http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة |
أحكام أهل الذمة [آثار الإمام ابن القيم الجوزية وما لحقها من أعمال (34)]المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (659 – 751) جـ 1: تحقيق (محمد عزير شمس)، تخريج (نبيل بن نصار السندي) جـ 2: تحقيق (نبيل بن نصار السندي) راجعه: محمد أجمل الإصلاحي – سليمان بن عبد الله العمير الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت) الطبعة: الثانية، 1442 هـ – 2021 م (الأولى لدار ابن حزم) عدد الأجزاء: 2 قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] |
آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (34)
أحكام أهل الذمة
تأليف
الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية
(691 هـ – 751 هـ)
وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة
بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى)
دار عطاءات العلم – دار ابن حزم
(المقدمة/1)
راجع هذا الجزء
محمد أجمل الإصلاحي
سليمان بن عبد الله العمير
(المقدمة/3)
مقدمة التحقيق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فهذا كتاب «أحكام أهل الذمة» للإمام ابن القيم – رحمه الله -، وهو آخر كتاب يحقق في هذه السلسلة المباركة إن شاء الله «آثار الإمام ابن قيِّم الجوزية وما لحقها من أعمال». وهو أهمُّ ما أُلِّف في هذا الباب، وأوسعُه وأشملُه، توسَّع فيه المؤلف وأطال الكلام في الموضوعات التي تناولها بالبحث، بالاعتماد على مصادر مهمة لم يصل إلينا بعضها، ويحتفظ الكتاب بنصوص نادرة منها.
ويشمل الكتاب أيضًا الشروط العُمَرية التي شرحها المؤلف شرحًا مفصلًا (على غرار شرحه لكتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري في القضاء في «أعلام الموقعين»)، بحيث أصبح كتابًا مستقلًّا، وأذِن المؤلف أن يُفرد لأهميته.
وفيما يلي الكلام على بعض الموضوعات التي تعتبر مدخلًا للكتاب وتوطئةً له:
– عنوان الكتاب
– توثيق نسبته إلى المؤلف
– موضوع الكتاب وما أُلِّف فيه
(المقدمة/5)
– أهمية الكتاب
– بناء الكتاب وترتيب مباحثه
– موارده
– أثره في الكتب اللاحقة
– وصف النسخة الخطية
– الطبعات السابقة
– منهج العمل في هذه الطبعة
* * * * *
(المقدمة/6)
عنوان الكتاب
عنوان الكتاب كما في مخطوطته: «أحكام أهل الذمة»، وبه سمَّاه بعض المؤلفين عند النقل عنه (كما في: «كشاف القناع» 4/ 246، و «مطالب أولي النهى» 2/ 614، 4/ 283).
ونقل عنه بعض المؤلفين وسمَّوه «أحكام الذمة» (كما في: «الإنصاف» 10/ 454، 27/ 165، و «الإقناع» 2/ 50، و «كشاف القناع» 3/ 132، و «إرشاد أولي النهى» للبهوتي 1/ 619). والأمر فيه قريب، ولا يُعدّ اختلافًا. كما نقول: «أهل السنة» و «السنة» بمقابل الشيعة.
وذكره المؤلف في «شفاء العليل» (2/ 441 ط. عالم الفوائد) فقال: «كتابنا في أحكام أهل الملل»، وأشار الدكتور صبحي الصالح في مقدمة تحقيقه (ص 54) إلى احتمال وقوع التحريف هنا في تسمية الكتاب «أحكام أهل الملل» استنادًا إلى كثرة التصحيفات في نشرة «الشفاء» فكأن الناشر لم يحسن قراءتها، أو كانت في الأصل غامضة، أو تساهل في نقلها ثم طبعها على ما ترجَّح لديه.
والذي ترجَّح لدينا أنه ليس مبنيًّا على التحريف لاجتماع الأصول الخطية لـ «شفاء العليل» على هذه التسمية، ولأن هذا الكتاب صالح لأن يسمَّى بهذا الاسم الشامل الواسع «أحكام أهل الملل»، فإنه تحدَّث في بعض أبوابه عن أحكام أهل الملل عامَّةً ولو لم يكونوا من أهل الذمة، كما في مسألة حكم
(المقدمة/7)
أطفال المشركين في الآخرة. وصالحٌ لأن يُسمَّى باسم أخصَّ وأدلَّ على موضوعه الذي غلب عليه، وهو «أحكام أهل الذمة».
ولم نجد ذكر الكتاب في المصادر القديمة التي ترجمت لابن القيم إلا عند ابن رجب في «المنتقى من معجم شيوخ شهاب الدين أبي العباس أحمد بن رجب الحنبلي» (ص 101)، ولكن حصل فيه تحريف حيث ورد فيه «كتاب اختلاف أهل الملل مجلدان». والصواب «أحكام أهل الملل» كما ذكره ابن القيم في «شفاء العليل». وقد أثبتنا العنوان الموجود في المخطوطة وما ذكرتْه المصادر الناقلة التي سبق ذكرُها، وبه عُرِف الكتاب عند المتأخرين، ولا داعي لتغييره، فأبقيناه كما هو.
* * * * *
(المقدمة/8)
توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف
لم يرد ذكر هذا الكتاب في عامة المصادر القديمة لترجمة ابن القيم إلا «المنتقى من معجم شيوخ ابن رجب» كما سبق، وهو ثابت النسبة له بوجوه من الشواهد الداخلية والخارجية:
أولًا: أشار المؤلف في مبحث تحريم «الطَّرِيفا» عند اليهود إلى كتابه «هداية الحيارى» فقال: «وقد ذكرنا في كتاب «الهداية» سبب هذا التحريم، ومن أين نشأ، وأن التوراة لم تحرِّمه، وأنهم غلطوا على التوراة في تحريمه، وذكرنا نصّ التوراة وأنهم حملوه على غير محله» (1/ 374). وهذا المبحث موجود في «هداية الحيارى» (ص 307 – 310).
ثانيًا: بحث في موضع آخر هل كل مجتهد مصيب أو المصيب واحد، ورجَّح الثاني وقال: «الصواب من الأقوال كجهة القبلة في الجهات، وعلى هذا أكثر من أربعين دليلًا قد ذكرناها في كتاب مفرد» (1/ 32). وهو الكتاب الذي أشار إليه في «تهذيب السنن» (3/ 137) بقوله: «كتاب مفرد في الاجتهاد»، وفي «مفتاح دار السعادة» (1/ 155) بقوله: «كتاب الاجتهاد والتقليد».
ثالثًا: ذكر المؤلف هذا الكتاب في «شفاء العليل» فقال: «وليس المقصود ذكر هذه المسائل وما يصير به الطفل مسلمًا، فإنا قد استوفيناها في كتابنا «أحكام أهل الملل» بأدلتها، واختلاف العلماء من السلف والخلف فيها، وذكر مآخذهم، وإنما المقصود ذكر الفطرة وأنها هي الحنيفية، وأنها لا تنافي القدر السابق بالشقاوة» (2/ 441).
(المقدمة/9)
وقد فصّل المؤلف الكلام في هذا الموضوع في كتابنا هذا (2/ 66 – 103) الذي أشار إليه بقوله: «كتابنا في أحكام أهل الملل»، وأهل الملل هم اليهود والنصارى والمجوس والصابئة الذين يكونون أهل الذمة في الحكومة الإسلامية، وقد ذكر المؤلف أحكامهم في كل ما يتعلق بعباداتهم ومعاملاتهم وأنكحتهم وغيرها، وتوسَّع في كل بابٍ بما لا مزيد عليه.
رابعًا: ذكر المؤلف شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع كثيرة (ينظر فهرس الأعلام) نقل فيها اختياراته وكلامه من كتبه وفتاواه، وانفرد هذا الكتاب بنصوص مهمة عنه لا توجد في كتبه المطبوعة. وهذه طريقة ابن القيم في استفادته من علوم شيخه، وأسلوبُه في التأليف في كل موضوع، حيث ينقل كلام شيخه ويختصره ويُهذّبه ويزيد عليه، ويشير إليه غالبًا ويُغفِل الإشارة إليه أحيانًا. وقد قمنا بمراجعة كتب شيخ الإسلام وتتبعنا النقول عنها، وأشرنا إلى النقول التي لا توجد في المطبوع من كتب الشيخ.
خامسًا: اعتماد المؤلفين على هذا الكتاب واقتباسهم منه، مع التصريح بذكر المصدر أو عدم التصريح به. وسيأتي بيان ذلك في مبحث أثره في الكتب اللاحقة.
سادسًا: قال المؤلف في الكتاب: «وبذلك أفتينا وليَّ الأمر بانتقاض عهد النصارى لما سَعَوا في إحراق الجامع والمنارة وسوق السلاح، ففعل بعضهم، وعلم بعضهم وكتمَ ذلك ولم يُطلِع عليه وليَّ الأمر» (2/ 336). وذكره المؤلف أيضًا في «زاد المعاد» (3/ 162) فقال: «وبهذا القول أفتينا وليَّ الأمر لما أحرق النصارى أموال المسلمين بالشام ودُورَهم، وراموا
(المقدمة/10)
حَرْق جامعهم الأعظم حتى أحرقوا منارته، وكاد ــ لولا دفاع الله ــ أن يحترق كلُّه، وعلم بذلك من علم من النصارى، وواطأوا عليه وأقرُّوه ورضُوا به ولم يُعلِموا به وليَّ الأمر، فاستفتى فيهم وليُّ الأمر من حضره من الفقهاء، وأفتيناه بانتقاض عهد من فعل ذلك أو أعان عليه بوجهٍ من الوجوه … ». وهذا الحدث كان سنة 740 كما بيَّن ذلك ابن كثير في «البداية والنهاية» (18/ 414، 415)، وذكر حيلة النصارى لإحراق السوق والمسجد، والقبض عليهم وتنفيذ حكم الشرع فيهم.
وتدل الإشارة إلى هذا الحدث أن هذا الكتاب أُلِّف بعد سنة 740، وأن المؤلف أفتى فيه بما يقتضيه الشرع.
* * * * *
(المقدمة/11)
موضوع الكتاب وما أُلِّف فيه
أحكام أهل الذمة باب من أبواب «كتاب الجهاد» في كتب الفقه، ويُعَنْون له بـ «كتاب السِّير» أيضًا، لاسيما في كتب الفقه الحنفي والشافعي، والمقصود به سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – والمسلمين من بعدِه ومنهجهم في المعاملة مع الكفار من أهل الحرب، ومع أهل العهد منهم من المستأمنين وأهل الذمة، ومع المرتدين الذين هم أخبث الكفار بالإنكار بعد الإقرار، ومع أهل البغي الذين حالهم دون حال المشركين. فلفظ «السير» يشمل جميع هؤلاء الأصناف وبيان أحكامهم، بدءًا من الجهاد وفرضيته وشروطه، وما يجب قبل القتال وبعده، وانتهاء الحرب بالإسلام أو بالأمان أو بالهدنة أو بعقد الذمة، وحكم الأنفال والفيء والغنائم، وحكم الأسرى والسبي.
وتوجد أحكام أهل الذمة في كتب الفقه عامة وكتب السِّير المفردة خاصة، إلّا أنها في كتب السِّير أكثر تفصيلًا واستيعابًا للجزئيات. وقد ألَّف فيه أبو إسحاق الفزاري (ت 185 أو بعدها) (1)، قال الشافعي: لم يصنّف أحدٌ في السِّيَر مثله. ونظر فيه الشافعي، وأملى كتابًا على ترتيبه ورضيه (2)، ذكر فيه قول أبي حنيفة ثم الأوزاعي وأبي يوسف، وعلق على كلامهم، وهو ضمن كتاب «الأم» له (9/ 171 – 277) بعنوان «سير الأوزاعي» (3). وللشافعي
_________
(1). طُبعت قطعة منه بمؤسسة الرسالة بتحقيق فاروق حمادة.
(2). «تهذيب التهذيب» (1/ 152)، و «إكمال تهذيب الكمال» (1/ 270).
(3). طبعه بعض الحنفية مستلًّا منه بحذف كلام الشافعي بعنوان «الرد على سير الأوزاعي» لأبي يوسف.
(المقدمة/12)
أيضًا كتاب «سير الواقدي» (5/ 639 – 721)، ولا ندري لماذا نُسب للواقدي (1)، فالكلام فيه كله للشافعي. ولمحمد بن الحسن الشيباني (ت 189) كتاب «السير الصغير» و «السير الكبير» (2)، وشرحَ الثاني: السرخسي وغيره. وكلها مطبوعة. وأملى أحمد بن كامل القاضي (ت 350) كتابًا في السِّيَر (3) لم يصل إلينا. هذه أهمّ كتب «السير» المفردة، واعتمد عليها من ألَّف في هذا الباب من المتأخرين.
ويوجد كتاب الجهاد والسير أيضًا في كثير من كتب الحديث كالصحيحين والسنن والجوامع. ومن أوسع مَن بوَّب لأحكام أهل الذمة عبد الرزاق الصنعاني (ت 211) في «مصنفه» بعنوان «كتاب أهل الكتاب» (6/ 3 – 132) و «كتاب أهل الكتابين» (10/ 311 – 378)، نثر فيهما جلَّ الأحكام المتعلقة بهم (4). وكذلك يوجد كثير من الأبواب المتعلقة بأحكام أهل الذمة
_________
(1). ذكره ابن النديم في «الفهرست» (ص 264) ضمن مؤلفات الشافعي.
(2). انظر ما ذكره السَّرخسي في مقدمة «شرح السير الكبير» من سبب تأليف محمد بن الحسن للكتابين والنفرة بينه وبين أبي يوسف، وكيف تلقَّى الأوزاعي كتاب «السير الصغير» له.
(3). كما في «تاريخ بغداد» (5/ 121)، و «معجم الأدباء» (1/ 421)، و «الوافي بالوفيات» (7/ 299)، و «الثقات» لابن قطلوبغا (1/ 466). وفي «لسان الميزان» (1/ 581): «كتابًا في السنن»، فليحرَّر.
(4). أفادنا بذلك الشيخ سليمان العمير حفظه الله، كما زاد مشكورًا في القائمة الآتية بعض العناوين.
(المقدمة/13)
في كتاب «الخراج» لأبي يوسف القاضي (ت 182) وكتاب «الأموال» لأبي عبيد القاسم بن سلَّام (ت 224).
ثم اتجه بعض العلماء إلى إفراد أحكام أهل الذمة بالتأليف، سواءٌ بصفة عامَّة أو في بابٍ من الأبواب، نذكر فيما يلي ما عرفنا منها مرتَّبةً على الوفيات، ولم نشر إلى الكتب والبحوث والدراسات في العصر الحديث، فهي كثيرة.
– «الحكم بين أهل الذمة»، لداود الظاهري (ت 270). ذكره ابن النديم في «الفهرست» (ص 272).
– «أحكام أهل الملل والردة» ضمن كتاب «الجامع» للخلال (ت 311)، وقد طبع مفردًا.
– «جزء فيه شروط النصارى»، لعبد الله بن أحمد بن زَبْر الربعي (ت 329)، مطبوع، ذكر فيه الشروط العمرية على أهل الذمة.
– «جزء فيه شروط أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على النصارى»، لأبي عمرو بن السَّماك (ت 344)، مطبوع.
– «شروط أهل الذمة» لأبي الشيخ (ت 369). ذكره السمعاني في «المنتخب من معجم شيوخه» (1/ 546). ونقل عنه ابن القيم في هذا الكتاب، وسماه «شروط عمر» (2/ 339).
– «شرح كتاب عمر بن الخطاب»، للالكائي (ت 418). نقل عنه ابن القيم في هذا الكتاب كثيرًا.
(المقدمة/14)
– «شروط أهل الذمة»، للقاضي أبي يعلى (ت 450). ذكره الذهبي في «تاريخ الإسلام» (10/ 105).
– «أحكام أهل الذمة» لأبي بكر أحمد بن علي بن بدران الحلواني (ت 507)، ألَّفه قبل سنة 480. ذكره الونشريسي في «المعيار المعرب» (2/ 257، 258)، وسماه «الفصول الجامعة فيما يجب على أهل الذمة من أحكام الملة». وهو مما رواه ابن خير الإشبيلي في «فهرسته» (ص 259).
– «شروط أهل الذمة» لابن الزاغوني (ت 527). ذكره الحارثي في «شرح المقنع» (2/ 152، 5/ 149، 170).
– «تجريد سيف الهمة لاستخراج ما في ذمة أهل الذمة»، لعثمان بن إبراهيم النابلسي (ت 660) مطبوع.
– «النفائس في هدم الكنائس»، لابن الرفعة (ت 710)، ألَّفه سنة 707، مخطوط.
– «ردٌّ على أهل الذمة ومن تبعهم»، لشهاب الدين غازي بن أحمد ابن الواسطي (ت 712)، مطبوع.
– «مسألة في الكنائس» لابن تيمية (ت 728)، ضمن «مجموع الفتاوى» (28/ 632 – 646).
– «فتوى في أمر الكنائس»، لابن تيمية، ضمن «جامع المسائل» (3/ 361 – 370).
(المقدمة/15)
– «قاعدة في ذبائح أهل الكتاب»، لابن تيمية، ضمن «مجموع الفتاوى» (35/ 212 – 233).
– «فصل في شروط عمر بن الخطاب التي شرطها على أهل الذمة»، لابن تيمية، ضمن «مجموع الفتاوى» (28/ 651 – 656).
– «كشف الغمة في أحكام أهل الذمة» لبدر الدين ابن جماعة (ت 733). ورد ذكره في «الأنس الجليل» (2/ 137)، و «إيضاح المكنون» (2/ 362).
– «أحكام أهل الذمة» لابن القيم، وهو كتابنا هذا، وسيأتي الحديث عنه.
– «كشف الغمة في ميراث أهل الذمة»، لتقي الدين السبكي (ت 756)، ذكره ابنه في «طبقات الشافعية الكبرى» (10/ 310)، ونقل منه في (6/ 42 وما بعدها). وهو مخطوط في دار الكتب المصرية والمكتبة الخالدية بالقدس.
– «كشف الدسائس في منع ترميم الكنائس» للتقي السبكي، طبع بعنوان «مسألة في منع ترميم الكنائس» ضمن «فتاواه» (2/ 369 – 417).
– «إيضاح كشف الدسائس … »، للتقي السبكي، مخطوط.
– «رسالة في ذبائح أهل الكتاب ونكاح نسائهم»، للتقي السبكي، مخطوطة.
– «رسالة في أطفال المشركين»، للتقي السبكي، مخطوطة.
– «منهج الصواب في قبح استكتاب أهل الكتاب»، لابن الدُّريهم (ت 762). لم يُذكَر مؤلفه في «كشف الظنون» (2/ 1882)، وطبع
(المقدمة/16)
كذلك في دار الغرب الإسلامي غفلًا من اسم المؤلف. ثم وُجدت نسخ أخرى تنسب الكتاب لابن الدريهم، فطبع منسوبًا إليه.
– «المذمة في استعمال أهل الذمة»، لمحمد بن علي بن النقاش الدكَّالي (ت 763)، مطبوع. وقد ألَّفه سنة 759.
– «الرياسة الناصرية في ردّ من يعظّم أهل الذمة ويستخدمهم على المسلمين»، لعماد الدين محمد بن الحسن الإسنائي (ت 764)، كما في «كشف الظنون» (1/ 934). وفي «حسن المحاضرة» (1/ 430) أنه لأخيه جمال الدين عبد الرحيم الإسنوي الآتي ذكره.
– «رسالة في عدم استخدام أهل الذمة وعدم توليتهم أمور المسلمين»، لعبد الرحيم الإسنوي (ت 772). ولعلها «نصيحة أولي الألباب في منع استخدام النصارى للكتاب» كما في «كشف الظنون» (2/ 1957). ويُنظر هل هو المطبوع باسم «الكلمات المهمة في مباشرة أهل الذمة» له؟
– «العهود العمرية في اليهود والنصارى»، لشهاب الدين ابن العطّار الدنيسري (ت 794). ورد ذكره في «المنهل الصافي» (2/ 178) و «كشف الظنون» (2/ 1180).
– «رفع الحجاب عن مناكحة أهل الكتاب»، لأبي اللطف الحصكفي (ت 859)، كما في «الضوء اللامع» (8/ 222).
(المقدمة/17)
– «رسالة في ذبائح المشركين ومناكحتهم»، لابن قاضي عجلون (ت 876)، كما في «الضوء اللامع» (8/ 97).
– «القول المتّبَع في أحكام الكنائس والبِيَع»، لقاسم بن قطلوبغا (ت 879)، مخطوط.
– «وفاء العهود في وجوب هدم كنيسة اليهود» و «نفيس النفائس في وجوب تحري مسائل الكنائس وكشف ما للمشركين من الدسائس» كلاهما لأحمد بن محمد الشافعي المعروف بابن شكم (ت 893)، مخطوط.
– «القول المعهود فيما على أهل الذمة من العهود»، للسخاوي (ت 902)، ذكره في «الضوء اللامع» (8/ 18) و «وجيز الكلام» (2/ 759). ألَّفه سنة 868، وهو مخطوط.
– سؤال عن الكنائس في بلاد المسلمين هل هي مملوكة للكفار؟ جوابه لابن أبي شريف (ت 906)، مخطوط.
– «مسألة ذبائح أهل الكتاب»، ليوسف بن عبد الهادي (ت 909).
– «رسالة في اجتناب الكفار وعما يلزم أهل الذمة من الجزية والصغار»، لمحمد بن عبد الكريم المغيلي (ت 909)، وتسمَّى «مصباح الأرواح في أصول الفلاح»، مطبوع. وهو بعنوان «أحكام أهل الذمة» في بعض المخطوطات.
– «بشرى العابس في حكم البِيَع والديور والكنائس»، للسيوطي (ت 911)، مخطوط.
(المقدمة/18)
– «رسالة في أطفال المشركين»، للسيوطي، مخطوطة.
– «سيف النقمة في شروط أهل الذمة»، لابن طولون (ت 953). ورد ذكره في «إيضاح المكنون» (2/ 37).
– «إرشاد الحيارى إلى حلّ ذبيحة اليهود والنصارى»، لابن طولون، كما في كتابه «الفلك المشحون» (ص 79).
– «القول المعهود فيما على أهل الذمة من العهود»، لعبد الله بن محمد باقشير (ت 958)، كما في «إيضاح المكنون» (2/ 254).
– «رسالة في الكنائس المصرية»، لزين الدين ابن نجيم (ت 970)، مطبوعة.
– «حلّ مناكح أهل الكتاب في زماننا هذا وذبائحهم»، لمجهول. مخطوط في برلين، من القرن العاشر.
– «الإسفار من الأسفار عن الاستفسار في أولاد الكفّار»، لعلي آغا (من القرن العاشر)، مخطوط.
– «النفائس في أحكام الكنائس»، لمحمد بن عبد الله التمرتاشي (ت 1004). ورد ذكره في «خلاصة الأثر» (4/ 19).
– «الدرر النفائس في شأن الكنائس»، لمحمد بن يحيى بن عمر القرافي (ت 1008)، مخطوط.
– «رسالة متعلقة بأهل الذمة»، لعبد الباقي الحنبلي (ت 1017). ذكرها السفاريني في «غذاء الألباب» (2/ 19).
(المقدمة/19)
– «إرشاد الحيارى إلى استخدام اليهود والنصارى»، لمحمد بن صالح الكتامي (ت بعد 1029)، مخطوط.
– «فتوى في شأن اليهود»، لأحمد بن علي السوسي (ت 1046)، مخطوطة.
– «إماطة التوبيخ والذمة عن أحكام أهل الذمة»، لمجهول (حنفي)، مخطوط.
– «الشروط والحدود المشترطة على النصارى واليهود»، لمجهول. ورد ذكره في «إيضاح المكنون» (2/ 48).
– «إظهار نعمة الإسلام وإشهار نقمة الإجرام» (قصيدة سينية) نظمها: أبو الفضل محمد بن النجار الحنفي (؟)، ذكر فيها أحكام أهل الذمة. انظر: «كشف الظنون» (1/ 81). وعليها شرح لمحمد بن عبد اللطيف المقدسي بعنوان «بحر الكلام»، مخطوط.
– «الأثر المحمود في قهر ذوي العهود الجحود»، للشرنبلالي (ت 1069)، مطبوع ضمن مجموعة رسائله «التحقيقات القدسية».
– «قهر الملة الكفرية بالأدلة المحمدية لتخريب دير المحلة الجوانية»، للشرنبلالي، مطبوع.
– «الفوائد المهمة في بيان اشتراط التبري في إسلام أهل الذمة»، لنوح بن مصطفى الرومي (ت 1070)، مخطوط.
(المقدمة/20)
– «رسالة في حكم أطفال المشركين»، للأمير الصنعاني (ت 1182)، مخطوطة.
– «كتاب عمر فيما شرطه على أهل الذمة» للأمير الصنعاني، مخطوط.
– «رسالة في أحكام الكفار من أهل الكتاب والمعاهدين: هل تقبل شهادتهم أم لا؟» للأمير الصنعاني، مخطوطة.
– «إقامة الحجة الباهرة عن هدم كنائس مصر والقاهرة»، لأحمد بن عبد المنعم الدمنهوري (ت 1192)، مخطوط.
– «رسالة في الكنائس في الأراضي المأخوذة عنوةً من أيدي الكفار»، لمحمد بن عبادة بن بري العدوي (ت 1193)، مخطوطة.
– «رسالة في الذمة والذميين»، لأعظم بن أبي البقاء بن موسى الكرماني الحنفي (من القرن الثاني عشر)، مخطوطة.
– «حكم تزويج الكتابية والمجوسية والصابئة والوثنية والتعريف بهن»، لحسين بن إبراهيم البارودي (من القرن الثاني عشر)، مخطوط.
– «رسالة في تزويج الصابئة والوثنية»، لمجهول (حنفي)، مخطوطة.
– «رسالة في تحريم استخدام أهل الذمة»، لمجهول (حنبلي)، مخطوطة في تونس.
– «رسالة في منع أهل الذمة من الكتابة وغيرها من أمور المسلمين»، لمجهول، مخطوطة.
(المقدمة/21)
– «سراج الظلمة في شرح حقوق أهل الذمة»، لمجهول، مخطوط في الأزهرية.
– «رسالة في صلح أهل الذمة»، لعبد القادر الكوكباني (ت 1207).
– «رسالة في انتزاع أطفال أهل الذمة عند موت الأبوين»، ليحيى بن صالح السحولي (ت 1209). مخطوطة في مكتبة الإمبروزيانا بعنوان: «نقاش في سؤال عن كيفية معاملة أطفال أهل الذمة عند موت آبائهم».
– «بحث فيمن مات أبواه من أطفال اليهود»، للحسين بن عبد الله الكبسي (ت 1223)، مخطوط.
– «رسالة في طعام أهل الكتاب»، لأبي الفدا إسماعيل بن محمد التميمي (ت 1248)، مخطوطة.
– «رسالة في حكم صبيان الذميين إذا مات أبوهم»، للشوكاني (ت 1250)، مطبوعة ضمن «الفتح الرباني» (10/ 4979 – 4994).
– «رسالة في أحكام الكنائس»، لأبي بكر التوقادي. مخطوطة كتبت سنة 1301.
– «مسألة في الكنائس التي بالقاهرة وغيرها التي أغلقت بأمر ولاة الأمور إذا ادَّعى أهل الذمة أنها أُغلقت ظلمًا»، فتاوى لمجموعة من العلماء، مخطوطة.
– «مسائل حول اليهود» لمجهول. مخطوط.
(المقدمة/22)
– «عناية الوهاب في ذبائح أهل الكتاب»، لعبد الرحمن أفندي الأماني (ت بعد 1287).
– «أجوبة الحيارى عن حكم قلنسوة النصارى»، لمحمد بن أحمد عليش (ت 1299)، مخطوط.
– «مقدمة في عهد أهل الذمة»، لابن قضيب البان (ت بعد 1304)، مخطوطة.
– «الأحكام المهمة في شروط أهل الذمة»، لضياء الدين علي أبي الهدى (؟)، مخطوط.
– «رسالة في أحكام أهل الذمة»، لجعفر بن إدريس الكتاني (ت 1323)، مطبوعة.
– «جلاء الظلمة في حقوق أهل الذمة»، لكامل بن حسين الغزي (ت 1351)، مخطوط.
– «إرشاد الأمة إلى أحكام الحكم بين أهل الذمة»، لمحمد بخيت المطيعي (ت 1354)، مطبوع.
– «النهي عن الاستعانة والاستنصار في أمور المسلمين بأهل الذمة والكفار»، لمصطفى بن محمد الوارداني، مطبوع.
* * * * *
(المقدمة/23)
أهمية الكتاب
سبق أن استعرضنا ما وصل إلينا من المؤلفات المفردة في أحكام أهل الذمة. وكتاب الإمام ابن القيم أهمُّها وأوسعها وأشملها للأحكام والمسائل المتعلقة بهذا الباب، وأكثرها استيعابًا للأدلة من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين، ومذاهب أئمة فقهاء الأمصار. وكل من يقارن هذا الكتاب بغيره من المؤلفات في هذا الباب يظهر له ذلك. وهذا أمر واضح لا نطيل الكلام بذكره، فالكتاب بين أيدي القراء يستطيعون أن ينظروا فيه بأنفسهم.
وانفرد الكتاب بخصائص أخرى نُجمل الإشارة إليها فيما يلي:
– يحوي الكتاب نصوصًا نادرة من كتب مفقودة، منها: كتاب «أحكام القرآن» لإسماعيل بن إسحاق القاضي (ت 282) الذي وصفه الذهبي بقوله: «لم يُسبق إلى مثله» (1). نقل منه نصوصًا طويلة في موضعين. وكتاب «الرد على ابن قتيبة» لمحمد بن نصر المروزي (ت 294) الذي نقل منه نصوصًا كثيرة. وكتاب «شرح الشروط العمرية» لهبة الله بن الحسن اللالكائي (ت 418) الذي نقل منه روايات كثيرة في الباب وكلام المؤلف عليها. ولعله كتاب مستقل أو جزء من كتابه في «السنن» غير «شرح السنة» وقد ذكرهما الخطيب في «تاريخ بغداد» (14/ 70). وهو كتاب نادر لم نجد من نقل عنه.
_________
(1). «سير أعلام النبلاء» (13/ 340).
(المقدمة/24)
وكذلك كتاب «شروط عمر» لأبي الشيخ الأصبهاني (ت 369) الذي نقل عنه بعض النصوص. واعتمد المؤلف على «الرعاية» لابن حمدان (ت 695)، وقد وجدنا بعض النصوص المنقولة عنه في «الرعاية الكبرى» إلا أنه لم يصل إلينا كاملًا، فلم نجد بقية النصوص فيه.
– يشتمل الكتاب على شرح الشروط العمرية على أهل الذمة، بحيث أصبح كتابًا مستقلًّا، وأذِن المؤلف «لمن أراد أن يُفرِده من جملة الكتاب» (2/ 419). ولذا نشره الدكتور صبحي الصالح نشرةً مستقلةً أيضًا إلى جانب نشره تابعًا للكتاب على أنه آخر مبحث فيه. وشروط عمر هذه مبنية على رواية عبد الرحمن بن غَنْم لها (1)، وقال المؤلف: «شهرة هذه الشروط تُغني عن إسنادها، فإن الأئمة تلقَّوها بالقبول وذكروها في كتبهم واحتجُّوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها بعده الخلفاء وعملوا بموجبها» (2/ 277). وفصَّل المؤلف الكلام على شرح هذه الشروط العمرية، حتى وصل إلى الفقرة الأخيرة من هذه الشروط، وفيه الكلام على ما ينقض العهد وما لا ينقضه، فأطال في شرحه، وذكر سبَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – والمسائل المتعلقة به. ولم يصل إلينا إلّا قسم منه في المجلد الأول من
_________
(1). توجد منه ثلاث نسخ خطية، كلٌّ منها في ورقتين. وهي في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد برقم 4/ 4715 مجاميع، وبرقم 18/ 13837 مجاميع، ودار الكتب الوطنية بتونس برقم 170/ 17 (الورقة 185 أ- 186 أ). وربما يكون بعضها منقولًا من «أحكام أهل الذمة» هذا. ولا يمكن البتُّ في هذا الأمر إلَّا بالاطلاع على النسخ المذكورة أو مصوراتها، ولم يتيسر لنا ذلك الآن.
(المقدمة/25)
النسخة الخطية، وبقية الشرح كانت في المجلد الثاني الذي لم نعثر عليه، ونرجو أن يكون محفوظًا في إحدى المكتبات.
ويُشبه شرحَ الشروط العمرية شرحُ كتاب عمر إلى أبي موسى في القضاء في ما يقارب مجلدين من «أعلام الموقعين» (1/ 185 – 508 ثم 2/ 3 – 520)، قال في أوله: «هذا كتاب جليل تلقَّاه العلماء بالقبول، وبَنَوا عليه أصول الحكم والشهادة. والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه». وقال في آخره: «فهذا بعض ما يتعلق بكتاب أمير المؤمنين – رضي الله عنه – من الحِكم والفوائد». فلا يُستغرب من المؤلف أن يتوسع كذلك في شرح الشروط العمرية، ويأتي بفوائد ونقول تناسب الموضوعات التي تحتوي عليها.
– ومما يميِّز الكتاب أنه يصحّح كثيرًا من النقول التي توجد محرَّفةً في المصادر التي رجع إليها المؤلف، مثل «الجامع» للخلال، و «الأموال» لأبي عبيد، و «المغني» لابن قدامة، و «الصارم المسلول» وغيرها، بل بعض هذه النصوص سقطت من النسخ المطبوعة. وقد نبَّهنا في الحواشي على هذه المواضع.
* * * * *
(المقدمة/26)
بناء الكتاب وترتيب مباحثه
هذا الكتاب عبارة عن جواب لسؤال وُجِّه إلى العلامة ابن القيم عن كيفية الجزية وسبب وضعها ومقدارها، فأطال في الجواب واستوفى الكلام على أحكام الجزية، ثم استطرد فذكر أحكام أهل الذمة في أموالهم، ومعاملتهم عند اللقاء، وعيادتهم وشهود جنائزهم وتعزيتهم وتهنئتهم، والمنع من استعمالهم في شيء من ولايات المسلمين وأمورهم، وأحكام ذبائحهم، ومعاملاتهم في البيع والشراء، وأحكام أوقافهم ووقف المسلم عليهم، وأحكام نكاحهم ومناكحاتهم، وأحكام مهورهم، وضابط ما يصح من أنكحتهم وما لا يصحّ، وولايتهم في النكاح، وأحكام نكاح نساء أهل الكتاب والسامرة والمجوس، وأحكام مواريثهم وهل يجري التوارث بينهم وبين المسلمين وبيان الخلاف في ذلك، وأحكام أطفالهم في الدنيا وفي الآخرة.
وختم الكتاب بذكر الشروط العمرية وأحكامها وموجباتها، كما أشار إليها في أول الكتاب بقوله: «وسنذكر إن شاء الله في آخر الجواب الشروطَ العمرية وشرحها» (1/ 36). وقسَّم الشروط إلى ستة فصول كبيرة أو أبواب:
الأول: في أحكام البِيَع والكنائس، وفي أثنائها بيان حكم الأمصار التي وُجدت فيها هذه المعابد، وما يجوز إبقاؤه منها وما يجب إزالته ومحو رَسْمه.
الثاني: فيما يتعلق بإظهار المنكر من أقوالهم وأفعالهم مما نُهوا عنه.
(المقدمة/27)
الثالث: فيما يتعلق بتغيير لباسهم وتمييزهم عن المسلمين في المركب واللباس ونحوه.
الرابع: في أمر معاملتهم للمسلمين بالشركة ونحوها.
الخامس: في أحكام ضيافتهم للمارَّة بهم وما يتعلق بذلك.
السادس: فيما يتعلق بضرر المسلمين والإسلام، وبيان ما ينقض العهد وما لا ينقضه، وذكر مذاهب العلماء في ذلك (2/ 278).
ثم توسَّع في الكلام على وجوب قتل سابِّ النبي – صلى الله عليه وسلم – وانتقاض عهده، وذكر الأدلة على ذلك من القرآن ثم من السنة، وفي أثناء الدليل الرابع من السنة ينتهي المجلد الأول من الكتاب والذي وصلت إلينا نسخته الفريدة. والظاهر أن المجلد الثاني كان يحتوي على بقية الأدلة من السنة على قتل سابّ الرسول، وأدلة الإجماع والقياس على هذه المسألة، ومسائل أخرى مهمة متعلقة بسبّ الرسول، وكان اعتماد المؤلف في بيان ذلك على كتاب شيخه «الصارم المسلول على شاتم الرسول»، ويمكن الرجوع إليه لتمام الكلام.
وقد أشار المؤلف إلى ثلاث مسائل يذكرها في آخر الكتاب فقال (2/ 439): «واختلف العلماء فيما ينتقض به العهد وما لا ينتقض، وفي هذه الشروط هل يجري حكمها عليهم وإن لم يشترطها إمام الوقت اكتفاءً بشرط عمر – رضي الله عنه -، أو لا بدّ من اشتراط الإمام لها في حكمهم إذا انتقض عهدهم. فهذه ثلاث مسائل». ثم بدأ الكلام في المسألة الأولى فيما ينقض العهد وما
(المقدمة/28)
لا ينقضه، وفي أثنائها انتهى المجلد الأول، وبقي الكلام على المسألتين، وهما في الحقيقة مسألة واحدة ذات شقين، وتكلم عليهما شيخ الإسلام في «الصارم المسلول» باختصار، ولم يتوسَّع في ذلك توسُّعَه في المسألة الأولى. فلعلَّ المؤلف أطال الكلام عليهما وزاد على ما كتبه شيخه، وشرحَه بذكر الأمثلة والوجوه، كما هو منهجه في الاستفادة من كُتب الشيخ، فهو يميل إلى التهذيب والاختصار أحيانًا، ويجنح إلى الشرح والبيان والتفصيل أحيانًا أخرى. وبهذا تمَّ هذا الكتاب في مجلدين كما ذكر الناسخ في آخر النسخة.
وكان الدكتور صبحي الصالح ــ – رحمه الله – ــ يظنّ أنّ القسم المفقود من «أحكام أهل الذمة» قليل، ويستبعد ما كتبه الناسخ في آخر النسخة من وجود مجلد ثانٍ للكتاب، ويقول: إن ما فقدناه من الأصل لم يكن إلّا تلخيصًا للأدلة الأحد عشر الباقية من السنة التي احتج بها شيخ الإسلام في «الصارم» على قتل الساب، واختصارًا لرأيه هو أيضًا في المسألتين التاليتين المتعلقتين باشتراط إمام الوقت لهذه الشروط وعدم اشتراطها. وإذا كان عرض هذه المسألة مفصَّلةً في «الصارم» لم يستغرق إلّا نحو مئة صفحة، فمن المنطقي أن يجيء في «الأحكام» أقلّ من النصف بعد تلخيصها قياسًا على ما نقله ابن القيم من أقوال شيخه. فكيف يكون ذكر هذه الأدلة ــ رغم تلخيصها ــ مُحوِجًا إلى مجلدٍ ثان كما يذكر الناسخ صراحة؟
ويُرجّح الدكتور أنه قد اشتبه الأمر على الناسخ، إذ كان ــ والله أعلم ــ ينقل من كتاب «مجموع» يشتمل على تتمة أقوال ابن القيم في هذا الصدد، وعلى فتاوٍ أخرى قد تكون له أو لسواه في موضوعات مشابهة لأحكام أهل
(المقدمة/29)
الذمة أو مقاربة، أو في مسائل من الفقه الحنبلي على الأقلّ، فوهم الناسخ واعتبر هذا المجموع كله تتمة لكتاب ابن القيم «أحكام أهل الذمة». انظر طبعة الدكتور (ص 657، 871 – 872، 890 – 891، ومقدمة التحقيق 58 – 61).
أقول: كتاب «الصارم المسلول» يحتوي على أربع مسائل:
الأولى: أن السابّ يُقتل، سواء كان مسلمًا أو كافرًا.
الثانية: أنه يتعين قتله، ولا يجوز استرقاقه ولا المنّ عليه ولا فداؤه.
الثالثة: في حكمه إذا تاب.
الرابعة: في بيان السبّ وما ليس بسبٍّ.
والكتاب في 600 صفحة من الطبعة القديمة، و 1113 صفحة في الطبعة الجديدة المحققة، وجميع هذه المسائل متعلقة بأحكام السب الذي ينتقض به عهد الذمة، ولا نتصور أن ابن القيم عندما يتكلَّم في هذا الباب يقتصر على المسألة الأولى منها فقط ويترك المسائل الثلاث الأخرى التي لها ارتباط وثيق بما يَنقُض عهدَ الذمة. وأخطأ الدكتور عندما ظنَّ أن ابن القيم اقتصر على المسألة الأولى، بل ظنَّ أنه اقتصر منها على ذكر أدلة السنة على وجوب قتل السابّ، وأنَّ بها يتم الكلام على المسألة، فألحقَ بالكتاب تلخيصَ بقية أدلة السنة في صفحات معدودة (ص 877 – 890). وفاتَه أن شيخ الإسلام في «الصارم» استدل على هذه المسألة بإجماع الصحابة وبالقياس أيضًا في صفحات كثيرة (ص 378 – 464). ثم تكلم على المسائل الثلاث الأخرى
(المقدمة/30)
في الثلثين الباقيين من الكتاب (ص 465 – 1113). فكيف يُتصَّور أن ابن القيم عندما يؤلف في هذا الباب يترك هذه المسائل المهمة ولا يشير إليها أدنى إشارة؟ أو يكون كتاب شيخه بين يديه ولا يستفيد منه؟ بل أرى أنه إلى جانب نقله واقتباسه من «الصارم» زاد عليه من كتب ومصادر أخرى زيادات بيِّنة، وتوسَّع في بعض المواضع فأطال الكلام فيها عندما وجد شيخه اختصر. وهذا منهج معروف لابن القيم، نجده يختصر أحيانًا من كلام شيخه، ويزيد عليه أحيانًا كثيرة فوائد ونقولًا وتعليقات. والكتاب الذي بين أيدينا خير شاهدٍ على ذلك، فقد نقل من مؤلفات شيخه (مثل: «اقتضاء الصراط المستقيم»، و «درء تعارض العقل والنقل»، و «الصارم المسلول»، وغيرها من رسائله وفتاواه)، ويزيد عليها ويستدرك ويأتي بفوائد ونقول، ويُعلّق عليها من كلامه وبناتِ فكره.
وخلاصة القول أن ما توهَّمه الدكتور ظنٌّ بعيد عن الصواب، واتّهامه للناسخ بأن الأمر اشتبه عليه فظنَّ أن للكتاب مجلدًا ثانيًا= بعيد عن الواقع. وقد صرَّح ابن رجب في «المنتقى» من معجم شيوخ أبيه (ص 101) بأن الكتاب مجلدان، وهذا مما يؤكّد صحة قول الناسخ. وعلينا أن نبحث عن بقية الكتاب في مكتبات المخطوطات في العالم ضمن المخطوطات المجهولة العنوان والمؤلف، وخاصةً تلك التي تتعلق بالفقه وأحكام أهل الذمة. ولعلّ الله يُحدث بعد ذلك أمرًا.
* * * * *
(المقدمة/31)
موارده
من أهم مرتكزات تحقيق الكتب الوقوف على موارد المؤلفين في تآليفهم، لاسيما إذا كان الكتاب يحقَّق على نسخة فريدة فيها شيء من التصحيف والسقط، فإن الرجوع إلى موارد المؤلف يعين على تصحيح العبارة واستدراك السقط، كما أنه يعين على معرفة منشأ الوهم الذي في كتاب المؤلف، فقد لا يكون من المؤلف وإنما من المصدر الذي ينقل منه، إلى غير ذلك من الفوائد التي تعود على المؤلف وكتابه.
والموارد التي تهمُّنا هنا هي ما عدا مصادر الحديث المشهورة كـ «الصحيحين» و «مسند أحمد» و «السنن» التي لا تختص بكتاب دون كتاب أو مبحث دون مبحث.
وفيما يلي أهمُّها:
– «الأموال» لأبي عُبيد القاسم بن سلَّام (ت 224). نقل منه كثيرًا من الأحاديث والآثار بأسانيدها في مباحث الجزية والخراج والفيء وأحكامِها ومتعلقاتها، كما نقل منه كلامَه وترجيحاته في هذه المباحث. وفي أغلب تلك المواضع يذكر اسم المؤلف دون الكتاب، وقد صرَّح بذكر الكتاب في موضعين (1/ 7؛ 2/ 420).
– «الجامع» للخلال (ت 311)، لاسيما «كتاب أهل الملل والردَّة والزنادقة» منه، فقد اعتمد عليه في الكتاب كلِّه في نقل الروايات عن الإمام
(المقدمة/32)
أحمد، وقد يكتفي بـ «قال الخلال» وهو الكثير، وقد يضيف إليه «في الجامع» أو «في جامعه» (1/ 162، 200؛ 2/ 6، 16، 94 وغيرها)، وقد يقول: «قال الخلال في كتاب أحكام أهل الملل» (2/ 275، 309). و «جامع الخلال» أغلبه مفقود، ومن حسن الحظ أن كتاب أهل الملل منه موجود مطبوع. وقد رجعنا إلى طبعة مكتبة المعارف بتحقيق إبراهيم بن حمد السلطان. ورجعنا إلى طبعة دار الكتب العلمية في بعض المواضع عند وجود سقط في هذه الطبعة. وكما أن هذا الكتاب أفاد في تصحيح النصوص الواردة في كتابنا، فكذلك بالعكس، فإن كلتا الطبعتين فيهما تصحيف في مواضع كثيرة يُصحَّح بعضُها من كتابنا.
– «الاستذكار» و «التمهيد» كلاهما لابن عبد البر. وقد صرَّح باسم الأول في (2/ 244، 263). ونقل منه كلامًا في مسألة إسلام أحد الزوجين، عزاه إلى المؤلف دون ذكر اسم كتابه (1/ 455 – 457). وصرَّح بذكر الثاني في (2/ 217) ونقل منه ما يتعلَّق بحكم أطفال المسلمين في الآخرة.
– «أحكام القرآن» للقاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي (ت 282) نقل منه فصلًا طويلًا (1/ 353 – 357) حول اختلاف الناس فيما ذبح النصارى لأعيادهم أو ذبحوا باسم المسيح، وفصلًا آخر في معنى «الإحصان» (1/ 566 – 568). ولا يوجد الفصلان في القدر المطبوع من الكتاب.
– «الخلافيات» للبيهقي (ت 458). نقل منه دون التصريح باسم الكتاب، وإنما يكتفي بذكر المؤلف. انظر: (1/ 461 – 475)
(المقدمة/33)
– من أوسع مصادر المؤلف في الفقه المذهبي: «المغني» لابن قدامة (ت 620)، اعتمد عليه كثيرًا في نقل المذهب والمذاهب الأخرى في ثنايا الكتاب كلِّه، تارةً يصرِّح بذكره فيقول: «قال الشيخ في المغني» (1/ 120، 253، 550؛ 2/ 8، 76 وغيرها)، وقال مرَّة: «قال أبو محمد في المغني» (1/ 61)، ومرَّة: «قال الشيخ أبو محمد المقدسي» (1/ 117). ونقل منه في مواضع كثيرة مع تصرُّف دون العزو إليه (1/ 68، 259، 346، 382؛ 2/ 71، 331 وغيرها).
– ومن المصادر الأخرى التي نقل عنها في الفقه الحنبلي: «التعليق» (1/ 390، 2/ 8، 12، 318، وغيرها) و «الجامع الكبير» (2/ 189) و «الأحكام السلطانية» (1/ 33، 67، 2/ 423) كلها للقاضي أبي يعلى، و «الرعاية» لابن حمدان (1/ 116، 126، 172، 210، 298).
– وأما الفقه الشافعي، فنقل عن «المختصر» للمزني (1/ 97، 2/ 46، 311) و «نهاية المطلب» للجويني (1/ 107، 125، 2/ 68، 312 وغيرها) و «روضة الطالبين» للنووي (2/ 84).
– وأما في الفقه المالكي فيعتمد على «عقد الجواهر الثمينة» لابن شاس المالكي (ت 616)، وقد صرَّح به في موضعين (2/ 313، 356)، ولم يصرِّح به في أكثرها (1/ 37، 68، 225، 263؛ 2/ 96 وغيرها).
– وفي الفقه الحنفي نقل عن «الاختيار لتعليل المختار» لابن مودود الموصلي (ت 683)، دون التصريح به (2/ 98، 311).
(المقدمة/34)
– من مصادر المؤلف كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد نقل منها ترجيحاته ومناقشاته في عدة مباحث، ففي معنى الفطرة التي يولد كل مولود عليها نقل عن «درء التعارض» (2/ 111 وما بعدها).
وفي مسألة وجوب قتل ساب الرسول اعتمد على «الصارم المسلول» مع تهذيب مباحثه واستدلالاته وتنقيحها وترتيبها والزيادة عليها.
وفي مسألة توريث المسلمين من أهل الذمة نقل كلام شيخ الإسلام (2/ 30 – 43) من مصدرٍ لا زال في عداد المفقود.
– ومن موارد المؤلف في التفسير: «البسيط» للواحدي (ت 468). نقل منه دون التصريح بذكره (1/ 17؛ 2/ 279، 282).
– وفي مسألة أطفال المشركين نقل عدَّة أحاديث وآثار مسندة من كتاب «الرد على ابن قتيبة» لمحمد بن نصر المروزي، كما نقل منه كلامه في معنى الفطرة التي يولد الناس عليها وتعقَّب بعضه. انظر: (2/ 105، 184، 257).
– وفي شرح الشروط العمرية أكثر المؤلف النقل عن هبة الله الطبري اللالكائي من كلام له في «شرح كتاب عمر بن الخطاب»، وصرَّح بكتابه في (2/ 376).
– ونقل أيضًا عن «شروط عمر» لأبي الشيخ الأصبهاني (2/ 339).
– وفي التعريف بالصابئة اعتمد على «الملل والنحل» للشهرستاني دون أن يشير إليه (1/ 133 وما بعدها).
* * * * *
(المقدمة/35)
أثره في الكتب اللاحقة
من أوائل مَن نقل عن «أحكام أهل الذمة» واعتمد عليه اعتمادًا كاملًا دون أن يذكر المصدر: شمس الدين محمد بن علي الشهير بابن النقّاش (ت 763) في كتابه «المذمة في استعمال أهل الذمة» الذي ألَّفه سنة 759. فقد بدأ كتابه بسرد الآيات الدالة على عدم موالاة اليهود والنصارى والكفار (ص 257 – 265) [ط. دار الكتب العلمية 1422] بنفس السياق والترتيب الذي يُوجد عند ابن القيم في هذا الكتاب (1/ 336 – 340) مما يدلُّ على أن ابن النقاش نقلها عنه. وممّا يؤكّد ذلك أن ابن القيم قدَّم لبعض الآيات بكلامٍ من عنده، فنقله ابن النقّاش كما هو بدون تصرُّف، والفصل الذي يلي الآيات منقول عنه أيضًا برمَّته.
وكذلك الأحاديث والآثار الدالة على منع استعمال اليهود والنصارى في شيء من ولايات المسلمين وأمورهم منقولة مع شرحها كما هي عند ابن القيم، قارن «المذمة» (ص 268 – 273) بـ «أحكام أهل الذمة» (1/ 299 – 304). ووهم في عزو بعض النصوص إلى المصادر، ومن أمثلة ذلك أنه قال: «وفي مسند أحمد عن عياض الأشعري عن أبي موسى … » (ص 270)، وعند ابن القيم (1/ 302): «وقال عبد الله بن أحمد حدثنا أبي … ». ولا يوجد الحديث في «مسند أحمد» وزيادات عبد الله، وإنما نقله ابن القيم عن «الجامع» للخلال (1/ 197).
ونقل ابن النقاش فصولًا طويلة في معاملة الخلفاء والأمراء مع أهل
(المقدمة/36)
الذمة وعدم استعمالهم في شؤون المسلمين (ص 274 – 319)، وهي منقولة بحذافيرها من كتاب ابن القيم (1/ 305 – 333، 340 – 343). ولم يزد عليه شيئًا إلّا بعض الأحداث التي كانت في القرن الثامن («المذمة» ص 319 – 325)، ولعلها منقولة من بعض التواريخ، وبه ينتهي الكتاب.
وعلى هذا فكتاب «المذمة» لابن النقاش مبني على كتاب «أحكام أهل الذمة» لابن القيم، ولم يُشر المؤلف أدنى إشارة إلى مصدره الذي كان أمامه ونقل عنه ما أراد! ولم يزد عليه شيئًا ذا بال.
وإذا تجاوزنا كتاب «المذمة» نجد في كتب الفقه الحنبلي نقولًا من كتاب «أحكام أهل الذمة»، وهذه بعض النصوص المنقولة عنه:
1 – في «تحفة الراكع والساجد» للجراعي (ت 883) (ص 195، 196): «قال ابن القيم: وقد أدخل بعض أصحاب الشافعي اليمن في جزيرة العرب … فهذا القول غلط محض» قرابة عشرة أسطر. وهذا النقل من «أحكام أهل الذمة» (1/ 258 – 259)
2 – في «الإنصاف» للمرداوي (10/ 454): «قال ابن القيم في بدائع الفوائد وأحكام الذمة له: والصواب إثبات الواو [في «وعليكم» إجابةً على سلام أهل الذمة]، وبه جاءت أكثر الروايات، ذكرها الثقات الأثبات». قارن بـ «أحكام أهل الذمة» (1/ 277 – 278).
3 – وفي «الإنصاف» (27/ 165) أيضًا في مبحث إسلام الطفل من أهل الذمة بموت أبويه أو أحدهما: «وعنه: لا يُحكَم بإسلامه، قال ابن القيم في
(المقدمة/37)
أحكام الذمة: وهو قول الجمهور. وربما ادُّعي فيه إجماع متيقن معلوم، واختاره شيخنا تقي الدين». قارن بـ «أحكام أهل الذمة» (2/ 61).
4 – في «الإقناع» للحجاوي (2/ 50) و «كشاف القناع» (3/ 132): «فقال ابن القيم في كتاب أحكام الذمة له: لا تقرّ، لأن التعلية مفسدة، وقد شككنا في شرط الجواز». قارن بـ «أحكام أهل الذمة (2/ 329).
5 – في «كشاف القناع» (4/ 246) و «مطالب أولي النهى» لمصطفى الرحيباني (4/ 283): «قال في أحكام أهل الذمة: وللإمام أن يستولي على كل وقفٍ وُقِف على كنيسة وبيت نار أو بيعة، ويجعلها على جهة قربات». قارن بـ «أحكام أهل الذمة» (1/ 417).
6 – في «مطالب أولي النهى» (2/ 614) أيضًا: «لأنها محرمة في نفسها، كبائع نحو الميتة أو الخنزير، فإنه لا يُقضى له بثمنها، لأن نفس هذه العين محرمة. أفاده ابن القيم في أحكام أهل الذمة». قارن بـ «أحكام أهل الذمة» (1/ 319).
ويبدو أن الكتاب لم تكثر نسخه الخطية، فلم تكن متداولة بين العلماء، ولم ينقل عن الكتاب إلّا بعض المؤلفين، ولكنه كان موجودًا إلى القرن الثالث عشر، فقد نقل عنه مصطفى الرحيباني (ت 1243) وبعض علماء نجد المتأخرين كما سيأتي ذكرهم في وصف النسخة الخطية.
* * * * *
(المقدمة/38)
وصف النسخة الخطية
هي محفوظة في «مدرسة محمَّدية» في مدينة مَدْراس (وتسمَّى اليوم: تِشينَّاي) في ولاية «تاميل نادو» الهندية. وهي في قطع صغير، فكل صفحة منها كحجم الكفِّ أو أكبر بقليل. وعدد صفحاتها 569 صفحة بحسب الترقيم المثبت على الصفحات، فيكون عدد أوراقها 285 ورقة (1)، في كلِّ صفحة 21 سطرًا بالمداد الأسود، إلا أن العنوان والفصول و «قيل» و «قلت» ونحوها رُقِمت بمداد أحمر.
كُتب على صفحة العنوان بمداد أحمر بخط الناسخ: «أحكام أهل الذمة للإمام العلامة شمس الدين ابن القيم الحنبلي».
وتحته في الجهة اليسرى: «الحمد لله [دخل] في ملك الحقير إبراهيم بن محمد بن إسماعيل الأمير ــ لطف الله بهم وعفا عنهم ــ بمكة المشرفة سنة 1167».
وإبراهيم هذا هو ابن صاحب «سبل السلام»، عالم مفسِّر، وصاحب سنَّة كأبيه، رحل إلى مكة مرَّات ثم استقرَّ بها إلى أن توفي – رحمه الله -. له ترجمة في «التاج المكلل» للنواب صديق حسن خان (ص 377) و «الأعلام» للزركلي (1/ 69).
_________
(1). وهم الشيخ صبحي الصالح ــ رحمه الله ــ في مقدمته (ص 49) حيث ظن أن (569) المرقوم على الصفحة الأخيرة هو عدد الأوراق، فقال: إنها 1138 صفحة.
(المقدمة/39)
وتحته قيد تملُّك آخر: «ملكه ملكًا مجازًا لا حقيقة، أضعف العباد وأحوج الخليقة، راجي عفو ربِّه الغفور: محمد درويش بن المرحوم (1) الخطيب محمد عبد الشكور المدني، في 18 جماد آخر (كذا) سنة 46». وذُيِّلت هذه العبارة بختم لم يتَّضح ما فيه إلا أن صبحي الصالح ذكر أن نصَّه: «درويش عبد الشكور».
ثم عن يمينه تملُّكٌ آخر: «في ملك الفقير إلى الله تعالى أحمد بن عبد القادر بالخير الحضرمي عفا اللهُ عنهما وغفر ذنوبهما».
وتحته مباشرة بخط حديث «محمود بن صبغة الله». وهو أحد أبناء الشيخ القاضي صبغة الله بن محمد غوث المدراسي المعروف بالقاضي بدر الدولة المتوفى سنة 1280. له ترجمة في «نزهة الخواطر» (7/ 991).
وفي آخر المجلد: «آخر المجلد الأول، ويتلوه إن شاء الله تعالى في الثاني: فصل: الدليل الخامس. والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. وكان الفراغ من كتابته ومقابلته في يوم الأحد حادي عشري جمادى الثاني من شهور سنة تسعٍ وستين وثمانمائةٍ … » (2).
ولم يذكر الناسخ اسمه، وهو ــ كما في بعض المخطوطات التي وصلت إلينا بخطه (3) ــ إبراهيم بن علي بن أحمد بن بُرَيد الديري القادري الشافعي
_________
(1). قرأه الشيخ صبحي: «الحصوم»، خطأ.
(2). انظر: (2/ 518).
(3). أفادنا بذلك الباحث النِّقاب عبد الله بن علي السليمان، جزاه الله خيرًا.
(المقدمة/40)
المتوفى سنة 880. ترجم له السخاوي في «الضوء اللامع» (1/ 80).
والمخطوط بخط نسخي واضح، ويكتب الناسخ تعقيبة في نهاية كل ورقة. وآثار المقابلة عليها واضحة من استدراك السقط في الهامش، كما أنه ذكر كلمات في الهامش وعليها (خ) بمداد أحمر، ولعلها إشارة إلى نسخة أخرى قابل عليها الناسخ أو كانت كما هي في النسخة الأم المنقول منها. وأيضًا كُتبت عناوين جانبية في بعض الصفحات، ولكنها بخط آخر متأخر.
وقد يستشكل الناسخ بعض الكلمات من حيث السياق والمعنى فيكتب عليها (كذا) بالحمرة، وقد يستشكل رسم بعض الكلمات فلا يتمكن من قراءتها فيحاكي رسمها غيرَ محرَّرٍ ثم يُعلِم عليها بالحمرة ويكتب في الهامش (ظ)، أي: يُنظر في أمرها.
ورغم تلك العناية، فالناسخ قد وقع في تصحيف عددٍ من الكلمات، لاسيما في أواخر المجلد.
* قطع أخرى من الكتاب:
إلى جانب النسخة الخطية التي وصفناها توجد مقتطفات من هذا الكتاب في بعض المجاميع المخطوطة التي كتبت في القرن الثالث عشر، مما يدل على أن الكتاب كان موجودًا عند العلماء إلى نهاية القرن المذكور، ونرجو أن تكون نسخته محفوظة في بعض المكتبات، ولعلّ الله يُحدِث بعد ذلك أمرًا.
في مكتبة وزارة الأوقاف بالكويت ضمن مجموع برقم 324 (الورقة
(المقدمة/41)
46 – 47) توجد قطعة من الكتاب بخط أحد علماء نجد في القرن الثالث عشر، تبدأ بقوله: «قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب أحكام أهل الذمة بعد ما ساق حديث بريدة الذي في صحيح مسلم … قال: وفي هذا الحديث أنواع من الفقه … ». ثم أورد الناسخ مقتطفات من الكتاب هي في طبعتنا (1/ 9 – 12، 14 – 15، 27 – 31، 32).
وفي المكتبة المذكورة برقم 1372 (الورقة 7) بعض النصوص المنقولة من الكتاب (2/ 183، 186، 207 – 208) بخط أحد علماء نجد المتأخرين، وصرَّح بأنها منقولة من كتاب «أحكام أهل الذمة» لابن القيم.
وفي مكتبة الأوقاف العامة ببغداد برقم 4767/ 9 ورقتان من الكتاب بخط بعض العلماء، كما في فهرس المكتبة (1/ 655).
* * * * *
(المقدمة/42)
الطبعات السابقة
طبع الكتاب قبل أكثر من نصف قرنٍ، بتحقيق الدكتور صبحي الصالح – رحمه الله -، ثم بالاعتماد عليها صدرت طبعات أخرى حديثة، أشهرها طبعة دار رمادي للنشر. وفيما يلي وصف هاتين الطبعتين وما لهما وما عليهما:
1 ــ طبعة صبحي الصالح
صدرت عن دار العلم للملايين (بيروت) سنة 1961 م (= 1380 هـ). اعتمد فيها على نسخة استنسخها الدكتور محمد حميد الله من النسخة الفريدة التي بالهند، قام بنسخها له السيد محمد قدرت رحيم فاروقي من أهل العلم بمدينة حيدراباد، انتهى منه في 27 ذي الحجة 1369 (1)، ثم عارضها الدكتور حميد الله بالأصل قاصدًا إثبات أرقام صفحات الأصل في المنسوخة حتى يتيسر الرجوع إلى الأصل إذا احتيج إليه. كما أثبت بعض الملاحظات في الهامش، لا سيما في المواضع التي فيها تصحيف أو سقط.
وكان الدكتور محمد حميد الله – رحمه الله – ينوي إخراج الكتاب بنفسه لولا أنه شُغل عنه بدراسات أخرى في ذلك الحين، فرغَّب صديقه الدكتور صبحي الصالح في أن يقوم به، وأرسل إليه تلك المنسوخة من الأصل.
وبالاعتماد على هذه المنسوخة حقَّق صبحي الصالح الكتاب ونشره.
_________
(1). كما أثبته صبحي الصالح في آخر نشرته (2/ 873).
(المقدمة/43)
وكان أراد أن يجلب الأصل أو صورة منه من الهند، ولكن لغلاء التصوير لم يطلب إلا تصوير ما كان بحاجة ماسَّة إليه من الصفحات.
وقد بذل – رحمه الله – جهدًا مضنيًا في تصحيح العبارة بالرجوع إلى المصادر التي اعتمدها المؤلف وغيرها من كتب الفقه والحديث والتراجم، حتى تسنَّى له أن يدَّعي في مقدمته أنه «مطمئن كلَّ الاطمئنان إلى سلامة نصِّ الكتاب كلِّه من الخطأ والتحريف والتصحيف» (1).
ولكن مع ذلك وقع في هذه الطبعة سقط في مواضع كثيرة، ومنشأ كثير من ذلك من ناسخ الفرع المعتمَد في إخراج هذه الطبعة. كما وقع فيه تصحيف وتحريف في كثير من الكلمات، وسيأتي ذكر الأمثلة على ذلك.
وقدَّم – رحمه الله – بمقدمة حافلة (2) عرَّف فيها بالكتاب وعرض المسائل الواردة فيه والنسخة التي اعتمدها وقصَّة الحصول عليها. ثم ألحق في آخر الكتاب ملحقَين إكمالًا للنقص الذي في آخر النسخة: الأول في تتمة الاحتجاج بالسنة على وجوب قتل السابِّ، والثاني في تلخيص القول في المسألتين الباقيتين. وقد لخَّصهما من «الصارم المسلول»، حيث كان المؤلف صادرًا عنه في الأدلة الأربعة الأولى من السنة التي أوردها.
وفيما يلي نماذج من السقط والتحريف الذي وقع في هذه النشرة:
_________
(1). (ص 65).
(2). انظر ما كتبه الدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود في «موقف ابن تيمية من الأشاعرة» (1/ 140) في نقد بعض ما جاء فيها.
(المقدمة/44)
– (ص 3): «أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعث أبا عبيدة بن الجرَّاح إلى البحرين يأتي بجِزْيتها، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هو صالح أهل البحرين، وأمَّرَ عليهم العلاء بن الحضرمي». سقط ما تحته خط. انظر طبعتنا (1/ 6).
– (ص 22): «حديث بُريدة: «فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا» صريحٌ في [أن حكم الله] واحدٌ». ما تحته خط سقط من النسخة الفرعية لانتقال النظر، فسقط من المطبوع إلا القدر الذي بين الحاصرتين، فإن المحقق زاده من عنده ليقيم السياق، فوافق لفظَ الأصل. انظر طبعتنا (1/ 32).
– (ص 22): «فمن قال: كل مجتهدٍ مصيبٌ بمعنى أنه يصيب حكم الله الذي حكم به في نفس الأمر فقوله خطأ، وإن أراد أنه مصيب للأجر بمعنى أنه مطيعٌ لله في أداء ما كُلِّف به، فقوله صحيح». سقط ما تحته خط. انظر طبعتنا (1/ 32).
(ص 43): «ألا تراه إنما جعلها على الذكور المذكورين دون الإناث والأطفال». ما تحته خط تصحيف عن «المُدرِكين» كما في الأصل وفي طبعتنا (1/ 62).
– (ص 46): «وعلى هذا استمرت سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وسنة خلفائه كلهم وعمل الأئمة في جميع الأعصار حتى يومنا هذا». سقط ما تحته خط. انظر طبعتنا (1/ 67).
– (ص 80): «وهكذا حفظ أهل المغازي فقالوا: رَامَهم عمر – رضي الله عنه –
(المقدمة/45)
على الجزية فقالوا: نحن عربٌ لا نؤدّي كما يؤدِّي العجم، ولكن خُذ منّا كما يأخذ بعضكم من بعضكم، يعنون الصدقة، فقال عمر: هذا فرض على المسلمين، فقالوا: ازدَدْ ما شئتَ بهذا الاسم لا اسم الجزية». سقط ما تحته خط. انظر طبعتنا (1/ 114).
– (ص 125): «ووجه الوضع أن ما لا يناله [الماء] فينتفع به في مصالح [الناس يكون بمنزلة] ما يناله الماء». هكذا ورد النص في المطبوع، وصوابه كما في الأصل وطبعتنا (1/ 175): «ووجه الوضع أن ما لا يناله الماء تبعٌ لما يناله، فينتفع به في مصالح ما يناله الماء». لمَّا سقط ما تحته خط من النسخة الفرعية التي كانت بين يديه، اجتهد في إقامة السياق بإضافة كلمات بين المعكوفات.
– (ص 126): «فإن نزل هو عنها أو اشتراها غيره صار الثاني أحقَّ بها». ما تحته خط تصحيف مخالف للأصل، صوابه: «وآثَرَ بها» كما في طبعتنا (1/ 176).
– (ص 145): «ويُشبِّهه بماله ليس عليه فيه زكاةٌ إذا كان مقيمًا بين أظهُرِنا وبما شئت». ما تحته خط تصحيف عن «وبماشيته» كما في الأصل وفي طبعتنا (1/ 205).
– (ص 159): «لو دخلوا بإماءٍ فابن حبيبٍ يمنعهم من وطئهن واستخدامهن، ويحول بينهم وبينهن، لأنه يرى المسلمين شركاءهم. وابن القاسم لا يرى المنع، ولا يحول بينهم وبينهن، إذ لا يرى الشركة». سقط ما تحته خط لانتقال النظر. انظر طبعتنا (1/ 225).
(المقدمة/46)
– (ص 194): «وبالجملة فهو السلام من كل ما ينافي كلامه المقدس بوجهٍ من الوجوه». ما تحته خط تصحيف عن «كماله» كما في طبعتنا (1/ 273).
– (ص 272): «وقال حربٌ: قلت لأحمد: رجل يدفع ماله مضاربةً إلى الذمي تكرهه؟ قال: لا». ما تحته خط تصحيف قلب المعنى، صوابه: «فكرهه»، أي أن الإمام أحمد كره ذلك وقال: لا. انظر طبعتنا (1/ 380).
– (ص 445): «فحكى الميموني عن أبي عبد الله في أول المسألة ما يدل من قول أبي عبد الله واحتجاجِه». سقط ما تحته خط. انظر طبعتنا (2/ 7).
– (ص 466): «ثم لمَّا أسلموا عامَ الفتح أقرَّهم النبي – صلى الله عليه وسلم – على ما أسلموا عليه وقال: «مَن أسلم على شيء فهو له». سقط ما تحته خط. انظر طبعتنا (2/ 34).
– (ص 474): «وهاهنا علة الميراثِ الإنعامُ، واختلاف الدين لا يكون من علله». ما تحته خط خطأ نشأ من تصحيفٍ في النسخة الفرعية التي كانت بين يديه، فإنه كان فيها: «من بلاله» على ما ذكره في الهامش، فأصلحه إلى المثبت. والصواب كما في الأصل وطبعتنا (2/ 43): «مزيلًا له».
– (ص 494): «نقله الحربي»، صوابه: «نقله الخِرَقي» كما في الأصل وطبعتنا (2/ 64).
(المقدمة/47)
– (ص 494): «فهناك موجِب الميراث عُلِّقَ بالموت فلم يوجبه، وهنا مانع الميراث علّق بالموت فلم يمنعه». سقط ما تحته خط. انظر طبعتنا (2/ 64).
– (ص 524): «فأمَّا عبد الله بن المبارك فإنَّه سُئل عن تأويل هذا الحديث، فقال: تأويله الحديث الآخر أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – سئل عن أطفال المشركين». سقط ما تحته خط فاختل السياق. انظر طبعتنا (2/ 104).
– (ص 524): «فكيف يكتم مع مذهبه في الأطفال أنهم على الإسلام بموت آبائهم». ما تحته خط تحريف، صوابه «يلتئم» كما في الأصل وفي طبعتنا (2/ 104).
– (ص 525): «حكى أبو عبيد هذين القولين، ولم يحلَّ على نفسه في هذا قولًا ولا اختيارًا». ما تحته خط تحريف عن: «يحكِ عن». انظر طبعتنا (2/ 105).
– (ص 564): «فإنَّ الرسول يدعو إلى التوحيد، لكن إن لم يكن في الفطرة دليلٌ عقليٌّ يعلم به إثبات الصانع= لم يكن في مجرَّد الرسالة حجةٌ عليهم». سقط ما تحته خط فاختل السياق. انظر طبعتنا (2/ 153).
– (ص 577): «فمن كان صغيرًا بين أبوين كافرَين أُلحِق بحكم الكفَّار، ومن كان صغيرًا بين أبوين مسلمَين أُلحِق بحكم الإسلام». سقط ما تحته خط. انظر طبعتنا (2/ 170).
– (ص 581): «وكذلك قوله: (فقال هو والملائكة: شهدنا)، هذا خطاب قطعًا، بل هو من تمام كلامهم» ما تحته خط تصحيف في المطبوع تبعًا للأصل، صوابه: «خطأ» كما هو واضح من السياق. انظر طبعتنا (2/ 174).
(المقدمة/48)
– (ص 584): «وهذا الغلام الذي قتله الخضر يحتمل أنَّه كان بالغًا مطلقًا». ما تحته خط تحريف عن: «مكلَّفًا». انظر طبعتنا (2/ 178).
– (ص 703): «وإذا لم يكن من هدمه بدٌّ فالوجه أن يبنوا جدارًا داخل البيعة، ثم قد يُفضي هذا إلى أن يبنوا جدارًا ثالثًا إذا ارتجَّ الثاني». سقط ما تحته خط. انظر طبعتنا (2/ 322).
– (ص 703): «وهكذا إلى أن تُبنى ساحة الكنيسة». ما تحته خط تحريف أفسد السياق، صوابه: «تفنى» كما في الأصل وفي طبعتنا (2/ 322).
– (ص 712): «وإذا شاء المسلمون نزلوها منهم فإنَّها ملك المسلمين». ما تحته خط تصحيف في المطبوع تبعًا للأصل، صوابه: «نزعوها» كما هو واضح من السياق. انظر طبعتنا (2/ 333).
– (ص 736): «ثم ساق من طريق العرياني: حدثنا عبد الرحمن بن ثابت … ». إنما هو «الفريابي» كما في طبعتنا (2/ 363)، ولكن لمَّا تصحَّف رسمه في الأصل (وعنه في الفرع الذي بين يديه) لم يهتد إلى صوابه. ولو راجع ترجمة عبد الرحمن بن ثابت في كتب الرجال لوجد من الرواة عنه «محمد بن يوسف الفريابي».
(ص 766): «أنَّ المسلمة مع الكافرة كالأختين اللَّتين تنظران [ما] تدعو إليه الحاجة». صوابه: «كالأجنبي الذي ينظر» كما في طبعتنا (2/ 402)، ومنشأ الخطأ: تحريف «كالأجنبي» إلى «كالأختين» في الأصل، فغيَّر المحقق ما بعده ليقيم السياق، فزاد التحريف تحريفًا.
(المقدمة/49)
– (ص 773): «وأما قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لا تَبدؤوهم بالسلام»، فهو في واقعةٍ معينة؛ قال: «إني ذاهب إلى يهود فلا تبدؤوهم بالسلام»، وهذا لمَّا ذهب إليهم ليُحارِبهم». سقط ما تحته خط. انظر طبعتنا (2/ 413).
– (ص 852): «أن كعبًا كان له عهدٌ من النبي – صلى الله عليه وسلم – وأمان، وقد ذكرنا الرواية الخاصة أن كعب بن الأشرف كان معاهدًا للنبي – صلى الله عليه وسلم -». سقط ما تحته خط. انظر طبعتنا (2/ 497).
* ما سبق أمثلة قليلة للتحريف والسقط الكثيرَين في هذه الطبعة، وقد يكون بعضها أو كثير منها بسبب التحريف والسقط في النسخة الفرعية التي كانت بين يديه – رحمه الله -. ولكن هناك مواضع عديدة كان ما في النسخة فيها صوابًا فغيَّره ظنًّا منه أنه خطأ، فمثلًا:
(ص 348): «ثنا سوَّار بن مجشر عن أيوب عن نافع». قال في الهامش: «في الأصل (سرار بن مجشر) بالراء، وإنما هو سوَّار بالواو المشددة ـ ضبطه في القاموس المحيط». قلنا: الصواب هو ما في الأصل، وهو من رجال النسائي، له ترجمة في «تهذيب الكمال» وفروعه، ولا ندري لماذا عدل المحقق عن كتب الرجال إلى «القاموس المحيط»!
– (ص 471): «فتثبت في حقه العصمة المُورِّثة دون المُضَمِّنة كما يقول ذلك أبو حنيفة وغيره». كان في الأصل كما ذكر المحقق نفسه في الهامش: «العصمة المؤثِّمة»، وهو الصواب، ولكنَّه ظنَّ أنه خطأ فغيَّره. انظر طبعتنا (2/ 39) والتعليق عليه لبيان معنى «العصمة المؤثِّمة».
(المقدمة/50)
– (ص 626): «وقال الخلال: أخبرنا حفص بن عمر الرازي». قال في الهامش: «في الأصل (حفص بن عَمرو الربالي) بدون إعجام اللفظ الأخير، وإنما هو حفص بن عمر الرازي، أبو عمران، نزيل البصرة … الخلاصة 75». هكذا جزم بأنه هو، مع أن الخلال (ت 311) لا يمكن أن يكون أدرك حفصًا الرازي الذي هو من صغار أتباع التابعين (الطبقة التاسعة عند الحافظ)، ولو نظر في «الخلاصة» بعده بسطرين لوجد: «حفص بن عمر (كذا) الربالي»، وهو الذي ورد في الأصل. انظر طبعتنا (2/ 226).
– (ص 652): «فيقول الرب سبحانه: قبل أن أخلقَكم علمتُ ما أنتم عاملون، وعلى علمي خَلقتُكم، وإلى علمي تصيرون جميعكم، فتأخذهم النار». كان في الأصل: «ضُمِّيهم»، وهو أمر الله تعالى للنار أن تأخذهم، وهو لفظ الحديث، ولكن لم يفهم المحقق وجهه فغيَّره إلى المثبت. انظر طبعتنا (2/ 261).
– (ص 741): «واتَّخذوا الوَفْر والجُمَم». وقال في الهامش: «في الأصل (الحمام) بالحاء المهملة، صوابه (الجُمم) كما أثبتناه … » إلخ. قلنا: ما في الأصل صواب محض، فإن الجُمَّة تجمع على «جِمام» أيضًا كما هو منصوص عليه في «جمهرة ابن دريد» وغيره. وكونه لم يُعجم لا يضرُّه، فكثير من الكلمات تركها الناسخ من غير إعجام.
– (ص 786): «أحدهما: ما ذكرناه من ظهور سبب الحق، لِتعذُّر الأخذِ وخفائه، فينسب إلى الجناية». صواب العبارة كما في طبعتنا (2/ 429): «ما ذكرناه من ظهور سبب الحق فيُعذَر الآخِذُ، وخفائه فيُنسَب إلى الخيانة». وقد
(المقدمة/51)
ذكر المحقق نفسه في الهامش أنه في الأصل: «فيعذر». وهو الصواب ولكن لمَّا لم يفهم السياق غيَّره. وأما «الجناية» فتصحيف في الأصل.
(ص 837): «وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حرث وأشجار يخشى فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد – صلى الله عليه وسلم -». قال في الهامش: «في الأصل (حدث واسحار) صوابه ما أثبتناه». كلَّا، بل ما في الأصل هو الصواب، وإعجامه الصحيح: «حدث واشتجار».
(ص 838): «حلفاء بني عوف بن الخزرج رهط ابن أبي رُهْم البطن الذي بُدئ بهم فيه هذه الصحيفة». صوابه كما في الأصل: «رهط ابن أُبَيٍّ، وهم». وقد ذكر المحقق في الهامش ما في الأصل، ولكنه لم يهتد إلى وجهه، فغيَّره بناءً على ما في نشرة محمد محيي الدين من «الصارم المسلول» (ص 64)، ولم يَفْطَن أن ابن أبي رُهْم – رضي الله عنه – قرشيٌّ من السابقين الأولين، وليس خزرجيًّا!
ومع ذلك كلِّه، فللدكتور صبحي الصالح فضل السبق في إخراج الكتاب وبذلِ الجهد في تصحيحه حسب وُسعه، وقد استفدنا من قراءته في بعض المواضع وزياداته المقترحة لإقامة النص في مواضع أخرى مع الإشارة إلى ذلك، فرحمه الله تعالى وغفر له وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرًا.
2 ــ طبعة دار رمادي للنشر
طُبعت سنة 1418 هـ/1997 م بتحقيق يوسف بن أحمد البكري وشاكر بن توفيق العاروري في ثلاثة مجلدات. هذه النشرة مأخوذ نصُّها من نشرة
(المقدمة/52)
صبحي الصالح، ولم يُعتمد فيها على الأصل الخطي، وبالتالي ففيها جلُّ ما في تلك النشرة من السقط والخطأ، وإنما استطاع المحققان استدراك بعض السقط وتصحيح بعض الأخطاء ــ لا سيما في أسماء الرواة ــ بالرجوع إلى مصادر المؤلف وكتب الحديث. وفاتهما الشيء الكثير من التصحيف والخطأ مع إمكان تصحيحه من المصادر التي وقفا عليها وعزَوا إليها، كما سيأتي الأمثلة على ذلك. وقد يكون من أسباب هذا العَوَز أن أغلب جهدهما كان منصبًّا على تخريج الأحاديث والتطويل فيها على حساب التأمل في النص وتفهُّمه على وجهه.
وأكبر ما يؤخذ على هذه الطبعة: أن المحققَين عمدا إلى زيادات صبحي الصالح التي كان قد زادها اجتهادًا منه بين المعكوفات [] تمييزًا لها عن النص المنقول من الأصل الخطي= عمدَا إلى جميع تلك الزيادات فجعلاها في النص بحذف المعكوفات مع عدم الإشارة إلى ذلك في الهامش، فاختلط ما كان في الأصل الخطي بما زاده صبحي الصالح فيه. وهذه جناية في حق المؤلف وكتابه، فإن من وقع على خطأ في الكلام المقحم سيحمِّل المؤلف تبعته طالما أنه لم يتميّز عن كلامه، والمؤلف بَراءٌ منه.
فمثلًا جاء في كلام المؤلف كما في الأصل وطبعتنا (2/ 110): « … وبقوله تعالى عن مؤمن آل ياسين: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ اُلَّذِي فَطَرَنِي}»، فتوهَّم صبحي الصالح – رحمه الله – أن في الكلام سقطًا فأصلحه هكذا: «وبقوله تعالى عن مؤمن آل [فرعون في سورة] يس … ». وهو خطأ محض، فليس في سورة يس ذكر قصة موسى، ولا ذكر فرعون ولا مؤمن آل فرعون، إنما هو
(المقدمة/53)
مؤمن آل القرية المُضروب بها المَثَل في يس، فعبَّر عنه المؤلف بـ «مؤمن آل ياسين»، ولا غُبار عليه. وكان الخطب هيِّنًا ما دامت الزيادةُ الخاطئة محصورةً ومقصورةً بين المعكوفين، ولكن جاء محققا طبعة دار رمادي فحذفا المعكوفين ليصير الإقحام من كلام المؤلف، فكان رمًّا على فسادٍ وضغثًا على إبَّالة!
* ومما يؤخذ عليها: أن فيها سقطًا في النص مما هو مثبت في نشرة صبحي الصالح. فمثلًا جاء في (ص 720 – 721): «وإنما فهم من قوله: «طلِّقْ أيتَهما شئتَ» مفارقتَها وإخراجها عنه وإمساك الأخرى، ولو كان قوله: «طلِّق أيتهما شئتَ» اختيارًا لها لنفذ الطلاق عليها» بسقط ما تحته خط مع ثبوته في نشرة صبحي الصالح (ص 361).
(ص 774) منها: «والمسلم غير ممنوع من إثبات اليد صورةً، والذي يمتنع بالإسلام إثبات الملك على ذلك أو ما هو بمعناه من إثبات اليد المعنوية، ولا يمتنع إثبات اليد الصورية» ما تحته خط ساقط من هذه الطبعة، ثابت في نشرة صبحي الصالح (ص 399).
وفي (ص 1433): «فقال لهما المشركون: نحن أهدى من محمد وأصحابه، فإنَّا أهل السدانة والسقاية وأهل الحرم، فقالا: أنتم أهدى من محمد وأصحابه، وهما يعلمان أنهما كاذبان»، فما تحته خط ساقط من هذه الطبعة مع ثبوته في نشرة صبحي الصالح (ص 853).
* وفيما يلي نماذج أخرى من الأخطاء التي كان بإمكان المحققَين
(المقدمة/54)
تحاشيها دون الرجوع إلى الأصل الخطي:
– (ص 97): ذكر المؤلف قولًا في تفسير بعض الآيات عن «الفرَّاء»، فظنَّ المحققان أن المقصود: القاضي أبو يعلى الفرَّاء، فترجما له في عشرة أسطر في الهامش، مع أنه من الواضح جدًّا أنه يحيى بن زياد الكوفي النحوي، صاحب «معاني القرآن»، والنص المنقول فيه (3/ 34).
– (ص 194): «قال المزني: قد قال في كتاب النكاح: «إذا بدَّلَتْ بدينٍ يحلُّ نكاح أهله فهو حلالٌ». وهذا عندي أشبه، وقال ابن عباس – رضي الله عنهما – في قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}: فمن دان منهم دينَ أهل الكتاب قبلَ نزول الفرقان وبعده سواءٌ عندي في القياس».
أولًا: «فهو» خطأ، والصواب: «فهي» كما في الأصل و «المختصر»، وقد عزوَا إلى «مختصر المزني» ولكن لم يستفيدا منه هذا التصحيح، وإن كان تأمل السياق وحدَه كفيلًا به!
وثانيًا: «في قوله تعالى» من زيادات صبحي الصالح، وليس في الأصل ولا في «مختصر المزني» الذي بين أيدي المحققَين، ومع ذلك أثبتا الزيادة بحذف المعكوفين عنها ليكتمل التحريف ويستتبّ! وهي زيادة تفسد السياق، فإن قول: «فمن دان منهم … » إلخ قول المزني لا ابن عباس. وابن عبَّاس إنما قرأ الآية فقط مجيبًا بها لمَّا سئل عن ذبائح من تنصَّر من العرب، كما في «تفسير الطبري» (8/ 130) وغيره.
– (ص 282): «فإن ترك أرضه فلم يَعمُرها فذلك إلى الإمام، يدفعها
(المقدمة/55)
إلى من يَعمُرها لا تخرب، تصير فيئًا للمسلمين». ما تحته خط لا وجود له في الأصل، ولا في نشرة صبحي الصالح (ص 124)، فلا ندري من أين أتى به المحقِّقان!
– (ص 336): « … لم يَدَعْني زيادٌ ولا شُريحٌ ولا السلطان حتى دخلتُ فيه». «السلطان» تصحيف «الشيطان»، كما في «الأموال» لأبي عُبيد، وهو مصدر المؤلف. وقد عزا المحققان إليه، ولكن لم يستفيدا منه تصحيح النص، ولا أشارا إلى الفرق في الهامش.
– (ص 649): «عن يزيد بن علقمة أن عُبادة بن النعمان الثعلبي كان ناكحًا امرأةً من بني تميمٍ فأسلمت». «الثعلبي» خطأ تابعا فيه نشرة صبحي الصالح. صوابه: «التغلبي»، كما في «مصنف ابن أبي شيبة»، وقد عزوا إليه.
– (ص 840): « … من يحتج فيها يقول: الكفن من جميع المال، ثم الوصية، ثم الميراث، ويحتج فيها بقول من قال: الحامل المتوفَّى عنها زوجها نفقتُها من جميع المال؛ هذه حجةٌ لمن ورَّثه». ما تحته خط من زيادات صبحي الصالح التي حذف المحققان المعكوفات عنها لتصبح من صلب النص، مع أن هذا النص منقول من «جامع الخلال»، وقد عزا المحققان إليه، ولم ينتبها إلى أن هذه الزيادة ليست فيه.
– (ص 1251): «حدثنا أبو بكر بن أبي بكر داود، ثنا أحمد بن صالح». «بكر» مقحم خطأً في الأصل. والمحققان لم ينتبها إليه، مع أنهما ذكرا في الهامش أن «أحمد بن صالح» هو المصري أبو جعفر ابن الطبري. فلو رجعا
(المقدمة/56)
إلى ترجمته لوجدا من الرواة عنه «عبد الله بن أبي داود»، وهو أبو بكر بن أبي داود، ابُن صاحب «السنن».
– (ص 1235): «وقد اتَّفق المسلمون على أنَّ حكم الرِّدَّة والمُباشِر في الجهاد كذا». ما تحته خط تصحيف عن «الردء»، وهو على الصواب في نشرة صبحي الصالح (ص 715).
– (ص 1354): «قال شيخنا: … هذا أصلٌ مقرَّرٌ في عقد البيع والنكاح [والهبة] وغيرهما من العقود». هكذا زادا «والهبة» بين المعكوفين أخذًا من «الصارم المسلول» لأن المؤلف صادر عنه متجاهلَين أو متغافلَين عن ضمير التثنية في «وغيرهما»؛ أنَّى يستقيم مع ثلاثة عقود؟!
* هذا، وقد سبقت الإشارة إلى أنهم أطالوا في تخريج الأحاديث، ولكن هذه الإطالة لم تسلم من الأوهام، مع قصور في الصناعة الحديثية، فمثلًا:
– (ص 162 – 163) ذكرا في تخريج وصية أبي بكر – رضي الله عنه – ليزيد بن أبي سفيان حين وجَّهه إلى الشام: أن مالكًا وغيره رووه عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر. ثم قالا: «وهذا إسناد معضل، فإن يحيى بن سعيد هو القطان، متأخر، مات سنة (198) وله ثمان وسبعون سنة». هذا وهم ظاهر، فيحيى بن سعيد في الإسناد هو التابعي: يحيى بن سعيد الأنصاري (ت 144)، من شيوخ مالك (ت 179) وطبقته، أكثر عنه مالك في «الموطأ». أما القطَّان فهو من الرواة عن مالك، كما عند «البخاري» (1988) وغيره.
(المقدمة/57)
– (ص 294) قالا تعليقًا على أثر روي من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن علي – رضي الله عنه -: «هذا إسناد صحيح على شرط مسلم» كذا، مع أن فيه انقطاعًا ظاهرًا ظهور الشمس بين قتادة وعلي، ولعل قتادة لم يولد إلا بعد وفاته!
– (ص 867 – 871) خرَّجا حديثَ: «ألا إن العبد قد نام» في بضعة وخمسين سطرًا، وكل ذلك ليُوردَا نصوص كبار أئمة العلل كابن المديني وأبي حاتم والترمذي وأبي داود والدارقطني على إعلاله، ثم ينقضاها بعد ذلك بذكر كلام بعض المتأخرين، فيصحِّحا الحديث في نهاية المطاف! وانظر تخريجنا عليه (2/ 42).
* * * * *
(المقدمة/58)
منهج العمل في هذه الطبعة
يصدر هذا الكتاب حسب المنهج المتبع عندنا في التحقيق، وقد شرحناه مرارًا في مقدمات الكتب التي صدرت من قبل. وكان المطلب الأساسي عندنا الحصول على مصورة النسخة الخطية الوحيدة والمقابلة عليها، فقد كانت طبعة الدكتور صبحي الصالح – رحمه الله – بالاعتماد على نسخة منسوخة حديثًا عن الأصل، وكانت فيها أخطاء كثيرة وسقط وتحريف في مواضع، كما ذكر ذلك المحقق في مقدمة تحقيقه وفي هوامشه، وقد حاول أن يصحح كثيرًا من الأخطاء ويستدرك السقط بالرجوع إلى مصادر المؤلف وباجتهاده الشخصي أحيانًا، ووضع كل زيادة بين معكوفتين، وأشار في الهوامش إلى ما في النسخة المنسوخة من أخطاء.
والنسخة الخطية الوحيدة للكتاب توجد في مكتبة المدرسة المحمدية في تِشينَّاي (مَدْراس) بالهند، وقد كنت أنا (محمد عزير شمس) سافرت إليها قبل عشرين عامًا، ثم سافرت إليها مرة ثانيةً فيما بعد، واطلعتُ على النسخة وقابلتُ بعضَ الصفحات الأولى من المطبوع عليها، فوجدت التحريف والسقط في مواضع عديدة، وحاولت تصوير النسخة بشتى الطرق وبواسطة عدد من الأصدقاء والوجهاء، إلّا أن القائمين على المكتبة لم يسمحوا بذلك، فتأخّر تحقيق الكتاب في انتظار الحصول على صورة النسخة حتى صدرت معظم مؤلفات الإمام ابن القيم في هذه السلسلة، ولم يبقَ إلّا هذا الكتاب. وحينئذٍ قرَّرت الجهة الراعية للمشروع أن أسافر إلى المكتبة مرةً
(المقدمة/59)
ثالثةً لمقابلة المطبوع على المخطوط. فسافرتُ إليها في منتصف جمادى الأولى سنة 1440، وبقيتُ شهرًا هناك حتى أتممتُ أكثر المقابلة.
وقد ساعدني في المقابلة شابٌّ مجتهد من أهل البلد تعلَّم اللغة العربية في مدة وجيزة، فصار يتكلم بطلاقة ويقرأ الكتب المطبوعة والمخطوطة بسهولة، وهو الأخ/سيد منير أحمد. وقد قام أيضًا بتصوير أوراق متفرقة من مواضع مختلفة من المخطوط بالجوال بعدما سمح بذلك ــ هذه المرة ــ القائم على المكتبة الأستاذ مجيد سعيد، فجزاهما الله أحسن الجزاء عن العلم وأهله.
ونحمد الله سبحانه وتعالى على أنه يَسَّر لنا الاستفادة من الأصل مباشرةً، وتصوير صفحات كثيرة منه ومقابلتها التي حلَّت كثيرًا من الإشكال، وصححت الأخطاء والتحريفات، وسدّت الخروم، التي بلغت أحيانًا أكثر من سطر.
وكانت النسخة الخطية ــ على قِدمها وجودتها في الجملة ــ وقع فيها كثير من التحريف والسقط، فقمنا بالتصحيح والاستدراك بمراجعة المصادر الأخرى، وبالتأمُّل في السياق، وبتقليب الكلمات على أوجه مختلفة، حتى استقام النصُّ إن شاء الله.
ثم خدمناه بالتوثيق والتعليق وتخريج الأحاديث والنصوص والأخبار على المنهج المتبع في المشروع، وأشرنا في الهوامش إلى ما في المطبوع من أخطاء، وقصدنا به طبعة الدكتور صبحي الصالح دون غيرها. وقد ساعدنا في تخريج بعض الأحاديث في الجزء الثاني الأخ سراج منير الباحث في المشروع.
(المقدمة/60)
وأثبتنا الآيات القرآنية على قراءة أبي عمرو البصري التي كانت سائدة في زمن المؤلف في بلاد الشام، وعليها وجدنا الآيات مرسومة في الأصل المخطوط، كقوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} [الطور: 19]، وقوله تعالى: {أَن يَقُولُوا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ يَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ} [الأعراف: 172 – 173]، وعليها فسَّر المؤلف هاتين الآيتين (2/ 151 – 152).
وصنعنا في آخر الكتاب فهارس متنوعة تقرِّب مباحثه، وقد قام بصنع بعض الفهارس الأخوان سراج منير وعبد الله غالب الكلاعي جزاهما الله خيرًا. وقد تولَّى الأخ خالد محمد جاب الله صفَّ الكتاب وإخراجه، فله منا جزيل الشكر والتقدير.
وبعد، فهذا كتاب «أحكام أهل الذمة» للإمام ابن القيم – رحمه الله -، وهو أهمُّ كتاب ألِّف في هذا الباب، نقدِّمه إلى القرَّاء في أحسن حلَّة، ونرجو أن ينال رضاهم وقبولهم. كما نطلب منهم أن يُهدونا ملاحظاتهم لنستفيد منها في الطبعات القادمة إن شاء الله.
والحمد لله أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، إنه نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم.
* * *
(المقدمة/61)
نماذج من النسخة الخطية
(المقدمة/62)
صفحة الغلاف
(المقدمة/63)
الصفحة الأولى
(المقدمة/64)
الصفحة الأخيرة
(المقدمة/67)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم كثيرًا.
سئل
الشيخ الإمام العالم العلامة شمس الدين ــ زاده الله من فضله ـــ عن كيفية الجزية الموضوعة على أهل الذمة بالبلاد الإسلامية، وسبب وضعها، وعن مقدار ما يُؤخذ من الأغنياء ومن المتوسطين ومن الفقراء، وعن حدِّ الغني والمتوسط والفقير فيها، وهل يُثاب أولياء أمور المسلمين ــ أيَّدهم (1) الله تعالى ــ على إلزامهم بها على حسب حالهم أم لا؟ وهل يُؤخذ من الغني والفقير والمتوسط؟ (2) وأجاب:
[أما] سبب وضع الجزية فهو قوله تعالى: {قَاتِلُوا اُلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ اِلْأَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اَللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ اَلْحَقِّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا اُلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].
_________
(1) في المطبوع: “أمدهم” خلاف ما في الأصل.
(2) هنا كلمة غير واضحة في الأصل، ولعلها: “فألف”.
(1/3)
فأجمع الفقهاء على أن الجزية تُؤخذ من أهل الكتاب ومن المجوس. وكان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قد توقَّف في أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوفٍ أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أخذها من مجوس هَجَرَ. ذكره البخاري (1).
وذكر الشافعي (2) أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنعُ في أمرهم، فقال له عبد الرحمن بن عوفٍ: أشهد لسمعتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “سُنُّوا بهم سنةَ أهل الكتاب”. وهذا صريحٌ في أنهم ليسوا من أهل الكتاب، ويدلُّ عليه قوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام: 157]، فالله سبحانه حكى هذا عنهم، ولم ينكره عليهم ولم يكذِّبهم فيه.
وأما حديث عليٍّ أنه قال: “أنا أعلم الناس بالمجوس: كان لهم علمٌ
_________
(1) في “صحيحه” (3156).
(2) في “الأم” (5/ 408) عن مالك ــ وهو في “الموطأ” (756) ــ عن جعفر بن محمد، عن أبيه، أن عمر … إلخ. وأخرجه أيضًا عبد الرزاق (10025) وابن أبي شيبة (10870، 33318، 33319) وأبو يعلى (862) وغيرهم من طرقٍ عن جعفر بن محمد به. رجاله ثقات، إلا أنه منقطع كما قال الشافعي عند إيراده، وذلك أن محمدًا ــ وهو الباقر ــ لم يُدرك عمر ولا عبد الرحمن. قال ابن عبد البر في “التمهيد” (2/ 116): هو منقطع ولكن معناه متصل من وجوه حسان. قلتُ: منها حديث البخاري المتقدم آنفًا. وانظر: “تنقيح التحقيق” (4/ 618) و”إرواء الغليل” (1248، 1249).
(1/4)
يعلمونه وكتابٌ يدرسونه، وإنَّ ملكهم سَكِرَ فوقع على ابنته أو أخته فاطلع عليه بعض أهل مملكته، فلما صحا جاؤوا يقيمون عليه الحدَّ، فامتنع منهم ودعا أهل مملكته وقال: تعلمون دينًا خيرًا من دين آدم وقد أنكح بنيه بناتِه؟ فأنا على دين آدم! قال: فتابعه قومٌ وقاتلوا الذين يخالفونه حتى قتلهم، فأصبحوا وقد أُسرِيَ بكتابهم ورُفع العلم الذي في صدورهم؛ فهم أهل كتابٍ، وقد أخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأبو بكر ــ وأُراه قال: وعمر ــ منهم الجزية”.
فهذا حديث رواه الشافعي في “مسنده” وسعيد بن منصورٍ وغيرهما (1)، ولكنَّ جماعةً من الحفَّاظ ضعَّفوا الحديث (2). قال أبو عبيد (3): لا أحسب ما رووه عن علي في هذا محفوظًا.
وقد روى البخاري في “صحيحه” (4) عن المغيرة بن شعبة أنه قال لعاملِ
_________
(1) “مسند الشافعي” بترتيب سنجر (1775) وبترتيب السندي (432)، وهو في “الأم” (5/ 406 – 407)، ومن طريق الشافعي أخرجه ابن زنجويه في “الأموال” (140) والبيهقي في “السنن الكبير” (9/ 188) و”المعرفة” (13/ 366 – 367). ولم أجده عند سعيد بن منصور في المطبوع من “سننه”. وأخرجه أيضًا عبد الرزاق (10029) وابن أبي عمر في “مسنده” (المطالب العالية: 2063) وأبو يعلى (301). وفي إسناده أبو سعد البقَّال، وهو ضعيف منكر الحديث. وله طريق آخر عند القاضي أبي يوسف في “الخراج” (290 – تحقيق البنَّا) بنحوه، وفي إسناده انقطاع.
(2) قال ابن عبد البر في “التمهيد” (2/ 120): أكثر أهل العلم لا يصححون هذا الأثر. وانظر: “الجامع” للخلال (2/ 468)، و”مجموع الفتاوى” (32/ 189).
(3) في كتاب “الأموال” (ص 83) ط. دار الفضيلة. ونقله في “المغني” (13/ 205).
(4) برقم (3159).
(1/5)
كسرى: أمرَنا نبيُّنا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحدَه أو تُؤَدُّوا الجزية.
وفي “مسند الإمام أحمد” والترمذي (1) عن ابن عباس قال: مرِض أبو طالب فجاءته قريشٌ وجاءه النبي – صلى الله عليه وسلم -، وشَكَوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابنَ أخي، ما تريد من قومك؟ قال: “أريد منهم كلمةً تَدِينُ لهم بها العربُ، وتُؤدِّي إليهم بها العجمُ الجزيةَ”. قال: كلمةً واحدةً؟ قال: “كلمةً واحدةً، قولوا (2): لا إله إلا الله”. قالوا: جعل الآلهة إلهًا واحدًا، إن هذا لشيء عجابٌ، ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة، إن هذا إلا اختلاقٌ. قال: فنزل فيهم: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} إلى قوله: {اَخْتِلَاقٌ} [ص: 1 – 6].
وفي “الصحيحين” (3) من حديث عمرو بن عوفٍ الأنصاري: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعث أبا عبيدة بن الجرَّاح إلى البحرين يأتي بجِزْيتها، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هو صالح أهل البحرين (4)، وأمَّرَ عليهم العلاء بن الحضرمي.
_________
(1) “مسند أحمد” (2008، 3419) و”جامع الترمذي” (3232)، وأخرجه أيضًا النسائي في “الكبرى” (8716) وأبو يعلى (2583) وابن حبان (6686) والحاكم (2/ 432) والضياء في “المختارة” (10/ 390)، كلهم من طريق الأعمش عن يحيى بن عُمارة ــ وقيل: ابن عبَّاد، وقيل: عبَّاد بن جعفر ــ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. ويحيى هذا فيه جهالة، ولم يوثقه غير ابن حبان. على أن الترمذي صحَّح حديثه فقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم واختاره الضياء.
(2) “قولوا” ليست في المطبوع.
(3) البخاري (3158، 4015، 6425) ومسلم (2961).
(4) “ياتي … البحرين” ساقطة من المطبوع.
(1/6)
وذكر أبو عبيد في “كتاب الأموال” (1) عن الزهري قال: قَبِل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الجزية من أهل البحرين وكانوا مجوسًا.
وفي “سنن أبي داود” (2) من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – بعث خالد بن الوليد إلى أُكَيدِرِ دُومةَ فأخذوه فأتوا به، فحقَنَ له دمه، وصالحه على الجزية.
وقال الزهري: أول ما أُخِذت الجزية من أهل نجران وكانوا نصارى (3).
وفي “صحيح البخاري” (4) عن ابن أبي نَجيحٍ (5) قال: قلت لمجاهدٍ: ما
_________
(1) (ص 41)، وبنحوه في (ص 203).
(2) برقم (3037) من طريق محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر، عن أنس، وعن عثمان بن أبي سليمان. وإسناده جيِّد، إلا أنه على طريقة ابن إسحاق في جمع متون الروايات المسندة والمرسلة في سياق واحد. والظاهر من “العلل” لابن أبي حاتم (967) أن ذكر الجزية ليس مسندًا من طريق أنس. وقد ذكرها ابن إسحاق في “مغازيه” ــ ومن طريقه البيهقي في “دلائل النبوة” (5/ 250 – 251) ــ عن يزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ــ وهما من ثقات التابعين العالمين بالمغازي ــ مرسلًا في سياق قصة أُكيدر وأَسره ومصالحته. وانظر: “البدر المنير” (9/ 185).
(3) أخرجه أبو عبيد في “الأموال” (69، 87) والبلاذري في “فتوح البلدان” (1/ 81).
(4) كتاب الجزية، باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب، تعليقًا عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح به. ووصله عبد الرزاق (10094) عن ابن عيينة به.
(5) في المطبوع: “أبي نجيح” خطأ.
(1/7)
شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينارٌ؟ قال: جعل ذلك من قِبَلِ اليسار.
فاختلف الفقهاء فيمن تُؤخذ منهم الجزية، بعد اتفاقهم على أخذها من أهل الكتاب ومن المجوس.
فقال أبو حنيفة: تُؤخذ من أهل الكتاب والمجوس وعَبَدة الأوثان من العجم، ولا تُؤخذ من عَبَدة الأوثان من العرب (1). ونصَّ على ذلك أحمد في رواية عنه (2).
واحتج أرباب هذا القول على ذلك بحججٍ، منها: قوله في الحديث المتقدم: “وتُؤدِّي إليكم بها العجمُ الجزيةَ”، واحتجوا بحديث بُريدة الذي رواه مسلم في “صحيحه” (3) قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا أمَّر أميرًا على جيشٍ أو سريةٍ أوصاه في خاصَّته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: “اغْزُوا باسم الله في سبيل الله، قاتِلوا من كفرَ بالله، اغْزُوا ولا تَغُلُّوا، ولا تَغْدِروا، ولا تَمثُلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيتَ عدوَّك من المشركين فادْعُهم إلى ثلاث خصالٍ ــ أو خلالٍ ــ، فأيتهنَّ ما أجابوك إليها فاقبَلْ منهم وكُفَّ عنهم، ثم ادْعُهم
_________
(1) انظر: “حاشية ابن عابدين” (4/ 198).
(2) كما في “المغني” (13/ 31). وانظر “مجموع الفتاوى” (31/ 381).
(3) برقم (1731).
(1/8)
إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبلْ منهم وكُفَّ عنهم، ثم ادعُهم إلى التحوُّل من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبِرْهم أنهم إن فعلوا ذلك (1) فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أَبَوا أن يتحوَّلوا منها، فأخبِرْهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يَجري عليهم حكمُ الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أَبَوا فسَلْهم الجزيةَ، فإن هم أجابوك فاقبلْ منهم وكُفَّ عنهم، فإن هم أَبَوا فاستعِنْ بالله وقاتِلْهم. وإذا حاصرتَ أهلَ حصنٍ فأرادوك أن تجعل لهم ذمَّةَ الله وذمَّةَ نبيِّه فلا تجعلْ لهم ذمَّةَ الله ولا ذمَّة نبيِّه، ولكن اجعلْ لهم ذمتَك وذمةَ أصحابك، فإنكم أن تُخْفِروا ذِمَمَكم وذِمَمَ أصحابكم أهونُ من أن تُخْفِروا ذمةَ الله وذمةَ رسوله. وإذا حاصرتَ أهلَ حصنٍ فأرادوك أن تُنزِلهم على حكم الله فلا تُنزِلهم على حكم الله، ولكن أَنزِلْهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيبُ حكم الله فيهم أم لا؟ “.
وفي هذا الحديث أنواعٌ من الفقه:
منها: وصية الإمام لِنوَّابه وأمرائه ووُلاتِه بتقوى الله، والإحسان إلى الرعية، فبهذين الأصلين يُحفظ على الأمير منصِبُه، وتَقَرُّ عينُه به، ويأمن فيه من النكَبات والغِيَر. ومتى ترك هذين الأمرين أو أحدهما فلا بدَّ أن يسلبه الله عزَّه، ويجعله عبرةً للناس، فما أُزِيلت (2) النِّعم إلا بترك تقوى الله والإساءة إلى الناس.
_________
(1) “ذلك” ساقطة من المطبوع.
(2) في المطبوع: “فما إن سلبت” خلاف ما في الأصل.
(1/9)
ومنها: أن الجيش ليس لهم أن يَغُلُّوا من الغنيمة، ولا يَغدِروا بالعهد، ولا يَمْثُلوا بالكفّار، ولا يقتلوا من لم يبلغ الحُلُم.
ومنها: أن المسلمين يدعون الكفار قبل قتالهم إلى الإسلام، وهذا واجبٌ إن كانت الدعوة لم تبلُغْهم، ومستحبٌّ إن بلغَتْهم الدعوة. هذا إذا كان المسلمون هم القاصدين للكفار، فأما إذا قصدهم الكفار في ديارهم فلهم أن يقاتلوهم من غير دعوةٍ، لأنهم يدفعونهم عن أنفسهم وحريمهم.
ومنها: إلزامهم بالتحوُّل إلى دار الإسلام إذا كانوا مقيمين بين الكفار، فإن أسلموا كلُّهم وصارت الدار دارَ إسلامٍ لم يُلْزَموا بالتحوُّل منها، بل يقيموا (1) في ديارهم. وكانت دار الهجرة في زمن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هي دار الإسلام، فلما أسلم أهل الأمصار صارت البلاد التي أسلم أهلها بلاد الإسلام، فلا يلزمهم الانتقال منها.
ومنها: أن الأعراب ليس لهم شيء في الفيء ولا في الغنائم ما لم يقاتلوا، فإذا قاتلوا استحقُّوا من الغنيمة ما يستحقُّه مَن شهد الوقعةَ، وأما الأعراب الذين لا يقاتلون الكفار مع المسلمين فليس لهم شيء في الفيء ولا في الغنيمة.
ومنها: أن الجزية تُؤخذ من كل كافرٍ، هذا ظاهر هذا الحديث، ولم يستثنِ منه كافرًا من كافرٍ.
ولا يقال: هذا مخصوصٌ بأهل الكتاب خاصَّةً، فإن اللفظ يأبى
_________
(1) كذا في الأصل بحذف النون.
(1/10)
اختصاصَه (1) بأهل الكتاب. وأيضًا فسرايا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وجيوشه أكثرَ ما كانت تقاتل عَبَدةَ الأوثان من العرب.
ولا يقال: إن القرآن يدلُّ على اختصاصها بأهل الكتاب، فإن الله سبحانه أمر بقتال أهل الكتاب حتى يُعطوا الجزية، والنبي – صلى الله عليه وسلم – أمر بقتال المشركين حتى يُعطوا الجزية، فيؤخذ من أهل الكتاب بالقرآن ومن عموم الكفار بالسنة، وقد أخذها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من المجوس وهم عُبَّاد النار، لا فرقَ بينهم وبين عبدة الأوثان. ولا يصح أنهم أهل الكتاب ولا كان لهم كتابٌ، ولو كانوا أهلَ كتابٍ عند الصحابة – رضي الله عنهم – لم يتوقَّفْ عمر – رضي الله عنه – في أمرهم، ولم يقلِ النبي – صلى الله عليه وسلم -: “سُنُّوا بهم سنةَ أهلِ الكتاب”، بل هذا يدلُّ على أنهم ليسوا أهلَ كتابٍ. وقد ذكر الله سبحانه أهل الكتاب في القرآن في غير موضع، وذكر الأنبياء الذين أنزل عليهم الكتب والشرائع العظام، ولم يذكر للمجوس ــ مع أنها أمةٌ عظيمةٌ من أعظم الأمم شوكةً وعددًا وبأسًا ــ كتابًا ولا نبيًّا، ولا أشار إلى ذلك، بل القرآن يدلُّ على خلافه كما تقدَّم، فإذا أُخِذت من عُبَّاد النيران فأيُّ فرقٍ بينهم وبين عُبَّاد الأوثان؟
فإن قيل: فالنبي – صلى الله عليه وسلم – لم يأخذها من أحدٍ من عُبَّاد الأوثان مع كثرة قتاله لهم.
قيل: أجلْ، وذلك لأن آية الجزية إنما نزلت عامَ تبوك في السنة التاسعة من الهجرة بعد أن أسلمت جزيرة العرب ولم يبقَ بها أحدٌ من عبَّاد الأوثان،
_________
(1) في المطبوع: “اختصاصهم” خلاف الأصل. وضمير المفرد للفظ.
(1/11)
فلما نزلت آية الجزية أخذها النبي – صلى الله عليه وسلم – ممن بقي على كفره من النصارى والمجوس، ولهذا لم يأخذها من يهود المدينة حين قدم المدينة، ولا من يهود خيبر، لأنهم (1) صالحهم قبل نزول آية الجزية.
وهذه الشبهة هي التي أوقعتْ عند اليهود أن أهل خيبر لا جزية عليهم، وأنهم مخصوصون بذلك من جملة اليهود، ثم أكَّدوا أمرها بأن زوَّروا كتابًا (2) فيه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أسقط عنهم الكُلَفَ (3) والسُّخَر (4) والجزية، ووضعوا فيه شهادة سعد بن معاذٍ ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهما. وهذا الكتاب كذِبٌ مختلقٌ بإجماع أهل العلم من عشرة أوجهٍ (5):
منها: أن أحدًا من علماء النقل والسير والمغازي لم يذكر (6) أن ذلك وقع البتةَ، مع عنايتهم بضبط ما هو دون ذلك بكثيرٍ.
الثاني: أن الجزية إنما نزلت بعد فتح خيبر، فحينَ صالح أهل خيبر لم
_________
(1) في المطبوع: “لأنه” خلاف ما في الأصل.
(2) انظر: “مجموعة الوثائق السياسية” (ص 91، 93، 95).
(3) جمع كُلْفة، ما يتكلَّفه الإنسان على مشقة. والمراد هنا ما يكلَّفون به من الضرائب ونحوها.
(4) جمع سُخْرة، ما يُسخّره الإنسان من دابّة أو رجلٍ بلا أجرٍ ولا ثمنٍ.
(5) نقل المؤلف في “زاد المعاد” (3/ 178، 179) عن شيخ الإسلام بعض هذه الأوجه. وذكرها كاملة في “المنار المنيف” (ص 92 – 94). وسيذكر المؤلف وجوهًا أخرى فيما يأتي (ص 77 – 79).
(6) في الأصل: “لم يذكروا”.
(1/12)
تكن الجزية نزلت حتى يضَعَها عنهم.
الثالث: أن معاوية بن أبي سفيان لم يكن أسلم بعدُ، فإنه إنما أسلم عامَ الفتح بعد خيبر.
الرابع: أن سعد بن معاذٍ توفي عام الخندق قبل فتح خيبر.
الخامس: أنه لم يكن في زمن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على أهل خيبر كُلَفٌ ولا سُخَرٌ حتى تُوضَع عنهم.
السادس: أنه لم يكن لأهل خيبر من الحرمة ورعاية حقوق المسلمين ما يقتضي وضعَ الجزية عنهم، وقد كانوا من أشدِّ الكفار عداوةً لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه، فأيُّ خيرٍ حصل بهم للمسلمين حتى تُوضع عنهم الجزية دون سائر الكفار؟
السابع: أن الكتاب الذي أظهروه ادَّعَوا أنه بخط علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -، وهذا كذبٌ قطعًا، وعداوة علي – رضي الله عنه – لليهود معروفةٌ، وهو الذي قتل مرحبًا اليهودي (1)، وأثخنَ في اليهود يومَ خيبر حتى كان الفتح على يديه.
الثامن: أن هذا لا يُعرف إلا من رواية اليهود، وهم القوم البُهت، أكذبُ الخلق على الله وأنبيائه ورسله، فكيف يُصدَّقون على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيما يخالف كتاب الله تعالى؟!
_________
(1) كما في “صحيح مسلم” (1807/ 132). وانظر الخلاف في ذلك عند المؤلف في “زاد المعاد” (3/ 382 وما بعدها).
(1/13)
التاسع: أن هذا الكتاب لو كان صحيحًا لأظهروه في أيام الخلفاء الراشدين، وفي أيام عمر بن عبد العزيز، وفي أيام المنصور والرشيد، وكان أئمة الإسلام يستثنونهم ممن تُوضع عنهم الجزية، أو يذكر (1) ذلك فقيهٌ واحدٌ من فقهاء المسلمين، ولا يجوز على الأمة أن تُجمِع على مخالفة سنة نبيِّها. وكيف يكون بأيدي أعداء الله كتابٌ من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا يحتجُّون به كلَّ وقتٍ على من يأخذ الجزية منهم، ولا يذكره عالمٌ واحدٌ من علماء السلف؟ وإن اغترَّ به بعضُ من لا علْمَ له بالسيرة والمنقول من المتأخرين، فَشنَّع (2) عليه أصحابه، وبيَّنوا خطأه، وحذَّروا من سقطته.
العاشر: أن أئمة الحديث والنقل يشهدون ببطلان هذا الكتاب، وأنه زُورٌ مفتعلٌ وكذبٌ مختلقٌ (3). ولما أظهره اليهود بعد الأربع مائةٍ على عهد الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي أرسل إليه الوزير ابن المسلمة، فأوقفَه عليه فقال الحافظ: هذا الكتاب زورٌ، فقال له الوزير: من أين هذا؟ فقال: فيه شهادة سعد بن معاذٍ ومعاوية بن أبي سفيان، وسعدٌ مات يومَ الخندق قبل خيبر، ومعاوية أسلم يوم الفتح سنة ثمانٍ، وخيبر كانت سنة سبعٍ. فأعجب ذلك الوزير (4).
_________
(1) في المطبوع: “لذكر” خلاف ما في الأصل.
(2) في الأصل: “وشنع”.
(3) انظر: “البداية والنهاية” (6/ 355، 356 و 16/ 28)، و”المغني” (13/ 252)، و”مجموع الفتاوى” (28/ 664).
(4) انظر: “المنتظم” (16/ 129)، و”معجم الأدباء” (1/ 386)، و”سير أعلام النبلاء” (18/ 280)، و”الوافي بالوفيات” (7/ 192، 193)، و”المستفاد من ذيل تاريخ بغداد” (ص 60)، و”طبقات الشافعية” (4/ 35).
(1/14)
والمقصود أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يأخذ الجزية من أحدٍ من مشركي العرب لأن آية الجزية نزلت بعد عام تبوك، وكانت عُبَّاد الأصنام من العرب كلهم قد دخلوا في الإسلام، فأخذها النبي – صلى الله عليه وسلم – ممن لم يدخل في الإسلام من اليهود ومن النصارى ومن المجوس.
قال المخصِّصون بالجزية لأهل الكتاب: المراد من إرسال الرسل وإنزال الكتب إعدامُ الكفر والشرك من الأرض وأن يكون الدين كله لله، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193]، وفي الآية الأخرى: {وَيَكُونَ اَلدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]. ومقتضى هذا أن لا يُقَرَّ كافرٌ على كفره، ولكن جاء النص بإقرار أهل الكتاب إذا أَعطَوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، فاقتصرنا بها عليهم، وأخذنا في عموم الكفار بالنصوص الدَّالة على قتالهم إلى أن يكون الدين كله لله.
قالوا: ولا يصح إلحاق عَبَدة الأوثان بأهل الكتاب؛ لأن كفر المشركين أغلظ من كفر أهل الكتاب، فإن أهل الكتاب معهم من التوحيد وبعض آثار الأنبياء ما ليس مع عبَّاد الأصنام، ويؤمنون بالمعاد والجزاء والنبوات بخلاف عبدة الأصنام. وعَبَدة الأصنام حربٌ لجميع الرسل وأممِهم من عهد نوحٍ إلى خاتم الأنبياء والمرسلين؛ ولهذا أثَّر هذا التفاوتُ الذي بين الفريقين في حلِّ الذبائح وجواز المناكحة من أهل الكتاب دون عُبَّاد الأصنام.
(1/15)
ولا ينتقض هذا بالمجوس، فإن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أمر أن يُسَنَّ بهم سنةَ أهل الكتاب، وهذا يدلُّ على أن الجزية إنما تُؤخذ من أهل الكتاب، وأنها إنما وُضِعت لأجلهم خاصةً، وإلا لو كانت الجزية تعمُّ جميعَ الكفار لم يكن أهل الكتاب أولى بها من غيرهم، ولقال: لهم حكم أمثالهم من الكفَّار يقاتَلون حتى يُسلِموا أو يعطوا الجزية.
وأما تحريم ذبائحهم ومناكحتهم فاتفاقٌ من الصحابة – رضي الله عنهم -، ولهذا أنكر الإمام أحمد وغيره على أبي ثورٍ طَرْدَه القياسَ وإفتاءه بحلِّ ذبائحهم وجواز مناكحتهم (1)، ودعا عليه أحمد (2) حيث أقدمَ على مخالفة أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. والصحابة كانوا أفقه وأعلم وأسدَّ قياسًا ورأيًا، فإنهم أخذوا في الدماء بحَقْنِها موافقةً لقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفعله حيث أخذَها منهم، وأخذوا في الأبضاع والذبائح بتحريمها احتياطًا وإبقاءً لها على الأصل، وإلحاقًا لهم بعبَّاد الأوثان، إذ لا فرقَ في ذلك بين عبَّاد الأوثان وعبَّاد النيران، فالأصل في الدماء حقْنُها، وفي الأبضاع والذبائح تحريمها، فأبقَوا كلَّ شيء على أصله، وهذا غاية الفقه وأسدُّ ما يكون من النظر.
قالوا: ولله تعالى حِكَمٌ في إبقاء أهل الكتابين بين أظهُرِنا، فإنهم مع كفرهم شاهدون بأصل النبوات والتوحيد واليوم الآخر والجنة والنار، وفي كتبهم من البشارات بالنبي – صلى الله عليه وسلم – وذكرِ نعوته وصفاته وصفات أمته ما هو من آيات نبوته وبراهين رسالته، وما يشهد بصدق الأول والآخر.
_________
(1) انظر: “الجامع” للخلال (1/ 241 و 2/ 469، 470).
(2) كما في “مسائل إسحاق بن إبراهيم” (2/ 168).
(1/16)
وهذه الحكمة تختص بأهل الكتاب دون عَبَدة الأوثان، فبقاؤهم من أقوى الحجج على منكري النبوات والمعاد والتوحيد، وقد قال الله تعالى لمنكري ذلك: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، ذكر هذا عقب قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، يعني: سلوا أهل الكتاب هل أرسلنا قبل محمد رجالًا يوحى إليهم أم كان محمد بِدْعًا من الرسل لم يتقدمه رسولٌ، حتى يكون إرساله أمرًا منكرًا لم يَطْرُقِ العالمَ رسولٌ قبله؟
وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 44]، والمراد بسؤالهم سؤال أممهم عما جاؤوهم به: هل فيه أن الله شرع لهم أن يُعبدَ من دونه إلهٌ غيره؟
قال الفراء (1): المراد سؤال أهل التوراة والإنجيل، فيخبرونه عن كتبهم وأنبيائهم.
وقال ابن قتيبة (2): التقدير: واسألْ من أرسلنا إليهم رُسُلًا من قبلك، وهم أهل الكتاب.
وقال ابن الأنباري (3): التقدير: وسَلْ تُبَّاعَ (4) من أرسلنا من قبلك.
_________
(1) في “معاني القرآن” (3/ 34).
(2) في “تفسير غريب القرآن” (ص 399)، و”تأويل مشكل القرآن” (ص 209، 210).
(3) كما في “الوسيط” للواحدي (4/ 75)، و”البسيط” له (20/ 52)، و”زاد المسير” (7/ 319).
(4) “تباع” ساقطة من المطبوع. وهي جمع “تابع”. وفي بعض المصادر: “أتباع”. وهو جمع تبع.
(1/17)
وعلى كل تقديرٍ، فالمراد التقرير لمشركي قريشٍ وغيرهم ممن أنكر النبوات والتوحيد، وأن الله أرسل رسولًا أو أنزل كتابًا أو حرَّم عبادة الأوثان. فشهادة أهل الكتاب بهذا حجةٌ عليهم، وهي من أعلام صحة رسالته – صلى الله عليه وسلم -، إذ كان قد جاء على ما جاء به إخوانه الذين تقدَّموه من رسل الله سبحانه، ولم يكن بِدْعًا من الرسل، ولا جاء بضدِّ ما جاؤوا به، بل أخبر بمثل ما أخبروا به من غير شاهدٍ (1) ولا اقترانٍ في الزمان، وهذا من أعظم آيات صدقه.
وقال تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [يونس: 94]. وقد أشكلت هذه الآية على كثيرٍ من الناس، وأورد اليهودُ والنصارى على المسلمين فيها إيرادًا وقالوا: كان في شكٍّ فأُمِر أن يسألنا. وليس فيها بحمد الله إشكالٌ، وإنما أُتِي أشباهُ الأنعام من سوء قصدهم وقلة فهمهم، وإلّا فالآية من أعلام نبوته صلوات الله وسلامه عليه. وليس في الآية ما يدل على وقوع الشك ولا السؤال أصلًا، فإن الشرط لا يدل على وقوع المشروط بل ولا على إمكانه، كما قال تعالى: {كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وقوله: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42]، وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81]، وقوله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 62]، ونظائره، فرسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم يشكَّ ولم يسألْ.
_________
(1) في الأصل: “شاعر”.
(1/18)
وفي تفسير سعيد عن قتادة قال: ذكر لنا أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “لا أشكُّ ولا أَسأل” (1).
وقد ذكر ابن جريجٍ عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: فإن كنتَ في شكٍّ أنك مكتوبٌ عندهم فسَلْهم (2).
وهذا اختيار ابن جريرٍ؛ قال: يقول تعالى لنبيِّه: فإن كنت يا محمد في شكٍّ من حقيقة ما أخبرناك وأنزلنا إليك، من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في نبوتك قبل أن أبعثك رسولًا إلى خلقي، لأنهم يجدونك مكتوبًا عندهم ويعرفونك بالصفة التي أنت بها موصوفٌ في كتبهم، فسَلِ الذين يقرؤون الكتاب من قبلك كعبد الله بن سلامٍ ونحوه من أهل الصدق والإيمان بك منهم، دون أهل الكذب والكفر بك.
وكذلك قال ابن زيدٍ، قال: هو عبد الله بن سلامٍ.
وقال الضحاك: سلْ أهلَ التقوى والإيمان من مؤمني أهل الكتاب (3).
ولم يقع هؤلاء ولا هؤلاء على معنى الآية ومقصودها، وأين كان عبد الله بن سلامٍ وقتَ نزول هذه الآية؟ فإن السورة مكيةٌ، وابن سلامٍ إذ ذاك على دين قومه، وكيف يؤمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يستشهد على منكري نبوته بأتباعه؟
_________
(1) أخرجه الطبري (12/ 288). وأخرجه عبد الرزاق (10211) والطبري أيضًا من طريق معمر عن قتادة بنحوه. والحديث مرسل.
(2) أخرجه الطبري (12/ 286).
(3) الأثران أخرجهما الطبري (12/ 286، 287).
(1/19)
وقال كثيرٌ من المفسرين (1): هذا الخطاب للنبي – صلى الله عليه وسلم – والمراد غيره؛ لأن القرآن نزل عليه بلغة العرب، وهم قد يخاطبون الرجل بالشيء ويريدون غيره، كما يقول متمثِّلُهم: إياكِ أعني واسمعِيْ يا جَاره (2). وكقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: 1]، والمراد أتباعه بهذا الخطاب.
قال أبو إسحاق (3): إن الله تعالى يخاطب النبي – صلى الله عليه وسلم – والخطاب شاملٌ للخلق، والمعنى: وإن كنتم في شكٍّ [فاسألوا]. والدليل على ذلك قوله تعالى في آخر السورة: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [يونس: 104].
وقال ابن قتيبة (4): كان الناس في عصر النبي – صلى الله عليه وسلم – أصنافًا: منهم كافرٌ به مكذِّبٌ، وآخر مؤمنٌ به مصدِّقٌ، وآخر شاكٌّ في الأمر لا يدري كيف هو، فهو يقدِّم رجلًا ويؤخِّر رجلًا، فخاطب الله تعالى هذا الصنف من الناس وقال: فإن كنتَ أيها الإنسان في شكٍّ مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد فسَلْ.
_________
(1) انظر: “تفسير الطبري” (12/ 289)، و “البسيط” للواحدي (11/ 314)، و”تفسير البغوي” (2/ 368)، و”تفسير القرطبي” (8/ 382).
(2) مثل يُضرب لمن يتكلم بكلام ويريد به شيئًا آخر، وأول مَن قاله سهل بن مالك الفزاري، قاله لأخت حارثة بن لأم الطائي. انظر “الأمثال” لأبي عبيد (ص 65)، و”الفاخر” للمفضل بن سلمة (ص 158)، و”فصل المقال” (ص 76، 77) وغيرها.
(3) هو الزجاج، وقوله في كتابه “معاني القرآن وإعرابه” (3/ 32)، ومنه الزيادة.
(4) في “تأويل مشكل القرآن” (ص 168).
(1/20)
قال (1): ووحَّد وهو يريد الجمع، كما قال: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6]، و: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6]، و {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} [الزمر: 9].
وهذا وإن كان له وجهٌ فسياق الكلام يأباه، فتأمَّلْه وتأمَّلْ قوله تعالى: {يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 96]، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، وهذا كله خطاب واحدٌ متصلٌ بعضه ببعضٍ.
ولما عرف أرباب هذا القول أن الخطاب لا يتوجَّه إلا على النبي – صلى الله عليه وسلم – قالوا: الخطاب له والمراد به هذا الصنف الشاكّ. وكل هذا فرارٌ من توهُّمِ ما ليس بموهومٍ، وهو وقوع الشك منه والسؤال، وقد بيَّنا أنه لا يلزم إمكان ذلك فضلًا عن وقوعه.
فإن قيل: فإذا لم يكن واقعًا ولا ممكنًا فما مقصود الخطاب والمراد به؟
قيل: المقصود به إقامة الحجة على منكري النبوات والتوحيد، وأنهم مقرُّون بذلك لا يجحدونه ولا ينكرونه، وأن الله سبحانه أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه بذلك، وأرسل ملائكته إلى أنبيائه بوحيه وكلامه، فمن شكَّ في ذلك فليسأل أهل الكتاب. فأخرج هذا المعنى في أوجز عبارةٍ وأدلِّها
_________
(1) الكلام لابن قتيبة في المصدر السابق.
(1/21)
على المقصود، بأن جعل الخطاب لرسوله الذي لم يشكَّ قطُّ ولم يسألْ قطُّ، ولا عرضَ له ما يقتضي ذلك. وأنتَ إذا تأملتَ هذا الخطاب بدا لك على صفحاته: مَن شكَّ فليسألْ فرسولي لم يشكَّ ولم يسألْ.
والمقصود ذكر بعض الحكمة في إبقاء أهل الكتاب بالجزية، وهذه الحكمة منتفيةٌ في حق غيرهم، فيجب قتالهم حتى يكون الدين كلُّه لله.
والمسألة مبنيةٌ على حرفٍ، وهو أن الجزية هل وُضِعت عاصمةً للدم، أو مُظهِرًا لصَغار الكفر وإذلال أهله فهي عقوبةٌ؟
فمن راعى فيها المعنى الأول قال: لا يلزم من عصمتها لدم من خفَّ كفرُه بالنسبة إلى غيره ــ وهم أهل الكتاب ــ أن تكون عاصمةً لدم من يغلُظ كفره.
ومن راعى فيها المعنى الثاني قال: المقصود إظهار صَغار الكفر وأهله وقهرهم، وهذا أمرٌ لا يختصُّ أهلَ الكتاب بل يعمُّ كلَّ كافرٍ.
قالوا: وقد أشار النصُّ إلى هذا المعنى بعينه في قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، فالجزية صَغارٌ وإذلالٌ، ولهذا كانت بمنزلة ضرب الرقّ.
قالوا: وإذا جاز إقرارهم بالرقّ على كفرهم جاز إقرارهم عليه بالجزية بل أولى (1)؛ لأن عقوبة الجزية أعظم من عقوبة الرق؛ ولهذا يُسترقُّ من لا
_________
(1) كذا في الأصل. وفي المطبوع: “بالأولى”.
(1/22)
تجب عليه الجزية من النساء والصبيان وغيرهم.
فإن قلتم: لا يُسترقُّ غيرُ (1) الكتابي ــ كما هي إحدى الروايتين عن أحمد (2) ــ كنتم محجوجين بالسنة واتفاق الصحابة، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يَسترِقُّ سبايا عبدةِ الأوثان، ويجوز لساداتهن وطؤهن بعد انقضاء عدتهن، كما في حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – في قصة سبايا أوطاسٍ ــ وكانت في آخر غزوات العرب بعد فتح مكة ــ أنه قال: “لا تُوطأُ حاملٌ حتى تضَعَ، ولا حائلٌ حتى تُستبرأَ بحيضةٍ” (3).
فجوَّز وطأهن بعد الاستبراء ولم يشترط الإسلام، وأكثر ما كانت سبايا الصحابة في عصر النبي – صلى الله عليه وسلم – من عَبَدة الأوثان، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – يُقِرُّهم على تملُّكِ السبي.
وقد دفع أبو بكر الصديق إلى سلمة بن الأكوع – رضي الله عنهما – امرأةً من السبي نفَّلَها إياه، وكانت من عُبَّاد الأصنام (4).
_________
(1) في المطبوع: “عين” تحريف.
(2) انظر: “الروايتين والوجهين” (2/ 357)، و”المغني” (13/ 50).
(3) أخرجه أحمد (11228) وأبو داود (2157) والدارمي (2341) والحاكم (2/ 195) بإسناد حسن في الشواهد. وأصله في “صحيح مسلم” (1456) وفيه موضع الشاهد، وهو حل وطء سبايا أوطاس المشركات. وأما النهي عن وطء الحامل حتى تضع واستبراءُ الحائل ففيه عدة أحاديث. انظر: “التلخيص الحبير” (239) و”إرواء الغليل” (187) و”أنيس الساري” (4397).
(4) أخرجه مسلم (1755) من حديث سلمة، والمرأة كانت فزاريةً، فاستوهبها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – منه وفدى بها ناسًا من المسلمين كانوا أُسِروا بمكة.
(1/23)
وأخذ عمر وابنه – رضي الله عنهما – من سبي هوازن (1)، وكذلك غيرهما من الصحابة.
وهذه الحنفية أم محمد بن علي من سبي بني حنيفة (2).
وفي الحديث: “من قال كذا وكذا فكأنما أعتقَ أربعَ رِقابٍ من ولد إسماعيل” (3)، ولم يكونوا أهل كتابٍ، بل أكثرهم من عبدة الأوثان.
قالوا: وإذا جاز المنُّ على الأسير وإطلاقُه بغير مالٍ ولا استرقاقٍ، فلَأن يجوزَ إطلاقه بجزيةٍ تُوضع على رقبته تكون قوةً للمسلمين أولى وأحرى. فضربُ الجزية عليه إن كان عقوبةً فهو أولى بالجواز من عقوبة الاسترقاق، وإن كان عصمةً فهو أولى بالجواز من عصمته بالمنّ عليه مجَّانًا. فإذا جاز إقامته بين المسلمين بغير جزيةٍ فإقامته بينهم بالجزية أجوزُ وأجوزُ، وإلا فيكون أحسنَ حالًا من الكتابي الذي لا يقيم بين أظهُرِ المسلمين إلا بالجزية.
_________
(1) كما في حديث ابن عمر عند أحمد (4922، 5374) ومسلم (1656).
(2) انظر: “أنساب الأشراف” للبلاذري (2/ 201) و”التلخيص الحبير” (1744).
(3) أخرجه أحمد (23583) ومسلم (2693) عن أبي أيوب الأنصاري فيمن قال: “لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير” عشر مرات. وهو عند البخاري (6404) بلفظ: “كان كمن أعتق رقبة من ولد إسماعيل”.
(1/24)
فإن قلتم: إذا مننَّا عليه ألحقناه بمأمنه، ولم نمكِّنه من الإقامة بين المسلمين.
قيل: إذا جاز إلحاقه بمأمنه ــ حيث يكون قوةً للكفار وعونًا لهم وبصدد المحاربة لنا ــ مجَّانًا، فلَأن يجوزَ هذا في مقابلة مالٍ يؤخذ منه يكون قوةً للمسلمين وإذلالًا وصَغارًا للكفر وأهله (1) أولى وأولى.
يوضحه أنه إذا جازت مهادنتُهم للمصلحة بغير مالٍ ولا منفعةٍ تحصل للمسلمين، فلَأَن يجوز أخذُ المال منهم على وجه الذلِّ والصَّغار وقوة المسلمين أولى، وهذا لا خفاء به.
يوضحه أن عَبَدة الأوثان إذا كانوا أمةً كبيرةً لا تُحصى ــ كأهل الهند وغيرهم ــ حيث لا يمكن استئصالهم بالسيف، فإذلالُهم وقهرهم بالجزية أقربُ إلى عزِّ الإسلام وأهله وقوته من إبقائهم بغير جزيةٍ فيكونون أحسنَ حالًا من أهل الكتاب.
وسرُّ المسألة: أن الجزية من باب العقوبات، لا أنها كرامةٌ لأهل الكتاب فلا يستحقُّها سواهم.
وأما من قال: إن الجزية عوضٌ عن سكنى الدار ــ كما يقوله أصحاب الشافعي (2) ــ فهذا القول ضعيفٌ من وجوهٍ كثيرةٍ سيأتي التعرضُّ إليها فيما
_________
(1) “وأهله” ساقطة من المطبوع.
(2) انظر “نهاية المطلب” (18/ 7)، قال الجويني: وهذا غير سديد.
(1/25)
بعد إن شاء الله تعالى.
قالوا: ولأن القتل إنما وجب في مقابلة الحِراب لا في مقابلة الكفر، ولذلك لا يُقتل النساء ولا الصبيان ولا الزَّمْنى والعميان ولا الرهبان الذين لا يقاتلون، بل نقاتل من حاربنا.
وهذه كانت سيرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في أهل الأرض: كان يقاتل من حاربه إلى أن يدخل في دينه أو يُهادِنَه أو يدخل تحت قهره بالجزية، وبهذا كان يأمر سراياه وجيوشه إذا حاربوا أعداءهم كما تقدم من حديث بُريدة، فإذا ترك الكفَّار محاربةَ أهل الإسلام وسالموهم وبذلوا لهم الجزية عن يدٍ وهم صاغرون كان في ذلك مصلحةٌ لأهل الإسلام وللمشركين.
أما مصلحة أهل الإسلام فما يأخذونه من المال الذي يكون قوةً للإسلام مع صَغار الكفر وإذلاله، وذلك أنفع لهم من ترك الكفّار بلا جزيةٍ.
وأما مصلحة أهل الشرك فما في بقائهم من رجاء إسلامهم إذا شاهدوا أعلام الإسلام وبراهينه، أو بلغَتْهم أخباره، فلا بدَّ أن يدخل في الإسلام بعضهم، وهذا أحبُّ إلى الله من قتلِهم.
والمقصود إنما هو أن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله، وليس في إبقائهم بالجزية ما يناقض هذا المعنى، كما أن إبقاء أهل الكتاب بالجزية بين ظهور المسلمين لا ينافي كونَ كلمةِ الله هي العليا وكونَ الدين كلِّه لله، فإنّ من كون الدين كلِّه لله: إذلالَ الكفر وأهلِه وصَغارَه، وضرْبَ الجزية على رؤوس أهله، والرقَّ على رقابهم. فهذا من دين الله، ولا يناقض
(1/26)
هذا إلا تركُ الكفار على عزِّهم وإقامة دينهم كما يحبُّون، بحيث تكون لهم الشوكة والكلمة، والله أعلم.
فصل
وقد احتج بحديث بُريدة هذا من يرى أن قسمة الفيء والخمس موكولٌ (1) إلى اجتهاد الإمام، يضعُه حيث يراه أصلحَ وأهمَّ، والناس إليه أحوج، كما يقول مالك ومن وافقه رحمهم الله تعالى.
قالوا: والمهاجرون كانوا في ذلك الوقت أولى بذلك من غيرهم، ولذلك لم يُجعل فيه للأعراب شيء، فإن المهاجرين خرجوا من ديارهم وأموالهم لله، ووصلوا إلى المدينة فقراء، وكان أحقّ الناس بالفيء هم ومن واساهم وآواهم.
قال القاضي عياضٌ (2): ولذلك كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يُؤثِرهم بالخُمس على الأنصار غالبًا، إلا أن يحتاج أحدٌ من الأنصار.
وأما الشافعي (3) رحمه الله تعالى فإنه أخذ بحديث بُريدة – رضي الله عنه – في الأعراب، فلم يرَ لهم شيئًا من الفيء، وإنما لهم الصدقة المأخوذة من أغنيائهم المردودة في فقرائهم، كما أن أهل الجهاد وأجناد المسلمين أحقُّ
_________
(1) في المطبوع: “موكولة”.
(2) “إكمال المعلم” (6/ 32، 33). وكلام الشافعي وأبي عبيد أيضًا منقول منه.
(3) انظر نحوه في “الأم” (5/ 350).
(1/27)
بالفيء والصدقة (1).
وذهب أبو عبيد إلى أن هذا الحديث منسوخٌ (2)، وأن هذا كان حكمَ من لم يهاجر أولًا في أنه لا حقَّ له في الفيء، ولا في الموالاة للمهاجرين، ولا في التوارث بينهم وبين المهاجرين. قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]، ثم نسخ ذلك بقوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75]، وبقوله – صلى الله عليه وسلم -: “لا هجرةَ بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونيةٌ” (3). فلم يكن للأعراب إذ ذاك في الفيء نصيبٌ، فلما اتسعت رقعةُ الإسلام وسقط فرض الهجرة صار للمسلمين كلهم حقٌّ في الفيء حتى رعاة الشاء.
قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: لئن سلَّمني الله ليأتينَّ الراعيَ نصيبُه من هذا المال لم يَعْرَق فيه جبينُه (4).
_________
(1) في “إكمال المعلم”: “لا حق لهم من الصدقة”.
(2) انظر: “الأموال” (1/ 330).
(3) أخرجه البخاري (2783) ومسلم (1353) من حديث ابن عباس. وأخرجه مسلم (1864) أيضًا من حديث عائشة.
(4) أخرجه معمر في “جامعه” (20040 – عبد الرزاق) ــ ومن طريقه الطبري في “تفسيره” (22/ 516) وابن المنذر في “الأوسط” (6/ 420) ــ وأبو عبيد في “الأموال” (41، 540) والبيهقي في “الكبير” (6/ 351) بنحوه. وإسناده صحيح.
(1/28)
فصل
وقوله: “فإن سألوك على أن تُنزِلهم على حكم الله فلا تُنزِلْهم على حكم الله، فإنك لا تدري أتصيب حكمَ الله فيهم أم لا” فيه حجةٌ ظاهرةٌ على أنه لا يَسُوغ إطلاق حكم الله على ما لا يعلم العبد أن الله حكم به يقينًا من مسائل الاجتهاد، كما قال بعض السلف (1): ليتَّقِ أحدكم أن يقول: أحلَّ الله كذا أو حرَّم كذا، فيقول الله له كذبتَ، لم أُحِلَّ كذا ولم أُحرِّمه.
وهكذا لا يَسُوغ أن يقول: “قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ” لِما لا يعلم صحته ولا ثقةَ رُواته، بل إذا رأى أيَّ حديث كان في أي كتابٍ، يقول: “لقوله – صلى الله عليه وسلم – “، أو “لنا قوله – صلى الله عليه وسلم – “. وهذا خطرٌ عظيمٌ، وشهادةٌ على الرسول بما لا يعلم الشاهد (2).
وكذلك لا يَسُوغ له أن يخبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله بما لم
_________
(1) رُوي ذلك عن الربيع بن خُثيم، أخرجه ابن عبد البر في “جامع بيان العلم” (2090)، وابن حزم في “الإحكام” (6/ 53)، والخطيب في “الفقيه والمتفقه” (1/ 529) وغيرهم.
(2) انظر: “المجموع” للنووي (1/ 63)، ففيه: قال المحققون من أهل الحديث وغيرهم: إذا كان الحديث ضعيفًا لا يقال فيه: “قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ” … وذلك أن صيغة الجزم تقتضي صحته عن المضاف إليه، فلا ينبغي أن يُطلق إلّا فيما صح، وإلّا فيكون الإنسان في معنى الكاذب عليه. وهذا الأدب أخلَّ به جماهير الفقهاء من أصحابنا وغيرهم، بل جماهير أصحاب العلوم مطلقًا ما عدا حذَّاق المحدثين، وذلك تساهل قبيح.
(1/29)
يخبر به سبحانه عن نفسه، ولا أخبر به رسوله عنه، كما يستسهله أهل البدع. بل لا يخبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله إلا بما أخبر به عن نفسه وأخبر به رسوله عنه. وإذا كان النبي – صلى الله عليه وسلم – قد منع الأمير أن يُنزِل أهلَ الحصن على حكم الله وقال: “لعلك لا تدري أَتُصِيبُه أم لا”، فما الظنُّ بالشهادة على الله والحكمِ عليه بأنه كذا أو ليس كذا؟
والحديث صريحٌ في أن حكم الله سبحانه في الحادثة واحدٌ معينٌ، وأن المجتهد يصيبه تارةً ويخطئه تارةً، وقد نصَّ الأئمة الأربعة على ذلك صريحًا.
قال أبو عمر بن عبد البر (1): ولا أعلم خلافًا بين الحذَّاق من شيوخ المالكيين ــ ثم عدَّهم ــ ثم قال: كلٌّ يَحكي أن مذهب مالك في اجتهاد المجتهدين والقائسين إذا اختلفوا فيما يجوز فيه التأويل من نوازل الأحكام= أن الحقَّ من ذلك عند الله واحدٌ من أقوالهم واختلافهم، إلا أنَّ كلَّ مجتهدٍ إذا اجتهد كما أُمِر، وبالغ ولم يَألُ، وكان من أهل الصناعة، ومعه آلة الاجتهاد= فقد أدَّى ما عليه، وليس عليه غيرُ ذلك، وهو مأجورٌ على قصده الصوابَ وإن كان الحق من ذلك واحدًا.
قال: وهذا القول هو الذي عليه أكثر أصحاب الشافعي (2).
قال: وهو المشهور من قول أبي حنيفة فيما حكاه محمد بن الحسن
_________
(1) في “جامع بيان العلم وفضله” (2/ 919).
(2) انظر “الأم” (9/ 77)، و”البرهان” (2/ 1319)، و”المستصفى” (2/ 357) وغيرها.
(1/30)
وأبو يوسف والحُذَّاق من أصحابهم (1).
قلت: قال القاضي عبد الوهاب (2): وقد نص مالك على منع القول بإصابة كل مجتهدٍ فقال: ليس في اختلاف أصحاب رسول الله ــ – صلى الله عليه وسلم – ورضي عنهم ــ سعةٌ، إنما هو خطأٌ أو صوابٌ.
وسئل أيضًا (3): ما تقول في قول من يقول: إن كل واحدٍ من المجتهدين مصيبٌ لِما كلِّف؟ فقال: ما هذا هكذا، قولان مختلفان لا يكونان قطُّ صوابًا.
وقد نصَّ على ذلك الإمام أحمد، فقال في رواية بكر بن محمد عن أبيه (4): إذا اختلفت الرواية عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فأخذ رجل بأحد الحديثين وأخذ آخر بحديث آخر ضدّه، فالحق عند الله في واحدٍ، وعلى الرجل أن يجتهد، ثم قال: وإذا اختلف آخر عن رجل آخر منهم فالحق واحد، وعلى الرجل أن يجتهد (5)، ولا يدري أصاب الحق أم أخطأ.
_________
(1) انظر: “أصول البزدوي” (ص 615 وما بعدها)، و”أصول السرخسي” (2/ 131) وغيرهما.
(2) نقله عنه الزركشي في “البحر المحيط” (6/ 54). وقول مالك في “الموافقات” (5/ 75).
(3) أي مالك، انظر: “جامع بيان العلم” (2/ 906، 907)، و”الإحكام” لابن حزم (6/ 87)، و”الموافقات” (5/ 75).
(4) انظر: “العدّة” لأبي يعلى (5/ 1542)، و”التمهيد” للكلوذاني (4/ 310).
(5) “ثم قال … يجتهد” ساقطة من المطبوع.
(1/31)
وأصول الأئمة الأربعة وقواعدهم ونصوصهم على هذا، وأن الصواب من الأقوال كجهة القبلة في الجهات، وعلى هذا أكثر من أربعين دليلًا قد ذكرناها في كتابٍ مفردٍ (1)، وبالله التوفيق.
والمقصود أن قول النبي – صلى الله عليه وسلم – في حديث بُريدة: “فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا” صريحٌ في (2) أن حكم الله واحدٌ، وأن المجتهد قد يُصيبه وقد يُخطئه، كما قال في الحديث الآخر: “إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحدٌ” (3). فمن قال: كل مجتهدٍ مصيبٌ بمعنى أنه يصيب حكم الله الذي حكم به في نفس الأمر فقوله خطأ، وإن أراد أنه مصيب (4) للأجر بمعنى أنه مطيعٌ لله في أداء ما كُلِّف به، فقوله صحيح إذا استفرغ المجتهد وُسْعَه وبذلَ جهدَه.
فصل
فلنرجع إلى الكلام في أحكام الجزية.
قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
_________
(1) لعله الكتاب الذي أشار إليه في “تهذيب السنن” (3/ 137) بقوله: “كتاب مفرد في الاجتهاد”، وفي “مفتاح دار السعادة” (1/ 155) بقوله: “كتاب الاجتهاد والتقليد”.
(2) “فيهم أم لا صريح في” ساقطة من المطبوع.
(3) أخرجه البخاري (7352) ومسلم (1716) من حديث عمرو بن العاص بنحوه.
(4) “بمعنى أنه … مصيب” ساقطة من المطبوع.
(1/32)
الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].
فالجزية هي الخراج المضروب على رؤوس الكفار إذلالًا وصَغارًا، والمعنى: حتى يُعطوا الخراج عن رقابهم.
واختُلف في اشتقاقها، فقال القاضي في “الأحكام السلطانية” (1): اسمها مشتقٌّ من الجزاء، إما جزاءً على كفرهم لأخذها منهم صَغارًا، أو جزاءً على أماننا لهم لأخذِها منهم رفقًا.
قال صاحب “المغني” (2): هي مشتقّةٌ من جزاه بمعنى قضاه، لقوله: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 47]. فتكون الجزية مثل الفدية.
قال شيخنا: والأول أصح، وهذا يرجع إلى أنها عقوبةٌ أو أجرةٌ.
وأما قوله: {عَن يَدٍ}، فهو في موضع النصب على الحال، أي يعطوها أذِلَّاء مقهورين. هذا هو الصحيح في الآية.
وقالت طائفةٌ (3): المعنى من يدٍ إلى يدٍ نقدًا غير نسيئةٍ.
وقالت فرقةٌ (4): من يده إلى يد الآخذ، لا باعثًا بها ولا موكِّلًا في دفعها.
_________
(1) (ص 153). وهو صادر عن “الأحكام السلطانية” للماوردي (ص 221).
(2) (13/ 202).
(3) منهم شريك وعثمان بن مقسم، انظر: “زاد المسير” (3/ 420)، و”تفسير البغوي” (2/ 282).
(4) روي ذلك عن ابن عباس، انظر “تفسير البغوي” (2/ 282)، و”تفسير القرطبي” (8/ 115)، و”الوسيط” للواحدي (2/ 489)، و”زاد المسير” (3/ 420).
(1/33)
وقالت طائفةٌ (1): معناه عن إنعامٍ منكم عليهم بإقراركم لهم وبالقبول منهم.
والصحيح القول الأول، وعليه الناس.
وأبعدَ كلَّ البعد ولم يُصِبْ مراد الله من قال (2): المعنى: عن يدٍ منهم، أي عن قدرةٍ على أدائها، فلا تُؤخذ من عاجزٍ عنها. وهذا الحكم صحيح، وحملُ الآية عليه باطلٌ، ولم يفسِّر به أحدٌ من الصحابة ولا التابعين ولا سلف الأمة، وإنما هو من حذاقة بعض المتأخرين.
وقوله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} حالٌ أخرى، فالأول حال المسلمين في أخذ الجزية منهم أن يأخذوها بقهرٍ وعن يدٍ، والثاني حال الدافع لها أن يدفعها وهو صاغرٌ ذليلٌ.
واختلف الناس في تفسير “الصغار” الذي يكونون عليه وقتَ أداء الجزية، فقال عكرمة (3): أن يدفعها وهو قائمٌ، ويكون الآخذ جالسًا.
وقالت طائفةٌ (4): أن يأتي بها بنفسه ماشيًا لا راكبًا، ويُطال وقوفُه عند
_________
(1) انظر: “معاني القرآن” للزجاج (2/ 442)، و”تفسير البغوي” (2/ 282)، و”زاد المسير” (3/ 420).
(2) نقله الماوردي في “النكت والعيون” (2/ 128)، و”الأحكام السلطانية” (ص 223).
(3) أخرجه الطبري في “تفسيره” (11/ 408)، وابن أبي حاتم في “تفسيره” (6/ 1780).
(4) انظر: “تفسير الطبري” (11/ 408)، و”تفسير البغوي” (2/ 282)، و”النكت والعيون” (2/ 128)، و”زاد المسير” (3/ 421)، و”المغني” (13/ 252).
(1/34)
إتيانه بها، ويُجَرُّ إلى الموضع الذي تُؤخذ منه بالعنف، ثم تُجَرُّ يدُه ويُمتَهَن.
وهذا كله مما لا دليلَ عليه، ولا هو مقتضى الآية، ولا نُقِل عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا عن الصحابة أنهم فعلوا ذلك.
والصواب في الآية أن الصَّغار هو التزامهم لجريان أحكام الملَّة عليهم وإعطاء الجزية، فإن التزام ذلك هو الصَّغار.
وقد قال الإمام أحمد في رواية حنبلٍ (1): كانوا يجرون في أيديهم ويختمون في أعناقهم إذا لم يُؤدُّوا، [قيل له: فترى ذلك؟ قال: نعم، وهو] الصَّغار الذي قال الله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ}.
وهذا يدلُّ على أن الذمّي إذا بذلَ ما عليه والتزم الصَّغار لم يحتجْ إلى أن يُجَرَّ بيده ويُضْرَب.
وقد قال في رواية مهنا بن يحيى (2): يُستحبُّ أن يتعبوا في الجزية.
قال القاضي (3): ولم يُرِد تعذيبَهم ولا تكليفَهم فوقَ طاقتهم، وإنما أراد الاستخفاف بهم وإذلالَهم.
_________
(1) “الجامع” للخلال (1/ 164، 165) ومنه الزيادة. وفيه: “وكانوا يحدّون”.
(2) المصدر نفسه (1/ 165). وفيه: “يبعثوا” تصحيف.
(3) لم أجد كلامه في المصادر التي رجعت إليها، ولعله فيما لم يصل إلينا من كتابه “التعليقة”.
(1/35)
قلت: لما كانت يد المعطي العليا ويد الآخذ السفلى احترز الأئمة أن يكون الأمر كذلك في الجزية، وأخذوها على وجهٍ تكون يد المعطي السفلى ويد الآخذ العليا.
قال القاضي أبو يعلى: وفي هذا دلالةٌ على أن هؤلاء النصارى الذين يتولَّون أعمال السلطان، ويظهر منهم الظلمُ والاستعلاء على المسلمين وأخذُ الضرائب= لا ذمَّةَ لهم، وأن دماءهم مباحةٌ؛ لأن الله تعالى وصفهم بإعطاء الجزية على وجه الصَّغار والذُّل.
وهذا الذي استنبطه القاضي من أصحِّ الاستنباط؛ فإن الله سبحانه وتعالى مدَّ القتال إلى غايةٍ، وهي إعطاء الجزية مع الصغار، فإذا كانت حالة النصراني وغيره من أهل الجزية منافيةً للذُّل والصَّغار فلا عصمةَ لدمِه ولا ماله، وليست له ذمَّةٌ. ومن هاهنا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – تلك الشروط التي فيها صَغارهم وإذلالهم، وأنهم متى خرجوا عن شيء منها فلا عهدَ لهم ولا ذمةَ، وقد حلَّ للمسلمين منهم ما يَحِلُّ من أهل الشقاق والمعاندة.
وسنذكر إن شاء الله في آخر الجواب الشروطَ العمرية وشرحها.
فصل
وقد تبيَّن بما ذكرنا أن الجزية وُضِعتْ صَغارًا وإذلالًا للكفار، لا أجرةً عن سكنى الدار، وذكرنا أنها لو كانت أجرةً لوجبتْ على النساء والصبيان والزَّمْنى
(1/36)
والعميان. ولو كانت أجرةً لما أنِفَتْ منها العرب من نصارى بني تغلب وغيرهم، والتزموا ضِعْفَ ما يؤخذ من المسلمين من زكاة أموالهم. ولو كانت أجرةً لكانت مقدَّرةَ المدَّة كسائر الإجارات. ولو كانت أجرةً لما وَجَبتْ بوصف الإذلال والصَّغار. ولو كانت أجرةً لكانت مقدَّرةً بحسب المنفعة، فإن سكنى الدار قد يُساوي في السنة أضعافَ أضعافِ الجزية المقدرة. ولو كانت أجرةً لما وجبتْ على الذمّي أجرةُ دارٍ أو أرضٍ يسكنها إذا استأجرها من بيت المال. ولو كانت أجرةً لكان الواجب فيها ما يتفق عليه المُؤجِر والمستأجر.
وبالجملة ففساد هذا القول يُعلم من وجوهٍ كثيرةٍ.
وقد اختلف أئمة الإسلام في تقدير الجزية، فقال الشافعي (1) رحمه الله تعالى: ويُجعل على الفقير المعتمل دينارٌ، وعلى المتوسط ديناران، وعلى الغني أربعة دنانير. وأقلُّ ما يُؤخذ دينارٌ، وأكثره ما وقع عليه التراضي، ولا يجوز أن يُنقصَ من دينارٍ.
وقال أصحاب مالك (2): أكثر الجزية أربعةُ دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهمًا على أهل الوَرِق، ولا يُزاد على ذلك. فإن كان منهم ضعيفٌ خُفِّف عنه بقدر ما يراه الإمام.
_________
(1) انظر: “الأم” (5/ 424، 428)، و”التنبيه” للشيرازي (ص 237).
(2) انظر: “عقد الجواهر الثمينة” (1/ 488).
(1/37)
وقال ابن القاسم (1): لا يُنقَص من فرض عمر – رضي الله عنه – لمعسرٍ، ولا يُزاد عليه لغني.
وقال القاضي أبو الحسن (2): لا حدَّ لأقلها، قال: وقيل: أقلُّها دينارٌ أو عشرة دراهم.
وقال أصحاب أبي حنيفة (3) رحمهم الله تعالى: تُوضَع على الغني ثمانيةٌ وأربعون درهمًا، وعلى المتوسط أربعةٌ وعشرون، وعلى الفقير اثنا عشر.
ثم اختلفوا في حد الغني والفقير والمتوسط، قالوا: والمختار أن يُنظَر في كل بلدٍ إلى حال أهله وما يعتبرونه في ذلك، فإن عادة البلاد في ذلك مختلفةٌ.
وأما الإمام أحمد رحمه الله تعالى فقد اختلفت الرواية عنه، فنقل أكثر أصحابه عنه أنها مقدَّرة الأقل والأكثر، فتؤخذ من الفقير المعتمل اثنا عشر درهمًا، ومن المتوسط أربعةٌ وعشرون، ومن الموسر ثمانيةٌ وأربعون.
قال (4) حربٌ في “مسائله” (5): وسألت أبا عبد الله قلت: خراج الرؤوس إذا كان الذمي غنيًّا؟ قال: ثمانيةٌ وأربعون درهمًا، قلت: فإن كان دون ذلك؟
_________
(1) كما في المصدر السابق. والكلام متصل بما قبله.
(2) المصدر نفسه.
(3) انظر: “الاختيار لتعليل المختار” للموصلي (4/ 137).
(4) من هنا إلى بداية الفصل الآتي في ورقة مستقلة مستدركة في الأصل.
(5) نقله الخلال في “الجامع” (1/ 167).
(1/38)
قال: أربعةٌ وعشرون، قلت: فإن كان دون ذلك؟ قال: اثنا عشر (1)، قلت: فليسَ دون اثني عشر شيء (2)؟ قال: لا.
وقال في رواية ابنه صالحٍ وإبراهيم بن هانئٍ وأبي الحارث (3): أكثر ما يؤخذ في الجزية ثمانيةٌ وأربعون، والمتوسط أربعةٌ وعشرون، والفقير اثنا عشر. زاد في رواية أبي الحارث (4): أن عمر ضربَ على الغني ثمانيةً وأربعين، وعلى الفقير اثني عشر (5).
قال الخلال (6): والذي عليه العمل من قول أبي عبد الله: أن للإمام أن يزيد في ذلك وينقص، وليس لمن دونه أن يفعل ذلك. وقد روى يعقوب بن بختان خاصةً عن أبي عبد الله أنه لا يجوز للإمام أن ينقص من ذلك. وروى عن أبي عبد الله أصحابُه في عشرة مواضع أنه لا بأسَ بذلك.
قال (7): ولعل أبا عبد الله تكلَّم بهذا في وقتٍ، والعمل من قوله على ما رواه الجماعة أنه لا بأسَ للإمام أن يزيد في ذلك وينقص، وقد أشبعَ الحجة في ذلك.
_________
(1) في الأصل: “أربعة عشر”، وهو تحريف.
(2) في الأصل: “شيئًا”.
(3) روايتهم عند الخلال في “الجامع” (1/ 167).
(4) بل في رواية صالح في المصدر السابق (1/ 167).
(5) سيأتي تخريجه (ص 45).
(6) المصدر نفسه (1/ 169).
(7) المصدر نفسه، والكلام مستمر.
(1/39)
وقال الأثرم (1): سمعت أبا عبد الله يُسأَل عن الجزية كم هي؟ قال: وضع عمر – رضي الله عنه – ثمانيةً وأربعين وأربعةً وعشرين واثني عشر. قيل له: كيف هذا؟ قال: على قدر ما يُطيقون. قيل: فيُزاد في هذا اليومَ ويُنقص؟ قال: نعم، يُزاد فيه ويُنقَص على قدر طاقتهم، وعلى قدر ما يرى الإمام.
وقال أبو طالب (2): وسألت أبا عبد الله عن حديث عثمان بن حُنيفٍ تذهب إليه في الجزية (3)؟ قال: نعم. قلت: ترى الزيادة؟ قال: لمكان قول عمر – رضي الله عنه -: [أنا زدتُ عليهم]، فإن زاد فأرجو أن لا بأسَ إذا كانوا مطيقين، مثل ما قال عمر – رضي الله عنه -.
وقال أحمد بن القاسم (4): سئل أبو عبد الله عن جزية الرؤوس، وقيل له: بلغَك أن عمر – رضي الله عنه – جعلها على قدْرِ اليسار من أهل الذمة: اثنا عشر وأربعةٌ وعشرون (5) وثمانيةٌ وأربعون؟ قال: [هكذا] على قدر طاقتهم. فكيف يصنع به إذا كان فقيرًا لا يقدر [على] ثمانيةٍ وأربعين؟ [قال: إنما هو على قدر الطاقة. قيل له: فيزاد عليهم أكثر من ثمانيةٍ وأربعين؟] قال: على حديث الحكم عن عمرو (6) بن ميمونٍ أنه قال: والله إن زدتُ عليهم درهمين
_________
(1) المصدر نفسه (1/ 169).
(2) المصدر نفسه (1/ 170). ومنه الزيادة. وسيأتي حديث عثمان بن حنيف (ص 162).
(3) في المطبوع: “بالجزية” خلاف الأصل ومصدر المؤلف.
(4) المصدر نفسه (1/ 170). ومنه الزيادة.
(5) في الأصل: “وأربعة عشر” خطأ.
(6) في المطبوع: “عمر” خطأ.
(1/40)
لا يُجهِدهم، قال: وكانت ثمانيةً وأربعين فجعلها خمسين. قال: ولم يبين قوله في الزيادة أكثر من هذا.
قلت لأبي عبد الله (1): يحكى عن الشافعي أنه قال: إذا سأل أهل الحرب أن يؤدُّوا إلى الإمام عن رؤوسهم دينارًا [دينارًا] لم يجز له أن يحاربهم؛ لأنهم قد بذلوا ما حدَّ النبي – صلى الله عليه وسلم -. فأعجبَه هذا وفكَّر فيه، ثم تبسَّم وقال: مسألة فيها نظر.
وقال صالح بن أحمد (2): وسألتُ أبي: [إلى] أيّ شيء تذهب في الجزية؟ قال: أما أهل الشام [فـ] ـعلى ما وظف (3) عمر – رضي الله عنه – أربعة دنانير وكسوةٌ وزيتٌ، وأما أهل اليمن فعلى كل حالمٍ دينارٌ، وأما أهل العراق فعلى ما يؤخذ منهم.
وقال الأثرم (4) لأبي عبد الله: على أهل اليمن دينارٌ، شيء لا يزاد عليهم؟ قال: نعم. قيل له: ولا يؤخذ منهم ثمانيةٌ وأربعون؟ قال: كل قومٍ على سنَّتهم. ثم قال: أهل الشام خلاف غيرهم أيضًا، وكل قومٍ على ما قد جُعلوا عليه.
فقد ضمِنَ مذهبُه أربعَ رواياتٍ:
_________
(1) المصدر نفسه (1/ 170). والكلام متصل بما قبله.
(2) المصدر نفسه (1/ 171).
(3) في الأصل و”الجامع”: “وصف”. والتصويب من “مسائل صالح” (1/ 216).
(4) المصدر نفسه (1/ 171).
(1/41)
إحداها: أنه لا يُزاد فيها ولا يُنقَص على ما وضعه عمر – رضي الله عنه -.
والثانية: تجوز الزيادة والنقصان على ما يراه الإمام، قال الخلال: وهو الذي عليه العمل من مذهبه (1).
والثالثة: تجوز الزيادة دون النقصان.
والرابعة: أن أهل اليمن خاصةً لا يزاد عليهم ولا ينقص.
فصل
ولا يتعيَّن في الجزية ذهبٌ ولا فضّةٌ، بل يجوز أخذها مما تيسَّر من أموالهم من ثيابٍ وسلاحٍ يعملونه، وحديدٍ ونُحاسٍ ومَواشٍ وحبوبٍ وعُروضٍ وغير ذلك.
وقد دلَّ على ذلك سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعمل خلفائه الراشدين، وهو مذهب الشافعي وأبي عبيد.
ونصَّ عليه أحمد في رواية الأثرم (2)، وقد سأله: يؤخذ في الجزية غيرُ الذهب والفضة؟ قال: نعم، دينارٌ أو قيمته مَعَافر.
والمَعَافر ثيابٌ تكون باليمن.
وذهب في ذلك إلى حديث معاذٍ – رضي الله عنه -، الذي رواه في “مسنده” (3)
_________
(1) “من مذهبه” ساقطة من المطبوع.
(2) كما في “الجامع” للخلال (1/ 168).
(3) برقم (22013، 22037)، وأخرجه أيضًا أبو داود (1576، 3038) والترمذي (623) والنسائي (2450) وابن خزيمة (2268) وابن حبان (4886) والحاكم (1/ 398)، كلهم من حديث الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق (ولم يُذكر في بعض الطرق، وذكره أصح)، عن معاذ. وهذا إسناد جيِّد كما قال المؤلف. وقد روي عن مسروقٍ وغيره مرسلًا إلا أن وصله صحيح. انظر: “العلل” للدارقطني (985).
(1/42)
بإسناد جيدٍ عن معاذٍ – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما بعثه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالمٍ دينارًا أو عِدْلَه مَعافِر. ورواه أهل السنن، وقال الترمذي: حديث حسن.
وكذلك أهل نجران لم يأخذ في جزيتهم ذهبًا ولا فضةً، وإنما أخذ منهم الحُلَل والسِّلاح. فروى أبو داود في “سننه” (1) عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: صالح رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أهلَ نجران على ألفَي حُلَّةٍ ــ النصف في صفرٍ والنصف في رجبٍ ــ يؤدُّونها إلى المسلمين، وعارية (2) ثلاثين درعًا وثلاثين فرسًا وثلاثين بعيرًا وثلاثين من كل صنفٍ من أصناف السلاح يغزون (3) بها، والمسلمون ضامنون لها حتى يردُّوها عليهم إن كان باليمن كيدٌ أو غَدرةٌ؛ على أن لا تُهدَم لهم بِيعةٌ، ولا يُخرَج لهم قَسٌّ، ولا يُفتَنون عن دينهم، ما لم
_________
(1) برقم (3041) ــ ومن طريقه الضياء في “المختارة” (9/ 508) ــ من حديث السُّدِّي عن ابن عبّاس. وفي سماع السدي من ابن عباس نظر، ولكن له شواهد مرسلة تعضده، كما في التعليق على “زاد المعاد” (3/ 181، 801). ويُزاد عليها شاهد من “مغازي عروة” من رواية ابن لهيعة عن أبي الأسود عنه، أخرجه أبو عبيد في “الأموال” (519).
(2) في المطبوع: “وعلى” خلاف ما في الأصل والسنن.
(3) في المطبوع: “يقرون” تحريف.
(1/43)
يُحدِثوا حَدَثًا أو يأكلوا الربا.
وهو صريحٌ في أن أهل الذمة إذا أحدثوا في الإسلام أو لم يلتزموا ما شرطوا عليهم فلا ذمةَ لهم، وقد دلَّ على ذلك القرآن والسنة واتفاق الصحابة – رضي الله عنهم -، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى (1).
قال الزهري: أول من أعطى الجزيةَ أهلُ نجران، وكانوا نصارى (2)، وقد أُخذ منهم الحُلَل.
وكان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يأخذ النَّعَم في الجزية (3).
وكان علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – يأخذ الجزية من كل ذي صَنْعةٍ من متاعه؛ من صاحب الإبَرِ إبرًا، ومن صاحب المسالِّ مَسَالَّ (4)، ومن صاحب الحبال حبالًا، ثم يدعو الناس فيعطيهم الذهب والفضة فيقتسمونه، ثم يقول: خذوا فاقتسِموا، فيقولون: لا حاجةَ لنا فيه، فيقول: أخذتم خياره وتركتم
_________
(1) في الفصل السادس من الشروط العمرية في آخر الكتاب.
(2) تقدم تخريجه.
(3) كما في “الأم” (3/ 226) و”الأموال” لأبي عبيد (122) و”السنن الكبير” للبيهقي (7/ 35) من حديث مالك ــ وهو في “الموطأ” برواية محمد (334) ــ عن زيد بن أسلم عن أبيه. وإسناده صحيح.
(4) كذا في الأصل وموضع من كتاب “الأموال” وسائر المصادر، و”المَسالُّ” جمع المِسلَّة، وهي الإبرة العظيمة الضخمة، ويؤيده العطف على صاحب الإبر. وفي المطبوع وموضع من كتاب “الأموال”: “المَسانّ” جمع المِسَنٍّ، وهو آلة السَنِّ أي: آلة تحديد السكين ونحوه.
(1/44)
شراره؟ لَتحمِلُنَّه (1)!
فيؤخذ من عُروضه بقدر ما عليه من الجزية، هذه سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وخلفائه التي لا مَعدلَ عنها. فقد تبيَّن أن الجزية غير مقدَّرةٍ بالشرع تقديرًا لا يقبل الزيادة والنقصان، ولا معيَّنة الجنس.
قال الخلال (2): العمل في قول أبي عبد الله على ما رواه الجماعة أنه لا بأسَ للإمام أن يزيد في ذلك وينقص، على ما رواه عنه أصحابه (3) في عشرة مواضع، فاستقرَّ قوله على ذلك.
وهذا قول سفيان الثوري وأبي عبيد وغيرهم من أهل العلم.
وأول من جعل الجزية على ثلاث طبقاتٍ عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -، جعلها على الغني ثمانيةً وأربعين درهمًا، وعلى المتوسط أربعةً وعشرين، وعلى الفقير اثني عشر (4). وصالحَ بني تغلبَ على مثلَيْ ما على المسلمين من الزكاة (5).
_________
(1) أخرجه أبو عبيد في “الأموال” (121 واللفظ له، 939) وابن زنجويه (175) وابن أبي شيبة (33571) بإسناد جيِّد.
(2) في “الجامع” (1/ 169). والمؤلف صادر عن “المغني” (13/ 210).
(3) بعدها في المطبوع: “معينة الجنس”، ومكانها الصحيح قبل سطرين.
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (10825) وأبو عبيد في “الأموال” (106، 107) وابن زنجويه (157، 158، 258، 261) من طرق.
(5) أخرجه ابن أبي شيبة (10684) وأبو عبيد (72، 74، 1499، 1500).
(1/45)
وهذا يدلُّ على أنها إلى رأي الأمام، ولولا ذلك لكانت على قدرٍ واحدٍ في جميع المواضع، ولم يجُزْ أن تختلف.
وقال البخاري (1): قال ابن عيينة: عن ابن أبي نَجيحٍ قلت لمجاهدٍ: ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير، وأهل اليمن عليهم دينارٌ؟ قال: جُعل ذلك من أجل اليسار.
وقد زادها عمر أيضًا على ثمانيةٍ وأربعين فصيَّرها خمسين درهمًا (2).
واحتجَّ الشافعي (3) رحمه الله تعالى بأن الواجب دينارٌ على الغني والفقير والمتوسط بأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قدَّرها بذلك في حديث معاذٍ – رضي الله عنه -، وأمره أن يأخذ من كل حالمٍ دينارًا، ولم يُفرِّق بين غني وفقيرٍ، ولا (4) جعلهم ثلاث طبقاتٍ، وسنةُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أحقُّ أن تُتَّبع من اجتهاد عمر.
ونازعه الجمهور في ذلك وقالوا: لا منافاةَ بين سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وبين ما فعله عمر – رضي الله عنه -، بل هو من سنته أيضًا. وقد قرنَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بين سنته وسنة خلفائه في الاتباع (5)، فما سنَّه خلفاؤه فهو كسنَّتِه في الاتباع. وهذا
_________
(1) في “صحيحه” (كتاب الجزية) وقد تقدم.
(2) أخرجه أبو عبيد (108) ــ وعنه ابن زنجويه (159) ــ وأبو القاسم البغوي في “مسند ابن الجعد” (148) والبيهقي في “الكبير” (9/ 196).
(3) انظر: “الأم” (5/ 425 وما بعدها)، و”المغني” (13/ 211).
(4) “لا” ساقطة من المطبوع.
(5) في حديث العرباض بن سارية الذي أخرجه أبو داود (4607) والترمذي (2676) وغيرهما، وصححه الترمذي وابن حبان (5) والحاكم (1/ 95).
(1/46)
الذي فعله عمر – رضي الله عنه – اشتهر بين الصحابة، ولم ينكره منكرٌ، ولا خالفه فيه واحدٌ منهم البتةَ، واستقرَّ عليه عمل الخلفاء والأئمة بعده، فلا يجوز أن يكون خطأً أصلًا.
وقد نصَّ الشافعي على استحباب العمل به فقال (1): الواجب على كل رجل دينارٌ، لا يُجزئ أقلُّ من ذلك. فإن كان الذميّ مُقِلًّا ولم يكن مُوسِرًا ولا متوسطًا عقد له الإمام الذمة على دينارٍ في كل سنةٍ. وإن كان متوسطًا فيستحبُّ أن يقول له الإمام: جزيةُ مثلك ديناران، فلا أعقد لك ذمةً على أقلَّ منهما، ويحمل عليه بالكلام، فإن لم يقبل حملَ عليه بعشيرته وأهله، فإن لم يقبل وأقام على بذل الدينار قَبِل منه وعَقَد له الذمة. وإن كان موسرًا فيستحب أن يقال: جزيةُ مثلك أربعة دنانير لا أقبل منك أقلَّ منها، ويتحامل عليه بالكلام، ويحمل عليه بعشيرته وقومه، فإن لم يفعل وأقام على بذل الدينار قبل منه وعُقِدت له الذمة عليه.
قلت: ولا يخلو حديث معاذٍ من أحد وجوهٍ ثلاثةٍ:
الأول: أن يكون أمره بذلك؛ لأن الغالب على أهل ذمة اليمن إذ ذاك الفقر. وقد أشار مجاهدٌ إلى ذلك في قوله: إنما جُعِل على أهل الشام ثمانيةٌ وأربعون درهمًا من أجل اليسار.
الوجه الثاني: أنهم كانوا قد أُقرُّوا بالجزية، ولم يتميز الغني منهم من الفقير،
_________
(1) لم أجد قوله في “الأم” ولا غيره من المصادر التي رجعتُ إليها.
(1/47)
والصحابة إذ ذاك لم يسكنوا اليمن، بل كانوا مع النبي – صلى الله عليه وسلم – إذ هو حيٌ بين أظهرهم، فلما لم يتفرَّغوا لتمييز غنيهم من فقيرهم جعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الجزية كلها طبقة واحدةً. فلما مات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتفرق الصحابة في البلاد وسكنوا الشام تفرغوا لتمييز طبقات أهل الذمة، ومعرفةِ غنيهم وفقيرهم ومتوسطهم، فجعلوهم ثلاث طبقاتٍ، وأخذوا من كل طبقةٍ ما لا يَشُقُّ عليهم إعطاؤه.
الوجه الثالث: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يقدِّرها تقديرًا عامًّا لا يقبل التغيير، بل ذلك موكولٌ إلى المصلحة واجتهاد الإمام. فكانت المصلحة في زمانه أخذَها من أهل اليمن على السواء، وكانت المصلحة في زمن خلفائه الراشدين أخذَها من أهل الشام ومصر والعراق على قدر يَسارِهم وأموالهم. وهكذا فعلَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فإنه أخذها من أهل نجران حُلَلًا في قِسطَينِ، قسطٍ في صفرٍ وقسطٍ في رجبٍ.
وقال مالك (1): عن نافعٍ عن أسلم أن عمر – رضي الله عنه – ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعين درهمًا، ومع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيامٍ.
وقال الليث بن سعدٍ: عن كثير بن فَرْقدٍ ومحمد بن عبد الرحمن [عن نافعٍ] عن أسلم، عن عمر – رضي الله عنه -: أنه ضرب الجزية على أهل الشام ــ أو قال:
_________
(1) في “الموطأ” (757) ومن طريقه أخرجه أبو عبيد (103). وأخرجه أيضًا عبد الرزاق (10090، 10095) … وأبو عبيد (104) وابن زنجويه (155، 156) من طرق عن نافع به مطولًا ــ وسيأتي لفظه ــ ومختصرًا.
(1/48)
على أهل الذهب ــ أربعة دنانير، وأرزاق المسلمين من الحنطة مُدَّين وثلاثة أقساطِ زيتٍ لكل إنسانٍ كلَّ شهرٍ. وعلى أهل الوَرِق أربعين درهمًا وخمسة عشر صاعًا لكل إنسانٍ. قال: ومن كان من أهل مصر فإرْدَبٌّ (1) كلَّ شهرٍ لكل إنسانٍ. قال: ولا أدري كم [ذكر لكل إنسانٍ] من الوَدَكِ (2) والعسل (3).
وعلى هذا فلو كان فيهم من لا يقدر إلا على بعض دينارٍ لوجب قبوله منه بحسب قدرته. وهذا قياسُ جميع الواجبات إذا قدَرَ على أداء بعضها وعجَزَ عن جميعها، كمن قدرَ على أداءِ بعض الدَّين، وإخراجِ بعضِ صاع الفطرة، وأداءِ بعض النفقة إذ لا يقدر على تمامها، وغسْلِ بعض أعضائه إذا عجَزَ عن غَسْل جميعها، وقراءةِ بعض الفاتحة في الصلاة إذا عجَزَ عن جميعها، ونظائر ذلك.
قال أبو عبيد (4): والذي اخترناه أن عليهم الزيادة كما يكون لهم النقصان، للزيادة التي زادها عمر – رضي الله عنه – على وظيفة النبي – صلى الله عليه وسلم -، وللزيادة التي زادها هو نفسُه حين كانت ثمانيةً وأربعين فجعلها خمسين. ولو عجَزَ أحدهم عن دينارٍ لحَطَّه من ذلك، حتى قد رُوِي عنه أنه أجرى على شيخٍ
_________
(1) الإردبُّ: مكيال يسع أربعة وعشرين صاعًا.
(2) الودك: دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه.
(3) أخرجه أبو عبيد (104) عن يحيى بن بكير، وابنُ زنجويه (156) عن عبد الله بن صالح، كلاهما عن الليث به. واللفظ لأبي عبيد.
(4) “الأموال” (1/ 97).
(1/49)
منهم من بيت المال (1)، وذلك أنه مرَّ به وهو يسأل على الأبواب، وفعله عمر بن عبد العزيز (2).
قال أبو عبيد: ولو علم عمر أن فيها سنَّةً موقَّتةً من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما تعدَّاها إلى غيرها.
فصل
ولا يحلُّ تكليفُهم ما لا يقدرون عليه، ولا تعذيبُهم على أدائها، ولا حبسُهم وضربُهم.
قال أبو عبيد (3): حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن (4) هشام بن حكيم بن حزامٍ أنه مرَّ على قومٍ يُعذَّبون في الجزية بفلسطين، فقال هشامٌ: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “إن الله يعذِّب يومَ القيامة الذين يعذِّبون الناسَ في الدنيا”.
وقال الزهري: عن عروة بن الزبير أنَّ عِياض بن غَنْمٍ رأى نَبَطًا (5)
_________
(1) أخرجه أبو يوسف في “الخراج” (277 – نشرة البنَّا) بإسناد ضعيف، فيه عمر بن نافع الثقفي، قال ابن معين: ليس بشيء. ولكن له شاهد من أثر عمر بن عبد العزيز عن عمر بلاغًا، وسيأتي.
(2) سيأتي الأثر بإسناده (ص 55)، وثَمَّ تخريجه.
(3) “الأموال” برقم (114). والحديث عند مسلم (2613) من طرق عن هشام به.
(4) في المطبوع: “وعن” خطأ.
(5) شعبٌ سامي كانت له دولة في شمال شبه الجزيرة العربية، وعاصمتهم سَلْع، وتُعرف اليوم بالبتراء. وأُطلق اللفظ أخيرًا على أخلاط الناس من غير العرب.
(1/50)
يُشمَّسون (1) في الجزية فقال لصاحبهم: إني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “إن الله تبارك وتعالى يُعذِّب يومَ القيامة الذين يعذِّبون الناسَ في الدنيا” (2).
وقال الزهري: عن عروة بن الزبير أن هشام بن حكيمٍ هو الذي قال ذلك لعِياض بن غَنْمٍ (3).
قال (4): [حدثنا] نُعيم بن حمادٍ، عن بقية بن الوليد، عن صفوان بن
_________
(1) كذا في الأصل، وفي مطبوعة “الأموال” لأبي عبيد: “يُعذَّبون”، والظاهر أنه تصحيف، فقد أخرجه ابن زنجويه من الطريق نفسه بلفظ: “يشمَّسون”. ومعناه: يُوقَفون في الشمس يعذَّبون بحرِّها.
(2) “الأموال” (115) وكذا ابن زنجويه (170)، كلاهما عن عبد الله بن صالح عن الليث، عن يونس، عن الزهري به. وهو في “مسند أحمد” (15334) من طريق آخر عن يونس به. ولفظ هذه الروايات مقلوب، والذي في عامَّة الطرق أن هشام بن حكيم قال ذلك لعياض بن غنم، كما سيأتي.
(3) “الأموال” (116)، وكذا أحمد (15335) وابن زنجويه (169)، كلهم عن أبي اليمان، عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري. وأخرجه ابن حبان (5612) من طريق الزُّبَيدي عن الزهري به. وأخرجه مسلم (2613/ 119) وأبو داود (3045) والنسائي في “الكبرى” (8718) من طريق ابن وهب عن يونس عن الزهري به، ولكن دون تسمية عياض.
(4) أبو عبيد في “الأموال” (117). وأخرجه أيضًا أحمد (15333) وابن أبي عاصم في “السنة” (1130) والطبراني في “مسند الشاميين” (977) من طرق عن صفوان بن عمرو به. رجاله ثقات، إلا أن شُريح بن عُبيد يُرسل كثيرًا، وقيل: إنه لم يسمع من أحد من الصحابة. والظاهر أنه سمع الخبر من جُبير بن نُفير ــ من كبار تابعي أهل الشام ــ، فقد أخرجه ابن أبي عاصم (1131) وأبو نعيم في “معرفة الصحابة” (5425) من طريق ضَمْضَم بن زُرعة، عن شُريحٍ بن عبيد قال: قال جُبير بن نُفير … فذكره بنحوه. وإسناده حسن.
(1/51)
عمرٍو، عن شُريح بن عبيد: أن هشام بن حكيمٍ قال ذلك لعِياض بن غَنْمٍ عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فقال عياضٌ لهشامٍ: قد سمعتُ ما سمعتَ ورأيتُ ما رأيتَ. أَوَلم تسمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “من أراد أن ينصحَ لذي سلطانٍ فلا يُبْدِهِ له علانيةً، ولكن لِيأخذْ بيده فيخلُو به، فإن قبلَ منه فذاك، وإلّا فقد أدَّى الذي عليه”.
قال (1): وحدثنا نُعيمٌ، نا بقية بن الوليد، عن صفوان بن عمرٍو، عن عبد الرحمن بن جُبير بن نُفيرٍ عن أبيه: أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أُتي بمالٍ كثيرٍ ــ أحسبه قال: من الجزية ــ فقال: إني لأظنُّكم قد أهلكتم الناس، قالوا: لا والله ما أخذنا إلا عَفْوًا صَفْوًا. قال: بلا سوطٍ ولا نَوْطٍ (2)؟ قالوا: نعم. قال: الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني.
قال (3): وحدثنا أبو مُسهر، نا سعيد بن عبد العزيز قال: قدم سعيد بن
_________
(1) “الأموال” (118)، ولم أجده عند غيره. وإسناده لا بأس به.
(2) أي بلا ضرب ولا تعليق. انظر: “النهاية” (5/ 128).
(3) “الأموال” (119)، وهو ظاهر الانقطاع بين سعيد بن عبد العزيز ــ التنوخي، من أئمة أتباع التابعين ــ وبين سعيد بن عامر بن حِذْيَم – رضي الله عنه -، إلا أن ابن عساكر أخرجه في “التاريخ” (21/ 163) من طريق آخر عن سعيد بن عبد العزيز قال: حدثني عطية بن قيس ــ الكلابي، تابعي حمصي ــ أن عمر بن الخطاب استعمل سعيد بن عامر بن حذيم على جُند حمصٍ (بعد وفاة عياض بن غَنْم)، فقدم عليه … إلخ بنحوه.
(1/52)
عامر بن حِذْيَمٍ على عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -، فلما أتاه علاه بالدِّرَّة، فقال سعيد: سبقَ سيلُك مطرَك! إن تُعاقِبْ نصبِرْ، وإن تَعْفُ نشكُرْ، وإن تَستعتِبْ نُعْتِبْ. فقال: ما على المسلم إلا هذا، ما لك تُبطئ بالخراج؟ فقال: أمرتَنا أن لا نزيد الفلَّاحين على أربعة دنانير، فلسنا نزيدهم على ذلك، ولكنّا نؤخّرهم إلى غلَّاتهم. فقال عمر – رضي الله عنه -: لا عَزلتُك ما حَيِيتُ!
قال أبو عبيد: وإنما وجهُ التأخير للرِّفق بهم، ولم أسمع في الخراج والجزية وقتًا من الزمان يجتبى فيه غيرَ هذا.
قال (1): ونا مروان بن معاوية الفَزاري عن خَلَفٍ مولى آل جَعدة عن رجل من آل أبي المهاجر قال: استعمل علي بن أبي طالب رجلًا على عُكبَراء فقال له على رؤوس الملأ: لا تَدَعَنَّ لهم درهمًا من الخراج. قال: وشدَّدَ عليه القول، ثم قال: الْقَنِي عندَ انتصاف النهار، فأتاه فقال: إني كنتُ
_________
(1) “الأموال” (120)، والرجل المبهم من آل أبي المهاجر هو إسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر، فقد أخرجه أبو يوسف في “الخراج” (47)، وابن زنجويه (173) من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر، عن عبد الملك بن عمير، عن رجل من ثقيف قال: استعملني علي بن أبي طالب على عكبراء … إلخ بنحوه. وإسماعيل هذا ضعيف، إلا أنه توبع، تابعه جعفر بن زياد الأحمر عند يحيى بن آدم في “الخراج” (234) ــ ومن طريقه البيهقي في “الكبير” (9/ 205) ــ بنحوه.
(1/53)
أمرتُك بأمرٍ وإني أتقدَّم إليك الآن (1)، فإن عصيتَني نزعتُك: لا تبيعَنَّ لهم في خراجهم حمارًا ولا بقرةً ولا كسوةً، شتاءً ولا صيفًا، وارْفُق بهم، وافعَلْ بهم وافعَلْ بهم.
قال (2): وحدثني الفضل بن دُكَينٍ، عن سعيد بن سِنانٍ، عن عنترة قال: كان عليٌّ يأخذ الجزية من كل ذي صَنْعةٍ، من صاحب الإبَرِ إبرًا، ومن صاحب المَسَالّ مَسَالّ، ومن صاحب الحبال حبالًا، ثم يدعو العُرفاء فيعطيهم الذهب والفضة فيقتسمونه، ثم يقول: خذوا هذا فاقتسموه، فيقولون: لا حاجةَ لنا فيه، فيقول: أخذتم خِياره وتركتم عليَّ شِراره؟ لتَحمِلُنَّه!
قال أبو عبيد (3): وإنما توجَّه هذا من علي – رضي الله عنه – أنه إنما كان يأخذ منهم هذه الأمتعة بقيمتها من الدراهم التي عليهم من جزية رؤوسهم، ولا يحمِلُهم على بيعها ثم يأخذ ذلك من الثمن إرادةَ الرفقِ بهم والتخفيفِ عليهم.
قال: ومثل هذا حديث معاذٍ – رضي الله عنه – حين قال باليمن: ائتوني بخميسٍ أو لَبِيسٍ (4) آخذه منكم مكانَ الصدقة، فإنه أهونُ عليكم وأنفعُ للمهاجرين
_________
(1) أي: إن الأمر السابق كان ليُسمِع القومَ الذين ولَّاه عليهم، ولفظه في رواية ابن زنجويه: “إنما قلتُ لك الذي قلتُ لأُسمِعهم”.
(2) “الأموال” (121)، وقد تقدَّم.
(3) “الأموال” (1/ 102).
(4) الخميس: الثوب الذي طولُه خمسُ أذرع. قيل: سُمِّي خميسًا لأن أول من عمله ملكٌ باليمن يقال له الخِمْس. واللبيس: الثوب الذي أُكثِر لُبسُه فأَخلقَ. وانظر: “فتح الباري” (3/ 312). وفي المطبوع: “بحميس” بالحاء وشرحه في الهامش بأنه التنور، وهو خطأ.
(1/54)
بالمدينة (1). وكذلك فعل عمر – رضي الله عنه – حتى كان يأخذ الإبل في الجزية. وإنما يراد بهذا كلِّه الرفقُ بأهل الذمة، وأن لا يباع عليهم من متاعهم شيء، ولكن يؤخذ مما سهُلَ عليهم في القيمة، ألا تسمع إلى قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “أو عِدْله من المَعَافر”؟ فقد بيَّن لك ذِكرُ العِدْل أنه القيمة.
قال (2): وحدثنا محمد بن كثيرٍ، عن أبي رجاءٍ الخراساني، عن أبي جعفر قال: شهدتُ كتاب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إلى عَدي بن أَرطاة قرئ علينا بالبصرة: أما بعدُ، فإن الله سبحانه إنما أمر أن تؤخذ الجزية ممن رغب عن الإسلام، واختار الكفر عِتِيًّا (3) وخسرانًا مبينًا، فضَعِ الجزيةَ على من أطاقَ (4) حمْلَها، وخلِّ بينهم وبين عمارة الأرض، فإن في ذلك
_________
(1) أثر معاذ أخرجه يحيى بن آدم في “الخراج” (526) ــ ومن طريقه البيهقي في “الكبير” (4/ 113) وابن حجر في “تغليق التعليق” (3/ 13) ــ وابن أبي شيبة (10540) والدارقطني (1930) من رواية طاوس عن معاذ. قال الدارقطني: هذا مرسل، طاوس لم يدرك معاذًا. وذكره البخاري في “صحيحه” (الزكاة/باب العرض في الزكاة) تعليقًا عن طاوس قال: قال معاذ … إلخ بنحوه إلا أن فيه “خميص” بدل “خميس”.
(2) “الأموال” (123)، وأخرجه البلاذري في “أنساب الأشراف” (8/ 147) من طريق يحى بن آدم (ولم أجده في مطبوعة “الخراج”) عن فضيل بن عياض قال: كتب عمر بن عبد العزيز … بنحوه مختصرًا دون ذكر قصة عمر بن الخطاب.
(3) في المطبوع: “عنتا”.
(4) في هامش الأصل: “أراد” بعلامة خ.
(1/55)
صلاحًا لمعاش (1) المسلمين وقوةً على عدوهم. ثم انظُرْ مَن قِبَلَك من أهل الذمة قد كبرتْ سِنُّه وضعُفتْ قوَّتُه وولَّتْ عنه المكاسبُ، فأَجْرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يُصلِحُه؛ فلو أن رجلًا من المسلمين كان له مملوكٌ كبرتْ سِنُّه وضعُفتْ قوَّتُه وولَّت عنه المكاسبُ كان من الحق عليه أن يَقُوتَه (2) حتى يفرِّق بينهما موتٌ أو عتقٌ. وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر – رضي الله عنه – مرَّ بشيخٍ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس، فقال: ما أنصفناك إن كنّا أخذنا منك الجزيةَ في شَبيبتِك ثم ضيَّعناك في كِبَرِك. قال: ثم أجرى عليه من بيت المال ما يُصْلِحه (3).
قال (4): وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن محمد بن طلحة، عن داود بن سليمان الجعفي قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن: سلامٌ عليك، أما بعدُ، فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاءٌ وشدَّةٌ وجورٌ في أحكامٍ وسُنَنٍ خبيثةٍ سنَّتها عليهم عُمَّال السوء، وإنّ أقْومَ الدينِ العدلُ والإحسان، فلا يكوننَّ شيء أهمَّ إليك من نفسك أن تُوطِّنَها الطاعةَ لله
_________
(1) في المطبوع: “لمعاشر” خلاف الأصل.
(2) أي يُطعِمه ما يمسك الرمَق.
(3) قصة عمر بن الخطاب التي ذكرها عمر بن عبد العزيز بلاغًا، رويت موصولةً بإسناد آخر ضعيف كما سبق (ص 49 – 50).
(4) “الأموال” (124). وأخرجه ابن زنجويه (180) وابن أبي شيبة (33389) وأبو نعيم في “الحلية” (5/ 286، 9/ 49) من طرق عن محمد بن طلحة به. والزيادة بين معكوفتين من “الأموال” وغيره.
(1/56)
عز وجل، فإنه لا قليل من الإثم. وأمرتُك أن تُطرِّز (1) عليهم أرضَهم، وأن لا تَحمِلَ خرابًا على عامر، ولا عامرًا على خرابٍ، ولا تأخذ من الخراب إلا ما يطيق، ولا من العامر إلا وظيفةَ الخراج، في رفقٍ وتسكينٍ لأهل الأرض. وأمرتُك أن لا تأخذ في الخراج [إلا وزنَ سبعةٍ (2) ليس لها آسٌ (3)،
ولا] أجور الضرَّابين (4)، ولا إذابة الفضة، ولا هدية النَّيروز والمِهْرَجان (5)، ولا
_________
(1) في الأصل: “تطرق”. والتصويب من مصادر التخريج. وتطريز الأرض: إصلاح ما فيها من الارتفاع والانخفاض واندراس الأنهار لتكون قابلة لوصول الماء إليها والزراعة فيها. وفي “كتاب الخراج” لأبي يوسف (ص 214 – تحقيق إحسان عباس): “انظر الأرض”. وفي “سراج الملوك” للطرطوشي (ص 549): “فاحرز عليهم أرضهم”. وكلاهما تحريف.
(2) يقولون: عشرة دراهم وزن سبعة، لأنهم جعلوا عشرة دراهم وزن سبعة مثاقيل. انظر “العين” (1/ 345)، و”تهذيب اللغة” (2/ 71)، و”الصحاح” (سبع)، و”مفاتيح العلوم” للخوارزمي (ص 142).
(3) كذا في “الأموال” و”المصنف”. وعند ابن زنجويه: “ليس لها أبين”. وفي “الخراج” لأبي يوسف (ص 215): “ليس فيها تِبرٌ”. وفي “الرتاج”: “ليس فيها تربيص تبرٍ”. أي معالجة التبر بالرباص وتصفيته من الغش. ومن معاني “الآس”: بقية الرماد وأثر الدار، فكأن المعنى: لا غش فيها ..
(4) يقال: ضربَ الدرهم ونحوه أي سكَّه وطبَعه.
(5) النيروز: أول يوم من السنة الشمسية الإيرانية، ويوافق اليوم الحادي والعشرين من شهر مارس من السنة الميلادية. وعيد النيروز أكبر الأعياد القومية للفرس. والمهرجان: احتفال الاعتدال الخريفي، وهي كلمة فارسية مركبة من كلمتين: مِهْر (أي الشمس) وجان (أي الحياة أو الروح).
(1/57)
ثمن المصحف، ولا أجور البيوت، ولا دراهم النكاح. ولا خراجَ على من أسلم من أهل الأرض. فاتَّبِعْ في ذلك أمري، فقد ولَّيتُك في ذلك ما ولَّاني الله، ولا تَعْجَلْ دوني بقطْعٍ ولا صَلْبٍ حتى تراجعني فيه، وانظُرْ من أراد من الذُّرية الحج فعَجِّلْ له مائةً يتجهَّز بها. والسلام عليك.
قال عبد الرحمن: قوله: “دراهم النكاح” يريد به بَغايا كان يؤخذ منهن الخراج. وقوله: “الذُّرية” يريد به من كان ليس من أهل الديوان.
فصل
وتجب الجزية في آخر الحَول، ولا يطالَبون بها قبل ذلك، هذا قول الإمام أحمد والشافعي (1). وقال أبو حنيفة: تجب بأول الحول، وتؤخذ منه كل شهرٍ بقسطه (2).
ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى أصلٌ في الجزية، وهي أنها عنده عقوبةٌ محضةٌ يسلك بها مسلكَ العقوبات البدنية، ولهذا يقول: إذا اجتمعت عليه جزية سنين تداخلت كما تتداخل العقوبات، ولو أسلم وعليه جزية سنين سقطت كلها كما تسقط العقوبات، ولو مات بعد الحول وقبل الأخذ سقطت عنه (3).
وفي “الجامع الصغير” (4): ومن لم يؤخذ منه خراج رأسه حتى مضت
_________
(1) انظر: “المغني” (13/ 212).
(2) “الاختيار لتعليل المختار” (4/ 137).
(3) انظر: “الهداية” (2/ 403)، و”الاختيار” (4/ 138، 139).
(4) لمحمد بن الحسن (ص 470). وانظر: “الهداية” (2/ 403).
(1/58)
السنة وجاءت السنة الأخرى، لم يؤخذ منه. وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: تؤخذ منه. فإن مات عند تمام السنة لم تؤخذ منه في قولهم جميعًا.
وعلى هذا فلو كانت تجب بآخر الحول لاستقرَّتْ بمضيِّه، ولم تسقط ولم تتداخل كالزكاة والدية. والجزية وجبت بدلًا عن القتل وعصمة الدم في حقّه، وعوضًا عن النصرة لهم في حقنا، وهذا إنما يكون في المستقبل لا في الماضي؛ لأن القتال إنما يُفعل لحِرابٍ قائمٍ في الحال لا لحِرابٍ ماضٍ، وكذا النصرة في المستقبل لأن الماضي وقعت الغُنية عنه (1).
وسرُّ المسألة أن سبب الجزية قائمٌ في الحال، ويُعطيها على المستقبل شيئًا فشيئًا بحسب احتمال المحلِّ، كتعويض الضربات في الحدود. ولهذا قالوا: تؤخذ كل شهرٍ بقسطه، فإنها لو أُخِّرت حتى دخل العام الثاني سقطت، كما قال محمد في “الجامع” (2).
وعلى هذا فلا تستقرُّ عليه جزيةٌ أبدًا، ولا سبيلَ إلى أن تؤخذ سلفًا وتعجيلًا، فأُخِذت مفرَّقةً على شهور العام لقيام مقتضٍ، لا (3) لصدقته من الكفر، وفي الأخذ من الذَّبِّ عنه والنصرة.
وقال محمد في “كتاب الزيادات” (4) في نصراني مرِضَ السنةَ كلَّها فلم
_________
(1) المصدر نفسه (2/ 403).
(2) كما تقدم قريبًا.
(3) “لا” ساقطة من المطبوع.
(4) ما زال مخطوطًا. انظر: “تاريخ التراث العربي” (1: 3/ 57).
(1/59)
يقدر يعمل وهو موسرٌ: إنه لا تجب عليه الجزية، لأنها إنما تجب على الصحيح المعتمل. وكذلك إن مرِض نصفَ السنة أو أكثرها، فإن صحَّ ثمانية أشهرٍ أو أكثر فعليه الجزية، ولأن المريض لا يقدر على العمل فهو خالٍ من الغنى. وكذلك إذا مرِض أكثر السنة أن الأكثر يقوم مقام الجميع. وكذلك إذا مرض نصفَ السنة أن الموجب والمُسقِط (1) تساويا فيما طريقه العقوبة، وكان الحكم للمسقط كالحدود.
واحتج لهذا القول بأن الله سبحانه أمر بقتالهم حتى يُعطوا الجزية، وبأنها عقوبةٌ وإذلالٌ وصَغارٌ للكفر وأهله، فلا يتأخَّر عن القدرة على أخذها.
قالوا: وهذا على أصلِ من جعلها أجرةَ سكنى الدار أَطردُ، فإن الأجرة تجب عقيبَ العقد، وإنما أُخِذت منهم مُقسَّطةً بتكرر الأعوام رفقًا بهم، وليستمرَّ نفعُ الإسلام بها وقوَّتُه كلَّ عامٍ بخراج الأرضين.
قال الأكثرون: لما ضرب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الجزيةَ على أهل الكتاب والمجوس لم يُطالِبْهم بها حتى ضربها عليهم، ولا ألزمهم بأدائها في الحال وقتَ نزول الآية بل صالحَهم عليها، وكان يبعثُ رسلَه وسُعاتَه فيأتون بالجزية والصدقة عند محلِّهما، واستمرت على ذلك سيرةُ خلفائه من بعده. وهذا مقتضى قواعد الشريعة وأصولها، فإن الأموال التي تتكرر بتكرر الأعوام إنما تجب في آخر العام لا في أوله كالزكاة والدية، ولو أن رجلًا أجَّلَ على رجل مالًا كلَّ عامٍ يعطيه كذا وكذا لم يكن له المطالبة بقسط العام الأول عقيبَ العقد.
_________
(1) في الأصل: “المقسط” خطأ.
(1/60)
وأما قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا اُلْجِزْيَةَ}، فليس المراد به العطاء الأول وحده، بل العطاء المستمر المتكرر، ولو كان المراد به ما ذكرتم لكان الواجب أخذ الجميع عقيبَ العقد، وهذا لا سبيل إليه. على أن المعنى: حتى يلتزموا عطاء الجزية وبذْلَها، وهذه كانت سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيهم أنهم إذا التزموا له بذْلَ الجزية كفَّ عنهم بمجرد التزامهم، ولهذا يَحرُم قتالهم إذا التزموها قبل إعطائهم إياها اتفاقًا، ولهذا [قال] في حديث بُريدة: “فادْعُهم إلى الجزية، فإن أجابوك فاقبَلْ منهم وكُفَّ عنهم”. وإنما كان يدعوهم إلى الإقرار بها والتزامها دون الأخذ في الحال.
واختلف أصحاب الشافعي (1)، فقال بعضهم: تجب بأول السنة دفعةً واحدةً، ولكن تستقرُّ جزءًا بعد جزءٍ. وقال بعضهم: معنى إضافة الوجوب إلى أول السنة انبساطه على جميع الأوقات، لا أنها تجب دفعةً واحدةً بأول السنة، وبَنَوا على ذلك الأخذ بالقسط إذا أسلم أو مات أو جُنَّ. وقال بعضهم: إنما يدخل وقت وجوبها عند انقضاء السنة، وهذا هو المشهور.
فصل
ولا جزية على صبي ولا امرأةٍ ولا مجنونٍ، هذا مذهب الأئمة الأربعة وأتباعهم. قال ابن المنذر (2): ولا أعلم عن غيرهم خلافهم.
وقال أبو محمد في “المغني” (3): لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في هذا.
_________
(1) انظر: “نهاية المطلب” (18/ 32).
(2) في “كتاب الإجماع” (ص 62). ونقله في “المغني” (13/ 216).
(3) (13/ 216).
(1/61)
قال أبو عبيد (1): ثنا إسماعيل بن إبراهيم، ثنا أيوب، عن نافعٍ، عن أسلم مولى ابن عمر – رضي الله عنهما – أن عمر – رضي الله عنه – كتب إلى أمراء الأجناد: أن يقاتلوا في سبيل الله، ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم، ولا يقتلوا النساء ولا الصبيان، ولا يقتلوا إلا من جرت عليه المواسي. [وكتب إلى أمراء الأجناد: أن يضربوا الجزيةَ، ولا يضربوها على النساء والصبيان، ولا يضربوها إلا على من جَرتْ عليه المواسي].
قال أبو عبيد (2): يعني من أَنبتَ. وهذا الحديث هو الأصل فيمن تجب عليه الجزية ومن لا تجب عليه، ألا تراه إنما جعلها على الذكور المُدْرِكين (3) دون الإناث والأطفال، وأسقطَها عمن لا يستحقُّ القتلَ، وهم الذرية.
وقد جاء في كتاب النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى معاذٍ باليمن: “خُذْ من كلِّ حالمٍ دينارًا” (4) تقويةً لقول عمر – رضي الله عنه -، ألا تراه – صلى الله عليه وسلم – خصَّ الحالم دون المرأة والصبي؟ إلا أن في بعض ما ذكرنا مِن كتبه: “الحالم والحالمة” (5)، فنرى
_________
(1) “الأموال” (96) وإسناده صحيح. والزيادة منه وفيها موضع الشاهد. وأخرجه أيضًا يحيى بن آدم في “الخراج” (231) وابن زنجويه (155)، وعبد الرزاق (10096) وابن أبي شيبة (33304) والبيهقي في “الكبير” (9/ 198) من طرق عن نافع به.
(2) عقب الأثر المذكور.
(3) في المطبوع: “المذكورين” تحريف.
(4) تقدَّم تخريجه، والكلام لا يزال لأبي عبيد.
(5) أخرجه أبو عبيد (67، 68) عن الحكم بن عُتَيبة منقطعًا معضلًا، وعن عروة بن الزبير مرسلًا بإسناد ضعيف فيه ابن لَهِيعة. وقد رواه عبد الرزاق (10099) عن معمر عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق. وقد خالف معمرًا سفيانُ الثوري وغيرُ واحدٍ، فرووه عن الأعمش ولم يذكروا فيه “حالمة”. على أن معمرًا نفسه كان يقول ــ كما عند عبد الرزاق ــ: هذا غلط قوله: “حالمة”، ليس على النساء شيء.
(1/62)
ــ والله أعلم ــ أن المحفوظ المُثبَت من ذلك هو الحديث الذي لا ذكر للحالمة فيه، لأنه الأمر الذي عليه المسلمون، وبه كتب عمر – رضي الله عنه – إلى أمراء الأجناد. فإن يكن الذي فيه ذكر “الحالمة” محفوظًا، فإن وجهه عندي أن يكون ذلك كان في أول الإسلام، إذ كان نساء المشركين وولدانهم يُقتَلون مع رجالهم، وقد كان ذلك ثم نُسِخ.
ثم ذكر (1) حديث الصَّعب بن جَثَّامة الذي في “صحيح البخاري” (2) أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعث سريَّةً فأصابتْ من أبناء المشركين، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “هم من آبائهم”.
[قال أبو عبيد:] ثم جاء النهي بعد ذلك. وذكرَ الأحاديث التي فيها النهي عن قتل النساء والذُّرية.
قلت (3): لم يشرع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قتلَ النساء والذُّرية في شيء من مغازيه البتةَ. والنبي – صلى الله عليه وسلم – نهى عن قتل النساء والذرية في مغازيه قبل إرسال معاذٍ إلى اليمن، كما في “الصحيحين” (4) من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: وُجِدتْ
_________
(1) “الأموال” برقم (97).
(2) برقم (3013)، وأخرجه مسلم (1745) أيضًا.
(3) من هنا تعليق المؤلف على كلام أبي عبيد.
(4) البخاري (3014، 3015) ومسلم (1744).
(1/63)
امرأةٌ مقتولةٌ في بعض مغازي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فأنكر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قتلَ النساء والصبيان.
ورأى الناس في بعض غزواته مجتمعين على شيء، فبعث رجلًا فقال: انظر علامَ اجتمع هؤلاء؟ فجاء فقال: امرأة قتيل، فقال: “ما كانت هذه لِتقاتلَ”، وكان على المقدّمة خالد بن الوليد، فبعث رجلًا فقال: “قُلْ لخالدٍ لا يقتلنَّ امرأةً ولا عَسِيفًا” (1). وفي لفظ: “لا تقتلوا ذُرّيةً ولا عَسِيفًا”، ذكره أحمد (2).
وفي “سنن أبي داود” (3) عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
_________
(1) أخرجه أبو داود (2669) ــ واللفظ له ــ والنسائي في “الكبرى” (8571 – 8573) وأبو يعلى (1546) وابن حبان (4789، 4791) والطبراني في “الكبير” (4622) والحاكم (2/ 122) وغيرهم من طرق عن المرقَّع بن صيفي عن جدِّه رَباح بن ربيعٍ – رضي الله عنه -. وفي بعض الطرق: عن المرقَّع عن حنظلة الكاتب – رضي الله عنه -، وهو أخو جدِّه رباحٍ، والأول أصح. وإسناده حسن على كلا التقديرين. انظر: “التاريخ الكبير” للبخاري (3/ 314)، و”العلل” لابن أبي حاتم (914)، و”البدر المنير” (9/ 80) و”الصحيحة” (701)، و”أنيس الساري” (3340).
(2) “مسند أحمد” (15992).
(3) برقم (2614)، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (33790) والبيهقي في “الكبير” (9/ 90) و”معرفة السنن” (13/ 253)، كلهم من طريق حسن بن صالح، عن خالد بن الفِزْر، قال: حدثني أنس. وهو حديث حسن، وخالد بن الفِزْر وإن كان ابن معين قال فيه: ليس بذاك، وقال أبو حاتم: شيخ، إلا أنه لم يأت بما يُنكَر عليه، بل له شواهد تعضده.
(1/64)
قال: “انْطلِقوا باسم الله وعلى ملَّة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، لا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلًا ولا صغيرًا ولا امرأةً، ولا تَغُلُّوا، وضُمُّوا غنائمكم، وأَصلِحوا وأَحسِنوا، إن الله يُحِبُّ المحسنين”.
بل النهي عن قتل النساء وقع يومَ الخندق ويوم خيبر، كما في “المسند” (1) من حديث ابن كعب بن مالك عن عمِّه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – حين بعث إلى ابن أبي الحُقَيق بخيبر نهى عن قتل النساء والصبيان.
وفي “المعجم” (2) للطبراني من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – مرَّ بامرأةٍ يومَ الخندق مقتولةٍ، فقال: “من قتلَ هذه؟ “، فقال رجلٌ: أنا يا
_________
(1) برقم (24009/ 66) من طريق معمر، وأخرجه أحمد أيضًا (24009/ 67) والحميدي (898) وابن أبي شيبة (33787) والبيهقي في “الكبير” (9/ 77، 78) من طريق سفيان بن عُيينة، كلاهما عن الزهري عن ابن كعب بن مالك به، وسُمِّي عند ابن أبي شيبة “عبد الرحمن بن كعب”. ورجاله ثقات، إلا أنه قد اختُلف على الزهري في إسناده على ألوان، فأخرجه مالك في “الموطأ” (1290) عن الزهري عن ابنٍ لكعب بن مالك مرسلًا، لم يذكر فيه: “عن عمِّه”. وأخرجه الطبراني (19/ 74) من طريق يونس بن يزيد، ومن طريق مالك، كلاهما عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، “عن أبيه”. وقد ذكر البخاري في “تاريخه ” (5/ 310) الاختلاف عليه ولم يرجِّح شيئًا.
(2) أي “الكبير” (11/ 388)، وأخرجه عبد الله في زوائد “المسند” (2316) وابن أبي شيبة (38052)، كلهم من طريق الحجاج بن أرطاة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس. وحجَّاج فيه لين، وقد روي عند أبي داود في “المراسيل” (333) بإسناد صحيح عن عكرمة مرسلًا، وفيه أن ذلك كان في غزوة الطائف. وغزوة الطائف أيضًا كانت قبل إرسال معاذ إلى اليمن ليأخذ الجزية منهم.
(1/65)
رسول الله، قال: “ولِمَ؟ “، قال نازعَتْنِي سيفي، فسكت.
وهذا كله كان قبل إرسال معاذٍ إلى اليمن.
فالصواب أن ذكر الحالمة في الحديث غير محفوظٍ، والله أعلم.
فصل (1)
فإن بذلت المرأة الجزيةَ أُخبِرتْ أنه لا جزية عليها، فإن قالت: “أنا أتبرَّعُ بها” قُبِل منها، ولم تكن جزيةً ولو شرطَتْه على نفسها، ولها الرجوع متى شاءت. وإن بَذلَتْ لتصير إلى دار الإسلام ولا تُسترقَّ مُكِّنَتْ من ذلك بغير شيء، ولكن يُشترط عليها التزامُ أحكام الإسلام، وتُعقَد لها الذمَّة، ولا يؤخذ منها شيء، إلا أن تتبرَّع به بعد معرفتها أنه لا شيء عليها.
وإن أُخِذ منها شيء على غير ذلك رُدَّ إليها، لأنها بذلَتْه معتقدةً أنه عليها وأن دمها لا يُحقَن إلا به، فأشبهَ من أدَّى مالًا إلى من يعتقد أنه له، فتبيَّن أنه ليس له.
ولو حاصر المسلمون حِصنًا ليس فيه إلا نساءٌ فبذلن الجزيةَ لِتُعقَد لهنَّ الذمة عُقِدتْ لهن بغير شيء، وحَرُمَ استرقاقهن. فإن كان معهنَّ في الحصن رجالٌ فسألوا الصلح لتكون الجزية على النساء والصبيان دون الرجال لم يصحَّ، وإن بذلوها عن الجميع جاز، وكان جزيةً على الرجال خاصةً.
_________
(1) اعتمد المؤلف في هذا الفصل على “المغني” (13/ 216، 217).
(1/66)
فصل
فإذا بلغ الصبي من أهل الذمة، وأفاق المجنون لم يحتَجْ إلى تجديد عقدٍ وذمةٍ، بل العقد الأول يتناول البالغين ومن سيبلغ من أولادهم أبدًا. وعلى هذا استمرَّتْ سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وسنة خلفائه كلِّهم وعملُ الأئمة (1) في جميع الأعصار حتى يومنا هذا، لم يُفرِدوا كلَّ من بلغ بعقد جديدٍ.
وقال الشافعي (2): يخيَّر البالغ والمُفِيق بين التزام العقد وبين أن يُردَّ إلى مأمنِه، فإن اختار الذمةَ عُقِدت له، وإن اختار اللَّحاقَ بمأمنِه أُجيبَ إليه.
وقال القاضي في “الأحكام السلطانية” (3): وقول الجمهور أصحُّ وأولى، فإنه لم يأتِ عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا عن أحد خلفائه تجديدُ العقد لهؤلاء، ولا يُعرَف أنه عُمِل به في وقتٍ من الأوقات، ولا يُهمِل الأئمة مثلَ هذا الأمر لو كان مشروعًا. ولأنهم دخلوا في العقد تبعًا مع أوليائهم كما كانوا يدخلون في عقد الهدنة تبعًا. ولأنه عقدٌ مع الكفار فلم يحتَجْ إلى استئنافه لهؤلاء كعقد [المؤمنين] (4). وكيف يجوز إلحاقُه بمأمنِه وتسليطُه على محاربتنا بماله ونفسه؟ وأيُّ مصلحةٍ للإسلام في هذا؟ وأيُّ سنةٍ جاءت به؟ وأيُّ إمامٍ عمِلَ به؟
_________
(1) “وعمل الأئمة” ساقطة من المطبوع.
(2) انظر: “المغني” (13/ 217).
(3) لم أجده فيه، فلعله في كتاب آخر له. واعتمد المؤلف على “المغني” في هاتين الفقرتين.
(4) في الأصل بياض مكان المعكوفتين.
(1/67)
وإذا كان البلوغ والإفاقة في أولِ حَوْلِ قومه أُخِذت منه الجزية في آخره معهم، وإن كان في أثنائه أُخِذ منه في آخره بقِسْطِه، ولم يُترَكْ حتى يَتمَّ حولُه لئلا يُحتاجَ إلى إفراده بحول وضَبْطِ حولِ كلِّ واحدٍ منهم، وذلك يُفضِي إلى أن يصير لكلِّ واحدٍ حولٌ مفردٌ.
وقال أصحاب مالك (1): وإذا بلغ الصبي أُخِذتْ منه عند بلوغه، ولم يُنتظر مرورُ الحول بعد بلوغه.
ووجهُ هذا أن بلوغه بمنزلة حصول العقد مع قومه.
وإذا صُولحوا أُخِذت منهم الجزية في الحال، ثم تُؤخذ منهم بعد ذلك لكل عامٍ، كما فعلَ معاذٌ بأهل اليمن، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمره حين بعثه إليهم أن يأخذ من كل حالمٍ دينارًا، ثم استمر ذلك مؤجَّلًا. وهكذا فعل لما صالح أُكيدِرَ دُومةَ، وهكذا فعل خلفاؤه من بعده، كانوا يأخذون الجزية من الكفار حينَ الصلح، ثم يؤجِّلونها كلَّ عامٍ. وهذا الذي أوجب لأبي حنيفة أن قال: تجب بأول الحول (2).
فصل (3)
ومن كان يُجَنُّ ويُفِيقُ فله ثلاثة أحوالٍ:
أحدها: أن يكون جنونُه غيرَ مضبوطٍ، فهذا يُعتبر أغلبُ أحواله، فيجعل
_________
(1) “عقد الجواهر الثمينة” (1/ 487).
(2) كما في “الاختيار لتعليل المختار” (4/ 137).
(3) انظر: “المغني” (13/ 218).
(1/68)
من أهله.
الثاني: أن يكون ذلك مضبوطًا كيومٍ ويومٍ، وشهرٍ وشهرٍ، ونحوه، ففيه وجهان.
أحدهما: يُعتبر الأغلبُ من حالته، وهذا مذهب أبي حنيفة.
والثاني: تُلفَّق أيَّامُ إفاقتِه، وعلى هذا الوجه ففي مقدار وقت جزيته وجهان.
أحدهما: أنه إذا اجتمع له من أيام إفاقتِه حولٌ أُخِذت منه الجزية.
والثاني: تؤخذ منه في آخر كلِّ حولٍ بقدر إفاقته منه.
وإن كان يُجَنُّ ثلثَ الحول ويُفيق ثُلثَيْه أو بالعكس ففيه الوجهان كما ذكرنا. فإن استوتْ إفاقتُه وجنونه ولم يَغلِبْ أحدهما الآخرَ= لُفِّقَتْ إفاقته، [لأنه] تعذَّر (1) اعتبارُ الأغلب لعدمه، فتعين التلفيق.
الحال الثالث: أن يُجَنَّ نصفَ حولٍ ثم يُفيق إفاقةً مستمرَّةً، أو يُفيقَ نصفَه ثم يُجَنَّ جنونًا مستمرًّا، فلا جزيةَ عليه في وقت جنونه، وعليه منها بقدر ما أفاق من الحول.
فصل
ولا جزيةَ على فقيرٍ عاجزٍ عن أدائها، هذا قول الجمهور.
_________
(1) في الأصل: “بقدر”، والتصحيح من “المغني”، ومنه الزيادة.
(1/69)
وللشافعي ثلاثة أقوالٍ (1) هذا أحدها.
والثاني: يجب عليه، وعلى هذا فله (2) قولان:
أحدهما: أنه يخرج من بلاد الإسلام، أو لا سبيل إلى إقامته في دار الإسلام بغير جزيةٍ.
والثاني: تستقرّ في ذمته، وتُؤخذ منه إذا قدر عليها.
والصحيح أنها لا تجب على عاجزٍ عنها، فإن الله لا يكلِّف نفسًا إلا وُسْعَها، وإنما فرضَها عمر – رضي الله عنه – على الفقير المعتمل لأنه يتمكَّن من أدائها بالكسب، وقواعد الشريعة كلُّها تقتضي أن لا تجب على عاجزٍ كالزكاة والدية والكفارة والخراج، ولا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها، ولا واجبَ مع عَجْزٍ ولا حرامَ مع ضرورةٍ.
فإن قيل: نحن لا نكلِّفه بها في حال إعساره، بل تستقرُّ دينًا في ذمته، فمتى أيسرَ طُولِب بها لما مضى كسائر الديون.
قيل: هذا مفعول (3) في ديون الآدميين، وأما حقوق الله تعالى فإنه إنما أوجبها على القادرين دون العاجزين.
فإن قيل: الجزية أجرةٌ عن سكنى الدار، فتستقرُّ في الذمة.
_________
(1) انظر: “الحاوي الكبير” للماوردي (14/ 300، 313).
(2) “فله” ساقطة من المطبوع.
(3) في المطبوع: “معقول” خلاف الأصل.
(1/70)
قيل: انتفاء أحكام الإجارة عنها جميعِها يدلُّ على أنها ليست بأجرةٍ، فلا يُعرَف حكمٌ من أحكام الإجارة في الجزية. وقد تقدَّم أن عمر – رضي الله عنه – أجرى على السائل الذمي رزْقَه من بيت المال، فكيف يكلَّفُ أداءَ الجزية وهو يُرزَق من بيت مال المسلمين؟!
فصل (1)
ولا جزيةَ على شيخٍ فانٍ ولا زَمِنٍ ولا أعمى، ولا مريضٍ لا يُرجى بُرؤه بل قد أَيِسَ من صحته، وإن كانوا موسرين. وهذا مذهب أحمد وأصحابه وأبي حنيفة ومالك والشافعي في أحد قوليه (2)؛ لأن هؤلاء لا يُقتَلون ولا يُقاتَلون، فلا تجب عليهم الجزية كالنساء والذرِّية.
قال الشافعي في القول الآخر (3): تجب عليهم الجزية بناءً على أنها أجرة السُّكنى، وأنهم رجالٌ بالغون موسرون، فلا يقيمون في دار الإسلام بغير جزيةٍ. وحديثُ معاذٍ يدلُّ عليه بعمومه، وحديث عمر يتناوله بعمومه أيضًا، فإنه أمر أن تُضْرَب على من جَرتْ عليه المواسي. وإن الجزية إن كانت أجرةً عن سُكنى الدار فظاهرٌ، وإن كانت عقوبةً على الكفر فكذلك أيضًا، فعلى التقديرين: لا يُقَرُّون بغير جزيةٍ.
وأصحاب القول الأول يقولون: لما لم يكن هؤلاء من أهل القتال لم
_________
(1) انظر: “المغني” (13/ 219).
(2) في المطبوع: “أقواله” خلاف الأصل.
(3) انظر: “الأم” (5/ 684)، و”الأحكام السلطانية” للماوردي (ص 226).
(1/71)
يكن عليهم جزيةٌ كالنساء والصبيان، وقد قال أحمد في رواية عنه (1): من أطبق بابَه على نفسه ولم يُقاتِل لم يُقتَل، ولا جزيةَ عليه.
فصل
فأما الرُّهبان فإن خالطوا الناسَ في مساكنهم ومعايشهم فعليهم الجزية باتفاق المسلمين، وهم أولى بها من عوامّهم فإنهم رؤوس الكفر، وهم بمنزلة علمائهم وشَمامِسَتِهم (2). وإن انقطعوا في الصوامع والدِّيارات لم يخالطوا الناسَ في معايشهم ومساكنهم، فهل تجب عليهم الجزية؟ فيه قولان للفقهاء، وهما روايتان عن الإمام أحمد.
أشهرهما: لا تجب عليه، وهو قول محمد.
والثانية: تجب عليه، وهو قول أبي حنيفة إن كان معتملًا (3). وقال أحمد (4): تؤخذ من الشمَّاس والراهب وكل من أنبتَ. وهو ظاهر قول الشافعي، وعليه يدلُّ ظاهر عموم القرآن والسنة.
ومن لم يَرَ وجوبها احتجَّ بأنه ليس من أهل القتال. وقد أوصى الصدّيق
_________
(1) لم أجدها فيما بين يديّ من مصادر.
(2) انظر: “مجموع الفتاوى” (28/ 660). والشمامسة جمع شمَّاس: من يقوم بالخدمة الكنسية، ومرتبته دون القسّيس.
(3) في الأصل: “معتمل”. انظر: “فتح القدير” لابن الهمام (6/ 52)، و”حاشية ابن عابدين” (4/ 199).
(4) لم أجد هذه الرواية فيما بين يديّ من المصادر.
(1/72)
– رضي الله عنه – بأن لا يُتعرَّض لهم، فقال في وصيته ليزيد بن أبي سفيان حين وجَّهه إلى الشام: “لا تَقتُلْ صبيًّا ولا امرأةً ولا هَرِمًا، وستمرُّون على أقوامٍ في الصَّوامع احتبسوا أنفسَهم فيها، فدَعْهم حتى يُميتَهم الله على ضلالتهم، وستجدون أقوامًا فَحَصَوا عن أوساط رؤوسهم فاضرِبْ ما فَحَصوا عنه بالسيف” (1).
فصل
فإن ترهَّب بعد ضرب الجزية عليه وتركَ مخالطة الناس، فهل تسقط الجزية عنه بذلك؟ فلم أر لأصحابنا فيها كلامًا، فيحتمل أن يقال: لا تسقط عنه، وهو الذي ذكره مالك (2)؛ لأن ترهُّبه ليس بعذرٍ له في إسقاط ما وجب عليه. قالوا: ولأنه يمكن أن يكون ترهُّبه لتسقط الجزية عنه.
واحتمل أن يقال بسقوطها، فإنه مانعٌ لو قارن العقد منع الجزية، فأشبه العجزَ والجنونَ والصِّغر.
_________
(1) هذه الوصية رويت مطولة ومختصرةً من طرق عديدة، عامَّتها مراسيل إذ لم يُدرك رواتها أبا بكر، ولكنها تعضد بعضها بعضًا فتجعل أصل الوصية ثابتة. فمن تلك المراسيل: مرسل يحيى بن سعيد الأنصاري عند مالك في “الموطأ” (1292) ــ ومن طريقه البيهقي في “الكبير” (9/ 89) ــ وعبد الرزاق (9375) وابن أبي شيبة (33793)، ومرسل الزهري عند عبد الرزاق (9377)، ومرسل صالح بن كيسان عند البيهقي (9/ 90)، ومرسل أبي عمران الجوني عند عبد الرزاق (9378)، ومرسل عبد الله بن عُبيدة الربذي عند سعيد بن منصور (2383).
(2) انظر: “عقد الجواهر الثمينة” (1/ 486).
(1/73)
فصل
وأما الفلَّاحون الذين لا يقاتلون والحرَّاثون فظاهر كلام الأصحاب أن تؤخذ منهم الجزية؛ لأنهم لم يستثنوهم مع من استُثْنِي، وظاهر كلام أحمد أنه لا جزيةَ عليهم فإنه قال: من أطبقَ بابه على نفسه ولم يُقاتِل لم يُقتَل، ولا جزيةَ عليه.
وقال في “المغني” (1): فأما الفلاح الذي لا يقاتل فينبغي أن لا يُقتَل، لما رُوي عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه قال: اتقوا الله في الفلَّاحين الذين لا يَنْصِبون لكم في الحرب (2). وقال الأوزاعي: لا يُقتَل الحرَّاث إذا عُلِم أنه ليس من المقاتلة. وقال الشافعي: يُقتَل إلّا أن يؤدِّي الجزيةَ، لدخوله في عموم المشركين. ولنا (3) قول عمر، وأن أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يقتلوهم حين فتحوا البلاد؛ ولأنهم لا يقاتلون فأَشْبَهوا الشيوخَ والرهبان. انتهى كلامه.
وظاهره أنه لا جزيةَ عليهم.
فصل
وأهل خيبر وغيرهم من اليهود في الذمة والجزية سواءٌ، لا يُعلم نزاعٌ بين الفقهاء في ذلك.
_________
(1) (13/ 180).
(2) أخرجه سعيد بن منصور في “سننه” (3: 2/ 239)، والبيهقي (9/ 91).
(3) في الأصل والمطبوع: “وأما”. والتصويب من “المغني”.
(1/74)
ورأيت لشيخنا في ذلك فصلًا نقلتُه من خطه بلفظه، قال (1): والكتاب الذي بأيدي الخَيابرة الذي يدَّعون أنه بخط علي في إسقاط الجزية عنهم باطلٌ، وقد ذكر ذلك الفقهاء من أصحابنا وأصحاب الشافعي وغيرهم، كأبي العباس بن سُرَيج (2) والقاضي أبي يعلى والقاضي الماوردي وأبي محمد المقدسي وغيرهم، وذكر الماوردي (3) أنه إجماعٌ. وصدَق.
قال: هذا الحكم ثابتٌ بالكتاب والسنة والإجماع، ثابتٌ بالعموم لفظًا ومعنى، وهو عمومٌ منقول بالتواتر لم يخصَّه أحدٌ من علماء الإسلام، ولا دليلٌ من أدلَّة (4) الشرع، فيمتنع تخصيصه بما لا تُعرف صحته، ولا وجد أيضًا في الشريعة [معنًى] للتخصيص، فإن الواحد من المسلمين ــ مثل أبي بُردة بن نِيار (5) وسالمٍ [مولى] أبي حذيفة (6) ــ إنما خُصَّ بحكمٍ لقيام معنًى
_________
(1) نقل البعلي بعضَه في “الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية لابن تيمية” (ص 457، 458). وانظر: “مجموع الفتاوى” (28/ 664).
(2) في المطبوع: “شريح”، تحريف.
(3) قال في “الأحكام السلطانية” (ص 223): “ويهود خيبر وغيرهم في الجزية سواء بإجماع الفقهاء”. وكذا في “الأحكام السلطانية” لأبي يعلى (ص 154).
(4) في الأصل: “شيء أوله” تحريف.
(5) في المطبوع: “دينار”، تحريف. خصَّه النبي – صلى الله عليه وسلم – بأنه تَجزي عنه جذعة في الأضحية وقال: “ولن تَجزي عن أحدٍ بعدك”، وذلك لأنه تعجَّل الذبح قبل الصلاة، ولم يبقَ له شيء يذبحه بعد الصلاة غير جذعة من المعز. أخرجه البخاري (955) ومسلم (1961) من حديث البراء.
(6) وذلك حين أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – امرأة أبي حذيفة سهلة بنت سهيل أن تُرضعه بعد ما قد بلغ مبلغ الرجال، لتَحْرُم عليه، وكان قد تبنَّاه أبو حذيفة، فكان يدخل عليها قبل نزول آيات الأحزاب في النهي عن التبنِّي. أخرجه البخاري (4000) ومسلم (1453) من حديث عائشة. ورأت عامَّة أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – عدا عائشة أن رضاع الكبير كانت رخصة أرخصها النبي – صلى الله عليه وسلم – لسالمٍ خاصَّة. أخرجه مسلم (1454).
(1/75)
اختصَّ به، وليس كذلك اليهود وأعقابهم، بل الخيابرة قد صدر منهم محاربة الله ورسوله وقتالُ عليٍّ لهم ما يكونون به أحقَّ بالإهانة، فأما الإكرام وترك الجهاد إلى الغاية التي أمر الله بها في أهل دينهم فلا وجهَ له.
وأيضًا فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يضرب جزيةً راتبةً على من حاربه من اليهود، لا بني قَينُقَاع ولا النضير ولا قُريظة ولا خيبر، بل نفى بني قينقاع إلى أَذرِعاتٍ، وأجلى النَّضير إلى خيبر، وقتل قريظة، وقاتل أهلَ خيبر فأقرَّهم فلّاحين ما شاء الله، وأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، لكن لما بعث معاذًا إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالمٍ دينارًا أو عِدْلَه مَعافرَ.
قلت: ومقصود شيخنا: أن أهل خيبر وغيرهم من اليهود كانوا في حكمه سواءً، فلم يأخذ الجزية من غيرهم حتى (1) أسقطها عنهم، فإن الجزية إنما نزلت فريضتها بعد فراغه من اليهود وحربهم، فإنها نزلت في سورة براءة عامَ حجة الصديق – رضي الله عنه – سنة تسعٍ، وقتاله لأهل خيبر كان في السنة السابعة، وكانت خيبر بعد صلح الحديبية جعلها الله سبحانه شُكرانًا لأهل الحديبية وصبرهم، كما جعلَ فتحَ قريظة بعد الخندق شُكرانًا وجَبْرًا لما حصل للمسلمين في تلك الغزوة، وكما جعل النَّضير بعد أحدٍ كذلك، وجعل قينقاع
_________
(1) في هامش الأصل: “حين” بعلامة خ.
(1/76)
بعد بدرٍ. وكل واقعةٍ من وقائع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأعداء الله اليهود كانت بعد غزوةٍ من غزوات الكفّار، ولم تكن الجزية نزلتْ بعدُ، فلما نزلتْ أخذَها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من نصارى نجران، وهم أول من أُخِذتْ منهم الجزية كما تبيَّن، وبُعِث معاذٌ فأخذَها من يهود اليمن.
فإن قيل: فلِمَ [لَم] يأخذْها من أهل خيبر بعد نزولها؟
قيل: كان قد تقدَّم صلحُه لهم على إقرارهم في الأرض بنصف ما يخرج منها ما شاء، فوفَى لهم عهدَهم، ولم يأخذ منهم غيرَ ما شرط عليهم. فلما أجلاهم عمر – رضي الله عنه – إلى الشام ظنُّوا أنهم يستمرُّون على أن يُعفَوا منها، فزوَّروا كتابًا يتضمن أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أسقطها عنهم بالكلية، وقد صنَّف الخطيب والقاضي وغيرهما في إبطال ذلك الكتاب تصانيفَ، ذكروا فيها وجوهًا تدلُّ على أن ذلك الذي بأيديهم موضوعٌ باطلٌ (1).
قال شيخنا: ولما كان عام إحدى (2) وسبعمائةٍ أَحضر جماعةٌ من يهود دمشق عهودًا ادَّعَوا أنها قديمةٌ، وكلُّها بخط علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -، وقد غَشَّوها بما يقتضي (3) تعظيمها، وكانت قد نَفَقَتْ على ولاة الأمور من مدةٍ طويلةٍ، فأُسقِطت عنهم الجزية بسببها، وبأيديهم تواقيعُ ولاةٍ، فلما وقفتُ عليها تبيَّن في نفسها ما يدلُّ على كذبها من وجوهٍ كثيرةٍ جدًّا.
_________
(1) تقدم الكلام عليه في أول الكتاب (ص 12 – 14).
(2) كذا في الأصل، كأنه أراد: “سنة إحدى”.
(3) في الأصل: “يتقضى” سهوًا.
(1/77)
منها: اختلاف الخطوط اختلافًا متفاقمًا في تأليف الحروف، الذي يُعلَم معه أن ذلك لا يصدر عن كاتبٍ واحدٍ، وكلها نافيةٌ أنه خطُّ علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -.
ومنها: أن فيها من اللحن الذي يخالف لغةَ العرب مما لا يجوز نسبةُ مثله إلى علي – رضي الله عنه – ولا غيره.
ومنها: الكلام الذي لا يجوز نسبته إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – في حقِّ اليهود، مثل قوله: إنهم يُعامَلون بالإجلال والإكرام، وقوله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وقوله: أحسنَ الله بكم الجزاء، وقوله: وعليه أن يُكرِمَ مُحسِنَكم ويعفو عن مُسيئكِم، وغير ذلك.
ومنها: أن في الكتاب إسقاطَ الخراج عنهم مع كونهم في أرض الحجاز، والنبي – صلى الله عليه وسلم – لم يضَعْ خراجًا قطُّ، وأرض الحجاز لا خراجَ فيها بحالٍ، والخراج أمرٌ يجب على المسلمين، فكيف يسقط عن أهل الذمة.
ومنها: أن في بعضها إسقاطَ الكُلَفِ والسُّخَر عنهم، وهذا مما فعله الملوك المتأخرون لم يشرعه الرسول – صلى الله عليه وسلم – وخلفاؤه.
وفي بعضها أنه شهد عنده عبد الله بن سلامٍ وكعب بن مالك وغيرهما من أحبار اليهود، وكعب بن مالك لم يكن من أحبار اليهود، وإنما كان من الأنصار، وإنما سمعوا اسم كعب الأحبار أنه كان من اليهود (1) فاعتقدوا أنه كعب بن
_________
(1) “وإنما كان … من اليهود” ساقطة من المطبوع.
(1/78)
مالك (1)، وذلك لم يكن من الصحابة، وإنما أسلم على عهد عمر – رضي الله عنه -.
ومنها: أن لفظ الكلام ونظمه ليس من جنس كلام النبي – صلى الله عليه وسلم -.
ومنها: أن فيه من الإطالة والحَشْو ما لا يُشبِه عهود النبي – صلى الله عليه وسلم -.
وفيها وجوهٌ أخرى متعددةٌ، مثل أن هذه العهود لم يذكرها أحدٌ من العلماء المتقدمين قبل ابن سُرَيج (2)، ولا ذكروا أنها رفعت إلى أحدٍ من ولاة الأمور فعملوا بها، ومثل ذلك مما يتعيَّن شهرتُه ونقلُه.
قلت: ومنها أن هذا لم يروِه أحدٌ من المصنفين [في] كتب السير والتاريخ، ولا رواه أحدٌ من أهل الحديث ولا غيرهم البتةَ، وإنما يُعرف من جهة اليهود، ومنهم بدأ وإليهم يعود.
فصل (3)
وأما العبد فإن كان سيِّده مسلمًا فلا جزيةَ عليه باتفاق أهل العلم، ولو وجبت عليه لوجبتْ على سيده، فإنه هو الذي يؤدِّيها عنه.
وفي “السنن” و”المسند” (4) من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قال
_________
(1) حسب ظنّهم، وإلّا فهو كعب بن ماتع الملقب بكعب الأحبار، انظر ترجمته ومصادر أخباره في “سير أعلام النبلاء” (3/ 489).
(2) في المطبوع: “شريح” خطأ.
(3) انظر: “المغني” (13/ 220).
(4) “سنن أبي داود” (3032) و”مسند أحمد” (1949) واللفظ له، وأخرجه أيضًا الترمذي (633، 634) والبيهقي (9/ 189) والضياء في “المختارة” (9/ 531)؛ كلهم من حديث قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس. وقابوس فيه لين، ثم إنه قد اختُلف عليه كما ذكره الترمذي، فروي عنه عن أبيه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – مرسلًا. قال أبو حاتم: هذا من قابوس، لم يكن قابوس بالقوي، فيحتمل أن يكون مرةً قال هكذا، ومرةً قال هكذا. “العلل” (943).
(1/79)
رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “لا تَصلُح قِبلتانِ في أرضٍ، وليس على مسلم جزيةٌ”.
وإن كان العبد لكافرٍ فالمنصوص عن أحمد أنه لا جزيةَ عليه أيضًا، وهو قول عامة أهل العلم.
قال ابن المنذر (1): أجمع كل من يُحفظ عنه من أهل العلم على أنه لا جزيةَ على العبد.
وقد روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “لا جزيةَ على عبدٍ” (2). وفي رفعه نظر، وهو ثابتٌ عن ابن عمر.
وإن العبد بحقون الدمِ أشبه (3) النساء والصبيان. ولأنه لا مالَ له، فهو
_________
(1) “الإجماع” (ص 62). والمؤلف صادر عن “المغني”.
(2) ذكره ابن قدامة في “المغني” (13/ 220)، فقال: “يُروى عن النبي – صلى الله عليه وسلم – … ” ثم قال: “وعن ابن عمر مثله”. والمرفوع لا وجود له في دواوين الحديث، ولذا قال المؤلف: “في رفعه نظر”. وقال الحافظ في “التلخيص الحبير” (1913): “ليس له أصل”.
وأما الموقوف، فالذي صحَّ عن ابن عمر أنه قال: “ليس في مال العبد زكاة حتى يعتق”. أخرجه ابن أبي شيبة (10333) والبيهقي في “الكبير” (4/ 108). فأثر ابن عمر في عدم وجوب الزكاة، ولكن لمَّا استشهد الإمام أحمد به ــ كما سيأتي قريبًا ــ على نفي الجزية عنه أيضًا= نشأ منه هذا الذي نسبه ابن قدامة والمؤلف إلى ابن عمر.
(3) في المطبوع: “محقون الدم فأشبه” خلاف الأصل.
(1/80)
أسوأ حالًا من الفقير العاجز. ولأنها لو وجبتْ عليه لوجبتْ على سيده، إذ هو المؤدِّي لها عنه، فيجب عليه أكثر من جزيةٍ. ولأنه تَبَعٌ، فلم تَجِبْ عليه الجزية كذرِّية الرجل وامرأته. ولأنه مملوكٌ، فلم تَجِبْ عليه كبهائمه ودوابِّه.
وعن أحمد رواية أخرى أنها تجب عليه، ونحن نذكر نصوص أحمد من الطرفين (1).
قال أبو طالب (2): وسألت أبا عبد الله عن العبد النصراني عليه جزيةٌ؟ قال: ليس عليه جزيةٌ.
وقال في موضع آخر: قلت فالعبد؟ [قال:] ليس عليه جزيةٌ (3)، لنصرانيٍّ كان أم لمسلمٍ، كما قال ابن عمر (4) – رضي الله عنهما -.
وقال عبد الله بن أحمد (5): سألت أبي عن رجل مسلم كاتَبَ عبدًا نصرانيًّا هل تؤخذ من العبد الجزيةُ في مكاتبته؟ فقال: إن العبد ليس عليه جزية، والمكاتب عبدٌ ما بقي عليه درهم.
وقال أحمد (6):
ثنا يزيد، ثنا سعيد، عن قتادة، عن سفيان العقيلي، عن
_________
(1) في المطبوع: “الطريقين”.
(2) كما في “جامع الخلال” (1/ 182).
(3) كذا في الأصل، والذي في مطبوعة “الجامع”: “صدقة”، وهو الموافق لما صحَّ عن ابن عمر كما سبق آنفًا.
(4) في المطبوع: “أبو محمد” خطأ.
(5) لم أجده في “مسائله” المطبوعة، والمؤلف صادر عن “الجامع” للخلال (1/ 182).
(6) كذا، والظاهر أنه وهم، لأن الخلال أسنده في “الجامع” (1/ 176) عن عصمة بن عصام، قال: حدثنا حنبل، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا يزيد … إلخ. إذًا فهو من رواية حنبل بن إسحاق بن حنبل، عن أبيه (وهو عم الإمام أحمد)، عن يزيد بن هارون به.
نعم، أخرجه أحمد ــ كما عند الخلال (1/ 178) ــ ولكن ليس عن يزيد بن زريع، بل عن إسماعيل بن علية عن سعيد بن أبي عروبة به. وأخرجه أبو عبيد في “الأموال” (209) وابن أبي شيبة (21195) والخلال في “الجامع” (1/ 177) من طرق عن سعيد به. وفي إسناده لين لجهالة حال سفيان العقيلي، ولكن له متابعات يصحُّ بها، وسيأتي بعضها.
(1/81)
أبي عِياضٍ قال: قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: لا تشتروا من رقيق أهل الذمة ولا مما في أيديهم [شيئًا]، لأنهم أهل خراجٍ (1) يبيع بعضُهم بعضًا، ولا يُقرَّنَّ أحدُكم بالصَّغار بعد إذ أنقذه الله منه.
قال حنبلٌ (2): سمعت أبا عبد الله قال: أراد عمر أن يوفِّر الجزية؛ لأن (3) المسلم إذا اشتراه سقط عنه أداءُ ما يؤخذ منه، والذمي يؤدّي عنه وعن مملوكه خراج جماجمهم، إذا كانوا عبيدًا أخذ منهم جميعًا الجزية.
وقال إسحاق بن منصورٍ (4): قلت لأبي عبد الله: قول عمر لا تشتروا رقيق أهل الذمة؟ قال: لأنهم أهل خراجٍ يؤدي بعضهم عن بعضٍ، فإذا صار إلى المسلم انقطع عنه ذلك.
_________
(1) في الأصل: “حاح”. والتصويب من “الجامع”.
(2) “الجامع” للخلال (1/ 177).
(3) في الأصل: “لم”. والتصويب من “الجامع”.
(4) في “مسائله” (2/ 549)، والنقل من “الجامع” (1/ 177).
(1/82)
فصل (1)
ومَن بعضُه حرٌّ فقياس المذهب أن عليه الجزية بقدر ما فيه من الحرِّية.
فصل (2)
فإنْ عَتَق العبدُ فهل تجب عليه الجزية؟ فيه روايتان عن أحمد:
إحداهما: أن الجزية واجبةٌ عليه سواءٌ كان المُعتِق مسلمًا أو كافرًا، وهذا ظاهر المذهب وقول أكثر أهل العلم، منهم الإمام الشافعي وأبو حنيفة والليث بن سعدٍ وسفيان الثوري وغيرهم.
والثانية: لا جزيةَ عليه، نصَّ عليها في رواية بكر بن محمد (3) عن أبيه أنه قال لأبي عبد الله: النصراني الذي أُعتِق عليه جزية؟ قال: ليس عليه جزيةٌ، لأن ذمته ذمةُ مواليه، ليس عليه جزية.
ووهَّن الخلال (4) هذه الرواية وقال: هذا قول قديمٌ رجع عنه أحمد، والعمل على ما رواه الجماعة.
وعن الإمام مالك روايتان أيضًا (5)، إحداهما: أن عليه الجزية.
_________
(1) “المغني” (13/ 220).
(2) انظر: “المغني” (13/ 223).
(3) “الجامع” (1/ 181).
(4) “الجامع” (1/ 182).
(5) كما في “المغني” (13/ 223).
(1/83)
والثانية (1): إن كان المعتق له مسلمًا فلا جزيةَ عليه، لأن عليه الولاءَ لسيِّده، وهو شعبةٌ من الرقّ، وكأنه عبد المسلم.
قلت: وهي مسألة اختلف فيها التابعون، فعمر بن عبد العزيز أخذ منه الجزية، والشعبي لم ير عليه جزيةً وقال: ذمته ذمة مولاه. حكاه أحمد عنهما (2).
فصل (3)
ومن أسلم سقطت عنه الجزية، سواءٌ أسلم في أثناء الحول أو بعده، ولو اجتمعت عليه جزيةُ سنين ثم أسلم سقطتْ كلُّها. هذا قول فقهاء المدينة وفقهاء الرأي وفقهاء الحديث، إلا الشافعي وأصحابه فإنه قال: إن أسلم بعد الحول لم تسقط؛ لأنه دَينٌ استحقَّه صاحبه، واستحقَّ المطالبةَ به في حال الكفر، فلم تسقط بالإسلام، كالخراج وسائر الديون. وله ــ فيما إذا أسلم في أثناء الحول ــ قولان، أحدهما: أنها تسقط. والثاني: أنها تُؤخذ بقسطه.
والصحيح الذي لا ينبغي القول بغيره سقوطها، وعليه تدلُّ سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وسنة خلفائه، وذلك من محاسن الإسلام وترغيبِ الكفار فيه. وإذا كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعطي الكفار على الإسلام حتى يسلموا يتألَّفُهم بذلك، فكيف يُنفَّر عن الدخول في الإسلام من أجل دينارٍ؟ فأين هذا من ترك
_________
(1) “والثانية” ليست في المطبوع.
(2) كما في “الجامع” للخلال (1/ 181).
(3) انظر: “المغني” (13/ 221).
(1/84)
الأموال للدخول في الإسلام؟
قال سفيان الثوري عن قابوس (1) بن أبي ظَبيان، عن أبيه، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ليس على مسلم جزيةٌ” (2).
قال أبو عبيد: تأويل هذا الحديث: لو أن رجلًا أسلم في آخر السنة وقد وجبت الجزية عليه، أن إسلامه يُسقِطها عنه، فلا تؤخذ منه وإن كانت قد لزِمتْه قبل ذلك؛ لأن المسلم لا يؤدِّي الجزية، ولا تكون عليه دَينًا. وقد روي عن عمر وعلي وعمر بن عبد العزيز ما يحقِّق هذا المعنى.
حدثنا عبد الرحمن، عن حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن رواحة قال: كنت مع مسروقٍ بالسِّلسلة فحدَّثني أن رجلًا من الشعوب ــ يعني الأعاجم ــ أسلم وكانت تؤخذ منه الجزية، فأتى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فقال: يا أمير المؤمنين أسلمتُ والجزية تؤخذ منّي، فقال: لعلك أسلمتَ متعوِّذًا؟ فقال: أمَا في الإسلام ما يُعِيذني؟ قال: بلى (3)! قال: فكتب أن لا تؤخذ منه الجزية (4).
وحدثنا هُشيمٌ قال: أخبرنا سيَّارٌ، عن الزبير بن عدي قال: أسلم
_________
(1) في الأصل: “حانوس” تحريف.
(2) من طريق سفيان أخرجه أبو عبيد في “الأموال” (125)، والكلام الآتي منه، وقد تقدَّم تخريج الحديث من أمهات المصادر.
(3) “قال بلى” ليست في المطبوع.
(4) “الأموال” (126) ــ ومن طريقه البيهقي في “الكبير” (9/ 199) ــ وإسناده حسن. وأخرجه عبد الرزاق (19285) وابن زنجويه (185) من طريقين عن ابن سيرين بنحوه.
(1/85)
دِهقانٌ (1) على عهد علي – رضي الله عنه – فقال له علي – رضي الله عنه -: إن أقمتَ في أرضك رفعنا عنك جزيةَ رأسك وأخذناها من أرضك، وإن تحوَّلتَ عنها فنحن أحقُّ بها (2).
وحدثنا يزيد بن هارون، عن المسعودي، عن محمد بن عبيد الثقفي أن دِهقانًا أسلم، فقام إلى علي، فقال له علي: أما أنت فلا جزية عليك، وأما أرضك فلنا (3).
وحدثنا حجّاجٌ، عن حمّاد بن سلَمة، عن حُميدٍ قال: كتب عمر بن عبد العزيز: من شهد شهادتنا واستقبل قبلتنا واختتَن فلا تأخذوا منه جزيةً (4).
_________
(1) الدهقان: رئيس القرية أو الإقليم وزعيم الفلّاحين، ومَن له مال وعقار. ويطلق على التاجر أيضًا.
(2) “الأموال” (127). وأخرجه أيضًا يحيى في “الخراج” (188) ــ ومن طريقه البيهقي (9/ 142) ــ وسعيد بن منصور (2593) وابن أبي شيبة (21948)، كلهم عن هشيم به. والزبير بن عدي من صغار التابعين، روايته عن علي مرسلة. ويشهد له المرسل الآتي.
(3) “الأموال” (128)، وأخرجه يحيى بن آدم (189) عن وكيع، وابن زنجويه (322، 365) عن أبي نعيم، كلاهما عن المسعودي به، وهما ممن روى عنه قبل اختلاطه. وأخرجه ابن أبي شيبة (21947) من طريق آخر عن محمد بن عبيد الله الثقفي عن عمر وعلي قالا: إذا أسلم وله أرض وضعنا عنه الجزية وأخذنا منه خراجها. والثقفي لم يدرك عمر ولا عليًّا، فروايته عنهما مرسلة.
(4) “الأموال” (129)، وإسناده جيِّد. وأخرجه ابن زنجويه (188) عن النضر بن شميل عن عوف الأعرابي قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة كتابًا قرئ على الناس وأنا أسمع … بنحوه. وذكره مالك في “الموطأ” (188) بنحوه بلاغًا.
(1/86)
قال أبو عبيد (1): أفلا ترى أن هذه الأحاديث قد تتابعتْ عن أئمة الهدى بإسقاط الجزية عمن أسلم، ولم ينظروا في أول السنة كان ذلك ولا في آخرها، فهو عندنا على أن الإسلام أهدر ما كان قبله، وإنما احتاج الناس إلى هذه الآثار في زمن بني أميَّة، لأنه يُروى عنهم ــ أو عن بعضهم ــ أنهم كانوا يأخذونها منهم وقد أسلموا؛ يذهبون إلى أن الجزية بمنزلة الضرائب على العبيد، يقولون: لا يُسقِط إسلامُ العبد عنه ضريبتَه. ولهذا اختار من اختار (2) من القرَّاء الخروجَ عليهم.
وقد رُوي عن يزيد بن أبي حبيبٍ ما يُثبِت ما كان من أخْذِهم إياها.
حدثنا عبد الله بن صالحٍ، ثنا حرملة بن عمران، عن يزيد بن أبي حبيبٍ قال: أعظمُ ما أتتْ (3) هذه الأمة بعد نبيِّها ثلاثُ خصالٍ: قتلُهم عثمان بن عفّان، وإحراقُهم الكعبة، وأخْذُهم الجزيةَ من المسلمين (4).
والجزية وُضِعت في الأصل إذلالًا للكفّار وصَغارًا، فلا تُجامِعُ الإسلامَ بوجهٍ، ولأنها عقوبةٌ فتسقُط بالإسلام، وإذا كان الإسلام يَهدِم ما قبله من الشرك والكفر والمعاصي فكيف لا يهدم ذُلَّ الجزية وصَغارها؟ وإن
_________
(1) في “الأموال” عقب الآثار السابقة.
(2) في “الأموال”: “استجاز من استجاز”.
(3) في الأصل: “كانت”. والتصويب من “الأموال”.
(4) “الأموال” (130). أخرجه أيضًا البخاري في “التاريخ الأوسط” (193) وابن زنجويه (193) وابن الأعرابي في “معجمه” (1891).
(1/87)
المقصود تألُّف الناس على الإسلام بأنواع الرغبة فكيف لا يُتألَّفون بإسقاط الجزية؟ وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعطي على الإسلام عطاءً لا يعطيه على غيره، وقد جعل الله سبحانه سهمًا في الزكاة للمؤلَّفة قلوبهم، فكيف لا يُسقِط عنهم الجزية بإسلامهم؟ وكيف يُسلِّط الكفار أن يتحدَّثوا بينهم بأن من أسلم منهم أُخِذ بالضرب والحبس ومُنِع ما يملكه حتى يعطي ما عليه من الجزية؟
فصل
فإن مات الكافر في أثناء الحول سقطتْ عنه، ولم تؤخذ بقدر ما أدرك منه. وإن مات بعد الحول فذهب الشافعي أنها لا تسقط وتُؤخذ من تَرِكته، وهو ظاهر كلام أحمد. وقال أبو حنيفة: تسقط بالموت، وحكاه أبو الخطَّاب عن شيخه القاضي (1).
قال أبو عبيد (2): وأما موت الذمي في آخر السنة فقد اختُلف فيه.
فحدثنا سعيد بن عُفيرٍ، عن عبد الله بن لَهِيعة، عن عبد الرحمن بن جُنادة (3) كاتبِ حيَّان بن سُرَيج (4)، وكان حيَّان بن سُرَيج بعثه إلى عمر بن عبد العزيز وكتب إليه يستفتيه: أيجعلُ جزيةَ موتى القِبْط على أحيائهم؟
_________
(1) كما في “المغني” (13/ 222).
(2) “الأموال” (1/ 108).
(3) في الأصل: “حبارة” تصحيف.
(4) في المطبوع: “شريج”، وفي “الأموال”: “شريح”، كلاهما تصحيف. انظر: “الإكمال” (4/ 273).
(1/88)
فسأل عمر عن ذلك عِراكَ بن مالكٍ ــ وعبدُ الرحمن يسمع ــ فقال: ما سمعتُ لهم بعَقْدٍ ولا عهدٍ، إنما أُخِذوا عَنوةً بمنزلة الصيد. فكتب عمر إلى حيَّان بن سُرَيج يأمره أن يجعل جزية الأموات على الأحياء. وكان حيَّان والِيَه على مصر (1).
قال (2): وقد رُوي من وجهٍ آخر عن مَعقِل بن عبيد الله عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: ليس على من مات ولا من أَبَقَ جزيةٌ. يقول: لا تؤخذ من ورثته بعد موته، ولا يجعلها بمنزلة الدَّين، ولا تؤخذ من أهله إذا هرب عنهم منها، لأنهم لم يكونوا ضامنين لذلك.
قال الآخذون لها (3): هي دَينٌ وجب عليه في حياته فلم يسقط بموته، كديون الآدميين.
قال المُسقِطون: هي عقوبةٌ، فتسقط بالموت كالحدود؛ ولأنها صغارٌ وإذلالٌ فزال بزوال محلّه. وقولكم: “إنها دَينٌ فلا تسقط بالموت” إنما يتأتَّى على (4) أصلِ من لا يُسقِطها بالإسلام، وأما من أسقطها بالإسلام فلا يصحُّ
_________
(1) “الأموال” (131).
(2) أي أبو عبيد برقم (132). وقد وصله ابن أبي شيبة (33312) بلفظ: “لا يؤخذ من أهل الكتاب إلا صلب الجزية، ولا تؤخذ من فارٍّ، ولا من ميت، ولا يؤخذ أهلُ الأرض بالفارّ”.
(3) انظر: “المغني” (13/ 222).
(4) في الأصل: “عند”.
(1/89)
منه هذا الاستدلال.
ولا ريبَ أن الجزية عقوبةٌ وحقٌّ عليه، ففيها الأمران، فمن غلَّب جانبَ العقوبة أسقطها بالموت كما تسقط العقوبات الدنيوية عن الميت، ومن غلَّب فيها جانبَ الدَّين لم يُسقِطها، والمسألة محتملة. والله أعلم.
فصل (1)
فإن اجتمعت عليه جزيةُ (2) سنين استُوفِيَتْ كلُّها عند الجمهور. وقال أبو حنيفة: تتداخل، وتؤخذ منه جزية واحدة، وأجراها مجرى العقوبة، فتتداخل كالحدود. والجمهور جعلوها بمنزلة سائر الحقوق المالية كالدية والزكاة وغيرهما.
وقول الجمهور أصحُّ، لا يناسب التخفيفُ عنه بترك أداء ما وجب عليه للمسلمين، ولاسيَّما إذا [كان] ممن لا يُعذَر بالتأخير. ولو قيل بمضاعفته عليه عقوبةً له لكان أقوى من القول بسقوطها، والله أعلم.
فصل
وإذا بذلوا ما عليهم من الجزية أو الخراج أو الدية أو الدَّين أو غيره من عينِ (3) ما نعتقده نحن محرَّمًا، ولا يعتقدون تحريمه، كالخمر والخنزير=
_________
(1) “المغني” (13/ 223).
(2) في الأصل: “دية”. وفي هامشه: “كذا”.
(3) في الأصل: “غير” تصحيف.
(1/90)
جاز قبوله منهم. هذا مذهب أحمد وغيره من السلف.
قال الميموني (1): قرأت على أبي عبد الله: هل على أهل الذمة إذا اتَّجروا في الخمر والخنزير العُشْرُ؟ أنأخذ منه؟ فأملى عليَّ: قال عمر: “ولُّوهم بيعَها” (2)، لا يكون هذا إلا على الأخذ. قلت: كيف إسنادُه؟ قال: إسناده جيدٌ.
وقال يعقوب بن بختان (3): سألت أبا عبد الله عن خنازير أهل الذمة وخمورهم، قال: لا تقتُلْ خنازيرهم فإن لهم عهدًا، ولا يؤخذ منهم خمر ولا خنزير؛ يَلُون هم (4) بيعَها.
وقال عبد الله (5): قلت لأبي: فإن كان مع النصراني خمرٌ وخنازير، كيف يُصنع بها؟ فقال: قال عمر: “ولُّوهم بيعَها”، [وقد قال بعض الناس: تُقوَّم عليهم]، وهو قولٌ شنيعٌ، ولا أراه يُعجِبني.
_________
(1) كما في “جامع الخلال” (1/ 138).
(2) أسنده الميموني ــ كما في المصدر السابق ــ عن أحمد، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن سويد بن غَفَلة أن عمر قال: “ولُّوهم بيعها: الخمرَ والخنزيرَ، نعشُرْها”. وأخرجه أبو عبيد أيضًا كما سيأتي قريبًا.
(3) كما في “الجامع” (1/ 139).
(4) في الأصل: “يكون لهم”. والتصويب من “الجامع”.
(5) كما في “الجامع” (1/ 139)، ومنه الزيادة، ولم أجده في “مسائله” المطبوعة.
(1/91)
وكذلك نقل عنه صالحٌ سواءً (1).
وقال أبو عبيد (2): باب أخذ الجزية من الخمر والخنازير. حُدِّثنا [عن] (3) عبد الرحمن، عن سفيان بن سعيد، عن إبراهيم بن عبد الأعلى الجعفي، عن سُويد بن غَفَلة قال: بلغ عمرَ بن الخطاب – رضي الله عنه – أن ناسًا يأخذون الجزية من الخنازير، وقام بلالٌ فقال: إنهم ليفعلون، فقال عمر – رضي الله عنه -: لا تفعلوا، وَلُّوهم بيعَها (4).
وحدثنا الأنصاري، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن سُويد بن غَفَلة أن بلالًا قال لعمر: إن عُمَّالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج، فقال: لا تأخذوها منهم، ولكن وَلُّوهم بيعَها، وخذوا أنتم من الثمن (5).
قال أبو عبيد (6): يريد أن المسلمين كانوا يأخذون من أهل الذمةِ الخمرَ والخنازير من جزية رؤوسهم وخراج أرضهم بقيمتها، ثم يتولَّى
_________
(1) كما في المصدر السابق.
(2) “الأموال” (1/ 109).
(3) الزيادة من “الأموال”.
(4) “الأموال” برقم (133)، وأخرجه أيضًا عبد الرزاق (9886) عن سفيان به. وسبق أن الإمام أحمد قال: إسناده جيد.
(5) “الأموال” (134).
(6) عقب الأثر السابق.
(1/92)
المسلمون (1) بيعَها. فهذا الذي أنكره بلالٌ ونهى عنه عمر، ثم رخَّص لهم أن يأخذوا ذلك من أثمانها إذا كان أهل الذمة المتولِّين لبيعها، لأن الخمر والخنازير مالٌ من أموال أهل الذمة، ولا يكون مالًا للمسلمين.
ومما يبيِّن ذلك ما حدَّثني عليُّ بن مَعبدٍ، عن عبيد الله بن عمرٍو، عن ليث بن أبي سُليمٍ، أن عمر كتب إلى العُمَّال يأمرهم بقتل الخنازير، وتُقتَصُّ (2) أثمانُها لأهل الجزية من جزيتهم (3).
قال أبو عبيد: فهو لم يجعلها قِصاصًا من الجزية إلا وهو يراها مالًا من أموالهم. فإذا مرَّ الذميُّ بالخمر والخنازير على العاشر فإنه لا يَطِيب له أن يَعشُرها، ولا يأخذَ ثمنَ العُشْر منها وإن كان الذميُّ هو المتولِّي لبيعها أيضًا. وهذا ليس من الباب الأول ولا يُشبِهه، لأن (4) ذلك حقٌّ وجب على رقابهم وأرضهم. والعُشر هاهنا إنما هو شيء يوضع على الخمر والخنازير أنفُسِها، فلذلك ثمنُها لا يطيب، لقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إن الله إذا حرَّم شيئًا حرَّم ثمنَه” (5).
_________
(1) في الأصل: “المسلمين”.
(2) في الأصل: “يقضي”. والتصويب من “الأموال”.
(3) “الأموال” (135)
(4) في الأصل: “ان”.
(5) أخرجه أحمد (2678) وأبو داود (3488) وابن حبان (4938) والضياء في “المختارة” (9/ 511) من حديث ابن عباس بإسناد صحيح.
(1/93)
قال أبو عبيد (1): وقد رُوِي عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه أفتى في مثل هذا بغير ما أفتى به في ذلك، وكذلك عمر بن عبد العزيز.
ثنا أبو الأسود المصري، حدثنا عبد الله بن لَهِيعة، عن عبد الله بن هُبيرة السَّبائي (2) أن عُتبة بن فَرْقَد بعث إلى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بأربعين ألفَ درهمٍ صدقة الخمر، فكتب إليه عمر: بعثتَ إليَّ بصدقة الخمر، وأنت أحقُّ بها من المهاجرين، وأخبرُ الناسِ بذلك، وقال: واللهِ لا أستعملك على شيءٍ بعدها، قال: فنزعه (3).
قال (4): وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن المثنَّى بن سعيد الضُّبَعي قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدِيّ بن أرطاة: أن ابعَثْ إليَّ بتفصيل الأموال التي قِبَلك من أين دخلَتْ؟ فكتب إليه بذلك وصنَّفه له، فكان فيما كتب إليه: مِن عُشْرِ الخمر أربعة آلاف درهمٍ. قال: فلبثنا ما شاء الله، ثم جاء جوابُ كتابه: إنك كتبتَ إليَّ تذكر من عشور الخمر أربعة آلاف درهمٍ. إن الخمر لا يَعْشُرها مسلم ولا يشتريها ولا يبيعها، فإذا أتاك كتابي هذا فاطلب الرجلَ فاردُدْها عليه، فهو أولى بما كان فيها. فطلب الرجل فرُدَّتْ عليه الأربعة الآلاف، وقال: أستغفر الله، إني لم أعلَمْ.
_________
(1) “الأموال” (1/ 110).
(2) في المطبوع: “الشيباني” تحريف.
(3) “الأموال” برقم (137). وفيه: “فتركه”.
(4) “الأموال” (138).
(1/94)
قال أبو عبيد: فهذا عندي الذي عليه العمل، وإن كان إبراهيم النخعي قد قال غير ذلك.
حدثنا يحيى بن سعيد القطّان وعبد الرحمن بن مهدي، كلاهما عن سفيان، عن حمادٍ، عن إبراهيم في الذمي يمرُّ بالخمر على العاشر، قال: يُضاعَف عليه العُشر (1).
قال أبو عبيد: وكان أبو حنيفة يقول: إذا مرَّ على العاشر بالخمر والخنازير، عَشَرَ الخمرَ ولم يَعْشُر الخنازير. سمعتُ محمد بن الحسن يحدِّث بذلك عنه.
قال أبو عبيد: وقول الخليفتين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وعمر بن عبد العزيز رحمه الله أولى بالاتباع، أن لا يكون على الخمر عُشْرٌ أيضًا، انتهى (2).
وهذا الفرق هو محضُ الفقه، فإنهم إذا تبايعوها فيما بينهم فقد تعاقدوا على ما يعتقدونه مالًا، فإذا أخذناه منهم أخذنا [ما] هو حلالٌ عندهم ــ وإن كنّا لا نعتقد أنه يحلُّ سببُه (3) ــ كما اكتسبوه بعقودٍ ومواريثَ أو أسبابٍ من هباتٍ ووصايا وغيرها [ممَّا] لا يجوز في شرعنا؛ فعاملُونا به أو قَضَونا إياه مما لنا عليهم= ساغ لنا أخذُه، وإن لم يُسوَّغ في شرعنا تلك الأسباب التي
_________
(1) “الأموال” (139).
(2) أي انتهى النقل من “الأموال” لأبي عبيد.
(3) في الأصل والمطبوع: “لا يعتقدونه كل سنة”، تحريف.
(1/95)
أخذوها (1)، كما تأخذ المرأة من مهرٍ في عقد نكاحٍ لا نجيزه نحن وهم يعتقدونه نكاحًا. وهذا بخلاف ما سرقوه أو غصبوه أو اكتسبوه بوجهٍ يعتقدون تحريمه كالربا، فإنه حرام عليهم بنصّ التوراة.
وأما ما منع الخليفتان فهو فرض العُشْر على نفس الخمر والخنازير إذا اتَّجروا فيها، فهذا غير أخذِ أثمانها منهم إذا كان لنا عليهم ذلك من وجهٍ آخر.
فالفرق بين أن يكون المأخوذ من جهة الخمر والخنازير وبين أن يكون من جهة الجزية والدَّين والدية وغيرها= ظاهرٌ، وبالله التوفيق.
فصل
وأخذُ الجزية من أهل الكتاب وحِلُّ ذبائحهم ومناكحتهم مرتَّبٌ على أديانهم لا على أنسابهم، فلا يُكْشَف عن آبائهم هل دخلوا في الدين قبل المبعث أو بعده، ولا قبلَ النسخ والتبديل ولا بعده، فإن الله سبحانه أقرَّهم بالجزية ولم يَشْرِط ذلك، وأباح لنا ذبائحهم وأطعمتهم ولم يَشْرِط ذلك في حِلِّها، مع العلم بأن كثيرًا منهم دخل في دينهم بعد تبديله ونسخه، وكانت المرأة من الأنصار تَنذُر إن عاش لها ولدٌ أن تُهوِّده، فلما جاء الإسلام أرادوا منْعَ أولادهم من المُقام على اليهودية وإلزامَهم بالإسلام، فأنزل الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 254]، فأمسكوا عنهم (2).
_________
(1) في الأصل: “حدها”، تصحيف.
(2) انظر: “تفسير الطبري” (4/ 546 وما بعدها). وسيأتي تخريجه (ص 102).
(1/96)
ومعلومٌ قطعًا أن دخولهم في دين اليهودية كان بعدَ تبديله وبعدَ مجيء المسيح، ولم يسأل النبي – صلى الله عليه وسلم – أحدًا ممن أقرَّه بالجزية متى دخل آباؤه في الدين، ولا من كان يأكل هو وأصحابه من ذبائحهم من اليهود، ولا أحدٌ من خلفائه بعده (1) البتةَ.
وكيف يمكن العلم بهذا أو يكون شرطًا في حِلِّ المناكحة والذبيحة والإقرار بالجزية، ولا سبيل إلى العلم به إلا لمن أحاط بكلِّ شيء علمًا؟! وأيُّ شيء يتعلَّق به من آبائه إذا كان هو على دينٍ باطلٍ لا يقبله الله؟ فسواءٌ كان آباؤه كذلك أو لم يكونوا.
والنبي – صلى الله عليه وسلم – أخذ الجزية من يهود اليمن، وإنما دخلوا في اليهودية بعد المسيح في زمن تُبَّعٍ، وأخذها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وخلفاؤه من بعده من نصارى العرب، ولم يسألوا أحدًا منهم عن مبدأ دخوله في النصرانية هل كان قبل المبعث أو بعده، وهل كان بعد النسخ والتبديل أم لا؟
وقد اختلف كلام الشافعي رحمه الله تعالى في الجزية والمناكحة فقال في “المختصر” (2): وأصلُ ما أَبني عليه أن الجزية لا تُقبَل من أحدٍ دان دينَ كتابٍ، إلا أن يكون آباؤه دانوا به قبلَ نزول الفرقان، فلا تُقبل ممن بدَّل يهوديةً بنصرانيةٍ أو نصرانيةً بمجوسيةٍ أو مجوسيةً بنصرانيةٍ أو بغير الإسلام. وإنما أذن الله عز وجل بأخذ الجزية منهم على ما دانوا به قبل محمد، وذلك
_________
(1) “بعده” ساقطة من المطبوع.
(2) “مختصر المزني” (ص 387) و”الأم” (5/ 436).
(1/97)
خلاف ما أحدثوا من الدين بعده، فإن أقام على ما كان عليه وإلا نُبِذ إليه عهدُه وأُخرِج من بلاد الإسلام بماله، وصار حربًا، ومن بدَّل دينَه من كتابيةٍ لم يحلَّ نكاحُها.
قال المزني (1): قد قال في كتاب النكاح: “إذا بدَّلت بدينٍ يحلُّ نكاح أهله فهي حلالٌ”. وهذا عندي أشبه، وقال ابن عباس – رضي الله عنهما -: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 53] (2). فمن دان منهم دينَ أهل الكتاب قبلَ نزول الفرقان وبعده سواءٌ عندي في القياس. وبالله التوفيق.
قال المنازعون له: الكلام على هذا من وجوهٍ:
أحدها: أن يقال: الأصل الذي تبني عليه لا بدَّ أن يكون معلومًا ثبوتُه بكتاب الله أو سنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – نصًّا أو استنباطًا، فأين في كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله أن الجزية لا تُقبل ممن دان بدينٍ إلا أن يكون آباؤه دانوا به قبل نزول الفرقان؟ وأين يُستنبط ذلك منهما أو من أحدهما فيكون أصلًا منصوصًا أو مستنبطًا؟
الثاني: أن سكوت القرآن والسنة عن اعتبار ذلك في جميع المواضع، وعن الإيماء إليه والدلالة عليه= دليل على عدم اعتباره.
_________
(1) الكلام متصل بما قبله في “المختصر”.
(2) أي: قرأ ابن عباس هذه الآية مستدلًّا بها على أن من تنصَّر فحكمه حكمهم، كما عند الطبري (8/ 130) وغيره. وفي المطبوع: “وقال ابن عباس في قوله تعالى”، إقحام أفسد المعنى، فإن ما بعد الآية كلام المزني وليس تفسير ابن عباس.
(1/98)
الثالث: أن إطلاقهما وعمومهما المطَّردينِ في جميع المواضع متناولٌ (1) لكل من اتَّصف بتلك الصفة، ولم يَرِد فيهما موضع واحدٌ مخصّصٌ ولا مقيّدٌ، فيجب التمسك بالعام حتى يقوم دليلُ (2) تخصيصِه.
الرابع: أن عمل النبي – صلى الله عليه وسلم – وسيرته في أهل الكتاب بعد نزول الآية مبيِّنٌ أنه المراد منها، وقد عُلِم أنه – صلى الله عليه وسلم – لم يَبْنِ (3) في أخذ الجزية وحلِّ الذبائح والنكاح إلا على مجرد دينهم لا على اعتبار (4) آبائهم وأنسابهم.
الخامس: أنه سبحانه قد حكم ــ ولا أحسن من حكمه ــ أنه من تولَّى اليهود والنصارى فهو منهم، فقال (5): {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 53]، فإذا كان أولياؤهم منهم بنص القرآن كان لهم حكمهم، وهذا عامٌّ خُصَّ منه من يتولَّاهم ودخل في دينهم بعد التزام الإسلام، فإنه لا يُقَرُّ ولا تُقبل منه الجزية، بل إما الإسلام أو السيف، فإنه مرتدٌّ بالنص والإجماع، ولا يصح إلحاق من دخل في دينهم من الكفار قبل التزام الإسلام بمن دخل فيه من المسلمين.
يوضحه الوجه السادس: أن من دان بدينهم من الكفار بعد نزول الفرقان
_________
(1) في الأصل: “متاول”. والمثبت يقتضيه السياق.
(2) بعدها في المطبوع: “على”، وليست في الأصل.
(3) في الأصل: “لم يبين”.
(4) “اعتبار” ساقطة من المطبوع.
(5) “فقال” ليست في المطبوع.
(1/99)
فقد انتقل من دينه إلى دينٍ خيرٍ منه وإن كانا جميعًا باطلينِ. وأما المسلم فإنه قد انتقل من دين الحق إلى الدين الباطل بعد إقراره بصحة ما كان عليه وبطلانِ ما انتقل إليه، فلا يُقَرُّ.
السابع: أن دين أهل الكتاب قد صار باطلًا بمبعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فلا فرقَ بين من اختاره بنفسه ممن لم يتقدم دخول آبائه فيه قبل ذلك وبين من دخل فيه ممن تقدم دخول آبائه فيه، فإن كلَّ واحدٍ منهما اختار دينًا باطلًا، وما على الرجل من أبيه؟ وأي شيء يتعلق به منه؟
الثامن: أن تبعيته لأبيه منقطعةٌ ببلوغه، بحيث صار مستقلًّا بنفسه في جميع الأحكام، فما بالُ تبعية الأب بعد البلوغ أثَّرتْ في إقراره على دينٍ باطلٍ قد قطع الإسلامُ تبعيتَه فيه؟
التاسع: أن ذلك الدين قد عُلم بطلانه ونسْخُه قطعًا بمجيء المسيح، فقد أُقِرَّ على دينٍ دخل فيه آباؤه بعد نسخه وتبديله.
العاشر: أن نسبة من دخل في اليهودية بعد بعث المسيح وتركَ دين المسيح، كنسبة من دخل في النصرانية بعد مبعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، إذ كلاهما دخل في دينٍ باطلٍ منسوخٍ.
الحادي عشر: أن آباء هذا الكتابي لو أدركوا دين الإسلام فدخلوا فيه، وأقام هو على دينه بعد بلوغه= لأقررناه ولم نتعرَّض له، مع اعتراف آبائه ببطلان دينهم الذي كانوا عليه. فإذا أُقِرَّ على دينٍ قد اعترف آباؤه ببطلانه فكيف لا يُقَرُّ على دينٍ دخل آباؤه فيه وهم معتقدون صحته؟
(1/100)
الثاني عشر: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل أن يؤمر بالجهاد كان يُقِرُّ الناس على ما هم عليه، ويدعوهم إلى الإسلام، بل كانت المرأة تُسلِم وزوجها كافرٌ فلا يفرِّق الإسلام بينهما، ولم يَنزِل تحريم المسلمة على الكافر إلا بعد صلح الحديبية.
وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – مع الناس في الدعوة مراتب: فإنه أُمِر أولًا أن يقرأ باسم ربه، ثم أُمر ثانيًا أن يقوم نذيرًا، فأُمِر بإنذار عشيرته وقومه ودعوتهم إلى الله تعالى، ثم أُمِر بإنذار الناس والصبر والعفو والهجر لمن آذاه، ثم أُمر بالهجرة، ثم أُمر بقتال من قاتله، ثم أُمر بالجهاد العام، ثم بضرب الجزية على أهل الكتاب، فضَربها عليهم وأَلحق بهم المجوس، وكانت العرب من عبّاد الأوثان قد دخلوا كلهم في الدين، وكان – صلى الله عليه وسلم – يُقِرُّ الناس على ما هم عليه حتى يأتيه الأمر من الله بما يأخذهم به ويفعله معهم. فلما جاءه أمره بالهجرة بادر إلى امتثاله، ثم جاءه الأمر بالجهاد فقام به حقَّ القيام، ثم جاءه الأمر بالتفريق بين المؤمنات والكفَّار في النكاح، ثم جاءه الأمر بصلح الكفار بتوادعهم، ثم جاءه الأمر بأخذ الجزية منهم وإقرارهم على دينهم ولا يتعرَّض لهم ما لم ينقُصوه شيئًا مما شرط عليهم، فلم يكن قبل الهجرة والجهاد يمنع من أراد التهوُّد أو التنصُّر من أهل الأوثان، فلما علَتْ كلمة الإسلام وصار للمسلمين الغلبةُ والقهر منع من أراد منهم التهوُّد أو التنصُّر بعد أن أقرَّ بالإسلام، وأمر بقتله إن لم يراجع دينَ الإسلام، ولم يمنع يهوديًّا من نصرانيةٍ، ولا نصرانيًّا من يهوديةٍ كما منع المسلم منهما.
(1/101)
وقد علم – صلى الله عليه وسلم – أن من أبناء الأنصار من دخل في اليهودية بعد النسخ والتبديل، كما روى أبو داود في “سننه” (1) عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: كانت المرأة تكون مِقلاتًا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولدٌ أن تُهوِّده، فلما أُجلِيتْ بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا نَدَعُ أبناءنا، فأنزل الله عز وجل: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 254].
قال أبو داود: المِقْلات التي لا يعيش لها ولدٌ.
وهو يدلُّ على أن من تهوَّد وإن كان أصله غيرَ يهودي فإنه مثلهم، والنبي – صلى الله عليه وسلم – لم يمنع قبل فرض الجهاد ولا بعده وثنيًّا دخل في دين أهل الكتاب، بل ولا يهوديًّا تنصَّر أو نصرانيًّا تهوَّد أو مجوسيًّا دخل في التهوُّد والتنصُّر. بل جمهور الفقهاء اليوم يُقِرُّونه على ذلك (2) كما هو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات عنه، وعنه رواية ثانيةٌ: لا يُقبل منه إلا الإسلام، وعنه رواية ثالثةٌ: لا يُقبل منه إلا الإسلام أو دينه الأول إن كان دينًا يقرّ أهله عليه.
الثالث عشر: أنه لو لم يعرف له أبٌ لكونه لقيطًا، أو انقطع نسبه من أبيه
_________
(1) برقم (2682)، وأخرجه أيضًا النسائي في “الكبرى” (10982، 10983) والطبري في “تفسيره” (4/ 546) وابن حبان (140) والضياء في “المختارة” (10/ 72 – 73)، من طرق عن شعبة، عن أبي بِشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وهذا إسناد صحيح على رسم الصحيحين.
(2) انظر: “المغني” (12/ 32، 13/ 226)، و”نهاية المطلب” (12/ 251)، و”روضة الطالبين” (7/ 140).
(1/102)
بكونه ولد زنًا، فإن ذلك لا يمنع اعتباره في دينه بنفسه. ولو كان من شرط ذلك دخول آبائه في الدين قبل النسخ والتبديل لم يثبت لهذا حكم دينه، ولم يُقرَّ عليه، لعدم أبيه حسًّا وشرعًا، إذ تبعيته هنا منتفيةٌ، وإنما له حكمُ نفسِه.
ولهذا قال الإمام أحمد ومن تبعه: أنه يحكم بإسلامه في هذه المواضع وفيما إذا مات أبواه أو أحدهما، وهو دون البلوغ؛ لأنه إنما كان كافرًا تبعًا لهما، وإلّا فهو على الفطرة الأصلية، فإذا لم يكن له من يتبعه على دينه كان مسلمًا؛ لأن مقتضى الفطرة موجودٌ والمغيِّر لها مفقودٌ. فأحمد اعتبر في بقائه على دينه وجودَ أبويه لتتحقق التبعية، والشافعي لم يعتبر بقاء الأبوين ولا وجودهما في كونه تبعًا لهما، فإذا كان قد أقرَّه على الدين الباطل حيث لا تتحقق تبعية الأبوين عُلِم أن إقراره لم يكن لأجل آبائه، وهو ظاهرٌ.
الرابع عشر: قوله (1): “وإنما أذن الله تعالى بأخذ الجزية منهم على ما دانوا به قبل محمد – صلى الله عليه وسلم -، وذلك خلاف ما أحدثوا من الدين بعده”.
فيقال: إن أُريد بما دانوا به قبل محمد – صلى الله عليه وسلم – فذلك إنما هو قبل مبعث المسيح، فلا تُقبل من يهودي جزيةٌ إلا أن يُعلَم أن آباءه توارثوا اليهودية قبل مبعث المسيح، فإنها بطلتْ بمبعثه، كما بطلتْ هي والنصرانية وسائر الأديان بمبعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
وإن أريد به ما دانوا به قبلَ مبعثه وإن كان باطلًا منسوخًا، فما الفرق بين ذلك وبين ما دانوا به بعد المبعث قبل أن تبلغهم الدعوة وتقوم عليهم
_________
(1) أي قول الشافعي المذكور قبل صفحات.
(1/103)
الحجة؟ فإنك إنما اعتبرتَ وقتَ مبعثه خاصةً.
وإن أريد به ما دانوا به قبل قيام الحجة عليهم انتقض ذلك من وجهين:
أحدهما: أنك لم تعتبر ذلك، وإنما اعتبرتَ نفس المبعث.
الثاني: أن الدين إذا كان باطلًا قبل المبعث لم يكن لتمسك الآباء به أثرٌ في إقرار الأبناء.
الخامس عشر: أنهم إذا دانوا بدينٍ قد أُقِرَّ أهله عليه بعد المبعث مع بطلانه قطعًا، فقد أُقِرُّوا على دينٍ مبدَّلٍ منسوخٍ وأُخِذَت منهم الجزية عليه.
السادس عشر: أن قوله: “بخلاف ما أحدثوا من الدين بعده” يُشْعِر بأنه كان صحيحًا إلى زمن المبعث، فأحدثوا بعد المبعث دينًا آخر غيره، فلذلك لا يُقَرُّون عليه. وهذا خلاف الواقع، فإنهم كانوا قد أحدثوا وبدَّلوا قبل مبعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلما بُعث – صلى الله عليه وسلم – استمرُّوا على ذلك الإحداث والتبديل، وانضاف إليه إحداثٌ آخر وتبديلٌ آخر، فلم يكن دينهم قبل المبعث سالمًا من الإحداث والتبديل، بل كان كله قد انتقض إلا الشيء القليل منه.
السابع عشر: قوله: “فإن أقام على ما كان عليه، وإلا نُبذ إليه عهدُه”. فيقال: متى سار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وخلفاؤه في أهل الذمة هذه السيرة؟ ومتى قال هو أو أحدٌ من خلفائه ليهودي أو نصراني: متى دخل آباؤك في الدين؟ فإن كانوا دخلوا فيه قبل مبعثي وإلا نَبذتُ إليك العهد! وأيضًا فإن الذي كان عليه باطلٌ قطعًا، سواءٌ أدرك آباؤه حقَّه أو لم يُدركوه، فهو مقيمٌ على ما كان عليه آباؤه من الباطل.
(1/104)
الثامن عشر: أن إقراره بين أظهُرِ المسلمين على باطل دينه بالجزية والذُّلِّ والصَّغار والتزام أحكام الملة وكفّ شرِّه عن المسلمين= خيرٌ وأنفع للمسلمين من أن يخرج بماله إلى بلاد الكفار المحاربين، فيكون قوةً للكفار محاربًا للإسلام ممتنعًا من أداء الجزية وجريان أحكام الملة عليه مع إقامته على الدين الباطل.
التاسع عشر: قوله: “ومن بدَّل دينه من كتابيةٍ لم يحلَّ نكاحها”. فيقال: إذا كان العلم بكون الكتابية دخل آباؤها في الدين قبل النسخ والتبديل شرطًا في حلِّ نكاحها لم يحلَّ نكاح امرأةٍ من أهل الكتاب حتى يعرف أن آباءها كانوا كذلك. وهذا لا سبيلَ إلى العلم به إلا من جهتهم، وخبرُهم لا يُقبل في ذلك، والمسلمون لا علم لهم بذلك، فلا يحلُّ نكاح امرأةٍ كتابيةٍ أصلًا، وهذا خلاف نص القرآن!
ولا يقال: من لم يُعلَم حال أبويها جاز نكاحها، فإن شرط الحلِّ إذا لم يُعلَم ثبوته امتنع ثبوت الحلِّ، والصحابة – رضي الله عنهم – تزوَّجوا منهم، ولم يسألوا عن ذلك.
وقد ألزم المزني الشافعيَّ بالنكاح، فقال الشافعي في كتاب النكاح (1): إذا بدَّلت بدينٍ يحلُّ نكاح أهله فهو حلالٌ. قال المزني: وهذا عندي أشبهُ، ثم احتج بقول ابن عباس – رضي الله عنهما – في تأويل قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 53]، وهذا من أحسن الاحتجاج.
_________
(1) “مختصر المزني” (ص 387). وقد تقدم.
(1/105)
ثم قال المزني (1): فمن دان منهم دينَ أهل الكتاب قبل نزول الفرقان وبعده سواءٌ عندي في القياس.
الوجه العشرون: أنه لو صح اشتراط ذلك الشرط لم يُبَحْ لنا ذبيحةُ أحدٍ من أهل الكتاب؛ لأنا لا نعلم متى دخل آباؤه في الدين، والجهل بوجود الشرط كالعلم بانتفائه في امتناع ثبوت الحكم قبل تحقُّقه.
وقد قال الشافعي (2) – رحمه الله -: تنصَّرت (3) قبائل من العرب قبل أن يبعث الله محمدًا – صلى الله عليه وسلم – ويُنزِل عليه الفرقان فدانتْ بدين أهل الكتاب، فأخذ عليه الصلاة والسلام الجزية من أُكيدِر دُومةَ، وهو رجل يقال من غسَّان أو كِندةَ، ومن أهل ذمة اليمن، وعامتهم عرب، ومن أهل نجران وفيهم عرب، فدلَّ ما وصفتُ أن الجزية ليست على الأحساب وإنما هي على الأديان.
فقد صرَّح رحمه الله تعالى بعدم اعتبار الأنساب في الجزية، وأخبر أنها على الأديان، ومعلومٌ أن هذا لا فرقَ فيه بين (4) أن يكون الآباء دانوا بالدين قبل تبديله أو لم يكونوا كذلك، وكونُ الآباء قد دخلوا في الدين قبل نزول القرآن بعد بطلانه وتبديله لا أثرَ له، فإنهم بين المبعث وضرب الجزية كانوا قد دخلوا في دينٍ يُقَرُّون عليه.
_________
(1) المصدر نفسه.
(2) في “الأم” (5/ 403 – 405)، و”مختصر المزني” (ص 384).
(3) كذا في الأصل، وفي “الأم” و”المختصر”: “انتوت” أي قصدت.
(4) في المطبوع: “ولا فرق بينه وبين” خلاف ما في الأصل.
(1/106)
ونكتة المسألة أنهم بعد المبعث وإن دخلوا في دينٍ باطلٍ فدخلوا (1) في دينٍ يُقَرُّون عليه، وذلك قبل الأمر بالجهاد.
فهذه الوجوه ونحوها وإن كانت مُبطِلةً لهذا الأصل فإنها من أصول الشافعي رحمه الله تعالى وقواعده، فمن كلامه وكلام أمثاله من الأئمة استفدناها، ومنه ومنهم تعلَّمناها، ولم نخرج فيها عن أصوله وقواعده.
وليس المعتنون بالوجوه والطرق واختلافِ المنتسبين إليه والاعتناء بعباراتهم أقربَ إليه منا ولا أولى (2) به، بل هذه طريقته وأصوله التي أوصى بها أصحابه، فمن وافقه في نفس أصوله أحقُّ به ممن أعرض عنها، والله المستعان.
وقد قال أبو المعالي الجويني في “نهايته” (3) بعد أن حكى كلام بعض أصحاب الشافعي: أنَّ من تنصَّر أو تهوَّد بعد تبديل الدينين وتغيير الكتابين قبلَ مبعث نبينا – صلى الله عليه وسلم – نُظِر: فإن تمسَّك بالدين غير مبدَّلٍ، وحدثَ (4) التبديلُ، ثم أدركه الإسلام= قُبِلت الجزية منه، وإن دخل في الدين المبدَّل ثم أدركه الإسلام لم تُقبل منه وإن كان ذلك قبل المبعث. وهل تُقبل من أولاده؟ فيه وجهان مبنيان على أن الجزية هل تؤخذ من أولاد المرتدّين؟ = قال: وهذا
_________
(1) في المطبوع: “قد دخلوا”.
(2) في الأصل: “ولا ولى”.
(3) “نهاية المطلب” (18/ 11).
(4) في الأصل: “وحذف”.
(1/107)
كلامٌ مختلطٌ لا تعويلَ عليه، والمذهب: القطعُ بأخذ الجزية ممن تمسَّك بالدين المبدَّل قبل المبعث وأدركه الإسلام نظرًا إلى تغليب الحَقْن. وإذا تعلَّق بالكتاب فليس كله مبدلًا، وغير المبدل منه ينتصب شبهةً في جواز حَقْن دمه بالجزية، إذ ذاك لا ينحطُّ عن الشبهة التي تمسَّك (1) بها المجوس، فلا ينبغي أن يُعتدَّ بهذا، بل الوجه القطع بقبول الجزية كما قدمنا. انتهى.
وهذا الذي ذكره في غاية القوة، وما ذكره من حكى كلامه مخالفٌ للمعلوم المقطوع به من سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. وبقي عليه درجةٌ واحدةٌ، وهي القطع بأخذها ممن تهوَّد بعد المبعث قبل الأمر بالقتال، إذ كانوا مُقَرِّين على دينهم، فقد دخل في دينٍ باطلٍ يقرّ أهله عليه، كما تقدم.
فصل
في بني تغلب وأحكامهم
بنو تغلب بن وائل بن ربيعة بن نِزارٍ من صميم العرب، انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية، وكانوا قبيلةً عظيمةً لهم شوكةٌ قويةٌ، واستمرُّوا على ذلك حتى جاء الإسلام، فصُولحوا على مضاعفة الصدقة عليهم عوضًا من الجزية. واختلفت الرواية متى صُولحوا.
ففي “سنن أبي داود” (2) من حديث إبراهيم بن مهاجرٍ، عن زياد بن
_________
(1) في هامش الأصل: “تعلق”.
(2) برقم (3040)، وكذا أخرجه الطبري في “تهذيب الآثار” (ص 223 – مسند علي) والعقيلي في “الضعفاء” (3/ 440) وأبو نعيم في “الحلية” (4/ 198)، كلهم من طريق عبد الرحمن بن هانئ النخعي، عن شريك، عن إبراهيم بن مهاجر به.
(1/108)
حُدَيرٍ قال: قال عليٌّ: لئن بقيتُ لنصارى بني تغلب لأقتُلَنَّ المُقاتِلة، ولأَسبِينَّ الذرّيةَ، فإني كتبتُ الكتاب بينهم وبين النبي – صلى الله عليه وسلم – أن لا يُنصِّرُوا أبناءهم.
لكن قال أبو داود: هذا حديث منكرٌ، بلغني عن أحمد بن حنبل أنه كان ينكر هذا الحديث إنكارًا شديدًا (1). وقال أبو علي (2): لم يقرأه أبو داود في العرضة الثانية. انتهى.
وإبراهيم بن مهاجرٍ ضعَّفه غير واحدٍ (3). والمشهور أن عمر هو الذي صالحهم.
قال أبو عبيد (4): ثنا أبو معاوية، ثنا أبو إسحاق الشيباني، عن السفَّاح، عن داود بن كُردوسٍ قال: صالحتُ عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – عن بني تغلب ــ بعدما قطعوا الفُرات وأرادوا أن يلحقوا بالروم ــ على أن لا يَصْبُغوا صبيًّا،
_________
(1) قال أحمد في عبد الرحمن بن هانئ النخعي: ليس بشيء، كما في “العلل” برواية ابنه (5691). وقال العقيلي بعد أن أخرج الحديث في ترجمته: “لا يتابَع عليه”. أي من هذا الطريق، لأنه إنما يُعرف من رواية الكلبي، عن أصبغ بن نُباتة ــ وكلاهما متروك منكر الحديث ــ عن عليٍّ بنحوه. أخرجه عبد الرزاق (9975) وأبو يعلى (323، 332) من طرق عن الكلبي به.
(2) هو اللؤلؤي راوي “السنن” عن أبي داود.
(3) انظر “ميزان الاعتدال” (1/ 67، 68).
(4) في “الأموال” (72)، وأخرجه يحيى بن آدم في “الخراج” (206، 208) ــ ومن طريقه البيهقي (9/ 216) ــ وابن أبي شيبة (10684) من طرق عن أبي إسحاق الشيباني به.
(1/109)
ولا يُكرهوا على دينٍ غير دينهم، وعلى أن عليهم العُشر مضاعفًا، من كل عشرين درهمًا درهمٌ. فكان داود يقول: ليس لبني تغلب ذمَّةٌ؛ قد صَبَغوا في دينهم.
قال أبو عبيد: قوله “لا يَصبُغوا في دينهم” يعني: لا يُنصِّروا أولادهم.
قال أبو عبيد: وكان عبد السلام بن حربٍ يزيد في إسناد هذا الحديث: عن داود عن عُبادة بن النعمان عن عمر (1).
وحدثني سعيد بن سليمان عن هُشيمٍ (2) قال: أبنا مغيرة، عن السفَّاح بن المثنى، عن زرعة بن النعمان ــ أو النعمان بن زرعة ــ أنه سأل عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وكلَّمه في نصارى بني تغلب، وكان عمر – رضي الله عنه – قد همَّ أن يأخذ منهم الجزية، فتفرَّقوا في البلاد، فقال النعمان لعُمر: يا أمير المؤمنين، إن بني تغلب قومٌ عرب يَأْنَفون من الجزية، وليست لهم أموالٌ، إنما هم أصحاب حروثٍ ومَواشي (3)، ولهم نكايةٌ في العدو، فلا تُعِنْ عدوَّك عليك بهم. فصالحَهم عمر – رضي الله عنه – [على] أن أَضعفَ عليهم الصدقة، واشترط
_________
(1) أخرجه يحيى بن آدم (207) عن عبد السلام بن حرب عن أبي إسحاق الشيباني به. ومن طريق يحيى أخرجه البيهقي (9/ 216). وعبد السلام ثقة حافظ، على لين في بعض حديثه. وهنا قد خالف غيرَ واحدٍ بذكر عُبادة بن النعمان فيه. وإنما ورد ذكر “عُبادة بن النعمان بن زرعة” في قصة أخرى رويت من طريق الشيباني، عن السفاح، عن داود بن كردوس؛ أخرجها ابن أبي شيبة (18611) والبخاري في “التاريخ” (4/ 212).
(2) في هامش الأصل: “هشام” بعلامة خ.
(3) كذا في الأصل بإثبات الياء.
(1/110)
عليهم أن لا يُنصِّروا أولادهم (1).
قال مغيرة: فحُدِّثتُ أن عليًّا قال: إن تفرَّغتُ لبني تغلب ليكونَنَّ لي فيهم رأيٌ، لأقتلنَّ مقاتِلَتَهم ولأَسبِينَّ ذراريَّهم، فقد نقضوا العهد، وبرئتْ منهم الذمة حين نصَّروا أولادهم (2).
وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن الحَكَم، عن إبراهيم، عن زياد بن حُدَيرٍ: أن عمر – رضي الله عنه – أمره أن يأخذ من نصارى بني تغلب العُشر، ومن نصارى أهل الكتاب نصف العشر (3).
قال أبو عبيد: والحديث الأول ــ حديث داود بن كُردوسٍ وزُرعة ــ هو الذي عليه العمل: أن يكون عليهم الضِّعف مما على المسلمين، أَلَا تسمعه يقول: من كل عشرين درهمًا درهمٌ؟ وإنما يؤخذ من المسلمين إذا مرُّوا بأموالهم على العاشر: مِن كل أربعين درهمًا درهمٌ، فذلك ضِعف هذا، وهو المضاعف الذي اشترط عمر عليهم. وكذلك سائر أموالهم من المواشي
_________
(1) “الأموال” (74)، وعلَّقه البخاري في “تاريخه” (4/ 212) عن النفيلي عن هشيم به. وخالف فيه مغيرة أبا إسحاق الشيباني في إسناده، فأسقط داود بن كردوس، وزاد زرعة بن النعمان، كما أنه أخطأ في اسم السفاح ــ وهو ابن مطر ــ فجعله ابن المثنَّى بن حارثة (كذا في تاريخ البخاري)، فأخشى أن يكون مغيرة ــ وهو ثقة مدلس ــ دلَّسه عن بعض الضعفاء.
(2) سبق تخريجه وبيان وهيه، ولعل مغيرة سمعه من الكلبي ولذا أبهمه.
(3) “الأموال” (75)، وأخرجه أيضًا عبد الرزاق (19400) عن عبد الله بن كثير عن شعبة به. وإسناده صحيح.
(1/111)
والأرضين يكون عليها في تأويل هذا الحديث الضِّعفُ أيضًا، فيكون في خمسٍ من الإبل شاتان، وفي العشر أربعُ شياهٍ، وكذلك الغنم والبقر. وعلى هذا الحَبُّ والثمار، فيكون ما سَقَتْه السماء فيه عُشرانِ وفيما سُقِي بالغَرْب عُشر. وفي حديث عمر – رضي الله عنه -: وشرطه عليهم أن يكون على أموال نسائهم وصبيانهم مثلُ ما على أموال رجالهم، وكذلك يقول أهل الحجاز. انتهى.
فهذا الذي فعله عمر – رضي الله عنه – وافقه عليه جميع الصحابة والفقهاء بعدهم.
ويُروى عن عمر بن عبد العزيز أنه أبى عليهم إلا الجزية، وقال: لا والله إلا الجزية، وإلا فقد آذنتم بالحرب (1).
ولعله رأى أن شوكتهم ضعفتْ، ولم يخَفْ منهم ما خاف عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -، فإن عمر – رضي الله عنه – كان بعدُ مشغولًا بقتال الكفار وفتح البلاد، فلم يأمن أن يلحقوا بعدوّه فيقوونهم عليه، وعمر (2) أمِنَ ذلك.
وأما علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – فقال: لئن بقيتُ لهم لأقتلنَّ مقاتِلتَهم
_________
(1) ذكره ابن قدامة في “المغني” (13/ 224) بهذا اللفظ، والمؤلف صادر عنه. وفي “المدونة” (2/ 283) عن ابن وهب عن ابن أبي ذئب أن عمر بن عبد العزيز قال لنصارى كلب وتغلب: لا نأخذ الصدقة منكم، وعليكم الجزية. فقالوا: أتجعلنا كالعبيد؟ قال: لا نأخذ منكم إلا الجزية. قال: فتوفي عمر وهم على ذلك.
(2) أي: ابن عبد العزيز.
(1/112)
ولأَسْبِيَنَّ ذريتَهم، فإنهم نقضوا العهد ونصَّروا أولادهم (1).
وعلى هذا فلا تجري هذه الأحكام التي ذكرها الفقهاء فيهم، فإنهم ناقضون للعهد، ولكن العمل على جريانها عليهم، فلعل بعض الأئمة جدَّد لهم صلحًا على أن حكم أولادهم حكمهم كسائر أهل الذمة، والله أعلم.
فصل (2)
فتؤخذ الصدقة منهم مضاعفةً من مالِ مَن تؤخذ منه الزكاة لو كان مسلمًا، من ذكرٍ وأنثى وصغيرٍ وكبيرٍ وزَمِنٍ وصحيح وأعمى وبصيرٍ. هذا قول أهل الحجاز وأهل العراق وفقهاء الحديث منهم الإمام أحمد وأبو عبيد، إلا أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى استثنى الصبيان والمجانين بناءً على أصله في أنه لا زكاة عليهم (3)، ولا تُؤخَذ الصدقة مضاعفةً من أرضهم كما تُؤخذ من أرض الصبي والمجنون المسلم الزكاة.
وأما الشافعي رحمه الله تعالى فإنه قال: المأخوذ منهم جزيةٌ وإن كان باسم الصدقة، فلا تُؤخذ إلا ممن تؤخذ منه الجزية، فلا تُؤخذ من امرأةٍ ولا صبي ولا مجنونٍ، وحكمها عنده حكم الجزية وإن خالفتْها في الاسم.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: وقد روي عن عمر – رضي الله عنه – أنه قال:
_________
(1) تقدم قريبًا.
(2) انظر: “المغني” (13/ 224، 225).
(3) كما في “الخراج” لأبي يوسف (ص 122).
(1/113)
هؤلاء حمقى رَضُوا بالمعنى وأَبَوا الاسم (1).
وقال النعمان بن زرعة: خذ منهم الجزية باسم الصدقة (2).
قال الشافعي (3) رحمه الله تعالى: واختلفت الأخبار عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في نصارى العرب من تَنوخَ وبَهراء وبني تغلب، فرُوي عنه أنه صالحهم على أن يُضْعِف عليهم الجزية، ولا يُكرَهوا على غير دينهم. وهكذا حفظ أهل المغازي فقالوا: رَامَهم عمر – رضي الله عنه – على الجزية فقالوا: نحن عربٌ لا نؤدّي كما يؤدِّي العجم، ولكن خُذ منّا كما يأخذ بعضكم من بعضكم، يعنون الصدقة، فقال عمر: هذا فرض على المسلمين (4)، فقالوا: ازدَدْ (5) ما شئتَ بهذا الاسم لا اسم الجزية. فراضَاهم على أن أَضْعفَ عليهم الصدقة، [وقال للمُعشّر]: فإذا أضعفتَها عليهم فانظر إلى مواشيهم وذهبهم وورِقهم وأطعمتهم وما أصابوا من معادنِ بلادهم وركازِها، وكل أمرٍ أُخِذَ فيه من مسلمٍ خُمسٌ فخذْ خُمسينِ، وعُشْرٌ فخُذْ عُشْرينِ، ونصفُ عُشرٍ فخُذْ عُشرًا، ورُبع عُشرٍ فخُذْ نصفَ عُشرِ، وكذلك مواشيهم فخُذِ الضِّعفَ منهم. وكلّ ما أُخِذ من عُشرِ ذمي فمسلكُه مسلكُ الفيء، وما اتَّجر به نصارى
_________
(1) كذا في “المغني” (13/ 225)، ولم أجده في كتب الشافعي ولا في كتب البيهقي نقلًا عنه.
(2) “المغني” (13/ 225).
(3) انظر: “الأم” (5/ 690 وما بعدها)، والنقل من “مختصر المزني” (ص 386).
(4) “فقالوا نحن … على المسلمين” ساقطة من المطبوع.
(5) كذا في الأصل. وفي “الأم” و”مختصر المزني”: “فزِدْ”. وفي المطبوع: “اردد” خطأ.
(1/114)
العرب وأهل دينهم وإن كانوا يهودَ تُضاعَفُ عليهم فيه الصدقة، انتهى.
قالوا: ولأنهم أهل ذمةٍ، فكان الواجب عليهم جزية لا صدقة، كغيرهم من أهل الذمة.
قالوا: ولأنه مالٌ يؤخذ من أهل الكتاب لحَقْنِ دمائهم، فكان جزيةً كما لو أُخذ باسم الجزية (1).
قالوا: ولأن الزكاة طُهرةٌ، وهؤلاء ليسوا من أهل الطهرة.
قالوا: ولأن عمر – رضي الله عنه – إنما سألهم الجزية لم يسألهم الصدقة، فالذي سألهم إياه عمر – رضي الله عنه – هو الذي بذلوه بغير اسمه.
قالوا: ولأن نساءهم وصبيانهم ومجانينهم ليسوا من أهل الزكاة ولا من أهل الجزية، فلا يجوز أن يُؤخذ منهم واحدٌ منهما.
قالوا: ولأن المأخوذ منهم مصرف الفيء لا مصرف الصدقة، فيباح لمن يُباح له أخذُ الجزية.
قال أصحاب أحمد (2): المتَّبَع في ذلك فعل عمر – رضي الله عنه -، وهم سألوه أن يأخذ منهم ما يأخذ من المسلمين ويُضعِفه عليهم، فأجابهم إلى ذلك، وهو يأخذ من صبيان المسلمين ونسائهم ومجانينهم، وذلك هو الزكاة، وعلى هذا البذل والصلح دخلوا وبه أقرُّوا.
_________
(1) في الأصل: “الصدقة”. والمثبت من هامشه بعلامة خ.
(2) انظر: “المغني” (13/ 225).
(1/115)
قالوا: ويدل عليه قوله: “من كل عشرين درهمًا درهم”، فهذا غير مذهب الجزية، بل مذهب الصدقة.
قالوا: فشرط عمر – رضي الله عنه – يقتضي أن يكون على أموال نسائهم وصبيانهم ما على أموال رجالهم.
قالوا: ولفظ الصلح إنما وقع على الصدقة المضاعفة لا على الجزية، وهم الذين بذلوا ذلك فيؤخذ منهم ما التزموه.
قالوا: ولأن نساءهم وصبيانهم صِيْنوا عن السبي بهذا الصلح ودخلوا في حكمه، فجاز أن يدخلوا في الواجب به كالرجال العقلاء.
قال أبو عبيد (1): وهذا أشبهُ لأنه عمَّهم بالصلح، فلم يَستثنِ منهم صغيرًا دون كبيرٍ، والله أعلم.
فصل
وعلى هذا فمن كان منهم فقيرًا أو له مالٌ غير زكوي كالدُّور وثياب البذْلة وعَبيدِ الخدمة فلا شيء عليه، كما لا يجب ذلك على أهل الزكاة من المسلمين، ولا يُؤخذ مِن أقلَّ مِن نصابٍ، وإن كان المأخوذ من أحدهم أقلَّ من جزيةٍ كفى. وقال في “الرعاية” (2): يحتمل أن يكمل الجزية.
_________
(1) “الأموال” (1/ 76).
(2) (1/ 588).
(1/116)
وفي مصرفه روايتان (1):
إحداهما: أنه مصرف الفيء، وهذا اختيار القاضي أبي يعلى (2)، وهو الصحيح وهو مذهب الشافعي؛ لأنه مأخوذٌ من مشركٍ، وهو جزيةٌ باسم الصدقة.
والثانية: أن مصرفه مصرف الصدقة، وهي اختيار أبي الخطاب، لأنه معدولٌ به عن الجزية في الاسم والحكم والقدر، فيُعدَل بمصرفه عن مصرفها.
قال الشيخ أبو محمد المقدسي (3): والأول أقيس وأصح؛ لأن معنى الشيء أخصُّ به من اسمه، ولهذا لو سُمِّي رجلٌ أسدًا أو نَمِرًا أو أسودَ أو أحمرَ لم يَصِرْ له حكم المسمَّى بذلك.
قال: ولأنَّ هذا لو كان صدقةً على الحقيقة لجاز دفعها إلى فقراءِ من أُخِذتْ منهم، لقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “أَعْلِمْهم أن عليهم صدقةً، تُؤخذ من أغنيائهم فَتُرَدُّ في فقرائهم” (4).
_________
(1) انظر: “المغني” (13/ 225).
(2) في “الأحكام السلطانية” (ص 137).
(3) “المغني” (13/ 225).
(4) أخرجه البخاري (1395) ومسلم (19) عن ابن عباس في حديث إرسال معاذٍ إلى اليمن.
(1/117)
فصل (1)
فإن بذَلَ التغلبيُّ الجزية وتُحَطُّ عنه الصدقة فهل يقبل منه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يقبل منه، لأن الصلح وقع على هذا، فلا يُغيَّر.
والثاني: يُقبل منه، لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا اُلْجِزْيَةَ} [التوبة: 29]، وهذا قد أعطى الجزية، ولأن الجزية هي الأصل والصدقة بدلٌ، فإذا بذل الأصل حرم قتله وقتالُه (2)، ولأن الجزية هي الصَّغار والذُّل الذي أَنِفُوا منه، فترك لمصلحةٍ، فإذا زالت المصلحة وأقرُّوا به والتزموه قُبِل منهم. وهذا أرجح، والله أعلم.
وأما إن كان باذلُ الجزية منهم حربيًّا لم يدخل تحت الصلح فإنها تُقبل منه قولًا واحدًا، ولا يلزمه ما صالح عليه إخوانه. وإن أراد الإمام نقْضَ صلحهم وإلزامهم بالجزية لم يكن له ذلك؛ لأن عقد الذمة على التأبيد، وقد عقد معهم عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -، فلم يكن لغيره نقضُه ما داموا على العهد.
فصل
وهذا الحكم يختصُّ ببني تغلب، نصَّ عليه أحمد.
_________
(1) انظر: “المغني” (13/ 226).
(2) “وقتاله” ساقطة من المطبوع.
(1/118)
وقال علي بن سعيد (1): سمعت أحمد يقول: أهل الكتاب ليس عليهم في مواشيهم صدقةٌ ولا في أموالهم، إنما تُؤخذ منهم الجزية، إلا أن يكونوا صُولحوا على أن تؤخذ منهم، كما صنع عمر – رضي الله عنه – بنصارى بني تغلب حين أضعفَ عليهم الصدقةَ في صلحه إياهم.
وقال صالح بن أحمد (2): قلت لأبي: هل على نساء أهل الذمة وصبيانهم ونخيلهم وكُرومِهم وزروعهم ومواشيهم صدقةٌ؟ قال: ليس عليهم فيها شيء إلا على نصارى بني تغلب.
وكذلك قال في رواية ابن منصورٍ (3).
وقال حرب بن إسماعيل (4): قلت لأحمد: فالذي (5) تكون له الغنم أو الإبل هل تؤخذ منهم؟ قال: كيف تؤخذ منهم؟! إلا نصارى بني تغلب فإنها تُضاعَف عليهم. قال: وكذلك قال قومٌ في أرضهم: تُضاعَف عليهم، أُراه قال: إن اشتروا من المسلمين.
وقال الميموني (6): قرأت على أبي عبد الله هل على أهل الذمة صدقةٌ
_________
(1) كما في “الجامع” للخلال (1/ 142).
(2) المصدر نفسه (1/ 143).
(3) كما في المصدر السابق.
(4) “الجامع” (1/ 143).
(5) كذا في الأصل، وفي “الجامع”: “فالذمي”.
(6) كما في “الجامع” (1/ 143).
(1/119)
في إبلهم وبقرهم وغنمهم؟ فأملى عليَّ (1): ليس عليهم. وقال الزهري: لا نعلم في مواشي أهل الذمة صدقةً إلا بني تغلب (2). قال: وعمر – رضي الله عنه – لمَّا أقرَّهم على النصرانية أضعفَ عليهم لأنهم عرب. قلت: وتذهب إلى أن تُؤخذ من مواشي بني تغلب خاصّةً؟ قال: نعم. قلتُ: وتُضعِف عليهم على ما فعل عمر – رضي الله عنه -؟ قال: نعم.
وقال القاضي وأبو الخطّاب (3): حكمُ من تنصَّر من تَنُوخَ وبَهْراء، أو تهوَّدَ من كِنانة وحِمْير، أو تمجَّس من تميمٍ (4) = حكمُ بني تغلب سواءً.
وهذا مخالفٌ لنص أحمد ولعموم الأدلة، فلا يُلتفَت إليه، وإنما أُخِذ ذلك قياسًا على نصارى بني تغلب، وقد حكينا كلام الشافعي أن هذا الحكم في نصارى بني تغلب وتنوخ وبهراء، والمحفوظ عن عمر – رضي الله عنه – إنما هو في نصارى بني تغلب خاصةً. وقد ظنَّ القاضي وأبو الخطّاب أن ذلك لكونهم عربًا، فألحقوا بهم هذه القبائل، وهذا لا يصح، وقد نص أحمد على الفرق كما ذكرنا نصوصه.
قال الشيخ في “المغني” (5): ولنا عموم قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا
_________
(1) في الأصل: “عليهم”. والتصويب من “الجامع”.
(2) قول الزهري أخرحه يحيى بن آدم (201) عن ابن المبارك عن يونس عنه.
(3) انظر: “المغني” (13/ 226).
(4) في الأصل: “فهم”، وفي هامشه: “تهم” بعلامة خ. والتصويب من “المغني”.
(5) (13/ 226).
(1/120)
اُلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، وأن النبي – صلى الله عليه وسلم – بعث معاذًا إلى اليمن فقال: “خُذْ من كل حالمٍ دينارًا” وهم عرب، وقبِلَ الجزية من أهل نجران وهم من بني الحارث بن كعبٍ. قال الزهري: أول من أعطى الجزية أهلُ نجران، وكانوا نصارى (1). وأخذَ الجزيةَ من أُكيدِرِ دُومةَ وهو عربي. وحكم الجزية ثابتٌ بالكتاب والسنة في كل كتابيٍّ، عربيًّا كان أو غير عربي، إلا ما خُصَّ به بنو تغلب لمصالحة عمر – رضي الله عنه – إياهم، ففي من عداهم يبقى الحكم على عموم الكتاب وشواهد السنة. ولم يكن بين [غير] بني تغلب وبين أحدٍ من الأئمة صلحٌ كصلحِ بني تغلب فيما بلغنا، ولا يصح قياسُ غير بني تغلب عليهم لوجوهٍ:
أحدها: أن قياس سائر العرب عليهم مخالفٌ للنصوص التي ذكرناها، ولا يصح قياس المنصوص عليه على ما يلزم منه مخالفةُ النص.
الثاني: أن العلة في بني تغلب الصلح، ولم يوجد الصلح مع غيرهم ولا يصح القياس مع تخلُّف العلة.
الثالث: أن بني تغلب كانوا ذوي قوةٍ وشوكةٍ، لَحِقوا بالروم وخِيفَ منهم الضرر إن لم يُصالَحوا، ولم يوجد هذا لغيرهم. فإن وُجِد هذا لغيرهم فامتنعوا من أداء الجزية، وخِيفَ الضررُ بترك مصالحتهم، فرأى الإمام مصالحتهم على أداء الجزية باسم الصدقة= جاز ذلك إذا كان المأخوذ منهم بقدر ما يجب عليهم من الجزية أو زيادة. وقد ذكر ذلك الشيخ أبو إسحاق في
_________
(1) تقدَّم تخريجه.
(1/121)
“المهذَّب” (1)، ونص عليه أحمد.
والحجة في هذا قصةُ بني تغلب وقياسهم عليهم.
قال علي بن سعيد (2): سمعت أحمد يقول: أهل الكتاب ليس عليهم في مواشيهم صدقةٌ، ولا في أموالهم، إنما تُؤخذ منهم الجزية إلا أن يكونوا صُولِحوا على أن تُؤخذ منهم، كما صنع عمر – رضي الله عنه – بنصارى بني تغلب حين أضعفَ عليهم الصدقةَ في صلحه إياهم، إذا كانوا في معناهم.
أما قياس من لم يُصالَح عليهم في جعلِ جزيتهم صدقةً فلا يصح، والله أعلم، انتهى (3).
فصل (4)
وأما مناكحتهم وحلُّ ذبائحهم ففيها قولان للصحابة، وهما روايتان عن الإمام أحمد:
إحداهما: لا تحلُّ، وهو قول علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – (5) والشافعي رحمه الله تعالى. وطردَ الشافعي المنعَ في ذبائح العرب من أهل الكتاب
_________
(1) (3/ 307).
(2) كما في “الجامع” للخلال (1/ 142).
(3) أي انتهى النقل من “المغني”.
(4) انظر “المغني” (13/ 228).
(5) أخرجه عبد الرزاق (10034) وابن أبي شيبة (16447) والطبري في “تفسيره” (8/ 133) وفي “تهذيب الآثار” (ص 226 – مسند علي) من طرق صحاحٍ وحسان.
(1/122)
كلهم (1).
واختُلِف في مأخذ هذا القول فقالت طائفةٌ: لم يتحقق دخولهم في الدين قبل التبديل، فلا يثبت لهم حكم أهل الكتاب (2). وهذا المأخذ جارٍ على أصل الشافعي، وقد عرفتَ ما فيه.
وقالت طائفةٌ أخرى: إنهم لم يدينوا بدين أهل الكتاب، بل انتسبوا إليه ولم يتمسكوا به عملًا. وهذا مأخذ علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – فإنه قال: إنهم لم يتمسكوا من دينهم إلا بشرب الخمر (3). وهذا المأخذ أصح وأفقه.
والقول الثاني: أنه تحلُّ مناكحتهم وذبائحهم، وهذا هو الصحيح عن أحمد، رواه عنه الجماعة، وهو آخر الروايتين عنه. قال إبراهيم بن الحارث: وكان آخر قوله أنه لا يرى بذبائحهم بأسًا (4).
وهذا قول ابن عباس – رضي الله عنهما – (5)، وروي نحوه عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – (6)، وبه قال الحسن والنخعي والشعبي وعطاءٌ الخراساني والحكم
_________
(1) انظر: “الأم” (3/ 606).
(2) “المهذب” (1/ 457).
(3) جزء من أثر عليٍّ الذي سبق تخريجه آنفًا.
(4) “الجامع” للخلال (2/ 440).
(5) أخرجه مالك في “الموطأ” (1407)، وابن أبي شيبة (16451) والطبري في “تفسيره” (8/ 130، 132) وفي “تهذيب الآثار” (ص 228 – مسند علي)، من طرق عنه.
(6) أخرجه البيهقي في “السنن الكبير” (9/ 216، 284).
(1/123)
وحمادٌ وإسحاق وأبو حنيفة وأصحابه. قال الأثرم (1): وما علمتُ أحدًا كرهه من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا عليًّا – رضي الله عنه -.
وذلك لدخولهم في عموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}، وقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 6]، ولأنهم أهل كتابٍ يُقَرُّون على دينهم ببذل المال، فتحل ذبائحهم ونساؤهم كبني إسرائيل.
فصل
وقعت مسألة: وهي هل يصح ضمان الجزية عمن هي عليه أم لا؟
فكان الجواب: لا يخلو إما أن يكون الضامن مسلمًا أو كافرًا:
فإن كان مسلمًا لم يصح ضمانه؛ لأن الجزية صَغارٌ وإذلالٌ (2)، فلا يجوز للمسلم أن يضمنه عن الكافر؛ لأنه يصير مطالَبًا بها، وهو فرعٌ على المضمون عنه، فلا يصح ذلك، كما لو ضمن ما عليه من العقوبة.
وإن كان الضامن ذميًّا، فإن ضمِنَها بعد الحول صح ضمانه، لأنه ضمن دَينًا مستقرًّا على من هو في ذمته، وإن كان بعرض السقوط (3) بالإسلام فهذا لا يمنع صحة الضمان، كما يصح ضمان الصداق قبل الدخول وإن كان
_________
(1) انظر: “الجامع” للخلال (2/ 440).
(2) “وإذلال” ساقطة من المطبوع.
(3) في المطبوع: “بمعرض من السقوط”.
(1/124)
بعرض سقوطه كله أو نصفه، و [يصح] ضمان ثمن المبيع (1) قبل قبضه، وإن كان بصدد السقوط بتلفه.
وإن ضمنها قبل الحول فهذا ينبني على ضمان ما لم يجب، والجمهور يصحِّحونه والشافعي يُبطِله، فإذا صححناه صحَّ ضمان الذمي للجزية، كما يصح ضمان ما يُدايِنه به أو ما يُتلِفه عليه، وغايته أنه ضمانٌ معلَّقٌ بشرطٍ، وذلك لا يُبطله، فإن الضمان يجري مجرى النذر، فإنه التزامٌ، فلا يُنافيه التعليق بالشرط.
ولأصحاب الشافعي وجهان في صحة ضمان المسلم للجزية عن الذمي.
قال بعضهم: وذلك مبنيٌّ على أنه هل يجب عند أداء الجزية الصَّغارُ من جَرِّ اليد والانتهار والإذلال أم لا؟ فإن أوجبناه لم يصح الضمان، وإن لم نُوجِبه صح.
قال الجويني في “نهايته” (2): والأصح عندي تصحيح الضمان، فإن ذلك لا يقطع إمكان توجيه الطلب على المضمون عنه.
قلت: وعلى هذا المأخذ فينبغي أن لا يصح ضمان الذمي أيضًا للجزية؛ لأنه يُفضي إلى سقوط الصَّغار عن المضمون عنه إذا أدَّى الضامن، كما أجْرَوا الخلافَ في توكيل الذميِّ الذميَّ في أداء الجزية عنه.
_________
(1) في المطبوع: “البيع”.
(2) “نهاية المطلب” (18/ 17).
(1/125)
ولم أر لأصحابنا في هذه المسألة كلامًا إلا ما ذكره أبو عبد الله بن حمدان في “رعايته” (1) فقال: وهل للمسلم أن يتوكَّل لذمي في أداء جزيته أو أن يضمنها عنه أو أن يحيل الذمي عليه بها؟ يحتمل وجهين أظهرهما المنع، انتهى.
وعلى هذا يجري الخلاف فيما إذا تحمَّلَها عنه مسلم أو ذمي، والحَمالة أن يقول: أنا ملتزمٌ لما على فلانٍ بشرط براءة ذمته منه. وقد اختلف الفقهاء في أصل هذه الحمالة.
فالشافعي وأحمد لا يصحِّحانها، هكذا ذكره أصحابه عنه، ولا نصَّ له في المنع، والصحيح الجواز، وهو مقتضى أصوله، وهو اختيار شيخنا، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة.
قالت الحنفية (2): المضمون له بالخيار، إن شاء طالب الأصل وإن شاء طالب الضامن، إلا إذا اشترط فيه براءة الأصل، فحينئذٍ تنعقد حوالةً اعتبارًا بالمعنى، كما أن الحوالة بشرط أن لا يبرأ المحيلُ تكون كفالةً. فعندهم تصح الحوالة بشرط أن لا يبقى الدَّين في ذمة المحيل، وينقلب ضمانًا، ويصح الضمان بشرط براءة المضمون عنه، وتنقلب حوالةً. وهذا صحيح لا يخالف نصًّا ولا قياسًا، ولا يتضمَّن غررًا، فالصواب القول به.
والمقصود أن المسلم لو تحمَّل عن الذمي بالجزية لم يصح تحملُه،
_________
(1) لم أجد كلامه في “الرعاية الصغرى” و”الكبرى”.
(2) انظر: “الاختيار لتعليل المختار” (3/ 3، 4).
(1/126)
وإن تحمَّل بها ذمي آخر عنه احتمل وجهين.
والذي يظهر في هذا كله: التفصيل في مسألة الحوالة والحمالة والضمان والتوكيل في الدفع، أنه إن فعله لعذرٍ من مرضٍ أو غَيبةٍ أو حبسٍ ونحوه جاز، وإن فعله غيرةً وأنفةً وهربًا من الصَّغار لم يجز ذلك، والله أعلم.
فصل في السَّامرة
واختلاف الفقهاء فيهم: هل يُقَرُّون بالجزية أم لا؟
فذهب الجمهور إلى إقرارهم بالجزية، وتردَّد الشافعي فيهم، فمرةً قال: لا تؤخذ منهم الجزية، وقال في موضع آخر: تؤخذ منهم (1).
وقال في “الأم” (2): يُنظر في أمرهم فإن كانوا يوافقون اليهود في أصل الدين، ولكنهم يخالفونهم في الفروع لم تضرَّ مخالفتهم، فيُقَرُّون على دينهم فتؤخذ منهم الجزية، وإن كانوا يخالفونهم في أصل الدين لم يُقَرُّوا على دينهم ببذل الجزية. هذا نقل الربيع عنه.
وأما المزني (3) فنقل عنه أنهم صنفٌ من اليهود فتؤخذ منهم الجزية.
واختلف أصحابه في حكمهم، فقال بعضهم: يقرون بالجزية، وقال بعضهم: لا يقرون بها. وقال أبو إسحاق المروزي: لم يكن الشافعي يعرف
_________
(1) انظر: “نهاية المطلب” (18/ 11).
(2) (5/ 435) بمعناه.
(3) في “مختصره” (ص 384).
(1/127)
حقيقة أمر دينهم، فتوقف في ذلك، ثم بان له أنهم من جملة أهل الكتاب، فرجع إلى ذلك وألحقهم بهم (1).
وهذا الذي قاله المروزي هو الصواب المقطوع به، وغَلِط من قال: لا يقرون بالجزية ويقر المجوس بها لأن لهم شبهة كتابٍ. وهذا من العجب أن يُقَرَّ قومٌ يعبدون النار، ويعتقدون أن للعالم إلهينِ اثنين النور والظلمة، ولا يؤمنون ببعثٍ ولا نشورٍ، ولا أن الله يبعث من في القبور، ويرون نكاح الأمهات والبنات، ولا يؤمنون برسولٍ ولا يحرِّمون شيئًا مما يحرِّمه الأنبياء؛ ولا يُقَرُّ السامرة بالجزية مع أنهم يؤمنون بموسى والتوراة، ويَدينون بها، ويؤمنون بالمعاد والجنة والنار، ويصلُّون صلاة اليهود ويصومون صومهم، ويستنُّون بسنتهم، ويقرؤون التوراة، ويحرِّمون ما يحرِّمه اليهود، ولا يخالفون اليهود في التوراة ولا في موسى وإن خالفوهم في الإيمان بالرسل، فإن السامرة لا يؤمنون بنبي غير موسى وهارون ويوشع وإبراهيم فقط، ويخالفونهم في القبلة، فاليهود تصلِّي إلى بيت المقدس، والسامرة تصلِّي إلى جبل عزون (2) ببلد نابلوس،
_________
(1) “نهاية المطلب” (18/ 12).
(2) كذا في الأصل، وفي “الملل والنحل” للشهرستاني (ص 220): “غريزيم”. ويقال: “جريزيم”، وفي الترجمة العربية للعهد القديم: “جرزيم”. وهو جبل يقع جنوبي مدينة نابلس، وتسكن الطائفة السامرية على قمته. انظر: “خطط الشام” لكرد علي (6/ 214). أما عزون فهي بلدة في الضفة الغربية جنوبي مدينة نابلس. وانظر عن “السَّامرة”: “مروج الذهب” (1/ 59) و”الفصل” (1/ 82)، و”المواعظ والاعتبار” (4/ 384، 385). ومناظرة المؤلف مع أحدهم في “بدائع الفوائد” (4/ 1606، 1607).
(1/128)
وتزعم أنها القبلة التي أمر الله موسى أن يستقبلها، وأنهم أصابوها وأخطأتها اليهود، وأن الله أمر داود أن يبني بيت المقدس بجبل نابلوس، وهو عندهم الطور الذي كلَّم الله عليه موسى، فخالفه داود وبناه بإيليا، فتعدَّى وظلَمَ بذلك. ولغتهم قريبةٌ من لغة اليهود وليست بها.
وهم فرقٌ كثيرةٌ تشعَّبت عن فرقتين: دوسانيةٍ وكوسانيةٍ (1).
فالكوسانية تُقِرُّ بالمعاد وحشر الأجساد والجنة والنار، والدوسانية تزعم أن الثواب والعقاب في الدنيا. وبينهما اختلافٌ في كثيرٍ من الأحكام.
وهذه الأمة من أقلِّ الأمم في الأرض وأحمقها، وأشدِّها مجانبةً للأمم، وأعظمِها آصارًا وأغلالًا. وإذا أردتَ معرفة نسبتهم إلى اليهود فهم فيهم كالرافضة في المسلمين.
وهذه الأمة لم تحدث في الإسلام، بل هي أمةٌ موجودةٌ قبل الإسلام وقبل المسيح، وقد فتح الصحابة الأمصار، فأجمعوا على إقرارهم بالجزية، وكذلك الأئمة والخلفاء بعدهم، فعدمُ إقرارهم بالجزية تخطئةٌ لهم، وهذا مما لا سبيلَ إليه.
فصل في الصابئة
وقد اختلف الناس فيهم اختلافًا كثيرًا (2)، وأشكل أمرهم على الأئمة
_________
(1) في “الملل والنحل” (ص 219): “دوستانية وكوستانية”.
(2) انظر: “الفصل” لابن حزم (1/ 36، 37)، و”الملل والنحل” (ص 259 – 298)، و”إغاثة اللهفان” (2/ 1008 – 1015)، و”مفتاح دار السعادة” (2/ 1002، 1172).
(1/129)
لعدم الإحاطة بمذهبهم ودينهم.
فقال الشافعي (1) رحمه الله تعالى: هم صنفٌ من النصارى. وقال في موضع: يُنظر في أمرهم، فإن كانوا يوافقون النصارى في أصل الدين ولكنهم يخالفونهم في الفروع لم تضرَّ مخالفتهم (2) فتؤخذ منهم الجزية، وإن كانوا يخالفونهم في أصل الدين لم يُقَرُّوا على دينهم ببذل الجزية.
واختلف أصحابه (3) فقال أبو سعيد (4) الإصطخري: ليسوا من النصارى، ولا يجوز إقرارهم على دينهم، قال: لأنهم يقولون: إن الفلك حيٌّ ناطقٌ، وإن الكواكب السبعة آلهةٌ، فهم في حكم عبدة الأوثان.
واستفتى القاهر بالله العباسي الفقهاء فيهم، فأفتاه أبو سعيد أنهم لا يُقَرُّون، فأمر بقتلهم، فبذلوا مالًا عظيمًا فتركهم.
وأما أقوال السلف فيهم: فذكر سفيان عن ليثٍ عن مجاهدٍ قال: هم قومٌ بين اليهود والمجوس ليس لهم دينٌ (5).
_________
(1) ينظر: “الأم” (5/ 583، 435، 6/ 17)، و”المغني” (9/ 547).
(2) “لم تضر مخالفتهم” ليست في المطبوع.
(3) انظر: “نهاية المطلب” (18/ 11، 12).
(4) في الأصل: “أبو سعد” خطأ. انظر ترجمته في “طبقات الشافعية” للسبكي (3/ 230).
(5) أخرجه عبد الرزاق في “تفسيره” (1/ 47) عن سفيان به. وأخرجه الطبري (2/ 35، 36) وابن أبي حاتم (1/ 127، 128) من طرقٍ عنه بنحوه.
(1/130)
وفي تفسير شيبان عن قتادة قال: الصابئة قومٌ يعبدون الملائكة (1).
قال محمد بن جريرٍ (2): واختلف أهل التأويل فيمن يلزمه هذا الاسم من أهل الملل، فقال بعضهم: يلزم كلَّ من خرج من دينٍ إلى غير دينٍ. وقالوا: الذي عنى الله بهذا الاسم قومٌ لا دينَ لهم.
ثم ذكر عن عبد الرزاق عن سفيان عن ليثٍ عن مجاهدٍ قال: الصابئون قومٌ ليسوا يهودَ ولا نصارى، ولا دينَ لهم.
وحكى عن حجاجٍ عن مجاهدٍ قال: الصابئون بين المجوس واليهود، لا تُؤكل ذبائحهم ولا تُنكح نساؤهم.
وقال ابن جريجٍ: قلت لعطاءٍ: الصابئون زعموا أنهم ليسوا بمجوسٍ ولا يهود ولا نصارى، قال: قد سمعنا ذلك.
وقال ابن وهبٍ: قال ابن زيدٍ: الصابئون أهل دينٍ من الأديان كانوا بجزيرة الموصل يقولون: لا إله إلا الله، وليس لهم عمل ولا كتابٌ ولا نبي إلا قول “لا إله إلا الله”، قال: ولم يؤمنوا برسولٍ لله عز وجل، فمِن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه: هؤلاء الصابئون، يُشبِّهونهم بهم.
_________
(1) لم أجده من طريق شيبان، وقد أخرجه الطبري (2/ 37، 16/ 485) من طريق سعيد بن أبي عروبة عنه ــ وسيأتي قريبًا ــ، ومن طريق معمر عنه.
(2) في “تفسيره” (2/ 35 – 37)، والآثار الآتية كلها منه.
(1/131)
وقال سعيد عن قتادة: هم يعبدون الملائكة، ويُصلُّون إلى القبلة، ويقرؤون الزبور.
وقال سفيان عن السدِّي: هم طائفةٌ من أهل الكتاب.
وقال ابن جريرٍ (1): الصابئ المستحدِث سوى دينه دينًا، كالمرتدِّ من أهل الإسلام عن دينه، وكلُّ خارجٍ من دينٍ كان عليه إلى آخَر غيرِه تُسمِّيه العرب صابئًا، يقال منه: صبأ فلانٌ يصبأ صبأً، ويقال: صَبَأتِ النجوم إذا طلعت، وصَبَأ علينا فلانٌ إذا طلع.
قلت: الصابئة أمةٌ كبيرةٌ فيهم السعيد والشقي، وهي إحدى الأمم المنقسمة إلى مؤمنٍ وكافرٍ، فإن الأمم قبل مبعث النبي – صلى الله عليه وسلم – نوعان:
نوع كفّارٌ أشقياء كلهم ليس فيهم سعيد، كعبدة الأوثان والمجوس.
ونوع منقسمون إلى سعيد وشقي، وهم اليهود والنصارى والصابئة.
وقد ذكر الله سبحانه النوعين في كتابه فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 61]. وكذلك قال في المائدة (2).
_________
(1) في “تفسيره” (2/ 34).
(2) الآية 69: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
(1/132)
وقال في سورة الحج: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17]، فلم يقل هاهنا: (من آمن منهم بالله واليوم الآخر)؛ لأنه ذكر معهم المجوس والذين أشركوا، فذكر ستَّ أممٍ، منهم اثنتان شقيتان، وأربع أممٍ منقسمة إلى شقي وسعيد، وحيث وعد أهل الإيمان والعمل الصالح منهم بالأجر ذكرهم أربع أممٍ ليس إلا. ففي آية الفصل بين الأمم أدخل معهم الأمتين، وفي آية الوعد بالجزاء لم يدخلهما معهم، فعُلِم أن الصابئين فيهم المؤمن والكافر والشقي والسعيد.
وهذه أمةٌ قديمةٌ قبل اليهود والنصارى، وهم أنواعٌ: صابئةٌ حنفاء وصابئةٌ مشركون. وكانت حرَّان دارَ مملكة هؤلاء قبل المسيح، ولهم كتبٌ وتآليف وعلومٌ، وكان في بغداد منهم طائفةٌ كبيرةٌ، منهم إبراهيم بن هلالٍ الصابئ (1) صاحب الرسائل، وكان على دينهم ويصوم رمضان مع المسلمين، وأكثرهم فلاسفةٌ، ولهم مقالاتٌ مشهورةٌ ذكرها أصحاب المقالات (2).
وجملة أمرهم أنهم لا يكذِّبون الأنبياء ولا يوجبون اتباعهم، وعندهم أن من اتبعهم فهو سعيد ناجٍ، وأن من أدرك بعقله ما دَعَوا إليه فوافقَهم فيه
_________
(1) من الكتّاب المشهورين، توفي سنة 384. انظر ترجمته في “يتيمة الدهر” (2/ 242 وما بعدها)، و”معجم الأدباء” (1/ 130 – 158)، و”وفيات الأعيان” (1/ 52 – 54، 392 – 393) وغيرها.
(2) انظر: “الملل والنحل” للشهرستاني (ص 259 وما بعدها). وقد اعتمد عليه المؤلف في بيان عقائدهم.
(1/133)
وعمل بوصاياهم فهو سعيد وإن لم يتقيَّدْ بهم. فعندهم دعوةُ الأنبياء حقٌّ، ولا تتعيَّن طريقًا للنجاة. وهم يُقِرُّون أن للعالم صانعًا مدبرًا حكيمًا منزَّهًا عن مماثلة المصنوعات، ولكنْ كثير منهم أو أكثرهم قالوا: نحن عاجزون عن الوصول إلى جلاله بدون الوسائط، والواجب التقرب إليه بتوسط الروحانيين المقدَّسين، المطهَّرين عن المواد الجسمانية، المبرَّئين عن القوى الجسدية، المنزَّهين عن الحركات المكانية والتغييرات الزمانية، بل قد جُبِلوا على الطهارة وفُطِروا على التقديس.
قالوا: وإنما أرشدنا إليهم معلِّمنا الأول هرمس، فنحن نتقرب إليهم وبهم، وهم آلهتنا وشفعاؤنا عند ربِّ الأرباب وإله الآلهة، فالواجب علينا أن نطهِّر نفوسنا عن الشبهات الطبيعية ونهذِّب أخلاقنا عن علائق القوة الغضبية (1)، حتى تحصل المناسبة بيننا وبين الروحانيات، فحينئذٍ نسأل حاجاتنا منهم، ونَعرِض أحوالنا عليهم، ونَصْبُو في جميع أمورنا إليهم، فيشفعون لنا إلى خالقنا وخالقهم ورازقنا ورازقهم. وهذا التطهر (2) والتهذيب لا يحصل إلا برياضتنا وفطامِ أنفسنا عن دَنِيَّات الشهوات، وذلك إنما يتمُّ بالاستمداد من جهة الروحانيات، والاستمداد هو التضرُّع والابتهال بالدعوات، وإقامةِ الصلوات وإيتاء الزكوات، والصيام عن المطعومات والمشروبات، وتقريب القرابين والذبائح، وتبخير البخورات مع العزائم،
_________
(1) في المطبوع: “العصبية”، تصحيف.
(2) كذا في الأصل. وفي المطبوع: “التطهير”.
(1/134)
ليحصل لنفوسنا استعدادٌ إلى الاستمداد العالي من غير واسطةٍ، فيكون حكمنا وحكم الأنبياء في ذلك واحدًا.
قالوا: والأنبياء أَتَوا بتزكية النفوس وتهذيبها وتطهير الأخلاق من الرذائل، فمن أطاعهم فهو سعيد.
قالوا: والروحانيات هي الأسباب المتوسطة في الاختراع والإيجاد وتصريف الأمور من حالٍ إلى حالٍ، وهي تستمدُّ القوة من الحضرة القدسية، وتُفِيض الفيضَ على الموجودات السُّفلية، فمنها مدبِّرات الكواكب السبعة السيارة في أفلاكها، وهي هياكلها، فلكل روحاني هيكلٌ وهو فلكٌ، ونسبة الروحاني إلى ذلك الهيكل الذي اختصَّ به نسبة الروح إلى الجسد، فهو ربُّه ومُدِيره (1) ومدبِّره.
ويقولون: الهياكل آباءٌ، والعناصر أمهاتٌ، فتفعل الروحانياتُ تحريكَها على قدرٍ مخصوصٍ، ليحصل من حركتها انفعالاتٌ في الطبائع والعناصر، فيحصل من ذلك تركيباتٌ وامتزاجاتٌ في المركبات، فتتبعها قُوًى نفسانية (2)، وتركبت عليها نفوسٌ روحانيةٌ مثل أنواع النبات وأنواع الحيوان (3)، ثم قد تكون التأثيرات كليةً صادرةً عن روحاني كلي، وقد تكون جزئيةً صادرةً عن روحاني جزئي. ومنها مدبِّرات الآثار العُلْوية الظاهرة في
_________
(1) “ومديره” ساقطة من المطبوع، وهي ثابتة في الأصل و”الملل والنحل” (ص 261).
(2) “فتتبعها قوى نفسانية” ساقطة من المطبوع.
(3) في المطبوع: “الحيوانات” خلاف الأصل.
(1/135)
الجوّ كالمطر والثلوج والبرد والرياح والصواعق والشُّهب والرعد والبرق والسحاب، والآثار السُفْلِية كالزلازل والمياه وغيرها.
قالوا: ومدبّراتٌ هاديةٌ شائعة (1) في جميع الكائنات حتى لا يُرى موجودٌ (2) ما خالٍ عن قوةٍ وهدايةٍ بحسب قبوله واستعداده.
وأما أحوال الروحانيات من الرَّوح والريحان والنعمة واللذة والراحة والبهجة والفرح والسرور في جِوار ربِّ الأرباب فمما لا يخطر على قلب بشرٍ، طعامهم وشرابهم: التسبيح والتقديس والتهليل والتمجيد، وأنسهم بذكر الله تعالى وطاعته، فهم بين قائمٍ وراكعٍ وساجدٍ وقاعدٍ لا يريد تبديل حالته التي هو فيها بغيرها، إذ لذته وبهجته وسروره فيما هو فيه.
قالوا (3): والروحانيات مبادئ الموجودات وموادُّ الأرواح (4)، والمبادئ أشرف ذاتًا وأسبق وجودًا وأعلى رتبةً من سائر الموجودات التي حصلت بتوسطها، فعالَمها عالَمُ الكمال، والمبدأ منها والمعاد إليها، والمصدر عنها والمرجع إليها، والأرواح إنما (5) نزلت من عالمها، حتى
_________
(1) في المطبوع: “سارية” خلاف الأصل.
(2) في الأصل والمطبوع: “بوجود”. والتصويب من “الملل والنحل” الذي نقل عنه المؤلف.
(3) انظر: “الملل والنحل” (ص 284).
(4) في “الملل والنحل”: “وعالمها معاد الأرواح”.
(5) في الأصل: “لها”. والتصويب من “الملل والنحل”.
(1/136)
اتصلت بالأبدان، وتوسَّخت بأوضار الأجسام، ثم طهرتْ عنها بالأخلاق الزكية والأعمال المرضية، حتى انفصلت عنها فصعدت إلى عالمها الأول، فالنزول هو النشأة الأولى، والصعود هو النشأة الأخرى.
قالوا (1): وطريقنا في التوسل إلى حضرة (2) القدس ظاهرٌ وشرعنا معقول، فإن قُدماءنا من الزمان الأول لما أرادوا الوسيلة عملوا أشخاصًا في مقابلة الهياكل العلوية على نِسَبٍ وإضافاتٍ وهيآتٍ (3) وأحوالٍ وأوقاتٍ مخصوصةٍ، وأوجبوا على من يتقرب بها إلى ما يقابلها من العُلويات لباسًا وبخورًا وأدعيةً مخصوصةً وعزائم، تقرَّبوا بها (4) إلى رب الأرباب ومسبِّب الأسباب، وتلقينا ذلك عن عاذيمون (5) وهرمس.
فهذا بعض ما نقله أرباب المقالات من دين الصابئة، وهو بحسب ما وصل إليهم، وإلا فهذه الأمة فيهم المؤمن بالله وأسمائه وصفاته وملائكته ورسله واليوم الآخر، وفيهم الكافر، وفيهم الآخذ من دين الرسل بما وافق عقولهم واستحسنوه، فدانوا به ورَضُوه لأنفسهم، وعقْدُ أمرِهم أنهم يأخذون بمحاسنِ ما عند أهل الشرائع بزعمهم، ولا يوالون أهلَ ملةٍ ويعادون أخرى، ولا يتعصَّبون لملّةٍ على ملّةٍ، والملل عندهم نواميسُ لمصالح العالَم، فلا
_________
(1) “الملل والنحل” (ص 286).
(2) في الأصل: “حضيرة”. والمثبت موافق لما في “الملل والنحل”.
(3) “وهيآت” ساقطة من المطبوع.
(4) في المطبوع: “يقربونها” خلاف ما في الأصل و”الملل والنحل”.
(5) في الأصل: “عاديموت”. والتصويب من “الملل والنحل”.
(1/137)
معنى لمحاربة بعضها بعضًا، بل يُؤخذ بمحاسنها وما تكمل به النفوس وتتهذَّب به الأخلاق، ولذلك سُمُّوا صابئين، كأنهم صَبَأوا عن التعبد بكل ملّةٍ من الملل والانتساب إليها. ولهذا قال غير واحدٍ من السلف: ليسوا يهودَ ولا نصارى ولا مجوس (1)، وهم نوعان: صابئةٌ حنفاء، وصابئةٌ مشركون؛ فالحنفاء هم الناجون منهم، وبينهم مناظراتٌ وردٌّ من بعضهم على بعضٍ (2)، وهم قوم إبراهيم، كما أن اليهود قوم موسى، والحنفاء منهم أتباعه.
وبالجملة، فالصابئة أحسن حالًا من المجوس، فأخذ الجزية من المجوس تنبيهٌ على أخذها من الصابئة بطريق الأَولى، فإن المجوس من أخبث الأمم دينًا ومذهبًا، ولا يتمسكون بكتابٍ، ولا ينتمون إلى ملّةٍ، ولا يثبت لهم كتابٌ ولا شبهة كتابٍ أصلًا. ولهذا لما ظهرت فارسُ على الروم فرح المشركون بذلك؛ لأنهم مثلهم ليسوا أهل كتابٍ، وساء ذلك المسلمين، فلما ظهرت الروم على فارس فرح المسلمون (3)، لأن النصارى أقرب إليهم من المجوس من أجل كتابهم.
وكل ما عليه المجوس من الشرك، فشركُ الصابئة إن لم يكن أخفَّ منه فليس بأعظم منه. وقد تردَّد الشافعي رحمه الله تعالى في أخذ الجزية منهم في
_________
(1) كذا في الأصل غير ممنوع من الصرف، والصواب صرفه.
(2) ذكر الشهرستاني هذه المناظرات في “الملل والنحل” (ص 263 – 298).
(3) كما في مطلع سورة الروم، وانظر حديث ابن عباس الذي أخرجه أحمد (2495، 2769)، والترمذي (3193)، والنسائي في “الكبرى” (11389) وغيرهم. وفي الباب عن غيره من الصحابة.
(1/138)
موضع، وقطع بأخذها منهم في موضع، وعلَّق القول في موضعٍ، كما حكينا لفظه (1).
فصل
فإن قيل: فهل للإمام أن يستسلف منهم الجزية؟
قلنا: ليس له ذلك إلا برضاهم، كما ليس له أن يستسلف الزكاة إلا برضا ربِّ المال، بل الجزية أولى بالمنع، فإنها تسقط بالإسلام وبالموت في أثناء السنة، وتتداخل عند أبي حنيفة، فهي بعرض السقوط قبلَ الحول وبعده.
فإن قيل: فهل له أن يأخذ منهم في أثناء السنة بقسطِ ما مضى منها؟
قيل: هذا فيه نزاعٌ؛ فأبو حنيفة يجوِّز أن يأخذ في كل شهرٍ بقسطه، ولأصحاب الشافعي في ذلك وجهان. قال أبو المعالي الجويني (2): أظهرهما أنه ليس له ذلك، فإن الطلبة في آخر السنة عند استمرار الأحوال، بذلك جرتْ سننُ الماضين وسنن المتقدمين، والجزية موضوعها على الإمهال كالزكاة.
فإن قيل: فما تقولون لو سقط عنه الوجوب في أثناء السنة بموتٍ أو عمًى أو زمانةٍ أو إسلامٍ، هل تؤخذ منه بقسط ما مضى؟
قيل: الصحيح من المذهب أنها تسقط عنه وأن لا يطالب بقسط ما مضى، ومن الأصحاب من لم يحكِ في ذلك نزاعًا، ولكن أبا عبد الله بن حمدان
_________
(1) في أول الفصل.
(2) في “نهاية المطلب” (18/ 32).
(1/139)
حكى في ذلك وجهين فقال (1): وفيمن (2) أسلم في الحول أو مات أو جُنَّ جنونًا مُطْبقًا أو أُقعِد أو عَمِي وجهان.
فإن قيل: فإن اتفق اجتماع ديون الآدميين والجزية فهل تُقدَّم الجزية أو الديون؟
قيل: أما أصحاب الشافعي فبنَوا ذلك على الأصل وقالوا (3): يُنحَى (4) بالجزية نحوَ (5) حقوق الله كالزكاة، أو يُنْحَى (6) بها نحو حقوق الآدميين وليست من القُرَب، فعلى هذا تقع المحاصَّة بينها وبين غيرها من الديون.
ومنهم من قال: هي من حقوق الله، فإنه لا مستحقَّ لها معيَّنًا ولا تسقط بإسقاط الآدمي، وهي عقوبةٌ على الكفر وصَغارٌ لأهله.
وعلى هذا فيخرج على الأقوال الثلاثة في تقديم حقّ الله أو حقّ الآدمي أو وقوع المحاصَّة.
ولأصحاب أحمد أيضًا ثلاثةُ أوجهٍ مثل هذه (7).
_________
(1) في “الرعاية الكبرى” (2/ق 31 أ) نسخة تشستربيتي 3541.
(2) في الأصل: “ومن”. والتصويب من “الرعاية”.
(3) انظر: “نهاية المطلب” (18/ 33).
(4) قبلها في الأصل: “هذا”. ولا موقع لها، وكأنها زائدة.
(5) في المطبوع: “مستحق بالجزية يحق” تحريف.
(6) في المطبوع: “ويحق” تحريف.
(7) كما في “الرعاية الكبرى” (2/ 31 أ).
(1/140)
فصل
في الجزية والخراج وما بينهما من اتفاقٍ وافتراقٍ
الخراج هو جزية الأرض، كما أن الجزية خراج الرقاب، وهما حقّان على رقاب الكفار وأرضِهم للمسلمين، ويتفقان في وجوهٍ ويفترقان في وجوهٍ (1).
فيتفقان في: أن كلًّا منهما مأخوذٌ من الكفار على وجه الصَّغار والذلة، وأن مصرفهما مصرف الفيء، وأنهما يَجِبان في كل حولٍ مرةً، وأنهما يسقطان بالإسلام، على تفصيلٍ نذكره إن شاء الله تعالى.
ويفترقان في: أن الجزية ثبتت بالنص، والخراج بالاجتهاد. وأن الجزية إذا قُدِّرت على الغني لم تزد بزيادة غناه، والخراج يُقدَّر بقدر كثرة الأرض وقلَّتها. والخراج يجامع الإسلام حيث نذكره إن شاء الله تعالى، والجزية لا تجامعه بوجهٍ؛ ولذلك يجتمعان تارةً في رقبة الكافر وأرضِه ويسقطان تارةً، وتجب الجزية حيث لا خراجَ، والخراج حيث لا جزيةَ.
ونحن نذكر كيف أصل الخراج وابتداء وضْعِه وأحكامه، فنقول:
الأرض ستة أنواعٍ:
أحدها: أرضٌ استأنف المسلمون إحياءها، فهذه أرضُ عُشْرٍ، ولا يجوز أن يوضع عليها خراجٌ بغير خلافٍ بين الأئمة.
_________
(1) انظر: “الأحكام السلطانية” للماوردي (ص 221).
(1/141)
قال أبو الصقر (1): سألت أحمد عن أرضٍ مَواتٍ في دار الإسلام لا يُعرف لها أربابٌ، ولا للسلطان عليها خراجٌ، أحياها رجل من المسلمين؟ فقال: من أحيا أرضًا مَواتًا في غير السواد كان للسلطان عليه فيها العشر، ليس عليه غير ذلك.
وقال في رواية ابن منصورٍ (2): والأرضون التي يملكها ربُّها ليس فيها خراجٌ، مثل هذه القطائع التي أقطعها عثمان في السواد (3) لسعدٍ وابن مسعودٍ [وخبَّابٍ].
وقد استشكل القاضي (4) هذا النص، وتأوله على أنَّ عثمان أقطعَهم منافعَها، وأسقط الخراج على وجه المصلحة؛ لأن أرض السواد فُتِحتْ عَنْوةً فهي خراجيةٌ، وظاهر النص أن هذه الأرض قد صارت ملكًا لهم بإقطاع الإمام، وإذا ملكوها ملكوها (5) بمنافعها، والخراج من جملة منافعها، فإنه جارٍ مجرى الأجرة، فيملكونه بمِلْك منافعها، إذ لا يجب للإنسان على نفسه خراجٌ، فكأنه ملَّكهم الأرضَ وخراجَها.
_________
(1) كما في “الأحكام السلطانية” لأبي يعلى (ص 162).
(2) المصدر نفسه (ص 163). ومنه الزيادة بين معكوفتين. وهو في “المسائل” بروايته (1/ 245).
(3) “في السواد” ساقطة من المطبوع.
(4) أي أبو يعلى في المصدر السابق.
(5) “ملكوها” الثانية ساقطة من المطبوع.
(1/142)
فصل
النوع الثاني: أرضٌ أسلم عليها طوعًا من غير قتالٍ، فهي لهم (1)، لا خراجَ عليها، وليس فيها سوى العشر. وهذا كأرض (2) المدينة وأرض اليمن وأرض الطائف وغيرها.
نصَّ على ذلك أحمد في رواية حربٍ (3) فقال: أرض العشر (4): الرجل يسلم بنفسه من غير قتالٍ وفي يده أرضٌ، فهو عُشْر.
وقال في موضع آخر: أرض العشر: الرجل يسلم وفي يده أرضٌ فهو عُشْر، مثل مكة والمدينة.
وأما قوله في رواية حنبلٍ (5): “من أسلم على شيء فهو له، ويؤخذ منه خراج الأرض”، فليس مراده أن يسلم على أرضه التي كانت بيده قبل الإسلام بغير خراجٍ؛ لأنه قد صرح أنه ليس في هذه الأرض غير العشر، وإنما مراده أنه يسلم وفي يده أرضٌ خراجيةٌ فتحها الإمام عَنْوةً، فهذه لا يسقط الخراج بإسلام من هي في يده كما سنذكره.
_________
(1) كذا في الأصل. وفي المطبوع: “له”.
(2) في المطبوع: “كان في” بدل “كأرض” تحريف.
(3) كما في “الأحكام السلطانية” لأبي يعلى (ص 163).
(4) “العشر” ساقطة من المطبوع.
(5) في “الأحكام السلطانية” (ص 163).
(1/143)
فصل
النوع الثالث: ما ملك عن الكفار عَنْوةً وقهرًا، فهذه فيها روايتان (1):
إحداهما: أنها تكون غنيمةً تُقسم بين الغانمين كالمنقول، وتكون أرضَ عُشرٍ لا خراجَ عليها كما أحياه المسلمون.
الثانية: أن الإمام بالخيار، إن شاء قسمَها وكانت كذلك عُشْريةً غيرَ خراجيةٍ، وإن شاء وقفَها على المسلمين ويضرب عليه خراجًا يكون كالأجرة لها، غيرَ مقدَّرِ المدة بل إلى الأبد، فهذه عُشْريةٌ خراجيةٌ.
فإن استمرت في يد الكفار ففيها الخراج، زرعوها أو لم يزرعوها، ولا عُشْرَ عليهم، وإن أسلموا لم يُسقِط الإسلام خراجَها، ويجب عليهم فيها العُشْرُ، فيجتمع العشر والخراج بسببين مختلفين، العُشْر على المُغَلّ والخراج على رقبة الأرض، هذا قول الجمهور.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يجتمع العُشر والخراج في أرضٍ (2)، بل إن أُخِذ ممن هي في يده الخراجُ لم يؤخذ منه العشر، وإن أُخِذ منه العشرُ لم يؤخذ منه الخراج. ورُوي في ذلك حديث باطلٌ لا أصلَ له، وليس من كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “لا يجتمع العُشْر والخراج” (3).
_________
(1) انظر: “الأحكام السلطانية” لأبي يعلى (ص 163)، و”المغني” (4/ 189)، و”الفروع” (10/ 296).
(2) انظر: “الأحكام السلطانية” للماوردي (ص 215)، و”المغني” (4/ 199)، و”الاختيار لتعليل المختار” (1/ 114).
(3) يراجع في تضعيفه وبيان بطلانه: “الكامل” لابن عدي (7/ 2710)، و”المجروحين” (3/ 124)، و”المجموع” (5/ 455)، و”فتح القدير” لابن الهمام (6/ 41، 42). قال شيخ الإسلام: إن المرفوع منه كذب باتفاق أهل الحديث، “مجموع الفتاوى” (25/ 55) و”منهاج السنة” (7/ 430). وإنما روي عن عكرمة مقطوعًا من قوله. أخرجه يحيى بن آدم (ص 24) وابن زنجويه (382). وانظر: “الأموال” لأبي عبيد (1/ 173)، و”الاستخراج” لابن رجب (ص 452).
(1/144)
وشبهة هذا القول أن الخراج في الأصل إنما هو جزية الأرض، فهو بمنزلة خراج الرؤوس، فهو على الكفار بمنزلة الجزية على رؤوسهم، وهو عوضٌ عن العُشر الذي يجب بالإسلام وبدلٌ عنه، فلو لم يوضع على الأرض لتعطَّلتْ إذا كانت مع كافرٍ عن العشر والخراج، فكان في ذلك نقصٌ على المسلمين فقام خراجُها مقام العُشْر، فإذا أسلموا أخذوا بالعشر، ولم يُجمع عليهم بين العشر والخراج في حال الإسلام، كما لم يُجمع عليهم بينهما في حال الكفر، بل إذا سقطت الجزية بالإسلام ــ وهي خراج الرؤوس ـــ فكذلك الخراج الذي هو جزية الأرض. ولهذا كره الصحابة – رضي الله عنهم – للمسلم الدخول في أرض الخراج؛ لأنه يسقط ما عليها من الخراج بدخوله فيها.
وأما الجمهور فنازعوه في ذلك وقالوا: الخراج على رقبة الأرض زُرِعتْ أو لم تُزرع، والعُشْر في مُغَلِّها سواءٌ كانت مِلكًا أو عاريةً أو إجارةً، ولم يوضع الخراج بدلًا عن العشر، بل وُضِع حقًّا للمسلمين في رقبة الأرض. وإنما لم يجتمع على الكافر العشر والخراج لأن العُشر زكاةٌ وليس من أهلها، فلا تُؤخذ منه كما لم تؤخذ من مواشيه وأمواله.
قالوا: وإنما كره الصحابة – رضي الله عنهم – الدخولَ في أرض الخراج؛ لأن
(1/145)
المسلم إذا دخل فيها التزم ما عليها من الخراج وهو صَغارٌ في الأصل، فلا ينبغي أن يلتزمه ويُقِرَّ به، ولما كان تابعًا للأرض كان باقيًا ببقائها تابعًا لها، ويزول بزوالها وتعطَّل نفعها، كما تسقط الجزية بزوال الرقبة أو عجزها عن الأداء. ولا تَنافِيَ بين اجتماع الحقَّين في العين الواحدة بسببين مختلفين، كما يجب عليه في الصيد المملوك إذا أتلفه في الإحرام قيمتُه لمالكه والجزاءُ لحقِّ الله، وكما لو قتل أمةً بالزنا غُرِّم قيمتها لسيدها ولزِمه الحدُّ لحقِّ الله سبحانه، وكذلك لو قتل عبدًا خطأً لزِمتْه قيمته لسيده والكفَّارة للمساكين، ونظائر ذلك كثيرةٌ. وهذا النوع من الأرض هو المعروف بوضع الخراج.
فصل
ويجوز بيع هذه الأرض وهبتها ورَهْنها وإجارتها، ونص الإمام أحمد في رواية ابنه صالحٍ (1) على جواز جعلها صداقًا. وهذا صريحٌ في جواز بيعها وهبتها.
وقال بعض المتأخرين من أصحابه: لا يجوز نقل الملك فيها، لأنها وقفٌ فلا يجوز بيعها. وهذا ليس بشيء، فإنها تُورَث بالاتفاق والوقف لا يُورَث، وتُجعل صداقًا بالنص والوقف لا يجوز فيه ذلك.
ومنشأ الشبهة أنهم ظنوا أن وقفها بمنزلة سائر الأوقاف التي تجري مجرى إعتاق العبد وتحريره لله. وهذا غلطٌ، بل معنى وقفها تركُها على حالها لم يقسمها بين الغانمين، لا أنه أنشأ تحبيسها وتسبيلها على المسلمين،
_________
(1) لم أجدها في “مسائله”، وطبعتها ناقصة.
(1/146)
هذا لم يفعله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا عمر ولا أحدٌ من الأئمة بعده، بل وقفُها هو ترك قسمتها وإبقاؤها على حالها، وضربُ الخراج عليها يؤخذ ممن تكون في يده، والوقف إنما امتنع بيعه لما في بيعه من إبطال وقفيته، وأما هذه فإذا بيعت أو انتقل الملك فيها فإنها تنتقل خراجيةً كما كانت عند الأول. وحق المسلمين في الخراج، وهو لا يسقط بنقل الملك، فإنها تكون عند المشتري كما كانت عند البائع، كما تكون عند الوارث كما كانت عند موروثه (1). ولهذا جاز بيع المكاتب ولم يكن بيعه مُسقِطًا لسبب حريته بالأداء، فإنه ينتقل (2) إلى المشتري كما كان عند البائع.
فصل
النوع الرابع (3): ما صُولح عليه المشركون من أرضهم على أن يُقِرَّها في أيديهم بخراجٍ يضرب عليها، وتكون الأرض لهم، فهذا الخراج جزيةٌ تؤخذ منهم ما أقاموا على شركهم، وتسقط عنهم بإسلامهم، ولهم بيعُ هذه الأرض والتصرف فيها كيف شاؤوا، فإن تبايعوها بينهم كانت على حكمها في الخراج، وإن بيعت على مسلم سقط عنه خراجها. وإن بيعت من ذمي فهل
_________
(1) في المطبوع: “مورّثه” خلاف الأصل. والشخص الذي يموت يُورَث، فهو موروث، والذي يرثه: وارث. وفي القرآن: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً … }.
(2) في المطبوع: “لا ينتقل”، وهو يقلب المعنى.
(3) انظر: “الأحكام السلطانية” لأبي يعلى (ص 163)، وللماوردي (ص 228)، و”المغني” (4/ 191)، و”الفروع” (10/ 297).
(1/147)
يسقط عنه خراجها؟ ذكر القاضي (1) فيه احتمالين:
أحدهما: لا يسقط خراجها لبقاء كفره.
والثاني: يسقط لخروجه بالذمة من عقد من صُولح عليها (2).
وقد قال أحمد في رواية ابن منصورٍ (3)، وذُكِر له قول سفيان: ما كان من أرضٍ صولح عليها ثم أسلم أهلها فقد وُضِع الخراج منها (4)، وما كان من أرضٍ أُخِذت عنوةً ثم أسلم صاحبها وُضِعت عنه الجزية وأُقِرَّ على أرضه بالخراج. فقال أحمد: جيدٌ.
قال (5): فقد نصَّ على أن الخراج يسقط عن أرض الصلح بالإسلام.
قال القاضي: وهذا محمولٌ على أن تلك الأرضين لهم، ولم يُسقِطها عن أرض العنوة؛ لأنها وقفٌ لجماعة المسلمين فهي أجرةٌ عنها.
فصل
النوع الخامس: أرضٌ جلا عنها أهلُها فخلَّصها المسلمون بغير قتالٍ، فهذه حكمها حكم العنوة، تُترك (6) وقفًا ويُضرب عليها خراجٌ يكون أجرةً
_________
(1) في “الأحكام السلطانية” (ص 164).
(2) في الهامش: “عليه” بعلامة خ. والمثبت موافق لما في “الأحكام السلطانية”.
(3) كما في المصدر السابق. وهو في “مسائله” (1/ 246 – 247).
(4) كذا في الأصل، وفي المصدرين السابقين: “عنها”.
(5) أي أبو يعلى في “الأحكام السلطانية” (ص 165).
(6) في الأصل: “ترك”.
(1/148)
لمن تقرُّ في يده من مسلم وكافرٍ، ولا تتغير بإسلام ولا ذمةٍ.
قال أحمد في رواية ابنه صالحٍ وأبي الحارث (1): كلُّ أرضٍ جلا (2) عنها أهلها بغير قتالٍ فهي فيءٌ.
فصل
النوع السادس: أرضٌ صالحناهم على نزولهم عنها، وتكون ملكًا لنا وتقرُّ (3) في أيديهم بالخراج، فحكم هذه الأرض أيضًا حكم أرض العنوة: أنها تصير وقفًا للمسلمين وتقرُّ في أيديهم بالخراج، ولا يسقط هذا الخراج بالإسلام، ولا يُمنعون من المناقلة فيها، ويكون ذلك مناقلةً عن حق الاختصاص، لا بيعٌ (4) لرقبة الأرض إذ ليست ملكًا لهم، وإنما يُعاوَضون على منفعة الاختصاص.
وليس في ذلك إبطال حق المسلمين من رقبة الأرض ولا نفعها، فلا يُمنعون منه، ويكونون أحقَّ بهذه الأرض ما أقاموا على صلحهم، ولا تنتقل من أيديهم سواءٌ أسلموا أو أقاموا على كفرهم، كما لا تُنتزع الأرض من مستأجرها. وإن صاروا ذمةً وضُربت عليهم الجزية لم يسقط عنهم الخراج، بل يُجمع عليهم الخراج والجزية.
_________
(1) “الأحكام السلطانية” لأبي يعلى (ص 148، 164).
(2) في الأصل: “خلا” تصحيف.
(3) في هامش الأصل: “وتعشر” بعلامة خ.
(4) كذا في الأصل مرفوعًا.
(1/149)
فصل
وأما أصل وضع الخراج، فقال أبو عبيد (1): حدثنا الأنصاري ــ ولا أعلم إسماعيل إلا وقد حدَّثَناه أيضًا ــ عن سعيد بن أبي عَروبة، عن قتادة، عن أبي مِجْلَزٍ لاحق بن حميدٍ: أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بعث عمار بن ياسرٍ إلى أهل الكوفة على صلاتهم وجيوشهم، وعبد الله بن مسعودٍ على قضائهم وبيت مالهم، وعثمان بن حُنيفٍ على مساحة الأرض، ثم فرض لهم في كل يومٍ شاةً بينهم: شطرها وسواقطها لعمّارٍ، والشطر الآخر بين هذين. ثم قال: ما أرى قريةً يؤخَذ منها كل يومٍ شاةٌ إلا سريعًا خرابها. قال: فمسحَ عثمان الأرضَ، فجعل على جَرِيب (2) الكَرْم عشرة دراهم، وعلى جريب النخل خمسة دراهم، وعلى جريب القَصَب (3) ستة دراهم، وعلى جريب البُرّ أربعة دراهم، وعلى جريب الشعير درهمين، وعلى أهل الذمة في أموالهم التي يختلفون بها في كل عشرين درهمًا درهمًا، وجعل على رؤوسهم ــ وعطَّل النساء والصبيان من ذلك ــ أربعةً وعشرين كل سنةٍ، ثم كتب بذلك إلى عمر – رضي الله عنه – فأجازه ورضي به. فقيل لعمر: تجار الحرب كم نأخذ منهم
_________
(1) في “الأموال” (182)، وعنه في “المحلى” (6/ 116). وأخرجه أيضًا أبو عبيد (105) وابن أبي شيبة (10826)، وابن المنذر في “الأوسط” (6/ 43) والبيهقي في “الكبير” (6/ 354، 9/ 136) من طرقٍ عن سعيد به مطولًا ومختصرًا. وأخرجه عبد الرزاق (10128) عن معمر عن قتادة به. وهو مرسل، فإن أبا مجلز لم يُدرك عمر.
(2) الجريب: قطعة متميزة من الأرض يختلف مقدارها بحسب اصطلاح أهل الأقاليم.
(3) المقصود به قصب السكر.
(1/150)
إذا قدموا علينا؟ قال: فكم يأخذون منكم إذا قدمتم عليهم؟ قالوا: العشر، قال: فخذوا منهم العشر.
حدثنا أبو معاوية عن الشيباني عن محمد بن عبيد الله الثقفي قال: وضع عمر – رضي الله عنه – على أهل السواد على كل جريبٍ عامرٍ درهمًا وقفيزًا، وعلى جريب الرطبة خمسة دراهم وخمسة أَقفِزةٍ، وعلى جريب الشجر عشرة دراهم وعشرة أقفزةٍ، وعلى رؤوس الرجال ثمانيةً وأربعين، وأربعةً وعشرين، واثني عشر (1).
حدثنا إسماعيل بن مجالدٍ عن أبيه مجالد بن سعيد عن الشعبي أن عمر – رضي الله عنه – بعث عثمان بن حُنيفٍ، فمسح السواد فوجده ستةً وثلاثين ألف ألف جريبٍ، فوضع على كل جريبٍ درهمًا وقفيزًا (2).
قال أبو عبيد (3): فأرى حديث الشعبي هذا غير تلك الأحاديث، ألا ترى أن عمر – رضي الله عنه – إنما كان أوجب الخراج على الأرض خاصةً بأجرةٍ مسماةٍ في حديث مجالدٍ، وإنما يذهب (4) الخراج مذهب الكراء، وكأنه أكرى كلَّ جريبٍ بدرهم وقفيزٍ في السنة، وألغى من ذلك النخلَ والشجرَ فلم يجعل لها أجرةً.
_________
(1) “الأموال” (184)، وأخرجه ابن أبي شيبة (33381) أيضًا عن أبي معاوية به.
(2) “الأموال” (185)، ومن طريقه أخرجه ابن المنذر في “الأوسط” (6/ 44). وإسناده ضعيف، إسماعيل بن مجالد وأبوه ضعيفان، ورواية الشعبي عن عمر مرسلة.
(3) “الأموال” (1/ 137).
(4) في “الأموال”: “مذهب”.
(1/151)
قال (1): وهذا حجةٌ لمن قال: السواد فيءٌ للمسلمين، وإنما أهلها عمَّالٌ لهم فيها بكراءٍ معلومٍ يؤدونه، ويكون باقي ما تُخرِج الأرض لهم. وهذا لا يجوز إلا في الأرض البيضاء، ولا يكون في النخل والشجر؛ لأن قَبالتهما لا تطيب بشيء مسمًّى، فيكون بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه وقبل أن يُخلق. وهذا الذي كرهه الفقهاء من القَبالة.
حدثنا شريكٌ، عن الأعمش، عن عبد الرحمن بن زيادٍ الإفريقي قال: قلت لابن عمر: إنَّا نتقبل الأرضَ فنصيب من ثمارها ــ قال أبو عبيد: يعني الفضل ــ قال: ذلك الربا العَجْلان (2).
حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن حميدٍ، عن الحسن قال: جاء رجل إلى ابن عباس – رضي الله عنهما – فقال: أتقبَّل منك الأُبُلَّةَ (3) بمائة ألفٍ، فضربه ابن عباس مئةً وصلبه حيًّا (4).
حدثنا عبد الرحمن عن شعبة عن جَبَلة بن سُحيمٍ قال: سمعت ابن عمر يقول: القَبالات ربًا (5).
حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي هلال عن ابن
_________
(1) الكلام مستمر في المصدر السابق.
(2) “الأموال” (186).
(3) بلدة على شاطئ دجلة في زاوية الخليج الذي يدخل إلى مدينة البصرة. انظر: “معجم البلدان” (1/ 77).
(4) “الأموال” (187).
(5) “الأموال” (189). وأخرجه ابن زنجويه (265) من طريق آخر عن شعبة به.
(1/152)
عباس – رضي الله عنهما – قال: القبالات حرام (1).
قال أبو عبيد (2): معنى هذه القَبالة المنهي عنها أن يتقبَّل الرجل النخل والشجر والزرع النابت قبل أن يستحصد ويُدرك، وهو مفسَّرٌ في حديث يروى عن سعيد بن جبيرٍ.
ثنا عبَّاد بن العوّام، عن الشيباني قال: سألت سعيد بن جبيرٍ عن الرجل يأتي القريةَ فيتقبلها وفيها النخل والشجر والزرع والعلوج، فقال: لا يتقبلها (3) فإنه لا خير فيها (4).
قال أبو عبيد (5): وإنما أصل كراهة هذا أنه بيعُ ثمرٍ لم يبدُ صلاحه ولم يُخلَق بشيء معلومٍ. فأما المعاملة على الثلث والربع وكراء (6) الأرض البيضاء فليسا من القَبالات ولا يدخلان فيها، وقد رُخِّص في هذين، ولا نعلم المسلمين اختلفوا في كراهة القبالات. انتهى.
وهذا الذي ذهب إليه أبو عبيد هو المعروف عند الأئمة الأربعة، وجعلوا كراء الشجر بمنزلة بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه.
_________
(1) “الأموال” (188). وهذا الأثر قبل الأثر السابق في المطبوع.
(2) عقب الآثار السابقة.
(3) في الأصل: “لا تقبلها”. والتصويب من “الأموال”.
(4) “الأموال” (190).
(5) “الأموال” (1/ 138).
(6) في الأصل: “وكرى”.
(1/153)
ونازعهم في ذلك آخرون وقالوا: ليست إجارة الشجر من بيع الثمر في شيء، وإنما هي بمنزلة إجارة الأرض لمن يقوم عليها ويزرعها ليستغلَّها. وهذا مذهب الليث بن سعدٍ، وأحد الوجهين في مذهب أحمد اختاره شيخنا (1) وأبو الوفاء بن عقيل، وهو الذي نختاره. وقد فعله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فيما حكاه عنه الإمام أحمد في مسائل ابنه صالحٍ (2) أنه قبَّل حديقة أُسيد بن حُضيرٍ ثلاث سنين، وقضى به دينًا كان عليه. ولم ينكره على عمر أحدٌ من الصحابة مع شهرة هذه القصة، وهذا إن لم يكن إجماعًا إقراريًّا فهو قول عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -، ولا نعلم له مخالفًا (3).
ومن العجب أخذُ أبي عبيد بحديث مجالدٍ ــ وهو ضعيفٌ ــ عن الشعبي عن عمر وهو منقطعٌ، وإنما فيه السكوت عن جريب الشجر، لم يذكره بنفيٍ ولا إثباتٍ، وتركُه حديثَ أبي معاوية عن الشيباني عن محمد بن عبيد الله
_________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى” (20/ 547 – 549، 30/ 224 وما بعدها). وذكره المؤلف في “زاد المعاد” (6/ 519) و”إغاثة اللهفان” (2/ 673)، وابن مفلح في “الفروع” (7/ 130).
(2) لم أجده في “مسائله” المطبوعة. وأثر عمر قد أخرجه ابن سعد في “الطبقات” (3/ 561) وحرب بن إسماعيل ــ كما في “زاد المعاد” (6/ 522) و”مسند الفاروق” (2/ 45) ــ وابن عساكر في “التاريخ” (9/ 93 – 95) من طرق بنحوه. وصحَّح شيخ الإسلام إسناد حرب في “مجموع الفتاوى” (29/ 479، 30/ 225).
(3) في الأصل: “مخالف”.
(1/154)
الثقفي، وهؤلاء كلهم أئمةٌ حفّاظٌ، وقد حفظ الثقفي ما لم يحفظ الشعبي وأنه جعل على جريب الكرم عشرة دراهم، قال: ولم يذكر النخل، وهذا يدل على أنه حفظ القصة وميَّز بين ما ذكره وما لم يذكره، فهذا عمر وعثمان بن حُنيفٍ قد وضعا على الشجر أجرةً لازمةً مؤبَّدةً، ولا مخالفَ لهم من الصحابة.
وقد صرَّح أبو عبيد والفقهاء بعده بأن الخراج أجرةٌ، قال (1): ومعنى الخراج في كلام العرب إنما هو الكراء والغلَّة، ألا تراهم يسمُّون غَلَّة الأرض والدار والمملوك خراجًا؟ ومنه حديث النبي – صلى الله عليه وسلم -: “الخراج بالضمان” (2). وكذلك حديثه الآخر أنه احتجم، حجَمَه أبو طَيبة فأمر له بصاعين، وكلَّم أهله فوضعوا عنه من خراجه (3). فسمَّى الغلَّة خراجًا. فأرض العنوة يؤدِّي أهلُها إلى الإمام الخراج كما يؤدي مستأجر الأرض والدار كراءها إلى ربها
_________
(1) “الأموال” (1/ 141).
(2) أخرجه أحمد (24224) وأبو داود (3508 – 3510) والترمذي (1285، 1286) والنسائي (4490) وابن حبان (4927، 4928) والحاكم (2/ 15)، والبيهقي (5/ 321 – 322) عن عائشة من طرق ضعيفة أو معلولة. قال أحمد كما في “العلل المتناهية” (2/ 107): ما أرى له أصلًا، وقال البخاري كما في “العلل الكبير” للترمذي (ص 191): حديث منكر. على أن الترمذي قال في الموضع الأول ــ وقد أخرجه من طريقين ــ: حسن صحيح، وفي الثاني: حسن غريب. وصححه ابن حبان والحاكم، وحسَّنه الألباني في “الإرواء” (1315) بمجموع طرقه. وعليه العمل عند أهل العلم، كما ذكره الترمذي وغيره. وانظر: “الجرح والتعديل” لابن أبي حاتم (8/ 347).
(3) أخرجه البخاري (2102) ومسلم (1577) من حديث أنس.
(1/155)
الذي يملكها، ويكون للمستأجر ما زرع وغرس فيها.
ولما علم أبو عبيد أن وضع الخراج على جريب الشجر إجارةٌ له قال (1): أرى حديث مجالدٍ عن الشعبي هو المحفوظ. وقام أبو عبيد وقعد في فعل عمر – رضي الله عنه – هذا، وقال (2): لا أعرف (3) وجهه، وهي القبالة المكروهة. وقد بينّا أن حديث الشيباني أصح وأصرح، ويؤيده حديث تقبيل حديقة أُسيد بن حُضيرٍ، ومعه القياس ومصلحة الناس، فإنه لا فرقَ في القياس بين إجارة الأرض لمن يقوم عليها حتى تنبت وبين إجارة الشجر لمن يقوم عليها حتى تطلع، كلاهما في القياس سواءٌ.
فإن قيل: مستأجر الأرض هو الذي يبذرها.
قيل: قد يستأجرها لما ينبت فيها من الكلأ، وكونه يبذرها مثل قيامه على الشجر بالسقي والزبار (4) والإصلاح، وقد حكم الله سبحانه بصحة إجارة الظئر للبنها (5)، وهو بمنزلة إجارة الشجر لثمرها، وطردُ هذا ما جوَّزه مالك وغيره من إجارة الشاة والبقرة للبنها مدةً معلومةً، وهذا أحد الوجهين في
_________
(1) في “الأموال” (1/ 138).
(2) “الأموال” (1/ 145).
(3) في هامش الأصل: “أعلم” بعلامة خ.
(4) قال البعلي في “المطلع” (ص 263): هو في عرف زماننا: تخفيف الكرم من الأغصان الرديئة وبعض الجيدة، يقطعها بمنجل ونحوه.
(5) في قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]. وانظر: “زاد المعاد” (6/ 520)، و”أعلام الموقعين” (2/ 281).
(1/156)
مذهب أحمد اختاره شيخنا (1).
والفرق بين إجارة الشجر لمن يخدمها ويقوم عليها حتى تُثمِر، وبين بيع الثمرة قبل بُدُوِّ صلاحها= من ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن العقد هنا وقع على بيع عينٍ، وفي الإجارة وقع على منفعةٍ، وإن كان المقصود منها العين فهذا لا يضر، كما أن المقصود من منفعة الأرض المستأجرة للزراعة العين.
الثاني: أن المستأجر يتسلَّم الشجر فيخدمها ويقوم عليها كما يتسلَّم الأرض، وفي البيع البائع هو الذي يقوم على الشجر ويخدمها، وليس للمشتري الانتفاع بظلّها ولا رؤيتها ولا نَشْر الثياب عليها، فأين أحد البابين (2) من الآخر؟
الثالث: أن إجارة الشجر عقدٌ على عينٍ موجودةٍ مدةً (3) معلومةً لينتفع بها في سائر وجوه الانتفاع، وتدخل الثمرة تبعًا وإن كان هو المقصود، كما قلتم في نفع البئر ولبن الظئر أنه يدخل تبعًا وإن كان هو المقصود. وأما البيع فعقدٌ على عينٍ لم تُخلَق بعدُ، فهذا لونٌ وهذا لونٌ.
وسر المسألة: أن الشجر كالأرض، وخدمته والقيام عليه كشقِّ الأرض وخدمتها والقيام عليها، ومُغَلُّ الزرع كمغلّ الثمر، فإن كان في الدنيا قياسٌ
_________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى” (30/ 230)، و”زاد المعاد” (6/ 524).
(2) في المطبوع: “الرأيين” خطأ.
(3) “مدة” ساقطة من المطبوع.
(1/157)
صحيح فهذا منه.
وأما ما حكاه أبو عبيد عن ابن عباس وابن عمر – رضي الله عنهم – من منع القَبالة فليس مما نحن فيه، بل هو من القَبالة الفاسدة، وهي أن يستأجر الرجل الضَّيعةَ بكلِّ ما فيها من زرعٍ وشجرٍ وعُلُوجٍ وما فيها من إجارة بيوتٍ أو حوانيت وغير ذلك، فيتقبل الجميع ويدفع إلى ربها مالًا معلومًا، فهذه إجارةٌ فاسدةٌ تتضمن أنواعًا من المحذور، كما يفعله كثيرٌ من الناس ويسمونها الكراء (1)، ولهذا قال ابن عمر – رضي الله عنهما -: ذلك الربا.
ومعلومٌ أن إجارة الشجر بالدراهم والدنانير لا يدخلها ربًا، والذي منعها لم يمنعها لأجل الربا، وهذا بيِّن في حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – حيث قال له الرجل: أتقبَّلُ منك الأُبلَّة، فلم يطلب منه إجارة الشجر، بل يتقبل البلد كلَّه بما فيه، ويدفع إليه مالًا معلومًا، فهذا لا يجيزه أحدٌ، وقد صرّح بهذا في حديث ابن عباس سعيدُ بن جبيرٍ فقال: الرجل يأتي القريةَ فيتقبلُها وفيها النخل والزرع والشجر والعلوج (2). فهذه هي القَبالات المحرمة، لا التي فعلها أمير المؤمنين وأقرَّه عليها جميع الصحابة، ولا تتمُّ مصلحة الناس إلا به (3)، كما لا تتم مصلحتهم إلا بإجارة الأرض، فإن الرجل يكون له البستان وفيه الأشجار الكثيرة، ولا يمكنه أن يُفرِد كل نوع ببيعٍ إذا بدا صلاحه.
_________
(1) في الأصل: “الكرى”. وفي هامشه: “البلوى” بعلامة خ. ويمكن أن تكون الكلمة “التّكرِّي”.
(2) تقدَّم.
(3) كذا في الأصل، وفي المطبوع: “بها”.
(1/158)
والمساقاة (1) من الفقهاء من يمنعها كأبي حنيفة، ومنهم من يخصُّها بالنخل والكَرْم، ومن جوَّزها في جميع الشجر (2). فقد تتعذر عليه المساقاة في بستانه، والرجل الذي له غرضٌ في الثمار قد لا يُحسِن (3) المساقاة، فتتعطل مصلحة صاحب البستان ومصلحة المستأجر، وفي هذا فسادٌ لا تأتي به الشريعة.
ومصلحة الإجارة أعظم مما يقدر فيها من الفساد بكثيرٍ، والشريعة جاءت بتقديم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة.
ولما كانت مصالح الناس لا تتم إلا بذلك وضع المانعون حيلًا للجواز، بأن يُؤجِروه بياضَ الأرض بأضعافِ أضعافِ ما تساوي، ثم يساقونه على ثمر الشجر بأدنى أدنى ما يكون، فلا الإجارة مقصودةٌ لهما ولا المساقاة، فقد دخلا على عقدٍ لم يقصده واحدٌ منهما، فالذي قصده هذا وهذا حرامٌ، والذي عقدا عليه لم يقصداه. ولم تكن هذه المسألة من مقصود الكتاب، وإنما وقعت في طريق الخراج الذي هو أخو الجزية وشقيقها.
وقد أشار النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى الخراج في الحديث الصحيح المتفق عليه (4)
_________
(1) هي أن يدفع الرجل شجره إلى آخر ليقوم بسقيه وعملِ سائر ما يحتاج إليه، بجزء معلوم له من ثمره.
(2) انظر: “المغني” (7/ 530).
(3) في هامش الأصل: “يمس” بعلامة خ.
(4) كذا، وإنما أخرجه مسلم (2896) من حديث أبي هريرة، ولم يخرجه البخاري.
(1/159)
من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – فقال: “مَنَعتِ العراقُ درهمَها وقَفيزَها (1)، ومنعت الشام دينارها ومُدْيَها (2)، ومنعتْ مصر دينارها وإردَبَّها (3)، وعُدتم كما بدأتم” ثلاث مراتٍ. والمعنى: سيُمْنَع ذلك في آخر الزمان (4).
فصل (5)
فأما قدر الخراج المضروب فمعتبرٌ بما تحتمله الأرض، نصَّ عليه أحمد في رواية أحمد بن داود (6)، وقد سئل عن حديث عمر – رضي الله عنه -: وضع على جريب الكَرْم كذا، وعلى جريب الزرع كذا، أهو شيء موظَّفٌ (7) على الناس لا يُزاد عليهم أو إن رأى الإمام غيرَ هذا زاد ونقص؟ قال: بل هو على رأي الإمام، إن شاء زاد عليهم وإن شاء نقص. وقال: وهو بيِّنٌ في حديث عمر
_________
(1) القفيز: مكيال معروف لأهل العراق، وهو ثمانية مكاكيك، والمكُّوك صاع ونصف.
(2) المُدْي: مكيال معروف لأهل الشام، يسع خمسة عشر مكُّوكًا.
(3) الإردبُّ: مكيال معروف لأهل مصر، يسع أربعة وعشرين صاعًا.
(4) هذا الحديث من أعلام النبوة، فإن هذه الأقطار الثلاثة لم تكن قد فتحت في عصر النبوة، ففيه إشارة إلى أنها ستُفتح ويجيء حقّ بيت المال من أموالها وغلّاتها، ثم تحدث الفتن وينقطع عنها ذلك. وهذا ما حدث بسبب ضعف الدولة الإسلامية المركزية وتفككها.
(5) اعتمد فيه المؤلف على “الأحكام السلطانية” لأبي يعلى (ص 165 – 167).
(6) كذا في الأصل. وعند أبي يعلى: “محمد بن داود”. وكلاهما من تلاميذ الإمام أحمد كما في “طبقات الحنابلة” (1/ 43، 296)، إلَّا أن محمدًا أشهر، فقد كان من خواصّ أصحابه ورؤسائهم، وكان الإمام يكرمه ويحدّثه بأشياء لا يحدِّث بها غيره.
(7) من: وظَّف عليه الخراجَ ونحوه: قدَّره وألزمه. وعند أبي يعلى: “موصوف” تحريف.
(1/160)
– رضي الله عنه -: إن زدتُ عليهم كذا لا يُجهِدهم، إنما نظر عمر – رضي الله عنه – إلى ما تُطيق الأرض.
فقد نصَّ على أن ذلك موقوفٌ على اجتهاد الإمام، وليس بموقوفٍ على تقدير عمر – رضي الله عنه -.
ونقل العباس بن محمد الخلال عن أحمد أنه قال: والإمام يُصيِّره (1) في أيديهم مقاسمةً على النصف وأقلَّ إذا رضي بذلك الأَكَرة (2)، يُحمِّلُهم بقدر ما يُطيقون.
ونصَّ في موضع آخر أنه ليس للإمام أن يقهره على ما أقرَّه عليه عمر – رضي الله عنه -.
وقال في رواية يعقوب بن بختان: لا يجوز للإمام أن ينقص، وله أن يزيد.
وقال في رواية ابن منصورٍ (3): ووضع عليها عمر – رضي الله عنه – ــ يعني السواد ــ الخراج على كل جريبٍ درهمًا وقفيزًا من الحنطة والشعير، وما سوى ذلك من القصب (4) والزيتون والنخل أشياء موظَّفةً يؤدونها.
_________
(1) عند أبي يعلى: “يقره”.
(2) الأكرة جمع أكّار، وهو الحرَّاث.
(3) هو الكوسج، انظر “مسائله” (1/ 244).
(4) كذا في الأصل، وفي المصدر المذكور: “القَضْب”.
(1/161)
وقال: خراج السواد ــ في (1) حديث عمرو بن ميمونٍ ــ قفيزٌ ودرهمٌ.
قال الخلال في “جامعه” (2): أبو عبد الله يقول: إن للإمام النظر في ذلك؛ فيزيد عليهم وينقص على قدر ما يُطيقون. وقد ذكر ذلك عنه غير واحدٍ، وما قاله عباس الخلال عن أبي عبد الله فهو قولٌ أوَّل له، انتهى.
وقد اختلفت الرواية عن عمر – رضي الله عنه – في قدر الخراج، ففي حديث عمرو بن ميمونٍ قال: شهدت عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وأتاه ابن حُنيفٍ فجعل يكلِّمه، فسمعناه يقول له: آللهِ (3) لئن وضعتُ على كل جريبٍ من الأرض درهمًا وقفيزًا لا يُجهِدها (4).
وفي حديث محمد بن عبيد الله الثقفي قال: وضع عمر على أهل السواد على كل جريبٍ عامر أو غامرٍ درهمًا وقفيزًا، وعلى جريب الرطبة خمسة دراهم (5).
وذكر الشعبي عن عمر أنه بعث عثمان بن حُنيفٍ إلى السواد، فوضع على جريب الشعير درهمين، وعلى جريب الرطبة أربعة دراهم، وعلى
_________
(1) كذا في الأصل. وفي هامشه: “على” بعلامة خ. وكذا عند أبي يعلى.
(2) لم أجده في المطبوع منه، والمؤلف ينقل عن “الأحكام السلطانية” لأبي يعلى.
(3) في المطبوع: “تالله” خلاف ما في الأصل و”الأحكام السلطانية”.
(4) أخرجه أبو عبيد في “الأموال” (108، 191) وابن أبي شيبة (33388) وأبو القاسم البغوي في “مسند ابن الجعد” (148) والبيهقي (9/ 196).
(5) تقدَّم.
(1/162)
جريب القصب ستة دراهم، وعلى جريب النخل ثمانيةً، وعلى جريب الكَرْم عشرةً (1).
هذا ما حكاه أبو عبيد. قال أحمد (2): أعلى وأصح حديث في أرض السواد حديث عمرو بن ميمونٍ.
وهذا الاختلاف عن عمر – رضي الله عنه – يدلُّ على أن الخراج ليس بمقدَّرٍ شرعًا بحيث لا تجوز فيه الزيادة ولا النقصان، بل هو باعتبار الطاقة. ويجب أن يكون وضع الخراج مُراعًى في كل أرضٍ بحسب ما تحتمله، وذلك يختلف من جهة جودة الأرض ورداءتها ومن جهة الزرع والشجر، فإن منه ما تكثر قيمته ومنه ما تَقِلُّ، ومن جهة خفَّة مؤونة السقي وكثرتها، فإن منها ما يشرب بالدَّوالي والنَّواضِح (3)، ومنها ما يشرب بالأمطار والأنهار، فلا بدَّ لواضع الخراج من اعتبار هذه الأوصاف، ليعلم قدر ما تحتمله الأرض، فيقصد العدل في وضعه، فلا يُجحِف بأربابها ولا بمستحقي الخراج. ويجب عليه أن يدعَ لأرباب الأرض بقيةً يَجْبُرون بها النوائب والجوائح، كما أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – في خرص الثمار في الزكاة أن يترك لأهل النخل الثلث أو الربع (4)،
_________
(1) تقدَّم.
(2) كما في “الأحكام السلطانية” (ص 166).
(3) الدوالي جمع دالية، وهي الناعورة أو الساقية يديرها الماء أو الحيوان. والنواضح جمع ناضح، دابة يُستقى عليها.
(4) كما عند أحمد (15713) وأبي داود (1605) والترمذي (643) والنسائي (2491) وابن خزيمة (2319) وابن حبان (3280) والحاكم (1/ 402) من حديث عبد الرحمن بن مسعود بن نيار عن سهل بن أبي حثمة مرفوعًا.
وعبد الرحمن هذا لم يوثِّقه معتبر، وبه أعل الحديث ابنُ القطان في “بيان الوهم” (4/ 215) والألباني في “ضعيف أبي داود – الأصل” (2/ 115). ثم إنه قد خولف في رفعه، فقد أخرجه مسدد (922 – المطالب) والحاكم (1/ 403) والبيهقي (4/ 124) من طريق بُشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة عن عمر أنه قال له لمَّا بعثه إلى خرص التمر: إذا أتيتَ أرضًا فَاخْرِصْها ودَعْ لهم قدر ما يأكلون. قال الحافظ في “المطالب”: إسناده صحيح.
(1/163)
وقال: “إن في المالِ السابلةَ والعريَّةَ والواطئة (1) ” (2).
فصل
ووضع الخراج ضربان:
أحدهما: أن يوضع على الأرض.
والثاني: أن يوضع على الزرع.
فإن وُضع على الأرض اعتُبر حولُه بالسنة الهلالية دون الشمسية، وهي التي تُعتبر بها الآجال شرعًا؛ كالزكاة والدية والجزية وغيرها.
_________
(1) في الأصل: “الوطنة” تصحيف. والواطئة: ما تأكل السابلة منه، سمَّوها واطئة لوطئهم الأرض. والعرية: ما يعرى للصِّلات في الحياة. انظر: “الأحكام السلطانية” للماوردي (ص 187)، ولأبي يعلى (ص 120).
(2) أخرجه أبو عبيد في “الأموال” (1342) وابن أبي شيبة (10665) وأبو داود في “المراسيل” (118) عن مكحول عن النبي – صلى الله عليه وسلم – مرسلًا بنحوه، وليس فيه “السابلة”، إذ الواطئة بمعناها. وروي نحوه عن عمر موقوفًا، كما عند أبي عبيد (1343) والبيهقي (4/ 124) من رواية الأوزاعي عن عمر بلاغًا.
(1/164)
وإن وضع على الزرع؛ فإن جعله مقاسمةً كان معتبرًا بكمال الزرع وتصفيته، وكان ذلك عامَه وأجلَه. وإن وضعه على مَكِيلته وأخذ على كل مقدارٍ معينٍ درهمًا أو نحوه اعتبر أيضًا بكمال الزرع. ووضعُه على رقبة الأرض أحوط؛ لأنه قد يُفرِّط في زرعها فيتعطَّل خراجها، وإذا وضع تأبَّد ما بقيت الأرض على حالها من شربها وقبولها للزرع.
فإن تعطَّلت وبارتْ أو انقطع شربها فهو نوعان:
أحدهما: أن يكون ذلك من جهة أهلها وهم قادرون على إصلاحها، فهذا لا يسقط الخراج لأنه بمنزلة الإجارة، فإذا عطَّل المستأجر الانتفاع لم تسقط عنه الأجرة.
الثاني: أن يكون بسببٍ لا صنعَ لهم فيه، كانقطاع المياه وإجلاء العدو لهم عن أرضهم، وجورٍ لحِقَهم من العمَّال لم تمكنهم الإقامةُ عليه، وتخرب (1) الأرض بالأمطار والسيول ونحو ذلك، فهذا يُسقِط الخراج عنهم حتى تعود الأرض كما كانت، ويتمكنوا من الانتفاع بها.
وعلى الإمام أن يَعمُر الأرض من بيت المال من سهم المصالح، ولا يجوز إلزامهم بعمارتها من أموالهم، فإن سألهم أن يَعْمُروها من أموالهم ويَعتدَّ لهم بما أنفقوا عليها من خراجها فرضُوا بذلك جاز، ولم يُجبَروا عليه إلا أن يكون سهم المصالح عاجزًا عن ذلك، ولا يضرُّ بهم عمارتُهم بالخراج، وفي ذلك مصلحةٌ لهم ولأصحاب الفيء، فهذا يسوغ له إلزامهم به.
_________
(1) في الأصل: “وعرض”. والتصويب من هامشه.
(1/165)
فإن أمكن الانتفاع بتلك الأرض بعد أن بارتْ لصيدٍ أو مرعًى جاز أن يستأنف عليها خراجًا بحسب ما تحتمله، ولا يجوز أن يحمل عليها خراج الأرض العامرة.
فإن قيل: فهل للإمام أن يضع على الأرض المَوَات التي لا تزرع خراجًا يكون على مصايدها ومراعيها؟
قيل: لا يجوز ذلك لأنها مباحةٌ، ومَن أحياها ملَكَها، فكيف يجوز أن يوضع عليها الخراج؟
وسئل أحمد عن الصيد في أَجَمةِ قُطْرَبُّل (1)، وقيل له: إنهم يمنعوننا أن نصيد فيها حتى نعطيهم شيئًا، فقال للسائل: احرِصْ على أن لا تعطيهم شيئًا، فإن شارطْتَهم فلا تَخُنْهم (2).
فصل (3)
فإن زادت منفعة الأرض زيادةً عارضةً لا يُوثق بدوامها، لم يجز أن يزيد في خراجها بذلك، وإن وثق بدوام ذلك راعى المصلحة لأرباب الأرض وأرباب الفيء، واعتمد في الزيادة ما يكون عدلًا بين الفريقين.
_________
(1) في المطبوع: “فطَوْبَل” بالواو، جعله المحقق نحتًا من (طوبى لك)، فأبعد النجعة. والصواب ما أثبتناه من الأصل. وقطربل: اسم قرية بين بغداد وعُكبرا ينسب إليها الخمر. انظر “معجم البلدان” (4/ 371). والأجمة: الشجر الكثيف الملتف.
(2) انظر: “الأحكام السلطانية” لأبي يعلى (ص 168).
(3) مأخوذ من المصدر السابق (ص 169).
(1/166)
فصل (1)
وخراج الأرض ــ إن أمكن زرعها ــ واجبٌ وإن لم تُزرع. نصَّ عليه في رواية الأثرم ومحمد بن أبي حربٍ، وقد سئل عن رجل في يده أرضٌ من الخراج لم يزرعها يكون عليه خراجها؟ قال: نعم، العامر والغامر. وإذا كان خراج ما أخلَّ (2) بزرعها يختلف باختلاف الزرع= أُخِذ منه فيما أخلَّ بزرعه خراجُ أقلِّ ما يُزرع فيها؛ لأنه لو اقتصر (3) على زرعه لم يعارض فيه.
ولو كانت أرض الخراج لا يمكن زرعها في كل عامٍ، بل تُراح في عامٍ أو تُزرع عامًا دون عامٍ= روعي حالها في ابتداء وضع الخراج عليها، واعتُبِر العدل لأهل الأرض وأهل الفيء في خصلةٍ من ثلاثٍ:
إما أن يجعل خراجها على الشطر من خراج ما يُزرع في كل عامٍ.
وإما أن يمسح كل جريبين منها بجريبٍ، ليكون أحدهما للمزروع والآخر للمتروك.
وإما أن يضعه بكماله على مساحة المتروك والمزروع، ويستوفي على أربابه الشطر من مساحة أرضهم.
وإذا كان خراج الزرع والثمار مختلفًا باختلاف الأنواع، فزُرِع أو غُرِس
_________
(1) هذا الفصل أيضًا مأخوذ من المصدر السابق (ص 169).
(2) في الأصل: “أجله” تحريف. والتصويب من المصدر السابق.
(3) في الأصل: “افترص” تحريف.
(1/167)
ما لم ينصّ عليه، اعتبر خراجه بأقرب (1) المنصوصات شبهًا به.
فصل (2)
ولا يجوز أن ينقل أرض الخراج إلى العشر ويعطِّل خراجها، ولا أرضَ العشر إلى الخراج ويعطِّل عشرها، بل إذا كانت خراجيةً وزرعت ما يجب فيه العشر اجتمعا فيها كما تقدم.
وإذا سُقي بماء الخراج أرضُ عشرٍ كان المأخوذ منها عُشرا، وإذا سُقي بماء العشر أرضُ خراجٍ كان المأخوذ منها خراجًا اعتبارًا بالأرض دون الماء.
وقال أبو حنيفة: يعتبر حكم الماء فيؤخذ بماء الخراج [الخراجُ] وبماء العشرِ العشرُ. وكأنه نظر إلى أن الماء مادة الزرع، والأرض وعاءٌ له، فهو مستودعٌ فيها، كما لو وطئ رجل أمةَ غيره بريبةٍ فأولدها، فالولد للواطئ دون مالك الأمة. واعتبار الأرض أولى؛ لأن الخراج مأخوذٌ عن الأرض لا عن الماء، والزرع إنما يكون في الأرض، نحو من أخذ التراب والهواء المختص بها والبذر، فهذه ثلاثة أجزاءٍ تختص الأرض، والماء جزءٌ من أربعةٍ.
وأما مسألة الوطء فهي حجةٌ عليه، فإنه لو وطئها عالمًا بأنها أمة الغير كان الولد لمالك الأم، وإنما ألحق في هذه الصورة بالواطئ للسرية، فإن الولد يتبع اعتقاد الواطئ شرطًا. ولو نَزا فحلٌ على رَمَكةٍ (3) فأولدها كان
_________
(1) في الأصل: “أقرب”. والمثبت من مصدر المؤلف.
(2) اعتمد فيه المؤلف على “الأحكام السلطانية” لأبي يعلى (ص 170).
(3) الرمكة: الفرس البِرذَونة تُتّخذ للنسل.
(1/168)
الولد لصاحب الرمكة دون صاحب الفحل بالاتفاق. وأيضًا فالماء ليس عليه خراجٌ ولا عُشر، فلا يعتبر.
قال القاضي (1): وعلى هذا الخلاف منع أبو حنيفة صاحبَ الخراج أن يَسقي بماء العشر، ومنع صاحبَ العشر أن يسقي بماء الخراج، ولم يمنع أحمد واحدًا (2) منهما أن يسقي بأي الماءين شاء.
وقد قال أحمد في رواية صالحٍ: الخراج مثل الجزية على الرقبة.
وقال في رواية ابن منصورٍ (3): وإنما [هو] جزية رقبة الأرض.
فدل على أنه على رقبةٍ، فالاعتبار بها دون الماء الذي لم يوضع عليه خراجٌ.
فصل (4)
وإذا بنى في أرض (5) الخراج دورًا وحوانيت كان خراجها مستحقًّا عليه. هذا ظاهر كلام أحمد، وأنَّ (6) الخراج لا يتوقف على الزرع والغرس، فإنه قال في رواية يعقوب بن بختان، وقد سأله: ترى أن يخرج الرجل عما في يده من دارٍ أو ضَيعةٍ على ما وظّف عمر – رضي الله عنه – على كل جريبٍ فيتصدَّق به؟
_________
(1) في “الأحكام السلطانية” (ص 170).
(2) في الأصل: “واحد”.
(3) “مسائله” (1/ 246).
(4) انظر: “الأحكام السلطانية” لأبي يعلى (ص 170).
(5) في الأصل: “الأرض”. والمثبت من المصدر السابق.
(6) في المطبوع: “لأن”. والمثبت من الأصل موافق لما في المصدر السابق.
(1/169)
فقال: ما أجودَ هذا! فقال له يعقوب: بلغني عنك أنك تعطي عن دارك الخراج فتتصدق به، قال: نعم.
قلت: إنما كان أحمد يفعل ذلك؛ لأن بغداد من أرض السواد التي وضع عليها عمر الخراج، فلما بُنيت مساكن راعى أحمد حالها الأولى التي كانت عليها من عهد عمر – رضي الله عنه – إلى أن صارت دورًا.
قال القاضي (1): وقد قيل: إن ما لا يُستغنى عن بنائه في مقامه في أرض الخراج لزارعها وفلّاحها عفوٌ لا خراجَ عليه؛ لأنه لا يستقلُّ (2) فيها إلا بمسكنٍ يسكنه، وما بناه للكراء والتوسعة التي لا يحتاج إليها فعليه خراجه.
قلت: وهذا هو الذي استمر عليه عمل الناس قديمًا وحديثا، وهو غير ما كان يفعله أحمد، على أن أحمد كان يفعل ذلك احتياطًا، ولم يأمر به أهل بغداد عامةً، بل عُدَّ من جملة ورعه أنه كان يُخرِج الخراج عن داره فيتصدق به، وغيره لم يكن يفعل ذلك ولا كان أحمد يُلزِم به الناس، وقد صرَّح أصحاب أحمد والشافعي وغيرهم أنه لا خراج على المساكن.
فصل (3)
وإذا آجَرَ (4) أرض الخراج أو أعارها فخراجها على المُؤجِر والمعير.
_________
(1) في “الأحكام السلطانية” (ص 170).
(2) عند أبي يعلى: “لا يستقر”.
(3) انظر: “الأحكام السلطانية” (ص 171).
(4) ضبطه في المطبوع: “أجّر”. وهو من الأخطاء الشائعة.
(1/170)
وقد قال أحمد في رواية أبي الصقر في أرض السواد يتقبلها الرجل: يؤدِّي وظيفةَ عمر، ويؤدِّي العشر بعد وظيفة عمر.
وظاهر هذا أن الخراج على المستأجر، فإنه هو الذي يؤدي العشر. وكذلك قال في رواية محمد بن أبي حربٍ (1).
وقد صرَّح به أبو حفصٍ (2) فقال: باب الدليل على أن من استأجر أرضًا فزرعَها كان الخراج والعشر جميعًا عليه دون صاحب الأرض، ثم ساق في هذا الباب رواية أبي الصقر المتقدمة.
وقد يُحتجُّ لهذا القول بأن الخراج من تمام تربة الأرض، فهو بمنزلة السقي والحرث وتهيئتها للزراعة بما يصلح لها.
والصواب القول [الأول] (3)، فإن منفعة الأرض إنما هي للمُؤجِر، وما يأخذه من الأجرة عوضٌ عن تلك المنفعة، فلا يكون النفع له والخراج على غيره، فانتفاعه بالأرض تارةً يكون بنفسه وتارةً يكون بنائبه (4)، والمستأجر
_________
(1) كما في “الأحكام السلطانية” (ص 171).
(2) هو العكبري المتوفى سنة 387، له “المقنع” و”شرح مختصر الخرقي”. انظر: “طبقات الحنابلة” (2/ 163). وفي مصدر المؤلف “الأحكام السلطانية” (ص 171): “صرّح به أبو حفص في الجزء الثاني من الإجارة”. وانظر: “الاستخراج” لابن رجب (ص 407).
(3) زيادة ليستقيم المعنى.
(4) في المطبوع: “بنيابته” خلاف الأصل.
(1/171)
نائبٌ عنه، وكذلك المستعير إنما دخل على أن ينتفع بالأرض مجَّانًا. والمذهب عند القاضي رواية واحدةٌ، وعند أبي حفصٍ على روايتين.
وقد حكى أبو عبد الله (1) بن حمدان في “رعايته” بعد أقوالٍ فقال: وخراج العنوة على ربّها، مسلمًا كان أو كافرًا، وعنه: بل على مستأجرها ومستعيرها، وقيل: بل على المستأجر دون المستعير، وقيل عكسه.
قال القاضي (2): وعندي أن كلام أحمد لا يقتضي ما قال أبو حفصٍ؛ لأنه إنما نصّ على رجل تقبَّلَ أرضًا من السلطان فدفعها إليه بالخراج، وجعل ذلك أجرتها، لأنها لم تكن في يد السلطان بأجرةٍ، بل كانت لجماعة المسلمين. والمسألة التي ذكرناها إذا كانت في يد رجل من المسلمين بالخراج المضروب فآجَرها، فإن الثاني لا يجب عليه الخراج، بل يجب على الأول، لأنها في يده بأجرةٍ هي الخراج، وهي في يد الثاني بأجرةٍ عن الخراج.
فصل (3)
وإذا اختلف العامل وربُّ الأرض في حكمها، فادعى العامل أنها أرض خراجٍ وادعى ربها أنها أرض عشر، وقولهما ممكنٌ، فالقول قول المالك دون العامل، فإن اتُّهِم (4) استحلف.
_________
(1) في الأصل: “أبو عبيد الله” خطأ. انظر: “ذيل طبقات الحنابلة” (2/ 331) وغيره.
(2) في “الأحكام السلطانية” (ص 171).
(3) انظر: “الأحكام السلطانية” لأبي يعلى (ص 171).
(4) في الأصل: “اتمها” تحريف.
(1/172)
ويجوز أن يُعتمد في مثل هذا على الشواهد الديوانية السلطانية، إذا عُلِم صحتها ووُثِق بكتابتها، ولم يتطرق إليها تهمةٌ.
فصل
وإذا ادعى ربُّ الأرض دفْعَ الخراج لم يُقبل قوله، ولو ادعى دفع الزكاة ويعرفها (1) بنفسه قُبِل قوله.
والفرق بينهما أن الزكاة عبادةٌ، فهي كالصوم والصلاة والاغتسال من الجنابة، وقول المسلم في ذلك مقبولٌ من غير يمينٍ. وأما الخراج فهو حقٌّ عليه بمنزلة الديون، فلا يُقبل قوله إلا ببينةٍ، فهو كالجزية.
فصل
ومن أَعسر بالخراج أُنظِر به إلى يساره ولم يسقط، وإن أعسر بالجزية سقطت عنه ولم تستقر في ذمته.
والفرق بينهما أن الجزية لا تجب مع الإعسار، فهي كالزكاة والنفقة الواجبة. وأما الخراج فهو أجرة الأرض، فيجب مع اليسار والإعسار كأجرة الدور والحوانيت، ولهذا لما ضربه عمر – رضي الله عنه – على الأرض لم يُراعِ فيه فقيرًا من غني.
فصل
وإذا مَطَل بالخراج مع يساره حُبِس حتى يؤدِّيه، فإن أصرَّ على الحبسِ (2)
_________
(1) كذا في الأصل، ولعله “ويصرفها”.
(2) أي: مع الحبس.
(1/173)
ضُرِب. قال أصحابنا: وهكذا كل من عليه حقٌّ إذا امتنع من أدائه ضُرِب حتى يؤدّيه.
فإن وُجِد له مالٌ غير الأرض الخراجية بِيع في أداء ما عليه ما لا يضرُّ به، فلا تُباع ثيابه ولا بقره ولا مسكنه ولا آلات الحرث، فإن لم يوجد له غير الأرض (1) الخراجية وكان في بيع بعضها ما يؤدِّي عنه خراجَه ولا يضرُّ به بِيعَ منها بقدر ذلك، أو آجرَه وقبض أجرته عوضًا عن الخراج، وإن أضرَّ به بيعُها لم يبعْ وأُنظِر إلى الميسرة.
فصل (2)
وإذا عجز رب الأرض عن عمارتها قيل له: إما أن تُؤجِرها وإما أن ترفع يدك عنها لتدفع إلى من يقوم بعمارتها، ولم تُترك على خرابها وإن دفع خراجها (3). أومأ إليه أحمد، فقال في رواية حنبلٍ: من أسلم على شيء فهو له، ويؤخذ منه خراج الأرض، فإن ترك أرضه فلم يَعمُرها فذلك إلى الإمام، يدفعها إلى من يَعمُرها لا تخرب.
فقد منع من ترك عمارة أرض الخراج على وجه الخراب، فإنها تصير بالخراب في حكم المَوات، فيتضرَّر أهل الفيء وغيرهم بتعطيلها وإن أُدِّي عنها الخراج.
_________
(1) في الأصل: “أرض”.
(2) انظر: “الأحكام السلطانية” لأبي يعلى (ص 172). وفيه الروايات عن الإمام أحمد.
(3) بعدها في المصدر السابق: “لئلا تصير بالخراب مَواتًا”.
(1/174)
وهذا بخلاف ما لو أحيا أرضًا ميتةً ثم تركها لم يُطالَب بعمارتها، نصَّ عليه أحمد، فقال في رواية حربٍ في رجل أحيا أرضَ المَوات، فيحفر فيها بئرًا أو يسوق إليها ماءً أو يحيط عليها حائطًا ثم يتركها، قال: هي له. قيل له: فهل في ذلك وقتٌ إذا تركها؟ قال: لا.
وكذلك قال في رواية أبي الصقر: إذا أحيا أرضًا ميتةً وزرعها ثم تركها حتى عادت خرابًا فهي له، وليس لأحدٍ أن يأخذها منه.
والفرق بين المسألتين أنه بإحيائها قد ملكها، فهو مخيَّرٌ بين الانتفاع بملكه وبين تركه، وغايتها أن تعود مَواتًا كما كانت. وأما أرض الخراج فهي مِلْكٌ لأصحاب الفيء، فليس له تعريضها للخراب وتعطيلها عليهم.
فصل
واختلفت الرواية عن أحمد فيما لا يناله الماء من الأرض هل يوضع عليه خراجٌ أم لا، وعنه في ذلك روايتان.
ووجه الوضع أن ما لا يناله الماء تبعٌ لما يناله (1)، فينتفع به في مصالح ما يناله الماء.
ووجه المنع أنه لا ينتفع به ولا يمكن زرعه، فهو كالفقير العاجز عن الجزية.
واختلفت الرواية عنه في المَوات الذي لا يمكن زرعه هل يوضع عليه
_________
(1) “تبع لما يناله” ساقطة من المطبوع.
(1/175)
الخراج؟ على روايتين، نصَّ في إحداهما على أنه إن أمكن أن يُحييه من هو في يده أو غيره أُخِذ منه، وإلّا فلا.
فصل
ومن كانت بيده أرضٌ خراجيةٌ فهو أحقُّ بها بالخراج كالمستأجَرة، ويَرِثها وارثه على الوجه الذي كانت عليه بيد الموروث، وليس للإمام نزعُها من يده (1) ودفعُها إلى غيره، فإن نزل هو عنها وآثرَ بها (2) غيرَه صار الثاني أحقَّ بها.
فصل
ومن ظُلِم في خراجه فهل له أن يحتسب بالقدر الذي ظُلِم فيه من العُشر؟ فيه روايتان عن أحمد (3):
إحداهما: ليس له ذلك، كما لو سُرِق متاعه لم يحتسب به من الزكاة، وهذا أمر العشر والخراج، يجبان بسببين مختلفين لمستحقين مختلفين، فهذا للمساكين وهذا لأهل الفيء.
والثانية: له أن يحتسب به، لأنهما يجبان في الأرض بسبب المُغَلّ، فإذا
_________
(1) في الأصل: “بيده”. والمثبت يقتضيه السياق.
(2) في المطبوع: “أو اشتراها” خلاف الأصل.
(3) انظر: “الهداية” للكلوذاني (ص 220).
(1/176)
تعدَّى عليه العامل وجب فيه التقدير (1) في أحدهما من ربح الآخر.
فصل
وللإمام ترك الخراج وإسقاطُه عن بعض من هو عليه وتخفيفُه عنه، بحسب النظر والمصلحة للمسلمين، وليس له ذلك في الجزية. والفرق بينهما أن الجزية المقصود بها إذلال الكافر (2) وصَغاره، وهي عوضٌ عن حَقْن دمه، ولم يمكِّنه الله من الإقامة بين أظهر المسلمين إلا بالجزية إعزازًا للإسلام وإذلالًا للكفر. وأما الخراج فهو أجرة الأرض وحقٌّ من حقوقها، وإنما وُضِع بالاجتهاد، فإسقاطه كله بمنزلة إسقاط الإمام أجرة الدار والحانوت عن المكتري.
فصل
ولا خراجَ على مَزارع مكة وإن فُتحت عنوةً.
وقيل: يُضرب عليها الخراج كسائر أرض العنوة. وهذا القول من أقبح الغلط في الإسلام، وهو مردودٌ على قائله. ومكة أجلُّ وأعظم من أن يُضرب على أرضها الجزية، وهي حرم الله وأمنُه ودار نُسكِ الإسلام، وقد أعاذها مما هو دون الخراج بكثيرٍ. وهذا القول استدراكٌ على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعلى أبي بكر وعمر وعثمان والأئمة بعدهم إلى زمن هذا القائل، وكيف يسوغ ضرب
_________
(1) في الأصل: “وصيغة التعدير”. ولا معنى له.
(2) في الأصل: “الكفار” خلاف ما يقتضيه السياق.
(1/177)
الخراج الذي هو أخو الجزية وشقيقها ورضيعُ لبنها على خيرِ بقاع الله وأحبِّها إلى الله، ودارِ النُّسك، ومتعبَّدِ الأنبياء، وقريةِ رسول الله التي أخرجته، وحرَمِ رب العالمين وأمْنِه ومحلِّ بيته، وقبلةِ أهل الأرض.
قال أبو عبيد (1): صحت الأخبار عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه افتتح مكة وأنه منَّ على أهلها، فردَّها عليهم، فلم يقسِمْها ولم يجعلها فيئًا. فرأى بعض الناس أن هذا الفعل جائزٌ للأئمة بعده. ولا نرى مكة يشبهها (2) شيء من البلاد من جهتين:
إحداهما: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان قد خصَّه الله من الأنفال والغنائم بما لم يجعله لغيره، وذلك لقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1]، فنرى هذا كان خاصًّا له.
والجهة الأخرى: أنه قد سنَّ لمكة سُننًا لم يَسُنَّها (3) لشيء من سائر البلاد.
حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجرٍ عن يوسف بن ماهَك عن أمِّه (4) عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: قلت يا رسول الله، ألا
_________
(1) “الأموال” (1/ 129).
(2) في الأصل: “بستها” تحريف. والتصويب من “الأموال”.
(3) في الأصل: “من لمكة سببًا لم يسببها” تحريف. والتصويب من المصدر المذكور.
(4) في الأصل: “عن أبيه”. والتصويب من “الأموال” وبقية المصادر.
(1/178)
تبني لك بيتًا أو بناءً يُظِلُّك من الشمس؟ ــ تعني بمنًى (1) ــ فقال: “إنما هي مُناخٌ لمن سَبق” (2).
وحدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مجاهدٍ قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إن مكَّة حرامٌ حرَّمها الله، لا يَحلُّ بيعُ رِباعها (3) ولا أجورُ بيوتها” (4).
وحدثنا شريك (5)، عن إبراهيم بن مهاجرٍ، عن مجاهدٍ قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إن مكة حرامٌ” ــ أُراه رفعه ــ قال: “مكة مُناخٌ؛ لا يُباع رِباعُها، ولا تُؤخذ إجارتُها، ولا تَحِلُّ ضالَّتها إلا لِمُنشِدٍ” (6).
_________
(1) في “الأموال”: “بمكة”. والمثبت من الأصل يوافق المصادر الأخرى.
(2) “الأموال” (169)، وأخرجه أيضًا أبو داود (2019) والترمذي وحسَّنه (881) وابن راهويه (1286) والدارمي (1980) وابن خزيمة (2891) والحاكم (1/ 467) كلهم من طريق إسرائيل به. وأعله ابن خزيمة في تبويبه عليه، وابن القطَّان في “بيان الوهم” (3/ 468) والألباني في “ضعيف سنن أبي داود – الأم” (2/ 190) بجهالة مُسيكة (أم يوسف بن ماهَك). والأظهر أنه حسن كما قال الترمذي، فإن مُسيكة تابعية كانت تخدم عائشة – رضي الله عنها -، وقد أثنى عليها ابنُها خيرًا كما في رواية ابن راهويه في “مسنده”.
(3) الرباع جمع رَبْع: المنزل ودار الإقامة والمحلّة.
(4) “الأموال” (170)، وأخرجه ابن أبي شيبة (14898) أيضًا عن أبي معاوية به. والحديث مرسل.
(5) في الأصل: “إسرائيل”. والتصويب من “الأموال” وبقية المصادر.
(6) “الأموال” (171)، وأخرجه ابن أبي شيبة (14899، 14910) والطحاوي في “معاني الآثار” (4/ 49)، كلاهما عن شريكٍ به. والحديث عندهما موقوف بلا شكٍّ في ذلك.
(1/179)
وحُدِّثتُ عن محمد بن سَلَمة الحرَّاني، عن أبي عبد الرحيم (1)، عن زيد بن أبي أُنيسة، [عن أبي الزبير]، عن عبيد بن عميرٍ بنحوه، وزاد فيه (2): “لا تحلُّ غنائمها” (3).
حدثنا وكيعٌ عن عبيد الله بن أبي زيادٍ، عن أبي نَجيحٍ (4)، عن عبد الله بن عمرٍو قال: من أكلَ أجورَ بيوت مكة فإنما يأكل في بطنه نار جهنم (5).
حدثنا أبو إسماعيل المؤدِّب، عن عبد الله بن مسلم بن هرمز، عن عطاءٍ أنه كره الكراء (6) بمكة (7).
_________
(1) في الأصل: “أبي عبد الرحمن”. والتصويب من “الأموال”. والزيادة الآتية أيضًا منه.
(2) في الأصل: “وروا”. والتصويب من “الأموال”. وفي المطبوع: “وروايته”.
(3) “الأموال” (172)، وأخرجه عبد الرزاق (9190) عن ابن جريج عن أبي الزبير عن عبيد بن عمير بأطول منه، ولفظه: “لا تحلُّ لُقَطتُها” بدل “غنائمها”. وهو مرسل جيِّد، وعبيد بن عمير من كبار التابعين.
(4) في الأصل: “ابن أبي نجيح”. والتصويب من “الأموال” ومصادر التخريج. وأبو نجيح اسمه يسار الثقفي، له روايات عن بعض الصحابة.
(5) “الأموال” (173)، وأخرجه ابن ابي شيبة (14903) والفاكهي في “أخبار مكة” (2/ 163) وابن زنجويه (245) وابن المنذر في “الأوسط” (6/ 389) والدارقطني (3016، 3017) والبيهقي (6/ 35) من طرق عن عبيد الله بن أبي زياد به موقوفًا. وقد رواه بعضهم عنه فرفعه، وهو خطأ. انظر: “سنن الدارقطني” (3015).
(6) أي أجرة البيوت.
(7) “الأموال” (174)، وأخرجه عبد الرزاق (9210) وابن أبي شيبة (14900) والطحاوي في “معاني الآثار” (4/ 49) من طرق عن عطاء.
(1/180)
حدثنا إسماعيل بن عيّاشٍ عن ابن جريجٍ (1) قال: قرأت كتاب عمر بن عبد العزيز إلى الناس: ينهى عن كراء بيوت مكة (2).
حدثنا إسحاق الأزرق عن عبد الملك بن أبي سليمان قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أمير مكة: أن لا يدَعَ أهلَ مكة يأخذون على بيوت مكة أجرًا، فإنه لا يحلُّ لهم (3).
حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله بن عمر عن نافعٍ [عن ابن عمر] (4) عن عمر أنه نهى أن تُغْلَق دور مكة دون الحاج، وأنهم يضطربون (5) فيما وجدوا منها فارغًا (6).
حدثنا [أبو] (7) إسماعيل، عن عبد الله بن مسلم بن هرمز، عن سعيد بن
_________
(1) في الأصل: “ابن نجيح” تحريف. والتصويب من “الأموال” ومصادر التخريج.
(2) “الأموال” (175)، وأخرجه عبد الرزاق (9212) وابن أبي شيبة (14902) وابن سعد (7/ 356) والأزرقي (2/ 163، 164) من طرق عن عمر بن عبد العزيز.
(3) “الأموال” (176)، وأخرجه البلاذري في “فتوح البلدان” (1/ 49) عن عمرو الناقد، عن إسحاق الأزرق به.
(4) الزيادة من “الأموال”.
(5) أي يضربون خيامهم. وفي الأصل: “طربون”، والتصويب من “الأموال”.
(6) “الأموال” (177)، وإسناده صحيح على رسم الشيخين. وأخرجه أيضًا ابن زنجويه (247) عن محمد بن عُبيد عن عبيد الله بن عمر به.
(7) الزيادة من “الأموال”. وفيه: “يعني المؤدب”.
(1/181)
جبيرٍ عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: الحرم كله مسجدٌ (1).
حدثنا إسماعيل بن جعفرٍ عن إسرائيل عن ثُويرٍ عن مجاهدٍ عن ابن عمر: الحرم كله مسجدٌ (2).
قلت: ويدلُّ عليه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]، وهذا لمكة كلها.
قال أبو عبيد (3): فإذا كانت مكة هذه سننها أنها مُناخُ من سبق إليها، وأنها لا تُباع رِباعها ولا يطيب كراء بيوتها، وأنها مسجدٌ لجماعة المسلمين، فكيف تكون هذه غنيمةً فتُقسَم بين قومٍ يحوزونها دون الناس؟ أو تكون فيئًا فتصير أرضَ خراجٍ؟ [وهي أرضٌ من أرض العرب الأميين الذين كان الحكم عليهم
_________
(1) “الأموال” (179)، وأخرجه ابن أبي حاتم في “تفسيره” (6/ 1776) من طريق آخر عن عبد الله بن مسلم بن هرمز، عن سعيد بن جبير مقطوعًا من قوله. ولأثر ابن عباس طريق آخر صحيح عند ابن زنجويه (252) من رواية ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس.
(2) “الأموال” (178)، وإسناده ضعيف، فيه ثُوير بن أبي فاختة، متروك. وهو محفوظ من قول مجاهد مقطوعًا عليه، كما عند عبد الرزاق (8005) وابن زنجويه (251، 253) من طرق عنه.
تنبيه: ورد هذا الأثر في مطبوعة “الأموال” قبل أثر ابن عباس السابق. ولكن في “الأوسط” لابن المنذر (6/ 391) من طريق أبي عُبيد بنفس ترتيب المؤلف هنا.
(3) “الأموال” (1/ 134).
(1/182)
الإسلام أو القتل، فإذا أسلموا كانت أرضهم أرضَ العشر] (1) ولا تكون خراجًا أبدًا. ثم جاء الخبر عن النبي – صلى الله عليه وسلم – مفسَّرًا حين قال: “لا تحلُّ غنائمها”.
قال: وليس تُشبِه مكة شيئًا من البلاد لِما خُصَّتْ به، فلا حجةَ لمن زعم أن الحكم على غيرها كالحكم عليها، وليست تخلو بلاد العَنْوة ــ سوى مكة ــ من أن تكون غنيمةً كما فعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – [بخيبر] (2)، أو تكون فيئًا كما فعل عمر – رضي الله عنه – بأرض السواد وغيرِه من أرض الشام ومصر، انتهى.
فغلِطَ في مكة طائفتان: طائفةٌ ألحقت غيرها بها، فجوَّزت أن لا تُقسَم ولا يُضرب عليها خراجٌ ولا تكون فيئًا، وطائفةٌ شبَّهت مكة بغيرها فجوَّزت قسمتَها، وضرْبَ الخراج عليها، وهي أقبح الطائفتين وأسوؤهم مقالةً، وبالله التوفيق.
فصل
في كراهة الدخول في أرض الخراج، وما نُقل عن السلف في ذلك
قال أبو عبيد (3): حدثنا إسماعيل ويحيى بن سعيد، عن سعيد بن أبي عَروبة، عن قتادة، عن سفيان (4) العُقيلي، عن أبي عياضٍ، عن عمر – رضي الله عنه –
_________
(1) الزيادة من “الأموال”. وليست في الأصل.
(2) الزيادة من “الأموال”.
(3) في “الأموال” (209)، ومن طريقه ابن المنذر في “الأوسط” (6/ 37).
(4) كذا في الأصل و”الأوسط” والطبعةِ المحققة من “الأموال” بالاعتماد على الأصول، وهو الصواب. وفي كتاب “الخراج” ليحيى بن آدم (163) والطبعة القديمة من “الأموال”: “شقيق” وهو خطأ.
(1/183)
قال: لا تشتروا رقيقَ أهل الذمة فإنهم أهلُ خراجٍ، وأرضهم فلا تتبايعوها، ولا يُقِرَّنَّ أحدكم بالصَّغار بعد إذ نجَّاه الله منه.
وقد ذكر الأنصاري عن أبي عُقَيل عن الحسن قال: قال عمر – رضي الله عنه -: لا تشتروا رقيقَ أهل الذمة ولا أرضَهم. قال: قلت للحسن: ولم؟ قال: لأنهم فيءٌ للمسلمين (1).
وقد ذكر الإمام أحمد هذا الأثر عن يزيد ثنا سعيد عن قتادة (2).
وقال حنبلٌ (3): سمعت أبا عبد الله قال: وأراد عمر أن يوفر الجزية؛ لأن (4) المسلم إذا اشتراه سقط عنه أداء ما يؤخذ منه، والذمي يؤدِّي عنه وعن مملوكه خراجَ جَماجِمهم (5)، إذا كانوا عَبيدًا أخذ منهم جميعًا الجزية.
_________
(1) “الأموال” (210)، وأخرجه الخلال في “الجامع” (276) من طريق آخر عن بشير بن عقبة به. وأخرجه يحيى بن آدم (159، 160، 161) وعبد الرزاق (9960) وابن أبي شيبة (21189) من طرق عن هشام بن حسَّان عن الحسن. ورواية الحسن عن عمر مرسلة، إلا أنه يشهد له الأثر السابق من رواية أبي عياض عن عمر. وتابع الحسن أيضًا ابنُ سيرين عن عمر، كما عند يحى بن آدم (156)، وروايته مرسلة أيضًا. كما أنه تابعه “رجل من غِفار” عند عبد الرزاق (9966).
(2) كما في “الجامع” للخلال (1/ 176). وتقدم الكلام عليه.
(3) كما في المصدر السابق.
(4) في الأصل: “ان”. والتصويب من المصدر السابق.
(5) في الأصل: “كما حمهم” تحريف.
(1/184)
وقال إسحاق بن منصورٍ (1): قلت لأبي عبد الله: قول عمر: “لا تشتروا رقيقَ أهل الذمة”؟ قال: لأنهم أهل خراجٍ يؤدِّي بعضهم عن بعضٍ، فإذا صار إلى المسلم انقطع عنه ذلك.
وفي المسألة عن أحمد روايتان منصوصتان:
إحداهما: لا جزية عليه.
والثانية: عليه الجزية، وهو ظاهر كلام الخرقي (2): فيؤدِّيها عنه سيده. وهي ظاهر المنقول عن عمر وعلي – رضي الله عنهما -.
قال أحمد (3): ثنا يحيى، ثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة أن عليًّا – رضي الله عنه – كان يكره ذلك، يعني: شراء رقيقهم، ويقول: من أجل أنَّ عليهم خراجًا للمسلمين.
وظاهر الأحاديث وجوبها على الرقيق، فإنه لم يجئ في حديث واحدٍ منها اختصاصُ ذلك بالأحرار؛ وإن الجزية ذلٌّ وصَغارٌ وهو أهل لذلك؛ ولأنه قوي مكتسبٌ فلم يُقَرَّ في بلاد المسلمين بغير جزيةٍ. وهذا القول هو
_________
(1) المصدر السابق (1/ 177)، وهو في “مسائله” (2/ 549).
(2) انظر: “المغني” (13/ 220).
(3) المتبادر منه أنه الإمام أحمد، ولكن المقصود هاهنا أبو بكر الخلال، واسمه أحمد بن محمد، والنص في كتابه “الجامع” (1/ 178). ويحيى هو ابنُ أبي طالب جعفرِ بن الزِّبْرِقان البغدادي (ت 275) من شيوخ الخلال. وفي الإسناد انقطاع بيِّنٌ بين قتادةَ وعليٍّ، ووهم من صححه على شرط مسلم!
(1/185)
الذي نختاره.
وقال مهنَّا بن يحيى الشامي (1): أخبرنا إسماعيل ابن عُلَية، عن ابن أبي عَروبة، عن قتادة، عن سفيان العُقيلي، عن أبي عياضٍ قال: قال عمر – رضي الله عنه -: لا تبتاعوا رقيقَ أهل الذمة، فإنما هم أهل خراجٍ يبيع بعضهم بعضًا، وأرضهم فلا تتبايعوها، ولا يُقِرَّنَّ أحدكم بالصَّغار في عنقه بعد إذ أنقذه الله منه.
قال مهنا: فسألته ــ يعني أحمد ــ عن سُفيان العقيلي، فقال: روى عنه قتادة وأيوب السختياني، قلت: أي شيءٍ روى أيوب عن سفيان؟ فقال: هذا الحديث مرسلٌ، لم يذكر فيه أبا عياضٍ. وسألته: لِمَ قال عمر: لا تتبايعوا (2) رقيقَ أهل الذمة، قال: لأنهم يؤدُّون الخراج.
وقال الميموني (3): تذاكرنا قولَ عمر هذا، فقال أبو عبد الله: أظنه كرهه من أنهم كانوا جميعًا في الأصل حيث أُخِذوا مماليك، وإنما ملكوا هؤلاء بالقهر والغلبة منهم لهم، فكره شراءهم، واحتجَّ لقوله أنه نهاهم عن شراء ما في أيدينا، لأنهم إذا كان لهم أن يشتروا منا فلنا أن نشتري ما في أيديهم.
قال: هذا معنى كلام أبي عبد الله.
_________
(1) كما في “الجامع” للخلال (1/ 177).
(2) في “الجامع”: “لا تبتاعوا”.
(3) كما في “الجامع” (1/ 176).
(1/186)
وما أرى الميموني فهِمَ ما قال أحمد، وإلا فلا أدري ما معنى هذا الكلام؟ وعمر – رضي الله عنه – إنما قال: لأنهم أهل خراجٍ يبيع بعضهم بعضًا. وفي لفظ: يؤدّي بعضهم عن بعضٍ.
قال أحمد: فإذا صار إلى المسلم انقطع عنه. هكذا لفظه في رواية إسحاق بن منصورٍ، وقد صرَّح في رواية مهنأ بهذا، وقد سأله عن قول عمر – رضي الله عنه – ما معناه؟ فقال: إنهم يؤدُّون الخراج ويستعبد بعضهم بعضًا، فإذا اشتراه مسلم لم يكن عليه خراجٌ.
قلت: كأنه جعل استعباد بعضهم بعضًا غيرَ مؤثِّرٍ في إسقاط الجزية عنهم، وقد صرَّح به عمر – رضي الله عنه – في قوله: إنهم أهل خراجٍ يبيع بعضهم بعضًا.
وللصحابة ــ لاسيما الخلفاء منهم، لاسيما عمر ــ فقهٌ ونظر لا تبلغه أفهامُ مَن بعدهم، فكأن عمر – رضي الله عنه – لم يُثبِت لرقيقهم أحكامَ الرقيق التي تثبت لرقيق المسلم، وعلم أنهم يبيع بعضهم بعضًا، وذلك لا يُثبِت الرقَّ في الحقيقة، فمنع المسلم من شرائه احتياطًا، ولم يُسقِط الجزية عن رقبته، وألزمها من ادَّعى أنه رقيقه. وهذا من أدقِّ النظر وألطفِ الفقه، وقد وافقه على ذلك علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -، وكره للمسلم شراءهم. وقال: من أجل أنَّ عليهم خراجًا للمسلمين (1).
_________
(1) “وقال: من أجل أنّ عليهم خراجًا للمسلمين” ساقطة من المطبوع.
(1/187)
وقال سعيد: كان قتادة يكره أن يُشترى من رقيقهم شيء إلا ما كان من غير بلادهم زنجيًّا أو حبشيًّا أو خراسانيًّا، لأنه لا يبيع (1) بعضهم بعضًا (2).
قلت: وهذه مسألة قد عمَّ بها الإسلام، ووقع السؤال عنها مرارًا، وهي بيع الكفَّار أولادهم للمسلمين، هل يملكهم المسلمون بذلك ويحلُّ استخدامهم؟
فإن كانوا أهلَ حربٍ جاز الشراء منهم، وملكَ المشتري الأولادَ، لأنه يجوز ملكهم بالسِّباء والسرقة (3)، فيجوز بالشراء.
وإن كانوا ذمةً تحت الجزية لم يجز اشتراء أولادهم، ولا يملكهم المشتري، لأنهم ملتزمون لجريان أحكام الإسلام عليهم، وذلك ينافي حكم الإسلام.
وإن كانوا أهل هُدنةٍ لم تجرِ عليهم أحكام الإسلام، فهل يجوز شراء أولادهم منهم (4)؟ فيه وجهان، والجواز أظهر، فإنهم لم يلتزموا أحكام الإسلام. ومن منع الشراء منهم قال: قد أمنوا بالهدنة من السباء، وهذا في حكم السباء. والفرق بينهما ظاهرٌ، والله أعلم.
_________
(1) كذا في الأصل، وفي “الجامع” بحذف “لا” على أنه تعليل للكراهة.
(2) أسنده الخلال في “الجامع” (1/ 178).
(3) في المطبوع: “بالسبي والرق” خلاف ما في الأصل.
(4) في الأصل: “منه”. والمثبت يقتضيه السياق.
(1/188)
فصل
وأما شراء أرض الخراج، فقال أبو عبيد (1): حدثني أبو نعيمٍ، حدثنا بُكَير بن عامر، عن الشعبي قال: اشترى (2) عُتبة بن فَرْقَدٍ أرضًا على شاطئ الفرات ليتخذ فيها قَضْبًا (3)، فذكر ذلك لعمر فقال: ممن اشتريتَها؟ فقال: من أربابها. فلما اجتمع المهاجرون والأنصار عند عمر قال: هؤلاء أهلُها فهل اشتريتَ منهم شيئًا؟ قال: لا، قال: فاردُدْها على من اشتريتَها منه وخذْ مالَك.
وحدثنا [أبو] نعيمٍ عن سعيد بن سِنانٍ عن عنترة قال: سمعت عليًّا يقول: إياي وهذا السواد (4).
وقال أحمد (5): ثنا وكيع، عن شريكٍ، عن الشيباني، عن عكرمة، عن ابن
_________
(1) في “الأموال” (211). وأخرجه يحيى بن آدم (168، 169) ــ ومن طريقه البيهقي (9/ 141) ــ وابن زنجويه (285، 303) والطبراني في “الكبير” (17/ 132) من طرق عن بكير بن عامر به. وبكير ضعيف، ولكن تابعه مجالد ــ على لين فيه ــ عند الشافعي في “الأم” (9/ 246). ورواية الشافعي وإحدى روايتي يحيى بن آدم صريحتان أن الشعبي رواه عن عُتبة بن فرقد، وإلا فظاهر هذه الرواية الإرسال.
(2) في الأصل: “على شرا”. والتصويب من “الأموال”.
(3) القضب: ما أُكل من النبات المقتضب غضًّا.
(4) “الأموال” (212) ومنه الزيادة، وأخرجه أيضًا الفسوي في “المعرفة والتاريخ” (3/ 83) عن أبي نعيم به. وإسناده لا بأس به.
(5) كما في “الجامع” (1/ 178) ومنه الزيادة.
(1/189)
عباس – رضي الله عنهما – أنه كره شراء [أرض] أهل الذمة.
وإنما كره الصحابة ذلك لأنه يدخل في التزامه الخراج، وهو نوع من الصَّغار، حتى كره ابن عباس قَبالتها.
لذلك قال أبو عبيد (1): ثنا حجاجٌ، عن شعبة، عن حبيب بن أبي ثابتٍ قال: تَبِعْنا ابن عباس فسأله رجل فقال: إني أكون بهذا السواد فأتقبَّل، ولستُ أريد أن أزداد، ولكني أدفع عني الضَّيم (2)، فقرأ عليه ابن عباس: {قَاتِلُوا اُلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ اِلْأَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اَللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ اَلْحَقِّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا اُلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، فقال: لا تَنزِعوه من أعناقهم وتجعلوه في أعناقكم!
قال أبو عبيد (3): وحدثنا أبو معاوية ويزيد، عن الحجَّاج، عن القاسم بن عبد الرحمن ــ قال يزيد: عن أبيه ــ: أن ابن مسعودٍ اشترى من دهقانٍ أرضًا
_________
(1) “الأموال” (213)، وأخرجه عبد الرزاق (10107) عن الثوري عن حبيب به.
(2) في الأصل: “المصم”. والتصويب من “الأموال”.
(3) في “الأموال” (214). وأخرجه يحيى بن آدم (166، 167) وابن زنجويه (306) والبيهقي (9/ 140) من طرق عن الحجاج به، ولم يتابع أحد منهم يزيد بن هارون في زيادة “عن أبيه”. وعليه فالإسناد مرسل، القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود لم يُدرك جدَّه، إلا أنه مغتفر هنا لكون الخبر مما يستفيض مثله في أهل البيت وأفراده. وله طريق آخر: أخرجه يحيى (170) ــ ومن طريقه البيهقي (9/ 140) ــ عن حفص بن غياث، عن مجالد، عن الشعبي مرسلًا.
(1/190)
على أن يَكْفِيَه جزيتَها (1).
قال أبو عبيد (2): أُراه يعني بالشراء هاهنا الاكتراءَ، لأنه لا يكون مشتريًا والجزية على البائع، وقد خرجت الأرض من مِلْكه.
قال: وقد جاء مثله في حديث آخر: حدثني ابن بُكَيرٍ، عن الليث بن سعدٍ، عن عبيد الله بن أبي جعفرٍ، عن القُرَظي قال: ليس بشراء أرض الجزية بأسٌ (3). يريد كراءها. قال: وقال (4) ذلك أبو الزناد.
فابن مسعودٍ اكترى أرضَ الدهقان منه على أن يكفيه الدهقانُ جِزيتَها، فلا يكون ملتزمًا للصَّغار. وهذا قد يَستدلُّ به من يقول: الخراج على المستأجر، وإلا لم يكن للاشتراط على المُؤجِر معنى، وهو عليه بدون الشرط. ويُجاب عنه بأنه شرطٌ ليُقضى (5) العقد، فهذا تأكيدٌ له وتقريرٌ.
وقال قَبيصة بن ذُؤيبٍ: من أخذ أرضًا بجزيتها فقد باء بما باء [به] أهل الكتابين من الذلّ والصَّغار (6).
_________
(1) بعدها زيادة فقرة في المطبوع نقلًا عن “الأموال”، وليست في الأصل، فلم نثبتها لعدم الحاجة إليها.
(2) “الأموال” (1/ 154).
(3) “الأموال” برقم (216).
(4) “وقال” ساقطة من المطبوع، وهي ثابتة في الأصل و”الأموال”.
(5) في المطبوع: “لمقتضى” خلاف الأصل.
(6) “الأمول” (217) بإسناده إلى قبيصة. ومنه الزيادة.
(1/191)
وقال مسلم بن مِشْكَمٍ: من عقد الجزية في عنقه فقد برئ مما عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (1).
وقال عبد الله بن عمرٍو: ألا أُخبركم بالراجع على عقبيه؟ رجل أسلم فحسُنَ إسلامه، وهاجر فحسُنَتْ هجرته، وجاهد فحسن جهاده، فلما قَفَلَ حمل أرضًا بجزيتها، فذلك الراجع على عقبيه (2).
وسئل عبد الله بن عمرٍو فقيل له: [أحدنا] يأتي النَّبَطيَّ فيحمل أرضَه بجزيتها، فقال: أتبدؤون بالصَّغار وتُعطون أفضلَ مما تأخذون؟! (3)
وقال ميمون بن مِهران: ما يَسُرُّني أن لي ما بين الرُّها إلى حَرَّان بخراج خمسة دراهم (4).
قال أبو عبيد: فقد تتابعت الآثار بكراهة شراء أرض الخراج، وإنما كرهها الكارهون من جهتين: إحداهما: أنها فيءٌ للمسلمين. والأخرى: أن الخراج صَغارٌ. وكلاهما داخلٌ في حديثي عمر اللذين ذكرناهما؛ أحدهما قوله: “ولا يُقِرَّنَّ أحدكم بالصَّغار بعد إذ نجَّاه الله منه”، ووافقه على ذلك ابن مسعودٍ وابن عباس وعبد الله بن عمرٍو وقَبيصة بن ذُؤيبٍ وميمون بن مِهرانٍ ومسلم بن مِشْكمٍ في هذه الأحاديث التي ذكرناها. ومذهبه (5) في الفيء قوله
_________
(1) “الأموال” (218) بإسناده إلى مسلم بن مشكم.
(2) “الأموال” (219) بإسناد فيه انقطاع.
(3) “الأموال” (219) بالإسناد السابق. ومنه الزيادة.
(4) “الأموال” (220) بإسناده إلى ميمون.
(5) أي مذهب عمر – رضي الله عنه -.
(1/192)
لعتبة بن فَرقد حين اشترى الأرض: “هؤلاء أهلُها” يعني المهاجرين والأنصار، ووافقه على ذلك علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -.
حدثنا يزيد عن المسعودي عن أبي عون الثقفي قال: أسلم دهقان على عهد علي – رضي الله عنه – (1)، فقال علي: أما أنت فلا جزيةَ عليك، وأما أرضُك فلنا (2).
قلت: قوله: “لا جزيةَ عليك” يريد قد سقط عنك خراج رأسك ــ وهو الجزية ــ بإسلامك، وهذا يدلُّ على أن الإسلام لا يُسقِط الخراج المضروب على الأرض، فإن شاء المسلم أن يقيم بها إقامته به (3)، وإن شاء نزل عنها فسلمها إلى ذمي بالخراج، فإذا كانت الأرض خراجيةً ثم أسلم أُقِرَّت في يده بالخراج. وهو إجارةٌ حكمها حكم سائر الإجارات.
[والخراج] (4) وإن شارك الإجارة في شيء فبينهما فروقٌ عديدةٌ:
منها: أن الإجارة موقَّتةٌ، والخراج غير موقَّتٍ.
ومنها: أن الأجرة غير مقدَّرة، والخراج مقدَّر (5).
_________
(1) “حدثنا يزيد … على – رضي الله عنه – ” ساقطة من المطبوع.
(2) أخرجه أبو عبيد في “الأموال” (222)، وقد تقدَّم.
(3) كذا في الأصل. وفي المطبوع: “أقام بها”.
(4) زيادة ليستقيم السياق.
(5) هذا السطر ساقط من المطبوع.
(1/193)
ومنها: أنه لا يُكره استئجار المسلم لأرض الفيء، ويُكره دخوله فيها بالخراج، كما فعل ابن مسعودٍ.
قال أبو عبيد (1): وأخبرني يحيى بن بكيرٍ أو غيره عن مالك أنه كان ينكر على الليث بن سعدٍ دخولَه فيما دخل فيه من أرض مصر.
قال أبو عبيد (2): وحدثني سعيد بن عُفيرٍ، عن ابن لَهِيعة ونافع بن يزيد ــ وأظنه قال: ــ ويحيى بن أيوب وشيوخِهم أنهم كانوا ينكرون ذلك على الليث أيضًا.
قال أبو عبيد (3): وإنما دخل فيها الليث لأن مصر كانت عنده صلحًا، فلذلك استجاز (4) الدخول فيها. كذلك حدثني عنه عبد الله بن صالحٍ وابن أبي مريم وغيرهما (5).
وحرَّمها آخرون؛ لأنها كانت عندهم عنوةً. قال أبو عبيد (6): وكان أبو إسحاق الفزاري يكره الدخول في بلاد الثَّغر لأنها عَنوة، ولم يتخذ بها زرعًا حتى مات.
_________
(1) “الأموال” (225).
(2) “الأموال” (226).
(3) “الأموال” (1/ 158).
(4) في الأصل: “استخار”. والتصويب من “الأموال”.
(5) في الأصل: “وغيرهم”.
(6) “الأموال” (1/ 158) وقال: حدَّثني بذلك محمد بن عيينة وغيره من أهل الثغر.
(1/194)
قال أبو عبيد (1): ومع هذا كله إنه قد سهَّل في الدخول في أرض الخراج أئمةٌ يُقتدى بهم، منهم من الصحابة: عبد الله بن مسعودٍ، ومن التابعين: محمد بن سيرين وعمر بن عبد العزيز، وكان ذلك رأي سفيان الثوري فيما يُحكى عنه.
فأما حديث ابن مسعودٍ فإن حجَّاجًا حدثني عن شعبة، عن أبي التيَّاح، عن رجل من طيِّئٍ، حسبته قال: عن أبيه، عن عبد الله بن مسعودٍ – رضي الله عنه – قال: نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن التَبَقُّر (2) في الأهل والمال. قال: ثم قال عبد الله: فكيف بمالٍ بِراذانَ (3) وبكذا وبكذا؟! (4)
وذَكر عن ابن سيرين أنه كانت له أرضٌ من أرض الخراج، فكان يعطيها بالثلث والربع (5).
وذَكر عن عمر بن عبد العزيز أنه أعطى أرضًا بجزيتها من أرض السواد (6).
_________
(1) “الأموال” (1/ 162).
(2) في الأصل: “السفر” تصحيف. والتبقر: التوسع في المال وغيره، كما شرحه أبو عبيد في “الأموال” (1/ 163).
(3) المقصود براذان في حديث ابن مسعود هذا: قرية بنواحي المدينة. انظر: “معجم البلدان” (3/ 13).
(4) “الأموال” برقم (239).
(5) “الأموال” (240) بإسناده إلى ابن سيرين.
(6) “الأموال” (241) بإسناده إلى نُعيم بن عبد الله ــ وهو كاتب عمر بن عبد العزيز ــ أن عمر أعطاه … إلخ. وأخرجه ابن أبي شيبة (21190) إلا أن فيه “نعيم بن سلامة”، والأول أصح.
(1/195)
قال أبو عبيد (1): وكان عمر بن عبد العزيز يتأوَّل بالرخصة في أرض الخراج أن الجزية التي قال الله: {حَتَّى يُعْطُوا اُلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ
وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، إنما هي على الرؤوس لا على الأرض.
حدثنا عبد الله بن صالحٍ عن الليث بن سعدٍ عن عمر بن عبد العزيز قال: إنما الجزية على الرؤوس، وليس على الأرض جزيةٌ (2).
يقول (3): فالداخل في أرض الخراج ليس بداخلٍ في هذه الآية، والذي يروى عن سفيان أنه قال: إذا أقرَّ الإمام أهل العَنوة في أرضهم توارثوها وتبايعوها (4)، فهذا يبيِّن لك أن رأيه الرخصة فيها.
قال (5): فالعلماء قد اختلفوا في أرض الخراج قديمًا وحديثًا، إلا أن أهل الكراهة أكثر، والحجة في مذهبهم أبين. وقد احتجَّ قومٌ من أهل الرخصة بإقطاع عثمان مَن أقطعَ من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – بالسواد.
_________
(1) “الأموال” (1/ 163).
(2) “الأموال” (242).
(3) أبو عُبيد عقب الأثر السابق.
(4) أسنده الطحاوي في “معاني الآثار” (3/ 246).
(5) أي أبو عبيد في “الأموال” (1/ 164).
(1/196)
قال (1): وإنما كان اختلافهم في الأرض المُغِلَّة التي يلزمها الخراج من ذوات المزارع والشجر، فأما المساكن والدور فما علمنا أحدًا كره شراءها (2) وحيازتها وسكناها، وقد اقتسمت الكوفة خِطَطًا في زمن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وهو أذن في ذلك، ونزلها (3) من أكابر أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – رجالٌ، منهم: سعد بن أبي وقاصٍ وعبد الله بن مسعودٍ وعمّارٌ وحذيفة وسلمان وخبَّابٌ وأبو مسعودٍ وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، ثم قدِمَها عليٌّ فيمن معه من الصحابة (4)، فأقام بها خلافته كلها، ثم كان التابعون بعدُ بها، فما علمنا أحدًا منهم ارتاب بها، ولا كان في نفسه منها شيء، وكذلك سائر السواد.
* * * *
_________
(1) الكلام مستمر له في المصدر السابق.
(2) في الأصل: “كراءها”. والتصويب من “الأموال”.
(3) كذا في الأصل. وفي “الأموال”: “وأقر لها”. وكلاهما محتمل.
(4) في “الأموال”: “أصحابه”.
(1/197)
ذكر أحكام أهل الذمة في أموالهم
أما أموالهم التي يتَّجرون بها في المقام أو يتخذونها للقُنية، فليس عليهم فيها صدقةٌ، فإن الصدقة طُهرةٌ وليسوا من أهلها.
وأما زروعهم وثمارهم التي يستغلُّونها من أرض الخراج فليس عليهم فيها شيء غير الخراج.
وأما ما استغلُّوه من الأرض العُشْرية فهي مسألة اختلف فيها السلف والخلف، ونحن نذكر مذاهب الناس فيها وأدلة تلك المذاهب.
قال أبو عبيد (1): أما أرض العشر تكون للذمي ففيها أربعة أقوالٍ.
حدثنا محمد عن (2) أبي حنيفة قال: إذا اشترى الذمي أرضَ عُشرٍ تحولتْ أرضَ خراجٍ (3).
قال: وقال أبو يوسف: يُضاعَف عليه العشر.
قال أبو عبيد (4): وكذلك كان إسماعيل بن إبراهيم ــ ولم أسمعه منه ــ يحدث به عن خالدٍ الحذّاء وإسماعيل بن مسلم ورجلٍ ثالث ذكره، أنهم
_________
(1) في “الأموال” (1/ 174).
(2) في الأصل: “بن” خطأ. ومحمد هو ابن الحسن الشيباني.
(3) “الأموال” (267). انظر: “الأصل” لمحمد بن الحسن (7/ 466 – 467).
(4) “الأموال” (1/ 174).
(1/198)
كانوا يأخذون من الذمي بأرض (1) البصرة العُشر مضاعفًا.
قال (2): وكان سفيان بن سعيد يقول: عليه العشر على حاله. وبه كان يقول محمد بن الحسن (3).
أما مالك بن أنسٍ فحدثني عنه يحيى بن بُكيرٍ أنه قال: لا شيء عليه فيها؛ لأن الصدقة إنما هي على المسلمين زكاةٌ لأموالهم وطهرةٌ لهم، ولا صدقةَ على المشركين في أرضهم ولا مواشيهم، إنما الجزية على رؤوسهم صَغارًا لهم، وفي أموالهم إذا مروا بها في تجاراتهم.
وروى بعضهم عن مالك أنه قال: لا عُشرَ عليه ولكن يؤمر ببيعها، لأن في إقراره عليها إبطالًا للصدقة.
وكذلك يروى عن الحسن بن صالحٍ أنه قال: لا عشر عليه ولا خراج إلا إذا اشتراها الذمي من مسلم، وهي أرض عشر، وهذا بمنزلته لو اشترى ماشيته، أولستَ ترى أن الصدقة قد سقطت عنه فيها؟
وقد حُكي عن شَرِيكٍ شيء شبيهٌ بهذا، أنه قال في ذمي استأجر من مسلم أرضَ عُشرٍ، قال: لا شيء على المسلم في أرضه؛ لأن الزرع لغيره، ولا شيء على الذمي [لا] عشرٌ ولا خراجٌ؛ لأن الأرض ليست له. هذا ما حكاه أبو عبيد (4).
_________
(1) في الأصل: “أرض”. والتصويب من “الأموال”.
(2) أي أبو عبيد في المصدر السابق.
(3) كما في “الأصل” (7/ 466).
(4) إلى هنا انتهى النقل من “الأموال”.
(1/199)
وقال الخلال في “الجامع” (1): باب الذمي يشتري أرض العشر أو أرض الخراج أو يستأجرها. أخبرني محمد بن [أبي] هارون ومحمد بن جعفرٍ قال (2): حدثنا أبو الحارث أن أبا عبد الله سئل عن أرض أهل الذمة؟ قال: من الناس من يقول ليس عليهم فيها شيء، ومن الناس من يقول: يُضعَفُ عليهم الخراج، قلت له: فما ترى؟ قال: فيها اختلافٌ.
ثم ذكر من رواية أبي الحارث وصالحٍ ــ واللفظ لصالحٍ ــ أنه قال لأبيه: كم يؤخذ من أهل الذمة مما أخرجت أرضوهم؟ فقال: من الناس من يقول: لا يكون عليهم إلا فيما تجروا، ومن الناس من يقول: يُضاعَف عليهم (3).
أخبرني حربٌ قال: وسألت أحمد عن الذمي يشتري أرض العشر؟ قال: لا أعلم عليه شيئًا، إنما الصدقة طهرة (4) مال الرجل، وهذا المشرك ليس عليه. وأهل المدينة يقولون في هذا قولًا حسنًا، يقولون: لا يترك الذمي أن يشتري أرض العشر. قال: وأهل البصرة يقولون قولا عجبًا، يقولون: يُضاعَف عليهم. قال: ويُعجبني أن يُحال بينه وبين الشراء (5).
_________
(1) (1/ 154) والزيادة منه. وأقوال أحمد الآتية كلها منه.
(2) كذا في الأصل و”الجامع”.
(3) المصدر المذكور، برقم (220).
(4) في “الجامع”: “كهيئة” تحريف.
(5) “الجامع” (221).
(1/200)
أخبرني عِصمة بن عصامٍ قال: حدثنا أبو بكر الصاغاني قال: سمعت أبا عبد الله قال: يُمنع أهل الذمة أن يشتروا من أرض المسلمين. قال أبو عبد الله: وليس في أرض أهل الذمة صدقةٌ، إنما قال الله تعالى: {صَدَقَةٌ تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: 104]، فأي طُهرةٍ للمشركين! (1).
وقال في رواية محمد بن موسى (2): وأما ما كان للتجارة فمَرُّوا فنصف العشر، وأما أرضوهم فمن الناس من يقول: يُضاعف عليهم العشر، [ومنهم من يقول: على أرضهم الصدقة]، وما أدري ما هو، إنما الصدقة طهرةٌ. قال: وقد روى حماد بن زيدٍ عن أبيه عن عمر – رضي الله عنه – أنه ضاعف عليهم الخراج، وهذا ضعيف (3). وأما أهل الحجاز فحُكي عنهم أنهم كانوا لا يَدَعونهم يشترون أرضهم، ويقولون: في شرائهم ضررٌ على المسلمين.
وقال إبراهيم بن الحارث (4): سئل أبو عبد الله عن أرضٍ يُؤدَّى عنها الخراج أيؤدَّى عنها العشر بعد الخراج؟ قال: نعم، كل مسلم فعليه أن يؤدي العشر بعد الخراج، فأما غير المسلم فلا عشر عليه.
وقال في رواية بكر بن محمد عن أبيه (5) [عن أبي عبد الله] وسأله عن
_________
(1) “الجامع” (222).
(2) “الجامع” (223). ومنه الزيادة ليستقيم السياق.
(3) أي: لانقطاعه بين زيدٍ وعمر.
(4) “الجامع” (224).
(5) “الجامع” (225). ومنه الزيادة. والنصوص الآتية كلها من هذا المصدر.
(1/201)
الذمي يشتري أرض المسلم، قال: لا أرى (1) عليه زكاةً.
قال: وحكوا عن إسماعيل ابن عُلَيَّة أنه ما كان يعرف هذا حتى ولي خالدٌ الحذَّاء، فكان يأخذ من أهل الذمة الخمس، كأنه أضعفَ عليهم.
وحكوا عن سفيان: ليس عليهم شيء.
وحكى لي رجل من أهل المدينة أن أهل المدينة لا يدعون ذميًّا يشتري من أموال المسلمين، يقولون: تذهب الزكاة.
قال أبو عبد الله: لا أرى بأسًا أن يشتري وليس عليه زكاة ماله، ألا ترى أن أموالهم ليس عليها شيء إلا أن يختلفوا بها في بلاد المسلمين، فأما لو كانت في منازلهم لم يكن عليهم فيها شيء؟
وكذلك قال في رواية ابن القاسم (2): إذا اشترى الذمي أرض العشر سقط عنه العشر. قال: وينبغي أن يُمنعوا من شرائها. وقال: أليس يُحكى أن مالكًا يقول: يُمنَعون من ذلك، لأنهم إذا اشتروا ما حولنا ذهبت الزكاة وذهب العشر؟ قال: وهذا في أرض العشر، فأما الخراج فلا.
وقال ابن مُشَيشٍ (3): وسألت أبا عبد الله قلت: المسلم يؤاجر أرض الخراج من الذمي، قال: لا يؤاجر الذمي، وهذا ضررٌ، وأهل المدينة
_________
(1) في المطبوع: “أرى” بحذف “لا”، فانقلب المعنى.
(2) “الجامع” (226).
(3) المصدر نفسه (227).
(1/202)
ــ وذكر مالكًا ــ يقولون: لا نَدَعُ ذميًّا يزرع لأنه يُبطِل العشر، إنما يكون عليه الخراج.
وقال جعفر بن محمد (1): سمعت أبا عبد الله يقول: لا تُكرى أرضُ الخراج من أهل الكتاب؛ لأنهم لا يؤدُّون الزكاة.
قال أحمد (2): وحدثنا عفَّان قال: حدثني سهيلٌ، ثنا الأشعث، عن الحسن أنه قال في أهل الذمة إذا اشتروا شيئًا من أرض العشر، قال: فيه الخمس. قال أحمد: أَضعفَه عليهم، وهذا مذهب البصريين.
وقال أحمد (3): ثنا هُشيمٌ، أخبرنا يونس بن عبيد، عن عمرو بن ميمونٍ، عن أبيه أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز في مسلمٍ زارعَ ذميًّا، فكتب إليه عمر رحمه الله أن: خُذْ من المسلم ما عليه من الحق في نصيبه، وخُذْ من النصراني ما عليه.
قال الخلال (4): والذي عليه العمل في قول أبي عبد الله أنه ما كان في
_________
(1) المصدر نفسه (228).
(2) “الجامع” (230). و”سهيل” هو ابن صَبْرة العجلي، يروي عن الأشعث بن عبد الملك، وروى عنه عفَّان، مستقيم الحديث. “الثقات” لابن حبان (8/ 303). وقع في مطبوعة “الجامع”: “سهل بن صُقير”، وهو متأخر، من طبقة عفَّان بل لعله أصغر منه، ولم يُدرك الأشعث، فالظاهر أنه تصحيف.
(3) “الجامع” (232).
(4) “الجامع” (1/ 160).
(1/203)
أيديهم من صلحٍ أو خراجٍ فهم على ما صولحوا عليه أو جُعِل على أرضهم من الخراج. وما كان من أرض العشر فيُمنَعون من شرائها؛ لأنهم لا يؤدون العشر، وإنما عليهم الجزية والخراج. وذكر أبو عبد الله في قول أهل المدينة وأهل البصرة: فأما أهل المدينة فيقولون: لا يُترك الذّمي يشتري أرضَ العشر. وأهل البصرة يقولون: يُضاعَف عليهم.
قال (1): ثم رأيت أبا عبد الله بعد ذكره لذلك والاحتجاج لقولهم مال إلى قول أهل البصرة، أنه إذا اشترى الذمي أرضَ العشر يُضاعَف عليه، وهو أحسنَ القولَ أن لا يُمكَّنوا أن يشتروا، فإن اشتروا ضُوعِف عليهم كما تُضاعَف عليهم الزكاة إذا مرُّوا على العاشر، وهي في الأصل ليست عليهم لو لم يمرُّوا (2) بها على العاشر واتَّجروا في منازلهم، لم يكن عليهم شيء، فلما مرُّوا جُعِلت عليهم وأُضعِفَ عليهم، وهو بمعنى واحدٍ. وإلَّا فأرض المسلمين هم أحقُّ بها من أهل الذمة. وكذلك ما كان في أيديهم مما صُولحوا عليه فإنما يُضاعَف عليهم العشر؛ لأن في أرضهم العشر، وإنما يُنظر ما يخرج من الأرض، يؤخذ منهم العشر مرتين. هذا معنى ما كان في أيديهم وما اشتروه أيضًا من أرض العشر على هذا النحو مُضاعَفٌ عليهم.
قال (3): وأنا أفسِّر ذلك من قول أبي عبد الله رحمه الله تعالى.
_________
(1) أي الخلال في المصدر المذكور، والكلام متصل بما سبق.
(2) في الأصل: “لم يمرون”.
(3) أي الخلال في المصدر المذكور، والكلام مستمر.
(1/204)
أخبرني عبد الملك بن عبد الحميد قال (1): قال لي أبو عبد الله في أرض أهل الذمة: من الناس من يتأول يأخذ من أرضهم الضعف، قلت: فإذا لم تكن أرضَ خراجٍ فكيف نأخذ منهم الضعف؟ قال: ننظر إلى ما يخرج. قلت: فهذا إذن في الحبّ إذا أخرجت ننظر إلى قدر ما أخرجت، فيؤخذ منه العشر، ونُضعف عليهم مرةً أخرى؟ قال: نعم. ثم قال: ويؤخذ من أموال أهل الذمة إذا اتَّجروا فيها، قُوِّمت ثم أخذ منهم زكاتها مرتين، يُضعف عليهم، فمن الناس من يشبِّه الزرعَ بهذا.
قال عبد الملك: والذي لا أشك فيه من قول أبي عبد الله غير مرةٍ= أن أرض أهل الذمة التي في الصلح ليس عليها خراجٌ، إنما يُنظَر ما أخرجت، يؤخذ منهم العشر مرتين.
قال عبد الملك: قلت لأبي عبد الله: فالذي يشتري أرض العشر ما عليه؟ قال لي: الناس كلهم يختلفون في هذا، منهم من لا يرى عليه شيئًا، ويُشبِّهه بماله ليس عليه فيه زكاةٌ إذا كان مقيمًا بين أظهُرِنا وبماشِيته (2)، فيقول: هذه أموالٌ وليس عليه فيها صدقةٌ. ومنهم من يقول: هذه حقوقٌ لقومٍ، ولا يكون شراؤه الأرضَ يذهب بحقوق هؤلاء. والحسن يقول: إذا (3) اشتراها ضوعف عليه. قلت: فكيف يُضعف عليه؟ قال: لأن عليه العشر،
_________
(1) “الجامع” (234).
(2) في المطبوع: “وبما شئت” تحريف. وفي الطبعة الثانية: “بما يثبته” تحريف أيضًا.
(3) في المطبوع: “من” خلاف الأصل و”الجامع”.
(1/205)
فيؤخذ منه الخمس. قلت: تذهب إلى أن يُضعف عليه فيؤخذ منه الخمس؟ فالتفت إليَّ فقال: نعم، يُضعف عليهم. ثم قال لنا: ويدخل (1) على الذي قال: لا نرى بأن يؤخذ= لو أن رجلًا موسرًا منهم عَمَدَ إلى أرضٍ من أرض العشر فاشتراها فلم يؤخذ منه شيء أضرَّ هذا بحقوق هؤلاء.
وقال أبو طالب (2): وسألت أبا عبد الله عن الرجل من أهل الذمة يشتري أرض العشر يكون عليه فيها العشر أو الخراج؟ قال: عمر بن عبد العزيز يضاعف عليه، وقال بعض الناس: إنما الخراج على ما كان في أيديهم، وفي المال العشرُ أو نصفُ العشرِ، قلت: ما تقول أنت؟ قال: قول عمر والحسن، يُضعَّف عليهم، فقلت: فهو أحبُّ إليك، قال: نعم.
قال الخلال (3): فقد بيَّن أبو عبد الله هاهنا مذهبَه، وحسَّن مذهبَ من جعل عليهم الضعف.
قال الخلال (4): وأقوى من قول عمر بن عبد العزيز والحسن في الزيادة عليهم ما روي عن عائذ (5) بن عمرٍو، وإن كان أبو عبد الله لم يذكره في هذه الأبواب، فإنه قد رواه وهو صحيح، والعمل عليه مع ما تقدم من قول أبي
_________
(1) أي يُورَد ويُعترض على هذا القائل بالجملة الشرطية الآتية: “لو أن … “.
(2) “الجامع” (235).
(3) المصدر نفسه (1/ 162).
(4) المصدر نفسه (1/ 162).
(5) في المطبوع: “عائد” تصحيف.
(1/206)
عبد الله الاختيار له.
أخبرنا عبد الله قال (1): حدثني أبي، حدثنا وهب بن جريرٍ، حدثنا شعبة عن أبي عمران الجَوني، قال: وسألت عائذ بن عمرٍو المُزَني عن الزيادة على أهل فارس، فلم يرَ به بأسًا وقال: إنما هم خَوَلُكم.
قال الخلال (2): وأخبرنا يعقوب بن سفيان أبو يوسف قال: حدثني محمد بن فُضيلٍ، قال: ثنا سُويدٌ الكلبي، حدثنا حماد بن سلمة، عن شعبة، عن أبي عمران الجَوني عن عائذ بن عمرٍو فيما أُخِذ عنوةً، قال: زِيدوا عليهم فإنهم خَوَلُكم، انتهى (3).
فهذا مذهب أحمد كما تراه: أنه يجب عليهم عُشرانِ، وعليه أكثر نصوصه واحتجاجه. وكثيرٌ من أصحابه يحكي مذهبه أنه لا عُشرَ عليه، ومنهم من يقول: وعنه عليهم عشرانِ، وإذا كانوا إذا اتجروا في غير بلادهم أُخذ منهم ضِعفُ ما يؤخذ من المسلمين مع جواز التجارة لهم، وأنهم لا يُسقِطون بها حقًّا لمسلم، فإذا دخلوا في الأرض العشرية بشراءٍ أو كراءٍ وهم ممنوعون من ذلك، فلَأَن يؤخذ منهم ضِعفُ ما يؤخذ من المسلم بطريق الأولى، إذ لو لم يُؤخَذ منهم لتعطَّلتْ حقوقُ أربابِ العُشْر وما عليه من المنقطعين من الجند والفقراء وغيرهم، وفي ذلك فسادٌ عظيمٌ، فإنا لو مكَّناهم
_________
(1) “الجامع” (236)، وإسناده صحيح إلى عائذٍ – رضي الله عنه -.
(2) برقم (237).
(3) أي انتهى النقل من “الجامع” للخلال.
(1/207)
من الدخول في أرض العشر وهم يعلمون أنه لا عُشْرَ عليهم لتهافتوا وتهالكوا عليها، لكثرة المُغَلِّ وقلَّة المؤونة، فتذهب حقوق المسلمين، وهذا باطلٌ.
وقياس الأرض على المواشي والعُروض قياسٌ فاسدٌ، فإن المواشي والعروض لا تُراد للتأبيد، بل تتناقلها الأيدي، وتختلف عليها المُلَّاك. والأرض إذا صارت لواحدٍ منهم ولا عُشرَ عليه فيها ولا خراج= عَضَّ عليها بالنواجذ، وأمسكَها بكلتا يديه، وعطَّل مصلحتها على أهل العشر. ولهذا لما علم أبو حنيفة فساد هذا قال: إذا اشترى أرض العشر تحولت خراجيةً (1).
ومذهب الشافعي في هذا: أنهم لا يُمكَّنون من شراء أرض العشر واكترائها، وأنه لا شيء عليهم في زروعهم وثمارهم، كما لا زكاةَ عليهم في مواشيهم وعروضهم ونقودهم. وهو اختيار أبي عبيد وطائفةٍ من أصحاب أحمد، وهو المشهور عند أصحاب مالك، ومذهبه الذي نصَّ عليه منعُهم من شراء أرض العشر (2).
فإن قيل: فما مصرفُ ما يؤخذ من أرضهم؟
قيل: مصرفه مصرف ما يؤخذ من التغلبي، وفيه روايتان كما تقدم، أصحهما أنه مصرف الفيء، فكذا هذا.
فإن قيل: فلو باعها لمسلم أو أسلم، فقال الأصحاب: يسقط عنه أحدُ
_________
(1) انظر: “الأصل” (7/ 466)، و”الاختيار لتعليل المختار” (1/ 114).
(2) انظر: “المغني” (4/ 202، 203)، و”الإنصاف” للمرداوي (3/ 114، 115)، و”الفروع” مع “تصحيح الفروع” (4/ 110، 111).
(1/208)
العشرين، ويبقى الآخر وهو عشر الزكاة، ولم يفصِّلوا. وقياس المذهب التفصيل، وأنه إن باعها أو أسلم قبل اشتداد الحبّ فكذلك، وإن باعها بعد اشتداده ووجوب العشرين لم يسقط أحدهما، وإن أسلم بعد اشتداد الحبّ وصلاح الثمر سقط عنه العشران. أما عُشر الزكاة فلأنه وقتَ الوجوب لم يكن من أهله، وأما العُشر المضاعَف فإنما وجب بسبب الكفر، فإذا أسلم سقط عنه، كما تسقط الجزية بإسلامه.
فإن قيل: فلو اشترى ذمي أرضًا خراجيةً من تغلبي فما حكمها؟
قيل: قد اختلف في ذلك الأصحابُ على ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنه لا شيء عليه في نَبْتها كما لو اشتراها من مسلم.
والثاني: عليه فيها عشر واحدٌ.
والثالث: عليها فيها عشران كما كان على التغلبي، وهو الأقيس والأصح (1).
فإن قيل: فما تقولون لو اشترى ذمي أرضًا من مسلم لا عُشْرَ فيها، مثل أن كانت دورًا أو خانًا ونحو ذلك، فزرعَها فهل يجب عليه (2) في زرعها شيء؟
قيل: لا يجب عليه شيء في هذه الصورة، ولا يُمنع من شرائها، فإنه لم
_________
(1) انظر: “الفروع” مع “تصحيحه” (4/ 113).
(2) “عليه” ساقطة من المطبوع.
(1/209)
يسقط بذلك حق مسلم من الأرض. وكذلك الحكم لو اشترى أرضًا خراجيةً من ذمي فزرعها لم يكن عليه غير الخراج، كما كانت في يد البائع وكما لو ورثها.
وقال أبو عبد الله بن حمدان في “رعايته”: وإن اشترى ذميٌّ أرضًا خراجيةً أو أرضَ تغلبيًّ جاز، ولا شيء عليه في نَبْتها. وقيل: بل عُشرانِ، وقيل: بل عشر في نبت الخراجية، لا فيما اشتراه من تغلبي.
قلت: أما شراؤه أرضَ التغلبي فإنه يتوجه أن يجب عليه عشران، كما كان يجب على التغلبي، ولا يسقط بشرائه حق المسلمين الذي كان على أرض التغلبي، بل إذا ضُوعِف عليه العشر بشرائها من مسلم حيث لم يكن واجبًا، فَلَأن يؤخذ منه ما كان واجبًا على التغلبي أولى وأحرى.
وأما شراؤه للأرض الخراجية التي لا عشر عليها فهذا لا يتوجه فيه نزاعٌ، ولا نقبل ما ذكره من الأقوال، ولاسيما إذا اشتراها من ذمي، كما يدخل في عموم كلامه، فهذا لم يقل أحدٌ: إنّ عليه فيها عشرين ولا عشرًا (1).
فإن قيل: يُحمل كلامه على ما إذا اشتراها من مسلم.
قيل: إن كانت عُشريةً ــ مع كونها خراجيةً ــ فقد تقدم حكمها، وإن لم تكن عشريةً بأن كانت دارًا أو خانًا جاز له شراؤها، ولا عُشرَ عليه في زرعها اتفاقًا كما تقدم، بل هذا من سوء التفريع والتصرف، والله أعلم.
_________
(1) في الأصل: “عشران ولا عشر” مرفوعين.
(1/210)
فإن قيل: فما تقولون في إجارة الأرض العشرية للذمي؟
قيل: قد نصَّ أحمد رحمه الله تعالى على صحة الإجارة مع الكراهة (1). والفرق بينها وبين البيع أن البيع يُراد للدوام بخلاف الإجارة، والحكم في زرعه كالحكم في زرع ما اشتراه. وقيل: لا شيء عليه هاهنا وإن أوجبنا عليه العُشرينِ في صورة الشراء، ويكون كما لو اشترى الزرع وحده. وهذا ليس بصحيح، فإن الموجب لمضاعفة العشر عليه في صورة الشراء هو بعينه موجودٌ في صورة الإجارة.
وأما شراؤه الزرعَ، فإن اشتراه قبل اشتداد حبِّه لم يصح البيع، وإن اشتراه بعد اشتداد حبِّه فزكاته على البائع.
فإن قيل: فلو اشتراه مع الأرض قبل اشتداد الحبّ.
قيل: حكمه حكم ما زرعه بنفسه.
فصل
وأما أموالهم التي يتَّجرون بها من بلدٍ إلى بلدٍ فإنه يؤخذ منهم نصفُ عُشرِها إن كانوا ذمةً، وعُشرها إن كانوا أهلَ هدنةٍ.
وهذه مسألة تلقَّاها الناس عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -، ونحن نذكر أصلها وتفاصيلها (2)، وكيف كان ابتداء أمرها، واختلاف الفقهاء في ما
_________
(1) انظر: “الفروع” (4/ 116، 117).
(2) “وتفاصيلها” ساقطة من المطبوع.
(1/211)
اختلفوا فيه من أحكامها، بحول الله وقوته وتأييده، بعدَ أن نذكر مقدمةً في المُكوس وتحريمها والتغليظ في أمرها، وتحريمِ الجنة على صاحبها، وأمْرِ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بقتله، وأن قياسها على ما وضعه عمر – رضي الله عنه – على أهل الذمة من الخراج أو العشر كقياس أهل الشرك الذين قاسوا الربا على البيع، والميتةَ على المذكِّى.
قال الإمام أحمد (1): حدثنا يزيد بن هارون، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيبٍ، عن عبد الرحمن بن شِماسة التُّجيبي، عن عقبة بن عامر أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “لا يدخلُ الجنةَ صاحبُ مَكْسٍ”.
وقال أبو عبيد (2): حدثنا يحيى بن بُكَيرٍ، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيبٍ، عن أبي الخير (3) قال: سمعت رُوَيفع بن ثابتٍ يقول: سمعت رسول
_________
(1) في “مسنده” (17354) عن يزيد بن هارون به، ولكن سياق إسناده ومتنه يوافق سياق أبي عبيد في “الأموال” (1449)، فإنه رواه عن يزيد أيضًا. والحديث أخرجه أيضًا أبو داود (2937) والدارمي (1708) وابن خزيمة (2333) والحاكم (1/ 403) من طرق عن محمد بن إسحاق به. وإسناده ضعيف لعنعنة ابن إسحاق، ولكن يشهد له الحديث الآتي.
(2) في “الأموال” (1450)، وأخرجه أحمد (17001) والطبراني في “الكبير” (5/ 29) من طريقين آخرين عن ابن لَهِيعة به. وابن لهيعة ضعيف، إلا أن رواية أحمد من طريق قتيبة عنه، وحديث العبادلة وقتيبة عنه أعدل من حديث غيرهم، فهو على أقل تقدير حسن في الشواهد.
(3) في المطبوع: “أبي الحسين” تحريف.
(1/212)
الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “إنّ صاحبَ المَكْس في النار”. قال: يعني العاشر.
حدثنا الهيثم بن جَميلٍ، عن محمد بن مسلم، عن إبراهيم بن مَيْسرة، عن طاوسٍ، عن عبد الله بن عمرٍو – رضي الله عنهما – قال: إن صاحب المكس لا يُسأل عن شيء، يُؤخذ كما هو فيُرمى به في النار (1).
حدثنا حسان بن عبد الله، عن يعقوب بن عبد الرحمن القاري، عن أبيه قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة أن: ضَعْ عن الناس الفديةَ، وضَعْ عن الناس المائدة، وضَعْ عن الناس المكْسَ، وليس بالمكس ولكنه البَخْس الذي قال الله تعالى فيه (2): {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 84]، فمن جاءك بصدقةٍ فاقبلْها منه، ومن لم يأتِك بها فالله حسيبُه (3).
حدثنا نعيمٌ، عن ضَمْرة، عن كُريز (4) بن سليمان، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الله بن عوفٍ (5) القاري أن: اركَبْ إلى البيت الذي برَفَحٍ الذي يقال له بيت المَكْس، فاهدِمْه، ثم احمِلْه إلى البحر، فانسِفْه فيه
_________
(1) “الأموال” (1451)، وإسناده لا بأس به، وهو موقوف.
(2) “فيه” ساقطة من المطبوع.
(3) “الأموال” (1453).
(4) في الأصل: “جرير”. والتصويب من “الأموال”.
(5) في الأصل: “عون”. والتصويب من “الأموال”. وانظر: “التاريخ الكبير” (5/ 156)، و”الجرح والتعديل” (5/ 125).
(1/213)
نَسْفًا (1).
قال أبو عبيد (2): قد رأيته بين مصر والرملة.
حدثنا عثمان بن صالحٍ، عن ابن لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيبٍ، عن مُخيِّس بن ظَبيان، حدَّثه عن عبد الرحمن بن حسَّان، عن رجل من جُذامٍ، عن مالك بن عَتاهية قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “من لقي صاحبَ عُشُورٍ فليضرِبْ عُنقَه” (3).
حدثنا ابن أبي مريم، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيبٍ، عن مُخيِّس بن ظَبيان عن عبد الرحمن بن حسان قال: أخبرني رجل من جُذامٍ [قال] سمع فلانَ بن عَتاهية يقول: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “إذا لقيتم عاشرًا فاقتلوه”، يعني بذلك الصدقةَ يأخذها على غير حقِّها (4).
حدثنا حجاجٌ عن ابن جريجٍ (5) قال: أخبرني عمرو بن دينارٍ، قال:
_________
(1) “الأموال” (1454).
(2) في المصدر السابق.
(3) “الأموال” (1455)، وأخرجه أيضًا أحمد (18057) والروياني (1457) وأبو نعيم في “معرفة الصحابة” (6014، 6015) من طرق عن ابن لهيعة به. وإسناده واهٍ، لضعف ابن لهيعة، وجهالة مخيِّس، وإبهام شيخ شيخه من جُذام. وقد أورده ابن الجوزي في “الموضوعات” (1594)، وهو بـ”العلل المتناهية” أشبه.
(4) “الأموال” (1456).
(5) في الأصل: “ابن جرير”. والتصويب من “الأموال”.
(1/214)
أخبرني مسلم بن شَكَرَة أنه سأل ابن عمر: أعَلِمتَ أن عمر أخذ من المسلمين العُشر؟ قال: لا أعلمه (1).
حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن عبد الله بن خالدٍ العَبْسي، عن عبد الرحمن بن مَعْقِلٍ (2) قال: وسألتُ زياد بن حُدَيرٍ مَن كنتم تعشرون؟ قال: ما كنا نعشر مسلمًا ولا معاهدًا. قلت: فمن (3) كنتم تعشرون؟ قال: تجار الحرب، كما كانوا يعشروننا إذا أتيناهم (4).
حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيقٍ، عن مسروقٍ أنه قال: والله ما علمتُ عملًا أخوفَ عندي أن يُدخِلني الله النارَ من عملكم هذا، وما تراني (5) أن أكون ظلمتُ فيه مسلمًا أو معاهدًا دينارًا ولا درهمًا، ولكني لا أدري ما هذا الحبل الذي لم يَسُنَّه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا أبو بكر ولا عمر. قالوا: فما حملك على أن دخلتَ فيه؟ قال: لم يَدَعْني زيادٌ ولا شُريحٌ ولا الشيطان (6)
_________
(1) “الأموال” (1457)، وأخرجه أيضًا عبد الرزاق (7248) عن ابن جريج به.
(2) في الأصل: “مغفل” تصحيف. والتصويب من “الأموال”.
(3) في الأصل: “من”.
(4) “الأموال” (1459)، أخرجه أيضًا يحيى في “الخراج” (640) ــ ومن طريقه البيهقي (9/ 211) ــ وعبد الرزاق (10124) كلاهما عن سفيان به، إلا أن عندهما “عبد الله بن معقل”، والخطب يسير فكلا ابني معقل بن مقرِّن المزني ثقتان.
(5) كذا في الأصل. وفي “الأموال”: “وما بي”.
(6) في الأصل: “السلطان”. والتصويب من “الأموال”.
(1/215)
حتى دخلتُ فيه (1).
قلت: هو (2) سلسلةٌ كان يُعتَرض بها على النهر تَمنع السُّفُنَ من المضي حتى تُؤخَذ منهم الصدقة، وكان مكانها يُسمَّى “السلسلة”. وأقام بها مسروقٌ زمانًا يقصر الصلاة، كان عاملًا لزيادٍ، وكان أبو وائلٍ معه، قال: فما رأيتُ أميرًا قطُّ كان أعفَّ منه، ما كان يصيب شيئًا إلا ماء دجلة (3).
وقيل للشعبي: كيف خرج مسروقٌ من عمله؟ قال: ألم تروا إلى الثوب يُبعث به إلى القصَّار فيُجِيد غَسْلَه؟ فكذلك خرج من عمله (4).
قال أبو عبيد (5): وكان المكس له أصلٌ في الجاهلية، يفعله ملوك العرب والعجم جميعًا، فكانت سنتهم أن يأخذوا من التجار عُشر أموالهم إذا مرُّوا بها عليهم. يبيِّن ذلك ما في كتب النبي – صلى الله عليه وسلم – لمن كتب من أهل الأمصار، مثل ثقيفٍ والبحرين ودُومة الجندل وغيرهم ممن أسلم: أنهم لا يُحشَرون ولا
_________
(1) “الأموال” (1460)، وأخرجه ابن سعد في “الطبقات” (8/ 204) من طريق أبي عوانة عن الأعمش به. وأخرجه أحمد في “الزهد” (ص 421) من طريق سفيان الثوري يرسله عن شقيق، والظاهر أن بينهما الأعمش. وزياد هو ابن أبيه، عامل معاوية على الكوفة.
(2) الإشارة بالضمير إلى الحبل المذكور في الأثر.
(3) أسنده أبو عُبيد في “الأموال” (1462) وأبو القاسم البغوي في “مسند علي بن الجعد” (440). وفي الأصل: “ما دخله”. والتصويب من “الأموال”.
(4) أسنده أبو عُبيد في “الأموال” (1461).
(5) “الأموال” (1/ 201).
(1/216)
يُعْشَرون، فعلمنا بهذا أنه كان من سنة الجاهلية مع أحاديث فيه كثيرةٍ، فأبطل الله تعالى ذلك برسوله – صلى الله عليه وسلم – وبالإسلام، وجاءت فريضة الزكاة (1)، فمن أخذها منهم على وجهها فليس بعاشرٍ، لأنه لم يأخذ العُشر، إنما أخذ رُبعه. وهو مفسَّرٌ في الحديث الذي يحدِّثونه عن عطاء بن السائب، عن حرب بن عبيد الله الثقفي عن جدِّه ــ أبي أمية (2) ــ أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “ليس على المسلمين عُشورٌ، إنما العُشور على اليهود والنصارى” (3).
قلت: وفي “المسند” و”سنن أبي داود” (4) عن رجل من بني تغلب قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “ليس على المسلمين عُشورٌ، إنما العُشور على اليهود والنصارى”.
_________
(1) بعدها في “الأموال”: “بربع العشر من كل مئتي درهم خمسة”. وليست في الأصل.
(2) كذا في الأصل، وفي هامشه بعلامة خ: “أبي أبيه”. وفي مصادر التخريج اختلاف واضطراب في ذكره. وفي “الأموال”: “عن جده أبي أمه”.
(3) أخرجه أحمد (15895 – 15897، 23483) وأبو داود (3046 – 3049) وابن أبي شيبة (10677، 10678) والطحاوي في “معاني الآثار” (2/ 31) والبيهقي (9/ 199) وغيرهم من طرق عن عطاء بن السائب، عن حرب بن عبيد الله الثقفي، عن جده أبي أمِّه، أو عن جده عن أبيه، أو عن خاله، أو عن أبي أمية رجل من بني تغلب … إلخ تلك الوجوه التي اضطرب عليها الحديث. قال البخاري كما في “العلل الكبير” للترمذي (ص 103): هذا حديث فيه اضطراب ولا يصحُّ. وانظر: “التاريخ الكبير” (3/ 60)، و”ضعيف سنن أبي داود ــ الأم” (2/ 477).
(4) “مسند أحمد” (15897) ــ واللفظ له ــ و”سنن أبي داود” (3049).
(1/217)
قال أبو عبيد (1): فالعاشر الذي يأخذ الصدقة بغير حقّها، كما جاء في الحديث مرفوعًا وقد تقدم. وكذلك وجه حديث ابن عمر: أن عمر لم يأخذ العشور، إنما أراد هذا ولم يُرِد الزكاة. وقد كان عمر وغيره من الخلفاء يأخذونها عند الأعطية. وكذلك حديث زياد بن حُدَيرٍ: ما كنا نعشر مسلمًا ولا معاهدًا، أراد: أنا كنا نأخذ من المسلمين ربع العشر، ومن أهل الذمة نصف العشر.
قال (2): وكان مذهب عمر فيما وضع من ذلك: أنه كان يأخذ من المسلمين الزكاة، ومن أهل الحرب العشر تامًّا؛ لأنهم كانوا يأخذون من تجار المسلمين مثله إذا قدموا بلادهم، فكان سبيله في هذين الصنفين بيِّنًا واضحًا.
قال (3): وكان الذي يُشكِل عليَّ وجهُه أخْذَه من أهل الذمة، فجعلتُ أقول: ليسوا بمسلمين فتؤخذ منهم الصدقة، ولا من أهل الحرب فيؤخذ منهم مثل ما أخذوا منا، فلم أدْرِ ما هو، حتى تدبَّرتُ فوجدتُه إنما صالح على ذلك صلحًا سوى جزية الرؤوس وخراج الأرضين.
حدثنا الأنصاري، عن سعيد بن أبي عَروبة، عن قتادة، عن أبي مِجْلَزٍ قال: بعث عُمَرعمَّارًا وابن مسعودٍ وعثمان بن حُنَيفٍ إلى الكوفة، ثم ذكر
_________
(1) “الأموال” (1/ 201).
(2) “الأموال” (1/ 202).
( 3) المصدر نفسه (1/ 203). والكلام مستمر.
(1/218)
حديثًا فيه طولٌ قال: فمسح عثمان الأرض، فوضع عليها الخراج، وجعل في أموال أهل الذمة التي يختلفون بها: من كل عشرين درهمًا درهمٌ، وجعل على رؤوسهم ــ وعطَّل من ذلك النساء والصبيان ــ أربعةً وعشرين، وكتب بذلك إلى عمر – رضي الله عنه – فأجازه (1).
قال أبو عبيد (2): فأرى الأخذ من تجّارهم في أصل الصلح، فهو الآن حق المسلمين عليهم. وكذلك كان مالك بن أنسٍ يقول، حدثنيه عنه يحيى بن بُكَيرٍ، قال (3): إنما صولحوا على أن يَقَرُّوا ببلادهم، فإذا مرُّوا بها للتجارات أُخِذ منهم كلما مرُّوا.
حدثنا معاذ بن معاذٍ، عن ابن عونٍ، عن أنس بن سيرين قال: بعث إليَّ أنس بن مالك – رضي الله عنه – فأبطأتُ عليه، ثم بعث إليَّ فأتيته، فقال: إن كنتُ لأرى أني لو أمرتُك أن تَعَضَّ على حجر كذا وكذا ابتغاءَ مرضاتي لفعلتَ؛ اخترتُ لك عين عملي (4) فكرهتَه؟ إني أكتب لك سنة عمر – رضي الله عنه -. قلت: اكتب لي سنة عمر، فكتب: يؤخذ من المسلمين من كل أربعين درهمًا درهم،
_________
(1) “الأموال” (1472)، وقد تقدَّم (ص 150) بلفظ أطول.
(2) المصدر نفسه (1/ 203).
(3) انظر: “الموطأ” (1/ 377).
(4) في الأصل: “غير عملي”. والتصويب من “الأموال”. وكان أنس بن مالك تولَّى الصدقات والعشور لعمر، ثم لمَّا ولي أنس أعمال أهل البصرة لابن الزبير استعمل أنس بن سيرين على العشور.
(1/219)
ومن أهل الذمة من كل عشرين درهمًا درهمٌ، وممن لا ذمَّة له من كل عشرة دراهم درهمٌ، قلت: ومن لا ذمة له؟ قال: الروم، كانوا يقدمون الشام (1).
حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم بن مهاجرٍ، عن زياد بن حُدَيرٍ قال: استعملني عمر على العُشر، وأمرني أن آخذ من تجّار أهل الحرب العشر، ومن تجار أهل الذمة نصف العشر، ومن تجار المسلمين ربع العشر (2).
وقال مالك عن ابن شهابٍ عن السائب بن يزيد قال: كنت عاملًا على سوق المدينة في زمن عمر، فكنا نأخذ من النَّبط العُشر (3).
وقال مالك عن ابن شهابٍ عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال: كان عمر يأخذ من النَّبط من الزيت والحنطة نصف العشر؛ لكي يكثر الحمل إلى المدينة، ويأخذ من القُطْنية العُشرَ (4).
ولهذا ذهب مالك إليه اتباعًا لعمر.
_________
(1) “الأموال” (1474)، وأخرجه أبو يوسف في “الخراج” (308) وعبد الرزاق (7072، 10112) وابن سعد في “الطبقات” (5/ 334) والطحاوي في “معاني الآثار” (2/ 32) والبيهقي (9/ 210) من طرق عن أنس بن سيرين.
(2) “الأموال” (1475)، وقد تقدَّم (ص 111، 215) بنحوه.
(3) “الأموال” (1478) عن إسحاق بن عيسى عن مالك به. وهو في “الموطأ” (764).
(4) “الأموال” (1479) من طرق عن مالك به. وهو في “الموطأ” (763). والقطنية: ما يُدَّخر في البيت من الحبوب ويُطبخ، مثل العدس.
(1/220)
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله بمصر: من مرَّ بك من أهل الذمة فخُذْ مما يديرون في التجارات من أموالهم من كل عشرين دينارًا دينارًا، وما نقص فبحساب ذلك حتى يبلغ عشرة دنانير، فإن نقصت ثُلُثَ دينارٍ فلا تأخذ منها شيئًا، واكتبْ لهم بما تأخذ كتابًا إلى مثله من الحول (1).
وقال عبد الله بن محمد بن زياد بن حُدَيرٍ: كنت مع جدي زياد بن حُدَيرٍ على العشور، فمرَّ نصراني بفرسٍ فقوَّموه عشرين ألفًا، فقال: إن شئتَ أعطيتنا أَلْفَين (2) وأخذتَ الفرس، وإن شئت أعطيناك ثمانية عشر ألفًا (3).
قال أبو عبيد (4): وإنما فعل عمر في العشر ما فعل لمصالحته إياهم عليه، ولم يكن ذلك بعهد النبي – صلى الله عليه وسلم -، لأن الذين صالحهم لم يكن شَرَطَ عليهم منه شيئًا، وكذلك دهر أبي بكرٍ، وإنما فُتِحت بلاد العجم في زمن عمر، فلذلك كان الذي كان.
_________
(1) “الأموال” (1480) من طريق مالك ــ وهو في “الموطأ” (690) ــ عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن رُزيق بن حيَّان (عامل عمر على مصر) به. وأخرجه أبو عبيد (1481) وعبد الرزاق (19278) وابن أبي شيبة (9971) من طرق أخرى عن يحيى بن سعيد به.
(2) في المطبوع: “العين”، تحريف.
(3) “الأموال” (1482)، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (10685) وابن زنجويه (116)، من طرق عن سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد بن زياد به.
(4) “الأموال” (1/ 206).
(1/221)
قال الشعبي: أول من وضع العشر في الإسلام عمر – رضي الله عنه – (1).
قال أبو عبيد (2): وكان ابن شهابٍ يتأوَّل على عمر فيه شيئًا غيرُه أحبُّ إلينا منه.
حدثنا إسحاق بن عيسى، عن مالك بن أنسٍ رحمه الله تعالى قال: سألتُ ابن شهابٍ لِمَ أخذ عمر العشر من أهل الذمة؟ فقال: كان يؤخذ منهم في الجاهلية فأقرَّهم عمر على ذلك (3).
قال أبو عبيد (4): والوجه الأول الذي ذكرناه من الصلح أشبهُ بعمر وأولى به، وبه كان يقول مالك بن أنسٍ نفسه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن هشامٍ عن أنس بن سيرين قال: بعثني أنس بن مالك على العشور، فقلت: تبعثني إلى العشور من بين عُمَّالك؟ فقال: أما ترضى أن أجعلك على ما جعلني عليه عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -؟ أمرني أن آخذ من المسلمين ربع العشر، ومن أهل الذمة نصف العشر (5).
_________
(1) “الأموال” (1483)، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (36950).
(2) “الأموال” (1/ 206).
(3) “الأموال” (1484)، وهو في “الموطأ” (765).
(4) “الأموال” (1/ 206).
(5) “الجامع” للخلال (1/ 150)، وأخرجه البيهقي (9/ 209) من طريق آخر عن سفيان بن عُيينة به. وقد روي نحوه من طرق أخرى عن أنس بن سيرين، وقد سبق بعضها (ص 219).
(1/222)
فصل
إذا عرف هذا فاختلف الأئمة في ذلك: هل يؤخذ من الذمي والحربي أم يختص الأخذ بالحربي؟
فقال الشافعي (1) رحمه الله تعالى: لا يؤخذ من الذمي شيء، وإن اضطرب في بلاد الإسلام كلها غير الحجاز، فإن الجزية أثبتتْ له الأمانَ العام على نفسه وأهله وماله في المقام والسفر. فإن دخل إلى أرض الحجاز فيُنظر في حاله: فإن كان دخوله لرسالةٍ أو نقل مِيْرةٍ (2) أذن له [الإمام] بغير شيء، وإن كان لتجارةٍ لا حاجةَ بأهل الحجاز إليها لم يأذن له إلا أن يشترط عليه عوضًا بحسب ما يراه، والأولى أن يشترط عليه نصف العشر؛ لأن عمر – رضي الله عنه – شرط نصف العشر على من دخل الحجاز من أهل الذمة.
وأما الحربي فإن دخل إلينا لتجارةٍ لا يحتاج إليها المسلمون لم يأذن له الإمام إلا بعوضٍ يشرطه، ومهما شرط جاز، ويستحب أن يشرط العشر ليوافق فعل عمر. وإن أذن مطلقًا من غير شرطٍ لم يؤخذ منه شيء، لأنه أمانٌ من غير شرطٍ، فهو كالهدنة.
قال: ويحتمل أن يجب عليه العشر؛ لأن عمر – رضي الله عنه – أخذه، هذا نصه (3).
_________
(1) انظر: “المغني” (13/ 229).
(2) الميرة: الطعام.
(3) لم أجد هذا النصّ في كتاب “الأم” وغيره. وانظر معناه في “الأم” (5/ 492).
(1/223)
وأما أصحابه فتصرفوا في مذهبه وقالوا (1): أما المعاهد فإذا دخل بلاد الإسلام تاجرًا أخذ منه عشر ماله، وإن دخل بلاد الإسلام من غير تجارةٍ بأن أمَّنه مسلم، فإن دخل غير الحجاز لم يطالب بشيء وإن دخل الحجاز بأمان مسلم فهل يطالب وإن لم يكن تاجرًا فيه وجهان لأصحاب الشافعي.
قالوا: وهل يفتقر أخذ العشر إلى شرط الأمام أو يكفي فيه شرط عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – على وجهين.
قالوا: وإذا رأى الإمام أن يحطَّ من العشر في صنفٍ تدعو الحاجة إليه جاز، وإن رأى حط العشر بالكلية لتتسع المكاسب، فهل له ذلك؟ على وجهين: أحدهما: يجوز مراعاةً للمصلحة. والثاني ــ وهو الأصح ــ: لا يجوز، بل لا بد من أخذ شيء وإن قل.
وهل له أن يزيد على العشر إذا رأى فيه المصلحة؟ فيه وجهان.
قالوا: وإذا أخذ منه العشر في مالٍ ثم عاد به في تلك السنة لم يكرر عليه الأخذ؛ لأن ذلك بمثابة الجزية على رقبته، فإن وافى بمالٍ آخر غيره في ذلك العام أخذنا عشره.
قالوا: فإن كان المال المتردد به إلى الحجاز فهل يؤخذ منه كرَّةً ثانيةً في العام؟ فيه وجهان. فهذا تحصيل مذهب الإمام الشافعي – رضي الله عنه -.
_________
(1) انظر: “نهاية المطلب” (18/ 66 – 68)، و”الوسيط” للغزالي (7/ 76، 77)، و”روضة الطالبين” (10/ 319، 320).
(1/224)
وأما مذهب الإمام مالك (1) – رضي الله عنه – فيؤخذ العشر عنده من بضائع تجَّار [أهل] الحرب.
وأما الذمي فإن اتجر في بلده لم يُطالَب بشيء، وإن اضطرب في بلاد الإسلام أُخذ منه العشر كلما دخل ولو مرارًا في السنة، من المال الصامت والرقيق والطعام والفاكهة وغيرها مما يتجر فيه.
ثم اختلف قول ابن القاسم وقول عبد الملك بن حبيبٍ في المأخوذ: هل هو عُشْر ما يدخل به؟ وهو رأي ابن حبيبٍ، أو عشر ما يعوضه؟ وهو رأي ابن القاسم.
قالوا: وسبب الاختلاف: هل المأخوذ منهم لحقِّ الوصول إلى البلد الثاني أو لحقِّ الانتفاع فيه؟
قالوا: ويتخرج على هذا فرعان:
أحدهما: لو دخلوا ببضاعةٍ أو عينٍ ثم أرادوا الرجوع قبل أن يبيعوا ويشتروا، فابن حبيبٍ يوجب عليهم العشر كالحربيين، وابن القاسم لا يوجبه؛ لأنهم لم ينتفعوا فيه.
الفرع الثاني: لو دخلوا بإماءٍ فابن حبيبٍ يمنعهم من وطئهن واستخدامهن، ويحول بينهم وبينهن، لأنه يرى المسلمين شركاءهم. وابن القاسم لا يرى المنع، ولا يحول بينهم وبينهن (2)، إذ لا يرى الشركة.
_________
(1) انظر: “عقد الجواهر الثمينة” (1/ 489 – 491) والزيادة منه.
(2) “لأنه يرى … وبينهن” ساقطة من المطبوع، وهي ثابتة في الأصل ومصدر المؤلف (عقد الجواهر).
(1/225)
ولو باعوا في بلدٍ ثم اشتروا فيه لم يؤخذ منهم إلا عشر واحدٌ، ولو باعوا في أفقٍ ثم اشتروا بالثمن في أفقٍ آخر أُخِذ منهم عُشرانِ.
قالوا: ويُخفَّف عن أهل الذمة فيما حملوه إلى مكة والمدينة من الزيت والحنطة خاصةً، فيؤخذ منهم نصف العشر. هذا المشهور عن مالك. وروى ابن نافعٍ عنه أنه يؤخذ منهم العشر كاملًا، كما لو حملوا ذلك إلى غيرهما أو حملوا غيرهما إليهما.
وإذا دخل الحربي بأمانٍ مطلقٍ أُخذ منه العشر، لا يزاد عليه، وتجوز مُشارطتُه على أكثر من ذلك عند عقد الأمان على الدخول.
ولو تَجَر بالخمر والخنزير وما يحرم علينا، فروى ابن نافعٍ عن مالك: يتركونه حتى يبيعوه (1)، فيؤخذ منهم عُشر الثمن. فإن خِيفَ من خيانتهم في ذلك جُعل معهم أمينٌ.
قال ابن نافعٍ: وذلك إذا جلبوه إلى أهل الذمة، لا إلى أمصار المسلمين التي لا ذمة فيها.
وفي “الواضحة” لعبد الملك بن حبيبٍ: إذا نزل الحربي بخمرٍ أو خنزيرٍ أراق الإمام الخمرَ وقتل الخنزير، ولم يُنزِلهم مع بقائهما.
قال سحنونٌ: وإذا اشترى الذمي فأُخِذ منه العشر، ثم استُحِقَّ ما بيده أو ردّه بعيبٍ= رجع بالعشر.
_________
(1) في الأصل: “حتى يبيعونه”. والمثبت من “عقد الجواهر”.
(1/226)
قال أشهب: ولو ثبت أن على الذمي دَينًا لمسلم لم يؤخذ منه عُشر، وإن ادَّعاه لم يُصدَّق بمجرد قوله، ولا يسقط بثبوته لذمي.
هذا تفصيل مذهب مالك رحمه الله تعالى.
فصل
وأما تفصيل مذهب أحمد (1)، فقال الميموني: قلت لأبي عبد الله: من أين أخذوا [من] أموال أهل الذمة ــ إذا تَجَروا فيها ــ الضِّعفَ؟ على أيِّ سنةٍ هو؟ قال: لا أدري، إلا أنه فِعْل عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -. ثم قال: تُؤخذ منا زكاتنا ربع العشر، ويُضعَّف عليهم فيُؤخذ منهم نصف العشر.
قال الميموني: وقرأت على أبي عبد الله: وإن اتَّجروا ــ يعني أهل الذمة ــ بأموالهم بين أظهرنا هل لنا فيها شيء؟ فأملى عليَّ: ليس فيها شيء، وإنما يؤخذ منهم إذا مرُّوا بتجارتهم علينا.
قال صالح بن أحمد: قلت لأبي: تجب على اليهودي والنصراني الزكاة في أموالهم؟ قال: لا تجب عليهم، ولكن إذا مرُّوا بالعاشر فإن كان أهل الذمة أخذ منهم نصف العشر، من كل عشرين دينارًا دينارٌ، يعني: فإذا نقصت من العشرين فليس عليه فيها شيء، ولا تؤخذ منهم إلا مرةً واحدةً، ومن المسلم من كل أربعين دينارًا دينارٌ.
قال الميموني: وقرأت على أبي عبد الله: وما عليهم ــ يعني أهل الذمة ــ
_________
(1) انظر: “الجامع” للخلال (1/ 134 – 137). والروايات الآتية منه.
(1/227)
في أموالهم التي يتجرون فيها إذا مرُّوا بها علينا؟ فأملى عليَّ: السنة مرةً. كذا يروي إبراهيم النخعي عن عمر: أن لا يأخذ في السنة إلا مرةً.
قال حنبلٌ: سمعت أبا عبد الله يقول: أهل الذمة إذا تَجَروا من بلدٍ إلى بلدٍ أُخِذ منهم الجزية ونصف العشر، فإذا كانوا في المدينة لم يؤخذ منهم إلا الجزية، وعلى المسلمين ربع العشر، من كل أربعين درهمًا درهمٌ.
وقال أبو الحارث: كتبت إلى أبي عبد الله أسأله عن النصراني واليهودي إذا مرُّوا على العاشر كم يأخذ منهم (1)؟ قال: يؤخذ منهم نصف العشر من كل عشرين دينارًا دينارٌ، قلت: فإن كان مع الذمي عشرة دنانير؟ قال: يؤخذ منه نصف دينارٍ، قلت: فإن كان أقلَّ من عشرة دنانير؟ قال: إذا نقصتْ لم يؤخذ منه شيء؟
قال أبو الحارث: وقلت لأبي عبد الله: إذا مرَّ أهل الذمة بالعاشر مرتين يؤخذ منهم العشر كلَّما مرُّوا؟ قال: لا يُؤخذ منهم في السنة إلا مرةً واحدةً وإن مرُّوا بالعاشر مرارًا. قلت: فما أُخذ من أهل الذمة فهي زكاة أموالهم؟ قال: ليس على أهل الذمة زكاةٌ، ولكن إذا مرُّوا بالعاشر عشَرَهم في السنة مرةً واحدةً.
وقال سندي: قال أبو عبد الله في الذمي يمرُّ بالعاشر: يأخذ منه نصف العشر، فقيل: في كم يؤخذ منه؟ قال: إذا كان معه نصف ما يجب على المسلمين فيه، قال: ولا يؤخذ منهم في السنة إلا مرةً، هكذا هو في الحديث.
_________
(1) في المطبوع: “إذا مرَّا … يأخذ منهما” خلاف الأصل و”الجامع” للخلال.
(1/228)
وقال الميموني: قال أبو عبد الله: يؤخذ من أموال أهل الذمة إذا تَجَروا فيها قُوِّمَتْ عليهم، ثم أُخِذ منهم زكاتها مرتين، يُضعف عليهم لقول عمر – رضي الله عنه -: أَضْعِفْها عليهم، فمن الناس من شبَّه الزرع بهذا.
وقال إسحاق بن منصورٍ: قلت لأبي عبد الله: قول ابن عباس – رضي الله عنهما -: في أموال أهل الذمة العفو، فقال: عمر – رضي الله عنه – جعل عليهم ما بلغك، كأنه لم يَرَ ما قال ابن عباس.
وروى الإمام أحمد (1) بإسناده قال: جاء شيخٌ نصراني إلى عمر – رضي الله عنه – فقال: إن عاملك عشَرَني في السنة مرتين، قال: ومن أنت؟ قال: هو (2) الشيخ النصراني، قال عمر – رضي الله عنه -: أنا الشيخ الحنيفي (3). ثم كتب إلى عامله: أن لا تعشروا في السنة إلا مرةً. وأن (4) الجزية والزكاة إنما تؤخذ في العام مرةً.
_________
(1) “الجامع” (1/ 148) من طريق صالح بن الإمام أحمد عن أبيه بإسناده عن إبراهيم النخعي مرسلًا، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة (10692). وقد وصله أبو يوسف في “الخراج” (303) ويحيى بن آدم (211) ــ ومن طريقه البيهقي (9/ 211) ــ وأبو عُبيد في “الأموال” (1492) من طرق عن زياد بن حُدير ــ وهو العامل المشكو منه ــ عن عمر.
(2) كذا، ولفظ أحمد وغيره: “أنا”، ولكن لقبح الكلمة حوَّله المؤلف إلى الغيبة. ومثله حديث سعيد بن المسيب عن أبيه أنه لمَّا حضرت أبا طالب الوفاةُ كان آخر ما كلّمهم: “هو على ملّة عبد المطلب”. أخرجه البخاري (1360) ومسلم (24).
(3) كذا في الأصل. وفي “الجامع” وغيره من المصادر: “الحنيف”.
(4) كذا في الأصل. وفي “المغني” (13/ 231): “ولأن”، فهو تعليل آخر، وليس جزءًا من مكتوب عمر.
(1/229)
فصل (1)
ومتى أُخذ منهم ذلك مرةً كُتِب لهم حجةٌ بأدائهم، لتكون وثيقةً لهم، وحجةً على من يمرُّون به فلا يَعْشِرهم مرةً ثانيةً، وإن مرَّ ثانيةً (2) بأكثر من المال الذي أخذ منه أخذ من الزيادة وحدها؛ لأنها لم تُعشر.
ولا يؤخذ منهم من غير مال التجارة شيء، فلو مرَّ بالعاشر منهم منتقلٌ ومعه أموالُه أو سائمةٌ لم يؤخذ منه شيء، نص عليه أحمد (3).
وإن كانت ماشيته للتجارة أخذ منه نصف عشرها.
واختلفت الرواية (4) في القدر الذي يؤخذ منه نصف العشر، فروى عنه صالحٌ: من كل عشرين دينارًا دينارٌ، يعني: فإذا نقص من العشرين فليس عليه شيء؛ لأن ما دون النصاب لا يجب فيه زكاةٌ على المسلم ولا على التغلبي، فلا يجب فيه شيء على الذمي، كما فيما دون العشرة.
وروي عنه: أنَّ في العشرة نصفَ مثقالٍ، وليس فيما دونها شيء كما تقدم لفظه في رواية أبي الحارث؛ لأن العشرة مالٌ يبلغ واجبه نصف دينارٍ، فوجب فيه كالعشرين في حق المسلم، ولأنه مالٌ يُعْشَر فوجب في العشرة منه كمالِ الحربي، هذا مذهبه المنصوص عنه.
_________
(1) انظر: “المغني” (13/ 231).
(2) في الأصل: “وان من يأتيه” تحريف. والتصويب من “المغني”.
(3) كما في “المغني” (13/ 231).
(4) انظر المصدر السابق.
(1/230)
وخالف ابن حامدٍ نصَّه فقال (1): يؤخذ عُشر الحربي ونصف عُشر الذمي مما قلَّ أو كثر. لأنّ عمر قال (2): “خذ من كل عشرين درهمًا درهمًا”، ولأنه حقٌّ عليه، فواجبٌ في قليل المال وكثيره، كنصيب المالك في أرضه التي عامله عليها.
وهذا ضعيفٌ جدًّا، والمراد بقول عمر بيان القدر المأخوذ، لا عموم المأخوذ (3) منه في كل قليلٍ وكثيرٍ، كقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “في الرِّقَةِ (4) ربعُ العُشْر” (5)، وقوله: “فيما سَقَتِ السماء العُشْرُ” (6).
فصل (7)
واختلفت الرواية عن أحمد في الذمي يمرُّ على العاشر بخمرٍ أو خنزيرٍ، فقال في موضع: قال عمر: وَلُّوهم بيعَها، لا يكون إلا على الآخذ منه. يعني: من ثمنه، وقد ذكرنا نصَّه في الجزية وقول عمر. ووافقه على ذلك مسروقٌ والنخعي ومالك وأبو حنيفة ومحمد في الخمر خاصةً.
_________
(1) كما في المصدر السابق.
(2) في الأصل: “قال ابن عمر قال”. والتصويب من “المغني”.
(3) “لا عموم المأخوذ” ساقطة من المطبوع.
(4) الرقة: الفضة.
(5) قطعة من كتاب أبي بكر لأنس بن مالك لما وجهه إلى البحرين، أخرجه البخاري (1454).
(6) أخرجه البخاري (1483) من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما -.
(7) انظر: “المغني” (13/ 232).
(1/231)
وذكر القاضي (1) أن أحمد نصَّ على أنه لا يؤخذ منها شيء.
وقد ذكرنا ذلك وأن المسألة رواية واحدةٌ، وأن أحمد إنما منع الأخذ من أعيانها لا من أثمانها، وهو الذي قال فيه عمر بن عبد العزيز: الخمر لا يعشرها مسلم. وهو الذي أنكره عمر بن الخطاب على عتبة بن فرقد حين بعث إليه بأربعين ألفَ درهم صدقةَ الخمر، فكتب إليه عمر: بعثتَ إليَّ بصدقةَ الخمر، وأنت أحقُّ بها من المهاجرين، والله لا استعملتُك على شيء بعدها، فنزعَه.
قال أبو عبيد (2): ومعنى قول عمر: “ولُّوهم بيعَها، وخذوا أنتم من الثمن” أن المسلمين كانوا يأخذون من أهل الذمة الخمر والخنازير من جزيتهم وخراج أرضهم بقيمتها، ثم يتولَّى المسلمون بيعَها، فأنكره عمر، ثم رخَّص لهم أن يأخذوا من أثمانها إذا كان أهل الذمة هم المتولِّين بيعَها.
وذكرنا حديث سُويد بن غَفَلة أن بلالًا قال لعمر: إنَّ عُمَّالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج، فقال: لا تأخذوها منهم، ولكن ولُّوهم بيعَها وخُذوا أنتم من الثمن (3).
قال أصحابنا (4): ويجوز أخذ ثمن الخمر والخنزير منهم عن جزية
_________
(1) أي أبو يعلى. والكلام في “المغني”.
(2) “الأموال” (1/ 110).
(3) تقدَّم (ص 92).
(4) انظر: “المغني” (13/ 233).
(1/232)
رؤوسهم وخراج أرضهم، احتجاجًا بقول عمر هذا؛ ولأنها من أموالهم التي نُقِرُّهم على اقتنائها والتصرُّف فيها، فجاز أخذُ أثمانها منهم كأثمان ثيابهم.
قلت: ولو بذلوها في ثمنِ مَبيعٍ أو إجارةٍ أو قرضٍ أو ضمانٍ أو بدلِ مُتلَفٍ جاز للمسلم أخذها، وطابتْ له.
قالوا (1): وإذا مرَّ الذمي بالعاشر وعليه دينٌ بقدر ما معه أو ينقص (2) عن النصاب، فظاهر كلام أحمد أن ذلك يمنع أخذَ نصف العُشر منه؛ لأنه حقٌّ يُعتبر (3) له مال النصاب والحول، فيمنعه الدين كالزكاة. ولا يُقبل قوله إلا ببينةٍ من المسلمين.
وإن مرَّ بجاريةٍ فادعى أنها ابنته أو أخته ففيه روايتان (4):
إحداهما: يقبل قوله؛ لأن الأصل عدم ملكه فيها.
والثانية: لا يُقبل [إلا ببينةٍ]، لأنها في يده فأشبهتْ بهيمتَه.
قال أبو الحارث (5): كتبتُ إلى أبي عبد الله وسألته، فقلت: نصراني مرَّ
_________
(1) “المغني” (13/ 233).
(2) في الأصل: “بنقصه”. والمثبت كما في “المغني”.
(3) في الأصل: “يعيد”. والمثبت من “المغني”.
(4) كما في “المغني” (13/ 233). ومنه الزيادة.
(5) “الجامع” للخلال (199).
(1/233)
بعشّارٍ ومعه جاريةٌ، فقال: ابنتي أو أهلي؟ قال: يصدِّقه، ولا يصدِّقه في أن يقول: عليَّ دينٌ.
وقال يعقوب بن بختان (1): قال أبو عبد الله في الذمي يمرُّ بالعشَّار فيقول: عليَّ دينٌ، قال: لا يُقبل منه. قيل: فإن كان معه جاريةٌ فقال: هي أهلي أو أختي؟ قال: هو واحدٌ.
قال الخلال (2): أشبه القولين لأبي عبد الله ما قال أبو الحارث: يصدِّقه في الجارية ولا يصدِّقه في الدين، وعلى هذا العمل من قوله.
قلت: والفرق بينهما أن الأصل عدم الدَّين، والأصل عدم المِلْك في الجارية، وبالله التوفيق.
فصل
فهذا مذهبه في الذمي. وأما الحربي المُعاهَد فإنه يؤخذ منه العشر.
قال حنبلٌ (3): سمعت أبا عبد الله يقول: من كان من أهل الحرب فعليهم العشرُ، ومن كان من [أهل] العهد فعليهم نصف العشر، في السنة مرةً واحدةً. ومراده بأهل العهد أهل الذمة.
_________
(1) “الجامع” (200).
(2) المصدر نفسه (1/ 145).
(3) “الجامع” (201). ومنه الزيادة.
(1/234)
وقال الميموني (1): وسألت أبا عبد الله فأملى عليَّ: على أهل الحرب العشرُ، حديث أنس بن مالك (2).
وقال صالحٌ (3): قال أبي: أهل الحرب إذا مرُّوا بالعشَّار أخذ منهم العُشر، من العشرة واحدًا. وفي موضع آخر قال: قلت لأبي: كم يُؤخذ من أهل الحرب؟ قال: العُشر؛ من كل عشرة دنانير دينارٌ.
قلت (4): حديث عمر: “كم يأخذون منكم إذا قدمتم [عليهم؟ قالوا: العُشر” (5). قال: خذ منهم العُشر على حديث أنس].
حدثنا محمد بن جعفرٍ، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنسٍ أن عمر بعثه أميرًا أو مصدِّقًا، وأمره أن يأخذ من المسلمين: من كل أربعين درهمًا درهمًا، ومن أهل الذمة: من كل عشرين درهمًا درهمًا، ومن أهل الحرب: من كل عشرةٍ واحدًا (6).
_________
(1) المصدر نفسه (202).
(2) كذا في الأصل و”الجامع”. وفي المطبوع: “كما في حديث أنس بن مالك عن عمر”.
(3) “الجامع” (203).
(4) القائل الخلال في المصدر السابق، ومنه الزيادة.
(5) تقدَّم (ص 150) وسيأتي مرَّة أخرى قريبًا. وفي إسناده انقطاع، ولعله لذا قال أحمد: إن المعوَّل إنما هو على حديث أنس عن عمر.
(6) “الجامع” (204)، وقد تقدَّم (ص 219، 222) من رواية أنس بن سيرين عن أنس.
(1/235)
فصل (1)
ويؤخذ منهم العشر في جميع أموال التجارة.
وقال القاضي (2): إذا دخلوا بمِيْرةٍ بالناس إليها حاجةٌ أُذِن لهم في الدخول بغير عُشرٍ، ليكثر على المسلمين. وهذا مذهب الشافعي، ومنصوصُ أحمد وعمر بخلافه.
وقد روى مالك عن الزهري عن سالمٍ عن أبيه عن عمر أنه كان يأخذ من النَّبَط من القُطْنِيّة (3) العُشرَ، ومن الحِنطة والزيت (4) نصف العشر، ليكثر الحملُ إلى المدينة (5).
ولكن إذا رأى الإمام التخفيفَ عنهم لهذه المصلحة أو التركَ بالكلية فله ذلك. وهذا عارضٌ، لا أنه ترك تعشير المِيْرة بالكلية.
فصل (6)
ويؤخذ العشر من كل تاجرٍ (7) صغيرٍ أو كبيرٍ ذكرًا أو أنثى.
_________
(1) انظر: “المغني” (13/ 235).
(2) كما في المصدر السابق.
(3) هي ما يُدَّخر في البيت من الحبوب ويطبخ مثل العدس. وتقدم تفسيرها.
(4) كذا في الأصل و”الموطأ”. وفي “المغني”: “والزبيب”.
(5) “الموطأ” (1/ 377، 378). وتقدم.
(6) انظر: “المغني” (13/ 235).
(7) في “المغني”: “ويؤخذ العشر من كل حربي تاجر، ونصف العشر من كل ذمي تاجر”.
(1/236)
وقال القاضي (1): ليس على المرأة عشر ولا نصفُ عشرٍ (2)، سواءٌ كانت حربيةً أو ذمِّيةً، لكن إن دخلتِ الحجازَ عُشِرتْ؛ لأنها ممنوعةٌ من الإقامة به.
وهذا التفصيل لا يوجد في شيء من نصوص أحمد البتةَ، ولا تقتضيه أصوله؛ لأنه يأخذ الصدقة من نساء بني تغلب وصبيانهم.
والأحاديث في هذا الباب عن الصحابة ليس فيها تفريقٌ بين ذكر أو أنثى ولا بين صغيرٍ وكبيرٍ، وليس هذا بجزيةٍ، وإنما هو حقٌّ يختصُّ بمال التجارة، فيستوي فيه الرجل والمرأة كالزكاة.
فصل (3)
ولا يُعشَرون في السنة إلا مرةً واحدةً، ولا يؤخذ من أقلَّ من عشرة دنانير، نصَّ عليهما أحمد.
وحُكي عن ابن حامدٍ (4): نأخذ من الحربي كلما دخل إلينا من قليل المال أو كثيره. وهذا قول بعض الشافعية، وهو مخالفٌ لنصِّ عمر ونصِّ أحمد كما تقدم.
_________
(1) كما في “المغني”.
(2) “ولا نصف عشر” ساقطة من المطبوع.
(3) انظر: “المغني” (13/ 235).
(4) كما في “المغني”.
(1/237)
فصل
وإن جاء الحربي منتقلًا إلينا بأهله وماله لم نأخذ منه شيئًا إلا من تجارةٍ معه، نص على ذلك أحمد (1).
فصل
ويؤخذ منهم العشر، سواءٌ أخذوه منّا إذا دخلنا إليهم أو لم يأخذوه، في ظاهر المذهب (2).
وعن أحمد رواية أخرى: أنهم إن كانوا يأخذون منّا إذا دخلنا إليهم، وإلا فلا.
فصل
وأما تفصيل مذهب أبي حنيفة وأهل العراق رحمهم الله تعالى، فقال أبو حنيفة (3): لا نأخذ منهم شيئًا إلا أن يكونوا يأخذون منا فنأخذ منهم مثله، فنأخذ منهم ذلك على وجه القصاص.
وحجة هذا القول حديث أبي مِجلَزٍ أنه قال: قيل لعمر: كيف نأخذ من أهل الحرب إذا قدموا علينا؟ قال: كيف يأخذون منكم إذا دخلتم إليهم؟
_________
(1) انظر: “الجامع” للخلال (1/ 140)، و”المغني” (13/ 231).
(2) “المغني” (13/ 233).
(3) انظر: “المغني” (13/ 233).
(1/238)
قالوا: العشر، قال: فكذلك خذوا منهم (1).
وقال زياد بن حُديرٍ: كنا لا نَعْشِر مسلمًا ولا معاهدًا. قيل: من كنتم تَعْشِرون؟ قال: كفار (2) أهل الحرب، نأخذ منهم كما يأخذون منا (3).
ولا يؤخذ منهم شيء حتى يبلغ مائتي درهمٍ (4).
قالوا: فإن [قال:] عليَّ دَينٌ، أو ليس هذا المال لي، وحلف عليه= صُدِّق على ذلك ولم يؤخذ منه شيء.
قالوا: وإنما يؤخذ من الصامت والمتاع والرقيق، وما أشبهه (5) من الأموال التي تبقى في أيدي الناس، فإذا مرَّ بالفواكه وأشباهها التي لا بقاء لها فإنه لا يؤخذ [فيها] منه شيء.
قالوا: ولا يؤخذ من المال الواحد أكثر من مرةٍ واحدةٍ في السنة، وإن مرَّ
_________
(1) تقدَّم (ص 150)، ورواية أبي مجلز عن عمر مرسلة. وله شاهد عند عبد الرزاق (10121) من رواية ابن أبي نجيح عن عمر، وهو منقطع أيضًا، بل الظاهر أنه مُعضل.
(2) كذا في الأصل و”المغني”. وتقدم (ص 220) بلفظ: “تجّار”. وهو أولى.
(3) “الجامع” (1/ 150) من رواية عبد الرحمن بن معقل عن زياد بن حُدير، وقد تقدَّم من رواية إبراهيم بن مهاجر عن زياد بنحوه (ص 220).
(4) انظر: “الأموال” (2/ 206). والأقوال الآتية منقولة منه، كما سيصرِّح بذلك المؤلف.
(5) في الأصل: “وما اسربه”. والتصويب من “الأموال”.
(1/239)
به مرارًا.
وكان سفيان الثوري يقول: لا يؤخذ منه شيء حتى يبلغ مائة درهمٍ، فإذا بلغ مائة درهم أُخذ منه نصف العشر فيه، وبمقدار النصاب، وبقدر الواجب.
قال أبو عبيد (1) بعد أن حكى بعض هذه الأقوال: وكل هذه الأقوال لها وجوهٌ:
فأما الذين قالوا من أهل العراق: إنه لا يؤخذ من الذمي شيء حتى يبلغ ماله مائتي درهم، فإنهم شبَّهوه بالصدقة، ذهبوا إلى أن عمر – رضي الله عنه – حين سمَّى ما يجب في أموال الناس التي تُدار للتجارات، إنما قال: يُؤخذ من المسلمين كذا، ومن أهل الذمة كذا، ومن أهل الحرب كذا، ولم يوقِّت في أدنى مبلغ المال وقتًا.
ثم قالوا: رأيناه قد ضمَّ أموالَ أهل الذمة إلى أموال المسلمين في حقٍّ واحدٍ، فحملنا وقتَ أموالهم على الزكاة، إذ كان لأداء الزكاة حدٌّ محدودٌ، وهو المائتان فأخذنا أهل الذمة بها وألقينا (2) ما دون ذلك.
وأما مالك وأهل الحجاز فقالوا (3): الذي يؤخذ من أهل الذمة ليس بزكاةٍ فيُنظَر فيه إلى مبلغها وإلى حدِّها، إنما هو بمنزلة الجزية التي تؤخذ من رؤوسهم، ألا ترى أنها تجب على الغني والفقير [على] قدر طاقتهم، من غير
_________
(1) “الأموال” (2/ 207).
(2) كذا في الأصل. وفي “الأموال”: “وألغينا”.
(3) “الأموال” (2/ 207، 208).
(1/240)
أن يكون لأداء ما يملك أحدهم وقتٌ يُوقَّت، وعلى ذلك صولحوا؟ قالوا: فكذلك ما مرُّوا به من التجارات يؤخذ من قليلها وكثيرها.
وأما سفيان في توقيته بالمائة، فإنه لمَّا رأى أن الموظَّف (1) على أهل الذمة هو الضِّعف مما على المسلمين، في كل مائتين عشرةٌ، جعل فرع المال على حسب أصله، فأوجب عليهم في المائة خمسةً كما يجب عليهم في المائتين عشرةٌ، ليوافق الحكم بعضه بعضًا، وأسقط ما دون المائة كما عُفِي للمسلمين عما دون المائتين، فصارت المائة للذمي كالمائتين للمسلمين. فهذا رأيه (2) في أهل الذمة. ولستُ أدري ما وقَّت في أهل الحرب، غير أنه ينبغي أن يكون في قوله: إذا مرَّ أحدهم بخمسين درهمًا وجب عليه فيها العُشر.
قال أبو عبيد (3): وقول سفيان هو عندي أعدلُ هذه الأقوال وأشبهها بالذي أراد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -، مع أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى قد فسَّر ذلك في كتابه إلى زُريق بن حيَّان (4) الذي ذكرناه أنه كتب إليه: “من مرَّ بك من أهل الذمة فخُذْ مما يديرون في التجارات من كل عشرين دينارًا دينارًا، فما نقصَ فبحساب ذلك حتى يبلغ عشرة دنانير، فإن نقصت
_________
(1) في الأصل: “الوطف”. والتصويب من المصدر السابق.
(2) في الأصل: “الأثر”. والتصويب من المصدر السابق.
(3) “الأموال” (2/ 208).
(4) في الأصل: “رقيق بن حنان” تحريف.
(1/241)
ثلث دينارٍ فلا تأخذْ منه شيئًا”.
قال أبو عبيد: فعشرة دنانير إنما هي معدولةٌ بمائة درهم في الزكاة، وهي عندنا تأويل حديث عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – مع تفسير عمر بن عبد العزيز، ولا يوجد في هذا مفسِّرٌ هو أعلم منه، وهو قول سفيان.
قال: فهذا ما جاء في توقيت أداء ما تجب فيه الحقوق من أموال أهل الذمة والحرب.
وأما قولهم في الذمي إذا ادعى أن عليه دَيْنًا، واختيارُ أهل العراق أن يقبل منه، وقول مالك وأهل الحجاز إنه لا يُقبل منه وإن أقام البينة على دعواه= فإن الذي أختار من ذلك قولًا (1) بين القولين، فأقول: إن كان له شهودٌ من المسلمين على دَيْنه قُبِل ذلك منه، ولم يكن على ماله سبيلٌ؛ لأن الدَّين حقٌّ قد وجب لربه عليه، وهو أولى به من الجزية؛ لأنها وإن كانت حقًّا للمسلمين في عنقه فإنه ليس يُحصَى (2) أهل هذا الحق، فيُقْدَرَ على قَسْم مال الذمي بينهم وبين هذا الغريم بالحِصَص ولا يُعلَم كم يؤخذ منه، وقد عُلِم حقُّ هذا الغريم، فلهذا جعلناه أولى بالدَّين من غيره. وإن لم يُعلَم دَيْنُ هذا الذمي إلا بقوله كان مردودًا غير مقبولٍ منه؛ لأنه حقٌّ قد لزِمه للمسلمين، فهو يريد إبطاله بالدعوى، وليس بمؤتَمنٍ في ذلك كما يؤتَمن المسلمون على زكواتهم في الصامت، إنما هذا فيءٌ، وحكمه غير حكم الصدقة.
_________
(1) في الأصل و”الأموال”: “قولًا” هكذا منصوبًا، والوجه الرفع.
(2) في الأصل: “يخص”. والتصويب من “الأموال”.
(1/242)
وأما اختلافهم في ممرِّه على العاشر مرارًا في السنة، وقول أهل العراق وسفيان: إنه لا يؤخذ إلا مرةً واحدةً، وقول مالك وأهل الحجاز: إنه يؤخذ منه في السنة (1) كلّما مر= فإن الرواية في هذا للإمامين عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، فقد كُفِينا النظَرَ فيه.
حدثنا محمد بن كثيرٍ، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن ابن زياد بن حُدَيرٍ: أن أباه كان يأخذ من نصراني في كل سنةٍ مرتين، فأتى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فقال: يا أمير المؤمنين إن عاملك يأخذ مني العُشْرَ في السنة مرتين، فقال عمر – رضي الله عنه -: ليس ذلك له، إنما له في كل سنةٍ مرةً. ثم أتاه فقال: هو الشيخ النصراني، فقال عمر – رضي الله عنه -: وأنا الشيخ الحنيف، قد كتبتُ لك في حاجتك (2).
حدثنا يزيد عن جرير بن حازمٍ قال: قرأتُ كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة أن يأخذ العشور ثم يكتب بما يأخذ منهم البراءةَ، فلا يأخذ منهم من ذلك المال ولا من ربحه زكاة سنةٍ، ويأخذ من غير ذلك المال إن مرَّ به (3).
قال أبو عبيد (4): فحديث عمر هذا هو عدلٌ بين قول أهل الحجاز وقول
_________
(1) “في السنة” ساقطة من المطبوع.
(2) “الأموال” (1492)، وقد تقدَّم تخريجه (ص 229).
(3) “الأموال” (1493)
(4) المصدر نفسه (2/ 210).
(1/243)
أهل العراق: أنه إن كان المال التالي هو الذي مر به بعينه في المرة الأولى لم يُؤخذ منه تلك السنةَ ولا من ربحه أكثرَ من مرةٍ؛ لأن الحق الذي قد لزِمَه فيه قد قضاه، فلا يُقضى حقٌّ واحدٌ من مالٍ مرتين. وإن مرَّ بمالٍ سواه أُخذ منه وإن جدَّد ذلك في كل عامٍ مرارًا، إذا كان قد عاد إلى بلاده ثم أقبل بمالٍ سوى المال الأول؛ لأن المال الأول لا يُجزئ عن الآخر، ولا يكون في هذا أحسنَ حالًا من المسلم. ألا ترى أنه لو مرَّ بمالٍ لم يُؤدِّ زكاته أُخذت منه الصدقة، ثم إن مرَّ بمالٍ آخر في عامه ذلك لم يكن أخذت منه الزكاة أنها تؤخذ منه من ماله هذا أيضًا؛ لأن الصدقة لا تكون قاضيةً عن المال الآخر؟ فهذا قدرُ ما في أهل الذمة.
فأما أهل الحرب، فكلهم يقول: إذا انصرف إلى بلاده ثم عاد بماله ذلك أو بمالٍ سواه، إنَّ عليه العُشْرَ كلَّما مرَّ به؛ لأنه إذا دخل دار الحرب بطلتْ عنه أحكام المسلمين، فإذا عاد إلى دار الإسلام كان مستأنفًا للحكم كالذي لم يدخلها قطُّ، لا فرقَ بينهما. وكلهم يقول: لا يُصدَّق الحربي في شيء مما يدَّعي من دَينٍ عليه، أو قولِه: إن هذا المال ليس لي، ولكن يؤخذ منه على كل حالٍ. إلا أن أهل العراق يقولون: يُصدَّق الحربي في خصلةٍ واحدةٍ، إذا مرَّ بجوارٍ فقال: هؤلاء أمهاتُ أولادي، قُبِل منه، ولم يؤخذ منه عُشر قيمتهن.
قلت: فقد حكى أبو عبيد الاتفاق على أن الحربي يُعشَر كلما دخل إلينا، وفرَّق بينه وبين الذمي. والذي نصَّ عليه الإمام أحمد والشافعي أنه لا يؤخذ منه في السنة إلا مرةً، وبعض أصحاب أحمد والشافعي قال: يؤخذ كلما دخل
(1/244)
إلينا (1)، وقد تقدم (2) نص أحمد في رواية حنبلٍ وابنه صالحٍ: أنه لا يؤخذ منهم في السنة إلا مرةً، واحتجَّ بحديث عمر.
وأعدل الأقوال في ذلك قول عمر بن عبد العزيز، وهو الذي اختاره أبو عبيد، فإن المال الثاني له حكم نفسه لا يتعلق به حكم المال الأول، كما لو أخذت الزكاة من مسلم لم ينسحبْ حكمُها على ما لم يؤخذ من سائر أمواله، ولا يؤخذ منه في السنة مرارًا، فهكذا مال المعاهد، والله أعلم.
* * * *
_________
(1) انظر: “المغني” (13/ 235).
(2) (ص 227، 228). وانظر: “الجامع” للخلال (1/ 146).
(1/245)
فصل
في الأمكنة التي يُمنع أهل الذمة من دخولها والإقامة بها
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28].
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: بينما نحن في المسجد خرج علينا النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: “انطلِقُوا إلى يهودَ”، فخرجنا معه حتى جئنا بيتَ المِدْراس (1)، فقام النبي – صلى الله عليه وسلم – فناداهم فقال: “يا معشرَ اليهود، أَسْلِموا تَسْلَموا”، فقالوا: قد بلَّغتَ يا أبا القاسم. فقال: “ذلك أريد”، فقال: “أَسلِموا تَسلموا”، فقالوا: قد بلَّغتَ يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ذلك أريد”، ثم قالها الثالثة فقال: “اعلموا أنما الأرض لله ورسوله، وإني أريد [أن] أُجْلِيَكم من هذه الأرض، فمن وجد منكم بماله شيئًا فليَبِعْه، وإلا فاعلموا أنما الأرض لله ورسوله”. متفق عليه (2)، ولفظه للبخاري.
وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: يوم الخميس، وما يوم الخميس! قال: اشتدَّ برسول الله – صلى الله عليه وسلم – وجعُه، فقال: “ائتوني بكتفٍ أكتبْ لكم كتابًا لا تَضِلُّوا (3) بعده
_________
(1) المِدراس: الموضع الذي يُدرس فيه كتاب اليهود.
(2) البخاري (7348) ومسلم (1765).
(3) في المطبوع: “لا تضلون”. والمثبت من الأصل موافق للرواية.
(1/246)
أبدًا”، فتنازعوا ــ ولا ينبغي عند نبيٍّ تنازعٌ ــ فقالوا: ما له؟ أَهَجَرَ؟ استفهِمُوه. فقال: “ذَروني، الذي أنا فيه خيرٌ مما تدعونني إليه”، فأمرهم بثلاثٍ فقال: “أَخرِجوا المشركين من جزيرة العرب، وأَجيزوا الوفدَ بنحوٍ مما كنت أُجيزهم”، والثالثة إما سكتَ عنها، وإما قالها فنسيتُها. متفق عليه (1)، ولفظه للبخاري.
وعن ابن عمر – رضي الله عنهما -: أن يهودَ بني النضير وقُريظة حاربوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فأجلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بني النضير وأقرَّ قريظةَ ومنَّ عليهم، حتى حاربت قريظة (2) بعد ذلك، فقتل رجالهم وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين، إلا بعضهم لحِقُوا برسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأسلموا فأَمَّنهم. وأجلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يهود المدينة كلهم: بني قَينُقاع وهم قوم عبد الله بن سلامٍ، ويهود بني حارثة، وكل يهودي كان بالمدينة. متفق عليه (3)، واللفظ لمسلم.
وعن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “لأُخرِجنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أَدَع فيها إلا مسلمًا”. رواه مسلم (4).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: آخرُ ما عهِد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “لا يُترك
_________
(1) البخاري (3168) ومسلم (1637).
(2) “ومنَّ عليهم حتى حاربت قريظة” ساقطة من المطبوع.
(3) البخاري (4028) ومسلم (1766)
(4) برقم (1767).
(1/247)
بجزيرة العرب دينانِ”. رواه أحمد (1).
وفي “مسنده” (2) أيضًا عن علي – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “يا علي، إن أنتَ وُلِّيتَ الأمرَ بعدي فأَخرِجْ أهلَ نجران من جزيرة العرب”.
وفي “المسند” (3) أيضًا عن أبي عبيدة بن الجراح – رضي الله عنه – قال: آخرُ ما تكلَّم به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “أَخرِجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب”.
قال بكر بن محمد عن أبيه (4): وسألت أبا عبد الله عن قول النبي – صلى الله عليه وسلم –
_________
(1) برقم (23652)، وأخرجه أيضًا ابن هشام في “السيرة” (2/ 665) وابن المنذر في “الأوسط” (6/ 19) والطبراني في “الأوسط” (1066) من طرق عن ابن إسحاق قال: حدثني صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عائشة. وهذا إسناد حسن.
(2) برقم (661)، وأخرجه أيضًا ابن أبي عاصم في “السنة” (1218) وابن بطة في “الإبانة” (2916 – نشرة عادل آل حمدان)، وإسناده واهٍ، فيه قيس بن الربيع الأسدي والأشعث بن سوَّار، كلاهما ضعيف. وأخرجه عبد الرزاق (9994) من طريق آخر فيه الحسن بن عُمارة، متروك الحديث. وسيأتي في كلام المؤلف لاحقًا أنه غير محفوظ.
(3) برقم (1691)، وأخرجه أيضًا الدارمي (2540) وأبو يعلى (872) والبيهقي (9/ 208). وإسناده جيِّد، وقد اختاره الضياء (3/ 319، 320).
(4) “الجامع” للخلال (140). وليس فيه جواب الإمام أحمد، وكأنه سقط من النسخة. وهو ثابت في “الأحكام السلطانية” لأبي يعلى (ص 196).
(1/248)
“أَخرِجوا المشركين من جزيرة العرب”، قال: إنما الجزيرة موضع العرب، وأما موضع يكون فيه أهل السواد والفرس فليس هو جزيرة العرب. موضع العرب: الذي يكونون فيه.
وقال المرُّوذي (1): سئل أبو عبد الله عن قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “أَخرِجوا المشركين من جزيرة العرب”، قال: هم الذين قاتلوا النبي – صلى الله عليه وسلم -، ليست لهم ذمةٌ، ليس هم مثل اليهود والنصارى، أي يُخرَجون من مكة والمدينة دون الشام. يريد أن اليهود والنصارى يُخرَجون من مكة والمدينة (2).
قال إسحاق بن منصورٍ (3): قال أحمد: ليس لليهود والنصارى أن يدخلوا الحرم.
وقال حنبلٍ: قال عمي (4): جزيرة العرب يعني المدينة وما والاها؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – أجلى يهودَ، فليس لهم أن يقيموا بها.
وقال عبد الله بن أحمد (5): سمعت أبي يقول: حديث النبي – صلى الله عليه وسلم -: “لا
_________
(1) “الجامع” (141).
(2) الفقرة الأخيرة من المؤلف للإيضاح.
(3) “الجامع” (142). وانظر “مسائله” (2/ 540).
(4) أي الإمام أحمد، وقد كان حنبل بن إسحاق بن حنبل يدعو الإمام بـ”عمّي” مع أنهما ابنا عمّ، ولعلَّ ذلك لكبر سنّه إجلالًا له. وقوله هذا رواه الخلال في “الجامع” (143).
(5) “الجامع” (144).
(1/249)
يبقى دينانِ بجزيرة العرب”، تفسيره: ما لم يكن في يد فارس والروم. وقال الأصمعي: كل ما كان دون أطراف الشام.
وقال إبراهيم بن هانئٍ (1): سئل أبو عبد الله عن جزيرة العرب، فقال: ما لم يكن في يد فارس والروم. قيل له: ما كان خلف العرب؟ قال: نعم.
وفي “المغني” (2): جزيرة العرب ما بين الوادي إلى أقصى اليمن، قاله سعيد بن عبد العزيز.
وقال الأصمعي وأبو عبيد: هي من ريف العراق إلى عَدَنٍ طولًا، ومن تِهامة وما وراءها إلى أطراف الشام عرضًا.
وقال أبو عبيدة: هي من حَفَرِ أبي موسى (3) إلى اليمن طولًا، ومن رَمْل يَبْرِين (4) إلى منقطَع السَّماوة (5) عرضًا.
قال الخليل: إنما قيل لها: جزيرة العرب لأن بحرَ الحبش وبحرَ فارس والفراتَ قد أحاطت بها، ونُسِبت إلى العرب لأنها أرضها ومسكنها ومعدِنها.
_________
(1) المصدر السابق (145).
(2) (13/ 243). وانظر لهذه الأقوال “معجم ما استعجم” (1/ 6).
(3) بين فَلْج وفُلَيج، وهو على خمس مراحل من البصرة. انظر: “معجم ما استعجم” (1/ 457).
(4) هو رمل معروف في ديار بني سعد من تميم. المصدر نفسه (4/ 1387).
(5) السَّماوة: مفازة بين الكوفة والشام، وقيل: بين الموصل والشام، وهي من أرض كلب. المصدر السابق (3/ 754).
(1/250)
وقول الإمام أحمد: جزيرة العرب المدينة وما والاها، يريد مكة واليمامة وخيبر واليَنْبُع وفَدَك ومخاليفها وما والاها. وهذا قول الشافعي، لأنهم لم يُجْلَوا من تَيْماء ولا من اليمن (1).
قلت: وهذا يردُّ قول سعيد بن عبد العزيز: إنها ما بين الوادي إلى أقصى اليمن، إلا أن يريد أوَّلَه. وحديث أبي عبيدة صريحٌ في أن أرض نجران من جزيرة العرب، فإنه قال: “أخرِجوا أهلَ نجران ويهودَ أهل الحجاز من جزيرة العرب”، وكذا قوله لعلي – رضي الله عنه -: “أخرِجْ أهلَ نجران من جزيرة العرب”.
قال أبو عبيد (2): حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجَعْد قال: جاء أهلُ نجران إلى علي – رضي الله عنه – فقالوا: شفاعتُك بلسانك، وكتابك بيدك، أخرَجَنا عمرُ من أرضنا فرُدَّها إلينا، فقال: ويلكم، إن عمر كان رشيدَ الأمر، ولا أغيِّر شيئًا صنعه عمر. قال أبو معاوية: قال الأعمش: فكانوا يقولون: لو كان في نفسه عليه شيء لاغتنم هذا.
قلت: وهذا يدلُّ على أن حديث علي – رضي الله عنه – الذي ذكرناه قبلُ غير محفوظٍ، فإنه لو كان عنده عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمْرُه بإخراج أهل نجران من جزيرة
_________
(1) إلى هنا انتهى النقل من “المغني”. وبعدها تعليق المؤلف.
(2) “الأموال” برقم (296)، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (32667) وابن زنجويه (418) وعبد الله في “السنة” (1285) والآجري في “الشريعة” (1235) والبيهقي (10/ 120).
(1/251)
العرب لم يعتذر بأن عمر قد فعلَ ذلك وكان رشيدَ الأمر، أو لعله نسي الحديث أو أحال على عمر – رضي الله عنه – قطعًا لمنازعتهم وطلبهم.
فإن قيل: فأهلُ نجران كان النبي – صلى الله عليه وسلم – قد صالحهم، وكتب لهم كتابَ أمْنٍ على أرضهم وأنفسهم وأموالهم، فكيف استجاز عمر – رضي الله عنه – إخراجهم؟
قيل: قد قال أبو عبيد (1): إنما نرى عمر قد استجاز إخراج أهل نجران ــ وهم أهل صلحٍ ــ لحديث يُروى عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فيهم خاصةً، يحدِّثونه عن إبراهيم بن ميمونٍ مولى آل سَمُرة عن ابن سمرة عن أبيه (2) عن أبي عبيدة بن الجراح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه كان آخر ما تكلَّم به أن قال: “أخرِجوا اليهودَ من الحجاز وأخرِجوا أهلَ نجران من جزيرة العرب”.
فإن قيل: زدتم الأمر إشكالًا، فكيف أمر بإخراجهم وقد عقد معهم الصلح؟
قيل: الصلح كان معهم بشروطٍ فلم يَفُوا بها، فأمر بإخراجهم.
قال أبو عبيد (3): وإنما نراه قال ذلك لنكْثٍ كان منهم، أو لأمرٍ أحدثوه بعد الصلح.
_________
(1) “الأموال” (1/ 187).
(2) “عن أبيه” ليس في “الأموال”. وهو موصول بذكره في المصادر الأخرى، وقد تقدم تخريجه.
(3) “الأموال” (1/ 188).
(1/252)
قال (1): وذلك بيِّنٌ في كتابٍ كتبه عمر – رضي الله عنه – إليهم قبل إجلائه إياهم منها.
حدثنا ابن أبي زائدة، عن ابن عونٍ قال: قال لي محمد بن سيرين: انظُرْ كتابًا قرأته عند فلان بن جبيرٍ، فكلِّمْ فيه زيادَ بن جُبيرٍ، قال: فكلَّمتُه فأعطاني، فإذا في الكتاب: “بسم الله الرحمن الرحيم. من عمر أمير المؤمنين إلى أهل رُعاشَ (2) كلهم، سلامٌ عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإنكم زعمتم أنكم مسلمون ثم ارتددتم بعدُ، وإنه من يَتُبْ منكم ويُصلِح لا يضرُّه ارتداده ونُصاحبه صحبةً حسنةً، فادَّكِروا ولا تَهلِكوا، وليُبشِرْ من أسلم منكم. فإن أبى إلا النصرانية فإنَّ ذمتي بريئةٌ ممن وجدناه ــ بعد عشرٍ تبقى من شهر الصوم ــ من النصارى بنجران. أما بعد، فإنَّ يعلى كتب يعتذر أن يكون أَكره أحدًا منكم على الإسلام أو عذَّبه عليه، إلا أن يكون وعيدٌ لم ينفُذْ إليه منه شيء. أما بعد، فقد أمرتُ يعلى أن يأخذ منكم نصفَ ما عملتم من الأرض، وإني لن أريد نزْعَها منكم ما أصلحتم” (3).
وقال الشيخ في “المغني” (4): فأما إخراج أهل نجران منها فلأن النبي – صلى الله عليه وسلم – صالحَهم على ترك الربا، فنقَضُوا عهدَه.
_________
(1) الكلام متصل بما قبله في المصدر السابق.
(2) موضع من أرض نجران. انظر: “معجم ما استعجم” (2/ 660). وفيه ذكر كتاب عمر هذا.
(3) “الأموال” (300)، وإسناده صحيح إلى زياد بن جبير.
(4) (13/ 243، 244).
(1/253)
فإن قيل: فرسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد أقرَّ أهل خيبر بها إلى أن قبضه الله وهي من جزيرة العرب. وأصرحُ من هذا أنه مات ودِرعُه مرهونةٌ عند يهودي بالمدينة على ثلاثين صاعًا من شعيرٍ أخذه لأهله.
قيل: أما إقرار أهل خيبر فإنه لم يُقِرَّهم إقرارًا لازمًا، بل قال: “نُقِرُّكم ما شِئنا”. وهذا صريحٌ في أنه يجوز للإمام أن يجعل عقد الصلح جائزًا من جهته متى شاء نقضه بعد أن يَنْبِذ إليهم على سواءٍ، فلما أحدثوا ونكثوا أجلاهم عمر – رضي الله عنه -.
فروى البخاري في “صحيحه” (1) عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه لما فَدَّعَ (2) أهلُ خيبر عبدَ الله بن عمر قام عمر خطيبًا فقال: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان عامَلَ يهودَ خيبر على أموالهم، وقال: “نُقِرُّكم ما أقرَّكم الله تعالى”، وإن عبد الله بن عمر خرج إلى ماله هناك فعُدِي عليه من الليل، ففُدِّعت يداه ورجلاه، وليس لنا هناك عدوٌّ غيرهم، هم عدوُّنا وتُهمتُنا، وقد رأيتُ إجلاءهم. فلما أجمع عمر – رضي الله عنه – على ذلك أتاه أحد بني [أبي] الحُقَيق فقال: يا أمير المؤمنين، أتُخرِجنا وقد أقرَّنا محمد وعامَلَنا على الأموال وشرط ذلك لنا؟ فقال عمر – رضي الله عنه -: أظننتَ أني نسيتُ قولَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
_________
(1) برقم (2730). والزيادة منه.
(2) الفدع: عوج في المفاصل كأنها قد فارقت مواضعها، وأكثر ما يكون في رُسْغ اليد أو القدم. والفعل الثلاثي منه لازم، والمتعدّي فدَّع كما ضبطه الصغاني في “التكملة” (4/ 315).
(1/254)
لك: “كيف بك إذا أُخرِجتَ من خيبر تَعدُو بك قَلُوصك ليلةً بعد ليلةٍ؟ ” فقال: كانت هذه هُزَيلةً (1) من أبي القاسم، فقال: كذبتَ يا عدوَّ الله! قال: فأجلاهم عمر – رضي الله عنه – وأعطاهم قيمةَ ما كان لهم من الثمر مالًا وإبلًا وعُروضًا من أقتابٍ وحبالٍ وغير ذلك.
وفي “صحيحه” (2) أيضًا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أهلَ خيبر، فقاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم، وغلَبَهم على الأرض والزرع والنخل، فصالحوه على أن يُجْلَوا منها ولهم ما حملَتْ رِكابهم، ولرسول الله – صلى الله عليه وسلم – الصفراء والبيضاء والحلقة ــ وهي السلاح ــ، ويخرجون منها، واشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يُغيِّبوا شيئًا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهدَ، فغيَّبوا مَسْكًا فيه مالٌ وحُلِيٌّ لحُيَيِّ بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر حين أُجلِيت النَّضير، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لعمِّ حُيَيٍّ ــ واسمه سَعْية ــ:
_________
(1) تصغير الهزل ضدّ الجدّ.
(2) لم يخرجه البخاري بهذا الطول، وإنما أخرجه مختصرًا (2328، 2338، 2730) من طرق عن نافع عن ابن عمر. ومنشأ الوهم أن البخاري ذكر عقب الحديث السابق (2730) أنه قد “رواه حماد بن سلمة، عن عبيد الله، أحسبه عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – “. ولم يَسُق لفظه، فأتى الحميدي في “الجمع بين الصحيحين” (1/ 165، 166) وساق لفظه مطوَّلًا من “مستخرج البَرقاني” ــ كما قاله الحافظ في “الفتح” (5/ 329) ــ ونسبه إلى البخاري. والظاهر أن المؤلف صادر عن الحميدي، وقد أورده أيضًا في “زاد المعاد” (3/ 388، 389). وهذا السياق المطوَّل أخرجه أيضًا ابن حبان (5199) وابن المنذر في “الأوسط” (6/ 365) والبيهقي في “السنن” (9/ 137) و”الدلائل” (4/ 229)، من طرق عن حماد بن سلمة به. وإسناده جيِّد.
(1/255)
“ما فَعَل مَسْكُ حُيَيٍّ الذي جاؤوا (1) به من النضير؟ “، قال: أذهبَتْه النفقات والحروب، فقال: “العهد قريبٌ، والمال أكثر من ذلك”.
وقد كان حُيَيٌّ قُتِل قبل ذلك، فدفع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سَعْية إلى الزبير فمسَّه بعذابٍ، فقال: قد رأيتُ حُيَيًّا يطوف في خرِبةٍ هاهنا، فذهبوا فطافوا فوجدوا المَسْك في الخربة، فقَتلَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ابنَي أبي الحُقَيق وأحدهما زوج صفية بنت حُيَيّ بن أخطب، وسبى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نساءهم وذراريهم، وقسم أموالهم بالنكْث الذي نكثوا، وأراد أن يُجليهم منها، فقالوا: يا محمد، دَعْنا نكون في هذه الأرض نُصلِحها ونقومُ عليها. ولم يكن لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا أصحابه غلمانٌ يقومون عليها ولا يفرغون أن يقوموا، فأعطاهم خيبر على أنَّ لهم الشطْرَ من كل زرعٍ وشيءٍ ما بدا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
وكان عبد الله بن رواحة يأتيهم في كل عامٍ يَخْرُصها عليهم، ثم يُضمِّنهم الشطْرَ، فشكَوا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – شدةَ خرصه، وأرادوا أن يَرْشُوه، فقال عبد الله: أتُطعِمونني السُّحتَ؟ والله لقد جئتكم من عند أحبِّ الناس إليَّ، ولأنتم أبغضُ الناس إليَّ مِن عِدِّتِكم (2) من القردة والخنازير، ولا يَحملني بغضي إياكم وحبِّي إياه على أن لا أعدِلَ عليكم، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.
فكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يُعطي كلَّ امرأةٍ من نسائه ثمانين وَسَقًا من تمرٍ كلَّ
_________
(1) كذا في الأصل. وفي مصادر التخريج و”زاد المعاد”: “جاء”.
(2) في المطبوع: “عدلكم” خلاف ما في الأصل و”صحيح ابن حبان”.
(1/256)
عامٍ وعشرين وَسَقًا من شعيرٍ، فلمَّا كان زمان عمر – رضي الله عنه – غشُّوا المسلمين، وألقَوا ابنَ عمر من فوقِ بيت ففَدَعوا يديه، فقال عمر: من كان له سهم بخيبر فليحضر حتى نقسمها بينهم، فقسمها عمر – رضي الله عنه – بينهم. فقال رئيسهم: لا تُخرِجْنا، دَعْنا نكونُ فيها كما أقرَّنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأبو بكرٍ، فقال عمر – رضي الله عنه – لرئيسهم: أتراه سَقَط عليَّ قولُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “كيف بك إذا رَقَصَتْ بك راحلتُك نحو الشام يومًا ثم يومًا ثم يومًا؟ “. وقسمها عمر – رضي الله عنه – بين من كان شهد خيبر من أهل الحديبية (1).
وأما رَهْن النبي – صلى الله عليه وسلم – دِرعَه عند اليهودي فلعله من اليهود الذين كانوا يَقْدَمون المدينةَ بالمِيرة والتجارة من حولها، أو من أهل خيبر، وإلا فيهود المدينة كانوا ثلاث طوائف: بني قينقاع وبني النضير وقريظة. فأما بنو قينقاع فحاربهم أولًا، ثم منَّ عليهم. وأما بنو النضير فأجلاهم إلى خيبر وأجلى بني قينقاع أيضًا، وقتل بني قريظة (2)، وأجلى كلَّ يهودي كان بالمدينة. فهذا اليهودي المرتهن: الظاهرُ أنه من أهل العهد قدِمَ المدينة بطعامٍ، أو كان ممن لم يحارب فبقي على أمانه، فالله أعلم.
فهذا أصل إجلاء الكفّار من أرض الحجاز. ثم اختلف الفقهاء بعد ذلك، فقال مالك (3): أرى أن يُجلَوا من أرض العرب كلها؛ لأن رسول الله
_________
(1) هنا انتهى لفظ حديث ابن عمر الطويل.
(2) في الأصل: “بني النضير” خطأ.
(3) كما في “المغني” (13/ 242).
(1/257)
– صلى الله عليه وسلم – قال: “لا يجتمع دينانِ في جزيرة العرب” (1).
وفي “صحيح مسلم” (2) من حديث عمر – رضي الله عنه – سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “لأُخرِجنَّ اليهودَ والنصارى من جزيرة العرب، حتى لا أَدع فيها إلا مسلمًا”.
وقال الشافعي (3): يُمنعون من الحجاز، وهو مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها، وهي قراها. أما غير الحرم منه فيُمنَع الكتابي وغيره من الاستيطان والإقامة به، وله الدخول بإذن الإمام لمصلحةٍ، كأداء رسالةٍ أو حمل متاعٍ يحتاج إليه المسلمون، وإن دخل لتجارةٍ ليس فيها كبير حاجةٍ لم يأذن له إلا بشرط أن يأخذ من تجارته شيئًا، ولا يمكّن من الإقامة أكثر من ثلاثٍ.
وقد أدخل بعض أصحاب الشافعي اليمن في جزيرة العرب (4)، ومنعهم من الإقامة فيها. وهذا وهمٌ؛ فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – بعث معاذًا قبل موته إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل حالمٍ دينارًا، وأقرَّهم فيها، وأقرَّهم أبو بكر بعده، وأقرَّهم عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ولم يُجْلُوهم من اليمن مع أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، فلم يُعرَف عن إمامٍ أنه أجلاهم من اليمن.
_________
(1) حديث حسن، سبق تخريجه.
(2) برقم (1767).
(3) انظر: “المهذب” (3/ 319).
(4) انظر: “نهاية المطلب” (18/ 61، 62)، و”الوسيط” للغزالي (7/ 67).
(1/258)
وإنما قال الشافعي وأحمد: يُخْرَجون من مكة والمدينة واليمامة وخيبر ويَنْبُع ومخاليفها، ولم يذكرا اليمن، ولم يُجلَوا من تَيماء أيضًا. وكيف يكون اليمن من جزيرة العرب وهي وراء البحر، فالبحر بينها وبين الجزيرة؟ (1) فهذا القول غلطٌ محضٌ.
وأما الحرم فإن كان حرم مكة فإنهم يمنعون من دخوله بالكلية، فلو قدِمَ رسولٌ لم يَجُزْ أن يأذن له الإمام في دخوله، ويَخرج الوالي أو من يثق به إليه، ولا يختصُّ المنع بخِطَّة مكة بل بالحرم كله.
وأما حرم المدينة فلا يُمنع من دخوله لرسالةٍ أو تجارةٍ أو حَمْل متاعٍ.
فصل
فهذا تفصيل مذهب الشافعي رحمه الله تعالى.
وأما مذهب أحمد (2) رحمه الله تعالى فعنده يجوز لهم دخول الحجاز للتجارة؛ لأن النصارى كانوا يتَّجرون إلى المدينة في زمن عمر – رضي الله عنه – كما تقدم.
وحكى أبو عبد الله بن حمدان (3) عنه رواية: أن حرم المدينة كحرم مكة
_________
(1) كذا في الأصل. وينظر الخطّ الفاصل بين اليمن وبين باقي جزيرة العرب في “معجم البلدان” (5/ 447، 448).
(2) اعتمد المؤلف في هذا الفصل على “المغني” (13/ 244، 245).
(3) في “الرعاية الكبرى” (2/ 33 أ).
(1/259)
في امتناع دخوله.
والظاهر أنها غلطٌ على أحمد، فإنه لم يَخْفَ عليه دخولُهم بالتجارة في زمن عمر – رضي الله عنه – وبعده وتمكينُهم من ذلك.
ولا يأذن (1) لهم في الإقامة أكثر من ثلاثة أيامٍ. وقال القاضي: أربعةٌ، وهي حدُّ ما يُتِمُّ المسافر الصلاة (2).
وإذا مرِض بالحجاز جازت له الإقامة، لمشقَّةِ الانتقال على المريض. ويجوز أن يقيم معه من يُمرِّضه.
وإن كان له دَينٌ على أحدٍ وكان حالًّا أُجبِر غريمُه على وفائه، فإن تعذَّر وفاؤه لمطْلٍ أو غيبةٍ مُكِّن من الإقامة لِيَستوفيَ دينَه، وفي إخراجه ذهاب ماله.
وإن كان الدَّين مؤجَّلًا لم يُمكَّن من الإقامة، ويُوكِّل من يستوفيه؛ لأن التفريط منه.
فإن أراد أن يضع ويتعجَّل فهل يجوز ذلك؟ على روايتين منصوصتين، أشهرهما المنع، وأصحهما عند شيخنا الجواز (3). والمنع قول ابن عمر (4)
_________
(1) أي الإمام.
(2) “المغني” (13/ 244).
(3) انظر الكلام على هذه المسألة في “إغاثة اللهفان” (2/ 679 – 685).
(4) أخرجه مالك في “الموطأ” (1352)، والطحاوي في “مشكل الآثار” (11/ 61)، والبيهقي (6/ 28).
(1/260)
– رضي الله عنهما -، والجواز قول ابن عباس (1) – رضي الله عنهما -.
وروى ابن عباس – رضي الله عنهما – في ذلك حديثًا رواه الدارقطني (2) أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما أجلى يهود بني النضير قالوا: إن لنا ديونًا لم تَحُلَّ، فقال: “ضَعُوا وتعجَّلوا”. وإسناده حسن، ليس فيه إلا مسلم بن خالدٍ الزنجي، وحديثه لا ينحطُّ عن رتبة الحسن.
فإن دعت الحاجة إلى الإقامة لبيع بضاعته فوقَ ثلاثٍ، ففيه وجهان (3):
أحدهما: يجوز له ذلك؛ لأن في تكليفه ترْكَها أو حمْلَها معه ضياعَ ماله، وذلك يمنع الدخول بالبضائع، ويضرُّ بأهل الحجاز، ويقطع الجلب عنهم، وهذا هو الصحيح.
والثاني: يُمنع من الإقامة؛ لأن له منها بُدًّا.
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق في “المصنّف” (8/ 72، 429)، وابن أبي شيبة (4/ 471)، والبيهقي (6/ 28).
(2) برقم (2880 – 2983)، وأخرجه أيضًا الطبراني في “الأوسط” (817، 6755) والحاكم (2/ 52)، والبيهقي (6/ 28). وفي إسناده مسلم بن خالد الزنجي كما ذكر المؤلف، وقد اختُلف عليه في إسناده على أوجه، وجعل الدارقطني الحمل عليه فقال: “مسلم بن خالد ثقة إلا أنه سيئ الحفظ، وقد اضطرب في هذا الحديث”. وأعلَّه أبو حاتم ــ كما في “العلل” لابنه (1134) ــ بأن ابن جريج خالف الزنجي فرواه من حديث عكرمة مرسلًا، وقال: لا يمكن أن يكون مثل هذا الحديث متصلًا.
(3) انظر: “المغني” (13/ 244).
(1/261)
فإن أراد الانتقال إلى مكان آخر من الحجاز جاز، ويقيم فيه ثلاثة أيامٍ أو أربعةً، ولا يدخلون إلا بإذنٍ من الإمام أو نائبه. وقيل: يكفي إذنُ آحاد المسلمين. هذا حكم غير الحرم.
قال أصحاب الإمام أحمد رحمهم الله تعالى (1): ولا يُمنعون من تَيماء وفَيْدَ ونجرانَ ونحوهن. وقد تقدم الحديث المصرِّح بأن نجران من جزيرة العرب. قالوا: فإن دخلوا غير الحرم لم يجز إلا بإذن مسلم.
وأما الحرم فيُمنعون دخولَه بكل حالٍ، ولا يجوز للإمام أن يأذن في دخوله، فإن دخل أحدهم فمرض أو مات أُخرِج، وإن دُفِن نُبِش (2).
وهل يُمنَعون من حرم المدينة؟ حكي عن أحمد رحمه الله تعالى فيه روايتان (3) كما تقدم. وقد صحّ عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه أنزل وفدَ نصارى نجران في مسجده، وحانتْ صلاتهم فصلَّوا فيه (4)، وذلك عام الوفود بعد نزول قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ
_________
(1) المصدر نفسه.
(2) المصدر نفسه (13/ 245).
(3) المصدر نفسه (13/ 246).
(4) أخرجه ابن هشام في “السيرة” (1/ 574) والبيهقي في “الدلائل” (5/ 382) من طريق محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام … (فذكر خبر دخولهم المسجد وصلاتهم إلى المشرق). وهذا إسناد مرسل. ولكن قد صحَّ واستفاض أنهم قد دخلوا المدينة والتقوا بالنبي – صلى الله عليه وسلم -، ويكفي هذا القدر مستدَلًّا للمسألة، وبالله التوفيق.
(1/262)
هَذَا} [التوبة: 28]، فلم تتناول الآية حرمَ المدينة ولا مسجدَها.
فصل
وأما تفصيل مذهب مالك (1) رحمه الله تعالى، فإنهم يُقَرُّون عنده في جميع البلاد إلا جزيرة العرب: وهي مكة والمدينة وما والاهما.
وروى عيسى بن دينارٍ عنه دخول اليمن فيها.
وروى ابن حبيبٍ أنها من أقصى عدنٍ وما والاها من أرض اليمن كلها إلى ريف العراق في الطول، وأما في العرض فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام ومصر في المغرب والمشرق، وما بين المدينة (2) إلى مُنقطَع السماوة. ولا يُمنَعون من الاجتياز بها مسافرين ولكن لا يقيمون.
فصل
وأما أبو حنيفة رحمه الله تعالى فعنده: لهم دخول الحرم كله حتى الكعبة نفسها، ولكن لا يستوطنون به. وأما الحجاز فلهم الدخول إليه والتصرف فيه والإقامة بقدر قضاء حوائجهم.
وكأنَّ أبا حنيفة رحمه الله تعالى قاس دخولهم مكة على دخولهم مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ولا يصح هذا القياس، فإن لحرم مكة أحكامًا يخالف بها
_________
(1) انظر: “عقد الجواهر الثمينة” (1/ 487).
(2) في المصدر السابق: “بين سَرَب”. وسرب بلد قرب المدينة. انظر: “معجم ما استعجم” (2/ 731، 1234).
(1/263)
المدينة، على أنها ليست عنده حرمًا.
فإن قيل: الله سبحانه إنما منع المشركين من قربان المسجد الحرام، ولم يمنع أهل الكتاب منه، ولهذا أذن مؤذن النبي – صلى الله عليه وسلم – يوم الحج الأكبر: “أن لا يحج بعد العام مشركٌ” (1). والمشركون الذين كانوا يحجون هم عبدة الأوثان لا أهل الكتاب، فلم يتناولهم المنع.
قيل: للناس قولان في دخول أهل الكتاب في لفظ المشركين.
فابن عمر وغيره كانوا يقولون: هم من المشركين. قال عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما -: لا أعلم شركًا أعظم من أن يقول: المسيح ابن الله وعُزير ابن الله (2). وقد قال تعالى فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31].
والثاني: لا يدخلون في لفظ المشركين؛ لأن الله سبحانه جعلهم غيرهم في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الحج: 17].
قال شيخنا (3): والتحقيق أن أصل دينهم دين التوحيد فليسوا من
_________
(1) أخرجه البخاري (369) ومسلم (1347) من حديث أبي هريرة.
(2) أخرجه البخاري (5285).
(3) انظر نحو هذا الكلام في “مجموع الفتاوى” (14/ 91 – 93، 32/ 179)، و”الجواب الصحيح” (3/ 115 – 116)، و”تلخيص كتاب الاستغاثة” (ص 148).
(1/264)
المشركين في الأصل، والشرك طارٍ عليهم، فهم منهم باعتبار ما عرضَ لهم لا باعتبار أصل الدين، فلو قُدِّر أنهم لم يدخلوا في لفظ الآية دخلوا في عمومها المعنوي وهو كونهم نجسًا، والحكم يعمُّ بعموم علّته.
فإن قيل: فالآية نبَّهت على دخولهم الحرم عوضًا عن دخول عبَّاد الأصنام (1)، فإنه سبحانه قال: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28]، فإنها لما نزلت انقطع عنهم ما كان المشركون يَجلبون إليهم من المِيرة، فأعاضهم الله بالجزية.
قيل: ليس في هذا ما يدلُّ على دخول أهل الجزية المسجدَ الحرام بوجهٍ ما، بل تؤخذ منهم الجزية وتُحمل إلى من بالمسجد الحرام وغيره، على أن الإغناء من فضل الله وقع بالفتوح والفيء والتجارات التي حملها المسلمون إلى مكة.
فإن قيل: فالآية إنما منعت قُربانَهم المسجدَ الحرام خاصةً، فمن أين لكم تعميم الحكم للحرم كله؟
قيل: المسجد الحرام يُراد به في كتاب الله تعالى ثلاثة أشياء: نفس البيت، والمسجد الذي حوله، والحرم كله.
فالأول كقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 143].
والثاني قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اِللَّهِ
_________
(1) في هامش الأصل: “الأوثان” بعلامة خ.
(1/265)
{وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 23]، على أنه قد قيل: إن المراد به هاهنا الحرم كله، والناس سواءٌ فيه.
والثالث كقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1]، وإنما أُسرِي به من داره من بيت أم هانئٍ (1)، وجميع الصحابة والأئمة فهموا من قوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] مكة كلّها والحرم، لم يخصَّ ذلك أحدٌ منهم بنفس المسجد الذي يُطاف فيه.
ولما نزلت هذه الآية كانت اليهود بخيبر وما حولها، ولم يكونوا يُمنَعون من المدينة، كما في “الصحيح” (2) أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مات ودِرْعُه مرهونةٌ عند يهودي على طعامٍ أخذه لأهله، فلم يُجْلِهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عند نزولها من الحجاز، وأمر مؤذِّنَه أن يؤذِّن بأن لا يحجَّ بعد العام مشركٌ.
فإن قيل: فما تقولون في دخولهم مساجدَ الحلّ (3)؟
_________
(1) روى ذلك ابن سعد في “الطبقات” (2/ 182 – 183) والطبري في “التفسير” (14/ 414) والطبراني في “الكبير” (24/ 432) والبيهقي في “دلائل النبوة” (2/ 404) من طرق عن أم هاني، وكلها واهية بمرة. والذي في “الصحيح” من حديث أبي ذر أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أُسري به من بيته، وفي حديث مالك بن صعصعة أنه أسري به من عند البيت من الحطيم. أخرجهما البخاري (349، 3887) ومسلم (163، 164).
(2) البخاري (2916) ومسلم (1603) من حديث عائشة – رضي الله عنها -.
(3) انظر: “المغني” (13/ 246).
(1/266)
قيل: إن دخلوها بغير إذنٍ مُنِعوا من ذلك ولم يُمكَّنوا منه لأنهم نجسٌ، والجنب والحائض أحسنُ حالًا منهم وقد مُنِعا من دخول المساجد.
وإن دخلوها بإذن مسلم ففيه قولان للفقهاء هما روايتان عن أحمد.
ووجه الجواز: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنزل الوفود من الكفّار في مسجده، فأنزل فيه وفدَ نجران ووفدَ ثقيفٍ (1) وغيرهم.
وقال سعيد بن المسيب: كان أبو سفيان يدخل مسجدَ المدينة وهو على شِركه (2).
وقدم عُمير بن وَهْبٍ ــ وهو مشركٌ ــ فدخل المسجد والنبي – صلى الله عليه وسلم – فيه ليَفْتِك به، فرزقَه الله تعالى الإسلام (3).
ووجه المنع: أنهم أسوأ حالًا من الحائض والجنب، فإنهم نجسٌ بنص
_________
(1) سبق تخريج ما يتعلق بوفد نجران، وأما خبر وفد ثقيف فأخرجه أحمد (17913) وأبو داود (3026) وابن خزيمة (1328) من حديث الحسن عن عثمان بن أبي العاص الثقفي. ورجاله ثقات.
(2) لم أقف عليه. وخبر مجيء أبي سفيان إلى المدينة قبل إسلامه ذكره ابن إسحاق وغيره من أصحاب المغازي، وليس فيه التصريح بدخوله المسجد. انظر: “سيرة ابن هشام” (2/ 389)، ومرسل عكرمة عند ابن أبي شيبة (38057).
(3) روى ذلك أصحاب المغازي: عروة (من رواية ابن لهيعة عن أبي الأسود عنه)، وموسى بن عقبة عن الزهري، وابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير، كلهم مرسلًا. أخرجها الطبراني في “الكبير” (17/ 56 – 61) والبيهقي في “الدلائل” (3/ 147 – 149).
(1/267)
القرآن، والحائض والجنب ليسا بنجسٍ بنصّ السنة (1).
ولما دخل أبو موسى على عمر بن الخطاب وهو في المسجد أعطاه كتابًا فيه حسابُ عمله، فقال له عمر: ادعُ الذي كتبه ليقرأه، فقال: إنه لا يدخل المسجد، قال: ولِمَ؟ قال: إنه نصراني (2). وهذا يدل على شهرة ذلك بين الصحابة.
ولأنه قد انضمَّ إلى حدث جنابته حدثُ شركِه، فيتغلَّظ المنع.
وأما دخول الكفار مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم – فكان ذلك لما كان بالمسلمين حاجةٌ إلى ذلك، ولأنهم كانوا يخاطبون النبي – صلى الله عليه وسلم – في عهودهم، ويؤدُّون إليه الرسائل، ويحملون منه الأجوبةَ، ويسمعون منه الدعوة. ولم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – ليخرج من المسجد لكل من قصدَه من الكفار، فكانت المصلحة في دخولهم ــ إذ ذاك ــ أعظمَ من المفسدة التي فيه، بخلاف الجنب والحائض فإنه كان يُمكِنهما التطهرُ والدخول إلى المسجد.
وأما الآن فلا مصلحةَ للمسلمين في دخولهم مساجدَهم والجلوس فيها، فإن دعت إلى ذلك مصلحةٌ راجحةٌ جاز دخولها بالإذن (3)، والله أعلم.
* * * *
_________
(1) كما في حديث أبي هريرة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال له لمَّا أخبره أنه انخنس منه لأنه كان جنبًا: “سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس”. أخرجه البخاري (283) ومسلم (371).
(2) أخرجه البيهقي في “السنن” (9/ 204، 10/ 127) بإسناد حسن.
(3) في هامش الأصل: “بلا إذن” برمز خ.
(1/268)
ذكر معاملتهم عند اللقاء وكراهة أن يُبدَؤوا بالسلام، وكيف يُرَدُّ عليهم
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “لا تبدؤوا اليهودَ والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدَهم في طريقٍ فاضطرُّوه إلى أضيقهِ”، رواه مسلم في “صحيحه” (1).
وفي “الصحيحين” (2) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “إذا سلَّم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السَّامُ عليك، فقل: وعليك”. هكذا بالواو، وفي لفظ (3): “عليك” بلا واوٍ.
وعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “إذا سلَّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم”. رواه أحمد (4) هكذا. وفي لفظٍ للإمام أحمد (5): “فقولوا: عليكم” بلا واوٍ.
وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: دخل رهطٌ من اليهود على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: السام عليك، ففهمتُها فقلت: عليكم السَّامُ واللعنة، فقال رسول الله
_________
(1) برقم (2167).
(2) البخاري (6257) ومسلم (2164/ 9).
(3) البخاري (6928) ومسلم (2164/ 8).
(4) برقم (11948)، وهو عند البخاري (6258) ومسلم (2163) أيضًا.
(5) برقم (13211).
(1/269)
– صلى الله عليه وسلم -: “مهلًا يا عائشة، فإن الله يحبُّ الرفقَ في الأمر كله”، فقلت: يا رسول الله، أولم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “قد قلت: وعليكم”. متفق عليه (1)، واللفظ للبخاري.
وفي لفظ آخر: “قد قلت: عليكم”، ولم يذكر مسلم (2) الواو.
وفي لفظ للبخاري (3): فقالت عائشة رضي الله عنها: عليكم! ولعنكم الله وغضب عليكم! قال: “مهلًا يا عائشة، عليكِ بالرفق، وإياكِ والعنف والفحش”، قالت: أولم تسمع ما قالوا؟ قال: “أولم تسمعي ما [قلتُ]؟ رددتُ عليهم، فيُستجاب لي فيهم، ولا يُستجاب لهم فيَّ”.
وعند مسلم (4): “قلت: بل عليكم السَّام والذَّامُ”.
وعنده أيضًا (5) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سلَّم ناسٌ من يهودَ على رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، قالوا: السام عليك يا أبا القاسم، قال: “عليكم”، فقالت عائشة رضي الله عنها وغضبتْ: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: “بلى قد سمعتُ فرددتُ: عليكم، إنا نُجاب عليهم ولا يُجابون علينا”.
_________
(1) البخاري (6256) ومسلم (2165/ 10 – الطريق الأول).
(2) (2165/ 10 – الطريق الثاني).
(3) برقم (6030). والزيادة منه.
(4) برقم (2165/ 11).
(5) “صحيح مسلم” (2166).
(1/270)
وعن أبي بَصْرة (1) – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إنّا غَادُون على يهودَ، فلا تبدأوهم بالسلام، فإن سلَّموا عليكم فقولوا: وعليكم”. رواه الإمام أحمد (2).
وله أيضًا (3) عن عقبة بن عامر – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إني راكبٌ غدًا إلى يهودَ فلا تبدأوهم بالسلام، وإذا سلَّموا عليكم فقولوا: وعليكم”.
لما كان السلام اسمًا من أسماء الرب تبارك وتعالى، وهو اسم مصدرٍ في الأصل ــ كالكلام والعطاء ــ بمعنى السلامة= كان الرب تعالى أحقَّ به من كل
_________
(1) في المطبوع: “أبي نضرة” تصحيف.
(2) برقم (27237)، وأخرجه بنحوه أحمد (27235، 27236) والبخاري في “الأدب المفرد” (1102) والنسائي في “الكبرى” (10148) وغيرهم من طرق عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليزني (ولم يُذكر في رواية أحمد: 27237)، عن أبي بصرة الغفاري – رضي الله عنه -. وهذا إسناد صحيح.
(3) برقم (17295 مسند عقبة، 18045 مسند أبي عبد الرحمن الجهني)، وأخرجه أيضًا ابن ماجه (3699) وأبو يعلى (936) والطبراني في “الكبير” (22/ 290) من طرق عن ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الجُهني (قيل: هو عقبة بن عامر).
رجاله ثقات، وهو الحديث السابق بعينه، إلا أن ابن إسحاق وهم فيه فجعله عن أبي عبد الرحمن الجهني، والصحيح: عن أبي بصرة الغفاري. على أن ابن إسحاق نفسه قد رواه تارة على الصواب كما في “الأدب المفرد” (1102) وغيره. انظر: “العلل الكبير” للترمذي (ص 342)، و”أنيس الساري” (1529).
(1/271)
ما سواه؛ لأنه السالم من كل آفةٍ وعيبٍ ونقصٍ وذمٍّ، فإن له الكمال المطلق من جميع الوجوه، وكمالُه من لوازم ذاته، فلا يكون إلا كذلك. والسلام يتضمن سلامةَ أفعاله من العبث والظلم وخلافِ الحكمة، وسلامةَ صفاته من مشابهة صفات المخلوقين، وسلامةَ ذاته من كل نقصٍ وعيبٍ، وسلامةَ أسمائه من كل ذمّ. فاسم السلام يتضمن إثبات جميع الكمالات له وسلْبَ جميع النقائص عنه، وهذا معنى “سبحان الله والحمد لله”. ويتضمن إفراده بالألوهية وإفراده بالتعظيم، وهذا معنى “لا إله إلا الله والله أكبر”. فانتظم اسم “السلام” الباقياتِ الصالحاتِ التي يُثنى بها على الرب جل جلاله.
ومن بعض تفاصيل ذلك أنه الحيّ الذي سَلِمتْ حياته من الموت والسِّنَة والنوم والتغير، القادر الذي سلمتْ قدرته من اللغوب والتعب والإعياء والعجز عما يريد، العليم الذي سلِمَ علمُه أن يعزُبَ عنه مثقالُ ذرةٍ أو يغيبَ عنه معلومٌ من المعلومات، وكذلك سائر صفاته على هذا.
فرضاه سبحانه سلامٌ أن ينازعه الغضب، وحلمه سلامٌ أن تُنازعه العَجلةُ، ورحمته سلام أن تنازعها العقوبة، وعفوه سلام أن (1) ينازعه الانتقام، وإرادته سلامٌ أن ينازعها الإكراه، وقدرته سلامٌ أن ينازعها العجز، ومشيئته سلامٌ أن ينازعها خلاف مقتضاها، وكلامه سلامٌ أن يَعرِض له كذِبٌ أو ظلمٌ، بل تمَّت كلماته صدقًا وعدلًا، ووعده سلامٌ أن يلحقه خُلْفٌ، وهو سلامٌ أن يكون قبله شيء أو بعده شيء أو فوقه شيء أو دونه شيء، بل هو
_________
(1) “تنازعه العجلة … وعفوه سلام أن” ساقطة من المطبوع.
(1/272)
العالي على كل شيء وفوق كل شيء وقبل كل شيء وبعد كل شيء، والمحيط بكل شيء، وعطاؤه ومنعُه سلامٌ أن يقع في غير موقعه، ومغفرتُه سلامٌ أن يبالي بها أو تضيق بذنوب (1) عباده أو تصدر عن عجزٍ عن أخذِ حقِّه كما تكون مغفرة الناس. ورحمتُه وإحسانه ورأفته وبرُّه وجوده وموالاته لأوليائه وتحببُه إليهم وحَنانه عليهم وذكره لهم وصلاته عليهم= سلامٌ أن تكون لحاجةٍ منه إليهم أو تعزُّزٍ بهم أو تكثُّرٍ بهم. وبالجملة فهو السلام من كل ما ينافي كمالَه (2) المقدس بوجهٍ من الوجوه.
وأخطأ كلَّ الخطأ من زعم أنه من أسماء السلوب، فإن السلب المحض لا يتضمن كمالًا، بل اسم السلام متضمنٌ للكمال السالم من كل ما يضادُّه، وإذا لم تَظلم هذا الاسمَ ووفَّيتَه (3) معناه وجدتَه مستلزمًا لإرسال الرسل، وإنزالِ الكتب، وشَرْعِ الشرائع، وثبوتِ المعاد، وحدوث العالم، وثبوتِ القضاء والقدر، وعلوِّ الرب تعالى على خلقه ورؤيته لأفعالهم وسَمْعِه لأصواتهم واطلاعِه على سرائرهم وعلانياتهم، وتفرُّدِه بتدبيرهم، وتوحُّدِه في كماله المقدس عن شريكٍ بوجهٍ من الوجوه. فهو السلام الحق من كل وجهٍ، كما هو النزيه البريء عن نقائص البشر من كل وجهٍ.
ولما كان سبحانه موصوفًا بأن له يدينِ لم يكن فيهما شمالٌ، بل كلتا يديه
_________
(1) في الأصل: “ذنوب” بدون الباء.
(2) في المطبوع: “كلامه” تحريف.
(3) في الأصل: “ووفيناه”. والمثبت أولى بالسياق.
(1/273)
يمينٌ (1) مباركةٌ، كذلك أسماؤه كلها حسنى، وأفعاله كلها خيرٌ، وصفاته كلها كمالٌ. وقد جعل سبحانه السلام تحيةَ أوليائه في الدنيا وتحيتَهم يوم لقائه، ولمَّا خلق آدم وكمل خلقه فاستوى قال الله له: “اذهَبْ إلى أولئك النفر من الملائكة فاستمعْ ما يُحيُّونك به، فإنها تحيتُك وتحيةُ ذريتك مِن بعدك” (2).
وقال تعالى: {لَهُمْ دَارُ اُلسَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ} [الأنعام: 128]، وقال: {وَاَللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ اِلسَّلَامِ} [يونس: 25].
وقد اختلف في تسمية الجنة بدار السلام، فقيل: السلام هو الله، والجنة داره. وقيل: السلام هو السلامة، والجنة دار السلامة من كل آفةٍ وعيبٍ ونقصٍ. وقيل: سميت دار السلام؛ لأن تحيتهم فيها سلامٌ. ولا تَنافِيَ بين هذه المعاني كلها (3).
وأما قول (4) المسلم: السلام عليكم، فهو إخبارٌ للمسلَّم عليه بسلامته من غيلة المسلِّم وغِشِّه ومكرِه ومكروهٍ يناله منه، فيردُّ الرادُّ عليه مثل ذلك، أي: فعلَ الله ذلك بك وأحلَّه عليك.
والفرق بين هذا الوجه وبين الوجه الأول: أنه في الأول خبرٌ، وفي الثاني طلبٌ.
_________
(1) كما في حديث عبد الله بن عمرو الذي أخرجه مسلم (1827).
(2) أخرجه البخاري (3326) ومسلم (2841) من حديث أبي هريرة.
(3) انظر: “حادي الأرواح” للمؤلف (1/ 194، 195).
(4) هذا الوجه الثاني، وما تقدم كان الوجه الأول.
(1/274)
ووجهٌ ثالث: وهو أن يكون المعنى: أَذكُر الله الذي عافاك من المكروه، وآمنَك من المحذور، وسلَّمك مما تخاف، وعاملَنا من السلامة والأمان بمثل ما عاملك به. فيردُّ الرادُّ عليه مثلَ ذلك، ويُستحب له أن يزيده، كما أن من أهدى لك هديةً يُستحب لك أن تُكافئه بزيادةٍ عليها، ومن دعا لك ينبغي أن تدعو له بأكثر من ذلك.
ووجهٌ رابع: وهو أن يكون معنى سلام المسلم وردِّ الراد بشارةً من الله سبحانه، جعلها على ألسنة المسلمين لبعضهم بعضًا بالسلامة من الشر، وحصول الرحمة والبركة، وهي دوام ذلك وثباته. وهذه البشارة أُعطُوها لدخولهم في دين الإسلام، فأعظمهم أجرًا أحسنهم تحيةً، وأسبقهم في هذه البشارة كما في الحديث: “وخيرُهما الذي يبدأ صاحبَه بالسلام” (1).
واشتقَّ الله سبحانه لأوليائه من تحية بينهم اسمًا من أسمائه، واسم دينه الإسلام الذي هو دين أنبيائه ورسله وملائكته. قال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 82].
ووجهٌ خامس: وهو أن كل أمةٍ من الأمم لهم تحيةٌ بينهم من أقوالٍ
_________
(1) أخرجه البخاري (6077، 6237) ومسلم (2560) من حديث أبي أيوب الأنصاري – رضي الله عنه -.
(1/275)
وأعمالٍ، كالسجود وتقبيل الأيدي وضرْب الجُوك (1)، وقول بعضهم: انعمْ صباحًا، وقول بعضهم: عِشْ ألفَ عامٍ ونحو ذلك. فشرعَ الله تبارك وتعالى لأهل الإسلام “سلامٌ عليكم”، وكانت أحسنَ من جميع تحيات الأمم بينها، لتضمُّنِها السلامة التي لا حياة ولا فلاح إلا بها، فهي الأصل المقدَّم على كل شيء.
وانتفاع العبد بحياته إنما يحصل بشيئين: بسلامته من الشر وحصول الخير، والسلامة من الشر مقدَّمةٌ على حصول الخير وهي الأصل، فإن الإنسان ــ بل وكل حيوانٍ ــ إنما يهتمُّ بسلامته أولًا وغنيمته ثانيًا. على أن السلامة المطلقة تتضمن حصول الخير، فإنه لو فاته حصل له الهلاك والعطب أو النقص، ففوات الخير يمنع حصول السلامة المطلقة، فتضمنت السلامةُ نجاةَ العبد من الشر وفوزَه بالخير، مع اشتقاقها من اسم الله.
والمقصود أن السلام اسمه ووصفه وفعله، والتلفظ به ذكرٌ له، كما في “السنن” (2) أن رجلًا سلَّم على النبي – صلى الله عليه وسلم – فلم يردَّ عليه، حتى تيمَّم وردَّ عليه،
_________
(1) الجوك (معرَّب «چوك» بالفارسية): الفخذ. وضرب الجوك نوع من البروك والجثوّ عند الترك والمغول في حضرة ملوكهم. انظر: المعجم الفارسي “برهان قاطع” (2/ 670)، و”تكملة المعاجم العربية” (2/ 351).
وعلق عليه في المطبوع: لعله “الجنوك” جمع جنك، آلة يُضرب بها كالعود والدف. وهو بعيد ومخالف لما في الأصل و”زاد المعاد” (3/ 399).
(2) لأبي داود (17)، والنسائي (38) وابن ماجه (350)، أخرجه أيضًا أحمد (19034) والدارمي (2683) وابن خزيمة (206) وابن حبان (803) والحاكم (1/ 167)، من حديث المهاجر بن قُنفذ – رضي الله عنه – بإسناد صحيح، إلا أن لفظه: “فلم يردَّ عليه حتى توضأ”. وأمَّا ذكر أنه – صلى الله عليه وسلم – تيمم ثمَّ ردَّ عليه ففي حديث أبي الجهم عند مسلم (369) وغيره، ولكن ليس فيه اعتذاره إليه بقوله – صلى الله عليه وسلم -: “إني كرهت … “.
(1/276)
وقال: “إني كرِهتُ أن أذكر الله إلا على طهارةٍ”.
فحقيقٌ بتحيةٍ هذا شأنها أن تُصان عن بذْلِها لغير أهل الإسلام، وأن لا يُحيَّا بها أعداءُ القدوس السلام. ولهذا كانت كتب النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى ملوك الكفار: “سلامٌ على من اتبع الهدى” (1)، ولم يكتب لكافرٍ “سلامٌ عليكم” أصلًا، فلهذا قال في أهل الكتاب: “ولا تَبدؤوهم بالسلام”.
فصل
وأما الرد عليهم فأمر أن يقتصر به على “عليكم”، واختلفت الرواية في إثبات الواو وحذفها، وصحَّ هذا وهذا.
فاستشكلت طائفةٌ (2) دخولَ هذه الواو هاهنا إذ هي للتقرير وإثبات الأول، كما إذا قيل لك: فعلتَ كذا وكذا وكذا، فقلتَ: وأنتَ فعلتَه، أو قال: فلانٌ يصلِّي الخمس، فتقول: ويزكِّي ماله.
_________
(1) كما في حديث ابن عباس عند البخاري (7) ومسلم (1773) في كتاب النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى هرقل عظيم الروم.
(2) منهم الخطابي في “معالم السنن” (8/ 75)، وابن بطال في “شرح صحيح البخاري” (9/ 38). وانظر: “فتح الباري” (11/ 44 – 46)، ففيه ذكر هذا الإشكال والرد عليه. وراجع كلام المؤلف بنحو ما هنا في “بدائع الفوائد” (2/ 665 وما بعدها)، و”تهذيب السنن” (3/ 434).
(1/277)
قالوا: فالموضع موضع إضرابٍ، لا موضع تقريرٍ ومشاركةٍ، فهو موضع (بل عليكم)، لا موضع (وعليكم)، فإذا دخلت (1) الواو كان إعادةً لمثل قوله من غير إشعارٍ بأنك علمت مراده، وإذا أتيت بلفظة “بل” أشعرتَه أنك فهمت مراده ورددتَه عليه قصاصًا، والأول أليق بالكرم والفضل. ولهذا السر ــ والله أعلم ــ دخلت الواو، على أنه ليس في دخولها إشكالٌ، فإن الموت لا ينجو منه أحدٌ، وكأن الرادّ يقول: الذي أخبرتَ بوقوعه علينا نحن وأنت فيه سواءٌ، فهو علينا وعليك. وهذا أولى من تغليط الراوي في إثباتها إذ لا سبيلَ إليه.
فإن قيل: بل إليه سبيلٌ، قال الخطابي (2): يرويه عامَّة المحدثين بالواو، وابن عيينة يرويه بحذفها، وهو الصواب.
قيل: قد ضبط الواوَ عبدُ الله بن عمر، وضبطها عنه عبد الله بن دينارٍ، وضبطها عنه مالك. قال أبو داود في “سننه” (3): كذلك رواه مالك عن عبد الله بن دينارٍ، ورواه الثوري أيضًا عن عبد الله بن دينارٍ فقال: وعليكم، انتهى.
وهذا الحديث قد أخرجه البخاري في “صحيحه” (4) كما تقدم. وحديث
_________
(1) في الأصل: “حذف”، ولا يستقيم به المعنى.
(2) في “معالم السنن” (8/ 75). وانظر التعليق عليه في “زاد المعاد” (2/ 496).
(3) بعد أن أخرجه (5206) من طريق عبد العزيز بن مسلم القسملي عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر بإثبات الواو.
(4) برقم (6257) من طريق عبد الله بن يوسف التنيسي عن مالك به. وتابع التنيسي بإثبات الواو عن مالك: ابنُ أبي أويس (الأدب المفرد: 1106)، وابن وهب (مستخرج أبي عوانة: 9488)، وقتيبة بن سعيد (ابن السني: 243). ورواه آخرون عن مالك بحذف الواو، منهم: القعنبي (مسند الموطأ: 478)، وأبو مصعب الزهري (الموطأ: 2021)، ويحيى الليثي (الموطأ: 2759)، ومحمد الشيباني (الموطأ: 913)، وخالد بن مخلد (الدارمي: 2677).
(1/278)
سفيان الثوري رواه البخاري ومسلم، وهو بالواو عندهما (1).
وأما قول الخطابي: وابن عيينة رواه بحذفها= فقد اختُلِف على ابن عيينة أيضًا (2).
وجوابٌ آخر ولعله أحسن من الجواب الأول: أنه ليس في دخول الواو تقريرٌ لمضمون تحيتهم، بل فيه ردُّها وتقريرها لهم، أي: ونحن أيضًا ندعو لكم بما دعوتم به علينا، فإن دعاءهم قد حصل ووقع منهم، فإذا ردّ عليهم المجيب بقوله: “وعليكم” كان في ذكر الواو سرٌّ لطيفٌ، وهو أن هذا الذي طلبتموه لنا ودعوتم به هو بعينه مردودٌ عليكم، لا تحيةَ لكم غيرُه. والمعنى: ونحن نقول لكم ما قلتم بعينه.
_________
(1) نعم هو عند مسلم (2164/ 9) من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري بإثبات الواو. ولكن البخاري أخرجه (6928) من طريق يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري ومالك قالا: ثنا عبد الله بن دينار … بحذف الواو. وكذا هي رواية يحيى عن سفيان عند أحمد (4698). وتابع ابن مهدي في روايته عن سفيان بإثبات الواو: وكيع (أحمد: 5221، ابن أبي شيبة: 26276) وعبد الرزاق (أحمد: 5938).
(2) فرواه عنه بحذفها: الحميدي في “مسنده” (671)، والحارث بن مسكين عند النسائي في “الكبرى” (10139). ورواه عنه بإثباتها: أحمد بن عبدة عند البزار (6122).
(1/279)
كما إذا قال رجل لمن يسبُّه: عليك كذا وكذا، فقال: وعليك، أي وأنا أيضًا قائل لك ذلك، وليس معناه أن هذا قد حصل لي وهو حصل لك معي، فتأمَّلْه.
وكذلك إذا قال: غفر الله لك، فقلت: ولك، وليس المعنى أن المغفرة قد حصلت لي ولك، فإن هذا علم غيبٍ، وإنما معناه أن الدعوة قد اشتركتُ فيها أنا وأنت. ولو قال: غفر الله لك، فقلت: لك، لم يكن فيه إشعارٌ بذلك.
وعلى هذا فالصواب إثبات الواو، وبه جاءت أكثر الروايات، وذكرها الثقات الأثبات، والله أعلم.
فصل
هذا كله إذا تحقق أنه قال: السام عليكم، أو شكَّ فيما قال. فلو تحقق السامع أن الذمي قال له: “سلامٌ عليكم” لا شكَّ فيه، فهل له أن يقول: وعليك السلام، أو يقتصر على قوله: وعليك؟ فالذي تقتضيه الأدلة الشرعية وقواعد الشريعة أن يقال له: وعليك السلام، فإن هذا من باب العدل، والله يأمر بالعدل والإحسان. وقد قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 85]، فندب إلى الفضل، وأوجب العدل.
ولا ينافي هذا شيئًا من أحاديث الباب بوجهٍ ما، فإنه – صلى الله عليه وسلم – إنما أمر بالاقتصار على قول الراد “وعليكم” بناءً على السبب المذكور الذي كانوا يعتمدونه في تحيتهم، وأشار إليه في حديث عائشة رضي الله عنها فقال: “ألا تَرَيْنَنِي قلتُ: وعليكم” لما قالوا: السام عليكم، ثم قال: “إذا سلَّم عليكم أهل
(1/280)
الكتاب فقولوا: وعليكم”. والاعتبار وإن كان بعموم اللفظ فإنما يعتبر عمومه في نظير المذكور لا فيما يخالفه. قال تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8]. فإذا زال هذا السبب وقال الكتابي: سلامٌ عليكم ورحمة الله، فالعدل في التحية يقتضي أن يردَّ عليه نظير سلامه، وبالله التوفيق.
* * * *
(1/281)
فصل
في عيادة أهل الكتاب
قال المرُّوذي (1): بلغني أن أبا عبد الله سئل عن رجل له قرابة نصراني: يعوده؟ قال: نعم.
قال الأثرم (2): وسمعت أبا عبد الله يُسأل عن الرجل له قرابة نصراني يعوده؟ قال: نعم. قيل له: نصراني، قال: أرجو أن لا تضيق العيادة.
قال الأثرم (3): وقلت له مرةً أخرى: يعود الرجل اليهودي والنصراني (4)؟ قال: أليس عاد النبي – صلى الله عليه وسلم – اليهودي ودعاه إلى الإسلام؟
وقال أبو مسعودٍ الأصبهاني (5): سألت أحمد بن حنبلٍ عن عيادة القرابة والجار النصراني، قال: نعم.
وقال الفضل بن زيادٍ (6): سمعت أحمد سُئل عن الرجل المسلم يعود أحدًا من المشركين؟ قال: إن كان يرى أنه إذا عاده يعرض عليه الإسلام يقبل
_________
(1) كما في “الجامع” للخلال (600). وفيه نقص.
(2) المصدر نفسه. وفيه: “أرجو أن لا يضيق لعباده”. ولعله تصحيف.
(3) المصدر نفسه.
(4) في الأصل: “والنصارى”. والمثبت من “الجامع”.
(5) “الجامع” (601).
(6) المصدر نفسه (602).
(1/282)
منه فليعُدْه، كما عاد النبي – صلى الله عليه وسلم – الغلام اليهودي، فعرض عليه الإسلام.
وقال إسحاق بن إبراهيم (1): سألت أبا عبد الله عن الرجل يكون له الجار النصراني، فإذا مرض يعوده؟ قال: يجيء فيقوم على الباب ويعذر إليه.
وقال مهنأ (2): سألت أبا عبد الله عن الرجل يعود الكافر؟ فقال: إذا كان يرتجيه فلا بأس به، ويعرض عليه الإسلام، قلت له: وترى إذا عاده يدعوه إلى الإسلام؟ قال: نعم.
وقال أبو داود (3): سمعت أحمد يُسأل عن عيادة اليهودي والنصراني، فقال: إذا كان يريد أن يدعوه إلى الإسلام، نعم.
وقال جعفر بن محمد (4): سئل أبو عبد الله عن الرجل يعود شريكًا له يهوديًّا أو نصرانيًّا، قال: لا، ولا كرامة.
فهذه ثلاث رواياتٍ منصوصاتٍ عن أحمد: المنع، والإذن، والتفصيل، فإن أمكنه أن يدعوه إلى الإسلام ويرجو ذلك منه عاده.
وقد ثبت في “صحيح البخاري” (5) من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: كان غلامٌ يهودي يخدم النبي – صلى الله عليه وسلم – فمرِض، فأتاه النبي – صلى الله عليه وسلم – يعوده، فقعد
_________
(1) المصدر نفسه (603). وفيه: “ويعتذر إليه”.
(2) المصدر نفسه (604).
(3) المصدر نفسه (605). وانظر “مسائله” (ص 189).
(4) المصدر نفسه (607).
(5) برقم (1356).
(1/283)
عند رأسه، فقال له: “أسلِمْ”، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أَطِعْ أبا القاسم، فخرج النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو يقول: “الحمد لله الذي أنقذَه من النار”.
وفي “الصحيحين” (1) عن سعيد بن المسيب أن أباه أخبره قال: لما حضرتْ أبا طالب الوفاةُ جاءه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فوجد عنده أبا جهل بن هشامٍ وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لأبي طالب: “أيْ عمِّ، قل: لا إله إلا الله، كلمةً أشهد لك بها عند الله”، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يَعرِضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال آخرَ ما كلَّمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “أما والله لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك”، فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 114].
وثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه عاد عبد الله بنَ أُبيٍّ ابنَ سلول رأس المنافقين (2).
_________
(1) البخاري (1360) ومسلم (24).
(2) أخرجه أحمد (21758) وأبو داود (3094) وابن هشام في “السيرة” (1/ 586) والطبراني (1/ 164) والحاكم (1/ 341) والبيهقي في “الدلائل” (5/ 285) من حديث ابن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن أسامة بن زيد. وإسناده حسن، وقد ورد تصريح ابن إسحاق بالتحديث في رواية ابن هشام والبيهقي. وقد اختاره الضياء (4/ 117 – 119).
(1/284)
وقال الأثرم (1): حدثني مصرِّف بن عمرٍو الهمداني، ثنا يونس ــ يعني ابن بُكيرٍ ــ ثنا سعيد بن مَيْسرة قال: سمعت أنس بن مالك – رضي الله عنه – يقول: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا عاد رجلًا على غير دين الإسلام لم يجلس عنده، وقال: “كيف أنت يا يهودي يا نصراني؟ “.
* * * *
_________
(1) لم أجده في القدر المطبوع من “سننه” ولا في”الناسخ والمنسوخ” له. وقد أخرجه سمُّويه في “فوائده” (69) والبيهقي في “الشعب” (8803) من طريق محمد بن سعيد ابن الأصبهاني، عن يونس بن بكير به. وإسناده واهٍ، فإن سعيد بن ميسرة منكر الحديث جدًّا، بل قد اتُّهم بالوضع.
(1/285)
فصل
في شهود جنائزهم
قال محمد بن موسى (1): قلت لأبي عبد الله: يُشيِّع المسلم جنازةَ (2) المشرك؟ قال: نعم.
وقال محمد بن الحسن بن هارون (3): قيل لأبي عبد الله: ويشهد جنازته؟ قال: نعم، نحو ما صنع الحارث بن أبي ربيعة؛ كان شهد جنازة أمِّه، وكان يقوم ناحيةً، ولا يحضر (4) لأنه ملعون (5).
وقال أبو طالب (6): سألت أبا عبد الله عن الرجل يموت وهو يهودي
_________
(1) كما في “الجامع” للخلال (623).
(2) في الأصل: “جاره”. والتصويب من هامشه، وكذا في “الجامع”.
(3) “الجامع” (624).
(4) في الجامع: “ولا يحفر”، وهو تصحيف، فقد جاء فيه على الصواب برقم (630).
(5) لم أجد الأثر، ولكن أخرج ابن أبي شيبة (11964، 11965) من طريقين عن الشعبي قال: ماتت أم الحارث بن أبي ربيعة وهي نصرانية، فشهدها أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم -. وأخرج ابن المنذر في “الأوسط” (5/ 363) والطحاوي في “معاني الآثار” (1/ 484) بإسناد لا بأس به عن الحارث بن أبي ربيعة أنه سأل ابن عمر عن أمٍّ له (ولفظ الطحاوي: أمِّ ولدٍ له) نصرانية ماتت، فقال له ابن عمر: “تأمر بأمرك وأنت بعيد ثم تسير أمامها، فإن الذي يسير أمام الجنازة ليس معها”.
(6) “الجامع” (625).
(1/286)
وله ولدٌ مسلم، كيف يصنع؟ قال: يركب دابته ويسير أمام الجنازة، ولا يكون خلفه، فإذا أرادوا (1) أن يدفنوه رجع، مثل قول عمر.
قلت: أراد ما رواه سعيد بن منصورٍ (2) قال: حدثني عيسى بن يونس عن محمد بن إسماعيل، عن عامر بن شقيقٍ، عن أبي وائلٍ قال: ماتت أمي نصرانيةً، فأتيتُ عمر فسألته فقال: اركبْ في جنازتها وسِرْ أمامها.
قال الخلال (3): حدثنا علي بن سهل بن المغيرة قال: حدثني أبي سهل بن المغيرة، حدثنا أبو معشرٍ، عن محمد بن كعبٍ القُرظي، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه قال: جاء قيس بن شمَّاسٍ إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: إن أمَّه توفيتْ وهي نصرانيةٌ، وهو يحبُّ أن يحضرها، فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم -: “اركَبْ دابتَك وسِرْ أمامها، فإذا ركبتَ وكنتَ أمامَها فلستَ معها”. قال
_________
(1) في الأصل: “أراد”. والمثبت من “الجامع”.
(2) برقم (1040 – التفسير) ومن طريقه الخلال في “الجامع” (626)، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (11966) ــ ومن طريقه ابن المنذر في “الأوسط” (5/ 363) ــ عن عيسى بن يونس به. وإسناده لا بأس به.
(3) “الجامع” (627). وأخرجه أيضًا الدارقطني (1835) من طريق علي بن سهل بن المغيرة به، وضعَّفه بأبي معشر نجيح بن عبد الرحمن السِّندي. ووقع في رواية الدارقطني: “ثابت بن قيس بن شماس” وهو أصح، لأنه ليس لأبيه صحبة، ولا ثبت إسلامه. إلا أن يكون المراد بـ “قيس بن شماس”: قيس بن ثابت بن قيس بن شماس، من كبار التابعين، ولكن لا يكون الحديث مرفوعًا حينئذ. وعلى كلٍّ فهو من تخاليط أبي نجيح، فإنه كما قال أحمد: لا يقيم الإسناد.
(1/287)
علي بن سهلٍ: رأيت أحمد بن حنبلٍ يسأل أبي عن هذا الحديث، فحدَّثه به.
وقال حنبلٌ (1): سألت أبا عبد الله عن المسلم تكون له أمٌّ نصرانيةٌ أو أبوه أو أخوه أو ذو قرابته، ترى أن يلي شيئًا من أمره حتى يواريه؟ قال: إن كان أبًا أو أمًّا أو أخًا أو قرابةً قريبةً وحضره فلا بأس، قد أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – أن يواري أبا طالب (2). قلت: فترى أن يفعل هو ذلك؟ قال: أهل دينه يَلُونه وهو حاضرٌ يكون معهم، حتى إذا ذهبوا به تركه معهم، وهم يَلُونه.
قال حنبلٌ (3): حدثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيدٍ، عن يوسف بن مهران، أن عبد الله بن ربيعة قال لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: إن أمِّي ماتت، وقد علمتَ الذي كانت عليه من النصرانية، قال: أحسِنْ ولايتَها وكَفْنها، ولا تَقُمْ على قبرها. قال يوسف: كنا معه في ناحيةٍ،
_________
(1) “الجامع” (1/ 299).
(2) أخرجه أحمد (759) والنسائي (1/ 110) والبيهقي (1/ 304) وغيرهم من حديث علي بن أبي طالب. وإسناده ضعيف.
(3) من طريقه أخرجه الخلال في “الجامع” (1/ 300). وفي إسناده لين من أجل علي بن زيد بن جدعان. والظاهر أن قوله: “عبد الله بن ربيعة” خطأ من بعض الرواة، وإنما هو “الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة” كما عند ابن المنذر وغيره من طريق آخر لا بأس به، وقد سبق قريبًا. بل وأخرجه الأثرم في “السنن” ــ كما في “إكمال تهذيب الكمال” (3/ 297) ــ من نفس طريق علي بن زيد، عن يوسف بن مهران بلفظ: أن أم الحارث لما ماتت وكانت نصرانية سأل ابن عمر … إلخ بنحوه.
(1/288)
والنصارى يَعُجُّون (1) مع أمه.
وقال إسحاق بن منصورٍ (2): قلت لأبي عبد الله: الرجل يكون له جارٌ مسلم ماتت أمه نصرانيةً، يتبع هذا جنازتَها؟ قال: لا يتبعُها، يكون ناحيةً منها.
وقال الأثرم (3): سمعت أبا عبد الله يُسأل عن شهود جنازة النصراني الجار، قال: على نحو ما صنع الحارث بن أبي ربيعة، كان شهد جنازة أمه، فكان يقوم ناحيةً ولا يحضر، لأنه ملعونٌ.
وقال صالح بن أحمد (4): قلت لأبي: رجل مسلم ماتت له أمٌّ نصرانيةٌ، يتبع جنازتها؟ قال: يكون ناحيةً منها.
وقال سعيد بن منصورٍ (5): ثنا سفيان، عن أبي سنانٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، قال: سألت ابن عباس – رضي الله عنهما – عن رجل مات أبوه نصرانيًّا، قال: يشهده ويدفنه.
_________
(1) أي يرفعون صوتهم بالدعاء.
(2) “الجامع” (629).
(3) المصدر نفسه (630).
(4) المصدر نفسه (631).
(5) في “سننه” برقم (1037 – التفسير)، ومن طريقه الخلال في “الجامع” (632) والنقل منه. وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (11969) والطبري في “تفسيره” (12/ 27) وابن المنذر في “الأوسط” (5/ 363) والضياء في “المختارة” (10/ 396) من طرق عن أبي سنان به، وإسناده صحيح.
(1/289)
قال الخلال (1): كان أبو عبد الله لم يعجبه (2) ذلك، ثم روى عنه (3) هؤلاء الجماعة أنه لا بأس به، واحتجَّ بالأحاديث. يعني أنه رجع إلى هذا القول، والله أعلم.
* * * *
_________
(1) في “الجامع” (1/ 301).
(2) في “الجامع”: “لا يعجبه”.
(3) في الأصل: “عن”. والتصويب من “الجامع”.
(1/290)
فصل
في تعزيتهم
قال حمدان الوراق (1): سئل أبو عبد الله: يُعزَّى أهل الذمة؟ فقال: ما أدري، أُخبِرك، ما سمعتُ في هذا.
وقال الأثرم (2): سئل أبو عبد الله: أيعزَّى أهل الذمة؟، فقال: ما أدري. ثم قال الأثرم: حدثنا أبو سعيد الأشج، ثنا إسحاق بن منصورٍ السلولي، ثنا هُريمٌ قال: سمعت الأجلح (3) عزَّى نصرانيًّا، فقال: عليك بتقوى الله والصبر.
وذكر الأثرم (4): حدثنا مِنجاب بن الحارث، ثنا شريك، عن منصورٍ، عن إبراهيم قال: إذا أردتَ أن تُعزِّي رجلًا من أهل الكتاب فقل: أكثر الله مالَك وولدَك وأطال حياتك أو عمرك.
وقال الفضل بن زيادٍ (5): سألت أبا عبد الله كيف يُعزَّى النصراني؟ قال: لا أدري، ولِمَ يُعزِّيه؟
_________
(1) كما في “الجامع” للخلال (1/ 304).
(2) المصدر نفسه.
(3) الأجلح هو ابن عبد الله الكندي، أبو حُجَيَّة الكوفي، من أتباع التابعين.
(4) “الجامع” (1/ 304).
(5) “الجامع” (1/ 305).
(1/291)
وقال حربٌ (1): ثنا إسحاق، ثنا مسلم بن قتيبة، ثنا كثير بن أبانٍ، عن غالبٍ قال: قال الحسن: إذا عزَّيتَ الذمي فقل: لا يصيبك إلا خيرٌ (2).
وقال عباس بن محمد الدوري (3): سألت أحمد بن حنبلٍ، قلت له: اليهودي والنصراني يُعزِّيني، أيّ شيء أردُّ عليه؟ فأطرقَ ساعةً ثم قال: ما أحفظ فيه شيئًا.
وقال حربٌ (4): قلت لإسحاق: كيف يعزى المشرك؟ قال: يقول: أكثر الله مالك وولدك.
* * * *
_________
(1) المصدر نفسه.
(2) في الأصل: “الاجر”.
(3) المصدر نفسه.
(4) لم أجده في “الجامع”، ولعله سقط من مطبوعته.
(1/292)
فصل
في تهنئتهم بزوجةٍ أو ولدٍ أو قدومِ غائبٍ
أو عافيةٍ أو سلامةٍ من مكروهٍ ونحو ذلك
وقد اختلفت الرواية في ذلك عن أحمد، فأباحها مرةً ومنعها أخرى، والكلام فيها كالكلام في التعزية والعيادة ولا (1) فرقَ بينهما، ولكن ليحذر الوقوع فيما يقع فيه الجهَّال من الألفاظ التي تدلُّ على رضاه بدينه، كما يقول أحدهم: متَّعك الله بدينك أو نيَّحَك (2) فيه، أو يقول له: أعزَّك الله أو أكرمك، إلا أن يقول: أكرمَك الله بالإسلام وأعزَّك به ونحو ذلك، فهذا في التهنئة بالأمور المشتركة.
وأما التهنئة بشعائر (3) الكفر المختصة به فحرامٌ بالاتفاق، مثل أن يهنِّئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيدٌ مباركٌ عليك، أو تَهنأ بهذا العيد، ونحوه، فهذا إن سَلِم قائلُه من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يُهنِّئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثمًا عند الله وأشدُّ مقتًا من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه. وكثيرٌ ممن لا قدْرَ للدين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قُبحَ ما فعل.
_________
(1) في الأصل: “ولكن”. والتصويب من هامشه.
(2) أي قوَّاك فيه.
(3) في الأصل: “بشعار”. والمثبت يقتضيه السياق.
(1/293)
فمن هنَّأ عبدًا بمعصيةٍ أو بدعةٍ أو كفرٍ فقد تعرَّض لمقتِ الله وسخطه، وقد كان أهل الورع من أهل العلم يتجنَّبون تهنئةَ الظَّلمَة بالولايات، وتهنئةَ الجهَّال بمنصب القضاء والتدريس والإفتاء، تجنبًا لمقت الله وسقوطهم من عينه. وإن بُلِي الرجل بذلك فتعاطاه دفعًا لشرٍّ يتوقَّعه منهم، فمشى إليهم ولم يقل إلا خيرًا، ودعا لهم بالتوفيق والتسديد= فلا بأس بذلك، وبالله التوفيق.
* * * *
(1/294)
فصل
في المرأة الكافرة تموت وفي بطنها ولد مسلم
قال حنبلٌ (1): سمعت أبا عبد الله يقول في امرأةٍ نصرانيةٍ حملَتْ من مسلم، فماتت وفي بطنها حملٌ من مسلم، فقال: يُروى عن واثلة: تُدفن بين مقابر المسلمين والنصارى (2).
وقال حنبلٌ في موضع آخر (3): قلت: فإن ماتت وفي بطنها ولدٌ منه، أين ترى أن تُدفن؟ قال: قد قالوا: تُدفن [في] حجرةٍ من قبور المسلمين. وقال: أرى أن تُدفن ناحيةً من قبور المسلمين (4).
قال أبو داود (5): سألت أحمد عن النصرانية تموت حبلى من مسلم، قال: فيها ثلاثة أقاويل، لو كانت مقبرةً على حدةٍ، قلت: ما الذي تختار؟ فذكر قوله هذا.
_________
(1) كما في “الجامع” للخلال (1/ 302).
(2) سيأتي قريبًا.
(3) كما في “الجامع” (1/ 302). ومنه الزيادة.
(4) “وقال أرى … المسلمين” ساقطة من المطبوع من هنا، وأضيفت إلى الفقرة التالية بعد “ثلاثة أقاويل”، خلاف ما في الأصل والمصدر السابق.
(5) “الجامع” (1/ 302). و”مسائله” (ص 222).
(1/295)
وقال إسحاق بن منصورٍ (1): قلت لأبي عبد الله: المرأة النصرانية إذا حملت من المسلم فماتت حاملًا؟ قال: حديث واثلة.
وقال الفضل بن زيادٍ: سمعت أحمد وسئل عن المرأة النصرانية تموت وفي بطنها ولد مسلم؟ قال: فيها ثلاثة أقاويل، يقال: تُدفن في مقبرة المسلمين، ويقال: في مقابر النصارى. قال الفضل بن زياد (2): وقال سمرة: تُدفن ما بين مقابر المسلمين والنصارى. قيل له: فما ترى؟ قال: لو كان لهؤلاء مقابر على حدةٍ ما كان أحسنَه!
قال الخلال: أخطأ أبو الحارث في قوله: سمرة، إنما هو واثلة.
وقال أبو طالب (3): سألت أحمد عن أم ولدٍ نصرانيةٍ في بطنها ولد مسلم، قال: تدفن في ناحيةٍ، ولا تكون مع النصارى لمكان ولدها، ولا مع المسلمين فتؤذيهم.
وقال المروذي (4): سألت أبا عبد الله عن النصرانية يكون في بطنها المسلم، فتبسم وقال: ما أحسنَ أن تُدفن بين مقبرتين! يعني مقابر المسلمين والنصارى. قال المروذي: وكان كلام أبي عبد الله أنه لا يرى بأسًا أن تُدفن
_________
(1) المصدر نفسه (1/ 303).
(2) كذا في الأصل. والصواب: “أبو الحارث” كما في “الجامع”، وكما يدل عليه تعقيب الخلال عليه.
(3) “الجامع” (1/ 303).
(4) المصدر نفسه.
(1/296)
في مقابر المسلمين للذي في بطنها.
وسئل أيضًا (1): ما تقول في النصرانية تموت وفي بطنها ولد مسلم أين تُدفن؟ قال: فيها ثلاثة أقاويل، عن عمر: تُدفن مع المسلمين، وعن واثلة: تُدفن بين مقابر المسلمين والنصارى (2)، وذكر آخر: أنها تُدفن مع النصارى. قال: أعجبُ إليَّ أن تُدفن بينهما، قلت: فإن لم يوجد إلا مقابر المسلمين؟ فتبسم ولم يكرهه.
قلت (3): أما أثر واثلة، فقال ابن أبي شيبة (4): حدثنا جعفر بن عونٍ عن ابن جريجٍ عن سليمان بن موسى عن واثلة بن الأسقع في امرأةٍ نصرانيةٍ في بطنها ولدٌ من مسلم، قال: تُدفن في مقبرةٍ بين (5) مقبرة المسلمين والنصارى.
وأما أثر عمر فقال (6): حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرٍو، قال: ماتت امرأةٌ بالشام وفي بطنها ولدٌ من مسلم وهي نصرانيةٌ، فأمر عمر أن تُدفن مع المسلمين من أجل ولدها.
_________
(1) المصدر نفسه.
(2) سيأتي الأثران قريبًا.
(3) الكلام للمؤلف.
(4) في “المصنف” (12017).
(5) في “المصنف”: “ليست” بدل “بين”.
(6) في “المصنف” (12018).
(1/297)
قالوا (1): ويكون ظهرها إلى القبلة على يسارها؛ لأن وجه الجنين إلى ظهر أمه فيكون حينئذٍ وجهه إلى القبلة على جنبه الأيمن.
قال أبو عبد الله ابن حمدان في “رعايته” (2): دُفِنتْ منفردةً كالمرتد.
قلت: ووجه هذا أنه لم يثبت له حكمُ الدين الذي انتقل إليه من التوارث والموالاة ودفْعُه إلى الكفَّار يتولَّونه، وقد زال حكم الدين الذي كان عليه، فيُدفن وحدَه.
ولأصحاب الشافعي في الذمية تموت وفي بطنها ولد مسلم أربعة أوجهٍ (3):
أصحها: ما ذكرناه.
والثاني: تُدفن في مقابر المسلمين. قال أصحاب هذا الوجه: وتكون للولد بمنزلة صندوقٍ مُودَعٍ فيه.
والثالث: تُدفن في مقابر أهل دينها؛ لأن الحمل لا حكمَ له يُثبِت أحكام الدنيا من غسله والصلاة عليه وغيرها، فلم يثبت له شيء من أحكام أموات المسلمين، فتفرد بهذا الحكم وحده.
والرابع: أنها تُدفن في طرف مقابر المسلمين.
_________
(1) انظر: “المغني” (3/ 514)، و”الفروع” (3/ 395).
(2) “الرعاية الصغرى” (1/ 371).
(3) انظر: “روضة الطالبين” (2/ 135).
(1/298)
فصل
في المنع من استعمال اليهود والنصارى في شيء من ولايات المسلمين وأمورهم
قال أبو طالب (1): سألت أبا عبد الله: يُستعمل اليهودي والنصراني في أعمال المسلمين مثل الخراج؟ قال: لا يُستعان بهم في شيء.
وقال أحمد (2): حدثنا وكيعٌ، ثنا مالك بن أنسٍ، عن عبد الله بن زيد (3)، عن ابن نِيار (4)، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إنا لا نستعين بمشركٍ”.
قال عبد الله (5): قال أبي: هذا خطأ، أخطأ فيه وكيع (6)؛ إنما هو عن الفُضَيل (7) بن أبي عبد الله، عن عبد الله بن نِيارٍ، عن عروة، عن عائشة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خرج إلى بدرٍ، فتبعَه رجل من المشركين فلحقه عند الحَرَّة،
_________
(1) كما في “الجامع” (1/ 195).
(2) كما في المصدر السابق من طريق ابنه عبد الله عنه. وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (33834) وابن ماجه (2832) من طريق وكيع به.
(3) كذا في الأصل. وفي “الجامع”: “يزيد”. وعند ابن ماجه (2832): قال علي في حديثه: عبد الله بن يزيد أو زيد.
(4) في الأصل و”الجامع”: “بيان” مهملًا، والصواب ما أثبتناه من المصادر.
(5) كما في “الجامع” عقب الحديث.
(6) وكذا قال أبو حاتم في “العلل” لابنه (915) والدارقطني في “علله” (3565).
(7) في الأصل: “الفضل” خطأ.
(1/299)
فقال: إني أردتُ أن أتبعك وأصيبَ معك، قال: “تؤمن بالله ورسوله؟ “، قال: لا، قال: “ارجعْ، فلن أستعينَ بمشركٍ”. ثم لحقه عند الشجرة، ففرح بذلك أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكان له قوةٌ وجَلَدٌ، قال: جئتُ لأتبعك وأُصيبَ معك، قال: “تؤمن بالله ورسوله؟ “، قال: لا، قال: “ارجعْ فلن أستعينَ بمشركٍ”. ثم لحقه حتى ظهر على البيداء، فقال له مثل ذلك، قال: “أتؤمن بالله ورسوله؟ “، قال: نعم، فخرج معه. رواه مسلم في “صحيحه” (1) بنحوه.
وفي “مسند الإمام أحمد” (2) من حديث خُبيب بن عبد الرحمن، عن أبيه عن جده قال: أتيتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يريد غزوًا أنا ورجلٌ من قومي ولم نُسلِمْ، فقلنا: إنَّا نستحيي أن يشهد قومنا مشهدًا لا نشهده معهم، فقال: “أسلمتما؟ “، فقلنا: لا، قال: “فإنا لا نستعينُ بالمشركين على المشركين”، قال: فأسلمنا وشهدنا معه.
وفي “السنن” و”المسند” (3) من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن
_________
(1) برقم (1817)، وأخرجه أيضًا أحمد (24386) والترمذي (1558) والنسائي في “الكبرى” (8708، 11536) وابن حبان (4726) من طرق عن مالك عن الفضيل بن أبي عبد الله به.
(2) برقم (15763)، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (33831) والطبراني في “الكبير” (4/ 223) والحاكم (2/ 122)، كلهم من طريق يزيد بن هارون، عن المستلم بن سعيد الثقفي، عن خبيب به. وهذا إسناد حسن في الشواهد.
(3) “سنن النسائي الكبرى” (9464) و”المجتبى” (5209) و”مسند أحمد” (11954)، وأخرجه أيضًا مسدَّد (إتحاف الخيرة: 4074) والطبري في “تفسيره” (5/ 710) والبيهقي في “السنن” (10/ 127) و”الشعب” (8930)، كلهم من طريق هشيم، عن العوَّام بن حوشب، عن الأزهر بن راشد، عن أنس. إسناده ضعيف لجهالة أزهر بن راشد البصري، وقد خالفه قتادة فرواه عن أنس عن عمر موقوفًا: لا تنقشوا ولا تكتبوا في خواتمكم بالعربية، أخرجه ابن أبي شيبة (25625) والبخاري في “التاريخ الكبير” (1/ 455) في ترجمة أزهر بن راشد مُعلًّا بذلك روايته.
(1/300)
رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “لا تَستضيئوا بنار المشركين، ولا تَنقُشوا على خواتيمكم عربيًّا”.
وفُسِّر (1) قوله: “لا تستضيئوا بنار المشركين”، يعني: لا تَستنصحوهم ولا تَستضيئوا برأيهم (2). والصحيح أن معناه: مباعدتهم وعدم مساكنتهم، كما في الحديث الآخر: “أنا بريءٌ من كل مسلمٍ بين ظهرانَيِ المشركين لا تَراءى نارهما” (3).
_________
(1) نقل ابن النقاش في “المذمة في استعمال أهل الذمة” (ص 269 وما بعدها) كلام المؤلف من هنا. وجلُّ كتابه مأخوذ من “أحكام أهل الذمة” كما يظهر بالمقارنة بينهما.
(2) بعد رواية الحديث السابق ــ عدا روايتي أحمد والنسائي ــ قال أزهر: فأتوا الحسن فقالوا: إن أنسًا حدثنا اليوم بحديثٍ لا ندري ما هو، قال: وما حدثكم؟ فأخبروه، فقال: نعم، أما قوله: “لا تنقشوا خواتيمكم عربيًّا” فإنه يقول: لا تنقشوا خواتيمكم “محمدًا”، وأما قوله: “لا تستضيئوا بنار المشركين” فإنه يقول: لا تستشيروهم في شيء من أموركم، وتصديق ذلك في كتاب الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا}.
(3) أخرجه أبوداود (2645) والترمذي (1604) وغيرهما من طريق قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله مرفوعًا. وأخرجه الترمذي (1605) والنسائي (4780) وغيرهما عن قيس بن أبي حازم عن النبي – صلى الله عليه وسلم – مرسلًا. قال الترمذي: “هذا أصح” أي المرسل، ونقل عن البخاري قوله: “الصحيح حديث قيس عن النبي – صلى الله عليه وسلم – مرسل”. وكذا قال الدارقطني في “العلل” (3355).
(1/301)
وأما النهي عن نقش الخاتم بالعربي فهذا قد جاء مفسَّرًا في الحديث الذي رواه مسلم في “صحيحه” (1) من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: اتخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خاتمًا من ذهبٍ، ثم ألقاه، ثم اتخذ خاتمًا من ورِقٍ، ونقش فيه “محمد رسول الله”، وقال: “لا ينقُشْ أحدٌ على نقشِ خاتمي”. فإن كان الراوي حفظ اللفظ الآخر فيكون النهي عنه من باب حماية الذريعة، لئلا يتطرَّقَ بنقش العربي إلى نقش “محمد رسول الله”، فتذهبَ فائدة الاختصاص بالنقش المذكور، والله أعلم.
وقال عبد الله بن أحمد (2): حدثنا أبي، ثنا وكيعٌ، ثنا إسرائيل، عن سِماك بن حربٍ، عن عياضٍ الأشعري، عن أبي موسى – رضي الله عنه – قال: قلت لعمر – رضي الله عنه -: إنَّ لي كاتبًا نصرانيًّا، قال: ما لَك؟ قاتلك الله! أما سمعتَ الله
_________
(1) برقم (2091). وفي الباب حديث أنس عنده (2092) وعند البخاري (5877).
(2) كما في “الجامع” للخلال (1/ 197) عنه. وأخرجه أيضًا ابن أبي حاتم في “تفسيره” (4/ 1156) والبيهقي في “السنن” (10/ 127) و”الشعب” (8939) من طرق عن سماك بن حرب به. وإسناده جيِّد. والأثر أيضًا في “حسن السلوك” لابن الموصلي (ص 161)، و”المذمة في استعمال أهل الذمة” لابن النقاش (ص 270، 271) وعزاه إلى “مسند أحمد”، وهو وهْم.
(1/302)
تعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} المائدة: 53]، ألا اتخذتَ (1) حنيفًا؟ قال: قلتُ: يا أمير المؤمنين لي كتابتُه وله دِينه، قال: لا أُكرِمهم إذ أهانَهم الله، ولا أُعِزُّهم إذ أَذلَّهم الله، ولا أُدْنِيهم إذ أَقصاهم الله.
وكتب إليه بعض عُمَّاله يستشيره في استعمال الكفار، فقال: إن المال قد كثر، وليس يُحصيه إلا هم، فاكتبْ إلينا بما ترى. فكتب إليه: لا تُدخِلوهم في دينكم، ولا تُسلِّموهم ما منعهم الله منه، ولا تأمنوهم على أموالكم، وتعلَّموا [الكتابة] فإنما هي [حلية] الرجال (2).
وكتب إلى عماله: أما بعد، فإنه من كان قِبَلَه كاتبٌ من المشركين فلا يُعاشره ولا يُؤازِره ولا يجالسه ولا يعتضد برأيه، فإن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم يأمر باستعمالهم، ولا خليفته من بعده (3).
وورد عليه كتاب معاوية بن أبي سفيان: أما بعد، يا أمير المؤمنين، فإن في عملي كاتبًا نصرانيًّا لا يَتمُّ أمرُ الخراج إلا به، فكرهتُ أن أقلِّده دونَ أمرك، فكتب إليه: عافانا الله وإياك، قرأتُ كتابك في أمر النصراني، أما بعد، فإن
_________
(1) في الأصل: “اتخذ”. والمثبت يقتضيه السياق، وهو كذلك في “الجامع”.
(2) انظر: “منهج الصواب” (ص 183، 184)، و”المذمة في استعمال أهل الذمة” (ص 271)، و”الرياض النضرة” (2/ 362).
(3) انظر: “المذمة” (ص 271، 272).
(1/303)
النصراني قد مات، والسلام (1).
وكان لعمر – رضي الله عنه – عبد نصراني فقال له: أسلِمْ حتى نستعين بك على بعض أمور المسلمين، فإنه لا ينبغي لنا أن نستعين على أمورهم بمن ليس منهم، فأبى، فأعتقه وقال: اذهَبْ حيث شئتَ (2).
وكتب إلى أبي هريرة (3) – رضي الله عنه -: أما بعدُ، فإن للناس نفرةً عن سلطانهم، فأعوذ بالله أن تُدركني وإياك. أَقِمِ الحدود ولو ساعةً من النهار. وإذا حضرك أمرانِ أحدهما لله والآخر للدنيا فآثِرْ نصيبَك من الله، فإن الدنيا تنفَدُ والآخرة تبقى. عُدْ مرضى المسلمين واشْهَدْ جنائزهم، وافتحْ بابَك وباشِرْهم. وأبعِدْ أهلَ الشرك (4) وأنكِرْ أفعالهم، ولا تَستعِنْ في أمرٍ من أمور المسلمين بمشركٍ. وساعِدْ على مصالح المسلمين بنفسك، فإنما أنت رجل منهم غير أن الله تعالى جعلك حاملًا لأثقالهم (5).
_________
(1) الخبر في “المذمة” (ص 272) وبنحوه في “حسن السلوك” لابن الموصلي (ص 162). وفيه “خالد بن الوليد” بدل “معاوية بن أبي سفيان”.
(2) أخرجه أبو عبيد في “الأموال” (90)، وسعيد بن منصور في “سننه” (431 – التفسير)، وابن سعد في “الطبقات” (6/ 158) وغيرهم. وانظر: “الدر المنثور” (3/ 199).
(3) كذا في الأصل، وفي مصدر التخريج: “أبي موسى الأشعري”. ولكنه في “المذمة” (ص 272) كما هنا.
(4) في الأصل: “الشر”. والتصويب من “المذمة” لابن النقاش (ص 273) الذي نقل عن هذا الكتاب.
(5) أخرجه الدِّينَوَري في “المجالسة” (1198)، وفي إسناده الفرات بن السائب وعبد الرحمن بن إبراهيم الراسبي، كلاهما متروك منكر الحديث.
(1/304)
فصل (1)
ودرجَ على ذلك الخلفاء الذين لهم ثناءٌ حسن في الأمة، كعمر بن عبد العزيز والمنصور والرشيد والمهدي والمأمون والمتوكل والمقتدر، ونحن نذكر بعض ما جرى.
فأما عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى فإنه كتب إلى جميع عمَّاله في الآفاق: أما بعد، فإن عمر بن عبد العزيز يقرأ عليكم من كتاب الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، جعلهم الله حزب الشيطان، وجعلهم الأخسرين أعمالًا {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 99]. واعلموا أنه لم يَهلِكْ من هلك من قبلكم إلا بمنْعِه الحقَّ وبسْطِه يدَ الظلم، وقد بلغني عن قومٍ من المسلمين فيما مضى أنهم إذا قدِموا بلدًا أتاهم أهلُ الشرك فاستعانوا بهم في أعمالهم وكتابتهم لعلمهم بالكتابة والجباية والتدبير، ولا خِيَرةَ ولا تدبيرَ فيما يغضب الله ورسوله، وقد كان لهم في ذلك مدةٌ وقد قضاها الله تعالى. فلا أعلَمَنَّ أن أحدًا من العمَّال أبقى في عمله رجلًا متصرفًا على غير دين الإسلام إلا نكَّلتُ به، فإنَّ مَحْوَ أعمالهم كمحو دينهم، وأنزِلوهم منزلتهم التي خصَّهم الله بها من الذلِّ والصَّغار. وآمرُ بمنع اليهود والنصارى من الركوب على
_________
(1) هذا الفصل وما بعده من الفصول منقول برمته في “المذمة” (ص 274 وما بعدها)، فلا نكرر الإحالة إليه، ونرجع إليه في التصحيح. وانظر مقدمة التحقيق (ص 36 – 37).
(1/305)
السُّروج (1) إلا على الأُكُف (2). وليكتبْ كلٌّ منكم بما فعله من عمله (3).
وكتب إلى حيَّان عاملِه على مصر باعتماد ذلك، فكتب إليه: أما بعد، يا أمير المؤمنين، فإنه إن دام هذا الأمر في مصر أسلمت الذمة، وبطل ما يؤخذ منهم. فأرسل إليه رسولًا وقال له: اضرِبْ حيَّانَ على رأسه ثلاثين سوطًا أدبًا على قوله، وقل له: من دخل في دين الإسلام فضَعْ عنه الجزية، فودِدتُ لو أسلموا كلُّهم، فإن الله بعث محمدًا – صلى الله عليه وسلم – داعيًا لا جابيًا (4).
وأمر أن تُهدَم بِيَعُ النصارى المستجدّة. فيقال: إنهم توصَّلوا إلى بعض ملوك الروم وسألوه في مكاتبة عمر بن عبد العزيز، فكتب إليه: أما بعد، يا عمر، فإن هؤلاء الشعب سألوا في مكاتبتك لتجري أمورهم على ما وجدتَها عليه، وتُبقِي كنائسهم، وتُمَكِّنهم من عمارة ما خرِبَ منها، فإنهم زعموا أن من تقدَّمك فعلَ في أمر كنائسهم ما منعتَهم منه، فإن كانوا مصيبين في اجتهادهم فاسلُكْ سنتَهم، وإن يكونوا مخالفين لها فافعلْ ما أردتَ.
_________
(1) جمع سَرْج: رحل الفرس.
(2) جمع إكاف: ما يوضع على الحمار أو البغل ليُركَب عليه، كالسَّرْج للفرس.
(3) انظر: “سيرة عمر بن عبد العزيز” لابن عبد الحكم (ص 136)، و”الولاة والقضاة” للكندي (ص 60). وقد أخرج أبو يوسف في “الخراج” (279) كتابًا آخر إلى عاملٍ له، ومما جاء فيه: “ولا يركبنَّ يهودي ولا نصراني على سَرْج، وليركب على إِكَاف”.
(4) أخرج ابن سعد في “الطبقات” (7/ 373) نحوه مختصرًا بإسناد صحيح، وليس فيه أمر الرسول بضربه. وأخرج أبو يوسف في “الخراج” (295) نحوه في كتاب له إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وكان واليه على الكوفة.
(1/306)
فكتب إليه عمر: أما بعد، فإنَّ مَثلي ومَثل من تقدَّمني كما قال الله تعالى في قصة داود وسليمان: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (77) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 77 – 78] (1).
وكتب إلى بعض عُمَّاله: أما بعد، فإنه بلغني أن في عملك كاتبًا نصرانيًّا يتصرف في مصالح الإسلام، والله تعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 59]، فإذا أتاك كتابي هذا فادعُ حسان بن زيدٍ ــ يعني ذلك الكاتبَ ــ إلى الإسلام، فإن أسلم فهو منّا ونحن منه، وإن أبى فلا تَستعِنْ به، ولا تتخذْ أحدًا على غير دين الإسلام في شيء من مصالح المسلمين. فأسلم حسانُ، وحسن إسلامه (2).
فصل
وأما أبو جعفرٍ المنصور، فإنه لما حج اجتمع جماعةٌ من المسلمين إلى شَبِيب بن شيبة، وسألوه مخاطبة المنصور أن يرفع عنهم المظالم ولا يمكّن النصارى من ظلمهم وعَسْفهم في ضياعهم، ويمنعهم من انتهاك حرماتهم
_________
(1) لم أقف عليه إلا في “المذمة” لابن النقاش.
(2) انظر: “سراج الملوك” للطرطوشي (ص 137)، و”معالم القربة” لابن الأخوة (ص 39)، و”حسن السلوك” للموصلي (ص 168)، و”منهج الصواب” لابن الدريهم (ص 182، 183).
(1/307)
وتحرّيهم لكونه أمرهم أن يقبضوا ما وجدوه لبني أمية. قال شبيبٌ: فطفتُ معه، فشبَّك أصابعه على أصابعي، فقلت: يا أمير المؤمنين، أتأذن لي أن أكلِّمك بما في نفسي؟ فقال: أنت وذاك، فقلت: إن الله لما قسم أقسامه بين خلقه لم يرضَ لك إلا بأعلاها وأسناها، ولم يجعل فوقك في الدنيا أحدًا، فلا ترضَ لنفسك أن يكون فوقك في الآخرة أحدٌ. يا أمير المؤمنين، اتّقِ الله، فإنها وصية الله إليكم جاءت، وعنكم قبلت، وإليكم تؤدّى، وما دعاني إلى قولي إلا محضُ النصيحة لك، والإشفاق عليك وعلى نعم الله عندك. اخفِضْ جناحَك إذا علا كعبك، وابسُطْ معروفك إذا أغنى الله يدك. يا أمير المؤمنين، إنَّ دون أبوابك نيرانًا تأجَّج من الظلم والجور، لا يُعمل فيها بكتاب الله ولا سنة نبيِّه محمد – صلى الله عليه وسلم -. يا أمير المؤمنين، سلَّطتَ الذمة على المسلمين، ظلموهم وعسفوهم وأخذوا ضياعهم وغصبوهم أموالهم وجاروا عليهم، واتخذوك سُلَّمًا لشهواتهم، وإنهم لن يُغْنوا عنك من الله شيئًا يوم القيامة.
فقال المنصور: خذْ خاتمي فابعثْ به إلى من تعرفه من المسلمين، وقال: يا ربيعُ اكتبْ إلى الأعمال واصرِفْ مَن بها من الذمة، ومن أتاك به شَبِيبٌ فأعلِمْنا بمكانه لنُوقِّع باستخدامه.
فقال شبيبٌ: يا أمير المؤمنين، إن المسلمين لا يأتونك وهؤلاء الكفرة في جُمْلتك (1)، إن أطاعوهم أغضبوا الله، وإن أغضبوهم أغرَوك بهم، ولكن
_________
(1) في المطبوع: “خدمتك” خلاف الأصل. وفي “المذمة” (ص 279): “حملتك” تصحيف.
(1/308)
تُولِّي في (1) اليوم الواحد عدةً، فكلما ولَّيتَ رجلًا عزلْتَ آخر (2).
فصل
وأما المهدي، فإن أهل الذمة في زمانه قويتْ شوكتهم، فاجتمع المسلمون إلى بعض الصالحين، وسألوه أن يُعرِّفه بذلك وينصحه، وكان له عادةٌ في حضور مجلسه، فاستُدْعِي للحضور عند المهدي فامتنع، فجاء المهدي إلى منزله وسأله السبب في تأخره، فقصَّ عليه القصة، وذكر اجتماع الناس إلى بابه متظلِّمين من ظلم الذمة، ثم أنشده (3):
بأبي وأمي ضاعت الأحلام … أم ضاعت الأذهانُ والأفهام؟
من صدَّ عن دين النبي محمدٍ … ألهُ بأمر المسلمين قيام؟
إن لا تكنْ أسيافُهم مشهورةً … فينا، فتلك سيوفُهم أقلام
ثم قال: يا أمير المؤمنين، إنك تحمَّلت أمانةَ هذه الأمة وقد عُرِضت على السماوات والأرض والجبال فأبينَ أن يحملنها، ثم سلَّمتَ الأمانةَ التي خصَّك الله بها إلى أهل الذمة دون المسلمين! يا أمير المؤمنين، أما سمعت تفسير جدِّك لقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 48]، إن الصغيرة التبسم، والكبيرة
_________
(1) في الأصل: “من”.
(2) أسنده أبو نُعيم في “فضيلة العادلين من الولاة” (46) بنحوه.
(3) الشعر مع الخبر في “حسن السلوك” (ص 163، 164)، و”المذمة” (ص 280، 281).
(1/309)
القهقهة (1)، فما ظنك بأموال المسلمين وأماناتهم وأسرارهم؟! وقد نصحتُك، وهذه النصيحة حجةٌ عليَّ ما لم تصل إليك.
فولَّى عُمارة بن حمزة (2) أعمال الأهواز وكُوَرَ دجلة وكُورَ فارس، وقلَّد حمَّادًا أعمالَ السواد، وأمره أن ينزل إلى الأنبار وإلى جميع الأعمال، ولا يترك أحدًا من الذمة يكتب لأحدٍ من العمَّال، وإن علم أن أحدًا من المسلمين استكتب أحدًا من النصارى قطعت يده، فقطعت يد شاهويه (3) وجماعةٍ من الكتَّاب (4).
وكان للمهدي على بعض ضياعه كاتبٌ نصراني بالبصرة، فظلم الناس في معاملته، فتظلَّم المتظلمون إلى سوَّار بن عبد الله القاضي، فأحضر وكلاء النصراني واستدعي بالبينة، فشهدت على النصراني بظلم الناس وتعدِّي مناهج الحق، ومضى النصراني فأخذ كتاب المهدي إلى القاضي سوَّارٍ بالتثبت في أمره، فجاء البصرةَ ومعه الكتاب وجماعةٌ من حمقى النصارى،
_________
(1) هذا التفسير مروي عن ابن عباس في “ذم الغيبة” لابن أبي الدنيا (153) وتفسير ابن أبي حاتم، كما عزاه إليهما السيوطي في “الدر المنثور” (9/ 564).
(2) مولى بني هاشم، من ولد عكرمة مولى ابن عباس. كان أحد الكتَّاب البلغاء، ولي ولاياتٍ جليلة للمنصور والمهدي. توفي سنة 199. انظر ترجمته في “تاريخ بغداد” (12/ 280)، و”معجم الأدباء” (5/ 2054).
(3) في الأصل: “شاهونة”، وفي “المذمة”: “ساهونة”. وفي “منهج الصواب”: “شاهويه الواسطي”. وهو أقرب.
(4) انظر: “منهج الصواب” (ص 200، 201).
(1/310)
وجاؤوا إلى المسجد فوجدوا سوَّارًا جالسًا للحكم بين المسلمين، فدخل المسجد وتجاوز الموضع الذي كان يجب الوقوف عنده (1)، فمنعه الخَدَمُ فلم يعبأ بهم وسبَّهم، ودنا حتى جلس عن يمين سوَّارٍ ودفع له الكتاب، فوضعه بين يديه، ولم يقرأه وقال: ألستَ نصرانيًّا؟ فقال: بلى أصلح الله القاضي، فرفع رأسه وقال: جُرُّوا برجله، فسُحِبَ إلى باب المسجد وأدَّبه تأديبًا بالغًا، وحلفَ أن لا يبرحَ واقفًا إلى أن يوفّي المسلمين حقوقهم، فقال له كاتبه: قد فعلتَ اليوم أمرًا يُخاف أن تكون له عاقبةٌ، فقال: أعِزَّ أمرَ الله يُعِزَّك الله (2).
فصل
وأما هارون الرشيد، فإنه لما قلَّد الفضل بن يحيى أعمال خراسان، وجعفرًا أخاه ديوانَ الخراج، وأمرهما بالنظر في مصالح المسلمين، فعمرت المساجد والجوامع والصهاريج (3) والسِّقايات (4)، وجَعلَ في المكاتب مكاتبًا لليتامى، وصَرفَ الذمة عن أعمالهم، واستعمل المسلمين عوضًا منهم، وغيَّر زيَّهم ولباسهم، وخرَّب الكنائس، وأفتاه بذلك علماء الإسلام (5).
_________
(1) في الأصل: “عنه”.
(2) لم أقف عليه إلا في “المذمة” (ص 282، 283).
(3) جمع صِهْريج: حوض كبير للماء.
(4) جمع سِقاية: موضع السقي.
(5) انظر: “تاريخ الطبري” (8/ 324).
(1/311)
فصل
وأما المأمون، فقال عمرو بن عبد الله الشيباني: استحضرني المأمون في بعض لياليه ونحن بمصر، فقال لي: قد كثرتْ سعايات النصارى، وتظلَّم المسلمون منهم، وخانوا السلطان في ماله. ثم قال: يا عمرو، تعرف من أين أصل هؤلاء القبط؟ فقلت: هم بقية الفراعنة الذين كانوا بمصر، وقد نهى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – عن استخدامهم، فقال: صِفْ لي كيف كان تناسلُهم في مصر، فقلت: يا أمير المؤمنين، لما أخذت الفرس المُلْكَ من أيدي الفراعنة قتلوا القبط، فلم يبق منهم إلا من اصطنعته يد الهرب واختفى بأَنْصِنا (1) وغيرها، فتعلَّموا طبًّا وكتابًا، فلما ملكت الروم مُلْكَ الفرس كانوا سببًا في إخراج الفرس عن ملكهم، وأقاموا في مملكة الروم إلى أن ظهرت دعوة المسيح (2).
وفيهم يقول خالد بن صفوان من قصيدةٍ له يمدح بها عمرو بن العاص – رضي الله عنه – ويحثُّه على قتلهم ويُغرِيه بهم (3):
يا عمرو قد ملكتْ يمينُك مِصْرَنا … وبسطتَ فيها العدلَ والإقساطا
_________
(1) مدينة تاريخية من نواحي الصعيد على شرقي النيل. وكان قد اختطها الرومان، وكانوا يسمونها “أنطينوبولس”، هجرت من ألف عام أو أكثر، وما زالت أطلالها ظاهرة إلى اليوم. وانظر “معجم البلدان” (1/ 265).
(2) لم أجد الخبر إلا في “المذمة” (ص 285).
(3) الخبر والأبيات في المصدر السابق (ص 286)، و”غذاء الألباب” (2/ 17). وفي “الردّ على أهل الذمة” لابن الواسطي (ت 712) ستة أبيات ليس منها الرابع.
(1/312)
فاقتلْ بسيفك مَن تعدَّى طَوْرَه … واجعلْ فتوحَ سيوفك الأقباطا
فبهم أُقيمَ الجورُ في جَنَباتِها … ورأى الأنامُ البغْيَ والإفراطا
عبدوا الصليبَ وثلَّثوا معبودَهم … وتوازروا وتعدَّوُا الأشراطا
وبقي في نفس المأمون منهم، فلما عاد إلى بغداد اتفق لهم مجاهرةٌ في بغداد بالبغي والفساد على معلمه علي بن حمزة الكسائي، فلما قرأ عليه المأمون ووصل إلى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 53]، قال الكسائي: يا أمير المؤمنين، أتقرأ كتاب الله ولا تعمل به؟ فأمر المأمون بإحضار الذمة، فكان عدةُ من صُرِف وسُجِن ألفين وثمان مائةٍ، وبقي جماعةٌ من اليهود منحازين إلى حماية بعض جهاته، فخرج توقيعه بما نسختُه: أخبث الأمم اليهود، وأخبث اليهود السامرة، وأخبث السامرة بنو فلانٍ، فليقطَعْ ما بأسمائهم من ديوان الجيش والخراج إن شاء الله تعالى (1).
ودخل بعض الشعراء على المأمون وفي مجلسه يهودي جالسٌ، فأنشده:
يا ابنَ الذي طاعتُه في الورى … وحكمه مفترضٌ واجب
إن الذي عُظِّمتَ من أجله … يزعم هذا أنه كاذب
فقال له المأمون: أصحيح ما يقول؟ قال: نعم، فأمر بقتله (2).
_________
(1) الخبر في “المذمة” (ص 286، 287)، و”غذاء الألباب” (2/ 17).
(2) ورد الخبر والشعر في كتاب ابن الواسطي (ص 48)، و”غذاء الألباب” (2/ 17). وفي “سراج الملوك” للطرطوشي (ص 71) دون ذكر اسم الخليفة. وفي “بدائع السلك” لابن الأزرق (2/ 28) أنه الرشيد. وفي عامة المصادر أن الطرطوشي أنشد البيتين عند الأمير الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش وكان إلى جانب الأفضل رجل نصراني، فأقامه الأفضل من موضعه. انظر: “وفيات الأعيان” (4/ 263)، و”تاريخ الإسلام” (11/ 325)، و”سير أعلام النبلاء” (19/ 492) وغيرها.
(1/313)
فصل
وأما المتوكل، فإنه صرفَ أهل الذمة من الأعمال، وغيَّر زِيَّهم في مراكبهم وملابسهم، وذلك أن المباشرين منهم للأعمال كثروا في زمانه وزادوا على الحد، وغلبوا على المسلمين لخدمة أمه وأهله وأقاربه، وذلك في سنة خمسٍ وثلاثين ومائتين، فكانت الأعمال الكبار كلها أو عامتها إليهم في جميع النواحي، وكانوا قد أوقعوا في نفس المتوكل من مباشري المسلمين شيئًا وأنهم بين مفرطٍ وخائنٍ، وعملوا عملًا بأسماء المسلمين وأسماء بعض الذمة لينفوا التهمة، وأوجبوا باسم كل واحدٍ منهم مالًا كثيرًا، وعُرِض على المتوكل، فأُغرِي وظنَّ ما أوجبوا من ذلك حقًّا، وأن المال في جهاتهم كما أوجبوه. ودخل سلمة بن سعيد النصراني على المتوكل وكان يأنس به ويحاضره، فقال: يا أمير المؤمنين أنت في الصحاري والصيد، وخلفك معادنُ الذهب والفضة، ومن يشرب في آنية الذهب والفضة، ويملؤها ذهبًا عوضًا عن الفاكهة. فقال له المتوكل: عند مَن؟ فقال: عند الحسين بن مَخلدٍ، وأحمد بن إسرائيل، وموسى بن عبد الملك، وميمون بن هارون، ومحمد بن موسى، وكل واحدٍ من هؤلاء اسمه ثابتٌ في العمل المقدَّمِ ذكرُه المرفوعِ للمتوكل. فقال له المتوكل: ما تقول في عبيد الله بن يحيى؟ فسكت،
(1/314)
فقال: بحياتي عليك قل لي ما عندك، فقال: قد حلَّفتني بحياتك ولا بدَّ لي من صدقك على كل حالٍ، والله يا أمير المؤمنين لقد صاغ له صوالجة (1) وأُكَرًا (2) من ثلاثين ألف دينارٍ، فقلت له: أمير المؤمنين يضرب كرةً من جُلودٍ بصولجانٍ من خشبٍ وأنت تضرب كرةً من فضةٍ بصولجانٍ من فضةٍ! فالتفت المتوكل إلى الفتح بن خاقان وقال: ابعثْ فأحضِرْ هؤلاء، وضيِّقْ عليهم، فحضرتْ جماعةُ الكتاب وعلموا ما وقعوا فيه من الكافر.
فاجتمعوا إلى عبيد الله بن يحيى فأنفذ معهم كاتبه إلى سلمة، وعاتبه فيما جرى منه، فحلف أنني لم أفعلْ ما فعلتُه إلا على سُكْرٍ، ولم أقلْ ما قلتُه عن حقيقةٍ، فأخذ خطَّه بذلك، فدخل عبيد الله بن يحيى على المتوكل وعرَّفه مأثمةَ أهل الذمة على المسلمين وغيرهم، وأوقفه على خط سلمة، وقال: هذا قصدُه أن يخلو أركان دولة أمير المؤمنين من الكتّاب المسلمين، ويتمكَّن هو ورهطُه منها (3).
وكان المتوكل قد جعل في موكبه من يأخذ المتظلِّمين ويُحضِرهم بين يديه على خلوةٍ، فأُحضِر بين يديه شيخٌ كبيرٌ، فذكر أنه من أهل دمشق، وأن سعيد بن عونٍ النصراني غصَبَه دارَه، فلما وقف المتوكل على قصة الشيخ اشتدَّ غضبه إلى أن كادت تطير أزراره، وأمره أن يكتب إلى صالحٍ عامله بردِّ داره. قال الفتح بن خاقان: فقمت ناحيةً لأكتبَ له بما أمرني فأتبعني رسولًا
_________
(1) جمع صَوْلَجان: عصًا يُعطف طرفها، يُضرب بها الكرة على الدواب.
(2) كذا في الأصل، وهي جمع أُكْرة: لغة في كُرَة، كما في “القاموس” و”التاج” (أكر، كرو).
(3) لم أجد الخبر إلا في “المذمة”.
(1/315)
يَستحِثُّني، فبادرتُ إليه، فلما وقف على الكتاب زاد فيه بخطه: “نفيتُ عن العباس؛ لئن خالفتَ فيما أمرتُ به لأوجِّهن من يجيئني برأسك”. ووصل الشيخَ بألف دينارٍ، وبعث معه حاجبًا، وكثر تظلُّم الناس من كتَّاب أهل الذمة وتتابعت الإغاثات (1).
وحجَّ المتوكل (2) تلك السنة، فرُئِي رجل يطوف بالبيت ويدعو على المتوكل، فأخذه الحرس وجاؤوا به سريعًا، فأمر بمعاقبته، فقال له: والله يا أمير المؤمنين، ما قلتُ ما قلتُه إلا وقد أيقنتُ بالقتل، فاسمعْ كلامي ومُرْ بقتلي، فقال: قل، فقال: سأُطلِق لساني بما يُرضي الله ورسوله ويُغضِبك يا أمير المؤمنين، قد اكتنفتْ دولتَك كُتَّابٌ من الذمة أحسنوا الاختيار لأنفسهم، وأساؤوا الاختيار للمسلمين، وابتاعوا دنياهم بآخرة أمير المؤمنين، خِفْتَهم ولم تَخَفِ الله، وأنت مسؤولٌ عما اجترحوا وليسوا مسؤولين عما اجترحتَ، فلا تُصلِحْ دنياهم بفساد آخرتك، فإن أخسر الناس صفقةً يوم القيامة من أصلح دنيا غيره بفسادِ آخرته، واذكر ليلةً تتمخَّضُ صبيحتها عن يوم القيامة، وأول ليلةٍ يخلو المرء في قبره بعمله. فبكى المتوكل إلى أن غُشِي عليه، وطُلِب الرجل فلم يوجد، فخرج أمره بلُبْسِ النصارى واليهود الثيابَ العسلي (3)،
_________
(1) لم أجد الخبر إلا في “المذمة”.
(2) الخبر في “صبح الأعشى” (13/ 366 وما بعدها)، و”مآثر الإنافة” (3/ 228 وما بعدها)، و”المذمة” لابن النقاش (ص 292 وما بعدها).
(3) أي ما كان لونه لون العسل من الثياب.
(1/316)
وأن لا يُمكَّنوا من لُبس البياض (1) لئلا يتشبهوا بالمسلمين، ولتكنْ رُكُبُهم (2) خشبًا، وأن تُهدَم بِيَعُهم المستجدّة، وأن تُطبَّق عليهم الجزية، ولا يُفسَحَ لهم في دخول حمامات المسلمين، وأن تُفرَد لهم حماماتٌ خَدَمُها ذمةٌ، ولا يَستخدموا مسلمًا في حوائجهم لنفوسهم، وأَفردَ لهم من يحتسب عليهم، وكتب كتابًا نسخته (3):
أما بعد، فإن الله اصطفى الإسلام دينًا، فشرَّفه وكرَّمه وأناره ونصره (4) وأظهره وفضَّله وأكملَه، فهو الدين لا يُقبل غيره، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 84]، بعث به صفيَّه وخِيَرتَه من خلقه محمدًا – صلى الله عليه وسلم -، فجعله خاتم النبيين وإمام المتقين وسيد المرسلين: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 69]، وأنزل كتابًا عزيزًا: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41]، أسعدَ به أمتَه وجعلَهم خيرَ أمةٍ أُخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ
_________
(1) في الأصل: “الثياب”. والتصويب من “مآثر الإنافة”.
(2) جمع رِكاب: وهو للسَّرج ما توضع فيه الرِّجل، وهما ركابان.
(3) الكتاب بطوله في “صبح الأعشى” (13/ 367 – 368)، و”مآثر الإنافة” (3/ 229 وما بعدها). وفي “تاريخ الطبري” (9/ 172 – 174) كتاب آخر من المتوكل إلى عمَّاله في الآفاق في هذا الموضوع.
(4) في “مآثر الإنافة”: “ونضره”.
(1/317)
وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110].
وأهان الشرك وأهله، ووضَعهم وصغَّرهم، وقمَعَهم وخذلَهم، وتبرأ منهم، وضرب عليهم الذلة والمسكنة، وقال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].
وطبعَ (1) على قلوبهم وخُبْث سرائرهم وضمائرهم، فنهى عن ائتمانهم (2) والثقة بهم، لعداوتهم للمسلمين وغِشّهم وبغضائهم، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118]. وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 144] . وقال: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران: 28]. وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 53].
_________
(1) كذا في الأصل ونسخة “مآثر الإنافة”، وغيَّره محقق “المآثر” إلى: “واطلع”.
(2) في الأصل: “انتمائهم” تصحيف.
(1/318)
وقد انتهى إلى أمير المؤمنين أن أناسًا لا رأيَ لهم ولا رويَّة، يستعينون بأهل الذمة في أفعالهم، ويتخذونهم بطانةً من دون المسلمين، ويُسلِّطونهم على الرعية فيَعْسِفونهم، ويبسطون أيديهم إلى ظلمهم وغَشْمهم والعدوان عليهم، فأعظَمَ أمير المؤمنين ذلك وأنكره وأكبرَه وتبرَّأ إلى الله منه، وأحبَّ التقربَ إلى الله تعالى بحَسْمه والنهي عنه، ورأى أن يكتب إلى عمَّاله على الكُوَر والأمصار وولاة الثغور والأجناد في ترك استعمالهم للذمة في شيء من أعمالهم وأمورهم، والإشراكِ لهم في أماناتهم وما قلَّدهم أمير المؤمنين واستحفظهم إياه، إذ جعل في المؤمنين الثقةَ في الدين والأمانةَ على إخوانهم المؤمنين، وحسنَ الرعاية لما استرعاهم، والكفاية لما استكفوا، والقيام بما حُمِّلوا، ما أغنى عن الاستعانة بالمشركين بالله المكذِّبين برسله الجاحدين لآياته الجاعلين معه إلهًا آخر، لا إله إلا هو وحده لا شريك له.
ورجاء أمير المؤمنين ــ بما ألهمه الله من ذلك وقذَفَ في قلبه ــ جزيلُ الثواب وكريمُ المآب، والله يُعين أمير المؤمنين على نيته في تعزيز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وحزبه.
فلْيُعلَم هذا من رأي أمير المؤمنين، ولا يُستعان (1) بأحدٍ من المشركين، وإنزال (2) أهل الذمة منازلهم التي أنزلهم الله تعالى بها، فاقرأ كتاب أمير المؤمنين على أهل أعمالك وأَشِعْه فيهم. ولا يعلمنَّ أمير المؤمنين أنك استعنتَ ولا أحدٌ من عمَّالك وأعوانك بأحدٍ من أهل الذمة في عملٍ. والسلام.
_________
(1) في “مآثر الإنافة”: “فلتعلم … ولا تستعن”.
(2) في “مآثر الإنافة”: “وأنزِلْ”.
(1/319)
فصل
وأما المقتدر بالله، فإنه سنة خمسٍ وتسعين ومائتين عَزلَ كُتَّاب النصارى وعمَّالهم، وأمر أن لا يُستعان بأحدٍ من أهل الذمة، حتى أمر بقتل أبي ياسرٍ النصراني عامل مؤنسٍ الحاجب. وكتب إلى نُوَّابه بما نسختُه: عوائدُ الله عند أمير المؤمنين تُوفي على عادة (1) رضاه ونهاية أمانيه، وليس أحدٌ يُظهِر عصيانه إلا جعله الله عِظةً للأنام، وبادرَه بعاجل الاصطلام، والله عزيز ذو انتقامٍ. فمن نكث وطغى وبغى، وخالف أمير المؤمنين وخالف محمدًا – صلى الله عليه وسلم -، وسعى في إفساد دولة أمير المؤمنين= عاجله أمير المؤمنين بسَطْوته، وطهَّر من رجسِه دولتَه، والعاقبة للمتقين. وقد أمرَ أمير المؤمنين بترك (2) الاستعانة بأحدٍ من أهل الذمة في عملٍ من الأعمال، فليحذرِ العمَّال تجاوزَ [أوامر] أمير المؤمنين ونواهيه (3).
فصل
وكذلك الراضي بالله (4)، كثرت الشكايةُ من أهل الذمة في زمانه، فكتب إليه
_________
(1) كذا في الأصل و”مآثر الإنافة”. ولعل الصواب: “غاية”، كما في “صبح الأعشى”.
(2) في الأصل: “ترك”. والتصويب من “مآثر الإنافة”.
(3) “مآثر الإنافة” (3/ 233، 234)، و”صبح الأعشى” (13/ 368 – 369).
(4) كذا في الأصل، ومثله في “نهاية الأرب” (31/ 421). والصواب أنه القائم بالله (391 – 467)، والشاعر مسعود البياضي توفي سنة 468. أما الراضي بالله فقد توفي سنة 329، ولم يدركه الشاعر. ثم ابن فضلان اليهودي كان كاتبًا للست أرسلان زوجة القائم، انظر: “المنتظم” (16/ 30)، و”مرآة الزمان” (19/ 342).
(1/320)
الشعراء في ذلك، فممن كتب إليه مسعود بن الحسين الشريف البياضي (1):
يا ابنَ الخلائفِ من قريشٍ والأُلى … طَهُرتْ أصولُهمُ من الأدناس
قلَّدتَ أمرَ المسلمين عدوَّهم … ما هكذا فعلَتْ بنو العباس
حاشاكَ من قولِ الرعية: إنه … ناسٍ لقاءَ الله أو مُتناسِ
ما العذرُ إن قالوا غدًا: هذا الذي … ولَّى اليهود على رقاب الناس؟
أتقول: كانوا وفَّروا الأموالَ إذ … خانوا بكفرِهمُ إلهَ الناس؟
لا تذكرنْ إحصاءَهم ما وفَّروا … ظلمًا وتنسى مُحصِيَ الأنفاس
وخَفِ الإلهَ غدًا إذا وُفِّيتَ ما … كَسبتْ يداك اليومَ بالقسطاس
في موقفٍ ما فيه إلا شاخصٌ … أو مُهطِعٌ أو مُقنِعٌ للراسِ
أعضاؤهم فيه الشهود، وسجنُهم … نارٌ، وحارِسُهم شديدُ الباس
إن تَمطُلِ اليوم الديونَ مع الغنى … فغدًا تُؤدِّيها مع الإفلاس
لا تعتذِرْ عن صَرْفهم بتعذُّرِ الـ … متصرفين الحُذَّقِ الأكياس
ما كنتَ تفعلُ بعدهم لو أُهلِكوا … فافعلْ، وعُدَّ القومَ في الأرماس
وكتب إليه وقد صرف ابنَ فَضْلان اليهودي بابن مالك النصراني (2):
أبعدَ ابنِ فضلانٍ تُولِّي ابنَ مالك … بماذا غدًا تحتجُّ عند سؤالكا؟
خَفِ الله وانظُرْ في صحيفتِك التي … حَوَتْ كلَّ ما قدَّمتَه من فعالكا!
_________
(1) الأبيات له في “نهاية الأرب” (31/ 421). وفيه اسم الشاعر “مسعود بن المحسن”. وفي “حسن السلوك” (ص 162، 163) أنها للشريف ابن مسعود البياضي. وفي “المذمة” (ص 299) كما هنا. وهي للبياضي في “مرآة الزمان” (19/ 315، 316).
(2) الأبيات سوى الأول مع بيت آخر في “المدهش” (ص 289).
(1/321)
وقد خَطَّ فيها الكاتبون فأكثروا … ولم يبقَ إلا أن يقولوا: فذلكا (1)
فواللهِ ما تدري إذا ما لقيتَها … أتُوضَع في يُمناك أم في شمالكا
فصل (2)
وكذلك في أيام الآمر بأمر الله امتدَّتْ أيدي النصارى، وبسطوا أيديهم بالجناية، وتفنَّنوا في أذى المسلمين وإيصال المضرَّة إليهم، واستُعمل منهم كاتبٌ يُعرف بالراهب، ولُقِّب بالأب القدِّيس الروحاني النفيس أب (3) الآباء وسيد الرؤساء، مقدَّمِ دينِ النصرانية وسيد البَتْركية، صفيِّ الرب ومختاره، ثالث عشر الحواريِّين. فصادَرَ اللعينُ عامةَ من بالديار المصرية من كاتبٍ وحاكمٍ وجندي وعاملٍ وتاجرٍ، وامتدَّتْ يده إلى الناس على اختلاف طبقاتهم، فخوَّفه بعضُ مشايخ الكتاب من خالقه وباعثه ومحاسبه، وحذَّره من سوء عواقب أفعاله، وأشار عليه بترك ما يكون سببًا لهلاكه. وكان جماعةٌ من كتَّاب مصر وقِبْطِها في مجلسه، فقال مخاطبًا له ومُسمِعًا للجماعة: نحن مُلَّاك هذه الديار حربًا وخراجًا، ملَكَها المسلمون منا، وتغلَّبُوا عليها وغَصَبوها، واستملكوها من أيدينا، فنحن مهما فعلنا بالمسلمين فهو قُبالة ما فعلوا بنا، ولا يكون له نسبةٌ إلى مَن قُتِل من رؤسائنا وملوكنا في أيام الفتوح، فجميع ما نأخذه من أموال
_________
(1) كان من عادة الكتَّاب إذا فرغوا من جمع حسابهم أن يختموا بعبارة “فذلك”، ومنه “الفذلكة”. ومعناه: النتيجة والعاقبة.
(2) هذا الفصل بتمامه في “صبح الأعشى” (13/ 369 – 377). ومنه قسم في “مآثر الإنافة” (3/ 234، 235).
(3) كذا في الأصل بدون الياء، وكذا يكتبه النصارى.
(1/322)
المسلمين وأموال ملوكهم وخلفائهم حِلٌّ لنا، وبعضُ ما نستحقُّه عليهم، فإذا حملنا لهم مالًا كانت المنة لنا عليهم، وأنشد (1):
بنتُ كرمٍ غَصَبوها أمَّها … وأهانوها فدِيْسَتْ بالقَدَمْ
ثم عادوا حكَّموها فيهمُ … ولَناهيكَ بخصمٍ يُحتكَمْ
فاستحسن الحاضرون من النصارى والمنافقين ما سمعوه منه، واستعادوه وعضُّوا عليه بالنواجذ، حتى قيل: إن الذي احتاط عليه قلم اللعين من أملاك المسلمين مائتا ألفٍ واثنان وسبعون ألفًا ما بين دارٍ وحانوتٍ وأرضٍ بأعمال (2) الدولة إلى أن أعادها إلى أصحابها أبو علي بن الأفضل، ومِن الأموال ما لا يحصيه إلا الله.
ثم انتبه الآمِر من رقدته، وأفاق من سكرته، وأدركته الحمية الإسلامية والغيرة المحمدية، فغضِبَ لله غضَبَ ناصرٍ للدين وثائرٍ (3) للمسلمين، وألبس الذمَّةَ الغِيار، وأنزلَهم بالمنزلة التي أمر الله تعالى أن يُنزَلوا بها من الذلّ والصَّغار، وأمر أن لا يُوَلَّوا شيئًا من أعمال الإسلام، وأن يُنشِئ في ذلك كتابًا يقف عليه الخاص والعام، فكتب عنه ما نسخته:
_________
(1) البيتان في “نهاية الأرب” (28/ 169)، و”صبح الأعشى” (13/ 370)، و”غذاء الألباب” (2/ 17، 18). وفي كتاب ابن الواسطي (ص 40) ورد البيتان في قصة عمرو بن العاص بعد الأبيات الطائية التي تقدمت (ص 312، 313).
(2) في الأصل: “بأعماله”. والمثبت من “صبح الأعشى”.
(3) في الأصل: “وباين”. وفي المطبوع: “وبار”. والمثبت من “صبح الأعشى”.
(1/323)
الحمد لله المعبود في أرضه وسمائه، والمجيب دعاءَ من يدعوه بأسمائه، المنفرد بالقدرة القاهرة، المتوحِّد بالقوة الظاهرة، وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة، هدى العبادَ بالإيمان إلى سبيل الرشاد، ووفَّقهم في الطاعات لما هو أنفع زادٍ في المعاد، وتفرَّد بعلم الغيوب فعلِمَ من كل عبدٍ إضمارَه كما علم تصريحَه: {يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41]، الذي شرَّف دينَ الإسلام وعظَّمه، وقضى بالسعادة الأبدية لمن انتحاه وتيمَّمه، وفضَّله على كل شرعٍ سبقَه وعلى كل دينٍ تقدمه، فنصره وخذلَها، وأشاد به وأخملَها، ورفعه ووضعَها، ووطَّده وضعضعَها، وأبى أن يقبل دينًا سواه من الأولين والآخرين. فقال تعالى وهو أصدق القائلين: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
وشهد به لنفسه وأشهد به ملائكته وأولي (1) العلم الذين هم خلاصةُ الأنام، فقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 18، 19] [آل عمران: 18 ــ 19].
ولمّا ارتضاه لعباده وأتمَّ عليهم به نعمته= أكمله لهم، وأظهره على الدين كله، وأوضحه إيضاحًا مبينًا، فقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 4].
_________
(1) في الأصل: “وأولوا”.
(1/324)
وفَرقَ به بين أوليائه وأعدائه، وبين أهل الهدى والضلال، وأهل البغي والرشاد، فقال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20].
وأمر تعالى بالثبات عليه إلى الممات، فقال ــ وبقوله يهتدي المؤمنون ــ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
وهو وصية إمامِ الحنفاء لبنيه، وإسرائيلَ من بعده كما قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (131) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 131 ــ 132].
وأشهد عليه الحواريون عبدَ الله ورسولَه وكلمتَه عيسى بن مريم، وهو الشاهد الأمين، قال تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 51].
وأمر تعالى رسوله أن يدعو أهل الكتاب إليه، ويشهد من تولَّى منهم بأنه عليه، فقال تعالى ــ وقوله الحق المبين ــ: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ
(1/325)
بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].
وصلى الله على الذي رفعه باصطفائه إلى محلِّه المنيف، وبعثه إلى الناس كافةً بالدين القيم الحنيف، وجعله أفضلَ من كان وأفضلَ من يكون، وأرسله {بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]، فكانت نبوته لظهر الكفرِ قاصمةً، وشريعتُه لمن لاذَ بها ولجأ إليها من كل شرٍّ عاصمةً، وحججُه لمن عاند وكفر خاصمةً، حتى أذعنَ المعاندون واعترف الجاحدون وذلَّ المشركون، و {جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 48]، وأشرقَ وجهُ الدهر برسالته ضياءً وابتهاجًا، ودخل الناس بدعوته في دين الله أفواجًا، وأشرقت على الوجود شمسُ الإسلام، واتسقَ قمرُ الإيمان، وولَّت على أدبارها مهزومةً عساكر الشيطان.
ورضي الله عن أصحابه وخلفائه الذين اتبعوا سنتَه، وابتغَوا في القيام بها رضوانَه، ووقفوا عند شرعه، فأعزُّوا من أعزَّه وأهانوا من أهانَه.
أما بعد، فإن الله سبحانه ببالغِ حكمته وسابغِ نعمته شرَّفَ دين الإسلام وطهَّره من الأدناس، وجعل أهله خير أمةٍ أخرجت للناس. فالإسلام الدين القويم الذي اصطفاه الله من الأديان لنفسه، وجعله دين أنبيائه ورسله وملائكة قُدْسِه، فارتضاه واختاره. وجعل خيرَ عباده وخاصَّتَه هم أولياءَه وأنصارَه، يحافظون على حدوده ويثابرون، ويدعون إليه ويذكرون، ويخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون، فهم بآيات ربهم يؤمنون،
(1/326)
وإلى مرضاته يسارعون، ولمن خرج عن دينه يجاهدون، ولعباده بجهدهم ينصحون، وعلى طاعته يثابرون، وعلى صلواتهم يحافظون، وعلى ربهم يتوكَّلون، وبالآخرة هم يوقنون، {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 4].
هذا، وإن أمةً هداها الله إلى دينه القويم، وجعلها ــ دون الأمم الجاحدة ــ على صراطٍ مستقيمٍ، تُوفِي من الأمم سبعين، هم خيرها وأكرمها على رب العالمين= حقيقةٌ بأن لا تُوالي من الأمم سواها، ولا تستعين بمن خان (1) الله خالقَه ورازقَه وعبدَ من دونه إلهًا، فكذَّب رسلَه وعصى أمره، واتبع غير سبيله، واتخذ الشيطان وليًّا من دونه.
ومعلومٌ أن اليهود والنصارى موسومون بغضب الله ولعنته، والشرك به والجحد لوحدانيته، وقد فرض الله على عباده في جميع صلواتهم أن يسألوه هدايةَ سبيل الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وتجنُّبَهم سبيلَ الذين أبعدهم من رحمته وطردَهم عن جنته، فباؤوا بغضبه ولعنته، من المغضوب عليهم والضالين. فالأمة الغضبية هم اليهود بنصّ القرآن، وأمة الضلال هم النصارى المثلِّثة عُبَّاد الصلبان.
وقد أخبر تعالى عن اليهود بأنهم بالذلة والمسكنة والغضب موسومون، فقال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
_________
(1) في الأصل: “خاف”. وفي “صبح الأعشى”: “حادّ”.
(1/327)
كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل عمران: 112].
وأخبر بأنهم باؤوا بغضبٍ على غضبٍ، وذلك جزاء المفترين، فقال: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة: 90].
وأخبر سبحانه أنه لعنهم، ولا أصدقَ من الله قيلًا، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء: 46].
وحكم سبحانه بينهم وبين المسلمين حكمًا ترتضيه العقول، ويتلقاه كلُّ منصفٍ بالإذعان والقبول، فقال: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 62].
وأخبر عمّا أحلَّ بهم من العقوبة التي صاروا بها مثلًا في العالمين، فقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 165 ــ 166].
ثم حكم عليهم حكمًا مستمرًّا عليهم في الذراري والأعقاب، على ممرِّ
(1/328)
السنين والأحقاب، فقال: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ} [الأعراف: 167]، فكان هذا العذاب في الدنيا ببعض الاستحقاق، ولعذاب الآخرة أشقُّ، {وَمَا لَهُم مِّنَ اَللَّهِ مِن وَاقٍ} [الرعد: 35].
فهم أنجس الأمم قلوبًا، وأخبثهم طويَّةً، وأردؤهم سجيَّةً، وأولاهم بالعذاب الأليم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 43].
فهم أمة الخيانة لله ورسوله ودينه وكتابه وعباده المؤمنين: {وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 14].
وأخبر عن سوء ما يستمعون ويقبلون، وخُبْث ما يأكلون ويجمعون، فقال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 44].
وأخبر تعالى أنه لعنهم على ألسنة أنبيائه ورسله بما كانوا يكسبون، فقال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (80) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (81) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة: 80 – 82].
(1/329)
وقطع الموالاة بين اليهود والنصارى وبين المؤمنين، وأخبر أنه من تولَّاهم فإنه منهم في حكمه المبين، فقال تعالى وهو أصدق القائلين: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 53].
وأخبر عن حال متولِّيهم بما في قلبه من المرض المؤدِّي إلى فساد العقل والدين، فقال: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 54].
ثم أخبر عن حبوط أعمال متولِّيهم ليكون المؤمن لذلك من الحذِرين، فقال تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 55].
ونهى المؤمنين عن اتخاذ أعدائه أولياء، وقد كفروا بالحق الذي جاءهم من ربهم، وأنهم لا يمتنعون من سوءٍ ينالونهم به بأيديهم وألسنتهم إذا قدروا عليه، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} إلى قوله : {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة:1 – 2].
(1/330)
وجعل سبحانه لعباده المسلمين أسوةً حسنةً في إمام الحنفاء ومن معه من المؤمنين، إذ تبرَّؤوا ممن ليس على دينهم امتثالًا لأمر الله، وإيثارًا لمرضاته وما عنده، فقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].
وتبرأ سبحانه ممن اتخذ الكفَّار أولياء من دون المؤمنين وحذَّره نفسَه أشدَّ التحذير، فقال: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28].
فمن ضُروبِ الطاعات: إهانتُهم في الدنيا قبل الآخرة التي هم إليها صائرون، ومن حقوق الله تعالى الواجبة: أخذُ جزية رؤوسهم التي يُعطونها عن يدٍ وهم صاغرون. ومن الأحكام الدينية أن تَعُمَّ جميعَ الذمة ــ إلا من لا تجب عليه ــ باستخراجها، وأن يُعتمد في ذلك على سلوك سبيل السنة المحمدية ومنهاجها، وأن لا يُسامَح بها أحدٌ منهم ولو كان في قومه عظيمًا، وأن لا يُقبل إرسالُه بها ولو كان فيهم زعيمًا، وأن لا يُحِيلَ بها على أحدٍ من المسلمين، ولا يُوكِّل في إخراجها عنه أحدًا من الموحدين، وأن تؤخذ منه على وجه الذلّة والصَّغار، إعزازًا للإسلام وأهله وإذلالًا لطائفة الكفّار، وأن تُستوفى من جميعهم حقَّ الاستيفاء، وأهل خيبر وغيرهم في ذلك على السواء.
(1/331)
وأما ما ادَّعاه الخيابرة (1) من وضع الجزية عنهم بعهدٍ من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فإن ذلك زورٌ وبهتانٌ، وكذبٌ ظاهرٌ يعرفه أهل العلم والإيمان (2)، لفَّقه القومُ البُهْتُ وزوَّروه، ووضعوه من تلقاء أنفسهم وتمَّموه، وظنُّوا أن ذلك يخفى على الناقدين، أو يَروجُ على علماء المسلمين، ويأبى الله إلا أن يكشفَ محالَ المبطلين وإفكَ المفترين.
وقد تظاهرت السنن وصحَّ الخبر بأن خيبر فُتِحت عنوةً، وأَوجف عليها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والمسلمون الخيلَ والركاب، فعزم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على إجلائهم عنها كما أجلى إخوانَهم من أهل الكتاب، فلما ذكروا أنهم أعرفُ بسَقْيِ نخلها ومصالحِ أرضها أقرَّهم فيها كالأُجَراء، وجعل لهم نصفَ الانتفاع (3)، وكان ذلك شرطًا مبينًا، وقال: “نُقِرَّكم فيها ما شئنا” (4). فأقرَّ بذلك الخيابرة صاغرين، وأقاموا على هذا الشرط في الأرض عاملين، ولم يكن للقوم من الذِّمام والحرمة ما يوجب إسقاطَ الجزية عنهم دون من عداهم من أهل الذمة، كيف وفي الكتاب المشحونِ بالكذب والمَيْن: شهادةُ سعد بن معاذٍ وكان قد توفِّي قبل ذلك بأكثر من سنتين، وشهادة معاوية بن أبي سفيان، وإنما أسلم عامَ الفتح بعد خيبر سنة ثمان. وفي الكتاب المكذوب أنه أسقط عنهم الكُلَف والسُّخَر، ولم يكن على زمانه – صلى الله عليه وسلم – شيء
_________
(1) أي أهل خيبر. وفي الأصل و”صبح الأعشى”: “الجبابرة” تصحيف.
(2) تقدم الكلام على ذلك في أول الكتاب.
(3) في الأصل: “الارتفاع”.
(4) أخرجه البخاري (2338) ومسلم (1551/ 6) من حديث ابن عمر، وقد سبق.
(1/332)
من ذلك ولا على زمان خلفائه الذين ساروا في الناس أحسنَ السِّيَر.
ولما اتسعت رقعةُ الإسلام، ودخل فيه الخاص والعام، وكان في المسلمين من يقوم بعمل الأرض وسَقْي النخيل، أجلى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – اليهودَ من خيبر ممتثلًا أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “أخرجوا اليهودَ والنصارى من جزيرة العرب” (1)، وقال: “لئن بقيتُ لأُخرِجنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أَدَعَ فيها إلا مسلمًا” (2).
فصل
وأما الغِيار (3) فلم يُلزَموا به في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم -، وإنما اتُّبِع فيه أمرُ عمر – رضي الله عنه -.
وكان بدءُ أمره أن خالد بن عُرفُطة أمير الكوفة جاءت إليه امرأةٌ نصرانيةٌ وأسلمت، فذكرت أن زوجها يضربها على النصرانية، وأقامت على ذلك بينةً، فضربه خالدٌ وحلَّقه، وفرَّق بينه وبينها. فشكاه النصراني إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -، فأشخَصَه وسأله عن ذلك، فقصَّ عليه القصة، فقال: الحكمُ ما حكمتَ به، وكتب إلى الأمصار أن يَجزُّوا نواصيهم، ولا
_________
(1) أخرجه الدارمي (2540) وغيره من حديث أبي عبادة بنحوه، وقد تقدم.
(2) أخرجه مسلم (1767) بنحوه.
(3) المقصود به نوع من الزيّ مغاير لزيّ المسلمين. وذكر الخفاجي في “شفاء الغليل” (ص 196) أن الغيار أن يخيطوا على ثيابهم الظاهرة ما يخالف لونه لونها، وتكون الخياطة على الكتف دون الذيل. وسيأتي تفصيل الغيار عند المؤلف (2/ 363).
(1/333)
يلبَسُوا لِبسةَ المسلمين حتى يُعرَفوا من بينهم (1).
وكيف يجوز أن يُستعان بهم على شيء أو يُؤتَمنوا على أمرٍ من أمور المسلمين، وقد سَمُّوا رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – في الذِّراع؟! ولما حضرته الوفاة قال: “ما زالتْ أُكْلةُ خيبر تُعاوِدني، وهذا أوانُ انقطاعِ أَبْهرِي” (2).
وقد رأى أمير المؤمنين ــ لقيامه بما استُحفِظ من أمور الديانة وحفظ نظامها، ولانتصابِه لمصالح أمةٍ جعله الله رأسَها وإمامَها، ولرعاية ما يتميز به المسلمون على من سواهم، ويجعل الكفّار يُعرفون بسيماهم ــ أن يعتمد كلٌّ من اليهود والنصارى ما يصيرون به مستذلِّين ممتهَنِين؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَلِلَّهِ اِلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]. فلْتُسْتَأْدَ جزيةُ رؤوسهم أجمعَ من غير استثناءٍ من حزب المشركين لأحدٍ، ولْيُتَنَبَّهْ في استخراجها والحوطةِ عليها إلى أبعدِ غايةٍ وأمدٍ. ولْيُفَرَّقْ بين المسلمين وبينهم في الشَّبه والزيّ، ليتميز ذوو الهداية والرشد من ذوي الضلالة والغيّ.
_________
(1) أسنده البلاذري في “أنساب الأشراف” (10/ 13) من طريق عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي، عن خليفة بن قيس (مولى خالد بن عرفطة) بمثله سواء. وعبد الرحمن وخليفة كلاهما ضعيف.
(2) ذكره البخاري (4428) معلَّقًا عن يونس عن الزهري عن عُروة عن عائشة. ووصله البزار (115) والحاكم (3/ 58) من طريق عنبسة بن خالد ــ وهو متكلم فيه ــ عن يونس به. وأخرجه عبد الرزاق (19815) وأحمد (23933) وأبو داود (4512 – 4514) والدارمي (68) والحاكم (3/ 219) والبيهقي في “الدلائل” (4/ 264) من وجوه أخرى مرسلة ومسندة، على اختلاف في أسانيدها. وانظر: “تغليق التعليق” (4/ 162).
(1/334)
ولْيُوسَمُوا بالغيار وشَدِّ الزُّنَّار، وإزالةِ ما على المسلمين من تشبُّههم بهم من العار. ولْيؤمروا بأن يُغيِّروا من أسمائهم ما يختصُّ به أهل الإيمان، كمحمد وأحمد وأبي بكر وعمر وعلي وعثمان، وكذلك الكنى المختصَّة بالمسلمين، كأبي علي وأبي الحسن وأبي عبد الله وأبي الحسين، فلْتُغيَّر هذه الأسماء بما يليق بهم ويصلُح لهم، ولْيُنْسَخْ بالثاني المستجدِّ السالف الأول، ولْيقرَّرْ بالتعويض عنه على ما ليس فيه متأوَّلٌ. ولولا أنهم لم يتقدم إليهم في ذلك بنهيٍ ولا تحذيرٍ، لنالَهم ما لا طاقةَ لهم به من النَّكال والتدمير. فلْيحذروا التعرضَ لهذا العقاب الأليم والعذاب الوبيل.
وليكنِ الغِيارُ وشدُّ الزنَّار مما يؤمرون به بالحضرة وبالأعمال بالديار المصرية والأقاصي، من صَبْغ أبوابِهم وعمائمِهم باللون الأغبر الرصاصي. وليؤخذْ كلٌّ منهم بأن يكون زُنَّاره فوقَ ثيابه، وليحذرْ غايةَ الحذر أن يُرى منصرِفًا إلا به. ولْيُمنَعْ لابسُه أن يَستره بردائه، ولْيحذرِ الراكب منهم أن يُخفِيه بالجلوس عليه لإخفائه. ولا يُمكَّنوا من ركوب شيء من أجناس البغال والخيل، ولا سلوك مدافنِ المسلمين ولا مقابرهم في نهارٍ ولا ليلٍ، ولا يُفْسَحْ لأحدٍ منهم في المراكب المحلَّاة، ولتكنْ توابيتُ موتاهم مشدودةً بحبال اللِّيف مكشوفةً غير مُغشَّاةٍ، ولْيُمنَعوا من تعلية دورهم على دور من جاورهم من المسلمين. وجملةُ الأمر: أن يُنتهَى فيهم إلى قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} [المجادلة: 20].
(1/335)
فصل (1)
في سياق الآيات الدالَّة على غشِّ أهل الذمة للمسلمين وعداوتهم وخيانتهم وتمنِّيهم السوء لهم، ومعاداةِ الرب تعالى لمن أعزَّهم أو والاهم أو ولَّاهم أمورَ المسلمين
قال تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 104].
وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 108].
وقال تعالى لرسوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 119].
وقال تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28].
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي
_________
(1) الآيات الواردة في هذا الفصل توجد بهذا الترتيب في كتاب “المذمة في استعمال أهل الذمة” لابن النقاش (ص 257 – 265). وقد ألَّف كتابه سنة 759 كما ذكر (ص 257)، فيكون هو الناقل عن كتاب ابن القيم هذا.
(1/336)
صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118].
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} [النساء: 44].
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (50) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء: 50 – 51].
وقال تعالى مبشِّرًا لمن والاهم بالعذاب الأليم فقال: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (137) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 137 – 138].
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 143].
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (53) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (54) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا
(1/337)
خَاسِرِينَ} [المائدة: 53 – 55].
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (59) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة:59 – 60].
وقال تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (82) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 82 – 83].
وقال تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة: 8 – 10].
وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة: 23].
وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] [المجادلة: 22].
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ
(1/338)
مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المجادلة: 14، 15].
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ}إلى قوله : {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:1 – 4].
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة: 13].
وقال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 84].
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28].
وقال تعالى: {هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 119 – 120].
(1/339)
وقد أخبر سبحانه عن أهل الكتاب أنهم يعتقدون أنهم ليس عليهم إثم ولا خطيئةٌ في خيانة المسلمين وأخْذِ أموالهم، فقال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 74].
والآيات في هذا كثيرةٌ، وفي بعض هذا كفايةٌ.
فصل (1)
ولما كانت الوِلاية شقيقةَ الوَلاية كانت توليتهم نوعًا من تَوَلِّيهم، وقد حكم تعالى بأن من تولَّاهم فإنه منهم، ولا يتمُّ الإيمان إلا بالبراءة منهم، والولاية تنافي البراءة، فلا تجتمع البراءة والولاية أبدًا، والولاية إعزازٌ، فلا تجتمع هي وإذلال الكفر أبدًا، والولاية صلةٌ، فلا تُجامِع معاداةَ الكافر أبدًا.
فصل (2)
ولو علم ملوك الإسلام بخيانة النصارى الكتَّاب، ومكاتبتهم الفرنجَ أعداء الإسلام، وتمنِّيهم أن يستأصلوا الإسلام وأهله، وسعيهم في ذلك بجهد الأمكان= لثَناهم ذلك عن تقريبهم وتقليدهم الأعمال.
_________
(1) هذا الفصل أيضًا بتمامه في “المذمة” لابن النقاش (ص 266، 267).
(2) نقله ابن النقاش في “المذمة” (ص 317 وما بعدها). والخبر في “الرد على أهل الذمة” لابن الواسطي (ص 57).
(1/340)
وهذا المَلِك الصالح (1) كان في دولته نصراني يُسمَّى بخاصِّ الدولة أبي (2) الفضائل بن دخانٍ، ولم يكن في المباشرين أمكنُ منه. وكان المذكور قَذاةً في عين دين الإسلام، وبَثْرةً في وجه الدين، ومثالبه في الصحف مسطورةٌ، ومخازيه مخلَّدةٌ مذكورةٌ، حتى بلغ مِن أمره أنه وقَّع لرجلٍ نصراني أسلم بردِّه إلى دين النصرانية، وخروجه من الملة الإسلامية. ولم يزل يكاتب الفرنجَ بأخبار المسلمين وعمَّالهم، وأمر الدولة وتفاصيل أحوالها. وكان مجلسه معمورًا برسل الفرنج والنصارى، وهم مُكْرَمون لديه وحوائجهم مقضيَّةٌ عنده، ويُحمل لهم الأَدرار والضِّيافات، وأكابر المسلمين محجوبون على الباب لا يؤذن لهم، وإذا دخلوا لم يُنْصَفوا في التحية ولا في الكلام.
فاجتمع به بعض أكابر الكتَّاب فلامَه على ذلك، وحذَّره من سوء عاقبة صُنْعه، فلم يزِدْه ذلك إلا تمرُّدًا. فلم يمضِ على ذلك إلا يسيرٌ حتى اجتمع في مجلس الصالح أكابرُ الناس من الكتّاب والقضاة والعلماء، فسأل السلطان بعضَ الجماعة (3) عن أمرٍ أفضى به إلى ذكر مخازي النصارى، فبسط لسانه
_________
(1) المقصود به هنا طلائع بن رزّيك (495 – 556)، لا نجم الدين أيوب (603 – 647)، وكلاهما لقّب بالملك الصالح. وخاصّ الدولة ابن دخان كان أشهر كتاب النصارى في وزارة طلائع بن رزّيك.
(2) في الأصل: “محاضر الدولة أبا” تحريف. والمثبت من “تجريد سيف الهمة” للنابلسي و”المذمة”. ويقال: “خاصة الدولة” كما في “النكت العصرية” (ص 90) طبعة باريس، و”تاريخ أبي صالح الأرمني” (ص 41) طبعة أكسفورد.
(3) هو الشيخ زين الدين بن نجا الواعظ الحنبلي (ت 599)، كما في كتاب ابن الواسطي (ص 57). وترجمته في “تاريخ الإسلام” (12/ 1175) و”ذيل طبقات الحنابلة” (2/ 436).
(1/341)
في ذلك، وذكر بعض ما هم عليه من الأفعال والأخلاق، وقال من جملة كلامه: إن النصارى لا يعرفون الحساب ولا يدرونه على الحقيقة؛ لأنهم يجعلون الواحد ثلاثةً والثلاثة واحدًا، والله تعالى يقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 75]. وأولُ أمانتهم وعقدِ دينهم: باسم الأب والابن وروح القدس إلهٌ واحد. فأخذ هذا المعنى بعض الشعراء، وقال في قصيدةٍ له (1):
كيف يَدرِي الحسابَ من جعلَ الوا … حدَ ربَّ الورى تعالى ثلاثَهْ
ثم قال: كيف تأمن أن يفعل في معاملة السلطان كما فعل في أصل اعتقاده، ويكون مع هذا أكثر النصارى أمانةً؟ وكلما استخرج ثلاثةَ دنانير دفع إلى السلطان دينارًا وأخذ لنفسه اثنين، ولاسيما وهو يعتقد ذلك قربةً وديانةً؟ وانصرف القوم، واتفق أن كَبَتْ بالنصراني بطْنَتُه، وظهرت خيانته فأُرِيق دمه، وسُلِّط على وجوده عدمُه. وفيه يقول عُمارة اليمني (2):
قلْ لابن دخانٍ إذا جئتَه … ووجهُه يَنْدَى من القَرْقفِ (3)
لم تَكْفِك الدنيا ولو أنها … أضعافُ ما في سورة الزخرف
_________
(1) البيت في “المذمة” (ص 318). وفي كتاب ابن الواسطي (ص 58) باختلاف القافية.
(2) الأبيات له في “النكت العصرية” (ص 294).
(3) القرقف: الخمر يرعد عنها صاحبها.
(1/342)
فاصفَعْ قَفا الذلِّ ولو أنه … بين قَفا القسِّيس والأُسْقف
ملَّكَك الدهْرُ سِبالَ الورى … فاحْلِقْ لحاهم آمنًا وانْتِف
خلا لك الديوانُ من ناظرٍ … مستيقظِ العزم ومن مُشرِف
فاكسِبْ وحصِّلْ وادَّخِرْ واكتنِزْ … واسرِقْ وخُنْ وابْطِشْ ولا تَضْعُفِ
وابكِ وقلْ ما صحَّ لي درهمٌ … فردٌ وصَلِّبْ وابتهِلْ واحلِفِ
واغتنمِ الفرصةَ من قبلِ أن … تَقضِي على الإنجيلِ والمصحف
* * * *
(1/343)
فصل
في أحكام ذبائحهم
قال تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 6].
ولم يختلف السلف أن المراد بذلك الذبائح. قال البخاري (1): قال ابن عباس: طعامهم ذبائحهم.
وكذلك قال ابن مسعودٍ ومجاهدٌ وإبراهيم وقتادة والحسن وغيرهم (2).
وقال أحمد بن الحسن الترمذي (3): سألت أبا عبد الله عن ذبائح أهل الكتاب، فقال: لا بأس بها، فقلت: إلى أي شيء تذهب فيه؟ قال: حديث عبد الله بن مغفَّلٍ يوم فتح خيبر: دُلِّي جِرابٌ من شحمٍ … الحديث.
قال إسحاق: أجاد (4).
_________
(1) في كتاب الذبائح، باب ذبائح أهل الكتاب، معلَّقًا بصيغة الجزم. ووصله الطبري (8/ 136) والبيهقي في “السنن” (9/ 282) من رواية علي بن أبي طلحة عنه.
(2) لم أجد أثر ابن مسعود في تفسير الآية، وقد روي عنه حلُّ ذبائحهم في أثر آخر عند عبد الرزاق (10176) وابن أبي شيبة (33362)، وانظر: “المغني” (13/ 293). وأما آثار التابعين فعند الطبري في “تفسيره” (8/ 135 – 137).
(3) أسنده عنه الخلال في “الجامع” (1021).
(4) كما في “المغني” (13/ 293). وهو في “مسائل إسحاق بن منصور الكوسج” (2/ 358).
(1/344)
وقال حنبلٌ (1): سمعت أبا عبد الله يقول: تؤكل ذبيحة اليهودي والنصراني.
وقال إسحاق بن منصورٍ (2): قال أبو عبد الله: لا بأسَ أن يذبح أهل الكتاب للمسلمين غيرَ النسيكة.
وقال حنبلٌ (3): سمعت أبا عبد الله قال: لا بأسَ بذبيحة أهل الكتاب إذا هلَّلوا لله وسمَّوا عليه، قال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اِسمُ اُللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 122]، والمسلم فيه اسم الله. وما أُهِلَّ لغير الله به مما ذبحوا لكنائسهم وأعيادهم يجتنب ذلك، وأهل الكتاب يسمُّون على ذبائحهم أحبُّ إلي.
وقال مهنا بن يحيى (4): سألت أبا عبد الله عن ذبائح السامرة، قال: تؤكل، هم من أهل الكتاب.
وقال عبد الله بن أحمد (5): قال أبي: لا بأسَ بذبائح أهل الحرب إذا كانوا أهلَ الكتاب.
_________
(1) “الجامع” (1010).
(2) المصدر نفسه (1011).
(3) المصدر نفسه (1012).
(4) المصدر نفسه (1019).
(5) المصدر نفسه (1022).
(1/345)
وقال ابن المنذر (1): أجمع على هذا كلُّ من يُحفظ عنه من أهل العلم.
وتفرَّدت الشيعة دون الأمة بتحريم ذبائحهم، واحتجُّوا بأن الذكاة الشرعية لم تدركها، وبأنه إجماع أهل البيت، وبأن التسمية شرطٌ في الحلِّ، ولا يُعلم أنهم يُسَمُّون، وخبرهم لا يقبل، وبأنهم لو سمَّوا لم يسمُّوا الله في الحقيقة؛ لأنهم غير عارفين بالله. قالوا: والآية مخصوصةٌ بما سوى الذبائح لما ذكرنا من الدليل.
وهذا القول مخالفٌ للكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فلا يُلتفت إليه (2).
وأما احتجاجهم بأن الذكاة الشرعية لم تدركها، فإن أرادوا بالذكاة الشرعية ما أباح الله ورسوله الأكلَ بها فهذه ذكاةٌ شرعيةٌ، وإن أُريد بها ذكاة المسلم لم يلزم من نفيها نفْيُ الحلّ، ويصير الدليل هكذا: لأن ذكاة المسلم لم تُدرِكها، فغيَّروا العبارة وقالوا: لم تدركها الذكاة الشرعية.
وأما قولهم: إنه إجماع أهل البيت، فكذبٌ على أهل البيت. وللشيعة طريقةٌ معروفةٌ، يقولون لكل ما تفرَّدوا به عن جماعة المسلمين: هذا إجماع أهل البيت! وهذا عبد الله بن عباس عالم أهل البيت يقول: كلوا من ذبائح بني تغلب، وتزوَّجوا من نسائهم، فإن الله يقول في كتابه: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا
_________
(1) “الإشراف” (3/ 442)، والمؤلف صادر عن “المغني” (13/ 293).
(2) انظر: “مجموع الفتاوى” (35/ 212، 213).
(1/346)
منهم. قال سليمان بن حربٍ: ثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن عكرمة عنه (1).
وإنما دخلت عليهم الشبهة من جهة أن عليًّا – رضي الله عنه – كان يكره ذبائح نصارى بني تغلب.
قال محمد بن موسى (2): قلت لأبي عبد الله: نصارى بني تغلب تؤكل ذبائحهم؟ فقال: فيما أحسب هذا عن علي: “لا تؤكل ذبائحهم” بإسناد صحيح (3).
وقال إسحاق بن منصورٍ (4): سألت أحمد عن ذبائح نصارى بني تغلب، فقال: ما أَثْبَتَه (5) عن علي!
_________
(1) لم أجد رواية سليمان بن حرب، ولكن أخرجه ابن أبي شيبة (16451) والطبري في “تفسيره” (8/ 132) وكذا ابن أبي حاتم (4/ 1157) والطحاوي في “مشكل الآثار” (15/ 401) من طرق عن حمَّاد به. وأخرجه الطبري (8/ 130) وابن أبي حاتم (4/ 1156، 1157) من طريقين آخرين عن عكرمة به. وأخرجه الطبري (8/ 130، 8/ 509) من روايتي سعيد بن جبير وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس بنحوه.
(2) “الجامع” للخلال (1025).
(3) صحَّ ذلك من طرق عنه، انظر: “تفسير الطبري” (8/ 133، 134) و”تهذيب الآثار- مسند علي” (ص 226، 227).
(4) “الجامع” (1026).
(5) ضُبط في الطبعتين: “ما أُثبِته”، وهو يقلب المعنى ويجعله نفيًا لثبوته، وأحمد إنما يريد ــ والله أعلم ــ: ما أصحَّ الأثرَ عن علي في ذلك. لا سيما وقد فسَّر الخلال قول أحمد عقب الرواية فقال: “يقول أحمد: هو يثبت عن علي – رضي الله عنه – “.
(1/347)
وهذه مسألة تنازع فيها السلف والخلف، وفيها عن أحمد روايتان.
وقال الأثرم (1): قلت لأحمد: ذبائح نصارى العرب، ما ترى فيها؟ بني تغلب وغيرهم من العرب، فقال: أما علي فكرهها وقال: إنهم لم يتمسَّكوا من دينهم إلا بشرب الخمر، وابن عباس رخَّص فيها. وقد تقدَّمت المسألة (2).
وأما قولهم: إن التسمية شرطٌ في الحلّ، فلعمر الله إنها لشرطٌ بكتاب الله وسنة رسوله، وأهلُ الكتاب وغيرهم فيها سواءٌ، فلا يؤكل متروك التسمية سواءٌ ذبحه مسلم أو كتابي، لبضعة عشر دليلًا مذكورةٍ في غير هذا الموضع (3).
وأما قولهم: إنه لا يُعلم هل سمَّى أم لا، فهذا لا يدلُّ على التحريم؛ لأن الشرط متى شقَّ العلمُ به وكان فيه أعظمُ الحرج سقطَ اعتبار العلم به كذبيحة المسلم، فإن التسمية شرطٌ فيها ولا يعتبر العلم بذلك، وقد ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قيل له: إن ناسًا يأتوننا باللحم لا ندري أسمَّوا الله أم لا، فقال: “سَمُّوا أنتم وكلوا” (4).
_________
(1) “الجامع” (1027).
(2) انظر (ص 122 وما بعدها).
(3) انظر: “جامع المسائل” (5/ 377 – 389).
(4) أخرجه البخاري (2057) من حديث عائشة.
(1/348)
وقولهم: إن قوله غير مقبولٍ، لو صح ذلك لم يجزْ بيعه ولا شراؤه ولا معاملته ولا أكل طعامه؛ لأنه إنما يستند إلى قوله فيه.
وقولهم (1): إنهم لا يسمُّون الله لأنهم غيرُ عارفين به= حجةٌ في غاية الفساد؛ فإنهم يعرفون أنه خالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم وإن جهلوا بعض صفاته أو أكثرها، فالمعرفة التامّة ليست بشرطٍ لتعذُّرها، وأصل المعرفة معهم.
وأما تخصيص الآية بما عدا الذبائح فمخالفٌ لإجماع الصحابة ومن بعدهم، وللسنة الصحيحة الصريحة، ومستلزمٌ لحملها على ما لا فائدة فيه، فإن الفاكهة والحبوب ونحوها لا تسمَّى من طعامهم (2)، بخلاف ذبائحهم، ففهمُ أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وجماعة المسلمين بعدهم أولى من فهم الرافضة، وبالله التوفيق.
فصل
إذا ثبت هذا فلا فرقَ بين الحربي والمعاهد، لدخولهم جميعًا في أهل الكتاب.
وأما نصارى بني تغلب ففيهم روايتان، وهما قولان للصحابة رضي الله عنهم.
_________
(1) في الأصل: “وقوله”.
(2) انظر: “مجموع الفتاوى” (35/ 217 – 218).
(1/349)
فصل
وهاهنا خمس مسائل:
إحداها: ما تركوا التسمية عليه.
الثانية: ما سمَّوا عليه غير الله.
الثالثة: ما ذبحوه غير معتقدين حلَّه وهو حلالٌ عندنا.
الرابعة: ما ذبحوه معتقدين حلَّه، هل يحرم علينا منه الشحوم التي يعتقدون تحريمها؟
الخامسة: ما ذبحوه فخرج لاصِقَ الرئة، ويسمُّونه الطَّرِيفا (1)، هل يحرم علينا أم لا؟
ونحن نذكر هذه المسائل، واختلاف الناس فيها ومأخذها، بعون الله وتوفيقه.
فأما المسألة الأولى: فمن أباح متروك التسمية إذا ذبحه المسلم، اختلفوا: هل يُباح إذا ذبحه الكتابي (2)؟ فقالت طائفةٌ: يباح؛ لأن التسمية إذا لم تكن شرطًا في ذبيحة المسلم لم تكن شرطًا في ذبيحة الكتابي.
وقالت طائفةٌ: لا يُباح وإن أبيح من المسلم، وفرقوا بينهما بأن اسم الله
_________
(1) انظر كلام المؤلف عليه في “إغاثة اللهفان” (2/ 1111، 1112)، و”هداية الحيارى” (ص 307 – 309).
(2) انظر: “اقتضاء الصراط المستقيم” (2/ 55، 59، 60)، و”المغني” (13/ 290، 293).
(1/350)
في قلب المسلم وإن ترك ذكره بلسانه، وهذا مقتضى المنقول عن ابن عباس رضي الله عنهما (1)، وهو ظاهر نصِّ أحمد، فإن أحمد قال في رواية حنبلٍ (2): لا بأس بذبيحة أهل الكتاب إذا أهلُّوا بها لله وسمَّوا عليها، قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اِسمُ اُللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 122]، والمسلم فيه اسم الله. فقد خرج بالفرق كما ترى.
ومن حرَّم متروك التسمية من المسلم فلهم قولان في متروكها من الكتابي (3):
أحدهما: أنه يباح، وهذا مروي عن عطاءٍ ومجاهدٍ ومكحولٍ.
والثاني: أنه يحرم كما يحرم من المسلم، وهذا قول إسحاق وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم.
فصل
المسألة الثانية: إذا ذكروا اسم غير الله على ذبيحتهم كالزُّهرَة و المسيح وغيرهما، فهل يُلحق بمتروك التسمية فيكون حكمُه حكمَه، أو يحرم قطعًا وإن أبيح متروك التسمية؟ فيه روايتان منصوصتان عن أحمد أصحهما تحريمه.
_________
(1) أخرج عبد الرزاق (8548) وسعيد بن منصور (914 – التفسير) والدارقطني (4806) بإسناد صحيح عن عكرمة عن ابن عباس قال: “إن في المسلم اسمَ الله، فإن ذبح ونسي اسم الله فليأكل” لفظ عبد الرزاق.
(2) في “الجامع” للخلال (1012).
(3) انظر: “المغني” (13/ 311، 312).
(1/351)
قال الميموني (1): سألت أبا عبد الله عمن يذبح من أهل الكتاب ولم يُسمِّ؟ فقال: إن كان مما يذبحون لكنائسهم يَدَعون التسمية فيه على عمدٍ، إنما يذبح للمسيح، فقد كرهه ابن عمر (2)، إلا أن أبا الدرداء يتأوَّل أن طعامهم حلٌّ (3)، وأكثر ما رأيت منه الكراهية لأكل ما ذبح لكنائسهم.
وقال الميموني أيضًا (4): سألت أبا عبد الله عن ذبيحة المرأة من أهل الكتاب ولم تسمِّ، قال: إن كانت ناسيةً فلا بأس، وإن كان مما يذبحون لكنائسهم قد يدَعون التسمية على عمدٍ.
وقال في رواية ابنه عبد الله (5): ما ذُبِح للزُّهرة فلا يُعجِبني أكله، قيل له: أحرامٌ أكلُه؟ قال: لا أقول حرامًا، ولكن لا يعجبني.
وقال في رواية حنبلٍ (6): يجتنب ما ذُبح لكنائسهم وأعيادهم.
وقال أبو البركات في “محرَّره” (7): وإن ذكروا عليه اسم غير الله ففيه
_________
(1) “الجامع” للخلال (1032).
(2) سيأتي لفظه وتخريجه قريبًا
(3) سيأتي الأثر عنه قريبًا.
(4) سقط هذا النص من “الجامع” للخلال طبعة مكتبة المعارف. وهو ثابت في طبعة دار الكتب العلمية بيروت (ص 367).
(5) “مسائله” (ص 266).
(6) انظر: “الجامع” للخلال (2/ 445)، و”المغني” (13/ 295).
(7) (2/ 192).
(1/352)
روايتان منصوصتان، أصحهما عندي تحريمه.
وقال الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأصحابه: لا تؤكل ذبائحهم التي سمَّوا عليها اسم المسيح (1).
قال القاضي إسماعيل في “أحكام القرآن” (2): وكان أهلُ الكتاب خُصّوا بإباحة ذبيحتهم، حتى كانت قد أُهِلَّ بها لله مع الكفر الذي هم عليه، فخرجت (3) ما أُهلَّ به لغير الله إذ كانوا قد أهلُّوا بها وأشركوا مع الله تعالى.
ولهذا الوضع ــ فيما أحسب ــ اختلف الناس فيما ذبح النصارى لأعيادهم أو ذبحوا باسم المسيح، فكرهه قومٌ لأنهم أخلصوا الكفر عند تلك الذبيحة، فصارت مما أُهِلَّ به لغير الله، ورخَّص في ذلك قومٌ على الأصل الذي أبيح من ذبائحهم.
فأما من بلغنا عنه الرخصة في ذلك فحدثنا علي بن عبد الله، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا معاوية بن صالحٍ، عن أبي الزاهرية، عن عمير بن الأسود السَّكوني قال: أتيت أهلي فإذا كتِفُ شاةٍ مطبوخةٌ، قلت: من أين هذا؟ قالوا: جيراننا من النصارى ذبحوا كبشًا لكنيسة جرجس، قلَّدوه عمامةً وتلقَّوا دمه في طَسْتٍ، ثم طبخوا وأهدوا إلينا وإلى جيراننا. قال: قلت:
_________
(1) انظر: “اقتضاء الصراط المستقيم” (2/ 57).
(2) ليس في القدر المطبوع منه.
(3) كذا في الأصل بتأنيث الفعل.
(1/353)
ارفعوا هذا، ثم هبطتُ إلى أبي الدرداء فسألته، وذكرتُ ذلك له، فقال: اللهم غفرًا، هم أهل الكتاب طعامهم لنا حلٌّ وطعامنا لهم حلٌّ (1).
ثنا علي عن (2) زيد بن الحباب، أخبرني معاوية بن صالحٍ، حدثني أبو الحكم التُّجيبي، حدثني جرير بن عتبة ــ أو عتبة بن جريرٍ ــ قال: سألت عبادة بن الصامت عن ذبائح النصارى لموتاهم، قال: لا بأس به (3).
ثنا علي، ثنا الوليد بن مسلم قال: سمعت الأوزاعي عن مكحولٍ فيما ذبحت النصارى لأعياد كذا، قال: كُلْه، قد علم الله ما يقولون وأحلَّ ذبائحهم (4).
وثنا علي، ثنا الوليد بن مسلم قال: سمعت عبد الرحمن بن يزيد بن جابرٍ يقول: سمعت القاسم بن مُخَيمِرة قال: كُلْها، ولو سمعتُه يقول: “على اسم جرجس” لأكلتُها (5)!
حدثنا علي، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم،
_________
(1) أخرجه الطبري (8/ 138) من طريق ابن وهب عن معاوية به. وإسناده حسن.
(2) في الأصل: “بن” تحريف.
(3) أخرجه البخاري في “التاريخ الكبير” (2/ 214) عن عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح به. وفي إسناده أبو الحكم التجيبي لم أهتد إلى ترجمته، وجرير بن عتبة لم يوثّقه غير ابن حبان. والأثر ضعَّفه ابن حزم في “المحلَّى” (7/ 411).
(4) لم أجده مسندًا، وقد ذكر البغوي في “تفسيره” (3/ 18) عنه وعن الشعبي نحوه.
(5) لم أجده مسندًا، وقد ذكره النحاس في “الناسخ والمنسوخ” (ص 363، 435) بنحوه معلَّقًا.
(1/354)
عن عبد الرحمن بن جبير بن نفيرٍ عن أبيه قال: كُلْها (1).
وبه إلى أبي بكر، عن حبيب بن عبيد أن العرباض بن سارية قال: كُلْه (2).
ثنا سليمان بن حربٍ، ثنا عبد العزيز بن مسلم، عن عبد الملك، عن عطاءٍ في النصراني يذبح ويذكر اسم المسيح، قال: كُلْه، قد أحلَّ اللهُ ذبائحهم، وقد علم ما يقولون (3).
وذكر عن عطاءٍ أيضًا أنه سئل عن النصراني يذبح ويقول: باسم المسيح، فقال: كل (4).
وقال إبراهيم في الذمي يذبح ويقول: باسم المسيح، فقال: إذا توارى عنك فكلْ (5).
_________
(1) لم أجده مسندًا. وفي إسناده ضعف، لضعف أبي بكر بن عبد الله بن مريم.
(2) أخرجه الطبراني في “الكبير” (18/ 260) من طريق آخر عن الوليد بن مسلم، عن أبي بكر، عن حبيب بن عُبيد، عمَّن حدَّثه عن عرباض قال: سئل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن ذبائح النصارى [في] أعيادهم، فقال: “إن لم تأكلوه فأطعموني”. قلتُ: الصواب وقفه كما عند القاضي إسماعيل، والظاهر أن رفعه وهمٌ من شيخ الطبراني في الإسناد: بكر بن سهل الدمياطي، فإنه ضعيف. على أن الموقوف نفسه فيه ضعف كما سبق في الأثر السابق، وقد ضعَّفه ابن حزم في “المحلَّى” (7/ 411).
(3) أخرجه عبد الرزاق (10184) قال: أخبرني من سمع عطاء يقول … بنحوه.
(4) أخرجه عبد الرزاق (10180) بنحوه.
(5) أخرجه عبد الرزاق (10185) بنحوه.
(1/355)
وقال عبد الله بن وهبٍ: حدثني حَيْوة بن شريحٍ، عن عقبة بن مسلم التُّجيبي وقيس بن رافعٍ الأشجعي أنهما قالا: حِلٌّ لنا ما يُذبح لعيد الكنائس، وما أُهدِي من خبزٍ أو لحمٍ، وإنما هو طعام أهل الكتاب. قال حيوة: فقلت أرأيت قول الله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اِللَّهِ بِهِ} [المائدة: 4]، فقال: إنما ذلك المجوس وأهل الأوثان والمشركون (1).
وقال أيوب بن نجيحٍ: سألت الشعبي عن ذبائح نصارى العرب، فقلت: منهم من يذكر الله، ومنهم من يذكر المسيح، فقال: كُلْ وأطعِمْني (2).
قال القاضي إسماعيل: وأما من بلغنا عنه أنه كره ذلك، فحدثنا محمد بن أبي بكرٍ، ثنا ابن مهدي، عن قيسٍ، عن عطاء بن السائب، عن زاذان، عن علي: قال إذا سمعت النصراني يقول: “باسم المسيح” فلا تأكل، وإذا لم تسمع فكُلْ، فقد أُحِلّ ذبائحهم (3).
حدثنا علي، ثنا جرير، عن قابوس (4) بن أبي ظبيان، عن أبيه أن امرأةً سألت عائشة فقالت: إنَّ لنا أظآرًا من العجم لا يزالون يكون لهم عيدٌ، فيُهْدون لنا فيه أفنأكلُ منه؟ فقالت: أما ما ذُبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه، ولكن كلوا من أشجارهم (5).
_________
(1) أخرجه الطبري (3/ 57) عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب به.
(2) لم أجده مسندًا.
(3) علَّقه ابن حزم (7/ 411) عن عبد الرحمن بن مهدي به. وإسناده لا بأس به.
(4) في هامش الأصل: “كابوس” برمز خ.
(5) أخرجه ابن أبي شيبة (24856). وإسناده لا بأس به.
(1/356)
حدثنا علي، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن عبيد الله، عن نافعٍ، عن ابن عمر قال: ما ذُبِح للكنيسة فلا تأكلْه (1).
وقال حمادٌ: كُلْ ما لم تسمعهم أهلُّوا به لغير الله. وكرهه مجاهدٌ وطاوسٌ، وكرهه ميمون بن مهران (2).
وقال القاضي إسماعيل: وكان مالك يكره ذلك من غير أن يوجب فيه تحريمًا (3).
قال المبيحون: هذا من طعامهم، وقد أباح الله لنا طعامهم من غير تخصيصٍ، وقد علم سبحانه أنهم يسمُّون غيرَ اسمه.
قال المحرِّمون: قد صرَّح القرآن بتحريم ما أُهِلَّ به لغير الله، وهذا عامٌّ في ذبيحة الوثني والكتابي إذا أهلَّ بها لغير الله، وإباحة ذبائحهم وإن كانت مطلقةً لكنها مقيدةٌ بما لم يهلُّوا به لغيره، فلا يجوز تعطيل المقيّد وإلغاؤه، بل يُحمل المطلق على المقيّد.
قال الآخرون (4): بل هذا من باب العام والخاص، فأما ما أهلَّ به لغير
_________
(1) علَّقه ابن حزم (7/ 411) عن ابن عمر.
(2) أثر ميمون بن مهران أخرجه الخلال في “الجامع” (2/ 445). ولم أجد قول مجاهد وطاوس.
(3) إلى هنا انتهى النقل الطويل من “أحكام القرآن” لإسماعيل القاضي.
(4) أي المبيحون.
(1/357)
الله عامٌّ (1) في الكتابي وغيره، خصَّ منه ذبيحة الكتابي فبقيت الآية على عمومها في غيره.
قال الآخرون (2) بل قوله تعالى: {وَطَعَامُ اُلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} [المائدة: 6]، عامٌّ فيما أهلُّوا به لله وما أهلُّوا به لغيره، خصَّ منه ما أهلَّ به لغيره، فبقي اللفظ على عمومه فيما عداه، قالوا: وهذا أولى لوجوهٍ.
أحدها: أنه قد نصَّ سبحانه على تحريم ما لم يُذكر عليه اسمه، ونهى عن أكله، وأخبر أنه فسقٌ. وهذا تنبيهٌ على أن ما ذُكر عليه اسم غيره أشدُّ تحريمًا وأولى بأن يكون فسقًا.
الثاني: أن قوله: {وَطَعَامُ اُلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} قد خُصَّ بالإجماع (3)، وأما ما أُهِلَّ به لغير الله فلم يُخصَّ بالإجماع، فكان الأخذ بالعموم الذي لم يُجمَع على تخصيصه أولى من العموم الذي قد أُجمِع على تخصيصه.
الثالث: أن الله سبحانه قال: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 172]، فحصر التحريم في هذه الأربعة، فإنها محرَّمةٌ في كل ملةٍ، لا تباح بحالٍ إلا عند الضرورة، وبدأ بالأخفِّ تحريمًا ثم بما هو أشدُّ منه، فإن تحريم الميتة دون تحريم الدم، فإنه
_________
(1) كذا في الأصل بدون الفاء.
(2) أي المحرمون.
(3) في نحو الخنزير وغيره، فإنه لا يحل بالإجماع ولو كان من طعامهم.
(1/358)
أخبث منها، ولحم الخنزير أخبث منهما، وما أهلَّ به لغير الله أخبث الأربعة.
ونظير هذا قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31]، فبدأ بالأسهل تحريمًا ثم ما هو أشدُّ منه إلى أن ختم بأغلظ المحرمات، وهو القول عليه بلا علمٍ. فما أُهِلَّ به لغير الله في الدرجة الرابعة من المحرمات.
الرابع: أن ما أهلَّ به لغير الله لا يجوز أن تأتي شريعةٌ بإباحته أصلًا، فإنه بمنزلة عبادة غير الله. وكل ملةٍ لا بدَّ فيها من صلاةٍ ونسكٍ، ولم يشرع الله على لسان رسولٍ من رسله أن يصلي لغيره، ولا ينسك لغيره، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام: 164 – 165].
الخامس: أن ما أُهلَّ به لغير الله تحريمه من باب تحريم الشرك، وتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير من باب تحريم الخبائث والمعاصي.
السادس: أنه إذا خُصَّ من طعام الذين أوتوا الكتاب ما يستحلُّونه من الميتة والدم ولحم الخنزير؛ فلأن يُخصَّ منه ما يستحلُّونه مما أهِلَّ به لغير الله أولى وأحرى.
السابع: أنه ليس المراد من طعامهم ما يستحلُّونه وإن كان محرمًا عليهم، فهذا لا يمكن القول به، بل المراد به ما أباحه الله لهم فلا يحرم علينا أكله، فإن الخنزير من طعامهم الذي يستحلُّونه ولا يُباح لنا، وتحريم ما أهلَّ
(1/359)
به لغير الله عليهم أعظم من تحريم الخنزير. وسرُّ المسألة أن طعامهم ما أبيح لهم، لا ما يستحلُّونه مما حرِّم عليهم.
الثامن: أن باب الذبائح على التحريم إلا ما أباحه الله ورسوله، فلو قُدِّر تعارضُ دليلَي الحظر والإباحة لكان العمل بدليل الحظر أولى، لثلاثة أوجهٍ.
أحدها: تأيُّدُه بالأصل الحاظر.
الثاني: أنه أحوط.
الثالث: أن الدليلين إذا تعارضا تساقطا، ورجع إلى أصل التحريم.
فصل
المسألة الثالثة: إذا ذبحوا ما يعتقدون تحريمه كالإبل (1) والنَّعام والبطّ وكل ما ليس بمشقوق الأصابع، هل يحرم على المسلم؟ اختُلف فيه (2):
فأباحه الشافعي وأبو حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبه، وهو قول جمهور أصحابه.
وحكى ابن أبي موسى في “الإرشاد” (3) أنه لا يباح ما ذكاه اليهود من الإبل.
ووجهُ هذا: أنه ليس من طعام المذكِّي، ولأنه ذبحٌ لا يعتقد الذابح حلَّه
_________
(1) كذا في الأصل، وفي مطبوعة “المغني”: “الإيَّل”. وهو الوعل.
(2) انظر: “المغني” (13/ 312).
(3) (ص 378).
(1/360)
فهو كذبيحة المُحرِم. ولأن لاعتقاد الذابح أثرًا في حلِّ الذبيحة وتحريمها. ولهذا لو ذبح المسلم ما يعتقد أنه لا يَحلُّ له ذبحُه ــ كالمغصوب ــ كان حرامًا، فالقصد يؤثِّر في التذكية كما يؤثِّر في العبادة. وهذا مذهب مالك (1)، واحتج أصحابه على ذلك بقوله تعالى: {وَعَلَى اَلَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 147]، ولما كانت حرامًا عليهم لم تكن تذكيتهم لها ذكاةً، كما لا يكون ذبح الخنزير لنا ذكاةً.
وهذا الدليل مبني على ثلاث مقدماتٍ:
إحداها: أن ذلك حرامٌ عليهم، وهذه المقدمة ثابتةٌ بنصّ القرآن.
الثانية: أن ذلك التحريم باقٍ لم يزل.
الثالثة: أنهم إذا ذبحوا ما يعتقدون تحريمه لم تؤثِّر الذكاة في حلِّه.
فأما الأولى فهي ثابتةٌ بالنص.
وأما الثانية فالدليل عليها أنَّ سبب التحريم باقٍ، وهو العدوان، قال تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 147]، وبغيهم لم يزل بمبعث النبي – صلى الله عليه وسلم -، بل زاد البغي منهم، فالتحريم تغلَّظ بتغلُّظ البغي. يوضحه أن رفع ذلك التحريم إنما هو رحمةٌ في حقّ من اتبع الرسول، فإن الله وضع عن أتباعه الآصار والأغلال التي كانت عليهم قبل مبعثه، ولم يَضَعْها عمن كفر به، قال تعالى: {اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ
_________
(1) انظر: “عقد الجواهر الثمينة” (1/ 584).
(1/361)
مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157].
وأما المقدمة الثالثة، وهو (1) أنهم إذا ذبحوا ما يعتقدون تحريمه لم يؤثِّر ذلك في الحلّ، فقد تقدَّم تقريرها.
فصل
المسألة الرابعة: إذا ذبحوا ما يعتقدون حلَّه، فهل تحرم علينا الشحوم المحرمة عليهم؟ هذا مما اختُلِف فيه.
قال عبد الله بن أحمد (2): وسألت أبي عن الشحوم، تحرم على اليهود؟ فقال: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 147]، قال: والقرآن يقول: {حَرَّمْنَا}، وقال في آيةٍ أخرى بعد سورة المائدة: {وَعَلَى اَلَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا} [الأنعام: 147]، يعني نزل بعد: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]، قلت: فيحلُّ لمسلم أن يطعم يهوديًّا شحمًا؟ قال: لا؛ لأنه محرَّمٌ عليه.
_________
(1) كذا في الأصل.
(2) “الجامع” للخلال (2/ 443).
(1/362)
وقال مهنا (1): حدثني أحمد عن الزبيري عن مالك، في اليهودي يذبح الشاة، قال: لا يأكل من شحمها، قال أحمد: هذا مذهب دقيقٌ.
فاختلف أصحابه في ذلك (2): فذهب ابن حامدٍ وأبو الخطاب وجماعةٌ إلى الإباحة، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة.
وذهب القاضي وأبو الحسن التميمي إلى التحريم، وصنَّف فيه التميمي مصنَّفًا ردَّ فيه على من قال بالإباحة (3)، واختاره أبو بكر أيضًا.
وذهب مالك إلى الكراهة، وهي عنده مرتبةٌ بين الحظر والإباحة (4).
قال المبيحون (5): القول بالتحريم خلاف القرآن والسنن والمعقول.
أما القرآن فإن الله تعالى يقول: {وَطَعَامُ اُلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} [المائدة: 6]. قالوا: وقد اتفقنا على أن المراد بذلك ما ذبحوه، لا ما أكلوه؛ لأنهم يأكلون الخنزير والميتة والدم.
قالوا: وقد جاء القرآن وصح الإجماع بأن دين الإسلام نسخَ كل دينٍ كان قبله، وأن من التزم ما جاءت به التوراة والإنجيل ولم يتبع القرآن فإنه
_________
(1) المصدر نفسه.
(2) انظر: “المغني” (13/ 312)، و”الروايتين والوجهين” (3/ 37).
(3) ذكره أبو يعلى في كتاب “الروايتين والوجهين” (3/ 37).
(4) “عقد الجواهر الثمينة” (1/ 584). وينظر “الموطأ” رواية ابن زياد (ص 156).
(5) انظر: “المحلى” (7/ 454).
(1/363)
كافرٌ، وقد أبطل الله كلَّ شريعةٍ كانت في التوراة والإنجيل وسائر الملل، وافترض على الجن والإنس شرائعَ الإسلام، فلا حرامَ إلا ما حرَّمه الإسلام، ولا فرضَ إلا ما أوجبه الإسلام.
وأما السنة فحديث عبد الله بن مغفَّلٍ الذي رواه البخاري في “صحيحه” (1) أن جِرابًا من شحمٍ يوم خيبر دُلِّي من الحصن، فأخذه عبد الله بن مغفَّلٍ وقال: والله لا أعطي أحدًا منه شيئًا، فضحك رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وأقرَّه على ذلك.
وثبت في “الصحيح” (2) أن يهوديةً أهدَتْ لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – شاةً، فأكل منها، ولم يُحرِّم شحم بطنها ولا غيره.
قالوا: وأما المعقول فمن المحال الباطل أن تقع الذكاة على بعض شحم الشاة دون بعضها.
قالوا: وقد قال تعالى: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ}، وهذا محض طعامنا.
قالوا: وقد قال لهم المسيح: {وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ اَلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 49]، وقد أحلَّ سبحانه لهم الطيبات على لسان رسوله، وهذا من الطيبات.
_________
(1) برقم (3153، 4214، 5508) وليس فيه: “والله لا أعطي … ” إلخ، وإنما هو عند أحمد (16791) ومسلم (1772) وغيرهما بنحوه.
(2) للبخاري (2617) ومسلم (2190) من حديث أنس.
(1/364)
قال ابن حزمٍ (1): ويُسألون عن الشحم والجمل أحلالٌ هما اليوم لليهود أم هما حرامٌ إلى اليوم؟ فإن قالوا: بل هما حرامٌ عليهم إلى اليوم كفروا بلا مريةٍ، إذ قالوا: إن ذلك لم ينسخه الله تعالى. وإن قالوا: بل هما حلالٌ لهم صدقوا، ولزِمَهم تركُ قولهم الفاسد.
قال: ونسألهم عن يهودي مستخفٍّ بدينه ذبح شاةً يعتقد حلَّ شحمها، هل يحرم علينا الشحم أم لا؟ فإن قلتم: يحرم علينا كان محالًا، فإنه ذكَّى ما يعتقد حلَّه ونحن نعتقد حلَّه، فمن أين جاء التحريم؟ وإن قلتم: لا يحرم علينا كانت ذبيحة هذا المستخفِّ بدينه أحسنَ حالًا من ذبيحة المتمسك بدينه، وهذا محالٌ.
قال: ويلزمهم أن لا يستحلُّوا أكْلَ ما ذبحه يهودي يومَ سبتٍ، ولا أكْلَ حيتانٍ صادها يهودي يوم سبتٍ، وهذا مما تناقضوا فيه.
قال: وقد روينا عن عمر بن الخطاب، وعلي، وابن مسعودٍ، وعائشة أم المؤمنين، وأبي الدرداء، وعبد الله بن يزيد، وابن عباس، والعرباض بن سارية، وأبي أمامة، وعبادة بن الصامت، وابن عمر رضي الله عنهم (2) =
_________
(1) “المحلى” (7/ 455).
(2) تقدَّمت الآثار عن عامَّة هؤلاء، إلا أبا أمامة وعبد الله بن يزيد الخطمي، فأما الأول فأشار إليه ابن حزم في “المحلى” (7/ 411) مضعِّفًا إسناده، وأما الآخر فأخرجه الطبري في “تفسيره” (9/ 528) بإسناد صحيح قال: “كلوا من ذبائح أهل الكتاب والمسلمين، ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه “.
(1/365)
إباحةَ ما ذبحه أهل الكتاب دون اشتراطٍ لما يستحلُّونه. وكذلك عن جمهور التابعين، لم نجد عن أحدٍ هذا القول إلا عن قتادة، ثم عن مالك وعبيد الله بن الحسن، وهذا مما خالفوا فيه طائفةً من الصحابة لا مخالفَ لهم، وخالفوا فيه جمهورَ العلماء.
قال المحرِّمون: إنما أباح الله سبحانه لنا طعام الذين أوتوا الكتاب، والشحوم المحرمة عليهم ليست من طعامهم، فلا تكون لنا مباحةً، والمقدمتان ظاهرتان غنيتان عن التقرير.
قالوا: ولأنه شحمٌ محرَّمٌ على ذابحه، فكان محرَّمًا على غيره بطريق الأولى، فإن الذكاة إذا لم تعمل في حلِّه بالنسبة إلى المذكِّي لم تعمل في حلِّه بالنسبة إلى غيره، وهذا كذبح المُحرِم الصيد، فإنه لما كان حرامًا عليه، ولم تُفِدِ الذكاةُ الحلَّ بالنسبة إليه، لم تُفِده بالنسبة إلى الحلال.
قالوا: وطردُ هذا تحريم الجمل إذا ذبحه اليهودي.
قالوا: وأيضًا فللقصد تأثيرٌ في حلّ الذكاة كما تقدَّم، فإذا كان الذابح غير قاصدٍ للتذكية لم تحلَّ ذكاتُه، ولا ريبَ أنه غير قاصدٍ لتذكية الشحم، فإنه يعتقد تحريمه وأنه بمنزلة الميتة.
قالوا: ولا محذورَ في تجزُّء الذكاة، فيحلُّ بها بعض المذكَّى دون بعضٍ، فيكون ذكاةً بالنسبة إلى ما يعتقد المذكِّي حلَّه وليس ذكاةً بالنسبة إلى ما يعتقد تحريمه، فإن ما يأكله يعتقد ذكاته ويقصدها، وما لا يأكله لا يعتقد ذكاته ولا يقصدها فصار كالميتة.
(1/366)
قالوا: والمعتمد في المسألة أن الله سبحانه حرَّم ذلك عليهم، والتحريم باقٍ لم يُنسَخ إلا عمن التزم الشريعة الإسلامية، ويدلُّ على بقاء التحريم وجوهٌ:
أحدها: أن الله سبحانه أخبر بأنه حرَّمه ولم يُخبِر بأنه نسخَه بعد تحريمه، وإنما يزول التحريم عمن التزم الإسلام.
الثاني: أنه علَّل التحريم بالبغي، وهو لم يزل بكفرهم بمحمد – صلى الله عليه وسلم -.
الثالث: ما في “الصحيح” (1) عن جابرٍ – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “لعن الله اليهودَ حُرِّمتْ عليهم الشحومُ فجَمَلُوها، فباعوها وأكلوا أثمانَها”.
وفي “المسند” (2) عن ابن عباس – رضي الله عنهما – عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: “لعن الله اليهود حُرِّمت عليهم الشحومُ، فباعوها وأكلوا أثمانَها، وإنَّ الله لم يُحرِّم على قومٍ أكلَ شيءٍ إلا حرَّم عليهم ثمنَه”.
فلو كان التحريم ق