عطاءات العلمكتب ابن القيمكتب ابن القيم- شاملة - txt

التبيان في أيمان القرآن _1

التبيان في أيمان القرآن _1

http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
  الكتاب: التبيان في أيمان القرآن [مشروع آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (14)]المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 – 751)
المحقق: عبد الله بن سالم البطاطي
راجعه: محمد أجمل الإصلاحي – عبد الرحمن بن معاضة الشهري
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الرابعة، 1440 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الصفحات: 653
قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال
(14)
التبيان
في أيمان القرآن
تأليف
الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية
(691 – 751)
تحقيق
عبد الله بن سالم البطاطي
إشراف
بكر بن عبد الله أبو زيد
دار عطاءات العلم
دار ابن حزم

(المقدمة/1)


راجَعَ هَذا الجزْء
مُحَمَّدْ أَجْمَل الإصْلَاحِي
عَبد الرحمن بن معَاضة الشهْري

(المقدمة/3)


مقدمة التحقيق
الحمد لله الذي أنزل الفرقان، وجعل فيه التبيان، وضمَّنَه الأقسامَ والأيمان، نحمده على جزيل الإحسان، وعظيم الامتنان، وهو المستحقُّ لكلِّ حمدٍ في كل آن. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فهذا كتابٌ عظيمُ النَّفْع، طيِّبُ الوَقْع، سال فيه قلم ابن القيم – رحمه الله – بالفوائد المحرَّرة، والفرائد المبتكرة، حتَّى فاض واديه فبلغَ الروابي، وملأ الخوابي، قصدَ فيه جمعَ ما ورد في القرآن الكريم من الأيمان الربَّانية وما يتبعها من أجوبتها وغاياتها وأسرارها، فبَرعَ وتفنَّن، ثُمَّ قعَّد وقَنَّن، ولا غَرْوَ في ذلك فإنَّه “شمس الدِّين”.
وقد اعتنى أهل العلم بالأيمان والأقسام من قديم، فأفردوها بالتصنيف على قلَّةٍ في ذلك، إلا أنَّ أغراضهم ومقاصدهم تنوَّعت من تآليفهم؛ فمن ذلك:
أنَّ جماعةً من علماء العربية صنَّفوا فيما ورد عن العرب من الأيمان والأقسام، كما فعل أبو العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب (291 هـ) فصنَّف “كتاب الأيمان” (1)، وكذلك صنَعَ: عَسل بن ذكْوَان العسكري النحوي – في طبقة المبرِّد – كتابَ “أقسام العربية” (2)، وجمَعَ
__________
(1) انظر: إنباه الرواة” (1/ 151).
(2) انظر: “معجم الأدباء” (12/ 169)، و”إنباه الرواة” (2/ 383).

(المقدمة/5)


أبو إسحاق النَّجِيرَمي (423 هـ) في كتابِ لطيفٍ “أيمان العرب” (1) .
ورامَ جماعةٌ من الأئمة جمع ما ورد في الأيمان من الرواية والدراية كما فعل الإمام أبو عبيد القاسم بن سلَّام (223 هـ) في كتابه “الأيمان والنذور” (2) .
وألَّف الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد بن سرور المقدسي (600 هـ) جزءًا سمَّاه: “الأقسام التي أقسم بها النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -” (3) .
وأفردَ الإمام أبو الحسينِ محمد بن القاضي أبي يعلى (526 هـ) جزءًا لطيفًا في المسائل التي حَلَف عليها الإمام أحمد (4) .
و”أقسام القرآن” من ذيَّاك القبيل، وقد عدَّه السيوطي في “الإتقان” (2/ 1048) نوعًا من أنواع علوم القرآن، وتبعه طاش كبري زاده في “مفتاح السعادة” (2/ 540) حيث جعله فرعًا من فروع التفسير (5) ، فعِلْمٌ هذا شأنه لا يستغرب بعد ذلك أن يحتفي به العلماء ويخصُّوه بعناية زائدة ويفردوه بمصنفاتٍ خاصَّة.
وهذا الكتاب المبارك بدأته بمقدِّمة دراسية تتعلق بالكتاب وموضوعه، وجعلتها على قسمين:
__________
(1) طبع في المطبعة السلفية بمصر، سنة 1343 هـ.
(2) انظر: “إنباه الرواة” (3/ 22).
(3) انظر: “السير” (21/ 447).
(4) طبع بدار العاصمة – الرياض، سنة 1407 هـ، بتحقيق: محمود بن محمد الحداد.
(5) وانظر: “كشف الظنون” (1/ 137)، و”أبجد العلوم” (2/ 123).

(المقدمة/6)


القسم الأوَّل: فصولٌ في القَسَم، وذكرتُ فيه:
– منزلة القَسَم عند العرب.
– الأقسام في القرآن.
– أشتاتٌ من الفوائد.
– المصنَّفات في أقسام القرآن.
والقسم الثاني: التعريف بالكتاب، وذكرتُ فيه:
– عنوان الكتاب.
– نسبة الكتاب إلى مؤلِّفه.
– تأريخ تأليف الكتاب.
– موضوع الكتاب.
– منهج المؤلِّف في الكتاب.
– موارد المؤلِّف في الكتاب.
– أهمية الكتاب وأثره فيمن بعده.
– طبعات الكتاب.
– نسخ الكتاب.
– عملي في التحقيق.
والله أسأل أن ينفع بهذا العمل، وأن يقينا فيه الزَّلل والخطَل، ويديم علينا نعمته، ويسبغ علينا عافيته؛ إنَّه جوادٌ كريم، مجيبٌ قدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(المقدمة/7)


القسم الأوَّل: فصول في القَسَم
– منزلة القَسَم عند العرب
– الأقسام في القرآن
– أشتاتٌ من الفوائد
– المصنَّفات في أقسام القرآن

(المقدمة/9)


<رمز>منزلة القَسَم عند العرب:</رمز>
للعرب طريقتهم في الكلام، وأسلوبهم في التخاطب، وقواعدهم في الحديث، أرشدتهم إليها فطرتهم القويمة، وطبيعتهم المستقيمة، فجرى بها لسانهم عفوًا من غير اعتمال، وسليقةً من دون افتعال.
وقد كان العرب أهل صدق وذمَّة، يتنزَّهون عن الكذب أيًّا ما كان الخبر، ويَعَافُون حكايته، ويستقبحون فعلته، ويعيِّرون فاعله ذمًّا وشنَاءةً، فالكذب عندهم عار اللسان كما أنَّ الزِّنا عار العِرْض.
لأجل ذلك كانوا يَصْدُقُون على الدوام، فيكون سامعهم على ثقةٍ من كلامهم، فإذا تردَّد السامع في صدق خبرهم أو شكَّ في ثبوته أكَّدوه له بما يناسب المقام من المؤكِّدات اللفظية وغيرها، حتى يستروح إلى أمانتهم في الحكاية، وصدقهم في القيل.
“والقَسَم” نوعٌ من أنواع التوكيد عند العرب، بل هو أجلُّها وأعظمها؛ لأنَّه غاية ما يبذله المتكلِّم من الجَهْد لتقوية كلامه وتثبيته في نفس سامعه، وليس في المؤكِّدات ما يوازيه أو يقوم مقامه فهو أقواها على الإطلاق، ولهذا كثرت ألفاظهم وتنوَّعت عباراتهم في أداء القَسَم؛ شأنهم في كل الأمور الجليلة والخطيرة، فمن ذلك قولهم: “لا وفالق الإصباح، وباعث الأرواح”، “لا والذي شقَّ الجبال للسيل، والرجال للخيل”، “لا والذي نادى الحجيج له”، وغير ذلك من ألفاظ القَسَم (1).
زد على ذلك تعظيم القَسَم في نفوسهم فقد كان لهم فيه اعتقاد،
__________
(1) انظر: “الأمالي” للقالي (3/ 51)، و”أيمان العرب” للنَّجِيرَمي (19)، و”المخصَّص” لابن سيده (13/ 118)، و”المزهر” للسيوطي (2/ 261).

(المقدمة/11)


حيث كانوا يعتقدون أنَّ اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع، ولا تترك شيخًا ولا يافع، الأمر الذي جعلهم يتحفَّظون في أيمانهم، ولا يطرحونها إلا في مواطن الجِدِّ والحزم والصرامة.
وقد نزل القرآن بلغة العرب وعلى أسلوب كلامهم، ومناحي خطابهم، فجاء في أسلوب بيانه من القَسَم ما كان معهودًا عندهم، وخُصَّ بالأمور الجليلة العظمى، وقضايا الإيمان الكبرى.
فإن قيل: إنَّ المتكلِّم إنِّما يحلف ويُقْسِم لحاجته إلى القَسَم واليمين في تأكيد أمرٍ أو تثبيت خبرٍ عند سامعه، أمَّا الله – جلَّ جلاله – فإنَّه غير محتاجٍ إلى ذلك؛ لأنَّه – سبحانه – أحسن حديثًا وأصدق قيلًا.
هذا من جهة المتكلِّم بالقَسَم؛ أمَّا المُلْقَى إليه القَسَم فإنَّه إمَّا أن يكون مؤمنًا؛ فهذا يحمله إيمانه على التصديق بكلام الله – عزَّ وجلَّ – فلا يتوقَّف إيمانه على اليمين لأنَّه قد سلَّم وأيقنَ بما في القرآن. وإمَّا أن يكون كافرًا؛ فهذا لم ينتفع بالحجج والبراهين فكيف ينتفع بالقَسَم واليمين! فآلَ الأمرُ إلى عدم الحاجة إلى الأيمان، ومالا حاجة إليه لا فائدة من وروده! (1)
والجواب من خمسة أوجه:
الأوَّل: ما سبق تقريره من أنَّ هذا جارٍ على سَنَن لغة العرب ومألوف لسانها، فليس في وروده في القرآن إغرابٌ في اللغة ولا بمدخولٍ عليها
__________
(1) وثَمَّ إشكال آخر يورده بُلَداء المستشرقين، انظره وجوابه في: “مناهل العرفان” للزرقاني (1/ 222)، و”المدخل لدراسة القرآن الكريم” لمحمد أبو شهبة (245 – 247)، و”القَسَم في القرآن الكريم” لحسين نصَّار (49).

(المقدمة/12)


ما لا يعرفه أهلها، بل هو ممَّا اعتادوه في مجريات كلامهم بغضِّ النظر عمَّن أُلقي إليه القَسَم.
الثاني: أنَّ وجود القَسَم في القرآن من أبلغ الحجج وأوضحها على صدق النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – وصحة رسالته، إذ لو كان كاذبًا في هذه الأيمان لأصابه خراب الديار، وانقلاب الحال، وسوء المآل؛ على ما كانوا يعتقدونه في الأيمان الكاذبة، أمَا والأمرُ بعكس ذلك فإنَّ يمينه برَّةٌ، وكلامه صدقٌ، ورسالته حقٌّ.
الثالث: أنَّنا لا نسلِّم بانتفاء فائدته، بل الفائدة حاصلة حتمًا، وذلك أنَّ النَّاس ثلاثة أصناف: مؤمن، ومرتاب، وجاحد.
فأمَّا المؤمن فإنَّ توكيد الكلام بالقَسَم يزيده طمأنينةً واستيقانًا، وينزل الكلام من نفسه المنزل الأسنى.
وأمَّا المرتاب فإنَّ القَسَم يزيل ريبته، ويطرح الشكَّ الذي في نفسه، فلا يبقى عنده تردُّدٌ في ثبوت الخبر أو عدمه.
وأمَّا الجاحد فإنَّ القَسَم زيادةٌ في تحقيق البيِّنَة وإقامة الحجة عليه، فلا حُجَّة له بَعْدُ أن يقول: إنَّ ما سمعتُه كان خبرًا من جملة ما نسمعه من الأخبار التي تطرق مسامعنا على الدوام، ولم يؤكَّد لي هذا الخبر أو ذاك بيمينٍ أو قَسَمٍ أحترمُه وأعظِّمُه. فورود القَسَم دفعٌ لهذه الحُجَّة الداحضة.
الرابع: أنَّ ما ذُكر في الإشكال إنَّما يستقيم إذا حصرنا فائدة القَسَم فيما قالوه فقط؛ والأمر ليس كذلك، إذ قد يرد القَسَم ويراد به تعظيم المقسَم به أو المقسَم عليه لا غير كما ذهب إليه بعض أهل العلم منهم

(المقدمة/13)


ابن القيم رحمه الله.
الخامس: ما ذكره أبو القاسم القشيري – رحمه الله – حيث قال: “إنَّ الله ذكر القَسَم في القرآن لكمال الحجة وتأكيدها، وذلك أنَّ الحُكْمَ يُفْصَل باثنين: إمَّا بالشهادة، وإمَّا بالقَسَم. فذكر الله – تعالى – في كتابه النوعين حتى لا يبقى لهم حُجَّة، فقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18]، وقال: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53] ” (1) .
* * *
__________
(1) نقله عنه الزركشي في “البرهان” (3/ 122)، والسيوطي في “الإتقان” (2/ 1048)، وفي “معترك الأقران” (1/ 450)، وطاش كبري زاده في “مفتاح السعادة” (2/ 540).

(المقدمة/14)


<رمز>الأقسام في القرآن:</رمز>
جاءت الأقسام في القرآن الكريم على ضربين:

الضرب الأوَّل: الأقسام الصادرة من الخلق وذكرها الله – عزَّ وجلَّ – عنهمِ، كقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)} [الأنبياء: 57]، وكقوله تعالى عن المشركين: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)} [الأنعام: 23]، وقوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} [فاطر: 42]، وغير ذلك كثير.
الضرب الثاني: ما أقسم الله – عزَّ وجلَّ – به، وهذا على نوعين:
الأوَّل: القَسَم المُضْمَر؛ وهو القَسم المحذوف منه فعل القَسَم والمقسَم به، لكن يدل عليه أحد أمرين:
1/ إمَّا جوابه المقرون باللام، كقوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران: 186]، تقديره: واللَّهِ لتبلونَّ ولتسمعنَّ.
2/ وإمَّا المعنى والسياق، كقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] , أي: والله ما من كافرٍ إلا واردٌ النَّار، بدلالة المعنى والسياق الذي جاءت فيه هذه الآية فإنها جاءت بعد آياتٍ مؤكَّداتٍ بالقَسَم الملفوظ وهو قوله سبحانه: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ. . .} [مريم: 68 – 70].
الثاني: القَسَم الظاهر الملفوظ، وهذا على ثلاثة أضرب:

(المقدمة/15)


أوَّلًا: إقسامُه – سبحانه – بذاته القدسيَّة، وورد ذلك في عشر آياتٍ مباركاتٍ (1) ، منها آيتان مدنيتان، والثماني الباقيات مكيَّةٌ، وهي:
1 – {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65].
2 – {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53].
3 – {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) } [الحجر: 92].
4 – {تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} [النحل: 56].
5 – {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} [النحل: 63].
6 – {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} [مريم: 68].
7 – {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3].
8 – {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23].
9 – {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7].
10 – {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) } [المعارج: 40].
__________
(1) ذكر الزركشي في “البرهان” (3/ 121) سبعَ آياتٍ فقط، وعنه تناقلها من جاء بعده، وتتبعها الدكتور: يوسف خليف فأوصلها إلى عشر آياتٍ في كتابه “دراسات في القرآن والحديث” (96)، ووافقه الأستاذ: حسين نصَّار في “القسم في القرآن الكريم” (47)، لكن الدكتور: سامي عطا حسن تعقَّبَ بعضها في بحثه “أسلوب القسم الظاهر في القرآن الكريم” (45).

(المقدمة/16)


ثانيًا: إقسامه – سبحانه – بأفعاله وصفاته العليَّة، كقوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) } [الشمس: 5 – 7] على اعتبار “ما” مصدريَّة، أي: والسماء وبنائها.
ثالثًا: إقسامُه – سبحانه – بمخلوقاته، وهو – سبحانه – لا يقسم إلا بالأشياء العظيمة الدالَّة على قدرته وكمال صُنعه، أو بالأشياء المباركة في نفعها أو فضلها.
قال ابن القيم رحمه الله: “وإنما يُقْسِم – سبحانه – من كل جنْسٍ بأعلاه، كما أنه لمَّا أقسَمَ بالنُّفُوس أقسَمَ بأعلاها؛ وهي: النَّفْس الإنسانيَّة.
ولمَّا أقسَمَ بكلامه أقسَمَ بأشرفه وأجلِّه؛ وهو: القرآن.
ولمَّا أقسَمَ بالعُلْويَّات أقسَمَ بأشرفها؛ وهي: السماء، وشمسها، وقمرها، ونجومها.
ولمَّا أقسَمَ بالزَّمان أقسَمَ بأشرفه؛ وهو: الليالي العَشْر.
وإذا أراد – سبحانه – أن يُقْسِمَ بغير ذلك أدرجه في العموم كقوله عزَّ وجلَّ: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) } [الحاقة: 38، 39]، وقوله: {الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) } [الليل: 3]، في قراءة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ونحو ذلك” (1) .
وقد نُقل عن الضحَّاك إنكاره لهذا النوع من القَسَم فقال: “إنَّ الله لا يقسم بشيءٍ من خلقه، ولكنه استفتاح يستفتح به كلامه” (2) !
__________
(1) “التبيان” (188 – 189).
(2) نقله عنه الماوردي في “النكت والعيون” (5/ 462)، وابن كثير في “تفسيره” =

(المقدمة/17)


وهذا لا يثبت عنه؛ لأنَّه من رواية جويبر عنه، وجويبر متروك.
ثُمَّ لو صح لكان مطَّرَحًا لمخالفته صريح القرآن، قال ابن كثير: “وهذا القول ضعيف، والذي عليه الجمهور أنه قَسَمٌ من الله – عزَّ وجلَّ – يُقسِمُ بما شاء من خلقه، وهو دليلٌ على عظمته” (1).
وههنا سؤال يكثر إيراده في باب القَسَم وهو: أنَّه قد ورد النهي عن الحلف بغير الله – عزَّ وجلَّ -، فكيف جاء في القرآن القَسَم بالمخلوقات؟
وللعلماء أجوبةٌ كثيرةٌ عن هذا السؤال، وعن الأجوبة اعتراضات عند بعضهم، والكلام فيها يطول، لكنَّ أصح هذه الأجوبة وأحسنها – وهو المنقول عن السلف – أنَّ الله – عزَّ وجلَّ – يقسِمُ بما شاء من خلقه، وليس للخلق أن يُقسِمُوا إلا به سبحانه، كما قال – عزَّ وجلَّ -: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء: 23].
* * *
__________
= (7/ 543).
(1) “تفسيره” (7/ 543).

(المقدمة/18)


<رمز>أشتاتٌ من الفوائد:</رمز>
وقفتُ – أثناء قراءتي ومطالعتي – على فوائد مبثوثة هنا وهناك تتعلق بالقَسَم ولا ينتظمها أمرٌ واحد، فأحببتُ أن أثبتها ههنا تتميمًا للفائدة:
* حكى القرافي (684 هـ) الإجماعَ على أنَّ القَسَم من أقسام الإنشاء لا الخبر (1).
* قال ابن خالويه (370 هـ): “واعلم أنَّ القَسَم يحتاج إلى سبعة أشياء: أحرف القَسَم، والمقسِم، والمقسَم به، والمقسَم عليه، والمقسَم عنده، وزمان، ومكان” (2).
* أوَّلُ قَسَمٍ في القرآن بحسب ترتيب النزول جاء في سورة “القَلَم”: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)} (3).
* قال الثعلبي (427 هـ) (4): “وجوابات القَسَم سبعةٌ:
1 – “إنَّ” الشديدة، كقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)} [الفجر: 14].
2 – و”ما” النفي، كقوله: {وَاَلضُّحُى (1) … مَا وَدَّعَكَ} [الضحى: 1 – 3].
__________
(1) “الفروق” (1/ 106). ونقله عنه السيوطي في “معترك الأقران” (1/ 449)، وطاش كبري زاده في “مفتاح السعادة” (2/ 494).
(2) “إعراب ثلاثين سورة من القرآن” (46). وراجع كتاب “أسلوب القَسَم واجتماعه مع الشرط في رحاب القرآن الكريم” لعلي أبو القاسم عون (38 – 39) ففيه تمثيل وشرح.
(3) انظر: “قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله” عبد الرحمن حبنكة (465).
(4) “الكشف والبيان” (9/ 93 – 94)، وعنه البغوي في “معالم التنزيل” (7/ 356).

(المقدمة/19)


3 – و”اللام” المفتوحة، كقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)} [الحجر: 92].
4 – و”إنْ” الخفيفة، كقوله: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي. . .} [الشعراء: 97].
5 – و”لا”، كقوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ. . .} [النحل: 38].
6 – و”قد”، كقوله: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) … قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)} [الشمس: 1 – 9].
7 – و”بل”، كقوله: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا} [ق: 1 – 2] “.
* جاء الاستفتاح بالقَسَم في خمس عشرة سورة من القرآن، كلها مبدوءة بحرف “الواو”، وكلها سورٌ مكيَّةٌ، وهي: (1)
1 – والصافات.
2 – والذاريات.
3 – والطور.
4 – والنجم.
5 – والمرسلات.
6 – والنازعات.
7 – والسماء ذات البروج.
__________
(1) انظر: “مقدمة في الدراسات القرآنية” لمحمد فاروق النبهان (173).

(المقدمة/20)


8 – والسماء والطارق.
9 – والفجر.
10 – والشمس.
11 – والليل.
12 – والضحى.
13 – والتين.
14 – والعاديات.
15 – والعصر.
* أطول موضع في القرآن الكريم تتابع فيه القَسَم جاء في سورة “الشمس”، حيث تتابعَتْ سبع آياتٍ متوالياتٍ يطَّرد فيها القَسَم بحرف “الواو” في صدر كل آية (1).
* لم تأتِ سورة مدنيَّةٌ مبدوءةٌ بحرف القَسَم “الواو” (2).
* صيغة القَسَم “تالله” لم ترد إلا في الآيات المكيَّة فقط (3).
__________
(1) انظر: “الإعجاز البياني للقرآن” لعائشة بنت الشاطيء (229)، و”القَسَم في
القرآن الكريم” لحسين نصَّار (91).
(2) انظر: “القَسَم في القرآن الكريم” لحسين نصَّار (91)، وأحال في الهامش على مصادر أخرى.
(3) انظر: “دراسات في القرآن” ليوسف خليف (111)، و”القَسَم في القرآن الكريم” لحسين نصَّار (91).

(المقدمة/21)


* أكثر ما أقسم الله به من المخلوقات هو “الليل”، حيث جاء القَسَم به في ستِّ آياتٍ مباركات؛ وهي:
1 – في سورة [المدثر: 33]: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33)}.
2 – في سورة [الانشقاق: 17]: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17)}.
3 – في سورة [التكوير: 17]: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)}.
4 – في سورة [الفجر: 4]: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)}.
5 – في سورة [الشمس: 4]: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)}.
6 – في سورة [الليل: 1]: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)}.
* ورد المقسَم به مسبوقًا بأداة النفي “لا” في ثمانية مواضع من القرآن الكريم (1)، وهي:
أ/ مقسَم به تقدمته أداة النفي مقترنة بـ “الفاء”، وذلك في ستة مواضع من القرآن الكريم، وكلها في ثنايا السور، وهي:
1 – قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65].
2 – وقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)} [الحاقة: 38، 39].
__________
(1) انظر: “أسلوب القَسَم الظاهر في القرآن الكريم” للدكتور: سامي عطا حسن (37)، مقال في مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية – جامعة الكويت، العدد (53)، سنة 1424 هـ – 2003 م.

(المقدمة/22)


3 – وقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40)} [المعارج: 40]4 – وقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)} [الواقعة: 75].
5 – وقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)} [التكوير: 15, 16].
6 – وقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16)} [الإنشقاق: 16].
ب/ ومقسَمٌ به مسبوق بأداة النفي “لا” غير مقترنة بـ “الفاء” وذلك في موضعين:
1 – قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)} [القيامة: 1 – 2].
2 – وقوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)} [البلد: 1].
* ورد القَسَم بالقرآن الكريم في خمسة مواضع، كلها مسبوقة بالحروف المقطَّعة التي افتتحت بها السور (1)؛ وهي:
1 – قوله تعالى: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)} [يس: 1 – 2].
2 – وقوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)} [ص: 1].
3 و 4 – وقوله تعالى: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)} [سورتا الزخرف والدخان].
__________
(1) انظر: “القَسَم في القرآن الكريم” لحسين نصَّار (48).

(المقدمة/23)


5 – وقوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1 )} [ق: 1].
* قال ابن القيم – رحمه الله – عند قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) } [الحاقة: 38, 39]: “وهذا أعمُّ قَسَمٍ وقع في القرآن، فإنَّه يَعُمُّ العلويَّات والسُفْليَّات، والدنيا والآخرة، وما يُرى وما لا يُرى، ويدخل في ذلك الملائكة كلهم، والجنُّ، والإنسُ، والعرشُ، والكرسيُّ، وكلُّ مخلوق” (1) .
* وقال أيضًا: “ثُمَّ أقسَم – سبحانه – أعظمَ قَسَمٍ، بأعظم مقسَمٍ به، على أجلِّ مقسَمٍ عليه، وأكَّد الإخبار به بهذا القَسَم، ثُمَّ أكَّده – سبحانه – بشِبْهِه بالأمر المحقَّق الذي لا يشكُّ فيه ذو حاسَّةٍ سليمةٍ، قال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) } [الذاريات: 23] ” (2) .
* * *
__________
(1) “التبيان” (264).
(2) “التبيان” (638).

(المقدمة/24)


<رمز>المصنَّفات في أقسام القرآن:</رمز>
من عادة السيوطي – رحمه الله – في “الإتقان” أنَّه إذا ذكر نوعًا من علوم القرآن يصدِّره بذكر مَنْ أفرده بالتأليف وينقل منه بعض نصوصه، فلما ذكر أقسام القرآن لم يذكر إلا كتاب “التبيان” فقط (1)، ومن جاء بعده تبعوه في ذلك.
ولأجل ذلك جزم جماعة من أهل العلم بأنَّه لم يُفْرِد أقسام القرآن بمصنَّف إلا ابنُ القيم – رحمه الله – في كتابه “التبيان”، وأنَّه “أوَّل كتابٍ مفصَّلٍ علمي مؤسَّسٍ على الدراسة العميقة، والتدبر في القرآن، واستعراضٍ لأنواع الأقسام والمقسم بها ومواردها في القرآن” (2).
لكن كلام الشيخ محمد أبو شهبة يشعر بوجود مصنفاتٍ أخرى في هذ الفنِّ حيث قال: “وقد ألَّف العلماء في أقسام القرآن كتبًا مستقلة، ولعلَّ أحفلها وأجلَّها – فيما أعلم – “التبيان في أقسام القرآن” لابن القيم” (3).
فكلام أبو شهبة – رحمه الله – يفيد بوجود وفرةٍ في مؤلَّفات أقسام القرآن، وأنَّ هناك من سبق ابن القيم ولحقه في إفرادها بالتأليف؛ إلا أنَّه لم يذكر لنا ما وقف عليه من تلك الكتب ولو كانت مخطوطةً لم تطبع بَعْدُ.
__________
(1) انظر: “الإتقان” (2/ 1048).
(2) من كلام أبي الحسن الندوي في مقدمته لكتاب “إمعان في أقسام القرآن” للفراهي (10).
(3) “المدخل لدراسة القرآن الكريم” (248).

(المقدمة/25)


والأمر ليس كما أفاد؛ فأمَّا قبل عصر ابن القيم فإنِّي لم أقف بعد البحث في كتب الطبقات والسير على مؤلَّفاتٍ في أقسام القرآن إلا على كتابٍ واحدٍ لأبي عمرو الدمشقي عبد الله بن أحمد بن بشير – ويقال: بشر – بن ذكْوَان (242 هـ) أحد مشاهير القرَّاء الشاميين، سمَّاه: “أقسام القرآن وجوابها” (1) ، ولا أعرف من خبره شيئًا.
وأمَّا بعد عصر ابن القيم فلا يكاد الباحث يقف إلا على تلخيص ابن طولون لكتاب “التبيان” حيث سمَّاه: “خلاصة التبيان في أيمان القرآن”، وليس بعد ذلك إلا دراسات المتأخرين والمعاصرين في أبحاثهم ومقالاتهم وبعض كتبهم.
ويبقى كتاب “التبيان” متفردًا في بابه (2) ، قد خاض العلماء في عُبَابه، وحَطُّوا رحالهم على أعتابه، فوجدوا فيه جواهر مكنونة، ومعادن مخزونة، فاستفادوا منه، ولم يرغبوا عنه، ولم يتجاسروا على مجاراته، حتى غدا عَلَمًا على هذا الفن.
__________
(1) عزاه له ابن الجزري في “غاية النهاية” (1/ 404 – 405)، وعنه كحَّالة في “معجم المؤلفين” (2/ 222).
(2) أما ما ذكره الحكيم الترمذي في “نوادر الأصول” (3/ 203) في الأصل الرابع والأربعين بعد المائتين تحت عنوان: (في بيان أقسام القرآن)؛ فليس مراده بأقسام جمع (قَسَم) الذي هو اليمين، وإنما مراده جمع (قِسْم)؛ لأنه ذكر أنواع دلالات الآيات على مضمونها.

(المقدمة/26)


القسم الثاني: التعريف بالكتاب ومباحثه
– عنوان الكتاب
– نسبة الكتاب إلى مؤلِّفه
– تأريخ تأليف الكتاب
– موضوع الكتاب
– منهج المؤلِّف في الكتاب
– موارد المؤلِّف في الكتاب
– أهمية الكتاب وأثره فيمن بعده
– طبعات الكتاب
– نسخ الكتاب
– عملي في التحقيق

(المقدمة/27)


<رمز>عنوان الكتاب:</رمز>
اشتهر هذا الكتاب – منذ طبعته الأُولى – بين النَّاس بـ “التبيان في أقسام القرآن”، وبه تتابعت سائر الطبعات، وكذا تناولته أقلامِ الباحثين في الإحالات والدراسات، وصار هذا العنوان هو الاسم العَلمي لهذا الكتاب، ولهذا أسبابُه … فمنها:
1) أنَّ بعض من ترجم للمؤلِّف سمَّاه بهذا الاسم؛ كما في “كشف الظنون” (1/ 341)، و”هدية العارفين” (2/ 158)، و”الأعلام” (6/ 56).
2) أنَّ لفظ “القَسَم” هو الوارد في القرآن الكريم في أقسام الله – عزَّ وجلَّ – دون لفظ “اليمين” أو “الحَلِف” ونحو ذلك، فاشتُقَّ اسم الكتاب من لفظ “القَسَم” دون غيره لأنه موافق لمضمونه، مقاربٌ لمرسومه.
3) أنَّ المؤلِّف – رحمه الله – خصَّ كتابه للكلام عن القَسَم فقط، ولهذا يبدأ غالب فصول الكتاب بقوله: “ومن ذلك قَسَمُه سبحانه بـ. . .”، فانتزعوا اسم الكتاب من تصرفات المؤلِّف في ثناياه.
4) أنَّ مقدِّمة المؤلِّف – رحمه الله – قد خلت منها جميع الطبعات! فإنَّ الناشر الأوَّل لعله اعتمد على نسخةٍ سقطت منها هذه المقدِّمة، فاجتهد في تسمية الكتاب، فكان ما تراه من اسم الشهرة، ثُمَّ تابعه عليه من جاء بعده.
5) أنَّ هذا الاسم جاء في صفحة العنوان للنسخة (ز).
وجاء في صفحة العنوان للنسختين (ح) و (م) اسم الكتاب هكذا: (كتاب أقسام القرآن والكلام على ذلك).

(المقدمة/29)


وذكره عبد اللطيف بن محمد المعروف بـ “رياضي زاده” في كتابه “أسماء الكتب” (80) فسمَّاه: “التبيان في معرفة أحكام القرآن”! وقد تفرَّد بذلك، وهو سهوٌ.
وكل ما مضى يتهاوى أمام تسمية المؤلِّف لكتابه في المقدِّمة، والتصريح بذلك، ويجعلنا نجزم أنَّ تلك التسميات كانت من قبيل الاجتهاد بالمعنى لا غير، فإنَّ الاسم العَلَمي الصحيح للكتاب هو: “التبيان في أيمان القرآن”، وإليك الأسباب:
أوَّلًا: أنَّ المؤلِّف – رحمه الله – قد ذكر هذا العنوان صراحةً وسمَّاه به في خطبة الكتاب حيث قال: “فهذا كتابٌ صغير الحجم، كبير النفع، فيما وقع في القرآن العزيز من الأيمان والأقسام، والكلام عليها يمينًا، وارتباطها بالمقسَم عليه، وذكر أجوبة القَسَم المذكورة والمقدَّرة، وأسرار هذه الأقسام، فإنَّ لها شأنًا عظيمًا يعرفه الواقف عليه في هذا الكتاب، وسمَّيته: “كتاب التبيان في أيمان القرآن””.
ثانيًا: أنَّ المؤلِّف – رحمه الله – قد أحال على هذا الكتاب باسم “أيمان القرآن” في موضعين من كتابه المعروف “الداء والدواء” (1) .
ثالثًا: أنَّ أكثر من ترجم للمؤلِّف – خاصةً المتقدمين منهم – يذكرونه باسم “أيمان القرآن”، وفي مقدمتهم تلميذه ابن رجب الحنبلي في “ذيل طبقات الحنابلة” (5/ 176)، وكذا قاله: الداودي في “طبقات المفسِّرين” (2/ 93)، والعليمي في “المنهج الأحمد” (5/ 95)، وفي “الدر المنضَّد” (2/ 522)، وابن العماد في “شذرات الذهب”
__________
(1) انظر منه (ص/83) و (ص/470).

(المقدمة/30)


(8/ 291)، وابن ضويان في “رفع النقاب” (320) ، والبغدادي في “هدية العارفين” (2/ 158).
رابعًا: أنَّ هذا الاسم جاء على صفحة العنوان في بعض النسخ المخطوطة للكتاب كما في النسخة (ن)، والنسخة (ط)، ونسخة مكتبة وحيد باشا في كتاهية بتركيا رقم (3) وقد كتبت في القرن التاسع (1) .
خامسًا: أنَّ العلَّامة شمس الدين ابن طولون الحنفي (953 هـ) قد لخَّص الكتاب وسمَّاه بالخلاصة مع المحافظة على عنوان الكتاب فقال: “خلاصة التبيان في أيمان القرآن” (2) .
__________
(1) انظر: “الفهرس الشامل” (1/ 409) علوم القرآن، و”الأثبات في مخطوطات الأئمة” للشبل (247).
(2) منه نسخة خطية فريدة بخط المؤلف محفوظة في دار الكتب المصرية، مجاميع تيمور رقم (203) ضمن مجموع، موضع الكتاب منه (213 – 386) ورقة.

(المقدمة/31)


<رمز>نسبة الكتاب إلى المؤلِّف:</رمز>
الأصل أنَّ الأمر المتيقَّن لا يحتاج إلى إثبات؛ لأنَّ “الثابت ثابت”، فتعداد أدلَّة ثبوته تحصيل حاصل كما هو الحال ههنا في كتاب “التبيان”.
لكنَّ أهل التحقيق درجوا في مقدِّماتهم على بيان نسبة الكتاب إلى مؤلِّفه؛ استيثاقًا للبحث، وطمأنةً للقاريء، وإجهازًا منهم على فلول الشك والاحتمال، وطلبًا لإثبات الكتاب إلى مؤلِّفه على وجه الكمال.
وعليه فأقول:
لا شكَّ في نسبة كتاب “التبيان” إلى ابن القيم؛ لأمور:
أوَّلًا: أنَّ المؤلِّف – رحمه الله – ذكره لنفسه في بعض كتبه الأخرى، وأحال عليه في مواطن، كما جاء في كتابه المعروف “الداء والدواء” في موضعين:
أوَّلهما: عند قوله: “وقد ذكرنا وجه الاستدلال بذلك في كتاب “أيمان القرآن” عند قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)} [الحاقة: 38، 39]، وذكرنا طرفًا من ذلك عند قوله: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: 21]، وأنَّ الإنسان دليلٌ على وجود خالقه وتوحيده، وصدق رسله، وإثبات صفات كماله” (1).
وثانيهما: عندما بيَّن إقسامَ الله – سبحانه – بطوائف من الملائكة المنفِّذين لأمره في الخليقة، ثُمَّ قال: “وقد ذكرنا معنى ذلك وسرَّ
__________
(1) انظر: “الداء والدواء” (83).

(المقدمة/32)


الإقسام به في كتاب “أيمان القرآن”” (1) .
ثانيًا: أنَّ المؤلِّف – رحمه الله – أحال في هذا الكتاب أثناء بحثه لبعض مسائل القياس على كتابه العَلَم “إعلام الموقعين” (2) ، وستأتي عبارته قريبًا إن شاء الله.
ثالثًا: أنه ذكر شيخه المبجَّل شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع عدَّة، وانتصر لاختياراته، وغالب هذه المواضع يصرِّح به (3) ، وأحيانًا ينقل كلامه بلا تصريح ولا عَزْو؛ لكنه يصرِّح بذلك في كتبه الأخرى، فهو يترك التصريح به فيما قد عُرف عنه أنَّه ينقله عن شيخه، واشتُهر ذلك في كتبه، وهذا من عظيم احتفائه بشيخه، وحفظه لحقه عليه، رحم الله الجميع.
رابعًا: كل من ترجم له ينسب الكتاب إليه، المتقدمون منهم والمتأخرون، ولا يُعرف عن أحدٍ منهم أنَّه شكَّك في نسبته إليه.
خامسًا: أنَّ جماعةً من أهل العلم – ممَّن جاء بعد عصر المؤلِّف – استفادوا من الكتاب ونقلوا منه بعض قضاياه ومسائله، وسيأتينا – إن شاء الله – النقل عنهم، كلهم يعزُون ذلك إلى ابن القيم في كتابه “التبيان”.
سادسًا: الكتاب بيِّنٌ بنَفَسِه، وشاهدٌ على نَفْسِه؛ أنَّه صنيعةُ ابن القيم وممَّا خطَّته أنامله، وكلُّ من أَلِف طريقته وأُسلوبه ميَّز بين ما هو له وما هو لغيره بمجرد الاطلاع والنظر، فبسطُه للمسائل، وإحاطتُه بأقوال
__________
(1) انظر: “الداء والدواء” (470).
(2) انظر: “التبيان” (345).
(3) راجع فهرس الأعلام ففيه الإحالة على أرقام الصفحات.

(المقدمة/33)


السلف، وتحريره للنقول، وإقامته للحُجَّة، وحشدُه للأدلَّة، ودفعه للاعتراض، ورعايته للمقاصد، ودرايته بالحِكَم = منهجٌ لكتبه معروف، ومسلكٌ لمصنفاته مألوف.
سابعًا: جميع صفحات العنوان في المخطوطات أُثبت عليها نسبة الكتاب لابن القيم رحمه الله.

(المقدمة/34)


<رمز>تأريخ تأليف الكتاب:</رمز>
لم يذكر ابن القيم – رحمه الله – تأريخ تأليفه لكتابه، ولم ينقل عنه أحدٌ من تلاميذه خبرًا في ذلك؛ إلا أنَّنا يمكن أن نستفيد من إشارتين اثنتين لبيان تأريخ تأليفه على وجه التقريب لا التحديد:
أولاهما: أنه أحال في ثنايا الكتاب على كتابه الآخر “إعلام الموقعين”، فقال: “وقد بيَّنا في كتابنا “المعالم” بطلان التحليل وغيره من الحيل الربويَّة” (1).
فهذا النقل يفيدنا أنه ألَّف كتاب “التبيان” بعد كتابه “إعلام الموقعين”.
وثانيهما: أنه في كتابه “الداء والدواء” قد أحال على كتاب “التبيان” في موضعين (2)، ممَّا يفيدنا أنَّه ألَّفه قبل كتاب “الداء والدواء”.
وعليه فيكون تأليفه لكتاب “التبيان” منحصرًا بين سنة تأليفه لكتاب “إعلام الموقعين”، وسنة تأليفه لكتاب “الداء والدواء”، إلَّا أنَّ الإشكال قائمٌ من حيث إنَّنا لا نعلم – تحديدًا – سنة تأليفه لهذين الكتابين! لكن هذا غاية ما توصلنا إليه.
وثَمَّ أمرٌ يُستأنس به ههنا؛ وهو أنَّ ابن القيم – رحمه الله – تمنَّى أن يؤلِّف تفسيرًا للقرآن على نهجٍ سار عليه في تفسير “سورة الكافرون” في
__________
(1) “التبيان” (345).
(2) انظر “الداء والدواء” (83) و (470).
وقد ذكر الدكتور: أحمد ماهر البقري في كتابه “ابن القيم اللغوي” (64) أنَّه ألَّف كتابه “التبيان” بعد “الجواب الكافي”! وهذا سبق قلم.

(المقدمة/35)


كتابه “بدائع الفوائد” (1) ، ثُمَّ قال: “وقد كتبتُ على مواضع متفرقة من القرآن بحسب ما يسنح من هذا النَّمَط وقتَ مقامي بمكة وبالبيت المقدَّس، والله المرجو إتمام نعمته”، فهل يكون من تلك المواضع المتفرقة التي كتبها اعتناؤه بأقسام القرآن، واستيفاؤه الكلام عليها، وإفرادها بكتابه “التبيان”، في تلك المدة، وذاك التأريخ؟ … احتمال.
__________
(1) (1/ 234 – 249).

(المقدمة/36)


<رمز>موضوع الكتاب:</رمز>
أنشأ ابن القيم – رحمه الله – هذا الكتاب للكلام عن الأيمان، وخصَّه بالأيمان والأقسام الواردة في القرآن الكريم، وتكلَّم عمَّا يلحق هذه الأيمان من لواحق وتوابع، وأفصح عن ذلك كلِّه في مقدِّمة كتابه حيث قال:
“فهذا كتابٌ صغير الحجم، كبير النفع، فيما وقع في القرآن العزيز من الأيمان والأقسام، والكلام عليها يمينًا، وارتباطها بالمقسَم عليه، وذكر أجوبة القَسَم المذكورة والمقدَّرة، وأسرار هذه الأقسام، فإنَّ لها شأنًا عظيمًا يعرفه الواقف عليه في هذا الكتاب” (1).
فتبيَّن من خطبة المؤلِّف هذه غرضه من تأليفه، وموضوعه الذي سيدور حوله ويتحدَّث عنه، وهو عدة أمور:
أوَّلها: الأيمان والأقسام الواردة في القرآن الكريم خاصةً.
وثانيها: تحقيق كون هذه الأيمان والأقسام كذلك.
وثالثها: ارتباط هذه الأيمان بالمقسَم عليه، وبيان التناسب بينها.
ورابعها: ذكر أجوبة القَسَم سواء كانت مذكورة أو مقدَّرة.
وخامسها: ما يتعلق بهذه الأيمان من الأسرار والحِكَم والغايات.
فأمَّا الأمور الأربعة الأخيرة فاستوفاها إلى الغاية بل وأربى، وأتى فيها بكل ما يُستملح بل وأحلى، فأفاد وأجاد.
__________
(1) (ص/ 3).

(المقدمة/37)


وأمَّا الأمر الأوَّل منها فالحقُّ أنَّه لم يتتبع كل ما في القرآن من الأيمان والأقسام، بل ترك الكلام عن الأيمان التي حكاها الله – عزَّ وجلَّ – في القرآن عن خلقه، وترك – أيضًا – الأيمان المقدَّرة، مع أنَّ هذا الكتاب مظنَّةٌ لدراستها، والمعروف عن ابن القيم – رحمه الله – أنه يتتبع القضايا والمسائل التي تتعلَّق بموضوع الكتاب الذي يصنِّفُه، ولا أدري سببًا لتفويت هذا الشمول والاستيعاب، الأمر الذي فسح لبعضهم مدخلًا لتعقُّبه في ذلك (1) !
إذن موضوع الكتاب يتعلَّق – فقط – بالأيمان الربَّانية الصريحة الظاهرة في القرآن الكريم، والكلام على ما يتعلق بها ممَّا أوضحه في المقدِّمة وسبق بيانه، إلا أنه فاته – أيضًا – شيءٌ يسير من هذه الأيمان الربَّانية تُعرف بتتبعها في القرآن الكريم.
__________
(1) انظر مقال الأستاذ: عبد الله بن سالم الحمود الدوسري بعنوان: “منهج ابن القيم في كتابه التبيان في أقسام القرآن؛ دراسة وتقويم”، مجلة كلية اللغة العربية بجامعة الإمام، العدد (7)، (ص/ 648).
وراجع كلام الشيخ: عبد الرحمن حسن حبنكة في “قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله – عزَّ وجلَّ -” (463).

(المقدمة/38)


<رمز>منهج المؤلِّف في الكتاب:</رمز>
لابن القيم – رحمه الله – في جميع كتبه منهج عامٌّ وخاصٌّ.
فأمَّا المنهج العامُّ فطريقته التي سلكها في تآليفه حتَّى غَدَت واضحة المعالم، بيِّنة الملامح؛ من اعتماده على نصوص الكتاب والسُّنَّة الصحيحة، وتقديمه لأقوال الصحابة، واحتفائه بأقوال السلف، وقوَّةٍ في الحُجَّة، وطول نَفَسٍ في تقرير المسائل، مع مراعاة المقاصد والحِكَم، واطِّراح الشاذ والضعيف والمنكر من الآراء والأقوال والمذاهب؛ كل ذلك بأسلوبه الممتع الجذَّاب.
وأمَّا المنهج الخاصُّ فهو ما سلكه من طريقةٍ في كل كتابٍ بما يناسبه ويلائمه، فإنَّه – رحمه الله – قد كتب في غالب الفنون الشرعية، وكلُّ فنٍّ لمسائله ذوقها، ولأهله لغتهم.
وكتابنا “التبيان” يمكننا أن نقسمه إلى قسمين: قسمٍ نظري تأصيلي، وقسمٍ تطبيقي.
القسم النظري التأصيلي:
عمد ابنُ القيم – رحمه الله – في أوَّل كتابه “التبيان” إلى تقرير قواعد وأصول هذا الفنِّ وهو أيمان القرآن، وخطَّ له خطوطًا عريضةً سار عليها في باقي كتابه. وقد أحسن في ذلك أيَّما إحسان؛ لأنَّه بنى سائر كتابه على هذه الأصول والقواعد، وصار يُرجِعُ مسائله إليها، وردَّ إليها ما أشكل من تفسير آيات القَسَم، الأمرَ الذي أبعده عن الاضطراب والتذبذب الذي وقع فيه غيره.
بدأ المؤلِّف – رحمه الله – ببيان وجود القَسَم في القرآن وأنَّه واردٌ في

(المقدمة/39)


كلام الله – عزَّ وجلَّ -، وأنَّ الله – سبحانه – يُقسم بأمرين اثنين:
الأوَّل: بنفسه المقدَّسة الموصوفة بصفاته العليا.
والثاني: بآياته المستلزمة لذاته وصفاته (1) .
وقرَّر بأنَّ القَسَم ببعض المخلوقات دليلٌ على أنَّها من آياته، وأنَّ في ذلك إشادةً بها وتنويهًا، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن يتعلق بها أمران:
الأوَّل: أن تكون هذه الآيات من الأمور المشهودة الظاهرة، فإنَّ “آيات الرَّبِّ التي يُقسِم بها لا تكون إلا ظاهرةً جليَّةً يشترك في معرفتها الخلائق” (2) .
والثاني: أنَّ هذه الآيات الظاهرة الجلية لا تأتي إلا مقسَمًا بها ولا تكون مقسَمًا عليها.
ثُمَّ بيَّن أنَّ للقَسَم إحدى فائدتين:
1 – إمَّا تحقيق القَسَم.
2 – وإمَّا تحقيق المقسَم عليه وتوكيده.
وقرَّر – أيضًا – أنَّ هذا المقسَم عليه لا بد أنَّ يكون من الأمور الغائبة التي يطالَب العبدُ بالإيمان بها (3) .
وأمَّا جواب القَسَم فلا يخلو من حالتين:
__________
(1) (ص/ 5, 26 – 27، 210).
(2) (ص/ 5, 187، 225).
(3) (ص/ 5, 225).

(المقدمة/40)


1) إمَّا أنَّ يذكر جواب القَسَم، وهو الغالب.
2) وإمَّا أن يحذف، ويكون حذفه من أحسن الكلام حينئذٍ، وفي هذه الحال لا يخلو من أحد غرضين (1) :
أ/ إمَّا أنه لا يُراد ذكره أصلًا بل المراد من القَسَم تعظيم المقسَم به.
ب/ وإمَّا أنَّه مرادٌ، فيُعرف حينئذٍ بدلالة الحال أو السياق عليه.
ثُمَّ بيَّن – رحمه الله – أنَّ القَسَم لمَّا كان يكثر في الكلام؛ احتيج إلى اختصاره طلبًا لخفَّة اللسان وسهولة الاستعمال، فصار يُحذَف فعل القَسَم ويكتفى بـ “الباء”، ثُمَّ عُوِّض عن “الباء”:
1 – “الواو” في الأسماء الظاهرة.
2 – و”التاء” في اسم الله خاصة.
وأمَّا المقسَم عليه فقعَّد له قاعدةً كليَّةً فيما يُقسِم الله عليه، وأنَّه – سبحانه – إنَّما يُقسِم على أصول الإيمان التي يجب على جميع الخلق معرفتها والإيمان بها:
فتارةً يُقسِم على التوحيد.
وتارةً يُقسِم على أنَّ القرآن حقٌّ.
وتارةً يُقسِم على أنَّ الرسول حقٌّ.
وتارةً يُقسِم على حال الإنسان وصفته وعاقبته.
__________
(1) (ص/ 13، 14).

(المقدمة/41)


وذكر أنَّ السبب في إقسامه – تعالى – على هذه القضايا والأصول هو حاجة النفوس إلى معرفتها، وشدَّة فاقتها إلى الإيمان بها.
القسم التطبيقي:
لمَّا فرغ ابنُ القيم – رحمه الله – من تأصيل مسائل القَسَم في القرآن الكريم؛ أخذ بتطبيق ما أصَّله على آيات القَسَم التي فسَّرها على النحو التالي (1) :
* بيان الآية من جهة اللغة العربية، وهذا حَدَاهُ إلى:
أ/ الكشف عن معاني الكلمات، وما فيها من دقائق وأسرار حتى يتمَّ الفهم الصحيح للمعنى المراد منها في الآية، كما فعل في:
– تفسير “الطَّحْو” (ص/ 28).
– وتفسير “الكَبَد” (ص/ 51).
– وتفسير “الكَنُود” (ص/ 125).
– وتفسير “الدافق” (ص/ 160).
– وتفسير “الخُنَّس والكُنَّس” (ص/ 184).
– وتفسير “المَوْر” (ص/ 411).
– وتفسير “الحُبُك” (ص/ 434).
ب/ وهذا البيان لمعاني الكلمات حمله على توضيح الفرق بين
__________
(1) ما سأذكره فيما يأتي من أرقام الصفحات إنما هو على سبيل التمثيل لا الحصر.

(المقدمة/42)


كلمةٍ وأخرى، التماسًا منه – رحمه الله – لحكمة استعمال هذه اللفظة دون تلك، فمن ذلك:
– الفرق بين لفظ “السعي” و”العمل” (ص/ 11 – 12).
– والفرق بين “النسيان” و”السهو” (ص/ 438).
– والفرق بين قولك: “سبقته إليه” و”سبقته عليه” (ص/ 290).
– والفرق بين “رَبْط الشيء” و”الرَّبْط على الشيء” (ص/ 281).
ج/ كلامه على بعض وجوه الإعراب للآية إذا كان اختلاف الإعراب ينبني عليه تغاير المعنى، وانظر على سبيل المثال (ص/ 27، 174، 314، 319).
* إذا كان في الآية قراءات متعدِّدة فإنَّه يذكرها، ويوجِّه معناها، وربما رجَّح بعضها على بعض من جهة دلالتها على المعنى المراد، كما فعل في (1) :
– قراءة: “فامضوا إلى ذكر الله” (ص/ 11).
– وقراءة: “فكَّ رقبةً” (ص/ 65).
– وقراءة: “ذو العرشِ المجيدِ” بالكسر (ص/ 148).
* جمعه للنظائر والأشباه في مكانٍ واحدٍ، والتوفيق بين معانيها إذا كان ظاهرها التعارض، أو كان الفرق بينها لا يتجلَّى إلا بالإيضاح والبيان، وانظر على سبيل المثال: (ص/ 48، 106، 131، 190، 200،
__________
(1) وانظر أيضًا: (ص/ 179، 196، 323، 373، 375).

(المقدمة/43)


218، 241، 245، 251، 274، 280، 288, 297، 328, 343).
* وأمَّا الأقوال في تفسير الآية فإنَّه يقوم بالتالي:
1 – يستوفي نقلها في الغالب، حتى إنَّه ربما نقل الأقوال الضعيفة في تفسيرها طلبًا للاستيفاء، ويندر جدًّا أنَّ يفوته قولٌ مشهورٌ في تفسير الآية كما حصل معه في سورة البلد (ص/ 59).
2 – يَعْزُو هذه الأقوال إلى أصحابها؛ بدءًا بالصحابة – رضي الله عنهم – ثُمَّ بمن يليهم، هذا هو الأعمُّ الأغلب؛ لكن ربما ترك العَزْوَ أحيانًا كما في (ص/ 57، 237، 288، 330، 348، 372، 400، 438، 528، 637).
3 – ينقل نصوص أقوالهم بحروفها كما جاءت عنهم في التفاسير المسندة.
4 – إذا كانت في ظاهرها متعارضة وأمكن الجمع بينها فإنَّه يجمع بينها ويدفع تعارضها كما فعل في (ص/ 70, 91، 123, 157، 207, 227).
5 – وربما كانت هذه الأقوال كثيرةً ومتباينةً في باديء النظر لكنها عند التأمُّل تؤول في حقيقتها إلى قولين أو ثلاثة مثلًا؛ فيردُّها إلى ذلك كما في (ص/ 48، 141، 172, 223، 232).
6 – يذكر أدلَّة كل قول، ويرجِّح بينها، ويبرز جوانب القوَّة فيما يختاره من الأقوال، وهذا كثير في الكتاب كما في (ص/ 15، 35، 40، 68, 74, 77, 80, 105, 115, 116, 123, 133, 146, 163, 166، 175، 184، 191, 208, 211، 212, 235، 276، 292،

(المقدمة/44)


331، 363، 399، 441).
7 – ينبِّه على الأقوال الضعيفة أو الساقطة أو البعيدة والمتكلَّفة كما في (ص/ 213، 216، 225، 296، 314، 320، 360).
* ثُمَّ بعد ذلك له – رحمه الله – تنقيبٌ عجيبٌ في خبايا الآيات، وتفتيشٌ مذهلٌ في كنوزها التي لا تنتهي، فيستنبط منها ما هو من حاجات القاريء وإن لم يكن من حاجة المفسِّر، ولربما أرخى القلم بما هو من عَرَض الكتابة وإن لم يكن من أغراض التفسير، وهذا بحرٌ يحبُّ ابن القيم السباحة فيه ويُحسن الغَوص في أعماقه، فمن ذلك:
– مناقشته لطائفة من النظَّار والمتكلمين (ص/ 10، 27، 245) وغيرها.
– ردُّه على الطبائعيين والفلاسفة والدهرية والملاحدة (ص/ 28، 253، 409، 497).
– جوابه عن شُبَه القدريَّة والجبريَّة (ص/ 99، 152، 203) وغيرها.
– مناقشته للأطباء في قضايا الخلق والتكوين (ص/ 492، 499، 503، 538) وغيرها.
– بيان ما في الآية من مواعظ وآداب وتوجيهات.
– عنايته بذكر اللطائف والنُّكَت والفوائد العلمية (ص/ 219، 322، 439) وغيرها.
هذا قليلٌ من كثير من إبداعاته وإفاداته، ولعلَّ نظرةً إلى فهرس الفوائد العلمية يحيطك بشيء من ذلك.

(المقدمة/45)


وثَمَّ أمور تبرز لقارئ الكتاب؛ عدَّها بعضهم من المؤاخذات وهي في الحقيقة من الملحوظات (1) التي لا تخلو من توجيهٍ حسنٍ للمنصف القادح، أو نظرةٍ سديدةٍ للمستحسن المادح، وهذا أو ذاك لا يستطيع إخفاء حاجته إلى صيد ابن القيم رحمه الله، وإلا ما قصد إلى قراءة كتابه، ومن تلك الملحوظات:
1 – أنَّ ابن القيم – رحمه الله – لم يبيِّن لنا سبب تسميته لكتابه بـ “أيمان القرآن” وعدوله عن التسمية بأقسام القرآن، مع أنَّه يفتتح كلامه عن آيات القَسَم – غالبًا – بقوله: ومن ذلك قَسَمُه سبحانه بكذا … ثُمَّ يذكره.
وأيضًا؛ لم يرد في القرآن الكريم لفظ “اليمين” بالنسبة لله – عزَّ وجلَّ -، وإنَّما ورد لفظ “القَسَم” كما تراه في هذا الكتاب مشروحًا، أمَّا “اليمين” في القرآن الكريم فقد جاءت في حق الخلق واستعمالهم كما في قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224]، وقوله: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] , وقوله: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] , وقوله: {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد يستطيع المتأمِّل الجواب عنه بما يظهر له من مليح الاستنباط، إلا أنَّنا كنَّا في شوقٍ لجواب ابن القيم نفسه لما عُرف عنه من الدقَّة،
__________
(1) وليس كل ملحوظةٍ مؤاخذة، ومن الخطأ أن نحاكم عُرْف المتقدمين في التأليف إلى عُرْفنا المشوب بطرائق المستشرقين أو تنظير الخاملين من أصحاب الأكاديميات، وهذا – والله – من جنايات المعاصرين على تراث الأئمة، فكان القصاص في قلة بركة مؤلفاتهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

(المقدمة/46)


وصاحب الدار أدرى بما فيه.
2 – إذا تكلَّم في تفسير آيات القَسَم فإنَّه يُتمُّ تفسير السورة بأكملها وإن لم يكن لها تعلُّق بالأيمان والأقسام، وهذا كثيرٌ في الكتاب إلا في آخره فإنَّه اقتصر فيه على محلِّ القَسَم وما يتبعه.
3 – استطراده – رحمه الله – في بعض المواطن بأمور خارجةٍ تمامًا عن التفسير وملحقاته، فمن ذلك:
– ذكره لمنافع التين والزيتون (ص/ 69 – 70).
– كلامه عن الليل والنَّهار (ص/ 255 – 260).
– ذكره لأنواع الأقلام (ص/ 303 – 310).
– كلامه عن الاعتراض بين الجُمَل وفوائده (ص/ 323 – 328).
– وأيضًا كلامه عن الاستطراد ومحاسنه (ص/ 397 – 398).
– كلامه عمَّا يُستملح من خِلْقة المرأة (ص/ 419).
– كلامه عن الرِّياح (ص/ 426 – 429).
– كلامه عن الأرض (ص/ 447 – 457).
– كلامه عن خَلْق الإنسان والتفصيل في تكوينه وما في ذلك من الآيات الباهرات (ص/ 457 – 626) (1) .
__________
(1) وهذا أطول موضع لابن القيم – رحمه الله – على الإطلاق من بين سائر كتبه في كلامه عن خَلْق الإنسان وتفاصيل تكوينه.

(المقدمة/47)


وهذه الملحوظة والتي قبلها ممَّا تعنَّى له ابنُ القيم – رحمه الله – وكان يستحسنه ويرتضيه وينوِّه به، وهو ممَّا يَزِينُه ولا يَشِينُه، ويُمدح به ولا يُعاب عليه، فإنَّه من جُود العلم وكَرَم العالم، يبذله متى رامَ نفع النَّاس وإفادتهم، ومن محاسن الملاقاة ما جاء عَرَضًا لا قصدًا، وابن القيم – رحمه الله – خبيرٌ بنوادر العلم وفوائت العلماء، باذِلٌ لقارئيه أطيبه وأنفعه، فهو – رحمه الله – كيفما كتب بَرَع، كالغَيْث أينما وقعَ نَفَع، فلا لوم إذنْ.
وإنَّما تصلح المؤاخذة لمن يَحْشُو الكتاب بما لا يفيد، ويسوِّد الصفحات بما ضَرُّه أقرب من نفعه وعلى أحسن أحواله لا نفع فيه ولا ضرر، فهذا ممجوجٌ ومطَّرحٌ، كحال بعض مؤلِّفي زماننا – أصلح اللهُ أقلامهم – ممن يُحبِّرون الصُّحُف بنَادِّ اللفظ، ومستوحش المعاني، فتقل فائدتها عند العامة وتُعدَمُ لدى الخاصة، وهذا مَتْنُ الكلام وقائمه فكيف بموقوذه ومتردِّيه! اللهم صَفْحًا.
وحاشا ابن القيم أن يكون استطراده كذلك، بل فيه من الفوائد والشوارد ما لو قرأته لتمنَّيتَ أن يكون كتابه كله على هذا المنوال لعظيم عائدتها، ولربما صَلُح بعضها لإفرادها بمصنَّف مستقِلٍّ لجودتها، وحسن بسطه فيها.
وخُذْ مثلًا على ذلك كلامه عن خَلْق الإنسان وتكوينه فإنَّه أبدع فيه إلى الغاية، وأشرف فيه على النهاية، وإنني لأَجزم – وأنا على ثِقَل قدمٍ – بأنَّ قارئه متى بدأه لن يملَّه، ويمضي في قراءته حتى يتمَّه، فإنَّ له لذَّةً ومتعةً تأخذ بالألباب، وهو في أثناء ذلك لن يخلو من تعجُّبٍ وفكرة، أو من حكمةٍ وعِبرةٍ، أو من موعظةٍ وذكرى، ونحو ذلك ممَّا يهذِّب

(المقدمة/48)


النفوس، ويصلح الأحوال، فاللهم زِدْهُ نعيمًا كما زادنا تفهيمًا.
4 – كلامه في تفسير الآيات كان متَّسِقًا على نظامٍ واحدٍ في أكثر الكتاب وأغلبه، حتى جاء إلى قُبيل آخره – وتحديدًا من (ص/ 637) فما بعدها – فصار يختصر الكلام على الآيات على غير المعهود عنه، بل ربما جمع الكلام على عدَّة آياتٍ مختلفاتٍ في موضعٍ واحدٍ! وهذا طبيعة أواخر الأشياء وتاليها.

(المقدمة/49)


<رمز>موارد المؤلِّف في الكتاب:</رمز>
تنوَّعت موارد المؤلِّف في كتابه شأنه في سائر كتبه، ويمكن تقسيم هذه الموارد إلى قسمين: قسمٍ سماعيٍّ، وقسمٍ كتابي مدوَّن.
القسم السماعي:
ونعني به ما تلقَّاه ابن القيم من مشايخه مشافهةً وإملاءً، فكان يصرِّح بسماعه لتلك الفائدة من فلانٍ شيخه، وربما ترك التصريح بالسماع واكتفى بعَزْوِ الفائدة إليه.
ولا شكَّ أنَّ شيخَه المبجَّل شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – قد حظي بالاهتمام الأوحد من هذا النقل في كتابنا هذا كما في (ص/ 24، 37 – 38، 338، 425). وهذه المواطن عند مقابلتها بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية تبيَّن أنها من صياغة ابن القيم وتلقيه لها، ومعناها موجود في كتب شيخه ومشهور عنه.
القسم الكتابي المدوَّن:
ونعني به ما نقله ابنُ القيم من كتب الأئمة ومدوَّناتهم (1)، وينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأوَّل: الكتب التي صرَّحَ بأسمائها؛ سواء ذكر أسماء مؤلِّفيها أم لا، وسواء أعاد ذكرها أم اكتفى بذكر اسم المؤلِّف بعد ذلك، وهذه الموارد هي:
__________
(1) لم أُدخِل في الإحصاء شعر الشعراء، سواء كان للشاعر ديوان أم لا.

(المقدمة/50)


1 – “جامع الترمذي” 404، 424، 427، 428، 436, 494
2 – “رأي أبقراط وأفلاطون” لجالينوس 497
3 – “الزهد” لعبد الله بن الإمام أحمد 399
4 – “سنن أبي داود” 42، 303, 403
5 – “السنن” لسعيد بن منصور 336
6 – “الشفاء” لابن سينا 510
7 – “الصحاح” للجوهري 411، 573، 584, 597
8 – “الصحيح” (1) للبخاري 41، 42، 146، 340، 378، 420, 428، 499, 513، 544
9 – “الصحيح” لابن حبَّان 340
10 – “الصحيح” لمسلم 304, 360, 378, 380, 500, 504, 511، 517، 519، 544, 597
11 – “الطبُّ الكبير” لأبي بكر الرازي 507
12 – “القانون” لابن سينا 539
13 – “مسائل حرب الكرماني” 337
14 – “المسند” للإمام أحمد 44, 285, 409، 428، 516
__________
(1) لم أدخل في الحصر لفظ “الصحيحين” ومحله في فهرس الكتب، وكذا لم أدخل ما قال فيه: “وفي الصحيح” والحديث فيهما، ومثله: أهل السنن.

(المقدمة/51)


15 – “الموطأ” لمالك 340
16 – “نظم القرآن” للجرجاني 17، 20، 119، 216، 352
القسم الثاني: ما صرَّح فيه باسم المؤلِّف دون ذكر اسم الكتاب الذي ينقل منه، وهذا على نوعين:
الأوَّل: ما عرفناه تحديدًا بعد مطابقة المادة العلمية للكتاب المطبوع للمؤلِّف، وهؤلاء الذين ينقل عنهم هم:
1 – الأزهري “تهذيب اللغة” 329، 417
2 – الأصمعي “خلق الإنسان” 573
3 – ابن الجوزي “زاد المسير” 292
4 – الحاكم “معرفة علوم الحديث” 336
5 – الزجَّاج “معاني القرآن” 26، 104، 116، 118، 157، 171، 175, 186، 200، 213، 225، 234، 296، 333، 353، 639
6 – الزمخشري “الكشاف” 292، 315، 649
7 – الشافعي “الأم” 366، 532
و”إبطال الاستحسان” 367
8 – الطبري “جامع البيان” 20
9 – ابن عبد البر “التمهيد” و”الاستذكار” 339

(المقدمة/52)


10 – أبو عبيدة معمر بن المثنَّى “مجاز القرآن” 55, ، 67، 118، 182، 198، 209، 319، 321، 416، 420، 434
11 – عثمان بن سعيد الدارمي “نقض عثمان بن سعيد على بشْر المريسي” 195, 383
12 – أبو علي الفارسي “الحُجَّة للقرَّاء السبعة” 160، 197، 376
13 – أبو عمرو بن الحاجب “أماليه” 314
14 – الفرَّاء “معاني القرآن” 20، 21، 23، 82، 83، 95، 97، 105، 114، 118, 157، 171، 175، 176، 185، 197، 211، 213، 296، 352، 358، 406، 407، 435, 639
15 – ابن قتيبة “تأويل مشكل القرآن” 30، 234، 274، 275
و”غريب القرآن” 422
16 – المبرِّد “الكامل” 434
17 – مقاتل بن سليمان “تفسيره” 23، 32، 67، 77، 95، 96، 104، 114، 116، 177، 185، 212، 213، 214، 226، 264، 276، 321،

(المقدمة/53)


329، 333، 355، 357، 400، 418
18 – النحَّاس “القطع والائتناف” 19
و”معاني القرآن” 20
19 – الواحدي “الوسيط” 97، 182، 292، 584
الثاني: ما لم نعرفه من مصادر المؤلِّف التي ينقل منها ابن القيم، وسببه كونها غير مطبوعة حتى الساعة، فاجتهدنا في محاولة معرفتها على وجه التقريب بناءً على ما ذكر في ترجمة العَلَم من مؤلفاته، وهؤلاء هم:
1 – الأخفش الأوسط, لعله من كتابه “إعراب القرآن” 18, 19, 209، 320
2 – أرسطو 539
3 – الأصمعي، لعله من كتابه “غريب القرآن” 359
4 – ابن الأعرابي، لعله من كتابه “النوادر” 359، 420
5 – جالينوس 503, 510
6 – أبو حاتم السجستاني، لعله من كتابه “إعراب القرآن” 18
7 – ابن حزم، لعله من كتابه “الأسماء الحسنى” 360
8 – أبو حمزة الثُّمالي، لعله من “تفسيره” 362
9 – أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري 358، 408

(المقدمة/54)


10 – أبو العباس ثعلب أحمد بن يحيى، لعله من كتابه “معاني القرآن” 31
11 – عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، لعله من “تفسيره” 47
12 – أبو عبيد القاسم بن سلَّام، لعله من كتابه “معاني القرآن” 376
13 – أبو عثمان المازني، لعله من كتابه “في القرآن” 318
14 – عطية بن الحارث (أبو رَوْق الهمداني الكوفي)، لعله من “تفسيره” 212
15 – أبو العلاء الهَمَذاني الحافظ 304
16 – أبو القاسم الزجَّاجي 18
17 – الكسائي، لعله من كتابه “معاني القرآن” 85
18 – الليث بن المظفَّر (1) 56 , 175، 359، 406، 573
19 – المبرِّد، لعله من كتابه “معاني القرآن” 55، 157، 374، 376، 406، 420
20 – محمد بن أبي جعفر المنذري الخراساني (2) 52
__________
(1) هو صاحب الخليل بن أحمد الفراهيدي، وما نقله عنه ابن القيم موجود بنصه في كتاب “العين” للخليل دون الإشارة إلى كونه من كلام الليث بن المظفَّر!
(2) هو شيخ أبي منصور الأزهري، وكل ما نقله عنه ابن القيم موجود في “تهذيب اللغة” للأزهري.

(المقدمة/55)


21 – المهدوي أحمد بن عمَّار، لعله من كتابه “التفصيل الجامع لعلوم التنزيل” 291
22 – الواحدي، لعله من “البسيط” 19، 106، 187، 211، 217
23 – يونس بن حبيب الضَّبِّي، لعله من كتابه “معاني القرآن” 416
القسم الثالث: ما لم يصرِّح باسم المصدر ولا مؤلِّفه وعرفناه بتطابق المادة العلمية في الموارد الأخرى، وهذه الموارد هي:
1) “الوسيط” للواحدي، نقل منه مواطن في (ص/ 32، 33، 275).
2) “زاد المسير” لابن الجوزي، نقل منه موضعًا في (ص/ 160).
3) “المحرَّر الوجيز” لابن عطية، نقل منه موضعًا في (ص/ 231).
4) “البحر المحيط” لأبي حيَّان الأندلسي، نقل منه موضعين في (ص/ 315، 443).

(المقدمة/56)


<رمز>أهمية الكتاب وأثره فيمن بعده:</رمز>
كتاب “التبيان” جمع عدَّة صفاتٍ جعلت له الريادة في بابه، فمنها:
1 – تفرُّد الكتاب بأقسام القرآن تحليلًا وتفسيرًا.
2 – شمول الكتاب واستيعابه لموضوعه.
3 – قوَّة مادته العلمية وثراؤها.
4 – جلالة مؤلِّفه وشهرته بين العلماء، فهو مِلْءُ السمع والبصر.
ولأجل ذلك احتفى به العلماء والأئمة، واستفادوا منه بما يناسب حاجتهم، وتناولوه – من عصر المؤلِّف إلى يومنا هذا – بطرقٍ شتى؛ فمن ذلك:
* أنَّ منهم من اختصره وهذَّبه كما فعل شمس الدين محمد بن علي بن محمد بن طولون الدمشقي الحنفي الصالحي (953 هـ)، حيث اختصر الكتاب مع الحفاظ على ألفاظ المؤلِّف وعباراته، وحذف استطراداته، وسمَّاه: “خلاصة التبيان في أيمان القرآن”.
وأيضًا قام العلامة أحمد بن محمد القسطلاني (923 هـ) بتلخيص ما يتعلق برسالة الرسول – صلى الله عليه وسلم – ونبوَّته من الأقسام القرآنية في النوع الخامس من كتابه “المواهب اللَّدُنية” (3/ 187 – 216)، حيث قال: “وهذا النوع – أعزَّك الله – لخَّصتُ أكثره من كتاب “أقسام القرآن” للعلامة ابن القيم، مع زيادات من فرائد الفوائد”.
* ومنهم من اقتبس منه مواضع، ونقل مقاطع متفرقة؛ رصَّع كتابه بها إفادةً وإشادةً، كما فعل ذلك:

(المقدمة/57)


1 – الحافظ ابن حجر في “الفتح” (11/ 490) وموطن النقل في (ص/ 505 – 507).
2 – ابن أبي العزِّ الحنفي في “شرح العقيدة الطحاوية” (2/ 344 – 346) وموطن النقل في (ص/ 303 – 306).
3 – السيوطي في “الإتقان” (2/ 1051)، وفي “معترك الأقران” (1/ 453 – 455) بنفس ما في “الإتقان”، وموطن النقل في (ص/ 5 – 6, 7، 8 – 10 باختصار وحذف، 14 – 15، 40، 110).
4 – جمال الدين القاسمي في “محاسن التأويل” (4/ 493 – 494) وموطن النقل في (ص/ 649 – 651).
* ومنهم من ناقشه في بعض قضايا القَسَم كما فعل العلامة عبد الحميد الفراهي (1349 هـ) في كتابه “إمعان في أقسام القرآن”.
* ومنهم من انتقده واعترض عليه في بعض المسائل الفرعية كما نقله العلامة محمد بن عبد الباقي الزرقاني (1122 هـ) عن بعضهم في “شرح المواهب” (6/ 213) وموطن النقل في (ص/ 111 – 112).
* ومنهم – وهم غالب المتأخرين والمعاصرين – من تناوله بالتحليل والدراسة، وبيان منهجه وأسلوبه وتوضيح طريقته، ونحو ذلك ممَّا هو منثور في المقالات والدراسات القرآنية.

(المقدمة/58)


<رمز>طبعات الكتاب:</رمز>
لشهرة الكتاب ومؤلِّفه، وعظيم نفعه، وغزارة فوائده، وجليل عوائده، وأهمية موضوعه = اعتنى به الطابعون من قديمٍ، حيث ظهرت طبعته الأولى قبل أكثر من قرن، ثُمَّ تتابعت طبعاته خاصة في الوقت القريب، وهاك ما وقفت عليه:
1 – المطبعة الميرية بمكة المكرمة، سنة (1321 هـ)، في (157) صفحة من القطع الكبير، قام بتصحيحها: عبد الحميد الفردوسي المكي الأفغاني.
2 – مطبعة محمد أفندي حجازي – مصر، بتصحيح: محمد حامد الفقي، سنة (1352 هـ – 1933 م).
3 – دار الطباعة المحمدية بالأزهر، بتصحيح فضيلة الشيخ: طه يوسف شاهين من علماء الأزهر، سنة (1388 هـ)، ثم صورت في دار الكتب العلمية،
4 – المؤسسة السعيدية بالرياض، حققه وضبطه ونسقه وصححه وعلق عليه: محمد زهري النجار، سنة (1979 م)، في مجلدين.
5 – دار إحياء العلوم – بيروت، قدم له وحققه وعلق عليه: محمد شريف سُكَّر، سنة (1409 هـ – 1988 م).
6 – مؤسسة الرسالة – بيروت، حققه وضبط نصه وفهرسه: عصام فارس الحرستاني، وخرج أحاديثه: محمد إبراهيم الزغلي، سنة (1414 هـ – 1994 م).

(المقدمة/59)


7 – دار الكتاب العربي – بيروت، علق عليه وصححه: فواز أحمد زمرلي، سنة (1415 هـ – 1994 م).
8 – دار الإيمان للطباعة والنشر والتوزيع – الإسكندرية، حققه وخرج أحاديثه: أبو عبد الرحمن عادل بن أحمد حامد محمد، سنة (2002 م).
9 – المكتبة العصرية – صيدا، اعتنى به وراجعه: محمد حسين عرب، سنة (1424 هـ – 2003 م).
10 – بيت الأفكار الدولية – لبنان، اعتنى به: أبو صهيب الكرمي، سنة (2004 م).
__________
* وقد حقق الكتاب في رسالة ماجستير بجامعة أُمِّ القُرى بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية سنة 1422 هـ، في مجلدين، بعنوان: “التبيان في أيمان القرآن”، دراسة وتحقيق: حمزة بن محمد بن علي عسيري؛ وفقه الله.

(المقدمة/60)


<رمز>نسخ الكتاب الخطية:</رمز>
يسَّر الله – عزَّ وجلَّ – الوقوفَ على ستِّ نسخٍ من الكتاب، وبيانها كالتالي:
1) النسخة (ز):
وهي أقدم النسخ الكاملة، محفوظة في المكتبة الأزهرية ضمن مجموع يحمل رقم [182 مجاميع] 4485، كتبت سنة (766 هـ) بخط معتاد قديم قليل النقط، في بعض أوراقها آثار بلل، وعدد أوراق المجموع (176) ورقة (1)، يبدأ “كتاب التبيان” من 1 – 154، والناسخ هو: أحمد بن عيسى بن أبي القاسم المقدسي الحنبلي، الشهير بالدمشقي، وجاء في أثناء المخطوط في بعض أوراقه بالخط العريض عبارة: “وقف بخزانة الدمنهوري بالأزهر”.
2) النسخة (ك):
وهي نسخة عتيقة محفوظة في المكتبة الأزهرية (2) كتبت في نهار الاثنين السابع عشر من شوال سنة (798 هـ) كما جاء في آخرها، وخطها معتاد قديم جيد، ولم يذكر فيها اسم الناسخ، وقد سقط منها ورقة العنوان وقطعة من الربع الأول للكتاب وهو ما يقابل في المطبوع
__________
(1) انظر “فهرس المكتبة الأزهرية” (1/ 145)، وترقيم المخطوط وقع بقلم حديث.
(2) حصلنا على هذه النسخة عن طريق الشيخ: فيصل بن يوسف العلي جزاه الله خيرًا. وقد كان يبحث عن كتاب آخر طلبه منه الشيخ علي العمران، فوقف على هذه النسخة اتفاقًا من غير بحث، فالحمد لله على توفيقه.

(المقدمة/61)


(ص/ 136 – 193)، وعددها (130) ورقة بترقيمي، وسبب ذلك أنَّ أوراق المخطوط تبعثرت فجاء جامعها وضمَّ بعضها إلى بعض اعتباطًا دون أن يرتب أوراق الكتاب! ثُمَّ رقَّمها ترقيمًا حديثًا متسلسلًا، فسقطت منه خمس صفحات تقريبًا من أماكن متفرقة في وسط الكتاب، فقمت بإعادة ترتيبها من جديد ثُمَّ رقمتها آخذًا في الاعتبار ما سقط من الصفحات، والله المستعان.
3) النسخة (ح):
وهي نسخة المكتبة المحمودية برقم (88)، كتبت بخط معتاد واضح، ومشكولة في كثير من كلماتها، ولم يذكر اسم الناسخ ولا تاريخ النسخ، لكن نقدر نسخها تقريبًا في أواخر القرن الثامن أو أوائل القرن التاسع لشبْهه بخطوط أهل تلك الفترة، وقد حذف منها مقدمة المؤلِّف، ولا أدري ما سبب ذلك؟ وفي صفحة العنوان عدَّة تملكات ووقفيات.
4) النسخة (ن):
وهي نسخة جامعة برنستون – مجموعة جاريت (يهودا) رقم [(4579) 116]، وعنها صورة في مكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض، وعدد أوراقها (94) ورقة، بها سقط كبير في الثلث الأخير من الكتاب، ولم يذكر اسم الناسخ ولا تاريخ النسخ، إلا أنَّنا نقدر نسخها في أواخر القرن الثامن أو أوائل القرن التاسح لشبه الخط بخطوط أهل تلك الفترة، وخطها قديم واضح، إلا أن الأوراق الأخيرة منها كتبت بخط مغاير.
5) النسخة (ط):
وهي نسخة المكتبة البريطانية – قسم المجموعات الشرقية رقم

(المقدمة/62)


(9062 OR)، عدد أوراقها (166) ورقة، كتبت صبيحة نهار الثلاثاء الواقع ثاني شهر رجب المحرم سنة (1311 هـ) كما جاء في آخرها، بخط النسخ، والناسخ هو: محمد بن الشيخ عبد القادر المجذوب.
وهي نسخة كثيرة التصحيف والبياض، أمَّا التصحيف فعيبه راجع إلى قلم الناسخ بلا شك، وأمَّا كثرة البياض في النسخة فقد جاء في آخر ورقة من المخطوط ما يبرره حيث كتبت هذه العبارة: “استنسخه: طاهر بن صالح الجزائري من نسخة مُحِيَت بعض سطورها لطول العهد، ولم توجد نسخة أخرى لتكميل النقص”.
وفي ورقة مستقلة تسبق ورقة العنوان جاءت عبارة وقفية للكتاب، ونصها:
“بسم الله الرحمن الرحيم؛ يُعلم به من يراه بأنَّ هذا الكتاب وهو “أقسام القرآن” وما يليه من النسخ وهي “الأمثال” و”السياسة” و”الحسبة”؛ قد وقَفَهنَّ الرجل المكلَّف الأمثل الرشيد: سالم بن حمود آل عبيد ابن رشيد لوجه الله تعالى، وجعل النظر فيه ليعقوب بن محمد مدَّة حياته، ثُمَّ بعده على طلبة العلم من المسلمين، أشهدَ على ذلك أخيه ماجد، وسليمان بن ليلى، سنة (1307 هـ) “.
6 – النسخة (م):
وهي نسخة محفوظة في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالرياض برقم (2820 – 5 – ف) ضمن مجموع مُهدىً إلى المركز، وعدد أوراقه (170) ورقة، كتبت في نهار التاسع من ذي القعدة سنة (1346 هـ) كما جاء في آخرها، بخط النسخ المضبوط أحيانًا،

(المقدمة/63)


والناسخ هو: عبد العزيز بن حمد بن عيبان.
وقد سقط من أولها مقدمة المؤلف للكتاب، وثَمَّ أماكن بها سقط يسير خاصة في أول النسخة، وفي هامشها تصحيحات وتصويبات بقلم الناسخ، وقد ظهر لي بالمقابلَة أنَّها منسوخة عن النسخة (ح).
ولا يفوتنا هنا أن نتقدم بالشكر لكلٍّ من مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، ومكتبة الملك فهد الوطنية – خاصة قسم المخطوطات فيهما – على تفضلهم بتصوير بعض النسخ الخطية التي اعتمدنا عليها، فلهم يد سابغة على العلم وأهله.
ومن الجدير بالذكر أن للكتاب نسخًا أخرى ذكرها أصحاب الفهارس (1) ، لكن ظهر لنا أن في بعضها أوهامًا، وبعضها الآخر متأخر يغني عنه ما ذكرناه، وبعضها طلبناه من محله فلم نعثر عليه! فاكتفينا بهذه النسخ السِّت وحصل الغَنَاء بها، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) انظر “الفهرس الشامل للتراث” الصادر عن مؤسسة آل البيت (1/ 409) علوم القرآن، و”معجم مصنفات القرآن الكريم” لعلي شواخ إسحاق (3/ 192)، و”ثبت مؤلفات ابن القيم” -لم يطبع بعد – لمحمد عزير شمس.

(المقدمة/64)


<رمز>عملي في التحقيق:</رمز>
قمتُ في تحقيقي للكتاب بالخطوات التالية:
– قارنتُ بين النسخ الخطية الستة، لكني جعلتُ النسخ (ز) و (ك) و (ح) و (ن) كالأصول في المقارنة، وأمَّا النسختان (م) و (ط) فمن باب النسخ المساندة، وهي تبعٌ للنسخ الأخرى.
– سرتُ على طريقة النص المختار، فما غلب على ظنِّي أنه الصواب قدمته.
– لم ألتفت إلى الفوارق غير المؤثِّرة، ولا إلى الأخطاء الإملائية أو النحوية.
– إذا كانت الكلمة مصحَّفة أو محرَّفة فإني أُثبتُ الصواب من كتب اللغة وأُنبِّه على التصحيف والتحريف، فإذا احتاج النصُّ إلى إضافة لتقويمه أضفتُه وجعلتُه بين معكوفين [].
– وكذا إذا كان في بعض النسخ إتمام للآية وبعضها يرمز إلى آخرها فإني قد أتمها وقد أترك ذلك بما يناسب المقام دون الإشارة إليه، وكذا ألفاظ التقديس والتعظيم كـ (تعالى، وسبحانه، وعزَّ وجلَّ)، أو ألفاظ التكريم والتبجيل كالترضِّي والترحُّم والإمامة، وكذا كتابة (فصلٌ) أثناء الكتاب فإني أثبته دون الإشارة إليه لكثرته؛ وخاصة أن بعض النسخ قد تركت محله بياضًا أو لم يظهر في التصوير.
– خرَّجتُ الأحاديث والآثار؛ فإن كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما اكتفيتُ بالعزو إليهما، وإن كان في غيرهما خرَّجته من كتب السنَّة وبيَّنتُ درجته بحسب المنقول عن أئمة هذا الشأن.

(المقدمة/65)


– عزوتُ الأقوال إلى أصحابها بقدر جهدي، ثم وثَّقتُ هذه النصوص من مصادرها.
– ترجمتُ لبعض الأعلام ممن رأيتُ أنَّ القاريء يحتاج إلى الكشف عنه، ولهذا لم أترجم للصحابة لشهرتهم، ولا للمعروفين من الأعلام.
– بيَّنتُ غريب اللغة وكشفتُ عن معانيها.
– وعزوتُ الشعر إلى دواوين شعرائه أو إلى من ينقل عنه إن لم يكن له ديوان.
– علَّقتُ على ما أراهُ يحتاج إلى تعليق أو استدراك أو تنبيه.
– راعيتُ في ذلك كله قواعد الإملاء، وعلامات الترقيم، مع تفقير الجُمَل والعبارات.
– كتبتُ مقدِّمةً للتحقيق بينتُ فيها منزلة القَسَم عند العرب، وأنواع أقسام القرآن الكريم، وما في ذلك من مصنفات، مع أشتاتٍ من النكت والفوائد المتعلِّقة بالقَسَم، ثم تكلمت عن الكتاب في مباحث متعددة.
– وأخيرًا ختمتُ التحقيق بفهارس لفظية وعلمية تفتح للقارئ فوائد الكتاب وتقرِّب شوارده.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(المقدمة/66)


الصفحة الأولى من (ح)

(المقدمة/67)


الصفحة الأخيرة من (ح)

(المقدمة/68)


الصفحة الأولى من (ن)

(المقدمة/69)


الصفحة الأخيرة من (ن)

(المقدمة/70)


الصفحة الأولى من (ك)

(المقدمة/71)


الصفحة الأخيرة من (ك)

(المقدمة/72)


الصفحة الأولى من (م)

(المقدمة/73)


الصفحة الأخيرة من (م)

(المقدمة/74)


الصفحة الأولى من (ز)

(المقدمة/75)


الصفحة الأخيرة من (ز)

(المقدمة/76)


الصفحة الأولى من (ط)

(المقدمة/77)


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ربُّ العالمين، وقيُّومُ السمواتِ والأرضين. وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، المبعوثُ بالكتاب المبين، الفارق بين الغَيِّ والرَّشَادِ، والهُدَى والضلالِ، والشَّكِّ واليقينِ، صلَّى الله عليه وعلى آله الطَّيِّبِين الطَّاهِرين، صلاةً دائمةً بدوام السموات والأرضين.
وبعد:
فهذا كتابٌ صغير الحجم، كبير النفع، فيما وقع في القرآن العزيز من الأَيْمَانِ والأَقْسَام، والكلام عليها يَمِينًا (2)، وارتباطها بالمُقْسَمِ عليه، وذكر أجوبة القَسَم المذكورة [و] (3) المقدَّرة، وأسرار هذه الأقْسَام، فإنَّ لها شأنًا عظيمًا يعرفه الواقف عليه في هذا الكتاب، وسَمَّيتُه: “كتابَ التِّبْيانِ في أيْمَانِ القرآنِ”.
واللهُ المسؤولُ أن ينفع به من قرأه وكتبه ونظر فيه، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم (4)، سببًا لمغفرته.
فما كان فيه من صوابٍ فمِنَ الله فَضْلًا ومِنَّةً، وما كان فيه من خطأ فَمِنِّي ومن الشيطان (5)، والله ورسوله بريئان منه.
__________
(1) بعدها في (ك): وبه نستعين، وفي (ن): ربِّ يَسِّر، وفي (ح): وصلى الله على محمد وآله وسلم.
(2) جاء في هامش (ز) توضيح: “أي: من حيث إنها يمين”.
(3) زيادة يقتضيها الكلام.
(4) غير موجود في (ز) و (ك).
(5) ساقط من (ن).

(1/3)


فيا أيُّها القارئُ؛ لك غُنْمُه، وعلى مؤلِّفه غُرْمُه، ولم يَأْلُ في معرفة المراد (1) ، والله وليُّ التوفيق والسَّدَاد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
__________
(1) ساقط من (ن).

(1/4)


اعلم أنَّ الله (1) – سبحانه – يُقْسِمُ بأمورٍ على أمورٍ، وإنَّما يُقْسِم بنفسِهِ [المُقَدَّسَةِ] (2) الموصُوفَةِ بصفاتِه، أو آياتِه المستلزِمة لِذَاتِه وصفاتِه، وإقْسَامُه ببعض المخلوقات دليلٌ على أنَّه من عظيم آياته.
فالقَسَمُ:
إمَّا على جملةٍ خبريةٍ – وهو الغالب – كقوله تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات: 23].
وإمَّا على جملةٍ طلبيةٍ، كقوله – عزَّ وجلَّ -: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)} [الحجر: 92, 93].
مع أنَّ هذا القَسَمَ قد يُرَادُ به تحقيقُ المُقْسَم عليه، فيكون من باب الخبر، وقد يراد به تحقيق القَسَم.
والمُقْسَمُ عليه يُرَاد بالقَسَم توكيدُهُ وتحقيقُهُ، فلا بدَّ أن يكون ممَّا يَحْسُن فيه ذلك، كالأمور الغائبةِ والخَفِيَّة إذا أُقْسِمَ على ثبوتها.
فأمَّا الأمور المشهودة (3) الظاهرة كالشمس، والقمرِ، واللَّيلِ، والنَّهارِ، والسماءِ، والأرضِ، فهذه يُقْسَمُ بها ولا يُقْسَمُ عليها.
وما أقْسَمَ عليه الرَّبُّ – سبحانه – فهو من آياته، فيجوزُ أن يكون مُقْسَمًا به، ولا ينعكس.
__________
(1) تبدأ (ح) و (م) هكذا: فصلٌ في أقسام القرآن؛ وهو سبحانه يُقسم ….
(2) زيادة من القطعة الموجودة في “مجموع الفتاوى” (13/ 314)، و”الإتقان” للسيوطي (2/ 1051)، و”معترك الأقران” له (1/ 453).
(3) في (ز) و (ن): المشهورة.

(1/5)


فهو – سبحانه – يذكر جوابَ القَسَم تارةً – وهو الغالب -، وتارةً يحذفه، كما يحذف جواب “لو” كثيرًا، كقوله تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)} [التكاثر: 5] وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد: 31]، {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ} [الأنفال: 50]، {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ} [سبأ: 51]، {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 30].
ومثل هذا حذفه من أحسن الكلام؛ لأنَّ المراد: “أنَّك لو رأيتَ ذلك لرأيت (1) هَولًا عظيمًا”، فليس في ذكر الجواب زيادةٌ على ما دلَّ (2) عليه الشَّرطُ.
وهذه (3) عادةُ النَّاس في كلامهم، إذا رَأَوا أمورًا عجيبةً وأرادوا أن يُخبروا بها لغائبٍ عنها؛ يقول أحدُهم: لو رأيتَ ما جرى يوم كذا (4) بموضع كذا.
ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)} [البقرة: 165]، فالمعنى – في أظهر الوجهين -: لو يَرى الذين ظلموا في الدنيا إذ يرون العذاب في الآخرة، والجواب محذوف (5). ثُمَّ قال بعد ذلك: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}. كما
__________
(1) “ذلك لرأيت” أصابه طمس في (ن).
(2) من أول قوله: “اعلم أن الله – سبحانه – يقسم بأمور. . .” إلى هنا؛ هذه القطعة موجودة في “مجموع الفتاوى” (13/ 314 – 316) بالنص، ثم يُبتر الكلام.
(3) “عليه الشرط. وهذه” أصابه طمس في (ن).
(4) “يوم كذا” ألحقت بهامش (ز).
(5) انظر: “الصواعق المرسلة” (3/ 1081)، و”الدر المصون” للسمين الحلبي =

(1/6)


قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ} [سبأ: 51]، {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ} [الأنفال: 50]؛ أي: لو تَرى ذلك الوقت وما فيه.
وأمَّا المُقْسَمُ [عليه] (1)؛ فإنَّ الحالِفَ قد يحلف على الشيء ثُمَّ يكرِّرُ القَسَمَ ولا يعيد المُقْسَم عليه، لأنَّه قد عُرِفَ ما يحلف عليه، فيقول: واللهِ إنَّ لي عليه ألفَ درهمٍ، ثُمَّ يقول: ورَبِّ السماءِ والأرضِ، والذي نفسي بيده، وحَقِّ القرآنِ العظيمِ، ولا يعيدُ المُقْسَمَ عليه، لأنَّه قد عُرِفَ المُرادُ.
والقَسَمُ لمَّا كان يكثر في الكلام اختُصِرَ، فصارَ فِعْلُ القَسَم يُحذَف ويكتفى بـ “الباء”، ثُمَّ عُوِّض من “الباءِ”: “الواوُ” في الأسماء الظاهرة، وبـ “التاء” في اسم الله كقوله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57]، وقد نُقِل: “تَرَبِّ الكعبةِ” (2)، وأمَّا “الواو” فكثيرٌ.
__________
= (2/ 212 – 214).
(1) زيادة مهمة لفهم الكلام.
(2) حكاه الأخفش، وذلك شاذٌّ.
انظر: “الجنى الداني” للمرادي (57)، و”رصف المباني” للمالقي (247)، و”جواهر الأدب” للإربلي (118).

(1/7)


فصل

إذا عُرِف هذا؛ فهو – سبحانه – يُقْسِمُ على أصول الإيمان، التي يجب على الخلق معرفتُها: تارةً يُقْسِمُ على (1) التوحيد، وتارةً يُقْسِمُ على أنَّ القرآنَ حقٌّ، وتارةً على أنَّ الرسولَ حقٌّ، وتارةً على الجزاء والوعد والوعيد، وتارةً على حال الإنسان.
فالأوَّل: كقوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4)} [الصافات: 1 – 4].
والثاني: كقوله تعالى (2): {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)} [الواقعة: 75 – 77].
وقوله: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 1 – 3].
و {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] إذا جُعِل ذلك جواب القسم كما هو الظاهر.
وإن قيل: بل الجوابُ محذوفٌ؛ كان كقوله: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)} [ص: 1]، فإنه هنا حذفَ الجواب (3). ومن قال: إنَّ الجواب هو قوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)} [ص: 64]؛ فقد أَبْعَدَ النُّجْعَةَ (4).
__________
(1) من قوله “الإيمان التي. . .” إلى هنا؛ ملحق بهامش (ز).
(2) من قوله: “والصافات صفًا. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ن).
(3) من قوله: “كان كقوله: “ص … ” إلى هنا؛ ملحق بهامش (ز).
(4) سيعيد المؤلف ذكره في (ص/ 16)، وهناك سنذكر قائله، وما قيل فيه.

(1/8)


والقَسَمُ على الرسول – صلى الله عليه وسلم -؛ كقوله: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)} [يس: 1 – 4] إذا قيل هو الجواب. وإن قيل: الجوابُ محذوفٌ؛ كان كما ذُكِر.
ومنه قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)} [القلم: 1 – 2].
ومنه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)} [النجم: 1 – 2] إلى آخر القصة.
ومنه قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} الآية [الحاقة: 38 – 41].
وأمَّا القَسَم على الجزاء والوعد والوعيد؛ ففي مثل قوله تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1)} [الذاريات: 1] إلى آخر القَسَم، ثُمَّ ذَكَر تفصيل الجزاء، وذَكَر الجنَّة والنَّار، وذكر أنَّ في السماء رزقكم وما توعدون، ثُمَّ قال: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)} [الذاريات: 23].
ومثل قوله تعالى: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)} إلى قوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)} [المرسلات: 1 – 7].
ومثل: {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2)} إلى قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)} [الطور: 1 – 8].
وقد أمر نبيَّه أن يُقْسِمَ على الجزاء والمَعَاد في ثلاث آيات:
1 – فقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} الآية [التغابن: 7].

(1/9)


2 – وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3].
3 – وقال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53].
وهذا لأنَّ المَعَادَ إنَّما يعلَمُه عامَّة النَّاس بإخبار الأنبياء، وإن كان من النَّاس من قد يعلمه بالنَّظَر.
وقد تنازع النُّظَّارُ في ذلك؛ فقالت طائفةٌ: إنَّه لا يمكن عِلْمُه إلا بالسَّمْعِ – وهو الخبر -؛ وهو قول من لا يرى تعليل الأفعال، ويقول: لا ندري ما يفعل اللهُ إلا بِعَادَةٍ أو خَبَرٍ، كما يقول جَهْمٌ ومن اتبعه، والأشعريُّ وأتباعه، وكثيرٌ من أهل الكلام والفقه والحديث من أتباع الأئمة الأربعة.
بخلاف العلم بالصَّانِعِ – سبحانه – فإنَّ النَّاسَ متفقون على أنَّه يُعْلَمُ بالعقل، وإن كان ذلك ممَّا نَبَّهَتْ عليه الرُّسُلُ.
وصفاتُه قد تُعْلَمُ بالعقل، وتُعْلَم بالسَّمْع – أيضًا – كما قد بُسِطَ في موضعٍ آخر (1) .
وأمَّا القَسَم على أحوال الإنسان؛ فكقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1 )} إلى قوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) } [الليل: 1 – 4] إلى آخر السورة.
__________
(1) انظر على سبيل المثال: “الصواعق المرسلة” (3/ 914) فما بعده.
ولأخينا الفاضل الشيخ الدكتور/ الوليد العلي مبحثٌ نفيسٌ في طريقة ابن القيم في تقرير الأسماء والصفات بالأدلة العقلية، في كتابه “جهود الإمام ابن قيم الجوزية في تقرير توحيد الأسماء والصفات” (1/ 573 – 654).

(1/10)


ولفظ “السَّعيِ” هو: العمل، لكن يراد به العمل الذي يهتمُّ (1) به صاحبُه، ويجتهد فيه بحسب الإمكان؛ فإن كان يفتقر إلى عَدْوِ بَدَنِهِ عَدَا، وإن كان يفتقر إلى جمْع أعوانٍ جَمَع، وإن كان يفتقر إلى تفرُّغٍ له وتَرْكِ غيرِه؛ فَعَل ذلك.
فلفظ “السَّعْي” في القرآن جاء بهذا الاعتبار، ليس هو مُرادِفًا للفظ العمل كما ظنَّهُ طائفةٌ، بل هو عملٌ مخصوصٌ يهتَمُّ به (2) صاحبه، ويجتهد فيه، ولهذا قال في الجُمُعَة: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، وهذه أحسن من قراءة من قرأ: {فامْضُوا إلى ذكر الله} (3) .
وقد ثبت في “الصحيح” عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – أنَّه قال: “إذا أُقِيمَت الصَّلاَةُ فلا تأتوها (4) تَسْعَون، وأْتُوها تمشُون، وعليكم السَّكِينَةُ، فما أدركتُم فصَلُّوا، وما فَاتكُم فأتِمُوا” (5) ، فلم ينْهَ عن السَّعْي إلى الصلاة؛ فإنَّ الله – تعالى – أمرَ بالسَّعْي إليها، بل نَهَاهُم أن يأتوها يَسْعَون، فنَهَاهُم عن الإتيان المُتَّصِفِ بسعي صاحبه، والإتيانُ فِعْلُ البَدَن، وسَعْيُهُ عَدْوُ البدن، وهذا منهيٌّ عنه.
__________
(1) في جميع النسخ: يَهُمُّ، وما أثبته هو المناسب لما سيأتي بعد.
(2) من (ح) و (م)، وسقط من باقي النسخ.
(3) قرأ بها جماعة من أكابر الصحابة والتابعين، وليست من القراءات المتواترة. انظر: “المحتسب” لابن جنِّي (2/ 321 – 322)، و”معاني القرآن” للزجَّاج (5/ 171)، و”البحر المحيط” (8/ 265).
قال الفرَّاء: “المُضِيُّ، والسَّعيُ، والذَّهَابُ؛ في معنىً واحدٍ، يدل على ذلك قراءة ابن مسعود: فامضوا إلى ذكر الله”. “معاني القرآن” (3/ 156).
(4) في (ز) و (ك) و (ن) زيادة: وأنتم، ولفظ الصحيحين بدونها.
(5) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (610 و 866)، ومسلم في “صحيحه” رقم (602)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(1/11)


وأمَّا السَّعْيُ المأمورُ به في الآية فهو الذهابُ إليها على وجهِ الاهتمامِ بها، والتفرُّغِ لها عن الأعمال الشاغلة، من بيعٍ وغيره، والإقبال بالقلب على السعي إليها (1) .
وكذلك قوله – عزَّ وجلَّ – في قصة فرعون لمَّا قال له موسى: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} إلى قوله – عزَّ وجلَّ -: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى} [النازعات: 18 – 23]، فهذا اهتمامٌ واجتهادٌ في حَشْدِ (2) رعيته، ومناداته فيهم.
وكذلك قوله: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} [البقرة: 205] هو عَمَلٌ بهِمَّةٍ واجتهادٍ.
ومنه سُمِّيَ السَّاعي على الصدقة، والسَّاعي على الأَرْملةِ واليتيم.
ومنه قوله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) } [الليل: 4]؛ وهو العمل الذي يقصده صاحبه ويعتني به، لِيَتَرَتَّبَ (3) عليه ثوابٌ أو عقابٌ، بخلاف المباحات المعتادة، فإنَّها لم تدخل في هذا السَّعْي، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) } [الليل: 5، 6] الآية وما بعدها.
ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء: 19].
وقوله – عزَّ وجلَّ -: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا} [المائدة: 33].
__________
(1) انظر: “الإحسان في تقريب صحيح ابن حِبَّان” (5/ 523)، و”التمهيد” لابن عبد البر (20/ 231)، و”شرح السنَّة” للبغوي (2/ 317).
(2) في (ز) و (ح) و (م): حشر.
(3) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: لترتب.

(1/12)


فصل

وأقْسَمَ على صفة الإنسان بقوله سبحانه: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)} إلى قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)} [العاديات: 1 – 6].
وأقسم على عاقبته، وهو قَسَمٌ على الجزاء؛ في قوله: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} [العصر: 1 – 2] إلى آخر السورة. وفي قوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)} إلى قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين: 1 – 6].
وحَذَفَ جوابَ القَسَم؛ لأنَّه قد عُلِم أنَّه يُقْسِمُ على هذه الأمور، وهي متلازمة، فمتى ثبت أنَّ الرسول حقٌّ ثبت القرآنُ والمَعَادُ، ومتى ثبت أنَّ القرآن حقٌّ ثبت صدق الرسول الذي جاء به (1)، ومتى ثبت أنَّ الوعد والوعيد حقٌّ ثبت صدقُه وصدقُ الكتاب الذي جاء به.
والجوابُ يُحذَف تارةً ولا يُراد ذِكْرُه، بل يراد تعظيمُ المُقْسَمِ به، وأنَّه ممَّا يُحلَفُ به، كقول النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: “من كان حالفًا فَلْيَحلِفْ باللهِ أو لِيَصْمُتْ” (2).
لكن هذا في الغالب يُذْكَرُ معه الفعلُ دون مجرَّدِ حرف القَسَم، كقولك: فلانٌ يَحْلِفُ باللهِ وحده، وأنا أحلفُ بالخالق لا بالمخلوق، ونحوِ ذلك – فالنصرانيُّ يحلفُ بالصليب والمسيح -، وفلانٌ أكذَبُ ما
__________
(1) من قوله: “ومتى ثبت أن القرآن. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ن).
(2) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (6270)، ومسلم في “صحيحه” رقم (1646)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(1/13)


يكون إذا حلف بالله.
وقد يكون هذا النَّوع (1) بحرف القَسَم مجرَّدًا، كما في الحديث: كانت أكثرُ يمينِ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – “لا، ومُقَلِّب القُلُوبِ” (2). وكان بعض السلف إذا اجتهد في يمينه قال: “واللهِ الذي لَا إله إلَا هو”.
وتارةً يُحذَفُ الجوابُ وهو مرادٌ؛ إمَّا لكونه قد ظَهَر وعُرِف: إمَّا بدلالة الحال – كمن قيل له: كُلْ، فقال: لا؛ واللهِ الذي لا إله إلا هو -، أو بدلالة السياق.
وأكثر ما يكون هذا إذا كان في نفس المُقْسَمِ به ما يَدُلُّ على المُقْسَم عليه، وهي طريقة القرآن، فإنَّ المقصود يحصل بذكر المقسَم به (3)، فيكون حَذْفُ المُقْسَم عليه أبلغَ وأوجزَ؛ كمن أراد أن يُقْسِمَ على أن الرسولَ حقٌّ، فقال: والذي أرسلَ محمدًا – صلى الله عليه وسلم – بالهدى ودين الحقِّ، وأيَّدَهُ بالآياتِ البينات، وأظهرَ دعوته، وأَعْلَى كلمته، ونحو ذلك؛ فلا يحتاج إلى ذكر الجواب، استغناءً عنه بما في القَسَم من الدلالة عليه.
وكَمَن أراد أن يُقسِم على التوحيدِ، وصفاتِ الرَّبِّ ونعوتِ جلاله، فقال: واللهِ الذي لا إله إلا هو، عالمِ الغيبِ والشهادةِ، الرحمنِ الرحيمِ، الأوَّلِ الآخِرِ، الظاهرِ الباطنِ.
وكمن أراد أن يقسم على علُوِّه فوق عرشه، فقال: والذي استوى
__________
(1) ساقط من (ن).
(2) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (6243، 6253، 6956)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(3) من قوله: “ما يدل على المقسم عليه. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ن).

(1/14)


على عرشه فوق سمواته، يصعد إليه الكَلِمُ الطَّيِّبُ، وتُرفَعُ إليه الأيدي، وتَعْرُجُ الملائكةُ والرُّوحُ إليه، ونحو ذلك (1).
وكذلك من حَلَفَ لشخصٍ أنَّه يُحِبُّهُ ويُعَظِّمُه، فقال: والذي ملأ قلبي من محبتِكَ وإجلالِكَ ومَهَابتِكَ … ؛ ونظائر ذلك = لم يحتج إلى ذكر الجواب، وكان في المُقْسَم به ما يدلُّ على المُقْسَمِ عليه.
فمن هذا قوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)} [ص: 1]،
فإنَّ في المُقْسَم به من تعظيم القرآن، ووَصْفِه بأنَّه ذُو الذِّكْر – المتضمِّن لتذكير العباد ما يحتاجون إليه -، وللشَّرَفِ، والقَدْر = ما يدلُّ على المُقْسَم عليه، وهو كونه حقًّا من عند الله، غير مفترىً كما يقوله الكافرون.
هذا معنى قول كثير من المفسِّرين – متقدِّميهم ومتأخِّريهم -: إنَّ الجوابَ محذوفٌ، تقديرُه: إنَّ القرآن لَحَقٌّ. وهذا مطَّرد في كلِّ ما شابَهَ ذلك.
وأمَّا قول بعضهم (2): إنَّ الجوابَ قوله تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} [ص: 3] فاعتَرَضَ بين القَسَم وجوابه بقوله: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)} [ص: 2] = فبعيدٌ؛ لأنَّ “كَمْ” لا يُتَلَقَّى بها القَسَم، فلا تقول: واللهِ كم أنفقتُ مالًا، وباللهِ كم أعتقتُ عبدًا.
وهؤلاء لمَّا لم يخْفَ عليهم ذلك احتاجوا إلى أن يقدِّروا “لامًا”
__________
(1) “ونحو ذلك” ساقط من (ن).
(2) نُسب إلى: ثعلب. وهو قول الفرَّاء في “معاني القرآن” (2/ 397).

(1/15)


يُتَلقَّى (1) بها الجواب، أي: لَكَمْ أهلكنا.
وأبعد من هذا قول من قال (2) : الجواب في قوله: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ} [ص: 14].
وأبعد منه قول من قال: الجواب: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) } [ص: 54].
وأبعد منه قول من قال (3) : الجواب قوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) } [ص: 64].
وأقرب ما قيل في الجواب لفظًا (4) ، وإن كان بعيدًا معنىً ما ذكر عن قتادة وغيره: إنَّه في قوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) } (5)
__________
(1) في (ن): يلتقي.
(2) حكاه الأخفش في “معاني القرآن” (2/ 453) بصيغة التضعيف: “يزعمون. . .”.
قال ابن الأنباري: “وهذا قبيحٌ؛ لأنَّ الكلام قد طال فيما بينهما، وكثُرت الآيات والقصص”، نقله عنه القرطبي في “الجامع” (15/ 144).
(3) هذا قول الكوفيين – غير الفرَّاء -، واختاره: الكسائي – كما نقله الثعلبي في “تفسيره” (8/ 176) -، والزجَّاج في “معاني القرآن” (4/ 319).
واستبعده كثير من الأئمة، وشنَّعوا عليه؛ لأنَّ بين القسم وجوابه ثلاثًا وستين آية! فممَّن زَيَّفَهُ: الفرَّاء في “معاني القرآن” (2/ 397)، والنحَّاس في “معانيه” (6/ 76)، وابن الأنباري – كما في “الجامع” (15/ 144) -، وابن الشجري في “أماليه” (2/ 118)، وابن هشام في “مغني اللبيب” (6/ 518)، وغيرهم كثير.
(4) من (ح) و (م)، وسقطت من باقي النسخ.
(5) وهذا القول اختاره: الأخفش في “معاني القرآن” (1/ 21)، وابن قتيبة – كما ذكر القرطبي في “الجامع” (15/ 144) -، وابن جرير الطبري في “تفسيره” =

(1/16)


[ص/ 2]، كما قال تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1 ) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} [ق: 1 – 2].
وشرح صاحب “النَّظْم” (1) هذا القول (2) ، فقال: “معنى “بل” توكيد الخبر الذي بعده، فصار كـ”إنَّ” الشديدة في تثبيت ما بعدها.
فـ “بَلْ” ههنا بمنزلة “إنَّ”؛ لأنَّه يؤكِّد ما بعده من الخبر، وإن كان له معنىً سواه في نفي خبرٍ متقدِّمٍ، فكأنَّه – عزَّ وجلَّ – قال: “ص والقرآن ذي الذِّكْر، إنَّ الذين كفروا في عِزَّةٍ وشقاقٍ”، كما تقول: والله إنَّ زيدًا لَقَائمٌ”.
__________
= (10/ 547)، والنحَّاس في “معاني القرآن” (6/ 77)، وغيرهم.
(1) هو أبو علي الجَمَاجمي؛ الحسن بن يحيى بن نصر الجُرْجَاني، سكن “جُرْجَان” في سِكَّة بباب الخندق تعرف بـ “جَمَاجمو”، وله عدة تصانيف منها: “نظم القرآن” مجلدتان، وكان من أهل السنَّة رحمه الله.
انظر: “تاريخ جرجان” للسهمي (187 – 188)، وعنه كلُّ من جاء بعده كـ: السمعاني في “الأنساب” (3/ 289)، وياقوت الحموي في “معجم البلدان” (2/ 511)، والذهبي في “المشتبه” (1/ 247)، وابن نقطة في “تكملة الإكمال” (2/ 362)، وغيرهم.
وقد صرَّح ابن القيم باسمه في كتاب “الروح” (2/ 559)، ونقل منه مواضع.
و”نظم القرآن” من مصادر الثعلبي في “تفسيره” كما ذكر في المقدمة (1/ 84)، وقد عمل عليه: مكِّي بن أبي طالب القيسي انتخابًا وسمَّاه: “انتخاب كتاب الجُرْجَاني في “نظم القرآن” وإصلاح غلطه”. ذكره القفطي في “إنباه الرواة” (3/ 316).
ومن هذا المنتخب نقل الزركشي موضعًا في كتابه “البرهان” (2/ 225).
(2) من (ح) و (م)، وسقط من باقي النسخ.

(1/17)


قال: “واحتجَّ صاحبُ هذا القول بأنَّ هذا النَّظْمَ وإن لم يكن للعرب فيه أصلٌ، ولا لها فيه رسمٌ، فيحتمل أن يكون نظمًا أحدثه الله – عزَّ وجلَّ -، لما بينَّا من احتمال “بل” بمعنى “إنَّ”” انتهى (1) .
وقال أبو القاسم الزجَّاجيُّ (2) : “قال النحويون: إنَّ “بَلْ” تقع في جواب القَسَم، كما تقع “إنَّ”؛ لأنَّ المراد بها توكيد الخبر” (3) .
وهذا القول اختيار أبي حاتم (4) ، وحكاه الأخفش (5) عن الكوفيين.
__________
(1) نقل بعضه الزركشي في “البرهان” (3/ 263).
وانظر: “تذكرة النُّحَاة” لأبي حيَّان (566)، و”جواهر الأدب” للإربلي (276).
(2) هو عبد الرحمن بن إسحاق، البغدادي الزجَّاجي، العلامة النحوي، صاحب كتاب “الجُمَل” وهو كتابٌ مباركٌ ما اشتغل به أحدٌ إلا انتفع به، توفي بطبريَّة سنة (340 هـ)، وقيل غير ذلك رحمه الله.
انظر: “البلغة” (121)، و”إنباه الرواة” (2/ 160).
(3) نقله عنه – أيضًا – الزركشي في “البرهان” (3/ 263).
(4) هو أبو حاتم السجستاني، سهل بن محمد بن عثمان الجُشَمي، المقرئ النحوي اللغوي، كان جمَّاعةً للكتب يتجر فيها، حدَّث عنه أبو داود، والنسائي، والبزار، وغيرهم، توفي بالبصرة سنة (255 هـ)، وقيل غير ذلك رحمه الله.
انظر: “إنباه الرواة” (2/ 58)، و”السير” (12/ 268).
(5) هو أبو الحسن، سعيد بن مَسْعدة المجاشعي، المشهور بـ “الأخفش الأوسط”، ويقال له: “الأخفش الراوية”، من أجلِّ أصحاب سيبويه، وشارح كتابه، له كتاب: “المسائل الكبير”، و”تفسير معاني القرآن”، وغير ذلك، توفي بالبصرة سنة (215 هـ)، وقيل غير ذلك رحمه الله.
انظر: “نزهة الألباء” (133)، و”إنباه الرواة” (2/ 36).

(1/18)


وقرَّرَهُ بعضُهم بأن قال: “أصل الكلام: “بل الذين كفروا في عزَّةٍ وشقاقٍ، والقرآن ذي الذِّكْر”، فلمَّا قُدِّم القسَمُ تُرِك على حاله”.
قال الأخفش: “وهذا يقوله الكوفيون، وليس بجيدٍ في العربية، لو قلتَ: واللهِ قام، وأنتَ تريد: قام واللهِ، لم يَحْسُن”.
وقال النحَّاس (1) : “هذا خطأ على مذهب النحويين؛ لأنَّه إذا ابتدأ بالقَسَم وكان الكلام معتمِدًا عليه؛ لم يكن بُدٌّ من الجواب، وأجمعوا أنَّه لا يجوز “واللهِ قام عمروٌ”، بمعنى “قام عمروٌ واللهِ”؛ لأنَّ الكلام يعتمد على القَسَم” (2) .
وذكر الأخفشُ وجهًا آخر في جواب القَسَم، فقال: “يجوز أن يكون لـ “ص” معنىً يقع عليه القَسَم، لا ندري نحن ما هو، كأنَّه يقول: الحقُ واللهِ”.
قال أبو الحسن الواحديُّ (3) : “وهذا الذي قاله الأخفش صحيح
__________
(1) هو أحمد بن محمد بن إسماعيل المرادي المصري، أبو جعفر النحَّاس، كان واسع العلم، غزير الرواية، كثير التأليف، جوَّد بقلمه عدة مصنفات منها: “كتاب الإعراب”، و”معاني القرآن”، و”تفسير أبيات كتاب سيبويه”، وغير ذلك، توفي بمصر سنة (337 هـ) رحمه الله.
انظر: “نزهة الألباء” رقم (109)، و”إنباه الرواة” (1/ 136).
(2) “القطع والائتناف” للنحَّاس (610 – 611)، وبنحوه في “إعراب القرآن” (1081).
(3) هو أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي بن متَّويه، الواحديُّ النيسابوري الشافعي، إمام عصره في التفسير، صنف فيه: “البسيط”، و”الوسيط”، و”الوجيز”، توفي بنيسابور سنة (468 هـ) رحمه الله.
انظر: “وفيات الأعيان” (2/ 464)، و”طبقات المفسرين” للداودي =

(1/19)


المعنى على قول من يقول: {ص} الصادق الله، أو صَدَقَ محمد – صلى الله عليه وسلم -“.
وذكر الفرَّاء (1) هذا الوجه – أيضًا – فقال: ” {ص} جواب القَسَم”. وقال: “هو كقولك: وجَبَ واللهِ، ونَزَلَ واللهِ، فهي جوابٌ لقوله: {وَالْقُرْآنِ} ” (2) .
وذكر النحَّاسُ وغيرُه وجهًا آخر في الجواب، وهو أنَّه محذوفٌ تقديره: والقرآن (3) ذي الذِّكْر، ما الأمرُ كما يقوله هؤلاء الكفار. ودلَّ على المحذوف قوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} (4) .
وهذا اختيار ابن جرير (5) ، وهو مخرَّجٌ من قول قتادة، وشَرَحه الجُرْجَانيُّ (6) ، فقال: “”بَلْ” رافِعٌ لخبرٍ قبله، ومثبتٌ لخبرٍ بعدَه، فقد ظهر ما بعده، وأُضْمِرَ ما قبله، وما بعده دليلٌ على ما قبله، فالظاهر يدلُّ على الباطن، فإذا كان كذلك وجَبَ أن يكون قوله: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) } مخالفًا لهذا المُضْمَر، فكأنَّهُ قيل: والقرآن ذي الذِّكْر إنَّ
__________
= (1/ 394).
(1) هو أبو زكريا يحيى بن زياد الفرَّاء الديلمي، إمام الكوفيين، وأمير المؤمنين في النحو، صنف: “معاني القرآن”، و”الحدود”، و”اللغات”، وغير ذلك، توفي بطريق مكة سنة (207 هـ) رحمه الله.
انظر: “إنباه الرواة” (4/ 7)، و”نزهة الألباء” (98).
(2) “معاني القرآن” (2/ 396)، واستحسنه ابن الأنباري في “إيضاح الوقف والابتداء” (2/ 860). وضعفه ابن هشام في “مغني اللبيب” (6/ 518) وغيره.
(3) من قوله: “وذكر النحَّاس وغيره. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ز).
(4) “معاني القرآن” للنحَّاس (6/ 76 – 77).
(5) انظر: “جامع البيان” (10/ 547).
(6) هو الحسن بن يحيى الجُرْجَاني، وقد سبقت ترجمته (ص/ 17).

(1/20)


الذين كفروا يزعمون أنَّهم على الحقِّ، أو كلامًا في هذا المعنى”.
فهذه ستة أوجهٍ سوى ما بدأنا به في جواب القَسَم (1)، والله أعلم.
ونظير هذا قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا} [ق: 1 – 2].
وقيل: جواب القسم {قَدْ عَلِمْنَا}.
وقال الفرَّاء: “محذوفٌ، دلَّ عليه {أَإِذَا مِتْنَا} أي: لتُبْعَثُنّ” (2).
وقيل: هو {بَلْ عَجِبُوا}، كما تقدَّم بيانُه.
__________
(1) وقد أسقطها كلها العلامة محمد الأمين الشنقيطي في “أضواء البيان” (7/ 9 – 11)، وأبقى القول بأنَّ جواب القسم محذوفٌ.
(2) “معاني القرآن” للفرَّاء (3/ 75).

(1/21)


فصل

ومن ذلك قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)} [القيامة: 1 – 2]، فقد تضمَّن هذا الإقسام ثبوتَ الجزاء، ومستَحَقَّ الجزاء (1)، وذلك يتضمَّن إثبات: الرِّسَالةِ، والقرآنِ، والمَعَادِ.
وهو – سبحانه – يُقْسِم على هذه الأمور الثلاثة، ويقرِّرُها أبلغ التقرير، لحاجة النفوس إلى معرفتها، والإيمان بها، وأمر رسوله – صلى الله عليه وسلم – أن يُقْسِم عليها، كما:
1 – قال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53].
2 – وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3].
3 – وقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)} [التغابن: 7].
وقد تقدَّم (2) إقسامُه عليها في ثلاثة مواضعَ من كتابه لا رابع لها (3)، يأمر رسوله – صلى الله عليه وسلم – أن يُقْسِم على ما أقْسَمَ عليه هو – سبحانه – من: النُّبوَّةِ، والقرآنِ، والمَعَادِ.
فأقسم – سبحانه – لعباده، وأمَرَ أَصْدَق خَلْقِه أن يُقْسِم لهم،
__________
(1) “مستحق الجزاء” ساقط من (ن).
(2) راجع (ص/ 9).
(3) جاءت هذه الجملة في (ح) و (م) هكذا: فهذه ثلاثة مواضع لا رابع لها.

(1/22)


وأقام البراهين القطعيَّةَ على ثبوت ما أقسم عليه، فأبى الظالمون إلا جحودًا وتكذيبًا.
واختُلِفَ في “النَّفْسِ” المُقْسَم بها ههنا، هل هي خاصَّةٌ أو عامَّة؟ على قولين، بناءً على الأقوال الثلاثة في “اللوَّامة”:
فقال ابن عباس: “كلُّ نفسٍ تَلُومُ نفسَها يوم القيامة؛ يَلُومُ المُحْسِنُ نفسه (1) أن لا يكون ازداد إحسانًا، ويَلومُ المُسِيء نفسه أن لا يكون رجع عن إساءته”.
واختاره الفرَّاء؛ قال: “ليس من نفسٍ، بَرَّةٍ ولا فاجرةٍ، إلا وهي تلوم نفسها، إن كانت عملت خيرًا قالت: هَلَّا ازددتُ؟ وإن كانت عملت سوءًا، قالت: ليتني لم أفعل” (2) .
والقول الثاني: أنَّها خاصَّةٌ.
قال الحسن: “هي النَّفْسُ المؤمنة، فإنَّ المؤمن – واللهِ – لا تَرَاهُ إلا يَلُوم نفسه على كلِّ حالِهِ، لأنَّه يَسْتَقْصِرُها في كلِّ ما تفعل، فيندمُ ويلومُ نفسَهُ، وإنَّ الفاجر يمضي قُدُمًا، لا يعاتبُ نفسَهُ” (3) .
والقول الثالث: أنَّها النَّفْس الكافرة وحدها، قاله: قتادة، ومقاتل (4) ؛ هي النَّفْس الكافرة تلوم نفسها في الآخرة على ما فرَّطَت في
__________
(1) في (ن) زيادة: يوم القيامة.
(2) “معاني القرآن” (3/ 208).
(3) أخرجه: عبد الله بن أحمد في زوائده على “الزهد” رقم (1621).
(4) “تفسير مقاتل” (3/ 421).
وهو مقاتل بن سليمان بن بشير الأزدي الخراساني، أبو الحسن البَلْخي، عالمٌ بالتفسير، طعنوا في معتقده وروايته، قال الذهبي: “أجمعوا على تركه”، =

(1/23)


أمر (1) الله.
قال شيخنا (2) : “والأظهر أنَّ المرادَ نفسُ الإنسانِ مطلقًا، فإنَّ نفسَ كلِّ إنسانٍ لوَّامَةٌ، كما أقسم بجنس “النَّفْس” في قوله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) } [الشمس: 7، 8]، فإنَّه لا بدَّ لكلِّ إنسانٍ أن يلوم نفسَه أو غيرَه على أمرٍ.
ثُمَّ هذا اللَّومُ قد يكون محمودًا، وقد يكون مذمومًا، كما قال تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) } [القلم: 30, 31]، وقال تعالى: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54]، فهذا اللَّومُ غير محمود.
وفي “الصحيحين” (3) في قصة احتجاج آدم وموسى: “أَتَلُومني على أمرٍ قدَّرَهُ اللهُ عليَّ قبل أن أُخْلَق؟ ” قال: فحَجَّ آدمُ موسى (4) … الحديث.
فهو – سبحانه – يُقْسمُ على صفة “النَّفْس اللوَّامة” كقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) } [العاديات: 6]، وعلى جزائها كقوله:
__________
= توفي سنة (150 هـ)، وقيل غير ذلك.
انظر: “تهذيب الكمال” (28/ 434)، و”السير” (7/ 201).
(1) ساقط من (ك).
(2) انظر: “مجموع الفتاوى” (4/ 264)، وراجع “الروح” (2/ 678).
(3) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (3228، 4459، 4461، 6240، 7077)، ومسلم في “صحيحه” رقم (2652).
(4) من قوله: “قدَّره الله عليَّ. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ز). وكلمة “الحديث” – بعدها – ساقط من (ك) و (ح) و (م).

(1/24)


{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) } [الحجر: 92، 93] , وعلى تباين عملها كقوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) } [الليل: 4] “.
وكلُّ نفسٍ لوَّامةٌ، فالنَّفْسُ السعيدة (1) تلوم على فعلِ الشَّرِّ، وتركِ الخير، فتبادر إلى التوبة، والنَّفْسُ الشَّقِيَّةُ بالضدِّ من ذلك.
وجمع – سبحانه – في القَسَمَ بين: مَحَلِّ الجَزَاءِ وهو يوم القيامة، ومَحَلِّ الكَسْبِ وهو “النَّفْس اللوَّامة”.
ونبَّهَ – سبحانه – بكونها “لوَّامَةً” على شِدَّة حاجتها وفاقتها وضرورتها إلى من يُعَرِّفُها الخيرَ والشَّرَّ، ويَدُلُّها عليه، ويرشدُها إليه، ويُلْهِمُها إيَّاه؛ فيجعلَها مريدةً للخير، مُؤْثِرةً له، كارهةً للشَّرِّ، مُجَانبةً له، لتَخْلُصَ من اللَّوم، أو من سوء عاقبة ما تلوم عليه.
ولأنَّها متلوِّمةٌ متردِّدةٌ لا تَثبُتُ على حالٍ واحدةٍ؛ فهي محتاجةٌ إلى من يُعَرِّفُها ما هو أنفع لها في مَعَاشِها ومَعَادِها فتُؤْثِرُهُ، وتَلُومُ نفسَها عليه إذا فاتها، فَتَتُوبُ منه إن كانت سعيدةً، ولتقوم عليها حُجَّةُ عَدْلِهِ، فيكون لَوْمُها في القيامة لنفسها عليه لَوْمًا بِحَقٍّ، قد أعذَر اللهُ خالقُها وفاطرُها إليها فيه.
ففي صفة “اللَّوْم” تنبيهٌ على ضرورتها إلى التصديق بالرِّسَالة والقرآن، وأنَّها لا غنى لها عن ذلك، ولا صلاح ولا فلاح بدونه أَلْبَتَّةَ.
ولمَّا كان يومُ مَعَادِها هو مَحَلُّ ظهور هذا اللَّوْم، وترتُّبِ أثره عليه = قَرَنَ بينهما في الذِّكْرِ.
__________
(1) في (ن): فنفس السعيد.

(1/25)


فصل

ومن ذلك (1) قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2)} إلى قوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس: 1 – 2، 8].
قال الزجَّاج (2) وغيرُه: “جواب القسم: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)}، ولمَّا طالَ الكلامُ حَسُن حذف “اللَّام” من الجواب” (3).
وقد تضمَّن هذا القَسَمُ الإقسامَ بالخلَّاق والمخلوقِ، فأقسم بالسماءِ وبانيها، والأرضِ وَطَاحِيها، والنَّفْسِ ومُسَوِّيها (4).
__________
(1) ساقط من (ن).
(2) هو إبراهيم بن السّري بن سهل، أبو إسحاق الزجَّاج، من أكابر علماء اللغة، تخرَّج بأبي العباس المبرِّد، صنف: “معاني القرآن وإعرابه”، و”الاشتقاق”، و”شرح أبيات سيبويه”، وغير ذلك، توفي ببغداد سنة (311 هـ)، وقيل غير ذلك رحمه الله.
انظر: “إنباه الرواة” (1/ 194)، و”نزهة الألباء” (244).
(3) انظر: “معاني القرآن وإعرابه” للزجَّاج (5/ 331).
وما ذكره الزجَّاج هنا هو قول أكثر أهل التفسير واللغة كـ: المبرِّد، والنحَّاس، وابن جنِّي، وابن جرير وغيرهم.
وذهب الفرَّاء، وابن الأنباري وغيرهما إلى أن جواب القسم محذوف.
انظر: “معاني القرآن” للفرَّاء (3/ 266)، و”إيضاح الوقف والابتداء” لابن الأنباري (2/ 978)، و”المقتضب” (2/ 337)، و”جامع البيان” (12/ 603)، و”الدر المصون” للسمين الحلبي (11/ 20 – 21)، وغيرهم.
(4) فتكون “ما” بمعنى “مَنْ” أو “الذي”. وبه قال: الحسن، ومجاهد، وغيرهما.
انظر: “جامع البيان” (12/ 601)، و”مجموع الفتاوى” (16/ 227)، و”الدر المصون” (11/ 18 – 19).

(1/26)


وقد قيل: إنَّ “ما” مصدريَّة (1) ، فيكون الإقسامُ بنفس فعله تعالى،
فيكون قد أقسم بالمصنوع الدَّالِّ عليه سبحانه، وبصنعته الدَّالَّةِ على كمال علمه، وقدرته، وحكمته، وتوحيده.
ولمَّا كانت حركة الشمس والقمر، والليل والنَّهار؛ أمرًا يشْهَدُ النَّاسُ حُدُوثَهُ شيئًا فشيئًا، ويعلمون أنَّ الحادث لابدَّ له من مُحْدِث = كان العلم بذلك منزَّلًا منزلة ذكر المُحْدِثِ له لفظًا، فلم يذكر الفاعل في الأقسام الأربعة الأُوَل.
ولهذا يسلُكُ طائفةٌ من النُّظَّار الاستدلالَ بالزَّمان على الصانع، وهو استدلالٌ صحيحٌ؛ قد نبَّهَ عليه القرآنُ في غير موضع، كقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) } [آل عمران: 190].
ولمَّا كانت السماءُ والأرضُ ثابتتين – حتَّى ظَنَّ من ظَنَّ أنَّهما قديمتان (2) – ذكر مع الإقسام بهما بانيهما ومبدعهما، وكذلك “النَّفْس”؛ فإنَّ حدوثَها غيرُ مشهودٍ، حتَّى ظنَّ بعضُهم قِدَمَها، فذَكَرَ مع الإقسام بها مُسَوِّيها وفاطِرَها، هذا مع ما في ذكر بناءِ السماء، وطَحْوِ الأرض، وتسوية “النَّفْس”؛ من الدلالة على الرحمة والحكمة والعناية بالخلق، فإنَّ بناء السماء يدلُّ على أنَّها كالقُبَّةِ العالية على الأرض، وجعلها سقفًا لهذا العالم.
__________
(1) والمعنى: والسماءِ وبنائِها. . . إلخ.
وهذا قول قتادة. واختاره: الفرَّاء، والزجَّاج، والمبرِّد، وغيرهم.
انظر: “الجامع” (20/ 74).
(2) في (ز): قد يميدان!

(1/27)


و”الطَّحْو”: هو مَدُّ الأرض وبسطُها (1) ، وتوسيعُها ليستقرَّ عليها (2) الأنامُ والحيوانُ، ويمكن فيها البِنَاء (3) والغِرَاس والزرع، وهو متضمِّنٌ لِنُضُوب الماء عنها، وهو مِمَّا حيَّرَ عقولِ الطبائعيين، حيث كان مقتضى الطبيعة أن تَغْمُرَها كثرةُ الماء، فبُروزُ جانبٍ منها عن الماءِ على خلاف مقتضى الطبيعة، وكَوْنُه هذا الجانب المعيَّن دون غيره، مع استواء الجوانب في الشكل الكُري؛ يقتضي تخصيصًا، فلم يجدوا بُدًّا من أن يقولوا: عِنَايةُ الصانع اقتضت (4) ذلك.
قلنا: فنَعَمْ إذًا, ولكن عناية من لا مشيئةَ له، ولا إرادةَ، ولا اختيارَ، ولا علمًا بمعيَّن أصلًا – كما تقولونه فيه -: محالٌ، فعنايته تقتضي ثبوت صفاتِ كماله، ونعوتِ جلاله، وأنَّه الفعَّال يفعل باختياره ما يريد.
وكذلك “النَّفْسُ”؛ أقسمَ بها وبمن سوَّاها، وألهمها فجورها وتقواها، فإنَّ من النَّاس من يقول: هي قديمةٌ لا مبدع لها. ومنهم من يقول: بل هي التي تبدع فجورها وتقواها (5) ، فذكر – سبحانه – أنَّه هو الذي سوَّاها وأبدعَها، وأنَّه هو الذي ألهمها الفجور والتقوى.
فأعلمنا أنَّه خالق نفوسنا وأعمالها، وذكر لفظ “التسوية” – كما ذكره في قوله تعالى: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ( 6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ
__________
(1) انظر: “مختار الصحاح” (413)، و”القاموس” (1684).
(2) ساقط من (ك).
(3) في (ن) و (ط): النبات.
(4) في (ن): أمضت.
(5) في (ن): وهواها.

(1/28)


فَعَدَلَكَ (7)} [الانفطار: 6, 7] , وفي قوله – عزَّ وجلَّ -: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29]- إيذانًا بدخول البدن في لفظ “النَّفْس”، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأعراف: 189] وقوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61]. {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] , {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور: 12] ونظائره، وباجتماع “الرُّوح” مع البدن تفسير “النَّفْس” فاجرةً أو تقيةً، وإلا فـ “الرُّوح” بدون البدن لا فجور لها.
وقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)}؛ الضمير المرفوع في {زَكَّاهَا (9)} عائدٌ على (1) “مَنْ”، وكذلك هو في {دَسَّاهَا (10)}، والمعنى قد أفلح من زكَّى نفسه، وقد خاب من دَسَّاها.
هذا هو القول الصحيح (2)، وهو نظير قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)} [الأعلى: 14] , وهو – سبحانه – إذا ذكر الفلاح علَّقَهُ بفعل المُفْلِح، كقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 1 – 2] إلى آخر الآيات، وقوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} [البقرة: 5] بعد قوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [البقرة: 3] , وقوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)} [النور: 51] ونظائره.
قال الحسن: “قد أفلح من زكَّى نفسه وحملها على طاعة الله، وقد
__________
(1) بعدها في (ز) زيادة: المؤمنين، ولا مكان لها.
(2) وانظر: “إغاثة اللهفان” (1/ 109).

(1/29)


خاب من أهلكها وحَمَلَها على معصية الله”، وقاله: قتادة (1) .
وقال ابن قتيبة: “يريد: أفلح من زكَّى نفسه أي: أَنْماها وأَعْلَاها بالطاعةِ، والبِرِّ، والصدقةِ، والكفِّ عن المعاصي، والتنافُسِ في الدرجات (2) ، واصطناع المعروف، وقد خاب من دسَّاها أي: نقصها وأخفاها بترك عمل ذلكَ البِرِّ، وركوب المعاصي.
والفاجرُ – أبدًا – خفيُّ المكانِ، زَمِرُ (3) المُرُوءَةِ، غامضُ الشَّخْصِ، ناَكِسُ الرأسِ، فكأنَّ النَّطِفَ (4) بارتكاب الفواحِشِ دَسَّ نفسَهُ وقمَعَها، ومُصْطَنِعَ المعروفِ شَهَر نفسَهُ ورفَعَها.
وكانت أجوادُ العرب تنزل الرُّبَا ويَفَاع (5) الأرض لِتَشْهَرَ بها أنفسَها للمُعْتَفِين (6) ، وتوقدُ النيران في الليل للطارقين. وكانت اللئام تنزلُ
__________
(1) انظر: “معالم التنزيل” للبغوي (8/ 439)، و”الدر المنثور” (6/ 601).
(2) “والكف عن المعاصي، والتنافس في الدرجات” ساقط من (ح) و (م).
(3) في جميع النسخ: زَمِن، وما أثبته أصح كما في “تأويل مشكل القرآن” لابن قتيبة (344). ومعنى “زَمِر المروءة”: قليل المروءة.
(4) النَّطِفُ: هو الرجل المُريب، ووقع في نَطَفٍ أي: شرٍّ وفساد، والنَّطَفُ: التلطُّخ
بالعيب، وفلانٌ يُنْطَفُ بفجور أي: يُقذَفُ به.
انظر: “لسان العرب” (14/ 186 – 187).
(5) في (ن) و (ز): بقاع.
و”يَفَاع الأرض”: المشرف منْ التَّلِّ والجبل، وكلُّ ما ارتفع من الأرض.
و”الرُّبَا”: ما ارتفع من الأرض، واحدتها: رَبْوَة، ورُبَاوَة، ورَابِية.
انظر: “لسان العرب” (15/ 452) و (5/ 127).
(6) “المعتفون”: واحِدُهُ: مُعْتَفٍ، وهو كل من جاءك يطلب فضلًا أو رزقًا.
ومنه العِفَاوَة: وهي أول ما يرفع للضيف من المرق إكرامًا له.
انظر: “لسان العرب” (9/ 295).

(1/30)


الأَوْلَاجَ، والأطرافَ، والأهضام (1) لتُخْفِي أنفسَها وأماكنَها على الطالبين، فأولئك أعلَوا أنفُسَهم وزكَّوها، وهؤلاء أخفَوا أنفسَهم ودَسَّوها. وأنشد في ذلك:
وبَوَّأْتَ بيتكَ في مَعْلَمٍ … رَحيبِ المَباءَةِ والمَسْرَحِ
كَفَيْتَ العُفَاةَ طِلَابَ القِرَى … ونَبْحَ الكِلَابِ لِمُسْتنبِحِ” (2)
وقال أبو العباس (3) : سألتُ ابنَ الأعرابي (4) عن قوله: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) } فقال: “دسَّ” معناه: دسَّ نفسَه مع الصالحين وليس
__________
(1) “الأولاج”: جمع وَلَجَة، وهي موضعٌ أو كهفٌ يستتر فيه المارة من المطر أو غيره.
و”الأهضام” والهُضُوم: جمع هَضْم أو هِضْم – بفتح الهاء وكسرها -؛ وهو المطمئنُّ من الأرض، أو بطن الوادي وأسفله.
انظر: “لسان العرب” (15/ 101) و (15/ 391).
(2) “تأويل مشكل القرآن” لابن قتيبة (344 – 345).
(3) هذا هو القول الثاني.
وأبو العباس هو: أحمد بن يحيى بن سيَّار الشيباني بالولاء، المعروف بـ “ثعلب”، إمام الكوفيين في النحو واللغة والحديث، لازم ابن الأعرابي بضع عشرة سنة، من مصنفاته: “معاني القرآن”، و”الفصيح” الذي طبقت شهرته الآفاق، توفي ببغداد سنة (291 هـ) رحمه الله.
انظر: “تاريخ بغداد” (5/ 204)، و”وفيات الأعيان” (1/ 102).
(4) هو أبو عبد الله محمد بن زياد النحوي، المعروف بـ “ابن الأعرابي”، كان إمامًا في اللغة والنحو والنَّسَب، كثير السماع والرواية, من تصانيفه: “النوادر”، و”معاني الشعر”، و”الأنواء”، توفي سنة (231 هـ) رحمه الله.
انظر: “نزهة الألباء” (150)، و”إنباه الرواة” (3/ 128).

(1/31)


منهم” (1).
وعلى هذا فالمعنى (2): أخفى نفسه في الصالحين، يُرِي النَّاسَ أنَّه منهم وهو مُنْطَوٍ على غير ما ينطوي عليه الصالحون (3).
وقال طائفةٌ أخرى: الضمير يرجع إلى الله سبحانه وتعالى.
قال ابن عباس – في رواية عطاء -: “قد أفلَحَت نَفْسٌ زكَّاها اللهُ، فأصلَحَها” (4).
وهذا قول: مجاهد، وعكرمة، والكلبي، وسعيد بن جبير، ومقاتل (5)، قالوا: سَعِدَتْ نَفْسٌ وأفلَحَت نفسٌ أصلحها الله، وطهَّرها، ووفَّقَها للطاعة، حتَّى عملت (6) بها، وخابَتْ وخَسِرَتْ نَفْسٌ أضلَّها اللهُ،
__________
(1) انظر: “تاج العروس” (16/ 74 – 75)، و”الجامع” (20/ 77)، و”المحرر
الوجيز” لابن عطية (15/ 473) ونسبه لثعلب، وكذا السمعاني في “تفسير القرآن” (6/ 233).
(2) ساقط من (ز).
(3) هذا كلام الواحدي كما عزاه إليه المؤلف في “إغاثة اللهفان” (1/ 112)، ثم قال: “وهذا -وإن كان حقًّا في نفسه – لكن في كونه هو المراد بالآية نظر؛ وإنما يدخل في الآية بطريق العموم”.
(4) أخرج الطبري في “تفسيره” (12/ 603)، والبيهقي في “القضاء والقدر” رقم (355)؛ من طريق: معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس؛ بلفظ: “قد أفلح من زكَّى اللهُ نفسَه، وقد خاب من دسَّ اللهُ نفسَه، فأضله الله”.
وزاد السيوطي نسبته إلى: ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وحسين في “الاستقامة”. “الدر المنثور” (6/ 602).
(5) “تفسيره” (3/ 488).
(6) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: عمل.

(1/32)


وأغواها، وأبطلَها، وأهلكَها (1) .
قال أرباب هذا القول: قد أقسم الله – تعالى – بهذه الأشياء التي ذكرها؛ لأنَّها تدلُّ على وحدانيته، وعلى فلاح مَنْ طَهَّره، وخسارة من خَذَلَهُ، حتَّى لا يظُنَّ أحدٌ أنَّه هو الذي يتولَّى تطهيرَ نفسه، وإهلاكَها بالمعصية؛ من غير قَدَرٍ سابقٍ، وقضاءٍ متقدِّمٍ (2) .
قالوا: وهذا أبلغ في التوحيد الذي سيقت له هذه السورة.
قالوا: ويدلُّ عليه قوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) } [الشمس: 8].
قالوا: ويشهد له حديث نافع بن عمر (3) ، عن ابن أبي مُلَيكة، عن عائشة – رضي الله عنها – أنَّها قالت: انتبهتُ ليلةً؛ فوجدتُ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم -وهو يقول: “ربِّ؛ أعْطِ نفسي تقواها، وزكِّها أنتَ خير من زكَّاها، أنت وَليُّها ومولاها” (4) .
__________
(1) انظر: “جامع البيان” (12/ 603)، و”زاد المسير” (8/ 258)، و”تفسير ابن كثير” (8/ 412).
(2) هذا كلام أبي الحسن الواحدي في “الوسيط” (4/ 497).
(3) هو نافع بن عمر بن عبد الله بن جميل الجُمَحي، القرشي المكِّي، ثقةٌ ثبتٌ، روى له الجماعة، توفي سنة (169 هـ) رحمه الله.
انظر: “تهذيب الكمال” (29/ 287)، و”الثقات” لابن حبان (7/ 533).
(4) أخرجه بهذا الإسناد أبو الحسن الواحدي في تفسيره “الوسيط” (4/ 498).
وقد أخرجه أحمد في “المسند” (6/ 209) رقم (25757) فقال: حدثنا وكيع، عن نافع – يعني ابنَ عمر -، عن صالح بن سعيد، عن عائشة – رضي الله عنها -، فذكره.
وذكر الحافظ ابن حجر في “تعجيل المنفعة” (1/ 652) أن هذا الحديث من رواية: صالح بن سعيد، عن عائشة رضي الله عنها. =

(1/33)


قالوا: فهذا الدعاء هو تأويل الآية، بدليل الحديث الآخر: أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – كان إذا قرأ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) } وقَفَ، ثُمَّ قال: “اللهُمَّ؛ آتِ نفسي تقواها، أنت وليُّها ومولاها، وزكِّها أنت خير من زكَّاها” (1) .
قالوا: وفي هذا ما يبيِّنُ أنَّ الأمر كلَّه له سبحانه، فإنَّه هو (2) خالق
__________
= وصالح بن سعيد قد ذكره ابن حِبَّان في “الثقات” (4/ 376)، وقال الهيثمي عن الحديث: “رجاله رجال الصحيح غير صالح بن سعيد الراوي عن عائشة، وهو ثقة”. “مجمع الزوائد” (2/ 127 – 128) و (10/ 110).
وحديث ابن أبي مليكة عن عائشة – رضي الله عنها – له لفظ آخر صحيح، وهو: “افتقدتُ النبي – صلى الله عليه وسلم – ذات ليلة، فظننتُ أنه ذهب إلى بعض نسائه، فتحسَّسْتُ، ثم رجعتُ، فإذا هو راكعٌ أو ساجدٌ يقول: “سبحانك وبحمدك، لا إله إلا أنت”، فقلتُ: بأبي أنتَ وأمي؛ إنِّي لفي شأنٍ، وإنَّك لفي آخر”.
أخرجه مسلم في “صحيحه” رقم (485).
لكن لفظ الحديث الذي أورده ابن القيم قد صحَّ من حديث زيد بن أرقم – رضي الله عنه – كما في “صحيح مسلم” رقم (2722) بلفظ: “اللهم آتِ نفسي تقواها. . . إلخ”.
(1) أخرجه: الطبراني في “المعجم الكبير” (11/ 87) رقم (11191)؛ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وعزاه السيوطي إليه وإلى: ابن المنذر، وابن مردويه. “الدر المنثور” (6/ 600).
وله شاهد من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أخرجه: ابن أبي عاصم في “السنَّة” رقم (319).
وعزاه ابن كثير إلى: ابن أبي حاتم “تفسير القرآن” (8/ 413)، وإليه وإلى ابن مردويه عزاه السيوطي في “الدر المنثور” (6/ 600).
وحسَّنه: الهيثمي في “مجمع الزوائد” (7/ 138)، والألباني بشواهده كما في “ظلال الجنة” رقم (319).
(2) ساقط من (ز).

(1/34)


“النَّفْس”، وهو مُلْهِمُها الفجورَ والتقوى، وهو مُزَكِّيها ومُدَسِّيها، فليس للعبد في الأمر شيءٌ، ولا هو مالكٌ من أمر (1) نفسه شيئًا.
قال أرباب القول الأوَّل: هذا القول، وإن كان جائزًا في العربية، حملًا للضمير المنصوب على معنى “مَنْ”، وإن كان لفظها (2) مذكَّرًا؛ كما في قوله عزَّ وجلَّ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] , جَمَعَ الضمير وإن كان لفظ “مَنْ” مفردًا، حَمْلًا على معناها (3) = فهذا إنَّما يحسن حيث لا يقع لَبْسٌ في مفسِّر الضمائر، وههنا قد تقدَّم لفظ “مَنْ”، والضمير المرفوع في {زَكَّاهَا (9) } يستحقُّه لفظًا ومعنىً، فهو أَولى به، ثُمَّ يعود الضمير المنصوب على “النَّفْس” التي هي أولى به لفظًا ومعنًى، فهذا هو النظم الطبيعي الذي يقتضيه سياق الكلام ووضعه.
وأمَّا عَوْدُ الضمير الذي يلي “مَنْ” على الموصول السابق وهو قوله: {وَمَا سَوَّاهَا (7) }، وإخلاءُ جاره الملاصق له – وهو “مَنْ” (4) – مِن عَوده إليه، ثُمَّ عَوْدُ الضمير المنصوب – وهو مؤنَّثٌ – على “مَنْ”، ولفظه يُذكَّر دون “النَّفْس” المؤنثة = فهذا يجوز لو لم يكن للكلام محمَلٌ غيره أحسن منه، فأمَّا إذا كان سياقُ الكلام ونظمُه يقتضي خلافه، ولم تَدْعُ الضرورة إليه؛ فالحَمْلُ عليه ممتنعٌ.
قالوا: والقول الذي ذكرناه أرجح من جهة المعنى لوجوه:
__________
(1) ساقط من (ن) و (ز).
(2) في (ن): لفظًا.
(3) في جميع النسخ: لفظها! وهو سبق قلم، والصواب ما أثبته كما يدل عليه كلام المؤلف فيما بعد.
(4) “وهو “من”” ساقط من (ز).

(1/35)


أحدها: أنَّ فيه إشارة إلى ما تقدَّم من تعليق الفلاح على فعل العبد واختياره كما هي طريقة القرآن.
الثاني: أنَّ فيه زيادة فائدة؛ وهي إثبات فعل العبد وكسبه، وما يثاب ويعاقب عليه، وفي قوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} إثبات القضاء والقدر السابق.
فتضمَّنَت الآيتان هذين الأصلين العظيمين، وهما كثيرًا ما يقترنان في القرآن كقوله: {إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: 54 – 56] وقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير: 28، 29]، فتضمَّنت الآيتان الردَّ على “القَدَرِيَّة” و”الجَبْرِيَّة”.
الثالث: أنَّ قولنا يستلزم قولكم، دون العكس؛ فإنَّ العبد إذا زكَّى نفسه ودسَّاها: فإنَّما يزكِّيها بعد تزكية الله لها بتوفيقه وإعانته، وإنَّما يُدَسِّيها بعد تَدْسِيَة الله لها بخذلانه، والتخلية بينه وبين نفسه. بخلاف ما إذا كان المعنى على القَدَرِ المحض، لم يبق للكسب وفعل العبد ههنا ذكرٌ أَلْبَتَّةَ.

(1/36)


فصل

وذكر في هذه السورة ثمودَ دون غيرهم من الأُمَم المكذِّبة؛ قال شيخنا: “هذا – والله أعلم – من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإنَّه لم يكن في الأُمَم المكذِّبة أخفُّ ذنبًا وعذابًا منهم، إذ لم يُذْكَر عنهم من الذنوب ما ذُكِر عن عاد، ومدين، وقوم لوط، وغيرهم.
ولهذا لمَّا ذكرهم وعادًا قال: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) … وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 15 – 17].
وكذلك إذا ذكرهم مع الأُمَم المكذِّبة لم يذْكُر عنهم ما يذْكُر عن أولئك من التجبُّر والتكبُّرِ، والأعمالِ السيئة، كاللِّوَاط، وبَخْسِ المكيال والميزان, والفسادِ في الأرض، كما في “سورة هود” و”الشعراء” وغيرهما.
فكان في قوم لوط – مع الشرك – إتيان الفواحش التي لم يُسْبَقُوا إليها.
وفي عاد – مع الشرك – التجبُّرُ, والتكبُّرُ، والتوسُّعُ في الدنيا، وشدَّةُ البَطْش، وقولُهم: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}.
وفي أصحاب مدين – مع الشرك – الظلمُ في الأموال.
وفي قوم فرعون الفسادُ في الأرض، والعلُوُّ.
وكان عذابُ كلِّ أُمَّةٍ بحسب ذنوبهم وجرائمهم؛ فعذَّبَ عادًا بالرِّيح الشديدة العَاتِيَةِ، التي لا يقوم لها شيءٌ.

(1/37)


وعذَّبَ قومَ لوط بأنواع من العذاب لم يعذِّب بها أُمَّةً غيرهم؛ فجمع لهم بين الهلاكِ، والرَّجمِ بالحجارة من السماء، وطَمْسِ الأبصار، وقَلْبِ ديارهم عليهم بأنْ جعل عاليها سافلها، والخَسْفِ بهم إلى أسفل سافلين.
وعذبَ قومَ شعيب بالنَّار التي أحرقتهم وأحرقت تلك الأموال التي اكتسبوها (1) بالظلم والعدوان.
وأمَّا ثمود فأَهلكَهم بالصيحة، فماتوا في الحال.
فإذا كان هذا عذابَهُ لهؤلاء، وذنبهم مع الشرك عَقْرُ ناقةٍ واحدةٍ جعلها اللهُ آيةً لهم؛ فمن انتَهَكَ محارمَ اللهِ، واستخفَّ بأوامره ونواهيه، وعَقَر عباده، وسفك دماءهم = كان أشدَّ عذابًا.
ومن اعتبر أحوال العالم (2) قديمَا وحديثًا، وما يُعَاقَبُ به من سَعَى في الأرض بالفساد، وسَفَكَ الدماء بغير حقٍّ، وأقامَ الفتن، واستهانَ بحرمات الله = عَلِم أنَّ النَّجَاة في الدنيا والآخرة للذين آمنوا وكانوا يتقون” (3) .
قلتُ: وقد يظهر في تخصيص ثمود بالذِّكر ههنا – دون غيرهم – معنىً آخر، وهو أنَّهم رَدُّوا الهُدَى بعد ما تيقَّنُوه وكانوا مستبصرين به، قد ثَلِجَتْ له صدورُهم، واستيقنَتْهُ أنفسُهم، فاختاروا عليه العمَى
__________
(1) في (ن) و (ز): كسبوها.
(2) ساقط من (ز).
(3) هذا المقطع من كلام شيخ الإِسلام موجود في “مجموع الفتاوى” (16/ 249 – 250)؛ نقله جامعه من ههنا! وصدره بقوله: “قال ابن القيم رحمه الله”.

(1/38)


والضلالة، كما قال – تعالى – في وَصْفِهم (1) : {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] وقال تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 59] أي: مُوجبَةً لهم التبصُّر واليقين، وإن كان جميع الأمَم المُهْلَكَةِ هذا شأنهم؛ فإنَّ الله لم يُهْلِك أُمَّةً إلا بعد قيام الحُجَّةِ عليها, لكن خُصَّت ثمود من ذلك الهُدَى والبصيرة بمزيد، ولهذا لمَّا قَرَنَهم بـ “عادٍ” قال: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} الآية [فصلت: 15] , ثُمَّ قال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17].
ولهذا أَمْكَنَ عادًا المُكابَرَةُ، وأن يقولوا لنبيِّهم: {مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} [هود: 53] , ولم يمكن ذلك ثمودًا، وقد رأَوا البيِّنَةَ عِيَانًا، وصارت لهم بمنزلة رؤية الشمس والقمر، فرَدُّوا الهُدَى بعد تيقُّنهِ والبصيرةِ التامَّةِ به، فكان في تخصيصهم بالذِّكر تحذيرٌ لكلِّ من عرف الحقَّ ولم يتَّبعْهُ، وهذا داء أكثر الهالكين، وهو أَعَمُّ الأدواء وأغلبُها على أهل الأرض، والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) من (ح) و (م)، وسقط من باقي النسخ.

(1/39)


فصل

ومن ذلك قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)} [الفجر: 1 – 5].
قيل (1): جوابه قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)} [الفجر: 14].
وهذا ضعيفٌ لوجهين:
أحدهما: طولُ الكلام والفصل بين القَسَم وجوابه بِجُمَلٍ كثيرةٍ.
والثاني: أنَّ قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)} ذُكِر تقريرًا لعقوبةِ اللهِ الأُمَمَ المذكورةَ وهي: عادٌ، وثمودُ، وفرعونُ. فذكر عقوبتهم ثُمَّ قال مقرِّرًا ومحذِّرًا: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)}، أفلا (2) ترى تعلُّقَهُ بذلك دون القَسَم؟!
وأحسن من هذا أن يقال: إنَّ “الفجرَ” و”اللياليَ العشر” زمنٌ يتضمَّنُ أفعالًا معظَّمَةً، و”العشر” هو عشر ذي الحِجَّة وهو يتضمَّنُ أفعالًا معظَّمَةً (3) من المناسك، وأمكنةً معظَّمَةً، وهي مَحَلُّها، وذلك من شعائر الله المتضمِّنَةِ خضوع العبد لربِّه، فإنَّ الحجَّ والنُّسُكَ عبوديةٌ محضةٌ لله، وذُلٌّ وخضوعٌ لعظمته. وذلك ضدُّ ما وصف به عادًا، وثمودًا، وفرعونَ؛ من العُتُوِّ والتكبُّر والتجبُّرِ؛ فإنَّ النُّسُكَ يتضمَّنُ غاية الخضوع لله، وهؤلاء
__________
(1) قال به: ابن الأنباري، والزجَّاج في “معاني القرآن” (5/ 321).
واختاره: الواحدي في “الوسيط” (4/ 481)، والسمعاني في “تفسيره” (6/ 221)، وابن الجوزي في “زاد المسير” (8/ 241).
(2) من (ح) و (م)، وفي غيرهما: “فلا”.
(3) من قوله: “و”العشر” هو عشر. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ح) و (م).

(1/40)


الأُمَم عَتَوا وتكبَّرُوا عن أمر ربِّهم.
وفي “صحيح البخاري” عن ابن عباس – رضي الله عنهما – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “ما مِنْ أيامٍ العَمَلُ الصالحُ فيهنَّ أحبُّ إلى الله من هذه الأيامِ العَشْرِ” قيل: يا رسول الله؛ ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: “ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ، إلَّا رجلٌ خَرَجَ بنفسِه ومالِه ثُمَّ لم (1) يرجع من ذلك بشيء” (2). فالزَّمَانُ المتضمِّنُ لمثل هذه الأعمال أهلٌ أن يُقْسِمَ الرَّبُّ – عزَّ وجلَّ – به.
{وَالْفَجْرِ (1)}: –
إن أُريد به جِنْسُ “الفجر” – كما هو ظاهر اللفظ – فإنَّه يتضمَّنُ وقت صلاة الصبح، التي هي أوَّل الصلوات. فافتتح القَسَم بما يتضمَّنُ أوَّل الصلوات، وختمه بقوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)} المتضمِّن لآخر الصلوات.
وإن أُريد بـ “الفجر” فجرٌ مخصوصٌ، فهو فجرُ يوم النَّحْرِ وليلته، التي هي ليلة عرفة، فتلك الليلة من أفضل ليالي العام، وما رُئي الشيطانُ في ليلة أَدْحَر، ولا أَحْقَر، ولا أَغْيَظ منه فيها (3). وذلك “الفجر”: فجر
__________
(1) كذا في النسخ، وفي المصادر: “فلم”.
(2) أخرجه البخاري في “صحيحه” رقم (926) بلفظ قريبٍ منه.
وأما لفظ الحديث الذي ذكره المؤلف هنا فهو عند أبي داود في “سننه” رقم (2438)، والترمذي في “سننه” رقم (757)، وابن ماجه في “سننه” رقم (1753) وغيرهم.
(3) يشير إلى حديث طلحة بن عبيد الله بن كَرِيز: أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “ما رُئي الشيطان يومًا هو فيه أصغرُ، ولا أدحرُ، ولا أحقرُ، ولا أغيظُ؛ منه في يوم عرفة … الحديث”.
أخرجه: مالك في “موطئه” رقم (245) مرسلًا، ومن طريقه عبد الرزاق في =

(1/41)


يوم النَّحْر، الذي هو أفضل الأيام عند الله، كما ثبت عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – أنَّه قال: “أفضلُ الأيامِ عندَ اللهِ يومُ النَّحْر” (1) رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح.
وهو آخر أيام العشر، وهو يوم “الحجِّ الأكبر”، كما ثبت في “صحيح البخاري” وغيره (2) ، وهو اليوم الذي أذَّنَ فيه مؤذِّنُ رسولِ الله
__________
= “المصنف” رقم (8125 و 8832)، والبيهقي في “شعب الإيمان” رقم (3775)، وفي “فضائل الأوقات” رقم (182)، والبغوي في “شرح السنَّة” رقم (1930).
وحسَّنه ابن عبد البر في “التمهيد” (1/ 116).
قال البيهقي: “أخبرنا أبو عبد الله الحافظ – يعني الحاكم النيسابوري – في موضع آخر قال: وقد كتبناه من حديث أبي الدرداء متصلًا .. ” ثم ساق إسناده. “الشعب” رقم (3776).
وقال في “فضائل الأوقات” (356): “هذا مرسلٌ حسنٌ، وروي من وجهٍ آخر ضعيف؛ عن طلحة عن أبي الدرداء، عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -“.
(1) أخرجه: أحمد في “المسند” (4/ 350) رقم (19075)، وأبو داود في “سننه” رقم (1765)، والنسائي في “الكبرى” رقم (4083)، وابن خزيمة في “صحيحه” رقم (2866 و 2917)، والحاكم في “المستدرك” (4/ 221) رقم (7597) وصححه، وابن قانع في “معجم الصحابة” (2/ 103)؛ من حديث عبد الله بن قُرْط – رضي الله عنه – بلفظ: “أعظم الأيام … الحديث”.
وأما اللفظ الذي ذكره المؤلف فقد أخرجه: البخاري في “التاريخ الكبير” (5/ 34 – 35)، وابن حِبَّان في “صحيحه” رقم (2811)، والبيهقي في “السنن الكبرى” (5/ 237).
(2) أخرجه: البخاري تعليقًا في كتاب الحج، باب: الخطبة أيام منى (2/ 621)، ووصله: أبو داود في “سننه” رقم (1945)، وابن ماجه في “سننه” رقم (3115)، وأبو عوانة في “مسنده” رقم (3556)، والبيهقي في “السنن الكبرى” (5/ 139).
كلهم من طريق: هشام بن الغَاز، عن نافع، عن ابن عمر – رضي الله =

(1/42)


– صلى الله عليه وسلم -: “إنَّ اللهَ بريءٌ من المشركين ورسولُهُ، وأنْ لا يَحُجَّ بعدَ العام مُشْركٌ، ولا يطوفَ بالبيتِ عُرْيَان” (1) . ولا خلاف أنَّ المؤذِّنَ أذَّنَ بذلك في يوم النَّحْر، لا في يوم عرفة، وذلك بأمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، امتثالًا وتأويلًا للقرآن.
وعلى هذا قد تضمَّنَ القَسَمُ: المناسِكَ، والصلوات، وهما المختصَّان بعبادة الله، والخضوع له، والتواضع لعظمته، ولهذا قال الخليل عليه السلام: {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) } [الأنعام: 162] , وقيل لخاتم الرُّسُل – صلى الله عليه وسلم -: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2 )} [الكوثر: 2] , بخلاف حال المشركين المتكبِّرين الذين لا يعبدون الله وحده، بل يشركون به، ويستكبرون عن عبادته، كحال من ذُكِر في هذه السورة من قوم عاد، وثمود، وفرعون.
وذكر – سبحانه – من جملة هذه الأقسام: الشَّفْع، والوتر؛ إذ هذه الشعائرُ المعظَّمَةُ منها شَفْعٌ، ومنها وِتْرٌ؛ في: الأمكنةِ، والأزمنةِ، والأعمالِ.
فـ “الصَّفَا” و”المَرْوَة” شَفْعٌ، و”البيت” وترٌ، و”الجمرات” وترٌ، و”مِنَى” و”مزدلفة” شَفْعٌ، و”عرفة” وترٌ.
__________
= عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقف يوم النحر بين الجمرات في الحَجَّة التي حجَّ، فقال: “أيُّ يومٍ هذا؟ قالوا: يوم النحر، قال: هذا يوم الحجِّ الأكبر”.
وانظر: “تغليق التعليق” (3/ 104 – 105).
(1) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (362، 1543، 3006، 4105، 4378 – 4380)، ومسلم في “صحيحه” رقم (1347)، بألفاظ متعددة.

(1/43)


وأمَّا الأعمال: فالطواف وترٌ، وركعتاه شَفْعٌ (1) ، والطواف بين “الصَّفَا” و”المَرْوَة” وترٌ، ورمي “الجِمَار” وترٌ, كلُّ ذلك سَبْعٌ سَبْعٌ، وهو الأصل، فـ “إنَّ اللهَ وِتْرٌ، يحَبُّ الوِتْرَ” (2) .
والصلوات منها شَفْعٌ، ومنها وِتْرٌ، والوتر يُوتِرُ الشَّفْع، فتكون كلُّها وترًا، كما قال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: “المغربُ وِتْرُ النَّهَارِ، فأَوتِرُوا صلاةَ الليل” رواه الإمامُ أحمد (3) .
وفي “الصحيح” عنه – صلى الله عليه وسلم – قال: “صلاةُ الليل مَثْنَى مَثْنَى، فإذا خشيتَ الصُّبْحَ فأَوتِرْ بواحدةٍ، تُوتِرُ لك ما قد صلَّيتَ” (4) .
وأمَّا الزَّمان: فإنَّ يومَ عرفة وترٌ، ويومَ النَّحْر شَفْعٌ، وهذا
__________
(1) من قوله: “وعرفة وتر. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ز).
(2) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (6047)، ومسلم في “صحيحه” رقم (2677)؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) أخرجه: أحمد في “المسند” (2/ 30) رقم (4847) و (2/ 41) رقم (4992)، و (2/ 83) رقم (5549)، و (2/ 154) رقم (6421)، وابن أبي شيبة في “المصنف” (2/ 282)، وعبد الرزاق في “المصنف” رقم (4675 و 4676)، والنسائي في “الكبرى” رقم (1386)، والطبراني في “الأوسط” رقم (8409)، وفي ” الصغير” رقم (1081)، وابن عدي في “الكامل” (5/ 1837)؛ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وصححه الحافظ العراقي، ورمز لحسنه السيوطي. “فيض القدير” (4/ 223).
وصححه الألباني في “صحيح الجامع” رقم (3834).
(4) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (460، 461، 946، 948، 1086)، ومسلم في “صحيحه” رقم (749)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(1/44)


قول أكثر المفسِّرين (1).
وروى مجاهد، عن ابن عباس: “الوتر: آدم، وشُفِعَ بزوجته حوَّاء”.
وقال في رواية أخرى: “الشَّفْع: آدم وحوَّاء، والوتر: الله وحده”.
وعنه روايةٌ ثالثةٌ: “الشَّفْع: يوم النَّحْر، والوتر: ثلاثة أيامٍ بعده”.
وقال ابن الزبير: “الشَّفْع: يومان بعد يوم النَّحْر، والوتر: اليوم الثالث”.
وقال عمران بن حصين، وقتادة: “الشَّفْع والوتر هي الصلاة”، ورُوي فيه حديثٌ مرفوع (2).
__________
(1) وإنما كان يوم عرفة وترًا؛ لأنه اليوم التاسع من ذي الحِجَّة، وصار يوم النَّحْر شفعًا؛ لأنه اليوم العاشر من ذي الحِجَّة.
ويؤيد مذهب الجمهور حديث جابر رضي الله عنه، أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “إنَّ العشرَ عشرُ الأضحى، والوترَ يومُ عرفة، والشَّفْعَ يومُ النَّحْر”.
أخرجه: أحمد في “المسند” (3/ 327) رقم (14511)، والنسائي في “الكبرى” رقم (4086 و 11607 و 11608)، والبزار “كشف الأستار” رقم (2286)، والحاكم في “المستدرك” (4/ 220) وصححه على شرط مسلم، والطبري في “تفسيره” (12/ 561)، وغيرهم.
قال ابن رجب: “إسناده حسن”. “لطائف المعارف” (470).
وقال الهيثمي: “رواه البزار وأحمد، ورجالهما رجال الصحيح غير: عياش بن عقبة، وهو ثقة”. “مجمع الزوائد” (7/ 140).
وقال ابن كثير: “وهذا إسنادٌ رجاله لا بأس بهم، وعندي أن المتن في رفعه نكارة”. “تفسيره” (8/ 391).
(2) هو حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – سئل عن الشَّفْع =

(1/45)


وقال عطيَّة العَوفي (1) : “الشَّفْع: الخَلْق، قال الله تعالى: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) } [النبأ: 8] , والوتر: هو الله”.
وهذا قول الحَكَم (2) ، قال: “كلُّ شيءٍ شَفْعٌ، واللهُ وترٌ”.
وقال أبو صالح (3) : “خلق الله من كلِّ شيءٍ زوجين اثنين، واللهُ
__________
= والوتر، فقال: “هي الصلاة؛ بعضها شَفْعٌ، وبعضها وترٌ”.
أخرجه: أحمد في “المسند” (4/ 437) رقم (19919)، و (4/ 438) رقم (19935)، و (4/ 442) رقم (19973)، والترمذي في “سننه” رقم (3342) وقال: “حديث غريب”، والطبراني في “المعجم الكبير” (18/ رقم 578 و 579)، والحاكم في “المستدرك” (2/ 522) وصححه، والطبري في “تفسيره” (12/ 563)، وغيرهم.
وسنده ضعيف، فيه راوٍ مجهول، وضعفه الألباني في “ضعيف الترمذي” رقم (661).
(1) هو عطية بن سعد بن جُنَادة العَوفي، من مشاهير التابعين، وكان من شيعة الكوفة، ضعيف الحديث، توفي سنة (111 هـ)، وقيل غير ذلك رحمه الله.
انظر: “تهذيب الكمال” (20/ 145)، و”السير” (5/ 325).
(2) هو الحكم بن عُتَيبة الكِنْدي، أبو محمد الكوفي، إمام أهل الكوفة وفقيههم، ثقةٌ ثبتٌ كثير الحديث، صاحب سنةٍ واتباعٍ، توفي سنة (115 هـ) رحمه الله.
انظر: “تهذيب الكمال” (7/ 114)، و”السير” (5/ 208).
(3) تصحفت في (ك) إلى: ابن صلح!
هو أبو صالح باذام، ويقال: باذان، مولى أم هانئ بنت أبي طالب، روى عن جماعة من الصحابة، وذُكِر عن مجاهد أنه كان ينهى عن تفسير أبي صالح، قال ابن عدي: “عامة ما يرويه تفسير، وفيه ما لم يتابعه أهل التفسير عليه، ولم أعلم أحدًا من المتقدمين رضيه”, توفي سنة (121 هـ) رحمه الله.
انظر: “الكامل في الضعفاء” (2/ 501)، و”تهذيب الكمال” (4/ 6)، و”السير” (5/ 37).

(1/46)


وترٌ (1) واحدٌ”. وهذا قول مجاهد، ومسروق.
وقال الحسن: “الشَّفْع والوتر: العددُ كلُّه منه شَفْعٌ ووترٌ”.
وقال ابن زيد (2) : “الشَّفْع والوتر: الخلقُ كلُّه، منه شَفْعٌ، ومنه (3) وترٌ” (4) .
وقال مقاتل (5) : “الشَّفْع: الأيام والليالي، والوتر: اليوم الذي لا ليلة بعده، وهو يوم القيامة”.
وذُكِرَتْ أقوالٌ أُخَر، هذه أصولها، ومدارُها كلُّها على قولين:
أحدهما: أنَّ “الشَّفْع” و”الوتر” نوعَا المخلوقات، والمأمورات (6) .
والثاني: أنَّ “الوترَ” الخالقُ، و”الشَّفْعَ” المخلوقُ.
وعلى هذا القول فيكون قد جمع في القَسَم بين الخالق
__________
(1) من قوله: “وقال أبو صالح. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ز).
(2) هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم القرشي، صاحب قرآنٍ وتفسيرٍ وصلاحٍ، لكنه ضعيف الحديث، وله: “التفسير” جمعه في مجلد، و”الناسخ والمنسوخ”، توفي سنة (182 هـ) رحمه الله.
انظر: “تهذيب الكمال” (17/ 114)، و”السير” (8/ 349).
(3) من (م)، وسقطت من باقي النسخ.
(4) قول ابن زيد كله سقط من (ن).
(5) هو مقاتل بن حيان النَّبَطي، أبو بسطام البَلْخي الخرَّاز، العالم المحدِّث الثقة، صاحب سُنَّةٍ، وكان ذا نُسُكٍ وفضلٍ، أسلم على يده خلقٌ كثير من أهل “كابل”، روى له الجماعة إلا البخاري، توفي سنة (150 هـ) رحمه الله.
انظر: “تهذيب الكمال” (28/ 430)، و”السير” (6/ 340).
(6) في (ن): “نوعَان المخلوقات والمأمورات”.

(1/47)


والمخلوق، فهو نظير ما تقدَّم في قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1 )} [الشمس: 1] , وفي قوله: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) } [البروج: 3] , وفي قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1 ) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) } [الليل: 1 – 3].
وقال ههنا: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) } [الفجر: 4] , وفي “سورة المدثر” أقسَمَ بالليل إذا أدبر، وفي “سورة التكوير” أقسَمَ بالليل إذا عَسْعَس (1) ، وقد فُسِّر بـ “أَقْبَل”، وفُسِّر بـ “أَدْبَر”؛ فإن كان المراد إقباله فقد أقسَمَ بأحوال الليل الثلاثة، وهي: حالةُ إقباله، وحالةُ امتدادِه وسريانه، وحالةُ إدباره، وهي من آياته الدالَّةِ عليه سبحانه.
وعرَّفَ “الفجر” باللَّام إذ كلُّ أحدٍ يعرفه، ونكَّرَ الليالي العشر؛ لأنَّها إنَّما تُعرف بالعلم.
وأيضًا؛ فإنَّ في التنكير تعظيمًا لها، فإنَّ التنكير يكون للتعظيم.
وفي تعريف “الفجر” ما يدلُّ على شهرته، وأنَّه “الفجر” الذي يعرفه كلُّ أحدٍ ولا يجهله.
فلمَّا تضمَّن هذا القَسَمُ تعظيمَ ما جاء به إبراهيم ومحمد – صلَّى الله عليهما وسلم – كان في ذلك ما دلَّ على المُقْسَمِ عليه، ولهذا عقَّبَ القَسَم بقوله تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) } [الفجر: 5] , فإنَّ عظمة هذا المُقْسَم به يُعرف بالنُّبوَّة، وذلك يحتاج إلى حِجْرٍ يَحْجُرُ صاحبَه عن الغفلة واتباع الهوَى، ويحمله على اتباع الرُّسُل، لئلا يصيبه ما أصاب من كذَّب الرُّسُل كـ: عاد، وفرعون، وثمود.
__________
(1) في (ز): غسق! وهو خطأ.

(1/48)


ولمَّا تضمَّن ذلك مَدْحَ الخاضعين والمتواضعين؛ ذكرَ بعد ذلك حال المتكبِّرين المتجبِّرين الطاغين، ثُمَّ أخبر أنه صبَّ عليهم سَوْط عذاب؛ أي: سوطًا من عذاب. ونكَّره: إمَّا للتعظيم؛ وإمَّا لأنَّ يسيرًا من عذابه استأصلهم وأهلكهم، ولم يكن لهم معه بقاءٌ ولا ثباتٌ.
ثُمَّ ذكر حال المُوَسَّعِ عليهم في الدنيا والمُقَتَّرِ عليهم، وأخبر أنَّ توسعته على من وَسَّع عليه -وإن كان إكرامًا له في الدنيا – فليس ذلك إكرامًا على الحقيقة، ولا يدلُّ على أنَّه كريمٌ عنده، ولا هو (1) من أهل كرامته ومحبته، وأنَّ تقتيره على من قتَّر عليه لا يدلُّ على إهانته له، وسقوط منزلته عنده، بل يوسِّع ابتلاءً وامتحانًا، ويقتِّر ابتلاءً وامتحانًا، فيبتلي بالنِّعَم كما يبتلي بالمصائب، وهو – سبحانه – يبتلي عبدَهُ بنعمةٍ تجلب له أُخرى، وبنعمةٍ تجلب له نِقْمةً، وبنقْمةٍ تجلب له أُخرى، وبنقمةٍ تجلب له نعمةً (2) ، فهذا شأنُ نِعَمِهِ ونقَمِهِ سبحانه.
وتضمَّنَت هذه السورة ذَمَّ من اغترَّ بقوَّتِه، وسلطانِه، ومالِه، وهم هؤلاء الأُمَم الثلاثة:
“قوم عاد”: اغترُّوا بقوَّتهم.
و”ثمود”: اغترُّوا بجِنَانهم، وعيونهم، وزروعهم، وبساتينهم.
و”قوم فرعون”: اغترُّوا بالمال والرِّيَاسَة.
__________
(1) “ولا هو” ساقط من (ح) و (م).
(2) في (ك) و (ح) و (م) تقديم وتأخير بين الجمل الأربع.

(1/49)


فصارت عاقبتهم إلى (1) ما قصَّ الله علينا، وهذا شأنه – دائمًا – مع كلِّ من اغترَّ بشيءٍ من ذلك، لابدَّ أن يُفْسِدَهُ عليه، ويسْلُبَهُ إيَّاه.
ثُمَّ ذكر – سبحانه – حالَ الإنسان في معاملته لمن هو أضعفُ منه؛ كاليتيم والمسكين، فلا يُكْرِمُ هذا, ولا يَحُضُّ على إطعام هذا.
ثُمَّ ذكر حرصَ الإنسان على جمع المال وأكله، وحُبِّه له، وذلك هو الذي أوجب له (2) عدمَ رحمته لليتيم والمسكين.
ثُمَّ ختم السورة بمدح “النَّفْس” المطمئنَّة، وهي الخاشعة المتواضعة لربِّها، وما تؤول إليه من كرامته ورحمته، كما ذكر قبلَها حالَ “النَّفْسِ” الأمَّارة، وما تؤول إليه من شدَّةِ عذابه وَوَثَاقِهِ.
__________
(1) من (ح) و (م)، وسقط من باقي النسخ.
(2) ساقط من (ن) و (ز).

(1/50)


فصل

وأمَّا سورة {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)} فذُكِرَ فيها جوابُ القَسَم، وهو قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)} [البلد: 4].
وفُسِّر “الكَبَدُ”:
بالاستواء وانتصاب القَامَة.
قال ابن عباس – في رواية مِقْسَم (1) عنه -: “مستقيمٌ منتصِبٌ على قدميه” (2).
وهذا قول: أبي صالح، والضحَّاك، وإبراهيم (3)، وعكرمة، وعبد الله
__________
(1) هو مِقْسَم بن بُجْرَة، مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل، وإنما قيل: مولى ابن عباس لملازمته له، صدوقٌ من مشاهير التابعين، ضعفه ابن حزم، ووثقه غير واحد، روى له الجماعة سوى مسلم، توفي سنة (101 هـ) رحمه الله.
انظر: “تهذيب الكمال” (28/ 461)، و”ميزان الاعتدال” (5/ 301).
(2) عزاه السيوطي في “الدر المنثور” (6/ 593) إلى: سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
وهذا القول ضعَّفه جماعة، قال السمين الحلبي: “وقيل: “في كَبَد” أي: خُلِق منتصِبًا غير مُنْحَنٍ، وما أبْعَدَ هذا لفظًا ومعنىً”. “عمدة الحفاظ” (3/ 428).
وممن ضعَّفه: ابن عطية في “المحرر الوجيز” (15/ 456)، وأبو حيَّان في “البحر المحيط” (8/ 470).
(3) هو إبراهيم بن يزيد النخعي، الإمام الحافظ، فقيه العراق، قال أحمد: “كان إبراهيم ذكيًّا، حافظًا، صاحب سُنَّة”، توفي سنة (96 هـ) رحمه الله.
انظر: “طبقات ابن سعد” (6/ 270)، و”السير” (4/ 520).

(1/51)


ابن شدَّاد (1) .
قال المنذري (2) : “سمعت أبا طالب (3) يقول: “الكَبَد”: الاستواء والاستقامة” (4) .
وفُسِّر بالنَّصَب.
هذا قول: مجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن. ورواية عن: علي، وابن عباس.
قال الحسن: “لم يخلق الله خليقةً تكابد ما يكابد ابن
__________
(1) هو عبد الله بن شدَّاد بن الهاد الليثي، ولد زمن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، وأمُّه هي سلمى أخت أسماء بنت عُميس رضي الله عنهما، كان ثقةً فقيهًا شيعيًّا، من كبار التابعين، روى له الجماعة، قُتِل ليلة دُجَيل حين خرج مع ابن الأشعث سنة (82 هـ) رحمه الله.
انظر: “تهذيب الكمال” (15/ 81)، و”السير” (3/ 488).
(2) هو محمد بن أبي جعفر المنذري الخراساني، أبو الفضل، اللغوي العَدْل، كان
ثقةً فيما يرويه، ثبتًا فيما يؤخذ عنه، أكثَرَ من الرواية عنه أبو منصور الأزهري في “تهذيب اللغة”، توفي سنة (329 هـ) رحمه الله.
انظر: “إنباه الرواة” (3/ 70)، و”معجم الأدباء” (18/ 99).
(3) هو المفضَّل بن سلمة بن عاصم، أبو طالب اللغوي النحوي، كان فَهِمًا فاضلًا، مستكثرًا من الرواية ونقل اللغة، أبوه صاحب الفرَّاء، وابنه أبو الطيب من كبار فقهاء الشافعية، وله: “الفاخر”، و”ضياء القلوب” في معاني القرآن، وغير ذلك، توفي سنة (300 هـ) رحمه الله.
انظر: “معجم الأدباء” (19/ 163)، و”إنباه الرواة” (3/ 305).
(4) نقله عنه الأزهري في “تهذيب اللغة” (10/ 127).
وذكر هذا المعنى غير معزوٍّ إلى أبي طالب: البغويُّ في “تفسيره” (8/ 430)، والواحديُّ في “الوسيط” (4/ 488).

(1/52)


آدم” (1) .
وقال سعيد بن أبي الحسن (2) : “يكابد مصائب الدنيا، وشدائد الآخرة” (3) .
وقال قتادة: “يكابد أمر الدنيا والآخرة، فلا تلقاهُ إلا في مشقَّةٍ”.
وروى ابن جُريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: “يعني: حَمْلَهُ، وولادتَهُ، ورضاعَهُ، وفِصَالَهُ، ونَبْتَ أسنانه، وحياتَهُ، ومعاشَهُ، وموتَهُ؛ كل ذلك شِدَّة” (4) .
قال مجاهد: “حملته أُمُّه كُرْهًا، ووضعته كُرْهًا، ومعيشته في
__________
(1) أخرجه: ابن المبارك في “الزهد” رقم (216)، والطبري في “تفسيره” (12/ 588)، والبغوي في “مسند ابن الجعد” رقم (3402)، ومن طريقه الواحديُّ في “الوسيط” (4/ 489)؛ وإسناده حسن.
(2) هو سعيد بن أبي الحسن البصري، أخو الحسن البصري، ثقةٌ من قرَّاء أهل البصرة، كان أصغر من أخيه الحسن، روى له الجماعة، توفي بفارس سنة (108 هـ) رحمه الله.
انظر: “طبقات ابن سعد” (7/ 178)، و”تهذيب الكمال” (10/ 385).
(3) أخرجه: ابن المبارك في “الزهد” رقم (217)، والطبري في “تفسيره” (12/ 588)، والبغوي في “مسند ابن الجعد” رقم (3403)؛ بسندٍ لا بأس به.
وعزاه السيوطي إلى عبد بن حميد، وابن أبي حاتم. “الدر المنثور” (6/ 594).
(4) أخرجه: ابن جرير في “تفسيره” (12/ 588) رقم (37266)، والحاكم في “المستدرك” (2/ 523) وصححه على شرط الشيخين.
وعزاه السيوطي في “الدر المنثور” (6/ 593) إلى: الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

(1/53)


شِدَّة، فهو يكابد ذلك”.
وعلى هذا: “الكَبَدُ”: من مكابدة الأمر، وهي معاناة شدَّته ومشقَّته. والرجلُ يكابدُ الليل: إذا قاسى هَوْلَه وصعوبته.
و”الكَبَدُ”: شِدَّة الأمر، ومنه تكبَّد اللَّبَنُ: إذا غَلُظَ واشتدَّ. ومنه “الكَبِد”؛ لأنِّها دَمٌ يَغْلُظ ويَشْتدُّ.
وانتصابُ القامة والاستواء من ذلك، لأنَّه إنَّما يكون عن قوَّةٍ وشدَّةٍ.
فالإنسان مخلوقٌ في شِدَّةٍ؛ بكونه (1) في “الرَّحِم”، ثُمَّ في القِمَاط (2) والرِّبَاط، ثُمَّ هو على خطرٍ عظيمٍ عند بلوغه حال التكليف، ومكابدة المعيشة، والأمر والنهي، ثُمَّ مكابدة الموت وما بعده في البرزخ، وموقف القيامة، ثُمَّ مكابدة العذاب والنَّار، ولا راحة له إلا في الجنَّة.
وفُسِّر “الكَبَدُ” بشدَّةِ الخَلْق، وإحكَامه، وقوَّته، ومنه قول لبيد (3) :
يا عينُ (4) هَلَّا بَكَيْتِ أَرْبَدَ، إذْ … قُمْنَا وقامَ الخُصُومُ في كَبَدِ؟
أي: في شِدَّةٍ وعَنَاءٍ (5) .
__________
(1) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: فكونه.
(2) “القِمَاط”: الخرقة العريضة التي تُلَفُّ على الصبي في المهد، وتُشَدُّ على أعضائه لضمِّها.
انظر: “لسان العرب” (11/ 303).
(3) “ديوان لبيد بن ربيعة” بشرح الطوسي (71).
(4) في جميع النسخ: عيني، بدل: (يا عين)، والتصحيح من الديوان.
(5) هذا التفسير لهذا البيت يصلح شاهدًا للمعنى السابق في تفسير “الكَبَد” وهو مكابدة الأمر، وليس لتفسيره بشدَّة الخلق وإحكامه.

(1/54)


وهذا يشبه قوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الإنسان: 28] , قال ابن عباس: “أي: خَلْقَهُم” (1).
وقال أبو عبيدة (2): “الأَسْر”: شِدَّةُ الخَلْق، يقال: فَرَسٌ شديدُ الأَسْر”. قال: “وكُلُّ شيءٍ شَدَدْتَهُ من قَتَبٍ أو غَبِيطٍ (3) فهو مأْسُور” (4).
وقال المُبرِّد (5): “”الأَسْر”: القُوَى كلُّها” (6).
__________
(1) وهو قول: مجاهد، وقتادة، والفرَّاء، وابن قتيبة، والزجَّاج، ومقاتل وغيرهم.
وعليه أكثر المفسرين، واختاره ابن جرير الطبري وغيره.
انظر: “جامع البيان” (12/ 375)، و”زاد المسير” (8/ 151)، و”الجامع” (19/ 149)، و”تفسير الماوردي” (6/ 173).
(2) تصحفت في (ن): أبو عبيد!
وهو مَعْمَر بن المثنَّى، أبو عبيدة التيمِيّ البصري، العلامة البحر، من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها، وكان علي بن المديني يحسن ذكره ويصحح روايته، رُمي بالشعوبية، وأنه من الخوارج، وأشياء أُخَر، قارَبَتْ مصنفاته مئتي مصنَّفٍ، توفي سنة (210 هـ) رحمه الله.
انظر: “إنباه الرواة” (3/ 276)، و”نزهة الألباء” (104)، و”السير” (9/ 445).
(3) في جميع النسخ: أو غيره، والتصحيح من “مجاز القرآن”.
قال المبرِّد: “و”الغَبِيط”: مَرْكَبٌ من مراكب النساء”. “الكامل” (2/ 965).
(4) “مجاز القرآن” لأبي عبيدة (2/ 280).
(5) هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثُّمَالي، أبو العباس المبرِّد، إمام البصريين،
وشيخ النُّحَاة، كان كثير الحفظ، فصيح اللسان، غزير الأدب، مقدَّمًا عند الوزراء والأكابر، كتبه كثيرةٌ ونافعةٌ، من ذلك: “المقتضَب”، و”التعازي والمراثي”، و”الكامل” ومن أمثال أهل المغرب: من لم يقرأ “الكامل” فليس بكامل، توفي بالكوفة سنة (286 هـ) رحمه الله.
انظر: “نزهة الألباء” (217)، و”إنباه الرواة” (3/ 241).
(6) قال المبرِّد: “”الأَسْرُ”: الشَّدُّ بالقِدِّ حتى يُحْكَم، وإنما قيل “الأسير” مِنْ ذا؛ =

(1/55)


وقال الليث (1) : “”الأَسْر”: قوَّةُ المفاصِل والأوصال، وشدَّ اللهُ أَسْر فلان، أي: قوَّى (2) خلْقَه، وكلُّ شَيئَيْن جُمِعَ طَرَفَاهُما فشُدَّ أحدُهُما بالآخَر فقد أَسِرَ” (3) .
وقال الحسن: “شدَدْنا أوصالهم بعضَها إلى بعضٍ بالعُرُوقِ والعَصَبِ” (4) .
وقال مجاهد: “هو الشَّرْجُ (5) ؛ يعني: موضع [مَصَرَّتَي] (6) البول
__________
= لأنه كان يُشَدُّ بالقِدِّ. ثم قالت العرب لكل محكَم: شديدُ الأسْر، قال الله تبارك وتعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الإنسان: 28] “.
“الكامل” (2/ 964 – 965).
(1) هو الليث بن المظفَّر الخراساني، اللغوي النحوي، صاحب الخليل بن أحمد الفراهيدي، أملى عليه كتاب “العين”، وسدَّد الليث أماكن فيه، وقيل: بل لم يتمه الخليل وأكمله الليث فظهر الخلل لذلك، وكان رجلًا صالحًا، ولم تؤرخ وفاته.
انظر: “إنباه الرواة” (3/ 42)، و”البلغة” للفيروزابادي (194).
(2) في (ك) و (ح) و (م): قوة.
(3) انظر: كتاب “العين” (7/ 293 – 294).
(4) وهو قول: أبي هريرة رضي الله عنه، وقتادة، والربيع.
انظر: “جامع البيان” (12/ 375)، و”المحرر الوجيز” (15/ 253)، و”الجامع” (19/ 149).
(5) بسكون الراء وفتحها, لغتان صحيحتان، وهو من أسماء: الفَرْج، وبعضهم يخصُه بالدُّبُر على تفصيل في ضبطه، وقيل غير ذلك.
انظر: “لسان العرب” (7/ 71).
(6) سقط من جميع النسخ، واستدركته من المصادر.

(1/56)


والغائط، إذا خرج الأذَى تَقَبَّضَتَا” (1).
والمقصود أنَّه – سبحانه – أقسَمَ في “سورة البلد” على حال الإنسان، وأقسَمَ – سبحانه – بالبلد الأمين وهو “مكة” أمُّ القُرَى، ثُمَّ أقسَمَ بالوالد وما ولد، وهو آدمُ وذريته في قول جمهور المفسِّرين.
وعلى هذا فقد تضمَّن القَسَمُ: أصلَ المكان، وأصلَ السكَّان؛ فمرجع البلاد إلى “مكة”, ومرجع العباد إلى آدم.
وقوله: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2)} فيه قولان:
أحدهما: أنَّه من الإحلال، وهو ضِدُّ الإحرام (2).
والثاني: أنَّه من الحُلُول، وهو ضِدُّ الظَّعْن (3).
__________
(1) في (ك) و (ن): يقبضا، وسقط من (ز)، والمثبت من المصادر.
وانظر قول مجاهد في: “تفسير البغوي” (8/ 300)، و”الوسيط” للواحدي (4/ 406)، و”تفسير السمعاني” (6/ 123)، و”الجامع” للقرطبي (19/ 149).
وبمثله قال: ابن الأعرابي، وغلام ثعلب من أئمة اللغة.
انظر: “ياقوتة الصراط” لغلام ثعلب (548)، و”تهذيب اللغة” (13/ 61)، و”تاج العروس” (10/ 51).
(2) وهو قول: الحسن، وعطاء.
انظر: “تفسير الماوردي” (6/ 274)، و”زاد المسير” (8/ 251).
(3) لم يُعْزَ هذا القول لأحد من السلف، وإنما ذكره الماوردي احتمالًا، وقال موجهًا له: “لأنها نزلت عليه وهو بمكة لم يُفرض عليه الإحرام، ولم يؤذن له في القتال، وكانت حرمة مكة فيها أعظم، والقَسَم بها أفخم”. “النكت والعيون” (6/ 274 – 275).
وذكره أيضًا: السمعاني في “تفسيره” (6/ 225)، وابن عطية في “المحرر الوجيز” (15/ 454)، والقرطبي في “الجامع” (20/ 61).
واختاره وانتصر له: أبو حيَّان في “البحر المحيط” (8/ 469)، والشهاب =

(1/57)


فإن أريد به المعنى الأوَّل فهو حالُ ساكِنِ البلد، بخلاف المحرم الذي يحجُّ ويعتمر ويرجع. ولأنَّ أَمْنَهُ إنَّما تظهر به النِّعمة عند الحِلِّ (1) من الإحرام، وإلا ففي حال الإحرام هم في أَمَانٍ، والحُرْمةُ هناك للفعل لا للمكان.
والمقصود إنَّما هو ذكر حُرْمة المكان، وهي إنَّما تظهر بحال الحَلَال الذي لم يتلبَّس بما يقتضي أَمْنَهُ، ولكن على هذا ففيه تنبيهٌ؛ فإنَّه إذا أقسَمَ به، وفيه الحلال، فإذا كان فيه الحرام فهو أَوْلَى بالأمْنِ والتعظيم.
وكذلك إذا أُرِيد المعنى الثاني وهو الحلول، فهو متضمِّنٌ لهذا
__________
= الخفاجي، والقاسمي في “محاسن التأويل” (7/ 324).
قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور – رحمه الله – في “التحرير والتنوير” (15/ 348):
“وحكى ابن عطية عن بعض المتأولين: أن معنى “وأنت حِلٌّ بهذا البلد” أنه حالٌّ، أي: ساكنٌ بهذا البلد. وجعله ابن العربي قولًا ولم يَعْزُه إلى قائل، وحكاه القرطبي والبيضاوي كذلك، وهو يقتضي أن تكون جملة “وأنتَ حِلٌّ” في موضع الحال من ضمير “أُقْسِمُ”، فيكون القَسَم بالبلد مقيدًا باعتبار كونه بلَدَ محمدٍ – صلى الله عليه وسلم -، وهو تأويلٌ جميلٌ لو ساعد عليه ثبوت استعمال (حِلّ) بمعنى: حَالّ أي: مقيم في مكان، فإن هذا لم يرد في كتب اللغة: الصحاح، واللسان، والقاموس، ومفردات الراغب. ولم يعرج عليه صاحب “الكشاف”، ولا أحسِبُ إعراضه عنه إلا لعدم ثقته بصحة استعماله.
وقال الخفاجي: “والحِلّ: صفة أو مصدر بمعنى الحال هنا على هذا الوجه، ولا عبرة بمن أنكره لعدم ثبوته في كتب اللغة”، وكيف يقال: لا عبرة بعدم ثبوته في كتب اللغة، وهل المرجع في إثبات اللغة إلا كتبُ أئمتها! “.
(1) في (ز): المحل.

(1/58)


التعظيم، مع تضمُّنِه لأمرٍ آخر وهو: إقسامُهُ ببلده المشتمِل على رسوله وعبده، فهو خير البِقاع وقد اشتمل على خير العباد.
فجَعَلَ بيتَهُ هدىً للناس، ونبيَّهُ إمامًا وهاديًا لهم، وذلك من أعظم نِعَمِه وإحسانِه إلى خلقه، كما هو من أعظم آياته ودلائل وحدانيتِه وربوبيتِه، فمن اعتبر حالَ بيتِهِ وحالَ نبيِّهِ وجد ذلك من أظهر أدلَّة التوحيد والربوبية.
وفي الآية قولٌ ثالثٌ (1) ؛ وهو أنَّ المعنى: وأنتَ مُسْتَحَلٌّ قَتْلُكَ
__________
(1) وفي الآية – أيضًا – قولٌ رابعٌ هو أولى الأقوال بالنقل؛ لأنه المنقول عن السلف، وعليه أكثر المفسرين، وهو: أن المراد بالآية تحليل مكة للنبيِّ – صلى الله عليه وسلم – بحيث يفعل فيها ما يحرم على غيره من قتل وسَلْب وغير ذلك، وقد حصل ذلك يوم الفتح فإنه قتل: عبدَ الله بن خَطَل، ومِقْيَسَ بن صُبَابة، وغيرهما.
وحينئذٍ تكون الآية وعدًا للنبيِّ – صلى الله عليه وسلم – بفتح مكة، وتبشيرًا له بحصول ذلك في المستقبل.
وهذا قول: ابن عباس، ومجاهد، والسُّدِّي، وابن زيد، وقتادة، وعطاء، والضحَّاك، وأبي صالح، وعطية، والحسن، وسعيد بن جبير.
بل إن جماعة من المفسرين لم يذكروا غير هذا التفسير للآية، كما فعل: ابن جرير في “جامع البيان” (12/ 585)، والواحديُّ في “الوسيط” (4/ 488)، وابن كثير في “تفسيره” (8/ 402).
ومما يؤكد هذا المعنى ما جاء في حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قال النبي – صلى الله عليه وسلم – يوم افتتح مكة: “لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونيَّةٌ، وإذا استُنفِرتُم فانفِروا، فإنَّ هذا بلدٌ حرَّمَهُ الله يوم خلق السمواتِ والأرض، وهو حرامٌ بحرمةِ اللهِ إلى يوم القيامة، وإنه لم يَحِلَّ القتالُ فيه لأحدٍ قبلي، ولم يَحِلَّ لي إلا ساعةً من نهارٍ، فهو حرامٌ بحرمة الله إلى يوم القيامة … الحديث”.
أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (1737)، ومسلم في “صحيحه” رقم =

(1/59)


وإخراجُك من هذا البلد الأمين؛ الذي يأْمَنُ فيه الطير والوحش والجاني، وقد استَحَلَّ قومُكَ فيه حُرْمتَكَ، وهم لا يَعْضِدُون به شجرةً، ولا يُنفِّرون به صيدًا. وهذا مروي عن شرحبيل بن سعد (1) .
وعلى كلِّ حالٍ فهي جملة اعتراضٍ في أثناء القَسَم، موقعها من أحسن موقعٍ وأَلْطَفه.
فهذا القَسَمُ متضمِّنٌ لتعظيم بيته ورسوله.
ثُمَّ أنكر – سبحانه – على الإنسان ظنَّه وحُسْبَانه أن لن يقدر عليه أحدٌ من خلقه في هذا الكَبَدِ والشدَّةِ والقوَّةِ التي يكابد بها الأمور، فإنَّ الذي خلقه كذلك (2) أَوْلَى بالقدرة منه وأحقُّ، وكيف يُقْدِرُ غيرَهُ من لم يكن قادرًا في نفسه؟! فهذا برهانٌ مستقِلٌّ بنفسه، مع أنَّه متضمِّنٌ للجزاء
__________
= (1353).
وانظر – أيضًا -: “الكشاف” (4/ 757)، و”معالم التنزيل” (8/ 429)، و”زاد المسير” (8/ 250 – 251)، و”الجامع” للقرطبي (20/ 60).
(1) أخرجه: سعيد بن منصور، وابن المنذر، كما قال السيوطي في “الدر المنثور” (6/ 593).
وعَزَا السمعاني هذا القول في “تفسيره” (6/ 225) إلى: القفَّال!
وانظر: “المحرر الوجيز” (15/ 454)، و”معالم التنزيل” (8/ 429)، و”الجامع” (20/ 61).
وشُرَحْبيل بن سعد هو: أبو سعد الخَطْمِي المدني، مولى الأنصار، تابعي أخباري، لم يكن أحدٌ أعلم بالمغازي والبَدْريين منه، لكنه ضعيف الحديث على قلةٍ في الرواية, توفي سنة (123 هـ) رحمه الله.
انظر: “تهذيب الكمال” (12/ 413)، و”إكمال التهذيب” لمغلطاي (6/ 227).
(2) في (ز) و (ن): لذلك.

(1/60)


الذي مناطُهُ: القدرةُ والعلمُ، فنبَّه على ذلك بقوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)}، وبقوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)} فيُحْصِي عليه ما عَمِلَ من خيرٍ وشرٍّ، ولا يقدر عليه فيجازيه بما يستحقه؟
ثُمَّ أنكر – سبحانه – على الإنسان قوله: {أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6)}، وهو الكثير الذي يُلَبَّدُ بعضُه فوق بعضٍ، فافْتَخَر هذا الإنسان بإهلاكه وهو: إنفاقُهُ في غير وجهه، إذ لو أنفقه في وجُوهِهِ التي أُمِرَ بإنفاقه فيها، وَوَضْعِهِ مواضعه؛ لم يكن ذلك إهلاكًا له، بل تقرُّبًا به إلى الله – عزَّ وجلَّ – وتوصُّلًا به إلى رِضَاهُ وثوابِهِ، وذلك ليس بإهلاكٍ له. فأنكر – سبحانه – افتخارَه وتبجُّحَهُ بإنفاق المال في شهواته وأغراضه التي إنفاقُه فيها إهلاكٌ له.
ثُمَّ وبَّخَهُ – سبحانه – بقوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)}، وأتى ها هنا بـ “لم” الدالَّة على المُضِيِّ (1)، في مقابلة قوله: {أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6)}؛ فإنَّ ذلك في الماضي، أَفَيَحْسَبُ أن لم يَرَهُ أحدٌ فيما أنفقه وفيما أهلكه؟!
ثُمَّ ذكر – سبحانه – برهانًا مقرِّرًا أنَّه أحقُّ بالرؤية وأَوْلَى من هذا العبد الذي له عينان يبصر بهما، فكيف يعطيه البصر من لا يراه؟ وكيف يعطيه آلة البيان – من الشفتين واللِّسَان، فينطقُ، ويبين عمَّا في نفسه، ويأمر وينهى – من لا يتكلَّم، ولا يُكَلِّمُ، ولا يخاطِب، ولا يأمر، ولا ينهى؟! وهل كمال المخلوق مستفادٌ إلا من خالقه؟ ومن جعل غيره عالمًا بنجْدَيْ الخيرِ والشرِّ – وهما طريقاهما – أَوْلَى وأحقُّ بالعلم منه.
__________
(1) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: المعنى.

(1/61)


ومن هداهُ إلى هذين الطريقين، كيف يليق به أن يتركه سُدَىً، لا يعرِّفُه ما يضرُّهُ وما ينفعُه في معاشِهِ ومعادِهِ؟ وهل النُّبوَّةُ والرِّسَالةُ إلا لتكميل هدايته النَّجْدَين؟! فدلَّ هذا كلُّه على إثبات الخالق، وصفات كماله، وصدق رسله، ووعده، ووعيده (1) .
وهذه أصول الإيمان التي اتفقت عليها جميع الرُّسُلِ من أوَّلهم إلى آخرهم، إذا تأمَّلَ الإنسانُ حالَهُ وخَلْقَهُ وجَدَهُ من أعظم الأدلَّة على صحتها وثبوتها، فتكفي الإنسانَ فكرتُهُ في نفسه وخَلْقه.
والرُّسُلُ بُعِثُوا مذكِّرين بما في الفِطَرِ والعقول، مُكَمِّلين له؛ لتقوم على العبد حُجَّةُ الله بفطرته ورسالته.
ومع هذا (2) فقامت عليه حُجَّتُه، ولم يقتحم العقبة التي بينه وبين ربِّه، التي لا يصل إليه حتَّى يقتحمَها:
1 – بالإحسان إلى خلقه بفَكِّ الرقبة، وهو تخليصها من الرِّقِّ، ليخلِّصَهُ الله من رِقِّ نفسه، ورِقِّ عدوِّه.
2 – وإطعامِ المسكينِ واليتيمِ في يوم المجاعة.
3 – وبالإخلاص له – سبحانه – بالإيمان الذي هو خالصُ حقِّه عليه، وهو تصديقُ خَبَره، وطاعةُ أمره ابتغاءَ وجهِهِ.
4 – وبنصيحة غيره؛ بأنْ يوصيه بالصبر والمرحمة، ويقبَل وصيةَ من أوصاه بهما، فيكون صابرًا رحيمًا في نفسه، معينًا لغيره على الصبر
__________
(1) ساقط من (ن).
(2) ساقط من (ن).

(1/62)


والرحمة، دالًّا لغيره عليهما (1) .
فمن لم يقتحم هذه “العقبة”؛ وهلك دونها: هلَكَ منقطِعًا عن ربِّه، غيرَ واصلٍ إليه، بل محجوبًا عنه.
والنَّاس قسمان:
1 – ناجٍ؛ وهو (2) من قطع “العقبة”، وصار وراءها.
2 – وهالك؛ وهو من دون “العقبة”، وهم أكثر الخلق.
ولا يقتحم هذه “العقبة” إلا المُضَمِّرُون (3) ، فإنَّها عقبةٌ كَؤُودٌ شاقَّةٌ، لا يقطعها إلا خفيفُ الظَّهْر، وهم “أصحاب الميمنة”.
والهالكون (4) دون “العقبة” الذين لم يُصَدِّقُوا الخبر، ولم يطيعوا الأمر، وهم “أصحاب المَشْأمة” = {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) } قد أَطْبَقَت عليهم؛ فلا يستطيعون الخروج منها؛ كما أَطْبَقَت عليهم أعمالُ الغَيِّ،
__________
(1) “دالًّا لغيره عليهما” ساقط من (ح) و (م).
(2) في النسخ: وهم، وما أثبته أنسب للسياق.
(3) جمع “مُضَمِّر”، وهو في الأصل يطلق على الذي يُضَمِّر خيلَه لغزوٍ أو سباقٍ، وتَضْمير الخيل: أن يظاهر عليها بالعَلَف حتى تَسْمَن، ثم لا تُعْلَف إلا قوتًا، حتى إذا قَرُب وقت الغزو أو السباق شُدَّت عليها سُرُوجها، وجُلِّلَت بالأجِلَّة حتى تعرق تحتها، فيذهب رَهَلُها، ويشتدُّ لحمُها، وبذلك يُؤمَنُ عليها من البُهْر الشديد عند حُضْرها ولم يقطعْها الشدُّ.
انظر: “لسان العرب” (8/ 85)، و”تاج العروس” (12/ 403).
ومراد المؤلف ها هنا: أنهم الذين يستعدون بالعمل الصالح لاستقبال ما أمامهم من الحساب والجزاء، كما تُضمر الخيل استعدادًا للمِضْمَار.
(4) في جميع النسخ بالإفراد: والهالك، والصواب ما أثبته ليستقيم الكلام.

(1/63)


والاعتقاداتُ الباطلةُ المُنَافيةُ لما أخبرت به الرُّسُل، فلم تَخْرُج قلوبُهم منها، كذلك أطبقت عليهم (1) هذه النَّار، فلم تستطع أجسامُهم الخروجَ منها.
فتأمَّلْ هذه السورة على اختصارها، وما اشتملت عليه من مطالب العلم والإيمان, وبالله التوفيق.
وأيضًا فإنَّ طريقةَ القرآن: يذكر العلمَ والقدرةَ، تهديدًا وتخويفًا؛ لِيُرتِّبَ (2) الجزاءَ عليهما، كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا} [الأنعام: 65] , وقال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) } إلى قوله: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) } [العلق: 9 – 10، 14] , وقال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105] , وقال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) } [الزخرف: 80] وهذا كثيرٌ جدًّا في القرآن.
وليس المراد به مجرَّد الإخبار بالقدرة والعلم، لكنَّ الإخبارَ – مع ذلك – بما يترتَّبُ عليهما من الجزاء بالعدل، فإنَّه إذا كان قادرًا أمكن مجازاته، وإذا كان عالمًا أمكن ذلك بالقسط والعدل، ومن لم يكن قادرًا لم يمكن مجازاته. وإن كان قادرًا لكنه غير عالمٍ بتفاصيل الأعمال ومقادير جزائها؛ لم يُجَازِ بالعدل.
والرَّبُّ – سبحانه وتعالى – موصوفٌ بكمالِ القدرة، وكمالِ العلم، فالجزاء منه موقوفٌ على مجرَّدِ مشيئَتِهِ وإرادته، فحينئذٍ يجب على
__________
(1) ساقط من (ن).
(2) في (ن): لترتيب، وفي (ح) و (م): لترتب.

(1/64)


العاقل طلب النَّجَاة منه بالإخلاص والإحسان, وهو اقتحام “العقبة” المتضمِّن للتوبة إلى الله تعالى، والإحسان إلى خلقه.
وقال تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)}، وهو فعلٌ ماضٍ، ولم يكرِّر معه “لا”:
إمَّا استعمالًا لأداة “لا” كاستعمال “ما”.
وإمَّا إجراءً لهذا الفعل مجرى الدعاء، نحو: فلا سَلِمَ ولا عَاشَ، ونحو ذلك.
وإمَّا لأنَّ “العقبةَ” قد فُسِّرت بمجموع أمورٍ؛ فاقتحامها فِعْلُ كُلِّ واحدٍ منها، فأغنى ذلك عن تكريرها، فكأنَّه قال: فلا فَكَّ رَقَبةً، ولا أَطْعَمَ، ولا كان من الذين آمنوا.
وقراءة من قرأ: {فَكَّ رَقَبَةً} – بالفعل (1) – كأنَّها أرجحُ من قراءة من قرأها بالمصدر؛ لأنَّ قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12)} على حدِّ قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)} [الحاقة: 3] , {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17)} [الانفطار: 17] , {وَمَا أَدْرَاكَ مَاهِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)} [القارعة: 10، 11] ونظائره، تعظيمًا لشأن “العقبة” وتفخيمًا لأمرها.
وهي جملة اعتراض بين المفسِّر والمفسَّر، فإنَّ قوله: {فَكُّ
__________
(1) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي: فَكَّ رقبةً أو أطْعَمَ .. بالفعل الماضي.
وقرأ الباقون: فكُّ رقبةٍ أو إطعامٌ … بالمصدر.
انظر: “المبسوط في القراءات العشر” للأصبهاني (473)، و”التذكرة في القراءات الثمان” لابن غلبون (2/ 628)، و”الإقناع في القراءات السبع” لابن الباذش (2/ 812).

(1/65)


رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ} إلى قوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 13 – 17] تفسيرٌ لاقتحام “العقبة”، وليس هو تفسيرًا لنفس “العقبة”، فإنَّ “العقبةَ” مكانٌ شاقٌ كَؤُودٌ، يَقْتَحِمُه النَّاسُ حتَّى يَصِلُوا إلى الجنَّة، واقتحامه بفعل هذه الأمور، فمن فعلها فقد اقتحم “العقبة”.
ويدلُّ على ذلك (1) قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا}، وهذا عطفٌ على قوله: {فَكُّ رَقَبَةٍ (13) }، والأحسن تناسب هذه الجُمل المعطوفة التي هي تفسير لما ذُكِر أوَّلًا.
وأيضًا؛ فإنَّ من قرأها بالمصدر المضاف فلابدَّ له من تقديرٍ، وهو: ما أدراك ما اقتحامُ “العقبة”؟ أو: اقتحامُها فكُّ رقبةٍ.
وأيضًا؛ فمن قرأ بالفعل فقد طابق بين المفسَّر وجميع ما فسَّره، ومن قرأها بالمصدر فقد طابق بين المفسَّر (2) وبعض ما فسَّره، فإنَّ التفسير:
إنْ كان لقوله: {اقْتَحَمَ} طابَقَهُ بقوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} وما بعده؛ دون {فَكُّ رَقَبَةٍ (13) } وما يليه.
وإنْ كان لقوله: {الْعَقَبَةُ (12) } طابَقَهُ: {فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ} دون قوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} وما بعده.
وإنْ كانت المطابقة حاصلةً معنىً، فحصولها لفظًا ومعنىً أَتَمُّ وأحسن.
__________
(1) في (ن): عليه، بدل: على ذلك.
(2) من قوله: “وجميع ما فسره. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ز).

(1/66)


واختُلِفَ في هذه “العقبةُ”، هل هي في الدنيا أو في الآخرة (1) ؟
فقالت طائفةٌ: “العقبة” ها هنا مَثَلًا ضربَهُ اللهُ – تعالى – لمجاهدة النَّفْس والشيطان في أعمال البِرِّ. وحَكَوا ذلك عن: الحسن، ومقاتل.
قال الحسن: “عقبةٌ – واللهِ – شديدةٌ: مجاهدة الإنسان نفسَهُ، وهواهُ، وعدوَّهُ، والشيطانَ”.
وقال مقاتل: “هذا مَثَلٌ ضربه الله” (2) ؛ يريد أنَّ المعتِقَ رقبةً، والمُطْعِمَ اليتيمَ والمسكينَ، يُقَاحِمُ نفسَهُ وشيطانَهُ، مثل مَنْ يتكلَّف صعود العقبة، فشبَّهَ المعتِق رقبةً في شدَّته عليه بالمكلَّفِ صعودَ العقبة. وهذا قول أبي عبيدة (3) .
وقالت طائفةٌ: بل هي عقبةٌ حقيقةً، يصعدها النَّاس (4) .
قال عطاء: “هي عقبة جهنَّم”.
وقال الكلبي: “هي عقبةٌ بين الجنَّة والنَّار”. وهذا لعلَّه قول مقاتل (5) : “إنَّها عقبة جهنَّم”.
وقال مجاهد، والضحَّاك: “هي “الصِّرَاطُ”، يُضْرَبُ على جهنَّم”.
__________
(1) على سبعة أقوال، مردُّها إلى ما ذكره المؤلف هنا، وانظر: “زاد المسير” (8/ 254)، و”النكت والعيون” للماوردي (6/ 278).
(2) “تفسير مقاتل” (3/ 486).
(3) انظر: “مجاز القرآن” (2/ 299).
(4) في (ن): يصعد إليها الناس.
(5) هذا سبق قلم، والمقصود: عطاء. وقد سبق للمؤلِّف ذكر قول مقاتل بأنه “مَثَلٌ ضربه الله” كما هو في تفسيره.

(1/67)


وهذا لعلَّه قول الكلبي.
وقولُ هؤلاء أصحُّ نظرًا، وأثرًا, ولغةً.
قال قتادة: “إنَّها عقبةٌ شديدةٌ، فاقتحِمُوها بطاعة الله”.
وفي أثرٍ معروفٍ: “إنَّ بين أيديكم عقبةً كؤودًا لا يَقْتحِمُها إلَّا المُخِفُّون” (1) ؛ أو نحو هذا، فإنَّ اللهَ – تعالى – سمَّى (2) الإيمانَ به، وفعلَ ما أَمَرَ، وتركَ ما نَهَى: عقبةً.
وكثيرًا ما يقع في كلام السلف الوصية بالتضمُّر لاقتحام “العقبة”، وقال بعضُ الصحابة وقد حضره الموتُ، فجعل يبكي، ويقول: “ما لي لا أبكي وبين يديَّ عقبةٌ، أَهبِطُ منها إمَّا إلى جنَّةٍ، وإمَّا إلى نارٍ”.
فهذا القول أقرب إلى الحقيقةِ (3) ، والآثار السلفيةِ، والمألوفِ من عادةِ القرآن في استعماله {وَمَا أَدْرَاكَ} في الأمور الغائبة العظيمة كما تقدَّم. والله أعلم.
__________
(1) أخرجه: البزار في “البحر الزخار” (10/ 55) رقم (4118) وصححه، والحاكم في “المستدرك” (4/ 573) وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي في “شعب الإيمان” (7/ 309)، وتمَّام في “فوائده” رقم (1642)، وابن الأعرابي في “الزهد” رقم (110)، وأبو نعيم في “الحلية” (1/ 226)، من حديث أبي الدرداء – رضي الله عنه -.
وصححه: المنذري في “الترغيب”، والهيثمي في “مجمع الزوائد” (10/ 263)، والعجلوني في “كشف الخفاء” (2/ 109)، والألباني في “صحيح الترغيب” (3/ 237)، و”السلسلة الصحيحة” رقم (2480).
(2) في جميع النسخ: وإن سمَّى الله! والمثبت أنسب لدلالة السياق عليه.
(3) “إلى الحقيقة” ساقط من (ن).

(1/68)


فصل

ومن ذلك إقسامُ الله – سبحانه وتعالى – بالتِّين {وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)} [التين: 1 – 3] , فأَقْسَم – سبحانه – بهذه الأمكنة الثلاثة العظيمة التي هي مظاهر أنبيائه ورسله أصحابِ الشرائع العِظَام، والأُمَمِ الكثيرة.
فـ “التِّينُ” و”الزيتونُ”: المراد به نفس الشجرتين المعروفتين، ومنبتهما, وهو أرض بيت المقدس، فإنَّها أكثر البقاع زيتونًا وتينًا.
وقد قال جماعة من المفسِّرين: إنَّه – سبحانه – أقسَمَ بهذين النَّوعَين من الثمار لمكان العبرة فيهما، فإنَّ “التِّينَ” فاكهةٌ مُخَلَّصةٌ من شوائب التنغيص، لا عَجَمَ (1) له، وهو على مقدار اللُّقْمَة، وهو: فاكهةٌ، وقوتٌ، وغذاءٌ، وأَدَمٌ. ويدخل في الأدوية، ومزاجه من أعدل الأمزجة، وطبعه طبع الحياة: الحرارة، والرطوبة. وشكله من أحسن الأشكال، ويدخل أكلُهُ والنظرُ إليه في باب “المفرِّحات” (2). وله لَذةٌ يمتاز بها عن سائر الفواكه، ويزيد في القوَّة، ويوافق البَاءَةَ، وينفع من “البَوَاسِير” (3)
__________
(1) واحدته: عَجَمَة، وهي: نوى كلِّ شيءٍ كالزبيب والرمَّان والبَلَح.
انظر: “لسان العرب” (9/ 71).
(2) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: المرخات.
(3) “البواسير”: جمع باسُور، ويقال: باصور، لفظ أعجمي، يدل على علةٍ معروفة
تحدث للمَقْعَدة، وقد يحدث في أيِّ موضع بالبدن يقبل الرطوبة؛ لأنه ورمٌ مؤْذٍ.
انظر: “لسان العرب” (1/ 406).

(1/69)


و”النِّقرِس” (1) ، ويؤكل رَطْبًا ويابسًا.
وأمَّا “الزيتون” ففيه من الآيات ما هو ظاهرٌ لمن اعتبر، فإنَّ عُودَه يُخرِجُ ثمرًا، يُعصَر منه هذا الدُّهن الذي هو مادَّةُ النُّور، وصبْغٌ للآكلين، وطِيْبٌ، ودَوَاءٌ، وفيه من مصالح الخلق ما لا يخفى، وشَجَرُهُ باقٍ على ممرِّ السِّنين المتطاولة، وورقُهُ لا يسقط (2) .
وهذا الذي قالوه حقٌّ، ولا ينافي أن يكون مَنْبَتُهُ مرادًا (3) ،
__________
(1) “النَّقْرِس”: بكسر النون والراء، داءٌ معروف – أيضًا – يأخذ في الأرجل والمفاصل.
انظر: “لسان العرب” (14/ 259).
وقد ورد في ذلك حديث أبي ذرٍّ – رضي الله عنه -، أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال في “التين”: “لو قلتُ إنَّ فاكهةً نزلت من الجنَّة؛ قلتُ هذه؛ لأنَّ فاكهة الجنَّة بلا عَجَم، فكُلُوها، فإنها تقطع البواسير، وتنفع من النِّقْرِس”.
قال الحافظ ابن حجر: “أخرجه أبو نعيم في “الطب”، والثعلبي، من حديث أبي ذرٍّ، وفي إسناده من لا يعرف”. “تخريج أحاديث الكشاف” (4/ 773).
(2) انظر: “الوسيط” للواحديِّ (4/ 523)، و”روح المعاني” للألوسي (15/ 394 – 395).
(3) قال النحَّاس: “وهذا قولٌ يخالف ظاهر الآية، ولم ينقل عمَّن يكون قوله حُجَّة”.
انظر: “تفسير السمعاني” (6/ 253)، و”الجامع” (20/ 111).
قال ابن جرير الطبري: “والصواب من القول في ذلك عندنا، قول من قال: “التين”: هو التين الذي يؤكل، و”الزيتون”: هو الزيتون الذي يعصر منه الزيت؛ لأنَّ ذلك هو المعروف عند العرب، ولا يعرف جبل يسمَّى: تِينًا, ولا جبل يقال له: زيتون، إلا أن يقول قائل: أقسم ربُّنا – جل ثناؤه – بالتين والزيتون، والمراد من الكلام: القَسَم بمنابت التين، ومنابت الزيتون، فيكون ذلك مذهبًا، وإن لم يكن على صحة ذلك – أنه كذلك – دلالةٌ في ظاهر =

(1/70)


فإنَّ مَنْبَتَ هاتين الشجرتين حقيقٌ بأن يكون من جملة البقاع الفاضلة الشريفة، فيكون الإقسامُ قد تناول الشجرتين ومنبتَهُما، وهو مَظْهَر عبدِ اللهِ ورسولِه وكلمتِه وروحِه: عيسى بن مريم، كما أنَّ “طُور سينين” مَظْهَرُ عبدِهِ ورسولِهِ وكليمِهِ: موسى، فإنَّه الجبلُ الذي كلَّمَهُ عليه وناجاه، وأرسله إلى فرعون وقومه.
ثُمَّ أقسم بـ “البلد الأمين” – وهو مكة – مَظْهَرِ خاتم أنبيائِه ورسلِه، وسيِّدِ ولدِ آدم.
وترقَّى في هذا القَسَم من الفاضل إلى الأفضل، فبدأ بموضع مَظْهَر المسيح، ثُمَّ ثنَّى بموضع مَظْهَر الكليم، ثُمَّ ختم بموضع مظهر عبده ورسوله، وأكرم الخلق عليه.
__________
= التنزيل، ولا من قول من لا يجوز خلافه؛ لأنَّ دمشق بها منابت التين، وبيت المقدس به منابت الزيتون”. “جامع البيان” (12/ 633).
وما ذهب إليه ابن جرير – من أنَّ المراد بهما نفس الشجرتين المعروفتين – هو قول أكثر السلف، وهو منقول عن: ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وإبراهيم النخعي، وعطاء، وجابر بن زيد، ومقاتل، والكلبي. واختاره جماعة من المفسرين منهم القرطبي في “الجامع” (20/ 111).
وما ذهب إليه ابن القيم منقول عن: كعب الأحبار، وعكرمة وغيرهما، وبه تتضح المناسبة بينه وبين ما بعده من الأماكن التي أقسم بها، ويكون “الكلام على هذا إمَّا: على حذف مضافٍ، أو على التجوُّز بأن يكون قد تجوَّز بالتين والزيتون عن منبتيهما، وشاع ذلك”، وهذا اختيار جماعةٍ من أهل العلم، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية في “الجواب الصحيح” (5/ 204).
وانظر: “روح المعاني” (15/ 394)، و”محاسن التأويل” (7/ 348)، و”التحرير والتنوير” (15/ 420 – 421).

(1/71)


ونظير هذا بعينه في التوراة التي أنزلها الله على كليمه (1) موسى: “جاءَ اللهُ من طُور سيناء، وأَشْرَقَ من سَاعِير، واسْتَعْلَنَ من جبالِ فَارَان” (2) .
فمجيئه من “طور سيناء” بَعْثُهُ لموسى بن عِمْرَان، وبدأ به على حكم الترتيب الواقع. ثُمَّ ثنَّى بنبوَّة المسيح، ثُمَّ ختم بنبوَّة محمدٍ – صلى الله عليه وسلم -.
وجعل نبوَّةَ موسى بمنزلة مجيء الصُّبْح، ونبوَّةَ المسيح بعده بمنزلة طلوع الشمس وإشراقها، ونبوَّةَ محمدٍ – صلى الله عليه وسلم – بعدهما (3) بمنزلة استعلائها وظهورها للعالَم.
ولمَّا كان الغالب على بني إسرائيل حكم الحِسِّ؛ ذكَرَ ذلك مطابقًا للواقع (4) ، ولمَّا كان الغالب على الأُمَّةِ الكاملة حُكْم العقل؛ ذكرها على الترتيب العقلي، وأقسَمَ بها على بداية الإنسان ونهايته؛ فقال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ( 4)} [التين: 4]؛ أي: في أحسن صورةٍ وشَكْلٍ واعتدالٍ، مُعْتَدِلَ القامة، مستويَ الخِلْقة (5) ، كاملَ الصورة، أحسنَ من كل حيوانٍ سواه.
والتقويم: تصيير الشيء على ما ينبغي أن يكون في التأليف
__________
(1) من (ح) و (م).
(2) ذكره وشرحه شيخ الإسلام في “الجواب الصحيح” (5/ 199) فما بعده، ونقل بعضه ابن كثير في “تفسيره” (8/ 434)، والقاسمي في “محاسن التأويل” (7/ 348 – 351).
(3) في (ز) و (ن): بعدها.
(4) من قوله: “ولما كان الغالب. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ز).
(5) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: الخلق.

(1/72)


والتعديل، وذلك صنعتُه – تبارك وتعالى – في قبضةٍ من ترابٍ، وصُنْعُهُ بالمشاهدة في نطفةٍ من ماءٍ. وذلك من أعظم الآيات الدالَّة على وجوده (1)، وقدرته، وحكمته، وعلمه، وصفات كماله، ولهذا يكرِّرها كثيرًا في القرآن (2) لمكان العبرة بها، والاستدلال بأقرب الطرق على وحدانيته، وعلى المبدأ والمَعَاد.
وتضمَّنَ إقسامُهُ بتلك الأمكنة الثلاثة الدالَّة عليه، وعلى علمه وحكمته = عنايته (3) بخلقه؛ بأن أرسل منها رسلًا أنزل عليهم كتبه، ويُعرِّفون العباد بربِّهم، وحقوقه عليهمْ، وينذرونهم بأْسَهُ ونقمته، ويدعونهم إلى كرامته وثوابه.
ثُمَّ لمَّا كان النَّاس في إجابة هذه الدعوة فريقين: منهم من أجابَ، ومنهم من أَبى = ذكر حال الفريقين، فذكر حال الأكثرين، وهم المردودون إلى أسفل سافلين.
والصحيح أنَّه النَّار، قاله: مجاهد، والحسن، وأبو العالية.
قال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: “هي النَّار بعضها أسفل من بعض” (4).
وقالت طائفةٌ منهم: قتادة، وعكرمة، وعطاء، والكلبي،
__________
(1) من (ح) و (م)، وفي غيرهما: وجود قدرته.
(2) في (ن): “في القرآن كثيرًا”.
(3) في جميع النسخ: وعنايته، بإثبات واو العطف، وحذفها أصح.
(4) وهذا القول انتصر له شيخ الإسلام كما في “مجموع الفتاوى” (16/ 279 – 282)، واختاره ابن كثير في “تفسيره” (8/ 435).

(1/73)


وإبراهيم: إنَّه أرذل العمر، وهو مرويٌّ عن ابن عباس (1).
والصواب القول الأوَّل لوجوه:
أحدها (2): أنَّ أرذل العمر لا يسمَّى: أسفل سافلين، لا في لغةٍ، ولا عرفٍ، وإنَّما “أسفل سافلين” هو “سِجِّين” الذي هو مكان الفُجَّار، كما أنَّ “عِلِّيين” مكان الأبرار (3).
الثاني: أنَّ المردودين إلى أرذلِ العمر بالنسبة إلى نوع الإنسان قليلٌ جدًّا، فأكثرهم يموت ولا يُرَدُّ إلى أرذل العمر.
الثالث: أنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستوون هم وغيرهم في رَدِّ مَنْ طَالَ عُمُره إلى أرذل العمر، فليس ذلك مختصًّا بالكفار حتَّى يستثني منهم المؤمنين.
الرابع: أنَّ الله – سبحانه – لمَّا أراد ذلك (4) لم يَخُصَّهُ بالكفار، بل جعله لجنس بني آدم، فقال تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [الحج: 5] فجعلهم قسمين: قسمًا يتوفَّى قبل الكِبَر، وقسمًا مردودًا إلى أرذل العمر، ولم يسمِّه “أسفل سافلين”.
الخامس: أنَّه لا تَحْسُنُ المقابلة بين أرذل العمر وبين أجر
__________
(1) وهو اختيار ابن جرير الطبري في “جامع البيان” (12/ 638)، وابن عطية في “المحرر الوجيز” (15/ 504).
(2) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: منها.
(3) انظر: “الروح” (1/ 416).
(4) ساقط من (ز).

(1/74)


المؤمنين، وهو – سبحانه – قابَلَ بين جزاء هؤلاء وجزاء أهل الإيمان، فجعل جزاءَ الكفار أسفل سافلين، وجزاءَ المؤمنين أجرًا غير ممنون.
السادس: أنَّ قول من فسَّره بأرذل العمر يستلزم: –
1 – خُلُوَّ الآية عن جزاءِ الكفار، وعاقبةِ أمرهم.
2 – وتفسيرها بأمرٍ محسوسٍ.
فيكون قد ترك الإخبار عن المقصود والأَهَمِّ، وأخبر بأمرٍ يُعْرَفُ بالحِسِّ والمشاهدةِ، وفي ذلك هضْمٌ لمعنى الآية، وتقصيرٌ (1) بها عن المعنى اللائق بها.
السابع: أنَّه – سبحانه – ذكر حال الإنسان في مبدئه ومَعَادِه، فمبدؤه خلْقُه في أحسن تقويم، ومعادُهُ رَدُّهُ إلى أسفل سافلين، أو إلى أجرٍ غير ممنونٍ. وهذا موافق لطريقة القرآن وعادته في ذكر مبدأ العبد ومَعَاده، فما لأَرْذَلِ العمر وهذا المعنى المطلوب المقصود إثباته والاستدلال عليه؟
الثامن: أنَّ أرباب القول الأوَّل (2) مضطَرُّون إلى مخالفة الحِسِّ، أو إخراج الكلام عن ظاهره، والتكلُّف البعيد له (3) . فإنَّهم إن قالوا: إنَّ الذي يُرَدُّ إلى أرذل العمر هم (4) الكفار دون المؤمنين؛ كابروا الحِسَّ. وإن قالوا: إنَّ من النَّوعين من يردُّ إلى أرذل العمر؛ احتاجوا إلى التكلُّف
__________
(1) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: ونقصٌ.
(2) ساقط من (ك).
(3) من (ح) و (م)، وسقط من باقي النسخ.
(4) ساقط من (ك).

(1/75)


لصحة الاستثناء.
فمنهم من قدَّرَ ذلك بأنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا تبطل أعمالهم إذا رُدُّوا إلى أرذل العمر، بل تجري عليهم أعمالهم التي كانوا يعملونها في الصحة. وهذا – وإن كان حقًّا – فإنَّ الاستثناء إنَّما وقع من الردِّ، لا من الأجر والعمل.
ولمَّا علم أرباب هذا القول ما فيه من التكلُّف خَصَّ بعضُهم “الذين آمنوا وعملوا الصالحات” بقُرَّاء القرآن خاصَّةً، فقالوا: من قرأ القرآن لا يُرَدُّ إلى أرذل العمر.
وهذا ضعيفٌ من وجهين:
أحدهما: أنَّ الاستثناءَ عامٌّ في المؤمنين، قارئهم وأُمِّيهم.
الثاني: أنَّه لا دليل لهم على ما ادَّعَوه، وهذا لا يُعْلَم بالحِسِّ، ولا خَبَرَ يجب التسليم له (1) يقتضيه، والله أعلم.
التاسع: أنَّه – سبحانه – ذكر نعمته على الإنسان بخلقه في أحسن تقويم، وهذه النِّعمة تُوجب عليه أن يشكرها بالإيمان به، وعبادته وحده لا شريك له، فينقله – حينئذٍ (2) – من هذه الدار إلى أَعْلَى عِلِّيين، فإذا لم يؤمن بربِّه، وأشرك به، وعصى رسله؛ نقله منها إلى أسفل سافلين، وبدَّلَهُ بعد هذه الصورة التي هي في أحسن تقويم صورةً من أقبح الصور في أسفل سافلين. فتلك نعمتُهُ عليه، وهذا عَدْلُهُ فيه، وعقوبَتُهُ على
__________
(1) في (ز) و (ن): إليه.
(2) في (ز): وحده!

(1/76)


كفران نعمته.
العاشر: أنَّ نظير هذه الآية قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)} [الانشقاق: 24, 25]، فالعذاب الأليم هو “أسفل سافلين”، والمُسْتَثنَون هنا هم المُسْتَثنَون هناك، والأجر غير الممنون هنا هو المذكور هناك، والله أعلم.
وقوله: {غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)} , أي (1): غير مقطوعٍ، ولا منقوصٍ، ولا مكدَّرٍ عليهم. هذا هو الصواب (2).
وقالت طائفةٌ: غير ممنونٍ به عليهم، بل هو جزاء أعمالهم. ويذكر هذا عن: عكرمة، ومقاتل، وهو قول كثيرٍ من القَدَرِيَّة (3).
قال هؤلاء: لأنَّ المِنَّةَ تكدِّرُ النِّعمة، فتمام النِّعمة بأن تكون غير ممنونٍ بها على المنعَم عليه.
وهذا القول خطأٌ قطعًا، أُتِيَ أربابُهُ من تشبيه نعمة الله على عبده بإنعام المخلوق على المخلوق، وهذا من أبطل الباطل؛ فإنَّ المِنَّة التي تكدِّرُ النِّعمة هي مِنَّةُ المخلوق على المخلوق، وأمَّا مِنَّةُ الخالق على المخلوق فبها تمامُ النِّعمة، ولذَّتُها، وطِيبُها، فإنَّها مِنَّةٌ حقيقيةٌ، قال
__________
(1) من قوله: “غير الممنون. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ز).
(2) وهو قول أكثر المفسرين، وانظر: “جامع البيان” (12/ 641)، و”معالم التنزيل” (8/ 473)، و”المحرر الوجيز” (15/ 505).
(3) انظر: “تفسير مقاتل” (3/ 498)، و”مجاز القرآن” لأبي عبيدة (2/ 303)، و”الدر المنثور” (6/ 621).
ونسبه الماوردي إلى: الحسن البصري. “النكت والعيون” (6/ 302).

(1/77)


تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) } [الحجرات: 17]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) } [الصافات: 114, 115]، فكيف (1) تكون مِنَّتُهُ عليهما بنعمة الدنيا دون نعمة الآخرة؟
وقال – تعالى – لموسى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) } [طه: 37].
وقال أهلُ الجنَّة: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) } [الطور: 27].
وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164] الآية.
وقال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 5].
وفي “الصحيح” أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال – لمَّا قال للأنصار -: “أَلَمْ أجِدْكُم ضُلَّالًا فَهَدَاكُم اللهُ بي؟ ألَم أَجِدْكُم عَالَةً فأَغْنَاكُم اللهُ بي؟ “؛ وجعلوا يقولون له (2) : “الله ورسوله أَمَنُّ” (3) .
فهذا جواب العارفين بالله ورسوله، وهل المِنَّةُ – كلُّ المِنَّةِ (4) – إلا لله المَانِّ (5) بفضله الذي جميع الخلق في مِنَّتِهِ؟
__________
(1) ساقط من (ح) و (م).
(2) ساقط من (ن) و (م).
(3) “صحيح البخاري” رقم (4075)، و”صحيح مسلم” رقم (1061).
(4) “كل المنة” ساقط من (ز).
(5) في (ز): المنَّان.

(1/78)


وإنَّما قَبُحَت مِنَّةُ المخلوق لأنَّها مِنَّةٌ بما ليس منه، وهي مِنَّةٌ يتأذَّى بها الممنون عليه. وأمَّا مِنَّةُ المَانِّ (1) بفضله التي ما طاب العيش إلا بمِنَّته، وكلُّ نعمةٍ منه في الدنيا والآخرة فهي مِنَّةٌ يَمُنُّ بها على من أنعم عليه = فتلك لا يجوز نفيها. وكيف يجوز أن يقال: إنَّه لا مِنَّةَ لله على “الذين آمنوا وعملوا الصالحات” في دخول الجنَّة؟! وهل هذا إلا من أبطل الباطل؟!
فإن قيل: هذا القَدْر لا يخفى على من قال هذا القول من العلماء، وليس مرادهم ما ذُكِر، وإنَّما مرادُهم أنَّه لا يَمُنُّ عليهم به، وإن كانت لله فيه المِنَّة عليهم، فإنَّه لا يَمُنُّ عليهم به، بل يقال لهم: هذا جزاء أعمالكم التي عملتموها في الدنيا، وهذا أجركم، فأنتم تستوفون أجور أعمالكم، ولا نَمُنُّ عليكم بما أعطيناكم.
قيل: وهذا – أيضًا (2) – هو الباطل بعينه، فإنَّ ذلك الأجرَ ليست الأعمالُ ثمنًا له، ولا معاوضةً عنه، وقد قال أعلم الخلق بالله – صلى الله عليه وسلم -: “لن يدخُلَ أحدٌ منكُم الجنَّةَ بعمله” قالوا: ولا أنتَ يا رسول الله؟ قال “ولا أنا؛ إلَّا أن يتغمَّدني اللهُ برحْمَةٍ منهُ وفَضْلٍ” (3) ، فأخبر أنَّ دخولَ الجنَّة برحمة الله وفضله، وذلك محض مِنَّته عليه وعلى سائر عباده، وكما أنَّه – سبحانه – المَانُّ بإرسال رسله، وبالتوفيق لطاعتهم، وبالإعانة عليها = فهو المَانُّ بإعطاء الجزاء، وذلك كلُّه محض مِنَّته وفضله وجوده، لا حَقَّ لأحدٍ عليه، بحيث إذا وفَّاهُ إيَّاهُ لم يكن له عليه مِنَّةٌ، فإن
__________
(1) في (ز): المنَّان.
(2) ساقط من (ن).
(3) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (5349 و 6098)، ومسلم في “صحيحه” رقم (2816)؛ من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.

(1/79)


كان في الدنيا باطلٌ فهذا منه.
فإن قيل: كيف تقولون هذا وقد أخبر رسولُه عنه بأنَّ حقَّ العباد عليه إذا عَبَدُوه وحدَهُ (1) أن لا يعذِّبهم (2)، وقد أخبر عن نفسه أنَّ حقًّا عليه نصرُ المؤمنين (3)؟
قيل: لَعَمْرُ اللهِ؛ وهذا من أعظم مِنَّته على عباده، أن جعل على نفسه حقًّا بحكم وعده الصادق: أن يثيبهم ولا يعذِّبهم إذا عبدوه وحده، فهذا من تمام مِنَّته، فإنَّه لو عذَّبَ أهلَ سمواته وأرضه لعذَّبهم وهو غير ظالمٍ لهم، ولكن مِنَّته اقتضت أنْ أَحَقَّ على نفسه ثوابَ عابديه، وإجابةَ سائليه.
ما للعبادِ عليهِ حقٌّ واجبٌ … كلَّا، ولا سَعْيٌ لديهِ ضائعُ
إن عُذِّبُوا فبعَدْلِه، أو نُعِّمُوا … فبفَضْلِه، وهو الكريمُ الواسعُ (4)
وقوله سبحانه: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} [التين: 7]، أصحُّ القولين:
__________
(1) في (ح) و (م): وحَّدوه، بدل: “عبدوه وحده”.
(2) يشير إلى حديث معاذ بن جبل – رضي الله عنه – قال: “كنتُ رِدْفَ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – على حمارٍ يقال له “عُفَير” فقال: يا معاذُ؛ هل تدري حقَّ الله على عباده، وما حقُّ العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنَّ حقَّ الله على العباد أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله أن لا يعذِّبَ من لا يشركُ به شيئًا. فقلت: يا رسول الله، أفلا أُبشِّرُ به النَّاسَ؟ قال: لا تبشرهم فيتَّكِلُوا”.
أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (2701، 5622، 5912، 6135، 6938)، ومسلم في “صحيحه” رقم (30).
(3) يشير إلى قوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)} [الروم: 47].
(4) أورد المؤلِّف هذين البيتين في: “الوابل الصيِّب” (153)، و”بدائع الفوائد” (2/ 645)، و”طريق الهجرتين” (691)، و”مدارج السالكين” (2/ 339).

(1/80)


أنَّ هذا خطابٌ للإنسان (1) ، أي: فما يكذِّبُك بالجزاء والمَعَاد بعد هذا البيان، وهذا البرهان؛ فتقول: إنَّك لا تُبعث، ولا تُحاسب؟! ولو تفكَّرت في مبدأ خَلْقِك، وصورتك، لعلمتَ أنَّ الذي خَلَقَك أقدر على إعادتك بعد موتك، ونشأتك خَلْقًا جديدًا من خَلْقِك الأوَّل (2) ، وأنَّ ذلك لو أَعْيَاهُ وأَعْجَزَهُ لأَعْيَاهُ وأَعْجَزَه خَلْقُك الأوَّل.
وأيضًا؛ فإنَّ الذي كَمَّلَ خَلْقَك في أحسن تقويمٍ بعد (3) أن كنت نطفةً من ماءٍ مهينٍ، كيف يليق به أن يتركَكَ سُدَىً، لا يكمِّلُ ذاتَكَ بالأمر والنهي، وبيانِ ما ينفعُكَ ويضرُّك، ولا يبعثُكَ لدارٍ هي أكمل من هذه الدار، ويجعل هذه الدار طريقًا لك إليها، فحِكْمَةُ أحكمِ الحاكمين تأبَى ذلك، وتقتضي خلافه.
قال منصور (4) : قلت لمجاهد: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) } عَنَى به محمدًا؟ فقال: “معاذَ اللهِ؛ إنَّما عَنَى به الإنسان” (5) .
__________
(1) وهو قول: مجاهد، والكلبي، ومقاتل بن سليمان، وجمهور المفسرين.
قال السمعاني: “هذا هو القول المعروف، وهو الأولى؛ لأنَّ “ما” بمعنى “مَنْ” يبعد في اللغة”. “تفسيره” (6/ 254).
واقتصر كثير من المفسرين عليه ولم يذكروا غيره، كما فعل: البغوي في “معالم التنزيل” (8/ 473)، والواحديُّ في “الوسيط” (4/ 526)، وابن كثير في “تفسيره” (8/ 435)، وغيرهم.
(2) “من خلقك الأول” ساقط من (ح) و (م).
(3) ساقط من (ز).
(4) هو منصور بن المعتمر بن عبد الله السُّلَمي، الحافظ الثبت الحُجَّة، لم يكن بالكوفة أحفظ منه، روى له الجماعة، توفي سنة (132 هـ) رحمه الله.
انظر: “تهذيب الكمال” (28/ 546)، و”السير” (5/ 402).
(5) أخرجه: ابن جرير في “تفسيره” رقم (37653 – 37655)، وابن أبي حاتم في =

(1/81)


وقال قتادة: “الضمير للنبيِّ – صلى الله عليه وسلم -” (1). واختاره الفرَّاء (2).
وهذا موضعٌ يحتاج إلى شرحٍ وبيانٍ:
يقال: كَذَبَ الرجلُ، إذا قال الكَذِب. وكذَّبْتَهُ: إذا نَسَبْته إلى الكَذِب، ولو اعتقدتَ صدْقَهُ. وكَذَبْتَهُ: إذا اعتقدتَ كَذِبَه، وإن كان صادقًا.
قال تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فاطر: 4]، وقال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام: 33].
فالأوَّل بمعنى: وإنْ ينسبُوك إلى الكذب.
والثاني بمعنى: لا يعتقدون أنَّك كاذِبٌ، ولكنَّهم يعاندون، ويدفعون الحقَّ بعد معرفته؛ جحودًا وعنادًا.
هذا أصل هذه اللفظة.
ويتعدَّى الفعل إلى المُخْبِر (3) بنفسه، وإلى خبره بـ “الباء”، أو بـ “في”. فيقال: كذَّبْتُه بكذا، وكذَّبْتُه فيه، والأوَّل أكثر استعمالًا، ومنه قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} [ق: 5]، وقوله:
__________
= “تفسيره” (10/ رقم 19414 و 19415).
وعزاه السيوطي في “الدر المنثور” (6/ 622) إلى: الفريابي، وعبد بن حميد.
(1) انظر: “جامع البيان” (12/ 642)، و”المحرر الوجيز” (15/ 505).
(2) “معاني القرآن” (3/ 277).
وهو اختيار ابن جرير الطبري في “جامع البيان” (12/ 642)، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية كما في “مجموع الفتاوى” (16/ 283 – 289) ونسبه إلى علماء اللغة.
واستحسنه الألوسي في “روح المعاني” (15/ 397)، والقاسمي في “محاسن التأويل” (7/ 353).
(3) في (خ) و (م): الخبر.

(1/82)


{وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الروم: 16].
إذا عُرِفَ هذا، فقوله: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ} اختُلف في “ما”؛ هل هي بمعنى: أيُّ شيءٍ يكذِّبُك، أو بمعنى: مَن الذي يكذِّبُك؟
فمن جعلها بمعنى: أيُّ شيءٍ، تعيَّنَ على قوله أن يكون الخطاب للإنسان، أي: فأيُّ شيءٍ يجعلك بعد هذا البيان مكذِّبًا بالدِّين، وقد وَضَحَتْ لك دلائل الصدق والتصديق؟!
ومن جعلها بمعنى: فمن الذي يكذِّبك؛ جعل الخطاب للنبيِّ – صلى الله عليه وسلم -.
قال الفرَّاء: “كأنَّه يقول: من يقدر على تكذيبك بالثواب والعقاب، بعدما تبيَّن له من خَلْق الإنسان ما وصفناه؟ ” (1) .
وقال قتادة: “فمَنْ يكذِّبُك أيُّها الرسول بعد هذا بالدِّين؟ ” (2) .
وعلى قول قتادة والفرَّاء إشكالٌ من وجهين:
أحدهما: إقامة “ما” مقام “مَنْ”، وأمره سهلٌ.
والثاني: أنَّ الجارَّ والمجرور يستدعي متعلَّقًا، وهو: يكذِّبك، أي: فمَنْ يكذِّبك بالدِّين؟ فلا يخلو: إمَّا أن يكون المعنى: فمَنْ يجعلك كاذبًا بالدِّين، أو: مكذِّبًا به، أو: مكذَّبًا به (3) ؛ ولا يصحُّ واحدٌ منهما.
أمَّا الثاني والثالث: فظاهرٌ؛ فإنَّ “كذَّبْتُه” ليس معناه (4) : جعلتُهُ
__________
(1) “معاني القرآن” (3/ 277).
(2) انظر: “الجامع” للقرطبي (20/ 116).
(3) “أو: مكذَّبًا به” من (م) وهامش (ز) و (ح).
(4) ساقط من (ز).

(1/83)


مكذِّبًا أو مكذَّبًا، وإنَّما معناه نسبتُهُ إلى الكذب، فالمعنى على هذا: فمَنْ يجعلك بَعْدُ (1) كاذبًا بالدِّين (2) .
وهذا إنِّما يتَعدَّى إليه بـ “الباء” الفعلُ المُضَاعَفُ لا الثلاثي، فلا يقال: كَذَبَ بكذا، وإنَّما يقال: كذَّبَ به.
وجواب هذا الإشكال أنَّ قوله: كذَّبَ بكذا؛ معناه: كذَّبَ المُخْبَر به، ثُمَّ حذفوا المفعول لظهور العلم به، حتَّى كأنَّه نِسْيٌ مَنْسِيٌّ، وعَدَّوا الفعل (3) إلى المُخْبِر به (4) ، فإذا قيل: مَنْ يكذِّبك بكذا؟ فهو بمعنى: كذَّبُوك بكذا – سواء -، أي (5) : نسبوك إلى الكذب في الإخبار به.
بل الإشكال في قول مجاهد والجمهور، فإنَّ الخطاب إذا كان للإنسان، وهو المكذِّب – أي: فاعل التكذيب – فكيف يقال له: ما يكذِّبك؟ أي: يجعلك مكذِّبًا، والمعروفُ “كذَّبَهُ”: إذا جعله كاذبًا لا مكذِّبًا، مثل “فسَّقَه”: إذا جعله فاسقًا، لا مفسِّقًا لغيره.
وجواب هذا الإشكال: أنَّ “صدَّقَ” و”كذَّبَ” – بالتشديد – يراد به معنيان:
أحدهما: النِّسبة؛ وهي إنَّما تكون للمفعول كما ذكرتم.
والثاني: الداعي والحامل على ذلك، وهو يكون للفاعل.
__________
(1) من (ح) و (م)، وسقط من باقي النسخ.
(2) بعده في (ز) و (ن) زيادة: أو مكذبًا به، ومثله في (ك) و (ط) بدون: به.
(3) أثبتُّه من (ح) و (م)، وسقط من باقي النسخ، إلا أنه استدرك في هامش (ك).
(4) في (ن): ثم حذفوا المفعول! تكررت خطأ.
(5) ساقط من (ن) و (ك).

(1/84)


قال الكِسَائي (1) : “يقال: ما صدَّقَكَ بكذا، أو ما كذَّبَكَ بكذا؛ أي: ما حملك على التصديق والتكذيب”.
قلت: وهو نظير: ما جَرَّأَكَ على هذا، أي: ما حَمَلَكَ على الاجتراء عليه. وما قَدَّمَك، وما أَخَّرَك، أي: ما دَعَاكَ وحمَلَك على التقدُّمِ والتأخُّرِ، وهذا استعمالٌ سائغٌ في العربية (2) ، وبالله التوفيق.
ثُمَّ ختم السورة بقوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8) } [التين: 8]، وهذا تقريرٌ لمضمون السورة من إثبات النُّبوَّة، والتوحيد، والمَعَاد، وحُكْمُه يتضمَّن نَصْرَهُ لرسوله على من كذَّبَهُ وجحد ما جاء به بالحُجَّة والقدرة والظهور عليه، وحُكْمَه بين عباده في الدنيا بشرعه وأمره، وحُكْمَه بينهم في الآخرة بثوابه وعقابه، وأنَّ أحكم الحاكمين لا يليق به تعطيل هذه الأحكام بعدما ظهرت حكمته في خلق الإنسان في أحسن تقويم، ونَقْلِه (3) في أطوار التخليق حالًا بعد حالٍ إلى أكمل أحواله. فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن لا يجازي المُحْسِنَ بإحسانه، والمُسِيءَ بإساءته؟ وهل ذلك إلا قَدْحٌ في حُكْمِهِ وحِكْمَتِهِ؟
فَلِلَّهِ ما أخصرَ لفظَ هذه السورة، وأعظم شأنها، وأتمَّ معناها، والله أعلم.
__________
(1) هو علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي، أبو الحسن الكسائي الكوفي، إمام القُرَّاء، وشيخ العربية في زمانه، تعلم النحو على كِبَرٍ، له كتب كثيرة منها: “معاني القرآن”، و”القراءات”، وغير ذلك، توفي بالكوفة سنة (183 هـ) رحمه الله.
انظر: “نزهة الألباء” (67)، و”إنباه الرواة” (2/ 256)، و”السير” (9/ 131).
(2) في (ح) و (م): موافق للعربية.
(3) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: وتنقله.

(1/85)


فصل

ومن ذلك قَسَمُهُ – سبحانه وتعالى – بالليل {إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)} [الليل: 1 – 2] الآيات، وقد تقدَّم (1) ذكر المُقْسَم عليه وأنَّه سعيُ الإنسان في الدنيا، وجزاؤه في العُقْبَى.
فهو – سبحانه – يُقْسِمُ بـ “الليل” في جميع أحواله، إذ هو من آياته الدالَّة عليه. فأقسم به (2) وقت غشيانه، وأتى به بصيغة المضارع لأنَّه يغشى شيئًا بعد شيء، وأمَّا “النَّهار” فإنَّه إذا طلعت الشمس ظهر وتجلَّى وَهْلَةً واحدةً، ولهذا قال في سورة “الشمس وضحاها”: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)} [الشمس: 3، 4].
وأقسَمَ به وقت سريانه كما تقدَّم (3)، وأقسَمَ به وقت إدباره، وأقسَمَ به إذا عَسْعَس.
فقيل: معناه أدبر (4)، فيكون معناه مطابقًا لقوله: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34)} [المدثر: 33, 34].
__________
(1) راجع (ص/ 10).
(2) بعده في (ز) و (ن) و (ط) زيادة: في.
(3) راجع (ص/ 48).
(4) قال به: علي، وابن عباس – رضي الله عنهم -، ومجاهد، وقتادة، والضحَّاك،
وزيد بن أسلم، وابنه عبد الرحمن.
واختاره: الفرَّاء “معاني القرآن” (3/ 242) وزعم أنه إجماع المفسرين! وابن جرير الطبري في “جامع البيان” (12/ 470)، وابن عطية في “المحرر الوجيز” (15/ 340).

(1/86)


وقيل: معناه أقبل (1)، فيكون كقوله: {وَاللَّيْلِ (2) إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)} [الليل: 1 – 2].
فيكون قد أقسَمَ بإقبال الليل والنَّهار، وعلى الأوَّل يكون القَسَم واقعًا على انصرام الليل، ومجيء الصُّبْح عقيبه، وكلاهما من آيات ربوبيته.
ثُمَّ أقسَمَ بخلق الذَّكَر والأنثى، وذلك يتضمَّنُ الإقسامَ بالحيوان كلِّه على اختلاف أصنافه، ذَكَرِهِ وأُنْثَاه، وقابَلَ بين الذَّكَر والأنثى كما قابَلَ بين الليل والنَّهار، وكلُّ ذلك من آيات ربوبيته، فإنَّ إخراج الليل والنَّهار بواسطة الأجرام العُلْويَّة، كإخراج الذَّكَر والأنثى بواسطة الأجرام السُّفْلية، فأخرج من الأرض ذكورَ الحيوان وإناثَه على اختلاف أنواعه، كما أخرج من السماء الليلَ والنَّهارَ بواسطة الشمس فيها (3).
__________
(1) قال به: مجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وعطية العوفي، ومقاتل بن سليمان.
واختاره: السمعاني في “تفسيره” (6/ 169)، وابن كثير في “تفسيره” (8/ 338) وقال: “وقال كثير من علماء الأصول: إن لفظة “عَسْعَس” تستعمل في الإقبال والإدبار على وجه الاشتراك، فعلى هذا يصح أن يراد كلٌّ منهما، والله أعلم”.
وقال الزجَّاج: “يقال: عسعس الليل: إذا أقبل، وعسعس: إذا أدبر، والمعنيان يرجعان إلى شيءٍ واحدٍ، وهو ابتداء الظلام في أوله، وإدباره في آخره”. “معاني القرآن” (5/ 292).
وعلماء اللغة يعدون لفظة “عَسْعَس” من الأضداد. انظر: “الأضداد” لقطرب (122)، و”الأضداد” للأنباري (32).
(2) من قوله: “إذ أدبر. . .” إلى هنا؛ ملحق بهامش (ح).
(3) في (ن): فيهما.

(1/87)


وأقسَمَ – سبحانه – بزمان السعي وهو (1) الليل والنَّهار، وبالساعي وهو الذَّكَر والأنثى؛ على اختلاف السعي، كما اختلف الليلُ والنَّهارُ، والذَّكَرُ والأنثى.
وسعيُه وزمانُه مختلِفٌ (2)؛ وذلك دليلٌ على اختلاف جزائه وثوابه، وأنَّه – سبحانه – لا يسوِّي بين من اختلف سعيه (3) في الجزاء، كما لم يسوِّ بين الليل والنَّهار، والذَّكَر والأنثى.
ثُمَّ أخبر عن تفريقه بين عاقبة سعي المحسن وعاقبة سعي (4) المسيء فقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل: 5 – 10]، فتضمَّنت الآيتان (5) ذِكْرَ شَرْعِه وقَدَرِه، وذِكْرَ الأعمالِ وجزائها، وحكمةَ القَدَرِ في تيسير هذا لليُسْرَى، وهذا للعُسْرَى، وأنَّ العبد ميسَّرٌ بأعماله لغاياتها، ولا يظلم ربُّك أحدًا.
وذَكَر للتيسير لليسرى ثلاثةَ أسباب:
أحدها: إعطاء العبد، وحذَفَ مفعول الفعل إرادةً للإطلاق (6) والتعميم، أي: أعطى ما أُمِرَ به، وسَمَحَتْ به طبيعته، وطاوَعَتْهُ
__________
(1) ساقط من (ز).
(2) في (ز) و (ك) و (ن) و (ط): يختلف.
(3) ساقط من (ز).
(4) ساقط من (ن).
(5) كذا في جميع النسخ؛ ومراده بهما: آية اليسرى، وآية العسرى، وما يتبعهما. والله أعلم.
(6) في (ن) و (ز): الإطلاق.

(1/88)


نفسُه (1) ، وذلك يتناول إعطاءَهُ من نفسه الإيمانَ، والطاعةَ، والإخلاصَ، والتوبةَ، والشكرَ؛ وإعطاءَهُ الإحسانَ، والنفعَ بمالهِ، ولسانِه، وبدنِه، ونيَّتِه، وقَصْدِه، فتكون نفسه نفسًا مُطيعَةً باذلةً، لا لئيمةً مانعةً.
فالنَّفْسُ المُعْطِيةُ (2) هي النفَّاعَةُ المحسِنة، التي طَبْعُها الإحسانُ وإعطاءُ الخير اللَّازم والمتعدِّي، فتعطي خيرَها لنفسها ولغيرها، فهي بمنزلة “العَين” التي ينتفع النَّاس بشُرْبهم منها، وسقي دوابِّهم وأنعامِهم، وزروعهم، فهم ينتفعون بها كيف شاءُوا، فهي ميسَّرةٌ لذلك، وهكذا الرجل المُبَارَكُ ميسَّرٌ للنفع حيث حَلَّ، فجزاء هذا أن ييسِّره اللهُ لليُسرَى كما كانت نفسُه ميسَّرةً للعطاء.
السبب الثاني: التقوى، وهي اجتناب ما نَهَى اللهُ عنه، وهذا من أعظم أسباب التيسير، وضدُّه من أسباب التعسير.
فالمتَّقِي ميسَّرٌ عليه أمور دنياه وآخرته، وتارك التقوى وإن يُسِّرَتْ عليه بعضُ أمور دنياه تعسَّرَ عليه من أمور آخرته بحسب ما تركه من التقوى. وأمَّا تيسير ما تيسَّر عليه من أمور الدنيا؛ فلو اتَّقَى اللَّهَ – تعالى – لكان تيسيرها عليه أَتَمُّ، ولو قُدِّر أنَّها لم تُيَسَّر له فقد يُيَسِّر اللهُ له من الدنيا ما هو أنفع له ممَّا ناله بغير التقوى، فإنَّ طِيْبَ العيش، ونعيمَ القلب، ولذَّةَ الرُّوح وفرحَها وابتهاجَها من أعظم نعيم الدنيا، وهو أجَلُّ من نعيم أرباب الدنيا بالشهوات واللذَّات، ونعيم أهل التقوى بالطاعات
__________
(1) في (ز) و (ك) و (ن) و (ط) العبارة هكذا: وسمحت به نفسه وطبيعته.
(2) تحرفت في (ز) إلى: العطية، وفي باقي النسخ: المطيعة.

(1/89)


والقربات أعظم وأَجَلُّ.
وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) } [الطلاق: 2] إلى قوله (1) : {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) } [الطلاق: 4]، فأخبر أنَّه يُيَسِّر على المُتَّقِي ما لا يُيَسِّر على غيره.
وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2 ) (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3] , وهذا – أيضًا – تيسيرٌ عليه بتقواه.
وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} (3) [الطلاق: 5]، وهذا تيسيرٌ عليه بإزالة ما يخشاه، وإعطائه ما يحبُّه ويرضاه.
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) } [الأنفال: 29]، وهذا تيسيرٌ بالفرقان المتضمِّن للنَّجاةِ، والنَّصرِ، والعلمِ، والنُّورِ الفارق بين الحقِّ والباطل، وتكفير السيئات، ومغفرة الذنوب، وذلك غاية التيسير.
وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) } [آل عمران: 130]، والفلاح غاية اليُسْر، كما أنَّ الشَّقَاءَ غايةُ العسر.
__________
(1) من قوله: “ونعيم أهل التقوى. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ح) و (م)، و”إلى قوله” ساقط من (ك).
(2) “وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)} “؛ ليست في (ز) و (ن).
(3) في (ن) و (ز) بدل الآية: “وأخبر تعالى أنه يكفِّر عن المتقي سيئاته، ويعظم له أجرًا”.

(1/90)


وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الحديد: 28]، فضَمِنَ لهم – سبحانه – بالتقوى ثلاثةَ أمور:
أعطاهم نَصِيبَين من رحمته؛ نصيبًا في الدنيا، ونصيبًا في الآخرة، وقد يُضَاعِفُ لهم نصيبَ الآخرة فيصير نصيبين.
الثاني: أعطاهم نورًا يمشون به في الظلمات.
الثالث: مغفرة ذنوبهم.
وهذا غاية التيسير، فقد جعل – سبحانه – التقوى سببًا لكلِّ يُسْرٍ، وتَرْكَ التقوى سببًا لكلِّ عُسْرٍ.
السبب الثالث: التصديق بالحُسْنَى، وفُسِّرَت بـ “لا إله إلا الله”، وفُسِّرت بالجنَّة، وفُسِّرت بالخَلَف، وهي أقوال السلف (1).
و”اليُسْرَى”: صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ، أي: الحالة والخَلَّة اليُسْرَى، وهي “فُعْلَى” من اليُسْرِ.
والأقوال الثلاثة ترجع إلى أفضل الأعمال، وأفضل الجزاء:
فمن فسَّرها بـ “لا إله إلا الله”؛ فقد فسَّرها بمفردٍ يأتي بكلِّ جمعٍ، فإنَّ التصديقَ الحقيقي بـ “لا إله إلا الله” يستلزم التصديقَ بشُعَبِها وفروعِها
__________
(1) في تفسير “الحُسْنَى” سبعة أقوال مأثورة عن السلف، قال القرطبي: “وكلُّه متقارب المعنى؛ إذ كلُّه يرجع إلى الثواب الذي هو الجنَّة”. “الجامع” (20/ 83).
وانظر: “النكت والعيون” للماوردي (6/ 287)، و”زاد المسير” (8/ 263).

(1/91)


كلِّها. وجميعُ الدِّين – أصولُه وفروعُه – من شُعَب هذه الكلمة.
فلا يكون العبد مصدِّقًا بها حقيقة التصديق حتَّى يؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائه.
ولا يكون مؤمنًا بأنَّ اللهَ إلهُ العالمين حتَّى يؤمن بصفات جلاله، ونعوت كماله.
ولا يكون مؤمنًا بأنَّه (1) “لا إله إلا هو” حتَّى يَسْلُبَ خصائصَ الإلهيَّة عن كلِّ موجودٍ سواه، ويسلبَها عن اعتقاده وإرادته، كما هي مَنْفِيَّةٌ في الحقيقة والخارج.
ولا يكون مصدِّقًا بها مَنْ نَفَى الصفات العُلَى، ولا مَنْ نَفَى كلامه وتكليمه، ولا من نَفَى استواءه على عرشه، وأنَّه يصعد (2) إليه الكَلِمُ الطيِّبُ والعملُ الصالح، وأنَّه رفَعَ المسيحَ إليه، وأسرى برسوله – صلى الله عليه وسلم – إليه، وأنَّه يُدَبِّرُ الأمرَ من السماء إلى الأرض ثُمَّ يَعْرُج إليه، إلى سائر ما وصفَ به نفسه، ووَصَفَهُ به رسولُه – صلى الله عليه وسلم -.
ولا يكون مؤمنًا بهذه الكلمة مصدِّقًا بها على الحقيقة مَنْ نَفَى عمومَ خَلْقِهِ لكلِّ شيءٍ، وقدرتِهِ على كلِّ شيءٍ، وعِلْمِهِ بكلِّ شيءٍ، وبَعْثَهُ للأجسادِ من القبور ليوم النُّشور.
ولا يكون مصدِّقًا بها من زعم أنه يترك خَلْقَهُ سُدىً، لم يأمرهم ولم يَنْهَهُم على أَلْسِنَةِ رُسُلِه.
__________
(1) ساقط من (ز).
(2) في (ح) و (م): يرفع.

(1/92)


وكذلك التصديق بها يقتضي الإذْعَانَ والإقرارَ بحقوقها، وهي شرائع الإسلام التي هي تفصيل هذه الكلمة.
فالتصديقُ بجميع أخباره، وامتثالُ أوامره، واجتنابُ نواهيه، هو تفصيل “لا إله إلا الله”، فالمصدِّق بها على الحقيقة الذي يأتي بذلك كلِّه، وكذلك لم تحصل عصمة المال والدَّم – على الإطلاق – إلا بها، وبالقيام بحقِّها، وكذلك لا تحصل النَّجاة من العذاب – على الإطلاق – إلا بها وبحَقِّها، فالعقوبة في الدنيا والآخرة على تركها، أو ترك حَقِّها.
ومن فَسَّر “الحُسْنَى” بالجنَّة؛ فسَّرها بأَعْلَى أنواع الجزاء وكماله.
ومن فسَّرها بالخَلَف؛ ذكر نوعًا من الجزاء، فهذا جزاءٌ دنيويٌّ، والجنَّة الجزاء في الآخرة.
فرجع التصديق بـ “الحُسْنَى” إلى التصديق بالإيمان وجزائه.
والتحقيقُ أنَّها تتناول الأمرين.
وتأمَّلْ ما اشتملت عليه هذه الكلمات الثلاث – وهي: الإعطاءُ، والتقوى، والتصديقُ بالحُسْنَى – من العلم والعمل، وتضمَّنته من الهُدَى ودين الحق، فإنَّ “النَّفْسَ” لها ثلاثُ قوى:
1 – قوَّةُ البذل والإعطاء.
2 – وقوَّةُ الكَفِّ والامتناع (1) .
__________
(1) في (ز) و (ن): عن الامتناع.

(1/93)


3 – وقوَّةُ الفَهْم والإدراك.
ففيها: قوَّة العلم والشعور؛ وتَتبعها: قوَّةُ الحُبِّ والإرادة، وقوَّةُ البُغْضِ والنُّفْرة.
فهذه القُوى الثلاثة عليها مدارُ صلاحِها وسعادتها، وبفسادها يكون فسادُها وشقاوتُها.
ففساد قوَّة العلم والشعور يوجب له التكذيب بالحُسْنَى.
وفساد قوَّة الحبِّ والإرادة يوجب له (1) تَرْكَ الإعطاءِ، والمنعَ (2) .
وفساد قوَّة البُغْضِ والنُّفْرة يوجب له تركَ الاتِّقاء.
فإذا كمَّلَ قوَّةَ حُبِّهِ وإرادته بإعطائه ما أُمِرَ به، وقوَّةَ بُغْضه ونُفْرَتِه باتقائه ما نُهِيَ عنه، وقوَّةَ علمه وشعوره بتصديقه بكلمة الإسلام وحقوقها وجزائها = فقد زكَّى نفسَهُ، وأعَدَّها لكلِّ حالةٍ يُسْرَى، فصارت “النَّفْسُ” بذلك ميسَّرةً لليُسْرَى.
ولمَّا كان الدِّين يدور على ثلاثِ قواعد: فعلِ المأمور، وتركِ المحظور، وتصديقِ الخبر – وإنْ شئتَ قلتَ: الدِّين: طلبٌ، وخبرٌ. والطلبُ نوعان: طلبُ فعلٍ، وطلبُ تركٍ -؛ تضمَّنَت هذه الكلماتُ الثلاثُ مراتبَ الدِّين أجمعَها؛ فالإعطاء: فعل المأمور، والتقوى: ترك المحظور؛ والتصديق بالحُسْنَى: تصديق الخبر = فانتظم ذلك الدِّينَ كلَّه.
__________
(1) ساقط من (ز).
(2) ساقط من (ح) و (م).

(1/94)


وأكملُ النَّاس من كملت له هذه القُوى (1) الثلاث، ودخول النَّقْص بحسب نقصانها أو بعضِها (2)، فمن النَّاس من تكون قوَّة إعطائه وبذله أتمَّ من قوَّة انكفافه وتركه، فقوَّةُ التَرْكِ فيه أضعفُ من قوَّةِ الإعطاء، ومن النَّاس من تكون قوَّةُ التَّرْكِ والانكفافِ فيه أتمَّ من قوَّة الإعطاء، ومن النَّاس من تكون قوَّةُ التصديق فيه أتمَّ من قوَّة الإعطاء والمنع، فقوَّتُه العلميَّة الشعوريَّة أتمُّ من قوَّته الإراديَّة، وبالعكس، فيدخل النَّقْص بحسب ما نقص (3) من قوَّة هذه القُوى الثلاث، ويفوته من التيسير لليُسْرَى بحسب ما فاته منها، ومن كملت له هذه القُوى يُسِّرَ لكلِّ يُسْرَى.
قال ابن عباس {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)}: “نُهَيِّئُه لعمل الخير، ونيسِّرها عليه” (4).
وقال مقاتل، والكلبي، والفرَّاء: “نُيَسِّرُه للعَود إلى العمل الصالح” (5).
وحقيقة “اليُسْرَى” أنَّها الخَلَّةُ والحالَةُ السَّهْلَةُ النافعةُ الواقعة (6) له، وهي ضِدُّ العُسْرَى، وذلك يتضمَّنُ تيسيره للخير وأسبابه، فيُجْرِي الخيرَ ويُيَسِّرُه على قلبِه، ونيتِه (7)، ولسانِه، وجوارحِه. فتصير
__________
(1) تصحفت في (ك) و (ن) إلى: التقوى.
(2) في (ز): وبغضها!
(3) بعدها في (ن) و (ك) زيادة: من نقص! وكشط عليها في (ز).
(4) انظر: “زاد المسير” (8/ 263)، و”تفسير ابن كثير” (8/ 417).
والعبارة في (ح) و (م) هكذا: تُيسَّر عليه أعمال الخير.
(5) انظر: “تفسير مقاتل” (3/ 492)، و”معاني القرآن” للفرَّاء (3/ 270).
(6) في (ز) و (ط): الرافعة. وسقطت “له” من (ك).
(7) في (ح) و (م): بدنه.

(1/95)


خصالُ الخير وأسبابُه ميسَّرةً عليه، مذلَّلةً له، مُنْقَادَةً لا تستعصي عليه، ولا تستصعب؛ لأنَّه مُهَيأٌ لها، ميسَّرٌ لفعلها، يسلك سُبُلَها ذُلُلًا، وتنقادُ له علمًا وعملًا، فإذا خالطتهُ قلتَ: هذا هو الذي قيل فيه:
مُبارَكُ الطَّلْعَةِ مَيْمُونُها … يَصْلُحُ للدنيا وللدِّينِ (1)
{وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ} فعطَّل قوَّةَ الإرادة والإعطاء عن فعل ما أُمِرَ به، {وَاسْتَغْنَى (8)} بترك التقوى عن ربِّه، فعطَّل قوَّةَ الانكفافِ والتَّرْكِ عن فعل ما نُهِيَ عنه، {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9)} فعطَّل قوَّةَ العلم والشعور عن التصديق بالإيمان وجزائه = {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)}.
قال عطاء: “سوف أَحُولُ بين قلبه وبين الإيمان بي وبرسولي” (2).
وقال مقاتل: “يُعَسَّرُ عليه أن يُعْطَى خيرًا” (3).
وقال عكرمة، عن ابن عباس: “نُيَسِّرُه للشَّرِّ” (4).
__________
(1) هذا البيت لعبيد الله الفاطمي، الملقَّب بـ “المهدي”، أول ملوك بني عبيد، كان إذا رأى ابنَه أبا القاسم ونظر إليه فسُرَّ به يقوله!
ذكره ابن الأبَّار القضاعي في “الحلَّة السِّيَراء” (1/ 194).
(2) ذكره السمعاني في “تفسيره” (6/ 238) من طريق أبي صالح عن ابن عباس.
وذكره القرطبي في “الجامع” (20/ 84) من طريق الضحَّاك عن ابن عباس.
(3) “تفسير مقاتل” (3/ 492).
(4) أخرجه: ابن أبي حاتم في “تفسيره” (10/ رقم 19361)، وابن جرير في “جامع البيان” (12/ 617)، والبيهقي في “شعب الإيمان” (19/ 418).
وزاد السيوطي نسبته إلى: سعيد بن منصور، وابن المنذر، وعبد بن حميد. “الدر المنثور” (6/ 605).

(1/96)


قال الواحديُّ: “وهذا هو القول؛ لأنَّ الشَّرَّ يؤدِّي إلى العذاب، فهو الخَلَّة العُسْرَى، والخيرَ يؤدِّي إلى اليُسْرِ والراحةِ في الجنَّة، فهو الخَلَّةُ اليُسْرَى، يقول: سَنُهَيِّئُه للشَّرِّ، بأن نُجْرِيه على يديه” (1).
قال الفرَّاء: “والعربُ تقول: قد يَسَّرَتْ غنمُ فلان؛ إذا تَهَيَّأَتْ للوِلادة، وكذلك إذا ولدت وغَزُرَتْ ألبانُها، أي: يَسَّرَتْ ذلك على أصحابها” انتهى (2).

والتيسير للعُسْرَى يكون بأمرين:
أحدهما: أن يحول بينه وبين أسباب الخير، فيجري الشَّرُّ على قلبه، ونيته، ولسانه، وجوارحه.
والثاني: أن يحول بينه وبين الجزاء الأيسر، كما حال بينه وبين أسبابه.
فإن قيل: كيف قَابلَ “اتَّقَى” بـ “استغنى”؟ وهل يمكنُ العبدَ أن يستغنيَ عن ربِّه طَرْفَةَ عَينٍ؟
قيل: هذا من أحسن المقابلة (3)، فإنَّ المتَّقِي لمَّا استشعر فَقْرَهُ وفَاقَتَهُ، وشدَّةَ حاجته إلى ربِّه = اتَّقَاهُ، ولم يتعرَّض لسخَطِه وغضبه ومَقْته؛ بارتكاب ما نهاه عنه. فإنَّ من كان فقيرًا شديدَ الحاجةِ والضرورةِ إلى شخصٍ فإنَّه يَتَّقي غضَبَهُ وسخطَهُ عليه غاية الاتِّقَاء، ويجانب ما يكرهُهُ غايةَ المجانبة، ويعتمدُ فعلَ ما يحبُّهُ ويُؤْثِرُهُ.
__________
(1) “الوسيط” (4/ 504)، وفيه اختلاف يسير في الألفاظ عما هنا.
(2) “معاني القرآن” (3/ 270).
(3) في (ن): المقالة.

(1/97)


فقابَلَ التقوى بالاستغناء تشنيعًا لحال تارك التقوى، ومبالغةً في ذمِّه؛ بأن فَعَلَ فِعْلَ المستغني عن ربِّه، لا فِعْلَ الفقيرِ المضطرِّ إليه الذي (1) لا ملجأ له منه إلا إليه، ولا غنى له عن فضله وجُودِهِ وبِرِّهِ طَرْفَةَ عينٍ.
فَلِلَّهِ (2) ما أَحْلَى هذه المقابلة، وما أجمع هاتين الآيتين للخيرات كلِّها وأسبابِها، وللشرورِ كلِّها وأسبابِها.
فَسُبْحَانَ من تعرَّفَ إلى خواصِّ عباده بكلامه، وتجلَّى لهم فيه، فهم لا يطلبون أثرًا بعد عَينٍ، ولا يستبدلون الحقَّ بالباطل، والصدق بالمَيْنِ.
وقد تضمَّنت هاتان الآيتان فَصْلَ الخطاب في مسألة القَدَر، وإزالة كلِّ لَبْسٍ وإشكالٍ فيها، وذلك بَيِّنٌ – بحمد الله – لمن وُفِّقَ لفهمه.
ولهذا أجاب بهما (3) النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – لمن أورد عليه السؤالَ الذي لا يزال النَّاس يَلْهَجُون به في القَدَر، فأجاب بِفَصْل الخطاب، وأزال الإشكال.
ففي “الصحيحين” من حديث علي بن أبي طالب [ن/ 18]- رضي الله عنه – عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – أنَّه قال: “ما منكم من أحدٍ إلَّا وقد عُلِمَ مَقْعَدُهُ من الجنَّةِ والنَّارِ” قيل: يا رسول الله، أفلا نَدَعُ العَمَلَ، ونتَّكِلُ على كتابنا (4) ؟ قال: “اعمَلُوا، فكُلٌّ ميسَّرٌ لمَا خُلِقَ له” ثُمَّ قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5 )
__________
(1) ساقط من (ن).
(2) في (ز) زيادة: الحمد.
(3) في (ن): بها.
(4) في (ك) و (ح) و (ط) و (م): الكتاب.

(1/98)


وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) } إلى قوله: {لِلْعُسْرَى (10) } (1) [الليل: 5 – 10].
فقد تضمَّنَ هذا الحديث الردَّ على “القَدَريَّة” و”الجَبْرِيَّة”، وإثباتَ القَدَر والشرع، وإثباتَ الكتاب الأوَّل المتضمِّنِ لعلم الله – سبحانه – الأشياءَ قبل كونها، واثباتَ خلق الفعل الجزائي.
وهو يبطل أصول “القَدَريَّة” الذين يمنعون خَلْقَ الفعل مطلقًا، ومن أقرَّ منهم بخَلْق الفعل الجزائي دون الابتدائي = هَدَمَ أصلَهُ، ونقضَ قاعدته.
والنبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أخبر بمثل ما أخبر به الرَّبُّ – تعالى -: أنَّ العبد ميسَّرٌ لمَا خُلِق له (2) ؛ لا مَجْبُورٌ، فالجَبْر لفظٌ بدعيٌّ، والتيسير لفظ القرآن والسُّنَّة.
وفي الحديث دلالةٌ على أنَّ الصحابة كانوا أعلم النَّاس بأصول الدِّين، فإنَّهم تلقَّوها عن أعلم الخلق بالله – عزَّ وجلَّ – على الإطلاق، وكانوا إذا استشكلوا شيئًا سألوه عنه، وكان يجيبُهم بما يُزيل الإشكال، ويبيِّنُ الصوابَ. فهم العارفون بأصول الدِّين حقًا، لا أهلُ البدع والأهواء من المتكلِّمين ومن سلك سبيلهم.
وفي الحديث استدلالُ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – على مسائل أصول الدِّين بالقرآن،
__________
(1) “إلى قوله: “للعسرى”” ساقط من (ك) و (ح) و (م) و (ط).
والحديث أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (1296، 4661، 4666، 5863، 6231، 7113)، ومسلم في “صحيحه” رقم (2647).
(2) ساقط من (ن).

(1/99)


وإرشادُهُ الصحابةَ إلى استنباطِها منه، خلافًا لمن زعم أنَّ كلامَ الله ورسوله لا يفيد العلم بشيءٍ من أصول الدِّين، ولا يجوز أن تستفاد معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله منه، وعبَّرَ عن ذلك بقوله: “الأدلَّة اللفظية لا تفيد اليقين” (1) .
وفي الحديث بيان أنَّ من النَّاس من خُلِقَ للسَّعادة، ومنهم من خُلِق للشَّقَاوة، خلافًا لمن زعم أنَّهم كلُّهم خُلِقُوا للسَّعَادة، ولكن اختاروا الشَّقَاوة، ولم يُخْلَقُوا لها.
وفيه إثباتُ الأسباب، وأنَّ العبد ميسَّرٌ للأسباب الموصِلة له (2) إلى ما خُلِق له.
وفيه دليلٌ على اشتقاق السُّنَّةِ من الكتاب، ومطابقتها له. فتأمَّلْ قوله – صلى الله عليه وسلم -: “اعمَلُوا فكلٌّ ميسَّرٌ لما خُلق له” ومطابقته لقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) } إلى آخر الآيتين، كيف انتظم الشَّرْعَ والقَدَرَ، والسببَ والمسبَّب؟
وهذا الذي أرشد إليه النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – هو الذي فَطَر اللهُ عليه عباده، بل الحيوانَ البهيمَ، بل مصالحَ الدنيا وعمارتها بذلك، فلو قال كلُّ أحدٍ: إنْ كان قُدِّر لي كذا وكذا فلابدَّ أن أنَالَهُ، وإن لم يقدَّر لي فلا سبيل إلى نَيلِهِ، فلا أَسْعَى ولا أتَحَرَّكُ؛ لَعُدَّ من السفهاءِ الجُهَّالِ، ولم يمكنه طَرْدُ ذلك أبدًا، وإن أتى به في أمرٍ مُعَيَّنٍ، فهل يمكنه أن يَطْرُدَهُ في مصالحه
__________
(1) أطال ابن القيم – رحمه الله – في تفنيد هذه القالة، وزيَّفَها من وجوهٍ عدَّةٍ في كتابه “الصواعق المرسلة” (2/ 633) فما بعدها، وسمَّاها: “الطاغوت الأوَّل”!
(2) ساقط من (ن).

(1/100)


جميعها، من طعامه، وشرابه، ولباسه، ومسكنه، ومَنْكَحِهِ، وهُرُوبِهِ ممَّا يُضَاد بقاءه، وينافي مصالحه، أم يجد نفسه غير منفكَّةٍ أَلْبتَّةَ عن قول النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: “اعمَلُوا فكُلٌّ ميسَّرٌ لمَا خُلِقَ له”؟! فإذا كان هذا في مصالحِ الدنيا، وأسباب منافعها، فما المُوجِبُ لتعطيله في مصالح الآخرة، وأسبابِ السَّعَادةَ والفلاح؛ ورَبُّ الدنيا والآخرة واحدٌ؟! فكيف يُعطَّلُ ذلك في شرع الرَّبِّ وأمرِه ونهيه، ويُستَعْمَلُ في إرادةِ العبد، وأغراضِه، وشهواته؟ وهل هذا إلا مَحْضُ الظلم والجهل، والإنسان ظلومٌ جَهُولٌ، ظلومٌ لنفسه، جهولٌ بربِّه.
فهذا الذي أرشد إليه النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -، وتلا عنده هاتين الآيتين، موافقٌ لما جعله اللهُ في عقول العقلاء، وركَّب عليه فِطَرَ الخلائق حتَّى الحيوان البهيم، وأرسل به جميع رسله، وأنزل به جميع (1) كتبه.
ولو اتَّكَلَ العبدُ على القَدَر ولم يعمل لتعطَّلت الشرائع، وتعطَّلت مصالح العالم، وفسد أمر الدنيا والدَّين، وإنَّما يَسْتَرْوِحُ إلى ذلك مُعَطِّلُو الشرائع، ومن خَلَعَ رِبْقَةَ (2) الأوامر والنواهي من عنقه، وذلك ميراثٌ من إخوانهم المشركين الذين دفعوا أمرَ اللهِ ونَهْيَهُ، وعارَضوا شرعَهُ بقضائه وقَدَرِهِ، كما حكى اللهُ – سبحانه – ذلك عنهم في غير موضع من كتابه؛ كقوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} الآية وما بعدها [الأنعام: 148].
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ
__________
(1) ساقط من (ز).
(2) تصحفت في (ن) إلى: رقبة.

(1/101)


شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل: 35]، وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} الآية [الزخرف: 20].
وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} الآية [يس: 47].
فإن قيل: فالإعطاء، والتقوى، والتصديق بالحُسْنَى (1) ، هي من اليُسْرَى – بل هي أصل اليُسْرَى – من يسَّرَها للعبد أوَّلًا؟ وكذلك أضدادها؟
قيل: الله – سبحانه – هو الذي يسَّر للعبد أسباب الخير والشَّرِّ، وخَلَقَ خَلْقَهُ قسمين:
1 – أهلَ سَعَادةٍ، فيسَّرهم لليُسْرَى.
2 – وأهلَ شَقَاوةٍ، فيسَّرهم للعُسْرَى.
واستعمل هؤلاء في الأسباب التي خُلِقُوا لغَايَاتها، لا يَصْلُحُون لِسِوَاها، وهؤلاء في الأسباب التي خُلِقُوا لغَايَاتها لا يَصْلُحُون لِسوَاها، وحكمتُهُ الباهِرةُ تأْبَى أن يضع عقوبته في موضعٍ لا تصلُح له، كما تَأْبَى أن يَضَع كرامته وثوابه في مَحَلٍّ لا يصلح له ولا يليق به، بل (2) حكمةُ آحادِ خلقه تَأْبَى ذلك، ومَنْ جعل مَحَلَّ المِسْكِ والرَّجِيعِ واحدًا فهو من (3) أسفه السفهاء.
__________
(1) جاء بعدها في (ن) زيادة: هو، وبدلًا من “هي” في (ز).
(2) ساقط من (ح) و (م).
(3) من (ح) و (م).

(1/102)


فإن قيل: فَلِمَ جعل هذا لا يليق به إلا الكَرَامة، وهذا لا يليق به إلا الإهَانة؟
قيل: هذا سؤال جاهلٍ، لا يستحقُّ الجواب، كأنَّه يقول: لِمَ خَلَقَ اللهُ كذا وكذا؟
فإن قيل: وعلى هذا، فهل لهذا الجاهل من جوابٍ، لعلَّهُ يَشْفَى من جهله؟
قيل: نعم؛ شأنُ الربوبية خَلْقُ الأشياءِ وأضدادِها، وخَلْقُ المَلْزُومات ولوازِمِها، وذلك هو مَحْضُ الكَمَال.
فالعُلُوُّ لازِمٌ وملزومٌ للسُّفْلِ، والليلُ لازمٌ وملزومٌ للنَّهار، وكمالُ هذا الوجود بالحَرِّ والبَرْدِ، والصَّحْوِ والغَيْم. ومن لوازم الطبيعة الحيوانية: الصحَّةُ، والمَرَضُ، واختلافُ الإرادات، والمُرَادَات.
ووجودُ المَلْزُومِ بدون لازِمِه ممتنعٌ (1) ، ولولا خَلْقُ المُضَادَّاتِ (2) لَمَا عُرِفَ كمالُ القدرة والمشيئة والحكمة، ولَمَا ظهرت أحكامُ الأسماء والصفات، وظهورُ أحكامِها وآثارِها لابدَّ منه، إذ هو مقتضى الكمالِ المقدَّسِ، والمُلْكِ التامِّ.
وإذا أعطيتَ اسمَ “المَلِك” حقَّه – ولن تستطيع – علمتَ أنَّ الخلقَ والأمرَ، والثوابَ والعقابَ، والعَطَاءَ (3) والحرمانَ = أمرٌ لازِمٌ لصفة المُلْكِ، وأنَّ صفة المُلْكِ تقتضي ذلك ولابدَّ، وأنَّ تَعَطُّلَ هذه الصفة أمرٌ
__________
(1) العبارة في (ح) و (م) هكذا: ووجود اللازم بدون ملزومه ممتنع.
(2) في (ح) و (م): المتضادَّات.
(3) ساقط من (ن).

(1/103)


ممتنعٌ.
فالمُلْكُ الحقُّ يقتضي إرسالَ الرُّسُل، وإنزالَ الكتب، وأمرَ العباد، ونَهْيَهم، وثوابَهم، وعقابَهم، وإكرامَ من يستحقُّ الإكرام، وإهانةَ من يستحقُ الإهانة. كما يستلزِمُ حياةَ “المَلِكِ”، وعلمَهُ، وإرادتَهُ، وقدرتَهُ، وسمعَهُ، وبصرَهُ، وكلامَهُ، ورحمتَهُ، ورضاهُ، وغضبَهُ، واستواءَهُ على سرير مُلْكِه، يدبِّرُ أمرَ عباده.
وهذه الإشارة تكفي اللبيبَ في مثل هذا الموضع، ويَطَّلِعُ منها على رياضٍ مُونِقَةٍ، وكنوزٍ من المعرفة، وبالله التوفيق.

فصل
ثُمَّ قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} [الليل: 12, 13]؛ قيل: معناه: إنَّ علينا أن نُبيِّنَ طريقَ الهُدَى من طريق الضلال.
قال قتادة: “على الله البيانُ؛ بيانُ حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته” (1).
اختاره أبو إسحاق (2)، وهو قول مقاتل (3)، وجماعة.
__________
(1) أخرجه: ابن أبي حاتم في “تفسيره” (10/ رقم 19366)، وابن جرير في “جامع البيان” (12/ 618). وزاد السيوطي نسبته إلى: عبد بن حميد، وابن المنذر. “الدر المنثور” (6/ 606).
وساق شيخ الإسلام ابن تيمية سندَ عبد بن حميد فقال: حدثنا يونس، عن شيبان، عن قتادة به، وقال عنه: “وهذا التفسير ثابتٌ عن قتادة”. “دقائق التفسير” (3/ 149).
(2) هو الزجَّاج كما في كتابه “معاني القرآن” (5/ 336).
(3) “تفسير مقاتل” (3/ 492).

(1/104)


وهذا المعنى حقٌّ، ولكنَّ مرادَ الآية شيءٌ آخر.
وقيل: المعنى: إنَّ علينا للهُدَى والإضْلَال.
قال ابن عباس – رضي الله عنهما – في رواية عطاء: “يريد: أُرْشِدُ أوليائي إلى العمل بطاعتي، وأَحُولُ بين أعدائي وبين أن يعملوا بطاعتي”.
قال الفرَّاء: “فَتَرَكَ ذكر الإضْلَال، كما قال: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]، أي: والبرد” (1) .
وهذا أضعف من القول الأوَّل، وإن كان معناه صحيحًا، فليس هو معنى الآية.
وقيل: المعنى: من سَلَكَ الهُدَى فعَلَى الله سبيلُه، كقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9]، وهذا قول مجاهد (2) ، وهو أصحُّ
__________
(1) “معاني القرآن” (3/ 271).
قال شيخ الإسلام: “وهذا القول هو من الأقوال المُحْدَثة التي لم تُعرف عن السلف، وكذلك ما أشبهه، فإنهم قالوا: معناه: بيدك الخير والشرُّ، والنبيُّ – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الصحيح يقول: “والخير بيديك، والشرُّ ليس إليك”.
والله – تعالى – خالق كل شيءٍ: لا يكون في ملكه إلا ما يشاء، والقَدَرُ حقٌّ، لكن فَهْم القرآن، ووضع كل شيءٍ موضعه، وبيان حكمة الرَّبِّ وعدله مع الإيمان بالقَدَر؛ هو طريق الصحابة والتابعين لهم بإحسان”. “دقائق التفسير” (3/ 150).
(2) انظر: “معالم التنزيل” (8/ 447)، و”الجامع” (20/ 86)، وفيهما نسبة هذا القول إلى الفرَّاء، وهو في “معاني القرآن” له (3/ 271).
وانتصر له شيخ الإسلام وأطال في تقريره. “دقائق التفسير” (3/ 142 – 153).

(1/105)


الأقوال في الآية.
قال الواحديُّ: “علينا الهُدَى، أي: إنَّ الهُدَى يُوصِلُ صاحبه إلى الله، وإلى ثوابه وجنَّته” (1) .
وهذا المعنى في القرآن في ثلاثة مواضع: ههنا، وفي “النَّحْل” في قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9]، وفي “الحِجْر” قال: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) } [الحجر: 41].
وهو معنىً شريفٌ جليلٌ، يدلُّ على أنَّ سالك طريق الهُدَى يُوصِلُه طريقُهُ (2) إلى الله – عزَّ وجلَّ – ولابدَّ، والهُدَى هو الصراط المستقيم (3) فمن سلكه أوصله إلى الله تعالى، فذَكَرَ الطريق والغاية، فالطريقُ: الهُدَى، والغايةُ: الوصولُ إلى الله – عزَّ وجلَّ -، فهذه أشرفُ الوسائل، وغايتُها أَعْلَى الغايات.
ولمَّا كان مطلوبُ السالك إلى الله تحصيلَ مصالح دنياه وآخرته لم يتمَّ له هذا المطلوب إلا بتوحيد طلبهِ، والمطلوب منه. فأَعْلَمَهُ – سبحانه – أنَّ سواه لا يملك من الدنيا والآخرة شيئًا، وأَنَّ الدنيا والآخرة جميعًا له وحده، فإذا تيقَّنَ العبدُ ذلك اجتمع طَلَبُهُ ومطلُوبُهُ على مَنْ يملك الدنيا والآخرة وحده.
__________
(1) قال الواحديُّ في “الوجيز” (2/ 1209):
“أي: إن علينا أن نبيِّنَ طريق الهُدَى من طريق الضلال”.
وقريبٌ منه في “الوسيط” له (4/ 505)، وساق بعده قول الزجَّاج وقتادة.
(2) ساقط من (ن).
(3) “هو الصراط المستقيم” تكررت في (ن) مرتين.

(1/106)


فتضمَّنَتْ الآيتان أربعةَ أمورٍ، هي المطالب العالية:
1 – ذكرَ أَعْلَى الغايات؛ وهو الوصول إلى الله سبحانه.
2 – وأقربَ الطُّرُقِ والوسائلِ إليه، وهي طريقة الهُدَى.
3 – وتوحيدَ الطريقِ؛ فلا يُعدَلُ عنها إلى غيرها.
4 – وتوحيدَ المطلوبِ، وهو الحقُّ، فلا يُعدَل عنه إلى غيره.
فاقْتَبِسْ هذه الأمور من مشكاةِ هذه الكلمات، فإنَّ هذا غاية العلم والفهم، وَبالله التوفيق.
والهُدَى التَّامُّ يتضمَّنُ: توحيدَ المطلُوبِ، وتوحيدَ (1) الطَّلَبِ، وتوحيدَ الطريقِ المُوصِلة.
والانقطاعُ وتخلُّفُ الوصولِ يقع من (2) الشركة في هذه الأمور، أو في بعضها:
فالشركة في المطلوب تنافي التوحيد والإخلاص، والشركة في الطلب تنافي الصِّدْقَ والعزيمة، والشركة في الطريق تنافي اتِّبَاعَ الأمر.
فالأوَّل: يوقع في الشِّرْكِ، والرِّيَاء.
والثاني: يوقع في المعصيةِ، والبَطَالَةِ.
والثالث: يوقع في البدعةِ، ومُفَارَقَةِ السُّنَّةِ، فتأمَّلْهُ.
__________
(1) “المطلوب، وتوحيد” ملحق بهامش (ز).
(2) في (ك): مع.

(1/107)


فـ “توحيدُ المطلوب” يعصِمُ من الشِّرْك، و”توحيدُ الطلب” يعصِمُ من المعصية، و”توحيدُ الطريق” يعصِمُ من البدعةِ، والشيطانُ إنَّما يَنْصِبُ فَخَّهُ بهذه الطرق الثلاثة.
ولمَّا أقام – سبحانه – الدليلَ، وأنارَ السبيل، وأوضحَ الحُجَّةَ، وبيَّنَ المَحَجَّةَ = أنذرَ عبادَه عذابَه الذي أعدَّهُ لمن كذَّبَ خَبَرَهُ، وتولَّى عن طاعته. وجعلَ هذا الصِّنْفَ من النَّاس هم أشقاهم، كما جعل أَسْعَدَهم أهلَ التقوى والإحسان والإخلاص، فهذا الصِّنْفُ هو الذي يُجَنَّبُ (1) عذابه، كما قال تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) } [الليل: 17, 18]، فهذا المتَّقِي المُحْسِنُ، ولا يفعلُ ذلك إلا ابتغاءَ وجه ربِّه، فهو مُخْلِصٌ في تقواه وإحسانه.
وفي الآية إرشادٌ إلى أنَّ صاحب التقوى لا ينبغي له أن يتحمَّلَ مِنَنَ الخَلْق ونِعَمَهُم، وإن حَمَلَ منها شيئًا بادَرَ إلى جزائهم عليه؛ لئلَّا يبقى لأحدٍ من الخَلْقِ عليه نعمةٌ تُجْزَى، فيكون بعد ذلك عمله كلُّه لله وحده، ليس جزاءً للمخلوق على نعمته.
ونبَّه بقوله: {تُجْزَى (19) } على أنَّ نعمة الإسلام التي لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – على هذا الأتقى لا تُجْزَى، فإنَّ كلَّ ذي نعمةٍ يمكن جزاءُ نعمته إلا نعمة الإسلام، فإنَّها لا يمكن جزاؤها من المُنْعَمِ بها عليه (2) ، وهذا يدلُّ على أنَّ الصدِّيقَ – رضي الله عنه – أوَّلُ وأَوْلَى من ذُكِرَ في هذه الآية (3) ، وأنَّه
__________
(1) ضبطت في (ز): تَجنَّبَ، وما أثبته من (ن).
(2) العبارة في (ح) و (م) هكذا: فإنها لا يمكن المنعم بها عليه أن يجازيها.
(3) نقل جماعة من المفسرين الاتفاق على أنَّ المراد بـ “الأتقى”: أبو بكر الصدِّيق
– رضي الله عنه -؛ منهم: البغوي في “معالم التنزيل” (8/ 448)، والواحديُّ في =

(1/108)


أحقُّ الأُمَّة بها، فإنَّ عليًّا – رضي الله عنه – تربَّى في بيت النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، فَلِرَسُولِ الله – صلى الله عليه وسلم – عنده نعمةٌ غير نعمةِ الإسلام، يمكن أن تُجْزَى.
ونبَّهَ – سبحانه – بقوله: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)} على أنَّ من ليس لمخلوقٍ عليه نعمةٌ تُجْزَى لا يفعل ما يفعله إلا ابتغاءَ وجهِ ربِّهِ الأعلى، بخلاف من تطوَّقَ بِنِعَم المخلوقين ومِنَنِهِم، فإنَّه مُضطَرٌّ إلى أن يفعل لأجلهم، ويترك لأجلهم. ولهذا كان من كمال الإخلاص أن لا يجعل العبدُ عليه مِنَّةً لأحدٍ من النَّاس، لتكون معاملته كلها لله إبتغاء وجهه، وطلب مرضاته.
وكما أنَّ هذه الغايةَ أعلى الغايات، وهذا المطلوبَ أشرفُ المطالب؛ فهذه الطريقُ أقْصَدُ الطرق إليه، وأقربُها، وأقومُها، وبالله التوفيق.
__________
= “الوسيط” (4/ 505)، وابن عطية في “المحرر الوجيز” (15/ 484)، وابن الجوزي في “زاد المسير” (8/ 265).
وقد نبَّه جماعة من أهل العلم على أنَّ الآية وإن نزلت في سبب خاصٍّ – كما قيل في سبب نزولها – إلا أنَّ عموم اللفظ معتبر، فتشمل كلَّ من اتصف بالصفات المذكورة في تلك الآيات.
انظر: “تفسير ابن كثير” (8/ 422)، و”المحرر الوجيز” (15/ 484)، و”الجامع” (20/ 88).

(1/109)


فصل

ومن ذلك إقسامُهُ – سبحانه – بالضُّحَى {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)} [الضحى: 2] على إنعامه على رسوله – صلى الله عليه وسلم -، وإكرامه له، وإعطائه ما يرضيه، وذلك متضمِّنٌ لتصديقه له، فهو يُقْسِم (1) على صحَّةِ نُبَوَّته، وعلى جزائه في الآخرة، فهو قَسَمٌ على النُّبوَّة والمَعَاد.
وأقسم بآيتين عظيمتين من آياته؛ دالَّتَين على ربوبيته، وحكمته، ورحمته، وهما الليل والنَّهار.
فتأمَّلْ مطابقةَ هذا القَسَم – وهو نورُ الضُّحَى الذي يوافي بعد ظلام الليل – للمُقْسَم عليه؛ وهو نورُ الوحي الذي وَافَاهُ بعد احتباسِهِ عنه، حتَّى قال أعداؤُه: “وَدَّع محمدًا ربُّهُ” (2). فأقسَمَ بضوء النَّهار بعد ظلمة الليل على ضوء الوحي ونوره، بعد ظلمة احتباسه (3) واحتجابه.
__________
(1) من (ز)، وفي باقي النسخ: قَسَمٌ.
(2) روى مسلم في “صحيحه” رقم (1797) من طريق: سفيان، عن الأسود بن قيس: أنه سمع جُنْدبًا يقول:
“أبطأ جبريلُ على رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فقال المشركون: قد وُدِّعَ محمدٌ! فأنزل اللهُ – عزَّ وجلَّ -: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)} “.
وفي “الصحيحين” من حديث جندب بن سفيان البجلي – رضي الله عنه – قال: “اشتكى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فلم يقم ليلتين أو ثلاثًا، فجاءت امرأةٌ فقالت: يا محمد؛ إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أَرَهُ قَرِبَك منذ ليلتين أو ثلاثًا. فأنزل الله – عزَّ وجلَّ -: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} “.
البخاري رقم (1072، 4667، 4668، 4697)، ومسلم رقم (1797).
وذكر أهل التفسير أسبابًا أخرى لنزول هذه الآيات، تكلَّم عنها الحافظ في “الفتح” (8/ 593) وقال: “كل هذه الروايات لا تثبت”.
(3) من قوله: “عنه، حتى قال. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ز).

(1/110)


وأيضًا؛ فإنَّ الذي فَلَقَ ظلمةَ الليل عن ضوءِ النَّهار؛ هو الذي فَلَقَ ظلمة الجهل والشرك بنور الوحي والنُّبوَّة، فهذان للحِسِّ، وهذان للعقل.
وأيضًا؛ فإنَّ الذي اقتضت رحمتُهُ أن لا يترك عبادَهُ في ظلمة الليل سرمدًا، بل هداهم بضوء النَّهار إلى مصالحهم ومعايشهم = لا يليق به أن يتركهم في ظلمة الجهل والغَيِّ، بل يهديهم بنور الوحي والنُّبوَّة إلى مصالحهم في دنياهم وآخرتهم.
فتأمَّلْ حُسْنَ ارتباطِ المُقْسَم به بالمُقْسَم عليه، وتأمَّلْ هذه الجزالةَ والرَّوْنَقَ الذي على هذه الألفاظ، والجلالةَ التي على معانيها.
ونفَى – سبحانه – أن يكون ودَّعَ نبيَّهُ أو قَلَاهُ، فالتوديع: التَّرْكُ، والقِلَى: البُغْضُ، فما تَرَكَهُ منذ اعتنى به وأكرمه، ولا أبغَضَهُ منذ أحبَّهُ.
وأطلق – سبحانه – أنَّ الآخرة خيرٌ له من الأُولَى، وهذا يَعُمُّ كلَّ أحواله، وأنَّ كلَّ حالةٍ يُرقّيه إليها هي خيرٌ له ممَّا قبلها، كما أنَّ الدارَ الآخرة خيرٌ له ممَّا قبلها.
ثُمَّ وَعَدَهُ بما تَقَرُّ به عَيْنُهُ, وتفرَحُ به نفسُهُ، وينشرحُ به صدرُهُ، وهو أن يعطيه فَيُرضِيه (1)؛ وهذا يَعُمُّ ما يعطيه من القرآنِ، والهُدَى، والنَّصْرِ، وكثرةِ الأتْبَاع، ورَفْع ذِكْرِهِ، وإعلاءِ كلمتِه، وما يعطيه بعد مماته، وما يعطيه في موقف القيامة، وما يعطيه في الجَنَّة.
وأمَّا ما يغترُّ به الجُهَّالُ، من أنَّه لا يرضَى وواحدٌ من أُمَّته في النَّار،
__________
(1) في (ن) و (ح) و (م): فيرضى.

(1/111)


أو لا يرضَى أن يدخل أحدٌ من أُمَّته النَّار = فهذا منِ غرور الشيطان لهم، ولَعِبهِ بهم، فإنَّه -صلوات الله وسلامه عليه – يرضى بما يرضَى به ربُّهُ تباركَ وتعالى، وهو – سبحانه – يُدخِل النَّارَ من يستحقُّها من الكفار، والعُصَاة، والمنافقين من هذه الأُمَّة وغيرها (1) ، ثُمَّ يَحُدُّ لرسوله حَدًّا يشفع فيهم، ورسولُهُ أَعْرَفُ به وبحقِّهِ من أن يقول: لا أرضى أن تُدخِلَ أحدًا من أُمَّتي النَّار، أو تَدَعَهُ فيها، بل رَبُّهُ – تبارك وتعالى – يأذن له، فيشفع فيمن شاء اللهُ أن يشفع فيه، ولا يشفع في غير من أذِنَ له، ورضيَهُ تعالى (2) .
__________
(1) “والمنافقين من هذه الأمة وغيرها” ساقط من (ح) و (م).
(2) قول المؤلف – رحمه الله -: وأما ما يغتر به الجهَّال؛ من أنه لا يرضى أن. . . إلخ قد تابعه عليه جماعة من أهل العلم، منهم القسطلاني في “المواهب اللدنية” (3/ 195)، وعنه القاسمي في “محاسن التأويل” (7/ 340).
وهذا المعنى الذي ردَّهُ قد ورد مرفوعًا وموقوفًا:
فأما المرفوع؛ فهو مروي عن:
1 – علي – رضي الله عنه -؛ عَزَاه الزرقانيُّ في “شرح المواهب” (6/ 212 – 213) إلى الديلمي في “الفردوس”.
2 – وابن عباس – رضي الله عنهما -؛ أخرجه الخطيب البغدادي في “تلخيص المتشابه” (1/ 173) رقم (272) من طريق: عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس قال: حدثني أبي، عن جدي، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} قال: “لا يرضى محمدٌ وأحدٌ من أُمَّته في النار”.
وعبد الصمد بن علي: ذكره العقيلي في “الضعفاء” (3/ 837)، وقال الذهبي: “ليس بحجة”. “ميزان الاعتدال” (3/ 334).
وأما الموقوف؛ فهو عن:
1 – علي – رضي الله عنه -؛ عَزَاه الزرقانيُّ في “شرح المواهب” (6/ 213) إلى =

(1/112)


ثُمَّ ذكَّرهُ – سبحانه – بنعَمِهِ عليه؛ من إيوائه بعد يُتْمِهِ، وهدايتِهِ بعد الضلالة (1) ، وإغنائه بعد الفقر، فكان محتاجًا إلى من يُؤْوِيهِ، ويَهْدِيهِ، ويُغْنِيهِ، فآواه ربُّهُ وهدَاهُ وأغناه.
فأمَرهُ – سبحانه – أن يقابل هذه النِّعَمَ الثلاثةَ بما يليق بها من الشُّكْر؛ فنهَاهُ أن يقْهَرَ اليتيمَ، وأن يَنْهَرَ السائلَ، وأن يكتم النِّعْمةَ، بل
__________
= أبي نعيم في “الحلية”، ثم قال: “موقوف لفظًا، مرفوع حكمًا، إذ لا مدخل للرأي فيه”.
2 – وابن عباس – رضي الله عنهما -؛ أخرجه:
الديلمي في “الفردوس” رقم (7179)، والبيهقي في “شعب الإيمان” (4/ 64 – 65) رقم (1374) – بسند ضعيف – ولفظه: “رضاه أن تدخل أُمَّته كلهم الجنَّة”.
وعزاه السيوطي إلى الخطيب البغدادي في “تلخيص المتشابه”. “الدر المنثور” (6/ 610).
وأخرجه: ابن أبي حاتم – “تفسير ابن كثير” (8/ 426) -، وابن جرير في “تفسيره” (12/ 624)، ومن طريقه الثعلبي في “تفسيره” (10/ 224)، بلفظ: “من رِضى محمد – صلى الله عليه وسلم – ألا يدخل أحدٌ من أهل بيته النَّار”.
وأخرجه: أبو بكر الدينوري في “المجالسة وجواهر العلم” رقم (3010 و 3433)، عن جعفر بن محمد من قوله: “فلم يكن يرضى محمدٌ – صلى الله عليه وسلم – من ربِّه أن يُدخل أحدًا من أُمَّته النَّار”.
وقد نقل الزرقانيُّ في “شرح المواهب” (6/ 213) عن بعضهم ردَّه على ابن القيم ومن تبعه، وفي عبارته جفاء!
وأصل إرضائه – صلى الله عليه وسلم – في أُمَّته ثابتٌ في “صحيح مسلم” رقم (202) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – بلفظ: “إنَّا سنرضيكَ في أُمَّتك ولا نَسُوءُك”.
(1) في (ز): إضلاله!

(1/113)


يحدِّث بها. فأوصاه – سبحانه – باليتامى، والفقراء، والمتعلِّمين.
قال مجاهد، ومقاتل: “لا تحقر اليتيمَ، فقد كنتَ يتيمًا” (1).
وقال الفرَّاء: “لا تقهَرْهُ على ماله، فتذهب بحَقِّهِ لِضَعْفِهِ” (2).
وكذلك كانت العرب تفعل في أمر اليتامى، تأخذ أموالهم وتظلمهم (3)، فغَلَّظَ الخطابَ في أمر اليتيم، وكذلك من لا ناصر له يُغلَّظ في أمره، وهو نهيٌ لجميع المكلَّفِين.
{وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)}؛ قال (4) أكثر المفسِّرين: هو سائل المعروف والصدقة؛ لا تنهره إذا سأَلكَ، فقد كنتَ فقيرًا؛ فإمَّا أن تُطعِمه، وإمَّا أن تردَّهُ ردًّا لينًا.
وقال الحسن: “أَمَا إنَّه ليس بالسائل الذي يأتيك، ولكن طالب العلم”.
وهذا قول يحيى بن آدم (5)، قال: “إذا جاءك طالبُ العلم فلا
__________
(1) “تفسير مقاتل” (3/ 495).
وقول مجاهد أخرجه: ابن أبي حاتم في “تفسيره” (10/ رقم 19379)، وابن جرير الطبري في “جامع البيان” (12/ 625).
وزاد السيوطي نسبته إلى: ابن المنذر. “الدر المنثور” (6/ 612).
(2) “معاني القرآن” (3/ 274).
(3) انظر: “الوسيط” للواحدي (4/ 511)، و”معالم التنزيل” (8/ 457).
(4) أثبته من (ح) و (م).
(5) هو يحيى بن آدم بن سليمان القرشي، العلامة الحافظ، الثقة الثبت، صاحب تصانيف منها: “كتاب الخراج”، روى له الجماعة، توفي ببلدة “فَمْ الصِّلْح” =

(1/114)


تنهره” (1).
والتحقيق: أنَّ الآية تتناول النَّوعَين.
وقوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)}؛ قال مجاهد: “بالقرآن” (2).
قال الكلبي: “يعني: أَظْهِرْها، والقرآن أعظَمُ ما أنعم الله به عليه، فأمره أن يُقْرِئَهُ ويعلِّمَهُ” (3).
وروى أبو بِشْر (4)، عن مجاهد: “حَدِّثْ بالنُّبوَّة التي أعطاك
__________
= سنة (203 هـ) رحمه الله.
انظر: “تهذيب الكمال” (31/ 188)، و”السير” (9/ 522).
(1) ونُسب – أيضًا – إلى: أبي الدرداء – رضي الله عنه -، وسفيان الثوري.
ولم يذكر ابن كثير في “تفسيره” غيره (8/ 427).
وانظر: “معالم التنزيل” (8/ 458)، و”المحرر الوجيز” (15/ 492)، و”زاد المسير” (8/ 270)، و”الجامع” (20/ 101).
(2) أخرجه: ابن أبي حاتم في “تفسيره” (10/ رقم 19384).
وزاد السيوطي نسبته إلى: عبد بن حميد، وابن المنذر. “الدر المنثور” (6/ 612).
(3) انظر: “الوسيط” (4/ 513)، و”معالم التنزيل” (8/ 458)، و”المحرر الوجيز” (15/ 493).
(4) ضبط في (ز) بالسين المهملة: أبو بسر! وصوابه بالشين المعجمة كما في بقية النسخ والمصادر.
وأبو بِشْر هو: جعفر بن إياس، وهو ابن أبي وَحْشِيَّة اليَشْكُرِي، الواسطي، بصري الأصل، أحد الحفاظ، وثَّقَهُ جماعة، قال يحيى بن سعيد القطان: “كان شعبة يضعِّف حديث أبي بشر عن مجاهد”، توفي سنة (123 هـ) رحمه الله.
انظر: “تهذيب الكمال” (5/ 5)، و”السير” (5/ 465).

(1/115)


الله” (1) .
وقال الزجَّاجُ: “وبلِّغْ ما أُرسلْتَ به، وحدِّث بالنُّبوَّة التي آتاك، وهي أجلُّ النِّعَم” (2) .
وقال مقاتل: “اشكُرْ هذه النِّعَمَ التي ذُكِرَتْ في هذه السورة” (3) .
والتحقيق: أنَّ النِّعَم تعُمُّ هذا كلَّه، فأُمِر أن لا ينهر سائلَ المعروفِ والعلمِ، وأن يحدِّثَ بِنعَم الله عليه في الدنيا والدِّين.
__________
(1) أخرجه: ابن جرير في “جامع البيان” (12/ 625).
وزاد السيوطي نسبته إلى: سعيد بن منصور، وابن المنذر. “الدر المنثور” (6/ 612).
(2) “معاني القرآن” (5/ 340).
(3) “تفسير مقاتل” (3/ 495).

(1/116)


فصل

ومن ذلك إقسامُهُ – سبحانه – بـ {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات: 1] الآية وما بعدها. وقد اختلف الصحابة ومن بعدهم في ذلك:
فقال علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود – رضي الله عنهما -: “هي إبلُ الحاجِّ (1)، تَعْدُو من عَرَفَة إلى مزدلفة، ومن مزدلفة إلى مِنَى”.
وهذا اختيار: محمد بن كعب (2)، وأبي صالح، وجماعةٍ من المفسِّرين (3).
وقال عبد الله بن عباس: “هي خيل الغُزَاة”.
وهذا قول: أصحاب ابن عباس، والحسن، وجماعة (4).
__________
(1) في (ن) و (ك): للحاج.
(2) هو محمد بن كعب القُرَظي، سكن الكوفة ثم تحول إلى المدينة، كان ثقةً ثبتًا، يرسل كثيرًا، عالمًا بالقرآن من أئمة التفسير، زاهدًا ورعًا، كان جالسًا في مسجد الرَّبَذَة مع أصحابه فسقط عليهم سقف المسجد فماتوا جميعًا، وذلك سنة (108 هـ) رحمه الله.
انظر: “تهذيب الكمال” (26/ 340)، و”السير” (5/ 65).
(3) منهم: السُّدِّي، وعبيد بن عمير، والنخعي.
انظر: “المحرر الوجيز” (15/ 544)، و”زاد المسير” (8/ 294)، و”الجامع” (20/ 155).
(4) منهم: عطاء، ومجاهد، وأبو العالية، وعكرمة، وقتادة، وعطية العَوفي، والضحَّاك، والربيع، ومقاتل بن حيَّان، ومقاتل بن سليمان، وغيرهم كثيرٌ حتى قال القرطبي: “كذا قال عامة المفسرين، وأهل اللغة”. “الجامع” (20/ 153).
واختاره: ابن جرير الطبري في “جامع البيان” (12/ 667)، والسمعاني في “تفسيره” (6/ 270)، وأبو حيَّان في “البحر المحيط” (8/ 500)، وغيرهم.

(1/117)


واختاره: الفرَّاء (1)، والزجَّاج (2).
قال أصحاب قول “الإبل”: السورة مكِّيةٌ، ولم يكن ثَمَّ جهادٌ، ولا خيلٌ تجاهد، وإنَّما أقسَمَ بما يعرفونه ويَأْلَفُونَه، وهي إبل الحاجِّ إذا عَدَتْ من عرفة إلى مزدلفة، فهي “عَادِيَات”.
و”الضَّبْحُ” و”الضَّبْعُ”: مدُّ النَّاقة ضَبْعَها في السَّيْر (3)، يقال: ضَبَحَتْ، وضبَعَتْ؛ بمعنىً (4).
وأنشَدَ أبو عبيدة – وقد اختار هذا القول (5) -:
فكانَ لكُمْ أَجْرِي جميعًا وأَصبَحَت (6) … بي البَازِلُ الوَجْنَاءُ في الأَلِّ تَضْبَعُ (7)
__________
(1) “معاني القرآن” (3/ 285).
(2) “معاني القرآن” (5/ 353).
(3) وتسمَّى بـ “الضَّابِع”، والضَّبْع: العَضُد.
انظر: “إصلاح المنطق” لابن السكيت (196)، و”تهذيب اللغة” (4/ 219).
(4) كذا قال أبو عبيدة في “مجاز القرآن” (2/ 307)، وعنه تناقلها أهل اللغة.
انظر: “الإبدال” لابن السكيت (86)، و”الأمالي” لأبي علي القالي (2/ 70).
(5) البيت غير موجود في “مجاز القرآن” (2/ 307) المطبوع، وأبو عبيدة لم يختر القول بأنها الإبل، بل قال إنها الخيل.
(6) في (ن): وأضْبَحت – بالضاد المعجمة -، وهو تصحيف.
(7) في جميع النسخ: تضبح – بالحاء المهملة في آخره -، والتصحيح من المصادر. والبيت من أبيات عزاها الجاحظ في “الحيوان” (1/ 262) إلى: الجَدَليّ، والأبيات بدون الشاهد عزاها ياقوت في “معجم البلدان” (2/ 184) إلى: الغَطَمَّش الضَّبِّي. وذكره بدون نسبة: الأصمعي في “الإبل” – ضمن الكنز اللغوي – (67)، وابن دريد في “الجمهرة” (1/ 353) و (3/ 1264)، والسرقسطي في “الأفعال” (2/ 224).
“البَازِل”: إذا استكمل البعير سِنَّ الثامنة وطعن في التاسعة سُمِّي “بازلًا”، =

(1/118)


قالوا: فهي تعدو ضَبْحًا، فَتُوري بأخفافها النَّارَ من حَكِّ الأحجار بعضها ببعضٍ، فتثير النَّقْعَ -وهو الغُبار – بِعَدْوِها، فتتوسَّط (1) جَمْعًا وهو المزدلفة.
قال أصحاب قول “الخيل”: المعروف في اللغة أنَّ “الضَّبْحَ” أصواتُ أنفاس الخيل إذا عَدَوْنَ (2) ، والمعنى: والعادياتِ تضبح ضبحًا، أو: والعادياتِ ضابحةً، فتكون “ضَبْحًا” مصدرًا على الأوَّل، وحالًا على الثاني.
قالوا: والخيل هي التي تَضْبَحُ في عَدْوِها ضَبْحًا، وهو صوتٌ يُسْمَعُ من أَجْوَافِها، ليس بالصَّهِيل ولا الحَمْحَمَةِ، ولكنه صوت أنفاسها في أجْوَافِها (3) من شدَّة العَدْوِ.
قال الجُرْجَانيُّ (4) : “كلا القولين قد جاء في التفسير، إلا أنَّ
__________
= من البَزْل، وهو الشَّقُّ، وذلك أن نَابَه إذا طلع شقَّ اللحم عن مَنْبَته شَقًّا، وهو أقصى أسنان البعير، فليس بعد “البَازِل” سِنٌّ تسمى.
“الوَجْنَاء”: يقال: ناقةٌ وجْنَاء: تامة الخَلْق، غليظة لحم الوَجْنَة، صلبةٌ شديدةٌ، مشتقة من “الوجين”؛ وهي الحجارة أو الأرض الصلبة.
“الأَلُّ”: السير السريع، يقال: أَلَّ يَؤُلُّ ألًّا، إذا أسرع واهتزَّ.
والرواية في جميع المصادر: “الرَّمل” بدلًا عن: “الأَلّ”.
انظر: “المخصَّص” لابن سيده (2/ 138 و 186)، و”لسان العرب” (1/ 184 و 400) و (15/ 224).
(1) في (ح) و (م) بياء فتاء، فيكون المراد به: الغُبار. وما أثبته من باقي النسخ فيكون المراد به: الإبل، وهو الصواب؛ لأن الآيات تتكلم عنها، والتوسط من صفتها.
(2) انظر: “الصحاح” (1/ 385)، و”تهذيب اللغة” (4/ 219).
(3) من قوله: “من أجوافها. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ز).
(4) هو الحسن بن يحيى الجرجاني، وقد سبقت ترجمته (ص/ 17).

(1/119)


السياق يدلُّ على أنَّها الخيل، وهو قوله تعالى: {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) }، و”الإيرَاءُ” لا يكون إلا للحَافِرِ لصلابته، وأمَّا الخُفُّ ففيه لِينٌ واسترخاءٌ” انتهى.
قالوا: و”الضَّبْحُ” في الخيلِ أظهرُ منه في الإبل (1) ، و”الإيرَاءُ” لسَنَابِكِ الخيل أَبْيَنُ منه لأخفاف الإبل.
قالوا: و”النَّقْعُ” هو الغُبار، وإثارة الخيل بعَدْوِها له أظهر من إثارة أخفاف الإبل؛ لأنَّها لصلابة حَوَافِرها وسنابكها تثير من الغُبار بعَدْوِها ما لا تثيره أخفاف الإبل. والضمير في “به” عائدٌ على المكَان الذي تعدو فيه.
قالوا: وأعظم ما يَثُورُ الغُبارُ عند الإغَارَة إذا توسَّطَت الخيلُ جَمْعَ العَدُوِّ، لكثرةِ حركتها واضطرابها في ذلك المكان.
وأمَّا حمل الآية على إثارة الغُبار في وادي “مُحَسِّر” عند الإغارة = فليس بالبيِّنِ، ولا يثُور هناك غُبارٌ في الغالب؛ لصلابة المكان.
قالوا: وأمَّا قولكم إنَّه لم يكن بمكَّة حين نزول الآية جهادٌ ولا خيلُ مجاهدين، فهذا لا يلزِم؛ لأنَّه – سبحانه – أقسَمَ بما يعرفونه من شأن الخيل إذا كانت في غزْوٍ، فأَغَارَتْ فأَثَارَت النَّقْعَ، وتوسَّطَت جَمْعَ العَدُوِّ، وهذا أمرٌ معروفٌ.
وذِكْرُ خيلِ المجاهدين أحقُّ ما دخل في هذا الوصف، فذِكْرُهُ على وجهِ التمثيل لا الاختصاص، فإنَّ هذا شأنُ خيل المقاتِلة، وأشرف أنواع
__________
(1) انظر: “لسان العرب” (8/ 13)، و”تاج العروس” (6/ 562).

(1/120)


هذا الخيل: خيلُ المجاهدين (1).
والقَسَمُ إنَّما وقع بما تضمَّنه شأن هذه “العاديات” من الآيات البيِّنات من خلق هذا الحيوان الذي هو من أكرم الحيوان البهيم وأشرفه، وهو الذي يحصل به الغَزْوُ (2) والظَّفَر، والنَّصْرُ على الأعداء، فتَعْدُو طالبةً للعَدُوِّ وهاربةً منه، فَيُثيرُ عَدْوُها الغُبارَ لشدَّتِهِ، وتُورِي حَوَافِرُها وسَنَابِكُها النَّارَ من الأحجار؛ لشدَّة عَدْوِها، فَتُدْرِكُ الغَارَة التي طَلَبَتْها حتَّى تتوسَّط جَمْعَ الأعداء، فهذه من أعظم آيات الرَّبِّ – تعالى – وأدلَّةِ قدرته وحكمته.
فذكَّرَهم بِنعَمِه عليهم في خلق هذا الحيوان الذي ينتصرون به على أعدائهم، ويُدْرِكُون به ثأْرَهم. كما ذكَّرهم – سبحانه – بِنعَمِه (3) عليهم في خلق الإبل التي تحمل (4) أثقالهم من بلدٍ إلى بلدٍ، فالإبلُ أَخَصُّ بحَمْلِ الأثقال، والخيلُ أخصُّ بنُصْرَةِ الرجال، فذكَّرَهم بنعَمِه بهذا وهذا.
وخصَّ الإغارة بالصُّبْح؛ لأنَّ العَدُوَّ لم ينتشروا إذ ذاك، ولم يفارقوا مَحَلَّهم (5)، وأصحاب الإغارة جامُّون مستريحون، يبصرون مواقع الغَارَة، والعَدُوُّ لم يأخذوا أُهْبَتَهم، بل هم في غِرَّتِهم وغَفْلَتِهم، ولهذا كان النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – إذا أرادَ الغَارَة صبر حتَّى يطلع الفجر، فإن سمع
__________
(1) وقد رجَّح المؤلف أنَّها “الخيل” من ستة أوجه في كتابه “الفروسية” (56 – 59).
(2) من (ز)، وفي باقي النسخ: العِزُّ.
(3) ساقط من (ز).
(4) ساقط من (ز).
(5) في (ن) و (ز): محلتهم.

(1/121)


مُؤَذِّنًا أَمْسَكَ، وإلا أَغَارَ (1).
ولمَّا علم أصحاب الإبل أنَّ أَخْفَافَها أَبْعَدُ شيءٍ من وَرْي النَّارِ؛ تأوَّلُوا الآيةَ على وجوهٍ بعيدة.
فقال محمد بن كعب القُرَظي: “هُمُ الحاجُّ إذا أوقدوا نيرانَهم ليلةَ المزدلفة” (2).
وعلى هذا فيكون (3) التقدير: فالجماعات المُورِيَات.
وهذا خلاف الظاهر؛ وإنَّما “المُورِيات” هي: العَادِيَات، وهي: المُغِيرات.
روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس: “هم الذين يغيرون، فَيُورُون بالليل نيرانهم لطعامهم وحاجتهم” (4). كأنَّه أخَذَهُ من قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)} [الواقعة: 71].
وهذا إن أُريد به التمثيل، وأنَّ الآية تدلُّ عليه = فصحيحٌ. وإن أُريد به اختصاص “الموريات” به فليس كذلك؛ لأنَّ “الموريات” هي
__________
(1) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (610، 2943)، ومسلم في “صحيحه” رقم (382)؛ من حديث أنس – رضي الله عنه -.
(2) انظر: “معالم التنزيل” (8/ 508)، و”زاد المسير” (8/ 296).
وعزاه السيوطي في “الدر المنثور” (6/ 653) إلى: عبد بن حميد.
(3) أثبته من (ح) و (م).
(4) أخرجه: ابن جرير في “جامع البيان” (12/ 668) رقم (37794)، وابن أبي حاتم في “تفسيره” (10/ رقم 19442).
وعزاه السيوطي إلى: ابن الأنباري في “المصاحف”، والحاكم، وابن مردويه. “الدر المنثور” (6/ 652).

(1/122)


العاديات بعينها، ولهذا عطفها عليها بـ “الفاء” التي للتسبيب (1) ، فإنَّها عَدَتْ فأَوْرَتْ.
وقال قتادة: “الموريات” هي الخيلُ؛ تُورِي نارَ العداوة بين المُقْتَتِلين” (2) .
وهذا ليس بشيء، وهو بعيدٌ من معنى الآية وسياقها.
وأضعف منه قول عكرمة: “هي الألسنةُ؛ تُورِي نارَ العداوة بِعِظَم ما تتكلَّم به” (3) .
وأضعف منه ما ذكر عن مجاهد: “هي أفكار الرجال؛ تُورِي نارَ المكر والخديعة في الحرب” (4) .
وهذه الأقوال إن أُريد بها أنَّ اللفظَ دلَّ عليها وأنَّها هي المراد = فَغَلَطٌ، وإن أُريد أنَّها أُخِذت من طريق الإشارة والقياس؛ فأمرها قريبٌ (5) .
__________
(1) في (ز) و (ن) و (ط): للسبب.
(2) أخرجه: ابن جرير في “جامع البيان” (12/ 668).
(3) أخرجه: ابن جرير في “جامع البيان” (12/ 668).
(4) أخرجه: ابن جرير في “جامع البيان” (12/ 668).
وعزاه السيوطي إلى: عبد بن حميد، والفريابي. “الدر المنثور” (6/ 653).
وأخرجه: عبد الرزاق في “تفسيره” (2/ 390)، وابن أبي حاتم في “تفسيره” (10/ رقم 19444)، وابن جرير في “جامع البيان” (12/ 668): من طريق عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس – رضي الله عنهما -.
وزاد السيوطي نسبته إلى: سعيد بن منصور، وابن المنذر. “الدر المنثور” (6/ 652).
(5) قال ابن جرير الطبري – رحمه الله – في “جامع البيان” (12/ 669):
“وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله – تعالى ذكره – أقسَمَ =

(1/123)


وتفسير النَّاس يدور على ثلاثة أصول:
1 – تفسيرٌ على اللفظ؛ وهو الذي ينحو إليه المتأخرون.
2 – وتفسيرٌ على المعنى؛ وهو الذي يذكره السلف.
3 – وتفسيرٌ على الإشارة والقياس؛ وهو الذي ينحو إليه كثيرٌ من الصوفية وغيرهم. وهذا لا بأس به بأربعة شرائط:
1 – أن لا يناقض معنى الآية.
2 – وأن يكون معنىً صحيحًا في نفسه.
3 – وأن يكون في اللفظ إشعارٌ به.
4 – وأن يكون بينه وبين معنى الآية ارتباطٌ وتلازُمٌ.
فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة كان استنباطًا حسنًا.
وأضعفُ من ذلك كلِّه قولُ ابنِ جُريج: ” {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) } يعني: فالمُنْجِحَات أَمْرًا، يريد البالغين نُجْحَهُم فيما طلبوه” (1) .
وعطف قوله: {فَأَثَرْنَ} و {فَوَسَطْنَ} – وهما فِعْلَان – على:
__________
= بـ “الموريات” التي توري النيران قدحًا، فالخيل توري بحوافرها، والنَّاس يورونها بالزَّند، واللسان – مثلًا – يوري بالمنطق، والرجال يورون بالمكر – مثلًا -، وكذلك الخيل تهيِّج الحرب بين أهلها إذا التقت في الحرب، ولم يضع الله دلالةً على أن المراد من ذلك بعضٌ دون بعضٍ، فكلُّ ما أورت النَّار قدحًا؛ فداخلة فيما أقسَمَ به، لعموم ذلك بالظاهر”.
وانظر: “المحرر الوجيز” (15/ 545)، و”الجامع” (20/ 157).
(1) انظر: “الجامع” للقرطبي (20/ 157).

(1/124)


العاديات، والموريات؛ لما فيه من معنى الفعل، وكان ذكرُ (1) الفعل في “أثَرْنَ” و”وَسَطْنَ” أحسنَ من ذكر الاسم؛ لأنَّه – سبحانه – قَسَّمَ أفعالهنَّ إلى قسمين: وسيلةٍ، وغايةٍ.
فالوسيلة هي العَدْوُ وما يتبعه من الإيْرَاءِ والإغَارَةِ.
والغاية هي توسُّط الجَمْعِ وما يتبعه من إثارة النَّقْع.
فهُنَّ عادياتٌ، مورياتٌ، مُغِيراتٌ، حتَّى يتوَسَّطْنَ الجَمْعَ، ويُثِرنَ النَّقْعَ.
فالأوَّلُ: شَأنُهُنَّ الذي أُعْدِدْنَ له.
والثاني: فعلُهُنَّ الذي انْتَهَين إليه، والله أعلم.
<رمز>فصل (2) </رمز>
فهذا شأن القَسَم، وأمَّا شأن المُقْسَم عليه فهو حال الإنسان، وهو كونُ الإنسان كَنُودًا -بشهادته على نفسه، أو شهادة ربِّه عليه -، وكونُه بخيلًا لحُبِّه المال.
و”الكَنُود”: الكَفُور للنِّعمة، وفعله: كَنَدَ يَكْنُدُ كُنُودًا، مثل: كَفَرَ يَكْفُرُ كُفُورًا. والأرض الكَنُود: التي لا تنبت شيئًا، وامرأةٌ كُنُدٌ أي: كَفُورٌ للمعاشرة (3).
وأصل اللفظة: مَنْعُ الحقِّ والخير، ورجلٌ كَنُودٌ: إذا كان مانعًا لما
__________
(1) في (ز): ذلك.
(2) من (ح) و (م)، وبياض في (ن) و (ط).
(3) انظر: “مقاييس اللغة” (5/ 140)، و”لسان العرب” (12/ 164).

(1/125)


عليه من الحقِّ. وعبارات المفسِّرين تدور على هذا المعنى.
قال ابن عباس – رضي الله عنهما – وأصحابُه: “هو الكَفُور” (1) .
وقيل: هو البخيل الذي يمنع رِفْدَهُ، ويُجيع عبدَهُ، ولا يعطي في النَّائبة (2) .
__________
(1) أخرجه: ابن أبي حاتم في “تفسيره” (10/ رقم 19445)، وابن جرير في “جامع البيان” (12/ 672)، والحاكم في “المستدرك” (2/ 532).
وعزاه السيوطي إلى: عبد بن حميد، وسعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن مردويه. “الدر المنثور” (6/ 653).
وبمثل قول ابن عباس قال: مجاهد، وإبراهيم النخعي، وأبو الجوزاء، وأبو العالية، وأبو الضحى، وسعيد بن جبير، ومحمد بن قيس، والضحَّاك، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، وابن زيد. “تفسير ابن كثير” (8/ 467).
(2) روي عن أبي أمامة – رضي الله عنه – موقوفًا ومرفوعًا.
فأما المرفوع؛ فأخرجه: ابن جرير في “جامع البيان” (12/ 672)، وابن أبي حاتم – كما ذكر ابن كثير (8/ 467) -، والطبراني في “الكبير” (8/ رقم 7778 و 7958)، والسمعاني في “تفسيره” (6/ 271)، والواحدىُّ في “الوسيط” (4/ 545)، والثعلبي في “تفسيره” (10/ 271)، كلُّهم من طريق: جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة – رضي الله عنه – قال:
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إن الإنسان لربه لكنود” قال: “الكفور؛ الذي يأكل وحده، ويضرب عبده، ويمنع رِفْده”.
وزاد السيوطي نسبته إلى: ابن مردويه، والبيهقي، وابن عساكر، ثم قال: “بسندٍ ضعيف”. “الدر المنثور” (6/ 654).
قال ابن حِبَّان: “روى جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة نسخةً موضوعةً أكثر من مئة حديث، منها … فذكره”. “المجروحين” (1/ 250).
وقال الهيثمي: “رواه الطبراني بإسنادين، في أحدهما: جعفر بن الزبير، وهو ضعيف، وفي الآخر من لم أعرفه”. “مجمع الزوائد” (7/ 142).
وأما الموقوف؛ فأخرجه: البخاري في “الأدب المفرد” رقم (160)، وابن =

(1/126)


وقال الحسن: “هو اللوَّامُ لربِّهِ، يَعُدُّ المصائبَ، ويَنْسَى النِّعَمَ” (1).
قال محمود الورَّاق (2) في ذلك:
يا أيُّها الظالمُ في فعله … والظلمُ مردودٌ على مَنْ ظلَمْ
إلى متَى أنتَ، وحتَّى متى … تَشْكُو المُصِيبَاتِ، وتَنْسَى النِّعَمْ (3).
وأمَّا قوله تعالى: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7)}؛ فقال ابن عباس:
__________
= أبي حاتم في “العلل” (2/ 330) رقم (1725)، وابن جرير في “جامع البيان” (12/ 673)، والدارقطني في “المؤتلف والمختلف” (2/ 595).
وزاد السيوطي نسبته إلى: عبد بن حميد، والحكيم الترمذي، وابن مردويه. “الدر المنثور” (6/ 654).
قال الألباني: “ضعيفٌ موقوفًا، وروي عنه مرفوعًا بسندٍ واهٍ جدًا”. “ضعيف الأدب المفرد” رقم (31).
(1) أخرجه: ابن جرير في “جامع البيان” (12/ 672)، وابن أبي حاتم في “تفسيره” (10/ رقم 19446)، وابن أبي الدنيا في “الشكر” رقم (62)، ومن طريقه البيهقي في “شعب الإيمان” (8/ 507 – 508) رقم (4309).
وعزاه السيوطي – أيضًا – إلى: سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر. “الدر المنثور” (6/ 654).
(2) هو محمود بن الحسن الورَّاق البغدادي، خيِّرٌ دَيِّنٌ، وشاعرٌ مجوِّدٌ، سائر نظمه
في المواعظ والحِكَم، لازمه ابن أبي الدنيا فاستفاد منه، وتأدَّبَ به، وروى عنه، توفي في خلافة المعتصم، في حدود سنة (230 هـ) رحمه الله.
انظر: “تاريخ بغداد” (13/ 87)، و”السير” (11/ 461).
(3) ذكره عنه ابن أبي الدنيا في “الشكر” (31)، ومن طريقه البيهقي في “شعب الإيمان” (8/ 508) رقم (4310).
ومن قوله: “قال محمود الوراق. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ح) و (م)، وملحق بهامش (ن).

(1/127)


“يريد: وإنَّ ربَّهُ على ذلك لشهيد” (1) .
وقيل: وإنَّ الإنسان لشهيدٌ على ذلك، إن أنكره بلسانه شَهِد به عليه (2) حاله (3) .
ويؤيِّد هذا القول اتِّسَاقُ الضمائر، فإنَّ قوله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) } للإنسان، فافتتحَ الخبرَ عن الإنسان بكونه كَنُودًا، ثُمَّ ثنَّاهُ بكونه (4) شهيدًا على ذلك، ثُمَّ ختمَهُ بكونه بخيلًا بماله لحُبِّهِ إيَّاهُ.
ويؤيِّدُ قولَ ابن عباس – رضي الله عنهما – أنَّه أتى بـ “على” فقال: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) } أي: مطَّلِعٌ عالمٌ به، كقوله تعالى: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) } [يونس: 46]، ولو أُريد شهادةُ الإنسان لأَتَى بـ “الباء”، فقيل: وإنَّه بذلك لشهيدٌ؛ كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: 17]، فلو أراد شهادةَ الإنسان لقال: وإنَّه على نفسه لشهيد، فإنَّ كُنُودَه هو المشهودُ به، ونفسه هي المشهودُ عليها.
__________
(1) وقال به – أيضًا -: قتادة، وسفيان الثوري، وابن جريج، ومجاهد، ومقاتل بن سليمان، “وهو قول أكثر المفسرين”.
انظر: “معالم التنزيل” (8/ 509)، و”الجامع” (20/ 162).
(2) في (ز): شهيد عليه به.
(3) مروي عن ابن عباس – أيضًا -، وقال به: الحسن، وقتادة، ومجاهد، ومحمد بن كعب القرظي، وابن كيسان، وغيرهم.
انظر: “المحرر الوجيز” (15/ 549)، و”تفسير ابن كثير” (8/ 467)، و”الجامع”، (20/ 162).
(4) ساقط من (ز).

(1/128)


ثُمَّ قال تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)}، و”الخَير” ها هنا: المالُ باتفاق المفسِّرين (1).
و”الشَّدِيد”: البخيل، والمعنى: وإنَّه لبخيلٌ من أَجْل حُبِّ المال، فحُبُّ المال هو الذي حمله على البُخْل، هذا قول الأكثرين (2).
وقال ابن قتيبة: “بل المعنى: إنَّه شديدُ الحُبِّ للخير، فتكون “اللَّامُ ” في قوله {لِحُبِّ الْخَيْرِ} متعلِّقةً بقوله: {لَشَدِيدٌ (8)} على حدِّ تعلُّقِ قولك: إنَّهُ لِزَيْدٍ لَضَارِبٌ” (3).
__________
(1) قال الألوسي: “وورد بهذا المعنى في القرآن كثيرًا، حتى زعم عكرمة أن “الخير” حيث وقع في القرآن فهو المال. وخصَّهُ بعضهم بالمال الكثير، وفُسِّر به في قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] “. “روح المعاني” (15/ 445)
وأُطلق “الخير” في القرآن على معانٍ كثيرة، أوصلها الثعالبي إلى اثنين وعشرين وجهًا. “الأشباه والنظائر” (133).
وفسَّره ابن زيد بـ: الدنيا، وهذا لا يتعارض مع ما ذكره ابن القيم هنا، ولهذا قال ابن عطية: “ويحتمل أن يريد هنا الخير الدنيوي من مالٍ، وصحةٍ، وجاهٍ عند الملوك ونحوه”. “المحرر الوجيز” (15/ 550).
(2) انظر: “جامع البيان” (12/ 673)، و”البحر المحيط” (8/ 502).
(3) المفسرون ينقلون هذا القول عن الفرَّاء أحد أئمة الكوفيين.
قال الفرَّاء: “أصل نظم الآية أن يقال: وإنه لشديدُ الحُبِّ للخير، فلمَّا قدَّم “الحبَّ” قال: لشديد، وحَذَفَ من آخره ذكر “الحُبِّ”؛ لأنَّه قد جرى ذكره، ولرؤوس الآي، كقوله: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18] والعُصُوف للريح لا لليوم، كأنَّه قال: في يومٍ عاصِفِ الريح”. “معاني القرآن” (3/ 285 – 286).
وانظر: “جامع البيان” (12/ 673)، و”الجامع” (20/ 162 – 163).
وذكر ابن الجوزي أنَّ ابن قتيبة يقول بقول الأكثرين. “زاد المسير” (8/ 297)، وانظر “تأويل مشكل القرآن” (200).

(1/129)


ومَنَعَت طائفةٌ من النُّحَاة أن يعمل ما بعد “اللَّام” فيما قبلها، وهذه الآيات حُجَّةٌ على الجواز، فإنَّ قوله: {لِرَبِّهِ} معمول {لَكَنُودٌ (6) }، وقوله: {عَلَى ذَلِكَ} معمول {لَشَهِيدٌ (7) }، ولا وجه للتكلُّف البارد في تقدير عامِلٍ مقدَّمٍ محذوفٍ يفسِّرُه هذا المذكور، فالحقُّ جوازُ: إنِّي لِزَيْدٍ لَضَارِبٌ.
فوصف – سبحانه – الإنسانَ بكفران نِعَمِ رَبِّهِ، وبُخْلِهِ بما آتاه من الخير، فلا هو شكورٌ لِنعَمِ الله، ولا محسِنٌ إلى خلق الله، بل بخيلٌ بشكر الله، بخيل بمال الله، وهذا ضِدُّ المؤمن الكريم، فإنَّه مخلِصٌ لربِّهِ، محسِنٌ إلى خلقه (1) ، فالمؤمن له الإخلاص والإحسان، والفاجر له الكفر والبخل.
وقد ذَمَّ الله – سبحانه – هذين الخُلُقَين المُهْلِكَين في غير موضعٍ من كتابه، كقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7) } [الماعون: 4 – 7]، فلا إخلاص ولا إحسان.
وكذلك قوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} الآية [الحديد: 23, 24]، فاختيال الإنسان وفَخْرُهُ من كُفْرِه وكُنُودِه، وهذا ضدُّ قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) } [البقرة: 3]، وقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} الآية (2) [النساء: 36].
__________
(1) من قوله: “بل بخيلٌ بشكر الله. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ح).
(2) ساقط من (ز).

(1/130)


وكذلك ذَكَرَ الخُلُقَين الذَّمِيمَين في قوله عزَّ وجَلَّ: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 38] إلى قوله (1) : {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} [النساء: 39].
ونظيره ما تقدَّمَ (2) في سورة “الليل” من ذَمِّ المستغني البخيل، ومَدْحِ المعطي المُصَدِّق بالحُسْنَى.
ونظيره ذَمُّ الهُمَزَةِ اللُّمَزَة (3) {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) } [الهمزة: 2]، فإنَّ “الهَمْزَ” و”اللَّمْزَ” من الفَخْر والكِبْر، وجمْعَ المال وتعديدَهُ من البُخْل، وذلك مُنَافٍ لِسِرِّ الصلاة والزكاة ومقصودِهما.
ثُمَّ خوَّفَ – سبحانه – الإنسانَ الذي هذا وَصْفُه حين يُبَعْثَرُ ما في القبور؛ أي: يُثَارُ ويُخرَجُ، ويُحصَّلُ ما في الصدور؛ أي: مُيِّزَ، وجُمِعَ، وبُيِّنَ، وأُظهِرَ، ونحو ذلك.
وجمع – سبحانه – بين القبور والصدور، كما جمع بينهما النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – في قوله: “مَلأَ اللهُ أَجْوَافَهم وقُبُورَهم نارًا” (4) ، فإنَّ الإنسانَ يواري صدرُهُ
__________
(1) ساقط من (ن)، وفي (ك) و (ح) و (م): ونظيره!
(2) راجع (ص/ 89)، وكلمة “نظيره” أثبتها من (ح) و (م)، وسقطت من باقي النسخ.
(3) ساقط من (ك).
(4) أخرجه – بهذا اللفظ -: مسلم في “صحيحه” رقم (628) من حديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -.
وأخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (4259) من حديث علي – رضي الله عنه – بلفظ: “ملأ الله قبورهم وبيوتهم، أو أجوافهم – شكَّ يحيى بن سعيد =

(1/131)


ما فيه من الخير والشرِّ، ويواري قبرُهُ جسمَهُ، فيُخرِجُ الرَّبُّ جسمَهُ من قبره، وسِرَّهُ من صدره، فيصير جسمُهُ بارزًا على الأرض، وسِرُّهُ باديًا على وجهه، كما قال تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن: 41]، وقال تعالى: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)} [القلم: 16].
ومفعول العلم: “إنَّ” وما عَمِلَت فيه، وكُسِرَتْ لمكان “اللَّام”.
وقيَّدَ – سبحانه – كونه خبيرًا بهم ذلك اليوم – وهو خبيرٌ بهم في كلِّ وقتٍ – إيذانًا بالجزاء، وأنَّه يجازيهم في ذلك اليوم بما يعلمه منهم، فذكر العلم والمرادُ لازِمُهُ، والله أعلم.
__________
= القطَّان – نارًا”.
وأخرجه: البخاري رقم (2773 و3885 و6033)، ومسلم رقم (627) من حديث علي – رضي الله عنه – بلفظ: “ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا”.
وفي لفظ لمسلم: “ملأ الله قبورهم نارًا، أو بيوتهم، أو بطونهم – شكَّ شعبة في البيوت والبطون -“. وانظر “فتح الباري” (8/ 47).

(1/132)


فصل

ومن ذلك إقسامُهُ – سبحانه – بـ “العَصْر” على حال الإنسان في الآخرة، وهذه السورة على غاية اختصارها لها شأنٌ عظيمٌ، حتَّى قال الشافعيُّ رحمه الله: “لو فكَّرَ النَّاسُ كلُّهم فيها لَكَفَتْهُم” (1).
و”العَصْر” المُقْسَمُ به:
قيل: هو الوقت الذي يلي المغرب من النَّهار (2).
وقيل: هو آخر ساعةٍ من (3) ساعاته.
وقيل: المراد صلاة العَصْر (4).
وأكثر المفسِّرين على أنَّه الدَّهْر (5)، وهذا هو الراجح.
وتسميةُ “الدَّهْرِ” عَصْرًا أمرٌ معروفٌ في لغتهم، قال:
ولن يَلْبَثَ (6) العَصْرَانِ: يومٌ وليلةٌ … إذا طَلَبَا أَنْ يُدْرِكَا ما تَيَمَّمَا (7)
__________
(1) انظر: “تفسير ابن كثير” (8/ 479).
(2) قال به: ابن عباس، وقتادة، وزيد بن أسلم، والحسن.
انظر: “الجامع” (20/ 179)، و”الدر المنثور” (6/ 667).
(3) “ساعةٍ من” ساقط من (ز).
والأثر مشهورٌ من قول قتادة، أخرجه عبد الرزاق في “تفسيره” (2/ 394).
(4) وهو قول مقاتل بن سليمان في “تفسيره” (3/ 516).
(5) قال ابن جرير الطبري – رحمه الله – في “جامع البيان” (12/ 684):
“والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنَّ ربَّنا أقسمَ بالعَصْر، والعَصْر: اسمٌ للدهر، وهو العَشِيُّ، والليل والنهار، ولم يخصِّص مما شمله هذا الاسم معنىً دون معنىً، فكل ما لزمه هذا الاسم، فداخلٌ فيما أقسم الله به – جلَّ ثناؤه -“.
(6) في (ك): نبرح، وفي (ن): يبرح، وصححه الناسخ في الهامش.
(7) البيت لحُمَيد بن ثَور الهلالي “ديوانه” (8).

(1/133)


و”يومٌ وليلةٌ” بدلٌ من: العَصْرَان.
فأقسَمَ – سبحانه – بـ “العَصْر” لمكان العبرة والآية فيه، فإنَّ مرورَ الليل والنَّهار على تقديرٍ قدَّرَهُ العزيزُ العليمُ، منتظِمٍ لمصالح العالم على أكمل ترتيب ونظام، وتعاقبِهما واعتدالِهما تارةً، وأخذِ أحدهما من صاحبه تارةً، واختلافِهما في الضوء، والظلام، والحرِّ، والبرد، وانتشارِ الحيوان وسُكُونِه، وانقسامِ “العَصْر” إلى: القُرُون، والسنين، والأشهر، والأيام، والساعات وما دونها = آيةٌ من آيات الرَّبِّ – تعالى – وبرهانٌ من براهين قدرته وحكمته.
فأقسَمَ بـ “العَصْر” الذي هو زمانُ أفعال الإنسان ومَحَلُّها على عاقبة تلك الأفعال وجزائها، ونبَّهَ بالمَبْدَأ وهو خَلْقُ الزَّمَان والفاعلين وأفعالهم على المَعَاد، وأنَّ قدرته كما لم تقصر عن المبدأ لم تقصر عن المَعَاد، وأنَّ حكمته التي اقتضت خَلْقَ الزَّمان وخَلْقَ الفاعلين وأفعالهم – وجعلها قسمين: خيرًا وشرًّا – تأْبَى أن يُسَوِّي بينهم، وأن لا يُجَازِي المُحسِنَ بإحسانه، والمسيءَ بإساءته، وأن يجعل النَّوعَين رابحِين أو خاسرين، بل الإنسان من حيث هو إنسانٌ: خاسرٌ، إلا من رحِمه اللهُ، فهَدَاهُ ووفَّقه للإيمان والعمل الصالح في نفسه، وأمَرَ غيرَهُ به. وهذا نظير ردِّه الإنسانَ إلى أسفل سافلين، واستثنائِهِ الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هؤلاء المردودين.
وتأمَّلْ حكمة القرآن لمَّا قال: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} ضيَّقَ الاستثناءَ وخصَّصَهُ، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}. ولمَّا قال: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)} وسَّعَ الاستثناءَ وعمَّمَهُ، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ولم يقل:

(1/134)


{وَتَوَاصَوْا}؛ فإنَّ التَّوَاصي هو أَمْرُ الغَير بالإيمان والعمل الصالح، وهو قدرٌ زائدٌ على مجرَّدِ فعله، فمن لم يكن كذلك فقد خَسِر هذا الربح، فصار في خُسْرٍ، ولا يلزم أن يكون في أسفل سافلين، فإنَّ الإنسان قد يقوم بما يجب عليه ولا يأمر غيره به (1)، فإنَّ الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر مرتبةٌ زائدةٌ؛ وقد يكون فرضًا على الأعيان، وقد يكون فرضًا على الكفاية، وقد يكون مستحبًّا.
و”التواصي بالحقِّ” يدخل فيه: الحقُّ الذي يجب، والحقُّ الذي يستحب. و”الصبر” يدخل فيه: الصبر الذي يجب، والصبر الذي يستحب.
فهؤلاء إذا تواصوا بالحقّ وتواصوا بالصبر حصل لهم من الربح ما خسره أولئك الذين قاموا بما يجب عليهم في (2) أنفسهم ولم يأمروا غيرهم به، وإن كان أولئك لم يكونوا من الذين خسروا أنفسهم وأهليهم.
فمُطْلَقُ الخَسَار شيءٌ, والخَسَارُ المطلقُ شيءٌ، وهو – سبحانه – إنَّما قال: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)}، ومن ربح في سلعةٍ وخسر في غيرها قد يطلق عليه أنَّه: في خُسْرٍ، وأنَّه: ذو خُسْرٍ، كما قال عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما -: “لقد فرَّطْنا في قَرَارِيطَ كثيرةٍ” (3) (4)، فهذا
__________
(1) من (ط)، وسقط من باقي النسخ.
(2) في (ز): من.
(3) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (1260)، ومسلم في “صحيحه” رقم (945)؛ من طريق جرير بن حازم قال: سمعتُ نافعًا يقول:
حُدِّثَ ابنُ عمر: أنَّ أبا هريرة – رضي الله عنهم – يقول: “من تَبِعَ جَنازةً فله قيراطٌ” فقال: أكثر أبو هريرة علينا. فبعث إلى عائشة فسألها، فصدَّقت أبا هريرة، وقالت: سمعتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقوله. فقال ابن عمر – رضي الله عنهما – … فذكره.
(4) من هنا يبدأ السقط في النسخة (ك)، وينتهي (ص/ 194).

(1/135)


نوعُ تفريطٍ، وهو نوعُ خُسْرٍ بالنسبة إلى من حصَّلَ ربح ذلك.
ولمَّا قال في سورة “والتين”: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)} قال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، فقسَّمَ النَّاسَ في هذين القسمين فقط.
ولمَّا كان الإنسان له قُوَّتان: قوَّةُ العلم، وقوَّةُ العمل. وله حالتان: حالةٌ يأتمر فيها بأمر غيره، وحالةٌ يأمر فيها غيره = استثنى – سبحانه – من كمَّلَ قوَّته العلميَّة بالإيمان، وقوَّته العَمَليَّة بالعمل الصالح، وانقاد لأمر غيره له بذلك، وأمَرَ غيرَه به (1)؛ من الإنسان الذي هو في خُسْرٍ.
فإنَّ العبد له حالتان: حالةُ كمالٍ في نفسه، وحالةُ تكميلٍ لغيره.
وكماله وتكميله موقوفٌ على أمرين: علمٌ بالحقِّ، وصبرٌ عليه.
[فـ] (2) ـانتظمت هذه الآية جميع مراتب الكمال الإنساني، من العلم النافع، والعمل الصالح، والإحسان إلى نفسه بذلك، وإلى أخيه به، وانقياده وقبوله لمن يأمره بذلك.
وقوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} إرشادٌ إلى منصب الإمامة في الدِّين، كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24]، فبالصبر واليقين تُنَالُ الإمامةُ في الدِّين.
و”الصبر” نوعان:
نوعٌ بالمقدور (3)، كالمصائب.
__________
(1) ساقط من (ز).
(2) زيادة يقتضيها السياق.
(3) أي: نوعٌ يتعلق بالمقدور، ونوعٌ يتعلق بالمشروع.

(1/136)


ونوعٌ بالمشروع. وهذا النَّوع – أيضًا – نوعان:
1 – صبرٌ على الأوامر.
2 – وصبرٌ عن المناهي (1) .
فذاك صبرٌ على الإرادة والفعل، وهذا صبرٌ عن الإرادة والفعل.
فأمَّا النَّوع الأوَّل (2) من “الصبر” فمشتركٌ بين المؤمن والكافر، والبَرِّ والفاجر، ولا يثاب عليه لمجرَّدِهِ إن لم يقترن به إيمانٌ واحتسابٌ، كما قال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – في حقِّ ابنته: “مُرْهَا فلْتَصْبِر ولْتَحْتَسِبْ” (3) ، وقال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) } [هود: 11]، وقال تعالى: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} [آل عمران: 125]، وقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} [آل عمران: 120].
فالصبر بدون الايمان والتقوى بمنزلة قوَّة البدن الخالي عن الإيمان والتقوى، وعلى حسب اليقين بالمشروع يكون الصبر على المقدور.
وقال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60) } [الروم: 60]، فأمره أن يصبر ولا يتشبه بالذين لا يقين عندهم في عدم الصبر؛ فإنَّهم لعدم يقينهم عُدِمَ صبرهم، وخَفُّوا
__________
(1) في (ن) و (ط) و (م): النواهي.
(2) اقتصر المؤلف – رحمه الله – على الكلام عن النوع الأول فقط، وقد تكلَّم عن النوع الثاني في “عدة الصابرين” (55 – 75).
(3) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (1224، 5331، 6228، 6279، 6942، 7010)، ومسلم في “صحيحه” رقم (923)، من حديث أسامة بن زيد – رضي الله عنهما -.

(1/137)


واستَخَفُّوا قومَهم، ولو حصل لهم اليقين (1) لَمَا خَفُّوا، ولَمَا استَخَفُّوا.
فمن قَلَّ يقينُه قلَّ صَبْرُه، ومن قَلَّ صبره خَفَّ واستخفَّ.
فالمُوقِنُ (2) الصابرُ رَزِينٌ ملآنُ، ذو لُبٍّ وعقلٍ، ومَنْ لا يقين له ولا صبر خفيفٌ طائشٌ، تلعب به الأهواء والشهوات، كما تلعب الرِّياح بالشيء الخفيف. والله المستعان.
__________
(1) بعدها في (ح) و (م) زيادة: والحق.
(2) في (ز): فالمؤمن.

(1/138)


فصل

ومن ذلك إقسامُهُ – سبحانه – بالسماء {ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)} [البروج: 1 – 3].
وقد فُسِّرت “البروجُ “: بالبروجِ التي تنزلها الشمسُ والقمرُ والسيَّارةُ.
وفُسِّرَت: بالنُّجُوم، أو نوع منها.
وفُسِّرت: بالقُصور العِظَام (1).
وكلُّ ذلك من آيات قدرته، وشواهد وحدانيته، وأدلَّة ربوبيته؛ فإنَّ السماء كُرَةٌ متشابهة الأجزاء، والشَّكْل الكُرِي لا يتميَّز منه جانبٌ عن جانبٍ بطولٍ، ولا قِصَرٍ، ولا وضعٍ، بل هو متساوي الجوانب. فجَعْلُ هذه “البروج” في هذه الكرة على اختلاف صورها وأشكالها ومقاديرها يستحيل أن توجد بغير فاعلٍ، ويستحيل أن يكون فاعله غير قادرٍ، ولا عالمٍ، ولا مُريدٍ، ولا حيٍّ، ولا حكيمٍ، ولا مباينٍ للمفعول.
وهذا ونحوه ممَّا هدم قواعد الطبائعية، والملاحدة، والفلاسفة الذين لا يثبتون للعالم ربًّا مباينًا له، قادرًا فاعلًا بالاختيار، عالمًا بتفاصيله، حكيمًا مُدَبِّرًا له.
فبروج السماء – وهي منازلها، أو منازل السيَّارة التي فيها – من أعظم آياته سبحانه، فلهذا أقسَمَ بها مع السماء، ثُمَّ أقسَمَ بـ “اليوم
__________
(1) انظر هذه الأقوال في: “جامع البيان” (12/ 518 – 519)، و”المحرر الوجيز” (15/ 383 – 384)، و”الجامع” (19/ 281).

(1/139)


الموعود” وهو يوم القيامة (1)، وهو المُقْسَمُ به وعليه، كما أنَّ القرآن يُقْسَمُ به وعليه.
ودلَّ على وقوع اليوم الموعود باتفاق الرُّسُل عليه، وبما عرَّفَ عبادَهُ من حكمته وعزَّتِه التي تأْبَى أن يتركهم سُدَىً، ويخلقهم عبثًا. وبغير ذلك من الآيات والبراهين التي يستدِلُّ بها – سبحانه – على إمكانه تارةً، وعلى وقوعه تارةً، وعلى تنزيهه عمَّا يقول أعداؤه من أنه لا يأتي به تارةً. فالإقسام به عند من آمن بالله كالإقسام بالسماء وغيرها من الموجودات المُشَاهَدَةِ بالعِيَان.
ثُمَّ أقسَمَ – سبحانه – بـ “الشاهد” و”المشهود”، مُطْلَقَين غير مُعَيَّنَين، وأَعَمُّ المعاني فيه أنه: المُدْرِك والمُدْرَك، والعالِم والمعلوم، والرائي والمرئي؛ وهذا أليق المعاني به (2)، وما عداه من الأقوال ذُكِرت على وجه التمثيل، لا على وجه التخصيص (3).
__________
(1) باتفاق المفسرين، انظر: “المحرر الوجيز” (15/ 384)، و”الجامع” (19/ 281)، و”تفسير السمعاني” (6/ 194).
(2) وهذا اختيار ابن جرير الطبري في “جامع البيان” (12/ 523)، قال:
“والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله أقسم بشاهدٍ شَهِدَ، ومشهودٍ شُهِدَ، ولم يخبرنا مع إقسامه بذلك أيَّ شاهدٍ وأىَّ مشهود أراد، وكل الذي ذكرنا أن العلماء قالوا هو المعنيُّ؛ مما يستحق أن يقال له: شاهد ومشهود”.
وانظر: “البحر المحيط” (8/ 443)، و”محاسن التأويل” (7/ 295).
(3) وقد حكى الواحديُّ في “الوسيط” (4/ 458)، والبغوي في “معالم التنزيل” (8/ 381) أنَّ أكثر المفسرين على القول بأنَّ “الشاهد”: يوم الجمعة، و”المشهود”: يوم النَّحْر أو يوم عرفة، وروي في ذلك أحاديث مرفوعة، لكنها لا تصح.
وانتصر لهذا القول: الشوكاني في “فتح القدير” (5/ 483) ونسبه إلى =

(1/140)


فإن قيل: فما وجه الارتباط بين هذه الثلاثة المُقْسَم بها؟
قيل: هي – بحمد الله – في غاية الارتباط، والإقسامُ بها متناوِلٌ لكلِّ موجودٍ في الدنيا والآخرة، وكلٌّ منها آيةٌ مستقلَّةٌ دالَّةٌ على ربوبيته وإلهيَّته.
فأقسَمَ بالعالم العُلْويِّ، وهو السماء وما فيها من البروج، التي هي أعظم الأمكنة وأوسعها.
ثُمَّ أقسَمَ بأعظم الأيام وأَجَلِّها قدرًا، الذي هو مَظْهَرُ مُلْكِهِ، وأمره، ونهيه، وثوابه، وعقابه، ومجْمَعُ أوليائه وأعدائه، والحكم بينهم بعلمه وعدله.
ثُمَّ أقسَمَ بما هو أعمُّ (1) من ذلك كلِّه (2) ، وهو “الشاهد” و”المشهود”. وناسَبَ هذا القَسَم ذِكْرَ أصحابِ الأخدود الذين عَذَّبُوا أولياءَهُ، وهم شهودٌ على ما يفعلون بهم، والملائكةُ شهودٌ عليهم بذلك، والأنبياءُ، وجوارحُهم تشهد به عليهم.
وأيضًا؛ فـ “الشاهد” هو: المُطَّلِعُ، والرقيبُ، والمخبِرُ. و”المشهود” هو: المُطَّلَعُ عليه، المخبَرُ به، المُشَاهَدُ.
فمن نوَّعَ الخليقةَ إلى شاهدٍ ومشهودٍ وهو أقدر القادرين، كما
__________
= جمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
وانظر بقية الأقوال في: “المحرر الوجيز” (15/ 385 – 387)، و”زاد المسير” (8/ 216 – 217)، و”الجامع” (19/ 281 – 284).
(1) في (ز): أعظم.
(2) ساقط من (ز).

(1/141)


نوَّعَها إلى مرئيٍّ لنا وغير مرئيٍّ، كما قال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) } [الحاقة: 38, 39]، وكما نوَّعَها إلى أرضٍ وسماءٍ، وليلٍ ونهارٍ، وذكرٍ وأُنثَى، وهذا التنويع والاختلاف من آياته سبحانه = كذلك نوَّعَها إلى شاهدٍ ومشهودٍ.
وفيه سِرٌّ آخر؛ وهو أنَّ من المخلوقات ما هو مشهودٌ، ومنها ما هو شاهدٌ عليه، ولا يتمُّ نظام العالم إلا بذلك، فكيف يكون المخلوق شاهدًا رقيبًا حفيظًا على غيره، ولا يكون الخالق – تبارك وتعالى – شاهدًا على عباده، مطَّلِعًا عليهم رقيبًا؟!
وأيضًا؛ فإنَّ ذلك يتضمَّنُ القَسَمَ بملائكته وأنبيائه ورسله، فإنَّهم شاهدون على العباد، فيكون من باب اتحاد (1) المقسَم به والمقسَم عليه، كما أقسم باليوم الموعود، وهو المقسَم به وعليه.
وأيضًا؛ فيوم القيامة مشهودٌ، كما قال تعالى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) } [هود: 103] يشهده الله، وملائكته، والإنس، والجنُّ، والوحش، فالشاهد من آياته، والمشهود من آياته.
وأيضًا؛ فكلامه مشهودٌ كما قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) } [الإسراء: 78]، تشهده ملائكة الليل، وملائكة النَّهار؛ فالمشهود من أعظم آياته، وكذلك الشاهد.
فكُلُّ ما وقع عليه اسم “شاهدٍ” و”مشهودٍ” فهو داخلٌ في هذا القَسَم، فلا وجه لتخصيصه ببعض الأنواع أو الأعيان إلا على سبيل
__________
(1) في (ز) و (ن) و (ط): ايجاد، وهو تصحيف، وما أثبته من (ح) و (م).

(1/142)


التمثيل.
وأيضًا؛ فكتاب الأبرار في عِلِّيين يشهده المقرَّبُون، فالكتاب مشهودٌ، والمقرَّبُون شاهدون.
والأحسن أن يكون هذا القَسَمُ مستغنيًا عن الجواب (1)؛ لأنَّ القَصْدَ التنبيهُ على المُقْسَم به، وأنَّه من آيات الرَّبِّ العظيمة. ويَبْعُدُ أن يكون الجوابُ: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4)}؛ لأنَّ ذلك دعاءٌ وطلبٌ، ولكنه – سبحانه – ذكر حال أعدائه وأوليائه، فذكر أصحابَ الأخدود الذين فتنوا أولياءه، وعذَّبوهم بالنَّار ذات الوقود (2).
ثُمَّ وصف حالَهم القبيحةَ بأنَّهم قعدوا على جانب الأخدود، شاهدين على ما يجري على عباد الله وأوليائه عِيَانًا، ولا تأخذهم بهم رأفةٌ ولا رحمةٌ، ولم يعيبوا عليهم ذنبًا سِوَى إيمانهم بالله العزيز الحميد الذي له ملك السماوات والأرض، وهذا الوصف يقتضي إكرامَهُم وتعظيمَهُم ومَحَبَّتَهُم، فعَامَلُوهم بضدِّ ما يقتضي أن يُعامَلُوا به.
وهذا شأن أعداء الله دائمًا، ينقمون على أوليائه ما ينبغي أن يُحَبُّوا ويُكْرَمُوا لأجله، كما قال تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)} [المائدة: 59].
__________
(1) وهو اختيار: الفرَّاء في “معاني القرآن” (3/ 253)، وابن جرير الطبري في “جامع البيان” (12/ 526)، وابن الأنباري في “إيضاح الوقف والابتداء” (2/ 972 – 973).
(2) القول بأنَّ جواب القَسَم: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4)} هو اختيار: الأخفش في “معاني القرآن” (2/ 535)، وأبي حيَّان في “البحر المحيط” (8/ 443).

(1/143)


وكذلك اللُّوطِيَّةُ نَقَمُوا من عباد الله تنزُّهَهُم عن مثل فعلهم، فقالوا: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) } [الأعراف: 82].
وكذلك أهل الإشراك ينقمون من الموحِّدِين تجريدَهُم التوحيدَ، وإخلاصَ الدعوةِ والعبوديةِ لله وحده.
وكذلك أهلُ البدع ينقمون من أهل السُّنَّة تجريدَ متابعتِها، وتركَ ما خالفها.
وكذلك المعطِّلةُ ينقمون من أهل الإثبات إثباتَهم لله صفاتِ كماله، ونعوتَ جلاله، وعلوَّهُ على مخلوقاته، ويعادونهم على ذلك، ويرمونهم لأجله بالعظائم.
وكذلك الرافضةُ ينقمون على أهل السُّنَّة محبَّتَهم للصحابة جميعِهم (1) ، وترضِّيهم عنهم، وولايتَهم إيَّاهُم، وتقديمَ من قدَّمَهُ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – منهم، وتنزيلهم منازلهم التي أنزلهم الله ورسوله بها.
وكذلك أهلُ الرأي المُحْدَث ينقمون على أهلِ الحديث وحِزْبِ الرسول أخذَهم بحديثه، وتركَهم ما خالفه (2) .
وكلُّ هؤلاء لهم نصيبٌ من هذه الآية (3) ، وفيهم شَبَهٌ من أصحاب الأخدود، وبينهم نسبٌ قريبٌ أو بعيدٌ.
__________
(1) ساقط من (ز).
(2) في (ز): خالفهم.
(3) “من هذه الآية” ساقط من (ح) و (م).

(1/144)


ثُمَّ أخبر – سبحانه – أنَّما أعدَّ لهم عذابَ جهنَّم وعذابَ الحريق حيث لم يتوبوا، وأنَّهم لو تابوا بعد أن فتنوا المؤمنين (1) وعذَّبُوهم بالنَّار لَغَفَرَ لهم ولم يعذِّبهم، وهذا غاية الكرم والجود.
قال الحسن: “انظروا إلى هذا الكرم والجود، يقتلون أولياءه، ويفتنونهم، وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة”.
انظروا إلى كرم الرَّبِّ تعالى، يدعوهم إلى التوبة وقد فتنوا أولياءه، وحرَّقوهم بالنَّار، فلا ييأس العبدُ من مغفرتِهِ وعَفْوِهِ، ولو كان منه ما كان، فلا عداوَةَ لله أعظم من هذه العداوة، ولا أكفَرَ ممَّن حرَّقَ بالنَّار من آمن به، وعَبَدَهُ (2) وحدَه، ومع هذا فلو تابوا لم يعذِّبهم، وألحَقَهم بأوليائه.
ثُمَّ ذكر – سبحانه – جزاء أوليائه المؤمنين، ثُمَّ ذكر شِدَّة بَطْشِهِ (3) وأنَّه لا يعجزه شيءٌ، فإنَّه هو المبدئ المعيد، ومن كان كذلك فلا أشدَّ من بطشه، وهو مع ذلك الغفور الودود، يغفر لمن تاب إليه ويَوَدُّهُ ويحبُّهُ، فهو – سبحانه – الموصوفُ بشدَّةِ البَطْشِ، وهو مع ذلك الغفور الودود.
و”الوَدُودُ”: المتودِّدُ إلى عباده بِنعَمِه، الذي يَوَدُّ من تاب إليه وأَقْبلَ عليه.
__________
(1) في (ح) و (م): أولياءه.
(2) ساقط من (ز).
(3) ساقط من (ز).

(1/145)


وهو “الودود” (1) – أيضًا (2) – أي: المحبوب.
قال البخاري في “صحيحه”: “الودود (3): الحبيب” (4).
والتحقيقُ: أنَّ اللفظ يدلُّ على الأمرين؛ على كونه وادًّا لأوليائه، مودُودًا لهم، فأحدهما بالوَضْع، والآخر باللزوم. فهو الحبيبُ المُحِبُّ لأوليائه، يحبُّهم ويحبُّونه. قال شعيب عليه السلام: {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)} [هود: 90].
وما ألطف اقتران اسم “الودود” بـ “الرحيم” وبـ “الغفور”، فإنَّ الرجل قد يغفر لمن أساء إليه (5) ولا يحبُّه، وكذلك قد يرحم من لا يحبُّه. والرَّبُّ – تعالى – يغفر لعبده إذا تاب إليه، ويرحمه، ويحبُّه مع ذلك، فإنَّه يحبُّ التوَّابين، وإذا تاب إليه عبدُهُ أحبَّهُ ولو كان منه ما كان.
ثُمَّ قال تعالى: {ذُو الْعَرْشِ}، فأضاف “العرش” إلى نفسه، كما تُضَاف إليه الأشياء العظيمة الشريفة.
__________
(1) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: المودود.
(2) ساقط من (ز) و (ن) و (ط)، وأثبته من (ح) و (م).
(3) ساقط من (ز).
(4) كتاب التفسير، سورة البروج. “الفتح” (8/ 581). وأيضًا؛ في كتاب التوحيد، باب: “وكان عرشه على الماء”. “الفتح” (13/ 419).
وقد علقه البخاري عن ابن عباس – رضي الله عنهما – من قوله، ووصله: ابن جرير الطبري في “جامع البيان” (12/ 529) رقم (36888)، وابن أبي حاتم في “تفسيره” كما ذكر الحافظ في “تغليق التعليق” (5/ 345)؛ كلاهما من طريق: علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس.
(5) ساقط من (ح) و (م).

(1/146)


وهذا يدلُّ على عظمةِ “العرش”، وقُرْبِهِ منه سبحانه، واختصاصه به، بل يدلُّ على غاية القُرْبِ والاختصاص، كما يضيف إلى نفسه بـ “ذو” صفاته القائمة به كقوله تعالى: {ذُو الْقُوَّةِ} [الذاريات: 58]، و {ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} [الرحمن: 27]، ويقال: ذو العِزَّة، وذو المُلْك، وذو الرحمة، ونظائرُ ذلك. فلو كان حَظُّ “العرش” منه حظَّ الأرض السابعة لكان لا فرق بين أن يقال: ذو العرش، وذو الأرض.
ثُمَّ وصف نفسه بـ “المجيد”، وهو المتضمِّنُ لكثرةِ صفاتِ كماله وسعتها، وعدمِ إحصاءِ الخَلْقِ لها، وسَعَةِ أفعاله وكثرةِ خيرهِ ودوامه.
وأمَّا من ليس له صفاتُ كمالٍ ولا أفعالٌ حميدةٌ فليس له من المَجْد شيءٌ. والمخلوق إنَّما يصير مجيدًا بأوصافه وأفعاله، فكيف يكون الرَّبُّ – تبارك وتعالى – مجيدًا، وهو معطَلٌ عن الأوصاف والأفعال؟! تعالى اللهُ عمَّا يقول المعطِّلون (1) علوًّا كبيرًا، بل هو (2) المجيدُ الفعَّالُ لما يريد.
و”المَجْدُ” في لغة العرب: كثرة أوصاف الكمال، وكثرة أفعال الخير (3).
وأحسن ما قُرِنَ اسم “المجيد” إلى “الحميد”، كما قالت الملائكة لبيت الخليل عليه السلام: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)} [هود: 73]، وكما شُرِعَ لنا في آخر الصلاة بأن نُثْنِي على
__________
(1) في (ز): الظالمون.
(2) ساقط من (ز).
(3) انظر: “تهذيب اللغة” (10/ 682)، و”تفسير أسماء الله الحُسْنَى” للزجَّاج (53)، و “اشتقاق أسماء الله” للزجَّاجي (152).

(1/147)


الرَّبِّ – تعالى – بأنَّه حميدٌ مجيدٌ (1) ، وشُرع في آخر الركعة عند الاعتدال أن نقول بعد “ربنا ولك الحمد”: “أهل الثناء والمجد” (2) .
فـ “الحَمْدُ” و”المجد” -على الإطلاق – لله الحميد المجيد، فـ “المجيد” (3) : الحبيبُ المستحِقُّ لجميع صفات الكمال. و”الحميد”: العظيمُ الواسعُ القادِرُ الغنيُّ ذو الجلال والإكرام (4) .
ومن قرأ {الْمَجِيدُ} – بالكسر (5) – فهو صفة لعرشه سبحانه، وإذا كان عرشُه مجيدًا فهو – سبحانه – أحقُّ بالمجد.
وقد استشكل هذه القراءة بعض النَّاس، وقال: لم نسمع في
__________
(1) أي: في جلسة التشهد عند ذكر “الصلاة الإبراهيمية”؛ أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (3190، 4519، 5996 – طبعة البغا -)، ومسلم في “صحيحه” رقم (406)؛ عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال:
لقيَني كعب بن عُجْرَة فقال: أَلَا أُهدي لك هديةً سمعتها من النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -؟ فقلت: بلى، فأَهْدِها لي، فقال: سأَلْنا رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – فقلنا: يا رسول الله؛ قد عرفنا السلام عليك، فكيف نصلِّي عليك؟ قال: “قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ”.
(2) أخرجه: مسلم في “صحيحه” برقم (477)، من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه -.
(3) في (ن): الحميد، لكن الناسخ صححها في الهامش. وجاءت الكلمتان – المجيد والحميد – على العكس في (ح) و (م).
(4) للاستزادة انظر “جلاء الأفهام” (365 – 371).
(5) وهي قراءة: حمزة، والكسائي، وخَلَف.
انظر: “النشر” (2/ 399)، و”المبسوط في القراءات” للأصبهاني (466).

(1/148)


صفات الخلق “مجيد” (1) . ثُمَّ خرَّجها على أحد وجهين:
إمَّا على الجِوَار (2) .
وإمَّا أن يكون صفةً لـ “ربِّك” (3) .
وهذا من قلة بضاعة هذا القائل، فإنَّ الله – سبحانه – وصف عرشه بالكَرَم (4) ، وهو نظير المجد. ووصَفَهُ بالعَظَمة (5) .
فوصْفُه بالمجد (6) مطابقٌ لوصفه بالعظمةِ والكَرَم، بل هو أحقُّ المخلوقات أن يوصف بذلك، لسَعَتِه، وحُسْنِه، وبهاءِ مَنْظَرِهِ، فإنَّه
__________
(1) انظر: “الوسيط” للواحدي (4/ 462)، و”مشكل إعراب القرآن” لمكي بن أبي طالب (763 – 764).
(2) وانتصر له ابن المنيِّر في “المتواري” (429 – 430)، وتعقبه الحافظ في “الفتح” (13/ 419).
قال النحَّاس: “ولا يجوز الجوار في كتاب الله، بل على مذهب سيبويه لا يجوز في كلامٍ ولا شعرٍ”. “إعراب القرآن” (5/ 195).
(3) في قوله سبحانه: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)}، وانتصر له ابن الأنباري في “البيان في غريب إعراب القرآن” (2/ 506).
وانظر: “الحُجَّة” لأبي علي الفارسي (6/ 395)، و”الجامع” للقرطبي (19/ 295)، و”روح المعاني” للألوسي (15/ 302).
(4) في قوله سبحانه: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} [المؤمنون: 116].
(5) في موضعين:
1 – في سورة [المؤمنون: 86]: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)}.
2 – وفي سورة [النمل: 26]: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)}.
(6) في (ز) و (ن): بمجدٍ، والمثبت من (ط)، وفي (ح) و (م): سبحانه!

(1/149)


أوسعُ شيءٍ في المخلوقات (1) ، وأجملُهُ، وأجمعُهُ لصفاتِ الحُسْن، وبهاءِ المَنْظَر، وعُلُوِّ القَدْرِ والرُّتْبةِ والذَّاتِ، ولا يقدر قَدْر عظمته، وحسنه، وبهاء منظره إلا الله تعالى. ومَجْدُهُ مستفادٌ من مجد خالقه ومبدعه، والسماواتُ السبع والأَرَضُون السبع في الكرسيِّ – الذي بين يديه – كحَلْقةٍ مُلْقَاةٍ في أرضٍ (2) فَلَاةٍ، والكرسيُّ فيه – كذلك (3) – كتلك الحَلْقة في الفلاة (4) .
قال ابن عباس: “السماوات السَّبْعُ في العرش كسبعة دراهم
__________
(1) من قوله: “وبهاء منظره. . .” إلى هنا؛ بياض في (ز)، وملحق بهامش (ن).
(2) في (ز): جنب.
(3) ساقط من (ن) و (ح) و (ط) و (م).
(4) جاء ذلك مرفوعًا من حديث أبي ذرٍّ – رضي الله عنه – أنه قال:
“قلت: يا رسول الله؛ أىُّ آيةٍ أنزلها الله عليك أعظم؟ قال: آية الكرسي، ثم قال: يا أبا ذرٍّ؛ ما السماوات السبع في الكرسيِّ إلا كحَلْقةٍ مُلْقاةٍ في أرضٍ فلاةٍ، وفضل العرش على الكرسيِّ كفضل الفلاةِ على تلك الحَلْقة”.
أخرجه: ابن أبي شيبة في كتاب “العرش” رقم (58)، وأبو الشيخ في “العظمة” رقم (206 و 252 و 259)، وابن بطة في “الإبانة” (3/ 3/ رقم 136)، والبيهقي في “الأسماء والصفات” رقم (861 – 862)، وابن مردويه – كما في “تفسير ابن كثير” (1/ 681) -.
وأخرجه في سياق طويل: ابن حبَّان في “صحيحه” رقم (361)، وابن عدي في “الكامل” (7/ 2699)، وأبو نعيم في “الحلية” (1/ 166)، والبيهقي في “السنن الكبرى” (9/ 4) رقم (17711).
وللحديث طرق وشواهد، قال الحافظ: “صححه ابن حبَّان، وله شاهد عن مجاهد، أخرجه سعيد بن منصور في “التفسير” بسندٍ صحيح”. “الفتح” (13/ 411).
وصححه الألباني بمجموع طرقه كما في “السلسلة الصحيحة” رقم (109).

(1/150)


جُعِلْنَ في تُرْسٍ” (1).
فكيف لا يكون مجيدًا وهذا شأنه؟ فهو عظيمٌ، كريمٌ، مجيدٌ.
وأمَّا تكلُّفُ هذا المتكلِّفِ جَرَّهُ على الجِوَار (2)، أو أنَّه صفةٌ لـ “ربِّك” = فتكلُّفٌ شديدٌ، وخروجٌ عن المألوف في اللغة من غير حاجةٍ إلى ذلك.
وقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)} دليلٌ على أمورٍ:
أحدها: أنَّه – سبحانه – يفعل بإرادته ومشيئته.
الثاني: أنَّه لم يزل كذلك؛ لأنَّه ساق ذلك في (3) معرض المدح والثناء على نفسه، وأنَّ ذلك من كماله سُبحانه، فلا يجوز أن يكون عادمًا لهذا الكمال في وقتٍ من الأوقات، وقد قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)} [النحل: 17]، وما كان من أوصاف كماله ونعوت جلاله لم يكن حادثًا بعد أن لم يكن.
الثالث: أنَّه إذا أراد شيئًا فَعَلَه، فإنَّ “ما” موصولة عامةٌ، أي: يفعل كلَّ ما يريد أن يفعله، وهذا في إرادته المتعلِّقة بفعله.
__________
(1) لم أجد هذا الأثر عن ابن عباس – رضي الله عنهما – بهذا اللفظ.
وأخرج ابن جرير في “تفسيره” (5/ 399)، وأبو الشيخ في “العظمة” رقم (220)، من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعةٍ أُلقيت في تُرْسٍ”.
قال الذهبي: “هذا مرسلٌ، وعبد الرحمن ضُعِّف”. “العلو” رقم (279).
وصححه الألباني بمجموع طرقه كما في “السلسلة الصحيحة” رقم (109).
(2) في (ح) و (م): إلى الجواز.
(3) ساقط من (ز).

(1/151)


وأمَّا إرادته المتعلِّقة بفعل (1) العبد فتلك لها شأنٌ آخر؛ فإن أراد فعل العبد ولم يرد من نفسه أن يعينه عليه ويجعله فاعلًا لم يوجد الفعل وإن أراده، حتَّى يريده من نفسه أن يجعله فاعلًا.
وهذه هي النكتة التي خفيت على “القَدَريَّة” و”الجَبْريَّة”، وخبطوا في مسألة القَدَر لغفلتهم عنها، فإنَّ هنا إرادتان: إرادةُ أن يفعل العبد، وإرادةُ أن يجعله الرَّبُّ فاعلًا. وليستا متلازمتين (2) ، وإن لزم من الثانية الأُولَى من غير عكسٍ، فمتى أراد من نفسه أن يعين عبده، وأن يخلق له أسباب الفعل فقد أراد فعله. وقد يريد فعله ولا يريد (3) من نفسه أن يخلق له أسبابَ الفعل، فلا يوجد الفعل.
فإن اعْتَاصَ عليك فَهْمُ هذا الموضع وأشكلَ عليك فانظر إلى قول النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، حاكيًا عن ربِّه قولَه للعبد يوم القيامة: “قد أردتُ منكَ أهونَ من هذا وأنتَ في صُلْبِ آدم (4) : أن لا تُشْرِكَ بِي شيئًا، فأبيتَ إلا الشرك” (5) . فأخبر – سبحانه – أنَّه أراد من المشرك ألا يشرك به شيئًا، ولم يقع هذا المراد؛ لأنَّه لم يُرِد من نفسه إعانَتَهُ عليه، وتوفيقَهُ له.
الرابع: أنَّ فعله – سبحانه – وإرادته متلازمان (6) ، فما أراد أن يفعله
__________
(1) “بفعل” ملحقة بهامش (ح).
(2) في (ز) و (ن) و (ط): وليسا متلازمين، وما أثبته من (ح) و (م) وهو أصح.
(3) “فعله ولا يريد” ملحق بهامش (ن).
(4) في النسخ: أبيك، والتصحيح من المصادر.
(5) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (3334 و 6557)، ومسلم في “صحيحه” رقم (2805)، من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه -.
(6) في (ز): متلازمتان.

(1/152)


فَعَلَه، وما فَعَلَهُ فقد أراده. بخلاف المخلوق، فإنَّه يريد ما لا يفعل، وقد يفعل ما لا يريد، فما ثَمَّ فعَّالٌ لما يريد إلا اللهُ وحده.
الخامس: إثبات إراداتٍ متعدِّدةٍ بحسب الأفعال، وأنَّ كلَّ فعلٍ له إرادةٌ تخصُّه. وهذا هو المعقول في الفِطَر، وهو الذي يعقله النَّاس من الإرادة، فشأنه – تعالى – أنْ يريد على الدوام، ويفعل ما يريد.
السادس: أنَّ كل ما صحَّ أن تتعلق به إرادته جازَ فِعْلُه؛ فإذا أراد أن ينزل كلَّ ليلةٍ إلى سماء الدنيا، وأن يجيء يوم القيامة لفصل القضاء، وأن يُرِيَ نفسَهُ لعباده، وأن يتجلَّى لهم كيف شاء، وأن يخاطبهم، ويضحك إليهم، وغيرَ ذلك ممَّا يريد سبحانه = لم يمتنع عليه فعلُهُ، فإنَّه فعَّالٌ لما يريد. وإنَّما يتوقَّفُ صحَّةُ ذلك على إخبار الصادق به، فإذا أخبر به وجَبَ التصديقُ به، وكان رَدُّهُ ردًّا لكماله الذي أخبر به عن نفسه، وهذا عين الباطل.
وكذلك إذا أمكن إرادته – سبحانه – مَحْوَ ما شاء، وإثباتَ ما شاء = أمكَنَ فِعْلُه، وكانت تلك الإرادة والفعل من مقتضيات كماله المقدَّس.
وقد اشتملت هذه السورة -على اختصارها – من التوحيد على:
وَصفِه – سبحانه – بـ “العِزَّة”؛ المتضمِّنة للقُدرةِ والقوَّةِ، وعَدَمِ النَّظِير.
و”الحمدِ” المتضمِّن لصفات الكمال، والتنزيه عن أضدادها، مع محبَّته وإلهيَّته.
ومُلْكِه السماوات والأرض؛ المتضمِّن لكمال غِنَاهُ، وسَعَةِ ملكه.
وشهادتِهِ على كلِّ شيءٍ؛ المتضمِّن لعموم اطِّلَاعه على ظواهر

(1/153)


الأمور وبواطنها، وإحاطة بَصَرِه بمرئياتها، وسَمْعِه بمسموعاتها، وعِلْمِه بمعلوماتها.
وَوَصْفِه بشدَّةِ البَطْش؛ المتضمِّن لكمال القُدْرَةِ والقوَّةِ والعِزَّةِ.
وتفرُّده بالإبْدَاءِ والإعَادَةِ؛ المتضمِّن لتوحيد ربوبيته وتصرُّفِه في المخلوقات بالإبداء والإعادة، وانقيادها لقدرته، فلا يَسْتَعْصِي عليه منها شيءٌ.
وَوَصْفِه بـ “المغفرة”؛ المتضمِّن لكمال جوده، وإحسانه، وغِنَاهُ، ورحمته.
وَوَصْفِه بـ “الودود”؛ المتضمِّن لكونه حبيبًا إلى عباده، مُحِبًّا لهم.
وَوَصْفِه بأنَّه “ذو العرش”؛ الذي لا يقدر قَدْرَه سواه، وأنَّه عرشُهُ المختصُّ به؛ الذي لا يليق بغيره أن يستوي عليه.
وَوَصْفِه بـ “المَجْد”؛ المتضمِّن لسعة العلم، والقدرة، والملك، والغنى، والجود، والإحسان، والكرم.
وكونِه فعَّالًا لما يريد؛ المتضمِّن لحياته، وعلمه، وقدرته، ومشيئته، وحكمته. وغير ذلك من أوصاف كماله.
فهذه السورة كتابٌ مستقلٌّ في أصول الدِّين، تكفي من فَهِمَها.
فـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1]، و{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1].
ثُمَّ خَتَمَها بذِكْرِ فعله وعقوبته بمن أشركَ به، وكذَّبَ رُسُلَه؛ تحذيرًا

(1/154)


لعباده من سلوك سبيلهم، وأنَّ من فعل فعلهم فُعِلَ به كما فُعِلَ بهم.
ثُمَّ أخبر عن أعدائه بأنَّهم مكذِّبون بتوحيده ورسالاته مع كونهم في قبضته، وهو محيطٌ بهم، ولا أسوأَ حالًا ممَّن (1) عادَى من هو في قبضته، ومن هو قادرٌ عليه (2) من كلِّ وجهٍ، وبكلِّ اعتبارٍ، فقال تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20)} [البروج: 19, 20]، فهل أعجَبُ ممَّن كَفَرَ بمن هو محيطٌ به، آخِذٌ بناصيته، قادِرٌ عليه؟!
ثُمَّ وصَفَ كلامَهُ بأنَّه “مجيدٌ”، وهو أحقُّ بالمجد من كلِّ كلام، كما أنَّ المتكلِّم به له المجد كلُّه، فهو “المجيد”، وكلامُه مجيدٌ، وعرشه مجيدٌ.
قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: “قرآنٌ مجيدٌ: كريم” (3)؛ لأنَّ كلامَ الرَّبِّ ليس هو كما يقول الكافرون: شعرٌ، وكهانةٌ، وسحرٌ. وقد تقدَّمَ أنَّ “المجدَ”: السَّعَةُ، وكثرةُ الخير (4)؛ وكثرةُ خير القرآن لا يعلمها إلا من تكلَّم به.
وقوله: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)} [البروج: 22]؛ أكثر القُرَّاء على الجرِّ،
__________
(1) في (ن) و (ط): بمن.
(2) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: عليهم.
(3) ذكره البخاري معلقًا في كتاب التوحيد، باب: “وكان عرشه على الماء”.
ووصله: ابن أبي حاتم في “تفسيره” – كما في “تغليق التعليق” (5/ 345) -، وابن جرير في “تفسيره” (12/ 529)، وانظر: “الفتح” (13/ 419).
وزاد السيوطي نسبته إلى: ابن المنذر، والبيهقي في “الأسماء والصفات”. “الدر المنثور” (6/ 557).
(4) راجع (ص/ 147).

(1/155)


صفةً لـ “لَوْح” (1) ، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ الشياطين لا يمكنهم التنزُّلُ به؛ لأنَّ مَحَلَّهُ محفوظٌ أن يصلوا إليه، وهو في نفسه محفوظٌ أن تقدر الشياطين على الزيادة فيه أو النقصان.
فوصَفَهُ – سبحانه – بأنَّه محفوظٌ في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) } [الحجر: 9]، ووصف مَحَلَّهُ بالحفظ في هذه السورة.
فالله – سبحانه – حفظ مَحَلَّهُ، وحفظه من الزيادة والنقصان والتبديل، وحَفِظَ معانيه من التحريف كما حفظ ألفاظَهُ من التبديل، وأقام له من يحفظ حُرُوفَهُ من الزيادة والنقصان، ومعانيه من التحريف والتغيير.
__________
(1) قرأ نافع – وحده – بالرفع: “محفوظٌ”، صفة للقرآن في قوله سبحانه: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21)} [البروج: 21]. وقرأ الباقون بالخفض صفة للَّوح.
انظر: “مشكل إعراب القرآن” لمكي (764)، و”الموضح في وجوه القراءات وعللها” لابن أبي مريم (3/ 1357)، و”النشر” (2/ 382)، و”معاني القرآن” للفرَّاء (3/ 254).

(1/156)


فصل

ومن ذلك إقسامُه – سبحانه – بـ {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)} [الطارق: 1]، وقد فسَّره بأنَّه {النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)} الذي يثقُب (1) ضَوؤُه.
والمراد به الجنس لا نجمٌ معيَّنٌ، ومن عيَّنَهُ بأنَّه “الثريَّا”، أو “زُحَل”: فإن أراد التمثيل فصحيحٌ، وإن أراد التخصيص فلا دليل عليه (2).
والمقصود أنَّه – سبحانه – أقسَمَ بالسماءِ ونُجُومِها المضيئة، وكلٌّ منها (3) آيةٌ من آياته الدَّالَّةِ على وحدانيته.
وسمَّى “النَّجمَ”: طارقًا؛ لأنَّه يظهر بالليل بعد اختفائه بضوء الشمس، فشُبِّهَ بالطارق الذي يطرق النَّاسَ أو أهلَهُ ليلًا.
قال الفرَّاء: “ما أتاك ليلًا فهو طارق” (4).
وقال الزجَّاج، والمبرِّد: “لا يكون الطارق نهارًا” (5).
ولهذا تستعمل العرب الطُّرُوق في صفة الخَيَال كثيرًا، كما قال ذو الرُّمَّة (6):
__________
(1) الثاقب: المضيء الذي يثقب بنوره وإضاءته ما يقع عليه.
انظر: “مجاز القرآن” (2/ 294)، و”مفردات القرآن” للراغب (173).
(2) انظر: “زاد المسير” (8/ 223)، و”المحرر الوجيز” (15/ 396)، و”الجامع” (20/ 1).
(3) في (ح) و (م): منهما.
(4) “معاني القرآن” (3/ 254).
(5) “معاني القرآن” للزجَّاج (5/ 310)، وانظر: “الوسيط” للواحدي (4/ 464).
(6) “ديوانه” (1/ 191).

(1/157)


ألَا طَرَقَتْ مَيٌّ هَيُومًا بِذِكْرِها … وأَيدِي الثريَّا جُنَّحٌ في المَغَارِبِ (1)
وقال جرير (2):
طرَقَتْكَ صَائِدَةُ القُلُوبِ وَلَيس ذا … وقْتَ الزِّيَارةِ، فارجِعِي بِسَلَامِ
ولهذا قيل: أوَّلُ من رَدَّ “الطَّيفَ” جريرٌ (3)، ولم يزل النَّاس على قبوله وإكرامه كالضَّيف، فـ “الطَّيفُ” والضَّيفُ كلاهما لا يُرَدُّ.
وقال الآخر (4):
أَلَا طَرَقَتْ مِنْ آخِرِ اللَّيلِ زَينبُ … عليكِ سَلَامٌ، هل لِما فَاتَ مَطْلَبُ؟
والمقسَمُ عليه – ها هنا – حالُ النَّفْس الإنسانية، والاعتناءُ بها، وإقامةُ الحَفَظَةِ عليها، وأنَّها لم تُتْرَك سُدىً، بل قد أُرْصِدَ عليها من يحفظ عليها أعمالها ويحصيها، فأقسَمَ – سبحانه – أنَّه ما من نفسٍ إلا عليها حافظٌ من الملائكة (5)، يحفظ عملَها وقولَها، ويحصي ما تكسب من
__________
(1) في جميع النسخ: بالمغارب، والتصحيح من الديوان.
(2) “ديوانه” (452).
(3) المشهور أن أول من طرد الخَيَال هو: طَرَفَةُ بن العبد، حيث قال:
فَقُلْ لخيال الحَنْظَليَّةِ يَنْقَلِبْ … إليها، فإني واصِلٌ حَبْلَ من وَصَلْ
ثم تبعه جريرٌ، وأنشدوا له هذا البيت: طرقتك صائدة القلوب …
انظر: “الشعر والشعراء” لابن قتيبة (149)، و”العقد الفريد” (5/ 347)، و”طيفُ الخيال” للمرتضى (67) والملحق بآخره (209).
(4) هو يزيد بن مفرِّغ الحميري “ديوانه” (53).
ولفظ الديوان:
أَلَا طرقَتْنَا آخِرَ الليلِ زينبُ … سلامٌ عليكم، هلْ لِمَا فاتَ مطلَبُ؟
(5) ساقط من (ز) و (ن).

(1/158)


خيرٍ أو شرٍّ.
واختَلَف القُرَّاء (1) في “لَما”: فشدَّدَها بعضُهم، وخفَّفها بعضهم.
فمن قرأها بالتشديد جعلها بمعنى “إلَّا” (2)، وهي تكون بمعنى “إلَّا” في موضعين (3):
أحدهما: بعد “إنْ” (4) “المخفَّفَة مثل هذا الموضع، أو المثقَّلة مثل قوله: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} [هود: 111].
__________
(1) قرأ عاصم، وحمزة، وابن عامر، وأبو جعفر: بالتشديد (لمَّا)، وقرأ الباقون بالتخفيف (لَمَا).
انظر: “المبسوط” للأصبهاني (467)، و”النشر” (2/ 291).
(2) وهي لغة هذيل كما قال الأزهري، فتكون “إنْ” في قوله: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ} بمعنى “ما” النافية، والتقدير: ما كلُّ نفسٍ إلا عليها حافظٌ.
ومن قرأ “لَمَا” مخفَّفة جعل “ما” زائدة، و”إنْ” مخفَّفة من الثقيلة، ودخلت “اللَّام” على “ما” للتأكيد، وللفرق بين نوعي “إنْ” المخفَّفة من الثقيلة – وهي المؤكدة -، وبين النافية التي بمعنى “ما”، والتقدير: إن كل نفسٍ لَعَلَيْها حافظٌ.
انظر: “مشكل إعراب القرآن” لمكي (765)، و”إعراب القراءات وعللها” لابن خالويه (2/ 461)، و”علل القراءات” للأزهري (2/ 765).
(3) عند الأكثرين لمجيء ذلك عن العرب، وثبوته في كلامهم، وبه خرَّجُوا بعض القراءات. وذهب أبو الحسن الأخفش إلى أن العرب لا تكاد تعرف “لمَّا” بمعنى “إلَّا”، قال المرادي: “و”لمَّا” التي بمعنى “إلَّا” حكاها الخليل، وسيبويه، والكسائي، وهي قليلة الدَّور في كلام العرب، فينبغي أن يقتصر على التركيب الذي وقعت فيه”. “الجنى الداني” (538).
وانظر: “معاني القرآن” للأخفش (2/ 473)، و”الكتاب” (3/ 105)، و”الموضح” لابن أبي مريم (3/ 1358).
(4) ساقط من (ز).

(1/159)


والثاني: في باب القَسَم، نحو: سألتُكَ بالله لمَّا فَعَلْتَ.
قال أبو علي الفارسيُّ (1): “من خفَّفَ كانت “إنْ” عنده هي المخفَّفة من الثقيلة، و”اللَّامُ” في خبرها هي الفارقة بين “إنْ” النَّافية والمخَفَّفَة (2). و”ما” زائدة، و”إنْ” هي التي يُتَلقَّى بها القَسَمُ، كما يُتَلَقَّى بالمثقَّلة.
ومن قرأها مشدَّدةً كانت “إنْ” عنده نافيةً بمعنى “ما”، و”لمَّا” في معنى “إلَّا”. قال سيبويه، عن الخليل -في قولهم: نشدتُكَ باللهِ لَمَّا فَعَلْتَ – قال المعنى: إلَّا فَعَلْتَ” (3).
ثُمَّ نبَّهَ – سبحانه – الإنسانَ على دليل المَعَاد بما يشاهده من حال مبدئه، على طريقة القرآن في الاستدلال على المعاد بالمبدأ، فقال: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)} [الطارق: 5] أي: “فلينظر نظر الفكر والاستدلال ليعلم أنَّ الذي ابتدأ خَلْقَهُ من نُطفةٍ قادرٌ على إعادته” (4).
ثُمَّ أخبر – سبحانه – أنَّه خُلِقَ من ماءٍ دافِقٍ.
و”الدَّفْقُ”: صَبُّ الماءِ، يقال: دَفَقْتُ الماءَ فهو مَدْفُوقٌ، ودَافِقٌ،
__________
(1) هو أبو علي؛ الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيُّ، النحوي العلامة، ولد بـ “فَسَا” من أرض فارس، وعلا كعبه في النحو والقراءات حتى فضَّلوه على المبرِّد، واتهم بالاعتزال، وصنف: “الحُجَّة”، و”المسائل الحلبيات”، و”البغداديات” وغير ذلك، توفي سنة (377 هـ) رحمه الله.
انظر: “نزهة الألباء” (315)، و”إنباه الرواة” (1/ 308).
(2) في (ن) و (ح) و (م): والخفيفة.
(3) “الحُجَّة للقُرَّاء السبعة” (6/ 397).
(4) هذا كلام ابن الجوزي في “زاد المسير” (8/ 224).

(1/160)


ومُنْدَفِقٌ.
فالمَدْفُوق: الذي وقع عليه فِعْلُكَ كـ: المكسور، والمضروب.
والمُنْدَفِق: المُطَاوع لِفِعْلِ الفاعل؛ تقول: دَفَقْتُهُ فَانْدَفَقَ، كما تقول: كَسَرْتُهُ فانْكَسَر.
و”الدَّافِقُ”؛ قيل: إنَّه فاعلٌ بمعنى مفعول؛ كقولهم: سِرٌّ كَاتِمٌ، وعِيشَةٌ راضِيَةٌ.
وقيل: هو على النَّسَبِ؛ لا على الفعل، أي: ذي دَفْق، وذات رضىً (1) . ولم يُرِد الجريان عَلى الفعل.
وقيل: – وهو الصواب – إنَّه اسم فاعلٍ على بابه؛ ولا يلزم من ذلك أن يكون هو فاعل الدَّفْق، فإنَّ اسمَ الفاعل هو من قام به الفعل؛ سواء فَعَلَهُ هو أو غيرُه؛ كما يقال: ماءٌ جَارٍ، ورجلٌ مَيْتٌ وإن لم يفعل الموت، بل لمَّا قام به الموت نُسِب إليه على جهة الفعل (2) .
وهذا غير مُنْكَرٍ في لُغةِ أُمَّةٍ من الأُمَم، فضلًا عن أوسع اللُّغات وأفصحِها.
وأمَّا “العيشة الراضية” فالوصفُ بها أحسنُ من الوصف بالمرضيَّةِ، فإنَّها اللَّائقة بهم، فشبَّهَ ذلك برِضَاها بهم كما رَضُوا بها، كأنَّها رَضِيَت بهم ورَضُوا بها، وهذا أبلغ من مجرَّدِ كونها مرضيَّةً فقط؛ فتأَمَّلْه.
__________
(1) “رضىً” ساقط من (ح) و (م).
(2) انظر لهذه الأقوال: “المحرر الوجيز” (15/ 398)، و”الجامع” (20/ 4)، و”لسان العرب” (4/ 373).

(1/161)


وإذا كانوا يقولون: الوقت الحاضر، والساعة الراهنة – وإن لم يَفْعَلَا ذلك – فكيف يمتنع أن يقولوا: ماءٌ دافِقٌ، وعيشَةٌ راضيةٌ؟!
ونَبَّه – سبحانه – بكونه دافقًا على أنَّه ضعيفٌ غير متماسك. ثُمَّ ذَكَرَ مَحَلَّهُ الذي يخرج منه، وهو بين الصُّلْب والترائب.
قال ابن عباس: “يريدُ صُلْبَ الرَّجُل، وترائبَ المرأة – وهو موضع القِلَادة من صدرها -؛ والولدُ يُخْلَقُ من المائين جميعًا” (1).
وقيل: صُلْبُ الرجل وتَرَائِبُهُ وهي صدره (2)، فيخرج من صُلْبهِ
__________
(1) عزاه السيوطي إلى: عبد بن حميد، وابن أبي حاتم. “الدر المنثور” (6/ 560).
وهذا هو المشهور عند المفسرين، وعليه أكثر العلماء، ومال إليه المؤلف في “تحفة المودود” (449).
(2) وهو قول: الحسن، وقتادة. “النكت والعيون” (6/ 246)، و”المحرر الوجيز” (15/ 399).
وهذا القول هو الذي اختاره المؤلف في “إعلام الموقعين” (2/ 265)، ثم قال: “لأنَّه – سبحانه – قال: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)}، ولم يقل: يخرج من الصلب والترائب، فلا بد أن يكون ماء الرجل خارجًا من بين هذين المحَلَّين، كما قال في “اللَّبن” يخرج {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ}.
وأيضًا؛ فإنَّه – سبحانه – أخبر أنه خلقه من نطفةٍ في غير موضعٍ، والنطفة هي: ماء الرجل، كذلك قال أهل اللغة.
وأيضًا؛ فإنَّ الذي يوصف بالدَّفْق والنَّضْح إنما هو ماء الرجل، ولا يقال: نَضَحَت المرأة الماء ولا دفَقَتْهُ.
والذي أوجب لأصحاب القول الآخر ذلك؛ أنهم رأوا أهل اللغة قالوا: “الترائب”: موضع القلادة من الصدر، قال الزجاج: “أهل اللغة مجمعون على ذلك”؛ وهذا لا يدل على اختصاص “الترائب” بالمرأة، بل يطلق على الرجل =

(1/162)


وصَدْرِهِ (1).
وهذه الآية الدَّالَّةُ على قدرة الخالق – سبحانه – نظير إخراجه اللَّبَنَ الخالِصَ من بين الفَرْثِ والدَّمِ.
ثُمَّ ذكر – سبحانه – الأمرَ المستَدَلَّ عليه وهو المَعَاد بقوله {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)}؛ أي: على رجعه إليه يوم القيامة، كما هو قادرٌ على خلقه من ماءٍ هذا شأنه.
هذا هو الصحيح في معنى الآية، وفيها قولان ضعيفان:
أحدهما: قول مجاهد: “إنَّه على ردِّ الماءِ في الإِحْلِيلِ لَقَادِرٌ” (2).
والثاني: قول عكرمة والضحَّاك: “إنَّه على ردِّ الماءِ في الصُّلْبِ لَقَادِرٌ” (3).
__________
= والمرأة، قال الجوهري: “الترائب: عظام الصدر ما بين التَّرْقُوة إلى الثَّنْدُوة””.
وهذا يوافق – تمامًا – ما ثبت في العلم الحديث، وانظر: “خلق الإنسان بين الطب والقرآن” للبار (114 – 119) وفيه إيضاح، و”دليل الأنفس بين القرآن الكريم والعلم الحديث” لمحمد عز الدين توفيق (349 – 350).
(1) قال المهدوي: “من جَعَل المنيَّ يخرج من بين صلب الرجل وترائبه فالضمير في “يخرج” للماء، ومن جعله من بين صلب الرجل وترائب المرأة فالضمير للإنسان”.
انظر: “الجامع” (20/ 7)، و”روح المعاني” (15/ 309)، و”محاسن التأويل” (7/ 301).
(2) أخرجه: الطبري في “تفسيره” (12/ 536).
وزاد السيوطي نسبته إلى: عبد بن حميد، وابن المنذر. “الدر المنثور” (6/ 561).
(3) أما أثر عكرمة فأخرجه: الطبري في “تفسيره” (12/ 536). =

(1/163)


وفيها قولٌ ثالثٌ؛ قال مقاتلٌ (1) : “إنْ شِئْتُ رددتُه من الكِبَرِ إلى الشباب، ومن الشباب إلى الصِّبَا، ومن الصِّبَا إلى النُّطْفَة”.
والقول (2) هو الأوَّل (3) ؛ لوجوه:
__________
= وعزاه السيوطي إلى: عبد بن حميد، وابن المنذر. “الدر المنثور” (6/ 561).
وأما نسبة هذا القول للضحَّاك؛ فانظر: “الوسيط” (4/ 465)، و”الجامع” (20/ 7). وعنه في تفسير الآية – أيضًا – قولان آخران:
الأول: “إن شئتُ رددتُه كما خلقته من ماء”.
أخرجه: الطبري في “تفسيره” (12/ 537) رقم (36934).
والثاني: “إن شئتُ رددتُه من الكِبَر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الصِّبَا، ومن الصِّبَا إلى النطفة”.
أخرجه: الطبري في “تفسيره” (12/ 537) من طريق: مقاتل بن حيَّان عنه به.
(1) هو مقاتل بن حيَّان، ونسبه إليه: الواحديُّ في “الوسيط” (4/ 465)، والبغوي في “معالم التنزيل” (8/ 394).
والصواب أنَّه قول الضحَّاك؛ من طريق مقاتل بن حيَّان عنه، كما جاء عند الطبري في “تفسيره” (12/ 537) رقم (36936). وعَزَاهُ للضحَّاك: ابن الجوزي في “زاد المسير” (8/ 225)، والثعلبي في “تفسيره” (10/ 180)، والماوردي في “النكت والعيون” (6/ 247)، وغيرهم.
(2) بعده في (ز) بياض بمقدار كلمة، وفي (ط) العبارة هكذا: والقول الأول أولى.
(3) وهو قول: ابن عباس، وقتادة، والحسن البصري، ومقاتل بن سليمان “تفسيره” (3/ 473). واختاره: الفرَّاء، والزجَّاج في “معاني القرآن” (5/ 312)، والطبري في “جامع البيان” (12/ 537)، وغيرهم.
وهو مذهب جمهور المفسرين، والمتأخرين منهم لا يعدلون عنه.
قال ابن جُزَي بعد أن ذكر الأقوال السابقة: “وهذا كله ضعيفٌ بعيدٌ، والقول الأول – يعني رجعه إليه يوم القيامة – هو الصحيح المشهور”. “التسهيل” =

(1/164)


أحدها: أنَّه هو المعهود من طريقة القرآن من الاستدلال بالمبدأ على المَعَاد.
الثاني: أنَّ ذلك أَدَلُّ على المطلوب من القدرة على رَدِّ الماءِ في الإحْلِيل.
الثالث: أنَّه لم يأت في القرآن لهذا المعنى نظيرٌ في موضعٍ واحد، ولا أنكره أحدٌ حتَّى يقيم – سبحانه – الدليلَ عليه.
الرابع: أنَّه قيَّدَ الفعلَ بالظَّرْفِ وهو قوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) } وهو يوم القيامة؛ أي: أنَّ الله قادرٌ على رجعه إليه حيًّا في ذلك اليوم.
الخامس: أنَّ الضمير في {رَجْعِهِ} هو الضمير في قوله: {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) } وهذا للإنسان – قطعًا – لا للماء.
السادس: أنه لا ذِكْرَ للإحْلِيل حتَّى يتعيَّنَ كَوْنُ الرَّجْع (1) إليه، فلو قال قائلٌ: على رَجْعِه إلى الفَرْج الذي صُبَّ فيه؛ لم يكن فرقٌ بينه وبين هذا القول، ولم يكن أَوْلَى منه.
السابع: أنَّ رَدَّ الماءِ إلى الإحْلِيل أو الصُّلْب بعد خروجه منه غير معروفٍ، ولا هو أمرٌ معتادٌ جَرَتْ به القُدْرَةُ؛ وإن كان مقدورًا للرَّبِّ تعالى، ولكن هو لم يُخْبِر به، ولم تَجْرِ به العادةُ، ولا هو ممَّا تكلَّمَ النَّاسُ فيه نفيًا أو إثباتًا. ومثل هذا لا يقرِّرُهُ الرَّبُّ – تعالى – ولا يَسْتَدِلُّ
__________
= (4/ 192).
وانظر: “تفسير السمعاني” (6/ 203)، و”معالم التنزيل” (8/ 394)، و”الوسيط” (4/ 465)، و”المحرر الوجيز” (15/ 401)، وغيرهم.
(1) في (ز): الراجع.

(1/165)


عليه (1) على مُنْكِرِيه، وهو – سبحانه – إنَّما يستدلُّ على أمرٍ واقعٍ ولا بُدَّ، إمَّا قد وَقَعَ وَوُجِدَ، أو سيقع.
فإن قيل: فقد قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) } [القيامة: 3, 4]، أي: نجعلها كَخُفِّ البعير؟
قيل: هذه – أيضًا – فيها قولان: أحدهما: هذا (2) . والثاني: – وهو الأرجح – أنَّ تسوية بَنَانه إعادتُها كما كانت بعدما فرَّقَها البِلَى في التراب (3) .
الثامن: أنَّه – سبحانه – دعا الإنسانَ إلى النظر فيما خُلِقَ منه؛ لِيَرُدَّهُ نَظَرُهُ عن تكذيبه بما أُخْبِرَ به، وهو لم يُخْبَر بقدرة خالقه على رَدِّ الماءِ في إحْلِيله بعد مفارقته له، حتَّى يدعوه إلى النظر فيما خُلِق منه، ليستنتج منه صِحَّةَ إمكانِ ردِّ الماء.
التاسع: أنَّه لا ارتباط بين النظر في مبدأ خلقه وردِّ الماء في
__________
(1) في (ط): به، وفي (ح) و (م) زيادة: ويبيِّنه.
(2) وهو قول: ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وعكرمة، والحسن البصري، ومقاتل، والضحَّاك وغيرهم.
واختاره ابن جرير الطبري في “جامع البيان” (12/ 327 – 328)، والنحَّاس في “إعراب القرآن” (1028).
(3) وهذا قول: ابن قتيبة في “تأويل مشكل القرآن” (346)، والزجَّاج في “معاني القرآن” (5/ 251).
واختاره كثير من المفسرين كـ: السمعاني في “تفسيره” (6/ 102)، وابن عطية في “المحرر الوجيز” (15/ 208)، والواحدي في “الوسيط” (4/ 391)، والقرطبي في “الجامع” (19/ 93)، وابن كثير في “تفسيره” (8/ 276)، وغيرهم.

(1/166)


الإحْلِيل بعد خروجه، ولا تلازم بينهما، حتَى يُجْعَلَ أحدُهما دليلًا على إمكان الآخر، بخلاف الارتباط الذي بين المبدأ والمعاد، والخَلْقِ الأوَّلِ والخَلْقِ الثاني، والنَّشْأَةِ الأُولَى والنَّشْأةِ الثانية؛ فإنَّه ارتباطٌ من وجوهٍ عديدةٍ، ويلزم من إمكانِ أحدِهما إمكانُ الآخر، ومن وقوعِه صحةُ وقوعِ الآخر، فَحَسُن الاستدلال بأحدهما على الآخر.
العاشر: أنَّه – سبحانه – نَبَّهَ بقوله: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)} على أنَّه قد وكَّلَ به من يحفظ عليه عَمَلَهُ ويحصيه، فلا يضيع منه شيءٌ. ثُمَّ نَبَّهَ بقوله – عزَّ وجلَّ -: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)} على بعثه لجزائه على العمل الذي حُفِظَ وأُحْصِيَ عليه.
فذكر شأنَ مبدأ عملِه ونهايتِه، فمبدَؤُهُ محفوظٌ عليه، ونهايته الجزاء عليه، ونبَّهَ على هذا بقوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)} أي: تختبر السرائر (1).
وقال مقاتل: “تظهر وتبدو” (2).
وبَلَوْتَ الشيءَ: إذا اختبرتَهُ ليظهر لك باطِنُه، وما خَفِيَ منه.
و”السرائر”: جمع سَرِيرة، وهي سرائر الله التي بينه وبين عبده في ظاهره وباطنه. فالإيمان من السرائر، وشرائعه من السرائر، فتُخْتَبر ذلك
__________
(1) ساقط من (ز) و (ح) و (م).
(2) نقله عنه الواحديُّ في “الوسيط” (4/ 465)، قال السمعاني: “وهو الأولى”. “تفسيره” (6/ 204).
لكن في المطبوع من “تفسير مقاتل” (3/ 473): “يوم تبلى السرائر: يوم تختبر السرائر، كل سريرةٍ من الذنوب عَمِلَها ابنُ آدم”.

(1/167)


اليوم حتَّى يظهر خيرُها من شرِّها، ومُؤَدِّيها من مضيِّعِها، وما كان لله ممَّا لم يكن له.
قال عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما -: “يُبْدِي اللهُ يومَ القيامة كلَّ سِرٍّ، فيكون زَينًا في الوجوه، وشَينًا فيها” (1) . والمعنى: تختبر السرائر بإظهارِها، وإظهارِ مقتضياتها من الثوابِ والعقابِ، والحَمْدِ والذَّمِّ.
وفي التعبير عن الأعمال بـ “السِّرِّ” لطيفةٌ، وهي أنَّ الأعمال نتائج السرائر الباطنة، فمن كانت سريرته صالحةً كان عمله صالحًا، فتبدو سريرتُه على وجهه نورًا وإشراقًا وحُسْنًا، ومن كانت سريرته فاسدةً كان عمله تابعًا لسريرته – لا اعتبارَ بصورته – فتبدو سريرته على وجهه سوادًا وظلمةً وشَينًا. وإن كان الذي يبدو عليه في الدنيا إنَّما هو عملُه لا سريرتُه، فيوم القيامة تبدو عليه سريرته، ويكون الحكم والظهور لها، وفي الحديث: “أنْقُوا (2) هذه السرائر؛ فإنَّه ما أسَرَّ امْرُؤٌ سريرةً إلَّا أَلْبسَهُ اللهُ رِدَاءَ سريرته” (3) .
__________
(1) ذكره الواحديُّ في “الوسيط” (4/ 466)، والبغوي في “تفسيره” (8/ 394)، والقرطبي في “الجامع” (20/ 9).
(2) في (ط): ابقوا، وأهمل إعجامها في (ز) و (ن)، والصواب ما أثبته.
(3) هذا الحديث روي مرفوعًا وموقوفًا من حديث عثمان – رضي الله عنه -.
فأمَّا المرفوع فأخرجه: ابن عدي في “الكامل” (2/ 789)، والطبري في “تفسيره” (5/ 459)، وابن أبي حاتم – كما في “كنز العمال” رقم (8427)، و”الدر المنثور” (3/ 142) -، وأبو نعيم في “الحلية” (10/ 215)، والقضاعي في “مسند الشهاب” (1/ 306)، والبيهقي في “شعب الإيمان” رقم (6543)، والخطيب في “الموضح” (2/ 460).
وإسناده ضعيف جدًّا، وقد ضعفه الطبري (5/ 456)، وابن كثير (3/ 401)، =

(1/168)


وفيما كتب (1) بعض السلف إلى بعضٍ: “مَنْ أَصلَحَ سريرتَهُ أصلَحَ اللهُ علانيته”.
__________
= والألباني في “الضعيفة” رقم (1929). لكن للمرفوع شواهد، منها:
1 – حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه -؛ أخرجه:
أحمد في “المسند” (3/ 28)، وأبو يعلى في “مسنده” رقم (1378)، وابن حبَّان في “صحيحه” رقم (5678)، والحاكم في “المستدرك” (4/ 314)، والبيهقي في “شعب الإيمان” رقم (6541).
وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وحسنه الهيثمي في “مجمع الزوائد” (10/ 225). لكن في إسناده: ابن لهيعة. ثم هو من رواية: درَّاج بن سمعان أبو السمح عن أبي الهيثم، وحديثه عنه ضعيف.
2 – حديث ابن مسعود – رضي الله عنه -؛ أخرجه أبو نعيم في “الحلية” (5/ 36 – 37) بسند تالف، وانظر “علل الدارقطني” (5/ 333 – 334).
3 – حديث جندب بن سفيان البجلي – رضي الله عنه -؛ أخرجه الطبراني في “الأوسط” رقم (7902)، وفي “الكبير” (2/ 171) رقم (1702)؛ بسند تالف أيضًا.
وأمَّا الموقوف على عثمان – رضي الله عنه -؛ فأخرجه:
ابن المبارك في “الزهد” (17) – زوائد رواية نعيم بن حماد -، وأحمد في “فضائل الصحابة” رقم (777)، وفي “الزهد” (157)، وأبو داود في “الزهد” (111 – 112)، وابن أبي شيبة في “المصنف” (13/ 558)، والطبري في “تفسيره” (18/ 262)، والبيهقي في “شعب الإيمان” رقم (6542)، والخطيب في “تالي تلخيص المتشابه” (1/ 95)، ومسدَّد كما في “المطالب العالية” رقم (3179)، وفي “الإتحاف” للبوصيري رقم (7139) وقال: “رواته ثقات”.
قال البيهقي: “هذا هو الصحيح، موقوفًا على عثمان، وقد رفعه بعض الضعفاء”.
وقال السيوطي: “هذا هو الصحيح، موقوف”. “مسند عثمان بن عفان” (52).
(1) “كتب” ساقطة من (ن).

(1/169)


وقال بعضهم: “من كانت سريرته خيرًا من علانيته فهو الفَضْلُ، ومن استَوَت سريرته وعلانيته فهو العَدْل، ومن كانت علانيته خيرًا من سريرته فهو الجَوْرُ”.
ومن دعاء ابن عمر: “اللهُمَّ اجعل سريرتي خيرًا من علانيتي، واجعل علانيتي صالحةً” (1) .
ومن دعاء علي بن الحسين: “اللهُمَّ إنِّي أعوذ بك أن تُحسِّنَ في لوامع العيون علانيتي، وتُقَبِّحَ في خَفِيَّات العيون سريرتي” (2) .
قال الشاعر (3) :
سَتَبْقَى (4) لَها في مُضْمَر القَلْبِ والحَشَا … سَرِيرَةُ حُبٍّ (5) يومَ تُبْلَى السَّرَائِرُ
ثُمَّ أخبر – سبحانه – عن حال الإنسان في يوم القيامة أنَّه غير مُمْتَنِع
__________
(1) أخرج الترمذي في “سننه” رقم (3586)، وأبو نعيم في “الحلية” (1/ 53) من حديث عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: علَّمني رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -، قال:
“قل: اللهم اجعل سريرتي خيرًا من علانيتي، واجعل علانيتي صالحةً، اللهم إني أسألك من صالح ما تؤتي النَّاس من المال والأهل والولد، غير الضالِّ ولا المُضِلِّ”.
قال الترمذي: “هذا حديثٌ غريبٌ لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوي”.
(2) من قوله: “وفي الحديث. . .” إلى هنا؛ استدرك في هامش (ن)، وسقط من (ح) و (م).
(3) هو الأحوص الأنصاري “ديوانه” (118).
(4) في جميع النسخ: وإنَّ! والتصحيح من الديوان.
(5) كذا في جميع النسخ، وهو كذلك في بعض المصادر كما أشار إليه محقق الديوان، وفي الديوان: وُدٍّ.

(1/170)


من عذاب الله؛ لا بقوَّةٍ منه، ولا بقوَّةٍ من خارجٍ – وهو “النَّاصر” -، فإنَّ العبد إذا وقع في شدَّةٍ: فإمَّا أن يَدْفَعَها بقوَّتِه، أو بقوَّةِ من يَنْصُرُه، وكلاهما معدومٌ في حَقِّهِ، ونظيره قوله سبحانه: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)} [الأنبياء: 43].
ثُمَّ أقسَمَ – سبحانه – بـ {السَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12)}، فأقسم بالسماءِ وَرَجْعِها بالمَطَر، والأرض وَصَدْعِها بالنَّبَات.
قال الفَرَّاء: “تُبْدِي بالمطر ثُمَّ تَرْجِعُ به في كُلِّ عامٍ” (1).
وقال أبو إسحاق: “الرَّجْعُ: المطر؛ لأنَّه يجيءُ (2) ويرجع ويتكرَّر” (3).
وكذا قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: “تُبْدِي بالمطر ثُمَّ ترجع به في كلِّ عام” (4).
والتحقيقُ: أنَّ هذا على وجه التمثيل، ورَجْعُ السماء: هو إعطاءُ الخير الذي يكون من جِهَتِها حالًا بعد حالٍ، على مرور الأزمان. تَرْجِعُهُ
__________
(1) “معاني القرآن” (3/ 255).
(2) من قوله: “قال الفرَّاء. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ز).
(3) “معاني القرآن” للزجَّاج (5/ 312).
(4) أخرجه: عبد الرزاق في “تفسيره” (2/ 365)، والبخاري في “التاريخ الكبير” (8/ 262)، وأبو الشيخ في “العظمة” رقم (746)، والطبري في “تفسيره” (12/ 538 – 539)، والحاكم في “المستدرك” (2/ 519) رقم (3975) وصححه ووافقه الذهبي.
وزاد السيوطي نسبته إلى: الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. “الدر المنثور” (6/ 561).

(1/171)


رَجْعًا، أي: تُعْطِيه مَرَّةً بعد مرَّةٍ.
والخيرُ كلُّهُ من قِبَل السماءِ يجيءُ، ولمَّا كان أظْهَرَ الخيرِ المشهودِ بالعِيَانِ المَطَرُ فُسِّرَ “الرَّجْعُ” به، وحَسَّنَ تفسيرَهُ به مقابلتُه بصَدْع الأرض عن النَّبَات، وفُسِّرَ “الصَّدْع” بالنَّبَات؛ لأنَّه يَصْدَعُ الأرضَ (1) أي: يَشُقُّها.
فأقسَمَ – سبحانه – بالسماء ذات المطر، والأرض ذات النَّبَات، وكلٌّ من ذلك آيةٌ من آياتِ الله -تعالى – الدَّالَّةِ على ربوبيته.
وأَقْسَمَ على كَونِ القرآنِ حقًّا وصدقًا، فقال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14)} [الطارق: 13, 14]، كما أقسم في أوَّل السورة على حال الإنسان في مبدئه ومَعَاده.
و”القولُ الفَصْلُ”: هو الذي يَفْصِلُ (2) بين الحقِّ والباطل، فيميِّزُ هذا من هذا، ويَفْصِلُ بين النَّاس فيما اختلفوا فيه.
ومُصِيبُ الفَصْل الذي يتفصَّل (3) عنده المراد ويتميَّزُ من غيره، كما يقال: أصاب الفَصْلَ، وأصاب المَحَزَّ؛ إذا أصاب بكلامه نفس المعنى المراد (4)، ومنه: فَصْلُ الخطاب.
وأيضًا؛ فالقولُ الفَصْلُ: الفَصْلُ ببيان المعنى، ضِدُّ الإجمال.
__________
(1) من قوله: “عن النبات. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ز) و (ط).
(2) في (ز) و (ن) و (ط) زيادة: به.
(3) في (ح) و (م): ينفصل.
(4) ساقط من (ز).

(1/172)


فَكَونُ القرآنِ “فَصْلًا” يتضمَّنُ هذه المعاني كلَّها، ويتضمَّنُ كونه “حقًّا” ليس بالباطل، و”جِدًّا” ليس بالهَزْل.
ولمَّا كان الهَزْل هو الذي لا حقيقة له – وهو الباطل واللَّعِب – قابَلَ بين الفَصْلِ والهَزْلِ، وإنَّما يكيد المكذِّبون ويتحيَّلُون، ويخادِعون لِرَدِّه ولا يردُّونَه بِحُجَّةٍ، واللهُ يكيدُهم كما يكيدون دينَهُ ورسولَهُ وعبادَهُ، وكَيدُه – سبحانه – استدراجُهم من حيث لا يعلمون، والإملاءُ لهم حتَّى يأخُذَهم على غِرَّةٍ، كما قال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)} [الأعراف: 183]، فالإنسان إذا أراد أن يكيد غيره يُظْهِر له إكرامه وإحسانه إليه حتَّى يطمئنَّ إليه؛ فيأخذه، كما يفعل الملوك. فإذا فعل أعداءُ الله ذلك بأوليائِه ودينه كان كيدُ اللهِ لهم حَسَنًا لا قُبْحَ فيه، فيُعْطِيهم ويُعَافِيهم وهو يستدرجهم، حتى إذا فَرِحُوا بما أُوتوا أخذهم بغتةً.
ثُمَّ قال سبحانه وتعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)}؛ أي: أَنظِرْهُم قليلًا ولا تستعجل لهم. والرَّبُّ – تعالى – هو الذي يُمْهِلُهم، وإنَّما خَرَجَ الخِطابُ للرسول – صلى الله عليه وسلم – على جهة التهديد والوعيد لهم، أو على معنى: انْتَظِرْ بِهِم قليلًا.
و”رُوَيْدًا” في كلامهم:
يكون اسم فِعْلٍ، فيُنْصَبُ بها الاسم نحو: رُويدًا زيدًا، أي: خَلِّه، وأَمهِلْهُ، وارفُقْ به.
الثاني: أن يكون مصدرًا مُضافًا إلى المفعول، نحو: رُوَيْدَ زيدٍ، أي: إمْهَالَ زيدٍ، نحو: “ضَرْبَ الرِّقَابِ”.
الثالث: أن يكون نعتًا منصوبًا، نحو قولك: سَارُوا رويدًا، تقول

(1/173)


العرب: ضعه رويدًا، أي: وَضْعًا رويدًا.
وفي حديث عائشة في خروج النبي – صلى الله عليه وسلم – بالليل من عندها إلى البقيع: “فخرج رويدًا، وأَجَافَ الباب رويدًا” (1) .
ويجوز في هذا الوجه وجهان:
أحدهما: أن يكون حالًا.
والثاني: أن يكون (2) نعتًا لمصدرٍ محذوفٍ.
فإن أظهرتَ المنعوتَ تعيَّنَ الوجهُ الثاني.
و”رويدًا” في الآية هو من هذا النَّوع الثالث، والله أعلم.
__________
(1) أخرجه مسلم في “صحيحه” رقم (974)؛ ضمن حديث طويل.
وأجاف الباب: أغلقه.
(2) “أن يكون” ساقط من (ز).

(1/174)


فصل

ومن ذلك إقسامُهُ – تعالى – {بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18)} [الانشقاق: 16 – 18]، فأقسم بثلاثة أشياء (1) متعلِّقةٍ بالليل:
أحدها: “الشَّفَقُ”؛ وهو في اللغة: الحُمْرَة بعد غروب الشمس إلى وقت صَلَاة العِشَاء الآخرة (2)، وكذلك هو في الشرع.
قال الفرَّاءُ، واللَّيثُ، والزجَّاجُ، وغيرهم: “الشَّفَقُ”؛ الحُمْرَةُ في السماء (3).
وأَصْلُ موضُوعِ (4) الحَرْفِ لِرِقَّة الشَّيءِ، ومنه قولُهم (5): شيءٌ شَفِقٌ: لا تَمَاسُكَ له لَرِقَّتِه، ومنه “الشَّفَقَة” وهي: الرِّقَّة، وأشْفقَ عليه: إذا رَقَّ له، وأهل اللغة يقولون: “الشَّفَقُ” بقيَّةُ ضَوءِ الشَّمْسِ وحُمْرتها (6).
ولهذا كان الصحيح أنَّ “الشَّفَق” الذي يدخل وقتُ العشاءِ الآخِرة
__________
(1) سَهَا المؤلف – رحمه الله – عن الثالث، فلم يتكلم على القمر إذا اتَّسَق.
(2) قال الواحديُّ: “وهذا قول المفسرين وأهل اللغة جميعًا، وروي مثل هذا مرفوعًا. . .” ثم ساقه. “الوسيط” (4/ 454).
وحكاه القرطبي مذهب أكثر الصحابة والتابعين والفقهاء، وقال: “شواهد كلام العرب والاشتقاق والسُّنَّة تشهد له”. “الجامع” (19/ 273).
(3) انظر: “معاني الفرَّاء” (3/ 250)، و”معاني الزجَّاج” (5/ 305)، و”تهذيب اللغة” (8/ 332).
(4) في (ز): موضع!
(5) ساقط من (ح) و (م).
(6) انظر: “مقاييس اللغة” (3/ 197)، و”لسان العرب” (7/ 154 – 155).

(1/175)


بغيبوبته هو الحُمْرَةُ، فإنَّ الحُمْرَةَ لمَّا كانت بقيَّةَ ضَوءِ الشمس جُعِلَ بقاؤُها حدًّا لوقت المغرب، فإذا ذهبت الحُمْرة بَعُدَت الشمس عن الأُفُقِ فدخل وقت العشاء. وأمَّا البَيَاض فإنَّه يمتدُّ وقته، ويَطُول لُبْثُه، ويكون حاصلًا مع بُعْد الشمس عن الأُفُق.
ولهذا صَحَّ عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أنَّه قال: “الشَّفَقُ: الحُمْرَةُ” (1) .
والعرب تقول: ثوبٌ مصبوغٌ كأنَّه الشَّفَقُ، إذا (2) احْمَرَّ، حكاه الفرَّاءُ (3) .
وكذلك (4) قال الكلبي: “الشَّفَقُ: الحُمْرَةُ التي تكون في المغرب”.
__________
(1) أخرجه: عبد الرزاق في “المصنف” (1/ 559) رقم (2122)، وابن أبي شيبة في “المصنف” رقم (3378).
وزاد السيوطي نسبته إلى: ابن المنذر، وعبد بن حميد، وابن مردويه. “الدر المنثور” (6/ 549).
وأخرجه: الدارقطني في “سننه” (1/ 269) رقم (1056 و 1057)، والبيهقي في “السنن الكبرى” (1/ 373) رقم (1742 و 1744)، وفي “معرفة السنن والآثار” (2/ 205)؛ مرفوعًا وموقوفًا عن ابن عمر – رضي الله عنهما -، قال البيهقي: “والصحيح موقوف”.
وذكر ابن خزيمة في “صحيحه” (1/ 183) أنه لا يثبت مرفوعًا، وقال البيهقي في “المعرفة”: “ولا يصح فيه عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – شيءٌ”.
(2) بعدها في (ن) و (ح) و (م) زيادة: كان.
(3) “معاني القرآن” (3/ 251).
(4) ساقط من (ز).

(1/176)


وكذلك قال مقاتل: “هو الذي يكون بعد غروب الشمس في الأُفُق قبل الظُّلْمة” (1).
وقال عكرمة: “هو بَقِيَّةُ النَّهَار” (2)؛ وهذا يحتمل أن يريد به أنَّ تلك الحُمْرَة بقية ضوء الشمس التي هي آية النَّهار.
وقال مجاهد: “هو النَّهار كلُّه” (3). وهذا ضعيفٌ جدًّا (4)، وكأنَّه لمَّا رآهُ قَابَلَهُ بـ “الليل وما وسق”، ظنَّ أنَّه النَّهار، وهذا ليس بلازِمٍ.
الثاني: قَسَمُهُ بالليل وما وَسَقَ، أي: وما ضَمَّ، وحَوَى، وجَمَع.
والليل آيةٌ، وما ضَمَّهُ وحَوَاهُ آيةٌ أخرى. والقَمَرُ آيةٌ، واتساقُهُ آيةٌ أخرى.
و”الشَّفَقُ” يتضمَّنُ إدبارَ النَّهار، وهو آيةٌ، وإقبالَ الليل، وهو آيةٌ أخرى، فإنَّ هذا إذا أدبر خَلَفَهُ الآخَرُ، يتعاقبان لمصالح الخَلْقِ، فإدبارُ النَّهار آيةٌ، وإقبالُ الليل آيةٌ، وتَعَقُّبُ أحدِهِما للآخَرِ آيةٌ (5)، والشَّفَقُ الذي هو متضمِّنٌ للأمرين آيةٌ.
__________
(1) “تفسيره” (3/ 468).
(2) انظر: “الكشف والبيان” للثعلبي (10/ 160)، و”معالم التنزيل” (8/ 375).
(3) أخرجه: عبد الرزاق في “تفسيره” (2/ 359)، وابن جرير في “تفسيره” (12/ 510 – 511)، وابن أبي حاتم في “تفسيره” (10/ 3411).
وصححه ابن كثير في “تفسيره” (8/ 358).
(4) وكذا قال ابن عطية في “المحرر الوجيز” (15/ 379)، وقال الشوكاني: “ولا وجه لهذا”. “فتح القدير” (5/ 473).
(5) هذه العبارة ساقطة من (ز)، وبدلًا عنها: وما حواه آية.

(1/177)


والليل آيةٌ، وما حَوَاهُ آيةٌ، والهلَالُ آيةٌ، وتزايده كلَّ ليلةٍ آيةٌ، واتِّساقُهُ – وهو امْتِلَاؤُه نُورًا – آيةٌ، ثُمَّ أَخْذُهُ في النقص آيةٌ. وهذه وأمثالُها آياتٌ دالَّةٌ على ربوبيته، مستلزِمَةٌ للعلم بصفات كماله.
ولهذا شُرِعَ عند إقبال الليل وإدبار النَّهار ذِكْرُ الرَّبِّ – تعالى – بصلاة المغرب، وفي الحديث: “اللهُمَّ هذا إقْبالُ لَيْلِكَ، وإدبارُ نَهَارِكَ، وأصْوَاتُ دُعَاتِك، وحضورُ صَلَوَاتِك” (1) . كما شُرِعَ ذكر الله بصلاة الفجر عند إدبار الليل وإقبال النَّهار.
ولهذا يُقْسِمُ – سبحانه – بهذين الوقتين كقوله – عزَّ وجلَّ -: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) } [المدثر: 33, 34]، وهو يقابل إقْسَامه بـ “الشَّفَق”، ونظير إقْسَامِه بالليل {إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) } [التكوير: 17, 18].
ولمَّا كان الرَّبُّ – تبارك وتعالى – يُحْدِثُ عند كلِّ واحدٍ من طَرَفَي إقبال الليل والنَّهار وإدبارِهِما ما يُحْدِثُهُ، ويَبُثُّ من خلقه ما شاء، فينشر
__________
(1) أخرجه: أبو داود في “سننه” رقم (530)، والترمذي في “سننه” رقم (3589)، وابن أبي شيبة في “المصنف” (10/ 227)، وعبد بن حميد في “المنتخب” رقم (1541)، وأبو يعلى في “مسنده” رقم (6896)، والطبراني في “الكبير” (23/ 303)، والحاكم في “المستدرك” (1/ 199) رقم (741) وصححه ووافقه الذهبي؛ كلُّهم من طريق: أبي كثير مولى أُمِّ سلمة، عن أُمِّ سلمة – رضي الله عنها – قالت: علَّمني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن أقول عند أذان المغرب … فذكرته، وفي آخره: “أسألك أن تغفر لي”.
قال الترمذي: “حديث غريب”، وضعفه الألباني “ضعيف الترمذي” رقم (724).

(1/178)


الأرواح الشيطانية عند إقبال الليل (1)، وينشر الأرواح الإنسانية عند إقبال النَّهار، فيُحْدِثُ هذا الانتشارُ في العالَم أثَرَهُ = شرَعَ – سبحانه – في هذين الوقتين هاتين الصلاتين العظيمتين، مع ما في ذلك من ذكره عند هاتين الآيتين المتعاقبتين، وعند انصرام إحداهما واتصال الأخرى بها، مع ما بينهما من التضادِّ والاختلاف، وانتقال الحيوان عند ذلك من حالٍ إلى حالٍ، ومن حكمٍ إلى حكمٍ، وذلك مبدأٌ ومَعَادٌ يوميٌّ، مشهودٌ للخَلِيقَةِ كُلَّ يومٍ وليلةٍ، فالحيوان والنَّبَات في مبدأ ومَعَادٍ، وزمانُ العالَم في مبدأ (2) ومَعَادٍ، {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)} [العنكبوت: 19].

فصل
وقوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)} [الانشقاق: 19]؛ الظاهر أنَّه جوابُ القَسَم، ويجوز أن يكون من القَسَمِ المحذوفِ جوابُهُ، و”لتركَبُنَّ” وما بعده مُسْتأْنَفٌ.
وقُرِئَ “لَتَرْكَبُنَّ” بضم “الباء” للجَمْع، و”لَتَرْكَبَنَّ” بفتحها (3).
فمن فَتَحَها؛ فالخطاب عنده للإنسان، أي: لتركَبَنَّ أيُّها الإنسانُ.
__________
(1) هذه العبارة بكاملها سقطت من (ز).
(2) في (ز): المبدأ.
(3) قرأ: ابن كثير، وحمزة، والكسائي بالفتح، وقرأ الباقون بالضم.
انظر: “إعراب القراءات” لابن خالويه (2/ 455)، و”الموضح” لابن أبي مريم (3/ 1355)، و”النشر” (2/ 399).

(1/179)


وقيل: هو للنبيِّ (1) – صلى الله عليه وسلم – خاصَّةً (2).
وقيل: ليست “الباء” للخِطَاب، ولكنها للغَيْبَةِ، أي: لَتَرْكَبَنَّ السماءُ طبقًا بعد طبق.
ومن ضَمَّها؛ فالخطاب للجماعة ليس إلَّا.
فمن جعل الكناية للسماء قال: المعنى: لَتَرْكَبَنَّ السماءُ حالًا بعد حالٍ من حالاتها التي وصفَها اللهُ – تعالى – من الانشقاقِ، والانفطارِ، والطَّيِّ، وكونِها كالمُهْلِ مرَّةً، وكالدِّهَانِ مرَّةً، ومَوَرَانِها، وتَفَتُّحِها، وغير ذلك من حالاتها، وهذا قول عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – (3).
ودلَّ على السماءِ ذِكْرُ الشَّفَقِ والقمر، وعلى هذا فيكون قَسَمًا على المَعَادِ، وتغيُّرِ العالم.
ومن قال: الخطاب للنبيِّ – صلى الله عليه وسلم -؛ فله ثلاثةُ معانٍ:
لَتَرْكَبَنَّ سماءً بعد سماءٍ، حتَّى تنتهي إلى حيث يُصْعِدُكَ اللَّهُ. هذا
__________
(1) في (ز): النبي.
(2) أخرج البخاري في “صحيحه” رقم (4940) في قوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)} قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: “حالًا بعد حال، قال: هذا نبيكم – صلى الله عليه وسلم -“، أي: الخطاب له، كذا قال الحافظ في “الفتح” (8/ 580). إلا أن ابن كثير استظهر رفعه “تفسيره” (8/ 359).
(3) أخرجه عنه: عبد الرزاق في “تفسيره” (2/ 359)، والطبري في “تفسيره” (12/ 515 – 516)، والحاكم في “المستدرك” (2/ 518) رقم (3969) وصححه، وضعفه الذهبي.
وانظر: “مجمع الزوائد” (7/ 135).

(1/180)


قول ابن عباس (1) – في رواية مجاهد -، وقول مسروق، والشعبي؛ قالوا: والسماءُ طَبَقٌ، ولهذا يقال للسماوات: السَّبْعُ الطِّبَاقُ.
والمعنى الثاني: لَتَصْعَدَنَّ درجةً بعد درجةٍ، ومنزلةً بعد منزلةٍ، ورتبةً بعد رتبةٍ، حتَّى تنتهي إلى مَحَلِّ القُرْبِ والزُّلْفَى من الله تعالى.
والمعنى الثالث: لَتَرْكَبَنَّ حالًا بعد حالٍ من الأحوالِ المختلفةِ التي نَقَلَ اللهُ فيها رسولَهُ – صلى الله عليه وسلم -، من الهجرةِ، والجهادِ، ونَصْرِهِ على عدوِّهِ، وإدالةِ العدوِّ عليه تارةً، وغناه وفقرِه، وغيرِ ذلك من حالاته التي تنقَّلَ فيها إلى أن بَلَغَ ما بَلَّغَهُ اللهُ إيَّاهُ.
ومن قال: الخطابُ للإنسانِ أو لِجُمْلَةِ النَّاسِ، فالمعنى واحدٌ، وهو تنقُّلُ الإنسانِ حالًا بعد حالٍ، من حين كونه نطفةً إلى مستقرِّه من الجنَّة أو النَّار، فكم بين هذين (2) من الأطباق والأحوال للإنسان.
وأقوالُ المفسِّرين كلُّها تدور على هذا (3)؛ قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: “لَتَصِيرَنَّ الأمورُ حالًا بعد حالٍ”.
وقيل: لَتَرْكَبَنَّ أيُّها الإنسانُ حالًا بعد حال، من النُّطْفَةِ إلى العَلَقةِ، إلى المُضْغَةِ، إلى كونه حيًّا، إلى خروجه إلى هذه الدار، ثُمَّ ركوبه طَبَقَ
__________
(1) أخرجه: الطبراني في “الكبير” (11/ رقم 11173)، قال الهيثمي: “ورجاله ثقات”. “مجمع الزوائد” (7/ 135).
وعزاه السيوطي إلى: الطيالسي؛ وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم. “الدر المنثور” (6/ 549).
(2) في (ز): هاتين.
(3) انظر: “جامع البيان” (12/ 513)، و”المحرر الوجيز” (15/ 379)، و”الجامع” (19/ 276).

(1/181)


التمييز بين ما ينفعه ويضرُّهُ، ثُمَّ ركوبه بعد ذلك طبقًا آخر وهو طبق البلوغ، ثُمَّ ركوبه طَبَقَ الأَشُدِّ، ثُمَّ طَبَقَ الشيخوخة، ثُمَّ طبق الهَرَمِ، ثُمَّ ركوبه طبق الموتِ وشأنِهِ، ثُمَّ ركوبه طبق (1) ما بعده في البرزخ، وركوبه في أثناء هذه الأحوال أطباقًا عديدةً، لا يزال يتنقَّلُ فيها حالًا بعد حالٍ إلى دار القرار، فذلك (2) آخِرُ أطباقه التي يعلمها العباد، ثُمَّ يفعل الله – سبحانه – بعد ذلك ما يشاء.
واختار أبو عبيد (3) قراءةَ الضَّمِّ (4) ، وقال: “المعنى بالنَّاس أَشْبَهُ منه بالنبيِّ – صلى الله عليه وسلم -؛ فإنَّه ذكر قبل الآية من يُؤْتَى كتابه بيمينه وشماله، ثُمَّ ذكر بعدها قوله: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) }، فذكر كونهم طبقًا بعد طبق”.
قال الواحديُّ: “وهذا قول أكثر المفسِّرين، قالوا: لتركَبُنَّ حالًا بعد حالٍ، ومنزلًا بعد منزلٍ، وأمرًا بعد أمرٍ” (5) .
قال سعيد بن جبير، وابن زيد: “لتكونُنَّ في الآخرة بعد الأُولَى، ولَتَصِيرُنَّ أغنياءَ بعد الفقر، وفقراءَ بعد الغِنى”.
وقال عطاء: “شِدَّةً بعد شِدَّةٍ”.
وقال أبو عبيدة: “لتركَبُنَّ سُنَّةَ من كان قبلكم في التكذيب
__________
(1) ساقط من (ز).
(2) في (ز): فذكر.
(3) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: أبو عبيدة.
(4) انظر: “الكشف والبيان” (10/ 161)، و”الجامع” (19/ 276).
(5) “الوسيط” (4/ 455)، دون عبارته الأولى.

(1/182)


والاختلاف على الرُّسُل” (1) .
وأنتَ إذا تأمَّلْتَ هذا المُقْسَمَ به والمُقْسَمَ عليه وجدتَّه من أعظم الآيات الدَّالَّةِ على الربوبية، وتغييرِ الله – سبحانه – العالَم، وتصريفِهِ له كيف أراد، ونقلِهِ إيَّاهُ من حالٍ إلى حالٍ، وهذا محالٌ أن يكون بنفسه من غير فاعِلٍ مدبِّرٍ له، ومحالٌ أن يكون فاعله غير قادرٍ، ولا حَيٍّ، ولا مريدٍ (2) ، ولا حكيمٍ، ولا عليمٍ، فكلاهما في الامتناع سواء.
فالمقسَمُ به وعليه من أعظم الأدلَّة على ربوبيته، وتوحيدِهِ، وصفاتِ كماله، وصِدْقِه، وصِدْقِ رُسُلِهِ، وعلى المَعَادِ، ولهذا عقَّبَ ذلك بقوله: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) }؛ إنكارًا على من لم يؤمن بعد ظهور هذه الآيات المستلزِمة لمدلولها أتَمَّ استلزامٍ.
وأنكر عليهم عدم خضوعِهم وسجودِهم للقرآن المشتمِلِ على ذلك بأفصح عبارةٍ، وأبْيَنِها، وأجْزَلِها، وأوجَزِها. فالمعنى أشرف معنىً، والعبارةُ أشرفُ عبارةٍ، غايةُ الحقِّ بغايةِ البيانِ والفصاحةِ.
{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) } ولا يصدِّقُون بالحقِّ جحودًا وعنادًا، والله أعلم بما يُضْمِرُون في صدورهم ويكتمونه، وما يسرُّونه من أعمالهم وما يجمعونه، فيجازيهم عليه بعلمه وعدله، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) }.
__________
(1) “مجاز القرآن” (2/ 292).
(2) في (ز): مدبر.

(1/183)


فصل

ومن ذلك إقسامُهُ – سبحانه – {بِالْخُنَّسِ (15) (1) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)} [التكوير: 15 – 18].
أقْسَمَ – سبحانه – بالنُّجوم في أحوالها الثلاثة؛ في (2): طلوعها، وجريانها، وغروبها. هذا قول: علي، وابن عباس، وعامة المفسِّرين (3)، وهو الصواب.
و”الخُنَّس”: جمع خَانِس، والخُنُوسُ: الانقباضُ والاختفاءُ، ومنه سُمِّيَ الشيطانُ “خَنَّاسًا” لانقباضه وانكماشه حين يذكر العبدُ ربَّه. ومنه قول أبي هريرة: “فانْخَنَسْتُ منه” (4).
و”الكُنَّس”: جمع كَانِس، وهو الداخل في كِنَاسِهِ، أي: في بيته. ومنه: تكَنَّسَت المرأةُ؛ إذا دَخَلَت في هَوْدَجِها. ومنه: كَنَسَت الظباءُ؛ إذا أَوَتْ إلى أَكْنَاسِها.
__________
(1) في (ن) و (ح) و (م): ومن ذلك قوله سبحانه: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)}.
(2) في (ن) و (ح) و (ط) و (م): من.
(3) واختاره: أبو عبيدة في “مجاز القرآن” (2/ 287)، وابن قتيبة، وقال السمعاني: “وهو المشهور”. “تفسيره” (6/ 169).
ونسبه إلى الجمهور: ابن عطية في “المحرر الوجيز” (15/ 339)، وابن الجوزي في “زاد المسير” (8/ 192).
قال ابن كثير: “وقال بعض الأئمة: إنما قيل للنُّجوم: “الخُنَّس” أي: في حال طلوعها، ثم هي جَوارٍ في فلكها، وفي حال غيبوبتها يقال لها: “كُنَّس”؛ من قول العرب: أَوَى الظبْيُ إلى كِنَاسِه: إذا تغيَّبَ فيه”. “تفسيره” (8/ 337).
(4) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (279)، ومسلم في “صحيحه” رقم (371).

(1/184)


و”الجَوَاري”: جمع جارية، كـ “غاشية” وغَوَاشٍ.
قال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: “النُّجُومُ تَخْنِسُ بالنَّهارِ، وتظهر بالليل” (1) .
وهذا قول: مقاتل (2) ، وعطاء، وقتادة، وغيرهم (3) . قالوا: الكواكب تَخْنِسُ بالنَّهار، فتختفي ولا تُرَى، وتَكْنِسُ في وقت غروبها.
ومعنى “تَخْنِس” – على هذا القول -: تتأَخَّر عن البصر، وتَتَوَارَى عنه بإخفاء النَّهار لها.
وفيه قولٌ آخر؛ وهو أنَّ خنوسَها رجوعُها، وهي حركتها المشرقية (4) ، فإنَّ لها حركتين: حركةً بفَلَكِها، وحركةً بنفسها، فخُنُوسُها: حركتُها بنفسها (5) راجعةً، وعلى هذا فهو قَسَمٌ بنوعٍ من الكواكب، وهي “السيَّارة”، وهذا قول الفرَّاء (6) .
__________
(1) أخرجه: الطبري في “تفسيره” (12/ 467)، والحاكم في “المستدرك” (2/ 515) رقم (3959) وصححه ووافقه الذهبي.
وعزاه السيوطي إلى: سعيد بن منصور، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم. “الدر المنثور” (6/ 528).
وانظر: “المطالب العالية” (15/ 269 – 277).
(2) “تفسيره” (3/ 456).
(3) وهو قول: الحسن البصري، ومجاهد، وابن زيد، والسُّدِّي، وبكر بن عبد الله المزني، وغيرهم.
انظر: “الجامع” (19/ 234)، و “تفسير ابن كثير” (8/ 336).
(4) في (ح) و (م): الشرقية.
(5) قوله: “فخنوسها حركتها بنفسها”؛ ساقط من (ز) و (ن) و (ط).
(6) “معاني القرآن” (3/ 242).

(1/185)


وفيه قولٌ ثالثٌ؛ وهو أنَّ خُنُوسَها وكُنُوسَها: اختفاؤُها (1) وقتَ مغيبها، فتغيب في مواضعها التي تغيب فيها (2)، وهذا قول الزجَّاج (3).
ولمَّا كان للنُّجُوم حال (4) ظهورٍ، وحال (5) اختفاءٍ، وحال جريانٍ، وحال غروبٍ – أقسَمَ – سبحانه – بها في أحوالها كلِّها، ونبَّه بخُنُوسِها على حال ظهورها؛ لأنَّ “الخُنُوس” هو الاختفاء بعد الظهور، ولا يقال لِمَا لم يزل مختفيًا: أنَّه قد خَنَس. فذكر – سبحانه – جريانَها وغروبَها صريحًا، وخنوسَها وظهورَها، واكتفى من ذِكْرِ طُلُوعِها بجريانها الذي مبدؤُهُ الطُّلُوع، فالطُّلُوع أوَّلُ جريانها.
فتضمَّنَ القَسَمُ: طُلُوعَها، وغروبَها، وظهورَها، واختفاءَها، وذلك من آياته ودلائل ربوبيته.
وليس قول من فسَّرَها بـ “الظِّبَاء”، و”بَقَر الوحش” (6) بالظاهر؛ لوجوه:
أحدها: أنَّ هذه الأحوال في الكواكب السيَّارة أعظمُ آيةً وعبرةً.
__________
(1) قبل كلمة (اختفاؤها) واو في (ن) و (ط)، وهي مقحمة.
(2) من قوله: “وهذا قول الفرَّاء. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ز).
(3) “معاني القرآن” (5/ 291).
(4) ساقط من (ز).
(5) ساقط من (ز) و (ن) و (ط).
(6) فسَّرها بـ “الظباء”: ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والضحَّاك، وجابر بن زيد.
وفسَّرها بـ “بقر الوحش”: ابن مسعود، وجابر بن عبد الله، وإبراهيم النخعي.
انظر: “جامع البيان” (12/ 467)، و”الجامع” (19/ 234)، و”تفسير ابن كثير” (8/ 337).

(1/186)


الثاني: أنَّ اشتراك أهل الأرض في معرفتها بالمُشَاهَدةِ والعِيَانِ.
الثالث: أنَّ “البقر” و”الظِّبَاء” ليست لها حالة تختفي فيها عن العِيَان مطلقًا، بل لا تزال ظاهرةً في الفَلَوَاتِ.
الرابع: أنَّ الذين فسَّرُوا الآيةَ بذلك قالوا: ليس خُنُوسها من الاختفاء.
قال الواحديُّ: “هو من الخَنَس في الأَنْفِ، وهو تأخُّرُ الأَرْنَبة، وقِصَرُ القَصَبة، والبقر والظِّبَاء أنوفُهُنَّ خُنْسٌ، والبقرة خَنْسَاء، والظَّبْيُ أَخْنَس” (1) . ومنه سُمِّيت “الخَنْسَاء” (2) ؛ لِخَنَس أَنْفِها.
ومعلومٌ أنَّ هذا أمرٌ خَفِيٌّ يحتاجُ إلى تأمُّلٍ، وأكثرُ النَّاس لا يعرفونه، وآياتُ الرَّبِّ التي يُقْسِمُ بها لا تكون إلا ظاهرةً جليَّةً يشترك في معرفتها الخلائق، وليس الخَنَسُ في أنف البقر والظِّبَاء بأعظم من الاستواء والاعتدال في أنف ابن آدم، فالآية فيه أظهر.
الخامس: أنَّ كنوسَها في أَكِنَّتها ليس بأعظم من دخول الطير وسائر الحيوان في أَكِنَّتِهِ التي يأوي فيها (3) ، ولا أظهر منه حتَّى يعيَّن للقَسَم.
__________
(1) انظر: “الجامع” (19/ 235).
(2) هي تُماضِر بنت عمرو بن الشريد، السُّلَميَّة الشاعرة المشهورة بـ “الخَنْساء”،
الصحابية المخضرمة، توفيت في أول خلافة عثمان – رضي الله عنه – سنة (24 هـ) – رضي الله عنها -.
انظر: “أسد الغابة” (7/ 88)، و”الإصابة” (4/ 279).
(3) ساقط من (ز)، والعبارة في (ح) و (م) هكذا: في بيته الذي يأوي فيه.

(1/187)


السادس: أنَّه لو كان جمعًا للظِّباء لقال: الخُنْس – بالتسكين -؛ لأنَّه جمع: أَخْنَس، فهو كَأَحْمَر وحُمْر، ولو أُريد به جمع (بقرةٍ خَنْسَاء) لكان على وزن “فُعْل” – أيضًا – كَحَمْرَاء وحُمْر، فلمَّا جاءَ جمعُه على “فُعَّل” – بالتشديد – استحال أن يكون جمع الواحد من الظِّبَاء والبقر؛ وتعيَّن أن يكون جمعًا لـ “خَانِس”، كَشَاهِدٍ وشُهَّد، وصَائِمٍ وصُوَّم، وقَائِمٍ وقُوَّم، ونظائرها.
السابع: أنَّه ليس بالبيِّنِ إقسامُ الرَّبِّ – تعالى – بالبقر والغزلان، وليس هذا عُرْف القرآن ولا عادته، وإنَّما يُقْسِم – سبحانه – من كلِّ جِنْسٍ بأعلاه، كما أنَّه لمَّا أقسَمَ بالنُّفُوس أقسَمَ بأعلاها، وهي النَّفْس الإنسانية.
ولمَّا أقْسَمَ بكلامه أقْسَمَ بأشرفه وأجلِّه؛ وهو: القرآن.
ولمَّا أقْسَمَ بالعُلْويَّات أقسَمَ بأشرفها وهي (1) : السماءُ، وشمسُها، وقمرُها، ونجومُها.
ولمَّا أقسَمَ بالزَّمان أقسَمَ بأشرفه، وهو: الليالي العشر.
وإذا أراد – سبحانه – أن يُقْسِمَ بغير ذلك أدرجه في العموم، كقوله – عزَّ وجلَّ -: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) } [الحاقة: 38، 39]، وقوله: {الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) } [الليل: 3] في قراءة (2)
__________
(1) في جميع النسخ: وهو! وما أثبته أنسب للكلام.
(2) رفعه أبو الدرداء إلى النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – كما في “صحيح البخاري” رقم (4943 و 4944)، و”صحيح مسلم” رقم (824).
وقرأ بها: ابن مسعود، وأبو الدرداء، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس – رضي الله عنهم -. “المحتسب” (2/ 364)، و”الشواذ” (174). =

(1/188)


رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ونحو ذلك.
الثامن: أنَّ اقترانَ القَسَمِ بالليلِ والصُّبْحِ يدلُّ على أنَّها النُّجُوم، وإلَّا فليس باللَّائق اقتران البقر والغزلان والليل والصُّبْح في قَسَمٍ واحدٍ.
وبهذا احتج أبو إسحاق (1) على أنَّها النُّجُوم فقال: “هذا أَلْيَقُ بذكر النُّجُوم منه بذكر الوحش”.
التاسع: أنه لو أراد ذلك – سبحانه – لَبيَّنه (2) ، وذَكَرَ ما يدلُّ عليه، كما أنه لمَّا أراد بالجَوَاري: السُّفُنَ؛ قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) } [الشورى: 32]، وهنا ليس في اللفظ ولا في السياق ما يدلُّ على أنَّها البقر والظِّبَاء، وفيه ما يدلُّ على أنَّها النُّجُوم من الوجوه التي ذكرناها وغيرها.
العاشر: أنَّ الارتباط الذي بين النُّجُوم التي هي هدايةٌ للسالكين، وزينةٌ للسماء، ورُجُومٌ للشياطين، وبين المُقْسَمِ عليه وهو القرآن، الذي هو هُدَىً للعالمين، وزينةٌ للقلوب، وداحضٌ لشبهات الشيطان = أعظمُ من الارتباط الذي بين البقر والظِّبَاء والقرآن (3) ، والله
__________
= قال الحافظ: “والعجب من نقل الحُفَّاظ من الكوفيين هذه القراءة عن علقمة، وعن ابن مسعود وإليهما تنتهي القراءة بالكوفة، ثم لم يقرأ بها أحدٌ منهم. وكذا أهل الشام حملوا القراءة عن أبي الدرداء ولم يقرأ أحدٌ منهم بهذا، فهذا مما يقوي أن التلاوة بها نسخت”. “الفتح” (8/ 591).
(1) قدَّمه الزجَّاج في “معاني القرآن” (5/ 291) ونسبه للأكثرين، لكن لم يذكر هذا الوجه في الترجيح.
(2) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: لنبَّه.
(3) ساقط من (ز).

(1/189)


أعلم.

فصل
واختُلِفَ في عَسْعَسَةِ الليل، هل هي إقْبَالُهُ أم إدْبَارُهُ؟
فالأكثرون على أنَّ “عَسْعَسَ” بمعنى: ولَّى، وذَهَب، وأدبر (1). هذا قول: علي، وابن عباس وأصحابه (2).
وقال الحسن: “أَقْبَلَ بظلامه”، وهو إحدى الروايتين عن مجاهد (3).
فمن رجَّحَ الإقبال قال: أَقْسَمَ الله – سبحانه وتعالى – بإقبال الليل، وإقبال النَّهار، فقوله – عزَّ وجلَّ -: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)} [التكوير: 18] مقابِلٌ لـ “الليل إذا عَسْعَس”.
قالوا: ولهذا أَقْسَمَ – تعالى – بالليل {إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)} [الليل: 1 – 2]، وبالضُّحَى.
قالوا: فَغَشَيَان الليل نظيرُ عَسْعَسَتِهِ، وتَجَلِّي النَّهار نظيرُ تنفُّس الصُّبْحِ، إذ هو مبدؤُه وأوَّله.
__________
(1) قال الفَرَّاء: “اجتمع المفسرون علي أنَّ معنى “عَسْعَسَ”: أدبر”. “معاني القرآن” (3/ 242)، وفي حكاية الإجماع نظر!
(2) انظر: “جامع البيان” (12/ 469)، و”الجامع” (19/ 236)، و”تفسير ابن كثير” (8/ 337).
(3) انظر: “معالم التنزيل” (8/ 349)، و”المحرر الوجيز” (15/ 340).
ورجحه السمعاني في “تفسيره” (6/ 169).

(1/190)


ومن رجَّحَ أنَّه إدبارُه احتجَّ بقوله تعالى: {كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34)} [المدثر: 32 – 34]؛ فأقسَمَ – سبحانه – بإدبار الليل، وإسفار الصُّبْح؛ وذلك نظير عَسْعَسَة الليل، وتنفُّس الصُّبْح.
قالوا: والأحسن أن يكون القَسَمُ بانصرام الليل، وإقبال النَّهار (1) عقيبه من غير فَصْل، فهذا أعظم في الدلالة والعبرة، بخلاف إقبال الليل وإقبال النَّهار، فإنَّه لم يُعرف القَسَمُ في القرآن بهما، ولأنَّ بينهما زمنٌ طويلٌ، فالآيةُ في انصرام هذا ومجيء الآخر عقيبه بغير فَصْلٍ أبلغ.
فذكر – سبحانه – حالةَ ضَعْفِ هذا وإدباره، وحالةَ قوَّةِ هذا وتنفُّسِهِ وإقباله؛ يطردُ ظلمةَ الليل بتنفُّسِهِ، فكُلَّمَا تنفَّسَ هَرَبَ الليلُ وأدبر بين يديه، وهذا هو القول. والله أعلم.

فصل
ثُمَّ ذكر – سبحانه – المقسَم عليه وهو “القرآن”، وأخبر أنَّه قولُ رسولٍ كريمٍ، وهو – ها هنا -: جبريل – قطعًا -؛ لأنَّه ذكَرَ صفتَهُ بعد ذلك بما يُعيِّنُه به.
وأمَّا “الرسول الكريم” في “الحاقَّة” فهو محمدٌ – صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّه نفى بعده أن يكون قول من زعم أعداؤه أنه قولُه؛ فقال تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42)} [الحاقة: 41, 42].
فأضَافَهُ إلى الرسول المَلَكِي تارةً، وإلى البَشَرِيِّ تارةً، وإضافتُهُ إلى كلِّ واحدٍ من الرسولَين إضافةُ تبليغٍ لا إضافة إنشاءٍ من عنده، وإلا
__________
(1) بعدها في (ح) و (م) زيادة: فإنَّه.

(1/191)


تناقضت النِّسْبَتَان. ولفظ “الرسول” يدلُّ على ذلك، فإنَّ “الرسولَ” هو الذي يبلِّغ كلامَ من أرسله، وهذا صريحٌ في أنَّه كلام من أرسل جبريلَ ومحمدًا – صلى الله عليهما وسلم -، وأنَّ كلًّا منهما بلَّغه عن الله، فهو قولُه مبلِّغًا، وقولُ الله الذي تكلَّم به حقًّا. فلا راحة لمن أنكر أن يكون الله – تعالى – متكلِّمًا بالقرآن – وهو كلامه حقًّا – في هاتين الآيتين، بل هما من أظهر الأدلَّة على كونه كلام الرَّبِّ تعالى، وأنَّه ليس للرسولَين الكريمَين منه إلا التبليغ، فجبريلُ سمعه من الله، ومحمدٌ – صلى الله عليه وسلم – سمعه من جبريل.
وَوَصَفَ رسولَهُ المَلَكيَّ في هذه السورة بأنَّه: كريمٌ، قويٌّ، مكينٌ عند الرَّبِّ تعالى، مطاعٌ في السماوات، أمينٌ.
فهذه خمسُ صفاتٍ تتضمَّن تزكية سَنَدِ القرآن، وأنَّه سماعُ محمدٍ من جبريلَ، وسماعُ جبريلَ من ربِّ العالمين. فَنَاهِيك بهذا السَّنَدِ عُلُوًّا وجلالةً؛ تولَّى (1) اللهُ – سبحانه – بنفسه تزكيتَهُ:
الصفة الأُولَى: كَوْنُ الرسولِ الذي جاء به إلى محمدٍ – صلى الله عليه وسلم -: كريمًا، ليس كما يقول أعداؤه: إنَّ الذي جاء به شيطان، فإنَّ الشيطانَ خبيثٌ مخبِثٌ، لئيمٌ، قبيحُ المنظر، عديمُ الخير، باطِنُهُ أقبحُ من ظاهره، وظاهرُهُ أشْنَعُ من باطنه، وليس فيه ولا عنده خيرٌ، فهو أبعد شيءٍ عن الكرم. والرسولُ الذي ألقَى القرآنَ إلى محمدٍ – صلى الله عليه وسلم -: كريمٌ، جميلُ المنظر، بَهِيُّ الصورة، كثيرُ الخير، طَيِّبٌ مُطَيَّبٌ، معلِّمُ الطَّيِّبِين. وكلُّ خيرٍ في الأرض من هُدَىً، وعلمٍ، ومعرفةٍ، وإيمانٍ، وبِرٍّ، فهو ممَّا
__________
(1) في جميع النسخ: قول! وهو تحريف.

(1/192)


أجراه ربُّه على يده، وهذا غايةُ الكَرَم الصُّوري والمعنوي.
الوصف الثاني: أنَّه “ذُو قوَّةٍ”، كما قال في موضعٍ آخر: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) } [النجم: 5]، وفي ذلك تنبيه على أمورٍ:
أحدها: أنَّه بقوَّته يمنع الشياطين أن تدنو منه، وأن ينالوا منه شيئًا، وأن يزيدوا فيه أو يَنقُصُوا منه، بل إذا رآه الشيطانُ هَرَبَ منه ولم يَقْرَبْهُ.
الثاني: أنَّه مُوَالٍ لهذا الرسول الذي كذَّبتموه، ومُعَاضِدٌ له، ومُوَادِدٌ له، وناصِرٌ، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) } [التحريم: 4]، ومن كان هذا القويُّ وليَّهُ، ومن أنصاره، وأعوانه، ومعلِّمَهُ = فهو المَهْدِيُّ المنصورُ، واللهُ هاديه وناصره.
الثالث: أنَّ من عادَى هذا الرسولَ فقد عادَى صاحبَهُ ووليَّهُ جبريلَ، ومن عادَى ذا القوَّةِ والشدَّةِ فهو عُرْضَةٌ للهَلَاك.
الرابع: أنَّه قادِرٌ على تنفيذ ما أُمِر به لقوَّتِه، فلا يعجز عن ذلك، مُؤَدٍّ له كما أُمِر به لأمانته، فهو القويُّ الأمينُ على فعله، وأحدُكُم إذا انتدَبَ غيرَهُ في أمرٍ من الأمور لرسالةٍ، أو ولايةٍ، أو وكالةٍ، أو غيرِها فإنَّما ينتدِبُ لها القويَّ عليه، الأمينَ على فعله (1) ، وإن كان ذلك الأمر من أهمِّ الأمور عنده انتدب له قويًّا أمينًا معظَّمًا ذا مكانةٍ عنده، مطاعًا في النَّاس، كما وصفَ اللهُ عبدَهُ جبريلَ بهذه الصفات.
وهذا يدلُّ على عظمة شأنِ المرسِلِ، والرسولِ، والرسالةِ،
__________
(1) من قوله: “وأحدكم إذا. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ز) و (ن) و (ط).

(1/193)


والمرسَلِ إليه، حيث انتدَبَ له الكريمَ، القويَّ، المكينَ عنده، المطاعَ في الملأ الأعلَى، الأمينَ حقَّ الأمين، فإنَّ الملوك لا تُرسل في مُهِمَّاتها إلا الأشراف، ذوي الأقدارِ والرُّتَبِ العالية.
وقوله – عزَّ وجلَّ – (1) : {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) } [التكوير: 20] أي: له مكانةٌ ووَجَاهَةٌ عنده، وهو أقرب الملائكة إليه.
وفي قوله: {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ} (2) إشارةٌ إلى عُلُوِّ منزلة جبريل، إذ كان قريبًا من ذي العرش سبحانه.
وفي قوله (3) : {مُطَاعٍ ثَمَّ} إشارةٌ إلى أنَّ جنودَهُ وأعوانَهُ يطيعونه إذا نَدَبَهم لنصر صاحبه وخليله محمدٍ – صلى الله عليه وسلم -.
وفيه إشارةٌ – أيضًا – إلى أنَّ هذا الذي تكذِّبونه وتعادُونه سيصير مُطاعًا في الأرض، كما أنَّ جبريلَ مطاعٌ في السماء، وأنَّ كلًّا من الرسولَين (4) مطاعٌ في مَحَلِّهِ وقومِهِ.
وفيه تعظيمٌ له بأنَّه بمنزلة الملوك المُطَاعين في قومهم، فلم ينتدب لهذا الأمر العظيم إلا مثل هذا المَلَكِ المُطَاع.
وفي وصفه بـ “الأمانة” (5) : إشارةٌ إلى حِفْظِهِ ما حُمِّلَهُ، وأدائِهِ له على وجهه.
__________
(1) هذا هو الوصف الثالث.
(2) من قوله: ” {مَكِينٍ} أي: له مكانة. . .” إلى هنا؛ ملحق بهامش (ن).
(3) وهذا هو الوصف الرابع.
(4) هنا ينتهي السقط في (ك)، وكان قد ابتدأ من (ص/ 135).
(5) وهذا هو الوصف الخامس والأخير مما ذكره المؤلف.

(1/194)


ثُمَّ نزَّه رسولَهُ البَشَريَّ وزكَّاه عمَّا يقول فيه أعداؤه، فقال تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) } [التكوير: 22]، وهذا أمرٌ يعلمونه ولا يشكُّون فيه، وإن قالوا بألسنتهم خلافه، فهم يعلمون أنَّهم كاذبون.
ثُمَّ أخبر عن رؤيته – صلى الله عليه وسلم – لجبريل، وهذا يتضمَّنُ أنَّه مَلَكٌ موجودٌ في الخارج، يُرَى بالعِيَان، ويُدْرِكُهُ البَصَرُ، لا كما يقول المتفلسفة ومن قلَّدهم: إنَّه العقل الفعَّال، وإنَّه ليس ممَّا يُدْرَك بالبَصَر، وحقيقته عندهم أنَّه خَيَالٌ موجودٌ في الأذهان لا في الأعيان! (1) وهذا ممَّا خالفوا به جميع الرُّسُل وأتباعِهم، وخرجوا به عن جميع المِلَل.
ولهذا كان تقريرُ رؤية النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – لجبريل أهمَّ من تقرير رؤيته لربِّه تعالى، فإنَّ رؤيته لجبريل هي أصلُ الإيمان الذي لا يتمُّ إلا باعتقادها، ومن أنكرها كَفَر قطعًا.
وأمَّا رؤيته لربِّه – تعالى – فغايتُها أن تكون مسألةَ نزاعٍ لا يكفر جاحدُها بالاتفاق، وقد صرَّحَ جماعةٌ من الصحابة بأنَّه لم يَرَهُ، وحكى عثمان بن سعيد الدارمي (2) اتفاقَ الصحابة على ذلك (3) .
فنحن إلى تقرير رؤيته لجبريل أحوجُ مِنَّا إلى تقرير رؤيته لربِّه
__________
(1) في (ح) و (م): العِيَان.
(2) هو أبو سعيد، عثمان بن سعيد بن خالد الدارمي، السِّجْزي السِّجِسْتاني، الإمام الحافظ، ناصر السُّنَّة، كان من أحذق العلماء في معرفة كلام الجهميَّة ومقاصدهم، وصنَّف كتبًا لا نظير لها في الردِّ عليهم، توفي سنة (280 هـ) رحمه الله.
انظر: “السير” (13/ 319)، و”طبقات علماء الحديث” (2/ 324).
(3) انظر: “نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسي” (460).

(1/195)


تعالى، وإن كانت رؤيةُ الرَّبِّ – تعالى – أعظمَ من رؤية جبريل ومَنْ دُونه، فإنَّ النُّبوَّة لا يتوقف (1) ثبوتها عليها أَلْبتَّة.
ثُمَّ نَزَّهَ رسولَيه كليهما – أحدَهُما بطريق النُّطْق، والثاني بطريق اللُّزُوم – عمَّا يضادُّ مقصودَ الرسالة من الكتمانِ الذي هو الضِّنَّةُ والبخلُ، والتبديلِ والتغييرِ الذي يوجب التهمة، فقال: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)} [التكوير: 24]، فإنَّ الرسالة لا يتمُّ مقصودُها إلا بأمرين:
1 – أدائها من غير كتمان.
2 – وأدائها على وجهها من غير زيادةٍ ولا نقصانٍ.
والقراءتان كالآيتين، فتضمَّنت إحداهما – وهي قراءة الضَّاد (2) – تنزيهه عن البخل، فإنَّ “الضَّنِين”: البخيل، يقال: ضَنِنْتُ به أَضَنُّ، بوزن (بَخِلْتُ به أَبْخَلُ) ومعناه (3). ومنه قول جميل بن مَعْمَر (4):
__________
(1) بعده في (ز) زيادة: على!
(2) قرأ بها: عاصم، ونافع، وحمزة، وابن عامر. قال ابن الجزري: “وكذا هي في جميع المصاحف”.
انظر: “النشر” (2/ 399)، و”علل القراءات” للأزهري (2/ 750).
(3) “أَضَنُّ” أصلها: أَضْنَنُ، على وزن (أَبْخَلُ)، ثم شُدِّدت النُّون فصارت: أَضْنُّ، فلما اجتمع الساكنان – الضَّاد والنُّون – احتيج إلى تحريك الضَّاد، وفي تحريكها لغتان صحيحتان:
1 – الكسر؛ فتقول: “أَضِنُّ”.
2 – والفتح؛ فتقول: “أَضَنُّ”، وهو اللغة العالية كما قال ابن سيده.
انظر: “مفردات الراغب” (512)، و”الأفعال” للسرقسطي (2/ 222)، و”لسان العرب” (8/ 94).
(4) وكذا نسبه إليه الأمير أسامة بن منقذ في “لباب الآداب” (240)، ولم أجده في =

(1/196)


أَجُودُ بمَضْنُونِ التِّلَادِ وإنَّنِي … بِسِرِّكِ عمَّنْ سَالَنِي لَضَنِينُ
قال ابنُ عباس – رضي الله عنهما -: “ليس ببخيلٍ بما أنزل الله – عزَّ وجلَّ -“.
وقال مجاهدُ: “لا يَضِنُّ عليهم بما يُعَلِّم” (1) .
وأجمع المفسِّرون على أنَّ الغيبَ – ها هنا -: القرآنُ، والوحيُ.
وقال الفرَّاء: “يقول تعالى: يأتيه غيب السماء وهو منفوسٌ فيه، فلا يَضِنُّ به عليكم” (2) .
وهذا معنىً حسنٌ جدًّا، فإنَّ عادةَ النُّفوسِ الشحُّ بالشيء النَّفيس، ولا سيَّما عمَّن لا يعرف قَدْرَه، ويذمُّهُ ويذمُّ من هو عنده، ومع هذا فهذا الرسول لا يبخل عليكم بالوحي الذي هو أنفسُ شيءٍ وأجلُّه.
وقال أبو علي الفارسيُّ: “المعنى: يأتيه الغيب فيبيِّنُه، ويخبر به، ويظهره، ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده ويخفيه حتَّى يأخذ عليه حُلْوَانًا” (3) .
__________
= ديوانه، قال العلامة أحمد شاكر: “وهو خطأٌ، وإنما البيت لقيس بن الخَطيم”، وهو كذلك في جميع المصادر منها “الأمالي” (2/ 179 و 205).
وانظر كلام ناصر الدين الأسد في توثيق البيت في تحقيقه لديوان “قيس بن الخَطيم” (163).
(1) انظر: “جامع البيان” (12/ 473)، و”الدر المنثور” (6/ 531).
قال الحافظ: “وروى ابن أبي حاتم بسندٍ صحيحٍ: كان ابن عباس يقرأ “بضنين”، قال: والضنين والظنين سواء، يقول: ما هو بكاذب، والظنين: المتهم، والضنين: البخيل”. “الفتح” (8/ 576).
(2) “معاني القرآن” (3/ 242).
(3) “الحُجَّة” (6/ 381).

(1/197)


وفيه معنىً آخر؛ وهو أنَّه على ثقةٍ من الغيب الذي يخبر به فلا يخاف أن ينتقض ويظهَرَ الأمرُ بخلاف ما أخبر به، كما يقع للكُهَّان وغيرهم ممَّن يخبر بالغيب، فإنَّ كَذِبَهم أضعافُ صِدْقِهم، وإذا أخبر أحدُهم بخبرٍ لم يكن على ثقةٍ منه، بل هو خائفٌ من ظهور كذبه، فإقدامُ هذا الرسول على الإخبار بهذا الغيب العظيم الذي هو أعظم الغيب؛ واثقًا به، مقيمًا عليه، مبديًا له – في كلِّ مَجْمَع – ومعيدًا، مناديًا به على صدقه، مستجلبًا به لأعدائه = من أعظم الأدلَّة على صدقه.
وأمَّا قراءةُ من قرأ “بظَنين” – بالظَّاء (1) – فمعناه: المُتَّهَم، يقال: ظَنَنْتُ زيدًا، بمعنى: اتهمتُه، وليس من “الظَّنِّ” الذي هو الشعور والإدراك، فإنَّ ذلك يتعدَّى إلى مفعولين، ومنه ما أنشَدَ أبو عبيدة:
أَمَا وكتابِ اللهِ لا عن شَنَاءَةٍ … هُجِرْتُ، ولكنَّ المُحِبَّ ظَنِينُ (2)
والمعنى: وما هذا الرسول على القرآن بمُتَّهَمٍ، بل هو أمينٌ لا يزيد فيه ولا ينقص؛ وهذا يدلُّ على أنَّ الضمير يرجع إلى محمدٍ – صلى الله عليه وسلم -؛
__________
(1) قرأ بها: ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، والحضرمي.
انظر: “علل القراءات” (2/ 750)، و”النشر” (2/ 398 – 399).
(2) لم يرد في “مجاز القرآن” (2/ 288)، وإنما ذكره الثعلبي في “الكشف والبيان” (10/ 143)، والقرطبي في “الجامع” (19/ 240)، وعندهما بدل (المحبّ): الظنين.
ونسبه المبرِّد في “الكامل” (1/ 23) إلى: عبد الرحمن بن حسَّان بن ثابت الأنصاري.
وذكر ابن منظور في “اللسان” (8/ 272) أنَّ ابن بَرِّي نسبه إلى: نَهَار بن تَوْسِعَة، ولفظه:
فلا ويمينِ اللهِ ما عن جنايةٍ … هُجِرتُ، ولكنَّ الظَّنينَ ظنينُ

(1/198)


لأنَّه قد تقدَّمَ وصْفُ الرسول المَلَكِي بالأمانة، ثُمَّ قال: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) }، ثُمَّ قال: {وَمَا هُوَ} أي: وما صاحبكم بمُتَّهَمٍ ولا بخيلٍ.
واختار أبو عبيد (1) قراءة “الظَّاء”؛ لمعنيين:
أحدهما: أنَّ الكفَّارَ لم يُبَخِّلُوه، وإنَّما اتَّهَموه، فَنَفْيُ التُّهْمَةِ أَولى من نَفْي البخل.
الثاني: أنَّه قال: {عَلَى الْغَيْبِ} , ولو كان المراد البخل لقال: بالغيب؛ لأنَّه يقال: فلانٌ ضَنِينٌ بكذا، وقَلَّما يقال: على كذا.
قلت: ويرجِّحُه أنَّه وَصَفَهُ بما وصف به رسولَهُ المَلَكِيَّ من الأمانة، فنَفَى عنه التُّهْمَةَ كما وصفَ جبريلَ بأنَّه أمينٌ.
ويرجِّحُه – أيضًا – أنَّه – سبحانه – نفَى أقسام الكذب كلِّها عمَّا جاء به من الغيب، فإنَّ ذلك لو كان كذبًا: فإمَّا أن يكون منه، أو ممَّن علَّمه.
وإن كان منه: فإمَّا أن يكون تعمَّدَهُ، أو لم يتعمَّدْهُ.
فإن كان من معلِّمه فليس هو بشيطانٍ رجيمٍ، وإن كان منه مع التعمُّد فهو المتَّهَمُ – ضد الأمين -، وإن كان عن غير تعمُّدٍ فهو المجنون.
فنفَى – سبحانه – عن رسوله ذلك كلَّهُ، وزكَّى سَنَدَ القرآن أعظم التزكية، فلهذا قال سبحانه: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) } أي: ليس بتعليم الشيطان، ولا يقدر عليه، ولا يَحْسُنُ منه كما قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) } [الشعراء: 210, 211]، فنَفَى
__________
(1) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: أبو عبيدة.
وانظر: “الجامع” (19/ 240).

(1/199)


فعلَهم، وانبِغاءَهُ (1) منهم، وقدرتهم عليه.
وكُلُّ من له أدنى خبرةٍ بأحوال الشياطين والمجانين والمُتَّهمين، وأحوال الرُّسُل؛ يعلَمُ علمًا لا يُمَاري فيه ولا يشُكُّ – بل علمًا ضروريًّا، كسائر الضروريَّات – منافَاةَ أحدهما للآخر، ومضادَّته له، كمنافاة أحد الضِّدَّين لصاحبه، بل ظهورُ المنافاة بين الأمرين للعقل أَبْيَنُ من ظهورُ المنافاة بين النُّور والظُّلْمة للبصر.
ولهذا وَبَّخَ – سبحانه – من كَفَر بعد ظهور هذا الفرق المبين بين دعوة الرُّسُل (2) ودعوة الشياطين (3)، فقال تعالى: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)}، قال أبو إسحاق: “المعنى: فأَيَّ طريقٍ تسلكون أَبْيَنَ من هذه الطريقة التي بَيَّنْتُ لكم؟ ” (4).
قلت: هذا من أحسن الإلزام (5) وأَبْيَنِه، أن تُبَيِّنَ للسامع الحقَّ ثُمَّ تقول له: أَيْشٍ تقول خلاف هذا؟ وأين تذهب خلاف هذا؟! قال تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)} [المرسلات: 50]، وقال تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)} [الجاثية: 6]، فالأمر منحصِرٌ في الحقِّ والباطل، والهُدَى والضلال، فإذا عدلتم عن الهُدَى والحقِّ، فأين العدل، وأين المذهب؟!
ونظير هذا قوله سبحانه: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي
__________
(1) في جميع النسخ: وابتغاءه، والصواب ما أثبته.
(2) في (ن) و (ح) و (ط): الرسول.
(3) في (ز): الشيطان.
(4) “معاني القرآن” (5/ 293).
(5) في (ح) و (م): اللازم.

(1/200)


الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)} [محمد: 22]، أي: إنْ أعرضتم عن الإيمان
بالقرآن والرسول وطاعته فليس إلا الفساد في الأرض بالشِّرْكِ، والمعاصي، وقطيعةِ الرَّحم.
ونظيره قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)} [ق: 5]، لمَّا تركوا الحقَّ وعدلوا عنه مَرَجَ عليهم أمرُهم والْتَبسَ، فلا يدرون ما يقولون وما يفعلون، بل لا يقولون شيئًا إلا كان باطلًا، ولا يفعلون شيئًا إلا كان ضائعًا غير نافع لهم، وهذا شأن كلِّ من خرج عن الطريق المستقيم في قوله وفعله، وهو بمنزلة من خرج عن الطريق المُوصِل إلى (1) المقصود.
ونظيره قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50]، وقد كشف هذا المعنى كلَّ الكشف بقوله عزَّ وجلَّ: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32].

فصل
ثُمَّ أخبر – تعالى – عن “القرآن” بأنَّه ذِكْرٌ للعالَمين، وفي موضعٍ آخر: تذكرةٌ للمتقين (2)، وفي موضعٍ آخر: لرسوله – صلى الله عليه وسلم – ولقومه (3)، وفي
__________
(1) ساقط من (ز) و (ن) و (ط)، وأثبته من (ح) و (م).
(2) في سورة [الحاقة/ 48]: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)}.
(3) في سورة [الزخرف/ 44]: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)}.
ومن قوله: “وفي موضع آخر تذكرة للمتقين. . .” إلى هنا؛ ملحق بهامش (ن).

(1/201)


موضعٍ آخر: ذِكْرٌ مطلقٌ (1) ، وفي موضعٍ آخر: ذِكْرٌ مبارَكٌ (2) ، وفي موضعٍ آخر وصَفَهُ بأنَّه ذو الذِّكْر (3) .
وبجمع هذه المواضع يتبيَّنُ (4) المرادُ من كونه ذِكْرًا عامًّا وخاصًّا، وكونه ذا ذِكْرٍ، فإنَّه:
يذكِّرُ العبادَ بمصالحهم في مَعَاشِهم ومَعَادِهم.
ويذكِّرُهُم بالمبدأ والمَعَاد.
ويذكِّرُهُم بالرَّبِّ – تعالى – وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وحقوقِه على عباده.
ويذكِّرُهُم بالخير لِيَقْصِدُوه، وبالشَّرِّ ليجتنبوه.
ويذكِّرُهُم بنفوسهم، وأحوالها، وآفاتها، وما تكمل به.
ويذكِّرُهُم بعدُوِّهم وما يريد منهم، وبماذا يحترزون من كيده، ومن أيِّ الأبواب والطرق يأتي إليهم.
ويذكِّرُهُم بفاقتهم وحاجتهم إلى ربِّهم، وأنَّهم مضطرُّون إليه لا يستغنون عنه نَفَسًا واحدًا.
ويذكِّرُهُم بِنِعَمِه عليهم، ويدعوهم بها إلى نِعَمٍ أخرى أكبر منها.
__________
(1) في سورة [الحجر/ 9]: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)}.
ومن قوله: “وفي موضع آخر لرسوله. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ز).
(2) في سورة [الأنبياء/ 50]: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)}.
(3) في سورة [ص/ 1]: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)}.
(4) العبارة في جميع النسخ هكذا: ويجمع هذه المواضع تبيين … ، والصواب ما أثبته.

(1/202)


ويذكِّرُهُم بأْسَهُ، وشدَّةَ بَطْشِه، وانتقامَهُ ممَّن عصَى أمرَهُ، وكذَّبَ رُسُلَهُ.
ويذكِّرُهُم بثوابه وعقابه.
ولهذا يأمر – سبحانه – عبادَهُ أن يذكروا ما في كتابه، كما قال تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)} [البقرة: 63]، وإذا كان كذلك فأحَقُّ وأَوْلَى وأوَّلُ من كان ذكرًا له من أُنْزِلَ عليه، ثُمَّ لقومه، ثُمَّ لجميع العالمين، وحيث خصَّ به المتقين فلأنهم الذين انتفعوا بذكره.
وأمَّا وَصْفُه بأنَّه “ذو الذِّكْر”؛ فلأنَّه مشتمِلٌ على الذِّكْر، فهو صاحب الذِّكْرِ، وفيه الذِّكْرُ، فهو ذِكْرٌ وفيه الذِّكْرُ، كما أنَّه هُدَىً وفيه الهُدَى، وشفاءٌ وفيه الشفاء، ورحمةٌ وفيه الرحمة.
وقوله سبحانه: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)} [التكوير: 28] بَدَلٌ من “العالَمين”، وهو بَدَلُ بعضٍ من كُلٍّ. وهذا من أحسن ما يُستدلُّ به على أنَّ البَدَلَ في قوَّة ذكر عاملين مقصودين، فإنَّ جهةَ كونه ذِكْرًا للعالمين كلِّهم غيرُ جهة كونه ذِكْرًا لأهل الاستقامة، فإنَّه ذِكْرٌ للعموم بالصَّلَاحية والقوَّة، وذِكْرٌ لأهل الاستقامة بالحصول والنفع، فكما أنَّ البَدَلَ أخَصُّ من المُبْدَلِ منه فالعامِلُ المقدَّرُ فيه أخَصُّ من العامل الملفوظ في المُبْدَلِ منه، ولا بدَّ من هذا؛ فتأمَّلْهُ.
وقوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)} رَدٌّ على “الجَبْرِيَّة” القائلين بأنَّ العبدَ لا مشيئة له، و (1) أنَّ مشيئته مجرَّد علامةٍ على حصول
__________
(1) في (ن) و (ك) و (ح): أو.

(1/203)


الفعل لا ارتباط بينها وبينه إلا مجرَّد اقترانٍ عادِيٍّ (1) من غير أن يكون سببًا فيه.
وقوله – عزَّ وجلَّ -: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير: 29] ردٌّ على “القَدَرِيَّة” القائلين بأنَّ مشيئة العبد مستقِلَّةٌ بإيجاد الفعل من غير توقُّفٍ على مشيئة الله – عزَّ وجلَّ -، بل متى شاءَ العبدُ الفعلَ وُجِدَ، ويستحيلُ عندهم تعلُّقُ مشيئة الله – عزَّ وجلَّ – بفعل العبد، بل هو يفعله بدون مشيئة الله تعالى.
فالآيتان مُبْطِلَتَان لقول الطائفتين.
فإنْ قال الجَبرْيُّ: هو – سبحانه – لم يقل إنَّ الفعل واقعٌ بمشيئة العبد، بل أخبر أنَّ الاستقامة تحصل عند المشيئة، ونحن قائلون بذلك.
وقال القَدَريُّ: قوله – عزَّ وجلَّ -: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} المشيئةُ مختلِفةٌ، فمشيئةُ العبد هي المُوجِبَةُ للفعل التي بها يقع، ومشيئة الله لفعله هو أمره له به، ونحن لا ننكر ذلك.
فالجواب: أنَّ هذا من تحريف الطائفتين: –
أمَّا الجَبْريُّ فيقال له: اقتران الفعل عندك بمشيئة العبد بمنزلة اقترانه بلَوْنِه (2)، وشكْلِه، وسائر أعراضِهِ التي لا تأثير لها في الفعل، فإنَّ نسبةَ جَميع أعراضه إلى الفعل في عدم التأثير نسبةُ إرادته (3) عندك، والاقتران حاصلٌ بجميع أعراضه، فما الذي أوجب تخصيص المشيئة؟
__________
(1) تصحفت في (ك) إلى: عمادي.
(2) تصحفت في جميع النسخ إلى: بكونه.
(3) في (ح) و (م): نسبةٌ إراديَّة.

(1/204)


وهل سَوَّىَ الله – سبحانه – في فِطَر النَّاس، أو عقولهم، أو شرائعهم، بين نسبة المشيئة والإرادة إلى الفعل، ونسبة سائر أعراض الحَيِّ إذ كان – عندك (1) – إلَّا مجرَّدَ الاقتران عادةً؟ والاقترانُ العادِيُّ حاصِلٌ مع الجميع.
وأمَّا القَدَرِىُّ فتحريفه أشَدُّ؛ لأنَّه حَمَلَ المشيئةَ على الأمر وقال: المعنى: وما تشاؤون إلا أنْ يأمر الله! وهذا باطلٌ قطعًا، فإنَّ المشيئة في القرآن لم تُستعمل في ذلك, وإنَّما استُعمِلت في مشيئة التكوين كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112]، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة: 253]، وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]، وقوله: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد: 31]، ونظائر ذلك؛ ممَّا لا يصحُّ فيه حمل المشيئة على الأمر أَلْبَتَّة.
والذي دلَّت عليه الآية مع سائر أدلَّة التوحيد، وأدلَّة العقل الصريح؛ أنَّ مشيئة العباد من جملة الكائنات التي لا توجد إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى، فما لم يشأ لم يكُن أَلْبَتَّةَ، كما أنَّ ما شاء كان ولا بدَّ.
ولكن ها هنا أمرٌ يجب التنبيه عليه؛ وهو أنَّ مشيئة الله – سبحانه – تارةً تتعلَّق بفعله، وتارةً تتعلَّق بفعل العبد.
فتعلُّقها بفعله – سبحانه – هو أن يشاء من نفسه إعانةَ عبده، وتوفيقَهُ، وتهيئتَهُ للفعل، فهذه المشيئة تستلزم فعل العبد ومشيئته، ولا يكفي في وقوع الفعل مشيئةُ الله لمشيئة عبده، دون أن يشاء فعله، فإنَّه –
__________
(1) ساقط من (ز).

(1/205)


سبحانه – قد يشاء من عبده المشيئةَ وحدَها، فيشاء العبدُ الفعلَ ويريده ولا يفعله؛ لأنَّه لم يشأ من نفسه – سبحانه – إعانتَهُ عليه، وتوفيقَهُ له.
وقد دلَّ على هذا وهذا قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير: 29]، وقوله تعالى: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: 56].
وهاتان الآيتان متضمِّنَتَان إثباتَ: الشرعِ والقَدَرِ، والأسبابِ والمسبِّباتِ، وفعلِ العبد واستنادِه إلى فعل الرَّبِّ.
ولكلٍّ منهما عبوديةٌ تختَصُّ بها:
فعبودية الآية الأُولَى: الاجتهادُ، واستفراغُ الوسع، والاختيارُ، والسَّعْي.
وعبودية الثانية: الاستعانةُ بالله، والتوكُّلُ عليه، واللَّجأُ إليه، واستنزالُ التوفيقِ والعَوْنِ منه، والعلمُ بأن العبد لا يمكنه أن يشاءَ ولا يفعلَ حتَّى يجعله الله كذلك.
وقوله: {رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} ينتظمُ ذلك كلَّه ويتَضَمَّنُه، فمن عطَّلَ أحد الأمرين فقد جحد كمال الربوبية وعطَّلَها، وبالله التوفيق.

(1/206)


فصل

ومن ذلك قوله تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)} [النازعات: 1 – 5]، فهذه خمسة أمور، وهي صفات الملائكة.
فأَقْسَمَ – سبحانه – بالملائكة الفاعلة لهذه الأفعال؛ إذ ذلك من أعظم آياته، وحَذفَ مفعول النَّزْع والنَّشْطِ لأنَّه لو ذَكرَ ما تنزِعُ وتَنْشِطُ لأَوْهَمَ التقييدَ به (1)؛ ولأنَّ القَسَمَ على نفس الأفعال الصادرة من هؤلاء الفاعلين، فلم يتعلَّق الغَرَضُ بذكر المفعول كقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)} [الليل: 5] ونظائره، فكان نفسُ النَّزْع هو المقصود لا عَيْنُ المنزوع.
وأكثر المفسِّرين على أنَّها الملائكة (2) التي تنزع أرواح بني آدم من أجسامهم، وهم جماعةٌ؛ كقوله تعالى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} [النساء: 97].
وأمَّا قوله – عزَّ وجلَّ -: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11]:
فإمَّا أن يكون واحدًا، وله أَعْوَانٌ.
وإمَّا أن يكون المراد الجنس لا الوَحْدَة؛ كقوله تعالى: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} [التحريم: 12]، وقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ
__________
(1) ساقط من (ز).
(2) ساقط من (ز).

(1/207)


اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18].
و”النَّزْعُ”: هو اجْتِذَابُ الشيء بقوَّةٍ، والإغراق في النَّزْعِ أن يجتذبه إلى آخره، ومنه إغراق النَّزْع في جَذْبِ القَوس: أن يبلغ بَها غاية (1) المَدِّ، فيقال: أغرق في النَّزْعِ، ثُمَّ صار مَثَلًا لكلِّ من بالغ في فعلٍ حتَّى وصل إلى آخره.
و”الغَرْقُ”: اسم مصدَرٍ أُقيم مَقَامَه؛ كالعطاء والكلام أُقيم مقام الإعطاء والتكليم.
واختلفَ النَّاسُ (2): هل (3) “النَّازِعَات” متعدٍّ أو لازِمٌ؟ (4) فَعَلَى القول الذي حكيناه يكون متعدِّيًا، وهذا قول: علي، ومسروق، ومقاتل، وأبي صالح، وعطية عن ابن عباس.
وقال ابن مسعود: “هي أنفس الكفار”، وهو قول: قتادة، والسُّدِّي، وعطاء عن ابن عباس.
وعلى هذا فهو فعلٌ لازمٌ، و”غَرْقًا” على هذا معناه: نزعًا شديدًا أَبْلَغَ ما يكون وأَشَدَّهُ.
وفي هذا القول ضعفٌ من وجوه:
أحدها: أنَّ عطْفَ ما بعدَهُ عليه يدلُّ على أنَّها الملائكة، فهي:
__________
(1) في (ز): نهاية.
(2) انظر: “زاد المسير” (8/ 169)، و”المحرر الوجيز” (15/ 297)، و”الجامع” (19/ 188)، و”تفسير ابن كثير” (8/ 312).
(3) في (ن) و (ح) و (ك) و (ط) و (م): على.
(4) في (ك): متعدِّيًا ولازمًا.

(1/208)


السابحاتُ، والمدبِّراتُ، والنَّازِعاتُ.
الثاني: أنَّ الإقسامَ بنفوس الكفار خاصَّةً ليس بالبَيِّنِ، ولا في اللفظ ما يدلُّ عليه.
الثالث: أنَّ النَّزْعَ مشتَركٌ بين نفوس بني آدم، والإغْرَاقُ لا يختصُّ بالكافر.
وقال الحسن: “”النَّازِعَات” هي: النُّجُوم، تنزع من المشرق إلى المغرب، و”غَرْقًا” هو غروبها”، قال: “تنزع من ها هنا وتغرق ها هنا”.
واختاره: الأخفش، وأبو عبيدة (1) .
وقال مجاهد: “هي شدائدُ الموت وأهوالُه التي تنزع الأرواح نزعًا شديدًا”.
وقال عطاء، وعكرمة: “هي القِسِيُّ”.
و”النَّازِعَات” على هذا القول بمعنى: النَّشَب، أي: ذوات النَّزْع التي ينزع بها الرامي، فهو النَّازع.
قلت: “النَّازِعَات”: اسمُ فاعلٍ من نزَعَ، ويقال: نَزَعَ كذا، إذا اجْتَذَبَهُ بقوَّة. ونَزَعَ عنه: إذا خَلَّاه (2) وتَرَكَه بعد ملابسته. ونزع إليه: إذا ذهبَ إليه ومالَ إليه (3) ، وهذا إنَّما تُوصَف به النُّفُوس التي لها حركةٌ إراديةٌ للمَيْل إلى الشيء أو المَيْل عنه، وأحقُّ ما صدق عليه هذا
__________
(1) انظر: “مجاز القرآن” (2/ 284).
(2) في (ن) و (ك) و (ط): أخلاه.
(3) انظر: “مفردات الراغب” (798)، و”عمدة الحفاظ” (4/ 186).

(1/209)


الوصف: الملائكةُ؛ لأنَّ هذه القوَّة فيها أكملُ، وموضع الآية (1) فيها أعظم، فهي التي تُغرق في النَّزْع إذا طلبت ما تنزعه أو تنزع إليه، و”النَّفْس الإنسانية” – أيضًا – لها هذه القوَّة، والنُّجُوم – أيضًا – تنزع من أُفُقٍ إلى أُفُقٍ.
فالنَّزْعُ: حركةٌ شديدةٌ، سواء كانت من مَلَكٍ، أو نفسٍ إنسانيةٍ، أو نجمٍ.
والنُّفُوسُ تَنزِعُ إلى أوطانها، وإلى مَأْلَفِها، وعند الموت تَنزِعُ إلى ربِّها، والمنايا تَنزِعُ النُّفُوسَ، والقِسِيُّ تَنزِعُ بالسِّهَام، والملائكةُ تَنزِعُ من مكانٍ إلى مكانٍ، وتَنزِعُ ما وُكِّلَت بنَزْعِه، والخيلُ تَنزِعُ في أَعِنَّتِها نزعًا تغرق فيه الأَعِنَّة لطول أعناقها.
فالصفةُ واقعةٌ على كلِّ من له هذه الحركة التي هي آيةٌ من آيات الرَّبِّ تعالى؛ فإنَّه هو الذي خلقها وخلق مَحَلَّها، وخلق القوَّة والنَّفْس التي بها تتحرَّك، ومن ذكر صورةً من هذه الصور فإنَّما أراد التمثيل، وإن كانت الملائكةُ أحقَّ من تناوله هذا الوصف.
فأَقْسَمَ بطوائف الملائكة وأصنافهم:
“النَّازِعَات”: التي تنزع الأرواح من الأجساد.
و”النَّاشِطَات”: التي تنشطها، أي: تُخرجها بسرعةٍ وخِفَّة، من قولهم: نَشَطَ الدَّلْوَ من البئر؛ إذا أخرجها، وأنا أَنْشَطُ لكذا أي: أَخَفُّ له وأسرع.
__________
(1) ساقط من (ز).

(1/210)


و”السَّابِحَات”: التي تسبح في الهواء في طريق مَمَرِّها إلى ما أُمِرَتْ به، كما تسبح الطير في الهواء.
فـ “السَّابِقَات”: التي تسبق وتُسرع إلى ما أُمِرَتْ به، لا تبطئ عنه ولا تتأخر.
فـ “المُدبِّرات”: التي تدبِّرُ أُمورَ العباد التي أمرها ربَّها بتدبيرها، وهذا أَوْلى الأقوال.
وقد روي عن ابن عباس: “أنَّ “النَّازِعَات” الملائكةُ تنزع نفوس الكفار بشدَّةٍ وعُنْفٍ، و”النَّاشِطَات”: الملائكةُ التي تَنشِطُ أرواحَ المؤمنين بِيُسْرٍ وسُهُولةٍ” (1).
واختار الفرَّاء هذا القول (2)، فقال: “هي الملائكة تَنشِطُ نفسَ المؤمن فتقبضها، وتَنزِعُ نفسَ الكافر”.
قال الواحديُّ: “إنَّما اختار ذلك، لمَا بين “النَّشْط” و”النَّزْع” من الفرق في الشِّدَّة واللِّين، فالنَّزْعُ: الجَذْبُ بشدَّةٍ، والنَّشْطُ: الجَذْبُ برفقٍ ولين؛ ولأنَّ “النَّاشِطَات” هي النُّفُوس التي تَنشَطُ لما أُمِرَت به، والملائكة أحَقُّ الخلق بذلك، ونفوس المؤمنين ناشِطَةٌ لما أُمِرَتْ به”.
وقيل “السَّابِحَات”: هي النُّجُوم تسبح في الفَلَكِ، كما قال تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)} [يس: 40].
__________
(1) أخرجه: ابن جرير في “تفسيره” (12/ 420، 421) بأخصر من هذا اللفظ.
(2) انظر: “معاني القرآن” (3/ 230).

(1/211)


وقيل: هي السُّفُن تسبح في الماء.
وقيل: هي نفوس المؤمنين تسبح بعد المفارقة صاعدةً إلى ربِّها.
قلت: والصحيح أنَّها الملائكة، والسياق يدلُّ عليه، وأمَّا السُّفُن والنُّجُوم فإنَّما تسمَّى: جاريةً وجَوَارٍ، كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32)} [الشورى: 32]، وقال تعالى: {حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)} [الحاقة: 11]، وقال تعالى: {الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)} [التكوير: 16]؛ ولم يُسَمِّها “سابحات”، وإن أطلق عليها فعل السباحة، كقوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)} [يس: 40].
ويدلُّ عليه ذِكْرُهُ “السَّابقات” بعدها و”المدبِّرات” بـ “الفاء”، وِذِكْرُهُ الثلاثةَ الأُوَلَ بـ “الواو”؛ ولأنَّ السَّبْقَ والتدبيرَ مسبَّبٌ عن المذكور قبله، فإنَّها نَزَعَتْ، ونَشِطَتْ، وسَبَحَتْ، فَسَبقَتْ إلى ما أُمرت به فَدَبَّرَتْهُ، ولو كانت “السَّابحات” هي السُّفُن أو النُّجُوم أو النُّفُوس الآدميَّة لَمَا عَطَفَ عليها فعل الَسَّبْقِ والتدبير بـ “الفاء”، فتأمَّلْهُ.
قال مسروق، ومقاتل (1)، والكلبي: ” {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4)}: هم الملائكة”.
قال مجاهد، وأبو رَوْق (2): “سبقت ابنَ آدم بالخير، والعمل الصالح، والإيمان، والتصديق”.
__________
(1) “تفسيره” (3/ 445).
(2) هو عطية بن الحارث، أبو رَوْق الهَمْداني الكوفي، المحدِّث صاحب التفسير، روى له الأربعة إلا الترمذي.
انظر: “تهذيب الكمال” (20/ 143).

(1/212)


وقال مقاتل: “تسبِقُ بأرواح المؤمنين إلى الجنَّة” (1) .
وقال الفرَّاء، والزجَّاج: “هي الملائكة تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء إذ كانت الشياطين تسترق السمع” (2) .
وهذا القول خطأ لا يخفَى فسادُه؛ إذ يقتضي الاشتراك بين الملائكة والشياطين في إلقائهم الوحي، وأنَّ الملائكة تسبقهم به إلى الأنبياء، وهذا ليس بصحيح. فإنَّ الوحي (3) الذي تأتي به الملائكة إلى الأنبياء لا تسترقه الشياطين، وهم معزولون عن سماعه وإن استرقوا بعض ما يسمعونه من ملائكة السماء الدنيا من أمور الحوادث، فالله – سبحانه – صَانَ وَحْيَهُ إلى أنبيائه أن تسترق الشياطينُ شيئًا منه، وَعَزَلَهم عن سمعه.
ولو أنَّ قائل هذا القول فسَّر “السَّابقات” بالملائكة التي تسبق الشياطين بالرَّجْم بالشُّهُب قبل إلقائه الكلمة التي استرقها لكان له وجهٌ، فإنَّ الشيطان يُدْبِرُ (4) مسرعًا لإلقاء (5) ما استرقه إلى وَليِّه، فتسبقه الملائكة في نزوله بالشُّهُب الثَّوَاقب فتُهْلِكُهُ، وربما ألقى الكلمةَ قبل إدراك الشِّهَاب له.
وفُسِّرت “السَّابقات سبقًا” بالأَنْفُس السابقات إلى طاعة الله – تعالى – ومرضاته.
__________
(1) “تفسيره” (3/ 445).
(2) “معاني الفرَّاء” (3/ 230)، و”معاني الزجَّاج” (5/ 278).
(3) من قوله: “وأن الملائكة تسبقهم. . .” إلى هنا؛ ملحق بهامش (ن).
(4) في (ن) و (ك) و (ح) و (م): يبدر.
(5) في (م): بإلقائه، وفي باقي النسخ: بإلقاء. وما أثبته هو الصواب.

(1/213)


وأمَّا “المدبِّرات أمرًا” فأجمعوا على أنَّها الملائكة (1)، ثُمَّ قال مقاتل: “هم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، ومَلَكُ الموت: يدبِّرُون أمر الله – تعالى – في الأرض، وهم “المقسِّمات أمرًا”” (2).
قال عبد الرحمن بن سابط (3): “جبريل موكَّلٌ بالرِّياح وبالجنود (4)، وميكائيل موكَّلٌ بالقَطْر والنَّبَات، ومَلَكُ الموت موكَّلٌ بقبض الأنفس، وإسرافيل ينزل بالأمر عليهم” (5).
وقال ابن عباس: “هم الملائكة، وكَّلَهم الله – تعالى – بأمورٍ عَرَّفَهم العملَ بها والوقوفَ عليها، بعضهم لبني آدم يحفظون ويكتبون،
__________
(1) وحكى الإجماع: السمعاني في “تفسيره” (6/ 146)، وابن عطية في “المحرر الوجيز” (15/ 300)، وابن كثير في “تفسيره” (8/ 313).
(2) “تفسيره” (3/ 445 – 446).
(3) هو عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط الجُمَحي، القرشي المكي، من فقهاء التابعين، كان ثقة كثير الحديث، توفي بمكة سنة (118 هـ) رحمه الله.
انظر: “طبقات ابن سعد” (5/ 472)، و”تهذيب الكمال” (17/ 123).
(4) في (ز): وبالحبوب! وفي (ن) و (ك) و (ط): وبالجنوح!!
(5) أخرجه: ابن أبي شيبة في “المصنف” رقم (35977)، وابن أبي حاتم في “تفسيره” رقم (19117)، وأبو الشيخ في “العظمة” رفم (376 و 378 و 496)، والثعلبي في “الكشف والبيان” (10/ 124)، والبيهقي في “شعب الإيمان” رقم (156).
وزاد السيوطي نسبته إلى: عبد بن حميد، وابن المنذر. “الدر المنثور” (6/ 510).
وقد جاء هذا المعنى مرفوعًا من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما -؛ أخرجه أبو الشيخ في “العظمة” رقم (291)، وانظر فيه تخريج المحقق للحديث فقد حسَّنَ إسناده.

(1/214)


وبعضهم وُكِّلُوا بالأمطار، والنَّبَات، والخَسْف، والمَسْخ، والرِّياح، والسَّحاب” (1) انتهى.
وقد أخبر النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أنَّ للجبال مَلَكٌ يختصُّ بشأنها (2) ، وأخبر أنَّ الله -تعالى – وكَّل بالرَّحِم مَلَكًا (3) ، وللرؤيا مَلَكٌ موكَّلٌ بها (4) ، وللجنَّة ملائكةٌ موكَّلُون بعمارتها، وعَمَلِ آلتها، وأوانيها، وغِرَاسها، وفرشها، ونمارقها، وأرائكها، وللنَّار ملائكةٌ موكَّلُون (5) بعمل ما فيها وإيقادها، وغير ذلك.
فالدنيا وما فيها، والجنَّةُ، والنَّارُ، والموتُ وأحكام البرزخ (6) ؛ قد
__________
(1) انظر: “معالم التنزيل” (8/ 325)، و”الوسيط” (4/ 418)، و”زاد المسير” (8/ 171).
(2) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (3231)، ومسلم في “صحيحه” رقم (1795)؛ من حديث عائشة – رضي الله عنها -، وفيه قصة.
(3) سيأتي تخريجه (ص/ 498) من حديث أنس – رضي الله عنه – مرفوعًا: “إنَّ الله وكَّلَ بالرَّحِم مَلَكًا … الحديث”.
(4) أكثر أهل العلم على إثبات ذلك، ودليلهم عليه ما أخرجه وكيع في “أخبار القضاة” (291) مرفوعًا بلفظ:
“إن مَلَكًا في الهواء يقال له “الرُّهَا” موكَّلٌ بالرؤيا، لا يمرُّ بأحدٍ خيرٌ ولا شرٌّ إلا أُريه في المنام؛ حفِظَ مَنْ حفِظ، ونسِيَ من نسِي”.
وإسناده ضعيف جدًا؛ فيه: إسماعيل بن مسلم المكي، أبو إسحاق البصري؛ أجمعوا على ضعفه، ومنهم من تركه. انظر: “تهذيب الكمال” (3/ 198).
ولأجل ذلك قال أبو العباس القرطبي في “المفهم” (6/ 7): “يُحتاج في ذلك إلى توقيفٍ من الشرع”، ونقله عنه الحافظ في “الفتح” (12/ 370).
(5) في (ن) و (ك) و (ح) و (ط) و (م): موكَّلة.
(6) بعده في (ن) و (ك) و (ح) و (م) زيادة: وأحكامه، وفي (ط): وأحكامهم.

(1/215)


وكَّل اللهُ بذلك كلِّه ملائكةً يدبِّرون ما شاء الله من ذلك، ولهذا كان الإيمان بالملائكة أحد أركان الإيمان الذي لا يتمُّ إلا به.
وأمَّا من قال إنَّها النُّجُوم (1) ؛ فليس هذا من أقوال أهل الإسلام، ولم يجعل الله – تعالى – للنُّجُوم تدبيرَ شيءٍ من الخلق، بل هي مُدَبَّرَةٌ مسخَّرَةٌ، كما قال تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} [النحل: 12]، فالله – سبحانه – هو المدبِّرُ بملائكته لأمر العالم العُلْويِّ والسُّفْليِّ.
قال الجُرْجَانيُّ (2) : “وذكر “السَّابقَات” و”المُدَبِّرَات” بـ “الفاء”، وما قبلها بـ “الواو”؛ لأنَّ ما قبلها أَقْسَامٌ مَستأنَفَةٌ، وهذان القَسَمَان مُنْشَآن عن الذي قبلهما (3) ، كأنَّه قال: فاللاتي سَبَّحْنَ فسَبَقْنَ، كما تقول: قام
__________
(1) حكاه خالد بن مَعْدَان عن معاذ بن جبل – رضي الله عنه -، ولا يثبت؛ لأنَّ خالد بن مَعْدَان لم يسمع من معاذ بن جبل – رضي الله عنه -، فروايته مرسلة كما قال: أحمد، وأبو حاتم، والبزار، والترمذي، وغيرهم.
انظر: “المراسيل” لابن أبي حاتم (52)، و”جامع التحصيل” للعلائي (206)، و”تحفة التحصيل” للعراقي (111).
ولهذا قال السمعاني عنها إنَّها “روايةٌ غريبةٌ! “. “تفسيره” (6/ 146).
وقال الألوسي: “وفي حمل “المدبِّرات” على النُّجُوم إيهامُ صحة ما يزعمه أهل الأحكام، وجهلة المنجِّمين؛ وهو باطلٌ عقلًا ونقلًا”. “روح المعاني” (15/ 225).
وعلى فرض صحة هذه الرواية فللعلماء توجيهٌ لمعناها، انظره في: “الجامع” (19/ 192)، و”فتح القدير” (5/ 432)، و”محاسن التأويل” (7/ 250).
(2) هو الحسن بن يحيى الجرجاني، وقد سبقت ترجمته (ص/ 17).
(3) في (ز): قبلها.

(1/216)


فذهب، أوجَبَ “الفاء” أنَّ القيام كان سببًا للذهاب، ولو قلت: قام وذهب؛ لم تجعل القيام سببًا للذهاب”.
واعترض عليه الواحديُّ، فقال: “هذا غير مطَّرِدٍ في هذه الآية؛ لأنَّه يبعد أن يجعل السَّبْق سببًا للتدبير، مع أنَّ “السَّابِقات” ليست الملائكة في قول المفسِّرين” (1).
قلت: الملائكة داخلون في “السَّابِقَات” قطعًا؛ وأمَّا اختصاص “السَّابِقَات” بالملائكة فهذا محتمل.
وأمَّا قوله: “يبعد أن يكون السَّبْق سببًا للتدبير” فليس كما زعم، بل “السَّبْقُ” المبادرةُ إلى تنفيذ ما يؤمر به المَلَك، فهو سببٌ للفعل الذي أُمِر به، وهو التدبير، مع أنَّ “الفاء” دالَّةٌ على التعقيب، وأنَّ التدبيرَ يتعقَّبُ السَّبْقَ بلا تَرَاخٍ، بخلاف الأقسام الثلاثة الأُوَل (2)، والله أعلم. وسيأتي مزيد بيانٍ لهذا قريبًا إن شاء الله تعالى.
وجوابُ القَسَم محذوفٌ – يدلُّ عليه السياق – وهو البعثُ (3) المستلزِمُ لصدقِ الرسول وثبوتِ القرآن، أو أنَّه من القَسَم الذي أُريد به التنبيه على الدلالة والعبرة بالمُقْسَم به، دون أن يُرادَ به مقسَمٌ عليه بعينه، وهذا القَسَم يتضمَّن الجوابَ المقسَمَ عليه وإن لم يُذْكَر لفظًا، ولعل هذا مراد من قال: إنَّه محذوفٌ للعلم به.
__________
(1) انظر لكلام الجرجاني والواحدي والجواب عنه: “فتح القدير” (5/ 431 – 432).
(2) ساقط من (ح) و (م).
(3) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: النعت.

(1/217)


لكنْ هذا الوجه أَلْطَفُ مسلكًا؛ فإنَّ المُقْسَمَ به إذا كان دالًّا على المُقْسَمِ عليه مستلزِمًا له (1) استغني عن ذِكْرِه بذِكرِه، وهذا غير كونه محذوفًا لدلالة ما بعده عليه؛ فتأمَّلْهُ.
ولعلَّ هذا قول من قال: إنَّه إنَّما أقسَمَ بِرَبِّ هذه الأشياء، وحَذَفَ المُضَاف، فإنَّ هذا معناه صحيحٌ لكن على غير الوجه الذي قَدَّرُوه، فإنَّ إقْسَامَهُ – سبحانه – بهذه الأشياء لظهور دلالتها على ربوبيته، ووحدانيته، وعلمه، وقدرته، وحكمته، فالإقسامُ بها – في الحقيقة – إقسامٌ بربوبيته وصفات كماله، فتأمَّلْهُ.
ثُمَّ قرَّرَ (2) – سبحانه – بعد (3) هذا القَسَم أَمْرَ المَعَاد، ونُبوَّةَ موسى – صلى الله عليه وسلم – المستلزِمة لنُبوَّة محمدٍ – صلى الله عليه وسلم -، إذ من المُحَال أن يكون موسى نبيًّا ومحمدٌ ليس نبيًّا، مع أنَّ كل ما يُثْبِت نُبوَّة موسى فَلِمحمدٍ نظيره أو أعظم منه.
وقَرَّر (4) – سبحانه – تكليمَهُ لموسى بندائه له بنفسه فقال تعالى: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ} [النازعات: 16] فأثبت النِّدَاءَ (5) المستلزِم للكلام والتكليم، وفي موضعٍ آخر (6) أثبت “النِّجَاءَ” (7)، و”النِّدَاءُ” و”النِّجَاءُ” (8) نوعَا
__________
(1) ساقط من (ن) و (ك) و (ح) و (ط) و (م).
(2) في (ز): قدر.
(3) ساقط من (ك).
(4) في (ز): وقدر.
(5) ساقط من (ك) و (ح) و (ن) و (م).
(6) في سورة [مريم/ 52]: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)}.
(7) من المُنَاجَاة وهي: المُسَارَّة. “القاموس” (1723).
(8) تصحفت في (ز) و (ن) و (ك) و (ط) إلى: الإيحاء، في الموضعين.

(1/218)


التكليم؛ ومحالٌ ثبوت النَّوع بدون الجنس.
ثُمَّ أمره أن يخاطبه بأَلْيَنِ خطاب فيقول له: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) } [النازعات: 18 – 19]؛ ففي هذا من لُطْفِ الخطاب وَلِيْنهِ وجوهٌ:
أحدها: إخراجُ الكلام مُخْرَجَ العَرْض، ولم يُخْرِجْهُ مُخْرَجَ الأمر والإلزام؛ وهو ألطف.
ونظيره قول، إبراهيم – عليه السلام – لضيفه المُكْرَمين: {أَلَا تَأْكُلُونَ (27) } [الذاريات: 27]، ولم يقل: كُلُوا.
الثاني: قوله: {إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) }؛ والتَّزَكِّي: النَّمَاء، والطهارة (1) ، والبركة، والزيادة. فعَرَضَ عليه أمرًا يقبله كلُّ عاقلٍ، ولا يردُّه إلا كلُّ أحمقٍ جاهلٍ.
الثالث: قوله: {تَزَكَّى (18) } ولم يقل: أُزكِّيكَ، فأضاف التزكية إلى نفسه، وعلى هذا يخاطَبُ الملوك.
الرابع: قوله: {وَأَهْدِيَكَ} أي: أكون دليلًا لك، وهاديًا بين يديك. فنسب الهداية إليه، والتزكِّي إلى المخاطَب. أي: أكون دليلًا لك وهاديًا فَتَتَزَكَّى أنتَ، كما تقول للرجل: هل لك أنْ أَدُلَّكَ على كنزٍ تأخذ منه ما شئتَ؟ وهذا أحسن من قوله: أُعطِيكَ.
الخامس: قوله: {إِلَى رَبِّكَ} فإنَّ في هذا ما يوجب قبول ما دلَّهُ (2)
__________
(1) في (ز): الظهور! تصحيف.
(2) في (ز) و (ط) و (م): دَلَّ.

(1/219)


عليه، وهو أنَّه يدعوه ويوصله إلى ربِّه فاطِرِه وخالِقِه الذي أوجده، وربَّاهُ بنعَمِهِ: جَنِينًا، وصغيرًا، وكبيرًا، وآتاه المُلْك. وهذا نوعٌ من خطاب الاستعطاف والإلزام، كما تقول لمن خرج عن طاعة سيِّدِه: أَلَا تطيع سَيِّدَكَ ومولاكَ ومالِكَكَ؟ وتقول للولد: أَلَا تطيع أباكَ (1) الذي ربَّاكَ.
السادس: قوله: {فَتَخْشَى (19) } أي: إذا اهتديتَ إليه وعرفتَهُ خشيته؛ لأنَّ من عَرَفَ اللهَ خافَهُ، ومن لم يعرفه لم يَخَفْه. فخشيته – تعالى – مقرونةٌ بمعرفته، وعلى قدر المعرفة تكون الخشية.
السابع: أنَّ في قوله: {هَلْ لَكَ} فائدةٌ لطيفةٌ؛ وهي أنَّ المعنى: هل لك في ذلك حاجةٌ أو أَرَبٌ؟ ومعلومٌ أنَّ كلَّ عاقِلٍ يبادر إلى قبولِ ذلك؛ لأنَّ الداعي إنَّما يدعوه إلى حاجته ومصلحته، لا إلى حاجة الداعي، فكأنَّه يقول: الحاجة لك، وأنتَ المُتَزكِّي، وأنا الدليل لك، والمُرْشِدُ لك إلى أعظم مصالحك.
فَقَابَلَ هذا بغاية الكفر والعِنَاد، وادَّعَى أنَّه ربُّ العباد، هذا وهو يعلم أنَّه ليس بالذي خَلَقَ فسَوَّى، ولا قدَّرَ فَهَدَى، فكذَّبَ الخَبَر، وعصَى الأمر، ثُمَّ أدبر يسعى بالخديعة والمكر، فحَشَرَ جنوده فأجابوه، ثُمَّ نادى فيهم بأنَّه ربُّهم الأعلى، واستخفَّهم فأطاعوه، فبطش به جبَّارُ السماوات والأرض بطْشَةَ عزيزٍ مقتدِرٍ، وأخذَهُ نكَالَ الآخرة والأُولَى، ليعتبر بذلك من يعتبر، فاعتَبرَ بذلك من خَشِيَ ربَّهُ من المؤمنين، وحقَّ القولُ على الكافرين.
ثُمَّ أقام – سبحانه – حُجَّته على العالمين بخلق ما هو أشدُّ منهم
__________
(1) في (ز): والدك.

(1/220)


وأكبر، وأعظم، وأعلى، وأرفع؛ وهو خلْقُ السماء وبناؤها، ورفْعُ سَمْكِها وتسويتُها، وإظْلَامُ ليلِها، وإخراجُ ضُحَاها.
وخَلَقَ الأرض، ومدَّها، وبَسَطَها، وهَيَّأَها لما يُراد منها، فأخرج منها شراب الحيوان وأقواتهم، وأَرْسَى الجبالَ فجعلها رواسي (1) للأرض، لئلا تميد بأهلها، وأودَعَها من المنافعِ ما يتمُّ به مصالح الحيوان الناطق والبهيم، فمن قدر على ذلك كله كيف يعجز عن إعادتكم خلقًا جديدًا؟!
فتأمَّلْ دلالةَ المُقْسَم به المذكور في أوَّل السورة على المَعَاد، والتوحيد، وصِدْقِ الرُّسُل؛ كدلالة هذا الدليل (2) المذكور، وإذا كان هذا هو المقصود لم يكن محتاجًا إلى جواب، والله – تعالى – أعلم.
__________
(1) ساقط من (ك).
(2) تصحفت في (ز) إلى: الليل!

(1/221)


فصل

ومن ذلك قوله تعالى: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)} [المرسلات: 1 – 7].
فُسِّرت “المرسلات” بالملائكة، وهو قول: أبي هريرة (1)، وابن عباس في رواية مقاتل، وجماعة (2).
وفُسِّرت بالرِّياح، وهو قول: ابن مسعود (3)، وإحدى الروايتين عن ابن عباس، وقول قتادة (4).
__________
(1) أخرجه: ابن أبي حاتم في “تفسيره” (10/ رقم 19086)، والحاكم في “المستدرك” (2/ 511) رقم (3941) وصححه ووافقه الذهبي.
وصححه الحافظ في “الفتح” (8/ 566).
(2) منهم: ابن مسعود في رواية، ومسروق، وأبو الضحى، وأبو صالح، ومجاهد في رواية، والسُّدِّي، والربيع بن أنس، ومقاتل، والكلبي.
واختاره: الفرَّاء في “معاني القرآن” (3/ 221)، وابن قتيبة في “تأويل مشكل القرآن” (166).
(3) أخرجه: ابن أبي حاتم في “تفسيره” (10/ رقم 19088)، وابن جرير في “تفسيره” (12/ 377).
وزاد السيوطي نسبته إلى: عبد بن حميد، وابن المنذر. “الدر المنثور” (6/ 492).
(4) وقال به: علي بن أبي طالب، ومجاهد في الرواية الأخرى عنه، وأبو صالح في رواية.
وهو قول جمهور المفسرين كما قال السمعاني في “تفسيره” (6/ 125)، والقرطبي في “الجامع” (19/ 152)، والشوكاني في “فتح القدير” (5/ 411).
واختاره: الواحديُّ في “الوسيط” (4/ 407)، وابن كثير في “تفسيره” =

(1/222)


وفُسِّرت بالسَّحَاب (1) ، وهو قول الحسن (2) .
وفُسِّرت بالأنبياء، وهو رواية عطاءٍ عن ابن عباس (3) .
قلت: الله – سبحانه – يرسل الملائكةَ، ويرسل الأنبياءَ، ويرسل الرِّياحَ، ويرسل السَّحَابَ فيسوقه حيث يشاء، ويرسل الصواعقَ فيصيب بها من يشاء. فإرساله واقعٌ على ذلك كلِّه، وهو نوعان:
1 – إرسالُ دِينٍ يحبُّه ويرضاه، كإرسال رسله وأنبيائه.
2 – وإرسالُ كَوْنٍ؛ وهو نوعان:
نوعٌ يحبُّه ويرضاه، كإرسال ملائكته في تدبير أمر خلقه.
ونوعٌ لا يحبُّه، بل يسخطه ويبغضه، كإرسال الشياطين على الكفار.
فالإرسالُ المقسَمُ به ها هنا مُقَيَّدٌ بـ “العُرْف”:
1 – فإمَّا أن يكون ضد المنكر, فهو إرسال رسله من الملائكة، ولا
__________
= (8/ 297).
(1) من قوله: “وهو قول ابن مسعود. . .” إلى هنا؛ ملحق بهامش (ن).
(2) انظر: “المحرر الوجيز” (15/ 257)، و”البحر المحيط” (8/ 395)، وفي “النكت والعيون” (6/ 175) ذكره احتمالًا ولم ينسبه.
(3) ذكره القرطبي في “الجامع” (19/ 152)، وأبو حيَّان في “البحر المحيط” (8/ 395)، وهو مشهور من قول أبي صالح كما عزاه إليه: الماوردي في “النكت والعيون” (6/ 175)، وابن الجوزي في “زاد المسير” (8/ 154)، وانظر تخريج الأثر في “الدر المنثور” (6/ 493).
وأما ابن عطية فقد جعله قول “كثير من المفسرين”! “المحرر الوجيز” (15/ 257).

(1/223)


يدخل في ذلك إرسال الرِّياح، ولا الصواعق، ولا الشياطين.
وأمَّا إرسال الأنبياء فلو أُريد لقال: والمرسلين، وليس بالفصيح تسمية الأنبياء “مرسلات”، وتكلُّف: (الجماعات المرسلات) (1) خلاف المعهود من استعمال اللفظ، فلم يطلق في القرآن جمعُ ذلك إلا جمعَ تذكيرٍ لا جمع تأنيثٍ.
وأيضًا؛ فاقتران اللفظة بما بعدها من الأقسام لا يناسب تفسيرها بالأنبياء.
وأيضًا؛ فإنَّ الرُّسُلَ مُقْسَمٌ عليهم في القرآن لا مقسَمٌ بهم كقوله تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} [النحل: 63]، وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) } [البقرة: 252]، وقوله -عزَّ وجلَّ -: {يس (1 ) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2 ) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) } (2) [يس: 1 – 3].
2 – وإن كان “العُرْف” من: التَتَابع، كـ “عُرْف الفَرَس” و”عُرْف الدِّيْك”، والنَّاس إلى فلانٍ عُرْفٌ واحد، أي: سابقون في قصده والتوجه إليه = جاز أن تكون “المرسلات”: الرِّياح، ويؤيده عَطْف “العاصِفات” عليه و”النَّاشِرات”.
وجاز أن تكون: الملائكة، وجاز أن يَعُمَّ النَّوعين؛ لِوَقْعِ
__________
(1) قال السمين الحلبي: “وقد يقال: كيف جَمَعَ صفةَ المذكر العاقل بالألف والتاء، وحقه أن يُجْمع بالواو والنون؟ تقول: الأنبياء المرسلون، ولا تقول: المرسلات. فالجواب: أن “المرسلات” جمع مُرْسَلَة، و (مُرْسَلَة) صفةٌ لجماعةٍ من الأنبياء، فالمرسلات جمعُ (مُرْسَلَة) الواقعةِ صفةً لجماعة، لا جمعُ (مُرْسَل) المفرد”. “الدر المصون” (10/ 629).
(2) هذه الآيات الثلاث غير موجودة في (ز).

(1/224)


الإرسال – عُرْفًا – عليهما (1).
ويؤيِّده أنَّ “الرِّياح” موكَّلٌ بها ملائكةٌ (2) تسوقها وتُصَرِّفُها.
ويؤيِّد كونها “الرِّياح” عطف “العَاصِفات” عليها بـ “فاء” التعقيب والتسبيب، فكأنَّها أُرسِلت، فَعَصَفَتْ.
ومن جعل “المرسلات”: الملائكة قال: هي تعصف في مُضِيِّها مُسرِعَةً كما تعصف “الرِّياح”.
والأكثرون على أنَّها “الرِّياح”.
وفيها قولٌ ثالثٌ: أنَّها تعصف بروح الكافر، يقال: عَصَفَ بالشيء؛ إذا أَبَادَهُ وأَهْلَكَهُ، قال الأعشى (3):
* تَعْصِفُ بالدَّارِعِ والحَاسِرِ *
حكاه أبو إسحاق (4).
وهو قولٌ متكلِّفٌ، فإنَّ المقسَم به لا بدَّ أن يكون آيةً ظاهرةً تدلُّ على الربوبية، وأمَّا الأمور الغائبة التي يُؤْمَنُ بها فإنَّما يُقْسَمُ عليها. وإنَّما يُقْسِمُ – سبحانه – بملائكته، وكتابه؛ لظهور شأنهما، ولقيام الأدلَّة والأعلام الظاهرة الدالَّة على ثبوتهما (5).
__________
(1) وهو اختيار أبي عبيدة في “مجاز القرآن” (2/ 281).
واختار ابن جرير عموم المرسَل أيًّا كان. “جامع البيان” (12/ 378).
(2) في (ز): الملائكة.
(3) “ديوانه” (185)، وصدره: يَجْمَعُ خضراءَ لها سَوْرَةٌ …
الدَّارع: من لَبِس الدِّرْع. والحاسر: العريُّ عنه.
(4) هو الزجَّاج، انظر: “معاني القرآن” (5/ 265).
(5) في (ز): ثبوتها.

(1/225)


وأمَّا “النَّاشرات نشرًا”؛ فهو استئنافُ قَسَمٍ آخر، ولهذا أتى به بـ “الواو”، وما قبله معطوفٌ على القَسَم الأوَّل بـ “الفاء”.
قال ابن مسعود، والحسن، ومجاهد، وقتادة: “هي الرِّياح تأتي بالمطر” (1).
ويدلُّ على صِحَّة قولهم قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} (2) [الأعراف: 57]؛ يعني أنَّها تنشُرُ السَّحَابَ نَشْرًا، وهو ضدُّ الطَّيِّ.
وقال مقاتل (3): “هي الملائكةُ تنشر كتبَ بني آدم وصحائف أعمالهم”، وقاله: مسروق، وعطاء عن ابن عباس.
وقالت طائفةٌ: هي الملائكةُ تنشر أجنحَتَها في الجَوِّ عند صعودها ونزولها.
وقيل: تنشر أوامر الله في السماء والأرض.
وقيل: تنشر النُّفُوس، فَتُحْييها بالإيمان.
__________
(1) وهو قول جمهور المفسرين “زاد المسير” (8/ 154).
واختاره: الفرَّاء في “معانيه” (3/ 222)، والزجَّاج في “معانيه” (5/ 265)، وابن كثير في “تفسيره” (8/ 297).
(2) قرأ ابن عامر: (نُشْرًا) بالنون مضمومة، وإسكان الشين.
وقرأ حمزة، والكسائي، وخَلَف: (نَشْرًا) بالنون مفتوحة، وإسكان الشين.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، ويعقوب: (نُشُرًا) بضم النون والشين، جمع: نَاشِر، كـ: نُزُل ونازل، وشُرُف وشارف.
انظر: “التيسير” للداني (110)، و”الإتحاف” (2/ 52)، و”الحُجَّة” (157).
(3) في “تفسيره” (3/ 435): “هي أعمال بني آدم تُنشر يوم القيامة”.

(1/226)


وقال أبو صالح: “هي الأمطار تنشر الأرض، أي: تحييها” (1).
قلت: ويجوز أن تكون “النَّاشِرات” لازمًا لا مفعول له، ولا يكون المراد أنَّهنَّ يَنشُرنَ كذا، فإنَّه يقال: نَشَرَ الميتُ، أي: حَيِيَ، وأَنْشَرَهُ الله: إذا أحياه، فيكون المرادُ بها: الأنفسَ التي حَيِيَتْ بالعُرْفِ الذي أرسلت به “المُرْسَلَات” (2)، أو (3) الأشباحَ والأرواحَ والبقاعَ التي حَيِيَتْ (4) بالرِّياح المرسلات، فإنَّ “الرِّياحَ” سببٌ لنشور الأبدان والنَّبَات، والوحيَ سببٌ لنشور الأرواح وحياتها.
لكنْ هنا أمرٌ ينبغي التفطُّن له، وهو أنَّه – سبحانه – جعل الإقسام في هذه السورة نوعين، وفَصَل أحدهما من الآخر، وجعل “العَاصِفَات” معطوفًا على “المرسلات” بـ “فاء” التعقيب، فصارا كأنَّهما نوعٌ واحدٌ، ثُمَّ جعل “النَّاشرات” كأنَّه قَسَمٌ مبتَدَأٌ فأتى فيه بـ “الواو”، ثُمَّ عطف عليه “الفَارِقات” و”المُلْقِيَات” بـ “الفاء”، فأوهم هذا أنَّ “الفارقات” و”المُلقيات” (5) مرتبطٌ بـ “النَّاشرات”، وأنَّ “العَاصِفَات” مرتبطٌ بـ “المُرْسَلَات” (6).
وقد اختلف في “الفَارقات”؛ والأكثرون على أنَّها الملائكة، ويدلُّ عليه عطْفُ “المُلْقِياتِ ذِكْرًا” عليها بـ “الفاء”، وهي
__________
(1) انظر لهذه الأقوال: “زاد المسير” (8/ 154)، و”النكت والعيون” (6/ 176)، و”الجامع” (19/ 153)، و”المحرر الوجيز” (15/ 259).
(2) في (ن) و (ز) و (ك): المرسَلة، وفي (ط): المرسلين!
(3) في (ز) بالواو العاطفة بدل “أو”، وفي (ك): إذ.
(4) من قوله: “بالعُرْف الذي أرسلت به. . .” إلى هنا؛ ملحق بهامش (ن).
(5) من قوله: “بـ “الفاء”، فأوهم. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ز)، وألحقت بهامش (ن).
(6) “وأنَّ “العاصفات” مرتبط بـ “المرسلات”” ملحق بهامش (ن).

(1/227)


الملائكة بالاتفاق (1) .
وعلى هذا فيكون القَسَم بالملائكة التي نَشَرَتْ أجنحتها عند النزول، ففرَّقَت بين الحقِّ والباطل، فأَلْقَت الذِّكْرَ على الرُّسُلِ إعذارًا وإنذارًا.
ومن جعل “النَّاشِرات”: الرِّياح جعل “الفَارِقَات” صفةً لها، وقال: هي تفرِّقُ السَّحَابَ ها هنا وها هنا، ولكن يأبى ذلك عطْفُ “المُلْقِيَات” بـ “الفاء” عليها.
ومن قال: “الفَارِقَات”: آيُ القرآنِ؛ تُفرِّقُ بين الحقِّ والباطل، فقوله يلتئم مع كون “النَّاشِرَات” الملائكة أكثر من التئامه إذا قيل: إنَّها “الرِّياح”.
ومن قال: هي جماعات الرُّسُل؛ فإنْ أراد الرُّسُلَ من الملائكة فظاهِرٌ، وإنْ أراد الرُّسُلَ من البشر فقد تقدَّمَ (2) بيان ضعف هذا القول.
ويظهر – والله أعلم بما أراد من كلامه – أنَّ القَسَم في هذه السورة وقع على النَّوعين: الرِّياحِ، والملائكةِ. ووجه المناسبة: أنَّ حياةَ الأرض والنَّبَات وأبدان الحيوان بالرِّياح، فإنَّها من رَوْح الله، وقد جعلها الله – تعالى – نُشُورًا، وحياةَ القلوب والأرواح بالملائكة.
فبهذين النَّوعين يحصل نوعَا الحياة، ولهذا – والله أعلم – فَصَلَ
__________
(1) وحكى الإجماع – أيضًا -: القرطبي في “الجامع” (19/ 154)، وابن كثير في “تفسيره” (8/ 297).
(2) راجع (ص/ 224).

(1/228)


أَحَدَ النَّوعين من الآخر (1) بـ “الواو”، وجعل ما هو تابعٌ لكلِّ نوعٍ بعده بـ “الفاء”.
وتأمَّلْ كيف وقع القَسَمُ في هذه السورة على المَعَاد، والحياة الدائمة الباقية، وحالِ السعداء والأشقياء فيها، وقرَّرَها بالحياة الأُولَى في قوله تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20)} [المرسلات: 20]، فذكر فيها المبدأ والمَعَاد، وأخلَصَ السورةَ لذلك، فَحَسُنَ الإقسامُ بما يحصل به نوعَا الحياة المشاهَدة، وهو: الرِّياح، والملائكة. فكان في القَسَم بذلك أَبْيَنُ دليلٍ، وأَظْهَرُ آيةٍ على صحة ما أقسَمَ عليه وتضمَّنته السورة. ولهذا كان المكذِّبُ بعد ذلك في غاية الجحود والعناد والكفر والتكذيب، فاستحقَّ الويلَ بعد الويلِ، فتَضَاعَفَ عليه الويلُ، كما تضاعف منه الكفر والتكذيب.
فلا أحسنَ من هذا التَّكْرَار في هذا الموضع، ولا أعظم موقعًا، فإنَّه تكرَّرَ عشر مراتٍ (2)، ولم يذكر إلا في أَثَرِ دليل أو مدلولٍ عليه؛ عَقِيبَ ما يوجب التصديقَ، وما يجب التصديقُ به؛ فتأمَّلْهُ.
__________
(1) ساقط من (ز) و (ن) و (ك).
(2) يقصد قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)}.

(1/229)


فصل

ومن ذلك قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)} [القيامة: 1 – 2]، وقد تقدَّمَ ذِكْرُ هذين القَسَمَين (1)، ومناسبةِ الجمع بينهما في الذِّكْر، وكونِ الجواب غير مذكورٍ، وأنَّه يجوز أن يكون ممَّا حُذِف لدلالة السياق عليه والعلم به، ويجوز أن يكون من القَسَم المقصود به التنبيه على دلالة المُقْسَم به، وكونه آيةً، ولم يقصد به (2) مُقْسَمًا عليه معيَّنًا، فكأنَّه يقول: اذْكُر يومَ القيامة، والنَّفْسَ اللوَّامة، مُقْسَمًا بهما، لكونهما (3) من آياتنا، وأدلَّة ربوبيتنا.
ثُمَّ أنكر على الإنسان بعد هذه الآية حُسْبَانَهُ وظَنَّهُ أنَّ الله لا يجمع عظامه بعدما فرَّقَها البِلَى.
ثُمَّ أخبر – سبحانه – عن قدرته على جمع بَنَانِهِ وهي العظام الصِّغَار، ونَبَّهَ – بقدرته على جمع هذه العظام مع صِغَرها ودِقَّتها – على قدرته على جمع غيرها من عظامه.
وعلى هذا فيكون – سبحانه – قد احتجَّ على فعله لما أنكره أعداؤه بقدرته عليه، فأخبر عن فعله، فإنَّه لا يلزم من القُدْرة وقوع المقدور، والمعنى: بل نجمعها قادرين على تسوية بنانه.
ودلَّ على هذا الفعل المحذوف قوله: {بَلَى} , فإنَّها حرف إيجابٍ لما تقدَّمَ من النَّفْي، فلهذا استغنى عن ذكر الفعل بذكر الحرف الدالِّ
__________
(1) راجع (ص/ 22).
(2) من قوله: “التنبيه على دلالة. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ز).
(3) في (ز): مقسمًا بها لكونها.

(1/230)


عليه. فدلَّت الآية على الفعل، وذُكِرت القُدْرَةُ لإبطال قول المكذِّبين.
وفي ذكر “البَنَان” لطيفةٌ أخرى، وهي أنَّها أطرافُه، وآخر ما يَتِمُّ به خَلْقُه، فمن قَدَرَ على جمع أطرافه وآخر ما يَتِمُّ به خَلْقُه – مع دِقَّتها وصِغَرِها ولطافتها – فهو على ما دون ذلك أقدر، فالقوم لمَّا استبعدوا جمع العظام بعد الفناء والإرمام قيل: إنَّا نجمعُ ونسوِّى أكثر منها تفرُّقًا، وأَدَقَّها أجزاءً، وأجزاءَ أطراف البدن، وهي عظام (1) الأنامل ومفاصلها (2).
وقالت طائفةٌ: المعنى: نحن قادرون على أن نُسوِّيَ أصابع يديه ورجليه، ونجعلها مستويةً شيئًا واحدًا كَخُفِّ البعير، وحافِرِ الحمار، لا نفرِّقُ بينها (3)، ولا يمكنه أن يعمل بها (4) شيئًا ممَّا يعمل بأصابعه المفرَّقَة ذات المفاصل والأنامل من فنون الأعمال، والبَسْط، والقبض، والتأتِّي لما يريد من الحوائج. وهذا قول ابن عباس (5)، وكثيرٍ من المفسِّرين (6).
__________
(1) ساقط من (ز).
(2) هذا كلام ابن عطية في “المحرر الوجيز” (15/ 208).
(3) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: بينهما.
(4) في (ز): بهما.
(5) أخرجه: عبد الرزاق في “تفسيره” (2/ 333)، وابن أبي حاتم في “تفسيره” (10/ رقم 19056)، وابن جرير في “تفسيره” (12/ 328).
وزاد السيوطي نسبته إلى: سعيد بن منصور، وابن المنذر. “الدر المنثور” (6/ 464).
(6) قال الثعلبي: “هذا قول عامة المفسرين”. “الكشف والبيان” (10/ 83).
وانظر: “معالم التنزيل” (8/ 281)، و”زاد المسير” (8/ 134).

(1/231)


والمعنى على هذا القول: إنَّا في الدنيا قادرون على أن نجعل عظام بَنَانِهِ مجموعةً دون تفرُّقٍ، فكيف لا نقدر على جمعها بعد تفرقتها (1) .
فهذا وجهٌ من الاستدلال غير الأوَّل، وهو استدلالٌ بقدرته – سبحانه – على جمع العظام التي فرَّقَها ولم يجمعها، والأوَّل استدلالٌ بقدرته – سبحانه – على جمع عظامه بعد تفريقها، وهما وجهان حَسَنَان، وكلٌّ منهما له الترجيحُ من وجهٍ:
فيرجِّحُ الأوَّل أنَّه هو المقصود، وهو الذي أنكره الكفار، وهو أُجرِيَ على نسق الكلام واطَّرَد؛ ولأنَّ الكلام لم يُسَقْ لجمع العظام وتفريقها في الدنيا، وإنَّما سِيق لجمعها في الآخرة بعد تفرُّقها بالموت (2) .
ويرجِّحُ القولَ الثاني – ولعلَّه قول جمهور المفسِّرين، حتَّى إنَّ (3) فيهم من لم يذكر غيره (4) – أنَّه استدلالٌ بآيةٍ ظاهرةٍ مشهودةٍ، وهي تفريق البَنَان مع انتظامها في كَفٍّ واحدٍ، وارتباط بعضها ببعضٍ، فهي متفرِّقة في عُضْوٍ واحِدٍ، يقبض منها واحدةً ويبسط أخرى، ويحرِّك واحدةً
__________
(1) في (ح) و (م): تفرقها.
(2) وهذا قول: الزجَّاج في “معانيه” (5/ 251)، وابن قتيبة في “تأويل مشكل القرآن” (346).
واختاره: ابن عطية في “المحرر الوجيز” (15/ 208)، والقرطبي في “الجامع” (19/ 93)، وابن كثير في “تفسيره” (8/ 276)، وغيرهم.
(3) ساقط من (ز) و (ن) و (ك) و (ح) و (ط)، وأثبته من (م).
(4) كالفرَّاء في “معانيه” (3/ 208)، وابن جرير في “تفسيره” (12/ 328).
قال السمعاني: “وهذا قولٌ مشهورٌ في التفاسير”. (6/ 103).

(1/232)


والأخرى ساكنةٌ، ويعمل بواحدةٍ والأخرى مُعَطَّلَةٌ، وكلُّها في كَفٍّ واحدٍ، قد جمعها ساعِدٌ واحِدٌ، فلو شاء – سبحانه – لسوَّاها فجعلها صفحةً واحدةً كَبَاطِن الكَفِّ، ففاتت هذه المنافع والمصالح التي حصلت بتفريقها، ففي هذا أَعظم الأدلَّة على قدرته – سبحانه – على جمع عظامه بعد الموت.
ثُمَّ أخبر – سبحانه – عن سوء حال الإنسان وإصراره على المعصية والفجور (1)، وأنَّه لا يَرْعَوِي ولا يخاف يومًا يجمع الله فيه عظامه ويبعثه حيًّا، بل هو مريدٌ للفجور ما عاش، فيفجر في الحال، ويريد الفجور في غَدٍ وما بعده، وهذا ضِدُّ الذي يخاف الله والدار الآخرة. فهذا لا يندم على ما مضى منه، ولا يُقْلِعُ في الحال، ولا يعزم في المستقبل على التَّرْك، بل هو عازمٌ على الاستمرار، وهذا ضدُّ حال التائب المنيب.
ثُمَّ نبَّهَ – سبحانه – على الحامل له على ذلك، وهو استبعاده ليوم القيامة، وليس هذا استبعادًا لزمنه مع إقراره بوقوعه، بل هو استبعادٌ لوقوعه كما حكى عنه في موضع آخر قوله: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)} [ق: 3] أي: بعيدٌ وقوعُهُ، وليس المراد أنَّه واقعٌ بعيدٌ زَمَنُه؛ هذا قول جماعةٍ من المفسِّرين، منهم ابن عباس وأصحابه.
قال ابن عباس: “يُقَدِّمُ الذَّنْبَ، ويُؤَخِّرُ التوبة” (2).
وقال قتادة، وعكرمة: “قُدُمًا قُدُمًا في معاصي الله، لا يَنْزِعُ عن
__________
(1) ملحق بهامش (ك).
(2) أخرجه: ابن أبي الدنيا في “قصر الأمل” رقم (205)، ومن طريقه البيهقي في “شعب الإيمان” (3/ 2/ 391).

(1/233)


فُجُورِه” (1).
وفي الآية قولٌ آخر، وهو أنَّ المعنى: بل يريد الإنسان ليكذِّب بما أمامه من البعثِ ويوم القيامة. وهذا قول ابن زيد (2)، واختيار: ابن قتيبة (3)، وأبى إسحاق (4).
قال هؤلاء: ودليل ذلك قوله تعالى: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)} [القيامة: 6].
ويرجِّح هذا القول لفظةُ “بَلْ”؛ فإنَّها تعطي أنَّ الإنسانَ لم يؤمن بيوم القيامة مع هذا البيان والحُجَّة، بل هو مريدٌ للتكذيب به.
ويرجِّحُه – أيضًا – أنَّ السياق كلَّه في ذَمِّ المكذِّب بيوم القيامة لا في ذَمِّ العاصي والفاجر.
وأيضًا؛ فإنَّ ما قبل الآية وما بعدها يدلُّ على المراد؛ فإنَّه – تعالى – قال: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)}، فأنكر – سبحانه – عليه حُسْبَانَهُ أنَّ الله لا يجمع عظامه، ثُمَّ قرَّرَ قدرته على ذلك، ثُمَّ أنكر عليه إرادته التكذيبَ بيوم القيامة.
فالأوَّل (5): حُسْبَانٌ منه أنَّ الله لا يُحْييه بعد موته.
__________
(1) انظر: “الزهد” لوكيع (2/ 527)، و”جامع البيان” (12/ 330)، و”الدر المنثور” (6/ 465).
(2) أخرجه: ابن جرير في “تفسيره” (12/ 330).
(3) في “تأويل مشكل القرآن” (347).
(4) في “معاني القرآن” (5/ 252).
(5) ساقط من (ز) و (ن) و (ك) و (ط)، وأثبته من (ح) و (م).

(1/234)


والثاني: تكذيبٌ منه بيوم القيامة، وأنَّه يريد أن يكذِّب بما وَضَحَ وبانَ دليلُ وقوعه وثبوته، فهو مريدٌ للتكذيب به، ثُمَّ أخبر عن تصريحه بالتكذيب فقال – عزَّ وجلَّ -: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) } [القيامة: 6].
فالأوَّل: إرادةٌ للتكذيب.
والثاني: نطقٌ (1) بالتكذيب وتكلُّمٌ به.
وهذا قول قويٌّ كما ترى، لكن ينبغي إفراغ هذه الألفاظ في قوالب هذا المعنى، فإنَّ لفظة “يَفْجُر” إنَّما تدلُّ على عمل الفجور لا على التكذيب، وحَذْفُ الموصول مع ما جَرَّهُ وإبقاءُ الصِّلَة خلاف الأصل، فإنَّ أصحاب هذا القول قالوا: تقديره: ليكفر بما أمامه. وهذا المعنى صحيحٌ، لكن دلالة هذا اللفظ عليه ليست بالبيِّنَةِ.
والجواب: أنَّ الأمر كذلك، لكن (2) الفعل إذا ضُمِّنَ معنى فعلٍ (3) آخر لم يلزم إعطاؤهُ حكمَهُ من جميع الوجوه، بل من جلالة هذه اللغة العظيمة الشأن وجزالتها أن يذكر المتكلم فعلًا، ويُضِمِّنَه معنى فعلٍ آخر، ويجري على المُضَمَّنِ (4) أحكامَهُ لفظًا، وأحكامَ الفعل الآخر معنىً، فيكون في قوَّة ذِكْرِ الفِعْلَين مع غاية الاختصار، ومن تدبَّرَ هذا وجَدَهُ كثيرًا في كلام الله تعالى.
فلفظة “يَفْجُر” اقتضت “أمَامَهُ” بلا واسطة حرفٍ ولا اسمٍ موصول،
__________
(1) في (ز) و (ن) و (ك) و (ط): تعلق!
(2) ساقط من (ز).
(3) ساقط من (ز).
(4) في (ك): المضمر.

(1/235)


فأعطيت ما اقتضته لفظًا، واقتضى ما تضمَّنته من الفعل ذكر الحرف والموصول، فأعطيته معنىً. فهذا وجه هذا القول لفظًا ومعنىً، والله أعلم.
ثُمَّ أخبر – سبحانه – عن حال هذا الإنسان إذا شاهد اليوم الذي كذَّبَ به، فقال تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)} [القيامة: 7 – 10]، فيبرق بصره، أي: يَشْخَص لما يشاهده من العجائب التي كان يكذِّب بها. و”خَسَفَ القمر”: ذهب ضوؤه وانْمَحَى، وجُمِعَ الشمسُ والقمرُ ولم يجتمعا قبل ذلك، بل يجمعهما الذي يجمع عظام الإنسان بعدما فرَّقَها البِلَى ومزَّقَها، ويَجْمَعُ للإنسان يومئذٍ جميع عمله الذي قدَّمه وأخَّره من خَيرٍ أو شرٍّ. ويَجْمَعُ ذلك من جَمَعَ القرآنَ في صدر رسوله – صلى الله عليه وسلم -، ويجمع المؤمنين في دار الكرامة، فيكرِمُ وجوهَهم بالنظر إليه، ويجمع المكذِّبين في دار الهَوَان، وهو قادِرٌ على ذلك كلِّه؛ كما جمع خلق الإنسان من نطفةٍ من مَنِيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ جعله عَلَقَةً مجتمعة الأجزاء بعدما كانت نطفةً متفرِّقةً في جميع بدن الإنسان، وكما يجمع بين الإنسان ومَلَك الموت، ويجمع بين السَّاق والسَّاق؛ إمَّا سَاقَا الميت، وإمَّا سَاقَا من يُجهِّزُ بدنه من البشر، ومن يُجهِّزُ روحه من الملائكة، أو يجمع عليه شدائد الدنيا والآخرة.
فكيف ينكر هذا الإنسانُ أن يُجْمَعَ بينه وبين عمله وجزائه، وأن يُجْمَعَ مع بني جنسه ليوم الجَمْع، وأن يُجْمَعَ عليه بين أمر الله ونهيه وعبوديته، فلا يترك سُدَىً مُهْمَلًا مُعَطَّلًا، لا يُؤْمَرُ ولا يُنْهَى، ولا يُثاب ولا يُعَاقَب، فلا يُجْمَعُ عليه ذلك؟!

(1/236)


فما أجمع هذه السورة لِمَعَاني الجمع والضَّمِّ، وقد افتُتِحَت بالقَسَم بـ “يوم القيامة” الذي يجمع الله فيه بين الأوَّلين والآخرين، وبـ “النَّفْس اللوَّامة” التي اجتمع فيها هُمُومُها، وعُزُومُها، وإراداتُها (1)، واعتقاداتُها.
وتضمَّنَت ذكر المبدأ، والمَعَادِ، والقيامةِ الصُّغرى والكُبرى، وأحوالِ النَّاس في المَعَاد، وانقسام وجوهِهِم إلى ناضرة مُنَعَّمَةٍ، وباسِرةٍ معذَّبةٍ.
وتضمَّنَت وصف “الرُّوْح” بأنَّها جسمٌ ينتقل من مكانٍ إلى مكانٍ، فتُجْمَعُ من تَفَاريق البدن حتَّى تبلغ التَّرَاقي، ويقول الحاضرون: {مَنْ رَاقٍ (27)} , أي: من يَرْقي من هذه العلَّة التي أَعْيَت على الحاضرين، أي: التمسُوا له من يرقيه، والرُّقْيَةُ آخر الطِّبِّ (2).
أو قيل: مَنْ يَرْقَى بها ويصعد، أملائكةُ الرحمة أم ملائكةُ العذاب؟ (3)
فعَلَى الأوَّل؛ تكون مِن: رَقَى يَرْقِي، كـ: رَمَى يَرْمِي.
وعلى الثاني؛ مِن: رَقِيَ يَرْقَى، كـ: شَقِيَ يَشْقَى. ومصدره
__________
(1) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: وإرادتها.
(2) قال به: ابن عباس في رواية عكرمة عنه، وأبو قلابة، وقتادة، والضحَّاك، وابن زيد.
انظر: “المحرر الوجيز” (15/ 222)، و”تفسير ابن كثير” (8/ 282).
(3) وهو قول: ابن عباس في رواية أبي الجوزاء عنه، وأبي العالية، وسليمان التيمي، ومقاتل بن سليمان.
انظر: “الكشف والبيان” (10/ 89)، و”الجامع” (19/ 109).

(1/237)


“الرُّقِيُّ”، ومصدر الأوَّل “الرُّقْيَة”.
والقول الأوَّل أظهر لوجوه:
أحدها: أنَّه ليس كلُّ ميتٍ يقول حاضروه: من يرقى بروحه؟ وهذا إنَّما يقوله من يؤمن برُقِيِّ الملائكة بروح الميت، وأنَّهم ملائكة رحمة وملائكة عذاب، بخلاف التِمَاسِ الرقية – وهي الدعاء – فإنَّه قلَّ ما يخلو منه المحتضَر.
الثاني: أنَّ “الرُّوح” إنَّما يرقى بها المَلَكُ بعد مفارقتها، وحينئذٍ يقال: مَنْ يَرْقَى بها؟ وأمَّا قبل المفارقة فطلب الرُّقْيَة للمريض من الحاضرين أنْسَب من طَلَبِ عِلْمِ من يَرْقَى بها إلى الله – عزَّ وجلَّ -.
الثالث: أنَّ فاعل الرُّقْيَة يمكن العلم به، فيحسُنُ السؤالُ عنه، ويفيد السامع، وأمَّا الراقي إلى الله – تعالى – فلا يمكن العلم بتعيينه حتَّى يسأل عنه، و”مَنْ” إنَّما يُسأَلُ بها عن تعيين ما يمكن السائل أن يصل إلى العلم بتعيينه.
الرابع: أنَّ مثلَ هذا السؤال إنَّما يراد به تَحْضِيضُ وإثارةُ هِمَمِهِم إلى فعل ما يقع بعد “مَنْ”، كقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245]، أو يراد به إنكارُ فعلٍ ما يُذْكَرُ بعدها كقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وفعل الراقي إلى الله لا يحسن فيه واحدٌ من الأمرين هنا، بخلاف فاعل الرُّقْيَة فإنَّه يحسن فيه (1) الأوَّل.
الخامس: أنَّ هذا خرج على عادة العرب وغيرهم في طلب الرُّقْيَة
__________
(1) من قوله: “واحدٌ من الأمرين هنا. . .” إلى هنا؛ ملحق بهامش (ح).

(1/238)


لمن وصل إلى مثلِ تلك الحال، فحكى الله – سبحانه – ما جَرَتْ به عادتُهم بقوله، وحذَفَ فاعل القول؛ لأنَّه ليس الغرض متعلِّقًا بالقائل بل بالقول، ولم تجر عادة المخاطبين بأن يقولوا: مَنْ يرقى بروحه، فكان حمل الكلام على ما أُلِفَ وجَرَت العادةُ بقوله أَولَى، إذ هو تذكيرٌ لهم بما يشاهدونه ويسمعونه.
السادس: أنَّه لو أريد (1) هذا المعنى لكان وجه الكلام أن يقال: مَنْ هو الراقي؟ ومَن الراقي؟ لا وجه للكلام غير ذلك، كما يقال: مَنْ هو القائل منكما كذا وكذا، وفي الحديث: “مَن القائلُ كلمةَ كذا؟ ” (2) .
السابع: أنَّ كلمة “مَنْ” إنَّما يُسأل بها عن التعيين كما يقال: مَن ذا الذي فعل كذا، ومَنْ ذا (3) الذي قاله. فَيَعْلَمُ أنَّ فاعلًا وقائلًا فَعَلَ وقَالَ، ولا يعلم تعيينه، فيسأل عن تعيينه بـ “مَنْ” تارةً، وبـ “أَىّ” تارةً، وهم لم يسألوا عن تعيين المَلَك الراقي بالرُّوْح إلى الله.
فإن قيل: بل علموا أنَّ مَلَكَ الرحمة أو العذاب صاعدٌ بروحه، ولم يعلموا تعيينه فَسَأَلوا عن تعيين أحدهما؟
قيل: هم يعلمون أنَّ تعيينه غير ممكن، فكيف يسألون عن تعيين ما لا سبيل للسامع إلى تعيينه، ولا إلى الكَلَمَةِ (4) بالعلم به.
__________
(1) في (ز): أراد.
(2) أخرجه – بهذا اللفظ – أبو داود في “سننه” رقم (774)، من حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه.
والحديث أخرجه البخاري في “صحيحه” رقم (799) وغيره؛ من حديث: رفاعة بن رافع الزُّرَقي، بلفظ: “مَن المتكلِّم؟ “.
(3) ساقط من (ن) و (ك) و (ط) و (م)، وسقطت “ذا” من (ح) في الموضعين.
(4) كذا في جميع النسخ!

(1/239)


الثامن: أنَّ الآية إنَّما سيقت لبيان يأسه من نفسه، ويأس الحاضرين معه، وتحقق أسباب الموت، وأنَّه قد حضر ولم يبق شيءٌ يَنْجَعُ فيه، ولا يُخَلِّص (1) منه، بل هو قد ظنَّ أنه مُفَارِقٌ (2) لا محالة، والحاضرون قد علموا أنه لم يبق لأسباب الحياة المعتادة تأثيرٌ في بقائه، فطلبوا أسبابًا خارجةً عن المقدور تُسْتَجْلَبُ [بـ] (3) ـالرُّقَى والدَّعَوَات، فقالوا: مَنْ رَاقٍ؟ أي: مَنْ يَرْقِي هذا العليل مِن أسباب الهلاك. والرُّقْيَة عندهم كانت مستعملةً حيث لا يُجْدِي الدواء.
التاسع: أنَّ مثل هذا إنَّما يراد به النَّفْي والاستبعاد، وهو أحد التقديرين في الآية، أي: لا أحد يَرْقي من هذه العلَّة بعدما وصل صاحبها إلى هذه الحال، فهو استبعادٌ لنفع الرُّقْيَة؛ لا طلبٌ لوجود الراقي، كقوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) } [يس: 78] أي: لا أحد يُحْييها وقد صارت إلى هذه الحال.
فإن أريد بها هذا المعنى استحال أن يكون من “الرُّقِيِّ” (4) ، وإن أريد بها الطلب استحال – أيضًا – أن يكون منه، وقد بينَّا أنَّها في مثل هذا إنَّما تُستعمل للطلب أو للإنكار، وحينئذٍ فنقول في:
الوجه العاشر: إنَّها إمَّا أن (5) يراد بها الطلب، أو الاستبعاد. والطَّلَبُ: إمَّا أن يراد به طلب الفعل، أو طلب التعيين. ولا سبيل إلى
_________
(1) في (ح) و (م): مَخْلَصَ.
(2) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: يُفَارق.
(3) زيادة لا بد منها، وليست في النسخ.
(4) في (ز) و (ط) و (م): الراقي.
(5) بياض في (ز).

(1/240)


حَمْلِ واحدٍ من هذه المعاني على “الرُّقِيِّ” لما بَيَّنَّاهُ، والله أعلم.

فصل
ومن أسرار هذه السورة أنَّه – سبحانه – جمع فيها لأوليائه بين جمال الظاهر والباطن؛ فَزَيَّنَ وجوهَهُم بالنَّضْرَة، وبواطنَهم بالنَّظَر إليه، فلا أَجْمَلَ لبواطنهم، ولا أنعم، ولا أحلى؛ من النَّظَر إليه. ولا أجمل لظواهرهم من نَضْرَةِ الوجه، وهي إشراقه وتحسينه وبهجته، وهذا كما قال في موضع آخر (1): {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11)} [الإنسان: 11].
ونظيره قوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف: 26]؛ فهذا جمال الظاهر وزينَتُهُ، ثُمَّ قال: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}؛ فهذا جمال الباطن وزينَتُهُ (2).
ونظيره قوله – عزَّ وجلَّ -: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)} [الصافات: 6]؛ فهذا جمال ظاهرها، ثُمَّ قال: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)} [الصافات: 7]؛ فهذا جمال باطنها.
ونظيره قوله عن امرأة العزيز بعد أن قالت ليوسف: {اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ}؛ فهذا جمال الظاهر (3)، ثُمَّ وصَفَتْهُ بجمال باطنه وعِفَّتِه فقالت: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف: 31 – 32]__________
(1) ساقط من (ك).
(2) ساقط من (ح) و (م).
(3) “فهذا جمال الظاهر” ساقط من (ح) و (م).

(1/241)


فَذِكْرُها لهذا (1) هو من (2) تمام وصفها لمحاسنه، وأنَّه في غاية المحاسن ظاهرًا وباطنًا.
وينظر إلى هذا المعنى ويناسبه قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) } [طه: 118, 119]، فقابَلَ بين الجوع والعُرِيِّ؛ لأنَّ الجوعَ ذُلُّ الباطن، والعُرِيَّ (3) ذُلُّ الظاهر. وقابَلَ بين الظمأ وهو حَرُّ الباطن، والضُّحَى وهو حرُّ الظاهر بالبروز للشمس.
وقريبٌ من هذا قوله – عزَّ وجلَّ -: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]؛ ذَكَرَ الزادَ الظاهر الحِسِّيَّ (4) ، والزادَ الباطن المعنويَّ، فهذا زاد سفر الدنيا، وهذا زاد سفر الآخرة.
ويُلِمُّ به قول هود: {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52]؛ فالأوَّل: القوَّة الظاهرة (5) المنفصلة عنهم، والثاني: الباطنة المتصلة بهم.
ويشبهه قوله تعالى: {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} [الطارق: 10]، فنفى عنه (6) الدَّافِعَيْن: الدافع من نفسه وقُوَاهُ (7) ، والدافع من خارجٍ، وهو النَّاصر.
__________
(1) في (ز): لها.
(2) ساقط من (ز).
(3) “ذُلُّ الباطن، والعُرِيَّ” ملحق بهامش (ح).
(4) تصحفت في (ز) إلى: الحسنى!
(5) في (ز): قوة الظاهر.
(6) في (ن) و (ك) و (ح) و (ط) و (م): عنهم.
(7) في (ن) و (ك) و (ح) و (ط) و (م): أنفسهم وقواهم.

(1/242)


فصل

ومن أسرارها أنَّها تضمَّنَتْ إثبات قدرة الرَّبِّ – تعالى – على ما عَلِمَ أنَّه لا يكون ولا يفعله، وهذا على أحد القولين في قوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)} [القيامة: 4]، فأخبر أنَّه تعالى قادرٌ عليه ولم يفعله ولم يُرِدْهُ.
وأصرحُ من هذا قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)} [المؤمنون: 18]، وهذا – أيضًا – على أحد القولين، أي: تَغُورُ العُيون في الأرض فلا يُقْدَرُ على الماء (1).
وقال ابن عباس: “يريد أنَّه سيغيض (2) فيذهب”، فلا يكون من هذا الباب، بل يكون من باب القدرة على ما سيفعله.
وأصرح من هذين الموضعين قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام: 65]، وقد ثبت عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – أنَّه قال عند نزول هذه الآية: “أَعُوذُ بِوَجْهِك” (3)، ولكن قد ثبت عنه
__________
(1) فيكون هذا من باب الوعيد والتهديد، “أي: كما قدرنا على إنزاله فنحن قادرون على أن نذهب به بوجهٍ من الوجوه”. “فتح القدير” (3/ 538).
وأهل التفسير لا يكادون يعدلون عن هذا الوجه في تأويل الآية، كما في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)}.
انظر: “جامع البيان” (9/ 206)، و”الجامع” (12/ 112)، و”تفسير ابن كثير” (5/ 470).
(2) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: يستغيض.
وغاضَ الماءُ يَغيضُ غَيْضًا: إذا قَلَّ ونَقَص أو غاب في الأرض. “لسان العرب” (10/ 157).
(3) أخرجه البخاري في “صحيحه” رقم (4628، 7313، 7406) من حديث =

(1/243)


– صلى الله عليه وسلم – أنَّه لا بدَّ أن يقع في أُمَّته خَسْفٌ (1)، ولكن لا يكون عامًّا، وهذا عذابٌ من تحت الأرجل، ورُوي عنه أنَّه كائنٌ في الأُمَّة قَذْفٌ (2) أيضًا، وهذا عذابٌ من فوق، فيكون هذا من باب الإخبار بقدرته على ما سيفعله.
وإن أُريد به القدرة على عذاب الاستئصال، فهو من القدرة على ما لا يريده.
وقد صَرَّحَ – سبحانه – بأنَّه لو شاء لفعل ما لم يفعله في غير موضع من كتابه كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13] ونظائره.
__________
= جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما -.
(1) أخرج مسلم في “صحيحه” رقم (2901) من حديث حذيفة بن أَسِيد الغِفَاري – رضي الله عنه – قال: اطَّلع النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – علينا ونحن نتذاكر، فقال: “ما تذاكرون؟ ” قالوا: نذكر الساعة، قال: “إنَّها لن تقوم حتى تَرَوْنَ قبلها عشر آياتٍ، فذكر: الدخانَ، والدجَّالَ، والدَّابَّةَ، وطلوعَ الشمس من مغربها، ونزولَ عيسى ابن مريم عليه السلام، ويأجوجَ ومأجوجَ، وثلاثةَ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بالمشرق، وخَسْفٌ بالمغرب، وخَسْفٌ بجزيرة العرب، وآخِرُ ذلك نارٌ تخرج من اليمن، تطرد النَّاس إلى محشرهم”.
(2) عن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “يكون في أُمَّتي خَسْفٌ، ومَسْخٌ، وقذْفٌ”.
أخرجه: أحمد في “المسند” (2/ 163) رقم (6521)، وابن ماجه في “سننه” رقم (4135)، والحاكم في “المستدرك” (4/ 445) وغيرهم.
وللحديث شواهد كثيرة، قال الحافظ: “وفي أسانيدها مقالٌ غالبًا، لكن يدل مجموعها على أنَّ لذلك أصلًا”. “الفتح” (8/ 148).
وصححه الألباني بشواهده في “السلسلة الصحيحة” رقم (1787).

(1/244)


وهذا ممَّا لا خفاء فيه بين أهل السُّنَّة، وبه يتبيَّنُ فساد قولِ من قال: إنَّ القدرة لا تكون إلا مع الفعل لا قبله، وأنَّ الصواب التفصيل بين القدرة الموجِبة والمصحِّحَة، فَنَفْيُ القدرة عن الفاعل قبل الملابسة -مطلقًا – خطأٌ، والله أعلم.

فصل
ومن أسرارها أنَّها تضمَّنَت التَّأَنِّي والتثبُّتَ في تلقِّي العلم، وأن لا يحمل السامعَ شدَّةُ محبته وحرصه وطلبه على مبادرة المعلِّم بالأخذ قبل فراغه من كلامه، بل من آداب الرَّبِّ التي أدَّبَ بها نبيَّهُ – صلى الله عليه وسلم – أَمْرُهُ بترك الاستعجال على تلقِّي الوحي، بل يصبر إلى أن يفرغ جبريل من قراءته، ثُمَّ يقرأه بعد فراغه عليه. فهكذا ينبغي لطالب العلم ولسامعه أن يصبر على معلِّمه حتَّى يقضي كلامه، ثُمَّ يعيده عليه، أو يسأله عمَّا أشكَلَ عليه منه، ولا يبادره قبل فراغه.
وقد ذكر الله – تعالى – هذا المعنى في ثلاثة مواضع من كتابه؛ هذا أحدها.
والثاني: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 113, 114].
والثالث: قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)} [الأعلى: 6, 7]، فضَمِنَ لرسوله أنَّه لا ينسى ما أَقْرَأَهُ إيَّاهُ، وهذا يتناول حال القراءة وما بعدها.
وقد ذَمَّ الله – سبحانه – في هذه السورة من يُؤْثر العاجلة على

(1/245)


الآجلة، وهذا لاستعجاله بالتمتُّع بما يَفْنَى، وإيثاره على ما يَبْقَى، ورتَّبَ كلَّ ذَمٍّ ووعيدٍ في هذه السورة على هذا الاستعجال، ومحبَّةِ العاجلة على الآجلة (1)، فإرادتُهُ أن يَفْجُرَ أمَامَهُ هو من استعجاله وحُبِّ العاجلة، وتكذيبُهُ بيوم القيامة من فَرْطِ حُبِّ العاجلة، وإيثاره لها، واستعجاله بنصيبه، وتمتُّعه به قبل أَوَانِه، ولولا حُبُّ العاجلة وطلب الاستعجال لتمتَّعَ به في الآجلة أكمل ما يكون. وكذلك تكذيبُه، وتَوَلِّيه، وتركُهُ الصلاةَ هو من استعجاله ومحبته العاجلة.
والرَّبُّ – سبحانه – وصف نفسه بضدِّ ذلك، فلم يَعْجَل على عبده، بل أمهله إلى أن بلغت “الرُّوْح” التراقي، وأيقن بالموت، وهو إلى هذه الحال مستمِرٌّ على التكذيب والتولِّي، والرَّبُّ – تعالى – لا يعاجله (2)؛ بل يُمْهِلُه، ويُحْدِثُ له الذِّكْرَ شيئًا بعد شيءٍ، ويُصَرِّفُ له الآياتِ، ويضربُ له الأمثالَ، ويُنَبِّهه على مبدئه: من كونه نطفةً من مَنيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ علقةً، ثُمَّ خلقًا سويًّا، فلم يَعْجَلْ عليه بالخلق وَهْلَةً واحدةً، ولا بالعقوبة إذ كذَّبَ خَبَرَهُ، وعصى أمرَهُ؛ بل كان خَلْقُهُ وأمرُهُ وجزاؤُهُ بعد تَمَهُّلٍ، وتدريجٍ، وأناةٍ، ولهذا ذَمَّ الإنسانَ بالعجلة بقوله تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)} [الإسراء: 11]، وقال تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)} [الأنبياء: 37].
__________
(1) “على الآجلة” ساقط من (ح) و (م).
(2) بعده في (ز) زيادة: ولا، ولا مكان لها.

(1/246)


فصل

ومن أسرارها أنَّ (1) إثباتَ النُّبوَّةِ والمَعَاد يُعْلَمُ بالعقل، وهذا أحد القولين لأصحابنا وغيرهم، وهو الصواب؛ فإنَّ الله – سبحانه – أنكر على مَنْ حَسِبَ أنَّه يُتْرَكُ سُدَىً: فلا يُؤْمَر، ولا يُنْهَى، ولا يُثَاب، ولا يُعَاقَب.
ولم يَنْفِ – سبحانه – ذلك بطريق الخبر المجرَّدِ، بل نفاه نَفْيَ ما لا يليق نسبته إليه، ونَفْيَ مُنْكِرٍ على من حكم به وظنَّه.
ثُمَّ استدلَّ – سبحانه – على فساد ذلك، وبيَّن أن خَلْقَهُ الإنسانَ في هذه الأطوار، وتنقُّلَه فيها طَوْرًا بعد طَوْرٍ حتَّى بلغ نهايته؛ يأبى أن يتركه سُدَىً، وأنَّه تنَزَّهَ عن ذلك كما تَنَزَّهَ عن العَبَثِ، والعَيْبِ، والنَّقْصِ.
وهذه طريقة القرآن في غير موضع كما قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115, 116]، فجَعَلَ كمَالَ مُلْكه، وكونَهُ – سبحانه – الحقَّ، وكونَهُ لا إله إلا هو، وكونَهُ ربَّ العرش المستلزِم لربوبيته لكلِّ ما دونه = مبطِلًا لذلك الظَّنِّ الباطل، والحكم (2) الكاذب.
وإنكارُ هذا الحُسْبَان عليهم مثلُ إنكاره عليهم حُسْبَانَهم أنَّه لا يسمع سِرَّهم ونجواهم، وحُسْبَانَ أنَّه لا يراهم ولا يقدر عليهم، وحُسْبَانَ أنَّه يُسَوِّي بين أوليائه وبين أعدائه في محياهم ومماتهم، وغير ذلك ممَّا هو منزَّهٌ عنه تنزُّهَهُ (3) عن سائر العيوب والنقائص، وأنَّ نسبة
__________
(1) من (ح) و (م)، وسقط من باقي النسخ.
(2) ساقط من (ز).
(3) في (ك) و (ح) و (م): تنزيهه.

(1/247)


ذلك إليه كنسبة ما يَتَعَالى عنه ممَّا لا يليق به من اتخاذ الولد والشريك ونحو ذلك ممَّا ينكره – سبحانه – على مَنْ حَسِبَهُ أشدَّ الإنكار، فدلَّ على أنَّ ذلك قبيحٌ، مُمْتَنِعٌ نسبته إليه، كما يمتنع أن يُنْسَب إليه سائر ما ينافي كماله المقدَّس.
ولو كان نَفْيُ تَرْكِهِ سُدَىً إنَّما يُعْلَم بالسمع المجرَّد لم يقل بعد ذلك {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً} [القيامة: 37] إلى آخره، ممَّا يدلُّ على أنَّ تعطيل أسمائه وصفاته ممتنعٌ، وكذلك تعطيل مُوجِبِها ومقتضاها، فإنَّ مُلْكَهُ الحقَّ يستلزم: أمرَهُ، ونهيَهُ، وثوابَهُ، وعقابَهُ.
وكذلك يستلزم إرسالَ رُسُله، وإنزالَ كتبه، وبعثَ العباد ليومٍ يُجْزَى فيه المُحْسِنُ بإحسانه، والمُسيءُ بإساءته، فمن أنكر ذلك فقد أنكر حقيقةَ مُلْكِهِ ولم يُثبِت له المُلْكَ الحقَّ، ولذلك كان مُنْكِر البعث (1) كافرًا بربِّه، وإن زعمَ أنَّه يُقِرُّ بصَانِع العالَم (2)، فلم يُؤْمِن بالمَلِكِ الحقِّ الموصوفِ بصفات الجلال، المستحقِّ لنعوتِ الكمال.
كما أنَّ المعطِّل لكلامه، وعلوِّه على خلقه (3) لم يُؤْمِن به سبحانه، فإنَّه آمن بربٍّ لا يتكلَّم، ولا يأمر، ولا ينهى، ولا يصعد إليه قولٌ، ولا عملٌ، ولا ينزل من عنده مَلَكٌ، ولا أمرٌ (4)، ولا نهيٌ، ولا تُرفع إليه الأيدي. ومعلومٌ أنَّ هذا الذي أقَرَّ به رَبٌّ مقدَّر في ذهنه، ليس هو رَبَّ العالمين، وإلهَ المرسلين.
__________
(1) في (ن) و (ك) و (ح) و (م): ذلك.
(2) ساقط من (ز).
(3) في (ز): عرشه، ثم صححت بين الأسطر.
(4) ساقط من (ز).

(1/248)


وكذلك إذا اعتبرتَ (1) اسمه “الحَيَّ” وجدته مقتضيًا لصفات كماله من علمه، وسمعه، وبصره، وقدرته، وإرادته، ورحمته، وفعله ما يشاء.
واسمه “القَيُّوم” مُقْتَضٍ لتدبيره أمر العالَم العُلْويِّ والسُّفْليِّ، وقيامه بمصالحه، وحفظه له.
فمن أنكر صفات كماله لم يؤمن بأنَّه “الحَيُّ القيُّومُ”، وإنْ أقرَّ بذلك أَلْحَدَ في أسمائه، وعطَّلَ حقائقها، حيث لم يمكنه تعطيل ألفاظها، وبالله التوفيق.
__________
(1) “إذا اعتبرتَ” ساقط من (ك).

(1/249)


فصل

ومن ذلك قوله تعالى: {كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)} [المدثر: 32 – 37].
أقْسَمَ – سبحانه – بالقمر الذي هو آيةُ الليل، وفيه من الآيات الباهرة الدالَّة على ربوبية خالقه وبارئه، وحكمته، وعلمه، وعنايته بخلقه = ما هو معلومٌ بالمشاهدة.
وهو – سبحانه – أقسَمَ بالسماء وما فيها ممَّا لا نَرَاهُ من الملائكة، وما فيها ممَّا نَرَاهُ من الشمس، والقمر، والنُّجُوم، وما يحدث بسبب حركات الشمس والقمر من الليل والنَّهار، وكلُّ (1) ذلك آيةٌ من آياته، ودلالةٌ من دلائل ربوبيته (2).
ومن تدبَّرَ أمرَ هذين النيِّرَيْن العظيمين وجدهما من أعظم الآيات في خَلْقِهما، وجِرْمِهما، ونُورِهما، وحركتهما على نهجٍ واحدٍ، لا يَنِيَانِ (3)، ولا يَفْتُرَان، دَائِبَيْن، ولا يقع في حركاتهما اختلافٌ بالبُطْءِ، والسرعةِ، والرجوعِ، والاستقامةِ، والانخفاضِ، والارتفاعِ، ولا يجري أحدُهما في فَلَكِ صَاحبه، ولا يدخل عليه في سلطانه، ولا تدرك الشمسُ القمرَ، ولا يجيء الليلُ قبل انقضاء النَّهار، بل لكلٍّ حركةٌ مقدَّرَةٌ، ونهجٌ معيَّنٌ لا يَشْركه فيه الآخر، كما أنَّ له تأثيرًا ومنفعةً لا يَشْركه فيها
__________
(1) بعده في (ك) و (ح) زيادة: من.
(2) في (ز) العبارة هكذا: وكلٌّ من ذلك آية من آياته الدالة على ربوبيته.
(3) “يَنِيَان”: من وَنَى في الأمر، إذا ضَعُف وفَتَر. “المصباح المنير” (928).

(1/250)


الآخر.
وذلك ممَّا يدلُّ مَنْ له أدنى عقلٍ على أنَّه بتسخير مسخِّرٍ، وأَمْرِ آمِرٍ، وتدبير مدبِّرٍ، بَهَرَتْ حكمتُه العقولَ، وأحاطَ علمُه بكلِّ دقيقٍ وجليلٍ، وفوق ما علمه النَّاس من الحِكَمِ التي (1) في خَلْقِهما ما لا تصل إليه عقولهم، ولا تنتهي إلى مبادئها أوهامهم، فغايتنا الاعتراف بجلال خالقِهما، وكمال حكمته، ولطف تدبيره، وأن نقول ما قاله أولو الألباب قبلنا: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)} [آل عمران: 191].
ولو أنَّ العبدَ وُصِفَ له جِرْمٌ أسودُ مستديرٌ، عظيمُ الخَلْقِ، يبدو فيه النُّور كخيطٍ مُتَسَخِّنٍ، ثُمَّ يتزايد كلَّ ليلةٍ حتَّى يتكَامَلَ نورُه، فيصير أضوأَ شيءٍ (2)، وأحسنَه، وأجملَه، ثُمَّ يأخذ في النقصان حتَّى يعود إلى حاله الأوَّل، فيحصل بسبب ذلك معرفةُ الأشهر والسنين، وحسابُ آجال العالم من مواقيت حَجِّهم، وصلاتهم، ومواقيت إجَاراتهم، ومُدَايَنَاتهم، ومُعَامَلاتهم التي لا تقوم مصالحهم إلا بها، فمصالح الدنيا والدِّين متعلِّقةٌ بالأهِلَّة.
وقد ذكر – سبحانه – ذلك في ثلاث آياتٍ من كتابه:
أحدها (3): قوله – عزَّ وجلَّ -: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189].
__________
(1) في جميع النسخ: الذي، والصواب ما أثبت.
(2) ساقط من (ز).
(3) كذا في النسخ، والوجه: إحداها.

(1/251)


والثانية: قوله – عزَّ وجلَّ -: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} الآية [يونس: 5].
والثالثة: قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} الآية [الإسراء: 12].
فلولا ما يُحْدِثُه الله – سبحانه – في آية الليل من زيادة ضوئها ونقصانه؛ لم يُعْلم ميقات الحجِّ، والصوم، والعِدَدِ، ومُدَّةِ الرَّضَاعِ، ومدَّةِ الحمْلِ، ومُدَّةِ (1) الإجارة، ومُدَّةِ آجال المعاملات.
فإن قيل: كان يمكن عِلْمُ هذا بحركة الشمس، وبالأيام التي تُحْفَظُ بطلوع الشمس وغروبها، كما يعرف أهل الكتابين مواقيت صيامهم وأعيادهم بحساب الشمس.
قيل: هذا وإن كان ممكنًا إلا أنَّه يَعْسُرُ ضَبْطُه، ولا يقف عليه إلا الآحاد من النَّاس، ولا ريب أنَّ معرفةَ أوائل الشهور وأوساطِها وأواخِرِها بالقمر أمرٌ يشترك فيه النَّاس، وهو أسهل من معرفة ذلك بحساب الشمس، وأقل اضطرابًا واختلافًا، ولا يحتاج إلى تكلُّفِ حسابٍ، وتقليدِ (2) من لا يعرفه من النَّاس لمن يعرفه، فالحكمةُ الباهرةُ التي في تقدير السنين والشهور بسير القمر أظهرُ، وأنفعُ، وأصلحُ، وأقلُّ اختلافًا من تقديرها بسير الشمس.
فالرَّبُّ – جل جلاله – دبَّر الأهِلَّةَ بهذا التدبير العجيب لمنافع خلقه
__________
(1) ساقط من (ز).
(2) تصحفت في (ك) إلى: تقليل.

(1/252)


في مصالح دينهم ودنياهم، مع ما يتَّصل بذلك من الاستدلال به على وَحْدَانِيَّته، وكمال حكمته، وعلمه، وتدبيره. فشهادةُ الحقِّ (1) بتغيُّر (2) الأجرام الفلكية، وقيامُ أدلَّة الحدوث والخَلْق عليها. فهي آياتٌ ناطِقةٌ بلسان الحال على تكذيب الدهريَّةِ، وزنادقةِ الفلاسفة، والملاحدة؛ القائلين: بأنَّها أَزَلِيَّةٌ أبَدِيَّةٌ لا يتطرَّقُ إليها التغيير، ولا يمكن عَدَمُها.
فإذا تأمَّلَ البصيرُ “القَمَرَ” مثلًا، وافتقَارَهُ إلى مَحَلٍّ يقوم به، وسيرَهُ دائبًا (3) لا يتغيَّر، مُسَيَّرٌ، مسخَّرٌ، مدبَّرٌ (4)، وهبوطَهُ تارةً، وارتفاعَهُ تارةً، وأُفُولَهُ تارةً، وظهورَهُ تارةً، وذهابَ نوره شيئًا فشيئًا، ثُمَّ عَوْدَهُ إليه كذلك، وذهابَ ضوئه جملةً واحدةً حتَّى يعود قطعةً مظلمةً بالكُسُوف = عَلِمَ – قطعًا – أنَّه مخلوقٌ مربوبٌ، مسخَّرٌ تحت أمر خالقٍ قاهرٍ مسخِّرٍ له كما يشاء، وعَلِمَ أنَّ الرَّبَّ – سبحانه – لم يخلق هذا باطلًا، وأنَّ هذه الحركة فيه لا بدَّ أن تنتهي إلى الانقطاع والسكون، وأنَّ هذا الضوءَ والنُّورَ لا بدَّ أن ينتهي إلى ضِدَّه، وأنَّ هذا السلطان لا بدَّ أن ينتهي إلى العَزْل، وسيجمع بينهما جامع المتفرِّقَات بعد أن لم (5) يكونا مجتمعَين (6)، ويذهب بهما حيث شاء، ويُرِي المشركين من عَبَدَتِهما حالَ آلهتهم التي عبدوها من دونه، كما يُرِي عُبَّادَ
__________
(1) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: الخلق.
(2) من (ح)، وفي باقي النسخ: بتغيير.
(3) ملحق بهامش (ك).
(4) ساقط من (ز).
(5) ساقط من (ز).
(6) بياض في (ز).

(1/253)


الكواكبِ انتثارَها، وعُبَّادَ السماءِ انفطارها، وعُبَّادَ الشمسِ تكويرها، وعُبَّادَ الأصنام إهانتها وإلقاءها في النَّار أحقرَ شيءٍ وأذلَّه وأصغَرَهُ، كما أَرَى عُبَّادَ العِجْل في الدنيا حالَه، ومَبَارِدُ عِبَادِهِ تَسْحَقُهُ وتَمْحَقُهُ، والرِّيحُ تمزِّقُه وتَذْرُوه وتَنسِفُه في اليَمِّ، وكما أَرَى عُبَّادَ الأصنام في الدنيا صُوَرَها مكسَّرَةً مُخَرْدَلَةً مُلقاةً بالأمكنة القَذِرَة، ومعاوِلُ الموحِّدِين قد هشَّمَت منها تلك الوجوه، وكسَّرَت تلك (1) الرؤوس، وقطَّعت تلك الأيدي والأرجل التي كانت لا يُوصَلُ إليها بغير التقبيل والاستلام.
وهذه سُنَّتُهُ التي لا تُبدَّل، وعادته التي لا تُحَوَّل: أنَّه يُرِي عابِد غيره حالَ معبوده في الدنيا والآخرة، وإن كان المعبودُ غير راضٍ بعبادته (2) أَرَاهُ تَبَرِّيهِ منه، ومعاداته له؛ أحوجَ ما يكون إليه، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42]، ويعلم الذين كفروا أنَّهم كانوا كاذبين.
تأمَّلْ سُطُورَ الكائنَاتِ فإنَّها … من المَلِكِ الأعلَى إليكَ رَسَائِلُ
وقد خُطَّ فيها لو تأمَّلْتَ خَطَّها … “أَلَا كُلُّ شيءٍ ما خَلَا اللهَ باطِلُ” (3)
__________
(1) ساقط من (ن) و (ك) و (ط).
(2) في (ح) و (م): بعبادة غيره.
(3) البيتان لركن الدِّين ابن القَوبَع المالكي؛ محمد بن محمد بن عبد الرحمن الجعفري التونسي (738 هـ)، شيخ الديار المصرية والشامية.
انظر: “أعيان العصر” (5/ 163)، و”الدرر الكامنة” (4/ 183)، و”بغية الوعاة” (1/ 228)، و”ريحانة الألبا” (1/ 216)، ولفظه:
تأمَّلْ صحيفَاتِ الوُجُودِ فإنَّها … من الجانب السَّامي إليكَ رَسَائلُ
وقد خطَّ فيها إنْ تأمَّلْتَ خطَّهَا … “أَلَا كلُّ شيءٍ ما خَلَا الله باطِلُ”
وعجز البيت الثاني مُضَمَّنٌ من قصيدةٍ للبيد بن ربيعة “ديوانه” (145).

(1/254)


ولو شاء – تعالى – لأَبْقَى “القَمَرَ” على حالةٍ واحدةٍ لا يتغيَّر، وجعل التغيُّرَ في “الشمس”، ولو شاء لَغَيَّرَهُما معًا، ولو شاء لأبقاهما معًا على حالةٍ واحدةٍ، ولكنْ يُرِي عبادَه آياته في أنواع تصاريفها لِيَدُلَّهُم على أنَّه اللهُ الذي لا إله إلا هو المَلِكُ الحقُّ المُبِينُ، الفعَّالُ لما يريد {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].
وأمَّا تأثير “القَمَرِ” في ترطيب أبدان الحيوان والنَّبات، وفي المياه، وجَزْرِ البحر ومَدِّهِ، وبُحْرَانات (1) الأمراض، وتنقلِها من حالٍ إلى حالٍ، وغير ذلك من المنافع = فأمرٌ ظاهِرٌ.

فصل
وأمَّا إقسامُه – سبحانه – بـ “الليل إذ أدبر” فَلِمَا في إدباره وإقبال النَّهار من أَبْيَنِ الدلالات الظاهرة على المبدأ والمَعَاد، فإنَّه مبدأٌ ومَعَادٌ يوميٌّ مشهودٌ بالعِيَان، بَيْنا الحيوان في سكون الليل وقد هدأت حركاتهم، وسكنت أصواتهم، ونامت عيونهم، وصاروا إخوان الأموات، إذ أقبل من (2) النَّهار دَاعِيه، وأسمعَ الخلائقَ مُنَادِيه، فانتشرت منهم الحركات، وارتفعت منهم الأصوات، حتَّى كأنَّهم قاموا
__________
(1) “بُحْرانات الأمراض”: جمع (بُحْرَان)، وهو عند الأطباء: التغيُّر الذي يحدُثُ للعليل دفعةً في الأمراض الحادَّة، ولفظُه مولَّد.
قال الشيخ داود الأنطاكي: “البُحْران – بالضمِّ – لفظةٌ يونانية، وهو عبارةٌ عن الانتقال من حالةٍ إلى أخرى، في وقتٍ مضبوط بحركةٍ عُلْوِيةٍ، وأكثر ارتباطه بحركة القمر. . .”.
انظر: “الصحاح” (2/ 586)، و”تاج العروس” (10/ 121) وفيه تتمة كلام الأنطاكي.
(2) ساقط من (ك).

(1/255)


أحياءً من القبور، يقول قائلهم: “الحَمْدُ للهِ الذي أحيَانَا بعدَمَا أمَاتَنَا وإليه النُّشُور” (1)، فهو مَعَادٌ جديدٌ، أَبْدَأَهُ وأَعَادَهُ الذي يُبْدِئُ ويُعِيدُ، فمَنْ ذَهَب بالليل وجاء بالنَّهار سوى الواحد القهَّار؟
فمن تأمَّلَ حال الليلِ إذا عَسْعَسَ وأَدْبَرَ، والصُّبْحِ إذا تنفَّسَ وأَسْفَرَ، فهزمَ جيوشَ الظلام بنَفَسِهِ، وأضاءَ أُفُقَ العالَم بِقَبَسِه، وفَلَّ كتائبَ المواكب بعساكره، وأضحكَ نواحي الأرض بتباشِيره وبشائره، فيالَهُما آيتان شاهدتان بوحدانية مُنْشِئِهما، وكمالِ ربوبيته، وعظيم قدرته وحكمته.
فتبارَك الذي جعل طلوعَ الشمس وغروبَها مقيمًا لسلطان الليل والنَّهار، فلولا طلوعها لبَطَلَ أمرُ العالَم كلِّه، فكيف كان النَّاس يَسْعَون في معايشهم، ويتصرَّفُون في أمورهم؛ والدنيا مظلمةٌ عليهم؟! وكيف كانت تَهْنِيهم الحياة مع فقْد لذَّة النُّورِ وروحه؟! وأىُّ ثمارٍ ونباتٍ وحيوانٍ كان يوجد؟! وكيف كانت تتمُّ مصالح أبدان الحيوان والنَّبَات؟! ولولا غروبُها لم يكن للنَّاس هُدُوءٌ ولا قَرَارٌ (2)، مع عِظَمِ حاجتهم إلى الهُدُوءِ؛ لراحة أبدانهم، وجُمُومِ حواسِّهم (3). فلولا جُثُوم هذا الليل
__________
(1) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (6312، 6314، 6324، 7394) من حديث حذيفة – رضي الله عنه -، ورقم (6325، 7395) من حديث أبي ذرٍّ – رضي الله عنه -. وأخرجه: مسلم في “صحيحه” رقم (2711) من حديث البراء – رضي الله عنه -.
(2) في (ز): هو ولا قدار!
(3) في (ز): جمومٌ حواسمهم، وفي (ن): جمومٌ حواسم! والمثبت من (ح) و (م) و (ط).
و”الجُمُوم”: مصدر جَمَّ يَجُمُّ: اجتَمَع وكَثُر.
والمعنى: أنَّه بغروب الشمس تهدأ الحواسُّ وتسكن، فتجتمع فيها قُوَاها من =

(1/256)


عليهم بظلمته لَمَا هَدَأُوا، ولا قَرُّوا، ولا سكنوا، بل جعله أحكم الحاكمين سَكَنًا ولباسًا، كما جعل النَّهار ضياءً ومعاشًا.
ولولا الليل وبَرْدُه لاحترقت أبدان النَّبَات والحيوان من دوام (1) شُرُوق الشمس عليها، وكان يحترق ما عليها من نباتٍ وحيوانٍ، فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن جعلها سراجًا يطلع على العالم في وقت حاجتهم إليه، ويغيب في وقت استغنائهم عنه. فطُلُوعُه لمصلحتهم، وغيبته لمصلحتهم، وصار النُّور والظُّلْمة – على تضادِّهِما – متعاوِنَين مُتظَاهِرَيْن على مصلحة هذا العالَم وقِوَامه. فلو جعل الله – سبحانه – النَّهار سرمدًا إلى يوم القيامة، أو الليل سرمدًا إلى يوم القيامة؛ لفاتت مصالح العالم، واشتدت الضرورة إلى تغيير ذلك وإزالته بضدِّه.
وتأمَّلْ حكمته – سبحانه – في ارتفاع الشمس وانخفاضها لإقامة هذه الأزمنة (2) الأربعة من السَّنَة، وما في ذلك من مصالح الخلق:
ففي الشتاء تَغُور الحرارة في الشجر والنَّبَات، فيتولَّدُ منها موادُّ الثِّمار، ويَكثُفُ (3) الهواءُ، فينشأُ منه السَّحاب، وينعقد (4) ، فيحدث المطر الذي به حياةُ الأرض، ونَمَاءُ أبدان الحيوان والنَّبَات، وحصولُ
__________
= جديد، فيعود لها نشاطها.
انظر: “مختار الصحاح” (127)، و “لسان العرب” (2/ 366).
(1) ساقط من (ز).
(2) سقطت صفحة كاملة من (ك)، تبدأ من قوله: “وأسمَعَ الخلائق مناديه. . .” إلى هنا!
(3) في جميع النسخ: ويكف، والصواب ما أثبته.
(4) في (ن) و (ح) و (م): ويتعقد.

(1/257)


الأفعال والقُوَى، وحركاتُ الطبائع.
وفي الصيف يَحْتَدِمُ (1) الهواءُ، فَتَنْضُج الثمارُ، وتشتدُّ الحُبُوبُ، ويَجِفُّ وجهُ الأرض، فيتهيَّأ للعمل.
وفي الخريف يَصْفُو الهواءُ، وتبرد الحرارة، ويمتدُّ الليل، وتستريح الأرض والشجر للحملِ والنَّبَاتِ مرةً ثانيةً، بمنزلة راحة الحامل بين الحَمْلَين.
ففي هذه الأزمنة (2) مَبْدَأٌ ومَعَادٌ مشهودٌ، وشاهِدٌ بالمبدأ والمَعَاد الغَيبِيِّ.
والمقصود أنَّ بحركة هذين النَّيِّرَيْن تتمُّ مصالح العالم، وبذلك يظهرُ الزَّمَانُ، فإنَّ الزَّمَانَ مقدارُ الحركة.
فـ “السَّنَةُ الشَّمْسيَّةُ” مقدارُ سير الشمس من نقطة “الحَمَل” (3) إلى
__________
(1) في جميع النسخ: يخدم، والصواب ما أثبته.
والاحتدام: شِدَّة الحرِّ، يقال: احتدم النَّهار؛ إذا اشتدَّ حَرُّهُ، ويومٌ مُحْتَدِمٌ: شديد الحَرِّ.
انظر: “أساس البلاغة” (1/ 160)، و”لسان العرب” (3/ 89).
(2) سَهَا المؤلف – رحمه الله – عن فصل “الربيع”، وقد ذكره في “الصواعق المرسلة” (4/ 1570) على نسق كلامه هنا.
(3) “الحَمَلُ”: أحد بروج السماء، وعددها اثنا عشر برجًا عند العرب وجميع الأمم، وقد يسمى بـ “الكَبْش”، والشمس تقطع السماء في سنة كاملة، وتقيم في كل برجٍ شهرًا.
انظر: “الأنواء” لابن قتيبة (103، 120، 128)، و”الأنواء والأزمنة” لابن عاصم الثقفي (24، 31 – 32).

(1/258)


مثلها، و”السَّنَةُ القَمَريَّةُ” مُقَدَّرَةٌ بسير القَمَر، وهو أقرب إلى الضبطِ، واشتراكِ النَّاس في العلم به. وقَدَّرَ أحكمُ الحاكمين تنقلَهُما في منازلهما لِمَا في ذلك من تمام الحكمة، ولُطْفِ التدبير؛ فإنَّ الشمس لو كانت تطلع وتغرب في موضعٍ واحدٍ لا تتعدَّاهُ لما وصل ضوءُها وشُعَاعُها إلى كثير من الجهات، فكان نَفْعُها يُفْقَدُ هناك، فجعل الله – سبحانه – طلوعَها دُوَلًا بين الأرض؛ لينال نفعُها وتأثيرُها البقاعَ، فلا يبقى موضعٌ (1) من المواضع التي يمكن أن تطلع عليها إلا أخذ بقسطه من نفعها.
واقتضى هذا التدبيرُ المُحْكَمُ أن وقع مقدار الليل والنَّهار على أربع وعشرين ساعةً، ويأخذ كلٌّ منهما (2) من صاحبه، ومنتهى كل منهما إذا امتدَّ خمس عَشْرَةَ ساعةً، فلو زاد مقدار النَّهار (3) على ذلك إلى خمسين ساعة – مثلًا – أو أكثر لاختلَّ نظام العالم، وفسَدَ أكثر الحيوان والنَّبَات، ولو نقص مقداره عن ذلك لاختَلَّ النِّظَام – أيضًا – وتعطَّلَت المصالح، ولو استويا دائمًا لما اختلفت فصول السَّنَة التي باختلافها مصالح العباد (4) والحيوان، فكان في هذا التقدير والتدبير المحكَم من الآيات والمصالح والمنافع ما يشهد بأنَّ ذلك من تقدير العزيز العليم.
ولهذا يذكر – سبحانه – هذا التقدير ويُضِيفُه إلى عِزَّته وعلمه، كما قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) } [يس: 37, 38].
__________
(1) ساقط من (ز).
(2) ساقط من (ز).
(3) في (ز): الليل.
(4) ساقط من (ك)، وأُلحق بين الأسطر: النبات.

(1/259)


وقال تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)} (1) [فصلت: 9 – 12].
وقال تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)} [الأنعام: 96].
فهذه ثلاثةُ مواضع يذكرُ فيها أنَّ تقدير حركات الشمس والقمر والأجرام العُلْوِيَّةِ وما نشأ عنها كان من مقتضى عِزَّته وعلمه، وأنَّه قدَّرَهُ بهاتين الصفتين، وفي هذا تكذيبٌ لأعداء الله الملاحدة الذين يَنْفُون قدرته، واختياره، وعلمه بالمُغَيَّبَات.

فصل
وأقسَمَ – سبحانه – بهذه الأشياءِ الثلاثةِ – وهي: القمر، والليل إذا أدبر، والصبح إذا أسفر – على المَعَاد؛ لِمَا في المُقْسَم به من الدلالة على ثبوت المُقْسَم عليه، فإنَّه يتضمَّنُ كمال قدرته، وحكمته، وعنايته بخلقه، وإبداء الخَلْقِ وإعادته، كما هو مشهودٌ في إبداء النَّهار والليل وإعادتهما، وفي إبداء النُّور وإعادته في القمر، وفي إبداء الزَّمَان وإعادته الذي هو حاصِلٌ بسير الشمس والقمر، وإبداء الحيوان والنَّبَات وإعادتهما، وإبداء فصول السَّنَة وإعادتها، وإبداء ما يحدث في تلك
__________
(1) هذه الآيات بتمامها ألحقت في هامش (ن).

(1/260)


الفصول وإعادته؛ فكلُّ ذلك دليلٌ ظاهرٌ على المبدأ والمَعَاد الذي أخبرت به رُسُلُه كلُّهم عنه.
فصرَّفَ – سبحانه – الآياتِ الدَّالَّةَ على صِدْقِهِ وصِدْقِ رُسُله، ونوَّعَها، وجعلها للفِطَر تارةً، وللعقول تارةً، وللسمع تارةً، وللمشاهَدَةِ تارةً، فجعلها آفاقِيَّةً، ونفسيَّةً، ومنقولةً، ومعقولةً، ومشهودةً بالعِيَان، ومذكُورَةً بالجَنَان، فأبى الظالمون إلا كفورًا، {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)} [الفرقان: 3].
ولمَّا أقامَ الحُجَّةَ وبيَّنَ المحجَّةَ ارتهن كلَّ نفسٍ بكَسْبِها، وآخَذَها بذنبها، واستثنى من أولئك مَنْ قَبِلَ هُدَاهُ، واتَّبعَ رضاه، وهم أصحاب اليمين الذين آمنوا بالله، وصدَّقُوا المرسلين، وسلكوا غير سبيل المجرمين، الذين ليسوا من المصلِّين، ولا مِنْ مُطْعِمِي المساكين، وهم من أهل الخَوْضِ مع الخائضين، المكذِّبين بيوم الدِّين.
فهذه أربع صفاتٍ أخرجتهم من زُمْرة المفلحين، وأدخلتهم في جملة الهالكين:
الأُولَى: تَرْكُ الصلاة، وهي عمود الإخلاص للمعبود.
الثانية: تَرْكُ إطعام المسكين الذي هو أَهَمُّ مراتب الإحسان للعبيد، فلا إخلاصَ للخالق، ولا إحسانَ للمخلوق، كما قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} [الماعون: 6، 7]، وقال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)} [التوبة: 54]، وهذا ضدُّ ما وصَفَ به أصحاب اليمين بقوله

(1/261)


– عزَّ وجلَّ -: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [الأنفال: 3]، وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)} [السجدة: 16].
وقَرَنَ – سبحانه – بين هذين الأصلين في غير موضع من كتابه؛ فأمر بهما تارةً، وأثنى على فاعلهما تارةً، وتوعَّدَ بالوَيْل والعقابِ تاركَهما تارةً، فإنَّ مدارَ النَّجَاة عليهما، ولا فلاح لمن أَخَلَّ بهما.
الصفة الثالثة، والرابعة: الخَوْضُ بالباطل، والتكذيبُ بالحقِّ.
فاجتمع لهم: عدمُ الإخلاصِ والإحسانِ، والخوضُ بالباطل، والتكذيبُ بالحقِّ. واجتمع لأصحاب اليمين: الإخلاصُ، والإحسانُ، والتصديقُ بالحقِّ، والتكلُّمُ به، فاستقام إخلاصُهم، وإحسانُهم، ويقينُهم، وكلامُهم.
واستبدل أصحابُ الشِّمال بالإخلاص شركًا، وبالإحسانِ إساءةً، وباليقينِ شَكًّا وتكذيبًا، وبالكلام النافع خوضًا في الباطل. فلذلك لم تنفعهم شفاعة الشافعين، أي: لم يكن لهم (1) من يشفع فيهم، لا أنَّ شَفَاعةً تقع فيهم ولا تنفع، وهذا لمَّا أعرضوا عن التذكرة ولم يرفعوا بها رأسًا، وجَفَلُوا عن سماعها كما تَجْفُلُ حُمُرُ الوَحْشِ من الأُسْدِ أو الرُّمَاةِ.
ثُمَّ خَتَمَ السورة بأَنَّه جَمَعَ فيها بين شرعِهِ وقَدَرِهِ، وإقامةِ الحُجَّةِ عليهم بإثباتِ المشيئةِ لهم، وبيانِ مقتضى التوحيد والربوبية أنَّ ذلك إليه
__________
(1) ساقط من (ز).

(1/262)


لا إليهم. فالأوَّل: عدْلُهُ، والثاني: فضْلُهُ.
فالأوَّلُ: يوجب السعيَ، والطَّلَبَ، والحرصَ على ما يُنْجِيهم، كما يفعلون ذلك في مصالح دنياهم، بل أشدُّ.
والثاني: يوجب الاستعانة، والتوكُّل، والتفويض، والرغبة إلى مَنْ ذلك بيده لِيُسَهِّلَه، ويوفِّقَهم له. والله المستعان، وعليه التكلان.

(1/263)


فصل

ومن ذلك قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)} [الحاقة: 38 – 40] إلى آخرها.
قال مقاتل: “بما تبصرون (1) من الخلق، وما لا تبصرون منه” (2).
وقال قتادة: “أَقْسَمَ بالأشياءِ كلِّها؛ ما يُبْصَرُ منها، وما لا يُبْصَر”.
وقال الكلبي: “ما تبصرون من شيءٍ، وما لا تبصرون من شيءٍ” (3).
وهذا أَعَمُّ قَسَمٍ وقع في القرآن، فإنَّه يَعُمُّ العُلْوِيَّات والسُّفْلِيَّات، والدنيا والآخرة، وما يُرَى وما لا يُرَى، ويدخل في ذلك الملائكةُ كلُّهم، والجِنُّ، والإنسُ، والعرشُ، والكرسيُّ، وكلُّ مخلوقٍ، وذلك كلُّه من آيات قدرته وربوبيته، وهو – سبحانه – يصرِّفُ الأقسام كما يصرِّفُ الآيات.
ففي ضمن هذا القَسَم أنَّ كلَّ ما يُرَى وما لا يُرَى آيةٌ ودليلٌ على صدق رسوله، وأنَّ ما جاء به هو من عند الله، وهو كلامُهُ، لا كلامُ شاعرٍ، ولا مجنونٍ، ولا كاهنٍ.
ومن تأمَّلَ المخلوقاتِ، ما يراه منها وما لا يراه، واعتبر ما جاء به الرسول بها، ونَفَّلَ فكرته في مجاري الخلق والأمر = ظَهَرَ له أنَّ
__________
(1) من قوله تعالى: “وما لا تبصرون. . .” إلى هنا؛ ملحق بهامش (ن).
(2) “تفسيره” (3/ 395).
(3) انظر لهذه الأقوال وغيرها: “معالم التنزيل” (8/ 214)، و”الوسيط” (4/ 348)، و”المحرر الوجيز” (15/ 79).

(1/264)


هذا القرآنَ من عند الله، وأنَّه كلامه (1) ، وهو أصدق الكلام، وأنَّه حقٌّ ثابتٌ، كما أنَّ سائر الموجودات (2) – ما يُرَى منها وما لا يُرَى – حقٌّ، كما قال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) } [الذاريات: 23]، أي: إنْ كان نُطْقُكُم حقيقةً، وهو أمرٌ موجودٌ لا تُمَارُون فيه ولا تشكُّون؛ فهكذا ما أخبرتكم به من التوحيد، والمَعَاد، والنُّبوَّة: حَقٌّ، كما في الحديث: “إنَّهُ لَحَقٌّ مثلَ ما (3) أنَّكَ هَا هُنا” (4) . فكأنَّه – سبحانه – يقول: إنَّ القرآنَ حقٌّ كما أنَّ ما شاهدوه من الخلق وما لا يشاهدونه حقٌّ موجودٌ، بل لو فكَّرتُم فيما تبصرون وفيما لا تبصرون لدلَّكم ذلك على أنَّ القرآنَ حقٌّ، ويكفي الإنسانَ من جميع ما يبصره وما لا يبصره نفسُهُ، ومبدأُ خَلْقِه ونشأته، وما يشاهده من أحواله ظاهرًا وباطنًا، ففي ذلك أَبْيَنُ دلالةٍ على وحدانية الرَّبِّ، وثبوت صفاته،
__________
(1) في (ز): كلام الله.
(2) في (ز): المخلوقات.
(3) في (ز): كما، بدل: (مثل ما).
(4) أخرجه: أحمد في “المسند” (5/ 232 و 245)، وأبو داود في “سننه” رقم (4294)، والطحاوي في “شرح مشكل الآثار” رقم (519)، والبغوي في “شرح السنَّة” رقم (4252)، والخطيب البغدادي في “تاريخ بغداد” (10/ 223)؛ من حديث معاذ بن جبل – رضي الله عنه – مرفوعًا.
وفي إسناده: عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان العَنْسي، وثَّقه: أبو حاتم، ودحيم، والفلَّاس وغيرهم، وضعَّفه آخرون. “تهذيب الكمال” (17/ 12).
والحديث حسنه: ابن كثير في “البداية والنهاية” (19/ 109)، والألباني في “صحيح أبي داود” رقم (3609)، و”المشكاة” رقم (5424).
وروي موقوفًا؛ أخرجه: البخاري في “التاريخ الكبير” (5/ 193)، والحاكم في “المستدرك” (4/ 420 – 421) وصححه ووافقه الذهبي.

(1/265)


وصدق ما أخبر به رسوله – صلى الله عليه وسلم -، ومَنْ لم يباشر قلبُهُ ذلك حقيقةً لم تخالط بشاشة الإيمان قلبَهُ.
ثُمَّ ذكر – سبحانه – المُقْسَمَ عليه فقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)} [الحاقة: 40]، وهذا رسوله البَشَرىُّ محمدٌ – صلى الله عليه وسلم -، وفي إضافته إليه باسم الرسالة أَبْيَنُ دَلَالَةٍ (1) أنَّه كلام المُرْسِل له حقيقةً، وكلام رسوله تبليغًا؛ إذ حقيقة الرسول مَنْ يُبلِّغ كلام المرسِل، فمن أنكر أن يكون اللهُ قد تكلَّم بالقرآن فقد أنكر حقيقة الرسالة. ولو كانت إضافته إليه إضافةَ إنشاءٍ وابتداءٍ لم يكن رسولًا، ولَنَاقَضَ ذلك إضافته إلى رسوله المَلَكي في “سورة التكوير”.
ثُمَّ بيَّن – سبحانه – كَذِبَ أعدائه وبَهْتَهم في نسبة كلامه – تعالى (2) – إلى غيره، وأنَّه لم يتكلَّم به، بل قاله من تلقاء نفسه، كما بيَّنَ كذِبَ من قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)} [المدثر: 25]، فمن زعم أنَّه قول البشر فقد كفر، وسيصليه الله سقر.
ثُمَّ أخبر – سبحانه – أنَّه تنزيلٌ من ربِّ العالمين، وذلك يتضمَّن أمورًا:
أحدها: أنَّه – تعالى – فوق خلقه كلِّهم، وأنَّ القرآن نَزَلَ من عنده.
والثاني: أنَّه كلامه (3) تكلَّمَ به حقيقةً، لقوله: {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)} [الواقعة: 80]، ولو كان غيره هو المتكلِّمُ به لكان من ذلك
__________
(1) في (ن) و (ك): دليل، وتصحفت في (ح) و (م) إلى: ذلك.
(2) في (ز): كلام ربِّ العالمين.
(3) ساقط من (ح) و (م).

(1/266)


الغير. ونظير هذا قوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: 13]، ونظيره قوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102]، ونظيره قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1 )} [الزمر: 1]، وقوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) } [فصلت: 42]؛ وما كان من الله فليس بمخلوقٍ.
ولا ينتقضُ هذا بأنَّ الرِّزْقَ والمطر وما في السماوات والأرض جميعًا منه، وهو مخلوقٌ؛ لأنَّ ذلك كلَّه أعيانٌ قائمةٌ بأنفسها، وصفاتٌ وأفعالٌ لتلك الأعيان، فإضافتها إلى الله – سبحانه – وأنَّها منه إضافةَ خَلْقٍ، كإضافة بيته، وعبده، وناقته، وروحه، وبابه إليه، بخلاف كلامه فإنَّه لا بدَّ أن يقوم بمتكلِّم؛ إذ كلامٌ من غير متكلِّمٍ كَسَمْعٍ من غير سامعٍ، وبصرٍ من غير مُبْصِرٍ، وذلك عينُ المُحَال، فإذا أُضِيف إلى الرَّبِّ كان بمنزلة إضافة سمعه، وبصره، وحياته، وقدرته، وعلمه، ومشيئته إليه.
ومن زعم أنَّ هذه إضافة مخلوقٍ إلى خالقٍ فقد زعم أنَّ الله – تعالى – لا سمعَ له، ولا بصرَ، ولا حياةَ، ولا قُدْرةَ، ولا مشيئة تقوم به، وهذا هو التعطيل الذي هو شرٌّ من الإشراك.
وإن زعم أنَّ إضافةَ السمع، والبصرِ، والعلمِ، والحياةِ، والقدرةِ إضافةُ صفةٍ إلى موصوف، وإضافَةَ الكلام إليه إضافَةُ مخلوقٍ إلى خالق = فقد تناقض وخَرَج عن مُوجِب العقل، والفطرة، والشرع، ولغات الأُمم، وفَرَّقَ (1) بين متماثلين حقيقةً، وعقلًا، وشرعًا، وفطرةً، ولغةً.
وتأمَّلْ كيف أضافه – سبحانه – إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – بلفظ “القول”،
__________
(1) ساقط من (ز).

(1/267)


وأضافه إلى نفسه (1) بلفظ “الكلام” في قوله – عزَّ وجلَّ -: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]، فإنَّ الرسول يقول للمُرْسَلِ إليه ما أُمِرَ بقوله، فيقول: قلتُ له كذا وكذا، وقلتُ له ما أمرتني أن أقوله، كما قال المسيح: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} [المائدة: 117]، والمُرْسِلُ يقول للرسول: قُلْ لهم كذا وكذا، كما قال سبحانه وتعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [إبراهيم: 31]، {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53]، {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]، ونظائره. فإذا بلَّغَ الرسولُ ذلك صحَّ أن يقال: قال الرسول كذا وكذا، وهذا قول الرسول – أي: قاله مبلِّغًا -، وهذا قوله مبلِّغًا عن مُرْسِلِهِ. ولم يجئ في شيءٍ من ذلك: (تَكلَّمْ لهم بكذا وكذا)، ولا (تكلَّمَ الرسولُ بكذا وكذا)، ولا (إنَّه لكَلَامُ رسولٍ كريمٍ)، ولا في موضعٍ واحدٍ، بل قيل للصدِّيق – وقد تَلَا آيةً -: هذا كلامُك وكلامُ صاحِبِك، فقال: “ليس بكلامي، ولا كلام صاحبي؛ هذا كلام الله” (2).

فصل
الأمر الثالث – ممَّا تضمَّنَهُ قولُه: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)} [الواقعة: 80]-: أنَّ ربوبيته الكاملة لخلقه تأبى أن يتركهم سُدَىً: لا يأمرهم، ولا ينهاهم، ولا يرشدهم إلى ما ينفعهم، ويحذِّرُهم ممَّا
__________
(1) من قوله: “بلفظ القول. . .” إلى هنا؛ ملحق بهامش (ز).
(2) أخرجه: عبد الله بن أحمد في “السُّنَّة” رقم (116)، ومن طريقه البيهقي في “الاعتقاد” (108)، وفي “الأسماء والصفات” رقم (510)، والبخاري تعليقًا في “خلق أفعال العباد” رقم (92)، وابن خزيمة في “التوحيد” (1/ 404)، ومن طريقه: الأصبهاني في “الحجة” (1/ 291)، وغيرهم.
وذكر البيهقي له متابعةً، ثم قال: “وهذا إسنادٌ صحيح”.

(1/268)


يضرُّهم، بل يتركهم هَمَلًا بمنزلة الأنعام السائمة. فمن زعم ذلك فلم يَقْدر ربَّ العالمين حَقَّ قدره، ونَسَبَهُ إلى ما لا يليق به؛ {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} [المؤمنون: 116].
ثُمَّ أقام – سبحانه – البرهانَ القاطِعَ على صدق رسوله – صلى الله عليه وسلم -، وأنَّه لم يتقوَّلْ عليه فيما قاله، وأنَّه لو تقوَّلَ عليه لَمَا أقرَّهُ، ولَعَاجَلَهُ بالإهلاك، فإنَّ كمال علمه وقدرته وحكمته تأبى أن يُقِرَّ من تقوَّلَ عليه، وافترى عليه، وأضلَّ عبادَهُ، واستباحَ دماءَ من كذَّبَهُ، وحريمَهم وأموالَهم، وأظهرَ في الأرض الفسادَ والجَوْرَ والكذبَ وخلافَ الحقِّ، فكيف يليق بأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأقدر القادرين أن يُقِرَّهُ على ذلك؟
بل كيف يليق به أنْ يؤيِّدَهُ، ويَنْصُرَهُ، ويُعْلِيَهُ، ويُظْهِرَهُ، ويُظْفِرَهُ بأهل الحقِّ: يسفك دماءهم، ويستبيح أموالَهم وأولادَهم ونساءَهم، قائلًا: إنَّ اللهَ أمرني بذلك وأباحَهُ لي؟! بل كيف يليق به أن يُصَدِّقَهُ بأنواع التصديق كلِّها، فَيُصَدِّقَهُ بإقراره، وبالآياتِ المستلزِمة لصدقه التي دلالتها على التصديق كدلالة التصديق بالقول أو أظهر، ثُمَّ يُصَدِّقَهُ بأنواعها كلِّها على اختلافها، فكلُّ آيةٍ على انفرادها مصدِّقةٌ له، ثُمَّ يحصلُ باجتماع تلك الآيات تصديقٌ فوقَ تصديقِ كلِّ آيةٍ بمفردها، ثُمَّ يُعْجِزُ الخَلْقَ عن معارضته، ثُمَّ يصدِّقُه بكلامه وقوله، ثُمَّ يقيمُ الدلالة القاطعة على أنَّ هذا قوله وكلامه، فيشهد له بإقراره وفعله وقوله.
فمن أعظم المُحَال، وأبطل الباطل، وأَبْيَنِ البهتان؛ أن يُجَوَّزَ على أحكم الحاكمين وربِّ العالمين أن يفعل ذلك بالكاذب المفتري عليه، الذي هو شرُّ الخلق على الإطلاق، فمن جوَّزَ على الله أن يفعل هذا بِشَرِّ

(1/269)


خلقه وأكذبهم على الإطلاق (1)؛ فما آمن بالله قَطُّ (2)، ولا عَرَفَ اللهَ، ولا عَلِمَ أنَّه (3) ربُّ العالمين، ولا تحسن (4) نِسْبَةُ ذلك إلى من له مُسْكَةٌ من عقلٍ، وحكمةٍ، وحِجىً، ومن فعل ذلك فقد أَزْرَى بنفسه، ونادى على جهله.
وأذكر في هذا مناظرةً جَرَتْ لي مع بعض علماء اليهود (5)، قلت له – بعد أن أَفَضْنَا (6) في نبوَّة النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – إلى أن قلت له: إنكارُ نبوَّتِهِ يتضمَّنُ القَدْحَ في ربِّ العالمين، وتنقُّصَهُ بأقبح التنقُّصِ، فكان الكلام معكم في الرسول، والكلام الآن في تنزيه الرَّبِّ تعالى!
فقال: كيف يقول مثلُك هذا الكلام؟ فقلتُ له: بيانُه عليَّ، فاسمع الآن:
أنتم تزعمون أنه لم يكن رسولًا وإنَّما كان مَلِكًا قاهرًا، قَهَر النَّاسَ بسيفه حتَّى دَانُوا له، ومكث ثلاثًا وعشرين سنةً يكذب على الله ويقول: أُوحي إلىَّ (7) ولم يُوحَ إليه شيءٌ (8)، وأمرني ولم يَأْمُرْه بشيءٍ (9)، ونَهَاني
__________
(1) “على الإطلاق” ساقط من (ن) و (ك) و (ح) و (م) و (ط).
(2) في (ح) و (م): قطعًا.
(3) في (ن) و (ك) و (ح) و (م) و (ط): ولا هذا هو.
(4) في (ز): ولا يجوز.
(5) هذه المناظرة ذكرها – أيضًا – في “الصواعق المرسلة” (1/ 327 – 329)، و”هداية الحيارى” (200 – 202).
(6) في جميع النسخ: أفضى، لكن جاء مصححًا في هامش (ن) و (ك).
(7) مكانها بياض في (ز).
(8) ساقط من (ن) و (ك) و (ح) و (م) و (ط).
(9) ساقط من (ن) و (ك) و (ح) و (م) و (ط).

(1/270)


ولم يَنْهَهُ، وقال الله كذا ولم يقل ذلك، وأحلَّ كذا، وحرَّمَ كذا، وأوجب كذا، وكره كذا، ولم يُحِلَّ ذلك، ولا حرَّمه، ولا أوجبه، بل هو (1) فعل ذلك من تلقاء نفسه كاذبًا مفتريًا على الله، وعلى أنبيائه، وعلى رسله، وعلى (2) ملائكته، ثُمَّ مكث من ذلك ثلاثَ عشرة سنةً يَسْتَعْرِضُ عبادَهُ: يسفك دماءهم، ويأخذ أموالَهم، ويسترقُّ نساءَهم وأبناءهم، ولا ذنب لهم إلا الردُّ عليه ومخالفَتُهُ، وهو في ذلك كلِّه يقول: الله أمرني بذلك، ولم يأمره، ومع ذلك فهو سَاعٍ في تبديلِ أديان الرُّسُل، ونَسْخِ شرائعهم، وحَلِّ نواميسهم.
فهذه حاله عندكم، فلا يخلو: إمَّا أن يكون الرَّبُّ – تعالى – عالمًا بذلك مطَّلِعًا عليه من حاله، يراه ويشاهده، أم لا.
فإن قلتم: إنَّ ذلك جميعه غائبٌ عن الله لم يعلم به = قَدَحْتُم في الرَّبِّ تعالى، ونسبتموه إلى الجهل المفرِط، إذ لم (3) يطَّلع على هذا الحادث العظيم، ولا عَلِمَهُ (4) ، ولا رآه.
وإن قلتم: بل كان ذلك كلُّه (5) بعلمه واطِّلاَعه ومشاهدته، قيل لكم: فهل كان قادرًا على أن يُغَيِّر ذلك، ويأخُذَ على يده، ويَحُولَ بينه وبينه أم لا؟ فإن قلتم: ليس قادرًا على ذلك؛ نسبتموه إلى العجز المنافي للربوبية، وكان هذا الإنسان هو وأتباعه أقدر منه على تنفيذ إراداتهم.
__________
(1) ساقط من (ز).
(2) ساقط من (ن) و (ك) و (ح) و (م) و (ط).
(3) بعده في (ز) زيادة: يعلم.
(4) ساقط من (ز).
(5) ساقط من (ن) و (ك) و (ح) و (ط) و (م).

(1/271)


وإن قلتم: بل كان قادرًا، ولكن مكَّنَهُ، ونَصَرَهُ، وسلَّطَهُ على الخلق، ولم ينصر أولياءه وأتباع رُسُلِه = نسبتموه إلى أعظم السَّفَهِ والظلم، والإخلال بالحكمة؛ هذا لو كان مُخْلِيًا بينه وبين ما فعله، فكيف وهو في ذلك كلِّه ناصِرُهُ ومُؤَيدُهُ، ومجيبُ دعواته، ومهلِكُ مَنْ خالفه وكذَّبه، ومصدِّقُهُ بأنواع التصديق، ومُظْهِرُ الآيات على يديه؛ التي لو اجتمع أهل الأرض كلُّهم على أن يأتوا بواحدةٍ منها لما أمكنهم، ولعجزوا عن ذلك، وكلُّ وقتٍ من الأوقات يُحْدِثُ له من أسباب النصر، والتمكين، والظهور، والعُلُوِّ، وكثرة الأتباع أمرًا خارجًا عن العادة.
فظهر أنَّ من أنكر كونه رسولًا نبيًّا فقد سبَّ اللهَ – تعالى – وقَدَح فيه، ونسبه إلى الجهل، أو العجز، أو السَّفَه (1) .
قلت له: ولا ينتقِضُ هذا بالملوك الظَّلَمة الذين مكَّنهم في الأرض وقتًا ما، ثُمَّ قطَعَ دابرهم، وأبطلَ سُنَّتَهم، ومحا آثارهم وجَوْرَهم، فإنَّ أولئك لم يُبْدُوا شيئًا من ذلك ولم يُعيدوا (2) ، ولا أُيِّدُوا ونُصِرُوا (3) ، ولا (4) ظهرت على أيديهم الآيات، ولا صدَّقَهم الرَّبُّ – تعالى – بإقراره، ولا بفعله، ولا بقوله، بل أَمْرُهُم كان بالضدِّ من أمر الرسول، كـ: فرعونَ، ونَمْرُودَ وأضرابِهما.
ولا ينتقض هذا بمن ادَّعى النُّبوَّة من الكذَّابين؛ فإنَّ حالَهُ كانت (5) ضِدُّ
_________
(1) في (ح) و (م) بـ “الواو” بدل “أو” في الموضعين.
(2) في (ن) و (ك) و (ح) و (ط) و (م) العبارة هكذا: “ولم يعيدوا شيئًا من هذا”.
(3) ساقط من (ز): “ولا أيدوا ونصروا”.
(4) ساقط من (ن) و (ك) و (ح) و (ط) و (م).
(5) ساقط من (ز).

(1/272)


حال الرسول من كلِّ وجهٍ، بل حالهم من أظهر الأدلَّة على صدق الرسول.
ومن حكمة الله – سبحانه – أن أخرج مثل هؤلاء إلى الوجود لِيُعْلَم حالُ الكذَّابين وحالُ الصادقين، وكان ظهورهم من أَبْيَنِ الأدلَّة على صدقِ الرُّسُل، والفرقِ بين هؤلاء وبينهم، “فَبِضِدِّها تَتَبيَّنُ الأشياءُ” (1)، “والضدُّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضدُّ” (2)، فمعرفة أدلَّةِ الباطل وشُبَهِهِ من أنواع أدلَّة الحقِّ وبراهينه.
فلمَّا سمع ذلك قال: معاذَ الله؛ لا نقول إنَّه مَلِكٌ ظالِمٌ، بل نبيٌّ كريمٌ، من اتَّبعه فهو من السعداء، وكذلك من اتَّبع موسى فهو كمن اتَّبع محمدًا!
قلتُ له: بَطَلَ كلُّ ما تُمَوِّهُون به بعد هذا (3)؛ فإنكم إذا أقررتُم أنَّه نبيٌّ صادِقٌ؛ فلا بدَّ من تصديقه في جميع ما أخبر به، وقد عَلِمَ أتباعُهُ وأعداؤُهُ – بالضرورة – أنَّه دعا النَّاس كلَّهم إلى الإيمان به، وأخبر أنَّ مَنْ لم يؤمن به فهو كافرٌ مخلَّدٌ في النَّار، وقاتَلَ من لم يؤمن به من أهل الكتاب، وأَسْجَلَ (4) عليهم بالكفر، واستباح أموالهم ودماءهم ونساءهم
__________
(1) هذا عجز بيت للمتنبي “ديوانه” (127)، وصدره:
ونَذيمُهُمْ وبِهِمْ عَرَفْنَا فَضْلَهُ
(2) وهذا عجز بيت لأبي الشيص الخزاعي “ديوانه” (128)، وصدره:
ضِدَّانِ لما استجمعا حَسُنَا
(3) ساقط من (ز) و (ن) و (ك) و (ط)، وأثبته من (ح) و (م).
(4) أَسْجَل الكلام: أرسله، وأَسْجَل الأمر لهم: أطلقه.
والمعنى أنَّه أطلق عليهم وصف “الكفر” ورماهم به.
انظر: “لسان العرب” (6/ 181)، و”التكملة والذيل والصلة” (6/ 133).

(1/273)


وأبناءهم. فإن كان ذلك عُدْوانًا منه وجَوْرًا لم يكن نبيًّا، وعاد الأمر إلى القَدْحِ في الرَّبِّ تعالى، وإن كان ذلك بأمر الله ووحيه لم تَسَعْ مخالفتُه، وتَرْكُ اتِّباعه، ولَزِمَ تصديقُه فيما أخبر به، وطاعتُه فيما أمر.
وقد أرشد – سبحانه – إلى هذا المَسْلَك في غير موضعٍ من كتابه:
فقال (1) تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) } [الحاقة: 44 – 47]، يقول سبحانه: لو تقوَّلَ علينا قولًا واحدًا من تلقاء نفسه لم نَقُلْهُ، ولم نُوحِهِ إليه؛ لَمَا أقررناه، وَلأَخَذْنا بيمينه، ثُمَّ أهلكناه.
هذا أحد القولين.
قال ابن قتيبة: “في هذا قولان: أحدهما: أنَّ “اليمينَ” ها هنا: القوَّةُ والقدرةُ، وأقام “اليمين” مقام القوَّة؛ لأنَّ قوَّة كلِّ شيءٍ في ميامنه”.
قلتُ: وعلى هذا تكون “اليمين” من صفة الآخِذِ.
قال: “وهذا قول ابن عباس في اليمين”.
قال: “ولأهل اللغة في هذا مذهبٌ آخر، وهو أنَّ الكلامَ وَرَدَ على ما اعتاده النَّاسُ من الأخذ بيد من يُعَاقَب، وهو قولهم إذا أرادوا عقوبةَ رَجُلٍ: “خُذْ بيده”، وأكثر ما يقوله السلطان والحاكم بعد وجوب الحكم: خُذْ بيده، واسْفَعْ بيده (2) . فكأنَّهُ قال: لو كَذَبَ علينا في شيءٍ
__________
(1) هذا الموضع الأول.
(2) واسْفَعْ بيده: أي خُذْ بيده، وسَفَع يَسْفَعُ سَفْعًا: جَذَبَ وأَخَذ وقَبَض.
انظر: “لسان العرب” (6/ 282).

(1/274)


ممَّا يُلْقِيه إليكم عَنَّا؛ لأخَذْنا بيده، ثُمَّ عاقبناه بقطع “الوتين”، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن” (1) انتهى.
فقد أخبر – سبحانه – أنَّه لو تقوَّلَ عليه شيئًا من الأقاويل لما أقرَّهُ، وَلَعَاجَله بالأَخْذِ والعقوبة، فإنَّ كَذِبًا على الله ليس كَكَذِبٍ على غيره، ولا يليق به أن يُقِرَّ الكاذب عليه، فضلًا عن أن ينصرَهُ ويؤيدَهُ ويصدِّقَهُ.
وقوله تعالى: {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)} [الحاقة: 46]؛ “”الوَتيْنُ”: نِيَاطُ القلب؛ وهو عِرْقٌ يجري في الظَّهْر حتَّى يتصل بالقلب، إذا انقطع بَطَلَت القُوَى، ومات صاحبه” (2). هذا قول جميع أهل اللغة (3).
قال ابن قتيبة: “ولم يُرِدْ أنَّا نقطع ذلك العرقَ بعينه، ولكنه أراد لو كذب علينا لأمتناه أو قتلناه، فكان كمن قُطِعَ وَتينُهُ. قال: ومثله قول – صلى الله عليه وسلم -: “ما زالت أكلةُ خيبر تُعَادُّني، وهذا أَوَانُ انقطاع (4) أبْهَري” (5).
__________
(1) “تأويل مشكل القرآن” (154 – 155).
(2) هذا لفظ الواحدي في “الوسيط” (4/ 349)، وسوف ينقله المؤلف معزوًّا إليه كما يأتي في (ص/ 584).
(3) انظر: “خلق الإنسان” للأصمعي (211) ضمن “الكنز اللغوي”، وللزجَّاج (77)، و”غاية الإحسان في خلق الانسان” للسيوطي (256).
(4) في (ن) و (ك) و (ح) و (ط): قطعت.
(5) أخرجه: عبد الرزاق في “المصنف” رقم (19815)، وأحمد في “المسند” (6/ 18) رقم (23933)، والبخاري تعليقًا رقم (4428)، وأبو داود في “سننه” رقم (4512 و 4513)، والحاكم في “المستدرك” (3/ 58 و 219) وصححه.
واختلف في وصله وإرساله، قال أبو داود: “وكلٌّ صحيحٌ عندنا”.
وانظر: كلام الحافظ في “الفتح” (7/ 737)، و”تغليق التعليق” (4/ 162).

(1/275)


و”الأَبْهَر”: عِرْقٌ يتصل بالقلب فإذا انقطع مات صاحبه (1)، فكأنَّه قال: فهذا أَوَانُ قَتَلَني السَّمُّ، فكنتُ كَمَنْ انقطع أبْهَرُهُ” (2).
ثُمَّ قال سبحانه: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)} [الحاقة: 47] أي: لا يحجزه منِّي أحدٌ، ولا يمنعه منِّي.
الموضع الثاني: قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)} [الشورى: 24]. وفي معنى الآية للنَّاس قولان:
أحدهما: قول مجاهد ومقاتل (3): “إن يشأ الله يربط على قلبك بالصبر على أذاهم، حتَّى لا يشقَّ عليك” (4).
والثاني: قول قتادة: “إنْ يشأ الله يُنْسيكَ القرآنَ، ويقطع عنك الوحي” (5).
وهذا هو القولُ، دون الأوَّل؛ لوجوه:
أحدها: أنَّ هذا خرج جوابًا لهم، وتكذيبًا لقولهم: إنَّ محمدًا
__________
(1) انظر: “النهاية في غريب الحديث” (1/ 18)، و”أعلام الحديث” للخطَّابي (3/ 1788).
(2) “تأويل مشكل القرآن” (155 – 156).
(3) “تفسيره” (3/ 178).
(4) انظر: “زاد المسير” (7/ 80)، و”الجامع” (16/ 25).
(5) أخرجه: عبد الرزاق في “تفسيره” (2/ 191)، وابن جرير في “تفسيره” (11/ 146).
وهو قول جمهور المفسرين.
انظر: “معاني القرآن” للزجَّاج (4/ 399)، وللنحَّاس (6/ 310)، و”المحرر الوجيز” (13/ 165).

(1/276)


كَذَب على الله، وافترى عليه هذا القرآن، فأجابهم بأحسن جوابٍ، وهو أنَّ الله – سبحانه – قادرٌ لا يعجزه شيءٌ، فلو كان كما تقولون لختم على قلبه، فلا يمكنه أن يأتي بشيءٍ منه، بل يصير القلب كالشيء المختوم عليه فلا يُوصَل إلى ما فيه، فيعود المعنى إلى أنَّه: لو افتراهُ عليَّ لم أُمَكِّنْهُ، ولم أُقِرَّه.
ومعلومٌ أنَّ مثل هذا الكلام لا يصدر من قلبٍ مختومٍ عليه؛ فإنَّ فيه من علوم الأوَّلين والآخرين، وعلمِ المبدأ والمعَاد، والدنيا والآخرة، والعلمِ الَّذي لا يعلمه إلا الله، والبيانِ التامِّ (1) ، والجَزَالةِ، والفصاحةِ، والجلالةِ، والإخبارِ بالغيوب = ما لا يمكن مَنْ خُتِمَ على قلبه أن يأتي بمثله (2) ولا ببعضه، فلولا أنِّي أنزلتُهُ على قلبه، ويَسَّرْتُه بلسانه؛ لَمَا أَمْكَنَهُ أن يأتيكم بشيءٍ منه. فأين هذا (3) المعنى إلى المعنى الذي ذكره الآخرون؟! وكيف يلتئم معنى حكاية قولهم؟! وكيف يتضمَّنُ الردَّ عليهم؟!
الوجه الثاني: أنَّ مجرَّدَ الرَّبْطِ على قلبه بالصبر على أذاهم يصدر من المُحِقِّ والمُبْطِل، فلا يدلُّ ذلك على التمييز بينهما، ولا يكون فيه رَدٌّ لقولهم، فإنَّ الصبر على أذى المكذِّب لا يدلُّ بمجرده على صِدْقِ المُخْبِرِ.
الثالث: أن الرَّبْطَ على قلب العبد بالصبر لا يقال له: خُتِمَ على قلبه، ولا يعرف هذا في عُرْفِ المخاطب، ولا لغة العرب، ولا هو
__________
(1) ساقط من (ك).
(2) في (ح) و (م): به.
(3) بعده في (ز) زيادة: من.

(1/277)


المعهود في القرآن، بل المعهود استعمال الختم على القلب في شأن الكفار في جميع موارد اللفظة في القرآن كقوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (1) [البقرة: 7]، وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23] ونظائره.
وأمَّا ربطه على قلب العبد بالصبر فكقوله تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الكهف: 14]، وقوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [القصص: 10]، والإنسان يَسُوغُ له في الدعاء أن يقول: اللهم اربِطْ على قلبي، ولا يحسن أن يقول: اللهم اختِمْ على قلبي.
الرابع: أنَّه – سبحانه – حيث يحكي قولهم “أنَّه افتراه” لا يجيبهم على هذا الجواب، بل يجيبهم بأنَّه لو افتراه لم يملكوا له من الله شيئًا، بل كان يأخذه ولا يقدرون على تخليصه منه (2) ، كقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الأحقاف: 8]، وتارةً يجيبهم بالمطالبة بمعارضته بمثله أو شيءٍ منه، وتارةً بإقامة الأدلَّة القاطعة على أنَّه الحقُّ، وأنَّهم هم الكاذبون المفترون، وهذا هو الذي يحسن في جواب هذا (3) السؤال لا مجرَّدُ الصبر.
الخامس: أنَّ هذه الآية نظيرُ ما نحن فيه، وأنَّه لو شاء لما أَقَرَّهُ ولا مَكَّنَهُ، وتفسير القرآن بالقرآن من أبلغ التفاسير.
__________
(1) هذه الآية غير موجودة في (ز) و (ن) و (ك) و (ط).
(2) ساقط من (ز) و (ن) و (ك) و (ط).
(3) ساقط من (ز).

(1/278)


السادس: أنَّه لا دلالة في سياق الآية على الصبر بوجهٍ ما: لا بالمطابقة؛ ولا التضمُّنِ، ولا اللُّزُومِ. فمن أين يُعْلَم أنَّه أراد ذلك، ولم يتم (1) هذا المعنى في غير هذا الموضع فيحمل عليه، بخلاف كونه يحولُ بينه وبينه، ولا يُمَكِّنُهُ من الافتراء عليه، فقد ذكره في مواضع.
السابع: أنَّه – سبحانه – أخبر أنَّه لو شاء لما تَلَاهُ عليهم، ولا أدراهم به، وأنَّ ذلك إنَّما هو بمشيئته وإذنه وعلمه؛ كما قال تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ} [يونس: 16]، وهذا من أبلغ الحجج وأظهرها، أي: هذا الكلام ليس من قِبَلِي، ولا من عندي، ولا أقدر أن أفتريه على الله، ولو كان ذلك مقدورًا لي لكان مقدورًا لمن هو من أهل العلم، والكتابة، ومخالطة النَّاس، والتعلُّم منهم (2) ، ولكنَّ الله بعثني به، ولو شاء – سبحانه – لم يُنْزِله ولم ييسِّرْهُ بلساني، فلم يَدَعْني أتلوه عليكم، ولا أُعْلِمُكم به أَلْبَتَّةَ؛ لا على لساني، ولا على لسان غيري، ولكنه أَوْحَاهُ إليَّ وأذِنَ لي في تلاوته عليكم، وأدراكم به بعد أن لم تكونوا دَارِينَ به، فلو كان كذبًا وافتراءً على الله – كما تقولون – لأمكن غيري أن يتلوه عليكم وتَدْرُون به من جهته؛ لأنَّ الكذب لا يعجز عنه البشر، وأنتم لم تَدْرُوا بهذا ولم تسمعوه إلا منِّي، ولم تسمعوه من بشرٍ غيري.
ثُمَّ أجاب عن سؤالٍ مقدَّرٍ (3) – وهو أنَّه تعلَّمَهُ من غيره أو افتراه من تلقاء نفسه – فقال: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} [يونس: 16]__________
(1) في (ن) و (ك) و (ح) و (ط) و (م): يستمر.
(2) في (ك): منه.
(3) في (ن) و (ك) و (ط): مقرر.

(1/279)


تعلمون حالي، ولا يخفى عليكم سَيري، ومدخلي، ومخرجي، وصِدْقي، وأمانتي. ومِنْ هذا لم أتمكَّنْ من قول شيءٍ منه أَلْبَتَّةَ، ولا كان لي عِلْمٌ به، ولا ببعضه، ثُمَّ أتيتُكُم به وَهْلَةً (1) من غير تَعَمُّلٍ، ولا تعلُّمٍ، ولا معاناةٍ للأسباب التي أتمكَّنُ بها منه، ولا من بعضه. وهذا من أظهر الأدلَّة وأَبْيَن البراهين أنَّه من عند الله، أَوْحَاهُ إليَّ وأنزله عليَّ. فلو شاء ما فعل، فلم يُمَكِّنِّي من تلاوته، ولا مَكَّنَكُم من العلم به، بل مكَّنَنِي من تلاوته، ومكَّنَكُم من العلم به (2) ، فلم تكونوا عالمين به ولا ببعضه، ولم أَكُن قَبْلَ أن يُوحَى إليَّ تاليًا له، ولا لبعضه.
فتأمَّلْ صحَّةَ هذا الدليل، وحُسْنَ تأليفه، وظهورَ دلالته.
ومن هذا قوله سبحانه: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) } [الإسراء: 86]، وهذا هو المناسب لقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24]، ولقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) } [الحاقة: 44, 45]، فهو برهانٌ مستقِلٌّ مذكورٌ في القرآن على وجوهٍ متعدِّدةٍ، والله أعلم.
الثامن: أنَّ مثل هذا التركيب إنَّما جاء في القرآن للنَّفْي لا للإثبات، كقوله تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86]،
__________
(1) “الوَهْلَةُ”: الفَزْعة، والمرَّةُ من الفَزَع. تقول: لقيتُه أوَّل وَهْلَةٍ وَوَهَلَةٍ ووَاهِلَةٍ، أي: أوَّلَ شيء. “لسان العرب” (15/ 416).
والمعنى: أنَّني أتيتكم به فجأةً من غير سابق إعدادٍ وتحضير كأنَّني أفزعتكم به أوَّل ما سمعتموه؛ لأنكم لم تعهدوه منِّي من قبل.
(2) من قوله: “بل مكَّنني من تلاوته. . .” إلى هنا؛ ملحق بهامش (ح).

(1/280)


وقوله – عزَّ وجلَّ -: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} [النساء: 133]، وقوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} [الشورى: 33]، وقوله تعالى: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} [سبأ: 9] ونظائره؛ لم يأْتِ إلا فيما كان ما بعد فعل المشيئة مَنْفِيًّا.
التاسع: أنَّ الخَتْمَ على القلب لا يستلزم الصبر، بل قد يَخْتِمُ على قلب العبد ويَسْلُبُه صَبْرَهُ، بل إذا خَتَم على القلب زال الصبر وضَعُفَ، بخلاف الرَّبْطِ على القلب فإنَّه يستلزم الصبر، كما قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) } [الأنفال: 11].
ومعنى “الرَّبْط” في اللغة: الشَّدُّ. ولهذا يقال لكلِّ من صبر على أمرٍ: رَبَطَ قَلْبَهُ، كأنَّه حَبَسَ قلبه عن (1) الاضطراب. ومنه يقال: هو رابط الجَأْش (2) .
وقد ظنَّ الواحديُّ (3) أنَّ “على” زائدةٌ، والمعنى: يربط قلوبكم! وليس كما ظَنَّ؛ بل بين ربط الشيء والربط عليه فرقٌ ظاهرٌ، فإنَّه يقال: رَبَطَ الفَرَسَ والدَّابَّةَ، ولا يقال: رَبَطَ عليها. فإذا أحاط الرباطُ بالشيء وعَمَّهُ كُلَّه (4) قيل: رَبَطَ عليه؛ كأنَّه أحاط عليه بالرباطِ، فلهذا قيل: رَبَطَ على قلبه، وكان أحسن من أن يقال: رَبَطَ قلبه.
__________
(1) في (ن) و (ك) و (ط): على.
(2) انظر: “مفردات الراغب” (338)، و”تاج العروس” (19/ 298).
(3) انظر: “الوسيط” (2/ 447).
(4) ساقط من (ح) و (م).

(1/281)


والمقصود أنَّ هذا الرَّبْطَ معه يكون الصبر أشدَّ وأثبتَ، بخلاف الخَتْم.
العاشر: أنَّ “الخَتْمَ” هو: شَدُّ القلب حتَّى لا يشعر ولا يفهم، فهو مانعٌ يمنع العلم والتصديق، والنبيُّ – صلى الله عليه وسلم – كان يعلم قول أعدائه: إنَّه افترى القرآن، ويشعر به، فلم يجعل الله على قلبه مانعًا من شعوره بذلك، وعلمه به.
فإنْ قيل: الأمرُ كذلك، ولكن جعل الله على قلبه مانعًا من التّأَذِّي بقولهم.
قيل: هذا أَوْلَى أن لا يسمَّى خَتْمًا، وقد كان (1) يُؤذِيه قولُهم ويُحزِنُه، كما قال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} [الأنعام: 33]، وكان وصول هذا الأذى إليه من كرامة الله له، فإنَّه لم يُؤْذَ نبيٌّ ما أُوذِيَ.
فالقول في الآية هو قول قتادة. والله أعلم.
ثُمَّ أخبر – سبحانه – أنَّ القرآنَ تذكرةٌ للمتقين؛ يتذكَّرُ به المتَّقي، فيُبصِرُ ما ينفعه فيأتيه (2)، وما يَضُرُّه فيجتنبه، ويتذكَّرُ به أسماء الرَّبِّ – تعالى – وصفاتِه وأفعالَه فيُؤمِنُ، ويتذكَّرُ به ثوابَهُ، وعقابَهُ، ووعْدَهُ (3)، ووعيدَهُ، وأمره، ونهيه، وآياته في أوليائه وأعدائه ونفسه، وما يُزَكِّيها ويُطَهِّرها ويُعْلِيها، وما يُدَسِّيها ويُخْفِيها ويُحَقِّرها. ويتذكَّرُ به علم
__________
(1) ساقط من (ز).
(2) “فيأتيه” ملحق بهامش (ح).
(3) ساقط من (ح).

(1/282)


المبدأ (1) والمَعَاد، والجنَّة والنَّار، وعلم الخير والشَّرِّ. فهو التذكرة على الحقيقة، تذكرةُ حُجَّةٍ للعالمين، ومنفعةٍ وهدايةٍ للمتعلِّمين.
ثُمَّ قال سبحانه: {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) } [الحاقة: 49] لا يَخْفَون علينا، فَسَنُجَازِيهم (2) بتكذيبهم.
ثُمَّ أخبر – سبحانه – أنَّ رسولَهُ وكَلَامَهُ حسرةٌ على الكافرين، إذا عَايَنُوا حقيقة ما أَخْبَرَ به (3) كان تكذيبهم عليهم من أعظم الحسرات حين لا ينفعهم التحسُّرُ. وهكذا كلُّ من كذَّبَ بحقٍّ، وصدَّقَ بباطلٍ فإنَّه إذا انكشف له حقيقة ما كذَّبَ به، وصدَّقَ به؛ كان تكذيبه وتصديقه حسرةً عليه، كمن فرَّطَ فيما ينفعه وقتَ تحصيله، حتَّى إذا اشتدَّتْ حاجته إليه، وعايَنَ فوز المحصِّلين (4) ؛ صار تفريطه حسرةً عليه.
ثُمَّ أخبر – سبحانه – أنَّ القرآنَ والرسولَ “حقُّ اليقين”، فقيل: هو من باب إضافة الموصوف إلى صفته، أي: الحقُّ اليقينُ، نحو: مسجد (5) الجامع، وصلاة الأُولى (6) . وهذا موضعٌ يحتاج إلى تحقيقٍ،
__________
(1) “المبدأ و” ملحق بهامش (ح).
(2) في (ز) و (ك) و (ن) و (ط): فنجازيهم.
(3) ساقط من (ز).
(4) في (ك): المخلصين.
(5) ملحق بهامش (ك).
(6) فهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه، والعرب تُجيز ذلك إذا اختلف لفظه، وهذا مذهب الكوفيين، وقال به: الفرَّاء في “معانيه” (1/ 330)، والزمخشري في “المفصَّل” (91 – 92)، وابن الطراوة، وابن طاهر، وابن خروف، وجماعة.
وذهب البصريون إلى أنَّ إضافة الشيء إلى نفسه لا تجوز؛ لأنَّ الإضافة =

(1/283)


فنقول وبالله التوفيق:
ذكر الله – سبحانه – في كتابه مراتب اليقين، وهى ثلاثةٌ: حقُّ اليقين، وعلمُ اليقين، وعينُ اليقين، كما قال تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)} [التكاثر: 5 – 7]، فهذه ثلاث مراتب لليقين:
أوَّلُها: عِلْمُهُ؛ وهو التصديقُ التامُّ به، بحيث لا يعرض له شَكٌّ ولا شبهةٌ تقدح في تصديقه، كعلم اليقين بالجَنَّة مثلًا، وتَيَقُّنِهم أنَّها دارُ المتقين ومَقَرُّ المؤمنين. فهذه مرتبة العلم؛ لِتَيَقُّنِهم (1) أنَّ الرُّسُل أخبروا (2) بها عن الله، وتَيَقُّنِهم صِدْق المُخْبِر.
المرتبة الثانية: “عين اليقين”؛ وهي مرتبة الرؤية والمشاهدة، كما قال تعالى: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)} [التكاثر: 7].
__________
= يقصد بها التعريف والتخصيص، والشيء لا يتعرَّف بنفسه، وما ورد من ذلك في القرآن أو كلام العرب فمحمولٌ على أنَّه أضاف – في الأصل – إلى موصوفٍ محذوفٍ، وأقام صفته مقامه. وبه قال: الأخفش، وابن السراج، وأبو علي الفارسي “الإيضاح” (271).
انظر: “الإنصاف” (2/ 436)، و”ارتشاف الضَّرَب” (4/ 1806)، و”أمالي ابن الشجري” (2/ 68).
قال شيخ الإسلام: “والأوَّل – أي مذهب الكوفيين – أصحُّ؛ ليس في اللفظ ما يدلُّ على المحذوف، ولا يخطر بالبال، وقد جاء في غير موضعٍ …
وبالجملة فنظائر هذا في القرآن وكلام العرب كثيرٌ”. “مجموع الفتاوى” (20/ 481).
(1) في (ح) و (م): كتيقنهم.
(2) عبارة “أن الرسل أخبروا” تكررت مرتين في (ز).

(1/284)


وبين هذه المرتبة والتي قبلها فَرْقُ ما بين العلم والمشاهدة؛ فـ “علم (1) اليقين” للسمع، و”عين اليقين” للبصر، وفي “المسند” للإمام أحمد مرفوعًا: “ليس الخَبَرُ كالمُعَايَنَة” (2) .
وهذه المرتبة هي التي سألها إبراهيمُ الخليلُ – عليه السلام – أنْ يُرِيَهُ اللهُ كيف يحيي الموتى؛ ليحصل له مع “علم اليقين”: “عين اليقين”، فكان سؤاله زيادةً لنفسه، وطمأنينةً لقلبه، فَيَسْكُنُ القلبُ عند المعاينة، ويطمئنُّ لقطع المسافة التي بين الخبر والعِيَان.
وعلى هذه المسافة أطلق النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – لفظ الشكِّ حيث قال: “نحنُ أحَقُّ بالشَّكِّ من إبراهيم” (3) ، ومعاذَ الله أن يكون هناك شكٌّ منه، ولا من
__________
(1) ليست في (ز) و (ح) و (ط) و (م)، وصححت في هامش (ن) و (ك).
(2) أخرجه: أحمد في “المسند” (1/ 215) رقم (1842) و (1/ 271) رقم (2447)، والبزار “كشف الأستار” رقم (200)، وابن حبَّان في “صحيحه” رقم (6213 و 6214)، والطبراني في “الأوسط” رقم (25)، وفي “الكبير” (12/ رقم 12451)، والحاكم في “المستدرك” (2/ 321) و (2/ 380)؛ من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما -.
وصححه: ابن حبَّان، والحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
وقال الهيثمي: “رجاله رجال الصحيح”. “المجمع” (1/ 153).
وصححه الألباني في “صحيح الجامع” رقم (5374).
وحسنه الحافظ في “موافقة الخبر” (2/ 138).
وانظر: “المقاصد الحسنة” (414)، و”كشف الخفاء” (2/ 236).
وفي (ز) و (ن) و (ح) و (ك): “ليس المخبَر كالمعايِن”، وما أثبته موافق للفظ “المسند”.
(3) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (3372 و 4537 و 4694)، ومسلم في “صحيحه” من كتاب الإيمان رقم (151)؛ ومن كتاب الفضائل رقم (151)، =

(1/285)


إبراهيم عليهما السلام، وإنَّما هو عينٌ بعد علمٍ، وشُهُودٌ بعد خبرٍ، ومعاينةٌ بعد سماعٍ.
المرتبة الثالثة: مرتبةُ “حَقِّ اليقين”؛ وهي مباشرة الشيء بالإحساس به، كما إذا دخلوا الجنَّةَ وتمتَّعُوا بما فيها. فَهُمْ في الدنيا في مرتبة “علم اليقين”، وفي الموقف حين تُزْلَفُ وتَقْرُبُ منهم حتَّى يُعَاينُوها في مرتبة “عين اليقين”، وإذا دخلوها وباشروا نعيمَها في مرتبة “حقِّ اليقين”.
ومباشرةُ المعلوم تارةً تكون بالحواسِّ الظاهرة، وتارةً تكون بالقلب، فلهذا قال: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) } [الحاقة: 51]، فإنَّ القلبَ يباشِرُ الإيمانُ به ويخالِطُهُ (1) كما يُبَاشِرُ بالحواسِّ ما يتعلَّق بها، فحينئذٍ يُخَالِط بشاشته القلوب، ويبقى لها “حقُّ اليقين”، وهذه أعلى مراتب الإيمان وهي “الصدِّيقيَّة” التي تتفاوت (2) فيها مراتب المؤمنين.
وقد ضرب بعض العلماء للمراتب الثلاثِ مثالًا؛ فقال: إذا قال لك مَنْ تَجْزِمُ بِصِدْقِه: عندي عَسَلٌ أُرِيد أن أُطْعِمَك منه، فصدَّقْتَهُ؛ كان ذلك “علم اليقين”، فإذا أحضره بين يديك صار ذلك “عين اليقين”، فإذا ذُقْتَهُ صار ذلك “حقَّ اليقين”.
وعلى هذا فليست هذه الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى
__________
= من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(1) “ويخالطه” ملحق بهامش (ن).
والعبارة في (ك) هكذا: “يباشر الإيمان ويخالطه به”.
(2) في (ن) و (ك) و (ح) و (م): تفاوتت.

(1/286)


صفته، بل من باب (1) إضافة الجنْس إلى نوعه، فإنَّ “العلمَ” و”العينَ” و”الحقَّ” أعمُّ من كونها يقينًا، فأُضيف العامُّ إلى الخاصِّ، مثل: بعض المتاع، وكُلِّ الدراهم.
ولما كان المضاف والمضاف إليه في هذا الباب يَصْدُقَانِ على ذَاتٍ واحدةٍ – بخلاف قولك: دار عمروٍ، وثوب زيدٍ – ظَنَّ مَنْ ظَنَّ أنَّها من إضافة الموصوف إلى صفته؛ وليس كذلك، بل هي من باب إضافة الجِنْس إلى نوعه، كـ: ثوب خَزٍّ، وخاتَمِ فضَّةٍ. فالمضاف إليه قد يكون مغَايرًا للمضاف، لا يَصْدُقَانِ على ذاتٍ واحدةٍ، وقد يُجَانسه فَيَصْدُقَانِ على مسمَّىً واحدٍ، والله أعلم.
ثُمَّ ختم السورة بقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)} [الحاقة: 52]، وهي جديرةٌ بهذه الخاتمة، لما تضمَّنَتْهُ من الإخبار عن عظمةِ الرَّبِّ – تعالى – وجلالِهِ، وذكرِ عظمةِ مُلْكِه، وجريان حكمه بالعدل على عباده في الدنيا والآخرة، وذكر عظمته – تعالى – في إرسالِ رسوله، وإنزالِ كتابه، وأنَّه – تعالى – أعظمُ وأجَلُّ وأكبرُ عند أهل سماواته والمؤمنين من عباده من أنْ يُقِرَّ كذَّابًا مُتَقوِّلًا عليه، مفتريًا عليه، يُبدِّلُ دينَهُ، وينسخُ شرائعه، ويقتلُ عباده، ويخبِرُ عنه بما لا حقيقة له، وهو – سبحانه – مع ذلك يُؤَيِّدُه، وينصره، ويُجِيبُ دعواته، ويأخذُ أعداءه، ويرفعُ قَدْرَهُ، ويُعْلِي ذِكْرَهُ، فهو – سبحانه – العظيمُ الذي تأْبَى عظمتُهُ أنْ يفعل ذلك بمن أتى بأقبح أنواع الكذب والظلم، فسبحان ربِّنا العظيم، وتعالى عمَّا يَنْسُبُهُ إليه الجاهلون علوًّا كبيرًا.
__________
(1) ساقط من (ح) و (م).

(1/287)


فصل

ومن ذلك قوله – عزَّ وجلَّ -: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)} [المعارج: 40, 41]، أقسَمَ – سبحانه – بـ “رَبِّ المَشَارِقِ والمَغَارِبِ”، وهي: إمَّا مشارقُ النُّجُوم ومغارِبُها، أو مشارقُ الشمس ومغارِبُها، أَو أنَّ (1) كُلَّ موضعٍ من الجهة مشرقٌ ومغربٌ (2).
فلذلك جَمَعَ في موضعٍ، وأَفْرَدَ في موضعٍ، وثَنَّى في موضعٍ آخر (3)، فقال تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17)} [الرحمن: 17]، فقيل: هما مَشْرِقَا الصيف والشتاء (4).
وجاء في كلِّ موضع ما يناسبه، فجاء في “سورة الرحمن”: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17)}؛ لأنَّها سورةٌ ذُكِرَتْ فيها المُزْدَوِجَات، فذُكِرَ فيها الخلقُ والتعليمُ، والشمسُ والقمرُ، والنَّجْمُ والشجرُ، والسماءُ والأرضُ، والحَبُّ والثَّمَرُ، والجنُّ والإنسُ، ومادةُ أبي البشر، ومادةُ (5)
__________
(1) في (ز) و (ط) و (م): وأن.
(2) انظر: “معاني الزجَّاج” (5/ 224)، و”روح المعاني” (15/ 73)، و”محاسن التأويل” (7/ 181).
(3) انظر: “الأنواء” لابن قتيبة (141)، و”أمالي ابن الشجري” (1/ 121)، و”المحرر الوجيز” (15/ 107)، و”فتح الباري” لابن رجب (3/ 65).
وبنحوٍ مما ههنا ذكره المؤلف في “بدائع الفوائد” (1/ 211 – 214).
(4) لم يذكر المؤلف – رحمه الله – غير هذا القول، وكذا المفسرون لا يذكرون غيره في تفسير الآية.
انظر: “معاني الفرَّاء” (3/ 115)، و”مجاز القرآن” (2/ 243) وغيرهما.
(5) ساقط من (ح) و (م).

(1/288)


أبي الجنِّ، والبحرين، والجنَّةُ والنَّارُ، وقسَمَ الجنَّةَ إلى: جَنَّتَين عاليتين، وجَنَّتَين دونهما، وأخبرَ أنَّ في كلِّ جنَّةٍ عَيْنَين؛ فناسب كلَّ المناسبة أن يذكر المشرقين والمغربين.
وأمَّا سورة {سَأَلَ سَائِلٌ} فإنَّه أقسَمَ – سبحانه – على عمومِ قُدرته وكمالِها، وصحةِ تعلُّقِها بإعادتهم بعد العَدَم، فذكَرَ “المشارقَ” و”المغارِبَ” بلفظ الجمع؛ إذ هو أدلُّ على المُقْسَم عليه، سواءٌ أُرِيدَ مشارقُ النُّجُومِ ومغاربُها، أو مشارقُ الشمس ومغاربُها، أو كلُّ جزءٍ من جهَتَي المشرق والمغرب. فكُلُّ ذلك آيةٌ ودلالةٌ على قدرته – تعالى – عَلى أن يبدِّل أمثال هؤلاء المكذِّبين، ويُنْشِئَهم فيما لا يعلمون، فيأتي بهم في نشأةٍ أخرى، كما تأتي الشمسُ كُلَّ يومٍ من مَطْلَعٍ، وتذهبُ في مَغْرِبٍ.
وأمَّا في “سورة المزَّمِّل” فذَكَرَ المشرق والمغرب بلفظ الإفراد لَمَّا كان المقصود ذكر ربوبيته ووحدانيته (1) ، وأنَّهُ كما تفرَّدَ بربوبية المشرق والمغرب وحده فكذلك يجب أن يُفْرَدَ بالربوبيةِ والتوكُّلِ عليه وحده. فليس للمشرق والمغرب رَبٌّ سواه، فكذلك (2) ينبغي أن لا يُتَّخَذَ إلهٌ ولا وكيلٌ سواه، ولذلك قال موسى لفرعون حين سأله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) } [الشعراء: 23] فقال: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) } [الشعراء: 28].
وفي ربوبيته – سبحانه – للمشارق والمغارب تنبيهٌ على ربوبيته
__________
(1) ساقط من (ك).
(2) في (ز): فلذلك.

(1/289)


السماوات وما حوته من الشمس والقمر والنُّجُوم، وربوبيته (1) ما بين الجهتين، وربوبيته الليلَ والنَّهارَ وما تضمَّنَاهُ.
ثُمَّ قال: {إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)} [المعارج: 40, 41]، أي: لَقَادرون على أن نذهب بهم، ونأتي بأَطْوَعَ لنا منهم، وخير منهم، كما قال تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)} [النساء: 133].
وقوله تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)} , أي: لا يفوتني ذلك إذا أردتُه، ولا يمتنع منِّي. وعَبَّر عن هذا المعنى بقوله: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)}؛ لأنَّ المغلوبَ يسبقه الغالبُ إلى ما يريده فيفوت عليه، ولهذا عَدَّى بـ “على” دون “إلى”، كما في قوله: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} [الواقعة: 60, 61]، فإنَّه لمَّا ضمَّنَهُ معنى: مغلوبين ومقهورين؛ عَدَّاهُ بـ “على”، بخلاف: سَبَقْتُه إليه، فإنَّه فَرْقٌ بين (سَبَقْتُه عليه) و (سَبَقْتُه إليه)؛ فالأوَّل بمعنى: غَلَبْتُه وقَهَرْتُه عليه، والثاني بمعنى: وصَلْتُ إليه قبله.

فصل
وقد وقع الإخبارُ عن قدرته – سبحانه – على تبديل غيرهم في مواضع من القرآن؛ ففي بعضها (2) قدرتُه على تبديلهم بخيرٍ منهم، وفي بعضها تبديل أمثالهم، وفي بعضها استبداله قومًا غيرهم ثُمَّ لا يكونوا
_________
(1) في جميع النسخ: ربوبية، وكذا في المواضع الباقية في (ك) و (ح)، والصواب ما أثبته.
(2) ساقط من (ز).

(1/290)


أمثالهم. فهذه ثلاثة أمور يجب معرفة ما بينها من الجَمْع والفَرْق:
فحيث وقع التبديلُ بخيرٍ منهم فهو إخبارٌ عن قدرته على أن يذهب بهم، ويأتي بأَطْوَعَ وأتقى له منهم في الدنيا. وكذلك قوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38) } [محمد: 38]، يعني (1) : بل يكونوا خيرًا منكم.
قال مجاهد: “يستبدل بهم من شاء من عباده فيجعَلَهُم خيرًا من هؤلاء، فلم يتولَّوا بحمد الله، ولم يستبدل بهم” (2) .
وأمَّا ذِكْرُهُ تبديلَ أمثالهم، ففي “سورة الواقعة” و”سورة الإنسان”، فقال في “سورة الواقعة”: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) } [الواقعة: 60, 61]، وقال في “سُورة الإنسان”: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) } [الإنسان: 28]، قال كثيرٌ من المفسِّرين: المعنى: أنَّا إذا أَرَدْنا أن نخلق خلقًا (3) غيركم لم يَسْبِقْنَا سَابِقٌ، ولم يَفُتْنا ذلك. وفي قوله: {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) } إذا شئنا أهلكناهم، وأَتَيْنَا بأشباههم، فجعلناهم بَدَلًا منهم.
قال المَهْدَوِيُّ (4) : “قومًا موافقين لهم في الخَلْقِ، مخالفين لهم في
__________
(1) في جميع النسخ: معنى!
(2) أخرجه: ابن جرير في “تفسيره” (11/ 330)، وعزاه السيوطي في “الدر المنثور” (6/ 56) إلى: عبد بن حميد. ولفظه عندهما أخصر مما ههنا.
(3) في (ك): خلقنا.
(4) هو أحمد بن عمار بن أبي العباس المهدوي، المقريء المفسِّر، النحوي اللغوي، له كتاب: “التفصيل الجامع لعلوم التنزيل”، و”الموضح في تعليل =

(1/291)


العمل”، ولم يذكر الواحديُّ ولا ابنُ الجوزي (1) غير هذا القول.
وعلى هذا فتكون هذه الآيات نظير قوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} [النساء: 133]، فيكون استدلالُهُ (2) بقدرته على إذهابهم، والإتيان بأمثالهم = على إتيانه بهم أنفسِهم إذا ماتوا.
ثُمَّ استدلَّ – سبحانه – بالنَّشْأَة الأُولَى، فذكَّرَهُم بها فقال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) } [الواقعة: 62]، فَنَبَّهَهُم بما عَلِمُوه وعاينُوهُ على صدق ما أَخْبَرَتْهُم به رُسُلُه من النَّشْأَة الثانية.
والذي عندي في معنى هاتين الآيتين – وهما آية “الواقعة” و”الإنسان” -؛ أنَّ المراد بتبديل أمثالهم: الخَلْقُ الجديدُ والنَّشْأَةُ الآخرة التي وُعِدُوا بها (3) .
وقد وُفِّقَ الزمخشريُّ لفهم هذا من “سورة الإنسان”، فقال: “وبدَّلْنا أمثالهم في شِدَّة الأَسْرِ، يعني: النَّشْأَة الأُخْرَى”، ثُمَّ قال: “وقيل: بدَّلْنا غيرَهُم ممَّن يُطِيع، وحقه أن يأتي بـ “إنْ” لا بـ “إذا”، كقوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} ” (4) .
__________
= وجوه القراءات”، وغيرهما، توفي سنة (440 هـ) وقيل غير ذلك، رحمه الله. انظر: “الوافي بالوفيات” (7/ 257)، و”طبقات المفسرين” (1/ 56).
(1) انظر: “الوسيط” (4/ 406)، و”زاد المسير” (8/ 151).
(2) في (ح) و (م): استدلالًا.
(3) في (ز) و (ن) و (ك): به.
(4) “الكشاف” (4/ 676).

(1/292)


قلت: وإتيانه بـ “إذا” التي لا تكون إلا للمُحَقَّقِ الوقوعِ يدلُّ على تحققِ وقوع هذا التبديل وأنَّه واقعٌ لا محالة، وذلك هو “النَّشْأَةُ الأُخْرَى” التي استدَلَّ على إمكانها بقوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى} , واستدلَّ على المِثْل بالمثل، وعلى ما أنكروه بما عاينوه وشاهدوه.
وكونهم “أمثالهم” هو إنشاؤُهم خلقًا جديدًا بعينه، فَهُمْ هُم بأعيانهم، وهم أمثالُهم، فَهُم أنفسُهم يُعَادُون. فإذا قلتَ للمُعَادِ: هذا هو الأوَّلُ بعينه؛ صَدَقْتَ، وإن قلتَ: هو مثله؛ صَدَقْتَ. فهُو هُو (1) مُعَادًا، وهو مثل الأوَّل.
وقد أوضح هذا – سبحانه – بقوله: {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) } [ق: 15]، فهذا الخَلْقُ الجديد هو المتضمَّنُ لكونهم أمثالهم. وقد سمَّاهُ الله – سبحانه وتعالى -: إعادةً، والمُعَاد (2) مثل المُبْتَدَأ، وسمَّاهُ “نَشْأَةً أخرى” وهي مثل الأُولى، وسمَّاهُ “خَلْقًا جديدًا” وهو مثل الخَلق الأوَّل كما قال تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) } [ق: 15]، وسمَّاهُم (3) “أمثالًا” وَهُمْ هُمْ. فتطابقت ألفاظ القرآن، وصدَّقَ بعضُها بعضًا، وبيَّنَ بعضُها بعضًا.
وبهذا تزول إشكالاتٌ أوردها من لم يفهم المَعَاد الذي أخبرت به الرُّسُل عن الله – عزَّ وجلَّ -. ولا يُفْهَمُ من هذا القول ما قاله بعض المتأخرين أنَّهم غيرُهم من كلِّ وجهٍ، فهذا خطأٌ قطعًا – مَعَاذَ اللهِ من اعتقاده -، بل هُمْ أمثالُهم، وهُمْ أعيانُهم. وإذا فُهِمَت الحقائقُ فلا يُنَاقِشُ
_________
(1) ساقط من (ز).
(2) في (ك): والإعادة.
(3) “وسماهم” ملحق بهامش (ك)، وفي (ح) و (م): وسمَّاه.

(1/293)


في العبارة إلا ضَيِّقُ العَطَنِ، صغيرُ العقل، ضعيفُ العلم.
وتأمَّلْ قولَهُ – عزَّ وجلَّ – في “الواقعة”: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} [الواقعة: 58 – 60]، كيف ذكر مَبْدَأَ النَّشْأَةِ وآخِرَها؛ مستدِلًّا بها على النَّشْأَة الثانية (1) بقوله: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الواقعة: 60, 61]، فإنكم إنَّما علمتم “النَّشْأَةَ الأُولى” في بطون أمهاتكم ومبدؤها ممَّا تُمْنُون، ولن نُغْلَب على أن نُنشِئكم نشأةً ثانيةً فيما لا تعلمونه، فإذا أنتم (2) أمثال ما كنتم في الدنيا في صوركم وهيئاتكم. وهذا من كمال قدرة الرَّبِّ – تبارك وتعالى – ومشيئته، لو تذكرتم أحوال “النَّشْأَة الأُولَى” لَدَلَّكُم ذلك على قدرة مُنْشِئِها على النَّشْأَة التي كَذَّبْتُم بها.
فأَيُّ استدلالٍ وإرشادٍ أحسنُ من هذا، وأقربُ إلى العقل والفهم، وأبعدُ من كلِّ شبهةٍ وشَكٍّ؟ وليس بعد هذا البيان والاستدلال إلا الكفر بالله وما جاءت به رسله أو الإيمان.
وقال – تعالى – في “سورة الإنسان”: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الإنسان: 28] فهذه النَّشْأَةُ الأُولَى، ثُمَّ قال: {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)} فهذه النَّشْأَةُ الأُخْرَى. ونظير هذا: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47)} [النجم: 45 – 47]، وهذا في القرآن كثيرٌ جدًا، يَقْرِنُ بين النَّشْأتين مُذكِّرًا للفِطَرِ والعقولِ بإحداهما على الأخرى. والله أعلم.
__________
(1) بعدها في جميع النسخ زيادة: الأولى! وهي مقحمة.
(2) بعدها في (ز) و (ن) و (ك) و (ط) زيادة: أما! ولا مكان لها.

(1/294)


فصل

فلمَّا أقام عليهم الحُجَّة وقطع المعذرة قال تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)} [المعارج: 42]، وهذا تهديدٌ شديدٌ يتضمَّنُ: اتْرُكْ هؤلاء الذين قامت عليهم حُجَّتِي فلم يقبلوها، ولم يخافوا بَأْسِي، ولا صَدَّقُوا رسالاتي في خوضهم بالباطل ولعبهم، فالخوضُ بالباطل (1) ضِدُّ التكلُّمِ بالحقِّ، واللَّعِبُ ضِدُّ السَّعْي الذي يعود نَفْعُهُ على ساعيه. فالأوَّلُ ضدُّ العلمِ النَّافع، والثاني ضِدُّ العملِ الصالح؛ فلا تَكَلُّمَ بالحقِّ، ولا عَمَلَ بالصواب. وهذا شأنُ كلِّ من أعرض عمَّا جاء به الرسولُ، لا بدَّ له من هذين الأمرين.
ثُمَّ ذكر – سبحانه – حالهم عند خروجهم من القبور، فقال: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)} [المعارج: 43]، أي: يُسْرِعُون.
و”النُّصُب”: العَلَمُ والغَايَةُ التي تُنْصَبُ فَيَؤُمُّونَها (2).
وهذا من أَلْطَفِ التشبيه، وأَبْلَغِهِ (3)، وأبينه (4)، وأحسنه؛ فإنَّ النَّاس يقومون من قبورهم مُهْطِعِين إلى الداعي، يَؤُمُّونَ الصوت، لا يُعرِّجُون عنه يَمْنةً ولا يَسْرَةً كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ} [طه: 108] أي (5): يُقْبِلُونَ من كُلِّ أَوْبٍ إلى صوته وناحيته، لا
__________
(1) “ولعبهم، فالخوض بالباطل” ملحق بهامش (ن).
(2) في (ك): فيرمونها.
(3) ساقط من (ح) و (م).
(4) ساقط من (ز) و (ن) و (ك) و (ط).
(5) بعدها في (ك) زيادة: لا! وهي مفسدة للمعنى.

(1/295)


يُعَرِّجُون عنه.
قال الفرَّاء: “وهذا كما تقول: دعوتني دعوةً لا عِوَج لك عنها” (1).
وقال الزجَّاج: “المعنى: لا عِوَجَ لهم عن دعائه، أي: لا يقدرون إلا على اتباعه وقَصْدِهِ” (2).
فإنْ قلتَ: إذا كان المعنى (لا عوج لهم عن دعوته)، فكيف قال: {لَا عِوَجَ لَهُ}؟
قيل: قالت طائفةٌ: “اللَّام” بمعنى “عن” (3)، أي: لا عِوَجَ عنه.
وقالت طائفةٌ: المعنى: لا عِوَج لهم عن دعائه، كما قال الزجَّاجُ.
وفي القولين تكلُّفٌ ظاهرٌ.
ولمَّا كانت الدعوة تُسْمِعُ الجميعَ لا تَعْوَجُّ عنهم، وكلُّهم يَؤُمُّ صوتَ الدَّاعي ويتبعه لا يَعْوَجُّ عنه؛ كان مجيء “اللَّام” منتظِمًا للمعنيين ودالًّا عليهما، والمعنى: لا عِوَجَ لدعائه؛ لا في إسماعهم إيَّاهُ، ولا في إجابتهم له.
ثُمَّ قال تعالى: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [المعارج: 44]، فوَصَفَهم بذُلِّ الظاهر، وهو خشوع الأبصار، وذُلِّ الباطن، وهو ما يرهقهم من الذُلِّ (4) الذي خشعت عنه أبصارهم.
__________
(1) “معاني القرآن” (2/ 192).
(2) “معاني القرآن” (3/ 377).
(3) ساقط من (ن) و (ك) و (ط).
(4) “الذل” ملحق بهامش (ك).

(1/296)


وقريبٌ من هذا قوله – عزَّ وجلَّ -: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) } [القيامة: 24, 25]، ونظيره قوله تعالى: {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا} [يونس: 27].
وضِدُّ هذا قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) } [طه: 118]، فنفى عنه الجوعَ الذي هو ذُلُّ الباطن، والعُرِيَّ الذي هو ذُلُّ الظاهر.
وضدُّه – أيضًا – قوله تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) } [الإنسان: 11]، فالنَّضْرَةُ عِزُّ (1) الظاهر وجمالُه، والسرور عِزُّ الباطن وجماله.
ومثله – أيضًا – قوله تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) } [الإنسان: 21]، فجمع بين زينة الظاهر والباطن.
ومثله قوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]، فجمع بين زينة الظاهر والباطن.
ومثله – أيضًا – قوله تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) } [الصافات: 6, 7]، فزيَّنَ ظاهِرَها بالنُّجُوم، وباطِنَها بالحِفْظِ من كل شيطانٍ رجيمٍ.
ومثله – أيضًا – قوله تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [غافر: 64].
__________
(1) تصحفت في (ك) في الموضعين إلى: عن.

(1/297)


وقريبٌ منه قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]، فجَمَع لهم بين الزَّادَين.
ومنه قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)} [آل عمران: 106, 107]، فجمع لهؤلاء بين جمال الظاهر والباطن، ولأولئك بين تسويد الظاهر والباطن.
ومنه قول امرأة العزيز: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف: 32]، فَوَصَفَتْ ظاهِرَهُ بالجَمَال، وباطِنَه بالعِفَّة، فوصفته بجمال الظاهر والباطن، فكأنَّها قالت: هذا ظاهره، وباطنه أحسن من ظاهره.
وهذا كلُّه يدلُّكَ على ارتباط الظاهر بالباطن قَدَرًا وشَرْعًا. والله أعلم بالصواب.

(1/298)


فصل

ومن ذلك قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)} [القلم: 1 – 2].
الصحيح أنَّ “ن” و”ق” و”ص” من حروف الهجاء التي يفتتح الرَّبُّ – سبحانه – بها بعض السور، وهي: أُحادية، وثُنائية، وثُلاثية، ورُباعية، وخماسية، ولم تُجَاوِز الخمسة، ولم تُذكر -قَطُّ – في أوَّل سورةٍ إلا وَعَقِبَها يُذْكَرُ القرآنُ؛ إمَّا مُقْسَمًا به، وإمَّا مُخْبَرًا عنه، ما خلا سورتين: سورة “كهيعص”، و”ن”. كقوله تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 1 – 2] , {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران: 1 – 3]، {المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [الأعراف: 1 – 2] , {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} [الرعد: 1]، وهكذا إلى آخرها.
ففي هذا تنبيهٌ على شَرَفِ هذه الحروف، وعِظَمِ قَدْرِها، وجلالتها؛ إذ هي مباني كلامه، وكُتُبه التي تكلَّم – سبحانه – بها، وأَنزلها على رسله، وهَدَى بها عباده، وعَرَّفَهُم بواسطتها (1) نفسَهُ، وأسماءه، وصفاته، وأفعاله، وأمره، ونهيه، ووَعْدَهُ، ووَعِيدَهُ، وعرَّفَهم بها الخيرَ والشَّرَّ، والحَسَنَ والقبيحَ، وأقدرهم (2) على التكلُّم بها، بحيث يبلغون بها أقصى ما في أنفسِهِم، بأسهل طريقٍ، وأَقَلِّهِ (3) كُلْفَةً ومشقَّةً، وأَوْصَلِهِ إلى المقصود، وأَدَلِّهِ عليه، وهذا من أعظم نعمه عليهم،
__________
(1) ساقط من (ز) و (ن) و (ك) و (ط).
(2) في (ز) و (ن) و (ك) و (ط): وقدرهم.
(3) في (ح) و (م): وقلَّة.

(1/299)


كما هو من أعظم آياته.
ولهذا عاب – سبحانه – على من عبد إلهًا لا يتكلَّمُ، وامتَنَّ على عباده بأن أقدرهم على البيان بها بالكلام (1) . فكان في ذكر هذه الحروف التنبيه على كمال ربوبيته، وكمال إحسانه وإنعامه، فهي أَوْلَى أنْ يُقْسَمَ بها من الليل والنَّهار، والشمس والقمر، والسماء والنُّجُوم، وغيرِها من المخلوقات، فهي دالَّةٌ – أظْهَرَ دلالةٍ – على وحدانيته، وقدرته، وحكمته، وكماله، وكلامه، وصِدْقِ رُسُله.
وقد جمع – سبحانه – بين الأمرين – أعني: القرآنَ، ونُطْقَ الإنسان – وجعل تعليمهما من تمام نعمته وامتنانه، كما قال تعالى: {الرَّحْمَنُ (1 ) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2 ) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) } [الرحمن: 1 – 4]، فبهذه الحروف علَّم القرآن، وبها علَّم البيان، وبها فضَّلَ الإنسانَ على سائر أنواع الحيوان، وبها أنزل كتبه، وبها أرسل رُسُله، وبها جُمِعَت العلوم وحُفِظَت، وبها انتَظَمَتْ مصالح العباد في المَعَاش والمَعَاد، وبها تَمَيَّزَ الحقُّ من الباطل، والصحيحُ من الفاسد، وبها جُمِعَت أشتات (2) العلوم، وبها أمكن تَنَقلُها في الأذهان؛ وكم جُلِبَ بها من نعمةٍ، ودُفِعَ بها من نقمةٍ، وأُقِيلت بها من عثرةٍ (3) ، وأُقيمت بها من حُرْمَةٍ، وهُدِيَ بها من ضلالٍ، وأُقِيم بها من حقٍّ، وهُدِمَ بها من باطلٍ!
فآياته – سبحانه – في تعليم البيان كآياته في خلق الإنسان، و:
__________
(1) في (ح) و (م): بالتكلم.
(2) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: أسباب.
(3) “وأُقيلت بها من عثرة” ساقط من (ك).

(1/300)


لولا عجائِبُ صُنْعِ اللهِ ما ثَبَتَتْ … تلك الفَضَائِلُ في لَحْمٍ ولا عَصَبِ (1)
فسبحانَ من هذا صُنْعُهُ في هواءٍ يخرج من قَصَبة “الرِّئة”، فَيَنْضَمُّ في “الحُلْقُوم”، ثُمَّ يَنْفَرِشُ في أقصى “الحَلْق”، ووسطه، وآخره، وأعلاه، وأسفله، وعلى وسط “اللِّسَان”، وأطرافه، وبين “الثَّنَايا”، وفي “الشَّفَتين”، و”الخَيْشُوم”، فَيُسْمَعُ له عند كل مَقْطَعٍ من تلك المقاطع صوتٌ غير صوت المقطع المجاور له؛ فإذا هو: “حُرُوفٌ”.
فأَلْهَم – سبحانه – الإنسانَ نَظْمَ (2) بعضِها إلى بعضٍ، فإذا هي كلماتٌ قائمةٌ بأنفسها، ثُمَّ أَلْهَمَهُم تأليف تلك الكلمات بعضها إلى بعضٍ فإذا هي (3) كلامٌ دالٌّ على أنواع المعاني: أمرًا، ونهيًا، وخبرًا، واستخبارًا، ونفيًا، وإثباتًا، وإقرارًا، وإنكارًا، وتصديقًا (4) ، وتكذيبًا، وإيجابًا (5) ، واستحبابًا، وسؤالًا، وجوابًا، إلى غير ذلك من أنواع الخِطَابِ: نَظْمِهِ، ونَثْرِهِ، ووجيزه، ومُطَوَّلِهِ، على اختلاف لُغَاتِ الخلائق. كلُّ ذلك صَنْعتُه – تبارك وتعالى – في هواءٍ مُجَرَّدٍ خارجٍ من باطن الإنسان إلى ظاهره، جَارٍ في مَجَارٍ قد هُيِّئَتْ وأُعِدَّت لتقطيعه وتفصيله، ثُمَّ لِتأْلِيفِهِ وتوصيله، فتبارك الله ربُّ العالمين، وأحسنُ الخالقين، فهذا شأن الحرف المخلوق.
__________
(1) البيت لابن الرومي “ديوانه” (1/ 196)؛ ولفظه:
لولا عجائب لُطْفِ الله ما نَبتَتْ … تلك الفضائلُ في لحمٍ وفي عَصَبِ
(2) في (ح) و (م): يضم.
(3) من قوله: “كلمات قائمة. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ز).
(4) ساقط من (ز) و (ن) و (ك) و (ط).
(5) من قوله: “واستخبارًا. . .” إلى هنا؛ ملحق بهامش (ن).

(1/301)


وأمَّا الحرف الذي تُكَوَّنُ به المخلوقاتُ فشأنُهُ أعلى وأجلُّ، وإذا كان هذا (1) شأنُ الحروف فحقيقٌ أن تُفْتَتَحَ بها السُّوَرُ كما افتُتِحَت بالأقسام؛ لما فيها من آياتِ الربوبية، وأدلَّةِ الوحدانية. فهي دالَّةٌ على كمال قدرته سبحانه، وكمال علمه، وكمال حكمته، وكمال رحمته، وعنايته بخلقه، ولُطْفه، وإحسانه.
وإذا أَعْطَيتَ الاستدلالَ بها حقَّهُ استَدْلَلْتَ بها على المبدأ، والمَعَاد، والخَلْق، والأمر، والتوحيد، والرِّسالة؛ فهي من أظهر أدلَّة (2) شهادة “أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا عبده ورسوله”، وأنَّ القرآنَ كلامُ الله، تكلَّمَ به حقًّا، وأنزله على رسوله وحيًا، وبلَّغَهُ كما أُوحيَ إليه صدقًا. ولا تُهْمِل الفِكْرَةَ في كلِّ سورةٍ افتُتِحَتْ بهذه الحروف، واشتمالها على آيات هذه المطالب وتقريرها. وبالله التوفيق.

فصل
ثُمَّ أقسَمَ – سبحانه – بـ “القلم وما يسطرون”، فأقسم بالكتاب وآلته وهو “القلم” الذي هو إحدى آياته، وأوَّلُ مخلوقاته الذي جَرَى به قَدَرُهُ وشَرْعُه، وكُتِبَ به الوحيُ، وقُيِّدَ به الدِّينُ، وأُثبِتَتْ به الشريعة، وحُفِظَتْ به العلوم، وقامت به مصالح العباد في المَعَاش والمَعَاد؛ فَوُطِّدَتْ به الممالك، وأُمِّنَتْ به السُّبُلُ والمسالك، وأقام في النَّاس أبلغَ خطيبٍ وأفصحَهُ، وأنفعَهُ لهم وأنصحَهُ، وواعظًا تشفي مواعظُه القلوب من السَّقَم، وطبيبًا يُبْرِيءُ – بإذْنِ بارئه – من أنواع الألم، يكسر العساكر
__________
(1) ساقط من (ز) و (ن) و (ك).
(2) ساقط من (ز).

(1/302)


العظيمة على أنَّه الضعيف الوحيد، ويَخَافُ سَطْوَتَهُ وبأسَهُ ذو البأس الشديد، وبالأقلام تُدَبَّرُ الأقاليمُ، وتُسَاسُ الممالك.
و”القَلَمُ” لسانُ الضمير، يناجيه بما استتر عن الأسماع، فيَنْسِجُ حُلَلَ المعاني في الطرفين فتعود أحسنَ من (1) الوَشْي المرقوم، ويُودِعُها (2) حِكَمَهُ فتصير موارد الفهوم، والأقلام نظامًا للأفهام.
وكما أنَّ “اللِّسَان” بريد “القلب” فـ “القَلَمُ” بريد “اللِّسَان”، وتولُّدُ الحروف المسموعة عن “اللِّسان” كتولُّدِ الحروف المكتوبة عن “القَلَمِ”، و”القَلَمُ” بريدُ “القلب”، ورسولُه، وترجمانُه، ولسانُه الصامت.

فصل
والأقلامُ متفاوِتةٌ في الرُّتَب، فأعلاها وأجلُّها قَدْرًا: قَلَمُ القَدَرِ السابِقِ؛ الذي كتب الله به مقادير الخلائق، كما في “سنن أبي داود” عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “إنَّ أوَّلَ ما خلق اللهُ القَلَمَ، فقال له: اكتُبْ، قال: يا رَبِّ؛ وما أكتُبُ؟ قال: اكتُبْ مقادير كلِّ شيءٍ حتَّى تقومَ الساعةُ” (3).
__________
(1) ساقط من (ك).
(2) في (ز) و (ن) و (ك) و (ط): ويدعها.
(3) أخرجه: ابن وهب في “القدر” رقم (26 و 27)، وأحمد في “المسند” (5/ 317)، وابن أبي شيبة في “المصنف” (14/ 114)، والطيالسي في “مسنده” رقم (578)، وأبو داود في “سننه” رقم (4700)، والترمذي في “سننه” رقم (2155 و 3319)، وابن أبي عاصم في “السنَّة” رقم (106 و 107 و 108 و 109)، والبخاري في “التاريخ الكبير” (6/ 92)، وغيرهم من حديث عبادة بن الصامت – رضي الله عنه -. =

(1/303)


واختلف العلماء: هل “القَلَمُ” أوَّلُ المخلوقات أو “العَرْشُ”؟ على قولين، ذكرهما الحافظ أبو العلاء الهَمَذَاني (1)، أصحُّهُما أنَّ “العرشَ” قبل “القلم” (2)؛ لما ثبت في “الصحيح” (3) من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “قدَّرَ اللهُ مقادِيرَ الخَلَائِقِ قبلَ أن يخلُقَ السماواتِ والأرضَ بخمسينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وعَرْشُهُ على الماءِ”. فهذا صريحٌ في أنَّ التقدير وقع بعد (4) خَلْق “العَرْشِ”، والتقدير وقع عند أوَّلِ خَلْقِ القَلَمِ لحديث عبادة هذا.
ولا يخلو قوله: “إنَّ أوَّلَ ما خلَقَ اللهُ القَلَمَ”. . . إلى آخره؛ إمَّا أن يكون جملةً أو جملتين:
__________
= وللحديث شواهد، ولطرقه متابعات يتقوَّى بها، وقد حسَّنه: ابن المديني كما في “النكت الظراف” (4/ 261).
(1) في (ز) و (ن) و (ك) و (ح) و (م): الهَمْداني، والصواب ما أثبته كما في (ط).
والهَمَذاني هو: أبو العَلَاء الحسن بن أحمد بن الحسن العطَّار، الإمام الحافظ المقريء، شيخ الإسلام في هَمَذان بلا مدافعة، كان إليه المنتهى في القراءات والحديث والأدب، صنَّف: “الانتصار في معرفة قُرَّاء المدن والأمصار”، و”زاد المسافر” وغير ذلك، توفي بهَمَذَان سنة (569 هـ) رحمه الله.
انظر: “التقييد” (1/ 290)، و”غاية النهاية” (1/ 204)، و”السير” (21/ 40).
(2) وهو قول جمهور السلف كما قاله غير واحدٍ، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية “مجموع الفتاوى” (18/ 213).
واختاره: البيهقي في “الأسماء والصفات” (2/ 238)، وشيخ الإسلام، وابن كثير في “البداية والنهاية” (1/ 13)، والحافظ في “الفتح” (6/ 334)، وغيرهم.
(3) أخرجه مسلم في “صحيحه” رقم (2653)، بلفظ: “كتب الله. . . إلخ”.
(4) في (ح) و (م): قبل! وهو خطأ يفسد وجه الاستدلال.

(1/304)


فإن كان جملةً – وهو الصحيحُ – كان معناه: أنَّه عندَ أوَّلِ خَلْقِهِ قال له: “اكتُبْ”، كما في اللفظ [الآخَر] (1): “أوَّلَ ما خلقَ اللهُ القَلَمَ قال له: اكتُبْ” بنَصْبِ “أوَّلَ”، و”القَلَمَ”.
وإن كان جملتين – وهو مرويٌّ بِرَفْع “أَوَّلُ” و”القَلَمُ” – فيتعيَّنُ حَمْلُهُ على أنَّه أوَّلُ [الـ] (2) ــمخلوقاتِ من هذا (3) العالم، لِيَتَّفِقَ الحديثان؛ إذ حديث عبد الله بن عمرو صريحٌ في أنَّ “العَرْشَ” سابقٌ على التقدير، والتقديرُ مقارِنٌ لخَلْقِ القَلَمِ، وفي اللفظ الآخر: “لمَّا خَلَقَ اللهُ القَلَمَ قال له: اكتُبْ”.
فهذا “القَلَمُ” أوَّلُ الأقلام، وأفضلُها، وأجلُّها. وقد قال غير واحدٍ من أهل التفسير إنَّه “القَلَمُ” الذي أقسَمَ الله – تعالى – به.

فصل
القلم الثاني: قَلَمُ الوحي، وهو الذي يكتب به وحي الله – عزَّ وجلَّ – إلى أنبيائه ورسله.
وأصحاب هذا “القَلَم” هم الحكَّامُ على العالَم، والعالَمُ خَدَمٌ لهم، وإليهم الحَلُّ والعَقْدُ، والأقلامُ كلُّها خَدَمٌ لأقلامهم.
وقد رُفِعَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – ليلةَ أُسْرِيَ به إلى مُسْتَوىً يَسْمَعُ فيه صَرِيفَ الأقلام (4). فهذه الأقلامُ هي التي تكتُبُ ما يُوحيه الله – تبارك وتعالى –
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) زيادة يقتضيها الكلام.
(3) في (ز) و (ن) و (ك) و (ح) و (ط): هذه، وما أثبته من (م).
(4) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (349 و 3342)، ومسلم في “صحيحه” =

(1/305)


من الأمور التي يُدَبِّرُ بها أمر العالَمِ العُلْويِّ والسُّفْلِيِّ (1).

فصل
والقلم الثالث: قَلَمُ التوقيع عن الله ورسوله، وهو قَلَمُ الفقهاء والمُفْتين.
وهذا “القَلَمُ” – أيضًا – حاكمٌ غيرُ محكومٍ عليه، فإليه التحاكم في الدماء، والأموال، والفُرُوج، والحقوق. وأصحابُهُ مُخْبِرُون عن الله بحكمه الذي حكم به بين عباده، وأصحابه حُكَّامٌ وملوكٌ على أرباب الأقلام، وأقلامُ العالَمِ خَدَمٌ لهذا “القَلَم”.

فصل
القلم الرابع: قَلَمُ طِبِّ الأَبْدَانِ التي تُحفَظُ بها صحَّتُها الموجودة، وتُرَدُّ إليها به صحَّتُها المفقودة، وتُدْفَعُ به عنها آفاتُها وعوارضُها المضادَّةُ لصحَّتها.
وهذا القَلَمُ أنفعُ الأقلام بعد قَلَم طِبِّ الأديان، وحاجة النَّاس إلى أهله تلتحق بالضرورة.
__________
= رقم (163) من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – المطوَّل في الإسراء.
و”صَرِيفُ الأقلام”: تصويتها حال الكتابة، قال الخطَّابي: “معناه – والله أعلم – ما يكتبه الملائكة من أقضية الله – عزَّ وجلَّ – ووَحْيه، وما يَنْتَسِخُونَهُ من اللوح المحفوظ”. “أعلام الحديث” (1/ 348).
(1) هذا الفصل والذي قبله نقله بالحرف ابنُ أبي العِزِّ الحنفي في “شرح العقيدة الطحاوية” (2/ 344 – 346).

(1/306)


فصل

القلم الخامس: قَلَمُ التوقيع عن الملوك ونُوَّابِهم، وبه تُسَاسُ الممالك (1)، ولهذا كان أصحابُهُ أعزَّ أصحاب الأقلام، المشاركون للملوك في تدبيرِ الدُّوَل، فإن صَلُحَتْ أقلامهم صَلُحَت (2) المملكة، وإن فَسَدَت أقلامهم فسَدَت المملكة، وهم وسائط بين الملوكِ ورعاياهم.
فصل
القَلَمُ السادس: قَلَمُ الحساب، وهو “القَلَمُ” الذي تُضْبَطُ به الأموال، مُسْتَخْرَجُها، ومصرُوفُها، ومقادِيرُها، وهو قَلَمُ الأرزاق، وهو قَلَمُ الكَمِّ المتَّصِلِ والمُنْفَصِلِ، الذي تُضْبَطُ به المقادير وما بينها (3) من التفاوت والتناسب. ومبناه على الصدق والعدل، فإذا كَذَبَ هذا “القَلَمُ” وظَلَمَ فَسَدَ أَمْرُ المملكة.

فصل
القلم السابع: قَلَمُ الحكم الذي تثبت به الحقوق، وتُنَفَّذُ به القضايا، وتُرَاقُ به الدماء، وتُؤخَذُ به الأموالُ والحقوقُ من اليد العَادِيَةِ، فتُرَدُّ إلى اليد المُحِقَّةِ، وتُثْبَتُ به الأنساب، وتنقطع به الخصومات.
وبين هذا “القَلَم” وقَلَمِ التوقيع عن الله عمومٌ وخصوصٌ، فهذا له النُّفُوذُ واللُّزُومُ، وذاكَ له العمومُ والشمولُ، وهو قَلمٌ قائمٌ بالصِّدْقِ فيما
__________
(1) في (ح) و (م): وبه يُسَاسُ المُلْك.
(2) في (ك): فإن صحت أقلامهم صحت المملكة.
(3) في (ز): وما بينهما.

(1/307)


يُثْبِتُه، وبالعدل فيما يُمْضِيه ويُنفِذُه.

فصل
القلم الثامن: قَلَمُ الشَّهَادة، وهو “القَلَمُ” الذي تُحْفَظُ به الحقوق، وتُصَانُ عن الإضَاعَةِ، وتَحُولُ بين الفاجر وإنكاره، ويُصَدَّقُ الصادِق، ويُكذَّبُ الكاذِب، ويُشْهَدُ للمُحِقِّ بحقِّهِ، وعلى المُبْطِلِ بباطله. وهو الأمين على الدماء، والفروج، والأموال، والأنساب، والحقوق، ومتى خَانَ هذا القَلَم فَسَدَ أَمْرُ العالَمِ أعظَمَ فَسَادٍ، وباستقامته يَسْتَقيمُ أمرُ العالَمِ، ومَبْنَاهُ على العلمِ وعَدَمِ الكتمان.
فصل
القلم التاسع: قَلَمُ التعبير، وهو كاتِبُ وَحْي المَنَامِ، وتفسيرِهِ، وتعبيرِهِ، وما أُرِيدَ به. وهو قَلَمٌ شريفٌ جليلٌ، مترجِمٌ للوحي المنامي، كاشِفٌ له. وهو من الأقلام التي تصلح للدنيا والدِّين، وهو يعتمد طهارةَ صاحبه ونزاهَتَهُ، وأمانَتَهُ، وتحرِّيه للصدق، وللطرائق الحميدة، والمناهج السديدة، مع علمٍ راسِخٍ، وصفاءِ باطِنٍ، وحِسٍّ (1) مُؤَيَّدٍ بالنُّور الإلهي، ومعرفةٍ بأحوالِ الخَلْقِ، وهيئاتِهم، وسِيَرهِم.
وهو من أَلْطَفِ الأقلام، وأعَمِّها جَوَلَانًا، وأوسعِها تصرُّفًا، وأشدِّها (2) تَشَبُّثًا بسائر الموجودات: عُلْوِيِّها وسُفْلِيِّها، وبالماضي والحال والمستقبل.
__________
(1) تصحفت في (ك) و (ح) و (م) إلى: وحسن!
(2) في جميع النسخ: وأسدِّها، والصواب ما أثبته.

(1/308)


فتصرُّفُ هذا “القَلَم” في المنام هو مَحَلُّ ولايته، وكُرسيُّ مملكته وسلطانه.

فصل
القلم العاشر: قَلَمُ تواريخِ العالَم ووقائعه. وهو “القَلَمُ” الذي تُضْبَطُ به الحوادِثُ، وتُنقَلُ من أمَّةٍ إلى أُمَّةٍ، ومن قَرْنٍ إلى قَرْنٍ، فَيَحْصُرُ ما مَضَى من العالَم وحوادثه في الخيال، ويَنْقُشُهُ في النَّفْسِ، حتَّى كأنَّ السامِعَ يرى ذلك ويَشْهَدُه، فهو قَلَمُ المَعَادِ الرُّوحاني.
وهذا “القَلَم” قَلَمُ العجائب؛ فإنَّه يُعيد لك العالَمَ في صورة الخيال، فتراه بقلبك، وتُشَاهِدُهُ ببصيرتك.

فصل
القلم الحادي عشر: قَلَمُ اللُّغَة وتفاصيلها من شرح معاني ألفاظِها المُفْرَدَة، ونَحْوِها، وتَصْرِيفِها، وأسرارِ تراكيبِها، وما يتبع ذلك من أحوالها ووجوهِها، وأنواعِ دلالاتها على المعاني، وكيفية الدلالة.
وهو قَلَمُ التعبير عن المعاني باختيار (1) أحسن الألفاظ، وأعذبها، وأسهلها، وأوضحها.
وهذا “القَلَم” واسعُ التصرُّفِ جدًّا بحسب سَعَةِ الألفاظ وكثرةِ مجاريها وتنوُّعِها.
__________
(1) في جميع النسخ: بإخبار، وهو تحريف.

(1/309)


فصل

القلم الثاني عشر: القلَمُ الجامع، وهو قَلَمُ الرَّدِّ على المُبْطِلِين، ورَفْعِ سُنَّةِ المُحِقِّين، وكشْفِ أباطيل المُبْطِلِين على اختلاف أنواعها وأجناسها، وبيانِ تناقُضِهم، وتهافُتِهم، وخروجِهم عن الحقِّ، ودخولِهم في الباطل.
وهذا “القَلَمُ” في الأقلام نظير الملوك في الأنام (1)، وأصحابُه أهلُ الحُجَّةِ النَّاصِرُون لما جاءت به الرُّسُل، المحاربون لأعدائهم، وهم الداعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، المجادلون لمن خرج عن سبيله بأنواع الجدال. وأصحاب هذا “القلم” حربٌ لكلِّ مُبْطِل، عَدُوٌّ لكلِّ مخالفٍ للرُّسُل. فَهُمْ في شأنٍ، وغيرُهم من أصحاب الأقلام في شأنٍ.
فهذه الأقلام التي بها انتظامُ مصالح العالم.
ويكفي في جلالة “القَلَم” أنَّه لم تُكتَبْ كُتُبُ اللهِ إلا به، وأنَّ الله – سبحانه – أقسَمَ به في كتابه، وتَعَرَّفَ إلى غيره بأنْ علَّمَ بالقَلَم، وإنَّما وصل إلينا ما بُعِثَ به نبيُّنا – صلى الله عليه وسلم – بواسطة “القَلَم”. ولقد أبدع أبو تمَّام (2) إذ يقول في وصفه:
لَكَ القَلَمُ المَاضِي (3) الذي بِشَبَاتِهِ … تُصَابُ من الأَمْرِ الكُلَى والمَفَاصِلُ
__________
(1) تصحفت في (ن) و (ك) إلى: الأيام.
(2) “ديوانه” (3/ 122) بشرح الخطيب التبريزي.
(3) كذا في جميع النسخ، وفي الديوان: الأعلى.
والشَّبَاةُ: الحدُّ. والكُلَى: جمع كُلْيَة. والمفاصل: جمع مَفْصِل.

(1/310)


لَهُ رِيقَةٌ طَلٌّ، ولكنَّ وَقْعَها … بآثَارِهِ في الغَرْبِ والشَّرْقِ (1) وَابِلُ
لُعَابُ الأفَاعِي القَاتِلاتِ لُعَابُهُ … وَأَرْيُ (2) الجَنَى اشْتَارَتْهُ أَيْدٍ عَوَاسِلُ
لَهُ الخَلَوَاتُ اللَّاءِ لولا نَجِيُّها … لَمَا احتَفَلَتْ (3) للمُلْكِ تِلكَ المَحَافِلُ
فَصِيحٌ إذا استَنْطَقْتَهُ وهْوَ رَاكِبٌ … وأَعْجَمُ إنْ خاطَبْتَهُ وهْو رَاجِلُ
إذا ما امتَطَى الخَمْسَ اللِّطَافَ وأُفْرِغَتْ … عليه شِعَابُ الفِكْرِ وهْيَ حَوَافِلُ
أَطَاعَتْهُ أطْرَافُ القَنَا (4) ، وتَقَوَّضَتْ … لِنَجْوَاهُ تَقْوِيضَ الخِيَامِ الجَحَافِلُ
إذا اسْتَغْزَرَ الذِّهْنَ الذَّكِيَّ وأَقْبَلَتْ … أَعَالِيهِ في القِرْطَاسِ وهْيَ أَسَافِلُ
وقَدْ رَفَدَتْهُ الخِنْصَرانِ وشَدَّدَتْ (5) … ثَلاثَ نَوَاحِيهِ الثَّلاثُ الأنَامِلُ
__________
(1) كذا في جميع النسخ، وفي الديوان: الشرق والغرب.
(2) في جميع النسخ: وأرش، والتصحيح من الديوان.
قال الخطيب التبريزي: “الجَنَى: اسمٌ عام يقع على كل ما اجتُني، فجائزٌ أن يُسمَّى “الأَرْيُ” جَنىً؛ لأنه يُجْنَى من مواضع النَّحْل، ولعموم الجَنَى في اللفظ حَسُنت إضافة الأَرْي إليهِ؛ لأن بعض الشيء يضاف إِلى كله. ولما كان “الأَرْيُ” يُستعمل في المطر وما لَصِقَ بالقِدْرِ: قَوَّى ذلك إضافَتَه في هذا الموضع.
واشْتَارَته: في موضع نصبٍ على الحال. والعواسِلُ: التي تأخذ العَسَل” (3/ 123).
(3) في جميع النسخ: اختلفت! والتصحيح من الديوان.
(4) كذا في جميع النسخ، وهو موافق لبعض نسخ الديوان، وجوَّده ابن المستوفى.
وفي الأصل من رواية الديوان: أطرافٌ لها.
انظر تعليق: محمد عبده عزَّام على “شرح الخطيب التبريزي لديوان أبي تمَّام” (3/ 124).
(5) في (ن) و (ك) و (ط) بالمهملة: وسدَّدَت.

(1/311)


رأَيتَ جليلًا شَأْنُهُ وهْوَ مُرْهَفٌ (1) … ضَنَىً، وسمِينًا خَطْبُهُ وهْوَ هازِلُ (2)

فصل
والمُقْسَمُ عليه بالقَلَم والكتابة في هذه السورة تنزيهُ نبيِّه ورسولِهِ – صلى الله عليه وسلم – عمَّا يَقول فيه أعداؤه، وهو قوله تعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)} [القلم: 2].
وأنتَ إذا طابَقْتَ بين هذا القَسَم والمُقْسَم به وجدتَه دالًّا عليه أظْهَرَ دلالةٍ وأَبْيَنَها، فإنَّ ما سطَّر الكاتِبُ (3) بالقَلَمِ من أنواع العلوم التي يتلقَّاها البشر بعضهم عن بعضٍ لا تَصْدُرُ من مجنونٍ، ولا تصدر إلا ممَّن (4) له عقْلٌ وافِرٌ، فكيف يصْدُرُ ما جاء به الرسولُ من هذا الكتاب الذي هو في أعلى درجات العلوم! بل العلوم التي تضمَّنَها ليس في قُوَى البَشَر الإتيانُ بها، ولَاسِيَّما من أُمِّيٍّ لا يقرأ كتابًا، ولا يَخُطُّهُ بيمينه، مع كونه في أعلى أنواع الفصاحة، سليمًا من الاختلاف، بريًّا من التناقض، يستحيل من العقلاء كلِّهم لو اجتمعوا في صعيدٍ واحدٍ أن يأتوا بمثله، ولو كانوا على عقْلِ رجلٍ واحدٍ منهم، فكيف يَتَأتَّى (5) ذلك من مجنونٍ لا عقْلَ له يُمَيِّزُ به ما عسى كثيرٌ من الحيوان أن يُمَيِّزَهُ، وهل هذا إلا من أقبح البهتان (6)، وأظهر الإفك.
__________
(1) في (ز) و (ن) و (ك) و (ط): مُرْهَقٌ.
(2) كذا في جميع النسخ، وفي الديوان: ناحِلُ.
(3) في (ز): الكتاب.
(4) في (ن): مَنْ، وفي (ح) و (م): مِن عقلٍ.
(5) في (ز) و (ن) و (ك) و (ط): يأتي.
(6) في جميع النسخ: الهيآت، وهو تحريف.

(1/312)


فتأمَّلْ شهادَةَ هذا المُقْسَم به للمُقْسَم به عليه، ودلالته عليه أتمَّ دلالة.
ولو أنَّ رجلًا أنشأ رسالةً واحدةً بديعةً، منتظِمة الأوَّل والآخر، متساوية الأجزاء، يُصَدِّقُ بعضُها بعضًا، أو قال قصيدةً كذلك، أو صنَّفَ كتابًا كذلك؛ لَشَهِدَ له العقلاءُ بالعقل، ولَمَا استجازَ أحدٌ رَمْيَهُ بالجنون، مع إمكانِ – بَلْ (1) وقوعِ – مُعَارَضَتِها، ومُشَاكَلَتِها، والإتيانِ بمثلها أو أحسن منها، فكيف يُرْمَى بالجنون من أتى بما عَجَزَت العقلاء كلُّهم – قاطبةً – عن معارضته ومماثلته، وعرَّفَهم من الحقِّ ما لا تهتدي إليه عقولُهم، بحيث أذْعَنَتْ له عقولُ العقلاء، وخضَعَتْ له ألْبَابُ الأَلِبَّاءِ، وتَلَاشَتْ في جَنْب ما جاء به، بحيث لم يَسَعْها إلا التسليمُ له والانقيادُ والإذعانُ طائعةً مختارةً، وهي ترى عقولَها أشدَّ فقرًا وحاجةً إلى ما جاء به، ولا كمال لها إلا بما جاء به؟! فهو الذي كمَّلَ عقولَها كما يُكَمَّلُ الطفلُ برضاع الثَّدْي.
ولهذا أتباعُهُ أَعْقَلُ الخَلْقِ على الإطلاق، وهذه مؤلَّفاتُهم وكتُبُهم في جميع الفنون إذا وازَنْتَ (2) بينها وبين مؤلَّفات مخالفيه ظهر لك التفاوت بينها. ويكفي في عقولهم أنَّهم عَمَرُوا الدنيا بالعلم والعدل، والقلوبَ بالإيمان والتقوى. فكيف يكون مَتْبُوعُهُم مجنونًا وهذا حالُ كتابه، وهَدْيهِ، وسيرتهِ، وحالُ أتباعِهِ؟!
وهذا إنَّما حصل له ولأتباعه بنعمة الله عليه وعليهم، فنَفَى عنه
__________
(1) ساقط من (ز).
(2) في (ز): قارَنْتَ.

(1/313)


الجنونَ بنعمته عليه.
وقد اختُلِفَ في تقدير (1) الآية (2):
فقالت فرقةٌ: “الباء” في {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} بَاءُ القَسَم، فهو قَسَمٌ آخَرُ اعتَرضَ بين المحكُومِ به والمحكوم عليه، كما تقول: ما أنتَ باللهِ بكاذِبٍ.
وهذا التقدير ضعيفٌ جدًّا؛ لأنَّه قد تقدَّمَ القَسَمُ الأوَّلُ، فكيف يقع القَسَمُ الثاني في جوابه؟! ولا يحسُنُ أن تقول: واللهِ ما أنتَ باللهِ بقائمٍ، وليس هذا من فصيح الكلام، ولا عُهِدَ به في كلامهم.
وقالت فرقةٌ: العامل في {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} أداةُ معنى النفْي، أو معنى: انْتَفَى (3) عنكَ الجنونُ بنعمة ربِّك.
ورَدَّ أبو عمرو بن الحاجب (4) وغيرُه هذا القولَ بأنَّ الحروفَ لا تَعْمَلُ معانيها، وإنَّما تَعْمَلُ ألفاظُها (5).
__________
(1) في (ز): تقرير.
(2) انظر لهذه الأقوال: “معالم التنزيل” (8/ 187)، و”الجامع” (18/ 226)،
و”الدر المصون” (10/ 399)، و”فتح القدير” (5/ 355)، و”التحرير والتنوير” (29/ 62).
(3) في جميع النسخ: أنفي، والصواب ما أثبته.
(4) هو عثمان بن عمر بن أبي بكر الدَّويني، أبو عمرو بن الحاجب، العلامة الفقيه
الأصولي النحوي، شيخ المالكية في زمنه، برع في القراءات واللغة، ومصنفاته سارت بها الركبان، توفي بالإسكندرية سنة (646 هـ) رحمه الله.
انظر: “وفيات الأعيان” (3/ 248)، و”السير” (23/ 264).
(5) قال ابن الحاجب في “أماليه” (1/ 241):
” (الباء) في “بنعمة ربك” متعلِّقةٌ بالنفي، لا بقوله “بمجنون”؛ إذ لو عُلِّق به =

(1/314)


وقال الزمخشريُّ: “يتعلَّق بـ “مجنون” (1) مَنْفِيًّا، كما يتعلَّق بعاقِلٍ مُثْبَتًا في قولك: أنتَ بنعمةِ اللهِ عاقِلٌ، مُسْتَوِيًا (2) في ذلك الإثبات والنَّفْي استواءَهما في قولك: ضَرَبَ زيدٌ عَمْرًا، وما ضَرَبَ زيدٌ عَمْرًا (3) ، تُعْمِلُ الفعلَ مُثبَتًا ومَنْفِيًّا إعمالًا واحدًا، ومَحَلُّهُ النَّصْبُ على الحال، أي: ما أنت بمجنون مُنْعَمًا عليك بذلك. ولم تَمْنَعِ “الباءُ” أنْ يَعْمَلَ (مجنون) فيما قبله؛ لأنَّها زائدةٌ لتأكيد النَّفْي” (4) .
واعتُرِض عليه (5) بأنَّ النَّفْيَ (6) إذا تسلَّط على محكومٍ به، وله معمولٌ، فإنَّه يجوز فيه وجهان:
__________
= لكان المراد نفيَ جنونٍ من نعمة الله، وذلك غير مستقيم من وجهين:
أحدهما: أنه لا يُوصف جنونٌ من نعمة الله.
والآخر: أنه لم يُرَدْ نفيُ جنونٍ مخصوص، وإنما أُريدَ نفيه عمومًا.
فتحقَّقَ أنَّ المعنى: أنه انتفى عنك الجنون مطلقًا بنعمة الله، وعلى هذا يُحْكَم في التعلُّق، فإن صحَّ تعلُّقه بالفعل، وإلا عُلِّق بالحرف”.
قال ابن هشام بعد أن نقل ملخصه: “وهو كلامٌ بديعٌ، إلا أنَّ جمهور النحويين لا يوافقون على صحة التعلق بالحرف، فينبغي على قولهم أن يُقدَّر أنَّ التعلق بفعلٍ دلَّ عليه النافي، أي: انتفى ذلك ينعمة ربِّك”.
“مغني اللبيب” (5/ 298).
(1) في جميع النسخ من أول الآية: “بنعمة ربك بمجنون”، والتصحيح من “الكشاف”، وبه يتضح الكلام.
(2) في (ز): يستوي، وفي (ن) و (ك) و (ح) و (م): يستويا.
(3) المثال الثاني ساقط من (ز).
(4) “الكشاف” (4/ 589 – 590).
(5) المعترِض هو أبو حيَّان في “البحر المحيط” (8/ 302).
(6) ساقط من (ن) و (ك) و (ط)، وألحق بهامش (ز)، وفي (م) وهامش (ح): العامل.

(1/315)


أحدهما: نَفْيُ ذلك المعمول فقط، نحو قولك: ما زيدٌ بذاهبٍ مُسْرِعًا، فإنَّه ينتفي الإسراعُ دون القيام، ولا يمتنع أن يثبت له ذهابٌ في غير إسراعٍ.
والثاني: نَفْيُ المحكوم به، فينتفي معموله بانتفائه، فينتفي “الذهاب” في هذا الحال، فينتفي الإسراع بانتفائه.
فإذا جعل {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} معمولًا لـ “مجنون” لَزِمَ أَحَدُ الأمرين، وكلاهما مُنْتَفٍ جزمًا.
وهذا الاعتراض – هُنَا – فاسِدٌ؛ لأنَّ المعنى إذا جُعِل (1) “ما أنت بمجنونٍ مُنْعَمًا عليك” لزِمَ من صِدْق هذا الخبر نَفْيُهُما (2) قطعًا، ولا يصحُّ نفي المعمول وثبوت العامل في هذا الكلام، ولا يَفْهَمُه منه من له آلةُ الفهم، وإنَّما يَفْهَمُ الآدميُّ من هذا الكلام أنَّ الجنون انتفى عنك بنعمة الله عليك، وانتفى عنَّا ما فهمه هذا المعترِضُ بنعمة الله علينا.
ثُمَّ أخبر – سبحانه – عن كمال حالتي نبيِّه – صلى الله عليه وسلم – في دنياه وأُخْرَاه فقال تعالى: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)} [القلم: 3]، أي: غير مقطوعٍ، بل هو دائمٌ مستمرٌّ.
ونَكَّرَ الأجْرَ تنكير تعظيم، كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} [النور: 44] , و {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} [البقرة: 248]، و {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى} [الزمر: 21]، و {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31)} [النبأ: 31]، و {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)} [ص: 25]، وهو كثيرٌ، وإنَّما كان التنكير
__________
(1) في (ن) و (ك) و (ح) و (ط) و (م): حصل.
(2) في (ن) و (ك): تفهمًا، وفي (ط): تفهيمًا.

(1/316)


للتعظيم؛ لأنَّه (1) صُوِّرَ للسامع بمنزلة أمرٍ عظيمٍ لا يدركه الوصف، ولا يناله التعبير (2).
ثُمَّ قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]، وهذه من أعظم آيات نُبُوَّتِهِ ورسالته، لمن مَنَحَهُ اللهُ فهمها (3). ولقد سُئلَتْ أمُّ المؤمنين عن خُلُقه – صلى الله عليه وسلم -، فأجابت بما شَفَى وكَفَى، فقالت: “كان خُلُقُه القرآنُ” (4)، فهَمَّ سائِلُها أن يقوم ولا يسألها شيئًا بعد ذلك.
وقال ابن عباس وغيرُه: “أي: على دينٍ عظيمٍ” (5).
وسمَّى “الدِّين” خُلُقًا؛ لأنَّ الخُلُق هيئةٌ مركَّبَةٌ من علومٍ صادقةٍ، وإراداتٍ زاكيةٍ، وأعمالٍ – ظاهرةٍ وباطنةٍ – موافقةٍ للعدل والحكمة والمصلحة، وأقوالٍ مطابقةٍ (6) للحقِّ، تصدر تلك الأقوال والأعمال عن تلك العلوم والإرادات، فتكتسب النفسُ بها أخلاقًا هي أزكى الأخلاقِ وأشرفها وأفضلها.
فهذه كانت أخلاق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المقتبسة من مشكاة القرآن، فكان كلامه مطابقًا للقرآن؛ تفصيلًا له وتبيينًا، وعلومُهُ علوم القرآن، وإراداتُهُ (7) وأعمالُهُ ما أوجبَهُ ونَدَبَ إليه القرآنُ، وإعراضُهُ وتَرْكُه لما مَنَعَ
__________
(1) في جميع النسخ: لا! ولعل الصواب ما أثبته.
(2) تصحفت في (ك) إلى: التغيير.
(3) في (ح) و (م): فهمًا.
(4) أخرجه مسلم في “صحيحه” رقم (746) ضمن حديث طويل.
(5) أخرجه: ابن جرير الطبري في “تفسيره” (12/ 179)، ونسبه الواحديُّ إلى الأكثرين “الوسيط” (4/ 334).
(6) في (ز) و (ن) و (ك) و (ط): متطابقة.
(7) في (ك): وإرادته.

(1/317)


منه القرآنُ، ورَغْبَتُهُ فيما رغَّبَ فيه، وزُهْدُه فيما زهَّدَ فيه، وكراهته لما كَرِهَهُ، ومحبته لما أحبَّهُ، وسَعْيُهُ في تنفيذ أوامره، وتبليغِهِ، والجهادِ في إقامته.
فترجَمَتْ أُمُّ المؤمنين – لكمال معرفتها بالقرآن وبالرسول – صلى الله عليه وسلم -، وحسن تعبيرها – عن هذا كلِّه بقولها: “كان خُلُقُهُ القرآنُ”، وفَهِمَ السائلُ عنها هذا المعنى، فاكتفى به واشتفى.
وإذا كانت أخلاقُ العباد، وعلومُهم، وإراداتُهم (1)، وأعمالُهم مستفادةً من “القَلَمِ” وما يسطرون، وكان في خَلْقِ “القَلَم” والكتابة إنعامًا عليهم، وإحسانًا إليهم، إذ وَصَلُوا به إلى ذلك، فكيف ينكرون إنعامه وإحسانه على عبده ورسوله الذي أعطاه أعلى الأخلاقِ، وأفضلَ العلومِ، والأعمالِ، والإراداتِ، التي لا تهتدي العقول إلى تفاصيلها من غير قلمٍ ولا كتابةٍ؟! فهل هذا إلا من أعظم آيات نبوَّته، وشواهدِ صِدْقِ رسالته؟! وسيعلم أعداؤه المكذِّبون له أيُّهُم المفتون، هو أَمْ هم؟ وقد علموا – هُمْ والعُقَلاء – ذلك في الدنيا، ويزداد علمهم به في البَرْزخ، وينكشِفُ ويظهَرُ كلَّ الظهور في الآخرة، بحيث تتساوى أقدام الخلائق في العلم به.
وقد اختُلِفَ في تقدير قوله: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)}:
فقال أبو عثمان المازني (2): هو كلامٌ مُسْتَأْنَفٌ، و”المَفْتُون” عنده
__________
(1) في (ك): وإرادتهم.
(2) هو أبو عثمان، بكر بن محمد بن عدي المازني، البصري، إمام العربية في زمانه، كان كثير الرواية والمناظرة، صنف: “التصريف”، و”ما تلحن فيه =

(1/318)