التبيان في أيمان القرآن_2
التبيان في أيمان القرآن _2
http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة |
الكتاب: التبيان في أيمان القرآن [مشروع آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (14)]المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 – 751) المحقق: عبد الله بن سالم البطاطي راجعه: محمد أجمل الإصلاحي – عبد الرحمن بن معاضة الشهري الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت) الطبعة: الرابعة، 1440 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم) عدد الصفحات: 653 قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] |
مصدرٌ، أي: بأيِّكم الفِتْنَة. والاستفهامُ عن أمرٍ دائِرٍ بين اثنين قد عُلِمَ انتفاؤه عن أحدهما قطعًا، فتعيَّنَ حصولُه للآخر (1) .
والجمهور على خلاف هذا التقدير، وهو عندهم متَّصِلٌ بما قبله، ثُمَّ لهم فيه أربعةُ أوجهٍ:
أحدها: أنَّ “الباء” زائدةٌ، والمعنى: أَيُّكُم المَفْتُون. وزيدت في المبتدأ كما زيدت في قولك: بِحَسْبِكَ (2) أن تفعل. قاله أبو عبيدة (3) .
الثاني: أنَّ “المَفْتُون” بمعنى: الفتنة (4) ، أي: سَتُبْصِرُ ويُبْصِرُون
__________
= العامة”، وغير ذلك، توفي سنة (247 هـ) رحمه الله.
انظر: “نزهة الألباء” (182)، و”السير” (12/ 270).
(1) انظر كلام المازني في: “المحرر الوجيز” (15/ 29)، و”البحر المحيط” (8/ 303).
(2) بعدها في (ط) زيادة: درهم.
(3) انظر: “مجاز القرآن” (2/ 264).
واختاره: الأخفش في “معانيه” (2/ 505)، وابن قتيبة في “تأويل مشكل القرآن” (248)، وقدَّمه القرطبي في “الجامع” (18/ 229).
وردَّه الزجَّاج، وقال: “و”الباء” لا يجوز أن تكون لغوًا، وليس هذا جائزًا في العربية في قول أحدٍ من أهلها”. “معاني القرآن” (5/ 205).
وقال السمين الحلبي: “وإلى هذا ذهب قتادة، وأبو عبيدة؛ إلا أنه ضعيفٌ من حيث إن “الباء” لا تُزاد في المبتدأ إلا في “حَسْبُك” فقط”. “الدر المصون” (10/ 401).
(4) فهو مصدر على وزن “المفعول”، كما قالوا: معقول أي: عقل، وميسور أي: يُسْر، وهذا قول: ابن عباس، والحسن، والضحَّاك. “الجامع” (18/ 229).
وقدَّمه: الزجَّاج في “معانيه” (5/ 205)، وابن الأنباري في “البيان” (2/ 453)، واختاره ابن جرير الطبري في “تفسيره” (12/ 181).
(1/319)
بأيِّكُم الفتنة، و”الباء” على هذا ليست بزائدة. قاله الأخفش (1) .
الثالث: أنَّ “المَفْتُون” مفعولٌ على بابه، ولكن هنا مضافٌ محذوفٌ تقديره: بأيِّكُم فُتُون المَفْتُون، وليست “الباء” زائدةً. قاله الأخفش (2) أيضًا.
الرابع: أنَّ “الباء” بمعنى “في”، والتقدير: في أَيِّ فريقٍ منكم النَّوع المفتون، و”الباء” على هذا ظرفية (3) .
وهذه الأقوال كلُّها تكلُّفٌ ظاهِرٌ لا حاجة إلى شيءٍ منه، و {فَسَتُبْصِرُ} مضمَّنٌ (4) معنى: تَشْعُرُ وتَعْلَمُ، فعُدِّيَ بـ “الباء”، كما تقول: ستشعر بكذا، وتَعْلَمُ به. قال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) } [العلق: 14]، وإذا دعاك اللفظ إلى (5) المعنى من مكانٍ قريبٍ فلا تُجِبْ من دعاك إليه من مكانٍ بعيدٍ.
__________
(1) وكذا نسبه إليه أبو حيَّان في “البحر المحيط” (8/ 303).
والذي في “معاني الأخفش” (2/ 505) أنَّ “الباء” زائدة، وهو الذي نسبه إليه القرطبي في “الجامع” (18/ 229).
(2) انظر: “البحر المحيط” (8/ 303)، و”فتح القدير” (5/ 356).
(3) وهو مذهب الفرَّاء في “معاني القرآن” (3/ 173).
قال ابن عطية: “وهذا قولٌ حسنٌ، قليل التكلُّف”. “المحرر الوجيز” (15/ 30).
(4) من (ح)، وفي باقي النسخ: مضمر.
(5) “إلى” ملحق بهامش (ك).
(1/320)
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)} [الواقعة: 75 – 80].
ذكر – سبحانه – هذا القَسَمَ عقيب ذكر القيامة الكبرى، وأقسام الخَلْقِ فيها، ثُم ذكر الأدلَّةَ القاطعةَ على قدرته على المَعَاد بالنَّشْأة الأولَى، وإخراجِ النَّبَاتِ من الأرض، وإنزالِ الماء من السماء، وخَلْقِ النَّار. ثُمَّ ذكر بعد ذلك أحوال النَّاس في القيامة الصغرى عند مفارقة “الرُّوح” للبدن.
وأقسَمَ بمواقع النُّجُوم على ثبوت القرآن, وأنَّه تنزيله.
وقد اختُلِفَ في النُّجُوم التي أقسَم بمواقعها:
فقيل: هي آيات القرآن، ومواقعها: نزولها شيئًا بعد شيء. هذا قول ابن عباس – رضي الله عنهما – في رواية عطاء، وقولُ: سعيد بن جبير، والكلبي، ومقاتل (1)، وقتادة.
وقيل: النُّجُوم (2) هي الكواكب، ومواقِعُها: مساقِطُها عند غروبها. هذا قول أبي عبيدة (3) وغيره.
__________
(1) “تفسيره” (3/ 317).
وقال به: عكرمة، ومجاهد، والسُّدِّي، وأبو حَزْرَة. “تفسير ابن كثير” (7/ 544).
(2) “النُّجُوم” ملحق بهامش (ن).
(3) انظر: “مجاز القرآن” (2/ 252).
وذكر ابن عطية أنه مذهب جمهور المفسرين “المحرر الوجيز” (14/ 267)، =
(1/321)
وقيل: مواقعها انْتِثَارُها وانْكِدَارُها يوم القيامة، وهذا قول الحسن.
ومن حُجَّةِ هذا القول أنَّ لفظ “مواقع” يقتضيه، فإنَّه (مَفَاعِل) من الوقوع وهو السقوط، فَلِكُلِّ نجمٍ مَوْقعٌ، وجَمْعُها: مَوَاقع.
ومن حُجَّةِ قول من قال: هي مَسَاقِطُها عند الغروب؛ أنَّ الرَّبَّ – تعالى – يُقْسِمُ بالنُّجُوم وطلوعها وجريانها وغروبها، إذ فيها وفي أحوالها الثلاث آيةٌ وعبرةٌ ودلالةٌ كما تقدم في قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)} [التكوير: 15, 16]، وقال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)} [النجم: 1]، وقال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج: 40].
ويرجِّحُ هذا القول – أيضًا – أنَّ النُّجُوم حيث وقعت في القرآن فالمراد منها: الكواكب، كقوله تعالى: {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)} [الطور: 49]، وقوله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ} [الأعراف: 54].
وعلى هذا فتكون المناسبة بين ذكر النُّجُوم في القَسَم، وبين المُقْسَم عليه – وهو القرآن – من وجوه:
أحدها: أنَّ النُّجُوم جعلها الله يُهتَدَى بها في ظلمات البَرِّ والبحر، وآياتُ القرآن يُهتَدَى بها في ظلمات (1) الجهل والغَيِّ. فتلك هدايةٌ في الظلمات الحِسِّيَّة، وآياتُ القرآن هدايةٌ في الظلمات المعنويَّة، فجَمَعَ بين
__________
= وكذا قال ابن الجوزي في “زاد المسير” (7/ 292).
واختاره ابن جرير في “تفسيره” (11/ 658).
(1) “ظلمات” ملحق بهامش (ك).
(1/322)
الهدايتين.
مَعَ ما في النُّجُوم من الزينة الظاهرة للعالم، وفي إنزال القرآن من الزينة الباطنة.
ومَعَ ما في النُّجُوم من الرجوم للشياطين، وفي آيات القرآن من رجوم شياطين الإنس والجنِّ.
والنُّجُومُ آياته المشهودة العِيَانِيَّة، والقرآنُ آياتُهُ المَتْلُوَّةُ السمعيَّةُ. مَعَ ما في مواقعها عند الغروب من العبرة والدلالة على آياته القرآنية ومواقعها عند النزول.
ومن قَرَأَ “بموقع النُّجُوم” (1) على الإفراد، فَلِدلالة الواحد المضاف إلى الجَمْع على التعدُّد، و”الموقع”: اسمُ جنْس، والمصادر إذا اختلفت جُمِعَت، وإذا كان النَّوع واحدًا أُفرِدَتْ، قالَ الله تعالى: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 19]، فجَمَعَ الأصوات لتعدُّدِ النَّوع، وأَفرَدَ “صوت الحمير” لوحدته. فإفراد “موقع النُّجُوْم” لوحدة المضاف إليه، وتعدُّد المواقع لتعدُّده، إذ لكلِّ نجمٍ موقع.
فصل
والمُقْسَم عليه قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)}، ووقع الاعتراض بين القَسَم وجوابه بقوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)}، ووقع الاعتراض بين الصفة والموصوف في جملة هذا الاعتراض بقوله
__________
(1) قرأ بها: حمزة، والكسائي، وخَلَف.
انظر: “التيسير” (207)، و”النثر” (2/ 383).
(1/323)
تعالى: {لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)}، فجاء هذا الاعتراض في ضمن هذا الاعتراض، ألْطَفَ شيءٍ وأحسَنَهُ موقعًا.
وأحسن ما يقع هذا الاعتراض إذا تضمَّنَ تأكيدًا أو تنبيهًا أو احترازًا، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)} [الأعراف: 42]، فاعترض بين المبتدأ والخبر بقوله: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} لما تضمَّنَهُ ذلك من الاحتراز الرافع (1) لِتَوَهُّمِ مُتَوَهِّمٍ: أنَّ الوعد إنَّما يستحقه من أتى بجميع الصالحات، فرفع ذلك بقوله: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}.
وهذا أحسن مِنْ قول مَنْ قال: “إنَّه أَخْبَرَ عن الذين آمنوا، ثُمَّ أخبر عنهم بخبرٍ آخر، فهما خبران عن مُخْبَرٍ واحدٍ”، فإنَّ عدم التكليف فوق الوسْع لا يَخْتَصُّ [بِـ] (2) الذين آمنوا، بل هو حكمٌ شامِلٌ لجميع الخلق، مَعَ ما في هذا التقدير من إخلاء جملة الخبر عن الرابط، وتقدير صفةٍ محذوفةٍ – أي: نَفْسًا منهم -، وتعطيل هذه الفائدة الجليلة.
ومن أَلْطَفِ الاعتراضِ وأحسَنِهِ قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57]، فاعترض بقوله: {سُبْحَانَهُ} بين الجَعْلَين.
وفوائد الاعتراض تختلف بحسب قَصْدِ المتكلِّم، وسياق الكلام، من قَصْدِ الاعتناء، والتقرير، والتوكيد، وتعظيم المُقْسَم به، والمخبر
__________
(1) في جميع النسخ: الواقع، وهو تحريف.
(2) زيادة يقتضيها الكلام.
(1/324)
عنه، ورفع تَوَهُّمِ خلاف المراد، والجواب عن سؤال مقدَّرٍ، وغير ذلك.
فمن الاعتراض الذي يُقْصَدُ به التقرير والتوكيد قول الشاعر (1) :
لو أنَّ البَاخِلِينَ – وأنتِ مِنْهُمْ – … رَأَوكِ تعلَّمُوا (2) مِنْكِ المِطَالا
وممَّا يقصد به الجواب عن سُؤَالٍ مقدرٍ قول الآخر (3) :
فلا هَجْرُهُ يبدُو – وفي اليأْسِ رَاحَةٌ – … ولا وَصْلُهُ يَصْفُو لنا فَنُكَارِمُه (4)
فقوله: “وفي اليأس راحةٌ” جوابٌ لتقدير سؤالِ سائلٍ: وما يُغْنِي عنكَ هجره؟ فقال: وفي اليأس راحةٌ، أي: المطلوب أحد أمرين: إمَّا يأسٌ مريحٌ، أو وِصَالٌ صَافٍ.
ومن اعتراض (5) الاحتراز قول الجعدي (6) :
أَلَا زَعَمَتْ بَنُو جَعْدٍ بأَنِّي … – وقد كَذَبُوا – كبيرُ السِّنِّ فَانِي
ومنه قول نُصَيْبٍ (7) :
__________
(1) هو كُثيِّر عزَّة “ديوانه” (1/ 150).
(2) في (ز) و (ك): وأول تعلم، وفي (ن): وارك تعلم!
(3) من قوله: “ومما يقصد به. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ز) و (ن)، إلا أنه الحق بهامش (ن)، لكنه لم يظهر في التصوير!
(4) في جميع النسخ: تبدو … تصفو لها فتكارمه.
والبيت لرَوْح بن ميَّادة “شعر ابن ميَّادة” (225)، ولفظه: فلا صَرْمُه يبدو …
(5) ساقط من (م)، وفي باقي النسخ: الاعتراض، وما أثبته من (ح).
(6) “شعر النابغة الجعدي” (162)، وفيه: بنو كعب … ألَا كذبوا.
ومن قوله: “وفي اليأس راحة، أي. . .” إلى هنا؛ ملحقٌ بهامش (ك).
(7) انظر: “الأغاني” (1/ 213 و 343)، وفيه أخباره.
(1/325)
فكِدْتُ – ولم أُخْلَقْ مِن الطَّيْرِ – إنْ بَدَا … سَنَا بَارِقٍ نحْوَ الحِجَازِ أَطِيرُ
فقوله: “ولم أُخْلَق منِ الطير” لرفع استفهام يتوجَّهُ عليه على سبيل الإنكار لو قال: فكدتُ أَطِيرُ، فيقال له: وهل خُلِقْتَ من الطير؟ فاحترز بهذا الاعتراض.
وعندي أنَّ هذا الاعتراضَ يُفِيدُ غيرَ هذا، وهو قوَّةُ شَوقِهِ ونُزُوعِهِ إلى أرض الحجاز، فأَخْبَر أنَّه كاد يطير على أنَّه أَبْعَدُ شيءٍ من الطيران، فإنَّه لم يُخْلَق من الطير، ولا عَجَبَ طيرانُ من خُلِق من الطير، وإنَّما العَجَبُ طيرانُ من لم يُخْلَق من الطير، لشدَّةِ نُزُوعه وشوقه إلى جهة محبوبه؛ فتَأمَّلْه.
ومن مواقع الاعتراض: الاعتراضُ بالدعاء، كقول الشاعر (1) :
قد كنتُ أَبْكِي وأنتِ رَاضِيَةٌ … حِذَارَ هذا الصُّدُودِ والغَضَبِ
إنْ تَمَّ ذَا الهَجْرُ يا ظَلُومُ – ولا … تَمَّ – فَمَا لِي في العَيْشِ من أَرَبِ
وكقول الآخر (2) :
إنَّ سُلَيْمَى – واللهُ يَكْلَؤُها – … ضَنَّتْ بشيءٍ ما كَانَ يَرْزَؤُها
وكقول الآخر (3) :
__________
(1) هو العباس بن الأحنف “ديوانه” (49)، ولفظ البيت الثاني فيه:
إن دَامَ ذا الهَجْرُ يا ظلوم – ولا … دامَ – فما لي. . . . . . . .
(2) هو إبراهيم بن هَرْمَة القرشي “ديوانه” (55).
(3) هو عوف بن مُحَلِّم الخُزَاعي. انظر: “طبقات الشعراء” لابن المعتز (188)، و”معجم الأدباء” (4/ 517).
(1/326)
إنَّ الثَّمانَينَ – وَبُلِّغْتَها – … قد أَحْوَجَتْ سَمْعِي إلى تَرْجُمَانْ
ومنه الاعتراضُ بالقَسَم، كقوله (1):
ذَاكَ الذي – وأبيكَ – يَعْرِفُ مالكًا … والحقُّ يَدْفَعُ تُرَّهَاتِ البَاطِلِ
ومن الاعتراض: الاستعطافُ؛ كقوله (2):
فَمَنْ لِيَ بِالعَينِ الَّتي كُنْتَ مرَّةً … إليَّ بها – نَفْسِي فِدَاؤُكَ – تَنْظُرُ
فاعترضَ بقوله: “نفسي فِدَاؤُك” استعطافًا.
فتأملْ حُسْنَ الاعتراض وجزالته في قول الرَّبِّ تبارك وتعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} [النحل: 101]، فقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} اعتراضٌ بين الشرط وجوابِه أفاد أمورًا:
1 – منها الجواب عن سؤالِ سائلٍ: ما حكمة هذا التبديل، وما فائدته؟
2 – ومنها أنَّ الذي بُدِّلَ وأُتِي بغيره مُنَزَّلٌ مُحْكَمٌ نزولُه قبل الإخبار بقولهم.
_________
(1) البيت لجرير “ديوانه” (430).
(2) في (ح) و (م): ومن اعتراض الاستعطاف قوله.
والبيتُ – بهذا اللفظ – نَسَبه المظفَّر العلوي في “نَضْرة الإغريض في نُصْرة القريض” (181) إلى: اليزيدي.
لكن البيت في “ديوان أبي العتاهية” (534) بلفظ:
فمن ليَ بالعينِ التي كنتَ مرةً … إليَّ بها في سالِفِ الدَّهْرِ تنظُرُ
(1/327)
3 – ومنها أنَّ مصدر الأمرين عن علمه تبارك وتعالى، وأنَّ كلًّا منهما مُنَزَّلٌ فيجب التسليم والإيمان بالأوَّلِ والثاني.
ومن الاعتراض الذي هو في أعلى درجات الحُسْن قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]، فاعترض بذكر شأن حَمْلِهِ وَوَضْعِهِ بين الوصية والمُوصَى به، توكيدًا لأمر الوصية بالوالدة التي هذا شأنها، وتذكيرًا (1) لولدها بحقِّها، وما قاسَتْهُ من حَمْلِهِ وَوَضْعِهِ ممَّا لم يتكلَّفْهُ الأَبُ.
ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [البقرة: 72، 73]، فاعترض بقوله: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)} (2) بين الجُمَل المعطوف بعضها على بعض، إعلامًا بأنَّ تَدَارُؤَهم وتَدَافُعَهم في شأن القتيل ليس نافعًا لهم في كتمانه، فإنَّ الله يُظْهِرُهُ ولا بُدَّ.
ولا تَسْتَطِلْ هذا الفَصْلَ وأمثالَهُ؛ فإنَّه يعطيك ميزانًا، وينهج لك طريقًا يعينك على فَهْمِ الكتاب، والله المستعان.
فصل
ثُمَّ قال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)} [الواقعة: 77]، فوَصَفَه بما يقتضي حُسْنَهُ، وكَثرةَ خَيرِهِ ومنافِعِهِ، وجَلَالَتَهُ؛ فإنَّ “الكريم” هو: البَهِيُّ، الكثيرُ الخيرِ، العظيمُ النفعِ، وهو من كلِّ شيءٍ أحسنُهُ
__________
(1) من (ط)، وفي باقي النسخ: تذكرًا.
(2) من قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا. . .} إلى هنا؛ ملحق بهامش (ن).
(1/328)
وأفضلُه (1).
والله – سبحانه – وصف نفسَهُ بـ “الكَرَم”، ووصف به كلامه، ووصف به عرشه، ووصف به ما كَثُرَ خيره، وحَسُنَ مَنْظَرُه من النَّبَات وغيره (2).
وكذلك فسَّرَ السلفُ “الكريم” بـ: الحَسَن، قال الكلبي: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} أي: حَسَنٌ كريمٌ على الله”.
وقال مقاتل: “كرَّمَهُ اللهُ وأعزَّهُ؛ لأنَّه كلامه” (3).
وقال الأزهري (4): “الكريم: اسمٌ جامعٌ لما يُحْمَدُ، والله كريمٌ حميدُ الفِعَال. وإنَّه لقرآنٌ كريمٌ يُحْمَد، لما فيه من الهُدَى والبيان والعلم
__________
(1) انظر: “تفسير أسماء الله الحُسْنَى” للزجَّاج (50)، و”شأن الدعاء” للخطَّابي (70)، و”مفردات الراغب” (707).
(2) قال تعالى: {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)} [النمل: 40]، {ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} [الرحمن: 27]، {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} [المؤمنون: 116]، {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)} [لقمان: 10]، {وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26)} [الدخان: 26]، {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)} [الذاريات: 24]، {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)} [الأنبياء: 26]، {كِرَامًا كَاتِبِينَ (11)} [الانفطار: 11]، وغير ذلك من الآيات.
(3) “تفسيره” (3/ 317)، ونقله عنه الواحدي في “الوسيط” (4/ 239).
(4) هو محمد بن أحمد بن الأزهر الهروي، أبو منصور الأزهري، كان رأسًا في اللغة والفقه، ثبتًا دينًا ثقةً، صنف كتاب “تهذيب اللغة” المشهور، و”علل القراءات”، و”تفسير ألفاظ المزني”، وغير ذلك، توفي سنة (370 هـ) رحمه الله.
انظر: “نزهة الألباء” (323)، و”السير” (16/ 315).
(1/329)
والحكمة” (1).
وبالجملة فـ “الكريمُ” الذي (2) مِنْ شَأْنِهِ أن يُعْطِي الخير الكثير بسهولةٍ ويُسْرٍ، وضده “اللئيم” الذي لا يُسْتَخرج خيرُهُ النَّزْرُ إلا بِعُسْرٍ وصعوبةٍ. وكذلك الكريم في النَّاس واللئيم.
فصل
ثُمَّ قال تعالى: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)} [الواقعة: 78]، اختلف المفسِّرون في هذا (3)، فقيل: هو اللوح المحفوظ (4).
والصحيح أنَّه الكتاب الذي بأيدي الملائكة (5)، وهو المذكور في قوله تعالى: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ} (6) [عبس: 13 – 16].
__________
(1) “تهذيب اللغة” (10/ 234).
(2) من (ح) و (م)، وسقط من باقي النسخ.
(3) “بعد اتفاقهم على أن “المكنون”: المَصُون”. “المحرر الوجيز” (14/ 268).
(4) وهو مرويٌّ عن: ابن عباس، والربيع بن أنس، وقال به: جابر بن زيد، ومقاتل بن سليمان “تفسيره” (3/ 317).
واختاره: الواحديُّ في “الوسيط” (4/ 239)، والبغوي في “معالم التنزيل” (8/ 22)، والألوسي في “روح المعاني” (14/ 153).
(5) وهو قول: ابن عباس، وأنس، ومجاهد، والضحَّاك، وجابر بن زيد، وأبي نَهِيك، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والسُّدِّي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهم.
وهو مذهب جمهور المفسرين، وبعضهم لا يذكر غير هذا القول في تفسير الآية كما فعل ابن جرير في “تفسيره” (11/ 659).
وانظر: “الوسيط” (4/ 293)، و”زاد المسير” (7/ 283)، و”تفسير السمعاني” (5/ 359)، و”تفسير ابن كثير” (7/ 544).
(6) هذه الآيات غير موجودة في (ز)، وبدلها: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)}.
(1/330)
قال مالك: “أحسن ما سمعت (1) في هذه الآية (2) – يعني قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} – أنَّها مثل التي في “عَبَسَ”: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)} ” (3).
ويدلُّ على أنَّه الكتاب الذي بأيدي الملائكة قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)}، فهذا يدلُّ على أنَّه (4) بأيديهم يَمَسُّونَهُ. وهذا هو الصحيح في معنى الآية.
ومن المفسِّرين من قال: إنَّ المراد به أنَّ المصحف لا يَمَسُّه إلا طاهرٌ (5).
والأوَّلُ أَرْجَحُ لوجوهٍ (6):
أحدها: أنَّ الآية سيقت تنزيهًا للقرآن أنْ تَنْزِلَ به الشياطين، وأنَّ مَحَلَّهُ لا يصل إليه فيمسَّهُ إلا المطهَّرون، فيستحيل على أَخَابِثِ خلق الله – وأنجسهم أن يصلوا إليه أو يَمَسُّوه، كما قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء: 210, 211]، فنفَى
__________
(1) من قوله: “قال مالك .. ” إلى هنا؛ ملحق بهامش (ز)، ومن أول الآيات إلى هنا ملحق بهامش (ن)، لكنه بُتر في التصوير!
(2) في (م): في هذا، وسقطت من (ز) و (ح).
(3) “الموطأ” (1/ 177)، كتاب القرآن، باب: الأمر بالوضوء لمن مسَّ القرآن.
(4) من قوله: “الكتاب الذي بأيدي. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ك).
(5) انظر: “تفسير الماوردي” (5/ 464)، و”زاد المسير” (7/ 293).
وهذا الوجه من تفسير الآية يميل إليه أكثر الفقهاء، بينما المفسرون يميلون إلى الوجه الأول، والله أعلم.
(6) قد ذكر المؤلف في كتابه “مدارج السالكين” (2/ 468) أنَّه استفاد أكثر هذه الوجوه من شيخ الاسلام رحمه الله. وانظر: “شرح العمدة” (1/ 383).
(1/331)
الفعلَ وتأَتِّيه منهم، وقدرتَهم عليه، فما فعلوا ذلك ولا يليق بهم، ولا يقدرون عليه. فإنَّ الفعلَ قد ينتفي عمَّنْ يَحْسُنُ منه، وقد يليق بمن لا يقدر عليه، فنَفَى عنهم الأمور الثلاثة.
وكذلك قوله – تعالى – في سورة “عبس”: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) } [عبس: 13 – 16]، فوصَفَ مَحَلَّهُ بهذه الصفات بيانًا أن الشيطان لا يمكنه أن يتنزَّلَ به.
وتقرير هذا المعنى أهمُّ وأجلُّ وأنفعُ من بيان كون المصحف لا يمسُّه إلا طاهرٌ.
الوجه الثاني: أنَّ السورةَ مكِّيَّةٌ، والاعتناء في السُّوَرِ (1) المكَيَّةِ إنَّما هو بأصول الدِّين، من تقرير التوحيد، والمَعَاد، والنُّبوَّة. وأمَّا تقرير الأحكام والشرائع فمظِنَّتُهُ السُّوَرُ المدنيَّةُ.
الثالث: أنَّ القرآنَ لم يكن في مُصْحَفٍ عند نزول هذه الآية، ولا في حياة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وإنَّما جُمِعَ في المصحف في خلافة أبي بكر.
وهذا وإنْ جازَ أن يكون باعتبار ما يأتي؛ فالظاهر أنَّه إخبارٌ بالواقع حال الإخبار، يوضِّحُهُ:
الوجه الرابع: وهو قوله: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) }، و”المَكْنُون”: المَصُون المَسْتُور (2) عن الأعين الذي لا تناله أيدي (3) البَشَر، كما قال تعالى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) } [الصافات: 49]، وهكذا قال السلف.
__________
(1) من (ز)، وفي باقي النسخ: السورة.
(2) “المستور” ملحق بهامش (ك).
(3) ساقط من (ك).
(1/332)
قال الكلبي: “مَكْنُونٌ من الشياطين”.
وقال مقاتل: “مَسْتُور” (1) .
وقال مجاهد: “لا يصيبه ترابٌ ولا غُبَارٌ” (2) .
وقال أبو إسحاق (3) : “مَصُونٌ في السماء” (4) ، يوضِّحُهُ:
الوجه الخامس: أنَّ وَصْفَهُ بكونه “مكنونًا” (5) نظير وَصْفِه بكونه “محفوظًا”، فقوله (6) – عزَّ وجلَّ -: {لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) } كقوله: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) } [البروج: 21, 22]، يوضِّحُهُ:
الوجه السادس: أنَّ هذا أبلغُ في الردِّ على المكذِّبين، وأبلغُ في تعظيم القرآن من كون المصحف لا يمسُّهُ مُحْدِثٌ.
الوجه السابع: قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) } بالرَّفْع (7) ،
__________
(1) “تفسيره” (3/ 317).
(2) أخرجه: ابن جرير في “تفسيره” (11/ 659) رقم (33534).
وعزاه السيوطي إلى: عبد بن حميد، وآدم بن أبي إياس، وابن المنذر، والبيهقي في “المعرفة”. “الدر المنثور” (6/ 232).
(3) “أبو إسحاق” ملحق بهامش (ن).
(4) “معاني القرآن” للزجَّاج (5/ 115).
(5) تصحفت في (ن) و (ك) إلى: مكتوبًا.
(6) في جميع النسخ: بقوله، والصواب ما أثبته.
(7) أي: لا يَمَسُّهُ، ولو أراد النهي لقال: لا يَمَسَّهُ أو لا يَمَسَّنَّهُ – بالفتح -. هذا توجيه داود الظاهري للآية.
انظر: “الأوسط” لابن المنذر (2/ 103)، و”التمهيد” لابن عبد البر =
(1/333)
فهذا خبرٌ لفظًا ومعنىً، ولو كان نهيًا لكان مفتوحًا.
ومن حَمَلَ الآية على النَّهْي احتاج إلى صرف الخبر عن ظاهره إلى معنى النَّهْي، والأصل في الخبر والنَّهْي حَمْلُ كُلٍّ منهما على حقيقته، وليس ها هنا مُوجِبٌ يُوجِبُ صَرْف الكلام عن الخبر إلى النَّهْي.
الوجه الثامن: أنَّه قال: {إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) } ولم يقل: إلا المتطهِّرون. ولو أراد به مَنْعَ المُحْدِثِ من مَسِّهِ لَقَال: إلا المتطهِّرون، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) } [البقرة: 222]، وفي الحديث: “اللهُمَّ اجعَلْني من التوَّابين، واجعلني من المُتَطَهِّرين” (1) ، فـ “المُتَطَهِّر” فاعِلُ التطهير، و”المُطَهَّر”
__________
= (17/ 399).
(1) أخرجه بهذا اللفظ: الترمذي في “سننه” رقم (55) من طريق أبي إدريس الخولاني، عن عمر مرفوعًا، وقال: “في إسناده اضطرابٌ، ولم يصح عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – في هذا الباب كبير شيءٍ، قال محمد – يعني البخاري -: أبو إدريس لم يسمع من عمر شيئًا”.
وأصل الحديث في “صحيح مسلم” رقم (234) وغيره بدون هذه الزيادة، قال الحافظ: “لم تثبت هذه الزيادة في هذا الحديث، فإنَّ جعفر بن محمد – شيخ الترمذي – تفرَّد بها، ولم يضبط الإسناد، فإنَّه أسقط بين أبي إدريس وبين عمر: جُبير بن نفير وعُقْبة، فصار منقطعًا، بل معضلًا … إلى أن قال: وقد وجدتُ للزيادة شاهدًا من حديث ثوبان … ” ثم ساق الحديث بإسناده. “نتائج الأفكار” (1/ 242).
وللحديث شواهد، منها:
1 – حديث ثوبان – رضي الله عنه -؛ أخرجه: ابن السُّنِّي في “عمل اليوم والليلة” رقم (33)، ومن طريقه الأصبهاني في “الترغيب والترهيب” رقم (2068)، والطبراني في “الأوسط” رقم (4892)، والرافعي في “التدوين في أخبار =
(1/334)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= قزوين” (2/ 342 – 343) و (3/ 174)، وعزاه الحافظ في “نتائج الأفكار” (1/ 242) إلى: محمد بن سنجر في “مسنده”، وعزاه في “التلخيص” (1/ 176) إلى البزار – ولم أجده في مسند ثوبان من “البحر الزخار” (10/ 89) فالله أعلم -.
واسناده ضعيف، فيه عدة علل منها:
1 – في إسناده: أبو سعد البقَّال الأعور، وهو سعيد بن المرزبان، والأكثر على تضعيفه. “مجمع الزوائد” (1/ 239).
2 – وسالم بن أبي الجعد لم يسمع من ثوبان كما قال الحافظ وغيره.
3 – أنَّ الراوي له عن الأعمش: مِسْوَر بن مورِّع العنبري قد تفرَّد به كما قال الطبراني، وقال الهيثمي عن مِسْورَ: “لم أجد له ترجمة”. “المجمع” (1/ 239)، وقال الحافظ: “ليس بالمشهور”. “نتائج الأفكار” (1/ 243).
2 – حديث البراء بن عازب – رضي الله عنه -؛ ذكره الحافظ في “نتائج الأفكار” (1/ 144) وعزاه إلى “كتاب الدعوات” للحافظ جعفر المستغفري، وقال: “حديثٌ غريب”.
3 – الموقوف على حذيفة – رضي الله عنه – من فعله؛ أخرجه: ابن أبي شيبة في “المصنف” (1/ 13) رقم (25) و (10/ 452) من طريق: جويبر، عن الضحَّاك به.
وجويبر متروك.
4 – والموقوف على عليٍّ – رضي الله عنه -؛ أخرجه: الطبراني في “الدعاء” رقم (392)؛ وفيه: الحارث بن عبد الله الأعور.
وأخرجه أيضًا: عبد الرزاق في “المصنف” (1/ 186) رقم (731)، وابن أبي شيبة في “المصنف” (1/ 13) رقم (20) و (10/ 451) من طريق: سالم بن أبي الجعد، عن علي، وسالمٌ يرسل عن علي. “المراسيل” (124)، و”جامع التحصيل” (218).
وأيضًا فيه: يحيى بن العلاء، وقد رماه بالوضع: أحمد، ووكيع، وابن عدي.
(1/335)
الذي طهَّرَهُ غيرُهُ، فالمتوضِّئُ متطهِّرٌ، والملائكةُ مطهَّرون.
الوجه التاسع: أنَّه لو أُريد به المصحف الذي بأيدينا لم يكن في الإخبار عن كونه مَكْنُونًا كبيرُ (1) فائدةٍ، إذ مجرَّدُ كَونِ الكلام مكنونًا في كتابٍ لا يستلزم ثبوته، فكيف يُمدَح القرآن بكونه مكنونًا في كتابٍ؟
وهذا أمرٌ مشتركٌ، والآيةُ إنَّما سِيقت لبيان مدحه وتشريفه (2) ، وما اختصَّ به من الخصائص التي تدلُّ على أنَّه منزَّلٌ من عند الله، وأنَّه محفوظٌ مَصُونٌ لا يصل إليه شيطانٌ بوجهٍ ما، ولا يَمسُّ مَحَلَّهُ إلا المطهَّرون، وهم السَّفَرَةُ الكِرَامُ البَرَرَةُ.
الوجه العاشر: ما رواه سعيد بن منصور في “سننه”: حدثنا أبو الأَحْوَص، حدثنا عاصم الأحول، عن أنس بن مالك في قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) } قال: “المطهَّرون: الملائكة” (3) .
وهذا – عند طائفةٍ من أهل الحديث – في حكم المرفوع. قال الحاكم (4) : “تفسير الصحابة – عندنا – في حكم
__________
= ولعل هذه الشواهد – وإن كانت ضعيفة – حملت بعض أهل العلم على القول بثبوت هذه الزيادة، منهم: ابن القيم نفسه في “زاد المعاد” (1/ 195).
وصححه الألباني في “صحيح الجامع” رقم (6167)، و”الإرواء” رقم (96).
(1) في (ك): كثير.
(2) من قوله: “في كتاب؟ وهذا. . .” إلى هنا؛ ملحق بهامش (ك).
(3) إسناده صحيح. وأخرجه من طريقه: حرب الكرماني في “مسائله” (346)، والبيهقي في “معرفة السنن والآثار” رقم (772).
وزاد السيوطي نسبته إلى: ابن المنذر. “الدر المنثور” (6/ 232).
(4) هو محمد بن عبد الله بن حَمْدَويه، أبو عبد الله النيسابوري، المعروف بـ “ابن البَيِّع”، الإمام الحاكم الثبت، سمع من نحو ألْفي شيخ، منهم ألف من أهل =
(1/336)
المرفوع” (1) ، ومن لم يجعله مرفوعًا فلا ريب أنَّه عنده أصحُّ من تفسير مَنْ بَعد الصحابة، والصحابةُ أعلم الأُمَّة بتفسير القرآن، ويجب الرجوع إلى تفسيرهم.
وقال حرب (2) في “مسائله”: “سمعت إسحاق في قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) } قال: النُّسْخَةُ التي في السماء لا يمسُّها إلا
__________
= نيسابور! صنف: “المستدرك”، و”تاريخ نيسابور”، وغير ذلك، توفي بنيسابور سنة (405 هـ) رحمه الله.
انظر: “الإرشاد” للخليلي (3/ 851)، و”السير” (17/ 162).
(1) انظر: “معرفة علوم الحديث” (149)، و”المستدرك” (2/ 258 و 263 و 345).
وقال الحاكم: “ليعلم طالب هذا العلم أنَّ تفسير الصحابي – الذي شهد الوحي والتنزيل – عند الشيخين حديث مسنَدٌ”.
قال ابن القيم شارحًا كلام الحاكم: “ومراده أنَّه في حكمه في الاستدلال به والاحتجاج، لا أنَّه إذا قال الصحابيُّ في الآية قولًا فَلَنَا أن نقول: هذا القول قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، أو قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
وله وجهٌ آخر؛ وهو أن يكون في حكم المرفوع بمعنى أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بيَّنَ لهم معاني القرآن، وفسَّرهُ لهم، كما وصفه الله – سبحانه – بقوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فبيَّنَ لهم القرآن بيانًا شافيًا كافيًا، وكان إذا أشكل على أحدٍ منهم معنىً سأله عنه، فأوضحه له … وهذا كثير جدًّا، فإذا نقلوا لنا تفسير القرآن فتارةً ينقلونه عنه بلفظه، وتارةً بمعناه، فيكون ما فسَّروه بألفاظهم من باب الرواية بالمعنى، كما يروون عنه السُّنَّة تارةً بلفظها، وتارةً بمعناها، وهذا أحسن الوجهين، والله أعلم”. “إعلام الموقعين” (6/ 31 – 33).
(2) هو حَرْبُ بن إسماعيل بن خلف الحنظلي، أبو محمد الكرماني، الإمام الحافظ الفقيه العلامة، من أصحاب الإمام أحمد، ومسائله من أنفس كتب الحنابلة، عُمِّر حتَّى قارب التسعين، توفي سنة (280 هـ) رحمه الله.
انظر: “السير” (13/ 245)، و”طبقات الحنابلة” (1/ 145).
(1/337)
المطهَّرون. قال: الملائكة” (1) .
وسمعتُ شيخ الإسلام يقرِّرُ الاستدلالَ بالآية على أنَّ المصحف لا يمسُّه المُحْدِثُ بوجهٍ آخر (2) ، فقال: هذا من باب التنبيه والإشارة، وإذا كانت الصحف التي في السماء لا يمسُّها إلا المطهَّرون، فكذلك الصحف التي بأيدينا من القرآن لا ينبغي أن يمسَّها إلا طاهِرٌ، والحديث مشتَقٌّ من هذه الآية، وهو قوله: “لا تَمسَّ القرآنَ إلا وأنتَ طاهِرٌ” رواه أهل “السنن ” من حديث: الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جَدِّه: أنَّ في الكتاب الذي كتبه (3) النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – إلى أهل اليمن في السُّنَنِ، والفرائضِ، والدِّيَاتِ: “أن لا يمسَّ القرآن إلا طاهر” (4) .
__________
(1) “مسائل حرب” (346).
(2) ذكره عنه – أيضًا – في “مدارج السالكين” (2/ 469).
قال شيخ الإسلام: “وأمَّا مسُّ المصحف: فالصحيح أنَّه يجب له الوضوء، كقول الجمهور، وهذا هو المعروف عن الصحابة”. “مجموع الفتاوى” (21/ 288).
(3) “أن في الكتاب الذي كتبه” ملحق بهامش (ن).
(4) جزء من حديث طويل، مشهور عند أهل العلم بـ “كتاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لعمرو بن حزم الأنصاري”، ويذكرونه مفرَّقًا على أبواب الفقه، أخرجه من هذا الطريق:
الدارمي في “سننه” رقم (2312)، والنسائي في “سننه” (8/ 57 – 59)، وفي “الكبرى” رقم (7029 و 7030)، وابن أبي عاصم في “الديات” رقم (142 و 148 و 161)، وابن حبَّان في “صحيحه” رقم (6559)، والدارقطني في “سننه” رقم (439)، والحاكم في “المستدرك” (1/ 395) رقم (1487)، وأبو نعيم في “معرفة الصحابة” (4/ 1981)، والعقيلي في “الضعفاء” =
(1/338)
قال أحمد: “أرجو أن يكون صحيحًا” (1) .
وقال أيضًا: “لا أَشُكُّ أنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – كَتَبَهُ”.
وقال أبو عمر (2) : “هو كتابٌ مشهورٌ عند أهل السِّيَر، معروفٌ عند أهل العلم معرفةً يُسْتَغنى بشهرتها عن الإسناد؛ لأنَّه أشبه التواتر في مجيئه، لتلقِّي النَّاس له بالقبول والمعرفة”. ثُمَّ قال: “وهو كتابٌ معروفٌ عند العلماء، وما فيه فَمُتَّفَقٌ عليه إلا
__________
= (2/ 492)، وابن عدي في “الكامل” (3/ 1123)، والبيهقي في “السنن الكبرى” (1/ 88) رقم (409)، وغيرهم.
وللحديث شواهد، وصححه جمع من الأئمة، منهم: الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وابن عدي، والحاكم، والحازمي، وعبد الحق الإشبيلي، وغيرهم.
قال يعقوب بن سفيان الفسوي: “ولا أعلم في جميع الكتب كتابًا أصح من كتاب عمرو بن حزم، كان أصحابُ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – والتابعون يرجعون إليه، ويَدَعُون آراءهم”. “المعرفة والتاريخ” (2/ 216).
وقال العقيلي: “وهو عندنا ثابتٌ محفوظٌ إن شاء الله تعالى”. “الضعفاء” (2/ 493).
وانظر: “نصب الراية” (1/ 196)، و”البدر المنير” (2/ 499)، و”التلخيص” (1/ 227)، و”إرواء الغليل” رقم (122).
(1) انظر: “جزء في مسائل عن أبي عبد الله أحمد بن حنبل” للحافظ عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي رقم (38) و (72)، ومن طريقه ابن عدي في “الكامل” (3/ 1123).
(2) هو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النَّمَرِي القرطبي، شيخ الإسلام وحافظ المغرب، صاحب سُنَّةٍ واتِّباعٍ، له: “التمهيد”، و”الاستذكار” – وهما من أجلِّ المصنفات – وغير ذلك، توفي في شاطبة سنة (463 هـ) رحمه الله.
انظر: “وفيات الأعيان” (7/ 66)، و”السير” (18/ 153).
(1/339)
قليلًا” (1).
وقد رواه ابن حِبَّان في “صحيحه” (2)، ومالك في “موطئه” (3) وفي المسألة آثارٌ أُخَرُ مذكورةٌ في غير هذا الموضع.
فصل
ودلَّت الآيةُ – بإشارتها وإيمائها – على أنَّه لا يُدْرِك معانيه ولا يفهمه إلا القلوب الطاهرة، وحرامٌ على القلب المتلوِّث بنجاسة الباع والمخالفات أن ينال معانيه، وأن يفهمه كما ينبغي.
قال البخاري في “صحيحه” (4) في هذه الآية: “لا يجد طعمه إلا مَنْ آمَنَ به”.
وهذا – أيضًا – من إشارة الآية وتنبيهها، وهو أنَّه لا يَلْتَذُّ به وبقراءته وفهمه وتدبُّرِه إلا مَنْ شَهِدَ أنَّه كلام الله، تكلم به حقًّا، وأنزله على رسوله وحيًا، ولا ينال معانيه إلا من لم يكن في قلبه حَرَجٌ منه بوجهٍ من
__________
(1) “التمهيد” (17/ 396 – 397)، و”الاستذكار” (8/ 10).
(2) “الإحسان” (14/ 504) رقم (6559).
(3) “الموطأ” (1/ 275) رقم (534)، وهو مرسل.
ومن طريقه أخرجه: الشافعي في “الأم” (7/ 185)، وأبو داود في “المراسيل” رقم (93)، والبيهقي في “معرفة السنن والآثار” (1/ 318)، والبغوي في “شرح السُّنَّة” (2/ 47) رقم (275).
(4) كتاب التوحيد، باب: “قل فأتوا بالتوراة فاتلوها”. “الفتح” (13/ 517).
وهذا قول الفَرَّاء في “معاني القرآن” (3/ 130) وعنه نقله من جاء بعده، كالبغوي في “معالم التنزيل” (8/ 23)، والماوردي في “النكت والعيون” (5/ 464)، وغيرهما.
(1/340)
الوجوه.
فمن لم يؤمن بأنَّه حقٌّ من عند الله ففي قلبه منه أعظمُ (1) حرجٍ.
ومن لم يؤمن بأنَّ الله – سبحانه – تكلَّم به حقًّا، وليس مخلوقًا من جملة مخلوقاته؛ ففي قلبه منه حَرَجٌ (2) .
ومن قال: إنَّ (3) له باطنًا يخالف ظاهره، وإنَّ له تأويلًا يخالف ما يُفْهَمُ منه؛ ففي قلبه منه حَرَجٌ (4) .
ومن قال: إنَّ له تأويلًا لا نفهمه، ولا نعلمه، وإنَّما نتلوه مُتَعبِّدِين بألفاظه؛ ففي قلبه حَرَجٌ منه (5) .
ومن سلَّط عليه آراء الآرائيين، وهذيان المتكلِّمين، وسَفْسَطَة المتسَفْسِطِين، وخيالات المُتَصوِّفين؛ ففي قلبه منه حَرَجٌ.
ومن جعله تابعًا لنِحْلَتِهِ ومذهبه، وقول من قلَّده دينه، ينزِّلُه على أقواله، ويتكلَّفُ حمله عليها؛ ففي قلبه منه حَرَجٌ.
ومن لم يُحَكِّمْهُ ظاهرًا وباطنًا في أصول الدِّين وفروعه، ويُسَلِّمْ وينقاد (6) لِحُكْمه أين كان؛ ففي قلبه منه حَرَجٌ (7) .
__________
(1) ساقط من (ح) و (م).
(2) من قوله: “ومن لم يؤمن بأن الله. . .” إلى هنا؛ ملحق بهامش (ك).
(3) ساقط من (ز) و (ن) و (ك) و (ط).
(4) من قوله: “ومن قال: إن له باطنًا. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ح).
(5) من قوله: “ومن قال إن له تأويلًا. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ز).
(6) الوجه: ويَنْقَدْ؛ لأنه معطوف على مجزوم.
(7) من قوله: “ومن لم يحكِّمْه ظاهرًا. . .” إلى هنا؛ ملحق بهامش (ن).
(1/341)
ومن لم يأْتَمِرْ بأوامره، ويَنْزَجِرْ عن زواجره، ويُصَدِّقْ جميع أخباره، ويُحَكِّمْ أَمْرَهُ ونَهْيَهُ وخَبَرَهُ، ويَرُدَّ له كلِّ أمرٍ ونَهْيٍ وخبرٍ خالَفَهُ؛ ففي قلبه منه حَرَجٌ.
وكلُّ هؤلاء لا تَمسُّ قلوبَهم معانيه، ولا يفهمونه كما ينبغي أن يُفْهَم، ولا يجدون من لذَّةِ حلاوته وطعمه ما وَجَدَهُ الصحابةُ ومن تَبِعَهُم (1).
وأنتَ إذا تأمَّلْتَ قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79]، وأعطيت الآية حقَّها من دلالة اللفظ، وإيمائه، وإشارته، وتنبيهه، وقياس الشيء على نظيره، واعتباره بمُشَاكِلِه، وتأمَّلْتَ المشابهة التي عَقَدَها الله – سبحانه – وربطها بين الظاهر والباطن = فَهِمْتَ هذه المعاني كلَّها من الآية، وبالله التوفيق.
فصل
ثُمَّ أكَّدَ ذلك وقرَّرَهُ وأطَّدَهُ بقوله – عزَّ وجلَّ -: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)} [الواقعة: 80]، وهذا كما أنَّه لازِمٌ لكونه قرآنًا كريمًا في كتابٍ مكنونٍ؛ فهو ملْزُومٌ له. فهو دليلٌ عليه، ومدلولٌ له.
وأفاد كونه تنزيلًا من ربِّ العالمين مطلوبَين (2) عظيمَين هما أَجَلُّ مَطَالب الدِّين:
__________
(1) في (ن): بعدهم، ثم صححت في الهامش.
(2) الأنسب: مَطْلَبَين، فإنه الموافق لـ “مطالب”.
(1/342)
أحدهما: أنَّه المتكلِّم به، وأنَّه منه نَزَل، ومنه بَدَأ، وهو الذي تكلَّم به. ومن هنا قال السلف: “منه بدأ”.
ونظيره قوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: 13]، وقوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102].
والثاني: عُلُوُّ اللهِ – سبحانه – فوق خَلْقه، فإنَّ “النُّزُول” و”التنزيل” – الذي تعقله العقول وتعرفه الفِطَر – هو وصول الشيء من أَعْلَى إلى أسفل، والرَّبُّ – تعالى – إنَّما يخاطب عباده بما تعرفه فِطَرُهم، وتشهد به عقولهم.
وذَكَر “التنزيل” مضافًا إلى ربوبيته للعالَمين المستلزِمة لملكه لهم، وتَصَرُّفِهِ فيهم، وحكمِهِ عليهم، وإحسانِهِ وإنعامِهِ عليهم، وأنَّ مَنْ هذا شَأْنُهُ مع الخَلْق كيف يليق به مع ربوبيته التامَّةِ أن يتركَهم سدىً، ويَدَعَهُم هَمَلًا، ويخلقَهم عبثًا، لا يأمرهم ولا ينهاهم، ولا يثيبهم ولا يعاقبهم. فمن أقرَّ بأنَّه ربُّ العالَمين؛ أقرَّ بأنَّ القرآن تنزيله على رسوله.
واستَدَلَّ بكونه ربَّ العالَمين على ثبوتِ رسالة رسوله – صلى الله عليه وسلم -، وصحةِ ما جاء به. وهذا الاستدلال أقوى وأشرف من الاستدلال بالمعجزات والخوارق، وإن كانت دلالتها أقرب إلى أذهان عموم النَّاس، وتلك إنَّما تكون لخواصِّ العقلاء.
وقد أشار – سبحانه – إلى الطريقين في غير موضع من كتابه، كقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]، فهذا استدلالٌ بالآيات المُعَايَنَة المخلوقة، ثُمَّ قال: {أَوَلَمْ
(1/343)
يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) }، فهذا استدلالٌ (1) بكمال ربوبيته، وكمال أوصافه؛ على صدق رسوله فيما جاء به.
وهذه الطريق أخصُّ، وأقوى، وأكمل، وأَعْلَى. والأُولَى (2) أعمُّ وأشمل، وقد تقدَّم بيانها عند قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) } [الحاقة: 44] (3) .
وأين الاستدلال بأوصاف الرَّبِّ – تعالى – وكماله المقدَّس على ثبوت النَّبِيِّ (4) وبعثه، من الاستدلال عليه ببعض مخلوقاته؟
وتأمَّلْ فَرْقَ ما بين استدلال (5) سيدة نساء العالَمين خديجة – رضي الله عنها – بصفات الرَّبِّ تعالى، وصفات محمد – صلى الله عليه وسلم -، واستنتاجها (6) من بين هذين الأمرين صحة نبوَّته (7) ، وأنَّه رسول الله حقًّا، وأنَّ من كانت هذه صفاته فصفات ربِّهِ وخالقه تَأْبَى أن يُخْزِيَهُ، وأنَّه لا بُدَّ أن يؤيِّدَه، ويُعْلِيَهُ، ويُتِمَّ نعمته عليه (8) .
وأنتَ إذا تأمَّلْتَ هذه الطريقةَ وهذا الاستدلالَ وجدتَ بينها وبين
__________
(1) من قوله: “بالآيات المعاينة. . .” إلى هنا؛ ملحق بهامش (ن).
(2) من (م)، وفي باقي النسخ: والأول.
(3) من أول الفصل إلى هنا مفقود من (ك).
(4) في (ز) و (ن) و (ك) و (ط): الشيء.
(5) في (ز): الاستدلال من، وفي (ط) كذلك بدون: من.
(6) تصحفت في (ن) و (ك) و (ط) إلى: واستنساخها.
(7) تصحفت في (ك) إلى: ثبوته.
(8) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (3)، ومسلم في “صحيحه” رقم (160)، من حديث عائشة – رضي الله عنها -.
(1/344)
طريقة المتكلِّمين من الفَرْق ما لا يخفى.
وإذا حصل للعبد الفقه في الأسماء والصفات انتفع به في باب معرفة الحقِّ والباطل من الأقوال، والطرائق، والمذاهب، والعقائد = أعظمَ انتفاعٍ وأتمَّهُ. وقد بينَّا في كتابنا (1) “المَعَالم” (2) بطلان التحليل وغيره من الحِيَل الربويَّة بأسماء الربِّ وصفاته، وأنَّه يستحيل على الحكيم أن يُحَرِّمَ الشيء ويتوعَّدَ (3) على فعله بأعظم أنواع العقوبات، ثُمَّ يُبِيح التوصُّل إليه بنفسه بأنواع (4) التحيُّلات.
فأين ذلك الوعيد الشديد، وجواز التوصُّل إليه بالطريق البعيد؟! إذ ليست حكمة الرَّبِّ – تعالى – وكمال علمه وأسمائه وصفاته؛ تنتقض (5) بإحالة ذلك وامتناعه عليه (6) .
فهذا استدلالٌ بالفقه الأكبر في الأسماء والصفات (7) على الفقه
__________
(1) “في كتابنا” ملحق بهامش (ك).
(2) هو كتاب “إعلام الموقعين”، وانظر فيه: إبطال التحليل (4/ 408 – 426)، وإبطال عموم الحيل (4/ 522) فما بعده.
وقد ذكره ابن القيم باسم “المعالم” في ثلاثة مواضع من كتبه، هذا ثالثها، كما أفاده الشيخ العلامة بكر أبو زيد في كتابه “ابن قيم الجوزية: حياته، آثاره، موارده” (214).
(3) من (م)، وفي باقي نسخ. ويتواعد.
(4) “بأنواع” ملحق بهامش (ن).
(5) في (ن) و (ك): تنتقص.
(6) كذا في جميع النسخ! ولا تستقيم العبارة مع ما قبلها، فلعل الصواب هكذا: إذ حكمة الرَّبِّ – تعالى – وكمال علمه وأسمائه وصفاته تقضي بإحالة ذلك، وامتناعه عليه. ويمكن أن تقرأ هكذا: أَوَ ليست حكمة الرَّبِّ. . . إلخ.
(7) “في الأسماء والصفات” ملحق بهامش (ك).
(1/345)
العَمَليِّ في باب الأمر والنَّهْي.
وهذا بابٌ حرامٌ على الجَهْميِّ المُعَطِّلِ أن يَلِجَهُ، وجَنَّةٌ حرامٌ عليه رِيحُها، وإنَّ ريحَها ليوجد من مسيرة خمسين ألف سنة. والله العزيز الوهَّاب، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وبه التوفيق.
فصل
ثُمَّ وبَّخَهُم – سبحانه – على وَضْعِهم الإدْهَانَ (1) في غير موضعه، وأنَّهم يُدَاهِنُون بما حَقُّه أن يُصْدَعَ به، ويُفَرَّقَ به، ويُعَضَّ عليه بالنَّواجذ، وتُثْنى عليه الخَنَاصِر، وتُعْقَدَ (2) عليه القلوبُ والأفئدة، ويُحَارَبَ ويُسَالَمَ لأجله، ولا يُلْتَوَى عنه يَمْنَةً ولا يَسْرَةً، ولا يكون للقلب التفاتٌ إلى غيره، ولا محاكمةٌ إلا إليه، ولا مخاصمةٌ إلا به، ولا اهتداءٌ في طُرُق المطالب العالية إلا بنُوره، ولا شفاءٌ إلا به، فهو روحُ الوجود، وحياة العالم، ومدار السعادة، وقائدُ الفلاح، وطريقُ النَّجاة، وسبيلُ الرَّشاد، ونورُ البصائر، فكيف تُطْلَبُ المُدَاهَنَةُ بما هذا شأنه، ولم ينزل للمُدَاهَنة؟ وإنَّما أُنزل بالحقِّ وللحقِّ.
والمُدَاهَنة إنَّما تكون في باطِلٍ قَوِيٍّ لا يمكن إزالته، أو في حَقٍّ ضعيفٍ لا يمكن إقامته، فيحتاج المداهِنُ إلى أنْ يترك بعض الحقِّ، ويلتزم بعض الباطل، فأمَّا الحقُّ الذي قام به كلُّ حَقٍّ فكيف يُدَاهن به؟
ثُمَّ قال سبحانه: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)} [الواقعة: 82]،
__________
(1) “الإدْهَان”: المُدَارَاةُ، والمُلَايَنَةُ، وتركُ الجِدِّ. “مفردات الراغب” (320).
(2) في جميع النسخ: تعتقد، والصواب ما أثبته.
(1/346)
لمَّا كانَ قِوَام كلِّ واحدٍ من البدن والقلب إنَّما هو بالرِّزْق – فَرِزْقُ البدنِ: الطعامُ، والشرابُ. ورزْقُ القلب: الإيمانُ، والمعرفةُ بربِّه وفاطره، ومحبتُه، والشوقُ إليه، والأُنْسُ بقُرْبه، والابتهاجُ بذكره -، وكان لا حياة له إلا بذلك، كما أنَّ البدن لا حياة له إلا بالطعام والشراب = أَنْعَم الله – على عباده بهذين النَّوعَين من الرِّزْق، وجعل قيام أبدانهم وقلوبهم بهما.
ثُمَّ فَاوَتَ – سبحانه – بينهم في قِسْمَة هذين الرِّزْقَين، بحسب ما اقتضاه علمه وحكمته؛ فمنهم من وُفِّرَ حظُّه من الرِّزْقَين، ووُسِّعَ عليه فيهما، ومنهم من قُتِّرَ عليه في الرِّزْقَين، ومنهم من وُسِّعَ عليه رزقُ البدن، وقُتِّرَ عليه رزقُ القلب، وبالعكس.
وهذا الرِّزْق إنَّما يَتِمُّ ويَكْمُلُ بالشُّكْر. و”الشُّكْر” مادَّةُ زيادته، وسبب حفظه وبقائه، وترك الشُّكْر سبب زواله وانقطاعه عن العبد، فإنَّ الله – تعالى – تأذَّنَ أنَّه لا بُدَّ أن يزيد الشَّكُور من نعمه، ولا بُدَّ أنْ يَسْلُبَها مَنْ لم يشكرها.
فلمَّا وضعوا الكفر والتكذيبَ موضع الشُّكْرِ والإيمان؛ جعلوا رزقَهم – نَفْسَهُ – تكذيبًا، فإنَّ التصديقَ والشُّكْرَ لمَّا كانا سبب زيادة الرِّزْق – وهما (1) رِزْقُ القلب حقيقةً -، فهؤلاء جعلوا مكانَ هذا الرِّزْق التكذيبَ والكفْرَ، فجعلوا رزقَهم التكذيب.
وهذا المعنى هو الذي حَامَ حوله من قال: التقدير: وتجعلون شُكْرَ
__________
(1) في (ز) بين الأسطر، وبخط دقيق، جاء فوق قوله “وهما”: “أي: التصديق والشكر”.
(1/347)
رزقكم أنكم تكذِّبون (1) .
وقال آخرون (2) : التقدير: وتجعلون بَدَلَ شُكْرِ رزقكم أنكم تكذِّبون، فحَذَفَ مُضَافَين معًا.
وهؤلاء أطالوا اللفظ، وقصَّروا بالمعنى.
ومن بعض معنى الآية قولهم: “مُطِرْنَا بِنَوْءِ كذا وكذا” (3) ، فهذا
__________
(1) هذا مذهب الجمهور، وعليه أكثر السلف. “زاد المسير” (7/ 295).
واختاره: الفَرَّاء في “معانيه” (3/ 130)، والزجَّاج في “معانيه” (5/ 116).
قال القرطبي: “وإنَّما صَلُح أن يوضَع اسم “الرِّزْق” مكان شكره؛ لأنَّ شُكْر الرِّزْقِ يقتضي الزيادة فيه، فيكون “الشكر” رزقًا على هذا المعنى، فقيل: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} أي: شكر رزقكم الذي لو وُجِد منكم لعَادَ رزقًا لكم، {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)} بالرزق، أي: تضعون الكذب مكان الشكر”. “الجامع” (17/ 228).
(2) هذا قول جمال الدين ابن مالك في “شرح الكافية الشافية” (2/ 971)، وكذا نسبه إليه السمين الحلبي في “الدر المصون” (10/ 228).
ونقل الواحديُّ في “الوسيط” (4/ 240) عن الأزهري قولًا يؤيِّدُه! والذي في “تهذيب اللغة” (8/ 430)، و”علل القراءات” (2/ 670) – كلاهما للأزهري – مثلُ قول الجمهور.
(3) أخرج مسلم في “صحيحه” رقم (73) من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: مُطِر النَّاسُ على عهد النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، فقال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: “أصبح من النَّاس شاكرٌ، ومنهم كافر. قالوا: هذه رحمةُ الله، وقال بعضهم: لقد صَدَق نَوء كذا وكذا” قال: فنزلت هذه الآية {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)} حتى بلغ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)}.
وأخرج: أحمد في “المسند” (1/ 89) رقم (677) و (1/ 180) رقم (849)، وعبد الله في زوائده على “المسند” (1/ 131) رقم (1087)، والترمذي في “سننه” رقم (3295)، والبزار في “البحر الزخَّار” رقم (593)، وابن جرير =
(1/348)
يصلح أن تدلَّ عليه الآية ويراد بها (1)، وإلا فمعناها أوسعُ منه وأعمُّ وأعلى. والله أعلم.
فصل
ثُمَّ خَتَم السورةَ بأحوالهم عند القيامة الصغرى، كما ذكر في أوَّلها أحوالَهم في القيامة الكبرى، وقسَّمَهم إلى ثلاثة أقسامٍ كما قسَّمهم هناك إلى ثلاثة أقسام.
وذكر بين يدي هذا التقسيم الاستدلال على صحته وثبوته، بأنَّهم مَرْبُوبُون مُدَبَّرُون مملُوكُون، فوقهم ربٌّ قاهِرٌ مالِكٌ يتصرَّف فيهم
__________
= في “تفسيره” (11/ 662)، وغيرهم من حديث علي – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ” {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)} قال: شُكْركم، تقولون: مُطِرْنا بنوء كذا وكذا، وبنجم كذا وكذا”.
قال الترمذي: “هذا حديث حسنٌ غريب”.
وفي إسناده: عبد الأعلى بن عامر الثعلبي، قال ابن رجب: “ضعَّفَه الأكثرون، ووثقه ابن معين”. “فتح الباري” (6/ 335).
وقد اختُلف في رفعه ووقفه، وكان سفيان الثوري ينكر على من رفعه، وقال الدارقطني: “ويشبه أن يكون الاختلاف من جهة عبد الأعلى”. “العلل” (4/ 163).
وبهذا اللفظ روي موقوفًا على ابن عباس – رضي الله عنهما – أخرجه: آدم بن أبي إياس في “تفسيره” – كما عزاه إليه ابن رجب في “فتح الباري” (6/ 334) -، وابن جرير في “تفسيره” (11/ 662).
(1) وهذا هو القول المعروف والمشهور عند المفسرين، حتى قال ابن عطية: “أجمع المفسرون على أنَّ الآية توبيخٌ للقائلين في المطر الذي نزَّله الله – تعالى – رزقًا للعباد: هذا بِنَوْء كذا وكذا، وهذا بِنَوء الأسد، وهذا بِنَوء الجوزاء، وغير ذلك”. “المحرر الوجيز” (14/ 272).
(1/349)
بحسب مشيئته وإرادته، وقرَّرهم (1) على ذلك بما لا سبيل لهم إلى دفعه ولا إنكاره فقال تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83)} [الواقعة: 83]، أي: وصلت “الرُّوح” إلى هذا الموضع، بحيث فارَقَتْ ولم تُفَارِق، فهي في برزخٍ بين الموت والحياة، كما أنَّها إذا فارَقَتْ صارت في برزخٍ بين الدنيا والآخرة، وملائكةُ الرَّبِّ – تبارك وتعالى – أقربُ إلى المُحْتَضَرِ من حاضريه من الإنس، ولكنَّهم لا يبصرونهم، فلولا تردُّونها إلى مكانها من البدن أيُّها الحاضرون، إنْ كان الأمر كما تزعمون أنكم غيرُ مَجْزِيِّين ولا مَدِينين، ولا مبعوثين (2) ليوم الحساب.
فإن قيل: أيُّ ارتباطٍ بين هذين الأمرين حتَّى يُلازِمَ بينهما؟
قيل: هذا من أحسن الاستدلال وأَبْلَغِهِ، فإنَّهم إمَّا أنْ يُقِرُّوا بأنَّهم مملوكون مَرْبُوبُون عبيدٌ لمالكٍ، قادِرٍ، مُتَصرِّفٍ فيهم، قاهرٍ، آمِرٍ لهم، نَاهٍ؛ أو لا يُقِرُّون بذلك.
فإنْ أقرُّوا به لزِمَهُم القيامُ بحقِّه عليهم، وشُكْرِه، وتعظيمِهِ، وإجلاله، وأن لا يجعلوا له نِدًّا، ولا شريكًا، وهذا هو الذي جاءهم به رسولُه (3)، ونزل عليهم به كتابُه.
وإنْ أنكروا ذلك وقالوا: إنَّهم ليسوا بعبيدٍ، ولا مملوكين، ولا مَرْبُوبين، وإنَّ الأمر إليهم؛ فَهَلَّا يردُّون الأرواحَ إلى مقارِّها (4) إذا بلغت
__________
(1) في (ز): وقهرهم.
(2) في (ن) و (ح) و (م): مستوعبين، وكذا في (ك) ثم صححت في الهامش، وفي (ط): مستوعيين!
(3) في (ز): رسله.
(4) في (ك): مقادرها! وهو خطأ.
(1/350)
الحلقوم؟ فإنَّ المتصرِّفَ في نفسه، الحاكِمَ على روحه؛ لا يمتنع منه ذلك، بخلاف المحكومِ عليه، المتصرِّفِ فيه غيرُه، المُدَبِّرِ له سواهُ، الذي هو عبدٌ مملوكٌ من جميع الجهات.
وهذا الاستدلال لا محيدَ عنه، ولا مَدْفَعَ له، ومن أعطاه حقَّهُ من التقرير والبيان انتفع به غاية النَّفْع، وانقاد لأجله للعبودية وأَذْعَنَ، ولم يَسَعْهُ غير التسليم للربوبية والإلهية، والإقرار بالعبودية.
وللهِ ما أحسن جَزَالةَ هذه الألفاظ وفصاحَتَها، وبلوغَها أقصى مراتب البلاغة والفصاحة، مع الاختصار التامِّ، وندائها إلى معناها من أقرب مكان، واشتمالها على التوبيخ والتقرير والإلزام، ودلائلِ الربوبية، والتوحيد، والبعث، وفصْلِ النزاع في معرفة “الرُّوح” وأنَّها تَصْعَدُ، وتَنْزِلُ، وتنتقلُ من مكانٍ إلى مكانٍ.
وما أحسن إعادة “لولا” ثانيًا قبل ذكر الفعل الذي يقتضيه الأوَّل، وجَعْلِ الحرفين يقتضيانه اقتضاءً واحدًا، وذِكْرِ الشرط بين “لولا” الثانية وما تقتضيه من الفعل، ثُمَّ الموالاة بين الشرط الأوَّل والثاني، مع الفَصْل بينهما بكلمةٍ واحدةٍ هي الرابطة بين “لولا” الأُولَى والثانية، والشرط الأوَّل والثاني، وهذا تركيبٌ يَسْجُدُ العقل والسمع لمعناه ولفظه.
فتضمَّنت الآيتان تقريرًا، وتوبيخًا، واستدلالًا على أصول الإيمان: من وجودِ الخالق – سبحانه – وكمالِ قدرته، ونُفُوذِ (1) مشيئته، وربوبيته، وتصرُّفِهِ في أرواح عباده، حيث لا يقدرون على التصرُّفِ فيها
__________
(1) في (ز) و (ن) و (ك): وتفرد.
(1/351)
بشيءٍ، وأنَّ أرواحَهم بيده، يذهبُ بها إذا شاء، ويردُّها إليهم إذا شاء، ويُخْلِي أبدانهم منها تارةً، ويجمع بينها وبينها تارةً، وإثباتِ المَعَاد، وصدقِ رسوله فيما أخبر به عنه، وإثباتِ ملائكته (1) ، وتقريرِ عبودية الخلق.
وأتى بهذا في صورة تَحْضِيضَين، وتَوْبِيخَين، وتَقْرِيرَين، وجَوَابَين، وشَرْطَين، وجَزَاءَين، منتظِمَةً أحسن الانتظام، ومتداخلةً أحسن التداخل، متعلِّقًا بعضُها ببعض. وهذا كلامٌ لا يقدر البشر على مثل نظمه ومعناه.
قال الفرَّاء: “وأُجِيبَتْ {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ} و {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) } بجوابٍ وَاحدٍ وهو: {تَرْجِعُونَهَا} “، قال: “ومثله قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) } [البقرة: 38] أُجيبا بجوابٍ واحدٍ، وهما شرطان (2) ” (3) .
وقال الجُرْجَانيُّ: “قوله تعالى: {تَرْجِعُونَهَا} جوابٌ لقوله: {فَلَوْلَا} المتقدِّمة والمتأخِّرة، على تأويل: فلولا إذا بلغت النَّفْسُ الحلقومَ تردُّونها إلى موضعها إن كنتم غير محاسبين ولا مجزيين كما تزعمون؟ يقول تعالى: إن كان الأمر كما تزعمون أنَّه لا بعثَ، ولا حسابَ، ولا جزاءَ، ولا إلهَ، ولا ربَّ يقوم بذلك، فهلَّا تردُّون نَفْسَ من يَعِزُّ عليكم إذا بلغت الحلقوم؟ فإذ لم يُمْكِنْكُم في ذلك حِيلة بوجهٍ من الوجوه، فهلَّا دلَّكُم ذلك على أنَّ الأمر إلى مليكٍ، قادرٍ، قاهرٍ، متصرِّفٍ
__________
(1) “ملائكته” ملحق بهامش (ن).
(2) في “معاني الفَرَّاء”: “وهما جَزَاءَان”!
(3) “معاني القرآن” للفرَّاء (3/ 130).
(1/352)
فيكم، وهو الله الذي لا إله إلا هو؟ ” (1).
وقال أبو إسحاق: “معناه: فهلَّا تَرجِعُون “الرُّوح” إن كنتم غير مملوكين مدبَّرين؛ فهلَّا إن كان الأمر كما زعمتم فيما يقول قائلكم: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران: 168]، و {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران: 156]، أي: إنْ كنتم تقدرون أن تُؤَخِّروا أَجَلًا؛ فهلَّا تَرجِعُون “الرُّوح” إذا بلغت الحلقوم؟ وهلَّا تَدْرَؤُون عن أنفسكم الموت” (2).
قلتُ: وكأنَّ هذا يلتفت إلى قوله تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} [الإسراء: 50، 51]؛ أي: إنْ كنتم كما تزعمون لا تُبعَثُون بعد الموت خَلْقًا جديدًا، فكونوا خلقًا لا يفنى ولا يَبْلَى، إمَّا من حجارةٍ، أو من حديدٍ، أو أكبر من ذلك.
ووجه الملازَمة ما (3) تقدَّمَ ذكره، وهو إمَّا أنْ تُقِرُّوا بأنَّ لكم ربًّا متصرِّفًا فيكم، مالكًا لكم، تَنْفُذُ فيكم مشيئَتُهُ، وبقدرتِهِ يميتكم إذا شاء، ويُحييكم إذا شاء، فكيف تنكرون قدرته على إعادتكم خلقًا جديدًا (4) بعدما أماتكم؟
وإمَّا أن تُنْكِرُوا أن يكون لكم ربٌّ قادرٌ، قاهرٌ، مالكٌ، نافِذُ المشيئة والقدرة فيكم؛ فكونوا خَلْقًا لا يقبل الفناء والموت، فإذا لم تستطيعوا أن تكونوا كذلك فما تنكرون مِن قدرة مَنْ جَعَلَكُم خلقًا يموتُ ويحيا؛ أن يُحييكم بعدما أماتكم؟
__________
(1) قريبٌ منه جدًّا في “الوسيط” للواحدي (4/ 241).
(2) “معاني القرآن” للزجَّاج (5/ 117).
(3) في (ز): كما.
(4) “جديدًا” ملحق بهامش (ن).
(1/353)
فهذا استدلالٌ يُعجِزُهم عن كونهم خَلْقًا لا يموت، والذي في “الواقعة” استدلالٌ يُعجِزُهم عن رَدِّ “الرُّوح” إلى مكانها إذا قاربت الموت، وليس بعد هذا الاستدلال إلا الإذعان والانقياد، أو الكفر والعناد.
فصل
فلمَّا قام الدليل، ووضح السبيل، وتَمَّ البرهان على أنَّهم مملوكُون، مَرْبُوبُون، مجزيُّون، محاسبون = ذكر طبقاتهم عند الحشر الأوَّل، والقيامة الصغرى. وهي ثلاثةٌ:
1 – طبقةُ المُقَرَّبين.
2 – وطبقةُ أصحاب اليمين.
3 – وطبقةُ المكذِّبين.
فجعل تحيَّة المقرَّبين عند الموافاة: الرَّوْحَ، والريحانَ، والجنَّةَ. وهذه الكرامات الثلاث التي يُعْطَونها بعد الموت نظير الثلاثة التي يُعْطَونَها يوم القيامة.
فـ “الرَّوْحُ”: الفَرَحُ، والسرورُ، والابتهاجُ، ولذَّة الرُّوحِ، فهي كلمةٌ جامعةٌ لنعيم “الرُّوحِ” ولذَّتِها، وذلك قُوَّتُها وغذاؤها.
و”الرَّيْحَانُ”: الرِّزْقُ، وهو الأكلُ والشرب.
و”الجنَّةُ”: المَسْكَنُ الجامعُ لذلك كلِّه.
فَيُعطَون هذه الثلاثةَ في البرزخ، وفي المَعَاد الثاني.
(1/354)
ثُمَّ ذكر الطبقة الثانية، وهي طبقة أصحاب اليمين. ولمَّا كانوا دون المقرَّبين في المرتبة جعلَ تحيَّتَهم عند القُدُوم عليه السلامةَ من الآفات والشرور التي تحصل للمكذِّبين الضَّالِّين فقال تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)} [الواقعة: 90, 91].
و”السَّلَام”: مصدر من سَلِمَ، أي: فَلَكَ السلامةُ. والخطاب له نفسه، أي يُقَالُ له (1): لَكَ السلامة، كما يقال للقادم: لَكَ الهَنَاءُ، ولَكَ السَّلَامةُ (2)، ولَكَ البُشْرَى، ونحوَ ذلك من الألفاظ. كما يقولون: خير مَقْدَمٍ، ونحوَ ذلك، فهذه تحيَّتُه عند اللقاء.
قال مقاتل: “يُسَلِّمُ اللهُ لهم (3) أمرَهم، بِتَجَاوزِه عن سيئاتهم، وتقَبُّلهِ حسناتهم” (4).
وقال الكلبي: “يُسَلِّمُ عَليه أهلُ الجنَّة، ويقولون: السلامةُ لَكَ” (5).
وعلى هذا فقوله: {مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)}، أي: هذه التحيَّة حاصلةٌ لك من إخوانك أصحاب اليمين، فإنَّه إذا قَدِمَ عليهم حَيَّوْهُ بهذه التحيَّة، وقالوا: السلامةُ لك.
__________
(1) ساقط من (ز) و (ن) و (ط).
(2) من قوله: “والخطاب له نفسه. . . .” إلى هنا؛ ملحق بهامش (ن).
(3) ساقط من (ك).
(4) “تفسيره” (3/ 319).
(5) وهو اختيار ابن جرير في “تفسيره” (11/ 667)، والزمخشري في “الكشاف” (4/ 469)
(1/355)
وفي الآية أقوالٌ أُخَر، فيها تكلُّفٌ وتعسُّفٌ، فلا حاجة إلى ذكرها (1).
ثُمَّ ذكر الطبقة الثالثة، وهي طبقةُ الضَّالِّ في نفسه، المكذِّبِ لأهل الحقِّ، وإنَّ له عند الموافاة (2) نُزُل الحميم، وسُكْنَى الجحيم.
ثُمَّ أكَّدَ هذا الخبر بما جعله كأنَّه رأي العين لمن آمن بالله ورسوله فقال – عزَّ وجلَّ -: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95)} [الواقعة: 95]، فرفَعَ شَأْنَهُ عن درجة الظَّنِّ إلى العلم، وعن درجة العلم (3) إلى اليقين، وعن درجة اليقين إلى حَقِّهِ (4).
ثُمَّ أمره أن يُنَزِّهَ اسمَهُ – تبارك وتعالى – عمَّا لا يليق به، وتنزيه الاسم متضمِّنٌ لتنزيه المُسَمَّى عمَّا يقوله الكاذبون والجاحدون.
__________
(1) انظر: “المحرر الوجيز” (14/ 278)، و”الجامع” (17/ 233)، و”بدائع الفوائد” (2/ 619 – 621).
قال ابن كثير: “أي: تبشرهم الملائكة بذلك، تقول لأحدهم: سلامٌ لك، أي: لا بأس عليك، أنت إلى سلامة، أنت من أصحاب اليمين.
وقال قتادة، وابن زيد: “سَلِمَ من عذاب الله، وسلَّمت عليه ملائكة الله”.
كما قال عكرمة: “تسلم عليه الملائكة، وتخبره أنَّه من أصحاب اليمين”. وهذا معنىً حسن”. “تفسيره” (7/ 550 – 551).
(2) في (ز) و (ك) و (ط): الوفاة.
(3) ملحق بهامش (ن).
(4) ساقط من (ز).
(1/356)
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} [النجم: 1 – 3].
أقسَمَ – سبحانه – بالنَّجْم عند هُوِيِّهِ على تنزيه رسوله، وبراءته ممَّا نسبه إليه أعداؤه من الضلالِ والغَيِّ.
واختلف النَّاس في المراد بـ “النَّجْم”:
فقال الكلبي، عن ابن عباس: “أقسَمَ بالقرآن إذا نزل مُنَجَّمًا (1) على رسوله: أربع آياتٍ، وثلاث آياتٍ (2)، والسورة، وكان بين أوَّله وآخره عشرون سنة”.
وكذلك روى عطاء عنه، وهو قول: مقاتل (3)، والضحَّاك، ومجاهد (4).
__________
(1) في (ز) و (ن) و (ك) و (ط): نجومًا.
(2) ساقط من (ن) و (ك) و (ح) و (ط).
(3) “تفسيره” (3/ 289).
(4) انظر: “الوسيط” (4/ 192)، و”معالم التنزيل” (7/ 400)، و”زاد المسير” (7/ 226).
وقوله: “عشرون سنة” هذا يوافق ما ثبت عن ابن عباس – رضي الله عنهما -: “أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – لبث بمكة عشر سنين يُنَزَّلُ عليه القرآن، وبالمدينة عشرًا”. أخرجه البخاري رقم (4465). وكذا جاء مثله عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – كما في “صحيح مسلم” رقم (2347).
والجواب: أنَّ هذا من باب الوقوف على العقود، وإلغاء الكسر، وهو جارٍ في استعمالات العرب، وإلَّا فإنَّ المعروف والمشهور الذي اتفق عليه أهل العلم – كما قال النووي – أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – أوحي إليه وعمره أربعون سنة، وتوفي وهو ابن ثلاثٍ وستين سنة، وظلَّ الوحي ينزل عليه طيلة ثلاثٍ وعشرين سنة، =
(1/357)
واختاره الفرَّاء (1).
وعلى هذا فَسُمِّيَ القرآنُ “نَجْمًا”؛ لتفرُّقِهِ في النزول، والعرب تُسمِّي التفرُّقَ: تَنَجُّمًا، والمفرَّقَ: مُنَجَّمًا. ونُجُوم الكتابَةِ: أَقْسَاطُها، وتقول: جعلتُ مالي على فلانٍ نجومًا منجَّمَةً كلَّ نجمٍ كذا وكذا.
وأصل هذا أنَّ العرب كانت تجعل مطالعَ منازل القمر ومساقطَها مواقيتَ لِحُلُول دُيُونها وآجالها، فيقولون: إذا طلع النَّجمُ – يريدون (2) “الثُّرَيَّا” – حَلَّ عليك الدَّينُ. ومنه قول زهير (3) في ديةٍ جُعِلَت نجومًا على العاقلة:
يُنَجِّمُها قَومٌ لِقَومٍ غَرَامَةً … ولم يُهَرِيقُوا بَينَهُمْ مِلْءَ مِحْجَمِ
ثُمَّ جُعِلَ كلُّ تنجُّمٍ (4) تفريقًا؛ وإن لم يكن موقَّتًا بطلوع نجم.
وقوله تعالى: {هَوَى (1)} – على هذا القول – أي: نَزَلَ من عُلُوٍّ إلى سُفْلٍ.
قال أبو زيد (5): “هَوَتِ العُقَابُ تَهْوِي هَوِيًّا – بفتح الهاء -: إذا
__________
= والله أعلم.
انظر: شرح النووي على “صحيح مسلم” (15/ 99 – 100)، و”الفتح” (7/ 757 – 758).
(1) انظر: “معاني القرآن” (3/ 94).
(2) “يريدون” ملحق بهامش (ك).
(3) “ديوان زهير بن أبي سُلْمى” (80).
(4) في (ك): تنجُّم كل.
(5) هو سعيد بن أوس بن ثابت، أبو زيد الأنصاري، إمام النحو والعربية، ثقةٌ ثبتٌ، من أهل البصرة، كان كثير السماع من العرب، وفي كتبه عنهم ما ليس =
(1/358)
انقضَّتْ على صيدٍ أو غيره” (1) .
وكذلك قال ابن الأعرابي، وفرَّقَ بين “الهَوِيّ” و”الهُوِيّ” – بفتح الهاء وضمِّها -، وقال: “الفتحُ في السريع إلى أسفل، والضمُّ: في السريع إلى فوق” (2) ، ثُمَّ أنشد شاهدًا لقوله:
والدَّلْوُ في إصْعَادِها (3) عَجْلَى الهُوِيّ
وقال الليث: “العامَّةُ تقول: الهُوِيّ – بالضمِّ – في مصدر: هَوَى يَهْوِي” (4) .
وكذلك قال الأصمعي: “هَوَى يهْوِي هَويًّا – بفتح الهاء -: إذا سقط إلى أسفل”، قال: “وكذلك الهَوِيُّ في السَّيْرِ: إذا
__________
= لغيره، صنف: “النوادر”، و”الإبل”، و”بيوتات العرب”، وغير ذلك كثير، توفي بالبصرة سنة (215 هـ) رحمه الله.
انظر: “نزهة الألباء” (125)، و”إنباه الرواة” (2/ 30).
(1) انظر: “المخصَّص” لابن سيده (8/ 139)، و”البارع” للقالي (166)، “وتهذيب اللغة” للأزهري (6/ 489).
(2) انظر: “تهذيب اللغة” (6/ 489).
وقد عدَّ جماعة من أئمة اللغة كلمةَ “هَوَى” من الأضداد، يقال: هَوَى إذا صَعِدَ، وهَوَى إذا نزل.
انظر: “الأضداد” لقطرب (120)، و”الأضداد” للصغاني (248)، و”الأضداد” لأبي حاتم السجستاني (100) وقال: “ولا يقال إلا في الدَّلْو خاصةً”.
(3) كذا في النسخ وفي بعض المصادر، وجاء في “الأضداد” لقطرب (120)، و”الأضداد” لأبي حاتم السجستاني (101): “إتْرَاعِها”.
(4) انظر: “تهذيب اللغة” (6/ 490).
(1/359)
مَضَى” (1) .
وهاهنا أمرٌ يجب التنبيه عليه غَلِطَ فيه أبو محمد بن حزم أقبحَ غَلَطٍ، فذكر في أسماء الرَّبِّ -تعالى -: الهَوِي (2) – بفتح الهاء -، واحتجَّ بما في “الصحيح” من حديث عائشة: “أنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – كان يقول في سجوده: “سُبْحَانَ ربِّي الأَعْلَى” الهَوِيّ” (3) . فظنَّ أبو محمد أنَّ
__________
(1) انظر: “الغريب المصنف” لأبي عبيد القاسم بن سلَّام (2/ 948)، ونقله عنه الأزهري في “تهذيب اللغة” (6/ 488).
(2) ذكر أبوحامد الغزالي أنَّه وقف على كتاب في “الأسماء الحُسْنَى” لابن حزم، وذكر ابن عبد الهادي أنَّ ابن حزم عدَّ في أسماء الله الحُسْنَى ما خالف فيه إجماع المسلمين. “طبقات علماء الحديث” (3/ 351).
وما ذكره ابن القيم ههنا مثالٌ على ذلك، وقد سبقه إلى التنبيه عليه الحافظ أبو موسى المديني في كتابه “المجموع المغيث” (3/ 518 – 519) فقال: “وذكر بعضُ من يدَّعي اللغة في رواية جاء فيها يقول: “سبحان الله وبحمده الهَوِيِّ” أنَّه بكسر الياء، ويجعله صفةً لله – عزَّ وجلَّ -؛ وهو خطأٌ”.
(3) أخرج: عبد الرزاق في “المصنف” رقم (2563)، وابن أبي شيبة في “المصنف” (10/ 261)، وأحمد في “المسند” (4/ 57 – 58)، والبخاري في “الأدب المفرد” رقم (1218)، والترمذي في “سننه” رقم (3416)، والنسائي في “سننه” رقم (1618)، وابن ماجه في “سننه” رقم (3948)، وابن حِبَّان في “صحيحه” رقم (2594 و 2595)، والطبراني في “المعجم الكبير” رقم (4569 – 4575)، والبيهقي في “السنن الكبرى” (2/ 486)؛ كلُّهم من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي – رضي الله عنه -، أنَّه قال:
“كنتُ أبيتُ مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فأتيتُه بوَضُوئه وحاجته، وكان يقوم من الليل يقول: “سبحان ربِّي وبحمده، سبحان ربِّي وبحمده” الهَوِيَّ، ثم يقول: “سبحان ربِّ العالمين، سبحان ربِّ العالمين” الهَوِيَّ”.
وأصل الحديث في “صحيح مسلم” رقم (489) بدون موضع الشاهد.
(1/360)
“الهَوِيَّ” صفةٌ للرَّبِّ؛ وهذا من غلطه رحمه الله، وإنَّما “الهَوِيّ” على وزن “فَعِيل”: اسمٌ لقطعةٍ من الليل. يقال: مَضَى (1) هَوِيٌّ من الليل – على وزن “فَعِيل” -، ومَضَى هَزِيعٌ منه؛ أي: طَرَفٌ وجانبٌ (2) .
فكان يقول: “سُبْحَانَ ربِّي الأَعْلَى” في قطعةٍ من الليل وجانبٍ منه. وقد صرَّحَتْ بذلك في اللفظ الآخر، فقالت: “كان يقول: “سُبْحَانَ رَبِّي الأَعْلَى” الهَوِيَّ من الليل” (3) .
عُدْنَا إلى قوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) }:
وقال ابن عباس – في رواية علي بن أبي طلحة، وعطية -: “يعني: “الثُّرَيَّا” إذا سقَطَتْ وغَابَتْ”. وهو الرواية الأخرى عن مجاهد (4) .
والعرب إذا أطلقت “النَّجْم” تعني به: “الثُرَيَّا” (5) ،
__________
(1) تصحفت في (ن) و (ك) و (ط) إلى: معنى.
(2) انظر: “الفائق” للزمخشري (4/ 119)، و”النهاية” لابن الأثير (5/ 285).
(3) هذا اللفظ جاء من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي – رضي الله عنه – في رواية: أحمد في “المسند” رقم (16575 و 16576)، والترمذي في “سننه” رقم (3416)، والبخاري في “الأدب المفرد” رقم (1218)، والطبراني في “الكبير” رقم (4571).
وجاء عند: عبد الرزاق في “المصنف” رقم (2563)، ومن طريقه الطبراني في “المعجم الكبير” رقم (4569) في آخره:
“قلت له: ما الهَوِيّ؟ فقال: يدعو ساعةً”.
(4) انظر: “معالم التنزيل” (7/ 399)، و”الوسيط” (4/ 192).
واختاره ابن جرير الطبري في “تفسيره” (11/ 504).
(5) انظر: “الأنواء” لابن قتيبة (24)، و”الأنواء والأزمنة” لابن عاصم الثقفي (126).
(1/361)
قال (1) :
فباتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ … (2)
وقال أبو حمزة الثُّمَالي (3) : “يعني: النُّجُوم إذا انْتَثَرَتْ يوم القيامة” (4) .
وقال ابن عباس – في رواية عكرمة -: “يعني: النُّجُوم التي تُرْمَى بها الشياطينُ إذا سقطت في آثارها عند استراق السمع”.
__________
(1) في “لسان العرب” (14/ 60): “قوله: “تعد النَّجْم”، يريد الثريَّا؛ لأن فيها ستة أنجم ظاهرة يتخللها نجومٌ صغارٌ خفيَّة”.
والبيت – أيضًا – شاهد لمن قال بأنَّ المراد بـ “النَّجْم”: جنس النُّجُوم، فاللفظ لفظ الواحد لكنه أراد معنى الجميع. وهذا قول: مجاهد، وقتادة، والحسن، وأبي عبيدة معمر بن المثنى في “مجاز القرآن” (2/ 235).
ومال إليه القرطبي في “الجامع” (17/ 82)، وقال السمعاني: “وهذا أحسن الأقاويل؛ لأنَّه يطابق اللفظ من كل وجهٍ” (5/ 283).
وردَّهُ ابن جرير الطبري وقال: “والقول الذي قاله من حكينا عنه من أهل البصرة – يقصد أبا عبيدة – قولٌ لا نعلم أحدًا من أهل التأويل قاله! وإن كان له وجهٌ، فلذلك تركنا القول به” (11/ 504).
(2) جزء من صدر بيت للراعي النميري “ديوانه” (92)، والبيت بتمامه:
فباتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ في مُسْتَحِيرةٍ … سَرِيعٍ بأيدي الآكِلِينَ جُمُودُها
(3) تصحفت في جميع النسخ إلى: اليماني، والصواب ما أثبته.
وأبو حمزة الثمالي هو: ثابت بن أبي صفية الأزدي الكوفي، روى عن أنس بن مالك وعدَّةٍ، وأخرج له الترمذي، وابن ماجه، والنسائي في “مسند علي”، وأجمعوا على ضعفه، وله تفسير، توفي سنة (148 هـ) رحمه الله.
انظر: “تهذيب الكمال” (4/ 357)، و”إكمال” مغلطاي (3/ 71)، و”طبقات المفسرين” (1/ 123).
(4) انظر: “معالم التنزيل” (7/ 400)، و”البحر المحيط” (8/ 154).
(1/362)
وهذا قول الحسن (1)، وهو أظهر الأقوال.
ويكون – سبحانه – قد أقسَمَ بهذه الآية الظاهرة المشاهَدَة، التي نَصَبَها الله – سبحانه – آيةً، وحِفْظًا للوحي من استراق الشياطين له؛ على أنَّ ما أتى به رسولُه حقٌّ وصِدْقٌ، لا سبيل للشيطان ولا طريقَ له إليه، بل قد حُرِسَ بـ “النَّجْم” إذا هَوَى؛ رَصْدًا بين يدي الوحي، وحرسًا له.
وعلى هذا فالارتباط بين المُقْسَمِ به والمُقْسَمِ عليه في غاية الظهور، وفي المُقْسَمِ به دليلٌ على المُقْسَمِ عليه.
وليس بالبَيِّن تسمية القرآن عند نزوله بـ: النَّجْم إذا هَوَى، ولا تسمية نزوله: هويًّا، ولا عُهِد في القرآن بذلك فيُحْمَل هذا اللفظ عليه.
وليس بالبَيِّن – أيضًا – تخصيصُ هذا القَسَم بـ “الثُّرَيَّا” وحدها إذا غَابَتْ.
وليس بالبَيِّنِ – أيضًا – القَسَمُ بالنُّجُوم (2) عند انتثارها يوم القيامة، بل هذا ممَّا يُقْسِمُ الرَّبُّ عليه، ويدلُّ عليه بآياته، فلا يجعله نفسَهُ دليلًا، لعدم ظهوره للمخاطَبِين، ولاسيما منكرو البعث، فإنَّه – سبحانه – إنَّما يستدِلُّ بما لا يمكنَ جَحْدُه، ولا المكابرة فيه. فأظهر الأقوال قول الحسن. والله أعلم.
__________
(1) وهو قول: الضحَّاك، “وهذا القول تسعده اللغة”.
انظر: “المحرر الوجيز” (14/ 81)، و”البحر المحيط” (8/ 154)، و”تفسير ابن كثير” (7/ 442).
(2) في (ز) و (ن) و (ك) و (ط): بالنجم.
(1/363)
وبين المُقْسَم به والمُقْسَم عليه من التناسب ما لا يخفى؛ فإنَّ النُّجُومَ التي تُرمَى بها الشياطين آياتٌ من (1) آياتِ الله، يَحْفَظُ بها دينَهُ، ووحيَهُ، وآياته المنزَّلة على رسوله، فَبِها ظهر دينُهُ، وشرعُهُ، وأسماؤُهُ، وصفاتُهُ، وجُعِلَتْ هذه النُّجُومُ المشاهَدة خَدَمًا وحرسًا لهذه النُّجُوم الهادية.
ونَفَى – سبحانه – عن رسوله الضلالَ المنافي للهُدَى، والغَيَّ المنافي للرَّشَاد. ففي ضمن هذا النَّفْي الشهادة له بأنَّه على الهُدَى والرُّشْد، فالهُدَى في عِلْمِهِ، والرُّشْد في عَمَلِهِ.
وهذان الأصلان هما غاية كمال العبد، وبهما سعادته وفلاحه. وبهما وصَفَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – خلفاءَهُ؛ فقال: “عليكم بِسُنَّتَي وسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدين المَهْدِيِّين مِنْ بعدي” (2).
فالرَّاشِد ضِدُّ الغاوي، والمَهْديُّ ضِدُّ الضَّالِّ، وهو الذي زَكَتْ نَفْسُهُ بالعلم النَّافع والعمل الصالح، وهو صاحب الهُدَى ودينِ الحقِّ،
__________
(1) “آياتٌ من” ملحق بهامش (ح).
(2) أخرجه: أحمد في “المسند” (4/ 126 – 127)، وأبو داود في “سننه” رقم (4607)، والترمذي في “سننه” رقم (2676)، وابن ماجه في “سننه” رقم (42 و 43)، والدارمي رقم (96)، وابن حِبَّان في “صحيحه” رقم (5)، والحاكم في “المستدرك” (1/ 95 – 97)، وغيرهم … من حديث العرباض بن سارية – رضي الله عنه -.
قال الترمذي: “حديث حسن صحيح”، وصححه: البزار، والهروي، وابن حِبَّان، والحاكم ووافقه الذهبي، وابن عبد البر، والضياء المقدسي، وابن رجب، وغيرهم.
وانظر: “السلسلة الصحيحة” رقم (937)، و”الإرواء” رقم (2455).
(1/364)
ولا يشتبه الرَّاشدُ المَهْديُّ بالضَّالِّ الغاوي إلا على أجهل خلق الله، وأعماهم قلبًا، وأَبْعَدِهم من حقيقة الإنسانية. ولله درُّ القائل:
وما انْتِفَاعُ أَخِي الدُّنْيا بِنَاظِرِهِ … إذا اسْتَوَتْ عندَهُ الأَنْوَارُ والظُّلَمُ (1)
فالنَّاسُ أربعة أقسام:
ضالٌّ في علمه، غاوٍ في قصده وعمله. وهؤلاء شرار الخلق، وهم مخالفو الرُّسُل.
الثاني: مُهْتَدٍ في علمه، غاوٍ في قصده وعمله. وهؤلاء هم الأُمَّةُ الغَضَبِيَّةُ (2) ومن تشبَّهَ بهم، وهو حال كلِّ من عرف الحقَّ ولم يعمل به.
الثالث: ضالٌّ في علمه، ولكن قصده الخير، وهو لا يشعر.
الرابع: مُهْتَدٍ في علمه، راشِدٌ في قصده. وهؤلاء ورثة الأنبياء، وهم وان كانوا الأَقلِّين عددًا فهم الأكثرون عند الله قَدْرًا، وهم صفوةُ الله من عباده، وحِزْبُهُ (3) من خلقه.
وتأمَّلْ كيف قال سبحانه: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ}، ولم يقل: ما ضَلَّ محمدٌ؛ تأكيدًا لإقامة الحُجَّة عليهم، بأنَّه صاحبهم، وهم أعلم الخلق به وبحاله، وأقواله، وأعماله، وأنَّهم لا يعرفونه بكذبٍ، ولا غَيٍّ، ولا ضلالٍ، ولا يَنْقِمُون عليه أمرًا واحدًا قَطُّ. وقد نبَّهَ على هذا المعنى بقوله: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ} [المؤمنون: 69]، وبقوله: {وَمَا صَاحِبُكُمْ
__________
(1) البيت للمتنبي “ديوانه” (332).
(2) يقصد أمة اليهود الذين غضب الله عليهم.
(3) “حزبه” ملحق بهامش (ك).
(1/365)
بِمَجْنُونٍ (22)} [التكوير: 22].
فصل
ثُمَّ قال سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3، 4]، يُنَزِّهُ -تعالى – نُطْقَ رسولِهِ أن يَصْدُرَ عن هَوَىً، وبهذا الكمال هُدَاهُ ورُشْدُهُ.
وقال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)}، ولم يقل: وما ينطق بالهَوَى؛ لأنَّ نَفْيَ نُطْقِهِ عن الهَوَى أبلغ، فإنَّهُ يتضمَّنُ أنَّ نُطْقَهُ لا يصدر عن هَوَىً، وإذا لم يَصْدُر عن هَوَى فكيف ينطق به؟ فتضمَّنَ نَفْيَ الأمرين: نَفْيَ الهَوَى عن مصدر النُّطْق، ونَفْيَهُ عن النُّطْقِ نَفْسِهِ. فَنُطْقُه بالحقِّ، ومصدَرُهُ الهُدَى والرَّشَاد، لا الغَيُّ والضلالُ.
ثُمَّ قال: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)}؛ فأعاد الضمير على المصدر المفهوم من الفعل، أي: ما نُطْقُهُ إلا وَحْيٌ يُوحَى.
وهذا أحسنُ من قول من جعل الضمير عائدًا إلى القرآن، فإنَّهُ يَعُمُّ نُطْقَهُ بالقرآن والسُّنَّةِ، وإنَّ كليهما وحيٌ يُوحَى.
وقد احتجَّ الشافعيُّ لذلك فقال (1): “لعلَّ من حُجَّةِ من قال بهذا قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113] “. قال: “ولعلَّ من حُجَّته أن يقول: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لأبي الزَّاني بامرأةِ الرجلِ الذي صالَحَهُ على الغنم والخادم: “والذي نفسي بيده لأَقْضِيَنَّ بينكما بكتاب الله: الغنمُ والخَادِمُ رَدٌّ عليك. . .” (2) الحديث.
__________
(1) “كتاب الأم” (6/ 329 – 330): كتاب الفرقة بين الأزواج، باب: اللِّعَان.
(2) أخرجه: البخاري في “صحيحه” الأرقام (2695 – 2696، 2724 – 2725، =
(1/366)
وفي “الصحيحين” أنَّ يَعْلَى بن أُميَّة كان يقول لعُمَر: ليتني أَرَى رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – حين ينزل عليه الوحي، فلمَّا كان بالجِعِرَّانَة (1) سأله رجلٌ، فقال: كيف ترى في رجلٍ أحرم بعمرةٍ في جُبَّةٍ، بعدما تَضَمَّخَ بالخَلُوق (2) ؟ فنظر إليه النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – ساعةً، ثُمَّ سكت، فجاءَهُ الوحيُ، فأشار عمرُ بيده إلى يَعْلَى، فجاء، فادخَلَ رأسَهُ، فإذا النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – مُحْمَر يَغِطُّ (3) ، ثُمَّ سُرِّيَ عنه، فقال: “أين السائل آنفًا؟ ” فجِيءَ به، فقال: “انْزِعْ عنكَ الجُبَّةَ، واغسِلْ أَثَر الطِّيبِ، واصْنَعْ في عُمْرَتك ما تصنَعُ في حَجِّكَ” (4) .
__________
= 6633 – 6634، 6827 – 6828، 6835 – 6836، 6842 – 6843، 6860، 7258 – 7260)، ومسلم في “صحيحه” رقم (1697 – 1698)، وغيرهما من حديث أبي هريرة، وزيد بن خالد الجهني – رضي الله عنهما -.
(1) “الجِعرانة”: لا خلاف في كسر أوَّله، وأصحاب الحديث يكسرون عينه، ويشدِّدون راءه. وأهل الأدب يخطئونهم؛ ويسكِّنون العين، ويخفِّفون الراء. والصحيح أنهما لغتان جيدتان.
قال علي بن المديني: “أهل المدينة يثقِّلون “الجعرَّانة” و”الحديبيَّة”، وأهل العراق يخففونهما”.
وهي منزِلٌ بين الطائف ومكة، وقربها إلى مكة أكثر، نَزَلَهُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقسم بها غنائم حُنَين، وأحرم منها بالعمرة.
“مراصد الاطلاع” لصفيِّ الدين البغدادي (1/ 336) بتصرف يسير.
(2) “الخَلُوق”: طِيبٌ معروفٌ، مركَّبٌ، يُتَّخَذُ من الزعفران وغيره من أنواع الطيب، وتغلِبُ عليه الحمرة أو الصفرة.
انظر: “النهاية” لابن الأثير (2/ 71)، و”المصباح المنير” للفيومي (246).
(3) “يَغِطُّ”: من الغطيط؛ وهو: صوت النَّفَس المتردِّد من النائم أو المُغْمَى عليه.
وسبب ذلك – في الحديث – شدَّة ثقل الوحي. “الفتح” (3/ 461).
(4) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (1789، 1847، 4329، 4985) وفي رقم (1536) معلقًا، ومسلم في “صحيحه” رقم (1180).
(1/367)
وقال الشافعي: أخبرنا مسلم، عن ابن جُرَيج، عن ابن طاووس، عن أبيه: “أنَّ عندَهُ كتابًا نزل به الوحي، وما فرض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من صدقة، وعُقُولٍ (1) ؛ فإنِّما نزل به الوحي (2) ” (3) .
وذَكَر الأوزاعيُّ، عن حَسَّان بن عطيَّة (4) قال: “كان جبريلُ ينزل على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالسُّنَّة كما ينزل عليه (5) بالقرآن، يُعَلِّمُه إيَّاها” (6) .
__________
(1) “عُقُول”: جمع عَقْلٍ، وهي الدِّيَة. “المصباح المنير” (578).
(2) من قوله: “وما فرض رسول الله. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ز).
(3) أخرجه: الشافعي في “مسنده” رقم (28 و 29)، وفي “إبطال الاستحسان” (9/ 70) – مع “الأم” – رقم (4018)، ومن طريقه البيهقي في “معرفة السنن والآثار” (1/ 102) رقم (18)، وفي “بيان خطأ من أخطأ على الشافعي” (103)، والخطيب البغدادي في “الفقيه والمتفقه” رقم (267)، وعبد الرزاق في “المصنف” (9/ 279) رقم (17201).
وإسناده ضعيف، لأمور:
الأول: أنَّ مسلمًا شيخ الشافعي هو: مسلم بن خالد بن قَرْقَرة، القرشي المخزومي، أبو خالد المكِّي، المعروف بـ “الزَّنْجيّ”، الأكثرون على تضعيفه. “تهذيب الكمال” (27/ 508).
والثاني: عنعنة ابن جريج، وهو مدلِّس. إلا أنَّه صرَّح بالسماع من ابن طاووس في الرواية الأخرى، فترتفع هذه العلة.
والثالث: أن طاووسًا أرسله إلى النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، ولم يسنده.
(4) هو حسَّان بن عطيَّة المُحَاربي – مولاهم -، أبو بكر الشامي الدمشقي، من ثقات التابعين ومشاهيرهم، فقيهٌ عابدٌ، وكان الأوزاعي يثني عليه ويُطْرِيه، اتُّهِم بالقدر، قال الذهبي: “فلعله رجع وتاب”، روى له الجماعة، بقي إلى حدود سنة ثلاثين ومئة رحمه الله.
انظر: “تهذيب الكمال” (6/ 34)، و”السير” (5/ 466).
(5) ساقط من (ز).
(6) أخرجه: نعيم بن حَمَّاد في “زوائد الزهد والرقائق” رقم (91)، والدارمي في =
(1/368)
وذكر الأوزاعيُّ – أيضًا -: عن أبي عبيد (1) – صاحب سليمان -، أخبرني القاسم بن مُخَيْمِرَة (2) ، حدثني ابن نَضْلَة (3) قال: قيل لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – سَعِّرْ لَنَا، قال: “لا يسْأَلُنِي اللهُ (4) عن سُنَّةٍ أحدَثْتُها فيكم، لم يَأْمُرْني بها، ولكِنْ سَلُوا اللهَ من فضله (5) ” (6) .
__________
= “سننه” رقم (608)، وأبو داود في “المراسيل” رقم (536)، ومحمد بن نصر المروزي في “السُّنَّة” رقم (104)، وابن بطة في “الإبانة” رقم (90، 219، 220)، واللالكائي في “شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة” رقم (99)، والهروي في “ذمِّ الكلام” رقم (224)، وابن عبد البر في “جامع بيان العلم” رقم (2350)، والخطيب البغدادي في “الفقيه والمتفقه” رقم (268 – 270)، وفي “الكفاية” رقم (16).
وصححه الحافظ ابن حجر في “الفتح” (13/ 305).
(1) هو أبو عبيد المَذْحِجِيُّ -اختُلف في اسمه -، حاجب الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك، ثقةٌ عابدٌ، روى له: البخاري تعليقًا، ومسلم، وأبو داود، والنسائي في “اليوم والليلة”.
انظر: تهذيب الكمال” (34/ 49).
(2) في (ز): القاسم بن محمد مخيمرة.
(3) في (ح) و (م): ابن نُضيلة.
(4) لفظ الجلالة غير موجود في (ن) و (ك) و (ح) و (ط) و (م).
(5) قوله “من فضله” ساقط من (ز).
(6) أخرجه: ابن قانع في “معجم الصحابة” (2/ 287) و (3/ 160)، وأبو نعيم في “معرفة الصحابة” رقم (4789 و 7093)، وابن الأثير في “أسد الغابة” (3/ 92) و (6/ 348)، وعزاه – أيضًا – إلى: ابن منده.
وعزاه الهيثمي إلى: الطبراني في “الكبير”، قال: “وفيه: بكر بن سهل الدمياطي، ضعفه النسائي، ووثقه غيره، وبقية رجاله ثقات”. “المجمع” (4/ 100).
وعزاه الحافظ إلى: ابن السَّكَن، وابن جرير، ونصر المقدسي في “كتاب الحجَّة”. “الإصابة” (2/ 223). =
(1/369)
و”ابنُ نَضْلَة” هذا يُسَمَّى: طَلْحَة (1) .
وقد صحَّ عنه أنَّه قال: “ألَا إنِّي أُوتِيتُ الكتابَ ومثلَهُ مَعَهُ” (2) ،
__________
= وانظر: “الرد الوافر” لابن ناصر الدين الدمشقي (26 – 28).
وللحديث شواهد من حديث: علي، وأنس، وابن عباس، وأبي هريرة رضي الله عنهم، بألفاظٍ متقاربة.
(1) اختلف في ضبطه، واسمه، وصحبته:
فأمَّا ضبطه؛ فقيل: ابن نَضْلَة، وقيل: ابن نُضَيلَة – بالتصغير -.
وأمَّا اسمه؛ فقيل: هو نَضْلَة – كما عند ابن قانع -، وقيل: طلحة، وقيل: عمرو، وقيل: علقمة، وقيل: عُبيد، وقيل: لا يعرف اسمه كما قاله ابن منده وغيره.
وأمَّا صحبته؛ فقد ذكره جماعةٌ من الأئمة في عداد الصحابة، منهم: ابن أبي شيبة، وأبو نعيم، وابن قانع، وابن عبد البر، والعسكري، وغيرهم.
وعدَّه آخرون في التابعين، منهم: ابن السَّكَن، وابن معين، وأبو حاتم، والدارقطني، وابن حِبَّان، والمِزِّي، وغيرهم. وهذا قول جمهور المحدثين. “الردُّ الوافر” لابن ناصر الدين الدمشقي (28).
قال الحافظ ابن حجر: “طلحة بن نُضَيلَة – بالتصغير -، يكنَّى: أبا معاوية، وعداده في أهل الكوفة، له صحبة؛ هذا هو المعتمد، وما عداه وَهْمٌ”. “الإصابة” (2/ 223).
انظر: “سؤالات ابن طهمان ليحيى بن معين” (99)، و”المراسيل” لابن أبي حاتم (150)، و”الجرح والتعديل” (6/ 405)، و”الثقات” (3/ 315)، و”معرفة الصحابة” لأبي نعيم (4/ 1904)، و”تهذيب الكمال” (20/ 311).
(2) أخرجه بهذا اللفظ: أحمد في “المسند” (4/ 131) رقم (17174)، وأبو داود في “سننه” رقم (4604)، والطبراني في “الكبير” (20/ رقم 670)، وفي “مسند الشاميين” رقم (1061)، والبيهقي في “دلائل النُّبوَّة (6/ 549)، وغيرهم من حديث المقدام بن معد يكرب – رضي الله عنه -.
وأخرجه: ابن حِبَّان رقم (12)، والطبراني في “الكبير” (20/ رقم 669)، =
(1/370)
وهذا هو “السُّنَّةُ” بلا شك، وقد قال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113]؛ وهما القرآن والسُّنَّة. وبالله التوفيق.
فصل
ثُمَّ أخبر – تعالى – عن وَصْفِ من علَّمَهُ الوحيَ والقرآنَ، بما يُعْلَم أنَّه مضَادٌّ لأوصاف الشيطان مُعَلِّم الضَّلَال والغواية، فقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)}، وهذا نظير قوله تعالى: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ} [التكوير: 20]، وذكرنا هناك السِّرَّ في وصفه بالقوَّةِ (1) ..
وقوله تعالى: {ذُو مِرَّةٍ} أي: جميلُ المَنْظَر، حَسَنُ الصورة، ذو جلالةٍ، ليس شيطانًا – أقبَحَ خلق الله، وأشوهَهم صورةً – بل هو من أجمل الخلق، وأقواهم، وأعظمِهم أمانةً ومكانةً عند الله – عزَّ وجلَّ -.
وهذا تعديلٌ لِسَنَدِ الوحي والنُّبوَّة، وتزكيةٌ له كما تقدَّمَ نظيرُهُ في “سورة التكوير” (2).
فوَصَفَهُ بالعلم، والقوَّةِ، وجمالِ المَنْظَرِ، وجلالته. وهذه كانت أوصاف الرسول البَشَرِيِّ والمَلَكِيِّ؛ فكان رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – أشجعَ النَّاس، وأعلمَهم، وأجمَلهم، وأَجَلَّهم.
والشياطين وتلامذتهم بالضِّدِّ من ذلك كلِّه، فهم أقبح الخلق
__________
= وفي “مسند الشاميين” رقم (1881)، والدارقطني في “سننه” رقم (4768)، والبيهقي في “السنن الكبرى” (9/ 333)، بلفظ:
“إنِّي أُوتيتُ الكتابَ وما يَعْدِلُه”.
(1) راجع (ص/ 193 – 194).
(2) راجع (ص/ 192 – 195).
(1/371)
صورةً ومعنىً، وأجهلُ الخَلْق وأضعفُهم هِمَمًا ونفوسًا.
ثُمَّ ذكر استواءَ هذا المعلِّم بالأُفُق الأَعْلَى، ودُنُوَّهُ، وتَدَلِّيَهُ، وقُرْبَهُ من رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وإيحاءَهُ إليه ما أَوْحَى.
فصوَّرَ – سبحانه – لأهل الإيمان صورة الحال من نزول جبريل من عنده إلى أن استوى بالأُفُق، ثُمَّ دَنَى فَتَدلَّى، وقَرُبَ من رسوله، فأوحى إليه ما أمره الله بإيحائه، حتَّى كأنَّهم يشاهدون صورة الحال ويُعَاينُونَهُ هابطًا من السماء إلى أن صار بالأفُق الأَعْلَى مستويًا عليه، ثُمَّ نَزَلَ وقَرُبَ من محمدٍ – صلى الله عليه وسلم – وخاطبه بما أمره الله به، قائلًا: ربُّكَ يقول لك كذا وكذا.
وأخبر – سبحانه – عن مسافة هذا القُرْب، بأنَّه قَدْرُ قوسين أو أدنى من ذلك، وليس هذا على وجه الشَّكِّ، بل تحقيقٌ لِقَدْرِ المسافة، وأنَّها لا تزيد على قوسين أَلْبَتَّةَ؛ كما قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)} [الصافات: 147] تحقيقًا لهذا العدد، وأنَّهم لا ينقصون عن مائةِ ألفٍ رَجُلًا واحدًا. ونظيره قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74]؛ أي: لا تنقُصُ قَسْوَتُها عن قسوة الحجارة، بل إنْ لم تَزِدْ على قسوة الحجارة لم تكن دونها.
وهذا المعنى أحسنُ وألطفُ وأدق مِنْ قول من جعل “أو” في هذه المواضع بمعنى (1) “بل”، ومِنْ قول من جعلها للشكِّ بالنسبة إلى الرائي (2)، وقول من جعلها بمعنى “الواو”، فتأمَّلْهُ.
__________
(1) “بمعنى” ملحق بهامش (ك).
(2) في جميع النسخ: الرأي، ولعله تحريف.
(1/372)
فصل
ثُمَّ أخبر – تعالى – عن تصديق فؤادِهِ لِمَا رأَتْهُ عينَاهُ، وأنَّ القلبَ صَدَّقَ العينَ، وليس كمن رأى شيئًا على خلاف ما هو به، فكذَّبَ فُؤَادُهُ بَصَرَهُ، بل ما رآه بِبَصَرِهِ صدَّقَهُ الفؤادُ، وعَلِمَ أنَّه كذلك.
وفيها قراءتان (1):
إحداهما: بتخفيف “كَذَبَ”.
والثانية: بتشديدها.
يقال: كَذَبَتْهُ عينُه، وكَذَبَهُ قلبُه، وكَذَبَهُ حَدْسُهُ (2)؛ إذا أخلف ما ظَنَّهُ وحَدَسَهُ. قال الشاعر (3):
كَذَبَتْكَ عينُكَ، أَمْ رأَيتَ بِوَاسِطٍ … غَلَسَ الظَّلَامِ من الرَّبَابِ خَيَالا
أي: أَرتْكَ ما لا حقيقةَ له.
فَنَفَى هذا عن رسوله – صلى الله عليه وسلم -، وأخبره أنَّ فُؤَادَهُ لم يكذِّبْ ما رآه.
و”ما” (4):
إمَّا أن تكون مصدريَّة؛ فيكون المعنى: ما كَذَبَ فؤادُهُ رؤيتَهُ.
__________
(1) قرأ أبو جعفر، وهشام بتشديد “الذَّال”، وقرأ الباقون بتخفيفها.
انظر: “التيسير” للداني (204)، و”النشر” (2/ 379).
(2) تصحفت في جميع النسخ إلى: جسده!
(3) هو الأخطل النصراني “ديوانه” (246).
(4) في قوله تعالى: {مَا رَأَى (11)}.
وانظر: “مشكل إعراب القرآن” (645)، و”الدر المصون” (10/ 88).
(1/373)
وإمَّا أن تكون موصولة؛ فيكون المعنى: ما كَذَّبَ الفؤادُ الذي (1) رآه بعينه.
وعلى التقديرين؛ فهو إخبارٌ عن تطابقِ رؤية القلب لرؤية البصر وتوافُقِهما، وتصديقِ كلٍّ منهما لصاحبه. وهذا ظاهرٌ جدًّا في قراءة التشديد.
وقد استشكلها طائفةٌ منهم المُبَرِّد، وقال: “في هذه القراءة بُعْدٌ”، قال: “لأنَّه (2) إذا رأى بقلبه فقد عَلِمَهُ – أيضًا – بقلبه، وإذا وَقَعَ العِلْمُ فلا كذب معه؛ فإنَّه إذا كان الشيء في القلب معلومًا، فكيف يكون معه تكذيب؟ ” (3) .
قلتُ: وجواب هذا من وجهين:
أحدهما: أنَّ الرجلَ قد يتخيَّلُ الشيءَ على خلاف ما هو به فَيَكْذِبُهُ قَلْبُهُ، إذ يُريه صورةَ المعلوم على خلاف ما هي عليه، كما تَكْذِبُهُ عَيْنُهُ، فيقال: كَذَبَهُ قَلْبُهُ، وكَذَبَهُ ظَنُّهُ، وكَذَبَتْهُ عَيْنُهُ. فنَفَى – سبحانه – ذلك عن رسوله، وأخبر أنَّ ما رآه الفؤادُ فهو كما رآه، كَمَنْ رأى الشيءَ على حقيقة ما هو به، فإنَّه يصحُّ أن يقال: لم تَكذِبْهُ عَينُهُ.
الثاني: أن يكون الضمير في {رَأَى (11) } عائدًا إلى
__________
(1) تكررت مرتين في (ك).
(2) في (ز) و (ن) و (ك) و (ط) زيادة: رأى!
(3) ذكره الواحديُّ في “الوسيط” (4/ 195 – 196)، وقال عقبه: “وهذا على ما قال المبرد إذا جعَلْتَ الرؤيةَ للفؤاد، فإن جعلتها للعين زال الإشكال، وصحَّ المعنى، فيقال: ما كذب فؤادُه ما رآه ببصره”.
(1/374)
الرائي (1) لا إلى الفؤاد، ويكون المعنى: ما كذَّبَ الفؤادُ ما رآهُ البَصَرُ. وهذا – بحمد الله – لا إشكال فيه، والمعنى: ما كذَّبَ الفؤادُ ما رآهُ البَصَرُ (2)، بل صدَّقَهُ.
وعلى القراءتين فالمعنى: ما أَوْهَمَهُ الفؤادُ أنَّه رأى ولم يَرَ، ولا اتَّهَمَ بصَرَهُ.
ثُمَّ أنكر – سبحانه – عليهم مُكَابَرَتَهُم وجَحْدَهُم له على ما رآه، كما يُنْكَرُ على الجاهل مُكَابَرَتُهُ للعالِم، ومُمَاراتُهُ له على ما عَلِمَهُ.
وفيها قراءتان: “أَفَتُمَارُونَهُ”، و”أَفَتَمْرُونَهُ” (3).
وهذه المادَّةُ أصلها من: الجَحْدِ والدَّفْعِ، تقول: مَرَيْتُ الرجلَ حقَّه؛ إذا (4) جَحَدْتَهُ. كما قال الشاعر (5):
__________
(1) في جميع النسخ: الرأي، ولعله تحريف.
(2) من قوله: “وهذا – بحمد الله -. . .” إلى هنا؛ ملحق بهامش (ح).
و”ما رآه البصر” ساقط من (ز) و (ن) و (ك) و (ط).
(3) قرأ حمزة، والكسائي، ويعقوب، وخَلَف: “أَفتَمْرُونَهُ”؛ بفتح التاء، وسكون الميم، بلا ألفٍ بعدها.
وقرأ الباقون: “أَفَتُمَارُونَهُ”؛ بضم التاء، وفتح الميم، بعدها ألفٌ.
انظر: “النشر” (2/ 379)، و”إتحاف فضلاء البشر” (2/ 501).
(4) في (ز): أيْ.
(5) ذُكر هذا البيت في: “الكشاف” (4/ 421)، و”البحر المحيط” (8/ 157)، و”الدر المصون” (10/ 89)، و”الجامع” (17/ 93)؛ بدون نسبةٍ لقائل!
وقد شرحه محبُّ الدين أفندي في “تنزيل الآيات على الشواهد من الأبيات” (97) وذكر له نظائر، لكنه لم ينسبه لقائله -على خلاف عادته في كتابه هذا! – والله أعلم.
(1/375)
لَئِنْ هَجَرْتَ أَخَا صِدْقٍ وَمَكْرُمَةٍ … لقد مَرَيتَ أخًا ما كانَ يَمْرِيكَا
ومنه: المُمَارَاةُ، وهي: المُجَادَلَة، والمُكَابَرة. ولهذا عُدِّيَ هذا الفعلُ بـ “على” وهي على بابها. وليست بمعنى “عن” كما قاله المُبرِّد (1) ، بل الفعل متضمِّنٌ معنى المكابرة، وهذا في قراءة الألف أظهر.
ورجَّح أبو عُبَيد قراءة من قرأ “أَفَتَمْرُونَهُ”، قال: “وذلك أنَّ المشركين إنَّما كان شأنُهم الجُحُود لِمَا كان يأتيهم من الوحي، وهذا كان أكثر من المُمَارَاة منهم” (2) .
يعني (3) : أنَّ من قرأ {أَفَتُمَارُونَهُ} فمعناه: أَفَتُجَادِلُونه؟ ومن قرأ “أَفَتَمْرُونه” معناه: أَفَتَجْحَدُونه؟ وجحودهم لِمَا جاء به كان هو شأنُهم، وكان أكثرَ من مجادلتهم له.
وخالفه أبو عليٍّ وغيرُه، واختاروا قراءة {أَفَتُمَارُونَهُ}.
قال أبو عليٍّ: “من قرأ “أَفَتُمَارُونَه” فمعناه: أفتجادلونه جِدالًا تَرُومُون به دفعه عمَّا عَلِمَهُ وشاهَدَهُ؟ ويُقَوِّي هذا الوجه قوله تعالى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} [الأنفال: 6]. ومن قرأ “أَفَتَمْرُونَهُ” كان المعنى: أَفَتَجْحَدُونه؟ “. قال: “والمُجَادَلة كأنَّها أشبه في هذا؛ لأنَّ الجُحُود كان منهم في هذا وفي غيره، وقد جادله المشركون في الإسراء” (4) .
__________
(1) انظر: “الكامل” (2/ 721)، ونقله عنه النحَّاس في “إعراب القرآن” (893).
(2) انظر: “الجامع” للقرطبي (17/ 93)، و”فتح القدير” (5/ 140).
(3) “يعني” ملحق بهامش (ك).
(4) “الحُجَّة للقُرَّاء السبعة” لأبي علي الفارسي (6/ 230).
(1/376)
قلتُ: القومُ جمعوا بين الجدالِ، والدَّفْعِ، والإنكارِ. فكان جدالُهم جدالَ جحودٍ ودفعٍ؛ لا جدالَ استرشادٍ وتَبَيُّنٍ (1) للحقِّ.
وإثبات “الأَلِف” يدلُّ على المُجَادَلة، والإتيان بـ “على” يدلُّ على المُكَابَرة؛ فكانت قراءة “الألف” منتظِمةً للمعنيين جميعًا، فهي أَوْلَى. وبالله التوفيق.
فصل
ثمَّ أخبر – سبحانه – عن رؤيته لجبريل مرَّةً (2) أخرى، عند سِدْرَة المُنْتَهى؛ فالمرَّةُ الأُولَى كانت دون السماء بالأُفُقِ الأَعْلَى، والثانية كانت فوق السماء عند سدرة المُنْتَهى.
وقد صحَّ عنه – صلى الله عليه وسلم – أنَّه – يعني (3) جبريل عليه الصلاة والسلام – رآهُ على صورته التي خُلِقَ عليها مرَّتين، كما في “الصحيحين” عن زِرِّ بن حُبَيش أنَّه سئل عن قوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)} قال: أخبرني ابن مسعود أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – رأى جبريل له ستمائة جناح (4).
وفي “الصحيحين” – أيضًا – عن عبد الله بن مسعود {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ
__________
(1) في جميع النسخ: وتبيين، والصواب ما أثبته.
(2) بعده في (ك) زيادة: بعدي! ولا معنى لها.
(3) كذا ثبت بين الأسطر في (ز)، وسقط من (ن) و (ك) و (ح) و (ط)، وبين الأسطر في (م): أي.
(4) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (3232، 4856، 4857)، ومسلم في “صحيحه” رقم (174).
(1/377)
مَا رَأَى (11) } (1) قال: “رأى (2) جبريل (3) في صورته؛ له ستمائة جناح” (4) .
وقال البخاريُّ عنه: “رأى رَفْرَفًا أخضر، سَدَّ الأُفُق” (5) .
وفي “صحيح مسلم” عن أبي هريرة {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) } قال: “رأى جبريل عليه السلام” (6) .
وفي “صحيحه” – أيضًا – عن مسروق قال: كنتُ مُتَّكِئًا عند عائشة فقالت: ثلاثٌ مَنْ تكلَّمَ بواحدةٍ منهُنَّ فقد أعظَمَ على الله الفِرْيَة، قلتُ: ما هُنَّ؟ قالت: من زَعَم أنَّ محمدًا رأى ربَّهُ؛ فقد أعظم على الله الفِرْيَة (7) . قال: وكنتُ متكئًا فجلستُ، فقلت: يا أُمَّ المؤمنين؛ أَنْظِريني ولا تَعْجَلِيني؛ أَلَمْ يَقُلِ اللهُ – عزَّ وجلَّ -: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) } [التكوير: 23]، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) } [النجم: 13]؟ فقالت: أنا أوَّلُ هذه الأُمَّة سأل عن ذلك رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم -، فقال: “إنَّما هو جبريل، لم أَرَهُ على صورته التي خُلِقَ عليها غير هاتين المَرَّتين، رأيتُهُ مُنْهَبِطًا من السماء، سادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ ما بين السماء والأرض”، فقالت: أَوَ لم تسمع
__________
(1) هذه الآية غير ظاهرة في (ز).
(2) “قال: رأى” ساقط من (ك).
(3) من قوله: “له ستمائة جناح. . .” إلى هنا؛ ملحق بهامش (ن).
(4) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (3232، 4856، 4857)، ومسلم في “صحيحه” رقم (174).
(5) أخرجه البخاري في “صحيحه” رقم (3233، 4858) موقوفًا على: عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -.
(6) أخرجه مسلم في “صحيحه” رقم (175).
(7) من قوله: “قلت: ما هنَّ؟. . .” إلى هنا؛ ملحق بهامش (ن).
(1/378)
أنَّ الله – عزَّ وجلَّ – يقول: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) } [الأنعام: 103]، أَوَ لم تسمع أنَّ الله – عزَّ وجلَّ – يقول: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) } [الشورى: 51]، قالت: ومن زعم أنَّ محمدًا – صلى الله عليه وسلم – كَتَمَ شيئًا من كتاب الله؛ فقد أعظم على الله – عزَّ وجلَّ – الفِرْيَة والله – عزَّ وجلَّ – يقول: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}
[المائدة: 67]. قالت: ومن زَعَم أنَّهُ يُخْبِرُ بما يكون في غَدٍ؛ فقد أعظم على الله الفِرْيَة، والله -عزَّ وجلَّ – يقول: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]. ولو كان محمدٌ كاتمًا شيئًا ممَّا أُنزل عليه لَكَتَم هذه الآية: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] ” (1) .
وفي “الصحيحين” عن مسروق – أيضًا – قال: سألتُ عائشة – رضي الله عنها -: هل رأى محمدٌ ربَّه؟ فقالت: “سبحان الله! لقد قَفَّ (2) شعري ممَّا قلتَ” (3) .
__________
(1) هذا لفظ مسلم في “صحيحه” رقم (177)، وأخرج بعضه البخاري في “صحيحه” رقم (4612، 4855، 7380، 7531).
(2) “قَفَّ شَعري” معناه: اقشعَرَّ جلدي حتَّى قام ما عليه من الشَّعْر، إعظامًا لهذا
القول. وأصله: التقبُّض والاجتماع؛ لأنَّ الجلد ينقبض عند الفَزَع، فيقوم الشَّعْر لذلك.
انظر: “أعلام الحديث” للخطَّابي (3/ 1914)، و”الفتح” (8/ 483).
(3) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (4855)، ومسلم في “صحيحه” رقم =
(1/379)
وفيهما – أيضًا – قال: قلت لعائشة: فأين قوله – عزَّ وجلَّ -: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)}؟ قالت: “إنَّما ذاك جبريل؛ كان يأتيه في صورة الرجال، وإنَّه أتاه في هذه المَرَّة في صورته التي هي صورته، فَسَدَّ الأُفق” (1).
وفي “صحيح مسلم” أنَّ أبا ذَرٍّ سأله – صلى الله عليه وسلم -: هل رأيتَ ربَّكَ؟ فقال: “نورٌ أنَّى أَرَاهُ” (2).
وفي “صحيحه” – أيضًا – من حديث أبي موسى الأشعري قال: قام فِينَا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – بخمس كلماتٍ، فقال: “إنَّ اللهَ لا ينامُ، ولا ينبغي له أن يَنَامَ، يَخْفِضُ القِسْطَ ويرفَعُه، يُرْفَعُ إليه عَمَلُ الليل قبل النَّهار، وعَمَلُ النَّهار قبل الليل، حِجَابُه النُّور، لو كَشَفَهُ لأحرقت سُبُحَاتُ وجهِهِ ما انتهى إليه بَصَرُهُ من خَلْقِهِ” (3).
وهذا الحديث ساقه مسلمٌ بعد حديث أبي ذَرٍّ المتقدِّم عَقِيبه، وهو كالتفسير له.
ولا ينافي هذا قوله في الحديث الصحيح – حديث الرؤية يوم القيامة -: “فيكْشِفُ الحِجَابَ، فينظرون إليه” (4)؛ فإنَّ النُّورَ الذي هو
__________
= (177).
(1) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (3235)، ومسلم في “صحيحه” رقم (177).
(2) أخرجه مسلم في “صحيحه” رقم (178).
(3) أخرجه مسلم في “صحيحه” رقم (179).
(4) أخرجه بهذا اللفظ: أحمد في “المسند” (4/ 332) رقم (18935)، و (4/ 333) رقم (18941)، و (6/ 15 – 16) رقم (23925)، وابن ماجه في =
(1/380)
حجاب الرَّبِّ – تعالى – يُرَادُ به الحجاب الأدنى إليه، وهو لو كَشَفَهُ لم يَقُمْ له شيءٌ، كما قال ابن عباس في قوله – عزَّ وجلَّ -: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} قال: “ذاكَ نُورُه الذي هو نُورُه، إذا تجلَّى به لم يَقُمْ له شيءٌ” (1).
وهذا الذي ذكره ابن عباس يقتضي أنَّ قوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} على عمومه وإطلاقه في الدنيا والآخرة، ولا يلزم من ذلك أن لا يُرَى؛ بل يُرَى في الآخرة بالأبصار من غير إدراك.
وإذا كانت أبصارنُا لا تقوم لإدراك الشمس على ما هي عليه – وإنْ رأَتْها – مع القُرْب الذي بين المخلوق والمخلوق = فالتفاوت الذي بين أبصار الخلائق وذات الرَّبِّ – جلَّ جلاله – أعظَمُ وأعظَمُ.
__________
= “سننه” رقم (186)، وابن خزيمة في “التوحيد” رقم (259)، وابن حِبَّان رقم (7441)، والطبراني في “الكبير” رقم (7314)، وغيرهم … من حديث صُهَيب بن سنان – رضي الله عنه -.
وأخرجه مسلم في “صحيحه” رقم (181) بلفظ: “فيكشف الحجابَ، فما أُعطُوا شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إلى ربِّهم – عزَّ وجلَّ -“.
(1) أخرجه: الترمذي في “سننه” رقم (3279)، وابن أبي عاصم في “السُّنَّة” رقم (437)، وابن خزيمة في “التوحيد” رقم (273، 274)، واللالكائي في “شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة” رقم (920)، والبيهقي في “الأسماء والصفات” رقم (935).
وعزاه الحافظ إلى: النسائي في “تفسيره”، وابن خزيمة في “صحيحه”. “الغنية في مسألة الرؤية” (48).
قال الترمذي: “هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من هذا الوجه”.
وقال ابن أبي عاصم: “وفيه كلام”.
وضعفه: البيهقي، والألباني في “ظلال الجنة” (190).
(1/381)
ولهذا لمَّا حَصَلَ للجبل أدنى شيءٍ من تَجَلِّي الرَّبِّ تَسَافَى (1) الجَبَلُ، وانْدَكَّ لسُبُحَات ذلك القَدْر من التجلِّي.
وفي الحديث الصحيح المرفوع: “جنَّتَان من ذهب؛ آنِيَتُهما، وحِليَتُهما، وما فيهما، وجنَّتَان من فضَّةٍ؛ آنِيَتُهما، وحِليَتُهما، وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظرو إلى ربِّهم إلا رداء الكبرياء على وجهه، في جنَّةِ عَدْنٍ” (2) .
فهذا يدلُّ على أنَّ رداء الكبرياء على وجهه (3) – تبارك وتعالى – هو المانع من رؤية الذَّات، ولا يمنع من أصل الرؤية، فإنَّ الكبرياء والعظمة أمرٌ لازمٌ لذاته تعالى. فإذا تجلَّى – سبحانه وتعالى – لعباده يوم القيامة، وكشف الحجاب بينهم وبينه، فهو الحجاب المخلوق.
وأمَّا نُورُ الذَّات الذي يَحْجُبُ عن إدراكها؛ فذاك صفةٌ للذَّاتِ، لا تفارق ذاتَ الرَّبِّ جلَّ جلاله، ولو كَشَفَ ذلك الحجاب لأحرقت سُبُحَات وجهه ما أدركه بصَرُه من خلقه.
وتكفي هذه الإشارة في هذا المقام للمُصَدِّق المُوقن، وأمَّا
__________
(1) “تَسَافَى” أي: صار ترابًا، والسَّفَى: التراب.
انظر: “لسان العرب” (6/ 290).
و”تَسَافَى” كذا ضبطت في (ح) و (ن)، وربما كانت تحريف “سَاخَ”، فإن ابن القيم استعملها في مثل هذا السياق في “الصواعق المرسلة” (3/ 1064)، و”مدارج السالكين” (2/ 378)، و”إغاثة اللهفان” (2/ 296).
(2) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (4878 – 4880، 7444)، ومسلم في “صحيحه” رقم (180)؛ من حديث أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه -.
(3) من قوله: “في جنة عَدْنٍ. . .” إلى هنا؛ ملحق بهامش (ن).
(1/382)
المُعَطِّلُ الجَهْمِيُّ فكلُّ هذا عنده باطِلٌ ومُحَالٌ.
والمقصود أنَّ المُخْبَر عنه بالرؤية في سورة “النَّجْم” هو: جبريلُ.
وأمَّا قولُ ابن عباس: “رأَى محمدٌ ربَّه بفؤاده مرَّتين” (1)؛ فالظاهر أنَّ مُسْتنَدَهُ هذه الآية، وقد تبيَّنَ أنَّ المرئيَّ فيها جبريلُ، فلا دلالة فيها على ما قاله ابن عباس.
وقد حكى عثمانُ بن سعيد الدَّارمي الإجماعَ على ما قالته عائشة – رضي الله عنها -، فقال – في نَقْضِهِ على المَرِيسي، في الكلام على حديث ثوبانَ، ومعاذٍ: أنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “رأَيتُ ربِّي البَارِحَةَ في أحسَنِ صُورَةٍ” (2) فحكى تأويل المَرِيسِي الباطل له – ثُمَّ قال: “وَيْلَكَ؛ إنَّ تأويل هذا الحديث على غير ما ذهبتَ إليه، لما (3) أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال في حديث أبي ذَرٍّ: “إنَّه لم يَرَ ربَّهُ” (4)، وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “لن تَرَوا
__________
(1) أخرجه مسلم في “صحيحه” رقم (176).
(2) أمَّا حديث معاذ – رضي الله عنه – فسيذكره المؤلِّف بعد قليل.
وأمَّا حديث ثوبان – رضي الله عنه – فأخرجه: ابن أبي عاصم في “السُّنَّة” رقم (470)، والبزار في “مسنده” رقم (4172)، وابن خزيمة في “التوحيد” (1/ 543)، والطبراني في “الدعاء” رقم (1417)، والدارقطني في “الرؤية” رقم (253 – 256)، وابن منده في “الرد على الجهمية” رقم (73)، وأبو بكر النَّجَّاد في “الرد على من يقول القرآن مخلوق” رقم (83)، والبغوي في “شرح السُّنَّة” رقم (925).
وفي إسناده مقال، لكن له شواهد كثيرة يتقوى بها، حتى قال الحافظ ابن منده: “رُوي هذا الحديث عن عشرةٍ من أصحاب النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، ونقلها عنهم أئمة البلاد من أهل الشرق والغرب”. “الرد على الجهمية” (91).
(3) في (ز) و (ن) و (ك) و (ط): لها، وفي (ح) و (م): أما، والتصويب من المصدر.
(4) أخرجه مسلم في “صحيحه” رقم (178)، وقد سبق بلفظه (ص/ 380).
(1/383)
ربَّكُم حتَّى تَمُوتُوا” (1) ، وقالت عائشة – رضي الله عنها -: “من زَعَم أنَّ محمدًا رأى ربَّهُ فقد أعظم على الله الفِرْيَة” (2) . وأجمع المسلمون على ذلك؛ مع قول الله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} يَعْنُون (3) أبصارَ أهل الدنيا. وإنَّما هذه الرؤية كانت في المنام، [وفي المنام] (4) يمكن رؤية الله على كل حالٍ.
كذلك روى معاذ بن جبل، عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – أنَّه قال: “صليتُ ما شاء الله من الليل، ثُمَّ وَضَعْتُ جَنْبِي، فأتاني ربِّي في أحسَنِ صُورةٍ” (5) ، فهذا
__________
(1) أخرجه بهذا اللفظ: أحمد في “المسند” (5/ 324)، والنسائي في “الكبرى” رقم (7764)، وابن أبي عاصم في “السُّنَّة” رقم (428)، والبزار في “مسنده” رقم (2681)، من حديث عبادة بن الصامت – رضي الله عنه -.
وأخرجه مسلم في “صحيحه” رقم (2931) عن بعض أصحاب النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، ولفظه: “تعلَّموا أنَّه لن يرى أحدٌ منكم ربَّهُ – عزَّ وجلَّ – حتَّى يموت”.
(2) مرَّ تخريجه (ص/ 378).
(3) في (ز) و (ن) و (ك): بعيون، وفي (ط): بنور.
(4) زيادة من المصدر ليستقيم الكلام.
(5) أخرجه: أحمد في “المسند” (5/ 243)، والترمذي في “سننه” رقم (3235)، وفي “العلل الكبير” (2/ 895)، وأبو بكر النَّجَّاد في “الرد على من يقول القرآن مخلوق”، رقم (74، 75)، والبزار في “مسنده” رقم (2668)، وابن خزيمة في “التوحيد” (1/ 540)، والروياني في “مسنده” (3/ 261)، والدارقطني في “الرؤية” رقم (227 – 232)، والطبراني في “الكبير” (20/ 109، 141)، وفي “الدعاء” رقم (1415)، والحاكم في “المستدرك” (1/ 521) وصححه، ووافقه الذهبي.
قال الترمذي: “هذا حديثٌ حسنٌ صحيح؛ سألتُ محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسنٌ صحيح”.
(1/384)
تأويل هذا الحديث عند أهل العلم” (1).
وقد ظنَّ القاضي أبو يعلى أنَّ الرواية اختلفت عن الإمام أحمد: هل رأى رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – ربَّهُ في ليلة الإسراء أم لا؟ على ثلاث روايات:
إحداها: أنَّه رآه. قال المَرُّوذِي: قلت لأبي عبد الله: يقولون إنَّ عائشة قالت: “من زعم أنَّ محمدًا رأى ربَّه فقد أعظم على الله الفِرْيَة”، فَبِأَيِّ شيءٍ تَدْفَعُ قولَ عائشة؟ فقال: بقول النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: “رأيتُ رَبِّي”، قولُ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – أكبرُ من قولها.
قال: وذكر المَرُّوذِي في موضعٍ آخر أنَّه قال لأبي عبد الله: هاهنا رجلٌ يقول: إنَّ الله يُرَى في الآخرة، ولا أقولُ إنَّ محمدًا رأى ربَّهُ في الدنيا. فغضِبَ؛ وقال: هذا أهلٌ أن يُجْفَى، يُسلِّم الخبر كما جاء.
قال: فظاهر هذا أنَّه أثبت رؤية عين.
ونقل حَنْبَل (2) قال: قلت لأبي عبد الله: النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – رأى ربَّهُ؟ قال: رؤيا حلم بقلبه (3).
قال: فظاهر هذا نفي الرؤية.
وكذلك نقل الأثرم وقد سأله عن حديث عبد الرحمن بن عائش (4)
__________
(1) “نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد” (459 – 461).
وكذا نقل الدارمي الإجماع في كتابه الآخر “الرد على الجهمية” (105).
(2) هذه هي الرواية الثانية عن الإمام أحمد.
(3) “بقلبه” ملحق بهامش (ك).
(4) تصحفت في جميع النسخ إلى: عابس! والتصحيح من مصادر التخريج. =
(1/385)
عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: “رأيتُ ربِّي في أحسنِ صورةٍ” (1) ، فقال: مضطَرِبٌ؛
__________
= وهو عبد الرحمن بن عائش الحضرمي، من أهل الشام، مختلف في صحبته: فذهب أبو حاتم، وأبو زرعة الرازي، والترمذي – ونقله عن البخاري كما في “العلل الكبير” (2/ 896) -، وابن خزيمة، وابن عبد البر في “الاستيعاب” (2/ 409) وتابعه ابن الأثير ومغلطاي = إلى نفي صحبته، وعدُّوه في التابعين.
بينما عدَّه في الصحابة: البخاري – نقله عنه الحافظ -، ومحمد بن سعد، وأبو زرعة الدمشقي، وأبو الحسن بن سميع، وابن عبد البر في “التمهيد” (24/ 321)، وأبو القاسم البغوي، وابن السَّكَن، وابن حِبَّان، وابن قانع، وأبو نعيم، وابن أبي عاصم، وغيرهم كثير، وهو مذهب الجمهور، وانتصر له ابن حجر – وأطال في تقريره – في “الإصابة” (2/ 397).
وانظر: “تهذيب الكمال” (17/ 202)، و”معرفة الصحابة” لأبي نعيم (4/ 1862)، و”معجم الصحابة” لابن قانع (2/ 175)، و”أسد الغابة” (3/ 465) – وضَبَطَه بالياء المثناة التحتية: عايش -.
(1) أخرجه: الدارمي في “سننه” رقم (2195)، والترمذي في “العلل الكبير” (2/ 894)، وابن أبي عاصم في “السُّنَّة” رقم (467، 468)، وفي “الآحاد والمثاني” رقم (2585، 2586)، وابن جرير في “تفسيره” (11/ 476)، وابن خزيمة في “التوحيد” (1/ 533)، والطبراني في “الدعاء” رقم (1418، 1419)، وفي “مسند الشاميين” رقم (597 – 598)، والدارقطني في “الرؤية” رقم (233 – 239)، وابن منده في “الرد على الجهمية” رقم (75)، وغيرهم.
وهذا الحديث أسانيده مضطربة، واختُلف على رواته اختلافًا كثيرًا، ولهذا قال الدارقطني: “ليس فيها صحيحٌ؛ وكلُّها مضطربة”. “العلل” (6/ 57).
وقال أيضًا: “مختلَفٌ في إسناده”. “المؤتلف والمختلف” (3/ 1558).
وقال البخاري: “له – أي: لعبد الرحمن بن عائش الحضرمي – حديثٌ واحدٌ، إلا أنهم يضطربون فيه”. “تهذيب الكمال” (17/ 202).
وقال محمد بن نصر المروزي: “هذا الحديث قد اضطربت الرواة في إسناده على ما بينَّا، وليس يثبت إسناده عند أهل المعرفة بالحديث”. “مختصر قيام =
(1/386)
لأنَّ (1) مَعْمَرًا رواه عن أيّوب، عن أبي معبد (2) ، عن عبد الرحمن بن عائش (3) ، عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – (4) .
__________
= الليل” (56).
وبمثل ذلك قال: ابن خزيمة في “التوحيد” (1/ 546)، والبيهقي في “الأسماء والصفات” (2/ 74)، وابن الجوزي في “العلل المتناهية” (1/ 20).
وذهب بعض الأئمة إلى ترجيح بعض الروايات على بعض، ولأجل ذلك:
صححه الحاكم (1/ 520) ووافقه الذهبي، وحسَّنه البغوي في “شرح السُّنَّة” (4/ 38).
وقال ابن عبد البر: “وهو حديثٌ حسن، رواه الثقات”. “التمهيد” (24/ 321).
وقال الهيثمي: “رجاله ثقات، وقد سئل الإمام أحمد عن حديث عبد الرحمن بن عائش، عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – بهذا الحديث، فذكر أنَّه صوابٌ، هذا معناه”. “مجمع الزوائد” (7/ 177).
وقواه الحافظ في “الإصابة” (2/ 398)، وصححه الألباني بطرقه في “ظلال الجَنَّة” (1/ 203 – 204).
(1) في (ز) و (ن) و (ك): إنّ.
(2) في (ح) و (م): عن معبد.
(3) تحرفت في جميع النسخ إلى: عابس، والتصحيح من المصادر.
(4) كذا سياق الإسناد في جميع النسخ، وابن القيم – رحمه الله – نقله من كتاب “الروايتين” للقاضي أبي يعلى (66)؛ وهو وهْمٌ، ولم أقف عليه في شيءٍ من مصادر السُّنَّة.
وقد ذكره القاضي أبو يعلى على الصواب في “إبطال التأويلات” (1/ 140) فأقام إسناده: “معمر، عن أيّوب، عن أبي قلابة، عن ابن عباس، عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -.
وبهذا الإسناد أخرجه: عبد الرزاق في “تفسيره” (2/ 169)، ومن طريقه أحمد في “المسند” (1/ 368)، وعبد بن حميد في “المنتخب” رقم (681)، والترمذي في “سننه” رقم (3233) وقال: “حسنٌ غريب”، وابن خزيمة في =
(1/387)
ورواه حمَّاد، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس (1) .
__________
= “التوحيد” رقم (320)، والدارقطني في “الرؤية” رقم (244، 245)، وابن الجوزي في “العلل المتناهية” رقم (14) وقال: “إسناده حسن”.
ونقل القاضي أبو يعلى في “إبطال التأويلات” (1/ 140) كلام أبي بكر الأثرم في “كتاب العلل” وفيه سؤال أحمد عن هذا الحديث، فساق هذا الإسناد، ثم زاد:
“وروَى معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن أبي قلابة، عن خالد بن اللَّجلاج، عن ابن عباس، عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -“.
وبهذا الإسناد أخرجه: الترمذي في “سننه” رقم (3234)، وابن أبي عاصم في “السُّنَّة” رقم (469)، وأبو يعلى في “مسنده” رقم (2608)، والطبراني في “الدعاء” رقم (1420)، والآجري في “الشريعة” رقم (1039)، وابن خزيمة في “التوحيد” رقم (319)، والدارقطني في “الرؤية” رقم (241 – 243)، وابن النَّجَّاد في “الرد على من يقول القرآن مخلوق” رقم (76)، والرافعي في “التدوين” (2/ 363).
وهذا الإسناد معلول؛ قال أحمد: “حديث قتادة هذا ليس بشيء”. “تهذيب الكمال” (17/ 203).
وقال أبو حاتم: “وقتادةُ يقال لم يسمع من أبي قلابة إلا أحرفًا، فإنَّه وقع إليه كتابٌ من كتب أبي قلابة فلم يميزوا بين عبد الرحمن بن عائش، وبين ابن عباس”. “العلل” (1/ 212) رقم (26).
وكذا قال: ابن خزيمة في “التوحيد” (1/ 540)، والدارقطني في “المؤتلف والمختلف” (3/ 1559)، وابن ماكولا في “الإكمال” (6/ 19)، وابن عبد البر في “الاستيعاب” (2/ 409)، وجعل الأخيران الحمل على أبي قلابة.
(1) هذه الرواية جاءت بلفظ مطوَّل، وبلفظ مختصر:
1 – فأمَّا المختصر فهو: “رأيتُ ربِّي عزَّ وجلَّ”، وبهذا أخرجه:
أحمد في “المسند” (1/ 285، 290)، وابنه عبد الله في “السُّنَّة” (2/ 484) و (2/ 503) رقم (1167)، وابن أبي عاصم في “السُّنَّة” رقم (433 و 440)، والآجري في “الشريعة” (3/ 1542) رقم (1033)، واللالكائي في “شرح =
(1/388)
ورواه يوسف بن عطية، عن قتادة، عن أنس (1) .
__________
= أصول اعتقاد أهل السُّنَّة” (3/ 512) رقم (897، 898)، والدارقطني في “الرؤية” رقم (264 – 267).
قال الأثرم: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن حديث حماد بن سلمة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: “رأيتُ ربِّي” الحديث، فقال: “هذا حديثٌ رواه الكبر عن الكبر عن الصحابة عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، فمن شكَّ في ذلك أو شيءٍ منه فهو جهمي. . .”. “إبطال التأويلات” (1/ 145).
وقال أبو زرعة الرازي: “حديث قتادة عن عكرمة، عن ابن عباس = صحيحٌ، لا ينكره إلا معتزلي”.
ونقل القاضي أبو يعلى تصحيحه عن: الطبراني، وأبي الحسن بن بشَّار، والحافظ ابن صدقة البغدادي. “إبطال التأويلات” (1/ 142 – 144).
وقال ابن كثير: “إسناده على شرط الصحيح، لكنه مختصر من حديث المنام”. “تفسيره” (7/ 450).
وقال الهيثمي: “رجاله رجال الصحيح”. “مجمع الزوائد” (1/ 78).
وقال الألباني: “حديث صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح، ولكنه مختصر من حديث الرؤيا”. “ظلال الجنَّة” (1/ 192).
2 – وأمَّا اللفظ المطوَّل فهو: “رأيتُ ربِّي – عزَّ وجلَّ – في صورة شابٍّ أمرد، عليه حُلَّةٌ حمراء. . .” إلخ.
أخرجه: الخطيب البغدادي في “تاريخ بغداد” (11/ 214)، وابن عدي في “الكامل” (2/ 677)، ومن طريقه البيهقي في “الأسماء والصفات” رقم (938)، والقاضي أبو يعلى في “إبطال التأويلات” (1/ 135، 136) وعزاه – أيضًا – إلى الخلَّال ثم ساق إسناده، وابن الجوزي في “العلل المتناهية” رقم (15 – 18).
قال ابن الجوزي: “هذا الحديث لا يثبت” (1/ 23).
وقال الذهبي: “هو خبرٌ منكر”. “السير” (10/ 113).
(1) أخرجه: ابن النَّجَّاد في “الرد على من يقول القرآن مخلوق” رقم (79)، وابن حِبَّان في “المجروحين” (2/ 488)، والدارقطني في “الرؤية” رقم (247)، =
(1/389)
ورواه عبد الرحمن بن يزيد بن (1) جابر، عن خالد بن اللَّجْلَاج (2) عن عبد الرحمن بن عائش (3) ، عن رجل من أصحاب النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – (4) .
__________
= ومن طريقه ابن عساكر في “تاريخ دمشق” (36/ 325).
وعزاه الحافظ إلى أبي بكر النيسابوري في “الزيادات”. “الإصابة” (2/ 406).
وعزاه السيوطي إلى: الطبراني في “السُّنَّة”، والشيرازي في “الألقاب”، وابن مردويه. “الدر المنثور” (5/ 597).
ويوسف بن عطية: هو الصفَّار، أبو سهل البصري؛ متروك.
(1) في جميع النسخ: عن، والصواب ما أثبته كما في المصادر.
(2) تصحفت في (ح) و (م) إلى: اللجَّاج.
(3) تصحفت في جميع النسخ إلى: عابس، والتصحيح من المصادر.
(4) وهذا – أيضًا – من الوَهْم الذي تابع فيه ابنُ القيم القاضي أبا يعلى في كتاب “الروايتين” (67)، وقد ذكر الإسناد على الصواب في “إبطال التأويلات” (1/ 140) فقال: “ورواه يزيد بن يزيد بن جابر، عن خالد بن اللَّجْلَاج، عن عبد الرحمن بن عائش، عن رجل من أصحاب النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -“.
وبهذا الإسناد أخرجه: أحمد في “المسند” (4/ 66) و (5/ 378)، ومن طريقه ابن الجوزي في “العلل المتناهية” رقم (12)، وعبد الله بن أحمد في “السُّنَّة” (2/ 489) رقم (1121)، وابن خزيمة في “التوحيد” (1/ 537)، وابن منده في “الرد على الجهمية” رقم (74)؛ كلهم من طريق زهير بن محمد، عن يزيد بن يزيد به.
قال الحافظ: “وروى هذا الحديث يزيد بن يزيد بن جابر، أخو عبد الرحمن، عن خالد، فخالف أخاه. أخرجه أحمد من طريق زهير بن محمد عنه، عن خالد، عن عبد الرحمن بن عائش، عن رجل من الصحابة؛ فزاد فيه رجلًا. ولكن رواية زهير بن محمد عن الشاميين ضعيفة كما قال البخاري وغيره، وهذا منها”. “الإصابة” (2/ 398).
وثَمَّ ملاحظتان على كلام الحافظ ههنا: =
(1/390)
ورواه يحيى بن أبي كثير فقال: عن ابن عائش (1) ، [عن مالك بن يخامر] (2) ، عن معاذ، عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – (3) .
وأصل الحديث واحد.
قال الأثرم: فقلت لأبي عبد الله: فإلى أيِّ شيءٍ تذهب؟ فقال: قال الأعمش، عن زياد بن الحُصَين، عن أبي العالية، عن ابن عباس قال:
__________
= الأولى: أنَّ العبارة قد انقلبت عليه رحمه الله، وصوابها: “ولكن رواية الشاميين عن زهير بن محمد ضعيفة”، كما هو مقرر في كتب الجرح والتعديل.
والثانية: أنَّ هذا الحديث من رواية العراقيين عنه، وروايتهم عنه مستقيمة صحيحة كما قال أحمد والبخاري وغيرهما، فإن الراوي عنه هو: أبو عامر العَقَديُّ؛ عبد الملك بن عمرو البصري.
انظر: “تهذيب الكمال” (9/ 416 – 418).
(1) في (ح): ابن عابس، وفي غيرها: ابن عباس، وكله تصحيف، والتصحيح من المصادر.
(2) زيادة لا بد منها، وقد ذكره القاضي أبو يعلى على الصواب في “إبطال التأويلات” (1/ 140)، وهو كذلك في المصادر.
(3) سبق تخريج حديث معاذ – رضي الله عنه – (ص/ 384)، ونزيد هنا:
قال ابن عدي: “وهذا له طرق، واختلفوا في أسانيدها، فرأيتُ أحمد بن حنبل صحَّح هذه الرواية التي رواها موسى بن خلف، عن يحيى بن أبي كثير، وقال: هذا أصحها”. “الكامل” (6/ 2344).
ونقل الترمذي عن البخاري تصحيحه له. “العلل الكبير” (2/ 896).
وقال الدارقطني: “وروى هذا الحديث يحيى بن أبي كثير، فحفظ إسناده”. “العلل” (6/ 56).
وقال ابن عبد البر: “وهذا هو الصحيح عندهم، قاله البخاري وغيره”. “الاستيعاب” (2/ 409).
(1/391)
“رأى محمدٌ ربَّهُ بقلبه” (1) .
ونقل الأثرم (2) أنَّ رجلًا قال لأحمد عن الحسن (3) الأشْيَبْ أنَّه قال: لم يَرَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – ربَّهُ تعالى، فأنكره عليه إنسانٌ وقال: لِمَ [لا] (4) تقول: رآه، ولا تقول: بعينه ولا بقلبه؟ كما جاء في (5) الحديث. فاستحسن ذلك الأَشْيَب، فقال أبو عبد الله: حَسَنٌ.
قال: وظاهر هذا إثبات رؤيةٍ لا يُعقَلُ معناها، هل كانت بعينه أم بقلبه؟ (6) .
__________
(1) أخرجه مسلم في “صحيحه” رقم (176) بلفظ: “رآهُ بفؤاده مرتين”.
وسؤال الأثرم للإمام أحمد قد ساقه اللالكائي بسنده في “شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة” رقم (916).
(2) هذه هي الرواية الثالثة عن الإمام أحمد.
(3) في (م): حصين، وفي باقي النسخ: حسين، والصواب ما أثبته.
وهو الحسن بن موسى الأَشْيَب، أبو علي البغدادي، الإمام الفقيه، الحافظ الثقة، ولي قضاء حمص، وطَبَرِسْتَان، والموصل، وكان من أوعية العلم لا يقلِّد أحدًا، روى عن الإمام أحمد، وروى عنه أحمد، مات بالرَّيِّ سنة (209 هـ) رحمه الله.
انظر: “طبقات الحنابلة” (1/ 139)، و”السير” (9/ 559).
(4) زيادة لا بد منها، وهي موجودة في كتاب “الروايتين” (68).
(5) من (م)، وسقط من باقي النسخ.
(6) من قوله: “وقد ظنَّ القاضي أبو يعلى أنَّ الرواية اختلفت. . .” إلى هنا؛ منقول بحرفه من كتاب “الروايتين والوجهين، مسائل من أصول الديانات” للقاضي أبي يعلى (64 – 68).
وذكره – أيضًا – في: “إبطال التأويلات لأخبار الصفات” (1/ 110، 140)، و”المعتمد في أصول الدِّين” (375 – 379) القسم الأول.
(1/392)
فهذه نصوص أحمد، وقد جعلها القاضي مختلفةً، وجعل المسألة على ثلاث روايات، ثُمَّ احتجَّ للرواية الأُولَى بحديث أُمِّ الطُّفَيل (1)، وحديث عبد الرحمن بن عائش (2) الحضرمي، ولا دلالة فيهما؛ لأنَّها رؤية (3) منامٍ قطعًا.
واحتجَّ لها بما لا يَرْضَى أحمدُ أنْ يحتجَّ به، وهو حديثٌ لا يصحُّ عن أبي عبيدة بن الجرَّاح مرفوعًا: “لمَّا كانت ليلةَ أُسْريَ بي؛ رأيتُ ربِّي في أحسن صورةٍ، فقال: فِيْمَ يختصمُ المَلأُ الأعلى؟ ” (4) وذكر الحديث.
__________
(1) أخرجه: ابن أبي عاصم في “السُّنَّة” رقم (471)، واللالكائي في “شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة” رقم (909)، والطبراني في “الكبير” (25/ 143)، والدارقطني في “الرؤية” رقم (286 و 287)، والخطيب في “تاريخ بغداد” (13/ 311)، وابن الجوزي في “العلل المتناهية” رقم (9)، والبيهقي في “الأسماء والصفات” رقم (942)، والقاضي أبو يعلى في “إبطال التأويلات” (1/ 137)؛ وعزاه إلى الخلال في “سننه” (1/ 136).
ونقل مهنّا في “مسائله” عن الإمام أحمد أنه قال: “هذا حديث منكر”. “إبطال التأويلات” (1/ 140)، و”العلل المتناهية” (1/ 15).
وقال البخاري: “إسناده منكر”. “التاريخ الكبير” (6/ 500) مع تعليق المعلمي.
وكذا قال: ابن حِبَّان في “الثقات” (5/ 245)، والحافظ في “تهذيب التهذيب” (10/ 87).
(2) تصحفت في جميع النسخ إلى: عابس! والتصحيح من المصادر.
(3) في (ز): رواية، وفى (ط): رؤيا.
(4) أخرجه الخطيب في “تاريخ بغداد” (8/ 151).
وعزاه القاضي أبو يعلى في “إبطال التأويلات” (1/ 103) إلى الخلال في “سننه”، وساق إسناده.
وعزاه السيوطي في “الدر المنثور” (5/ 598) إلى الطبراني في “السُّنَّة”. =
(1/393)
وهذا غَلَطٌ قطعًا؛ فإنَّ القصَّةَ إنَّما كانت بالمدينة كما قال معاذُ بن جبل: احتبَسَ عنَّا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – في صلاة الصبح حتَّى كِدْنا نَتَراءَى عينَ الشمس، ثُمَّ خرجَ فصلَّى بنا، ثُمَّ قال: “رأيتُ ربِّي البارحة في أحسن صورةٍ، فقال: يا محمد؛ فيمَ يختصم الملأ الأَعْلَى؟ ” وذكر الحديث (1). فهذا كان بالمدينة، والإسراءُ كان بمكة (2).
وليس عن الإمام أحمد؛ ولا عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – نصٌّ أنَّه رآه بعينه يَقَظَةً (3)، وإنَّما حمَّلَ القاضي كلامَ أحمد ما لا يحتمله، واحتجَّ لما فَهِمَ
__________
= وأخرجه بدون قوله: “لمَّا كانت ليلةَ أُسْرِيَ بي”: الطبراني في “الدعاء” رقم (1416)، والخطيب في “تاريخ بغداد” (8/ 152)، ومن طريقه ابن الجوزي في “العلل المتناهية” رقم (10).
(1) سبق تخريجه (ص/ 384).
(2) انظر: “زاد المعاد” (3/ 37)، و”اجتماع الجيوش الإسلامية” (11)، و”مجموع الفتاوى” (3/ 387) و (9/ 506)، و”منهاج السُّنَّة” (2/ 637) و (5/ 384 – 387)، و”درء تعارض العقل والنقل” (8/ 42).
(3) لكن جاء ذلك عن ابن عباس – رضي الله عنهما -، فقد قال الحافظ: “وروى ابن مردويه في “تفسيره” عن ابن جُريج، عن عطاء، عن ابن عباس: “أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – رأى ربَّه بعينه”؛ وإسناده صحيح”. “الغنية في مسألة الرؤية” (44).
وأخرجه القاضي أبو يعلى في “إبطال التأويلات” (1/ 136) بلفظ: “رأى محمدٌ – صلى الله عليه وسلم – ربَّه – عزَّ وجلَّ – بعينيه مرتين”. وعزاه – أيضًا – إلى الحافظ أبي حفص بن شاهين في “سننه” (1/ 113).
وأخرج الطبراني في “الأوسط” رقم (5761)، وفي “الكبير” (12/ 90) رقم (12564)؛ عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال: “إنَّ محمدًا – صلى الله عليه وسلم – رأى ربَّه مرَّتين: مرَّةً ببصره، ومرَّةً بفؤاده”.
قال الهيثمي: “رواه الطبراني في “الأوسط”، ورجاله رجال الصحيح؛ خَلَا: جمهور بن منصور الكوفي، ذكره ابن حِبَّان في “الثقات””. “مجمع الزوائد” =
(1/394)
منه بما لا يدلُّ عليه، وكلام أحمد يصدِّقُ بعضُه بعضًا، والمسألة رواية واحدة عنه، فإنَّه لم يقل: بعينه، وإنَّما قال: رآه، واتَّبعَ في ذلك قول ابن عباس: “رأى محمدٌ ربَّه”، ولفظ الحديث: “رأيتُ ربِّي”؛ وهو مُطْلَقٌ، وقد جاء بيانه في الحديث الآخر.
ولكن في (1) رَدِّ أحمد قولَ عائشة ومعارضته بقول النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – إشعارٌ بأنَّه أثبت الرؤية التي أنكرتها عائشة، وهي لم تُنكر رؤية المنام، ولم تَقُل: إنَّ من زَعَم أنَّ محمدًا رأى ربَّه في المنام فقد أعظم على الله الفِرْية.
وهذا يدلُّ على أحد أمرين:
1 – إمَّا أن يكون الإمام أحمد أنكر قولَ من أطلق نفي الرؤية إذ هو مخالفةٌ للحديث.
2 – وإمَّا أن يكون روايةً عنه بإثبات الرؤية.
وقد صرَّحَ بأنَّه رآه رؤيا حُلم بقلبه، وهذا تقييدٌ منه للرؤية.
وأطلق أنَّه رآه، وأنكر قولَ من نَفَى مطلق الرؤية، واستحسن قولَ من قال: رآه؛ ولا يقول: بعينه ولا بقلبه.
وهذه النصوص عنه متَّفِقةٌ لا مختلفة، وكيف يقول أحمد: رآه بعينَي رأسه يقظةً! ولم يجئ ذلك في حديثٍ قطُّ.
فأحمد إنَّما اتبع ألفاظ الأحاديث كما جاءت، وإنكاره قول من قال: “لم يَرَهُ أصلًا”؛ لا يدلُّ على إثبات رؤية اليقظة بعينيه. والله
__________
= (1/ 250).
(1) ساقط من (ز) و (ن) و (ك) و (ط).
(1/395)
أعلم.
فصل
وقوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)} [النجم: 17]؛ قال ابن عباس: “ما زَاغَ البصر يمينًا ولا شمالًا، ولا جاوز ما أُمر به” (1). وعلى هذا المفسِّرون.
فنَفَى عن نبيِّهِ ما يعرض للرائي (2) الذي لا أدب له بين يدي الملوك (3) والعظماء، من التفاته يمينًا وشمالًا، ومجاوزة بصره لما بين يديه. وأخبر عنه بكمال الأدب في ذلك المقام، وفي تلك الحضرة إذ لم يلتفت جانبًا، ولم يَمُدَّ بصرَهُ إلى غير ما أُرِي من الآيات، وما هناك من العجائب، بل قام مقام العبد الذي أوجب أدبُهُ إطراقَه وإقبالَه على ما أُريه، دون التفاته إلى غيره، ودون تطلُّعه إلى ما لم يَرَهُ، مع ما في ذلك من ثبات الجأش، وسكون القلب وطمأنينته، وهذا غاية الكمال.
فزيغ البصر: التفَاتُه جانبًا، وطغيانُه: مَدُّهُ أمامه (4) إلى حيث ينتهي.
فنزَّهَ في هذه السورة علمَهُ عن الضَّلَال، وقَصْدَهُ وعمَلَهُ عن الغَيِّ،
__________
(1) أخرجه: ابن جرير في “تفسيره” (11/ 518) والحاكم في “المستدرك” (2/ 468) وصححه ووافقه الذهبي.
وزاد السيوطي نسبته إلى: الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. “الدر المنثور” (6/ 162).
(2) في (ز) و (ن) و (ك) و (ط) العبارة هكذا: التعرض للراى!
(3) ساقط من (ز).
(4) تصحفت في (ن) و (ك) و (ط) إلى: مُدَّة أيامه!
(1/396)
ونُطْقَه عن الهوى، وفُؤَادَه عن تكذيب بصرِه، وبَصَرَهُ عن الزَّيغِ والطغيان، وهكذا يكون المدح.
تلكَ المَكَارِمُ لا قَعْبَانِ من لَبَنٍ … شِيبَا بماءٍ فَعَادَا بعدُ أبوالا (1)
فصل
ولمَّا ذكر – سبحانه – رؤيته لجبريل عند “سِدْرَة المُنْتَهى” استطرد منها، وذكر أنَّ جَنَّةَ المأوى عندها، وأنَّها يغشاها من أمره وخلقه ما يغشى.
وهذا من أحسن الاستطراد، وهو أسلوبٌ لطيفٌ جدًّا في القرآن، وهو نوعان:
أحدهما: أن يستطرد من الشيء إلى لازمه، مثل هذا، ومثل قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)} [الزخرف: 9]، ثُمَّ استطرد من جوابهم إلى قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 10 – 13]، وهذا ليس من جوابهم ولكن تقريرًا له، وإقامةً للحُجَّةِ عليهم.
ومثله قوله تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ
__________
(1) هذا البيت لأُميَّة بن أبي الصَّلْت “ديوانه” (341 – 350)، ونسب لأبيه. قَعْبَان: مثَّنى “قَعْب”؛ وهو قدحٌ بمقدار ما يروي الرجل.
(1/397)
شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)} [طه: 49 – 52] فهذا جواب موسى، ثُمَّ استطرد – سبحانه – منه إلى قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)} [طه: 53 – 55]، ثُمَّ عاد إلى الكلام الذي استطردَهُ منه.
والنَّوع الثاني: أن يستطرد من الشخص إلى النَّوع؛ كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)} [المؤمنون: 12, 13] إلى آخره، فالأوَّلُ: آدمُ، والثاني: بَنُوه.
ومثله قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)} [الأعراف: 189 – 190] إلى آخر الآيات، فاستطرد من ذِكْر الأَبَوين إلى ذِكْر المشركين من أولادهما. والله أعلم.
(1/398)
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)} [الطور: 1 – 8]؛ تضمَّنَ هذا القَسَمُ خمسةَ أشياء، وهي مظاهر آياته، وقدرته، وحكمته الدالَّة على ربوبيته ووحدانيته.
فـ “الطُّور”: هو الجبل الذي كلَّم اللهُ عليه نبيَّهُ وكليمَهُ موسى بن عِمْران، عند جمهور المفسِّرين من السَّلف والخَلَف.
وعرَّفَهُ هاهنا بـ “اللَّام”، وعرَّفَهُ في موضعٍ آخر بالإضافة؛ فقال تعالى: {وَطُورِ سِينِينَ (2)} [التين: 2].
وهذا الجبل مَظْهَر بركة الدنيا والآخرة، وهو الجبل الذي اختاره الله لتكليم موسى عليه.
قال عبد الله بن أحمد في كتاب “الزُّهْد” لأبيه:
حدثني محمد بن عُبيد بن حِسَاب (1)، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا أبو عِمْران الجَوْنيُّ، عن نَوْف البِكَاليِّ قال: “أَوْحَى اللهُ – عزَّ وجلَّ – إلى الجبال: إنّي نازِلٌ على جبلٍ منكم. قال: فشَمَخَت الجبالُ كلُّها إلَّا جبل الطُّور، فإنَّه تواضع، وقال: أرضَى بما قَسَمَ اللهُ لي، فكان الأمرُ عليه” (2).
__________
(1) تصحفت في جميع النسخ إلى: حبان، والتصحيح من كتب الرجال.
(2) أخرجه: عبد الله بن أحمد في زوائد “الزهد” رقم (343)، وفي “السُّنَّة” (2/ 469)؛ ومن طريقه أبو نعيم في “الحلية” (6/ 49)، وعبد الرزاق في =
(1/399)
وجبلٌ هذا شأنه حقيقٌ أن يُقْسِمَ اللهُ به، وإنَّهُ لسيِّدُ الجبال.
الثاني: “الكتاب المسطور” في الرَّقِّ المنشور، واختُلف في هذا الكتاب (1) :
فقيل: هو اللوح المحفوظ. وهذا غلطٌ؛ فإنَّه ليس بـ “رَقٍّ”.
وقيل: هو الكتاب الذي تضمَّن أعمالَ بني آدم. قال مقاتل: “تُخْرَجُ إليهم أعمالُهم يومَ القيامة في رَقٍّ منشور” (2) .
وهذا وإن كان أقوى وأصحَّ من القول الأوَّل، واختاره جماعةٌ من المفسِّرين ومنهم من لم يذكر غيره؛ فالظاهر أنَّ المراد به الكتاب المنزَّل من عند الله، وأقسَمَ اللَّهُ به لعظمته وجلالته، وما تضمَّنَهُ من آيات ربوبيته، وأدلَّةِ توحيده، وهدايةِ خلقه.
ثُمَّ قيل: هو التوراة التي أنزلها الله على موسى.
وكأنَّ صاحب هذا القول رأى اقتران هذا الكتاب بالطُّور، فقال: هو التوراة، ولكنَّ التوراةَ إنَّما أُنزلت في ألواحٍ لا في رَقٍّ، إلَّا أن يقال: هي في رَقٍّ في السماء وأنزلت في ألواح.
__________
= “تفسيره” (2/ 246)، وأبو الشيخ في “العظمة” رقم (1178).
ونَوف البِكَاليُّ: هو نَوف بن فضَالة الحِمْيَريُّ البِكَاليُّ، ابنُ امرأة كعب الأحبار، كان من علماء الشام، راويةً للقَصَص، وقد كذَّبَ ابنُ عباس – رضي الله عنهما – ما رواه عن أهل الكتاب، وهذا الأثر منها.
انظر: “تهذيب الكمال” (30/ 65)، و”التقريب” (1011).
(1) انظر أقوال المفسرين في: “الجامع” (17/ 59)، و”المحرر الوجيز” (14/ 47)، و”تفسير السمعاني” (5/ 266)، و”روح المعاني” (27/ 23).
(2) “تفسير مقاتل” (3/ 282). وهو اختيار الفَرَّاء في “معاني القرآن” (3/ 91).
(1/400)
وقيل: هو القرآن؛ ولعلَّ هذا أرجح الأقوال؛ لأنَّه – سبحانه – وصَفَ القرآن بأنَّهُ {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) } [عبس: 13 – 16]، فالصُّحُفُ هي “الرَّقُّ”، وكونه بأيدي السَّفَرَة هو كونه منشورًا.
وعلى هذا فيكون قد أقسَمَ بسيِّدِ الجبال، وسيِّدِ الكتب. ويكون ذلك متضمِّنًا للنُّبوَّتَين العظيمتَين (1) : نُبُوَّةِ موسى، ونُبُوَّةِ محمدٍ صلَّى الله عليهما وسلَّم. وكثيرًا ما يُقْرَنُ بينهما، وبين مَحَلِّهما كما في سورة “والتِّين والزيتون”.
ثُمَّ أَقْسَمَ بسيِّدِ البيوت، وهو “البيت المعمور” (2) .
وفي وَصْفِه للكتاب بأنَّه مسطورٌ تحقيقٌ لكونه مكتوبًا مفروغًا منه. وفي وَصْفِه بأنَّه منشورٌ إيذانٌ بالاعتناء به، وأنَّه بأيدي الملائكة منشورٌ غيرُ مهجورٍ.
وأمَّا “البيت المعمور”؛ فالمشهور أنَّه “الضُّرَاح” (3) الذي في
__________
(1) في (ح) و (م): المعظمتين.
(2) هذا هو الثالث.
(3) عن سماك بن حرب، قال: سمعتُ خالد بن عَرْعَرَة يقول: سأل رجلٌ عليًّا – رضي الله عنه -: ما البيت المعمور؟ فقال: “بيتٌ في السماء يقال له “الضُّرَاح”، وهو بحِيَال الكعبة من فوقها، حُرْمَتُه في السماء كحرمة البيت في الأرض، يصلِّي فيه كلَّ يومٍ سبعون ألفًا من الملائكة، ثم لا يعودون فيه أبدًا”.
أخرجه: ابن وهب في “الجامع تفسير القرآن” (2/ 81) رقم (152)، والأزرقي في “أخبار مكة” (1/ 49 – 50)، وابن جرير في “تفسيره” (11/ 480 – 481)، والبيهقي في “شعب الإيمان” رقم (3704)، وإسحاق بن راهويه كما ذكر الحافظ في “المطالب العالية” رقم (3730). =
(1/401)
السماء الذي رُفع للنبيِّ – صلى الله عليه وسلم – ليلةَ الإسراء، يدخله كُلَّ يومٍ سبعون ألف مَلَكٍ، ثُمَّ لا يعودون إليه آخر ما عليهم (1) . وهو بحيال البيت المعمور في الأرض.
وقيل: هو البيت الحرام.
ولا ريب أنَّ كلًّا منهما بيتٌ معمورٌ: فهذا معمورٌ بالملائكة وعبادتهم، وهذا معمورٌ بالطائفين والقائمين والرُّكَّعِ السجود. وعلى كلا القولين فكلٌّ منهما سيِّد البيوت.
ثُمَّ أقسَمَ – سبحانه – بمخلوقَين عظيمَين من بعض مخلوقاته، وهما مظهر آياته، وعجائب صنعته، وهما:
السَّقْفُ المرفوعُ (2) ؛ وهو السماء، فإنَّها من أعظم آياته قدرًا، وارتفاعًا، وسَعةً، وسُمْكًا، ولونًا، وإشراقًا. وهى مَحَلُّ ملائكته، وهي سَقْفُ العالَم، وبها انتظامه، وهي مَحَلُّ النَّيِّرَين اللَّذَين بهما قوامُ الليل،
__________
= وعزاه السيوطي إلى: ابن المنذر، وابن أبي حاتم. “الدر المنثور” (6/ 144).
وله شواهد عن: ابن عباس، وأبي ذر، وأنس، وعبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهم جميعًا -، وبها يتقوى.
وانظر: “الفتح” (6/ 356)، و”السلسلة الصحيحة” رقم (477).
و”الضُّرَاح” – ويقال: الضَّريح، بضاد معجمة -: من المضَارَحَة؛ وهي المقَابَلَة والمضارَعَة. وسمي بذلك لأنه يقابل البيت الحرام في السماء، ويضارعه في الحُرْمَة. “النهاية” لابن الأثير (3/ 81).
(1) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (3207، 3887)، ومسلم في “صحيحه” رقم (164)، من حديث مالك بن صَعْصَعَة – رضي الله عنه -.
(2) هذا هو الرابع.
(1/402)
والنَّهارِ، والسِّنين، والشهورِ، والأيامِ، والصَّيفِ، والشِّتاءِ، والرَّبيع، والخريفِ. ومنها تنزل البركاتُ، وإليها تصعد الأرواح وأعمالُها وكلماتُها الطَّيِّبةُ.
والثاني: البحر المَسْجُور (1) ؛ وهو آيةٌ عظيمةٌ من آياته، وعجائبُهُ لا يحصيها إلا الله.
واختُلف في هذا البحر، هل هو البحر الذي فوق السماوات، أو البحر الذي نشاهده؟ على قولين:
فقالت طائفةٌ: هو البحر الذي عليه العرش، وبين أعلاه وأسفله مسيرة خمسمائة عامٍ، كما في الحديث الذي رواه أبو داود، من حديث سِمَاك، عن عبد الله بن عَمِيرة (2) ، عن الأَحْنَف بن قيس، أنَّ العبَّاس بن عبد المطلب قال: كنتُ بالبَطْحَاء في عصابةٍ (3) فيهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فمرَّتْ بهم سحابةٌ، فنظر إليها فقال: “ما تُسَمُّونَ هذه؟ ” قالوا: السَّحَاب، قال: “والمُزْنَ” قالوا: والمُزْنَ، قال: “والعَنَان”، قالوا: والعَنَان قال: “هل تدرون بُعْدَ ما بين السماء والأرض؟ ” قالوا: لا ندري، قال: “إنَّ بُعْد ما بينهما إمَّا واحدةٌ، أو اثنتان، أو ثلاثٌ وسبعون سنة، ثُمَّ السماء فوقها كذلك، حتَّى عَدَّ سبعَ سماواتٍ، ثُمَّ فوق السابعة بحرٌ بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماءٍ إلى سماءٍ، ثُمَّ فوق ذلك ثمانية أَوْعَالٍ، بين أظْلَافهم ورُكَبِهم مثل ما بين سماءٍ إلى سماءٍ، ثُمَّ على ظهورهم العَرْش، ما بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماءٍ إلى سماءٍ، ثُمَّ
__________
(1) هذا هو الخامس والأخير.
(2) تصحف في جميع النسخ إلى: مخيمرة، والتصحيح من المصادر.
(3) “في عصابة” ملحق بهامش (ك).
(1/403)
الله – تعالى – فوقَ ذلك” (1) .
وهذا لا يناقِض ما في “جامع الترمذي”: “إنَّ بين كلِّ سَمَائيَن مسيرةَ خمسمائة عامٍ” (2) ؛ إذ المسافات تختلف مقاديرها باختلاف
__________
(1) أخرجه: أحمد في “المسند” (1/ 206 – 207)، وأبو داود في “سننه” رقم (4723)، والترمذي في “سننه” رقم (3320)، وابن ماجه في “سننه” رقم (192)، وابن أبي عاصم في “السُّنَّة” رقم (577)، وابن خزيمة في “التوحيد” رقم (144 و 145)، والآجري في “الشريعة” رقم (663 – 665)، والحاكم في “المستدرك” (1/ 502) وصححه، والبيهقي في “الأسماء والصفات” رقم (847 و 882)، وغيرهم.
وإسناده ضعيف؛ لأمور:
1 – عبد الله بن عَمِيرة؛ كوفيٌّ. قال إبراهيم الحربي: “لا أعرفه”، وقال الذهبي: “فيه جهالة”. “الميزان” (3/ 183)، وذكره العقيلي (2/ 683)، وابن عدي “الكامل” (4/ 1547) في الضعفاء.
2 – وفيه انقطاع، فإن عبد الله بن عَمِيرة لا يعلم له سماعٌ من الأحنف بن قيس كما قال البخاري. “التاريخ الكبير” (5/ 159).
3 – وسِمَاك بن حرب: صدوقٌ لا بأس به، لكن في حديثه اضطراب كما قال أحمد وغيره. ثم إنه كبر فتغيَّر، فكان ربما يُلقَّن فيتلقَّن، فإذا انفرد بأصلٍ لم يكن حُجَّةً. “تهذيب التهذيب” (4/ 234). وقد تفرد بالرواية عن عبد الله بن عَمِيرة كما ذكره مسلم في “الوحدان” (144)، وانظر: كتاب “العلو” للذهبي (109).
ومع ذلك فقد أثبته جماعة:
فقال الترمذي: “حسن غريب”، وصححه الحاكم، والجوزقاني في “الأباطيل والمناكير” (1/ 79)، وشيخ الإسلام ابن تيمية في “مجموع الفتاوى” (3/ 192)، وابن القيم في “تهذيب السنن” (7/ 94)، والمباركفوري في “تحفة الأحوذي” (9/ 166).
وانظر: “السلسلة الضعيفة” للألباني رقم (1247).
(2) أخرجه: أحمد في “المسند” (2/ 370)، والترمذي في “سننه” رقم (3298)، =
(1/404)
المقدَّر به، فالخمسمائة مقدَّرَةٌ بسير الإبل، والسبعون بسير البريد، وهو يقطع بقدر (1) ما تقطعه الإبل سبعة أضعاف (2).
وهذا القول في البحر – أنَّه الذي تحت العرش – محكيٌّ عن: عليِّ بن أبي طالب – رضي الله عنه -.
والثاني: أنَّه بحر الأرض.
واختُلف في “المَسْجُور”:
__________
= وابن أبي عاصم في “السُّنَّة” رقم (578)، وأبو الشيخ في “العظمة” رقم (201)، والبيهقي في “الأسماء والصفات” رقم (849)، وغيرهم.
كلهم من طريق: قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة مرفوعًا.
وإسناده ضعيف؛ فإنَّ قتادة مدلِّس وقد عنعن، والحسن – هو البصري – لم يسمع من أبي هريرة – رضي الله عنه -، وبهذا أعلَّه أكثر المحدِّثين كـ: الترمذي، والبيهقي، وابن الجوزي وغيرهم.
وقال الجوزقاني: “هذا حديث باطل”. “الأباطيل” (1/ 70).
وقال الذهبي: “الحسن مدلِّس، والمتن منكر”. “العلو” (60).
وأخرجه: ابن جرير الطبري في “تفسيره” (11/ 670) مرسلًا عن قتادة، قال ابن كثير: “ولعل هذا هو المحفوظ”. “تفسيره” (8/ 8).
(1) “بقدر” ملحق بهامش (ح).
(2) هذا الجواب الأوَّل عن التعارض الوارد في حساب المسافة بين الحديثين.
والجواب الثاني ما ذكره البيهقي بقوله: “ويحتمل أن يختلف ذلك باختلاف قوة السير وضعفه، وخفته وثقله، فيكون بسير القوي أقل، وبسير الضعيف أكثر، والله أعلم”. “الأسماء والصفات” (2/ 288 – 289).
وثَمَّ جوابٌ ثالثٌ ذكره الطيبي بقوله: “المراد بـ (السبعون) في الحديث التكثير لا التحديد، لما ورد من أنَّ ما بين السماء والأرض، وبين سماءٍ وسماءٍ مسيرة خمسمائة عام”. انظر: “تحفة الأحوذي” (9/ 165).
(1/405)
فقيل: المَمْلُوء، هذا قول جميع أهل اللغة.
قال الفَرَّاء: “المسجور في كلام العرب: المَمْلُوء” (1) .
يقال: سَجَرْتُ الإناءَ إذا مَلأته، قال لبيد (2) :
فَتَوَسَّطَا عُرْضَ السَّرِيِّ وَصَدَّعَا … مَسْجُورةً مُتَجَاوِزًا قُلَّامُها
وقال المُبرِّد: “المسجور: المَمْلُوء عند العرب”؛ وأنشد للنَّمِرِ بن تَوْلَب:
إذا شَاءَ طَالَعَ مَسْجُورةً (3)
يريد عَيْنًا مملوءةً ماءً.
وكذا قال ابن عباس: “المسجور: المُمْتَلئ”.
وقال مجاهد (4) : “المسجورُ: المُوْقَدُ”.
قال الليث: “السَّجْرُ: إيقادُك في التنُّور، تَسْجُره سَجْرًا، والسَّجُور (5) : اسم الحطب” (6) .
__________
(1) “معاني القرآن” (3/ 91).
(2) “ديوانه” (216) بشرح الطوسي.
السِّرِيّ: النهر. والقُلَّام: نَبْتٌ من أنواع الحمض لا ساقَ له. والعُرْض: الناحية.
(3) “ديوانه” (65)، وعجز البيت:
. . . . . . . . . . … ترى حَوْلَها النَّبْعَ والسَّاسَمَا
(4) “تفسيره” (2/ 624)، وأخرجه ابن جرير في “تفسيره” (11/ 482).
وهذا هو القول الثاني في معنى “المسجور”.
(5) ساقط من (ز).
(6) انظر: “العين” (6/ 50)، و”تهذيب اللغة” (10/ 575).
(1/406)
وهذا قول: الضحَّاك، وكعب، وغيرِهما.
قال: “البحر يُسْجَر فيُزَادُ في جهنَّم” (1) .
وحُكِيَ هذا القول عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -، قال: “مسجُورٌ بالنَّارِ”. قالَـ[ـهُ] (2) الفرَّاء (3) .
__________
(1) كذا في جميع النسخ من دون تعيين القائل!
وهذا اللفظ أخرجه: أبو الشيخ في “العظمة” رقم (928)، وأبو نعيم في “الحلية” (5/ 375)؛ من طريق: عكرمة، عن ابن عباس، عن كعب الأحبار به.
وأشار جماعةٌ من المفسرين إلى كونه حديثًا مرفوعًا! لكني لم أجد من خرَّجه؛ إلا إن عَنَوا به ما أخرجه: أحمد في “المسند” (4/ 223)، والبخاري في “التاريخ الكبير” (1/ 70) و (8/ 414)، والفَسَوي في “المعرفة والتاريخ” (1/ 308)، والطبري في “تفسيره” (15/ 239)، والحاكم في “المستدرك” (4/ 596)، والبيهقي في “السنن الكبرى” (4/ 334)، وفي “البعث والنشور” رقم (451 و 452)؛ من حديث صفوان بن يَعْلَى، عن أبيه:
أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “إنَّ البحر هو جهنَّم”.
وفي لفظ: “البحر من جهنَّم”.
صححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي: “رجاله ثقات”. “مجمع الزوائد” (10/ 386).
وقال ابن كثير: “حديث غريبٌ جدًّا”. “تفسيره” (6/ 289).
وضعفه الألباني في “السلسلة الضعيفة” رقم (1023)، و”ضعيف الجامع” رقم (2366).
وانظر كلام الحافظ ابن رجب في “التخويف من النَّار” (74) فقد عزَا هذا المعنى لجماعةٍ من السلف.
(2) زيادة لا بد منها.
(3) في “معاني القرآن” (3/ 91)، وانظر: “تهذيب اللغة” (10/ 575).
(1/407)
وهذا يرجع إلى القول الأوَّل؛ لأنَّكَ تقول: سَجَرْتُ التنُّورَ؛ إذا ملأْتَهُ حَطَبًا.
وروى ذُو الرُّمَّةِ الشاعر عن ابن عباس أنَّ المسجور: “اليابس الذي قد نَضَب ماؤُه وذهب” (1) . وليس لِذِي الرُّمَّةِ رواية عن ابن عباس غير هذا الحرف (2) . وهذا القول اختيار أبي العالية.
قال أبو زيد: “المسجور: المَمْلُوء، والمسجور (3) : الذي ليس فيه شيء” (4) ، جعله من الأضداد.
وقد رُوي عن ابن عباس أنَّ المسجور (5) : المحبوس، ومنه: سَاجُور الكلب، وهو القِلَادة من عُودٍ أو حديدٍ يُمْسِكُه.
__________
(1) أخرجه الثعلبي في “الكشف والبيان” (9/ 125).
وعزاه ابن كثير في “تفسيره” (7/ 429) إلى ابن مردويه في “مسانيد الشعراء”.
وعزاه السيوطي في “الدر المنثور” (6/ 146) إلى الشيرازي في “الألقاب”.
كلُّهم من طريق الأصمعي، عن أبي عمرو بن العلاء، عن ذي الرُّمَّة، عن ابن عباس – رضي الله عنهما – في قوله تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} قال: “الفارغ؛ خرَجَت أمَةٌ تستسقي، فرجعت وقالت: إنَّ الحوضَ مسجورٌ، تعني: فارغًا”.
(2) وهذا قول ابن أبي داود؛ كما نقله عنه: الثعلبي في “الكشف والبيان” (9/ 125)، والقرطبي في “الجامع” (17/ 61).
(3) “والمسجور” ملحق بهامش (ح).
(4) انظر: “تهذيب اللغة” (10/ 577).
ولكونه من الأضداد؛ انظر: “الأضداد” لقطرب (102)، ولابن الأنباري (54)، وللأصمعي (10) ضمن “الكنز اللغوي”.
(5) من قوله: “المملوء، والمسجور: الذي. . .” إلى هنا؛ ملحقٌ بهامش (ن).
(1/408)
والمعنى على هذا أنَّه محبوسٌ بقدرة الله أن يَفِيضَ على الأرض فيُغْرِقَها، فإنَّ ذلك مقتضى الطبيعة أن يكون الماء غامرًا للأرض فوقها، كما أنَّ الهواء فوق الماء، ولكن أَمْسَكَهُ الذي يُمْسِكُ السماوات والأرض أنْ تَزُولا، وفي هذا المعنى حديثٌ ذكره الإمامُ أحمد مرفوعًا: “ما من يومٍ إلَّا والبحرُ يستأذِنُ ربَّهُ أنْ يُغرق بني آدم” (1).
وهذا الموضع ممَّا هَدَمَ أصول الملاحدة والدهريَّة، فإنَّه ليس في الطبيعة ما يقتضي حَبْسَ الماء عن بعض جوانب الأرض، مع كون كرة الماء عالية على كرة (2) الأرض بالذَّات، ولو فُرِضَ أنَّ في الطبيعة ما يقتضي بروز بعض جوانبها لم يكن فيها ما يقتضي تخصيص هذا الجانب بالبروز دون غيره.
وما ذكره الطبائعيُّون والمُتَفَلْسِفة أنَّ العناية الإلهية اقْتَضَتْ ذلك لمصلحة العالَم: فَنَعَم؛ هو كما ذكروا، ولكنَّ عناية من يفعل بقدرته
__________
(1) أخرجه: أحمد في “المسند” (1/ 43)، ومن طريقه ابن الجوزي في “العلل المتناهية” رقم (37)، وعزاه الحافظ في “المطالب العالية” رقم (2043) إلى إسحاق بن راهويه، ومن طريقه أبو بكر الإسماعيلي كما ذكره ابن كثير في “تفسيره” (7/ 430)؛ كلُّهم من حديث عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -؛ ولفظه:
“ليس من ليلةٍ إلا والبحر يُشْرِف فيها ثلاثَ مرَّاتٍ على الأرض، يستأذنُ الله في أن يَنْفَضِخ عليهم، فيكفُّه الله – عزَّ وجلَّ -“.
قال ابن الجوزي: “العوَّام ضعيفٌ، والشيخ مجهول”. (1/ 41).
وقال ابن كثير: “فيه رجلٌ مبهمٌ لم يُسَمَّ”. “تفسيره” (7/ 430)، و”مسند عمر” له – أيضًا – (2/ 608).
(2) ساقط من (ز).
(1/409)
ومشيئته، وهو بكلِّ شيءٍ عليمٌ، وعلى كلِّ شيءٍ قديرٌ، وهو أحكم الحاكمين = غير معقولة؟!
فالعناية الإلهية تقتضي حياتَهُ، وقدرتَهُ، ومشيئته، وعلمَهُ، وحكمتَهُ، ورحمتَهُ، وإحسانَهُ إلى خلقه، وقيامَ الأفعال به، فإثبات العناية الإلهية مع نفي هذه الأمور ممتنعٌ. وبالله التوفيق.
وأقوى الأقوال في “المَسْجُور” أنَّه المُوْقَد (1) – وهذا هو المعروف في اللغة – من: السَّجْر، ويدلُّ عليه قوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) } [التكوير: 6]، قال عليُّ بن أبي طالب، وابنُ عباس: “أُوقِدَتْ فَصَارَتْ نارًا”.
ومن قال: “يَبسَت وذَهَب ماؤها”؛ فلا يُناقض كونها نارًا مُوقَدَةً. وكذا من قال: “مُلئت”؛ فإنَّها تُمْلأُ نارًا.
وإذا اعتبرتَ أسلوبَ القرآن ونَظْمَهُ ومفرداته رأيتَ اللفظة تدلُّ على ذلك كلِّه، فإنَّ البحر محبوسٌ بقدرة الله – عزَّ وجلَّ -، ومملوءٌ ماءً، ويذهب ماؤُه يوم القيامة ويصير نارًا. فكلٌّ من المفسِّرين أخذ معنىً من هذه المعاني. والله أعلم.
__________
(1) وهو مرويٌّ عن: عليٍّ، وابنِ عباسٍ – رضي الله عنهم -.
وقال به: سعيد بن المسيب، وزيد بن أسلم، ومجاهد، والضحَّاك، وسعيد بن جبير، وشِمْر بن عطية، ومحمد بن كعب القرظي، وعبد الله بن عبيد بن عمير، والأخفش، وغيرهم.
واختاره: الألوسي في “روح المعاني” (27/ 24) ونسبه للجمهور، والشوكاني في “فتح القدير” (5/ 125).
(1/410)
فصل
وأقسَمَ – سبحانه – بهذه الأمور على المَعَاد والجزاء، فقال تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7)} [الطور: 7].
ولمَّا كان الذي يقع قد يُمْكِنُ دَفْعُهُ أخبَر – سبحانه – أنَّه لا دافع له. وهذا يتناول أمرين:
أحدهما: أنَّهُ لا دافع لوقوعه.
والثاني: أنه لا دافع له إذا وقع.
ثُمَّ ذكر – سبحانه – وقتَ وقوعه فقال: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10)} [الطور: 9, 10].
و”المَوْرُ”: قد فُسِّر بالحركة، وفُسِّر بالدَّوَران، وفُسِّر بالتموُّج والاضطراب.
والتحقيقُ؛ أنَّه حركةٌ في تموُّجٍ، وتكفُّؤٍ، وذهابٍ، ومجيءٍ.
ولهذا فرَّق بين حركة السماء وحركة الجبال، فقال: {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10)}، وقال تعالى: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)} [التكوير: 3]، فالجبالُ تسير من مكانٍ إلى مكانٍ، وأمَّا السماء فإنَّها تتكفَّأُ، وتتموَّجُ، وتذهبُ، وتجيءُ.
قال الجوهري (1): “مَارَ الشيءُ يَمُورُ مَوْرًا: تَرَهْيَأَ؛ أي: تحرَّك،
__________
(1) هو أبو نَصْر، إسماعيل بن حمَّاد الجوهري، إمام اللغة، كان من أعاجيب الدنيا، أصله من “الفَارَاب” إحدى بلاد التُرك، أكثَرَ من مخالطة قبائل العرب =
(1/411)
وجاء، وذهبَ، كما تكفَّأُ النَّخْلَةُ العَيْدَانة – أي: الطويلة -، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9)}، قال الضحَّاكُ: تَمُوجُ مَوْجًا.
وقال أبو عبيدة، والأخفش: تكفَّأُ. وأنشد للأعشى (1):
كَأَنَّ مِشْيَتَها من بَيْتِ جَارَتِها … مَوْرُ السَّحَابة، لا رَيْثٌ ولا عَجَلُ” (2)
ثُمَّ ذَكَر وعيدَ المكذِّبين بالمَعَادِ والنُّبُوَّةِ، وذكر أعمالَهم وعلومَهم التي كانوا عليها، وهي “الخَوْضُ” الذي هو كلامٌ باطلٌ، و”اللَّعِبُ” الذي هو سَعْيٌ ضَائعٌ. فلا علمٌ نافعٌ، ولا عملٌ صالحٌ؛ بل علومُهم خَوْضٌ بالباطل، وأعمالُهم لَعِبٌ.
ولمَّا (3) كانت هذه العلومُ والأعمالُ مُسْتَلزِمةً لدفع الحقِّ بعُنْفٍ وقَهْرٍ؛ أُدخِلُوا جهنَّم وهم يُدَعُّونَ إليها دعًّا، أي: يُدفَعُون (4) في أَقْفِيَتهم وأكتافهم، دَفْعًا بعد دَفْع، فإذا وَقَفُوا عليها وعَايَنُوها وُقِّفُوا، وقيل لهم: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)}، وتقولون لا حقيقة لها، ولا مَنْ أخبر بها صادِقٌ. ثم يُقَال لهم: {أَفَسِحْرٌ هَذَا} الآن كما كنتم تقولون للحقِّ الذي جاءتكم به الرُّسُل: إنَّه سِحْرٌ، وإنَّهم سَحَرَةٌ؛ فهذا – الآن –
__________
= في البوادي وخاصة ربيعة ومضر، وصنف كتاب “الصِّحاح” المشهور، توفي بنيسابور سنة (398 هـ) أو بعدها، رحمه الله.
انظر: “نزهة الألباء” (344)، و”إنباه الرواة” (1/ 194)، و”السير” (17/ 80).
(1) “ديوانه” (279). ورواية الديوان: مَرُّ السحابة.
(2) “الصحاح” (2/ 820).
(3) في (ز): ولو.
(4) في (ح) و (م): يُدْفَع.
(1/412)
سِحْرٌ لا حقيقةَ له كما قلتم، أَمْ على أبصاركم غِشَاوةٌ فلا تبصرونها، كما كان عليها غِشَاوَةٌ في الدنيا فلا تُبْصِر الحقَّ؟ أَفَعَمِيَتْ أبصارُكم اليومَ عن رؤية هذا الحقِّ، كما عَمِيَتْ في الدنيا؟
ثُمَّ سُلِبَ عنهم نَفْعُ الصَّبْرِ (1) الذي كانوا في الدنيا إذا دَهَمَتْهم الشدائدُ وأحاطت بهم لجأوا إليه، وتعلَّلُوا بانقضاء البليَّةِ (2) لانقضاء أمدها (3) . فقيل لهم يومئذٍ: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا} [الطور: 16] كلاهما سواءٌ عليكم لا يُجْدي عليكم الصبر ولا الجَزَع، فلا الصبر يُخَفِّفُ عنكم حِمْلَ هذا العذاب، ولا الجَزَعُ يعطِفُ عليكم قلوبَ الخَزَنَةِ، ولا يستنزل لكم الرحمة.
ثُمَّ أُعْلِمُوا بأنَّ الرَّبَّ – تعالى – لم يظلمهم (4) بذلك، وإنَّما هو نَفْسُ أعمالهم صارت عذابًا، فلم يجدوا من اقترانهم به بُدًّا؛ بل صارت عذابًا لازمًا لهم، كما كانت إراداتهم وعقائدُهم الباطلةُ وأعمالُهم القبيحةُ لازِمةً لهم، ولُزُوم العذاب لأهله في النَّار بحسب لزوم تلك الإراداتِ الفاسدة، والعقائد الباطلة، وما يترتَّبُ عليها من الأعمال لهم في الدنيا.
فإنْ زال ذلك اللزوم في وقتٍ ما بضدِّه، وبالتوبة النَّصُوح زوالًا كُلِّيًّا لم يُعَذَّبُوا عليه في الآخرة؛ لأنَّ أثره قد زال من قلوبهم وألسنتهم وجوارحهم، ولم يبق له أثرٌ يترتَّبُ عليه، فالتائبُ من الذنب كمن لا ذنب له، والمادَّةُ الفاسدةُ إذا زالت من البَدَنِ بالكُلِّية لم يَبْقَ هناك
__________
(1) تصحفت في (ز) و (ن) و (ك) و (ط) إلى: البصر!
(2) تصحفت في (ز) و (ن) و (ك) و (ط) إلى: الثلاثة!
(3) تصحفت في (ز) و (ن) و (ك) و (ط) إلى: أمرها.
(4) في (ز) و (ن) و (ك) و (ط): يظلمكم، وأعمالكم.
(1/413)
أَلَمٌ يَنْشَأُ عنها.
وإنْ لم تَزُلْ تلك الإرادات والأعمال ولكن عارَضَها مُعَارِضٌ أقوى منها كان التأثير للمعارِضِ، وغَلَبَ الأقوى الأضعفَ.
وإنْ تَسَاوى الأمران تَدَافَعَا وقَاوَمَ كلٌّ منهما الآخر، وكان مَحَلُّ صاحبه “جبالُ الأَعْرَافِ” بين الجنَّةِ والنَّارِ.
فهذا حكمُ الله وحكمتُه في خلقه، وأمره، ونهيه، وعقابه، ولا يظلم ربُّك أحدًا.
فصل
ثُمَّ ذَكَر – سبحانه – أربابَ العلومِ النَّافعة، والأعمالِ الصالحة، والاعتقاداتِ الصحيحة؛ وهم المُتَّقُون، فذكر مساكنَهم وهي الجِنَان، وحالَهم في المساكن وهو النَّعيم.
وذكر نعيم قلوبهم وراحتهم بكونهم {فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الطور: 18]، و”الفَاكِهُ”: المُعْجَبُ بالشيء، المسرورُ المُغْتَبطُ به. وفعله: فَكِهَ – بالكسر -، يَفْكَهُ، فهو فَكِهٌ وفَاكِهٌ إذا كان طيِّبَ النَّفْسَ. والفَاكِهُ: المَازِح (1)، ومنه “المُفَاكَهَةُ” (2) وهي: المِزَاح (3) الذي ينشأ عن طِيبِ النَّفْس (4). وتَفَكَّهْتُ بالشيء: إذا تمتَّعْتُ به، ومنه “الفَاكِهَةُ” التي يُتَمتَّعُ بها (5).
__________
(1) تصحفت في (ن) و (ك) و (ح) و (م) إلى: البال!! والتصحيح من كتب اللغة.
(2) في (ك) و (ح) و (م): الفاكهة!
(3) في (ن) و (ك) و (ح) و (م): المرح، والتصحيح من كتب اللغة.
(4) من قوله: “والفاكه: المازح. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ز) و (ط).
(5) انظر: “مقاييس اللغة” (4/ 446)، و”لسان العرب” (10/ 310).
(1/414)
ومنه قوله تعالى: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65)} [الواقعة: 65]؛ قيل: معناهُ: تَنْدَمُون. وهذا تفسيرٌ بلازم المعنى، وإنَّما الحقيقة: تُزِيلُون عنكم التَّفَكُّه، وإذا زال التَّفَكُّهُ خَلَفَهُ ضِدُّه، يقال: تَحَنَّث؛ إذا زال الحِنْث عنه، وتَحَرَّجَ، وتَحَوَّبَ، وتأثَّمَ، ومنه: تَفَكَّه. وهذا البناء يُقَال للداخل في الشيء كـ: تَعَلَّم، وتَحَلَّم (1)، وللخارج منه (2) كـ: تحرَّج، وتأثَّمَ.
والمقصودُ أنَّه – سبحانه – جمَعَ لهم بين النَّعِيمَين: نعيمِ القلب بالتفكُّهِ، ونعيمِ البَدَن بالأكل والشُّرب والنكاح.
ووَقَاهُم عذاب الجحيم؛ فَوَقَاهُم ممَّا يكرهون، وأعطاهم ما يحبُّون جزاءً وِفاقًا؛ لأنَّهم تَوَقَّوا ما يكرهُ، وأَتَوا بما يحبُّ، فكان جزاؤهم مُطابِقًا لأعمالهم.
ثُمَّ أخبرَ عن دَوَام ذلك لهم بما أَفْهَمَهُ قولُه: {هَنِيئًا}؛ إذ (3) لو عَلِمُوا زَوَالَهُ وانقطاعَه لَنغَّصَ عليهم ذلك نعيمَهم، ولم يكن هنيئًا لهم.
ثُمَّ ذكَرَ مجالسَهم، وهيئَاتِهم فيها؛ فقال: {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ} [الطور: 20]، وفي ذِكْرِ اصْطِفَافِها تنبيهٌ على كمال النِّعمة عليهم بقُرْب بعضهم من بعضٍ، ومقابلةِ بعضهم بعضًا، كما قال تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)} [الواقعة: 16]، فإنَّ من تمام اللذَّةِ والنَّعيم أن يكون مع الإنسان في بستانه ومنزله من يحبُّ معاشرتَهُ، ويُؤْثِرُ قُرْبَهُ،
__________
(1) في (ز) و (ن) و (ك) و (ط): وتحكم.
(2) ساقط من (ز) و (ط)، وأُلحقت بهامش (ك).
(3) ساقط من (ح) و (م).
(1/415)
ولا يكون بعيدًا منه قد حِيلَ بينه وبينه، بل سريرُه إلى جانب سريرِ من يحبُّه، ومقابِلُه سريرُ من يحبُّه.
وذكر أزواجَهم وأنَّهم “الحُورُ العِينُ”. وقد تكرَّرَ وصْفُهُنَّ في القرآن بهاتين الصِّفَتين، قال أبو عبيدة: “جعلناهم أزواجًا كما تُزَوَّجُ النَّعْلُ بالنَّعْلِ، جعلناهم اثْنَين اثْنَين” (1).
وقال يونس (2): “قَرَنَّاهُم بِهِنَّ، وليس من عقد التزويج” (3).
واحتجَّ على ذلك بأنَّ العرب لا تقول: تزوَّجْتُ بها، وإنَّما تقول (4): تزوجتُها. قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]، وفي الحديث: “زوَّجْتُكَها بما مَعَكَ من القرآن” (5).
وقال غيره (6): ” العرب تقول: تزوَّجتُ امرأةً، وتزوَّجْتُ بامرأةٍ”.
__________
(1) “مجاز القرآن” (2/ 209).
وتصحفت في جميع النسخ إلى: البعل بالبعل!
(2) هو أبو عبد الرحمن، يونس بن حبيب الضَّبِّي، مولاهم البصري، كان بارعًا في النحو، عالمًا بكلام العرب، أخذ عنه: سيبويه فأكثر، والكسائي، والفرَّاء وغيرهم، صنَّف: “معاني القرآن”، و”النوادر”، وغير ذلك، توفي سنة (182 هـ) رحمه الله.
انظر: “نزهة الألباء” (49)، و”إنباه الرواة” (4/ 68).
(3) انظر: “الجامع” (17/ 65)، و”زاد المسير” (7/ 120)، و”تهذيب إصلاح المنطق” للتبريزي (2/ 190).
(4) ساقط من (ز) و (ن) و (ك) و (ط).
(5) أخرجه – بهذا اللفظ – البخاري في “صحيحه” رقم (4741، 4839).
(6) هو ابن قتيبة كما حكاه ابن الجوزي عنه في “زاد المسير” (7/ 120).
وقال الفرَّاء: “هي لغة في أزْد شَنُوءة”. انظر: “تهذيب إصلاح المنطق” =
(1/416)
وقال الأزهري: “العرب تقول: زَوَّجْتُه امرأةً، وتزوَّجْتُ امرأةً، وليس في كلامهم: تزوَّجْتُ بامرأةٍ. وقوله تعالى: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) } [الطور: 20]؛ أي: قَرَنَّاهُم” (1) .
وعلى هذا “فزوَّجْنَاهُم” عند هؤلاء من الاقتران والشَّفْع، أي: شَفَعْنَاهُم، وقرنَّاهُم بِهِنَّ.
وقالت طائفةٌ – منهم مجاهد (2) -: زوَّجْنَاهم بِهِنَّ، أي: أَنْكَحْنَاهُم إيَّاهُنَّ.
قلتُ: وعلى هذا فَتَلْوِيحُ فِعْل التزويج قد دلَّ على النكاح، وتعديته بـ “الباء” المُتَضمِّنة معنى الاقترانِ والضَّمِّ، فالقولان واحدٌ. والله أعلم.
وأمَّا “الحُورُ العِينُ”؛ فقال مجاهد: “التي يَحَارُ فيها الطَّرْفُ، باديًا مُخُّ سُوقهنَّ من وراء ثيابهنَّ، ويَرَى النَّاظِرُ وجهَهُ في كَبِدِ إحداهُنَّ كالمِرآة من رِقَّة الجِلْدِ، وصفاءِ اللَّون” (3) .
__________
= (2/ 190)، و”الجامع” (17/ 65).
(1) “تهذيب اللغة” (11/ 152).
(2) أخرجه: ابن جرير في “تفسيره” (11/ 248).
وعزاه السيوطي إلى: الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر. “الدر المنثور” (5/ 753).
(3) أخرجه: ابن أبي الدنيا في “صفة الجنَّة” رقم (302)، وابن جرير في “تفسيره” (11/ 248).
وعزاه السيوطي إلى: الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر. “الدر المنثور” (5/ 753).
قال ابن جرير الطبري (11/ 248): “وهذا الذي قاله مجاهد من أنَّ “الحُورَ” =
(1/417)
وقال قتادة: “بِـ “حُور” أي: بِيض” (1). وكذلك قال ابن عباس (2).
وقال مقاتل: “”الحُور”: البِيضُ الوجوه، “العِين”: الحِسَانُ الأَعْين” (3).
وعَيْنٌ حَوْرَاء (4): شديدةُ السَّوَاد، نَقِيَّةُ البياض، طويلةُ الأهداب معِ سوادها، كاملة الحُسْن. ولا تسمَّى المرأة “حَوْرَاء” حتَّى تكون مع حوَر عينها بيضاءَ لون الجسد.
فَوَصَفَهُنَّ بالبياضِ والحُسْنِ والمَلَاحَةِ، كما قال تعالى: {خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70)} [الرحمن: 70]، فالبياضُ في ألوانهنَّ، والحُسْن في وجوههنَّ (5)، والمَلَاحَة في عيونهنَّ. وقد وصف الله – سبحانه – نساءَ الجنَّةِ بأحسن الصفات، ودلَّ بما وصف على ما سكت عنه.
__________
= إنَّما معناها أنَّه يَحَارُ فيها الطَّرْف؛ قولٌ لا معنى له في كلام العرب؛ لأنَّ “الحُورَ” إنَّما هو جمع: حَوْرَاء، كالحُمْر جمع: حمراء، والسُّود جمع: سوداء.
و”الحَوْرَاء” إنَّما هي (فَعْلَاء) من: الحَوَر؛ وهو نقاء البياض، كما قيل للنقي البياض من الطعام: الحُوَّارى.
وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال سائر أهل التأويل”.
(1) أخرجه: عبد الرزاق في “تفسيره” (2/ 209 – 210)، وابن جرير في “تفسيره” (11/ 249).
(2) انظر: “مسائل نافع بن الأزرق” (182)، وإليه عزاه السيوطي في “الدر المنثور” (5/ 753).
(3) “تفسيره” (3/ 208).
(4) “حوراء” ملحق بهامش (ك).
(5) “في وجوههن” ملحق بهامش (ن).
(1/418)
فإن شئتَ التفصيل؛ فالذي يُحْمَدُ ويستحبُّ من وجه المرأة، وبدنها، وأخلاقها:
“البَيَاضُ” في أربعةِ أشياء: اللَّون، وبياضِ العَين، والفَرْق، والثَّغْر (1).
و”السَّوَادُ” في أربعةٍ: سوادِ العين، وسوادِ شَعْرِ الرأسِ، وسوادِ شَعْر الجَفْنِ، وسوادِ شَعْر (2) الحاجِبين.
و”الحُمْرَةُ” في أربعةٍ: اللِّسانِ، والشَّفَتين، والوَجْنَتين، وحُمْرةٍ تَشُوبُ “البَيَاضَ” فتُحَسِّنُه وتزيِّنُه.
ومن “التدوير” أربعةُ أشياء: الوجهُ، والرأسُ، والكَعْبُ، والمَقْعدُ.
ومن “الطُّول” أربعةٌ: القَامَةُ، والعُنُقُ، والشَّعْرُ، والحاجِبُ.
ومن “السَّعَةِ” في أربعةٍ: الجَبْهَةِ، والعَينِ، والوجهِ، والصَّدْرِ.
ومن “الصِّغَرِ” في أربعةٍ: الثَّدْي، والفَم، والكفِّ، والقَدَمِ (3).
ومن “الطِّيبِ” في أربعةٍ: الفَم، والأنفِ، والفَرْق، والفَرْج.
ومن “الضِّيقِ” في موضعٍ واحدٍ.
ومن “الأخلاق” كما قال اللهُ تعالى: {عُرُبًا أَتْرَابًا (37)} [الواقعة: 37]،
__________
(1) تصحفت في (ك) إلى: الشخر!
(2) ساقط من (ز) و (ن) و (ك) و (ح) و (ط).
(3) من قوله: “ومن الصغر. . .” إلى هنا؛ ملحق بهامش (ن).
(1/419)
فـ “العُرُب” جمع: عَرُوبٍ، وهي المرأة المتحبِّبَةُ (1) إلى زوجها بأخلاقها، ولطافتها، وشمائلها.
قال ابن الأعرابي: “العَرُوبُ من النِّساء: المطيعةُ لزوجها، المتحبِّبةُ إليه” (2).
وقال أبو عبيدة: “هي الحَسَنَةُ التَّبَعُّل” (3).
قال المبرِّد: “هي العاشقة لزوجها” (4).
وقال البخاري في “صحيحه” (5): “هي الغَنِجَةُ، ويقال: الشَّكِلَةُ”.
فهذا وَصْفُ أخلاقهنَّ، وذاك وصف خَلْقِهنَّ. وأنت (6) إذا تأمَّلتَ الصفات التي وصفهنَّ اللهُ بها رأيتها مستلزمةً لهذه الصفات وَلِمَا وراءَها. والله المستعان.
__________
(1) في (ز): المحبَّبة.
(2) انظر: “تهذيب اللغة” (2/ 364).
(3) “مجاز القرآن” (2/ 251).
(4) هذا القول مروي عن: ابن عباس، والربيع بن أنس – رضي الله عنهم -، والحسن، وقتادة، ومجاهد، وغيرهم.
انظر: “الدر المنثور” (6/ 225 – 226).
وأما المبرِّد فقال كقول أبي عبيدة. وانظر: “الكامل” (2/ 868).
(5) كتاب التفسير، سورة الواقعة (4/ 1849)، ونصه:
“وقال مجاهد: العُرُبُ: المحبَّبَات إلى أزواجهنَّ … وقال غيره: “عُرُبًا”: مُثَقَّلَة، واحدها عَرُوب، مثل: صَبُور وصُبُر، يُسمِّيها أهل مكة: العَرِبَة، وأهل المدينة: الغَنِجَة، وأهل العراق: الشَّكِلَة”.
والذي في كتب اللغة أنَّ “الشَّكِلَة” لغةُ أهل مكة.
انظر: “تهذيب اللغة” (2/ 364)، و”تاج العروس” (3/ 338).
(6) “وأنت” ملحق بهامش (ك).
(1/420)
فصل
ثُمَّ أخبر – سبحانه – عن تكميل نعيمهم بإلحاق ذُرِّياتهم بهم في الدرجة – وإنْ لم يعملوا أعمالهم – لِتَقَرَّ أعينُهم بهم، ويَتِمَّ سرورُهم وفرحُهم.
وأخبر – سبحانه – أنَّه لم ينقُص الآباءَ من عملهم من شيءٍ بهذا الإلحاق، فينزلهم من الدرجة العُلْيا إلى السُّفْلَى، بل أَلْحَقَ الأبناء بالآباء، ووفَّر على الآباء أجورَهم ودرجاتهم.
ثُمَّ أخبر – سبحانه – أنَّ هذا إنَّما هو فعله في أهل الفضل، وأمَّا أهل العدل فلا يفعل بهم ذلك، بل {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)} [الطور: 21]، ففي هذا رفْعٌ لتوهُّم التسوية بين الفريقين في هذا الإلحاق، كما في قوله: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21] رفْعٌ لتوهُّم حَطِّ الآباء إلى درجة الأبناء، وقسمةِ أجور الآباء بينهم وبين الأبناء فينتقص (1) أجر أعمالهم، فرفع هذا التوهُّمَ بقوله: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} أي: ما نَقَصْنَاهم.
ثُمَّ ذكر إمدادَهم باللَّحم، والفاكهة، والشَّراب، وأنَّهم يتعاطَون كؤوس الشَّرَاب بينهم، يشرب أحدُهم ويناول صاحبه ليتمَّ بذلك فرحهم وسرورهم.
ثُمَّ نَزَّه ذلك الشَّراب عن الآفات من اللَّغْو من أهله عليه، ولُحُوق الإثم لهم؛ فقال: {لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23)} [الطور: 23]، فنفَى بـ “اللَّغْوِ”: السِّبَابَ، والتخاصُمَ، والهُجْرَ (2)، والفُحْشَ في المقال،
__________
(1) في (ز): فينقص.
(2) “الهُجْر” هو: الفاحش والقبيح من القول، وكذلك إذا أكثر الكلام فيما لا =
(1/421)
والعَرْبَدَةَ. ونَفَى بـ “التأثيم” جميع الصفات المذمومة التي أثَّمَتْ شارب الخمر.
وقال سبحانه: {وَلَا تَأْثِيمٌ (23)} ولم يَقُل: ولا إثْم، أي: ليس فيها ما يحملهم على الإثم، ولا يُؤَثِّم بعضُهم بعضًا بشربها، ولا يُؤَثِّمُهم اللهُ بذلك، ولا الملائكةُ، فلا يَلْغُون، ولا يأثمون.
قال ابن قتيبة: “لا تذهب بعقولهم فيلغُوا، ولم يقع منهم ما يُؤَثِّمُهم” (1).
ثُمَّ وصَفَ خدمَهم الطائفين عليهم بأنَّهم كاللؤلؤ في بياضهم. و”المكْنُون”: المَصُون الذي لا تدنِّسُه الأيدي، فلم تُذْهِب الخدمةُ تلك المحاسِنَ، وذلك اللَّونَ والصفاءَ والبهجةَ، بل مع انتصابهم لخدمتهم كأنَّهم لؤلؤٌ مكنونٌ.
ووصفهم في موضعٍ آخر (2) بأنَّ رائيهم يحسبهم لؤلؤًا منثورًا؛ ففي ذكره “المنثورَ” إشارةٌ إلى تفرُّقِهم في حوائج ساداتهم، وخدمتهم، وذهابهم، ومجيئهم، وسَعَة المكان، بحيث لا يحتاجون أن يَنْضَمَّ بعضُهم إلى بعضٍ فيه لضيقه.
ثُمَّ ذكر – سبحانه – ما يتحدَّثون به هناك، وأنَّهم يقولون: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26)} [الطور: 26] أي: كُنَّا خائفين في مَحَلِّ الأمن (3) بين الأهل والأقارب والعشائر، فأوصلنا ذلك الخوف
__________
= ينبغي. “النهاية” (5/ 245).
(1) انظر: “القرطين” لابن مطرف الكناني (2/ 142).
(2) في قوله تعالى: {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)} [الإنسان: 19].
(3) في (ك): الأمين.
(1/422)
والإشفاق إلى أنْ مَنَّ اللهُ علينا، فأمَّنَنَا ممَّا نخاف {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) } [الطور: 27]، وهذا ضدُّ حال الشقيِّ الذي كان (1) في أهله مسرورًا. فهذا كان مسرورًا مع إساءته، وهؤلاء كانوا مُشْفِقِين مع إحسانهم، فبدَّلَ الله – سبحانه – إشفاقَهم بأعظم الأمن، وبدَّلَ أمن أولئك بأعظم المخاوِف. فبالله المستعان.
ثُمَّ أخبر – تعالى – عن حالهم في الدنيا، وأنَّهم كانوا يعبدون الله فيها، فأوصَلَتْهُم عبادتُه وحدَهُ إلى قُرْبِه وجوَارِه، ومَحَلِّ كرامته، والذي جمع لهم ذلك كلَّه بِرُّهُ ورحمتُه؛ فإنَّه هو “البَرُّ الرَّحيمُ”.
فهذا هو المُقْسَمُ عليه بتلك الأقسام الخمسة في أوَّل السورة. والله أعلم.
__________
(1) ساقط من (ك).
(1/423)
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4)} [الذاريات: 1 – 4]، أقْسَم بـ “الذَّاريات” وهي: الرِّياح؛ تَذْرُو المطرَ، وتَذْرُو الترابَ، وتَذْرُو النَّباتَ إذا تَهَشَّم، كما قال تعالى: {فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف: 45]؛ أي: تفرِّقُه وتَنْشُرُه.
ثُمَّ أقسَمَ (1) بما فوقها وهي: السَّحَاب الحاملات وِقْرًا، أي: ثِقْلًا من الماء، وهي رَوَايَا (2) الأرض، يسوقها الله – سبحانه – على مُتُون الرِّياح؛ كما في “جامع الترمذي” (3) من حديث الحسن عن أبي هريرة قال: بينما نبيُّ الله – صلى الله عليه وسلم – جالسٌ وأصحابُه إذ أتى عليهم سَحَابٌ، فقال نبيُّ الله – صلى الله عليه وسلم -: “هل تَدْرُون ما هذا؟ ” قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: “هذا العَنَانُ، هذه رَوَايَا الأرض، يَسُوقُها اللَّهُ – تبارك وتعالى – إلى قومٍ لا يشكرونه، ولا يَدْعُونه”.
ثُمَّ أقسَمَ – سبحانه – بما فوق ذلك، وهي “الجاريات يُسْرًا”؛ وهي: النُّجُوم التي من فوق الغَمَام، و”يُسْرًا” أي: مُسَخَّرةً مُذَلَّلةً مُنْقَادَةً.
وقال جماعة من المفسِّرين (4): إنَّها السُّفُن تجري مُيَسَّرَةً في الماء
__________
(1) ساقط من (ز) و (ن) و (ك) و (ح).
(2) الرَّوايا من الإبل: الحوامل للماء، واحدتها: رَاوِيَة، ومنه سُمِّيت “المَزَادَة”: رَاوِيةً. “النهاية” (2/ 279).
(3) رقم (3298)، وقد سبق تخريجه (ص/ 404).
(4) مروي عن: عمر، وعلي، وابن عباس، وابن عمر – رضي الله عنهم -.
وقال به: مجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والسدِّي، ومقاتل وغيرهم. =
(1/424)
جريًا سهلًا، ومنهم من لم يذكر غيره (1).
واختار شيخنا – رحمه الله – القول الأوَّل (2)، وقال: هو أحسن في الترتيب والانتقال من السافل إلى العالي؛ فإنَّه بدأ بالرِّياح، وفوقها السَّحاب، وفوقه النُّجُوم، وفوقها (3) الملائكة المقسِّمَات أَمْرَ اللهِ الذي أُمِرَتْ به بين خلقه.
والصحيح أنَّ “المقسِّمات أمرًا” لا تختصُّ بأربعةٍ.
وقيل (4): هُمْ:
“جبريل”؛ يقسم الوحيَ، والعذابَ، وأنواعَ العقوبة على من خالف الرُّسُل.
و”ميكائيل”؛ على القَطْر، والبَرَدِ، والثَّلْج، والنَّبَات، يقسمها بأمر الله.
__________
= وهو مذهب الجمهور، بل حكى الزجَّاجُ الإجماعَ عليه في “معاني القرآن” (5/ 51).
(1) منهم: الفراء، وأبو عبيدة، والزجَّاج، وابن قتيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبغوي، والواحدي، وابن الجوزي، وأكثر المفسرين.
(2) أشار ابن كثير إلى هذا الاختيار في “تفسيره” (7/ 414).
وذكر هذا القول بدون نسبةٍ: ابن عطية في “المحرر الوجيز” (14/ 2)، وأبو حيَّان في “البحر المحيط” (8/ 132)، والقاسمي في “محاسن التأويل” (6/ 338).
(3) في (ز): وفوقهما.
(4) هذا هو القول الثاني في معنى “المقسِّمات أمرًا”، وأنها تختص بأربعة من الملائكة.
(1/425)
و”ملك الموت”؛ يقسم المَنَايا بين الخلق بأمر الله تعالى.
و”إسرافيل”؛ يقسم الأرواحَ على أبدانها عند النَّفْخ في الصُّور.
وهم “المُدبِّرَاتُ أمرًا”.
وليس في اللفظ ما يدلُّ على الاختصاص بهم. والله أعلم.
وأقسَمَ – سبحانه – بهذه الأمور (1) الأربعة لمكان العبرة والآية، والدلالة الباهرة على ربوبيته ووحدانيته، وعِظَم قدرته.
ففي “الرِّياح” من العِبَر: هُبُوبُها، وسُكُونُها، ولينُها، وشدَّتُها، واختلافُ طبائِعها وصفاتها ومَهَابِّها، وتصريفها، وتنوُّعُ منافعها، وشدَّةُ الحاجة إليها.
فللمطر خمس رياح: ريحٌ تنشر سحابَهُ، وريحٌ تؤلِّفُ بينه، وريحٌ تلقِّحُه، وريحٌ تسوقه حيث يريد الله، وريحٌ تَذْرُو ماءَهُ وتفرِّقُه (2).
وللنَّبَات ريحٌ، وللسُّفُن ريحٌ (3)، وللرحمة ريحٌ، وللعذاب ريحٌ، إلى غير ذلك من أنواع الرِّياح.
وذلك يقضي بوجود خالقٍ مصرِّفٍ لها، مُدَبِّرٍ لها، ويصرِّفُها كيف يشاء، ويجعلها رُخَاءً تارةً، وعاصفةً تارةً، ورحمةً تارةً، وعذابًا تارةً.
فتارةً يحيي بها الزروع والثمار، وتارةً يقطعُها بها، وتارةً يُنْجي بها السُّفُن، وتارةً يهلكُها بها؛ وتارةً ترطِّبُ الأبدان، وتارةً تذيبُها، وتارةً
__________
(1) ساقط من (ز).
(2) “وتفرقه” ملحق بهامش (ك).
(3) “وللسُّفن ريحٌ” ملحق بهامش (ح).
(1/426)
عقيمًا، وتارةً لاقِحَةً، وتارةً جَنُوبًا، وتارة دَبُورًا، وتارةً صَبًا، وتارةً شَمَالًا، وتارةً بين ذلك، وتارةً حارَّةً، وتارةً باردةً (1) .
وهي (2) – مع غاية قوَّتِها – ألْطَفُ شيءٍ، وأقْبَلُ المخلوقات لكلِّ كيفية، سريعةُ التأثر والتأثير، لطيفة المَسَارِب (3) ، بَحْرٌ بين (4) السماء والأرض، إذا قُطع عن الحيوان الذي على وجه الأرض هلَكَ، كبحر الماء الذي إذا فارقَهُ حيوان الماء هلك. يحبسها الله – سبحانه – إذا شاء، ويرسلُها إذا شاء.
تحمل الأصواتَ إلى الآذان، والرائحةَ إلى الأنف، والسَّحابَ إلى الأرض الجُرُز (5) .
وهي من رَوْح الله تأتي بالرحمة، ومن عقوبته تأتي بالعذاب.
وهي أقوى خَلْقِ الله كما رواه الترمذي في “جامعه” من حديث أنس بن مالك، عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “لمَّا خلقَ اللهُ الأرضَ جَعَلَتْ تَمِيدُ، فخلق الجبالَ، فقال بها عليها، فاستَقَرَّتْ، فَعَجِبَت الملائكةُ من شدَّةِ
__________
(1) للعرب عنايةٌ بأسماء الريح وأنواعها، وبحثٌ عند أئمة اللغة، وانظر: كتاب “الريح” لابن خالويه (370 هـ).
(2) ملحق بهامش (ك).
(3) في (ك): المشارق، وفي باقي النسخ: المسارق، وما أثبته أصح.
و”المسارب” من: السَّرَب؛ وهو المسلك في خفية.
انظر: “لسان العرب” (6/ 226).
(4) تصحفت في (ن) و (ط) إلى: تحرس.
(5) الأرض الجُرُز: أي الغليظة اليابسة التي لم يصبها مطرٌ، ولا تُنبتُ شيئًا.
انظر: “مجاز القرآن” (2/ 133)، و”القرطين” (2/ 74).
(1/427)
الجبالِ، وقالوا: يا رَبُّ؛ هل مِنْ خَلْقِكَ شيءٌ أشدُّ من الجبال؟ قال: نعم، الحديد. قالوا: يا رَبُّ؛ فهل مِنْ خَلْقِكَ شيءٌ أشدُّ من الحديد؟ قال: نعم، النَّار. قالوا: يا ربُّ؛ فهل مِنْ خَلْقِكَ شيءٌ أشدُّ من النَّار؟ قال: نعم، الماء. قالوا: يا رَبُّ؛ فهل مِنْ خَلْقِكَ شيءٌ أشدُّ من الماء؟ قال: نعم، الريح. قالوا: يا رَبُّ فهل مِنْ خَلْقِكَ شيءٌ أشدُّ من الريح؟ قال: نعم، ابنُ آدم، تصدَّقَ بصدقةٍ بيمينه يُخفِيها مِنْ شِمَاله”؛ ورواه الإمام أحمد في “مسنده” (1) .
وفي الترمذي (2) في حديث قصة عادٍ أنَّه لم يرسل عليهم من الرِّيح إلا قَدْر حَلْقَةِ الخَاتَم، فلم تَذَرْ من شيءٍ أَتَتْ عليه إلا جَعَلَتْه كالرَّمِيم.
وقد وَصَفَها اللهُ – سبحانه – بأنَّها عاتيةٌ؛ قال البخاري في “صحيحه” (3) : “عَتَتْ على الخَزَنَة”، فلم يستطيعوا أنْ يردُّوها.
__________
(1) أخرجه: أحمد في “المسند” (3/ 124)، والترمذي في “سننه” رقم (3369)، وعبد بن حميد في “المنتخب” رقم (1213)، وأبو يعلى في “مسنده” رقم (4310)، والبيهقي في “شعب الإيمان” رقم (3167)؛ بسندٍ ضعيف.
ولفظ الترمذي: “فقال بها عليها”، وعند الباقين: “فألقاها عليها”.
(2) أخرجه: الترمذي في “سننه” رقم (3273 و 3274)، وأحمد في “المسند” (3/ 481 – 482)، والطبراني في “الكبير” (3/ رقم 3325).
وحسنه الألباني في “السلسلة الضعيفة” رقم (1228).
(3) علقه البخاري عن ابن عيينة في موضعين من “صحيحه”:
الأول: كتاب الأنبياء، باب: قول الله – عزَّ وجلَّ -: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} شديدة {عَاتِيَةٍ (6)} [الحاقة: 6] , (3/ 1218).
والثاني: كتاب التفسير، سورة الفرقان (4/ 1783).
وجاء نحوه عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – أنَّه قال: “لم ينزل الله شيئًا من الريح إلا بوزنٍ على يدي مَلَكٍ، إلا يوم عادٍ فإنَّه أَذِنَ لها دون =
(1/428)
والمقصود أنَّ الرِّياح من أعظم آيات الرِّبِّ، الدَّالَّة على عظمته، وربوبيته، وقدرته.
فصل
ثُمَّ أقسَمَ – سبحانه – بـ “السَّحَاب”، وهو من أعظم آياته، بُخَارٌ يُنْشِئه اللهُ (1) في الجَوِّ في غاية الخِفَّة، ثُمَّ يحمل الماءَ والبَرَدَ، فيصير أثقلَ شيءٍ، فيأمر الرِّياح، فتحمله على مُتُونها، وتسير به حيث أُمِرَت، فهِو مُسَخَّرٌ بين السماء والأرض، حامِلٌ لأرزاق العباد والحيوان، فإذا أَفْرَغَه حيث أُمِر به اضْمَحَلَّ وتَلَاشَى بقدرة الله، فإنَّه لو بَقِيَ لأَضَرَّ بالنَّبَات والحيوان. فأنشأَهُ – سبحانه – في زمنٍ يصلح إنشاؤه فيه، وحمَّلَهُ من الماء ما تحمَّلَه، وساقَهُ إلى بلدٍ شديدِ الحاجةِ إليه.
فَسَلِ “السَّحَاب”: مَنْ أنشأه بعد عَدَمِهِ؟ ومَنْ حمَّلَهُ الماءَ والثَّلْجَ والبَرَدَ؟ ومَنْ حَمَلَهُ على ظهور الرِّياح؟ ومَنَ أمسكه بين السماء والأرض بغير عماد؟ ومَنْ أغاثَ بقَطْرِهِ العبادَ، وأحيا به البلادَ، وصرَّفَهُ بين خلقه كما أراد؟ وأخرج ذلك القطر بقَدْرٍ معلومٍ، وأنزله منه، وأَفْنَاهُ بعد الاستغناء عنه، ولو شاء لأَدَامَهُ عليهم فلم يستطيعوا إلى دفعه سبيلًا، ولو شاء لأَمْسَكَهُ عنهم فلا يجدون إليه وصولًا، فإنْ لم (2) يُجِبْكَ حِوَارًا؛ أجابك اعتبارًا.
__________
= الخُزَّان، فَعَتَت على الخُزَّان”.
عزاه الحافظ في “الفتح” (6/ 434) إلى ابن أبي حاتم، وقال: “بإسنادٍ صحيحٍ”.
(1) “بخارٌ يُنْشِئه الله” ساقط من (ح).
(2) ساقط من (ز).
(1/429)
وَسَلِ “الرِّياح”: مَنْ أنشأها بقدرته؟ وصرَّفها بحكمته، وسخَّرها بمشيئته، وأرسلها بُشْرًا (1) بين يدي رحمته، وجعلها سببًا لتمام نعمته، وسلَّطها على من شاء بعقوبته؟ ومَنْ جعلها رُخَاءً، وذَارِيَةً، ولاقِحَةً، ومثيرةً، ومؤلِّفَةً، ومغذِّيةً لأبدان الحيوان، والشجرِ، والنَّبَاتِ؟ وجعلها قاصِفًا، وعاصِفًا، ومُهْلِكَةً، وعاتيةً؟ إلى غير ذلك من صفاتها. فهل ذلك لها من نفسها وذاتها أم بتدبير مُدَبِّرٍ شَهِدَت الموجوداتُ بربوبيته، وأقرَّت المصنوعاتُ بوحدانيته، بيده النَّفْعُ والضُّرُّ، وله الخَلْق والأمر، تبارك الله ربُّ العالمين.
وَسَلِ “الجَارِيات يُسْرًا” مِنَ السُّفُن مَنْ (2) أَمْسَكَها على وجه الماء؟ ومَنْ سخَّرَ لها البحر؟ ومَنْ أرسل لها الرِّياح التي تَسُوقها في الماء سَوقَ السَّحَاب على مُتُون الرِّياح؟ ومَنْ حَفِظَها في مَجْرَاها ومُرْسَاها مِنْ طغيان الماء وطَغيان الرِّيح؟ فمَنِ الذي جعل الرِّيح لها بقَدْرٍ لو زَادَ عليها لأغرقها؛ ولو نقص عنه لَعَاقَها؟
ومَنِ الذي أجرى لها ريحًا واحدةً تسير بها، ولم يسلِّطْ على تلك الرِّيح ما يُصَادِمها ويُقَاوِمها، فَتَتَموَّج في البحر يمينًا وشمالًا تتلاعب بها الرِّياح؟
ومَنِ الذي علَّمَ الخَلْقَ الضعيفَ صَنْعَةَ هذا البيت العظيم الذي يمشي على الماء (3)، فيقطع المسافة البعيدة، ويعود إلى بلده، يَشُقُّ الماءَ ويَمْخُرُه، مُقْبِلًا ومُدْبِرًا بريحٍ واحدةٍ، تجري في موجٍ
__________
(1) في (ن) و (ح) و (ط): نُشْرًا، وكلاهما صحيح.
(2) ساقط من (ح).
(3) “يمشي على الماء” ملحقٌ بهامش (ن).
(1/430)
كالجبال؛ {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34)} [الشورى: 32 – 34].
ومَنِ الذي حَمَلَ في هذا البيت نبيَّهُ وأولياءَهُ خاصةً، وأغرقَ جميعَ أهل الأرض سواهم؟
وَسَلِ “الجاريات يُسْرًا” من الكواكب، والشمس، والقمر: مَنِ الذي خَلَقها، وأحسن خَلْقها، ورفع مكانها، وزيَّنَ بها قُبَّةَ العالَم؟ وفَاوَتَ بين أشكالها، ومقاديرها، وألوانها، وحركاتها، وأماكنها من السماء، فمنها الكبير، ومنها الصغير، والمتوسِّط، والأبيض، والأحمر، والزُّجَاجيُّ اللَّون، والدُّرِّيُّ اللَّون؟ والمتوسِّطُ في قُبَّةِ الفُلْك، والمتطرِّفُ في جوانبها، وبين ذلك؟
ومنها ما يقطع الفُلْك في شهرٍ، ومنها ما يقطعه في عامٍ، ومنها ما يقطعه في ثلاثين عامًا، ومنها ما يقطعه في أضعاف ذلك.
ومنها ما لا يزال ظاهرًا لا يغيب بحال، فهو أَبَدِيُّ الظُّهور، ومنها أَبَدِيُّ الخَفَاء، ومنها ما له حالتان: ظهورٌ، واختفاءٌ.
ومنها ما له حركتان:
1 – حركةٌ عَرَضِيَّةٌ من المشرق إلى المغرب.
2 – وحركةٌ ذاتيةٌ من المغرب إلى المشرق.
فَحَالَ ما يأخذ الكوكب في الغروب فإذا كوكبٌ آخر في مقابلته، وكوكبٌ آخر قد طَلَع، وهو آخِذٌ في الارتفاع والتصاعد، وكوكبٌ
(1/431)
آخر (1) في الرُّبْعِ الشَّرْقيِّ، وكوكبٌ آخر في وسط السماء، وكوكبٌ آخر قد مَالَ عن الوسط، وآخر قد دَنَا من الغروب، وكأنَّ رَقِيبَهُ ينتظر بطلوعه غَيبته.
وأنتَ إذا تأمَّلتَ أحوال هذه الكواكب وجدتها تدلُّ على المَعَاد كما تدلُّ على المبدأ، وتدلُّ على وجود الخالق، وصفات كماله، وربوبيته، وحكمته، ووحدانيته = أعظمَ دلالة.
وكلُّ ما دَلَّ على صفات جلاله ونعوت كماله دلَّ على صِدْق رُسُله، فكما جعل اللهُ – تعالى – النُّجُومَ هدايةً في طُرق البَرِّ والبحر، فهي هدايةٌ في طُرُق العلم بالخالق – سبحانه – وقدرته، وعلمه، وحكمته، والمبدأ، والمَعَاد، والنُّبوَّة.
ودلالتها على هذه المطالب لا تَقْصُر عن دلالتها على طُرُق البرِّ والبحر، بل دلالتها للعقول على ذلك أظهرُ من دلالتها على الطُرُقِ الحِسِّيَّةِ، فهي هدايةٌ في هذا وهذا.
فصل
وأمَّا دلالةُ “المُقَسِّماتِ أمرًا” وهم الملائكة؛ فَلِأَنَّ ما يُشَاهَد من تدبير العالَم العُلْوِيِّ والسُّفْلِيِّ وما لا يُشَاهَد إنَّما هو على أيدي الملائكة، فالرَّبُّ – تعالى – يدبِّرُ بهم أمر العالَم، وقد وكَّل بكلِّ عملٍ من الأعمال طائفةً منهم: فوكَّل بالشمس، والقمر، والأفلاك (2)، والنُّجُوم طائفةً منهم، ووكَّل بالقَطْر والسَّحاب طائفةً، ووكَّل بالنَّبَات طائفةً، ووكَّل
__________
(1) من قوله: “في مقابلته وكوكب آخر قد طلع. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ز).
(2) “والأفلاك” ملحق بهامش (ن).
(1/432)
بالأَجِنَّةِ والحيوان طائفةً، ووكَّل بالموت طائفةً، وبِحِفْظِ بني آدم طائفةً، وبإحصاء أعمالهم وكتابتها طائفةً (1)، وبالوحي طائفةً، وبالجبال طائفةً (2)، وبكلِّ شأنٍ من شؤون العالم طائفةً.
هذا مع ما في خَلْقِ الملائكة من البهاء والحُسْن، وما فيهم من القوةِ والشدَّةِ، ولطافةِ الجسم، وحُسْن الخِلْقَة، وكمال الانقياد لأمره، والقيام في خدمته، وتنفيذ أوامره في أقطار العالَم.
ثُمَّ أقسَمَ – سبحانه – بهذه الأمور على صِدْقِ وَعْدِهِ، ووقوع جزائه بالثواب والعقاب فقال: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5)} [الذاريات: 5]؛ أَي: ما توعدون من أمر الساعة والثواب والعقاب لَحَقٌّ كائنٌ، وهو وَعْدُ صدقٍ لا كذب، {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)} [الذاريات: 6]؛ أي: إنَّ الجزاء لَكَائنٌ لا محالة.
ويجوز أن تكون “ما” موصولةً، والعائد محذوف، والمعنى: إنَّ الذي توعدونه لَصَادِقٌ، أي: كائنٌ وثابتٌ.
وأن تكون مصدريَّةً، أي: إنَّ وَعْدَكم لَحَقٌّ وصِدْقٌ (3).
وَوَصْفُ الوَعْدِ بكونه “صادقًا” أبلغ من وصْفِه بكونه “صِدْقًا”، ولا حاجة إلى تكلُّفِ (4) جعله بمعنى: مصدوقًا فيه، بل هو صادِقٌ نفسُه (5)؛
__________
(1) “طائفة” ملحق بهامش (ك).
(2) من قوله: “وبحفظ بني آدم. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ز).
(3) “وصدق” ملحق بهامش (ح).
(4) في (ز) و (ن) و (ك) و (ط): متكلف، وما أثبته من (ح) و (م).
(5) من (ح) و (م)، وسقط من باقي النسخ.
(1/433)
كما يوصف المتكلِّم بأنَّه صادِقٌ في كلامه، يُوصف كلامه بأنَّه: صادِقٌ (1). وهذا مثل قولهم: سرٌّ كاتم، وليلٌ قائمٌ، ونهارٌ صائمٌ، وماءٌ دافقٌ، ومنه: {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)} [الحاقة: 21]، وليس ذلك بمَجَازٍ، ولا مخالفٍ لمقتضى التركيب.
وإذا تأمَّلتَ هذا التناسُبَ والارتباطَ بين المُقْسَم به والمُقْسَم عليه؛ وجدته دالًّا عليه، مرشدًا إليه.
ثُمَّ أقسَمَ – سبحانه – بـ “السماء ذات الحُبُك”.
أصل “الحَبْكِ” في اللغة: إجَادَةُ النَّسْج. يقال: حَبَكَ الثوبَ؛ إذا أجاد نَسْجَه. وحَبْلٌ محبوكٌ؛ إذا كان شديد الفَتْل. وفَرَسٌ مَحْبُوكُ الكَفَلِ، أي: مُدْمَجُه.
وقال شَمِرُ (2): “المَحْبُوكُ في اللغة: ما أُجيد عمله” (3)، “ودابَّةٌ مَحْبُوكَةٌ: إذا كانت مُدْمَجَة الخَلْق”.
وقال أبو عبيدة، والمبرِّد: “الحُبُكُ: الطرائقُ، واحدها: حِبَاك. وحِبَاكُ الحَمَام: طرائق على جَنَاحَيه. وحُبُك الماء: طرائقه” (4).
__________
(1) في (ز): صدق.
(2) هو أبو عمرو، شَمِر بن حَمْدويه الهروي، كان ثقةً عالمًا فاضلًا، حافظًا للغريب، راويةً للأشعار والأخبار، توفي سنة (225 هـ) رحمه الله.
انظر: “نزهة الألباء” (196)، و”إنباه الرواة” (2/ 77).
وقد تصحف في جميع النسخ إلى: شهر!
(3) هذا كلام أبي إسحاق الزجاج في “معاني القرآن” (5/ 52)، وما بعده من كلام شَمِر، وانظر: “تهذيب اللغة” (4/ 108).
(4) “مجاز القرآن” (2/ 225)، و”الكامل” (1/ 63 – 64). =
(1/434)
وقال الفَرَّاء: “الحُبُك: تَكَسُّرُ (1) كلِّ شيءٍ، كالرَّمْلِ إذا مرَّتْ به الرِّيح، والماءِ الدائم إذا مَرَّتْ به الرِّيح. وتَجَعُّدُ الشَّعْر حُبُكٌ أيضًا، واحدها: حَبِيكة؛ مثل: طَرِيقة وطُرُق. وحِبَاك؛ مثل: مِثَال ومُثُل” (2) .
والمقصود بهذا كلِّه ما أفصح به ابن عباس، فقال: “يريد الخَلْقَ الحَسَنَ” (3) .
وروى سعيد بن جبير عنه قال: “الحُبُكُ: حُسْنُها واستواؤُها” (4) .
وقال قتادة: “ذات الخَلْق الشديد” (5) .
وقال مجاهد: “مُتْقَنَةُ البُنْيَان”.
وقال أيضًا: “ذات الطرائق ولكنها بعيدةٌ من العباد فلا يرونها،
__________
= قال المرصفي في “رَغبة الآمل” (1/ 161) معقِّبًا على المبرِّد: “الصواب أن يقول: فالمحبوك: الذي أُحكم خَلْقُه، مِنْ: حَبَكْتُ الثوبَ إذا أحكمتُ نَسْجَه.
ثم يقول: والمحبوك – أيضًا – الذي فيه طرائق، فيكون معنىً ثانيًا للكلمة”.
(1) في جميع النسخ: تكسير، والتصويب من “معاني الفَرَّاء”.
(2) “معاني القرآن” (3/ 82).
(3) أخرجه الطبري في “تفسيره” (11/ 445).
(4) أخرجه: الطبري في “تفسيره” (11/ 445)، وابن أبي حاتم في “تفسيره” (10/ 3311)، وأبو الشيخ في “العظمة” رقم (554).
وعزاه الحافظ في “الفتح” (8/ 477) إلى: الفريابي، والطبري، وقال: “إسناده صحيحٌ”.
(5) أخرجه: عبد الرزاق في “تفسيره” (2/ 242)، والطبري في “تفسيره” (11/ 445)، ولفظه: “ذات الخَلْق الحَسَن”.
وأما اللفظ الذي ذكره ابن القيم هنا فهو من كلام أبي صالح الحنفي عبد الرحمن بن قيس، أخرجه أبو الشيخ في “العظمة” رقم (544).
(1/435)
كحُبُكِ الماء إذا ضربته الرِّيح، وكحُبُكِ الرَّمْل، وحُبُكِ الشَّعْر” (1) .
وقال عكرمة: “بُنْيَانُها كالبُرْدِ المُسَلْسَل” (2) .
قلتُ: وفي الحديث في صفة الدجَّال: “رأْسُهُ حُبُكٌ” (3) ؛ أي: جَعْد الشَّعْر.
ومن أحسن ما قيل في تفسير “الحُبُك”؛ ما ذكره الترمذي في تفسير “الجامع” (4) من حديث الحسن، عن أبي هريرة، أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
__________
(1) أخرجه الطبري في “تفسيره” (11/ 446).
(2) أخرجه: الطبري في “تفسيره” (11/ 445)، وأبو الشيخ في “العظمة” رقم (553)، من طريق عمران بن حُدَير، قال: سئل عكرمة عن قوله: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7)} [الذاريات: 7]؟ فقال: “ذات الخَلْق الحَسَن، أَلَمْ تَرَ إلى النسَّاج إذا نَسَج الثوب فأجاد نَسْجَه قيل: ما أحسن ما حَبَكَهُ”.
واللفظ الذي ذكره المؤلف هنا مروي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – من طريق عكرمة؛ أخرجه أبو الشيخ في “العظمة” رقم (545) بسند ضعيف جدًّا.
(3) أخرجه: عبد الرزاق في “المصنف” رقم (20828)، ومن طريقه: أحمد في “المسند” (4/ 20)، والطبراني في “الكبير” (22/ رقم 456)، والحاكم في “المستدرك” (4/ 508)؛ من حديث هشام بن عامر – رضي الله عنه -.
وأخرجه: أحمد في “المسند” (5/ 372 و 410)، والطبري في “تفسيره” (11/ 445) من حديث رجل من أصحاب النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -.
والحديث صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي: “رجاله رجال الصحيح”. “مجمع الزوائد” (7/ 342).
(4) رقم (3298)، وسبق تخريجه (ص/ 404).
و”الرقيع”: اسمٌ لكل سماء، والجمع: أَرْقِعَةٌ. وقيل: بل اسمٌ للسماء الدنيا، وهذا مروي عن علي – رضي الله عنه – كما أخرجه أبو الشيخ في =
(1/436)
قال: “هل تَدْرُون ما فوقكم؟ ” قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: “فإنَّها الرَّقِيعُ: سَقْفٌ محفوظٌ، ومَوْجٌ مَكْفُوفٌ”، وذكر الحديث.
فصل
ثُمَّ ذكر المُقْسَم عليه فقال: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)} [الذاريات: 8, 9]، فالقول المُخْتَلِف: أقوالُهم في القرآن، وفي النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، وهو خَرْصٌ كلُّه. فإنَّهم لمَّا كذَّبوا بالحقِّ اختلفت مذاهبُهم، وآراؤهم، وطرائقُهم، وأقوالُهم. فإنَّ الحقَّ شيءٌ واحدٌ، وطريقٌ مستقيمٌ، فمن خالفه اختلفت به الطرق والمذاهب، كما قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)} [ق: 5]، أي: مُخْتَلِطٍ مُلْتَبِسٍ.
وفي ضمن هذا الجواب: أنكم في أقوالٍ باطلةٍ متناقضةٍ، يكذِّبُ بعضُها بعضًا، بسبب تكذيبهم بالحقِّ.
ثُمَّ أخبر – سبحانه – أنَّه يَصْرِفُ بسبب ذلك “القول المُخْتَلِفِ” مَنْ صَرَفَ. فـ “عَنْ” هاهنا فيها طَرَفٌ من معنى: التَّسْبِيب، كقوله تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} [هود: 53]، أي: بسبب قولك (1).
وقوله: {مَنْ أُفِكَ (9)}؛ أي: من سَبَقَ في علم الله أنَّه يُضَلُّ ويُؤْفَكُ، كقوله: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ
__________
= “العظمة” رقم (564).
وسميت بذلك لأنَّها مرقَّعَةٌ بالنُّجُوم، وقيل غير ذلك.
انظر: “النهاية” (2/ 251)، و”لسان العرب” (5/ 285).
(1) “أي: بسبب قولك” ملحق بهامش (ك).
(1/437)
الْجَحِيمِ (163) } [الصافات: 161 – 163].
وقالت طائفةٌ: الضمير يرجع إلى القرآن.
وقيل: إلى الإيمان.
وقيل: الرسول.
والمعنى: يَصْرِفُ عنه من صَرَفَ حتَّى يكذِّبَ به.
ولمَّا كان هذا “القول المُخْتَلِف” خَرْصًا وباطلًا قال: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) }؛ أي: الكذَّابون، {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ} وجَهَالةٍ قد (1) غَمَرَ قلوبهم – أي: غَطَّاها، وغشَّاها، كغَمْرَة الماء، وغَمْرَة الموت؛ فَغَمَراتٍ – ما غطَاها من جهلٍ، أو هَوَىً، أو سُكْرٍ، أو غَفْلةٍ، أو حُبٍّ، أو بُغْضٍ، أو خوفٍ، أو هَمٍّ وغمٍّ، ونحو ذلك. قال تعالى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} [المؤمنون: 63]؛ أي: غَفْلَة، وقيل: جهالة.
ثُمَّ وصفهم بأنَّهم ساهون في غَمْرتهم، و”السَّهْو”: الغَفْلَةُ عن الشيء، وذهابُ القلب عنه.
والفرق بينه وبين “النِّسْيَان”: أنَّ “النِّسْيَانَ” الغفلةُ بعد الذِّكْر والمعرفة، و”السَّهْو” لا يستلزم ذلك (2) .
ثُمَّ قال: {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) } استبعادًا لوقوعه وجَحْدًا، فأخبر – تعالى – أنَّ ذلك {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) }.
__________
(1) في (ز): ثم.
(2) انظر: “مفردات القرآن” للراغب (431)، و”الفروق” للعسكري (145).
(1/438)
والمشهور في تفسير هذا الحرف أنَّه بمعنى: يُحْرَقُون (1)، ولكن لفظة “على” تعطي معنىً زائدًا على ما ذكروه، ولو كان المراد نفس الحريق لقيل: يوم هم في النَّار يفتنون (2).
ولهذا لمَّا عَلِمَ هؤلاء ذلك قال كثيرٌ منهم: “على” بمعنى “في”، كما تكون “في” بمعنى “على”.
والظاهر أنَّ فتنتهم على النَّار قبلَ فتنتهم فيها، فَلَهُم عند عرضهم عليها ووقوفهم عليها فتنةٌ، وعند دخولها والتعذيب بها فتنةٌ أشدُّ منها.
فَهُم ومَنْ جعل “الفتنةَ” هاهنا من: الحريق؛ أخذه من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج: 10]، واستشهد على ذلك – أيضًا – بهذه اللفظة التي في “الذَّاريات”.
وحقيقة الأمر أنَّ “الفتنة” تطلق على العذاب وسببه، ولهذا سمَّى اللهُ الكفر: فتنةً، فهم لمَّا أَتَوا بالفتنة -التي هي أسباب العذاب – في الدنيا سمَّى جزاءهم: فتنةً، ولهذا قال: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ}، وكان وقوفُهم على النَّار وعرضُهم عليها من أعظم فتنتهم، وآخر هذه الفتنة دخولُ النَّار، والتعذيبُ بها.
فَفُتِنُوا أوَّلًا بأسباب الدنيا وزينتها، ثُمَّ فُتِنُوا بإرسال الرُّسُل إليهم، ثُمَّ فُتِنُوا بمخالفتهم وتكذيبهم، ثُمَّ فُتِنُوا بعذاب الدنيا، ثُمَّ فُتِنُوا بما بعد
__________
(1) قال ابن عطية: “و”يفتنون” معناه: يُحرقون ويعذَّبون في النَّار، قاله: ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والجميع. ومنه قيل للحَرَّة: فَتِينٌ؛ كأنَّ الشمسَ أحرقت حِجَارتها”. “المحرر الوجيز” (14/ 10).
(2) من قوله: “والمشهور في تفسير. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ز).
(1/439)
الموت، ثُمَّ يُفْتَنُون (1) في موقف القيامة، ثُمَّ إذا حُشِرُوا إلى النَّار ووُقِفُوا عليها، وعُرِضُوا عليها، وذلك من أعظم فتنتهم، ثُمَّ الفتنة الكبرى التي أنستهم جميع الفتن قبلها.
فصل
ثُمَّ ذكر – سبحانه – جزاء من خَلَصَ من هذه الفتن بالتقوى، وهو: الجَنَّاتُ والعيون، وأنَّهم آخذون ما آتاهم ربُّهم من الخير والكرامة.
وفي ذلك دليلٌ على أمورٍ:
منها: قبولهم له.
ومنها: رضاهم به.
ومنها: وصولهم إليه بلا مُمَانع ولا مُعَاوِق.
ومنها: أنَّ جزاءهم من جنس أعمالهم؛ فكما أخذوا ما أمرهم به في الدنيا، وقابَلُوه بالرِّضَا والتسليم وانشراحِ الصَّدْر = أخذوا ما آتاهم من الجزاء كذلك.
ثُمَّ ذكر السبب الذي أوصلهم إلى ذلك، وهو إحسانُهم المتضمِّنُ لعبادته وحده لا شريك له، والقيامِ بحقوقِه وحقوقِ عباده.
ثُمَّ ذكر لَيْلَهم، وأنَّهم قليلٌ هُجُوعُهم منه.
وقد قيل (2): إنَّ “ما” نافية، والمعنى: ما يهجعون قليلًا من الليل،
__________
(1) من قوله: “وتكذيبهم، ثُمَّ فُتِنُوا بعذاب. . .” إلى هنا؛ ملحق بهامش (ح).
(2) هذا هو القول الأول في تقدير الآية وإعرابها.
(1/440)
فكيف بالكثير؟
وهذا ضعيفٌ لوجوه:
أحدها: أنَّ هذا ليس بلازمٍ لوصف المتقين الذين يستحقون هذا الجزاء.
الثاني: أنَّ قيامَ من نام من الليل نِصْفَه أحبُّ إلى الله مِنْ قيام مَنْ قامَهُ كلَّه.
الثالث: أنَّهُ لو كان المراد بذلك إحياء الليل جميعِه لكان أَوْلَى النَّاس بهذا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -، وما قام ليلةً حتَّى الصَّبَاح.
الرابع: أنَّ الله – سبحانه – إنَّما أمر رسوله أنْ يتهجَّدَ بالقرآن من الليل؛ لا في الليل كلِّه، فقال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ} [الإسراء: 79].
الخامس: أنَّه – سبحانه – لمَّا أمره بقيام الليل في سورة “المُزَّمِّل” إنَّما أَمَرَهُ بقيام النِّصْفِ، أو النقصانِ منه، أو الزيادةِ عليه، فذكر له هذه (1) المراتبَ الثلاثة، ولم يذكر قيامه كلَّه.
السادس: أنَّه – صلى الله عليه وسلم – لمَّا بَلَغَهُ عن عثمان بن مَظْعُون أنَّه لا ينام من الليل، بعث إليه فجاءهُ، فقال: “يا عثمان أَرَغِبْتَ عن سُنَّتي؟ ” قال: لا والله يا رسول الله، ولكن سُنَّتك أطلب، قال: “فإنِّي أنامُ وأصلِّي، وأَصُوم وأُفطر، وأنكحُ النِّساء، فاتَّقِ الله يا عثمان، فإنَّ لأَهْلِكَ عليكَ حقًّا، وإن لِضَيفك عليك حقًّا، وإنَّ لِنَفْسِك عليك حقًّا، فَصُمْ وأَفْطِرْ،
__________
(1) ساقط من (ز) و (ن) و (ط)، وأُلحقت بهامش (ك).
(1/441)
وَصَلِّ وَنَمْ” (1) .
ولمَّا بَلَغَهُ عن زينب بنت جَحْش أنَّها تصلِّي الليلَ كلَّه، حتَّى جعلت حَبْلًا بين ساريتين، إذا فَتَرَت تعلَّقَتْ به = أنكر ذلك، وأمر بَحَلِّه (2) .
السابع: أنَّ الله – تعالى – أَثْنَى عليهم بأنَّهم كانت {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16]، وهذه المضاجع إنَّما هي مضاجع النَّوم، فكانت جُنُوبُهم تتجافى وتقلق عنها حتَّى يقوموا إلى الصلاة، ولهذا جازاهم عن هذا التجافي – الذي سببه قَلَقُ القلب واضطرابُه حتَّى يقوموا إلى الصلاة – بِقُرَّةِ الأَعْيُنِ.
الثامن: أنَّ الصحابة – الذين هم أوَّلُ وأَوْلَى من دخل في هذه الآية – لم يفهموا منها عدم نومهم بالليل أصلًا.
فروى يحيى بن سعيد (3) ، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس في قوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) } قال: “كانوا يُصَلُّون فيما بين المغرب والعشاء” (4) .
__________
(1) أخرجه: عبد الرزاق في “المصنف” رقم (10375)، وأحمد في “المسند” (6/ 106 و 226 و 268)، وأبو داود في “سننه” رقم (1369)، والبزار “كشف الأستار” رقم (1457 و 1458)، وابن حبَّان في “صحيحه” رقم (9)، والطبراني في “الكبير” رقم (8319)؛ من حديث عائشة – رضي الله عنها -.
وللحديث شواهد يتقوى بها.
(2) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (1150)، ومسلم في “صحيحه” رقم (784)؛ من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه -.
(3) في جميع النسخ: بَحِيرُ بن سعد، وهو تصحيف، والتصحيح من المصادر.
(4) أخرجه: أبو داود في “سننه” رقم (1322)، ومن طريقه البيهقي في “السنن =
(1/442)
التاسع: أنَّ في هذا التقدير تفكيكًا للكلام، وتقديمًا لمعْمُولِ العامِلِ المنفيِّ عليه؛ لأنَّك تجعل “قليلًا” مفعولَ “يهجعون”، وهو منفيٌّ، والبصريُّون لا يجيزون ذلك، وإن أجازه الكوفيون. وفصَّلَ بعضُهم، فأجازه في الظَّرْف، ولم يُجِزْهُ في غيره (1) .
وقيل (2) : “ما” زائدةٌ، وخَبَرُ “كان”: “يهجعون”، و”قليلًا” منصوبٌ:
1 – إمَّا على المصدريَّة، أي: هُجُوعًا قليلًا.
2 – وإمَّا على الظَّرْف، أي: زمنًا قليلًا.
واستُشْكِل هذا بأنَّ نومَ نصف الليل وقيامَ ثُلُثِه، ثُمَّ نومَ سُدُسِه؛ أحبُّ القيام إلى الله – عزَّ وجلَّ -، فيكون وقت الهجوع أكثر من وقت القيام، فكيف يُثني عليهم بما الأفضل خلافه؟
وأُجيب عن ذلك: بأنَّ مَنْ قامَ هذا القيام فَزَمَنُ هُجُوعه أقلُّ من زمن يقظته قطعًا، فإنَّه مستيقِظٌ من المغرب إلى العشاء، ومن الفجر إلى
__________
= الكبرى” (3/ 19)، وابن جرير في “تفسيره” (11/ 452)، والحاكم في “المستدرك” (2/ 466) وصححه ووافقه الذهبي.
وزاد السيوطي نسبته إلى: ابن أبي حاتم، وابن مردويه. “الدر المنثور” (6/ 134).
(1) انظر: “الإنصاف” للأنباري (1/ 172)، و”التبيين” للعكبري (327)، و”ائتلاف النصرة” للشرجي اليمني (165).
وما ذكره ابن القيم هنا مأخوذٌ من كلام أبي حَيَّان في “البحر المحيط” (8/ 134).
(2) هذا هو القول الثاني في تقدير الآية وإعرابها.
(1/443)
طلوع الشمس، فيبقى ما بين العشاء إلى طلوع الفجر، فيقومون نصف ذلك الوقت؛ فيكون زمنُ الهُجُوع أقلَّ من زمن الاستيقاظ.
وقيل (1) : “ما” مَصْدَرِيَّةٌ، وهي في موضع رَفْعٍ بـ “قليل” (2) ، أي: كانوا قليلًا هُجُوعُهم. وهو قولٌ حَسَنٌ (3) .
وقيل (4) : إنَّ “ما” موصولةٌ بمعنى “الذي”، والعائد محذوفٌ، أي: قليلٌ من الليل الوقت الذي يهجعونه. وفيه تكلُّفٌ.
وقيل (5) : “ما يهجعون” بَدَل اشتمال من اسم “كان”، والتقدير: كان هجوعهم من الليل قليلًا.
ويَرِدُ عليه أنَّ “مِنَ الليل” متعلِّقٌ بـ “يهجعون”، ومعمول المصدر لا يتقدَّمُ عليه.
وأجيب عنه: أنَّه منصوبٌ على التفسير، ومعناه أن يُقَدَّرَ له فعلٌ محذوفٌ ينصبُه، يُفَسِّرُهُ هذا المذكور.
__________
(1) هذا هو القول الثالث في تقدير الآية وإعرابها.
(2) تصحفت في (ن) و (ك) إلى: تعليل.
(3) في (ح) و (م): “قول الحسن”. ويصح؛ لأنه مروي عنه رحمه الله. وما أثبته
من باقي النسخ؛ وهو أَلْيَق، فيكون اختيارًا لابن القيم رحمه الله.
وهو – أيضًا – اختيار: الطبري في “تفسيره” (11/ 455)، وابن عطية في “المحرر الوجيز” (14/ 13) ونسبه إلى جمهور النحويين، وأبي حيَّان في “البحر المحيط” (8/ 135) وقال: “وهو إعرابٌ سهلٌ حسنٌ”.
(4) هذا هو القول الرابع في تقدير الآية وإعرابها.
(5) هذا هو القول الخامس في تقدير الآية وإعرابها.
(1/444)
وقيل (1): ” قليلًا” خبر “كان”، وتَمَّ الكلامُ بذلك، والمعنى: كانوا صِنْفًا أو جِنْسًا قليلًا، ثُمَّ قال: {مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)} (2).
وأصحاب هذا القول يجعلون “ما” نافيةً، فيعود الكلام إلى نَفْي هجوعهم شيئًا من الليل، وقد تقدَّم ما فيه (3).
ثُمَّ أخبر عنهم بأنَّهم مع صلاتهم بالليل كانوا يستغفرون الله عند السَّحَر، فخَتَمُوا صلاتهم بالاستغفار والتوبة، فباتوا لربِّهم سُجَّدًا وقيامًا، ثُمَّ تابوا إليه واستغفروه عقيب ذلك.
وكان النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – إذا سلَّم من صلاته استغفر ثلاثًا (4). وأمره الله – سبحانه – أن يختم عمره بالاستغفار (5). وأمر عباده أن يختموا إفاضتهم
__________
(1) هذا هو القول السادس في تقدير الآية وإعرابها.
(2) قال أبو بكر الأنباري في كتابه “الوقف والابتداء” (2/ 906):
“وهذا فاسدٌ؛ لأنَّ الآية إنَّما تدلُّ على قلَّة نومهم لا على قلَّة عددهم.
وبعدُ فلو ابتَدأنا “من الليل ما يهجعون” على معنى: من الليل يهجعون؛ لم يكن في هذا مدحٌ لهم؛ لأنَّ النَّاس كلهم يهجعون من الليل، إلا أن نجعل “ما” جَحْدًا”. أي يكون المعنى أنَّهم لا ينامون الليل أصلًا، بل يقضونه في العبادة والذكر، فالمنفي – حينئذٍ – قلَّة النَّوم. وهذا هو الذي رده ابن القيم – قبل قليل – من تسعة أوجه.
وانظر لما سبق: “القطع والائتناف” للنحَّاس (681)، و”البيان” لابن الأنباري (2/ 389)، و”الجامع” (17/ 35)، و”الدر المصون” (10/ 45).
(3) راجع (ص/ 441 – 443).
(4) أخرجه مسلم في “صحيحه” رقم (591)، من حديث ثوبان – رضي الله عنه -.
(5) وذلك في “سورة النَّصر”: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)}
(1/445)
من عرفات بالاستغفار (1). وشَرَعَ – صلى الله عليه وسلم – للمتوضِّئ أن يختم وضوءَهُ بالتوبة (2). فأحسنُ ما خُتِمَتْ به الأعمالُ: التوبةُ والاستغفارُ.
ثُمَّ أخبر – سبحانه – عن إحسانهم إلى الخَلْق مع إخلاصهمِ لربِّهم، فَجَمَع لهم بين الإخلاص والإحسان، ضِدُّ حال {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} [الماعون: 6، 7].
وأكَّدَ إخلاصَهم في هذا الإحسان بأنَّ مَصْرِفَهُ {لِلسَّائِلِ (3) وَالْمَحْرُومِ (19)}، الذي لا يُقْصَدُ بعطائه الجزاءُ منه ولا الشكورُ. و”المحروم”: المتعفِّفُ الذي لا يسأل.
وتأمَّلْ حكمة الرَّبِّ – تعالى – في كونه حَرَمَهُ بقضائه، وشَرَعَ لأصحاب الجِدَةِ إعطاءَهُ، وهو – سبحانه – أغنى الأغنياء، وأجود الأجودين. فلم يجمع عليه بين الحِرْمَان بالقَدَر وبالشرع، بل (4) شرع عَطَاءَهُ بأمره، وحَرَمَهُ بِقَدَرِهِ، فلم يجمع عليه حِرْمَانَين.
فصل
ثُمَّ ذكَّرَهُم – سبحانه – بآياته الأُفُقِيَّة والنَّفْسِيَّة، فقال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: 20, 21].
__________
(1) قال سبحانه: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)} [البقرة: 198، 199].
(2) سبق تخريجه (ص/ 334).
(3) في (ز) و (ن) و (ك) و (ط): إلى السائل.
(4) ساقط من (ح) و (م).
(1/446)
فآياتُ الأرض أنواعٌ كثيرةٌ:
منها خَلْقُها، وحُدُوثها بعد عَدَمِها، وشواهد الحدوث والافتقار إلى الصانع عليها لا تُجْحَد، فإنَّها شواهدُ قائمةٌ بها.
ومنها بُرُوز هذا الجانب منها عن الماء، مع كون مقتضى الطبيعة أن يكون مغمورًا به.
ومنها سَعَتُها، وكِبَرُ خَلْقِها.
ومنها تَسْطِيحُها، كما قال تعالى: {وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)} [الغاشية: 20]، ولا ينافي ذلك كونها كُرَةً. فهي كُرَةٌ في الحقيقة، لها سَطْحٌ يستقرُّ عليه الحيوان.
ومنها أنَّه جعلها فراشًا لتكون مَقَرًّا للحيوان ومساكنه، وجعلها قرارًا.
وجعلها مهادًا، وجَعَلَها ذَلُولًا تُوطَأُ بالأقدام، وتُضْرَبُ بالمَعَاوِل والفُؤوس، وتَحْمِلُ على ظهرها الأبنيةَ الثِّقَالَ. فهي ذَلُولٌ مُسَخَّرَةٌ لما يريد العبدُ منها.
وجعلها بِسَاطًا، وجعلها كِفَاتًا للأحياء تَضُمُّهم على ظهرها، وللأمواتِ تضمُّهم في بَطْنها.
وطَحَاها؛ فَمَدَّها، وبَسَطَها، وَوَسَّعَها، ودَحَاها، فهيَّأَها لما يُرَادُ منها بأن أخرج منها ماءها ومَرْعَاها، وشقَّ فيها الأنهار، وجعل فيها السُّبُلَ والفِجَاجَ.
ونَبَّهَ بِجَعْلِها مِهَادًا وفِرَاشًا على حكمةِ جعلها ساكنةً، وذلك آيةٌ
(1/447)
أخرى إذ لا دِعَامَة تحتها تُمْسِكُها، ولا عِلَاقَة فوقها، ولكنَّها لمَّا كانت على وجه الماء كانت تَتكفَّأُ فيه تكفُّؤَ السفينةِ، فاقْتَضَت العنايةُ الأزليَّةُ والحكمةُ الإلهيةُ أنْ وضَعَ عليها رواسي يُثَبِّتُها بها؛ لئلا تميدَ، وليستقرَّ عليها الأنامُ.
ودلَّ جعلُها ذلولًا على الحكمة في أن لم تكن في غاية الصَّلَابة والشدَّة كالحديد، فيمتنع حَفْرُها وشَقُّها، والبناءُ فيها، والغَرْسُ، والزَّرْعُ، ويصعبُ النَّوم عليها، والمشي فيها.
ونَبَّهَ بكونها قَرَارًا على الحكمة في أنَّها لم تُخْلَق في غاية اللِّين والرَّخَاوَة والدَّمَاثة، فلا تُمْسِكُ بناءً، ولا يستقرُّ عليها الحيوان، ولا الأجسامُ الثقيلة، بل جعلها بين الصَّلَابة والدَّمَاثة (1) .
وأشرف الجواهر عند الإنسان: الذهبُ، والفضَّةُ، والياقوتُ، والزُّمرُّدُ. فلو كانت الأرض من هذه الجواهر لفاتت مصالح العباد والحيوان منها، وتعطَّلت المنافع المقصودة منها (2) .
وبهذا يُعلم أنَّ جوهر التراب أشرفُ من هذه الجواهر، وأنفعُ وأَبْرَكُ، وإنْ كانت تلك أغلى وأعزَّ، فغلاؤُها وعزَّتُها لِقِلَّتِها، وإلا فالتراب أنفع منها، وأبرك، وأنفس.
وكذلك لم يجعلها شفَّافةً، فإنَّ الجسم الشفَّافَ لا يستقرُّ عليه النُّور، وما كان كذلك لم يقبل السُّخُونة، فيبقى في غاية البَرْد، فلا يستقرُّ
__________
(1) من قوله: “فلا تمسك بناءً. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ط)، وملحق بهامش (ن).
(2) ساقط من (ز) و (ن) و (ك) و (ط).
(1/448)
عليه الحيوانُ، ولا يتأتَّى منه (1) النَّبَاتُ.
وكذلك لم يجعلها صَقِيلَةً بَرَّاقَةً؛ لئلا يحترق ما عليها بسبب انعكاس أشعَّةِ الشمس، كما يُشَاهَدُ من احتراق القُطْن ونحوه عند انعكاس شُعاع الجسم (2) الصقيل الشفَّاف. فاقتضت حكمته – سبحانه – أن جعلها كثيفةً غَبْرَاء، فَصَلُحَتْ أن تكون مستقرًّا للحيوان، والأنام، والنَّبَات.
ولمَّا كان الحيوان الهوائي لا يمكنه أن يعيش في الماء كالحيوان المائي أبْرَزَ له جانبها – كما تقدَّم – وجعله على أَوْفَق الهيئات لمصالحه، وأنشأهُ منها، وأنشأ منها طعامَهُ وقُوتَهُ.
وكذلك خلق منها النَّوْعَ الإنسانيَّ، وأعادَهُ إليها، ويخرجه منها.
فصل
ومن آياته (3) أنْ جعلها مختلفةَ الأجناسِ، والصفاتِ، والمنافعِ، مع أنَّها قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ، متلاصِقةٌ:
فهذه سَهْلَةٌ، وهذه حَزْنَةٌ (4) تُجَاوِرُها وتلاصِقُها.
وهذه طَيِّبةٌ تُنبِتُ، وتلاصِقُها أرضٌ لا تُنْبِت.
وهذه ثَرِيَّةٌ (5)، وتلاصقُها رمال.
__________
(1) في (ك) و (ح) و (ط) و (م): فيه.
(2) ساقط من (ك).
(3) في (ح): آياتها.
(4) السَّهْلُ ضدُّ الحَزْنِ، والحَزْنُ: ما غَلُظَ من الأرض. “القاموس” (1535).
(5) أرض ثَرِيَّة: أي نَدِيَّة؛ وهو التراب إذا بُلَّ ولم يصر طِينًا لازبًا، وإنما لَانَ بعد =
(1/449)
وهذه صُلْبَةٌ، وتلاصقها وتليها رِخْوَةٌ (1) .
وهذه سوداء، وتليها أرضٌ بيضاء.
وهذه حصىً كلُّها، وتجاورها أرضٌ لا يوجد فيها حجر.
وهذه تصلح لنبات كذا وكذا، وهذه لا تصلح له بل تصلح لغيره.
وهذه سَبِخَةٌ (2) مالحة، وهذه بضدِّها.
وهذه ليس فيها جَبَلٌ، ولا مَعْلَمٌ، وهذه مُسَجَّرةٌ (3) بالجبال.
وهذه لا تصلح إلا على المطر، وهذه لا ينفعها المطر، بل لا تصلح إلا على سَقْي الأنهار، فيُمْطِرُ الله – سبحانه – الأرضَ البعيدةَ، ويسوق الماءَ إليها على وجه الأرض.
فلو سَأَلْتَها:
مَنْ نوَّعها هذا التنويعَ؟!
__________
= الجدوبة واليُبْس. “القاموس” (1635).
(1) أرضٌ رِخْوَة – بكسر الراء على الأفصح – أي: هَشَّةٌ ليِّنَةٌ. “لسان العرب” (5/ 181).
(2) أرضٌ سَبِخَةٌ – بكسر الباء – أي: ذات ملحٍ ونَزٍّ – وهو ما يتحلَّب من الأرض من الماء -، والجمع: سِبَاخ.
انظر: “مختار الصحاح” (304، 679)، و”القاموس” (323).
(3) في (ز) مسخرة، وفي (ك): مشجرة.
ومعنى “مُسَجَّرة” أي: ممتلئةٌ منها. “لسان العرب” (6/ 177).
وقد تكون محرَّفة من “مُسَمَّرة”، فإن الجبال تُشَبَّه بالمسامير للأرض، والله أعلم.
(1/450)
ومَنْ فرَّقَ بين أجزائها هذا التفريق؟
ومَنْ خصَّصَ كُلَّ قطعةٍ منها بما خصَّها به؟
ومَنْ ألقى عليها رواسيها، وفتح فيها السُّبُلَ، وأخرج منها الماءَ والمرعَى؟
ومَنْ أمسكها عن الزَّوَال؟
ومَنْ بارك فيها، وقدَّرَ فيها أقواتها، وأنشأ منها حيوانها ونباتها؟
ومَنْ وضع فيها معادنَها، وجواهرَها، ومنافعَها؟
ومَنْ هيَّأها مَسْكنًا ومُسْتَقرًّا للأنام؟
ومَنْ يُبدِئُ منها الخَلْقَ، ثُمَّ يعيدُه إليها، ثُمَّ يُخرِجُهُ منها؟
ومَنْ جعلها ذَلُولًا غير مُسْتَصْعَبَةٍ ولا مُمْتَنِعَةٍ؟
ومَنْ وَطَّأ مناكِبَها، وذلَّل مَسَالكها، ووسَّعَ فِجَاجَها، وشقَّ أنهارها، وأنبت أشجارها، وأخرج ثمارها؟
ومَنْ صَدَعَها (1) عن النَّبَات، وأَوْدَعَ فيها جميع الأقوات؟
ومَنْ بَسَطَها، وفَرَشَها، ومَهَّدَها، وذلَّلَها، وطَحَاها، ودَحَاها، وجعل ما عليها زينةً لها؟
ومَن الذي يُمْسكُها أن تتحرك فتتزلزل فيَسْقُط ما عليها من بناءٍ
__________
(1) في (ز) و (ن) و (ك) و (ط): صعدها.
و”صَدَعَ”: شَقَّ. “لسان العرب” (7/ 303).
(1/451)
ومَعْلَمٍ، أو يَخْسِفَها بمن عليها فإذا هي تَمُورُ؟
ومَن الذي أنشأ منها النَّوْعَ الإنسانيَّ الذي هو أبدعُ المخلوقات، وأحسنُ المصنوعات، بل أنشأ منها: آدمَ، ونوحًا، وإبراهيمَ، وموسى، وعيسى، ومحمدًا – صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين -. وأنشأ منها أولياءَهُ، وأحبابَهُ، وعبادَهُ الصالحين؟
ومَنْ جعلها حافِظَةً لما استُودع فيها من المياه، والأرزاق، والمعادن، والحيوان؟
ومَنْ جعل بينها وبين الشمس والقمر هذا القَدْرَ من المسافة، فلو زادت على ذلك لَضَعُفَ تأثرها بحرارة الشمس ونور القمر؛ فتعطَّلَت المنفعةُ الواصِلةُ إلى الحيوان والنَّبَات بسبب ذلك. ولو زادت في القُرْب لاشتدَّت الحرارةُ والسُّخُونَةُ – كما نُشَاهده في الصيف – فاحترقت أبدانُ الحيوان والنَّبَات. وبالجُمْلَة؛ فكانت تَفُوتُ هذه الحكمة التي بها انتظامُ العالَم.
ومَن الذي جعل فيها الجَنَّات، والحدائقَ، والعيونَ؟.
ومَن الذي جعل باطِنَها بيوتًا للأموات، وظاهرَها بيوتًا للأحياء؟
ومَن الذي يُحْييها بعد موتها، فيُنْزِلُ عليها الماء من السماء، ثُمَّ يُرْسِلُ عليها الرِّياحَ، ويُطْلِعُ عليها الشمسَ، فتأخذ في الحَبَل، فإذا كان وقت الولادة مَخَضت للوضع، واهتزَّتْ ورَبَتْ (1) ، وأنبتت من كلِّ زوجٍ بهيجٍ.
__________
(1) ساقط من (ح) و (م).
(1/452)
فسبحانَ من جَعَلَ السماءَ كالأَبِ، والأرضَ كالأُمِّ، والقَطْرَ كالماءِ الذي ينعقد منه الولد، فإذا حَصَل الحَبُّ في الأرض، ووقع عليه (1) الماءُ؛ أثَّرَتْ نَدَاوَةُ الطِّين فيه، وأعانتها السُّخُونةُ المختفيةُ في باطن الأرض، فوَصَلَت النَّدَاوَةُ والحرارةُ إلى باطِن الحَبَّةِ، فاتَّسَعَت (2) الحَبَّةُ ورَبَتْ، وانْتَفَخَتْ، وانْفَلَقَتْ عن ساقَين:
1 – ساقٍ (3) من فوقها، وهو: الشَّجَرَةُ.
2 – وساقٍ من تحتها، وهو: العِرْقُ.
ثُمَّ عَظُمَ ذلك الولدُ حتَّى لم يَبْقَ لأبيه نسبةٌ إليه، ثُمَّ وضَعَ من الأولاد بعَدَدِ أبيه آلافًا مؤلَّفَةً، كلُّ ذلك صُنْع الرَّبِّ الحكيم في حَبَّةٍ واحدةٍ لعلَّها تبلغ في الصِّغَر إلى الغاية، وذلك من البركة التي وضعها الله – سبحانه – في هذه الأُمِّ.
فَيَا لَها من آيةٍ تكفي وحدَها في الدلالة على وجود الخالق، وصفات كماله، وأفعاله، وعلى صدْق رُسُلِه فيما أخبروا به عنه مِن إخراج مَنْ في القبور ليوم البعث والنُّشور.
فتأمَّلْ اجتماعَ هذه العناصر الأربعة (4) ، وتجاورَها، وامتزاجَها، وحاجةَ بعضها إلى بعضٍ، وانفعالَ بعضها عن بعض، وتأثيرَهُ فيه، وتأثرَه به، بحيث لا يمكنه الامتناع من التأثرِ والانفعالِ، ولا يَسْتَقِلُّ الآخَرُ
__________
(1) في (ح) و (م): عليها.
(2) في (ط): فانشقَّت.
(3) ساقط من (ز).
(4) هي: التراب، والماء، والنار، والهواء.
(1/453)
بالتأثير، ولا يستغني عن صاحبه.
وفي ذلك أظهر دلالة على أنَّها مخلوقةٌ، مصنوعةٌ، مربُوبةٌ، مُدَبَّرَةٌ، حادِثةٌ بعد عَدَمِها، فقيرةٌ إلى مُوجِدٍ غنيٍّ عنها، مُؤَثِّرٍ غير متأثِّرٍ، قديمٍ غير حادِثٍ، تنقاد المخلوقاتُ كلُّها لقدرته، وتجيب داعي مشيئته، وتُلَبِّي داعي وحدانيته وربوبيته، وتشهَدُ بعلمه وحكمته، وتدعو عبادَهُ إلى ذِكْرِه، وشكره، وطاعته، وعبوديته، ومحبَّته، وتحذِّرُهم من بَأْسِهِ، ونِقْمَتِه، وتحثُّهم على المبادرة إلى رضوانه وجنَّتِه.
فانظر – الآن – إلى الماء والأرض، كيف لمَّا أراد الرَّبُّ – تبارك وتعالى – امتزاجَهُما وازدِوَاجَهُما أنشأ الرِّياح، فحرَّكَتِ الماءَ، وساقَتْهُ إلى أنْ قَذَفَتْهُ في عُمْقِ الأرض، ثُمَّ أنشأ لها حرارةً لطيفةً سماوِيَّةً حصَلَ بها الإنْبات، ثُمَّ أنشأ لها حرارةً أخرى أقوى منها حصل بها الإنْضاج، وكانت حالته الأُولى تَضْعُفُ عن الحرارة الثانية، فادُّخِرَت إلى وقت قوَّته وصلابته. فحرارة الربيع للإخراج، وحرارة الصيف للإنْضاج.
هذا وإنَّ الأُمَّ واحدةٌ، والأَبَ واحدٌ، واللِّقَاحَ واحدٌ، والأولاد في غاية التباين والتنوُّع، كما قال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)} [الرعد: 4]؛ فهذا بعض آيات الأرض.
ومن الآيات التي فيها وَقَائعُهُ – سبحانه – التي أَوْقَعَها بالأُمم المكذبين لرسله، المخالفين لأمره، وأبقى آثارهم دالَّةً عليهم كما قال تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ}
(1/454)
[العنكبوت: 38].
وقال – تعالى – في قوم لوط: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) } الصافات: 137, 138]، وقال تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) } [الحجر: 73 – 76] أي: بطريقٍ ثابتٍ لا يزول عن حاله، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) } (1) [الحجر: 77].
وقال تعالى: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) } [الحجر: 78، 79]؛ أي: دِيَارُ هاتَين الأُمَّتَين لَبِطريقٍ واضحٍ يَمُرُّ به السَّالِكُون.
وقال تعالى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَ كُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) } [إبراهيم: 45].
وقال عن قوم عاد: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25].
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} [السجدة: 26].
فأيُّ دلالة أعظمُ وأظهرُ من دلالةِ رجلٍ يخرج وحده، لا عُدَّةَ له، ولا عَدَد، ولا مال، فيدعو الأُمَّةَ العظيمة إلى توحيد الله تعالى، والإيمانِ به وطاعته، ويحذِّرهم من بأسه ونِقْمَته، فتَتَّفِقُ كلمتهم – أو أكثرهم – على تكذيبه ومعاداته، فَتُدرِكُهم أنواعُ العقوبات الخارجة عن قدرة البشر، فيُغْرِقُ المكذبين كلَّهم تارةً، ويَخْسِفُ بغيرهم الأرضَ تارةً،
__________
(1) هذه الآية غير موجودة في (ح) و (م).
(1/455)
ويُهْلِكُ آخرين بالرِّيح، وآخرين بالصَّيحَةِ، وآخرين بالمَسْخِ، وآخرين بالحجارة، وآخرين بظُلَّةٍ من النَّار من فوقهم، وآخرين بالصواعق، وآخرين بأنواع أُخَر من العقوبات، وينْجُو دَاعِيهم وَمَنْ معه، والهالكون أضعافُ (1) أضعافهم عَدَدًا وقوةً ومَنَعَةً وأموالًا.
فَيَا لَكِ مِنْ آياتِ حَقٍّ لو اهتَدَى … بِهِنَّ مُرِيدُ الحَقِّ؛ كُنَّ هَوَادِيا
ولكنْ على تلك القلوب أَكِنَّةٌ … فليسَتْ – وإنْ أَصْغَتْ – تُجِيبُ المُنَادِيا
فَهَلَّا امتَنَعُوا – إنْ كانوا على الحقِّ، وهُمْ أكثرُ عَدَدًا، وأقوى شَوْكَةً – بقوَّتهم وعدَدِهم مِن بَأْسِ اللهِ وسلطانه، وهَلَّا اعتصمُوا من عقوبته، كما اعتصم مَنْ هو أضعفُ منهم من أتباع الرُّسُلِ؟
ومن الآيات التي في الأرضِ ما يُحْدِثُه فيها كلَّ وقتٍ ممَّا يُصَدِّق رُسُلَهُ فيما أخبرَتْ (2) به، فلا تزال آياتُ الرُّسُلِ، وأعلامُ صِدْقِهم، وأدلَّةُ نُبوَّتهم يُحدِثُها الله – سبحانه وتعالى – في الأرض، إقامةً للحُجَّةِ على مَنْ لم يُشَاهِد تلك الآيات التي قارَبَت عَصْرَ الرسول، حتَّى كأنَّ أهلَ كلِّ قَرْنٍ يشاهدون ما يشاهده الأَوَّلُون أو نظيره (3) ، كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53].
وهذه الإرَاءَةُ لا تختصُّ بقَرْنٍ دون قَرْنٍ، بل لا بدَّ ما يُري اللهُ – سبحانه – أهلَ كُلِّ قَرْنٍ من الآيات ما يبيِّنُ لهم أنَّه اللهُ الذي لا إله
__________
(1) ساقط من (ز).
(2) في (ز): أخبر.
(3) في (ز) و (ن) و (ك) و (ح): لنظيره، وفي (ط): كنظيره.
(1/456)
إلا هو، وأنَّ رُسُلَهُ صادقون.
وآياتُ الأرض أعظمُ ممَّا ذُكر وأكثر، فنبَّهَ (1) باليسير منها على الكثير.
فصل
ثُمَّ قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: 21]، لمَّا كان أقربُ الأشياء إلى الإنسان نفسَهُ؛ دعاهُ خالقُه وبارئه ومصوِّرُه وفاطِرُه (2) من قَطْرة ماءٍ إلى التبصُّرِ والتفكُّرِ في نفسه.
فإذا تفكَّرَ الإنسانُ في نفسه استَنَارَتْ له آياتُ الربوبية، وسَطَعَتْ له أنوارُ اليقين، واضمحلَّتْ عنه غَمَراتُ الشكِّ والرَّيْب، وانْقَشَعَتْ عنه ظلماتُ الجهل.
فإنَّه إذا نظر إلى نفسه وجد آثارَ التدبير فيه قائمةً، وأدلَّةَ التوحيد على ربِّه ناطِقةً شاهِدةً لمُدَبِّرِه، دالَّةً عليه، مرشِدَةً إليه؛ إذ يَجِدُهُ مُكَوِّنًا من قطرة ماءٍ: لحومًا مُنَضَّدَةً، وعظامًا مركَّبَةً، وأوصالًا متعدِّدةً، مَأْسُورَةً مشدُودَةً بحبال العُرُوق والأعصاب، قد قُمِطَتْ وشُدَّتْ، وجُمِعَتْ بجلدٍ متينٍ، مشتملٍ على ثلاثمائةٍ وستين مَفْصِلًا، ما بين كبيرٍ وصغيرٍ، وثَخِينٍ ودقيقٍ، ومستطيلٍ ومستديرٍ، ومستقيمٍ ومُنْحَنٍ، وشُدَّت (3) هذه الأوصال بثلاثمائة وستين عِرْقًا، للاتصالِ والانفصالِ، والقَبْضِ والبَسْطِ، والمَدِّ والضَّمِّ، والصنائع والكتابة.
__________
(1) في (ح) و (م): فتنبه.
(2) “وفاطره” ملحق بهامش (ح).
(3) من هنا يبدأ السقط في النسخة (ن)، وينتهي (ص/ 637).
(1/457)
وجعل فيه تسعةَ أبوابٍ: فبابان للسَّمع، وبابان للبصر، وبابان للشَّمِّ، وبابٌ للكلام والطعام والشراب والنَّفَسِ (1)، وبابان لخروج الفَضَلات التي يُؤْذِي احتباسُها.
وجعل داخل بَابَي السَّمع مُرًّا قاتِلًا؛ لئلا تَلِجَ فيهما (2) دابةٌ تَخْلُصُ إلى “الدِّمَاغ” فتؤذيه.
وجعل داخل بابي البصر مالحًا؛ لئلَّا تُذِيبَ الحرارةُ الدائمةُ ما هناك من الشَّحْم.
وجعل داخل باب الطعام والشراب حُلْوًا؛ ليُسِيغَ به ما يأكله ويشربه، فلا يتنغَّصُ به لو كان مُرًّا أو مالحًا.
وجعل له مِصْبَاحَين من نورٍ كالسِّرَاجَين المُضِيئَين، مركَّبَين في أعلى مكانٍ منه، وفي أشرف عُضْوٍ من أعضائه، طليعةً له.
وركَّب هذا النُّور في جُزْءٍ صغيرٍ جدًا يُبصِرُ به السماء والأرض وما بينهما، وغَشَّاهُ بسَبْعِ طبقاتٍ، وثلاثِ رطوباتٍ، بعضُها فوق بعض؛ كلُّها (3) حمايةً له وصيَانةً وحراسةً.
وجعل على مَحَلِّه غَلْقًا بمِصْرَاعَين أعلَى وأسفل، وركَّبَ في ذَينِكَ (4) المِصْرَاعَين “أهْدَابًا” من الشَّعْر؛ وِقَايَةً “للعَينَين”، وزينةً وجمالًا.
__________
(1) في (ح) و (م): والتنفُّس.
(2) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: فيها.
(3) ساقط من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: كله، وما أثبته أنسب للسياق.
(4) في (ح) و (م): ذيل.
(1/458)
وجعل فوق ذلك كلِّه “حاجِبَين” من الشَّعْر، يَحْجُبَان “العين” من العَرَقِ النَّازل من فَوق، ويَتَلَقَّيَانِ (1) عنها ما ينصَبُّ من هناك.
وجعل – سبحانه – لكلِّ طبقةٍ من طبقات “العين” شُغْلًا مخصوصًا، ولكلِّ واحدٍ من الرُّطُوبات مقدارًا مخصوصًا، لو زاد على ذلك أو نقص منه لاختلَّت المنافع والمصالح المطلوبة.
وجعل هذا النُّور الباصِرَ في قَدْرِ عَدَسَةٍ، ثُمَّ أظهر في تلك العَدَسَةِ صورة السماءِ، والأرض، والشمس، والقمر، والنُّجُوم، والجبال، والعالم العُلْويِّ والسُّفْليِّ، مع اتِّسَاع أطرافه، وتباعد أقطاره.
واقتضت حكمته – سبحانه – أن جعل فيها بياضًا وسوادًا، وجعل القوَّةَ الباصِرَةَ في السَّواد، وجعل البياضَ مستقرًّا لها ومسكنًا، وزيَّنَ كلًّا منهما بالآخر.
وجعل “الحَدَقَةَ” مَصُونَةً بـ “الأجفانِ” و”الحَوَاجِبِ” – كما تقدَّم -، و”الحَوَاجِبَ” بـ “الأهداب”، وجعلها سوداء؛ إذ لو كانت بيضاء (2) لتفرَّقَ النورُ الباصِرُ، فضَعُفَ الإدراك، فإنَّ السَّوادَ يجمع البصرَ، ويمنع من تفرُّقِ النُّور الباصر.
وخلق – سبحانه – لتحريك “الحَدَقَةِ” وتقليبها أربعًا وعشرين عَضَلَةً، لو نقصت عَضَلةٌ واحدةٌ لاختلَّ أمر “العين”.
ولمَّا كانت “العين” كالمرآة، التي إنَّما تنطبع فيها الصُّوَر إذا كانت
__________
(1) في جميع النسخ: ويلتقيان، وهو تصحيف، والصواب ما أثبته.
(2) في (ح) و (م): وجعلها سُودًا؛ إذ لو كانت بِيضًا …
(1/459)
في غاية الصَّقَالَة والصَّفَاء = جعل – سبحانه – هذه “الأجفان” متحرِّكَةً – جدًّا – بالطَّبْع إلى الانطباق، من غير تكلُّفٍ، لتبقى هذه المرآة نقيَّةً صافيةً من جميع الكُدْرَات (1). ولهذا لمَّا لم يخلق لعين الذُّبَابة أجفانًا؛ لا تزال تراها تنظِّفُ عينَها بيدها من آثار الغبار والكُدْرَات (2).
فصل
وكما جعل – سبحانه – “العَينيَن” مؤدِّيتين “للقلب” ما تَرَيانه، فتُوصِلانه إليه كما رَأَتَاهُ = جعلهما مرآتين “للقلب”، يظهر فيهما ما هو مُودَعٌ فيه من الحُبِّ والبُغْضِ، والخيرِ والشَّرِّ، والبَلَادَةِ والفِطْنَةِ، والزَّيغ والاستقامة.
فيُستَدَلُّ بأحوال “العين” على أحوال “القلب”، وهو أحد أنواع الفِرَاسَة الثلاثة، وهي: فراسة “العين”، وفراسة “الأُذُن”، وفراسة “القلب”.
فـ “العين” مرآةٌ “للقلب”، وطليعةٌ ورسولٌ.
ومن عجيب أمرها أنَّها من ألطف الأعضاء، وأبعدها تأثرًا بالحرِّ والبَرْدِ، على أنَّ “الأُذُن” (3) على صلابَتِها وغِلَظِها لَتَتَأَثَّرُ بهما أكثر من تأثر “العين” على لطافتها. وليس ذلك بسبب الغطاء الذي عليها من “الأجفان”، فإنَّها ولو كانت مُنْفَتِحَةً لم تتأثَّر بذلك تأثَّرَ الأعضاء الكثيفَةِ.
__________
(1) “الكُدْرات” جمع: كُدْرَة؛ وهي نقيض الصَّفَاء. “تاج العروس” (14/ 22).
(2) في (ح) و (م): الكدورات؛ في الموضعين، والمثبت من باقي النسخ.
(3) من (ك)، وفي باقي النسخ: الذهن! وهو تحريف.
(1/460)
فصل
ومن ذلك: “الأُذُنَان”. شَقَّهُما – تبارك وتعالى – في جانبي الوجه، وأَوْدَعَهما من الرطوبة ما يكون مُعينًا على إدراك السَّمعِ، وأَوْدَعَهما القوَّةَ السَّامعة، وأحاط على هذه القوَّةِ صَدَفَةً مستديرةً مجوَّفةً تَحْتَوِشُ الصوتَ وتجمعه، وتؤدِّيه إلى “الصِّمَاخ” فيؤدِّيه إلى القوَّة السَّامعة.
وجعل – سبحانه – في هذه الصَّدَفَةِ انحرافاتٍ واعوِجَاجَاتٍ، لتطول المسافة قليلًا، فلا يصل الهواء إلى داخل “الأُذُن” إلَّا بعد انكسار حِدَّته، فلا يصدمها وَهْلَةً واحدةً فيؤذيها.
وأيضًا؛ فَلِئلَّا يَفْجَأَها الداخلُ إليها من الدبيب والحشرات، بل إذا دخل إلى عَوْجَةٍ (1) من تلك الانعطافات وقَفَ هناك، فسهُلَ إخراجه.
وأيضًا؛ فتُمسك ما يصل إليها من الغبار والوسخ، فيَنْحجِبُ هناك عن الوصول، فيسهُلُ إخراجه.
وكانت “العَينَان” في وسط الوجه و”الأُذُنَان” في جانبيه؛ لأنَّ “العَينيَن” مَحَلُّ المَلَاحة والزِّينة والجَمَال، وهما بمنزلة النُّور الذي يمشي به بين يدي الإنسان.
و [أمَّا] (2) “الأُذُنَان” (3) فكان جَعْلُهما في الجانبين لكون إدراكهما لما خلف الإنسان، وأمامه، وعن يمينه، وعن شماله = سواءً، فتأتي
__________
(1) تصحفت في (ز) و (ك) و (ط) إلى: عَرْجَة.
(2) زيادة لاتساق الكلام.
(3) من (ك)، وفي باقي النسخ بدلًا عنها: أيضًا.
(1/461)
المسموعات إليهما على نسبةٍ واحدةٍ.
وخُلقت “العَينَان” بغِطَاءٍ، و”الأُذُنان” بغير غطاءٍ. وهذا في غاية الحكمة؛ إذ لو كان للأذنين غطاءٌ لَمَنع الغطاء إدراك الصوت، فلا يحصل إلا بعد ارتفاع الغطاء، والصوتُ عَرَضٌ لا ثبات له، فكان يزول قبل كشْفِ الغطاء، بخلاف ما تراه “العين”، فإنَّه أجسامٌ وأعراضٌ ثابِتةٌ؛ فلا تزول فيما بين كشف الغطاء وفتح “العين”.
وجعل – سبحانه – “الأذُن” عضوًا غُضْرُوفيًّا ليس بلحمٍ مُسْتَرْخٍ، ولا عَظْمٍ صُلْبٍ، بل هي بين الصَّلَابة واللِّين، فتُقْبِلُ بِلِينها، وتُحفظ بصلابتها، ولا تنصدع انصداع العظام، ولا تتأثَّرُ بالحرِّ وَالبرد والشمسِ والسَّمُومِ تأثر اللَّحْمِ؛ إذ المصلحة في بُرُوزِها دائمًا لتتلقَّى ما يَرِدُ عليها من الأصوات والأخبار.
فصل
ومن ذلك: “الأَنْفُ”؛ نَصَبَهُ اللَّهُ – سبحانه وتعالى – في وَسْط الوجه قائمًا معتدلًا، في أحسن شَكْلٍ وأَوْفَقِهِ (1) للمنفعة، وأَوْدَعَهُ حاسَّةَ الشَّمِّ، التي يُدْرِكُ بها الأَرَايح وأنواعها، وكيفياتها، ومنافعَها، ومضارَّها. ويستدلُّ بها على مَضَارِّ الأغذية والأدوية ومنافعِها.
وأيضًا؛ فإنَّه يستنشِقُ بـ “المِنْخَرَين” الهواءَ الباردَ الرَّطْبَ، فيؤدِّيه إلى “القلب”، فيتروَّحُ به، فيستغني بذلك عن فتح “الفَمِ” أبدًا.
وجعل تجويفه بقَدْر الحاجة، فلم يوسِّعْهُ عن ذلك، فيَدْخُلَه هواءٌ
__________
(1) في (ك): وأَوْقَفَه، وفي (م): وأوقعه.
(1/462)
كثيرٌ، ولم يضيِّقهُ فلا يَدْخُلَه من الهواء ما يكفيه.
وجعل ذلك التجويفَ مستطيلًا؛ لينحصر فيه الهواء، وينكسر فيه (1) بَرْدُه وحِدَّته قبل أن يصل إلى “الدِّمَاغ”، فلولا ذلك لَصَدَمه بِحِدَّتِه وقوَّتِه.
والهواء الذي يَسْتَنْشِقُه “الأنفُ” ينقسم شَطْرين: شطرًا يصعد إلى “الدِّمَاغ”، وشطرًا ينزل إلى “الرئة”.
وهو (2) من آلات النُّطْق، فإنَّ له إعانةً على تقطيع الحروف.
وكما أنَّ تجويفَهُ جُعِلَ لاستنشاق الهواء، فإنَّه جُعل مَصَبًّا لفَضَلات “الدِّمَاغ”، تنحَدِرُ منه في تلك القَصَبَة، فتخرج، فيستريح “الدِّمَاغ”.
ولذلك جَعَلَ عليها (3) سِتْرًا ولم يجعلها بارِزةً فتستَقْبِحَها العيونُ.
وجُعل فيه تجويفَانِ، فإنَّه قد يَنْسَدُّ أحدُهما أو تَعْرِضُ له آفةٌ تمنَعُه من الإدراكِ والاستنشاقِ، فيبقى التجويف الثاني نائبًا عنه، يعمل عمله، كما اقتضت الحكمة مثل ذلك في “العَينيَن” و”الأُذُنين”.
ثُمَّ تأمَّلْ الهواءَ الذي يستنشِقُه “الأنفُ”؛ كيف يدخل أوَّلًا من “المِنْخَرَين”، وينكسر بَرْدُه هناك، ثُمَّ يصل إلى “الحَلْق”، فيعتدل مِزَاجُه هناك، ثُمَّ يصل إلى “الرئة” أَلْطَفَ ما يكون، ثُمَّ تبعثُه “الرئةُ” إلى “القلب”، فيروِّحُ عن الحرارة الغَرِيزيَّة التي فيه، ثُمَّ يَنْفُذُ من “القلب” إلى
__________
(1) ساقط من (ح) و (م).
(2) بعده في جميع النسخ زيادة: أكثر، ولا مكان لها.
(3) ساقط من (ز)
(1/463)
العُرُوق المتحرِّكة، ويبلغ إلى أقاصي أطراف البدن، ثُمَّ إذا سَخُنَ في الباطن وخَرَجَ عن حَدِّ الانتفاع به؛ عَادَ عن تلك الأقاصي إلى البدن، ثُمَّ إلى “الرئة”، ثُمَّ إلى “الحُلْقوم”، ثُمَّ إلى “المِنْخَرَين” خارجًا، فيخرج منهما، ويعود عِوَضه هواءً باردًا نافعًا.
والنَّفَسُ الواحدُ من أنفاسِ العبد إنَّما يتمُّ بمجموع هذه الأمور والقوى والأفعال. وهو في اليوم والليلة: أربعةٌ وعشرون ألفَ نَفَسٍ، لله في كلِّ نَفَسٍ عِدَّةُ نِعَمٍ، قد وقَفْتَ على القليل منها، فما ظنُّكَ بما وراء النَّفَسِ من الأعضاء، والقوى، ومنافِعها، وتمامِ النعمة بها؟
فصل
وأمَّا “الفَمُ” فمَحَلُّ العجائب، وباب الطعام والشَّراب والنَّفَس والكلام، ومسْكَنُ اللِّسان النَّاطقِ الذي هو (1) آلةُ العلوم، وتَرْجَمَانُ “القلب” ورسولُه المؤدِّي عنه.
ولمَّا كان “القلبُ” مَلِكَ البَدَن، ومَعْدِنًا للحرارة الغريزيَّةِ، فإذا دخل الهواءُ الباردُ وَصَلَ إليه، فاعتدَلَتْ حرارتُه، وبَقيَ هنالك ساعةً، فسَخُنَ واحتَرَقَ، فاحتاج “القلبُ” إلى دَفْعِه وإخراجه؛ فجعل أحكمُ الحاكمين إخراجَهُ سببًا لحدوث الصوت.
ثُمَّ جَعَلَ (2) في “الحَنْجَرَة”، و”الحَنَك”، و”اللِّسَان”، و”الشَّفَتين”، و”الأسنان” مقاطِعَ (3) ومخارِجَ مختلفةً، بسبب اختلافها
__________
(1) ساقط من (ز) و (ك).
(2) في جميع النسخ: فعل، وهو تصحيف.
(3) في (ز) و (ك): مقاطيع.
(1/464)
تميَّزَتِ الحروفُ بعضُها عن (1) بعضٍ، ثُمَّ أَلْهَمَ العبدَ تركيبَ تلك الحروف ليؤدِّي بها عن “القلب” ما يأمر به.
فتأمَّلْ هذه الحكمةَ الباهِرَةَ؛ حيث لم يُضِعْ – سبحانه – ذلك النَّفَسَ المُسْتَغْنَى عنه (2) المُحْتَاجَ إلى دَفْعه وإخراجه، بل جَعَلَ فيه – إذا استُغْنِي عنه – منفعةً ومصلحةً هي من أكمل المنافع والمصالح. فإنَّ المقصود الأصليَّ من النَّفَس هو إيصالُ (3) النَّسِيمِ البارِدِ إلى “القلب”. فأمَّا إخراجُ النَّفَس فهو جارٍ مَجْرَى دَفْع الفَضْلَةِ الفاسدةِ، فصَرَفَ ذلك – سبحانه – إلى رعايةٍ تُصْلِحُهُ، ومنفعةٍ أخرى، فجعله سببًا للأصوات والحروف والكلام.
ثُمَّ إنَّه – سبحانه – جعل “الحَنَاجِر” مختلفة الأشكال في الضِّيقِ، والسَّعَة، والخُشُونة، والمَلَاسَة؛ لتختلف الأصواتُ باختلافها، فلا يتشابه صوتان، كما لا تتشابه صورتان.
وهذا من أظهر الأدلَّة؛ فإنَّ هذا الاختلاف – الذي بين الصُّوَر والأصوات على كثرتها وتعدُّدها، فَقَلَّما يشتبه صوتان أو صورتان – ليس في الطبيعة ما (4) يقتضيه، وإنَّما هو صُنْعُ الله الذي أتقنَ كلَّ شيءٍ، وأحسن كلَّ شيءٍ خَلَقه، فتبارك الله ربُّ العالمين، وأحسن الخالقين. فميَّزَ – سبحانه – بين الأشخاص بما يُدْرِكُه السَّمع والبصر.
__________
(1) “بعضها عن” ملحق بهامش (ك).
(2) من (ط)، وسقط من باقي النسخ.
(3) في جميع النسخ: اتصال، وهو تصحيف.
(4) كلمة “ما” ساقطة من (ز) و (ك).
(1/465)
فصل
وأَوْدَعَ “اللِّسانَ” من المنافع: منفعةَ الكلام – وهي أعظمها -، ومنفعةَ الذَّوْق والإدراك. وجعله دليلًا على اعتدال مزاج “القلب” وانحرافه، كما جعله دليلًا على استقامته واعوِجَاجه. فتَرَى الطبيبَ يستدلُّ بما يبدو للبصر (1) على “اللِّسان” من الخشونة، والمَلَاسَة، والبياضِ، والحُمْرةِ، والتشققِ وغيره؛ على حال “القلب” والمَزَاج.
وهو دليلٌ قويٌّ على أحوال “المعدة” و”الأمعاء”، كما يستدلُّ السامعُ بما يبدو عليه من الكلام على ما في “القلب”، فيبدو عليه صحة “القلب” (2) وفساده معنىً وصورةً.
فصل
وجعل – سبحانه – “اللِّسانَ” عُضْوًا لحميًّا، لا عَظْمَ فيه ولا عَصَب؛ لتسهُلَ حركته.
ولهذا لا تجد في الأعضاء مَنْ لا يكْتَرِثُ بكثرة الحركة سواه، فإنَّ (3) أيَّ عُضْوٍ من الأعضاء [إذا] (4) حَرَّكْتَهُ كما تحرِّكُ “اللِّسان” لم يُطِعْكَ لذلك، ولم يلْبَثْ أنْ يَكِلَّ ويَخْلُدَ إلى السُّكُون، إلا “اللِّسان”.
وأيضًا؛ فإنَّه من أعدل الأعضاء وألْطَفِها، وهو في
__________
(1) تصحفت في (ز) و (ك) إلى: الصبر!
(2) ساقط من (ز).
(3) ساقط من (ز) و (ك)، وفي (ح) و (م): فإنه.
(4) زيادة يقتضيها الكلام.
(1/466)
الأعضاء (1) بمنزلة رسول المَلِكِ ونائبه، فمِزَاجُه من أعدل أمزِجَة البدن. ويحتاج إلى قَبْضٍ وبَسْطٍ، وحركةٍ (2) في أقاصي “الفم” وجوانبه، فلو كان فيه عَظْمٌ (3) لم يتهيَّأ منه ذلك، ولم يتهيَّأ منه الكلامُ التامُّ، ولا الذَّوقُ التامُّ. فكونه لحمًا اقتضَاهُ السبب الفاعِليُّ والغائيُّ (4). والله أعلم.
فصل
وجعل – سبحانه – على “اللِّسان” غَلَقَين:
أحدهما: “الأسنان”.
والثاني: “الفَم”.
وجعل حركته اختياريَّةً.
وجعل (5) على “العين” غطاءً واحدًا، ولم يجعل على “الأُذُن” غطاءً؛ وذلك لخطر “اللِّسَان” وشَرَفه، وخطر حركاته، وكونه في “الفَمِ” بمنزلة “القلب” في الصَّدْر.
وفي ذلك من اللَّطَائف: أنَّ آفةَ الكلام أكثرُ من آفة النَّظَر، وآفةَ النَّظَر أكثرُ من آفة السَّمع. فجعل للأكثر آفاتٍ طبقتين، وللمتوسِّط طبقًا، وجعل الأقلَّ آفةً بلا طبق.
__________
(1) “في الأعضاء” ساقط من (ز).
(2) في (ز) و (ك): وحركته.
(3) في (ح) و (م): عظام، وسقط من (ك).
(4) في (ز) و (ك) و (ط): والمعاني! وهو تصحيف.
(5) “جعل” ملحق بهامش (ك).
(1/467)
فصل
وجعل – سبحانه – “الفَمَ” أكثرَ الأعضاء رُطُوبةً، والرِّيقُ (1) يتحلَّلُ إليه دائمًا لا يُفَارِقُه.
وجعله حُلْوًا لا مالحًا كماء “العين”، ولا مُرًّا كالذي في “الأُذُن”، ولا عَفِنًا (2) كالذي في “الأنف”، بل هو أعذَبُ مياه البدن وأحلاها، حكمةٌ بالغةٌ؛ فإنَّ الطعام والشراب يخالطه، بل هو الذي يُحِيلُ الطعامَ، ويمتزجُ به امتزاجَ العجين بالماء، فلولا أنَّه حُلْو لما الْتَذَّ الإنسانُ – بل ولا الحيوان – بطعامٍ ولا شرابٍ، ولا سَاغَهُ إلا على كُرْهٍ وتنغيصٍ.
ولمَّا كان كثيرٌ من الطعام لا يمكن جَبْذُهُ (3) إلا بعد طَحْنِهِ (4)؛ جعل الرَّبُّ – تعالى – له آلةً للتقطيع والتفصيل، وآلةً للطَّحْن. فجعل آلةَ القَطْع – وهي “الثَّنَايا” وما يليها – حادَّةَ الرؤوس ليسهُلَ بها القَطْع. وجعل “النَّوَاجِذَ” وما يليها من “الأَضْرَاس” مُسَطَّحَةَ الرؤوس (5)، عريضةً، ليتأتَّى بها الطَّحْنُ. ونَظَمَها أحسنَ نظام كاللؤلؤ المنظُومِ في سلْكٍ، وجعلها من الجانب الأعلى والأسفل؛ ليتأتَّى بها القطع والطَّحْن. وجعلها من الجانب الأيمن والأيسر، إذ ربَّما كَلَّتْ إحدى الآلتين، أو
__________
(1) تصحفت في (ز) إلى: الدقيق!
(2) كذا في النسخ! وجاء في هامش (ك): عُنُفًا، وهو محتمل، فإن “العُنُف”: الغِلَظُ والصَّلَابة. “تاج العروس” (24/ 190).
(3) في (ز): حبله، وفي باقي النسخ: جبله! ولعل الصواب ما أثبته.
و”جَبَذَ” كـ: جَذَبَ؛ وزنًا ومعنىً.
(4) في (ح) و (م): طبخه، وزيدت في (ك) و (ط)، ولا مناسبة لها هنا.
(5) من قوله: “ليسهل بها القطع. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ز).
(1/468)
تعطَّلَت، أو عَرَضَ لها عارضٌ، فيُنْتَقَلُ إلى الآلة الأخرى. وأيضًا لو كان العمل على جانبٍ واحدٍ دائمًا لأَوْشَكَ أن يتعطَّلَ أو يَضْعُفَ.
وتأمَّلْ كيف أَنْبَتَها – سبحانه – من نفس اللَّحم، وتخرج من خلاله نابتةً كما ينبت الزرع في الأرض، ولم يَكْسُها – سبحانه – لحمًا كما كَسَا سائر العظام سواها، إذ لو كَسَاها اللَّحمَ لتعطَّلَت المنفعة المقصودة بها.
ولَمَّا كانت العظامُ محتاجةً إلى لحمٍ يكسوها ويحفظها، ويتلقَّى (1) عنها الحَرَّ والبردَ، ويحفَظَ عليها رطوبتها = لم تكمل مصلحة الحيوان إلا بهذه الكسوة. ولمَّا كانت عظامُ “الأسنان” محتاجةً (2) إلى ذلك من وجهٍ، مستغنيةً عنه من وجهٍ = جَعَلَ كسوتها منفصلةً عنها، وجُعِلَتْ هي المُكْتَسية العارية؛ لتمام المنفعة بذلك.
ولمَّا كانت آلة القطع والكسر والطَّحْن لم (3) تنشأ مع الطِّفْل من أوَّل نشأته كسائر عظامه؛ لعدم حاجته إليها؛ فهو معطَّلٌ (4) عنها وقت استغنائه عنها بالرَّضَاع، وأُعطِيَها وقتَ الحاجه إليها.
وفيه حكمةٌ أخرى، وهي أنَّه لو نشأت معه من حين يُولد لأَضَرَّ ذلك بحَلَمَة الثَّدْي؛ إذ لا عقل له يحجُزُهُ عن عَضِّها، فكانت الأُمُّ تمتنع من رضاعه.
ومن عجيب أمرها الاتفاقُ والمُوَالَاةُ التي بينها وبين “المعدة”،
__________
(1) في (ط): وينتفي، وفي باقي النسخ: ويلتقي، وما أثبته هو الصحيح.
(2) ساقط من (ح) و (م).
(3) ساقط من (ز).
(4) في (ح) و (م): فعطِّل، بدل “فهو معطَّلٌ”.
(1/469)
فإنَّه يُسَلَّمُ إليها الشيء اليابسُ والصُّلْبُ فتطْحَنه، ثُمَّ تُسَلِّمه إلى “اللِّسان” فيعجِنُه، ثُمَّ يسلِّمه إلى “الحَلْق” فيوصله إلى “المعدة” فتُنْضِجُه وتطبخه، ثُمَّ يُرسَلُ إليها منه معلومُها المقدَّرُ (1) لها، فإذا عجَزت عن قَطْع شيءٍ وطحنه عجَزَت “المعدة” عن إنضاجه وطبخه، وإذا كَلَّتْ كَلَّتِ “المعدة”، وإذا ضَعُفَت ضَعُفَت.
وهي تصحب الإنسانَ وتخدمه ما لم يرها، فإذا وقعت عينُه عليها فارقته فُرْقَةَ الأبد.
وهي سلاحٌ، ومنشارٌ، وسكِّينٌ، ورَحىً، وزينةٌ، وفيها منافع ومصالح غير هذه.
فصل
ثُمَّ تأمَّلْ حال “الشَّعْر”، ومَنْبَته، وسببه، وغايته.
فإنَّ البدن لمَّا كان حارًّا رَطْبًا، والحرارةُ إذا عملت في الرُّطُوبة فلا بدَّ أنْ تُثير بُخَارًا، وتلك الأبْخِرَة تتصاعد من عمق البدن إلى سطحه، وتريد الانفصال من هناك، فلا بدَّ أنْ تُحدث مَسَامَّ ومنافذَ في ظاهر الجلد.
وتلك الأبْخِرَةُ:
1 – إمَّا أن تكون رَطْبةً لطيفةً، فحينئذٍ تنفصل من المَسَامِّ ولا تُحدث شيئًا.
__________
(1) في (ز): المقدور.
(1/470)
2 – وإمَّا أن تكون دُخَانيةً يابسةً غليظةً، فالجلد حينئذٍ:
1 – إمَّا أن يكون في نهاية النُّعُومة والنَّضَارة، كجلد الصبيان.
2 – أو في غاية اليُبْسِ والقَشَف.
3 – أو يكون معتدلًا.
فإذ (1) ذاك لا يتولَّدُ فيه “الشَّعْر”؛ لأنَّ البُخَار إذا شقَّ سطح الجلد وانفصل عاد الجلدُ في الحال إلى اتِّصاله الأوَّل، بسبب كثرة رطوبته ونعومته. مثاله: السَّمَكُ إذا رفع رأسه من الماءِ انشقَّ له الماءُ، فإذا عاد إلى الماءِ عاد الماءُ إلى اتِّصاله الأوَّل.
وكذلك نشاهد الأشياء الرَّطْبة – كالنَّشَاء مثلًا – إذا أُغْلِيَ فخرج البُخَارُ من موضع الغَلَيان عادت الرُّطُوبة إلى الموضع الذي خرج منه ذلك البُخَار فَسَدَّتْهُ.
فإنْ كان الجلد في غاية اليُبْسِ لم يتولَّد “الشَّعْر” منه (2)؛ لأنَّ الجلد اليابس إذا انْثَقَبَ بقيت تلك الثُّقَبُ مفتوحةً ليُبْسِ الجلد، فتُفرِّقُ أجزاءَ البُخَارِ، ولا يجتمع بعضُه إلى بعضٍ.
وإن كان الجلدُ متوسِّطًا بين النُّعُومة والكثافة، فإنَّه تنفتح فيه المَسَامُّ بسبب تلك الأبْخِرَة، ولا تعود تَنْسَدُّ بعد خروج البُخَار، ولكن لا تبقى المَسَامُّ شديدة الانفتاح، فحينئذٍ يبقى ذلك البُخَار الدُّخَانيُّ
__________
(1) شَرَع في بيان ظهور”الشَّعْر” في أنواع الجلد الثلاثة، وهذا أولها وهو الناعم الرطب.
(2) ساقط من (ح) و (م).
(1/471)
في تلك الثُّقُوب، ثُمَّ لا يزال مدَّةً إلى أن يَنْشَأَ (1) بُخَارٌ آخر يدفعه أوَّلًا فأوَّلًا إلى خارج، من غير أن يَنْقَلِعَ (2) أصله، فيبقى بعضُه مركوزًا في الجلد – منزلته منزلة أصل النَّبَات -، وبعضُه يظهر (3) إلى خارج – منزلته منزلة ساق النَّبَات -، وذلك هو “الشَّعْر”.
فمادَّةُ “الشَّعْر” هو البُخَار الدُّخَانيُّ الحارُّ اليابِسُ، وسببه هو الحرارةُ الطبيعيةُ المحرِقةُ لذلك البُخَار، والآلة التي بها يتَمُّ أمرُه هي المَسَامُّ التي ارتكَبَ (4) فيها البُخَارُ، فتلبَّدَ هناك فصار “شَعْرًا” بإذن الله تعالى.
والغاية التي وُجِدَ لأجلها وُجِدَ لها سببان:
أحدهما عامٌّ: وهو تنقية البدن من الفضول الدُّخَانِيَّة الغليظة.
والآخر خاصٌّ: وهو إمَّا للزِّينة، وإمَّا للوقاية.
وإذا بَانَ بأنَّ “الشَّعْر” إنَّما يتولد مع الحرارةِ واليُبْسِ المعتدل؛ بَقِيَتْ ثلاثةُ أقسام:
أحدها: حرارةٌ غالبةٌ على اليُبْس، كالصبيان.
الثاني: عكسه، وهو يُبْسٌ غالبٌ (5) على الحرارة، كالمشايخ.
__________
(1) “إلى أن ينشأ” ساقط من (ح) و (م).
(2) في (ز) و (ح): ينقطع.
(3) “يظهر” ملحق بهامش (ك)، وفي (ح) و (م): يطلع.
(4) الأنسب أن يقال: تَراكَبَ، أي: وضع بعضَه على بعض، كـ “تراكم” وزنًا ومعنىً.
انظر: “تاج العروس” (2/ 521، 526).
(5) في (ز) و (ك): غلب.
(1/472)
الثالث: حرارةٌ ضعيفةٌ ويُبْسٌ ضعيفٌ، كأبدان النِّساء.
ففي هذه الأقسام يقلُّ “الشَّعْر”، وأمَّا الشَّباب فإنَّ حرارةَ أبدانهم ويُبْسَها معتدِلٌ، فيقوى تولُّد “الشَّعْر” فيهم.
وفي”شَعْر الرأس” منافع ومصالح:
1 – منها وقايته عن الحر والبرد والمرض.
2 – ومنها الزِّينة والحُسْن.
والسبب الذي صار به “شَعْر الرأس” أكثر من “شَعْر البَدَن” أنَّ البُخَار شأنُه أن يصعد من جميع البدن إلى “الدِّماغ”، ومن “الدِّماغ” إلى فوق، فلذلك (1) كان هذا (2) “الشَّعْر” ناميًا على الدوام؛ لأنَّ البُخَار يتصاعد إلى “الرأس” أبدًا، وهو مادَّةٌ “للشَّعْر”. فَبِنَمَاء “الشَّعْر” ينمو البُخَار، وكان فيه تخليصٌ للبدن من تلك المواد، وتكثيرٌ لوقايته وغطائه.
فصل
وأمَّا شَعْر “الحاجِبَين” ففيه – مع الحُسْن والزِّينة والجَمَال – وِقايةُ “العَينَين” ممَّا ينحدر من “الرأس”.
وجُعِلَ على هذا المقدار، فلو نقص عنه لزالت منفعة الجَمَال والوقاية، ولو زاد عليه لغَطَّى “العينَ”، وأضرَّ بها، وحالَ بينها وبين ما تدركه.
__________
(1) ساقط من (ح) و (م).
(2) “هذا” ملحق بهامش (ك).
(1/473)
وقد ذكرنا منفعة شَعْر “الهُدْب” (1).
ولمَّا كان الأصلح والأنفع أن يكون شَعْر “الهُدْب” قائمًا منتصِبًا، وأن يكون باقيًا على حالٍ واحدٍ في مقدارٍ واحدٍ = جُعِلَ مَنْبَتُ هذا “الشَّعْر” في جِرْمٍ صُلْبٍ شبيهٍ بالغُضْرُوف، يمتدُّ في طُول “الجَفْن” لئلَّا يطول وينمو. وهذا كما نشاهد النَّبَات الذي ينبت في الأرض الرِّخْوَة اللَّيِّنَةِ كيف يطول ويزداد، والذي ينبت في الأرض الصخريَّة الصُّلْبة لا ينمو إلا نُمُوًّا يسيرًا. فكذلك (2) “الشَّعْر” النَّابِتُ في الأعضاء اللَّيِّنَةِ الرَّطْبَة، فإنَّه سريعُ النُّمو كشَعْر “الرأس” و”العَانَة”.
فصل
وأمَّا شَعْر “اللِّحْيَة” ففيه منافع:
1 – منها الزِّينة، والجمال (3)، والوقار، والهَيْبَة. ولهذا لا يُرَى على الصبيان والنِّساء والسِّنَاطِ (4) من الهَيْبَة والوقار ما يُرَى على ذوي اللِّحَى.
2 – ومنها التمييز بين الرجال والنِّساء.
فإن قيل: لو كان شَعْر “اللِّحْيَة” زينةً لكان النِّساء أولى به من الرجال، لحاجتِهنَّ إلى الزِّينة، وكان التمييزُ يحصل بخُلُوِّ الرجال منه،
__________
(1) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: البدن.
(2) تكررت مرتين في (ز).
(3) ساقط من (ح) و (م).
(4) “السِّنَاط” هو: الكَوْسَج الذي لا لحية له أصلًا. “مختار الصحاح” (338).
(1/474)
ولَكَان أهل الجنَّة أولى به، وقد ثبت أنَّهم جُرْدٌ مُرْدٌ (1) ؟
قيل: الجوابُ أنَّ النِّساء لمَّا كُنَّ مَحَلَّ الاستمتاع والتقبيل، كان الأحسن والأَوْلى خُلُوهُنَّ عن “اللِّحى”، فإنَّ مَحَلَّ الاستمتاع إذا خلا عن “الشَّعْر” كان أتمَّ.
ولهذا المعنى – والله أعلم – كان أهل الجنَّة مُرْدًا؛ ليكمُلَ استمتاعُ نسائهم بهم (2) ، كما يكمُلُ استمتاعُهم بهنَّ.
__________
(1) عن معاذ بن جبل – رضي الله عنه – أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “يدخل أهل الجنَّةِ الجنَّةَ جُرْدًا، مُرْدًا، مُكَحَّلينَ، أبناء ثلاثين أو ثلاثٍ وثلاثين سنة”.
أخرجه: أحمد في “المسند” (5/ 232 و 243)، والترمذي في “سننه” رقم (2545)، والبزار في “مسنده” رقم (2644)، والشاشي في “مسنده” رقم (1342)، والطبراني في “الكبير” (20/ 64) رقم (118)، وأبو نعيم في “صفة الجنَّة” رقم (257)، وغيرهم.
وفي إسناده: شَهْر بن حوشب، وهو ضعيف.
قال الترمذي: “حديث حسن غريب”.
لكن للحديث شواهد كثيرة من أحاديث: أبي هريرة، وابن عباس، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، والمقدام بن معد يكرب – رضي الله عنهم جميعًا -، فيرتقي الحديث إلى درجة الحسن، والله أعلم.
وقد حسنه: الهيثمي في “مجمع الزوائد” (10/ 398)، وأحمد شاكر في تعليقه على “المسند” رقم (8505)، وصححه – أيضًا – عند رقم (7920)، وصححه الألباني في “صحيح الجامع” رقم (8072).
قال العلامة السِّنْدي: “”جُرْدًا” جمع: أَجْرَد؛ وهو من لا شعر على جسده. و”مُرْدًا” جمع: أمْرَد؛ وهو من لا شعر على ذَقنه”.
(2) في (ك) و (ح) و (م): استمتاعهم بنسائهم، وفي (ز): استمتاعهنَّ بهم، وسقطت من (ط)، وما أثبته أوفق للمراد.
(1/475)
وأيضًا؛ فإنَّه أكشف لمحاسن الوجوه، فإنَّ “الشَّعْر” يستُرُ ما تحته من المحاسِن، فصَانَ الله محاسنَ (1) وجوهِهِم عمَّا يسترها.
وأيضًا؛ ليكمل استمتاعهم بنسائهم؛ فإنَّ “الشَّعْر” يمنع ما تحته من البَشَرَةِ أن يَمَسَّ بَشَرَةَ المرأة. والله أعلم بحكمته في خلقه.
فصل
وأمَّا شَعْر “العَانَة” و”الإبط” و”الأنف”؛ فمنفعته تنقية البدن عن الفَضْلَة، ولهذا إذا أُزِيلَ من هذه المواضعِ وجَدَ البدنُ خِفَّةً ونشاطًا، وإذا وَفَرَ وتُرِكَ (2) وجد البدنُ (3) ثِقَلًا وكَسَلًا وغمًّا.
ولهذا جاءت الشريعة بحَلْق “العَانَة”، ونَتْفِ “الإبِط”. وكان حَلْقُ “العَانَة” أولى من نَتْفِها لصَلَابة “الشَّعْر”، وتَأذِّي صاحبه بنتفه. وكان نَتْفُ “الإبِط” أولى من حَلْقه لضَعْف “الشَّعْر” هناك، وشدَّته وتَفَحُّلِهِ (4) بالحَلْق. فجاءت الشريعة بالأنفع في هذا وهذا.
فصل
وتأمَّلْ حكمة الرَّبِّ – تعالى – في كونه أخلَى “الكَفَّين” و”الجَبْهَة” و”الأَخْمَصَين” (5) من “الشَّعْر”. فإنَّ “الكَفَّين” خُلِقا حاكمين على
__________
(1) ساقط من (ح) و (م).
(2) ساقط من (ح) و (م).
(3) ساقط من (ح) و (م).
(4) في (ح) و (م): وتعجله.
(5) “الأَخْمَصان”: مثنَّى: الأَخْمَص، وهو ما جَفَا عن الأرض من باطن القَدَم، فلا =
(1/476)
الملموسات، فلو جُعِل “الشَّعْر” فيهما لأخَلَّ ذلك بالحكمة التي خُلِقا لها (1) .
وخُلِقا للقبض، وإلصاقُ اللَّحَم على المقبوض أعْوَنُ على جودته من التصاق “الشَّعْر” به.
وأيضًا؛ فإنَّهما آلة الأخذ، والعطاء، والأكل، ووجود “الشَّعْر” فيهما يُخِلُّ بتَمَامِ هذه المنفعة.
وأمَّا “الأَخْمَصَان” فلو نَبَتَ فيهما “الشَّعْر” لأضرَّ ذلك بالماشي، ولأَعَاقَهُ في المشي كثيرًا ممَّا كان يَعْلَقُ بشَعْره ممَّا على الأرض، ويتعلَّقُ شَعْرُه بما عليها أيضًا.
هذا مع أنَّ كثرةَ الأوتار والأغشية في “الكفَّين” مانعٌ من نفوذ الأَبْخِرَة فيها. وأمَّا في “الأخْمَصَين” فإنَّ الأَبْخِرَة تتصاعد إلى عُلُوٍّ، وكلَّما تصاعدت كان “الشَّعْر” فيه أكثر.
وأيضًا؛ فإنَّ في كثرة وَطْءِ الأرض بـ “الأَخْمَصَين” تصليبهما، ويجعل سطحهما أمْلَسَ لا ينبت شيئًا، كما أنَّ الأرض التي توطأ كثيرًا لا تنبت شيئًا.
وأمَّا “الجَبْهَة” فلو نبت “الشَّعْر” عليها لسَتَر محاسِنَها، وأظلم الوجه، وتدلَّى إلى “العَينَين”، فكان يحتاج إلى حَلْقه دائمًا، ومَنَعَ “العَينَين” من كمال الإدراك.
__________
= تصيبه الأرض إذا مشى الإنسان.
انظر: “خلق الإنسان” لابن أبي ثابت (323)، وللزجَّاج (101).
(1) العبارة في (ح) و (م) هكذا: فلو حصل “الشَّعْر” فيهما لأخلَّ بذلك.
(1/477)
والسبب المؤدِّي لذلك أنَّ الذي تحت عَظْم “الجَبْهَة” هو مُقَدَّمُ “الدِّمَاغ”، وهو باردٌ رَطْبٌ، والبُخَارُ لا يتحرَّك منحرِفًا إلى “الجبهة”، بل صاعدًا إلى فوق.
فإن قيل: فَلِمَ نَبَتَ شَعْر الصبيِّ على رأسه وحاجبيه وأجفانه معه في الصِّغَر دون سائر الشُّعُور؟
قيل: لشدَّةِ الحاجة إلى هذه الشُّعُور الثلاثة أوجَدَها الله – سبحانه – معه وهو جنينٌ في بطن أُمِّه، فإنَّ شَعْر “الرأس” كالغِطَاءِ الواقي له من الآفات، و”الأهدابَ” و”الأجفانَ” وِقايةٌ “للعين”.
فإن قيل: فَلِمَ لَمْ تنبت له “اللِّحْيَةُ” إلا بعد بلوغه؟
قيل: لأنَّه عند البلوغ تجتمع الحرارة في بدنه، وتكون أقوى ما هي. ولهذا يَعْرِضُ له في هذا الطَّوْر: “البَثَرَات” (1)، و”الدَّمَاميل” (2)، وكثرة الاحتلام.
وإذا قويت الحرارة كثُرَت الأَبْخِرَةُ بسبب التحلُّل، وزادت على القَدْر المحتاج إليه في شَعْر “الرأس”، فَصَرَفَها أحكمُ الحاكمين إلى نبات “اللِّحْيَة” و”العَانَة”.
وأيضًا؛ فإنَّ بين أوعية “المَنِيِّ” وبين “اللِّحْيَة” ارتباطًا؛ إذ العُرُوق
__________
(1) “البَثرَات”: جمع بَثْرة، وهو خُرَّاج صغير يظهر من تنفُّط الجلد.
انظر: “مختار الصحاح” (53)، و”المصباح المنير” (49 – 50).
(2) “الدماميل”: جمع دُمَّل، ويجمع – أيضًا – على: دَمَامِل، وهو القُرُوح المعروفة.
انظر: “مختار الصحاح” (231)، و”المصباح المنير” (271).
(1/478)
والمجاري مُتَّصلةٌ بينهما، فإذا تعطَّلت أوعية “المَنِيِّ” ويَبِسَتْ تعطَّل شَعْر “اللِّحْيَة”، وإذا قَلَّت الرُّطُوبة والحرارة هناك قَلَّ شَعْرُ “اللِّحْيَة”؛ ولهذا فإنَّ الخِصْيَان (1) لا ينبت لهم “لحَىً” (2).
فإن قيل: فما العِلَّةُ في “الكَوْسَج” (3)؟
قيل: بَرْدُ مِزَاجِهِ، ونُقصَانُ حَرَارته.
فإن قيل: فما السبب في “الصَّلَع” (4)؟
قيل: عدم احتباس الأَبْخِرَة في موضع الصَّلَع.
فإن قيل: فَلِمَ كان في مُقَدَّم “الرأس” دون جوانبه ومُؤَخَّرِهِ؟
قيل: لأنَّ الجُزْءَ المقدَّمَ من “الرأس” بسبب رُطُوبة “الدِّمَاغ” يكون أكثر لِينًا وتحلُّلًا، فتَتَحَلَّلُ الفَضَلَاتُ التي يكون منها “الشَّعْر” (5)، فلا يبقى “للشَّعْر” مادَّةٌ هناك.
فإن قيل: فَلِم لَمْ يحدث في “الأصْدَاغ” (6)؟
__________
(1) “الخِصْيَان”: جمع خَصِيّ، يقال: خَصَيْتُ الفَحْل أَخْصِيه خِصَاءَ؛ إذا سَلَلْتَ خُصْيَيْهِ. “مختار الصحاح” (197).
(2) في (ز): لا تنبت لها اللحى.
(3) “الكَوْسَج”: فارسيٌّ معرَّبٌ، وهو “الثَّطُّ” الذي عَرِيَ وجهه من الشَّعْر إلا طاقاتٍ في حَنَكِهِ. “خلق الإنسان” للسيوطي (236).
(4) “الصَّلَع”: انحسار الشَّعْر من مقدَّم الرأس إلى اليَافُوخ، ويقال: رجلٌ أَصْلَع.
انظر: “مختار الصحاح” (391)، و”خلق الإنسان” للسيوطي (188).
(5) في (ز) و (ك) و (ط): الشعور.
(6) “الأَصْدَاغ”: جمع صُدْغ، وهو ما بين العين والأذن، وكذلك الشَّعْر المتدلي عليها يسمَّى: صُدْغًا. “مختار الصحاح” (382).
(1/479)
قيل: لأنَّ الرُّطُوبةَ في الأسافل أكثر منها في الأعالي. وشاهِدُهُ في الأرض العالية والمُنْخَفِضَة.
فإن قيل: فَلِمَ لَمْ تَصْلَع المرأة إلا نادرًا، وكان الصَّلَع (1) في الرجال أكثر؟
قيل: لأنَّ الصَّلَعَ (2) يحدُثُ من يُبْسٍ في الجلد، بمنزلة احتراقه، وذلك لقوَّة الحرارة. و [أمَّا] (3) النِّساء فالرُّطُوبة والبُرُودَة أغلب عليهنَّ؛ ولهذا جُلُودهُنَّ أَرْطَبُ من جلود الرجال، فلا تَجِفُّ جلود رؤوسهنَّ، فلا يعرض لَهُنَّ الصَّلَع. ولهذا لا يعرض للصِّبْيَان، ولا الخِصْيَان (4). وإن عَرَضَ للمرأة صَلعٌ فذلك في سِنِّ يأسِها، وبلوغها من الكِبَرِ عِتِيًّا.
فإن قيل: فما السبب في شِدَّةِ سَوَاد “الشَّعْر”؟
قيل: شدَّة البُخَارَات الخارجة من البدن واعتدالُها، وصِحَّةُ مادَّتها كَخُضْرَةِ الزَّرْع.
فإن قيل: فما سبب “الصُّهُوبَة” (5)؟
قيل: بَرْدُ المِزَاج، فَتَضْعُفُ الحرارة عن صَبْغ “الشَّعْر”
__________
(1) ساقط من (ط)، وفي بقية النسخ: الأصلع، والأنسب ما أثبته.
(2) في جميع النسخ: الأصلع! والأنسب ما أثبته.
(3) زيادة تناسب السياق.
(4) “ولا الخِصْيَان” ساقط من (ح) و (م).
(5) “الصُّهُوبَة”: حُمْرَةٌ تَعْلُو الشَّعْرَ وأصوله سُودٌ، وإذا كان أحمرَ كلُّه فهو: أَصْهَب.
انظر: “خلق الإنسان” لابن أبي ثابت (87 – 88)، وللسيوطي (192).
(1/480)
وتسويده (1).
فإن قيل: فما سبب (2) الشُّقْرَةِ والحُمْرَةِ؟
قيل: زيادةُ الحرارة، فتَصْبَغُ “الشَّعْر”، ولهذا تجد الأَشْقَر أشدَّ حرارةً، وأكثر حركةً وهِمَّةً.
فإن قيل: فما سبب البياض في “الشَّعْر” (3)؟
قيل: البياضُ نوعان:
أحدهما: طبيعيٌّ، وهو الشَّيْبُ.
والثاني: خارجٌ عن الطَّبيعة، وهو ما يوجد في أواخر الأمراض المُجَفَّفَة (4) بسبب تحلُّل (5) الرُّطُوبات، كما يعرض للنَّبَات عند الجَفَاف.
فإن قيل: فما سببُ الطَّبيعي؟
قيل: اختُلِفَ في ذلك:
فقالت طائفةٌ: سببه الاستحالةُ إلى لون “البَلْغَم”، بسبب ضعف الحرارة في أبدان الشيوخ.
وقالت طائفةٌ: سببه أنَّ الغذاء الصائر إلى “الشَّعْر” يصير باردًا،
__________
(1) هذا الجواب وسؤاله ساقط برمته من (ز) و (ط).
(2) من قوله: “الصُّهُوبة؟ قيل:. . .” إلى هنا؛ ملحق بهامش (ك).
(3) “في الشَّعْر” ساقط من (ح) و (م).
(4) في (ز): المخففة، وفي (ك): المحققة!
(5) في (ز) و (ك) و (ط): تحليل.
(1/481)
بسبب نقصان الحرارة، ويكون بطيء الحركة مُدَّةَ نُفُوذه إلى المَسَامِّ.
وأصلحت طائفةٌ بين القولين، وقالوا: العِلَّةُ في الأمرين واحدةٌ، وسببهما نقصان الحرارة.
فإن قيل: فَلِمَ اختصَّ الشَّيْبُ بالإنسان من بين سائر الحيوان؟
قيل: لَحْمُ الإنسان وجِلْدُه رِخْوٌ لَيِّنٌ، وجلودُ الحيوانات ولحومُها أقوى وأَصْلَبُ، فلمَّا غَلُظَتَ مادَّةُ “الشَّعْر” فيها لم يعرض لها ما يعرض “لشَعْر” الإنسان. ولهذا يكون شَعْرها كلُّها معها من حين ولادتها، بخلاف الإنسان.
وأيضًا؛ فإنَّ الإنسان يستعمل المَطَاعِمَ المركَّبة المتنوِّعَة، وكذا المَشَارِبَ، ويتناول أكثرَ من حاجته، فتجتمع فيه فَضَلاتٌ كثيرةٌ، فتدفعها الطبيعة إلى ظاهر البدن، فما دامت الحرارة قوية فإنَّها تَقْوَى على إحراق تلك الفضلات، فيتولَّدُ من إحراقها: “الشَّعْر” الأسود. فإذا بلغ الشيخوخة ضعفت الحرارة، وعجزت عن إحراق تلك الفضلات، فتعمل فيها عملًا ضعيفًا.
وأمَّا سائر الحيوانات فلا (1) تتناول الأغذية المركَّبة، وتتناول منها على قدر الحاجة، فلا يَشِيبُ شَعْرها كما يشيب شَعْر الإنسان.
وأيضًا؛ فإنَّ في زَمَن الشيخوخة يكون الإنسان (2) أقلَّ حرارةً، وأكثَر رطوبةً فيتولَّد الخِلْط، و [أمَّا] (3) الحيوانات فاليُبْسُ غالبٌ عليها.
__________
(1) ساقط من (ز).
(2) ساقط من (ح) و (م).
(3) زيادة تناسب السياق.
(1/482)
فإن قيل: فَلِمَ كان (1) شَيْبُ “الأَصْدَاغ” في الأكثر مُتَقدِّمًا على غيره؟
قيل: لقُرْب هذا الموضع من مُقَدَّم “الدِّماغ”، والرُّطُوبة في مُقَدَّم “الدِّماغ” كثيرةٌ، لأنَّ الموضعَ مَفْصِلٌ، والمَفْصِلُ تجتمع فيه الفَضْلَةُ الكثيرةُ، فيكثر البَرْدُ هناك، فيسرع الشَّيْبُ.
فإن قيل: فَلِمَ أسرع الشَّيْبُ في شُعُور الخِصْيَان والنِّساء؟
قيل: أَمَّا النِّساءُ فَلِبَرْدِ مِزَاجِهِنَّ في الأصل، واجتماع الفضلات الكثيرة فيهنَّ. وأَمَّا الخِصْيَان فلِتَوَفُّر “المَنِيِّ” على أبدانهم يصير دَمُهُم غليظًا بَلْغَمِيًّا، ولهذا لا يحدث لهم الصَّلَع.
فإن قيل: فَلِمَ كان شَعْر “الإبِط” لا يَبْيَضُّ؟
قيل: لقوَّة حرارة هذا الموضع؛ بسبب قربه من “القلب”، ومَسَامُّه كثيرةٌ فلا يبقى فيه كثرةٌ بَلْغَمِيَّةٌ؛ لأنَّها (2) تتحلَّل بالعَرَق الدائم.
فإن قيل: فَلِمَ أَبْطَأ بياضُ شَعْر “العَانَة”؟
قيل: لأنَّ حركة الجماع تُحَلِّلُ “البَلْغَم” الذي في مَسَامِّه.
فإن قيل: فَلِمَ كانت الحيوانات تتبدَّلُ شُعُورُها كُلَّ سَنَةٍ، بخلاف الإنسان؟
قيل: لضعف شُعُورها عن الدوام والبقاء، بخلاف شَعْر الآدَمِيِّ.
__________
(1) بعدها في (ح) و (م) زيادة: سبب.
(2) بعدها في (ز) زيادة: لا! وهي تفسد المعنى.
(1/483)
فإن قيل: فما سبب الجُعُودَة والسُّبُوطَة (1)؟
قيل: أمَّا الجُعُودة فمن شِدَّة الحرارة، أو من التِوَاءِ المَسَامِّ، فالذي من شدَّة الحرارة فإنَّه تعرض منه الجُعُودة كما تعرض “للشَّعْر” عند عرضه على النَّار. وأمَّا الذي لالتِوَاءِ المَسَامِّ فَلأنَّ البُخَار لِضَعْفه (2) لا يقدر أنْ ينفُذَ على الاستقامة فَيَلْتَوِي في المنافذ، فتحدث الجُعُودَة.
فإن قيل: فما السبب في طول شَعْر الميت وأظفاره بعد موته إذا بَقِي مدَّةً؟
قيل: عنه جوابان:
أحدهما: أنَّها لا تطول، ولكن لمَّا قُبِضَ (3) ما حولها يُظَنُّ أنَّها طالت (4) وزادت.
الثاني – وهو أصوب -: أنَّ ذلك الطُّول من الفضلات البُخَاريَّةِ التي تتحلَّل وَهْلَةً من جنس (5) جسد الميت، فيمتدُّ معها “الشَّعْر” و”الظُّفُر”.
فإن قيل: فَلِمَ كان المريضُ – وخاصَّةً المَحْمُوم – ينقص لحمه، ويزيد شَعْره وظفره؟
__________
(1) “الجُعُودَة” مصدر جَعُد الشَّعْر، إذا كان فيه التواءٌ وتقبُّض. و”السُّبُوطَة” في الشَّعْر: سهولته واسترساله. “المصباح المنير” (140) و (359).
(2) في (ح) و (م): يضعفه.
(3) في (ح) و (م): ينقص.
(4) ساقط من (ح) و (م).
(5) من (ح) و (م) وألحقت بهامش (ك)، وسقطت من باقي النسخ، وسقط “جسد” من (ح) و (م).
(1/484)
قيل: إنَّ في المَرَض تكثر الفضلات، فتتكوَّن “الشُّعُور” و”الأظفار” فيها، ويَقِلُّ الغذاءُ فيذوب اللَّحم. وأمَّا في الصحَّة فتقلُّ الفَضَلاتُ فلا تحتاج الطبيعة إلى الغذاء وهَضْمِها له، وإذا قلَّت الفَضْلةُ نفدت مادَّةُ، “الشَّعْر”، فيبطئ عن السرعة في النَّبَات (1).
فإن قيل: فما العِلَّة في انتصاب شَعْر الخائف والمَقْرُور (2)، حتَّى يبقى كشَعْر القُنْفُذ؟
قيل: العلَّةُ فيه أنَّ الجلد ينقبض وتجتمع المَسَامُّ على “الشَّعْر” وتتضايق عليه فينتصب.
فإن قيل: فَلِمَ انتصب شَعْر البدن و”اللِّحْية” دون شَعْر “الرأس”؟
قيل: لأنَّ جلدةَ “الرأس” كثيفةٌ أكْثَفَ من جلدة البدن فلا تنقبض انقباض جلدة البدن، على أنَّ شَعْر “الرأس” – أيضًا – يَنْتَصِب كذلك، وإن كان دون انتصاب شَعْر البدن و”اللِّحْية”.
فإن قيل: فَلِمَ كان كثرةُ الجماع تزيد في شَعْر “اللِّحْية” والجسد، وتنقص من شَعْر “الرأس” و”الأجفان”؟
قيل: لأنَّ “الشَّعْر” فيه ما يكون طبيعيًّا من أَوَّل الخِلْقة – كـ “اللِّحية” وسائر شَعْر البدن – (3).
__________
(1) “عن السرعة في النَّبات” ساقط من (ح) و (م).
(2) “المَقْرُور”: مَنْ أصيب بالبرد، فيرتجف بدنه من شدَّته، والقَرُّ: البَرْدُ.
انظر: “مختار الصحاح” (554)، و”المصباح المنير” (681).
(3) كذا في جميع النسخ! ولا يستقيم؛ لأنَّ شَعْر اللِّحْية ونحوه لا يكون من أَوَّل الخِلْقة، ثم إنه أجاب بالتفصيل: الأول فالثاني، وهنا لم يذكر إلا مثال الثاني =
(1/485)
والأوَّل: يكون من قوَّة الحرارة الأصليَّة.
والثاني: من قوَّة الحرارة الخارجيَّة، فلا جَرَمَ نقصت بسببه “الشُّعُور” الأصليَّة، وقويت “الشُّعُور” (1) العَرَضِيَّة.
فإن قيل: فَلِمَ كان “الشَّعْر” في الإنسان في الجُزْءِ المقدَّم أكثر منه في الجُزْءِ (2) المُؤَخَّر، وباقي الحيوانات بالعكس؟
قيل: لأنَّ “الشَّعْر” إنَّما يكون حيث تكون الحرارةُ قويَّةً، ويكون تَحَلْحُل الجلد أكثر، وهذا في الإنسان في ناحية “الصَّدْرِ” و”البَطْنِ”، وأمَّا جلدة “الظَّهْر” فمتكاثفة.
وأمَّا ذوات (3) الأربع ففي الخَلْف شعورها أكثر؛ لأنَّ البُخَارَ فيها يَرْقَى إلى الخَلْفِ، وأنَّ تلك المواضع هي التي تَلَقَّى الحَرَّ والبردَ، فتحتاج إلى وِقَاءٍ أكثر.
فإن قيل: فَلِمَ كان “الرأسُ” بـ “الشَّعْر” أحقَّ الأعضاء، ونَبَاتُه عليه أكثر؟
قيل: لأنَّ البُخَار يتصاعد، ويطلب جهة العُلُوِّ إلى فَوْق (4)؛ وهو
__________
= فقط، فظهر أنَّ في الكلام سقطًا، ولعل تمامه هكذا:
“لأنَّ الشَّعْر فيه ما يكون طبيعيًّا من أول الخِلْقة – كشَعْر الرأس والأجفان -، وفيه ما يكون متولِّدًا بعد ذلك – كاللِّحْية وسائر شَعْر البدن -“.
(1) ساقط من (ح) و (م).
(2) ساقط من (ح) و (م).
(3) ساقط من (ز) و (ط) و (ك).
(4) في (ز) و (ك) و (ح) و (م): جهة الفوق. وسقطت كلمة “جهة” من (ط).
(1/486)
“الرأس”.
ولا تَسْتَطِلْ هذا الفصل؛ فإنَّ أمر “الشَّعْر” من السَّمِّيَّات (1) والفَضَلات وهذا شأنه، فما الظَّنُّ بغيره من الأجزاء الأصليَّة؟
فإذا كانت هذه قليلًا من كثيرٍ (2) من حكمة الرَّبِّ – تعالى – في “الشُّعُور”، ومواضعها، ومنافعها؛ فكيف بحكمته في: “الرأس”، و”القلب”، و”الكبد”، و”الصَّدْر”، وغيرها؟
ولا تَضْجَر من ذلك، فإنَّ الخَلْقَ فيه من الفقه والحِكَمِ نظيرُ ما في الأمر، فالرَّبُّ – تعالى – حكيمٌ في خَلْقه وأمره، ويُحِبُّ من يَفْقَهُ عند ذلك، ويستدلَّ به عليه (3) وعلى كمال حكمته، وعلمه، ولُطْفِه، وتدبيره، فإذا كان الرَّبُّ – تعالى – لم يَضَعْ هذه الفضلات في الإنسان سُدَىً فما الظنُّ بغيرها؟
ونحن نذكر فصلًا مختصرًا في حال الإنسان من مبدئه إلى نهايته؛ لنجعله مرآةً له ينظر فيها قولَ خالقه وبارئه ومُصَوِّره: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) } [الذاريات: 21].
__________
(1) في (ك) و (ح) و (م): السمّات. وجاء في هامش (ك): “السُّمُومات” كالتفسير لمعنى الكلمة.
(2) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: كثيره.
(3) “به عليه” ساقط من (ح) و (م).
(1/487)
فصل
لمَّا اقتضى كمال الرَّبِّ – جَلَّ جلاله – وقدرتُه التامَّة، وعلمه المحيط، ومشيئته النافذة، وحكمته البالغة، تنويعَ (1) خلقه من المَوَادِّ المتباينة، وإنشَاءَهُم في الصُّوَر المختلفة، والتبايُنَ العظيم بينهم في المَوَادِّ، والصُّوَر، والصِّفَات، والهيئات، والأشكال، والطبائع، والقوى = اقتضت حكمتُه أن أخذ من الأرض قبضةً من ترابٍ (2)، ثُمَّ ألقى عليها الماء، فصارت مثل (3) “الحَمَأ المَسْنُون” (4)، ثُمَّ أرسل
__________
(1) في (ز) و (ك) و (ط): بتنوع، وما أثبته من (ح) و (م).
(2) عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إِنَّ الله – عزَّ وجلَّ – خلقَ آدمَ من قَبْضَةِ قبَضَها من جميع الأرض، فجاء بنو آدمَ على قَدْرِ الأرض؛ جاء منهم الأبيضُ والأحمرُ والأسودُ وبين ذلك، والخبيثُ والطيِّبُ، والسَّهْلُ والحَزْنُ، وبين ذلك”.
أخرجه: عبد الرزاق في “التفسير” (1/ 43)، وأحمد في “المسند” (4/ 400 و 407)، وأبو داود في “سننه” رقم (4693)، والترمذي في “سننه” رقم (2955)، وعبد بن حميد في “المنتخب” رقم (548)، وابن حِبَّان في “صحيحه” رقم (6160 و 6181)، والحاكم في “المستدرك” (2/ 261)، والبيهقي في “السنن الكبرى” (9/ 3) وغيرهم.
قال الترمذي: “هذا حديثٌ حسنٌ صحيح”، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
وانظر: “السلسلة الصحيحة” رقم (1630).
(3) ساقط من (ز).
(4) “الحَمَأُ” والحَمْأَةُ: طِينٌ أسودٌ مُنْتِنٌ. و”مَسْنُون” أي: متغيِّر.
انظر: “مفردات الراغب” (259 و 429).
(1/488)
عليها الرِّيح فجَفَّفَها، حتَّى صارت صَلْصَالًا (1) كالفَخَّار، ثُمَّ قَدَّرَ لها الأعضاء، والمنافذ، والأوصال، والرِّبَاطَات (2) ، وصوَّرها فأبدع في تصويرها، وأظهرها في أحسن الأشكال، وفصَّلَها أحسن تفصيل، مع اتصال أجزائها، وهَيَّأَ كُلَّ جزءٍ منها لما يُراد منه، وقدَّرَهُ لما خُلِقَ له على أبلغ الوجوه، ففصَّلَها في توصُّلِها، وأبدع في تصويرها وتشكيلها، والملائكةُ تراها ولا تعرف ما يُراد منها، وإبليس يُطِيفُ بها (3) ، ويقول: لأمْرٍ ما خُلِقَتْ!
فلمَّا تكامل تصويرُها وتشكيلُها، وتقديرُ أعضائها وأوصالها، وصار جسدًا مصوَّرًا مُشَكَّلًا كأنَّه ينطق، إلا أنَّه لا رُوحَ فيه ولا حياة = أرسلَ إليه رُوحَه، فنفخ فيه نفخةً، فانقَلَبَ ذلك الطينُ اليابِسُ (4) : لحمًا، ودمًا، وعظامًا، وعروقًا، وسمعًا، وبصرًا، وشَمًّا، ولَمْسًا، وحركةً، وكلامًا.
فأَوَّلُ شيءٍ بدأ به أن قال: “الحمدُ لله ربِّ العالمين”، فقال له خالقُه وبارئه ومصوِّرُهُ: “يرحمك ربُّكَ يا آدم” (5) . فاستوى جالسًا أجملَ
__________
(1) “الصَّلْصَال”: الطينُ الجافُّ. وقيل: المُنْتِنُ من الطين.
انظر: “مفردات الراغب” (488).
(2) في (ح) و (م): والرطوبات.
(3) أخرج مسلم في “صحيحه” رقم (2611) من حديث أنس – رضي الله عنه -: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “لمَّا صوَّر اللهُ آدمَ في الجَنَّة تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليسُ يُطِيفُ به، ينظر ما هُوَ! فلمَّا رآهُ أجْوَف عرفَ أنه خُلِقَ خَلْقًا لا يَتَمَالك”.
(4) ساقط من (ح) و (م).
(5) كما جاء في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “لمَّا =
(1/489)
شيءٍ وأحسنَهُ منظرًا، وأتمَّهُ خَلْقًا، وأبدَعَهُ صورةً.
فقال الرَّبُّ – تعالى – لجميع ملائكته: “اسجُدوا له”، فبادروا بالسجود؛ طاعةً لأمر الواحد المعبود، وتعظيمًا له. ثُمَّ قيل لهم: لَنَا في هذه القبضة من التراب سِرٌّ أبدَع ممَّا تَرَون، وجمالُ باطِنٍ أحسنُ ممَّا تُبصرون. فَلَنُزَيِّنَنَّ باطِنَهُ بأحسنَ من زينة ظاهره، ولنَجْعَلنَّهُ من أعظم آياتنا، نُعَلِّمُه أسماءَ كُلِّ شيءٍ ممَّا (1) لم تحسنه الملائكة.
فكان التعليمُ زينةَ الباطن وجماله، وذلك التصويرُ زينة الظاهر، فجاءَ أكمَلَ شيءٍ وأجمَلَهُ صورةً ومعنىً، وذلك كلُّه صُنْعُه – تبارك وتعالى – في قبضةٍ من تراب.
ثُمَّ اشتقَّ منه صورةً هي مثله في الحُسْن والجمال، ليَسْكُن إليها، وتَقَرَّ نفسُه بها، وليُخْرِجَ من بينهما من لا يُحصَى عدَدُهُ من الرجال
__________
= خلق اللهُ آدمَ ونفَخَ فيه الرُّوح: عَطَسَ، فقال: الحمد للهِ، فحمِدَ الله بإذن الله، فقال له ربُّه: يرحمك ربُّك يا آدم … الحديث”.
أخرجه: الترمذي في “سننه” رقم (3368)، والنَّسائي في “عمل اليوم والليلة” رقم (218 – 220)، وأَبو يعلى في “مسنده” رقم (6580)، وابن حبَّان في “صحيحه” رقم (6167)، والحاكم في “المستدرك” (1/ 64) و (4/ 263)، والبيهقي في “السنن الكبرى” (10/ 147) وغيرهم.
قال الترمذي: “هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه”، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وعزاه ابن كثير في “البداية والنهاية” (1/ 202) إلى: البزار، وقال: “وهذا الإسناد لا بأس به، ولم يخرجوه”.
وصححه الألباني في “صحيح الترمذي” رقم (2683)، وفي “المشكاة” رقم (4662).
(1) في جميع النسخ: ما، وما أثبته أنسب للسياق.
(1/490)
والنِّساء سواه.
فصل
ثُمَّ (1) لمَّا أراد الله – سبحانه – أن يَذْرَأَ نسلهما (2) في الأرض ويُكَثِّرَهُ؛ وضَعَ فيهما حرارة الشهوة ونار الشوق والطلب، وأَلْهَمَ كلًّا منهما اجتماعه بصاحبه، فاجتمعا على أمرٍ قد قُدِر. فاسمع الآن عجائب ما هنالك:
لمَّا شاء الرَّبُّ – تعالى – أن يُخرج نسخةَ هذا الإنسان منه؛ أودع جسده حرارةً، وسلَّطَ عليه هَيَجَانها، فصارت شهوةً غالبةً، فإذا هاجت حرارةُ الجسد تحلَّلت الرُّطُوبات من جميع أجزاء الجسد، وابتدأتْ نازِلَةً من خلف “الدِّمَاغ”، في عروقٍ خلف “الأُذُنين” إلى فَقَارِ “الظَّهْر”، ثُمَّ تخرج إلى “الكُلْيَتين”، ثُمَّ تُجمع (3) في أوعية “المَنِيِّ”، بعد أن طبختها نار الشهوة وعَقَدَتْها حتَّى صار لها قَوَامٌ وغِلَظٌ، وقصَرَتها حتَّى ابيضَّت، وقدَّر لها مجاريَ وطرقًا تنفذ فيها.
ثُمَّ اقتضت حكمته – سبحانه – أن قدَّر لخروجها (4) أقوى الأسباب المستفرِغة لها من خارجٍ ومن داخلٍ، فقيَّضَ لها صورةً حسَّنَها في عين الناظر، وشوَّقَهُ إليها، وساق أحدهما إلى الآخر بسلسلة الشهوة والمحبة، فَحَنَّ كلٌّ منهما إلى امتزاجه بصاحبه، واختلاطه به، ليقضي
__________
(1) ساقط من (ز) و (ك) و (ط)، وأثبته من (ح) و (م).
(2) في (ز) و (ك): نسلها.
(3) في (ح) و (م): تجتمع.
(4) في جميع النسخ: بخروجها، وما أثبته أنسب للسياق.
(1/491)
الله أمرًا كان مفعولا. وجعل هذا مَحَلَّ الحَرْث، وهذا مَحَلَّ البَذْر، وقال القضاء والقدر: ليشتمل كلٌّ منكما على صاحبه؛ ليلتقي الماءان (1) على أمر قد قُدِر.
وقَدَّر بينهما تلك الحركات لتعمل الحرارة في تلك الرُّطُوبة والفَضْلة عملها، واستخرجَها (2) من تحت “الشَّعْر” و”البشَر” و”الظُّفُر”؛ لتوافق النسخةُ الأصلَ، ويكون الداعي إلى التناسل في غاية القوَّة، فلا ينقطع النَّسْل.
ولهذا لا تجد في مَنِيِّ الاحتلام من القوَّة ما في مَنِيِّ الجِماع، وإنَّما هو من فَضْلةِ حرارةٍ تذيب الرُّطُوبة، فتقذِفُها (3) الطبيعة إلى خارج، وذلك (4) من نوع تصوُّرِ خيالٍ بواسطة الشيطان، كما ثبت في “الصحيح” عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – أنَّه قال: “الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان” (5) .
فإن قيل: فهذا اختيارٌ منكم لقول من قال: إنَّ “المَنِيَّ” يخرج من جميع أجزاء البدن، وهذا وإن كان قد قاله كثيرٌ من النَّاس فقد خالفهم آخرون، وزعموا أنَّه فَضْلَةٌ تتولَّدُ من الطعام والشراب (6) ، وهي من أعدل الفَضَلات، ولهذا صَلُحَت أن تكون مبدأ الإنسان، وهو جسمٌ متشابه
__________
(1) في (ز) و (ك): الماء، وما أثبته من (ح) و (م).
(2) من (ك)، وفي باقي النسخ: واستخراجها.
(3) في (ز) و (ك): فنفذت فيها، وما أثبته من (ح) و (م).
(4) ساقط من (ح) و (م).
(5) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (3292) واللفظ له، ومسلم في “صحيحه” رقم (2261)، من حديث أبي قتادة الأنصاري – رضي الله عنه -.
(6) ساقط من (ح) و (م).
(1/492)
الأجزاء في نفسه؟
قيل: القول الأوَّل هو الصواب، ويدلُّ عليه وجوه:
منها عموم اللذَّة بجميع أجزاء البدن.
ومنها مشاكلة أعضاء المولود لأعضاء الوالدين.
ومنها المشابهة الكُلِّية؛ فدلَّ على أنَّ البدن كلَّه أرسل “المَنِيَّ”، ولولا ذلك لكانت المشابهة بحسب مَحَلٍّ واحدٍ. فدلَّ على أنَّ كلَّ عُضْوٍ قد أرسل (1) قِسْطَهُ ونصيبه، فلمَّا انعقد وصَلُبَ ظهرت محاكاته ومشابهته له.
ومنها أنَّ الأمر لو كان كما زعمه أصحاب المقالة الثانية، من أنَّ “المَنِيَّ” جسمٌ واحدٌ متشابهٌ في نفسه لم يتولَّد منه الأعضاء المختلِفَة المتشكِّلة بالأشكال المختلفة؛ لأنَّ القوَّةَ الواحدةَ لا تفعل في المادَّةِ الواحدة إلا فعلًا واحدًا، فدلَّ على أنَّ المادَّةَ في نفسها ليست متشابهة الأجزاء.
ومنها أنَّ “المَنِيَّ” فَضْل الهَضْم الآخر، وذلك إنَّما يكون عند نضج (2) “الدَّم” في العُرُوق، وصيرورته مستعدًّا استعدادًا تامًّا لأن يصير من جوهر الأعضاء.
وكذلك يحصل عقيب استفراغه من الضَّعْف أكثر ممَّا يحصل من استفراغ أمثاله من “الدَّم”، ولذلك يورث الضَّعْف في جوهر
__________
(1) من قوله: “المَنِيَّ” ولولا ذلك. . .” إلى هنا؛ ملحق بهامش (ح).
(2) في (ح) و (م): فَضْخ.
(1/493)
الأعضاء الأصليَّة. فدلَّ على أنَّه مركَّبٌ من أجزاء كُلٍّ منهما، قريبُ الاستعداد لأن يصير جزءًا من عضوٍ مخصوصٍ.
ولذلك سمَّاه اللهُ تعالى: “سُلَالَةً من ماءٍ” (1)، و”السُّلَالَة”: فُعَالَة من السَّلِّ؛ وهو ما يُسَلُّ (2) من البدن، كـ: النُّخَالَة، والنُّجَارَة (3).
كما سمَّى أصلَهُ: “سُلَالَةً من طينٍ” (4)؛ لأنَّه استلَّها من جميع الأرض، كما في “جامع الترمذي” عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: “إنَّ اللهَ خلق آدمَ من قَبْضَةٍ قَبَضَها من جميع الأرض” (5).
قال أصحاب القول الآخر – وهم جمهور الأطبَّاء وغيرهم -: لو كان الأمر كما زعمتم، وأنَّ “المَنِيَّ” يُسْتَلُّ من جميع الأعضاء، لكان إذا حصل مَنِيُّ الذَّكَر ومَنِيُّ الأنثى في “الرَّحِم” تشكَّلَ المولود بشَكْلِهما معًا، ولَكَانَ الرجلُ لا يَلِدُ إِلَّا ذكورًا دائمًا؛ لأنَّ “المَنِيَّ” قد استُلَّ – عندكم – من جميع أجزائه، فإذا انعقد وَجَبَ أن يكون مثله.
وأيضًا؛ فإنَّ المرأة تضع من وَطْءِ الرَّجُل في “البطن” الواحد ذكرًا
__________
(1) في قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)} [السجدة: 8].
(2) في (ك) و (ط): يسيل.
(3) تصحفت في (ز) و (ك) إلى: التجارة! وفي (ح) و (م): كالبخار والبخارة!!
“النُّخَالَة”: ما يخرج من غربلة الدقيق بالمُنْخُل. و”النُّجَارَة”: ما انْتَحَتَ عند النَّجْرِ.
انظر: “مختار الصحاح” (676)، و”القاموس” (617 و 1371).
(4) في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)} [المؤمنون: 12].
(5) سبق تخريجه (ص/ 488).
(1/494)
وأنثى، ولا يمكن أن يقال إنَّ ذلك بسبب اختلاف (1) أجزاء “المَنِيِّ”.
قالوا: ولا نُسلِّم عمومَ اللذَّة؛ لأَنَّها إنَّما حصلت حال الاندِفَاق (2) ، بسبب سيلان تلك المادَّة الحارَّة (3) على تلك المجاري اللَّحْميَّة التي لحمتها رِخْوَة (4) ، شبيهة باللَّحم القريب العهد بالانْدِمَالِ (5) ، إذا سال عليه [شيءٌ] (6) وهو معتدل السُّخُونة. و [لو] (7) كانت اللذَّة إنَّما حصلت بسبب سيلان (8) تلك المادَّة لحصلت قبل الاندِفَاق (9) .
قالوا: وأمَّا احتجاجُكم بالتشابه المذكور بين الوالد والمولود؛ فالمشابهة قد تقع في “الظُّفُر” و”الشَّعْر”، وليس يخرج منهما شيء.
وأيضًا؛ فالمولود قد يشبه جَدًّا بعيدًا من أجداده، كما ثبت في “الصحيح” عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: أنَّ رجلًا سأله، فقال: إنَّ امرأتي ولدت غلامًا أسود! قال: “هل لك من إبل؟ ” قال: نعم، قال “فما ألوانها؟ ” قال:
__________
(1) بعده في (ز) زيادة: المني، ولا مكان لها هنا. وهي موجودة في (ك) إلا أن الناسخ ضرب عليها تصحيحًا.
(2) “الانْدِفَاق”: الانْصِبَاب. يقال: دَفَقَ الماءَ؛ إذا صَبَّهُ، والتدفُّق: التَّصَبُّبُ.
انظر: “مختار الصحاح” (227).
(3) ساقط من (ك).
(4) العبارة في (ك) هكذا: لحمها رخْوٌ.
(5) “الانْدِمَال”: هو تماثُل الجرح للبُرْءِ والعافية. “مختار الصحاح” (231).
(6) زيادة يقتضيها السياق.
(7) زيادة يقتضيها السياق.
(8) في (ح) و (م): ساكن!
(9) في (ز) و (ك): الاندمال! وهو خطأ، وما أثبته من (ح) و (ط) و (م).
(1/495)
حُمْرٌ (1) ، قال: “هل فيها من أَوْرَق؟ ” قال: نعم، قال: “فأنَّى له ذلك؟ ” قال: عسى أن يكون نَزَعَهُ عِرْقٌ، قال: “وهذا عسى أن يكون نَزَعَهُ عِرْقٌ” (2) .
قالوا: ولو كان في “المَنِيِّ” من كلِّ عُضْوٍ جُزْءٌ، فلا تخلو تلك الأجزاء: إمَّا أن تكون موضوعةً في “المَنِيِّ” وضعها الواجب، أو لا تكون كذلك؛ فإن كانت موضوعةً وضعها الواسط كان “المَنِيُّ” حيوانًا صغيرًا، وإن لم تكن كذلك استحالت المشابهة.
قالوا: وأيضًا؛ فـ “المَنِيُّ” إمَّا أن يكون مركَّبًا على تركيب هذه الأعضاء وترتيبها، أو لا يكون كذلك.
فالأوَّلُ باطلٌ قطعًا؛ لأنَّ “المَنِيَّ” رطوبةٌ سَيَّالَةٌ فلا تحفظ الوضع (3) والترتيب. وإن كانت ثقيلةً؛ فتعيَّنَ الثاني.
ولا بدَّ – قطعًا – أن يُحَالَ ذلك الترتيب والتصوير والتشكيل على سببٍ آخر سوى القوَّة التي في المادَّة، فإنَّها قوَّةٌ بسيطةٌ لا شعور لها ولا إدراك، ولا تهتدي لهذه التفاصيل التي في الصورة الإنسانية، بل هذا التصوير والتشكيل مَرْجِعُهُ إلى خالقٍ عظيمٍ عليمٍ حكيمٍ؛ قد بَهَرَتْ حكمتُه العقولَ، ودلَّت آثارُ صنعته على كمال أسمائه وصفاته وتوحيده.
__________
(1) في جميع النسخ: سُود، والتصحيح من المصادر.
(2) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (5305، 6847، 7314)، ومسلم في “صحيحه” رقم (1500)، من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
“أَوْرَق”: بوزن: أَحْمَر؛ وهو الذي سواده ليس بحالك بل يميل إلى الغبرة. “الفتح” (9/ 352).
(3) في (ح) و (م): الموضع.
(1/496)
وقد اعترف بذلك فاضِلا الأطبَّاءِ، وهما: “بُقْرَاط” (1) ، و”أفلاطون” (2) . فَأَقَرَّا بأنَّ ذلك مستنَدُهُ إلى حكمة الصانع وعنايته، وأنَّه لم يصدر إلَّا عن خالقٍ حكيمٍ عليمٍ قديرٍ، ذكره “جالينوس” (3) عنهما في كتاب “رأي أبقراط وأفلاطون” (4) ، فأَبَى جهلَةُ الأطبَّاءِ وزنادقةُ المتفَلْسِفةِ والطبائعيين إلا كفورًا.
__________
(1) هو بُقراط بن إيراقلس، إمام الفلاسفة الصابئة، وسيد الطبائعيين في عصره، كان متألِّهًا ناسكًا، يعالج الناس حسبةً، سكن حمص من بلاد الشام، له تواليف في الطب كثيرة، عظيمة النفع، توفي سنة (357) قبل الميلاد على الأرجح.
انظر: “طبقات الأطباء والحكماء” لابن جُلْجُل (16)، و”تاريخ الحكماء” للقفطي (90)، و”عيون الأنباء” لابن أبي أصيبعة (43).
(2) هو أفلاطون بن أرسطون، أحد أساطين الحكماء الصابئة اليونانيين، ذو نسبٍ رفيعٍ من بيت علمٍ، عالم بالهيئة وطبائع الأعداد، صنف كتبًا كثيرة في الحكمة ذهب فيها إلى حدِّ الرمز والإغلاق، وهو الذي وضع لأهل زمانه سننًا وحدودًا، وكان يعلِّم الطلبة وهو ماشٍ فسُمُّوا بـ “المشَّائين”، توفي سنة (347) قبل الميلاد.
انظر: “طبقات الأطباء والحكماء” (23)، و”تاريخ الحكماء” (17)، و”عيون الأنباء” (79).
(3) هو الحكيم الفيلسوف الطبيعي اليوناني، إمام الأطباء في عصره، برع في الطب والفلسفة والعلوم الرياضية وهو ابن سبع عشرة سنة، ولم يسبقه أحدٌ إلى “علم التشريح”، وجدَّد علم “بقراط” وشرح كتبه وبَسَطها، توفي بصقلِّية سنة (200 م).
انظر: “طبقات الأطباء” (41)، و”تاريخ الحكماء” (122)، و”عيون الأنباء” (109).
(4) رتَّبه في عشر مقالات، وغرضه فيه أن يبيِّن أنَّ أفلاطون في أكثر أقاويله موافق لبقراط، وأن أرسطوطاليس قد أخطأ فيما خالفهما فيه.
انظر: “عيون الأنباء” (140).
(1/497)
وقد ثبت في “الصحيح” عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – من حديث حذيفة بن أَسِيد: “إنَّ اللهَ وكَّلَ بالرَّحِم مَلَكًا يقول: يا رَبِّ نُطْفَةٌ، يا رَبِّ عَلَقَةٌ، يا رَبِّ مُضْغَةٌ. فما الرزقُ؟ فما الأجلُ؟ فما العملُ؟ فيقضي الله ما شاء، ويكتب المَلَكُ” (1)، وفي لفظ: “يقول المَلَكُ الذي يَخلُقُها” (2) أي: يُصَوِّرُها (3) بإذن الله، أي: يُصوِّرُ خَلْقَهُ في “الأرحام” كيف يشاء الله، لا إله إلا هو العزيز الحكيم.
قال أصحاب القول الأوَّل: نحن أحقُّ بهذا التنزيه والتوحيد، ومعرفة حِكْمَةِ الخلَّاق العظيم وقدرته وعلمه، وأسعد به منكم.
ومن أَحَال من سفهائنا وزنادقتنا هذا التخليقَ على القوَّة المصوِّرة والأسباب الطبيعية، ولم يسندها إلى فاعلٍ مختارٍ عالمٍ بكلِّ شيءٍ، قادر على كلِّ شيءٍ، لا يكون شيءٌ إلا بإذنه ومشيئته، والقوَّةُ والطبيعة خَلْقٌ مُسَخَّرٌ من خلقه، وعبدٌ من جملة عبيده، ليس لها تصرُّفٌ، ولا حركةٌ،
__________
(1) أخرجه بهذا اللفظ: البخاري في “صحيحه” رقم (318، 3333، 6595)، ومسلم في “صحيحه” رقم (2646)، من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه -.
وأمَّا حديث حذيفة بن أَسِيد – رضي الله عنه – فسيأتي عند المؤلف ذكر لفظه في (ص/ 517).
(2) هو عند مسلم في “صحيحه” رقم (2645) من حديث حذيفة بن أَسِيد الغفاري – رضي الله عنه -، بلفظ:
“إنَّ النُّطْفةَ تقع في الرَّحم أربعين ليلةً، ثم يَتَصوَّرُ عليها المَلَكُ”، قال زهير – هو ابن حَرْب أبو خيثمة، أحد رواة الحديث -: حَسِبْتُهُ قال: الذي يَخْلُقُها. . . إلخ.
وفي لفظٍ: “. . . بعث الله مَلَكًا، فصوَّرها، وخَلَقَ سَمْعَها، وبَصَرها، وجِلْدَها، ولحْمَها، وعظامها،. . . إلخ”.
(3) في (ح) و (م): يُصيِّرها.
(1/498)
ولا فعلٌ إلا بإذن بارئها وخالقها = فذلك الذي جَهِلَ نفسَه وربَّه، وعادَى الطبيعة والشريعة.
والرَّبُّ – تعالى – يخلق ما يشاء ويختار، ويُصَوِّرُ خَلْقَهُ في “الأرحام” كيف يشاء، بأسبابٍ قَدَّرَها، وحِكَمٍ دَبَّرَها، وإذا شاء أن يَسْلُبَ تلك الأسباب قوَاها سَلَبَها، وَإِذا شاء أن يقطع أسبَابَها قطَعَها، وَإِذا شاء أن يُهَيِّءَ لها أسبابًا أخرى تقاومها وتعارضها فعَلَ؛ فإنَّه الفعَّالُ لما يريد. وليس في كون “المَنِيِّ” مُسْتَلًّا (1) من جميع أجزاء البدن ما يُخْرِجُهُ عن الحوالة على قدرته ومشيئته وحكمته، بل ذلك أبلغ في الحكمة والقدرة.
وأمَّا قولكم: لو كان “المَنِيُّ” مُسْتَلًّا (2) من جميع الأعضاء لكان الولد يتشكَّلُ بشكلهما معًا، فقد أجاب النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – عمَّنْ سأله عن ذلك بما شَفَى وكَفَى.
ففي “صحيح البخاري” (3) من حديث أنس – رضي الله عنه – قال: بَلغَ عبدَ الله بن سَلَام مَقْدَمُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المدينة، وهو في أرضٍ يَخْتَرِفُ، فأتَاهُ، وقال: إني سائلُك عن ثلاثٍ لا يعلمهنَّ إلا نبيٌّ: ما أَوَّلُ أشراط الساعة؟ وما أَوَّلُ طعامٍ يأكله أهلُ الجنَّة؟ ومن أيِّ شيءٍ يَنْزِعُ الولد إلى أبيه، ومن أيِّ شيءٍ يَنْزِعُ إلى أخواله؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “أخبرني بِهِنَّ آنفًا جبريل”، فقال عبدُ الله: ذاك عَدُوُّ اليهود من الملائكة، “أمَّا أَوَّلُ
__________
(1) في (ز) و (ك): مسيلا، وما أثبته من (ح) و (م).
(2) في (ز) و (ك): مسيلا، وما أثبته من (ح) و (م).
(3) رقم (3329، 3938، 4480).
و”يَخْتَرِف” أي: يجتني من الثمار. “الفتح” (7/ 296).
(1/499)
أشراط الساعة فَنَارٌ تحشُر النَّاسَ من المشرق إلى المغرب، وأمَّا أوَّلُ طعام يأكله أهل الجنَّة فزِيَادَةُ كَبدِ الحُوت، وأمَّا الشَّبَهُ في الولد فإنَّ الرَّجُل إذا غَشِيَ المرأةَ فَسَبَقَها ماؤُهُ كان الشَّبَهُ له، وإذا سَبَقَتْ كان الشَّبَهُ لها”، فقال: أشهد أَنَّكَ رسولُ الله.
فهذا جواب جبريل أمين ربِّ العالمين، لا “جبريل” الطبيب (1).
وفي “صحيح مسلم” (2) من حديث ثوبان عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: “إذا عَلَا ماءُ الرَّجُلِ ماءَ المرأةِ أَذْكَرَا بإذن الله، وإذا عَلَا ماءُ المرأةِ ماءَ الرَّجُلِ آنَثَا بإذن الله”.
وقد يَتَّفِقُ استواءُ (3) المائين في الإنزال والقَدْر وذلك من أندر الأشياء، فَيُخْلَقُ للولد ذَكَرٌ كَذَكَرِ الرَّجُل، وفرْجٌ كَفَرْجِ المرأة.
هذا (4)؛ وإنْ شاء اللهُ أن يُغَلِّب سلالةَ ماء الرَّجُل على ماء المرأة، أو سُلالتها على سُلَالته؛ أمر مَلَكَ الأرحام (5) بتصويره كذلك. فإنَّ ذلك لا يُخِلُّ بحكمةٍ، ولا يخرق عادةً، ولو خَرَقَها لم يُخِلَّ بحكمةِ أحكم
__________
(1) هو جبريل – ويقال: جبرائيل – بن بختيشوع بن جورجس النصراني، طبيب ماهر، ومُدَاوٍ بارعٌ، نَبغَ مبكرًا، وصار طبيبًا خاصًّا لجعفر بن يحيى البرمكي، ثم لهارون الرشيد، ولولديه الأمين والمأمون من بعده، وكان حظيًّا عندهم، توفي سنة (213 هـ).
انظر: “طبقات الأطباء” (64)، و”تاريخ الحكماء” (132)، و”عيون الأنباء” (187).
(2) رقم (315)، وفيه قِصَّة سيذكرها المؤلف (ص/ 512).
(3) ساقط من (ح) و (م)
(4) ساقط من (ح) و (م).
(5) ساقط من (ز).
(1/500)
الحاكمين.
وأمَّا منعكم عموم اللذَّة للبدن فشبيهٌ بالمكابرة، والمُجَامعُ يجد عند الإنزال شيئًا قد اسْتُلَّ من جميع بدنه وسمعه وبصره وقُواه، وأُفْرِغَ في قالَب “الرَّحِمِ”، فيُحِسُّ كأَنَّه قد خلع قميصًا كان مشتملًا به.
ولهذا اقتضت حكمة ربِّ العالمين في شرعه وقدره أنْ أَمَرَهُ بالاغتسال عقيب ذلك، لِيُخْلِف عليه الماءُ ما تحلَّل من بدنه المخلوق من ماءٍ، وإذا اغتسل وجد نشاطًا وقوَّةً، وكأَنَّه لم ينقص منه شيءٌ؛ فإنَّ رطوبة الماء تُخْلِفُ على البدن ما حلَّلَتْهُ تلك الحركة من رطوباته، وتعمل فيها الحرارة الأصليَّة (1) عملها، فتَمُدُّ بها القوى التي ضعُفَت بالإنزال.
وأمَّا التشابه الواقع بين “الظُّفُر” و”الشَّعْر” في الوالد والمولود، ولم ينفصل منهما (2) شيءٌ = فما أبردها من شبهةٍ؛ فإنَّ “الظُّفُرَ” و”الشَّعْرَ” تابعان للأعضاءِ والمِزَاجِ (3) الذي وقع فيه التشابه، فاسْتَتْبَع تَشَابُهُ الأصلِ تَشَابُهَ التَّبَع.
وأمَّا شبه المولود بالجَدِّ البعيد من أجداده فهو من (4) أقوى الأدلَّة لنا في المسألة؛ لأنَّ ذلك الشَّبَه البعيد لم يَزَلْ يُنْقَلُ في الأَصْلاب حتَّى استقرَّ في صورة الولد، وبها حصل الشَّبَهُ.
__________
(1) في (ز): الأصيلة!
(2) في جميع النسخ: بينهما، وما أثبته أنسب،
(3) مِزَاجُ البدن: ما رُكِّبَ عليه من الطبائع. “مختار الصحاح” (648).
(4) ساقط من (ك).
(1/501)
وأمَّا قولكم: إنَّ تلك الأجزاء لا تخلو: إمَّا أن تكون موضوعةً في “المَنِيِّ” وضْعَها الواجب أَوْ لا … إلى آخره، فجوابه: أنكم إنْ عَنَيتُم أنَّها موضوعةٌ بالفعل فليس كذلك، وإنْ أردتم أنَّها موضوعةٌ بالقوَّة فَنَعم. وما (1) المانع منه! ويكون “المَنِيُّ” حيوانًا صغيرًا بل كبيرًا بالقوَّة؟
وبهذا ظهر الجواب عن قولكم: إنَّ “المَنِيَّ” رطوبةٌ سيَّالَةٌ لا تحفظ الوضع (2) والترتيب. فغاية ما يقَدَّر أنَّ ذلك جزءٌ من أجزاء السبب الذي يخلق الله به الولد، وجزء السبب لا يستقلُّ بالحكم. فالمُسْتَقِلُّ بالإيجاد مشيئةُ الله وحده، والأسبابُ مَحَالُّ لظهور أثر المشيئة (3).
فصل
فإن قيل: هذا تصريحٌ منكم بأنَّ المرأة لها “مَنِيٌّ”، وأنَّ منها أحد الجزئين اللَّذَين يخلق الله منهما الولد. وقد ظنَّ طائفةٌ من الأطبَّاء أنَّ المرأة لا “مَنِيَّ” لها!
قيل: هذا هو السؤال الذي أوردته أُمُّ المؤمنين عائشة – رضي الله عنها -، وأُمُّ سلمة – رضي الله عنها – على النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، وأجابهما عنه بإثبات “مَنِيِّ” المرأة.
ففي “الصحيح” أنَّ أُمَّ سُلَيم – رضي الله عنها – قالت: يا رسول الله إنَّ الله لا يستَحْيي من الحقِّ، هل على المرأة من غُسْلٍ إذا هي احتَلَمت؟
__________
(1) في (ك): وأما، وهو خطأ.
(2) في (ح): الموضع، وفي (م): المواضع.
(3) العبارة في (ح) و (م) هكذا: والأسباب فحال الظهور أثر الشبه!
(1/502)
قال: “نعم، إذا رأَت الماءَ”، فقالت أُمُّ سَلَمة (1) : أوَ تَحْتَلِمُ المرأةُ؟ فقال: “تَرِبَتْ يَدَاكِ، فَبِمَ يُشْبِهُها ولدُها؟ ” (2) .
وفيهما عن عائشة – رضي الله عنها – أنَّ أُمَّ سُلَيم – رضي الله عنها – سألت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرَّجُل: هل عليها من غُسْلٍ؟ قال: “نعم، إذا رأت الماءَ”، قالت: فقلت لها: أُفٍّ [لكِ] (3) ، أَترَى المرأةُ ذلك؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “وهل يكون الشَّبَهُ إلَّا من ذلك؟ إذا عَلَا ماؤها ماءَ الرجل أَشْبَهَ الولدُ أَخْوَالَه، وإذا عَلَا ماءُ الرَّجُلِ ماءَها أشبه أَعْمَامَهُ” (4) لفظ مسلم.
وقد أكثَر “جالينوس” التشنيعَ على “أرسطاطاليس” (5) ، حيث
__________
(1) من (ح) و (م) موافقةً للمصادر، وفي باقي النسخ: أم سليم.
(2) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (130، 282، 3328، 6091، 6121)، ومسلم في “صحيحه” رقم (313)، من حديث أُمِّ سلمة – رضي الله عنها -.
(3) زيادة من المصادر.
(4) أخرجه مسلم في “صحيحه” رقم (314) من حديث عائشة – رضي الله عنها -.
وحديث عائشة لم يخرجه البخاري في “صحيحه”، وإنما اقتصر على حديث أُمِّ سلمة، فقول المؤلف هنا: “وفيهما عن عائشة” ممَّا يستدرك.
قال الحافظ: “وقد اتفق الشيخان على إخراج هذا الحديث من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه عنها – أي عن أم سلمة -، ورواه مسلم – أيضًا – من رواية الزهري عن عروة لكن قال: “عن عائشة”، وفيه أن المراجعة وقعت بين أم سُليم وعائشة، ونقل القاضي عياض عن أهل الحديث أنَّ الصحيح أنَّ القصة وقعت لأُم سلمة لا لعائشة، وهذا يقتضي ترجيح رواية هشام، وهو ظاهر صنيع البخاري،. . .” إلخ وفيه تتمةٌ مفيدة. “الفتح” (1/ 462).
(5) هو أرسطوطاليس بن نيقوماخس الفيثاغوري، ومعنى “أرسطوطاليس” أي: مدبر الحكمة، أو تامُّ الفضيلة، لازَمَ أفلاطون عشرين سنة وكان يسميه: =
(1/503)
قال: إنَّ المرأة لا “مَنِيَّ” لها! فَلْنُحرِّرْ هذه (1) المسألة طبعًا كما حُرِّرَت شرعًا؛ فنقول:
“مَنِيُّ” الذَّكَر من جملة الرُّطُوبات والفضلات التي في البدن، وهذا أمرٌ مُشتركٌ بين الذَّكَر والأنثى، وبواسطته يُخْلَق الولد، وبواسطته يكون الشَّبَه. ولو لم يكن للمرأة “مَنِيٌّ” لمَا أشْبَهَها ولدُها.
ولا يقال: إنَّ الشَّبَه بسبب دَمِ الطَّمْث، فإنَّه لا ينعقد مع “مَنِيِّ” الرَّجُل، ولا يَتَّحِدُ به، وقد أجرى الله – سبحانه – العادة بأنَّ التَّوَلُّدَ والتَّوَالُدَ لا يكون إلا بين أصلين يتولَّد من بينهما ثالثٌ. و”مَنِيُّ” الرَّجُل وحده لا يتولَّدُ منه الولد ما لم تمازِجْهُ مادَّةٌ أخرى من الأنثى.
وقد اعترف أرباب القول الآخر بذلك، وقالوا: لا بدَّ من وجود مادَّةٍ بيضاء لَزِجَةٍ للمرأة تصير مادَّةً لبدن الجَنين. ولكن نازعوا: هل فيها قوَّةٌ عاقِدةٌ، كما في “مَنِيِّ” الرَّجُل؟
وقد فَصَّلَ (2) النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – هذه المسألة في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في “صحيحه” (3) ، من حديث ثوبان مولاه، حيث سأله
__________
= “العقل”، انتهت إليه فلسفة اليونانيين، وهو خاتمة حكمائهم، وعن رأيه كان يصدر “الاسكندر المقدوني” في سياسة مملكته، توفي سنة (322) قبل الميلاد.
انظر: “طبقات الأطباء” (25)، و”تاريخ الحكماء” (27)، و”عيون الأنباء” (86).
(1) ساقط من (ز) و (ك) و (ط)، وأثبته من (ح) و (م).
(2) في (ح) و (م): أدخل!
(3) رقم (315)؛ وقد سبق تخريجه (ص/ 500).
(1/504)
اليهوديُّ عن الولد، فقال: “ماءُ الرَّجُلِ أبيضُ، وماءُ المرأة أصفر، فإذا اجتمعا؛ فَعَلَا مَنِيُّ الرَّجُلِ مَنِيَّ المرأةِ أذْكَرَا بإذن الله، وإذا عَلَا مَنِيُّ المرأةِ مَنِيَّ الرَّجُلِ آنَثَا بإذن الله”.
نعم؛ لِـ “مَنِيِّ” الرَّجُلِ خاصَّةُ الغِلَظِ والبياضِ، والخروجِ بدَفْقٍ ودَفْعٍ؛ فإن أراد مَنْ نَفَى “مَنِيَّ” المرأة انتفاءَ ذلك عنها أصاب.
ولِـ “مَنِيِّ” المرأة خاصَّةُ الرِّقَّةِ، والصُّفْرَةِ، والسَّيَلَان بغير دَفْعٍ؛ فإنْ نَفَى ذلك عنها أخطأ.
وفي كُلٍّ من الماءَين قوَّةٌ، فإذا انضَمَّ أحدُهما إلى الآخر اكتسَبَا قوَّةً ثالثةً هي من أسباب تكوُّن الجنين.
واقتضت حكمةُ الخلَّاق العظيم – سبحانه – أن جعل داخل “الرَّحِم” خَشِنًا كالإسفَنْجِ، وجعل فيه طلبًا “للمَنِيِّ” وقبولًا له، كطلب الأرض الشديدة العطش للماء وقبولها له، فجعله طالبًا حافظًا مشتاقًا إليه بالطَّبْعِ؛ فلذلك إذا ظَفِر به أَمْسَكَهُ ولم يُضَيِّعْهُ ويَزْلِقْهُ (1)، بل (2) يشتمِلُ عليه أتَمَّ اشتمالٍ، ويَنْضَمُّ عليه أعظم انضمامٍ، لئلَّا يفسده الهواءُ، فتتولَّى القوَّةُ والحرارةُ التي هناك وبإذن الله لمَلَكِ “الرَّحِم”: عَقْدَهُ، وطَبخَهُ أربعين يومًا كما يشاء، وفي تلك الأربعين يُجمَعُ خَلْقُه؛ فإنَّ “الرَّحِم” (3) إذا اشتمل على “المَنِيِّ” ولم يقذِفْهُ إلى خارجٍ استدار “المَنِيُّ”
__________
(1) ساقط من (ح) و (م). وزَلَقَهُ عن مكانه يَزْلِقُه: بعَّدَهُ ونَحَّاهُ. “القاموس” (1150).
(2) ساقط من (ز) و (ك)، وأثبته من (ح) و (م) و (ط).
(3) من قوله: “عَقْدَهُ، وطبخه أربعين يومًا. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ح) و (م).
(1/505)
على نفسه وصار كالكُرة، وأخذ في الشدَّةِ إلى تمام ستة أيام.
فإذا اشتدَّ نُقِطَ فيه نقطةٌ في الوسط، وهو موضع “القلب”، ونقطةٌ في أعلاه، وهي نقطة “الدِّمَاغ”، ونقطةٌ عن اليمين، وهي نقطة “الكبد”.
ثُمَّ تتباعد تلك النُّقَطُ ويظهر فيما بينها خطوطٌ حُمْرٌ (1) ، إلى تمام ثلاثة أيام أُخَر.
ثُمَّ تنفذ الدمويَّة (2) في الجميع بعد ستة (3) أيامٍ أُخَر، فيصير ذلك خمسة عشر يومًا، فتتميزُ الأعضاء الثلاثة – وهي: “القلب”، و”الدِّمَاغ”، و”الكبد” -، وتمتدُّ رطوبة “النُّخَاع”، وذلك يتمُّ باثني عَشَر يومًا، ويصير المجموع سبعةً وعشرين يومًا.
ثُمَّ ينفصل “الرأس” عن “المَنْكِبَين”، والأطراف عن “الضُّلُوع”، و”البطن” عن الجَنْبَين، وذلك في تسعة أيامٍ أُخَر، فيصير ستةً وثلاثين يومًا.
ثُمَّ يَتِمُّ هذا التمييز بحيث يظهر للحِسِّ ظهورًا بيِّنًا في تمام أربعة أيامٍ، فيصير المجموع أربعين يومًا؛ فيها يُجمَعُ خَلْقُه. وهذا مطابقٌ لقول النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – في الحديث المتفق على صحته -: “إِنَّ أحدَكُم يُجْمَعُ خَلْقُه في بَطْنِ أُمِّهِ أربعين يومًا” (4) .
__________
(1) في (ز) و (ك) و (ط) – وكذا في “الفتح” -: خمسة! ولا معنى لها هنا، وما أثبته من (ح) و (م).
(2) في (ز): الدمومية.
(3) “ستة” ملحق بهامش (ك).
(4) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (3208، 3332، 6594، 7454)، ومسلم =
(1/506)
ولقد كَفَى النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – بهذا الإجمال عن هذا التفصيل، وهذا يقتضي أنَّ اجتماع خَلْقه وقع في الأربعين الأُولَى، ولا ينافي هذا قوله: “ثُمَّ يكون عَلَقَةً مثل ذلك”، فإنَّه يكون “عَلَقةً” – وهي القطعة من “الدَّم” – قد جُمع فيها خلقُها جمعًا خَفِيًّا (1) ، وذلك الخَلْق في ظهور خَفِيٍّ على التدريج، ثُمَّ يكون “مُضْغَةً” أربعين يومًا أخرى، وذلك التخليق يتزايد شيئًا فشيئًا إلى أن يظهر للحِسِّ ظهورًا لا خفاء به كلِّه، و”الرُّوح” لم تتعلَّق به بعد، فإنَّها إنَّما تتعلَّق به في الأربعين الرابعة بعد مائةٍ وعشرين يومًا، كما أخبر به الصادق المصدوق، وذلك ممَّا لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي، إذ ليس في الطبيعة ما يقتضيه، فلذلك حَارَ فُضَلاءُ الأطبَّاء وأذكياءُ الفلاسفة في ذلك، وقالوا: إنَّ هذا ممَّا لا سبيل إلى معرفته إلا بحسب الظنِّ البعيد (2) .
قال مَنْ وقَفَ على نهايات كلامهم في ذلك، ودَأَبَ فيه حتَّى مَلَّ (3) وكَلَّ، وهو صاحب “الطِّبِّ الكبير” (4) ، فذكر مناسباتٍ خياليةٍ ثُمَّ قال: “وحقيقة العلم فيه عند الله تعالى، لا مطمع لأحدٍ من الخلق في الوقوف
__________
= في “صحيحه” رقم (2643)، من حديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -.
(1) في (ز): خفيفًا.
(2) من قوله: “واقتضت حكمة الخلَّاق العظيم – سبحانه – أن جعل داخل الرَّحِم خشِنًا. . .” إلى هنا؛ نقله الحافظ ابن حجر في “الفتح” (11/ 490).
(3) ساقط من (ح) و (م).
(4) هو أبو بكر الرازي – وستأتي ترجمته (ص/ 525) -، وقد كتبَ أبو الريحان البيروني “رسالة في فهرست كتب محمد بن زكريا الرازي”؛ عدَّ منها: “الجامع الكبير” ضمن كتبه الطبية، وقد عرف بـ “الحاوي” وبه اشتهر.
انظر: “إسهام علماء العرب والمسلمين في الصيدلة” لعلي الدفاع (226).
(1/507)
عليه”.
قلت: قد أوقفَنا عليه الصادقُ المصدوق – صلى الله عليه وسلم – الذي لا ينطق عن الهَوَى بما ثبت في “الصحيحين”: “إنَّ خَلْقَ أحدِكُم يُجْمَعُ في بطْن أُمِّهِ أربعين يومًا (1)، ثُمَّ يكونُ عَلَقَةً مثل ذلك، ثُمَّ يكون مُضْغَةً مثل ذلك، ثُمَّ يُبْعَثُ إليه المَلَكُ، فينفُخُ فيه الرُّوحَ، ويُؤْمَرُ بأربعِ كلماتٍ (2): بكَتْبِ رِزْقِهِ، وأجلِه، وعملِه، وشقيٍّ أو سعيدٍ” (3).
فصل
ورأيت لبعض الأطبَّاء كلامًا ذكر فيه سبب تفاوت زمن الولادة، فأذْكُرُه وأذْكُرُ ما فيه.
قال: إذا تَمَّ خَلْقُ الجَنين مدَّةً مُعيَّنَةً فإنَّها إذا زادت عليها مثلُها تحرَّك الجَنين، فإذا انْضَافَ إلى المجموع مثلاه انفصل الجَنين.
قال: فإذا تَمَّ خَلْقُه في ثلاثين يومًا، فإنَّه إذا صار له ستون يومًا تحرَّك، فإذا انضاف إلى الستين مثلاها، صارت مائةً وثمانين يومًا (4)، وهي ستةُ أشهر، وهي أقلُّ (5) مُدَّةٍ ينفصل لها الحَمْلُ (6).
__________
(1) بعده بين السطور في (ز) ألحقت بخط دقيق كلمة: “نطفة”، وليست في المصادر.
(2) “بأربع كلمات” ساقط من (ز) و (ط)، وسقطت “كلمات” من (ح) و (م).
(3) مرَّ قريبًا في (ص/ 506).
(4) ساقط من (ز) و (ك) و (م)، وأثبته من (ح) و (ط).
(5) ساقط من (ح) و (م).
(6) في (ك): حمل، وفي (ز) و (ط): حمله، والمثبت من (ح) و (م).
(1/508)
وإذا تَمَّ خَلْقُه في خمسةٍ وثلاثين يومًا تحرَّك لسبعين، وانفصل لسبعة أشهر.
وإذا تَمَّ خَلْقُه لأربعين يومًا تحرَّك لثمانين يومًا، وانفصل لثمانية أشهر.
وإذا تَمَّ لخمسةٍ وأربعين تحرَّك لتسعين، وانفصل لتسعة أشهرٍ، وعلى هذا الحساب أبدًا.
وهذا الذي ذكره هذا القائل يقتضي حركة الجَنين قبل الأربعين (1)، وهذا خطأ قطعًا؛ فإنَّ “الرُّوحَ” إنَّما تتعلَّق به بعد الأربعين الثالثة، وحينئذٍ يتحرَّك، فلا تثبت له حركةٌ قبل مائةٍ وعشرين يومًا، وما يُقَدَّرُ من حركةٍ له قبل ذلك فليست حركةً ذاتيةً اختياريةً، بل لعلها حركةٌ عارِضةٌ بسبب الأغشية والرُّطُوبات.
وما ذكره من الحساب لا يقوم عليه دليلٌ ولا تجربةٌ مطَّرِدَةٌ، فَرُبَّما زاد على ذلك أو نقص منه، ولكن الذي نقطع به أنَّ “الرُّوحَ” لا تتعلَّق به إلا بعد الأربعين الثالثة، وما يُقَدَّرُ من حركةٍ قبل ذلك – إنْ صَحَّت – لم تكن بسبب “الرُّوح”، والله أعلم.
فصل
وأمَّا أَقَلُّ مُدَّةِ الحَمْل فقد تظاهرت الشريعة والطبيعة على أنَّها ستة أشهر، قال تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] وقال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ
__________
(1) من أول السطر إلى هنا؛ ساقط من (ز) و (ط)، وهو ملحق بهامش (ك).
(1/509)
كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233].
قال “جالينوس”: “كنتُ شديد الفحص عن مقادير أزمنة الحَمْل، فرأيتُ امرأةً واحدةً ولدت في مائةٍ وأربعٍ وثمانين ليلةً”.
وزعم صاحب “الشِّفَاء” (1) أنَّه شاهد ذلك.
وأَمَّا أكثره فقال في “الشِّفَاء”: “بلغني من حيث وَثِقْتُ كُلَّ الثِّقَةِ أنَّ امرأةً وضعَت بعد الرابع من سِنِّ الحَمْل ولدًا قد نبتت أسنانه، وعاش”.
فصل
فإن قيل: فما سبب الإذْكَارِ والإِينَاثِ؟
قيل: الذي نختاره أنَّهُ إنَّما سببه مشيئةُ الرَّبِّ الفاعِل باختياره، وليس له سببٌ طبيعيٌّ، وكلًّ ما ذَكَرَهُ أصحابُ الطبائع من الأسباب فَمُنْتَقِضٌ؛ مثل: حرارة الرَّجُل ورطوبته. قالوا: وفساد المِزَاج – أيضًا – يوجِبُ إيلَادَ الإناث، واستقامته تُوجِبُ الإذْكَار.
وكُلُّ هذا تخليطٌ وهذيانٌ؛ فليس للإذْكَار والإينَاث إلا قول الله لِمَلَكِ الأرحام – وقد استأذنَهُ -: “يا ربِّ ذَكَرٌ، يا ربِّ أنثَى، يا ربِّ شقيٌّ أم سعيدٌ، فما الرزقُ؟ فما الأجلُ؟ ” (2). فالإذْكَارُ والإينَاثُ قُرَانَى (3)
__________
(1) هو أبو علي الرئيس، الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا، العلامة الفيلسوف، صاحب التصانيف الكثيرة في الطب والفلسفة والمنطق، كفَّره أهل العلم لإلحاده في النبوة والمعاد وغير ذلك، مات بهَمَذان سنة (428 هـ).
انظر: “تاريخ الحكماء” (413)، و”السير” (17/ 531).
(2) سبق تخريجه (ص/ 498).
(3) “قُرَانى” كالقَرِين، وهو المقارِن والمصاحِب. “القاموس” (1579). =
(1/510)
السَّعادة، والشَّقاوة، والرِّزْق، والأجل.
فإن قيل: فتلك أيضًا بأسباب؟
قلنا: نعم، ولكن بأسبابٍ بعد الولادة، ولا سبب للإذْكَار والإينَاث قبل الولادة.
فإن قيل: فما تصنعون بحديث ثوبان الذي رواه مسلم في “صحيحه” (1) : أنَّ يهوديًّا سأل النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – عن الولد، فقال: “ماءُ الرَّجُل أبيض، وماءُ المرأة أصفر، فإذا اجتمعا، فعَلَا منيُّ الرَّجُلِ منيَّ المرأةِ أذْكَرَا بإذن الله، وإذا علا منيُّ المرأة منيَّ الرَّجُل آنَثَا بإذن الله”، فقال اليهوديُّ: صدقتَ، وإنَّك لنبيٌّ.
قيل: هذا الحديث تفرَّدَ به مسلم في “صحيحه”، وقد تكلَّم فيه بعضهم (2) ، وقال: الظاهر أنَّ الحديث وَهِمَ فيه بعضُ الرواة، وإنَّما كان (3) السؤال عن الشَّبَهِ، وهو الذي سأله عنه (4) عبدُ الله بن سَلَام في الحديث المتفق على صحته فأجابه بَسَبْقِ الماء، وأنَّ الشَّبَهَ يكون للسابق. فلعلَّ بعض الرواة انقلب عليه شَبَهُ الولد بالمرأة بكونه أنثى،
__________
= وفي (ك): قراتي، وفي (ح) و (م): قرين.
(1) رقم (315)؛ وقد سبق ذكره (ص/ 500 و 505).
(2) هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، كما نقله عنه في “الطرق الحكمية” (2/ 584)، و”إعلام الموقعين” (6/ 214).
وانظر: “تحفة المودود” (450)، و”مفتاح دار السعادة” (2/ 190).
(3) “كان” ملحق بهامش (ك).
(4) ساقط من جميع النسخ، ثم أُلحقت بهامش (م).
(1/511)
وشَبَهُهُ بالوالد (1) بكونه (2) ذكرًا، لا سيَّما والشَّبَهُ التَّامُّ إنَّما هو بذلك.
وقالت طائفة: بل الحديثُ صحيحٌ لا مَطْعَنَ في سنده، ولا منافاة بينه وبين حديث عبد الله بن سَلَام، وليست الواقعة واحدة، بل هما قضيَّتان، ورواية كُلٍّ منهما غير رواية الأخرى، وفي حديث ثوبان قِصَّةٌ ضُبِطَت وحُفِظَت.
قال ثوبان: كنتُ قائمًا عند النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، فجاء حَبْرٌ من أحبار اليهود، فقال: السلام عليك يا محمد. فَدَفَعْتُه دَفْعَةً كادَ يُصْرَعُ منها. فقال لي: لِمَ تدفعني؟ فقلت: ألا تقول يا رسول الله؟ فقال اليهوديُّ: إنَّما ندعوه باسمه الذي سمَّاهُ به أهله. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إنَّ اسمي “محمدٌ” الذي سَمَّاني به أهلي”، فقال اليهوديُّ: جئتُ أسألك. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “أيَنْفَعُكَ شيءٌ إنْ حَدَّثْتُكَ؟ ” قال: أسمع بأُذُني. فنَكَتَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – بِعُودٍ معه؛ فقال: سَلْ، فقال اليهوديُّ: أين يكون النَّاس يوم تُبْدَّلُ الأرضُ غير الأرض والسماوات؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “هم (3) في الظُّلْمَةِ دونَ الجِسْر”، قال: فمَنْ أَوَّلُ النَّاس إجازةً؟ قال: “فقراء المهاجرين”، قال اليهوديُّ: فما تُحْفَتُهم حين يدخلون الجنَّة؟ قال: “زِيَادَةُ كَبدِ النُّون”، قال: فما غَدَاؤُهم على إثْرِها؟ قال: “يُنْحَرُ لهم ثور الجنَّة الذَي يأكل (4) من أطرافها”، قال: فما شرابهم عليه؟ قال: “من عَيْنٍ فيها تُسمَّى سَلْسَبيلا”، قال: صدقتَ. قال: وجئتُ أسألك عن شيء
__________
(1) بياض في (ز)، وتصحفت في بقية النسخ إلى: بالولد.
(2) في جميع النسخ: لكونه، والصواب ما أثبته.
(3) ساقط من (ز) و (ك) و (ط).
(4) بدلًا عنه في (ز) و (ك) و (ط): كان يرعى.
(1/512)
لا يعلمه أحدٌ إلا نبيٌّ أو رجلٌ أو رجلان، قال: “ينفعُكَ إنْ حدَّثْتُك؟ ” قال: أسمع بِأُذُني. قال: جئت أسألك عن الولد؟ قال: “ماءُ الرَّجُل أبيضُ، وماءُ المرأة أصفر. فإذا اجتمعا، فَعَلَا مَنيُّ الرَّجُل مَنيَّ المرأة أذْكَرَا بإذن الله، وإذا عَلا منيُّ المرأة مَنيَّ الرَّجُل آنَثَا بإذن الله”، قال اليهوديُّ: لقد صدقتَ، وإنَّك لنبيٌّ. ثُمَّ انصرف، فذهب، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “لقد سألني هذا عن (1) الذي سألني عنه، وما لي علمٌ به، حتَّى أتاني (2) اللهُ به” (3) .
وأمَّا حديث عبد الله بن سَلَام – رضي الله عنه – ففي “صحيح البخاري” عن أنس – رضي الله عنه – قال: بَلَغَ عبدَ الله بنَ سَلَام مَقْدَمُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المدينة، فأتاه، فقال: إنِّي سائلك عن ثلاثٍ لا يعلمُهُنَّ إلا نبيٌّ: ما أَوَّلُ أشراط الساعة؟ وما أوَّلُ طعامٍ يأكله أهل الجنَّة؟ ومن أيِّ شيءٍ يَنْزِعُ الولدُ إلى أبيه، ومن أيِّ شيءٍ يَنْزِعُ (4) إلى أخواله؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “خَبَّرَنِي بِهِنَّ آنفًا جبريلُ” فقال عبد الله: ذاك عَدُوُّ اليهودِ من الملائكة! فقال: “أمَّا أَوَّلُ أشراط الساعة فَنَارٌ تحشُرُ النَّاسَ من المشرق إلى المغرب. وأمَّا أوَّلُ طعامٍ يأكله (5) أهل الجنَّة فزيادة كبد حوت. وأمَّا الشَّبَهُ في الولد فإنَّ الرَّجُل إذا غَشِيَ المرأةَ فسبَقَها ماؤه كان الشَّبَهُ له، وإذا سَبقَتْ كان الشَّبَهُ لها” قال: أشهد أنَّك رسول الله، وذكر
__________
(1) ساقط من (ح) و (م)، وفي (ز) و (ك): عن هذا، وما أثبته من المصادر.
(2) في (ز) و (ك): أنبأني، والمثبت من (ح) و (م) كما في المصادر.
(3) سبق تخريجه (ص/ 500 و 505 و 511).
(4) بعده في (ك) زيادة: الولد.
(5) ساقط من (ز) و (ك) و (ط)، وأثبته من (ح) و (م) كما في المصادر.
(1/513)
الحديث (1) .
فتضمَّن الحديثان أمرين ترتَّب عليهما أَثَران: سَبْقُ الماءِ، وعلوُّهُ. فتأثير السَّبْقِ في الشَّبَه، وثأثير العُلُوِّ في الإذْكَار والإينَاث، فإن اجتمع الأمران ترتَّبَ عليهما (2) الأثران معًا، وأيُّهما انفرد ترتَّبَ عليه أثره:
فإذا سَبَقَ ماءُ الرَّجُل وعَلَا: أذْكَر، وكان الشَّبَهُ له.
وإنْ سَبَقَ ماءُ المرأة وعَلَا: آنَثَتْ، وكان الشَّبَهُ لها.
وإنْ سَبَقَ ماءُ المرأة؛ وعَلَا ماءُ الرَّجُل: أذْكَرَ، وكان الشَّبَهُ لها.
وإنْ سَبَقَ ماءُ الرَّجُل؛ وعَلَا ماءُ المرأةِ: آنَثَتْ، وكان الشَّبَهُ له (3) .
ومع هذا كلِّه فهذا جُزْءُ سببٍ ليس بمُوجِب، والسبب المُوجِب مشيئة الله تعالى.
قال: فقد يُسَبِّبُ سَبَبِيَّةَ السبب، وقد يرتِّبُ عليه (4) ضِدَّ مقتضاه، ولا يكون في ذلك مخالفة لحكمته، كما لا يكون تعجيزًا لقدرته.
__________
(1) سبق تخريجه (ص/ 499).
(2) من قوله: “أثران: سبق الماء، وعلوه. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ح) و (م).
(3) هذا القسم الأخير سقط من جميع النسخ، ثم أُلحق بهامش (ز) وكتب ناسخها: “وبقيَ”؛ أي: بقيَ من الأقسام هذا القسم الأخير، وهو مهمٌّ تتمةً للقسمة، مما يدل على أن المؤلف سها عنه، وانظر: “تحفة المودود” (450).
وقارن ما هنا بما في “المفهم” للقرطبي (1/ 572)، و”الإكمال” للأُبِّي (2/ 88).
(4) في (ز) و (ك) و (ط): وقد يترتب على، وفي (ح) و (م): وقد ترتب على، وما أثبته أنسب للسياق.
(1/514)
وقد أشار في الحديث إلى هذا بقوله: “أَذْكَرَا وآنَثَا بإذن الله”، وقد قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) } [الشورى: 49, 50]، فأخبر سبحانه أنَّ ذلك عائدٌ إلى مشيئته، وأنَّه قد يَهَبُ الذكور فقط، والإناث فقط، وقد يجمع للوالِدَيْن بين النَّوعَين معًا، وقد يُخْلِيهِما عنهما معًا، وأنَّ ذلك كما هو راجعٌ إلى مشيئته فهو متعلِّقٌ بعلمه وقدرته.
وقد وهَبَ اللهُ آدمَ الذكورَ والإناثَ، وإسرائيلَ الذكورَ دون الإناث، ومحمدًا – صلى الله عليه وسلم – الإناثَ دون الذكور، سوى ولده إبراهيم (1) .
وقال سليمان عليه السلام: “لأَطُوفَنَّ الليلة (2) على سبعين امرأةً،
__________
(1) أجمع أهل السِّيَر على أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – رُزِق من الأولاد الذكور ثلاثة، وهم:
1 – القاسم، وبه كان يكنَّى، مات طفلًا، وقيل غير ذلك.
2 – عبد الله، قال المؤلف في “زاد المعاد” (1/ 103): “وهل هو الطيِّب والطاهر، أو هما غيره؟ على قولين، والصحيح أَنَّهما لَقَبان له”.
وهذان الاثنان من خديجة – رضي الله عنها -.
3 – إبراهيم، ولد بالمدينة من سُرِّيَّتِه: مارِية القِبْطية، سنة ثمانٍ للهجرة، ومات طفلًا قبل الفطام.
وزاد أبو عبيدة معمر بن المثنى في “تسمية أزواج النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – وأولاده” (48): “عبد مناف”. وهذا رواه الدولابي في “الذرية الطاهرة” رقم (41)؛ عن قتادة بسندٍ ضعيف، وهو غير معروف عند أهل السِّيَر، والله أعلم.
وثَمَّ آخر قال عنه ابن حزم: “وروِّينا من طريق هشام بن عروة، عن أبيه: أنَّه كان له ولدٌ اسمه: “عبد العُزَّى”، قبل النبوَّة؛ وهذا بعيد، والخبر مرسل، ولا حُجَّة في مرسل”. “جوامع السيرة” (38).
(2) ساقط من (ز).
(1/515)
تأتي كلُّ امرأةٍ منهُنَّ بغلامٍ يقاتل في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل إنْ شاء الله، فلم يقُلْ (1)، فطاف عليهنَّ فلم تلد منهنَّ (2) إلا امرأةٌ واحدةٌ، جاءت بشِقِّ ولدٍ”. قال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: “والذي نفسي بيده لو قال: إنْ شاءَ الله؛ لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون” (3)، فدلَّ على أنَّ مجرَّدَ الوَطْءِ ليس بسببٍ تامٍّ وإن كان له مَدْخَلٌ في السببيَّة، وإنَّما السبب التامُّ مشيئة الله وحده، فهو رَبُّ الأسباب؛ المتصرِّفُ فيها كيف شاء، بإعطائها السببيَّة إذا شاء، ومنعِها إيَّاها إذا شاء، وترتيبِ ضدِّ (4) مقتضاها عليها إذا شاء.
والأسباب هي مجاري الشرع والقدر، فعليها يجري أمر الله الكونيُّ والدينيُّ.
فإن قيل: فقد ظهر أنَّ الولد مخلوقٌ من الماءين جميعًا، فهل يُخْلَقُ منهما على حَدٍّ سواء، أم يكون بعضُ الولد من ماء الأب، وبعضُه من ماء الأُمِّ؟
قيل: قد بيَّنَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – هذه المسألة بأوضح البيان، فقال الإمام أحمد (5) في “مسنده”:
__________
(1) من قوله: “فقال له صاحبه. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ح) و (م).
(2) بعده في (ز) و (ك) و (ط) زيادة: “امرأة واحدة”، وليست في المصادر، كما في (ح) و (م).
(3) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (2819، 3424، 5242، 6639، 6720، 7469)، ومسلم في “صحيحه” رقم (1654)، من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(4) ساقط من (ك).
(5) مكانه بياض في (ز)، وساقط من (ط).
(1/516)
حدثنا حسين بن الحسن، حدثنا أَبو كُدَيْنَة (1)، عن عطاء بن السائب، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله قال: مرَّ يهوديٌّ برسول الله – صلى الله عليه وسلم -وهو يحدِّثُ أصحابه، فقالت قريشٌ: يا يهوديُّ؛ إنَّ هذا يزعم أنَّه نبيٌّ، فقال: لأَسألنَّهُ عن شيءٍ لا يعلمه إلا نبيٌّ، فجاء حتَّى جلس، ثُمَّ قال: يا محمد؛ مِمَّ يُخْلَقُ الإنسان؟ فقال: “مِنْ كُلٍّ يُخْلَق: من نطفة الرَّجُل، ومن نطفة المرأة. فأَمَّا نطفة الرَّجُل فنطفةٌ غليظةٌ، منها العَظْمُ والعَصَبُ. وأمَّا نطفة المرأة فنطفةٌ رقيقةٌ، منها اللحم والدَّم”، فقام اليهوديُّ فقال: هكذا كان يقول من قَبْلَك (2).
فصل
فإن قيل: قد ذكرتم أنَّ تعلُّقَ “الرُّوح” بالجَنين إنَّما يكون بعد الأربعين الثالثة، وأنَّ خَلْق الجَنين يُجْمَعُ في بطن أُمِّه أربعين يومًا، ثُمَّ يكون “عَلَقةً” مثل ذلك، ثُمَّ يكون “مُضْغَةً” مثل ذلك. وبَيَّنتُم أنَّ كلامَ الأطبَّاء لا يناقض ما صَرَّحَ به الوحي من ذلك. فما تصنعون بحديث حذيفة بن أَسِيدٍ الذي رواه مسلم في “صحيحه” (3) عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “يَدْخُلُ المَلَكُ على النُّطْفَة بعدما تستقرُّ في الرَّحِم بأربعين، أو
__________
(1) في جميع النسخ: أبو كريب، والتصحيح من مصادر التخريج.
(2) أخرجه: أحمد في “المسند” (1/ 465)، والنسائي في “السنن الكبرى” رقم (9027)، والطبراني في “المعجم الكبير” رقم (10360)، وأبو الشيخ في “العظمة” رقم (1072).
وإسناده ضعيف؛ عطاء بن السائب اختلط بأَخَرَة.
وضعفه أحمد شاكر في تعليقه على “المسند” (6/ 199) بشيخ الإمام أحمد؛ وهو: حسين بن الحسن الأشقر.
(3) رقم (2644)؛ وقد سبق (ص/ 498) بلفظٍ قريب منه.
(1/517)
خمسٍ وأربعين ليلة، فيقول: أَيْ رَبِّ أشقيٌّ أم سعيدٌ؟ فيكتبان، فيقول: أي رَبِّ، أَذَكَرٌ أو أنثى؟ فيكتبان، ويُكْتَبُ عملُه، وأَثَرُه، وأَجَلُه، ورزْقُه، ثُمَّ تُطْوَى الصحيفة، فلا يُزَادُ فيها ولا يُنْقَصُ”؟
قيل: نتلقَّاهُ بالقبول والتصديق، وترك التحريف، ولا ينافي شيئًا ممَّا ذكرناه، إذ غاية ما فيه أنَّ هذا التقدير وقع بعد الأربعين الأُولَى، وحديث ابن مسعود يدلُّ على أنَّه وقع بعد الأربعين الثالثة، وكلاهما حقٌّ؛ فإنَّ هذا تقديرٌ بعد تقدير:
فالأوَّل: تقديرٌ (1) عند انتقال “النُّطْفَة” إلى أوَّل أطوار التخليق التي هي أوَّل مراتب الإنسان، وما قبل ذلك فلم يتعلَّق بها التخليق (2).
والتقدير الثاني: تقديرٌ عند كمال خلقه ونفخ “الرُّوح”.
فذاك تقديرٌ عند أوَّل خَلْقه وتصويره، وهذا تقديرٌ عند تمام خَلْقه وتَصَوُّرِه.
وهذا أحسن من جواب من قال: إنَّ المراد بهذه الأربعين – التي في حديث حذيفة – الأربعينُ الثالثة! وهذا بعيدٌ جدًّا من لفظ الحديث، ولفظه يَأْبَاهُ كلَّ الإباء، فتأمَّلْهُ (3).
__________
(1) زيادة من (ح) و (م)، وسقطت من باقي النسخ.
(2) من قوله: “التي هي أول مراتب الإنسان. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ز).
(3) للجواب عن الأشكال الوارد حول حديث حذيفة وابن مسعود – رضي الله عنهما – انظر: شرح مشكل الآثار” (7/ 86 – 95)، و”فتاوى ابن الصلاح” (1/ 164 – 167)، و”جامع العلوم والحكم” (1/ 158 – 164)، و”الفتح” (11/ 492).
(1/518)
فإن قيل: فما تصنعون بحديثه الآخر الذي في “صحيح مسلم” (1) – أيضًا – عن عامر بن واثلة، أنَّه سمع عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – يقول: “الشَّقِيُّ من شَقِيَ في بطن أُمِّه، والسعيدُ من وُعِظَ بغيره”، فأتى رجلًا من أصحاب النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – يقال له حذيفة بن أَسِيدٍ الغِفَاري، فحدَّثه بذلك من قول ابن مسعود، فقال: وكيف يَشْقَى رجلٌ بغير عملٍ؟ فقال له الرَّجُل: أتعجب من ذلك؟ فإنِّي سمعتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “إذا مَرَّ بالنطفة ثِنْتَان وأربعون ليلةً بَعَثَ اللهُ إليها ملكًا فصوَّرَها، وخَلَقَ سمعَها، وبَصَرَها، وجِلْدَها، ولَحْمَها، وعظَامَها، ثُمَّ قال: يا رَبِّ أَذَكَرٌ أم أنثى؟ فيقضي ربُّك ما شاء، ويكتب المَلَكُ، ثُمَّ يخرج المَلَكُ بالصحيفة في يده، فلا يزيد على ما أُمِرَ ولا يُنْقِص”.
وفي لفظ آخر في “الصحيح” (2) – أيضًا -: سمعتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأُذُنَيَّ هاتين يقول: “إِنَّ النطفةَ تقعُ في الرَّحِم أربعين ليلةً، ثُمَّ يَتَسَوَّرُ عليها المَلَكُ الذي يَخْلُقُها (3)، فيقول: يا رَبِّ أَذَكَرٌ أو أنثى؟ ثُمَّ يقول: يا رَبِّ أَسَوِيٌّ أو غيرُ سَوِيِّ؟ فيجعله الله سَوِيًّا أو غيرَ سَوِيٍّ، ثُمَّ يقول: يا رَبِّ ما رزقه؟ وما أجله؟ وما خلقه؟ ثُمَّ يجعله الله – عزَّ وَجلَّ – شقيًّا أو سعيدًا”.
وفي لفظ آخر في “الصحيح” (4) – أيضًا -: “أنَّ مَلَكًا موكَّلًا بالرَّحِم
__________
(1) رقم (2645).
(2) رقم (2645) أيضًا.
(3) ضبطها ناسخ (ز) و (ح) هكذا: “يُخَلِّقُها”، ثم فسرها في هامش (ز) فقال: أي: يصوِّرها بإذن الله تعالى.
(4) رقم (2645) أيضًا.
(1/519)
إذا أراد اللهُ أنْ يَخْلُقَ شيئًا بإذن الله لبِضْعٍ وأربعين ليلةً” ثُمَّ ذكر نحوه.
قيل: نتلقاه – أيضًا – بالتصديق والقبول، وترك التحريف. وهذا يوافق ما أجمع عليه الأطبَّاء أن مبدأ التخليق والتصوير بعد الأربعين.
فإن قيل: فكيف التوفيق بين هذا وبين حديث ابن مسعود، وهو صريحٌ في أنَّ “النُّطْفَةَ” أربعين يومًا نطفةٌ، ثُمَّ أربعين يومًا “عَلَقةٌ”، ثُمَّ أربعين “مُضْغَةٌ”، ومعلومٌ أنَّ “العَلَقَةَ” و”المُضْغَةَ” لا صورة فيهما (1)، ولا جلد، ولا لحم، ولا عظم. وليس بنا حاجةٌ إلى التوفيق بين حديثه هذا وبين قول الأطبَّاء؛ فإنَّ قولَ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – معصومٌ، وقولُهم عُرْضَةُ الخطأ، ولكنَّ الحاجة إلى التوفيق بين حديثه وحديث حذيفة المتقدِّم؟
قيل: لا تنافي بين الحديثين بحمد الله، وكلاهما خارجٌ من مشكاةٍ صادقةٍ معصومةٍ.
وقد ظنَّ طائفةٌ أنَّ التصوير في حديث حذيفة إنَّما هو بعد الأربعين الثالثة، قالوا: وأكثر ما فيه التعقيب بـ “الفاء”، وتعقيب كلِّ شيءٍ بحَسَبه، وقد قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج: 63]، بل قد قال تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} [المؤمنون: 14]، وهذا تعقيبٌ بحسب ما يصلح له المَحَلُّ، ولا يلزم أن يكون الثاني عقيب الأوَّل تعقيب اتصال.
وظنَّت طائفةٌ أخرى أنَّ التصويرَ والتخليقَ الذي في حديث
__________
(1) في جميع النسخ: فيها، وما أثبته أنسب.
(1/520)
حذيفة هو في التقدير والعلم، والذي في حديث ابن مسعود في الوجود الخارجيِّ.
والصواب (1) ما دلَّ عليه الحديث؛ من أنَّ ذلك في أوَّل (2) الأربعين الثانية. ولكن هاهنا تصويران (3):
أحدهما: تصويرٌ خفيٌّ لا يظهر للبشر، وهو تصويرٌ تقديريٌّ، كما يُصَوِّر من يُفَصِّلُ الثوبَ أو يَنْجُرُ البابَ مواضعَ القطع والتفصيل، فَيُعَلِّمُ عليها، ويصنع (4) مواضع الفصل والوصل.
وكذلك كلُّ (5) من يصنع صورةً في مادَّةٍ، لا سيَّما مثل هذه الصورة التي ينشأ فيها التصوير والتخليق على التدريج شيئًا بعد شيءٍ، لا وَهْلَةً واحدةً، كما يشاهَدُ بالعِيَان في تخليق الطائر (6) في البيضة.
فهاهنا أربع مراتب:
أحدها: تصويرٌ وتخليقٌ علميٌّ، لم يخرج إلى الخارج.
الثانية: مبدأ تصويرٍ خفيٍّ، يعجز الحِسُّ عن إدراكه.
الثالثة: تصويرٌ يناله الحِسُّ ولكنه لم يَتِمَّ بعد.
__________
(1) بعدها في (ح) و (م) زيادة: يدل على الحد! ولا معنى لها.
(2) ساقط من (ح) و (م).
(3) سها المؤلف – رحمه الله – عن ذكر التصوير الثاني، وهو مفهومٌ من كلامه، فلعلَّ الثاني تصويرٌ جليٌّ يظهر للبشر، وهو تصوير حقيقي، والله أعلم.
(4) في (ح) و (م): ويضع.
(5) “كلُّ” ملحق بهامش (ك).
(6) في (ح) و (م): الظاهر!
(1/521)
الرابعة: تمام التصوير الذي ليس بعده إلا نفخ “الرُّوح”.
فالمرتبة الأُولَى علميَّةٌ، والثلاث الأُخَر خارجيَّةٌ عينيَّةٌ.
وهذا التصويرُ بعد التصوير نظيرُ التقديرِ بعد التقدير:
فإنَّ (1) الرَّبَّ – تعالى – قدَّرَ مقادير الخلائق تقديرًا عامًّا قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألفَ سنةٍ (2) ، وهناك كُتبت السعادةُ، والشقاوةُ، والأعمالُ، والأرزاقُ، والآجالُ.
الثاني: تقديرٌ بعد هذا وهو أخصُّ منه، وهو التقدير الواقع عند القَبْضَتين، حين قَبَضَ – تبارك وتعالى – أهلَ السعادة بيمينه وقال: “هؤلاء للجَنَّة، وبعمل أهل الجَنَّة يعملون”، وقَبَضَ أهلَ الشقاوة باليد الأخرى وقال: “هؤلاء للنَّار، وبعمل أهل النَّار يعملون” (3) .
__________
(1) هذا هو النوع الأول من أنواع التقدير.
(2) أخرج مسلم في “صحيحه” رقم (2653) عن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “كتب اللهُ مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء”.
(3) أحاديث “القبضتين” رواها جمعٌ من الصحابة، فمن ذلك:
1 – حديث أنس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إن الله – تعالى – قبض قبضةً، فقال: للجنَّة برحمتي. وقبض قبضةً، فقال: للنَّار ولا أُبالي”.
أخرجه: ابن أبي عاصم في “السنَّة” رقم (248)، وأبو يعلى في “مسنده” رقم (3422، 3453)، والعقيلي في “الضعفاء” (1/ 277)، والدولابي في “الكُنَى” رقم (1383)، وابن عدي في “الكامل” (2/ 624)، والبيهقي في “القدر” رقم (63). =
(1/522)
الثالث: تقديرٌ بعد هذا، وهو أخصُّ منه عندما يقضي (1) به،
__________
= وإسناده ضعيف، فيه: الحكم بن سنان القِرَبي، أبو عَون البصري، ضعفه: ابن معين، والنسائي، وابن سعد.
قال ابن حبان: “ينفرد عن الثقات بالأحاديث الموضوعات، لا يشتغل بروايته”. “المجروحِين” (1/ 303).
وقال البخاري: “عنده وهْمٌ، ليس له كبير إسناد”. “التاريخ الكبير” (2/ 335).
2 – حديث أبي نَضْرَة، عن رجل من أصحاب النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – يقال له: أبو عبد الله، أنَّه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “إنَّ الله قبض قبضةً بيمينه، وقال: هذه لهذه، ولا أُبالي. وقبض قبضةً بيده الأخرى، فقال: هذه لهذه، ولا أُبالي”.
أخرجه: أحمد في “المسند” (4/ 176 – 177) و (5/ 68)، بسند صحيح.
3 – حديث معاذ بن جبل – رضي الله عنه -.
أخرجه: أحمد في “المسند” (5/ 239)، بسند ضعيف.
4 – حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه -.
أخرجه: البزار “كشف الأستار” رقم (2142).
قال الهيثمي: “ورجاله رجال الصحيح, غير: نمر بن هلال، ووثقه أبو حاتم”. “مجمع الزوائد” (7/ 186).
5 – حديث أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه -.
أخرجه: الفريابي في “القدر” رقم (35)، وابن أبي عاصم في “السنَّة” رقم (203)، والآجري في “الشريعة” رقم (332)، والبزار “كشف الأستار” رقم (2143)، والطبراني في “الأوسط” رقم (9371)، وإسناده ضعيف.
فالحديث صحيح بما ذكر، ولهذا قال العقيلي: “وقد رُوي في “القبضتين” أحاديث بأسانيد صالحة”. “الضعفاء” (1/ 277).
وانظر: “السلسلة الصحيحة” الأرقام (46، 47، 48، 49، 50).
(1) في جميع النسخ: يمضي، وصححت في هامش (ك): يقضي.
(1/523)
[كما] (1) في حديث حذيفة بن أَسِيد المذكور.
الرابع: تقديرٌ آخر بعد هذا، وهو عندما يتمُّ خَلْقُه ويُنفَخُ فيه “الرُّوح”، كما صرَّح به [الحديث] (2) الذي قبله.
وهذا يدلُّ على سعة علم الرَّبِّ تبارك وتعالى، وإحاطته بالكُلِّيَّات والجزئيَّات. وكذلك التصوير الثاني مطابقٌ للتصوير العلمي، والثالث مطابقٌ للثاني، والرابع مطابقٌ للثالث؛ وهذا ممَّا يدلُّ على كمال قدرة الرَّبِّ سبحانه وتعالى، ومطابقة مقدوره لمعلومه، فتبارك الله رَبُّ العالمين، وأحسنُ الخالقين.
ونظير هذا التقدير الكتابةُ العامَّة قبل المخلوقات، ثُمَّ كتابة ما يكون من العام إلى العام في ليلة القدر، وكلُّ مرتبةٍ من هذه المراتب تفصيلٌ لما (3) قبلها وتنويعٌ (4) .
وكلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصدِّقُ بعضُه بعضًا، ويفسِّرُ بعضُه بعضًا، ويطابق الواقع في الوجود ولا يخالفه. وإنَّما يُخبر بما لا يستقلُّ الحِسُّ ولا العقل بإدراكه، لا بما يخالف الحِسَّ والعقل.
وأمَّا ما يعرفه النَّاس ويستقلُّون بإدراكه على أمرٍ عينيٍّ يتعلَّق به الإيمان، أو على حكمٍ شرعيٍّ يتعلَّق به التكليف (5) ، والله أعلم.
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق، وقد أضيفت “ما” بين السطور في (ز).
(2) زيادة مهمة لفهم الكلام.
(3) في (ك): تفصِّل ما.
(4) من (ح) و (م)، وتصحفت في سائر النسخ إلى: ويتوقع!
(5) كذا العبارة في سائر النسخ، وفيها تحريف أو سقط!
(1/524)
فصل
فإن قيل: أيُّ عُضْوٍ يتخلَّقُ أوَّلًا قبل سائر الأعضاء؟
قيل: قد اختُلِف في ذلك على أربعة أقوال:
أحدها: أنَّه “القلب”، وهذا قول الأكثرين.
والثاني: أنَّه “الدِّماغ” و”العَينَان”، وهو قول “بقراط”.
والثالث: أنَّه “الكبد”، وهو قول: محمد بن زكريا (1).
والرابع: أنَّه “السُّرَّة”، وهو قول جماعةٍ من الأطبَّاء.
قال أصحاب “القلب”: لا نشكُّ أنَّ في “المَنِيِّ” قوَّةً رُوحِيَّةً، وبسبب تلك القوَّة يستعد (2) أن يكون إنسانًا، وحاجته إلى “الرُّوح” الذي هو مادَّة القوى أشدُّ، فلا بدَّ أن يكون لذلك “الرُّوح” مَجْمَعٌ خاصٌّ، منه ينبعث إلى سائر الأعضاء. فالجوهر الروحيُّ أوَّلُ شيءٍ يَنْهَزُ (3) من
__________
(1) هو أبو بكر محمد بن زكريا الرازي، طبيب المسلمين بلا مدافع، والفيلسوف المشهور، اشتغل في صغره بالعلوم العقلية، فأكبَّ على كتب الحكماء الأوائل، وأوغل فيها حتى “اضطرب لذلك رأيه، وتقلد آراء سخيفة، وانتحل مذاهب خبيثة”، أمَّا صناعة الطب فإنَّما تعلَّمها عن كِبَر، وكان ذكيًّا فطنًا، كريمًا بارًّا بالفقراء، رؤوفًا بالمرضى، خدم بطبِّه الأكابر من ملوك العجم، وكان يلقب بـ “جالينوس العرب”، صنف كتبًا كثيرة منها: “الحاوي” في الطب وهو أعظم كتبه وأنفعها، و”ايساغوجي” في المنطق، توفي سنة (313 هـ).
انظر: “طبقات الأطباء” (77)، و”تاريخ الحكماء” (271)، و”عيون الأنباء” (414).
(2) في (ح) و (م): سَعِد.
(3) تصحفت في (ز) و (ح) و (م) و (ط) إلى: ينهر. =
(1/525)
“المَنِيِّ”، ويجتمع في موضعٍ واحدٍ، ويحيط به ما يتصل إليه ذلك الجوهر الروحيُّ من جميع الجوانب، فيجب أن يكون مجمعها (1) هو الوَسْط، وسائر الأجزاء تحيطُ به، وذلك الكَبِدُ (2) هو “القلب”.
قالوا: ولأنَّ تمامَ البدن موقوفٌ على الحرارة الغريزيَّة، والعضو الذي هو مَنْبع الحرارة الغريزيَّة التي (3) بها قِوَام (4) البدن لا بدَّ أن يكون متقدِّمًا (5) على العضو الذي هو مَنْبع القوَّة الغَاذِيَة التي بها ينمو وهو “القلب” (6) .
قالوا: ولأنَّ أفعالَ القوى إنَّما تتمُّ بـ “الرُّوح”، وهي لا بدَّ لها من متعلَّقٍ تتعلَّقُ به، ولا بدَّ أن يتقدَّمَ متعلَّقُها عليها؛ وهو “القلب”.
قالوا: وهذا هو الأَنْسَبُ والأَلْيَقُ بحكمة الرَّبِّ تعالى، فإنَّ “القلب” مَلِكُ سائر الأعضاء، وهي جنودٌ له (7) وخَدَمٌ، فإذا صَلَح “القلب” صَلَحت جنوده، وإذا فَسَدَ فَسَدَت، وقد أشار النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – في
__________
= و”يَنْهَزُ”: يندفع، وأصل “النَّهْز”: الدَّفْع. وقال ابن فارس: “النون والهاء والزاء: أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على حركةٍ، ونهوضٍ، وتحريك الشيء”.
انظر: “مقاييس اللغة” (5/ 363)، و”المصباح المنير” (863).
(1) في (ك): مجمعًا.
(2) أي: الوَسْط، فإن كَبِد كلِّ شيء وسْطُه. “المصباح المنير” (717).
(3) من (ط)، وفي باقي النسخ: الذي.
(4) مكانها بياض في (ز)، وسقطت من (ح) و (م).
(5) في (ح) و (م): أن يتقدَّم، بدل: يكون متقدِّمًا.
(6) في جميع النسخ: الكبد! وهو خطأ محض، والصواب ما أثبته بدليل السياق والكلام.
(7) العبارة في (ح) و (م) هكذا: فإن “القلب” ملكٌ، وسائر الأعضاء جنودٌ له.
(1/526)
الحديث الصحيح إلى ما يرشد إلى ذلك فقال: “إنَّ في الجسد مُضْغَةً إذا صلَحَت صَلَح الجسدُ كلُّه، وإذا فَسَدَت فَسَدَ الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلب” (1) .
فما أَوْلَى هذه المُضْغَة أن تكون متقدِّمةً في وجودها على سائر الأعضاء، وسائرها تبعٌ لها في الوجود، كما هي تبعٌ لها في الصلاح والفساد.
قالوا: وقد شاهد (2) أصحاب التشريح في “المَنِيِّ” عند انعقاده نقطةً (3) سوداء في وَسْطه.
قال أصحاب “الدِّماغ”: شاهدنا “الفِرَاخَ” في البيض (4) أوَّل ما يتكوَّن منها رؤوسُها، وسُنَّةُ الله في تكوُّن (5) الأجِنَّة في “الأرحام” كذلك.
قالوا: ولأنَّ “الدِّماغ” مجمعُ الحواسِّ، ورئيس البدن، وأشرفه.
قالوا: وهذه سُنَّةُ الله في بروز الجَنين، أوَّل ما يبدو منه إلى الوجود رأسُهُ.
قال أصحاب “الكبد”: لما كان “المَنِيُّ” محتاجًا إلى قوَّةٍ غَاذِيةٍ
__________
(1) “ألا وهي القلب” تكررت مرتين في (ز) و (ك) و (ح).
والحديث أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (52، 2051)، ومسلم في “صحيحه” رقم (1599)، من حديث النعمان بن بشير – رضي الله عنه -.
(2) في جميع النسخ: يشاهد، وما أثبته أنسب.
(3) في (ح) و (م): نطفةً!
(4) “في البيض” ساقط من (ك).
(5) في (ح) و (م): تلك.
(1/527)
تزيد في جوهره حتَّى يصير بحيث يمكن أن تُكَوَّنَ الأعضاءُ فيه؛ كان أوَّلَ الأعضاء وأسبَقَها إليه هو مَحَلُّ القوَّة الغَاذِية؛ وهو “الكبد”.
قال أصحاب “السُّرَّة”: حاجة الجَنِين إلى جَذْب الغذاء أشدُّ من حاجته إلى آلات قِوَاه وإدراكه، ومن “السُّرَّة” يَثِجُّ (1) الغذاء.
وأَوْلَى هذه الأقوال القولُ الأوَّل. ومرتبةُ (2) “القلب” وشَرَفُهُ ومنزلتُه ومَحَلُّه الذي وضَعَهُ الله به يقتضي أنَّه المبدوءُ به قبل سائر الأعضاء، المتقدِّمُ عليها بالوجود. والله أعلم (3).
فصل
فإن قيل الجَنِينُ قبل نفخ “الرُّوح” فيه، هل كان فيه حركةٌ وإحساسٌ أم لا؟
قيل: كان فيه حركة النُّمُوِّ والاغتذاء كالنَّبات، ولم تكن له حركة الحِسِّ (4) والإرادة، فلمَّا نُفِخَت فيه “الرُّوح” انضمَّت حركة حِسِّهِ وإرادته إلى حركة نُموِّه واغتذائه.
فإن قيل: قد ثبت أنَّ الولد يتخلَّقُ من ماء الأبوين، فهل يتمازجا
__________
(1) في (ح) و (م): يجذب!
و”يَثِجُّ”: يسيل ويَنْصَبُّ. انظر: “المصباح المنير” (110).
(2) في (ح) و (م): وهو بيت! وفي سائر النسخ: ومرتبته، وما أثبته هو الصحيح.
(3) ذكر نحوًا من هذا في “تحفة المودود” (408 – 409)، و”مفتاح دار السعادة” (2/ 19).
(4) في (م): الإحساس، وفي (ح): نموه.
(1/528)
ويختلطا (1) حتَّى يصيرا ماءً واحدًا، أو يكون أحدهما هو المادَّة والآخر بمنزلة “الإِنْفَحَة” (2) التي تعقده؟
قيل: هو موضعٌ اختلف فيه أرباب الطبيعة:
فقالت طائفةٌ منهم: “مَنِيُّ” الأب لا يكون جزءًا من الجَنين، وإنَّما هو مادَّة “الرُّوح” الساري في الأعضاء، وأجزاءُ البدن كلُّها من “مَنِيِّ” الأُمِّ.
ومنهم من قال: بل هو ينعقد من “مَنِيِّ” الأُمِّ (3)، ثُمَّ يتحلَّلُ ويفسد.
قالوا: ولهذا كان الولدُ جزءًا من أُمِّه، ولهذا جاءت الشريعة بتَبَعِيَّتِه لها في الحُرِّيَّةِ والرِّقِّ.
قالوا: ولهذا (4) لو نَزَا فَحْلُ رَجُلٍ على حِجْرَةِ (5) آخر فأَوْلَدَها؛ فالولدُ لمالك الأُمِّ دون مالك الفَحْل؛ لأنَّه تكوَّنَ من أجزائها وأحشائها ولحمها ودمها، وماءُ الأب بمنزلة الماء الذي يسقي الأرض.
__________
(1) كذا في النسخ، وهي عاميَّةٌ تأثَّر بها المؤلِّف، والوجه: يتمازجان ويختلطان.
(2) “الإنْفَحَة”: شيءٌ أصفر يستخرج من بطن الحَمْل أو الجَدْي الرضيع الذي لم يرعى النبتَ بعدُ، ليعصر في اللبن فيُصنَع منه الجبن.
انظر: “المصباح المنير” (846)، و”تاج العروس” (7/ 190).
(3) في (ح) و (م): الأنثى.
(4) بعده في (ز) زيادة: كان.
(5) “حِجْرَة”: هي أنثى الفَرَس. والأصل “حِجْر” بدون الهاء، وزيادتها لحنٌ عند أكثر أئمة اللغة.
انظر: “تاج العروس” (10/ 536).
(1/529)
قالوا: والحِسُّ يشهدُ أنَّ الأجزاء التي في المولود من أُمِّه أضعافُ أضعافِ الأجزاء التي فيه من أبيه.
فثبت أن تكوينه من “مَنِيِّ” الأُمِّ، ودَمِ الطَّمْثِ، و”مَنِيُّ” الأب عاقدٌ له كالإنْفَحَة.
ونازعهم الجمهور وقالوا: إنَّه يتكوَّنُ من “مَنِيِّ” الرَّجُل والأُنثى، ثُمَّ لهم قولان:
أحدهما: أنَّه يتكوَّنُ من “مَنِيِّ” الذَّكَر أعضاؤه وأجزاؤه؛ ومن “مَنِيِّ” الأُنثى صورته.
والثاني: أنَّ الأعضاءَ والأجزاءَ والصورةَ تكوَّنت من مجموع الماءَين، وأنَّهما امتزَجَا واختلَطَا وصارَا ماءً واحدًا.
وهذا هو الصواب (1)؛ لأنَّا نجد الصورة والتشكيل تارةً إلى الأب، وتارةً إلى الأُمِّ. والله أعلم.
وقد دلَّ على هذا قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13].
والأصل هو الذَّكَر، فمنه البَذْر، ومنه السَّقْي. والأُنثى وعاءٌ ومستودَعٌ لولده، تُرَبِّيه في بطنها كما تُرَبِّيه في حَجْرها. ولهذا كان الولدُ للأبِ حكمًا ونسبًا.
وأمَّا تبعيته للأُمِّ في الحُرِّيَّة والرِّقِّ فلأَنَّهُ إنَّما تكوَّنَ وصار ولدًا في
__________
(1) وهو اختيار: القاضي عياض في “إكمال المعلم” (2/ 151)، وأبي العباس القرطبي في “المفهم” (1/ 572).
(1/530)
بطنها، وغذَّتْهُ لبانها، مع الجُزْء الذي فيه منها. وكان الأبُ أحقَّ بنَسَبِه وتعصيبه؛ لأنَّه أصله، ومادَّته، ونسخته (1) . وكان أشرفهما دينًا أَوْلَى به؛ تغليبًا لدين الله وشرعه.
فإن قيل (2) : فهَلَّا طردَّتم هذا وقلتم: لو سَقَطَ بَذْرُ رَجُلٍ في أرض رَجُلٍ (3) آخر، يكون الزَّرْع لصاحب الأرض دون مالك البَذْر؟
قيل: الفرق بينهما أنَّ البَذْر مالٌ مُتَقَوَّمٌ نَبَتَ (4) في أرض آخر، فهو لمالكه، وعليه أجرة الأرض، أو هو بينهما. بخلاف “المَنِيِّ”؛ فإنَّه ليس بمالٍ، ولهذا نَهَى الشارعُ عن المعاوضة عليه (5) .
واتفق الفقهاء على أنَّ الفَحْلَ لو نَزَا على رَمَكَةٍ (6) لكان الولد لصاحب الرَّمَكَة (7) .
__________
(1) قال المؤلف في “إعلام الموقعين” (3/ 268):
“قد اتفق المسلمون على أنَّ النَّسَب للأب، كما اتفقوا على أنَّه يتبع الأُمَّ في الحريَّة والرِّقِّ”.
(2) ساقط من (ز).
(3) ساقط من (ح) و (م).
(4) ساقط من (ح) و (م).
(5) روى البخاري في “صحيحه” رقم (2284) من حديث نافع، عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: “نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – عن عَسْب الفَحْل”.
وروى مسلم في “صحيحه” رقم (1565) من حديث جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – قال: “نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن بيع ضِرَاب الجَمَل”.
(6) “رَمَكَة” – بفتح الجميع -: الأنثى من البَرَاذِين، والجمع: رِمَاك، كـ: رَقَبَة ورِقَاب. “المصباح المنير” (326).
(7) حكى هذا الاتفاق – أيضًا – في “إعلام الموقعين” (3/ 267).
(1/531)
فصل
فإن قيل: فهل يتكوَّنُ الجَنِينُ من ماءَين وَوَاطِئَين؟
قيل: هذه المسألةُ شرعيَّةٌ كونيَّةٌ، والشَّرْعُ فيها تابعٌ للتكوين. وقد اختُلِف فيها شَرْعًا وقَدَرًا:
فمنعت ذلك طائفةٌ وأَبَتْهُ كلَّ الإباء، وقالت: الماء إذا استقرَّ في “الرَّحِم” اشتملَ عليه، وانضمَّ غاية الانضمام، بحيث لا يبقى فيه مقدار رَسْم رأس إبرة إلَّا انْسَدَّ (1)، فلا يمكن انفتاحه بعد ذلك لماءٍ ثانٍ، لا من الواطئ، ولا من غيره.
قالوا: وبهذا أجرى اللهُ العادةَ؛ أنَّ الولد لا يكون إلَّا لأبٍ واحدٍ، كما لا يكون إلَّا لأُمٍّ واحدةٍ.
وهذا هو مذهب الشافعي (2).
__________
(1) في جميع النسخ: وإلا فَسَد، وما أثبته أنسب للسياق.
(2) انظر: “الأم” (7/ 604)، و”معرفة السنن والآثار” للبيهقي (14/ 365 – 376)، و”البيان” للعمراني (8/ 27).
قال الإمام الماوردي – رحمه الله – في “الحاوي” (17/ 384) ما ملخصه:
“والدليل على إبطال إلحاق الولد بأبوين، قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13]، وهذا خطابٌ لجميعهم، فدلَّ على انتفاء خلق أحدهم من ذكرين وأنثى. وقال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان: 2]، فمَنَع أن يكون مخلوقًا من نطفتين.
ويدلُّ عليه أن ليس في سالف الأُمَم وحديثها، ولا جاهلية ولا إسلام؛ أن نسبوا أحدًا إلى أبوين، وفي إلحاقه باثنين خرق العادات، وفي خرقها إبطال المعجزات، وما أفضى إلى إبطالها بطَل في نفسه، ولم يبطلها. والذي يؤكد ذلك – مع ما قدَّمناه – شيئان: =
(1/532)
وقالت طائفةٌ: بل يتخلَّقُ من ماءَين فأكثر.
قالوا: وانضمامُ “الرَّحِم” واشتمالُه على الماء لا يمنع قبوله الماءَ الثاني، فإنَّ “الرَّحِمَ” أَشْوَقُ (1) شيءٍ وأَقْبَلُه “للمَنِيِّ”.
قالوا: ومثال ذلك مثال “المعدة”، فإنَّ الطعام إذا استقرَّ فيها انضمَّت عليه غاية الانضمام، فإذا ورد عليها طعامٌ فوقه انفتحت له، لشوقها (2) إليه.
قالوا: وقد شَهِدَ بهذا القائفُ بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب – رضي الله عنه – في ولدٍ ادَّعاهُ اثنان، فنظر إليهما وإليه، وقال: “ما أراهما إلا اشتركا فيه”. فوافقه عمر – رضي الله عنه – وألحقه بهما (3) .
__________
= أحدهما: ما أجمع عليه أُمم الطبِّ في خلق الإنسان، أنَّ عُلُوق الولد يكون حين يمتزج ماء الرجل بماء المرأة، ثُمَّ تنطبق الرَّحِم عليهما بعد ذلك الامتزاج، فينعقد علوقه لوقته، ولا يصل إليه ماءٌ آخر، لا من ذلك الواطئ ولا من غيره.
والثاني: أنَّه لمَّا استحال في شاهد العرف أن تنبت السنبلة من حَبَّتين، وتنبت النخلة من نواتين، دلَّ على استحالة خلق الولد من ماءين. والله أعلم”.
وهذا التقرير البديع يوافق تمامًا ما انتهى إليه الأطبَّاء المعاصرون في “علم الأجِنَّة” الحديث، والقول -في مثل هذا – قولهم.
انظر: “خلق الإنسان بين الطبِّ والقرآن” للدكتور: محمد علي البار (484 – 485).
(1) في (ز) و (ك) و (ط): أنشق، وفي (ح) و (م): أشفق، والصواب ما أثبته.
(2) “له لشوقها” ملحق بهامش (ك).
(3) أخرجه: عبد الرزاق في “المصنف” (7/ 360)، وسعيد بن منصور في “سننه” كما في “المغني” (8/ 377)، والبيهقيُّ في “السنن الكبرى” (10/ 264)، وفي “معرفة السنن والآثار” (14/ 368)، والطحاوي في “شرح معاني الآثار” (4/ 162)، وفي “شرح مشكل الآثار” (12/ 253)، والزبير بن بكار في “الأخبار =
(1/533)
ووافقه على ذلك الإمام أحمد (1) ، ومالك (2) – رضي الله عنهما -.
__________
= الموفقيات” (363)، وحرب الكرماني في “مسائله” (227).
وهذا الأثر ضعفه: الشافعي، والبيهقي، وابن حزم في “المحلى” (10/ 149)، وأعلُّوه بالانقطاع.
لكن له طرق كثيرة متصلة ترتقي بالأثر إلى درجة الصحة، ولهذا قال الطحاوي: “رُوي عن عمر من وجوهٍ صحاح”.
وصححه: ابن القيم في “الطرق الحكمية” (257)، والألباني في “إرواء الغليل” (6/ 25).
(1) انظر: “المغني” (8/ 377) و (9/ 208)، و”الإنصاف” (6/ 456)، و”المبدع” (5/ 308).
(2) انظر: “المدوَّنة” (3/ 339)، و”النوادر والزيادات” (13/ 211)، و”المعونة” للقاضي عبد الوهاب (2/ 1085).
وههنا مسألتان:
الأولى: إمكان تخلُّق الولد من ماءَين؛ فذهب أبو حنيفة، ومالك، وأحمد إلى جوازه. ومنعه الشافعي وجماعة.
والثانية: مسألة “القَافَة”، فيقال:
إذا تداعى رجلان ولدًا – وأمكن ذلك – وليس لأحدهما بَيِّنةٌ، فقد اختلف أهل العلم في ذلك على أقوال:
الأوَّل: أنه يُقْرَعُ بينهما. وهذا مرويٌّ عن عليٍّ – رضي الله عنه -، وقال به: إسحاق بن راهويه، والشافعي في القديم، واختاره ابن حزم في “المحلَّى” (10/ 148).
والثاني: أنَّه يُنْسَب إليهما جميعًا بدون قُرْعَة ولا نظر قائف. وهذا مذهب: النخعي، والثوري، وأبي حنيفة، وأهل الكوفة. “بدائع الصنائع” (5/ 366).
والثالث: أنَّه يُدْعَى له القَافَة. وهذا مرويٌّ عن: عمر، وعلي، وابن عباس، وأنس، وأبي موسى الأشعري – رضي الله عنهم جميعًا -، وهو مذهب جمهور الأُمَّة.
وحينئذٍ لا يخلو من حالتين:
الأولى: أن يُلْحِقَهُ القَافَةُ بأحدهما؛ وحينئذٍ يلتحق به بلا نزاعٍ بين القائلين =
(1/534)
قالوا: والحِسُّ، يشهدُ بذلك، كما نرى في جِرَاءِ (1) الكلبةِ والسِّنَّوْرِ، تأتي بها مختلفة الألوان لتعدُّدِ آبائها.
وقد قال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: “من كان يؤمنُ بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءَهُ زَرْعَ غيرِهِ” (2) ، يريد وَطْءَ الحامل من غير الواطئ.
قال الإمام أحمد: “الوَطْءُ يزيد في سمع الولد
__________
= بالقَافَة.
والثانية: أن يُلْحِقَهُ القَافَةُ بهما جميعًا، فاختلف أهل العلم على أقوال:
الأوَّل: أنَّه لا يلتحق بهما، بل إن كان الولد كبيرًا خُيِّر بينهما، فيلحق بأيِّهما شاء، وإن كان صغيرًا انتُظِرَ به حتى يكبر فيختار.
وهذا مذهب: الشافعي، ومالك.
والثاني: أنَّه يلحق بهما جميعًا، ويصيران أبوين له، يرثهما ويرثانه.
وهذا قول: أبي ثور، وسحنون، وابن القاسم من المالكية، وهو مذهب أحمد – وهو من المفردات -، وقال به بعض الشافعية.
والثالث: أنَّه يُلْحَقُ بأكثرهما شبهًا له. وهذا قول: عبد الملك بن الماجشون، ومحمد بن مسلمة المالكيَّيْن.
انظر: “شرح السنَّة” (9/ 285)، و”تهذيب السنن” (3/ 175)، و”المفهم” (4/ 201)، و”الاستذكار” (22/ 187)، و”مختصر اختلاف العلماء” (4/ 450).
(1) “جِرَاء” جمع: جِرْو – بكسر الجيم وضمِّها -؛ وهو ولد الكلب والسباع. “مختار الصحاح” (116).
(2) أخرجه: أحمد في “المسند” (4/ 108 و 109)، وأبو داود في “سننه” رقم (2158)، والترمذي في “سننه” رقم (1131)، وابن أبي شيبة في “المصنف” رقم (37881)، وابن حبَّان في “صحيحه” رقم (4850)، وغيرهم من حديث رويفع بن ثابت الأنصاري – رضي الله عنه -.
قال الترمذي: “حديث حسن”، وصحَّحه ابن حبَّان.
وحسَّنه الحافظ في “الفتح” (6/ 294).
(1/535)
وبصره” (1).
هذا بعد انعقاده؛ وعلى هذا مسألةٌ فقهيَّةٌ، وهي: لو أَحْبَلَ أَمَةَ غيره بنكاحٍ أو زنىً، ثُمَّ مَلَكَها؛ هل تصير أُمَّ ولدٍ له؟ فيها أربعة أقوالٍ للفقهاء (2)، وهي روايات عن الإمام أحمد (3):
أحدها: لا تصير أُمَّ ولدٍ؛ لأنَّها لم تَعْلَق بالولد في ملكه.
والثاني: تصير أُمَّ ولدٍ؛ لأنَّها وضعت في ملكه.
والثالث: إن وضعت في ملكه صارت أُمَّ ولدٍ، وإن وضعت قبل أن يملكها لم تصر (4)؛ لأنَّ الوضع والإحبال كان في غير ملكه.
والرابع: أنَّهُ إنْ (5) وطئها بعد (6) أن ملكها صارت أُمَّ ولدٍ، وإلا فلا؛ لأنَّ الوطء يزيد في خِلْقَة الولد، كما قال الإمام أحمد: “الوطء يزيد في سمع الولد وبصره”. وهذا أرجح الأقوال.
__________
(1) نقله عنه – أيضًا – في “تهذيب السنن” (3/ 74)، و”زاد المعاد” (5/ 155 و 425).
وقد جاء هذا المعنى مرفوعًا من حديث رويفع بن ثابت الأنصاري – رضي الله عنه – المتقدم، وفيه قال: سمعتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ينهى أن توطأ الحامل حتى تضع؛ وقال: “إنَّ أحدكم يزيد في سمعه، وفي بصره”.
أخرجه: الطبراني في “المعجم الكبير” (5/ 28) رقم (4490)، وشواهده كثيرة.
(2) ساقط من (ح) و (م).
(3) انظر: “الإنصاف” (7/ 492)، و”الفروع” (5/ 130).
(4) “وإن وضعت قبل أن يملكها لم تصر” هذه العبارة بدلًا عنها في (ز): وإلا فلا.
(5) ساقط من (ك).
(6) “بعد” ملحق بهامش (ك).
(1/536)
وقد ثبت عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – أنَّه مَرَّ بامرأةٍ مُجِحٍّ على باب فُسطاطٍ، فقال: “لعلَّ سيِّدَها يريد أنْ يُلِمَّ بها، لقد هَمَمْتُ أن أَلْعَنَهُ لعنًا يدخل معه قبره، كيف يُورِّثُه وهو لا يَحِلُّ له (1) ؟ كيف يستعبدُه (2) وهو لا يَحِلُّ له (3) ؟! ” (4) .
و”المُجِحُّ”: الحاملُ المُقْرِبُ.
وقوله: “كيف يُورِّثه” (5) ، أي: يجعل (6) الولد تركةً مورَّثةً عنه كأنَّه (7) عبدُه، ولا يحلُّ له ذلك؛ لأنَّه قد صار فيه جزءٌ من أجزائه بوطئه، وكيف يجعله عبدَهُ، وهو لا يحلُّ له ذلك (8) ؟
__________
(1) ساقط من (ز) و (ك).
(2) كذا في (ز) و (ك)، ولفظ مسلم: “يستخدمه”.
(3) “كيف يستعبده وهو لا يحل له” ساقط من (ح) و (م).
(4) أخرجه: مسلم في “صحيحه” رقم (1441) من حديث أبي الدرداء – رضي الله عنه -.
“الفسطاط”: خِبَاءٌ صغيرٌ نحو بيت الشَّعْر.
“يُلِمَّ بها”: أي: يطأها، وقد كانت حاملًا مسبِيَّةً لا يحل جماعها حتى تضع.
انظر: “شرح مسلم” للنووي (10/ 14 – 15).
(5) “كيف يورِّثه” ساقط من (ك).
(6) بعده في (ح) و (م) زيادة: له.
(7) في جميع النسخ: لأنه، وما أثبته أنسب.
(8) هذا المعنى الذي ذكره المؤلف هاهنا قد انتصر له في “تهذيب السنن” (3/ 73 – 74)، وعليه أكثر شُرَّاح “صحيح مسلم” كـ: القاضي عياض في “الإكمال” (4/ 621)، والمازري في “المعلم” (2/ 104)، وأبي العباس القرطبي في “المفهم” (4/ 172).
ولم يرتضه النووي، وقال: “هذا القول ضعيفٌ أو باطل”! ثم ذكر تفسيرًا =
(1/537)
فهذا دليلٌ على أنَّ وَطْء الحامل يزيد في الأجزاء، وقد دلَّت المشاهدةُ على أنَّ الحامل إذا وُطِئت كثيرًا جاء الولد عَبْلًا (1) ممتلئًا، وإذا هُجِر وطؤها جاء الولد ضئيلًا ضعيفًا.
فهذه أسرارٌ شرعيَّةٌ موافقةٌ للأسرار الطبيعيَّة، مبنيَّةٌ عليها. والله أعلم.
فإن قيل: فهل يمكن أن يُخْلَقَ من الماء الواحد (2) ولَدَان في بطنٍ واحدٍ؟
قيل: هذه مسألة “التَّوْأَم”، وهو ممكن، بل قد وقع، وله أسباب:
أحدها: كثرة “المَنِيِّ”، فيفيضُ (3) إلى بطن “الرَّحِم” دُفُعَاتٍ، و”الرَّحِمُ” يعرض له عند الحركة الجاذبة (4) “للمَنِيِّ” حركاتٌ اختلاجيَّةٌ مختلفةٌ، فَرُبَّما اتَّفَق أنْ كان الجاذب (5) للدفعة الأولى من “المَنِيِّ” أحد جانبيه، وللثانية الجانب الآخر.
ومنها: أنَّ بيت الأولاد في “الرَّحِم” فيه تجاويف، فيكون “المَنِيُّ” كثيرًا، فيَفْضُل عن أحدها فَضْلَةٌ يشتمل عليها التجويف الثاني، وهكذا الثالث.
__________
= آخر للحديث؛ انظره في “شرح مسلم” (10/ 15). وهو عين ما ذكره الخطابي في “معالم السنن” (2/ 614).
(1) “عَبْلًا” أي: تامَّ الخَلْق، ضَخْمًا. “مختار الصحاح” (434).
(2) ساقط من (ح) و (م).
(3) في (ح) و (م): فيقبض.
(4) في (ز) و (ك) و (ط): الحادثة، وما أثبته من (ح) و (م).
(5) في (ز) و (ك) و (ط): الحادث، وما أثبته من (ح) و (م).
(1/538)
قال أرسطو: “وقد يعيش للمرأة خمسةُ أولادٍ في بطنٍ واحدٍ”. وحَكَى عن امرأةٍ أنَّها وضعت في أربع بطونٍ عشرين ولدًا.
قال صاحب “القانون” (1): “سمعت بـ “جُرْجَان” أنَّ امرأةً أسقطت كيسًا فيه سبعون صورةً، كلُّ صورةٍ (2) صغيرةٌ جدًّا”.
قال أرسطو: “وإذا أَتْأَمَتْ بذكرٍ وأُنثى فقلَّما تَسْلَمُ الوالدةُ والمولود، وإذا أَتْأَمَتْ بذكرين أو أُنثيين فتَسْلَمُ كثيرًا”.
قال: “والمرأة قد تَحْبَلُ على الحَبَلِ، ولكن يهلك الأوَّل في الأكثر، فقد أسقطت امرأةٌ واحدةٌ اثني عشر جنينًا، حَمْلًا على حَمْلٍ. وأمَّا إذا كان الحَمْلُ واحدًا، أو بعد وضع الأوَّل: فقد يعيشان”. والله أعلم.
فصل
فإن قيل: فما السبب المانع للحامل من الحيض غالبًا. قال الإمام أحمد وأبو حنيفة: إنَّ ما تراه من “الدَّم” يكون دم فسادٍ لا حيض. والشافعيُّ وإنْ قال إنَّه دمُ حيضٍ – وهو إحدى الروايتين عن عائشة – فلا ريب أنَّه نادرٌ بالإضافة إلى الأغلب؟
__________
(1) هو ابن سينا، وقد سبقت ترجمته (ص/ 510).
وكتاب “القانون” من أعظم ما أُلِّف في الطبِّ، ونفعه مستمرٌّ إلى عصرنا، وقد طبع قديمًا في أوربا في مطبعة روما سنة (1593 م). وذكر الزركلي في “الأعلام” أنه طبع في سنة (1476 م).
انظر: “مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي” محمود الطناحي (27).
(2) “كل صورة” ساقط من (ح) و (م).
(1/539)
قيل: دم الطَّمْثِ ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
1 – قسمٌ ينصرف إلى غذاء الجَنين.
2 – وقسمٌ يصعد إلى البدن.
3 – وقسمٌ يَحْتَبِسُ إلى وقت الوَضْع، فيخرج مع الولد، وهو “دَمُ النِّفَاس”.
ورُبَّما كانت مادَّةُ “الدَّم” قويَّةً – وهو كثيرٌ – فيخرج بعضُه؛ لقوَّته وكثرته.
والراجح من الدليل أنَّه حيضٌ، حكمُهُ حكمُهُ، إذ ليس هناك دليلٌ عقليٌّ ولا شرعيٌّ يمنع من كونه حيضًا، واستيفاء الأدلَّة من الجانبين قد ذكرناه في موضعٍ آخر (1). والله أعلم.
فإن قيل: فما السبب في أنَّ النِّساءَ الحُبَالَى يَشْتَقْنَ في الشهر الثاني والثالث إلى تناول الأشياء الغريبة التي لم تَعتَد بها طباعُهُنَّ؟
قيل: لأنَّ دم الطَّمْثِ لمَّا احتُبِسَ فيهنَّ بحكمةٍ قدَّرها الله – سبحانه – وهي صَرْفُه غذاءً للولد، ومقدار ما يحتاج إليه يسير، فتدفعه الطبيعة الصحيحة إلى فم “المَعِدَة”، فتحدث لهنَّ شهوة تلك الأشياء الغريبة.
__________
(1) انظر: “تحفة المودود” (414 – 417)، و”زاد المعاد” (5/ 731 – 738) وفيه بسطٌ.
وقد ذكر المؤلف عن نفسه أنه أفرد هذه المسألة بمصنَّف، انظر: “تهذيب السنن” (3/ 109).
(1/540)
فإن قيل: فكيف وَضْعُ الجَنين في بطن أُمِّهِ: أقائمًا، أم قاعدًا، أم مضطجِعًا؟
قيل: هو معتمِدٌ بوجهه على رجليه، وبراحتيه على ركبتيه، ورجلاه مضمومةٌ إلى قُدَّامه (1)، ووجهه إلى ظهر أُمِّه. وهذا من العناية الإلهيَّة به؛ أن أَجْلَسَهُ هذه الجِلْسَة في هذا المكان الضيِّق، فهو في “الرَّحِم” على الشكل الطبيعي.
وأيضًا؛ فلو كان رأسُهُ إلى أسفل لوقع ثِقَلُ الأعضاء الخسيسة على الأعضاء الشريفة، وأدَّى ذلك إلى تَلَفِهِ.
ولأنَّه عند محاولة الخروج إذا انقلب أعَانَهُ ثِقَلُه على الخروج، فإنَّه إذا خرَجَ أوَّلَ ما يخرُجُ منه رأسُهُ؛ لأنَّ “الرأس” إذا خرج أوَّلًا كان خروج سائر الأعضاء بعده سهلًا، ولو خرج على غير هذا الوجه لكان فيه تَعْوِيقٌ وعُسْرٌ. فإنَّ “الرجْلَين” لو خَرَجَتَا أوَّلًا انْعَاقَ خروج الباقي؛ فإنَّهُ إنْ خرجت “الرِّجْلُ” الواحدة أوَّلًا انْعَاقَ عند الثانية، وإن خرجتا معًا انعاق عند “اليدين”، وإن خرجت “اليدان” و”الرجْلَان” انعاق عند “الرأس”، فكان يلتوي إلى خلف وتلتوي “السُّرَّةُ” إلى”العُنُق” فيألم “الرَّحِم”، ويصعب (2) الخروج، ويؤدِّي إلى مَرَضِهِ أو تَلَفِهِ.
فإن قيل: فما سبب الإجْهَاض – الذي يسمُّونه “الطَّرْح” – قبل كمال الولد؟
قيل: الجَنين في “البَطْن” بمنزلة الثمرة في الشجرة، وكلٌّ منهما له
__________
(1) من (ط)، وفي باقي النسخ: قدماه! وجاء في هامش (ز): فخذيه.
(2) في (ح) و (م): ويضعف.
(1/541)
اتصالٌ قويٌّ بالأُمِّ، ولهذا يصعب قطع الثمرة قبل كمالها من الشجرة وتحتاج إلى قوَّة، فإذا بلغت الثمرة نهايتها سَهُلَ قَطْعُها، ورُبَّما سقطت بنفسها؛ وذلك لأنَّ تلك الرِّبَاطَات والعُرُوق التي كانت تُمِدُّها من الشجرة كانت في غاية القوَّة، فتوفر (1) لغذاء آخر، رجع ذلك الغذاء إلى الشجرة فَضَعُفَت تلك الرِّبَاطات (2) والمجاري، وساعدها ثِقَلُ الثمرة، فسَهُلَ أخذها. وكذا الأمر في الجَنين، فإنَّه ما دام في “البَطْن” قبل كماله واستحكامه، فإنَّ رطوباته وأغشيته ورباطاته (3) تكون مانعةً (4) له من السقوط، فإذا تمَّ وكَمُلَ ضَعُفَت تلك الرِّبَاطات (5)، وانْهَتَكَت الأغشيةُ، واجتمعت تلك الرُّطُوبات المُزْلِقَة؛ فسقط الجَنين. هذا الأمر الطبيعي الجاري على استقامة الطبيعة وسلامتها.
وأمَّا السقوط قبل ذلك فلفسادٍ في الجَنين، أو لفسادٍ في طبيعة الأُمِّ، أو لِضَعْف الطبيعة. كما تسقط الثمرة قبل إدراكها لفسادٍ يعرض لها، أو لِضَعْف الأصل، أو لفساد يعرض من خارج. فإسقاط الجَنين لسببٍ من هذه الأسباب الثلاثة، فالآفات التي تصيب الأَجِنَّة بمنزلة الآفات التي تصيب الثمار.
فإن قيل: فكيف فَمُ (6) “الرَّحِم” مع ضِيقه يتَّسع
__________
(1) من (ز) و (ك) و (ط)، وفي (ح):: فنور! وفي (م): فتوخر!! والعبارة مرتبكة.
(2) في جميع النسخ: الرطوبات، وما أثبته أصح.
(3) ساقط من (ح) و (م).
(4) ساقط من (ز).
(5) في (ح) و (م): الرطوبات.
(6) ساقط من (ح) و (م).
(1/542)
لخروج (1) ما هو أكبر منه بأضعافٍ مضاعفةٍ؟
قيل: هذا من أعظم الأدلَّة على عناية الرَّبِّ – تعالى – وقدرته ومشيئته، فإنَّ “الرَّحِم” لا بدَّ أن ينفتح الانفتاحَ العظيمَ جدًّا. قال غير واحدٍ من العقلاء: ولا بدَّ من انفصالٍ يعرض للمفاصل العظيمة، ثُمَّ تلتئم بسرعةٍ (2) أسرع من لَمْح البصر.
وقد اعترف فضلاءُ الأطبَّاء وحُذَّاقُهم بذلك، وقالوا: لا يكون ذلك إلا بعنايةٍ إلهيَّةٍ، وتدبيرٍ تعجز العقول عن إدراكه، وتُقِرُّ للخلَّاق العليم بكمال الربوبيَّة والقدرة.
فإن قيل: فما السبب في بكاء الصبيِّ حال خروجه إلى هذه الدار؟
قيل: هاهنا سببان: سببٌ باطنٌ أخبر به (3) الصادق المصدوق، لا يعرفه الأطبَّاء. وسبب ظاهرٌ.
فأمَّا السبب الباطن؛ فإنَّ الله – سبحانه – اقتضت حكمته أن وكَّلَ بكلِّ واحدٍ من أولاد آدم شيطانًا، فشيطان هذا المولود قد حُبِس (4) ينتظر خروجه ليقارنه ويتوكَّلَ به، فإذا انفصل استقبله الشيطان وطعنه في خاصرته، تحرُّقًا عليه وتغيُّظًا، واستقبالًا له بالعداوة التي كانت بين الأبوين قديمًا، فيبكي المولود من تلك الطعنة. ولو آمن زنادقةُ الأطبَّاء والطبائعيين بالله ورسوله لم يجدوا عندهم ما يبطل ذلك ولا يردُّه.
__________
(1) في جميع النسخ: بخروج، وفي (ح) و (م): يخرج منه، والصواب ما أثبته.
(2) من (ط)، وفي (ز) و (ك): سرعة، وفي (ح) و (م): مسرعة.
(3) ساقط من (ك).
(4) في (ح) و (م): خَنَس.
(1/543)
وقد ثبت في “صحيح مسلم” (1) عن أبي هرِيرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “صياحُ المولود حين يقع نَزْغَةٌ من الشيطان”.
وفي “الصحيحين” من حديثه – أيضًا – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ما من مولودٍ يولد إلا نَخَسَهُ الشيطانُ، فيستهِلُّ صارخًا من نَخْسَة (2) الشيطان، إلا ابنَ مريمَ وأُمَّه” (3) .
وفي لفظٍ آخر: “يمسُّهُ حين يولد، فيستَهِلُّ صارِخًا من مَسِّ الشيطان إيَّاهُ” (4) .
وفي لفظٍ آخر: “كلُّ بني آدم يمسُّهُ الشيطانُ يوم ولدته أُمُّه، إلا مريمَ وابنَها” (5) .
وفي لفظٍ للبخاري (6) : “كلُّ بني آدم يَطْعَنُ الشيطانُ في جَنْبه (7) بإصْبَعِه حين يولد، غير عيسى ابن مريم، ذهب يطعن فَطَعَنَ في الحِجَاب”.
__________
(1) رقم (2367).
(2) في (ك): مسّ.
(3) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (3431، 4548)، ومسلم في “صحيحه” رقم (2366)، واللفظ له.
(4) أخرجه: البخاري برقم (3431، 4548)، ومسلم برقم (2366).
(5) هو في الصحيحين – كما سبق تخريجه – واللفظ لمسلم.
(6) رقم (3286).
(7) كذا في جميع النسخ، وهو الموافق لرواية الأكثرين كما قال الحافظ في “الفتح” (6/ 394)، وفي رواية أبي ذر الجرجاني بالتثنية: جنبيه.
قال الحافظ: “والمراد بالحجاب: الجلدة التي فيها الجنين، أو الثوب الملفوف على الطفل”.
(1/544)
والسبب الظاهر – الذي لا يُخْبِر الرُّسُل بأمثاله لِرُخْصِهِ (1) عند النَّاس، ومعرفتهم له من غيرهم – هو مفارقته للمَأْلَفِ (2) والعادةِ التي كان فيها إلى أمرٍ غريبٍ، فإنَّه ينتقل من جسمٍ حارٍّ إلى هواءٍ باردٍ، ومكانٍ لم يَأْلَفْهُ، فيستوحش من مفارقته وَطَنَهُ ومَأْلَفَهُ.
وعند أرباب الإشارات أنَّ بكاءَهُ إرهاصٌ (3) بين يدي ما يلاقيه من الشدائد والآلام والمخاوف، وأنشدوا في ذلك:
ويَبْكِي بها المولودُ حتَّى كأنَّهُ … بكُلِّ الذي يلْقَاهُ فيها يُهَدَّدُ
وإلَّا؛ فما يُبْكِيهِ فيها، وإنَّها … لأَوْسَعُ مِمَّا كانَ فيهِ وأَرْغَدُ؟ (4)
ولهم نظير هذه الإشارة في قبض كَفِّهِ عند خروجه إلى الدنيا، وفي فتحها عند خروجه منها، وهو الإشارة إلى أنَّهُ خرج إليها مركَّبًا على الحِرْصِ والجَمْع (5)، وفَارَقَها صِفْر اليدين منها، وأنشدوا في ذلك:
__________
(1) أي: لسهولة معرفته. والمثبت من (م)، وفي باقي النسخ: برخصه عن.
(2) في (ح) و (م): للمألوف.
و”المَأْلَف”: الموضع الذي يألفه الإنسان. “المصباح المنير” (25).
(3) في جميع النسخ: إرهاصًا!
والمراد بـ “إرهاص” أنَّه مقدِّمةٌ له، وإيذانٌ به.
انظر: “تاج العروس” (17/ 608).
(4) “ديوان ابن الرومي” (393)، ولفظه:
لِمَا تُؤذِنُ الدنيا به من صُرُوفها … يكون بكاءُ الطفل ساعةَ يُولَدُ
وإلَّا فما يبكيه منها وإنَّها … لأَفْسَحُ ممَّا كان فيه وأرغَدُ
إذا أَبْصَرَ الدنيا اسْتَهَلَّ كأنَّه … بما سوف يلقى من أذاها يُهَدَّدُ
(5) في (ح) و (م): والطمع.
(1/545)
وفي قَبْضِ كَفِّ الطِّفْل عند وِلَادِهِ … دليلٌ على الحِرْصِ الذي هو مالكُهْ
وفي فَتْحِها عندَ المَمَاتِ إشارةٌ … إلى فُرْقَةِ المالِ الذي هو تاركُهْ (1)
ولهم نظير هذه الإشارة في بكاء الطفل عند خروجه، وضَحِكِ مَنْ حوله، وأنَّ الأمر سيُبَدَّلُ ويصير إلى ما يُبْكي مَنْ حوله عند موته، كما ضحكوا عند ولادته، وأنشدوا في ذلك:
أَنَسِيتَ إذْ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ باكيًا (2) … والنَّاسُ حولَكَ يضحكونَ سُرورَا
فَاعْمَلْ لَعَلَّكَ أنْ تكونَ إذا بَكَوا … في يومِ مَوْتِكَ ضاحِكًا مسرورَا (3)
ونظير هذه الإشارة – أيضًا – قولهم: إنَّ المولود حين ينفصل يَمُدُّ يَدَهُ إلى فِيهِ، إشارةً إلى تعجيل نُزُلِهِ (4) عند القدوم بأنَّه ضيفٌ (5) ، ومن تمام إكرامه تعجيل قِرَاهُ (6) ، فأشارَ بِلِسَان الحال إلى ترك التأخير، ورُبَّما
__________
(1) لم أهتدِ إلى قائله، لكنه استفاد هذا المعنى ممَّا ينسب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه – كما في “ديوانه” (134) بلفظ:
وفي قَبْضِ كفِّ الطفل عند وِلَادِهِ … دليلٌ على الحرصِ المركَّب في الحيِّ
وفي بَسْطِها عند المماتِ إشارةٌ … أَلَا فانظُروني قد خرجتُ بلا شيِّ
ومن هذا المعنى ما نقله ابن رجب الحنبلي في “ذيل طبقات الحنابلة” (3/ 144) عن الفخر إسماعيل الحنبلي أنه أنشد:
دليلٌ على حِرْصِ ابنِ آدمَ أنَّهُ … تَرَى كفَّهُ مضمومةً وقْتَ وَضْعِه
ويَبْسُطُها عند الممات إشارةً … إلى صُفْرِها ممَّا حَوَى بعد جَمْعِه
(2) في هامش (ك): ولدتك أمك باكيًا مستصرخًا.
(3) انظر: “مسامرة الندمان” للرازي (335).
(4) “نُزُل”: ما يُهَيَّأُ للنزيل من الطعام. “المصباح المنير” (824).
(5) في (ز): ضعيف.
(6) “القِرَى”: ما يقدَّم للضيف. “مختار الصحاح” (559).
(1/546)
مَصَّ إصْبَعَهُ إشارةً إلى نهاية فَقْرِهِ، وأنَّه بلَغَ منه إلى مَصِّ الأصابع، ومنه قول النَّاس لِمَنْ بلَغَ به الفقرُ غايته: “هو يَمُصُّ أصابِعَهُ”.
ويَهْوِي إلى فِيهِ يَمُصُّ بَنَانَهُ … يُطَالِبُ بالتعجيلِ خَوفَ التشَاغُلِ
ويُعْلِمُهُم: إنِّي فقيرٌ وليس لي … من القُوتِ شيءٌ غيرُ مَصِّ أَنَامِلي
ونظير هذه الإشارة أنَّه يُحْدِثُ حالَ ولادته، يقول بلسان الحال: لا تُنْكِرُوا إحدَاثَ من استفتح بالحَدَثِ في دار الحَدَث (1) ، كذلك كنتم من قبل، وليس العَجَبُ ممَّن أحدَثَ؛ بل العجَبُ ممن يُطَهَّرُ من الحَدَث.
ويُحْدِثُ بين الحاضِرين إشارةً … إلى أنَّهُ من حادِثٍ ليس يُعْصَمُ
يقول: وعندِي بعدَ ذِي أخواتُها … وما منكُمُ إلَّا وذُو العَرْشِ أَرْحَمُ
ونظير هذه الإشارة أنَّه يضحك بعد الأربعين، وذلك عندما يتعقَّلُ نَفْسَهُ الناطِقَةَ ويدركُها، وفي ذلك قِصَاصٌ من البكاء الذي أصابه عند ولادته. وتأخَّرَ بعده؛ لئلَّا يَيْأَس (2) العبدُ إذا أصابته شدَّةٌ، فالفَرَجُ كامِنٌ بِطَيِّهَا في آثارها.
ويَضْحَكُ بعدَ الأربعين إشارةً … إلى فَرَجٍ وَافَاهُ بعدَ الشَّدَائدِ
يقولُ: هي الدنيا، فَتُبْكِيكَ مرَّةً … وتُضْحِكُ أخرى، فاصْطَبِرْ للعوائِدِ
__________
(1) “في دار الحَدَث” ساقط من (ح) و (م).
(2) من (ط)، وفي باقي النسخ: يتأسَّى.
وفي (ح) و (م): “لكي يتأسَّى”، وهذا معنىً صحيح، فإن التَّأْسِية: التَّعْزِية. تقول: أَسَّاهُ تأسِيَةً فتأسَّى؛ أي: عزَّاهُ فتَعَزَّى. “القاموس” (1626).
(1/547)
قالوا: ويرى المنامات بعد ستين يومًا من ولادته، ولكن ينساها لِضَعْف القوَّةِ الحافظة، وكثرة الرُّطُوبات. وفي ذلك لُطْفٌ به – أيضًا – لضَعْفِ (1) قلبه عن التفكر فيما (2) يراه.
ويرى بعَيْنِ القلبِ – إذ تأتي له … ستون يومًا – رؤيةَ الأحلامِ
لكنَّهُ ينْسَاهُ بَعْدُ لضَعْفِهِ … عن ضَبْطِهِ في يَقْظَةٍ ومَنَامِ
فصل
ولمَّا تكامَلَ “للنُّطْفة” أربعون يومًا فاستَحْكَمَ نُضْجُها، وعقَدَتْها حرارةُ “الرَّحِم”؛ استعدَّت لحالةٍ هي أكملُ من الأُولَى، وهي الدمُ الجامد (3) الذي يشبه “العَلَقَة”، ويَقْبَلُ الصورةَ ويحفظُها بانعقادها وتماسُكِ أجزائها.
فإذا تَمَّ لها أربعون استعدَّت لحالةٍ هي أكمل من الحالتين قبلها، وهي صيرورتها لحمًا أَصْلَبَ من “العَلَقَة”، وأقوى وأحفظ “للمُخِّ” (4) المُودَعِ فيها، واللحمِ الذي هو كِسْوَتُها، والرِّبَاطَاتِ (5) التي تُمسك أجزاءه، وتشدُّ بعضَها إلى بعضٍ، و”الكبدِ” الذي يأخذ صَفْوَ الغذاء فيرسله إلى سائر الأعضاء، وإلى “الشَّعْر” و”الظُّفُر”. و”الأمعاءِ” التي هي
__________
(1) ساقط من (ز).
(2) في (ك): لما.
(3) تصحفت في (ز) إلى: الحامل!
(4) من (ط)، وفي باقي النسخ: والمخ.
(5) من (ح) و (م) وهامش (ك)، وفي أصل (ك) وباقي النسخ: والرطوبات.
(1/548)
مجاري وصول الطعام والشراب إلى “المَعِدَة”، و”العُرُوقِ” التي هي مجاري تَنْفِيذِه وإيصالِه إلى سائر أجزاء البدن، و”المَعِدَةِ” التي هي خِزَانةُ الطعام والشراب، وحافظته لمستحقِّيه. و”القَلْبِ” الذي هو منبع الحرارة، ومعدِن الحياة، والمستولي على مملكة البدن. و”الرئةِ” التي هي (1) تُرَوِّحُ عن البدن، وتفيده الهواء البارد الذي به حياته، و”اللِّسَانِ” الذي هو بريدُ “القلبِ” وترجمانُه ورسولُه، و”السَّمْع” الذي هو (2) صاحب أخباره، و”البصر” الذي هو طليعته ورائده، والكاشِفُ له عمَّا يريد كَشْفه. و”الأعضاءِ” التي هي خَدَمُهُ وخَوَلُهُ (3): فـ “الرِّجْلانِ” تسعى في مصالحه، و”اليَدانِ” تبطشُ في حوائجه، و”الأسنانُ” تُفَصِّل قُوْتَه وتقطِّعُه، و”الأَضْرَاسُ” تطحنُه، و”الرِّيقُ” يعجِنُه، والحرارةُ تُنْضِجُه، و”المَعِدَةُ” تُجَزِّئُه، و”الكبدُ” تَجْذِبُه (4)، و”العُرُوقُ” تُوصِلُه إلى أربابه، و”الذَّكَرُ” آلةُ نَسْلِه، و”الأُنْثَيانِ” خزانةُ مادَّةِ النَّسْل.
فـ “الكبدُ” للغذاء وقِسْمَتِه، وهي في الحيوان بمنزلة شِرْش (5) الشجر والنَّبَات، تجذب الغذاء. وترسله إلى جميع الأجزاء، وآلاتُ الغذاء خَدَمٌ لها.
و”القلب” للأرواح التي بها حياة الحيوان، وآلات التَّنَفُّسِ خَدَمٌ
__________
(1) ساقط من (ح) و (م).
(2) ساقط من (ز)، ووضع بين الأسطر في (ك).
(3) “الخَوَل”: الخَدَم والحَشَم، وزنًا ومعنىً. “المصباح المنير” (251).
(4) من قوله: “و”الأَضْرَاسُ” تطحنُه. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ح) و (م).
(5) “شِرْش” الشجر: أصله وجَذْره وعروقه، والجمع: شُرُوش.
انظر: “تكملة المعاجم العربية” (6/ 288).
(1/549)
له.
و”الدِّمَاغ” مَعْدِنُ الحِسِّ والتصوُّرِ، والحَوَاسُّ خَدَمٌ له (1).
و”الأُنْثَيان” مَعْدِنٌ للتناسل، و”الذَّكَرُ” خادِمٌ لهما.
وهذه الأعضاء هي رأس أعضاء البدن.
فصل
وأمَّا آلاتُ الغذاء فثلاثةُ أقسام:
1 – آلةٌ تَقْبَلُ الغذاء وتُصْلِحُه، وتَقْذِفُه (2) وتفرِّقُه، وتُرْسِلُه إلى جميع البدن.
2 – وآلةٌ تقبل فَضَلاته.
3 – وآلةٌ تُعِينُ في إخراج ثُفْلِه (3)، وما لا منفعة في بقائه.
فأمَّا الآلات القابلة (4) للغذاء (5) فهي: “الفَمُ”، و”المَرِيءُ”، و”البطنُ”، و”الكبِدُ”، و”العُرُوقُ” الموصِلةُ إلى “الكبد”، و”العُرُوقُ” الموصِلةُ منها إلى البدن.
__________
(1) من (ح) و (م)، وسقط من باقي النسخ.
(2) ساقط من (ح) و (م)، وألحقت بهامش (ز).
(3) “الثُّفْل” – كـ “القُفْل” -: حُثَالَةُ الشيء، والثَّافِل: الرَّجِيع.
انظر: “المصباح المنير” (114)، و”القاموس” (1256).
(4) في (ك) و (ط): المقابلة.
(5) ملحقة بهامش (ز)، وسقطت من باقي النسخ.
(1/550)
فصل
وأمَّا الآلات القابلة (1) للفضلات:
فـ “المَرَارَةُ” تقبل ما لَطُفَ منها (2).
و”الطِّحَالُ” يقبل كثيفها (3).
و”الكُلَى” و”المَثَانةُ” تقبلان المتوسِّطَ.
و”الكبدُ” موضوعةٌ في الجانب الأيمن، وتأخذ يسيرًا إلى الجانب الأيسر. وهذا لحكمةٍ بديعةٍ؛ وهي أنَّ “القلبَ” إلى الجانب الأيسر أقرب، وهو مَعْدِنُ الحَارِّ الغريزيِّ، فَنُحِّيَتْ (4) عنه “الكبدُ” قليلًا، لئلَّا يتأذَّى بحرارتها.
وجُعِلَ في أوعية الغذاء قوىً خادمةٌ له؛ فـ “الفَمُ” مع كونه يقطع الغذاء ويطْحَنُه: يُحِيلُهُ ويُغَيِّرُهُ، و”المريءُ” مع كونه مَنْفَذًا إلى “المعدة”: يغيِّرُهُ تغييرًا ثانيًا، و”المعدةُ” مع كونها خزانةً حافظةً له: تُنْضِجُهُ وتطبخُهُ، فتغيِّرُه تغييرًا ثالثًا، وتَهْضِمُه، وتُبقي منه ما لا يصلح منه، فتخرِجُه، وتدفَعُهُ إلى مَخْرَج الثُّفْلِ، فإنَّ الطعام إذا استقرَّ في “المعدة” اشتَمَلَت عليه (5)، وانضمَّتْ غاية الانضمام، ثُمَّ أَنْضَجَتْهُ بحرارتها، ثُمَّ تتولَّاهُ “الكبد” وتشتمل عليه، وتقلِبُهُ دمًا خالصًا، ثُمَّ تَقْسِمُه على جميع
__________
(1) في (ك) و (ط): وأمَّا آلات المقابلة.
(2) من (ط)، وفي باقي النسخ: منه.
(3) في جميع النسخ: كثيفه، وما أثبته أنسب للكلام.
(4) في (ح) و (م): فتجنب.
(5) ساقط من (ك).
(1/551)
الأعضاء قِسْمَةَ عَدْلٍ لا جَورَ فيها ولا حَيفَ.
ولمَّا كانت “المعدةُ” حوضَ البدن الذي تَرِدُهُ أجزاءُ البدن من كلِّ ناحيةٍ؛ اقتضت الحكمةُ الإلهيَّةُ جَعْلَها مُفَرْطَحَةً (1) في وَسْطِهِ.
وخالص الغذاء (2) يتأدَّى إلى “الكبد” من شُعَبٍ كثيرةٍ، ويجتمع في موضعٍ واحدٍ واسع يُسمَّى: “باب الكبد”. وجميع “العُرُوق” التي تتصل بـ “المعدة” و”الأمعاء” و”الطِّحَال” تجتمع وترتقي (3) إلى “باب الكبد”.
وفي “المعدة” قوَّةُ بُخَارٍ (4) تَجْذِبُ الموافق، وتَنْفِي (5) المخالف المُنَافي الذي عَجزت قُوَّةُ “المعدة” عنه. ثُمَّ إنَّ “الكبد” تصفِّيه وتُنَقِّيه بعد اجتذابه مرةً أخرى، وتنفي عنه غير الموافق.
وقد أعدَّ الصانعُ الحكيمُ – سبحانه – لتنقية “الدَّمِ” من “الكبد” ثلاثة خُدَّامٍ فارِهِين (6) ، قائمين بالمرصاد بلا كَسَلٍ ولا فُتُورٍ، وقد وضعَ كُلَّ واحدٍ منها في المكان الأَلْيَقِ (7) به، ونَصَبَهُ نصبةً (8) بها يكون أمكن من
__________
(1) من (ط)، وسقطت من باقي النسخ.
و”مُفَرْطَحَة” أي: مُعَرَّضة، وفَرْطَحَهُ: عَرَّضَهُ وبَسَطَهُ. “تاج العروس” (7/ 15).
(2) من (ح) و (م) وهامش (ز)، وسقطت من (ك) و (ط).
(3) في (ز) و (ك): فتجتمع وترقى، وفي (ح) و (م): تستجمع، وما أثبته أنسب.
(4) “قوَّة بُخَار” ساقط من (ح) و (م).
(5) في (ح) و (م): ويبقى.
(6) تكررت مرتين في (ك)، وفي (م): فارغين.
و”فَارِهين” أي: حاذقين، والفَارِهُ: الحاذِقُ بالشيء. ووصف الخادم بالفَراهَة يُقصد به النَّشاط والخِفَّة. انظر: “المصباح المنير” (644).
(7) في (ك) و (ح) و (م): اللائق.
(8) من (ح) و (م)، وسقطت من باقي النسخ.
(1/552)
عمله.
ولمَّا استقرَّ الغذاءُ في “المعدة” وطَبَخَتْهُ وأَنْضَجَتْهُ صارت فضلاتُه ثلاثة:
1 – فَضْلَةٌ كالدُّرْدِيِّ (1) الرَّاسِبِ.
2 – وفَضْلَةٌ كالرَّغْوَةِ والزَّبَدِ الطافي.
3 – وفَضْلَةٌ مائية.
فجعل كلَّ خادِمٍ من هذه الخُدَّامِ (2) الثلاثةِ على فَضْلَةٍ لا يتعدَّاها إلى الأخرى، ليجذبها من مجرى خادِمِ الفَضْلة الخفيفة الطافية؛ وهي “الصُّفْرَة” و”المَرارةُ”.
ونَصَبَها الرَّبُّ – تعالى – فوق “الكبد”؛ لأنَّ المُجْتَذَبَ هو الفَضْلة الطافية، ومكانها فوق مكان الدُّرْدِيِّ الرَّاسِب.
وخادم الفَضْلة التي هي كالدُّرْدِيِّ الرَّاسِب: “الطِّحَال”، ونَصَبَهُ الخلَّاقُ العليمُ أسفل من “باب الكبد”، حيث كان ما يجتذبه من أسفل. ولم يكن في الجانب الأيمن؛ لأنَّ “المعدة” قد شَغَلَتْ ذلك الجانب، وكان الجانب الأيسر خاليًا فلم تَعْدُه.
فإذا نُقِّيَ (3) “الدَّمُ” من هاتين الفَضْلتين خَدَمَهُ الخادِمُ الثالث وهو
__________
(1) “دُرْدِيُّ” الزَّيت: ما يبقى أسْفَلَه، وأصلُه ما يَرْكُد في أسفل كلِّ مائعٍ كالأشربة والأَدْهَان. “تاج العروس” (8/ 70).
(2) في (ز) و (ح) و (ط): الخدم.
(3) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: انتفى.
(1/553)
“الكبد”، وقد بقي أحمر، نَقِيَّ اللَّونِ، مُشْرِقًا نورانيًّا. ويصل إليها من عِرْقٍ عظيمٍ يسمَّى: “الأَجْوَف”، ثُمَّ يُوزَّعُ من هناك على جهتي البدن: العليا، والسُّفْلى؛ في رواضِعَ كثيرة العَدَد، ما بين كبيرٍ، وصغيرٍ، ومتوسِّطٍ، كلها تتصل بالعرق “الأَجْوَف” وتَمْتَارُ (1) منه، وما دام “الدَّمُ” في هذا العِرْق ففيه مائيةٌ غير محتاجٍ إليها؛ لأنَّها كانت مَرْكَب الغذاء، فلمَّا أوصلته إلى مستقرِّه استغنى عنها، فاحتاج – ولا بدَّ – إلى إخراجِها ودفعِها، ولو لم يبادر إلى ذلك أضرَّتْ به، فخلق الله – سبحانه – “الكُلْيَتين” تمتصَّان هذه الفَضْلَة بعُنُقَين طويلين كالأنبوبين، ويفرغانها في “المَثانة” بِعِرْقَين آخَرَين، ووضَعَهما – سبحانه – أسفل من “الكبد” قليلًا، حيث يكون أمكن لتخليص المائية كما تُرَوَّقُ (2) العُصَارات.
وأمَّا “المَرَارَةُ” فوَضَعَها اللهُ – سبحانه – فوق “الكبد”؛ لأنَّها بمنزلة السِّفِنْجَة أو القُطْنَة التي يُقْطَف (3) بها الدُّهْن عن وجه الرُّطُوبات.
وأمَّا “الطِّحَال” فوَضَعَها أميل إلى أسفل؛ لأنَّه بمنزلة ما يجتذِبُ الأشياءَ المَصُونةَ إذا رَسَبَت.
فصل
إذا انْتُقِيَ (4) “الدَّمُ” من هذه الفُضُولِ كلِّها، وعَمِلَتْ فيه
__________
(1) من (ح)، وتصحفت في باقي النسخ إلى: تمتاز.
ومعنى “تمتار منه” أي: تأخذ المِيرَةَ منه، والمِيرةُ: الطعام.
انظر: “المصباح المنير” (807).
(2) “تُرَوَّق”: تُصَفَّى، تقول: رَاقَ الشَّرَابُ؛ إذا صَفَا. “مختار الصحاح” (285).
(3) في (ط): ينظف.
(4) في (ح) و (م): انتفى.
(1/554)
هذه (1) الخَدَمُ بِقُوَاها التي أودعها [الله] (2) فيها هذا العمل، وأَصْلَحَتْهُ هذا الإصلاح = عَمِلَ مَلِكُ الأعضاء والجوارح – وهو “القلب” – فيه عملًا آخر، فقَصَدَهُ (3) بحرارةٍ أخرى هي أقوى من حرارة “الكبد”.
فصل
وجعل – سبحانه – في “المعدة” أربعَ قُوىً:
1 – قوَّةٌ جاذِبةٌ للملائم.
2 – وقوَّةٌ مُنْضِجَةٌ له.
3 – وقوَّةٌ مُمْسِكَةٌ له.
4 – وقوَّةٌ دافِعةٌ للفَضْلة المستغنَى عنها منه.
ورئيس هذه القُوى هي: القوَّةُ المُنْضِجَةُ، وسائرها خَدَمٌ لها.
وخُصَّت “المعدةُ” عن سائر الأعضاء بأن أُودع فيها قوَّةٌ تحسُّ بالعَوَزِ والنُّقصان، وخاصيَّةُ فَمِها تنبيه (4) الحيوان على تناول الغذاء عند الحاجة. وأمَّا سائر الأعضاء فإنَّها تتغذَّى بالبَتَات (5) باجتذاب
__________
(1) ساقط من (ك).
(2) زيادة للإيضاح.
(3) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: فقصره.
(4) العبارة في (ح) و (م) هكذا: وخاصة فمنها لتنبه.
(5) في جميع النسخ: النبات! ولعل ما أثبته هو الصواب.
و”البَتَات”: الزَّاد. انظر: “تاج العروس” (4/ 432).
والمراد أن بقية الأعضاء تتغذَّى بالخالص من الغذاء بأخذ كل عضوٍ ما يناسبه من الزَّاد.
(1/555)
الملائم إليها.
ولمَّا احتاجت “المعدة” إلى قوَّةِ حِسٍّ بالعَوَز، ولم يكن ذلك إلا من معدن الحواسِّ – وهو “الدِّماغ” – أتاها “روح العَصَبِ” وهو عظيمٌ، فأنبَتَ أكثَره في فَمِها وما يليه، ومن باقيه مستقيمًا حتَّى بلغ قَعْرها.
فإن قيل: فما الحكمة في أنْ باعَدَ – سبحانه – بين “المعدة” وبين “الفم”، وجعل بينهما مجْرَىً طويلًا وهو “المَرِيء”، وهلَّا اتَّصَلَت “المعدة” بـ “الفَمِ”، واستَغْنَت عن “المَرِيء”؟
قيل: هذا من تمام حكمة الخالق، وفيه منافع كثيرة:
1 – منها أن يحصل للغذاء تغيُّرٌ ما في طُول (1) المَجْرَى، فَيَلْطُفَ قبل وصوله إليها.
2 – ومنها بُعْدُه عن آلة التنفُّس، لئلَّا تعوقه وتعوق الصوت والكلام.
3 – ومنها أن لا تنقلب “المعدة” إلى خارجٍ عند شدَّةِ الجوع، كما يعْرِض ذلك للحيوان الشَّرِهِ إذا كان قصير العُنُقِ.
فإن قيل: فَلِمَ كانت إلى الجانب الأيسر أميل منها إلى الجانب الأيمن؟
قيل: ليتَّسِعَ المكان على “الكبد” ولا ينحصر.
فإن قيل: فهلَّا كانت مستقيمةً في وَضْعِها (2)، بل مَالَ أسفلُها إلى
__________
(1) في (ح) و (م): طريق.
(2) في (ح) و (م): وصفها.
(1/556)
الجانب الأيمن؟
قيل: ليتَّسِعَ المكان على “الطِّحَال”، حيث كان أخفض موضعًا من “الكبد”.
فإن قيل: فلِمَ جُعِلَت مستطيلةً مدوَّرَةً، وجُعِلَت ممَّا يلي الصُّلْب مسطَّحةً؟
قيل: لمَّا وضعَها اللهُ – سبحانه – بين “الكبد” و”الطِّحَال” جعلها مستطيلةً، وكانت مستديرةً لِيَتَّسِعَ الموضع (1) للطعام وللشراب، وكان أسفلُها أوسعَ من أعلاها لذلك، وجعل لها مدخلًا وهو “المَرِيء”، ومخرجًا يسمَّى: “البوَّاب”. وجعل “البوَّاب” أضيق من “المَرِيء”؛ لأنَّ ما تبتلعه يكون أصْلَب وأخْشَن ممَّا تُخْرِجُه، فجعل مَدْخَلَ الداخل أوسع من مَخْرَج الخارج لانطباخه في “المعدة” وَلِينِه. ولِحِكَمٍ أُخرى:
1 – منها أن لا يَزِلَّ الطعام والشراب منه قبل نُضْجِه وانطباخِه (2).
2 – ولتقوى “المعدة” على حَبْسِه.
3 – وليخرج أوَّلًا فأوَّلًا، لا دَفْعةً واحدةً.
و”المريءُ” يتَّسع بالتدريج حتَّى يبلغ “المعدة”، ولذلك يُظَنُّ أنَّه جزءٌ منها. وأمَّا “البوَّاب” فإنَّ الجزء الضيق منه يتَّصِلُ بأسفلها الذي هو أوسعها، ثُمَّ يتَّسع على التدريج ليسهُلَ (3) خروجُ الفَضْلة.
__________
(1) ساقط من (ح) و (م).
(2) في (ح) و (م): واناه!
(3) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: ليتسهل.
(1/557)
فصل
و”الكبد” مُنْطَبِقَةٌ على “المعدة”، مَكْبُوبةٌ (1) عليها بزوائدها لِتُسْخِنَها، و”الطِّحَالُ” يُسْخِنُها من الجانب الأيسر، و”الصُّلْبُ” يُسْخِنُها من خَلْف، و”الترائبُ” من قُدَّامِها.
و”الترائبُ” مؤلَّفَةٌ من طبقتين رقيقتين، تنطبق إحداهما على الأخرى بشحمٍ كثيرٍ، وهو غِشاءُ “الأمعاء” كلِّها ولباسُها، ثُمَّ غُشِّيَ “البطنُ” كلُّه بغشاءٍ واحدٍ يقي “الأحشاء”، ويمنع من انتفاخ (2) “المعدة” و”الأمعاء” بالرِّيَاح، ويربط جملة آلات الغذاء.
ولم يُجْعَل في “الكبد” تجويفٌ كتجويفي “القلب”؛ لتحتوي على الدم احتواءً مُمَكَّنًا، وتُحِيلَه إحالةً بليغةً.
و”للكبد” ثلاثُ شبكاتٍ (3) من “العُرُوق”:
1 – شبكةٍ بينها وبين “المعدة” و”الأمعاء”.
2 – وشبكةٍ في مَفْرَغِها.
3 – وشبكةٍ في مَجْذَبِها.
فالشبكة الأُولى تجذب الغذاء وتُحِيلُه بعد الإحالة. وفي الشبكة الثانية يصير “دمًا”. وفي الشبكة الثالثة يزداد صفاءً وترويقًا.
__________
(1) في (ح) و (م): محتوية.
و”مكبوبة” أي: مقلوبةٌ عليها، ومُلْقَاةٌ فوقها. “المصباح المنير” (717).
(2) تصحفت في جميع النسخ إلى: انفتاح.
(3) في (ك) و (ح) و (م) و (ط): شباك.
(1/558)
و”للكبد” بـ “القلب” و”الدِّمَاغ” اتصالٌ بِشَطَنَةٍ (1) من العَصَب خَفِيَّةٍ، كنسيج العنكبوت.
ولمَّا كانت النَّفْسُ المُغَذِّيَةُ (2) بمنزلة حيوانٍ عافٍ (3) وَحْشيٍّ – وكلُّ جسم يموتُ فلا بدَّ أن تتصل به هذه النَّفْس وتَغْذُوه -، بخلاف النَّفْس المُفَكِّرة التي مَحَلُّها “الدِّمَاغ”، وبخلاف النَّفْسِ الغَضَبِيَّةِ التي مَحَلُّها “القلب”، فالنَّفْسُ المُفَكِّرةُ تستعين بالنَّفْسِ الغَضَبِيَّةِ على تلك النَّفْس الحَيَوانيةِ العافيةِ (4) الوحشيَّةِ = اقتضت حكمةُ الخالِقِ – سبحانه وتعالى – أن وَصَلَ بين مَحَالِّ هذه الأنفس الثلاثة وشُعَبِها؛ ليُذْعِنَ بعضُها لبعض.
ولا تُنْكِر تسميةَ هذه القُوى: نُفُوسًا، فليس الشأنُ في التسمية، فأنت تجد فيك نفسًا حيوانيَّةً تطلب الطعام والشراب، ونفسًا مُفَكِّرةً سلطانُها على التصوُّرِ والعلم والشُّعُور، ونفسًا غَضَبِيَّةً سلطانُها على الغضب والإرادة، وتَصَرُّفَ (5) كلِّ واحدةٍ منها فيما جُعِلَت إليه،
__________
(1) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: بشَطْبَة؛ وهو محتمل.
و”الشَّطَنُ”: الحَبْلُ. “مختار الصحاح” (360).
و”الشَّطْبَة”: بمعنى القطعة والشريحة. “لسان العرب” (7/ 115).
(2) في (ك) و (ح) و (م): المعدية.
(3) في (ح) و (م): غان!
والعافي: طالب الرزق والفضل. والعافية والعُفَاة: طلَّاب الرزق من الإنس والدواب والطير.
انظر: “لسان العرب” (9/ 295).
(4) في (ح) و (م): الغائبة، وفي باقي النسخ: الفانية، ولعل ما أثبته هو الصواب إلحاقًا بما سبق وصْفُها به.
(5) في (ح) و (م): وتضرب.
(1/559)
وبعضها عَونٌ لبعض.
فمَحَلُّ النَّفْس الحيوانيَّة: “الكبد”، ومَحَلُّ النَّفْس المفكِّرة: “الدِّمَاغ”، ومَحَلُّ الغضبيَّة: “القلب”.
فصل
وتأمَّل الحكمةَ في أنْ جُعِلَت صِفَاقَاتُ (1) عروق “الكبد” أَرَقَّ من صِفَاقَات سائر عروق البدن، لتَنفُذَ إلى “الكبد”؛ فَيَروُقُ جوهر “الدَّم” بسرعة، وهي مع ذلك غير محتاجةٍ إلى الوقاية؛ لأنَّ “الكبد” تَحُوزُها بلحمها، وإنَّما وُضِعَت مجاري “المِرَّةِ الصَّفْراء” بعد “العُرُوق” التي تصعد بالغذاء من “المعدة”، وقبل “العُرُوق” التي تأخذ “الدَّم” منها (2)؛ لأنَّ هذا الموضع هو بين موضع كمال الطبخ وبين انتقاله إلى “العِرْق الأَجْوَف”، وحينئذٍ يمكن انفصال “المِرَّةِ” عن “الدَّم”.
وجُمعت “العُرُوقُ” كلُّها إلى عِرْقٍ واحدٍ هو “الباب”، ثُمَّ عادت فتقَسَّمَت في مَقْعَر (3) “الكبد”، ثُمَّ عادت فجُمِعَت في مَجْذِبِها إلى عِرْقٍ واحدٍ وهو “الأَجْوَف”؛ لتجيد بقسمتها إنْضَاجَ ما تحتوي عليه، ولئلَّا يَنْفُذَ بسرعةٍ، وكذلك كلُّ موضعٍ احتيج فيه إلى طول مُكْثِ المادَّةِ هُيِّءَ (4)
__________
(1) “صِفَاقات” أي: الجلود الباطنة للعروق، وفي الأصل يطلق على “جلد البطن”، فـ “الصِّفَاق”: ما بين الجلد والمُصْران، وجلد البطن كله: صِفَاق.
انظر: “لسان العرب” (7/ 366 – 367).
(2) من (ح) و (م)، وسقطت من بقية النسخ.
(3) قَعْرُ الشيء: عُمْقُه ونهاية أسفله. “المصباح المنير” (700).
(4) بياض في (ط)، وفي باقي النسخ: هُيِّن، ولعل ما أثبته هو الصواب.
(1/560)
بقاؤها فيه بطُولِ مَسْلَكِها، وكثرة تَعَاوِيجه (1)، كما فُعِل في مجاري “المَنِيِّ”، وشبكة “الدِّمَاغ”. وهذا شأن “العُرُوق الجَوَاذِب”.
وأمَّا شأنُ “العُرُوق الضَّوَارِب” فبالعكس من ذلك، فإنَّها جُمِعَت في مَقْعَر “الكبد” دون مَجْذِبِها؛ لأنَّه موضع “الدَّم”، وحاجته إلى التغذية بالحرارة ماسَّةٌ.
قال “جالينوس”: “ولا تُقَسَّم “العُرُوق الضَّوَارب” في مَجْذِبٍ يعلم الخالقُ – سبحانه – أنَّ جَذْبَةَ “الكبد” تتحرَّكُ دائمًا بمجاورة “الحِجَاب” (2)، فيقوم لها ذلك مقام حركة “العُرُوق الضَّوَارب”.
وجُعلت هذه “العُرُوق الضَّوَارب” دِقَاقًا (3)؛ لأنَّها إنَّما وُضِعَت لترويح “الكبد” لا لتغذيتها، ولا لإيصال “رُوحٍ” إليها، إذ ليس بـ “الكبد” حاجةٌ إلى قبول “رُوحٍ” حيوانيٍّ كبيرٍ، ولا يحتاج لحمُها [إلَّا] (4) إلى غذاءٍ لطيفٍ بخاريٍّ”.
فصل
وأَحْرَزَ الصانعُ – سبحانه – موضعَ “الكبد” ووَضْعَها، بأن رَبَطَها
__________
(1) في (ح) و (م) و (ط): تعاريجه.
(2) في مكانه بياض في (ز)، وفي (ط): الحدب!
و”الحِجَاب”: لحمةٌ رقيقةٌ مستبطِنة بين الجنْبَين، تحُول بين “الرئة” و”المَعْي”.
انظر: “غاية الإحسان” للسيوطي (372)، و”الإفصاح في فقه اللغة” للصعيدي (60).
(3) في (ح) و (م): رقاقًا.
(4) زيادة مهمة لتمام المعنى.
(1/561)
بـ “المعدة” و”الأمعاء” كلِّها بـ “العُرُوق”، وبالغِشَاء الممدود على “البطن” الذي يَشُدُّ جميعها. وَوصَل بها رِبَاطَاتٍ من جميع النواحي، وغشاؤها الرابط لها يتصل بـ “الحِجَاب” برباطٍ قويٍّ.
ورباط “الكبد” بـ “الحِجَاب” ثخينٌ (1) صُلْبٌ وثيقٌ؛ لأنَّ “الكبد” مُعَلَّقةٌ به، وهو أَصْلَبُ من غشاء “الكبد” لشدَّة الحاجة إلى صلابته؛ لأنَّه يَحْرِزُ “الكبدَ” و”العِرْقَ الأَجْوَفَ” الذي متى نالته آفةٌ مات الحيوان، كما تهلك أغصان الشجرة إذا أصاب ساقَها آفةٌ.
وجعل أَدَقَّ هذا الرِّبَاط (2) من خَلْف؛ لشَدِّهِ بـ “العظام”، وأغلظَهُ من قُدَّام حيث لا “عظام” هناك تقيه. وهذا من شِدَّة “الأَسْر” الذي قال الله – تعالى – فيها: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الإنسان: 28]، أي: شَدَّ أوصالَهم بالرِّبَاطات المُحْكَمة، وجَمَعَ خَلْقَهم بعضه إلى بعض.
ولمَّا كان “الحِجَابُ” آلةً شريفةً للنَّفَس؛ بُوعِدَ عن العُضْوَين المُجَاوِرَين له – وهما “المعدة” و”الكبد” – بمقدار حاجته، لئلَّا يَزْحَمَاهُ ويَعُوقَاهُ عن فعله، فَبُوعِدَت “المعدةُ” عنه بطُول مجراها.
فصل
وأمَّا “الطِّحَال”؛ فبعضهم يقول: إنَّه لا نفع فيه، وإنَّما شُغِلَ المكان به لئلَّا يبقى فارغًا، فيميل أَحَدُ شِقَّي البدن بِثِقَل “الكبد”، فجُعِلَ موازنًا “للكبد”.
__________
(1) تصحفت في النسخ إلى: حين.
(2) في (ح) و (م): وجعل أرقَّ هذه الرباطات.
(1/562)
قلت: وهذا غلطٌ من وجه، وصوابٌ من وجه:
فأمَّا الصواب؛ فمن الحِكَم العجيبة جَعْلُ “الطِّحَال” في الجانب الأيسر على موازنة “الكبد”؛ لئلَّا يميل الشِّقُّ الأيمن بها.
ولا يمكن أن تقوم “المعدةُ” بموازنة “الكبد”؛ لأنَّها (1) – دائمًا – تمتلئ (2) وتخلو، فتارةً تكون أخفَّ من “الكبد”، وتارةً أرجحَ منها، فيصير البدنُ مترجِّحًا، أو يميل إلى شِقِّ “الكبد” وقتًا، وإلى شِقِّ “المعدة” وقتًا آخر.
فجعل الخالق – سبحانه – “الطِّحَال” يوازن “الكبد”، وجعل “المعدة” بينهما في الوَسْط؛ لئلَّا يَبِلَّ (3) جانبٌ ويَشِفَّ (4) آخر عند امتلائها وخُلُوِّها، فلما جُعِلَت وَسْطًا لم يختلف وضْعُ البدن باختلافها.
وأمَّا الغلط؛ فهو قوله: “إنَّه (5) لا منفعة فيه، وإنَّما يشغل المكان لئلَّا يبقى فارغًا”؛ فإنَّه لو لم يعلم فيه منفعة لم يكن له أن ينفيها، فإنَّ عدم العلم بالمنفعة لا يكون علمًا بِعَدَمِها، كيف ولا شيء في البدن خالٍ عن المنفعة أَلْبَتَّة؟
__________
(1) في (ز): لئلا. وسقطت كلمة “دائمًا” منها.
(2) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: تميل.
(3) في (ح) و (م): يثقل.
و”يَبِلُّ” من: البِلِّ – بكسر الباء، وتشديد اللام -، وهو الشِّفَاء والعافية، وتحسُّن الحال بعد الهُزَال.
انظر: “مختار الصحاح” (78)، و”القاموس” (1251).
(4) شَفَّ: هَزُلَ ونَحَلَ، وصار رقيقًا. “القاموس” (1066).
(5) من (ح) و (م)، وسقطت من البقية.
(1/563)
وفي “الطِّحَال” من المنافع: أنَّه يجذب الفَضْلَةَ الغليظةَ العَكَرِيّةَ (1) السوداءَ من “الكبد” – نوعًا من جنس “العُرُوق” كالعنق (2) له -، فإذا حُصِّلَتْ تلك الفَضْلَة عنده أَنْضَجَها وأَحَالَها. وهو يُنْضِجُ غليظَ “الدَّم” وعَكِرَهُ، كما يُنْضِجُ “القُولُون” (3) غليظَ الغذاء ويابِسَهُ.
ويستعمل في فعله “العُرُوق الضَّوَارب” الكثيرة الكبيرة المبثوثة فيه كلِّه، فما نضج واستحال إلى طبيعته صار غذاءً له، وما لم يمكن أن ينقلب إلى “الدَّم” الموافق له قَذَفَهُ إلى “المعدة” بِعُنُقٍ آخر من جنس “العُرُوق”.
وإنَّما أمكنه جَذْبُ الفَضْل الأسود بقوَّة لحمه؛ لأنَّه رِخْوٌ مُتَحَلْحِلٌ نحيفٌ كالإسفَنْج.
وإنَّما اتصلت به “العُرُوق الضَّوَارب” الكثيرة ليستعين بها على (4) إنضاج الفُضُول السُّود، وليبقى لحمه خفيفًا مُتَحَلْحِلًا؛ لأنَّ دم “الشرايين” رقيقٌ لطيفٌ، قريبٌ [من] (5) طبيعة البخار. فما اغتذى به كان نحيفًا كـ “الرِّئة”، ولكنَّ “الرِّئة” تتغذَّى بما صَفَا ورَقَّ وأَشْرَقَ، وكان أحمر
__________
(1) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: الكريهة!
و”العَكَرُ” – محرَّكَة -: دُرْدِيُّ كلِّ شيء، وخاثِرُه وراسِبُه المختلط.
انظر: “مختار الصحاح” (473)، و”القاموس” (570).
(2) تصحفت في (ك) و (ط) إلى: كالنعق!
(3) “القُولُون”: هو المِعَى الغليظ الضيِّق الذي يتصل بالمستقيم.
انظر: “المعجم الوسيط” (2/ 767).
(4) في (ح) و (م): استغنى بها عن.
(5) زيادة يقتضيها السياق.
(1/564)
ناريًّا. ولذلك كانت “الرِّئة” أخفَّ وزنًا منه، وأَسْخَفَ (1) جِرْمًا، ومُمَالةً (2) إلى البياض.
وأمَّا “الطِّحَال” فتتغذَّى بما لَطُف [و] (3) صفَا من الخِلْط الأسود، وانْطَبَخَ في (4) “الشرايين”، فيستريح منه البدن، ويغتذي به “الطِّحَال”.
فـ “الطِّحَال” يغتذي بغذاءٍ ألطف من غذاء “الكبد”؛ لأنَّه يرشح إليه من “الشرايين” التي صِفَاقَاتها ثَخِينَةٌ جدًّا. ولأجل سواد تلك الفَضْلَة وكونها عَكِرَة في الأصل، لم يكن لون “الطِّحَال” أحمر ولا مُشْرِقًا.
وأمَّا “الكبد” فتغتذي بدمٍ غليظٍ فاضلٍ، يرشح إليها من “العُرُوق” غير الضَّوَارب، فلجودة غذائها كان لونها أحمر، ولِغِلَظِه كانت كثيفة.
فـ “الكبد” تتغذَّى بدمٍ أحمر غليظٍ، و”الطِّحَال” بدمٍ أسود لطيفٍ، و”الرِّئة” بدمٍ صافٍ مشرِقٍ، في غاية النُّضْجِ، قريبٍ من طبيعة “الرُّوح”. فجوهر كلِّ عضوٍ على ما هو عليه صُيِّرَ غذاؤه ملائمًا له، فالغَاذِي شبيهٌ بالمغتذي في طبعه وفعله.
وهذا كما أنَّه حكمة الله – سبحانه – في خلقه فيه جَرَت حكمته في شرعه وأمره، حيث حرَّمَ الأغذية الخبيثة على عباده؛ لأنَّهم إذا اغتذوا
__________
(1) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: وأخف.
و”أَسْخَف” من: السُّخْف، وهو الرِّقَّةُ والهُزَال. “القاموس” (1057).
و”الجِرْم” – بكسر الجيم، وسكون الراء -: الجَسَد. “القاموس” (1405).
(2) في (ح) و (م): “ومائلة”، وكلاهما صحيح، والمعنى واحد.
(3) زيادة مهمة. وكلمة “صفَا” حُشِرت بين السطور في (ز) و (ك)، وسقطت من (ح) و (م). وسقطت كلمة “لطف” من (ط).
(4) في (ز): من.
(1/565)
بها صارت جزءًا منهم، فصارت أجزاؤهم مشابهة لأغذيتهم، إذ الغاذي شبيهٌ بالمغتذي، بل يستحيل إلى جوهره.
ولهذا كان نوعُ الإنسان أعدلَ أنواع الحيوان مزاجًا، لاعتدال غذائه. وكان الاغتذاء بالدَّم ولحوم السِّبَاع يُورِث المغتذي بها قوَّةً شيطانيَّةً سَبُعِيَّةً عادِيَةً على النَّاس.
فمن محاسن الشريعة تحريم هذه الأغذية وأشباهها، إلا إذا عارضها مصلحةٌ أرجح منها، كحال الضرورة.
ولهذا أكلت النَّصارى لحوم الخنازير، فأورثها نوعًا من الغِلْظَة والقَسْوة، وكذلك من أكل لحوم السِّبَاع والكلاب صار فيهم قوَّة (1) منها.
ولمَّا كانت القوَّةُ الشيطانيَّة السَّبُعيَّةُ (2) ثابتةً لازمةً لذوات الأنياب من السِّبَاع حرَّمَها الشارع (3).
ولمَّا كانت القوَّةُ الشيطانيَّةُ عارضةً في الإبل أمر بكسرها بالوضوء لمن أكل منها (4).
__________
(1) ساقط من (ز)، و”منها” ساقط من (ح) و (م).
(2) في (ح) و (م): عارضة! وهو خطأ.
(3) كما في “صحيح مسلم” رقم (1933) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “كلُّ ذي نابٍ من السِّبَاع فأَكْلُهُ حرامٌ”.
(4) كما في “صحيح مسلم” رقم (360) من حديث جابر بن سَمُرة – رضي الله عنه -: أنَّ رجلًا سأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: أَأَتوضَّأُ من لحوم الغنم؟ قال: “إن شئتَ فتوضَّأ، وإن شئتَ فلا توضَّأ”، قال: أتوضَّأُ من لحوم الإبل؟ قال: “نعم؛ فتَوَضَّأْ من لحوم الإبل”. . . الحديث.
(1/566)
ولمَّا كانت الطبيعة الحِمَاريَّةُ لازمةً للحِمَار حرَّمَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – لحوم الحُمُر الأهليَّة (1) .
ولمَّا كان “الدَّمُ” مَرْكَبَ الشيطان ومَجْرَاهُ حرَّمَهُ الله – تعالى – تحريمًا لازمًا.
فمن تأمَّلَ حكمة الله – سبحانه – في خلقه وأمره، وطابق بين هذا وهذا = فَتَحَا له بابًا عظيمًا من معرفة الرَّبِّ – سبحانه – وأسمائه وصفاته.
وهذا هو الذي حَرَّكَنا لبَسْط النَّفَس في هذا المقام الذي لا يكاد أنْ يُرَى فيه إلا أحد طريقين:
طريقةِ طبيبٍ مُعْرِضٍ عن الوحي، مقلِّد “لبُقْرَاط” وطائفته (2) ، قد اغْبَرَّت (3) واعْوَرَّت (4) وعَمِيَت [و] (5) . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
(1) كما في “صحيح البخاري” رقم (4216، 5115، 5523، 6961)، و”صحيح مسلم” رقم (1407) من حديث علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نهى عن متعة النِّساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحُمُر الإنسيَّة.
وفي الباب عن عِدَّةٍ من الصحابة كما في “صحيح البخاري”، كتاب: الذبائح والصيد، باب: لحوم الحُمُر الإنسيَّة. انظر: “فتح الباري” (9/ 569).
(2) في (ز): وطائفة.
(3) في (ز) و (ح) و (ك): عبرت – بالعين المهملة -!، وفي (م): عبرة، وفي (ط): عرت! ولعل ما أثبته أنسب للمعنى.
“اغْبَرَّت”: من “الغَبَر” وهو التراب، وبهاءٍ في آخره: الغُبَار، والمعنى: أصاب عينَهُ الغُبَارُ فلم يستطع الرؤية. “القاموس” (575).
(4) في (ز): وتعورت، وسقطت من (ح) و (م) و (ط)، وفي (ك): وقعررت! ولعل ما أثبته أنسب للمعنى.
“اعْوَرَّت”: من “العَوَر” وهو ذهاب حِسِّ إحدى العَيْنَين. “القاموس” (573).
(5) زيادة تناسب السياق.
(1/567)
عَمِشَت (1) عينُهُ عن الرُّسُل وما جاءوا به، وهو ممَّن قال الله – تعالى – فيه: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر: 83].
وطريقةِ مَنْ يجحد ذلك كلَّه، ويكذِّب قائله، ويظنُّ منافاته للشريعة، فيجحد حكمة الله – تعالى – في خلقه، وإبداعه في صُنْعه؛ جهلًا منه.
وكلا الطريقين مذمومٌ، وسالكه من الوصول إلى الغاية محرومٌ. فلا نكذِّب بشرع الله، ولا نجحد حكمة الله.
وأكثرُ ما أفسد النَّاسَ أنَّهم لم يَرَوا إلا طبائعيًّا زنديقًا مُنْحَلًّا عن الشرائع، أو مُتَسَنِّنًا (2) قادحًا فيما جرت به حكمة الله – تعالى – ومشيئته في خلقه، منكرًا للقُوى، والطبائع، والأسباب، والحِكَم، والتعليل.
فإذا أراد الأوَّلُ أن يدخل في الإسلام جَبَذَهُ (3) إلى زندقته (4) جهلُ هؤلاء، ومكابرتهم للمعقول والحِسِّ.
وإذا أراد الثاني (5) أن يدخل في معرفة الحِكَم والغايات، وما أودع
__________
(1) “العَمَش”: ضعف البصر مع سيلان الدمع في أكثر الأوقات. “القاموس” (773).
و”وقعررت وعميت عمشت” جاءت في هامش (ك)، وسقطت من (ح) و (م) و (ط).
(2) في (ك): متسيًا! وفي (ط): مسيئًا، وفي (ح) و (م): متساهلًا. وما أثبته من (ز).
والمعنى: أنَّه محسوبٌ على أهل السُّنَّة كحال الأشاعرة الذين ينكرون الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى.
(3) في (ح) و (م): صدَّه، وفي باقي النسخ: جبذته، والصواب ما أثبته.
(4) “إلى زندقته” ساقط من (ح) و (م).
(5) من (م)، وفي باقي النسخ: هذا، وسقط من (ح).
(1/568)
اللهُ في مخلوقاته من المنافع والحِكَم والقوى والأسباب؛ جَبَذَهُ إلى جهله (1) زندقةُ هؤلاء وكفرهم، وإعراضُهم عمَّا جاءت به الرُّسُل، وفَرَحُهم (2) بما عندهم من العلم، فيختارُ دينَهُ على عقله، ويختارُ ذلك عقلَه وما استقرَّ عنده – ممَّا لا يكابر فيه حِسُّهُ ولا عقلُه – على الدِّين (3) .
وهذا قد بُلي به أكثر (4) الخَلْق، فما قَرَّرهُ أئمَّةُ (5) الأطبَّاء والطبائعيين أحد أنواع أدلَّة التوحيد، والمَعَاد، وصفات الخالق، وما أخبرت به الرُّسُل (6) ، بل هو من أظهر أدلَّته، فلا يزداد الباطن فيه إلا إيمانًا.
وما أخبرت به الرُّسُل لا يناقض ما جرت به عادة الله – تعالى – وحكمته (7) في خلقه: من نَصْب الأسباب، وترتيب مسبَّباتها عليها بعلمه
__________
(1) “إلى جهله” ملحق بهامش (ز)، وسقط من باقي النسخ.
و”جَبَذَه” ملحق بهامش (ك)، وفي (ح) و (م): صدَّه.
(2) في (ح) و (م): وقدحهم! تصحيف.
(3) أي: أنَّ هذا المنتسب إلى الإسلام ممَّن تأثَّر بعلم الكلام – من الأشاعرة ونحوهم – يحتار بين ما يقتضيه عقله وحِسُّه من القول بالحكمة والتعليل في أفعال الرَّبِّ – سبحانه وتعالى -، وبين بقائه على ما كان يعتقده قديمًا من نفي ذلك، فيختار البقاءَ على اعتقاده القديم، مع أنَّ عقله وما استقرَّ في نفسه وفطرته – ممَّا تضطرُّ القلوبُ للإقرار به بداهةً -، ولا يكابر فيه لا حِسُّه الصافي، ولا عقله الوافي = يختار ترك ذلك الاعتقاد الخاطئ، والله الهادي.
(4) “به أكثر” ساقط من (ك) و (ح) و (م) و (ط).
(5) “فما قرره أئمة” ساقط من (ح) و (م) و (ط)، وبدلًا منه في (ك): منه بما شاء الله!
(6) سقط من (ك) و (ط)، وأُلحق بهامش (ز).
(7) سقط من (ك).
(1/569)
وحكمته (1). فمصدر خَلْقِهِ (2) وأمرِهِ علْمُهُ – تعالى – وحكمتُه. وأدلَّةُ (3) الرَّبِّ – تعالى – وآياتُه لا تتعارض ولا تتناقض، ولا يُبطل بعضها بعضًا. والله أعلم.
فصل
و”الكبد” و”الطِّحَال” متقابلان، و”المعدة” بينهما، و”العُرُوق الضَّوَارب” تتصل بها (4) “المعدة”.
و”القلب” بمنزلة التَّنُّور، أو بمنزلة أَتُون الحَمَّام يُسَخِّن ماءَهُ، وله إلى كلِّ بيتٍ مَنْفَذٌ ينفذ فيه وَهَجُ النَّار إليه. وكذلك الحارُّ الغريزيُّ الذي منبعه من “القلب” ينفذ في مسالك ومنافذ إلى جميع الأعضاء فيسخِّنُها (5).
فصل
وجُعلت الأعضاء مسلكًا مؤدِّيًا، و”المعدة” هي الآلة لهضم (6) الغذاء واستمرائه، و”الأمعاء” تؤدِّي ذلك إلى “الكبد”.
ولمَّا كانت “الأمعاء” آلة الأداء والاتصال كَثُرت لفائفها وطولها، وكانت “العُرُوق” التي تأتيها من “الكبد” لا تحصى كثرةً، لينفذ فيها
__________
(1) في جميع النسخ: وحكمه، والصواب ما أثبته.
(2) “فمصدر خلقه” ساقط من (ك).
(3) في (ح) و (م): وآلاء.
(4) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: بهما.
(5) ساقط من (ك).
(6) من (ز)، وفي باقي النسخ: تهضم.
(1/570)
الغذاء أوَّلًا فأوَّلًا، وتستقضيه يسيرًا يسيرًا. فلولا تطويل لفائف “الأمعاء” لكان الغذاءُ يخرج قبل أخذ خاصيَّته، وكانت تعرض لهم شهوةُ الأكل دائمًا، وكان الإنسان يعدم التفرغ لمصالحه وسائر أعماله، وكان – دائمًا – مُكِبًّا على الغذاء. ولهذا صار الحيوان الذي ليس (1) لأمعائه استدارات بل له مِعىً واحدٌ مستقيمٌ مكبًّا على الغذاء (2)، عديم الصبر عنه كالمسكِر (3).
وأمَّا ما لأمعائه استدارات فإنَّه إذا فَاتَهُ الغذاءُ أو بعضُه في الاستدارة الأُولَى صادفه في الثانية، فإن فاته في الثانية صادفه في الثالثة، والرابعة والخامسة كذلك، فيمكن صبره عن الغذاء؛ حكمةٌ بالغةٌ.
وتنفذ إلى “الأمعاء” شُعَبٌ (4) من “العُرُوق الضاربة”، تأخذ من الغذاء جزءًا يسيرًا لطيفًا. وأمَّا “العُرُوق غير الضاربة” – هي مجاري الغذاء بالحقيقة – فأخذت أكثره.
وأمَّا “العُرُوق الضاربة” فجُعِلت مسلكًا للأرواح المنبعثة من “القلب”، فاستغْنَت بقليل الغذاء، وجعل “للقلب” وَصْلَةٌ بـ “الأمعاء” ليُسَخِّنَها أوَّلًا، ويَمُدَّها بقوَّة الحياة (5) بإذن خالقه، ثُمَّ يأخذ منها الجزء الملائم من الغذاء المستغني عن فعل “الكبد”؛ للطافة جوهره، فإنَّ هذا
__________
(1) ساقط من (ح) و (م).
(2) من قوله: “ولهذا صار الحيوان. . .” إلى هنا؛ ألحق بهامش (ز).
(3) في (ك) و (ط): كالمسك، وفي (م): كالفيل! وأهملت في (ح).
(4) في (ح) و (م): يبعث.
(5) في (ح) و (م): الحار.
(1/571)
الجزء لو حصل في “الكبد” لم يُؤْمَن احتراقُهُ (1) وفساده، فلا ينتفع به “القلب”، ثُمَّ يأخذ منها عند شدَّة الحاجة وصدق المجاعة، فيتعجَّل ذلك من أدنى المواضع.
وكذلك يُشَاهد من أكل مِن مَسْغَبةٍ شديدةٍ يحسُّ بزيادةٍ ونماءٍ في كلِّ أعضائه، حتَّى ما يمرُّ الطعامُ بـ “المعدة” إلا وقد أخذت الأعضاءُ حاجتها منه (2) قبل استقراره فيها؛ فسبحان مَنْ أتقنَ ما صَنَع.
ولمَّا كانت “المعدةُ” آلةَ هَضْم الغذاء، و”الأمعاءُ” آلةَ دفعه: جُعل “للأمعاء” طبقتان (3)، ليقوَى دفعُها بهما جميعًا، وليكون ذلك حرزًا لها وحفظًا. وكذلك مَنْ تعرض له قُرْحَةٌ في “الأمعاء” بانجرادٍ (4) في أحد الصِّفَاقَين يبقى الآخر سليمًا. وجعلت “الأمعاء” الغِلَاظُ لقذف الثُّفْلِ، والدِّقَاقُ لتأدية الغذاء.
والسبب في أن صار (5) الإنسان لا يحتاج إلى تناول الغذاء دائمًا: كثرة لفائف أمعائه.
والسبب المانع من قذف الفُضُول دائمًا: سَعَة “الأمعاء” الغِلَاظ التي تقوم له مقام وعاءٍ آخر، شبيهٍ بـ “المعدة” في السَّعَة، كما أنَّ “المثانة” وعاءٌ للبول كذلك.
__________
(1) في جميع النسخ: اصرافه! ولعله تحريف ما أثبت.
(2) “إلا وقد أخذت الأعضاء حاجتها منه” ساقط من (ح) و (م).
(3) في (ط) وهامش (ك): طبقات.
(4) “انجراد”: من قولهم: انْجَرَدَ الثوب، أي: انْسَحَق وَلان. “مختار الصحاح” (114).
(5) “صار” ملحق بهامش (ك).
(1/572)
فصل
ونحن نذكر فصلًا مختصرًا في هذا الباب، نجمع لك شتاته بإيضاحٍ وإيجازٍ – إن شاء الله تعالى، وبه الحَولُ والقوَّة -؛ فنقول:
“المريء” موضوعٌ خلف “الحُلْقُوم” ممَّا يلي فَقَار “الظَّهْر”، وينتهي في ذهابه إلى “الحِجَاب”، وهو مشدودٌ برباطاتٍ. فإذا بَعُدَ “الحِجَاب” مال إلى الجانب الأيسر واتَّسَعَ، وذلك المُتَّسِعُ هو “المعدة”، وأسفلها يعود مائلًا إلى اليمين.
و”المعدة” مُفَرْطَحَةٌ، وفَمُها هو المُسْتَدِق منها، ويسمُّونه: “الفؤاد”، وهذا من غلطهم – إلَّا أن يكون ذلك اصطلاحًا خاصًّا منهم – فإنَّ “الفؤاد” عند أهل اللغة هو: “القلب”.
قال الجوهري: “الفؤادُ: القلبُ” (1).
وقال الأصمعي: “وفي الجَوْف الفؤاد، وهو القلب” (2).
وقد فرَّق بعض أهل اللغة بين “القلب” و”الفؤاد”، فقال الليث: “القلب: مُضْغَةٌ من الفؤاد، معلَّقةٌ بالنِّيَاط” (3).
وقالت طائفةٌ: ” [الفؤاد:] (4) مُسْتَدِق (5) القلب”.
__________
(1) “الصحاح” (2/ 517).
(2) “خلق الإنسان” له، وهو ضمن “الكنز اللغوي” (218).
(3) انظر: “تهذيب اللغة” (9/ 172).
(4) زيادة لفهم الكلام.
(5) كذا في جميع النسخ، ولعل المراد أنَّ الفؤاد شيءٌ دقيقٌ في القلب، وهو ما يذكرونه بـ “سويداء القلب”. =
(1/573)
وقد قال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: “جاءكم أهل اليمن؛ [هم] أَرَقُّ قلوبًا، وأَلْيَنُ أفئدَةً” (1) ؛ ففرَّق بينهما؛ ووصف “القلب” بالرقَّة، و”الأفئدة” باللِّين.
وأمَّا كون فَمِ “المعدة” هو “الفؤاد” فهذا لا نعلم أحدًا من أهل اللغة قاله.
وتأمَّلْ وصْفَ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – “القلب” بالرقَّة التي هي ضدُّ القَسَاوَة والغلظة، و”الفؤاد” باللِّين الذي هو ضدُّ اليُبْس والقسوة. فإذا اجتمع لِينُ “الفؤاد” إلى رِقَّة “القلب” حصل من ذلك الرحمة، والشفقة، والإحسان، ومعرفة الحقِّ وقبوله. فإنَّ اللِّينَ موجِبٌ (2) للقبول والفهم، والرقَّةَ تقتضي الرحمة (3) والشفقة. وهذا هو العلم والرحمة، وبهما كمال الإنسان، وربُّنا وَسِعَ كلَّ شيءٍ رحمةً وعلمًا.
فلنرجع إلى ما نحن بصدده فنقول:
“المعدة” مع “المريء” ذات طبقتين لطيفتين. واللَّحْم في الطبقة الداخلة أقلُّ، ولهذا يغلب عليها البياض، وهي عصبيَّةٌ حسَّاسَةٌ. وهو في الطبقة الخارجة أكثر، ولهذا تغلب عليها الحُمْرة، وهي مربوطةٌ مع (4)
__________
= وانظر: “تهذيب اللغة” (9/ 518)، و”تاج العروس” (4/ 69 – 70).
(1) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (4388، 4390)، ومسلم في “صحيحه” رقم (52)؛ من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – ولفظه:
“أتاكم أهل اليمن؛ هم ألين قلوبًا، وأرقُ أفئدة”.
وفي لفظ لهما: “أضعف قلوبًا، وأرقُ أفئدة”.
(2) في (ز): أقبل، وسقطت من (ط).
(3) مكانها بياض في (ز) و (ط).
(4) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: على.
(1/574)
الفَقَار برباطاتٍ وثيقةٍ، وتنتهي من جهة قَعْرِها إلى منفذٍ هو: “باب المعدة”، وبابُها يغلق عند اشتماله على الغذاء مدَّة هضمه.
ويقال لباطن جِرْم (1) “المعدة”: “خَمْل المعدة”.
“والأمعاء”: المَصَارِين، وهو جمع: مُصْرَان – بضمِّ الميم -، وهو جمع: مَصِير. وسُمِّي “مصيرًا” لمصير الغذاء إليه، والسُّفْلى يقال لها: “الأقْتَاب”، ومنه قوله – صلى الله عليه وسلم -: “فتندَلِقُ أقتاب بطنه” (2) . والعليا أدق من السُّفْلى، لما تقدَّم من الحكمة.
فأعلى الدِّقَاق يسمَّى: “الاثني عشر”؛ لأنَّ مساحته اثنا عشر إصْبَعًا.
ويليه: المسمَّى بـ “الصائم”؛ لقلَّة لُبْث الغذاء فيه، لا لأنَّه (3) يوجد أبدًا خاليًا كما ظنَّه بعضُهم، فإنَّ هذا باطلٌ حسًّا وشرعًا كما سنذكره.
والثالث: المسمَّى بـ “الدقيق” و”اللفائف”، وهو أطولُ “الأمعاءِ” وأكثرُها تلافيف، ولُبْث الغذاء فيه أطول، و”العُرُوق” التي تأتيه من “الكبد” أقلُّ.
وأمَّا اللذان قبله فمنتصبان في طول البدن، قصيران (4) ، ويقلُّ لُبْث الغذاء فيهما، وهو في “الصائم” أقلُّ لبثًا.
__________
(1) في (ز): رحم!!
(2) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (3267)، ومسلم في “صحيحه” رقم (2989) واللفظ له؛ من حديث أسامة بن زيد – رضي الله عنه -.
“الأقْتَاب”: جمع: قِتْب، وهي الأمعاء. واندلاقُها: خروجها بسرعة. “الفتح” (13/ 56).
(3) في (ز): أنه.
(4) في (ح) و (م): فيصيران.
(1/575)
وهذه الثلاثة تسمَّى: “الأمعاء العليا” و”الأمعاء الدِّقَاق”، وهي كلُّها في سعة “البوَّاب”.
وأمَّا الرابع (1) – وهو الأوَّل من الثلاثة السُّفْلَى الغِلَاظ – فيسمَّى: “الأعور”؛ لأنَّه لا منفذ له، بل هو كالكيس يخرج منه ما دخل من حيث دخل. وحكمته أنَّه يَتِمُّ فيه ما يَعْسُر هَضْمُه من الأشياء الصُّلْبة، كما يتمُّ ذلك في قَوَانِص الطيور. ووضعه في الجانب الأيمن.
والخامس: المسمَّى: بـ “قُولُون”، يبتدئ من الجانب الأيمن، ويأخذ عرضًا إلى الأيسر، ويُحْتَبَسُ فيه الثُّفْلُ ريثما يستقصي ما فيه.
والسادس: هو الآخِر، وهو: “المِعَى المستقيم”؛ لأنَّه مستقيم (2) الوضع في طول البدن، وهو واسعٌ جدًّا، يجتمع فيه الثُّفْل كما يجتمع البول في “المثانة”، وعليه الفَضْلة المانعة لخروج الثُّفْل بدون الإرادة.
وقد صحَّ عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: “المؤمن يأكل في مِعَىً واحدٍ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء” (3) ، فأطلق على “المعدة” اسم “المِعَى” تغليبًا، ولمشابهتها بـ “الأمعاء”؛ لكون كل واحدٍ من “الأمعاء” و”المعدة”
__________
(1) في (ح) و (م): الدامع.
(2) “لأنه مستقيم” ساقط من (ك).
(3) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (5393 – 5395)، ومسلم في “صحيحه” رقم (2060)؛ من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما -.
وفي “الصحيحين” عن عِدَّةٍ من الصحابة منهم: أبو هريرة، وأبو موسى، وجابر – رضي الله عنهم -.
(1/576)
مَحَلًّا للغذاء – وهذا لغة العرب، كما يقولون: القَمَران، والعُمَران، والرُّكْنَان اليمانيَّان، والشامِيَّان، والعراقِيَّان (1) ، ونظائر ذلك -، ولا سيَّما فإنَّ تركيب “الأمعاء” كتركيب “المعدة”، إذ هي مركَبةٌ من طبقتين: لَحْميَّةٍ خارجةٍ (2) ، وعصبيةٍ داخلةٍ.
والطبقة الدَّاخلة فيها (3) لُزُوجَاتٌ متصلةٌ بها؛ لتقيها من تراكم (4) البَرَاز، ورداءة كثِيفهِ ولَفيفِه (5) ، فلا تمسكه ولا يتعلَّق بها شيءٌ منه.
ولمَّا كان الكافر ليس في قلبه شيءٌ من الإيمان والخير يغتذي به؛
__________
(1) هذا من باب المثنَّى الجاري على التغليب:
فالقَمَران: هما الشمس والقمر.
والعُمَران: هما أبو بكر وعمر – رضي الله عنهما -. وقيل: هما عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز، وهذا قول قتادة! وحينئذٍ يكون من باب المثنَّى الحقيقي، لكن الأول أشهر.
انظر: “جَنَى الجنتين في تمييز نوعَي المثنَّيين” للمحبِّي (81، 125، 126).
وأمَّا “الركنان اليمانيَّان” فهما: الركن اليماني، وركن الحجر الأسود.
و”الركنان الشاميَّان” هما: اللذان بإزاء حِجْر إسماعيل، ويتوسطهما ميزاب الكعبة.
و”الركنان العراقيَّان” هما: ركن الحجر الأسود والذي يليه من جهة باب الكعبة.
انظر: “زاد المعاد” (2/ 226).
(2) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: خارجية.
(3) في جميع النسخ: منها، وما أثبته أصوب.
(4) في (ح) و (م): حاكم، وفي باقي النسخ: حلام، ولعل ما أثبته هو الصواب.
(5) العبارة في (ز) و (ك) و (ط) هكذا: ولرداته تحفيه ولزيفه! وفي (ح) و (م): ورداءة كثيفه ولزيفه. ولعل ما أثبته هو الصحيح.
والمراد بالكثيف: الغليظ. وباللفيف: المتجمِّع المختلِط.
(1/577)
انصرفت قُواه ونَهْمَتُه كلُّها إلى الغذاء الحيوانيِّ البهيميِّ، لمَّا فَقَدَ الغذاءَ الروحيَّ القلبيَّ، فتوفرت أمعاؤه وقُواه على هذا الغذاء، واستفْرَغَتْ أمعاؤه هذا (1) الغذاء وامتلأت به بحسب استعدادها وقبولها، كما امتلأت به “العُرُوق” و”المعدة”.
وأمَّا المؤمن فإنَّه إنَّما يأكل العُلْقَة (2) ليتقوَّى بها على ما أُمِرَ به، فهِمَّتُه وقُوَاه مصروفةٌ إلى أُمورٍ (3) وراء الأكل. فإذا أخَذَ ما يُغَذيه ويقيمُ صُلْبَه استغنى قلبُه ونفسُه وروحُه بالغذاء الإيماني عن الاستكثار من الغذاء الحيوانيِّ، فاشتغل مِعَاهُ الواحد – وهو “قُولُون” – بالغذاء، فأمسكه حتَّى أخذت منه الأعضاءُ والقُوى مقدارَ الحاجة، فلم يحتج إلى امْتِلَاءِ (4) أمعائه كلِّها من الطعام، وهذا أمرٌ معلومٌ بالتجربة.
وإذا قويت موادُّ الإيمان، ومعرفةِ الله وأسمائه وصفاته، ومحبتِه، ورجائه، والشوقِ إلى لقائه في “القلب” = استغنى بها العبدُ عن كثيرٍ من الغذاء، ووجد لها قوَّة تزيد على قوَّة الغذاء الحيوانيِّ.
فإن كَثُفَت طِبَاعُك عن هذا، وكنتَ عنه بمعزلٍ؛ لاشتغالك بالغذاء الحيوانيِّ وامتلائك به (5) ، فتأمَّلْ حال الفَرِح المسرور بتجدُّدِ نعمةٍ عظيمةٍ، واستغنائه مدَّةً عن الطعام والشراب مع وفور قوَّته، وظهور
__________
(1) في (ز) و (ك) و (ط): على هذا.
(2) “العُلْقَة”: كل ما يُتَبلَّغُ به من العيش. “القاموس” (1176).
(3) في (ز) و (ك) و (ط): أمرٍ.
(4) في (ح) و (م): أن يملأ.
(5) من قوله: “لاشتغالك بالغذاء. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ح) و (م).
(1/578)
الدَّمَوِيَّة (1) على بَشَرَته، وتَغَذِّيه بالسرور والفرح. ولا نسبة لذلك إلى فرح “القلب” ونعيمه، وابتهاج “الرُّوح” بقُرْب الرَّبِّ – تعالى – ومحبته ومعرفته، كما قيل (2) :
لها أحادِيثُ من ذِكْرَاكَ تَشْغَلُها … عن الشَّرَابِ، وتُلْهِيها عن الزَّادِ
وقد قال – صلى الله عليه وسلم – في الحديث المتفق على صحته: “إنِّي أَظَلُّ عند رَبِّي يُطْعِمُني ويَسْقِيني” (3) . وصدق الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه؛ فإنَّ المقصودَ من الطعام والشراب التغذيةُ المُمْسِكَةُ، فإذا حصل له أعلى الغذاءين وأشرفُهما وأنفعُهما فكيف لا يُغْنيه ذلك عن الغذاء المشْتَرَك.
وإذا كنَّا نشاهد أنَّ الغذاءَ الحيوانيَّ يَغْلِب على الغذاء القلبيِّ الروحيِّ حتَّى يصير الحكم له، ويَضْمَحِلَّ غذاء “القلب” و”الرُّوح” (4) بالكُلِّية، فكيف لا يضمحِلُّ غذاء البدن عن استيلاء غذاء “القلب” و”الرُّوح” ويصير الحكم له؟
__________
(1) في (ك): الذمومة!
(2) البيت لإدريس بن أبي حفصة.
انظر: “زهر الآداب” للقيرواني (1/ 507) وفيه: “عن الرُّتُوع” بدل “عن الشراب”، و”الأنوار ومحاسن الأشعار” للشمشاطي (1/ 401) وفيه: “عن الرُّبُوع”.
(3) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (7241)، ومسلم في “صحيحه” رقم (1104)؛ من حديث أنس – رضي الله عنه – بلفظ: “إني أظَلُّ يطعمني ربي ويسقيني”.
وفي الباب عن عِدَّةٍ من الصحابة منهم: أبو هريرة، وأبو سعيد، وعائشة، وابن عمر – رضي الله عنهم -.
(4) العبارة في (ح) و (م) هكذا: ويضمحلَّ هذا الغذاء.
(1/579)
وقد كان النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – يمكث الأيامَ لا يَطْعَمُ شيئًا (1) ، وله قوَّة ثلاثين رجلًا، ويطوف – مع ذلك – على نسائه كلِّهنَّ في ليلةٍ واحدةٍ، وهُنَّ تسع نسوة (2) .
وهذا المسيح ابن مريم – صلى الله عليه وسلم – حيٌّ لم يَمُتْ، وغذاؤه من جنس غذاء الملائكة (3) .
__________
(1) أخرج البخاري في “صحيحه” رقم (6458)، ومسلم في “صحيحه” رقم (2972)؛ عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: “إنْ كنَّا – آلَ محمد – صلى الله عليه وسلم – لنمكُثُ شهرًا ما نستوقد بنارٍ، إنْ هو إلا التمر والماء”، واللفظ لمسلم.
وفي الباب أحاديث كثيرة عن عِدَّةٍ من الصحابة – رضي الله عنهم – تدل على هذا المعنى.
(2) أخرج البخاري في “صحيحه” رقم (268، 284، 5068، 5215)، ومسلم في “صحيحه” رقم (309)؛ عن أنس – رضي الله عنه – أنه قال:
“كان النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – يطوفُ على نسائه في الليلة الواحدة، وله يومئذٍ تسعُ نِسْوةٍ”. وجاء في لفظٍ للبخاري زيادة: قال قتادة: قلت لأنسٍ: أَوَ كان يطيقُه؟ قال: كنا نتحدث أنه أُعطِيَ قوة ثلاثين.
(3) وغذاء الملائكة هو التسبيح والتقديس، كما جاء ذلك في:
1 – حديث ابن عمر – رضي الله عنهما -؛ أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سئل عن طعام الملائكة؟ فقال: “طعامهم منطقهم بالتسبيح والتقديس”.
أخرجه: نعيم بن حماد في “الفتن” رقم (1581)، والحاكم في “المستدرك” (4/ 511) وقال: “صحيح على شرط مسلم” وتعقبه الذهبي بقوله: “كلا لا يصح؛ فسعيد – هو ابن سنان الحنفي – متَّهَمٌ تالِفٌ”.
وانظر: “السلسلة الضعيفة” رقم (3825)، و”ضعيف الجامع” رقم (8054).
2 – وحديث أسماء بنت يزيد بن السَّكَن الأنصارية – رضي الله عنها -؛ أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سئل عن طعام المؤمنين زمنَ الدجَّال؟ فقال: “يجزيهم ما يجزي أهل =
(1/580)
وأنت تشاهد المريضَ يمكث الأيام العديدة لا يأكل ولا يشرب، لاشتغال نفسه بمجاذَبَةِ المرض ومدافعته، واكتفاء الطبيعة ببقية الغذاء الذي في “الأمعاء” و”المعدة” مع شِدَّة (1) الحرب، فإذا وضعت الحرب أوزارها رأيتَ شدَّةَ طلبه للغذاء.
فالخائفُ، والمحبُّ، والفَرِحُ، والحزينُ، والمستولي عليه الفِكْرُ لا تطالبه نفسه من الغذاء بما تُطالب (2) به الخالي من ذلك.
فصل
و”الكبد” عضوٌ لحمِيٌّ تتخلَّلُهُ عروقٌ دِقاقٌ وغِلَاظٌ، وعلى “الكبد” غشاءٌ عصبيٌّ حسَّاسٌ يحيط بها، وينتهي إلى عِلَاقة.
و”الكبد” هي الأصل في الغذاء، وآلاتُ الغذاء خَدَمٌ لها ومُعِيناتٌ. فإنَّ الإنسان لمَّا كان كالشجرة المنتقِلَةِ جُعِلَ له ما يقوم مقام النهر الجاري في أصول الشجر يسقيها وهو “الأمعاء”، و”المعدة” بمنزلة العين، وتجري منها [العروق مجرى] (3) السَّوَاقي.
وعروق “الكبد” المتصلة بـ “الأمعاء”. بمنزلة عروق الشجرة
__________
= السماء من التسبيح والتقديس”.
أخرجه: عبد الرزاق في “المصنف” رقم (20821)، وأحمد في “المسند” (6/ 456)، والطبراني في “الكبير” (24/ رقم 404 – 406)، والبغوي في “شرح السُّنَّة” رقم (4263).
وإسناده ضعيف؛ فيه: شَهْر بن حَوشَب، وأيضًا: قتادة مدلِّس وقد عنعن.
(1) في (ح) و (م): مدَّة.
(2) “بما تُطالب” ساقط من (ح) و (م).
(3) زيادة مهمة لاتساق الكلام.
(1/581)
المتصلة بأرض السَّاقية، تمتصُّ الماءَ منها وتؤدِّيه إلى الشجرةِ، وأغصانِها، وورقِها، وثمارِها. وهذه العروق تمصُّ الماءَ من الطِّين والثَّرَى. وكذلك عروق “الكبد” تمتصُّ صَفْوَ الماءِ وخالصَه من كَيْلُوسِهِ (1) ، وتحيله إلى طبيعة الأعضاء، كما تفعل عروق الشجرة.
وشكل “الكبد” شَكْلٌ (2) هلاليٌّ، مُحَدَّبٌ من ظاهره، مُقَعَّرٌ من باطنه، وهي تحت “الأضلاع” الخمس، ولها خمس شُعَبٍ يقال لها: “الزوائد”، تحتوي على “المعدة” كما تحتوي “الكَفُّ” بأصابعها على الشيء المقبوض.
ويقال للشُّعْبة الصغيرة منها خاصةً (3) : “زائدة الكبد”، وفي “الصحيح” عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: “إنَّ سبعين ألفًا من أهل الجنَّة يأكلون من زيادة كبد الحوت، الذي هو أوَّلُ طعامهم” (4) ، وهذا يدلُّ على عِظَمِ قَدْرِ هذه الزيادة، فما الظَّنُّ بـ “الكبد” التي هي زيادته؟ فكيف بالحُوت الذي حواها؟
__________
(1) “الكَيْلُوس”: المواد الغذائية التي تتجمَّع على شكل كتلة عجينية في “المعدة” قبل أن تدخل “الأمعاء الدقيقة”. “المعجم الوسيط” (2/ 808).
وهي كلمة يونانية، عرَّبها الأطباء لدلالتها على إحدى مراتب الهضم، وسماه بعضهم: “الكَيْمُوس”، وذكروه في معاجم اللغة تحت مادة “كَمَسَ”.
انظر: “لسان العرب” (12/ 156)، و”تاج العروس” (16/ 450)، و”قصد السبيل” للمحبِّي (2/ 415).
(2) “شكل” ملحق بهامش (ك).
(3) بعدها في (ك) زيادة: صغيرة! ولا مكان لها.
(4) سبق تخريجه (ص/ 500 و 513)، بدون ذكر السبعين ألفًا.
(1/582)
[و] (1) مقْعَرُها يسمَّى: “المُورِد”؛ لأنَّه (2) يُورِد الغذاء من “المعدة” و”الأمعاء”، ويسمَّى: “باب الكبد”.
ثُمَّ تتشعَّبُ هذه “العُرُوق” من جانبيه بِشُعَبٍ (3) تتَّصِلُ بـ “الأمعاء”، وتسمَّى: “الجداول”؛ لشَبَهِها بالسَّوَاقي الصِّغَار، تؤدِّي إلى مَقَرَّةٍ عظيمةٍ. ولهذه “الجداول” أَغشيةٌ من فوقها ومن تحتها، فتستدير مع “الأمعاء” ومع “العُرُوق” المتصلة بها، وتسمَّى هذه الأغشية وما تحويه: “المَرَابِط”.
فصل
والعرق الثاني ينقسم في مجاذبها إلى عُرُوقٍ صِغَارٍ، وأصغر منها، حتَّى تبلغ غاية الدِّقَّة، ثُمَّ تعود تجتمع أوَّلًا فأوَّلًا على قياس ما تفرَّقت، فتأخذ من كثرةٍ إلى وَحْدَةٍ، ومن دِقَّةٍ إلى غِلَظٍ، حتَّى يجتمع منها العرق الخارج من “الكبد” المسمَّى بـ “الأجوف”، ومنه يتأدَّى “الدَّم” إلى البدن كلِّه.
وحين يخرج ينقسم قسمين:
فيأخذ أحدهما نافذًا في “الحِجَاب” نحو “القلب”، ويسمَّى: “الوتين”.
قال أهل اللغة: “الوتين” (4) عرقٌ يسقي “القلب”. قال في
__________
(1) زيادة مهمة.
(2) بعده في (ك) زيادة: لا! وهي مقحمة، ومفسدة للمعنى.
(3) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: فشعب.
(4) ساقط من (ك).
(1/583)
“الصِّحَاح” (1): “”الوتين”: عرقٌ في “القلب”، إذا انقطع مات صاحبه، ووتَنْتُه: أَصَبْتُ وَتِينَهُ”، فهو موتون.
وقال الواحديُّ (2): “”الوتين”: نياط “القلب”، وهو عِرْقٌ يجري في “الظَّهْر” حتَّى يتصل بـ “القلب”، إذا انقطع بَطَلَت القُوى، ومات صاحبه”.
وهذا قول جميع أهل اللغة، وأنشدوا للشمَّاخ (3):
إذا بَلَّغْتِني وحَمَلْتِ رَحْلِي … عَرَابَةَ فَاشْرَقي بِدَمِ الوَتِينِ
وقال ابن عباس وجمهور المفسِّرين: هو حَبْلُ “القلب” ونيَاطُه.
وأمَّا “الأَبْهَر” – الذي قال فيه النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: “هذا أَوَانُ انقطَاع أَبْهَرِي” (4) – فقال الجوهري: “”الأَبْهَر”: عِرْقٌ إذا انقطع مات صاحبه، وهما “أبْهَرَان” يخرجان من “القلب”، ثُمَّ يتشعَّبُ منهما سائر “الشرايين”. وأنشد الأصمعي (5):
وللفُؤَادِ وَجِيبٌ تحتَ أَبْهَرِهِ … لَدْمَ الغُلَامِ ورَاءَ الغَيبِ بالحَجَرِ” (6).
__________
(1) (6/ 2211).
(2) في “الوسيط” (4/ 349).
(3) “ديوانه” (113)، وفيه: حَطَطْتِ، بدل: حَمَلْتِ.
(4) سبق تخريجه (ص/ 275).
(5) في جميع النسخ: وأنشدوا للأصمعي! وهو تحريف، والتصحيح من المصدر.
(6) “الصحاح” (2/ 598)، وفيه نسبة البيت: لابن مُقْبل، من إنشاد الأصمعي، وهو في “ديوان تميم بن أُبيّ بن مقبل” (99).
(1/584)
فصل
و”المَرَارَةُ” موضوعةٌ على “الكبد”، ولها مجريان:
أحدهما: متصِلٌ بتقعير “الكبد”، يجتذب “المِرَّةَ الصفراءَ”.
والآخر: متصِلٌ بـ “الأمعاء العليا”، يَصُبُّ “المِرَّةَ”؛ ليغسلها ويَجْلُوها، ويتصل منه السَّيْر (1) بأسفل “المعدة” لتمتزِجَ بالغذاء، فيكون فيه معونةٌ على هضمه.
فصل
والقوَّةُ التي وكَّلَها اللهُ – سبحانه وتعالى – بتدبير البدن من أعظم آياته الدَّالَّةِ عليه، فإنَّها تفعل في الطعام والشراب الوارِدَينِ عليه أفعالًا متنوِّعةً من تقطيعٍ، وتفصيلٍ، وتَمْزِيجٍ، وتحليلٍ، وتركيبٍ.
فمبدأ ذلك في “الفَم”، وهو تقطيعُه بـ “الأسنان”، ومَضْغُه، واختلاطُه بالرُّطُوبات التي فيه، وانهضَامُه فيه انهضامًا تامًّا.
ثُمَّ بعد ذلك عند وروده إلى “المعدة”، فإنَّ “المعدة” (2) تهضِمُهُ هَضْمًا آخر، ويسمَّى: “الهَضْم الأوَّل”.
ويعينها على هضمه ما يُجَاوِرُها من الأعضاء؛ فـ “الكبد” عن يمينها، و”الطِّحَال” عن يسارها، و”القلب” من فوقها، و”الثَّرْبُ” (3)
__________
(1) “السَّيْر”: ما يُقَدُّ من الجِلْد ونحوه مستطيلًا. “المعجم الوسيط” (1/ 467).
(2) “فإنَّ المعدة” ساقط من (ح) و (م).
(3) في (ح) و (م): المريء، وفي باقي النسخ: الشرى! والصواب ما أثبته.
“والثَّرْبُ”: شَحْمٌ رقيقٌ يغشِّي الكَرِش والأمعاء، وجمعه: ثُروب. =
(1/585)
أمامها، و”الأمعاء”: السُّبُل الموصِلَةُ إليها، و”العُرُوق”: الطرق المؤدِّيةُ منها، والحرارةُ: النَّارُ الطابِخة للطعام فيها، والقُوَى الهاضِمةُ والجاذبةُ والغاذِيةُ والدافِعةُ خَدَمٌ لها.
فإذا انْهَضَمَ الطعامُ فيها صار كَيْلُوسًا (1)، شبيهًا بماء الكَشْكِ (2) الثَّخِين، ثُمَّ تَنْهَزُ صَفْوَهُ ولَطِيفَهُ، فتقذفه (3) في “العُرُوق” الدِّقَاق الشَّعْرِيَّةِ التي هي بدِقَّة “الشَّعْر”، ويَنْجَذِبُ إلى “الكبد”، فإذا ورد هذا اللَّطِيفُ إلى “الكبد” اشتملت عليه بجملته؛ فطَبَخَتْهُ، وهضَمَتْهُ، وأحَالَتْهُ إلى جوهرها، وصَيَّرَتْهُ دَمًا، ويسمَّى هذا: “الهضم الثاني”.
ولمَّا كان هذا الإنْضَاجُ والطبخُ يشبه طبخ القِدْرِ؛ عَلَاهُ شيءٌ كالرَّغْوَة والزَّبَد، وهو: “الصَّفْرَاء”. ورَسَب منه شيءٌ مثل العَكَر، وهو: “السوداء”. وتَخَلَّفَ عن (4) تمام النُّضْج شيءٌ بَقِيَ على فُجُوجَتِهِ (5) وهو: “البَلْغَم”.
والشيء الذي يُصَفَّى ويبقى من ذلك كلِّه هو: “الدَّم”. فاندفع من
__________
= انظر: “المخصَّص” لابن سيده (2/ 23)، و”تاج العروس” (2/ 83).
(1) سبق بيان معناه (ص/ 582).
(2) “الكَشْك”: طعامٌ يُصنع من الدقيق واللبن، ويُجفَّف حتى يُطبخ متى احتيج إليه، وربما عمل من الشعير، وهو فارسيٌّ معرَّب.
انظر: “المعجم الوسيط” (2/ 789).
(3) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: فيقذف.
(4) في جميع النسخ: على، ولعله تحريف.
(5) كذا؛ والمذكور في كتب اللغة: الفَجَاجَة، وهي قلَّةُ النُّضْج.
انظر: “المعجم الوسيط” (2/ 674).
(1/586)
“الكبد” في العرق الأعظم المعروف (1) بـ “الأجوف”، بعد أن تَصَفَّت (2) عنه المائية إلى آلة البَول، فيسلك هذا “الدَّم” في “الأَوْرِدَةِ” المُتَشَعِّبة من “الأَجْوَف”، ثُمَّ في جَدَاوِلَ مُتَشَعِّبة (3) من “الأَوْرِدَةِ”، ثُمَّ في سَوَاقٍ مُتَشَعِّبة من الجداول، ثُمَّ في رَوَاضِعَ مُتَشَعِّبة من (4) السَّوَاقي، ثُمَّ في عُرُوقٍ دِقَاقٍ (5) شَعْرِيَّةٍ، ثُمَّ يَرْشَحُ من أفواهها في الأعضاء لتغتذي به، فتُحِيلُهُ الأعضاء، وتسيرُ به بجواهرها، فيصير في “اللَّحْم” لحمًا، وفي “العَظْم” عَظْمًا، وفي “العَصَب” عَصَبًا، وفي “الظُّفُر” ظُفُرًا، وفي “الشَّعْر” شَعْرًا، وفي السَّمْع والبصر وآلةِ الحِسِّ كذلك. فتبارك من هذا صُنْعُهُ في قَطْرةٍ من ماءٍ مهينٍ.
فصل
و”الدَّمُ” هو الخِلْطُ الأصليُّ، والغذاءُ الحقيقيُّ للبدن، والمُخْلَفُ عليه بَدَل ما ينقص ويتحلَّلُ منه، والأخلاط الأُخَر كالأَبَازِير والتَّوَابِل.
وهو صنفان:
1 – لطيفٌ؛ وهو دم “القلب”.
2 – وغليظٌ؛ وهو دم “الكبد”.
__________
(1) ساقط من (ك).
(2) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: نقصت.
(3) في (ك): منشقة! وفي (ز) و (ط): منسقبه! وفي (ح) و (م): متثقِّبة، وما أثبته أصح، وكذا في مثيلاتها بعدها.
(4) سقطت من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: في، وما أثبته أنسب.
(5) ساقط من (ك).
(1/587)
ومَثَلُه مَثَلُ السلطان إذا كان وقورًا، حليمًا، ساكنًا؛ عاشَتْ به رعيته، وإذا غضب واحتَدَّ قَتَلَ.
فصل
وأمَّا “البَلْغَم”: فخِلْطٌ فِجٌّ مُسْتَعْدٍ لَيِّنٌ، يستكمل نُضْجَه عند عَوَز الغذاء إذا ما تولَّتْهُ الحرارة الغريزيَّة، فهَضَمَتْهُ وصَيَّرَتْهُ دمًا، فيتكوَّنُ في “المعدة” و”الأمعاء”، وفي “الكبد” عند قصور الهضم.
وفيه من المنفعة أنَّه يرطِّبُ البدنَ، وَيَبُلُّ المفاصلَ، لِيُسْلِسَ (1) حركاتها، ويخالِطُ “الدَّم” في تغذية الأعضاء البلغميَّة المِزَاج كـ: “الدِّماغ”.
فإن قيل: ما الحكمة أنَّه لم يجعل “للبَلْغَم” عضوًا (2) مخصوصًا ينصبُّ إليه كـ “الرئتين”؟ (3)
قيل: لمَّا كانت الأعضاءُ محتاجةً أن يكون قريبًا منها لترطيبها؛ لم يُجْعَل له عضوٌ يختصُّ به، لا سيَّما والأعضاء تغتذي به إذا أَعْوَزَها الغذاءُ.
فصل
وأمَّا “الصَّفْراء”: فخِلْطٌ لطيفٌ حادٌّ.
__________
(1) “أَسْلَسَ الشيءَ: جعله سَلِسًا، أي: سهلًا ليِّنًا منقادًا.
انظر: “تاج العروس” (16/ 149).
(2) “عضوًا” ملحق بهامش (ك).
(3) من قوله: “ما الحكمة أنه لم يجعل. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ح) و (م).
(1/588)
وحاجة البدن إليها في أن تخالط “الدَّم”، وتُرِقَّهُ (1) بلُطْفِها، وتُنْفِذَه في المسالك الضيِّقة، ولتعينه في تغذية الأعضاءِ الحارَّةِ اليابسة.
وما ينفصِلُ (2) عنها ممَّا يُسْتَغْنَى عنه يتصفَّى إلى “المَرَارة” لتأخذ نصيبها منه، وما تستغني عنه “المَرَارة” تَصُبُّهُ إلى “الأمعاء” لتغسلها عن لَطْخَة الأَثْفَال ولُزُوجَتِها، وَلِتَدْعُوَ عَضَلَ “المَقْعَدة” فتحسَّ بالحاجة إلى التبرُّزِ.
فصل
وأمَّا “المِرَّةُ السوداءُ”: فخِلْطٌ باردٌ يابِسٌ.
وفيه من المنافع أنَّه يَنْفُذُ مع “الدَّم” في “العُرُوق” ليشدَّهُ (3)، ويقوِّيه، ويكفِتَهُ (4)، ويمسكه، ويمنعه من سهولة الحرمة (5) عند الحاجة إلى ذلك، وتعينه في تغذية الأعضاء المحتاجة إلى (6) أن يكون في غذائها شيءٌ من “السوداء” (7) كـ “العِظَام”.
وما انفَصَلَ (8) منه واستغنى عنه يُصَفَّى إلى “الطِّحَال”، فيصفِّيه “الطِّحَالُ” جدًّا، ويتغذَّى به، ثُمَّ يُجْلَبُ ما يَسْتَغنِي عنه “الطِّحَال” إلى فَم
__________
(1) أي: تجعله رقيقًا، وهو ضد الغِلَظ والثَّخَانة. “لسان العرب” (5/ 286).
(2) تصحفت في (ز) إلى: يتفصل، وسقطت من (ط).
(3) بياض في (ط)، وفي (ح) و (م): ليسدّه! تصحيف.
(4) في (ط): ويكيفه! وفي باقي النسخ: ويكفيه. ولعله تحريف ما أثبت.
(5) كذا في جميع النسخ، ولم أَدْرِ معناها! والعبارة مرتبكة.
(6) من (ك)، وسقط من بقية النسخ.
(7) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: السواد.
(8) في (ح) و (م): اتصل!
(1/589)
“المعدة”، فَيُدَغْدِغُهُ بالحُمُوضَة التي فيه، فتتحرك الشهوةُ، وتحسُّ بالجوع، فتطلب الأعضاء القصوى معلُومَها ورَاتِبَها من الأعضاء التي تليها، وتطلبه الأعضاء التي تليها من التي تجاورها، وهكذا حتَّى ينتهي الطلب إلى “المعدة”.
فالجوعُ: طَلَبُ الأعضاءِ (1) القُصْوَى معلومَها من الأعضاءِ (2) الدنيا.
فصل
ولمَّا اقتضت حكمة الرَّبِّ – جلَّ جلاله، وتقدَّسَت أسماؤه، ولا إله غيره – حيث كان بدنُ الإنسان مشبهًا في أحواله بالمدينة = أن يوجد فيه (3) أعضاء رئيسة تقوم بمصالحه – كما يقوم رؤساء المدينة بمصالحها – تكون له (4) بمنزلة الولاة والأمراء. وأعضاء تكون خادمةً لهذه الأعضاء الرئيسة؛ فإنَّ الرئيس لا يكون رئيسًا إلا بمرؤوس، وهي بمنزلة: الشُّرَط، والجَلَاوِزَة (5)، والنُّقَبَاء (6). وأن يوجد فيه أعضاء كالرعيَّةِ؛ وهي قسمان:
1 – ماله اتصالٌ بالرؤساء، وإن لم يكن اتِّصالُهُ (7) اتِّصَالَ خدمةٍ.
__________
(1) “الأعضاء” ملحق بهامش (ك).
(2) من (م)، وتصحفت في باقي النسخ إلى: الأعمال!!
(3) في جميع النسخ: فيها، والصواب ما أثبته.
(4) في جميع النسخ: لها، والصواب ما أثبته.
(5) “الجَلَاوِزَة”: جمع الجِلْواز، وهو: الشُّرَطِي. “القاموس” (650).
(6) “النُّقَبَاء”: جمع نَقِيب، وهو: عريف القوم. “القاموس” (178).
(7) في (ح) و (م): له.
(1/590)
2 – وما لا اتِّصال له بهم، بل هو مستقلٌّ بنفسه.
فالأعضاء إذًا بهذا التقسيم أربعة:
أحدها: الأعضاء الرئيسة المخدومة.
الثاني: الأعضاء المرؤوسة الخادمة.
الثالث: الأعضاء المرؤوسة بلا خدمة.
الرابع: الأعضاء التي ليست رئيسة ولا مرؤوسة.
فصل
والأعضاء الرئيسة إنَّما استحقَّت الرياسة لشَرَفِها، إذ كانت هي الأصولُ والمعادنُ والمبادئُ للقُوى الأوليَّهِ في البدن، المضطرُّ إليها في بقاء الشَّخْص والنَّوع.
وهي بحسب بقاء الشَّخْصِ ثلاثةٌ: “القلب”، و”الكبد”، و”الدِّماغ”.
وبحسب بقاء النَّوع أربعةٌ: الثلاثةُ المذكورةُ، و”الأُنْثَيَان”.
وأمَّا “القلب”؛ فهو العُضْو الذي جعله الخَلَّاقُ العليمُ قائمًا بأمر البدن كقيام الملك (1) بأمر الرعيَّة، وهو أوَّلُ عُضْوٍ يتحرَّكُ في البدن، وآخرُ عُضْوٍ يَسْكُنُ منه، وهو مبدأ جميع القُوى، وما يلحقه من صلاحٍ أو فسادٍ يتأدَّى منه إلى غيره من الأعضاء.
وأمَّا “الكبد”؛ فهو العضو الذي يقوم بحِفْظِ الحياة، إذ كانت هي التي تملأُ الأعضاء بالغذاء؛ ليبقى البدن محفوظًا ما أمكن بقاؤه.
__________
(1) ساقط من (ك).
(1/591)
وأمَّا “الدِّمَاغ”؛ فهو العضو القائم بأمر الحِسِّ والإدراك وتكميل الحياة، إذ فيه آلاتُ الإحساس التي بها يُعرف النافعُ من الضَّارِّ، والملائمُ من المُنَافِرِ، وبواسطته (1) صارت الحياة نافعةً (2) صالحةً، متجاوِزَةً لرتبة (3) حياة النَّبَات.
وأمَّا “الأُنْثَيَان”؛ فهما اللَّذَان يقومان بحِفْظِ بقاء النَّوع.
فصل
وأمَّا الأعضاء الخادمة: فـ “الرِّئة”، و”الشرايين” الحاملة المؤدِّية من “القلب” الحرارةَ الغريزيَّة والقُوى والأرواحَ الحيوانية التي بها قِوَام البدن.
فهذان خادِمان “للقلب”.
و”المعدة” و”الأَوْرِدَة” خادمان “للكبد”.
و”الأَوْرِدَة” تُنفِذُ “الدَّمَ” الغاذِي، والأرواح، والقُوى إلى جميع البدن.
و”الكبد” خادِمةٌ “للدِّمَاغ”، وكذلك “الأعصاب” التي بها يحصل الحِسُّ والحركة.
و”الأُنْثَيَان” يخدِمُهما الأعضاء المولِّدة “للمَنِيِّ”، والمجاري المؤدِّية عنهما إلى موضع التَّوَالُدِ.
__________
(1) ساقط من (ح) و (م).
(2) “نافعة” ملحق بهامش (ح).
(3) تصحفت في (ح) و (م) إلى: لزينة.
(1/592)
فصل
وأمَّا الأعضاء المرؤوسة بلا خدمة؛ فهي أعضاءٌ مختصَّةٌ بقُوىً لها طبيعيَّة، بها يتمُّ تدبيرها، ويستقيم أمرها.
ولا بدَّ مع ذلك من أن (1) يفيضَ (2) عليها من الأعضاء الرئيسة قُوىً تمدُّها بإذن الله – تعالى – كـ: “الأُذن”، و”العين”، و”الأنف”. فإنَّ كلَّ واحدٍ منها يقوم بأمر نفسه بما فيه من القوَّةِ الطبيعيَّةِ التي أعطاها إيَّاهُ الخالقُ (3) سبحانه، ولا يتمُّ ذلك لها إلا بأن تأتيها قوَّةٌ حسَّاسَةٌ تنزل عليها من “الدِّمَاغ” بإذن الرَّبِّ تعالى.
فصل
وأمَّا الأعضاء التي ليست برئيسة ولا مرؤوسة؛ فهي التي اختصَّت بقُوىً غريزيَّة فيها من أصل الخِلْقَة في أوَّل التكوين، ليتمَّ بها قَوَامُ أمرها، وتدبيرُها في اجتلاب المنافع ودفع المضارِّ، كـ: “العظام”، و”الغَضَاريف”.
وسائر الأعضاء المتشابهة الأجزاء – مثل: “الرِّبَاطات”، و”الأعصاب”، و”الأوتارِ”، و”الشرايين”، و”الأَوْرِدَةِ”، و”الأغْشِيَةِ”، و”اللَّحْمِ”، و”العظَامِ” – كالأساس والاسطوانات لبناء هيكل (4) البدن.
فإن قيل: هل في “العظام” قوَّةُ الإحساس وحياته أم لا؟
__________
(1) من قوله: “بقوىً لها طبيعية. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ز).
(2) في (ح) و (م): يقبض!
(3) تكررت مرتين في (ك).
(4) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: كل.
(1/593)
قيل: هذا موضعٌ اختلف فيه أرباب الشريعة فيما بينهم، وأرباب الطبيعة فيما بينهم:
فقالت طائفة: لا حياة في “العظام” وإن كان فيها قوَّة النُّمُو والاغتذاء.
قالوا: لأنَّ الحياةَ إنَّما هي بالرُّوح الحيوانيِّ، ولاَ حَظَّ “للعظام” فيه.
قالوا: ولأنَّ مَرْكَبَ الحياةِ (1) إنَّما هو “الدَّمُ” المُنْبَثُّ في “العُرُوق” و”الأعصاب” و”اللَّحم”. ولهذا لم يكن “للشَّعْر” ولا “للظُّفُر” نصيبٌ من ذلك، ولهذا لم يأْلَم الحيوانُ بأَخْذِهِ.
قالوا: فحياةُ “العظام” و”الشَّعْر” حياةُ نُمُوٍّ واغتذاءٍ، وحياةُ أعضاء البدن حياةُ نُمُوٍّ وإحساسٍ.
قالوا: ولهذا قلنا إنَّ “العظام” لا تَنْجَس بالموت؛ لأنَّها لم يكن فيها حياةٌ تزول بالموت.
قالوا: وزوالُ النُّمُوِّ لا يُوجب نجاسة ما فَارَقَهُ، بدليل يُبْسِ الزَّرعْ والشَّجر.
قال آخرون: الدليلُ على أنَّ “العظام” تَحُلُّ فيها الحياةُ قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 78، 79].
__________
(1) أقحمت “فيه” بعدها في (ز) و (ك) و (ط).
(1/594)
والحِسُّ يدلُّ على ذلك أيضًا، فإنَّ “العَظْم” يأْلَم، ويَضْرِبُ (1) ، ويَسْكُن، وذلك نفس إحساسه.
قالوا: ولا يمكن إنكارُ كون “العظام” فيها قوَّةٌ حسَّاسَةٌ تحسُّ بالبارد والحَارِّ.
قال الآخرون: الإحساس والألم ليس “للعظم” في نفسه، وإنَّما هو لما جاوره من “اللَّحْم”.
قال المنازعون لهم: هذا مكابَرَةٌ ظاهرةٌ؛ فإنَّ “العظْمَ” نفسَه يَأْلَمُ، ولا سيَّما إذا انْصَدَع.
ثُمَّ إنَّ “الأسنانَ” و”الأضراسَ” تحسُّ بالألم والحارِّ والبارد بأنفسها، لا بِمُجَاوِرِها من “اللَّحم”.
ولهذا توسَّطت طائفةٌ ثالثةٌ، وقالت: عظامُ “الأسنان” خاصةً لها الإحساس، بخلاف سائر “العظام”.
وهؤلاء قد (2) سلَّمُوا المسألة من مكانٍ قريب، فإنَّ الذي دلَّ على إحساس “الأسنان” وحياتها هو الدَّالُّ على حياة سائر “العظام”، والشبهة التي ذكروها لو صحَّت لمَنَعَت من إحساس “الأسنان”.
وأمَّا حديث الطهارة والنَّجَاسة فذاكَ لأمرٍ آخر وراءَ الحياة.
__________
(1) ضَرَبَ: تحرَّكَ وارتعَدَ بسبب بردٍ أو خوفٍ أو نحو ذلك، وبمعناه: تضرَّب واضطرَب.
انظر: “القاموس” (138).
(2) في جميع النسخ: فقد، وما أثبته أصوب.
(1/595)
ومَنْ نَجَّسَها بالموت سَوَّى بينها وبين “اللَّحم”، ومن لم يُنَجِّسْها – وهو الراجح في الدليل – فذاك لعدم عِلَّة التنجيس فيها، فإنَّ الموت ليس بِعلَّةِ النَّجَاسة، وإنَّما هو دليلُ العلَّة وسبَبُها.
والعِلَّةُ هي احتقانُ الفَضَلات في “اللَّحْمِ”، و”العَظْمُ” بريءٌ من ذلك.
والدليل على هذا؛ أنَّ الشارعَ لم يحكم بنجاسة الحيوان التَّامِّ الذي (1) لا نَفْسَ له سائلةٌ؛ لعدم احتقان الفَضَلات فيه، فَلأَنْ لا يُحكم بنجاسة “العَظْم” أَولى وأحرى. فإنَّ الرُّطُوباتِ التي في “الذُّبَاب” و”العقرب” و”الخنفساء” أكثرُ من الرُّطُوباتِ التي في “العظام”، فهي أَولى بعدم التنجيس من تلك الحيوانات. والله أعلم (2).
فصل
والذي أحصاه المُشَرِّحُون من “العظام” في البدن: مائتان وثمانيةٌ وأربعون عظمًا، سِوَى الصِّغَار السُّمْسُمَانيَّات (3) التي أُحْكِمت (4) بها مفاصل: “الأصابع”، والتي في “الحَنْجَرَة”.
__________
(1) ساقط من (ك).
(2) من قوله: “التي في “العظام” فهي أولى. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ح) و (م).
(3) “السُّمْسُمَانيات”: جمع: السُّمْسُمَانيّ، وهو الخفيف اللطيف السريع من كلِّ شيءٍ.
والعظام الصغار التي بين كلِّ مَفْصِلَين من مفاصل الأصابع تسمى: “السُّلَامَيَات”، واحدتها: “سُلَامَى”.
انظر: “القاموس” (1451)، و”الإفصاح” (53).
(4) في (ح) و (م): احكم، وفي باقي النسخ: احتكم! والصواب ما أثبته.
(1/596)
وقد أخبر النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أنَّ الإنسانَ خُلق من ثلاثمائةٍ وستين مَفْصِلًا (1):
فإن كانت “المفاصل” هي “العظام”: فقد اعترف “جالينوس” وغيره بأنَّ في البدن عظامًا صغارًا لم تدخل تحت ضبطهم وإحصائهم.
وإن كان المراد بـ “المفاصل”: المواضع التي تنفصل بها الأعضاء بعضها من بعضٍ – كما قال الجوهريُّ (2) وغيره: “المَفْصِل: واحد مفاصل الأعضاء” – فتلك أعمُّ من “العظام”، فتأمَّلْهُ.
وإنَّ “السُّلَامَيَاتِ” المذكورةَ في الحديث الذي رواه مسلم في “صحيحه” (3) من حديث أبي ذَرٍّ: “يُصْبِحُ على كُلِّ سُلامَى من أحدكم صدقةٌ، فكلُّ تسبيحةٍ صدقةٌ، وكلُّ تحميدةٍ صدقةٌ، وكلُّ تَهْلِيلةٍ صدقةٌ، وكلُّ تكبيرةٍ صدقةٌ” الحديث، فـ “السُّلَامَى”: العُضْو (4)،
__________
(1) أخرج مسلم في “صحيحه” رقم (1007) من حديث عائشة – رضي الله عنها – أنَّها قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:
“خُلق كلُّ إنسانٍ من بني آدمَ على ستين وثلاثمائة مَفْصِل، فمن كبَّر اللهَ، وحَمِدَ الله، وهلَّلَ اللهَ، وسبَّح اللهَ، واستغفر الله، وعَزَلَ حجرًا عن طريق الناس، أو شَوكةً، أو عظمًا عن طريق الناس، وأمَرَ بمعروفٍ، أو نهى عن منكر؛ عدَدَ تلك الستين والثلاثمائة السُّلَامَى؛ فإنه يمشي يومئذٍ وقد زَحْزَحَ نفسَهُ عن النار”.
(2) في “الصحاح” (5/ 1790).
(3) رقم (720).
(4) هذا خبر “إنَّ” في قوله: وإن السُّلَاميَات … ، ومقصوده أنَّ السُّلاميَات هي الأعضاء.
قال القاضي عياض في “إكمال المعلم” (3/ 61): “أصل “السُّلَامَى” – بضم =
(1/597)
وجمعه: سُلَاميَات. فهنا ثلاثة أمور: أعضاء، وعظام، ومفاصل.
وجعل الله – سبحانه – “العظام” أَصْلَبَ شيءٍ في البدن، لتكون أساسًا وعمدةً في البدن، إذ كانت الأعضاءُ كلُّها موضوعةً على “العظام”، حتَّى “القلب”، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وهي حاملةٌ للأعضاء، والحاملُ أقوى من المحمول. ولتكون وقايةً وجُنَّةً – أيضًا – كـ “القِحْفِ” (1) فإنَّه وقايةٌ “للدِّمَاغ”، و”عظام الصَّدرِ” وقايةٌ له.
وجعلت “العظامُ” كثيرةً لفوائدَ ومنافعَ عديدة:
منها: الحركة؛ فإنَّ الإنسانَ قد يحتاجُ إلى حركة بعض أجزائه دون بعضٍ، وقد يحتاج إلى حركة جزءٍ من عُضْوٍ.
ومنها: أنَّه لو كان على عظمٍ واحدٍ لكَانَ إذا أراد أن يتحرَّكَ تحرَّكَ بجملته.
ومنها: أنَّه (2) كان يتعذَّر عليه الصنائع، والحَلُّ، والرَّبْطُ.
ومنها: أنَّه (3) كان إذا أصابته آفةٌ عمَّتْ جميع البدن، فجُعِلَت “العظامُ” كثيرةً ليكون متى نالَ بعضَها آفةٌ لم تَسْرِ إلى غيره، وقام غيره من
__________
= السين -: عظام الأصابع، والأكفِّ، والأرجلِ. ثم استُعمل في سائر عظام الجسد ومفاصله”.
وعنه نقلها من جاء بعده، وبهذا العموم في معنى “السُّلَامَى” فُسِّر الحديث.
(1) “القِحْف” – بكسر القاف، وسكون الحاء المهملَة -: العظم فوق الدِّماغ، وما انفلَقَ من الجمجمة فَبَانَ. “القاموس” (1089).
(2) بعده في (ك) زيادة: لو، ولا مكان لها.
(3) بعده في (ك) زيادة: لو، ولا مكان لها.
(1/598)
“العظام” مقامه في تحصيل تلك المنفعة.
ومنها: تعدُّدُ (1) المنافع التي حصلت بسبب تعدُّدِ “العظام”، ولولا كثرتها وتعدُّدها لفاتت تلك المنافع.
ومنها: أنَّ من “العظام” ما يحتاجُ البدنُ إلى كَبيرِهِ، ومنها ما يحتاجُ إلى صغِيرِهِ، ومنها ما يحتاج إلى مستطيلِهِ، ومنها ما يحتاجُ إلى مستدِيرِه، ومنها ما يحتاج إلى عريضِهِ، ومنها ما يحتاج إلى مُصْمَتِهِ (2) ، ومنها ما يحتاج إلى مُجَوَّفِهِ، ومنها ما يحتاج إلى مُنْحَنِيهِ، ومنها ما يحتاج إلى (3) مستقيمه؛ ولا يحصل ذلك إلا بتعدُّدِ “العظام”.
ومنها: بديع الصَّنْعة، وحسن التأليف والتركيب.
وغير ذلك من الفوائد.
ثُمَّ شَدَّ الخالقُ – سبحانه – بعضَها إلى بعضٍ بالرِّبَاطَاتِ والأسْرِ المُحْكَم، ثُمَّ كَسَاها لحمًا؛ حفظًا لها ووقاية، ثُمَّ كَسَا اللَّحمَ جلدًا؛ صُوَانًا (4) له.
ولمَّا كانت الفَضَلاتُ تنقسم إلى: لطيفةٍ، وغليظةٍ؛ جعل الله – سبحانه – للغليظة منها مجاري تنجذب فيها إلى أسفل، وتخرُجُ منها خروجًا ظاهرًا للحِسِّ.
__________
(1) تصحفت في (ك) و (ح) و (ط) و (م) إلى: تعذر!
(2) من قوله: “ومنها ما يحتاج إلى مستديره. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ح) و (م).
(3) “مُنحَنِيه، ومنها ما يحتاج إلى” ملحق بهامش (ح).
(4) “صُوَانُ” الشيء: ما يصانُ فيه. “القاموس” (1563).
(1/599)
وأمَّا اللطيفة فهي الفَضَلات البُخَاريَّة، فإنَّ من شأنها أن تصعدَ إلى فوق، وتخرج عن البدن بالتحليل، بأنْ (1) جَعَلَ في “العظام” العليا منافذ يتحلَّلُ منها البُخَار المتصاعد.
ولم تكن تلك المنافذ محسوسة، لئلَّا يَضْعُف صُوَانُ “الدِّماغ” (2) – وهو “القِحْفُ” – بوصول الأجسام المؤذية إليه. فجَعَلَ “الدِّماغ” مركَّبًا عن عظامٍ كثيرةٍ، وَوَصَلَ بعضَها ببعضٍ بوُصَلٍ يقال لها: “الشُّؤون”، ومنه قولهم: فلان لم تُجْمَعْ شؤونُ رأسه (3).
ويشتمل “الرأس” بجملة أجزائه على تسعةٍ وخمسين عظمًا، وجُعل “القِحْفُ” مستديرًا بائنًا (4) في مُقَدَّمِهِ ومُؤَخَّرِهِ وجانبيه، بمنزلة غِطَاء القِدْر.
وعظامُه ستةٌ، وهي: عظم “اليَأفُوخ” (5)، وعظم “الجَبْهَة”، وعظم مؤخَّر “الرأس”، والعظمان اللذان فيهما ثُقْبَا (6) السَّمْع، وفي كلِّ واحدٍ من “الصُدْغَين” (7) عظمان مُصْمَتَان.
__________
(1) ساقط من (ح) و (م).
(2) في (ك): البدن!
(3) انظر: “خلق الإنسان” للزجَّاج (25)، ولابن أبي ثابت (48، 49).
(4) في (ح) و (م): تامًا.
(5) “اليَأْفوخ”: فجوةٌ مغطَّاةٌ بغشاء، تكون عند تلاقي عظام الجمجمة. “المعجم الوسيط” (1/ 21).
(6) في (ح) و (م): نَقْبَا.
(7) “الصُدْغَان”: ما انحدر من الرأس إلى مركَّب اللَّحْي، وهو ما بين لحاظ العين إلى أصل الأذن. “الإفصاح” (13).
(1/600)
وعظام “اللَّحْي الأعلى” أربعةَ عشر عظمًا: ستةٌ منها في مَحَاجِر (1) “العَينَين”، واثنان “للأنف”، واثنان تحت “الأنف” وهما المثقوبان (2) إلى “الفم”، واثنان في “الوَجْنَتَين” (3)، واثنان تحت “الشَّفَة العليا”.
وأمَّا العظم الشبيه بالوَتِد فهو واحدٌ، وهو كالقاعدة “للرأس”.
وعظام “اللَّحْي الأسفل” اثنان؛ وهما مُتَّصِلان في وَسْط “الذَّقَن” (4)، وبينهما “الأسنان” (5)، ويتصلان من فوق بـ “اللَّحْي الأعلى” اتصالًا مَفْصِليًّا.
و”الأسنان”: اثنان وثلاثون، في كل “لَحْي” ستة عشر: “ثَنِيَّتَان”، وتليهما “الرَّبَاعِيتان” (6)، وتليهما “النَّابَان” (7)، وتليهما “الأَضْرَاس”: خمسةٌ من هاهنا، وخمسةٌ من هاهنا.
و”النَّاجِذُ” أوَّلُ “الأَضْرَاس”، وهما “ناجِذَان”، في كلِّ ناحيةٍ “ناجِذٌ”، ورُبَّما نقصت “النواجِذُ” في بعض الأفراد، وكان في كلِّ جانبٍ
__________
(1) “مَحَاجِر”: جمع: مَحْجِر، وهو ما دار بالعين من العظم الذي في أسفل الجَفْن، وهو الذي يظهرَ غالبًا من برقع المرأة من حول العين.
انظر: “خلق الإنسان” لابن أبي ثابت (110، 129)، و”الإفصاح” (23).
(2) في (ح) و (م): المنقوبان.
(3) “الوَجْنَتان”: هما فَرْقُ ما بين الخدين والمَدْمَع، إذا وضعتَ يدكَ عليه وجدتَ نُتُوءَ العظم تحت يدك. “خلق الإنسان” لابن أبي ثابت (101).
(4) الذَّقَنُ”: ملتقى رأس اللَّحْيَين تحت منابت الثَّنايا السُّفلى. “خلق الإنسان” لابن أبي ثابت (193 – 194).
(5) في (ح) و (م): بُنْيَان.
(6) في جميع النسخ: الرباعيات، وهو تحريف.
(7) من قوله: “وبينهما الأسنان ويتصلان. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ز).
(1/601)
أربعة “أَضْرَاس”.
وقد سَلَّمَ اللهُ – سبحانه – غذاءَ الإنسان إلى يده، فتأخُذُه فتسلِّمُهُ إلى “شَفَتَيه”، فتسلِّمُهُ “الشَّفَتان” (1) إلى “الأَنْيَاب” و”الثَّنايا” فتُفَصِّلُهُ، ثُمَّ تسلِّمُه إلى “الأضراس” فتطحَنُهُ (2)، ثُمَّ تسلِّمُه إلى “اللِّسَان” و”الفم” فَيَعْجِنُهُ، ثُمَّ يسلِّمُه إلى “الحُلْقُوم” و”المَرِيء” فَيَتَسَلَّمُهُ ويُوصِلُه إلى “المعدة”، فتطبَخُهُ وتُنضِجُهُ، وتُصْلِحُهُ كما ينبغي، ثُمَّ تُسلِّمُهُ إلى “الكبد”، فَيَتَسلَّمُهُ منها، ثُمَّ يُرسِلُ به إلى كلِّ عُضْوٍ راتِبَهُ ومعلُومَهُ، ثُمَّ يَصُبُّ “مِرَّتَهُ (3) الصَّفْراءَ” في “المَرَارة”، و”السَّوْدَاءَ” في “الطِّحَالِ”، والثُّفْلَ يخرجه عنها كما تقدَّم بيانه.
فصل
و”الرأس” يقال بالعموم على ما يُقِلُّهُ “العُنُق” بجملته، ويقال بالخصوص على:
1 – “الفَرْوَةِ”؛ وهي جلدة “الرأس” حيث مَنْبَت “الشَّعْر”.
2 – و”الجُمْجُمَةِ”: العظمِ الذي يحوي “الدِّماغ”، وهي مؤلَّفَةٌ من سبع قطعٍ متقابِلةٍ تسمَّى: “القَبَائل”. وتسمَّى مواضع التأليف: “شؤونًا”.
ووَسْط “الجُمْجُمَة” يسمَّى: “الهَامَة”.
وحَدُّ “الهَامَة” من الجانبين قَرْنَا “الرأس”، وحَدُّ “الهَامَة” من
__________
(1) بعدها في (ح) و (م) زيادة: منها فتسلمه.
(2) العبارة في (ح) و (م) هكذا: فتسَّلَّمه وتطحنه.
(3) تصحفت في (ح) و (م) إلى: قربة!
(1/602)
المُقَدَّم: “اليَأفُوخ”، ومن المُؤَخَّر: “القَمَحْدُوَة” (1) ، وهي ما تصيب الأرض من رأس (2) المُسْتَلْقِي على ظهره.
ولها ثلاثة حدود: “نُقْرَةُ القَفَا”، و”القَذَالَان” (3) .
فـ “نُقْرَةُ القَفَا” حدُّها من آخر الوسط. و”القَذَالَان” جانبا “النُّقْرَة”.
وقد تقدَّمَ تفصيل (4) “القَبائل” السَّبْع.
ويَسْتَظْهِر “الجُمْجُمَةَ” غِشَاءٌ (5) يحيطُ بها يسمَّى: “السِّمْحَاق”، ويَسْتَبْطِنُها (6) غِشَاءَان (7) :
أحدُهما: يلي “الجُمْجُمَة”، وهو أَثْخَنُهما وأَصْلَبُهما.
والآخر: يكتنف (8) “الدِّمَاغ”، ويحيط به، ويخالطه (9) .
ويقال لكلٍّ منهما: “أُمُّ الدِّمَاغ”، وتُسَمَّيَان: “الأُمَّان”، ومنه:
__________
(1) من (ح) و (م) وهو الصواب، وتحرفت في باقي النسخ إلى: المقمحدودة!
(2) “من رأس” ساقط من (ك).
(3) تصحفت في (ز) و (ك) إلى: الفدالان.
“القَذَال”: ما بين نُقْرَة القَفَا والأُذن. وفي كل إنسان قَذَالان: من النُّقْرَة إلى الأذن اليمنى قَذَالٌ، ومن النُّقْرَة إلى الأذن اليسرى قَذَالٌ.
انظر: “خلق الانسان” للزجَّاج (26)، ولابن أبي ثابت (53).
(4) “تفصيل” ملحق بهامش (ك).
(5) في (ح) و (م): عما!
(6) في جميع النسخ: ويستسطها! وما أثبته هو الصحيح.
(7) في جميع النسخ: غشاوة، وما أثبته هو الصحيح.
(8) في (ح) و (م): يكشف.
(9) “ويخالطه” ملحق بهامش (ك).
(1/603)
“الآمَّة”، و”المَأْمُومَة” التي فيها ثُلُث الدِّية، وهي الجراحة التي تبلغ “أُمَّ الدِّمَاغ”.
ويقال لكل (1) تجويفٍ في “الدِّمَاغ”: بَطْنٌ، وهي ثلاث بُطُون.
وبين بَطْنَي “الدِّماغ” اللَّذَين في مؤخَّرِهِ ووَسْطِه مَجْرَى، وفيه قطعةٌ من “الدِّمَاغ” مستطيلةٌ؛ شبيهةٌ بالدُّودَة، يَنْسَدُّ ذلك المَجْرَى وينفتح بها.
وتحت “الدِّماغ” شبكَةٌ مبسوطَةٌ مؤلَّفَةٌ من “عُرُوقٍ ضَوَارِب”، يتولَّد فيها روحٌ نفسانيٌّ، ومنها ينفُذُ إلى البَطْنَين اللَّذَين في مُقَدَّم “الدِّمَاغ”.
وفي “الدِّمَاغ”: البِرْكَةُ، والحَوضُ، والقِمْعُ، والدُّودةُ، والبُطُونُ، والأغشيةُ، ومبادئُ الأعصاب.
ويحتوي “الدِّمَاغ” على ثلاث خزائن؛ نافِذٍ بعضُها إلى بعضٍ، وتسمَّى: “بطونًا”:
فالأُولَى: في مُقَدَّمِه وتنقسم إلى بَطْنَين.
والثانية: في وَسْطه.
والثالثة: في مُؤَخَّرِهِ.
وجوهر “الدِّماغ”: مُخِّيٌّ مُتَزَرِّدُ الشَّكْل، كأنَّه زَرَدٌ (2) مجموع. والرُّوحُ النفسانيُّ مُثْبَتٌ (3) في خلل الزَّرَد.
__________
(1) في جميع النسخ: لها، وما أثبته هو الصواب، وبه يستقيم المعنى.
(2) “الزَّرَدُ”: حِلَق المِغْفَر والدِّرْع. “لسان العرب” (6/ 34).
(3) في (ز) و (ك) و (ط): مُنبَت.
(1/604)
و”الدِّمَاغ” مقسومٌ في طوله بنصفين (1) مُتَضَامَّين، والتَّنْصِيف في مُقَدَّمِهِ أظهر.
و”الغِشَاءَان” يدخلان في فصول “الدِّمَاغ” وتَزْرِيدِه، والصُّلْبُ منهما يدخل بُطُونًا بين جُزْئَي البَطْن المقدَّم (2) فيحجزُ بينهما، وتحته مَصْفىً (3) كالبِرْكَة تسمَّى: “المَعْصَرَة”، تَصُبُّ فيَ العُرُوق “الدَّمَ” المنطَبِخ، وتنبعث في جداول تسقي البطنَ المُقَدَّمَ، وتجتمع إلى عرقين كبيرين يحملان “الدَّمَ” إلى البطنِ الأوسطِ والمُؤَخَّرِ.
والبطنُ الأوسطُ كدِهْلِيز (4) ومنفذٍ بين (5) المقدَّم والمؤخَّر، وسقفه معقودٌ كالأَزَجِ (6) .
و”الدِّمَاغ” موضوعٌ طولًا على زائدتين الفخذين (7) متقاربان، فَيَمْتَازَانِ (8) ويتباعدان (9) إلى الانفراج، فينفتح الدِّهْلِيز، ويَتَراءى البَطْنَان: المقدَّم والمؤخَّر.
__________
(1) في (ح) و (م): لنصفين.
(2) كذا في جميع النسخ، ثم ضُرب عليه في (ز).
(3) من (ح) و (م)، وفي (ز) و (ك): مُصَا! وبياض في (ط).
(4) “الدِّهْليز”: ما بين الباب والدار، فارسيٌّ معرَّب. “مختار الصحاح” (233).
(5) في (ز): منفذين.
(6) الأَزَج”: ضَرْبٌ من الأبنية، وقيل: بيتٌ يُبنَى طولًا. “تاج العروس” (5/ 404).
وفي “المعجم الوسيط” (1/ 15): “بناءٌ مستطيلٌ مُقَوَّس السَّقْف”.
(7) كذا في (ز) و (ح) و (ط) و (م)، وفي (ك): الفجدين! ولم أَدْرِ معناها.
(8) في (ح) و (م): فيتماسَّان.
(9) “ويتباعدان” ملحق بهامش (ك).
(1/605)
والجزء المؤخَّر أخفى (1) تَزْرِيدًا من المقدَّم، وأصغر وأَعْجَفُ (2) زَرَدًا، وهو كُريٌّ إلى الاستطالة، ويَسْتَدِق على التدريج، حتَّى يسيل منه “النُّخَاع” كالجدول من العين.
وفي “الدِّمَاغ” جدولان يجريان (3): أحدهما في آخر المقدَّم، والآخر في الأوسط لدفع فضوله.
ويجتمعان عند منفذٍ واحدٍ عميقٍ: أوَّله في الغشاء الرقيق، والآخر في الغشاء الصُّلْب، يأخذ إلى مضيق كالقِمْع.
ولمَّا كان “الدِّمَاغُ” مبدأ حركات البدن إلى إرادته لم يكن به حاجةٌ إلى الحركة القويَّة، فحُوِّطَ عليه بسُورٍ من “عظامٍ”، بخلاف “المعدة” و”الكبد” و”الرَّحِم”، وسائر آلات الغذاء، فإنَّها لمَّا احتاجت إلى أن تتسع وتمتلئ بالغذاء والحَمْلِ مرةً بعد أخرى، وأن تعصر على (4) الفضول فتخرجَها – والعَظْم يمنع من ذلك – ويكفي فيه العَضَلُ (5) وحده = فأحيط عليه بسورٍ من عَضَلٍ (6).
__________
(1) ساقط من (ك).
(2) أُلحقت بهامش (ك)، وسقطت من باقي النسخ.
و”أعجف”: من “العَجَف”، وهو الهُزَال والرقَّة.
انظر: “مختار الصحاح” (439)، و”القاموس” (1079).
(3) في (ح) و (م): مجريان، بدلًا عن: جدولان يجريان.
(4) في (ح) و (م): وأن تقصر عن.
(5) من (ح) و (م) و (ط)، وتصحفت في (ز) إلى: الفصل، وفي (ك) إلى: الفضل!
(6) تصحفت في (ح) و (م) إلى: عقل!
(1/606)
وأمَّا “الصَّدْرُ” فإنَّه لمَّا احتاج إلى الوقاية (1) بـ “العظام”، وإلى الحركة بالعَضَل = أُلِّفَ “الصَّدْرُ” منهما.
وكان “البطن” أوسع من “الصَّدْر”، لما يَحْوِيه (2) من آلات الغذاءِ، والتنفُّسِ، و”الطِّحَالِ”، و”المريء” وغيرها.
__________
(1) في (ح) و (م): الوثاقة.
(2) في (ح) و (م): يحق به.
(1/607)
فصل
فاستقبل الآن النظر في نفسك من رأسٍ، وانظر إلى المبدأ الأوَّل وهو “النُّطْفَة”؛ التي هي قطرةٌ مهينةٌ ضعيفةٌ، لو تُرِكَت ساعة لبَطَلَت وفَسَدَت، كيف أخرجها رَبُّ الأرباب من بين الصُّلْب والترائب؟! وكيف أوقع المحبة والإلْفَ بين الذَّكَر والأنثى، ثُمَّ قادهما بسلسلة المحبة والشهوة إلى الاجتماع، ثُمَّ استخرج “النُّطْفَة” من الذَّكَر بحركة الوِقَاع من أعماق “العُرُوق”، وجمَعَها في “الرَّحِم” في قرارٍ مكينٍ، لا تناله يدٌ، ولا تطلع عليه شمسٌ، ولا يصيبه هواءٌ، ثُمَّ صرَّف تلك “النُّطْفَة” طَوْرًا بعد طَوْرٍ، وطَبَقًا بعد طَبَقٍ، وغَذَّاها بدم (1) الحيض.
وكيف جعل – سبحانه – “النُّطْفَةَ” – وهي بيضاء مشرقة – عَلَقَةً حمراء، ثُمَّ جعلها مُضْغَةً، ثُمَّ قسَّمَ أجزاء “المُضْغَة” إلى: “العظامِ”، و”الأعصابِ”، و”العُرُوقِ”، و”الأوتارِ”، و”اللَّحْمِ” في داخل “الرَّحِم” في الظلمات الثلاث.
ولو كُشِفَ لك الغطاء لرأيت التخطيطَ والتصويرَ يظهر في “النُّطْفة” شيئًا بعد شيء، من غير أن ترى المُصَوِّرَ، ولا آلته، ولا قَلَمَهُ. فهل رأيتَ مُصَوِّرًا لا تمسُّ آلتُه الصورَةَ (2) ولا تُلَاقِيها؟
ثُمَّ تأمَّلْ هذه القُبَّةَ العظيمةَ التي قد رُكِّبَت على “المَنْكِبين”، وما أُودِعَ فيها من العجائب، وما رُكِّبَ فيها من الخزائن، وما أُودِعَ في تلك الخزائن من المنافع، وما اشتملت عليه هذه القُبَّة من “العظام” المختلفة
__________
(1) في جميع النسخ: بماء! ثم صُححت في هامش (ك).
(2) ساقط من (ح) و (م).
(1/608)
الأشكال والصفات والمنافع؛ ومن الرُّطُوبات، و”الأعصاب”، والطرق، والمجاري، و”الدِّماغ”، والمنافذ، والقُوى الباطنة من الذِّكْرِ، والفِكْرِ، والتخييل، وقوَّةِ الحفظ.
ففيه القوَّة المفكِّرة، والمذكِّرة (1) ، والمخيِّلة، والمحافظة (2) . وهذه القُوى مُودَعَةٌ في خزائن هذه القُبَّة (3) ، مسخَرَةٌ لمصالحه، يستعملها ويستخدمها كيف أراد.
فتأمَّلْ كيف دَوَّرَ – سبحانه – “الرأسَ”، وشقَّ سمعَهُ، وبصَرَهُ، وأنفَهُ، وفمَه؟ وكيف ركَّب كُرِيَّهُ (4) في بطن الأمِّ من ثلاثةٍ وعشرين عظمًا، وخلق تلك “العظام” على كيفيَّاتٍ مختلفةٍ.
وتأمَّلْ كيف انقلبت تلك “النُّطْفَة” اللَّيِّنَة الضعيفة إلى “العظام” الصُّلْبة الشديدة؟
ثُمَّ تأمَّلْ كيف قدَّرَ – سبحانه – كلَّ واحدٍ من تلك “العظام” بشكلٍ مخصوصٍ، لو وُضِع بخلافِ ذلك (5) لبطلت المنفعة، وفاتَ الغَرَض. ثُمَّ ركَّبَ بعضَها مع بعضٍ؛ بحيث حصل من مجموعها “كُرَةُ الرأس” على هذه الخِلْقَة المخصوصة.
ولمَّا كان “الرأسُ” أشرفَ الأعضاء الإنسانية، وأجمَعَها
__________
(1) في (ح) و (م): والذاكرة.
(2) في (ح) و (م): والحافظة.
(3) العبارة في (ح) و (م) هكذا: في خزائنها.
(4) كذا ضبطت في (ح)، والمراد: كرة الرأس.
(5) “لو وُضع بخلاف ذلك” ساقط من (ح) و (م).
(1/609)
للقُوى والمنافع والآلات والخزائن = اقتضت العناية الإلهيَّة بأن صِينَ بأنواعٍ من الصيانات.
وذلك أنَّ “الدِّمَاغ” يحيط به غشاءٌ رقيقٌ، وفوق ذلك الغشاء غشاءٌ آخر، يقال له: “السِّمْحَاق” (1). ثُمَّ فوق ذلك الغشاء طبقةٌ لَحْمِيَّةٌ، وفوق تلك الطبقة اللَّحْمية الجلدُ، ثُمَّ فوق الجلد “الشَّعْرُ”.
فخلق – سبحانه – فوق دِمَاغِك سَبْعَ طبقاتٍ، كما خلق فوق الأرض سبعَ سمواتٍ طباقًا. والمقصود من تخليقها الاحتفال (2) في صَونِ “الدِّمَاغ” من الآفات.
و”الدِّمَاغ” من “الرأس” بمنزلة “القلب” من البدن.
وهو – سبحانه – قَسَّمَهُ في طوله ثلاثةَ أقسام، وجعل:
1 – القسمَ المقدَّمَ مَحَلَّ الحفظ والتخيُّل.
2 – والبطنَ الأوسطَ مَحَلَّ التأمُّلِ والتفكُّرِ.
3 – والبطنَ الأخيرَ مَحَلَّ التذكُّرِ والاسترجاع لمَا كان قد نَسِيَهُ.
__________
(1) سبق للمؤلف – (ص/ 603) – أن “السِّمْحَاق” غشاءٌ يحيط بالجُمْجُمَة من ظاهرٍ، وهذا هو المعروف في كتب اللغة.
وذكر – أيضًا في الموضع نفسه – أنَّ الجُمْجُمَة يستبطنها غشاءان، هما فوق “الدِّماغ”، ويقال لهما: “أمُّ الدِّماغ”. فيكون قد فات المؤلف هنا ذكر “الجمجمةِ”، والغشاءِ الذي يحيط بها وهو: “السِّمْحَاق”، ليكتمل تعداد الطبقات سبعًا.
(2) في جميع النسخ: الإحفاظ، ولعله تصحيف ما أثبته.
و”الاحتفال”: المبالغة في الأمر، والاهتمام به. “المعجم الوسيط” (1/ 186).
(1/610)
وكلُّ واحدٍ من هذه الأمور الثلاثة أمرٌ مهمٌّ للإنسان لا بدَّ له منه، فإنَّه (1) محتاجٌ إلى التفهُّم والتفهيم، ولو لم يكن حافظًا المعاني المتصوَّرَات (2) وصُوَرَها بعد غيبتها؛ لكَانَ إذا سمع كلمةً وفهمَها شَذَّت عنه عند مجيء الأخرى، فلم يحصل المقصود من التفهُّم (3) والإفهام، فجَعَلَ له رَبُّهُ وفاطره – سبحانه – خزانةً تحفظُ له صُوَرَ المعلومات، حتَّى تجتمع له، وتسمَّى القوَّة التي فيها: “القوَّة الحافظة”.
ولا تتمُّ مصلحةُ الإنسان إلا بها، فإنَّه إذا رأى شيئًا، ثُمَّ غاب عنه، ثُمَّ رآه مرةً أخرى عَرَفَ أنَّ هذا الذي رآه الآن هو الذي رآه قبل ذلك؛ لأنَّه في المَرَّة الأُولى ثبتت صورته في الحافظة (4)، ثُمَّ تَوَارَى عنه بالحجاب، فلمَّا رآه مرةً ثانيةً صارت هذه الصورة المحسوسة ثانيًا مطابقة للصورة المعنويَّة (5) التي في الذِّهْن، فحصَل (6) الجَزْمُ بأنَّ هذا ذاك، ولولا “القوَّة الحافظة” لما حصل ذلك، ولما عَرَفَ أحدٌ أحدًا بعد غيبته عنه.
ولذلك إذا طالَت الغيبةُ جدًّا، وانْمَحَت تلك الصورة الأُولى من الذِّهْن بالكُلِّيَّة؛ لم يحصل له العلم بأنَّ هذا هو الذي رآه أوَّلًا، إلا بعد تفكُّرٍ وتأمُّلٍ.
وقد قال قومٌ: إنَّ مَحَلَّ هذه الصُّوَر: “النَّفْسُ”.
__________
(1) في النسخ: ولكل واحدٍ من … ، وأنه …. ولعل ما أثبته هو الصواب.
(2) في (ح) و (م): لمعاني التصورات.
(3) في (ك) و (ح) و (م) و (ط): الفهم.
(4) في جميع النسخ: الحفظ، وما أثبته أنسب.
(5) في (ك): المعفوية!
(6) “فحصل” ملحق بهامش (ك).
(1/611)
وقال قومٌ: مَحَلُّها “القلب”.
وقال قومٌ: مَحَلُّها “العقل”.
ولكلِّ فريقٍ منهم حُجَجٌ وأدلَّةٌ، وكلٌّ منهم أدرك شيئًا وغابت عنه أشياء. إذ الإدراك المذكور مفتقِرٌ إلى مجموع ذلك، لا يتمُّ إلا به.
والتحقيقُ: أنَّ منشأَ ذلك ومبدأَهُ من “القلب”، ونهايَتَهُ ومستقَرَّهُ في “الرأس”.
وهي المسألة التي اختلف فيها الفقهاء: هل العقل في “القلب” أو في “الدِّماغ”؟ على قولين؛ حُكِيا روايتين عن الإمام أحمد (1).
والتحقيق: أنَّ أصلَهُ ومادَّتَهُ من “القلب”، وينتهي إلى “الدِّمَاغ”. قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج: 46]، فجعل العقل (2) بـ “القلب”، كما جعل السَّمْعَ بـ “الأُذُن”، والبَصَرَ بـ “العين”.
وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} [ق: 37]، قال غيرُ واحدٍ من السلف: “لمن كان له عقلٌ”.
واحتجَّ الآخَرون: بأنَّ الرَّجُلَ يُضْرَبُ في رأسه فيزول عقله، ولولا أنَّ العقل في “الرأس” لما زال. فإنَّ السمعَ والبصرَ لا يزولان بضرب اليدِ، ولا الرِّجْلِ، ولا غيرِهما من الأعضاء لعدم تعلقهما بها.
__________
(1) انظر: “العدة” (1/ 89)، و”المسوَّدة” (2/ 982)، و”التحبير شرح التحرير” (1/ 262)، و “شرح الكوكب المنير” (1/ 83).
(2) “العقل” ملحق بهامش (ك).
(1/612)
وأجاب أرباب “القلب” عن هذا: بأنَّه (1) لا يمتنع زواله بفساد “الدِّماغ” وإن كان في “القلب”؛ لما بين “القلب” و”الرأس” من الارتباط. وهذا كما (2) يمتنع نباتُ شعر “اللِّحْيَة” بقطع “الأُنْثَيَين”، ففساد القوَّة بفساد العضو قد يكون؛ لأنَّه مَحَلُّها، وارتباطه بها. والله أعلم.
وعلى كلِّ تقدير فذلك من أعظم آيات الله، وأدلَّته، وقدرته، وحكمته، كيف تَرْتَسِمُ (3) صورة السماوات، والأرض، والبحار، والشمس، والقمر، والأقاليم، والممالك، والأُمم؛ في هذا المَحَلِّ الصغير؟ والإنسانُ يحفظ كتبًا كثيرةً جدًّا، وعلومًا شتَّى متعددة، وصنائع مختلفة، فترتَسِمُ كلُّها في هذا الجزء الصغير، من غير أن تختلط (4) بعض هذه الصور ببعض، بل كلُّ صورةٍ منهُنَّ بنفسها مُحَصَّلَةٌ في هذا المَحَلِّ.
وأنت لو ذهبتَ تنقُشُ صورًا وأشكالًا كثيرةً في مَحَلٍّ صغيرٍ لاختلط بعضُها ببعضٍ، وطَمَسَ بعضُها بعضًا. وهذا الجزء الصغير تنتقش فيه الصور الكثيرة المختلفة، والمتضادَّة (5)، لا تُبطل منها صورةٌ صورةً.
ومن أعجب الأشياء أنَّ هذه “القوَّة العاقلة” تقبل ما تُؤَدِّيه إليها الحَوَاسُّ، فتجتمع فيها، ثُمَّ تُفيد كلَّ حاسَّةٍ منها فائدةَ الحاسَّةِ الأُخرى.
__________
(1) من (ح) و (م)، وسقطت من بقية النسخ، وسقطت “لا” من (ك).
(2) بعدها في (ح) و (م) زيادة: لا! وهي مفسدة للمعنى.
(3) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: قد رسم.
(4) في (ح) و (م): يخلط.
(5) في (ك) و (ز): المتطاردة، وفي (ح) و (م): المضادة، وما أثبته هو الصواب.
(1/613)
مثاله: أنَّك ترى الشخص فتعلم أنَّه فلان، وتسمع صوته فتعلم أنَّه هو، وتلمسُ الشيءَ فتعرفه، وتشمُّه فتعرفَ أنَّه هو، ثُمَّ تستدلُّ بما تسمعه من صوته على أنَّه هو الذي رأيته، فيغنيك سماع صوته عن (1) رؤيته، ويقوم لك مقام مشاهدته.
ولهذا جَوَّزَ أكثرُ الفقهاء شهادةَ الأعمى، وبيعَهُ وشراءَهُ. وأجمعوا على جواز وَطْئِه امرأَتَهُ، وهو لم يَرَها قَطُّ، اعتمادًا منه على الصوت، بل لو كانت خرساء – أيضًا – أو هو أطرش؛ جاز له الوطء.
وقد جعل الله – سبحانه – بين السمع والبصر والفؤاد علاقةً وارتباطًا ونفوذًا يقوم به بعضها مقام بعض. ولهذا يَقْرنُ – سبحانه – بينها كثيرًا في كتابه كقوله: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36]، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} [الأحقاف: 26]، وقوله: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 179]، وهذا من عناية الخالق – سبحانه – بكمال هذه الصورة البشريَّة، لتقوم كلُّ حاسَّةٍ منها مقام الحاسَّةِ الأخرى، وتفيد فائدتها في الجملة، لا في كلِّ شيء.
ثُمَّ أودع – سبحانه – قوَّةَ التفكُّر فيه، وأَمَرَهُ باستعمالها فيما يجدي عليه النفع في الدنيا والآخرة، فركَّبَ “القوَّةَ المُفَكِّرة” [من] (2) شيئين من الأشياء الحاضرة عند “القوَّةِ الحافظة” تركيبًا خاصًّا، فيتولَّدُ من بين ذَيْنك الشيئين شيءٌ ثالثٌ جديدٌ لم يكن للعقل شُعُورٌ به، وكانت موادُّهُ عنده
__________
(1) من (ح) و (م)، وفي بقية النسخ: فيعينك سماع صوته على …
(2) زيادة يقتضيها السياق.
(1/614)
لكن بسبب التركيب حصل له الأمر الثالث، ومن هاهنا حصل استخراج الصنائع، والحِرَفِ، والعلومِ، وبناء المُدُنِ والمساكِنِ، وأمورِ الزراعة والفلاحة، وغير ذلك.
فلمَّا استخرجت “القوَّةُ المفكِّرةُ” ذلك، واستحسنته؛ سَلَّمته إلى “القوَّة الإراديَّة العمليَّة (1) “، فنقلته من ديوان الأذهان إلى ديوان الأعيان، فكان أمرًا ذهنيًّا ثُمَّ صار وجوديًّا خارجيًّا، ولولا الفِكْر لمَا اهتدَى الإنسانُ إلى تحصيل المصالح ودفِع المفاسد، وذلك من أعظم النِّعَم، وتمام العناية الإلهيَّة، ولهذا لمَّا فقَدَ البهائم والمجانين ونحوهم هذه القوَّة لم يتمكَّنُوا ممَّا تمكَّنَ منه أربابُ الفِكْر.
ولمَّا كان استخراج المطلوب بهذه الطريق يتضمَّن تَفَكُّرًا وتقديرًا، فتفكِّرُ في استخراج المادَّة أوَّلًا، ثُمَّ تقدِّرُها وتفصِّلُها ثانيًا – كما يصنع الخيَّاط؛ يُحَصِّل الثوبَ، ثُمَّ يقدِّره ويفصِّلُه ثانيًا -؛ قال – تعالى – عن الوحيد (2): {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)} [المدثر: 18 – 20]، فكرَّرَ – سبحانه – التقدير دون التفكُّر، وذمَّهُ عليه دونه. وهذا مُنَزَّلٌ على مقتضَى الحال سواء، فإنَّه بالفِكْر طالِبٌ لاستخراج المجهول، وذلك غير مذموم. فلمَّا استخرجه قدَّرَ له تقديرين: تقديرًا كليًّا، وتقديرًا (3) جزئيًّا.
1 – فالتقدير الكلي: أنَّ الساحر هو الذي يفرِّقُ بين المرء وزَوجه.
__________
(1) في (ز) و (ح) و (م): العلمية، وهو خطأ.
(2) بعدها في (ك) زيادة: الوليد بن المغيرة؛ وهو كالتوضيح للمراد بالوحيد.
(3) ساقط من (ح) و (م).
(1/615)
2 – والتقدير الجزئي: الذي يفرِّق بين المرء وزوجه.
فهاهنا تقديرٌ بعد تقدير، فلهذا كرَّرَهُ – سبحانه – وذَمَّهُ عليه، بخلاف التفكُّر (1)؛ فإنَّ المُفَكِّر (2) طالبٌ لمعرفة الشيء، فلا يُذَمُّ، بخلاف من قَدَّرَ بعد تفكيره ما يُوصِله إلى تحقيق الباطل، وإبطال الحقِّ؛ فتأمَّلْهُ.
فصل
ثُمَّ انزِلْ إلى “العَينَين”، وتأمَّلْ عجائبَها، وشَكْلَها، وخَلْقَها، وإيداعَ (3) النُّورِ البَاصِرِ فيها، وتركيبَها من عشر طبقاتٍ، وثلاث رطوبات.
ولكلِّ واحدة من هذه الطبقات والرُّطُوبات شكلٌ مخصوصٌ، ومقدارٌ مخصوصٌ، لو لم يكن عليه لاختلَّت (4) المصلحة المقصودة.
وجعل – سبحانه – موضع الإبصار في قَدْر “العَدَسة”، ثُمَّ أظهر في تلك “العَدَسة” قدر السماء، والأرض، والجبال، والبحار، والشمس، والقمر. فكيف اتسعت تلك “العَدَسة” أن يُرسَمَ فيها ما لا نسبة لها إليه أَلْبَتَّة؟
وجعل تلك القوَّة الباصِرة في جزءٍ أسود، فتأمَّلْ كيف قام هذا
__________
(1) في (ح) و (م): وأما التفكير، بدل: “بخلاف التفكُّر”.
(2) من (م)، وفي باقي النسخ: الفكر.
(3) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: وإبداع.
(4) تصحفت في (ز) و (ك) و (ط) إلى: الأجلب! وفي (ح) و (م): لأخلَّت، وما أثبته هو الصواب.
(1/616)
النُّور (1) الباصر بهذا الجزء الأسود؟
وجعل – سبحانه – “الحَدَقَةَ” مَصُونةً بـ “الأجفان”؛ لتسترها، وتحفظها، وتَصْقُلَها، وتدفع الأقذاءَ عنها.
وجعل شعر “الأجفان” أسود؛ ليكونَ سواده سببًا لاجتماع النُّورِ الذي به الإبصار، ويكونَ مانعًا من تفرُّقِهِ، ويكونَ أبلغَ في الحُسْنِ والجمال.
وخلق – سبحانه – لتحريك “الحَدَقَةِ” أربعًا وعشرين عَضَلةً، لو نقصت واحدةٌ منهُنَّ لاختلَّ أمر “العين”.
ولمَّا كانت “العينُ” شبيهةً بالمِرآة التي إنَّما يُنتفع بها إذا كانت في غاية الصَّقَالَةِ والصَّفَاءِ؛ جعل – سبحانه – “الأجفان” متحرِّكَةً إلى الانطباق (2) والانفتاح (3) أبدًا، باختيار الإنسان وغير اختياره، لتبقى “الحَدَقَةُ” نقيَّةً صافيةً عن جميع الكُدُورات.
وجعل “العَينيَن” بمنزلة المِرآتين الصَّقيلتين اللَّتين تنطبع فيهما صور الأشياء الخارجيَّة، فيتأثر “القلب” بذلك، ثُمَّ يظهر ما فيه عليهما فتتأثران به. فهما مرآةٌ لما في “القلب” يظهر فيهما، ومرآةٌ لما في الخارج تنطبع صورته فيهما، فـ “العينان” على “القلب” كالزجاجتين الموضوعتين.
ولذلك يُستَدلُّ باحوال “العين” على أحوال “القلب” من رضاه،
__________
(1) ساقط من (ح) و (م).
(2) في (ح) و (م): الاطباق.
(3) ساقط من (ح) و (م).
(1/617)
وغضبِهِ، وحُبِّهِ، وبُغْضِهِ، ونُفْرَتِه، وقُرْبِه (1).
ومن أعجب الأشياء أنَّ “ماء العين” من ألطف أعضاء البدن، وهي لا تتأثر بالحرِّ والبرد كتأثرِ غيرِها من الأعضاء الكثيفة، ولو كان الأمر عائدًا إلى مجرد الطبيعة لكان ينبغي أن يكون الأمر بالعكس؛ لأنَّ الأَلْطَفَ أسرعُ تأثرًا (2)، فعُلِم أنَّ حصول هذه المصالح ليس هو بمجرَّدِ الطَّبْعِ.
فصل
ثُمَّ اعدِلْ إلى “الأُذُنَين”؛ وتأمَّلْ شَقَّهُما، وخَلْقَهما، وإيداعَ الرُّطُوبة فيهما، ليكون ذلك عونًا على إدراك السمع، وجَعَلَ ماءَهُما مُرًّا (3) لتمتنع الهَوَامُّ عن الدخول في “الأذن” (4).
وحَوَّطَهما (5) – سبحانه – بصَدَفَتين يجمعان الصوت، ويؤدِّيَانه إلى “الصِّمَاخ”.
وجعل في الصَّدَفتين تعويجات؛ لِتَطُول المسافة فتنكسر حِدَّةُ الصوت؛ ولا تَلِجَ الهَوَامُّ دَفْعَةً، بل تكثر حركاتها فَتَنتَبِهُ لها، فتُخرجَها.
وجعلَ “العَينيَن” مُقَدَّمَتَين، و”الأُذُنَين” مُؤَخَّرَتَين؛ لأنَّ “العَينَين” بمنزلة الطليعة والكاشِف والرائد الذي يتقدَّمُ القومَ ليكشف لهم، وبمنزلة
__________
(1) ساقط من (ح) و (م).
(2) في جميع النسخ: تأثيرًا، ثم صححت في هامش (م)، وهو الصواب.
(3) العبارة في (ح) و (م) هكذا: وجعلها مُرَّةً.
(4) في (ك): الأذنين.
(5) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: وحفظهما.
(1/618)
السِّرَاج الذي يضيءُ للسَّالِكِ (1) ما أمامه.
وأمَّا “الأُذُنان” فتدركان المعاني الغائبة التي تَرِدُ على العبد من أمامه، ومن (2) خلفه، وعن جانبيه. فكان جَعْلُهما في الجانبين أعدل الأمور. فسبحان من بَهَرَتْ حكمتُه العقولَ.
وجعل “للعَينَين” غطاءً، ولم يجعل “للأُذُنَين” غطاءً (3)؛ لأنَّ مُدْرَك “الأُذُن” الأصوات، ولا بقاء لها، فلو جُعِلَ عليهما غطاءٌ لزَالَ الصوتُ قبل ارتفاع الغطاء (4)، فزالت المنفعة المقصودة. وأمَّا مُدْرَك “العين” فأمرٌ ثابتٌ.
و”العينُ” محتاجةٌ إلى غطاءٍ يقيها، وحصول الغطاء لا يؤثِّر في بعض الإدراك.
وقال بعض أهل العلم: “عَيْنَا” الإنسان هاديان، و”أذناهُ” رسولان إلى قلبه، و”لسانُه” ترجمان، و”يَدَاهُ” حاجِبَان (5)، و”رِجْلَاهُ” بريدان، و”القلب” ملكٌ؛ فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خَبُثَ خَبُثَتْ جنودُه.
فصل
ثُمَّ انزِلْ إلى “الأَنْفِ”؛ وتأمَّلْ شَكْلَه وخِلْقَته، وكيف وَضَعَهُ (6)
__________
(1) من (ح) و (م)، وتصحفت في باقي النسخ إلى: للسائل.
(2) من (ح) و (م) و (ط).
(3) “ولم يجعل “للأُذُنين” غطاءً” ساقط من (ح) و (م).
(4) “قبل ارتفاع الغطاء” من (ح) و (م)، وسقطت من باقي النسخ.
(5) في (ح) و (م): جناحان.
(6) في (ح) و (م): رفعه.
(1/619)
– سبحانه – في وَسْط “الوجه” بأحسن شَكْلٍ، وفتح فيه (1) بابين، وأودع فيهما حاسَّةَ الشَّمِّ، وجعله آلةً لاستنشاق الهواء، وإدراكِ الروائح على اختلافها، فيستنشق بهما الهواءَ الباردَ الطَّيِّبَ. فيستغني بـ “المِنْخَرَين” عن فتح “الفَم” أبدًا، ولولاهما لاحتاج إلى فتح “فَمِهِ” دائمًا.
وجعل – سبحانه – تجويفه واسعًا لينحصر فيه الهواء، وينكسر بَرْدُهُ قبل الوصول إلى “الدِّماغ”، فإنَّ الهواءَ المُسْتَنْشَقَ ينقسم قسمين: شطرًا منه – وهو أكثره – ينفذ إلى “الرِّئة”، وشطرًا ينفذ إلى “الدِّمَاغ”.
ولذلك يَضُرُّ المَزْكُومَ استنشاقُ الهواء البارد.
وجعل في “الأنف” – أيضًا – إعانةً على تقطيع الحروف.
وجعل بين “المِنْخَرَين” حاجزًا، وذلك أبلغ (2) في حصول المنفعة المقصودة، حتَّى كأنَّهما “أَنْفَان” (3) ؛ بمنزلة “العَينيَن” و”الأُذُنين” و”اليدين” و”الرِّجْلين”.
وقد يصيب أحد “المِنْخَرَين” آفةٌ، فيبقى الآخر سالمًا.
وجَعَلَ تجويفَهُ نازلًا إلى أسفل؛ ليكون مَصَبًّا للفضلات النازلة من “الدِّمَاغ”. وسَتَرَهُ بساتِرٍ (4) أَبَدِيٍّ (5) ، لئلَّا تبدو تلك الفضلات في عين الرائي.
__________
(1) ساقط من (ك).
(2) ساقط من (ك).
(3) في (ز): اثنان.
(4) “بساتر” ملحق بهامش (ك).
(5) ساقط من (ز) و (ط)، وفي (ك): أبدًا، وما أثبته من (ح) و (م).
(1/620)
وتأمَّلْ منفعة النَّفَس الذي لو قُطع عن الإنسان لَهَلَكَ، وهو أربعةٌ وعشرون ألف نَفَسٍ في اليوم والليلة، قِسطُ كلِّ ساعةٍ ألفُ نَفَسٍ.
وتأمَّلْ كيف يدخل الهواء في “المِنْخَرَين” فينكسر بَرْدُهُ هناك، ثُمَّ يصل إلى “الحُلْقُوم”، فيعتدل مِزَاجُهُ هناك، ثُمَّ يصل إلى “الرِّئة”، فيتصَفَّى فيها من الغِلَظِ والكُدْرَةِ، ثُمَّ يصل إلى “القلب” أصفَى ما كان وأعدَلَ، فيُرَوِّحُ عنه، ثُمَّ ينفذ منه إلى “العُرُوق” المتحرِّكة، ويتقدَّم إلى أقاصي أطراف البدن، ثُمَّ إذا سَخُنَ جدًّا وخرج عن حَدِّ الانتفاع؛ عادَ عن تلك الأقاصي إلى البدن، ثُمَّ إلى “الرِّئة” (1)، ثُمَّ إلى “الحُلْقُوم”، ثُمَّ إلى “المِنْخَرَين”، ثُمَّ يخرج، ويعودُ مثلُه … هكذا أبدًا، فمجموع ذلك هو النَّفَسُ الواحد.
وقد أحصى الرَّبُّ – عزَّ وجلَّ – عدَدَ هذه الأَنْفَاسِ، وجعل مقابل كلِّ نَفَسٍ منها ما شاء الله من الأحقاب في الجحيم، أو في (2) النَّعيم. فما أَسْفَهَ من أضاعَ ما هذا قيمتُه في غير شيء.
فصل
وهو – سبحانه – جعل “القلب” أميرَ البدن، ومعدِنًا للحرارة الغريزيَّة، فإذا اسْتُنشِقَ الهواءُ الباردُ وصَلَ إلى “القلب” واعتَدَلَتْ حرارته، فيبقى هناك مدَّةً، [فإذا] (3) سخُنَ واحتدَّ (4)، واحتاجَ إلى
__________
(1) “ثم إلى الرئة” ملحق بهامش (ك).
(2) من (ح) و (م)، وسقط من باقي النسخ.
(3) زيادة مهمة لاتساق الكلام.
(4) في (ح) و (م) وهامش (ك): واحترق.
(1/621)
إخراجه ودَفْعِهِ معه، لم (1) يُضَيِّعْ أحكمُ الحاكمين ذلك النَّفَس ويخرجه بغير فائدة، بل جعل إخراجه سببًا لحدوث الصوت.
ثُمَّ جعل – سبحانه – (2) “الحَنْجَرَةَ” و”اللِّسَانَ” و”الحَنَكَ” (3) آلاتٍ وأسبابًا، مختلفة الأشكال (4)، فباختلافها يكون الصوت (5)، فيحدث الحَرْف، ثُمَّ أَلْهَمَ الإنسانَ أن رَكَّبَ ذلك الحَرْفَ إلى مثله ونظيره، فتحدث الكلمة، ثُمَّ أَلْهَمَهُ تركيب تلك الكلمة إلى مثلها، فيحدث الكلام.
فتأمَّلْ هذه الحِكْمَةَ الباهرة في إيصال النَّفَس إلى “القلب” لحفظ حياته، ثُمَّ عند الحاجة إلى إخراجه والاستغناء عنه جعله سببًا لهذه المنفعة العظيمة. فتبارك الله أحسن الخالقين.
وخلق – سبحانه – هذه المقاطع والحَنَاجر مختلفةَ الأشكال، والضِّيق، والسَّعَة، والخُشُونة، والمَلَاسَة = لتختلف الأصوات باختلافها، فكما لا تتشابه صورتان من كلِّ وجهٍ، فلا يتشابه صوتان (6)، بل كما يحصل الامتياز بين الأشخاص بالقوَّةِ البَاصِرَةِ، فكذلك يحصل بالقوَّةِ السَّامِعَةِ، فيحصل الامتياز للأعمى والبصير.
__________
(1) في جميع النسخ: فلم، وما أثبته أنسب.
(2) بعده في (ح) و (م) زيادة: في.
(3) “الحَنَكُ”: سَقْفُ أعلى الفم من داخل. “القاموس” (1210).
(4) “آلات وأسبابًا، مختلفة الأشكال” ساقط من (ح) و (م).
(5) العبارة في (ح) و (م) هكذا: باخلافها الصوت.
(6) “فلا يتشابه صوتان” ساقط من (ح) و (م).
(1/622)
فصل
ثُمَّ انزِلْ إلى “الصَّدْرِ”؛ تَرَى معدنَ العلم، والحِلْم، والوقار، والسكينة، والبِرِّ، وأضدادِها. فتجد صدور العِلْيَة (1) تغلي بالبرِّ، والخير، والعلم، والإحسان، وصدورَ السَّفِلَةِ (2) تغلي بالفجورِ، والشَّرِّ، والإساءةِ، والحَسَدِ، والمَكْرِ.
ثُمَّ انفُذْ من ساحة “الصَّدْر” إلى مشاهدة “القلب”؛ تجد مَلِكًا عظيمًا جالسًا على سرير مملكته، يأمر وينهى، ويولِّي ويعزِل. وقد حَفَّ به الأمراءُ (3) والوزراء والجُند وكلُّهم في خدمته، إن استقامَ استقاموا، وإن زَاغَ زاغُوا، وإن صحَّ صَحُّوا، وإن فسد فسدوا، فعليه المُعَوَّلُ.
وهو مَحَلُّ نظر الرَّبِّ تعالى، ومَحَلُّ معرفته، ومحبَّته، وخشيته، والتوكُّلِ عليه، والإنابةِ إليه، والرِّضَى به وعنه. والعبوديةُ عليه أوَّلًا؛ وعلى رعيَّته وجنده تبعًا.
فأشرفُ ما في الإنسان “قلبُه”، فهو العالِمُ بالله، العامِلُ له، السَّاعي إليه، المُحِبُّ له، فهو مَحَلُّ الإيمان والعرفان.
وهو المخاطَبُ المبعوثُ إليه الرُّسُلُ، المخصوصُ بأشرف العطايا، وهو الإيمان والعقل.
__________
(1) من (ك) و (ح) و (م)، وفي (ز) و (ط): العلماء.
(2) السَّفِلَة” – بكسر الفاء -: سَقَطُ الناسِ وغَوغاؤهم. وبعض العرب يخفِّف فيقول: “سِفْلَة”. “مختار الصحاح” (324).
(3) في (ز) و (ح) و (ط) و (م): بالأمراء، وما أثبته من (ك).
(1/623)
وإنَّما الجوارح أتباعٌ، وتُبَّعٌ “للقلب” يستخدمها استخدام الملوك للعبيد، والراعي للرعيَّة. والذي يسري إلى الجوارح من الطاعات والمعاصي إنَّما هي آثاره، فإنْ أظْلَمَ أظْلَمَت الجوارح، وإن اسْتَنارَ استنارت، ومع هذا فهو بين إصبعين من أصابع الرحمن – عزَّ وجلَّ – (1) .
فسبحان مُقَلِّب القلوب، ومُودِعِها ما يشاء من أسرار الغيوب، الذي يحول بين المرء وقلبه، ويعلم ما ينطوي عليه من طاعته وذنبه (2) ، مُصَرِّفِ القلوب كيف أراد، وحيث أراد. أوحى إلى قلوب أوليائه: أنْ أَقْبِلِي إليَّ، فبَادَرَتْ، وبَاتَتْ (3) وقَالَتْ (4) بين يَدَي رَبِّ العالمين. وكَرِه – عزَّ وجَلَّ – انبعاثَ آخرين فَثَبَّطَهُم، وقيل: اقعُدُوا مع القاعدين.
كانت أكثر يمين رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “لا، ومُقَلِّبِ القلوب” (5) .
وكان من دعائه: “اللهُمَّ يا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا على طاعتك” (6) .
__________
(1) أخرج مسلم في “صحيحه” رقم (2654)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما -؛ أنَّه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “إنَّ قلوبَ بني آدم كلِّها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلبٍ واحدٍ، يصرِّفُه حيث يشاء”. ثم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “اللهُمَّ مصرِّفَ القلوب؛ صَرِّف قلوبنا على طاعتك”.
(2) من (ز)، وفي باقي النسخ: ودينه.
(3) ساقط من (ح) و (م).
(4) جاء في هامش (ز) شرحًا لها: “قوله: “باتَتْ وقَالَتْ”، من البَيْتُوتة والقَيْلُولة، أي: استمرَّت ليلَها ونهارَها على ذلك”.
(5) سبق تخريجه (ص/ 14).
(6) أخرجه بهذا اللفظ: أحمد في “المسند” (3/ 112 و 257)، وابن أبي شيبة في “المصنف” (10/ 209) و (11/ 36)، وابن أبي عاصم في “السنَّة” رقم (225)، =
(1/624)
قال بعض السلف: “لَلْقَلْبُ أشدُّ تقلُّبًا من القِدْرِ إذا استجمعت غليانًا” (1) .
وقال آخر: “القلبُ أشدُّ تقلُّبًا (2) من الريشة بأرضٍ فَلَاةٍ في يومِ ريحٍ عاصِفٍ” (3) .
__________
= والبخاري في “الأدب المفرد” رقم (683)، والترمذي في “سننه” رقم (2140)، وابن ماجه في “سننه” رقم (3834)، والحاكم في “المستدرك” (1/ 526)، وغيرهم.
قال الترمذي: “هذا حديثٌ حسنٌ”. وحسَّنه البغويُّ في “شرح السنَّة” (1/ 165).
وقال الحاكم: “بإسناد صحيح”. وصححه الألباني في “صحيح الأدب المفرد” رقم (527)، و”ظلال الجنَّة” رقم (225).
(1) هذا الأثر رُوي مرفوعًا من حديث المقداد بن الأسود – رضي الله عنه -، أخرجه: أحمد في “المسند” (6/ 4)، وابن أبي عاصم في “السنَّة” رقم (226)، والطبراني في “المعجم الكبير” (20/ رقم 598 – 599 و 603)، وفي “مسند الشاميين” رقم (2021)، والحاكم في “المستدرك” (2/ 289)، والقضاعي في “مسند الشهاب” رقم (1331 و 1332)، وأبو نعيم في “الحلية” (1/ 175)، وغيرهم.
وللحديث طرق يتقوى بها؛ وصححه الحاكم على شرط البخاري، ووافقه الذهبي.
قال الهيثمي: “رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها ثقات”. “مجمع الزوائد” (7/ 211).
وصححه الألباني في “السلسلة الصحيحة” رفم (1772)، و”ظلال الجنَّة” رقم (226).
(2) من قوله: “من القدر إذا. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ز) و (ط).
(3) رُوي هذا الأثر مرفوعًا من حديث أبي موسى – رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “مثلُ القلب كمثل ريشة بأرضٍ فلاةٍ، تقلبها الريح ظهرًا لبطن”.
أخرجه: أحمد في “المسند” (4/ 419) وبنحوه في (4/ 408)، وابن أبي =
(1/625)
ويطلق “القلب” على معنيين:
أحدهما: أمرٌ حِسِّيٌّ؛ وهو العضو اللَّحْميُّ الصَّنَوبَرِيُّ الشَّكْل، المُودَعُ في الجانب الأيسر من “الصَّدْر”، وفي باطنه تجويفٌ، وفي التجويف دَمٌ أسود، وهو منبع “الرُّوح”.
والثاني: أمرٌ معنويٌّ؛ وهو لطيفةٌ ربَّانيةٌ رحمانيةٌ، روحانيَّةٌ، لها بهذا العضو تعلُّقُ اختصاصٍ. وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسانيَّة.
و”للقلب” جُنْدَان: جندٌ يُرَى بالأبصار، وجندٌ يُرَى بالبصائر.
فأمَّا جندُهُ المشاهَدَةُ: فالأعضاءُ الظاهرة والباطنة، وخُلِقَت خادِمةً له لا تستطيع له خلافًا. فإذا أَمَرَ “العينَ” بالانفتاح انفتحت، وإذا أمرَ “اللِّسَانَ” بالكلام تكلَّم، وإذا أمرَ “اليدَ” بالبطش (1) بطَشَت، وإذا أمرَ “الرِّجْلَ” بالسعي (2) سَعَت، وكذا جميع الأعضاء ذُلِّلَتْ له تذليلًا (3).
__________
= عاصم في “السنَّة” رقم (227 – 228)، وابن ماجه في “سننه” رقم (88)، وعبد بن حميد في “المنتخب” رقم (534)، والبيهقي في “شعب الإيمان” رقم (737 – 738)، والبغوي في “شرح السنَّة” (1/ 164)، وغيرهم.
واختلف في وقفه ورفعه، وللمرفوع شواهد يتقوى بها.
قال العراقي: “إسناده حسن”.
وصححه الألباني في “ظلال الجنَّة” رقم (227 – 228)، و”صحيح الجامع” رقم (5833).
(1) ساقط من (ح) و (م).
(2) ساقط من (ح) و (م).
(3) “تذليلًا” ملحق بهامش (ك).
(1/626)
ولمَّا خُلِقَ “القلبُ” للسفر إلى الله – تعالى – والدار الآخرة، وجُعِلَ في هذا العالَم ليتزوَّدَ منه = افتقر إلى المَرْكبِ والزَّادِ لسفره الذي خلق لأجله، فأُعِينَ بالأعضاء والقُوَى، وسُخِّرَت له، وأُقِيمَت في خدمته؛ لتجلب له ما يوافقه من الغذاء والمنافع، ويدفع عنه ما يضرُّهُ ويهلكه، فافتقر إلى جُنْدَين:
1 – باطنٍ؛ وهو الإرادة، والشهوة (1)، والقُوى.
2 – وظاهرٍ؛ وهو الأعضاء.
فخلق في “القلب” من الإرادات والشهوات ما احتاج إليه، وخُلِقَت له الأعضاءُ التي هي آلةُ الإرادة، واحتاج لِدَفْع المَضَارِّ إلى جندين (2):
1 – باطنٍ؛ وهو الغضب الذي يدفع المُهْلِكَات، وينتقم من الأعداء.
2 – وظاهرٍ؛ وهو الأعضاء التي يُنْفِذُ بها غَضَبَهُ، كالأسلحة للمقاتل.
ولا يتمُّ له ذلك إلا بمعرفته ما يَجْلِبُ وما يَدْفَعُ، فأُعِينَ بجُنْدٍ من العلم يكشف له حقائق ما ينفعه وما يضرُّه.
ولمَّا سُلِّطَت عليه الشهوةُ، والغضبُ، والشيطانُ؛ أُعِين بجندٍ من الملائكة، وجَعَلَ له مَحَلًّا من الحلال يُنْفِذُ فيه شهواتِه، وجَعَلَ بإزائه
__________
(1) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: الإرادة للشهوة.
(2) من (م)، وفي باقي النسخ: جند.
(1/627)
أعداءً له يُنْفِذُ فيهم غَضَبَهُ، فما ابتُلِيَ بصفةٍ من الصفات إلا وجُعِلَ له مَصْرِفٌ ومَحَلٌّ يُنْفِذُها فيه. فجُعِلَ لقوَّة الحَسَدِ (1) فيه مَصْرِفُ المنافسة في فِعْلِ الخير، والغِبْطَةِ عليه، والمسابقةِ إليه.
ولقوَّة الكِبْرِ التكبُّرُ على أعداء الله – تعالى – وإهانتهم، وقد قال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – لمن رآه يختال (2) بين الصَّفَّين في الحرب: “إنَّهَا لمِشْيَةٌ يبغِضُها اللهُ إلا في هذا المَوطِنِ” (3) . وقد أمر الله – سبحانه – بالغِلْظَة على أعدائه.
وجَعَلَ لقوَّة الحِرْصِ مَصْرِفًا، وهو الحرصُ على ما ينفع، كما قال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: “احرص على ما ينفعك” (4) .
__________
(1) في (ك) و (ح) و (م) و (ط): الجَسَد!
(2) من (م)، وفي باقي النسخ: تَخَايَل.
(3) أخرجه: ابن إسحاق في “السيرة” رقم (505)، ومن طريقه البيهقي في “دلائل النبوة” (3/ 233 – 234)، والطبراني في “المعجم الكبير” رقم (6508)، ومن طريقه أبو نعيم في “معرفة الصحابة” رقم (3642).
وفي إسناده ضعف، وقال الهيثمي عن إسناد الطبراني: “وفيه من لم أعرفه”. “مجمع الزوائد” (6/ 109).
لكن الحديث يتقوى ببعض الأحاديث التي تؤيد معناه، وقد بوَّب ابن أبي عاصم في “كتاب الجهاد” (2/ 674): “الاختيال بين الصفَّين”. وانظر: تخريج هذه الآثار لمحققه: مساعد بن سليمان الراشد الحميد (2/ 674 – 678)، فقد أجاد.
وأصل القصة في “صحيح مسلم” رقم (2470) وغيره، بدون هذه الزيادة.
والذي كان يختال بين الصفين هو: أبو دُجَانَة؛ سِمَاك بن خَرَشَة الساعدي – رضي الله عنه -.
(4) جزء من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -؛ أخرجه مسلم في “صحيحه” رقم (2664).
(1/628)
ولقوَّة الشهوة مَصْرِفًا، وهو التزوُّجُ بأربع، والتَّسَرِّي بما شاء.
ولقوَّة حُبِّ المال مَصْرِفًا، وهو إنفاقُه في مرضاته، والتزوُّدُ منه لمَعَاده. فمحبَّة المال على هذا الوجه لا تُذَمُّ.
ولمحبَّة الجَاهِ مَصْرِفًا، وهو استعماله في تنفيذِ أوامره، وإقامةِ دينه، ونَصْرِ المظلوم، وإغاثةِ الملهوف، وإعانةِ الضعيف، وقَمْعِ أعداء الله. فمحبَّةُ الرياسة والجاه على هذا الوجه عبادةٌ.
وجَعَلَ لقوَّة اللعب واللهو مَصْرِفًا، وهو لَهْوُهُ مع امرأته، أو بقوسِهِ وسَهْمِهِ، أو تأديبُهُ فَرَسَهُ.
وكلُّ ما أعانَ على الحقِّ فهو من الحقِّ، وكلُّ ما أعانَ على الباطل فهو من الباطل والضلال (1) .
وجَعَلَ لقوَّة التحيُّلِ (2) والمَكْرِ فيه مَصْرِفًا، وهو التحيُّلُ على عدوِّهِ وعدوِّ الله – تعالى – بأنواع التحيُّلِ (3) ، حتَّى يُرَاغِمَهُ ويردَّهُ خاسئًا، ويستعملَ معه من أنواع المَكْر ما يستعمله عدوُّهُ معه.
وهكذا جميع القُوى التي رُكِّبَت فيه، فإنَّها لا تزول، ولا يُطْلَبُ (4) إعْدَامُها؛ وقد ركَبَها اللهُ فيه لمصالح اقتضتها حكمته، فلا يُطْلَبُ تعطيلها، وإنَّما تُصْرَفُ مجاريها من مَحَلٍّ إلى مَحَلٍّ، ومن موضعٍ إلى موضعٍ. ومن تأمَّلَ هذا الموضع وتفقَّه فيه؛ عَلِمَ شدَّةَ الحاجة إليه،
__________
(1) من قوله: “فهو من الحق. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ح) و (م).
(2) تصحفت في (ك) إلى: البخل! وما بعده إلى: البخيل!!
(3) تصحفت في (ك) إلى: البخل!
(4) “فإنَّها لا تزول، ولا يُطلَب” ساقط من (ح) و (م).
(1/629)
وعظم الانتفاع به.
فصل
وجِمَاعُ الطرقِ والأبواب التي يُصابُ منها “القلب” وجنودُه: أربعةٌ، فمن ضَبَطها، وعَدَّلَها، وأصلح مجارِيَها، وصرَّفَها في مَحَالِّها اللائقة بها = ضُبِطَتْ وحُفِظَتْ (1) جوارحُه، ولم يشْمَتْ به عدوُّه، وهي: الحِرْصُ، والشهوةُ، والغَضَبُ، والحَسَدُ.
فهذه الأربعة هي أصول مجامع طرق الشَّرِّ والخير، وكما هي طرقٌ إلى العذاب السَّرْمَدِيِّ، فهي طرقٌ إلى النَّعيم الأَبَديِّ.
فـ “آدم” – أبو البشر – صلى الله عليه وسلم – أُخْرِجَ من الجنَّة بالحرص، ثُمَّ أُدخل إليها بالحرص، ولكن فرقٌ بين حرصه الأوَّل، وحرصه الثاني.
و”أبو الجنِّ” أُخرج منها بالحَسَد، ثُمَّ لم يُوَفَّق لمنافسةٍ وحَسَدٍ يُعِيدُهُ إليها، وقَد قال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: “لا حسدَ إلا في اثنتين: رجلٍ آتاهُ اللهُ مالًا، وسلَّطَهُ على هَلَكَتِهِ في الحقِّ. ورجلٍ آتاهُ اللهُ القرآنَ، فهو يقومُ به آناءَ الليلِ وأطرافَ النَّهار” (2).
وأمَّا الغَضَب فهو غُولُ (3) العَقْلِ، يغتاله كما يغتال الذئبُ الشاةَ،
__________
(1) “ضُبِطَتْ وحُفِظَتْ” ساقط من (ح) و (م).
(2) أخرجه: البخاري في “صحيحه” رقم (5025، 7529)، ومسلم في “صحيحه” رقم (815)؛ من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما -.
وفي الباب عن جماعة من الصحابة منهم: ابن مسعود، وأبي هريرة – رضي الله عنهما -.
(3) “الغُولُ”: كلُّ ما اغتالَ الإنسان فأهلكه؛ والغضبُ غُولُ الحِلْم لأنه يغتاله =
(1/630)
وأعظم ما يفترسه الشيطانُ عند غضبه وشهوته.
فإذا كان حِرْصُهُ على ما ينفعه، وحَسَدُهُ منافسةً في الخير، وغضَبُهُ لله وعلى أعدائه، وشهوتُهُ مُستعمَلَةً فيما أبيح له = كان ذلك (1) عونًا له على ما أُمِر به، ولم تضرَّهُ هذه الأربعة؛ بل ينتفع بها أعظم الانتفاع.
فصل
وإذا تأمَّلْتَ حال “القلب” مع المَلَكِ والشيطانِ رأيتَ أعجب العجائب، فهذا يُلِمُّ به مرَّةً، وهذا يُلِمُّ به مرَّةً، فإذا أَلَمَّ به المَلَكُ حدَثَ من لَمَّتِه الانفساحُ، والانشراحُ، والنُّورُ، والرَّحمةُ، والإخلاصُ، والإنابةُ، ومحبَّةُ الله، وإيثارُه على ما سواه، وقِصَرُ الأَمَلِ، والتَّجَافِي عن دار البلاء والامتحان والغرور، فلو دامت له تلك الحالة لكان في أَهْنَأ عَيشٍ وأَلَذِّهِ وأَطْيَبِهِ.
ولكن تأتيه لَمَّةُ الشيطان، فتُحْدِثُ له من الضِّيقِ، والظُّلْمةِ، والهَمِّ، والغَمِّ، والخوفِ، والسَّخَطِ على المقدور، والشَّكِّ (2) في الحقِّ، والحرص على الدنيا وعاجِلِها، والغفلةِ عن الله = ما هو من أعظم عذاب “القلب” (3).
__________
= ويذهب به. “مختار الصحاح” (510).
(1) “كان ذلك” ساقط من (ح) و (م).
(2) تصحفت في (ك) إلى: الشكر.
(3) عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:
“إنَّ للشيطان لَمَّةً بابن آدم، وللمَلَك لَمَّةً؛ فأمَّا لَمَّةُ الشيطان فإيعادٌ بالشرِّ، وتكذيبٌ بالحقِّ، وأمَّا لَمَّةُ المَلَك فإيعادٌ بالخير، وتصديقٌ بالحقِّ، فمن وَجَد ذلك فليعلم أنه من الله؛ فليحمد الله، ومن وَجَد الأخرى فليتعوَّذ بالله من =
(1/631)
ثُمَّ للنَّاس في هذه المحنة (1) مراتب لا يحصيها إلا الله – عزَّ وجلَّ -:
فمنهم من تكون لَمَّةُ المَلَك أغلب عليه من لَمَّةِ الشيطان وأقوى، فإذا أَلَمَّ به الشيطانُ وجَدَ من الأَلَم، والضِّيق، والحَصْر، وسوء الحال بحسب ما عنده من حياة “القلب”، فيُبَادِرُ إلى مَحْوِ تلك اللَّمَّة، ولا يَدَعها تستحكِمُ فيصعب تداركها. فهو دائمٌ بين اللَّمَّتَين، يُدَالُ له مرَّةً، ويُدَالُ عليه مرَّةً أخرى، والعاقبة للتقوى.
ومنهم من تكون لَمَّةُ الشيطان أغلب عليه من لَمَّةِ المَلَك وأقوى، فلا تزال تغلبُ لَمَّةَ المَلَك حتَّى تستحكم ويصير الحكم لها، فيموت
__________
= الشيطان الرجيم” ثم قرأ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268].
أخرجه: الترمذي في “سننه” رقم (2988)، وفي “العلل الكبير” رقم (654)، والنسائي في “السنن الكبرى” رقم (10985)، والبزار في “البحر الزخار” رقم (2027)، وأبو يعلى في “مسنده” رقم (4999)، وابن حبَّان في “صحيحه” رقم (997)، وغيرهم.
واختلف في وقفه ورفعه، والصواب وقفه.
قال الترمذي: “هذا حديث حسن غريب، وهو حديث أبي الأحوص، لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث أبي الأحوص”.
وبمثله قال البزار، ثم قال: “وقد رواه غير أبي الأحوص موقوفًا”.
وقال أبو زرعة: “الناس يوقفونه: عن عبد الله، وهو الصحيح”، وبنحوه عن أبي حاتم الرازي. “العلل” رقم (2224).
قال ابن الأثير: “اللَّمَّةُ: الهَمَّة والخَطْرة تقع في القلب، أرادَ إلمامَ المَلَك أو الشيطان به، والقرب منه، فما كان من خطرات الخير فهو من الملك، وما كان من خطرات الشَّرِّ فهو من الشيطان”. “النهاية” (4/ 273).
(1) تصحفت في (ح) و (م) إلى: المحبة.
(1/632)
“القلب”، فلا يُحِسُّ بما ناله (1) الشيطان، مع أنَّه في غاية العذاب، والأَلَم، والضِّيق، والحَصْر، ولكنَّ سُكْرَ الشهوة والغفلة حَجَبَ عنه الإحساس بذلك المُؤْلِم.
فإذا كُشِفَ عنه بعض غطائه أدركَ سُوءَ حاله، وعَلِمَ ما هو فيه، فإن استمرَّ له كَشْفُ الغطاء أمكَنَهُ (2) تدارُكُ هذا الدَّاءِ وحَسْمُهُ، وإن عادَ الغطاءُ عادَ الأمر كما كان، حتَّى يُكْشَفَ عنه وقت المُفَارَقَة، فتظهر حينئذٍ تلك الآلامُ، والهُمومُ، والغمومُ، والأحزانُ، وهي لم تتجدَّدْ له، وإنَّما كانت كامنةً فيه، تُوَارِيها الشَّوَاغِلُ، فلمَّا زالت الشَّوَاغل ظهر ما كان كامنًا، وتجدَّدَ له أضعافُه.
فصل
والشيطانُ يُلِمُّ بـ “القلب” لِمَا له هناك من جَوَاذِب تجذبه، وهي نوعان: صفات، وإرادات.
فإذا كانت الجَوَاذِبُ صفاتٍ قَوِيَ سُلْطَانُه هناك، واسْتفْحَلَ أمرُهُ، ووجَدَ موطِنًا ومَقَرًّا، فتبقى (3) الأذكارُ والدَّعواتُ والتعوُّذَاتُ التي يأتي بها الإنسانُ (4) حديثَ نفسٍ، لا تدفعُ سلطانَ الشيطان؛ لأنَّ مَرْكبَهُ صفةٌ لازِمةٌ.
__________
(1) في (ك) و (ح) و (ط) و (م): ما نازله.
(2) “أمكنه” ساقط من (ك).
ومن قوله: “عنه بعض غطائه. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ح) و (م).
(3) في (ح) و (م): فتأتي.
(4) “التي يأتي بها الإنسان” ساقط من (ح) و (م).
(1/633)
فإذا قلع العبدُ تلك الصفاتِ من قلبه (1) ، وعَمِلَ على التَّطهُّرِ منها والاغتسال، بَقِيَ للشيطان بـ “القلب” خَطَرَاتٌ، ووَسَاوِسُ، ولَمَّاتٌ من غير استقرار، وذلك يُضْعِفُه، ويقوِّي لَمَّةَ المَلَك، فتأتي الأذكارُ، والدَّعواتُ، والتعوُّذَاتُ؛ فتدفعه بأسهل شيء.
وإذا أردت لذلك مثالًا مطابقًا: فَمَثَلُه مَثَلُ كلبٍ جائعٍ، شديدِ الجوع، وبينك وبينه لحمٌ أو خبزٌ، وهو يتأمَّلك، فيراك لا تقاوِمُه وهو قد اقتربَ منك، فأنت تَزْجُرُه، وتصيحُ عليه، وهو يأبَى إلا الهجوم (2) عليك، والغَارَة على ما بين يديك.
فالأذكارُ بمنزلة الصِّيَاح عليه، والزَّجْرِ له، ولكنَّ مَعْلُومَه ومُرَادَهُ عندك، وقد قَوَّيتَهُ (3) عليك، فإذا لم يكن بين يديك شيءٌ يصلح له – وقد تأمَّلَكَ فرآكَ أقوى منه – فإنَّك تزجُرُه فَيَنْزَجِر، وتصيحُ عليه فيذهب. وكذلك “القلبُ” الخالي عن قُوت الشيطان يَنْزَجِرُ بمجرَّدِ الذِّكْرِ.
وأمَّا “القلب” الذي فيه تلك الصفات التي هي مَرْكبه وموطنه، فيقع الذِّكْرُ في حواشيها وجوانبها، ولا يقوى على إخراج العدوِّ.
ومصداق ذلك تجدُهُ في الصلاة، فتأمَّل الحالَ، وانظر: هل تُخْرِجُ الصلاةُ وأذكارُها وقراءَتُها الشيطانَ من قلبك، وتفرغه كلَّهُ لله تعالى، وتُقِيمُه بين يديه مقبلًا بكُلِّيَّتِهِ عليه، يصلي لله – تعالى – كأنَّه يَرَاهُ، قد اجتمع هَمُّهُ كلُّهُ على الله، وصار ذِكْرُه، ومراقَبتُه، ومحبَّتُه،
__________
(1) “من قلبه” ساقط من (ح) و (م).
(2) في (ح) و (م): التحوُّم.
(3) في (ح) و (م): قرَّبته.
(1/634)
والأُنْسُ به؛ في مَحَلِّ الخواطر والوساوس؛ أم لا؟ فالله المستعان.
وهاهنا نكتةٌ ينبغي التفطُّنُ لها، وهي أنَّ القلوبَ ممتلئةٌ بالأخلاط الرديئة. والعباداتُ والأذكارُ والتعوُّذَاتُ أدويةٌ لتلك الأخلاط، كما يثير الدواءُ أخلاطَ البدن، فإن كان قبل الدواء وبعده حِمْيَةٌ نَفَعَ ذلك الدواء، وقَلَعَ الدَّاءَ أو أكثَرَهُ، وإنْ لم يكن قبله ولا بعده حِمْيَةٌ (1) لم يزد الدواء على إثارته، وإن أزال منه شيئًا ما. فمدار الأمر على شيئين: الحِمْيَةِ، واستعمالِ الأدوية.
فصل
وأوَّلُ ما يطرق “القلبَ”: الخَطْرَةُ. فإن دَفَعَها استراحَ ممَّا بعدها، وإن لم يدفَعْها قَوِيَت، فصارت: وَسْوَسَةً، فكان دفْعُها أصعب. فإن بادَرَ ودَفَعها، وإلا قويت، فصارت: شَهْوَةً. فإن عالَجَها، وإلا صارت: إرَادَةً. فإن عالَجَها، وإلا صارت: عَزِيمَةً.
ومتى وصَلَتْ إلى هذه الحال لم يمكنه دَفْعُها، واقترنَ بها الفعلُ ولا بدَّ، وما يقدر عليه من مقدِّمَاتِه. وحينئذٍ ينتقل العلاجُ من مقدِّماته (2) إلى أقوى الأدوية، وهو الاستفراغُ التَّامُّ بالتوبة النَّصُوحِ.
ولا ريب أنَّ دفْعَ مبادِئ هذا الدَّاءِ أوَّلًا أسهلُ بكثير من طلب الدواء، وإذا وازَنَ العبدُ بين دَفْع هذا الداءِ (3) من أوَّله، وبين استفراغه بعد حصوله – وساعَدَ القَدَرُ، وأعَانَ التوفيقُ – رأى أنَّ الدَّفْعَ أَوْلَى به.
__________
(1) من قوله: “نفع ذلك الدواء. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ح) و (م).
(2) “من مقدماته” ساقط من (ح) و (م).
(3) من قوله: “أوَّلًا أسهلُ بكثير. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ح) و (م).
(1/635)
وإنْ تألَّمَت النَّفْسُ بمفارقة المحبوب، فَلْيُوازِنْ بين فَوَاتِ هذا المحبوب الأَخَسِّ المنقطِعِ النَّكِدِ، المَشُوبِ بالآلام والهموم، وبين فوات المحبوب الأعظم الدائم الذي لا نسبةَ لهذا المحبوب إليه أَلْبَتَّةَ؛ لا في قَدْرِهِ، ولا في دَوَامِهِ (1) وبقائه.
وَلْيُوازِنْ بين أَلَم فَوتِه، وبين أَلَم فَوتِ المحبوبِ الأخَسِّ.
وَلْيُوازِنْ بين لذَّةِ الإنابةِ والإقبالِ على الله تعالى، والتنعُّمِ بحُبِّهِ، وذِكْرِهِ، وطاعتِه؛ ولذَّةِ الإقبال على الرذائل، والأَنْتَانِ، والقبائح.
وَلْيُوازِنْ بين لذَّةِ الظَّفَر بالذَّنْب، ولذَّة الظَّفَر بالعَدُوِّ؛ وبين لذَّةِ الذنب، ولذَّةِ العِفَّةِ؛ ولذَّةِ الذنب، ولذَّةِ القوَّة وقَهْر الهَوَى؛ وبين لذَّةِ الذنب، ولذَّةِ إرغام عدوِّهِ وردِّهِ خاسئًا ذليلًا؛ وبين لذَّةِ الذنب، ولذَّةِ الطاعة التي تَحُولُ بينه وبينَه؛ وبين مرارة فَوتِه، ومَرَارةِ فَوتِ (2) ثناء الله – تعالى – وملائكته عليه، وفَوتِ حُسْنِ جزائه، وجزيلِ ثوابه؛ وبين فرحةِ إدراكِه، وفرحة تركه لله – تعالى – عاجلًا، وفرحةِ ما يُثِيبُهُ عليه في دنياه وآخرته، والله المستعان.
وهذا فصلٌ جَرَّهُ الكلام في قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، أشرنا إليه إشارة (3) ، لو استقصيناه لاستدعَى عِدَّةَ أسفارٍ، ولكن فيما ذكرناه تنبيه على ما تركناه. وبالله التوفيق.
__________
(1) ساقط من (ح) و (م).
(2) العبارة مرتبكة في (ز) و (ح) و (م) هكذا: وبين مراده فوته ومراده فوته ومراده فوت .. !
(3) من (ح) و (م)، وسقطت من باقي النسخ.
(1/636)
فصل
ولنرجع إلى المقصود:
ثُمَّ قال الله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)} [الذاريات: 22].
أمَّا “الرِّزْقُ”: ففُسِّر بالمطر (1)، وفُسِّر بالجنَّة (2).
فَفُسِّر برزق الدنيا والآخرة، ولا ريب أنَّ المطر من الرَّحمة، وأنَّ الجنَّةَ مستقَرُّ الرَّحمة. فَرِزْقُ الدَّارَين في السماء التي هي في العُلُوِّ.
وقوله تعالى: {وَمَا تُوعَدُونَ (22)}، قال عطاء (3): “من الثواب والعقاب”.
وقال الكلبي: “من الخير والشَّرِّ”.
__________
(1) وهو قول: علي، وابن عباس – رضي الله عنهما -، ومقاتل، ومجاهد، والضحَّاك، وسعيد بن جبير، والحسن، ومذهب جمهور المفسِّرين، وكثير منهم لا يذكر غيره.
انظر: “زاد المسير” (7/ 208)، و”الجامع” (17/ 41).
(2) رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. “زاد المسير” (7/ 208).
ويروى عنه قول ثالث – أيضًا – وهو أن المراد: القضاء والقدر، أي: الرزق عند الله تعالى، يأتي به كيف شاء. ونسب إلى: واصل الأحدب، واختاره أبو عبيدة في “مجاز القرآن” (2/ 226).
ومال إليه: أبو السعود في “تفسيره” (5/ 101)، والألوسي في “روح المعاني” (27/ 9).
وانظر: “المحرَّر الوجيز” (14/ 17)، و”البحر المحيط” (8/ 135).
(3) هنا ينتهي السقط في (ن)، وكان ابتداؤه من (ص/ 457).
(1/637)
وقال مجاهد: “الجنَّة والنَّار”.
وقال ابن سيرين: “من أمر الساعة” (1).
قلت: كَوْنُ الجنَّة والخير في السماء فلا إشكال فيه. وكَوْنُ النَّار في السماء وما يُوعَدُونَ به أهلُها يحتاجُ إلى تبيين:
فإذا نظرت إلى أسباب الخير والشَّرِّ، وأسباب دخول الجنَّة والنَّار، وافتراق النَّاس وانقسامهم إلى شقيٍّ وسعيدٍ = وجدتَ ذلك كلَّه بقضاءِ الله وقَدَرِهِ النَّازل من السماء. وذلك كله مُثْبَتٌ في السماء في صحف الملائكة، وفي اللَّوح المحفوظ، قبل العمل وبعده. فالأمر كلُّه من السماء.
وقول من قال: “من أمر السَّاعة” يكشف عن هذا المعنى؛ فإنَّ أمر السَّاعة يأتي من السماء، وهو الموعود بها، والجنَّةُ والنَّارُ الغايةُ التي لأجلها قامت السَّاعة. فصحَّ كلُّ ما قال السلف في ذلك. والله أعلم.
فصل
ثُمَّ أقسم – سبحانه – أعظمَ قسمٍ، بأعظم مُقْسَمٍ به، على أَجَلِّ مُقْسَمٍ عليه، وأكَّدَ الإخبار به بهذا القَسَم، ثُمَّ أكَّدَهُ – سبحانه – بشِبْهِه بالأمر المُحَقَّق الذي لا يشكُّ فيه ذو حاسَّةٍ سليمةٍ، قال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)} [الذاريات: 23].
قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: “يريدُ إنَّه لَحَقٌّ واقعٌ، كما أنكم
__________
(1) انظر: “تفسير الطبري” (11/ 461)، و”الوسيط” (4/ 176)، و”تفسير الماوردي” (5/ 368).
(1/638)
تنطقون”.
وقال الفرَّاء: “إنَّه لَحَقٌّ كما أنَّ الآدميَّ ناطِقٌ” (1) .
وقال الزجَّاجُ: “هذا كما تقول في الكلام: إنَّ هذا لحقٌّ كما أنَّك هاهنا” (2) .
قلت: وفي الحديث “إنَّه لَحَقٌّ كما أنَّكَ هاهنا” (3) .
فشَبَّهَ – سبحانه – تحقيقَ ما أخبر به بتحقيق نطق الآدميِّ ووجوده. والواحدُ منَّا يعرف أنَّه ناطقٌ ضرورةً، ولا يحتاج نُطْقُهُ إلى استدلالٍ على وجوده، ولا يُخَالِجُه شَكٌّ في أنَّه ناطِقٌ. فكذلك ما أخبر الله – سبحانه – عنه من أمر التوحيد، والنبوَّة، والمَعَاد، وأسمائه، وصفاته؛ حقٌّ ثابتٌ في نفس الأمر، يُشْبِهُ ثُبوت نطقكم ووجوده.
وهذا بابٌ يعرفه النَّاس في كلامهم، يقول أحدُهم: هذا حقٌّ مثل الشمس. وأفصح الشاعر (4) عن هذا بقوله:
وليس يَصِحُّ في الأَذْهَانِ شيءٌ … إذا احتاجَ النَّهَارُ إلى دليل
وهاهنا أمرٌ ينبغي التفطُّنُ له؛ وهو أنَّ الرَّبَّ – تعالى – شَهِدَ بصحة ما أخبر به، وهو أصدق الصادقين، وأقسم عليه، وهو أبَرُّ المُقْسِمِين، وأكَّدَهُ بتشبيهه بالواقع الذي لا يقبل الشكَّ بوجهٍ،
__________
(1) “معاني القرآن” (3/ 85).
(2) “معاني القرآن” (5/ 54)، وفيه: “إن هذا لحقٌّ كما أنكَ متكلِّمٌ”.
(3) سبق تخريجه (ص/ 265).
(4) هو المتنبي “ديوانه” (343)، ولفظ الديوان: “الأفهام” بدل: الأذهان.
(1/639)
وأقام عليه من الأدلَّة العِيَانيَّةِ والبُرْهَانيَّة ما جعله مُعَايَنًا مُشَاهَدًا بالبصائر، وإن لم يُعَايَنْ بالأبصار = ومع ذلك فأكثر النُّفوس في غفلةٍ عنه لا تستعِدُّ له، ولا تأخذ له أُهْبَتَهُ.
والمستعِدُّ له، الآخذُ له أُهْبَتَهُ؛ لا يعطيه حقَّه منهم إلا الفَرْد بعد الفَرْد، فأكثر هذا الخلق لا ينظرون في المراد من إيجادهم وإخراجهم إلى هذه الدار، ولا يتفكرون في قِلَّةِ مَقَامِهم في دار الغرور، ولا في رحيلهم وانتقالهم عنها، ولا إلى أين يرحلون؟ وأين يستقرُّون؟ قد مَلَكَهُم الحِسُّ، وقلَّ نصيبُهم من العقل، وشملتهم الغفلة، وغرَّتهم الأمانيُّ التي هي كالسَّرَاب، وخَدَعَهم طُولُ الأمل، فكأنَّ المقيمَ لا يَرْحَل، وكأنَّ أحدَهم لا يُبْعَث ولا يُسْأل، وكأنَّ مع كل مقيمٍ توقيعٌ من الله لفلانِ ابن فلانٍ بالأَمَانِ من عذابه، والفوزِ بجزيل ثوابه.
فأمَّا هِمَّتُهُم (1) ففي اللذَّات الحِسِّية، والشهوات النفسيَّة، كيفَمَا حصلت حَصَّلُوها، ومن أيِّ وجهٍ لَاحَتْ أخذوها، غافلين عن المطالبة، آمنين من المُعَاقبة (2) . يَسْعَون لما لا يُدْرِكُون، ويتركون ما هم به مُطَالَبون، ويَعْمُرُون ما هم عنه منتقلون، ويُخرِّبون ما هم إليه صائرون، {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) } [الروم: 7]. ألسنتُهم لا تنطق (3) إلا بشهواتِ نفوسهم، فلا ينظرون في مصالحها (4) ، ولا يأخذون في جمع زادها في سفرها: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ
__________
(1) ساقط من (ح) و (م).
(2) في (ك) و (ح) و (م): العاقبة.
(3) “لا تنطق” ملحق بهامش (ن)، وهي مع “إلا” ساقط من (ح) و (م).
(4) في (ك): مصالحهم.
(1/640)
هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) } [الحشر: 19].
والعجبُ كلُّ العجب من غفلةِ من تُعَدُّ لحظاته، وتحصى عليه أَنْفَاسُهُ، ومطايا الليل والنَّهار تُسْرِع به، ولا يتفكر إلى أين يُحْمَلُ؟ ولا إلى أيِّ منزلٍ يُنْقَل؟
وكيفَ تَنَامُ العَينُ وهي قَرِيرَةٌ … ولم تَدْرِ في أَيِّ المَحَلَّينِ تَنْزِلُ؟ (1)
وإذا نزل بأحدهم الموتُ قَلِقَ لِخَرَابِ ذاته، وذهابِ لَذَّاتِه، لا لما سَبَقَ من جناياته، ولا لسُوء منقلبه بعد مماته، فإن خطرت على قلب أحدهم خَطْرةٌ من ذلك اعتمد على العفو والرَّحمة، كأنَّهُ يتيقَّنُ أنَّ ذلك نصيبه ولا بدَّ.
فلو أنَّ العاقلَ أحضَرَ ذهنه واستحضَرَ عقله، وسار بفكره، وأَنْعَم (2) النَّظرَ، وتأمَّلَ الآيات = لَفَهِمَ المرادَ من إيجادِه، ولَنَظَرَتْ عينُ الراحِل إلى الطريق، ولأَخَذَ المسافرُ في التزوُّدِ، والمريضُ في التداوي.
والحازِمُ يُعِدُّ [لـ] (3) ــما يجوز أن يأتي؛ فما الظنُّ بأمر متيقَّنٍ! كما أنه لصِدْقِ إيمانهم، وقوَّةِ إيقانهم، وكأنَّهم يُعَاينُون الأمر، فأَضْحَت ربوعُ الإيمان من أهلها خالية، ومعالِمُهُ على عروشها خاوية.
__________
(1) البيت لبعض العُبَّاد بدون نسبة كما في: “شعب الإيمان” للبيهقي (3/ 213)، و”حلية الأولياء” لأبي نعيم (9/ 344).
(2) في (ز): وأمعن، وفي (م): واتَّهم.
(3) زيادة “اللام” موضحة للمعنى.
(1/641)
قال ابن وهبٍ: أخبرني مَسْلَمَةُ بن عُلَيٍّ (1) ، عن الأوزاعي، قال: “كان السلفُ إذا صَدَعَ الفجر أو قبله كأنَّما على رؤوسهم الطَّيْرُ، مُقْبِلين على أنفسهم، حتَّى لو أنَّ حبيبًا لأحدهم غاب عنه حينًا ثُمَّ قَدِمَ؛ لَمَا التفتَ إليه. فلا يزالون كذلك إلى طلوعِ الشمس، ثُمَّ يقوم بعضهم إلى بعضٍ فَيَتَحلَّقُونَ، فأوَّلُ ما يُفِيضُون فيه أمرُ مَعَادِهم، وما هم صائرون إليه، ثُمَّ (2) يأخذون في الفقه” (3) .
__________
(1) في جميع النسخ: مسلم بن علي، والتصحيح من كتب الرجال.
وهو: مسلمة بن عُلَيّ – بالتصغير – بن خَلَف الخُشَني، أبو سعيد الدمشقيُّ البَلَاطيُّ، متروك الحديث. “تهذيب الكمال” (27/ 567 – 571).
(2) ساقط من (ز).
(3) أخرجه – من هذا الطريق – ابن عساكر في “تاريخ دمشق” (37/ 97).
(1/642)
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)} [ق: 1 – 2].
الصحيحُ أنَّ: “ق”، و”ن”، و”ص”؛ بمنزلة “حم”، و”ألم”، و”طس”؛ تلك حروفٌ مُفْرَدَةٌ (1)، وهذه متعدِّدَةٌ، وقد تقدَّمت الإشارة إلى بعض ما قيل فيها (2).
وهاهنا قد اتَّحَدَ المُقْسَمُ (3) به، والمُقْسَمُ عليه؛ وهو: القرآن.
فأقسَمَ بالقرآنِ على ثبوته وصدقه، وأنَّه حقٌّ من عنده. ولذلك حذف الجوابَ ولم يُصَرِّح به؛ لمَا في القَسَم من الدلالة عليه، ولأنَّ المقصود نفس المُقْسَم (4) به كما تقدَّم بيانه.
ثُمَّ أخذ – سبحانه – في بيان عَجَبِ الكفَّار من غير عَجَبٍ، بل بما لا ينبغي أن يقع سواهُ، كما قال سبحانه: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 1 – 2]، فأيُّ عَجَبٍ من هذا حتَّى يقول الكافرون: {إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76)}؟ وكيف يُتَعَجَّبُ من رحمةِ الخالقِ عبادَهُ، وهدايتِه، وإنعامِه عليهم بتعريفهم على لسان رسوله – صلى الله عليه وسلم – بطريق الخير والشَّرِّ، وما هم صائرون إليه بعد الموت، وأمرِهِم
__________
(1) من (ط)، وتصحفت في باقي النسخ إلى: مقدرة!
(2) راجع (ص/ 299)، عند تفسير سورة القلم.
(3) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: القسم.
(4) في (ز) و (ك) و (ط): القسم.
(1/643)
ونَهْيهِم = حتَّى يُقَابَلَ ذلك بالتعجُّبِ، ونسبةِ مَنْ جاء به إلى السِّحْر، لولا غاية الجهل والظلم، بل العَجَبُ كلُّ العَجَب (1) قولُهم وتكذيبُهم؛ كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} [الرعد: 5].
__________
(1) “كل العجب” سقط من (ك).
(1/644)
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)} [الزخرف: 1 – 2]، وقوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)} [ص: 1]، وقوله تعالى: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)} [يس: 1 – 3].
والصحيح أنَّ “يس” بمنزلة “حم”، و”ألم”؛ ليست اسمًا (1) من أسماء النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -.
وأقسم – سبحانه – بكتابه على صدق رسوله، وصحَّة نبوَّته ورسالته، فتأمَّلْ قَدْرَ المُقْسِم (2)، والمُقْسَمِ به، والمُقْسَمِ عليه.
وقوله تعالى: {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)} جُوِّزَ فيه ثلاثة أوجهٍ:
1 – أن يكون خبرًا بعد خبر، فأخبر عنه بأنَّه رسولٌ، وأنَّه على صراطٍ مستقيمٍ.
2 – وأن يكون حالًا من الضمير في الخبر، أي: من المرسلين كائنًا على صراطٍ مستقيم (3).
3 – وأن يكون متعلِّقًا بالخبر نفسه. تعلُّقَ المعمول بعامله، أي: أُرسِلْتَ على صراطٍ. وهذا يحتاج إلى بيانٍ وتقديره: المَجْعُولين على صراطٍ مستقيمٍ. وكونه من المرسلين مستلزِمٌ لذلك؛ فاستغنى عن ذكره.
__________
(1) من (ح) و (م)، وألحقت بهامش (ن) تصحيحًا، وسقطت من باقي النسخ.
(2) غير موجود في (ح) و (م).
(3) هذا الوجه الثاني سقط برمَّته من (ح) و (م).
(1/645)
فصل
ومن ذلك قوله – عزَّ وجلَّ -: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1)} [الصافات: 1].
أقسم – سبحانه – بملائكته الصَّافَّات للعبوديَّة بين يديه، كما قال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – لأصحابه: “ألا تَصُفُّونَ كما تَصُفُّ الملائكةُ عند رَبِّها؟ يُتِمُّون الأوَّلَ فالأوَّل، ويَتَراصُّونَ في الصفِّ” (1)، وكما قالوا عن أنفسهم: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)} [الصافات: 165].
والملائكة “الصَّافَّات”: [التي تَصُفُّ] (2) أجنحَتَها في الهواء. و”الزَّاجِرَاتُ”: الملائكة التي تزجُرُ السَّحَاب وغيرَه بأمر الله، فـ “التاليات”: التي تتلو كلام الله.
وقيل: “الصَّافَّات” الطير، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: 19]، وقال تعالى: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} [النور: 41]، و”الزَّاجِرَات”: الآيات والكلمات الزاجرات عن معاصي الله، و”التاليات”: الجماعات (3) التاليات (4) كتابَ الله – عزَّ وجلَّ -.
وقيل: “الصَّافَّات” للقتال في سبيل الله، فـ “الزَّاجِرات” الخيلَ للحمل على أعدائه، فـ “التاليات” الذاكرين له عند مُلَاقَاةِ عدوِّهم.
__________
(1) أخرجه مسلم في “صحيحه” رقم (430)، من حديث جابر بن سمرة – رضي الله عنه -، وفيه: “يُتمُّونَ الصفوف الأُوَل”.
(2) زيادة مهمة لفهم الكلام، وانظر: “تفسير البغوي” (7/ 33).
(3) في جميع النسخ: الجامعات! وصححت في هامش (ك).
(4) ساقط من (ز) و (ح) و (م).
(1/646)
وقيل: [“الصَّافَّات”] (1) : الجماعاتُ (2) الصَّافَّاتُ أبدانها في الصلاة، “الزَّاجِرات” أنفسها عن معاصي الله، فـ “التاليات” آياتِ اللهِ.
واللفظ يحتمل ذلك كلَّه، وان كان أحقَّ من دخل فيه وأَوْلَى الملائكةُ (3) ، فإنَّ الإقسام كالدليلِ والآيةِ على صحَّةِ ما أقسم عليه من التوحيد، وما ذُكِر غير الملائكة فهو من آثار الملائكة، وبواسطتها كان.
وأقسم – سبحانه – بذلك على توحيد ربوبيَّتِه وإلهيَّته، وقرَّر توحيدَ إلهيَّتِه بتوحيد ربوبيَّتِه، فقال: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4 ) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) } [الصافات: 4، 5]، [وهذا] (4) من أعظم
__________
(1) زيادة مهمة لفهم الكلام.
(2) تصحفت في جميع النسخ إلى: الجامعات!
(3) كون المراد بهذه الآيات: الملائكة؛ هو المنقول عن أكثر السلف والخلف، ولم ينقل عن الصحابة غيره، وهو مرويٌّ عن: ابن مسعود، وابن عباس – رضي الله عنهما -.
وقال به: مسروق، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، والسدِّي، وقتادة، والحسن، والربيع بن أنس، وغيرهم. “تفسير ابن كثير” (7/ 5).
قال ابن جرير الطبري في “تفسيره” (10/ 468):
“والذي هو أولى بتأويل الآية عندنا من قال: هم الملائكة؛ لأنَّ الله – تعالى ذكره – ابتدأ القَسَم بنوع من الملائكة، وهم “الصافُّون” بإجماعٍ من أهل التأويل، فَلأَنْ يكون الذي بعده قسمًا بسائر أصنافهم أشبه”.
وأحسن من جمع الأقوال، ووجَّهها، وبيَّنها: أبو الليث السمرقندي في تفسيره المسمَّى: “بحر العلوم” (3/ 109 – 110).
وثَمَّ اعتراضٌ لا يُشْتَغَلُ به، انظره وجوابه في “روح المعاني” (23/ 60).
(4) زيادة مهمة لاتساق الكلام.
(1/647)
الأدلَّة على أنَّه إلهٌ واحدٌ، ولو كان معه إلهٌ آخر لكان الإله مشاركًا له في ربوبيَّتِه، كما شاركه في إلهيَّتِه. تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
وهذه قاعدة القرآن؛ يقرِّرُ توحيد الإلهية بتوحيد الربوبية، فيقرِّرُ كونه معبودًا وحدَهُ بكونه خالقًا رازقًا وحده.
وخَصَّ “المشارِقَ” هاهنا بالذِّكْرِ:
1 – إمَّا لدلالتها على “المغارب”، إذ الأَمْرَانِ المُتَضَايفَانِ كلٌّ منهما يستلزم الآخر.
2 – وإمَّا لكون “المشارق” مطالعَ الكواكب، ومظاهرَ الأنوار.
3 – وإمَّا توطِئَةً لما ذُكِرَ بعدها من تزيين السماء بزينة الكواكب، وجَعْلِها حفظًا من كلِّ شيطانٍ مارِدٍ.
فَذِكْرُ “المشارِقِ” أنسبُ (1) بهذا المعنى وأَلْيَقُ. والله تعالى أعلم.
__________
(1) في (ح) و (م): لسبب.
(1/648)
<رمز>فصل (1) </رمز>
ومن ذلك قوله – تعالى – في قصة لوط عليه السلام، ومراجعة قومه له: {قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)} [الحجر: 70 – 72].
أكثر المفسِّرين من السَّلَفِ والخَلَف – بل لا يُعْرَفُ عن (2) السلف فيه نزاعٌ – أنَّ هذا قَسَمٌ من الله بحياة رسوله – صلى الله عليه وسلم – (3). وهذا من أعظم فضائله؛ أنْ يُقْسِم الرَّبُّ – عزَّ وجلَّ – بحياتِه، وهذه مزيَّةٌ لا تُعْرَفُ لغيره.
ولم يُوَفَّق الزمخشريُّ لذلك، فصَرَفَ القَسَمَ إلى أنَّه بحياةِ لوطٍ عليه السلام، وأنَّه من قول الملائكة له، فقال: “هو على إرادة القول، أي: قالت الملائكة للوط – عليه الصلاة والسلام -: لَعَمْرُك إنَّهم لَفِي سكرتهم يعمهون” (4).
__________
(1) هذا الفصل برُمَّته نقله القاسمي في “محاسن التأويل” (4/ 493 – 494)، معزوًّا إلى ابن القيم في “أقسام القرآن”.
(2) في جميع النسخ: في، وما أثبته أحسن.
(3) وممن نقل الاجماع على ذلك: ابن العربي في “أحكام القرآن” (3/ 1118)، والقاضي عياض في “الشفا” (1/ 113)، وعنهما القرطبي في “الجامع” (10/ 39).
(4) “الكشاف” (2/ 547).
وانتصر لهذا القول: ابن العربي المالكي في “أحكام القرآن” (3/ 1118)، فقال: “قال المفسرون بأجمعهم: أقسم الله هنا بحياة محمد – صلى الله عليه وسلم -؛ تشريفًا له؛ إنَّ قومَهُ من قريش في سكرتهم يعمهون، وفي حيرتهم يترددون … ثم قال: وهذا كلامٌ صحيحٌ؛ ولا أدري ما الذي أخرجهم عن ذكر لوط إلى ذكر محمد، =
(1/649)
وليس في اللفظ ما يدلُّ على واحدٍ من الأمرين، بل ظاهرُ اللفظِ وسياقُه إنَّما يدلُّ على ما فهمه السلف الطيِّبُ لا أهلُ التعطيل والاعتزال.
قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: “”لَعَمْرُك” أي: وحياتِك”. قال: “وما أقسم الله – تعالى – بحياة نبيٍّ غيره” (1).
و”العَمْرُ” و”العُمْرُ”: واحدٌ، إلا أنَّهم خَصُّوا القَسَم بالمفتوح
__________
= وما الذي يمنع أنْ يُقْسِمَ اللهُ بحياة لوط، ويبلغ به من التشريف ما شاء، فكلُّ ما يعطي اللهُ للوط من فضلٍ، ويؤتيه من شرفٍ = فلمحمدٍ ضعفاه، لأنَّه أكرمُ على الله منه. أَوَ لا تراهُ قد أعطى لإبراهيم الخُلَّة، ولموسى التكليم، وأعطى ذلك لمحمد؛ فإذا أقسم اللهُ بحياة لوط فحياة محمد أرفع، ولا يُخرَجُ من كلامٍ إلى كلامٍ آخر غيره لم يَجْرِ له ذكرٌ لغير ضرورة”.
قال القرطبي: “وما قاله حَسَنٌ؛ فإنَّه كان يكون قَسَمُهُ – سبحانه – بحياة محمدٍ – صلى الله عليه وسلم – كلامًا معترِضًا في قصة لوط”. “الجامع” (10/ 40).
وقدَّمه أبو حيَّان في “البحر المحيط” (5/ 449).
وقد أجاب عن هذا: الألوسيُّ في “روح المعاني” (14/ 66).
(1) أخرجه: الحارث بن أبي أسامة “بغية الباحث” رقم (934)، ومن طريقه أبو نعيم في “دلائل النبوة” رقم (21) و (22)، وأبو يعلى في “مسنده” رقم (2754)، وابن جرير في “تفسيره” (7/ 526)، والبيهقي في “دلائل النبوة” (5/ 488)، والواحدي في “الوسيط” (3/ 49)، والسمرقندي في “بحر العلوم” (2/ 222).
وأخرجه البخاري في “صحيحه” تعليقًا، ووصله ابن أبي حاتم في “تفسيره” كما ذكر الحافظ في “الفتح” (8/ 238)، و”تغليق التعليق” (4/ 233).
وزاد السيوطي نسبته إلى: ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن مردويه. “الدر المنثور” (4/ 192).
قال الهيثمي: “إسناده جيد”. “مجمع الزوائد” (7/ 46).
(1/650)
لإثبات الأخفِّ، لكثرة دَوَرَان (1) الحَلِفِ على ألسنتهم (2).
وأيضًا: فإنَّ “العَمْرَ” حياتُه خُصُوصةً (3)، فهو عُمْرٌ شريفٌ عظيمٌ، أَهْلٌ أنْ يُقْسَمَ به، لمزيَّته على كلِّ عُمْرٍ من أعمار بني آدم.
ولا ريب أنَّ عُمْرَهُ – صلى الله عليه وسلم – له مَزيَّةٌ على عُمْر كلِّ من سواه، والآياتُ التي كانت في عُمْرِه وحياتِهِ من أعظم الآيات، بل عُمْرُهُ وحياتُهُ من أعظم النِّعَمِ والآياتِ، فهو أهلٌ أنْ يُقْسَمَ به، والقَسَمُ به أَوْلَى من القَسَم بغيره من المخلوقات.
وقوله تعالى: {يَعْمَهُونَ (72)}؛ أي: يَتَحَيَّرُون.
وإنَّما وصف الله – سبحانه – اللُّوطِيَّةَ بالسَّكْرة؛ لأنَّ العِشْقَ له (4) سَكْرةٌ مثلُ سَكْرَةِ الخَمْرِ وأشدُّ (5)، كما قال القائل (6):
سُكْرَان: سُكْرُ هَوَىً، وسُكْرُ مُدَامَةٍ … ومتى إفَاقَةُ مَنْ به سُكْرَانِ؟
__________
(1) في جميع النسخ: الدور، وما أثبته أصح.
(2) نقل الزجَّاجُ اتفاقَ أهل اللغة على ذلك. “معاني القرآن” (3/ 183).
(3) في (ح) و (م): حياةٌ مخصوصة.
(4) في (ح) و (م): لأنَّ للعشق سكرة.
(5) ساقط من (ن).
(6) هو: ديكُ الجِنِّ “ديوانه” (194)، ولفظ العجز: أَنَّى يفيقُ …
(1/651)
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65].
أقسم – سبحانه – بنفسِهِ المُقَدَّسَةِ، قَسَمًا مؤكَّدًا بالنفي قبله؛ على عدم إيمان الخَلْق حتَّى يحكِّموا رسوله في كلِّ ما شَجَر بينهم من الأصولِ، والفروع، وأحكامِ الشَّرْع، وأحكامِ المَعَادِ، ومسائِلِ الصِّفَاتِ وغيرِها.
ولم يُثبِتْ لهم الإيمانَ بمُجَرَّدِ هذا التحكيم حتَّى ينتفي عنهم الحَرَجُ، وهو ضيقُ الصَّدْر، فتنشرح صدورُهم لحُكْمِه كلَّ الانشراح، وتَنْفَسِحَ له كلَّ الانْفِسَاح، وتقبَلَهُ كلَّ القبول.
ولم يُثبِتْ لهم الإيمانَ بذلك – أيضًا – حتَّى يَنْضَافَ إليه مُقَابَلَةُ حكمه بالرِّضى والتسليمِ، وعدمِ المُنَازَعةِ، وانتفاءِ المعارضةِ والاعتراض.
فهاهنا ثلاثةُ أمورٍ: التحكيم، وانتفاء الحرج، والتسليم.
فلا يلزم من التحكيم انتفاء الحَرَج؛ إذ (1) قد يحكِّم الرجلُ غيرَهُ وعنده حَرَجٌ من حكمه.
ولا يلزم من انتفاءِ الحَرَج الرِّضا والتسليمُ والانقيادُ؛ إذ قد يحكِّمُه وينتفي الحَرَجُ عنه في تحكيمه، ولكن لا ينقَادُ قلبُه، ولا يرضى كلَّ
__________
(1) من قوله: “ثلاثة أمور: التحكيم. . .” إلى هنا؛ ساقط من (ح) و (م).
(1/652)
الرِّضى بحكمه.
فالتسليمُ أخَصُّ من انتفاءِ الحَرَجِ. فالحَرَجُ مانعٌ، والتسليمُ أمرٌ وجوديٌّ، ولا يلزم من انتفاءِ الحَرَجِ حصولُه بمجرَّدِ انتفائه، إذ قد ينتفي الحَرَجُ ويبقى “القلبُ” فارغًا منه، ومن الرِّضى والتسليمِ، فتأمَّلْهُ.
وعند هذا تعلَمُ أنَّ الرَّبَّ – تبارك وتعالى – أقسَمَ على انتفاء إيمان أكثر الخلق، وعند الامتحان تُعْلَمُ مثل هذه الأمور الثلاثة؛ هل هي (1) موجودةٌ في قلب أكثر من يدَّعي الإسلام أم لا؟
والله – سبحانه – المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله العلي العظيم (2)، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
آخِره؛ والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا دائمًا إلى يوم الدين.
* * *
__________
(1) “هل هي” ساقط من (ح) و (م).
(2) جاء ما بعده في (ح) و (م) هكذا: وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، والحمد لله أوَّلًا وآخرًا كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعِزِّ جلاله.
(1/653)