاء المصلين أو غيرهم بقول أو فعل فإن قبح هذا ظاهر لكل مسلم وإنما هذا من جنس سائر الأقوال المحرمة في المساجد سواء حرمت في المسجد وغيره كالفواحش والفحش أو صين عنها المسجد كالبيع والشراء وإنشاد الضالة وإقامة الحدود ونحو ذلك
وقد ذكر بعض المتأخرين من أصحابنا وغيرهم أنه يستحب قيام هذه الليلة بالصلاة التي يسمونها الألفية لأن فيها قراءة قل هو الله أحد ألف مرة وربما استحبوا الصوم أيضا وعمدتهم في خصوص ذلك الحديث الذي يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم في ذلك
وقد يعتمدون على العمومات التي تندرج فيها هذه الصلاة على ما جاء في فضل هذه الليلة بخصوصها وما جاء من الأثر باحيائها وعلى الاعتياد حيث فيها من المنافع والفوائد ما يقتضي الاستحباب لجنسها من العبادات
فأما الحديث المرفوع في هذه الصلاة الألفية فكذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث
وأما العمومات الدالة على استحباب الصلاة فحق لكن العمل المعين إما أن يستحب بخصوصه أو يستحب لما فيه من المعنى العام
فأما المعنى العام فلا يجب جعله خصوصا مستحبا ومن استحبها ذكرها في النفل المقيد كصلاة الضحى والتراويح وهذا خطأ ولهذا لم يذكر هذا أحد من الأئمة المعدودين لا الأولين ولا الآخرين وإنما كره التخصيص لما صار يخص مالا خصوص له بالاعتقاد والقصد كما ذكره النبي صلى الله عليه و سلم إفراد يوم الجمعة وسرد شعبان بالصيام وإفراد ليلة الجمعة بالقيام فصار نظير هذا مالو أحدثت ليالي العشر صلاة مقيدة أو بين العشاءين ونحو ذلك
فالعبادات ثلاثة
منها ما هو مستحب بخصوصه كالنفل المقيد من ركعتي الفجر وقيام رمضان ونحو ذلك وهذا منه المؤقت كقيام الليل
ومنها المقيد بسبب كصلاة الاستسقاء وصلاة الآيات
ثم قد يكون مقدرا في الشريعة بعدد كالوتر وقد يكون مطلقا مع فضل الوقت كالصلاة يوم الجمعة قبل الصلاة
فصارت أقسام المقيد أربعة
ومن العبادات ما هو مستحب بعموم معناه كالنفل المطلق فإن الشمس إذا طلعت فالصلاة مشهودة محضورة حتى تصلى العصر
ومنها ما هو مكروه تخصيصه إلا مع غيره كقيام ليلة الجمعة وقد يكره مطلقا إلا في أحوال مخصوصة كالصلاة في أوقات النهي
ولهذا اختلف العلماء في كراهة الصلاة بعد الفجر والعصر هل هو لئلا يفضي إلى تحري الصلاة في هذا الوقت فيرخص في ذوات الأسباب العارضة أو هو نهي مطلق لا يستثنى منه إلا قدر الحاجة على قولين هما روايتان عن أحمد وفيها أقوال أخر للعلماء والله أعلم
فصل
وقد يحدث في اليوم الفاضل مع العيد العملي المحدث العيد المكاني فيغلظ قبح هذا ويصير خروجا عن الشريعة
فمن ذلك ما يفعل يوم عرفة مما لا أعلم بين المسلمين خلافا في النهي عنه وهو قصد قبر بعض من يحسن به الظن يوم عرفة والإجتماع العظيم عند قبره كما يفعل في بعض أرض المشرق والمغرب والتعريف هناك كما يفعل بعرفات فإن هذا نوع من الحج المبتدع الذي لم يشرعه الله ومضاهاة للحج الذي شرعه الله واتخاذ القبور أعيادا
وكذلك السفر إلى البيت المقدس للتعريف فيه فإن هذا أيضا ضلال مبين فإن زيارة بيت المقدس مستحبة مشروعة للصلاة فيه والاعتكاف وهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال لكن قصد إتيانه في أيام الحج هو المكروه فإن ذلك تخصيص وقت معين بزيارة بيت المقدس ولا خصوص لزيارته في هذا الوقت على غيره
ثم فيه أيضا مضاهاة للحج إلى المسجد الحرام وتشبيه له بالكعبة ولهذا قد أفضى إلى مالا يشك مسلم في أنه شريعة أخرى غير شريعة الإسلام
وهو ما قد يفعله بعض الضلال من الطواف بالصخرة أو من حلق الرأس هناك أو من قصد النسك هناك
وكذلك ما يفعله بعض الضلال من الطواف بالقبة التي بجبل الرحمة بعرفات كما يطاف بالكعبة
فأما الاجتماع في هذا الموسم لإنشاد الغناء والضرب بالدف بالمسجد الأقصى ونحوه فمن أقبح المنكرات من وجهات أخرى
منها فعل ذلك في المسجد الأقصى ونحوه فإن ذلك مما ينهى عنه خارج المساجد فكيف بالمسجد الأقصى
ومنها اتخاذ الباطل دينا
ومنها فعله في الموسم
فأما قصد الرجل المسلم مسجد بلده يوم عرفة للدعاء والذكر فهذا هو التعريف في الأمصار الذي اختلف العلماء فيه ففعله ابن عباس وعمرو بن حريث من الصحابة وطائفة من البصريين والمدنيين ورخص فيه أحمد وإن كان مع ذلك لا يستحبه هذا هو المشهور عنه
وكرهه طائفة من الكوفيين والمدنيين كإبراهيم النخعي وأبي حنيفة ومالك وغيرهم
ومن كرهه قال هو من البدع فيندرج في العموم لفظا ومعنى ومن رخص فيه قال فعله ابن عباس بالبصرة حين كان خليفة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما ولم ينكر عليه وما يفعل في عهد الخلفاء الراشدين من غير إنكار لا يكون بدعة
لكن ما يزاد على ذلك من رفع الأصوات الرفع الشديد في المساجد
بالدعاء وأنواع من الخطب والأشعار الباطلة فمكروه في هذا اليوم وغيره
قال المروزي سمعت أبا عبد الله يقول ينبغي أن يسر دعاءه لقوله ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا قال هذا في الدعاء قال وسمعت أبا عبد الله يقول وكانوا يكرهون أن يرفعوا أصواتهم بالدعاء
وروى الخلال بإسناد صحيح عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال أحدث الناس الصوت عند الدعاء
وعن سعيد بن أبي عروبة أن مجالد بن سعيد سمع قوما يعجون في دعائهم فمشى إليهم فقال أيها القوم إن كنتم أصبتم فضلا على من كان قبلكم لقد ضللتم قال فجعلوا يتسللون رجلا رجلا حتى تركوا بغيتهم التي كانوا فيها
وروى أيضا بإسناده عن ابن شوذب عن أبي التياح قال قلت للحسن إمامنا يقص فيجتمع الرجال والنساء فيرفعون أصواتهم بالدعاء فقال الحسن إن رفع الصوت بالدعاء لبدعة وإن مد الأيدي بالدعاء لبدعة وإن اجتماع الرجال والنساء لبدعة
فرفع الأيدي فيه خلاف وأحاديث ليس هذا موضعها
والفرق بين هذا التعريف المختلف فيه وتلك التعريفات التي لم يخلف فيها أن في تلك قصد بقعة بعينها للتعريف فيها كقبر الصالح أو المسجد الأقصى وهذا تشبيه بعرفات بخلاف مسجد المصر فإنه قصد له بنوعه لا بعينه ونوع المساجد مما شرع قصدها فإن الآتي إلى المسجد ليس قصده مكانا معينا لا يتبدل اسمه وحكمه وإنما الغرض بيت من بيوت الله بحيث لو حول ذلك المسجد لتحول حكمه ولهذا لا تتعلق القلوب إلا بنوع المسجد لا بخصوصه
وأيضا فإن شد الرحال إلى مكان للتعريف فيه مثل الحج بخلاف المصر
الا ترى أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا
هذا مما لا أعلم فيه خلافا
فقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة
ومعلوم أن إتيان الرجل مسجد مصره إما واجب كالجمعة وإما مستحب كالاعتكاف فيه
وأيضا فإن التعريف عند القبر اتخاذ له عيدا وهذا بنفسه محرم سواء كان فيه شد للرحل أو لم يكن وسواء كان في يوم عرفة أو في غيره وهو من الأعياد المكانية مع الزمان
وأما ما أحدث في الأعياد من ضرب البوقات والطبول ! فإن هذا مكروه في العيد وغيره لا اختصاص للعيد به وكذلك لبس الحرير أو غير ذلك من النهي عنه في الشرع وترك السنن من جنس فعل البدع
فينبغي إقامة المواسم على ما كان السابقون الأولون يقيمونها من الصلاة أو الخطبة المشروعة والتكبير والصدقة في الفطر والذبح في الأضحى
فإن من الناس من يقصر في التكبير المشروع ومن الأئمة من يترك أن يخطب للرجال ثم النساء كما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يخطب الرجال ثم النساء
ومنهم من لا يذكر في خطبته ما ينبغي ذكره بل يعدل إلى ما تقل فائدته
ومنهم من لا ينحر بعد الصلاة بالمصلى وهو ترك للسنة إلى أمور أخر من غير السنة فإن الدين هو فعل المعروف والأمر به وترك المنكر والنهي عنه
فصل
وأما الأعياد المكانية فتنقسم أيضا كالزمانية إلى ثلاثة أقسام
أحدها مالا خصوص له في الشريعة
والثاني ماله خصيصة لا تقتضي قصده للعبادة فيه
والثالث ما يشرع العبادة فيه لكن لا يتخذ عيدا
والأقسام الثلاثة جاءت الآثار بها مثل قوله صلى الله عليه و سلم للذي نذر أن ينحر ببوانة أبها وثن من أوثان المشركين أو عيد من أعيادهم قال لا قال فأوف بنذرك
ومثل قوله صلى الله عليه و سلم لا تتخذوا قبري عيدا
ومثل نهي عمر عن اتخاذ آثار الأنبياء أعيادا كما سنذكره إن شاء الله
فهذا الأقسام الثلاثة أحدها مكان لا فضل له في الشريعة أصلا ولا فيه ما يوجب تفضيله بل هو كسائر الأمكنة أو دونها فقصد ذلك المكان أو قصد الاجتماع فيه لصلاة أو دعاء أو ذكر أو غير ذلك ضلال بين
ثم إن كان به بعض آثار الكفار من اليهود أو النصارى أو غيرهم كان أقبح وأقبح ودخل في هذا الباب وفي الباب قبله من مشابهة الكفار وهذه أنواع لا يمكن ضبطها بخلاف الزمان فإنه محصور وهذا الضرب أقبح من الذي قبله
فإن هذا يشبه عبادة الأوثان أو هو ذريعة إليها أو نوع من عبادة الأوثان إذ عباد الأوثان كانوا يقصدون بقعة بعينها لتمثال هناك أو غير تمثال يعتقدون أن ذلك يقربهم إلى الله تعالى وكانت الطواغيت الكبار التي تشد إليها الرحال ثلاثة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى كما ذكر الله ذلك في كتابه حيث يقول أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى فقد كان كل واحد من هذه الثلاثة لمصر من أمصار العرب والأمصار التي كانت من ناحية الحرم ومواقيت الحج ثلاثة مكة والمدينة والطائف
فكانت اللات لأهل الطائف ذكروا أنه كان في الأصل رجلا صالحا
يلت السويق للحاج فلما مات عكفوا على قبره مدة ثم اتخذوا تمثاله ثم بنوا عليه بنية سموها بيت الربة وقصتها معروفة لما بعث النبي صلى الله عليه و سلم لهدمها المغيرة بن شعبة لما افتتح الطائف بعد فتح مكة سنة تسع من الهجرة
وأما العزى فكانت لأهل مكة قريبا من عرفات وكانت هناك شجرة يذبحون عندها ويدعون فبعث النبي صلى الله عليه و سلم إليها خالد بن الوليد عقب فتح مكة فأزالها وقسم النبي صلى الله عليه و سلم مالها وخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها فيئست العزة أن تعبد
وأما مناة فكانت لأهل المدينة يهلون لها شركا بالله تعالى وكانت حذو قديد الجبل الذي بين مكة والمدينة من ناحية الساحل
ومن أراد أن يعلم كيف كانت أحوال المشركين في عبادة أوثانهم ويعرف حقيقة الشرك الذي ذمه الله وأنواعه حتى يتبين له تأويل القرآن ويعرف ما كرهه الله ورسوله فلينظر سيرة النبي صلى الله عليه و سلم وأحوال العرب في زمانه وما ذكره الأزرقي في أخبار مكة وغيره من العلماء
ولما كان للمشركين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم ويسمونها ذات أنواط فقال بعض الناس يا رسول الله إجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال الله أكبر قلتم كما قال قوم موسى لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم
فأنكر النبي صلى الله عليه و سلم مجرد مشابهتهم الكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها معلقين عليها سلاحهم فكيف بما هو أطم من ذلك من مشابهتهم المشركين أو هو الشرك بعينه
فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها ولم تستحب الشريعة ذلك فهو من المنكرات وبعضه أشد من بعض سواء كانت البقعة شجرة أو غيرها أو قناة جارية أو جبلا أو مغارة وسواء قصدها ليصلي عندها أو ليدعو عندها
أو ليقرأ عندها أو ليذكر الله سبحانه عندها أو لينسك عندها بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادة التي لم يشرع تخصيص تلك البقعة به لا عينا ولا نوعا
وأقبح من ذلك أن ينذر لتلك البقعة دهنا لتنور به ويقول إنها تقبل النذر كما يقوله بعض الضالين فإن هذا النذر نذر معصية باتفاق العلماء لا يجوز الوفاء به بل عليه كفارة يمين عند كثير من أهل العلم منهم أحمد في المشهور عنه وعنه رواية هي قول أبي حنيفة والشافعي وغيرهما أنه يستغفر الله من هذا النذر ولا شيء عليه والمسألة معروفة
وكذلك إذا نذر طعاما من الخبز أو غيره للحيتان التي في تلك العين أو البئر
وكذلك إذا نذر مالا من النقد أو غيره للسدنة أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة فإن هؤلاء السدنة فيهم شبه من السدنة الذين كانوا لللات والعزى ومناة يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والمجاورون هناك فيهم شبه من العاكفين الذين قال لهم الخليل إبراهيم إمام الحنفاء صلى الله عليه وآله وسلم ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون و قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين والذين أتى عليهم موسى عليه السلام وقومه بعد مجاوزتهم البحر كما قال تعالى وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم
فالنذر لأولئك السدنة والمجاورين في هذه البقاع التي لا فضل في الشريعة للمجاورين بها نذر معصية وفيه شبه من النذر لسدنة الصلبان والمجاورين عندها أو سدنة الأبداد التي بالهند والمجاورين عندها
ثم هذا المال المنذور إذا صرفه في جنس تلك العبادة من المشروع مثل أن يصرفه في عمارة المساجد أو للصالحين من فقراء المسلمين الذين يستعينون بالمال على عبادة الله وحده لا شريك له كان حسنا
فمن هذه الأمكنة ما يظن أنه قبر نبي أو رجل صالح وليس كذلك أو يظن أنه مقام له وليس كذلك
فأما ما كان قبرا له أو مقاما فهذا من النوع الثاني وهذا باب واسع أذكر بعض أعيانه
فمن ذلك عدة أمكنة بدمشق مثل مشهد لأبي بن كعب خارج الباب الشرقي ولا خلاف بين أهل العلم أن أبي بن كعب إنما توفي بالمدينة ولم يمت بدمشق والله أعلم قبر من هو لكنه ليس بقبر أبي بن كعب صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم بلا شك
وكذلك مكان بالحائط القبلي بجامع دمشق يقال إن فيه قبر هود عليه السلام وما علمت أحدا من أهل العلم ذكر أن هودا النبي مات بدمشق بل قد قيل إنه مات باليمن وقيل بمكة فإن مبعثه كان باليمن ومهاجره بعد هلاك قومه كان إلى مكة فأما الشام فلا هي داره ولا مهاجره فموته بها والحال هذه مع أن أهل العلم لم يذكروه بل ذكروا خلافه في غاية البعد
وكذلك مشهد خارج الباب الغربي من دمشق يقال إنه قبر أويس القرني وما علمت أن أحدا ذكر أن أويسا مات بدمشق ولا هو متوجه أيضا فإن أويسا قدم من اليمن إلى أرض العراق وقد قيل إنه قتل بصفين وقيل إنه مات بنواحي أرض فارس وقيل غير ذلك وأما الشام فما ذكر أحد أنه قدم إليها فضلا عن الممات بها
ومن ذلك ايضا قبر يقال له قبر أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و سلم ولا خلاف أنها رضي الله عنها ماتت بالمدينة لا بالشام ولم تقدم الشام أيضا
فإن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و سلم لم تكن تسافر بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم بل لعلها أم سلمة أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية فإن أهل الشام كشهر بن حوشب ونحوه كانوا إذا حدثوا عنها قالوا أم سلمة وهي بنت عم معاذ بن جبل وهي من أعيان الصحابيات ومن ذوات الفقه والدين منهن أو لعلها أم سلمة امرأة يزيد بن معاوية وهو بعيد فإن هذه ليست مشهورة بعلم ولا دين وما أكثر الغلط في هذه الأشياء وأمثالها من جهة الأسماء المشتركة أو المغيرة
ومن ذلك مشهد بقاهرة مصر يقال إن فيه رأس الحسين بن علي رضي الله عنهما وأصله المكذوب أنه كان بعسقلان مشهد يقال إن فيه رأس الحسين فحمل فيها يقال الرأس من هناك إلى مصر وهو باطل باتفاق أهل العلم لم يقل أحد من أهل العلم إن رأس الحسين كان بعسقلان بل فيه أقوال ليس هذا منها فإنه حمل رأسه إلى قدام عبيد الله بن زياد بالكوفة حتى روي له عن النبي صلى الله عليه و سلم ما يغيظه وبعض الناس يذكر أن الرواية كانت أمام يزيد بن معاوية بالشام ولا يثبت ذلك فإن الصحابة المسمين في الحديث إنما كانوا بالعراق
وكذلك مقابر كثيرة لأسماء رجال معروفين قد علم أنها ليست بمقابرهم
فهذه المواضع ليس فيها فضيلة أصلا وإن اعتقد الجاهلون أن لها فضيلة اللهم إلا أن يكون قبرا لرجل مسلم فيكون كسائر المسلمين ليس لها من الخصيصة ما يحسبه الجهال وإن كانت القبور الصحيحة لا يجوز اتخاذها أعيادا ولا أن يفعل فيها ما يفعل عند هذه القبور المكذوبة أو تكون قبرا لرجل صالح غير المسمى فيكون من القسم الثاني
ومن هذا الباب أيضا مواضع يقال إن فيها أثر النبي صلى الله عليه و سلم أو غيرها ويضاهي بها مقام إبراهيم الذي بمكة كما يقول الجهال في الصخرة
التي ببيت المقدس من أن فيها أثرا من وطء قدم النبي صلى الله عليه و سلم وبلغني أن بعض الجهال يزعم أنها من وطء الرب سبحانه وتعالى فيزعمون أن ذلك الأثر موضع القدم
وفي مسجد قبلي دمشق يسمى مسجد القدم به أيضا أثر يقال إن ذاك أثر قدم موسى عليه السلام وهذا باطل لا أصل له ولم يقدم موسى دمشق ولا من حولها
وكذلك مشاهد تضاف إلى بعض الأنبياء أو الصالحين بناء على أنه رؤي في المنام هناك ورؤية النبي أو الرجل الصالح في المنام ببقعة لا يوجب لها فضيلة تقصد البقعة لأجلها وتتخذ مصلى بإجماع المسلمين وإنما يفعل هذا وأمثاله أهل الكتاب وربما صوروا فيها صورة النبي أو الرجل الصالح أو بعض أعضائه مضاهاة لأهل الكتاب كما كان في بعض مساجد دمشق مسجد يسمى مسجد الكف فيه تمثال كف يقال إنه كف علي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى هدم الله ذلك الوثن
وهذه الأمكنة كثيرة موجودة في أكثر البلاد
وفي الحجاز منها مواضع كغار عن يمين الطريق وأنت ذاهب من بدر إلى مكة يقال إنه الغار الذي أوى النبي صلى الله عليه و سلم إليه هو وأبو بكر وأنه الغار الذي ذكره الله في قوله ثاني اثنين إذ هما في الغار ولا خلاف بين أهل العلم أن هذا الغار المذكور في القرآن إنما هو غار بجبل ثور قريب من مكة معروف عند أهل مكة إلى اليوم
فهذه البقاع التي يعتقد لها خصيصة كائنة ما كانت ليس من الإسلام تعظيمها بأي نوع من التعظيم فإن تعظيم مكان لم يعظمه الشرع شر من تعظيم زمان لم يعظمه فإن تعظيم الأجسام بالعبادة عندها أقرب إلى عبادة الأوثان من تعظيم الزمان حتى إن الذي ينبغي تجنب الصلاة فيها وإن كان المصلي لا يقصد
تعظيمها لئلا يكون ذلك ذريعة إلى تخصيصها بالصلاة فيها كما ينهى عن الصلاة عند القبور المحققة وإن لم يكن المصلي يقصد الصلاة لأجلها وكما ينهي عن إفراد الجمعة سرر شعبان بالصوم وإن كان الصائم لا يقصد التخصيص بذلك الصوم
فإن ما كان مقصودا بالتخصيص مع النهي عن ذلك ينهى عن تخصيصه أيضا بالفعل
وما أشبه هذه الأمكنة بمسجد الضرار الذي أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم فإن ذلك المسجد لما بني ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل نهى الله نبيه صلى الله عليه و سلم عن الصلاة فيه وأمر بهدمه
وهذه المشاهد الباطلة إنما وضعت مضاهاة لبيوت الله وتعظيما لما لم يعظمه الله وعكوفا على أشياء لا تنفع ولا تضر وصدا للخلق عن سبيل الله وهي عبادته وحده لا شريك له بما شرعه الله على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم واتخاذها عيدا والاجتماع واعتياد قصدها فإن العيد من المعاودة
ويلتحق بهذا الضرب ولكنه ليس منه مواضع تدعى لها خصائص لا تثبت مثل كثير من القبور التي يقال إنها قبر نبي أو قبر صالح أو مقام نبي أو صالح ونحو ذلك وقد يكون ذلك صدقا وقد يكون كذبا
وأكثر المشاهد التي على وجه الأرض من هذا الضرب فإن القبور الصحيحة والمقامات الصحيحة قليلة جدا
وكان غير واحد من أهل العلم يقول لا يثبت من قبور الأنبياء إلا قبر نبينا محمد صلى الله عليه و سلم وغيره قد يثبت غير هذا أيضا مثل قبر إبراهيم الخليل عليه السلام وقد يكون علم أن القبر في تلك الناحية لكن يقع الشك في عينه ككثير من قبور الصحابة التي بباب الصغير من دمشق فإن الأرض غيرت مرات فتعيين قبر أنه قبر بلال أو غيره لا يكاد يثبت إلا من طريق
خاصة وإن كان لو ثبت لم يتعلق به حكم شرعي مما قد أحدث عندها
ولكن الغرض أن نبين هذا القسم الأول وهو تعظيم الأمكنة التي لا خصيصة لها إما مع العلم بأنه لا خصيصة لها أو مع عدم العلم بأن لها خصيصة إذ العبادة والعمل بغير علم منهي عنه كما أن العبادة والعمل بما يخالف العلم منهي عنه ولو كان ضبط هذه الأمور من الدين لما أهمل ولما ضاع عن الأمة المحفوظ دينها المعصومة عن الخطأ
وأكثر ما تجد الحكايات المتعلقة بهذا عند السدنة والمجاورين لها الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله
وقد يحكى من الحكايات التي فيها تأثير مثل أن رجلا دعا عندها فاستجيب له أو نذر لها إن قضى الله حاجته فقضيت حاجته ونحو ذلك وبمثل هذه الأمور كانت تعبد الأصنام
فإن القوم كانوا أحيانا يخاطبون من الأوثان وربما تقضي حوائجهم إذا قصدوها ولذلك يجري لهم مثل ما يجري لأهل الأبداد من أهل الهند وغيرهم
وربما قيست على ما شرع الله تعظيمه من بيته المحجوج والحجر الأسود الذي شرع الله استلامه وتقبيله كأنه يمينه والمساجد التي هي بيوته
وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس وبمثل هذه الشبهات حدث الشرك في أهل الأرض
وقد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن النذر وقال إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل فإذا كان نذر الطاعات المعلقة بشرط لا فائدة فيه ولا يأتي بخير فما الظن بالنذر لما لا يضر ولا ينفع
وأما إجابة الدعاء فقد يكون سببه اضطرار الداعي وصدق التجائه وقد يكون سبه مجرد رحمة الله له وقد يكون أمرا قضاه الله لا لأجل دعائه وقد يكون له أسباب أخرى وإن كانت فتنة في حق الداعي
فإنا نعلم أن الكفار قد يستجاب لهم فيسقون وينصرون ويعافون
ويرزقون مع دعائهم عند أوثانهم وتوسلهم بها
وقد قال الله تعالى كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا
وقال تعالى وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا وأسباب المقدورات فيها أمور يطول تعدادها ليس هذا موضع تفصيلها
وإنما على الخلق اتباع ما بعث الله به المرسلين والعلم بأن فيه خير الدنيا والآخرة ولعلي إن شاء الله أبين بعض أسباب هذه التأثيرات في موضع آخر
فصل
النوع الثاني من الأمكنة ماله خصيصة لكن لا يقتضي اتخاذها عيدا ولا الصلاة ونحوها من العبادات عنده
فمن هذه الأمكنة قبور الأنبياء والصالحين وقد جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم والسلف النهي عن اتخاذها عيدا عموما وخصوصا وبينوا معنى العيد
فأما العموم فقال أبو داود في سننه حدثنا أحمد بن صالح قال قرأت على عبد الله بن نافع أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم وهذا إسناده حسن فإن رواته كلهم ثقات مشاهير لكن عبد الله بن نافع الصائغ الفقيه المدني صاحب مالك فيه لين لا يقدح في حديثه
قال يحيى بن معين هو ثقة وحسبك بابن معين موثقا وقال أبو زرعة لا بأس به وقال أبو حاتم الرازي ليس بالحافظ هو لين يعرف حفظه وينكر
فإن هذه العبارات منهم تنزل حديثه من مرتبة الصحيح إلى مرتبة الحسن
إذ لا خلاف في عدالته وفقهه وأن الغالب عليه الضبط لكن قد يغلط أحيانا
ثم إن هذا الحديث مما يعرف من حفظه ليس مما ينكر لأنه سنة مدنية وهو محتاج إليها في فقهه ومثل هذا يضبطه الفقيه
وللحديث شواهد من غير طريقه فإن هذا الحديث يروى من جهات أخرى فما بقي منكرا
وكل جملة من هذا الحديث رويت عن النبي صلى الله عليه و سلم بأسانيد معروفة وإنما الغرض هنا النهي عن اتخاذه عيدا
فمن ذلك ما رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة أنبأنا زيد بن الحباب حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين حدثنا علي بن عمر عن أبيه عن علي بن الحسين أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه و سلم فيدخل فيها فيدعو فنهاه فقال ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ فيما اختاره من الأحاديث الجياد الزائدة على الصحيحين وشرطه فيه أحسن من شرط الحاكم في صحيحه
وروى سعيد بن منصور في سننه حدثنا حبان بن علي حدثني محمد بن عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تتخذوا بيتي عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني
وقال سعيد حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال هلم إلى العشاء فقلت لا أريده فقال مالي رأيتك عند القبر فقلت سلمت على النبي صلى الله عليه و سلم فقال إذا
دخلت المسجد فسلم ثم قال إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا تتخذوا بيتي عيدا ولا تتخذوا بيوتكم قبورا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء
فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث لا سيما وقد احتج به من أرسله وذلك يقتضي ثبوته عنده لو لم يكن روى من وجوه مسندة غير هذين وكيف وقد تقدم مسندا
ووجه الدلالة أن قبر النبي صلى الله عليه و سلم أفضل قبر على وجه الأرض وقد نهى عن اتخاذه عيدا فقبر غيره أولى النهي كائنا من كان ثم قرن ذلك بقوله صلى الله عليه و سلم ولا تتخذوا بيوتكم قبورا أي لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور فأمر بتحري العبادة في البيوت ونهى عن تحريها عند القبور وهذا عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبه بهم
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا
وروى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تجعلوا بيوتكم مقابر فإن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع سورة البقرة تقرأ فيه
ثم إنه صلى الله عليه و سلم أعقب النهي عن اتخاذها عيدا بقوله صلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم
وفي الحديث الآخر فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم
يشير بذلك صلى الله عليه و سلم إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم منه فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيدا
والأحاديث عنه بأن صلاتنا وسلامنا تعرض عليه كثيرة
مثل ما روى أبو داود في سننه من حديث أبي صخر حميد بن زياد عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام صلى الله عليه و سلم
وهذا الحديث على شرط مسلم
ومثل ما روى أبو داود ايضا عن أوس بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي قالوا يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت فقال إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء
وفي مسند ابن أبي شيبة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من صلى علي سمعته ومن صلى علي نائيا بلغته رواه الدارقطني بمعناه وفي النسائي وغيره عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام إلى أحاديث أخر في هذا الباب متعددة
ثم إن أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنه نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره صلى الله عليه و سلم واستدل بالحديث وهو راوي الحديث الذي سمعه من أبيه الحسين عن جده علي وهو أعلم بمعناه من غيره
فتبين أن قصد قبره للدعاء ونحوه اتخاذ له عيدا
وكذلك ابن عمه حسن بن حسن شيخ أهل بيته كره أن يقصد القبر للسلام ونحوه غير دخول المسجد ورأى أن ذلك من اتخاذه عيدا
فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه و سلم قرب النسب وقرب الدار لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا لها أضبط
والعيد إذا جعل اسما للمكان فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه وإتيانه للعبادة عنده أو لغير العبادة كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة جعلها الله عيدا مثابة للناس يجتمعون فيها وينتابونها للدعاء والذكر والنسك وكان للمشركين أمكنة ينتابونها للاجتماع عندها فلما جاء الإسلام محا الله ذلك كله
وهذا النوع من الأمكنة يدخل فيه قبور الأنبياء والصالحين والقبور التي يجوز أن تكون قبورا لهم بتقدير كونها قبورا لهم بل وسائر القبور أيضا داخلة في هذا
فإن قبر المسلم له من الحرمة ما جاءت به السنة إذ هو بيت المسلم الميت فلا يترك عليه شيء من النجاسات بالاتفاق ولا يوطأ ولا يداس ولا يتكأ عليه عندنا وعند جمهور العلماء ولا يجاور بما يؤذي الأموات من الأقوال والأفعال الخبيثة ويستحب عند إتيانه السلام على صاحبه والدعاء له وكلما كان الميت أفضل كان حقه أوكد
قال بريدة بن الحصيب رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم السلام على أهل الديار وفي لفظ السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية رواه مسلم
وريى أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج إلى المقبرة فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون
وروي أيضا عن عائشة في حديث طويل عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن جبريل أتاني فقال إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم قالت قلت كيف أقول يا رسول الله قال قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون
وروى ابن ماجه عن عائشة قالت فقدته فإذا هو بالبقيع فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين انتم لنا فرط ونحن بكم لاحقون اللهم لاتحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال مر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم أنتم سلفنا ونحن بالأثر رواه أحمد والترمذي وقال حسن غريب
وقد ثبت عنه أنه بعد أحد بثمان سنين خرج إلى الشهداء فصلى عليهم كصلاته على الميت
وروى أبو داود عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل
وقد روى حديث صححه ابن عبد البر أنه قال ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام
وروي في تلقين الميت بعد الدفن حديث فيه نظر لكن عمل به رجال من أهل الشام الأولين مع روايتهم له فلذلك استحبه أكثر أصحابنا وغيرهم
فهذا ونحوه مما كان النبي صلى الله عليه و سلم يفعله ويأمر به أمته عند قبور المسلمين عقب الدفن وعند زيارتهم أو المرور بهم إنما هو تحية للميت كما يحيى الحي ويدعي له كما يدعي له إذا صلى عليه قبل الدفن أو بعده وفي ضمن الدعاء للميت دعاء الحي لنفسه ولسائر المسلمين كما أن الصلاة على الجنازة فيها الدعاء للمصلي ولسائر المسلمين وتخصيص الميت بالدعاء له
فهذا كله وما كان مثله من سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وما كان عليه السابقون الأولون هو المشروع للمسلمين في ذلك وهو الذي كانوا يفعلونه عند قبر النبي صلى الله عليه و سلم وغيره
وروى ابن بطة في الابانة بإسناد صحيح عن معاذ بن معاذ حدثنا ابن عون قال سأل رجل نافعا فقال هل كان ابن عمر يسلم على القبر فقال نعم لقد رأيته مائة أو أكثر من مائة مرة كان يأتي القبر فيقوم عنده فيقول السلام على النبي السلام على أبي بكر السلام على عمر أبي
وفي رواية أخرى ذكرها الإمام أحمد محتجا بها ثم ينصرف
وهذا الأثر رواه مالك في الموطأ
وزيارة القبور جائزة في الجملة حتى قبور الكفار فإن في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي
وفيه أيضا عنه قال زار النبي صلى الله عليه و سلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت
وفي صحيح مسلم عن بريدة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها
وفي رواية لأحمد والنسائي فمن أراد أن يزر فليزر ولا تقولوا هجرا
وروى أحمد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة
فقد أذن النبي صلى الله عليه و سلم في زيارتها بعد النهي وعلل ذلك بأنها تذكر الموت والدار الآخرة وأذن لنا إذنا عاما في زيارة قبر المسلم والكافر
والسبب الذي ورد عليه هذا اللفظ يوجب دخول الكافر والعلة وهي تذكر الموت والآخرة موجودة في ذلك كله
وقد كان صلى الله عليه و سلم يأتي قبور أهل البقيع والشهداء للدعاء لهم والاستغفار فهذا المعنى يختص بالمسلمين دون الكافرين
فهذه الزيارة وهي زيارة القبور لتذكر الآخرة أو لتحيتهم والدعاء لهم هي الذي جاءت به السنة كما تقدم
وقد اختلف أصحابنا وغيرهم هل يجوز السفر لزيارتها على قولين
أحدهما لا يجوز والمسافرة لزيارتها معصية لا يجوز قصر الصلاة فيها وهذا قول ابن بطة وابن عقيل وغيرهما لأن هذا السفر بدعة لم يكن في عصر السلف وهو مشتمل على ما سيأتي من معاني النهي ولأن في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا
وهذا النهي يعم السفر إلى المساجد والمشاهد وكل مكان يقصد السفر إلى عينه للتقرب والعبادة
بدليل أن بصرة بن أبي بصرة الغفاري لما رأى أبا هريرة راجعا من الطور الذي كلم الله عليه موسى قال لو رأيتك قبل أن تأتيه لم تأته لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تشد الرحل إلا إلى ثلاثة مساجد
فقد فهم الصحابي الذي روى الحديث أن الطور وأمثاله من مقامات الأنبياء مندرجة في العموم وأنه لا يجوز السفر إليها كما لا يجوز السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة
وأيضا فإذا كان السفر إلى بيت من بيوت الله غير المساجد الثلاثة لا يجوز مع أن قصده لأهل مصره يجب تارة ويستحب أخرى وقد جاء في قصد المساجد من الفضل مالا يحصى فالسفر إلى بيوت الموتى من عباده أولى أن لا يجوز
والوجه الثاني أنه يجوز السفر إليها قاله طائفة من المتأخرين منهم أبو حامد الغزالي وأبو الحسن بن عبدوس الحراني والشيخ أبو محمد المقدسي وما علمته منقولا عن أحد من المتقدمين بناء على أن هذا الحديث لم يتناول النهي عن ذلك كما لم يتناول النهي عن السفر إلى الأمكنة التي فيها الوالدان والعلماء والمشايخ والإخوان أو بعض المقاصد من الأمور الدنيوية المباحة
فأما ما سوى ذلك من المحدثات فأمور
منها الصلاة عند القبور مطلقا واتخاذها مساجد أو بناء المساجد عليها قد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه و سلم بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه
فأما بناء المساجد على القبور فقد صرح عامة علماء الطوائف بالنهي عنه متابعة للأحاديث وصرح أصحابنا وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي وغيرهما بتحريمه ومن العلماء من أطلق فيه لفظ الكراهة فما أدري عني به التنزيه أو التحريم ولا ريب في القطع بتحريمه لما روى مسلم في صحيحه عن جندب ابن عبد الله البجلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا منكم خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك
وعن عائشة رضي الله عنها وعبد الله بن عباس قالا لما نزل برسول الله صلى الله عليه و سلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذااغتم بها كشفها فقال وهو كذلك لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا أخرجه البخاري ومسلم
وأخرجاه جميعا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
وفي رواية لمسلم لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
فقد نهى عن اتخاذ القبور مساجد في آخر حياته ثم إنه لعن وهو في السياق من فعل ذلك من أهل الكتاب ليحذر أمته أن يفعلوا ذلك
قالت عائشة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في مرضه الذي لم يقم منه لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا رواه البخاري ومسلم
وروى الإمام أحمد في مسنده بإسناد جيد عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد رواه أبو حاتم في صحيحه
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد رواه الإمام أحمد
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي
وفي الباب أحاديث كثيرة وآثار ليس هذا موضع استقصائها
فهذه المساجد مبنية على قبور الأنبياء والصالحين والملوك وغيرهم يتعين إزالتها بهدم أو بغيره هذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء المعروفين وتكره الصلاة فيها من غير خلاف أعلمه ولا تصح عندنا في ظاهر المذهب لأجل النهي واللعن الوارد في ذلك ولأحاديث أخر وليس في هذه المسألة خلاف لكون المدفون فيها واحدا وإنما اختلف أصحابنا في المقبرة المجردة عن مسجد هل حدها ثلاثة أقبر أو ينهى عن الصلاة عند القبر الفذ وإن لم يكن عنده قبر آخر على وجهين
ثم يتغلظ النهي إن كانت البقعة مغصوبة مثل ما بني على قبر بعض العلماء
أو الصالحين أو غيرهم ممن كان مدفونا في مقبرة مسبلة فبني على قبره مسجدا أو مدرسة أو رباطا أو مشهدا وجعل فيها مطهرة أو لم يجعل فإن هذا مشتمل على أنواع من المحرمات
أحدها أن المقبرة المسبلة لا يجوز الانتفاع بها في غير الدفن من غير تعويض بالاتفاق فبناء المسجد أو المدرسة أو الرباط فيها كدفن الميت في المسجد أو كبناء الخانات ونحوها في المقبرة أو كبناء المسجد في الطريق الذي يحتاج الناس إلى المشي فيه
الثاني اشتمال غالب ذلك على نبش قبور المسلمين وإخراج عظام موتاهم كما قد علم ذلك في كثير من هذه المواضع
الثالث أنه قد روى مسلم في صحيحه عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى أن يبنى على القبور
الرابع أن بناء المطاهر التي هي محل النجاسات بين مقابر المسلمين من أقبح ما تجاور به القبور لا سيما إن كان محل المطهرة قبر رجل مسلم
الخامس اتخاذ القبور مساجد وقد تقدم بعض النصوص المحرمة لذلك
السادس الإسراج على القبور وقد لعن صلى الله عليه و سلم من يفعل ذلك
السابع مشابهة أهل الكتابين في كثير من الأقوال والأفعال والسنن بهذا السبب كما هو الواقع إلى غير ذلك من الوجوه
وقد كانت البنية التي على قبر إبراهيم عليه السلام مسدودة لا يدخل إليها إلى حدود المائة الرابعة فقيل إن بعض النسوة المتصلات بالخلفاء رأت في ذلك مناما فنقبت لذلك
وقيل إن النصارى لما استولوا على هذه النواحي نقبوا ذلك ثم ترك ذلك مسجدا بعد الفتوح المتأخرة
وكان أهل الفضل من شيوخنا لا يصلون في مجموع تلك البنية وينهون
أصحابهم عن الصلاة فيها اتباعا لأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم واتقاء لمعصيته كما تقدم
وكذلك إيقاد المصابيح في هذه المشاهد مطلقا لا يجوز بلا خلاف أعلمه للنهي الوارد ولا يجوز الوفاء بما ينذ لها من دهن وغيره بل موجبه موجب نذر المعصية
ومن ذلك الصلاة عندها وإن لم يبن هناك مسجد فإن ذلك أيضا اتخاذها مسجدا كما قالت عائشة رضي الله عنها ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن خشي أن يتخذ مسجدا ولم تقصد عائشة رضي الله عنها مجرد بناء مسجد فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا وإنما قصدت أنهم خشوا أن الناس يصلون عند قبره وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدا بل كل موضع يصلى فيه فإنه يسمى مسجدا وإن لم يكن هناك بناء كما قال صلى الله عليه و سلم جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا
وقد روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والبزار وغيرهم بأسانيد جيدة ومن تكلم فيه فما استوفى طرقه
واعلم أن من الفقهاء من اعتقد أن سبب كراهة الصلاة في المقبرة ليس إلا لكونها مظنة النجاسة لما يختلط بالتراب من صديد الموتى وبنى على هذا الاعتقاد الفرق بين المقبرة الجديدة والعتيقة وبين أن يكون بينه وبين التراب حائل أولا يكون ونجاسة الأرض مانعة من الصلاة عليها سواء كانت مقبرة أو لم تكن لكن المقصود الأكبر بالنهي عن الصلاة عند القبور ليس هو هذا فإنه قد بين أن اليهود والنصارى كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وقال لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا وروى عنه أنه قال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد
غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد قالت عائشة ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا وقال إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهى عن ذلك
فهذا كله يبين لك أن السبب ليس هو مظنة النجاسة وإنما هو مظنة اتخاذها أوثانا كما قال الشافعي رضي الله عنه وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس
وقد ذكر هذا المعنى أبو بكر الأثرم في ناسخ الحديث ومنسوخه وغيره من أصحاب أحمد وسائر العلماء
فإن قبر النبي صلى الله عليه و سلم أو الرجل الصالح لم يكن ينبش القبر الواحد لا نجاسة عليه
وقد نبه هو صلى الله عليه و سلم على العلة بقوله اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد وبقوله إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد فلا تتخذوها مساجد وأولئك إنما كانوا يتخذون قبورا لا نجاسة عندها ولأنه قد روى مسلم في صحيحه عن أبي مرثد الغنوي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها ولأنه صلى الله عليه و سلم قال كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة
فجمع بين التماثيل والقبور
وأيضا فإن اللات كان سبب عبادتها تعظيم قبر رجل صالح كان هناك وقد ذكروا أن ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح عليهما السلام
فروى محمد بن جرير بإسناده إلى الثوري عن موسى عن محمد بن قيس ويعوق ونسرا قال كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح عليهما السلام وكان لهم أتباع
يقتدون بهم فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم فصوروهم فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم قال قتادة وغيره كانت هذه الآلهة يعبدها قوم نوح ثم اتخذها العرب بعد ذلك
وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع هي التي أوقعت كثيرا من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين وبتماثيل يزعمون أنها طلاسم الكواكب ونحو ذلك فلأن يشرك بقبر الرجل الذي يعتقد نبوته أو صلاحه أعظم من أن يشرك بخشبة أو حجر على تمثاله ولهذا تجد أقواما كثيرين يتضرعون عندها ويتخشعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يعبدونها في المسجد بل ولا في السحر ومنهم من يسجد لها وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء مالا يرجونه في المساجد التي تشد إليها الرحال
فهذه المفسدة التي هي مفسدة الشرك كبيره وصغيره هي التي حسم النبي صلى الله عليه و سلم مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته كما يقصد بصلاته بركة المساجد الثلاثة ونحو ذلك كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس واستوائها وغروبها لأنها الأوقات التي يقصد المشركون بركة الصلاة للشمس فيها فنهى المسلم عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصد ذلك سدا للذريعة
فأما إذا قصد الرجل الصلاة عند بعض قبور الأنبياء أو بعض الصالحين متبركا بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ورسوله والمخالفة لدينه وابتداع دين لم يأذن الله به فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله صلى الله عليه و سلم من أن الصلاة عند القبر أي قبر كان لافضل فيها لذلك ولا للصلاة في تلك البقعة مزية خير أصلا بل مزية شر
واعلم أن تلك البقعة وإن كان قد تنزل عندها الملائكة والرحمة ولها فضل وشرف ولكن دين الله تعالى بين الغالي فيه والجافي عنه
فإن النصارى عظموا الأنبياء حتى عبدوهم وعبدوا تماثيلهم واليهود استخفوا بهم حتى قتلوهم والأمة الوسط عرفوا مقاديرهم فلم يغلوا فيهم غلو النصارى ولم يجفوا عنهم جفاء اليهود ولهذا قال صلى الله عليه و سلم فيما صح عنه لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم وإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله
فإذا قدر أن الصلاة هناك توجب من الرحمة أكثر من الصلاة في غير ذلك البقعة كانت المفسدة الناشئة من الصلاة هناك تربوا على هذه المصلحة حتى تغمرها أو تزيد عليها بحيث تصير الصلاة هناك مذهبة لتلك الرحمة ومثبتة لما يوجب اللعنة والعذاب ومن لم تكن له بصيرة يدرك بها الفساد الناشيء من الصلاة عندها فيكفيه أن يقلد الرسول صلى الله عليه و سلم فإنه لولا أن الصلاة عندها مما غلبت مفسدته على مصلحته لما نهى عنه كما نهى عن الصلاة
في الأوقات الثلاثة وعن صوم يومي العيدين بل كما حرم الخمر فإنه لولا أن فسادها غالب على ما فيها من المنفعة لما حرمها وكذلك تحريم القطرة منها ولولا غلبة الفساد فيها على الصلاح لما حرمها
وليس على المؤمن ولا له أن يطالب الرسل بتبيين وجوه المفاسد وإنما عليه طاعتهم قال الله تعالى وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله وقال من يطع الرسول فقد أطاع الله
وإنما حقوق الأنبياء في تعزيرهم وتوقيرهم ومحبتهم محبة مقدمة على النفس والمال والأهل وإيثار طاعتهم ومتابعة سننهم ونحو ذلك من الحقوق التي من قام بها لم يقم بعبادتهم والإشراك بهم كما أن عامة من يشرك بهم شركا أكبر أو أصغر يترك ما يجب عليه من طاعتهم بقدر ماابتدعه من الإشراك بهم
وكذلك حقوق الصديقين المحبة والإجلال ونحو ذلك من الحقوق التي جاء بها الكتاب والسنة وكان عليها سلف الأمة
وقد اختلف الفقهاء في الصلاة في المقبرة هل هي محرمة أو مكروهة وإذا قيل محرمة فهل تصح مع التحريم أم لا
المشهور عندنا أنها محرمة لا تصح
ومن تأمل النصوص المتقدمة تبين له أنها محرمة بلا شك وأن صلاته عندها لا تصح
وليس الغرض هنا تقرير المسائل المشهورة فإنها معروفة إنما الغرض التنبيه على ما يخفى من غيره
فمما يدخل في هذا قصد القبور للدعاء عندها أو لها فإن الدعاء عند القبور وغيرها من الأماكن ينقسم إلى نوعين
أحدهما أن يحصل الدعاء في البقعة بحكم الاتفاق لا لقصد الدعاء فيها كمن
يدعو الله في طريقه ويتفق أن يمر بالقبور أو من يزورها فيسلم عليها ويسأل الله العافية له وللموتى كما جاءت به السنة فهذا ونحوه لا بأس به
الثاني أن يتحرى الدعاء عندها بحيث يستشعر أن الدعاء هناك أجوب منه في غيره فهذا النوع منهي عنه إما نهي تحريم أو تنزيه وهو إلى التحريم أقرب والفرق بين البابين ظاهر
فإن الرجل لو كان يدعو الله واجتاز في ممره بصنم أو صليب أو كنيسة أو كان يدعو في بقعة وكان هناك بقعة فيها صليب وهو عنه ذاهل أو دخل إلى كنيسة ليبيت فيها مبيتا جائزا ودعا الله في الليل أو بات في بيت بعض أصدقائه ودعا الله لم يكن بهذا بأس
ولو تحرى الدعاء عند صنم أو صليب أو كنيسة يرجو الإجابة بالدعاء في تلك البقعة لكان هذا من العظائم بل لو قصد بيتا أو حانوتا في السوق أو بعض عواميد الطرقات يدعو عندها يرجو الإجابة بالدعاء عندها لكان هذا من المنكرات المحرمة إذ ليس للدعاء عندها فضل
فقصد القبور للدعاء عندها من هذا الباب بل هو أشد من بعضه لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن اتخاذها مساجد وعن اتخاذها عيدا وعن الصلاة عندها بخلاف كثير من هذه المواضع
وما يرويه بعض الناس من أنه قال إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا بأهل القبور أو نحو هذا فهو كلام موضوع مكذوب باتفاق العلماء
والذي يبين ذلك أمور
أحدها أنه قد تبين أن العلة التي نهى النبي صلى الله عليه و سلم لأجلها عن الصلاة عندها إنما هو لئلا تتخذ ذريعة إلى نوع الشرك بقصدها وبالعكوف عليها وتعلق القلوب بها رغبة ورهبة
ومن المعلوم أن المضطر في الدعاء الذي قد نزلت به نازلة فيدعو لاستجلاب خير كالاستسقاء أو لدفع شر كالاستنصار فحاله بافتتانه بالقبور إذا رجا الإجابة عندها أعظم من حال من يؤدي الفرض عندها في حال العافية
فإن أكثر المصلين في حال العافية لا تكاد تفتن قلوبهم بذلك إلا قليلا أما الداعون المضطرون ففتنتهم بذلك عظيمة جدا فإذا كانت المفسدة والفتنة التي لأجلها نهى عن الصلاة عندها متحققة في حال هؤلاء كان نهيهم عن ذلك أوكد وأوكد وهذا واضح لمن فقه في دين الله فتبين له ما جاءت به الحنفية من الدين الخالص لله وعلم كمال سنة إمام المتقين في تجريد التوحيد ونفي الشرك بكل طريق
الثاني أن قصد القبور للدعاء عندها ورجاء الإجابة بالدعاء هناك رجاء أكثر من رجاءها بالدعاء في غير ذلك الموطن أمر لم يشرعه الله ولا رسوله ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أئمة المسلمين ولا ذكره أحد من العلماء والصالحين المتقدمين بل أكثر ما ينقل من ذلك عن بعض المتأخرين بعد المائة الثانية وأصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أجدبوا مرات ودهمتهم نوائب غير ذلك فهلا جاءوا فاستسقوا واستغاثوا عند قبر النبي صلى الله عليه و سلم بل خرج عمر بالعباس فاستسقى به ولم يستسق عند قبر النبي صلى الله عليه و سلم بل قد روى عن عائشة رضي الله عنها أنها كشفت عن قبر النبي صلى الله عليه و سلم لينزل المطر فإنه رحمة تنزل على قبره ولم تستسق عنده ولا استغاثت هناك
ولهذا لما بنيت حجرته على عهد التابعين بأبي وهو وأمي صلى الله عليه و سلم تركوا في أعلاها كوة إلى السماء وهي إلى الآن باقية فيها موضوع عليها شمع على أطرافه حجارة تمسكه وكان السقف بارزا إلى السماء وبنى ذلك لما احترق المسجد والمنبر سنة بضع وخمسين وستمائة وظهرت النار بأرض الحجاز التي أضاءت لها أعناق الإبل ببصرى وجرب بعدها فتنة التتر ببغداد وغيرها
ثم عمر المسجد والسقف كما كان وأحدث حول الحجرة الحائط الخشبي ثم بعد ذلك بسنين متعددة بنيت القبة على السقف وأنكرها من أن كرها
على أنا قد روينا في مغازي محمد بن إسحق من زيادات يونس بن بكير عن أبي خلدة خالد بن دينار حدثنا أبو العالية قال لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت عند رأسه مصحف له فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر رضي الله عنه فدعا له كعبا فنسخه بالعربية فأنا أول رجل من العرب قرأه قراءة مثل ما قرأ القرآن هذا فقلت لأبي العالية ما كان فيه فقال سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد قلت فما صنعتم بالرجل قال حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه فقلت ما كانوا يرجون منه قال كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون فقلت من كنتم تظنون الرجل قال رجل يقال له دانيال فقلت منذ كم وجدتموه مات قال منذ ثلاثمائة سنة قلت ما كان تغير منه شيء قال لا إلا شعيرات من قفاه إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض ولا تأكلها السباع
ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره لئلا يفتتن به الناس وهو إنكار منهم لذلك
ويذكرون أن قبر أبي أيوب الأنصاري عند أهل القسطنطينية كذلك ولا قدوة بهم فقد كان من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم بالأمصار عدد كثير وعندهم التابعون ومن بعدهم من الأئمة وما استغاثوا عند قبر صحابي قط ولا استسقوا عنده ولا به ولا استنصروا عنده ولا به
ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله بل على نقل ما هو دونه
ومن تأمل كتب الآثار وعرف حال السلف تيقن قطعا أن القوم ما كانوا يستغيون عند القبور ولا يتحرون الدعاء عندها أصلا بل كانوا ينهون عن ذلك من يفعله من جهالهم كما قد ذكرنا بعضه
فلا يخلو إما أن يكون الدعاء عندها أفضل منه في غير تلك البقعة أولا يكون
فإن كان أفضل لم يجز أن يخفى علم هذا على الصحابة والتابعين وتابعيهم فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة بهذا الفضل العظيم ويعلمه من بعدهم ولم يجز أن يعلموا ما فيه من الفضل ويزهدوا فيه مع حرصهم على كل خير لا سيما الدعاء فإن المضطر يتشبث بكل سبب وإن كان فيه نوع كراهة فكيف يكونون مضطرين في كثير من الدعاء وهم يعلمون فضل الدعاء عند القبور ثم لا يقصدونه هذا محال طبعا وشرعا
وإن لم يكن الدعاء عندها أفضل كان قصد الدعاء عندها ضلالة ومعصية كما لو تحرى الدعاء وقصده عند سائر البقاع التي لا فضيلة للدعاء عندها من شطوط الأنهار ومغارس الأشجار وحوانيت الأسواق وجوانب الطرقات ومالا يحصي عدده إلا الله
وهذا قد دل عليه كتاب الله في مواضع مثل قوله تعالى ام لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله فإذا لم يشرع الله استحباب الدعاء عند المقابر ولا وجوبه فمن شرعه فقد شرع من الدين مالم يأذن به الله
وقال تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون وهذه العبادة عند المقابر نوع من أن يشرك بالله مالم ينزل به سلطانا لأن الله لم ينزل حجة تتضمن استحباب قصد الدعاء عند القبور وفضله
على غيره ومن جعل ذلك من دين الله فقد قال على الله مالا يعلم
وما أحسن قول الله مالم ينزل به سلطانا لئلا يحتج بالمقاييس والحكايات
ومثل هذا قوله تعالى في حكايته عن الخليل وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله مالم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون وتلك وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم
فإن هؤلاء المشركين الشرك الأكبر والأصغر يخوفون المخلصين بشفعائهم فيقال لهم نحن لا نخاف هؤلاء الشفعاء الذين لكم فإنهم خلق من خلق الله لا يضرون إلا بعد مشيئة الله فمن مسه الله بضر فلا كاشف له إلا هو ومن أصابه برحمة فلا راد لفضله وكيف نخاف هؤلاء المخلوقين الذين جعلتموهم شفعاء وأنتم لا تخافون الله وأنتم قد أحدثتم في دينه من الشرك مالم ينزل به وحيا من
السماء فأي الفريقين أحق بالأمن من كان لا يخاف إلا الله ولم يبتدع في دينه شركا أم من ابتدع في دينه شركا بغير إذنه بل من آمن ولم يخلط إيمانه بشرك فهؤلاء هم الذين لهم الأمن وهم مهتدون
وهذه الحجة المستقيمة التي يرفع الله بها وبأمثالها أهل العلم درجات
فإن قيل قد نقل عن بعضهم أنه قال قبر معروف الترياق المجرب وروي عن معروف أنه أوصى ابن أخيه أن يدعو عند قبره وذكر أبو علي الخرقي في قصص من هجره أحمد أن بعض هؤلاء المهجورين كان يجيء إلى عند قبر أحمد ويتوخى الدعاء عنده وأظنه ذكر ذلك المروزي ونقل عن جماعات بأنهم دعوا عند قبور جماعات من الأنبياء والصالحين من أهل البيت وغيرهم فاستجيب لهم الدعاء وعلى هذا عمل كثير من الناس
وقد ذكر المتأخرون المصنفون في مناسك الحج إذا زار قبر النبي صلى الله عليه و سلم فإنه يدعو عنده
وذكر بعضهم أن من صلى عليه سبعين مرة عند قبره ودعا استجيب له
وذكر بعض الفقهاء في حجة من يجوز القراءة على القبر أنها بقعة يجوز السلام والذكر والدعاء عندها فجازت القراءة عندها كغيرها
وقد رأى بعضهم منامات في الدعاء عند قبر بعض الأشياخ وجرب أقوام استجابة الدعاء عند قبور معروفة كقبر الشيخ أبي الفرج الشيرازي المقدسي وغيره
وقد أدركنا في أزمامنا وما قاربها من ذي الفضل عند الناس علما وعملا من كان يتحرى الدعاء عندها والعكوف عليها وفيهم من كان بارعا في العلم وفيهم من له عند الناس كرامات فكيف يخالف هؤلاء
وإنما ذكرت هذا السؤال مع بعده عن طريق أهل العلم والدين لأنه غاية ما يتمسك به القبوريون
قلنا الذي ذكرنا كراهته لم ينقل في استحبابه فيما علمناه شيء ثابت عن القرون الثلاثة التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم حيث قال خير أمتي القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم مع شدة المقتضى عندهم لذلك لو كان فيه فضيلة فعدم أمرهم وفعلهم لذلك مع قوة المقتضى لو كان فيه فضل يوجب القطع بأن لا فضل فيه
وأما من بعد هؤلاء فأكثر ما يفرض أن الأمة اختلفت فصار كثير من العلماء والصديقين إلى فعل ذلك وصار بعضهم إلى النهي عن ذلك فإنه لا يمكن أن يقال اجتمعت الأمة على استحسان ذلك لوجهين
أحدهما أن كثيرا من الأمة كره ذلك وأنكره قديما وحديثا
الثاني أنه من الممتنع أن تتفق الأمة على استحسان فعل لو كان حسنا لفعله المتقدمون ولم يفعلوه فإن هذا من باب تناقض الاجماعات وهي لا تتناقض وإذا اختلف فيه المتأخرون فالفاصل بينهم هو الكتاب والسنة وإجماع المتقدمين نصا واستنباطا
فكيف وهذا والحمد لله لم ينقل هذا عن إمام معروف ولا عالم متبع بل المنقول في ذلك إما أن يكون كذبا على صاحبه مثل ما حكى بعضهم عن الشافعي رحمه الله أنه قال إذا نزلت بي شدة أجيء فأدعو عند قبر أبي حنيفة رحمه الله فأجاب أو كلاما هذا معناه وهذا كذب معلوم كذبه بالاضطرار عند من له أدنى معرفة بالنقل
فإن الشافعي لما قدم ببغداد لم يكن ببغداد قبر ينتاب للدعاء عنده البتة بل ولم يكن هذا على عهد االشافعي معروفا وقد رأى الشافعي بالحجاز واليمن والشام والعراق ومصر من قبور الأنبياء والصحابة والتابعين من كان أصحابها عنده وعند المسلمين أفضل من أبي حنيفة وأمثاله من العلماء فما باله لم يتوخ الدعاء إلا عند قبر أبي حنيفة
ثم أصحاب أبي حنيفة الذين أدركوه مثل أبي يوسف ومحمد وزفر والحسن
ابن زياد وطبقتهم لم يكونوا يتحرون الدعاء لا عند قبر أبي حنيفة ولا غيره
ثم قد تقدم عن الشافعي ما هو ثابت في كتابه من كراهة تعظيم قبور الصالحين خشية الفتنة بها
وإنما يضع مثل هذه الحكايات من يقل علمه ودينه
وإما أن يكون المنقول من هذه الحكايات عن مجهول لا يعرف ونحن لو روى لنا مثل هذه الحكايات المسيبة أحاديث عمن لا ينطق عن الهوى لما جاز التمسك بها حتى تثبت فكيف بالمنقول عن غيره
ومنها ما قد يكون صاحبه قاله أو فعله باجتهاد يخطئ فيه ويصيب أو قاله بقيود وشروط كثيرة على وجه لا محذور فيه فحرف النقل عنه كما أن النبي صلى الله عليه و سلم لما أذن في زيارة القبور بعد النهي عنها فهم المبطلون أن ذلك هو الزيارة التي يفعلونها من حجها للصلاة عندها والاستغاثة بها
ثم سائر هذه الحجج دائر بين نقل لا يجوز إثبات الشرع به أو قياس لا يجور استحباب العبادات بمثله مع العلم بأن الرسول لم يشرعها وتركه لها مع قيام المقتضي للفعل بمنزلة فعله وإنما تثبت العبادات بمثل هذه الحكايات والمقاييس من غير نقل عن أبناء النصارى وأمثالهم وإنما المتبع عند علماء الإسلام في إثبات الأحكام هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم وسبيل السابقين أو الأولين ولا يجوز إثبات حكم شرعي بدون هذه الأصول الثلاثة نصا استنباطا بحال
والجواب عنها من وجهين مجمل ومفصل
أما المجمل فالنقض فإن اليهود والنصارى عندهم من الحكايات والقياسات من هذا النمط كثير بل المشركون الذين بعث اليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يدعون عند أوثانهم فيستجاب لهم أحيانا كما قد يستجاب لهؤلاء أحيانا وفي وقتنا هذا عند النصارى من هذا طائفة
فإن كان هذا وحده دليلا على أن يرضى ذلك ويحبه فليطرد الدليل وذلك كفر متناقض
ثم إنك تجد كثيرا من هؤلاء الذين يستغيثون عند قبر أو غيره كل منهم قد اتخذ وثنا وأحسن الظن به وأساء الظن بآخر وكل منهم يزعم أن وثنه يستجاب عنده ولا يستجاب عند غيره فمن المحال إصابتهم جميعا وموافقة بعضهم دون بعض تحكم وترجع بلا مرجح والتدين بدينهم جميعا جمع بين الأضداد
فإن أكثر هؤلاء إنما يكون تأثرهم فيما يزعمون بقدر إقبالهم على وثنهم وانصرافهم عن غيره وموافقتهم جميعا فيما يثبتونه دون ما ينفونه بضعف التأثير على زعمهم فإن الواحد إذا أحسن للظن بالإجابة عند هذا وهذا لم يكن تأثره مثل تأثر من حسن الظن بواحد دون آخر وهذا كله من خصائص الأوثان
ثم قد استجيب لبلعم بن باعوراء في قوم موسى المؤمنين وسلبه الله الإيمان
والمشركون قد يستسقون فيسقون ويستنصرون فينصرون
وأما الجواب المفصل فنقول
مدار هذه الشبهة على أصلين
منقول وهو ما يحكى من نقل هذا الدعاء عن بعض الأعيان
ومعقول وهو ما يعتقد من منفعته بالتجارب والأقيسة
فأما النقل في ذلك فإما كذب أو غلط وليس بحجة بل قد ذكرنا النقل عمن يقتدى به بخلاف ذلك
وأما المعقول فنقول عامة المذكور من المنافع كذب فإن هؤلاء الذين يتحرون الدعاء عند القبور وأمثالهم إنما يستجاب لهم في النادر ويدعو الرجل منهم ما شاء الله من دعوات فيستجاب له في واحدة ويدعو خلق كثير منهم فيستجاب للواحد بعد الواحد وأين هذا من الذين يتحرون الدعاء في أوقات
الأسحار ويدعون الله في سجودهم وأدبار صلواتهم وفي بيوت الله فإن هؤلاء إذا ابتهلوا ابتهالا من جنس القبوريين لم تكد تسقط لهم دعوة إلا لمانع بل الواقع أن الابتهال الذي يفعله القبوريون إذا فعله المخلصون لم يرد المخلصون إلا نادرا ولم يستجب للقبوريين إلا نادرا والمخلصون كما قال النبي صلى الله عليه و سلم ما من عبد يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث إما أن يعجل الله له دعوته أو يدخر له من الخير مثلها أو يصرف عنه من الشر مثلها قالوا يا رسول الله إذا نكثر قال الله أكثر
فهم في دعائهم لا يزالون بخير
وأما القبوريون فإنهم إذا استجيب لهم نادرا فإن أحدهم يضعف توحيده ويقل نصيبه من ربه ولا يجد في قلبه من ذوق طعم الإيمان وحلاوته ما كان يجده السابقون الأولون ولعله لا يكاد يبارك له في حاجته اللهم إلا أن يعفو الله عنهم لعدم علمهم بأن ذلك بدعة فإن المجتهد إذا أخطأ أثابه الله على اجتهاده وغفر له خطأه
وجميع الأمور التي يظن أن لها تأثيرا في العالم وهي محرمة في الشرع كالتمريجات الفلكية والتوجهات النفسانية كالعين والدعاء المحرم والرقي المحرمة والتمريجات الطبيعية ونحو ذلك فإن مضرتها أكثر من منفعتها حتى في نفس ذلك المطلوب فإن هذه الأمور لا يطلب بها غالبا إلا أمور دنيوية فقل أن يحصل لأحد بسببها أمر دنيوي إلا كانت عاقبته فيه في الدنيا عاقبة
خبيثة دع الآخرة والمخبل من أهل هذه الأسباب أضعاف أضعاف المنجح ثم إن فيها من النكد والضرر ما الله به عليم فهي في نفسها مضرة لا يكاد يحصل الغرض بها إلا نادرا وإذا حصل فضرره أكثر من منفعته والأسباب المشروعة في حصول هذه المطالب المباحة أو المستحبة سواء كانت طبيعية كالتجارة والحراثة أو كانت دينية كالتوكل على الله والثقة به وكدعاء الله سبحانه على الوجه المشروع في الأمكنة والأزمنة التي فضلها الله ورسوله بالكلمات المأثورة عن إمام المتقين صلى الله عليه و سلم كالصدقة وفعل المعروف يحصل بها الخير المحض أو الغالب وما يحصل من ضرر بفعل مشروع أو ترك غير مشروع مما نهى عنه فإن ذلك الضرر مكثور في جانب ما يحصل من المنفعة
وهذا الأمر كما أنه قد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع فهو ايضا معقول بالتجارب المشهورة والأقيسة الصحيحة فإن الصلاة والزكاة يحصل بهما خير الدنيا والآخرة ويجلبان كل خير ويدفعان كل شر
فهذا الكلام في بيان أنه لا يحصل بتلك الأسباب المحرمة لا خير محض ولا غالب ومن كان له خبرة بأحوال العالم وعقل تيقن ذلك يقينا لا شك فيه
وإذا ثبت ذلك فليس علينا من سبب التأثير أحيانا فإن الأسباب التي يخلق الله بها الحوادث في الأرض والسماء لا يحصيها على الحقيقة إلا هو أما أعيانها فيلا ريب وكذلك أنواعها أيضا لا يضبطها المخلوق لسعة ملكوت الله سبحانه وتعالى ولهذا كانت طريقة الأنبياء عليهم السلام أنهم يأمرون الخلق بما فيه صلاحهم وينهونهم عما فيه فسادهم ولا يشغلونهم بالكلام في أسباب الكائنات كما تفعل المتفلسفة فإن ذلك كثير التعب قليل الفائدة أو موجب للضرر
ومثل النبي صلى الله عليه و سلم مثل طبيب دخل على مريض فرأى مرضه
فعلمه فقال له اشرب كذا واجتنب كذا ففعل ذلك فحصل غرضه من الشفاء
والمتفلسف يطول معه الكلام في سبب ذلك المرض وصفته وذمه وذم ما أوجبه ولو قال له مريض فما الذي يشفيني منه لم يكن له بذلك علم تام
على أن الكلام في بيان تأثير بعض هذه الأسباب قد يكون فيه فتنة لمن ضعف عقله ودينه بحيث يختلط عقله فيتوله إذا لم يرزق من العلم والإيمان ما يوجب له الهدى واليقين
ويكفي العاقل أن يعلم أن ما سوى المشروع لا يؤثر بحال فلا منفعة فيه أو أنه وإن أثر فضرره أكثر من نفعه
ثم سبب قضاء حاجة بعض هؤلاء الداعين الأدعية المحرمة أن الرجل منهم قد يكون مضطرا اضطرارا لو دعا الله بها مشرك عند وثن لاستجيب له لصدق توجهه إلى الله وإن كان تحري الدعاء عند الوثن شركا ولو استجيب له على يد المتوسل به صاحب القبر أو غيره لاستغاثته فإنه يعاقب على ذلك ويهوي في النار إذا لم يعف الله عنه كما لو طلب من الله ما يكون فتنة له كما أن ثعلبة لما سأل النبي صلى الله عليه و سلم أن يدعو له بكثرة المال ونهاه النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك مرة بعد مرة فلم ينته حتى دعا له وكان ذلك سبب شقائه في الدنيا والآخرة وقد قال صلى الله عليه و سلم إن الرجل ليسألني المسألة فأعطيه إياها فيخرج بها يتأبطها نارا فقالوا يا رسول الله فلم تعطيهم قال يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل
فكم من عبد دعا دعاء غير مباح فقضيت حاجته في ذلك الدعاء وكانت سبب هلاكه في الدنيا والآخرة
تارة بأن يسأل مالا تصلح له مسألته كما فعل بلعام وثعلبة كخلق كثير دعوا بأشياء فحصلت لهم وكان فيها هلاكهم
وتارة بأن يسأل على الوجه الذي لا يحبه الله كما قال سبحانه ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين فهو سبحانه لا يحب المعتدين في صفة الدعاء ولا في المسئول وإن كانت حاجتهم قد تقضى كأقوام ناجوا الله في دعواتهم بمناجاة فيها جرأة على الله واعتداء لحدوده وأعطوا طلبتهم فتنة ولما يشاء الله سبحانه بل أشد من ذلك
ألست ترى السحر والطلسمات والعين وغير ذلك من المؤثرات في العالم بإذن الله قد يقضي الله بها كثيرا من أغراض النفوس الشريرة ومع هذا فقد قال سبحانه ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون فإنهم معترفون بأنه لا ينفع في الآخرة وأن صاحبه خاسر في الآخرة وإنما يتشبثون بمنفعته في الدنيا وقد قال تعالى ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم
كذلك أنواع من الداعين والسائلين قد يكون يدعون دعاء محرما لهم معه ذلك الغرض ويورثهم ضررا أعظم منه وقد يكون الدعاء مكروها ويستجاب له أيضا
ثم هذا التحريم والكراهة قد يعلمه الداعي وقد لا يعلمه على وجه لا يعذر فيه لتقصيره في طلب العلم أو تركه للحق وقد لا يعلمه على وجه يعذر فيه بأن يكون فيه مجتهدا أو مقلدا كالمقلد أو المجتهد اللذان يعذران في سائر الأعمال وغير المعذور قد يتجاوز الله عنه في ذلك الدعاء لكثرة حسناته من صدق قصده أو لمحض رحمة الله به أو نحو ذلك من الأسباب
فالحاصل أن ما يقع من الدعاء المشتمل على كراهة شرعية بمنزلة سائر أنواع العبادات
وقد علم أن العبادة المشتملة على وصف مكروه قد تغفر تلك الكراهة
لصاحبها لاجتهاده أو تقليده أو حسناته أو غير ذلك ثم ذلك لا يمنع أن يعلم أن ذلك مكروه ينهى عنه وإن كان هذا الفاعل المعين قد زال موجب الكراهة في حقه
ومن هنا يغلط كثير من الناس فإنهم يبلغهم أن بعض الأعيان من الصالحين عبدوا عبادة أو دعوا دعاء وجدوا أثر تلك العبادة وذلك الدعاء فيجعلون ذلك دليلا على استحسان تلك العبادة والدعاء ويجعلون ذلك العمل سنة كأنه قد فعله نبي وهذا غلط لما ذكرناه خصوصا إذا كان ذلك العمل إنما كان أثره بصدق قام بقلب فاعله حين الفعل ثم تفعله الأتباع صورة لا صدقا فيضربون به لأنه ليس العمل مشروعا فلا يكون لهم الثواب المتبعين ولا قام بهم صدق ذلك الفاعل الذي لعله بصدق الطلب وصحة القصد يكفر عن الفاعل
ومن هذا الباب ما يحكى من آثار لبعض الشيوخ حصلت في السماع المبتدع فإن تلك الآثار إنما كانت عن أحوال قامت بقلوب أولئك الرجال حركها محرك كانوا في سماعه إما مجتهدين وإما مقصرين تقصيرا غمره حسنات قصدهم فيأخذ الأتباع حضور صورة السماع حضور أولئك الرجال سنة تتبع وليس مع المقلدين من الصدق والقصد ما لأجله عذروا أو غفر لهم فيهلكون بذلك
وكما يحكى عن بعض الشيوخ أنه رؤي بعد موته فقيل له ما فعل الله بك فقال أوقفني بين يديه وقال لي يا شيخ السوء أنت الذي كنت تتمثل بسعدي ولبني لولا أعلم أنك صادق لعذبتك
فإذا سمعت دعاء أو مناجاة مكروهة في الشرع قد قضيت حاجة صاحبها فاعلم أن كثيرا منها ما يكون من هذا الباب
ولهذا كان الأئمة العلماء بشريعة الله يكرهون هذا من أصحابهم وإن وجد
أصحابهم أثره كما يحكى عن سحنون المحب قال وقع في قلبي شيء من هذه الآيات فجئت إلى دجلة فقلت وعزتك لا أذهب حتى يخرج لي حوت فخرج حوت عظيم أو كما قال فبلغ ذلك الجنيد فقال كنت أحب أن تخرج إليه حية فتقتله
وكذلك حكي لنا أن بعض المجاورين بالمدينة جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه و سلم فاشتهى عليه نوعا من الأطعمة فجاء بعض الهاشميين إليه فقال إن النبي صلى الله عليه و سلم بعث إليك هذا وقال لك اخرج من عندنا فإن من يكون عندنا لا يشتهي مثل هذا
وآخرون قضيت حوائجهم ولم يقل لهم مثل هذا لاجتهادهم أو تقليدهم أو قصورهم في العلم فإنه يغفر للجاهل مالا يغفر لغيره كما يحكى عن برخ العابد الذي استسقى في بني إسرائيل
ولهذا عامة ما يحكى في هذا الباب إنما هو عن قاصري المعرفة ولو كان هذا شرعا أو دينا لكان أهلالمعرفة أولى به
ولا يقال هؤلاء لما نقصت معرفتهم ساغ لهم ذلك فإن الله لم يسوغ هذا لأحد لكن قصور المعرفة قد يرجى معه العفو والمغفرة
أما استحباب المكروهات أو إباحة المحرمات فلا فرق بين العفو عن الفاعل
والمغفرة له وبين إباحة فعله أو المحبة له سواء كان ذلك متعلقا بنفس الفعل أو ببعض صفاته
وقد علمت جماعة ممن سأل حاجة من بعض المقبورين من الأنبياء والصالحين فقضيت حاجته وهو لا يخرج عما ذكرته وليس ذلك بشرع فيتبع ولا سنة
وإنما يثبت استحباب الأفعال واتخاذها دينا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم وما كان عليه السابقون الأولون وما سوى ذلك من الأمور المحدثة فلا يستحب وإن اشتملت أحيانا على فوائد لأنا نعلم أن مفاسدها راجحة على فوائدها
ثم هذا التحريم والكراهة المقترنة بالأدعية المكروهة إما من جهة المطلوب وإما من جهة نفس الطلب وكذلك الاستعاذة المحرمة أو المكروهة فكراهتها إما من جهة المستعاذ منه وإما من جهة نفس الاستعاذة فينجون من ذلك الشر ويقعون فيما هو أعظم
وأما المطلوب المحرم فمثل أن يسأل الله ما يضره في دنياه أو آخرته وإن كان لا يعلم أنه يضره فيستجاب له كالرجل الذي عاده النبي صلى الله عليه و سلم فوجده مثل الفرخ فقال هل كنت تدعو الله بشيء قال كنت أقول اللهم ما كنت معاقبني به في الآخرة فعجله لي في الدنيا قال سبحان الله إنك لا تستطيعه أو لا تطيقه هلا قلت ربنا أتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وكأهل جابر بن عتيك لما مات فقال النبي صلى الله عليه و سلم لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون
وقد عاب الله على من يقتصر على طلب الدنيا بقوله فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق فأخبر أن من لم يطلب إلا الدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب
ومثل أن يدعو على غيره دعاء منهيا عنه كدعاء بلعام بن باعوراء على قوم موسى عليه السلام وهذا قد يبتلى به كثير من العباد أرباب القلوب فإنه قد يغلب على أحدهم ما يجده من حب أو بغض لأشخاص فيدعوا لأقوام وعلى أقوام بما لا يصلح فيستجاب له ويستحق العقوبة على ذلك الدعاء كما يستحقها على سائر الذنوب فإن لم يحصل له ما يمحو ذلك من توبة أو حسنات ماحية أو شفاعة غيره أو غير ذلك وإلا فقد يعاقب إما بأن يسلب ما عنده من ذوق طعم الإيمان ووجود حلاوته فينزل عن درجته وإما بأن يسلب عمل الإيمان فيصير فاسقا وإما بأن يسلب أصل الإيمان فيكون كافرا منافقا أو غير منافق
وما أكثر ما يبتلى بهذا المتأخرون من أرباب الأحوال القلبية بسبب عدم فقههم في أحوال قلوبهم وعدم معرفة شريعة الله في أعمال القلوب وربما غلب على أحدهم حال قلبه حتى لا يمكنه صرفه عما توجه إليه فيبقى ما يخرج منه مثل السهم الخارج من القوس وهذه الغلبة إنما تقع غالبا بسبب التقصير في الأعمال المشروعة التي تحفظ حال القلب فيؤاخذ على ذلك وقد تقع بسبب اجتهاد يخطئ صاحبه فتقع معفوا عنها
ثم من غرور هؤلاء وأشباههم اعتقادهم أن استجابة مثل هذا الدعاء كرامة من الله تعالى لعبده وليس في الحقيقة كرامة وإنما يشبه الكرامة من جهة كونها دعوة نافذة وسلطانا قاهرا وإنما الكرامة في الحقيقة ما نفعت في الآخرة أو نفعت في الدنيا ولم تضر في الآخرة وإنما هذا بمنزلة ما ينعم به الله على بعض الكفار والفساق من الرياسات والأموال في الدنيا فإنها إنما تصير نعمة حقيقية إذا لم تضر صاحبها في الآخرة ولهذا اختلف أصحابنا وغيرهم من العلماء هل ما ينعم به على الكافر نعمة أم ليس بنعمة وإن كان الخلاف لفظيا قال الله تعالى أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون وقال تعالى فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب
كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم فإذا هم مبلسون وفي الحديث إذا رأيت الله ينعم على العبد مع إقامته على معصيته فإنما هو استدراج يستدرجه به
ومثال هذا في الاستعاذة قول المرأة التي جاءت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليخطبها فقالت أعوذ بالله منك فقال لقد عذت بمعاذ ثم انصرف عنها فقيل لها إن هذا النبي صلى الله عليه و سلم فقالت أنا كنت أشقى من ذلك
وأما التحريم من جهة الطلب فيكون تارة لأنه دعاء لغير الله مثل ما يفعله السحرة من مخاطبة الكواكب وعبادتها ونحو ذلك فإنه قد يقضى عقب ذلك أنواع من القضاء إذا لم يعارضه معارض من دعاء أهل الإيمان وعبادتهم أو غير ذلك ولهذا تنفذ هذه الأمور في زمان فترة الرسل وفي بلاد الكفر والنفاق مالا تنفذ في دار الإسلام وزمانه
ومن هذا أني أعرف رجالا يستغيثون ببعض الأحياء في شدائد تنزل بهم فيفرج عنهم وربما يعاينون أمورا وذلك الحي المستغاث به لم يشعر بذلك ولا علم له به البتة وفيهم من يدعو على أقوام أو يتوجه في إيذائهم فيرى بعض الأحياء أو بعض الأموات يحول بينه وبين إيذاء أولئك وربما رآه ضاربا له بسيف وإن كان الحي لا شعور له بذلك وإنما ذلك من فعل الله سبحانه بسبب يكون بين المقصود وبين الرجل الدافع من اتباع له وطاعة فيما يأمره من طاعة الله ونحو ذلك فهذا قريب
وقد يجري لعباد الأصنام أحيانا من هذا الجنس المحرم ما يظنون أنه محبة من الله بما تفعله الشياطين لأعوانهم فإذا كان الأثر قد يحصل عقب دعاء من يتيقن أنه لم يسمع الدعاء فكيف يتوهم أنه هو الذي تسبب في ذلك أو أنه له فيه فعلا وإذا قيل إن الله يفعله بذلك السبب
فإذا كان السبب محرما لم يجز كالأمراض التي يحدثها الله عقب أكل السموم وقد يكون الدعاء المحرم في نفسه دعاء لغير الله وأن يدعو الله مستشفعا بغيره إليه كما تقول النصارى يا والدة الإله اشفعي لنا إلى الإله وقد يكون دعاء لله لكنه توسل إليه بما لا يحب أن يتوسل به إليه كما يفعل المشركون الذين يتوسلون إلى الله بأوثانهم وقد يكون دعا الله بكلمات لا تصلح أن يناجي بها الله أو يدعي بها لما في ذلك من الاعتداء
فهذه الأدعية ونحوها وإن كان قد يحصل لصاحبها أحيانا غرضه لكنها محرمة لما فيها من الفساد الذي يربو على منفعتها كما تقدم ولهذا كانت هذه فتنة في حق من لم يهده الله وينور قلبه فيفرق بين أمر التكوين وأمر التشريع ويفرق بين أمر القدر وأمر الشرع ويعلم أن الأقسام ثلاثة
أمور قدرها الله وهو لا يحبها ولا يرضاها فإن الأسباب المحصلة لهذه تكون محرمة موجبة لعقابه
وأمور شرعها فهو يحبها من العبد ويرضاها ولكن لم يعنه على حصولها
فهذه محمودة عنده مرضية وإن لم توجد
والقسم الثالث أن يعين الله العبد على ما يحبه منه
فالأول إعانة الله والثاني عبادة الله والثالث جمع له بين العبادة والإعانة كما قال تعالى إياك نعبد وإياك نستعين
فما كان من الدعاء غير المباح ذا اثر فهو من باب الإعانة لا العبادة كدعاء سائر الكفار والمنافقين والفساق ولهذا قال تعالى في مريم وصدقت بكلمات ربها وكتبه ولهذا كان النبي صلى الله عليه و سلم يستعيذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر
ومن رحمة الله تعالى أن الدعاء المتضمن شركا كدعاء غيره أن يفعل أو دعائه أن يدعو الله ونحو ذلك لا يحصل به غرض صاحبه ولا يورث حصول الغرض شبهة إلا في الأمور الحقيرة فأما الأمور العظيمة كإنزال الغيث عند القحوط وكشف العذاب النازل فلا ينفع فيه هذا الشرك كما قال تعالى قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون وقال تعالى وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا وقال تعالى ام من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم اقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا وقال تعالى أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا
فكون هذه المطالب العظيمة لا يستجيب فيها إلا هو سبحانه دل على توحيده وقطع شبهة من أشرك به وعلم بذلك أن ما دون هذا أيضا من الإجابات إنما حصولها منه وحده لا شريك له وإن كانت تجري بأسباب محرمة أو مباحة كما أن خلقه للسموات والأرض والرياح والسحاب وغير ذلك من الأجسام العظيمة دل على وحدانيته وأنه خالق كل شيء وأن ما دون هذا بأن يكون خلقا له أولى إذ هو حاصل عن مخلوقاته العظيمة فخالق السبب التام خالق للمسبب لا محالة
وجماع الأمر أن الشرك نوعان
شرك في ربوبيته بأن يجعل لغيره معه تدبير إما كما قال سبحانه قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ومالهم فيهما من شرك وماله منهم من ظهير فبين أنهم لا يملكون مثقال ذرة استقلالا ولا يشركونه في شيء من ذلك ولا يعينونه على ملكه ومن لم يكن مالكا ولا شريكا ولا عونا فقد انقطعت علاقته
وشرك في الألوهية بأن يدعو غيره دعاء عبادة أو دعاء مسألة كما قال تعالى إياك نعبد وإياك نستعين فكما أن إثبات المخلوقات أسباب لا تقدح في توحيد الربوبية ولا تمنع أن الله خالق كل شيء ولا توجب أن يدعي مخلوق دعاء عبادة أو دعاء استغاثة كذلك إثبات بعض الأفعال المحرمة من شرك أو غيره أسبابا لا يقدح في توحيد الإلهية ولا يمنع أن يكون الله هو الذي يستحق الدين الخالص ولا يوجب أن تستعمل الكلمات والأفعال التي فيها شرك إذ كان الله يسخط ذلك ويعاقب العبد عليه وتكون مضرة ذلك على العبد أكثر من منفعته إذ قد جعل الله الخير كله في أنا لا نعبد إلا إياه ولا نستعين إلا إياه وعامة آيات القرآن تثبت هذا الأصل الأصيل حتى إنه سبحانه قطع أثر الشفاعة بدون إذنه كقوله سبحانه من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وقوله سبحانه وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع وقوله تعالى وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وكقوله تعالى قل أندعوا من دون الله مالا ينفعنا ولا يضرنا الآية وكقوله سبحانه ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمت أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون وسورة الأنعام سورة عظيمة مشتملة على أصول الإيمان والتوحيد وكذلك قوله تعالى ثم استوى على العرش
مالكم من دونه من ولي ولا شفيع وقوله سبحانه والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى وقوله تعالى أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا وسورة الزمر أصل عظيم في هذا
ومن هذا قوله سبحانه ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين يدعو من دون الله مالا يضره ومالا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير وكذلك قوله تعالى مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون والقرآن عامته إنما هو في تقرير هذا الأصل العظيم الذي هو أصل الأصول
وهذا الذي ذكرناه كله من تحريم هذا الدعاء مع كونه قد يؤثر إذا قدر أن هذا الدعاء كان سببا أو جزءا من السبب في حصول طلبته
والناس قد اختلفوا في الدعاء المستعقب لقضاء الحاجات
فزعم قوم من المبطلين متفلسفة ومتصوفة أنه لا فائدة فيه أصلا فإن المشيئة الالهية والأسباب العلوية إما أن تكون قد اقتضت وجود المطلوب وحينئذ فلا حاجة إلى الدعاء أو لا تكون اقتضته وحينئذ فلا ينفع الدعاء
وقال قوم ممن تكلم في العلم بل الدعاء علامة ودلالة على حصول المطلوب وجعلوا ارتباطه بالمطلوب ارتباط الدليل بالمدلول لا ارتباط السبب بالمسبب بمنزلة الخبر الصادق والعلم السابق
والصواب ما عليه الجمهور من أن الدعاء سبب لحصول الخير المطلوب أو غيره كسائر الأسباب المقدرة والمشروعة وسواء سمي سببا أو شرطا أو جزءا من السبب فالمقصود هنا واحد فإذا أراد الله بعبد خيرا ألهمه دعاءه والاستعانة
به وجعل استعانته ودعاءه سببا للخير الذي قضاه له كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إني لا أحمل هم الإجابة وإنما أحمل هم الدعاء فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه كما أن الله تعالى إذا أراد أن يشبع عبدا أو يرويه الهمه أن يأكل أو يشرب وإذا أراد أن يتوب على عبد ألهمه أن يتوب فيتوب عليه وإذا أراد أن يرحمه ويدخله الجنة يسره لعمل أهل الجنة والمشيئة الإلهية اقتضت وجود هذه الخيرات بأسبابها المقدرة لها كما اقتضت وجود دخول الجنة بالعمل الصالح ووجود الولد بالوطء والعلم بالتعلم فمبدأ الأمور من الله وتمامها على الله لا أن العبد نفسه هو المؤثر في الرب أو في ملكوت الرب بل الرب سبحانه هو المؤثر في ملكوته وهو جاعل دعاء عبده سببا لما يريده سبحانه من القضاء كما قال رجل للنبي صلى الله عليه و سلم يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها ورقي نسترقي بها وتقى نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا قال هي من قدر الله وعنه صلى الله عليه و سلم أنه قال إن الدعاء والبلاء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض
فهذا في الدعاء الذي يكون سببا في حصول المطلوب
وأعلى من هذا ما جاء به الكتاب والسنة من رضا الله وفرحه وضحكه بسبب أعمال عباده الصالحة كما جاءت به النصوص وكذلك غضبه ومقته
وقد بسطنا الكلام في هذا الباب وما للناس فيه من المقالات والاضطراب في غير هذا الموضع
فما فرض من الأدعية المنهي عنها سببا فقد تقدم الكلام عليه
فأما غالب هذه الأدعية التي ليست مشروعة فلا تكون هي السبب في حصول المطلوب ولا جزءا منه ولا يعلم ذلك بل لا يتوهم إلا وهما كاذبا كالنذر سواء فإن في الصحيح عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن النذر وقال إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل وعن
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدره له ولكن النذر يوافق القدر فيخرج بذلك من البخيل مالم يكن البخيل يريد أن يخرجه
فقد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أن النذر لا يأتي بخير وأنه ليس من الأسباب الجالبة لخير أو الدافعة لشر أصلا وإنما يوافق القدر موافقة كما توافقه سائر الأسباب فيخرج من البخيل حينئذ مالم يكن يخرجه قبل ذلك ومع هذا فأنت ترى الذين يحكون أنهم وقعوا في شدائد فنذروا نذرا لكشف شدائدهم أكثر أو قريبا من الذين يزعمون أنهم دعوا عند القبور أو غيرها فقضيت حوائجهم بل من كثرة اغترار الضالين المضلين بذلك صارت النذور المحرمة في الشرع مآكل لكثير من السدنة والمجاورين العاكفين على القبور أو غيرها يأخذون من الأموال شيئا كثيرا وأولئك الناذرون يقول أحدهم مرضت فنذرت ويقول الآخر خرج علي المحاربون فنذرت ويقول الآخر ركبت البحر فنذرت ويقول الآخر حبست فنذرت ويقول الآخر أصابتني فاقة فنذرت
وقد قام بنفوسهم أن هذه النذور هي السبب في حصول مطلوبهم ودفع مرهوبهم وقد أخبر الصادق المصدوق أن نذر طاعة الله فضلا عن معصيته ليس سببا لحصول الخير وإنما الخير الذي يحصل للناذر يوافقه موافقة كما يوافق سائر الأسباب فما هذه الأدعية غير المشروعة في حصول المطلوب بأكثر من هذه النذور في حصول المطلوب بل تجد كثيرا من الناس يقول إن المكان الفلاني أو المشهد الفلاني أو القبر الفلاني يقبل النذر بمعنى أنهم نذروا له نذرا إن قضيت حاجتهم وقضيت كما يقول القائلون الدعاء عند المشهد الفلاني أو القبر الفلاني مستجاب بمعنى أنهم دعوا هناك مرة فرأوا اثر الإجابة بل إذا كان المبطلون يضيفون قضاء حوائجهم إلى خصوص
نذر المعصية مع أن جنس النذر لا أثر له في ذلك لم يبعد منهم إذا أضافوا حصول غرضهم إلى خصوص الدعاء بمكان لا خصوص له في الشرع لأن لأن جنس الدعاء هذا مؤثر فالإضافة إليه ممكنة بخلاف جنس النذر فإنه لا يؤثر
والغرض بأن يعرف أن الشيطان إذا زين لهم نسبة الأثر إلى مالا يؤثر نوعا ولا وصفا فنسبته إلى وصف قد ثبت تأثير نوعه أولى أن يزينه لهم ثم كما لم يكن ذلك الاعتقاد منهم صحيحا فكذلك هذ إذا كلاهما مخالف للشرع
ومما يوضح ذلك أن اعتقاد المعتقد أن هذا الدعاء أو هذا النذر هو السبب أو بعض السبب في حصول المطلوب لا بد له من دلالة ولا دليل على ذلك في الغالب إلا الاقتران أحيانا أعني وجودهما جميعا وإن تراخى أحدهما عن الآخر مكانا أو زمانا مع الانتقاض أضعاف أضعاف الاقتران ومجرد اقتران الشيء بالشيء بعض الأوقات مع انتقاضه ليس دليلا على العلة باتفاق العقلاء إذا كان هنالك سبب آخر صالح إذ تخلف الأثر عنه يدل على عدم العلية
فإن قيل إن التخلف لفوات شرط أو لوجود مانع
قيل بل الاقتران لوجود سبب آخر وهذا هو الراجح فإنا نرى الله في كل وقت يقضي الحاجات ويفرج الكربات بأنواع من الأسباب لا يحصيها إلا هو وما رأيناه يحدث المطلوب مع وجود هذا الدعاء المبتدع إلا نادرا فإذا رأيناه قد أحدث كان شيئا وكان الدعاء المبتدع قد وجد إحالة حدوث الحادث على ما علم من الأسباب التي لا يحصيها إلا الله أولى من إحالته على ما لم يثبت كونه سببا
ثم الاقتران إن كان دليلا على العلة فالانتقاض دليل على عدمها
وهنا افترق الناس على ثلاث فرق مغضوب عليهم وضالون والذين أنعم الله عليهم
فالمغضوب عليهم يطعنون في عامة الأسباب المشروعة وغير المشروعة
ويقولون الدعاء المشروع قد يؤثر وقد لا يؤثر ويتصل بذلك الكلام في دلالة الآيات على تصديق الأنبياء عليهم السلام
والضالون يتوهمون في كل ما يتخيل سببا وإن كان يدخل في دين اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم والمتكايسون من المتفلسفة يحيلون ذلك على أمور فلكية وقوى نفسانية وأسباب طبيعية يدورون حولها لا يعدلون عنها
فأما المهتدون فهم لا ينكرون ما خلقه الله من القوى والطبائع في جميع الأجسام والأرواح إذ الجميع خلق الله لكنهم يؤمنون بما وراء ذلك من قدرة الله التي هو بها على كل شيء قدير ومن أنه كل يوم هو في شأن ومن أن إجابته لعبده المؤمن خارجة عن قوة نفس العبد وتصرف جسمه وروحه وبأن الله يخرق العادات لأنبيائه لإظهار صدقهم ولإكرامهم بذلك ونحو ذلك من حكمه وكذلك يخرقها لأوليائه تارة لتأييد دينه بذلك وتارة تعجيلا لبعض ثوابهم في الدنيا وتارة إنعاما عليهم بجلب نعمة أو دفع نقمة أو لغير ذلك ويؤمنون بأن الله يرد ما أمرهم به من الأعمال الصالحة والدعوات المشروعة إلى ما جعله في قوى الأجسام والأنفس ولا يلتفتون إلى الأوهام التي دلت الأدلة العقلية أو الشرعية على فسادها ولا يعلمون بما حرمته الشريعة وإن ظن أن له تأثيرا
وبالجملة فالعلم بأن هذا كان هو السبب أو بعض السبب أو شرط السبب في هذا الأمر الحادث قد يعلم كثيرا أو قد يظن كثيرا وقد يتوهم كثيرا وهما ليس له مستند صحيح إلا ضعف العقل
ويكفيك أن كل ما يظن أنه سبب لحصول المطالب مما حرمته الشريعة من دعاء أو غيره لا بد فيه من أحد أمرين
إما أن لا يكون سببا صحيحا كدعاء مالا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا وإما أن يكون ضرره أكثر من نفعه
فأما ما كان سببا صحيحا منفعته أكثر من مضرته فلا ينهى عنه الشرع
بحال وكل مالم يشرع من العبادات مع قيام المقتضي لفعله من غير مانع فإنه من باب النهي عنه كما تقدم
وأما العلم بغلبة السبب فله طرق في الأمور الشرعية كما له طرق في الأمور الطبيعية
منها الاضطرار فإن الناس لما عطشوا وجاعوا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذ غير مرة ماء قليلا فوضع يده الكريمة فيه حتى فار الماء من بين أصابعه ووضع يده الكريمة في الطعام وبرك فيه حتى كثر كثرة خارجة عن العادة فإن العلم بهذا الاقتران المعين يوجب العلم بأن كثرة الماء والطعام كانت بسببه ص – علما ضروريا كما يعلم أن الرجل ذا ضرب بالسيف ضربة شديدة صرعته فمات أن الموت كان منها بل أوكد فإن العلم بأن كثرة الماء الطعام ليس له سبب معتاد في مثل ذلك أصلا مع أن العلم بهذه المقارنة يوجب علما ضروريا بذلك وكذلك لما دعا النبي صلى الله عليه و سلم لأنس بن مالك أن يكثر الله ماله وولده فكان نخله يحمل في السنة مرتين على خلاف عادة بلده ورأى من ولده وولد ولده أكثر من مائة فإن مثل هذا الحادث يعلم أنه كان بسبب ذلك الدعاء
ومن رأى طفلا يبكي بكاء شديدا فألقمته أمه الثدي فسكن علم يقينا أن سكونه كان لأجل ارتضاعه اللبن
والاحتمالات وإن تطرقت إلى النوع فإنها قد لا تتطرق إلى الشخص المعين وكذلك الأدعية فإن المؤمن يدعو بدعاء فيرى المدعو بعينه مع عدم الأسباب المقتضية له أو يفعل فعلا كذلك فيجده كذلك كالعلاء بن الحضرمي رضي الله عنه لما قال يا عليم يا حليم يا علي يا عظيم اسقنا فمطروا في يوم شديد الحر مطرا لم يجاوز عسكرهم وقال احملنا فمشوا على النهر الكبير مشيا لم يبل أسافل أقدام دوابهم وأيوب السختياني لما ركض الجبل لصاحبه ركضة فنبعت له عين
ماء فشرب ثم غارت فدعا الله وحده لا شريك له دل الوحي المنزل والعقول الصحيحة على فائدته ومنفعته ثم التجارب التي لا يحصي عددها إلا الله
فتجد أكثر المؤمنين قد دعوا الله وسألوه أشياء أسبابها منتفية في حقهم فأحدث لهم تلك المطالب على الوجه الذي طلبوه على وجه يوجب العلم تارة والظن الغالب أخرى أن الدعاء كان هو السبب في هذا وتجد هذا ثابتا عند ذوي العقول والبصائر الذين يعرفون جنس الأدلة وشروطها واطرادها
وأما اعتقاد تأثير الأدعية المحرمة فعامته إنما نجد اعتقاده عند أهل الجهل الذين لا يميزون بين الدليل وغيره ولا يفهمون ما يشترط للدليل من الاطراد وإنما يقع في أهل الظلمات من الكفار والمنافقين أو ذوي الكبائر الذين أظلمت قلوبهم بالمعاصي حتى لا يميزون بين الحق والباطل
وأما ما ذكر في المناسك أنه بعد تحية النبي صلى الله عليه و سلم وصاحبيه والصلاة والسلام يدعو فقد ذكر الإمام أحمد وغيره أنه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره وذلك بعد تحيته عليه الصلاة و السلام ثم يدعو لنفسه وذكر انه إذا حياه وصلى عليه يستقبله بوجهه بأبي هو وأمي صلى الله عليه و سلم فإذا أراد الدعاء جعل الحجرة عن يساره واستقبل القبلة ودعا وهذا مراعاة منهم لذلك فإن الدعاء عند القبر لا يكره مطلقا بل يؤمر به للميت كما جاءت به السنة فيما تقدم ضمنا وتبعا وإنما المكروه أن يتحرى المجيء إلى القبر للدعاء عنده
وكذلك ذكر أصحاب مالك قالوا يدنو من القبر فيسلم على النبي صلى الله عليه و سلم ثم يدعو مستقبل القبلة يوليه ظهره وقيل لا يوليه ظهره وإنما اختلفوا لما فيه من استدباره فأما إذا جعل الحجرة عن يساره فقد زال المحذور بلا خلاف وصار في الروضة أو أمامها
ولعل هذا الذي ذكره الأئمة أخذوه من كراهة الصلاة إلى القبر فإن ذلك
قد ثبت النهي فيه عن النبي صلى الله عليه و سلم كما تقدم فلما نهى أن يتخذ القبر مسجدا أو قبلة أمروا بأن لا يتحرى الدعاء إليه كما لا يصلي إليه
قال مالك في المبسوط لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه و سلم يدعو ولكن يسلم ويمضى ولهذا والله أعلم حرفت الحجرة وثلثت لما بنيت فلم يجعل حائطها الشمالي على سمت القبلة ولا جعل جدارها مربعا وكذلك قصدوا قبل أن تدخل الحجرة في المسجد
فروى ابن بطة بإسناد معروف عن هشام بن عروة حدثني أبي قال كان الناس يصلون إلى القبر فأمر عمر بن عبد العزيز فرفع حتى لا يصلي إليه الناس فلما هدم بدت قدم بساق وركبة قال ففزع من ذلك عمر بن عبد العزيز فأتاه عروة فقال هذه ساق عمر وركبته فسرى عن عمر بن عبد العزيز
وهذا أصل مستمر فإنه لا يستحب للداعي أن يستقبل إلا ما يستحب أن يصلي إليه ألا ترى أن المسلم لما نهى عن الصلاة إلى جهة المشرق وغيرها فإنه ينهى أن يتحرى استقبالها وقت الدعاء ومن الناس من يتحرى قت دعائه استقبال الجهة التي يكون فيها معظمه الصالح سواء كانت في المشرق أو غيره وهذا ضلال بين وشرك واضح كما أن بعض الناس يمتنع من استدبار الجهة التي فيها بعض مقدسيهم من الصالحين وهو يستدبر الجهة التي فيها بيت الله وقبر رسول الله صلى الله عليه و سلم وكل هذه الأشياء من البدع التي تضارع دين النصارى
ومما يبين لك ذلك أن نفس السلام على النبي صلى الله عليه و سلم قد راعوا فيه السنة حتى لا يخرج إلى الوجه المكروه الذي قد يجر إلى إطراء النصارى عملا بقوله صلى الله عليه و سلم لا تتخذوا قبري عيدا وبقوله لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله فكان بعضهم يسأل عن السلام على القبر خشية أن يكون من هذا الباب حتى قيل له إن ابن عمر كان يفعل ذلك
ولهذا كره مالك رضي الله عنه وغيره من أهل العلم لأهل المدينة كلما دخل أحدهم المسجد أن يجيء فيسلم على قبر النبي صلى الله عليه و سلم وصاحبيه قال وإنما يكون ذلك لأحدهم إذا قدم من سفر أو أراد سفرا ونحو ذلك
ورخص بعضهم في السلام عليه إذا دخل المسجد للصلاة ونحوها
وأما قصده دائما للصلاة والسلام فما علمت أحدا رخص فيه لأن ذلك نوع من اتخاذه عيدا مع أنا قد شرع لنا إذا دخلنا المسجد أن نقول السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته كما نقول ذلك في آخر صلاتنا بل قد استحب ذلك لكل من دخل مكانا ليس فيه أحد أن يسلم على النبي صلى الله عليه و سلم لما تقدم من أن السلام عليه يبلغه من كل موضع
فخاف مالك وغيره أن يكون فعل ذلك عند القبر كل ساعة نوعا من اتخاذ القبر عيدا
وأيضا فإن ذلك بدعة فقد كان المهاجرون والأنصار على عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم يجيئون إلى المسجد كل يوم خمس مرات يصلون ولم يكونوا يأتون مع ذلك إلى القبر يسلمون عليه لعلمهم رضي الله عنهم بما كان النبي صلى الله عليه و سلم يكرهه من ذلك وبما نهاهم عنه وأنهم يسلمون عليه حين دخول المسجد والخروج منه وفي التشهد كما كانوا يسلمون عليه كذلك في حياته والمأثور عن ابن عمر يدل على ذلك
قال سعيد بن منصور في سننه حدثنا عبد الرحمن بن زيد حدثني أبي عن ابن عمر أنه كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه و سلم فسلم وصلى عليه وقال السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه
وعبد الرحمن بن زيد وأن كان يضعف لكن الحديث المتقدم عن نافع الصحيح يدل على أن ابن عمر ما كان يفعل ذلك دائما ولا غالبا
وما أحسن ما قال مالك لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك وغيره ولهذا كره الأئمة استلام القبر وتقبيله وبنوه بناء منعوا الناس أن يصلوا إليه وكانت حجرة عائشة التي دفنوه فيها ملاصقة لمسجده وكان ما بين منبره وبيته هو الروضة ومضى الأمر على ذلك في عهدالخلفاء الراشدين ومن بعدهم وزيد في المسجد زيادات وغيروا الحجرة عن حالها هي وغيرها من الحجر المطيفة بالمسجد من شرقيه وقبليه حتى بناه الوليد بن عبد الملك وكان عمر بن عبد العزيز عامله على المدينة فابتاع هذه الحجر وغيرها وهدمهن وأدخلهن في المسجد فمن أهل العلم من كره ذلك كسعيد بن المسيب ومنهم من لم يكرهه
قال أبو بكر الأثرم قلت لأبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل قبر النبي صلى الله عليه و سلم يمس ويتمسح به فقال ما أعرف هذا قلت له فالمنبر فقال أما المنبر فنعم قد جاء فيه قال أبو عبد الله شيء يروونه عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن ابن عمر أنه مسح على المنبر قال ويروونه عن سعيد بن المسيب في الرمانة قلت ويروون عن يحيى بن سعيد أنه حين أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر فمسحه ودعا فرأيته استحسنه ثم قال لعله عند الضرورة والشيء قيل لأبي عبد الله إنهم يلصقون بطونهم بجدار القبر وقلت له رأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسونه ويقومون ناحية فيسلمون فقال أبو عبد الله نعم وهكذا كان ابن عمر يفعل ثم قال أبو عبد الله بأبي هو وأمي صلى الله عليه و سلم
فقد رخص أحمد وغيره في التمسح بالمنبر والرمانة التي هي موضع مقعد النبي صلى الله عليه و سلم ويده ولم يرخصوا في التمسح بقبره وقد حكى بعض أصحابنا
رواية في مسح قبره لأن أحمد شيع بعض الموتى فوضع يده على قبره يدعو له والفرق بين الموضعين ظاهر
وكره مالك التمسح بالمنبر كما كرهوا التمسح بالقبر
فأما اليوم فقد احترق المنبر وما بقيت الرمانة وإنما بقي من المنبر خشبة صغيرة فقد زال ما رخص فيه لأن الأثر المنقول عن ابن عمر وغيره إنما هو التمسح بمقعده
وروى الأثرم بإسناده عن العتبي عن مالك عن عبد الله بن دينار قال رأيت ابن عمر يقف على قبر النبي صلى الله عليه و سلم فيصلي عليه وعلى أبي بكر وعمر
الوجه الثالث في كراهة قصد القبور للدعاء أن السلف رضي الله عنهم كرهوا ذلك متأولين في ذلك قوله صلى الله عليه و سلم لا تتخذوا قبري عيدا كما ذكرنا ذلك عن علي بن الحسين والحسن بن الحسن ابن عمه وهما أفضل أهل البيت من التابعين وأعلم بهذا الشأن من غيرهما لمجاورتهما الحجرة النبوية نسبا ومكانا
وقد ذكرنا عن أحمد وغيره أنه أمر من سلم على النبي صلى الله عليه و سلم وصاحبيه ثم أراد أن يدعو أن ينصرف فيستقبل القبلة وكذلك أنكر ذلك غير واحد من العلماء المتقدمين كمالك وغيره ومن المتأخرين مثل أبي الوفاء بن عقيل وأبي الفرج بن الجوزي
وما أحفظ لا عن صحابي ولا عن تابعي ولا عن إمام معروف أنه استحب قصد شيء من القبور للدعاء عنده ولا روى أحد في ذلك شيئا لا عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا عن أحد من الأئمة المعروفين وقد صنف الناس في
الدعاء وأوقاته وأمكنته وذكروا فيه الآثار فما ذكر أحد منهم في فضل الدعاء شيء من القبور حرفا واحدا فيما أعلم
فكيف يجوز والحالة هذه أن يكون الدعاء عندها أجوب وأفضل والسلف تنكره ولا نعرفه وتنهى عنه ولا تأمرنا به
نعم صار من نحو المائة الثالثة يوجد متفرقا في كلام بعض الناس فلان ترجى الإجابة عند قبره وفلان يدعى عند قبره ونحو ذلك كما وجد الإنكار على من يقول ذلك ويأمر به كائنا من كان فإن أحسن أحواله أن يكون مجتهدا في هذه المسألة أو مقلدا فيعفوا الله عنه
أما إن هذا الذي قاله يقتضي استحباب ذلك فلا بل قد يقال هذا من جنس قول بعض الناس المكان الفلاني يقبل النذر والموضع الفلاني ينذر له ويعينون عينا أو بئرا أو شجرة أو مغارة أو حجرا أو غير ذلك من الأوثان فكما لا يكون مثل هذا القول عمدة في الدين كذلك الأول
ولم يبلغنا إلى الساعة عن أحد من السلف رخصة في ذلك إلا ما روى ابن أبي الدنيا في كتاب القبور بإسناده عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك قال أخبرني سليمان بن يزيد الكعبي عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة
قال ابن أبي فديك وأخبرني عمر بن حفص أن ابن أبي مليكة كان يقول من أحب أن يقوم وجاه النبي صلى الله عليه و سلم فليجعل القنديل الذي في القبلة عند رأس القبر على رأسه
قال ابن أبي فديك وسمعت بعض من أدركت يقول بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي صلى الله عليه و سلم فتلا هذه الآية إن الله وملائكته يصلون على النبي فقال صلى الله عليك يا محمد حتى يقولها سبعين مرة ناداه ملك صلى الله عليه يا فلان ولم تسقط له حاجة
فهذا الأثر من ابن أبي فديك قد يقال فيه استحباب قصد الدعاء عند القبر ولا حجة فيه لوجوه
أحدها أن ابن أبي فديك روى هذا عن مجهول وذكر ذلك المجهول أنه بلاغ عمن لا يعرف ومثل هذا لا يثبت به شيء أصلا وابن أبي فديك متأخر في حدود المائة الثانية ليس هو من التابعين ولا تابعيهم المشهورين حتى يقال قد كان هذا معروفا في القرون الثلاثة وحسبك أن أهل العلم بالمدينة المعتمدين لم ينقلوا شيئا من ذلك
ومما يضعفه أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه عشرا فكيف يكون من صلى عليه سبعين مرة جزاؤه أن يصلي عليه ملك من الملائكة وأحاديثه المتقدمة تبين أن الصلاة والسلام عليه تبلغه من البعيد والقريب
الثاني أن هذا إنما يقتضي استحباب الدعاء للزائر في ضمن الزيارة كما ذكر ذلك العلماء في مناسك الحج وليس هذا من مسألتنا فإنا قد قدمنا أن من زاره زيارة مشروعة ودعا في ضمنها لم يكره هذا كما ذكره بعض العلماء مع ما في ذلك من النزاع مع أن المنقول عن السلف كراهة الوقوف عند القبر للدعاء وهو أصح وإنما المكروه الذي ذكرناه قصد الدعاء عنده ابتداء كما أن من دخل المسجد فصلى تحية المسجد ودعا ضمنها لم يكره ذلك أو توضأ في مكان وصلى هناك ودعا في ضمن صلاته لم يكره ذلك ولو تحرى الدعاء في تلك البقعة أو في مسجد لا خصيصة له في الشرع دون غيره من المساجد نهي عن هذا التخصيص
الثالث أن الاستجابة هنا لعلها لكثرة صلاته على النبي صلى الله عليه و سلم فإن الصلاة عليه قبل الدعاء وفي وسطه وآخره من أقوى الأسباب التي يرجى بها إجابة سائر الدعاء كما جاءت به الآثار مثل قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه
الذي يروى موقوفا ومرفوعا الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى تصلي على نبيك رواه الترمذي
وذكر محمد بن الحسن بن زبالة في كتاب أخبار المدينة فيما رواه عنه الزبير بن بكار وروى عنه عن عبد العزيز بن محمد الداروردي قال رأيت رجلا من أهل المدينة يقال له محمد بن كيسان يأتي إذا صلى العصر من يوم الجمعة ونحن جلوس مع ربيعة بن أبي عبد الرحمن فيقوم عند القبر فيسلم على النبي صلى الله عليه و سلم ويدعو حتى يمسي فيقول جلساء ربيعة انظروا إلى ما يصنع هذا فيقول دعوه فإنما للمرء ما نوى
ومحمد بن الحسن هذا صاحب أخبار وهو مضعف عند أهل الحديث كالواقدي ونحوه لكن يستأنس بما يرويه ويعتبر به
وهذه الحكاية قد يتمسك بها على الطرفين فإنها تتضمن أن الذي فعله هذا الرجل أمر مبتدع عندهم لم يكن من فعل الصحابة ولا غيرهم من علماء أهل المدينة وإلا لو كان هذا أمرا معروفا من عمل أهل المدينة لما استغربه جلساء ربيعة وأنكروه بل ذكر محمد بن الحسن لها في كتابه مع رواية الزبير بن بكار ذلك عنه يدل على أنهم على عهد مالك وذويه ما كانوا يعرفون هذا العمل وإلا لو كان هذا شائعا بينهم لما ذكروا في كتاب مصنف ما يتضمن استغراب ذلك
ثم إن جلساء ربيعة وهم قوم فقهاء علماء أنكروا ذلك وربيعة أقره فغايته أن يكون في ذلك خلاف ولكن تعليل ربيعة له بأن لكل امرئ ما نوى لا يقتضي الإقرار على ما يكره فإنه لو أراد الصلاة هناك لنهاه وكذلك لو أراد الصلاة في وقت نهي
وإنما الذي اراده ربيعة والله أعلم أن من كانت له نية صالحة أثيب على نيته وإن كان الفعل الذي فعله ليس بمشروع إذا لم يتعمد مخالفة الشرع
فهذا الدعاء وإن لم يكن مشروعا لكن لصاحبه نية صالحة قد يثاب علىنيته
فيستفاد من ذلك أنهم مجمعون على أن الدعاء عند القبر غير مستحب ولا خصيصة في تلك البقعة وإنما الخير قد يحصل من جهة نية الداعي
ثم إن ربيعة لم ينكر عليه متابعة لجلسائه إما لأنه لم يبلغه أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن اتخاذ قبره عيدا وعن الصلاة عنده فإن ربيعة كما قال أحمد كان قليل العلم بالآثار أو بلغه ذلك لكن لم ير مثل هذا داخلا في معنى النهي أو لأنه لم ير هذا محرما وإنما غايته أن يكون مكروها وإنكار المكروه ليس بفرض أو أنه رأى أن ذلك الرجل إنما قصده السلام والدعاء جاء ضمنا وتبعا
وفي هذا نظر ولا ريب أن العلماء قد يختلفون في مثل هذا كما اختلفوا في صحة الصلاة عند القبر ومن لم يبطلها قد لا ينهى عن فعل ذلك
والعمدة على الكتاب والسنة وما كان عليه السابقون مع أن محمد بن الحسن هذا قد روى أخبارا عن السلف تؤيد ما ذكرناه فقال حدثني عمر بن هرون عن سلمة بن وردان قال رأيت أنس بن مالك يسلم على النبي صلى الله عليه و سلم ثم يسند ظهره إلى جدار القبر ثم يدعو
فهذا إن كان ثابتا عن أنس فهو مؤيد لما ذكرناه فإن أنسا لم يكن ساكنا بالمدينة وإما كان يقدم من البصرة إما مع الحجيج أو نحوهم فيسلم على النبي صلى الله عليه و سلم ثم إذا أراد الدعاء فالذي ينبغي في حق مثله إنما يكون ضمنا وتبعا وهو مستدبر القبر
وذكر محمد بن الحسن عن عبد العزيز بن محمد ومحمد بن إسماعيل وغيرهما عن محمد بن هلال وعن غير واحد من أهل العلم أن بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي فيه قبره هو بيت عائشة الذي كانت تسكنه وأنه مربع مبني بحجارة سود وقصة وأن الذي يلي القبلة منه أطوله والشرقي والغربي سواء والشامي أنقصها وباب البيت مما يلي الشام وهو مسدود بحجارة سود وقصة
ثم بنى عمر بن عبد العزيز على ذلك هذا البناء الظاهر وعمر بن عبد العزيز زواه لئلا يتخذه الناس قبلة تخص فيه الصلاة من بين مسجد النبي صلى الله عليه و سلم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال كما حدثني عبد العزيز بن محمد عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وحدثني مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
فهذه الآثار إذا ضمت إلى ما قدمنا من الآثار علم كيف كان حال السلف في هذا الباب وأن ما عليه كثير من الخلف في ذلك هو من المنكرات عندهم
ولا يدخل في هذا الباب ما يروى من أن قوما سمعوا رد السلام من قبر النبي صلى الله عليه و سلم أو قبور غيره من الصالحين وأن سعيد بن المسيب كان يسمع الأذان من القبر ليالي الحرة ونحو ذلك
فهذا كله حق ليس مما نحن فيه والأمر أجل من ذلك وأعظم
وكذلك أيضا ما يروى أن رجلا جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه و سلم فشكا إليه الجدب عام الرمادة فرآه وهو يأمره أن يأتي عمر فيأمره أن يخرج فيستسقي الناس فإن هذا ليس من هذا الباب ومثل هذا يقع كثيرا لمن هو دون النبي صلى الله عليه و سلم وأعرف من هذه الوقائع كثيرا
وكذلك سؤال بعضهم للنبي صلى الله عليه و سلم أو لغيره من أمته حاجته فتقضى له فإن هذا قد وقع كثيرا وليس هو مما نحن فيه
وعليك أن تعلم أن إجابة النبي صلى الله عليه و سلم أو غيره لهؤلاء السائلين ليس مما يدل على استحباب السؤال فإنه هو القائل صلى الله عليه و سلم إن أحدكم ليسألني مسألة فأعطيه إياها فيخرج بها يتأبطها نارا فقالوا يا رسول الله فلم تعطيهم قال يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل
وأكثر هؤلاء السائلين الملحين لما هم فيه من الحال لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم كما أن السائلين له في الحياة كانوا كذلك وفيهم من أجيب وأمر بالخروج من المدينة
فهذا القدر إذا وقع يكون كرامة لصاحب القبر أما أنه يدل على حسن حال السائل فلا فرق بين هذا وهذا
فإن الخلق لم ينهوا عن الصلاة عند القبور واتخاذها مساجد استهانة بأهلها بل لما يخاف عليهم من الفتنة وإنما تكون الفتنة إذا انعقد سببها فلولا أنه قد يحصل عند القبور ما يخاف الافتتان به لما نهي الناس عن ذلك
وكذلك ما يذكر من الكرامات وخوارق العادات التي توجد عند قبور الأنبياء والصالحين مثل نزول الأنوار والملائكة عندها وتوقي الشياطين والبهائم لها واندفاع النار عنها وعمن جاورها وشفاعة بعضهم في جيرانه من الموتى واستحباب الاندفان عند بعضهم وحصول الأنس والسكينة عندها ونزول
العذاب بمن استهان بها فجنس هذا حق ليس مما نحن فيه وما في قبور الأنبياء والصالحين من كرامة الله ورحمته وما لها عند الله من الحرمة والكرامة فوق ما يتوهمه أكثر الخلق لكن ليس هذا موضع تفصيل ذلك
وكل هذا لا يقتضي استحباب الصلاة أو قصد الدعاء والنسك عندها لما في قصد العبادات عندها من المفاسد التي حذر منها الشارع كما تقدم فذكرت هذه الأمور لأنها مما يتوهم معارضته لما قدمنا وليس كذلك
الوجه الرابع أن اعتقاد استجابة الدعاء عندها وفضله قد أوجب أن تنتاب لذلك وتقصد وربما اجتمع القبوريون عندها اجتماعات كثيرة في مواسم معينة وهذا بعينه هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه و سلم بقوله لا تتخذوا قبري عيدا وبقوله لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وبقوله صلى الله عليه و سلم لا تتخذوا القبور مساجد فإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد
حتى إن بعض القبور يجتمع عندها القبوريون في يوم من السنة ويسافرون إليها لإقامة العيد إما في المحرم أو رجب أو شعبان أو ذي الحجة أو غيرها
وبعضها يجتمع عندها في يوم عاشوراء وبعضها في يوم عرفة وبعضها في النصف من شعبان وبعضها في وقت آخر بحيث يكون لها يوم من السنة تقصد فيه ويجتمع عندها فيه كما تقصد عرفة ومزدلفة ومنى في أيام معلومة من السنة وكما يقصد مصلى المصر يوم العيدين بل ربما كان الاهتمام بهذه الاجتماعات في الدين والدنيا أهم وأشد
ومنها ما يسافر إليه من الأمصار في وقت معين أو وقت غير معين لقصد الدعاء عنده والعبادة هناك كما يقصد بيت الله الحرام لذلك وهذا السفر لا أعلم بين المسلمين خلافا في تحريمه والنهي عنه إلا أن يكون خلافا حادثا وإنما ذكرت الوجهين المتقدمين في السفر المجرد لزيارة القبور
فأما إذا كان السفر للعبادة عندها بالدعاء أو الصلاة أو إقامة العيد أو نحو ذلك فهذا لا ريب فيه حتى إن بعضهم يسميه الحج ويقول نريد الحج إلى قبر فلان وفلان
ومنها ما يقصد الاجتماع عنده في يوم معين من الأسبوع
وفي الجملة هذا الذي يفعل عند هذه القبور هو بعينه الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوله لا تتخذوا قبري عيدا
فإن اعتياد قصد المكان المعين في وقت معين عائد بعود السنة أو الشهر أو الأسبوع هو بعينه معنى العيد ثم ينهى عن دق ذلك وجله وهذا هو الذي تقدم عن الإمام أحمد إنكاره قال وقد أفرط الناس في هذا جدا وأكثروا وذكر ما يفعل عند قبر الحسين
وقد ذكرت فيما تقدم أنه يكره اعتياد عبادة في وقت إذا لم تجيء بها السنة فكيف اعتياد مكان معين في وقت معين
ويدخل في هذا ما يفعل بمصر عند قبر نفيسة وغيرها وما يفعل بالعراق عند القبر الذي يقال إنه قبر علي رضي الله عنه وقبر الحسين وحذيفة بن اليمان وسلمان الفارسي وقبر موسى بن جعفر ومحمد ابن علي الجواد ببغداد وعند قبر أحمد بن حنبل ومعروف الكرخي وغيرها وما يفعل عند قبر أبي يزيد البسطامي وكان يفعل نحو ذلك بحران عند قبر يسمى قبر الأنصاري إلى قبور كثيرة في أكثر بلاد الإسلام لا يمكن حصرها كما أنهم بنوا كثيرا منها مساجد وبعضها مغصوب كما بنوا على قبر أبي حنيفة والشافعي وغيرهم
وهؤلاء الفضلاء من الأمة إنما ينبغي محبتهم واتباعهم وإحياء ما أحيوه من الدين والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة والرضوان ونحو ذلك
فأما اتخاذ قبورهم أعيادا فهو مما حرمه الله ورسوله واعتياد قصد هذه القبور في وقت معين والاجتماع العام عندها في وقت معين هو اتخاذها عيدا كما تقدم ولا أعلم بين المسلمين أهل العلم في ذلك خلافا ولا يغتر بكثرة العادات الفاسدة فإن هذا من التشبه بأهل الكتابين الذي أخبرنا النبي صلى الله عليه و سلم أنه كائن في هذه الأمة
وأصل ذلك إنما هو اعتقاد فضل الدعاء عندها وإلا فلو لم يقم هذا الاعتقاد بالقلوب لانمحي ذلك كله فإذا كان قصدها للدعاء يجر هذه المفاسد
كان حراما كالصلاة عندها وأولى وكان ذلك فتنة للخلق وفتحا لباب الشرك وإغلاقا لباب الإيمان
فصل
قد تقدم أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن اتخاذها مساجد وعن الصلاة عندها وعن اتخاذها عيدا وأنه دعا الله ان لا يتخذ قبره وثنا يعبد
وقد تقدم أن اتخاذ المكان عيدا هو اعتياد إتيانه للعبادة عنده أو غير ذلك
وقد تقدم النهي الخاص عن الصلاة عندها وإليها والأمر بالسلام عليها والدعاء لها
وذكرنا ما في دعاء المرء لنفسه عندها من الفرق بين قصدها لأجل الدعاء أو الدعاء ضمنا وتبعا
وتمام الكلام في ذلك بذكر سائر العبادات فالقول فيها جميعا كالقول في الدعاء فليس في ذكر الله هناك أو القراءة عند القبر أو الصيام عنده أو الذبح عنده فضل على غيره من البقاع ولا قصد ذلك عند القبور مستحبا
وما علمت أحدا من علماء المسلمين يقول إن الذكر هناك أو الصيام والقراءة أفضل منه في غير تلك البقعة
فأما ما يذكره بعض الناس من أنه ينتفع الميت بسماع القرآن بخلاف ما إذا قرئ في مكان آخر فهذا إذا عنى به أنه يصل الثواب إليه إذا قرئ عند القبر خاصة فليس عليه أحد من أهل العلم المعروفين بل الناس على قولين
أحدهما أن ثواب العبادات البدنية من الصلاة والقراءة وغيرهما يصل إلى الميت كما يصل إليه ثواب العبادات المالية بالاجماع وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد وغيرهما وقول طائفة من أصحاب الشافعي ومالك وهو الصواب لأدلة كثيرة ذكرناها في غير هذا الموضع
والثاني أن ثواب العبادة البدنية لا يصل إليه بحال وهو المشهور عند أصحاب الشافعي ومالك وما من أحد من هؤلاء يخص مكانا بالوصول أو عدمه
فأما استماع الميت للأصوات من القراءة وغيرها فحق لكن الميت ما بقي يثاب بعد الموت على عمل يعمله هو بعد الموت من استماع أو غيره وإنما ينعم أو يعذب بما كان قد عمله في حياته هو أو بما يعمل غيره بعد الموت من أثره أو بما يعامل به كما قد اختلف في تعذيبه بالنياحة ! عليه وكما ينعم بما يهدي إليه وكما ينعم بالدعاء له وإهداء العبادات المالية بالإجماع وكذلك قد ذكر طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم ونقلوه عن أحمد وذكروا فيه آثارا أن الميت يتألم بما يفعل عنده من المعاصي فقد يقال أيضا إنه يتنعم بما يسمعه من القراءة وذكر الله
وهذا لو صح لم يوجب استحباب القراءة عنده فإن ذلك لو كان مشروعا لبينه رسول الله صلى الله عليه و سلم لأمته
وذلك لأن هذا وإن كان نوع مصلحة ففيه مفسدة راجحة كما في الصلاة عنده وتنعم الميت بالدعاء له والاستغفار والصدقة عنه وغير ذلك من العبادات يحصل له به من النفع أعظم من ذلك وهو مشروع ولا مفسدة فيه ولهذا لم يقل أحد من العلماء بأنه يستحب قصد القبر دائما للقراءة عنده إذ قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن ذلك ليس مما شرعه النبي صلى الله عليه و سلم لأمته لكن اختلفوا في القراءة عند القبور هل هي مكروهة أم لا تكره والمسألة مشهورة وفيها ثلاث روايات عن أحمد
إحداها أن ذلك لا بأس به وهي اختيار الخلال وصاحبه وأكثر المتأخرين من أصحابه وقالوا هي الرواية المتأخرة عن أحمد وقول جماعة من أصحاب أبي حنيفة واعتمدوا على ما نقل عن ابن عمرو رضي الله عنهما أنه
أوصى أن يقرأ على قبره وقت الدفن بفواتيح سورة البقرة وخواتيمها ونقل أيضا عن بعض المهاجرين قراءة سورة البقرة
والثانية أن ذلك مكروه حتى اختلف هؤلاء هل تقرأ الفاتحة في صلاة الجنازة إذا صلى عليها في المقبرة وفيه عن أحمد روايتان وهذه الرواية هي التي رواها أكثر أصحابه عنه وعليها قدماء أصحابه الذين صحبوه كعبد الوهاب الوراق وأبي بكر المروزي ونحوهما وهي مذهب جمهور السلف كأبي حنيفة ومالك وهشيم بن بشير وغيرهم ولا يحفظ عن الشافعي نفسه في هذه المسألة كلام لأن ذلك كان عنده بدعة وقال مالك ما علمت أحدا يفعل ذلك
فعلم أن الصحابة والتابعين ما كانوا يفعلونه
والثالثة أن القراءة عنده وقت الدفن لا بأس بها كما نقل ابن عمرو رضي الله عنهما وعن بعض المهاجرين وأما القراءة بعد ذلك مثل الذين ينتابون القبر للقراءة عنده فهذا مكروه فإنه لم ينقل عن أحد من السلف مثل ذلك أصلا
وهذه الرواية لعلها أقوى من غيرها لما فيها من التوفيق بين الدلائل والذين كرهو القراءة عند القبر كرهها بعضهم وإن لم يقصد القراءة هناك كما تكره الصلاة فان أحمد نهى عن القراءة في صلاة الجنازة هناك
ومعلوم أن القراءة في الصلاة ليس المقصود بها القراءة عند القبر ومع هذا فالفرق بين ما يفعل ضمنا وتبعا وما يفعل لأجل القبر بين كما تقدم والوقوف التي وقفها الناس على القراءة عند قبورهم فيها من الفائدة أنها تعين على حفظ القرآن وأنها رزق لحافظ القرآن وباعثة لهم على حفظه ودرسه وملازمته
وإن قدر أن القارئ لا يثاب على قراءته فهو مما يحفظ به الدين كما يحفظ بقراءة الكافر وجهاد الفاجر وقد قال صلى الله عليه و سلم إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر
وبسط الكلام في الوقوف وشروطها قد ذكر في موضع آخر وليس هذا هو المقصود هنا
فأما ذكر الله هناك فلا يكره لكن قصد البقعة للذكر هناك بدعة مكروهة فإنه نوع من اتخاذها عيدا وكذلك قصدها للصيام عندها ومن رخص في القراءة فانه لا يرخص في اتخاذها عيدا مثل أن يجعل له وقت معلوم يعتاد فيه القراءة هناك أو يجتمع عنده للقراءة ونحو ذلك كما أن من يرخص في الذكر والدعاء هناك لا يرخص في اتخاذه عيدا لذلك كما تقدم
وأما الذبح هناك فنهى عنه مطلقا ذكره أصحابنا وغيرهم لما روى أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا عقر في الإسلام رواه أحمد وأبو داود وزاد قال عبد الرزاق كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة
قال أحمد في رواية المروزي قال النبي صلى الله عليه و سلم لا عقر في الإسلام كانوا إذا مات لهم الميت نحروا جزورا على قبره فنهى النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك كره أبو عبد الله أكل لحمه
قال صحابنا وفي معنى هذا ما يفعله كثير من أهل زماننا في التصدق عند القبر بخبز أو نحوه فهذه أنواع العبادات البدنية أو المالية أو المركب منهما
فصل
ومن المحرمات العكوف عند القبر والمجاورة عنده وسدانته وتعليق الستور عليه كأنه بيت الله الكعبة
فإنا قد بينا أن نفس بناء المسجد عليه منهي عنه باتفاق الأمة محرم بدلالة السنة فكيف إذا ضم إلى ذلك المجاورة في ذلك المسجد والعكوف فيه كأنه المسجد الحرام بل عند بعضهم العكوف فيه أحب إليه من العكوف في المسجد الحرام إذ من الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله
بل حرمة ذلك المسجد المبني على القبر الذي حرمه الله ورسوله أعظم عند القبوريين من حرمة بيوت الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه وقد أسست على تقوى من الله ورضوان
وقد بلغ الشيطان بهذه البدع إلى الشرك العظيم في كثير من الناس حتى إن منهم من يعتقد أن زيارة المشاهد التي على القبور إما قبر نبي أو شيخ أو بعض أهل البيت أفضل من حج البيت الحرام ويسمى زيارتها الحج الأكبر ومن هؤلاء من يرى أن السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه و سلم أفضل من حج البيت وبعضهم إذا وصل إلى المدينة رجع ولم يذهب إلى البيت الحرام وظن أنه حصل له المقصود وهذا لأنهم ظنوا أن زيارة القبور إنما هو لأجل الدعاء عندها والتوسل بها وسؤال الميت ودعائه
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه و سلم أفضل من الكعبة ولو علموا أن المقصود إنما هو عبادة الله وحده لا شريك له وسؤاله ودعاؤه وأن المقصود بزيارة القبور هو الدعاء لها كما يقصد بالصلاة على الميت لزال هذا الشرك عن
قلوبهم ولهذا نجد كثيرا من هؤلاء يسأل الميت والغائب كما يسأل ربه فيقول اغفر لي وارحمني وتب علي ونحو ذلك
وكثير من الناس تتمثل له صورة الشيخ المستغاث به ويكون ذلك شيطانا قد خاطبه كما تفعل الشياطين بعبدة الأوثان
وأعظم من ذلك قصد الدعاء عنده والنذر له أو للسدنة العاكفين عليه أو المجاورين عنده من أقاربه أو غيرهم واعتقاد أنه بالنذر له قضيت الحاجة أو كشف عنه البلاء
فإنا قد بينا بقول الصادق المصدوق أن نذر العمل المشروع لا يأتي بخير وأن الله لم يجعله سببا لدرك حاجة كما جعل الدعاء سببا لذلك فكيف بنذر المعصية الذي لا يجوز الوفاء به
واعلم أن المقبورين من الأنبياء والصالحين المدفونين يكرهون ما يفعل عندهم كل الكراهة كما أن المسيح يكره ما يفعله النصارى به وكما كان أنبياء بني إسرائيل يكرهون ما يفعله الأتباع
فلا يحسب المرء المسلم أن النهي عن اتخاذ القبور أعيادا وأوثانا فيه غص من كرامة أصحابها بل هو من باب إكرامهم
وذلك أن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن فتجد أكثر هؤلاء العاكفين على القبور معرضين عن سنة ذلك المقبور وطريقه مشتغلين بقبره عما أمر به ودعا إليه
ومن كرامة الأنبياء والصالحين أن يتبع ما دعوا إليه من العمل الصالح ليكثر أجرهم بكثرة أجور من تبعهم كما قال صلى الله عليه و سلم من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء
إنما اشتغلت قلوب طوائف من الناس بأنواع من العبادات المبتدعة
إما من الأدعية وإما من الأسفار وإما من السماعات ونحو ذلك لإعراضهم عن المشروع أو بعضه أعني لإعراض قلوبهم وإن قاموا بصورة المشروع وإلا فمن أقبل على الصلوات الخمس بوجهه وقلبه عاقلا لما اشتملت عليه من الكلم الطيب والعمل الصالح مهتما بها كل الاهتمام أغنته عن كل ما يتوهم فيه خيرا من جنسها
ومن أصغى إلى كلام الله وكلام رسوله بعقله وتدبره بقلبه وجد فيه من الفهم والحلاوة والهدى وشفاء القلوب والبركة والمنفعة مالا يجده في شيء من الكلام لا منظومه ولا منثوره
ومن اعتاد الدعاء المشروع في أوقاته كالأسحار وأدبار الصلوات والسجود ونحو ذلك أغناه عن كل دعاء مبتدع في ذاته أو في بعض صفاته
فعلى العاقل أن يجتهد في اتباع السنة في كل شيء من ذلك ويعتاض عن كل ما يظن من البدع أنه خير بنوعه من السنن فإنه فإنه من يتحرى الخير يعطه ومن يتوقى الشر يوقه
فصل
فأما مقامات الأنبياء والصالحين وهي الأمكنة التي قاموا فيها أو أقاموا أو عبدوا الله سبحانه فيها لكنهم لا يتخذوها مساجد
فالذي بلغني في ذلك قولان عن العلماء المشهورين
أحدهما النهي عن ذلك وكراهته وأنه لا يستحب قصد بقعة للعبادة إلا أن يكون قصدها للعبادة مما جاء به الشرع مثل أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم قصدها للعبادة كما قصد الصلاة في مقام إبراهيم وكما كان يتحرى الصلاة عند الأسطوانة وكما يقصد المساجد للصلاة ويقصد الصف الأول ونحو ذلك
والقول الثاني أنه لا بأس باليسير من ذلك كما نقل عن ابن عمر أنه كان
يتحرى قصد المواضع التي سلكها النبي صلى الله عليه و سلم وإن كان النبي قد سلكها اتفاقا لا قصدا
قال سندي الخواتيمي سألنا أبا عبد الله عن الرجل يأتي هذه المشاهد يذهب إليها ترى ذلك قال أما على حديث ابن أم مكتوم أنه سأل النبي صلى الله عليه و سلم أن يصلي في بيته حتى يتخذ ذلك مصلى وعلى ما كان يفعله ابن عمر يتتبع مواضع النبي صلى الله عليه و سلم وأثره فليس بذلك بأس أن يأتي الرجل المشاهد إلا أن الناس قد أفرطوا في هذا جدا وأكثروا فيه
وكذلك نقل عنه أحمد بن القاسم أنه سئل عن الرجل يأتي هذه المشاهد التي بالمدينة وغيرها يذهب إليها فقال أما على حديث ابن أم مكتوم وأنه سأل النبي صلى الله عليه و سلم أن يأتيه فيصلي في بيته حتى يتخذه مسجدا أو على ما كان يفعل ابن عمر كان يتتبع مواضع سير النبي صلى الله عليه و سلم حتى إنه رؤي يصب في موضع الماء فسئل عن ذلك فقال كان النبي صلى الله عليه و سلم يصب ههنا ماء قال أما على هذا فلا بأس قال ورخص فيه ثم قال ولكن قد أفرط الناس جدا وأكثروا في هذا المعنى فذكر قبر الحسين وما يفعل الناس عنده رواهما الخلال في كتاب الأدب
فقد فصل أبو عبد الله في المشاهد وهي الأمكنة التي فيها آثار الأنبياء والصالحين من غير أن تكون مساجد لهم كمواضع بالمدينة بين القليل الذي لا يتخذونه عيدا والكثير الذي يتخذونه عيدا كما تقدم
وهذا التفصيل جمع فيه بين الآثار وأقوال الصحابة فإنه قد روى البخاري في صحيحه عن موسى بن عقبة قال رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق ويصلي فيها ويحدث أن أباه كان يصلي فيها وأنه رأى النبي صلى الله عليه و سلم يصلي في تلك الأمكنة قال موسى وحدثني نافع أن ابن عمر كان يصلي في تلك الأمكنة
فهذا ما رخص فيه أحمد رضي الله عنه
وأما ما كرهه فروى سعيد بن منصور في سننه حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن معرور بن سويد عن عمر رضي الله عنه قال خرجنا معه في حجة حجها فقرأ بنا في الفجر ب ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل و لئيلاف قريش في الثانية فلما رجع من حجته رأى الناس ابتدروا المسجد فقال ما هذا قالوا مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم أتخذوا آثار أنبيائهم بيعا من عرضت له منكم الصلاة فيه فليصل ومن لم تعرض له الصلاة فليمض
فقد كره عمر رضي الله عنه اتخاذ مصلى النبي صلى الله عليه و سلم عيدا وبين أن أهل الكتاب إنما هلكوا بمثل هذا
وفي رواية عنه أنه رأى الناس يذهبون مذاهب فقال أين يذهب هؤلاء فقيل يا أمير المؤمنين مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه و سلم فهم يصلون فيه فقال إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا كانوا يتتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعا فمن أدركته الصلاة منكم في هذه المساجد فليصل ومن لا فليمض ولا يتعمدها
وروى محمد بن وضاح وغيره أن عمر بن الخطاب أمر بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه و سلم بيعة الرضوان لأن الناس كانوا يذهبون تحتها فخاف عمر الفتنة عليهم
وقد اختلف العلماء رضي الله عنهم في إتيان تلك المشاهد
فقال محمد بن وضاح كان مالك وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار التي بالمدينة ما عدا قبا واحدا ودخل سفيان الثوري بيت المقدس وصلى فيه ولم يتتبع تلك الآثار ولا الصلاة فيها
فهؤلاء كرهوها مطلقا لحديث عمر رضي الله عنه هذا لأن ذلك يشبه
الصلاة عند المقابر إذ هو ذريعة إلى اتخاذها أعيادا وإلى التشبه بأهل الكتاب ولأن ما فعله ابن عمر لم يوافقه عليه أحد من الصحابة فلم ينقل عن الخلفاء الراشدين ولا عن غيرهم من المهاجرين والأنصار أن أحدا منهم كان يتحرى قصد الأمكنة التي نزلها النبي صلى الله عليه و سلم
والصواب مع جمهور الصحابة لأن متابعة النبي صلى الله عليه و سلم تكون بطاعة أمره وتكون في فعله بأن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعله فإذا قصد النبي صلى الله عليه و سلم العبادة في مكان كان قصد العبادة فيه متابعة له كقصد المشاعر والمساجد
وأما إذا نزل في مكان بحكم الاتفاق لكونه صادف وقت النزول أو غير ذلك مما يعلم أنه لم يتحر ذلك المكان فإنا إذا تحرينا ذلك المكان لم نكن متبعين له فإن الأعمال بالنيات
واستحب آخرون من العلماء المتأخرين إتيانها وذكر طائفة المصنفين من أصحابنا وغيرهم في المناسك استحباب زيارة هذه المشاهد وعدوا منها مواضع وسموها
وأما أحمد فرخص منها فيما جاء به الأثر من ذلك إلا إذا اتخذت عيدا مثل أن تنتاب لذلك ويجتمع عندها في وقت معلوم كما يرخص في صلاة النساء في المساجد جماعات وإن كانت بيوتهن خيرا لهن إلا إذا تبرجن وجمع بذلك بين الآثار واحتج بحديث ابن أم مكتوم
ومثله ما أخرجاه في الصحيحين عن عتبان بن مالك قال كنت أصلي لقومي بني سالم فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فقلت إني أنكرت بصري وإن السيول تحول بيني وبين مسجد قومي فلوددت أنك جئت فصليت في بيتي مكانا حتى أتخذه مسجدا فقال أفعل إن شاء الله فغدا علي رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر معه بعد ما اشتد النهار فاستأذن النبي صلى الله
عليه وسلم فأذنت له فلم يجلس حتى قال أين تحب أن أصلي من بيتك فأشرت له إلى المكان الذي أحب أن يصلي فيه فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فكبر وصففنا وراءه فصلى ركعتين ثم سلم وسلمنا حين سلم
ففي هذا الحديث دلالة على أن من قصد أن يبنى مسجده في موضع صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا بأس به وكذلك قصد الصلاة في موضع صلاته
ولكن هذا كان أصل قصده بناء مسجد فأحب أن يكون موضعا يصلي له فيه النبي صلى الله عليه و سلم ليكون النبي صلى الله عليه و سلم هو الذي يرسم المسجد بخلاف مكان صلى فيه النبي صلى الله عليه و سلم اتفاقا فاتخذ مسجدا لا لحاجة إلى المسجد لكن لا لأجل صلاته فيه
فأما الأمكنة التي كان النبي صلى الله عليه و سلم يقصد الصلاة والدعاء عندها فقصد الصلاة أو الدعاء فيها سنة اقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم واتباعا له كما إذا تحرى الصلاة أو الدعاء في وقت من الأوقات فإن قصد الصلاة أو الدعاء في ذلك الوقت سنة كسائر عباداته وسائر الأفعال التي فعلها على وجه التقرب
ومثل هذا ما أخرجاه في الصحيحين عن يزيد بن أبي عبيد قال كان سلمة بن الأكوع يتحرى الصلاة عند الأسطوانة التي عند المصحف فقلت له يا أبا مسلم أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة قال رأيت النبي صلى الله عليه و سلم يتحرى الصلاة عندها
وفي رواية لمسلم عن سلمة بن الأكوع أنه كان يتحرى الصلاة في موضع المصحف يسبح فيه وذكر أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يتحرى ذلك المكان وكان بين المنبر والقبلة قدر ممر الشاة
وقد ظن بعض المصنفين أن هذا مما اختلف فيه وجعله والقسم الأول سواء
وليس بجيد فإنه هنا قد أخبر أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يتحرى البقعة فكيف لا يكون هذا القصد مستحبا
نعم إيطان بقعة في المسجد لا يصلى إلا فيها منهي عنه كما جاءت به السنة والإيطان ليس هو التحري من غير إيطان
فيجب الفرق بين اتباع النبي صلى الله عليه و سلم والاستنان به فيما فعله وبين ابتداع بدعة لم يسنها لأجل تعلقها به
وقد تنازع العلماء فيما إذا فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم فعلا من المباحات لسبب وفعلناه نحن تشبها به مع انتفاء ذلك السبب فمنهم من يستحب ذلك ومنهم من لا يستحبه
وعلى هذا يخرج فعل ابن عمر رضي الله عنهما فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصلي في تلك البقاع التي في طريقه لأنها كانت منزله لم يتحر الصلاة فيها لمعنى في البقعة
فنظير هذا أن يصلي المسافر في منزله وهذا سنة
فأما قصد الصلاة في تلك البقاع التي وصلى فيها اتفاقا فهذا لم ينقل عن غير ابن عمر من الصحابة بل كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار يذهبون من المدينة إلى مكة حجاجا وعمارا أو مسافرين ولم ينقل عن أحد منهم أنه تحرى الصلاة في مصليات النبي صلى الله عليه و سلم
ومعلوم أن هذا لو كان عندهم مستحبا لكانوا إليه أسبق فإنهم أعلم بسنته وأتبع لها من غيرهم وقد قال صلى الله عليه و سلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة
وتحري هذا ليس من سنة الخلفاء الراشدين بل هو مما ابتدع وقول الصحابي وفعله إذا خالفه نظيره ليس بحجة فكيف إذا انفرد به عن جماهير الصحابة
وأيضا فإن تحري الصلاة فيها ذريعة إلى اتخاذها مساجد والتشبه بأهل الكتاب مما نهينا عن التشبه بهم فيه وذلك ذريعة إلى الشرك بالله والشارع قد حسم هذه المادة بالنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها وبالن