عطاءات العلم
الجواب الصحيح – ابن تيمية
http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
[ الجواب الصحيح – ابن تيمية ]
الكتاب : الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح
المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس
الناشر : دار العاصمة – الرياض
الطبعة الأولى ، 1414
تحقيق : د.علي حسن ناصر,د.عبد العزيز إبراهيم العسكر ,د. حمدان محمد
عدد الأجزاء : 6
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية
بسم الله الرحمن الرحيم
لا إله إلا الله محمد رسول الله الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين
و الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمت والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون
و الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل
والله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا
سورة الكهف الآيات 1 5
وسورة سبأ الآيتان ا 2
وسورة فاطر الآية 1 2
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم
سورة البقرة الآية 255
الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد الأول الآخر الظاهر الباطن الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز
الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا أرسله بالحق بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا أرسله إلى جميع الثقلين الجن والإنس عربهم وعجمهم أميهم وكتابيهم وأنزل عليه
سورة الزمر الآية 23
كتاب أنزله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ويهديهم
سورة إبراهيم الآية 21
هداهم به إلى صراط مستقيم صراط الذي له ما في السموات وما في الأرض وهو صراط الذين أنعم الله عليم من
النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وهو دين الله الذي بعث به الرسل قبله كما قال تعالى
سورة الشورى الآية 13
وقال تعالى سورة المؤمنون الآيتان 51 52
وقال في الآية الاخرى سورة الأنبياء الآية 92
سورة المؤمنون الآية 53 قال تعالى
سورة الأنبياء الآية 25
وقال تعالى سورة النحل الآية 36
أنزل عليه الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فصدق كتابه ما بين يديه من كتب السماء وأمر بالإيمان بجميع الأنبياء كما قال تعالى سورة البقرة الآيتان 136 137
وهيمن على ما بين يديه من الكتاب وذلك يعم الكتب كلها شاهدا وحاكما ومؤتمنا يشهد بمثل ما فيها من الأخبار الصادقة
وقرر ما في الكتاب الأول من أصول الدين وشرائعه الجامعة التي اتفقت عليها الرسل كالوصايا المذكورة في آخر الأنعام وأول الأعراف وسورة سبحان ونحوها من السور المكية
قال تعالى سورة الأنعام الآيات 150 153
وقال تعالى سورة الأعراف الآيات 29 32 وقال تعالى
سورة الإسراء الآيات 23 39
فدين الأنبياء والمرسلين دين واحد وإن كان لكل من التوراة والإنجيل والقرآن شرعة ومنهاج ولهذا قال صلى الله عليه
وسلم في الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم إنا معشر الأنبياء ديننا واحد وإن أولى الناس بابن مريم لأنا إنه ليس بيني وبينه نبي
فدين المرسلين يخالف دين المشركين المبتدعين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا
قال تعالى سورة الروم الآيات 30 32
وقال تعالى سورة المؤمنون الآيات 50 53
وقال تعالى سورة الشورى الآية 13
وقد خص الله تبارك وتعالى محمدا صلى الله عليه و سلم
بخصائص ميزه بها على جميع الأنبياء والمرسلين وجعل له شرعة ومنهاجا أفضل شرعة وأكمل منهاج
كما جعل أمته خير أمة أخرجت للناس فهم يوفون سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله من جميع الأجناس هداهم الله بكتابه ورسوله لما اختلفوا فيه من الحق قبلهم وجعلهم وسطا عدلا خيارا فهم وسط في توحيد الله وأسمائه وصفاته وفي الإيمان برسله وكتبه وشرائع دينه من الأمر والنهي والحلال والحرام
فأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر وأحل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث لم يحرك عليهم شيئا من الطيبات كما حرم على اليهود ولم يحل لهم شيئا من الخبائث كما استحلتها النصارى ولم يضيق عليهم باب الطهارة والنجاسة كما ضيق على اليهود ولم يرفع عنهم طهارة الحدث والخبث كما رفعته النصارى فلا يوجبون الطهارة من الجنابة ولا الوضوء للصلاة ولا اجتناب النجاسة في الصلاة بل يعد كثير من عبادهم مباشرة النجاسات من أنواع القرب والطاعات حتى يقال في فضائل الراهب له أربعةن سنة ما مس الماء ولهذا تركوا الختان
مع أنه شرع إبراهيم الخليل عليه السلام وأتباعه
واليهود إذا حاضت عندهم المرأة لا يؤاكلونها ولا يشاربونها ولا يقعدون معها في بيت واحد والنصارى لا يحرمون وطء الحائض
وكان اليهود لا يرون إزالة النجاسة بل إذا أصاب ثوب أحدهم قرضه بالمقراض والنصارى ليس عندهم شيء نجس يحرم أكله أو تحرم الصلاة معه
ولذلك المسلمون وسط في الشريعة فلم يجحدوا شرعه الناسخ لأجل شرعه المنسوخ كما فعلت اليهود ولا غيروا شيئا من شرعه المحكم ولا ابتدعوا شرعا لم يأذن به الله كما فعلت النصارى ولا غلوا في الأنبياء والصالحين كغلو النصارى ولا بخسوهم حقوقهم كفعل اليهود ولا جعلوا الخالق سبحانه متصفا بخصائص المخلوق ونقائضه ومعايبه من الفقر والبخل والعجز كفعل اليهود ولا المخلوق متصفا بخصائص الخالق سبحانه التي ليس كمثله فيها شيء كفعل النصارى ولم يستكبروا عن عبادته كفعل اليهود ولا أشركوا بعبادته أحدا كفعل النصارى
وأهل السنة والجماعة في الإسلام كأهل الإسلام في أهل الملل فهم وسط في باب صفات الله عز و جل بين أهل الجحد والتعطيل وبين أهل التشبيه والتمثيل يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسله من غير تعطيل ولا تمثيل إثباتا لصفات الكمال وتنزيها له عن أن يكون له فيها أندادا وأمثال إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل
كما قال تعالى ليس كمثله شيء
رد على الممثلة وهو السميع البصير
رد على المعطلة
وقال تعالى سورة الإخلاص كلها
فالصمد السيد المستوجب لصفات الكمال والأحد الذي ليس له كفو ولا مثال وهم وسط في باب أفعال الله عز و جل بين المعتزلة المكذبين للقدر والجبرية النافين لحكمة الله ورحمته
وعدله والمعارضين بالقدر أمر الله ونهيه وثوابه وعقابه
وفي باب الوعد والوعيد بين الوعيدية الذين يقولون بتخليد
عصاة المسلمين في النار وبين المرجئة الذين يجحدون بعض الوعيد وما فضل الله به الأبرار على الفجار
وهم وسط في أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم بين الغالي في بعضهم الذي يقول بإلهية أو نبوة أو عصمة والجافي فيهم الذي يكفر بعضهم أو يفسقه وهم خيار هذه الأمة
والله سبحانه أرسل محمدا صلى الله عليه و سلم للناس رحمة وأنعم به نعمة يا لها من نعمة
قال تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين
وقال تعالى ألم ترك إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا
وهم الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه و سلم فإرساله أعظم نعمة أنعم الله بها على عباده يجمع الله لأمته بخاتم المرسلين وإمام المتقين وسيد ولد آدم أجمعين ما فرقه في غيرهم من الفضائل وزادهم من فضله أنواع الفواضل بل أتاهم كفلين من رحمته كما قال تعالى
سورة الحديد الآية 28 29
وفي الصحيحين عن ابن عمر وأبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم ما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا فقال من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط
فعملت اليهود إلى نصف النهار ثم قال من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط
فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ثم قال من يعمل من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين
ألا فأنتم الذين يعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس ألا لكم الأجر مرتين
فغضبت اليهود والنصارى فقالوا نحن أكثر عملا وأقل عطاء
فقال الله تعالى فهل ظلمتكم من حقكم شيئا قالوا لا قال الله تعالى فإنه فضلي أعطيه من شئت
أما بعد فإن الله تبارك وتعالى جعل محمدا صلى الله عليه و سلم خاتم النبيين وأكمل له ولأمته الدين وبعثه على حين فترة من الرسل وظهور الكفر وانطماس السبل فأحيا به ما درس من معالم الإيمان وقمع به أهل الشرك من عباد الأوثان والنيران والصلبان وأذل به كفار أهل الكتاب أهل الشك والأرتياب وأقام به منار دينه الذي ارتضاه وشاد به ذكر من اجتباه من عباده واصطفاه وأظهر به ما كان مخفيا عند أهل الكتاب وأبان به ما عدلوا فيه عن منهج الصواب وحقق به صدق التوراة الزبور والإنجيل وأماط به عنها ما ليس بحقها من باطل التحريف والتبديل
وكان من سنة الله تبارك وتعالى مواترة الرسل وتعميم الخلق بهم بحيث يبعث في كل أمة رسولا ليقيم هداه وحجته كما قال تعالى سورة النحل الآية 36
وقال تعالى سورة فاطر الآية 24
وقال تعالى سورة المؤمنون الآية 44
وقال تعالى سورة النساء الآيات 163 165
ولما أهبط آدم إلى الأرض قال تعالى
سورة طه الآيات 123 127
وقال تعالى عن أهل النار سورة الملك الآيات 8 10
وقال تعالى سورة الإسراء الآية 15
وقال تعالى سورة الأنعام الآيتان 130 131
فصل
وكان دينه الذي ارتضاه الله لنفسه هو دين الإسلام الذي بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل ولا يقبل من أحد دينا غيره لا من الأولين ولا من الآخرين
وهو دين الأنبياء وأتباعهم كما أخبر الله تعالى بذلك عن نوح ومن بعده إلى الحواريين
قال تعالى سورة يونس الآيتان 71 72
وقال تعالى عن إبراهيم سورة البقرة الآيات 130 132
وقال تعالى عن يوسف الصديق سورة يوسف الآية 101
وقال تعالى عن موسى أنه قال سورة يونس الآية 84
وأخبر تعالى عن السحرة أنهم قالوا لفرعون سورة الأعراف الآية 126
وقال تعالى عن بلقيس ملكة اليمن
سورة النمل الآية 44
وقال تعالى عن أنبياء بني إسرائيل سورة المائدة الآية 44
وقال تعالى عن المسيح سورة آل عمران 52
وقال تعالى سورة المائدة الآية 111
فهذا دين الأولين والآخرين من الأنبياء وأتباعهم هو دين الإسلام وهو عبادة الله وحده لا شريك له وعبادته تعالى في كل زمان ومكان بطاعة رسله عليهم السلام
فلا يكون عابدا له من عبده بخلاف ما جاءت به رسله كالذين قال فيهم
سورة الشورى الآية 21
فلا يكون مؤمنا به إلا من عبده بطاعة رسله ولا يكون مؤمنا به ولا عابدا له إلا من آمن بجميع رسله وأطاع من أرسل إليه فيطاع كل رسول إلى أن يأتي الذي بعده فتكون الطاعة للرسول الثاني
قال تعالى سورة النساء الآية 64
ومن فرق بين رسله فآمن ببعض وكفر ببعض كان كافرا كما قال تعالى سورة النساء الآيات 150 152
فلما كان محمد صلى الله عليه و سلم خاتم النبيين ولم يكن بعده رسول ولا من يجدد الدين لم يزل الله سبحانه وتعالى
يقيم لتجديد الدين من الأسباب ما يكون مقتضيا لظهوره كما وعد به في الكتاب فيظهر به محاسن الإيمان ومحامده ويعرف به مساوئ الكفر ومفاسده
ومن أعظم أسباب ظهور الإيمان والدين وبيان حقيقة أنباء المرسلين ظهور المعارضين لهم من أهل الإفك المبين
كما قال تعالى سورة الأنعام الآيات 112 115
وقال تعالى سورة الفرقان الآيات 27 31
وذلك أن الحق إذا جحد وعورض بالشبهات أقام الله تعالى له مما يحق به الحق ويبطل به الباطل من الآيات البينات
بما يظهره من أدلة الحق وبراهينه الواضحة وفساد ما عارضه من الحجج الداحضة
فالقرآن لما كذب به المشركون واجتهدوا على ابطاله بكل طريق مع أنه تحداهم بالإتيان بمثله ثم بالإتيان بعشر سور ثم بالإتيان بسورة واحدة كان ذلك مما دل ذوي الألباب على عجزهم عن المعارضة مع شدة الاجتهاد وقوة الأسباب ولو اتبعوه من غير معارضة وإصرار على التبطيل لم يظهر عجزهم عن معارضته التي بها يتم الدليل
وكذلك السحرة لما عارضوا موسى عليه السلام وأبطل الله ما جاؤا به كان ذلك مما بين الله تبارك وتعالى به صدق ما جاء به موسى عليه السلام وهذا من الفروق بين آيات الأنبياء وبراهينهم التي تسمى بالمعجزات وبين ما قد يشتبه بها من خوارق السحرة وما للشيطان من التصرفات فإن بين هذين فروقا متعددة منها ما ذكره الله تعالى في قوله سورة الشعراء الآيتان 221 222
ومنها ما بينه في آيات التحدي من آيات الأنبياء عليهم السلام لا يمكن أن تعارض بالمثل فضلا عن الأقوى ولا يمكن أحدا إبطالها بخلاف خوارق السحرة والشياطين فإنه يمكن معارضتها بمثلها وأقوى منها ويمكن إبطالها
وكذلك سائر أعداء الأنبياء من المجرمين شياطين الإنس والجن الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا إذا أظهروا من حججهم ما يحتجون به على دينهم المخالف لدين الرسول ويموهون في ذلك بما يلفقونه من منقول ومعقول كان ذلك من أسباب ظهور الإيمان الذي وعد بظهوره على الدين كله بالبيان والحجة والبرهان ثم بالسيف واليد والسنان
قال الله تعالى سورة الحديد الآية 25
وذلك بما يقيمه الله تبارك وتعالى من الآيات والدلائل التي يطهر بها الحق من الباطل والخالي من العاطل والهدى من الضلال والصدق من المحال والغي من الرشاد والصلاح من الفساد والخطأ من السداد وهذا كالمحنة للرجال التي تميز بين الخبيث والطيب قال تعالى سورة آل عمران الآية 179
وقال تعالى سورة العنكبوت الآيات 1 4
والفتنة هي الامتحان والاختبار كما قال موسى عليه السلام سورة الأعراف الآية 155
أي امتحانك واختبارك تضل بها من خالف الرسل وتهدي بها من اتبعهم
والفتنة للإنسان كفتنة الذهب إذا أدخل كير الامتحان فإنها تميز جيده من رديئه فالحق كالذهب الخالص كلما امتحن ازداد جودة والباطل كالمغشوش المضيء إذا امتحن ظهر فساده
فالدين الحق كلما نظر فيه الناظر وناظر عنه المناظر ظهرت له البراهين وقوي به اليقين وازداد به إيمان المؤمنين وأشرق نوره في صدور العالمين
والدين الباطل إذا جادل عنه المجادل ورام أن يقيم عوده المائل أقام الله تبارك وتعالى من يقدف بالحق على الباطل
فيدمغه فإذا هو زاهق وتبين أن صاحبه الأحمق كاذب مائق وظهر فيه من القبح والفساد والحلول والاتحاد والتناقض
والإلجاد والكفر والضلال والجهل والمحال ما يظهر به لعموم الرجال أن أهله من أضل الضلال حتى يظهر فيه من الفساد ما لم يكن يعرفه أكثر العباد ويتنبه بذلك من سنة الرقاد من كان لا يميز الغي من الرشاد ويحيى بالعلم والإيمان من كان ميت القلب لا يعرف معروف الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ولا ينكر منكر المغضوب عليهم والضالين فإن ما ذم الله به اليهود والنصارى في كتابه مثل تكذيب الحق المخالف للهوى والاستكبار عن قبوله وحسد أهله والبغي عليهم واتباع سبيل الغي والبخل والجبن وقسوة القلوب ووصف الله سبحانه وتعالى بمثل عيوب المخلوقين ونقائصهم وجحد ما وصف به نفسه من صفات
الكمال المختصة به التي لا يماثله فيها مخلوق ويمثل الغلو في الأنبياء والصالحين والإشراك في العبادة لرب العالمين والقول بالحلول والاتحاد الذي يجعل العبد المخلوق هو رب العباد والخروج في أعمال الدين عن شرائع الأنبياء والمرسلين والعمل بمجرد هوى القلب وذوقه ووجده في الدين من غير اتباع العلم الذي أنزله الله في كتابه المبين واتخاذ أكابر العلماء والعباد أربابا يتبعون فيما يبتدعونه من الدين المخالف للأنبياء عليهم السلام كما قال تعالى سورة التوبة الآية 32
ومخالفة صريح المعقول وصحيح المنقول بما يظن أنه من التنزلات الإلهية والفتوحات القدسية مع كونه من وساوس اللعين حتى يكون صاحبها ممن قال الله فيه سورة الملك الآية 10
وقال تعالى
سورة الأعراف الآية 179
إلى غير ذلك من أنواع البدع والضلالات التي ذم الله بها أهل الكتابين فإنها مما حذر الله منه هذه الأمة الأخيار وجعل ما حل بها عبرة لأولي الابصار
وقد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أنه لا بد من وقوعها في بعض هذه الأمة وإن كان قد أخبر صلى الله عليه و سلم أنه لا يزال في أمته أمة قائمة على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة وأن أمته لا تجتمع على ضلالة ولا يغلبها من سواها من الأمم بل لا تزال منصورة متبعة لنبيها المهدي المنصور
لكن لا بد أن يكون فيها من يتتبع سنن اليهود والنصارى والروم والمجوس كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لتتبعن سنن
من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا في جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن
وفي الصحيحين أيضا عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لتأخذ أمتي مأخذ الأمم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا يا رسول الله فارس والروم قال فمن الناس إلا أولئك
وفي المظهرين للإسلام منافقون والمنافقون في الدرك الأسفل من النار تحت اليهود والنصارى فلهذا كان ما ذم الله به اليهود والنصارى قد يوجد في المنافقين المنتسبين للإسلام الذين يظهرون الإيمان بجميع ما جاء به الرسول ويبطنون خلاف ذلك كالملاحدة الباطنية فضلا عمن يظهر الإلحاد منهم
ويوجد بعض ذلك في أهل البدع ممن هو مقر بعموم رسالة النبي صلى الله عليه و سلم باطنا وظاهرا لكن اشتبه عليه بعض ما اشتبه على هؤلاء فاتبع المتشابه وترك المحكم كالخوارج وغيرهم من أهل الأهواء
وللنصارى في صفات الله سبحانه وتعالى واتحاده بالمخلوقات ضلال شاركهم فيه كثير من هؤلاء بل من الملاحدة من هو أعظم ضلالا من النصارى
والحلول والاتحاد نوعان عام وخاص
فالعام كالذين يقولون إن الله بذاته حال في كل مكان أو أن وجوده عين وجود المخلوقات
والخاص كالذين يقولون بالحلول والاتحاد في بعض أهل البيت كعلي وغيره مثل النصيرية وأمثالهم أو بعض من ينتسب
إلى أهل البيت كالحاكم وغيره مثل الدرزية وأمثالهم
أو بعض من يعتقد فيه المشيخة كالحلاجية وأمثالهم
فمن قال إن الله سبحانه وتعالى حل أو اتحد بأحد من الصحابة أو القرابة أو المشايخ فهو من هذا الوجه أكفر من النصارى الذين قالوا بالاتحاد والحلول في المسيح فإن المسيح عليه السلام أفضل من هؤلاء كلهم
ومن قال بالحلول والاتحاد العام فضلاله أعم من ضلال النصارى وكذلك من قال بقدم أرواح بني آدم أو أعمالهم أو كلامهم أو أصواتهم أو مداد مصاحفهم أو نحو ذلك ففي قوله شعبة من قول النصارى
فبمعرفة حقيقة دين النصارى وبطلانه يعرف به بطلان ما يشبه أقوالهم من أقوال أهل الإلحاد والبدع
فإذا جاء نور الإيمان والقرآن أزهق الله به ما خالفه كما قال تعالى سورة الإسراء الآية 81
وأبان الله سبحانه وتعالى من فضائل الحق ومحاسنه ما كان به محقوقا
وكان من أسباب نصر الدين وظهوره أن كتابا ورد من قبرص فيه الاحتجاج لدين النصارى بما يحتج به علماء دينهم وفضلاء ملتهم قديما وحديثا من الحجج السمعية والعقلية فاقتضى ذلك أن نذكر من الجواب ما يحصل به فصل الخطاب وبيان الخطأ من الصواب لينتفع بذلك أولو الألباب ويظهر ما بعث الله به رسله من الميزان والكتاب
وأنا أذكر ما ذكروه بألفاظهم بأعيانها فصلا فصلا وأتبع كل فصل بما يناسبه من الجواب فرعا وأصلا وعقدا وحلا
وما ذكروه في هذا الكتاب هو عمدتهم التي يعتمد عليها علماؤهم في مثل هذا الزمان وقبل هذا الزمان وإن كان قد يزيد بعضهم على بعض بحسب الأحوال فإن هذه الرسالة وجدناهم يعتمدون عليها قبل ذلك ويتناقلها علماؤهم بينهم والنسخ بها موجودة قديمة وهي مضافة إلى بولص الراهب أسقف
صيدا الأنطاكي كتبها إلى بعض أصدقائه وله مصنفات في نصر النصرانية وذكر أنه لما سافر إلى بلاد الروم والقسطنطينية وبلاد الملافطة وبعض أعمال الافرنج
ورومية واجتمع بأجلاء أهل تلك الناحية وفاوض أفاضلهم وعلماءهم وقد عظم هذه الرسالة وسماها الكتاب المنطيقي الدولة خاني المبرهن عن الاعتقاد الصحيح والرأي المستقيم
ومضمون ذلك ستة فصول
الفصل الأول دعواهم أن محمدا صلى الله عليه و سلم لم يبعث إليهم بل إلى أهل الجاهلية من العرب ودعواهم أن في القرآن ما يدل على ذلك والعقل يدل على ذلك
الفصل الثاني دعواهم أن محمدا صلى الله عليه و سلم أثنى في القرآن على دينهم الذي هم عليه ومدحه بما أوجب لهم أن يثبتوا عليه
الفصل الثالث دعواهم أن نبوات الأنبياء المتقدمين كالتوراة والزبور والإنجيل وغير ذلك من
النبوات تشهد لدينهم الذي هم عليه من الأقانيم
والتثليث والاتحاد وغير ذلك بأنه حق وصواب فيجب التمسك به ولا يجوز العدول عنه إذا لم يعارضه شرع يرفعه ولا عقل يدفعه
والفصل الرابع فيه تقرير ذلك بالمعقول وأن ما هم عليه من التثليث ثابت بالنظر المعقول والشرع المنقول موافق للأصول
والفصل الخامس دعواهم أنهم موحدون والاعتذار عما يقولونه من ألفاظ يظهر منها تعدد الآلهة كألفاظ الاقانيم فإن ذلك من جنس ما عند المسلمين من النصوص التي يظهر منها التشبيه والتجسيم
والفصل السادس أن المسيح عليه السلام جاء بعد موسى عليه السلام بغاية الكمال فلا حاجة بعد النهاية إلى شرع يزيد على الغاية بل يكون ما بعد ذلك شرعا غير مقبول
ونحن ولله الحمد والمنة نبين أن كل ما احتجوا به من حجة سمعية من القرآن أو من الكتب المتقدمة على القرآن أو عقلية فلا حجة لهم في شيء منها بل الكتب كلها مع القرآن والعقل حجة عليهم لا لهم بل عامة ما يحتجون به من نصوص الأنبياء ومن المعقول فهو نفسه حجة عليهم ويظهر منه فساد قولهم مع ما يفسده من سائر النصوص النبوية والموازين التي هي مقاييس عقلية
وهكذا يوجد عامة ما يحتج به أهل البدع من كتب الله عز و جل ففي تلك النصوص ما يتبين أنه لا حجة لهم فيها بل
هي بعينها حجة عليهم كما ذكر أمثال ذلك في الرد على أهل البدع والأهواء وغيرهم من أهل القبلة
وإنما عامة ما عند القوم ألفاظ متشابهة تمسكوا بما ظنوها تدل عليه وعدلوا عن الألفاظ المحكمة الصريحة المبينة مع ما يقترن بذلك من الأهواء
وهذه حال أهل الباطن كما قال تعالى فيهم سورة النجم الآية 23
فهم في جهل وظلم كما قال تعالى سورة الأحزاب الآية 72 73
فالمؤمنون الذين تاب الله عليهم من الجهل والظلم هم أتباع الأنبياء عليهم السلام فإن الأنبياء بعثوا بالعلم والعدل كما قال تعالى سورة النجم الآيات 1 4
فبين سبحانه وتعالى أنه ليس ضالا جاهلا ولا غاويا متبعا هواه ولا ينطق عن هواه إنما نطقه وحي أوحاه الله سبحانه وتعالى
وقال تعالى سورة الفتح الآية 28
فالهدى يتضمن العلم النافع ودين الحق يتضمن العمل الصالح ومبناه على العدل كما قال تعالى سورة الحديد الآية 25
وأصل العدل العدل في حق الله تعالى وهو عبادته وحده لا شريك له فإن الشرك ظلم عظيم كما قال لقمان لابنه سورة لقمان الآية 13
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لما نزلت الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم الآية
شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وقالوا أينا لم يظلم نفسه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ليس هو كما تظنون إنما هو الشرك ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح إن الشرك لظلم عظيم
ولما كان أتباع الأنبياء هم أهل العلم والعدل كان كلام أهل الإسلام والسنة مع الكفار وأهل البدع بالعلم والعدل لا بالظن وما تهوى الأنفس ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ورجل قضى
للناس على جهل فهو في النار رواه أبو داود وغيره
فإذا كان من يقضي بين الناس في الأموال والدماء والأعراض إذا لم يكن عالما عادلا كان في النار فكيف بمن يحكم في الملل والأديان وأصول الإيمان والمعارف الإلهية والمعالم الكلية بلا علم ولا عدل كحال أهل البدع والأهواء الذين يتمسكون بالمتشابه المشكوك ويدعون المحكم الصريح من نصوص
الأنبياء ويتمسكون بالقدر المشترك المتشابه في المقاييس والآراء ويعرضون عما بينهما من الفروق المانعة من الإلحاق والاستواء كحال الكفار وسائر أهل البدع والأهواء الذين يمثلون المخلوق بالخالق والخالق بالمخلوق ويضربون لله المثل بالقول الهزء
وذلك أن دين النصارى الباطل إنما هو دين مبتدع ابتدعوه بعد المسيح عليه السلام وغيروا به دين المسيح فضل منهم من عدل عن شريعة المسيح إلى ما ابتدعوه
ثم لما بعث الله محمدا صلى الله عليه و سلم كفروا به فصار كفرهم وضلالهم من هذين الوجهين تبديل دين الرسول الأول وتكذيب الرسول الثاني
كما كان كفر اليهود بتبديلهم أحكام التوراة قبل مبعث المسيح ثم تكذيبهم المسيح عليه السلام
ونبين إن شاء الله أن ما عليه النصارى من التثليث والاتحاد لم يدل عليه شيء من كتب الله لا الإنجيل ولا غيره بل دلت على نقيض ذلك ولا دل على ذلك عقل بل العقل الصريح مع نصوص الأنبياء تدل على نقيض ذلك بل وكذلك عامة شرائع دينهم محدثة مبتدعة لم يشرعها المسيح عليه السلام
ثم التكذيب لمحمد صلى الله عليه و سلم هو كفرهم المعلوم لكل مسلم مثل كفر اليهود بالمسيح عليه السلام وأبلغ
وهم يبالغون في تكفير اليهود بأعظم مما يستحقه اليهود من التكفير إذ كان اليهود يزعمون أن المسيح ساحر كذاب بل يقولون إنه ولد غية كما أخبر الله عنهم بقوله
سورة النساء الآية 156
والنصارى يدعون أن الله الذي خلق الأولين والآخرين وأنه ديان يوم الدين فكانت الأمتان فيه على غاية التناقض والتعادي والتقابل ولهذا كل أمة تذم الأخرى بأكثر مما تستحقه كما قال تعالى سورة البقرة الآية 113
ذكر محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي
محمد مولى زيد بن ثابت
عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس
رضي الله عنهما أنه قال لما قدم وفد نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه و سلم أتتهم أحبار يهود فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رافع بن حريملة ما أنتم على شيء وكفر بعيسى والإنجيل جميعا فقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود ما أنتم على شيء وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة فأنزل الله ذلك في قولهما وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب
قال كل يتلو في كتابه تصديق ما كفر أي تكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى عليه السلام وفي الإنجيل بإجابة عيسى بتصديق موسى وبما جاء به من التوراة من عند الله وكل يكفر بما في يدي صاحبه
قال قتادة وقالت اليهود ليست النصارى على شيء قال بلى قد كان أوائل النصارى على شيء ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا
وقالت النصارى ليست اليهود على شيء قال بلى قد كانت أوائل اليهود على شيء ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا
فاليهود كذبوا بدين النصارى وقالوا ليسوا على شيء والنصارى كذبوا بجميع ما تميز به اليهود عنهم حتى في شرائع التوراة التي لم ينسخها المسيح بل أمرهم بالعمل بها وكذبوا بكثير من الذين تميزوا به عنهم حتى كذبوا بما جاء به عيسى عليه السلام من الحق
لكن النصارى وإن بالغوا في تكفير اليهود ومعاداتهم على الحد الواجب عما ابتدعوه من الغلو والضلال فلا ريب أن اليهود لما كذبوا المسيح صاروا كفارا كما قال تعالى للمسيح سورة آل عمران الآية 55
وقال تعالى سورة الصف الآية 14
وكفر النصارى بتكذيب محمد صلى الله عليه و سلم وبمخالفة المسلمين أعظم من كفر اليهود بمجرد تكذيب المسيح فإن المسيح لم ينسخ من شرع التوراة إلا قليلا وسائر شرعه إحالة على التوراة ولكن عامة دين النصارى أحدثوه بعد المسيح فلم يكن في مجرد تكذيب اليهود له من مخالفة شرع الله الذي جاء بكتاب مستقل من عند الله لم يحل شيئا من شرعه على شرع غيره
قال الله تعالى سورة العنكبوت الآية 51
والقرآن أصل كالتوراة وإن كان أعظم منها ولهذا علماء النصارى يقرنون بين موسى ومحمد صلى الله عليه و سلم كما قال النجاشي ملك النصارى لما سمع القرآن إن هذا والذي جاء به
موسى ليخرج من مشكاة واحدة
وكذلك قال ورقة بن نوفل وهو من أحبار نصارى العرب لما سمع كلام النبي صلى الله عليه و سلم فقال له إنه يأتيك الناموس الذي يأتي موسى يا ليتني فيها جذعا حين يخرجك
قومك فقال النبي صلى الله عليه و سلم أومخرجي هم قال نعم لم يأت أحد بمثل ما اتيت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا
ولهذا يقرن سبحانه بين التوراة والقرآن في مثل قوله فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا ويعني التوراة والقرآن وفي القراءة الأخرى قالوا ساحران أي محمد
وموسى سورة القصص الآية 48 49
فلم ينزل كتاب من عند الله أهدى من التوراة والقرآن ثم قال تعالى سورة القصص الآية 50
وهؤلاء النصارى ذكر كاتب كتابهم في كتابه أنه لما سأله سائل أن يفحص له فحصا بينا عما يعتقده النصارى المسيحيون المختلفة ألسنتهم المتفرقة في أربع زوايا العالم من المشرق إلى المغرب ومن الجنوب الى الشمال والقاطنون بجزائر البحر والمقيمون بالبر المتصل إلى مغيب الشمس وإن الأسقف
دميان الملك الرومي اجتمع بمن اجتمع به من أجلائهم ورؤسائهم وفاوض من فاوض من أفاضلهم وعلمائهم فيما علمه من رأي القوم الذين رآهم بجزائر البحر قبل دخوله إلى قبرص وخاطبهم في دينهم وما يعتقدونه ويحتجون به عن أنفسهم قال الكاتب على لسان الأسقف إنهم يقولون إنا سمعنا أن قد ظهر إنسان من العرب اسمه محمد يقول إنه رسول الله وأتى بكتاب فذكر أنه منزل عليه من الله فلم نزل إلى أن حصل الكتاب عندنا قال فقلت لهم إذا كنتم قد سمعتم بهذا الكتاب وهذا الإنسان واجتهدتم على تحصيل هذا الكتاب الذي أتى به عندكم فلاي حال لم تتبعوه ولا سيما وفي الكتاب يقول
سورة آل عمران الآية 85
أجابوا قائلين لأحوال شتى قال فقت وما هي قالوا منها أن الكتاب عربي وليس بلساننا حسب ما جاء فيه يقول سورة يوسف الآية 2
وقال سورة الشعراء الآية 195
وقال في سورة الشعراء الآية 198 199
وقال في سورة البقرة الآية 151
وقال في سورة آل عمران الآية 164
وقال تعالى في سورة القصص الآية 46
وقال في سورة السجدة الآية 3
وقال في سورة يس الآية 6
قالوا فلما رأينا هذا علمنا أنه لم يأت إلينا بل إلى جاهلية العرب الذين قال إنه لم يأتهم رسول ولا نذير من قبله وإنه لا يلزمنا اتباعه لأننا نحن قد أتانا رسل من قبله خاطبونا بألسنتنا وأنذرونا بديننا الذي نحن متمسكون به يومنا هذا وسلموا إلينا التوراة والإنجيل بلغاتنا على ما يشهد لهم هذا الكتاب الذي أتى به هذا الرجل حيث يقول في سورة إبراهيم الآية 5
وقال في سورة النحل الآية 36
وقال في سورة الروم الآية 47
فقد صح في هذا الكتاب أنه لم يأت إلا في الجاهلية من العرب وأما قوله سورة آل عمران الآية 85
فيريد بحسب مقتضى العدل قومه الذين أتاهم بلغتهم لا غيرهم ممن لم يأتهم بما جاء فيه
ونعلم أن الله عدل وليس من عدله أن يطالب يوم القيامة أمة باتباع إنسان لم يأت إليهم ولا وقفوا له على كتاب بلسانهم ولا من جهة داع من قبله
هذه ألفاظهم بأعيانها في الفصل الأول وهذا الفصل لم يتعرضوا فيه لا لتصديقه ولا لتكذيبه بل زعموا أن في نفس هذا الكتاب أنه لم يقل إنه مرسل إليهم بل إلى جاهلية العرب وإن العقل أيضا يمنع أن يرسل إليهم
فنحن نبدأ بالجواب عن هذا ونبين أنه صلى الله عليه
وسلم أخبر أنه مرسل إليهم وإلى جميع الإنس والجن وأنه لم يقل قط أنه لم يرسل إليهم ولا في كتابه ما يدل على ذلك
وأن ما احتجوا به من الآيات التي غلطوا في معرفة معناها فتركوا النصوص الكثيرة الصريحة في كتابه التي تبين أنه مرسل إليهم من جنس ما فعلوه في التوراة والإنجيل والزبور وكلام الأنبياء حيث تركوا النصوص الكثيرة الصريحة وتمسكوا بقليل من المتشابه الذي لم يفهموا معناه
ومعلوم أن الكلام في صدق مدعي الرسالة وكذبه متقدم على الكلام في عموم رسالته وخصوصها وإن كان قد يعلم أحدهما قبل الآخر لكن هؤلاء القوم ادعوا خصوص رسالته وذكروا أن القرآن يدل على ذلك فنجيب عما ذكروه على حسب ترتيبهم فصلا فصلا فنقول وبالله التوفيق
الكلام فيمن خاطب الخلق بأنه رسول الله إليهم كما فعل محمد صلى الله عليه و سلم وغيره ممن قال أنه رسول الله كإبراهيم وموسى ونحوهما من الرسل الصادقين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وآل كل من الصالحين وكمسيلمة الكذاب
والاسود العنسي ونحوهما من المتنبئين الكذابين ينبني على أصلين
أحدهما أن نعرف ما يقوله في خبره وأمره فنعرف ما يخبر به ويأمر به وهل قال إنه رسول الله إلى جميع الناس أو قال إنه لم يرسل إلا إلى طائفة معينة لا إلى غيرها
والثاني أن يعرف هل هو صادق أو كاذب
وبهذين الأصلين يتم الإيمان المفصل وهو معرفة صدق الرسول ومعرفة ما جاء به
وأما الإيمان المجمل فيحصل بالأول وهو معرفة صدقه فيما جاء به كإيماننا بالرسل المتقدمة وقد نعلم صدقه أو كذبه
وهؤلاء بدأوا في كتابهم هذا بما ذكره الرسول مما زعموا أنه حجة لهم على عدم وجوب اتباعه وعلى مدح دينهم الذي هم اليوم عليه بعد النسخ والتبديل ثم ذكروا حججا مستقلة على صحة دينهم ثم ذكروا ما يقدح فيه وفي دينه فلهذا قدمنا الجواب عما احتجوا به من القرآن كما قدموه في كتابهم
فصل
ودلائل صدق النبي الصادق وكذب المتنبي الكذاب كثيرة جدا فإن من ادعى النبوة وكان صادقا فهو من أفضل خلق الله وأكملهم في العلم والدين فإنه لا أحد أفضل من رسل الله وأنبيائه صلوات الله عليهم وسلامه وإن كان بعضهم افضل من بعض كما قال تعالى سورة البقرة الآية 253
وقال تعالى سورة الإسراء الآية 55
وان كان المدعي للنبوة كاذبا فهو من أكفر خلق الله وشرهم كما قال تعالى سورة الأنعام الآية 93
وقال تعالى سورة الزمر الآيات 32 34
وقال تعالى سورة الزمر الآية 60
فالكذب أصل للشر وأعظمه الكذب على الله عز و جل والصدق أصل للخير وأعظمه الصدق على الله تبارك وتعالى
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال
عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا
ولما كان هذا من أعلى الدرجات وهذا من أسفل الدركات كان بينهما من الفروق والدلائل والبراهين التي تدل على صدق أحدها وكذب الآخر ما يظهر لكل من عرف حالهما ولهذا كانت دلائل الأنبياء وأعلامهم الدالة على صدقهم كثيرة متنوعة كما أن دلائل كذب المتنبئين كثيرة متنوعة كما قد بسط في موضع آخر
فصل
إذا عرف هذا فهؤلاء القوم في هذا المقام ادعوا أن محمدا صلى الله عليه و سلم لم يرسل إليهم بل إلى أهل الجاهلية من العرب فهذه الدعوى على وجهين
إما أن يقولوا إنه بنفسه لم يدع أنه أرسل إليهم ولكن أمته ادعوا له ذلك
وإما أن يقولوا إنه ادعى أنه أرسل إليهم وهو كاذب في هذه الدعوى وكلامهم في صدر هذا الكتاب يقتضي الوجه الأول
وفي آخره قد يقال أنهم اشاروا إلى الوجه الثاني لكنهم في الحقيقة لم ينكروا رسالته إلى العرب وإنما أنكروا رسالته إليهم
وأما رسالته إلى العرب فلم يصرحوا بتصديقه فيها ولا بتكذيبه وإن كان ظاهر لفظهم يقتضي الإقرار برسالته إلى العرب بل صدقوا بما وافق قولهم وكذبوا بما خالق قولهم
ونحن نبين أنه لا يصح احتجاجهم بشيء مما جاء به النبي صلى الله عليه و سلم ثم نتكلم على الوجهين جميعا ونبين أنه لا يصح احتجاجهم بشيء من القرآن على صحة دينهم بوجه من
الوجوه ونبين أن القرآن لا حجة فيه لهم ولا فيه تناقض
وكذلك كتب الأنبياء المتقدمين التي يحتجون بها هي حجة عليهم ليس في شيء منها حجة لهم ولو لم يبعث محمد صلى الله عليه و سلم فكيف والكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه و سلم موافق لسائر كلام الأنبياء عليهم السلام في إبطال دينهم وقولهم في التثليث والاتحاد وغير ذلك مع العقل الصريح
فهم احتجوا في كتابهم هذا بالقرآن وبما جاءت به الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه و سلم مع العقل
ونحن نبين أنه لا حجة لهم فيما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم ولا فيما جاءت به الانبياء قبله ولا في العقل بل ما جاء به محمد وما جاءت به الأنبياء قبله مع صريح العقل كلها براهين قطعية على فساد دينهم ولكن نذكر قبل ذلك أن احتجاجهم بما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم لا يصح بوجه من الوجوه وأنه لا يجوز أن يحتج بمجرد المنقول عن محمد صلى الله عليه و سلم من يكذبه في كلمة واحدة مما جاء به
وكذلك سائر الأنبياء عليهم السلام بخلاف الاحتجاج بكلام غير الأنبياء فإن ذلك يمكن موافقة بعضه دون بعض وأما ما أخبرت به الأنبياء عليهم السلام أو من قال إنه نبي
فلا يمكن الاحتجاج ببعضه دون بعض سواء قدر صدقهم أو كذبهم
فيقال لهم على كل تقدير سواء أقروا بنبوته إلى العرب أو غيرهم أو كذبوه في قوله إنه رسول الله أو سكتوا عن هذا وهذا أو صدقوه في البعض دون البعض
إن احتجاجكم على صحة ما تخالفون فيه المسلمين مما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم لا يصح بوجه من الوجوه فاحتجاجكم على أنه لم يرسل إليكم أو على صحة دينكم بشيء من القرآن حجة داحضة على كل تقدير
مع أنا سنبين إن شاء الله تعالى أن الكتب الإلهية كلها مع المعقول لا حجة لكم في شيء منها بل كلها حجة عليكم
وهذا بخلاف المسلمين فإنه يصح احتجاجهم على أهل الكتاب اليهود والنصارى بما جاءت به الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه و سلم وأهل الكتاب لا يصح احتجاجهم بما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم وذلك أن المسلمين مقرون بنبوة موسى وعيسى وداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام وعندهم يجب الإيمان بكل كتاب أنزله الله وبكل نبي أرسله الله وهذا أصل دين المسلمين فمن كفر بنبي واحد أو كتاب واحد فهو عندهم كافر بل من سب نبيا من الأنبياء فهو عندهم كافر
مباح الدم كما قال تعالى سورة البقرة الآيتان 136 137
وقال تعالى سورة البقرة الآية 285
وقال تعالى سورة البقرة الآية 177
والكتاب اسم جنس لكل كتاب أنزله الله يتناول التوراة والإنجيل كما يتناول القرآن كقوله تعالى سورة الشورى الآية 15
وقوله تعالى سورة البقرة الآية 285
وفي القراءة الأخرى وكتابه كقوله تعالى سورة الشورى الآية 15
وقوله تعالى سورة البقرة الآيات 1 5
فذكر أن هذا الكتاب الذي أنزل عليه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة والذين يؤمنون بما أنزل إليه وما أنزل من قبله وبالآخرة هم يوقنون ثم أخبر أن هؤلاء هم المفلحون فحصر الفلاح في هؤلاء فلا يكون مفلحا إلا من كان من هؤلاء
وقوله تعالى والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك
هو صفة للمذكورين ليس هؤلاء صنفا آخر فإن عطف الشيء على الشيء قد يكون لتغاير الصفات وإن كانت الذات واحدة هذا هو الصحيح هنا وإن كان قد قيل إن الصنف الثاني مؤمنوا أهل الكتاب
والأول هم المسلمون فهذا ضعيف وأفسد منه قول هؤلاء
النصارى إن الكتاب المراد به الإنجيل كما سيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى
والعطف لتغاير الصفات كقوله تعالى سورة الأعلى الآيات 1 5
وهو سبحانه الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى
وقوله تعالى سورة المؤمنون الآية 1 5
إلى آخر الآيات
وكذلك قوله سورة البقرة الآية 4
هم الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون وهم الذين على هدى من ربهم وهم المفلحون
ولكن فصل إيمانهم بعد أن أجمله لئلا يظن ظان أن مجرد دعوى الإيمان بالغيب ينفع وإن لم يؤمن بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه و سلم وما أنزل إلى من قبله فلو قال أحد من الناس أنا أؤمن بالغيب وهو مع ذلك لا يؤمن ببعض ما أنزل على محمد صلى الله عليه و سلم أو ببعض ما أنزل على من قبله لم يكن مؤمنا حتى يؤمن بجميع ما أنزل إليه وما أنزل إلى من قبله ولو كانوا صنفا آخر لكان المفلحون قسمين قسما يؤمنون بالغيب ولا يؤمنون بما أنزل إليه وما أنزل إلى من قبله وقسما يؤمنون بما أنزل إليه وما أنزل إلى من قبله ولا يؤمنون بالغيب وهذا باطل عند جميع الأمم المؤمنين واليهود والنصارى فإن الإيمان بما أنزل إليه وإلى من قبله يتضمن الإيمان بالغيب والإيمان بالغيب لا يتم إلا بالإيمان بجميع ما أنزله الله تبارك وتعالى
والمسلمون لا يستجيز أحد منهم التكذيب بشيء مما أنزل على من قبل محمد صلى الله عليه و سلم لكن الاحتجاج بذلك عليهم يحتاج إلى ثلاث مقدمات
إحداها ثبوت ذلك على الأنبياء عليهم السلام
والثانية صحة الترجمة إلى اللسان العربي أو اللسان الذي
يخاطب فيه كالرومي والسرياني فإن لسان موسى وداود والمسيح وغيرهم من أنبياء بني إسرائيل كانت عبرانية ومن قال إن لسان المسيح كان سريانيا أو روميا فقد غلط
والثالثة تفسير ذلك الكلام ومعرفة معناه
فلهذا كان المسلمون لا يردون شيئا من الحجج بتكذيب أحد من الأنبياء في شيء قاله ولكن قد يكذبون الناقل عنهم أو يفسرون المنقول عنهم بما أرادوه أو بمعنى آخر على وجه الغلط
وإن كان بعض المسلمين قد يغلط في تكذيب بعض النقل أو تأويل بعض المنقول عنهم فهو كما يغلط من يغلط منهم ومن سائر أهل الملل في التكذيب على وجه الغلط ببعض ما ينقل عمن يقر بنبوته أو في تأويل المنقول عنه
وهذا بخلاف تكذيب نفس النبي فإنه كفر صريح بخلاف أهل الكتاب فإنه لا يتم مرادهم إلا بتكذيبهم ببعض ما أنزل الله ومتى كذب بكلمة واحدة مما أخبر به من قال إنه رسول الله بطل احتجاجه بسائر كلامه فكانت حجتهم التي يحتجون بها داحضة وذلك أن الذي يقول إنه رسول الله إما أن يكون صادقا في قوله إني رسول الله وفي جميع ما يخبر به عن الله وإما أن يكون كاذبا ولو في كلمة واحدة عن الله
فإن كان صادقا في ذلك امتنع أن يكذب على الله في شيء مما يبلغه عن الله فإن من كذب على الله ولو في كلمة واحدة كان ممن
افترى على الله الكذب ولم يكن رسولا من رسل الله ومن افترى على الله الكذب تبين أنه من المتنبئين الكذابين
ومثل هذا لا يجوز أن يحتج بخبره عن الله فإنه قد علم أن الله لم يرسله وإذا قال هو قولا وكان صدقا كان كما يقوله غيره يقبل لا لأنه بلغه عن الله ولا لأنه رسول عن الله بل كما يقبل من المشركين وسائر الكفار ما يقولونه من الحق فإن عباد الأوثان إذا قالوا عن الله ما هو حق مثل إقرار مشركي العرب بأن الله خلق السموات والارض لم نكذبهم في ذلك وإن كانوا كفارا وكذلك إذا قال الكافر إن الله حي قادر خالق لم نكذبه في هذا القول
فمن كذب على الله في كلمة واحدة قال إن الله أنزلها عليه ولم يكن الله أنزلها عليه فهو من الكذابين الذين لا يجوز أن يحتج بشيء من أقوالهم التي يقولون إنهم يبلغونها عن الله تبارك وتعالى وما قالوه غير ذلك فهم فيه كسائر الناس بل كأمثالهم من الكذابين إن عرف صحة ذلك القول من جهة غيرهم قبل لقيام الدليل على صحته لا لكونهم قالوه وإن لم يعرف صحته من جهة غيرهم لم يكن في قولهم له مع ثبوت كذبهم على الله حجة
وحينئذ فهؤلاء إن اقروا برسالة محمد صلى الله عليه و سلم وأنه صادق فيما بلغه عن الله من الكتاب والحكمة وجب عليهم الإيمان بكل ما ثبت عنه من الكتاب والحكمة كما يجب الإيمان بكل ما جاءت به الرسل
وإن كذبوه في كلمة واحدة أو شكوا في صدقه فيها امتنع مع
ذلك أن يقروا بأنه رسول الله وإذا لم يقروا بأنه رسول الله كان احتجاجهم بما قاله كاحتجاجهم بسائر ما يقوله من ليس من الأنبياء بل من الكذابين أو من المشكوك في صدقهم
ومعلوم أن من عرف كذبه على الله فيما يقول إنه يبلغه عن الله أو شك في صدقه لا يعلم أنه رسول الله ولا أنه صادق في كل ما يقوله ويبلغه عن الله وإذا لم يعلم ذلك منه لم يعرف أن الله أنزل إليه شيئا بل إذا عرف كذبه عرف أن الله لم ينزل إليه شيئا ولا أرسله كما عرف كذب مسيلمة الكذاب والأسود العنسي وطليحة الأسدي وكما عرف كذب ماني وأمثاله
وغيرهم من المتنبئين الكذابين
وإذا شك في صدقه في كلمة واحدة بل جوز أن يكون كذبها عمدا أو خطأ لم يجز تصديقه مع ذلك في سائر ما يبلغه عن الله لأن تصديقه فيما يخبر به عن الله إنما يكون إذا كان رسولا صادقا لا يكذب عمدا ولا خطأ فإن كل من أرسله الله لا بد أن يكون صادقا في كل ما يبلغه عن الله لا يكذب فيه عمدا ولا خطأ
وهذا أمر اتفق عليه الناس كلهم المسلمون اليهود والنصارى وغيرهم اتفقوا على أن الرسول لا بد أن يكون صادقا معصوما فيما يبلغه عن الله لا يكذب على الله خطأ ولا عمدا فإن مقصود الرسالة لا يحصل بدون ذلك كما قال موسى عليهم السلام لفرعون سورة الأعراف الآيتان 104 105
وفي القراءة المشهورة يخبر أنه جدير وحري وثابت ومستقر على أن لا يقول على الله إلا الحق وعلى القراءة الأخرى أخبر أنه واجب عليه أن لا يقول على الله إلا الحق
وقال تعالى سورة الحاقة الآيات 44 47
وقال تعالى سورة الشورى الآية 24
وقال تعالى سورة النحل الآيتان 101 102
وقال تعالى سورة يونس الآية 15
وهذا لبسطه موضع آخر
وإنما المقصود هنا أن احتجاجهم بكلمة واحدة مما جاء به
محمد صلى الله عليه و سلم لا يصح بوجه من الوجوه فإنه إن كان رسولا صادقا في كل ما يخبر به عن الله عز و جل فقد علم كل واحد أنه جاء بما يخالف دين النصارى فيلزم إذا كان رسولا صادقا أن يكون دين النصارى باطلا وإن قالوا في كلمة واحدة مما جاء به أنها باطلة لزم أن لا يكون عندهم رسولا صادقا مبلغا عن الله وحينئذ فسواء قالوا هو ملك عادل أو هو عالم من العلماء أو هو رجل صالح من الصالحين أو جعلوه قديسا عظيما من أعظم القديسين فمهما عظموه به ومدحوه به لما رأوه من محاسنه الباهرة وفضائله الظاهرة وشريعته الطاهرة متى كذبوه في كلمة واحدة مما جاء به أو شكوا فيها كانوا مكذبين له في قوله إنه رسول الله وأنه بلغ هذا القرآن عن الله ومن كان كاذبا في قوله إنه رسول الله لم يكن من الأنبياء والمرسلين ومن لم يكن منهم لم يكن قوله حجة البتة لكن له أسوة أمثاله
فإن عرف صحة ما يقوله بدليل منفصل قبل القول لأنه عرف صدقه من غير جهته لا لأنه قاله وإن لم يعرف صحة القول لم يقبل
فتبين أنه إن لم يقر المقر لمن ذكر أنه رسول الله بأنه صادق في كل ما يبلغه عن الله معصوم عن استقرار الكذب خطأ أو عمدا لم يصح احتجاجهم بقوله
وهذا الأصل يبطل قول عقلاء أهل الكتاب وهو لقول جهالهم أعظم إبطالا فإن كثيرا من عقلاء أهل الكتاب وأكثرهم يعظمون محمدا صلى الله عليه و سلم لما دعا إليه من توحيد الله تعالى ولما نهى عنه من عبادة الأوثان ولما صدق التوارة والإنجيل والمرسلين قبله ولما ظهر من عظمة القرآن الذي جاء به ومحاسن الشريعة التي جاء بها وفضائل أمته التي آمنت به ولما ظهر عنه وعنهم من الآيات البراهين والمعجزات والكرامات لكن يقولون مع ذلك إنه بعث غيرنا وإنه ملك عادل له سياسة عادلة وإنه مع ذلك حصل علوما من علوم أهل الكتاب وغيرهم ووضع لهم ناموسا بعلمه ورتبه كما وضع أكابرهم لهم القوانين والنواميس التي بأيديهم
ومهما قالوه من هذا فإنهم لا يصيرون به مؤمنين به ولا يسوغ لهم بمجرد ذلك الاحتجاج بشيء مما قاله لأنه قد عرف بالنقل المتواتر الذي يعلمه جميع الأمم من جميع الطوائف أنه قال إنه رسول الله إلى جميع الناس وأن الله أنزل عليه القرآن فإن كان صادقا في ذلك فمن كذبه في كلمة واحدة فقد كذب رسول الله ومن كذب رسول الله فهو كافر وإن لم يكن صادقا في ذلك لم يكن رسولا لله بل كان كاذبا ومن كان كاذبا على الله يقول الله أرسلني بذلك ولم يرسله به لا يجوز أن يحتج بشيء من أقواله
وأما من كان من جهلاء أهل الكتاب الذين يقولون أنه كان ملكا مسلطا عليهم وأنه رسول غضب أرسله الله إرسالا كونيا لينتقم به منهم كما أرسل بختنصر وسنحاريب على بني إسرائيل وكما أرسل جنكس خان وغيره من الملوك الكافرين والظالمين مما
ينتقم به ممن عصاه فهؤلاء أعظم تكذيبا له وكفرا به من أولئك فإن هؤلاء الملوك لم يقل أحد منهم إن الله أنزل عليه كتابا ولا أن هذا الكلام الذي ابلغه إليكم هو كلام الله ولا أن الله أمركم أن تصدقوني فيما أخبرتكم به وتطيعوني فيما أمرتكم به ومن لم يصدقني باطنا وظاهرا فإن الله يعذبه في الدنيا والآخرة بل هؤلاء أرسلهم إرسالا كونيا قدره وقضاه كما يرسل الريح بالعذاب وكما يرسل الشياطين قال تعالى سورة مريم الآية 83
وقال تعالى سورة الإسراء الآيتان 4 5
وهذا بخلاف قوله سورة نوح الآية 1
وقوله تعالى سورة المزمل الآية 15
وقوله تعالى سورة النساء الآيات 163 165
فإن هذا يعني به الإرسال الديني الذي يحبه تعالى ويرضاه الذي هدى به من اتبعهم وأدخله في رحمته وعاقب من عصاهم وجعله من المستوجبين للعذاب وهو الإرسال الذي أوجب الله به طاعة من أرسله كما قال تعالى سورة النساء الآية 64
وقال تعالى سورة النساء الآية 80
وهذه الرسالة التي أقام بها الحجة على الخلق كما قال تعالى سورة النساء الآية 165
وقال تعالى سورة الحج الآية 75
وهذا كما اصطفى روح القدس جبريل عليه السلام لنزوله بالقرآن على من اصطفاه من البشر وهو محمد صلى الله عليه و سلم
قال تعالى سورة البقرة الآية 97
وقال تعالى سورة الشعراء الآيات 192 195
وقال تعالى سورة النحل الآيتان 101 102
فأخبر انه نزل به جبريل وسماه الروح الأمين وسماه روح القدس وقد ذكره أيضا في قوله سورة التكوير الآيات 19 21
ثم قال
سورة التكوير الآيات 22 29
فهذا الرسول جبريل عليه السلام وقال تعالى سورة الحاقة الآيات 40 47
فهذا الرسول محمد صلى الله عليه و سلم
وأما الإرسال الكوني الذي قدره وقضاه مثل إرسال الرياح وإرسال الشياطين فذلك نوع آخر قال تعالى سورة مريم الآية 83
وقال تعالى سورة الأعراف الآية 57
والله تعالى له الخلق والأمر فلفظ الإرسال والبعث والإرادة والأمر والأذن والكتاب والتحريم والقضاء والكلام ينقسم إلى خلقي وأمري وكوني وديني وقد ذكرنا الإرسال
وأما البعث فقال تعالى سورة الجمعة الآية 2
وقال في الكوني سورة الإسراء الآة 5
وقال تعالى سورة المائدة الآية 31
وأما الإرادة فقال تعالى في الكونية سورة الأنعام الآية 135
وقال نوح عليه السلام سورة هود الآية 34
وقال تعالى في الإرادة الدينية سورة البقرة الآية 185
وقال تعالى سورة النساء الآيات 26 28
وقال تعالى سورة المائدة الآية 6
وقال تعالى سورة الأحزاب الآية 33
وقال تعالى في الأمر الكوني سورة يس الآية 82
وكذلك في أظهر القولين قوله تعالى سورة الإسراء الآية 16
وأما الأمر الديني مثل قوله سورة النساء الآية 58
وأما الإذن الكوني مثل قوله في السحرة سورة البقرة الآية 102
والديني مثل قوله سورة الأحزاب الآيتان 45 46
والكتاب الكوني مثل قوله سورة المجادلة الآية 21
وقوله سورة التوبة الآية 51
والديني مثل قوله سورة النساء الآية 24
وقوله سورة البقرة الآية 183
وقوله سورة البقرة الآية 178
والقضاءالكوني كقوله سورة فصلت الآية 12
والديني سورة الإسراء الآية 23
أي أمر
والتحريم الكوني مثل قوله سورة القصص الآية 12
وقوله سورة المائدة الآية 26
وقوله سورة الأنبياء الآية 95
والديني مثل قوله سورة المائدة الآية 3
وقوله سورة النساء الآية 23
والكلمات الكونية مثل قول النبي صلى الله عليه و سلم أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ومنه
قوله تعالى سورة التحريم الآية 12
والدينية مثل قول النبي صلى الله عليه و سلم اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ومنه قوله تعالى سورة آل عمران الآية 64
وهذا مبسوط في موضع آخر
والمقصود هنا أنه تفرق أهل الكتاب في النبي صلى الله عليه و سلم كل يقول فيه قولا هو نظير تفرق سائر الكفار فإن الكفار بالأنبياء من عاداتهم أن تقول كل طائفة فيه قولا يناقض قول الطائفة الآخرى وكذلك قولهم في الكتاب الذي أنزل عليه وأقوالهم كلها أقوال مختلفة باطلة وهذا هو الاختلاف المذموم الذي ذكره الله تعالى في قوله سورة هود الآيتان 118 119
وفي قوله سورة الذاريات الآيتان 7 8
وقوله تعالى سورة البقرة الآية 176
وقوله سورة آل عمران الآيتان 105 106
وقوله تعالى سورة المائدة الآية 14
ومثال أقوال الكفار في الأنبياء ما ذكره تعالى في قوله تعالى سورة الفرقان الآيات 1 9
فبين سبحانه أن الكفار ضربوا له أمثالا كلها باطلة ضلوا فيها عن الحق فلا يستطيعون مع الضلال سبيلا إلى الحق وضرب الأمثال له يتضمن تمثيله بأناس آخرين وجعله في تلك الأنواع التي ليس هو منها ولا مماثلا لأفرادها مثل قولهم سورة الفرقان الآية 4
مثلوه بالكاذب المستعين بمن يعينه على ما يفتريه ومثلوه بمن
يستكتب أساطير الأولين من غيره فتقرأ عليه طرفي النهار وهو يتعلم من أولئك ما يقوله ومثلوه بالمسحور وكذلك قوله تعالى سورة الإسراء الآيات 45 48
وقال تعالى سورة الحجر الآيات 87 96
قال كثير من السلف الذين جعلوا القرآن عضين هم الذين
عضهوه فقالوا سحر وشعر وكهانة ونحو ذلك كما قال تعالى سورة الحاقة الآيات 38 52
وقال سورة الطور الآيات 29 34
وقال تعالى سورة الشعراء الآيات 192 209
ثم قال تعالى سورة الشعراء الآيات 210 227
وقال تعالى
سورة العنكبوت الآيات 46 55
وقال تعالى سورة الطور الآيتان 33 34
وقال تعالى سورة هود الآيتان 13 14
وقال تعالى سورة البقرة الآيتان 23 24
وقال تعالى سورة الذاريات الآيات 49 51
وقد أخبر تعالى أن هذه سنة الكفار في الأنبياء قبله كما قال سورة الذاريات الآيتان 52 53
وقال تعالى سورة فصلت الآية 43
وقال تعالى سورة الأنعام الآية 112
وقد أخبر سبحانه أن الكفار قالوا عن موسى عليه السلام أنه ساحر وأنه مجنون فقال فرعون سورة الشعراء الآية 27
وقوله سورة الزخرف الآية 49
وقال
سورة طه الآية 71
وكذلك قالوا عن المسيح بن مريم كما قال تعالى سورة الصف الآية 6
وذكر تعالى عن اليهود أنهم قالوا على مريم بهتانا عظيما فقول اليهود في المسيح من جنس أقوال الكفار في الأنبياء وكذلك قول كفار أهل الكتاب في خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه و سلم تسليما
فإذا علم هذا فنقول بعد ذلك لمن قال أنه رسول أرسل إلى العرب الجاهلية دون أهل الكتاب
إنه من المعلوم بالضرورة لكل من علم أحواله بالنقل المتواتر الذي هو أعظم تواترا مما ينقل عن موسى وعيسى وغيرهما وبالقرآن المتواتر عنه وسنته المتواترة عنه وسنة خلفائه الراشدين من بعده أنه صلى الله عليه و سلم ذكر أنه أرسل إلى أهل الكتاب اليهود والنصارى كما ذكر أنه أرسل إلى الأميين بل ذكر أنه أرسل الى جميع بني آدم عربهم وعجمهم من الروم والفرس
والترك والهند والبربر والحبشة وسائر الأمم بل أنه أرسل إلى الثقلين الجن والإنس جميعا
وهذا كله من الأمور الظاهرة المتواترة عنه التي اتفق على نقلها عنه أصحابه مع كثرتهم وتفرق ديارهم وأحوالهم وقد صحبه عشرات ألوف لا يحصى عددهم على الحقيقة إلا الله تعالى ونقل ذلك عنهم التابعون وهم أضعاف الصحابة عددا ثم ذلك منقول قرنا بعد قرن
إلى زمننا مع كثرة المسلمين وانتشارهم في مشارق الأرض ومغاربها كما أخبر بذلك قبل أن يكون فقال في الحديث الصحيح زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها وكان كما أخبر فبلغ ملك أمته طرفي العمارة شرقا وغربا وانتشرت دعوته في وسط الأرض كالإقليم الثالث والرابع والخامس لأنهم أكمل عقولا وأخلاقا وأعدل أمزجة بخلاف طرفي الجنوب والشمال فإن هؤلاء نقصت عقولهم وأخلاقهم وانحرفت أمزجتهم
أما طرف الجنوب فإنه لقوة الحرارة احترقت أخلاطهم فاسودت ألوانهم وتجعدت شعورهم
وأما أهل طرق الشمال فلقوة البرد لم تنضج أخلاطهم بل صارت فجة فأفرطوا في سبوطة الشعر والبياض البادر الذي لا يستحسن
ولهذا لما ظهر الإسلام غلب أهله على وسط المعمورة وهم أعدل بني آدم وأكملهم والنصارى الذين تربوا تحت ذمة المسلمين أكمل من غيرهم من النصارى عقولا وأخلاقا وأما النصارى المحاربون للمسلمين الخارجون عن ذمتهم من أهل الجنوب والشمال فهم أنقص عقولا وأخلاقا ولما فيهم من نقص العقول والأخلاق ظهرت فيهم النصرانية دون الإسلام
والقصود أن محمدا صلى الله عليه و سلم هو نفسه دعا أهل الكتاب من اليهود والنصارى إلى الإيمان به وبما جاء به كما دعا من لا كتاب له من العرب وسائر الأمم
وهو الذي أخبر عن الله تبارك وتعالى بكفر من لم يؤمن به من أهل الكتاب وغيرهم وبأنهم يصلون جهنم وساءت مصيرا وهو الذي أمر بجهادهم ودعاهم بنفسه ونوابه وحينئذ فقولهم في الكتاب لم يأت إلينا بل إلى الجاهلية من العرب سواء أرادوا أن الله بعثه إلى العرب ولم يبعثه إلينا أو أرادوا أنه ادعى أنه أرسل إلى العرب لا إلينا فإنه قد علم جميع الطوائف أن محمدا دعا اليهود والنصارى إلى الإيمان به وذكر أن الله أرسله إليهم وأمره بجهاد من لم يؤمن به منهم فإذا قيل مع هذا أنه قال لم أبعث إلا إلى العرب كان كاذبا كذبا ظاهرا عليه سواء صدقه الإنسان أو كذبه فإن المقصود هنا أنه نفسه دعا جميع أهل الأرض إلى الإيمان به فدعا أهل الكتاب كما دعا الأميين
أما اليهود فإنهم كانوا جيرانه في الحجاز بالمدينة وما حولها وخيبر فإن المهاجرين والأنصار كلهم آمنوا به من غير سيف ولا قتال بل لما ظهر لهم من براهين نبوته ودلائل صدقه آمنوا به وقد حصل من الأذى في الله لمن آمن بالله ما هو معروف في السيرة وقد آمن به في حياته كثير من اليهود والنصارى بعضهم بمكة وبعضهم بالمدينة وكثير
منهم كانوا بغير مكة والمدينة فلما قدم المدينة عاهد من لم يؤمن به من اليهود ثم نقضوا العهد فأجلى بعضهم وقتل بعضهم لمحاربتهم لله ورسوله
وقد قاتلهم مرة بعد مرة قاتل بني النضير وأنزل الله تعالى فيهم سورة الحشر وقاتل قريظة عام الأحزاب وذكرهم الله في سورة الأحزاب وقاتل قبلهم بني قينقاع وبعد هؤلاء
غزا خيبر هو وأهل بيعة الرضوان الذين بايعوه تحت الشجرة وكانوا ألفا وأربعمائة ففتح الله عليهم خيبر واقر اليهود فيها فلاحين وأنزل الله تعالى سورة الفتح يذكر فيها ذلك فكيف يقال إنه لم يذكر أنه أرسل إلا إلى مشركي العرب وهذه حال اليهود معه
وأما النصارى فإن أهل نجران التي باليمن كانوا نصارى فقدم عليه وفدهم ستون راكبا وناظرهم في مسجده وأنزل الله فيهم صدر سورة آل عمران ولما ظهرت حجته عليهم وتبين لهم أنه رسول الله إليهم أمره الله إن لم يجيبوه أن يدعوهم إلى المباهلة فقال تعالى سورة آل عمران الآية 61
فلما دعاهم إلى المباهلة طالبوا أن يمهلهم حتى يشتوروا
فاشتوروا فقال بعضهم لبعض تعلمون أنه نبي وأنه ما باهل قوم نبيا إلا نزل بهم العذاب
فاستعفوا من المباهلة فصالحوه وأقروا له بالجزية عن يد وهم صاغرون لما خافوا من دعائه عليهم لعلمهم أنه نبي فدخلوا تحت حكمه كما يدخل أهل الذمة الذين في بلاد المسلمين تحت حكم الله ورسوله وأدوا إليه الجزية عن يد وهم صاغرون وهم أول من أدى الجزية من النصارى
واستعمل عليهم وعلى من أسلم منهم عمرو بن حزم الأنصاري وكتب له كتابا مشهورا يذكر فيه شرائع الدين فكانوا في ذمة المسلمين تحت حكم الله ورسوله ونائب رسوله عمرو بن حزم الأنصاري رضي الله عنه وقصتهم مشهورة متواترة نقلها أهل السير
وأهل الحديث وأهل الفقه وأصل حديثهم معروف في الصحاح والسنن كما سنذكره إن شاء الله تعالى
ووفد نجران لما قدموا أنزل الله تبارك وتعالى بسبب ما جرى صدر سورة آل عمران وذكر تعالى فرض الحج بقوله سورة آل عمران الآية 97
وهذا نزل إما سنة تسع وإما سنة عشر كما ذكر ذلك غير واحد من العلماء منهم القاضي أبو يعلى وغيره
قالوا وجوب الحج ثبت بقوله ولله على الناس حج البيت
وروي أنه نزل في سنة عشر وروي أنه نزل في سنة تسع وهذا قول جمهور العلماء
قالوا إن فرض الحج إنما ثبت بهذه الآية وقال بعضهم بل ثبت ذلك بقوله تعالى سورة البقرة الآية 196
وهذه الآية نزلت سنة ست عام الحديبية لما صد المشركون رسول الله صلى الله عليه و سلم عن البيت وصالحهم ذلك العام وبايع المسلمين تحت الشجرة وأنزل الله فيها سورة الفتح ثم رجع إلى المدينة وفتح الله عليهم خيبر سنة سبع وفيها قدم عليه جعفر بن أبي طالب مع وفد الحبشة ثم أرسل جعفرا
وزيدا وعبد الله بن رواحة لغزو النصارى لمؤتة ثم فتح مكة سنة ثمان في رمضان ثم في أثناء سنة تسع غزا النصارى إلى تبوك وفيها حج أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأمر أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان
وأردفه بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لنبذ العهود وأنزل الله آية السيف المطلقة بجهاد المشركين وجهاد أهل الكتاب فقال تعالى سورة التوبة الآية 5
وهذه الأشهر عند جمهور العلماء هي المذكورة في قوله تعالى سورة التوبة الآية 2
فإن المشركين كانوا على نوعين نوعا لهم عهد مطلق غير مؤقت وهو عقد جائز غير لازم ونوعا لهم عهد مؤقت فأمر الله رسوله أن ينبذ إلى المشركين أهل العهد المطلق لأنه هذا العهد جائز غير لازم وأمره أن يسيرهم أربعة اشهر ومن كان له عهد مؤقت فهو عهد لازم فأمره الله أن يوفي له إذا كان مؤقتا وقد ذهب بعض الفقهاء
إلى الهدنة لا تجوز إلا مؤقتة وذهب بعضهم إلى أنه يجوز للإمام أن يفسخ الهدنة مع قيامهم بالواجب والصواب هو القول الثالث وهو أنها تجوز مطلقة ومؤقتة
فأما المطلقة فجائزة غير لازمة يخير بين إمضائها وبين نقضها
والمؤقتة لازمة قال تعالى
سورة التوبة الآيات 1 13
والمقصود هنا ذكر قدوم وفد نجران النصارى السيد والعاقب ومن معهما
قال أبو الفرج بن الجوزي ثم دخلت سنة عشر من الهجرة
فمن الحوادث فيها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث خالد بن الوليد إلى بني الحارث بن كعب فروى ابن اسحاق قال بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم خالدا في ربيع الآخر أو جمادى الأول في سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب بنجران وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم وذكر القصة ثم قال وفيها قدم وفد الأزد وفيها قدم
وفد غسان وفيها قدم وفد زبيد وفيها قدم وفد عبد القيس قال ابن إسحاق قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم الجارود بن عمرو في وفد عبد القيس وكان نصرانيا فأسلموا وفيها قدم وفد
كندة فأسلموا وفيها قدم وفد بني حنيفة وفيها قدم وفد بجيلة قال وفيها قدم العاقب والسيد من نجران فكتب لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم كتاب صلح
وذكر محمد بن سعد في الطبقات قدومهم في
الوفود فقال
ذكر بعث النبي صلى الله عليه و سلم خالد بن الوليد في شهر ربيع الآول سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب ذكره بإسناده أنبأنا محمد بن عمر حدثني إبراهيم بن موسى المخزومي عن عبد الله بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث عن أبيه ثم ذكر قدوم نصارى نجران من طريق علي بن محمد فقال أنا علي بن محمد وهو المدائني عن أبي معشر عن يزيد بن
رومان ومحمد بن كعب قال وأنا علي بن مجاهد عن محمد بن إسحاق عن الزهري وعكرمة بن خالد وعاصم بن عمر بن قتادة أنا يزيد بن عايض بن جعدية عن عبد الله بن
أبي بكر بن حزم وعن غيرهم من أهل العلم يزيد بعضهم على بعض قالوا ووفد فلان وفلان في رجال من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بعدما هدم جرير بن عبد الله رضي الله عنه ذا الخلصة وقتل من قتل من خثعم فقالوا آمنا بالله ورسوله
فاكتب لنا كتابا وذكروا القصة وقدوم وفود متعددة
قالوا وقدم وفد نجران وكتب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أهل نجران فخرج إليه أربعة عشر من أشرافهم نصارى وفيهم ثلاثة نفر يتولون أمورهم
العاقب واسمه عبد المسيح رجل من كندة وهو أميرهم وصاحب مشورتهم والذي يصدرون عن رأيه وأبو الحارث أسقفهم وإمامهم وصاحب مدارسهم والسيد وهو صاحب رحلتهم فدخلوا
المسجد وعليهم ثياب الحبرة وأردية مكفوفة بالحرير فقاموا
يصلون في المسجد نحو المشرق فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم دعوهم ثم أتوا النبي صلى الله عليه و سلم فأعرض عنهم فلم يكلمهم فقال لهم عثمان ذلك من أجل زيكم هذا فانصرفوا يومهم ذلك ثم غدوا عليه بزي الرهبان فسلموا عليه فرد عليهم ودعاهم إلى الإسلام فأبوا وكثر الكلام والحجاج بينهم وتلا عليهم القرآن وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن أنكرتم ما أقول فهلم أباهلكم فانصرفوا على ذلك فغدا عبد المسيح ورجلان من ذوي رأيهم على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا قد بدا لنا أن لا نباهلك فاحكم علينا بما أحببت نعطك ونصالحك فصالحهم على ألفي حلة في رجب وألف في صفر أو قيمة كل حلة من الأواقي وعلى عارية ثلاثين درعا وثلاثين رمحا وثلاثين بعيرا وثلاثين فرسا أن كان باليمن كيد
ولنجران وحاشيتهم جوار الله وذمة محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وبيعهم لا يغير أسقف من سقيفاه ولا راهب من رهبانيته ولا واقف من وقفانيته وأشهد على ذلك شهودا منهم
أبو سفيان بن حرب والأقرع بن حابس والمغيرة بن شعبة فرجعوا إلى بلادهم فلم يلبث السيد والعاقب إلا يسيرا حتى رجعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأسلما وأنزلهما دار أبي أيوب الأنصاري وأقام أهل نجران على ما كتب لهم به النبي صلى الله
عليه وسلم حتى قبضه الله صلوات الله عليه ورحمته ورضوانه
ثم ولي أبو بكر الصديق رضي الله عنه فكتب بالوصاة بهم عند وفاته ثم أصابوا ربا فأخرجهم عمر بن الخطاب من أرضهم وكتب لهم هذا ما كتب عمر أمير المؤمنين لنجران أنه من سار منهم أنه آمن بأمان الله لا يضرهم أحد من المسلمين ووفى لهم بما كتب لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر أما بعد فمن وقعوا به من أمراء الشام وأمراء العراق فليوسعهم من جريب الأرض فما اعتملوا من ذلك فهو لهم صدقة وعقبة لهم فكان أرضهم لا سبيل عليهم فيه لأحد ولا مغرم
أما بعد فمن حضرهم من رجل مسلم فلينصرهم على من ظلمهم فإنهم أقوام لهم الذمة وجزيتهم عنهم متروكة أربعة وعشرين شهرا بعد أن يقدموا ولا يكلفوا إلا من ضيعتهم التي اعتملوا غير مظلومين ولا معنوف عليهم شهد عثمان بن عفان رضي الله عنه ومعيقيب ابن أبي فاطمة فوقع ناس منهم العراق فنزلوا النجرانية التى بناحية الكوفة
وما ذكره ابن سعد عن علي بن محمد المدائني عن أشياخه في حديث وفد نجران فهو يوافق ما ذكره ابن إسحاق فإن قوله أربعة عشر من أشرافهم يوافق قول ابن إسحاق عن محمد بن جعفر قال
قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم وفد نجران ستون راكبا فيهم أربعة عشر من أشرافهم في الأربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يئول أمرهم العاقب أمير القوم وذو رأيهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه واسمه عبد المسيح والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم ونجعتهم واسمه الأيهم وأبو حارثة بن علقمة أخو بني بكر بن وائل أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ودرس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه ومولوه وأخدموه وبنوا له الكنائس وبسطوا له الكرامات لما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم فلما وجهوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من نجران جلس
أبو حارثة على بغلة له موجها وإلى جنبه أخ له يقال له كرز ابن علقمة فعثرت بغلة أبي حارثة فقال كرز تعس الأبعد يريد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له أبو حارثة بل أنت تعست فقال لم يا أخي قال والله إنه للنبي الذي كنا ننتظره فقال له كرز فما منعك منه وأنت تعلم هذا قال ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه فلو فعلت نزعوا منا كل ما ترى فأضمر عليها منه أخوه كرز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك وهو كان يحدث عنه هذا الحديث فيما بلغني
قال ابن هشام
وبلغني أن رؤساء نجران كانوا يتوارثون كتابا عندهم فكلما مات
رئيس منهم فأفضت الرياسة إلى غيره ختم على تلك الكتب خاتما مع الخواتم التي قبله ولم يكسرها فخرج الرئيس الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم يمشي فعثر فقال بنه تعس الأبعد يريد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له أبوه لا تفعل فإنه نبي واسمه في الوضائع يعني الكتب
فلما مات لم تكن لابنه همة إلا أن شد فكسر الخواتم فوجد فيها ذكر النبي صلى الله عليه و سلم فأسلم فحسن إسلامه وحج وهو يقول … إليك تغدو قلقا وضينها … معترضا في بطنها جنينها … مخالفا لدين النصارى دينها …
قال ابن إسحاق
وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر عليهم ثياب الحبرات جبب وأردية في جمال رجال بني
الحارث بن كعب قال يقول بعض من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم يومئذ ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم وقد حانت صلاتهم فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال دعوهم فصلوا إلى المشرق قال ابن إسحاق وكان تسمية الأربعة عشر الذين يئول إليهم أمرهم العاقب وهو عبد المسيح والسيد وهو الأيهم وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل وأوس والحارث وزيد وقيس ويزيد ونبيه وخويلد وعمر وخالد وعبد الله ويحنس في ستين راكبا فكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم أبو حارثة بن علقمة والعاقب عبد المسيح والأيهم السيد وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلافهم من أمرهم يقولون هو الله ويقولون هو ولد الله ويقولون هو ثالث ثلاثة وكذلك قول النصرانية
فهم يحتجون في قولهم هو الله بأنه كان يحيي الموتى ويبرئ الأسقام ويخبر بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طائرا وذلك كله بأمر الله وليجعله آية الناس
ويحتجون في قولهم إنه ولد الله فإنهم يقولون لم يكن له أب
يعلم وقد تكلم في المهد وهذا شيء لم يصنعه أحد من ولد آدم
ويحتجون في قولهم ثالث ثلاثة بقول الله فعلمنا وأمرنا وخلقنا وقضينا فيقولون لو كان واحدا ما قال إلا فعلت وقضيت وأمرت وخلقت ولكنه هو عيسى ومريم ففي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن فلما كلمه الحبران قال لهما رسول الله صلى الله عليه و سلم
أسلما قالا قد أسلمنا قال إنكما لم تسلما فأسلما قالا بلى قد أسلمنا قبلك قال كذبتما يمنعكما من الإسلام دعواكما لله ولد وعبادتكما للصليب وأكلكما للخنزير قالا فمن أبوه يا محمد فصمت رسول الله صلى الله عليه و سلم عنهما فلم يجبهما فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلافهم في أمرهم كله صدرا من سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية
وذكر نزول الآيات بسببهم غير واحد مثلما ذكره محمد بن جرير الطبري في تفسيره قال حدثنا المثنى حدثنا إسحاق حدثنا ابن أبي جعفر يعني عبد الله بن أبي جعفر الرازي عن أبيه عن الربيع في قوله تعالى سورة آل عمران الآيتان 1 2
قال إن النصارى أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فخاصموه في عيسى بن مريم وقالوا له من أبوه وقالوا على الله الكذب
والبهتان لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبة ولا ولدا فقال لهم النبي صلى الله عليه و سلم ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه قالوا نعم قال ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء قالوا بلى قال ألستم تعملون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه قالوا بلى فهل يملك عيسى من ذلك شيئا قالوا لا قال ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء قالوا بلى قال فهل يعلم عيسى من ذلك شيئا إلا ما علم قالوا لا قال فإن ربنا صور عيسى في لرحم كيف شاء قال ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث قالوا بلى قال ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذي كما يتغذى الصبي ثم كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث قالوا بلى قال فكيف يكون هذا كما زعمتم قال فعرفوا ثم أبوا إلا الجحود فأنزل الله آلم الله لا إله إلا هو الحي القيوم
وقد ثبت في الصحاح حديث وفد نجران ففي البخاري ومسلم عن حذيفة وأخرجه مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال لما نزلت هذه الآية سورة آل عمران الآية 61
دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال اللهم هؤلاء أهلي
وفي البخاري عن حذيفة بن اليمان قال جاء السيد والعاقب صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يريدان أن يلاعناه فقال أحدهما لصاحبه لا تفعل فوالله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا قالا إنما نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا أمينا ولا تبعث معنا إلا أمينا قال لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين
قال فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال قم يا أبا عبيدة بن الجراح فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا أمين هذه الأمة
وفي سنن أبي داوود وغيره قال أبو داوود أخبرنا مصرف بن عمرو اليامي حدثنا يونس يعني ابن بكير حدثنا أسباط بن نصر الهمداني عن إسماعيل بن عبد الرحمن القرشي عن ابن عباس قال صالح رسول الله صلى الله عليه و سلم أهل نجران على ألفي حلة
النصف في صفر والنصف في رجب يؤدونها إلى المسلمين وعارية ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمين كيد ذات غدر على أن لا يهدم لهم بيعة ولا يخرج لهم قس ولا يفتنون عن دينهم ما لم يحدثوا حدثا أو يأكلوا الربا
قال إسماعيل فقد أكلوا الربا قال أبو داوود إذا نقضوا بعض ما شرط عليهم فقد أحدثوه
وما ذكره أبو داوود وأهل السير من مصالحته لأهل نجران على
الجزية المذكورة معروف عند أهل العلم وقد ذكر ذلك أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال ذكره من طريقين
قال أبو عبيد رحمه الله حدثنا أبو أيوب الدمشقي قال حدثني سعدان بن يحيى عن عبد الله بن أبي حميد عن أبي المليح الهذلي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صالح أهل نجران فكتب لهم كتابا بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما كتب محمد النبي صلى الله عليه و سلم لأهل نجران إذ كان له
حكمه عليهم أن في كل سوداء وبيضاء وصفراء وحمراء أو ثمرة ورقيق وأفضل عليهم وترك ذلك لهم ألفي حلة في كل صفر ألف حلة وفي كل رجب ألف حلة كل حلة أوقية ما زاد الخراج أو نقص فعلى الأواقي فليحسب وما قضوا من ركاب أو خيل أو دروع أخذ منهم بالحساب وعلى أهل نجران مقرى رسلي عشرين ليلة فما دونها وعليهم عارية ثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا وثلاثين درعا إذا كان كيد باليمن ذو مغدرة وما هلك مما أعاروا رسلي فهو ضامن على رسلي حتى يؤدوه إليهم ولنجران وحاشيتها ذمة الله وذمة رسوله على دمائهم وأموالهم وملتهم وبيعهم ورهبانهم وأساقفهم وشاهدهم وغائبهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير وعلى أن لا يغيروا أسقفا من سقيفاه ولا واقها من وقيهاه ولا راهبا من رهابنه وعلى أن لا يخسروا ولا يعشروا ولا يطأ أرضهم جيش ومن ملك منهم حقا فالنصف بينهم بنجران على أن لا يأكلوا الربا فمن أكل الربا من ذي قبل فذمتي منهم بريئة وعليهم الجهد والنصح فيما استقبلوا غير مظلومين ولا معنوف عليهم شهد عثمان بن عفان ومعيقيب
قال أبو عبيد الواقة ولي العهد في لغة بلحارث بن كعب يقول إذا مات هذا الأسقف قام الآخر مكانه
قال أبو عبيد قال أبو أيوب وحدثني عيسى بن يونس عن عبد الله بن أبي حميد عن أبي المليح عن النبي صلى الله عليه و سلم مثل ذلك وزاد في حديثه قال فلما توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم أتوا أبا بكر فوفى لهم بذلك وكتب لهم كتابا نحوا من كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما ولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصابوا الربا في زمانه فأجلاهم عمر وكتب لهم أما بعد فمن وقعوا به من أمراء الشام أو العراق فليوسعهم من جريب الأرض وما اعتملوا من شيء فهو لهم لوجه الله وعقبى من أرضهم قال فأتوا العراق فاتخذوا النجرانية قال أبو عبيد وهي قرية بالكوفة
وكتب عثمان إلى الوليد بن عقبة أما بعد فإن العاقب
والأسقف وسراة أهل نجران أتوني بكتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وأروني شرط عمر رضي الله عنه وقد سألت عثمان بن حنيف فأنبأني أنه قد كان بحث على ذلك فوجده صار للدهاقين ليردعهم عن أرضهم وإني قد وضعت عنهم من جزيتهم مائتي حلة لوجه الله وعقبي لهم من أرضهم وإني أوصيك بهم فإنهم قوم لهم ذمة
قال أبو عبيد وحدثنا عثمان بن صالح عن عبد الله بن
لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب لأهل نجران من محمد النبي رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ذكر نحو هذه النسخة وليس في حديثه قصة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وفي آخره شهد أبو سفيان بن حرب وغيلان بن عمرو ومالك بن
عوف من بني نضر والأقرع بن حابس الحنظلي والمغيرة بن شعبة
قال أبو عبيد حدثني سعيد بن عفير عن يحيى بن أيوب عن يونس بن يزيد الأيلي عن ابن شهاب قال أول من أعطى الجزية أهل نجران وكانوا نصارى
فإن قيل قوله تعالى سورة آل عمران الآية 64
وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه و سلم
قد كتب إلى هرقل مع دحية الكلبي مدة هدنته للمشركين وكان أبو سفيان إذ ذاك لم يسلم وقد حضر عند هرقل وسأله هرقل عن النبي صلى الله عليه و سلم وأبو سفيان أسلم عام الفتح فدل ذلك على أن هذا الكتاب كان قبل الفتح ونزول آية الجزية كان بعد الفتح سنة تسع فدل ذلك على أن هذه الآية نزلت قبل آية الجزية وقبل آية المباهلة وآية المباهله قد علم يقينا أنها نزلت في قصة قدوم وفد نجران والمفسرون وأهل السير ذكروا أن آل عمران نزلت بسبب مناظرة أهل نجران وقد ذكرناه من نقل أهل الحديث بالإسناد المتصل
ونقل أهل المغازي والسير أن وفد نجران صالحهم على الجزية وهم أول من أداها فعلم أن قدومهم كان بعد نزول آية الجزية وآية الجزية نزلت بعد فتح مكة فعلم أن قدوم وفد نجران كان بعد آية السيف التي هي آية الجزية
قال الزهري أهل نجران أول من أدى الجزية
وقوله تعالى سورة آل عمران 63
بعدها آيات نزلت قبل ذلك كقوله سورة آل عمران 70 71
فيكون هذا مما تقدم نزوله وتلك مما تأخر نزوله وجمع بينهما
للمناسبة كما في نظائره فإن الآيات كانت إذا نزلت يأمر النبي صلى الله عليه و سلم أن يضعها في مواضع تناسبها وإن كان ذلك مما تقدم ومما يبين ذلك أن هذه الآية وهي قوله تعالى قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم
لفظها يعم اليهود والنصارى وكذلك ذكر أهل العلم أنها دعاء لطائفتين وأن النبي صلى الله عليه و سلم دعا بها اليهود فدل ذلك على أن نزولها متقدم فإن دعاءه لليهود كان قبل نزول آية الجزية ولهذا لم يضرب الجزية على أهل خيبر وغيرهم من يهود الحجاز ولكن لما بعث معاذا إلى اليمن وكان كثيرا من أهلها يهود أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافرا وهذا كان متأخرا بعد غزوة تبوك وتوفي النبي صلى الله عليه و سلم ومعاذ باليمن قال ابن أبي حاتم
في تفسيره حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا الوليد حدثنا الضحاك بن عبد الرحمن بن أبي حوشب وغيره أن عمر ابن عبد العزيز
كتب إلى أليون طاغية الروم قال فيما أنزل الله على محمد صلى الله عليه و سلم سورة آل عمران الآيه 64
وروى بإسناده عن ابن جريج في قوله تعالى
تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم
قال بلغني أن النبي صلى الله عليه و سلم دعا يهود أهل الكتاب فأبوا عليه فجاهدهم وكذلك سائر الآيات التي فيها خطاب للطائفتين كقوله تعالى سورة آل عمران الآية 65 67
ومما ينبغي أن يعلم أن أهل نجران كان منهم نصارى أهل ذمة وكان منهم مسلمون وهم الأكثرون والنبي صلى الله عليه و سلم بعث أبا عبيدة لهؤلاء وهؤلاء واستعمل عمرو بن حزم على هؤلاء وهؤلاء كما أخرجا في الصحيحين عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن لكل أمة أمينا وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح
وعن أنس أيضا أن أهل اليمن قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا ابعث معنا رجلا أمينا يعلمنا السنة والإسلام فأخذ بيد أبي عبيدة بن الجراح فقال هذا أمين هذه الأمة
وفي الصحيحين عن حذيفة بن اليمان قال جاء أهل نجران إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا يا رسول الله ابعث إلينا رجلا أمينا فقال لأبعثن إليكم رجلا أمينا حق أمين حق أمين
قال فاستشرف لها الناس قال فبعث أبا عبيدة بن الجراح
وللبخاري عن حذيفة قال جاء السيد والعاقب صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يريدان أن يلاعناه قال فقال أحدهما لصاحبه لا تفعل فوالله لئن كان نبيا فلاعنا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا قالا إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا أمينا فقال لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال قم يا ابا عبيدة بن الجراح فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا أمين هذه الأمة
وكذلك استعمل النبي صلى الله عليه و سلم عليهم عمرو بن حزم وكتب له الكتاب المشهور الذي فيه الفرائض والسنن وقد رواه النسائي بطوله وروى الناس بعضه مفرقا
ومحمد بن سعد لم يذكر بعد وفد نجران إلا وفد جيشان فدل على أن قدومهم كان متأخرا ومحمد بن إسحاق ذكر قدومهم في أوائل السيرة مع قصة اليهود ليجمع بين خبر اليهود والنصارى وذكر في سنة عشر فتح نجران وإرسال النبي صلى الله عليه و سلم خالد بن الوليد وإرسال خالد ذكروا أنه كان متأخرا قبل وفاته صلى الله عليه
وسلم بأربعة أشهر وأنه قدم وفد منهم بالإسلام وهذا إنما كان بعد قدوم وفد النصارى فإنه قد ذكر ابن سعد أن العاقب والسيد أسلما بعد ذلك والعهد بالجزية إنما كان مع النصارى وآية الجزية هي قوله تعالى سورة التوبة الآية 29
وهذه آية السيف مع أهل الكتاب وقد ذكر فيها قتالهم إذا لم يؤمنوا حتى يعطوا الجزية والنبي صلى الله عليه و سلم لم يأخذ من أحد الجزية إلا بعد هذه الآية بل وقالوا إن أهل نجران أول من أخذت منهم الجزية كما ذكر ذلك أهل العلم كالزهري وغيره فإنه باتفاق أهل العلم لم يضرب النبي صلى الله عليه و سلم على أحد قبل نزول هذه الآية جزية لا من الأميين ولا من اهل الكتاب ولهذا لم يضربها على يهود قينقاع والنضير وقريظة ولا ضربها على أهل خيبر فإنها فتحت سنة سبع قبل نزول آية
الجزية وأقرهم فلاحين وهادنهم هدنة مطلقة قال فيها نقركم ما أقركم الله
فإذا كان أول ما أخذها من وفد نجران علم أن قدومهم عليه ومناظرته لهم ومحاجته إياهم وطلبه المباهلة معهم كانت بعد آية السيف التي فيها قتالهم
وعلم بذلك أن ما ذكره الله تعالى من مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا محكم لم ينسخه شيء وكذلك ما ذكره تعالى من مجادلة الخلق مطلقا بقوله سورة النحل الآية 125
فإن من الناس من يقول آيات المجادلة والمحاجة للكفار منسوخات بآية السيف لاعتقاده ان الامر بالقتال المشروع ينافي المجادلة المشروعة وهذا غلط فإن النسخ إنما يكون إذا كان الحكم الناسخ مناقضا للحكم المنسوخ كمناقضة الأمر باستقبال المسجد الحرام في الصلاة للأمر باستقبال بيت المقدس بالشام ومناقضة الأمر بصيام رمضان للمقيم للتخيير بين الصيام وبين إطعام كل يوم مسكينا ومناقضة نهيه عن تعدي الحدود التي فرضها للورثة للأمر بالوصية للوالدين والاقربين ومناقضة قوله لهم كفوا أيديكم عن القتال لقوله قاتلوهم كما قال تعالى سورة النساء الآية 77
فأمره لهم بالقتال ناسخ لأمره لهم بكف أيديهم عنهم فأما قوله تعالى سورة النحل الآية 125
وقوله سورة العنكبوت الآية 46
فهذا لا يناقضة الأمر بجهاد من أمر بجهاده منهم ولكن الأمر بالقتال يناقض النهي عنه والاقتصار على المجادلة
فأما مع إمكان الجمع بين الجدال المأمور به والقتال المأمور به فلا منافاة بينهما وإذا لم يتنافيا بل أمكن الجمع لم يجز الحكم بالنسخ ومعلوم أن كلا منهما ينفع حيث لا ينفع الآخر وأن استعمالهما جميعا أبلغ في إظهار الهدى ودين الحق ومما يبين ذلك وجوه
أحدها أن من كان من أهل الذمة والعهد والمستأمن منهم لا يجاهد بالقتال فهو داخل فيمن أمر الله بدعوته ومجادلته بالتي هي أحسن وليس هو داخلا فيمن أمر الله بقتاله
الثاني أنه قال سورة العنكبوت الآية 46
فالظالم لم يؤمر بجداله بالتي هي أحسن فمن كان ظالما مستحقا للقتال غير طالب للعلم والدين فهو من هؤلاء الظالمين الذين لا يجادلون بالتي هي أحسن بخلاف من طلب العلم والدين ولم يظهر منه ظلم سواء كان قصده الاسترشاد أو كان يظن أنه على حق يقصد نصر ما يظنه حقا ومن كان قصده العناد يعلم أنه على باطل ويجادل عليه فهذا لم يؤمر بمجادلته بالتي هي أحسن لكن قد نجادله بطرق أخرى نبين فيها عناده وظلمه وجهله جزاء له بموجب عمله
الثالث انه سبحانه قال
سورة التوبة الآية 6
فهذا مستجير مستأمن وهو من أهل الحرب أمر الله بإجارته حتى تقوم حجة الله عليه ثم يبلغه مأمنه وهذا في سورة براءة التي فيها نقض العهود وفيها آية السيف وذكر هذه الآية في ضمن الأمر بنقض العهود ليبين سبحانه أنه مثل هذا يجب أمانه حتى تقوم عليه الحجة لا تجوز محاربته كمحاربة من لم يطلب أن يبلغ حجة الله عليه
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ثم أبلغه مأمنه إن لم يوافقه ما نقص عليه ونخبر به فأبلغه مأمنه قال وليس هذا بمنسوخ
وقال مجاهد من جاءك واستمع ما أنزل إليك فهو آمن حتى
يأتيك
وقال عطاء في الرجل من أهل الشرك يأتي المسلمين بغير عهد قال تخيره إما أن تقره وإما ان تبلغه مأمنه
وقوله تعالى سورة التوبة الآية 6
قد علم أن المراد أنه يسمعه سمعا يتمكن معه من فهم معناه إذ المقصود لا يقوم بمجرد سمع لفظ لا يتمكن معه من فهم المعنى فلو كان غير عربي وجب أن يترجم له ما يقوم به عليه الحجة
ولو كان عربيا وفي القرآن ألفاظ غريبة ليست لغته وجب أن يبين له معناها ولو سمع اللفظ كما يسمعه كثير من الناس ولم يفقه المعنى وطلب منا أن نفسره له ونبين له معناه فعلينا ذلك
وإن سألنا عن سؤال يقدح في القرآن أجبناه عنه كما كان النبي صلى الله عليه و سلم أذا أورد عليه بعض المشركين أو أهل الكتاب أو المسلمين سؤالا يوردونه على القرآن فإنه كان يجيبه عنه كما أجاب ابن الزبعري لما قاس المسيح على آلهة المشركين وظن أن العلة في الأصل بمجرد كونهم معبودين وأن ذلك يقتضي كل معبود غير الله فإنه يعذب في الآخرة فجعل المسيح مثلا لآلهة المشركين قاسهم عليه قياس الفرع على الأصل
قال تعالى سورة الزخرف الآيتان 57 58
فبين سبحانه الفرق المانع من إلحاق بقوله تعالى سورة الأنبياء الآية 101
وبين أن هؤلاء القائسين ما قاسوه إلا جدلا محضا لا يوجب علما لأن الفرق حاصل بين الفرع والأصل فإن الأصنام إذا جعلوا حصبا لجهنم كان ذلك إهانة وخزيا لعابديها من غير تعذيب من لا يستحق التعذيب بخلاف ما إذا عذب عباد الله الصالحون بذنب غيرهم فإن هذا لا يفعله الله تعالى لا سيما عند جماهير المسلمين وسائر أهل الملل سلفهم وخلفهم الذين يقولون إن الله لا يخلق ويأمر إلا لحكمة ولا يظلم أحدا فينقصه شيئا من حسناته ولا يحمل عليه شيئات غيره بل ولا يعذب أحدا إلا بعد إرسال رسول اليه كما قال تعالى
سورة طه الآية 112
وقال تعالى سورة الجن الآية 13
وقال تعالى سورة النمل الآية 90
وقال تعالى سورة الإسراء الآية 5
ومن قال من المسلمين وغيرهم من أهل الملل إنه يجوز منه تعالى فعل كل شيء وأن الظلم هو الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة فهؤلاء يقولون إنما يعلم ما يفعله وما لا يفعله بدلالة خبر الصادق أو بالعادة وإن كان الجمهور يستدلون بخبر الصادق وبغيره على ما يمتنع من الله
وقد أخبر الله تعالى أن عباده الصالحين في الجنة لا يعذبهم في النار بل يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة فضلا أن يعاقبهم بذنب غيرهم مع كراهية لفعلهم ونهيهم عن ذلك ومن زعم أن لفظ ما كانت تتناول المسيح وأخر بيان العام أو أجاب بأن لفظ ما لا يتناول إلا ما لا يعقل فالقولان ضعيفان كما قد بسط في موضعه
وإنما المشركون عارضوا النص الصحيح بقياس فاسد فبين الله تعالى فساد القياس وذكر الفرق بين الأصل والفرع
وكذلك لما أورد بعض النصارى على قوله تعالى سورة مريم الآية 28 ظنا منه أن هارون هذا هو هارون أخو موسى بن
عمران وأن عمران هذا هو عمران أبو مريم أم المسيح فسئل النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك أجاب بأن هارون هذا ليس هو ذاك ولكنهم كانوا يسمون بأسماء الأنبياء والصالحين
وبعض جهال النصارى يقدح في القرآن بمثل هذا ولا يعلم هذا المفرط في جهله أن آحاد الناس يعلمون أن بين موسى وعيسى مدة طويلة جدا يمتنع معها أن يكون موسى وهارون خالي المسيح وأن هذا مما لا يخفى على أقل أتباع محمد صلى الله عليه و سلم فضلا عن أن يخفى على محمد صلى الله عليه و سلم
وهذا السؤال مما أورده أهل نجران كما ثبت عن المغيرة بن شعبة قال بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أهل نجران فقالوا ألستم تقرأون يا أخت هارون وقد علمتم ما بين موسى وعيسى فلم أدر ما أجيبهم فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرته فقال ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون باسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم
وهذا السؤال الذي هو سؤال الطاعن في القرآن لما أورده أهل نجران الكفار على رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يجبهم
عنه أجاب عنه النبي صلى الله عليه و سلم ولم يقل لهم ليس لكم عندي إلا السيف وقال لا قد نقضتم العهد إن كانوا قد عاهدوه وقد عرف أن أهل نجران لم يرسل إليهم رسولا إلا والجهاد مأمور به
وكان المسلمون يوردون الأسئلة عليه كما أورد عليه عمر عام الحديبية لما صالح المشركين ولم يدخل مكة فقال له ألم تكن تحدثنا أن نأتي البيت ونطوف به قال بلى اقلت لك أنك تأتيه في هذا العام قال لا قال فإنك آتيه ومطوف به
وكذلك أجابه أبو بكر ولم يكن سمع جواب النبي صلى الله عليه و سلم له معلوم أنه ليس في ظاهر اللفظ توقيت ذلك بعام ولكن السائل ظن ما لا يدل اللفظ عليه
وكذلك لما قال من نوقش الحساب عذب قالت له عائشة ألم يقل الله سورة الانشقاق الآيتان 7 8
فقال ذلك العرض ومن نوقش الحساب عذب
ومعلوم أن الحساب اليسير لا يتناول من نوقش وقد زادها بيانا فأخبر أنه العرض لا المقابلة المتضمنة للمناقشة
وكذلك لما قال إنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة قالت له حفصة الم يقل الله سورة مريم الآية 71
فأجابها بأنه قال سورة مريم الآية 72
فبين صلى الله عليه و سلم أن هؤلاء هم الذين يدخلون جهنم وهذا الدخول هو الذي نفاه عن أهل الحديبية وأما الورود فهو مرور الناس على الصراط كما فسره في الحديث الصحيح حديث جابر بن عبد الله وهذا المرور لا يطلق عليه اسم الدخول الذي يجزي به العصاة وينفي عن المتقين ومثل هذا كثير
وأما ما في القرآن من ذكر أقوال الكفار وحججهم وجوابها فهذا كثير جدا فإنه يجادلهم تارة في التوحيد وتارة في النبوات وتارة في المعاد وتارة في الشرائع بأحسن الحجج وأكملها كما قال تعالى سورة الفرقان الآيتان 32 33
وقد أخبر الله تبارك وتعالى عن أولي العزم من الرسل بمجادلة الكفار فقال تعالى عن قوم نوح سورة هود الآية 32
وقال عن الخليل سورة الأنعام الآيات 80 83
وأمر الله تعالى محمدا صلى الله عليه و سلم بالمجادلة بالتي هي أحسن وذم سبحانه من جادل بغير علم أو في الحق بعدما تبين ومن جادل بالباطل فقال تعالى سورة آل عمران الآية 66
وقال تعالى سورة الأنفال الآية 6
وقال تعالى
سورة غافر الآية 5
وهذا هو الجدال المذكور في قوله سورة غافر الآية 4
وإذا كان النبي صلى الله عليه و سلم يحاج الكفار بعد نزول الأمر بالقتال وقد أمره الله تعالى أن يجير المستجير حتى يسمع كلام الله ثم يبلغه مأمنه والمراد بذلك تبليغ رسالات الله وإقامة الحجة عليه وذلك قد لا يتم إلا بتفسيره له الذي تقوم به الحجة ويجاب به عن المعارضة وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب
علم بطلان قول من ظن أن الأمر بالجهاد ناسخ الأمر بالمجادلة مطلقا
الوجه الرابع إن القائل إذا قال إن آية مجادلة الكفار أو غيرها مما يدعي نسخه منسوخة بآية السيف قيل له ما تعني بآية السيف اتعني آية بعينها أم تعني كل آية فيها الأمر بالجهاد
فإن أراد الأول كان جوابه من وجهين
أحدهما أن الآيات التي فيها ذكر الجهاد متعددة فلا يجوز تخصيص بعضها
وإن قال أريد قوله تعالى سورة التوبة الآية 5
قيل له هذه في قتال المشركين وقد قال بعدها في قتال أهل الكتاب
سورة التوبة الآية 29
فلو لم تكن آية السيف إلا واحدة لم تكن هذه أولى من هذه وإن قال كل آية فيها ذكر الجهاد
وقيل له الجهاد شرع على مراتب فأول ما أنزل الله تعالى فيه الأذن بقوله سورة الحج الآية 39
فقد ذكر غير واحد من العلماء أن هذه أول آية نزلت في الجهاد ثم بعد ذلك نزل وجوبه بقوله سورة البقرة الآية 216
ولم يؤمروا بقتال من طلب مسالمتهم بل قال سورة النساء الآيتان 89 90
وكذلك من هادنهم لم يكونوا مأمورين بقتاله وإن كانت الهدنة عقدا جائزا غير لازم
ثم أنزل في براءة الأمر بنبذ العهود وأمرهم بقتال المشركين كافة وأمرهم بقتال أهل الكتاب إذا لم يسلموا حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ولم يبح لهم ترك قتالهم وإن سالموهم وهادنوهم هدنة مطلقة مع إمكان جهادهم
فإن قال آية السيف التي نسخت المجادلة هي آية الأذن
قيل فآية الأذن نزلت في أول مقدمه المدينة قبل أن يبعث شيئا من السرايا وقد جادل بعد هذا الكفار
وكذلك إن قيل آيات فرض القتال قيل فقوله سورة البقرة الآية 216
نزلت في أول الأمر قبل بدر ولا ريب أن الجهاد كان واجبا
والخندق وفتح خيبر ومكة وقد ذكر الله آيات فرض الجهاد في هؤلاء المغازي كما ذكر ذلك في سورة آل عمران والأحزاب وإن قيل بل الجدال إنما نسخ لما أمر بجهاد من سالم ومن لم يسالم
قيل هذا باطل فإن الجدال إن كان منافيا للجهاد فهو مناف لإباحته ولإيجابه ولو للمسالم وإن لم يناف الجهاد لم يناف إيجاب الجهاد للمسالمين كما لم يناف إيجاب جهاد غيرهم
فإن المسالم قد لا يجادل ولا يجالد وقد يجادل ولا يجالد كما أن غيره قد يجالد و يجادل وقد يفعل أحدهما
فإن كان إيجابه لجهاد المحارب المبتدئ بالقتال لا ينافي مجادلته فلأن يكون جهاد من لا يبدأ القتال لا ينافي مجادلته أولى وأحرى فإن من كان أبعد عن القتال كانت مجادلته أقل منافاة للقتال ممن يكون أعظم قتالا يبين هذا
الوجه الخامس وهو أن يقال المنسوخ هو الاقتصار على الجدال فكان النبي صلى الله عليه و سلم في أول الأمر مأمورا أن يجاهد الكفار بلسانه لا بيده فيدعوهم ويعظهم ويجادلهم بالتي هي أحسن ويجاهدهم بالقرآن جهادا كبيرا قال تعالى في سورة الفرقان وهي مكية الآية 51 52
وكان مأمورا بالكف عن قتالهم لعجزه وعجز المسلمين عن ذلك ثم لما هاجر إلى المدينة وصار له بها أعوان أذن له في الجهاد ثم لما قووا كتب عليهم القتال ولم يكتب عليهم قتال من سالمهم لأنهم لم يكونوا يطيقون قتال جميع الكفار
فلما فتح الله مكة وانقطع قتال قريش ملوك العرب ووفدت إليه وفود العرب بالإسلام أمره الله تعالى بقتال الكفار كلهم إلا من كان له عهد مؤقت وأمره بنبذ العهود المطلقة فكان الذي رفعه ونسخه ترك القتال
وأما مجاهدة الكفار باللسان فما زال مشروعا من أول الأمر إلى آخره
فإنه إذا شرع جهادهم باليد فباللسان أولى وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم جاهدوا المشركين بأيديكم وألسنتكم وأموالكم
وكان ينصب لحسان منبرا في مسجدا يجاهد فيه المشركين بلسانه جهاد هجو وهذا كان بعد نزول آيات القتال وأين منفعة الهجو من منفعة إقامة الدلائل والبراهين على صحة الإسلام وإبطال حجج الكفار من المشركين وأهل الكتاب
الوجه السادس أنه من المعلوم أن القتال إنما شرع للضرورة ولو أن الناس آمنوا بالبرهان والآيات لما احتيج إلى القتال فبيان آيات الإسلام وبراهينه واجب مطلقا وجوبا أصليا
وأما الجهاد فمشروع للضرورة فكيف يكون هذا مانعا من ذلك
فإن قيل الإسلام قد ظهرت أعلامه وآياته فلم يبق حاجة إلى
إظهار آياته وإنما يحتاج إلى السيف
قيل معلوم أن الله وعد بإظهاره على الدين كله ظهور علم وبيان وظهور سيف وسنان فقال تعالى سورة الصف الآية 9
وقد فسر العلماء ظهوره بهذا وهذا ولفظ الظهور يتناولهما فإن ظهور الهدي بالعلم والبيان وظهور الدين باليد والعمل والله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله
ومعلوم أن ظهور الإسلام بالعلم والبيان قبل ظهوره باليد والقتال فإن النبي صلى الله عليه و سلم مكث بمكة ثلاث عشرة سنة يظهر الإسلام بالعلم والبيان والآيات والبراهين فآمنت به المهاجرون والأنصار طوعا واختيارا بغير سيف لما بان لهم من الآيات البينات والبراهين والمعجزات ثم أظهره بالسيف فإذا وجب علينا جهاد الكفار بالسيف ابتداء ودفعا فلأن يجب علينا بيان الإسلام وإعلامه ابتداء ودفعا لمن يطعن فيه بطريق الأولى والأحرى
فإن وجوب هذا قبل وجوب ذاك ومنفعته قبل منفعته ومعلوم أنه يحتاج كل وقت إلى السيف فكذلك هو محتاج إلى العلم والبيان وإظهاره بالعلم والبيان من جنس إظهاره بالسيف وهو ظهور مجمل علا به على كل دين مع أن كثيرا من الكفار لم يقهره سيفه فكذلك كثير
من الناس لم يظهر لهم آياته وبراهينه بل قد يقدحون فيه ويقيمون الحجج على بطلانه لا سيما والمقهور بالسيف فيهم منافقون كثيرون فهؤلاء جهادهم بالعلم والبيان دون السيف والسنان يؤكد هذا
الوجه السابع وهو أن القتال لا يكون إلا لظالم فإن من قاتل المسلمين لم يكن إلا ظالما معتديا ومن قامت عليه الحجة فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين لم يكن إلا ظالما
وأما المجادلة فقد تكون لظالم إما طاعن في الدين بالظلم وإما من قامت عليه الحجة الظاهرة فامتنع من قبولها وقد تكون لمسترشد طالب حق لم يبلغه
وإما من بلغه بعض أعلام نبوة محمد صلى الله عليه و سلم ودلائل نبوته ولكن عورض ذلك عنده بشبهات تنافي ذلك فاحتاج إلى جواب تلك المعارضات
وإما طالب لمعرفة دلائل النبوة على الوجه الذي يعلم به ذلك
فإذا كان القتال الذي لا يكون إلا لدفع ظلم المقاتل مشروعا
فالمجادلة التي تكون لدفع ظلمه ولانتفاعه وانتفاع غيره مشروعة بطريق الأولى
قال مجاهد سورة العنكبوت الآية 46
قال الذين ظلموا من قاتلك ولم يعطك الجزية وفي لفظ آخر عنه قال الذين ظلموا منهم أهل الحرب من لا عهد لهم المجادلة لهم بالسيف
وفي رواية عنه قال لا تقاتل إلا من قاتلك ولم يعطك الجزية
وفي رواية عنه قال من أدى منهم الجزية فلا تقولوا له إلا خيرا وعن مجاهد إلا بالتي هي أحسن فإن قالوا شرا فقولوا خيرا فهذا مجاهد لا يجعلها منسوخة وهي قول أكثر المفسرين
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم سورة العنكبوت الآية 46
ليست منسوخة ولكن عن قتادة قال نسختها اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ولا مجادلة اشد من السيف
والأول أصح لأن هؤلاء من الذين ظلموا فلا
نسخ
ومما يعجب منه أن بعض المنكرين لمجادلة الكفار بناء على ظهور دلائل النبوة نجده هو ومن يعظمه من شيوخه الذين يعتمد في أصول الدين على نظرهم ومناظرتهم ويزعمون أنهم قرروا دلائل النبوة قد أوردوا من الشبهات والشكوك والمطاعن على دلائل النبوة ما يبلغ نحو ثمانين سؤالا وأجابوا عنه بأجوبة لا تصلح أن تكون جوابا في المسائل الظنية بل هي إلى تقرير شبه الطاعنين أقرب منها إلى تقرير أصول الدين
وهم كما مثلهم الغزالي وغيره بمن يضرب شجرة ضربا يزلزلها به وهو يزعم أنه يريد أن يثبتها وكثير من أئمة هؤلاء مضطرب في الإيمان بالنبوة اضطرابا ليس هذا موضع بسطه وهم مع ذلك يدعون
أنه قد ظهر عند أهل الكتاب مالم يظهر عند شيوخ هؤلاء النظار وينهون عن إظهار آيات الله وبراهينه التي هي غاية مطالب مشايخهم وهم لم يعطوها حقها إما عجزا وإما تفريطا
الوجه الثامن أن كثيرا من أهل الكتاب يزعم أن محمدا صلى الله عليه و سلم وأمته إنما أقاموا دينهم بالسيف لا بالهدى والعلم والآيات فإذا طلبوا العلم والمناظرة فقيل لهم ليس لكم جواب إلا السيف كان هذا مما يقرر ظنهم الكاذب وكان هذا من أعظم ما يحتجون به عند أنفسهم على فساد الإسلام وأنه ليس دين رسول من عند الله وإنما هو دين ملك أقامه بالسيف
الوجه التاسع أنه من المعلوم أن السيف لا سيما سيف المسلمين وأهل الكتاب هو تابع للعلم والحجة بل وسيف المشركين هو تابع لآرائهم واعتقادهم والسيف من جنس العمل والعمل أبدا تابع للعلم والرأي
وحينئذ فبيان دين الإسلام بالعلم وبيان أن ما خالفه ضلال وجهل هو تثبيت لأصل دين الإسلام واجتناب لأصل غيره من الأديان التي يقاتل عليها أهلها ومتى ظهر صحته وفساد غيره كان الناس أحد رجلين
إما رجل تبين له الحق فاتبعه فهذا هو المقصود الأعظم من إرسال الرسل
وإما رجل لم يتبعه فهذا قامت عليه الحجة إما لكونه لم ينظر في أعلام الإسلام أو نظر وعلم فاتبع هواه أو قصر
وإذا قامت عليه الحجة كان أرضى لله ولرسوله وأنصر لسيف الإسلام وأذل لسيف الكفار وإذا قدر أن فيهم من يعجز عن فهم الحجة فهذا إذا لم يكن معذورا مع عدم قيامها فهو مع قيامها أولى أن لا يعذر وإن كان معذورا مع قيامها فهو مع عدمها أعذر فعلى
التقديرين قيام الحجة أنصر وأعذر وقد قال تعالى سورة الإسراء الآية 15
وقال تعالى سورة النساء الآية 165
وقال تعالى سورة المرسلات الآيتان 5 6
وقال النبي صلى الله عليه و سلم ما أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين
فصل
وكان قبل قصة نجران قد آمن به كثير من اليهود والنصارى رؤساؤهم وغير رؤساؤهم لما تبين لهم أنه رسول الله إليهم كما آمن به النجاشي ملك الحبشة وكان نصرانيا هو وقومه وكان إيمانه به في أول أمر النبي صلى الله عليه و سلم لما كان أصحابه مستضعفين بمكة وكان الكفار يظلمونهم ويؤذونهم ويعاقبونهم على الإيمان بالله ورسوله فهاجر منهم طائفة مثل عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود وجعفر بن
أبي طالب وغيرهم من الرجال والنساء إليه وكان ملكا عادلا فأرسل الكفار خلفهم رسلا بهدايا ليردهم إليهم فامتنع من عدله أن يسلمهم إليهم حتى يسمع كلامهم فلما سمع كلامهم وما أخبروه به من أمر النبي صلى الله عليه و سلم آمن بالنبي صلى الله عليه و سلم وآواهم
ولما سمع القرآن قال إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة ولما سألهم عن قولهم في المسيح عليه السلام قالوا نشهد أنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول التي لم يمسها رجل فقال النجاشي لجعفر بن أبي طالب والله ما زاد عيسى بن مريم على ما قلت هذا العود فنخرت أصحابه فقال وإن نخرتم وإن نخرتم وبعث ابنه وطائفة من أصحابه إلى النبي
صلى الله عليه و سلم مع جعفر بن أبي طالب وقدم جعفر على النبي صلى الله عليه و سلم عام خيبر وقد ذكر قصتهم جماعة من العلماء والحفاظ كأحمد بن حنبل في المسند وابن سعد في الطبقات وأبي نعيم في الحلية وغيرهم وذكرها أهل التفسير والحديث والفقه وهي متواترة عند العلماء
قال أحمد حدثني يعقوب بن إبراهيم بن سعيد عن أبيه قال حدثنا محمد بن إسحاق حدثني محمد بن مسلم بن عبد
الله بن شهاب الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي عن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة زوج النبي صلى الله عليه و سلم وBها قالت لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي أمنا على ديننا وعبدنا الله لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة وكان أعجب ما يأتيه منها إليه الأدم فجمعوا له أدما كثيرا ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة
المخزومي وعمرو بن العاص بن وائل السهمي وأمروهما أمرهم وقالوا لهما ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم ثم قدموا إلى النجاشي هداياه ثم اسألوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم قالت فخرجا فقدما على النجاشي ونحن عنده بخير دار عند خير جار فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي ثم قالا لكل بطريق منهم أنه قد صبأ
إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم وقد بعثنا إلى الملك فيهم اشراف قومهم لنردهم إليهم فإذا كلمنا الملك فيهم فتشيروا عليه أن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم فإن قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم فقالوا لهما نعم ثم إنهما قربا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهما ثم كلماه فقالا له أيها الملك إنه قد صبأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم فهم أعلا بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه
قالت ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامنا
فقالت بطارقته حوله صدقوا أيها الملك قومهم أعلا بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم قالت فغضب النجاشي ثم قال لا ها الله أيم الله إذا لا أسلمهم إليهما ولا أكاد قوما جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم ما يقول هذان في أمرهم فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني
قالت ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض ما تقولون للرجل إذا جئتموه قالوا نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه و سلم كائن في ذلك ما هو كائن
فلما جاءوه زاد أبو نعيم وقد دعى النجاشي أساقفته
ومعهم مصاحفهم حوله فلما جاءوه فسألهم فقال ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم
قالت فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال
أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده نخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام قالت فعدد عليه أمور الإسلام قال فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به فعبدنا الله وحده فلم نشرك به
شيئا وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان عن عبادة الله وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك قالت فقال له النجاشي هل معك مما جاء به عن الله من شيء
قالت فقال له جعفر نعم فقال له النجاشي فأقرأه علي فقرأ عليه صدرا من سورة مريم
سورة مريم الآيات 1 40
قالت أم سلمة رضي الله عنها فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلي عليهم ثم قال النجاشي إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة ثم قال لعبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكما أبدا ولا أكاد
قالت أم سلمة فلما خرج من عنده قال عمرو بن العاص والله لآتينه غدا أعيبهم عنده ثم استأصل به خضراءهم
قالت فقال له عبد الله بن أبي ربيعة وكان أتقى الرجلين فينا لا تفعل فإن لهم أرحاما وإن كانوا قد خالفونا قال والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد
قالت ثم غدا عليه الغد فقال له أيها الملك إنهم يقولون في
عيسى بن مريم قولا عظيما فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه
قالت فأرسل إليهم يسألهم عنه
قالت ولم ينزل بنا مثلها فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض ما تقولون في عيسى إذا سألكم عنه قالوا نقول والله فيه ما قاله الله وما جاء به نبينا كائنا في ذلك ما هو كائن فلما دخلوا عليه قال لهم ما تقولون في عيسى بن مريم فقال له جعفر بن أبي طالب نقول فيه الذي جاء به نبينا هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول
قالت فضرب النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منها عودا ثم قال ما عدى عيسى بن مريم ما قلت هذا العود فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال فقال وإن نخرتم والله اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي والسيوم الآمنون من سبكم غرم ثم من سبكم غرم ثم من سبكم غرم فما أحب أن لي دبرا ذهبا وإني آذيت رجلا منكم والدبر بلسان الحبشة الجبل ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لنا بها فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه
قالت فخرجا من عنده مقبوحين مردود عليهما ما جاءا به وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار
قالت فوالله إنا على ذلك إذ نزل به يعني من ينازعه في ملكه قالت فوالله ما علمنا حزنا قط كان اشد من حزن حزناه عند ذلك تخوفنا أن يظهر ذلك على النجاشي فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه
وروى عبد الله بن عامر بن الزبير عن أبيه قال لما نزل بالنجاشي عدوه من أرضه جاء المهاجرون فقالوا إنا نحن نخرج إليهم فنقاتل معك وترى جزاءنا ونجزيك بما صنعت بنا فقال ذو ينصره الله خير من الذي ينصره الناس يقول الذي ينصره الله خير من الذي ينصره الناس فأبى ذلك عليهم
رجعنا إلى حديث أم سلمة قالت وسار النجاشي وبينهما عرض النيل قالت فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم ثم يأتينا بالخبر
قالت فقال الزبير بن العوام أنا
قالت وكان من أحدث القوم سنا قالت فنفخنا له قربة فجعلها في صدره ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم ثم انطلق حتى حضرهم
قالت ودعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده
قالت فوالله إنا لعلى ذلك متوقعين لما هو كائن إذ طلع الزبير يسعى ويلوح بثوبه ويقول ألا أبشروا قد ظهر النجاشي وقد أهلك الله عدوه
فوالله ما علمت فرحنا فرحة مثلها قط
قالت فرجع النجاشي وقد أهلك الله عدوه ومكن له في بلاده واستوثق عليه أمر الحبشة فكنا عنده في خير منزل حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم
وقد روى جمل هذه القصة أبو داود في سننه من حديث أبي موسى
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى قال بلغنا مخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم ونحن باليمن فخرجنا مهاجرين إليه أنا وإخوان لي أنا أصغرهما في اثنين وخمسين رجلا من قومي فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده قال جعفر إن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعثنا وأمرنا يعني بالإقامة فأقيموا معنا قال فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا قال فوافقنا رسول الله صلى الله عليه و سلم حين فتح خيبر فأسهم لنا منها وما قسم لأحد غائب عن فتح خيبر غيرنا إلا لمن شهد معنا أصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه قسم لهم معهم
قال فلما رأى ناس من الناس يقولون لنا يعني أهل السفينة سبقناكم لهجرة قال ودخلت أسماء بنت عميس وهي ممن قدم معنا على حفصة زائرة وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن
هاجر إليه فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها فقال عمر حين رأى أسماء من هذه قالت أسماء بنت عميس فقال عمر الحبشية هذه البحرية هذه قالت أسماء نعم فقال عمر سبقناكم بالهجرة نحن أحق برسول الله صلى الله عليه و سلم فغضبت وقالت يا عمر كلا والله كنتم مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم وكنا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة وذلك في الله تبارك وتعالى وفي رسول الله صلى الله عليه و سلم وأيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه و سلم ونحن كنا نؤذى ونخاف وسأذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم وأسأله والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد على ذلك
فلما جاء النبي صلى الله عليه و سلم قالت يا رسول الله إن عمر قال كذا وكذا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فماذا
قلت له قالت قلت كذا وكذا قال ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان
قالت فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتونني أرسالا يسألوني عن هذا الحديث ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال أبو بردة قالت أسماء فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني أخرجاه في الصحيحين البخاري ومسلم
وأخرجا في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم نعى لهم النجاشي صاحب الحبشة في اليوم الذي مات فيه
قال استغفروا لأخيكم
وعنه رضي الله عنه قال نعى النبي صلى الله عليه و سلم النجاشي يوم توفي وقال استغفروا لأخيكم ثم خرج بالناس إلى المصلى فصفوا وراءه وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات أخرجاه
وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صلى على أصحمة النجاشي فكبر عليه
أربعا أخرجاه في الصحيحين
فصل
وكان أول ما أنزل الله تعالى عليه صلى الله عليه و سلم الوحي عرضت خديجة امرأته أمره على عالم كبير من علماء النصارى يقال له ورقة بن نوفل وكان من العرب المتنصرة فقال هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى بن عمران يا ليتني أكون فيها جذعا حين يخرجك قومك يعني ليتني أكون شابا فإنه كان شيخا كبيرا قد كف بصره فقال له النبي صلى الله عليه و سلم أومخرجي هم قال نعم لم يأت أحد بمثل ما أتيت به إلا عودي وأن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا رواه أصحاب الصحيح
وقدم إليه بمكة طائفة من أهل الكتاب من النصارى فآمنوا به فآذاهم المشركون فصبروا واحتملوا أذاهم فأنزل الله فيهم
سورة القصص الآيات 52 55
وروى البيهقي في كتاب دلائل النبوة وأعلام الرسالة فقال انبأنا أبو عبد الله الحافظ أنبأنا أبو العباس محمد بن يعقوب
أنبأنا أحمد بن عبد الجبار أنبأنا يونس عن ابن اسحاق قال ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم عشرون رجلا وهو بمكة أو قريب من ذلك من النصارى حين ظهر خبره في الحبشة فوجدوه في المجلس فكلموه وسألوه ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة فلما فرغوا من مساءلتهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الله وتلا عليهم القرآ فلما سمعوا فاضت أعينهم من الدمع ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره فلما قاموا من عنده اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقالوا خيبكم الله من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم فتأتونهم بخبر الرجل فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال لكم ما نعلم ركبا أحمق منكم أو كما قال لهم فقالوا سلام عليكم لا نجاهلكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا نألوا لأنفسنا إلا خيرا ويقال والله أعلم أن فيهم نزلت هؤلاء الآيات
سورة القصص الآيات 52 55
ولما كان بعد عام الحديبية ومهادنة قريش أرسل صلى الله عليه و سلم رسله إلى جميع الطوائف فأرسل إلى النصارى نصارى الشام ومصر فأرسل إلى هرقل ملك الروم وقد قيل إن هرقل هذا هو الذي زادت النصارى له في صومهم عشرة أيام لما اقتتلت الروم
والفرس وقتل اليهود بعد أن كان قد أمنهم فطلبت منه النصارى قتلهم وضمنوا له أن يكفروا خطيئته بما زادوه في الصوم وكانت الفرس مجوسا والروم نصارى وكانت المجوس الفرس غلبت النصارى أولا وكان هذا في أوائل مبعث النبي صلى الله عليه و سلم وهو بمكة وأتباعه قليل ففرح المشركون بانتصار الفرس لأنهم أقرب إليهم فدخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخبره بانتصار الفرس على الروم فأنزل الله تعالى سورة الروم الآيات 1 5
وكان هذا مما أخبر به النبي صلى الله عليه و سلم قبل أن يكون فكان كما أخبر ولما ذكر أبو بكر الصديق رضي الله عنه كذبوه فراهنهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه كما ذكر هذا المفسرون والمحدثون
قال سنيد في تفسيره وهو شيخ البخاري حدثنا حجاج عن ابن أبي الزناد عن أبيه عن عروة بن الزبير عن نيار بن مكرم الأسلمي أنه قال لما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه و سلم آلم غلبت الروم
إلى قوله وهو العزيز الرحيم
خرج أبو بكر وهو يقرؤها بمكة رافعا بها صوته سورة الروم الآيات 1 4
فقال له رؤوس أهل مكة ما هذا يا ابن ابي قحافة لعله مما يأتي به صاحبك قال لا والله ولكنه كلام الله وقوله تبارك وتعالى قالوا فذلك بيننا وبينك إن ظهرت الروم على فارس في بضع سنين فراهنهم أبو بكر ففتح الله للروم على فارس دون التسع فأسلم عند ذلك خلق كثير من المشركين
قال ابن مكرم وإنما كانت قريش تستفتح يومئذ بالفرس لأنهم وإياهم أهل تكذيب بالبعث وأهل أصنام وإنما كان المؤمنون يستفتحون يومئذ بالروم لأنهم وإياهم أهل نبوة وتصديق بالبعث فأنزل الله تعالى
سورة الروم الآيتان 4 5
وهذا الحديث رواه الترمذي في جامعه فقال حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا اسماعيل بن اويس قال حدثني ابن ابي الزناد عن أبي الزناد عن عروة بن الزبير عن نيار بن مكرم الأسلمي قال لما نزلت سورة الروم الآيات 1 4
فكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم لأنهم وإياهم أهل كتاب
وذلك قوله تعالى سورة الروم الآيتان 4 5
وكانت قريش تحب ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان ببعث فلما أ نزل الله هذه الآية خرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه يصيح في نواحي مكة سورة الروم الآية 1 4
قال ناس من قريش لأبي بكر فذلك بيننا وبينكم زعم صاحبكم أن الروم ستغلب فارسا في بضع سنين أفلا نراهنك على ذلك فارتهن أبو بكر والمشركون فظهرت الروم على فارس في بضع سنين وأسلم عند ذلك ناس كثير من المشركين
قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد يعني غريبا من هذا الوجه وإلا فهو مشهور متواتر عن أهل التفسير والمغازي والحديث والفقه والقصة متواترة عند الناس
وقال أبو جعفر بن جرير في تفسيره عن سفيان عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال كان المسلمون يحبون أن تغلب الروم على فارس لأنهم أهل كتاب وكان المشركون يحبون أن تغلب أهل فارس لأنهم أهل أوثان قال فذكروا ذلك لأبي بكر فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه و سلم فأنزل الله
سورة الروم الآيات 1 4
فذكره أبو بكر للمشركين فقالوا اجعل بيننا وبينك أجلا فإن غلبوا كان لك كذا وكذا وإن غلبوا كان لنا كذا وكذا فجعلوا بينهم أجلا خمس سنين فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه و سلم فقال له هلا احتطت أفلا جعلته دون العشرة قال سعيد بن جبير والبضع ما دون العشر قال فغلبت الروم ثم غلبت فذلك قوله ألم غلبت الروم
وهذا أيضا أخرجه الترمذي حدثنا الحسين بن حريث حدثنا معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق الفزاري عن
سفيان عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وقال هذا حديث حسن صحيح غريب إنما نعرفه من حديث سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرة
ورواه ايضا من حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس وقال هذا حديث غريب من هذا الوجه
ورواه أيضا من حديث الأعمش عن عطية عن أبي سعيد
وقال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه
وذهبت طائفة من العلماء إلى أن الخبر جاء بظهور الروم على فارس يوم بدر وذهب آخرون أنه يوم الحديبية وهذا هو الصحيح وهرقل كان قد مشى شكرا لله من حمص إلى بيت المقدس لما نصره على الفرس فوافاه كتاب النبي صلى الله عليه و سلم يدعوه إلى الإسلام عقب نصر الله للروم على فارس ففرح النبي صلى الله عليه و سلم ومن معه من المؤمنين
قال علماء السير فلما انتصرت الروم وخرج هرقل ملك الروم من منزله من حمص ماشيا على قدميه إلى بيت المقدس متشكرا لله
عز و جل حين رد عليه ما رد ليصلي فيه فلما انتهى إلى بيت المقدس وصلى فيه قدم عليه حينئذ كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم مع دحية الكلبي يدعوه إلى الإسلام
قال ابن إسحاق حدثني الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن عباس قال حدثني أبو سفيان قال كنا قوما تجارا وكانت الحرب بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم قد حصرتنا حتى هلكت أموالنا فلما كانت الهدنة بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه و سلم يعني التي عقدت يوم الحديبية فلما عقدت الهدنة أمنا فخرجت في نفر من قريش تاجرا إلى الشام وكان وجه متجرنا فقدمتها حين ظهر هرقل على من كان عارضه من فارس فأخرجهم منها وانتزع له صليبه الأعظم وقد كانوا سلبوه إياه فلما بلغه ذلك منهم وبلغه أن صليبه قد استنقذ له وكانت حمص منزله فخرج منها على قدميه متشكرا لله عز و جل حين رد عليه ما رد ليصلي في بيت المقدس وبسط له الطريق بالبسط ويلقى عليها الرياحين فلما انتهى إلى إيلياء وقضى فيها صلاته ومعه بطارقته وأساقفته قال وقدم عليه كتاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم مع دحية بن خليفة الكلبي فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم السلام على من اتبع الهدى أما بعد فأسلم تسلم واسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين يعني الأكارين
قال ابن اسحاق وقال ابن شهاب حدثني أسقف النصارى في زمان عبد الملك بن مروان زعم لي أنه أدرك ذلك من أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم وأمر هرقل وعقله قال لما قدم عليه كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم مع دحية أخذه فجعله على خاصرته ثم كتب إلى رجل برومية كان يقرأ من العبرانية ما يقرأ يذكر له أمره ويصف له شأنه ويخبره ما جاء منه قال فكتب إليه صاحب رومية أنه النبي الذي ننتظره لا شك فيه فاتبعه وصدقه فأمر هرقل ببطارقة الروم فجمعوا له في دسكرة ملكه وأمر بها فأشرجت عليهم أبوابها ثم اطلع عليهم من علية وخافهم على نفسه وقال يا معشر الروم إني قد جمعتكم لخير إنه قد أتاني كتاب هذا الرجل يدعوني إلى
دينه وإنه والله للرجل الذي كنا ننتظره ونجده في كتبنا فهلم فلنتبعه لنصدقه فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا فنخروا نخرة رجل واحد ثم ابتدروا أبواب الدسكرة ليخرجوا منها فوجدوها قد أغلقت دونهم فقال كروهم علي وخافهم على نفسه فكروا عليه وقال يا معشر الروم إنما قلت لكم هذه المقالة التي قلت لكم لأنظر كيف صلابتكم على دينكم لهذا الأمر الذي حدث فقد رأيت منكم الذي اسر به فوقعوا سجودا وأمر بأبواب الدسكرة ففتحت لهم فانطلقوا
وهذا حديث مشهور من حديث محمد بن إسحاق وهو ذو علم وبصيرة بهذا الشأن حفظ مالا يحفظه غيره قال ابن إسحاق وأخذ هرقل كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فجعله في قصبة من ذهب وأمسكها عنده تعظيما له وهذه القصة مشهورة ذكرها أصحاب الصحاح
ففي البخاري ومسلم والسياق للبخاري عن الزهري قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا
تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه و سلم هادن فيها أبا سفيان بن حرب وكفار قريش فأتوه وهو بإيليا فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعاهم بالترجمان فقال أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فقال أبو سفيان فقلت أنا أقربهم نسبا فقال أدنوه وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره ثم قال لترجمانه إني سائل هذا الرجل عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه قال أبو سفيان فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي الكذب لكذبت عليه ثم كان أول ما سألني عنه أن قال كيف نسبه فيكم قلت هو فينا ذو نسب قال فهل قال هذا القول أحد منكم قط قبله قلت لا قال فهل كان من آبائه من ملك قلت لا قال فاشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم قلت بل ضعفاؤهم فقال أيزيدون أم ينقصون قلت بل يزيدون قال فهل يرتد منهم أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه قلت لا قال فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال قلت لا قال فهل يغدر قلت لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها قال ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة قال فهل قاتلتموه قلت نعم قال فكيف كان قتالكم إياه قلت الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه قال بماذا يأمركم قلت يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة فقال للترجمان قل له سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب وكذلك الرسل تبعث في أنساب قومها وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول
قبله فذكرت أن لا فقلت لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يتأسى بقول قيل قبله وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا فقلت لو كان في آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أن لا فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فذكرت أن ضعفاؤهم اتبعوه وهم أتباع الرسل وسألتك هل يزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون وكذلك أمر الإيمان حتى يتم وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت أن لا وكذلك الإيمان حين يخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر وسألتك بم يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه
ثم دعى بكتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي بعث به مع دحية الكلبي إلى عظيم بصرى فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل
فقرأه فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم أسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون
قال أبو سفيان فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأخرجنا فقلت لأصحابي حين أخرجنا لقد أمر أمر ابن أبي كبشة إنه ليخافة ملك بني الأصفر فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام
وكان ابن الناطور صاحب إيلياء أسقفا على نصارى أهل
الشام يحدث أن هرقل حين قدم إيليا أصبح يوما خبيث النفس فقال له بعض بطارقته قد استنكرنا هيئتك قال ابن الناطور وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم فقال لهم حين سألوه إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم أن ملك الختان قد ظهر فمن يختتن من هذه الأمة قالوا ليس يختتن إلا اليهود فلا يهمنك شأنهم واكتب إلى مدائن ملكك فليقتلوا من فيهم من اليهود فبيناهم على أمرهم أتى هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما استخبره هرقل قال اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن وسأله عن العرب قال هم مختتنون فقال هرقل هذا ملك هذه الأمة قد ظهر ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية وكان هرقل نظيره في العلم وسار هرقل إلى حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه
وسلم وأنه نبي فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص ثم أمر بأبوابها فغلقت ثم اطلع عليهم فقال يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتتابعوا هذا النبي فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت فلما رأى هرقل نفرتهم ويئس من الإيمان منهم قال ردوهم علي وقال إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت فسجدوا له ورضوا عليه فكان هذا آخر شأن هرقل
قلت وكان هرقل من أجل ملوك النصارى في ذلك الوقت وقد أخبر غير واحد أن هذا الكتاب إلى الآن باق عند ذرية هرقل في أرفع صوان وأعز مكان يتوارثونه كابرا عن كابر وأخبر غير واحد أن هذا الكتاب باق إلى الآن عند الفنش
صاحب قشتالة وبلاد الأندلس يفتخرون به وهذا أمر مشهور معروف
وقد روى سنيد وهو شيخ البخاري في تفسيره قال حدثنا هشام قال أخبرنا حصين عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال لما كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى هرقل فقرأ كتابه وجمع الروم فأبوا عليه قال فلما كان يوم الأحد لم يحضر أسقفهم
الكبير وتمارض فأرسل إليه فأبى ثم أرسل إليه فأبى ثلاث مرات فركب إليه فقال له أليس قد عرفت أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم قال بلى قال أليس قد رأيت ما ركبوا مني فأنت أطوع فيهم مني فتعال فادعهم قال وتأذن لي في ذلك قال نعم قال اذهب هو ذا أجيء قال فجاء بسواده إلى كنيستهم العظمى فلما رأوه خروا له سجدا الملك وغيره فقام في المذبح فقال يا أبناء الموتى هذا النبي الذي بشر به عيسى وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فنخروا ووثبوا إليه فعضوه بأفواههم حتى قتلوه قال وجعلوا يخرجون أضلاعه بالكلبتين حتى مات
فصل
وأرسل النبي صلى الله عليه و سلم رسولا أيضا إلى ملك مصر المقوقس ملك النصارى في ذلك الوقت بالإسكندرية وكان رسوله إليه حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه قال حاطب قدمت على المقوقس واسمه جريح بن مينا بكتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت له إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى فانتقم به ثم انتقم منه فاعتبر
بغيرك ولا يعتبر بك قال هات قلت إن لك دينا لن تدعه إلا لما هو خير منه وهو الإسلام الكافي بعد ما سواه إن هذا النبي دعا الناس إلى الله فكان اشدهم عليه قريش وأعداهم له اليهود وأقربهم منه النصارى ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل وكل من أدرك نبيا فهو من أمته فالحق عليهم أن يطيعوه فأنت ممن أدركت هذا النبي ولسنا ننهاك عن دين المسيح ولكنا نأمرك به ثم ناوله كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما قرأه قال خيرا قد نظرت في هذا فوجدته لا يأمر بمزهود فيه ولا ينهى عن مرغوب فيه ولم أجده بالساحر الضال ولا الكاهن الكاذب ووجدت معه آلة النبوة ثم جعل الكتاب في حق من عاج وختم عليه ودفعه إلى خازنه وكتب جوابه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد علمت أن نبيا قد بقي وقد أكرمت رسولك وأهدي للنبي صلى الله عليه و سلم جاريتين وبغلة تسمى الدلدل فقبل النبي صلى الله عليه و سلم هديته واصطفى الجارية الواحدة واسمها مارية القبطية لنفسه فولدت منه إبراهيم وأعطى الأخرى لحسان بن ثابت فولدت منه عبد الرحمن وعاشت البغلة إلى زمن معاوية فقال النبي صلى الله
عليه وسلم ضن الخبيث بملكه ولا بقاء لملكه
قال محمد بن سعد حدثنا محمد بن عمر قال حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن أبيه قال لما رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم من الحديبية في ذي القعدة سنة ست من
الهجرة بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس القبطي صاحب الإسكندرية وكتب إليه معه كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام فلما قرأ الكتاب قال له خيرا وأخذ الكتاب وكان مختوما فجعله في حق من عاج وختم عليه ودفعه إلى خازنه وكتب إلى النبي صلى الله عليه و سلم جواب كتابه ولم يسلم وأهدى إلى النبي صلى الله عليه و سلم ما تقدم ذكره
فكل من الملكين عظم أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم وتواضع له ولكتابه واعترف بأنه الرسول المنتظر الذي بشرت به الأنبياء عليهم السلام
وقد كان المقوقس يعرف أنه حق بما يسمع من صفاته من أهل الكتاب ولكن ضن بملكه ولم يؤمن وكان قد خرج إليه المغيره قبل إسلام المغيرة فحدثه بذلك
قال محمد بن عمر الوقدي حدثني محمد بن سعد الثقفي وعبد الرحمن بن عبد العزيز وعبد الملك بن عيسى وعبد الله بن
عبد الرحمن ومحمد بن يعقوب بن عتبة عن أبيه وغيرهم كل قد حدثني من هذا الحديث بطائفة منه قال قال المغيرة بن شعبة في خروجه إلى المقوقس مع بني مالك وأنهم لما دخلوا على المقوقس قال كيف خلصتم إلي من طائفتكم ومحمد وأصحابه بيني وبينكم قالوا لصقنا بالبحر وقد خفناه على ذلك قال فكيف صنعتم فيما دعاكم إليه قالوا ما تبعه منا رجل واحد
قال ولم ذاك قالوا جاءنا بدين مجدد لا تدين به الآباء ولا يدين به الملك ونحن على ما كان عليه آباؤنا قال فكيف صنع قومه قالوا تبعه أحداثهم وقد لاقاه من خلفه من قومه وغيرهم من العرب في مواطن مرة تكون عليهم الدائرة ومرة تكون له قال ألا تخبروني إلى ماذا يدعو إليه قالوا يدعونا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له ونخلع ما كان يعبد الآباء ويدعو إلى الصلاة والزكاة قال وما الصلاة والزكاة ألها وقت يعرف وعدد تنتهي إليه قالوا يصلون في اليوم والليلة خمس صلوات كلها لمواقيت وعدد قد سموه
له ويؤدون من كل مال بلغ عشرين مثقالا نصف مثقال وأخبروه بصدقة الاموال كلها قال أفرأيتم أذا أخذها أين يضعها قالوا يردها على فقرائهم ويأمر بصلة الرحم ووفاء العهد وتحريم الزنا والخمر ولا يأكل مما ذبح لغير الله فقال المقوقس هذا نبي مرسل إلى الناس ولو أصاب القبط والروم اتبعوه وقد أمرهم بذلك عيسى بن مريم وهذا الذي تصفون منه بعث به الأنبياء من قبله وستكون له العاقبة حتى لا ينازعه أحد ويظهر دينه إلى منتهى الخف والحافر ومنقطع البحور ويوشك قومه أن يدافعون بالراح قالوا فلو دخل الناس كلهم معه ما دخلنا قال المغيرة فأنغض المقوقس رأسه وقال أنتم في اللعب ثم قال كيف نسبه في قومه قلنا هو أوسطهم نسبا قال كذلك والمسيح الأنبياء تبعث في نسب قومها ثم قال فكيف حديثه قال قلنا ما يسمى إلا الأمين من صدقه قال انظروا في أمركم أترونه يصدق فيما بينكم وبينه ويكذب على الله قال فمن تبعه قلنا الأحداث قال هم والمسيح أتباع الأنبياء قبله قال فما فعلت
يهود يثرب فهم أهل التوراة قلنا خالفوه فأوقع بهم فقتلهم وسباهم وتفرقوا في كل وجه قال هم قوم حسدة حسدوه أما انهم يعرفون من أمره مثل ما نعرف قال المغيرة فقمنا من عنده وقد سمعنا كلاما ذللنا لمحمد صلى الله عليه و سلم وخضعنا له وقلنا ملوك العجم يصدقونه ويخافونه في بعد أرحامهم منه ونحن أقرباؤه وجيرانه ولم ندخل معه وقد جاءنا داعيا إلى منازلنا قال المغيرة فرجعت إلى منزلنا فأقمت بالإسكندرية لا أدع كنيسة إلا دخلتها وسألت أساقفتها من قبطها ورومها عما يجدون من صفة محمد صلى الله عليه و سلم وكان أسقف من القبط هو رأس كنيسة يوحنا كانوا يأتونه بمرضاهم فيدعو لهم لم أر قط أشد اجتهادا منه فأتيته فقلت هل بقي أحد من الأنبياء قال نعم هو آخر الآنبياء ليس بينه وبين عيسى بن مريم أحد وهو نبي مرسل وقد أمرنا عيسى باتباعه وهو النبي الأمي العربي اسمه أحمد ليس بالطويل ولا بالقصير في عينيه حمرة وليس بالأبيض ولا بالآدم يعفي شعره ويلبس ما غلظ من الثياب ويجتزي بما
لقي من الطعام سيفه على عاتقه ولا يبالي من لاقى يباشر القتال بنفسه ومعه اصحابه يفدونه بأنفسهم هم له أشد حبا من أولادهم وآبائهم يخرج من أرض حرم ويأتي إلى حرم يهاجر إلى أرض سباخ ونخل يدين بدين إبراهيم عليه السلام قال المغيرة فقلت له زدني في صفته قال يأتزر على وسطه ويغسل أطرافه ويخص بما لا تخص به الأنبياء قبله كان النبي يبعث إلى قومه ويبعث هو إلى الناس كافة وجعلت له الأرض مسجدا وطهورا أينما أدركته الصلاة تيمم وصلى ومن كان قبله مشددا عليهم لا يصلون إلا في الكنائس والبيع قال المغيرة بن شعبة فوعيت ذلك كله من قوله وقول غيره وما سمعت من ذلك
فذكر الواقدي حديثا طويلا في رجوعه وإسلامه وما أخبر به من
صفات النبي صلى الله عليه و سلم وكان ذلك يعجب النبي صلى الله عليه و سلم ويحب أن يسمعه أصحابه قال المغيرة فكنت أحدثهم بذلك وهذا أمر معروف عند علماء أهل الكتاب وعظمائهم
وقد أخرج أبو حاتم في صحيحه عن عمرو بن العاص أنه قال خرج جيش من المسلمين أنا أميرهم حتى نزلنا الإسكندرية فقال عظيم من عظمائهم أخرجوا إلي رجلا يكلمني وأكلمه فقلت لا يخرج إليه غيري قال فخرجت إليه ومعي ترجماني ومعه ترجمانه فقال ما أنتم فقلت نحن العرب ونحن أهل الشوك ونحن أهل بيت الله الحرام كنا أضيق الناس أرضا وأجهدهم عيشا نأكل الميتة والدم ويغير بعضنا على بعض حتى خرج فينا رجل ليس بأعظمنا يومئذ ولا بأكثرنا مالا فقال أنا رسول الله إليكم فأمرنا بما لا نعرف ونهانا عما كنا عليه وكان عليه آباؤنا فكذبناه ورددنا عليه مقالته حتى خرج إليه قوم غيرنا فقاتلنا وظهر علينا وغلبنا وتناول من يليه من العرب فقاتلهم حتى ظهر عليهم ولو يعلم من ورائي من العرب ما أنتم فيه من العيش لم يبق أحد إلا جاءكم حتى يشرككم فيما أنتم فيه من العيش فضحك ثم قال إن رسولكم قد صدق قد جاءتنا رسلنا بمثل الذي جاء به رسولكم فإن أنتم أخذتم بأمر نبيكم لم يقاتلكم أحد إلا غلبتموه ولن يشارككم أحد إلا ظهرتم عليه وإن فعلتم مثل الذي فعلنا وتركتم أمر نبيكم لم تكونوا أكثر عددا منا ولا أشد منا قوة
فصل
ثم بعد الإرسال إلى الملوك أخذ صلى الله عليه و سلم في غزو النصارى فأرسل أولا زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة في جيش فقاتلوا النصارى بمؤتة من أرض الكرك وقال لأصحابه وقال لأصحابه أميركم زيد فإن قتل فجعفر فإن قتل فعبد الله بن رواحة فقتل الثلاثة وأخبر النبي صلى الله عليه
وسلم بقتل الثلاثة في اليوم الذي قتلوا فيه وأخبر أنه أخذ الراية خالد بن الوليد ففتح الله على يديه ثم أنه بعد هذا غزا النصارى بنفسه وأمر جميع المسلمين أن يخرجوا معه في الغزاة ولم يأذن في التخلف عنه لأحد وغزا في عشرات ألوف غزوة تبوك فقدم تبوك وأقام بها عشرين ليلة ليغزو النصارى عربهم ورومهم وغيرهم وأقام ينتظرهم ليقاتلهم فسمعوا به وأحجموا عن قتاله ولم يقدموا عليه
وأنزل الله تعالى في ذلك أكثر سورة براءة وذم تعالى الذين تخلفوا عن جهاد النصارى ذما عظيما
والذين لم يروا جهادهم طاعة جعلهم منافقين كافرين لا يغفر الله لهم إذا لم يتوبوا وقال لنبيه صلى الله عليه و سلم
سورة المنافقون الآية 6
وقال تعالى سورة التوبة الآية 84
فإذا كان هذا حكم الله ورسوله فيمن تخلف عن جهادهم إذ لم يره طاعة ولا رآه واجبا فكيف حكمه فيهم أنفسهم حتى قال تعالى سورة التوبة الآية 24
ثم عند موته صلى الله عليه و سلم أمرنا بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب
ففي صحيح مسلم أن عمر بن الخطاب قال سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلما
وروى الإمام أحمد وأبو عبيد عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أخرجوا يهود أهل الحجاز ونصارى أهل نجران من جزيرة العرب
وقام خلقاؤه رضي الله عنهم بعده بدينه صلى الله عليه و سلم فأرسل أبو بكر الصديق الجيوش لغزو النصارى بالشام وجرت بين المسلمين وبينهم عدة غزوات ومات أبو بكر وهم محاصرو دمشق ثم ولي عمر بن الخطاب ففتح عامة الشام ومصر العراق وبعض خراسان في خلافته وقدم إلى الشام في خلافته وسلم إليه النصارى بيت المقدس لما رأوه من صفته عندهم
قال أبو عبد الله محمد بن عائذ في كتاب الفتوح قال قال
عطاء الخراساني لما نزل المسلمون بيت المقدس قال لهم رؤساؤهم إنا قد أجمعنا لمصالحتكم وقد عرفتم منزل بيت المقدس وأنه المسجد الذي أسري بنبيكم إليه ونحن نحب أن يفتحها ملككم وكان الخليفة عمر بن الخطاب فبعث المسلمون وفدا وبعث الروم أيضا وفدا مع المسلمين حتى أتوا المدينة فجعلوا يسألون عن أمير المؤمنين فقال الروم لترجمانهم عمن يسألون قالوا عن أمير المؤمنين فاشتد عجبهم وقالوا هذا الذي غلب فارس والروم وأخذ كنوز كسرى وقيصر وليس له مكان يعرف به بهذا غلب الأمم فوجدوه قد ألقى نفسه حين أصابه الحر نائما فازدادوا تعجبا فلما قرأ كتاب أبي عبيدة أقبل حتى نزل بيت المقدس وفيها اثنا عشر ألفا من الروم وخمسون ألفا من أهل الأرض فصالحهم وكان من جملة المصالحة أن لا يدخل عليهم من اليهود أحد ثم دخل المسجد فوجد
زبالة عظيم على الصخرة فأمر بكنس الزبالة وتنظيف المسجد وأمر ببنائه وجعل مصلاه في مقدمه ثم رجع إلى المدينة وقصته مشهورة في كتاب الفتوحات ثم قدم مرة ثانية إلى أرض الشام لما تم فتحه فشارط بوضع الخراج وفرض الأموال وشارط أهل الذمة على شروط المسلمين فأتم بها المسلمون بعده
وقد ذكرها أهل السير وغيرهم فروى سفيان الثوري عن مسروق عن عبد الرحمن بن غنم قال كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى الشام وشرط عليهم فيه أن لا يحدثوا في مدينتهم ولا حولها ديرا ولا كنيسة
ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا يجددوا ما خرب ولا يمنعوا كنائسهم أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونهم ولا يؤوا جاسوسا ولا يكتموا غشا للمسلمين ولا يعلموا أولادهم القرآن ولا يظهروا شركا ولا يمنعوا ذوي قرابتهم من الإسلام أن أرادوه وأن يوقروا المسلمين وأن يقوموا لهم إذا أرادوا الجلوس ولا يتشبهوا بالمسلمين بشيء من لباسهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا يتسموا بأسماء المسلمين ولا يكتنوا بكناهم ولا يركبوا سرجا ولا يتقلدوا سيفا ولا يتخذوا شيئا من سلاح
ولا ينقشوا خواتيمهم بالعربية ولا يبيعوا الخمور وأن يجذوا مقادم رؤوسهم وأن يلزموا زيهم حيث ما كانوا وأن يشدوا الزنانير ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم ولا يضربوا بالناقوس إلا ضربا خفيفا
ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين ولا يخرجوا شعانين ولا يرفعوا مع موتاهم أصواتهم ولا يظهروا النيران معهم ولا يشتروا من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين فإن خالفوا في شيء مما شرطوه فلا ذمة لهم وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق أخرجه ابو داوود في سننه
وقال أبو عبيد في كتاب الأموال حدثنا النضر بن إسماعيل عن عبد الرحمن ابن إسحاق عن خليفة بن
قيس قال كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر فأكتب إلى أهل الأمصار في أهل الكتاب أن يجزوا نواصيهم وأن يربطوا الكستيجات في أوساطهم ليعرف زيهم من زي أهل الكتاب
وحدثنا أبو المنذر ومصعب بن المقدام كلاهما عن سفيان
عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن أسلم قال كتب عمر إلى أمراء الأجناد أن يختموا رقاب أهل الذمة
قال أبو عبيد حدثنا عبد الرحمن عن عبد الله بن عمر عن نافع عن أسلم أن عمر أمر في أهل الذمة أن يجزوا نواصيهم وأن يركبوا على الأكف وأن يركبوا عرضا لا يركبوا كما يركب المسلمون وأن يوثقوا المناطق
قال أبو عبيد يعني الزنانير
وكما كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أهل الذمة هذه الشروط والتزموها أوصى بهم نوابه ومن يأتي بعده من الخلفاء وغيرهم وهذا هو العدل الذي أمر الله به ورسوله
ففي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال في خطبته عند وفاته وأوصي الخليفة من بعدي بذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه و سلم أن يوفي لهم بعهدهم وأن يقاتل من وراءهم ولا يكلفوا إلا طاقتهم
وهذا امتثال لقول النبي صلى الله عليه و سلم ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه من حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة رواه أبو داود
فكان هذا في النصارى الذين أدوا إليه الجزية
وعمر بن الخطاب لما فتح الشام وأدوا إليه الجزية عن يد وهم صاغرون أسلم منهم خلق كثير لا يحصي عددهم إلا الله تبارك وتعالى فإن العامة والفلاحين وغيرهم كان عامتهم نصارى ولم يكن في المسلمين من يعمل فلاحة ولم يكن للمسلمين في دمشق مسجد يصلون فيه إلا مسجد واحد لقلتهم ثم صار أكثر أهل الشام وغيرهم مسلمين طوعا لا كرها فإن إكراه أهل الذمة على الإسلام غير جائز كما قال تعالى سورة البقرة الآيتان 256 257
قال أبو عبيد في كتاب الأموال عن ابن الزبير قال كتب النبي صلى الله عليه و سلم إلى أهل اليمن أنه من أسلم من يهودي أو نصراني فإنه من المؤمنين له ما لهم وعليه ما عليهم ومن كان على يهودية أو نصرانية فإنه لا يفتن عنها وعليه الجزية
فصل
وقاتل عمر بن الخطاب الفرس المجوس وفتح أرضهم وظهر تصديق خبر رسول الله صلى الله عليه و سلم حيث قال إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز و جل أخرجاه في الصحيحين
وهذا بعد أن بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم رسوله إلى المجوس وكتب كتابا إلى كسرى ملك الفرس كما كتب إلى ملوك النصارى كما تقدم عن قيصر والمقوقس ولكن ملوك النصارى تأدبوا معه وخضعوا له فبقي ملكهم وأما ملك الفرس فمزق كتابه فدعا
عليهم فقال اللهم مزق ملكهم كل ممزق فلم يبق لهم ملك
قال ابن عباس بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عبد الله بن حذافة بكتابه إلى كسرى فدفعه إلى عظيم البحرين فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى فلما قرأه يعني كسرى مزقه فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يمزقوا كل ممزق
وقال ابن إسحاق كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى كسرى وقيصر فأما كسرى فلما قرأ الكتاب مزقه وأما قيصر لما قرأ الكتاب طواه ووضعه عنده فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أما هؤلاء يعني كسرى فيمزقون وأما هؤلاء فستكون لهم بقية
قال ابن إسحاق بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم
عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي إلى كسرى بن هرمز ملك الفرس وكتب
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فإني أدعوك بدعاية الله فإني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين فأسلم تسلم وإن أبيت فإن إثم المجوس عليك
فلما قرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم شققه وقال يكتب إلي بهذا الكتاب وهو عبدي
قلت وسبب قول كسرى هذا استعلائه أن الحبشة كانوا قد ملكوا اليمن وملكهم سار إلى مكة بالفيل ليخرب البيت وكانوا نصارى فأرسل الله عليهم من ناحية البحر طيرا أبابيل وهي جماعات في تفرقة تحمل حجارة من طين فألقتها على الحبشة النصارى فأهلكتهم وكان هذا آية عظيمة خضعت بها الأمم للبيت وجيران البيت
وعلم العقلاء أن هذا لم يكن نصرا من الله لمشركي العرب فإن دين النصارى خير من دينهم وإنما كان نصرا للبيت وللأمة المسلمة التي تعظمه وللنبي المبعوث من البيت وكان ذلك عام مولد النبي صلى الله عليه و سلم فأنزل الله في ذلك سورة الفيل
ثم أن سيف بن ذي يزن ذهب إلى كسرى وطلب منه جيشا
يغزو به الحبشة فأرسل معه عسكرا من الفرس والمجوس فأخرجوا الحبشة من اليمن فصارت بيد العرب وبها نائب كسرى وسيف بن ذي يزن هذا ممن بشر بالنبي صلى الله عليه و سلم قبل ظهوره وأخبر بذلك جده عبد المطلب لما وفد عليه
فلما كانت اليمن مطيعة لكسرى لهذا أرسل إلى نائبه على اليمن أن يأتيه بالنبي صلى الله عليه و سلم لأن عسكر اليمن في العادة يقهر أهل مكة والمدينة
قال ابن إسحاق فبلغني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال مزق الله ملكه حين بلغه أنه شقق كتابه
ثم كتب كسرى إلى باذان وهو على اليمن أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز من عندك رجلين جلدين فليأتياني به قال فبعث
باذان قهرمانه وهو بابويه وقال غيره فيروز الديلمي وكان حاسبا كاتبا وبعث معه برجل من الفرس وكتب معهما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمره ان ينصرف معهما إلى كسرى وقال لبابويه ويلك أنظر ما الرجل وكلمه وائتني بخبره
قال فخرجا حتى قدما إلى الطائف فسألا عن النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا هو بالمدينة واستبشروا يعني الكفار وقالوا قد نصب له كسرى كفيتم الرجل فخرجا حتى قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه و سلم فكلمه بابويه وقال إن شاهنشاه ملك الملوك كسرى كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك وقد بعثني إليك فانطلق معي فإن فعلت كتب معك إلى ملك الملوك بكتاب ينفعك ويكف عنك به وإن أبيت فهو من قد علمت وهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلادك
وكانا قد دخلا على رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد حلقا لحاهما وأبقيا شواربهما فكره النظر إليهما رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال لهما ويلكما من أمركما بهذا قالا أمرنا بهذا ربنا يعنيان كسرى فقال لهما رسول الله صلى الله عليه و سلم
لكن ربي عز و جل أمرني بإعفاء لحيتي وبقص شاربي ثم قال لهما ارجعا حتى تأتياني الغد
قال وجاء الخبر من السماء أن الله عز و جل سلط على كسرى ابنه شيرويه فقتله في شهر كذا في ليلة كذا في ساعة كذا فلما أتيا رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لهما إن ربي قتل ربكما ليلة كذا في شهر كذا بعدما مضى من الليل كذا سلط عليه ابنه شيرويه فقتله فقالا له هل تدري ما تقول إنا قد نقمنا منك ما هو أيسر من هذا فنكتب بهذا عنك ونخبر الملك به قال نعم أخبراه ذلك عني وقولا له إن ديني وسلطاني سيلغ ما بلغ ملك كسرى وينتهي إلى منتهي الخف والحافر وقولا له إنك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك وملكتك على قومك من الأبناء وأعطى رفيقه منطقة من ذهب وفضة كان أهداها له بعض الملوك فخرجا من عنده حتى قدما على باذان وأخبراه الخبر
فقال والله ما هذا بكلام ملك وإني لأرى الرجل نبيا كما يقول ولننظرن ما قد قال فلئن كان ما قد قال حقا ما بقي فيه كلام إنه لنبي مرسل وإن لم يكن فسنرى فيه رأينا فلم يلبث باذان أن قدم عليه كتاب شيرويه
أما بعد فإنني قد قتلت كسرى ولم أقتله إلا غضبا لفارس لما كان قد استحل قتل أشرافهم وتجهيزهم في بعوثهم فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك وانظر الرجل الذي كان كسرى كتب إليك فيه فلا تهجه حتى يأتيك أمري فيه فلما انتهى كتاب شيرويه إلى باذان قال إن هذا الرجل لرسول الله وأسلم لله وأسلمت أبناء فارس من كان منهم باليمن
وقال أبو معشر حدثني المقبري قال جاء فيروز الديلمي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال إن كسرى كتب إلى باذان بلغني أن في أرضك رجلا تنبأ فاربطه وابعث به إلي فقال له
رسول الله صلى الله عليه و سلم إن ربي غضب على ربك فقتله فدمه بنحره سخن الساعة فخرج من عنده فسمع الخبر فأسلم وحسن إسلامه وكان رجلا صالحا له في الإسلام آثار جميلة منها قتل الأسود العنسي الكذاب الذي ادعى النبوة في عهد النبي صلى الله عليه و سلم وكان الأسود جبارا استدعى بأبي مسلم الخولاني فقال له أتشهد أني رسول الله فقال أبو مسلم ما أسمع فقال له أتشهد أن محمدا رسول الله قال نعم فردد ذلك عليه مرارا فأمر بنار عظيمة فأضرمت ثم أمر بإلقاء أبي مسلم فيها فلم تضره فأخمدها الله تعالى حين ألقي فيها فقيل له أخرج هذا عنك من أرضك لئلا يفسد عليك أتباعك فأخرجه
فقدم أبو مسلم المدينة وقد توفي رسول الله صلى الله عليه
وسلم واستخلف أبو بكر فأناخ راحلته بباب المسجد ثم دخل المسجد فقام يصلي إلى سارية فبصر به عمر فقام إليه فقال ممن الرجل قال من أهل اليمن قال ما فعل الذي حرقه الكذاب قال ذلك عبد الله بن ثوب قال نشدتك بالله أنت هو قال اللهم نعم فاعتنقه ثم بكى ثم ذهب به حتى أجلسه بينه وبين أبي بكر فقال الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد صلى الله عليه و سلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الرحمن
ثم خرج فيروز الديلمي على الأسود العنسي فقتله وجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بقتله وهو في مرض موته فخرج فأخبر أصحابه وقال قتل الأسود العنسي الليلة رجل صالح من قوم صالحين وقصته مشهورة وكذلك قصة مسيلمة الكذاب ونحوهما من المتنبئين الكذابين
فصل
ولما فتح خلفاء النبي صلى الله عليه و سلم عمر وعثمان العراق وخراسان ضربوا الجزية على المجوس كما ضربوها على النصارى بعد أن دعوهم إلى الإسلام كما دعاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وكما ضرب النبي صلى الله عليه و سلم الجزية على اليهود والنصارى والمجوس بعد أن دعاهم إلى الله عز و جل فإنه صلى الله عليه و سلم بعث العلاء بن الحضرمي إلى
المنذر بن ساوى العبدي صاحب هجر وهي قرية بالبحرين بكتابه صلى الله عليه و سلم يدعوه إلى الإسلام قال العلاء فلما دخلت عليه قلت يا منذر إنك عظيم العقل في الدنيا فلا تصغرن عن الآخرة إن هذه المجوسية شر دين ليس فيها تكرم العرب ولا علم أهل الكتاب ينكحون ما يستحى من نكاحه ويأكلون ما يتكرم عن أكله ويعبدون في الدنيا نارا تأكلهم يوم القيامة ولست بعديم عقل ولا رأي فانظر هل ينبغي لمن لا يكذب أن تصدقه ولمن لا يخون أن تأمنه ولمن لا يخلف أن تتثق به فإن كان هذا هكذا فهذا هو
النبي صلى الله عليه و سلم الأمي الذي والله لا يستطيع ذو عقل أن يقول ليت ما أمر به نهى عنه أو ما نهى عنه أمر به أو ليته زاد في عفوه أو نقص من عقابه إن ذلك منه على أمنية اهل العقل وفكر أهل البصر
فقال المنذر قد نظرت في هذا الذي في يدي فوجدته للدنيا دون الآخرة ونظرت في دينكم فوجدته للآخرة والدنيا فما يمنعني من قبول دين فيه أمنية الحياة وراحة الممات ولقد عجبت أمس ممن يقبله وعجبت اليوم ممن يرده وإن من إعظام من جاء به أن يعظم رسوله وسأنظر ثم اسلم المنذر وكتب إلى النبي صلى الله عليه و سلم بالإسلام والتصديق
وقال عمرو بن عوف بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا عبيدة إلى البحرين فأتى بجزيتها وكان رسول الله
صلى الله عليه و سلم هو صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الصبح مع النبي صلى الله عليه و سلم فلما صلى بهم الفجر انصرف فتعرضوا له فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم حين رآهم وقال أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء قالوا أجل يا رسول الله قال أبشروا وأملوا ما يسركم فوالله لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم أخرجاه في الصحيحين
وأخرج البخاري عن بجالة بن عبدة أنه قال أتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد
الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذها من مجوس هجر
وقال ابن شهاب أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم الجزية من مجوس هجر وأخذ عمر بن الخطاب الجزية من مجوس فارس وأخذها عثمان بن عفان من البربر
قال ابن شهاب أول من أعطى الجزية من أهل الكتاب أهل نجران فيما بلغنا وكانوا نصارى وقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم الجزية من أهل البحرين وكانوا مجوسا ثم أدى أهل أيلة
وأهل أذرح إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم الجزية في غزوة تبوك وبعث خالد بن الوليد إلى أهل دومة الجندل فأسروا رئيسهم أكيدر فبايعوه على الجزية
قال أبو عبيد الجزية مأخوذه من أهل الكتاب بالتنزيل ومن المجوس والبربر وغيرهم بالسنة
فصل
وأخرج مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم كتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله عز و جل وليس بالنجاشي الذي نعاه لأصحابه في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى فصف وصلى عليه بل النجاشي آخر تملك بعده
وأخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فضلت على الأنبياء بست أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأرسلت إلى الناس كافة وختم بي النبيون
وقال صلى الله عليه و سلم كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة
وقال تعالى سورة الأعراف الآية 158
وقال تعالى سورة سبأ الآية 28
وفي القرآن من دعوة أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن دعوة المشركين وعباد الأوثان وجميع الإنس والجن ما لا يحصى إلا بكلفة
وهذا كله معلوم بالاضطرار من دين الإسلام فكيف يقال إنه لم يذكر أنه بعث إلا إلى العرب خاصة وهذه دعوته ورسله وجهاده لليهود والنصارى والمجوس بعد المشركين وهذه سيرته صلى الله عليه و سلم فيهم
وأيضا فالكتاب المتواتر عنه وهو القرآن يذكر فيه دعاءه لأهل الكتاب إلى الإيمان به في مواضع كثيرة جدا بل يذكر الله تبارك وتعالى فيه كفر من كفر من اليهود والنصارى ويأمر فيه بقتالهم كقوله تعالى سورة المائدة الآية 17
وقوله في هذه السورة أيضا
سورة المائدة الآية 72 77
وقال تعالى في سورة النساء الآية 171 173
وقال تعالى سورة التوبة الآية 29
وقال تعالى سورة التوبة الآية 30 32
فصل
فهذه الدلائل وأضعافها مما تبين أنه نفسه صلى الله عليه و سلم أخبر أنه رسول الله إلى النصارى وغيرهم من أهل الكتاب وأنه دعاهم وجاهدهم وأمر بدعوتهم وجهادهم وليس هذا مما فعلته أمته بعده بدعة ابتدعوها كما فعلت النصارى بعد المسيح عليه السلام فإن المسلمين لا يجوزون لأحد بعد محمد صلى الله عليه و سلم أن يغيروا شيئا من شريعته فلا يحلل ما حرم ولا يحرم ما حلل ولا يوجب ما أسقط ولا يسقط ما أوجب بل الحلال عندهم ما حلله الله ورسوله والحرام ما حرم الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله بخلاف النصارى الذين ابتدعوا بعد المسيح بدعا لم يشرعها المسيح عليه السلام ولا نطق بها شيء من الأناجيل ولا كتب الأنبياء المتقدمة وزعموا أن ما شرعه أكابرهم من الدين فإن المسيح يمضيه لهم وهذا موضع تنازع فيه الملل الثلاث المسلمون واليهود والنصارى كما تنازعوا في المسيح عليه السلام وغير ذلك
فاليهود لا يجوزون الله سبحانه وتعالى أن ينسخ شيئا شرعه والنصارى يجوزون لأكابرهم أن ينسخوا شرع الله بآرائهم
وأما المسلمون فعندهم أن الله له الخلق والأمر لا شرع إلا ما شرع الله على ألسنة رسله وله أن ينسخ ما شاء كما نسخ المسيح ما كان شرعه للأنبياء قبله
فالنصارى تضع لهم عقائدهم وشرائعهم أكابرهم بعد المسيح كما وضع لهم الثلاث مائة وثمانية عشر الذين كانوا في زمن قسطنطين الملك الأمانة التي اتفقوا عليها ولعنوا من خالفها من الأريوسية وغيرهم وفيها أمور لم ينزل الله بها كتابا بل تخالف ما أنزله الله من الكتب مع مخالفتها للعقل الصريح فقالوا فيها نؤمن بآله واحد آب ضابط الكل خالق السموات والأرض كل ما يرى وما لا يرى وبرب واحد
يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور نور من نور إله حق من إله حق مولود غير مخلوق مساوي الأب في الجوهر الذي به كان كل شيء الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس ومن مريم العذراء وتأنس وصلب على عهد يبلاطس البنطي وتألم وقبر وقام في اليوم الثالث كما في الكتب وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الأب وأيضا فسيأتي بمجده ليدين الأحياء والأموات الذي لا فناء لملكه وبروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب مع الأب
والابن مسجود له وبمجد الناطق في الأنبياء وبكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية واعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا ونترجى قيامة الموتى وحياة الدهر الآتي آمين
ووضعوا لهم من القوانين والناموس ما لم يوجد في كتب الأنبياء ولا تدل عليه بل يوجد بعضه في كتب الأنبياء وزاد أكابرهم أشياء من عندهم لا توجد في كتب الأنبياء وغيروا كثيرا مما شرعه الأنبياء فما عند النصارى من القوانين والنواميس التي هي شرائع دينهم وبعضه عن الحواريين وكثير منه من ابتداع أكابرهم مع مخالفته لشرع الأنبياء فدينهم من جنس دين اليهود قد لبسوا الحق بالباطل
وكان المسيح عليه السلام بعث بدين الله الذي بعث به الأنبياء قبله وهو عبادة الله وحده لا شريك له والنهي عن عبادة كل ما سواه وأحل لهم بعض ما حرم الله في التوراة فنسخ بعض شرع التوراة
وكان الروم واليونان وغيرهم مشركين يعبدون الهياكل العلوية والأصنام الأرضية فبعث المسيح عليه السلام رسله يدعونهم إلى دين الله تعالى فذهب بعضهم في حياته في الأرض وبعضهم بعد رفعه إلى السماء فدعوهم إلى دين الله تعالى فدخل من دخل في دين الله واقاموا على ذلك مدة ثم زين الشيطان لمن زين له أن يغير دين المسيح فابتدعوا دينا مركبا من دين الله ورسله دين المسيح عليه السلام ومن دين المشركين
وكان المشركون يعبدون الأصنام المجسدة التي لها ظل وهذا كان دين الروم واليونان وهو دين الفلاسفة أهل مقدونية وأثينة
كأرسطو وأمثاله من الفلاسفة المشائين وغيرهم وكان أرسطو قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة وهو وزير الإسكندر بن فيلبس اليوناني المقدوني التي تؤرخ له التاريخ الرومي من اليهود والنصارى وهذا كان مشركا يعبد هو وقومه الأصنام ولم يكن يسمى ذا القرنين ولا هو ذا القرنين المذكور في القرآن ولا وصل هذا المقدوني إلى أرض
الترك ولا بنى السد وإنما وصل إلى بلاد الفرس
ومن ظن أن أرسطو كان وزير ذي القرنين المذكور في القرآن فقد غلط غلطا تبين أنه ليس بعارف بأديان هؤلاء القوم ولا بأزمانهم
فلما ظهر دين المسيح عليه السلام بعد أرسطو بنحو ثلاثمائة سنة في بلاد الروم واليونان كانوا على التوحيد إلى أن ظهرت فيهم البدع فصوروا الصور المرقومة في الحيطان جعلوا هذه الصور عوضا عن تلك الصور
وكان أولئك يسجدون للشمس والقمر والكواكب فصار هؤلاء يسجدون إليها إلى جهة الشرق التي تظهر منها الشمس والقمر والكواكب وجعلوا السجود إليها بدلا عن السجود لها ولهذا جاء خاتم الرسل صلوات الله عليه وسلامه الذي ختم الله به الرسالة وأظهر به من كمال التوحيد ما لم يظهر بمن قبله فأمر صلى الله عليه و سلم أن يتحرى أحد بصلاته طلوع الشمس ولا غروبها لأن
المشركين يسجدون لها تلك الساعة فإذا صلى الموحدون لله عز و جل في تلك الساعة صار في ذلك نوع مشابهة لهم فيتخذ ذريعة إلى السجود لها وكان من أعظم أسباب عبادة الأصنام تصوير الصور وتعظيم القبور
ففي صحيح مسلم وغيره عن أبي الهياج الأسدي قال قال لي علي بن أبي طالب ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمرني أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته ولا تمثالا إلا طمسته
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه و سلم قال في مرض موته لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا
وفي الصحيحين أنه قال قبل موته بخمس ليال إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد وإني أنهاكم عن ذلك
ولما ذكروا الكنيسة بأرض الحبشة وذكروا من حسنها وتصاوير فيها فقال إن أولئك كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة
ونهى أن يستقبل الرجل القبر في الصلاة حتى لا يتشبه بالمشركين الذين يسجدون للقبور ففي الصحيح أنه قال لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها إلى أمثال ذلك مما فيه تجريد التوحيد لله رب العالمين الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله
فأين هذا ممن يصور صور المخلوقين في الكنائس ويعظمها ويستشفع بمن صورت على صورته وهل كان أصل عبادة الأصنام في بني آدم من عهد نوح عليه السلام إلا هذا والصلاة إلى الشمس والقمر والكواكب والسجود إليها ذريعة إلى السجود لها ولم يأمر أحد من الأنبياء باتخاذ الصور والاستشفاع بأصحابها ولا بالسجود إلى الشمس والقمر والكواكب وإن كان يذكر عن بعض الأنبياء تصوير صورة لمصلحة فإن هذا من الأمور التي قد تتنوع فيها الشرائع
بخلاف السجود لها والاستشفاع بأصحابها فإن هذا لم يشرعه نبي من الأنبياء ولا أمر قط أحد من الأنبياء أن يدعى غير الله عز و جل لا عند قبره ولا في مغيبه ولا يشفع به في مغيبه بعد موته بخلاف الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه و سلم في حياته ويوم القيامة وبالتوسل به بدعائه والإيمان به فهذا من شرع الأنبياء عليهم السلام ولهذا قال تعالى سورة الزخرف الآية 45
وقال تعالى سورة الأنبياء الآية 25
وقال تعالى سورة النحل الآية 36
وقال تعالى سورة يونس الآية 18
وقال تعالى سورة الزمر الآيات 1 4
وذلك أن المشركين من جميع الأمم لم يكن أحد منهم يقول إن للمخلوقات خالقين منفصلين متماثلين في الصفات فإن هذا لم يقله طائفة معروفة من بني آدم ولكن الثنوية من المجوس ونحوهم يقولون إن العالم صادر عن أصلين النور والظلمة والنور عندهم هو إله الخير المحمود والظلمة هي الإله الشرير المذموم
وبعضهم يقول أن الظلمة هي الشيطان وهذا ليجعلوا ما في العالم من الشر صادرا عن الظلمة
ومنهم من قال إن الظلمة قديمة أزلية مع أنها مذمومة عندهم ليست مماثلة للنور
ومنهم من قال بل هي حادثة وأن النور فكر فكرة رديئة فحدثت الظلمة عن تلك الفكرة الرديئة
فقال لهم أهل التوحيد أنتم بزعمكم كرهتم أن تضيفوا إلى الرب سبحانه وتعالى خلق ما في العالم من الشر وجعلتموه خالقا لأصل الشر وهؤلاء مع إثباتهم اثنين وتسمية الناس لهم بالثنوية فهم لا يقولون إن الشرير مماثل للخير
وكذلك الدهرية دهرية الفلاسفة وغيرهم منهم من ينكر الصانع للعالم كالقول الذي أظهره فرعون لعنه الله ومنهم من يقر بعلة يتحرك الفلك للتشبه بها كأرسطو وأتباعه ومنهم من يقول بالموجب بالذات المستلزم للفلك كابن سينا
والسهروردي المقتول بحلب وأمثالهما من متفلسفة الملل
وأما مشركو العرب وأمثالهم فكانوا مقرين بالصانع وبأنه خلق السموات والأرض فكانت عقيدة مشركي العرب خيرا من عقيدة هؤلاء الفلاسفة الدهرية إذ كانوا مقرين بأن هذه السموات مخلوقة لله حادثة بعد أن لم تكن وهذا مذهب جماهير أهل الأرض ومن أهل الملل الثلاثة المسلمون واليهود والنصارى ومن المجوس والمشركين وهؤلاء الدهرية من الفلاسفة وغيرهم يزعمون أن السموات أزلية قديمة لم تزل وكان مشركو العرب يقرون بأن الله قادر يفعل بمشيئته ويجيب دعاء الداعي إذا دعاه وهؤلاء المتفلسفة الدهرية عندهم أن الله لا يفعل شيئا بمشيئته ولا يجيب دعاء الداعي بل ولا يعلم الجزئيات ولا يعرف هذا الداعي من هذا الداعي ولا يعرف إبراهيم من موسى من محمد وغيرهم بأعيانهم من رسله بل منهم من ينكر علمه مطلقا كأرسطو وأتباعه ومنهم من يقول إنما يعلم الكليات كابن سينا وأمثاله
ومعلوم أن كل موجود في الخارج فهو جزء معين فإن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئا من الموجودات المعينة لا الأفلاك ولا الأملاك ولا غير ذلك من الموجودات بأعيانها والدعاء عندهم هو تصوف النفس القوية في هيولي العالم كما ذكر ذلك ابن سينا وأمثاله وزعموا أن اللوح المحفوظ هو النفس الفلكية وأن حوادث الأرض كلها إنما تحدث عن حركة الفلك كما قد بسط الرد عليهم في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن المشركين لم يكونوا يثبتون مع الله إلها آخر مساويا له في الصفات والأفعال بل ولا كانوا يقولون إن الكواكب والشمس والقمر خلقت العالم ولا أن الأصنام تخلق شيئا من العالم ومن ظن أن قوم إبراهيم الخليل كانوا يعتقدون أن النجم أو الشمس أو القمر رب العالمين أو أن الخليل عليه السلام لما قال هذا ربي أراد به رب العالمين فقد غلط غلطا بينا بل قوم إبراهيم كانوا مقرين بالصانع وكانوا يشركون بعبادته كأمثالهم من المشركين
قال تعالى عن الخليل سورة الشعراء الآيات 69 99
فأخبر تعالى عن الخليل أنه عدو لكل ما يعبدونه إلا لرب العالمين وأخبر أنهم يقولون يوم القيامة سورة الشعراء الآيتان 97 98
كما قال تعالى في الموضع الآخر سورة الزخرف الآيتان 26 27
وقال سورة الأنعام الآية 79
ولم يقل من المعطلين فإن قومه كانوا يشركون ولم يكونوا معطلين كفرعون اللعين فلم يكونوا جاحدين للصانع بل عدلوا به وجعلوا له أندادا في العبادة والمحبة والدعاء وهذا كما قال تعالى سورة الأنعام الآية 1
وقال تعالى سورة البقرة الآية 165
وقال تعالى سورة الفرقان الآية 68
وقال تعالى سورة الشعراء الآية 312
وقال سورة الإسراء الآية 22
وقال تعالى فيما حكاه عن قوم نوح سورة نوح الآيتان 23 24
قال ابن عباس وغيره من العلماء هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم عبدوها
وهكذا عند النصارى عن المسيح عليه السلام في كتاب سر بطرس الذي يسمى بشمعون وسمعان والصفا وبطرس والأربعة لمسمى واحد عندهم عنه كتاب عن المسيح فيه أسرار العلوم وهذا فيه عندهم عن المسيح
فالذي تفعله النصارى اصل عبادة الأوثان وهكذا قال عالمهم الكبير الذي يسمونه فم الذهب وهو من أكبر علمائهم لما ذكر
تولد الذنوب الكبار عن الصغار قال وهكذا هجمت عبادة الأصنام فيما سلف لما أكرم الناس أشخاصا يعظم بعضهم بعضا فوق المقدار الذي ينبغي الأحياء منهم والأموات
وقد قال تعالى سورة الإسراء الآيتان 56 57
قال طائفة من العلماء كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء كالعزير والمسيح وغيرهما فبين الله تبارك وتعالى أن هؤلاء عباده كما أنتم عباده يرجون رحمته كما ترجون رحمته ويخافون عذابه كما تخافون عذابه ويتقربون إليه كما تتقربون إليه وقال تعالى سورة آل عمران الآيتان 79 80
فبين تعالى أن من يتخذ الملائكة والنبيين أربابا فهو كافر مع اعتقاده أنهم مخلوقون فإنه لم يقل أحد قط أن جميع الملائكة
والنبيين مشاركون لله سبحانه في خلق العالم وقد قال تعالى سورة يوسف الآية 106
قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما تسألهم من خلق السموات والأرض يقولون الله وهم يعبدون غيره وقد قال تعالى سورة لقمان الآية 25
في غير موضع فأخبر تعالى عن المشركين أنهم كانوا يقرون بأن خالق العالم واحد مع اتخاذهم آلهة يعبدونهم من دونه سبحانه يتخذونهم شفعاء إليه ويتقربون بهم إليه
فصل
وكذلك تعظيمهم للصليب واستحلالهم لحم الخنزير وتعبدهم بالرهبانية وامتناعهم من الختان وتركهم طهارة الحدث والخبث فلا يوجبون غسل جنابة ولا وضوءا ولا يوجبون اجتناب شيء من الخبائث في صلاتهم لا عذرة ولا بولا ولا غير ذلك من الخبائث إلى غير ذلك
كلها شرائع أحدثوها وابتدعوها بعد المسيح عليه السلام ودان بها ائمتهم وجمهورهم ولعنوا من خالفهم فيها حتى صار المتمسك فيهم بدين المسيح المحض مغلوبا مقموعا قبل أن يبعث الله محمدا صلى الله عليه و سلم وأكثر ما هم عليه من الشرائع والدين لا يوجد منصوصا عن المسيح عليه السلام
وأما المسلمون فكل ما أجمعوا عليه إجماعا ظاهرا يعرفه العامة والخاصة فهو منقول عن نبيهم صلى الله عليه و سلم لم يحدث ذلك أحد لا باجتهاده ولا بغير اجتهاده بل ما قطعنا بإجماع أمة محمد صلى الله عليه و سلم فإنه يوجد مأخوذا عن نبيهم
وأما ما يظن فيه إجماعهم ولا يقطع به
فمنه ما يكون ذلك الظن خطأ ويكون بينهم فيه نزاع ثم قد يكون نص الرسول صلى الله عليه و سلم مع هذا القول وقد يكون مع هذا القول
ومنه ما يكون ظن الإجماع عليه صوابا ويكون فيه عن النبي صلى الله عليه و سلم أثر خفيت دلالته أو معرفته على بعض الناس
وذلك أن الله تبارك وتعالى أكمل الدين بمحمد صلى الله عليه و سلم خاتم النبيين وبينه وبلغه البلاغ المبين فلا تحتاج أمته إلى أحد بعده يغير شيئا من دينه وإنما تحتاج إلى معرفة دينه الذي بعث به فقط وأمته لا تجتمع على ضلالة بل لا يزال في أمته طائفة قائمة بالحق حتى تقوم الساعة فإن الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله فأظهره بالحجة والبيان وأظهره باليد والسنان ولا يزال في أمته أمة ظاهرة بهذا وهذا حتى تقوم الساعة
والمقصود هنا أن ما اجتمعت عليه الأمة إجماعا ظاهرا تعرفه العامة والخاصة فهو منقول عن نبيهم صلى الله عليه و سلم ونحن لا نشهد بالعصمة إلا لمجموع الأمة وأما كثير من طوائف الأمة ففيهم بدع مخالفة للرسول وبعضها من جنس بدع اليهود والنصارى وفيهم فجوز ومعاصي لكن رسول الله صلى الله عليه و سلم بريء من ذلك كما قال تعالى له
سورة الشعراء الآية 216
وقال تعالى سورة الأنعام الآية 159
وقال صلى الله عليه و سلم من رغب عن سنتي فليس مني وذلك مثل إجماعهم على أن محمدا صلى الله عليه و سلم أرسل إلى جميع الأمم أهل الكتاب وغير أهل الكتاب فإن هذا تلقوه عن نبيهم صلى الله عليه و سلم وهو منقول عندهم نقلا متواترا يعلمونه بالضرورة
وكذلك إجماعهم على استقبال الكعبة البيت الحرام في صلاتهم فإن هذا الإجماع منهم على ذلك مستند إلى النقل المتواتر عن نبيهم وهو مذكور في كتابهم
وكذلك الإجماع على وجوب الصلوات الخمس وصوم شهر رمضان وحج البيت العتيق الذي بناه إبراهيم خليل الرحمن ودعا الناس إلى حجه وحجته الأنبياء حتى حجه موسى بن عمران ويونس بن
متى وغيرهما وإجماعهم على وجوب الاغتسال من الجنابة وتحريم الخبائث وإيجاب الطهارة للصلاة فإن هذا كله مما تلقوه عن نبيهم وهو منقول عنه صلى الله عليه و سلم نقلا متواترا وهو مذكور في القرآن
وأما النصارى فليست الصلوات التي يصلونها منقولة عن المسيح عليه السلام ولا الصوم الذي يصومونه منقولا عن المسيح بل جعل أولهم الصوم أربعين يوما ثم زادوا فيه عشرة أيام ونقلوه إلى الربيع وليس هذا منقولا عندهم عن المسيح عليه السلام
وكذلك حجهم للقمامة وبيت لحم وكنيسة
صيدنايا ليس شيء من ذلك منقولا عن المسيح عليه السلام بل وكذلك عامة أعيادهم مثل عيد القلندس وعيد الميلاد وعيد الغطاس وهو القداس وعيد الخميس
وعيد الصليب الذي جعلوه في وقت ظهور الصليب لما أظهرته هيلانة الحرانية الفندقانية أم قسطنطين بعد المسيح عليه السلام بمائتين من السنين وعيد الخميس والجمعة والسبت التي
في آخر صومهم وغير ذلك من أعيادهم التي رتبوها على أحوال المسيح والأعياد التي ابتدعوها لكبرائهم فإن ذلك كله من بدعهم التي ابتدعوها بلا كتاب نزل من الله تعالى بل هم يبنون الكنائس على اسم بعض من يعظمونه كما في السنن عن النبي صلى الله عليه و سلم أنهم إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة وهذا بخلاف المساجد التي تبنى لله عز و جل كما قال تعالى سورة الجن الآية 18
وقال سورة النور الآية 36
وقال تعالى سورة الأعراف الآية 29
وقال تعالى سورة التوبة الآية 18
والنصارى كأشباههم من المشركين يخشون غير الله ويدعون غير الله
فصل
والمقصود هنا أن الذي يدين به المسلمون من أن محمدا صلى الله عليه و سلم رسول إلى الثقلين الإنس والجن أهل الكتاب وغيرهم وأن من لم يؤمن به فهو كافر مستحق لعذاب الله مستحق للجهاد وهو مما أجمع أهل الإيمان بالله ورسوله عليه لأن الرسول صلى الله عليه و سلم هو الذي جاء بذلك وذكره الله في كتابه وبينه الرسول أيضا في الحكمة المنزلة عليه من غير الكتاب فإنه تعالى أنزل عليه الكتاب والحكمة ولم يبتدع المسلمون شيئا من ذلك من تلقاء أنفسهم كما ابتدعت النصارى كثيرا من دينهم بل أكثر دينهم
وبدلوا دين المسيح وغيروه ولهذا كان كفر النصارى لما بعث محمد صلى الله عليه و سلم مثل كفر اليهود لما بعث المسيح عليه السلام فإن اليهود كانوا قد بدلوا شرع التوراة قبل مجيء المسيح فكفروا بذلك ولما بعث المسيح إليهم كذبوه فصاروا كفارا بتبديل معاني الكتاب الأول وأحكامه وبتكذيب الكتاب الثاني
وكذلك النصارى كانوا بدلوا دين المسيح قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه و سلم فابتدعوا من التثليث والاتحاد وتغيير شرائع الإنجيل أشياء لم يبعث بها المسيح عليه السلام بل
تخالف ما بعث به وافترقوا في ذلك فرقا متعددة وكفر فيها بعضهم بعضا فلما بعث محمد صلى الله عليه و سلم كذبوه فصاروا كفارا بتبديل معاني الكتاب الأول وأحكامه وتكذيب الكتاب الثاني كما يقول علماء المسلمين إن دينهم مبدل منسوخ وإن كان قليل من النصارى كانوا عند مبعث محمد صلى الله عليه و سلم متمسكين بدين المسيح كما كان الذين لم يبدلوا دين المسيح كله على الحق فهذا كما أن من كان متبعا شرع التوراة عند مبعث المسيح كان متمسكا بالحق كسائر من اتبع موسى فلما بعث المسيح صار كل من لم يؤمن به كافرا وكذلك لما بعث محمد صلى الله عليه و سلم صار كل من لم يؤمن به كافرا
والمقصود في هذا المقام بيان ما بعث به محمد صلى الله عليه و سلم من عموم رسالته وأنه نفسه الذي أخبر أن الله تعالى أرسله إلى أهل الكتاب وغيرهم وأنه نفسه صلى الله عليه و سلم دعا أهل الكتاب وجاهدهم وأمر بجهادهم فمن قال بعد هذا من أهل الكتاب اليهود والنصارى أنه لم يبعث إلينا بمعنى أنه لم يقل إنه مبعوث إلينا كان مكابرا جاحدا للضرورة مفتريا على الرسول فرية ظاهرة تعرفها الخاصة والعامة
وكان جحده لهذا كما لو جحد أنه جاء بالقرآن أو شرع الصلوات الخمس وصوم رمضان وحج البيت الحرام وجحد محمد صلى الله عليه و سلم وما تواتر عنه أعظم من جحد أتباع الحواريين
المسيح عليه السلام وإرساله لهم إلى الأمم ومجيئه بالإنجيل وجحد مجيء موسى عليه السلام بالتوراة وجحد أنه كان يسبت فإن النقل عن محمد صلى الله عليه و سلم مدته قريبة والناقلون عنه أضعاف أضعاف من نقل دين المسيح عنه واضعاف أضعاف أضعاف من اتصل به نقل دين موسى عليه السلام فأن أمة محمد صلى الله عليه و سلم ما زالوا كثيرين منتشرين في مشارق الأرض ومغاربها وما زال فيهم من هو ظاهر بالدين منصور على الأعداء بخلاف بني إسرائيل فإنهم زال ملكهم في أثناء الأمر لما خرب بيت المقدس الخراب الأول بعد داود عليه السلام ونقص عدد من نقل دينهم حتى قد قيل إنه لم يبق من يحفظ التوراة إلا واحد
والمسيح عليه السلام لم ينقل دينه عنه إلا عدد قليل لكن النصارى يزعمون أنهم رسل الله معصمون مثل إبراهيم وموسى وسيأتي الكلام على هذا إن شاء الله تعالى إذا وصلنا إليه إذ المقصود هنا بيان من زعم أن محمدا صلى الله عليه و سلم كان يقول إنه لم يبعث إلا إلى مشركي العرب فإنه في غاية الجهل والضلال أو غاية المكابرة والمعاندة فإن هذا أعظم جهلا وعنادا ممن ينكر أنه كان يأمر بالطهارة والغسل من الجنابة ويحرم الخمر والخنزير وأعظم جهلا وعنادا ممن ينكر ما تواتر من أمر المسيح وموسى عليهما السلام وقد ظهر بهذا بطلان قولهم علمنا أنه لم يأت إلينا بل إلى جاهلية العرب
فصل
فإذا عرف هذا فاحتجاج هؤلاء بالآيات التي ظنوا دلالتها على أن نبوته خاصة بالعرب تدل على أنهم ليسوا ممن يجوز لهم الاستدلال بكلام أحد على مقصوده ومراده وأنهم ممن قيل فيه سورة النساء الآية 78
فليسوا أهلا أن يحتجوا بالتوراة والإنجيل والزبور على مراد الأنبياء وسائر الكلام المنقول عن الأنبياء على مراد الأنبياء عليهم السلام بل ولا يحتجون بكلام الأطباء والفلاسفة والنحاة وعلم أهل الحساب والهيئة على مقاصدهم
فإن الناس كلهم متفقون على أن لغة العرب من أفصح لغات الآدميين وأوضحها ومتفقون على أن القرآن في أعلا درجات البيان والبلاغة والفصاحة وفي القرآن من الدلالات الكثيرة على مقصود الرسول صلى الله عليه و سلم التي يذكر فيها أن الله تعالى أرسله إلى أهل الكتاب وغيرهم مالا يحصى إلا بكلفة ثم مع ذلك من
النقول المتواترة عن سيرته صلى الله عليه و سلم في دعائه لأهل الكتاب وأمره لهم بالإيمان به وجهاده لهم إذا كفروا به ما لا يخفى على من له أدنى خبرة بسيرته صلى الله عليه و سلم وهذا أمر قد امتلأ العالم به وسمعه القاصي والداني فإذا كان الناس المؤمن به وغير المؤمن به يعلمون أنه كان يقول إنه رسول الله إلى أهل الكتاب وغيرهم وأن ظهور مقصوده بذلك مما يعلمه بالاضطرار الخاصة والعامة ثم شرعوا يظنون أنه كان يقول إني لم أبعث إلا إلى العرب واستمر على ذلك حتى مات دل على فساد نظرتهم وعقلهم أو على عنادهم ومكابرتهم وكان الواجب إذ لم يكن له معرفة معاني هذه الآيات التي استدلوا بها على خصوص رسالته أن يعتقدوا أحد أمرين
إما أن لها معاني توافق ما كان يقوله أو أنها من المنسوخ فقد علمت الخاصة والعامة أن محمدا صلى الله عليه و سلم كان يصلي بعد هجرته إلى بيت المقدس نحو سنة ونصف ثم أمر بالصلاة إلى الكعبة البيت الحرام والنصارى يوافقون على أن شرائع
الأنبياء فيها ناسخ ومنسوخ مع أن ما ذكروه من الآيات ليس منسوخا ولكن المقصود أن المعلوم من حال الرسول صلى الله عليه و سلم علما ضروريا يقينيا متواترا لا يجوز دفعه فإن العلم بأنه كان يقول إنه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى جميع الخلق معلوم لكل من عرف أخباره صلى الله عليه و سلم سواء صدقه أو كذبه والعلم بأنه كان يقول إنه رسول الله إلى جميع الناس ممكن قبل أن يعلم أنه نبي أو ليس بنبي كما أن العلم بنبوته وصدقه ممكن قبل أن يعلم عموم رسالته فليس العلم بأحدهما موقوفا على الآخر ولهذا كان كثير ممن يكذبه يعلم أنه كان يقول إنه رسول الله إلى جميع الخلق وطائفة ممن تقر بنبوته وصدقه لا تقر بأنه رسول إلى جميع الخلق
والمقصود هنا الكلام مع هؤلاء بأن العلم بعموم دعوته لجميع الخلق أهل الكتاب وغيرهم هو متواتر معلوم بالاضطرار كالعلم بنفس مبعثه ودعائه الخلق إلى الإيمان به وطاعته وكالعلم بهجرته من مكة إلى المدينة ومجيئه بهذا القرآن والصلوات الخمس وصوم شهر رمضان وحج البيت العتيق وإيجاب الصدق والعدل وتحريم الظلم والفواحش وغير ذلك مما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم
وإن قيل بل في القرآن ما يقتضي أن رسالته خاصة وفيه ما يقتضي أن رسالته عامة وهذا تناقض
قيل هذا باطل ويعلم بطلانه قبل العلم بنبوته فإنه من المعلوم لكل أحد آمن به أو كذبه أنه كان من أعظم الناس عقلا وسياسة وخبرة وكان مقصوده دعوة الخلق إلى طاعته واتباعه وكان يقرأ القرآن على جميع الناس ويأمر بتبليغه إلى جميع الأمم وكان من طلب منه أن يؤمنه حتى يقرأ عليه القرآن من الكفار وجب عليه أن يجيبه ولو كان مشركا فكيف إذا كان كتابيا كما قال تعالى سورة التوبة الآية 6
وكان قد أظهر أنه مبعوث إلى أهل الكتاب وسائر الخلق وأنه رسول إلى الثقلين الجن والإنس فيمتنع مع هذا أن يظهر ما يدل على أنه لم يبعث إليهم فإن هذا لا يفعله من له أدنى عقل لمناقضته لمراده فكيف يفعله من اتفقت عقلاء الأمم على أنه أعقل الخلق وأحسنهم سياسة وشريعة
وأيضا فكان أصحابه والمقاتلون معه بعد ذلك ينفرون عنه وقد كان عادتهم أن يستشكلوا ما هو دون هذا وهذا لم يستشكله أحد ثم بعد هذا فلو قدر أن في القرآن ما يدل على أنه لم يبعث إلا إلى
العرب وفيه ما يدل على أنه بعث إلى سائر الخلق كان هذا دليلا على أنه أرسل إلى غيرهم بعد أن لم يرسل إلا إليهم وأن الله عم بدعوته بعد أن كانت خاصة فلا مناقضة بين هذا وهذا فكيف وليس في القرآن آية واحدة تدل على اختصاص رسالته بالعرب وإنما فيه إثبات رسالته إليهم كما أن فيه إثبات رسالته إلى قريش وليس هذا مناقضا لهذا وفيه إثبات رسالته إلى أهل الكتاب كقوله تعالى سورة النساء الآية 47
كما فيه أثبات رسالته إلى بني إسرائيل كقوله سورة البقرة الآية 40 47 والآية و 122 والآية وسورة طه الآية 80
وليس هذا التخصص لليهود منافيا لذلك التعميم وفي رسالته خطاب لليهود تارة وللنصارى تارة وليس خطابه لإحدى الطائفتين ودعوته لها مناقضا لخطابه للأخرى ودعوته لها وفي كتابه خطاب للذين آمنوا من أمته في دعوته لهم إلى شرائع دينه وليس في ذلك مناقضة بأن يخاطب أهل الكتاب ويدعوهم وفي كتابه أمر بقتال أهل الكتاب النصارى حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون
قال تعالى
سورة التوبة الآية 29
ثم لم يكن هذا مانعا أن يأمر بقتال غيرهم من اليهود والمجوس حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون بل هذا الحكم ثابت في المجوس بسنته واتفاق أمته
وإن قيل إنهم ليسوا من أهل الكتاب فهذا كله مما يعلم بالاضطرار من دينه قبل العلم بنبوته فكيف ونحن نتكلم على تقدير نبوته والنبي لا يتناقض قوله وإذا كان العلم بعموم دعوته ورسالته معلوما بالاضطرار قبل العلم بنبوته وبعد العلم بنبوته فالعلم الضروري اليقيني لا يعارضه شيء ولكن هذا شأن الذين في قلوبهم زيغ من أهل البدع النصارى وغيرهم يتبعون المتشابه ويدعون المحكم وبسبب مناظرة النصارى للنبي صلى الله عليه و سلم بالمتشابه وعدولهم عن المحكم أنزل الله تبارك وتعالى فيهم سورة آل عمران الآية 7
فالتأويل يراد به تفسير القرآن ومعرفة معانيه وهذا يعلمه الراسخون ويراد به ما استأثر الرب سبحانه وتعالى بعلمه من معرفة كنهه وكنه ما وعد به ووقت الساعة ونحو ذلك مما لا يعلمه إلا الله
والضلال يذكرون آيات تشتبه عليهم معرفة معانيها فيتبعون تأويلها ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها وليسوا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويلها مع أن هؤلاء الآيات من أوضح الآيات
وهذا الذي سلكوه في القرآن هو نظير ما سلكوه في الكتب المتقدمة وكلام الأنبياء من التوراة والإنجيل والزبور وغيرها فإن فيها من النصوص الكثيرة الصريحة بتوحيد الله وعبودية المسيح مالا يحصى إلا بكلفة وفيها كلمات قليلة فيها اشتباه فتمسكوا بالقليل المتشابه الخفي المشكل من الكتب المتقدمة وتركوا الكثير المحكم المبين الواضح فهم سلكوا في القرآن ما سلكوه في الكتب المتقدمة لكن تلك الكتب يقرون بنبوة أصحابها ومحمد صلى الله عليه و سلم هم فيه مضطربون متناقضون فأي قول قالوه فيه ظهر فساده وكذبهم فيه إذا لم يؤمنوا بجميع ما أنزل إليه
وإن قالوا كلامه متناقض ونحن نحتج بما يوافق قولنا إذ مقصودنا بيان تناقضه
قيل لهم عن هذا أجوبة
أحدها أنه في الكتب المتقدمة مما يظن أنه متعارض أضعاف ما في القرآن وأقرب إلى التناقض فإذا كانت تلك الكتب متفقة لا تناقض فيها وإنما يظن تناقضها من يجهل معانيها ومراد الرسل فيكون كما قيل
وكم من غائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم فكيف القرآن الذي هو أفضل الكتب
الثاني أنهم متمسكون بالمتشابه في تلك الكتب ومخالفون المحكم منها كما فعلوه بالقرآن وأبلغ
الثالث أنه إذا كان ما جاء به متناقضا لم يكن رسول الله فإن ما جاء به من عند الله لا يكون مختلفا متناقضا وإنما يتناقض ما جاء من عند غير الله قال تعالى سورة النساء الآية 82
فكل كتاب ليس من عند الله لا بد أن يكون فيه تناقض وما كان من عند الله لا يتناقض وحينئذ فإن كان متناقضا لم يجز لهم الاحتجاج بشيء منه فإنه ليس من عند الله وإن لم يكن متناقضا ثبت أن ما فيه من عموم رسالته وأنه رسول إليهم فليس فيه شيء يناقضه فإن ما جاء من عند الله لا يتناقض
الرابع أنا نبين أن ما فيه من عموم رسالته لا ينافي ما فيه من أنه أرسل إلى العرب كما أن ما فيه من إنذار عشيرته الأقربين وأمر قريش لا ينافي ما فيه من دعوة سائر العرب فإن تخصيص بعض العام بالذكر
إذا كان له سبب يقتضي التخصيص لم يدل على أن ما سوى المذكور مخالفة وهذا الذي يسمى مفهوم المخالفة ودليل الخطاب
والناس كلهم متفقون على أن التخصيص بالذكر متى كان له سبب يوجب الذكر غير الاختصاص بالحكم لم يكن للاسم اللقب مفهوم بل ولا للصفة كقوله تعالى سورة الإسراء الآية 31
فإنه نهاهم عن ذلك لأنه هو الذي كانوا يفعلونه وقد حرم في موضع آخر قتل النفس بغير الحق سواء كان ولدا أو غيره ولم يكن ذلك مناقضا لتخصيص الولد بالذكر
الخامس أنه في ذلك أسوة بالمسيح عليه السلام فإن المسيح خص أولا بالدعوة ثم عم كما قيل في الإنجيل ما بعثت وأرسلت إلا لبني إسرائيل وقال أيضا في الإنجيل ما بعثت إلا
لهذا الشعب الخبيث ثم عم فقال لتلامذته حين أرسلهم كما في الإنجيل كما بعثني أبي أبعث بكم فمن قبلكم فقد قبلني وقال أرسلني أبي وأنا أرسلكم وقال كما أفعل أنا بكم كذلك افعلوا أنتم بعباد لله فسيروا في البلاد وعمدوا الناس باسم الأب والابن والروح القدس ولا يكون لأحدكم ثوبان ولا يحمل معه فضة ولا ذهبا ولا عصا ولا حرابة ونحو ذلك مما هو في الأناجيل التي بين أيديهم من تخصيص الدعوة ثم تعميمها وهو صادق في ذلك كله فكيف يسوغ لهم إنكار ما في الإنجيل عن المسيح نظيره
ثم يقال في بيان الحال إن الله تعالى بعث محمدا
صلى الله عليه و سلم كما بعث المسيح وغيره وإن كانت رسالته أكمل وأشمل كما نذكر في موضعه فأمره بتبليغ رسالته بحسب الإمكان إلى طائفة بعد طائفة وأمر بتبليغ الأقرب منه مكانا ونسبا ثم بتبليغ طائفة بعد طائفة حتى تبلغ النذارة إلى جميع أهل الأرض كما قال تعالى سورة الأنعام الآية 19
أي من بلغه القرآن فكل من بلغه القرآن فقد أنذره محمد صلى الله عليه و سلم
ونبين هنا أن النذارة ليست مختصة بمن شافههم بالخطاب بل ينذرهم به وينذر من بلغهم القرآن فأمره الله تبارك وتعالى أولا بإنذار عشيرته الأقربين وهو قريش فقال تعالى سورة الشعراء الآية 214
ولماأنزل الله عليه هذه الآية انطلق صلى الله عليه و سلم إلى مكان عال فعلا عليه ثم جعل ينادي يا بني عبد مناف إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله فخشي أن يسبقوه فجعل يهتف يا صاحباه يا صاحباه
وهذه القصة رواها ابن عباس وأبو هريرة وعائشة وغيرهم في الصحيحين وغيرهما من كتب السنن والمسانيد والتفسير
قال ابن عباس لما نزلت هذه الآية سورة الشعراء الآية 214
ورهطك منهم المخلصين خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى صعد الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج
أرسل رسولا لينظر ما هو فاجتمعوا إليه فقال ارأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي قالوا نعم ما جربنا عليك إلا صدقا ما جربنا عليك كذبا قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد
وقال أبو هريرة لما نزلت هذه الآية سورة الشعراء الآية 214
دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم قريشا فاجتمعوا فعم وخص فقال يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار
فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها
وقالت عائشة رضي الله عنها لما نزلت هذه الآية سورة الشعراء الآية 214
قام رسول الله صلى الله عليه و سلم على الصفا فقال يا فاطمة بنت محمد يا صفية عمة رسول الله يا عباس عم رسول الله لا أملك لكم من الله شيئا
وقال ابن إسحاق لما نزلت هذه الآية جعل النبي صلى الله عليه و سلم ينادي يا بني عبد المطلب يا بني عبد مناف يا بني زهرة حتى عدد الأفخاذ من قريش ثم قال إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين وإني لا أملك لكم من الله شيئا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله فقال أبو لهب ألهذا جمعتنا
تبا لك سائر اليوم فأنزل الله سورة المسد كلها
ودعا قريشا إلى الله وأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له وأنزل تعالى سورة قريش كلها
وقد أنزل الله عليه في غير موضع أمر جميع الخلق بعبادته كقوله تعالى سورة البقرة الآية 21
وقوله سورة الذاريات الآية 56
وقريش هم قومه الذين كذبه جمهورهم أولا كما قال تعالى سورة الأنعام الآية 66
كما أن جمهور بني إسرائيل وهم قوم المسيح كذبوه أولا
ثم أمره الله تعالى أن يدعو سائر العرب فكان يخرج بنفسه ومعه أبو بكر صديقه إلى قبائل العرب قبيلة قبيلة وكانت العرب لم تزل تحج البيت من عهد إبراهيم الخليل عليه السلام فكان صلى الله عليه و سلم يأتيهم في منازلهم بمنى وعكاظ ومجنة وذي المجاز فلا يجد أحدا إلا دعاه إلى الله ويقول يا أيها الناس إني رسول الله آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأن تخلعوا ما يعبد دونه من هذه الأنداد وأن تؤمنوا بي وتصدقوني وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به يا أيها الناس إن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي فمن يمنعني أن أبلغ كلام ربي إلا رجل
يحملني إلى قومه فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا بها العرب وتذل لكم بها العجم فيقولون يا محمد أتريد أن تجعل الآلهة إلها واحدا إن أمرك هذا لعجب
وما زال رسول الله صلى الله عليه و سلم يعلن دعوته ويظهر رسالته ويدعو الخلق إليها وهم يؤذونه ويجادلونه ويكلمونه ويردون عليه بأقبح الرد وهو صابر على أذاهم ويقول اللهم لك الحمد لو شئت لم يكونوا هكذا
فلما اشتد عليه أمر قريش خرج إلى الطائف وهي مدينة معروفة
شرقي مكة بينهما نحو ليلتين ومعه زيد بن حارثة ومكث بها عشرة أيام لا يدع أحدا من أشرافهم إلا جاءه في منزله وكلمه ودعاه إلى التوحيد فلم يجبه أحد منهم وخافوه على أحداثهم وأغروا به سفهاءهم فجعلوا يرمونه بالحجارة إذا مشى حتى أن رجليه لتدميان وزيد مولاه يقيه بنفسه حتى ألجأوا إلى ظل كرمة في حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة فرجع عنه ما كان تبعه من سفهائهم فدعا فقال اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي اشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك
فلما رأى ابنا ربيعة ما صنع به رثيا له وقالا لغلام لهما يقال له
عداس وكان نصرانيا خذ قطفا من عنب ثم اجعله في طبق ثم اذهب إلى ذلك الرجل يأكله ففعل عداس وأقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما وضع رسول الله صلى الله عليه و سلم يده قال بسم الله ثم أكل فنظر عداس إلى وجهه ثم قال له والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم من أي البلاد أنت وما دينك فقال عداس أنا نصراني وأنا رجل من أهل نينوى فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم أمن قرية الرجل الصالح موسى بن متى فقال له عداس وما يدريك ما يونس بن متى والله لقد خرجت من نينوى وما فيها عشرة يعرفون متى من أين عرفت أنت متى وأنت أمي وفي أمة أمية فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم هو أخي كان نبيا وأنا نبي فأكب عداس على رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقبل رأسه ويديه ورجليه فلما رجع عداس فقالا ويلك يا عداس مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه ورجليه فقال يا سيدي ما في الأرض خير من هذا الرجل لقد خبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم من الطائف راجعا إلى مكة وهو محزون إذ لم يستجب له رجل واحد ولا امرأة فقال له زيد بن حارثة كيف تدخل عليهم يا رسول الله وقد فعلوا وفعلوا فقال يا زيد إن الله عز و جل جاعل لما ترى فرجا ومخرجا وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه
ثم ذكر ابن إسحاق دخوله إلى مكة وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم لما لقي من أهل مكة والطائف ما لقي ودعا بالدعاء المتقدم نزل عليه جبريل ومعه ملك الجبال كما في صحيح البخاري أن عائشة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه و سلم هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد فقال لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها
جبريل فناداني إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم قال فناداني ملك الجبال وسلم علي ثم قال يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال قد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فقال النبي صلى الله عليه و سلم بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا شريك له
وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أنه قيل للنبي صلى الله عليه و سلم ادع الله على المشركين فقال إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة
وفي الصحيحين عن خباب بن الأرت أنه قال لما اشتد البلاء
علينا من المشركين أتينا النبي صلى الله عليه و سلم فقلنا ألا تدعو الله لنا ألا تستنصر الله لنا فقال لقد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض ثم يجاء بالمنشار فيجعل فوق رأسه حتى يجعل فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم وعصب ما يصرفه عن دينه وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلى الله ولكنكم تستعجلون
وذكر ما لقي النبي صلى الله عليه و سلم من قومه من الأذى والاستهزاء والإغراء وهو صابر محتسب مظهر لأمر الله بتبليغ رسالته لا تأخذه في الله لومة لائم مواجه لقومه بما يكرهون من عيب دينهم وآلهتهم وتضليل آبائهم وتسفيه أحلامهم وإظهار عداوته وقتاله إياهم ما بلغ مبلغ القطع
قال عكرمة عن ابن عباس ولما رجع النبي صلى الله عليه و سلم إلى مكة فلما حضر الموسم حج نفر من الأنصار فانتهى النبي صلى الله عليه و سلم إلى فريق منهم فقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله وأخبرهم بالذي آتاه الله فأيقنوا واطمأنت قلوبهم إلى دعوته وعرفوا ما كانوا يسمعون من أهل الكتاب من ذكرهم إياه بصفته وما يدعوهم إليه فصدقوه وآمنوا به وكان من أسباب الخير الذي ساق الله للأنصار إلى ما كانوا يسمعون من الأخبار في صفته فلما رجعوا إلى قومهم جعلوا يدعونهم سرا ويخبرونهم بأقوال رسول الله صلى الله عليه و سلم والذي بعثه الله به من النور والهدى والقرآن فأسلموا حتى قل أن يوجد دار من دورهم إلا أسلم فيها ناس لا محالة
وقد ذكر الله ذلك في القرآن وأخبر أن أهل الكتاب كانوا يخبرون العرب به ويستفتحون به عليهم فكان أهل الكتاب مقرين بنبوته مخبرين بها مبشرين بها قبل أن يبعث فقال تعالى فيما يخاطب به أهل الكتاب
سورة البقرة الآيات 87 91
فقد أخبر تعالى أن أهل الكتاب كانوا يستفتحون على العرب بمحمد صلى الله عليه و سلم قبل أن يبعث أي يستنصرون به وكانوا هم والعرب يقتتلون فيغلبهم العرب فيقولون سوف يبعث
النبي الأمي من ولد إسماعيل فنتبعه ونقتلكم معه شر قتلة وكانوا ينعتونه بنعوته
وأخبارهم بذلك كثيرة متواترة وكما قال تعالى سورة البقرة الآية 89
وأخبر بما كانت عليه اليهود من أنه كلما جاءهم رسول الله بما لا تهوى أنفسهم كذبوا بعضهم وقتلوا بعضهم وأخبر أنهم باءوا بغضب على غضب فإنهم ما زالوا يفعلون ما يغضب الله عليهم فأما أن يراد بالتثنية تأكيد غضب الله عليهم وأما أن يراد به مرتان والغضب الأول تكذيبهم المسيح والإنجيل والغصب الثاني لمحمد والقرآن
فصل
وكان يأتيهم بالآيات الدالة على نبوته صلى الله عليه و سلم ومعجزاته تزيد على ألف معجزة مثل انشقاق القمر وغيره من الآيات ومثل القرآن المعجز ومثل أخبار أهل الكتاب قبله وبشارة
الأنبياء به ومثل أخبار الكهان والهواتف به ومثل قصة الفيل التي جعلها الله آية عام مولده وما جرى عام مولده من العجائب الدالة على نبوته ومثل امتلاء السماء ورميها بالشهب التي ترجم بها الشياطين بخلاف ما كانت العادة عليه قبل مبعثه وبعد مبعثه ومثل أخباره بالغيوب التي لا يعلمها أحد إلا بتعليم الله عز و جل من غير أن يعلمه إياها بشر
فأخبرهم بالماضي مثل قصة آدم ونوح وإبراهيم وموسى والمسيح وهود وشعيب وصالح وغيرهم وبالمستقبلات وكان قومه يعلمون أنه لم يتعلم من أهل الكتاب ولا غيرهم ولم يكن بمكة أحد من علماء أهل الكتاب ممن يتعلم هو منه بل ولا كان يجتمع بأحد منهم يعرف اللسان العربي ولا كان هو يحسن لسانا غير العربي ولا كان يكتب كتابا ولا يقرأ كتابا مكتوبا
ولا سافر قبل نبوته إلا سفرتين سفرة وهو صغير مع عمه أبي طالب
لم يفارقه ولا اجتمع بأحد من أهل الكتاب ولا غيرهم وسفرة أخرى وهو كبير مع ركب من قريش لم يفارقهم ولا اجتمع بأحد من أهل الكتاب
وأخبر من كان معه بأخبار أهل الكتاب بنبوته مثل إخبار بحيرى الراهب بنبوته وما ظهر منه مما دلهم على نبوته ولهذا تزوجت
به خديجة قبل نبوته لما أخبرت به من أحواله
وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر ولكن المقصود هنا التنبيه بأن محمدا صلى الله عليه و سلم له معجزات كثيرة مثل نبع الماء من بين أصابعه غير مرة ومثل تكثير الطعام القليل حتى أكل منه الخلق العظيم وتكثير الماء القليل حتى شرب منه الخلق الكثير
وهذا ما جرى غير مرة له ولأمته من الآيات ما يطول وصفه فكان بعض أتباعه يحيي الله له الموتى من الناس والدواب وبعض أتباعه يمشي بالعسكر الكثير على البحر حتى يعبروا إلى الناحية الأخرى
ومنهم من ألقي في النار فصارت عليه بردا وسلاما وأمثال ذلك كثير
ولكن المقصود هنا ذكر بعض ما في القرآن من أنه كان يخبرهم بالأمور الماضية خبرا مفصلا لا يعلمه أحد إلا أن يكون نبيا أو من أخبره نبي وقومه يعلمون أنه لم يخبره بذلك أحد من البشر وهذا مما قامت به الحجة عليهم وهم مع قوة عداوتهم له وحصرهم على ما يطعنون به عليه لم يمكنهم أن يطعنوا طعنا يقبل منهم وكان علم سائر الأمم بأن قومه المعادين له المجتهدين في الطعن عليه لم يمكنهم أن يقولوا إن هذه الغيوب علمها إياه بشر فوجب على جميع الخلق أن هذا لم يعلمه إياها بشر ولهذا قال تعالى سورة هود الآية 49
فأخبر أنه لم يكن يعلم ذلك هو ولا قومه وقومه تقر بذلك ولم يتعلم من أحد غير قومه ولهذا زعم بعضهم أنه تعلم من بشر ظهر
كذبه لكل أحد كما قال تعالى سورة النحل الآيات 98 103
فكان بمكة رجل أعجمي مملوك لبعض قريش فادعى بعض الناس أن محمدا كان يتعلم من ذلك الأعجمي فبين الله أن هذا كذب ظاهر فإن ذلك رجل أعجمي لا يمكنه أن يتكلم بكلمة من هذا القرآن العربي ومحمد صلى الله عليه و سلم عربي لا يعرف شيئا من ألسنة العجم فمن كلمه بغير العربية لا يفقه كلامه فلا ذلك
الرجل يحسن التكلم بالعربية ولا محمد صلى الله عليه و سلم يفهم كلاما بغير العربية فلهذا قال تعالى سورة النحل الآية 103
أي يميلون إليه ويضيفون إليه أنه علم محمدا صلى الله عليه و سلم سورة النحل الآية 103
وكذلك قال بعض الناس عن القرآن سورة الفرقان الآية 4
قال تعالى سورة الفرقان الآيات 4 6
فبين سبحانه أن قول هذا من الكذب الظاهر المعلوم لأعدائه فضلا عن أوليائه فإنهم يعلمون أنه ليس عنده أحد يعينه على ذلك
وليس في قومه ولا في بلده من يحسن ذلك ليعينه عليه فلهذا قال تعالى فقد جاءوا ظلما وزورا
فإن جميع أهل بلده وقومه المعادين له يعلمون أن هذا ظلم له وزور ولهذا لم يقل هذا أحد من عقلائهم المعروفين وكذلك قولهم أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا فإن قومه المكذبين له يعلمون أنه ليس عنده من يملي عليه كتابا وقد بين ما يظهر كذبهم بقوله قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض
فإن في القرآن من الأسرار ما لا يعلمه بشر إلا بإعلام الله إياه فإن الله يعلم السر في السموات والأرض ثم لما تبين بطلام قولهم هذا ذكر ما قدحوا به في نبوته فقال تعالى سورة الفرقان الآيتان 7 8
فهذا كلام المعارضين له الذين أنكروا أكله ومشيه في الأسواق التي يباع فيها ما يؤكل وما يلبس وقالوا هلا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يستغني عن ذلك بكنز ينفق منه أو جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا
قال تعالى سورة الفرقان الآية 9
يقول مثلوك بالكاذب والمسحور والناقل عن غيره وكل من هذه الأقوال يظهر كذبه لكل من عرفك ولهذا قال تعالى فضلوا فلا يستطيعون سبيلا
والضال الجاهل العادل عن الطريق فلا يستطيع الطريق الموصلة إلى المقصود بل ظهر عجزهم وانقطاعهم في المناظرة وقال تعالى سورة طه الآية 133
فإنه أتاهم بجلية ما في الصحف الآولى كالتوراة والإنجيل مع علمهم بأنه لم يأخذ عن أهل الكتاب شيئا فإذا أخبرهم بالغيوب التي لا يعلمها إلا نبي أو من أخبره نبي وهم يعلمون أنه لم يعلم ذلك بخبر أحد من الأنبياء تبين لهم أنه نبي وتبين ذلك لسائر الأمم فإنه إذا
كان قومه المعادون وغير المعادين له مقرين بأنه لم يجتمع بأحد يعلمه ذلك صار هذا منقولا بالتواتر وكان مما أقر به مخالفوه مع حرصهم على الطعن لو أمكن
فهذه الأخبار بالغيوب المتقدمة قامت بها الحجة على قومه وعلى جميع من بلغه خبر ذلك وقد أخبر بالغيوب المستقبلة وهذه تقوم بها الحجة على من عرف تصديق ذلك الخبر كما قال تعالى سورة الروم الآيات 2 3
ثم قال سورة الروم الآيات 2 5
وقال تعالى سورة البقرة الآيتان 23 24
فأخبر أنهم لن يفعلوا ذلك في المستقبل وكان كما أخبر وقال تعالى
سورة الإسراء الآية 88
فأخبر أنه لا يقدر الإنس والجن إلى يوم القيامة أن يأتوا بمثل هذا القرآن وهذا الخبر قد مضى له أكثر من سبعمائة سنة ولم يقدر أحد من الإنس والجن أن يأتوا بمثل هذا القرآن وقال عن الكفار وهو بمكة سورة القمر الآية 45
وظهر تصديق ذلك يوم بدر وغيره وبعد ذلك بسنين كثيرة وقال تعالى سورة النور الآية 55
وكان الأمر كما وعده وظهر تصديق ذلك بعد سنين كثيرة وكذلك قوله سورة الفتح الآية 28
فأظهر الله ما بعثه به بالآيات والبرهان واليد والسنان وقال تعالى سورة آل عمران الآية 12
فكان كما أخبرهم غلبوا في الدنيا كما شاهده الناس وهذا يصدق الخبر الأخير وهو أنهم يحشرون إلى جهنم وبئس المهاد
وقد أيده تأييدا لا يؤيد به إلا الأنبياء بل لم يؤيد أحد من الأنبياء كما أيد به كما أنه بعث بأفضل الكتب إلى أفضل الأمم بأفضل الشرائع وجعله سيد ولد آدم صلى الله عليه و سلم فلا يعرف قط أحد ادعى النبوة وهو كاذب إلا قطع الله دابره وأذله وأظهر كذبه وفجوره
وكل من أيده الله من المدعين للنبوة لم يكن إلا صادقا كما أيد نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى وداود وسليمان بل وأيد شعيبا وهودا وصالحا فإن سنة الله أن ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد وهذا هو الواقع فمن كان لا يعلم ما يفعله الله إلا بالعادة فهذه عادة الله وسنته يعرف بها ما يصنع ومن كان يعلم ذلك بمقتضى حكمته فإنه يعلم أنه لا يؤيد من ادعى النبوة وكذب علي
تأييدا لا يمكن أحدا معارضته وهكذا أخبرت الانبياء قبله أن الكذاب لا يتم الله أمره ولا ينصره ولا يؤيده فصار هذا معلوما من هذه الجهات ولهذا أمر سبحانه أن نعتبر بما فعله في الأمم الماضية من جعل العاقبة للأنبياء وأتباعهم وانتقامه ممن كذبهم وعصاهم
قال تعالى سورة غافر الآية 51
وقال تعالى سورة الصافات الآيات 171 173
وقال تعالى سورة غافر الآية 5
وقال تعالى
سورة الحج الآيات 40 46
وقال تعالى سورة الروم الأيتان 9 10
وقال تعالى سورة غافر الآيتان 4 5
وقال تعالى سورة غافر الآيتان 21 22
وقال تعالى سورة غافر الآيات 81 85
وقال تعالى سورة ص الآيات 12 14
وقال تعالى سورة الشعراء الآيتان 5 6
فأخبر بأن المكذبين له سيأتيهم في المستقبل أخبار القرآن الذي استهزءوا به وبين أن ما أخبرهم به حق بوقوع الخبر مطابقا للخبر وكان الأمر كذلك ومثله قوله سورة فصلت الآية 53
أخبر أنه سيريهم في أنفسهم وفي الآفاق ما يبين أن القرآن حق بأن يروا ما أخبر به كما أخبر به ثم قال سورة فصلت الآية 53
فإنه قد يشهد للقرآن بأنه حق بالآيات البينات والبراهين الدالة على صدقه التي تتبين بشهادة الرب تعالى بأنه حق فلا يحتاج مع الشهادة الحاضرة إلى انتظار الآيات المستقبلة وقال تعالى سورة القمر الآيات 1 5
أخبر باقتراب الساعة وانشقاق القمر وانشقاق القمر قد عاينوه وشاهدوه وتواترت به الأخبار وكان النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ هذه السورة في المجامع الكبار مثل الجمع والأعياد ليسمع الناس ما فيها من آيات النبوة ودلائلها والاعتبار وكل الناس يقر ذلك ولا ينكره فعلم أن انشقاق القمر كان معلوما عند الناس عامة ثم ذكر حال الأنبياء ومكذبيهم فقال
سورة القمر الآيات 9 15
فأخبر أنه أبقى السفن آية على قدرة الرب وعلى ما جرى لنوح مع قومه ثم قال فكيف كان عذابي لمن كذب ونذري وكذلك ذكر قصة عاد وثمود ولوط وغيرهم يقول في عقب كل قصة فكيف كان عذابي ونذر ونذره وإنذاره وهو ما بلغته عنه الرسل من الإنذار وكيف كانت عقوبته للمنذرين
والإنذار هو الإعلام بالمخوف فتبين بذلك صدق ما أخبرت به الرسل من الإنذار وشدة عذابه لمن كذب رسله وذكر قصة فرعون فقال سورة القمر الآيات 41 45
وذكر في قصة محمد صلى الله عليه و سلم مع الناس أنواعا من ذلك فقال
سورة آل عمران الآية 13
وقال تعالى سورة الحشر الآيات 2 4
ومثل هذا كثير في القرآن من ذكر دلائل النبوة وأعلام الرسالة ليس هذا موضع بسطه وإنما المقصود هنا التنبيه على جنس ذلك وما يذكره بعض أهل الكتاب أو غيرهم من أنه نصر فرعون ونمرود
وسنحاريب وجنكسان وغيرهم من الملوك الكافرين جوابه ظاهر فإن هؤلاء لم يدع أحد منهم النبوة وأن الله أمره أن يدعو إلى عبادة الله وطاعته ومن أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار بخلاف من ادعى أن الله أرسله بذلك فإنه لا يكون إلا رسولا صادقا ينصره الله ويؤيده وينصر أتباعه ويجعل العاقبة لهم أو يكون كذابا فينتقم الله منه ويقطع دابره ويتبين أن ما جاءه به ليست من الآيات والبراهين التي لا تقبل المعارضة بل هي من جنس مخارق السحرة والكهان والكذابين التي تقبل المعارضة فإن معجزات الأنبياء من خواصها أنه لا يقدر أحد أن يعارضها ويأتي بمثلها بخلاف غيرها فإن معارضتها ممكنة فيبطل دلالتها
والمسيح الدجال يدعي الإلهية ويأتي بخوارق ولكن نفس دعواه الإ لاهية دعوى ممتنعة في نفسها ويرسل الله عليه المسيح بن مريم فيقتله ويظهر كذبه ومعه ما يدل على كذبه من وجوه
منها أنه مكتوب بين عينيه كافر
ومنها أنه أعور والله ليس بأعور
ومنها أن أحدا لن يرى ربه حتى يموت ويريد أن يقتل الذي قتله أولا فيعجز عن قتله
فمعه من الدلائل الدالة على كذبه ما يبين أن ما معه ليس آية على صدقه بخلاف معجزات الأنبياء فإنه لا يمكن أحد من الإنس والجن أن يأتي ينظيرها ولا يبطلها مثل قلب العصل حية لموسى وإخراج ناقة لصالح من الأرض وإحياء الموتى للمسيح وانشقاق القمر وأنزال القرآن وغير ذلك لمحمد صلى الله عليه و سلم فإن المشركين لما سألوا النبي صلى الله عليه و سلم آية واقترحوا عليه انشقاق القمر فأراهم ذلك
وقد أخبر الله تعالى بذلك في القرآن فقال تعالى سورة القمر الآيات 1 7
ثم ذكر تعالى ما جرى قبله للمكذبين فذكر قصة قوم نوح وهود وصالح ولوط ثم فرعون وهذه السورة كان النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ بها في أعظم اجتماعات الناس عنده وهي الاعياد والناس كلهم يسمعون ما يذكره من انشقاق القمر وقول المكذبين أنه سحر
والناس كلهم المؤمن به والمنافق والكافر يقرون على هذا لم يقل أحد منهم أن القمر لم ينشق ولا أنكره أحد
وفي صحيح مسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبا واقد الليثي ما يقرأ به رسول الله صلى الله عليه و سلم في الأضحى والفطر فقال كان يقرأ فيهما بقاف والقرآن المجيد واقتربت الساعة وانشق القمر
ومعلوم بالضرورة في مطرد العادة أنه لو لم يكن انشق لأسرع الناس المؤمنون به إلى تكذيب ذلك فضلا عن أعدائه من الكفار والمنافقين لا سيما وهو يقرأ عليهم ذلك في أعظم مجامعهم
وأيضا فمعلوم أن محمدا صلى الله عليه و سلم كان من أحرص الخلق على تصديق الناس له واتباعهم إياه مع أنه كان أخبر الناس بسياسة الخلق فلو لم يكن القمر انشق لما كان يخبر بهذا ويقرأه على جميع الخلق ويستدل به ويجعله آية له فإن من يكون من أقل الناس خبرة بالسياسة لا يتعمد إلى ما يعلم جميع الناس أنه كاذب به فيجعله من أعظم آياته الدالة على صدقه ويقرأه على الناس في أعظم المجاميع
وقال اقتربت الساعة وانشق القمر بصيغة الفعل الماضي ولم يقل قامت الساعة ولا ستقوم بل قال اقتربت أي دنت وقربت وانشق القمر الذي هو دليل على نبوة محمد وعلى إمكان انحراق الفلك الذي هو قيام القيامة وهو سبحانه قرن بين خبره باقتراب الساعة وخبره بانشقاق القمر فإن مبعث محمد صلى الله عليه و سلم هو من أشراط الساعة وهو دليل على قربها كما قال صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح بعثت أنا والساعة كهاتين وجمع بين أصبعيه السبابة والوسطى وقد قال تعالى سورة محمد الآية 18
وعلم الساعة أخفاها الله عن جميع خلقه كما يذكر ذلك عن
المسيح في الإنجيل أنه لما سئل عنها فقال إنها لا يعلمها أحد من الناس ولا الملائكة ولا الابن وإنما يعلمها الأب وحده وهذا مما يدل على أنه ليس هو رب العالم وكذلك محمد صلى الله عليه و سلم أخبر بذلك لما سئل عنها
قال تعالى يسئلونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض
أي خفيت على أهل السموات والأرض سورة الأعراف الآية 187
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال تسألوني عن الساعة وإنما علمها عند الله فانشقاق القمر كان آية
على شيئين على صدق الرسول وعلى مجيء الساعة وإمكان انشقاق الفلك فإن المنكرين لقيام القيامة الكبرى قيام الناس من قبورهم لرب العالمين وانشقاق السموات وانفطارها سواء أقروا بالقيامة الصغرى وأن الأرواح بعد الموت تنعم أو تعذب كما هو قول الفلاسفة اللا آلهيين أو أنكروا المعاد مطلقا كما أنكر ذلك من أنكره من مشركي العرب والفلاسفة الطبيعيين وغيرهم ينكرون انشقاق السموات
ويزعم هؤلاء الدهرية أن الأفلاك لا يجوز عليها الانشقاق كما ذكر ذلك أرسطو وأتباعه وزعموا أن الانشقاق يقتضي حركة مستقيمة وهي ممتنعة بزعمهم في الفلك المحدد إذ لا خلاء وراءه عندهم وهذا لو دل فإنما يدل على ذلك في الفلك الأطلس لا فيما دونه فكيف وهو باطل فإن الحركة المستقيمة هناك بمنزلة جعل الأفلاك ابتداء في هذه الأحياز التي هي فيها سواء سمي خلاء أو لم يسم كما هو مذكور في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أنه تعالى أخبر بانشقاق القمر مع اقتراب الساعة لأنه دليل على إمكان انشقاق الافلاك وانفطارها الذي هو قيام الساعة الكبرى وهو آية على نبوة محمد صلى الله عليه و سلم الذي هو من أشراط الساعة والله تعالى في كتابه يجمع بين ذكر القيامة الكبرى والصغرى كما في سورة الواقعة ذكر في أولها القيامة الكبرى وفي آخرها القيامة الصغرى وذلك كثير في سور القرآن مثل سورة ق وسورة القيامة وسورة التكاثر وسورة الفجر وغير ذلك
وقد استفاضت الأحاديث بانشقاق القمر ففي الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة دونه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اشهدوا وفي لفظ ونحن معه بمنى فقال كفار قريش سحركم ابن أبي كبشة فقال جل منهم إن محمدا إن كان سحر القمر فإنه لا يبلغ من سحره أن يسحر الأرض كلها فاسألوا من يأتيكم من بلد آخر هل رأوا هذا فأتوا فسألوهم فأخبروهم أنهم رأوا مثل ذلك
وعن أنس بن مالك أنه قال سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه و سلم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر فرقتين حتى رأوا حراء بينهما فنزلت سورة القمر الآيتان 1 2
وهذا حديث صحيح مستفيض رواه ابن مسعود وأنس بن مالك وابن عباس وهو أيضا معروف عن حذيفة قال أبو الفرج بن الجوزي والروايات في الصحيح بانشقاق القمر عن ابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأنس رضي الله عنهم
ولما زعموا أن هذا القرآن هو ألفه
قال الله تعالى سورة الطور الآيتان 33 34
ثم تحداهم بعشر سور فقال تعالى سورة هود الآيتان 13 14
ثم تحداهم بسورة واحدة فقال سورة البقرة الآيتان 23 24
وقال تعالى أيضا سورة يونس الآية 38
فعجز جميع الخلق أن يعارضوا ما جاء به ثم سجل على جميع الخلق العجز إلى يوم القيامة بقوله
سورة الإسراء الآية 88
فأخبرمن ذلك الزمان أن الإنس والجن إذا اجتمعوا لا يقدرون على معارضة القرآن بمثله فعجز لفظه ومعناه ومعارفه وعلومه أكمل معجزة وأعظم شأنا والأمر كذلك فإنه لم يقدر أحد من العرب وغيرهم مع قوة عداوتهم وحرصهم على إبطال أمره بكل طريق وقدرتهم على أنواع الكلام أن يأتوا بمثله وأنزل الله إذ ذاك آيات بين فيها أنه رسول إليهم ولم يذكر فيها أنه لم يرسل إلى غيرهم
فقال تعالى في سورة القصص الآيات 43 47
وقال في سورة السجدة الآية 3
وقال في سورة يس الآيات 1 6
ذكر تعالى في هذه الآيات الثلاث نعمته على هؤلاء وحجته عليهم بإرساله وذكر بعض حكمته في إرساله وذلك لا يقتضي أنه لم يرسل إلا لهذا بل مثل هذا كثير معروف في لسان العرب وغيرهم
قال تعالى سورة النحل الآية 8
ومعلوم أن في هذه الدواب منافع غير الركوب وقال تعالى سورة غافر الآيتان 15 16
فقد أخبر أنه ينزل الملائكة بالوحي على الأنبياء لينذروا يوم القيامة وذلك لا يمنع أن يكونوا نزلوا بالبشارة للمؤمنين والأمر والنهي بالشرائع وقال تعالى سورة الطلاق الآية 12
فأخبر تعالى أنه خلق العالم العلوي والسفلي ليعلم العباد قدرته وعلمه ومع هذا ففي خلق ذلك له من الحكمة أمرو أخرى غير علم العباد ومثل ذلك قوله تعالى سورة المائدة الآية 97
ومعلوم أن في جعل الكعبة قياما للناس والهدى والقلائد حكما ومنافع أخرى
وقال تعالى سورة النجم الأية 31
ومعلوم أن في ملك الله حكما أخرى غير جزاء المحسن والمسيء وكذلك قوله سورة الجاثية الآية 22
وقال تعالى سورة النساء الآيات 163 165
ومعلوم أن في إرسال الرسل سعادة من آمن بهم وغيرها حكم أخرى غير دفع حجة الخلق على الله وكذلك قوله تعالى سورة الحج الآية 37
ومعلوم أن في تسخيرها حكما ومنافع غير التكبير وقوله سورة البقرة الآية 185
وقال تعالى سورة إبراهيم الآيات 32 34
ومعلوم أن لله حكما في خلق الشمس والقمر والليل والنهار غير انتفاع بني آدم وكذلك قوله سورة يونس الآية 67
وقوله سورة الفرقان الآية 62
وفيها حكم أخرى وقال سورة البقرة الآية 213
وفي إنزال الكتاب من هدى من اهتدى به واتعاظه وغير ذلك مقاصد غير الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه
وقال تعالى
سورة النحل الآيتان 38 39
ومعلوم أن في مبعث الخلق يوم القيامة مقاصد غير بيان المختلف في علم هؤلاء ومما يبين ذلك أنه قال في الآية التي احتجوا بها سورة يس الآية 6
ومعلوم أنه لم يبعث لمجرد الإنذار بل وليبشر من آمن به ولأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وتحليل الطيبات وتحريم الخبائث وغير ذلك من مقاصد الرسل كما قال تعالى سورة النساء الآية 165
وقوله سورة الأنعام الآية 48
لا ينافي كونه لم يصفهم في موضع آخر إلا بالإنذار وقد قال سورة الكهف الآيات 1 5
وكان المسلمون مرة صلوا صلاة العيد بحضرة حصار النصارى فقام خطيبهم فخطب بهذه الآية ولما قرأ قوله
سورة الكهف الآية 2
أشار إلى جند الإيمان ولما قرأ قوله سورة الكهف الآية 4
أشار إلى جند الصلبان
وقال تعالى سورة الحديد الآية 25
وفي إنزال الكتاب والميزان حكم أخرى من البشارة والإنذار وغير ذلك وكذلك قوله عن أهل الكهف سورة الكهف الآية 12
وفي بعثهم حكم أخرى بدليل قوله سورة الكهف الآية 21
وقال تعالى سورة الجن الآيتان 27 28
ومعلوم أن في ذلك مقاصد أخرى من هداية الخلق وقيام
الحجة على من بلغهم وغير ذلك وقوله سورة ص الآية 29
وفيه حكم أخرى من قيام الحجة على الخلق وضلال من ضل به ومثله قوله سورة إبراهيم الآية 52
ومعلوم أن في ذلك مقاصد أخرى من البشارة والأمر والنهي وغير ذلك وكذلك قوله سورة الحديد الآية 28 29
ومعلوم أن في جزاء المؤمنين مقاصد أخرى غير علم أهل الكتاب وما معه وقال تعالى سورة الأنعام الآية 92
ومعلوم أن فيه حكما أخرى مثل تبشير من آمن به والأمر والنهي وإنذار غير هؤلاء من العرب
وقال تعالى سورة يس الآيتان 69 70
ومعلوم أن فيه حكمة أخرى غير الإنذار وقال تعالى سورة الأحقاف الآية 12
ومعلوم أن فيه حكمة أخرى من إنذار الخلق كلهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وتبشير المؤمنين فقال تعالى سورة الأحزاب الآيتان 7 8
ومعلوم أن في أخذ الميثاق حكما أخرى وقال تعالى سورة الفتح الآيتان 1 2
وقوله سورة الإسراء الآية 1
وقوله سورة الإسراء الآية 12
وكذلك قوله سورة يونس الآية 5
وفي ذلك كله حكم أخرى وكذلك قوله سورة القصص الآية 8
وإن كانت هذه لام العاقبة فليست العاقبة منحصرة في ذلك بل في ذلك من الإحسان إلى موسى وتربيته وغير ذلك حكم أخرى ومثل قوله سورة الأنعام الآية 137
وقال تعالى سورة الصف الآية 9
وفي إرساله حكم أخرى وكذلك قوله سورة النساء الآية 105
وفي أنزاله تبشير وإنذار وأمر ونهي ووعد ووعيد وكذلك قوله في عيسى بن مريم سورة مريم الآية 21
وكذلك قوله سورة الجاثية الآية 12
وفيه حكم أخرى كما قال في الآية الأخرى سورة النحل الآية 14
وقال سورة فاطر الآية 12
وقال تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك
إلى قوله سورة الأنعام الآيتان 112 113
وكذلك قوله سورة البقرة الآية 143
وفي كونهم وسطا حكم أخرى
وقوله سورة الملك الآية 2
وفيهما حكم أخرى وكذلك قوله سورة الفرقان الآية 1
وفي ذلك حكم أخرى من البشارة والأمر والنهي
وقال تعالى سورة آل عمران الآيتان 140 141
وفي ذلك حكم أخرى ومثل ذلك كثير في كلام الله عز و جل وغير كلام الله إذا ذكر حكمة للفعل لم يلزم أن لا تكون له حكمة أخرى لكن لا بد لتخصيص تلك الحكمة بالذكر في ذلك الموضع من مناسبته وهذا كالمناسبة في قوله سورة يس الآية 6
فإن هؤلاء كانوا أول المنذرين وأحقهم بالإنذار فكان في تخصيصهم بالذكر فائدة لا أنه خصهم لانتفاء إنذار من سواهم
وقال تعالى سورة الشعراء الآيات 193 195
ومعلوم أنه نزل به ليكون بشيرا وليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحل الطيبات ويحرم الخبائث ويضع الآصار والأغلال صلى الله عليه و سلم
فصل
وأما احتجاجهم بقوله تعالى سورة البقرة الآية 151
وقوله تعالى سورة آل عمران الآية 164
فهذا كقوله تعالى سورة التوبة الآية 128
وهذا في عمومه نزاع فإنه إما أن يكون خطابا لجميع الناس ويكون المراد إنا بعثنا إليكم رسولا من البشر إذ كنتم لا تطيقون أن تأخذوا عن ملك من الملائكة فمن الله عليكم بأن أرسل إليكم رسولا بشريا
قال تعالى سورة الأنعام الآيتان 8 9
وأما أن يكون الخطاب للعرب وعلى التقديرين فإن ما تضمن ذكر أنعامه على المخاطبين بإرساله رسولا من جنسهم وليس في هذا ما يمنع أن يكون مرسلا إلى غيرهم فإنه إن كان خطابا للإنس كلهم فهو أيضا مرسل إلى الجن وليس من جنسهم فكيف يمتنع إذا كان خطابا للعرب بما امتن به عليهم أن يكون قد امتن على غيرهم بذلك فالعجم أقرب إلى العرب من الجن إلى الإنس وقد أخبر في الكتاب العزيز أن الجن لما سمعوا القرآن آمنوا به
قال تعالى سورة الأحقاق الآيات 29 32
وقال
سورة الجن كلها
ونظير هذا قوله سورة الزخرف الآية 44
وقومه قريش ولا يمنع أنه ذكر لسائر العرب بل لسائر الناس
كما قال تعالى سورة القلم الآيتان 51 52
وقال تعالى سورة الفرقان الآية 1
وقال تعالى سورة ص الآيات 86 88
وقال تعالى سورة التكوير الآيات 19 29
وقال تعالى سورة النساء الآية 79
وهذا على أصح القولين وأن المراد بقوله وإنه لذكر لك ولقومك
أنه ذكر لهم يذكرونه فيهتدون به
وقيل أن المراد أنه شرف لهم وليس بشيء فإن القرآن هو شرف لمن آمن به من قومه وغيرهم وليس شرفا لجميع قومه بل من كذب به منهم كان أحق بالذم كما قال تعالى سورة المسد الآية 1
وقال تعالى سورة الأنعام الآية 66
بخلاف كونه تذكرة وذكرى فإنه تذكرة لهم ولغيرهم كما قال تعالى سورة الأنعام الآية 90
فعم العالمين جميعهم فقال سورة يوسف الآية 104
فصل
هذا الكلام على الوجه الأول وهو قول من يقول أنه لم يقل أنه أرسل إلا إلى العرب
وأما الوجه الثاني وهو أن نقول هو ذكر أنه رسول إلى الناس كافة كما نطق به القرآن في غير موضع كقوله تعالى سورة سبأ الآية 28
وقوله سورة الأعراف الآية 158
وقد صرح فيه بدعوة أهل الكتاب وبدعوة الجن في غير موضع فإذا سلموا أنه ذكر ذلك ولكن كذبوه في ذلك
فإما أن يقروا برسالته إلى العرب أو لا يقروا
فإن أقروا بأنه رسول أرسله الله لم يمكن مع ذلك تكذيبه كما تقدم بل يجب الإقرار برسالته إلى جميع الخلق كما أخبر بذلك كما تقدم أن من ذكر أنه رسول الله لا يكون إلا من أفضل الخلق وأصدقهم أو من شر الخلق وأكذبهم فإنه إن كان صادقا فهو من أفضلهم وإن كان
كاذبا فهو من شرهم وإذا كان الله قد أرسله ولو إلى قرية كما أرسل يونس بن متى إلى أهل نينوى كان من أفضل الخلق وكان صادقا لا يكذب على الله ولا يقول عليه إلا الحق ولو كذب على الله ولو في كلمة واحدة لكان من الكاذبين لم يكن من رسل الله الصادقين فإن الكاذب لا يكذب في كل شيء بل في البعض فمن كذب على الله في كلمة واحدة فقد افترى على الله الكذب وكان من القسم الكاذبين في دعوى الرسالة لا من الصادقين
وأيضا فإن مقصود الرسالة تبليغ رسالات الله على وجهها فإذا خلط الكذب بالصدق لم يحصل مقصود الرسالة
وأيضا فإذا علم أنه كذب في بعضها لم يتميز ما صدق فيه مما كذب فيه إلا بدليل آخر غير رسالته فلا يحصل المقصود برسالته
ولهذا أجمع أهل الملل قاطبة على أن الرسل معصومون فيما يبلغونه عن الله تبارك وتعالى لم يقل أحد قط أن من أرسله الله يكذب عليه وقد قال تعالى ما يبين أنه لا يقر كاذبا عليه قال تعالى سورة الحاقة الآيات 44 47
وقال تعالى سورة الشورى الآية 24
ثم قال تعالى سورة الشورى الآية 24
فقوله تعالى سورة الشورى الآية 24
كلام مستأنف ليس داخلا في جواب الشرط فإنه لو كان معطوفا على جواب الشرط لقال ويحق الحق بالكسر لالتقاء الساكنين كما في قوله قم الليل
فلما قال ويحق الحق بالضم دل على أنه جملة مستأنفة أخبر فيها أنه تعالى يمحو الباطل كباطل الكاذبين عليه ويحق الحق كحق الصادقين عليه فمحو الباطل نظير إحقاق الحق ليس مما علق بالمشيئة بل لا بد منه بخلاف الختم على قلبه فإنه معلق بالمشيئة ولا يجوز أن يعلق بالمشيئة محو الباطل كتعليق الختم بل يقذف بالحق على الباطل فيدمغه
وقال تعالى في صيانته وإحكامه لما تبلغه رسله سورة الحج الآيات 52 54
وأيضا فإذا لم يكن أرسل إلا إلى العرب وقد دعا اليهود والنصارى إلى الإيمان به وكفرهم إذا لم يؤمنوا به وجاهدهم وقتل مقاتلهم وسبى ذرياتهم كان ذلك ظلما لا يفعله إلا من هو من أظلم الناس ومن كان نبيا قد أرسله الله فهو منزه عن هذا وهذا
فالإقرار برسالته إلى العرب دون غيرهم مع ما ظهر من عموم دعوته للخلق كلهم قول متناقض ظاهر الفساد وكل ما دل عليه أنه رسول فإنه يستلزم رسالته إلى جميع الخلق وكل من اعترف بأنه رسول لزمه الاعتراف بأنه رسول إلى جميع الخلق وإلا لزم أن يكون الله أرسل رسولا يفتري عليه الكذب ويقول للناس إن الله أمركم باتباعي وأمرني
بجهادكم إذا لم تفعلوا وهو كاذب في ذلك ومعلوم أن كل ما دل على أن الله أرسله فإنه يدل على أنه صادق في الرسالة وإلا فلا فالرسول الكاذب لا يحصل به مقصود الرسالة بل يكون من جملة المفترين على الله الكذب وأولئك ليسوا من رسل الله ولا يجوز تصديقهم في قولهم إن الله أرسلهم انتهى المجلد الأول ويليه المجلد الثاني وأوله فصل وأما أن لا يقروا برسالته
فصل
وإما أن لا يقروا برسالته إلى العرب ولا غيرهم بل قالوا فيه ما كان يقوله مشركو العرب من أنه شاعر أو ساحر أو مفتر كاذب ونحو ذلك فيقال لهم على هذا التقدير فدليلكم أيضا باطل ولا يجوز أن تحتجوا بتقدير تكذيبكم لمحمد بشيء من كلام الأنبياء قبله سواء صدقتم محمدا في جميع ما يقوله أو في بعضه أو كذبتموه فدليلكم باطل فيلزم بطلان دينكم على كل تقدير وما ثبت بطلانه على كل تقدير فهو باطل في نفس الأمر فيثبت أنه باطل في نفس الأمر وذلك أنكم إذا كذبتم محمدا لم يبق لكم طريق تعلمون به صدق غيره من الأنبياء فيمتنع مع تكذيبه القول بصدق غيره بل من اعتقد كذبه وصدق غيره لم يكن عالما بصدق غيره بل يكون مصدقا لهم بغير علم وإذا لم يكن عالما بصدقهم لم يجز احتجاجه قط بأقوالهم بل ذلك قول منه بلا علم ومحاجة فيما لا علم له بها فإن الدلائل الدالة على صدق محمد أعظم وأكثر من الدلائل الدالة على صدق موسى وعيسى ومعجزاته أعظم من معجزات غيره والكتاب الذي أرسل به أشرف من الكتاب الذي بعث به غيره والشريعة التي جاء بها
أكمل من شريعة موسى وعيسى عليهما السلام وأمته أكمل في جميع الفضائل من أمة هذا وهذا ولا يوجد في التوراة والإنجيل علم نافع وعمل صالح إلا وهو في القرآن أو مثله أو منه وفي القرآن من العلم النافع والعمل الصالح ما لا يوجد مثله في التوراة والإنجيل فما من مطعن من مطاعن أعداء الأنبياء يطعن به على محمد إلا ويمكن توجيه ذلك الطعن وأعظم منه على موسى وعيسى
وهذه جملة مبسوطة في موضع آخر لم نبسطها هنا لأن جواب كلامهم لا يحتاج إلى ذلك فيمتنع الإقرار بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام مع التكذيب بنبوة محمد ولا يفعل ذلك إلا من هو من أجهل الناس وأضلهم أو من أعظمهم عنادا واتباعا لهواه وذلك أن هؤلاء القوم احتجوا بما نقلوه عن الأنبياء ولم يذكروا الأدلة الدالة على صدقهم بل أخذوا ذلك مسلما وطلبوا ان يحتجوا بما نقلوه عن الأنبياء قبله وبما نقلوه عنه على صحة دينهم
وهذه حجة داحضة سواء صدقوه أو كذبوه فإن صدقوه بطل دينهم وإن كذبوه بطل دينهم فإنهم إن صدقوه فقد علم أنه دعاهم وجميع أهل الأرض إلى الإيمان به وطاعته كما دعا المسيح وموسى وغيرهما من الرسل وأنه أبطل ما هم عليه من الاتحاد وغيره وكفرهم في غير موضع ولهذا كان مجرد التصديق بأن محمدا رسول الله ولو إلى العرب يوجب بطلان دين النصارى واليهود وكل دين يخالف دينه فإن من كان رسولا لله فإنه لا يكذب على الله ومحمد قد علم منه أنه دعا النصارى واليهود إلى الإيمان به وطاعته كما دعا غيرهم وأنه كفر من لم يؤمن به ووعده النار وهذا متواتر عنه تواترا تعلمه العامة والخاصة وفي القرآن من ذلك ما يكثر ذكره كما قال تعالى
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة فيها كتب قيمة وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جآءتهم البينة ومآ أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفآء ويقيموا الصلوة ويؤتوا الزكوة وذلك دين القيمة إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيهآ أولئك هم شر البرية إن الذين امنوا وعملوا الصلحت أولئك هم خير البرية جزآؤهم عند ربهم جنت عدن تجري من تحتها الأنهار خلدين فيهآ أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه
وقال تعالى
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قآئما بالقسط لآ إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الاسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جآءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بايت الله فإن الله سريع الحساب فإن حآجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأمين أسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلغ والله بصير بالعباد
وقد ذكر كفر اليهود والنصارى في غير موضع كقوله تعالى عن النصارى
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا
وقال تعالى أيضا
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يبني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأونه النار وما للظالمين من أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله
ويستغفرونه والله غفور رحيم ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون قل اتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل
وقال تعالى
يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقهآ إلى مريم وروح منه فأمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا فأما الذين إمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا يا أيها الناس قد جآءكم برهان من ربكم وأنزلنآ إليكم نورا مبينا فأما الذين إمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما
وقال تعالى
وقالت اليهود عزيز ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لآ إله إلا هو سبحانه عما يشركون
وقال تعالى
وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس إتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولآ أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد
فقد قال تعالى
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم
في الموضعين
وقال تعالى
لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة
وقال تعالى ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم
وقال تعالى
وقالت النصارى المسيح ابن الله
والنصارى قالت الأقوال الثلاثة فذكر الله عنهم هذه الأقوال لكن من الناس من يظن أن هذا قول طائفة منهم وهذا قول طائفة منهم
كما ذكره طائفة من المفسرين كابن جرير الطبري والثعلبي وغيرهما ثم تارة يحكون عن اليعقوبية أن عيسى هو الله
وعن النسطورية أنه ابن الله وعن المريوسية أنه ثالث ثلاثة وتارة يحكون عن النسطورية انه ثالث ثلاثة وعن الملكية انه الله ويفسرون قولهم ثالث ثلاثة بالأب والإبن وروح القدس
والصواب ان هذه الأقوال جميعها قول طوائف النصارى المشهورة الملكية واليعقوبية والنسطورية فإن هذه الطوائف كلها تقول بالأقانيم الثلاثة الآب والإبن وروح القدس فتقول غن الله ثالث ثلاثة وتقول عن المسيح إنه الله وتقول أنه إبن الله وهم متفقون على إتحاد اللاهوت والناسوت وأن المتحد هو الكلمة وهم متفقون على عقيدة إيمانهم التي تتضمن ذلك وهو قولهم نؤمن بإله واحد اب ضابط الكل خالق السموات والأرض كل ما يرى وما لا يرى وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الآب
قبل كل الدهور نور من نور إله حق من إله حق مولود غير مخلوق
وأما قوله تعالى
ولا تقولوا ثلاثة
وقوله
لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة
فقد فسروه بالتثليث المشهور عنهم المذكور في أمانتهم ومن الناس من يقول إن الله هو المسيح ابن مريم قول اليعقوبية وقولهم ثالث ثلاثة هو قول النصارى الذين يقولون بالآب والإبن والروح القدس وهم قد جعلوا الله فيها ثالث ثلاثة وسموا كل واحد من الثلاثة بالإله والرب وقد فسره طائفة بجعلهم عيسى وأمه إلهين يعبدان من دون الله
قال السدي في قوله تعالى
لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة
قال قالت النصارى إن الله هو المسيح وأمه فذلك قوله
ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله
وقد قيل قول ثالث أغرب من ذلك عن أبي صخر قال
لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة
قال هو قول اليهود عزيز ابن الله وقول النصارى المسيح ابن الله فجعلوا الله ثالث ثلاثة وهذا ضعيف وقد ذكر سعيد بن البطريق في أخبار النصارى ان منهم طائفة يقال لهم
المريميون يقولون إن مريم إله وإن عيسى إله
وأما الأول فمتوجه فإن النصارى المتفقين على الأمانة كلهم يقولون إن الله ثالث ثلاثة والله تعالى قد نهاهم عن أن يقولوا ذلك فقال تعالى
يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فأمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم
فذكر سبحانه في هذه الآية التثليث والاتحاد ونهاهم عنهما وبين أن المسيح إنما هو رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه
وقال
فأمنوا بالله ورسوله
ثم قال
ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم
لم يذكر هنا أمه وقوله تعالى
وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه
قال معمر عن قتادة وكلمته ألقاها إلى مريم هو قوله كن فكان
وكذلك قال قتادة ليس الكلمة صار عيسى ولكن بالكلمة صار عيسى
وكذلك قال الإمام أحمد في مصنفه الذي صنفه في كتابه في الرد على الجهمية وذكره عنه الخلال والقاضي أبو يعلى قال أحمد
ثم إن الجهم ادعى أمرا فقال إنا وجدنا في كتاب الله آية تدل على أن القرآن مخلوق قلنا أي آية قال قول الله
إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته
فقلنا إن الله منعكم الفهم في القرآن عيسى عليه السلام تجري عليه ألفاظ لا تجري على القرآن لأن عيسى يجري عليه نسمة ومولود وطفل وصبي وغلام يأكل ويشرب وهو يخاطب بالأمر والنهي يجري عليه الوعد والوعيد هو من ذرية نوح ومن ذرية إبراهيم ولا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى هل سمعتم الله يقول في القرآن ما قال عيسى ولكن المعنى في قوله جل ثناؤه
إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه
فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له كن فكان عيسى ب كن وليس عيسى هو الكن ولكن بالكن كان فالكن من الله قوله وليس الكن مخلوقا وكذبت النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى وذلك أن الجهمية قالوا عيسى روح الله وكلمته لأن الكلمة مخلوقة
وقالت النصارى روح الله من ذات الله وكلمة الله من ذات الله كما يقال هذه الخرقة من هذا الثوب وقلنا نحن إن عيسى بالكلمة كان وليس عيسى هو الكلمة
قال أحمد وأما قوله جل ثناؤه
وروح منه
يقول من أمره كان الروح فيه كقوله
وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه
يقول من أمره وتفسير روح الله إنما معناها أنها روح بكلمة الله خلقهم الله كما يقال عبدالله وسماء الله وفي نسخة روح يملكها الله خلقها الله
وقال الشعبي في قوله تعالى
وكلمته ألقاها إلى مريم
الكلمة حين قال له كن فكان عيسى ب كن وليس عيسى هو الكن ولكن بالكن كان
وقال ليث عن مجاهد روح منه قال رسول منه يريد مجاهد قوله
فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك
والمعنى أن عيسى خلق من الروح وهو جبريل روح القدس سمي روحا كما سمي كلمة لأنه خلق بالكلمة والنصارى يقولون في أمانتهم تجسد من مريم ومن روح القدس لأنه كذلك في الكتب المتقدمة لكن ظنوا أن روح القدس هو صفة لله وجعلوها حياته وقدرته وهو رب وهذا غلط منهم فإنه لم يسم أحد من الأنبياء حياة الله ولا قدرته ولا شيئا من صفاته روح القدس بل روح القدس في غير موضع من كلام الأنبياء عليهم السلام يراد بها ما ينزله الله على قلوب الأنبياء كالوحي والهدى والتأييد ويراد بها الملك وهكذا في تفسير ابن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس أن عيسى بن مريم استقبل رهطا من اليهود فلما رأوه قالوا قد جاء الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة فقذفوه وأمه فلما سمع عيسى ذلك
قال اللهم أنت ربي وأنا من روحك خرجت وبكلمتك خلقتني ولم آتهم من تلقاء نفسي وذكر تمام الحديث
وقد قال تعالى
والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها داية للعالمين
وقال تعالى ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا
فهذا يوافق قوله تعالى
فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك
والمقصود هنا أنهم سواء صدقوا محمدا أو كذبوه فإنه يلزم بطلان دينهم على التقديرين فإنه إن كان نبيا صادقا فقد بلغ عن الله
في هذا الكتاب كفر النصارى في غير موضع ودعاهم إلى الإيمان به وأمر بجهادهم فمن علم أنه نبي ولو إلى طائفة معينة يجب تصديقه في كل ما أخبر به وقد أخبر بكفر النصارى وضلالهم وإذا ثبت هذا لم يغن عنهم الاحتجاج بشيء من الكتب والمعقول بل يعلم من حيث الجملة أن كل ما يحتجون به على صحة دينهم فهو باطل وإن لم يبين فساد حججهم على التفصيل لأن الأنبياء لا يقولون إلا حقا كما أن المسيح عليه السلام لما حكم بكفر من كذبه من اليهود كان كل ما يحتج به اليهود على خلاف ذلك باطلا فكل ما عارض قول النبي المعصوم فهو باطل وإن كذبوا محمدا تكذيبا عاما مطلقا وقالوا ليس هو نبي أصلا ولا أرسل إلى أحد لا إلى العرب ولا إلى غيرهم بل كان كذابا امتنع مع هذا أن يصدقوا بنبوة غيره فإن الطريق الذي يعلم به نبوة موسى وعيسى يعلم به نبوة محمد بطريق الأولى فإذا قالوا علمت نبوة موسى والمسيح بالمعجزات وعرفت المعجزات بالنقل المتواتر إلينا قيل لهم معجزات محمد أعظم وتواترها أبلغ والكتاب الذي جاء به محمد أكمل وأمته أفضل وشرائع دينه أحسن وموسى جاء بالعدل وعيسى جاء بتكميلها بالفضل وهو
قد جمع في شريعته بين العدل والفضل
فإن ساغ لقائل أن يقول هو مع هذا كاذب مفتر كان على هذا التقدير الباطل غيره أولى أن يقال فيه ذلك فيبطل بتكذيبهم محمدا جميع ما معهم من النبوات إذ حكم أحد الشيئين حكم مثله فكيف بما هو أولى منه فلو قال قائل إن هارون ويوشع وداوود وسليمان كانوا أنبياء وموسى لم يكن نبيا أو أن داوود وسليمان ويوشع كانوا أنبياء والمسيح لم يكن نبيا أو قال ما تقوله السامرة أن يوشع كان نبيا ومن بعده كداوود وسليمان والمسيح لم يكونوا أنبياء أو قال ما يقوله اليهود إن داوود وسليمان
وأشعيا وحبقوق ومليخا وعاموص ودانيال كانوا أنبياء
والمسيح بن مريم لم يكن نبيا كان هذا قولا متناقضا معلوم البطلان فإن الذين نفى هؤلاء عنهم النبوة أحق بالنبوة وأكمل نبوة ممن أثبتوها له ودلائل نبوة الأكمل أفضل فكيف يجوز إثبات النبوة للنبي المفضول دون الفاضل وصار هذا كما لو قال قائل أن زفر وابن القاسم والمزني
والأثرم كانوا فقهاء وأبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد لم يكونوا فقهاء أو قال إن الأخفش وابن الأنباري والمبرد كانوا نحاة
والخليل وسيبويه والفراء لم يكونوا نحاة أو قال إن صاحب الملكي والمسيحي ونحوهما من كتب الطب كانوا أطباء وبقراط
وجالينوس ونحوهما لم يكونوا أطباء أو قال إن كوشيار والخرقي ونحوهما كانوا يعرفون علم الهيئة وبطليموس ونحوه لم يكن لهم علم بالهيئة
ومن قال إن داوود وسليمان ومليخا وعاموص ودانيال كانوا أنبياء ومحمد بن عبدالله لم يكن نبيا فتناقضه أظهر وفساد قوله أبين من هذا جميعه بل وكذلك من قال إن موسى وعيسى رسولان والتوراة والإنجيل كتابان منزلان من عند الله ومحمد ليس برسول والقرآن
لم ينزل من الله فبطلان قوله في غاية الظهور والبيان لمن تدبر ما جاء به محمد وما جاء به من قبله وتدبر كتابه والكتب التي قبله وآيات نبوته وآيات نبوة هؤلاء وشرائع دينه وشرائع دين هؤلاء وهذه الجملة مفصلة مشروحة في غير هذا الموضع لكن المقصود هنا التنبيه على مجامع جوابهم وهؤلاء القوم لم يأتوا بدليل واحد يدل على صدق من احتجوا به من الأنبياء فلو ناظرهم من يكذب بهؤلاء الأنبياء كلهم من المشركين والملاحدة لم يكن فيما ذكروه حجة لهم ولا حجة لهم أيضا على المسلمين الذين يقرون بنبوة هؤلاء فإن جمهور المسلمين إنما عرفوا صدق هؤلاء الأنبياء بإخبار محمد أنهم أنبياء فيمتنع أن يصدقوا بالفرع مع القدح في الأصل الذي به علموا صدقهم
وأيضا فالطريق الذي به علمت نبوة هؤلاء بما ثبت من معجزاتهم وأخبارهم فكذلك تعلم نبوة محمد بما ثبت من معجزاته وأخباره بطريق الأولى فيمتنع أن يصدق أحد من المسلمين بنبوة واحد من هؤلاء مع تكذيبه لمحمد في كلمة مما جاء به
فصل
ومما ينبغي أن يعلم أن كثيرا من النصارى إنما يعتمدون في النبوات على بشارة الأنبياء بمن يأتي بعدهم فيقولون المسيح عليه السلام بشرت به الأنبياء قبله بخلاف محمد فإنه لم يبشر به نبي وجواب هؤلاء من وجهين
أحدهما أن يقال بل البشارة بمحمد في الكتب المتقدمة أعظم من البشارة بالمسيح وكما أن اليهود يتأولون البشارة بالمسيح على أنه ليس هو عيسى بن مريم بل هو آخر ينتظرونه وهم في الحقيقة إنما ينتظرون المسيح الدجال فإنه الذي يتبعه اليهود ويخرج معه سبعون ألف مطيلس من يهود أصبهان ويقتلهم المسلمون معه حتى يقول الشجر
والحجر يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال فاقتله كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي وثبت أيضا في الصحيح عن النبي أنه قال ينزل عيسى بن مريم من السماء على المنارة البيضاء شرقي دمشق فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويقتل مسيح الهدى عيسى بن مريم مسيح الضلالة الأعور الدجال على بضع عشرة خطوة من باب لد ليتبين
للناس أن البشر لا يكون إلها فيقتل من ادعى فيه أنه الله وهو بريء مما ادعى فيه لمن ادعى في نفسه أنه الله وهو دجال كذاب فهكذا البشارات بمحمد في الكتب المتقدمة وقد يتأولها بعض أهل الكتاب على غير تأويلها كما قد بسط في موضع آخر فإن بسط الكلام في ذكر محمد في الكتب التي بأيدي أهل الكتاب له موضع آخر
الجواب الثاني أن يقال ليس من شرط النبي أن يبشر به من تقدمه كما أن موسى كان رسولا إلى فرعون ولم يتقدم لفرعون به بشارة وكذلك الخليل عليه السلام أرسل إلى نمرود ولم يتقدم به بشارة نبي إليه وكذلك نوح وهود وصالح وشعيب ولوط لم يتقدم هؤلاء بشارة إلى قومهم بهم مع كونهم أنبياء صادقين فإن دلائل نبوة النبي لا تنحصر في أخبار من تقدمه بل دلائل النبوة منها المعجزات ومنها غير المعجزات كما قد بسط في موضع آخر وهؤلاء النصارى إنما مستند دينهم في التثليث والاتحاد وغير ذلك هو السمع وهو دعواهم أن الكتب الإلهية جاءت بذلك ليس مستندهم فيه العقل فإذا تبين أنهم مع تكذيبهم بمحمد يمتنع أن
تثبت نبوة غيره امتنع استدلالهم بالسمعيات وأما العقليات فإن تشبثوا ببعضها فهم معترفون بأن حجتهم فيها ضعيفة وأنها على نقيض مذهبهم أدل منها على مذهبهم وسنبين إن شاء الله تعالى أن لا حجة لهم في سمع ولا عقل بل ذلك كله حجة عليهم
وأما تمثيلهم الكتاب بالوثيقة التي كتب الوفاء في ظهرها فتمثيل باطل غير مطابق لأن الإقرار بالوفاء إقرار بسقوط الدين ولا مناقضة بين ثبوت الدين أولا وسقوطه آخرا بالوفاء بل أمكن مع هذا دعواه وأما من يذكر أنه رسول الله فلا يمكن أن يقر بأنه رسول الله في بعض ما أنبأ به عن الله دون بعض ولا يمكن اتباع بعض كتابه الذي ذكر انه منزل من عند الله دون بعض فإنه إن كان صادقا في قوله إنه رسول الله كان معصوما في ما يخبر به عن الله لا يجوز أن يكذب في شيء منه لا عمدا ولا خطأ ووجب اتباع الكتاب الذي جاء به من عند الله ولم يمكن رد شيء مما ذكر أنه جاء به من الله وإن كان كاذبا في كلمة واحدة مما أخبر به عن الله فهو من الكاذبين المفترين فلا يجوز أن يحتج بشيء من دينهم ولا دين غيرهم بمجرد إخباره عن الله بل ولا بمجرد خبره وقوله وإن لم يذكر أنه خبر عن الله كما لا يجوز مثل ذلك في سائر من عرف أنه كاذب في قوله إني رسول الله كمسيلمة الحنفي والأسود العنسي وطليحة الأسدي والحارث الدمشقي وبابا
الرومي وأمثالهم من الكذابين
والواحد من المسلمين وإن كان الله لا يؤاخذه بالنسيان والخطأ بل والرسول أيضا وإن لم يكن يؤاخذ بالنسيان والخطأ في غير ما يبلغه عن الله عند السلف والأئمة وجمهور المسلمين لكن ما يبلغه عن الله لا يجوز أن يستقر فيه خطأ فإنه لو جاز أن يبلغ عن الله ما لم يقله ويستقر ذلك ويأخذه الناس عنه معتقدين أن الله قاله ولم يقله الله كان هذا مناقضا لمقصود الرسالة ولم يكن رسولا لله في ذلك بل كان كاذبا في ذلك وإن لم يتعمده وإذا بلغ عن الله ما لم يقله وصدق في ذلك كان قد صدق من قال على الله غير الحق ومن تقول عليه ما لم يقله وإن لم يكن متعمدا ويمتنع في مثل هذا أن يصدقه الله في كل ما يخبر به عنه أو أن يقيم له من الآيات والبراهين ما يدل على صدقه في كل ما يخبر به عنه مع أن الأمر ليس كذلك ومن قامت البراهين والآيات على صدقه فيما يبلغه عن الله كان صادقا في كل ما يخبر به عن الله لا يجوز أن يكون في خبره عن الله شيء من الكذب لا عمدا ولا خطأ وهذا مما اتفق عليه جميع الناس من المسلمين واليهود والنصارى
وغيرهم لم يتنازعوا أنه لا يجوز أن يستقر في خبره عن الله خطأ وإنما تنازعوا هل يجوز أن يقع من الغلط ما يستدركه ويبينه فلا ينافي مقصود الرسالة كما نقل من ذكر تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتها لترتجى هذا فيه قولان للناس منهم من
يمنع ذلك أيضا وطعن في وقوع ذلك ومن هؤلاء من قال إنهم سمعوا ما لم يقله فكان الخطأ في سمعهم والشيطان ألقى في سمعهم
ومن جوز ذلك قال إذا حصل البيان ونسخ ما ألقى الشيطان لم يكن في ذلك محذور وكان ذلك دليلا على صدقه وأمانته وديانته وأنه غير متبع هواه ولا مصر على غير الحق كفعل طالب الرياسة المصر على خطئه
وإذا كان نسخ ما جزم بأن الله أنزله لا محذور فيه فنسخ مثل هذا أولى أن لا يكون فيه محذور واستدل على ذلك بقوله
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلآ إذا تمنى ألقى الشيطن في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطن ثم يحكم الله ءايته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظلمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم
وعلى كل قول فالناس متفقون على أن من أرسله الله وأقام الآيات على صدقه فيما يبلغه عن الله لم يكن ما يبلغه عنه إلا حقا وإلا كانت الآيات الدالة على صدقه دلت على صدق من ليس بصادق وبطلان مدلول الأدلة اليقينية ممتنع
والصدق الذي هو مدلول آيات الأنبياء وبراهينهم هو أن يكون خبره عن الله مطابقا لمخبره لا يخالفه عمدا ولا خطأ ولو قال قائل أنا لا أسمي الخطأ كذبا أو قال إن المخطىء لا إثم عليه في خطئه
قيل له هذا لا ينفع هنا فإن الآيات دلت على أن الله أرسله ليبلغ عنه رسالاته والله لا يرسل من يعلم أنه يخبر عنه بخلاف ما قال له كما لا يجوز إرسال من يتعمد عليه الكذب بل الواحد من الناس لا يرسل من يعلم أنه يبلغ خلاف ما أرسله به ولو علم أنه يقول عليه ما لم يقل وأرسله مع ذلك لكان جاهلا سفيها ليس بعليم حكيم فكيف يجوز ذلك على أعلم العالمين وأحكم الحاكمين
وأيضا فإن الآيات والبراهين دلت على صدقه في كل ما يبلغه عن الله وأن الله مصدقه في كل ما يبلغه عنه فيمتنع أن لا يكون صادقا في شيء من ذلك ويمتنع أن يصدق الله في كل ذلك من لا يصدق في كل ذلك فإن تصديق من لا يصدق كذب والكذب ممتنع على الله
وإذا تبين أن من ذكر أنه رسول الله إما أن يكون رسولا صادقا في
جميع ما يبلغه فيمتنع مع هذا تناقض أخباره لأنها كلها صادقة وإما أن يكون غير صادق ولو في كلمة فلا يكون رسولا لله فلا يحتج بشيء مما يخبر به عن الله كان تمثيل من ذكر أنه رسول الله بالمقر باستيفاء وثيقته تمثيلا باطلا فإن صاحب الوثيقة الذي أقر بوفائها بعد كانت له حجة ثم استوفاها
ومن ذكر أنه رسول الله إما صادق وإما كاذب وعلى التقديرين لا يجوز أن يحتج ببعض كلامه دون بعض وإذا قال القائل مقصودي أبين أنه متناقض وأن نفس كلامه يبين أنه لم يرسل إلينا وأن ديننا حق كما أن نفس كلام الذي كان له الحق هو المقر بالوفاء قيل إن كان كلامه متناقضا فليس برسول وحينئذ فلا يجوز لك أن تحتج بشيء مما بلغه عن الله بخلاف المقر بالوفاء فإن إقراره مقبول على نفسه فإنه شاهد على نفسه بالوفاء وإقرار المقر على نفسه وشهادته على نفسه مقبولة ولو كان كافرا وفاسقا بخلاف شهادته وخبره عن الله
فمن شبه إقرار المقر على نفسه بقول الذي يقول إنه رسول الله دل ذلك على غاية جهله بالقياس والاعتبار والتمثيل فإن إقرار المقر
على نفسه حجة عليه ولو كان فاسقا معروفا بالكذب ليس هو مثل شهادة الإنسان على غيره فإن شهادته على غيره لا تقبل إذا كان معروفا بالكذب فكيف بمن شهد على الله بأن الله أرسله فالمقر على نفسه يمكن قبول إقراره على نفسه ولا يقبل دعواه على غيره وكذلك الشاهد قد تقبل شهادته فيما ليس هو خصما فيه ولا تقبل شهادته بما ادعاه
وأما من يقول إنه رسول الله فلا يمكن أن يصدق في بعض ما يخبر به عن الله ويكذب في بعض بل إن كان كاذبا في كلمة واحدة فليس هو رسولا لله فلا يحتج بكلامه وإن قدر أن الكلام في نفسه صدق لكن نسبته إلى الله أن الله أرسله به وأوحاه لا يكون صادقا فيه إذا كذب في كلمة واحدة لأن الله لا يرسل كاذبا
وإن لم يكن كاذبا في كلمة واحدة وجب تصديقه في كل ما يخبر به فلا يمكن تصديقه في بعض ما يخبر به عن الله دون بعض بخلاف المقر والشاهد
وإن كان المقصود بيان تناقضه كان هذا احتجاجا على أنه ليس برسول فلا ينفعهم ذلك مع أنه تبين أنه ليس بمتناقض
وإن كان المقصود إلزام المسلمين به فقد بينا أنه لا يلزمهم من وجوه متعددة فهذا بيان أنهم لا يجوز لهم الاحتجاج بشيء من كلام محمد سواء صدقوه أو كذبوه
ثم يقال لهم ثانيا في الجواب عن التمثيل بالوثيقة إن الإقرار بالاستيفاء يناقض استيفاء الحق وأما القرآن الذي جاء به محمد فليس في إخباره بأنه أرسل إلى قريش ثم إلى العرب ما يناقض إخباره بأنه أرسل إلى جميع الناس أهل الكتاب وغيرهم
كما أنه ليس في إخباره أنه أرسل إلى بني إسرائيل ومخاطبة الله لهم بقوله يا بني إسرائيل ما يمنعه أن يكون مرسلا إلى اليهود من غير بني إسرائيل وإلى النصارى والمشركين وهو لم يقل قط إني لم أرسل إلا إلى العرب ولا قال ما يدل على هذا بل ثبت عنه بالنقل المتواتر أنه قال إنه مرسل إلى جميع الجن والإنس إلى أهل الكتاب وغيرهم ولو قدر أنه قال إنه لم يرسل إلا إلى العرب ثم قال إني أرسلت إلى أهل الكتاب لكان قد أرسل إلى أهل الكتاب بعد إرساله إلى العرب كما قال
قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير
وقال أيضا
إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير
ثم إنه بعد هذا حرم الله أشياء فلم يكن بين نفي تحريمها في الزمن الأول وإثبات تحريمها في الزمن الثاني منافاة
ولكن يظهر الدين إذا أوجب شيئا ثم نسخ إيجابه كما نسخ إيجاب الصدقة بين يدي النجوى ففي مثل هذا يتمسك بالنص الناسخ دون المنسوخ كما يتمسك بالإقرار بالوفاء الناسخ للإقرار بالدين
فصل
وقد ذكرنا أنه لا يجوز أن يحتجوا بشيء من القرآن وما نقل عن محمد إلا مع التصديق برسالته وأنه مع التكذيب برسالته لا يمكن الإقرار بنبوة غيره ولا الاحتجاج بشيء من كلام الأنبياء فتكذيبهم يستلزم تكذيبهم بغيره فإذا ثبتت نبوة غيره ثبتت نبوته وذلك يستلزم بطلان دينهم فكان صحة دليلهم يستلزم بطلان المدلول وفساد المدلول يستلزم فساد الدليل فإن الدليل ملزوم للمدلول عليه وإذا تحقق الملزوم تحقق اللازم وإذا انتفى اللازم انتفى ! الملزوم فإذا ثبت الدليل ثبت المدلول عليه وإذا فسد المدلول عليه لزم فساد الدليل فإن الباطل لا يقوم عليه دليل صحيح
فإن كان محمد رسول الله لزم بطلان دينهم وإذا بطل دينهم لم يجز أن يقوم دليل صحيح على صحته وإن لم يكن رسول الله لم يجز الاستدلال بقوله فثبت أن استدلالهم بقوله باطل على التقديرين
ونحن نذكر هنا أنه لا يجوز استدلالهم بقول أحد من الأنبياء أو الرسل على صحة دينهم وأيضا فإن الذين احتجوا بقولهم مثل موسى وداود والمسيح وغيرهم إما أن يكونوا عرفوا أنهم أنبياء بدليل على نبوتهم كالاستدلال بآياتهم وبراهينهم التي تسمى بالمعجزات وإما أن يكونوا قد اعتقدوا ذلك بلا علم ولا دليل وإما أن يكونوا احتجوا بذلك على المسلمين لأنهم يسلمون نبوة هؤلاء وعلى كل تقدير لا يصح استدلالهم بقولهم
أما على الأول فلأنه أي طريق ثبتت بها نبوة واحد من هؤلاء الأنبياء عليهم السلام فإنه تثبت نبوة محمد بمثلها وأعظم منها وحينئذ فإن لم يقروا بنبوة محمد مع أن كل دليل يدل على نبوة موسى وداود وعيسى وغيرهم يدل على نبوة محمد لزم أن يكونوا قد نقضوا دليلهم فجعلوه قائما مع انتفاء مدلوله وإذا انتقض الدليل بطلت دلالته فإنه إنما يدل إذا كان مستلزما للمدلول
فإذا كان تارة يوجد مع المدلول وتارة لا يوجد لم يكن مستلزما له فلا يكون دليلا فإن من جعل المعجزات دليلا على نبوة نبي وقال المعجزة هي الفعل الخارق للعادة المقرون بالتحدي السالم من المعارضة ونحو ذلك مما يذكر في هذا المقام وجعلوا ذلك دليلا على نبوة موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء
قيل له إن كان هذا دليلا فهو دليل على نبوة محمد وإن لم يكن دليلا لم يكن دليلا على نبوة موسى
وعيسى فإنه قد ثبت عن محمد من المعجزات ما لم يثبت مثله عن غيره ونقل معجزاته متواتر أعظم من نقل معجزات عيسى وغيره فيمتنع التصديق بآياته مع التكذيب بآيات محمد
وإن قالوا معجزات محمد لم تتواتر عندنا قيل ليس من شرط التواتر أن يتواتر عند طائفة معينة بل هذا كما يقول المشركون والمجوس وغيرهم لم يتواتر عندنا معجزات موسى والمسيح عليهما السلام وإنما تتواتر أخبار كل إنسان عند من رأى المشاهدين له أو رأى من رآهم وهلم جرا
ومعلوم أن أصحاب محمد الذين رأوه ونقلوا معجزاته أضعاف أصحاب المسيح عليه السلام والتابعون الذين نقلوا ذلك عن الصحابة كذلك فيلزم من التصديق بمعجزات المسيح عليه السلام التصديق بمعجزات محمد ومن التكذيب بمعجزات محمد التكذيب بمعجزات المسيح
وإن قالوا عرفت نبوة المسيح ببشارات الأنبياء قبله قيل وفي الكتب المتقدمة من البشارات بمحمد مثل ما فيها من البشارات بالمسيح وأكثر كما سيأتي بعضها إن شاء الله تعالى
وإن تأولوا تلك البشارات بمحمد بما يمنع دلالتها قيل لهم واليهود يتأولون بشارات المسيح بما يمنع دلالتها على المسيح
فإذا قالوا تلك التأويلات باطلة من وجوه معروفة بين لهم أن هذه باطلة أيضا بمثل تلك الوجوه وأقوى فما من جنس من الأدلة يدل على نبوة موسى والمسيح إلا ودلالته على نبوة محمد أقوى وأكثر فيلزم من ثبوت نبوة موسى والمسيح ثبوت نبوة محمد ومن الطعن في نبوة محمد الطعن في نبوة موسى والمسيح
وإن قالوا إن المسيح إله قيل لهم ثبوت كونه إلها لو كان ممكنا أبعد من ثبوت كونه رسولا فكيف إذا كان ممتنعا
وذلك أنه ليس معهم ما يدل على إلهيته إلا ما ينقلونه من أقوال الأنبياء أو الخوارق والخوارق لا تدل على الإلهية فإن الأنبياء ما زالوا يأتون بالآيات الخارقة للعادة ولم تدل على إلهية أحد منهم
وأما أقوال الأنبياء عليهم السلام فلا ريب أن دلالتها على رسالته ورسالة محمد أظهر من دلالتها على إلهية المسيح فيمتنع الاحتجاج بها على إلهية المسيح دون رسالة محمد ورسالة المسيح ومتى ثبت أن
محمدا رسول الله بطلت إلهية المسيح فإنه كفر من قال إنه الله أو ابن الله بل وكذلك متى ثبت أن المسيح رسول الله بطل كونه إلها فإن كونه هو الله مع كونه رسول الله متناقض
وقولهم إنه إله بلاهوته ورسول بناسوته كلام باطل من وجوه
منها أن الذي كان يكلم الناس إما أن يكون هو الله أو هو رسول الله فإن كان هو الله بطل كونه رسول الله وإن كان رسول الله بطل كونه هو الله
ولهذا لما كان الذي كلم موسى عليه السلام من الشجرة هو الله لم تنطق الكتب بأنه رسول الله وهذا وارد بأي وجه فسروا الاتحاد فإنه من المعلوم أن الناس كانوا يسمعون من المسيح كلاما بصوته المعروف وصوته لم يختلف ولا حاله عند الكلام تغيرت كما يختلف الإنسان وحاله عند الكلام إذا حل فيه الجني وإذا فارقه الجني فإن الجني إذا تكلم على لسان المصروع ظهر الفرق بين ذلك المصروع وبين غيره من الناس بل اختلف حال المصروع وحال كلامه وسمع منه من الكلام ما يعلم يقينا أنه لا يعرفه وغاب عقله بحيث
يظهر ذلك للحاضرين واختلف صوته ونغمته فكيف بمن يكون رب العالمين هو الحال فيه المتحد به المتكلم بكلامه
فإنه لا بد أن يكون بين كلامه وصوته وكلام سائر البشر وصوتهم من الفرق أعظم من الفرق الذي بين المصروع وغير المصروع بما لا نسبة بينهما
يبين هذا أن موسى لما سمع كلامه سمع صوتا خارقا للعادة مخالفا لما يعهد من الأصوات ورأى من الآيات الخارقة والعجائب ما يبين أن ذلك الذي سمعه لا يقدر على التكلم به إلا الله وأما المسيح فلم يكن بين كلامه وصوته مع طول عمره وكلام سائر الناس فرق يدل على أنه نبي فضلا عن أن يدل على أنه إله وإنما علم أنه نبي بأدلة منفصلة ولم يكن حاله يختلف مع أنهم يقولون أن الاتحاد ملازم له من حين خلق ناسوته في بطن أمه مريم وإلى الأبد لا يفارق اللاهوت لذلك الناسوت أبدا وحينئذ فمن المعلوم أن خطابه للناس إن كان خطاب رب العالمين لم يكن هو رسوله وإن كان خطاب رسوله لم يكن ذلك صوت رب العالمين
الوجه الثاني أن خطابه خطاب رسول ونبي كما ثبت ذلك عنه في عامة المواضع
الثالث أن مصير الشيئين شيئا واحدا مع بقائهما على حالهما بدون الاستحالة والاختلاط ممتنع في صريح العقل وإنما المعقول مع الاتحاد أن يستحيلا ويختلطا كالماء مع الخمر واللبن فإنهما إذا صار شيئا واحدا استحالا واختلطا
الرابع أنه مع الاتحاد يصير الشيئان شيئا واحدا فيكون الإله هو الرسول والرسول هو الإله إذ هذا هو هذا وإن كان الإله غير الرسول فهما شيئان ومهما مثلوا به قولهم كتشبيههم ذلك بالنار في الحديد والروح في البدن فإنه يدل على فساد قولهم فإن الحديد متى طرق أو وضع في الماء كان ذلك مصيبا للنار وكذلك البدن إذا جاع أو صلب وتألم كان ذلك الألم مصيبا للروح فيلزم أن يكون رب العالمين قد أصابه ألم الجوع والعطش وكذلك الضرب والصلب على قولهم وهذا شر من قول اليهود أنه فقير وأنه بخيل وأنه مسه اللغوب
فصل
وإن كان مقصودهم الاحتجاج بذلك على المسلمين قيل لهم
أولا هذه حجة جدلية فما مستندكم فيما بينكم وبين الله في تصديق شخص وتكذيب آخر مع أن دلالة الصدق فيهما واحدة بل هي في الذي كذبتموه أظهر فإن كانت حقا لزم تصديق من كذبتموه وفسد دينكم وإن كانت باطلة بطل استدلالكم بها على دينكم فثبت أنهم مع تكذيب محمد لا يستقيم لهم الاستدلال بكلام أحد من الأنبياء عليهم السلام
وقيل لهم ثانيا المسلمون إنما عرفوا صدق هؤلاء الأنبياء بما دلهم على صدق محمد فإن لم يكن محمد صادقا لم يعرفوا صدق هؤلاء فيبطل دليلكم وإن كان صادقا بطل دين النصارى فيبطل دليل صحته فثبت بطلان دليلهم على كل تقدير
وقيل لهم ثالثا المسلمون لم يصدقوا نبوة أحد من هؤلاء إلا مع نبوة محمد وإن قيل أنهم عرفوا ذلك بطريق آخر فإن الدليل الذي يدل على صدق واحد منهم يدل على صدق محمد بطريق الأولى فلا يمكنهم تصديق نبي مع تكذيب محمد
وقيل لهم رابعا هم إنما يصدقون موسى وعيسى اللذين بشرا بمحمد فإن كانا قد بشرا به فثبتت نبوته وإن لم يكونا بشرا به فهم لا يؤمنون إلا بالمبشرين به وبالتوراة والإنجيل اللذين هو مكتوب فيهما
فإن قدر عدم ذلك فهم لا يسلمون وجود موسى وعيسى وتوراة وإنجيل منزلين من الله ليس فيهما ذكره
وإن قالوا نحن صدقنا هؤلاء الأنبياء بلا علم لنا بصدقهم وطريق يدل على صدقهم لأن هذا دين آبائنا وجدناهم يعظمون هؤلاء ويقولون هم أنبياء فاتبعنا آباءنا في ذلك من غير علم وهذا هو الواقع من أكثرهم قيل فإذا كان هذا قولكم في الأنبياء وفيما شهدوا به إن كانوا شهدوا فيلزم أن لا يكونوا عالمين به بل متبعين فيه لآبائهم بغير علم بطريق الأولى وبهذا يحصل المقصود وهو أن ما أنتم عليه من اعتقاد دين النصرانية لا علم لكم ولا دليل لكم على صحته بل أنتم فيه متبعون لآبائكم كاتباع اليهود والمشركين لآبائهم
ولا ريب أن هذا حال النصارى ولهذا سماهم الله ضلالا في قوله
ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل
وقال تعالى
وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم
وقال تعالى
وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم
وقال تعالى
وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب
ولهذا كان النصارى معروفين بالجهل والضلال كما أن اليهود معروفون بالظلم والقسوة والعناد فتبين بما ذكرناه أنه لا يمكنهم مع تكذيب محمد في كلمة واحدة الاحتجاج بقول واحد من الأنبياء على شيء من دينهم ولا دين غيرهم
فصل
وأما كون القرآن أنزل باللسان العربي وحده فعنه أجوبة
أحدها أن يقال والتوراة إنما أنزلت باللسان العبري وحده وموسى عليه السلام لم يكن يتكلم إلا بالعبرية وكذلك المسيح لم يكن يتكلم بالتوراة والإنجيل وغيرهما إلا بالعبرية وكذلك سائر الكتب لا ينزلها الله إلا بلسان واحد بلسان الذي أنزلت عليه ولسان قومه الذين يخاطبهم أولا ثم بعد ذلك تبلغ الكتب وكلام الأنبياء لسائر الأمم إما بأن يترجم لمن لا يعرف لسان ذلك الكتاب وإما بأن يتعلم الناس لسان ذلك الكتاب فيعرفون معانيه وإما بأن يبين للمرسل إليه معاني ما أرسل به الرسول إليه بلسانه وإن لم يعرف سائر ما أرسل به
وقد أخبر الله في القرآن ما قالته الرسل لقومهم وما قالوا لهم
وأكثرهم لم يكونوا عربا وأنزله الله باللسان العربي وحينئذ فإن شرط التكليف تمكن العباد من فهم ما أرسل به الرسول إليهم وذلك يحصل بأن يرسل بلسان يعرف به مراده ثم جميع الناس متمكنون من معرفة مراده بأن يعرفوا ذلك اللسان أو يعرفوا معنى الكتاب بترجمة من يترجم معناه وهذا مقدور للعباد ومن لم يمكنه فهم كلام الرسول إلا بتعلم اللغة التي أرسل بها وجب عليه ذلك فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب بخلاف ما لا يتم الوجوب إلا به فإنه ليس بواجب ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها لا في الأصل ولا في التمام فلا نحتاج أن نقول مالا يتم الواجب إلا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب فإن ما ليس مقدورا عليه لا يكلف به العباد بل وقد يكون مقدورا عليه ولا يكلفون به
فلما كانت الاستطاعة شرطا في وجوب الحج لم يجب تحصيل الاستطاعة بخلاف قطع المسافات فإنه ليس شرطا في الوجوب فلهذا يجب الحج على الإنسان من المسافة البعيدة والقريبة إذا كان مستطيعا
وجمهور الناس لا يعرفون معاني الكتب الإلهية التوراة والإنجيل والقرآن إلا بمن يبينها ويفسرها لهم وإن كانوا يعرفون اللغة فهؤلاء يجب عليهم طلب علم ما يعرفون به ما أمرهم الله به ونهاهم عنه وهذا
هو طلب العلم المفروض على الخلق وكذلك ما بينه الرسول من معاني الكتاب الذي أنزله الله عليه يجب على الخلق طلب علم ذلك ممن يعرفه إذا كان معرفة ذلك لا تحصل بمجرد اللسان
كما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال تفسير القرآن على أربعة أوجه تفسير تعرفه العرب من كلامها وتفسير لا يعذر أحد بجهالته وتفسير يعلمه العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى فمن ادعى علمه فهو كاذب
والله تعالى قال
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم
لم يقل وما أرسلنا من رسول إلا إلى قومه لكن لم يرسله إلا بلسان قومه الذين خاطبهم أولا ليبين لقومه فإذا بين لقومه ما أراده حصل بذلك المقصود لهم ولغيرهم فإن قومه الذين بلغ إليهم أولا يمكنهم أن
يبلغوا عنه اللفظ ويمكنهم أن ينقلوا عنه المعنى لمن لا يعرف اللغة ويمكن غيرهم أن يتعلم منهم لسانه فيعرف مراده فالحجة تقوم على الخلق ويحصل لهم الهدى بمن ينقل عن الرسول تارة المعنى وتارة اللفظ ولهذا يجوز نقل حديثه بالمعنى والقرآن يجوز ترجمة معانيه لمن لا يعرف العربية باتفاق العلماء
وجوز بعضهم أن يقرأ بغير العربية عند العجز عن قراءته بالعربية وبعضهم جوزه مطلقا وجمهور العلماء منعوا أن يقرأ بغير العربية وإن جاز أن يترجم للتفهم بغير العربية كما يجوز تفسيره وبيان معانيه وإن كان التفسير ليس قرآنا متلوا وكذلك الترجمة وقد قال النبي نضر الله امرءا سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه
وقال أيضا في الحديث الصحيح مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها طائفة أمسكت الماء فنفع الله به الناس فزرعوا وسقوا وكانت منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من تفقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به
فدعا النبي لمن يبلغ حديثه وإن لم يتفقه فيه وقال رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه
وقد كان العارفون باللغة العربية حين بعث الله محمدا إنما يوجدون في جزيرة العرب وما والاها كأرض الحجاز واليمن وبعض الشام والعراق ثم انتشر فصار أكثر الساكنين في وسط المعمورة العربية حتى اليهود والنصارى الموجودون في وسط الأرض يتكلمون بالعربية كما يتكلم بها أكثر المسلمين بل
كثير من اليهود والنصارى يتكلمون بالعربية أجود مما يتكلم بها كثير من المسلمين
وقد انتشرت هذه اللغة أكثر مما انتشرت سائر اللغات حتى أن الكتب القديمة من كتب أهل الكتاب ومن كتب الفرس والهند واليونان والقبط وغيرهم عربت بهذه اللغة
ومعرفة الكتب المصنفة بالعربية والكلام العربي أيسر على جمهور الناس من معرفة الكتب المصنفة بغير العربية فإن اللسان العبري والسرياني والرومي والقبطي وغيرها وإن عرفه طائفة من الناس فالذين يعرفون اللسان العربي أكثر ممن يعرف لسانا من هذه الألسنة
وأيضا فمعرفة ما أمر الله عباده أمرا عاما هو مما نقله الأمة عن نبيها نقلا متواترا وأجمعت عليه مثل الأمر
بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأنه أرسل إلى جميع الناس أميهم وغير أميهم وإقام الصلوات الخمس وإيتاء الزكاة وصيام شهر رمضان وحج البيت العتيق من استطاع إليه سبيلا وإيجاب الصدق وتحريم الفواحش والظلم والأمر بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت هو ما يعرفه المسلمون معرفة عامة ولا يحتاج الإنسان في معرفة ذلك إلى أن يحفظ ا لقرآن بل يمكن الإنسان معرفة ما أمر الله به على لسان رسوله وإن لم يعرف اللغة العربية ويكفيه أن يقرأ فاتحة الكتاب وسورا معها يصلي بهن وكثير من الفرس والروم والترك والهند والحبشة والبربر وغيرهم لا يعرفون أن يتكلموا بالعربية الكلام المعتاد وقد أسلموا وصاروا من أولياء الله المتقين ومنهم من يحفظ القرآن كله وإذا كلم الناس لا يستطيع أن يكلمهم إلا بلسانه لا بالعربية وإذا خوطب بالعربية لم يفقه ما قيل له
الوجه الثاني أن المسيح عليه السلام كان لسانه عبريا وكذلك ألسنة الحواريين الذين اتبعوه أولا ثم إنه أرسلهم إلى الأمم يخاطبونهم ويترجمون لهم ما قاله المسيح عليه السلام فإن قالوا إن رسل المسيح حولت ألسنتهم إلى ألسنة من أرسل إليهم
قيل هذا منقول في رسل المسيح وفي رسل محمد الذين أرسلهم إلى الأمم ولا ريب أن رسل رسل الله
كرسل محمد والمسيح عليه السلام إلى الأمم لا بد أن يعرفوا لسان من أرسلهم الرسول إليهم أو أن يكون عند أولئك من يفهم لسانهم ولسان الرسول ليترجم لهم فإذا لم يكن عند من أرسل المسيح إليهم من يعرف بالعربية فلا بد أن يكون رسوله ينطق بلسانهم
وكذلك رسل النبي الذين أرسلهم إلى الأمم فإن النبي لما رجع من الحديبية أرسل رسله إلى أهل الأرض فبعث إلى ملوك العرب باليمن والحجاز والشام والعراق وأرسل إلى ملوك النصارى بالشام ومصر قبطهم ورومهم وعربهم وغيرهم وأرسل إلى الفرس المجوس ملوك العراق وخراسان
قال محمد بن سعد في الطبقات ذكر بعثة رسول الله الرسل بكتبه إلى الملوك وغيرهم يدعوهم وذكر ما كتب به رسول الله لناس من العرب وغيرهم ثم قال أخبرنا محمد بن عمر الأسلمي قال حدثني معمر
بن راشد ومحمد بن عبدالله عن الزهري عن عبيدالله بن عبدالله عن ابن عباس قال وعن الواقدي حدثنا أبو بكر بن عبدالله بن أبي سبرة عن المسور بن رفاعة وحدثنا عبدالحميد بن جعفر عن أبيه عن جدته
الشفاء وحدثنا أبو بكر بن عبدالله بن أبي سبرة عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد عن العلاء بن الحضرمي وحدثنا ابن محمد الأنصاري عن جعفر بن عمرو بن جعفر بن
عمرو بن أمية الضمري عن أهله عن عمرو بن أمية الضمري دخل حديث بعضهم في حديث بعض قالوا إن رسول الله لما رجع من الحديبية في ذي الحجة سنة ست أرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام وكتب إليهم كتبا فقيل يا رسول الله إن الملوك لا يقرأون كتابا إلا مختوما فاتخذ رسول الله يومئذ خاتما من فضة فصه منه نقشه ثلاثة أسطر محمد رسول الله وختم به الكتب فخرج ستة نفر منهم في يوم واحد وذلك في المحرم سنة سبع وأصبح كل واحد منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعثه إليهم
أرسل النبي إلى هرقل دحية بن خليفة الكلبي وإلى المقوقس صاحب مصر والاسكندرية حاطب بن أبي بلتعة وإلى كسرى عبدالله بن حذافة السهمي وأرسل إلى الحارث بن أبي شمر الغساني وكان نصرانيا بظاهر دمشق فبعث إليه شجاع بن وهب الأسدي وأرسل إلى غير هؤلاء
وقال أيضا أخبرنا الهيثم بن عدي قال أخبرنا دلهم بن
صالح وأبو بكر الهذلي عن عبدالله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي قال وحدثنا محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان والزهري وحدثنا الحسن بن عمارة عن فراس عن الشعبي دخل حديث بعضهم في حديث بعض أن رسول الله قال لأصحابه ائتوني بأجمعكم بالغداة وكان رسول الله إذا صلى الفجر يجلس في مصلاه قليلا يسبح ويدعو ثم التفت إليهم فبعث عدة إلى عدة وقال
انصحوا لله في أمر عباده فإن من أخبر عن شيء من أمور المسلمين ثم لم ينصح حرم الله عليه الجنة انطلقوا ولا تصنعوا كما صنعت رسل عيسى بن مريم فإنهم أتوا القريب وتركوا البعيد فأصبحوا يعني الرسل وكل منهم يعرف بلسان القوم الذين أرسل إليهم وذكر ذلك النبي فقال هذا أعظم ما كان من حق الله عز و جل عليهم في أمر عباده
الوجه الثالث أن النصارى فيهم عرب كثير من زمن النبي وكل من يفهم اللسان العربي فإنه يمكن فهمه للقرآن وإن كان أصل لسانه فارسيا أو روميا أو تركيا أو هنديا أو قبطيا وهؤلاء الذين أرسلوا هذا الكتاب من علماء النصارى قد قرأوا المصحف وفهموا منه ما فهموا وهم يفهمونه بالعربية واحتجوا بآيات من القرآن فكيف يسوغ لهم مع هذا أن يقولوا كيف تقوم الحجة علينا بكتاب لم نفهمه
الوجه الرابع أن حكم أهل الكتاب في ذلك حكم المشركين ومعلوم أن المشركين فيهم عرب وفيهم عجم ترك وهند وغيرهما
فكما أن جميع المشركين كمشركي العرب وكذلك جميع أهل الكتاب كأهل الكتاب من العرب وفي اليهود والنصارى ممن يعرف بلسان العرب من لا يحصيه إلا الله عز و جل
الوجه الخامس أنه ليس فهم كل آية من القرآن فرضا على كل مسلم وإنما يجب على المسلم أن يعلم ما أمره الله به وما نهاه عنه بأي عبارة كانت وهذا ممكن لجميع الأمم ولهذا دخل في الإسلام جميع أصناف العجم من الفرس والترك والهند والصقالبة والبربر ومن هؤلاء من يعلم اللسان العربي ومنهم من يعلم ما فرض الله عليه الترجمة وقد قدمنا أنه يجوز ترجمة القرآن في غير الصلاة والتعبير كما يجوز تفسيره باتفاق المسلمين وإنما تنازعوا هل يقرأ بغير العربية تلاوة كما يقرأ في الصلاة فجمهور العلماء منعوا من ذلك وحينئذ فإذ قرأ الأعجمي فاتحة الكتاب وسورتين معها
بالعربية أجزأه وكذلك التشهد وغيره من الذكر المأمور به وهذا أمر يسير أيسر من أكثر الواجبات فكيف يمتنع أن يأمر الله تبارك وتعالى عباده بذلك
وأما جمل ما أمر به الرسول من الصلاة والزكاة والصوم والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وما حرمه الله من الشرك والفواحش والظلم وغير ذلك فهذا مما يمكن أن يعرفه كل واحد بتعريف من يعرفه إما باللسان العربي وإما بلسان آخر لا يتوقف تعريف ذلك على لسان العرب
فصل
وأما قوله تعالى إنا أنزلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون
وقوله
ولو جعلناه قرءانا أعجميا لقالوا لولا فصلت ءايته ءاعجمي وعربي
وقوله إنا جعلناه قرءانا عربيا
فهذا يتضمن إنعام الله على عباده لأن اللسان العربي أكمل الألسنة وأحسنها بيانا للمعاني فنزول الكتاب به أعظم نعمة على الخلق من نزوله بغيره وهو إنما خوطب به أولا العرب ليفهموه ثم من يعلم لغتهم يفهمه كما فهموه ثم من لم يعلم لغتهم ترجمه له من عرف لغتهم وكان إقامة الحجة به على العرب أولا والإنعام به عليهم أولا لمعرفتهم بمعانيه قبل أن يعرفه غيرهم
قال تعالى
فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون
وقال
فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا
واللد جمع الألد وهو الأعوج في المناظرة الذي يروغ عن الحق كما قال النبي إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم وأما قوله تعالى
ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم
فهو كما قال تعالى وقوم محمد هم قريش وبلسانهم أرسل وهو سبحانه لم يقل وما أرسلنا من رسول إلا إلى قومه بل الرسول يبعثه الله إلى قومه وغير قومه كما تقول النصارى أنه بعث المسيح عليه السلام والحواريين إلى غير بني إسرائيل وليسوا من قومه فكذلك بعث محمدا إلى قومه وغير قومه ولكن إنما يبعث بلسان قومه ليبين لهم ثم يحصل البيان لغيرهم بتوسط البيان لهم اما بلغتهم
ولسانهم وإما بالترجمة لهم ولو لم يتبين لقومه أولا لم يحصل مقصود الرسالة لا لهم ولا لغيرهم وإذا تبين لقومه أولا حصل البيان لهم ولغيرهم بتوسطهم وقومه إليهم بعث أولا ولهم دعا أولا وأنذر أولا وليس في هذا أنه لم يرسل إلى غيرهم لكن إذا تبين لقومه لكونه بلسانهم أمكن بعد هذا أن يعرفه غير قومه إما بتعلمه بلسانهم وإما بتعريف بلسان يفهم به والرجل يكتب كتاب علم في طب أو نحو أو حساب بلسان قومه ثم يترجم ذلك الكتاب وينقل إلى لغات أخر وينتفع به أقوام آخرون كما ترجمت كتب الطب والحساب التي صنفت بغير العربي وانتفع بها العرب وعرفوا مراد أصحابها وإن كان المصنف لها أولا إنما صنفها بلسان قومه وإذا كان هذا في بيان الأمور التي لا يتعلق بها سعادة الآخرة والنجاة من عذاب الله فكيف يمتنع في العلوم التي يتعلق بها سعادة الآخرة والنجاة من العذاب أن ينقل من لسان إلى لسان حتى يفهم أهل اللسان الثاني بها ما أراده بها المتكلم بها أولا باللسان الأول
وأبناء فارس المسلمون لما كان لهم من عناية بهذا ترجموا مصاحف كثيرة فيكتبونها بالعربي ويكتبون الترجمة بالفارسية وكانوا قبل الإسلام أبعد عن المسلمين من الروم والنصارى فإذا كان الفرس المجوس قد وصل إليهم معاني القرآن بالعربي وترجمته فكيف لا يصل إلى أهل الكتاب وهم أقرب إلى المسلمين منهم وعامة الأصول التي
يذكرها القرآن عندهم شواهدها ونظائرها في التوراة والإنجيل والزبور وغير ذلك من النبوات بل كل من تدبر نبوات الأنبياء وتدبر القرآن جزم يقينا بأن محمدا رسول الله حقا وأن موسى رسول الله صدقا لما يرى من تصادق الكتابين التوراة والقرآن مع العلم بأن موسى عليه السلام لم يأخذ عن محمد وأن محمدا لم يأخذ عن موسى فإن محمدا بإتفاق أهل المعرفة بحاله كان أميا من قوم أميين مقيما بمكة ولم يكن عندهم من يحفظ التوراة والإنجيل ولا الزبور ومحمد لم يخرج من بين ظهرانيهم ولم يسافر قط إلا سفرتين إلى الشام خرج مرة مع عمه أبي طالب قبل الإحتلام ولم يكن يفارقه ومرة أخرى مع ميسرة في تجارته وكان ابن بضع وعشرين سنة مع رفقة كانوا يعرفون جميع أحواله ولم يجتمع قط بعالم أخذ عنه شيئا لا من علماء اليهود ولا النصارى ولا من غيرهم لا بحيرى ولا غيره ولكن كان بحيرى الراهب لما رآه عرفه لما كان عنده من ذكره ونعته فأخبر أهله بذلك وأمرهم بحفظه من اليهود ولم يتعلم لا من بحيرى ولا من غيره كلمة واحدة وسنبين إن
شاء الله الدلائل الكثيرة على أنه لم يأخذ عن أحد من أهل الكتاب كلمة واحدة وقصة بحيرى مذكورة ذكرها أرباب السير وأصحاب المسانيد والسنن
قال الحافظ أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي في جامعه حدثنا الفضل أبو العباس البغدادي قال حدثنا عبد الرحمن بن غزوان أبو نوح أنا يونس بن أبي إسحاق عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري عن أبيه قال خرج أبو طالب
إلى الشام وخرج معه النبي في أشياخ من قريش فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحلوا رحالهم فخرج إليهم الراهب وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت قال فهم يحلون رحالهم فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله فقال هذا سيد العالمين هذا رسول رب العالمين يبعثه الله رحمة للعالمين فقال له أشياخ من قريش ما علمك فقال إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدا ولا يسجدن إلا لنبي وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غرضوف كتفه مثل التفاحة ثم رجع فصنع لهم طعاما فلما أتاهم به وكان هو في رعية الإبل فقال أرسلوا إليه فأقبل وعليه غمامة تظله فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة فلما جلس مال فيء الشجرة عليه عليه فقال انظروا الى فيء الشجرة مال عليه قال فبينما هو قائم عليهم يناشدهم أن لا يذهبوا به إلى الروم فإن الروم أن رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه فالتفت فإذا بسبعة قد أقبلوا من الروم فاستقبلهم الراهب فقال ما جاء بكم قالوا جئنا لأن هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلا بعث إليه بأناس وإنا قد أخبرنا خبره بطريقك هذا
فقال أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده قالوا لا قال فتابعوه وأقاموا معه قال أنشدكم الله يا معشر العرب أيكم وليه فقال أبو طالب أنا فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب وزوده الراهب من الكعك والزيت
قال الترمذي هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ورواه البيهقي في كتاب دلائل النبوة من حديث العباس بن محمد عن قراد بن نوح وقال العباس لم يحدث به يعني بهذا الإسناد غير قراد وسمعه يحيى وأحمد من قراد
قال البيهقي أراد أنه لم يحدث بهذا الإسناد سوى هؤلاء فأما القصة فهي عند أهل المغازي مشهورة
وقال ابن سعد في الطبقات حدثنا محمد بن عمر قال حدثني محمد بن صالح وعبد الله بن جعفر وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين قال لما بلغ رسول الله اثني عشرة سنة خرج به أبو طالب إلى الشام في العير التي خرج فيها للتجارة فنزلوا بالراهب
بحيرى فقال بحيرى لأبي طالب في النبي ما قال وأمره أن يحتفظ به فرده أبو طالب معه إلى مكة وشب رسول الله مع أبي طالب يكلؤه الله ويحفظه ويحوطه من أمور الجاهلية ومعايبها لما يريده به من كرامته حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة وأحسنهم خلقا وأكرمهم مخالطة وأعظمهم حلما وأمانة وأصدقهم حديثا وأبعدهم من الفحش والأذى فما رؤي ملاحيا ولا مماريا أحدا حتى سماه قومه الأمين لما جمع فيه من الأمور الصالحة
وقال ابن الجوزي خرج أبو طالب إلى الشام ومعه رسول الله وهو ابن اثنتي عشرة سنة وشهرين وعشرة أيام فنزل الركب ببصرى وبها راهب يقال له بحيرى في صومعة له وكان ذا علم بالنصرانية ولم يزل في تلك الصومعة راهب تنتهي إليه علم النصرانية صاغرا عن كابر وفيها كتب يدرسونها وكان كثيرا ما يمر الركب فلا يكلمهم حتى إذا كان في ذلك العام نزلوا منزلا قريبا من الصومعة فصنع لهم الراهب طعاما ودعاهم وإنما حمله على ذلك لشيء رآه فلما رآى بحيرى ذلك نزل من صومعته وأمر بذلك الطعام فحضر وأرسل إلى القوم فقال يا معشر قريش أحب أن
تحضروا طعامي ولا يتخلف منكم أحدا فقال وهذا شيء تكرموني فلما حضروا عنده جعل يلاحظ النبي لحظا شديدا وينظر إلى جسده وجعل أبو طالب يخاف عليه من الراهب ثم قال الراهب لأبي طالب أرجع بابن أخيك فإنه كائن له شأن عظيم فإنا نجد صفته في كتبنا ويروونه عن آبائنا فلما فرغوا من التجارة رجع أبو طالب سريعا إلى مكة فما خرج بعدها به أبو طالب خوفا عليه
هذا مع أن في القرآن من الرد على أهل الكتاب في بعض ما حرفوه مثل دعواهم أن المسيح عليه السلام صلب وقول بعضهم أنه إله وقول بعضهم أنه ساحر وطعنهم على سليمان عليه السلام وقولهم أنه كان ساحرا وأمثال ذلك ما يبين أنه لم يأخذ عنهم
وفي القرآن من قصص الأنبياء عليه السلام ما لا يوجد في التوراة والإنجيل مثل قصة هود وصالح وشعيب وغير ذلك
وفي القرآن من ذكر المعاد وتفصيله وصفة الجنة والنار والنعيم والعذاب ما لا يوجد مثله في التوراة والإنجيل بل التوراة ليس فيها تصريح بذكر المعاد وعامة ما فيها من الوعد والوعيد فهو في الدنيا كالوعد بالرزق والنصر والعاقبة والوعيد بالقحط والأمراض والأعداء وإن كان ذكر المعاد موجودا في غير التوراة من النبوات ولهذا كان أهل الكتاب يقرون بالمعاد وقيام القيامة الكبرى وقد قيل إن ذلك مذكور في التوراة أيضا لكن لم يبسط كما بسط في غير التوراة
فصل
فإن قالوا إن الكتب التي عندنا من التوراة والإنجيل وغيرهما ترجمها لنا الحواريون وهم عندنا رسل معصومون وترجموها لجميع الأمم بخلاف القرآن فإنه إنما يترجمه من ليس بمعصوم فعن هذا أجوبة
أحدها أن هذا كذب بين فإن من العرب من النصارى من لا يحصي عدده إلا الله تعالى وكان فيهم نصارى كثيرون تنصروا قبل مبعث محمد وكان فيهم قوم على دين المسيح الذي لم يبدل وهم مؤمنون من أهل الجنة كسائر من كان على دين المسيح عليه السلام فإن كل من كان على دين المسيح الذي لم يبدل قبل مبعث محمد فإنه مؤمن مسلم من أهل الجنة
ومع هذا فليس على وجه الأرض توراة ولا إنجيل معرب من عهد الحواريين بل التوراة العبرية تنقل من اللسان العبري أو غيره إلى العربية وكذلك الإنجيل ينقل من اللسان الرومي أو السرياني
أو اليوناني أو غيرها إلى اللغة العربية فلو كان عند كل أمة من الأمم توراة وإنجيل ونبوات بلسانهم لكان نصارى العرب أحق بهذا من نصارى الحبشة والصقالبة والهند فإنهم جيران البيت المقدس وهم بنو إسماعيل عليه السلام والأناجيل عندهم أربعة وهم يدعون أن كل واحد كتبها بلسان كتبت بلسان العبري والرومي واليوناني مع أن في بعض الأناجيل ما ليس في بعض مثل قولهم عمدوا الناس باسم الآب والابن وروح القدس الذي جعلوه أصل دينهم وهذا إنما هو قوله في إنجيل متى وإذا كان كل واحد من الأربعة كتب إنجيلا بلسانه لم يكن هناك إنجيل واحد أصلي ترجع إليه الأناجيل كلها ثم هم مع هذا يدعون أنها ترجمت باثنين وسبعين لسانا وهذا فيه من الكذب والتناقض أمور سننبه إن شاء الله على بعضها لكن غاية ما يدعون أنه ترجم باثنين وسبعين لسانا ومعلوم أن الألسنة الموجودة في بني آدم في جميع المعمورة في زماننا وقبل زماننا أكثر من هذا كما يعرفه من عرف أحوال العالم بل اللسان الواحد كالعربي والفارسي والتركي جنس تحته أنواع مختلفة لا يفهم بعضهم لسان
بعض إلا أن يتعلمه منهم والعرب أقرب الأمم إلى بني إسحاق بني إسرائيل والعيص فإنهم بنو إسماعيل وجيرانهم فإن أهل الحجاز جيران الشام ومكة لم تزل تحج إليها العرب ولم يكن قط عند العرب توراة ولا إنجيل عربيان من عهد المسيح عليه السلام بل ولا كان بمكة لا توراة ولا إنجيل لا معرب ولا غير معرب ولهذا قال تعالى
لتنذر قوما مآ أتاهم من نذير من قبلك
فكيف يدعى أن التوراة والإنجيل ترجمها الحواريون لكل قوم من جميع بني آدم شرقا وغربا وجنوبا وشمالا بلسان يفهمونه به وهل يقول هذا إلا من هو من أكذب الناس وأجهلهم
الوجه الثاني أن يقال ترجمة الكلام من لغة إلى لغة لا تحتاج إلى معصوم بل هذا أمر تعلمه الأمم فكل من عرف اللسانين أمكنه الترجمة ويحصل العلم بذلك إذا كان المترجمون كثيرين متفرقين
لا يتواطؤون على الكذب وبقرائن تقترن بخبر أحدهم وبغير ذلك وهذا موجود معلوم بل إذا ترجمه إثنان كل منهما لا يعرف ما يقوله الآخر ولم يتواطؤوا حصل بذلك المقصود في الغالب وهم يذكرون أن التوراة ترجمها إثنان وسبعون حبرا من اليهود ولم يكونوا معصومين وأن الملك فرقهم لئلا يتواطؤوا على الكذب واتفقوا على ترجمة واحدة وهذا كان بعد الخراب الأول فهكذا يمكن ترجمة غير التوراة
وهذه التوراة في زماننا والإنجيل والزبور يترجم باللغة العربية ويعرف المقصود به بلا ريب فكيف بالقرآن الذي يفهم أهله معناه ويفسرونه ويترجمونه أكمل وأحسن مما يترجم اهل التوراة والإنجيل التوراة والإنجيل
الوجه الثالث أن دعوى العصمة في كل واحد من الحواريين وأنهم رسل الله بمنزلة إبراهيم وموسى عليهما السلام دعوى ممنوعة وهي باطلة وإنما هم رسل المسيح عليه السلام بمنزلة رسل موسى ورسل إبراهيم ورسل محمد وأكثر النصارى أو كثير منهم أو كلهم يقولون هم رسل الله وليسوا بأنبياء وكل من ليس بنبي فليس برسول الله وليس بمعصوم وإن كانت له خوارق عادات كأولياء الله من المسلمين وغيرهم فإنه وإن كانت لهم كرامات من الخوارق فليسوا معصومين من الخطأ
والخوارق التي تجري على يدي غير الأنبياء لا تدل على أن أصحابها أولياء الله عند أكثر العلماء فضلا عن كونهم معصومين فإن ولي الله من يموت على الإيمان ومجرد الخارق لا يدل على أنه يموت على الإيمان بل قد يتغير عن ذلك الحال وإذا قطعنا بأن الرجل ولي الله كمن أخبر النبي بأنه من أهل الجنة فلا يجب الإيمان بكل ما يقوله إن لم يوافق ما قالته الأنبياء بخلاف الأنبياء عليهم السلام فإنهم معصومون لا يجوز أن يستقر فيما يبلغونه خطأ ولهذا أوجب الله الإيمان بهم ومن كفر بواحد منهم فهو كافر ومن يسب واحدا منهم وجب قتله في شرع الإسلام كما قال تعالى
قولوا ءامنا بالله ومآ أنزل إلينا ومآ أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ومآ أوتي موسى وعيسى ومآ أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن ءامنوا بمثل مآ ءامنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم
وقال تعالى
ءامن الرسول بمآ أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل ءامن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير
وهذا مبسوط في موضع آخر
فصل
وأما قولهم لا يلزمنا اتباعه لأننا نحن قد أتانا رسل من قبله خاطبونا بألسنتنا وأنذرونا بديننا الذي نحن متمسكون به يومنا هذا وسلموا إلينا التوراة والإنجيل بلغتنا على ما يشهد لهما الكتاب الذي أتى به هذا الرجل حيث يقول في سورة إبراهيم
ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه
وقال في سورة النحل
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا
فالجواب عنه من وجوه
أحدها أن إثبات رسول من قبله إليكم لا يمنع إتيان رسول ثان فإن بني إسرائيل قد بعث الله إليهم موسى عليه السلام وكانوا على شريعة التوراة ثم بعث الله تبارك وتعالى إليهم المسيح عليه السلام ووجب عليهم الإيمان به ومن لم يؤمن به كان كافرا وإن قال
إني متمسك بالكتاب الذي أنزل إلي
فكذلك إذا أرسل الله رسولا بعد المسيح وجب الإيمان به ومن لم يؤمن به كان كافرا كما أن من لم يؤمن بالمسيح من بني إسرائيل كان كافرا
وبنو إسرائيل أكثر إختصاصا بموسى والتوراة من الروم وغيرهم فالمسيح والإنجيل فإنهم كانوا عبرانيين والتوراة عبرانية
الوجه الثاني دعواهم أنهم متمسكون في هذا الوقت بالدين الذي نقله الحواريون عن المسيح عليه السلام كذب ظاهر بل هم عامة ما هم عليه من الدين عقائده وشرائعه كالأمانة والصلاة إلى المشرق واتخاذ الصور والتماثيل في الكنائس واتخاذها وسائط والاستشفاع بأصحابها وجعل الأعياد بأسمائهم وبناء الكنائس على أسمائهم واستحلال الخنزير وترك الختان والرهبانية وجعل الصيام في الربيع وجعله خمسين يوما والصلوات والقرابين والناموس
لم ينقله الحواريون عن المسيح ولا هو موجود لا في التوراة ولا في الإنجيل وإنما هم متمسكون بقليل مما جاءت به الأنبياء وأما كفرياتهم وبدعهم فكثيرة جدا لم ينقل أحد عن المسيح والحواريين أنهم أمروهم أن يقولوا ما يقولونه في صلاتهم السحرية تعالوا بنا
نسجد للمسيح إلهنا وفي الصلاة الثانية والثالثة يا والدة الإله مريم العذراء افتحي لنا أبواب الرحمة
الوجه الثالث قولهم أنهم سلموا إليهم التوراة والإنجيل بلغاتهم إنما يستقيم إن كان صحيحا في بعض النصارى لا في جميعهم فإن العرب من النصارى وغير العرب لم يسلم أحد إليهم توراة ولا إنجيلا بلسانهم وهذا أمر معروف ولا توجد قط توراة ولا إنجيل معرب من زمن الحواريين وإنما عربت في الأزمان المتأخرة فإذا كانت النصارى من العرب تقوم عليهم الحجة قبل محمد بكتاب نزل بغير لسانهم ثم عرب لهم فكيف لا تقوم على الروم وغيرهم الحجة بكتاب نزل بغير لسانهم ثم ترجم بلسانهم
الوجه الرابع أن يقال الأمة إذا غيرت دين رسولها الذي أرسل إليها وبدلته أرسل الله إليها من يدعوها إلى الدين الذي يحبه الله ويرضاه كما أن بني إسرائيل لما غيروا دين موسى وبدلوه بعث الله إليهم وإلى غيرهم المسيح بالدين الذي يحبه ويرضاه وكذلك النصارى لما بدلوا دين المسيح وغيروه بعث الله إليهم وإلى غيرهم محمدا بالدين الذي يحبه ويرضاه
وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا
من أهل الكتاب
وأولئك البقايا الذين كانوا متمسكين بدين المسيح قبل مبعث محمد كانوا على دين الله عز و جل وأما من حين بعث محمد فمن لم يؤمن به فهو من أهل النار كما قال في الحديث الصحيح والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار
الوجه الخامس أن يقال دعواهم أن الرسل سلموا إليهم التوراة والإنجيل وسائر النبوات باثنين وسبعين لسانا وأنها باقية إلى اليوم على لفظ واحد دعوى يعلم أن قائلها يتكلم بلا علم بل مفتر كذاب وذلك أن هذا يقتضي أنه الآن في الأرض هذه الكتب باثنين وسبعين لسانا كلها منقولة عن الحواريين وكلها متفقة غير مختلفة البتة فهذا أربع دعاوي أنها موجودة باثنين وسبعين لسانا وأنها متفقة وأنها كلها منقولة عن الحواريين الرابعة أنهم معصومون
فيقال من الذي منكم لو قدر أن هذه الكتب التي باثنين
وسبعين لسانا هي عن الحواريين وهي موجودة اليوم فمن الذي يمكنه أن يشهد بموافقة بعضها بعضا وذلك لا يمكن إلا لمن يعلم الاثنين وسبعين لسانا ويكون ما عنده من الكتب يعلم أنها مأخوذة عن الحواريين ويعلم أن كل نسخة في العالم بهذا اللسان توافق النسخة التي عنده وإلا فلو جمع اثنين وسبعين نسخة باثنين وسبعين لسانا لم يعلم أن كل نسخة من هذه هي المأخوذة عن الحواريين إن قدر أنه أخذ عنهم اثنان وسبعون لسانا ولا يعلم أن كل نسخة في العالم توافق تلك النسخة فإنه من المعلوم أنه في زماننا وقبل زماننا لم تزل هذه الكتب تنقل من لسان إلى لسان كما يترجم من العبرانية إلى العربية ومن السريانية والرومية واليونانية إلى العربية وغيرها
وحينئذ فإذا وجدت نسخة بالعربية لم يعلم أنها مما عربت بعد الحواريين أو هي من المأخوذ عن الحواريين إذا قدر أنه أخذ عنهم نسخة بالعربية ولا يمكن لأحد أن يجمع جميع النسخ المعربة ويقابل بينها بل وقد وجدنا النسخ المعربة يخالف بعضها بعضا في الترجمة مخالفة شديدة تمنع الثقة ببعضها وقد رأيت أنا بالزبور عدة نسخ معربة بينها من الإختلاف ما لا يكاد ينضبط وما يشهد بأنها مبدلة مغيرة لا يوثق بها ورأيت من التوراة المعربة من النسخ ما يكذب بكثير من ترجمتها طائفة من أهل الكتاب فكيف يمكنه أن يجمع جميع النسخ التي بالاثنين وسبعين لسانا ويقابل بين نسخ كل لسان حتى يكون فيها النسخة
القديمة المأخوذة عن الحواريين ثم يقابل بين نسخ جميع الألسنة ولا يمكن ذلك إلا لمن يكون عارفا بالاثنين وسبعين لسانا معرفة تامة وليس في بني آدم من يقدر على ذلك ولو قدر وجود ذلك فلم يعرف أن القادر على ذلك فعل ذلك وأخبرنا باتفاقها
ولو وجد ذلك لكان هذا خبر واحد أو أن يترجم كل لسان من يعلم صحة ترجمته حتى تنتهي الترجمة إلى لسان واحد كالعربي مثلا ويعلم حينئذ اتفاقها وإلا فإذا ترجم هذا الكتاب بلسان أو لسانين أو أكثر وترجم الآخر كذلك لم يعلم اتفاقها إن لم يعلم أن المعنى بهذا اللسان هو المعنى بهذا اللسان وهذا لا يكون إلا ممن يعرف اللسانين أو من يترجم له اللسانين باللسان الذي يعرفه
ومعلوم أن أحدا لم يترجم له الاثنان وسبعون لسانا بلسان واحد أو ألسنة يعرفها ولا يعرف أحد باثنين وسبعين لسانا
وحينئذ فالجزم باتفاق جميع الكتب المكتوبة باثنين وسبعين لسانا أو الجزم بأن نسخ كل لسان متفقة جزم بما لا يعلم صحته لو لم يكن في الأرض اليوم الاثنان وسبعون لسانا منقولة عن الحواريين لم تختلط بالمترجم بعد ذلك فكيف وأكثر ما بأيدي الناس هو مما ترجم بعد ذلك بالعربي وغيره
هذا إذا ثبت أن الحواريين سلموها باثنين وسبعين لسانا وأنها باقية
إلى اليوم وهذا أمر لا يمكن أحدا معرفته فليس اليوم توراة وإنجيل ونبوات يشهد لها أحد أنها مترجمة باللسان العربي من عهد الحواريين بل ولا بأكثر الألسنة وإلا فإذا قدر أن الحواريين سلموها باثنين وسبعين لسانا مع حصول الترجمة بعد ذلك وكثرة المترجمات أمكن وقوع التغيير في بعض المترجمات وحينئذ فالعلم بأن تلك النسخ القديمة لا تتغير فيها لا يمنع وقوع التغيير في بعض ما ترجم بعدها أو في بعض ما نسخ منها ولا سبيل إلى العلم باتفاقها مع كونها باثنين وسبعين لسانا بخلاف القرآن الذي هو بلسان العرب وخط العرب فإن العلم باتفاق ما يوجد من نسخة ممكن وهو محفوظ في الصدور ولا يحتاج إلى حفظ في الكتب فهو منقول بالتواتر لفظا وخطا
الوجه السادس قولهم وسلموا إلينا التوراة والإنجيل بلساننا على ما يشهد لهما الكتاب الذي أتى به هذا الرجل فيقال لهم ليس في القرآن ما يشهد لكم بأن التوراة والإنجيل سلمت إليكم بلسانكم فاستشهادكم بالقرآن على هذه الدعوى من جنس استشهادكم به على أن دينكم حق
ومن جنس استشهادكم بالنبوات على ما أحدثتموه وغيرتم به دين
المسيح عليه السلام من التثليث والاتحاد وغير ذلك وقولهم حيث يقول الله
ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه
وقال تعالى
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا
فيقال لا ريب أن قوم موسى عليه السلام هم بنو إسرائيل وبلسانهم نزلت التوراة وكذلك بنو إسرائيل هم قوم المسيح عليه السلام وبلسانهم كان المسيح يتكلم فلم يخاطب أحد من الرسولين أحد إلا باللسان العبراني لم يتكلم أحد منهما لا برومية ولا سريانية ولا يونانية ولا قبطية
وقوله تعالى
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا
كلام مطلق عام كقوله
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير
ليس في هذا تعرض لكون التوراة والإنجيل سلمت إليهم بألسنتهم
الوجه السابع أن يقال عمدتهم في هذه الحجة أنهم يقولون
الحواريون هم عندنا رسل الله كإبراهيم وموسى والمسيح عندنا هو الله وهو أرسل إلينا هؤلاء فيجب أن يكونوا أرسلوا إلينا بلساننا وأن يكونوا سلموا إلينا التوراة والإنجيل بلساننا
فيقال لهم هب أنكم تدعون هذا وتعتقدونه ونحن سنبين إن شاء الله تعالى أن هذه دعاوي باطلة لكن أنتم في هذا المقام تذكرون ان هذا الكتاب الذي هو القرآن الذي جاء به محمد يشهد لكم بذلك وهذا كذب ظاهر على محمد وعلى كتابه وانتم صدرتم كتابكم بأن كتابه يشهد لكم ونحن نبين كذبكم وافتراءكم عليه سواء أقررتم بنبوته أو لم تقروا بها فإنه من المعلوم يقينا عنه أنه لم يشهد للمسيح بأنه الله بل كفر من قال ذلك ولا يشهد للحواريين بأنهم رسل أرسلهم الله بل إنما شهد للحواريين بأنهم قالوا إنا مؤمنون مسلمون وأنهم قالوا نحن أنصار الله كما شهد لمن آمن به بأنهم مؤمنون مسلمون ينصرون الله ورسوله بل وأنهم أفضل من الحواريين لكون أمته خير الأمم كما قال تعالى
فلمآ أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله ءامنا بالله واشهد بأنا مسلمون
وقال تعالى
وإذ أوحيت إلى الحوارين أن ءامنوا بي وبرسولي قالوا ءامنا واشهد بأننا مسلمون
وقال تعالى
يأيها الذين ءامنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحوارين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فامنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين ءامنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين
وسيأتي الكلام على هذا مبسوطا ونبين أن الرسل المذكورين في سورة يس ليس هم الحواريين ولا كانوا رسلا للمسيح بل كان هذا الإرسال قبل المسيح وأهل القرية كذبوا أولئك الرسل فأهلكهم الله كما قال تعالى
ومآ أنزلنا على قومه من بعده من جند من السمآء وما كنا منزلين إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون
والرسل المذكورون في سورة يس هم ثلاثة وكان في القرية رجل آمن بهم وهذه وإن كانت أنطاكية فكان هذا الإرسال قبل المسيح والمسيح عليه السلام ذهب إلى أنطاكية اثنان من أصحابه بعد رفعه
إلى السماء ولم يعززوا بثالث ولا كان حبيب النجار موجودا إذ ذاك وآمن أهل أنطاكية بالمسيح عليه السلام وهي أول مدينة آمنت به كما قد بسط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن محمدا لم يشهد للمسيح بالألاهية ولا للحواريين بأنهم رسل الله ولا أنهم سلموا إليهم التوراة والإنجيل بلسانهم ولا بأنهم معصومون وما ذكروه من قوله تعالى
ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه
إنما يتناول رسل الله لا رسل رسل الله بل رسل رسل الله يجوز أن يبلغوا رسالات الرسل بلسان الرسل إذا كان هناك من يترجم لهم ذلك اللسان وإن لم يكن هناك من يترجم ذلك اللسان كانت رسل الرسل
تخاطبهم بلسانهم لكن لا يلزم من هذا أن يكونوا قد كتبوا الكتب الإلهية بلسانهم بل يكفي أن يقرأوها بلسان الأنبياء عليهم السلام ثم يترجموها بلسان أولئك وهو سبحانه قال
ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه
ولم يقل وما أرسلنا من رسول إلا إلى قومه بل محمد أرسل بلسان قومه وهم قريش وأرسل إلى قومه وغير قومه كما يذكرون ذلك عن المسيح عليه السلام
فصل
وأما قوله تعالى
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا
فحق وتمام الآية
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين
وهذا كقوله تعالى في الآية الأخرى
إنآ أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير
وقوله
إنمآ أنت منذر ولكل قوم هاد
في أصح الأقوال أي ولكل قوم داع يدعوهم إلى توحيد الله
وعبادته كما أنت هاد أي داع لمن أرسلت إليه والهادي بمعنى الداعي المعلم المبلغ لا بمعنى الذي يجعل الهدى في القلوب كقوله
وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض
وقوله وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى
ومعلوم أن بني إسرائيل كانوا أكثر الأمم أنبياء بعث إليهم موسى وبعث إليهم بعده أنبياء كثيرون حتى قيل إنهم ألف نبي وكلهم يأمرون بشريعة التوراة ولا يغيرون منها شيئا ثم جاء المسيح بعد ذلك بشريعة أخرى غير فيها بعض شرع التوراة بأمر الله عز و جل
فإذا كان إرسال موسى والأنبياء بعده إليهم لم يمنع إرسال المسيح إليهم فكيف يمتنع إرسال محمد إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى ولهم من حين المسيح لم يأتهم رسول من الله كما قال تعالى
يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا
ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير
وهذه الفترة التي كانت بين المسيح ومحمد صلوات الله عليهما وسلامه وهي فيما ذكره غير واحد من العلماء كسلمان الفارسي وغيره كانت ستمائة سنة وقد قيل ستمائة سنة شمسية وهي ستمائة وعشرون أو ثمانية عشر هلالية وذلك أن كل مائة سنة شمسية تكون مائة وثلاث سنين هلالية كما قال تعالى
ولبثوا في كهفهم ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعا
وهذه التسع وبعض العاشرة والتاريخ قد تحسب فيه التامة وتحسب فيه الناقصة فمن قال عشرين حسب الناقصة ومن قال ثمانية عشر حسب التامة فقط
فصل
وأما قولهم نعلم أن الله عدل وليس من عدله أن يطالب أمة يوم القيامة باتباع إنسان لم يأت إليهم ولا وقفوا له على كتاب بلسانهم ولا من جهة داع من قبله فيقال الجواب من وجوه
أحدها أن هذا الكلام لا يجوز أن يقوله من كتب هذا الكتاب ولا أحد يفهم بالعربية فإن هؤلاء يفهمون هذا الكتاب بالعربية وقد قرءوه وناظروا بما فيه وإذا كانوا مع ذلك يفهمون بغير العربية كان ذلك أبلغ في قيام الحجة عليهم فإنهم يمكنهم فهم ما قال بالعربية وتفهيم ذلك لقومهم باللسان الآخر
الثاني كما أنهم يفهمون ما في كتبهم الرومية والسريانية والقبطية وغيرها ويترجمونها للعرب من النصارى بالعربية فإذا قامت الحجة على عرب النصارى باللسان الرومي فلأن تقوم على الروم باللسان العربي أولى فإن اللسان العربي أكثر انتشارا في العالم من اللسان الرومي والناطقون به بعد ظهور الإسلام أكثر من الناطقين بغيره وهو أكمل بيانا وأتم تفهما
وحينئذ فيكون وصول المعاني به إلى غير أهل لسانه أيسر لكمال معناه ولكثرة العارفين به وهؤلاء علماء النصارى يقرءون كتب الطب والحساب والفلسفة وغير ذلك باللسان العربي مع أن مصنفيها كانوا عجما من رومي ويوناني وغير ذلك فما المانع أن يقرأ القرآن العربي وتفسيره وحديث النبي باللسان العبري مع أنه أخذ عن الرسول بالعربي فهو أولى بأن يعرف به مراد المتكلم به
الوجه الثالث أن يقال الناس لهم في عدل الله ثلاثة أقوال قيل كل ما يكون مقدورا فهو عدل وقيل العدل منه نظير العدل من عباده وهما قولان ضعيفان وقيل من عدله أن يجزي المحسن بحسناته لا ينقصه شيئا منها ولا يعاقبه بلا ذنب
ومعلوم أنه إذا أمر العبد بما يقدر عليه كان جائزا باتفاق طوائف أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى وإن كان الفعل مكروها للإنسان فإن الجنة حفت بالمكاره وحفت النار بالشهوات وقد كلفت بنو إسرائيل والنصارى من الأعمال ما هو مكروه لهم وشاق عليهم فكيف يمتنع أن يأمرهم وينهاهم بلغة يبين بعض المسلمين معناها لهم والعرب الذي نزل القرآن بلسانهم طبقوا الأرض ومنهم نصارى لا يحصون فكل من عرف بالعربية من النصارى أمكنه فهم ما يقال بالعربي ومن كان منهم روميا كان له أسوة من أسلم من سائر طوائف الأعاجم كالفرس والترك والهند والبربر والحبشة وغيرهم وهو متمكن من معرفة ما أمره الله والعمل به كما يمكن هؤلاء كلهم بل
الروم أقدر على ذلك من غيرهم فلأي وجه يمتنع أن يأمرهم الله بذلك وما لا يتم الواجب إلا به إذا كان مقدورا للعبد فعليه أن يفعله باتفاق أهل الملل المسلمين واليهود والنصارى
وإنما تنازع الناس فيه هل يسمى واجبا فقيل يسمى واجبا وقيل لا يسمى واجبا فإن الآمر لم يقصده بالأمر وقد لا يخطر بباله إذا كان الآمر مخلوقا
قال هؤلاء ولأن الواجب ما يذم تاركه شرعا أو يعاقب تاركه شرعا أو ما يستحق تاركه الذم أو ما يكون تركه سببا للذم أو العقاب وقالوا وما لا يتم الواجب إلا به لا يستحق تاركه الذم والعقاب فإن الحج إذا وجب على شخصين أحدهما بعيد والآخر قريب ولم يفعلاه لم تكن عقوبة البعيد على الترك أعظم من عقوبة القريب مع أن المسافة التي لا بد لهما من قطعها أكثر
وكذلك من وجب عليه قضاء دينه من غير احتياج إلى بيع شيء من ماله ليست عقوبته على الترك بأقل من عقوبة من يحتاج إلى بيع مال له ليقضي به دينه
وفصل الخطاب أن مالا يتم الواجب إلا به هو من لوازم وجود الواجب ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع فالمأمور به لا يمكن فعله إلا بلوازمه والمنهي عنه لا يمكن تركه إلا بترك ملزوماته لكن هذا الملزوم لزوم عقلي أو عادي فوجوبه وجوب عقلي عادي لا أن الآمر
نفسه قصد إيجابه والذم والعقاب على تركه
وتنازع الناس هل يقال مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب سواء كان وجوبه شرعيا أو عقليا أو يحتاج أن يقال ما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب
فالجمهور أطلقوا العبارة الأولى وبعض المتأخرين قيدوها بالقدرة ولا حاجة إلى ذلك فإن ما لم يكن مقدورا ينتفي الوجوب مع انتفائه فيكون شرطا في الوجوب لا في فعل الواجب والجمهور قالوا ما لا يتم الواجب إلا به فإنه يجب
والمقصود هنا أن الله إذا أوجب على العباد شيئا واحتاج أداء الواجب إلى تعلم شيء من العلم كان تعلمه واجبا فإذا كان معرفة العبد لما أمره الله به تتوقف على أن يعرف معنى كلام تكلم به بغير لغته وهو قادر على تعلم معنى تلك الألفاظ التي ليست بلغته أو على معرفة ترجمتها بلغته وجب عليه تعلم ذلك
ولو جاءت رسالة من ملك إلى ملك بغير لسانه لطلب من يترجم مقصود الملك المرسل ولم يجز أن يقول أنت لم تبعث إلي من يخاطبني بلغتي مع قدرته على أن يفهم مراده بالترجمة فكيف يجوز أن يقال ذلك لرب العالمين ولو أمر به بعض الملوك بعض رعاياه وجنوده بلغته وهم قادرون على معرفة ما أمرهم به إما بتعلم لغته وإما
بمن يترجم لهم ما قاله لم يكن ذلك ظلما فكيف يكون ظلما من رب العالمين مع أنه ليس بظلم من المخلوقين
ولو وجب لبعض الرعية حق على بعض أو ظلم بعضهم بعضا لوجب على الملك أن ينصف المظلوم ويرسل إلى الظالم من يأمره بالعدل والإنصاف ويعاقبه إذا لم ينصف إذا كان الظالم متمكنا من معرفة أمر الملك بالترجمة أو غيرها وهذا هو العدل ليس العدل أن يترك الناس ظالمين في حق الله وحق عباده والله تعالى أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط كما قال تعالى
لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط
فليس لأحد ممن أرسل إليه رسول وهو قادر على معرفة ما أرسل به إليه بالترجمة أو غير الترجمة أن يمتنع من شرع الله الذي أنزله وهو القسط الذي بعث به رسوله لكون الرسول ليس لغته لغته مع قدرته على أن يعرف مراده بطرق متعددة
والناس في مصالح دنياهم يتوسل أحدهم إلى معرفة مراد الآخر بالترجمة وغيرها فيتبايعون وبينهم ترجمان يبلغ بعضهم عن بعض ويتراسلون في عمارة بلادهم وأغراض نفوسهم بالتراجم الذين يترجمون لهم وأمر الدين أعظم من أمر الدنيا فكيف لا يتوسلون إلى معرفة مراد بعضهم من بعض وكيف يكون أمر الدنيا أهم من أمر الدين إلا عند من أغفل الله قلبه عن ذكر ربه واتبع هواه وأعرض عن
ذكر ربه ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم
قال تعالى
فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا
وقال تعالى
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا
الوجه الرابع أنه من العجب أن تعد النصارى مثل هذا ظلما خارجا عن العدل وهم قد نسبوا إلى الله من الظلم العظيم على هذا الأصل ما لم ينسبه إليه أحد من الأمم كما سبوه وشتموه مسبة ما سبه إياها أحد من الأمم فهم من أبعد الأمم عن توحيده وتمجيده وحمده والثناء عليه وذلك أنهم يزعمون أن آدم لما أكل من الشجرة غضب الرب عليه وعاقبه وأن تلك العقوبة بقيت في ذريته إلى أن جاء المسيح وصلب وأنه كانت الذرية في حبس إبليس فمن مات منهم ذهبت روحه إلى جهنم في حبس إبليس حتى قالوا ذلك في الأنبياء نوح وإبراهيم وموسى وداود وسليمان وغيرهم
ومعلوم أن إبراهيم كان أبوه كافرا ولم يؤاخذه الله بذنب أبيه فكيف
يؤاخذه بذنب آدم وهو أبوه الأبعد هذا لو قدر أن آدم لم يتب فكيف وقد أخبر الله عنه بالتوبة ثم يزعمون أن الصلب الذي هو من أعظم الذنوب والخطايا به خلص الله آدم وذريته من عذاب الجحيم وبه عاقب إبليس مع أن إبليس ما زال عاصيا لله مستحقا للعقاب من حين امتنع من السجود لآدم ووسوس لآدم إلى حين مبعث المسيح والرب قادر على عقوبته وبنو آدم لا عقوبة عليهم في ذنب أبيهم فمن كان قولهم مثل هذه الخرافات التي هي مضاحك العقلاء والتي لا تصلح أن تضاف إلى أجهل الملوك وأظلمهم فكيف يدعون مع هذا أنهم يصفون الله بالعدل ويجعلون من عدله أنه لا يأمر الإنسان بتعلم ما يقدر على تعلمه وفيه صلاح معاشه ومعاده ويجعلون مثل هذا موجبا لتكذيب كتابه ورسله والإصرار على تبديل الكتاب الأول وتكذيب الكتاب الآخر وعلى أنه يتضمن مخالفة موسى وعيسى وسائر الأنبياء والرسل
والنصارى يقولون إن المسيح الذي هو عندهم اللاهوت والناسوت جميعا إنما مكن الكفار من صلبه ليحتال بذلك على عقوبة إبليس قالوا فأخفى نفسه عن إبليس لئلا يعلم ومكن أعداءه من أخذه وضربه والبصاق في وجهه ووضع الشوك على رأسه وصلبه وأظهر الجزع من الموت وصار يقول يا إلهي لم سلطت أعدائي علي ليختفي بذلك عن إبليس فلا يعرف إبليس أنه الله أو ابن الله ويريد إبليس أن يأخذ روحه إلى الجحيم كما أخذ أرواح نوح وإبراهيم
وموسى وغيرهم من الأنبياء والمؤمنين فيحتج عليه الرب حينئذ ويقول بماذا استحللت يا إبليس أن تأخذ روحي فيقول له إبليس بخطيئتك فيقول ناسوتي لا خطيئة له كنواسيت الأنبياء فإنه كان لهم خطايا استحقوا بها أن تؤخذ أرواحهم إلى جهنم وأنا لا خطيئة لي
وقالوا فلما أقام الله الحجة على إبليس جاز للرب حينئذ أن يأخذ إبليس ويعاقبه ويخلص ذرية آدم من إذهابهم إلى الجحيم وهذا الكلام فيه من الباطل ونسبة الظلم إلى الله ما يطول وصفه فمن هذا قوله فقد قدح في علم الرب وحكمته وعدله قدحا ما قدحه فيه أحد وذلك من وجوه
أحدها أن يقال إبليس إن كان أخذ الذرية بذنب أبيهم فلا فرق بين ناسوت المسيح وغيره وإن كان بخطاياهم فلم يأخذهم بذنب أبيهم وهم قالوا إنما أخذهم بذنب آدم
الثاني أن يقال من خلق بعد المسيح من الذرية كمن خلق قبله فكيف جاز أن يمكن إبليس من الذرية المتقدمين دون المتأخرين وكلهم بالنسبة إلى آدم سواء وهم أيضا يخطئون أعظم من خطايا الأنبياء المتقدمين فكيف جاز تمكين إبليس من عقوبة الأنبياء المتقدمين ولم يمكن من عقوبة الكفار والجبابرة الذين كانوا بعد المسيح
الوجه الثالث أن يقال أخذ إبليس لذرية آدم وإدخالهم جهنم إما أن يكون ظلما من إبليس وإما أن يكون عدلا فإن كان عدلا
فلا لوم على إبليس ولا يجوز أن يحتال عليه ليمتنع من العدل الذي يستحقه بل يجب تمكينه من المتأخرين والمتقدمين
وإن كان ظلما فلم لا يمنعه الرب منه قبل المسيح
فإن قيل لم يقدر فقد نسبوه إلى العجز وإن قيل قدر على دفع ظلم إبليس ولم يفعله فلا فرق بين دفعه في زمان دون زمان إن جاز ذلك جاز في كل زمان وإن امتنع امتنع في كل زمان
الوجه الرابع أن إبليس إن كان معذورا قبل المسيح فلا حاجة إلى عقوبته ولا ملام عليه وإن لم يكن معذورا استحق العقوبة ولا حاجة إلى أن يحتال عليه بحيلة تقام بها الحجة عليه
الوجه الخامس إنه بتقدير أنه لم يقم عليه الحجة قبل الصلب فلم يقم عليه حجة بالصلب فإنه يمكنه أن يقول أنا ما علمت أن هذا الناسوت هوناسوت الرب وأنت يا رب قد أذنت لي أن آخذ جميع ذرية آدم فأوديهم إلى الجحيم فهذا واحد منهم وما علمت أنك أو ابنك اتحد به ولو علمت ذلك لعظمته فأنا معذور في ذلك فلا يجوز أن تظلمني
الوجه السادس أن نقول أن إبليس يقول حينئذ يا رب فهذا
الناسوت الواحد أخطأت في أخذ روحه لكن سائر بني آدم الذين بعده لي أن أحبس أرواحهم في جهنم كما حبست أرواح الذين كانوا قبل المسيح إما بذنب أبيهم وإما بخطاياهم أنفسهم وحينئذ فإن كان ما يقوله النصارى حقا فلا حجة لله على إبليس
الوجه السابع أن يقال هب أن آدم أذنب وبنوه أذنبوا بتزيين الشيطان فعقوبة بني آدم على ذنوبهم هي إلى الله أو إلى إبليس فهل يقول عاقل أن إبليس له أن يغوي بني آدم بتزيينه لهم ثم له أن يعاقبهم جميعا بغير إذن من الله في ذلك وهل هذا القول إلا من قول المجوس الثنوية الذين يقولون إن كل ما في العالم من الشر من الذنوب والعقاب وغير ذلك هو من فعل إبليس لم يفعل الله شيئا من ذلك ولا عاقب الله أحدا على ذنب
ولا ريب أن هذا القول سرى إلى النصارى من المجوس لهذا لا ينقلون هذا القول في كتاب منزل ولا عن أحد من الحواريين ولهذا كان المانوية دينهم مركبا من دين النصارى والمجوس وكان رأسهم ماني نصرانيا مجوسيا فالنسب بين النصارى والمجوس بل وسائر المشركين نسب معروف
الوجه الثامن أن يقال إبليس عاقب بني آدم وأدخلهم جهنم بإذن الله أو بغير إذنه
إن قالوا بإذنه فلا ذنب له ولا يستحق أن يحتال عليه ليعاقب ويمتنع وإن كان بغير إذنه فهل جاز في عدل الله أن يمكنه من ذلك أم لم يجز فإن جاز ذلك في زمان جاز في جميع الأزمنة وإن لم يجز في زمان لم يجز في جميع الأزمنة فلا فرق بين ما قبل المسيح وما بعده
الوجه التاسع أن يقال هل كان الله قادرا على منع إبليس وعقوبته بدون هذه الحيلة وكان ذلك عدلا منه لو فعله أم لا فإن كان ذلك مقدورا له وهو عدل منه لم يحتج أن يحتال على إبليس ولا يصلب نفسه أو إبنه ثم إن كان هذا العدل واجبا عليه وجب منع إبليس وإن لم يكن واجبا جاز تمكينه في كل زمان فلا فرق بين زمان وزمان
وإن قيل لم يكن قادرا على منع إبليس فهو تعجيز للرب عن منع إبليس وهذا من أعظم الكفر باتفاق أهل الملل من جنس قول
الثنوية الذين يقولون لم يكن يقدر النور أن يمنع الظلمة من الشر ومن جنس قول ديمقراطيس والحنانين الذين يقولون لم يمكن واجب الوجود أن يمنع النفس من ملابسه الهيولي بل تعلقت النفس بها بغير اختياره
الوجه العاشر أن ما فعله به الكفار اليهود الذين صلبوه طاعة لله أو معصية فإن كان طاعة لله استحق اليهود الذين صلبوه أن يثيبهم ويكرمهم على طاعته كما يثيب سائر المطيعين له والنصارى متفقون على أن أولئك من أعظم الناس إثما وهم من شر الخلق وهم يستحلون من دمهم ولعنتهم ما لا يستحلونه من غيرهم بل
يبالغون في طلب اليهود وعقوبتهم في آخر صومهم الأيام التي تشبه أيام الصليب وإن كان أولئك اليهود عصاة لله فهل كان قادرا على منعهم من هذه المعصية أم لا فإن لم يكن قادرا لم يكن قادرا على منع إبليس من ظلم الذرية في الزمن المستقبل وإن كان قادرا على منعهم من المعاصي ولم يمنعهم كان قادرا على منع إبليس بدون هذه الحيلة وإذا كان حسنا منه تمكينهم من هذه المعصية كان حسنا منه تمكين إبليس من ظلم الذرية في الماضي والمستقبل فلا حاجة إلى الحيلة عليه
واعلم أن الوجوه الدالة على فساد دين النصارى كثيرة جدا وكلما تصور العاقل مذهبهم وتصور لوازمه تبين له فساده لكن المقصود هنا بيان تناقضهم في أنهم يقيمون عذر أنفسهم في ترك الإيمان بكتابه ورسوله ودينه لكونه سبحانه عدلا لا يأمر الناس بما يعجزون عنه وهو سبحانه لم يأمرهم إلا بما يقدرون عليه وقد نسبوا إليه من الظلم ما لم ينسبه إليه أحد من بني آدم يوضح هذا
الوجه الحادي عشر وهو أنه إما أن يقال في الظلم بقول الجهمية المجبرة الذين يقولون يفعل ما يشاء بلا حكمة ولا سبب
ولا مراعاة عدل وإما أن يقال بقول القدرية أنه يجب عليه العدل الذي يجب على المخلوقين وإما أن يقال هو عادل منزه عن الظلم ولكن ليس عدله كعدل المخلوق فهذه أقوال الناس الثلاثة
فإن قيل بالأول جاز أن يسلط إبليس على جميع الذرية بلا ذنب وأن يعاقبهم جميعا بلا ذنب ولا حاجة حينئذ إلى الحيلة على إبليس
وإن قيل بالثاني فمعلوم أن الواحد من الناس لو علم أن بعض مماليكه أمر غيره بذنب يكرهه السيد ففعله كان العدل منه أن يعاقب الآمر والمأمور جميعا
وأما تسليطه للآمر على عقوبة المأمور فليس من العدل وكذلك تسليط الآمر الظالم على جميع ذرية المأمور الذين لم يذنبوا ذنب أبيهم ليس من العدل
وإن قيل بل هو إستحق أن يستعبدهم لكون أبيهم أطاعه قيل فحينئذ يستحق أن يأسر الأولين والآخرين فلا يجوز أن يمنع من حقه بالاحتيال عليه
وإن قيل إنما يستحق أخذهم خطاياهم قيل فله أن يأخذ الأولين والآخرين
وإن قيل هو لما طلب أخذ روح ناسوت المسيح منع بهذا الذنب قيل هذا إن كان ذنبا فهو أخف ذنوبه فإنه لم يعلم أنه ناسوت الإله وإذا إستحق الرجل أن يسترق أولاد غيره فطلب رجلا
ليسترقه لظنه أنه منهم ولم يكن منهم لم يكن هذا ذنبا يمنع استرقاق الباقين
وإن قيل إن عدل الرب ليس كعدل المخلوقين بل من عدله أن لا ينقص أحدا من حسناته ولا يعاقبه إلا بذنبه لم يجز حينئذ أن يعاقب ذرية آدم بذنب أبيهم ولم يجز أن يعاقب الأنبياء الذين ليس لهم ذنب إلا ذنب تابوا منه بذنب غيرهم فإن الأنبياء معصومون أن يقروا على ذنب فكل من مات منهم مات وليس له ذنب يستحق عليه العقوبة فكيف يعاقبون بعد الموت بذنب أبيهم إن قدر أنه مات مصرا على الذنب مع أن هذا تقدير باطل ولو قدر أن الأنبياء لهم خطايا يستحقون بها العقوبة بعد الموت وتسليط إبليس على عقوبتهم مع أن هذا تقدير باطل فمن بعد المسيح من غير الأنبياء أولى بذلك فكيف يجوز في العدل الذي يوجب التسوية بين المتماثلين عقوبة الأنبياء ومنع عقوبة من هو دونهم بل من هو من الكفار
الوجه الثاني عشر أن الرب إذا قصد بهذا دفع ظلم إبليس فهلا اتحد بناسوت بعض أولاد آدم ليحتال على إبليس فيمنعه من ظلم من تقدم فإن المنع من الشر الكثير أولى من المنع من الشر القليل أتراه ما كان يعلم أن إبليس يعمل هذا الشر كله فهذا تجهيل له أو كان يعرف وعجز عن دفعه فهذا تعجيز له ثم ما الفرق بين زمان وزمان أم كان ترك منعه عدلا منه فهو عدل في كل زمان
فصل
وأما تفسيرهم لقوله تعالى
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين
بأن مراده قومه كما قالوا
وأما قوله تعالى
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين
يريد بحسب مقتضى العدل قومه الذين أتاهم بلغتهم لا غيرهم ممن لم يأتهم بما جاء فيه
فيقال لهم من فسر مراد متكلم أي متكلم كان بما يعلم الناس أنه خلاف مراده فهو كاذب مفتر عليه وإن كان المتكلم من آحاد العامة ولو كان المتكلم من المتنبئين الكذابين فإن من عرف كذبه إذا تكلم بكلام وعرف مراده به لم يجز أن يكذب عليه فيقال أراد كذا
وكذا فإن الكذب حرام قبيح على كل أحد سواء كان صادقا أو كاذبا فكيف بمن يفسر مراد الله ورسوله بما يعلم كل من خبر حاله علما ضروريا أنه لم يرد ذلك بل يعلم علما ضروريا أنه أراد العموم
فإن قوله تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا صيغة عامة وصيغة من الشرطية من أبلغ صيغ العموم كقوله تعالى
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
ثم إن سياق الكلام يدل على أنه أراد أهل الكتاب وغيرهم فإن هذا في سورة آل عمران في أثناء مخاطبته لأهل الكتاب ومناظرته للنصارى فإنها نزلت لما قدم على النبي وفد نجران النصارى وروى أنهم كانوا ستين راكبا وفيهم السيد والأيهم والعاقب وقصتهم مشهورة معروفة كما تقدم ذكرها
وقد قال قبل هذا الكلام بذم دين النصارى الذي ابتدعوه وغيروا به دين المسيح ولبسوا الحق الذي بعث به المسيح بالباطل الذي ابتدعوه
حتى صار دينهم مركبا من حق وباطل واختلط أحدهما بالآخر فلا يكاد يوجد معه من يعرف ما نسخه المسيح من شريعة التوراة مما أقره والمسيح قرر أكثر شرع التوراة وغير المعنى وعامة النصارى لا يميزون ما قرره مما غيره فلا يعرف دين المسيح
قال تعالى
ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون
فقد بين أن من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا فهو كافر فمن اتخذ من دونهم أربابا كان أولى بالكفر وقد ذكر أن النصارى اتخذوا من هو دونهم أربابا بقوله تعالى
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لآ إله إلا هو سبحانه عما يشركون
ثم قال تعالى في سورة آل عمران
وإذ أخذ الله ميثاق النبين لمآ ءاتيتكم من كتاب وحكمة ثم
جآءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصرى قالوآ أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين
قال ابن عباس وغيره من السلف ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه والآية تدل على ما قالوا فإن قوله تعالى
وإذ أخذ الله ميثاق النبين يتناول جميع النبيين
لمآ ءاتيتكم من كتاب وحكمة ثم جآءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه
وهذه اللام الأولى تسمى اللام الموطئة للقسم واللام الثانية تسمى لام جواب القسم والكلام إذا إجتمع فيه شرط وقسم وقدم القسم سد جواب القسم مسد جواب الشرط والقسم كقوله تعالى
لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون
ومنه قوله تعالى
ومنهم من عاهد الله لئن ءاتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين
وقوله
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جآءتهم ءاية ليؤمنن بها
وقوله
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا
وقوله
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جآءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم
ومنه قوله
ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله
وقوله
ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب
وقوله
لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين
وقوله
لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم
وقوله
ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينآ إليك
وقوله
وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم
وقوله
ولئن لم يفعل مآ أمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين
وقوله
ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون
وقوله
ولئن جآء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم
وقوله
ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه
ومثل هذا كثير وحيث لم يذكر القسم فهو محذوف مراد تقدير
الكلام والله لئن أخرجوا لا يخرجون معهم والله ولئن قوتلوا لا ينصرونهم
ومن محاسن لغة العرب أنها تحذف من الكلام ما يدل المذكور عليه إختصارا وإيجازا لا سيما فيما يكثر إستعماله كالقسم وقوله
لمآ ءاتيتكم من كتب وحكمة
هي ما الشرطية والتقدير أي شيء أعطيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ولا تكتفوا بما عندكم عما جاء به ولا يحملنكم ما آتيتكم من كتاب وحكمة على أن تتركوا متابعته بل عليكم أن تؤمنوا به وتنصروه وإن كان معكم من قبله من كتاب وحكمة فلا يغنيكم ما آتيتكم عما جاء به فإن ذلك لا ينجيكم من عذاب الله
فدل ذلك على انه من أدرك محمدا من الأنبياء وأتباعهم وإن كان معه كتاب وحكمة فعليه أن يؤمن بمحمد وينصره كما قال
لمآ ءاتيتكم من كتاب وحكمة ثم جآءكم رسول مصدق لمآ معكم لتؤمنن به ولتنصرنه
وقد أقر الأنبياء بهذا الميثاق وشهد الله عليهم به كما قال تعالى
أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين
ثم قال تعالى
فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون
ثم قال تعالى
أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون
ثم قال تعالى
قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون
ثم قال تعالى
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسري
قالت طائفة من السلف لما أنزل الله هذه الآية قال من قال من اليهود والنصارى نحن مسلمون فقال تعالى
ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا
فقالوا لا نحج فقال تعالى
ومن كفر فإن الله غني عن العالمين
فكل من لم ير حج البيت واجبا عليه مع الاستطاعة فهو كافر باتفاق المسلمين كما دل عليه القرآن
واليهود والنصارى لا يرونه واجبا عليهم فهم من الكفار حتى أنه روى في حديث مرفوع إلى النبي من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا
وهو محفوظ من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد اتفق المسلمون على أن من جحد وجوب مباني الإسلام الخمس الشهادتين والصلوات الخمس والزكاة وصيام شهر رمضان وحج البيت فإنه كافر
وأيضا فقد قال تعالى في أول السورة
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم فائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الأسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد
فقد أمره تعالى بعد قوله
إن الدين عند الله الإسلام
أن يقول أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وأن يقول للذين أوتوا الكتاب وهم اليهود والنصارى والأميين وهم الذين لا كتاب لهم من العرب وغيرهم أأسلمتم فالعرب الأميون يدخلون في لفظ الأميين باتفاق الناس
وأما من سواهم فإما أن يشمله هذا اللفظ أو يدخل في معناه بغيره من الألفاظ المبينة أنه أرسل إلى جميع الناس
قال تعالى
فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد
فقد أمر أهل الكتاب بالإسلام كما أمر به الأميين وجعلهم إذا أسلموا مهتدين وإن لم يسلموا فقد قال إنما عليك البلاغ أي تبلغهم رسالات ربك إليهم والله هو الذي يحاسبهم فدل هذا كله على أنه عليه أن يبلغ أهل الكتاب ما أمرهم به من الإسلام كما يبلغ الأميين وأن الله يحاسبهم على ترك الإسلام كما يحاسب الأميين
وفي الصحيحين عن النبي في الكتاب الذي كتبه إلى هرقل ملك النصارى من محمد رسول الله إلى هرقل
عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين
و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون
وأبلغ من ذلك أن الله تعالى أخبر في كتابه أن الإسلام دين الأنبياء كنوح وإبراهيم ويعقوب وأتباعهم إلى الحواريين وهذا تحقيق لقوله تعالى
ومن يبتغ غيرالإسلام دينا فلن يقبل منه
وإن الدين عند الله الإسلام في كل زمان ومكان
قال تعالى عن نوح أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض
واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين
فهذا نوح الذي غرق أهل الأرض بدعوته وجعل جميع الآدميين
من ذريته يذكر أنه أمر أن يكون من المسلمين
وأما الخليل فقال تعالى
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم
قال تعالى
ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذا قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون
فقد أخبر تعالى أنه أمر الخليل بالإسلام وانه قال أسلمت لرب العالمين وأن إبراهيم وصى بنيه ويعقوب وصى بنيه أن لا يموتن إلا وهم مسلمون
وقال تعالى
ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين
وقال تعالى عن يوسف الصديق بن يعقوب أنه قال
رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين
وقال تعالى عن موسى
وقال موسى يا قوم أن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين
وقال عن السحرة الذين آمنوا بموسى
قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين
وقالوا أيضا
وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين
وقال تعالى في قصة سليمان
إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتونى مسلمين
وقال
قال يا أيها الملؤا أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين
وقال
وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين
وقال عن بلقيس التي آمنت بسليمان
رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين
وقال عن أنبياء بني إسرائيل
إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا
وقال تعالى عن الحواريين
وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون
وقال تعالى
ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين
فهؤلاء الأنبياء وأتباعهم كلهم يذكر تعالى أنهم كانوا مسلمين وهذا مما يبين أن قوله تعالى
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه
وقوله
إن الدين عند الله الإسلام
لا يختص بمن بعث إليه محمد بل
هو حكم عام في الأولين والآخرين ولهذا قال تعالى
ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا
وقال تعالى
وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
فصل
قولهم ثم وجدنا في هذا الكتاب من تعظيم السيد المسيح وأمه حيث يقول في سورة الأنبياء
والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنهآ ءاية للعالمين
وقال في سورة آل عمران
وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله إصطفاك وطهرك وإصطفاك على نسآء العالمين
مع الشهادات للسيد المسيح بالمعجزات وأنه حبلت به أمه من غير مباضعة رجل لبشارة ملائكة الله لأمه وأنه تكلم في المهد وأحيا الميت وأبرأ الأكمه ونقى الأبرص وأنه خلق من الطين كهيئة الطير فنفخ فيه فكان طائرا بإذن الله أي بإذن اللاهوت الذي هو كلمة الله المتحدة في الناسوت ووجدنا أيضا في الكتاب أن الله رفعه إليه
وقال في سورة النساء
وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه
وفي سورة آل عمران
إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة
وقال في سورة البقرة
واءتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس
وقال في سورة الحديد
وقفينا بعيسى ابن مريم وءاتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا إبتغآء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فاتينا الذين ءامنوا منهم أجرهم
وقال في سورة آل عمران
من أهل الكتاب أمة قآئمة يتلون ءايات الله ءانآء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين
ثم وجدناه يعظم إنجيلنا
الجواب أما تعظيم المسيح وأمه فهو حق وكذلك مدح من كان
على دينه الذي لم يبدل قبل أن يبعث أو بقي على ذلك إلى أن بعث محمد فآمن به فإن هؤلاء مؤمنون مسلمون مهتدون وكذلك من كان على دين موسى الذي لم يبدل إلى أن بعث المسيح فآمن به فهؤلاء مؤمنون مسلمون مهتدون وقد قدمنا أن المسلمين هم عدل متوسطون لا ينحرفون إلى غلو ولا إلى تقصير
وأما اليهود والنصارى فهم على طرفي نقيض هؤلاء ينحرفون إلى جهة وهؤلاء إلى الجهة التي تقابلها كما ذكرنا تقابلهم في النسخ وكذلك تقابلهم في التحريم والتحليل والطهارة والنجاسة فإن اليهود حرمت عليهم الطيبات وهم يبالغون في اجتناب النجاسات
حتى أن الحائض لا يؤاكلونها ولا يساكنونها ولا يجامعونها وكانوا لا يرون إزالة النجاسة من الثوب بل يقرض موضعها ويستخرجون الدم من العروق إلى غير ذلك من الآصار والأغلال التي كانت عليهم
وأما النصارى ففي مقابلتهم تجد عامتهم لا يرون شيئا حراما ولا نجسا إلا ما كرهه الإنسان بطبعه ويصلون مع الجنابة والحدث وحمل النجاسات ويأكلون الخبائث كالدم والميتة ولحم الخنزير إلا من كره منهم شيئا فتركه والمسلمون وسط كما قال تعالى فيهم
وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهدآء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا
أي عدلا خيارا قال تعالى
ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكوة والذين هم باياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف
وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين ءامنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون
ولهذا كان من انحرف من المسلمين إلى شبه اليهود والنصارى مأمورا بترك ذلك الإنحراف واتباع الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا غير المغضوب عليهم كاليهود وغير الضالين كالنصارى
وذلك مثل من يبالغ في اجتناب النجاسات فينجس ما لم ينجسه الله ورسوله ويحرم ما لم يحرمه الله ورسوله ويأخذه الوسواس في اجتناب النجاسات ويحرم طيبات أحلها الله للمسلمين مثل من يرى أن القياس أن النجاسة لا تزول لا بماء ولا بغيره أو يرى أنها وإن زالت فلم يبق لها أثر فالمحل نجس إذا لم تزل بما يشترطه هو من الماء أو غيره أو يرى أن الطيبات التي
أحلها الله حرام خبيثة لأنها مستحيلة عن المحرم مع أن الخل حلال وإن كان قد كان خمرا باتفاق المسلمين إذا بدا إلى حالته أو يرى أن الماء الطيب والمائعات الطيبة التي ليس فيها اثر من الخبيث حرام لكون الخبيث لاقاها أو استهلك فيها مع انها من الطيبات لا من الخبائث أو يرى تحريم ما سوى موضع الدم الذي هو أذى إلى غير ذلك من أقوال قالها بعض العلماء ولكن غيرهم نازعهم في ذلك واتبع ما دل عليه الكتاب والسنة
وأعظم من ذلك من يكفر من خالفه من المسلمين ويرى نجاسة الكفار كما عليه كثير من أهل البدع من الرافضة والخوارج وغيرهم فإذا أكل غيرهم من وعائهم نجسه عندهم وأما ما يفعله كثير من الناس من غير أن يقوله عالم مثل من يغسل يديه وثيابه وحصر بيته بتوهم نجاستها أو يأمر الحائض إذا طهرت أن تبدل ثيابها الأول أو تغسلها أو يمنع الجنب أن يأكل أو يشرب حتى يغتسل فهذا كثير فيمن يشبه اليهود بل يشبه سامرة اليهود
وأما من يشبه النصارى فمثل من يحسن الظن بمن لا يتطهر ولا
يصلي من المنسوبين إلى الفقر والزهد والعبادة مثل من يكون في مواضع الشياطين والنجاسات كالحمام والأتاتين والمزابل وهو متلوث بالبول والعذرة ويعاشر الكلاب ولا يتوضأ ولا يغتسل من الجنابة بل ولا يصلي أو يصلي بلا وضوء وقد علم بالأضطرار من دين الإسلام أن الصلوات الخمس فرض على كل أحد وأن الوضوء من الحدث والاغتسال من الجنابة فرض لا يصلي إلا به مع القدرة ولا يتيمم مع القدرة فمن أنكر وجوب ذلك فهو كافر باتفاق المسلمين
ومن جعل الزاهد العابد الذي له نوع من الخوارق مثل نوع من الكشف والتصرف الذي يكون من الشياطين والجهال يظنون أنه من كرامات أولياء الله إذا لم يكن يصلي الصلوات الخمس ويتوضأ ويغتسل من الجنابة من المؤمنين أو من أولياء الله فهو كافر باتفاق المسلمين ومن لم يحرم الخبائث التي حرمها الله ورسوله كالبول والعذرة والدم والميتة ولحم الخنزير والخمر فهو كافر باتفاق المسلمين ومن جعل مستحل ذلك مع العلم بمخالفته لدين الرسول وليا لله فهو كافر باتفاق المسلمين وكذلك فيمن ينتحل الإسلام ويذم أهل الكتاب من يكون منافقا في الدرك الأسفل من النار ويكون كثير من اليهود والنصارى أخف عذابا في الآخرة منه قال الله تعالى
إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما
وكذلك المسلمون وأهل السنة في المسلمين وكذلك في التوحيد فإن اليهود شبهوا الخالق بالمخلوق فيما يختص بالمخلوق وهو صفات النقص الذي يجب تنزيه الرب عنها والنصارى شبهوا المخلوق بالخالق فيما يختص بالخالق وهو صفات الكمال التي لا يستحقها إلا الله تبارك تعالى فقال من قال من اليهود
إن الله فقير ونحن اغنياء
وقالوا
يد الله مغلولة
وهو بخيل وقالوا إنه خلق العالم فتعب فاستراح
وحكى عن بعضهم أنه قال بكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة وأنه ناح على بعض من أهلكه من عباده كما ينوح المصاب على ميته وأمثال ذلك مما يتعالى الله عنه ويتقدس سبحانه وتعالى
وأيضا فهم يستكبرون عن عبادة الله وطاعة رسله ويعصون أمره ويتعدون حدوده ولا يجوزون له أن ينسخ ما شرعه بل يحجرون عليه
والنصارى يصفون المخلوق بما يتصف به الخالق فيجعلونه رب
العالمين خالق كل شيء ومليكه الذي هو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون واتخذوا الملائكة والنبيين أربابا وصوروا تماثيل المخلوقات واتخذوهم شفعاء يشفعون لهم عند الله كما فعل عباد الأوثان كما قال الله تعالى
ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض
ولهذا قال تعالى
وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون
وقال تعالى
الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش مالكم من دونه من ولي ولا شفيع
والمسلمون وسط يصفون الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل يصفونه بصفات الكمال وينزهونه عن النقائص التي تمتنع على الخالق ولا يتصف بها
إلا المخلوق فيصفونه بالحياة والعلم والقدرة والرحمة والعدل والإحسان وينزهونه عن الموت والنوم والجهل والعجز والظلم والفناء ويعلمون مع ذلك أنه لا مثيل له في شيء من صفات الكمال فلا أحد يعلم كعلمه ولا يقدر كقدرته ولا يرحم كرحمته ولا يسمع كسمعه ولا يبصر كبصره ولا يخلق كخلقه ولا يستوي كاستوائه ولا يأتي كإتيانه ولا ينزل كنزوله كما قال تعالى
قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد
ولا يصفون أحدا من المخلوقين بخصائص الخالق جل جلاله بل كل ما سواه من الملائكة والأنبياء وسائر الخلق فقير إليه عبد له وهو الصمد الذي يحتاج إليه كل شيء ويسأله كل أحد وهو غني بنفسه لا يحتاج إلى أحد في شيء من الأشياء كما قال تعالى
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا
وقال تعالى
يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق
إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا
وكذلك هم في المسيح فالنصارى يقولون هو الله ويقولون أيضا هو ابن الله وهو إله تام وإنسان تام واليهود يقولون هو ولد زنا وهو ابن يوسف النجار ويقولون عن مريم إنها بغى بعيسى كما قال تعالى وقولهم على مريم بهتانا عظيما
ويقولون هو ساحر كذاب
وأما المسلمون فيقولون هو عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول وروح منه وهو وجيه في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويصفونه بما وصفه الله به في كتابه لا يغلون فيه غلو النصارى ولا يقصرون في حقه تقصير اليهود وكذلك قولهم في سائر الأنبياء والمرسلين وفي أولياء الله فاليهود قتلوا النبيين والذين يأمرون بالقسط من الناس والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من
دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ومع هذا فقد شارك النصارى اليهود في نقص حق كثير من الأنبياء فيقولون أن سليمان لم يكن نبيا ويقولون إن الحواريين مثل موسى وإبراهيم ويقولون إن من عمل بوصايا الله من غير الأنبياء صار مثل الأنبياء وكان له أن يشرع شريعة وبعض اليهود غلوا في العزير حتى قالوا إنه ابن الله
ولهذا قال نبينا في الحديث الصحيح لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبدالله فقولوا عبدالله ورسوله
والله تعالى ذكر في القرآن في سورة كهيعص قصة ابني الخالة يحيى وعيسى ويحيى يسمونه النصارى يوحنا وهو يوحنا المعمداني عندهم فقال تعالى بعد أن ذكر قصة يحيى
واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو على هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون ما كان أبوك أمرأ سوء وما كانت أمك بغيا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت
وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا
ثم قال الله تعالى
ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين
فذكر سبحانه قصة مريم والمسيح في هذه السورة المكية التي أنزلها في أول الأمر بمكة في السور التي ذكر فيها أصول الدين المدنية التي يخاطب فيها من اتبع الانبياء من أهل الكتاب والمؤمنين لما قدم عليه نصارى نجران فكان فيها الخطاب لأهل الكتاب فقال تعالى
إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي أنه قال ما من مولود إلا يمسه الشيطان فيستهل صارخا من
الشيطان إلا مريم وابنها ثم يقول أبو هريرة اقرأوا إن شئتم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم
قال تعالى
فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب
ثم ذكر قصة زكريا ويحيى ثم قال
هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء فنادته الملائكة وهو قآئم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي
مع الراكعين ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرىء الأكمه والأبرص وأحيى الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لأية لكم إن كنتم مؤمنين ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين إذ قال الله يا عيسى إن متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك
من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين
فهو سبحانه قد ذكر قصة مريم والمسيح في هاتين السورتين إحداهما مكية نزلت في أول الأمر مع السور الممهدة لأصول الدين وهي سورة كهيعص والثانية مدنية نزلت بعد أن أمر بالهجرة والجهاد ولهذا تضمنت مناظرة أهل الكتاب ومباهلتهم كما نزلت في براءة مجاهدتهم فأخبر في السورة المكية أنها لما انفردت للعبادة أرسل الله إليها روحه فتمثل لها بشرا سويا فقالت
إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا
قال أبو وائل علمت أن المتقي ذو نهية أي تقواه ينهاه عن الفاحشة وأنها خافت منه أن يكون قصده الفاحشة فقالت أعوذ
بالرحمن منك إن كنت تقيا أي تتقي الله وما يقول بعض الجهال من أنه كان فيهم رجل فاجر اسمه تقي فهو من نوع الهذيان وهو من الكذب الظاهر الذي لا يقوله إلا جاهل ثم قال
إنما أنا رسول ربك ليهب لك غلاما زكيا
وفي القراءة الأخرى لأهب لك غلاما زكيا
فأخبر هذا الروح الذي تمثل لها بشرا سويا أنه رسول ربها فدل الكلام على أن هذا الروح عين قائمة بنفسها ليست صفة لغيرها
وأنه رسول من الله ليس صفة من صفات الله ولهذا قال جماهير العلماء أنه جبريل عليه السلام فإن الله سماه الروح الأمين وسماه روح القدس وسماه جبريل وهكذا عند أهل الكتاب أنه تجسد من مريم ومن روح القدس لكن ضلالهم حيث يظنون أن روح القدس حياة الله وأنه إله يخلق ويرزق ويعبد وليس في شيء من الكتب الإلهية ولا في كلام الأنبياء أن الله سمى صفته القائمة به روح القدس ولا سمى كلامه ولا شيئا من صفاته ابنا وهذا أحد ما يثبت به ضلال النصارى وأنهم حرفوا كلام الأنبياء وتأولوه على غير ما أرادت الأنبياء فإن أصل تثليثهم مبني على ما في أحد الأناجيل من أن المسيح عليه السلام قال لهم عمدوا الناس باسم الآب والإبن وروح القدس فيقال لهم هذا إذا كان قد قاله المسيح وليس في لغة المسيح ولا لغة أحد من الأنبياء أنهم يسمون صفة الله القائمة به ولا كلمته ولا حياته لا ابنا ولا روح قدس ولا يسمون كلمته ابنا ولا يسمونه نفسه ابنا ولا روح قدس ولكن يوجد فيما ينقلونه عنهم أنهم يصفون المصطفى المكرم ابنا وهذا موجود في حق المسيح وغيره كما يذكرون أنه قال تعالى لإسرائيل أنت ابني بكري
أي بني إسرائيل
وروح القدس يراد به الروح التي تنزل على الأنبياء كما نزلت على داود وغيره فإن في كتبهم أن روح القدس كانت في داود وغيره وأن المسيح قال لهم أبي وأبيكم وإلهي وإلهمكم فسماه أبا للجميع لم يكن المسيح مخصوصا عندهم باسم الابن ولا يوجد عندهم لفظ الابن إلا اسما للمصطفى المكرم لا اسما لشيء من صفات الله ولا في كتب الأنبياء أن صفةالله تولدت منه
وإذا كان كذلك كان في هذا ما يبين أنه ليس المراد بالابن كلمة الله القديمة الأزلية التي يقولون أنها تولدت من الله عندهم مع كونها أزلية ولا بروح القدس حياة الله بل المراد بالابن ناسوت المسيح وبروح القدس ما أنزل عليه من الوحي والملك الذي نزل به فيكون قد أمرهم بالإيمان بالله وبرسوله وبما أنزله على رسوله والملك الذي نزل به وبهذا أمرت الأنبياء كلهم وليس للمسيح خاصة استحق بها أن يكون فيه شيء من اللاهوت لكن ظهر فيه نور الله وكلام الله وروح الله كما ظهر في غيره من الأنبياء والرسل فإن غيره أيضا فيما
ينقلونه عن الأنبياء يسمى إبنا وروح القدس حلت فيه وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا التنبيه على أن كلام الأنبياء عليهم السلام يصدق بعضه بعضا وأنه ليس مع النصارى لا حجة سمعية ولا عقلية توافق ما ابتدعوه ولكن فسروا كلام الأنبياء بما لا يدل عليه وعندهم في الإنجيل أنه قال إن الساعة لا يعلمها الملائكة ولا الإبن وإنما يعلمها الأب وحده فبين أن الإبن لا يعلم الساعة فعلم أن الإبن ليس هو القديم الأزلي وإنما هو المحدث الزماني
فصل
والمضاف إلى الله نوعان فإن المضاف إما أن يكون صفة لا تقوم بنفسها كالعلم والقدرة والكلام والحياة وإما أن يكون عينا قائمة بنفسها
فالأول إضافة صفة كقوله
ولا يحيطون بشيء من علمه
وقوله إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين
وقوله أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة
وقول النبي في الحديث الصحيح حديث الاستخارة إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك
وقوله تعالى وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا
وقوله ذلكم حكم الله يحكم بينكم
وقوله ذلك أمر الله أنزله إليكم
والثاني إضافة عين كقوله تعالى
وطهر بيتي للطائفين
وقوله ناقة الله وسقياها
وقوله عينا يشرب بها عباد الله
فالمضاف في الأول صفة لله قائمة به ليست مخلوقة له بائنة عنه والمضاف في الثاني مملوك لله مخلوق له بائن عنه لكنه مفضل مشرف لما خصه الله به من الصفات التي اقتضت إضافته إلى الله
تبارك وتعالى كما خص ناقة صالح من بين النوق وكما خص بيته بمكة من البيوت وكما خص عباده الصالحين من بين الخلق ومن هذا الباب قوله تعالى فأرسلنآ إليها روحنا
فإنه وصف هذا الروح بإنه تمثل لها بشرا سويا وأنها إستعاذت بالله منه إن كان تقيا وأنه قال إنما أنا رسول ربك
وهذا كله يدل على أنها عين قائمة بنفسها وهي التي تسمى في اصطلاح النظار جوهرا وقد تسمى جسما إذا كانت مشارا إليها مع إختلاف الناس في الجسم هل هو مركب من الجواهر المفردة أم من المادة والصورة أم ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا وإذا كان الله قد بين أن المضاف هنا ليس من الصفات القائمة بغيرها بل من الأعيان القائمة بنفسها علم أن المضاف مملوك لله مخلوق له لكن إضافته إلى الله تدل على تخصيص الله له من الاصطفاء والإكرام بما أوجب التخصيص بالإضافة وقد ذكرت فيما كنت كتبته قبل هذا من الرد على النصارى الكلام في ذلك وغيره وبينت أن المضافات إلى الله نوعان أعيان وصفات
فالصفات إذا أضيفت إليه كالعلم والقدرة والكلام والحياة والرضا والغضب ونحو ذلك دلت الإضافة على أنها إضافة وصف له قائم به ليست مخلوقة لأن الصفة لا تقوم بنفسها فلا بد لها من موصوف تقوم به فإذا أضيفت إليه علم أنها صفة له لكن قد يعبر باسم الصفة عن المفعول بها فيسمى المقدور قدرة والمخلوق بالكلمة كلاما والمعلوم علما والمرحوم به رحمة كقول النبي إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة
وقوله تعالى فيما يروي عنه نبيه أنه قال للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء
ويقال للمطر والسحاب هذه قدرة قادر وهذه قدرة عظيمة ويقال في الدعاء غفر الله لك علمه فيك أي معلومه
وأما الأعيان إذا أضيفت إلى الله تعالى فإما أن تضاف بالجهة العامة التي يشترك فيها المخلوق مثل كونها مخلوقة ومملوكة له ومقدورة ونحو ذلك فهذه إضافة عامة مشتركة كقوله هذا خلق الله
وقد يضاف لمعنى يختص بها يميز به المضاف عن غيره مثل بيت الله وناقة الله وعبد الله وروح الله فمن المعلوم إختصاص ناقة صالح بما تميزت به عن سائر النياق وكذلك إختصاص الكعبة وإختصاص العبد الصالح الذي عبد الله وأطاع أمره وكذلك الروح المقدسة التي إمتازت بما فارقت به غيرها من الأرواح فإن المخلوقات إشتركت في كونها مخلوقة مملوكة مربوبة لله يجري عليها حكمه وقضاؤه وقدره وهذه الإضافة لا اختصاص فيها ولا فضيلة للمضاف على غيره
وامتاز بعضها بأن الله يحبه ويرضاه ويصطفيه ويقربه إليه ويأمر به أو يعظمه ويحبه فهذه الإضافة يختص بها بعض المخلوقات كإضافة البيت والناقة والروح وعباد الله من هذا الباب
وقد قال تعالى في سورة الأنبياء
والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها
وابنهآ آية للعالمين
وقال في سورة التحريم
وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأت فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين
فذكر امرأة فرعون التي ربت موسى ابن عمران وجمعت بينه وبين أمه حتى أرضعته أمه عندها وذكر مريم أم المسيح التي ولدته وربته فهاتان المرأتان ربتا هذين الرسولين الكريمين فلما قال هنا فنفخنا فيها أي في المرأة وفيه أي في فرجها من روحنا
وقال هنا فأرسلنا إليها روحنا إلى قوله إنما أنا رسول ربك ليهب لك غلاما زكيا دل على ان قوله روحنا ليس المراد به أنه صفة لله لا الحياة ولا غيرها ولا هو رب خالق فلا هو الرب الخالق ولا صفة الرب الخالق بل هو روح من الأرواح التي اصطفاها الله وأكرمها كما تقدم في قوله فأرسلنا إليها روحنا وأن الأكثرين على أنه جبريل
وهذا الأصل الذي ذكرناه من الفرق فيما يضاف إلى الله بين صفاته وبين مملوكاته أصل عظيم ضل فيه كثير من أهل الأرض من أهل الملل كلهم فإن كتب الأنبياء التوراة والإنجيل والقرآن وغيرها أضافت إلى الله أشياء على هذا الوجه وأشياء على هذا الوجه فاختلف الناس في هذه الإضافة فقالت المعطلة نفاة الصفات من أهل الملل إن الجميع إضافة ملك وليس لله حياة قائمة به ولا علم قائم به ولا قدرة قائمة به ولا كلام قائم به ولا حب ولا بغض ولا غضب ولا رضى بل جميع ذلك مخلوق من مخلوقاته
وهذا أول ما ابتدعته في الإسلام الجهمية وإنما إبتدعوه بعد إنقراض عصر الصحابة وأكابر التابعين لهم بإحسان وكان مقدمهم رجل يقال له الجهم بن صفوان
فنسبت الجهمية إليه ونفوا الأسماء والصفات واتبعهم المعتزلة وغيرهم فنفوا الصفات دون الأسماء ووافقهم طائفة من الفلاسفة أتباع أرسطو
وقالت الحلولية بل ما يضاف إلى الله قد يكون هو صفة له وإن كان بائنا عنه بل قالوا هو قديم أزلي فقالوا روح الله قديمة أزلية صفة لله حتى قال كثير منهم إن أرواح بني آدم قديمة أزلية وصفة لله وقالوا إن ما يسمعه الناس من أصوات القراء ومداد المصاحف قديم أزلي وهو صفة لله
وقال حذاق هؤلاء بل غضبه ورضاه وحبه وبغضه وإرادته لما يخلقه قديم أزلي وهو صفة الله وكلامه الذي سمعه موسى قديم أزلي وأنه لم يزل راضيا محبا لمن علم أنه يطيعه قبل أن يخلق ولم يزل غضبانا ساخطا على من علم أنه يكفر قبل أن يخلق ولم يزل
ولا يزال قائلا يا آدم يا نوح يا ابراهيم قبل أن يوجدوا وبعد موتهم ولم يزل ولا يزال يقول يا معشر الجن والإنس قبل أن يخلقوا وبعد ما يدخلون الجنة والنار
وأما سلف المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين المشهورون بالإمامة فيهم كالأربعة وغيرهم وأهل العلم بالكتاب والسنة فيفرقون بين مملوكاته وبين صفاته فيعلمون أن العباد مخلوقون وصفات العباد مخلوقة وأجسادهم وأرواحهم وكلامهم وأصواتهم بالكتب الإلهية وغيرها ومدادهم وأوراقهم والملائكة والأنبياء وغيرها ويعلمون أن صفات الله القائمة به ليست مخلوقة كعلمه وقدرته وكلامه وإرادته وحياته وسمعه وبصره ورضاه وغضبه وحبه وبغضه بل هو موصوف بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه ووصفه به رسله ولا يحرفون الكلم عن مواضعه ولا يتأولون كلام الله بغير ما أراده ولا يمثلون صفات الخالق بصفات المخلوق بل يعلمون أن الله
سبحانه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله بل هو موصوف بصفات الكمال منزه عن النقائص وليس له مثل في شيء من صفاته ويقولون إنه لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال لم يزل متكلما إذا شاء بمشيئته وقدرته ولم يزل عالما ولم يزل قادرا ولم يزل حيا سميعا بصيرا ولم يزل مريدا فكل كمال لا نقص فيه يمكن اتصافه به فهو موصوف به لم يزل ولا يزال متصفا بصفات الكمال منعوتا بنعوت الجلال والإكرام سبحانه وتعالى
والنصارى من أعظم الناس اضطرابا في هذا الأصل فتارة يجعلون كلامه الذي تكلم به كالتوراة والإنجيل مخلوقا منفصلا عنه وينفون عنه الصفات وتارة يجعلون كلمته قديمة أزلية متولدة عنه لم تزل ولا تزال ثم يقولون هذه الكلمة هي ابنه ويجعلون هذه الكلمة علمه أو حكمته ويقولون إن هذه الكلمة هي إله خالق وهو الذي خلق السموات والأرض وأن هذه الكلمة هي المسيح والمسيح إله خالق العالم
ويقولون مع هذا أن هذه الكلمة ليست هي الآب الذي خلق السموات والأرض فيجعلون كلمته صفة قديمة أزلية ويجعلونها ابنا له ويجعلون الصفة إلها خالقا ويجعلون المسيح هو الإله الخالق ويقولون مع هذا هو إله حق من إله حق من جوهر أبيه
ولهم في كلام الله وصفاته من التناقض والاضطراب ومخالفة كلام الأنبياء وتفسيره بغير ما أرادوه ومخالفة صريح المعقول
وصحيح المنقول ما سنذكر إن شاء الله منه ما ييسره الله سبحانه وتعالى إذ بيان فساد أقوال النصارى بالاستقصاء لا يتسع له هذا الكتاب ولما قص تعالى قصة المسيح قال
ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون
أي يشكون ويتمارون كتماري اليهود والنصارى
ثم قال تعالى فاختلف الأحزاب من بينهم
فاختلف اليهود والنصارى فيه ثم اختلفت النصارى فيه وصاروا أحزابا كثيرة جدا كالنسطوري واليعقوبية والملكية والباروبية والمريمانية والسمياطية وأمثال هذه الطوائف كما سنذكر إن شاء الله كثيرا من طوائفهم واختلافهم في مجامعهم كما حكى ذلك عنهم أحد أكابرهم سعيد بن البطريق وغيره فإنه ليس في الأمم أكثر اختلافا في رب العالمين منهم فويل للذين كفروا من هذه الطوائف كلها من مشهد يوم عظيم
أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا
يقول تعالى ما أسمعهم وما أبصرهم يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم كالنصارى الذين ظلموا بإفكهم وشركهم في ضلال مبين ضلوا عن الحق في المسيح وقد وصف الله النصارى بالضلال في مثل قوله تعالى
قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل
وقال تعالى
وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا
لأن الغالب عليهم الجهل بالدين وأنهم يتكلمون بكلام لا يعقلون معناه ليس منقولا عن الأنبياء حتى يسلم لقائله بل هم ابتدعوه وإذا سألتهم عن معناه قالوا هذا لا يعرف بالعقول فيبتدعون كلاما يعرفون بأنهم لا يعقلونه وهو كلام متناقض ينقض أوله آخره ولهذا لا تجدهم يتفقون على قول واحد في معبودهم حتى قال بعض الناس لو اجتمع عشرة نصارى افترقوا على أحد عشر قولا
وقال الربعي النصارى أشد الناس اختلافا في مذاهبهم
وأقلهم تحصيلا لها لا يمكن أن يعرف لهم مذهب ولو سألت قسا من أقسائهم عن مذهبهم في المسيح وسألت أباه وأمه لاختلفوا عليك الثلاثة ولقال كل واحد منهم قولا لا يشبه قول الآخر
وقال بعض النظار وما من قول يقوله طائفة من العقلاء إلا إذا تأملته تصورت منه معنى معقولا وإن كان باطلا إلا قول النصارى فإنك كلما تأملته لم تتصور له حقيقة تعقل لكن غايتهم أن يحفظوا الأمانة أو غيرها وإذا طولبوا بتفسير ذلك فسره كل منهم بتفسير يكفر به الآخر كما يكفر اليعقوبية والملكانية والنسطورية بعضهم بعضا لاختلافهم في أصل التوحيد والرسالة إذ كان قولهم في التوحيد والرسالة من أفسد الأقوال وأعظمها تناقضا كما بين في موضع آخر
فصل
وأما قولهم فكان طيرا بإذن الله أي بإذن اللاهوت الذي هو كلمة الله المتحدة في الناسوت فهذا إذا قالوه على أنه مذهبهم من غير أن يقولوا أن محمدا أراده تكلمنا معهم في ذلك وبينا فساد ذلك عقلا ونقلا
وأما قولهم أن محمدا كان يقول أن المراد إذن اللاهوت الذي هو كلمة الله المتحدة في الناسوت فهذا من البهتان الظاهر على محمد وهو من جنس قولهم أن قوله
اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم
أراد به النصارى ومن جنس قولهم أن قوله
ومن يبتغ غير الإسلام دينا
أراد به العرب ومن جنس قولهم
لقد أرسلنا رسلنا بالبينات
أراد بهم الحواريين ومن جنس قولهم
الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين
اراد به الإنجيل فهذه المواضع التي فسروا بها القرآن وزعموا أن محمدا الذي بين للناس ما أنزل إليهم كان يريد بما يتلوه من القرآن هذه المعاني التي ذكروها هي من الكذب الظاهر الذي يدل على غاية جهل قائلها أو غاية معاندته ولكن مثل هذا التأويل غير مستنكر من النصارى فإنهم قد فسروا مواضع كثيرة من التوراة والإنجيل والزبور والنبوات بنحو هذه التفاسير التي حرفوا فيها الكلام الذي جاءت به الأنبياء عن مواضعه تحريفا ظاهرا فبدلوا بذلك كتب الله ودين الله وضاهوا بذلك اليهود الذين حرفوا وبدلوا وإن اختلفت جهة التحريف والتبديل فتحريفهم للقرآن من جنس تحريفهم للتوراة والإنجيل وهم من الذين يدعون المحكم ويتبعون ما نشأ به منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله لكن في هذه المواضع حرفوا المحكم الذي معناه ظاهر لا يحتمل إلا معنى واحد فكانوا من الجهل والمعاندة أبعد عن الصواب ممن حرف معنى المتشابه وذلك أنه قد علم بالاضطرار من دين محمد أنه كان يقول أن المسيح عبد الله مخلوق كسائر المرسلين وأنه يكفر النصارى الذين يقولون هو الله أو ابن الله
قال تعالى
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه
ومن في الأرض جميعا ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير
وقال تعالى
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون قل أتعبدون من دون الله مالا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل
فقد ذكر كفر النصارى في قولهم هو الله مرتين وذكر أنه ليس المسيح إلا رسول قد خلت من قبله الرسل فغايته الرسالة كما قال في محمد
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل
وغاية أمه أن تكون صديقة ودل بهذا أنها ليست بنبية ثم قال كانا يأكلان الطعام
وهذا من أظهر الصفات النافية للإلهية لحاجة الأكل إلى ما يدخل في جوفه ولما يخرج منه مع ذلك من الفضلات
والرب تعالى أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد
والنصارى يقولون إنه يلد وأنه يولد وأن له كفوا كما قد بين في موضع آخر وقد أخبر بعبودية المسيح في غير موضع كقوله تعالى
ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا ءألهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل
وأخبر تعالى أن أول شيء نطق به المسيح قوله
إني عبد الله أتاني الكتاب وجعلني نبيا
وقال تعالى
وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق الآيات إلى قوله شهيد
وقال تعالى
يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم الآيات كلها
فإذا كان قد علم بالاضطرار من دين محمد وبالنقل المتواتر عنه وبإجماع أمته إجماعا يستندون فيه
إلى النقل عنه وبكتابه المنزل عليه وسنته المعروفة عنه أنه كان يقول أن المسيح عبد الله ورسوله ليس هو إلا رسول وأنه يكفر النصارى الذين يقولون هو الله وهو ابن الله والذين يقولون ثالث ثلاثة وأمثال ذلك كان بعد هذا تفسيرهم لقول الله الذي بلغه نبيه محمد فيكون طيرا بإذن الله أي بإذن اللاهوت الذي هو كلمة الله المتحدة بالناسوت كذبا ظاهرا على محمد
وهذا مما يعرف كذبهم فيه على محمد جميع أهل الأرض العالم بحال محمد سواء أقروا بنبوته أو أنكروها
فالمقصود في هذا المقام أن هؤلاء كذبوا على محمد كذبا ظاهرا معلوما للخلق المؤمنين به والمكذبين له ليس هو كذبا خفيا
وإن قدر أن ما قالوه يكون معقولا فكيف إذا كان ممتنعا في صرائح العقول بل هو قول غير معقول أي غير معقول ثبوته في الخارج وإن كان يعقل ما يختلفون ويعلم به فساد عقولهم لمن قال سائر الأقوال المتناقضة الفاسدة التي يمتنع ثبوتها في الخارج وذلك كما قد بسط في موضع آخر فإن قولهم بإذن اللاهوت الذي هو
كلمة الله المتحدة في الناسوت باطل من وجوه
منها أن تلك الكلمة إما أن تكون هي الله أو صفة لذاته أو لا هي ذاته ولا صفة له أو الذات والصفة جميعا
فإن لم تكن هي ذات الله ولا صفته ولا الذات والصفة كانت بائنة عنه مخلوقة له ولم يكن لاهوتا بل ولا خالقه وحينئذ فلم يتحد بالمسيح لاهوت بل إن لم يتحد به إنه كان اتحد به إلا مخلوق
وإن كانت الكلمة هي الذات أو الذات والصفة فهي رب العالمين وهي الآب عندهم وهم متفقون على أن المسيح ليس هو الآب ولم يتحد به الآب بل الابن
وإن كانت الكلمة صفة لله عز و جل فصفة الله ليست هي الإله الخالق والمسيح عندهم هو الإله الخالق وأيضا فصفة الله قائمة بذاته لا تفارق ذاته وتحل بغيره وتتحد به وكلمة الله عندهم اتحدت بالمسيح
وإن قالوا قولنا هذا كما تقول طائفة من المسلمين إن القرآن أو التوراة أو الإنجيل حل في القراء أو اتحد بهم وأن القديم حل في المخلوق أو اتحد به ونحو ذلك
قيل لو كان قول هؤلاء صوابا لم يكن لهم فيه حجة فإنه على هذا التقدير لا فرق بين المسيح وبين سائر من يقرأ التوراة والإنجيل والزبور والقرآن وأنتم تدعون أن المسيح هو الله أو ابن الله مخصوصا بذلك دون غيره وأيضا فهؤلاء وجميع الأمم متفقون على أن قراء
القرآن وسائر الكتب الإلهية ليس واحد منهم هو الله ولا هو ابن الله ولا أنه خالق للعالم فإذا جعلتم قولكم مثل قول هؤلاء لزمكم أن لا يكون المسيح هو الله ولا ابن الله ولا ربا للعالم وأيضا فلم نعلم أحدا من هؤلاء قال أن اللاهوت اتحد بالناسوت ولا أن القديم اتحد بالمحدث ولا أن كلام الله صار هو والمخلوق شيئا واحدا فالاتحاد باطل باتفاق هؤلاء وغيرهم
ولكن طائفة منهم أطلقت لفظ الحلول وطائفة أنكرت لفظ الحلول وقالوا إنما نقول ظهر القديم في المحدث لا حل فيه لكن قالوا ما يستلزم الحلول
وسلف المسلمين وجمهورهم يخطئون هؤلاء ويبينون خطأهم عقلا ونقلا وقولهم ليس هو قول أحد من أئمة المسلمين ولا قول طائفة مشهورة من طوائف المسلمين كالمالكية والشافعية
والحنفية والحنبلية والثورية والداودية والإسحاقية
وغيرهم ولا قول طائفة من طوائف المتكلمين من المسلمين لا المنتسبين إلى السنة كالأشعرية والكرامية ولا غيرهم كالمعتزلة والشيعة وأمثالهم وإنما قال ذلك طائفة قليلة انتسبت إلى بعض علماء المسلمين مثل قليل من المالكية والشافعية والحنبلية وهؤلاء غايتهم أن يقولوا بحلول صفة من صفات الله وكذلك من قال بحلول الرب واتحاده في العبد من طوائف الغلاة المنتسبين إلى التشيع والتصوف أو غيرهم فهم ضلال كالنصارى مع أنه لا حجة للنصارى على هؤلاء إذ كان ما يقولونه لا يختص به المسيح بل هو مشترك بينه وبين غيره من الأنبياء والصالحين
والنصارى تدعي اختصاص المسيح بالاتحاد مع أن المتحد بالناسوت صار هو والناسوت شيئا واحدا ومع الاتحاد فيمتنع أن يكون لأحدهما فعل أو صفة خارج عن الآخر والنصارى يدعون الاتحاد ثم يتناقضون فمنهم من يقول جوهر واحد ومنهم من يقول جوهران ومنهم من يقول مشيئة واحدة ومنهم من يقول مشيئتان كما سيأتي الكلام إن شاء الله تعالى على ذلك
فصل
وأما قوله تعالى
يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة
فهذا حق كما أخبر الله به فمن اتبع المسيح عليه السلام جعله الله فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة وكان الذين اتبعوه على دينه الذي لم يبدل قد جعلهم الله فوق اليهود وأيضا فالنصارى فوق اليهود الذين كفروا به إلى يوم القيامة
وأما المسلمون فهم مؤمنون به ليسوا كافرين به بل لما بدل النصارى دينه وبعث الله محمدا بدين الله الذي بعث به المسيح وغيره من الأنبياء جعل الله محمدا وأمته فوق النصارى إلى يوم القيامة كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي أنه قال إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد وإن اولى الناس بابن مريم لأنا إنه ليس بيني وبينه نبي
وقال تعالى
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه
وقال تعالى
يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون
فكل من كان أتم إيمانا بالله ورسله كان أحق بنصر الله تعالى فإن الله يقول في كتابه
إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد
وقال في كتابه
ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون
واليهود كذبوا المسيح ومحمدا كما قال الله فيهم
بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءو بغضب على غضب
فالغضب الأول بتكذيبهم المسيح والثاني بتكذيبهم لمحمد والنصارى لم يكذبوا المسيح فكانوا منصورين على اليهود والمسلمون منصورون على اليهود
والنصارى فإنهم آمنوا بجميع كتب الله ورسله ولم يكذبوا بشيء من كتبه ولا كذبوا أحدا من رسله بل اتبعوا ما قال الله لهم حيث قال
قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون
وقال تعالى
آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير
ولما كان المسلمون هم المتبعون لرسل الله كلهم المسيح وغيره وكان الله قد وعد أن ينصر الرسل وأتباعهم قال النبي في الحديث الصحيح لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة
وقال أيضا سألت ربي أن لا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيها الحديث
فكان ما احتجوا به حجة عليهم لا لهم
فصل
وأما قوله تعالى
وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس
فهو حق كما أخبر الله به وقد ذكر تعالى تأييد عيسى بن مريم بروح القدس في عدة مواضع فقال تعالى في سورة البقرة
ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس
وقال تعالى
تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد
وقال تعالى
يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون
طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني
وقال تعالى في القرآن
وإذ بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق
وقال تعالى
نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين
وقال تعالى
قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا
فروح القدس الذي نزل بالقرآن من الله هو الروح الأمين وهو جبريل
وثبت في الصحيح عن أبي هريرة أنه سمع النبي يقول لحسان بن ثابت أجب عني اللهم أيده بروح القدس
وفي صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت النبي يقول لحسان بن ثابت إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله
وفي الصحيحين عن البراء بن عازب قال سمعت رسول الله يقول لحسان بن ثابت اهجهم أو هاجهم وجبريل معك
فهذا حسان بن ثابت واحد من المؤمنين لما نافح عن الله ورسوله وهجا المشركين الذين يكذبون الرسول أيده الله بروح القدس وهو جبريل عليه السلام وأهل الأرض يعلمون أن محمدا لم يكن يجعل اللاهوت متحدا بناسوت حسان بن ثابت فعلم أن إخباره بأن الله أيده بروح القدس لا يقتضي اتحاد اللاهوت بالناسوت فعلم أن التأييد بروح القدس ليس من خصائص المسيح وأهل الكتاب يقرون بذلك وأن غيره من الأنبياء كان مؤيدا بروح القدس كداود وغيره بل يقولون إن الحواريين كانت فيهم روح القدس وقد ثبت باتفاق المسلمين واليهود والنصارى أن روح القدس يكون في غير المسيح بل في غير الأنبياء كما سيأتي إن شاء الله
وإنما المقصود في هذا المقام بيان كذبهم على محمد وهذا التأييد نظير قوله تعالى
لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه
فهذا التأييد بروح منه عام لكل من لم يحب أعداء الرسل وإن كانوا أقاربه بل يحب من يؤمن بالرسل وإن كانوا أجانب ويبغض من لم يؤمن بالرسل وإن كانوا أقارب وهذه ملة إبراهيم
وقال تعالى
قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده
وقال تعالى
وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني برآء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون
وقال فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه
وهذا التأييد بروح القدس لمن ينصر الرسل عام في كل من نصرهم على من خالفهم من المشركين وأهل الكتاب كما تقدم وليس في القرآن ولا في الإنجيل ولا غير ذلك من كتب الأنبياء أن روح القدس الذي أيد به المسيح هو صفة الله القائمة به وهي حياته ولا أن روح القدس رب يخلق ويرزق فليس روح القدس هي الله ولا صفة من صفات الله بل ليس في شيء من كلام الأنبياء أن صفة الله القائمة به تسمى ابنا ولا روح القدس
فإذا تأول النصارى قول المسيح عمدوا الناس باسم الآب والابن وروح القدس على أن الابن صفته التي هي العلم وروح
القدس صفته التي هي الحياة كان هذا كذبا بينا على المسيح فلا يوجد قط في كلامه ولا كلام غيره من الأنبياء تسمية الله ولا شيئا من صفاته ابنا ولا حياته روح القدس
وأيضا فهم يذكرون في الأمانة أن المسيح تجسد من مريم ومن روح القدس وهذا يوافق ما أخبر الله به من أنه أرسل روحه الذي هو جبريل وهو روح القدس فنفخ في مريم فحملت بالمسيح فكان المسيح متجسدا مخلوقا من أمه ومن ذلك الروح وهذا الروح ليس صفة لله لا حياته ولا غيرها بل روح القدس قد جاء ذكرها كثيرا في كلام الأنبياء ويراد بها إما الملك وإما ما يجعله الله في قلوب أنبيائه وأوليائه من الهدى والتأييد ونحو ذلك كما قال تعالى
أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه
وقال تعالى
وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا
وقال تعالى
ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون
وقال تعالى
ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق
فسمى الملك روحا وسمى ما ينزل به الملك روحا وهما متلازمان والمسيح عليه السلام مؤيد بهذا وهذا
ولهذا قال كثير من المفسرين إنه جبريل وقال بعضهم إنه الوحي وهذا كلفظ الناموس يراد به صاحب سر الخير كما يراد بالجاسوس صاحب سر الشر فيكون الناموس جبريل ويراد به الكتاب الذي نزل به وما فيه من الأمر والنهي والشرع ولما قال ورقة بن نوفل للنبي هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى فسر الناموس بهذا وهذا وهما متلازمان
فصل
وأما قوله تعالى
لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون
فهو حق كما قال تعالى وليس في ذلك مدح للرهبانية ولا لمن بدل دين المسيح وإنما فيه مدح لمن اتبعه بما جعل الله في قلوبهم من الرحمة والرأفة حيث يقول وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة
ثم قال ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم
أي وابتدعوا رهبانية ما كتبناها عليهم وهذه الرهبانية لم يشرعها الله ولم يجعلها مشروعة لهم بل نفى جعله عنها كما نفى ذلك عما ابتدعه المشركون بقوله
ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام
وهذا الجعل المنفي عن البدع هو الجعل الذي أثبته للمشروع بقوله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا
وقوله لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه
فالرهبانية ابتدعوها لم يشرعها الله وللناس في قوله ورهبانية قولان
أحدهما أنها منصوبة يعني ابتدعوها إما بفعل مضمر يفسره ما بعده أو يقال هذا الفعل عمل في المضمر والمظهر كما هو
قول الكوفيين حكاه عنهم ابن جرير وثعلب وغيرهما ونظيره قوله يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما
وقوله فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة
وعلى هذا القول فلا تكون الرهبانية معطوفة على الرأفة والرحمة
والقول الثاني إنها معطوفة عليها فيكون الله قد جعل في قلوبهم الرأفة والرحمة والرهبانية المبتدعة ويكون هذا جعلا
خلقيا كونيا والجعل الكوني يتناول الخير والشر كقوله تعالى
وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار
وعلى هذا القول فلا مدح للرهبانية بجعلها في القلوب فثبت على التقديرين أنه ليس في القرآن مدح للرهبانية
ثم قال إلا ابتغاء رضوان الله
أي لم يكتب عليهم إلا ابتغاء رضوان الله وابتغاء رضوان الله بفعل ما أمر به لا بما يبتدع وهذا يسمى استثناء منقطعا
كما في قوله
اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه
وقوله تعالى
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا
وقوله تعالى
لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى
وقوله تعالى
فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون بل الذين كفروا يكذبون والله أعلم بما يوعون فبشرهم بعذاب أليم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون
وقوله تعالى
لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما
وقوله وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ
وهذا أصح الأقوال في هذه الآية كما هو مبسوط في موضع آخر
ولا يجوز أن يكون المعنى أن الله كتبها عليهم ابتغاء رضوان الله فإن الله لا يفعل شيئا ابتغاء رضوان نفسه ولا أن المعنى أنهم ابتدعوها ابتغاء رضوانه كما يظن هذا وهذا بعض الغالطين كما قد بسط في موضع آخر
وذكر أنهم ابتدعوا الرهبانية وما رعوها حق رعايتها وليس في ذلك مدح لهم بل هو ذم ثم قال تعالى
فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم
وهم الذين آمنوا بمحمد وكثير منهم فاسقون ولو أريد الذين آمنوا بالميسح أيضا فالمراد من اتبعه على دينه الذي لم يبدل وإلا فكلهم يقولون إنهم مؤمنون بالمسيح وبكل حال فلم يمدح سبحانه إلا من اتبع المسيح على دينه الذي لم يبدل ومن آمن بمحمد لم يمدح النصارى الذين بدلوا دين المسيح ولا الذين لم يؤمنوا بمحمد
فإن قيل قد قال بعض الناس إن قوله تعالى ورهبانية ابتدعوها عطف على رأفة ورحمة وإن المعنى أن الله جعل في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية أيضا ابتدعوها وجعلوا الجعل شرعيا
ممدوحا قيل هذا غلظ لوجوه
منها أن الرهبانية لم تكن في كل من اتبعه بل الذين صحبوه كالحواريين لم يكن فيهم راهب وإنما ابتدعت الرهبانية بعد ذلك بخلاف الرأفة والرحمة فإنها جعلت في قلب كل من اتبعه
ومنها أنه أخبر أنهم ابتدعوا الرهبانية بخلاف الرأفة والرحمة فإنهم لم يبتدعوها وإذا كانوا ابتدعوها لم يكن قد شرعها لهم فإن كان المراد هوالجعل الشرعي الديني لا الجعل الكوني القدري فلم تدخل الرهبانية في ذلك وإن كان المراد الجعل الخلقي الكوني فلا مدح للرهبانية في ذلك
ومنها أن الرأفة والرحمة جعلها في القلوب والرهبانية لا تختص بالقلوب بل الرهبانية ترك المباحات من النكاح واللحم وغير ذلك وقد كان طائفة من الصحابة رضوان الله عليهم هموا بالرهبانية فأنزل الله تعالى نهيهم عن ذلك بقوله تعالى
يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين
وثبت في الصحيحين أن نفرا من أصحاب النبي قال أحدهم أما أنا فأصوم لا أفطر وقال آخر أما أنا
فأقوم لا أنام وقال آخر أما أنا فلا أتزوج النساء وقال آخر أما أنا فلا آكل اللحم
فقام النبي خطيبا فقال ما بال رجال يقول أحدهم كذا وكذا لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني
وفي صحيح البخاري أن النبي رأى رجلا قائما في الشمس فقال ما هذا قالوا هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم صومه
وثبت في صحيح مسلم عن النبي أنه كان يقول في خطبته خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة
وفي السنن عن العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة
قال الترمذي حديث حسن صحيح
وقد بينت النصوص الصحيحة أن الرهبانية بدعة وضلالة وما كان بدعة وضلالة لم يكن هدى ولم يكن الله جعلها بمعنى أنه شرعها كما لم يجعل الله ما شرعه المشركون من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام
فإن قيل قد قال طائفة معناها ما فعلوها إلا ابتغاء رضوان الله ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله
وقالت طائفة ما فعلوها أو ما ابتدعوها إلا ابتغاء رضوان الله
قيل كلا القولين خطأ والأول أظهر خطأ فإن الرهبانية لم يكتبها الله عليهم بل لم يشرعها لا إيجابا ولا استحبابا ولكن ذهبت طائفة إلى أنهم لما ابتدعوها كتب عليهم إتمامها وليس في الآية ما يدل على ذلك فإنه قال
ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها
فلم يذكر أنه كتب عليهم نفس الرهبانية ولا إتمامها ولا رعايتها بل أخبر أنهم ابتدعوا بدعة وأن تلك البدعة لم يرعوها حق رعايتها
فإن قيل قوله تعالى فما رعوها حق رعايتها
يدل على أنهم لو رعوها حق رعايتها لكانوا ممدوحين
قيل ليس في الكلام ما يدل على ذلك بل يدل على أنهم مع عدم الرعاية يستحقون من الذم ما لا يستحقونه بدون ذلك فيكون ذم من ابتدع البدعة ولم يرعها حق رعايتها أعظم من ذم من رعاها وإن لم يكن واحد منهما محمودا بل مذموما مثل نصارى بني تغلب
ونحوهم ممن دخل في النصرانية ولم يقوموا بواجباتها بل أخذوا منها ما وافق أهواءهم فكان كفرهم وذمهم أغلظ ممن هو أقل شرا منهم والنار دركات كما أن الجنة درجات
وأيضا فالله تعالى إذا كتب شيئا على عباده لم يكتب ابتغاء رضوانه بل العباد يفعلون ما يفعلون ابتغاء رضوان الله
وأيضا فتخصيص الرهبانية بأنه كتبها ابتغاء رضوان الله دون غيرها تخصيص بغير موجب فإن ما كتبه ابتداء لم يذكر أنه كتبه ابتغاء رضوانه فكيف بالرهبانية
وأما قول من قال ما فعلوها إلا ابتغاء رضوان الله فهذا المعنى لو دل عليه الكلام لم يكن في ذلك مدح للرهبانية فإن من فعل ما لم يأمر الله به بل نهاه عنه مع حسن مقصده غايته أن يثاب على قصده لا يثاب على ما نهى عنه ولا على ما ليس بواجب ولا مستحب فكيف والكلام لا يدل عليه فإن الله قال
ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله
ولم يقل ما فعلوها إلا ابتغاء رضوان الله ولا قال ما ابتدعوها إلا ابتغاء رضوان الله ولو كان المراد ما فعلوها أو ما ابتدعوها إلا
ابتغاء رضوان الله لكان منصوبا على المفعولية ولم يتقدم لفظ الفعل ليعمل فيه ولا نفي الابتداع بل أثبته لهم وإنما تقدم لفظ الكتابة فعلم أن القول الذي ذكرناه هو الصواب وأنه استثناء منقطع فتقديره وابتدعوا رهبانية ما كتبناها عليهم لكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله فإن إرضاء الله واجب مكتوب على الخلق وذلك يكون بفعل المأمور وبترك المحظور لا بفعل ما لم يأمر بفعله وبترك ما لم ينه عن تركه والرهبانية فيها فعل ما لم يؤمر به وترك ما لم ينه عنه
فصل
وأما قوله تعالى
من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين
فهذه الآية لا اختصاص فيها للنصارى بل هي مذكورة بعد قوله تعالى
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون
ثم قال
ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة
ومعلوم أن الصفة المذكورة في قوله
ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق
صفة اليهود وكذلك قوله وضربت عليهم المسكنة
فقوله عقب ذلك من أهل الكتاب أمة قائمة
لابد أن يكون متناولا لليهود ثم قد اتفق المسلمون والنصارى على أن اليهود مع كفرهم بالمسيح ومحمد ليس فيهم مؤمن وهذا معلوم بالاضطرار من دين محمد والآية إذا تناولت النصارى كان حكمهم في ذلك حكم اليهود والله تعالى إنما أثنى على من آمن من أهل الكتاب كما قال تعالى
وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب
وقد ذكر أكثر العلماء أن هذه الآية الأخرى في آل عمران نزلت في النجاشي ونحوه ممن آمن بالنبي لكنه لم تمكنه الهجرة إلى النبي ولا العمل
بشرائع الإسلام لكون أهل بلده نصارى لا يوافقونه على إظهار شرائع الإسلام وقد قيل أن النبي إنما صلى عليه لما مات لأجل هذا فإنه لم يكن هناك من يظهر الصلاة عليه في جماعة كثيرة ظاهرة كما يصلي المسلمون على جنائزهم
ولهذا جعل من أهل الكتاب مع كونه آمن بالنبي بمنزلة من يؤمن بالنبي في بلاد الحرب ولا يتمكن من الهجرة إلى دار الإسلام ولا يمكنه العمل بشرائع الإسلام الظاهرة بل يعمل ما يمكنه ويسقط عنه ما يعجز عنه كما قال تعالى
فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة
فقد يكون الرجل في الظاهر من الكفار وهو في الباطن مؤمن كما كان مؤمن آل فرعون
قال تعالى
وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه
وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد ويا قوم إنى أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار وقال فرعون يا همان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وأني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فوعون إلا في تباب وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياةالدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد
فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب
فقد أخبر سبحانه أنه حاق بآل فرعون سوء العذاب وأخبر أنه كان من آل فرعون رجل مؤمن يكتم إيمانه وأنه خاطبهم بالخطاب الذي ذكره فهو من آل فرعون باعتبار النسب والجنس والظاهر وليس هو من آل فرعون الذين يدخلون أشد العذاب وكذلك أمرأة فرعون ليست من آل فرعون هؤلاء قال الله تعالى
وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأت فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين
وامرأة الرجل من آله بدليل قوله
إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا أمرأته قدرنا إنها لمن الغابرين
وهكذا أهل الكتاب فيهم من هو في الظاهر منهم وهو في الباطن يؤمن بالله ورسوله محمد يعمل بما يقدر عليه ويسقط عنه ما يعجز عنه علما وعملا و لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وهو عاجز عن الهجرة إلى دار الإسلام كعجز النجاشي
وكما أن الذين يظهرون الإسلام فيهم من هم في الظاهر مسلمون وفيهم من هو منافق كافر في الباطن إما يهودي وإما نصراني وإما مشرك وإما معطل
كذلك في أهل الكتاب والمشركين من هو في الظاهر منهم ومن هو في الباطن من أهل الإيمان بمحمد يفعل ما يقدر على علمه وعمله ويسقط ما يعجز عنه في ذلك
وفي حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال لما مات النجاشي قال النبي استغفروا لأخيكم فقال بعض القوم تأمرنا أن نستغفر لهذا العلج يموت بأرض الحبشة فنزلت
وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم
ذكره ابن أبي حاتم وغيره بأسانيدهم وذكره حماد بن سلمة عن ثابت عن الحسن البصري أن رسول الله قال استغفروا لأخيكم النجاشي فذكر مثله
وكذلك ذكر طائفة من المفسرين عن جابر بن عبد الله وابن عباس وأنس وقتادة أنهم قالوا نزلت هذه الآية في النجاشي ملك الحبشة واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية وذلك أنه لما مات نعاه جبريل للنبي في اليوم الذي مات فيه فقال
رسول الله لأصحابه اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم قالوا من هو قال النجاشي فخرج رسول الله إلى البقيع وزاد بعضهم وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات واستغفر له وقال لأصحابه استغفروا له فقال المنافقون انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه فأنزل الله تعالى
وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب
وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى أنها نزلت فيمن كان على دين المسيح عليه السلام إلى أن بعث محمد فأمن به كما نقل ذلك عن عطاء
وذهبت طائفة إلى أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم
والقول الأول أجود فإن من آمن بمحمد وأظهر الإيمان به وهو من أهل دار الإسلام يعمل ما يعمله المسلمون ظاهرا وباطنا فهذا من المؤمنين وإن كان قبل ذلك مشركا بعبد الأوثان فكيف إذا كان كتابيا وهذا مثل عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وغيرهما وهؤلاء لا يقال إنهم من أهل الكتاب كما لا يقال في المهاجرين والأنصار إنهم من المشركين وعباد الأوثان ولا يمكن أحد من المنافقين ولا من غيرهم من أن يصلي على واحد منهم بخلاف من هو في الظاهر منهم وفي الباطن من المؤمنين
وفي بلاد النصارى من هذا النوع خلق كثير يكتمون إيمانهم إما مطلقا وإما يكتمونه عن العامة ويظهرونه لخاصتهم وهؤلاء قد
يتناولهم قوله تعالى
وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله الآية
فهؤلاء لا يدعون الإيمان بكتاب الله ورسوله لأجل مال يأخذونه كما يفعل كثير من الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدونهم عن سبيل الله فيمنعونهم الإيمان بمحمد
وأما قوله تعالى
من أهل الكتاب أمة قآئمة يتلون آيات الله أنآء اليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين
فهذه الآية تتناول اليهود أقوى مما تتناول النصارى ونظيرها قوله تعالى ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون
وهذا مدح مطلق لمن تمسك بالتوراة ليس في ذلك مدح لمن كذب المسيح ولا فيها مدح لمن كذب محمدا
وهذا الكلام يفسره سياق الكلام فإنه قال تعالى
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله
ثم قال تعالى
ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون
فقد جعلهم نوعين نوعا مؤمنين ونوعا فاسقين وهم أكثرهم وقوله تعالى منهم المؤمنون
يتناول من كان منهم مؤمنا قبل مبعث محمد كما يتناولهم قوله تعالى
وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة
إلى قوله وكثير منهم فاسقون
وكذلك قوله تعالى
ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون
وقوله عن إبراهيم الخليل
وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين
ثم لما قال وأكثرهم الفاسقون
قال
لن يضروكم إلآ أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون
ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيت الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون
وضرب الذلة عليهم أينما ثقفوا ومباؤهم بغضب الله وما ذكر معه من قتل الأنبياء بغير حق وعصيانهم واعتداؤهم كان اليهود متصفين به قبل مبعث محمد كما قال تعالى في سورة البقرة
وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون
ثم قال بعد ذلك
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
فتناولت هذه الآية من كان من أهل هذه الملل الأربع متمسكا بها قبل النسخ بغير تبديل كذلك آية آل عمران لما وصف أهل
الكتاب بما كانوا متصفا به أكثرهم قبل محمد من الكفر قال
ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين
وهذا يتناول من كان متصفا منهم بهذا قبل النسخ فإنهم كانوا على الدين الحق الذي لم يبدل ولم ينسخ كما قال في الأعراف
ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون
وقوله
وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين
وقد قال تعالى
وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون
فهذا خبر من الله عمن كان متصفا بهذا الوصف قبل مبعث محمد ومن أدرك من هؤلاء محمدا فآمن به كان له أجره مرتين
فصل
قالوا ثم وجدناه يعظم إنجيلنا ويقدم صوامعنا ويشرف مساجدنا ويشهد بأن اسم الله يذكر فيها كثيرا وذلك مثل قوله تعالى
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا
والجواب أن فيها ذكر الصوامع والبيع وأما قوله ويذكر فيها اسم الله كثيرا فإنما ذكره عقب ذكره المساجد والمساجد للمسلمين وليس المراد بها كنائس النصارى فإنها هي البيع ثم قوله تعالى يذكر فيها اسم الله كثيرا
إما أن يكون مختصا بالمساجد فلا يكون في ذلك إخبار بأن اسم الله يذكر كثيرا في البيع والصوامع وإما أن يكون ذكر اسم الله في الجميع فلا ريب أن الصوامع والبيع قبل أن يبعث الله محمدا كان فيها من يتبع دين المسيح الذي لم يبدل ويذكر فيها اسم الله كثيرا وقد قيل إنها بعد النسخ والتبديل
يذكر فيها اسم الله كثيرا وإن الله يحب أن يذكر اسمه
قال الضحاك إن الله يحب أن يذكر اسمه وإن كان يشرك به يعني أن المشرك به خير من المعطل الجاحد الذي لا يذكر اسم الله بحال
وأهل الكتاب خير من المشركين وقد ذكرنا أنه لما اقتتل فارس والروم وانتصرت الفرس ساء ذلك اصحاب رسول الله وكرهوا انتصار الفرس على النصارى لأن النصارى أقرب إلى دين الله من المجوس والرسل بعثوا بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وتقديم خير الخيرين على أدناهما حسب الإمكان ودفع شر الشرين بخيرهما فهدم صوامع النصارى وبيعهم فساد إذا هدمها المجوس والمشركون وأما إذا هدمها المسلمون وجعلوا
أماكنها مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا فهذا خير وصلاح
وهذه الآية ذكرت في سياق الإذن للمسلمين بالجهاد بقوله تعالى
أذن للدين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير
وهذه الآية أول آية نزلت في الجهاد ولهذا قال
الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله
ثم قال ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض
فيدفع بالمؤمنين الكفار ويدفع شر الطائفتين بخيرهما كما دفع المجوس بالروم النصارى ثم دفع النصارى بالمؤمنين أمة محمد وهذا كما قال تعالى في سورة البقرة
وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين
وأما التقديم في اللفظ فإنه يكون للانتقال من الأدنى إلى الأعلى كقوله تعالى
قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون
وقوله يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه
وقوله
والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا
ونظائره متعددة
وكذلك في قوله تعالى
لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا
فبين سبحانه أنه لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت مواضع العبادات وهدمها فساد إذا هدمها من لا يبدلها بخير منها وأدناها هي الصوامع فإن الصومعة تكون لواحد أو لطائفة قليلة فبدأ بأدنى المعابد وختم بأشرفها وهي المساجد التي يذكر فيها اسم الله كثيرا ففي الجملة حكم هذه المعابد حكم أهلها وأهلها قبل النسخ والتبديل مؤمنون مسلمون وهدم معابد المؤمنين المسلمين فساد وبعد النسخ والتبديل إذا غلب أهل الكتاب من هو شر منهم كالمجوس والمشركين وهدموا معابدهم كان ذلك فسادا وإذا هدمها من هو خير منهم كأمة محمد وأبدلوها مساجد يذكر فيها
اسم الله كثيرا ولا يشرك به ويذكر فيها الإيمان بجميع كتبه ورسله كان ذلك صلاحا لا فسادا
ولهذا أمر النبي أن يتخذ المساجد مواضع معابد الكفار كما كان لثقيف أهل الطائف معبد يعبدون فيه اللات التي قال الله فيها أفرأيتم اللات والعزى
فأمر النبي أن يهدم ذلك المعبد ويتخذ مكانه المسجد الذي يعبد الله وحده فيه فإن المساجد هي
بيوت الله في الأرض قال تعالى
قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون
وقال تعالى وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا
وقال تعالى
ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم الآية إلى قوله المهتدين
وقال تعالى
الله نور السموات والأض مثل نوره الآية إلى قوله بغير حساب
ثم لما ذكر المؤمنين ذكر الكفار من أهل الكتاب والمشركين فذكر أهل الجهل المركب والبسيط فقال تعالى
والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أو كظلمات
في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
فقد تبين أنه ليس لهم حجة في شيء مما جاء به محمد بل ما جاء به حجة عليهم من وجوه متعددة
فصل
قالوا وهذا وغيره أوجب لنا التمسك بديننا وأن لا نهمل ما معنا ولا نرفض مذهبنا ولا نتبع غير السيد المسيح كلمة الله وروحه وحوارييه الذين أرسلهم إلينا
والجواب إنهم احتجوا بحجتين باطلتين
إحداهما أن محمدا لم يرسل إليهم بل إلى العرب وقد تبين أن الاحتجاج بها من أعظم الكذب والافتراء على محمد فإنه لم يقل قط إني لم أرسل إلى أهل الكتاب ولا قال قط إني لم أرسل إلا إلى العرب بل نصوصه المتواترة عنه وأفعاله تبين أنه مرسل إلى جميع أهل الأرض أميهم وكتابيهم
والحجة الثانية قولهم أن محمدا أثنى على دين النصارى بعد التبديل والنسخ وهي أيضا أعظم كذبا عليه من التي قبلها كيف يثني عليهم وهو يكفرهم في غير موضع من كتابه ويأمر بجهادهم وقتالهم ويذم المتخلفين عن جهادهم غاية الذم ويصف من لم ير طاعته في قتالهم بالنفاق والكفر ويذكر أنه
يدخل جهنم وهذا كله يخبر به عن الله ويذكره تبليغا لرسالة ربه وإنما يضاف إليه لأنه بلغه وأداه لا لأنه أنشأه وابتدأه
كما قال تعالى
إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين وإنه لتذكرة للمتقين وإنا لنعلم أن منكم مكذبين وإنه لحسرة على الكافرين وإنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم
وأما ثناء الله ورسوله على المسيح وأمه وعلى من اتبعه وكان على دينه الذي لم يبدل فهذا حق وهو لا ينافي وجوب اتباع محمد على من بعث إليه فلو قدر أن شريعة المسيح لم تبدل وأن محمدا أثنى على كل من اتبعها وقال مع ذلك إن الله أرسلني إليكم لم يكن ذلك متناقضا وإذا كفر من لم يؤمن به لم يناقض ذلك ثناؤه عليهم قبل أن يكذبوه
فكيف وهو إنما مدح من اتبع دينا لم يبدل وأما الذين بدلوا دين المسيح فلم يمدحهم بل ذمهم كما قال
ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون
وقد قدمنا أن النصارى كفروا كما كفرت اليهود كفروا بتبديلهم ما في الكتاب الأول وكفروا بتكذيبهم بالكتاب الثاني
وأما من لم يبدل الكتاب أو أدرك محمدا فآمن به فهؤلاء مؤمنون ومما يبين ذلك أن تعظيم المسيح للتوراة واتباعه لها وعمله بشرائعها أعظم من تعظيم محمد للإنجيل ومع هذا فلم يكن ذلك مسقطا عن اليهود وجوب اتباعهم للمسيح فكيف يكون تعظيم محمد للإنجيل مسقطا عن النصارى وجوب اتباعه
فصل
وأما قولهم وحوارييه الذين أرسلهم إلينا أنذرونا بلغتنا وسلموا لنا ديننا الذين قد عظموا في هذا الكتاب بقوله في سورة الحديد
لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط
وقال في سورة البقرة
فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه
فأعني بقوله أنبياءه المبشرين ورسله ينحو بذلك الحواريين الذين داروا في سبعة أقاليم العالم وبشروا بالكتاب الواحد الذي هو الإنجيل الطاهر لأنه لو عني عن إبراهيم وداود وموسى ومحمد لكان قال معهم الكتب لأن كل واحد منهم جاء بكتاب دون
غيره ولم يقل إلا الكتاب الواحد لأنه ما أتى جماعة مبشرين بكتاب واحد غير الحواريين الذين أتوا بالإنجيل الطاهر وجاء أيضا في الكتاب
وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين
يعني الحواريين لم يقل رسول إنما قال المرسلين والجواب من وجوه
أحدها أنه ليس فيما ذكر ولا في غيره ما يوجب تكذيب الرسول الذي أرسل إليكم وإلى غيركم وتمسككم بدين مبدل منسوخ كما أنه ليس فيما يعظم به موسى والتوراة ومن اتبع موسى ما يوجب لليهود تكذيب الرسول الذي أرسل إليهم وتمسكهم بدين مبدل منسوخ
الثاني أن قولهم ولا نتبع غير المسيح وحوارييه قول باطل فإنهم ليسوا متبعين لا للمسيح ولا لحوارييه لوجهين
أحدهما أن دينهم مبدل ليس كله عن المسيح والحواريين بل أكثر شرائعهم أو كثير منها ليست عن المسيح والحواريين
الثاني أن المسيح بشر بأحمد كما قال تعالى
وإذ قال عيسى ابن مريم يبني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد
فإذا لم يتبعوا أحمد كانوا مكذبين للمسيح وعندهم من البشارات عن المسيح وغيره من الأنبياء بأحمد ما هو مبسوط في موضع آخر كما سيأتي إن شاء الله
وإنما المقصود هنا منع احتجاجهم بشيء مما جاء به محمد وبيان أنه حجة عليهم لا لهم إذ زعموا أن في بعضه حجة لهم
الثالث أن قولهم عن الحواريين أنهم الرسل الذين عظموا في هذا الكتاب قول باطل فسروا به القرآن تفسيرا باطلا من جنس تفسيرهم الذين أنعمت عليهم بالنصارى وتفسيرهم بإذني أي ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن اللاهوت الذي هو كلمة الله المتحدة في الناسوت وتفسيرهم
الم ذلك الكتاب
بالإنجيل وتفسيرهم
الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون هم النصارى
وتفسيرهم قوله ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن هم النصارى
إلا الذين ظلموا هم اليهود
وأمثال ذلك من تفسيرهم القرآن مثل ما يفسرون به التوراة والإنجيل والزبور من التفاسير التي هي من تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في آيات الله والكذب على أنبيائه بما يظهر أنه كذب على الأنبياء لكل من تدبر ذلك وبطلان ذلك يظهر من وجوه
أحدها أن الله قال
لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز
وقوله تعالى لقد أرسلنا رسلنا
اسم جمع مضاف يعم جميع من أرسله الله تعالى
الثاني أن أحق الرسل بهذا الحكم الذين سماهم في القرآن كما قال تعالى
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهرون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل
ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما
وقال في سورة الشعراء
كذبت قوم نوح المرسلين إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين فاتقوا الله وأطيعون
وقوله
كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين
وقوله
كذبت ثمود المرسلين إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين
وقوله
كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين
وقوله
كذب أصحاب لأيكة المرسلين إذ قال لهم شعيب ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين
وقال تعالى
إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا
وقال تعالى
كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب
وقال تعالى
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون
وذكر قصته ثم قال بعد ذلك
ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون
ثم لما قضى قصته قال تعالى
ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ثم أرسلنا رسلنا تترا كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملإيه فاستكبروا وكانوا قوما عالين
فذكر إرسال رسله تترى أي متواترة ثم ذكر إرسال موسى وهارون وإرسال موسى وهارون قبل المسيح بمدة طويلة
وقال تعالى
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين
فهذا إخبار منه سبحانه وتعالى بأنه بعث في كل أمة رسولا يدعوهم إلى عبادة الله وحده وقال تعالى في المسيح صلوات الله عليه
ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة
فأخبر أن المسيح رسول من هؤلاء الرسل
قد خلت من قبله الرسل
وقبله قد بعث في كل أمة رسولا
وقد روي في حديث أبي ذر عن النبي أن الأنبياء مائة ألف نبي وأن الرسل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر وبعض الناس يصحح هذا الحديث وبعضهم يضعفه فإن
كان صحيحا فالرسل ثلثمائة وثلاثة عشر وإن لم تعرف صحته أمكن أن يكونوا بقدر ذلك وأن يكونوا أكثر كما يمكن أن يكونوا أقل فإن الله تعالى أخبر أنه بعث في كل أمة رسولا
وقال تعالى
إنآ أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير
وروى أن النبي قال أنتم توفون سبعين أمة أنتم أكرمها وأفضلها على الله وهو حديث جيد
وقد قال تعالى في سورة الزمر
وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جآءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها الم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم
لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين
وقال تعالى في سورة تبارك
وللذين كفروا عذاب جهنم وبئس المصير إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير
فهذا إخبار منه بأن كل فوج يلقى في النار وقد جاءهم نذير كما قال تعالى
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا
وقد قال تعالى
ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل
وقال تعالى
يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين
فقد أرسل الله قبل المسيح رسلا كثيرين إلى جميع الأمم فكيف يجوز أن يدعي أن المراد بقوله تعالى لقد أرسلنا رسلنا بالبينات هم الحواريون فقط الذين أرسلهم المسيح مع أن الحواريين رسل المسيح بمنزلة رسل موسى وإبراهيم ورسل محمد
ومن أرسله رسول الله وجبت طاعته على الناس فيما يبلغه عن رسول الله كما في الصحيحين عن النبي ص – أنه قال من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أميري فقد عصاني
فبين أن أميره إنما تجب طاعته في المعروف الذي أمر الله به ورسوله لا في كل ما يأمر به ففي الصحيحين عن علي أن
رسول الله بعث جيشا وأمر عليهم رجلا وأمرهم أن يسمعوا ويطيعوا فأغضبوه فقال اجمعوا لي حطبا فجمعوا له ثم قال أوقدوا نارا فأوقدوا نارا ثم قال ألم يأمركم رسول الله أن تسمعوا لي وتطيعوا قالوا بلى قال فادخلوها فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا إنما فررنا إلى رسول الله من النار فكانوا كذلك حتى سكن غضبه فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله وقال لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا وقال لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف وفي الصحيحين عن عبدالله بن عمر عن النبي أنه قال على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع وطاعة
وفي مسلم عن أم الحصين سمعت رسول الله في حجة الوداع يقول ولو استعمل عليكم عبد أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا وأطيعوا
وفي الصحيحين عنه أنه قال ليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى له من سامع
وفي صحيح البخاري عن عبدالله بن عمرو عن النبي
أنه قال بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار
وفي السنن عنه أنه قال نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه
فالحواريون في تبليغهم عن المسيح كسائر أصحاب الأنبياء في تبليغهم عنهم وقال الله تعالى في كتابه
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا
وأولوا الأمر هم العلماء والأمراء فإذا أمروا بما أمر الله به ورسوله وجبت طاعتهم وإن تنازع الناس في شيء وجب رده إلى الله والرسول لا يرد إلى أحد دون الرسل الذين أرسلهم الله كما قال في الآية الأخرى
كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
والكتاب اسم جنس لكل كتاب أنزله الله ليس المراد به كتابا معينا كما قال تعالى
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين
ولم يرد بهذا أن يؤمن بكتاب معين واحد بل وهذا يتضمن الإيمان بالتوراة والإنجيل والقرآن وكل ما أنزله الله من كتاب كما قال في سورة الشورى
فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم
فأمره الله تعالى أن يؤمن بكل ما أنزله الله من كتاب وأن يعدل بين من بلغتهم رسالته كما قال
لأنذركم به ومن بلغ
فكل من بلغه القرآن فهو مخاطب به يتناوله خطاب القرآن وفي الصحيحين عن النبي أنه قال بلغوا عني ولو آية
وقال تعالى
آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله
وفي القراءة الأخرى وكتابه ورسله وكلا القراءتين موافقة للأخرى وقوله تعالى كان الناس أمة واحدة
أي فاختلفوا بعد ذلك كما قال في السورة الأخرى
وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا
فلما اختلف بنو آدم بعث النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب
وذلك يتناول كل كتاب أنزله الله ليحكم الله ويحكم كتابه بين الناس بالحق فالحاكم بين الناس هو الله تعالى وحكمه في كتبه المنزلة فلهذا أمر الله المؤمنين إذا تنازعوا في شيء أن يردوه إلى الله والرسول
والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه فأمرهم بالرد إلى كتابه ورسوله وقد ذم تعالى من لم يتحاكم إلى كتابه ورسوله فقال تعالى
ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد
الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما
فقد تبين أن الرسل الذين ذكرهم الله في قوله
لقد أرسلنا رسلنا بالبينات
يتناول الرسل الذين أرسلهم الله تعالى كلهم ومن احقهم بذلك الرسل الذين أخبر في القرآن أنه أرسلهم إلى عباده فظهر بطلان قولهم أنهم الحواريون
الوجه الثالث أنه قال
لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز
فذكر أنه أنزل الحديد أيضا ليتبين من يجاهد في سبيل الله بالحديد
والنصارى يزعمون أن الحواريين والنصارى لم يؤمروا بقتال أحد بالحديد
الوجه الرابع أنه قال بعد ذلك
ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة
وإخباره بإرسال نوح وإبراهيم بعد قوله لقد أرسلنا رسلنا بالبينات من باب ذكر الخاص بعد العام وبيان ما اختص به الخاص من الأحكام التي امتاز بها عن غيره مما دخل في العام كما يأمر السلطان العسكر بالجهاد ويأمر فلانا وفلانا بأن يفعلوا كذا وكذا ومثل أن يقال أرسل رسله إلى فلان وأرسل إليهم فلانا وأمره بكذا وكذا قال تعالى
ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب
فنوح هو أبو الآدميين الذين حدثوا بعد الطوفان فإن الله أغرق ولد آدم إلا أهل السفينة وقال في نوح وجعلنا ذريته هم الباقين
وإبراهيم جعل الأنبياء بعده من ذريته كما قال تعالى في إبراهيم
ووهبنا له إسحق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين
ثم قال بعد أن ذكر إرسال نوح وإبراهيم وأنه جعل في ذريتهما النبوة والكتاب
ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل
فأخبر أنه قفى على آثارهم برسله وقفى بعيسى بن مريم وآتاه الإنجيل وهؤلاء رسل قبل المسيح وآخرهم المسيح ولم يذكر أنه أرسل أحدا من أتباع المسيح بل أخبر أنه جعل في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة فكيف يجوز أن يقال أن مراده بالرسل الذين أرسلهم بالبينات وأنزل معهم الكتاب والميزان هم الحواريون دون الرسل الذين ذكرهم وأرسلهم قبل المسيح
الوجه الخامس أنه ليس في القرآن آية تنطق بأن الحواريين رسل الله بل ولا صرح في القرآن بأنه أرسلهم لكن قال في سورة يس
واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون أأتحذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين إني آمنت بربكم فاسمعون قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون
فهذا كلام الله ليس فيه ذكر أن هؤلاء المرسلين كانوا من الحواريين ولا أن الذين أرسلوا إليهم آمنوا بهم وفيه أن هؤلاء القوم الذين أرسل إليهم هؤلاء الثلاثة أنزل الله عليهم صيحة واحدة فإذا هم خامدون
وقد ذكر طائفة من المفسرين أن هؤلاء كانوا من الحواريين وأن القرية أنطاكية وأن هذا الرجل اسمه حبيب النجار ثم إن بعضهم يقول إن المسيح أرسلهم في حياته لكن المعروف عند النصارى أن أهل إنطاكية آمنوا بالحواريين واتبعوهم لم يهلك الله أهل إنطاكية
والقرآن يدل على أن الله أهلك قوم هذا الرجل الذي آمن بالرسل
وأيضا فالنصارى يقولون إنما جاءوا إلى أهل إنطاكية بعد رفع المسيح وأن الذين جاءوا كانوا اثنين لم يكن لهما ثالث قيل أحدهما شمعون الصفا والآخر بولص ويقولون إن أهل إنطاكية آمنوا بهم ولا يذكرون حبيب النجار ولا مجيء رجل من أقصى المدينة بل يقولون إن شمعون وبولص دعوا الله حتى أحيا ابن الملك فالأمر المنقول عند النصارى أن هؤلاء المذكورين في القرآن ليسوا من الحواريين وهذا أصح القولين عند علماء
المسلمين وأئمة المفسرين وذكروا أن المذكورين في القرآن في سورة يس ليسوا من الحواريين بل كانوا قبل المسيح وسموهم بأسماء غير الحواريين كما ذكر محمد بن إسحاق قال سلمة بن الفضل كان من حديث صاحب يس فيما حدثني محمد بن إسحاق عن ابن عباس وعن كعب وعن وهب بن منبه أنه كان رجلا من أهل إنطاكية وكان اسمه حبيبا وكان يعمل الحرير وكان رجلا سقيما قد أسرع فيه الجذام وكان منزله عند باب من أبواب المدينة
يتاجر وكان مؤمنا ذا صدقة يجمع كسبه إذا أمسى فيما يذكرون فيقسمه نصفين فيطعم نصفه عياله ويتصدق بنصفه وكان بالمدينة التي هو بها مدينة إنطاكية فرعون من الفراعنة يقال له إنطخس بن إنطنخس يعبد الأصنام صاحب شرك فبعث الله إليه المرسلين وهم ثلاثة صادق وصدوق وشلوم فقدم الله إليه وإلى أهل المدينة منهم اثنين فكذبوهما ثم عزز الله بالثالث
وروى الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى
واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث
لكي تكون الحجة عليهم أشد فأتوا أهل القرية فدعوهم إلى الله وحده وعبادته لا شريك له فكذبوهم فأتوا على رجل في ناحية القرية في زرع له فسألهم الرجل ما أنتم قالوا نحن رسل رب العالمين
ارسلنا إلى أهل هذه القرية ندعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له قال لهم أتسألون على ذلك أجرا قالوا لا قال فألقى ما في يده ثم أتى أهل المدينة فقال
يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون
وهذا القول هو الصواب وأن هؤلاء المرسلين كانوا رسلا لله قبل المسيح وأنهم كانوا قد أرسلوا إلى إنطاكية وآمن بهم حبيب النجار فهم كانوا قبل المسيح ولم تؤمن أهل المدينة بالرسل بل أهلكهم الله تعالى كما أخبر في القرآن ثم بعد هذا عمرت إنطاكية وكان أهلها مشركين حتى جاءهم من جاءهم من الحواريين فآمنوا بالمسيح على أيديهم ودخلوا دين المسيح
ويقال إن إنطاكية أول المدائن الكبار الذين آمنوا بالمسيح عليه السلام وذلك بعد رفعه إلى السماء ولكن ظن من ظن من المفسرين أن المذكورين في القرآن هم رسل المسيح وهم من
الحواريين وهذا غلط لوجوه
منها أن الله قد ذكر في كتابه أنه أهلك الذين جاءتهم الرسل وأهل إنطاكية لما جاءهم من دعاهم إلى دين المسيح آمنوا ولم يهلكوا
ومنها أن الرسل في القرآن ثلاثة وجاءهم رجل من أقصى المدينة يسعى والذين جاءوا من أتباع المسيح كانوا اثنين ولم يأتهم رجل يسعى لا حبيب ولا غيره
ومنها أن هؤلاء جاءوا بعد المسيح فلم يكن الله أرسلهم وهذا كما أن الله ذكر في القرآن أنه أهلك أهل مدين بالظلة لما جاءهم شعيب وذكر في القرآن أن موسى أتاها وتزوج ببنت واحد منها فظن بعض الناس أنه شعيب النبي وهذا غلط عند علماء المسلمين مثل ابن عباس والحسن البصري وابن جريج وغيرهم كلهم ذكروا أن الذي صاهره موسى ليس هو شعيبا النبي وحكى أنه شعيب عمن لا يعرف من العلماء ولم يثبت عن أحد من الصحابة والتابعين كما بسطناه في موضعه
وأهل الكتاب يقرون بأن الذي صاهره موسى ليس هو شعيبا بل رجل من أهل مدين ومنهم من يقول إنها غير مدين التي أهلك الله أهلها والله أعلم
وكذلك ذكر المفسرون في المرسلين هل أرسلهم الله أو أرسلهم المسيح قولين
أحدهما أن الله هو الذي أرسلهم
قال أبو الفرج ابن الجوزي وهذا ظاهر القرآن وهو مروي عن ابن عباس وكعب ووهب بن منبه قال وقال المفسرون في قوله
إن كانت إلا صيحة واحدة
أخذ جبريل بعضادتي باب المدينة وصاح بهم صيحة واحدة فإذا هم ميتون لا يسمع لهم حس كالنار إذا أطفئت وذلك قوله
فإذا هم خامدون
أي ساكنون كهيئة الرماد الخامد
ومعلوم عند الناس أن أهل إنطاكية لم يصبهم ذلك بعد مبعث المسيح بل آمنوا قبل أن يبدل دينه وكانوا مسلمين مؤمنين به على دينه إلى أن تبدل دينه بعد ذلك ومما يبين ذلك أن المعروف عند أهل العلم أنه بعد نزول التوراة لم يهلك الله مكذبي الأمم بعذاب من السماء يعمهم كما أهلك قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وفرعون وغيرهم بل أمر المؤمنين بجهاد الكفار كما أمر بني إسرائيل على لسان موسى بقتال الجبابرة وهذه القرية أهلك الله أهلها بعذاب من السماء فدل ذلك على أن هؤلاء الرسل المذكورين في يس كانوا قبل موسى عليه السلام وأيضا فإن الله لم يذكر في القرآن رسولا
أرسله غيره وإنما ذكر الرسل الذين أرسلهم هو وأيضا فإنه قال
إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث
فأخبر أنه أرسلهم كما أخبر أنه أرسل نوحا وموسى وغيرهما وفي الآية قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء
ومثل هذا هو خطاب المشركين لمن قال إن الله أرسله وأنزل عليه الوحي لا لمن جاء رسولا من عند رسول وقد قال بعد هذا
يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون
وهذا إنما هو في الرسل الذين جاءوهم من عند الله لا من عند رسله وأيضا فإن الله ضرب هذا مثلا لمن أرسل إليه محمدا يحذرهم أن ينتقم الله منهم كما انتقم من هؤلاء ومحمد إنما يضرب له المثل برسول نظيره لا بمن أصحابه أفضل منهم فإن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا أفضل من الحواريين باتفاق علماء المسلمين ولم يبعث الله بعد المسيح رسولا بل جعل ذلك الزمان زمان فترة كقوله
يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل
وأيضا فإنه قال تعالى
إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا
ولو كانوا رسل رسول لكان التكذيب لمن أرسلهم ولم يكن في قولهم إن أنتم إلا بشر مثلنا شبهة فإن أحدا لا ينكر أن يكون رسل رسل الله بشرا وإنما أنكروا أن يكون رسول الله بشرا وأيضا فلو كان
التكذيب لهما وهما رسل الرسول لأمكنهما أن يقولا فأرسلوا إلى من أرسلنا أو إلى اصحابه فإنهم يعلمون صدقنا في البلاغ عنه بخلاف ما إذا كانا رسل الله وأيضا فقوله إذ أرسلنا إليهم اثنين
صريح في أن الله هو المرسل ومن أرسلهم غيره إنما أرسلهم ذلك لم يرسلهم الله كما لا يقال لمن أرسله محمد بن عبدالله أنهم رسل الله فلا يقال لدحية بن خليفة الكلبي أن الله أرسله ولا يقال ذلك للمغيرة بن شعبة وعبدالله بن حذافة وأمثالهما ممن أرسلهم الرسول وذلك أن النبي أرسل رسله إلى ملوك الأرض كما أرسل دحية بن خليفة إلى قيصر وأرسل عبدالله بن حذافة إلى كسرى وأرسل حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس كما تقدم ذكر ذلك
ومعلوم أنه لا يقال في هؤلاء إن الله أرسلهم ولا يسمون عند المسلمين رسل الله ولا يجوز باتفاق المسلمين أن يقال هؤلاء داخلون في قوله لقد أرسلنا رسلنا بالبينات
فإذا كانت رسل محمد لم يتناولهم اسم رسل الله في الكتاب الذي جاء به فكيف يجوز أن يقال إن هذا الاسم يتناول رسل رسول غيره والمقصود هنا بيان معاني القرآن وما أراده الله تبارك وتعالى بقوله
إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين
هل مراد الله ورسوله محمد من أرسلهم الله أو من أرسلهم رسوله وقد علم يقينا أن محمد لم يدخل في مثل هذا فمن قال إن محمدا أراد بذلك من أرسله رسول فقد كذب على محمد عمدا أو خطأ
فصل
وقد تبين بما ذكرناه فساد قولهم في تفسير آية البقرة فإنهم قالوا وقال في سورة البقرة
فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه
قالوا فأعني بقوله أنبياءه المبشرين ورسله ينحو بذلك عن الحواريين الذين داروا في سبعة أقاليم العالم وبشروا بالكتاب الذي هو الإنجيل الطاهر لأنه لو كان أعني عن إبراهيم وموسى وداود ومحمد لكان قال ومعهم الكتب لأن كل واحد منهم جاء بكتاب دون غيره ولم يقل إلا الكتاب الواحد لأنه ما أتي جماعة مبشرين بكتاب واحد غير الحواريين الذين أتوا بالإنجيل الطاهر
فيقال لهم قد تقدم بعض ما يدل على فساد هذا التفسير
وأيضا فإنه قال تعالى كان الناس أمة واحدة
أي فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين
والحواريون ليسوا من النبيين وإن كان المسيح أرسلهم ولا يلزم من إرساله لهم أن يكونوا أنبياء كمن أرسلهم موسى ومحمد وغيرهما ولهذا تسميهم عامة النصارى رسلا ولا يسمونهم أنبياء
وأيضا فإنه قال وأنزل معهم الكتب
والحواريون لم ينزل معهم الكتاب إنما أنزل الكتاب مع المسيح ولكن الأنبياء أنزل معهم جنس الكتاب فإن الكتاب اسم جنس فيدخل فيه الكتب المنزلة كلها كما في قوله
ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين
وفي قوله كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله
وفي القراءة الأخرى وكتابه ورسله وكذلك قوله عن مريم وصدقت بكلمات ربها وكتبه
وفي القراءة الأخرى وكتابه وأيضا قال تعالى
كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبين مبشرين ومنذرين
وقال تعالى في سورة يونس
وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا
وهذا يدل أنه لما اختلفت بنو آدم بعث الله النبيين واختلافهم كان قبل المسيح بل قبل موسى بل قبل الخليل بل قبل نوح كما قال ابن عباس كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام ثم حدث فيهم الشرك والاختلاف على وجهين تارة يختلفون فيؤمن بعضهم ويكفر بعضهم كما قال تعالى
ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر
وقال تعالى هذان خصمان اختصموا في ربهم
يعني أهل الإيمان والكفر وقد يكون المختلفون كلهم على باطل كقوله
وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد
وقوله
ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك
وأيضا فالإنجيل ليس فيه حكم بين الناس فيما اختلفوا فيه بل عامته مواعظ ووصايا وأخبار المسيح بخلاف التوراة والقرآن فإن فيهما من الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ما ليس في الإنجيل
وأيضا فإنه قال
وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه
وذلك يقتضي أن الله هدى الذين آمنوا بعد اختلاف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم لما اختلفوا فيه من الحق وهذا ذم لمن اوتوا الكتاب فاختلفوا
والنصارى داخلون في هذا الذم ولو كان المراد الإنجيل لكانوا هم المذمومين دون غيرهم وليس كذلك بل اليهود وغيرهم من المختلفين مذمومون أيضا وإنما الممدوح هم المؤمنون الذين هداهم الله لما اختلف أولئك فيه من الحق بإذنه
وهذا يتناول أمة محمد قطعا وقد يتناول كل من آمن من الأمم المتقدمة كالذين كانوا على دين موسى والمسيح وإبراهيم الخليل كما قال تعالى
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
وأما أمة محمد فإن الله هداهم لما اختلف فيه الأمم قبلهم من الحق بإذنه وهذا بين فإنهم على الحق والعدل الوسط بين طرفي الباطل وهذا ظاهر في اتباعهم الحق الذي اختلفت فيه اليهود والنصارى في التوحيد والأنبياء والأخبار والتشريع والنسخ والحلال والحرام والتصديق والتكذيب وغير ذلك
أما التوحيد فإن اليهود شبهوا الخالق بالمخلوق فوصفوا الرب سبحانه بصفات النقص الذي يختص بها المخلوق فقالوا إن الله فقير وبخيل وإنه يتعب وغير ذلك
والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق صفات الكمال الذي يختص بها الخالق فقالوا عن المسيح إنه خالق السموات والأرض القديم الأزلي علام الغيوب القادر على كل شيء و
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله الآية
والمسلمون هداهم الله لما اختلفوا فيه من الحق فلم يشبهوا الخالق بالمخلوق ولا المخلوق بالخالق بل أثبتوا لله ما يستحقه من صفات الكمال ونزهوه عن النقائص وأقروا بأنه أحد ليس كمثله شيء وليس له كفوا أحد في شيء من صفات الكمال فنزهوه عن النقائص خلافا لليهود وعن مماثلة المخلوق له خلافا للنصارى
وأما الأنبياء عليهم السلام فإن اليهود قتلوا بعضا وكذبوا بعضا كما قال تعالى
أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون
والنصارى أشركوا بهم وبمن هو دونهم فعبدوا المسيح بل اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وجعلوا الحواريين رسلا لله وزعموا أن الإنسان يصير بطاعته بمنزلة الأنبياء وصوروا تماثيل الأنبياء والصالحين وصاروا يدعونهم ويستشفعون بهم بعد موتهم وإذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تماثيلهم
وفي الصحيحين أن النبي ذكر له كنيسة
بأرض الحبشة وذكر من حسنها وتصاوير فيها فقال أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة
وأما المسلمون فهداهم الله لما اختلف فيه من الحق بإذنه فآمنوا بأنبياء الله كلهم ولم يفرقوا بين أحد منهم ولم يغلوا فيهم غلو النصارى ولا قصروا في حقهم تقصير اليهود وكذلك قتل اليهود الذين يأمرون بالقسط من الناس والنصارى يطيعون من يأمر بالشرك وإن الشرك لظلم عظيم ويطيعون من يحرم الحلال ويحلل الحرام والمسلمون يطيعون من يأمر بطاعة الله ولا يطيعون من يأمر بمعصية الله والنصارى فيهم الشرك بالله واليهود فيهم الاستكبار عن عبادة الله كما قال تعالى في النصارى
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون
وقال في اليهود
أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون
والإسلام هو أن يستسلم العبد لله وحده فيعبده وحده بما أمره به فمن استسلم له ولغيره كان مشركا والله لا يغفر أن يشرك به ومن
لم يستسلم له بل استكبر عن عبادته كان ممن قيل فيه
ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين
فلهذا كان جميع الأنبياء وأممهم مسلمين لله يعبدونه وحده بما أمرهم به وإن تنوعت شرائعهم فالمسيح لم يزل مسلما لما كان متبعا لشرع التوراة ولما نسخ الله له نسخة منها
ومحمد لم يزل مسلما لما كان يصلي إلى بيت المقدس ثم لما صلى إلى الكعبة ولما بعثه الله إلى الخلق كانوا كلهم مأمورين بطاعته وكانت عبادة الله طاعته فمن لم يطعه لم يكن عابدا لله فلم يكن مسلما
وأما التشريع فإن اليهود زعموا أن ما أمر الله به يمتنع منه أن ينسخه
والنصارى زعموا أن ما أمر الله به يسوغ لأكابرهم أن ينسخوه فهدى الله المؤمنين لما اختلفوا فيه من الحق فقالوا إن الله سبحانه له أن ينسخ ما شرعه خلافا لليهود وليس للمخلوق أن يغير شيئا من شرع الخالق خلافا للنصارى
وأما الحلال والحرام والطهارة والنجاسة فإن اليهود حرمت عليهم الطيبات وشددت عليهم من أمر النجاسات حتى منعوا من
مؤاكلة الحائض والجلوس معها في بيت ومن إزالة النجاسة وحرم عليهم شحم الثرب والكليتين وكل ذي ظفر وغير ذلك
والمسيح عليه السلام أحل لهم بعض الذي حرم عليهم فقابلهم النصارى فقالوا ليس شيء محرم لا الخنزير ولا غيره بل ولا شيء نجس لا البول ولا غيره وزعموا أن بعض أكابرهم رأى ملاءة صور له فيها صور الحيوان وقيل له كل ما طابت نفسك ودع ما تكره وأنه أبيح لهم جميع الحيوان ونسخوا شرع التوراة بمجرد ذلك فالحلال عندهم ما اشتهته أنفسهم والحرام عندهم ما كرهته أنفسهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق فأحل لهم الله الطيبات وحرم عليهم الخبائث وأزال عنهم الآصار والأغلال التي كانت على بني إسرائيل خلافا لليهود وأمرهم بالطهارة طهارة الحدث والخبث خلافا للنصارى والمسيح عليه السلام جعلته اليهود ولد زنا كذابا ساحرا وجعلته النصارى هو الله خالق السموات والأرض فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه
فشهدوا أنه عبدالله مخلوق خلافا للنصارى وأنه رسول وجيه في الدنيا والآخرة ومن المقربين خلافا لليهود وأما التصديق والتكذيب فإن اليهود من شأنهم التكذيب بالحق والنصارى من شأنهم التصديق بالباطل فإن اليهود كذبوا من كذبوه من الأنبياء وقد جاءوا بالحق كما قال تعالى
أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون
والنصارى يصدقون بمحالات العقول والشرائع كما صدقوا بالتثليث والاتحاد ونحوهما من الممتنعات
فصل
ثم قالوا عن القرآن أنه يشهد لهم أنهم أنصار الله حيث يقول كما قال عيسى بن مريم من أنصاري إلى الله قال الحواريون
نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين
فيقال هذا حق والحواريون مؤمنون مسلمون وهم أنصار الله لكن ليس في هذا أنهم رسل الله ولا في هذا أن كل ما أنتم عليه من الدين مأخوذ عنهم ولا في هذا أن الواحد من الحواريين معصوم من الغلط بل أمر الله المؤمنين من أمة محمد أن يكونوا أنصار الله كما طلب المسيح ذلك بقوله من أنصاري إلى الله
وقد وصل الله المؤمنين أصحاب النبي من أهل المدينة النبوية بأنهم أنصار الله بقوله تعالى
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه
والمهاجرون أفضل من الأنصار وهم أيضا من أنصار الله نصروه كما نصره الأنصار لكن لما كان لهم اسم يخصهم وهو المهاجرون وهو أفضل الاسمين خص الأنصار بهذا الاسم والمهاجرون والأنصار أفضل ممن آمن بموسى ومن آمن بعيسى عند المسلمين
ومع هذا فليس فيهم عندهم نبي ولا رسول لله ولكن فيهم رسل رسول الله تسليما
فصل
قالوا وأما تعظيمه لإنجيلنا وكتبنا التي بأيدينا فيقول
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه
وقال في سورة آل عمران
الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس
وقال في سورة البقرة
الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون
فأعني بالكتاب الإنجيل والذين يؤمنون بالغيب نحن
النصارى الذين آمنا بالمسيح وما رأيناه ثم اتبع بالقول والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك فأعني بهم المسلمين الذين آمنوا بما أتى به وما أتى من قبله وقال في سورة المائدة
وموعظة للمتقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون
وقال في سورة آل عمران
فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير
فأعني أيضا بالكتاب المنير الذي هو الإنجيل المقدس
وقال أيضا
فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين
فثبت بهذا ما معنا ونفي عن إنجيلنا وكتبنا التي في أيدينا التهم والتبديل والتغيير لما فيها بتصديقه إياها
والجواب بعد أن تعرف أن لفظ الآية الأولى من سورة المائدة
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه
أن يقال أما تصديق خاتم الرسل محمد رسول الله لما أنزل الله قبله من الكتب ولمن جاء قبله من الأنبياء فهذا معلوم بالاضطرار من دينه متواترا تواترا ظاهرا كتواتر إرساله إلى الخلق كلهم وهذا من أصول الإيمان
قال تعالى
قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم
وقال تعالى
قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين
وقال
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون
وقال تعالى
آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين
وتصديقه للتوراة والإنجيل مذكور في مواضع من القرآن وقد قال
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه
وقال تعالى
الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني
وقال نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن
فبين أنه أنزل هذا القرآن مهيمنا على ما بين يديه من الكتب والمهيمن الشاهد المؤتمن الحاكم يشهد بما فيها من الحق وينفي ما حرف فيها ويحكم بإقرار ما أقره الله من أحكامها وينسخ ما نسخه الله منها وهو مؤتمن في ذلك عليها وأخبر أنه أحسن الحديث وأحسن القصص وهذا يتضمن أنه كل من كان متمسكا بالتوراة قبل النسخ من غير تبديل شيء من أحكامها فإنه من أهل الإيمان والهدى وكذلك من كان متمسكا بالإنجيل من غير تبديل شيء من أحكامه قبل النسخ فهو من أهل الإيمان والهدى وليس في ذلك مدح لمن تمسك بشرع مبدل فضلا عمن تمسك بشرع منسوخ ولم يؤمن بما أرسل الله إليه من الرسل وما أنزل إليه من الكتب بل قد بين كفر اليهود والنصارى بتبديل الكتاب الأول وبترك الإيمان بمحمد في غير موضع
وأما تأويلهم قوله ذلك الكتاب إنه الإنجيل و إن الذين
يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون عنى بهم النصارى فهو من تحريف الكلم عن مواضعه وتبديل كلام الله كما فعلوه في قوله ومن يبتغ غير الإسلام دينا وفي قوله بإذني أي باللاهوت وفي قوله اهدنا الصراط المستقيم
وفي غير ذلك مما ذكروه وتأولوه من القرآن على غير المعنى الذي أراد الله به وهذا مما يؤيد أنهم فعلوا كذلك بالتوراة والإنجيل فإنه إذا كان القرآن الذي قد عرف تفسيره والمراد به العام والخاص ونقل ذلك عن الرسول نقلا متواترا حتى عرف معناه علما يقينا اضطراريا فيبدلون معناه ويحرفون الكلم عن مواضعه فماذا يصنعون بالتوراة والإنجيل ولم ينقل لفظ ذلك ومعناه كما نقل القرآن وليس في أهل تلك الكتب من يذب عن لفظها ومعناها كما يذب المسلمون عن لفظ القرآن ومعناه
وهؤلاء غرهم قوله ذلك الكتاب فظنوا أن لفظ ذلك لما كان يشار بها إلى الغائب أشير بها إلى الإنجيل
فيقال لهم هذا كقوله ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم
وأشار بذلك إلى ما تلاه قبل هذه الآية وقوله
وسئلوا ما أنفقتم وليسئلوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم
وقوله
فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر
ومثله قوله تعالى بعد أن ذكر خبر يوسف الصديق
ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك
وقال أيضا لما ذكر خبر مريم
ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم
كما قال لما ذكر آيات يخبر فيها عن نوح
تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك
وقال
الر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون
وتلك في المؤنث مثل ذلك في المذكر ومع هذا فأشار إلى
القرآن ومنه قوله الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين
وقوله طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين
ومنه قوله طسم تلك آيات الكتاب المبين
ومنه قوله
حم عسق كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم
وقوله وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا
وقوله
المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق الآية
ومثل هذا كثير وذلك أنه لما أنزل قوله ذلك الكتاب وتلك آيات الكتاب ونحو ذلك لم يكن الكتاب المشار إليه قد أنزل تلك الساعة وإنما كان قد أنزل قبل ذلك فصار كالغائب الذي يشار إليه كما يشار إلى الغائب وهو باعتبار حضوره عند النبي يشار إليه كما يشار إلى الحاضر كما قال تعالى
وهذا ذكر مبارك أنزلناه
ولهذا قال غير واحد من السلف ذلك الكتاب أي هذا الكتاب يقولون المراد هذا الكتاب وإن كانت الإشارة تكون تارة إشارة غائب وتارة إشارة حاضر وقد قال
هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب
وقد وصف النصارى بأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر وأنهم كافرون ظالمون فكيف يجعلهم المتقين الذين يؤمنون بالغيب
قال تعالى
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون
وأول التقوى تقوى الشرك وقد وصف النصارى بالشرك في قوله
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون
وقال تعالى لما ذكر المسيح
فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين
وقال تعالى
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم
وقوله لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة
ونهى عن موالاتهم فقال
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم
وقد أخبر أن الله ولي المتقين فقال
ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين
فلو كانوا من المتقين فضلا عن أن يكونوا هم المتقين لكان الله وليهم ولكانت موالاتهم واجبة على المؤمنين وهو قد نهى عن موالاتهم وجعل من يتولاهم ظالما وجعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض والكفار بعضهم أولياء بعض ولهذا لما قطع الله الموالاة بين المؤمنين وبين الكافرين
قال النبي في الحديث الصحيح لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم
واتفق المسلمون على أن اليهودي والنصراني لا يرث مسلما ولو كان ابنه وأباه لأن الله قطع الموالاة بينهما وقد قال تعالى
لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه
وأيضا فإنه قال تعالى
الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة
وهي الصلاة التي أمر بها في قوله
أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا
وقد قال لا يقبل الله صلاة بغير طهور والنصارى يصلون بغير طهور
وقال لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وهم لا يقرؤونها والصلاة التي فرضها وأثنى عليها مشتملة
على استقبال الكعبة وعلى ركوع وسجدتين في كل ركعة وغير ذلك مما لا يفعله النصارى فكيف يمدحهم بإقامة الصلاة وهم لا يقيمون الصلاة التي أمر بإقامتها
ثم لو قال اليهودي المراد بقوله ذلك الكتاب التوراة و بالمتقين اليهود لكان هذا مع بطلانه أقرب من قول القائل أن المراد بالكتاب الإنجيل لأن التوراة أحق بذلك من الإنجيل فإنها الأصل والله تعالى يقرن بينها وبين القرآن في غير موضع كقوله
أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة
وقوله تعالى
قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين
وقد قالت الجن لما سمعت القرآن
قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم
وقال النجاشي لما سمع القرآن إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة وكذلك ورقة بن نوفل قال هذا
هو الناموس الذي كان ينزل على موسى بن عمران
وقال تعالى
قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا
أي التوراة والقرآن وقالوا ساحران تظاهرا أي موسى ومحمد وقالوا إنا بكل كافرون
قال الله
قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين
فقد بين انه لم يأت من عند الله كتاب أهدى من التوراة والقرآن
وقال تعالى
وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون
وأما قوله تعالى
والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك
فهي صفة ثانية للذين يؤمنون بالغيب مجملا ثم وصفهم بإيمان مفصل بما أنزل إليك وما أنزل من قبله والعطف بالواو يكون لتغاير الذوات ويكون لتغاير الصفات كقوله تعالى
سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى
والذي خلق فسوى هو الذي قدر فهدى وهو الذي أخرج المرعى وكذلك قوله تعالى
ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون
ومثله قوله
قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين
فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون
فهم صنف واحد وصفهم بهذه الصفات بحرف الواو وكذلك في قوله
إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم بشهاداتهم قائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون أولئك في جنات مكرمون
وقد فسر قبل قوله يؤمنون بالغيب صفة المؤمنين من غير أهل الكتاب كمشركي العرب والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك صفة من آمن به من أهل الكتاب
وعلى هذا القول هؤلاء غير هؤلاء لكن هذا ضعيف فإنه لا بد في المؤمنين من غير أهل الكتاب أن يؤمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله ولا بد في مؤمن أهل الكتاب أن يؤمن بالغيب فكل من الإيمانين
واجب على كل واحد ولا يكون أحد على هدى من ربه مفلحا إلا بهذا وهذا
وأما قول النصارى نحن الذين آمنا بالسيد المسيح وما رأيناه فهكذا اليهود آمنوا بموسى عليه السلام وما رأوه والمسلمون آمنوا بمحمد وما رأوه بل المسلمون آمنوا بموسى وعيسى وسائر النبيين وما رأوهم بخلاف اليهود والنصارى الذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض ثم الغيب ليس المراد به صورة النبي عليه السلام فإن صورة النبي ليست من الغيب فإن الناس يرونها وليس في رؤيتها ما يوجب إيمانا ولا كفرا ولكن الغيب ما غاب عن مشاهدة الخلق وهو ما أخبرت به الأنبياء من الغيب فيدخل فيه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وهو الإيمان بأنهم رسل الله وسواء رؤيت أبدانهم أو لم تر فقد يراهم من لم يؤمن برسالتهم وقد يؤمن برسالتهم من لم يرهم
والمقصود الإيمان برسالتهم لا بنفس صورهم حتى يقول القائل آمنا بنبي ولم نره وقد يعلم من دلائل نبوته وأعلام رسالته من لم يره أكثر مما يعلمها من رآه
فصل
وأما قوله في سورة المائدة
وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون
فهذا ثناء منه على المسيح والإنجيل وأمر للنصارى بالحكم بما أنزل فيه كما أثنى على موسى والتوراة بأعظم مما عظم به المسيح والإنجيل فقال تعالى
يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك
أي قائلون للكذب مصدقون مستجيبون مطيعون لقوم آخرين
لم يأتوك فهم مصدقون للكذب مطيعون لمن يخالفك وأنت رسول الله
فكل من تصديق الكذب والطاعة لمن خالف رسول الله من أعظم الذنوب
ولفظ السميع يراد به الإحساس بالصوت ويراد به فهم المعنى ويراد به قبوله فيقال فلان سمع ما يقول فلان أي يصدقه أو يطيعه ويقبل منه
فقوله سماعون للكذب أي مصدقون به وإلا مجرد سماع صوت الكاذب وفهم كلامه ليس مذموما على الإطلاق
وكذلك سماعون لقوم آخرين لم يأتوك أي مستجيبون لهم مطيعون كما قال في حق المنافقين وفيكم سماعون لهم أي مستجيبون مطيعون لهم ومن قال إن المراد به الجاسوس فهو غالط كغلط من قال سماعون لهم هم الجواسيس فإن الجاسوس إنما ينقل خبر القوم إلى من لا يعرفه ومعلوم أن النبي كان ما يذكره ويأمر به ويفعله يراه ويسمعه كل من بالمدينة مؤمنهم ومنافقهم ولم يكن يقصد أن يكتم يهود المدينة ما يقوله ويفعله خلاف من كان يأتيه من اليهود وهم يصدقون الكذب ويطيعون لليهود
الآخرين الذين لم يأتوه والله نهى نبيه أن يحزنه المسارعون في الكفر من هاتين الطائفتين المنافقتين الذين أظهروا الإيمان به ولم تؤمن قلوبهم ومن أهل الكتاب الذين يطلبون أن يحكم بينهم وليس مقصودهم أن يطيعوه ويتبعوا حكمه بل إن حكم بما يهوونه قبلوه وإن حكم بخلاف ذلك لم يقبلوه لكونهم مطيعين لقوم آخرين لم يأتوه
قال تعالى
سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين
أي لم يأتك أولئك القوم الآخرون يقولون أي يقول السماعون
إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم
والحكم يفتقر إلى الصدق والعدل فلا بد أن يكون الشاهد صادقا والحاكم عادلا وهؤلاء يصدقون الكاذبين من الشهود ويتبعون حكم المخالفين للرسل الذين يحكمون بغير ما أنزل الله وإذا لم يكن قصدهم اتباع الصدق والعدل فليس عليك أن تحكم بينهم بل إن شئت فاحكم بينهم وإن شئت فلا تحكم
ولكن إذا حكمت فلا تحكم إلا بما أنزل الله إليك إذ هو العدل
قال تعالى
سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين
ثم قال
وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآيتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون
فهذا ثناؤه على التوراة وإخباره أن فيها حكم الله وأنه أنزل التوراة وفيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا وقال عقب ذكرها
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون
وهذا أعظم مما ذكره في الإنجيل فإنه قال في الإنجيل
وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور
وقال فيه
وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون
وقال في التوراة
يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا
وقال عقب ذكرها
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون
فهو سبحانه مع إخباره بإنزال الكتابين يصف التوراة بأعظم مما يصف به الإنجيل
كما قال تعالى
إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا
وإذا كان ما ذكره من مدح موسى والتوراة لم يوجب ذلك مدح اليهود الذين كذبوا المسيح ومحمدا
وليس فيه ثناء على دين اليهود المبدل المنسوخ باتفاق المسلمين والنصارى فكذلك أيضا ما ذكره من مدح المسيح والإنجيل ليس فيه مدح النصارى الذين كذبوا محمدا وبدلوا أحكام التوراة والإنجيل واتبعوا المبدل المنسوخ واليهود توافق المسلمين على أنه ليس فيما ذكر مدح للنصارى والنصارى توافق المسلمين على أنه ليس فيما ذكر مدح لليهود بعد النسخ والتبديل فعلم اتفاق أهل الملل كلها المسلمون واليهود والنصارى على أنه ليس فيما ذكر في القرآن من ذكر التوراة والإنجيل وموسى وعيسى مدح لأهل الكتاب الذين كذبوا محمدا ولا مدح لدينهم المبدل قبل مبعثه فليس في ذلك مدح لمن تمسك بدين مبدل ولا بدين منسوخ فكيف بمن تمسك بدين مبدل منسوخ
فصل
وهنا أصل لا بد من بيانه وهو أنه قد دلت النصوص على أن الله لا يعذب إلا من أرسل إليه رسولا تقوم به الحجة عليه
قال تعالى
وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا
وقال تعالى
رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل
وقال تعالى عن أهل النار
كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء
وقال
وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها
وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين
وقال تعالى
يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين
وقال تعالى
وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون
وقال تعالى
ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا
إلى قوله
فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون
وقال تعالى
يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب
وقوله
يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير
وإذا كان كذلك فمعلوم أن الحجة إنما تقوم بالقرآن على من بلغه كقوله لأنذركم به ومن بلغ فمن بلغه بعض القرآن دون بعض قامت عليه الحجة بما بلغه دون ما لم يبلغه فإذا اشتبه معنى بعض الآيات وتنازع الناس في تأويل الآية وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله فإذا اجتهد الناس في فهم ما أراده الرسول فالمصيب له أجران والمخطىء له أجر فلا يمنع أن يقال ذلك في أهل الكتاب قبلنا فمن لم يبلغه جميع نصوص الكتاب قبلنا لم تقم عليه الحجة إلا بما بلغه وما خفي عليهم معناه منه فاجتهد في معرفته فإن
أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر وخطأه محطوط عنه فأما من تعمد تحريف الكتاب لفظه أو معناه وعرف ما جاء به الرسول فعانده فهذا مستحق للعقاب وكذلك من فرط في طلب الحق واتباعه متبعا لهواه مشتغلا عن ذلك بدنياه
وعلى هذا فإذا كان بعض أهل الكتاب قد حرفوا بعض الكتاب وفيهم آخرون لم يعلموا ذلك فهم مجتهدون في اتباع ما جاء به الرسول لم يجب أن يجعل هؤلاء من المستوجبين للوعيد وإذا جاز أن يكون في أهل الكتاب من لم يعرف جميع ما جاء به المسيح بل خفي عليه بعض ما جاء به أو بعض معانيه فاجتهد لم يعاقب على ما لم يبلغه وقد تحمل أخبار اليهود الذين كانوا مع تبع والذين كانوا ينتظرون الإيمان بمحمد من أهل المدينة كابن التيهان وغيره على هذا وإنهم لم يكونوا مكذبين للمسيح تكذيب غيرهم من اليهود
وقد تنازع الناس هل يمكن مع الاجتهاد واستفراغ الوسع أن لا يبين للناظر المستدل صدق الرسول أم لا
وإذا لم يبين له ذلك هل يستحق العقوبة في الآخرة أم لا
وتنازع بعض الناس في المقلد منهم أيضا والكلام في مقامين
المقام الأول في بيان خطأ المخالف للحق وضلاله وهذا مما يعلم بطرق متعددة عقلية وسمعية وقد يعرف الخطأ في أقوال كثيرة من أهل القبلة المخالفين للحق وغير أهل القبلة بأنواع متعددة من الدلائل
والمقام الثاني الكلام في كفرهم واستحقاقهم الوعيد في الآخرة
فهذا فيه ثلاثة أقوال للناس من أصحاب الأئمة المشهورين مالك
والشافعي وأحمد لهم الأقوال الثلاثة
قيل إنه يعذب في النار من لم يؤمن وإن لم يرسل إليه رسول لقيام الحجة عليه بالعقل وهذا قول كثير ممن يقول بالحكم العقلي من أهل الكلام والفقه من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم وهو اختيار أبي الخطاب
وقيل لا حجة عليه بالعقل بل لا يجوز أن يعذب من لم يقم عليه حجة لا بالشرع ولا بالعقل وهذا قول من يجوز تعذيب أطفال الكفار ومجانينهم وهذا قول كثير من أهل الكلام كالجهم وأبي الحسن الأشعري وأصحابه والقاضي
أبي يعلى وابن عقيل وغيرهم
والقول الثالث وعليه السلف والأئمة إنه لا يعذب إلا من بلغته الرسالة ولا يعذب إلا من خالف الرسل كما دل عليه الكتاب والسنة
قال تعالى لإبليس
لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين
وإذا كان كذلك فنحن فيما نناظر فيه أهل الكتاب متقدميهم ومتأخريهم تارة نتكلم في المقام الأول وهو بيان مخالفتهم للحق وجهلهم وضلالهم فهذا تنبيه لجميع الأدلة الشرعية والعقلية وتارة نبين كفرهم الذي يستحقون به العذاب في الدنيا والآخرة فهذا
أمره إلى الله ورسوله لا يتكلم فيه إلا بما أخبرت به الرسل كما أنا أيضا لا نشهد بالإيمان والجنة إلا لمن شهدت له الرسل ومن لم تقم عليه الحجة في الدنيا بالرسالة كالأطفال والمجانين وأهل الفترات فهؤلاء فيهم أقوال أظهرها ما جاءت به الآثار أنهم يمتحنون يوم القيامة فيبعث الله إليهم من يأمرهم بطاعته فإن أطاعوه استحقوا الثواب وإن عصوه استحقوا العقاب
وإذا كان كذلك فنحن نشهد لمن كان مؤمنا بموسى متبعا له أنه مؤمن مسلم مستحق للثواب
وكذلك من كان مؤمنا بالمسيح متبعا له ونشهد لمن قامت عليه الحجة بموسى فلم يتبعه كآل فرعون أنهم من أهل النار
وكذلك من قامت عليه الحجة بالمسيح الذين قال الله فيهم
قال إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين
والذين قال فيهم
يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين
وأما من بعد عهده بالمسيح وبلغته بعض أخباره دون بعض أو بموسى وبلغه أخباره دون بعض فهؤلاء قامت عليهم الحجة بما بلغهم من أخبارهم دون ما لم يبلغهم من أخبارهم وإذا اختلفوا في تأويل بعض التوراة والإنجيل فمن قصد الحق واجتهد في طلبه لم يجب
أن يعذب وإن كان مخطئا للحق جاهلا به ضالا عنه كالمجتهد في طلب الحق من أمة محمد
وعلى هذا فإذا قيل أن الحواريين أو بعضهم أو كثيرا من أهل الكتاب أو أكثرهم كانوا يعتقدون أن المسيح نفسه صلب كانوا مخطئين في ذلك ولم يكن هذا الخطأ مما يقدح في إيمانهم بالمسيح إذا آمنوا بما جاء به ولا يوجب لهم النار فإن الأناجيل التي بأيدي أهل الكتاب فيها ذكر صلب المسيح وعندهم أنها مأخوذة عن الأربعة مرقس ولوقا ويوحنا
ومتى ولم يكن في الأربعة من شهد صلب المسيح ولا من الحواريين بل ولا في أتباعه من شهد صلبه وإنما الذين شهدوا الصلب طائفة من اليهود فمن الناس من يقول أنهم علموا أن المصلوب غيره وتعمدوا الكذب في أنهم صلبوه وشبه صلبه على من أخبروهم وهذا قول طائفة من أهل الكلام المعتزلة وغيرهم وهو قول ابن حزم
وغيره ومنهم من يقول بل اشتبه على الذين صلبوه وهذا قول أكثر الناس والأولون يقولون أن قوله
وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم
أي شبه للناس الذين أخبرهم أولئك بصلبه
الجمهور يقولون بل شبه للذين يقولون صلبوه كما قد ذكرت القصة في غير هذا الموضع والمقصود هنا أن الناس في هذا المقام على طرفين ووسط
أما الطرف الواحد فهم الغلاة من النصارى الذين يدعون أن الحواريين كانوا معصومين فيما يقولونه ويروونه ويرونه وكذلك يقولون بتصويب علماء النصارى فيما يقولونه من تأويل الإنجيل
والطرف الآخر يقول بل كل من غلط وأخطأ في شيء من ذلك فإنه مستحق للوعيد بل كافر
والثالث الوسط أنهم لا يعصمون ولا يؤثمون بل قد يكونون مخطئين خطأ مغفورا لهم إذا كانوا مجتهدين في معرفة الحق واتباعه بحسب وسعهم وطاقتهم وعلى هذا تدل الأدلة الصحيحة وكتب الله تدل على ذم الضال والجاحد ومقته مع أنه لا يعاقب إلا بعد إنذاره
وقد ثبت في الصحيح عن عياض بن حمار عن النبي
أنه قال إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب
فأخبر أنه مقتهم إلا هؤلاء البقايا والمقت هو البغض بل أشد البغض ومع هذا فقد أخبر في القرآن أنه لم يكن ليعذبهم حتى يبعث إليهم رسولا فقال وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا
وقال
ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى
فدل ذلك على أن المقتضي لعذابهم قائم ولكن شرط العذاب هو بلوغ الرسالة ولهذا قال
لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل
وفي الصحيحين عن النبي أنه قال ما أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب
وفي رواية من أجل ذلك بعث الرسل مبشرين ومنذرين
وما أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه وما أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن
وقد تنازع الناس في حسن الأفعال وقبحها كحسن العدل والتوحيد والصدق وقبح الظلم والشرك والكذب هل يعلم بالعقل أم لا يعلم إلا بالسمع وإذا قيل أنه يعلم بالعقل فهل يعاقب من
فعل ذلك قبل أن يأتيه رسول على ثلاثة أقوال معروفة في أصحاب الأئمة وغيرهم وهي ثلاثة أقوال لأصحاب الإمام أحمد وغيرهم فقالت طائفة لا يعرف ذلك إلا بالشرع لا بالعقل وهذا قول نظار المجبرة كالجهم بن صفوان وأمثاله وهو قول أبي الحسن الأشعري وأتباعه من أصحاب الأئمة الأربعة كالقاضي أبي بكر بن الطيب وأبي عبدالله بن حامد والقضي أبي يعلى وأبي المعالي
وأبي الوفاء بن عقيل وغيرهم وقيل بل قد يعلم حسن الأفعال وقبحها بالعقل
قال أبو الخطاب محفوظ بن أحمد وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين
وهذا هو المنقول عن أبي حنيفة نفسه وعليه عامة أصحابه وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأهل الحديث كأبي الحسن التميمي وأبي الخطاب وأبي بكر القفال وأبي نصر
السجزي وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني وهو قول الكرامية وغيرهم من نظار المثبتة للقدر وهو قول المعتزلة وغيرهم
من نظار القدرية ثم هؤلاء على قولين
منهم من يقول يستحقون عذاب الآخرة بمجرد مخالفتهم للعقل كقول المعتزلة والحنفية وأبي الخطاب وقول هؤلاء مخالف للكتاب والسنة
ومنهم من يقول بل لا يعذبون حتى يبعث إليهم رسول كما دل عليه الكتاب والسنة لكن أفعالهم تكون مذمومة ممقوتة يذمها الله ويبغضها ويوصفون بالكفر الذي يذمه الله ويبغضه وإن كان لا يعذبهم حتى يبعث إليهم رسولا كما قال النبي في الحديث الصحيح كما تقدم إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وإن ربي قال لي قم في قريش فأنذرهم قلت إذا يثلغوا رأسي حتى يدعوه خبزة
قال إني مبتليك ومبتل بك ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما ويقظان فابعث جندا أبعث مثليهم وقاتل بمن أطاعك من عصاك وأنفق أنفق عليك
وقال إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به
سلطانا
وقال النبي في الحديث الصحيح كل مولود يولد على الفطرة
وفي رواية على هذه الملة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه اقرءوا إن شئتم فطرة الله التي فطر الناس عليها قيل يا رسول الله أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير قال الله أعلم بما كانوا عاملين ومع
مقت الله لهم فقد أخبر أنه لم يكن ليعذبهم حتى يبعث إليهم رسولا وهذا يدل على إبطال قول من قال أنهم لم يكونوا مسيئين ولا مرتكبين لقبيح حتى جاء السمع وقول من قال أنهم كانوا معذبين بدون السمع إما لقيام الحجة بالعقل كما يقوله من يقوله من القدرية وإما لمحض المشيئة كما يقوله المجبرة
قال تعالى
وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون
وقال تعالى
ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين
وقال تعالى
ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى
فهذا يبين أنه لم يكن ليعذب الكفار حتى يبعث إليهم رسولا وبين أنهم قبل الرسول كانوا قد اكتسبوا الأعمال التي توجب المقت والذم وهي سبب للعذاب لكن شرط العذاب قيام الحجة عليهم بالرسالة
فصل
ومما ينبغي أن يعلم أن سبب ضلال النصارى وأمثالهم من الغالية كغالية العباد والشيعة وغيرهم ثلاثة أشياء
أحدها الفاظ متشابهة مجملة مشكلة منقولة عن الأنبياء وعدلوا عن الألفاظ الصريحة المحكمة وتمسكوا بها وهم كلما سمعوا لفظا لهم فيه شبهة تمسكوا به وحملوه على مذهبهم وإن لم يكن دليلا على ذلك والألفاظ الصريحة المخالفة لذلك إما أن يفوضوها وإما أن يتأولوها كما يصنع أهل الضلال يتبعون المتشابه من الأدلة العقلية والسمعية ويعدلون عن المحكم الصريح من القسمين
والثاني خوارق ظنوها آيات وهي من أحوال الشياطين وهذا مما ضل به كثير من الضلال المشركين وغيرهم مثل دخول الشياطين في الأصنام وتكليمها للناس ومثل إخبار الشياطين للكهان بأمور غائبة ولا بد لهم مع ذلك من كذب ومثل تصرفات تقع من الشياطين
والثالث أخبار منقولة إليهم ظنوها صدقا وهي كذب وإلا فليس مع النصارى ولا غيرهم من أهل الضلال على باطلهم لا معقول
صريح ولا منقول صحيح ولا آية من آيات الأنبياء بل إن تكلموا بمعقول تكلموا بألفاظ متشابهة مجملة فإذا استفسروا عن معاني تلك الكلمات وفرق بين حقها وباطلها تبين ما فيها من التلبيس والاشتباه
وإن تكلموا بمنقول فإما أن يكون صحيحا لكن لا يدل على باطلهم
وإما أن يكون غير صحيح ثابت بل مكذوب
وكذلك ما يذكرونه من خوارق العادات إما أن يكون صحيحا قد ظهر على يد نبي كمعجزات المسيح ومن قبله كإلياس واليسع وغيرهما من الأنبياء وكمعجزات موسى فهذه حق
وإما أن تكون قد ظهرت على يد بعض الصالحين كالحواريين وذلك لا يستلزم أن يكونوا معصومين كالأنبياء فإن الأنبياء معصومون فيما يبلغونه لا يتصور أن يقولوا على الله إلا الحق ولا يستقر في كلامهم باطل لا عمدا ولا خطأ
وأما الصالحون فقد يغلط أحدهم ويخطىء مع ظهور الخوارق على يديه وذلك لا يخرجه عن كونه رجلا صالحا ولا يوجب أن يكون معصوما إذا كان هو لم يدع العصمة ولم يأت بالآيات دالة على ذلك
ولو ادعى العصمة وليس بنبي لكان كاذبا لا بد أن يظهر كذبه وتقترن به الشياطين فتضله ويدخل في قوله تعالى
هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم
والنصارى عندهم منقول في الأناجيل ان الذي صلب ودفن في القبر رآه بعض الحواريين وغيرهم بعد أن دفن قام من قبره رأوه مرتين أو ثلاثا وأراهم موضع المسامير وقال لا تظنوا إني شيطان
وهذا إذا كان صحيحا فذاك شيطان ادعى أنه المسيح والتبس على أولئك ومثل هذا قد جرى لخلق عظيم في زماننا وقبل زماننا كناس كانوا بتدمر فرأوا شخصا عظيما طائرا في الهواء وظهر لهم مرات بأنواع من اللباس وقال لهم أنا المسيح ابن مريم وأمرهم بأمور يمتنع أن يأمر بها المسيح عليه السلام وحضروا إلى عند الناس وبينوا لهم أن ذلك هو شيطان أراد أن يضلهم
وآخرون يأتي أحدهم إلى قبر من يعظمه ويحسن به الظن من الصالحين وغيرهم فتارة يرى القبر قد انشق وخرج منه إنسان على صورة ذلك الرجل وتارة يرى ذلك الإنسان قد دخل في القبر وتارة يراه إما راكبا وإما ماشيا داخلا إلى مكان ذلك الميت كالقبة المبنية على القبر وتارة يراه خارجا من ذلك المكان ويظن أن ذلك هو ذلك الرجل الصالح وقد يظن أن قوما استغاثوا به فذهب إليهم ويكون ذلك شيطانا تصور بصورته وهذا جرى لغير واحد ممن أعرفهم وتارة يستغيث
أقوام بشخص يحسنون به الظن إما ميت وإما غائب فيرونه بعيونهم قد جاء وقد يكلمهم وقد يقضي بعض حاجاتهم فيظنونه ذلك الشخص الميت وإنما هو شيطان زعم أنه هو وليس هو إياه وكثيرا ما يأتي الشخص بعد الموت في صورة الميت فيحدثهم ويقضي ديونا ويرد ودائع ويخبرهم عن الموتى ويظنون أنه هو الميت نفسه قد جاء إليهم وإنما هو شيطان تصور بصورته
وهذا كثير جدا لا سيما في بلاد الشرك كبلاد الهند ونحوها ومن هؤلاء من تراه أنت تحت سريره آخذ بيد ابنه في الجنازة ومنهم من يقول إذا مت فلا تدعوا أحدا يغلسني فأنا آتي من هذه الناحية أغسل نفسي فيأتي بعد الموت شخص في الهواء على صورته يغسله هو والذي أوصاه ويظن ذلك أنه جاء وإنما هو شيطان تصور بصورته وتارة يرى أحدهم شخصا إما طائرا في الهواء وإما عظيم الخلقة وإما أن يخبره بأشياء غائبة ونحو ذلك ويقول له أنا الخضر ويكون ذلك شيطانا كذب على ذلك الشخص وقد يكون
الرائي من أهل الدين والزهد والعبادة وقد جرى هذا لغير واحد وتارة يرى عند قبر نبي أو غيره أن الميت قد خرج إما من حجرته وإما من قبره وعانق ذلك الزائر وسلم عليه ويكون شيطانا تصور بصورته وتارة يجيء من يجيء إلى عند قبر ذلك الشخص فيستأذنه في أشياء ويسأله عن أمور فيخاطبه شخص يراه أو يسمع صوتا ولا يرى
شخصا ويكون ذلك شيطانا أضله
وقد يرى أشخاصا في اليقظة إما ركبانا وإما غير ركبان ويقولون هذا فلان النبي إما إبراهيم وإما المسيح وإما محمد وهذا فلان الصديق إما أبو بكر وإما عمر وإما بعض الحواريين وهذا فلان لبعض من يعتقد فيه الصلاح إما جرجس أو غيره ممن تعظمه النصارى وإما بعض شيوخ المسلمين ويكون ذلك شيطانا ادعى أنه ذلك النبي أو ذلك الشيخ أو الصديق أو القديس
ومثل هذا يجري كثيرا لكثير من المشركين والنصارى وكثير من المسلمين ويرى أحدهم شيخا يحسن به الظن ويقول أنا الشيخ فلان ويكون شيطانا وأعرف من هذا شيئا كثيرا وأعرف غير واحد ممن يستغيث ببعض الشيوخ الغائبين والموتى يراه قد أتاه في اليقظة وأعانه
وقد جرى مثل هذا لي ولغيري ممن أعرفه ذكر غير واحد أنه
استغاث بي من بلاد بعيدة وأنه رآني قد جئته ومنهم من قال رأيتك راكبا بلباسك وصورتك ومنهم من قال رأيتك على جبل ومنهم من قال غير ذلك فأخبرتهم أني لم أغثهم وإنما ذلك شيطان تصور بصورتي ليضلهم لما أشركوا بالله ودعوا غير الله
وكذلك غير واحد ممن أعرفه من أصحابنا استغاث به بعض من يحسن به الظن فرآه قد جاءه وقضى حاجته قال صاحبي وأنا لا أعلم بذلك ومن هؤلاء الشيوخ من يقول إنه يسمع صوت ذلك الشخص المستغيث به ويجيبه وتكون الشياطين أسمعته صوتا يشبه صوت الشيخ المستغيث له فأجابه الشيخ بصوته فأسمعت المستغيث صوتا يشبه صوت الشيخ فيظن أنه صوت الشيخ
وهذا جرى لمن أعرفه واخبر بذلك عن نفسه وقال بقي
الجني الذي يحدثني يبلغني مثل صوت المستغيثين بي ويبلغهم مثل صوتي ويريني في شيء أبيض نظير ما أسأل عنه فأخبر به الناس أني رأيته وأنه سيأتي ولا أكون قد رأيته وإنما رأيت شبيهه
وهكذا تفعل الجن بمن يعزم عليهم ويقسم عليهم
وكذلك ما رآه قسطنطين من الصليب الذي رآه من نجوم والصليب الذي رآه مرة أخرى هو مما مثله الشياطين وأراهم ذلك ليضلهم به كما فعلت الشياطين ما هو أعظم من ذلك بعباد الأوثان
وكذلك من ذكر أن المسيح جاءه في اليقظة وخاطبه بأمور كما يذكر عن بولس فإنه إذا كان صادقا كان ذلك الذي رآه في اليقظة وقال إنه المسيح شيطانا من الشياطين كما جرى مثل ذلك لغير واحد
والشيطان إنما يضل الناس ويغويهم بما يظن أنهم يطيعونه فيه فيخاطب النصارى بما يوافق دينهم ويخاطب من يخاطب من ضلال المسلمين بما يوافق اعتقاده وينقله إلى ما يستجيب لهم فيه بحسب اعتقادهم
ولهذا يتمثل لمن يستغيث من النصارى بجرجس في صورة جرجس أو بصورة من يستغيث به النصارى من أكابر دينهم إما بعض البطاركة وإما بعض المطارنة وإما بعض الرهبان ويتمثل لمن يستغيث به من ضلال المسلمين بشيخ من الشيوخ في صورة ذلك الشيخ كما تمثل لجماعة ممن أعرفهم في صورتي وفي صورة جماعة من الشيوخ الذين ذكروا في ذلك ويتمثل كثيرا في صورة
بعض الموتى تارة يقول أنا الشيخ عبدالقادر وتارة يقول أنا الشيخ أبو الحجاج الأقصري وتارة يقول أنا الشيخ عدي وتارة يقول أنا احمد بن الرفاعي وتارة يقول أنا أبو مدين
المغربي وإذا كان يقول أنا المسيح أو إبراهيم أو محمد فغيرهم بطريق الأولى والنبي قال من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي وفي رواية في صورة الأنبياء
فرؤيا الأنبياء في المنام حق وأما رؤية الميت في اليقظة فهذا جني تمثل في صورته
وبعض الناس يسمي هذا روحانية الشيخ وبعضهم يقول هي رفيقه وكثير من هؤلاء يرى يقوم من مكانه ويدع في مكانه صورة
مثل صورته وكثير من هؤلاء ومن هؤلاء من يقول يرى في مكانين ويرى واقفا بعرفات وهو في بلده لم يذهب فيبقى الناس الذين لا يعرفون حائرين
فإن العقل الصريح يعلم أن الجسم الواحد لا يكون في الوقت الواحد في مكانين
والصادقون قد رأوا ذلك عيانا لا يشكون فيه ولهذا يقع النزاع كثيرا بين هؤلاء وهؤلاء كما قد جرى ذلك غير مرة
وهذا صادق فيما رأى وشاهد وهذا صادق فيما دل عليه العقل الصريح
لكن ذلك المرئي كان جنيا تمثل بصورة الإنسان
والحسيات إن لم يكن معها عقليات تكشف حقائقها وإلا وقع فيها غلط كبير
وهذا القسم المشهود في الخارج غير ما يتخيله الإنسان في نفسه فإن هذا يعرفه جميع الناس ويصوبه جميع العقلاء يتخيلون أشياء في انفسهم كما يتخيله النائم في منامه وتكون تلك الصورة موجودة في الخيال لا في الخارج
والفلاسفة وسائر العقلاء يعترفون بهذا لكن كثير من الفلاسفة يظن أن ما رأته الأنبياء من الملائكة وما سمعته من الكلام كان من هذا النوع ويظنون أن ما يرى من الجن هو من هذا النوع وهؤلاء جهال غالطون في هذا كما جهلوا وغلطوا في ظنهم أن خوارق العادات سببها قوى نفسانية أو طبيعية أو قوى فلكية وأن الفرق بي النبي والساحر إنما هو حسن قصد هذا وفساد قصد الآخر وإلا فكلاهما خوارق سببها قوى نفسانية أو فلكية وهذا النفي باطل كما قد بسطنا الكلام عليه وبينا جهل هؤلاء وضلالهم في غير هذا الموضع
والذين شاهدوا ذلك في الخارج وثبت عندهم بالأخبار الصادقة المتواترة وجود ذلك في الخارج يعلمون أن هؤلاء جاهلون ضالون ويعلمون أن الملائكة تظهر في صورة البشر كما ظهرت لإبراهيم
ولوط ومريم في صورة البشر وكما كان جبريل يظهر للنبي تارة في صورة دحية الكلبي وتارة في صورة أعرابي ويراه كثير من الناس عيانا وما في خيال الإنسان لا يراه غيره وكذلك كما ظهر إبليس للمشركين في صورة الشيخ النجدي وظهر لهم يوم بدر في صورة سراقة بن مالك بن جعشم فلما رأى الملائكة هرب
قال تعالى
وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى مالا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب
وروي عن ابن عباس وغيره قال تبدى إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجال من مدلج والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم فقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم وأقبل جبريل عليه السلام على إبليس فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع إبليس يده وولى مدبرا هو وشيعته فقال الرجل يا سراقة أتزعم أنك لنا جار فقال إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب
قال ابن عباس وذلك لما رأى الملائكة قال الضحاك سار الشيطان معهم برايته وجنوده وألقى في قلوب المشركين أن أحدا لن يغلبكم وأنتم تقاتلون على دينكم ودين آبائكم
وكثير من الناس تحمله الجن إلى مكان بعيد فتحمل كثيرا من الناس إلى عرفات وغير عرفات وإذا رأى واحد من هؤلاء في غير بلده يكون تارة محمولا قد حملته الجن وتارة تصورت على صورته
ولا يكون هذا من أولياء الله المتقين الذين لهم كرامات بل قد يكون من الكافرين أوالفاسقين وأعرف من ذلك قضايا كثيرة ليس هذا موضع تفصيلها
وعند المشركين والنصارى من ذلك شيء كثير يظنونه من جنس الآيات التي للأنبياء
إنما هي من جنس ما للسحرة والكهان ومن لم يفرق بين أولياءالرحمن وأولياء الشيطان ويفرق بين معجزات لأنبياء وكرامات الصالحين وبين خوارق السحرة والكهان ومن تقترن بهم الشياطين وإلا التبس عليه الحق بالباطل فأما أن يكذب بالحق الذي جاء به الأنبياء الصادقون وأما أن يصدق بالباطل الذي يقوله الكاذبون والغالطون
وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر والمقصود هنا التنبيه على هذا الأصل وعلماء النصارى يسلمون هذا وعندهم من ذلك أخبار كثيرة من حكايات أولياء الشيطان الذين عارضهم أولياء الرحمن وأبطلوا أحوالهم كما أبطل موسى صلوات الله عليه ما عارضته به
السحرة من الخوارق كما ذكر ذلك في التوراة وكما يذكرونه عن فلان وفلان مثل حكاية سيمون الساحر مع الحواريين وغير ذلك وإذا كان هذا معلوما كان ما يذكرونه من هذاالجنس إذا كان مخالفا لما ثبت عن الأنبياء من الشيطان فلا يجوز أن يحتج به على ما يخالف شرائع الأنبياءالثابتة عنهم بل هؤلاء من جنس الدجال الكبير الذي انذرت به الأنبياء كلهم حتى نوح أنذر قومه وقال خاتم الرسل ما من نبي إلا قد أنذر أمته حتى نوح أنذر
قومه وسأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لأمته إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور مكتوب بين عينيه كافر ك ف ر يقرؤه كل مؤمن قارىء وغير قارىء وقال واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت
وقد أخبر أن المسيح عيسى بن مريم مسيح الهدى ينزل إلى الأرض على المنارة البيضاء شرقي دمشق فيقتل مسيح الضلالة وهذا هو الذي تنتظره اليهود ويجحدون المسيح عيسى بن مريم ويقولون هذا هو الذي بشرت به الأنبياء ويتبعه من يهود أصبهان سبعون ألفا مطيلسين ويقتلهم المسلمون مع عيسى بن مريم شر قتلة حتى يقول الشجر والحجر يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال
اقتله وكل هذا ثابت في الصحيح عن النبي ولهذا أمر أمته أن يستعيذوا بالله من فتنته فقال إذا قعد أحدكم في التشهد في الصلاة فليتعوذ بالله من أربع من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال
والأنبياء كلهم أنذروا بالكذابين الذين يتشبهون بالأنبياء لكن من الناس من يتعمد الكذب وكثير منهم لا يتعمد بل يلتبس عليه فيغلط فيخبر بما يظنه حقا ولا يكون كذلك ويرى في اليقظة ما يظنه فلانا الولي أو النبي أو الخضر ولا يكون كذلك
والغلط جائز على كل أحد إلا الأنبياء عليهم السلام فإنهم معصومون لا يقرون على خطأ فمن لم يزن علونه وأعماله وأقواله وأفعاله بالمعلوم عن الأنبياء وإلا كان ضالا فنسأل الله العظيم أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا
والمسلمون وأهل الكتاب متفقون على إثبات مسيحين مسيح هدى من ولد داود ومسيح ضلال يقول أهل الكتاب إنه من ولد يوسف ومتفقون على أن مسيح الهدى سوف يأتي كما يأتي مسيح الضلالة لكن المسلمون والنصارى يقولون مسيح الهدى هو عيسى بن مريم وإن الله أرسله ثم يأتي مرة ثانية لكن المسلمون يقولون إنه ينزل قبل يوم القيامة فيقتل مسيح الضلالة ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ولا يبقى دين إلا دين الإسلام ويؤمن به أهل الكتاب اليهود والنصارى
كما قال تعالى
وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته
والقول الصحيح الذي عليه الجمهور قبل موت المسيح وقال تعالى
وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها
وأما النصارى فتظن أنه الله وأنه يأتي يوم القيامة لحساب الخلائق وجزائهم وهذا مما ضلوا فيه واليهود تعترف بمجيء مسيح هدى يأتي لكن يزعمون أن عيسى عليه السلام لم يكن مسيح هدى لظنهم أنه جاء بدين النصارى المبدل ومن جاء به فهو كاذب وهم ينتظرون المسيحين
فصل
والخوارق التي تضل بها الشياطين لبني آدم مثل تصور الشيطان بصورة شخص غائب أو ميت ونحو ذلك ضل بها خلق كثير من الناس من المنتسبين إلى المسلمين أو إلى أهل الكتاب وغيرهم وهم بنو ذلك على مقدمتين
إحداهما أن من ظهرت هذه على يديه فهو ولي لله وبلغة النصارى هو قديس عظيم
الثانية أن من يكون كذلك فهو معصوم فكل ما يخبر به فهو حق وكل ما يأمر به فهو عدل وقد لا يكون ظهرت على يديه خوارق لا رحمانية ولا شيطانية ولكن صنع حيلة من حيل أهل الكذب والفجور وحيل أهل الكذب والفجور كثيرة جدا فيظن أن ذلك من العجائب الخارقة للعادة ولا يكون كذلك مثل الحيل المذكورة عن الرهبان
وقد صنف بعض الناس مصنفا في حيل الرهبان مثل الحيلة المحكية عن أحدهم في جعل الماء زيتا بأن يكون الزيت في جوف منارة فإذا نقص صب فيها ماء فيطفو الزيت على الماء فيظن الحاضرون أن نفس الماء انقلب زيتا
ومثل الحيلة المحكية عنهم في ارتفاع النخلة وهو أن بعضهم مر بدير راهب وأسفل منه نخلة فأراه النخلة صعدت شيئا شيئا حتى حاذت الدير فأخذ من رطبها ثم نزلت حتى عادت كما كانت فكشف الرجل الحيلة فوجد النخلة في سفينة في مكان منخفض إذا أرسل عليه الماء امتلأ حتى تصعد السفينة وإذا صرف الماء إلى موضع آخر هبطت السفينة
ومثل الحيلة المحكية عنهم في التكحل بدموع السيدة يضعون كحلا في ماء متحرك حركة لطيفة فيسيل حتى ينزل من تلك الصورة فيخرج من عينها فيظن أنه دموع
ومثل الحيلة التي صنعوها بالصورة التي يسمونها القونة
بصيدنايا وهي أعظم مزاراتهم بعد القمامة وبيت لحم حيث ولد المسيح وحيث قبر فإن هذه صورة السيدة مريم وأصلها خشبة نخلة سقيت بالأدهان حتى تنعمت وصار الدهن يخرج منها دهنا مصنوعا يظن أنه من بركة الصورة
ومن حيلهم الكثيرة النار التي يظن عوامهم أنها تنزل من السماء في عيدهم في قمامة وهي حيلة قد شهدها غير واحد من المسلمين والنصارى ورأوها بعيونهم أنها نار مصنوعة يضلون بها عوامهم يظنون أنها نزلت من السماء ويتبركون بها وإنما هي صنعة صاحب محال وتلبيس
ومثل ذلك كثير من حيل النصارى فجميع ما عند النصارى المبدلين لدين المسيح من الخوارق إما حال شيطاني وإما محال
بهتاني ليس فيه شيء من كرامات الصالحين
وكذلك أهل الإلحاد المبدلين لدين محمد الذين يتخذون دينا لم يشرعه الله ورسوله ويجعلونه طريقا إلى الله وقد يختارونه على الطريق التي شرعها الله ورسوله مثل أن يختاروا سماع الدفوف والشبابات على سماع كتاب الله تعالى فقد يحصل لأحدهم من الوجد والغرام الشيطاني ما يلبسه معه الشيطان حتى يتكلم على لسان أحدهم بكلام لا يعرفه ذلك الشخص إذا أفاق كما يتكلم الجني على لسان المصروع وقد يخبر بعض الحاضرين بما في نفسه ويكون ذلك من الشيطان فإذا فارق الشيطان ذلك الشخص لم يدر ما قال ومنهم من يحمله الشيطان ويصعد به قدام الناس في الهواء
ومنهم من يشير إلى بعض الحاضرين فيموت أو يمرض أو يصير مثل الخشبة
ومنهم من يشير إلى بعض الحاضرين فيلبسه الشيطان ويزول عقله حتى يبقى دائرا زمانا طويلا بغير إختياره
ومنهم من يدخل النار ويأكلها ويبقى لهبها في بدنه وشعره
ومنهم من تحضر له الشياطين طعاما أو شيئا من لادن أو سكر أو زعفران أو ماء ورد ومنهم من تأتيه بدراهم تسرقها الشياطين من بعض المواضع
ثم من هؤلاء من إذا فرق الدراهم على الحاضرين أخذت منهم فلا يمكنون من التصرف فيها إلى أمور يطول وصفها وآخرون ليس لهم من يعينهم على ذلك من الشياطين فيصنعون حيلا ومخاريق
فالملحدون المبدلون لدين الرسل دين المسيح أو دين محمد صلى الله عليهما وسلم هم كأمثالهم من أهل الإلحاد
والضلال الكفار المرتدين والمشركين ونحوهم كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي والحارث الدمشقي وبابا الرومي وغيرهم ممن لهم خوارق شيطانية
وأما أهل الحيل فيكثرون وهؤلاء ليسوا أولياء الله بل خوارقهم إذا كانت شيطانية من جنس خوارق الكهنة والسحرة لم يكن لهم حال شيطاني بل محال بهتاني فهم متعمدون للكذب والتلبيس بخلاف من تقترن به الشياطين فإن فيهم من يلتبس عليه فيظن أن هذا من جنس كرامات الصالحين كما أن فيهم من يعرف أن ذلك من الشياطين ويفعله لتحصيل أغراضه فالمقصود أنه كثير من الخوارق ما يكون من الشياطين أو يكون حيلا ومخاريق ويظن أنها من كرامات الصالحين فإن ما يكون شبيه الشرك أو الفجور إنما يكون من الشيطان مثل أن يشرك الرجل بالله فيدعو الكواكب أو يدعو مخلوقا من البشر ميتا أو غائبا أو يعزم ويقسم بأسماء مجهولة لا يعرف معناها أو يعرف أنها أسماء الشياطين أو يستعين بالفواحش والظلم فإن ما كان هذا سببه من الخوارق فهو من الشيطان كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع
والصالحون لهم كرامات مثل كرامات صالحي هذه الأمة ومثل كرامات الحواريين وغيرهم ممن كان على دين المسيح لكن وجود الكرامات على أيدي الصالحين لا توجب أن يكونوا معصومين كالأنبياء لكن يكون الرجل صالحا وليا لله وله كرامات ومع هذا فقد يغلط ويخطىء فيما يظنه أو فيما يسمعه ويرويه أو فيما يراه أو فيما يفهمه من الكتب ولهذا كان كل من سوى الأنبياء يؤخذ من قولهم ويترك بخلاف الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين فإنه يجب تصديقهم في كل ما أخبروا به من الغيب وطاعتهم في كل ما أمروا به ولهذا أوجب الله الإيمان بما أوتوه ولم يوجب الإيمان بجميع ما يأتي به غيرهم
قال تعالى
قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون
وقال تعالى
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والنبيين
ولهذا اتفق المسلمون على أن من كذب نبيا معلوم النبوة فهو كافر مرتد ومن سب نبيا وجب قتله بل يجب الإيمان بجميع ما أوتيه النبيون
كلهم وأن لا نفرق بين أحد منهم فنؤمن ببعض ونكفر ببعض قال تعالى
إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا
وليس هذا لأحد غير الأنبياء ولو كان من رسل الأنبياء وكانوا من أعظم الصديقين المقدمين
فضلال الضلال من هؤلاء مبني على مقدمتين
إحداهما أن هذا له كرامة فيكون وليا لله
والثانية أن ولي الله لا يجوز أن يخطىء بل يجب تصديقه في كل ما أخبر وطاعته في كل ما أمر وليس لأحد من البشر أن يصدق في كل ما أخبر به ويطاع في كل أمر إلا أن يكون نبيا
والمقدمتان المذكورتان قد تكون إحداهما باطلة وقد يكون كلاهما باطلا فالرجل المعين قد لا يكون من أولياء الله تكون خوارقه من الشياطين وقد يكون من أولياء الله ولكن ليس بمعصوم بل يجوز عليه الخطأ وقد لا يكون من أولياء الله ولا يكون له خوارق ولكن له محالات وأكاذيب
فصل
قالوا وقال في سورة آل عمران
فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير
فأعني أيضا بالكتاب المنير الذي هو الإنجيل المقدس
فيقال قد تقدم أن الرسل تتناول قطعا الرسل الذين ذكرهم الله في القرآن لا سيما أولو العزم كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم فإن هؤلاء مع محمد خاتم النبيين صلوات الله عليهم وسلامه خصهم الله وفضلهم بقوله تعالى
وإذ أخذنا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى
ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما
وفي قوله تعالى
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه
فالدين دين رسل الله دين واحد كما بينه الله في كتابه وكما ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد وأن أولى الناس بابن مريم لأنا إنه ليس بيني وبينه نبي
ويتناول أيضا اسم الرسل من لم يسمهم بأعيانهم في القرآن قال تعالى
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما
وقال تعالى
ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك
وأما الحواريون فإن الله تعالى ذكرهم في القرآن ووصفهم بالإسلام واتباع الرسول وبالإيمان بالله كما أنزل في قوله تعالى
فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين
وقال تعالى
وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون
وقال تعالى
يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من انصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين
ولم يذكر الله تعالى في القرآن أنه أرسلهم البتة بل ذكر أنه ألهمهم الإيمان به وبرسوله وأنهم أمروا باتباع رسوله وقوله
وإذ أوحيت إلى الحواريين
لا يدل على النبوة فإنه قال تعالى
وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه
وأم موسى لم تكن نبية بل ليس في النساء نبية كما تقوله عامة النصارى والمسلمين
وقد ذكر إجماعهم على ذلك غير واحد مثل القاضيين أبي بكر بن الطيب وابي يعلى ابن أبي الفراء والأستاذ أبي المعالى الجويني وغيرهم ويدل على ذلك قوله تعالى
وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى
وقوله تعالى
ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة
فجعل غاية مريم الصديقية كما جعل غاية المسيح الرسالة
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم يعني من نساء الأمم قبلنا وهذا يدل على أن أم موسى ليست ممن كمل من النساء فكيف تكون نبية وقوله تعالى جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير
والكتاب اسم جنس كما تقدم يتناول كل كتاب أنزله الله تعالى وقال تعالى
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير
وقوله ولا كتاب منير نكرة في سياق المعنى فيعم كل كتاب منير ولو لم يكن إلا الإنجيل لقيل ولا الكتاب المنير وأيضا
فالتوراة أعظم من الإنجيل وقد بين الله أنه لم ينزل كتابا أهدى من التوراة والقرآن فقال تعالى
قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران وقرىء ساحران تظهرا وقالوا إنا بكل كافرون قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين
وهذا تعجيز لهم أن يأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما كقوله أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله
وهذا يبين أنه ليس الإنجيل ولا الزبور أهدى من التوراة والقرآن فكيف يجعل الكتاب المنير هو الإنجيل دون التوراة والزبور
وأيضا فإن الله تعالى إنما يخص بالذكر من الكتب المتقدمة التوراة دون غيرها فهي التي يقرنها بالقرآن كقوله تعالى
وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهذا
كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون
وقد وصف التوراة بأن فيها نورا وهدى للناس فكيف يجعل النور في الإنجيل دونها وقال تعالى
ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين
فقد ذكر التوراة والقرآن وقولهم أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا فبين أن الكتاب اسم جنس يتناول هنا التوراة والإنجيل كقوله تعالى يا أهل الكتاب
وقوله تعالى
وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم
فذكر الكتاب بلفظ المنفرد ومعلوم أنه أراد بالذين أوتوا الكتاب من قبلنا اليهود والنصارى لا يختص ذلك بالنصارى كما قال أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا
وقد تبين بطلان قول هؤلاء الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ويفسرون كلام الله ورسوله بما يعلم كل من عرف حاله من مؤمن وكافر أنه لم يرده
وبين أن الله لم يرد بالكتاب الإنجيل وحده كما لم يرد بالرسل الحواريين بل أراد بالكتاب المنير ما أنزله الله من الكتب كالتوراة والإنجيل كما أراد بالرسل من أرسله الله مطلقا كنوح وإبراهيم وموسى والمسيح ابن مريم صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين
فصل
قالوا وقال أيضا
فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين
فيقال لهم من المعلوم بالاضطرار أنه ليس المراد بهذا النصارى فقط كما تقدم بل اليهود يقرؤون الكتاب من قبلنا والنصارى يقرؤون الكتاب من قبلنا والكتاب اسم جنس كما تقدم نظائره في قوله أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وقوله وطعام الذين أوتوا الكتاب وقوله يا أهل الكتاب في غير موضع وقوله
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين
وقوله تعالى
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل
للذين أوتوا الكتاب والأميين ءأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد
وقد قال تعالى
يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا
وتناول لفظ أهل الكتاب هنا لليهود أظهر من تناوله للنصارى لذكره لعنة أصحاب السبت وكذلك قوله تعالى
وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون
فهذا خبر عن طائفة من اليهود قالوا ذلك وقال تعالى
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين
وسبب نزولها أنه أراد طائفة من اليهود إلقاء الفتنة بين المسلمين فهم داخلون قطعا وإن كان الخطاب مطلقا يتناول الطائفتين
وأمره تعالى بسؤال الذين يقرؤون الكتاب من قبله على تقدير الشك لا يقتضي أن يكون الرسول شك ولا سأل إن قيل الخطاب له وإن قيل لغيره فهو أولى وأحرى فإن تعليق الحكم بالشرط لا يدل على تحقيق الشرط بل قد يعلق بشرط ممتنع لبيان حكمه
قال تعالى
ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين
فأخبر أنهم لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون مع انتفاء
الشرك عنهم بل مع امتناعه لأنهم قد ماتوا لأن الأنبياء معصومون من الشرك به
وقال تعالى
قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين
فهذا خطاب للجميع وذكر هنا لفظ إن لأنه خطاب لموجود وهناك خبر عن ميت وكذلك قوله فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل لا يدل على وقوع الشك ولا السؤال بل النبي لم يكن شاكا ولا سأل أحدا منهم بل روي عنه أنه قال والله لا أشك ولا أسأل
ولكن المقصود بيان أن أهل الكتاب عندهم ما يصدقك فيما كذبك فيه الكافرون
كما قال تعالى في الآية الأخرى
قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب
وقال تعالى
قل أرءيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين
وقال تعالى
أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل
وقال تعالى
الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين
وقال
إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا
وقال تعالى
وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين
وقال تعالى
لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك
وقال تعالى
وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون
وقال تعالى
الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم
فالمقصود بيان أن أهل الكتاب عندهم ما يصدقك فيما كذبك فيه الكافرون وذلك من وجوه
أحدها أن الكتب المتقدمة تنطق بأن موسى وغيره دعوا إلى عبادة الله وحده ونهوا عن الشرك فكان في هذا حجة على من ظن أن الشرك دين
ومثل هذا قوله تعالى
وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون
وقوله تعالى
وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون
وقوله تعالى
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين
الوجه الثاني أن أهل الكتاب يعلمون أن الله إنما أرسل إلى الناس بشرا مثلهم لم يرسل إليهم ملكا فإن من الكفار من كان يزعم أن الله لا يرسل إلا ملكا أو بشرا معه ملك ويتعجبون من إرسال بشر ليس معه ملك ظاهر كما قال تعالى
وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا
وقال تعالى
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل
عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين
وقال تعالى
كذبت ثمود بالنذر فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر
وكذلك قال الذين من بعدهم
ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون
وكذلك قال قوم فرعون لموسى وهارون
أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون
وقال فرعون
أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين
وكذلك قالوا لمحمد وقال
تعالى
الر تلك آيات الكتاب الحكيم أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين
وقال تعالى
وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون
فبين سبحانه أنكم لا تطيقون التلقي عن الملك فلو أنزلناه ملكا لجعلناه في صورة بشر وحينئذ كنتم تظنونه بشرا فيحصل اللبس عليكم فأمر الله تعالى بسؤال أهل الكتاب عمن أرسل إليهم أكان بشرا أم كان ملكا ليقيم الحجة بذلك على من أنكر إرسال بشر كما قال تعالى
وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين
وأهل الذكر هم أهل الذكر الذي أنزله الله تعالى
الوجه الثالث أنهم يسألون أهل الكتاب عما جرى للرسل مع أممهم وكيف كان عاقبة المؤمنين بهم وعاقبة المكذبين لهم
الوجه الرابع يسألون أهل الكتاب عن الدين الذي بعث الله به رسله وهو دين الإسلام الذي اتفقت عليه الرسل كالأمر بالتوحيد والصدق والعدل وبر الوالدين وصلة الأرحام والنهي عن الشرك والظلم والفواحش
الوجه الخامس يسألونهم عما وصفت به الرسل ربهم هل هو موافق لما وصفه به محمد أم لا وهذه الأمور المسؤول عنها متواترة عند أهل الكتاب معلومة لهم ليست مما يشكون فيه وليس إذا كان مثل هذا معلوما لهم بالتواتر فيسألون عنه يجب أن يكون كل ما يقولونه معلوما لهم بالتواتر
وأيضا فإنهم يسألون أيضا عما عندهم من الشهادات والبشارات بنبوة محمد
وقد أخبر الله بذلك في القرآن فقال تعالى
ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم
وقال تعالى
وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين
فقد أخبر عن عيسى أنه صدق بالرسول والكتاب الذي قبله وهو التوراة وبشر بالرسول الذي يأتي بعده وهو أحمد قال تعالى
فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون
إلى قوله
الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون
وقال تعالى
وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين وإنه لفي زبر الأولين أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل
وقال تعالى عن من أثنى عليه من النصارى
وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا
وقال تعالى
وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا
وقال تعالى
أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين
وقال تعالى
ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون
وقال تعالى في سورة الأنعام
الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون
وقال تعالى
ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فعلنة الله على الكافرين
والأخبار بمعرفة أهل الكتاب بصفة محمد عندهم في الكتب المتقدمة متواترة عنهم
وكان قبل أن يبعث النبي تجري حروب وقتال بين العرب وبين أهل الكتاب فتقول أهل الكتاب قد قرب مبعث هذا النبي الأمي الذي يبعث بدين إبراهيم فإذا ظهر اتبعناه وقتلناهم معه شر قتلة فلما بعث النبي كان منهم من آمن به ومنهم من كفر به فقال تعالى
وكانوا من قبل يستفتحون
أي يستنصرون بمحمد على الذين كفروا
فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين
ولهذا كان النبي في خطابه لأهل الكتاب يقول لهم والله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني
رسول الله وكذلك من أسلم منهم كعبدالله بن سلام كان يقول لغيره من أهل الكتاب والله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله وهذا أمر معروف في الأحاديث الصحاح المخرجة في الصحيحين وغيرهما فظهر بما ذكرناه تحريف هؤلاء لكلام الله وأنه لا حجة لهم فيما أنزل على محمد كما تقدم نظائر ذلك
فصل
قالوا فثبت بهذا ما معنا نعم ونفى عن إنجيلنا وكتبنا التي في أيدينا التهم والتبديل لها والتغيير لما فيها بتصديقه إياها
فيقال كلامكم الذي تحتجون به في هذا الموضع وغيره إما أن يكون باطلا محضا وإما أن يكون مما لبستم فيه الحق بالباطل فإن قولكم بتصديقه إياها إن أردتم أنه صدق التوراة والإنجيل والزبور التي أنزلها الله على أنبيائه فهذا لا ريب فيه فإن هذا مذكور في القرآن في غير موضع وقد أوجب على عباده أن يؤمنوا بكل كتاب أنزله وكل نبي من الأنبياء مع إخباره أنه أنزل هذه الكتب قبل القرآن وأنزل القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه
وقال تعالى
الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان
وقال تعالى
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه
وقال تعالى
يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت
وقال
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه
وقال
والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير
وقال
ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون
وقال تعالى
آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم
وقد أوجب على عباده أن يؤمنوا بجميع كتبه ورسله وحكم بكفر
من آمن ببعض وكفر ببعض فقال تعالى
قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم
وقال تعالى
آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله
وقال تعالى
إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما
فذم المفرق بينهم بأن يؤمن ببعض دون بعض وبين أنه فضل بعضهم على بعض فقال تعالى
تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض
فبين أنه فضل بعضهم على بعض وقال تعالى
ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض
وقد اتفق المسلمون على ما هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام وهو أنه يجب الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين وبجميع ما أنزله الله من الكتب فمن كفر بنبي واحد تعلم نبوته مثل إبراهيم ولوط وموسى وداود وسليمان ويونس وعيسى فهو كافر عند جميع المسلمين حكمه حكم الكفار وإن كان مرتدا استتيب فإن تاب وإلا قتل
ومن سب نبيا واحدا من الأنبياء قتل أيضا باتفاق المسلمين وما علم المسلمون أن نبيا من الأنبياء أخبر به فعليهم التصديق به كما يصدقون بما أخبر به محمد وهم يعلمون أن أخبار الأنبياء لا تتناقض ولا تختلف وما لم يعلموا أن النبي أخبر به فهو كما لم يعلموا أن محمدا أخبر به صلى الله عليهم أجمعين ولكن لا يكذبون إلا بما علموا أنه كذب كما لا يجوز أن يصدقوا إلا بما علموا أنه صدق وما لم يعلموا أنه كذب ولا صدق لم يصدقوا به ولم يكذبوا به كما أمرهم نبيهم محمد وبهذا أمرهم
المسيح عليه السلام فقال الأمور ثلاثة أمر تبين رشده فاتبعوه وأمر تبين غيه فاجتنبوه وأمر اشتبه عليكم فكلوه إلى عالمه
فصل
وإن أرادوا بتصديقه كتبهم أنه صدق ما هم عليه من العقائد والشرائع التي ابتدعوها بغير إذن من الله وخالفوا بها ما تقدمه من شرائع المسلمين أو خالفوا بها الشرع الذي بعث به مثل القول بالتثليث والأقانيم والقول بالحلول والاتحاد بين اللاهوت والناسوت وقولهم أن المسيح هو الله وابن الله وما هم عليه من إنكار ما يجب الإيمان به من الإيمان بالله واليوم الآخر ومن تحليل ما حرمه الله ورسله كالخنزير وغيره وبين أنهم لا يدينون بدين الحق الذي أنزل به كتابه وأرسل به رسوله بل بدين مبتدع ابتدعه لهم أكابرهم كما قال تعالى
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم
وقد بين النبي ذلك لعدي بن حاتم وكان نصرانيا لما جاءه ليؤمن به وقد آمن به عدي وكان من خيار الصحابة فسمعه يقرأ هذه الآية
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون
قال عدي قلت يا رسول الله ما عبدوهم
قال إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم فكانت تلك عبادتهم إياهم
فإن أرادوا بتصديقهم في هذه الأمور أو أن محمدا صدق ما عندهم مما لم يأت به الأنبياء عن الله فقد كذبوا على محمد كذبا ظاهرا معلوما بالاضطرار من دينه وإنما صدق ما جاءت به الأنبياء قبله
وأما ما أحدثوه وابتدعوه فلم يصدقوه كما أنه لم يشرع لهم أن يستمروا على ما هم عليه من الشرع الأول ولو لم يكن مبدلا بل دعاهم وجميع الإنس والجن إلى الإيمان به وبما جاء به واتباع ما بعث به من الكتاب والحكمة وحكم بكفر كل من لم يتبع كتابه المنزل عليه وأوجب مع خلودهم في عذاب الآخرة جهادهم في الدنيا حتى يكون الدين كله لله وحتى تكون كلمة الله هي العليا
وقد دعا أهل الكتاب من اليهود والنصارى عموما ثم كلا من الطائفتين خصوصا في غير موضع مع دعائه الناس كلهم أهل الكتاب وغيرهم كقوله تعالى
ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون
الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون
وقال تعالى يخاطب النصارى
يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا
وقال تعالى
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم
وقال تعالى
ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون
اخبر سبحانه أن النصارى تركوا حظا مما ذكرهم به وبسبب ذلك أغرى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة فعلم أنه سبحانه بين أنهم تركوا بعض ما جاء به المسيح ومن قبله من الأنبياء واستحقوا لذلك أن يغري بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة
وقال تعالى
قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل
فنهاهم عن الغلو في دينهم وعن اتباع أهواء الذين ابتدعوا بدعا غيروا بها شرع المسيح فضلوا من قبل هؤلاء الأتباع وأضلوا كثيرا من هؤلاء الأتباع وغيرهم وضلوا عن سواء السبيل وهو وسط السبيل بين الضلال وقيده بعد أن أطلقه وأجمله
وقال تعالى
قتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون
وقد خرج النبي لقتالهم بنفسه عام تبوك واستنفر لقتالهم جميع المؤمنين ولم يأذن لأحد من القادرين على الغزو في التخلف ومن تخلف لأنه لم ير قتالهم واجبا كان كافرا وإن أظهر الإسلام كان منافقا ملعونا بين الله أنه لا يغفر لهم ونهى نبيه عن الصلاة عليهم وأنزل في ذلك جمهور سورة براءة بالنقل المتواتر حتى بين كفر الذين استأذنوه في ترك الخروج معه لقتال النصارى
قال تعالى
يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل كم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم
انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين لا يستئذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون
فصل
فتبين أن قولهم فثبت بهذا ما معنا نعم ونفي عن إنجيلنا وكتبنا التي في أيدينا التهم والتبديل لها والتغيير لما فيها بتصديقه إياها
إن أرادوا به أنه ثبت ما جاءت الأنبياء قبله عن الله فهذا حق
وإن أرادوا به أنه ثبت ما هم عليه بعد مبعثه من الشرع الذي خالف شرعه أو ما ابتدعوه مما لم يأت به الأنبياء عليهم السلام قبله فهذا باطل
وإن أرادوا بذلك أنه صدق ألفاظ الكتب التي بأيدينا أي التوراة والإنجيل فهذا مما يسلمه لهم بعض المسلمين وينازعهم فيه أكثر المسلمين وإن كان أكثر ذلك مما يسلمه أكثر المسلمين
فأما تحريف معاني الكتب بالتفسير والتأويل وتبديل أحكامها
فجميع المسلمين واليهود والنصارى يشهدون عليهم بتحريفها وتبديلها كما يشهدون هم والمسلمون على اليهود بتحريف كثير من معاني التوراة وتبديل أحكامها وإن كانوا هم واليهود يقولون إن التوراة لم تحرف ألفاظها
وحينئذ فلا ينفعهم بقاء حروف الكتب عندهم مع تحريف معانيها إلا كما ينفع اليهود بقاء حروف التوراة والنبوات عندهم مع تحريف معانيها بل جميع النبوات التي يقرون بها هي عند اليهود وهم مع اليهود ينفون عنها التهم والتبديل لألفاظها مع أن اليهود عندهم من أعظم الخلق كفرا واستحقاقا لعذاب الله في الدنيا والآخرة وهم عند النصارى الذين يكفرون المسلمين أكثر من هؤلاء وشر منهم فإن النصارى متفقون على أن المسلمين خير من اليهود وكذلك اليهود متفقون على أن المسلمين خير من النصارى بل جميع الأمم المخالفين للمسلمين يشهدون أن المسلمين خير من سائر الأمم والطوائف إلا أنفسهم وشهادتهم لأنفسهم لا تقبل فصار هذا اتفاق أهل الأرض على تفضيل دين الإسلام
فعلم أن بقاء حروف الكتاب مع الإعراض عن اتباع معانيها وتحريفها لا يوجب إيمان أصحابها ولا يمنع كفرهم
وحينئذ فليس شهادة محمد وأمته للمسيح عليه السلام ولما أنزل عليه من الإنجيل في تثبيت ما عند النصارى بأعظم من شهادة المسيح عليه السلام والحواريين وسائر من اتبعه لموسى ولما أنزل عليه من التوراة في تثبيت ما عند
اليهود فإن المسيح أمر أتباعه باتباع التوراة إلا القدر اليسير الذي نسخه منها
وأما محمد فبعث بكتاب مستقل وشرع مستقل كامل تام لم يحتج معه إلى شرع سابق تتعلمه أمته من غيره ولا إلى شرع لاحق يكمل شرعه ولهذا قال النبي في الحديث الصحيح أنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر
فجزم أن من كان قبله كان فيهم محدثون وعلق الأمر في أمته وإن كان هذا المعلق قد تحقق لأن أمته لا تحتاج بعده إلى نبي آخر فلأن لا تحتاج معه إلى محدث ملهم أولى وأحرى
وأما من كان قبله فكانوا يحتاجون إلى نبي بعد نبي فأمكن حاجتهم إلى المحدثين الملهمين ولهذا إذا نزل المسيح بن مريم في أمته لم يحكم فيهم إلا بشرع محمد وإذا كان مع هذا فشهادة المسيح والحواريين وكل من آمن بالمسيح للتوراة بأنها حق ولموسى بأنه رسول لا يمنع كفر اليهود لكونهم بدلوا شرع التوراة وكذبوا بالمسيح والإنجيل
فكيف تكون شهادة محمد وأمته للإنجيل بأنه منزل من عند الله وللمسيح بأنه رسول الله مانعة من كفر النصارى مع تبديلهم شرع الإنجيل وتكذيبهم بمحمد وشرع القرآن
وأما إيمان من يؤمن منهم بأن محمدا رسول الله إلى العرب أو بكثير مما جاء به القرآن فلا يمنع كفرهم إذا كفروا ببعض ما جاء به بل من كذب بشيء مما جاءت به الرسل عن الله فهو كافر وإن آمن بأكثر ما جاءت به الرسل كما قال تعالى
إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا
وقال تعالى
أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من
يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون
وقد صرح بكفر النصارى في غير موضع وأمر بجهادهم وقتالهم وحكم بكفر من لا يوجب جهادهم وقتالهم أو لا يرى ذلك عبادة لله وطاعة له كما تقدم التنبيه على ذلك فإذا كان من لا يرى جهادهم عبادة لله كافرا عند محمد فكيف حالهم عنده
فصل
وإذا تبين للخاصة والعامة ممن آمن بمحمد ومن كفر به أنه كان مصدقا لما بين يديه من الكتب والأنبياء مصدقا للتوراة والإنجيل شاهدا بأن موسى عليه السلام ومن كان متبعا له على الحق وأن المسيح عليه السلام ومن اتبعه على الحق وإن كان يكفر جميع اليهود والنصارى وغيرهم ممن بلغته رسالته ولم يؤمن به وشهد عليهم بأنهم حرفوا كثيرا من معاني التوراة والإنجيل قبل نبوته وأن أهل الكتاب كلهم مع المسلمين يشهدون أيضا بأن كثيرا من معاني التوراة والإنجيل حرفها كثير من أهل الكتاب لم يجز لأحد من أهل الكتاب أن يحتج بقول محمد على صحة دينهم الذي شهد محمد بأنه باطل مبدل منسوخ وأهله من أهل النار كما تقدم بسطه
وإذا قالوا نحن نذكر ذلك لنبين تناقضه حيث صدقها وهي تناقض بعض ما أخبر به أو لنبين أن ما أخبرت به الأنبياء قبله يناقض خبره فيكون ذلك قدحا فيما جاء به
أجاب المسلمون عن هذا بعدة طرق
أحدها أن يقولوا أما مناقضة بعض خبره لبعض كما يزعمه هؤلاء من أن كتابه يمدح أهل الكتاب مرة ويذمهم أخرى وأنه يصدق الكتب المنزلة تارة ويذمها أخرى فهذا قد ظهر بطلانه فإنه إنما مدح من اتبع موسى والمسيح على الدين الذي لم يبدل ولم ينسخ
وأما من اتبع الدين المبدل المنسوخ فقد كفره
فأما دعواهم مناقضة خبره لخبر غيره فيقال هو مصدق للأنبياء فما أخبروا به
وأما ما بدل من ألفاظهم أو غيرها بالترجمة أو فسر بغير مرادهم فلم يصدقه ويقال أيضا إن نبوة محمد تثبت بمثل ما تثبت به نبوات الأنبياء قبله وبأعظم من ذلك كما قد بسط في موضع آخر وبين أن التكذيب بنبوة محمد مع التصديق بنبوة غيره في غاية التناقض والفساد وانه ما من طريق يعلم بها نبوة غيره إلا ونبوته تعلم بمثل تلك الطريق وبأعظم منها فلو لم تكن نبوته وطريق ثبوتها إلا
مثل نبوة غيره وطريق ثبوتها لوجب التصديق بنبوته كما وجب التصديق بنبوة غيره ولكان تكذيبه كتكذيب ابراهيم وموسى وغيرهما من الرسل فكيف إذا كان ذلك أعظم من وجوه متعددة
وحينئذ فالأنبياء كلهم صادقون مصدقون معصومون فيما يخبرون به عن الله لا يجوز أن يثبت في خبرهم عن الله خبر باطل لا عمدا ولا خطأ فلا يجوز أن يخبر أحدهم بخلاف ما أخبر به غيره بل ولا يفترقون في الدين الجامع كما قال تعالى
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه
وقال تعالى
يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون
وإنما يقع النسخ في بعض الشرائع كما يقع النسخ في شريعة الرسول الواحد وحينئذ فيعلم أن كل ما ينقل عن الأنبياء المتقدمين مما يناقض ما علم من أخبار محمد فهو باطل سواء كان اللفظ نفسه باطلا لم يقله ذلك النبي أو قد قال لفظا وغلط
المترجمون له من لغة إلى لغة أو كان اللفظ وترجمته صحيحين لكن وقع الغلط في معرفة مراد ذلك النبي بذلك الكلام
فإن كل ما يحتج به من الألفاظ المنقولة عن الأنبياء أنبياء بني إسرائيل وغيرهم ممن أرسل بغير اللغة العربية لا بد في الاحتجاج بألفاظه من هذه المقدمات أن يعلم اللفظ الذي قاله ويعلم ترجمته ويعلم مراده بذلك اللفظ
والمسلمون وأهل الكتاب متفقون على وقوع الغلط في تفسير بعض الألفاظ وبيان مراد الأنبياء بها وفي ترجمة بعضها فإنك تجد بالتوراة عدة نسخ مترجمة وبينها فروق يختلف بها المعنى المفهوم وكذلك في الإنجيل وغيره فهذا الطريق في الجواب طريق عام لكل من آمن بمحمد وشهد أنه رسول الله باطنا وظاهرا يخاطب به كل يهودي ونصراني على وجه الأرض وإن لم يكن عارفا بما عند اهل الكتاب فإنه لا يقدر أحد من أهل الأرض يقيم دليلا صحيحا على نبوة موسى وعيسى وبطلان نبوة محمد فإن هذا ممتنع لذاته بل ولا يمكنه أن يقيم دليلا صحيحا على نبوة أحدهما إلا وإقامة مثل ذلك الدليل أو أعظم منه على نبوة محمد أولى وحينئذ فلا يمكن أحدا من أهل
الكتاب أن يحتج بشيء من المنقولات عن الأنبياء المخالفة لما ثبت عن محمد سواء أقر بنبوته أو أنكرها بل إن احتج بشيء مما نقل عن محمد بين له بطلان احتجاجه به وأنه حجة عليه لا له
وإن احتج بشيء من المنقول عن غيره من الأنبياء عليهم السلام طولب بتقدير نبوة ذلك النبي مع تكذيب محمد وإلا فبتقدير أن ينقل عن اثنين ادعيا النبوة وأتيا بالآيات التي تثبت بها النبوات خبران مناقضان لا يجوز تصديق هذا وتكذيب ذاك إن لم يتبين ما يدل على صدق هذا وكذب هذا وكذلك إذا عورض أحدهما بجنس ما يعارض الآخر
وهذا لا يرد على المسلمين إذا ردوا ما يحتج به أهل الكتاب مما ينقلونه عن الأنبياء مخالفا لخبر محمد فإن المسلمين لا يطعنون في نبوة أحد من الأنبياء المعروفين وإنما يطعنون في أنهم أخبروا بما يخالف خبر محمد فإن ذلك لا يثبت أي لم يثبت اللفظ والترجمة وتفسير اللفظ وهذه المقدمات يمتنع أن تقوم على شيء يخالف خبر محمد لا جملة ولا تفصيلا
فأهل الكتاب يطالبون فيما يعارضون به بثلاث مقدمات
أحدها تقدير أن أولئك صادقون ومحمد كاذب
والثاني ثبوت ما أتوا به لفظا
والثالث معرفة المراد باللفظ ترجمة وتفسيرا وإن قال الكتابي للمسلم أنت توافقني على نبوة هؤلاء المتقدمين إجابة المسلم بوجوه
منها أن يقول إني لم أوافقك على نبوة واحد منهم مع التكذيب بمحمد بل دين المسلمين كلهم أنه من آمن ببعض الأنبياء وكفر ببعض فهو كافر فكيف بمن كفر بمن هو عند المسلمين أفضل الأنبياء وخاتمهم بل قد يقول له أكثر المسلمين نحن لم نعلم نبوة أولئك إلا بأخبار محمد أنهم أنبياء فلو قدحنا في الأصل الذي قد علمنا به نبوتهم لزم القدح في نبوتهم والفرع إذا قدح في أصله دل على فساده في نفسه سواء قدر اصله صحيحا أو فاسدا فإنه إن كان أصله فاسدا فسد هو وإن كان أصله صحيحا وهو يناقضه بطل هو فإنه إن كان أصله فاسدا فسد هو وإن كان أصله صحيحا وهو يناقضه بطل هو فهو إذا ناقض أصله باطل على كل تقدير
وكذلك إذا قال له الكتابي قد اتفقنا على تصديق موسى والتوراة والمسيح والإنجيل
قال له المسلم إنما وافقتك على تصديق موسى وعيسى الذين
بشرا بمحمد كما أخبرنا به محمد عن الله حيث قال الله تعالى
ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر الآية
وقال تعالى
وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد
إلى أمثال ذلك
فأما الإيمان بموسى الذي ذكر أن شريعته مؤيدة لا ينسخ منها شيءأو بمسيح ادعى أنه الله أو أن الله اتحد به أو حل فيه ونحو ذلك مما يدعيه أهل الكتاب في الرسولين والكتابين ويخالفهم فيه المسلمون فهذا من موارد النزاع لا من مواقع الإجماع فليس لأحد من أهل الكتاب أن يحتج على احد من المسلمين بموافقته له على ذلك
ومن تمام ذلك أن يقول المسلم نعم أنا أقر بنبوة موسى والمسيح وإن التوراة والإنجيل كلام الله لكن يمتنع عقلا الإقرار بنبوة واحد من هؤلاء دون نبوة محمد فإن
البراهين والآيات والأدلة الدالة على صدق موسى والمسيح تدل على نبوة محمد بطريق الأولى فلو انتقضت تلك الأدلة لزم فسادها وأن لا أصدق بأحد من الأنبياء وإن كانت حقا لزم تصديقهم كلهم فلزم إما أن نصدقهم كلهم وإما أن نكذبهم كلهم ولهذا كان من آمن ببعض وكذب ببعض كافرا
ومن الأجوبة للمسلمين أن يقولوا نحن نصدق الأنبياء المتقدمين في كل ما أخبروا به لكن من نقل عنهم أنهم أخبروا بما يناقض خبر محمد فلا بد له من مقدمتين ثبوت ذلك اللفظ عن الأنبياء والعلم بمعناه الذي يعلم أنه مناقض للمعنى الذي علم أن محمدا عناه ثم العلم باللفظ يحتاج مع الخطاب بغير ألسن الأنبياء العربية سواء كانت عربية أو رومية أو سريانية أو قبطية إلى أن يعرف أن هذا اللفظ الذي ترجم به لفظه مطابق للفظه ويمتنع ثبوت المقدمتين لأن في ثبوتهما تناقض الأدلة العلمية والأدلة العلمية لا تتناقض
الطريق الثاني أن يقول المسلمون ما تذكرونه من المنقول عن الأنبياء مناقضة لما أخبر به محمد أمور لم تعلم صحتها فلا يجوز اعتقاد ثبوتها والجزم بها ولو لم يعلم
أن محمدا أخبر بخلافها فكيف إذا علم أنه أخبر بخلافها وذلك أن العلم بثبوتها مبني على مقدمات
أحدها العلم بنبوتهم وهذا ممتنع مع تكذيب محمد
والثانية أنهم قالوا هذه الألفاظ وهذا يحتاج إلى إثبات تواتر هذه الألفاظ عن الأنبياء ولم يثبت أنها تواترت عنهم
والثالثة أن معناها هو المعنى المناقض لخبر محمد ولم يعلم ذلك
وكل واحدة من هذه المقدمات تمنع العلم بثبوت هذه المعاني المناقضة لخبر محمد فكيف إذا اجتمعت
وهي تمنع العلم بصحتها ولو لم تناقض خبر محمد فكيف إذا ناقضته
الطريق الثالث طريق من يبين أن ألفاظ هذه الكتب لم تتواتر ويثبتون ذلك بانقطاع تواتر التوراة لما خرب بيت المقدس وانقطاع تواتر الإنجيل في أول الأمر
الطريق الرابع طريق من يبين أن بعض ألفاظ الكتب حرفت
ويقيم الأدلة الشرعية والعقلية على تبديل بعض ألفاظها
الطريق الخامس أن يبين أن الألفاظ التي بأيديهم لا تناقض ما أخبر به محمد بل تدل على صدق محمد ويتكلم على تفسير تلك الألفاظ بأعيانها
وهذه الطريق يسلكها من لا ينازع في ثبوت الألفاظ من المسلمين
وأما الجمهور الذين يقولون بتبديل هذه الألفاظ فيسلكون هذه الطريق ويسلكون ايضا بيان عدم تواتر الألفاظ بل بيان التبديل في الفاظها
فصل
ومن حجة الجمهور الذين يمنعون أن تكون جميع ألفاظ هذه الكتب المتقدمة الموجودة عند أهل الكتاب منزلة من عند الله لم يقع فيها تبديل ويقولون إنه وقع التبديل في بعض ألفاظها ويقولون إنه لم يعلم أن ألفاظها منزلة من عند الله فلا يجوز أن يحتج بما فيها من الألفاظ في معارضة ما علم ثبوته أنهم قالوا التوراة والإنجيل الموجودة اليوم بيد أهل الكتاب لم تتواتر عن موسى وعيسى عليهما السلام أما التوراة فإن نقلها انقطع لما خرب بيت المقدس أولا وأجلى منه بنو إسرائيل ثم ذكروا أن الذي أملاها عليهم بعد ذلك شخص واحد يقال له عزرا وزعموا أنه نبي
ومن الناس من يقول إنه لم يكن نبيا وإنها قوبلت بنسخة وجدت عتيقة
وقد قيل إنه أحضرت نسخة كانت بالمغرب وهذا كله لا يوجب تواتر جميع ألفاظها ولا يمنع وقوع الغلط في بعضها كما يجري مثل ذلك في الكتب التي يلي نسخها ومقابلتها وحفظها القليل الاثنان والثلاثة
وأما الإنجيل الذي بأيديهم فهم معترفون بأنه لم يكتبه المسيح عليه السلام ولا أملاه على من كتبه وإنما أملوه بعد رفع المسيح متى و يوحنا وكانا قد صحبا المسيح ولم يحفظه خلق كثير يبلغون عدد التواتر و مرقس و لوقا وهما لم يريا المسيح عليه السلام وقد ذكر هؤلاء أنهم ذكروا بعض ما قاله المسيح وبعض أخباره وأنهم لم يستوعبوا ذكر أقواله وأفعاله
ونقل اثنين وثلاثة وأربعة يجوز عليه الغلط لا سيما وقد غلطوا في المسيح نفسه حتى اشتبه عليهم بالمصلوب ولكن النصارى يزعمون أن الحواريين رسل الله مثل عيسى بن مريم وموسى عليهما السلام وأنهم معصومون وأنهم سلموا إليهم التوراة والإنجيل وأن لهم معجزات وقالوا لهم هذه التوراة وهذا الإنجيل ويقرون مع هذا بأنهم ليسوا بأنبياء فإذا لم يكونوا أنبياء فمن ليس بنبي ليس بمعصوم من الخطأ ولو كان من أعظم أولياء الله ولو كان له خوارق عادات فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من أفاضل الصحابة عند المسلمين أفضل من الحواريين ولا معصوم عندهم إلا من كان نبيا
ودعوى أنهم رسل الله مع كونهم ليسوا بأنبياء تناقض وكونهم رسل الله هو مبني على كون المسيح هو الله فإنهم رسل المسيح وهذا
الأصل باطل ولكن في طريق المناظرة والمجادلة بالتي هي أحسن نمنعهم في هذا المقام ونطالبهم بالدليل على أنهم رسل الله وليس لهم على ذلك دليل فإنه لا يثبت أنهم رسل الله إن لم يثبت أن المسيح هو الله وإثباتهم أن المسيح هو الله إما أن يكون بالعقل أو بالسمع والعقل لا يثبت ذلك بل يحيله وهم لا يدعون ثبوت ذلك بالعقل
بل غاية ما يدعون إثبات إمكانه بالعقل لا إثبات وجوده مع أن ذلك أيضا باطل وإنما يدعون ثبوت وجوده بالسمع وهو ما ينقلونه عن الأنبياء من ألفاظ يدعون ثبوتها عن الأنبياء ودلالتها على أن المسيح هو الله كسائر من يحتج بالحجة السمعية فإن عامة بيان صحة الإسناد دون بيان دلالة المتن وكلا المقدمتين باطلة
ولكن يقال لهم في هذا المقام أنتم لا يمكنكم إثبات كون المسيح هو الله إلا بهذه الكتب ولا يمكنكم تصحيح هذه الكتب إلا بإثبات أن الحواريين رسل الله معصومون ولا يمكنكم إثبات أنهم رسل الله إلا بإثبات أن المسيح هو الله فصار ذلك دورا ممتنعا
فإنه لا تعلم إلهية المسيح إلا بثبوت هذه الكتب ولا تثبت هذه الكتب إلا بثبوت أنهم رسل الله ولا يثبت ذلك إلا بثبوت أنه الله فصار ثبوت الإلهية متوقفا على ثبوت إلهيته وثبوت كونهم رسل الله متوقفا على كونهم رسل الله فصار ذلك دورا ممتنعا
قد يدعون عصمة الحواريين وعصمة أهل المجامع بعد الحواريين كأهل المجمع الأول الذي كان بحضرة قسطنطين الذي حضره ثلاثمائة وثمانية عشر ووضعوا لهم الأمانة التي هي عقيدة النصارى التي لا يصح لهم قربان إلا بها فيزعمون أن الحواريين
أو هؤلاء جرت علي أيديهم خوارق وقد يذكرون أن منهم من جرى إحياء الموتى على يديه وهذا إذا كان صحيحا مع ان صاحبه لم يذكر أنه نبي لا يدل على عصمته فإن أولياء الله من الصحابة والتابعين بعدهم بإحسان وسائر أولياء الله من هذه الأمة وغيرها لهم من خوارق العادات ما يطول وصفه وليس فيهم معصوم يجب قبول كل ما يقول بل يجوز الغلط على كل واحد منهم وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا الأنبياء عليهم السلام
ولهذا أوجب الله الإيمان بما أوتيه الأنبياء ولم يجب الإيمان
بكل ما يقوله كل ولي لله
قال تعالى
قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم
وقال تعالى
ولكن البر من ىمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين
ولهذا وجب الإيمان بالأنبياء جميعهم وما أوتوه كلهم
ومن كذب نبيا واحدا تعلم نبوته فهو كافر باتفاق المسلمين ومن سبه وجب قتله كذلك بخلاف من ليس بنبي فإنه لا يكفر أحد بمخالفته ولا يقتل بمجرد سبه إلا أن يقترن بالسب ما يكون مبيحا للدم
والذي عليه سلف الأمة كالصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين وجماهير المسلمين أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر وليس بعد الأنبياء أفضل منهما وهذه الأمة أفضل الأمم وقد ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال قد كان قبلكم في الأمم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر والمحدث الملهم المخاطب
وكان عمر قد جعل الله الحق على قلبه ولسانه وما كان يقول لشيء إني لأراه كذا وكذا إلا كان كما يقول وكانت السكينة تنطق على لسانه ومع هذا فلم يكن لا هو ولا غيره ممن ليس بنبي معصوما من الغلط ولا يجب على المسلم قبول ما يقوله إن لم يدل عليه الكتاب والسنة ولا كان يجوز له العمل بما يلقى في قلبه إن لم يعرضه على الكتاب والسنة فإن وافق ذلك قبله وإن خالف ذلك رده
وعند المسلمين أنه ليس في أتباع المسيح عليه السلام مثل أبي بكر وعمر رضوان الله عليهما فإذا قالوا عن الحواريين أنهم ليسوا معصومين فهم يقولون ذلك فيمن هو عندهم أفضل من الحواريين كما أنهم إذا قالوا عن المسيح أنه عبد مخلوق ليس بإله فهم يقولون ذلك فيمن هو عندهم أفضل من المسيح كمحمد وإبراهيم عليهما أفضل الصلاة والسلام
وفي الملاحدة المنتسبين إلى الأمة من فيه بدع من الغلو يشبه غلو النصارى كمن يدعي الإلهية
من الإسماعيلية كبني عبيد القداح
كالحاكم وغيره ويدعي الإلهية في علي بن أبي طالب أو غيره كدعوى النصيرية وهؤلاء كفار عند المسلمين
وكذلك من يدعي الإلهية في بعض المشايخ كغلاة العدوية والحلاجية واليونسية وغيرهم وكذلك من يدعي عصمة بني عبيد او عصمة الإثني عشر أو عصمة بعض المشايخ
فإن النصارى يدعون عصمة الحواريين الإثني عشر وهؤلاء يدعون عصمة الأئمة الإثني عشر
وهؤلاء يسندون أصل دينهم إلى قول الحواريين المعصومين عندهم ويقولون أنهم معصومون في النقل عن المسيح وفي الفتيا وإن ما قالوه فقد قاله المسيح عليه الصلاة و السلام
وهؤلاء يقولون عن أولئك إنهم معصومون في النقل والفتيا وإن ما قالوه فقد قاله الرسول عليه الصلاة و السلام وهذا مبسوط في موضع آخر
والمقصود هنا أنه ليس مع النصارى نقل متواتر عن المسيح بألفاظ هذه الأناجيل ولا نقل لا متواتر ولا آحاد بأكثر ما هم عليه من الشرائع ولا عندهم ولا عند اليهود نقل متواتر بألفاظ التوراة ونبوات
الأنبياء كما عند المسلمين نقل متواتر بالقرآن وبالشرائع الظاهرة المعروفة للعامة والخاصة وهذا مثل الأمانة التي هي أصل دينهم وصلاتهم إلى المشرق وإحلال الخنزير وترك الختان وتعظيم الصليب واتخاد الصور في الكنائس وغير ذلك من شرائعهم ليست منقولة عن المسيح ولا لها ذكر في الأناجيل التي ينقلونها عنه وهم متفقون على أن الأمانة التي جعلوها اصل دينهم وأساس إعتقادهم ليست ألفاظها موجودة في الأناجيل ولا هي مأثورة عن الحواريين وهم متفقون على أن الذين وضعوها أهل المجمع الأول الذين كانوا عند قسطنطين الذي حضره ثلاثمائة وثمانية عشر وخالفوا عبد الله بن أريوس الذي جعل المسيح عبدا لله كما يقول المسلمون ووضعوا هذه الأمانة
وهذا المجمع كان بعد المسيح بمدة طويلة تزيد على ثلاثمائة سنة وبسط هذا له موضع آخر وإنما المقصود هنا الجواب عن قولهم إن محمدا ثبت ما معهم وأنه نفى عن إنجيلهم وكتبهم التي بأيديهم التهم والتبديل لها والتغيير لما فيها بتصديقه إياها
وقد تبين ان محمدا لم يصدق شيئا من دينهم المبدل والمنسوخ ولكن صدق الأنبياء قبله وما جاؤوا به وأثنى على من اتبعهم لا على من خالفهم أو كذب نبيا من الأنبياء وإن كفر النصارى من جنس كفر اليهود فإن اليهود بدلوا معاني الكتاب الأول وكذبوا بالكتاب الثاني وهو الإنجيل وكذلك النصارى بدلوا معاني الكتاب الأول التوراة والإنجيل وكذبوا بالكتاب الثاني وهو القرآن وأنهم ادعوا أن محمدا صدق بجميع ألفاظ الكتب التي عندهم
فجمهور المسلمين يمنعون هذا ويقولون إن بعض ألفاظها بدل كما قد بدل كثير من معانيها ومن المسلمين من يقول التبديل إنما وقع في معانيها لا في ألفاظها وهذا القول يقر به عامة اليهود والنصارى
وعلى القولين فلا حجة لهم في تصديق محمد لما هم عليه من الدين الباطل فإن الكتب الإلهية التي بأيديهم لا تدل على صحة ما كفرهم به محمد وأمته مثل التثليث والاتحاد والحلول وتغيير شريعة المسيح وتكذيب محمد فليس في الكتب التي بأيديهم ما يدل لا نصا ولا ظاهرا على الأمانة التي هي أصل دينهم وما في ذلك من التثليث والاتحاد والحلول ولا فيها ما يدل على أكثر شرائعهم
كالصلاة إلى الشرق واستحلال المحرمات من الخنزير والميتة ونحو ذلك كما قد بسط في موضع آخر
ويقال لهم أين ما معكم عن محمد مما يدل على أن ألفاظ الكتب التي بأيديكم لم يغير فيها شيء ومعلوم أن المسلمين وغيرهم إذا إختلفوا لم يكن قول فريق حجة على الفريق الآخر
فإذا كان المسلمون قد إختلفوا في تبديل بعض ألفاظ الكتب المتقدمة لم يكن قول فريق حجة على الأخرى ولا يجوز لأحد من المسلمين ولا منكم أن يضيف إلى الرسول قولا إلا بدليل
فأين في القرآن والسنة الثابتة عن محمد أن جميع ما بأيدي أهل الكتاب من التوراة والإنجيل والزبور ونبوات الأنبياء لم تبدل بشيء من ألفاظها حتى يقولوا إن محمدا نفى عن كتبهم ذلك
وهؤلاء بنوا كلامهم على أن ألفاظ كتبهم تدل على صحة دينهم الذي هم عليه بعد مبعث محمد وبعد تكذيبهم لمحمد وأنه لم يبدل شيء من ألفاظها
وقد تبين فساد ذلك من وجوه متعددة
ثم زعموا أن المسلمين يدعون أن ألفاظ هذه الكتب حرفت كلها بجميع لغاتها بعد مبعث محمد وهذا القول لم يقله أحد من المسلمين فيما أعلم وظنوا أنهم بالجواب عن هذا يكونون قد أجابوا المسلمين
فصل
فقال الحاكي عنهم فقلت لهم إن قال قائل إن التبديل والتغيير يجوز أن يكون بعد هذا القول فقالوا إنا نعجب من هؤلاء القوم على علمهم وذكائهم ومعرفتهم كيف يحتجون علينا بمثل هذا القول وذلك أنا أيضا إذا إحتججنا عليهم بمثل هذا القول وقلنا إن الكتاب الذي في أيديهم يومنا هذا قد غيروه وبدلوه وكتبوا فيه ما أرادوا واشتهوا هل كانوا يجوزون كلامنا قال الحاكي عنهم فقلت لهم هذا مما لا يجوز ولا يمكن أحدا أن يقوله ولا يمكن أن يتغير منه إلى آخر الفصل وسيأتي بألفاظ بعد هذا
والجواب أن هذا السائل النصراني الذي ذكر عن المسلمين سؤالا لا يقولونه وعن علماء النصارى جوابه هو وهم بنوا كلامهم على أصلين فاسدين
أحدهما أن الرسول ثبت ما معهم ونفى عن كتبهم التي بين أيديهم التهم والتبديل والتغيير لها ومقصودهم بذلك لا يتم إلا إذا نفى التبديل عن لفظها ومعناها وهذا مما يعلم كل عاقل أن الرسول لم ينفه عنها بل النقل المتواتر عنه بنقيض ذلك وهم أيضا وكل عاقل
يعلم أن الكتب التي بأيديهم في تفسيرها من الاختلاف والاضطراب بين فرق النصارى وبين النصارى واليهود ما يوجب القطع بأن كثيرا من ذلك مبدل محرف وكذلك وقع في تغيير شرائع هذه الكتب فإن الكتب تضمنت أصلين الإخبار والأمر والإيمان بها لا يتم إلا بتصديقها فيما أخبرت وإيجاب طاعتها فيما أوجبته
وأهل الكتاب يكذبون بكثير مما أخبرت ولا يوجبون طاعتها في كثير مما أوجبته وأمرت به وكل فرقة منهم تشهد على الفرقة الأخرى بمثل ذلك
والنصارى لهم سبع مجامع مشهورة عندهم وهم في كل
مجمع يلعنون طائفة منهم كبيرة ويكفرونهم ويقولون عنهم إنهم كذبوا ببعض ما في تلك الكتب ولم يوجبوا طاعة بعض أمرها وتلك الطائفة تشهد على الأخرى بأنها كذبت ببعض ما فيها ثم فرقهم الثلاثة المشهورة النسطورية والملكية واليعقوبية كل طائفة تكفر الأخرى وتلعنها وتشهد عليها أنها مكذبة ببعض ما في النبوات غير موجبة لطاعة بعض ما فيها بل اختلافهم في نفس التوحيد والرسالة فزعم كل فريق منهم أن المسيح جاء بما هم عليه والمسيح عليه السلام وجميع الرسل بريئون من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وبريئون ممن يقول على الله غير الحق أو يقول على الله ما لا يعلم وبريئون من كل قول باطل يقال على الله عز و جل وإن كان قائله مخطئا لم يتعمد الكذب
وفي مقالات النصارى من هذه الأنواع ما يطول وصفه وقد بسط في غير هذا الموضع
وإذا عرفت أن جميع الطوائف من المسلمين واليهود والنصارى يشهدون أنه قد وقع في هذه الكتب تحريف وتبديل في معانيها وتفاسيرها وشرائعها فهذا القدر كاف وهم من حين بعث محمد صار كل من لم يؤمن به كافرا بخلاف حال النصارى قبل مبعث محمد فإنه كان فيهم من هو متبع لدين المسيح والمسلمون وإن كان فيهم من حرف الدين وبدله فجمهورهم خالفوا هؤلاء فلا يزال فيهم طائفة ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم وخذلهم حتى تقوم الساعة بخلاف النصارى فإنهم كفروا جميعهم كما كفرت اليهود بتكذيب المسيح
والمسلمون يثبتون بالدلائل الكثيرة أنهم بدلوا معاني التوراة والإنجيل والزبور وغيرهم من نبوات الأنبياء وابتدعوا شرعا لم يأت به المسيح ولا غيره ولا يقول عاقل مثل زعمهم أن جميع بني آدم من الأنبياء والرسل وغيرهم كانوا في الجحيم في حبس الشيطان لأجل أن أباهم آدم أكل من الشجرة وأنهم إنما تخلصوا من ذلك لما صلب المسيح
فإن هذا الكلام لو نقله ناقل عن بعض الأنبياء لقطعنا بكذبه عليهم فكيف وهذا الكلام ليس منقولا عندهم عن أحد من الأنبياء وإنما ينقلونه عمن ليس قوله حجة لازمة فإن كثيرا من دينهم مأخوذ عن رؤوسهم الذين ليسوا بأنبياء
فإذا قطعنا بكذب من ينقله عن الأنبياء فكيف إذا لم ينقله عنهم وذلك أن الأنبياء عليهم السلام يخبرون الناس بما تقصر عقولهم عن معرفته لا بما يعرفون أنه باطل ممتنع فيخبرونهم
بمحيرات العقول لا محالات العقول وآدم عليه السلام وإن كان أكل من الشجرة فقد تاب الله عليه واجتباه وهداه
قال تعالى
وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى
وقال تعالى
فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم
وليس عند أهل الكتاب في كتبهم ما ينفي توبته وإنما قد يقول قائلهم إنا لا نعلم أنه تاب أو ليس عندنا توبته وعدم العلم بشيء ليس علما بعدمه وعدم وجود الشيء في كتاب من كتب الله لا ينفي أن يكون في كتاب آخر ففي التوراة ما ليس في الإنجيل وفيهما ما ليس في الزبور وفي الإنجيل والزبور ما ليس في التوراة وفي سائر النبوات ما لا يوجد في هذه الكتب والقرآن لو كان دون التوراة والإنجيل والزبور والنبوات أو كان مثلها لأمكن أن يكون فيه ما ليس فيها فكيف إذا كان أفضل وأشرف وفيه من العلم أعظم مما في التوراة والإنجيل وقد بين الله تعالى فضله عليهما في غير موضع كقوله تعالى
الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثانى تقشعر منه
وقال تعالى
نحن نقص عليك أحسن القصص بمآ أوحينآ إليك هذا القرآن
وقال تعالى
وأنزلنآ إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه
وسواء تاب آدم أو لم يتب فكيف يجوز أن يكون رسل الله الذين هم أفضل منه محبوسين في حبس الشيطان في جهنم بذنبه وإبراهيم خليل الرحمن كان أبوه كافرا ولم يؤاخذه الله بذنبه فكيف يجعله في جهنم في حبس الشيطان بسبب ذنب أبيه الأقصى آدم مع أنه كان نبيا ونوح عليه السلام قد مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى عبادة الله وحده وأغرق الله أهل الأرض بدعوته وجعل ذريته هم الباقين فكيف يكون في جهنم في حبس الشيطان لأجل ذنب آدم
وموسى بن عمران الذي كلمه الله تكليما وأظهر على يديه من البراهين والآيات ما لم يظهر مثله على يدي المسيح وقتل نفسا لم يؤمر بقتلها فغفر الله له ذلك وله من المنزلة عند الله والكرامة ما لا يقدر قدره فكيف يكون في جهنم في حبس الشيطان
ثم أي مناسبة بين الصلب الذي هو من أعظم الذنوب سواء
صلبوا المسيح أو المشبه به وبين تخليص هؤلاء من الشيطان فإن الشيطان إن فعل ذلك بالذرية كان ظالما معتديا والله عز و جل قادر على منعه من ظلمهم بل وعلى عقوبته إذا لم ينته عن ظلمهم
فلماذا أخر منعه من ظلمهم إلى زمن المسيح وهو سبحانه ولي المؤمنين وناصرهم ومؤيدهم وهم رسله الذين نصرهم على من عاداهم بل أهلك أعداءهم الذين هم جند الشيطان فكيف لا يمنع الشيطان بعد موتهم أن يظلمهم ويجعل أرواحهم في جهنم هذا إن قدر أن الشيطان كان قادرا على ذلك وكيف يجوز أن يجعل الشيطان بعد موت أنبيائه وأوليائه وسقوط التكليف عنهم واستحقاقهم كرامته وإحسانه وجنته بحكم وعده ومقتضى حكمته فجعله مسلطا على حبسهم في جهنم
وإن قالوا الرب عز و جل ما كان يقدر على تخليصهم من الشيطان مع علمه بأنه ظالم معتد عليهم بعد الموت إلا بأن يحتال عليه بإخفاء نفسه ليتمكن الشيطان منه كما يزعمون فهذا مع ما فيه من الكفر العظيم وجعل الرب سبحانه عاجزا كما جعلوه أولا ظالما فيه من التناقض ما يقتضي عظيم جهلهم الذي جعلوا به الرب جاهلا فإنهم يقولون إنه إحتال على الشيطان ليأخذه بعدل كما إحتال الشيطان على آدم بالحية فاختفى منه لئلا يعلم أنه ناسوت الإله
وناسوت الإله لم يعمل خطيئة قط بخلاف غيره
فلما أراد الشيطان أخذ روحه ليحبسه في جهنم كسائر من مضى وهو لم يعمل خطيئة استحق الشيطان أن يأخذه الرب ويخلص الذرية من حبسه
وهذا تجهيل منهم للرب سبحانه وتعالى عما يقولون مع تعجيزه وتظليمه فإنه إن كان هو سلط الشيطان على بني آدم كما يقولون فلا فرق بين ناسوت المسيح وغيره إذ الجميع بني آدم وأيضا فإذا قدر أن الناسوت يدفع الشيطان عن نفسه بحق فإنهم يقولون إنه دخل الجحيم وأخرج منه ذرية آدم
فيقال إن كان تسلط الشيطان على حبسهم في الجحيم بحق لأجل ذنوبهم مع ذنب أبيهم لم يجز إخراجهم لأجل سلامة ناسوت المسيح من الذنب وإن كانوا مظلومين مع الشيطان وجب تخليصهم قبل صلب الناسوت ولم يجز تأخير ذلك فليس في مجرد سلامة المسيح من الذنوب ما يوجب سلامة غيره وإن قالوا انه كان بدون تسلطه على صلبه عاجزا عن دفعه فهو مع تسلطه على صلبه أعجز وأعجز
الأصل الثاني الفاسد الذي بنوا عليه سؤالهم الذي جعلوه من جهة المسلمين وجوابهم ظنهم أن المسلمين يقولون إن هذه الكتب حرفت ألفاظ جميع النسخ الموجودة منها بعد مبعث محمد
وهذا مما لا يقوله المسلمون ولكن قد يقول بعضهم إنه حرف بعد مبعث محمد ألفاظ بعض النسخ فإن الجمهور الذين يقولون إن بعض ألفاظها حرفت منهم من يقول كان هذا قبل المبعث
ومنهم من يقول كان بعده ومنهم من يثبت الأمرين أو يجوزهما ولكن لا يقول إنه حرفت ألفاظ جميع النسخ الموجودة في مشارق الأرض ومغاربها كما حكاه هذا الحاكي عنهم ولكن علماء المسلمين وعلماء أهل الكتاب متفقون على وقوع التحريف في المعاني والتفسير
وإن كانت كل طائفة تزعم أن الأخرى هي التي حرفت المعاني
وأما ألفاظ الكتب فقد ذهبت طائفة من علماء المسلمين إلى أن ألفاظها لم تبدل كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكتاب
وذهب كثير من علماء المسلمين وأهل الكتاب إلى أنه بدل بعض ألفاظها
وهذا مشهور عند كثير من علماء المسلمين وقاله ايضا كثير من علماء اهل الكتاب
حتى في صلب المسيح ذهبت طائفة من النصارى إلى أنه إنما
صلب الذي شبه بالمسيح كما اخبر به القرآن وإن الذين أخبروا بصلبه كانوا قد أخبروا بظاهر الأمر فإنه لما ألقى شبهه على المصلوب ظنوا أنه هو المسيح أو تعمدوا الكذب ثم هؤلاء منهم الذين يقولون إن في ألفاظ الكتب ما هو مبدل
وفيهم من يجعل المبدل من التوراة والإنجيل كثيرا منهما وربما جعل بعضهم المبدل أكثرهما لا سيما الإنجيل فإن الطعن فيه أكثر وأظهر منه في التوراة
ومن هؤلاء من يسرف حتى يقول أنه لا حرمة لشيء منهما بل يجوز الاستنجاء بهما
ومنهم من يقول الذي بدلت ألفاظه قليل منهما وهذا أظهر
والتبديل في الإنجيل أظهر بل كثير من الناس يقول هذه الأناجيل ليس فيها من كلام الله إلا القليل
والإنجيل الذي هو كلام الله ليس هو هذه الأناجيل
والصحيح أن هذه التوراة الذي بأيدي اهل الكتاب فيها ما هو حكم الله وإن كان قد بدل وغير بعض ألفاظهما كقوله تعالى
ياأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم
الى قوله
وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله
فعلم أن التوراة التي كانت موجودة بعد خراب بيت المقدس وبعد مجيء بختنصر وبعد مبعث المسيح وبعد مبعث محمد فيها حكم الله
والتوراة التي كانت عند يهود المدينة على عهد رسول الله وإن قيل أنه غير بعض ألفاظها بعد مبعثه فلا نشهد على كل نسخة في العالم بمثل ذلك فإن هذا غير معلوم لنا وهو أيضا متعذر بل يمكن تغيير كثير من النسخ وإشاعة ذلك عند الأتباع حتى لا يوجد عند كثير من الناس إلا ما غير بعد ذلك ومع هذا فكثير من نسخ التوراة والإنجيل متفقة في الغالب إنما تختلف في اليسير من ألفاظها فتبديل ألفاظ اليسير من النسخ بعد مبعث الرسول ممكن لا يمكن أحد أن يجزم بنفيه ولا يقدر أحد من اليهود والنصارى أن يشهد بأن كل نسخة في العالم بالكاتبين متفقة الألفاظ إذ هذا لا سبيل لأحد إلى علمه والاختلاف اليسير في ألفاظ هذه الكتب
موجود في الكثير من النسخ كما قد تختلف نسخ بعض كتب الحديث أو تبدل بعض ألفاظ بعض النسخ وهذا خلاف القرآن المجيد الذي حفظت ألفاظه في الصدور بالنقل المتواتر لا يحتاج أن يحفظ في كتاب كما قال تعالى
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون
وذلك أن اليهود قبل النبي وعلى عهده وبعده منتشرون في مشارق الأرض ومغاربها وعندهم نسخ كثيرة من التوراة
وكذلك النصارى عندهم نسخ كثيرة من التوراة ولم يتمكن أحد من جمع هذه النسخ وتبديلها ولو كان ذلك ممكنا لكان هذا من الوقائع العظيمة التي تتوفر الدواعي على نقلها وكذلك في الإنجيل قال تعالى
وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه
فعلم أن في هذا الإنجيل حكما أنزله الله تعالى لكن
الحكم هو من باب الأمر والنهي وذلك لا يمنع أن يكون التغيير في باب الإخبار وهو الذي وقع فيه التبديل لفظا وأما الأحكام التي في التوراة فما يكاد أحد يدعي التبديل في ألفاظها
وقد ذكر طائفة من العلماء ان قوله تعالى في الإنجيل وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه هو خطاب لمن كان على دين المسيح قبل النسخ والتبديل لا الموجودين بعد مبعث محمد
وهذا القول يناسب مناسبة ظاهرة لقراءة من قرأ وليحكم أهل الإنجيل بكسر اللام كقراءة حمزة فإن هذه لام كي فإنه تعالى قال
وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون
فإذا قرىء وليحكم كان المعنى وأتيناه الإنجيل لكذا وكذا وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه وهذا يوجب الحكم بما أنزل الله في الإنجيل الحق لا يدل على أن الإنجيل الموجود في زمن الرسول هو ذلك الإنجيل
وأما قراءة الجمهور وليحكم أهل الإنجيل فهو أمر بذلك فمن العلماء من قال هو أمر لمن كان الإنجيل الحق موجودا عندهم أن يحكموا بما أنزل الله فيه وعلى هذا يكون قوله تعالى وليحكم أمر لهم قبل مبعث محمد وقال آخرون لا حاجة إلى هذا التكلف فإن القول في الإنجيل كالقول في التوراة وقد قال تعالى
يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد
مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل
فهذا قد صرح بأن أولئك الذين تحاكموا إلى النبي من اليهود عندهم التوراة فيها حكم الله ثم تولوا عن حكم الله وقال بعد ذلك وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه وهذه لام الأمر وهو أمر من الله أنزله على لسان محمد وأمر من مات قبل هذا الخطاب ممتنع وإنما يكون الأمر أمرا لمن آمن
به من بعد خطاب الله لعباده بالأمر فعلم أنه أمر لمن كان موجودا حينئذ أن يحكموا بما أنزل الله في الإنجيل والله أنزل في الإنجيل الأمر باتباع محمد كما أمر به في التوراة فليحكموا بما أنزل الله في الإنجيل مما لم ينسخه محمد كما أمر أهل التوراة أن يحكموا بما أنزله مما لم ينسخه المسيح وما نسخه فقد أمروا فيها باتباع المسيح وقد أمروا في الإنجيل باتباع محمد فمن حكم من أهل الكتاب بعد مبعث محمد بما أنزل الله في التوراة والإنجيل لم يحكم بما يخالف حكم محمد إذ كانوا مأمورين في التوراة والإنجيل باتباع محمد كما قال تعالى
الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل
وقال تعالى
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق
فجعل القرآن مهيمنا والمهيمن الشاهد الحاكم المؤتمن فهو يحكم بما فيها مما لم ينسخه الله ويشهد بتصديق ما فيها مما لم يبدل ولهذا قال
لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا
وقد ثبت في الصحاح والسنن والمساند هذا في الصحيحين عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال إن اليهود جاءوا إلى رسول الله فذكروا له أن امرأة منهم ورجلا زنيا فقال لهم رسول الله ما تجدون في التوراة في شأن الرجم قالوا نفضحهم ويجلدون فقال عبدالله بن سلام كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوارة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبدالله بن سلام ارفع يدك فرفع يده فإذا فيها آية الرجم فقالوا صدق يا محمد فأمر بهما النبي فرجما
وأخرج البخاري عن عبدالله بن عمر أنه قال أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم بيهودي ويهودية قد زنيا فانطلق حتى جاء يهود فقال ما تجدون في التوراة على من زنى قالوا نسود وجوههما ويطاف بهما قال فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين قال فجاءوا بها فقرأوها حتى إذا مروا بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم وقرأ ما بين يديها وما وراءها فقال عبدالله بن سلام وهو مع رسول الله صلى الله عليه و سلم مره فليرفع يده فرفعها فإذا تحتها آية الرجم قالوا صدق فيها آية الرجم ولكننا نتكاتمه بيننا وأن أحبارنا أحدثوا التحميم والتجبية فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم برجمهما فرجما
وأخرج مسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال مر على رسول الله صلى الله عليه و سلم بيهودي محمم مجلود فدعاهم فقال هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قالوا نعم فدعى رجلا من علمائهم فقال أنشدك الله الذي أنزل التوراة على
موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قال لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك نجد الرجم ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأمر به فرجم فأنزل الله تعالى يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسرعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم
إلى قوله فأولئك هم الكافرون إلى الظالمون إلى الفاسقون
قال هي في الكفار كلها
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أنه قال رجم النبي صلى الله عليه و سلم رجلا من أسلم ورجلا
من اليهود
وأما السنن ففي سنن أبي داود عن زيد بن أسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى القف فأتاهم في بيت المدراس فقالوا يا أبا القاسم إن رجلا منا زنى بامرأة فاحكم بينهم فوضعوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم وسادة فجلس عليها ثم قال أئتوني التوراة فأتي بها فنزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها وقال آمنت بك وبمن أنزلك ثم قال ائتوني بأعلمكم فأتي بشاب ثم ذكر قصة الرجم
وأخرج أيضا أبو داود وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال زنى رجل من اليهود بامرأة فقال بعضهم لبعض اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه نبي بعث بالتخفيف فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله فقلنا نبي من أنبيائك قالوا فأتوا بالنبي صلى الله عليه و سلم وهو جالس في المسجد في أصحابه فقالوا يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مدراسهم فقام على الباب فقال أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن
قالوا نحممه ونجبيه ونجلده والتجبية أن يحمل الزانيان على حمار ويقابل أقفيتهما ويطاف بهما قال وسكت شاب منهم فلما رآه النبي صلى الله عليه و سلم ساكتا أنشده فقال اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم فقال النبي صلى الله عليه و سلم فما أول ما ارتخصتم أمر الله قال زنى ذو قرابة ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم ثم زنى رجل في أسرة من الناس
فأراد رجمه فحال قومه دونه وقالوا لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم قال النبي فإني أحكم بما في التوراة فأمر بهما فرجما
قال الزهري فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم
إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا
فكان النبي منهم
وأيضا فقد تحاكموا إليه في القود الذي كان بين بني قريظة والنضير وكان النضير أشرف من قريظة فكان إذا قتل بعض إحدى القبيلتين قتيلا من الأخرى فيقتلونه ولم يضعفوا الدية وإذا قتل من القبيلة الشريفة قتلوا به وأضعفوا الدية
قال أبو داود سليمان بن الأشعث في سننه حدثنا محمد بن
العلاء حدثنا عبيد الله بن موسى عن علي بن صالح عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال كان قريظة والنضير وكان النضير أشرف من قريظة فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ودي ماية وسق من تمر
فلما بعث النبي قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا ادفعوه إلينا نقتله فقالوا بيننا وبينكم محمد فأتوه فنزلت
وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط
والقسط النفس بالنفس ثم نزلت
أفحكم الجاهلية يبغون
قال أبو داود قريظة والنضير من ولد هارون
وبسط هذا له موضع آخر وعلى كل قول فقد أخبر الله عز و جل أن في التوراة الموجودة بعد المسيح عليه السلام حكم الله وأن أهل الكتاب اليهود تركوا حكم الله الذي في التوراة مع كفرهم بالمسيح وهذا ذم من الله لهم على ما تركوه من حكمه الذي جاء به الكتاب الأول ولم ينسخه الرسول الثاني
وهذا من التبديل الثاني الذي ذموا عليه ودل ذلك على أن في التوراة الموجودة بعد مبعث المسيح حكما أنزله الله أمروا أن يحكموا به وهكذا يمكن أن يقال في الإنجيل
ومعلوم أن الحكم الذي أمروا أن يحكموا به من أحكام التوراة ولم ينسخه الإنجيل ولا القرآن فكذلك ما أمروا أن يحكموا به من أحكام الإنجيل هو مما لم ينسخه القرآن وذلك أن الدين الجامع أن يعبد الله وحده ويأمر بما أمر الله به ويحكم بما أنزله الله في أي كتاب أنزله ولم ينسخه فإنه يحكم به
ولهذا كان مذهب جماهير السلف والأئمة أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه ومن حكم بالشرع المنسوخ فلم يحكم
بما أنزل الله كما أن الله أمر أمة محمد أن يحكموا بما أنزل الله في القرآن وفيه الناسخ والمنسوخ فهكذا القول في جنس الكتب المنزلة
قال تعالى
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم
إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة علىالمؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون
فقد أمر نبيه محمدا أن يحكم بما أنزل الله إليه وحذره اتباع أهوائهم وبين أن المخالف لحكمه هو حكم الجاهلية حيث قال تعالى
أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون
وأخبره تعالى أنه جعل لكل من أهل التوراة والإنجيل والقرآن شرعة ومنهاجا وأمره تعالى بالحكم بما أنزل الله أمر عام لأهل التوراة والإنجيل والقرآن ليس لأحد في وقت من الأوقات أن يحكم بغير ما أنزل الله والذي أنزله الله هو دين واحد اتفقت عليه الكتب والرسل وهم متفقون في أصول الدين وقواعد الشريعة وإن تنوعوا في الشرعة والمنهاج بين ناسخ ومنسوخ فهو شبيه بتنوع حال الكتاب الواحد فإن المسلمين كانوا أولا مأمورين بالصلاة لبيت المقدس ثم أمروا أن يصلوا إلى المسجد الحرام وفي كلا الأمرين إنما اتبعوا ما أنزل الله عز و جل
وكذلك موسى عليه السلام كان مأمورا بالسبت محرما عليه ما حرمه الله في التوراة وهو متبع ما أنزله الله عز و جل والمسيح أحل بعض ما حرمه الله في التوراة وهو متبع ما أنزل الله عز و جل فليس في أمر الله لأهل التوراة والإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله أمر بما نسخ كما أنه ليس في أمر أهل القرآن أن يحكموا بما أنزل الله أمر بما نسخ بل إذا كان ناسخ ومنسوخ فالذي انزل الله هو الحكم بالناسخ دون المنسوخ فمن حكم بالمنسوخ فقد حكم بغير ما أنزل الله عز و جل ومما يوضح هذا قوله تعالى
قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين
فإن هذا يبين أن هذا أمر لمحمد أن يقول لأهل الكتاب الذي بعث إليهم إنهم ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم فدل ذلك على أنهم عندهم ما يعلم أنه منزل من الله وأنهم مأمورون بإقامته إذ كان ذلك مما
قرره محمد ولم ينسخه ومعلوم أن كل ما أمر الله به على لسان نبي ولم ينسخه النبي الثاني بل أقره كان الله آمرا به على لسان نبي بعد نبي ولم يكن في بعثة الثاني ما يسقط وجوب اتباع ما أمر به النبي الأول وقرره النبي الثاني
ولا يجوز أن يقال إن الله ينسخ بالكتاب الثاني جميع ما شرعه بالكتاب الأول وإنما المنسوخ قليل بالنسبة إلى ما اتفقت عليه الكتب والشرائع
وأيضا ففي التوراة والإنجيل ما دل على نبوة محمد فإذا حكم أهل التوراة والإنجيل بما أنزل الله فيهما حكموا بما أوجب عليهم اتباع محمد
وهذا يدل على أن في التوراة والإنجيل ما يعلمون أن الله أنزله إذ لا يؤمرون أن يحكموا بما أنزل الله ولا يعلمون ما أنزل الله والحكم إنما يكون في الأمر والنهي والعلم ببعض معاني الكتب لا ينافي عدم العلم ببعضها وهذا متفق عليه في المعاني فإن المسلمين واليهود والنصارى متفقون على أن في الكتب الإلهية الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له وأنه أرسل إلى الخلق رسلا من البشر وأنه أوجب العدل وحرم الظلم والفواحش والشرك وأمثال ذلك من الشرائع
الكلية وأن فيها الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب بل هم متفقون على الإيمان باليوم الآخر وقد تنازعوا في بعض معانيها واختلفوا في تفسير ذلك كما اختلفت اليهود والنصارى في المسيح المبشر به النبوات هل هو المسيح بن مريم عليه السلام أو مسيح آخر ينتظر
والمسلمون يعلمون أن الصواب في هذا مع النصارى لكن لا يوافقونهم على ما أحدثوا فيه من الإفك والشرك
وكذلك يقال إذا بدل قليل من ألفاظها الخبرية لم يمنع ذلك أن يكون أكثر ألفاظها لم يبدل لا سيما إذا كان في نفس الكتاب ما يدل على المبدل وقد يقال أن ما بدل من ألفاظ التوراة والإنجيل ففي نفس التوراة والإنجيل ما يدل على تبديله فبهذا يحصل الجواب عن شبهة من يقول إنه لم يبدل شيء من ألفاظها فإنهم يقولون إذا كان التبديل قد وقع في ألفاظ التوراة والإنجيل قبل مبعث محمد لم يعلم الحق من الباطل فسقط الاحتجاج بهما ووجوب العمل بهما على أهل الكتاب فلا يذمون حينئذ على ترك اتباعهما
والقرآن قد ذمهم على ترك الحكم بما فيهما واستشهد بهما في مواضع
وجواب ذلك أن ما وقع من التبديل قليل والأكثر لم يبدل والذي لم يبدل فيه ألفاظ صريحة تبين بها المقصود من غلط ما خالفها ولها شواهد ونظائر متعددة يصدق بعضها بعضا بخلاف المبدل فإنه ألفاظ قليلة وسائر نصوص الكتب يناقضها وصار هذا بمنزلة كتب الحديث المنقولة عن النبي ص – فإنه إذا وقع في سنن أبي داود والترمذي أو غيرهما أحاديث قليلة ضعيفة كان في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي ما يبين ضعف تلك
بل وكذلك صحيح مسلم فيه ألفاظ قليلة غلط وفي نفس الأحاديث الصحيحة مع القرآن ما يبين غلطها مثل ما روي أن الله خلق التربة يوم السبت وجعل خلق المخلوقات في الأيام السبعة فإن هذا الحديث قد بين أئمة الحديث كيحيى بن معين وعبدالرحمن بن
مهدي والبخاري وغيرهم أنه غلط وأنه ليس في كلام النبي بل صرح البخاري في تاريخه الكبير أنه من كلام كعب الأحبار كما قد بسط في موضعه والقرآن يدل على
غلط هذا ويبين أن الخلق في ستة أيام وثبت في الصحيح أن آخر الخلق كان يوم الجمعة فيكون أول الخلق يوم الأحد
وكذلك ما روي أنه صلى الكسوف
بركوعين أو ثلاثة
فإن الثابت المتواتر عن النبي في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة وابن عباس وعبدالله بن عمرو وغيرهم أنه صلى كل ركعة بركوعين ولهذا لم يخرج
البخاري إلا ذلك وضعف الشافعي والبخاري واحمد في أحد الروايتين عنه وغيرهم حديث الثلاث والأربع فإن النبي إنما صلى الكسوف مرة واحدة وفي حديث الثلاث والأربع أنه صلاها يوم مات إبراهيم ابنه وأحاديث الركوعين كانت ذلك اليوم فمثل هذا الغلط إذا وقع كان في نفس الأحاديث الصحيحة ما يبين أنه غلط والبخاري إذا روى الحديث بطرق في بعضها غلط في بعض الألفاظ ذكر معه الطرق التي تبين ذلك الغلط كما قد بسطنا الكلام على ذلك في موضعه
فكذلك إذا قيل أنه وقع تبديل في بعض ألفاظ الكتب المتقدمة كان في الكتب ما يبين لك الغلط وقد قدمنا أن المسلمين لا يدعون أن كل نسخة في العالم من زمن محمد بكل لسان من التوراة والإنجيل والزبور بدلت ألفاظها فإن هذا لا أعرف
أحدا من السلف قاله وإن كان من المتأخرين من قد يقول ذلك كما في بعض المتأخرين من يجوز الاستنجاء بكل ما في العالم من نسخ التوراة والإنجيل فليست هذه الأقوال ونحوها من أقوال سلف الأمة وأئمتها وعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما رأى بيد كعب الأحبار نسخة من التوراة قال يا كعب إن كنت تعلم أن هذه هي التوراة التي أنزلها الله على موسى بن عمران فاقرأها فعلق الأمر
على ما يمتنع العلم به ولم يجزم عمر رضي الله عنه بأن ألفاظ تلك مبدلة لما لم يتأمل كل ما فيها
والقرآن والسنة المتواترة يدلان على أن التوراة والإنجيل الموجودين في زمن النبي فيهما ما أنزله الله عز و جل والجزم بتبديل ذلك في جميع النسخ التي في العالم متعذر ولا حاجة بنا إلى ذكره ولا علم لنا بذلك ولا يمكن أحدا من أهل الكتاب أن يدعي أن كل نسخة في العالم بجميع الألسنة من الكتب متفقة على لفظ واحد فإن هذا مما لا يمكن أحدا من البشر أن يعرفه باختباره وامتحانه وإنما يعلم مثل هذا بالوحي وإلا فلا يمكن أحدا
من البشر أن يقابل كل نسخة موجودة في العالم بكل نسخة من جميع الألسنة بالكتب الأربعة والعشرين وقد رأيناها مختلفة في الألفاظ اختلافا بينا والتوراة هي أصح الكتب وأشهرها عند اليهود والنصارى ومع هذا فنسخة السامرة مخالفة لنسخة اليهود والنصارى حتى في نفس الكلمات العشر ذكر في نسخة السامرة منها من أمر استقبال الطور ما ليس في نسخة اليهود والنصارى وهذا مما يبين أن التبديل وقع في كثير من نسخ هذه الكتب فإن عند السامرة نسخا متعددة
وكذلك رأينا في الزبور نسخا متعددة تخالف بعضها بعضا مخالفة كثيرة في كثير من الألفاظ والمعاني يقطع من رآها أن كثيرا منها كذب على زبور داود عليه السلام وأما الأناجيل فالاضطراب فيها أعظم منه في التوراة
فإن قيل فإذا كانت الكتب المتقدمة منسوخة فلماذا ذم أهل الكتاب على ترك الحكم بما أنزل الله منها قيل النسخ لم يقع إلا في قليل من الشرائع وإلا فالإخبار عن الله وعن اليوم الآخر وغير ذلك لا نسخ فيه
وكذلك الدين الجامع والشرائع الكلية لا نسخ فيها وهو سبحانه ذمهم على ترك اتباع الكتاب الأول لأن أهل الكتاب كفروا من وجهين من جهة تبديلهم الكتاب الأول وترك الإيمان والعمل ببعضه ومن جهة تكذيبهم بالكتاب الثاني وهو القرآن كما قال تعالى
وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين
فبين أنهم كفروا قبل مبعثه بما أنزل عليهم وقتلوا الأنبياء كما
كفروا حين مبعثه بما أنزل عليه وقال تعالى
الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين
وقال تعالى
فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير
وقال تعالى
فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين
وإذا كان الأمر كذلك فهو سبحانه يذمهم على ترك اتباع ما أنزله في التوراة والإنجيل وعلى ترك اتباع ما أنزله في القرآن ويبين كفرهم بالكتاب الأول وبالكتاب الثاني وليس في شيء من ذلك أمرهم أن يحكموا بالمنسوخ من الكتاب الأول كما ليس فيه أمرهم أن يحكموا بالمنسوخ في الكتاب الثاني
فصل
فحينئذ فقولهم إنا نعجب من هؤلاء القوم على علمهم وذكائهم ومعرفتهم كيف يحتجون علينا بمثل هذا القول
وذلك أنا أيضا إذا قلنا واحتججنا عليهم بمثل هذا القول إن الكتاب الذي بأيديهم يومنا هذا قد غيروه وبدلوه وكتبوا فيه ما أرادوا واشتهوا هل كانوا يجوزون كلامنا
قال الحاكي عنهم فقلت لهم هذا ما لا يجوز ولا يمكن لأحد أن يقوله ولا يمكن تغييره ولا تبديل حرف واحد منه
فقالوا سبحان الله العظيم إذا كان الكتاب الذي لهم الذي هو باللسان الواحد لا يمكن تبديله ولا تغيير حرف واحد منه فكيف يمكن تغيير كتبنا التي هي مكتوبة باثنين وسبعين لسانا وفي كل لسان منها كذا وكذا ألف نسخة وجاز عليها إلى مجيء محمد أكثر من ستمائة سنة وصارت في أيدي الناس يقرؤونها باختلاف ألسنتهم على تشاسع بلدانهم
فمن الذي تكلم باثنين وسبعين لسانا ومن هو الذي حكم على الدنيا جميعها ملوكها وقساوستها وغالبها حتى حكم على جميعها في أقطار الأرض وجمعها في أربع زوايا العالم حتى يغيرها
وإن كان غير بعضها وترك بعضها فهذا لا يمكن أن يكون لأن كلها قول واحد ولفظ واحد في جميع الألسن فهذا ما لا يجوز لقائل أن يقوله أبدا
والجواب أن يقال
أولا هذا الكلام منهم يدل على غاية جهلهم بما يقوله المسلمون في كتبهم وتبين أنهم لفرط جهلهم يظنون أن المسلمين يقولون مقالة لا يخفى فسادها على من له أدنى عقل ومعرفة والمسلمون لا يشك أحد من الأمم أنهم أعظم الأمم عقولا وأفهاما وأتمهم معرفة وبيانا وأحسن قصدا وديانة وتحريا للصدق والعدل وأنهم لم يحصل في النوع الإنساني أمة أكمل منهم ولا ناموس أكمل من الناموس الذي جاء به نبيهم محمد وحذاق الفلاسفة معترفون لهم بذلك وأنه لم يقرع العالم ناموس أكمل من هذا الناموس
وقد جمع الله للمسلمين جميع طرق المعارف الإنسانية وأنواعها فإن الناس نوعان
أهل كتاب وغير أهل كتاب كالفلاسفة والهنود
والعلم ينال بالحس والعقل وما يحصل بهما وبوحي الله إلى أنبيائه الذي هو خارج عما يشترك فيه الناس من الحس والعقل
ولهذا قيل الطرق العلمية البصر والنظر والخبر الحس والعقل والوحي الحس والقياس والنبوة
فأهل الكتاب امتازوا عن غيرهم بما جاءهم من النبوة مع مشاركتهم لغيرهم فيما يشترك فيه الناس من العلوم الحسية والعقلية
والمسلمون حصل لهم من العلوم النبوية والعقلية ما كان للأمم قبلهم وامتازوا عنهم بما لا تعرفه الأمم وما اتصل إليهم من عقليات الأمم هذبوه لفظا ومعنى حتى صار أحسن مما كان عندهم ونفوا عنه من الباطل وضموا إليه من الحق ما امتازوا به على من سواهم
وكذلك العلوم النبوية أعطاهم الله ما لم يعطه أمة قبلهم وهذا ظاهر لمن تدبر القرآن مع تدبر التوراة والإنجيل فإنه يجد من فضل علم القرآن ما لا يخفى إلا على العميان
فكيف يظن مع هذا بالمسلمين أن يخفى عليهم فساد هذا الكلام الذي ظنه بهم هؤلاء الجهال
ويقال ثانيا الجواب من وجوه
أحدها أن المسلمين لم يدعوا أن هذه الكتب حرفت بعد انتشارها وكثرة النسخ بها ولكن جميعهم متفقون على وقوع التبديل والتغيير في كثير من معانيها وكثير من أحكامها
وهذا مما تسلمه النصارى جميعهم في التوراة والنبوات المتقدمة فإنهم يسلمون أن اليهود بدلوا كثيرا من معانيها وأحكامها
ومما تسلمه النصارى في فرقهم أن كل فرقة تخالف الأخرى فيما تفسر به الكتب المتقدمة ومما تسلمه اليهود أنهم متفقون على أن النصارى تفسر التوراة والنبوات المتقدمة على الإنجيل بما يخالف معانيها وأنها بدلت أحكام التوراة فصار تبديل كثير من معاني الكتب المتقدمة متفقا عليه بين المسلمين واليهود والنصارى
وأما تغيير بعض ألفاظها ففيه نزاع بين المسلمين
والصواب الذي عليه الجمهور أنه بدل بعض ألفاظها كما ذكر ذلك في مواضعه
الوجه الثاني أن قياسهم كتبهم على القرآن وأنه كما
لا تسمع دعوى التبديل فيه فكذلك في كتبهم قياس باطل في معناه ولفظه
أما معناه فكل ما أجمع المسلمون عليه من دينهم إجماعا ظاهرا معروفا عندهم فهو منقول عن الرسول نقلا متواترا بل معلوما بالاضطرار من دينه فإن الصلوات الخمس والزكاة وصيام شهر رمضان وحج البيت العتيق ووجوب العدل والصدق وتحريم الشرك والفواحش والظلم بل وتحريم الخمر والميسر والربا وغير ذلك منقول عن النبي نقلا متواترا كنقل ألفاظ القرآن الدالة على ذلك
ومن هذا الباب عموم رسالته وأنه مبعوث إلى جميع الناس أهل الكتاب وغير أهل الكتاب بل إلى الثقلين الإنس والجن وأنه كان يكفر اليهود والنصارى الذين لم يتبعوا ما أنزل الله عليه كما كان يكفر غيرهم ممن لم يؤمن بذلك وأنه جاهدهم وأمر بجهادهم
فالمسلمون عندهم منقولا عن نبيهم نقلا متواترا ثلاثة أمور لفظ القرآن ومعانيه التي أجمع المسلمون عليها والسنة المتواترة وهي الحكمة التي أنزلها الله عليه غير القرآن
كما قال تعالى
كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة
وقال تعالى
وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة
وقال تعالى
واذكر نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة
وقال تعالى
واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة
وبذلك دعا الخليل حيث قال لما بنى هو وإسماعيل الكعبة
بأرض فاران المذكورة في الكتاب الأول قال تعالى
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وغسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وبينا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آيتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويركيهم إنك انت العزيز الحكيم
وقال ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه
فالمسلمون عندهم نقل متواتر عن نبيهم بألفاظ القرآن ومعانيه المتفق عليها وبالسنة المتواترة عنه مثل كون الظهر والعصر والعشاء أربعا وكون المغرب ثلاث ركعات وكون الصبح ركعتين ومثل الجهر في العشائين والفجر والمخافتة في الظهر والعصر ومثل كون الركعة فيها سجدتين وكون الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة سبعا ورمي الجمرات كل واحدة سبع حصيات وأمثال ذلك
وأيضا فالمسلمون يحفظون القرآن في صدورهم حفظا يستغنون به عن المصاحف كما ثبت في الصحيح الذي رواه مسلم عن النبي أنه قال إن ربي قال لي إني منزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما ويقظانا
يقول ولو غسل بالماء من المصاحف لم يغسل من القلوب كالكتب التقدمة فإنه لو عدمت نسخها لم يوجد من ينقلها نقلا متواترا محفوظة في الصدور
والقرآن ما زال محفوظا في الصدور نقلا متواترا حتى لو أراد مريد أن يغير شيئا من المصاحف وعرض ذلك على صبيان المسلمين
لعرفوا أنه قد غير المصحف لحفظهم للقرآن من غير أن يقابلوه بمصحف وأنكروا ذلك
وأهل الكتاب يقدر الإنسان منهم أن يكتب نسخا كثيرا من التوراة والإنجيل ويغير بعضها ويعرضها على كثير من علمائهم ولا يعرفون ما غير منها إن لم يعرضوه على النسخ التي عندهم
ولهذا لما غير من نسخ التوراة راج ذلك على طوائف منهم ولم يعلموا التغيير
وأيضا فالمسلمون لهم الأسانيد المتصلة بنقل العدول الثقات لدقيق الدين كما نقل العامة جليله وليس هذا لأهل الكتاب
وأيضا فما ذكروه من أن كتبهم مكتوبة باثنين وسبعين لسانا هو أقرب إلى التغيير من الكتاب الواحد باللغة الواحدة فإن هذا مما يحفظه الخلق الكثير فلا يقدر أحد أن يغيره
وأما الكتب المكتوبة باثنين وسبعين لسانا فإذا قدر أن بعض النسخ الموجودة ببعض الألسنة غير بعض ما فيها لم يعلم ذلك سائر أهل الألسن الباقية بل ولم يعلم بذلك سائر أهل النسخ الأخرى فالتغيير فيها ممكن كما يمكن في نظائر ذلك
وما ادعوه من تعذر جمع جميع النسخ هو حجة عليهم فإن
ذلك إذا كان متعذرا لم يمكن الجزم باتفاق جميع النسخ لواحد حتى يشهد بأنها كلها متفقة لفظا ومعنى بل إمكان التغيير فيها أيسر من إمكان الشهادة باتفاقها
ولهذا لا يمكن أحدا تغيير القرآن مع كونه محفوظا في القلوب منقولا بالتواتر مع أنا لا نشهد لجميع المصاحف بالاتفاق بل قد يقع في بعض نسخ المصاحف ما هو غلط يعلمه حفاظ القرآن ولا يحتاجون إلى اعتبار ذلك بمصحف آخر
وتلك الكتب لا يحفظ كلا منها قوم من أهل التواتر حتى تعتبر النسخ بها ولكن لما كان الأنبياء عليهم السلام فيهم موجودين كانوا هم المرجع للناس فيما يعتمدون عليه إذا غير بعض الناس شيئا من الكتب فلما انقطعت النبوة فيهم أسرع فيهم التغيير
فلهذا بدل كثير من النصارى كثيرا من دين المسيح عليه السلام بعد رفعه بقليل من الزمان وصاروا يبدلون شيئا بعد شيء وتبقى فيهم طائفة متمسكة بدين الحق إلى أن بعث الله محمدا
وقد بقي من أولئك الذين على الدين الحق طائفة قليلة كما في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار المجاشعي عن النبي أنه قال
إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ماتوا قبيل مبعثه
وقد أدرك سلمان الفارسي وكان قد تنصر بعد أن كان مجوسيا طائفة ممن كانوا متبعين لدين المسيح عليه السلام واحدا بالموصل وآخر بنصيبين وآخر بعمورية
وكل منهم يخبره بأنه لم يبق على دين المسيح عليه
السلام إلا قليل إلى أن قال له آخرهم لم يبق عليه أحد وأخبره أنه يبعث نبي بدين إبراهيم من جهة الحجاز فكان ذلك سبب هجرة سلمان إليه وإيمانه به
فالدين الذي اجتمع عليه المسلمون اجتماعا ظاهرا معلوما هو منقول عن نبيهم نقلا متواترا نقلوا القرآن ونقلوا سنته وسنته مفسرة للقرآن مبينة له كما قال تعالى له
وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم
فبين ما أنزل الله لفظه ومعناه فصار معاني القرآن التي اتفق عليها المسلمون اتفاقا ظاهرا مما توارثته الأمة عن نبيها كما توارثت عنه ألفاظ القرآن فلم يكن ولله الحمد فيما اتفقت عليه الأمة شيء محرف مبدل من المعاني فكيف بألفاظ تلك المعاني
فإن نقلها والاتفاق عليها أظهر منه في الألفاظ فكان الدين الظاهر للمسلمين الذي اتفقوا عليه مما نقلوه عن نبيهم لفظه ومعناه فلم يكن فيه تحريف ولا تبديل لا للفظ ولا للمعنى بخلاف التوراة والإنجيل فإن من ألفاظها ما بدل معانيه وأحكامه اليهود والنصارى أو مجموعهما تبديلا ظاهرا مشهورا في عامتهم كما
بدلت اليهود مافي الكتب المتقدمة من البشارة بالمسيح ومحمد صلى الله عليهما وسلم وما في التوراة من الشرائع وأمره في بعض الأخبار
وكما بدلت النصارى كثيرا مما في التوراة والنبوات من الأخبار ومن الشرائع التي لم يغيرها المسيح فإن ما نسخه الله على لسان المسيح من التوراة يجب اتباع المسيح فيه
وأما ما بدل بعد المسيح مثل استحلال احم الخنزير وغيره مما حرمه الله ولم يبحه المسيح ومثل إسقاط الختان ومثل الصلاة إلى المشرق وزيادة الصوم ونقله من زمان إلى زمان واتخاذ الصور في الكنائس وتعظيم الصليب واتباع الرهبانية فإن هذه كلها شرائع لم يشرعها نبي من الأنبياء لا المسيح ولا غيره خالفوا بها شرع الله الذي بعث به الأنبياء من غير أن يشرعها الله على لسان نبي
الوجه الثالث أن القرآن قد ثبت بالنقل المتواتر المعلوم بالضرورة للموافق والمخالف أن محمدا كان يقول إنه كلام الله لا كلامه وأنه مبلغ له عن الله وكان يفرق بين القرآن وبين ما يتكلم به من السنة وإن كان ذلك مما يجب اتباعه فيه تصديقا وعملا
فإن الله أنزل عليه الكتاب والحكمة وعلم أمته الكتاب
والحكمة كما قال تعالى
لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة
وقال تعالى
واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به
وقال تعالى
وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم
وقال تعالى
واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة
وقال تعالى عن الخليل وابنه إسماعيل
سورة البقرة الآيتان 128 129
وقال النبي
ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه فكان يعلم أمته الكتاب وهو القرآن العزيز الذي أخبرهم أنه كلام الله لا كلامه وهو الذي قال عنه
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا
وهو الذي شرع لأمته أن تقرأه في صلاتهم فلا تصح صلاة إلا به وعلمهم مع ذلك الحكمة التي أنزلها الله عليه وفرق بينها وبين القرآن من وجوه
منها أن القرآن معجز
ومنها أن القرآن هو الذي يقرأ في الصلاة دونها
ومنها أن ألفاظ القرآن العربية منزلة على ترتيب الآيات فليس لأحد أن يغيرها باللسان العربي باتفاق المسلمين ولكن يجوز تفسيرها باللسان العربي وترجمتها بغير العربي
وأما تلاوتها بالعربي بغير لفظها فلا يجوز باتفاق المسلمين بخلاف ما علمهم من الحكمة فإنه ليس حكم ألفاظها حكم ألفاظ القرآن
ومنها أن القرآن لا يمسه إلا طاهر ولا يقرأه الجنب كما دلت عليه سنته عند جماهير أمته بخلاف ما ليس بقرآن
والقرآن تلقته الأمة منه حفظا في حياته وحفظ القرآن جميعه في حياته غير واحد من أصحابه وما من الصحابة إلا من حفظ بعضه وكان يحفظ بعضهم ما لا يحفظه الآخر فهو جميعه منقول سماعا منه بالنقل المتواتر وهو يقول إنه مبلغ له عن الله وهو كلام الله لا كلامه
وفي القرآن ما يبين أنه كلام الله نصوص كثيرة وكان الذين رأوا محمدا ونقلوا ما عاينوه من معجزاته وأفعاله وشريعته وما سمعوه من القرآن وحديثه ألوفا مؤلفة أكثر من مائة ألف رأوه وآمنوا به
وأما الأناجيل الذي بأيدي النصارى فهي أربعة أناجيل إنجيل متى ويوحنا
ولوقا ومرقس وهم متفقون على أن لوقا ومرقس لم يريا المسيح وإنما رآه متى ويوحنا وأن هذه المقالات الأربعة التي يسمونها الإنجيل وقد يسمون كل واحد منهم إنجيلا إنما كتبها هؤلاء بعد أن رفع المسيح فلم يذكروا فيها أنها كلام الله ولا أن المسيح بلغها عن الله بل نقلوا فيها أشياء من كلام المسيح وأشياء من أفعاله ومعجزاته
وذكروا أنهم لم ينقلوا كل ما سمعوه منه ورأوه فكانت من جنس ما يرويه أهل الحديث والسير والمغازي عن النبي من أقواله وأفعاله التي ليست قرآنا
فالأناجيل التي بأيديهم شبه كتاب السيرة وكتب الحديث أو مثل هذه الكتب وإن كان غالبها صحيحا
وما قاله عليه السلام فهو مبلغ له عن الله يجب فيه تصديق خبره وطاعة أمره كما قال الرسول من السنة فهو يشبه ما قاله الرسول من السنة فإن منها ما يذكر الرسول أنه قول الله كقوله
يقول الله تعالى من عادى لي وليا فقد آذنت بالحرب ونحو ذلك
ومنها ما يقوله هو ولكن هو أيضا مما أوحاه الله إليه فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله فهكذا ما ينقل في الإنجيل وهو من هذا النوع فإنه كان أمرا من المسيح فأمر المسيح أمر الله ومن أطاع المسيح فقد أطاع الله
وما أخبر به المسيح عن الغيب فالله أخبره به فإنه معصوم أن يكذب فيما يخبر به
وإذا كان الإنجيل يشبه السنة المنزلة فإنه يقع في بعض ألفاظها غلط كما يقع في كتب السيرة وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجه ثم هذه الكتب قد اشتهرت واستفاضت بين
المسلمين فلا يمكن أحدا بعد اشتهارها وكثرة النسخ بها أن يبدلها كلها
لكن في بعض ألفاظها غلط وقع فيها قبل أن تشتهر فإن المحدث وإن كان عدلا فقد يغلط لكن ما تلقاه المسلمون بالقبول والتصديق والعمل من الأخبار فهو مما يجزم جمهور المسلمين بصدقه عن نبيهم
هذا مذهب السلف وعامة الطوائف كجمهور الطوائف الأربعة وجمهور أهل الكلام من الكلابية والكرامية والأشعرية وغيرهم لكن ظن بعض أهل الكلام أنه لا يجزم بصدقها لكون الواحد قد يغلط أو يكذب وهذا الظن إنما يتوجه في الواحد الذي لم يعرف صدقه وضبطه
أما إذا عرف صدقه وضبطه إما بالمعجزات كالأنبياء وإما بتصديق النبي له فيما يقول وإما باتفاق الأمة المعصومة على صدقه واتفاقهم على العمل بخبره أو اتفاقهم على قبول خبره وإقراره وذكره من غير نكير أو ظهور دلائل وشواهد وقرائن احتفت بخبره ونحو ذلك من الدلائل على صدق المخبر فهذه يجب معها الحكم بصدقه وأنه لم يكذب ولم يغلط وإن كان خبره لو تجرد عن تلك الدلائل أمكن كذبه أو غلطه كما أن الخبر المجرد لا يجزم بكذبه إلا بدليل يدل على ذلك إما قيام دليل عقلي قاطع أو سمعي قاطع على أنه بخلاف مخبره فيجزم ببطلان خبره وحينئذ فالمخبر إما كاذبا أو غالطا وقد يعلم أحدهما بدليل
فالمسلمون عندهم من الأخبار عن نبيهم ما هو متواتر وما اتفقت الأمة المعصومة على تصديقه وما قامت دلائل صدقه من غير هذه الجهة مثل أن يخبر واحد أو اثنان أو ثلاثة بحضرة جمع كثير لا يجوز أن يتواطئوا على الكذب بخبر يقولون إن أولئك عاينوه وشاهدوه فيقرونهم على هذا ولا يكذب به منهم أحد فيعلم بالعادة المطردة أنه لو كان كاذبا لامتنع اتفاق أهل التواتر على السكوت عن تكذيبه كما يمتنع اتفاقهم على تعمد الكذب
وإذا نقل الواحد والاثنان ما توجب العادة اشتهاره وظهوره ولم يظهر ونقلوه مستخفين بنقله لم ينقلوه على رؤوس الجمهور علم أنهم كذبوا فيه
ودلائل صدق المخبر وكذبه كثيرة متنوعة ليس هذا موضع بسطها ولكن المقصود هنا أن المسلمين تواتر عندهم عن نبيهم ألفاظ القرآن ومعانيه المجمع عليها والسنة المتواترة وعندهم عن نبيهم أخبار كثيرة معلومة الصدق بطرق متنوعة كتصديق الأمة المعصومة ودلالة العادات وغير ذلك وهم يحفظون القرآن في صدورهم لا يحتاجون في حفظه إلى كتاب مسطور فلو عدمت المصاحف من الأرض لم يقدح ذلك فيما حفظوه
بخلاف أهل الكتاب فإنه لو عدمت نسخ الكتب لم يكن عندهم به نقل متواتر بألفاظها إذ لا يحفظها إن حفظها إلا قليل لا يوثق بحفظهم فلهذا كان أهل الكتاب بعد انقطاع النبوة عنهم يقع فيهم من تبديل الكتب إما تبديل بعض أحكامها ومعانيها وإما تبديل بعض ألفاظها ما لم يقوموا بتقويمه
ولهذا لا يوجد فيهم الإسناد الذي للمسلمين ولا لهم كلام في نقلة العلم وتعديلهم وجرحهم ومعرفة أحوال نقلة العلم ما للمسلمين ولا قام دليل سمعي ولا عقلي على أنهم لا يجتمعون على خطأ بل قد علم أنهم اجتمعوا على الخطأ لما كذبوا المسيح
ثم كذبوا محمدا فإذا كانت الكتب المنقولة عن الأنبياء من جنس الكتب المنقولة عن محمد ولم تكن متواترة عنهم ولم يكن تصديق غير المعصوم حجة لم يكن عندهم من
العلم بالتمييز بين الصدق والكذب ما عند المسلمين
فهذه الأناجيل التي بأيدي النصارى من هذا الجنس فيها شيء كثير من أقوال المسيح وأفعاله ومعجزاته وفيها ما هو غلط عليه بلا شك والذي كتبها في الأول إذا لم يكن ممن يتهم بتعمد الكذب فإن الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة لا يمتنع وقوع الغلط والنسيان منهم لا سيما ما سمعه الإنسان ورآه ثم حدث به بعد سنين كثيرة فإن الغلط في مثل هذا كثير ولم يكن هناك أمة معصومة يكون تلقيها لها بالقبول والتصديق موجبا للعلم بها لئلا تجتمع الأمة المعصومة على الخطأ والحواريون كلهم اثنا عشر رجلا
وقصة الصلب مما وقع فيها الاشتباه وقد قام الدليل على أن المصلوب لم يكن هو المسيح عليه السلام بل شبهه وهم ظنوا أنه المسيح والحواريون لم ير أحد منهم المسيح مصلوبا بل أخبرهم بصلبه بعض من شهد ذلك من اليهود
فبعض الناس يقولون إن أولئك تعمدوا الكذب وأكثر الناس يقول اشتبه عليهم ولهذا كان جمهور المسلمين يقولون في قوله ولكن شبه لهم عن أولئك ومن قال بالأول جعل الضمير في شبه
لهم عن السامعين لخبر أولئك فإذا جاز أن يغلطوا في هذا ولم يكونوا معصومين في نقله جاز أن يغلطوا في بعض ما ينقلونه عنه وليس هذا مما يقدح في رسالة المسيح ولا فيما تواتر نقله عنه بأنه رسول الله الذي يجب اتباعه سواء صلب أو لم يصلب وما تواتر عنه فإنه يجب الإيمان به سواء صلب أو لم يصلب
والحواريون مصدقون فيما ينقلونه عنه لا يتهمون بتعمد الكذب عليه لكن إذا غلط بعهضم في بعض ما ينقله لم يمنع ذلك أن يكون غيره معلوما لا سيما إذا كان الذي غلط فيه مما تبين غلطه فيه في مواضع أخر
وقد اختلف النصارى في عامة ما وقع فيه الغلط حتى في الصلب فمنهم من يقول المصلوب لم يكن المسيح بل الشبه كما يقوله المسلمون ومنهم من يقر بعبوديته لله وينكر الحلول والاتحاد كالأريوسية ومنهم من ينكر الاتحاد وإن أقر بالحلول كالنسطورية
وأما الشرائع التي هم عليها فعلماؤهم يعلمون أن أكثرها ليس عن المسيح عليه السلام فالمسيح لم يشرع لهم الصلاة إلى المشرق ولا الصيام الخمسين ولا جعله في زمن الربيع ولا عيد الميلاد والغطاس وعيد الصليب وغير ذلك من
أعيادهم بل أكثر ذلك مما ابتدعوه بعد الحواريين مثل عيد الصليب فإنه مما ابتدعته هيلانة الحرانية أم قسطنطين وفي زمن قسطنطين غيروا كثيرا من دين المسيح والعقائد والشرائع فابتدعوا الأمانة التي هي عقيدة إيمانهم وهي عقيدة لم ينطق بها شيء من كتب الأنبياء التي هي عندهم ولا هي منقولة عن أحد الأنبياء ولا عن أحد من الحواريين الذين صحبوا المسيح بل ابتدعها لهم طائفة من أكابرهم قالوا كانوا ثلاث مائة وثمانية عشر
واستندوا في ذلك إلى ألفاظ متشابهة في الكتب وفي الكتب ألفاظ محكمة تناقض ما ذكروه كما قد بسط في موضع آخر وكذلك عامة شرائعهم التي وضعوها في كتاب القانون بعضها منقول عن الأنبياء وبعضها منقول عن الحواريين وكثير منها مما ابتدعوه ليست منقولة عن أحد من الأنبياء ولا عن الحواريين وهم يجوزون لأكابر أهل العلم والدين أن يغيروا ما رأوه من الشرائع ويضعوا شرعا جديدا فلهذا كان أكثر شرعهم مبتدعا لم ينزل به كتاب ولا شرعه نبي
فصل
وأما قولهم كيف يمكن تغيير كتبنا التي هي مكتوبة باثنين وسبعين لسانا وفي كل لسان منها كذا وكذا ألف مصحف ومضى عليها إلى مجيء محمد أكثر من ستمائة سنة
فيقال أما بعد انتشارها هذا الانتشار فلم يقل المسلمون بل ولا طائفة معروفه منهم أن ألفاظ جميع كل نسخة في العالم غيرت لكن جمهور المسلمين الذين يقولون إن في ألفاظها ما غير إنما يدعون تغيير بعض ألفاظها قبل المبعث أو تغيير بعض النسخ بعد المبعث لا تغيير جميع النسخ فيعض الناس يقول إن ذلك التغيير وقع في أول الأمر ويقول بعضهم إن منها ما غير بعد مبعث محمد ولا يقولون إنه غير كل نسخة في العالم بل يقولون غير بعض النسخ دون البعض وظهر عند كثير من الناس النسخ المبدلة دون التي لم تبدل
والنسخ التي لم تبدل هي موجودة عند بعض الناس
ومعلوم أن هذا لا يمكن نفيه فإنه لا يمكن أحدا أن يعلم أن كل
نسخة في العالم بكل لسان مطابق لفظها سائر النسخ بسائر الألسنة إلا من أحاط علما بذلك وهم قد سلموا أن أحدا لا يمكنه ذلك
وأما من ذكر أن التغيير وقع في أول الأمر فهم يقولون إنما أخذت الأناجيل عن أربعة اثنان منهم لم يريا المسيح بل إنما رآه اثنان من نقلة الإنجيل متى ويوحنا
ومعلوم إمكان التغير في ذلك
وأما قولهم أنها مكتوبة باثنين وسبعين لسانا فمعلوم باتفاق النصارى أن المسيح لم يكن يتكلم إلا بالعبرية كسائر أنبياء بني إسرائيل وأنه كان مختونا ختن بعد السابع كما يختن بنو إسرائيل وأنه كان يصلي إلى قبلتهم لم يكن يصلي إلى الشرق ولا أمر بالصلاة إلى الشرق
ومن قال إن لسانه كان سريانيا كما يظنه بعض الناس فهو غالط فالكلام المنقول عنه في الأناجيل إنما تكلم به عبريا ثم ترجم من تلك اللغة إلى غيرها
والترجمة يقع فيها الغلط كثيرا كما وجدنا في زماننا من يترجم التوراة من العبرية إلى العربية ويظهر في الترجمة من الغلط ما يشهد به الحذاق الصادقون ممن يعرف اللغتين
والنصارى يقولون إنما كتبت بأربع لغات بالعبرية
والرومية واليونانية والسريانية
وأما قولهم إنها كتبت باثنين وسبعين لغة فهذا إن كان صحيحا فإنما كتبت بعد أن كتبت تلك الأربعة فإذا كان الغلط وقع في مواضع من تلك الأربعة لم يرفعه بعد ذلك كتابتها باثنين وسبعين لغة فإن المسلمين لا يقولون أنها كتبت باثنين وسبعين لغة غير لفظها في جميع الألسن لاثنين وسبعين لغة في كل نسخة من ذلك
وإنما يقال التغيير وقع قبل ذلك كما يقال في سائر ما ورد
عن المسيح وموسى ومحمد عليهم صلوات الله وسلامه من الحديث مثل سيرة ابن إسحاق وأحاديث السنن والمساند المأثورة عن النبي فإن في ا لعالم بكل كتاب منها نسخ كثيرة لا يمكن أن يغير منها فصل طويل ولكن في نفس السيرة وقع غلط في مواضع وأحاديث وقعت في السنن هي غلط في الأصل فاشتهار النسخ بها بعد ذلك لا يمنع وقوع الغلط في الأصل وهذه كتب التفسير والفقه والدقائق ما من كتاب إلا وبه نسخ كثيرة في العالم لا يمكن تغيير فصل طويل منها وفيها أحاديث غلط في الأصل
والأناجيل التي بأيدي النصارى تشبه هذا ولهذا أمروا أن يحكموا بما فيها فإن فيها أحكام الله وعامة ما فيها من الأحكام لم يبدل لفظه وإنما بدلت بعض ألفاظ الخبريات وبعض معاني الأمريات كما نؤمر نحن أن نعمل بأحاديث الأحكام المعروفة عن النبي فإن العلماء اعتنوا بضبطها أكثر من اعتنائهم بضبط الخبريات كأحاديث الزهد والقصص والفضائل ونحو ذلك إذ حاجة الأمم إلى معرفة الأمر والنهي أكثر من حاجتهم إلى معرفة التفاصيل بالخبريات التي يكتفى بالإيمان المجمل بها
وأما الأمر والنهي فلا بد من معرفته على وجه التفصيل إذ العمل بالمأمور لا يكون إلا مفصلا والمحظور الذي يجب اجتنابه لا بد أن يميز بينه بين غيره كما قال تعالى
وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون
والنصارى لا يحتاجون عند أنفسهم إلى هذا فإنه لا يجب عندهم أن يتمسكوا بشرع منقول عن المسيح عليه السلام وعندهم لأكابرهم أن يشرعوا دينا لم يشرعه المسيح ويقولون ما شرعه هؤلاء فقد شرعه المسيح فلم يكن لهم عناية ولا معرفة بشرع المسيح كما للمسلمين عناية ومعرفة بشرع محمد
فصل
وأما التوراة فمن المعلوم عند المسلمين واليهود والنصارى أن بيت المقدس خرب الخراب الأول وجلا أهله منه وسبوا ولم يكن هناك من التوراة نسخ كثيرة ظاهرة بل إنما أخذت عن نفر قليل
كما يقولون إن عزيرا أملاها وأنهم وجدوا نسخة أخرى فقابلوها بها والمقابلة تحصل باثنين وقد يغلط أحدهما وهم يذكرون
أن من الملوك من أمر اثنين وسبعين حبرا منهم بنقلها واعتبر بعض تلك النسخ ببعض وهذا إذا كان صدقا لا يمنع أن يكون الغلط وقع في بعض ألفاظها قبل ذلك إلا أن يثبت أنها مأخوذة عن نبي معصوم أو أقر جميع ألفاظها نبي معصوم
فما قاله المعصوم فهو حق وما ثبت بالنقل المتواتر فهو حق
وهؤلاء القائلون إنه وقع التغيير في بعض ألفاظها في ذلك الزمان يقولون لم تؤخذ عن نبي معصوم ولا نقلت بالتواتر
ومن نازع من المسلمين وأهل الكتاب يقولون أخذت عن العزير وهو نبي معصوم وهذا مما يحتاج المثبت فيه والنافي إلى تحقيقه
وإذا قالت النصارى فالمسيح عليه السلام أقرها قيل المسيح عليه السلام لم يمكن أن يلزمهم بما أوجبه الله عليهم من الإيمان به وطاعته فكيف كان يمكنه أن يغير نسخ التوراة التي عندهم مع كثرتها وهم قد طلبوا قتله وصلبه لعجزه وضعفه وصلبوا شبيهه كما يقوله المسلمون أو صلبوه نفسه كما يقول النصارى فكيف كان يمكنه أن يصلح ما غير منها
وأما من بعد المسيح فليس معصوما والمسيح غير بعض
أحكامها وأقر أكثرها والأحكام إنما يدعي المسلمون فيها النسخ وتبديلها بالاعتقاد بخلاف موجبها والعمل بذلك لا يحتاجون إلى دعوى تبديل ألفاظها كما بدلوا شريعة الرجم بغيرها وهو مكتوب في التوراة
بخلاف الخبريات فإن هذه يقول أكثر المسلمين إن التغيير وقع في بعض ألفاظها
وأما النبوات المنقولة عن الاثنين وعشرين نبيا فهذه لا تعلم منها نبوة واحدة تواترت جميع ألفاظها بل أحسن أحوالها أن تكون بمنزلة الإنجيل وهو بمنزلة ما ينقل من أقوال الأنبياء وسيرهم كسيرة ابن إسحاق أو بعض كتب المساند والسنن التي ينقل فيها ما ينقله الناقلون من أقوال النبي وأفعاله وأكثره صدق وبعضه غلط
ولكن هذه الأمة حفظ الله لها ما أنزله كما قال تعالى
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون
فما في تفسير القرآن أو نقل الحديث أو تفسيره من غلط فإن الله يقيم له من الأمة من يبينه ويذكر الدليل على غلط الغالط وكذب الكاذب فإن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة ولا يزال فيها طائفة ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة إذ كانوا آخر الأمم فلا نبي بعد نبيهم بعدهم ولا كتاب بعد كتابهم
وكانت الأمم قبلهم إذا بدلوا وغيروا بعث الله نبيا يبين لهم ويأمرهم وينهاهم ولم يكن بعد محمد نبي وقد ضمن الله أن يحفظ ما أنزله من الذكر وأن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة بل أقام الله لهذه الأمة في كل عصر من يحفظ به دينه من أهل العلم والقرآن وينفي به تحريف الغالين وانتحال المضلين وتأويل الجاهلين
فصل
وأما من قال إنه غير بعض ألفاظها بعد مبعث محمد فهؤلاء يقولون إنه كان في التوراة والإنجيل وغيرهما ألفاظ صريحة بأمور
منها اسم محمد وأنه عمد بعض أهل الكتاب فغيروا بعض الألفاظ في النسخ التي كانت عندهم
لا يقولون إن هؤلاء غيروا كل نسخة كانت على وجه الأرض لكن غيروا بعض ألفاظ النسخ وكتب الناس من تلك النسخ المغيرة نسخا كثيرة انتشرت فصار أكثر ما يوجد عند كثير من أهل الكتاب هو من تلك النسخ المغيرة
وفي العالم نسخ أخرى لم تغير فذكر كثير من الناس أنه رآها وقرأها وفي تلك النسخ ما ليس في النسخ الأخرى ومما يدل على ذلك أنك في هذا الزمان إذا أخذت نسخ التوراة الموجودة عند اليهود والنصارى والسامرة وجدت بينهما اختلافا في مواضع متعددة
وكذلك نسخ الإنجيل وكذلك نسخ الزبور مختلفة اختلافا متباينا بحيث لا يعقل العاقل أن جميع نسخ التوراة الموجودة متفقة على لفظ
واحد ولا يعلم أن جميع نسخ الإنجيل متفقة على لفظ واحد ولا يعلم أن جميع نسخ الزبور متفقة على لفظ واحد فضلا عن سائر النبوات
ومعلوم أنه لا يمكن أهل الكتاب إقامة حجة على أن جميع النسخ بجميع اللغات في زوايا الأرض متفقة على لفظ واحد في جميع ما هو موجود من جميع النبوات والحجة التي احتجوا بها على تعذر تغييرها كلها تدل على تعذر العلم بتساويها كلها
فإذا قالوا فمن هو الذي تكلم باثنين وسبعين لسانا ومن هو الذي حكم على الدنيا كلها ملوكها وقساوستها وعلمائها حتى حكم على جميع من بأقطار الأرض وجمعها من أربع زوايا الأرض حتى يغيرها
قيل لهم ومن الذي يعلم اثنين وسبعين لغة ومن هو الذي حكم على الدنيا ملوكها وقساوستها وعلمائها حتى حكم على جميع من بأقطار الأرض وجمعها من أربع زوايا الأرض وأحضر كل نسخة موجودة في جميع الأرض وقابل كل نسخة موجودة في الأرض بجميع النسخ فوجد جميع ألفاظ جميع النسخ التي باثنين وسبعين لسانا من جميع أقطار الأرض لفظا متفقا لم يختلف ألفاظها
فإن دعوى العلم بهذا ممتنع أعظم من امتناع دعوى تغييرها فإنه
إن أمكن أحدا أن يجمع جميع النسخ كانت قدرته على تغيير بعض ألفاظها كلها أيسر عليه من مقابلة كل ما في نسخة بجميع ما في سائر النسخ
فإنا إذا أحضرنا بكتاب من الكتب عشرة نسخ كان تغيير بعض ألفاظ العشرة أيسر علينا من مقابلة كل واحد من العشرة بالتسعة الباقية إذ المقابلة يحتاج فيها إلى معرفة جميع ألفاظ كل نسخة ومساواتها للأخرى
وأما التغيير فيكفي فيه أن يغير من كل نسخة ما يغيره من الأخرى فإن كان تغيير جميع النسخ ممتنعا في العادة فالعلم باتفاقها أشد امتناعا وإن كان العلم باتفاقها ممكنا فإمكان تغيير بعض ألفاظها أيسر وأيسر
وأما قولهم إن قيل إنه غير بعضها وترك بعضها فهذا لا يمكن أن يكون لأنها كلها قول واحد ولفظ واحد في جميع الألسن
فيقال أما إمكان قول هذا فظاهر لا ينازع فيه عاقل وهو واقع فإنا قد رأينا التوراة التي عند السامرة تخالف توراة اليهود والنصارى حتى في العشر الكلمات
فذكر السامرة فيها من أمر استقبال الطور ما لا يوجد في نسخ اليهود والنصارى وكذلك بين نسخ اليهود والنصارى اختلاف
معروف ونسخ الإنجيل مختلفة ونسخ الزبور مختلفة اختلافا أكثر من ذلك وبكل حال فلا يقدر عاقل أن يقول يمتنع تغيير بعض النسخ
ولكن إذا قالوا لم يغير شيء منها لأن جميعها قول واحد ولفظ واحد في جميع الألسن كانت هذه الدعوى باطلة من وجهين
أحدهما أن دعوى العلم بتساوي جميع النسخ أبلغ من دعوى إمكان تغييرها فإن كان التغيير ممتنعا على جميعها كان علم الواحد بما في جميعها وأنها متماثلة الألفاظ مع اختلاف الألسن أولى بالامتناع
الثاني أن هذا دعوى خلاف الواقع فإن الاختلاف في نسخ التوراة والإنجيل والزبور موجود قد رأيناه ونحن بأعيننا ورآه غيرنا فرأيت عدة نسخ بالزبور يخالف بعضها بعضا اختلافا كثيرا ورأينا بعض ألفاظ التوراة التي ينقلها هذه الطائفة وهي مكتوبة عندهم يدعون أنها هي التوراة الصحيحة المنقولة عندهم بالتواتر تخالف بعض ألفاظ توراة الطائفة الأخرى وكذلك الإنجيل
وبالجملة قولهم هذا لا يمكن أن يكون لأنها كلها قول واحد ولفظ واحد في جميع الألسن تضمن شيئين
تضمن دعوى كاذبة وحجة باطلة فإن قولهم هذا لايمكن مكابرة ظاهرة فإن إمكان تغيير بعض النسخ مما لا ينازع عاقل في إمكانه لكن قد يقول القائل إذا غير بعض النسخ وأظهر ذلك شاع
ذلك فرأى سائر أهل النسخ تلك النسخة مغايرة لنسخهم فأنكروه فإن الهمم والدواعي متوفرة على إنكار ذلك كما يوجد اليوم مثل ذلك لو أراد رجل أن يغير كتابا مشهورا عند الناس به نسخ متعددة فإذا غيره فوصلت تلك النسخة إلى من يعرف ما في تلك النسخ أنكروا ذلك
فيقال هذا يمكن إذا كانت تلك النسخة المغيرة وصلت إلى طائفة يمتنع عليهم مواطأتهم على الكذب فإنه كما يمتنع في الأخبار المتواترة التواطؤ على الكذب فيمتنع التواطؤ على كتمان ما يتعذر كتمانه في العادة
ومعلوم أنه لا يمتنع على الجماعة القليلة التواطؤ على تغيير بعض النسخ والنسخ إنما هي موجودة عند علماء أهل الكتاب وليس عامتهم يحفظ ألفاظها كما يحفظ عوام المسلمين ألفاظ القرآن فإذا قصد طائفة منهم تغيير نسخة أو نسخ عندهم أمكن ذلك ثم إذا تواطأت طائفة أخرى على أن لا يذكروا ذلك أمكن ذلك ولكن إذا كانت الطوائف ممن لا يمكن تواطؤها على الكذب أو الكتمان امتنع ذلك فيهم
وقد رأينا عند أهل الكتاب كتبا يدعون أنها عندهم من النبي بخط علي بن أبي طالب فيها أمور تتعلق بأغراضهم وقد التبس أمرها على كثير من المسلمين وعظموا ما فيها وأعطوا أهل الكتاب ما كتب لهم فيها معتقدين أنهم ممتثلين ما فيها
فلما وصلت إلى من وصلت إليه من علماء المسلمين بينوا كذبها بطرق معلومة بالتواتر مثل ذكرهم فيها شهد بما فيها كعب بن مالك الحبر على النبي يعنون كعب الأحبار
وكعب الأحبار إنما أسلم على عهد عمر بن الخطاب لم يدرك النبي واسمه كعب بن ماتع ولكن في الأنصار كعب بن مالك الشاعر الذي أنزل الله توبته في سورة براءة فظن هؤلاء الجهال أن هذا هو ذاك
ومثل ذكرهم شهادة سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن ذكروا شهادته عام خيبر وقد اتفق أهل العلم أنه مات
عقب غزوة الخندق قبل غزوة خيبر بمدة وأمثال ذلك
وأما حجتهم الداحضة فقولهم أن جميع كتب النبوات التي في العالم من التوراة والإنجيل والزبور والنبوات موجودة باثنين وسبعين لسانا بلفظ واحد وقول واحد فهل يقول عاقل من العقلاء أنه علم ذلك وأنه علم أن كل نسخة من النبوات الأربعة وعشرين بأحد الألسنة الاثنين وسبعين موافقة لكل نسخة في سائر الألسنة ولو ادعى مدع أن كل نسخة من التوراة في العالم باللسان العربي أو كل نسخة من الإنجيل في العالم باللسان العربي أو كل نسخة في العالم من الزبور باللسان العربي موافقة لجميع النسخ العربية الموجودة في زوايا العالم لكان قد ادعى ما لا يعلمه ولا يمكنه علمه فمن أين له ذلك
وهل رأى كل نسخة عربية بهذه الكتب أو أخبره من يعلم صدقه أن جميع النسخ العربية الموجودة في العالم موافقة لهذه النسخة
وكذلك إذا ادعى ذلك في اللسان اليوناني والسرياني والرومي
والعبراني والهندي فإن كان في العالم بكل كتاب من هذه اثنان وسبعون لسانا فدعوى اتفاق نسخ كل لسان من جنس دعوى اتفاق النسخ العربية فكيف إذا ادعى اتفاق النسخ بجميع الألسنة
وهب أنه يمكن أن يقال ذلك في نسخ لسان نقلها أهله والناطقون به فكيف يمكن دعواه في لسان كثر الناطقون به وانتشر أهله
وليس هذا كدعوى اتفاق مصاحف المسلمين بالقرآن فإن القرآن لا يتوقف نقله على المصاحف بل القرآن محفوظ في قلوب ألوف مؤلفة من المسلمين لا يحصي عددهم إلا الله عز و جل فلو عدم كل مصحف في العالم لم يقدح ذلك في نقل لفظ من ألفاظ القرآن بخلاف الكتب المتقدمة فإنه قل أن نجد من أهل الكتاب أحدا يحفظ كتابا من هذه الكتب فقل أن يوجد من اليهود من يحفظ التوراة
وأما النصارى فلا يوجد فيهم من يحفظ التوراة والإنجيل والزبور والنبوات كلها فضلا عن أن يحفظها باثنين وسبعين لسانا وإن وجد ذلك فهو قليل لا يمتنع عليهم لا الكذب ولا الغلط
فتبين أن ما ذكروه من انتشار كتبهم بالألسنة المختلفة هو من أقوى الأمور في عدم العلم بتماثل ما فيها من الألفاظ وأن القرآن إذا كان منقولا بلغة واحدة وذلك اللسان يحفظه خلق كثير من المسلمين فكان ذلك مما يبين أن القرآن لا يمكن أحدا أن يغير شيئا من ألفاظه وإن
أمكن تغيير بعض ألفاظ التوراة والإنجيل عند كثير من أهل الكتاب
والمسلمون لا يدعون أنه غير جميع ألفاظ جميع النسخ بعد مبعث النبي كما ظنه بهم هؤلاء الجهال بل إنما ادعوا ما يسوغه العقل بل ويظهر دليل صدقه ولكن هؤلاء الجهال ادعوا العلم بأن جميع النسخ بجميع الألسنة بجميع الكتب بلفظ واحد فادعوا ما لا يمكن أحدا علمه وادعوا ما يعلم بطلانه
فصل
وقد ظهر الجواب عن قولهم فمن هو الذي تكلم باثنين وسبعين لسان أو من هو الذي حكم على الدنيا جميعها ملوكها وقساوستها وعلمائها حتى حكم على الدنيا جميعها من أربع زوايا العالم حتى غيرها وإن كان مما أمكنه جمعها كلها أو بعضها
فهذا ما لا يمكن إذ جميعها قول واحد ونص واحد واعتقاد واحد ا ه
وقد ظهر الجواب عن ذلك من وجوه
أحدها أنا لم ندع تغييرها بعد صارت بهذه الألسن وانتشرت بها النسخ بل لا ندعي التغيير بعد انتشار النسخ فيما ليس من كتب الأنبياء مثل كتب النحو والطب والحساب والأحاديث والسنن المنقولة عن الأنبياء مما نقل في الأصل نقل آحاد ثم صارت النسخ به كثيرة منتشرة فإن أحدا لا يدعي أنه بعد انتشار النسخ بكتاب في مشارق الأرض ومغاربها حكم إنسان على جميع المعمورة وجمع النسخ
التي بها وغيرها
ولا ادعى أحد مثل ذلك في التوراة والإنجيل وإنما ادعى ذلك فيها لما كانت النسخ قليلة إما نسخة وإما اثنتين وإما أربع ونحو ذلك
أو ادعى تغيير بعض ألفاظ النسخ فإن بعض النسخ يمكن تغييرها
ونسخ التوراة والإنجيل والزبور موجودة اليوم وفي بعضها اختلاف لكنه اختلاف قليل والغالب عليها الاتفاق
وذلك يظهر بالوجه الثاني أن قولهم إن جميعها قول واحد ونص واحد واعتقاد واحد ليس كما قالوه بل نسخ التوراة مختلفة في مواضع
وبين توراة اليهود والنصارى والسامرة اختلاف وبين نسخ الزبور اختلاف أكثر من ذلك وكذلك بين الأناجيل فكيف بنسخ النبوات
وقد رأيت أنا من نسخ الزبور ما فيه تصريح بنبوة محمد باسمه ورأيت نسخة أخرى بالزبور فلم أر
ذلك فيها وحينئذ فلا يمتنع أن يكون في بعض النسخ من صفات النبي ما ليس في أخرى
الوجه الثالث أن التبديل في التفسير أمر لا ريب فيه وبه يحصل المقصود في هذا المقام فإنا نعلم قطعا أن ذكر محمد مكتوب فيما كان موجودا في زمنه من التوراة والإنجيل كما قال تعالى
الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل
ولا ريب أن نسخ التوراة والإنجيل على عهده كانت كثيرة منتشرة في مشارق الأرض ومغاربها فلا بد من أحد الأمرين
إما أن يكون غير اللفظ من بعض النسخ وانتشرت النسخ المغيرة
وإما أن يكون ذكره في جميع النسخ كما استخرجه كثير من العلماء ممن كان من أحبار اليهود والنصارى وممن لم يكن من أحبارهم استخرجوا ذكره والبشارة به في مواضع كثيرة متعددة من التوراة والإنجيل ونبوات الأنبياء كما هو مبسوط في موضع آخر
ومن قال إن ذكره موجود فيها أكثر من هذا وأصرح في بعض النسخ لا يمكن هؤلاء دفعه بأن يقولوا قد اطلعنا على كل نسخة في
العالم بالتوراة والإنجيل في مشارق الأرض ومغاربها فوجدناها على لفظ واحد فإن هذا لا يقوله إلا كذاب فإنه لا يمكن بشرا أن يطلع على كل نسخة في مشارق الأرض ومغاربها كما لا يمكنه أن يغير كل نسخة في مشارق الأرض ومغاربها فلو لم يعلم اختلاف النسخ لم يمكنه الجزم باتفاقها في اللفظ فكيف وقد ذكر الناس المطلعون عليها من اختلاف لفظها ما تبين به كذب من ادعى اتفاق لفظها وكيف يمكن اتفاق لفظها وهي بلغات مختلفة
فصل
قالوا ثم وجدنا في هذا الكتاب ما هو أعظم من هذا برهانا مثل قوله في سورة الشورى
وقل آمنت بما أنزل الله من كتب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير
وأما لغير أهل الكتاب فيقول
قل يا أيها الكافرون لآ أعبد ما تعبدون ولآ أنتم عابدون مآ أعبد السورة كلها
والجواب
أما قوله
وقل آمنت بما أنزل الله من كتب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم
فهذه الآية مذكورة بعد قوله تعالى
سورة الشورى الآيات 13 15
فقد أخبرنا أنه شرع لنا من الدين ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كما قال تعالى في الآية الأخرى
سورة الروم الآيات 30 32
وقال تعالى
سورة المؤمنون الآيات 51 53
ثم أخبر عن تفرق الذين أوتوا الكتاب كتفرق اليهود والنصارى وتفرق فرق اليهود وفرق النصارى كالنسطورية واليعقوبية والملكية
ثم قال
وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم أولئك المفترقين لفي شك منه مريب
وهكذا توجه عامة اليهود والنصارى في شك من ذلك مريب
وقال تعالى
ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب
وقال تعالى
وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان عزيزا حكيما
ثم قال تعالى
فلذلك فادع واستقم كما أمرت
إلى الدين الذي شرعه لنا
واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم
وهذا يتناول أهواء أهل الكتاب كما يتناول أهواء المشركين وقد صرح بذلك في قوله تعالى
ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير
وقال تعالى
ولئن أتيت الذين اوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين
كما صرح بنهيه عن اتباع أهواء المشركين في قوله تعالى
قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواءهم الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون
وقوله تعالى
وقل آمنت بما أنزل الله من كتب
حق فإن الله أمره وجميع الخلق أن يؤمنوا بجميع ما أنزل الله وكذلك قوله
وأمرت لأعدل بينكم
فإن الله أمره أن يعدل بين جميع الخلق وقوله
الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم
هذه براءة منه لمن يخاطب بذلك من المشركين وأهل الكتاب كقوله تعالى
وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون
ومثل قوله تعالى
قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون
وكذلك قوله
قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين
فإن هذه الكلمة كقوله
لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون
وهي كلمة توجب براءته من عملهم وبراءتهم من عمله فإن حرف اللام في لغة العرب يدل على الاختصاص فقوله
لكم دينكم ولي دين
يدل على أنكم مختصون بدينكم لا أشرككم فيه وأنا مختص بديني لا تشركوني فيه كما قال
لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون
ولهذا قال النبي في قل يا أيها الكافرون
هي براءة من الشرك وليس في هذه الآية أنه رضي بدين المشركين ولا أهل الكتاب كما يظنه بعض الملحدين ولا أنه نهى عن جهادهم كما ظنه بعض الغالطين وجعلوها منسوخة بل فيها براءته من دينهم وبراءتهم من دينه وأنه لا تضره أعمالهم ولا يجزون بعمله ولا ينفعهم
وهذا أمر محكم لا يقبل النسخ ولم يرض الرسول بدين المشركين ولا أهل الكتاب طرفة عين قط ومن زعم أنه رضي بدين الكفار واحتج بقوله تعالى
قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين
فظن هذا الملحد أن قوله لكم دينكم ولي دين معناه
أنه رضي بدين الكفار ثم قال هذه الآية منسوخة فيكون قد رضي بدين الكفار وهذا من أبين الكذب والافتراء على محمد فإنه لم يرض قط إلا بدين الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه ما رضي قط بدين الكفار لا من المشركين ولا من أهل الكتاب
وقوله لكم دينكم ولي دين لا يدل على رضاه بدينهم بل ولا على إقرارهم عليه بل يدل على براءته من دينهم ولهذا قال النبي إن هذه السورة براءة من الشرك
ونظير هذه الآية قوله تعالى
وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون
وكذلك قوله تعالى
فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم
وقد يظن بعض الناس أيضا أن قوله لكم دينكم ولي دين الآية أني لا آمر بالقتال ولا أنهي عنه ولا أتعرض له بنفي
ولا إثبات وإنما فيها أن دينكم لكم أنتم مختصون به وأنا بريء منه وديني لي وأنا مختص به وأنتم برآء منه
وهذا أمر محكم لا يمكن نسخه بحال كما قال تعالى عن الخليل
وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين
وقد قال تعالى
وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه
وهو ما طار عنه من خير وشر وقد قال تعالى
ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى
وقال تعالى
لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت
وقال تعالى
إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها
بل قال تعالى لنبيه
واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون
فإذا كان قد برأه الله من معصية من عصاه من أتباعه المؤمنين فكيف لا يبرئه من كفر الكافرين الذين هم أشد له معصية ومخالفة
فصل
وأما قوله تعالى
قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين
فهو أمر بالقول لجميع الكافرين من المشركين وأهل الكتاب فإن أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بما أنزل إليه من ربه كافرون قد شهد عليهم بالكفر وأمرهم بجهادهم وكفر من لم يجعلهم كافرين ويوجب جهادهم قال تعالى
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة
وقال تعالى
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم
وقال تعالى
لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة
وقال تعالى
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوت