عطاءات العلمكتب ابن القيمكتب ابن القيم- شاملة - txt

الداء والدواء الجواب الكافي_2

الداء والدواء الجواب الكافي_2

http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
  الكتاب: الداء والدواء [آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (17)]المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 – 751)
حققه: محمد أجمل الإصلاحي
خرج أحاديثه: زائد بن أحمد النشيري
راجعه: سليمان بن عبد الله العمير – علي بن محمد العمران
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الرابعة، 1440 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الصفحات: 573
قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

والجلال أن يأذن في مشاركته في ذلك أو يرضى به؟ تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
فصل
فلما كان الشرك أكبرَ شيء منافاةً للأمر الذي خلق الله له الخلق وأمر لأجله بالأمر كان أكبر الكبائر عند الله.
وكذلك الكبر وتوابعه كما تقدّم، فإنّ الله سبحانه خلق الخلق وأنزل الكتب لتكون الطاعة له وحده، والشرك والكبر ينافيان ذلك.
ولذلك حرّم الله الجنّة على أهل الشرك والكبر، فلا يدخلها (1) من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر (2).
فصل
ويلي ذلك في كبر المفسدة (3): القولُ على الله بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله، ووصفُه بضدّ ما وصف به نفسَه ووصَفَه به رسولُه. فهو (4) أشدُّ شيءٍ مناقضةً ومنافاةً لكمال (5) من له الخلق والأمر، وقدحٌ في نفس الربوبية وخصائص الربّ.
__________
(1) س: “ولا يدخلها”.
(2) كما في الحديث الذي أخرجه مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه في الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه (91).
(3) ف: “مفسدة”.
(4) ف: “فهذا”.
(5) كذا في ف. وفي ز: “لحكمة”. ولم يتضح “لكمال من” في س. وفي ل: “منافاة الخلق”، فأسقط ما بين الكلمتين. وفي خا: “منافاة للخلق”.

(1/329)


فإن صدر ذلك عن علم فهو عناد أقبح من الشرك، وأعظم إثمًا عند الله. فإنّ المشرك المقِرّ بصفات الربّ خير من المعطِّل الجاحد لصفات كماله. كما (1) أنّ من أقرَّ لملِكٍ (2) بالمُلْك، ولم يجحد مُلكه، ولا الصفات التي استحقّ بها الملك، لكن جعل معه شريكًا في بعض الأمور يُقرّبه إليه = خيرٌ ممن جحد (3) صفاتِ الملِك وما يكون به مَلِكًا.
هذا أمر مستقرّ في سائر الفِطَر والعقول. فأين القدح في صفات الكمال والجحدُ لها، من عبادة واسطةٍ بين المعبود الحق وبيّن العابد (4) يتقرَّب إليه بعبادة تلك الواسطة إعظامًا له وإجلالًا؟ فداء التعطيل هو (5) الداء العضال الذي لا دواء له.
ولهذا حكى الله عن إمام المعطلة فرعون أنه أنكر على موسى ما أخبر به من (6) أنّ ربّه فوق السموات، فقال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 – 37]. واحتجّ الشيخ أبو الحسن الأشعري في كتبه على
المعطِّلة بهذه الآية، وقد ذكرنا لفظه في غير هذا الكتاب (7).
والقول على الله بلا علم والشرك متلازمان.
__________
(1) “كما” ساقط من س. وفي ز: “كما ان اقر”.
(2) ف: “للملك”.
(3) ز: “خير من جحد”.
(4) ف: “العبد”.
(5) ف: “هذا”.
(6) “من”: ساقطة من ف.
(7) ز: “هذا الموضع”. وانظر اجتماع الجيوش الإِسلامية (295)، والصواعق المرسلة (1244).

(1/330)


ولما كانت البدع المضِلّة جهلًا بصفات الله وتكذيبًا بما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله (1) عنادًا وجهلًا (2) كانت من أكبر الكبائر -إن (3) قصرت عن الكفر- وكانت أحبَّ إلى إبليس من كبار الذنوب، كما قال بعض السلف: البدعة أحبُّ إلى إبليس من المعصية؛ لأنّ المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها (4). وقال إبليس: أهلكتُ بني آدم بالذنوب، وأهلكوني بالاستغفار وبلا إله إلا الله. فلما رأيت ذلك بثثتُ فيهم الأهواءَ، فهم يذنبون، ولا يتوبون؛ لأنّهم يحسبون أنهم يحسنون صُنْعا! (5)
ومعلوم أنّ المذنب إنما ضرره على نفسه، وأما المبتدع فضرره على النوع. وفتنة المبتدع في أصل الدين، وفتنة المذنب في الشهوة. والمبتدع قد قعد للناس على صراط الله المستقيم يصدَّهم عنه، والمذنب
__________
(1) س: “عنه به رسوله”. وقد سقط “عنه” من ف. وفي ل: “عن رسوله”، خطأ.
(2) ف: “أو جهلًا”.
(3) س: “وإن”، ولكن الظاهر أن الواو زيادة من بعض القرّاء. وهو الذي كتب تحت “الكفر”: “بالتنزّل”.
(4) من كلام سفيان الثوري. أخرجه ابن الجعد في مسنده (1885) واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (238) وأبو نعيم في الحلية (7/ 26) والبيهقي في شعب الإيمان 16/ 482 (9009). وسنده حسن (ز) وانظر مدارج السالكين (1/ 322).
(5) أخرجه أبو يعلى في مسنده (136) وابن أبي عاصم في السنة (7) والهمذاني العطار في فتيا وجوابها في الاعتقاد (11) وغيرهم. وسنده واهٍ، فيه عبد الغفور: متروك الحديث، وكان يضع الحديث. وعثمان بن مطير أيضًا ضعيف. وبه ضعّف الحديث الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 207). (ز) وانظر شفاء العليل (414).

(1/331)


ليس كذلك. والمبتاع قادح في أوصاف الربّ وكماله (1)، والمذنب ليس كذلك. والمبتدع مناقض لما جاء به الرسول، والعاصي ليس كذلك. والمبتدع يقطع على الناس طريقَ الآخرة، والعاصي بطيء السير بسبب ذنوبه.
فصل
ثم لمّا كان الظلم والعدوان منافيًا للعدل الذي قامت به (2) السموات والأرض، وأرسل الله سبحانه رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس به = كان من أكبر الكبائر عند الله، وكانت درجته في العظم بحسب مفسدته في نفسه.
وكان (3) قتلُ الإنسان ولدَه الطفلَ الصغيرَ الذي لا ذنب له، وقد جبل الله سبحانه القلوبَ على رحمته، وعَطَفَها عليه (4)، وخصّ الوالدين من ذلك بمزية ظاهرة، فقتله خشيةَ أن يشاركه في مطعمه ومشربه وماله = من أقبح الظلم وأشدّة. وكذلك قتلُه أبويه الذين كانا سبب وجوده، وكذلك قتله ذا رحمه.
وتتفاوت (5) درجات القتل بحسب قبحه، واستحقاقِ مَن قَتلَه السعيَ (6) في إبقائه ونصيحته. ولهذا كان أشدّ الناس عذابًا يوم القيامة من قتل نبيًّا، أو قتله نبيٌّ. ويليه من قتل إمامًا، أو عالمًا يأمر الناس
__________
(1) س: “الرب سبحانه وتعالى وتقدس”، وسقط منها: “وكماله”.
(2) س، ز: “به قامت”.
(3) ل، ز: “فكان”.
(4) ف: “عليهم”.
(5) ف: “وتفاوت”، وفي ز: “ويتفاوت القتل”.
(6) ف، ل: “للسعي”.

(1/332)


بالقسط، ويدعوهم إلى الله، وينصحهم في دينهم.
وقد جعل الله سبحانه جزاءَ قتل النفس المؤمنة عمدًا الخلودَ في النار، وغضب الجبار، ولعنته، وإعداد العذاب العظيم له (1). هذا موجَب قتل المؤمن عمدًا، ما لم يمنع منه مانع. ولا خلاف أنّ الإِسلام الواقع بعد القتل طوعًا واختيارًا مانع (2) من نفوذ ذلك الجزاء.
وهل تمنع توبة المسلم منه بعد وقوعه؟ (3) فيه قولان للسلف والخلف، وهما روايتان عن أحمد.
والذين قالوا: لا تمنع التوبة من نفوذه، رأوا أنّه حقّ لآدمي لم يستوفه في دار الدنيا، وخرج منها بظلامته، فلابد أن يُستوفَى له في دار العدل.
قالوا: وما استوفاه الوارث وإنّما استوفى محض حقّه الذي خيّره الله بين استيفائه والعفو عنه، وما ينفع المقتولَ من استيفاء وارثه، وأيّ استدراك لظلامته حصل له باستيفاء وارثه؟
وهذا أصحّ القولين في المسألة أن حقّ المقتول لا يسقط باستيفاء الوارث. وهما وجهان لأصحاب أحمد والشافعي وغيرهم.
ورأت طائفة (4) أنه يسقط بالتوبة واستيفاء الوارث، فإنّ التوبة تهدم
__________
(1) كما في قوله تعالى في سورة النساء (93): {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)}.
(2) ما عدا س: “مانعًا”، وقد أصلح في ف.
(3) وانظر مدارج السالكين (1/ 398).
(4) في ل: “رواية ثالثة” مكان “ورأت طائفة”!

(1/333)


ما قبلها، والذنب الذي قد جناه قد أقيم عليه حدّه.
قالوا: وإذا كانت التوبة تمحو أثر الكفر والسحر وما هو أعظم إثمًا (1) من القتل فكيف تقصر عن هو أثر القتل؟ وقد قبل الله توبة الكفّار الذين قتلوا أولياءه، وجعلهم من خيار عباده، ودعا الذين أولياءه (2) وفتنوهم عن دينهم (3) إلى التوبة، وقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53]. فهذه في حق التائب، وهي تتناول الكفر وما دونه.
قالوا: وكيف يتوب العبد من الذنب، ويعاقَب عليه بعد التوبة؟ هذا معلوم انتفاؤه في شرع الله وجزائه.
قالوا: وتوبة هذا المذنب تسليم نفسه، ولا يمكن تسليمها إلى المقتول، فأقام الشارع وليّه مقامَه، وجعل تسليم النفس إليه كتسليمها إلى المقتول، بمنزلة تسليم المال الذي عليه لوارثه، فإنّه يقوم مقام
تسليمه للمورث (4).
والتحقيق في هذه المسألة (5) أنّ القتل يتعلق به ثلاث (6) حقوق: حقّ لله، وحقّ للمقتول، وحقّ للولي. فإذا سلّم القاتل نفسه طوعًا واختيارًا إلى الولي ندمًا على ما فعل، وخوفًا من الله، وتوبةً نصوحًا،
__________
(1) “إثمًا” ساقط من ز.
(2) “وجعلهم … أولياءه” ساقط من ز.
(3) “عن دينهم” ساقط من س.
(4) ز، ل: “للموروث”.
(5) ما عدا س: “في المسألة”.
(6) كذا بتذكير العدد في جميع النسخ.

(1/334)


سقط حقُّ الله بالتوبة، وحقُّ الولي بالاستيفاء أو الصلح أو العفو (1)، وبقي حقّ المقتول يعوّضه الله عنه يوم القيامة عن عبده التائب المحسن، ويصلح بينه وبينه، فلا يذهب حقّ هذا، ولا تبطل توبة هذا.
وأما مسألة المال (2) فقد اختلف فيها، فقالت طائفة: إذا أدى ما عليه من المال إلى الوارث فقد برئ من عهدته في الآخرة، كما بريء منها (3) في الدنيا.
وقالت طائفة: بل المطالبةُ لمن ظلمه بأخذه باقيةٌ عليه يوم القيامة، وهو لم يستدرك ظلامته بأخذ وارثه له، فإنّه منعه من انتفاعه به في طول حياته، ومات ولم ينتفع به. وهذا ظلم لم يستدركه هو، وإنما انتفع غيره باستدراكه.
وبنوا على هذا أنه لو انتقل من واحد إلى واحد وتعدّد الورثة كانت المطالبة به للجميع؛ لأنّه حق كان يجب عليه دفعه إلى كل واحد منهم عند كونه هو الوارث. وهذا قول طائفة من أصحاب مالك وأحمد.
وفصل شيخنا بين الطائفتين، فقال: إن تمكن الموروث (4) من أخذ ماله والمطالبة به فلم يأخذه حتى مات صارت المطالبة به للوارث في الآخرة، كما هي كذلك في الدنيا. وإن لم يتمكن من طلبه وأخذه بل حال بينه وبينه ظلمًا وعدوانًا فالطلب له في الآخرة.
__________
(1) ف: “والصلح والعفو”.
(2) وانظر مدارج السالكين (1/ 391).
(3) ل: “تبرأ منه”.
(4) س: “المورث”.

(1/335)


وهذا التفصيل من أحسن ما يقال، فإنّ المال إذا استهلكه الظالم على الموروث، وتعذّر عليه أخذه منه، صار بمنزلة عبده الذي قتله قاتل، ودارِه التي أحرقها غيرُه، وطعامِه وشرابه الذي أكله وشربه غيرُه.
ومثل هذا إنما تلف على الموروث (1) لا على الوارث، فحقُّ المطالبة لمن تلِفَ على ملكه.
بقي (2) أن يقال: فإذا كان المال عقارًا أو أرضًا أو أعيانًا (3) قائمةً باقيةً بعد الموت، فهي ملك للوارث (4)، يجب على الغاصب دفعها إليه كلّ وقت (5). فإذا لم يدفع إليه أعيان ماله استحقّ المطالبة بها عند الله، كما يستحق المطالبة (6) بها في الدنيا.
وهذا سؤال قوي لا مخلص منه إلا بأن يقال: المطالبة لهما (7) جميعًا، كما لو غصب مالًا مشتركًا بين جماعة استحقّ كل منهم المطالبة بحقّه منه، وكما لو استولى على وقف مرتّب على بطون، فأبطل حقّ البطون كلّهم منه، كانت المطالبة يوم القيامة لجميعهم، ولم يكن بعضهم أولى بها (8) من بعض. والله أعلم.
__________
(1) س: “المورث”.
(2) ما عدا ف: “فبقي”.
(3) ل، ز: “وأرضًا وأعيانًا”.
(4) ف: “الموروث”.
(5) ز: “في كل وقت”.
(6) كلمة “المطالبة” ساقطة من ف.
(7) ز: “بهما”، خطأ.
(8) “بها” ساقط من ف.

(1/336)


فصل
ولما كانت مفسدة القتل هذه المفسدة (1) قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)} [المائدة: 32].
وقد أشكل فهم هذا (2) على كثير من الناس، وقالوا: معلوم أنّ إثمَ قاتلِ مائةٍ أعظمُ عند الله من إثم قاتل نفس واحدة. وإنّما أُتوا من ظنّهم أنّ التشبيه في مقدار الإثم والعقوبة، واللفظُ لم يدلّ على هذا، ولا يلزم من تشبيه الشيء بالشيء أخذُه بجميع أحكامه.
وقد قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)} [النازعات: 46] وقال: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)} [الأحقاف: 35]. وذلك لا يوجب أنّ (3) لبثهم في الدنيا إنّما كان هذا المقدار.
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “من صلّى العشاءَ في جماعةٍ فكأنما قام نصف الليل، ومن صلّى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كلَّه” (4)، أي مع العشاء، كما جاء في لفظ آخر (5).
__________
(1) س: “هذا المفسدة”.
(2) س: “وقد أشكل ذلك”.
(3) “أن” ساقطة من ل، ز.
(4) من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه. أخرجه مسلم في المساجد، باب فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة (656).
(5) ساقه أحمد في المسند 1/ 57 (408) بلفظ “من صلى صلاة العشاء والصبح في =

(1/337)


وأصرح من هذا قوله: “من صام رمضان وأتبعه ستًا من شوال فكأنما صام الدهر” (1)، وقوله: “من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} فكأنما قرأ ثلث القرآن” (2).
ومعلوم أنّ ثواب فاعل هذه الأشياء لم يبلغ ثواب المشبَّه به، فيكونَ قدرهما سواءً. ولو كان قدرُ الثواب سواءً لم يكن لمصلي العشاء والفجر جماعةً (3) منفعة في قيام الليل غير التعب والنصب.
وما أوتي عبدٌ بعد الإيمان أفضلَ من الفهم عن الله ورسوله، وذلك فضل الله يوتيه من يشاء.
فإن قيل: ففي أيّ شيء وقع التشبيه بين قاتل نفس واحدة وقاتل الناس جميعًا؟
__________
= جماعة فهو كقيام ليلة”.
(1) ف: “الدهر كله”. والحديث أخرجه مسلم عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه في الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال (1164).
(2) ثبت ذلك في حديث أبي الدرداء عند مسلم (811) بلفظ: “أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن؟ قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} تعدل ثك القرآن”.
وعن أبي هريرة عند مسلم أيضًا (812) نحوه. وعن أبي سعيد الخدري عند البخاري (5015) نحوه.
وباللفظ الوارد عند المصنف أخرجه أحمد في المسند 5/ 141 (21275) وأبو عبيد في فضائل القرآن (143 – 144) والضياء في المختارة (1239، 1240) عن أبي بن كعب أو عن رجل من الأنصار. وأخرجه الترمذي (2896) عن أبي أيوب وقال: هذا حديث حسن.
(3) ف: “الفجر والعشاء في جماعة”.

(1/338)


قَيل: في وجوه متعددة:
أحدها: أنّ كلًّا (1) منهما عاص لله ورسوله، مخالف (2) لأمره، متعرّض لعقوبته. وكلّ منهما قد باء بغضب الله (3)، ولعنته، واستحقاق الخلود في نار جهنم، وأعدّ له عذابًا عظيمًا، وإن تفاوتت دركات العذاب، فليس إثم من قتل نبيًّا أو إماما عادلًا أو عالمًا يأمر الناس بالقسط كإثم من قتل من لا مزية له (4) من آحاد الناس.
الثاني: أنهما سواء في استحقاق إزهاق النفس.
الثالث: أنهما سواء في الجراءة على سفك الدم الحرام، فإنّ من قتل نفسًا بغير استحقاق، بل لمجرّد الفساد في الأرض أو لأخذ ماله، فإنّه يتجرّأ على قتل كل (5) من ظفر به، وأمكنه قتلُه، فهو مُعادٍ للنوع الإنساني.
ومنها (6): أنّه يسمَّى قاتلًا أو فاسقًا أو ظالمًا أو (7) عاصيًا بقتله واحدًا، كما يسمّى كذلك بقتله الناس جميعًا.
ومنها: أنّ الله سبحانه جعل المؤمنين (8) في توادّهم وتراحمهم
__________
(1) ف: “كل واحد”.
(2) س: “ومخالف”.
(3) ل: “من الله”.
(4) ف: “قتل شخصًا لا مزية له”. وفي ز: “من لا يؤبه له”.
(5) لفظة “كل” ساقطة من ل.
(6) وقع في س مكان “ومنها”: “الرابع وأنهما سواء في الجزاء” كذا!
(7) في ل، ز واو العطف مكان “أو” في المواضع الثلاثة.
(8) س: “المسلمين”.

(1/339)


وتواصلهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو (1) تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر (2). فإذا أتلف القاتل من هذا الجسد عضوًا، فكأنّما أتلف سائر الجسد، وآلم جميع أعضائه. فمن آذى مؤمنًا واحدًا، فكأنّما آذى جميع المؤمنين. ومن آذى جميع المؤمنين آذى جميع الناس (3)، فإنّ الله إنّما يدفع عن الناس بالمؤمنين الذين بينهم، فإيذاء الخفير إيذاء المخفر (4).
وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “لا تقتلُ نفسٌ ظلمًا بغير حقّ إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ من دمها (5)؛ لأنّه أول من سنّ القتل” (6). ولم يجئ هذا الوعيد في أوّل زانٍ، ولا أوّل سارق، ولا أول شارب مسكرِ (7)؛ وإن كان أولُ المشركين قد يكون أولى بذلك من أول قاتلَ؛ لأنه أول من سنّ الشرك. ولهذا رأى النبي – صلى الله عليه وسلم – عمرو بن لُحَيّ يعذَّب أعظمَ العذاب في النار؛ لأنّه أول من غيّر دين إبراهيم (8).
__________
(1) ل: “عضو واحد”.
(2) كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، أخرجه البخاري في الأدب، باب رحمة الناس والبهائم (6011)، ومسلم في البرّ والصلة، باب تراحم المؤمنين (2586).
(3) ما عدا س: “وفي أذى جميع المؤمنين أذى … “.
(4) ف، ل: “الحقير … المحقر”، تصحيف.
(5) ف، ز: “من دمه”.
(6) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم وذريته (3335)، ومسلم في القسامة، باب بيان إثم من سنّ القتل (1677).
(7) ز: “شارب خمر”.
(8) كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه البخاري في المناقب، باب =

(1/340)


وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة: 41]، أي فيقتدي بكم مَن بعدكم، فيكون إثم كفره عليكم. وكذلك حكم من سنّ سنةً سيئة فاتّبعَ عليها.
وفي جامع الترمذي (1) عن ابن عباس عن النبي – صلى الله عليه وسلم -قال: “يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة، ناصيته ورأسه بيده، وأوداجه تشخُب دمًا، يقول: يا رب سَلْ هذا: فيمَ قتلني؟ ” فذكروا لابن عباس التوبة، فتلا (2)
__________
= قصة خزاعة (3521)؛ ومسلم في كتاب الجنّة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون … (2856).
(1) برقم (3029). وأخرجه النسائي (4005) من طريق ورقاء ومحمد بن ثابت العبدي كلاهما عن عمرو بن دينار عن ابن عباس فذكره.
ورواه عمار الدهني وغيره عن سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس بنحوه.
أخرجه النسائي (3999) وابن ماجه (2621) وأحمد (2683،1941) والطبراني (12597) وغيرهم.
قال الحافظ ابن حجر في موافقة الخُبْر الخَبَر (2/ 334): “هذا حديث صحيح”. قلت: سالم بن أبي الجعد كثير الإرسال وهل سمع من ابن عباس أم لا؟ وانظر تخريجه في سنن سعيد بن منصور- تفسير (4/ 1319).
ورواه سعيد بن جبير عن ابن عباس في أن الآية لم ينسخها شيء، ولم يذكر المتن المرفوع: “يجيء القاتل بالمقتول … “. أخرجه البخاري (4314، 4485 – 4488)، ومسلم (3023).
ورواه أبو معاوية البجلي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفًا قال: يأتي المقتول يوم القيامة آخذًا رأسه بيمينه، وأوداجه تشخب دمًا يقول: يا ربِّ دمي عند فلان فيؤخذان فيسندان إلى العرش، فما أدري ما يقضي بينهما، ثم نزع بالآية وذكر بقية الحديث. أخرجه الطبري (5/ 220).
(2) “التوبة فتلا” ساقط من ف.

(1/341)


هذه الآية {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُ} [النساء: 93]، ثم قال: ما نسخت هذه الآية ولا بدّلت، وأنّى له التوبة! قال الترمذي (1): هذا حديث حسن.
وفيه أيضًا (2) عن نافع قال: نظر عبد الله بن عمر يومًا (3) إلى الكعبة، فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك! والمؤمن أعظم عند الله (4) حرمةَ منك. قال الترمذي (5): هذا حديث حسن.
وفي صحيح البخاري (6) عن جُندَب (7) قال: أول ما يُنتِن من
__________
(1) “الترمذي” من ف وحدها. وفيها بعد قوله: “حديث حسن”: “متفق عليه”!
(2) برقم (2032) وفي أوله متن مرفوع. وأخرجه ابن حبان 13/ 75 (5763) وأبو الشيخ الأصبهاني في التنبيه والتوبيخ (95) -ولم يذكر الموقوف- والبغوي في شرح السنة 13/ 104 (3526) وغيرهم من طريق الحسين بن واقد عن أوفى بن دلهم عن نافع به. قال الترمذي: “هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسين بن واقد … “.
والحديث تفرد به أيضًا أوفى بن دلهم عن نافع، ولم يروه أصحاب نافع مع أن أوفى بصري ونافعًا مدني.
وقد ورد عن ابن عمر مرفوعًا. أخرجه ابن ماجه (3932) والطبراني في مسند الشاميين 2/ 396 (1568) ولا يصح.
وورد أيضًا من طريق مجاهد وطاوس عن ابن عباس مرفوعًا، أخرجه الطبراني ( 11/ 37 ) وغيره. وروي أيضًا عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس موقوفًا، أخرجه ابن أبي شيبة 5/ 434 (27745).
(3) “يومًا” ساقط من ز.
(4) “عند الله” لم يرد في ف، ل.
(5) “الترمذي” من ف وحدها.
(6) أخرجه البخاري في الأحكام، باب من شاق شقّ الله عليه (7152).
(7) ف: “سمرة بن جندب”. وهو خطأ، فإن الحديث المذكور عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.

(1/342)


الإنسان بطنُه. فمن استطاع منكم أن لا يأكل إلا طيِّبًا فليفعل، ومن استطاع أن لا يحول بينه وبيّن الجنّة ملءُ كفّ من دمٍ أهراقه فليفعل”.
وفي صحيحه أيضًا (1) عن ابن عمر قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصِبْ دمًا حرامًا”.
وذكر البخاري (2) أيضًا عن ابن عمر قال: “من (3) ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسَه فيها (4): سفكُ الدم الحرام بغير حِلّه”.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة (5) يرفعه (6): “سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر”.
وفيهما أيضًا (7) عنه – صلى الله عليه وسلم -: “لا ترجعوا بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض”.
__________
(1) في كتاب الديات، باب قول الله تعالى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} (6862).
(2) في كتاب الديات (6863).
(3) “من” ساقطة من ف.
(4) ز: “فيها نفسه”.
(5) “عن أبي هريرة” كذا في جميع النسخ. والحديث الوارد في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه. أخرجه البخاري في الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر (48)؛ ومسلم في الإيمان (64). أما حديث أبي هريرة، فقد أخرجه ابن ماجه في الفتن (3940).
(6) “يرفعه” ساقط من ز.
(7) من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه وغيره. أخرجه البخاري في كتاب الفتن (7077 – 7080)؛ ومسلم في كتاب الإيمان (65 – 66).

(1/343)


وفي صحيح البخاري (1) عنه – صلى الله عليه وسلم -: “من قتل معاهَدًا لم يَرَحْ رائحة الجنّة، وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا”.
هذه (2) عقوبة قاتل (3) عدو الله إذا كان في عهده وأمانه (4)، فكيف عقوبة قاتل عبده المؤمن؟
وإذا كانت امرأة قد دخلت النار في هرّةٍ حبسَتْها حتى ماتت جوعًا وعطشًا، فرآها النبي – صلى الله عليه وسلم – في النار، والهرّةُ تخدِشها في وجهها وصدرها (5)، فكيف عقوبة من حبس مؤمنًا حتى مات بغير جرم؟
وفي بعض السنن (6) عنه – صلى الله عليه وسلم -: “لَزوالُ الدنيا أهونُ على الله مِن قتلِ __________
(1) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. أخرجه في كتاب الجزية والموادعة، باب إثم من قتل معاهدًا بغير جرم (3166).
(2) ف: “هذا”.
(3) كلمة “قاتل” ساقطة من ز.
(4) ل: “أمانته”. ف: “في عهدٍ وأمانةٍ”.
(5) سبق تخريج الحديث في ص (75).
(6) أخرجه النسائي (3990) وابن أبي عاصم في الديات (8) وابن عدي في الكامل (2/ 21) وغيرهم من طريق بشير بن المهاجر عن ابن بُريدة عن أبيه رفعه: “قتل المؤمن أعظم عند الله عَزَّ وَجَلَّ من زوال الدنيا”. وفيه بشير بن المهاجر الغنوي، فيه ضعف.
وورد عن البراء، أخرجه ابن ماجه (2619) وابن أبي عاصم في الديات (7) وابن عدي في الكامل (3/ 145) وغيرهم من طريق روح بن جناح عن أبي الجهم مولى البراء عن البراء فذكره. فيه روح بن جناح، فيه ضعف. انظر تهذيب الكمال (9/ 234).
وورد عن عبد الله بن عمرو بن العاص. أخرجه الترمذي (1395) والنسائي (3987) وابن أبي عاصم في الديات (5) وغيرهم من طريق محمَّد بن أبي عدي عن شعبة عن يعلي بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو فذكره مرفوعًا. =

(1/344)


مؤمنٍ بغير حقّ”.
فصل
ولما كانت مفسدة الزنى من أعظم المفاسد، وهي منافية لمصلحة نظام العالم في حفظ الأنساب، وحماية الفروج، وصيانة الحرمات، وتوقّي ما يُوقع أعظمَ العداوة والبغضاء بين الناس من إفساد كل منهم امرأة صاحبه وابنته وأخته وأمّه، وفي ذلك خراب العالم = كانت تلي مفسدة القتل في الكبر. ولهذا قرنها الله سبحانه بها (1) في كتابه، ورسوله بها في سنته (2)، كما تقدّم.
قال الإِمام أحمد: ولا أعلم بعد قتل النفس شيئًا أعظم من الزنى (3).
وقد أكد سبحانه حرمته بقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 68 – 70]، فقرن الزنى بالشرك وقتل النفس، وجعل جزاءَ ذلك الخلودَ في العذاب المضاعف (4) مالم يرفع (5) العبد موجب
__________
= قال البخاري: “الصحيح عن عبد الله بن عمرو موقوف”.
وهذا الموقوف سنده لا بأس به. فيه عطاء العامري والد يعلى، تابعي لم يرو عنه غير ابنه، وذكره ابن حبان في الثقات. انظر تهذيب الكمال (20/ 133) وتاريخ خليفة بن خياط (218).
(1) “بها” ساقط من ز.
(2) س: “سننه”.
(3) تقدم في ص (261).
(4) س: “المتضاعف”.
(5) ف: “لم يرفع”.

(1/345)


ذلك (1) بالتوبة والإيمان والعمل الصالح.
وقال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)} [الإسراء: 32]، فأخبر عن فحشه في نفسه، وهو القبيح الذي قد تناهى قبحه حتى استقرّ فحشه في العقول حتى عند كثير من الحيوان، كما ذكر البخاري في صحيحه (2) عن عمرو بن ميمون الأودي قال: “رأيتُ في الجاهلية قردًا (3) زنى بقردة، فاجتمع القرود عليهما، فرجموهما حتى ماتا”. ثم أخبر عن غايته بأنه ساء سبيلًا، فإنّه سبيل هلكةٍ وبوارٍ وافتقار في الدنيا، وسبيلُ عذابٍ وخزيٍ ونكالٍ في الآخرة.
ولمّا كان نكاح أزواج الآباء من أقبحه خصّه بمزيد ذمّ، فقال: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)} [النساء: 22].
وعلّق سبحانه فلاح العبد على حفظ فرجه منه، فلا سبيل له إلى الفلاح بدونه، فقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)} [المؤمنون: 1 – 7].
وهذا يتضمن ثلاثة أمور (4): أنّ من لم يحفظ فرجه لم يكن من
__________
(1) س: “موجبة ذلك”.
(2) أخرجه في مناقب الأنصار، باب القسامة في الجاهلية (3849) ولفظه: “رأيت في الجاهلية قِرْدةً اجتمع عليها قِرَدة قد زنت، فرجموها، فرجمتُها معهم”.
وانظر روضة المحبين (499)، وفتح الباري (7/ 160).
(3) ف. “كان” بدلًا من “رأيت في الجاهلية قردًا”.
(4) ف: “ثلاث أمور”.

(1/346)


المفلحين، وأنّه من الملومين، ومن العادين. ففاته الفلاح، واستحقّ اسم العدوان، ووقع في اللوم. فمقاساةُ ألم الشهوة ومعاناتُها أيسر من بعض ذلك.
ونظير هذا (1) أنّه سبحانه ذمّ الإنسان، وأنّه خُلِقَ هلوعًا لا يصبر على سرّاء ولا ضرّاء (2)، بل إذا مسّه الخير منَعَ وبخِلَ، وإذا مسّه الشرُّ جزعَ، إلا من استثناه بعد ذلك من الناجين من خلقه، فذكر منهم: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)} [المعارج: 29 – 31].
وأمر تعالى (3) نبيّه – صلى الله عليه وسلم – أن يأمر المؤمنين بغضّ أبصارهم وحفظ فروجهم، وأن يُعلِمَهم أنّه مشاهد لأعمالهم (4)، مطلع عليها (5)، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)} [غافر: 19]. ولمّا كان مبدأ ذلك من قبل البصر جعل الأمرَ بغضّه مقدمًا على حفظ الفرج، فإنّ الحوادث مبداها من النظر، كما أنّ معظم النار من مستصغَر الشرر (6). فتكون نظرة، ثم خطرة، ثم خطوة، ثم خطيئة.
ولهذا قيل: من حفظ هذه الأربعة أحرز دينَه: اللحظات، والخطرات، واللفظات، والخطوات. فينبغي للعبد أن يكون بوّاب نفسه على هذه الأبواب الأربعة، ويلازم الرباط على ثغورها، فمنها يدخل
__________
(1) “هذا” ساقط من س.
(2) ف: “ولا على ضرّاء”.
(3) س: “الله تعالى”.
(4) س، ل: “شاهد أعمالهم”.
(5) ز: “يطلع عليها”.
(6) اقتباس من البيت الآتي بعد قليل.

(1/347)


عليه العدوّ، فيجوس خلال الديار، ويتبّر ما عَلا (1) تتبيرًا!
فصل

وأكثر ما تدخل (2) المعاصي على العبد من هذه الأبواب الأربعة، فنذكر في كل واحد منها فصلًا يليق به: فأما اللحظات فهي رائد الشهوة ورسولها (3)، وحفظها أصلُ حفظ الفرج. فمن أطلق بصره أورده موارد الهلَكات.
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “لا تُتْبعِ النظرةَ النظرةَ، فإنّما لك الأولى، وليست لك الآخِرة (4) ” (5).
وفي المسند (6) عنه – صلى الله عليه وسلم -: “النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، __________
(1) ز: “علوا”. ف: “ويتبروا ما علوا”.
(2) س، ز: “يدخل”.
(3) س: “رائد الشهوة وقائدها”.
(4) ف: “الأخرى”.
(5) أخرجه أبو داود (2149) والترمذي (2777) وأحمد 5/ 353،352 (22974، 22991) وغيرهم من طريق شريك القاضي عن أبي ربيعة الإيادي عن ابن بريدة عن أبيه.
ورواه شريك مرةً فقال: عن أبي ربيعة وأبى إسحاق عن عبد الله بن بُريدة عن أبيه فذكره. أخرجه أحمد 5/ 357 (23021).
قلت: شريك ساء حفظه بعد توليه القضاء، وذِكْره أبا إسحاق وهم منه.
وفيه أبو ربيعة الإيادي، واسمه عمر بن ربيعة. وثقه ابن معين. وقال أبو حاتم: “منكر الحديث”. فالحديث ضعيف الإسناد.
وجاء من طريق آخر، ولا يثبت. انظر الصيام من شرح العمدة لابن تيمية (1/ 306).
(6) كذا في بدائع الفوائد (817) أيضًا. وفي س: “السنن”. وفي ف: “الحديث” =

(1/348)


فمن غضّ بصره عن محاسن امرأةٍ لله (1) أورث الله قلبه (2) حلاوةَ إلى يوم يلقاه”. هذا معنى الحديث.
وقال: “غُضّوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم” (3).
__________
= (ص). لم أقف عليه في المسند. والحديث أخرجه الحاكم 4/ 349 (7875) والقضاعي في مسند الشهاب (292) من طريق إسحاق بن عبد الواحد القرشي عن هشيم عن عبد الرحمن بن إسحاق عن محارب بن دثار عن صلة بن زفر عن حذيفة مرفوعًا فذكره. قال الحاكم: “هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه” فتعقبه الذهبي بقوله: “إسحاق واهٍ، وعبد الرحمن هو الواسطي ضعّفوه”.
ورواه عبد الرحمن بن إسحاق مرة فجعله من مسند ابن مسعود، ومرة جعله من مسند ابن عمر، ومرة من مسند علي بن أبي طالب. انظر معجم الطبراني (10/ 10362) ومسند الشهاب (293) وذم الهوى لابن الجوزي (116).
والحديث مداره على عبد الرحمن بن إسحاق وهو ضعيف. انظر مجمع الزوائد (8/ 63).
(1) “لله” لم يرد في س.
(2) ف: “في قلبه”.
(3) أخرجه أحمد 5/ 323 (22757) وابن حبان (271) والحاكم 4/ 399 (8066) وغيرهم من طريق عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن عبد الله عن عبادة بن الصامت رفعه: “اضمنوا لي ستًا من أنفسكم أضمن لكم الجنّة … “. قال الحاكم: “هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه”. فتعقبه الذهبي بقوله: “فيه إرسال، وشاهده … ” ثم ذكر حديث أنس.
قلت: المطلب لم يسمع من عبادة، فقد قال أبو حاتم: “لم يسمع من جابر”.
وجابر توفي سنة 72 هـ، وعبادة توفي سنة 34 هـ وقيل بعدها. بل قال البخاري والدارمي: لا نعرف للمطلب بن حنطب سماعًا من أحد من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم -.
والحديث أعلّه بالانقطاع المنذري والذهبي والهيثمي. انظر تهذيب الكمال (28/ 84) والترغيب والترهيب (3/ 64) ومجمع الزوائد (4/ 145).
وروي من حديث أنس، ولا يثبت.

(1/349)


وقال: “إيّاكم والجلوس على الطرقات”. قالوا: يا رسول الله، مجالسُنا ما لنا منها بد. قال: “فإن كنتم لابدّ فاعلين، فأعطوا الطريق حقه لا. قالوا: وما حقّه؟ قال: “غضّ البصر، وكفّ الأذى، وردّ
السلام” (1).
والنظر أصل عامّة الحوادث التي تصيب الإنسان، فإنّ النظرة تولّد خطرةً، ثم تولّد الخطرة فكرةً، ثم تولّد الفكرة شهوةً، ثم تولّد الشهوة إرادةً، ثم تقوى فتصير عزيمةً جازمةً، فيقع الفعل، ولا بدّ، ما لم يمنع منه مانع.
وفي هذا (2) قيل: الصبر على غضّ البصر (3) أيسرُ من الصبر على ألم ما بعده (4).
قال (5) الشاعر:
كلُّ الحوادث مبداها من النظرِ … ومعظمُ النار من مستصغَر الشررِ
كم نظرةٍ بلغت من قلب صاحبها … كمبلغ السهم بين القوس والوتَرِ (6)
__________
(1) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. أخرجه البخاري في المظالم، باب أفنية الدور … (2465)؛ ومسلم في اللباس والزينة (2121).
(2) ز: “ومن هذا”.
(3) ف، ز: “غض الطرف”. وسقط “أيسر من الصبر” من ل.
(4) “الصبر على غضّ … بعده” ساقط من س. ونقل المؤلف في عدة الصابرين (40) خطبة للحجاج جاء فيها: “الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه”. وانظر نحوه لزياد مولى ابن عياش في ذم الهوى (61).
(5) ف: “وقد قال”.
(6) ل:
كم نظرة فعلت في قلب صاحبها … فعل السهام بلا قوس ولا وتر =

(1/350)


والعبد ما دام ذا طَرْفٍ يقلّبه … في أعين العِين موقوفٌ على الخطرِ (1)
يسرّ مقلتَه ما ضرَّ مهجتَه … لا مرحبًا بسرورٍ عاد بالضررِ (2)
ومن آفات النظر: أنّه يورث الحسرات والزفرات والحرقات، فيرى العبد (3) ما ليس قادرًا عليه ولا صابرًا عنه. وهذا من أعظم العذاب أن ترى ما لا صبر لك عن بعضه، ولا قدرة لك على بعضه (4).
قال الشاعر:
وكنتَ متى أرسلتَ طرفَك رائدًا … لقلبك يومًا أتعبتك المناظرُ
رأيتَ الذي لا كلُّه أنت قادرٌ … عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ (5)
وهذا البيت يحتاج إلى شرح. ومراده أنك ترى ما لا تصبر عن شيء منه، ولا تقدر على شيء منه. فإنّ قوله: “لا كلّه أنت قادر عليه” نفيٌ لقدرته على الكلّ، التي لا تنتفي إلا بنفي القدرة عن كلّ واحد.
__________
= وكذا في بدائع الفوائد (1212). وفيه (817) وفي روضة المحبين (194): “فتكت في قلب صاحبها فتك السهام”.
(1) ف: “أعين الغِيد”، وكذا في روضة المحبين. وفيه: “والمرء ما دام ذا عين يقلبها”.
(2) هذا البيت انفردت به ف. والأبيات الأربعة في روضة المحبين، والبيتان الأخيران منها في المدهش (296).
(3) ف: “فالعبد يرى”.
(4) ل: “لك عليه”، وأشير في حاشية س إلى هذه النسخة.
(5) أوردهما المؤلف في بدائع الفوائد (817)، وروضة المحبين (343،194)، وإغاثة اللهفان (104). والبيتان في حماسة أبي تمام دون عزو. انظر شرح المرزوقي (1238).

(1/351)


وكم ممن أرسل لحظاته، فما أقلعت إلا وهو يتشحّط بينهن (1) قتيلًا، كما قيل:
يا ناظرًا ما أقلعتْ لحظاتُه … حتّى تشحّط بينهن قتيلُ (2)
ولي من أبيات (3):
ملّ السلامةَ فاغتدت لحظاتُه … وقفًا على طللٍ يُظَنّ جميلا (4)
ما زال يُتبِع إثرَه لحظاتِه … حتى تشحّط بينهن قتيلا (5)
ومن العجب أن لحظة الناظر سهم لا يصل إلى المنظور إليه حتى يتبوأ مكانًا من قلب الناظر (6). ولي من قصيدة:
__________
(1) ف: “بينهم”، خطأ. وانظر روضة المحبين (204).
(2) “بينهن” ساقط من س. ووقع فيما عدا ز: “قتيلًا” بالنصب. وهو خطأ، فإن البيت من مقطوعة مضمومة الروي لأبي نواس في ديوانه (255). وانظر مصارع العشاق (2/ 11) وقد لهج المؤلف بقوله: “تشحط بينهن قتيل” فضمنه كلامه نثرًا ونظمًا، كما هنا، وفي المدارج (1/ 369)، والروضة (204).
وانظر التعليق على البيتين الآتيين.
(3) “ولي من أبيات” ساقط من ل.
(4) ف: “يلوح جميلًا”.
(5) أنشد المؤلف في الروضة (206) بيتين آخرين من “قول الناظم” -ولعله يعني نفسه-:
نظرُ العيون إلى العيون هو الذي … جعل الهلاكَ إلى الفؤاد سبيلا
ما زالت اللحظات تغزو قلبه … حتى تشحّط بينهن قتيلا
وأورد في الصواعق (980) 25 بيتًا -يرجح أنها من شعره- على الرويّ نفسه ليس منها البيتان المذكوران هنا، إلَّا أن البيت الثاني من بيتي الروضة يوجد ضمنها، وقد وضع فيه “الشبهات” مكان “اللحظات”.
(6) “ومن العجب … الناظر” ساقط من ف.

(1/352)


يا راميًا بسهام اللحظ مجتهدًا … أنتَ القتيلُ بما تَرمي فلا تُصِبِ
وباعثَ الطرْفِ يرتاد الشفاءَ له … احبِسْ رسولك لا يأتيك بالعطب (1)
وأعجب من ذلك أنّ النظرة تجرح القلبَ، فيتبعُها جرحًا على جرح، ثم لا يمنعه ألمُ الجراحة من استدعاء تكرارها. وَلي أيضًا في هذا المعنى:
ما زلتَ تُتبِعُ نظرةً في نظرةٍ … في إثر كلِّ مليحةٍ ومليحِ
وتظنّ ذاك دواءَ جرحك وَهْو في التـ … ـحقيق تجريحٌ على تجريحِ
فذبحتَ طرفَك باللِّحاظِ وبالبكا … فالقلبُ منك ذبيحٌ ايُّ ذبيحِ (2)
وقد قيل: حبسُ اللحَظاتِ أيسرُ من دوام الحسَرات (3).
فصل
وأما الخطرات فشأنها أصعب، فإنّها مبدأ الخير والشرّ، ومنها تتولّد الإرادات والهمم والعزائم. فمن راعى خطراتِه ملَكَ زمامَ نفسه، وقهر هواه. ومن غلبته خطراتُه فهواه ونفسه له أغلَب، ومن استهان
بالخطرات قادته قسرًا إلى الهلكات.
ولا تزال الخطرات تتردّد على القلب حتى تصير مُنًى باطلة:
__________
(1) س: “احبس بريدك”. والبيتان في الروضة (195) وفيه: “توقّه إنه يأتيك”، وضمن أبيات في البدائع (818)، وفيه: “توقّه إنّه يرتدّ”.
(2) س: “وذبحت” وفي حاشيتها أشير إلى هذه النسخة. وفيها أيضًا: “ذبيح ابن ذبيح”. وفي ل: “مثل ذبيح بن ذبيح” وكلاهما تحريف.
(3) وسيأتي الكلام على فوائد غضّ البصر في ص (416).

(1/353)


{كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)} [النور: 39].
وأخسُّ الناس همّة وأوضعهم نفسًا من رضي من الحقائق بالأماني الكاذبة، واستجلبها (1) لنفسه، وتحلّى بها، وهي -لعمر الله- رؤوس أموال المفلسين، ومتاجر البطّالين. وهي قوت النفس (2) الفارغة التي قد قنعت من الوصل بزَورة الخيال، ومن الحقائق بكواذب الآمال، كما قال الشاعر:
مُنىً إنْ تكن حقًّا تكن أحسن المُنَى … وإلا فقد عِشْنا بها زمنًا رَغْدَا (3)
وهي أضرُّ شيء على الإنسان، وتتولّد من العجز والكسل، وتولّد التفريط والحسرة والندم. والمتمنّي (4) لمّا فاته مباشرةُ الحقيقة بحسّه نحَتَ (5) صورتَها في قلبه، وعانقها، وضمّها إليه، فقنع بوصال صورةٍ وهميةٍ خياليّة (6) صوّرها فكرُه، وذلك لا يُجدي عليه شيئًا، وإنما مثله مثل الجائع والظمآن يصوّر في وهمه صورةَ الطعام والشراب، وهو يأكل ويشرب.
__________
(1) ف: “واستحلاها”. ل: “واستحلها”.
(2) ف: “قوت النفوس”.
(3) لرجل من بني الحارث. شرح الحماسة للمرزوقي (1413). وهو محرف في س.
(4) ما عدا ف: “التمني”.
(5) س، ل: “بجسمه تحت”. و”تحت” تصحيف. وهي غير منقوطة في ز.
(6) ل، ز: “خالية”، تحريف.

(1/354)


والسكون إلى ذلك واستحلاؤه (1) يدلّ على خساسة النفس ووضاعتها، وإنّما شرف النفس وزكاتها وطهارتها وعلوّها بأن ينفي عنها كلَّ خطرة لا حقيقة لها، ولا يرضى أن يخطرها بباله، ويأنف لنفسه منها.
ثمّ الخطراتُ بعدُ أقسامٌ تدور على أربعة أصول:
خطرات يستجلِب بها منافعَ دنياه.
وخطرات يستدفع بها مضارَّ دنياه.
وخطرات يستجلب بها مصالح (2) آخرته.
وخطرات يستدفع بها مضارّ آخرته.
فَلْيحصر (3) خطراته وأفكاره وهمومه في هذه الأقسام الأربعة. فإذا انحصرت له فيها (4)، فما أمكن اجتماعه منها لم يتركه لغيره. وإذا تزاحمت عليه الخطرات لِتزاحُمِ متعلّقاتها قدّم الأهمَّ الذي يخشى فوته وأخّر الذي ليس بأهمَّ ولا يخاف (5) فوته.
بقي قسمان آخران: أحدهما مهمّ لا يفوت. والثاني غير مهمّ، ولكنه يفوت. ففي كلّ منهما ما يدعو إلى تقديمه، فهنا يقع التردد والحيرة. فإن قدّم المهمَّ خشي فواتَ ما دونه، وإن قدّم ما دونه فاته
__________
(1) ما عدا ف: “استجلابه”.
(2) س: “منافع”، وفي حاشيتها: “خ مصالح”.
(3) ف: “فليخطر”. س، ل: “فليحضر”.
(4) س: “انحضرت له منها”.
(5) س: “ولا يخشى”، وفي حاشيتها: “خ لا يخاف”.

(1/355)


الاشتغال به عن المهم.
وكذلك (1) يعرض له أمران لا يمكن الجمع بينهما، ولا يحصل (2) أحدهما إلا بتفويت الآخر، فهذا موضع استعمال العقل (3) والفقه والمعرفة. ومن ها هنا ارتفع من ارتفِع، وأنجح من أنجح، وخاب من خاب. فأكثرُ من ترى ممن يعظِّم عقله ومعرفتَه يُؤثِرِ غيرَ المهمِّ الذي لا يفوت على المهمِّ الذي يفوت. ولا تجد أحدًا يسلَم من ذلك، ولكن مستقِلّ ومستكثِر.
والتحكيم في هذا الباب للقاعدة الكبرى التي عليها مدار الشرع والقدر، وإليها مرجع (4) الخلق والأمر، وهي إيثارُ أكبر المصلحتين وأعلاهما، وإن فاتت المصلحة التي هي دونها، والدخولُ في أدنى المفسدتين لدفع ما هو أكبر منها، فيفوّت مصلحة لتحصيل (5) ما هو أكبر منها، ويرتكب مفسدةً لدفع ما هو أعظم منها. فخطرات العاقل وفكَره لا تتجاوز (6) ذلك. وبذلك جاءت الشرائع، ومصالح الدنيا والآخرة لا تقوم (7) إلا على ذلك.
وأعلى الفِكَر وأجلّها وأنفعها ما كان لله والدار الآخرة. فما كان لله
__________
(1) س، ز: “ولذلك”.
(2) ف: “ولا يتحصّل”.
(3) س، ل: “اشتغال العقل”.
(4) ما عدا ف: “يرجع”.
(5) ما عدا س: “ليحصل”.
(6) ف: “لا تجاوز”. ل: “وفكرته لا تتجاوز”. ز: “لا يتجاوز”.
(7) ف: “ولا تقوم”، ولعله خطأ.

(1/356)


أنواع:
أحدها: الفكرة في آياته المنزلة، وتعقّلها (1) وفهم مراده منها. ولذلك أنزلها الله تعالى، لا لمجرّد تلاوتها، بل التلاوة وسيلة. قال بعض السلف: أُنزِل القرآنُ لِيُعمَل به، فاتخذوا تلاوته عملًا (2).
الثاني: الفكرة في آياته المشهودة، والاعتبار بها، والاستدلال بها على أسمائه وصفاته، وحكمته وإحسانه، وبرّه وجوده. وقد حضّ الله سبحانه عباده على التفكر (3) في آياته وتدبّرها وتعقّلها، وذمّ الغافل عن ذلك.
الثالث: الفكرة في آلائه، وإحسانه، وإنعامه على خلقه بأصناف النعم، وسعة رحمته ومغفرته وحلمه.
وهذه الأنواع الثلاثة تستخرج من القلب معرفةَ الله، ومحبّتَه، وخوفه، ورجاءَه. ودوامُ الفكرة في ذلك مع الذكر يصبغ القلب في المعرفة والمحبة صبغة (4).
الرابع: الفكرة (5) في عيوب النفس وآفاتها وفي عيوب العمل. وهذه الفكرة عظيمة النفع، وهي بابٌ لكلّ خير، وتأثيرها في كسر النفس الأمّارة. ومتى كُسِرَتْ عاشت النفس المطمئنّة، وانتعشت، وصار
__________
(1) ف، ل: “وتعلقها”، وكذلك فيما يأتي، وهو تحريف.
(2) من كلام الحسن البصري. مدارج السالكين (1/ 451)، مفتاح دار السعادة (1/ 555)، ربيع الأبرار.
(3) ف: “على الفكر”، وسقط منها “عباده”.
(4) كذا في جميع النسخ، وفي ط: “صبغة تامة”.
(5) “والمحبة … الفكرة” ساقط من ل.

(1/357)


الحكم لها، فحيِيَ القلب ودارت كلمته في مملكته، وبثّ أمراءه وجنوده في مصالحه.
الخامس: الفكرة في واجب الوقت ووظيفته، وجمع الهمّ كلّه عليه. فالعارف ابن وقته (1)، فإن أضاعه ضاعت عليه مصالحه كلُّها. فجميع المصالح إنما تنشأ من الوقت، وإن ضيّعه لم يستدركه أبدًا.
قال الشافعي: رضي الله عنه (2): صحبتُ الصوفية، فلم أستفد منهم سوى حرفين: أحدهما قولهم: الوقت سيف، فإنْ قطعته، وألّا قطعك (3). وذكر الكلمة الأخرى (4).
فوقت الإنسان هو (5) عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة معيشته الضّنْك في العذاب الأليم، وهو يمرّ أسرع
__________
(1) في حاشية س أنّ في نسخة زيادة: “ويومه”. وفي ز: “لزم وقته”، ولعله تغيير من ناسخ لم يعجبه هذا التعبير. وانظر في قولهم: “العارف ابن وقته” وتفسيره: مدارج السالكين (3/ 341) وانظر أيضًا: (3/ 128 – 131)، ومفتاح دار السعادة (1/ 305).
(2) هذا في ل. وفي س: “رحمه الله تعالى ورضي عنه”. ولم يرد شيء في ف، ز.
(3) ف: “فإن لم تقطعه والّا قطعك”. وكذا وقع في المدارج (3/ 49). وفي المدارج (3/ 129) كما هنا.
(4) وهي كما ذكرها المصنف في المدارج (3/ 129): “ونفسك إن لم تشغلها بالحق وإلا شغلتك بالباطل”. وموقع “وإلّا” في هذا التركيب خطأ تكرر في كتب المصنّف، والصواب حذفها. وقد زاد بعض ناشري كتابنا هذه الجملة هنا بعد إصلاحها: “ونفسك إن شغلتها بالحق وإلا شغلتك بالباطل”. انظر: ط عبد الظاهر (209) وط فايد (133) وغيرهما. (ص). انظر قول الشافعي في مناقب الشافعي للبيهقي (2/ 208). (ز).
(5) لم يرد “هو” في ف.

(1/358)


من مرّ السحاب. فما كان من وقته لله وبالله، فهو حياته وعمره. وغير ذلك ليس محسوبًا من حياته، وإن عاش فيه عيش البهائم. فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو (1) والأماني الباطلة، وكان خير ما قطعه به النوم والبطالة، فموت هذا خير له من حياته. وإذا كان العبد، وهو في الصلاة، ليس له (2) إلا ما عقل منها، فليس له من عمره إلا ما كان فيه بالله وله (3).
وما عدا هذه الأقسام من الخطرات والفكر، فإمّا وساوس شيطانية (4)، وإمّا أماني باطلة وخدع كاذبة (5)، بمنزلة خواطر المصابين في عقولهم من السكارى والممسوسين (6) والموسوسين.
ولسان حال هؤلاء يقول عند إنكشاف الحقائق (7):
إن كان منزلتي في الحشر عندكمُ … ما قد لقيتُ فقد ضيّعتُ أيامي (8)
__________
(1) “والسهو” لم يرد في ف، فزاده بعضهم.
(2) ل: “له من صلاته”.
(3) “وله ” ساقط من ف.
(4) ل: “وساوس من شيطانه”.
(5) ل: “وإما خدع كاذبة”.
(6) ف: “السكارى المحشوشين”. وكذا وردت الكلمة في النسخ بالحاء والشين.
ولعل الصواب ما أثبتنا. والممسوس: الذي به مسّ، وهو الجنون. قال رؤبة: قد علم العالمُ والقِسّيسُ … أنّ امرأَ حاربكم ممسوسُ انظر طبقات فحول الشعراء (764). ولو أراد من الحشيش لقال:
“الحشاشين”.
(7) ف: “عند إنكشاف الحقائق يقول”.
(8) الرواية: “في الحب” بدلًا من “في الحشر”، وهذه إن لم تكن تغييرًا مقصودًا فهي من تحريف النساخ. وفي ف مكانها: “يا قوم”. وقد ورد البيت في روضه =

(1/359)


أمنيّةٌ ظفرتْ نفسي بها زمنًا … واليوم أحسَبها أضغاثَ أحلامِ (1)
واعلم أنّ ورود الخاطر لا يضرّ، وإنّما يضرّ استدعاؤه ومحادثته. فالخاطر كالمارّ على الطريق، فإنْ لم تستدعِه وتركتَه مرّ وانصرف عنك (2)، وإن استدعيتَه سَحَرك بحديثه وخَدْعه وغروره. وهو أخفّ شيء على النفس الفارغة الباطلة، وأثقل شيء على القلب والنفس الشريفة السماوية المطمئنة.
وقد ركّب الله سبحانه في الإنسان نفسًا أمّارةً ونفسًا مطمئنّة، وهما متعاديتان، فكلُّ ما (3) خفّ على هذه ثَقُل على هذه، وكلّ ما التذّت به هذه تألّمت به الأخرى. فليس على النفس الأمّارة أشقُّ من العملِ لله، وإيثارِ رضاه على هواها؛ وليس لها أنفعُ منه. وليس على النفس المطمئنّة أشقُّ من العمل لغير الله، وإجابةِ (4) داعي الهوى؛ وليس عليها أضرُّ (5) منه. والملَك مع هذه عن يَمنةِ القلب، والشيطان مع تلك عن يَسْرةِ القلب. والحروب مستمرة لا تضع أوزارها إلى أن تستوفي أجلَها من الدنيا. والباطل كلّه يتحيّز مع الشيطان والأمّارة، والحقّ كلّه يتحيّز مع الملَك والمطمئنّة. والحروب دُوَل وسِجال، والنصر مع الصبر. ومن
__________
= المحبين (404) وفي مطبوعته: “في الحب”.
(1) ف: “ظفرت قلبي”، وهو خطأ. والبيتان لابن الفارض في ديوانه (207) وفيه: “ظفرت روحي” وفي البيت الأول: “ما قد رأيت”.
(2) “عنك” لم يرد في س.
(3) ز: “وكلما”.
(4) س: “وما اجابه”. ف: “وماجابه”.
(5) ف: “شيء أضرّ”.

(1/360)


صَبَر، وصابرَ، ورابَطَ، واتّقى الله، فله (1) العاقبة في الدنيا والآخرة (2). وقد حكم الله حكمًا لا يبدّل أبدًا أنّ العاقبة للتقوى، والعاقبة للمتقين (3).
فالقلب لوح فارغ، والخواطر نقوش تُنْقَش فيه، فكيف يليق بالعاقل أن تكون نقوش لوحه ما بين كذب، وغرور، وخدع، وأماني باطلة، وسراب لا حقيقة له؟ فأيّ حكمة وعلم وهدًى ينتقش مع (4) هذه النقوش؟ وإذا أراد أن ينتقش ذلك في لوح قلبه كان بمنزلة كتابة العلم النافع في محلٍّ مشغول بكتابة ما لا منفعة فيه. فإنْ لم يُفرِّغ القلبَ من الخواطر الرديّة لم يستقرّ فيه الخواطر النافعة، فإنّها لا تستقرّ إلا في محل فارغ، كما قيل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى … فصادف قلبًا خاليًا فتمكّنا (5)
ولهذا كثير من أرباب السلوك بنَوا سلوكهم (6) على حفظ الخواطر، وأن لا يمكّنوا خاطرًا يدخل قلوبهم، حتّى تصير القلوب فارغةً قابلةً للكشف وظهور حقائق العُلويّات (7) فيها.
وهؤلاء حفظوا شيئًا، وغابت عنهم أشياء، فإنّهم أخلَوا القلوب من
__________
(1) ف: “فإنّ له”.
(2) يشير إلى الآية الكريمة (200) من سورة آل عمران.
(3) كما جاء في سورة الأعراف (128)، وهود (49)، وطه (132) وغيرها.
(4) س: “من”.
(5) بيت سائر نسبه المؤلف في روضة المحبين (240) إلى قيس بن الملوّح وهو مجنون ليلى، وينسب إلى غيره. انظر ديوان المجنون (219).
(6) ز: “يتراسلوا لهم”. وفي ل: “الشكوك بنوا شكوكهم”. وكلاهما تحريف.
(7) ف: “المعلومات”. وفي حاشية س إشارة إلى هذه النسخة. وهي تحريف.

(1/361)


أن يطرقها خاطر، فبقيت فارغة لا شيء فيها، فصادفها الشيطان خاليةً، فبذر فيها الباطلَ في قوالب أوهمهم (1) أنّها أعلى الأشياء وأشرفها، وعوّضهم بها عن الخواطر التي هي مادّة العلم والهدى. وإذا خلا القلب عن هذه الخواطر جاء الشيطان فوجد المحلَّ خاليًا، فشغله بما يناسب حال صاحبه، حيث لم يستطع أن يشغله بالخواطر السفلية، فشغله بإرادة التجريد والفراغ (2) من الإرادة التي لا صلاح للعبد ولا فلاح إلا بأن تكون هي المستولية على قلبه. وهي: إرادةُ مراد الله الديني (3) الأمري الذي يحبّه ويرضاه، وشَغلُ القلب (4) واهتمامه بمعرفته على التفصيل به، والقيام به وتنفيذه في الخلق، والطُّرُقِ إلى ذلك، والتوصّلِ إليه بالدخول في الخلق (5) لتنفيذه. فبَرْطَلَهم (6) الشيطانُ عن ذلك بأنْ دعاهم إلى تركه وتعطيله، من باب الزهد في خواطر الدنيا وأسبابها، وأوهمهم أنّ كمالهم في ذلك التجريد والفراغ. وهيهات (7)!
إنّما الكمال في امتلاء القلب والسرّ من الخواطر والإرادات والفِكَر في تحصيل مراضي الربّ تعالى من العبد ومن الناس، والفكر في طرُق ذلك والتوصّل إليه. فأكمل الناس أكثرهم خواطر وفِكَرًا صارادات لذلك، كما أنّ أنقصَ الناس أكثرُهم خواطر وفِكَرًا وإراداتٍ لحظوظه وهواه أين __________
(1) س: “أوهمها”. وفي الحاشية إشارة إلى ما في غيرها.
(2) من هنا إلى “التجريد والفراغ” الآتي سقط من س لانتقاد النظر.
(3) “المديني” ساقط من ل.
(4) ل: “ويشغل القلب”.
(5) “في الخلق” ساقط من ل.
(6) من برطله: رشاه. انظر أساس البلاغة (برطل).
(7) وانظر طريق الهجرتين (380).

(1/362)


كانت. والله المستعان.
وهذا عمر بن الخطاب كانت تتزاحم عليه الخواطر في مراضي الربّ تعالى، فربّما استعملها في صلاته، فكان يجهِّز (1) جيشَه وهو في صلاته (2)، فيكون قد جمع بين الجهاد والصلاة.
وهذا من باب تداخل العبادات في العبادة الواحدة. وهو باب عزيز شريف لا يعرفه (3) إلا صادق الطلب، متضلّع من العلم، عالي الهمة، بحيث يدخل في عبادة يظفر فيها بعبادات شتى (4). وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
فصل
وأما اللفظات، فحفظها بأن لا يُخرِجَ لفظةً ضائعةً، بل لا يتكلّم إلا فيما يرجو فيه الربح والزيادة في دينه. فإذا أراد أن يتكلم بالكلمة نظر: هل فيها ربح وفائدة أم لا؟ فإنْ لم يكن فيها ربح أمسك عنها، وإن كان فيها ربح نظر: هل يفوته بها كلمة هي أربح منها، فلا يضيّعها بهذه.
وإذا أردت أن تستدلّ على ما في القلب، فاستدِلَّ عليه (5)
__________
(1) س: “وكان تجهيز”.
(2) ف: “عسكره وهو في الصلاة”. وقد أخرجه البخاري تعليقًا في كتاب العمل في الصلاة، باب تفكر الرجل الشيء في الصلاة (ص 239). (ص). ووصله ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 188 (7951). وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في الفتح (س/90).
(3) ف: “لا يدخل منه”.
(4) وانظر زاد المعاد (1/ 250).
(5) “عليه” ساقط من س.

(1/363)


بحركة اللسان، فإنّه يُطلِعُ ما في القلب (1)، شاء صاحبه أم أبى.
قال يحيي بن معاذ: القلوب كالقدور تغلي بما فيها، وألسنتها مغارفها. فانظر الرجل (2) حين يتكلّم، فإن لسانه يغترف (3) لك مما في قلبه (4): حلو وحامض، وعذب وأجاج، وغير ذلك. ويبين لك طعم قلبه اغترافُ لسانه (5).
أي كما تطعم بلسانك طعمَ ما في القدر من الطعام، فتدرك العلم بحقيقته، كذلك تطعم ما في قلب الرجل من لسانه، فتذوق ما في قلبه (6) من لسانه، كما تذوق ما في القدر بلسانك.
وفي حديث أنس المرفوع: “لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه (7) حتى يستقيم لسانه” (8).
__________
(1) ل: “على ما القلب”، فسقط منها “في”.
(2) ف: “فإن الرجل”.
(3) ف: “يغرف”.
(4) ل، ز: “بما في قلبه”.
(5) حلية الأولياء (10/ 67).
(6) ف: “في القلب”.
(7) “ولا يستقيم قلبه” ساقط من س.
(8) أخرجه أحمد 3/ 198 (13048) وابن أبي الدنيا في الصمت وآداب اللسان (9) والقضاعي في مسند الشهاب (887) وغيرهم من طريق علي بن مسعدة عن قتادة عن أنس فذكره، وفيه زيادة. وهو حديث منكر، تفرد به علي بن مسعدة عن قتادة، وعلي ضعيف. والحديث ضعفه الهيثمي والعراقي. انظر مجمع الزوائد (1/ 53). وروي من وجه آخر عن أنس ولا يصح.
وثبت هذا عن ابن مسعود موقوفًا. أخرجه الطبراني في الكبير (8990) وأبو نعيم في الحلية (4/ 165) وغيرهما عن زبيد عن مرة الطيب عن ابن =

(1/364)


وسئل – صلى الله عليه وسلم – عن أكثر ما يُدخِلُ الناسَ النارَ، فقال: “الفم والفرج” (1).
قال الترمذي حديث صحيح (2).
وقد سأل معاذ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – عن العمل الذي يُدخله الجنّة ويباعده من النار، فأخبره برأسه، وعموده، وذروة سنامه؛ ثم قال: “ألا أخبرك بملاك ذلك؟ ” قال: بلى يا رسول الله. فأخذ بلسان نفسه (3)، ثم قال: “كُفَّ عليك هذا”. فقال: وإنّا لمؤاخَذون بما نتكلّم به؟ فقال: “ثكلتك أمّك يا معاذًا وهل يَكُبّ الناسَ في النار (4) على وجوههم -أو على مناخرهم- إلا حصائدُ ألسنتهم؟ ” (5) قال الترمذي: حديث
__________
= مسعود مطولًا. وسنده صحيح. وقد روي مرفوعًا ولا يثبت. انظر علل الدراقطني (5/ 271).
(1) أخرجه الترمذي (2004) وابن ماجه (4246) والبخاري في الأدب المفرد (294) وابن أبي الدنيا في الصمت (4) وابن حبان (476) والحاكم 4/ 360 (7919) وغيرهم من طريق عبد الله بن إدريس عن أبيه وعمّه عن جده يزيد الأودي عن أبي هريرة فذكره. قال الترمذي: “هذا حديث صحيح غريب”. وصححه ابن حبان والحاكم.
(2) كذا في الأصول وخا. وفي خب وط المدني وعبد الظاهر وغيرهما: “حسن صحيح”. وفي نسخة الجامع المطبوعة مع تحفة الأحوذي: “صحيح غريب”.
(3) س: “بلسانه”، وفي حاشيتها إشارة إلى ما أثبتناه من غيرها.
(4) “في النار” لم يرد في ف.
(5) أخرجه الترمذي (2616) وابن ماجه (3973) وأحمد 5/ 231 (22016) وغيرهم من طريق معمر عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن معاذ فذكره مطولًا.
قلت: تعقّب الحافظ ابن رجب الحنبلي تصحيح الترمذي فقال: “وفيما قاله رحمه الله نظر من وجهين: أحدهما أنه لم يثبت سماع أبي وائل من معاذ، وإن كان قد أدركه بالسن. وكان معاذ بالشام وأبو وائل بالكوفة … والثاني أنه قد =

(1/365)


صحيح (1).
ومن العجب أنّ الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر ومن النظر المحرّم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى ترى الرجلَ (2) يشار إليه بالدين والزهد والعبادة (3)، وهو يتكلّم بالكلمات من سخط الله، لا يُلقي لها بالًا، يزِلّ (4) بالكلمة الواحدة منها أبعد مما بين المشرق والمغرب (5)! وكم ترى من رجل متورعِّ عن الفواحش والظلم، ولسانه
__________
= رواه حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن شهر بن حوشب عن معاذ.
خرّجه الإِمام أحمد [5/ 248 (22133) وغيره] مختصرًا. قال الدارقطني: وهو أشبه بالصواب؛ لأن الحديث معروف من رواية شهر على اختلاف عليه فيه.
قلت (أي ابن رجب): ورواية شهر عن معاذ مرسلة يقينًا. وشهر مختلف في توثيقه وتضعيفه. وقد خرجه الإِمام أحمد [5/ 245 (22122)] من رواية شهر عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ. وخرجه الإِمام أحمد أيضًا [5/ 233، 237 (22032، 22068)] من رواية عروة بن النزّال وميمون بن أبي شبيب كلاهما عن معاذ. ولم يسمع عروة ولا ميمون من معاذ. وله طرق أخرى عن معاذ كلها ضعيفة” جامع العلوم والحكم (2/ 135). وانظر علل الدارقطني (6/ 73 – 79).
وقال العقيلي في الضعفاء (3/ 480). -لما ضعف حديث أنس عن معاذ هذا- قال: “وفي هذا الباب عن معاذ وغيره أحاديث ثابتة من غير هذا الوجه”.
وانظر ابن حبان (214).
(1) كذا في الأصول وخا. وفي خب وط المدني وغيرها وفي نسخة الجامع المطبوعة مع التحفة: “حسن صحيح”.
(2) ل: “ترى الذي”. ز: “يرى الرجل”.
(3) ز: “العبادة والزهد”.
(4) “يزلّ” ساقط من ل.
(5) يشير إلى حديث أبي هريرة الآتي. وقد سبق أيضًا في ص (206).

(1/366)


يفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي ما يقول!
وإذا أردت أن تعرف ذلك، فانظر إلى ما رواه مسلم في صحيحه (1) من حديث جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان. فقال الله عز وجل: مَن ذا الذي يتألّى عليّ أنّي لا أغفر لفلان؟ قد غفرتُ له، وأحبطتُ عملَك”.
فهذا العابد (2) الذي قد عَبَدَ اللهَ ما شاء أن يعبده، أحبطت هذه الكلمةُ الواحدة عملَه كلّه!
وفي حديث أبي هريرة نحو ذلك، ثم قال أبو هريرة: “تكلم بكلمةٍ أوبقَتْ دنياه وآخرته” (3).
وفي الصحيحين (4) من حديث أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إنّ العبد
__________
(1) كتاب البرّ والصلة، باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله (2621).
(2) ذكر العابد في حديث أبي هريرة الآتي، لا في حديث جندب السابق.
(3) أخرجه أبو داود (4901) وأحمد 2/ 323، 363 (8292، 8749) وابن حبان (5712) وغيرهم من طريق عكرمة بن عمار عن ضمضم بن جوس عن أبي هريرة فذكر مطولًا.
وفيه عكرمة بن عمار، في حفظه كلام. وقد اختلف عنه الرواة في الجملة الأخيرة. فرواه من قول أبي هريرة: عبد الله بن المبارك في الزهد (900)، وأبو الوليد الطيالسي عند ابن حبان، وأبو عامر العقدي وعبد الصمد عند أحمد، وعلي بن ثابت عند أبي داود.
ورواها مرفوعة: موسى بن مسعود عند المزي في تهذيب الكمال (13/ 326) وغسان بن عبيد عند ابن أبي الدنيا في حسن الظن (45).
والصواب: الموقوف.
(4) أخرجه البخاري في الرقاق، باب حفظ اللسان (6478) من طريق أبي صالح =

(1/367)


ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالًا، يرفعه الله بها (1) درجات. وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالًا، يهوي بها (2) في جهنم”.
وعند مسلم (3): “إنّ العبد لَيتكلّم بالكلمة، ما يتبيّن ما فيها، يهوي بها في النار أبعدَ ما بين (4) المشرق والمغرب”.
وعند الترمذي (5) من حديث بلال بن الحارث المزني (6) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – (7):
__________
=عن أبي هريرة ولم يخرجه مسلم من هذا الطريق.
(1) “بها” ساقط من ز.
(2) ز: “يلقى بها”.
(3) برقم (2988)، وأيضًا عند البخاري (6477) من طريق عيسى بن طلحة عن أبي هريرة.
(4) ما عدا ف: “يزل بها .. بما بين”.
(5) برقم (2319). وأخرجه ابن ماجه (3969) وأحمد 3/ 469 (15852) والبخاري في تاريخه (2/ 106 – 107) وابن حبان (80، 281، 287) والحاكم 1/ 106 – 107 (136 – 140) وغيرهم من طرق عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبيه عن جدّه علقمة عن بلال بن الحارث المزني فذكره. قال الترمذي: “هذا حديث حسن صحيح”. وقال الحاكم: “هذا حديث صحيح”. وصححه ابن حبان.
وقد رواه الإِمام مالك وغيره عن محمَّد بن عمرو بن علقمة به، ولم يذكر “عن جده”.
ورجح البخاري الأول رواية الجماعة فقال: “والأول أصح”. وإليه مال الترمذي والدارقطني وابن عبد البر. راجع تحقيق المسند (25/ 181 – 182).
(6) “المزني” ساقط من ز.
(7) ل: “الترمذي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – من حديث … “.

(1/368)


“إنّ أحدكم (1) ليَتكلّم بالكلمة من رضوان الله، ما يظنّ (2) أن تبلغ ما بلغتْ، فيكتب الله له (3) بها رضوانه إلى يوم يلقاه. وإنّ أحدكم لَيتكلّم بالكلمة من سخط الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله له (4) بها سخطه إلى يوم يلقاه”.
فكان (5) علقمة يقول (6): كم من كلام قد منعنيه (7) حديثُ بلال بن الحارث (8)!
وفي جامع الترمذي أيضًا (9) من حديث أنس قال: توفي رجل من
__________
(1) س: “إن العبد”.
(2) ز: “لا يظن”.
(3) ز: “فيكتب له”.
(4) ز: “فيكتب له”.
(5) س، ل: “وكان”.
(6) ف: “يقول علقمة”. وعلقمة هو ابن وقّاص الليثي، راوي الحديث عن بلال المزني.
(7) لم ترد “قد” في س، ل.
(8) قول علقمة هذا لم يرد في جامع الترمذي.
(9) برقم (2316). وأخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت (109) وأبو يعلى (4017) وأبو نعيم في الحلية (5/ 56) وغيرهم من طريق يحيى بن يعلى وعمر بن حفص عن أبيه عن الأعمش عن أنس فذكره. قال الترمذي: “هذا حديث غريب” وفي نسخة: “حسن غريب” وقال أبو نعيم: “تفرد به عمر عن أبيه حفص”. وقال الذهبي في السير (6/ 240): “غريب يعدّ في أفراد عمر بن حفص شيخ البخاري”. وفيه أيضًا أن الأعمش رأى أنس بن مالك ولم يسمع منه شيئًا.
قلت: وأما طريق يحيى بن يعلى هو الأسلمي فلا يثبت، فإن يحيي هذا قال فيه ابن معين: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث ليس بالقوي. وبه =

(1/369)


الصحابة، فقال رجل: أبشِرْ بالجنة، فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “أوَ لا تدري فلعلّه (1) تكلم فيما لا يعنيه، أو بخل بما لا ينقصه”. قال: حديث حسن (2).
وفي لفظ: أنّ غلامًا استشهد يوم أحد، فوُجد على بطنه صخرة مربوطة من الجوع، فمسحت أمّه التراب عن وجهه، وقالت: هنيئًا لك يا بنيّ، لك الجنّة (3). فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “وما يدريك، لعلّه كان يتكلّم فيما لا يعنيه، ويمنع ما لا يضرّه”.
وفي الصحيحين (4) من حديث أبي هريرة يرفعه: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فَلْيقل خيرًا أو لِيَصْمُتْ”.
وفي لفظ لمسلم (5): “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فإذا شهد أمرًا فليتكلّمْ بخير (6) أو لِيسكتْ”.
__________
= ضعفه الهيثمي في المجمع (10/ 303).
وروي من طريق سعيد بن الصلت عن الأعمش عن أبي سفيان عن أنس عند البيهقي في الشعب (10342) ولا يصح.
(1) ل: ” … تدري أنه”. س: “وما يدريك لعله”.
(2) كذا في جميع النسخ التي بين يديّ. وانظر ما سلف في تخريج الحديث.
(3) ف: “فقالت: يا بني هنيئًا لك الجنّة”.
(4) أخرجه البخاري في الرقاق، باب حفظ اللسان (6475)؛ ومسلم في الإيمان، باب الحث على إكرام الجار … (47).
(5) في كتاب الرضاع، باب الوصية بالنساء (1468).
(6) ف: “خيرًا”.

(1/370)


وذكر الترمذي (1) بإسناد صحيح عنه – صلى الله عليه وسلم -: “من حسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه”.
وعن سفيان بن عبد الله (2) الثقفي قال: قلتُ: يا رسول الله، قل لي في الإِسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك. قال: “قل: آمنتُ بالله، ثمّ استقِمْ”. قلت (3): يا رسول الله ما أخوَفُ ما تخاف عليّ؟ فأخذ بلسان نفسه، ثم قال: “هذا”. والحديث صحيح (4).
وعن أم حبيبة زوج النبي – صلى الله عليه وسلم -، عن النبي (5) – صلى الله عليه وسلم – قال: “كلام ابن
__________
(1) برقم (2317). وأخرجه ابن ماجه (3976) وابن حبان (229) والقضاعي في مسند الشهاب (192) وابن عبد البر في التمهيد (9/ 198، 199) وغيرهم من طريق قرة بن عبد الرحمن المصري عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا.
وخالفه الإِمام مالك ومعمر بن راشد ويونس بن يزيد وزياد بن سعد كلهم عن الزهري عن علي بن الحسين عن النبي – صلى الله عليه وسلم – مرسلًا. أخرجه الترمذي (2318) وعبد الرزاق (11/ 307) وابن أبي عاصم في الزهد (103) والقضاعي (193). قال الترمذي: “هكذا روى غير واحد من أصحاب الزهري عن الزهري عن علي بن الحسين عن النبي – صلى الله عليه وسلم – نحو حديث مالك مرسلًا، وهذا عندنا أصح من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة. وعلي بن الحسين لم يدرك علي بن أبي طالب”.
ورجح الإرسال الإِمام أحمد ويحيى بن معين والبخاري والعقيلي والدارقطني وغيرهم. انظر الصيام من شرح العمدة لابن تيمية (2/ 791).
(2) ز: “بن عيينة”، خطأ.
(3) ل: “قال: قلت”.
(4) أخرجه مسلم في الإيمان، باب جامع أوصاف الإِسلام (38) إلى قوله: “ثم استقم”.
(5) س: “عنه”. وفي ل، ز: “زوج النبي – صلى الله عليه وسلم – قال”.

(1/371)


آدم (1) عليه لا له، إلا أمرٌ بمعروف، أو نهيٌ عن المنكر (2)، أو ذكرُ الله” (3) قال الترمذي: حديث حسن (4).
وفي حديث آخر: إذا أصبح العبد (5) فإنّ الأعضاء كلها تكفِّر اللسانَ (6)، تقول: اتّقِ الله فينا (7)، وإنّما نحن بك. فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججتَ اعوججنا (8).
__________
(1) ما عدا ز: “كل كلام ابن آدم”.
(2) ما عدا س: “منكر”.
(3) أخرجه الترمذي (2412) وابن ماجه (3974) والبخاري في تاريخه (1/ 261 – 262) وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد (123) وابن أبي الدنيا في الصمت (14) والنسائي في أماليه (15) والحاكم 1/ 557 (3892) وغيرهم من طريق محمَّد بن يزيد بن خنيس سمعت سعيد بن حسان المخزومي حدثتني أم صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبيبة فذكرته.
ورواه البخاري في تاريخه (1/ 261) عن محمَّد بن يزيد بن خنيس عن سعيد بن حسان عن أم صالح مرسلًا. وفيه أم صالح مجهولة.
والحديث ضعفه الترمذي بقوله: “هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث محمَّد بن يزيد بن خنيس”. وقال ابن حجر: “حسن غريب” الأمالي المطلقة (160).
(4) كذا في جميع النسخ. وفي المتن المطبوع مع تحفة الأحوذي (7/ 79): “حسن غريب”. وذكر الشارح أن في بعض النسخ: “حديث غريب”.
(5) س: “أن العبد إذا أصبح”.
(6) كذا في جميع النسخ، والترمذي. ولعل الصواب: “لِلّسان” كما في المسند (18/ 402)، والفائق (3/ 268) من التكفير بمعنى الخضوع.
(7) “فينا” من س.
(8) أخرجه الترمذي (2407) وأبو يعلى (2/ رقم 1185) وأبو نعيم في الحلية (4/ 309) وابن عبد البر في التمهيد (21/ 40) وغيرهم من طرق عن حماد بن زيد عن أبي الصهباء عن سعيد بن جبير عن أبي سعيد الخدري فذكره مرفوعًا.
قلت: كان حماد بن زيد أو أبو الصهباء (فيه جهالة) يضطرب فيه ويشك =

(1/372)


وقد كان السلف يحاسب أحدهم نفسَه في قوله: يوم حارّ، ويوم بارد.
ولقد رُئي بعضُ الأكابر من أهل العلم (1) في النوم، فسئل عن حاله، فقال: أنا موقوف على كلمة قلتُها. قلتُ: ما أحوج الناسَ إلى غيث! فقيل لي: وما يدريك؟ أنا أعلم بمصلحة عبادي.
وقال بعض الصحابة لخادمه (2) يومًا: هاتِ (3) السفرة نعبَثْ بها. ثم قال: أستغفر الله، ما أتكلّم بكلمة إلا وأنا أخطِمُها وأزُمُّها، إلا هذه الكلمة خرجت منّي بغير خطام ولا زمام (4). أو كما قال.
__________
= فيقول: “لا أعلمه إلا رفعه” أو “أحسبه عن النبي – صلى الله عليه وسلم -“. هكذا رواه عن حماد بن زيد: عفان بن مسلم وبشر بن السري وعمران بن موسى ومسدد والطيالسي: عند أحمد في المسند (11908) والمروزي في زياداته على الزهد لابن المبارك (1012) وابن أبي الدنيا في الصمت (12) وابن السنّي (1) والطيالسي في مسنده (2323).
وربما رواه حماد بن زيد موقوفًا. رواه عنه عبد الرحمن بن مهدي وحماد بن أسامة وإسحاق بن أبي إسرائيل وأبو كامل الجحدري، عند الترمذي (2407) وأحمد في الزهد (1084) وابن عبد البر في التمهيد (20/ 41).
قال الترمذي عندما ساق الموقوف: “وهذا أصح من حديث محمَّد بن موسى (يعني المرفوع). هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث حماد بن زيد. وقد رواه غير واحد عن حماد بن زيد ولم يرفعوه”.
(1) هو الجنيد. انظر التدوين في أخبار قزوين (1/ 264).
(2) س، ف: “لجارية”.
(3) ما عدا ل: “هاتي”.
(4) أخرجه أحمد 4/ 123 (17114) وابن المبارك في الزهد (843) وابن أبي الدنيا في الصمت (438) وأبو نعيم في الحلية (6/ 77 – 78) وغيرهم من طريق =

(1/373)


وأيسرُ (1) حركات الجوارح حركةُ اللسان، وهي أضرُّها على العبد.
واختلف السلف والخلف هل يُكتَبُ جميع ما يلفظ به العبد، أو الخير والشرّ فقط (2)؟ على قولين، أظهرهما الأول (3).
وقال بعض السلف (4): كلّ كلام ابن آدم عليه لا له، إلا ما كان من ذكر الله وما والاه.
وكان الصدّيق رضي الله عنه يمسك بلسانه ويقول: هذا أوردني المواردَ (5).
والكلام أسيرك، فإذا خرج من فيك صرتَ أسيره. واللهُ عند لسان
__________
= ابن المبارك وروح وعيسى بن يونس كلهم عن الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: بلغني أن شدّاد بن أوس كان في سفر فقال لغلامه فذكر نحوه. وزاد روح حديثًا مرفوعًا: “إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر … “.
ورواه سويد بن عبد العزيز عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن أبي عبيد الله مسلم بن مشكم عن شداد فذكره. أخرجه ابن حبان في صحيحه (935) وأبو نعيم في الحلية (1/ 266). قلت: وسويد ضعيف، ورواية الجماعة أرجح لكنه منقطع، حسان بن عطية لم يسمع من شداد. وللحديث المرفوع طريق آخر. انظر تحقيق المسند (28/ 356).
(1) ف: “أشرّ”، تصحيف.
(2) “فقط” ساقط من س.
(3) انظر تفسير الطبري (21/ 424)، والمحرر الوجيز (5/ 160)، ومجموع الفتاوى (7/ 49). وانظر مدارج السالكين (1/ 114).
(4) ف: “وقال السلف”. وسمّاه في المدارج (1/ 115): “الحديث المشهور” (ص). لم أقف عليه (ز).
(5) تقدّم تخريجه ص (91).

(1/374)


كلّ قائل: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق: 18].
وفي اللسان آفتان عظيمتان، إن خلص من إحداهما لم يخلص من الأخرى: آفة الكلام، وآفة السكوت. وقد يكون كلّ منهما أعظم إثمًا من الأخرى في وقتها. فالساكت عن الحقّ شيطان أخرس عاصٍ لله مُراءٍ مداهنٌ إذا لم يخف على نفسه (1)، والمتكلّم بالباطل شيطان ناطق عاصٍ لله. وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته، فهم بين هذين النوعين.
وأهل الوسط -وهم أهل الصراط المستقيم- كفّوا ألسنتهم عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعُه في الآخرة. فلا يرى أحدهم أنّه يتكلّم بكلمة تذهب عليه ضائعةً بلا منفعة، فضلًا عن (2) أن تضرّه في آخرته.
وإنّ العبد ليأتي يوم القيامة بحسناتٍ أمثالِ الجبال، فيجد لسانه قد هدمها عليه كلَّها؛ ويأتي بسيئات أمثال الجبال (3)، فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله وما اتصل به.
فصل
وأما الخطوات:، فحفظها (4) بأن لا يثقل قدمه إلا فيما يرجو ثوابه، فإن لم يكن في خُطاه مزيدُ ثواب، فالقعود عنها خير له. ويمكنه أن
__________
(1) “عاص لله مراء … نفسه” ساقط من ل.
(2) “عن” من ف.
(3) ل: “مثل الجبال”.
(4) ل: “فيحفظها”.

(1/375)


يستخرج من كلّ مباح يخطو إليه قربةً ينويها لله، فتقع (1) خطاه قربةً.
ولما كانت العثرة عثرتين: عثرة الرجل، وعثرة اللسان جاءت إحداهما قرينة الأخرى في قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} [الفرقان: 63]، فوصفهم بالاستقامة في لفظاتهم وخطواتهم، كما جمع بين اللحظات والخطرات في قوله (2): {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)} [غافر: 19].
فصل
وهذا كلّه ذكرناه مقدّمةً (3) بين يدي تحريم الفواحش ووجوب حفظ الفرج.
وقد قال النبي (4) – صلى الله عليه وسلم -: “أكثرُ ما يُدخِل الناسَ النارَ: الفم والفرج” (5).
وفي الصحيحين عنه – صلى الله عليه وسلم -: “لا يحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة” (6).
__________
(1) ل: “فيقطعها”.
(2) “قوله” لم يرد في ف، وفيها: “الخطرات واللحظات”. وقد سقط من ل: “والخطرات”.
(3) “مقدمة” ساقط من ف.
(4) ز: “رسول الله”. س: “قال – صلى الله عليه وسلم -“.
(5) تقدم تخريجه (365).
(6) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. أخرجه البخاري في الديات، باب قول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} (6878)؛ ومسلم في =

(1/376)


وهذا الحديث في اقتران الزنى بالكفر وقتلِ النفس نظيرُ الآية التي في الفرقان (1)، ونظيرُ حديث ابن مسعود (2).
وبدأ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالأكثر وقوعًا، ثم بالذي يليه. فالزنى أكثر وقوعًا من قتل النفس، وقتل النفس أكثر وقوعًا من الردّة. وأيضًا فإنّه انتقال من الأكبر إلى ما هو أكبر (3) منه.
ومفسدة الزنا مناقِضة لصلاح العالم، فإنّ المرأة إذا زنت أدخلت العار على أهلها وزوجها (4) وأقاربها، ونكست رؤوسهم بين الناس. وإن حملتْ من الزنى، فإنْ قتلتْ ولدها جمعت بين الزنى والقتل، وإن حمّلته الزوجَ أدخلَتْ (5) على أهله وأهلها أجنبيًّا ليس منهم فورِثَهم وليس منهم، ورآهم، وخلا بهم، وانتسب إليهم، وليس منهم؛ إلى غير ذلك من مفاسد زناها. وأما زنى الرجل فإنّه يوجب اختلاط الأنساب أيضًا، وإفساد المرأة المصونة، وتعريضَها للتلف والفساد. وفي هذه الكبيرة خراب الدنيا والدين، وإن عمرت القبور (6) في البرزخ، والنار في الآخرة. فكم (7) في الزنى من استحلال
__________
= القسامة، باب ما يباح به دم المسلم (1676).
(1) وهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68].
(2) وقد سبق مع الآية المذكورة في ص (291).
(3) ز: “من الأكثر إلى ما هو أكثر”، تصحيف.
(4) ف: “زوجها وأهلها”.
(5) ف: “أدخلته”.
(6) س: “التّنّور” بتشديد التاء والنون. وفي ل أيضًا دون التشديد.
(7) س، “وكم”.

(1/377)


محرّمات (1)، وفوات حقوق، ووقوع مظالم!
ومن خاصيته (2): أنه يوجب الفقر، ويقصر العمر، ويكسو صاحبه سوادَ الوجه وثوبَ المقت بين الناس.
ومن خاصيته أيضًا: أنّه يشتّت القلب، ويُمرِضه إن لم يُمِتْه. ويجلب الهمّ والحزن والخوف، ويباعد صاحبه من الملَك، ويقرّب منه الشيطان (3).
فليس بعد مفسدة القتل أعظم من مفسدته (4). ولهذا شُرع (5) فيه القتل على أشنع الوجوه وأفحشها وأصعبها. ولو بلغ العبدَ أنّ امرأته أو حرمته قُتِلتْ كان أسهل عليه من أن يبلغه أنّها زنت.
وقال سعد بن عبادة: لو رأيتُ رجلًا مع امرأتي لضربتُه بالسيف غيرَ مُصْفَح (6). فبلغ ذلك رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: “تعجبون من غيرة سعد؟ واللهِ لأنا أغيَرُ منه، واللهُ أغيَرُ منّي. ومن أجْلِ غيرة الله حرّم (7) الفواحشَ ما ظهر منها وما بطن”. متفق عليه (8).
__________
(1) ف: “لمحرمات”.
(2) ز: “خاصته” هنا وفيما يأتي.
(3) ف: “ويقربه من الشيطان”.
(4) “من الملك … مفسدته” ساقط من ز. وفي س: “مفاسده”.
(5) ف: “شرع الله”.
(6) من أصفحه بالسيف، إذا ضربه بعُرْضه دون حدّه. النهاية (3/ 34).
(7) س: “حرم الله”.
(8) تقدم تخريجه ص (163).

(1/378)


وفي الصحيحين أيضًا (1) عنه – صلى الله عليه وسلم -: “إن الله يغار، وإنّ المؤمن يغار (2)، وغيرةُ الله أن يأتي العبدُ ما حرَّم عليه” (3).
وفي الصحيحين عنه – صلى الله عليه وسلم -: “لا أحدَ أغيَرُ من الله، من أجل ذلك حرّم الفواحشَ ما ظهر منها وما بطن. ولا أحدَ أحب إليه العذرُ من الله، من أجل ذلك أرسل الرسلَ مبشِّرين ومنذرين. ولا أحدَ أحبُّ إليه المدحُ من الله، من أجل ذلك أثنى على نفسه” (4).
وفي الصحيحين في خطبته – صلى الله عليه وسلم – في صلاة الكسوف أنّه قال: “يا أمّة محمَّد، والله إنه لا أحدَ أغيرُ من الله أن يزني عبده أو تزني أمته. يا أمة محمَّد، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا”. ثمّ رفع يديه، وقال: “اللهم هل بلّغت؟ ” (5).
وفي ذكر هذه الكبيرة بخصوصها عقيبَ صلاة الكسوف سرّ بديع لمن تأمّله.
وظهورُ الزنى من أمارات خراب العالم، وهو من أشراط الساعة، كما في الصحيحين عن أنس بن مالك أنّه قال: لأحدّثنّكم حديثًا لا
__________
(1) “أيضًا” لم يرد في س.
(2) ز: “والمؤمن يغار”.
(3) “وفي الصحيحين … حرم عليه” ساقط من ف. والحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه البخاري في النكاح، باب الغيرة (5223)، ومسلم في التوبة، باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش (2761).
(4) تقدم تخريجه (164).
(5) تقدم تخريجه (164).

(1/379)


يحدّثكموه أحد بعدي سمعتُه من النبي – صلى الله عليه وسلم – (1). سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: “من أشراط الساعة أن يُرفع العلمُ، ويظهر الجهل، ويُشرَب الخمرُ، ويَظهر الزنا، ويقلّ الرجال، وتكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأةً القيّم الواحد” (2).
وقد جرت سنّة الله سبحانه في خلقه أنه عند ظهور الزنى يغضب الله سبحانه، ويشتدّ غضبه، فلا بدّ (3) أن يؤثّر غضبه في الأرض عقوبة.
قال عبد الله بن مسعود: ما ظهر الربا والزنى في قرية إلا أذِن الله بإهلاكها (4).
ورأى بعض أحبار بني إسرائيل ابنًا له يغامز امرأةً، فقال: مهلًا يا بنيّ، فصُرِع الأب عن سريره، فانقطع نُخاعه، وأسقطت امرأته. وقيل له: هكذا غضبتَ لي؟ لا يكون في جنسك حَبْر (5) أبدًا (6).
وخصّ سبحانه حدَّ الزنى من بين الحدود بثلاث خصائص: أحدها: القتل فيه أشنعَ القتلات، وحيث خفّفه فجمع فيه بين العقوبة على البدن بالجلد، وعلى القلب بتغريبه عن وطنه (7) سنة.
__________
(1) ف: “من رسول الله”.
(2) أخرجه البخاري في العلم، باب رفع العلم وظهور الجهل (80 – 81)؛ ومسلم في العلم، باب رفع العلم … (2671).
(3) ف: “ولا بدّ”.
(4) ف، ل: “بهلاكها”. س: “في هلاكها”، وفي الحاشية إشارة إلى ما أثبتنا. وقد تقدم تخريج الأثر في ص (107).
(5) ل: “خيرًا”.
(6) تقدم تخريجه في (124).
(7) س: “من وطنه”.

(1/380)


الثاني: أنه نهى عباده أن تأخذهم بالزناة رأفةٌ في دينه، بحيث تمنعهم من إقامة الحدّ عليهم. فإنّه سبحانه من رأفته ورحمته بهم شرع هذه العقوبة، فهو أرحم منكم (1)، ولم تمنعه رحمته من أمره بهذه العقوبة، فلا يمنَعْكم أنتم ما يقوم بقلوبكم من الرأفة (2) من إقامة أمره.
وهذا وإن كان عامًّا في سائر الحدود، ولكن ذُكِرَ في حدّ الزنى خاصّةً، لشدّة الحاجة إلى ذكره. فإنّ الناس لا يجدون في قلوبهم من الغلظة والقسوة على الزاني ما يجدونه على السارق والقاذف وشارب
الخمر، فقلوبهم ترحم الزاني أكثر مما ترحم غيره من أرباب الجرائم، والواقع شاهد بذلك، فنُهُوا أن تأخذهم هذه الرأفة، وتحملهم على تعطيل حدّ الله.
وسبب هذه الرحمة أنّ هذا ذنب يقع من الأشراف والأوساط والأرذال (3)، وفي النفوس أقوى الدواعي إليه، والمشارك فيه كثير، وأكثر أسبابه العشق، والقلوب مجبولة على رحمة العاشق، وكثير من
الناس يعدّ مساعدته طاعةً وقربةً، وإن كانت الصورة المعشوقة محرّمة عليه. ولا يُستنكَر (4) هذا الأمر، فهو مستقِرّ عند ما شاء الله من أشباه الأنعام. ولقد حكي لنا من ذلك شيء كثير، أكثرُه عن ناقصي العقول (5) كالخدّام والنساء.
__________
(1) ف: “أرحم بكم منكم بهم”.
(2) “رحمته من أمره … الرأفة” ساقط من ز.
(3) ف، ل: “الأراذل”.
(4) س، ف: “لا تستكثر”. وفي ل: “لا يستلزم”، تحريف.
(5) س، ز: “ناقص العقول”.

(1/381)


وأيضًا فإنّ هذا ذنبٌ غالبُ ما يقع مع التراضي من الجانبين، ولا يقع فيه من العدوان والظلم والاغتصاب ما ينفّر النفوس منه، وفيها شهوة غالبة له، فتُصوِّر ذلك لنفسها، فيقوم بها رحمةٌ تمنع إقامة الحدّ.
وهذا كلّه من ضعف الإيمان. وكمالُ الإيمان أن يقوم به قوة يقيم بها (1) أمرَ الله، ورحمة يرحم بها المحدود، فيكون موافقًا لربّه تعالى في (2) أمره ورحمته.
الثالث: أنه سبحانه أمر أن يكون حدّهما بمشهد من المؤمنين، فلا يكون خلوةً حيث لا يراهما أحد. وذلك أبلغ في مصلحة الحدّ وحكمة الزجر (3).
وحدّ الزاني المحصن مشتقّ من عقوبة الله سبحانه لقوم لوط بالقذف بالحجارة. وذلك لاشتراك الزنى واللواط في الفحش، وفي كلّ منهما فساد يناقض (4) حكمة الله في خلقه وأمره. فإنّ في اللواط من المفاسد ما يفوت الحصر (5) والتعداد. ولأنْ يُقتل المفعولُ به خير له من أن يُؤتى، فإنّه يَفسد فسادًا لا يرجى له بعده صلاح أبدًا. ويذهب خيره كلّه، وتمُصّ الأرض ماويّة الحياء (6) من وجهه، فلا يستحي بعد
__________
(1) ف: “ضعف الإيمان أن يقوم قوة يقوم بها”، سقط وتحريف.
(2) “في” ساقطة من ز.
(3) س: “وحكمته الموجود”!
(4) ف: “مناقض”.
(5) ف: “المفاسد تفويت الحصين”، تحريف.
(6) ف: “ماوية وجهه”. وكذا وردت “ماوية” في جميع النسخ. وقد ضرب بعضهم في ف على “وية” وكتب فوقها الهمزة، لتقرأ: “ماء وجهه” وكذا فعل بعضهم في خب. و”الماوية” كالمائية نسبة إلى الماء.

(1/382)


ذلك لا من الله ولا من خلقه، وتعمل في قلبه وروحه نطفة الفاعل ما يعمل السمّ في البدن (1).
وقد اختلف الناس: هل يدخل الجنّةَ مفعول به؟ على قولين سمعتُ شيخ الإِسلام يحكيهما. والذين قالوا: لا يدخل الجنّة، احتجّوا بأمور: منها: أنّ النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “لا يدخل الجنّة ولد زنية” (2). فإذا كان هذا حال ولد الزنى، مع أنه لا ذنب له في ذلك، ولكنّه مظنّة كل شرّ وخبث، وهو جدير أن لا يجيء منه خير أبدًا؛ لأنّه مخلوق من نطفة خبيثة، وإذا كان الجسد الذي تربّى على الحرام، النارُ أولى به، فكيف بالجسد المخلوق من النطفة الحرام؟
__________
(1) الطرق الحكمية (138).
(2) أخرجه أحمد 3/ 202 (6892) وابن حبان (8/ رقم 3383) والنسائي في الكبرى (4916) والطحاوي في شرح المشكل (914) من طريق الثوري وشيبان وجرير عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن جابان عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا.
ورواه شعبة عن منصور عن سالم عن نبيط بن شريط عن جابان عن عبد الله بن عمرو. أخرجه أحمد (6882) والنسائي في الكبرى (4914) وابن حبان (3384) وغيرهم.
قال النسائي: “لا نعلم أحدًا تابع شعبة على نبيط بن شريط”. تحفة الأشراف (6/ 283). قال البخاري في تاريخه الكبير (2/ 257) بعد أن ذكر طريق شعبة: “ولم يصح، ولا يعرف لجابان سماع من عبد الله بن عمرو، ولا لسالم من جابان، ولا من نبيط”. وقال ابن خزيمة: جابان مجهول.
ورواه شعبة من طريق آخر عن ابن عمرو موقوفًا. أخرجه النسائي (4917).
ورواه مجاهد، وقد اختلف عليه كثيرًا. انظر تفصيل ذلك عند النسائي في الكبرى وعند أبي نعيم في الحلية (3/ 307 – 309) وتحقيق المسند (11/ 473 – 493،474 – 495).

(1/383)


قالوا: والمفعول به شرّ من ولد الزنى، وأخزى (1)، وأخبث، وأوقح (2). وهو جدير أن لا يوفَّق لخير، وأن يحال بينه وبينه، وكلّما عمل خيرًا قُيِّض ما يفسده عقوبةً له. وقلّ أن ترى من كان كذلك في صغره إلا وهو (3) في كبره شرّ (4) مما كان. ولا يوفّق لعلم نافع، ولا عمل صالح، ولا توبة نصوح.
والتحقيق في المسألة أن يقال: إن (5) تاب المبتلى بهذا البلاء، وأناب، ورُزق توبة نصوحًا وعملًا صالحًا، وكان في كبره خيرًا منه في صغره، وبذَل سيئآته بحسنات، وغسل عارَ ذلك عنه بأنواع الطاعات والقربات، وغضّ بصره، وحفظ فرجه من المحرمات، وصدَق الله في معاملته = فهذا مغفور له، وهو من أهل الجنّة. فإنّ الله يغفر الذنوب جميعًا، وإذا كانت التوبة تمحو كلّ ذنب حتى الشرك بالله، وقتل أنبيائه وأوليائه، والسحر، والكفر، وغير ذلك، فلا تقصُر عن محو هذا الذنب (6).
وقد استقرّت حكمة الله به (7) عدلًا وفضلًا أنّ التائب من الذنب كمن
__________
(1) زاد بعدها في ف: “وأقبح”.
(2) في ل: “أوسخ”، وأشير في حاشية س إلى هذه النسخة. ولم يرد “أوسخ” أو “أوقح” في ف.
(3) س: “إلا هو”.
(4) “أشرّ”.
(5) س: “وإن”. ف: “المسألة إن”.
(6) وانظر: مجموع الفتاوى (15/ 408).
(7) “به” لم ترد في ل، ز.

(1/384)


لا ذنب له (1)، وقد ضمن الله سبحانه لمن تاب من الشرك وقتل النفس (2) والزنى أنّه يبدّل سيئاتِه حسناتٍ (3). وهذا حكم عامّ لكلّ تائب من كلّ ذنب (4). وقد قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53]، فلا يخرج (5) من هذا العموم ذنب واحد. ولكن هذا في حقّ التائبين خاصة.
وأمّا مفعول به كان في كبره شرًّا مما كان في صغره، لم يوفَّق لتوبة نصوح ولا لعمل صالح، ولا استدرك ما فات، ولا أحيا ما أمات، ولا بدّل السيئات بالحسنات = فهذا بعيد أن يوفَّق عند الممات لخاتمةٍ يدخل بها الجنّة عقوبة له على عمله. فإنّ الله سبحانه يعاقب على السيئة بسيئة أخرى، فتتضاعف (6) عقوبة السيئات بعضها ببعض (7)، كما يثيب على
__________
(1) هذه المقولة وردت في أحاديث عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما، ولا يثبت منها شيء. وهي ثابتة عن التابعي الجليل عامر الشعبي، أخرجه وكيع في الزهد (278).انظر تفصيل ذلك في تبييض الصحيفة بأصول الأحاديث الضعيفة (57 – 63).
(2) ز: “قتل أنبيائه”، خطأ.
(3) وذلك في قوله تعالى {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)} [الفرقان: 68 – 70].
(4) “من كل ذنب” لم يرد في س.
(5) ف: “ولا يخرج”.
(6) ل، ز: “وتتضاعف”.
(7) “بعضها ببعض” لم يرد في ل.

(1/385)


الحسنة بحسنة أخرى (1).
وإذا نظرت إلى كثير من المحتضَرين وجدتهم يحال بينهم وبيّن حسن الخاتمة (2)، عقوبةً لهم على أعمالهم السيئة. قال الحافظ أبو محمَّد عبد الحقّ بن عبد الرحمن الإشبيلي رحمه الله (3): “واعلم أنّ لسوء الخاتمة -أعاذنا الله منها- أسبابًا (4)، ولها طرق وأبواب، أعظمها: الإكباب على الدنيا، والإعراض عن الأخرى، والإقدام والجرأة على معاصي الله عز وجل. وربما غلب على الإنسان
ضرب من الخطيئة، ونوع من المعصية، وجانب من الإعراض، ونصيب من الجرأة والإقدام، فملكَ قلبَه، وسبق عقله، وأطفأ نوره، وأرسل عليه حجبه (5)، فلم تنفع فيه تذكرة، ولا نجعت فيه موعظة. فربما جاءه الموت على ذلك، فسمع النداء من مكان بعيد، فلم يتبيّن له المراد، ولا علم ما أراد، وإن كرّر عليه الداعي وأعاد! “.
قال: “ويروى أنّ بعض رجال الناصر (6) نزل به الموت، فجعل ابنه يقول: قل: لا إله إلا الله، فقال: الناصر مولاي! فأعاد (7) عليه القول، فأعاد مثل ذلك. ثم أصابته غشية، فلمّا أفاق قال: الناصر مولاي. وكان
__________
(1) “فتتضاعف … بحسنة أخرى” ساقط من ل.
(2) س: “بينهم وبيّن الجماعة”!
(3) في كتاب العاقبة (178 – 180).
(4) ما عدا س: “أسباب”.
(5) ف، ل: “محنة” وكذا في حاشية س.
(6) بعده في س كلمة تشبه “بين”.
(7) س: “وأعاد”.

(1/386)


هذا دأبه، كلمّا قيل له: قل: لا إله إلا الله، قال: الناصر مولاي (1). ثم قال لابنه: يا فلان، الناصر إنّما يعرفك بسيفك، والقتل، القتل (2). ثم مات”.
قال عبد الحق: “وقيل لآخر ممن أعرفه: قل: لا إله إلا الله، فجعل يقول: الدار الفلانية أصلحوا (3) فيها كذا، والبستان الفلاني افعلوا فيه كذا”.
وقال: “وفيما أذن لي أبو طاهر السِّلَفي أن أحدّث به (4) عنه أنّ رجلًا نزل به الموت، فقيل له: قل: لا إله إلا الله، فجعل يقول بالفارسية: دَهْ، يازدَه. تفسيره: عشرة بإحدى عشرة (5).
وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فجعل يقول: أين الطريق إلى حمّام مِنجاب؟ (6) قال: “وهذا الكلام له قصة. وذلك أن رجلًا كان واقفًا بإزاء داره، وكان بابُها يُشبه بابَ هذا الحمّام، فمرّت به جارية لها منظر، فقالت:
__________
(1) “وكان هذا دأبه … مولاي” ساقط من ف.
(2) س: “والقتل والقتل”. وفي العاقبة: “فالقتل ثم القتل”.
(3) ف: “افعلوا”، والكلمة ساقطة من ل.
(4) “به” لم يرد في س.
(5) ما عدا ف: “بإحدى عشر”. وكذا في جميع النسخ مع باء الجرّ. وفي العاقبة: “عشرة، أحد عشر” دون الباء، وهو الصواب. وقال عبد الحق بعد ذكر الحكاية: “كان هذا الرجل من أهل العمل والديوان فغلب عليه الحساب والميزان”.
(6) انظر ما سبق في ص (216).

(1/387)


أين الطريق إلى حمام مِنجاب؟ فقال: هذا حمام منجاب. فدخلت الدار، ودخل وراءها. فلمّا رأت نفسَها في داره، وعلمت أنّه قد خدعها، أظهرت له (1) البشر والفرح باجتماعها معه، وقالت له: يصلح أن يكون معنا ما يطيب به عيشنا، وتقرَّ به عيوننا (2). فقال لها: الساعة آتيكِ بكلّ ما تريدين وتشتهين. وخرج، وتركها في الدار، ولم يغلقها. فأخذ ما يصلح، ورجع، فوجدها قد خرجت، وذهبت، ولم تخنه في شيء. فهام الرجل، وأكثر الذكرَ لها، وجعل يمشي (3) في الطرق والأزقّة ويقول (4):
يا رُبَّ قائلةٍ يومًا وقد تعبت … كيف الطريق إلى حمّام مِنجاب
فبينا هو يومًا يقول ذلك، وإذا بجاريةٍ أجابته من طاق (5):
قَرْنانُ هلّا جعلتَ إذ ظفرتَ بها … حِرزًا على الدار أو قفلًا على الباب (6)
فازداد هيمانه، واشتدّ هيجانه، ولم يزل على ذلك حتى كان هذا البيت آخر كلامه من الدنيا”.
قال: “ويروى أن رجلًا (7) علِق شخصًا، فاشتدّ كلفه به، وتمكن
__________
(1) “له” ساقطة من ف.
(2) ف: “أعيننا”. وفي ز: “تُصلح معنا ما نطيّب … ونقرّ … “.
(3) ف: “فجعل يمرّ”.
(4) ف: “وهو يقول”.
(5) ف: “طاق تقول”.
(6) في س: “جعلت سريعًا إذ”، فإن صحت هذه الزيادة، فقولها: “قرنان” لا يكون جزءًا من البيت. والقَرنان: الديوث.
(7) س: “شخصًا”، وفي حاشيتها: “خ رجلًا”. وهذا الرجل أحمد بن كليب =

(1/388)


حبّه من قلبه، حتّى وقع لما به (1)، ولزم الفراش بسببه. وتمنّع ذلك الشخص عليه، واشتدّ نفاره عنه. فلم تزل الوسائط يمشون بينهما، حتّى وعده أن يعوده. فأُخبِرَ بذلك البائسُ، ففرح، واشتدّ سروره، وانجلى غمّه، وجعل ينتظره للميعاد الذي ضربه (2) له. فبينا هو كذلك، إذ جاءه الساعي بينهما، فقال: إنّه وصل معي إلى بعض الطريق، ورجع، فرغبت إليه، وكلّمته، فقال: إنّه ذكرني، وبرّح بي، ولا أدخل مداخل الريب، ولا أعرّض نفسي لمواقِع التهم. فعاودتُه، فأبى، وانصرف. فلمّا (3)
سمع البائسُ أُسْقِط في يده، وعاد إلى أشدّ مما كان به (4)، وبدت عليه علائم الموت. فجعل يقول في تلك الحال:
أسلَمُ، يا راحةَ العليلِ … ويا شِفا المدنِف النحيلِ
__________
= النحوي الشاعر صاحب أبي الحسن أسلم بن أحمد بن سعيد ابن قاضي الجماعة. والقصة أوردها الحميدي في جذوة المقتبس (143) من رواية ابن حزم. وانظر مصارع العشاق (1/ 297)، ومعجم الأدباء (1/ 422).
(1) كذا في جميع النسخ. وقولهم: “هو لما به” أو “أنا لما بي” تعبير عن حالة مبرّحة من شدّة المرض أو الكرب وهو شائع في كلام المتقدمين. ومن ذلك قول مصقلة بن هبيرة لما سئل عن معاوية رضي الله عنه: “زعمتم أنّه لما به، والله لقد غمزني غمزةَ كاد يحطمني … ” (زهر الآداب 1/ 50). وفي روضة المحبين (484): “وقيل لبثينة: هذا جميل لما به. فهل عندك من حيلة تنفسين بها وجده”. ومنه قول ابن زيدون (ديوانه: 50):
الله يعلم أنّي … أصبحتُ فيكِ لما بي
وقد أشكلت العبارة على ناشري الكتاب، فغيروها إلى: “ألمًا به”.
(2) س: “ضرب”.
(3) س: “كلما”، تحريف.
(4) ز: “عليه”.

(1/389)


رضاك أشهى إلى فؤادي … من رحمة الخالق الجليلِ (1)
فقلت له: يا فلان (2)، اتّق الله. قال: قد كان. فقمتُ عنه، فما جاوزتُ باب داره، حتى سمعتُ ضجّةَ الموت (3).
فعياذًا بالله من سوء العاقبة، وشؤم الخاتمة” (4).
“ولقد بكى سفيان الثوري ليلةً إلى الصباح، فلما أصبح قيل له: كلُّ هذا خوفًا من الذنوب؟ فأخذ تِبْنةً من الأرض، وقال: الذنوب أهون من هذا، وإنّما أبكي من خوف الخاتمة (5) ” (6).
وهذا من أعظم الفقه: أن يخاف الرجل أن تخذله ذنوبه عند الموت، فتحول بينه وبين الخاتمة بالحسنى.
وقد ذكر الإِمام أحمد (7) عن أبي الدرداء أنّه لما احتُضِر جعل يُغمى
__________
(1) ف: “حبّك أشهى”.
(2) ز: “له فلان”.
(3) ز: “صيحة الموت”.
(4) العاقبة (180).
(5) ل: “أبكي خوف الخاتمة”.
(6) العاقبة (175).
(7) في الزهد، وليس في المطبوعة. ومن طريقه أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 17) والبيهقي في الشعب (15184) وغيرهما قال الإِمام أحمد: ثنا الوليد بن مسلم حدثني ابن جابر عن إسماعيل بن عبيد الله عن أم الدرداء فذكره.
وأخرجه أبو داود في الزهد (212) من طريق الوليد بن مسلم به.
وأخرجه ابن المبارك في الزهد (32) وابن أبي شيبة (34596) وابن أبي الدنيا في المحتضرين (126) وابن عساكر في تاريخه (47/ 197، 198) وغيرهم من طريق ابن المبارك عن ابن جابر به بمثله. وهو ثابت صحيح.

(1/390)


عليه، ثم يفيق ويقرأ: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)} [الأنعام: 110]. فمِن هذا خاف السلف من الذنوب أن تكون حجابًا بينهم وبيّن الخاتمة بالحسنى.
قال (1): “واعلم أنّ سوء الخاتمة -أعاذنا الله منها- لا تكون لمن استقام ظاهره، وصلح باطنه، ما سمع بهذا ولا علم به، ولله الحمد. وإنّما تكون لمن له فساد في العقيدة (2)، أو إصرار على الكبائر، وإقدام على العظائم. فربّما غلب ذلك عليه، حتى ينزل به الموت قبل التوبة، فيأخذه قبل إصلاح الطوِيّة، ويُصطلَم (3) قبل الإنابة، فيظفر به الشيطان عند تلك الصدمة، ويختطفه عند تلك الدهشة. والعياذ بالله”.
قال: “ويروى أنّه كان بمصر رجل يلزم مسجدًا للأذان والصلاة (4)، وعليه بهاء الطاعة وأنوار العبادة، فرقي يومًا المنارةَ على عادته للأذان، وكان تحت المنارة دار لنصراني، فاطّلع فيها، فرأى ابنة صاحب الدار، فافتتن بها، فترك الأذان ونزل إليها، ودخل الدار عليها، فقالت له: ما شأنك؟ وما تريد؟ قال: أريدكِ. قالت: لماذا؟ قال: قد سَبَيتِ لُبِّي، وأخذتِ بمجامع قلبي. قالت: لا أجيبك إلى ريبة (5) أبدًا. قال: أتزوجك. قالت: أنت مسلم، وأنا نصرانية، وأبي لا يزوجني منك. قال لها: أتنصّر. قالت: إن فعلت أفعل. فتنصّر الرجل
__________
(1) يعني عبد الحق الإشبيلي. انظر كتاب العاقبة (181).
(2) ف: “العقائد”. ز: “العقد”.
(3) من اصطلمه الموت أو العدوّ: استأصله.
(4) س: “يلازم المسجد … “. ف: “يأوي مسجدًا للصلاة والأذان”.
(5) س: “زنية”.

(1/391)


ليتزوجها، وأقام معهم في الدار فلمّا كان في أثناء ذلك اليوم رقي إلى سطح كان في الدار (1)، فسقط منه، فمات. فلم يظفر بها (2)، وفاته دينه! (3) “.
فصل
ولما كانت مفسدة اللواط من أعظم المفاسد كانت عقوبته في الدنيا والآخرة من أعظم العقوبات.
وقد اختلف الناس: هل هو أغلظ عقوبةً من الزنى، أو الزنى أغلظ عقوبةً منه، أو عقوبتهما سواء؟ على ثلاثة أقوال (4):
فذهب أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وخالد بن الوليد، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس، وجابر بن زيد، و [عبيد الله بن] عبد الله بن معمر (5)، والزهري، وربيعة بن أبي
__________
(1) ف: “إلى السطح في الدار”.
(2) “فمات” ساقط من س. وفي ف: “ولم يظفر بها”.
(3) العاقبة (181). وقول المؤلف: “ولقد بكى سفيان الثوري … ” إلى آخر الفصل قد تقدّم في بعض الطبعات -ومنها ط المدني- على قصة ابن كليب.
(4) وانظر روضة المحبين (504) وذم الهوى (202 – 205)، والمحلى (11/ 380 – 386). والمغني (12/ 348 – 350).
(5) ف: “عبد الله بن عمر”. وفي س: “عبد الله بن عمر ومعمر”. وفي ل، ز، خب: “عبد الله بن معمر”. وهو تحريف صوابه ما أثبتنا. وكذا في المغني (12/ 349)، ونحوه في مساوئ الأخلاق للخرائطي (459) وذم اللواط للآجري (35) من طريق حماد عن قتادة عن خلاس عن عبيد الله بن معمر.
وأخرجه ابن أبي شيبة (28339) وابن أبي الدنيا في الملاهي (158) من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عبيد الله بن عبد الله بن معمر. وكذا في ذم =

(1/392)


عبد الرحمن (1)، ومالك، وإسحاق بن راهويه، والإمام أحمد (2) في أصحّ الروايتين عنه (3)، والشافعي في أحد قوليه = إلى أنّ عقوبته أغلظ من عقوبة الزنا، وعقوبته القتل على كلّ حال محصنًا كان أو غير محصن.
وذهب عطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وسعيد بن المسيّب (4)، وإبراهيم النخعي (5)، وقتادة، والأوزاعي، والشافعي في
__________
= الهوى (204) من طريق معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن جابر بن زيد وعبيد الله بن عبد الله بن معمر.
وعبيد الله بن معمر بن عثمان رأى النبي – صلى الله عليه وسلم – وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنه. وعبيد الله بن عبد الله بن معمر ابن أخي الأول. وقد يقع الخلط بينهما.
انظر الإصابة (5/ 55).
(1) ف: “ربيعة بن عبد الرحمن”، خطأ.
(2) س: “أحمد بن حنبل”.
(3) وهي رواية إسحاق الكوسج عنه انظر: مسائله (7/ 3471). وانظر: ذم الهوى (255).
(4) في ذم الهوى (204) أنه قال: يرجم، أحصن أو لم يحصن (ص). ومثله في المساوي للخرائطي (454) وذم اللواط للآجري (50). وأخرج عبد الرزاق (13489) عنه أنه قال فيه: “مثل حد الزاني، إن كان محصنًا رجم” -كما نقل المصنف هنا- وفي سنده: الأسلمي، متروك. وابن جريج، مدلس. (ز).
(5) كذا في ذم الهوى (204). وفيه (205) قول آخر له مثل القول الأول. قال: “لو كان أحد ينبغي أن يرجم مرتين لكان ينبغي للوطي أن يرجم مرتين” (ص).
قوله الأول أخرجه عبد الرزاق (13487) وابن أبي شيبة (28333، 28335) والطحاوي في شرح المشكل (9/ 448، 449) والآجري (38) من طريق حماد بن أبي سليمان وأبي معشر عن النخعي قال: “حد اللوطي حد الزاني”.
والقول الثاني رواه حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن النخعي. =

(1/393)


ظاهر مذهبه، والإمام أحمد في الرواية الثانية عنه، وأبو يوسف ومحمد = إلى أنّ عقوبته وعقوبة الزاني (1) سواء.
وذهب الحكم (2) وأبو حنيفة إلى أنّ عقوبته دون عقوبة الزاني، وهي التعزير.
قالوا: لأنّه معصية من المعاصي لم يقدّر الله ولا رسوله فيه حدًّا مقدّرًا، فكان فيه التعزير، كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير.
قالوا: ولأنّه وطء في محلٍّ لا يشتهيه الطباع (3)، بل ركّبها الله تعالى على النفرة منه حتى الحيوان البهيم، فلم يكن فيه حدّ، كوطء الحمار وغيره.
قالوا: ولأنه لا يسمّى زانيًا لغةً ولا شرعًا ولا عرفًا، فلا يدخل في النصوص الدالّة على حدّ الزانيين.
__________
= أخرجه ابن أبي شيبة (28336) والآجري (37،36). قلت: اللفظ الأول أصح، فقد رواه سفيان الثوري وغيره عن حماد بن أبي سليمان.
وله قول ثالث وبه قال الحكم بن عتيبة من كبار أصحابه رواه الثوري عن منصور عن النخعي قال: “يضرب دون الحدّ”. أخرجه ابن أبي شيبة (28338) وابن حزم في المحلى (11/ 382) وغيرهما، وسنده صحيح.
قلت: هذا أصح من حديث حماد بن أبي سليمان وأبي معشر، والله أعلم (ز).
(1) س: “الزنا”.
(2) هو الحكم بن عُتيبة، عالم أهل الكوفة، من كبار أصحاب إبراهيم النخعي، مات سنة 132 هـ. سير أعلام البلاء ( 5/ 208 ).
(3) ل: “لا تشتهيه الطبائع”.

(1/394)


قالوا: ولأنّا رأينا قواعد الشريعة (1) أنّ المعصية إذا كان الوازع عنها طبعيًّا اكتفي بذلك الوازع من الحدّ، وإذا كان في الطباع تقاضيها جعل فيها الحدّ بحسب (2) اقتضاء الطباع لها. ولهذا جعل الحدّ في الزنى والسرقة وشرب المسكر دون أكل الميتة والدم ولحم الخنزير.
قالوا: وطردُ هذا أنّه لا حدّ في وطء البهيمة ولا الميتة. وقد جبل الله سبحانه الطباعَ على النفرة من وطء الرجلِ مثلَه أشدَّ نفرة، كما جبلها على النفرة من استدعاء الرجل من يطؤه، بخلاف الزنى فإنّ الداعي فيه من الجانبين.
قالوا: ولأنّ أحد النوعين إذا استمتع بشكله لم يجب عليه الحدّ، كما لو تساحقت المرأتان واستمتعت كلّ واحدة منهما بالأخرى.
قال أصحاب القول الأول -وهم جمهور الأمة، وحكاه غير واحد إجماعًا للصحابة-: ليس في المعاصي مفسدة أعظم (3) من هذه المفسدة، وهي تلي مفسدة الكفر، وربما كانت أعظم من مفسدة القتل، كما سنبيّنه إن شاء الله.
قالوا: ولم يبتلِ الله تعالى بهذه الكبيرة قبل قوم لوط أحدًا من العالمين، وعاقبهم عقوبةً لم يعاقب بها أمةً غيرهم، وجمع عليهم من
__________
(1) كذا في جميع النسخ إلّا خا التي فيها: “قالوا: وقواعد الشريعة”. وفي ط فايد وعبد الظاهر: “من قواعد”. وفي بعض الطبعات المتأخرة: “في قواعد”. وقد تقدم تفصيل هذه القاعدة في ص (259).
(2) ز: “بحيث”.
(3) س: “أشدّ”. وأشير في حاشيتها إلى هذه النسخة. وفي ف، ز: “أعظم مفسدة”.

(1/395)


أنواع العقوبات من الإهلاك (1) وقلب ديارهم عليهم، والخسف بهم، ورجمهم بالحجارة من السماءة فنكّلَ بهم نكالًا لم ينكّله بأمّة سواهم. وذلك لعظم مفسدة هذه الجريمة التي تكاد الأرض تميد من جوانبها (2) إذا عُمِلت عليها، وتهرب الملائكة إلى أقطار السموات والأرض إذا شاهدوها، خشيةَ نزول العذاب على أهلها، فيصيبهم معهم؛ وتعجّ الأرض إلى ربّها تبارك وتعالى، وتكاد الجبال تزول عن أماكنها.
وقتل المفعول به (3) خير له من وطئه، فإنّه إذا وطئه الرجل قتله قتلًا (4) لا ترجى الحياة معه؛ بخلاف قتله فإنّه مظلوم شهيد، وربما ينتفع به في آخرته.
قالوا: والدليل على هذا أن الله سبحانه جعل حدّ القاتل إلى خِيَرة الوليّ، إن شاء قتل، وإن شاء عفا؛ وحتّم قتل اللوطي حدًّا، كما أجمع عليه أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ودلّت عليه سنّة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (5) الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها، بل عليها عمل أصحابه وخلفائه الراشدين.
وقد ثبت عن خالد بن الوليد أنّه وجد في بعض ضواحي العرب رجلًا يُنكَح كما تُنكَح المرأة، فكتب إلى أبي بكر الصديق،
__________
(1) ف: “عليهم أنواع العقوبات بين الإهلاك”.
(2) ف: “جوانبهم”.
(3) “به” لم يرد في ف.
(4) س: “قتلة”، وفي حاشيتها: “خ قتلا”.
(5) “ودلّت … ” إلى هنا ساقط من س.

(1/396)


فاستشار أبو بكر الصحابة رضي الله عنهم، فكان (1) علي بن أبي طالب أشدّهم قولًا فيه، فقال: ما فعل هذا إلا أمّةٌ من الأمم واحدة (2)، وقد علمتم ما فعل الله بها. أرى أن يُحرَّق بالنار. فكتب أبو بكر إلى خالد فحرّقه (3).
وقال عبد الله بن عباس: ينظر أعلى بناء في القرية، فيرمى اللوطي منه مُنْكَبًّا (4)، ثم يتبع بالحجارة (5). وأخذ عبد الله بن عباس هذا الحدّ من عقوبة الله للّوطية قوم لوط.
وابن عباس هو الذي روى عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: “من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به”. رواه أهل السنن (6)، وصحّحه
__________
(1) س: “وكان”.
(2) س: “واحدة من الأمم”.
(3) أخرجه الخرائطي في المساوي (451) وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (145) والآجري في ذم اللواط (29) والبيهقي في السنن (8/ 232) وابن حزم في المحلى (11/ 381) وغيرهم من طريق محمَّد بن المنكدر وموسى بن عقبة وصفوان بن سُليم أن خالد بن الوليد … فذكره. قال البيهقي: هذا مرسل.
وقال ابن حزم: فهذه كلها منقطعة ليس منهم أحد أدرك أبا بكر.
(4) ز: “منكسًا”.
(5) أخرجه ابن أبي شيبة (28328) والعباس الدوري في تاريخه (4/ 329) وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (135) والآجري في ذم اللواط (35) والبيهقي (8/ 232) وغيرهم من طريق أبي نضرة قال: سئل ابن عباس: ما حد اللوطي؟ فذكره. وسنده صحيح.
(6) أخرجه أبو داود (4462) والترمذي (1456) وابن ماجه (2561) وأحمد 1/ 300 (2732) وابن عدي (5/ 116) وابن الجارود (820) والحاكم 4/ 395 (8047) وغيرهم من طريق الدراوردي وسليمان بن بلال عن عمرو بن =

(1/397)


ابن حبان وغيره، واحتجّ الإِمام أحمد بهذا الحديث. وإسناده على شرط البخاري.
قالوا: وثبت عنه أنه (1) قال: “لعن الله مَن عمِلَ عملَ قوم لوط. لعن الله من عمل عمل قوم لوط. لعن الله من عمل عمل قوم لوط” (2).
ولم تجئ عنه لعنة الزاني في (3) حديث واحد، وقد لعن جماعة من أهل الكبائر فلم يتجاوز بهم في اللعنة مرة واحدة، وكرّر لعن اللوطية فأكّده ثلاث مرات.
__________
= أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس فذكره مرفوعًا.
قال الترمذي: “وإنما نعرف هذا الحديث عن ابن عباس عن النبي – صلى الله عليه وسلم – من هذا الوجه “- وقال الحاكم: “هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وله شاهد”. وسئل البخاري عن الحديث فقال: “عمرو بن أبي عمرو صدوق، ولكن روى عن عكرمة مناكير، ولم يذكر في شيء من ذلك أنه سمع عن عكرمة”. واستنكر هذا الحديث على عمرو هذا: يحيى بن معين والنسائي وابن عدي. وقال الإِمام الشافعي: “إن صحّ قلتُ به”. انظر التلخيص الحبير (4/ 91 – 92).
وله طرق عن عكرمة، ولا يثبت منها شيء. وروي عن أبي هريرة وجابر ولا يثبت.
(1) “أنه” ساقط من ف.
(2) أخرجه أحمد 1/ 309، 317 (816، 2915،2913) والنسائي في الكبرى (7337) وأبو يعلى (4/ 2539) وابن حبان (4417) والحاكم 4/ 396 (8052) وغيرهم من طريق زهير بن محمَّد وسليمان بن بلال وعبد الرحمن بن أبي الزناد كلهم عن عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعًا مطولًا.
قال النسائي: “عمرو ليس بالقوي”. وانظر الحديث السابق.
(3) س: “من”.

(1/398)


وأطبق أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على قتله، لم يختلف (1) فيه منهم رجلان. وإنما اختلفت أقوالهم في صفة قتله (2)، فظنّ بعض الناس أنّ ذلك اختلاف منهم في قتله، فحسماها مسألة نزل بين الصحابة وهي بينهم مسألة إجماع (3)، لا مسألة نزل.
قالوا: ومن تأمّل قوله سبحانه: ({وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)} [الإسراء: 32]، وقوله في اللواط: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)} [الأعراف: 80] تبيّن له تفاوتُ ما بينهما. فإنّه (4) سبحانه نكّر الفاحشة في الزنى، أي هو (5) فاحشة من
الفواحش، وعرّفها في اللواط، وذلك يفيد أنّه جامع لمعاني اسم الفاحشة، كما تقول: زيد الرجل (6)، ونعم الرجل زيد. أي: أتأتون الخصلة التي استقرّ فحشُها عند كلّ أحد (7)؟ فهي لظهور فحشها (8) وكماله غنيّة عن ذكرها، بحيث لا ينصرف الاسم إلى غيرها.
وهذا نظير قول فرعون لموسى (9): {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} [الشعراء: 19] أي: الفعلةَ الشنعاءَ الظاهرة المعلومةَ لكلّ أحد.
__________
(1) س: “اختلفوا”.
(2) “وإنما … قتله” ساقط من س.
(3) س: “بينهم إجماع”.
(4) ف: “وأنّه”.
(5) لم ترد “أي” في ف، ل. وفي ل: “هي”.
(6) في ز: “زيدًا لرجل” كذا مضبوطًا، وهو خطأ.
(7) “عند” ساقطة من س.
(8) في س، ل زيادة: “عند كل أحد”.
(9) “لموسى” ساقط من ف. وقد استدركه بعضهم في الحاشية.

(1/399)


ثم أكّد سبحانه بيانَ فحشها (1) بأنّها (2) لم يعملها أحد من العالمين قبلهم، فقال: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)} (3) [الأعراف: 80]. ثم زاد في التأكيد بأن صرّح بما تشمئزّ منه القلوب، وتنبو عنه الأسماع، وتنفر منه أشدَّ النّفرة (4) الطباعُ، وهو إتيان الرجل رجلًا مثلَه، ينكحه كما ينكح الأنثى، فقال: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} [الأعراف: 81].
ثم نبّه على استغنائهم عن ذلك، وأنّ الحامل لهم عليه ليس إلا مجرد الشهوة، لا الحاجة التي لأجلها مال الذكر إلى الأنثى (5)، من قضاء الوطر ولذة الاستمتاع، وحصول المودة والرحمة التي تنسى المرأة لها أبويها وتذكر بعلها، وحصولِ النسل الذي هو (6) حفظ هذا النوع الذي هو أشرف المخلوقات، وتحصينِ المرأة وقضاء وطرها، وحصولِ علاقة المصاهرة التي هي أخت النسب (7)، وقيامِ الرجال على النساء، وخروجِ أحبّ الخلق إلى الله من جماعهن كالأنبياء والأولياء والصالحين (8)، ومكاثرةِ النبي – صلى الله عليه وسلم – الأنبياءَ بأمّته، إلى غير ذلك من مصالح النكاح. والمفسدةُ التي في اللواط تقاوم ذلك كلَّه، وتُرْبي
__________
(1) ل، ز: “شأن فحشها”.وقد سقطت الكلمة من ف، فاستدركها بعضهم في حاشيتها وكتب: “شأن”.
(2) ف: “بأنه”.
(3) “قبلهم … ” إلى هنا ساقط من س، ز.
(4) ف: “ينبو … وينفر … كل النفرة”.
(5) “إلى” ساقطة من س.
(6) “هو” لم ترد في س.
(7) ز: “أحبّ النسب”، تصحيف.
(8) ما عدا ف: “المؤمنين” مكان “الصالحين”. وفي س: “كالأولياء” فلم يرد فيها: “كالأنبياء”.

(1/400)


عليه (1) بما لا يمكن حصرُ فسادِه، ولا يَعلم تفصيلَه إلا الله.
ثم أكّد قبحَ ذلك بأنّ اللوطية عكسوا فطرة الله التي فطر عليها الرجال، وقلبوا الطبيعة التي ركّبها الله في المذكور، وهي شهوة النساء دون شهوة المذكور. فقلبوا الأمر، وعكسوا الفطرة والطبيعة، فأتوا
الرجال شهوةَ من دون النساء (2). ولهذا قلَب الله سبحانه عليهم ديارَهم، فجعل عاليها سافلها. وكذلك قُلِبوا هم ونُكسُوا (3) في العذاب على رؤوسهم (4).
ثم أكّد سبحانه قبح ذلك بأنْ حكم عليهم بالإسراف، وهو مجاوزة الحدّ، فقال: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)} [الأعراف: 81].
فتأمّلْ هل جاء ذلك أو قريبًا منه في الزنى؟ وأكد سبحانه ذلك عليهم بقوله: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} [الأنبياء: 74] “. ثم أكد عليهم الذمّ بوصفين في غاية القبح، فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)}.
وسمّاهم “مفسدين” في قول نبيّهم: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)} [العنكبوت: 30]. وسمّاهم “ظالمين” في قول الملائكة لإبراهيم: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31)} [العنكبوت: 31].
__________
(1) أي تزيد عليه. وفي ف: “عليها”. والكلمة ساقطة من ل.
(2) “دون شهوة … النساء” ساقط من س.
(3) س: “قلبوا ونكسوا”.
(4) “ثم كد قبح ذلك … رؤوسهم” ساقط من ز.

(1/401)


فتأمّلْ من عوقب بمثل هذه العقوبات، ومن ذمّه الله (1) بمثل هذه المذمّات! ولمّا جادل فيهم خليلُه إبراهيمُ الملائكةَ، وقد أخبروه بإهلاكهم، قيل له: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)} [هود: 76].
وتأمَّلْ خبثَ اللوطية وفرط تمرّدهم على الله، حيث (2) جاؤوا نبيهم لوطًا لمّا سمعوا بأنّه قد طَرَقَه أضيافٌ هم من أحسن البشر صورًا، فأقبل اللوطية إليه (3) يهرولون. فلما رآهم قال لهم: {يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78]، ففدى أضيافه ببناته، يزوّجهم بهنّ، خوفًا على نفسه وأضيافه من العار الشديد، فقال: {يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)} [هود: 78]، فردّوا عليه، ولكن ردَّ جبّارٍ عنيدٍ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)} [هود: 79]. فنفث نبيُّ الله نفثةَ مصدور، وخرجَتْ من قلب مكروب عميد (4)، فقال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)} [هود: 80]. فنفّس له رُسُل الله، وكشفوا له عن حقيقة الحال، وأعلموه أنّهم ليسوا (5) ممّن يُوصَل إليهم ولا إليه بسببهم، فلا تخف منهم، ولا تعبأ بهم، وهوِّنْ عليك، فقالوا: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود: 81]، وبشّروه بما جاؤوا به من الوعد له، ولقومه من الوعيد المصيب، فقالوا: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ
__________
(1) زاد في س: “عليه”، وهو خطأ.
(2) ز: “حين”.
(3) لم يرد “إليه” في س.
(4) العميد: الشديد الحزن.
(5) ل: “أنه ليس”.

(1/402)


إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} (1) [هود: 81]. فاستبطأ نبي الله موعدَ هلاكهم (2)، وقال: أريد أعجل من هذا، فقالت الملائكة: {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)}.
فوالله ما كان بين هلاك أعداء الله ونجاة نبيّه وأوليائه إلا ما بين السحر وطلوع الفجر، وإذا بديارهم قد اقتُلِعت من أصولها، ورُفعت نحو السماء، حتى سمعت الملائكة نباح الكلاب ونهيق الحمير. فبرز
المرسوم الذي لا يُردّ من عند الربّ الجليل إلى عبده ورسوله جبريل بأن يقلبها عليهم، كما أخبر به في محكم التنزيل، فقال عزّ من قائل: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [هود: 82].
فجعلهم آيةً للعالمين، وموعظة للمتقين، ونكالًا وسلَفًا لمن شاركهم في أعمالهم من المجرمين، وجعل ديارهم بطريق السالكين. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)} [الحجر: 75 – 77].
أخذهم على غِرّةٍ وهم نائمون، وجاءهم بأسُه وهم في سكرتهم يعمهون، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون، فانقلبت (3) تلك اللذات آلامًا فأصبحوا بها يعذَّبون:
__________
(1) وردت الآية في جميع النسخ والطبعات التي بين يدي بتكملتها الآتية فيما بعد، ولعله سهو من النسّاخ، فإن إثباتها هنا مخالف للسياق.
(2) ل: “أمر موعد هلاكهم”.
(3) ز: “تقلبت”.

(1/403)


مآربُ كانت في الحياة لأهلها … عِذابًا فصارت في الممات عَذابا (1)
ذهبت اللذّات، وأعقبت الحسرات. وانقضت الشهوة، وأورثت الشقوة. تمتّعوا قليلًا، وعُذِّبوا طويلًا. رتَعوا مرتعًا وخيمًا، فأعقبهم عذابًا أليمًا. أسكرتهم خمرة تلك الشهوة، فما استفاقوا منها إلا في ديار
المعذَّبين. وأرقدتهم تلك الغفلة، فما استيقظوا إلا وهم في منازل الهالكين. فندموا واللهِ أشدَّ الندامة حين لا ينفع الندم. وبكوا على ما أسلفوه بدل الدموع بالدم.
فلو رأيت الأعلى والأسفل من هذه الطائفة، والنار تخرج من منافذ وجوههم وأبدانهم، وهم بين أطباق الجحيم، وهم يشربون بدل لذيذ الشراب كؤوس الحميم، ويقال لهم، وهم على وجوههم يسحبون: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24)} [الزمر: 24]، {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)} [الطور: 16].
ولقد قرّب الله سبحانه مسافة العذاب بين هذه الأمة وبيّن إخوانهم في العمل، فقال مخوِّفًا لهم أن يقع الوعيد: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)} [هود: 83].
فيا ناكحي الذُّكرانِ يهنيكم البشرى … فيومَ معادِ الناس إنّ لكم أجرا
كلوا واشربوا وازنُوا ولوطوا وأبشِروا … فإنكمُ زَفًّا إلى الجنّة الحمرا (2)
__________
(1) ف: “في المعاد” مكان “في الممات”. وسيأتي مرة أخرى في ص (548).
وقد أنشده المؤلف في طريق الهجرتين (119)، وروضة المحبين (632)، والفوائد (46) وفيها: “كانت في الشباب … فصارت في المشيب”.
(2) زفًّا: أي تُزَفّون. وفي ف: “فإنّ لكم”، ولعله مغيّر.

(1/404)


فإخوانكم قد مهّدوا الدارَ قبلكم … وقالوا: إلينا عجِّلوا لكم (1) البشرى
وها نحن أسلاف لكم في انتظاركم … سيجمعنا الجبَّارُ في ناره الكبرى (2)
ولا تحسَبوا أنّ الذين نكحتمُ … يغيبون عنكم بل ترونهمُ جَهْرا
ويلعن كلٌّ منكمُ لخليله … ويشقَى به المحزونُ في الكرّة الأخرى
يعذَّب كلٌّ منهمُ بشريكه … كما اشتركا في لذّةٍ تُوجِب الوِزْرا
فصل في الأجوبة عما احتجّ به من جعل عقوبة هذه الفاحشة دون عقوبة الزنى
أما قولهم: إنّها معصية لم يجعل الله فيها حدًّا معيّنًا، فجوابه من وجوه:
أحدها: أنّ المبلِّغ عن الله جعل حدَّ صاحبها القتلَ حتفًا، وما شرعه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فإنّما شرعه عن الله. فإنْ أردتم أنّ حدّها غير معلوم بالشرع فهو باطل، وإن أردتم أنّه غير ثابت بنصّ الكتاب لم يلزم من ذلك انتفاء حكمه لثبوته بالسنّة.
الثاني: أنّ هذا ينتقض عليكم بالرجم، فإنّه إنما ثبت بالسنّة.
فإن قلتم: بل ثبت بقرآن نُسِخَ لفظه وبقي حكمه، قلنا: فينتقض عليكم بحدّ شارب الخمر.
الثالث: أن نفي دليل معيّن لا يستلزم نفيَ مطلق الدليل ولا نفيَ
__________
(1) ت: “فقالوا”.
(2) ل، ز: “أسلافًا”. ف: “سيجمعنا الرحمن”.

(1/405)


المدلول، فكيف وقد قدّمنا أنّ الدليل الذي نفيتموه غير منتفٍ؟
وأمّا قولكم: إنه وطء في محل لا تشتهيه الطباع، بل ركّب الله الطباع على النفرة منه، فهو كوطء الميتة والبهيمة، فجوابه من وجوه: أحدها: أنّه قياس فاسد الاعتبار، مردود بسنّة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإجماع الصحابة، كما تقدّم بيانه.
الثاني: أنّ قياس وطء الأمرد الجميل الذي فتنتُه تُربي على كلّ فتنة (1)، على وطء أتانٍ أو امرأة ميتة، من أفسدِ القياس. وهل تغزّل أحد قطّ بأتان أو بقرة أو ميتة، أو سبى ذلك عقلَ عاشق، أو أسَرَ قلبه، أو استولى على فكره ونفسه؟ فليس في القياس أفسد من هذا.
الثالث: أنّ هذا منتقض بوطء الأمّ والبنت والأخت، فإنّ النفرة الطبيعية عنه حاصلة، مع أنّ الحدّ فيه من أغلظ الحدود في أحد القولين، وهو القتل بكل حال محصنا كان أو غير محصن. وهذا إحدى
الروايتين (2) عن الإِمام أحمد، وهو قول إسحاق بن راهويه وجماعة من أهل الحديث.
وقد روى أبو داود (3) من حديث البراء بن عازب قال: لقيتُ عمّي
__________
(1) س: “من كل فتنة”، خطأ.
(2) ف: “وهو … “. س: “أحد الروايتين”.
(3) برقم 4457. وأخرجه النسائي (3332) وابن الجارود (681) والدارمي (2285) وغيرهم من طريق زيد بن أبي أنيسة عن عدي بن ثابت عن يزيد بن البراء عن أبيه فذكره.
ورواه السدّي وأشعث بن سوار -وقد اختلف عليه- والربيع بن الركين وغيرهم عن عدي عن البراء عن خاله فذكره، بإسقاط (يزيد بن البراء). أخرجه =

(1/406)


ومعه الراية، فقلت: إلى أين تريد (1)؟ قال: بعثني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى رجل نكح امرأة أبيه من بعده أن أضربَ عنقه، وآخذَ ماله.
قال الترمذي: هذا حديث حسن (2). قال الجوزجاني: عمّ البراء اسمه الحارث بن عمرو (3).
وفي سنن ابن ماجه (4) من حديث ابن عباس (5) قال: قال رسول الله
__________
= أحمد (18557، 18578، 18610) والترمذي (1362) وقال: “حسن غريب”، وابن ماجه (2607) وغيرهم.
ورجح أبو حاتم حديث زيد بن أبي أنيسة لزيادته (يزيد بن البراء). انظر العلل لابن أبي حاتم (1207، 1277) وعلل الدارقطني (6/ 20 – 22).
والحديث سنده جيد.
(1) ف: “فقلت: أين تريد”.
(2) في المتن المطبوع مع تحفة الأحوذي: “حسن غريب”، ومثله في نسخة الكروخي (ق/ 98 ب).
(3) ويقال: إنه خاله. وفي بعض طرق الحديث: “لقيت خالي”. وانظر الإصابة (1/ 588).
(4) برقم (2568). وأخرجه الترمذي (1462) وأحمد في المسند 1/ 300 (2727) والطبري في التهذيب (مسند ابن عباس- 871) والطبراني (11/ رقم 11580) وابن عدي في الكامل (5/ 286) وابن حبان في المجروحين (1/ 110) من طريق إبراهيم بن إسماعيل (ابن أبي حبيبة) عن داود بن حصين عن عكرمة عن ابن عباس مختصرًا ومطولًا. قال الترمذي: “هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإبراهيم بن إسماعيل يضعّف في هذا الحديث”.
وقال أبو حاتم الرازي: “هذا حديث منكر، لم يروه غير ابن أبي حبيبة”.
العلل (1367).
(5) ف: “ابن ماجه عن ابن عباس”. وفي ط المدني وعبد الظاهر وغيرهما: “وفي سنن أبي داود وابن ماجه … ” وهو مخالف لجميع النسخ التي بين يديّ، =

(1/407)


– صلى الله عليه وسلم -: “من وقع على ذات محرم فاقتلوه”.
ورُفِع إلى الحجاج رجلٌ اغتصب أخته على نفسها، فقال: احبسوه، واسألوا (1) مَن ها هنا من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. فسألوا عبد الله بن مطرِّف، فقال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول (2): “من تخطّى حُرمَ المؤمنين فخُطُوا وسطه بالسيف” (3).
__________
= وخطأ أيضًا، فإن الحديث المذكور لم يرد في سنن أبي داود.
(1) ف، ز: “وسَلوا”.
(2) “يقول” ساقط من س، ف.
(3) أخرجه ابن أبي عاصم (5/ رقم 2817) والبغوي في معجم الصحابة (4/ رقم 1712) وابن قانع في معجم الصحابة (562) وأبو نعيم في معرفة الصحابة (4/ رقم 1712) والخرائطي في اعتلال القلوب (111) وفي مساوئ الأخلاق (575) والعقيلي في الضعفاء (2/ 201 – 202) وابن عدي في الكامل (3/ 175) وغيرهم من طريق رفدة بن قضاعة عن صالح بن راشد القرشي قال: أُتي الحجاج برجل فذكره.
قلت: هذا حديث لا يثبت، لضعف رفدة ولخطئه في الحديث. وحكم أبو حاتم وأبو زرعة بأنه خطأ وغلط. وقال البخاري: لم يصح حديثه (أي حديث صالح بن راشد) وقال مرة: ولم يصح إسناده. وقال ابن منده: غريب.
وقال ابن السكن: في إسناده نظر.
ويرى أبو زرعة أن الصحيح أنه من فتوى عبد الله بن مطرّف بن الشخِّير.
هكذا رواها عنه قتادة وداود بن أبي هند.
قلت: هذه الفتوى أخرجها الطبري في التهذيب (مسند ابن عباس 887 – 889) والخرائطي في اعتلال القلوب (112) من طريق قتادة، وابن أبي شيبة (4/ 131 – الإصابة) والطبري في التهذيب (891) من طريق حميد عن بكر بن عبد الله فذكره. وسند الفتوى صحيح.
راجع: علل ابن أبي حاتم (1369) والجرح والتعديل (5/ 152 – 153، 182) والتاريخ الكبير للبخاري (4/ 279)، (5/ 34) والإصابة 4/ 131 (4951).

(1/408)


وفيه دليل على القتل بالتوسيط. وهذا دليل مستقِلّ في المسألة، وهو أنّ من لا يباح (1) وطؤه بحال فحدُّ وطئه القتل. دليله: من وقع على أمّه وابنته. وكذلك يقال في وطء ذوات المحارم ووطء مَن لا يباح له وطؤه بحال، فكان (2) حدّه القتل، كاللوطي.
والتحقيق أن يستدلّ على المسألتين بالنصّ. والقياس يشهد لصحة كلّ منهما.
وقد (3) اتفق المسلمون على أنّ من زنى بذات محرم فعليه الحدّ، وإنّما اختلفوا في صفة الحدّ: هل هو القتل بكل حال، أو حدّه حدّ الزاني؟ على قولين:
فذهب الشافعي ومالك وأحمد في إحدى روايتيه (4) أنّ حدّه حد الزاني.
وذهب أحمد وإسحاق وجماعة من أهل الحديث إلى أنّ حدّه القتل بكل حال.
وكذلك اتفقوا كلّهم على أنّه لو أصابها باسم النكاح عالمًا = أنه يُحَدّ، إلا أبا حنيفة وحده (5)، فإنّه رأى ذلك شبهةً مسقِطةً للحدّ. ومنازعوه يقولون: إذا أصابها باسم النكاح فقد زاد الجريمة غِلَظًا وشدّة،
__________
(1) س: “لا يباح له”. وسقطت “من” من ف.
(2) س، ز: “وكان”.
(3) لم يرد “وقد” في ف.
(4) س: “إحدى الروايتين”. وفي الحاشية: “روايتيه”.
(5) “وحده” لم يرد في ف، ل.

(1/409)


فإنّه ارتكب محذورين عظيمين: محذور العقد، ومحذور الوطء، فكيف تُخفَّف عنه العقوبة بضمّ محذور العقد إلى محذور الزنا؟
وأما وطء الميتة، ففيه قولان للفقهاء، وهما في مذهب أحمد وغيره. أحدهما: يجب به الحدّ، وهو قول الأوزاعي، فإنّ فعله أعظم جرمًا وأكثر ذنبًا لأنه انضمّ إلى فاحشته هتكُ حرمةِ الميتة.
فصل
وأما (1) وطء البهيمة، فللفقهاء فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنّه يؤدَّب (2)، ولا حدّ عليه. وهذا قول مالك وأبي حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وقول إسحاق.
والقول الثاني (3): أنّ حكمه حكم الزاني؛ يجلَد إن كان بكرًا، ويرجم إن كان محصنًا. وهذا قول الحسن.
والقول الثالث: أنّ حكمه حكم اللوطي. نصّ عليه أحمد، فيخرّج على الروايتين في حدّه: هل هو القتل حتمًا، أو هو كالزاني؟
والذين قالوا: حدّه القتل، احتجّوا بما رواه أبو داود (4) من حديث
__________
(1) س: “فأما”.
(2) ف: “أن يؤب”.
(3) ز: “والثاني”.
(4) برقم (4464) وأخرجه الترمذي (1455) والطبري في التهذيب (مسند ابن عباس- 875) والحاكم 4/ 396 (8049) والبيهقي (8/ 233) من طريق عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس فذكره.
وهو حديث منكر، تكلم فيه الأئمة كالإمام أحمد والبخاري وأبي داود =

(1/410)


ابن عباس عن النبي – صلى الله عليه وسلم -. “من أتى بهيمةً فاقتلوه واقتلوها معه”.
قالوا: ولأنّه وطء لا يباح بحال، فكان فيه القتل كحدّ اللوطي.
ومن لم يرَ عليه حدًّا قالوا: لم يصحّ فيه الحديث، ولو صحّ لقلنا به، ولم يحِلّ لنا مخالفته. قال إسماعيل بن سعيد الشالَنجي: سألتُ أحمد عن الذي يأتي البهيمة، فوقف عندها، ولم يُثبِت حديث عمرو بن أبي عمرو في ذلك (1). وقال الطحاوي: الحديث ضعيف. وأيضًا فراويه (2) ابن عباس، وقد أفتى بأنّه لا حدّ عليه (3). قال أبو داود: وهذا
__________
= والترمذي وغيرهم. وسبب نكارته -كما ذكر أكثر أهل العلم- أن فتوى ابن عباس أن من أتى بهيمة فلا حدّ عليه. وسيأتي تخريجه.
ورواه عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس فذكره. أخرجه الطبري في التهذيب 1/ 550 (23) والبيهقي (8/ 233) والحاكم 4/ 396 (8050).
قلت: وفيه. عباد بن منصور مدلس، فلعله أسقط إبراهيم بن محمَّد بن أبي يحيى الأسلمي وهو متروك. قال ابن حبان في المجروحين (2/ 166) في ترجمة عباد بن منصور: “كل ما روى عن عكرمة سمعه من إبراهيم بن أبي يحيى عن داود بن الحصين، فدلّسها عن عكرمة”.
وانظر علل ابن أبي حاتم (1345).
(1) المغني (12/ 352).
(2) س، ز: ” فرواية”، تحريف.
(3) “عليه” ساقط من س. (ص). وأخرج قوله أبو داود (4465) والترمذي في السنن (1455) والعلل الكبير (428)، والطبري في التهذيب (867 – 869) والطحاوي في شرح المشكل (9/ 445 – 441) والحاكم 4/ 396 (8051) والخرائطي في مساوئ الأخلاق (457) والبيهقي (8/ 234) من طريق شعبة والثوري وأبي الأحوص وشريك وأبي بكر بن عياش وأبي عوانة وإسرائيل كلهم عن عاصم بن بهدلة عن أبي رزين عن ابن عباس قال: “من أتى بهيمة فلا حدّ =

(1/411)


يُضعف الحديث.
ولا ريب أنّ الزاجر الطبعي عن إتيان البهيمة أقوى من الزاجر الطبعي (1) عن التلوّط، وليس الأمران في طباع الناس سواء، فإلحاق أحدهما بالآخر من أفسد القياس، كما تقدم.
فصل
وأما قياسكم وطءَ الرجل لمثله على تدالُك المرأتين، فمن أفسَدِ القياس، إذ لا إيلاج هناك، وإنما نظيره مباشرة الرجل الرجل من غير إيلاج، على أنه قد جاء في بعض الآثار المرفوعة: “إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان” (2)، ولكن لا يجب الحدّ بذلك لعدم الإيلاج، وإن أُطلِق
__________
= عليه”.
ورواه أبو حنيفة عن عاصم بن عمر عن أبي رزين عن ابن عباس فذكر مثله.
أخرجه النسائي في الكبرى (7341) والطحاوي في شرح المشكل (9/ 440) وقال: “هذا غير صحيح، وعاصم بن عمر ضعيف في الحديث”.
الصواب رواية الجماعة. وعاصم هو ابن بهدلة كما جاء مصرّحًا به في رواية الثوري وأبي الأحوص وأبي عوانة. والأثر حسن الإسناد. وبهذا الأثر أعلّه البخاري والترمذي وأبو داود والطحاوي.
(1) “عن إتيان … الطبعي” ساقط من ف.
(2) أخرجه الآجري في ذم اللواط (17) مختصرًا والبيهقي في الكبرى (8/ 233) من طريق محمَّد بن عبد الرحمن عن خالد الحذاء عن ابن سيرين عن أبي موسى مرفوعًا فذكره. وأوله: “إذا أتى الرجلُ الرجلَ فهما زانيان … “. قال البيهقي: “ومحمد بن عبد الرحمن هذا لا أعرفه، وهو منكر بهذا الإسناد”. قال ابن التركماني معقّبًا على البيهقي: “قلت: هو معروف يقال له المقدسي القشيري، روى عن … ذكره ابن أبي حاتم في كتابه [الجرح 7/ 325] وقال: ذكره البخاري. وسألت أبي عنه فقال: متروك الحديث، كان يكذب ويفتعل =

(1/412)


عليهما اسم الزنى العامّ، كزنى العين واليد والرجل والفم.
إذا ثبت هذا فأجمع المسلمون على أنّ حكم التلوط مع المملوك كحكمه مع غيره. ومن ظنّ أنّ تلوط الإنسان بمملوكه جائز، واحتجّ على ذلك بقوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30)} [المعارج: 30] وقاس ذلك على أمته المملوكة، فهو كافر يُستتاب، كما يستتاب المرتد. فإنْ تاب وإلا ضُربت عنقه. وتلوط الإنسان بمملوكه كتلوطه بمملوك غيره في الإثم والحكم.
فصل
فإن قيل: وهل (1) مع ذلك كله من دواءٍ لهذا الداء العُضال، ورقيةٍ لهذا السحر القتّال؟ وما الاحتيال لدفع هذا الخبال؟
__________
= الحديث”.
وله طريق آخر ذكره البخاري في تاريخه (2/ 81) وابن أبي حاتم في مقدمة الجرح (1/ 342). وأخرجه الآجري في ذم اللواط (16) والطبراني في الأوسط 3/ 153 (4157) والخطيب في تالي تلخيص المتشابه (268) من طريق أبي داود الطيالسي عن بشر بن الفضل عن أبيه عن خالد الحذاء عن أنس بن سيرين عن أبي يحيى عن أبي موسى مرفوعًا: “لا تباشر المرأة المرأة إلا وهما زانيتان … “. قال الطبراني: “لا يروى هذا الحديث عن أبي موسى إلا بهذا الإسناد، تفرد به أبو داود. وأبو يحيى الذي روى عنه أنس بن سيرين في هذا الحديث هو معبد بن سيرين”.
قلت: وقع عند الآجري: “عن أبي يحيى المعرقب”. واسمه مصدع. وثقه العجلي، ولم يعرفه ابن معين وتكلم فيه ابن حبان في المجروحين (3/ 39). وقال ابن حجر: مقبول. تهذيب الكمال (28/ 15). والحديث لا يصح. فيه بشر بن الفضل بن الوليد العيزار. قال الأزدي: مجهول.
(1) س، ل: “فهل”.

(1/413)


وهل من طريقٍ قاصدٍ إلى التوفيق؟ وهل يمكِن السكرانَ بخمرة الهوى أن يفيق؟
وهل يملك العاشق قلبَه، والعشق قد وصل إلى سويدائه؟ وهل للطبيب بعد ذلك حيلة في برئه (1) من سوء دائه؟
إن لامه لائم التذّ بملامه ذكرًا (2) لمحبوبه، وإن عذله عاذل أغراه عَذلُه (3)، وسار به في طريق مطلوبه. ينادي عليه شاهدُ حاله، بل لسانُ قالِه (4):
وقف الهوى بي حيث أنتِ فليس لي … متأخَّرٌ عنه ولا متقدَّمُ
وأهنتِني فأهنتُ نفسي جاهدًا … ما من يهون عليكِ ممن يُكرَمُ
أشبهتِ أعدائي فصرتُ أحِبّهم … إذ كان حظّي منكِ حظّي منهمُ
أجد الملامةَ في هواكِ لذيذةً … حيًّا لذكركِ فَلْيَلُمْني اللُّوَّمُ (5)
ولعل هذا هو المقصود بالسؤال الأول الذي وقع عليه الاستفتاء، والداء الذي طُلِب له الدواء.
قيل: نعم، الجواب من رأسِ “وما أنزل الله سبحانه من داءٍ إلا
__________
(1) ف: “من برئه”.
(2) ف: “ذاكرًا”.
(3) “أغراه عذله” ساقط من س.
(4) ف: “شاهد حاله بلسان قاله”.
(5) الأبيات لأبي الشيص الخزاعي في ديوانه (151). وقد أوردها المصنف في روضة المحبّين (452)، وانتقدها في طريق الهجرتين (659).

(1/414)


أنزل له دواءً. علمه من علمه، وجهله من جهله” (1).
والكلام في دواء هذا الداء من طريقين:
أحدهما: حَسْم مادّته قبل حصولها.
والثاني: قلعها بعد نزولها.
وكلاهما يسير على من يسّره الله عليه، ومتعذّر على من لم يُعِنْه، فإنّ أزِمّة الأمور بيديه.
فأمّا الطريق المانع من حصول هذا الداء، فأمران:
أحدهما: غضّ البصر (2)، كما تقدّم، فإنّ النظرة سهم مسموم من سهام إبليس. ومَن أطلق لحظاتِه دامت حسراتُه. وفي غضّ البصر عدّة منافع، وهو بعض أجزاء هذا الدواء النافع (3).
أحدها: أنّه امتثال لأمر الله الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده، فليس للعبد في دنياه وآخرته أنفع من امتثال أوامر ربّه تبارك وتعالى. وما سَعِدَ من سَعِدَ في الدنيا والآخرة إلا بامتثال أوامره (4)، وما شقي من شقي في الدنيا والآخرة إلا بتضييع أوامره.
الثانية: أنه يمتنع من وصول أثر السهم المسموم الذي لعلّ فيه هلاكه
__________
(1) تقدّم في أول الكتاب.
(2) والثاني سيأتي في الفصل القادم.
(3) “وهو بعض … النافع” انفردت بها نسخة ف. وانظر في فوائد غض البصر: روضة المحبين (194 – 252)، وإغاثة اللهفان (103 – 106). وانظر ما سبق في آفات النظر في ص (348).
(4) ز: “أوامر ربه”.

(1/415)


إلى قلبه.
الثالثة: أنّه يورث القلب أنسًا بالله وجمعية على الله، فإنّ إطلاق البصر يفرّق القلب، ويشتّته، ويُبعده من الله. وليس على العبد شيء أضرّ من إطلاق البصر، فإنّه يوقع الوحشة بين العبد وبيّن ربه.
الرابعة: أنه يقوّي القلب ويفرحه، كما أنّ إطلاق البصر يضعفه ويحزنه.
الخامسة: أنه يُكسب القلب نورًا، كما أنّ إطلاقه يكسبه (1) ظلمة.
ولهذا ذكر سبحانه آية النور عقيب الأمم بغضّ البصر فقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ} [النور: 30]. ثم قال (2) إثر ذلك: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35] أي: مثل نوره في قلب عبده المؤمن الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه.
وإذا استنار القلب أقبلت (3) وفود الخيرات إليه من كلّ ناحية، كما أنّه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشرّ عليه من كل مكان. فما شئتَ من بدع وضلالة، واتّباع هوى، واجتناب هدى، وإعراض عن أسباب السعادة، واشتغال بأسباب الشقاوة! فإنّ ذلك إنّما يكشفه له النور الذي في القلب، فإذا فُقِد (4) ذلك النور بقي صاحبه كالأعمى الذي
__________
(1) ف: “يلبسه”.
(2) “قال” ساقط من ف.
(3) ف: “أقبل”.
(4) س: “نفد”، وفي حاشيتها: “خ فقد”.

(1/416)


يجوس في حنادس الظلمات.
السادسة: أنّه يُورثه فراسةً صادقةً يميّز بها بين المحِقّ والمبطل (1) والصادق والكاذب.
وكان شجاع الكرماني (2) يقول: من عمر ظاهرَه باتباع السنة، وباطنَه بدوام المراقبة؛ وغضّ بصرَه عن المحارم، وكفّ نفسه عن الشهوات، واغتذى بالحلال = لم تخطئ فراسته. وكان شجاع هذا لا تخطئ له فراسة (3).
والله سبحانه يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله، ومن ترك لله شيئًا (4) عوّضه الله خيرًا منه، فإذا غضّ بصره عن محارم الله عوّضه الله (5) بأن يُطلِق نورَ بصيرته عوضًا عن حبسِه (6) بصرَه لله، ويفتحَ عليه (7) باب العلم والإيمان والمعرفة والفراسة الصادقة المصيبة التي إنّما تُنال __________
(1) س: “الحق والباطل”. ل: “الحق والصادق” فسقط منها: “الباطل”.
(2) كذا في جميع النسخ وروضة المحبين (200). وفي إغاثة اللهفان (105): “أبو شجاع” وفي المدارج (2/ 484) والروح (535): “شاه الكرماني”، وهذا الأخير هو الصواب. فهو أبو الفوارس شاه بن شجاع الكرماني. كان من أولاد الملوك وعلماء الصوفية. مات قبل الثلاثمائة. طبقات الصوفية (192).
(3) انظر حلية الأولياء (10/ 253)، والرسالة القشيرية و (428). وقد نقل المؤلف قول شاه في كتبه المذكورة في التعليق السابق أيضًا. وفي ف: “شيخنا” بدلًا من “شجاع هذا”، وهو غريب.
(4) ل: “شيئًا لله”.
(5) “خيرًا منه … عوضه الله” ساقط من س.
(6) س: “من حبسه”.
(7) س: “وفتح الله عليه”.

(1/417)


ببصيرة القلب (1).
وضدّ هذا ما وصف الله به اللوطية من العمَه الذي هو ضدّ البصيرة، فقال تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)} [الحجر: 72]، فوصفهم بالسكرة التي هي فساد العقل، والعَمَه الذي هو فساد البصيرة.
فالتعلّق بالصور يوجب فساد العقل (2)، وعَمَه البصيرة، وسُكْر القلب (3)، كما قال القائل:
سُكْرانِ سُكرُ هوًى وسُكرُ مُدامةٍ … ومتى إفاقةُ مَن به سُكرانِ (4)؟
وقال الآخر (5):
قالوا جُنِنتَ بمن تهوى فقلتُ لهم … العشقُ أعظم ممّا بالمجانينِ
العشق لا يستفيق الدهرَ صاحبُه … وإنّما يُصرَع المجنونُ في الحين (6)
__________
(1) ف: “لا تنال إلا ببصيرة القلب”.
(2) “والعمه الذي هو فساد … العقل” ساقط من س.
(3) ز: “سكرة القلب”.
(4) من أبيات للخليع الشامي، في يتيمة الدهر (1/ 271)، وفيه: “أنّى يفيق فتًى به سكران”. وقد أنشده المؤلف في التبيان (273)، وروضة المحبين (203)، والمدارج (3/ 308).
(5) س: “آخر”.
(6) أنشدهما المؤلف في روضة المحبين (130، 292)، ونقلهما في إغاثة اللهفان (873) من اعتلال القلوب للخرائطي. وقد نسبهما في الروضة (242) إلى قيس، وهو مجنون ليلى، كما في الأغاني (2/ 32)، ومصارع العشاق (1/ 126، 2/ 181). وانظر ديوانه (218). والرواية: “قالت جننت على رأسي فقلت لها الحب … ” وفي البيت الثاني: “الحب ليس يفيق … ” وكذا في الاعتلال (377)، إلا أن فيه “العشق” مكان “الحب”.

(1/418)


السابعة: أنّه يورث القلب ثباتًا وشجاعةً وقوةً، فيجمع الله له بين سلطان البصيرة والحجة وسلطان القدرة والقوة، كما في الأثر: الذي يخالف هواه يفرَق الشيطان (1) من ظلّه (2).
وضدّ هذا (3) تجد في (4) المتّبع لهواه من ذلّ النفس ووضاعتها ومهانتها وخِسّتها وحقارتها ما جعله الله سبحانه فيمن عصاه، كما قال الحسن: إنّهم وإن طقطقت بهم البغال (5)، وهَمْلَجَتْ بهم البراذين، إنّ ذُلّ المعصية في رقابهم. أبى الله إلا أن يُذِلّ من عصاه (6).
وقد جعل الله سبحانه العزّ قرين طاعته، والذلّ قرين معصيته، فقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] وقال: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [آل عمران: 139]. والإيمان قول وعمل، ظاهر وباطن.
وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]. أي: من كان يريد العزة فليطلبها بطاعة الله وذكرِه من الكلم الطيب والعمل الصالح.
__________
(1) ز: “السلطان”، تحريف.
(2) أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 60) عن وهب بن منبه قال: “من جعل شهوته تحت قدمه فزع الشيطان من ظله”. وأخرجه أيضًا (2/ 365) عن مالك بن دينار قال: “من غلب شهوة الحياة الدنيا فذلك الذي يفرق الشيطان من ظله”.
(3) ف: “وضده”.
(4) “تجد في” ساقط من ل.
(5) ف: “النعال”، تصحيف.
(6) تقدم تخريجه في ص (146).

(1/419)


وفي دعاء القنوت: “إنّه لا يذِلّ من واليتَ، ولا يعِزّ من عاديتَ” (1). ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه، وله من العزّ بحسب طاعته. ومن عصاه فقد عاداه فيما عصاه فيه، وله من الذلّ بحسب معصيته.
الثامنة: أنه يسدّ على الشيطان مدخله إلى القلب، فإنّه يدخل مع النظرة، وينفذ معها إلى القلب أسرع من نفوذ الهواء في المكان الخالي، فيمثّل له حسنَ (2) صورة المنظور إليه، ويزيّنها، ويجعلها صنمًا يعكف عليه القلب. ثم (3) يَعِدُه، ويمنّيه، ويوقد على القلب نار الشهوة، ويلقي عليه (4) حطب المعاصي التي لم يكن يتوصّل إليها بدون تلك الصورة، فيصير القلب في اللهيب (5). فمن ذلك اللهيب (6) تلك الأنفاسُ التي يجد
__________
(1) أخرجه أبو داود (1425، 1426) وابن ماجه (1178) والترمذي (464) وأحمد 1/ 199، 250 (1718، 1721) وابن خزيمة (1095) وابن الجارود (272) والبيهقي (2/ 209) وغيرهم من طريق أبي إسحاق السبيعي ويونس بن أبي إسحاق والعلاء بن صالح عن بُرَيد بن أبي مريم عن أبي الحوراء عن الحسن بن علي فذكره.
وخالفهم شعبة فرواه عن بريد بن أبي مريم به مثله ولم يذكر “في الوتر”.
أخرجه أحمد 1/ 200 (1723) وابن خزيمة (1096) وابن حبان (722) وغيرهم.
والحديث صحيح إلا أن ابن خزيمة طعن في لفظة “في الوتر” أو “في قنوت الوتر”، فليراجع كلامه في صحيحه (1096).
(2) “حسن” من س.
(3) “ثم” ساقطة من ل.
(4) ف: “عليها”.
(5) ل: “اللهب”.
(6) ف، ل: “اللهب”.

(1/420)


فيها وهج النار، وتلك الزفَراتُ والحُرُقاتُ. فإنّ القلب قد أحاطت به النيران من كلّ جانب، فهو (1) في وسطها كالشاة في وسط التنّور.
ولهذا كانت عقوبة أصحاب الشهوات للصور المحرّمة (2) أن جُعِل لهم في البرزخ تنّور (3) من نار، وأودعت أرواحهم فيه إلى يوم حشر أجسادهم، كما أراه الله تعالى لنبيّه – صلى الله عليه وسلم – في المنام في الحديث المتفق على صحته (4).
التاسعة: أنّه يُفرغ القلب للفكرة في مصالحه والاشتغال بها، وإطلاقُ البصر يشتّته عن ذلك، ويحول بينه وبينه، فينفرط (5) عليه أموره، ويقع في اتّباع هواه وفي الغفلة عن ذكر ربه. قال تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)} [الكهف: 28]. وإطلاق النظر يوجب هذه الأمور الثلاثة بحسبه.
العاشرة: أنّ بين العين والقلب منفذًا وطريقًا يوجب انفعال أحدهما عن الآخر، وأن يصلح بصلاحه ويفسد بفساده. فإذا (6) فسد القلب فسد النظر، وإذا فسد النظر فسد القلب. وكذلك في جانب الصلاح (7)، فإذا خربت العين وفسدت خرب القلب وفسد، وصار كالمزبلة التي
__________
(1) س: “فهي”، خطأ. ز: “فهو”.
(2) ف: “والصور المحرمة”.
(3) ف: “تنورًا”.
(4) تقدم في ص (154).
(5) ف، ل: “فيفرط”. ز: “فيتفرّط”.
(6) ف: “وإذا”.
(7) ف: “صلاح العين”.

(1/421)


هي محلّ (1) النجاسات والقاذورات والأوساخ، فلا يصلح لسكنى معرفة الله ومحبته والإنابة إليه والإنس به والسرور بقربه فيه، وإنّما يسكن فيه أضداد ذلك.
فهذه إشارة إلى بعض فوائد غضّ البصر تُطْلِعك على ما وراءها.
فصل
الثاني (2): اشتغال القلب بما يصدّه عن ذلك، ويحول بينه وبيّن الوقوع فيه. وهو (3) إمّا خوفٌ مقلِق، أو حبٌّ مزعِج. فمتى خلا القلب من خوف ما فواتُه أضرُّ عليه من حصول هذا المحبوب، أو خوفِ ما حصولُه أضرُّ عليه من ذوات هذا المحبوب (4)، أو محبةِ ما هو أنفع له وخير له من هذا المحبوب وفواتُه أضرّ عليه من ذوات هذا المحبوب = لم يجد بدًّا من عشق الصور.
وشرح هذا أنّ النفس لا تترك محبوبًا إلا لمحبوب أعلى منه، أو خشية مكروهٍ حصولُه أضرّ عليها من ذوات هذا المحبوب. وهذا يحتاج صاحبه إلى أمرين إن فُقِدا أو أحدهما لم ينتفع بنفسه:
أحدهما: بصيرة صحيحة يفرّق بها بين درجات المحبوب والمكروه، فيؤثر أعلى المحبوبَين على أدناهما، ويحتمل أدنى
__________
(1) ز: “محمل”.
(2) يعني: الأمر الثاني المانع من حصول داء العشق.
(3) “وهو” ساقط من ف.
(4) ف، ز: “ذوات المحبوب”. وقد سقط من ل: “أو خوف ما حصوله … المحبوب”.

(1/422)


المكروهَين ليخلص من أعلاهما. وهذا خاصّة العقل، ولا يعدّ عاقلًا من كان بضدّ ذلك، بل قد تكون البهائم أحسن حالًا منه.
الثاني: قوة عزم وصبر يتمكن بها من هذا الفعل والترك. فكثيرًا ما يعرف (1) الرجل قدر التفاوت، ولكن يأبى له ضعفُ نفسه وهمته وعزيمته على إيثار الأنفع، من جشعه وحرصه ووضاعة نفسه وخسّة همته. ومثل هذا لا ينتفع بنفسه، ولا ينتفع به غيره.
وقد منع الله سبحانه إمامة الدين إلا من أهل الصبر واليقين، فقال تعالى وبقوله يهتدي المهتدون: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} (2) [السجدة: 24].
وهذا هو الذي ينتفع بعلمه (3)، وينتفع به (4) الناس. وضدّه لا ينتفع بعلمه، ولا ينتفع (5) به غيره. ومن الناس من ينتفع بعلمه في نفسه، ولا ينتفع به غيره (6). فالأول يمشي في نوره ويمشي الناس في نوره. والثاني قد طفئ نوره فهو يمشي في الظلمات ومن تبعه في ظلمته. والثالث يمشي في نوره وحده.
__________
(1) س: “يعلم”.
(2) من س. وفي النسخ الأخرى: “وجعلناهم أئمة … “، وهو سهو والتباس بالآية الكريمة 73 من سورة الأنبياء.
(3) وقع في ف هنا وفيما يأتي: “بعمله”.
(4) ل: “وينفع به”.
(5) ل، ز: “ولا ينفع به”.
(6) “ومن الناس … غيره” ساقط من ل.

(1/423)


فصل
إذا عرفت هذه المقدمة، فلا يمكن أن يجتمع في القلب (1) حبّ المحبوب الأعلى وعشق الصور أبدًا، بل هما ضدّان لا يتلاقيان، بل لابدّ أن يُخرج أحدهما صاحبه. فمن كانت قوة حبه كلّها للمحبوب الأعلى الذي محبة ما سواه باطلة وعذاب على صاحبها، صَرَفه ذلك عن محبة ما سواه. وإن أحبّه (2) لم يحبَّه إلا لأجله ولكونه وسيلةً له إلى محبته، أو قاطعًا له عمّا يضادّ محبته وينقضها (3).
والمحبة الصادقة تقتضي توحيد المحبوب، وأن لا يشرك (4) بينه وبيّن غيره في محبته. وإذا كان المحبوب من الخلق يأنف ويغار أن يُشرِكَ محِبُّه غيرَه (5) في محبته، ويمقته لذلك (6)، ويُبعده، ولا يُحظيه بقربه، ويعدّه كاذبًا في دعوى محبته، مع أنّه ليس أهلًا لصرف قوة المحبة إليه، فكيف بالحبيب الأعلى الذي لا تنبغي المحبة إلا له وحده، وكلّ محبة لغيره فهي عذاب على صاحبها ووبال؟ ولهذا لا يغفر الله سبحانه أن يشرَك به في هذه المحبة، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
فمحبة الصور تفوّت محبةَ (7) ما هو أنفع للعبد منها، بل (8) تفوّت
__________
(1) ف: “للقلب”.
(2) س: “فإذا”.
(3) ف، ل: “ينقصها”.
(4) ف: “ولا يشرك”.
(5) س، ف: “محبة غيره”. تصحيف.
(6) س: “كذلك”، تحريف.
(7) كلمة “محبة” ساقطة من ز.
(8) “تفوت … بل” ساقط من ل.

(1/424)


محبة ما ليس له صلاح ولا نعيم ولا حياة نافعة إلا بمحبته (1) وحده. فليختر إحدى المحبَّتَين، فإنهما لا تجتمعان في القلب ولا ترتفعان منه. بل من أعرض عن محبة الله وذكره والشوق إلى لقائه ابتلاه بمحبة غيره، فيعذّبه بها في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة. فإمّا أن يعذّبه بمحبة الأوثان، أو بمحبة الصُّلبان، أو بمحبة النيران، أو محبة المُرْدان، أو محبة النسوان، أو محبة الأثمان (2)، أو محبة العُشراء والخلّان (3)، أو محبة (4) ما دون ذلك مما هو في غاية الحقارة والهوان، فالإنسان عبد محبوبه كائنًا ما كان! كما قيل:
أنت القتيل بكلّ من أحببتَه … فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي (5)
فمن لم يكن إلهُه (6) مالكَه ومولاه، كان إلهه هواه. قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)} [الجاثية: 23].
__________
(1) ز: “لمحبته”.
(2) “أو محبة الأثمان” ساقط من س. وفي ف: “أو بمحبة الإنسان”.
(3) ف: “العشران أو محبة الخلآن”. وتحت “العشران” فيها حاشية لم يظهر في التصوير منها إلا: “جمع عشير”.
(4) اضطربت النسخ في إثبات “محبة” أو “بمحبة”، وقد جاءت ثماني مرات. وقد اتبعنا نسخة س. أما غيرها، فقد وردت في ف بالباء في المواضع الستة الأولى، وفي ل، ز في الموضع الأول فقط.
(5) لابن الفارض في ديوانه (151)، وقد أنشده المؤلف في تهذيب السنن (6/ 181)، وبدائع الفوائد (672)، وروضة المحبين (162، 568) أيضًا.
(6) ف: “الله”.

(1/425)


فصل
وخاصية التعبّد (1): الحبّ مع الخضوع والذلّ للمحبوب، فمن أحبّ شيئًا وخضع له فقد تعبد قلبه له. بل التعبّد آخر مراتب الحبّ، ويقال له التتيّم أيضًا (2). فإنّ أول مراتبه: العلاقة، وسميت “علاقة ” لتعلّق القلب (3) بالمحبوب. قال (4):
وعُلِّقتُ ليلى وَهْيَ ذات تمائم … ولم يبدُ للأتراب من ثديها حَجْمُ (5)
وقال آخر (6):
أعلاقةً أمَّ الوُلَيِّدِ بعد ما … أفنانُ رأسكَ كالثَّغام المُخْلِسِ (7)
ثم بعدها الصبابة، وسمّيت بذلك لانصباب القلب إلى المحبوب.
__________
(1) ز: “وخاصة التعبد”. س: “وخاصية تعبد”.
(2) عقد المؤلف في مدارج السالكين (3/ 27) فصلًا في مراتب المحبة، وذكر عشر مراتب، أولها العلاقة، وآخرها الخُلّة. وانظر في أسماء الحب واشتقاقها روضة المحبين (95).
(3) من ش، وكذا في بدائع الفوائد (529)، وروضة المحبين (152)، ومدارج السالكين (3/ 27) وفي النسخ الأخرى: “لتعلق المحب”.
(4) ف: “قال بعضهم”.
(5) لمجنون ليلى في الأغاني (2/ 13) وغيره. انظر ديوانه (186).
(6) ف، ل: “الآخر”. وفي ز ورد البيت الآتي بعد السابق دون فاصل.
(7) أنشده المصنف في البدائع (256، 529)، والروضة (102)، والمدارج (3/ 27). وهو للمرّار بن سعيد الفقعسي. انظر خزانة الأدب (11/ 232). وفي ف: “بعيد ما”. الثغام: نبات أبيض الثمر والزهر، يشبّه به الشيب. المخلِس: الذي بعضه هائج وبعضه أخضر. شبّه به شعره الشميط، وهو الذي اختلط بياضه بالسواد.

(1/426)


قال (1):
تشكّى المحبّون الصبابةَ ليتني … تحملتُ ما يلقَون من بينهم وحدي (2)
فكانت لقلبي لذةُ الحبّ كلها … فلم يلقَها قبلي محبٌّ ولا بعدي (3)
ثم الغرام، وهو لزوم الحبّ للقلب لزومًا لا ينفكّ عنه. ومنه سمّي الغريم غريمًا لملازمته صاحبَه (4). ومنه قوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)} [الفرقان: 65]. وقد أولع (5) المتأخرون باستعمال هذا اللفظ في الحبّ، وقلّ أن تجده في أشعار العرب.
ثم العشق، وهو إفراط المحبة. ولهذا لا يوسف به الربّ تعالى، ولا يطلق في حقّه (6).
ثم الشوق، وهو سفر القلب إلى المحبوب أحثّ السفر (7). وقد جاء إطلاقه في حقّ الرب تعالى (8)، كما في مسند الإِمام أحمد (9) من
__________
(1) ف: “وقال بعضهم”.
(2) س: “يشكو”. ل: “يشتكي”، وكلاهما تحريف.
(3) أنشدهما المصنف في روضة المحبين (279،271) لشاعر الحماسة. انظر حماسة أبي تمام (2/ 35) والبيتان لمجنون ليلى في ديوانه (92).
(4) ف: “لملازمة صاحبه”. وهو ساقط من ل.
(5) ف: “وقد ولع”.
(6) وانظر روضة المحبين (110).
(7) انظر روضة المحبين (112)، وطريق الهجرتين (713) والمدارج (3/ 53).
(8) زاد بعض من قرأ نسخة س: “مجازًا” في حوض ياء “تعالى”، وهو تصرف قبيح منه.
(9) 4/ 264 (18325). وأخرجه النسائي (1306) والطبراني في الدعاء (625) وغيرهم من طريق إسحاق الأزرق وغيره عن شريك القاضي عن أبي هاشم عن =

(1/427)


حديث عمار بن ياسر أنه (1) صلّى صلاةً فأوجز فيها، فقيل له في ذلك، فقال: أمَا (2) إنّي دعوتُ فيها بدعَواتٍ كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يدعو بهنّ: “اللهم إنّي أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحْيني إذا كانت الحياة خيرًا لي (3)، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي. اللهم وَأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمةَ الحقّ في الغضب والرضا (4)، وأسألك
القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وأسألك قرةَ عين لا تنقطع، وأسألك بردَ العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم (5)، وأسألك الشوق إلى لقائك، في غير ضرّاء مُضِرّة ولا فتنة مضِلّة. اللهم زينا بزينة الإيمان” واجعلنا هداةً مهتدين”.
وفي أثر آخر: “طال شوق الأبرار إلى لقائي، وأنا إلى لقائهم أشدّ شوقًا” (6).
__________
= أبي مجلز قال: صلى بنا عمّار، فذكره.
ورواه حماد بن زيد وحماد بن سلمة وغيرهما عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عمار فذكره. أخرجه النسائي (1305) وابن حبان (1971) والبيهقي في الأسماء والصفات (244) وغيرهم.
والحديث صححه ابن حبان والحاكم وغيرهما.
(1) ف: “في أنه”.
(2) لم ترد “أما” في ف. وسقط قبلها “قال” من ز.
(3) “إذا … لي” ساقط من س.
(4) س: “في الحق والرضا”.
(5) “الكريم” ساقط من ف.
(6) أورده المؤلف في طريق الهجرتين (715)، وروضة المحبين (113) وقال فيه: “جاء في أثر إسرائيلي”. وقد أخرجه صاحب الفردوس (8067) عن أبي الدرداء، وانظر: إحياء العلوم (4/ 324)، وحلية الأولياء (10/ 96) (ص). =

(1/428)


وهذا هو المعنى الذي عبّر عنه النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله: “من أحبَّ لقاءَ الله أحبّ الله لقاءَه” (1).
وقال بعض أهل البصائر (2) في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ} [العنكبوت: 5]: لمّا علم الله سبحانه شدة شوق أوليائه إلى لقائه، وأنّ قلوبهم لا تهدأ دون لقائه، ضرب لهم أجلًا وموعدًا للّقاء تسكن نفوسهم به.
وأطيب العيش وألذّه على الإطلاق عيش المحبّين المشتاقين المستأنسين، فحياتهم هي الحياة الطيبة في الحقيقة، ولا حياة للعبد أطيب ولا أنعم ولا أهنأ منها. وهي الحياة الطيبة المذكورة في قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]. ليس المراد منها الحياة المشتركة بين المؤمنين والكفار (3)، والأبرار والفجار، من طيب المأكل والملبس والمشرب والمنكح؛ بل ربما زاد أعداء الله على أوليائه في ذلك أضعافًا مضاعفةً.
وقد ضمن الله سبحانه لكلّ من عمل صالحًا أن يحييه حياة طيبة،
__________
= وأخرجه عبد الغني المقدسي في الترغيب في الدعاء (16) عن أحمد بن مخلد الخراساني قال: قال الله عز وجل: ألا قد طال شوق الأبرار إلى لقائي، وإني إليهم لأشد شوقًا. وما تشوق المشتاقون إلا بفضل شوقي إليهم … ” (ز).
(1) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. أخرجه البخاري في الرقاق، باب من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه (6507)، ومسلم في الذكر والدعاء، باب من أحبّ لقاء الله … (2683).
(2) هو أبو عثمان الحيري النيسابوري (298 هـ). انظر الرسالة القشيرية (332).
وقد نقل المؤلف قوله في روضة المحبين (113، 581) أيضًا.
(3) “والكفار” ساقط من ف.

(1/429)


فهو صادق الوعد الذي لا يخلف وعده. وأيّ حياة أطيب من حياة مَن اجتمعت همومه كلّها، وصارت همًّا واحدًا في مرضاة الله، ولَمَّ شعثَ قلبه بالإقبال على الله (1)، واجتمعت إراداته وأفكاره التي كانت منقسمةً -بكل وادٍ منها شعبة- على الله. فصار ذكرُ محبوبه الأعلى، وحبّه،
والشوق إلى لقائه، والأنس بقربه = هو المستولي عليه (2). وعليه تدور همومه وإراداته وقصوده (3)، بل خطرات قلبه. فإن سكت سكت بالله، وإن نطق نطق بالله. وإن سمع فبه يسمع، وإن أبصر فبه يبصر. وبه يبطش، وبه يمشي، وبه يتحرك، وبه يسكن. وبه يحيا، وبه يموت، وبه يبعث؛
كما في صحيح البخاري عنه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فيما يروي عن ربّه تبارك وتعالى أنّه قال:
“ما تقرّب (4) إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضتُ عليه. ولا يزال عبدي يتقرّب إلي بالنوافل حتّى أحبّه. فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها (5). فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي.
__________
(1) س: “لم يشغب قلبه … “. ل، خا: “لم يتشغب قلبه … “. وفي ف: “لم يشغب قلبه بالإقبال على سوى الله تعالى”، وهذا صحيح في المعنى، ولكن رجحنا ما جاء في ز. ويؤيده قول المؤلف في المدارج (3/ 96): “ولا يلمّ شعث القلوب شيء غير الإقبال على الله”، وفيه (3/ 164): “ففي القلب شعثٌ لا يلمّه إلا الإقبال على الله”. وانظر ما يأتي في كتابنا هذا (496). وفي ط المدني وعبد الظاهر وغيرهما: “ولم يتشعب قلبه، بل أقبل على الله”، والظاهر أنه تصرّف من الناشرين.
(2) “عليه” ساقط من س.
(3) “وقصوده” ساقط من ف.
(4) ف: “وما تقرب”.
(5) ل: “عليها”.

(1/430)


ولئن (1) سألني لأعطينّه (2)، ولئن استعاذني (3) لأعيذَنّه. وما تردّدتُ عن شيء أنا فاعلُه تردّدي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموتَ وأكره مساءتَه، ولا بدّ له منه” (4).
فتضمّن هذا الحديث الشريف الإلهي -الذي حرامٌ على غليظِ الطبع كثيفِ القلب فهمُ معناه والمرادِ به- حصرَ أسباب محبته في أمرين: أداء فرائضه، والتقرّب إليه (5) بالنوافل.
وأخبر سبحانه أنّ أداء فرائضه أحبّ ما تقرّب به إليه (6) المتقرّبون،
__________
(1) ف، ز: “فلئن”.
(2) “فبي يسمع … عطينه” ساقط من ل.
(3) س، ز: “استعاذ بي”.
(4) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه البخاري في الرقاق، باب التواضع (6502)، ما عدا قوله: “فبي يسمع … وبي يمشي”. وبهذه الزيادة نقله المؤلف من رواية البخاري في روضة المحبين (554) والمدارج (2/ 413)، وكذا شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (5/ 511) وغيره. قال الألباني: “لم أر هذه الزيادة عند البخاري ولا عند غيره ممن ذكرنا من المخرجين، وقد ذكرها الحافظ في أثناء شرحه للحديث نقلًا عن الطوفي ولم يعزها لأحد”. سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ 191). وانظر في شرح الحديث: مجموع الفتاوى (18/ 129). (ص). هذه الرواية ذكرها الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (ق 56/ أ، 70/ أ، 190/ أ) بدون سند، فقال: يحقق ذلك حديث عائشة رضي الله عنها عن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عن جبريل عن ربه جلّ وعزّ قال: “إذا أحببت عبدي كنت سمعه وبصره ولسانه، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي ينطق، وبي يعقل” (ز).
(5) “إليه” ساقط من ف.
(6) “به” ساقط من س. وفي ل: “أحبّ إليه مما تقرب به”.

(1/431)


ثم بعدها النوافل؛ وأنّ المحبّ لا يزال يُكثر من النوافل حتى يصير محبوبًا لله. فإذا صار محبوبًا لله أوجبت محبةُ الله له محبةً أخرى منه لله، فوق المحبة الأولى (1)، فشغلت هذه المحبة قلبه عن الفكرة والاهتمام بغير محبوبه، وملكت عليه روحه، ولم يبقَ فيه سعة لغير محبوبه البتّة. فصار ذكر محبوبه وحبّه ومثله الأعلى مالكًا لزمام قلبه، مستوليًا على روحه، استيلاءَ المحبوب على محبّه (2) الصادقِ في محبته التي (3) قد اجتمعت قوى حبّه كلّها له (4).
ولا ريب أنّ هذا المحبّ إن سمع سمع بمحبوبه، وإن أبصر أبصر به، وإن بطش بطش به، وإن مشى مشى به. فهو في قلبه (5)، ومعه، وأنيسه، وصاحبه. فالباء هاهنا باء المصاحبة (6)، وهي مصاحبة لا نظير لها، ولا تدرك بمجرد الإخبار عنها والعلم بها، فالمسألة حاليّة لا علمية محضة.
وإذا كان المخلوق يجد هذا في محبة المخلوق (7) التي لم يُخلَق لها ولم يُفطَر عليها، كما قال بعض المحبّين:
خيالك في عيني وذكرك في فمي … ومثواك في قلبي فأين تغيبُ؟ (8)
__________
(1) ف: “محبة الله محبة أخرى هي فوق … “.
(2) ف: “حبّه”.
(3) كذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: “الذي”.
(4) “له” ساقط من س.
(5) “في” ساقطة من س.
(6) وانظر عدة الصابرين (78 – 79).
(7) ف: “محبته المخلوق”.
(8) لأبي الحكم ابن غَلِندو الإشبيلي الطبيب. انظر معجم الأدباء (1194). وقد =

(1/432)


وقال آخر (1):
ومن عجبٍ أنّي أحِنّ إليهم … وأسأل عنهم مَن لقيتُ وهم معي (2)
وتطلبهم عيني وهم في سوادها … ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلُعي (3)
وهذا ألطف من قول الآخر:
إن قلتُ غبتَ فقلبي لا يصدّقني … إذ أنت فيه مكان السرِّ لم تغِبِ
أو قلتُ ما غبتَ قال الطرف ذا كَذِبٌ … فقد تحيّرتُ بين الصدق والكذبِ (4)
فليس شيء أدنى إلى المحبّ من محبوبه، وربما تمكنت منه المحبة حتى يصير أدنى إليه من نفسه، بحيث ينسى نفسه ولا ينساه (5)، كما قال (6):
__________
= أنشده المصنف في روضة المحبين (155)، وطريق الهجرتين (46)، ومع بيت آخر في مفتاح دار السعادة (1/ 439). وانظر الجواب الصحيح (3/ 336، 368)، ومنهاج السنة (5/ 377).
(1) ف، ز: “الآخر”.
(2) ز: “ومن عجبي”.
(3) البيتان للقاضي الفاضل في ديوانه (492). وقد أنشده المؤلف في هداية الحيارى (153)، والروضة (100، 385)، والمفتاح (1/ 439)، وشيخه في الرد على البكري (349)، والجواب الصحيح (3/ 336، 368) والمنهاج (5/ 377).
(4) أنشدهما المصنف في هداية الحيارى (154).
(5) ف: “بحيث إنه ينسى نفسه ولا ينسى محبوبه”.
(6) س: “قال آخر”.

(1/433)


أريد لأنسى ذكرها فكأنّما … تمثَلُ لي ليلى بكلّ سبيلِ (1)
وقال آخر (2):
يراد من القلب نسيانُكم … وتأبى الطباعُ على الناقل (3)
وخصّ في الحديث (4) السمع والبصر واليد والرجل بالذكر، فإنّ هذه الآلات آلات الإدراك، وآلات الفعل، والسمعُ والبصرُ يُوردان على القلب الإرادةَ والكراهةَ، ويجلبان إليه الحبّ والبغض، فيستعمل اليد والرجل. فإذا كان سمعُ العبد بالله وبصرُه بالله كان محفوظًا في آلات إدراكه، وكان (5) محفوظًا في حبّه وبغضه، فحُفِظَ في بطشه ومشيه.
وتأمَّلْ كيف اكتفى بذكر السمع والبصر واليد والرجل عن اللسان.
فإنّه إذا كان إدراك السمع الذي يحصل باختياره تارة وبغير اختياره تارة، وكذلك البصرُ قد يقع بغير الاختيار فجأةً (6)، وكذلك حركة اليد والرجل التي لابدّ للعبد منها؛ فكيف بحركة اللسان التي لا تقع (7) إلا بقصد واختيار، وقد يستغني العبد عنها إلا حيث أُمِر بها؟ وأيضًا فانفعال اللسان عن القلب أتمّ من انفعال سائر الجوارح، فإنّه ترجمانه ورسوله (8).
__________
(1) لكثيّر في ديوانه (252).
(2) ف: “الآخر”.
(3) للمتنبي في ديوانه (395).
(4) س: “هذا الحديث”.
(5) “سمع العبد … وكان” ساقط من ف.
(6) “فجأة” ساقط من ف.
(7) س: “الذي لا يقع”.
(8) “ورسوله” ساقط من س.

(1/434)


وتأمَّلْ كيف حقّق تعالى كونَ العبد به عند سمعه وبصره وبطشه ومشيه، بقوله: “كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها” تحقيقًا لكونه مع عبده،
وكون عبده به، في إدراكاته بسمعه وبصره، وحركاته بيده ورجله؟ وتأمل كيف قال: “فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش”، ولم يقل: فلي يسمع، ولي يبصر، ولي يبطش؟ (1).
وربما يظنّ الظانّ أنّ اللام أولى بهذا الموضع، إذ هي أدلّ على الغاية ووقوع هذه الأمور لله، وذلك أخصّ من وقوعها به.
وهذا من الوهم والغلط، إذ ليست الباء ها هنا لمجرّد الاستعانة، فإنّ حركات الأبرار والفجار وإدراكاتهم إنّما هي بمعونة الله لهم، وإنّما الباء ها هنا للمصاحبة، أي: إنما يسمع ويبصر ويبطش ويمشي، وأنا صاحبه ومعه (2)، كقوله في الحديث (3) الآخر: “أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه” (4).
__________
(1) “ولم يقل … يبطش” ساقط من ل.
(2) وانظر روضة المحبين (555).
(3) “الحديث” ساقط من س.
(4) أخرجه البخاري تعليقًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} وفعل النبي – صلى الله عليه وسلم – حيث ينزل عليه الوحي. (ص). أخرجه ابن المبارك في الزهد (956) وأحمد 2/ 540 (10975، 10976) والبخاري في خلق أفعال العباد (436) وابن حبان في صحيحه (815) والطبراني في مسند الشاميين (1417) والبيهقي في الشعب (507،506) وابن عساكر (70/ 50 – 51) من طريق ربيعة بن يزيد الدمشقي وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر وسعيد بن عبد العزيز والأوزاعي -في الرواية =

(1/435)


وهذه هي (1) المعية الخاصّة المذكورة في قوله: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، وقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “ما ظنّك باثنين الله ثالثهما” (2)، وقوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69] وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 128] وقوله: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)} [الأنفال: 46] وقوله: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)} [الشعراء: 62]، وقوله تعالى لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه: 46] (3).
فهذه الباء مفيدة لمعنى هذه المعية (4) دون اللام. ولا يتأتّى للعبد الإخلاص والصبر والتوكّل ونزوله في منازل العبودية إلا بهذه الباء وهذه المعية.
فمتى كان العبد بالله هانت عليه المشاقّ، وانقلبت المخاوف في حقّه أمانًا. فبالله يهون كلّ صعب، ويسهل كلّ عسير، ويقرب كلّ بعيد.
__________
= الراجحة عنه -ومحمد بن مهاجر كلهم عن إسماعيل بن عبيد الله عن كريمة ابنة الحَسْحاس المزنية أنها قالت: حدثنا أبو هريرة ونحن في بيت هذه -يعني أم الدرداء- أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فذكره. وهذا سند صحيح، وكريمة تابعية وثقها ابن حبان.
(1) “هي” ساقط من ز.
(2) من حديث أنس عن أبي بكر رضي الله عنهما. أخرجه البخاري في فضائل أصحاب النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، باب مناقب المهاجرين (3653)؛ ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر (2381).
(3) وانظر مجموع الفتاوى (11/ 249).
(4) ف، ز: “مفيدة لهذه المعية”.

(1/436)


وبالله تزول الهموم والغموم (1) والأحزان. فلا همّ مع الله، ولا غمّ (2)، ولا حزن، إلّا حيث يفوته (3) معنى هذه الباء، فيصير قلبه حينئذ كالحوت إذا فارقَ الماءَ، يَثِب ويتقلّب (4) حتى يعود إليه.
ولما حصلت (5) هذه الموافقة من العبد لربّه في محابّه حصلت موافقة الربّ لعبده في حوائجه ومطالبه، فقال: “ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنّه” أي: كما وافقني في مرادي بأمتثال أوامري والتقرّب إليّ بمحابي، فأنا أوافقه في رغبته ورهبته فيما يسألني أن أفعله به (6)، ويستعيذني أن يناله.
وقوي أمر هذه الموافقة من الجانبين، حتّى اقتضى تردّدَ الربّ سبحانه؛ في إماتة عبده، لأنّه يكره الموت، والربّ تعالى يكره ما يكرهه عبدُه ويكره مساءتَه؛ فمن هذه الجهة يقتضي أن لا يميته. ولكن مصلحته في إماتته، فإنّه ما أماته إلا لِيُحييه، ولا أمرضه (7) إلا ليُصِحّه، ولا أفقره إلا ليغنيه، ولا منعه إلا ليعطيه، ولم يخرجه من الجنّة في صلب أبيه إلا ليعيده إليها على أحسن أحواله، ولم يقل لأبيه: اخرج منها، إلا هو يريد أن يعيده إليها (8).
__________
(1) “الغموم” ساقط من س.
(2) “ولا غمّ” ساقط من ف.
(3) ت: “يفوت العبد”.
(4) ف: “ينفلت”، تصحيف.
(5) “حتى يعود … ” إلى هنا ساقط من ز.
(6) ف: “سألني”. و”به” ساقط من س.
(7) ل: “وما أمرضه”.
(8) وانظر جواب شيخ الإسلام عن سؤال عن التردد المذكور في الحديث في =

(1/437)


فهذا هو الحبيب على الحقيقة لا سواه، بل لو كان في كلّ منبِتِ شعرةٍ من العبد محبّة تامّة لله لكان بعضَ ما يستحقّه على عبده:
نقِّلْ فؤادَك حيث شئتَ من الهوى … ما الحبّ إلا للحبيب الأولِ
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى … وحنينه أبدًا لأول منزلِ (1)
فصل
ثم التتيُّم، وهو آخر مراتب الحبّ، وهو تعبّد المحبّ لمحبوبه. يقال: تيّمه الحبّ إذا عبّده. ومنه تَيْم الله، أي عَبْد الله. وحقيقة التعبد: الذلّ والخضوع للمحبوب. ومنه قولهم: “طريق معبّد” أي مذلّل قد ذلّلته الأقدام. فالعبد هو الذي ذلّله الحبّ والخضوع لمحبوبه. ولهذا كانت أشرف أحوال العبد ومقاماته هي العبودية، فلا منزل له أشرف منها.
وقد ذكر الله سبحانه أكرمَ الخلق عليه وأحبَّهم إليه -وهو رسوله محمد (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) – بالعبودية في أشرف مقاماته، وهي: مقام الدعوة إليه، ومقام التحدّي بالنبوة، ومقام الإسراء (2)، فقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)} [الجن: 19] وقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] وقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى}.
__________
= مجموع الفتاوى (18/ 129 – 131). وانظر أيضا (10/ 58 – 59).
(1) لأبي تمام في ديوانه بشرح التبريزي (4/ 253).
(2) انظر طريق الهجرتين (18)، ومدارج السالكين (3/ 29)، وشفاء العليل (243)، وروضة المحبين (143) ومفتاح دار السعادة (1/ 110).

(1/438)


وفي حديث الشفاعة: “اذهبوا إلى محمّدٍ، عبدٍ غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر” (1). فنال مقام الشفاعة بكمال عبوديته وكمال مغفرة الله له.
والله (2) سبحانه خلق الخلق لعبادته وحده لا شريك له، التي هي أكمل أنواع المحبة، مع أكمل أنواع الخضوع والذلّ. وهذا هو حقيقة الإسلام وملّة إبراهيم التي من رغب عنها فقد سفِه نفسه. قال (3) تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)} [البقرة: 130 – 133].
ولهذا كان أعظم الذنوب عند الله الشرك، والله لا يغفر أن يُشرَك به.

وأصل (4) الشرك بالله الإشراك به في المحبة، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا
__________
(1) من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه -. أخرجه البخاري في التوحيد، باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، (7415) وغيره؛ ومسلم في الإيمان، باب أدنى أهل الجنّة منزلة فيها (193).
(2) ف: “فإنه” مكان “والله “.
(3) ف: “فقال”.
(4) كلمة “أصل” ساقطة من ل.

(1/439)


أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]، فأخبر سبحانه أنّ من الناس من يشرك به، فيتخذ من دونه ندّا يحبّه كحبّ الله، وأخبر أنّ الذين آمنوا أشدّ حبًّا لله من أصحاب الأنداد لأندادهم.
وقيل: بل المعنى أنّهم أشدّ حبًّا لله من أصحاب الأنداد لله، فإنّهم وإنْ أحبّوا الله، لكن لمّا أشركوا (1) بينه وبيّن أندادهم في المحبة ضعفت محبتهم لله (2). والموحدون لله لمّا خلصت (3) محبتهم له كانت أشدّ من محبة أولئك. والعدل بربّ العالمين والتسوية بينه وبيّن الأنداد هو في هذه المحبة، كما تقدّم.
ولما كان مراد الله من خلقه هو خلوص هذه المحبة له أنكر على من اتخذ من دونه وليًّا أو شفيعًا (4) غايةَ الإنكار، وجمع ذلك تارةً، وأفرد أحدهما عن الآخر بالإنكار تارةً، فقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)} (5) [السجدة: 4]، وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)} [الأنعام: 51].
وقال في الإفراد: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا
__________
(1) ما عدا س: “شركوا”.
(2) “لله” ساقط من ز.
(3) ز: “والموحدون لما حصلت”، سقط وتحريف.
(4) ز: “وليا وشفيعًا”.
(5) هذه الآية ساقطة من ز. وجاءت مكانها الآية الثالثة من سورة يونس. وقد وردت كلتاهما في ف. ولا شك أن إيراد الآية المذكورة من سورة يونس في هذا السياق خطأ من بعض النساخ، فإنَّها من مواضع الإفراد لا الجمع.

(1/440)


لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43)} [الزمر: 43]، وقال تعالى: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10)} [الجاثية: 10].
فإذا والى (1) العبد ربَّه وحده أقام له الشفعاء، وعقد الموالاة (2) بينه وبيّن عباده المؤمنين، فصاروا أولياءه في الله، بخلاف من اتخذ مخلوقًا وليًّا من دون الله.
فهذا لون وذاك لون، كما أنّ الشفاعة الشركية الباطلة لون، والشفاعة الحقّ الثابتة التي إنّما تُنال بالتوحيد لون. وهذا موضع فرقان بين أهل التوحيد وأهل الإشراك. والله يهدي من يشاء إلى صراط
مستقيم.
والمقصود أنّ حقيقة العبودية لا تحصل مع الإشراك بالله في المحبة، بخلاف المحبة لله، فإنّها من لوازم العبودية وموجَباتها، فإنّ محبة الرسول -بل تقديمه في الحبّ (3) على الأنفس (4) والآباء
والأبناء- لا يتمّ الإيمان إلا بها، إذ محبته من محبة الله. وكذلك كلّ حبّ في الله ولله، كما في الصحيحين عنه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنّه قال: “ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان”- وفي لفظ في الصحيح: “لا يجد حلاوة الإيمان إلا من كان فيه ثلاث خصال-: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبّ المرءَ لا يحبّه إلا لله، وأن يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه __________
(1) ف: “فإن ولى”.
(2) ل: “وعقد له الموالاة”.
(3) “في الحب” ساقط من س. وفي ل: “في المحبة”.
(4) ف: “النفس”.

(1/441)


الله منه، كما يكره أن يُلقى في النار” (1).
وفي الحديث الذي في السنن: “من أحبّ لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان” (2).
وفي حديث آخر: “ما تحابّ رجلان في الله إلا كان أفضلُهما أشدَّهما حبًّا لصاحبه” (3).
__________
(1) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. أخرجه البخاري في الإيمان، باب حلاوة الإيمان (16)، باللفظ الأول، وفي الأدب، باب الحب في الله (6041) باللفظ الثاني؛ ومسلم في الإيمان، باب خصال من اتصف بمن وجد حلاوة الإيمان (43).
(2) أخرجه أبو داود (4681) والطبراني (8/ رقم 7737) والبغوي في شرح السنة (13/ رقم 3469) واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (1618) وغيرهم من طريق يحيى بن الحارث الذماري عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة فذكره مرفوعًا.
ورواه عبد الرحمن بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة موقوفًا. أخرجه ابن أبي شيبة 7/ 145 (34719) واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (1714). قلت: عبد الرحمن بن يزيد جاء مصرحًا عند اللالكائي بأنه “ابن جابر”، وهو ثقة.
والصواب أنه عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، وهو ضعيف كما أشار إلى ذلك البخاري وغيره.
وروي من طرق أخرى عن يحيى الذماري، ولا تثبت.
وورد من حديث معاذ الجهني عند الترمذي (2521) وقال: “حسن”، وأحمد (3/ 438) وفي سنده ضعف.
(3) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (544) والطيالسي في مسنده (2166) وابن حبان في صحيحه (566) والبزار في مسنده (13/ رقم 6869) والحاكم 4/ 189 (7321) وغيرهم من طريق مبارك بن فضالة عن ثابت عن أنس مرفوعًا فذكره. والحديث صححه ابن حبان والحاكم. وقال الذهبي: هذا حديث حسن =

(1/442)


فإنّ هذه المحبة من لوازم محبة الله وموجَباتها وكلّما كانت أقوى كان أصلها كذلك.
فصل
وههنا أربعة أنواع من المحبّة يجب التفريق بينها، وإنّما ضلّ من ضلّ بعدم التمييز بينها:
أحدها: محبة الله. ولا تكفي وحدها في النجاة من عذابه والفوز بثوابه (1)، فإنّ المشركين وعبّاد الصليب واليهود وغيرهم يحبّون الله.
الثاني: محبة ما يحبّه الله (2). وهذه هي التي تُدخله في الإسلام، وتُخرجه من الكفر، وأحبُّ الناس إلى الله أقوَمُهم بهذه المحبة وأشدّهم
__________
= الإسناد.
وتابعه عبد الله بن الزبير الحميدي عن ثابت به ولا يثبت.
قلت: رفعه خطا، والصواب أنه من قول مطرف بن عبد الله الشخير. وإليه ذهب الخطيب فرواه حماد بن سلمة عن ثابت عن مطرف قال: “كنا نتحدث أنه ما تحابّ رجلان في الله … ” ذكره الخطيب في تاريخه (9/ 440).
ورواه سليمان بن المغيرة عن غيلان بن جرير سمعت مطرفًا يقول: “ما تحاب قوم في الله عز وجل إلا كان أفضلهما أشدهما حبًّا لصاحبها) فذكرت ذلك للحسن، فقال: صدق. أخرجه أحمد في الزهد (1326) وابن عساكر (57/ 194).
قال الدارقطني: “رواه حماد بن سلمة عن ثابت مرسلًا وهو الصواب” العلل (4/ 36 ق/أ).
وقد ورد هذا اللفظ عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير وأبي فزارة. أخرجه أحمد في الزهد (2242) وهناد في الزهد (485).
(1) ف: “بنعيمه”.
(2) ف، ل: “يحب الله”.

(1/443)


فيها.
الثالث: الحبّ لله وفيه. وهي من لوازم محبة ما يحبّ، ولا يستقيم محبة ما يحب إلا بالحبّ فيه وله.
الرابع (1): المحبة مع الله. وهي المحبة الشركية، وكلّ من أحبّ شيئًا مع الله، لا لله ولا من أجله ولا فيه، فقد اتخذه ندًّا من دون الله، وهذه محبة المشركين.
وبقي قسم خامس: ليس مما نحن فيه، وهو المحبة الطبعية، وهي ميل الإنسان إلى ما يلائم طبعه، كمحبة العطشان للماء، والجائع للطعام، ومحبة النوم والزوجة (2) والولد. فتلك لا تُذَمّ إلا إذا ألهَتْ عن ذكر الله وشغلتْ عن محبته، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)} [المنافقون: 9] وقال: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37].
فصل
ثم الخلّة، وهي تتضمّن (3) كمال المحبة ونهايتَها، بحيث لا يبقى في قلب المحبّ سعة لغير محبوبه، وهي منصب لا يقبل المشاركة بوجهٍ ما (4). وهذا المنصب خَلَصَ (5) لخليلين صلوات الله وسلامه
__________
(1) ف: “والرابع”.
(2) ل: “ومحبة الزوجة”.
(3) س: “وهو يتضمن”.
(4) “ما” ساقطة من ل.
(5) ف: “خاص”.

(1/444)


عليهما: إبراهيم ومحمد، كما قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إن الله اتخذني خليلًا، كما اتخذ إبراهيم خليلًا” (1).
وفي الصحيح عنه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلًا لاتخذتُ أبا بكر خليلًا، ولكن صاحبكم خليل الله” (2).
وفي حديث آخر: “إني أبرأ إلى كلّ خليل من خُلّته” (3).
ولما سأل إبراهيمُ الولدَ، فأُعطِيَه، وتعلّق حبه بقلبه، فأخذ منه شعبة؛ غار الحبيب على خليله أن يكون في قلبه موضع لغيره، فأمره بذبحه (4). وكان الأمر في المنام، ليكون تنفيذ المأمور به أعظم ابتلاءً
وامتحانًا. ولم يكن المقصود ذبح الولد، ولكن المقصود ذبحه من قلبه، ليخلص القلب للربّ. فلما بادر الخليل إلى الامتثال، وقدّم محبة الله على محبة ولده؛ حصل المقصود، فرُفع الذبح. وفُدي بذبح عظيم، فإنّ الربّ تعالى ما أمر بشيء ثم أبطله (5) رأسًا، بل لابدّ أن يبقى بعضه أو بدَلُه، كما أبقى شرعية الفداء، وكما أبقى استحباب الصدقة بين يدي المناجاة، وكما أبقى الخمسَ صلواتٍ بعد رفع الخمسين وأبقى ثوابها
__________
(1) من حديث جندب رضي الله عنه. أخرجه مسلم في المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور … (532).
(2) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. أخرجه مسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه (2383).
(3) أخرجه مسلم في الموضع السابق من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ( 2383/ 7 ) ولفظه: “ألا إنّي أبرأ إلى كل خِلّ من خِلّه”.
(4) ف: “بذبح ولده”.
(5) ف: “وأبطله”.

(1/445)


وقال: ” لا يبدَّل (1) القولُ لديَّ، هي خمس، وهي خمسون في الأجر” (2).
فصل
وأما ما يظنّه بعض الغالطين أنّ المحبة أكمل من الخلّة، وأنّ إبراهيم خليل الله (3)، ومحمد حبيب الله، فمن جهله. فإنّ المحبة عامة، والخلّة خاصة، والخلّة نهاية المحبة. وقد أخبر النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إنّ الله اتخذه خليلًا، ونفى أن يكون له خليل غير ربّه، مع إخباره (4) بمحبته (5) لعائشة ولأبيها ولعمر بن الخطاب وغيرهم (6).
وأيضًا فإنّ الله (7) سبحانه يحبّ التوابين، ويحب المتطهرين، ويحبّ الصابرين، ويحبّ المحسنين، ويحبّ المتقين (8)، ويحب المقسطين. وخُلّته خاصة بالخليلين. والشابّ التائب حبيب الله (9).
__________
(1) ف: “ما يبدل”.
(2) “هي خمس و” ساقط من ف. وهو جزء من حديث الإسراء، أخرجه البخاري في أول كتاب الصلاة (349)، ومسلم في الإيمان، باب الإسراء (163) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(3) “خليل الله” ساقط من ف.
(4) س: “اختياره”، تصحيف.
(5) ف، ز: “بحبّه”.
(6) كما في حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، أخرجه البخاري (3662)، ومسلم (2384) كلاهما في فضائل الصحابة.
(7) ف، ز: “وأيضًا فالله”.
(8) “ويحب المتقين” ساقط من ف.
(9) كذا وقعت هذه الجملة هنا في جميع النسخ، وقد وضعت في ط المدني =

(1/446)


وإنما هذا (1) من قلة العلم والفهم عن الله ورسوله.
فصل
وقد تقدّم (2) أنّ العبد لا يترك ما يحبّه ويهواه إلا لما يحبه ويهواه (3)، لكن يترك أضعفَهما محبةً لأقواهما محبةً؛ كما أنه يفعل ما يكرهه لحصول ما محبتُه أقوى عنده من كراهة ما يفعله، أو لخلاصه من مكروهٍ كراهتُه عنده أقوى من كراهة ما يفعله (4).
وتقدّم أنّ خاصية العقل (5) إيثار أعلى المحبوبين على أدناهما، وأيسر المكروهين على أقواهما. وتقدّم (6) أنّ هذا كمال قوة الحب والبغض.
ولا يتمّ له هذا إلا بأمرين: قوة الإدراك، وشجاعة القلب. فإنّ التخلّف (7) عن ذلك والعمل بخلافه يكون إما لضعف الإدراك بحيث إنّه
__________
= وغيرها قبل الجملة السابقة، وهو أقرب. وقد رواه ابن أبي الدنيا في كتاب التوبة وأبو الشيخ في كتاب الثواب من حديث أنس بسند ضعيف. وبلفظ “إن الله يحب الشاب التائب”. قاله العراقي في تخريج الإحياء (4/ 5). (ص).
(1) ف: “هذه”.
(2) ف، ز: “قد تقدم” دون الواو.
(3) “إلا … يهواه” ساقط من ل.
(4) “أو لخلاصه … يفعله” ساقط من س، ل.
(5) ف: “خاصّة العقل”. وفي ز: “خاصة الغفلة إيثارًا المحبوبين”، تحريف وسقط.
(6) س: “وقد تقدم”.
(7) ف: “المتخلف”.

(1/447)


لم يدرك مراتب المحبوب والمكروه على ما هي (1) عليه، وإمّا لضعفٍ في النفس وعجزٍ في القلب لا يطاوعه لإيثار الأصلح له، مع (2) علمه بأنّه الأصلح. فإذا صحّ إدراكه، وقويت نفسه، وتشجّع (3) القلب على إيثار المحبوب الأعلى والمكروه الأدنى، فقد وُفّق لأسباب السعادة.
فمن الناس من يكون سلطان شهوته أقوى من سلطان عقله وإيمانه، فيقهر الغالبُ الضعيفَ (4). ومنهم من يكون سلطان إيمانه وعقله أقوى (5) من سلطان شهوته.
وإذا كان كثير من المرضى يحميه الطبيب عما يضرّه، فتأبى عليه نفسه وشهوته إلا تناولَه، ويقدّم شهوته على عقله، وتسميه الأطباء “عديم المروءة”؛ فهكذا أكثر مرضى القلوب يؤثرون ما يزيد مرضَهم لقوة شهوتهم له (6).
فأصل الشرّ من ضعف الإدراك، وضعف النفس ودناءتها. وأصل الخير من كمال الإدراك، وقوة النفس وشرفها وشجاعتها.

فالحبّ والإرادة أصل كلّ فعل ومبدؤه، والبغض والكراهة أصل كلّ ترك (7) ومبدؤه. وهاتان القوتان في القلب أصل سعادة العبد وشقاوته.
__________
(1) س: “ما كان”.
(2) ما عدا ز: “لرفع” وهو تحريف “له مع”.
(3) س: “وشجع”.
(4) ف، ز: “للضعيف”.
(5) “من سلطان عقله … ” ساقط من ل.
(6) “له” ساقط من ف.
(7) س: “أصل ترك”. وفي ز: “كل شيء” بدلًا من “كل فعل”، و”كل ترك”.

(1/448)


ووجود الفعل الاختياري لا يكون إلا بوجود سببه من الحب والإرادة. وأما عدم الفعل فتارةً يكون لعدم مقتضيه وسببه، وتارةً يكون لوجود البغض والكراهة المانع منه. وهذا متعلَّق الأمر والنهي، وهو
الذي (1) يسمّى الكفّ، وهو متعلّق الثواب والعقاب.
وبهذا (2) يزول الاشتباه في مسألة الترك، هل هو أمر وجودي أو عدمي؟ والتحقيق أنّه قسمان: فالترك المضاف إلى عدم السبب المقتضي عدميّ، والمضاف إلى السبب المانع من الفعل وجودي (3).
فصل
وكل واحد من الفعل والترك الاختياريين إنّما يُؤثره الحيّ لما فيه من حصول المنفعة التي يلتذّ بحصولها، أو زوال الألم (4) الذي يحصل له الشفاء بزواله (5). ولهذا يقال: شفى صدره، وشفى قلبه. قال:
هي الشفاءُ لدائي لو ظفرتُ بها … وليس منها شفاءُ الداءِ مبذولُ (6)
وهذا مطلوب يُؤثِره العاقل، بل الحيوان البهيم؛ ولكن يغلط فيه أكثر الناس غلطًا قبيحًا، فيقصد حصول اللذة بما يُعقِب عليه (7) أعظمَ
__________
(1) “الذي” ساقط من ل.
(2) في س: “بهذا” دون الواو.
(3) انظر: إغاثة اللهفان (824).
(4) ل، ز: “وزوال الألم”.
(5) “بزواله … قال هي” ساقط من ل.
(6) البيت لهشام بن عقبة، أخي ذي الرمة، وهو من شواهد سيبويه (1/ 71، 177). وانظر مصارع العشاق (2/ 190).
(7) ف: “على نفسه”.

(1/449)


الألم، فيؤلم نفسه من حيث يظنّ أنه يحصّل لذتها، ويشفي (1) قلبه بما يُعقب عليه غاية المرض.
وهذا شأن من قصَرَ نظره على العاجل، ولم يلاحظ العواقب. وخاصَّةُ العقل: النظر في العواقب (2)، فأعقَلُ الناسِ من آثر لذته وراحته الآجلة الدائمة على العاجلة المنقضية الزائلة، وأسفهُ الخلقِ من باع نعيم الأبد وطيب الحياة الدائمة واللذة العظمى التي لا تنغيص (3) فيها ولا نقص (4) بوجهٍ ما، بلذّة منغَّصة مشوبة بالآلام والمخاوف، وهي سريعة الزوال (5) وشيكة الانقضاء.
قال بعض العلماء (6): فكّرتُ فيما يسعى فيه العقلاء، فرأيتُ سعيهم كلّه في مطلوب واحد، وإن اختلفت طرقهم في تحصيله، رأيتهم جميعهم إنّما يسعون في دفع الهمّ والغمّ عن نفوسهم. فهذا بالأكل والشرب (7)، وهذا بالتجارة والكسب، وهذا بالنكاح، وهذا بسماع الغناء والأصوات المطربة، وهذا باللهو واللعب. فقلتُ: هذا المطلوب مطلوب العقلاء، ولكن الطرق كلّها غير موصلة إليه، بل لعل أكثرها إنّما يوصل إلى ضدّه. ولم أر في جميع هذه الطرق طريقًا موصلة
__________
(1) ل، ز: “يشقي”، تصحيف.
(2) “وخاصة … العواقب” ساقط من ل.
(3) ف: “تنغص”.
(4) “نقص” ساقط من ل.
(5) “الزوال” ساقط من ز.
(6) هو ابن حزم، وقد لخص المؤلف كلامه. انظر: الأخلاق والسير (13 – 16).
(7) “والشرب” ساقط من ف.

(1/450)


إلا (1) الإقبال على الله ومعاملته وحده، وإيثار مرضاته على كلّ شيء.
فإنّ سالك هذه الطريق إن فاته حظه من الدنيا فقد ظفر بالحظ العالي الذي لا فوت معه، وإن حصل للعبد حصل له كل شيء، وإن فاته فاته كل شيء. وإن ظفر بحظه من الدنيا ناله على أهنأ الوجوه. فليس للعبد أنفع من هذه الطريق ولا أوصل منها إلى لذته وبهجته وسعادته. وبالله التوفيق.
فصل
والمحبوب قسمان: محبوب لنفسه، ومحبوب لغيره. والمحبوب لغيره لابدّ أن ينتهي إلى المحبوب لنفسه، دفعًا للتسلسل المحال. وكلّ ما سوى المحبوب الحق فهو محبوب لغيره، وليس شيء يُحَبّ لنفسه إلا الله وحده، وكلّ ما سواه مما يُحَبّ وإنّما محبته تبع لمحبة الربّ تعالى (2)، كمحبة ملائكته وأنبيائه وأوليائه، فإنّها تبع لمحبته سبحانه، وهي من لوازم محبته، فإنّ محبة المحبوب توجب محبةَ (3) ما يحبّه.
وهذا موضع يجب الاعتناء به، فإنّه محلّ فرقان بين المحبة النافعة لغيره، والتي (4) لا تنفع، بل قد تضرّ.
فاعلم أنّه لا يُحَبّ لذاته إلا مَن كماله من لِوازم ذاته، وإلهيتُه وربوبيته وغناه من لوازم ذاته. وما سواه وإنّما يبغض ويكرَه لمنافاته
__________
(1) رسمها في ل، ز: “إلى”، وكذا كان في ف، فأصلحه بعض القراء.
(2) ز: “محبته من محبة الربّ تعالى”.
(3) “محبة” ساقط من ف.
(4) ف: “والمحبة التي”.

(1/451)


محابَّه ومضادّته لها، وبغضه وكراهته بحسب قوة هذه المنافاة وضعفها، فما كان أشد منافاةً (1) لمحابّه كان أشدّ كراهةً من الأعيان والأوصاف والأفعال والإرادات وغيرها.
فهذا (2) ميزان عادل يوزن به موافقة الربّ ومخالفته، وموالاته ومعاداته. فإذا رأينا شخصًا يحب ما يكرهه (3) الربّ تعالى، ويكره ما يحبّه، علمنا أنّ فيه من معاداته بحسب ذلك. وإذا رأينا الشخص يحبّ ما يحبه (4) الربّ، ويكره ما يكرهه، وكلّما كان الشيء أحبّ إلى الربّ كان أحبّ إليه وآثر عنده، وكلما كان أبغض إلى الربّ كان أبغض إليه وأبعد منه = علمنا أنّ فيه من موالاة الربّ بحسب ذلك.
فتمسَّكْ بهذا الأصل غاية التمسّك في نفسك وفي غيرك. فالولاية عبارة عن موافقة الولي (5) الحميد في محابّه ومساخطه، ليست بكثرة صوم ولا صلاة ولا تمزُّق ولا رياضة.
والمحبوب لغيره قسمان أيضًا:
أحدهما: ما يلتذّ المحِبّ بإدراكه وحصوله.
والثاني: ما يتألّم به (6)، ولكن يحتمله (7) لإفضائه إلى محبوبه،
__________
(1) “وضعفها … منافاة” ساقط من ل.
(2) ل: “وهذا”.
(3) ز: “يكره”.
(4) “علمنا أن فيه … يحبه” ساقط من س.
(5) ل: “المولى”، وأشير إلى هذه النسخة في حاشية س.
(6) “وحصوله … به” ساقط من ل.
(7) “يحتمله” ساقط من ف.

(1/452)


كشرب الدواء الكريه.
قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: 216]، فأخبر سبحانه أنّ القتال مكروه لهم، مع أنّه خير لهم لإفضائه إلى أعظم محبوب (1) وأنفعه.
والنفوس تحبّ الراحة والدعة (2) والرفاهية، وذلك شرّ لها لإفضائه إلى فوات هذا المحبوب. فالعاقل لا ينظر إلى لذة المحبوب العاجل فيؤثرها، وألم المكروه العاجل فيرغب عنه، فإنّ ذلك قد يكون شرّا له؛ بل قد يجلب عليه غاية الألم، ويفوّته أعظمَ اللذّة. بل (3) عقلاء الدنيا يتحمّلون المشاقّ المكروهة لما يُعقِبهم (4) من اللذة بعدها، وإن كانت منقطعة.
فالأمور أربعة:
مكروه يُوصِل إلى مكروه.
ومكروه يوصل إلى محبوب.
ومحبوب يوصل إلى محبوب.
ومحبوب يوصل إلى مكروه (5).
__________
(1) س: “المحبوب”.
(2) ز: “الفُرْغة”، تحريف.
(3) في ف واو العطف مكان “بل”.
(4) يعني: تحمل المشاقّ. وفي ف: “تعقبهم”، يعني: المشاقّ.
(5) ف، ز: “ومكروه يوصل إلى محبوب”، وهو خطأ، فقد سبق هذا القسم. وقد =

(1/453)


فالمحبوب الموصل إلى المحبوب قد اجتمع فيه داعي الفعل من وجهين، والمكروه الموصل إلى مكروه قد اجتمع فيه (1) داعي الترك من وجهين.
بقي القسمان الآخران يتجاذبهما الداعيان، وهما معترك الابتلاء والامتحان. فالنفس تؤثر أقربهما جوارًا منهما، وهو العاجل. والعقل والإيمان يؤثران (2) أنفعهما وأبقاهمًا. والقلب بين الداعيين، وهو إلى هذا مرةً، وإلى هذا مرةً.
وها هنا محلّ الابتلاء شرعًا وقدرًا. فداعي العقل والإيمان ينادي (3) كل وقت: حيَّ على الفلاح، عند الصباح يحمد القومُ السُّرى (4)، وفي الممات يحمد العبدُ التُّقَى. فإن اشتدّ ظلام ليل المحبة، وتحكّم سلطان الشهوة والإرادة يقول (5): يا نفس اصبري،
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي … ويذهب هذا كلُّه ويزولُ (6)
__________
= سقط القسمان الأخيران من ل.
(1) “داعي الفعل … فيه” ساقط من ف، ل.
(2) ما عدا س: “يؤثر” بالإفراد، وهو جيد أيضًا.
(3) “اوها هنا … الإيمان” ساقط من س. وفيها: “وإلى هذا ينادي”.
(4) من الأمثال السائرة، يضرب للرجل يحتمل المشقّة رجاء الراحة. مجمع الأمثال (2/ 318).
(5) جواب إنْ، وكذا جاء مضارعًا مرفوعًا في جميع النسخ.
(6) أنشده المؤلف في البدائع (672)، ومدارج السالكين (3/ 229)، وروضة المحبين (80). وللبهاء زهير بيت يشبهه، وصدره (ديوانه: 210):
وما هي إلا غَيبة ثم نلتقي

(1/454)


فصل
وإذا كان الحبّ أصل كل عمل من حق وباطل، فأصل الأعمال الدينية حب الله ورسوله، كما أنّ أصل الأقوال الدينية تصديق الله ورسوله.
وكلّ إرادة تمنع كمال الحبّ لله ورسوله وتزاحم هذه المحبة، أو شبهةِ تمنع كمال التصديق؛ فهي معارِضة لأصل الإيمان أو مُضْعِفة له. فإنْ قويت حتى عارضت أصلَ الحبّ والتصديق كانت كفرًا وشركًا أكبرَ، وإنْ لم تعارضه قدحتْ في كماله، وأثّرت فيه ضعفًا وفتورًا في العزيمة والطلب. وهي تحجب الواصل، وتقطع الطالب، وتنكس الراغب.
فلا تصحّ الموالاة إلا بالمعاداة، كما قال تعالى عن إمام (1) الحنفاء المحبين أنه قال لقومه: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)} [الشعراء: 75 – 77]. فلم تصحّ لخليل الله الموالاة (2) والخلة إلا بتحقيق هذه المعاداة فإنّه لا وَلاءَ إلّا ببراء (3)، أو، (4) لا وَلاءَ لله إلّا بالبراءة (5) من كل معبود سواه. قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة: 4].
__________
(1) “عن إمام” ساقط من ل.
(2) ما عدا س: “فلم يصحّ … هذه الموالاة”.
(3) س: “ببراءة”.
(4) ما بين الحاصرتين من خب.
(5) ف، ز: “بالبراء”. وقد ضرب في ز على “إلا ببراء … لله” لتكون العبارة: “فإنه لا ولاء لله إلا بالبراءة … “.

(1/455)


وقال تعالى (1): {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)} [الزخرف: 26، 27]. أي جعل هذه الموالاة لله والبراءة (2) من كل معبود سواه كلمةً باقيةً في عقبه، يتوارثها الأنبياء وأتباعهم بعضهم عن بعض. وهي كلمة (3) لا إله إلا الله، وهي التي ورّثها إمامُ الحنفاء لأتباعه إلى يوم القيامة.
وهي الكلمة التي قامت بها الأرض والسماوات، وفطر الله عليها جميع المخلوقات. وعليها أُسِّست الملّة، ونُصِبت القبلة، وجُرّدت سيوف الجهاد، وهي محض حقّ الله على جميع العباد. وهي الكلمة
العاصمة للدم والمال والذريّة في هذه الدار، والمنجيةُ من عذاب القبر وعذاب النار. وهي المنشور الذي لا يدخل أحد (4) الجنةَ إلا به، والحبل الذي لا يصل إلى الله من لم يتعلق (5) بسببه.
وهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام. وبها انقسم الناس إلى شقي وسعيد، ومقبول وطريد. وبها انفصلت دار الكفر من دار الإيمان، وتميّزت دار النعيم من دار الشقاء والهوان. وهي العمود الحامل للفرض والسنّة، “ومن كان آخر كلامه: لا إله إلا الله، دخل الجنّة” (6).
__________
(1) “وقال تعالى” لم يرد في ف.
(2) ف: “البراء”.
(3) “كلمة” لم ترد في ف.
(4) “أحد” ساقط من ز.
(5) س: “إلّا من تعلق”.
(6) هذا لفظ حديث أخرجه أبو داود (3116) وأحمد 5/ 233 (22034) والبزار في مسنده (2626) والحاكم 1/ 503 (1299) وغيرهم من طريق صالح بن أبي عريب عن كثير بن مرة عن معاذ بن جبل فذكره مرفوعًا. قال الحاكم: “هذا =

(1/456)


وروح هذه الكلمة وسرّها: إفراد الربّ -جلّ ثناؤه، وتقدّست أسماؤه، وتبارك اسمه، وتعالى جدّه، ولا إله غيره- بالمحبة والإجلال والتعظيم والخوف والرجاء، وتوابع ذلك من التوكل (1) والإنابة والرغبة والرهبة. فلا يُحَبَّ سواه، وكلّ ما يُحَبّ غيره وإنّما يحَبّ تبعًا لمحبته وكونِه وسيلةً إلى زيادة محبته. ولا يُخاف سواه ولا يُرجى سواه، ولا يُتوكَّل إلا عليه، ولا يُرغَب إلا إليه، ولا يُرهَب إلا منه، ولا يُحلَف إلا باسمه، ولا ينذَر إلا له، ولا يتاب إلا إليه، ولا يطاع إلا أمرُه، ولا يتحسّب إلا به، ولا يستغاث (2) في الشدائد إلا به، ولا يلتجأ (3) إلا إليه، ولا يُسجَد إلا له، ولا يُذبَح إلا له وباسمه. ويجتمع ذلك كلّه في حرف واحد، وهو أن لا يَعُبدَ إلا إيّاه بجميع أنواع العبادة، فهذا هو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله.
ولهذا حرم الله على النار من شهد أن لا إله إلا الله حقيقة الشهادة (4). ومحال أن يدخل النار من تحقق بحقيقة هذه الشهادة وقام
__________
= حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه … “. قلت: فيه صالح بن أبي عريب. ذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن القطان: لا يعرف له حال. وقال ابن حجر: مقبول. تهذيب الكمال (13/ 73).
وأخرج مسلم (26) عن عثمان قال: قال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنّة”.
(1) س: “والتوكل”.
(2) ل: “ولا يستعان”.
(3) ف: “يلجأ”. ز: “ملتجأ”.
(4) كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من خص بالعلم قومًا دون قوم … (128)، ومسلم في الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنّة قطعا (32).

(1/457)


بها، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33)} [المعارج: 33]، فيكون قائمًا بشهادته في ظاهره وباطنه، في قلبه وقالبه. فإنّ من الناس من تكون شهادته ميتة، ومنهم من تكون نائمةً إذا نبهت انتبهت، ومنهم من تكون مضطجعةً، ومنهم من تكون إلى القيام أقرب. وهي في القلب بمنزلة
الروح في البدن، فروح ميتة وروح مريضة إلى الموت أقرب، وروح إلى الحياة أقرب، وروح صحيحة قائمة بمصالح البدن.
وفي الحديث الصحيح عنه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إنّي لأعلم كلمةً لا يقولها عبدٌ عند الموت إلا وجدتْ روحُه لها رَوحًا” (1).
فحياة الروح بحياة هذه الكلمة (2) فيها، كما أنّ حياة البدن بوجود الروح فيه. وكما أنّ من مات على هذه الكلمة فهو في الجنّة يتقلَّب فيها، فمن عاش على تحقيقها والقيام بها فروحه تتقلّب في جنة المأوى، وعيشه أطيب عيش. قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: 40، 41].
فالجنة مأواه يوم اللقاء، وجنّةُ المعرفة والمحبة والأنسِ بالله
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (3795) والنسائي في عمل اليوم والليلة (1101) وابن حبان (205). من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن يحيى بن طلحة عن أمه سعدى المرية زوج طلحة بن عبيد الله قالت: مرّ عمر بن الخطاب بطلحة فذكره مطولًا. وسنده صحيح.
ورواه مجالد بن سعيد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله سمعت عمر بن الخطاب يقول لطلحة بن عبيد الله فذكره. أخرجه أحمد 1/ 28 (187) وأبو يعلى (645) وغيرهما. وفيه مجالد لين الحفظ، فلعله وهم فيه.
والحديث صححه ابن حبان والمؤلف وغيرهما.
(2) س: “الروح بهذه الكلمة”.

(1/458)


والشوقِ إلى لقائه والفرح (1) والرضى به وعنه مأوى روحه في هذه الدار. فمن كانت هذه الجنّة مأَواه ها هنا، كانت جنة الخلد مأواه يوم المعاد. ومن حُرِم هذه الجنّة، فهو لتلك أشدّ حرمانًا. والأبرار في النعيم، وإن اشتدّ بهم العيش، وضاقت عليهم الدنيا. والفجار في جحيم، وإن اتسعت عليهم الدنيا.
قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97].
وطيب الحياة جنة الدنيا.
وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125].
فأيّ نعيمٍ أطيبُ من شرح الصدر؟ وأيّ عذابٍ أمرُّ من ضيق الصدر؟ وقال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)} [يونس: 62 – 64].
فالمؤمن المخلص لله من أطيب الناس عيشًا، وأنعمهم بالًا، وأشرحهم صدرًا، وأسرّهم قلبًا. وهذه جنة عاجلة قبل الجنّة الآجلة.
قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إذا مررتم برياض الجنّة فارتعوا”. قالوا: وما رياض الجنّة؟ قال: “حِلَق الذكر” (2).
__________
(1) ل، ز: “الفرح به”.
(2) تقدّم تخريجه في ص (281).

(1/459)


ومن هذا: قوله – صلى الله عليه وسلم -: “ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة” (1).
ومن هذا قوله، وقد سألوه عن وصاله في الصوم، فقال: “إنّي لستُ كهيئتكم، إنّي أظَلُّ عند ربّي يطعمني ويسقيني” (2). فأخبر – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنّ ما يحصل له من الغذاء عند ربه يقوم مقام الطعام والشراب الحسّي، وأنّ ما يحصل له من ذلك أمر يختصّ (3) به، لا يشركه فيه غيره، فإذا أمسك عن الطعام والشراب فله عنه عوض يقوم مقامه، وينوب منابه، ويغني عنه، كما قيل (4):
لها أحاديث من ذكراك تَشغلها … عن الشراب وتُلهيها عن الزادِ
لها بوجهك نور تستضيء به … ومن حديثك في أعقابها حادِ (5)
إذا شكَتْ من كَلال السيرِ أُوعِدُها … رَوْحَ اللقاء فتحيا عند ميعادِ (6)
__________
(1) تقدّم تخريجه في ص (282).
(2) من حديث عائشة رضي الله عنها. أخرجه البخاري في الصوم، باب الوصال … (1964)؛ ومسلم في الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم (1105).
(3) ف، ل: “مختص”. وفي ز: “عوض يقوم” مكان “من ذلك أمر”، وهو خطأ.
(4) أوردها المؤلف في زاد المعاد (2/ 33)، ومفتاح دار السعادة (1/ 185)، وروضة المحبين (165). وهي لإدريس بن أبي حفصة من قصيدة له في إسحاق بن إبراهيم المصعبي. انظر: الأنوار للشمشاطي (1/ 400) وقد ورد فيه وفي المدهش (455)، وديوان المعاني (1/ 63)، والحماسة البصرية (484) البيتان الأولان مع بيت ثالث غير المذكور هنا.
(5) وفي المدهش: “من نوالك”. وفي المصادر الأخرى: “من رجائك”.
(6) في المفتاح والزاد: “روح القدوم”.

(1/460)


فصل (1)
وكلّما كان وجود الشيء أنفعَ للعبد وهو إليه أحوج، كان تألّمه بفقده أشدّ. وكلّما كان عدمه أنفع له (2) كان تألّمه بوجوده أشدّ (3). ولا شيء على الإطلاق أنفع للعبد من إقباله على الله، واشتغاله بذكره (4)، وتنعّمه بحبه، وإيثاره لمرضاته؛ بل لا حياة له ولا نعيم ولا سرور (5) ولا بهجة إلا بذلك. فعدمه آلَمُ شيء له، وأشدّه عذابًا عليه. وإنما يغيّب الروحَ عن شهود هذا الألم والعذاب اشتغالُها بغيره، واستغراقها في ذلك الغير، فتغيب به (6) عن شهود ما هي فيه من ألم الفوت بفراق أحبِّ شيء إليها وأنفعه لها.
وهذا بمنزلة السكران، المستغرقِ في سكره، الذي احترقت (7) داره وأمواله وأهله وأولاده، وهو لاستغراقه في السكر لا يشعر بألم ذلك (8) الفوت وحسرته، حتى إذا صحا وكُشِف عنه غطاءُ السكر، وانتبه من رقدة الخمر (9)، فهو أعلم بحاله حينئذ.
__________
(1) كلمة “فصل” ساقطة من النسخ المطبوعة.
(2) “له” ساقط من ل.
(3) ف: “أنفع وأشد”، وهو غلط.
(4) “بذكره” ساقط من ز.
(5) “ولا سرور” ساقط من ز. وزاد في ف بعد “نعيم” و”سرور”: “له”.
(6) “عن شهود هذا … به” ساقط من ف.
(7) س: “أحرق”.
(8) “ذلك” ساقط من ف.
(9) س: “رقدته”، وفي الحاشية: “خ رقدة الخمر”.

(1/461)


وهكذا الحال سواءٌ عند كشف الغطاء، ومعاينة طلائع الآخرة، والإشراف على مفارقة الدنيا، والانتقال منها إلى الله؛ بل الألم والحسرة والعذاب هناك أشدّ بأضعاف مضاعفة. فإنّ المصاب في الدنيا يرجو جبر مصيبته بالعوض، ويعلم أنّه قد أصيب بشيء زائل لا بقاء له؛ فكيف بمن مصيبته بما لا عوضَ عنه، ولا بدلَ منه (1)، ولا نسبة بينه وبيّن الدنيا جميعها؟ فلو قضى الله سبحانه بالموت من هذه الحسرة والألم لكان العبد جديرًا به، وإنّ الموت لَيعود أعظمَ أمنيته وأكبرَ حسراته. هذا (2) لو كان الألم على مجرّد الفوات (3)، فكيف وهناك من العذاب على الروح والبدن بأمور أخرى وجودية ما لا يُقدَر قدرُه؟ فتبارك من حمّل هذا الخلق الضعيف هذين الألمين العظيمين اللذين لا تحملهما الجبال الرواسي! فأعرض الآن على نفسك أعظمَ محبوب لك في الدنيا بحيث لا تطيب لك الحياة إلا معه، فأصبحتَ وقد أُخِذ منك، وحيل بينك وبينه، أحوجَ ما كنتَ إليه، كيف يكون حالك؟ هذا، ومنه كلّ عوض، فكيف بمن لا عوض عنه؟
من كلّ شيء إذا ضيّعتَه عوض … وما من الله إنْ ضيّعتَه عوضُ (4)
وفي أثر إلهي: “ابنَ آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعَبْ، وتكفّلت برزقك فلا تتعَبْ، ابنَ آدم اطلبْني تجدْني، فإن وجدتَني وجدتَ كلّ شيء، وإن
__________
(1) ف: “لابدّ منه”.
(2) ف: “وهذا”.
(3) س: “مجرد غاية الفوات”.
(4) تقدم في ص (173).

(1/462)


فُتُّك فاتك كلُّ شيء. وأنا أحب إليك من كلّ شيء” (1).
فصل
ولما كانت المحبة جنسًا تحته أنواع متفاوتة في القدر والوصف، كان أغلب ما يُذكَر (2) فيها في حقّ الله تعالى ما يختصّ به ويليق به من أنواعها، ولا يصلح إلا له وحده، مثل العبادة والإنابة ونحوهما (3)؛ فإنّ العبادة لا تصلح إلا له وحده، وكذلك الإنابة (4).
وقد تذكر المحبة باسمها المطلق، كقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165].
وأعظم أنواع المحبة المذمومة: المحبّة مع الله، التي يسوّي المحبّ فيها بين محبته لله ومحبته للندّ (5) الذي اتخذه من دونه. وأعظم أنواعها المحمودة: محبة الله وحده، ومحبة ما أحبّ. وهذه المحبة هي أصل السعادة ورأسها، التي لا ينجو أحد من العذاب إلا بها. والمحبة المذمومة الشركية هي أصل الشقاوة ورأسها، التي لا يبقي في العذاب إلا أهلها. فأهل المحبة الذين أحبّوا الله، وعبدوه وحده لا شريك له،
__________
(1) وهو أثر إسرائيلي كما نصّ على ذلك شيخ الإِسلام في الفتاوى (8/ 52).
وذكره المصنف في طريق الهجرتين (526،95) ومدارج السالكين (2/ 349، 452)، (3/ 291، 324، 411).
(2) ف: “نذكره”.
(3) ز: “ونحوها”.
(4) انظر: إغاثة اللهفان (840).
(5) س: “محبة الله ومحبة الند”.

(1/463)


لا يدخلون النار، ومن دخلها منهم بذنوبه فإنّه لا يبقى (1) فيها منهم أحد.
ومدار القرآن (2) على الأمر بتلك المحبة ولوازمها، والنهي عن المحبة الأخرى (3) ولوازمها، وضرب الأمثال والمقاييس للنوعين، وذكر قصص النوعين، وتفصيل أعمال النوعين وأوليائهم ومعبودِ كليهما وأخباره عن فعله بالنوعين، وعن حال النوعين (4) في الدور الثلاثة: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار. فالقرآن في شأن النوعين.
وأصل دعوة جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم إنّما هو (5) عبادة الله وحده لا شريك له، المتضمّنة لكمال حبّه، وكمال الخضوع والذلّ له، والإجلال والتعظيم، ولوازم ذلك من الطاعة والتقوى.
وقد ثبت في الصحيحين (6) من حديث أنس عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنّه قال: “والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين”.
وفي صحيح البخاري (7) أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
__________
(1) ف: “دخلها بذنوبه لا يبقى”.
(2) انظر: إغاثة اللهفان (840).
(3) ف: “تلك المحبة الأخرى”.
(4) “وأوليائهم … النوعين” ساقط من ف، ل.
(5) ف: “هي”.
(6) أخرجه البخاري في الإيمان، باب حب الرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – من الإيمان (15)؛ ومسلم في الإيمان، باب وجوب محبة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – … (44).
(7) في الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (6632). من حديث عبد الله بن هشام رضي الله عنه.

(1/464)


يا رسول الله، واللهِ (1) لأنتَ أحبُّ إليّ من كلّ شيء إلا من نفسي. فقال: “لا يا عمر، حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك”. فقال: والذي (2) بعثك بالحق لأنت أحبُّ إليَّ من نفسي. قال: “الآن يا عمر”.
فإذا كان هذا شأنَ محبّة عبده ورسوله، ووجوب تقديمها على محبّة نفس الإنسان وولده ووالده والناس أجمعين، فما الظنّ بمحبة مُرسِله سبحانه وتعالى ووجوبِ تقديمها على محبة ما سواه؟
ومحبة الربّ تعالى تختصّ عن محبة غيره في قدرها وصفتها وإفرادِه سبحانه بها. فإنّ الواجب له من ذلك أن يكون أحبَّ إلى العبد من ولده ووالده، بل من سمعه وبصره ونفسه التي بين جنبيه، فيكون إلهُه الحقّ ومعبودُه أحبَّ إليه من ذلك كلّه.
والشيء قد يُحَبّ من وجه دون وجه (3)، وقد يُحَبّ لغيره. وليس شيء يُحَبّ لذاته من كلّ وجه إلا الله وحده، ولا تصلح الألوهية إلا له، و {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] والتألّه (4) هو المحبة، والطاعة، والخضوع (5).
__________
(1) لم يرد “والله”. في ف. وفي ل: “والله يا رسول الله لأنت”.
(2) س: “قال: فوالذي”. ز: “فقال: فوالذي”.
(3) “دون وجه” ساقط من ل.
(4) ل، ز: “والثالثة”، تصحيف طريف.
(5) انظر: إغاثة اللهفان (845).

(1/465)


فصل
وكلّ حركة في العالم العلوي والسفلي فأصلها المحبة، فهي علّتها الفاعليّة والغائية (1).
وذلك لأنّ الحركات ثلاثة أنواع: حركة اختيارية إرادية، وحركة طبيعية، وحركة قسرية.
والحركة الطبيعية (2) أصلها السكون، وإنّما يتحرّك الجسم إذا خرج عن مستقرّه ومركزه الطبيعي (3)، فهو يتحرك للعود إليه. وخروجه عن مركزه ومستقره إنما هو بتحريك القاسر المحرِّك له. فله حركة قسرية بمحرِّكه (4) وقاسره، وحركة طبيعية بذاته يطلب بها العود إلى مركزه. وكلا حركتيه (5) تابعة للقاسر المحرِّك، فهو أصل الحركتين.
والحركة الاختيارية الإرادية هي (6) أصل الحركتين الأخريين، وهي متابعة للإرادة والمحبة، فصارت الحركات الثلاث تابعةً للمحبة والإرادة.
__________
(1) انظر: روضة المحبين (146)، “الباب الرابع في أنّ العالم العلوي والسفلي إنما وجد بالمحبة ولأجلها، وأن حركات الأفلاك والشمس والقمر والنجوم وحركات االملائكة والحيوانات وحركة كل متحرك إنما وجدت بسبب الحبّ”.
وانظر: إغاثة اللهفان (824، 827، 837).
(2) ز: “فالحركة الطبيعية”.
(3) ف: “الطبعي”.
(4) س: “بتحريك محركه”. وفي ف: “محركةٌ وقاسرةٌ”، خطأ. وكذا في ل دون ضبط.
(5) الوجه: “كلتا حركتيه” ولكن كذا في جميع النسخ، وله نظائر في كتب المؤلف.
(6) “أصل الحركتين … هي” ساقط من ل.

(1/466)


والدليل (1) على انحصار الحركات في هذه الثلاث أنّ المتحرك إن كان له شعور بالحركة فهي الإرادية، وإن لم يكن له شعور بها، فإما أن تكون على وفق طبعه أو لا. فالأولى هي الطبيعية (2)، والثانية القسرية.
إذا ثبت هذا، فما في السموات والأرض وما بينهما من حركات الأفلاك والشمس والقمر والنجوم والرياح والسحاب والمطر والنبات وحركات الأجِنّة في بطون أمهاتها، وإنّما هي بواسطة الملائكة المدبّرات أمرًا والمقسمات أمرًا، كما دلّ على ذلك نصوص القرآن والسنة في غير موضع.
والإيمان بذلك من تمام الإيمان بالملائكة، فإن الله وكّل بالرحم ملائكة، وبالقَطْر ملائكة، وبالنبات (3) ملائكة، وبالرياح، وبالأفلاك، وبالشمس والقمر والنجوم.
ووكّل بكل عبد أربعة من الملائكة: كاتبَين على يمينه (4) وشماله، وحافظَين من بين يديه ومن خلفه. ووكّل ملائكةً بقبض روحه وتجهيزها إلى مستقرّها من الجنّة أو النار (5)، وملائكةً بمسألته وامتحانه في قبره وعذابه هناك أو نعيمه (6)، وملائكةً تسوقه إلى المحشر إذا قام من قبره،
__________
(1) انظر: الصفدية (175).
(2) ف: “المطبعية”.
(3) س، ف: “والنبات”.
(4) ف: “ملائكة … عن يمينه”.
(5) ما عدا س: “والنار”.
(6) ف، ل: “ونعيمه”. وقد سقط “هناك” من ف.

(1/467)


وملائكة بتعذيبه في النار أو نعيمه (1) في الجنّة.
ووكّل بالجبال ملائكة، وبالسحاب ملائكةً تسوقه حيث أُمِرَتْ به، وبالقَطْر ملائكة تُنزله بأمر الله بقدر معلوم كما شاء الله، ووكّل ملائكةً بغرس الجنّة وعمل آلتها (2) وفرشها وبنائها (3) والقيام عليها، وملائكةً بالنار كذلك.
فأعظم جند الله الملائكة. ولفظ “الملَك” يُشعِر بأنّه رسول منفّذ لأمر غيره وليس (4) لهم من الأمر شيء، بل الأمر كلّه لله. وهم يدبّرون الأمر، ويقسّمونه بأمر الله وإذنه.
قال تعالى إخبارًا عنهم: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)} [مريم: 64]، وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)} [النجم: 26].
وأقسم سبحانه بطوائف الملائكة المنفّذين لأمره في الخليقة، كما قال: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3)} [الصافات: 1 – 3] وقال: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)} [النازعات: 1 – 5].
__________
(1) ل: “بنعيمه”. ف: “ونعيمه”.
(2) ف: “وعمارتها”، والظاهر أنّه مغيّر.
(3) ز: “وثيابها”، ولعله تصحيف.
(4) ف، ز: “فليس”.

(1/468)


وقد ذكرنا معنى ذلك وسرّ الإقسام به في كتاب “أيمان القرآن” (1).
وإذا (2) عُرف ذلك فجميع تلك المحبّات والحركات والإرادات والأفعال هي عبادةٌ منهم لربّ الأرض والسماوات، وجميع الحركات الطبيعية (3) والقسرية تابعةٌ لها. فلولا الحبّ ما دارت الأفلاك، ولا تحركت الكواكب النيّرات (4)، ولا هبّت الرياح المسخَرات، ولا مرّت السُّحُب الحاملات، ولا تحرّكت الأجنّة في بطون الأمهات، ولا انصاع عن الحَبّ أنواع النبات، ولا اضطرَبت أمواج البحار الزاخرات، ولا تحركت (5) المدبّرات والمقسّمات، ولا سبّحت بحمد فاطرها الأرضون والسماوات، وما فيها (6) من أنواع المخلوقات. فسبحان من (7) تسبّحه السماوات السبع والأرض ومن فيهنّ، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} [الإسراء: 44].
فصل
إذا عُرف (8) ذلك فكل حيٍّ له إرادة ومحبة وعمل بحسبه، وكل متحرّك فأصل حركته (9): المحبة والإرادة. ولا صلاح للموجودات إلا
__________
(1) وهو المطبوع بعنوان “التبيان في أقسام القرآن”، انظر ص (83، 89، 258).
(2) ف: “وإذ”.
(3) ف: “المطبعية”.
(4) “النيرات” ساقط من س.
(5) “الأجنّة … تحركت” ساقط من س.
(6) ف، ز: “فيهما”.
(7) “من” ساقط من س.
(8) س: “عرفت”. ل: “وإذا عرف”.
(9) س: “حركاته”.

(1/469)


بأن تكون حركاتها (1) ومحبتها لفاطرها وبارئها وحده، كما لا وجود لها إلا بإبداعه (2) وحده.
ولهذا قال تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، ولم يقل سبحانه: لَما وُجدتا ولكانتا معدومتين، ولا قال (3): لَعُدِمتا، إذ هو سبحانه قادر على أن يُبقيهما على وجه الفساد، لكن لا يمكن أن يكونا على وجه الصلاح والاستقامة، إلا بأن يكون الله وحده هو (4) معبودَهما ومعبودَ ما حَولاه وسكن فيهما. فلو كان للعالم إلهان لفسد نظامه غاية الفساد، فإنّ كلّ إله كان يطلب مغالبةَ الآخر، والعلوَّ عليه، وتفرّدَه دونه بالإلهية؛ إذ الشرك نقص ينافي كمال الإلهية، والإله لا يرضى لنفسه أن يكون إلهًا ناقصًا. فإن قهر أحدهما الآخر كان هو الإله وحده، والمقهور ليس بإله. وإن لم يقهر أحدهما الآخر لزم عجزُ كلّ منهما ونقصُه، ولم يكن تامَّ الإلهية، فيجب أن يكون فوقهما إله قاهر لهما، حاكم عليهما، وإلا ذهب كلّ منهما بما خلق، وطلب كل منهما العلوّ على الآخر. وفي ذلك فساد أمر (5) السماوات والأرض ومن فيهما (6)، كما هو المعهود من فساد البلد إذا كان فيه ملِكان متكافئان (7)، وفساد الزوجة إذا كان لها
__________
(1) س: “حركته”، ولعله مغيّر.
(2) ف: “بدعائه”، تحريف.
(3) “قال” لم يرد في ف.
(4) ل: “وهو”. ز: “وحده ومعبودهما”.
(5) ز: “فساد أهل”.
(6) ل: “فيهنّ”.
(7) ما بعده إلى “فحلان” لم يرد في س.

(1/470)


بعلان، والشَّوْل (1) إذا كان فيه (2) فحلان.
وأصل فساد العالم إنّما هو من اختلاف الملوك والخلفاء. ولهذا لم يطمع أعداء الإِسلام فيه في زمن من الأزمنة إلا في زمن تعدّد ملوك المسلمين واختلافهم وانفراد كل (3) منهم ببلاد، وطلب بعضهم العلوّ على بعض.
فصلاح السماوات والأرض (4) واستقامتهما وانتظام أمر المخلوقات على أتمّ نظام من أظهر الأدلّة على أنه لا إله إلا الله (5) وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، وأنّ كل معبود من لدن عرشه (6) إلى قرار أرضه باطل إلا وجهَه الأعلى.
قال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)} [المؤمنون: 91، 92] (7).
وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا
__________
(1) الشَّوْلُ: النُّوق التي خفّ لبنها وارتفع ضرعها وأتى عليها من نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية، الواحدة شائلة. واما الشائل بلا هاء فهي الناقة التي تشول بذنَبها لِلقِّاح ولا لبن لها أصلًا، والجمع شُوَّلٌ. انظر: الصحاح (شول).
(2) كذا ورد في النسخ وطبعات الكتاب، وكلمة “الشَّوْل” مؤنثة وكذا “الشُّوَّل”.
(3) ل: “كل واحد”.
(4) “والأرض” ساقط من ز.
(5) ف: “إلا هو”.
(6) ف: “من عرشه”.
(7) وانظر الصواعق المرسلة (463).

(1/471)


آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء: 22، 23].
وقال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)} [الإسراء: 42].
فقيل: المعنى: لابتغَوا السبيلَ إليه بالمغالبة والقهر، كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض. ويدل عليه قوله في الآية الأخرى: {وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)} [المؤمنون: 91].
قال شيخنا (1): والصحيح أنّ المعنى: لابتغوا إليه سبيلًا بالتقرّب إليه وطاعته، فكيف تعبدونهم من دونه، وهم لو كانوا آلهةً كما تقولون لكانوا عبيدًا له؟
قال: ويدلّ على هذا وجوه:
منها: قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} [الإسراء: 57]. أي هؤلاء الذين تعبدونهم من دوني هم (2) عبادي، كما أنتم عبادي (3)، يرجون رحمتي، ويخافون عذابي، فلماذا تعبدونهم دوني؟ (4).
الثاني: أنّه سبحانه لم يقل: لابتغوا عليه سبيلًا، بل قال: لابتغوا
__________
(1) يعني شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله. وانظر: مجموع الفتاوى (16/ 577)، ودرء التعارض (9/ 350)، ورسالة في قنوت الأشياء (23).
(2) “هم” من ف، ز.
(3) “كما أنتم عبادي” ساقط من س.
(4) ف، ل: “من دوني”. وانظر: الصواعق (463).

(1/472)


إليه سبيلًا. وهذا اللفظ إنّما يستعمل في التقرب، كقوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]. وأما في المغالبة وإنّما يستعمل بعَلَى كقوله: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء: 34].
الثالث: أنهم لم يقولوا: إنّ آلهتهم تغالبه وتطلب العلوّ عليه، وهو سبحانه قد قال: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} [الإسراء: 42]، وهم إنما كانوا يقولون: إنّ آلهتهم تبتغي التقرّبَ إليه، وتُقرِّبهم زلفى إليه، فقال: لو كان الأمر كما تقولون لكانت تلك الآلهة عبيدًا له، فلماذا تعبدون عبيدَه مِن دونه؟
فصل
والمحبة لها آثار وتوابع ولوازم وأحكام، سواء كانت محمودة أو مذمومة، نافعة أو ضارّة، من الذوق، والوجد (1)، والحلاوة، والشوق، والأنس، والاتصال بالمحبوب والقرب منه، والانفصال عنه والبعد منه، والصدّ والهجران، والفرح والسرور، والبكاء والحزن، وغير ذلك من أحكامها ولوازمها.
والمحبة المحمودة هي المحبة النافعة التي تجلب لصاحبها ما ينفعه في دنياه وآخرته، وهذه المحبة هي عنوان سعادته والضارّة هي التي تجلب لصاحبها ما يضرّه في دنياه وآخرته، وهي عنوان شقاوته (2).
ومعلوم أنّ الحيّ العاقل لا يختار محبةَ ما يضرّه ويُشقيه، وإنّما يصدر ذلك عن جهلٍ وظلمٍ، فإنّ النفس قد تهوى ما يضرّها ولا ينفعها
__________
(1) ف: “الوجد والذوق”.
(2) “والضارّة … شقاوته” ساقط من ف. وانظر إغاثة اللهفان (846).

(1/473)


– وذلك ظلم من الإنسان (1) لنفسه- إما بأن تكون (2) جاهلةً بحال محبوبها بأن تهوى الشيء وتحبّه غيرَ عالمة بما في محبته من المضرّة، وهذا حال من أَتبع هواه بغير علم؛ وإما عالمةً بما في محبته من المضرّة، لكن تُؤثر هواها على علمها؛ وقد تتركّب (3) محبتها من أمرين: اعتقاد فاسد، وهوى مذموم. وهذا حال من أَتبع الظنّ وما تهوى الأنفس.
فلا تقع المحبة الفاسدة إلا من جهل واعتقاد فاسد، أو هوى غالب، أو ما تركّب من ذلك، وأعان بعضه بعضًا، فتتفق شبهةٌ يشتبه (4) بها الحقّ بالباطل تزيّن (5) له أمرَ المحبوب، وشهوةٌ تدعوه إلى حصوله. فيتساعد جيش الشبهة والشهوة على جيش العقل والإيمان، والغلبة لأقواهما.
وإذا عرف هذا، فتوابع كلّ نوع من أنواع المحبة (6) له حكم متبوعه (7). فالمحبة النافعة المحمودة التي هي عنوان سعادة العبد، توابعُها كلُّها نافعة له، حكمها حكم متبوعها. فإن بكى نفعه، وإن حزن نفعه، وإن فرح نفعه، وإن انقبض نفعه (8)، وإن انبسط نفعه. فهو يتقلب
__________
(1) ف: “من ظلم الإنسان”.
(2) ل: “إما تكون”.
(3) ف: “تركب”.
(4) ف: “شبهة شبهية”. ز: “شبهة شبهة”. وقبلها في ف، ل: “فيتفق”، وفي ز: “فينفق”، تصحيف.
(5) ف: “يزين”، تصحيف.
(6) “من أنواع” ساقط من ل.
(7) كذا في جميع النسخ الخطية والمطبوعة. ووجه الكلام: “فتوابع كلّ نوع … لها حكم متبوعها”.
(8) “وإن انقبض نفعه” ساقط من ل.

(1/474)


في منازل المحبة وأحكامها في مزيد وربح وقوّة.
والمحبة الضارّة المذمومة، توابعُها وآثارها كلّها ضارّة لصاحبها، مُبعِدة له من ربّه، كيفما تقلّب في آثارها ونزل في منازلها فهو في خسارة وبعد.
وهذا شأن كلّ فعل تولّد عن طاعة ومعصية. فكل ما تولّد عن الطاعة فهو زيادة (1) لصاحبه وقربة (2)، وكل ما تولّد عن المعصية فهو خسران لصاحبه وبعد. قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)} [التوبة: 120، 121].
فأخبر سبحانه في الآية الأولى (3) أنّ المتولّد عن طاعتهم وأفعالهم (4) يُكتَب لهم به عمل صالح. وأخبر في الثانية (5) أنّ أعمالهم الصالحة التي باشروها تكتَب لهم أنفسُها. والفرق بينهما أنّ الأول ليس من فعلهم، وإنّما تولد عنه فكُتِب لهم به عمل صالح (6). والثاني نفس أفعالهم فكُتبت (7) لهم.
__________
(1) ف: “في زيادة”، خطأ.
(2) ف: “قرب”.
(3) ف: “في الأولى”.
(4) ز: “وانفصالهم”.
(5) س: “في الآية الثانية”.
(6) “وأخبر في الثانية … صالح” ساقط من ف.
(7) ف: “فتكتب”.

(1/475)


فليتأمَّلْ قتيلُ المحبة هذا الفصل حقَّ التأمل ليعلم ما له وما عليه:
سيعلم يومَ العرض أيَّ بضاعةٍ … أضاعَ وعند الوزن ما كان حَصّلا (1)
فصل
وكما أنّ المحبة (2) والإرادة أصل كل فعل كما تقدّم، فهي أصل كلّ دين سواء كان حقَّا أو باطلًا. فإنّ الدين هو من الأعمال الباطنة والظاهرة، والمحبّةُ والإرادةُ أصل ذلك كلّه.
والدين هو الطاعة والعادة (3) والخلُق. فهو الطاعة اللازمة الدائمة التي صارت خلُقًا وعادةً. ولهذا فسر الخلق بالدين في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4].
قال الإِمام أحمد: عن ابن عيينة، قال ابن عباس: لعلى دين عظيم (4).
وسئلت عائشة عن خُلق رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فقالت: كان خلقَه القرآنُ (5).
والدين فيه معنى الإذلال والقهر، وفيه معنى الذلّ والخضوع
__________
(1) أنشد المؤلف في إغاثة اللهفان (428 – 429) مقطوعة بائية في أحد عشر بيتًا لعلها له، ومنها هذا البيت، إلا أن فيه هناك: “وعند الوزن ما خفّ أورَبَا”.
(2) س: “وكمال المحبة”، تحريف.
(3) ما عدا ز: “العبادة”، تصحيف.
(4) أخرجه الطبري (29/ 18) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس فذكره، وسنده حسن. ورواه عطاء عن ابن عباس، ذكره الواحدي في الوسيط (4/ 334).
(5) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل (746).

(1/476)


والطاعة. فلذلك يكون من الأعلى إلى الأسفل، كما يقال: دِنتُه فدانَ، أي قهرته فذلّ. قال الشاعر:
هو دانَ الرِّبابَ إذ كرهوا الـ …. ـدِّينَ فأضْحَوا بعزّة وصِيالِ (1)
ويكون من الأدنى للأعلى، كما يقال: دِنْتُ اللهَ، ودِنْتُ لِلَّهِ، وفلان لا يدين اللهَ دينًا، ولا يدين الله بدينٍ. فدان اللهَ أي: أطاع الله وأحبّه وخافه. ودان لله أي: خشع له وخضَع وذلّ وانقاد.
والدين (2) الباطن لا بد فيه من الحبّ والخضوع كالعبادة سواءً، بخلاف الدين الظاهر (3) فإنه لا يستلزم الحبّ، وإن كان فيه انقياد وذلّ في الظاهر.
وسمّى الله سبحانه يومَ القيامة “يومَ الدين” لأنّه اليوم الذي يدين فيه الناسَ بأعمالهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشرٌّ (4). وذلك يتضمّن جزاءهم وحسابهم، فلذلك فسِّر بيوم الجزاء ويوم الحساب.
وقال تعالى: {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا} (5) [الواقعة: 86، 87]، أي: هلّا تردّون الروح إلى مكانها، إن كنتم غير مربوبين ولا مقهورين (6) ولا مجزييّن.
__________
(1) للأعشى في ديوانه (61). وفيه بعد “الدين”: “دراكًا بغزوةٍ وصيال”.
(2) ف: “فالدين”.
(3) ف: “بخلاف الظاهر”.
(4) ل: “فخيرًا وإن شرًّا فشرًّا”. وقد سقط “فشرّ” من س.
(5) كمل الآية (87) في ف.
(6) ف: “غير مدينين مقهورين”.

(1/477)


وهذه الآية تحتاج إلى تفسير (1). فإنّها سيقت للاحتجاج عليهم في إنكارهم البعث والحساب، ولا بدّ أن يكون الدليل مستلزمًا لمدلوله، بحيث ينتقل الذهن منه إلى المدلول، لما بينهما من التلازم، فكلّ ملزومٍ دليل على لازمه، ولا يجب العكس.
ووجه الاستدلال أنهم إذا أنكروا البعث والجزاء فقد كفروا بربّهم، وأنكروا (2) قدرته وربوبيته وحكمته. فإمّا أن يُقرّوا بأنّ لهم ربًّا قاهرًا لهم، متصرّفًا فيهم كما يشاء، يميتهم إذا شاء، ويحييهم إذا شاء، ويأمرهم وينهاهم، ويثيب محسنهم ويعاقب مسيئهم؛ وامّا أن لا يُقرّوا بربٍّ هذا شأنُه. فإنْ أقرّوا به آمنوا بالبعث والنشور والدين الأموي والجزائي. وإن أنكروه وكفروا به فقد زعموا أنّهم غير مربوبين ولا محكومٍ عليهم، ولا لهم ربٌّ يتصرّف فيهم كما أراد، فهلّا يقدرون على دفع الموت عنهم إذا جاءهم، وعلى ردّ الروح إلى مستقرّها إذا بلغت الحلقوم؟
وهذا خطاب للحاضرين (3) عند المحتضَر، وهم يعاينون موته. أي: فهلّا تردّون روحه إلى مكانها إن كان لكم قدرة وتصرّف، ولستم مربوبين ولا مقهورين لقاهر قادر يُمضي عليكم أحكامه، وينفّذ فيكم أوامره؟
وهذا غاية التعجيز لهم إذ تبيّن عجزُهم عن ردّ نفس واحدة من مكان
__________
(1) س: “وفي فهم هذه الآية”، وكلمة “الآية” ساقطة من ل. وفي ف: “تفسيرها”. وانظر التبيان في أقسام القرآن (150).
(2) “البعث … وأنكروا” ساقط من ل.
(3) ف: “الحاضرين”.

(1/478)


إلى مكان، ولو اجتمع على ذلك الثقلان!
فيا لها من آية دالّة على ربوبيته سبحانه، ووحدانيته، وتصرّفه في عباده، ونفوذ أحكامه فيهم وجرَيانها عليهم!
والدين دينان: دين شرعي أمري، ودين حسابي جزائي. وكلاهما لله وحده، فالدين كله لله أمرًا أو جزاءً. والمحبة أصل كل واحد من الدينين.
فإنّ ما شرعه سبحانه وأمر به يحبّه ويرضاه، وما نهى عنه فإنّه يكرهه ويبغضه لمنافاته يحبّه ويرضاه، فهو يحب ضدّه. فعاد دينه الأموي كلّه (1) إلى محبته ورضاه. ودين العبد لله (2) به إنّما يُقبل إذا كان عن محبة ورضى (3)، كما قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا، وبالإِسلام دينًا، وبمحمّد رسولًا” (4). فهذا الدين قائم بالمحبّة، وبسببها شُرِع، ولأجلها شُرِعَ (5)، وعليها أُسِّس.
وكذلك دينه الجزائي، فإنّه يتضمن مجازاةَ المحسن بإحسانه والمسيءِ بإساءته، وكلّ من الأمرين محبوب للربّ، فإنّهما عدله وفضله، وكلاهما من صفات كماله. وهو سبحانه يحبّ أسماءه وصفاته، ويحبّ مَن يحبّها.
__________
(1) “كله” ساقط من ف.
(2) “لله” لم يرد في ل.
(3) س: “محبته ورضاه”.
(4) من حديث العبّاس بن عبد المطلب رضي الله عنه. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (34).
(5) “ولأجلها شرع” ساقط من س.

(1/479)


وكلّ واحد من الدينين فهو صراطه المستقيم الذي هو عليه سبحانه، فهو على صراط مستقيم في أمره ونهيه وثوابه وعقابه، كما قال تعالى إخبارًا عن نبيّه هود أنّه قال لقومه: {أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 54 – 56].
ولمّا علم نبيّ الله أنّ ربّه على صراط مستقيم في خلقه وأمره، وثوابه وعقابه، وقضائه وقدره، ومنعه وعطائه، وعافيته وبلائه، وتوفيقه وخذلانه، لا يخرج (1) في ذلك عن موجب كماله المقدّس الذي تقتضيه أسماؤه وصفاته من العدل، والحكمة، والرحمة والإحسان والفضل، ووضع الثواب في موضعه، والعقوبة في موضعها اللائق بها، ووضع التوفيق والخذلان والعطاء والمنع والهداية والإضلال كلِّ ذلك في أماكنه ومحالّه اللائقة به، بحيث يستحق على ذلك كمالَ الحمد والثناء = أوجب له ذلك العلمُ والعرفانُ أنْ (2) نادى على رؤوس الملأ من قومه بجَنان ثابت وقلب غير خائف بل متجرّد لله: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (3).
ثم (4) أخبر عن عموم قدرته وقهره لكلّ ما سواه، وذلّ كلّ شيء لعظمته، فقال: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} فكيف أخاف ما ناصيتُه
__________
(1) ز: “لا مخرج”، تصحيف.
(2) ف: “إذ”.
(3) “ولمّا علم نبيّ الله … ” إلى هنا ساقط من ل.
(4) “ثم” ساقطة من س.

(1/480)


بيد غيره، وهو في قبضته وتحت قهره وسلطانه (1) دونه، وهل هذا إلا من (2) أجهل الجهل وأقبح الظلم!
ثم أخبر أنه سبحانه (3) على صراط مستقيم، في كلّ ما (4) يقضيه ويقدّره، فلا يخاف العبد جوره ولا ظلمه، فلا أخاف ما دونه فإنّ ناصيته بيده، ولا أخاف جوره ولا ظلمه فإنّه على صراط مستقيم. فهو سبحانه ماضٍ في عبده حكمُه، عدلٌ فيه قضاؤه، له الملك وله الحمد.
لا يخرج تصرّفُه في عباده عن العدل والفضل (5): إن أعطى وأكرَم وهدَى ووفَّق، فبفضله ورحمته. وإن منَع وأهانَ (6) وأضلّ وخذَلَ وأشقى، فبعدله وحكمته. وهو على صراط مستقيم في هذا وهذا (7).
وفي الحديث الصحيح: “ما أصاب عبدًا قطّ (8) همّ ولا حَزَنٌ، فقال: اللهمّ إنّي عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمُك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكلّ اسم هو لك، سمّيتَ به نفسَك، أو أنزلتَه في كتابك، أو علّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم (9) ربيع قلبي، ونور صدري،
__________
(1) س: “وهو في قهره وقبضته وتحت قهر سلطانه دونه”.
(2) ز: “ومثل هذا الأمر” ولعله تحريف.
(3) س، ل: “ثم إنه سبحانه أخبر أنه”.
(4) ف: “فيما”.
(5) “والفضل” ساقط من س.
(6) “وأهان” ساقط من ف.
(7) “وهذا” ساقط من ل. وفي س: “وفي هذا”.
(8) “قط” ساقط من ف.
(9) “العظيم” من ل.

(1/481)


وجلاء حزني، وذهاب همّي وغمّي = إلا أذهب الله همّه وغمّه، وأبدله مكانه فرحًا (1) ” (2).
وهذا يتناول حكم الربّ الكوني والأمري وقضاءَه الذي يكون باختيار العبد وغير اختياره، فكلا الحكمين (3) ماضٍ في عبده، وكلا القضائين عدلٌ فيه. فهذا الحديث مشتقّ من هذه الآية، بينهما أقرب نسب (4).
فصل
ونختم (5) الجواب بفصل يتعلّق بعشق الصور، وما فيه من المفاسد العاجلة والآجلة، وإن كانت أضعاف ما يذكره ذاكر، فإنّه يفسد القلب بالذات. وإذا فسد فسدت الإرادات والأقوال والأعمال، وفسد نفس التوحيد (6) كما تقدّم، وكما سنقرّره أيضًا إن شاء الله.
والله سبحانه إنّما حكى هذا المرض عن طائفتين من الناس، وهما اللوطية والنساء. فأخبر عن عشق امرأة العزيز ليوسف وما راودَتْه وكادَتْه به، وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف بصبره وعفّته وتقواه، مع أنّ الذي ابتلي به أمرٌ لا يصبر عليه إلا من صبّره الله عليه. فإنّ موافقة الفعل بحسب قوة الداعي وزوال المانع، وكان الداعي ها هنا في غاية القوة،
__________
(1) س: “فرجا”.
(2) تقدم تخريجه في ص (23/ 22).
(3) س، ل: “وكلا الحكمين”.
(4) وانظر: زاد المعاد (4/ 256)، والفوائد (21).
(5) س: “ويختم”.
(6) ف: “ثغر التوحيد”.

(1/482)


وذلك من وجوه (1):
أحدها: ما ركّبه الله سبحانه في طبع الرجل من ميله إلى المرأة كما يميل العطشان إلى الماء (2) والجائع إلى الطعام، حتى إنّ كثيرًا من الناس يصبر عن الطعام والشراب ولا يصبر عن النساء. وهذا لا يُذَمّ إذا صادف حِلًّا بل يحمد، كما في كتاب الزهد للإمام أحمد (3) من حديث
__________
(1) ف: “لوجوه”. وكذا في ل، ولكن تحتها: “من”. وقد ذكر المصنف جملة من الوجوه المذكورة هنا في مدارج السالكين ( 2/ 156 )، وطريق الهجرتين (496)، وروضة المحبين (449). وصرّح في المدارج أنها مما سمعه من شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله. وانظر مجموع الفتاوى (15/ 138).
(2) ف: “الماء البارد”.
(3) ليس في المطبوع. وقد أحال عليه المناوي في الفتح السماوي (1/ 377) فقال: “وقد رواه عبد الله بن أحمد في زيادات الزهد عن أبيه من طريق يوسف بن عطية عن ثابت موصولًا أيضًا”. وقبله الزيلعي في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الكشاف (1/ 196) من طريق أبي معمر. وأخرجه ابن حبان في المجروحين (3/ 135) من طريق قتيبة بن سعيد كلاهما عن يوسف بن عطية عن ثابت عن أنس، قال قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إن الله جل وعلا جعل قرة عيني في الصلاة. وحبّب إليّ الطيب كما حبّب إلى الجائع الطعام، وإلى الظمآن الماء. والجائع يشبع والظمآن يروى، وأنا لا أشبع من الصلاة. وكان إذا دخل البيت يكون في الصلاة أو في مهنة أهله” لفظ ابن حبان. والحديث لا يصح، وعلته يوسف بن عطية هذا، فإنه متروك الحديث.
تنبيه على جملة (أصبر عن الطعام والشراب ولا أصبر عنهن): تعقب السيوطيُّ الزركشي في إيراده هذه الجملة، بأنه مرّ على الزهد لأحمد مرارًا فلم يجدها. والذي فيه: ” … قرة عيني في الصلاة، وحبب إليّ النساء والطيب، والجائع يشبع، والظمان يروى، وأنا لا أشبع من النساء”. فلعله أراد هذا الطريق. انظر فيض القدير (3/ 37).

(1/483)


يوسف بن عطية الصفَّار، عن ثابت (1) عن أنس، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – : “حُبب إليّ من دنياكم النساء والطيب، أصبر عن الطعام والشراب ولا أصبر عنهن”.
الثاني: أن يوسف عليه السلام كان شابًّا، وشهوة الشباب وحدّته أقوى.
الثالث: أنه كان عَزَبًا ليس له زوجة ولا سُرِّيّة تكسر شدّة الشهوة (2).
الرابع: أنه كان في بلاد غُربةٍ يتأتّى للغريب فيها من قضاء الوطر ما لا يتأتّى له في وطنه بين أهله ومعارفه.
الخامس: أنّ المرأة كانت ذات منصب وجمال بحيث إنّ كل واحد من هذين الأمرين يدعو إلى مواقعتها (3).
السادس: أنها غير ممتنعة ولا آبية، فإنّ (4) كثيرًا من الناس يزيل رغبتَه في المرأة إباؤها وامتناعها، يجد في نفسه من ذلّ الخضوع والسؤال لها. وكثير من الناس يزيده الإباء والامتناع إرادة وحبًّا، كما قال الشاعر:
وزادني كلَفًا في الحبّ أنْ مَنَعتْ … أحبُّ شيءٍ إلى الإنسان ما مُنِعا (5)
__________
(1) ف: “ثابت البناني”.
(2) ف، ل: “سورة الشهوة”. ز: “ثورة الشهوة”.
(3) ل: “موافقتها”.
(4) “فإن” ساقط من ل.
(5) البيت للأحوص في شعره المجموع (195). وقد أورده المؤلف في روضة المحبين (185) أيضًا.

(1/484)


فطباع الناس مختلفة في ذلك، فمنهم من يتضاعف حبّه عند بذل المرأة ورغبتها، ويضمحلّ عند إبائها وامتناعها.
وأخبرني بعض القضاة أنّ إرادته وشهوته تضمحلّ (1) عند امتناع امرأته أو سُرّيته (2) وإبائها بحيث لا يعاودها. ومنهم من يتضاعف حبّه وإرادته بالمنع، وتشتدّ شهوته (3) كلّما مُنِع، ويحصل له من اللذّة بالظفر نظيرُ ما يحصل (4) من لذة بالظفر بالصيد (5) بعد امتناعه ونفاره، واللذة بإدراك المسألة بعد استعصائها (6) وشدّة الحرص على إدراكها.
السابع: أنّها طلبت وأرادت وراودت (7) وبذلت الجهد، فكفتْه مؤنة الطلب وذلَّ الرغبة إليها، بل كانت هي الراغبة الذليلة، وهو العزيز المرغوب إليه.
الثامن: أنّه في دارها وتحت سلطانها وقهرها بحيث (8) يخشى إن لم يطاوعها من أذاها له؛ فاجتمع داعي الرغبة والرهبة.
التاسع: أنّه لا يخشى أن تنُمّ عليه هي ولا أحد من جهتها، فإنّها هي (9) الطالبة والراغبة، وقد غلَّقت الأبواب، وغيَّبت الرقباء.
__________
(1) “عند إبائها … تضمحلّ” ساقط من ف.
(2) س: “وسرّيته”.
(3) ز: “ويشتد شوقه”. ل: “فيشتدّ شوقه”.
(4) “له … يحصل” ساقط من ل.
(5) ما عدا ف: “الضدّ”، ولعله تصحيف.
(6) س: “استصعابها”، وأشير إلى هذه النسخة في حاشية ف.
(7) “وراودت” ساقط من ل.
(8) ف: “بحيث إنه”.
(9) “التاسع … هي” ساقط من ف. وكلمة “الراغبة” الآتية أيضًا سقطت منها.

(1/485)


العاشر: أنّه كان في الظاهر مملوكًا لها في الدار بحيث يدخل ويخرج ويحضر معها ولا ينكَر عليه، فكان (1) الإنس سابقًا على الطلب، وهو من أقوى الدواعي؛ كما قيل لامرأة شريفة من أشراف العرب (2): ما حملكِ على الزنى؟ قالت: “قُربُ الوِساد، وطول السواد” (3). تعني قرب وساد الرجل من وسادي (4)، وطول السِّواد بيننا.
الحادي عشر: أنّها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال، فأرته إيّاهنّ، وشكت حالها إليهنّ، لتستعين بهنّ عليه؛ فاستعان هو بالله عليهن، فقال: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)} [يوسف: 33].
الثاني عشر: أنها تواعدته (5) بالسجن والصَّغار. وهذا نوع إكراه، إذ هو (6) تهديد ممن يغلب (7) على الظنّ وقوعُ ما هدَّد به، فيجتمع (8) داعي الشهوة وداعي السلامة من ضيق السجن والصغار.
__________
(1) ف، ل: “وكان”.
(2) هي هند بنت الخُسّ الإيادية، امرأة جاهلية ذات دهاء وفصاحة ولسن. انظر: غريب أبي عبيد (1/ 166) والبيان للجاحظ (1/ 312، 324).
(3) السواد: المسارّة والمناجاة.
(4) ل: “وسادة الرجل من وسادتي”.
(5) كذا في جميع النسخ. وكذا ورد “تواعده” بمعنى توعّده في طريق الهجرتين (635) في مسودة المصنف وغيرها. وفي النسخ المطبوعة: “توعّدته”، ولعله من تصرّف الناشرين.
(6) س: “وهو”.
(7) ف، ل: “من يغلب”. وفي ز: “من تغلّب”، وكذلك ضبط فيها: “هُدِّد” بالبناء للمجهول.
(8) ف: “فتجتمع به”.

(1/486)


الثالث عشر: أنّ الزوج لم يظهر منه من الغيرة والنخوة ما يفرّق به بينهما، ويبعد كلًّا منهما عن صاحبه، بل كان غاية ما قابلهما به أن قال ليوسف: {أَعْرِضْ عَنْ هَذَا}. وللمرأة: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)} [يوسف: 29] وشدة الغيرة في الرجل من أقوى الموانع، وهذا لم يظهر منه غيرة.
ومع هذه الدواعي كلّها، فآثر مرضاةَ الله وخوفَه، وحمله حبُّه لله على أن اختار السجن (1) على الزنى، فقال: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي} [يوسف: 33]، وعلم أنّه لا يطيق صرفَ ذلك عن نفسه، وأنّ ربّه تعالى إنْ لم يعصمْه ويصرِفْه (2) عنه صبأ إليهنّ بطبعه، وكان من الجاهلين. وهذا من كمال معرفته بربّه وبنفسه.
وفي هذه القصة من العبر والفوائد والحكَم ما يزيد على ألف فائدة (3)، لعلّنا إن وفّق (4) الله أن نفردها في مصنّف مستقلّ (5).
فصل
والطائفة الثانية الذين حكى (6) عنهم العشق هم (7) اللوطية، كما قال تعالى: {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68)
__________
(1) ف: “وحمله خشية الله على اختيار السجن”.
(2) يعني: كيدهن. وفي ف: “ويصرف”.
(3) وقال نحوه في شفاء العليل (224).
(4) ل: “وفقنا”.
(5) لم نجد إشارة إليه في موضع آخر، ولا ندري أتمكن من تأليفه أم لا.
(6) ل: “حكى الله”.
(7) في س: “في” مكان “هم”، تحريف.

(1/487)


{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)} [الحجر: 67 – 72]، فهذه عشقت.
فحكاه (1) سبحانه عن طائفتين عشِقَ كلٌّ منهما ما حُرِّم عليه من الصور، ولم يبال بما (2) في عشقه من الضرر.
وهذا داء أعيا الأطبّاءَ دواؤه، وعزّ عليهم شفاؤه. وهو -لَعمرُ الله- الداء العضال، والسم القتّال، الذي ما عَلِقَ بقلب إلا وعزّ على الورى استنقاذه من إساره، ولا اشتعلت ناره في مهجة إلا وصعب على الخلق تخليصها من ناره.
وهو أقسام. فإنّه تارةً يكون كفرًا، كمن اتخذ معشوقَه نِدًّا يحبّه كما يحبّ الله، فكيف إذا كانت محبته أعظم من محبة الله في قلبه؟ فهذا عشق لا يُغفر لصاحبه، فإنّه من أعظم الشرك، والله لا يغفر أن يُشرَك به؛ وإنما يُغفَر بالتوبة الماحية.
وعلامة هذا العشق الشركي الكفري أن يقدِّم العاشقُ رضا معشوقه على رضا ربّه، وإذا تعارض عنده حقُّ معشوقه وحظّه وحقُّ ربّه وطاعته قدّم حقَّ معشوقه (3) على حقِّ ربه، وآثر رضاه على رضاه (4)، وبذل لمعشوقه أنفَسَ ما يقدِر عليه، وبذل لربّه -إن بذل- أردأ ما عنده،
__________
(1) س: “فحكى الله”. ل: “فحكاه الله”.
(2) “بما” ساقط من س.
(3) “وحطه … معشوقه” ساقط من س.
(4) ف: “رضا ربه”.

(1/488)


واستفرغ وسعه في مرضاة معشوقه وطاعته والتقرّب إليه، وجعل لربه -إن أطاعه- الفضلة التي تفضُل عن معشوقه من ساعاته (1).
فتأمَّلْ حالَ أكثر عشّاق الصور (2)، هل (3) تجدها مطابقةً لذلك؟ ثم ضَعْ حالَهم في كِفة، وتوحيدَهم وإيمانَهم في كِفّة، وزِنْ وزنًا يُرضي الله ورسوله، ويطابق العدل.
وربما صرّح العاشق منهم بأنّ وصلَ معشوقه أحبُّ إليه من توحيد ربه، كما قال العاشق الخبيث (4):
يترشّفْن من فمي رَشَفاتٍ … هنّ أحلى فيه من التوحيد (5)
وكما صرّح الخبيث (6) الآخر بأنّ وصلَ معشوقه أشهى إليه من رحمة ربّه، -فعياذًا بك اللهم من هذا الخِذلان (7) – فقال:
وصلُك أشهى إلى فؤادي … من رحمة الخالقِ الجليلِ (8)
ولا ريب أنّ هذا العشق من أعظم الشرك.
__________
(1) ف: “ساعته”.
(2) س: “العشاق للصور”.
(3) لم ترد “هل” في ف، ل.
(4) ل: “الحبيب”، تصحيف.
(5) من قصيدة للمتنبي قالها في صباه. ديوانه (35).
(6) ل: “الحبيب”، تصحيف.
(7) س: “فعياذًا بالله من هذه الحال ومن هذا الخذلان”. وأشير في الحاشية إلى ما أثبتناه من غيرها.
(8) سبق البيت مع قصته (390).

(1/489)


وكثير من العشاق يصرّح بأنه لم يبق في قلبه موضع لغير معشوقه البتة، بل قد ملك معشوقُه عليه قلبَه كلَّه (1)، فصار عبدًا محضًا من كلّ وجه لمعشوقه! فقد رضي هذا من عبودية الخالق جلّ جلاله بعبودية (2) مخلوق مثله، فإنّ العبودية هي كمال الحبّ والخضوع، وهذا قد استفرغ قوة حبه وخضوعه وذلّه لمعشوقه، فقد أعطاه حقيقة العبودية.
ولا نسبة بين مفسدة هذا الأمر العظيم ومفسدة الفاحشة، فإنّ تلك ذنب كبير، لفاعله حكم أمثاله؛ ومفسدة هذا العشق مفسدة الشرك.
وكان بعض الشيوخ من العارفين (3) يقول: لأن أُبتلىَ بالفاحشة مع تلك الصورة أحب إلى من أن أبتلى فيها بعشق يتعبّد لها قلبي ويشغله عن الله.
فصل
ودواء هذا الداء القتال: أن يعرف ما (4) ابتُلي به من الداء المضادّ
__________
(1) لم ترد “عليه في س. ولم ترد “كله” في ف، ل.
(2) زاد في ف بعدها: “غيره”.
(3) ز: “الشيوخ العارفين”.
(4) في طبعة عبد الظاهر: “أن ما”، وزيادة “أن” هذه خطأ جعل الكلام ناقصًا، وأدّى إلى زيادة أخرى في بعض الطبعات، وسياقها في طبعة المدني: ” [أن] ما ابتلي به من [هذا] الداء المضاد للتوحيد [إنما هو من جهله وغفلة قلبه عن الله، فعليه أن يعرف توحيد ربه وسننه وآياته] أولًا”. وقد وضع الناشر “إنما هو … أولًا] بين قوسين، وقال في تعليقه: “هذه الزيادة ساقطة من المخطوطة ونرى أنه لابدّ منها”. وهي مع التعليق نفسه في طبعة السلفية (231) ثم جاءت طبعات معاصرة أثبتت الزيادة وحذفت القوسين!

(1/490)


للتوحيد أولًا، ثم يأتي من العبادات الظاهرة والباطنة بما يشغل قلبه عن دوام الفكرة فيه، ويكثر اللجأ والتضرّع إلى الله سبحانه في صرف ذلك عنه وأن يراجع بقلبه إليه.
وليس له دواء أنفع من الإخلاص لله. وهو الدواء الذي ذكره الله في كتابه حيث قال: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} (1) [يوسف: 24]. فأخبر سبحانه أنّه صرف عنه السوء من العشق والفحشاء من الفعل بإخلاصه (2). فإنّ القلب إذا خلَص (3) وأخلص عملَه لله لم يتمكّن منه عشق الصور، فإنّه إنّما يتمكن من قلب فارغ، كما قال (4):
فصادف قلبًا خاليًا فتمكّنا (5)
وليعلم العاقل أنّ العقل والشرع يوجبان (6) تحصيل المصالح
__________
(1) “المخلصين” بكسر اللام قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر. انظر: الإقناع (671). واستدلال المؤلف بالآية مبنيّ على هذه القراءة.
(2) ونحوه في زاد المعاد (4/ 268)، وإغاثة اللهفان (133، 854، 868)، ومفتاح دار السعادة (1/ 277).
(3) ل: “خلص لله”.
(4) ل: “كما قيل”.
(5) ف، ز: “قلبًا فارغًا”. وصدره كما في حاشية س، ف:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
وقد سبق في ص (361).
(6) ز: “قد يوجبان”.

(1/491)


وتكميلها وإعدام المفاسد وتقليلها. فإذا (1) عرض للعاقل أمر يرى فيه مصلحةً ومفسدة (2) وجب عليه أمران: أمر علميّ، وأمر عمليّ. فالعلميّ طلبُ معرفة الراجح من طرفَي المصلحة والمفسدة، فإذا تبيّن له الرجحان وجب عليه إيثار (3) الأصلح له.
ومن المعلوم أنه ليس في عشق الصور مصلحة دينية ولا دنيوية، بل مفسدته الدينية والدنيوية أضعاف أضعاف ما يقدَّر فيه من المصلحة، وذلك من وجوه:
أحدها: الاشتغال بحبّ المخلوق وذكره عن حبّ الربّ تعالى وذكره. فلا يجتمع في القلب هذا وهذا إلا ويقهر أحدهما صاحبه، ويكون السلطان والغلبة له.
الثاني: عذاب قلبه بمعشوقه. فإنّ من أحبّ شيئًا غير الله عُذِّب به، ولابدّ:
فما في الأرض أشقى من محبٍّ … وإن وَجَد الهوى حلوَ المذاقِ
تراه باكيًا في كل حين … مخافةَ فُرْقةٍ أو لاشتياقِ (4)
فيبكي إن نأوا شوقًا إليهم … ويبكي إن دنَوا حذرَ الفراقِ
فتسخَن عينُه عند الفراق … وتسخَن عينُه عند التلاقي (5)
__________
(1) س: “وإذا”.
(2) “مصلحة و” ساقط من ز.
(3) س، ل: “إتيان”.
(4) هذا البيت ساقط من ف.
(5) الأبيات لنصيب في ديوانه المجموع (111). وهي في الحماسة (2/ 93) دون =

(1/492)


والعشق، وإن استعذبه العاشق، فهو من أعظم عذاب القلب.
الثالث: أنّ العاشق قلبه أسير في قبضة معشوقه، يسومه الهوانَ (1)، ولكن لسكرة العشق لا يشعر بمصابه، فقلبُه
كعصفورةٍ في كفِّ طفلٍ يسومُها … حياضَ الردى والطفل يلهو ويلعب (2)
فعيشُ العاشق عيشُ الأسير الموثَق، وعيشُ الخليِّ عيشُ المسيَّب المطلَق. فالعاشق كما قيل (3):
طليقٌ برأي العينِ وهو أسيرُ … عليلٌ على قطب الهلاك يدورُ (4)
ومَيْتٌ يُرىَ في صورة الحيِّ غاديًا … وليس له حتى النشور نشورُ
__________
= عزو. وأوردها المؤلف في إغاثة اللهفان (92، 823) أيضًا.
(1) ف: “سوء الهوان”.
(2) تمثل به المؤلف في روضة المحبين (202)، وإغاثة اللهفان (823) أيضًا. وقد نسب البيت إلى ابن الزيّات في معجم الشعراء للمرزباني (366)، والفتح بن خاقان في الزهرة (85). وهو في اعتلال القلوب (312) من إنشاد ابن الزيات. ورواية العجز فيها جميعًا: “ورود حياض الموت والطفل يلعب”.
وانظر ديوان مجنون ليلى (38).
وقد ورد بعده في طبعة المدني والنشرات التابعة لها زيادةٌ خلت عنها النسخ الخطية، وهي:
“كما قال بعض هؤلاء:
ملكتَ فؤادي بالقطيعة والجفا … وأنت خلىّ البال تلهو وتلعب”
(3) “فالعاشق كما قيل” انفردت بها ف. وقد تمثل المؤلف بصدر البيت الأول في روضة المحبين (201).
(4) ف: “تراه العين”.

(1/493)


أخو غمَراتٍ ضاع فيهن قلبُه … فليس له حتى الممات حضورُ
الرابع: أنّه (1) يشتغل به عن مصالح دينه ودنياه. فليس شيءٌ أضيعَ (2) لمصالح الدين والدنيا من عشق الصور.
أمّا مصالح الدين فإنّها منوطة بلَمّ شَعَثِ القلب وإقبالهِ على الله، وعشقُ الصور أعظم شيءٍ تشعيثًا وتشتيتًا له (3).
وأمّا مصالح الدنيا فهي متابعة في الحقيقة لمصالح الدين، فمن انفرطت عليه مصالح دينه وضاعت عليه، فمصالح دنياه أضيَعُ وأضيَعُ.
الخامس: أنّ (4) آفات الدنيا والآخرة أسرع إلى عشّاق الصور من النار في يابس الحطب.
وسبب ذلك أنّ القلب كلّما قَرُبَ من العشق وقويَ اتصالُه به (5) بَعُدَ من الله، فأبعد القلوب من الله قلوب عشّاق الصور. وإذا بعد القلب من الله طرقته الآفات من كل ناحية، فإنّ الشيطان يتولّاه. ومن تولّاه عدوُّه (6) واستولى عليه لم يألُه وبالًا، ولم يدَعْ أذىً يمكنه إيصاله إليه إلا أوصله.
فما الظنّ بقلب تمكّن منه عدوُّه وأحرَصُ الخلقِ على غيّه (7) وفسادِه، وبعُد منه وليُّه ومن لا سعادة له ولا فلاح ولا سرور إلا بقربه وولايته؟
__________
(1) ما عدا ف: “أن”.
(2) يعني: أشدّ إضاعةَ. صاغ اسم التفضيل على أفعل من المزيد.
(3) “له” ساقط من ف.
(4) “أن” لم ترد في ف.
(5) “به” ساقط من س.
(6) “عدوّه” لم يرد في س. وسقط “واستولى عليه” من ل.
(7) ما عدا ف: “عيبه”.

(1/494)


السادس: أنه إذا تمكن من القلب واستحكم وقوي سلطانه أفسد الذهنَ، وأحدث الوسواسَ. وربما التحق صاحبه بالمجانين الذين فسدت عقولهم فلا ينتفعون بها. وأخبار العشاق (1) في ذلك موجودة في مواضعها، بل بعضيها مشاهَد بالعيان.
وأشرف ما في الإنسان عقله، وبه يتميّز عن سائر الحيوانات؛ فإذا عدم عقله التحق بالحيوان البهيم، بل ربما كان حال الحيوان أصلح من حاله. وهل أذهب عقلَ مجنون ليلى وأضرابِه إلا العشق؟
وربما زاد جنونه على جنون غيره، كما قيل:
قالوا جُنِنتَ بمن تهوى فقلتُ لهم … العشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهرَ صاحبُه … وإنّما يُصرَع المجنونُ في الحين (2)
السابع: أنّه ربما أفسد الحواسّ أو بعضها (3) إمّا فسادًا معنويًا أو صُوريًّا (4).
أمّا الفساد المعنوي فهو تابع لفساد القلب، فإنّ القلب إذا فسد فسدت العين والأذن واللسان، فيرى القبيح حسنًا منه ومن معشوقه، كما في المسند (5) مرفوعًا: “حبّك للشيء يُعمي ويُصِمّ”. فهو يُعمي
__________
(1) ف: “العاشق”.
(2) تقدم البيتان في ص (418).
(3) ز: “نقصها”، تصحيف.
(4) س: “ضروريًا”، تحريف.
(5) 5/ 194 (21694)، 6/ 455 (27548). وأخرجه أبو داود (5130) والبخاري في تاريخه (2/ 107) والبزار في مسنده (4125) والطبراني في مسند الشاميين (1454) والقضاعي في مسند الشهاب (219) وغيرهم من طريق أبي بكر بن =

(1/495)


عينَ القلب عن رؤية مساوي المحبوب وعيوبه، فلا ترى العين ذلك، ويُصِمّ أذنَه عن الإصغاء إلى العذل فيه، فلا تسمع الأذن ذلك.
والرغبات تستر العيوب، فالراغب في الشيء لا يرى عيوبه حتى إذا زالت رغبته فيه أبصر عيوبه. فشدّةُ الرغبة غشاوة على العين تمنع من رؤية الشيء على (1) ما هو به، كما قيل:
هوِيتُكَ إذ عيني عليها غشاوةٌ … فلما انجلتْ قطّعتُ نفسي ألومُها (2)
والداخل في الشيء لا يرى عيوبه، والخارج منه الذي لم يدخل فيه لا يرى عيوبه. ولا يرى عيوبه (3) إلا من دخل فيه ثم خرج منه. ولهذا كان الصحابة الذين دخلوا في الإِسلام بعد الكفر خيرًا من الذين ولدوا في الإِسلام. قال عمر بن الخطاب: إنّما تُنقَض عُرى الإِسلام عروةً عروةً إذا وُلِد في الإِسلام من لم يعرف الجاهلية (4).
__________
= عبد الله بن أبي مريم الغساني عن خالد بن محمَّد الثقفي عن بلال بن أبي الدرداء عن أبي الدرداء فذكره مرفوعًا، وأحيانًا موقوفًا.
ورواه حميد بن مسلم وحريز بن عثمان كلاهما عن بلال بن أبي الدرداء عن أبي الدرداء قوله موقوفًا. أخرجه البخاري (2/ 107) وابن عساكر في تاريخه (10/ 523) وغيرهما. وسند الموقوف صحيح. ورجح الوقف السخاوي والسيوطي.
(1) س: “إلّا”، تحريف.
(2) للحارث بن خالد المخزومي في مجموع شعره (101). والرواية: “صحبتك” يعني عبدَ الملك. وكذا أورده المؤلف في مفتاح دار السعادة (1/ 467).
(3) “والخارج منه … عيوبه لما ساقط من ز.
(4) ذكره المصنف في مدارج السالكين (1/ 343)، ومفتاح دار السعادة (2/ 288).
وفي النسخ: “ينقض” (ص). لم أقف عليه (ز).

(1/496)


وأما إفساده للحواسّ ظاهرًا (1)، فإنّه يُمرِض البدن ويُنهِكه، وربما أدّى إلى تلفه، كما هو معروف في أخبار من قتلهم العشق.
وقد رُفع إلى ابن عباس -وهو بعرفة- شابٌّ قد انتحل (2) حتى عاد عظما بلا لحم (3) فقال: ما شأن هذا؟ قالوا: به العشق. فجعل ابن عباس يستعيذ بالله (4) من العشق عامّةَ يومه (5).
الثامن: أنّ العشق -كما تقدّم- هو الإفراط في المحبة بحيث يستولي المعشوق على قلب العاشق حتى لا يخلو (6) من تخيّله وذكره والفكر فيه، بحيث لا يغيب عن خاطره وذهنه. فعند ذلك تشتغل النفس عن استخدام القوى الحيوانية والنفسانية، فتتعطل تلك القوى، فيحدث بتعطّلها (7)
__________
(1) س: “فظاهر”، خطأ.
(2) لم يرد “انتحل” في كتب اللغة بمعنى نحَل الجسم نحولًا: رَقّ وهزل. والظاهر أنه استعمال عامّي.
(3) كذا في ف. وفي غيرها: “لحمًا على عظم”. وفي حاشية س: “جلدَا” وفوقه علامة “ص”. وفي ز: “صار” مكان “عاد”.
(4) “بالله” لم يرد في س.
(5) أخرجه الخرائطي في اعتلال القلوب (322) وابن الجوزي في ذم الهوى (373) وابن عساكر في تاريخه (1/ 237 – 22)، (1799/ 2) من طريق محمَّد بن عيسى بن بكار عن فليح بن إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن صالح عن عمه سليمان بن علي عن عكرمة قال: “إنّا لمع ابن عباس عشية عرفة … ” نحوه. وسنده ضعيف، محمَّد بن عيسى بن بكار لم أقف عليه. وفليح ذكره ابن حبان في الثقات (9/ 11) وقال: يعتبر حديثه من غير رواية شاذان عنه.
(ز). وانظر مصارع العشاق (2/ 217). (ص).
(6) س: “حتى يخلو”، خطأ.
(7) س، ل: “بتعطيلها”. وقد سقط من ل: “تلك القوى فيحدث”.

(1/497)


من الآفات على البدن والروح ما يعِزّ دواؤه أو يتعذّر (1)، فتتغيّر أفعاله وصفاته ومقاصده، ويختل جميع ذلك، فيعجز البشر عن صلاحه، كما قيل (2):
الحبُّ أوّلَ ما يكون لجاجةٌ … تأتي به وتسوقه الأقدارُ (3)
حتى إذا خاض الفتى لُججَ الهوى … جاءت أمور لا تُطاق كِبارُ
والعشق مبادئه سهلة حلوة، وأوسطه همّ وشغلُ قلبٍ وسقم، وآخره عطَب وقتل، إن لم يتداركه (4) عناية من الله، كما قيل:
وعِشْ خاليًا فالحبُّ أولُه عَنا … وأوسطه سقم، وآخره قتلُ (5)
وقال آخر:
تولَّعَ بالعشق حتّى عشِقْ … فلمّا استقلّ به لم يُطِقْ
رأى لُجّةَ ظنّها موجةً … فلما تمكّن منها غرِقْ (6)
__________
(1) ف، ل: “ويتعذّر”. وفي س: “لو يتعذّر”، وصوابه ما أثبتنا من ز.
(2) للعباس بن الأحنف كما في الأغاني (5/ 193)، وانظر: ديوانه (139). وقد نسبا إلى المجنون (ديوانه 96) وجميل (ديوانه 84) أيضًا.
(3) س، ف، ز: “لحاجة”، وقد ضبط في ف، ز بالجرّ، وكتبت في ف علامة الإهمال. والمثبت من ل، وهي الرواية المشهورة.
(4) ف: “تتداركه”. س: “يدركه”.
(5) لابن الفارض في ديوانه (134) وروايته: “فالحب راحته عنا، وأوله سقم”.
(6) ذكرهما المؤلف في روضة المحبين (252) وشفاء العليل (138، 153) أيضًا.
وهما من أربعة أبيات نقلها ابن الجوزي بسنده في ذمّ الهوى (586) من إنشاد ابن نحرير البغدادي.

(1/498)


والذنب له، فهو الجاني على نفسه، وقد قعد تحت المثل السائر: “يداكَ أَوْكَتا، وفُوكَ نفخ” (1).
فصل
والعاشق له ثلاث مقامات: مقام ابتداء، ومقام توسط، ومقام انتهاء.
فأما مقام ابتدائه، فالواجب عليه فيه (2) مدافعته بكلّ ما يقدر عليه، إذا كان الوصول إلى معشوقه متعذِّرًا قدرًا أو شرعًا.
فإن عجز عن ذلك، وأبى قلبه إلا السفر إلى محبوبه -وهذا مقام التوسط والانتهاء- فعليه كتمان ذلك، وأن لا يُفشيه (3) إلى الخلق، ولا يشبّبَ بمحبوبه ويهتكه بين الناس، فيجمع بين الشرك والظلم. فإنّ الظلم في هذا الباب من أعظم أنواع الظلم، وربما كان أعظم ضررًا على المعشوق وأهله من ظلمه في ماله. فإنّه يعرّض المعشوق بتهتّكه في عشقه إلى وقوع الناس فيه (4)، وانقسامهم إلى مصدِّق ومكذِّب، وأكثر الناس يصدّق في هذا الباب بأدنى شبهة. وإذا قيل: فلان فعل بفلان أو
فلانة كذّبه واحد، وصدّقه تسعمائة وتسعة وتسعون! وخبر العاشق المتهتّك عند الناس في هذا الباب يفيد القطع اليقيني،
__________
(1) انظر مجمع الأمثال للميداني (3/ 519).
(2) لم يرد “فيه” في س.
(3) ف: “ولا يفشيه”.
(4) “فيه” ساقط من ف.

(1/499)


بل إذا أخبرهم المفعول به عن نفسه (1) كذبًا وافتراءً على غيره جزموا بصدقه جزمًا لا يحتمل النقيض (2)، بل لو جمعهما مكان واحد اتفاقًا جزموا أنّ ذلك عن وعد واتفاق بينهما. وجزمُهم في هذا الباب على الظنون والتخيّل والشُّبَه (3) والأوهام والأخبار الكاذبة، كجزمهم بالحسّيّات المشاهَدة.
وبذلك وقع أهل الإفك في الطيِّبة المطيّبة حبيبةِ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، المبرَّأةِ من فوق سبع سماوات، بشبهة مجيء صفوان بن المعطَّل بها وحده خلف العسكرة حتى هلك من هلك. ولولا أنْ تولّى الله سبحانه (4) براءتَها والذبَّ عنها وتكذيبَ قاذفها، وألّا كان أمرًا آخر (5).
والمقصود أنّ في إظهار المبتلَى عشقَ (6) من لا يحِلّ له الاتصالُ به من ظلمه وأذاه ما هو عدوان عليه وعلى أهله، وتعريض لتصديق كثير من الناس ظنونهم فيه.
__________
(1) ف: “به نفسُه”.
(2) ز: “النقض”.
(3) ز: “التخييل والشبهة”.
(4) ز: “أن الله سبحانه تولى”.
(5) ف، ز: “أمر” بالرفع. وكذا وقع “وإلّا” هنا في جميع النسخ، وهو استعمال عامّي تكرّر في كتب المؤلف. انظر طريق الهجرتين (44). والوجه حذفها. وفي ط المدني وغيرها: “قاذفها لكان”، ولعله إصلاح من الناشرين. وقصة الإفك أخرجها البخاري في الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضًا (2661)؛ ومسلم في التوبة، باب في حديث الإفك (2770) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(6) ف: “بعشق”، خطأ.

(1/500)


فإن استعان عليه بمن يستميله إليه، إما برغبة أو رهبة (1)، تعدّى الظلم وانتشر، وصار ذلك الواسطة ديّوثًا ظالمًا (2). وإذا كان النبي – صلى الله عليه وسلم – قد لعن الرائش (3) -وهو الواسطة بين الراشي والمرتشي في إيصال الرشوة- فما الظنّ بالديوث الواسطة (4) بين العاشق والمعشوق في الوصلة المحرّمة؟ فيتساعد العاشق والديّوث على ظلم المعشوق وظلم غيره ممن يتوقف حصول غرضهما على ظلمه في نفس أو مال أو عرض. فإنّه كثيرًا ما يتوقف المطلوب فيه على قتل نفسٍ تكون حياتها مانعةً من غرضه. فكم من قتيل طُلّ دمه بهذا السبب من زوج وسيّد وقريب! وكم خُبِّبت (5) امرأة على بعلها، وجارية وعبد على سيّدهما! وقد لعن
__________
(1) ف، ل: “برهبة”.
(2) س: “ظلمًا”، خطأ.
(3) أخرجه أحمد في المسند 5/ 279 (22399) وغيره من طريق ليث بن أبي سليم عن أبي الخطاب عن أبي زرعة عن ثوبان قال: “لعن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الراشي والمرتشي والرائش”.
والحديث مداره على ليث وهو ضعيف الحفظ وقد اضطرب فيه كثيرًا. وأيضًا أبو الخطاب مجهول، وأبو زرعة لم يسمع من ثوبان. ولفظة “الرائش” لم يروها إلا ليث. انظر طرقه في تحقيق المسند (37/ 86). والحديث ضعفه الحاكم والمنذري والهيثمي.
قلت: وورد عن عبد الله بن عمرو أنه قال: “لعن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الراشي والمرتشي”. أخرجه الترمذي (1327) وابن الجارود (586) وابن حبان (5077) والحاكم 4/ 115 (7066) وغيرهم. والحديث صححه الترمذي وابن الجارود وابن حبان والحاكم وغيرهم.
(4) ف ز: “الذي” مكان “الواسطة”.
(5) ف: “خُبّب”. وختبت، أي خدعت وأفسدت، كما في الحديث الذي أشار إليه المؤلف: “من خبّب عبدًا على أهله فليس منا، ومن أفسد امرأة على زوجها =

(1/501)


رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من فعل ذلك، وتبرّأ منه (1)، وهو من أكبر الكبائر.
وإذا كان النبي – صلى الله عليه وسلم – قد نهى أن يخطُب الرجل على خطبة أخيه، أو يستام على سَوم أخيه (2)، فكيف بمن يسعى في التفريق بينه وبيّن امرأته وأمَتِه حتى يتصل بهما؟ وعشّاق الصور ومساعدوهم من الدِّيَثة (3) لا يرون ذلك ذنبًا (4).
فإنْ طلب العاشقُ وصلَ معشوقه ومشاركةَ الزوج والسيّد، ففي ذلك من إثم ظلم الغير ما لعلّه لا يقصُر عن إثم الفاحشة إن لم يربُ (5) عليها.
ولا يسقط حق الغير بالتوبة من الفاحشة. فإنّ التوبة وإن أسقطَتْ حقَّ الله فحقُّ العبد باقٍ، له المطالبةُ به يومَ القيامة. فإنّ ظلمَ الوالد بإفساد فلذة كبده (6) ومن هو أعزُّ عليه من نفسه، وظلمَ الزوج
__________
= فليس منا”.
(1) ورد ذلك عند أحمد 5/ 352 (22980) وابن حبان (4363) والحاكم 4/ 331 (7816) وغيرهم. والحديث صححه ابن حبان والحاكم. وورد من حديث أبي هريرة عند أحمد (2/ 397) وصححه ابن حبان والحاكم.
(2) ز: “سومه”. والحديث أخرجه البخاري في البيوع، باب لا يبيع على بيع أخيه (2140) وفي الشروط (2727)؛ ومسلم في النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها في النكاح (1408) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) كذا ضبط بكسر أوله في س. والظاهر أنَّه أراد جمع الديّوث، ولكن لا يجمع فيعول على فِعَلة. وفي ط المدني: “الدَّيايثة”، وأخشى أن يكون إصلاحًا من الناشر. وضبط في حاشية ط عبد الظاهر بفَتح الدال والياء، يعني جمع دائث، والدائث ليس بالديّوث، وإنما هو فريسته.
(4) ف: “دَيثًا”، ولعله تصحيف.
(5) س، ل: “يربوا”.
(6) ل: “ولده كبده” وفي ف: “ولده كبيرة”، كلاهما تحريف.

(1/502)


بإفساد حبيبته (1) والجنايةِ على فراشه أعظمُ من ظلمه بأخذ ماله كلّه (2). ولهذا يؤذيه ذلك أعظمَ مما يؤذيه أخذُ ماله، ولا يعدل ذلك عنده إلا سفكُ دمه. فيا له من ظلمٍ أعظمَ إثمًا مِن فعلِ الفاحشة!
فإن كان ذلك حقًّا لغازٍ في سبيل الله وُقِف له الجاني الفاعل يوم القيامة، وقيل له: “خذ من حسناته ما شئت”، كما أخبر بذلك النبي – صلى الله عليه وسلم -. ثم قال النبي (3) – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “فما ظنّكم” (4)؟ أي فما تظنّون يُبقي له من حسناته؟
فإن انضاف إلى ذلك أن يكون المظلوم جارًا أو ذا رحم تعدّد الظلمُ وصار ظلمًا مؤكدًا بقطيعة الرحم وأذى الجار. و”لا يدخل الجنةَ قاطعُ رحم لا (5) ولا “من لا يأمن جارُه بوائقَه” (6).
فإن استعان العاشق على وقال معشوقه بشياطين الجنّ (7) -إما بسحر أو استخدام أو نحو ذلك (8) – ضمَّ إلى الشرك والظلم كفرَ السحر.
فإن لم يفعله هو ورضي به كان راضيًا بالكفر غيرَ كاره لحصول مقصده به (9)، وهذا ليس ببعيد من الكفر.
__________
(1) ف: “وظلمه بإفساد حبيبه”.
(2) “كلّه” ساقط من س.
(3) ز: “رسول الله”. وفي ل في الموضعين: “رسول الله”.
(4) تقدم تخريج الحديث في ص (263).
(5) من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه. أخرجه البخاري في الأدب، باب إثم القاطع (5984)؛ ومسلم في البر والصلة، باب صلة الرحم … (2556).
(6) تقدّم تخريجه (263).
(7) كلمة “الجن” ساقطة من ف.
(8) ما عدا س: “ونحو ذلك”.
(9) “به” ساقط من ف، ل. وفي ف: “مقصوده”.

(1/503)


والمقصود أنّ التعاون في هذا الباب تعاون على الإثم والعدوان.
وأما ما يقترن بحصول غرض العاشق من الظلم المنتشر المتعدّي ضررُه، فأمرٌ لا يخفى. فإنه إذا حصل له مقصوده من المعشوق، فللمعشوق أغراض أخر يريد من العاشق إعانته عليها، فلا يجد من إعانته بلًّا، فيبقى (1) كل منهما يعين الآخر على الظلم والعدوان.
فالمعشوق يعين العاشق على ظلم من يتصل به من أهله وأقاربه وسيّده وزوجه، والعاشق يعين المعشوق على ظلم من يكون غرض المعشوق متوقّفًا على ظلمه. فكل منهما يعين الآخر على أغراضه التي يكون (2) فيها ظلم الناس، فيحصل العدوان والظلم للناس، بسبب اشتراكهما في القبح لتعاونهما بذلك على الظلم، كما جرت العادة بين العشاق والمعشوقين من إعانة العاشق لمعشوقه على ما فيه ظلم وبغي وعدوان (3)، حتى ربما يسعى له في منصب لا يليق به ولا يصلح لمثله، وفي تحصيل مال من غير حِلّه، وفي استطالته على غيره. فإذا اختصم معشوقه وغيرُه أو تشاكيا لم يكن إلا في جانب المعشوق ظالمًا كان أو مظلومًا.
هذا إلى ما ينضمّ إلى ذلك من ظلم العاشق للناس بالتحيّل على أخذ أموالهم، والتوصّل بها إلى المعشوق (4) بسرقة أو غصب أو خيانة أو يمين (5) كاذبة أو قطع طريق ونحو ذلك. وربما أدّى ذلك إلى قتل النفس
__________
(1) س: “فبقي”.
(2) لم يرد “يكون” في س.
(3) س: “عدوان وبغي”.
(4) س: “معشوقه”.
(5) ف: “سرقةً أو غضبًا أو جناية أو يمينًا”.

(1/504)


التي حرّمها الله ليأخذ ماله، يتوصل (1) به إلى معشوقه.
فكلّ (2) هذه الآفات وأضعافها وأضعاف أضعافها تنشأ من عشق الصور. وربما حمل على الكفر الصريح. وقد تنصّر جماعة ممن نشأ في الإِسلام بسبب العشق، كما جرى لبعض المؤذنين حين أبصر امرأة جميلة على سطح، ففُتِن بها، فنزل ودخل عليها، وسألها نفسَها، فقالت: هي نصرانية، فإن دخلتَ في ديني تزوّجتُ بك، ففعل. فرقي ذلك اليوم (3) على درجة عندهم، فسقط منها (4)، فمات. ذكر هذا عبد الحقّ في كتاب “العاقبة” له (5).
وإذا أراد النصارى أن ينصّروا الأسير أرَوه امرأة جميلة، وأمروها أن تُطْمِعه في نفسها، حتّى إذا تمكن حبّها من قلبه بذلت له نفسها إن دخل في دينها. فهنالك: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} [إبراهيم: 27].
وفي العشق من ظلمِ كل واحد من العاشق والمعشوق (6) لصاحبه بمعاونته له على الفاحشة، وظلمِه لنفسه (7). فكلّ منهما ظالم لنفسه
__________
(1) ف: “ليتوصل”.
(2) ل: “وكل”.
(3) س: “في ذلك اليوم”. وفي ف: “الرجل” مكان “اليوم”.
(4) لم يرد “منها” في س.
(5) ص (179). وقد تقدمت القصة مفصّلة (394).
(6) ف: “المعشوق والعاشق”.
(7) زاد الشيخ محمَّد محيي الدين عبد الحميد رحمه الله بعده بين القوسين: “ما فيه”؛ لأنه ظنّ الجملة ناقصةً. ثم جاءت النشرات التابعة لنشرته، وحذفت القوسين!

(1/505)


وصاحبه، وظلمهما متعدٍّ إلى الغير كما تقدّم. وأعظم من ذلك ظلمهما بالشرك. فقد تضمّن العشق أنواع الظلم كلَّها.
والمعشوق إذا لم يتّق الله، فإنه يعرّض العاشق للتلف -وذلك ظلم منه- بأن يُطمعه في نفسه، ويتزيّن له، ويستميله بكلّ طريق، حتى يستخرج منه ماله ونفعه، ولا يمكنه من نفسه لئلا يزول غرضه بقضاء
وطره منه، فهو (1) يسومه سوء العذاب. والعاشق ربما قتل معشوقَه ليشفي نفسه منه، ولا سيّما إذا جاد بالوصال لغيره.
فكم للعشق من قتيل من الجانبين! وكم قد أزال من نعمةٍ، وأفقر من غنًى، وأسقط من مرتبة، وشتّت من شمل! وكم أفسد من أهل للرجل وولد! فإنّ المرأة إذا رأت بعلها عاشقًا لغيرها اتخذت هي معشوقًا لنفسها، فيصير الرجل متردّدًا بين خراب بيته بالطلاق وبيّن القيادة. فمن الناس من يؤثر هذا، ومنهم من يؤثر هذا (2).
فعلى العاقل (3) أن لا يُحكِم على نفسه عشقَ الصور، لئلا يؤديه ذلك إلى هذه المفاسد أو أكثرها أو بعضها. فمن فعل ذلك فهو المفرِّط بنفسه المغرِّر بها، فإذا هلكتْ فهو الذي أهلكها. فلولا (4) تكرارُه النظرَ إلى وجه معشوقه وطمعُه في وصاله لم يتمكّن عشقه من قلبه.
فإنّ أول أسباب العشق الاستحسان، سواء تولّد عن نظر أو سماع.
__________
(1) “منه” ساقط من ز. وفي ف: “وهو”.
(2) “هذا” ساقط من س.
(3) من هنا قارِن بما جاء في فتوى في العشق (180 – 181)، والسطور الأولى منقولة منها بحروفها.
(4) ف: “ولولا”.

(1/506)


فإن لم يقارنه طمع في الوصال، وقارنه الإياس من ذلك؛ لم يحدث له العشق. فإن اقترن به الطمع، فصرفه عن فكره (1) ولم يشتغل قلبه به (2)؛ لم يحدث له ذلك.
فإن أطال مع ذلك الفكر في محاسن المعشوق، وقارنه خوف ما هو أكبر عنده من لذة وصاله: إما خوف ديني كدخول النار، وغضب الجبار، واحتقاب الأوزار؛ وغلب هذا الخوف على ذلك الطمع
والفكر، لم يحدث له العشق.
فإن فاته هذا الخوف، فقارنه خوف دنيوي، كخوف تَلافِ (3) نفسه وماله، وذَهاب جاهه وسقوطِ مرتبته عند الناسِ، وسقوطِه من عين من يعزّ عليه؛ وغلب هذا الخوف لداعي العشق = دَفعَه.
وكذلك إذا خاف من ذوات محبوبٍ هو أحبّ إليه وأنفع له من ذلك المعشوق، وقدّم محبتَه على محبة المعشوق؛ اندفع عنه العشق.
__________
(1) ف: “فصرفه فكره”.
(2) ز: “ولم يشغل … “. و”به” ساقط من ل.
(3) مصدر تلِف، والمذكور في كتب اللغة: التلَف. وقد ورد في كلام الشعراء والكتاب المتأخرين، ومن ذلك قول ابن زيلاق الموصلي الكاتب الشاعر (660 هـ) من قصيدة:
تجمعتْ فيك للورى فِتنٌ … على تَلافِ النفوس تتّفقُ
انظر: فوات الوفيات (4/ 388). وقد جمع أبو العلاء بين المصدرين في قوله من لزومية (2/ 105):
تلافَ أمرَك من قبل التَلافِ به … فغايةُ الناس في دنياهم التلَفُ
وفي النسخ المطبوعة: “إتلاف”، ولعله تغيير من بعض الناسخين أو الناشرين.

(1/507)


فإن انتفى ذلك كلُّه، أو غلبت محبة المعشوق لذلك؛ انجذب إليه القلب بكليّته، ومالت إليه النفس كل الميل.
فإن قيل (1): قد ذكرتم آفاتِ العشق ومضارَّه ومفاسدَه، فهلّا ذكرتم منافعَه وفوائده التي من جملتها: رقة الطبع، وترويح النفس، وخفّتها، وزوال ثقلها، ورياضتها، وحملها على مكارم الأخلاق من الشجاعة والكرم والمروءة ورقّة الحاشية ولطف الجانب.
وقد (2) قيل ليحيى بن معاذ الرازي: إنّ ابنك عشق فلانة، فقال: الحمد لله الذي صيّره إلى طبع الآدمي (3)! وقال بعضهم: العشق داء أفئدة الكرام (4).
وقال غيره: العشق لا يصلح إلا لذي مروءة ظاهرة وخليقة طاهرة، أو لذي لسان فاضل وإحسان كامل، أو لذي أدب بارع وحسب ناصع (5).
وقال آخر: العشق يشجّع جَنان الجبان، ويصفّي ذهن الغبيّ، ويسخّي كفّ البخيل، ويُذِلّ عزّةَ الملوك، ويسكِّن نوافر الأخلاق (6). وهو أنيس من لا أنيس له، وجليس من لا جليس له (7).
__________
(1) من هنا إلى ص (532) فصل طويل في فوائد العشق التي ذكرها المؤلف على لسان المعترض، ثم ردّ عليه.
(2) لم يرد “وقد” في ف.
(3) فتوى في العشق (178).
(4) المرجع السابق.
(5) المرجع السابق.
(6) ف: “الأعلاق”، تحريف.
(7) فتوى في العشق (179)، المصون (46)، بهجة المجالس (1/ 823)، روضة =

(1/508)


وقال آخر: العشق يزيل الأثقال، ويلطّف الروح، ويصفّي كدر القلب، ويوجب الارتياح لأفعال الكرام (1) كما قال (2):
سيهلك في الدنيا شفيقٌ عليكمُ … إذا غاله من حادث الحبِّ غائلُه (3)
كريم يُميت السرَّ حتّى كأنه … إذا استفهموه عن حديثك جاهلُه
يودّ بأن يُمسي سقيمًا لعلّها … إذا سمعتْ عنه بشكوى تُراسِلُه
ويهتزّ للمعروف في طلب العُلى … لِتُحمَد يومًا عند ليلى شمائلُه
فالعشق يحمل على مكارم الأخلاق.
وقال بعض الحكماء (4): العشق يروّض النفس، ويهذب الأخلاق.
إظهاره (5) طَبْعي، وإضماره تكلُّفي (6).
وقال آخر: من لم تبتهج (7) نفسه بالصوت الشجيّ والوجه البهيّ، فهو فاسد المزاج، محتاج إلى علاج (8).
وأنشدوا في ذلك:
__________
= المحبين (281).
(1) ف: “لأفعال البر”.
(2) ديوان كثير عزّة (247 – 248).
(3) س، ل: “جانب الحب”. ف: “جاذب الحب”. ز: “في جاذب … “، ولعل كليهما تصحيف. ورواية الديوان: “حادث الدهر”.
(4) ف: “وقال الحكماء”.
(5) ز: “واظهاره”.
(6) فتوى في العشق (179).
(7) ف: “يهيّج”.
(8) نسب في المرجع السابق إلى جالينوس.

(1/509)


إذا أنت لم تعشَقْ ولم تدرِ ما الهوى … فأنت وعَيرٌ في الفلاة سواءُ (1)
وقال آخر:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى … فكن حجرًا من جانب الصخر جلمدا (2)
وقال آخر:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى … فقُمْ واعتلِفْ تِبْنًا فأنتَ حمارُ (3)
وقال آخر:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى … فما لك في طيب الحياة نصيبُ
وقال بعض العشاق أولو العفة والصيانة: عِفُّوا تشرُفوا واعشقوا تظرُفوا (4).
وقيل لبعض العشاق: ما كنت تصنع لو ظفرتَ (5) بمن تهوى؟ فقال: كنتُ (6) أمتعّ طرفي بوجهه، وأروّح قلبي بذكره وحديثه، وأستر منه ما لا يحبّ كشفَه، ولا أصير بقبح الفعل إلى ما ينقض عهده. ثم
__________
(1) المرجع السابق (179)، ذمّ الهوى (306)، الواضح المبين (65). ونقله المؤلف في روضة المحبين (284) أيضًا.
(2) للأحوص في العقد (6/ 61)، وانظر ديوانه (121)، وروضة المحبين (284).
وكذا “جانب الصخر” في جميع النسخ، والرواية: “يابس الصخر”.
(3) هذا البيت ساقط من س، ل. وانظر روضة المحبين (284).
(4) نقله المؤلف في روضة المحبين (281) من قول عبد الله بن طاهر أمير خراسان لولده. وانظر: الواضح المبين (62).
(5) ف: “إذا ظفرت”.
(6) “كنت” ساقط من س.

(1/510)


أنشد:
أخلو به فأعِفّ عنه تكرُّمًا … خوفَ الديانة لستُ من عشّاقِه (1)
كالماء في يد صائم يلتذّه … ظمأً فيصبر عن لذيذ مذاقه (2)
وقال إسحاق بن إبراهيم (3): أرواح العشاق عطرة لطيفة، وأبدانهم رقيقة خفيفة، نزهتهم المؤانسة، وكلامهم يُحيي مَواتَ القلوب، ويزيد في العقول؛ ولولا العشق والهوى لبطل نعيم الدنيا.
وقال آخر: العشق للأرواح بمنزلة الغذاء للأبدان. إن تركتَه ضرّك، وإن أكثرتَ منه قَتَلك (4). وفي ذلك قيل:
خليلَيّ إنّ الحبَّ فيه لذاذةٌ … وفيه شقاء دائم وكروبُ
على ذاك ما عيشٌ يطيب بغيره … ولا عيشَ إلا بالحبيب يطيبُ
ولا خيرَ في الدنيا بغير صَبابة … ولا في نعيم ليس فيه حبيبُ (5)
__________
(1) “تكرمًا” ساقط من ز. وفي ت مكانه: “من الخنا”. وفي فتوى في العشق (183): “كأنني”، وهو أجود.
(2) انظر القول مع الشعر في فتوى في العشق (183).
(3) هو إسحاق بن إبراهيم الموصلي الأديب النديم المغنّي المشهور المتوفى سنة 235 هـ، لا الإِمام إسحاق بن راهويه كما في بعض طبعات الكتاب. انظر منازل الأحباب (185).
(4) البصائر والذخائر (2/ 168)، ومنازل الأحباب (185).
(5) منازل الأحباب (185)، وروضة المحبين (281). ونقل المؤلف البيت الثالث في الروضة (284) وهو في الواضح المبين (64). وفي ز: “بغير صيانة”، تصحيف.

(1/511)


وذكر الخرائطي (1) عن أبي غسّان قال: مرّ أبو بكر الصديق رضي الله عنه بجارية وهي تقول:
وهوِيتُه من قبلِ قطعِ تمائمي … متمايسًا مثل القضيب الناعمِ
فسألها: أحرّة (2) أنتِ أم مملوكة؟ قالت: بل مملوكة. فقال: مَن هواك (3)؟ فتلكّأت، فأقسم عليها (4)، فقالت:
وأنا التي لعِبَ الهوى بفؤادها … قُتِلَتْ بحبّ محمدِ بن القاسمِ
فاشتراها من مولاها، وبعث بها إلى محمَّد بن القاسم بن جعفر بن أبي طالب (5)، وقال: هؤلاء فِتَن الرجال. وكم -والله- قد مات بهن كريم، وعطِبَ بهن سليم!
وجاءت عثمان بن عفان جاريةٌ تستدعي على رجل من الأنصار، فقال لها عثمان: ما قصّتك؟ فقالت: كلِفتُ يا أمير المؤمنين بابن أخيه، فما أنفكُّ أراعيه. فقال له عثمان: إما أن تهبها لابن أخيك، أو أعطيك
__________
(1) في اعتلال القلوب (231) من طريق علي بن الأعرابي ثنا أبو غسان النهدي قال: “مرّ أبو بكر … “. ولا يثبت، فإن بين النهدي -واسمه مالك بن إسماعيل- وبيّن أبي بكر مفاوز! فالنهدي توفي سنة 219 وأبو بكر توفي سنة 13 (ز). وانظر روضة المحبين (520) والتعليق الآتي.
(2) ف: “امرأة”.
(3) س: “من هو”.
(4) “عليها” ساقط من ف.
(5) وهذا دليل آخر على فساد هذا الخبر. فليس من أولاد جعفر بن أبي طالب من (6) يسمّى قاسمًا. وإنما أولاده عبد الله، ومحمد، وعون. انظر نسب قريش (80) وجمهرة أنساب العرب (68).

(1/512)


ثمنها من مالي. فقال: أُشهِدك يا أمير المؤمنين أنّها له (1).
ونحن (2) لا ننكر فساد العشق الذي متعلَّقُه فعلُ الفاحشة بالمعشوق، وإنما الكلام في العشق العفيف من الرجل الظريف الذي يأبى له دينه وعفته ومروءته أن يُفسِد ما بينه وبيّن الله، وما بينه وبيّن
معشوقه بالحرام. وهذا كعشق السلف الكرام والأئمة الأعلام. فهذا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد الفقهاء السبعة (3) عشِقَ حتى اشتهر أمره، ولم يُنكَر عليه، وعُدّ ظالمًا مَن لامه. ومن شعره (4):
كتمتَ الهوى حتى أضرّ بك الكَتْمُ …. ولامك أقوام ولَومُهمُ ظُلْمُ
فنمَّ عليك الكاشحون وقبلَهم …. عليك الهوى قد نمّ لو ينفع الكَتْمُ (5)
فأصبحتَ كالنَّهْدي إذ مات حسرة … على إثر هندٍ أو كمَنْ شفّه سُقْمُ (6)
تجنّبتَ إتيانَ الحبيب تأثُّمًا … ألا إنّ هِجرانَ الحبيبِ هو الإثمُ
فذُقْ هَجْرَها قد كنتَ تزعم أنه … رَشادٌ ألا يا ربّما كذَب الزَّعْمُ
وهذا عمر بن عبد العزيز، عشقُه لجارية فاطمة بنت عبد الملك بن
__________
(1) الواضح المبين (31) عن امتزاج النفوس للتميمي. وانظر: روضة المحبين (521).
(2) “ونحن” ساقط من ز. ولا يزال الكلام مستمرًا على لسان المعترض.
(3) توفي سنة 98 هـ. انظر ترجمته في سير أعلام البلاء (4/ 475).
(4) الأبيات في الأمالي (2/ 20)، ومصارع العشاق (1/ 321) وغيرهما.
(5) الرواية: “لو نفع النمُّ”.
(6) ما عدا ل: “الهندي”، تحريف. والمقصود عبد الله بن عجلان النهديّ، وهند زوجه. انظر ترجمة عبد الله في الأغاني (22/ 245).

(1/513)


مروان امرأتِه مشهور (1). وكانت جارية بارعة الجمال، وكان معجبًا بها، وكان يطلبها من امرأته ويحرص على أن تهبَها له، فتأبى. ولم تزل الجارية في نفس عمر، فلما استخلف أمرت فاطمةُ بالجارية، فأُصلِحت، وكانت مثلًا في حسنها وجمالها، ثم دخلتْ على عمر، وقالت: يا أمير المؤمنين إنّك كنت معجبًا بجاريتي فلانة، وسألتَنيها فأبيت عليك، والآن فقد طابت (2) نفسي لك بها. فلما قالت له ذلك (3) استبان الفرح في وجهه، وقال: عجَّلي بها عليّ. فلما أدخلَتْها عليه ازداد بها عجبًا، وقال لها: ألقي ثيابك، ففعلَتْ. ثم قال لها على رسلكِ، أخبريني لمن كنتِ؟ ومن أين صرت لفاطمة؟ فقالت: أغرم الحَجّاج عاملًا له بالكوفة مالًا، وكنت في رقيق ذلك العامل (4) فأخذني، وبعث بي إلى عبد الملك، فوهبني لفاطمة. قال: وما فعل ذلك العامل؟ قالت: هلك. قال: وهل ترك ولدا؟ قالت: نعم. قال: فما حالهم؟ قالت: سيئة. فقال: شُدِّي عليك ثيابك، واذهبي إلى مكانك. ثم كتب إلى عامله على العراق أن ابعَثْ إلى فلان بن فلان على البريد. فلما قدم قال له (5): ارفع إليّ جميعَ ما غرّمه الحجّاج لأبيك. فلم يرفع إليه (6) شيئًا إلا
__________
(1) أخرجه الخرائطي في اعتلال القلوب (61 – 62). (ز). وأخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق بسنده عن الهيثم بن عديّ. والهيثم كذاب متروك الحديث.
وانظر منازل الأحباب (65). (ص).
(2) ف: “قد طابت”.
(3) “فلما … ذلك” ساقط من س.
(4) بعده في ف: “قالت”.
(5) “له” ساقط من ز.
(6) “إليه” ساقط من ف.

(1/514)


دفعه إليه (1). ثم أمر بالجارية فدُفِعت إليه. ثم قال له: إياك وإياها، فلعل أباك كان ألمَّ بها. فقال (2) الغلام: هي لك يا أمير المؤمنين. قال: لا حاجة لي بها. قال: فابتَعْها منّي. قال لستُ إذا ممن نهى النفسَ عن الهوى. فلما عزم الفتى على الانصراف بها قالت: أين وجدُك بي يا أمير المؤمنين؟ قال: على حاله، ولقد زاد! ولم تزل الجارية في نفس عمر حتى مات رحمه الله.
وهذا أبو بكر محمَّد (3) بن داود الظاهري، العلَم (4) المشهور في فنون العلم من الفقه والحديث والتفسير والأدب، وله قول في الفقه، وهو من أكابر العلماء، وعشقه مشهور (5).
قال نِفطَويه: دخلتُ عليه في مرضه الذي مات فيه، فقلت: كيف تجدك؟ فقال (6): حبُّ من تعلم أورثني ما ترى. فقلت: وما يمنعك من الاستمتاع به مع القدرة عليه؟ فقال: الاستمتاع على وجهين: أحدهما النظر المباح، والآخر اللذة المحظورة. فأما النظر المباح فهو الذي أورثني ما ترى. وأما اللذة المحظورة فمنعني منها ما حدثني أبي، حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا علي بن مُسْهِر، عن أبي يحيي القتّات، عن مجاهد، عن ابن عباس يرفعه: “من عشِق وكتَم وعفّ وصبر غفر الله له، __________
(1) س: “ردّه عليه”.
(2) ف: “قال”.
(3) ف، ل: “بن محمَّد”، خطأ. وسقط “بن داود” من ل.
(4) س: “العالم”. ز: “المعلم”، تحريف.
(5) انظر ترجمته في تاريخ بغداد (5/ 256)، وسير أعلام البلاء (13/ 109).
(6) ف: “قال”.

(1/515)


وأدخله الجنّة” (1). ثم أنشد:
انظر إلى السِّحر يجري في لواحظه … وانظر إلى دَعَجٍ في طرفه الساجي (2)
وانظر إلى شعَراتٍ فوق عارضه … كأنهنَّ نِمالٌ دبَّ في عاجِ
ثم أنشد:
ما لهم أنكروا سوادًا بخَدَّيْـ … ـهِ ولا ينكرون وردَ الغصون
إن يكن عيبُ خدِّه بدَدَ الشَّعـ … ـرِ فعيبُ العيون شَعْرُ الجفونِ (3)
فقلت له: نفيتَ القياس في الفقه، وأثبتَّه في الشعر. فقال: غلبة الوجد وملكة النفس دعَوَا إليه. ثم مات من ليلته (4).
وبسبب معشوقه صنّف كتاب “الزهرة”. ومن كلامه فيه (5): من يئس ممن (6) يهواه ولم يمُتْ (7) من وقته سلاه وذلك أنً أول روعات اليأس (8) تأتي القلب، وهو غير مستعدّ لها، فأما الثانية فتأتي القلب، وقد وطّأته لها الروعة الأولى (9).
__________
(1) انظر كلام المصنف على هذا الحديث في آخر الفصل.
(2) س: “من لواحظه”.
(3) ورد الشطر الأول في ف هكذا: “إن يكن عيبه عيب الشعر”.
(4) ف: “في ليلته”. وانظر: تاريخ بغداد (5/ 262).
(5) وأوله عنوان الباب الثامن والأربعين منه. انظر ص (452).
(6) ز: “تأسّى بمن”. وفي س: “باس بمن”.
(7) في الزهرة: “لم يلتفت”، ولعل صوابه: “لم يُفتلَتْ”.
(8) ز: “التأسي”، تحريف.
(9) “الأولى” ساقط من س. وفي الزهرة: “الأولة”.

(1/516)


والتقى هو وأبو العباس بن سُرَيج (1) في مجلس أبي الحسن علي بن عيسى الوزير (2) فتناظرا في مسألة من الإيلاء، فقال له ابن سريج: أنت بأن تقول: “من دامت لحظاته كثرت حسراته” (3) أحذق منك بالكلام على الفقه!
فقال: لئن كان ذلك فإني أقول:
أنره في روض المحاسن مقلتي … وأمنع نفسي أن تنال محرَّما
وأحمل من ثِقْل الهوى ما لوَ انّه … يُصَبّ على الصخر الأصمّ تهدّما
وينطق طرفي عن مترجَم خاطري … فلولا اختلاسي ردَّه لتكلّما (4)
رأيتُ الهوى دعوى من الناس كلِّهم … فلستُ أرى ودًّا صحيحًا مسلّما
فقال له (5) أبو العباس بن سُرَيج: بمَ تفخر عليّ؟ ولو شئتُ قلتُ:
ومُطاعِمٍ كالشَّهد في نغماته … قد بتُّ أمنعه لذيذَ سِناته
__________
(1) س، ل: “شريح”، تصحيف. وهو أحمد بن عمر بن سريج القاضي البغدادي، شيخ الشافعية في وقته. توفي سنة 356 هـ. انظر ترجمته في طبقات السبكي (3/ 25)، وسير أعلام البلاء (14/ 201).
(2) أبو الحسن علي بن عيسى بن داود بن الجرّاح البغدادي، من بلغاء زمانه. وزر غير مرة للمقتدر والقاهر. توفي سنة 334 هـ. انظر ترجمته في معجم الأدباء (1823)، وسير أعلام البلاء (15/ 298).
(3) وهو عنوان الباب الأول من كتاب “الزهرة” (ص 45)، وفيه: “من كثرت لحظاته دامت حسراته”. وهو الصواب، وكذا في زهر الآداب (728).
(4) في النسخ: “ودّه”، والتصحيح من تاريخ بغداد وغيره.
(5) “له” ساقط من ف.

(1/517)


ضنًّا به وبحسنه وحديثه … وأنزّه اللحظاتِ في وجَناته (1)
حتى إذا ما الصبح لاح عَمودُه … ولّى بخاتَم ربه وبَراته
فقال أبو بكر: يحفظ عليه الوزير ما أقرَّ به حتى يقيم شاهدَين على أنّه ولّى بخاتم ربه وبراءته.
فقال ابن سريج: يلزمني في هذا ما يلزمك في قولك:
أنزِّه في روض المحاسن مقلتي … وأمنع نفسي أن تَنال محرَّما
فضحك الوزير فقال: لقد جمعتما لطفًا وظرفًا.
ذكر ذلك أبو بكر الخطيب في تاريخه (2).
وجاءته يومًا فتيا مضمونها:
يا ابنَ داود يا فقيهَ العراقِ … أفتِنا في قواتل الأحداقِ (3)
هل عليها بما أتت من جناح … أم حلالٌ لها دمُ العُشّاقِ
فكتب الجواب تحت البيتين بخطه:
عندي جواب مسائل العشّاقِ … فأسمعه من قرِحِ الحشا مشتاقِ
__________
(1) ما عدا ف: “صبًّا به”.
(2) (5: 262) ولكن سياق القصة فيه مغاير لما ذكره المصنف هنا. فالمناظرة في رواية الخطيب وقعت في مجلس القاضي أبي عمر محمَّد بن يوسف، والمسألة من مسائل الظهار، مع خلافات أخرى. وسياقها هنا يوافق ما ورد في المصون (126)، وزهر الآداب (728)، ووفيات الأعيان (4/ 260)، ومنازل الأحباب (76).
(3) ل: “فواتك الأحداق”.

(1/518)


لما سألتَ عن الهوى هيّجتَني … وأرقتَ دمعًا لم يكن بمُراقِ
إن كان معشوقٌ يعذِّب عاشقًا … كان المعذَّبُ أنعمَ العشّاقِ (1)
قال صاحب كتاب “منازل الأحباب” (2) شهاب الدين محمود بن سلمان بن فهد صاحب الإنشاء (3): وقلتُ في جواب البيتين على وزنهما (4) مجيبًا للسائل:
قل لمن جاء سائلًا عن لحاظٍ … هنّ يلعبن في دم العشّاق
ما على السيف في الورى من جُناحٍ … إن ثنى الحدَّ عن دمٍ مُهراقِ
وسيوفُ اللِّحاظ أولى بأن تُصـ … ـفحَ عمّا جنَتْ على العشّاق
__________
(1) تاريخ بغداد (5/ 257)، ومنه في مصارع العشّاق (2/ 213،119). وقد نقلها الخطيب بسنده عن الطبراني عن بعض أصحابه قال: “كتب بعض أهل الأدب إلى أبي بكر … “. ونقل ابن خلكان (4/ 261) عن ابن أبي الدنيا أنه كان حاضرَا في مجلس أبي بكر، إذ جاءه المستفتي، وذكر أنه ابن الرومي الشاعر المشهور، أما جواب ابن داود فذكره بهذا اللفظ:
كيف يفتيكم قتيلٌ صريعٌ … بسهام الفراق والاشتياقِ
وقتيل التلاقِ أحسن حالًا … عند داود من قتيل الفراقِ
وهذان البيتان على وزن بيتي السؤال، خلافًا لرواية الخطيب.
(2) عنوانه الكامل: “منازل الأحباب ومنازه الألباب”، وهو مطبوع.
(3) ولد في حلب سنة 644 هـ، وتوفي بدمشق سنة 725. قال ابن رجب: بقي في ديوان الإنشاء نحوًا من خمسين سنة بدمشق ومصر. وولي كتابة السرّ بدمشق نحوًا من ثمان سنين قبل وفاته. الذيل على طبقات الحنابلة 4/ 459، وأعيان العصر 5/ 372.
(4) وهذا يدلّ على أن شهاب الدين وقف على رواية الخطيب فقط، فلحظ أنّ جواب أبي بكر لم يكن على وزن شعر السائل.

(1/519)


إنما كلُّ من قَتلنَ شهيدٌ (1) … ولهذا يفنى ضَنىً وهو باقِ (2)
ونظير ذلك فتوى وردت على الشيخ أبي الخطاب محفوظ بن أحمد الكَلْوَذاني شيخ الحنابلة في وقته (3):
قل للإمام أبي الخطّاب مسألةً … جاءت إليك وما خَلقٌ سِواكَ لها
ماذا على رجلٍ رامَ الصلاةَ فمُذْ … لاحتْ لخاطرِه ذاتُ الجمال لها (4)
فأجابه تحت سؤاله:
قل للأديب الذي وافى بمسألة … سرّتْ فؤاديَ لمّا أنْ أصختُ لَها
إن الذي فَتَنتْه عن عبادته … خريدةٌ ذاتُ حسني فانثنى وَلَها (5)
إن تاب ثم قضى عنه عبادتَه … فرحمةُ الله تغشَى من عصَى ولَها (6)
وقال عبد الله بن معمر القيسي (7): حججتُ سنة، ثم دخلتُ مسجد المدينة لزيارة قبر رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. فبينا أنا جالس ذات ليلة (8) بين القبر
__________
(1) في النسخ الخطيّة: “شهيدًا” بالنصب، والصواب ما أثبتنا.
(2) لم ترد في منازل الأحباب، وكانت أولى به.
(3) ولد في بغداد سنة 432 هـ وتوفي فيها سنة 510 هـ. ترجمته في الذيل على طبقات الحنابلة (1/ 270).
(4) من اللهو.
(5) الوَلَه: ذهاب العقل، والتحسّر من شدة الوجد. الصحاح (وله).
(6) من اللهو. والقصة نقلها ابن رجب في الذيل (1/ 276) عن ابن السمعاني.
(7) القصة في المستجاد من فعلات الأجواد للتنوخي (126 – 134)، ومنازل الأحباب (187 – 193)، ومنه في الواضح المبين (255 – 259). وفي المستجاد: “عبد الله بن المعتمر … ” ولم أجد له ترجمة.
(8) ما عدا ل: “جالس ليلة”.

(1/520)


والمنبر إذ سمعت أنينًا، فأصغيت إليه، فإذا هو يقول:
أَشْجاكَ نَوحُ حمائم السِّدْرِ … فأهَجْنَ منك بلابلَ الصَّدْرِ
أم عزّ نومَك ذكرُ غانيةٍ … أهدَتْ إليك وساوسَ الفكْرِ (1)
يا ليلةً طالت على دَنِفٍ … يشكو السُّهادَ وقلّةَ الصبرِ
أسلمتِ مَن يهوَى لحرِّ جوىً … متوقِّدٍ كتوقُّدِ الجَمْرِ (2)
فالبدرُ يشهد أنّني كلِفٌ … مُغْرىً بحبِّ شبيهةِ البدرِ
ما كنت أحسبني أهيم بها … حتّى بُليتُ وكنتُ لا أدري
ثم انقطع الصوت، فلم أدر من أين جاء، وإذا به قد أعاد البكاء والأنين، ثم أنشد:
أشجاك من ريَا خيالٌ زائرُ … والليلُ مسوَدُّ الذوائبِ عاكِرُ (3)
واعتاد مهجتك الهوى برَسِيسِه … واهتاجَ مقلتك الخيالُ الزائرُ (4)
ناديتُ ريَّا والظلامُ كأنّه … يمٌّ تلاطَمَ فيه موجٌ زاخرُ
والبدرُ يسري في السماء كانّه … ملِكٌ ترجَّلَ والنجومُ عساكِرُ
وترى به الجوزاءَ ترقصُ في الدُّجى … رقصَ الحبيبِ علاه سُكْرٌ ظاهرُ (5)
__________
(1) ف: “ذكر غائبة”، تصحيف.
(2) ما عدا ف: “تهوى”، تصحيف. وفي ل: “متوقدًا”.
(3) ف: “من فيءٍ”، ولعله تحريف.
(4) كذا في النسخ والواضح المبين. وفي منازل الأحباب: “الخيال الباكر”.
(5) ف: “ضيا الجوزاء يرقص”.

(1/521)


يا ليلُ طُلْتَ على محِبٍّ ما له … إلا الصباحَ مُساعِدٌ ومُؤازِرُ
فأجابني مُتْ حتفَ أنفِكَ واعلمَنْ … أنّ الهوى لَهُوَ الهَوانُ الحاضِرُ
قال: وكنتُ ذهبتُ عند ابتدائه بالأبيات (1)، فلم ينتهِ إلا وأنا عنده. فرأيتُ شابًّا مقتبلًا (2) شبابُه، قد خرق الدمعُ في خدّه خَرْقَين، فسلّمتُ عليه، فقال: اجلس، من أنت؟ فقلت: عبد الله بن معمر القيسي. قال: ألك حاجة؟ قلت: نعم، كنتُ جالسًا في الروضة، فما راعني إلا صوتك. فبنفسي أفديك، فما الذي تجد؟ فقال: أنا عتبة بن الحُباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري (3)، غدوتُ يومًا إلى مسجد الأحزاب، فصلّيت فيه، ثم اعتزلتُ غيرَ بعيد، فإذا (4) بنسوة قد أقبلن يتهادَين مثل القطا، وفي وسطهن جارية بديعة الجمال كاملة الملاحة، فوقَفتْ عليّ وقالت: يا عتبةُ ما تقول في وصلِ مَن يطلب وصلك؛ ثم تركَتْني وذهبَتْ، فلم أسمع لها خبرًا، ولا قفوتُ لها أثرًا، وأنا حيران أنتقل من مكان إلى مكان. ثم صرخ وأكبّ مغشيًّا عليه، ثم أفاق كأنما (5) صُبغت وجنتاه بوَرْس، ثم أنشأ يقول (6):
__________
(1) “بالأبيات” من ل.
(2) ف: “مقبلًا”.
(3) في المستجاد: “عيينة بن الحباب … “. الحباب من المنذر صحابي معروف. وهو صاحب الرأي يوم بدر. وابنه خَشْرم من أهل الحديبية. انظر جمهرة أنساب العرب (359). والإصابة (2/ 285). أما عتبة أو عيينة بن الحباب فلم أجد له ذكرًا.
(4) ز: “وإذا”.
(5) ز: “فكأنما”.
(6) لم يرد “يقول” في س، ف. وفي ل: “ثم أنشد”.

(1/522)


أراكم بقلبي من بلادٍ بعيدةٍ … فيا هَلْ تَرَوني بالفؤاد على بُعدِ
فؤادي وطَرفي يأسفان عليكمُ … وعندكمُ روحي وذكركمُ عندي
ولستُ ألذُّ العيشَ حتّى أراكم … ولو كنتُ في الفردوس في جنّةِ الخلدِ
فقلت: يا ابن أخي تُبْ إلى ربّك، واستغفِرْ من ذنبك (1)، فبين يديك هولُ المُطَّلَع (2). فقال: ما أنا بسالٍ حتى يؤوب القارظان (3)! ولم أزل معه إلى أن طلع الصبح (4)، فقلت: قم بنا إلى مسجد الأحزاب، فلعل الله أن يكشف كربتك. قال: أرجو ذاك إن شاء الله ببركة طَلْعتك.
فذهبنا حتى أتينا مسجد الأحزاب، فسمعته يقول:
يا لَلرِّجالِ لِيوم الأربعاء أما … ينفكّ يُحدِث لي بعد النُّهَى طرَبا
ما إن يزال غزالٌ منه يُقلِقني … يأتي إلى مسجد الأحزاب مُنْتقِبا (5)
يُخبّر الناسَ أنّ الأجرَ همّتُه … وما أتى طالبًا للأجر محتسِبا
لو كان يبغي ثوابًا ما أتى صَلِفًا … مضمَّخًا بفتيت المسك مختضِبا (6)
__________
(1) ف: “لذنبك”.
(2) يعني الموقف يوم القيامة أو ما يشرف عليه من أمر الآخرة عقيب الموت. قال عمر رضي الله عنه: “لو أن لي ما في الأرض جميعًا لافتديتُ به من هول المطلع”. انظر النهاية (3/ 132).
(3) من أمثالهم في التأبيد. انظر تفسيره في فصل المقال (473)، وجمهرة الأمثال (1/ 123).
(4) ل: “حتى طلع الفجر”. س: “أن حتى طلع الصبح”.
(5) في المستجاد، ومنازل الأحباب، والواضح المبين: “يظلمني”.
(6) الصلَف: الغلوّ في الظرف مع تكبّر. اللسان (صلف). وفي المستجاد، ومنازل (7) الأحباب، والواضح المبين: “أتى ظهرًا”.

(1/523)


ثم جلسنا حتى صلينا الظهر. فإذا بالنسوة قد أقبلن، وليست الجارية فيهن، فوقفن عليه، وقلن له: يا عتبةُ ما ظنّكَ بطالبةِ وصلك وكاسفةِ بالك (1)؟ قال: وما بالها؟ قلن: أخذها أبوها، وارتحل بها إلى
أرض السماوة. فسألتُهن عن الجارية، فقلن: هي ريّا ابنة الغِطريف السُّلَمي. فرفع عتبة رأسه إليهن، وقال:
خليلَيَّ ريّا قد أجدَّ بكورُها … وسارت إلى أرض السماوة عِيرُها (2)
خليلَيَّ إني قد عَشِيتُ من البكا … فهل عند غيري مقلةٌ أستعيرُها (3)
فقلت له: إنّي قد وردتُ بمال جزيل أريد به أهلَ السَّتْر (4)، ووالله لأبذلنَّه أمامك حتى تبلغَ رضاك وفوق الرضا! فقم بنا إلى مسجد الأنصار. فقمنا وسِرْنا حتى أشرفنا على ملأ منهم، فسلّمتُ، فأحسنوا الردّ. فقلتُ: أيها الملأ ما تقولون في عتبة وأبيه؟ قالوا: من سادات العرب. فقلت: إنّه قد رُميَ بداية من الهوى، وما أريد منكم إلا المساعدة إلى السماوة. فقالوا: سمعًا وطاعة.
فركبنا، وركب القوم معنا، حتى أشرفنا على منازل بني سُلَيم. فأُعْلِم الغطريفُ بنا، فخرج مبادرًا، فاستقبلنا، وقال: حُييّتم بالإكرام. فقلنا: وأنتَ فحيّاك الله، إنّا لك أضياف. فقال: نزلتم أكرَم منزل. فنادى: يا معشر العبيد أنزِلوا القومَ. ففُرشت الأنطاع والنَّمارق (5)،
__________
(1) في النسخ كلها: “كاشفة بالك” بالشين المعجمة، تصحيف.
(2) ف: “أخذن بكورها” تحريف.
(3) في المستجاد بيت آخر بينهما.
(4) ز: “السير”، تصحيف.
(5) النِّطَع: بساط من أديم. والنُّمُرُقة: الوسادة.

(1/524)


وذُبحت الذبائح. فقلنا: لسنا بذائقي طعامك حتى تقضي حاجتنا. فقال: وما حاجتكم؟ قلنا: نخطب عقيلتك الكريمة لعتبة بن الحباب بن المنذر. فقال: إنّ التي تخطبونها أمرُها إلى نفسها، وأنا أدخلُ أُخبِرها (1).
ثم دخل مغضَبًا على ابنته، فقالت: يا أبت ما لي أرى الغضب في وجهك؟ فقال: قد ورد الأنصار يخطبونكِ (2) منّي. قالت: سادة (3) كرام، استغفر لهم النبي – صلى الله عليه وسلم -، فلمن الخِطبة منهم؟ قال: لعتبة بن الحباب. قالت: والله لقد سمعتُ عن عتبة هذا أنّه يفي بما وعد، ويدرك
إذا قَصَد. فقال: أقسمتُ لا زوّجتُك (4) به أبدًا، ولقد نمى إلي بعض حديثك معه. فقالت: ما كان ذلك (5)، ولكن إذ أقسمتَ فإنّ (6) الأنصار لا يُرَدّون (7) ردًّا قبيحًا، فأحسِنْ لهم الردَّ. فقال: بأيّ شيء؟ قالت: أغلِظْ لهم المهر (8)، فإنهم يرجعون ولا يجيبون. فقال: ما أحسن ما قلتِ!
ثمّ خرج مبادرًا فقال: إنّ فتاة الحيّ قد أجابت، ولكنّي (9) أريد لها
__________
(1) ف: “أخطبها”.
(2) ف: “يخطبون”.
(3) س: “سادات”.
(4) س، ف: “لا أزوجك”.
(5) س: “كذلك”.
(6) “إذ أقسمت فإنّ” ساقط من س.
(7) ف: “لا ترد”.
(8) “المهر” ساقط من س.
(9) ف: “ولكن”.

(1/525)


مهرَ مثلِها (1)، فمن القائم به؟ فقال عبد الله بن معمّر: أنا، فقُلْ ما شئتَ! فقال: ألف مثقال من الذهب، ومائة ثوب من الأبراد، وخمسة أكرِشةِ عنبر (2). فقال عبد الله: لك ذلك، فهل أجبتَ؟ قال: نعم، قال عبد الله: فأنفذتُ نفرًا من الأنصار إلى المدينة، فأتوا بجميع ما طلب. ثم صنعت
الوليمة وأقمنا على ذلك أيامًا. ثم قال: خذوا فتاتكم، وانصرِفوا مصاحَبين.
ثم حملها في هودج، وجهّزها بثلاثين راحلةً من المتاع والتحَف، فودّعناه، وسرنا، حتّى إذا بقي بيننا وبيّن المدينة مرحلة واحدة خرجت علينا خيل تريد الغارة، أحسبها من سليم، فحمل عليها عتبة بن الحباب، فقتل منهم رجالًا، وجدّل آخرين. ثم رجع وبه طعنة تفور دمًا، فسقط إلى الأرض. وأتتنا نجدة (3)، فطردت عنّا الخيل. وقد قضى عتبة نحبه، فقلنا: وا عتبتاه! فسمعتنا (4) الجارية، فألقت نفسَها عن البعير، وجعلت (5) تصيح بحرقة وأنشدت:
تصبّرتُ لا أنّي صبرتُ وإنما … أعلِّل نفسي أنّها بك لاحقَه
فلو أنصفَتْ روحي لكانت إلى الرَّدى … أمامكَ من دون البريّة سابقَه
__________
(1) ف، ل: “مهرًا مثلها”.
(2) ف: “من العنبر”. والأكرشة: جمع كرِش، وهو وعاء الطيب والثوب. اللسان (كرش). وفي المستجاد زيادة خمسة آلاف درهم من ضرب هجر، وعشرين ثوبًا من الوشي المطيّر، وعقد من الجوهر، وعشرين نافجة من المسك الأذفر!
(3) س: “وانثنى بخدّه”، تصحيف.
(4) ف: “فسمعت”.
(5) “وجعلت” ساقط من ف.

(1/526)


فما أحدٌ بعدي وبعدكَ منصِفٌ … خليلًا ولا نفسٌ لنفسٍ موافقَه
ثم شهقت، وقفت نحبها. فاحتفرنا لهما قبرًا واحدًا، ودفنّاهما فيه. ثم رجعتُ، فأقمتُ (1) سبعَ سنين. ثم ذهبتُ إلى الحجاز، ووردتُ المدينة، فقلت: واللهِ لآتينّ قبرَ عتبة أزوره. فأتيت القبر، فإذا عليه شجرةٌ عليها عصائب حمر وصفر. فقلت لأرباب المنزل: ما يقال لهذه الشجرة؟ قالوا: شجرة العروسين!
ولو لم يكن في العشق من الرخصة المخالفة للتشديد إلا الحديث الوارد بالحسَن من الأسانيد، وهو حديث سُوَيد بن سعيد، عن علي بن مسهر، عن أبي يحيى القتّات، عن مجاهد، عن ابن عباس يرفعه: “من عشِقَ وعفَّ وكتَم فمات، فهو شهيد” (2).
ورواه سويد أيضًا عن ابن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مرفوعًا.
ورواه الخطيب، عن الأزهري، عن المعافى بن زكريا، عن قُطبة بن الفضل (3)، عن أحمد بن مسروق عنه.
__________
(1) ف: “ثم رحت إلى المدينة وأقمت”، وهو غلط. والمقصود أنّه رجع إلى بلده.
(2) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (43/ 195) وابن الجوزي في ذم الهوى (101). وأخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (5/ 364) و (6/ 48) و (11/ 295) و (13/ 85) وابن الجوزي في العلل المتناهية (1286، 1287) وفي ذم الهوى (256 – 258) من طريق جماعةٍ عن سويد بن سعيد به. وسيأتي كلام المؤلف عليه في آخر الكتاب.
(3) ف: “قطبة عن الفضل”، خطأ.

(1/527)


ورواه الزبير بن بكّار، عن عبد العزيز الماجشون (1)، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس.
وهذا سيّد الأولين والآخرين ورسول ربّ العالمين نظر إلى زينب بنت جحش فقال: “سبحانَ مقلّب القلوب” (2). وكانت تحت زيد بن حارثة مولاه، فلما همَّ بطلاَقها قالَ له: “اتّق الله وأمسِكْ عليك زوجكَ”. فلمّا طلّقها زوّجها الله سبحانه من رسوله من (3) فوق سبع سماوات، فكان هو وليّها ووليّ تزويجها من رسوله. وعقد عقد نكاحها
__________
(1) س، ف: “ابن الماجشون”.
(2) أخرجه ابن سعد في الطبقات (8/ 101 – 102) والحاكم في المستدرك 4/ 25 (6775) من طريق محمَّد بن عمر الواقدي عن عبد الله بن عامر الأسلمي عن محمَّد بن يحيى بن حبان قال: جاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بيت زيد يطلبه … فذكره مطولًا. وفيه: “سبحان الله العظيم مصرف القلوب”. الواقدي متروك الحديث.
ورواه سليم مولى الشعبي عن الشعبي أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فذكره وفيه: “سبحان الله مقلب القلوب”. أخرجه ابن عدي في الكامل (3/ 316). قلت: سليم ضعيف، والحديث مرسل. (ز).
وقال المؤلف في زاد المعاد (4/ 266): “وأما ما زعمه بعض من لم يقدر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حق قدره أنه ابتلي به في شأن زينب بنث جحش وأنه رآها فقال: “سبحان مقلب القلوب”، وأخذت بقلبه، وجعل يقول لزيد بن حارثة: أمسكها … فظن هذا الزاعم أن ذلك في شأن العشق وصنف بعضهم كتابًا في العشق، وذكر فيه عشق الأنبياء، وذكر هذه الواقعة. وهذا من جهل هذا القائل بالقرآن وبالرسل، وتحميله كلام الله ما لا يحتمله، ونسبته رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى ما برأه الله منه، فإن زينب … “. وانظر ما سيأتي من كلام المصنف على قصة زينب في ص (556) (ص).
(3) لم ترد “من” في ز.

(1/528)


فوق عرشه، وأنزل على رسوله: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37].
وهذا داود نبيّ الله لمّا كان تحته تسع وتسعون امرأة، ثم أحبّ تلك المرأة، فتزوّجها، وكمّل بها المائة! (1)
وقال الزهري: أول حبّ (2) كان في الإِسلام حبّ النبي – صلى الله عليه وسلم – عائشةَ (3)، وكان مسروق يسمّيها “حبيبة رسول ربِّ العالمين” (4).
__________
(1) أخرج القصة بطولها الطبري في تفسيره (23/ 150 – 151) وغيره من طريق يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك، فذكر قصة ذلك مطولًا. وهو حديث باطل لا يثبت.
وجاء نحو هذه القصة في تفسير الطبري أيضًا ( 23/ 146- 151) عن السدّي والحسن البصري ووهب بن منبه ومجاهد وعطاء الخراساني وعن ابن عباس ولا يصح عنه.
(2) من “ثم أحبّ تلك … ” إلى هنا ساقط من س.
(3) ز: “لعائشقه (ص). أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/ 44) من طريق الوليد بن محمَّد الموقري عن الزهري فذكره. ورواه الوليد أيضًا عن الزهري عن أنس.
أخرجه الدارقطني في الأفراد (2/ 220 – 221 – أطراف الغرائب). قلت: الحديث باطل موضوع، والوليد متروك الحديث. قال الشوكاني في الفوائد المجموعة (126): “رواه الدارقطني عن أنس مرفوعًا، وفي إسناده كذابان”.
ورواه محمَّد بن الزبير الحراني عن الزهري فذكره. أخرجه الخطيب في تاريخه (4/ 34). فيه محمَّد بن الزبير. قال ابن عدي: منكر الحديث عن الزهري الكامل (6/ 238).
(4) أخرجه ابن سعد في الطبقات (8/ 66) والإمام أحمد في العلل 2/ 411 (2845) وأبو نعيم في الحلية (2/ 44) وابن عبد البر في التمهيد (13/ 35) وغيرهم من طريق الأعمش وحبيب بن أبي ثابت عن مسلم أبي الضحى عن =

(1/529)


وقال أبو قيس مولى عبد الله بن عمرو: أرسلني عبد الله بن عمرو إلى أم سلمة أسألها: أكان النبيّ – صلى الله عليه وسلم – يقبل وهو صائم فقالت: لا. فقال: إنّ عائشة قالت: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يقبلها وهو صائم. فقالت أم سلمة: إنّ النبي – صلى الله عليه وسلم – كان إذا رأى عائشة لا يتمالك عنها (1).
وذكر سعد (2) بن إبراهيم، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: كان إبراهيم خليل الله – صلى الله عليه وسلم – يزور هاجَرَ في كلّ يوم من الشام على البُراق من
__________
= مسروق أنه كان إذا حدث عن عائشة قال: “حدثتني الصدّيقة بنت الصدّيق حبيبة حبيب الله المبرأة فلم أكذبها”. وسنده صحيح.
(1) أخرجه النسائي في الكبرى (3072) وأحمد 6/ 296 (26533) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3030) والطحاوي في شرح المعاني (2/ 93) والطبراني في الكبير (23/ رقم 389) وغيرهم من طريق موسى بن عُلَي بن رباح عن أبيه عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن أم سلمة.
قال ابن عبد البر في التمهيد (5/ 125): “هذا حديث متصل، لكنه ليس يجيء إلا بهذا الإسناد، وليس بالقوي. وهو منكر على أصل ما ذكرنا عن أم سلمة. وقد رواه عن موسى بن عُلَي: عبد الرحمن بن مهدي و … ، وما انفرد به موسى بن عُلي فليس بحجة، والأحاديث المذكورة عن أم سلمة معارضة له، وهي أحسن مجيئًا وأظهر تواترًا، وأثبت نقلًا منه”.
قلت: لموسى بن عُلي حديث آخر غريب شاذ نظير هذا تكلم فيه الأثرم وابن عبد البر. انظر الناسخ والمنسوخ للأثرم (185) والصيام من شرح العمدة لابن تيمية (2/ 569). (ز).
ومن أحاديث أم سلمة المعارضة له: ما رواه مسلم في كتاب الصيام (1108) عن عمر بن أبي سلمة أنه سأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: أيقبل الصائم؟ فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “سل هذه” (لأم سلمة) فأخبرته أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصنع ذلك.
(ص).
(2) ف: “سعيد”، تحريف.

(1/530)


شغفه بها وقلة صبره عنها (1).
وذكر الخرائطي (2) أنّ عبد الله بن عمر اشترى جارية رومية، فكان يحبّها حبًا شديدًا، فوقعت ذات يوم عن بغلة له، فجعل يمسح التراب عن وجهها، ويفدّيها (3). وكانت تكثر أن تقول له: يا بَطْرون، أنت قالون. تعني (4): يا مولاي أنت جيّد. ثم إنها هربت منه، فوجد عليها وجدًا شديدًا، وقال:
قد كنت أحسَبني قالونَ فانصرفَتْ … فاليوم أعلم أنّي غيرُ قالونِ
قال أبو محمَّد بن حزم: وقد أحبّ من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين كثير (5).
__________
(1) أخرجه الخرائطي في اعتلال القلوب (311) مطولًا. وفيه الواقدي، متروك الحديث. (ز) وانظر روضة المحبين (275).
(2) وكذا قال في روضة المحبين (278) أيضًا. وكذا عن الخرائطي في الواضح المبين (29)، ولم أجده في المطبوع من اعتلال القلوب (ص). أخرجه ابن عساكر في تاريخه (31/ 178) من طريق شيخ من أهل المدينة عن مالك قال، فذكره. وسنده لا يصح لجهالة هذا الشيخ، ولأجل الانقطاع بين مالك وابن عمر (ز).
(3) س، ل: “ويقبّلها”.
(4) س، ل، ز: “يعني”. ولم ترد الكلمة في ف.
(5) كذا ورد قول ابن حزم في الواضح المبين (30) وروضة المحبين (278). والذي في طوق الحمامة (5): “من الخلفاء المهديين والأئمة الراشدين”. وقد ذكر ابن حزم بعده عبد الرحمن بن معاوية، والحكم بن هشام، وعبد الرحمن بن الحكم من حكام الأندلس وبعض كبار رجالهم. وفي ف: “وقد أحب الخلفاء الراشدون والأئمة المهديّون كثيرًا”!

(1/531)


وقال رجل لعمر بن الخطاب: يا امير المؤمنين رأيتُ امرأةً, فعشقتُها. فقال: ذاك ما لا تملك (1).
فالجواب -وبالله التوفيق- أنّ الكلام في هذا الباب لا بد فيه من التمييز بين الواقع والجائز (2) والنافع والضارّ. ولا يُسجَل (3) عليه بالذمّ والإنكار ولا بالمدح والقبول من حيث الجملة (4). وإنما يتبين حكمه وينكشف أمره بذكر متعلَّقه، وإلا فالعشق من حيث هو لا يُحمَد ولا يُذَمّ. ونحن نذكر النافع من الحبّ والضارّ والجائز والحرام.
اعلم أنّ أنفع المحبة على الإطلاق وأوجَبها وأعلاها وأجلّها محبةُ مَن جُبلت القلوب على محبته، وفطرت الخليقة على تألّهه. وبها قامت الأرضَ والسماوات، وعليها فُطِرت المخلوقات. وهي سرّ شهادة أن لا إله إلا الله، فإنّ “الإله” هو الذي تألَهه القلوبُ بالمحبة والإجلال والتعظيم والذلّ والخضوع، وتعبدُه. والعبادة لا تصحّ إلا له وحده، و”العبادة” هي كمال الحبّ مع كمال الخضوع والذلّ. والشركُ في هذه العبودية من أظلم الظلم الذي لا يغفره الله. والله تعالى حيث لذاته من
جميع الوجوه، وما سواه وإنّما يُحَبّ تبعًا لمحبته.
__________
(1) الواضح المبين (30).
(2) ف: “الواقع الجائز”.
(3) س، ل: “لا يستعجل”. والمثبت من ز. وكذا في ف، ولكن يظهر أنه غُيّر.
وأسجل الحكم: أرسله. والمقصود أنه لا يحكم عليه مطلقًا بالمدح أو الذمّ.
قال المصنف في الصواعق المرسلة (791): “وأسجل عليهم بالكفر والنفاق”.
(4) انظر: روضة المحبين (310).

(1/532)


وقد دلّ على وجوب محبته سبحانه جميعُ (1) كتبه المنزلة، ودعوةُ جميع رسله، وفطرتُه التي فَطَر عبادَه عليها، وما ركَّب فيهم من العقول، وما أسبَغَ عليهم من النعَم- فإنّ القلوب مفطورة مجبولة على محبة من أنعَمَ عليها وأحسن إليها، فكيف بمن كلُّ (2) الإحسان منه، وما بخلقه جميعهم من نعمة فمنه (3) وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)} [النحل: 53]؟ – وما تعرّف به إلى عباده من أسمائه الحسنى وصفاته العُلا، وما دلّت عليه آثار مصنوعاته من كماله ونهاية جلاله (4) وعظمته.
والمحبة لها داعيان: الجمال والإجمال (5)، والربّ تعالى له الكمال المطلق من ذلك، فإنّه جميل يحبّ الجمال (6)، بل الجمال كلّه له، والإجمال (7) كلّه منه. فلا يستحقّ أن يُحَبَّ لذاته من كل وجه سواه. قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ
__________
(1) “فإنما يحبُ … جميع” ساقط من ل.
(2) س: “كان”، تحريف.
(3) ف: “فمن الله”.
(4) كذا في س. وفي ف، ل: “من كماله وبهائه وجلاله” وفي ز: “من جماله وبهائه وجلاله”.
(5) انظر مدارج السالكين (3/ 288). وأراد بالإجمال: “الإحسان والأنعام. وفي ف: “والإجلال” تحريف.
(6) العبارة “والربّ تعالى … الجمال” ساقطة من ف.
(7) ف: “الإجلال”، تحريف.

(1/533)


يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)} [المائدة: 54 – 56].
والولاية أصلها الحبّ، فلا موالاة إلا بحبّ. كما أنّ العداوة أصلها البغض. واللهُ وليّ الذين آمنوا، وهم أولياؤه، فهم يوالونه بمحبتهم له، وهو يواليهم بمحبته لهم. فالله (1) يوالي عبدَه بحسب محبته له.
ولهذا أنكر سبحانه على من اتخذ من دونه أولياءَ، بخلاف من وإلى أولياءه، فإنّه لم يتخذهم من دونه، بل موالاته (2) لهم من تمام موالاته.
وقد أنكر على من سوّى بينه وبيّن غيره في المحبة، وأخبر أن من فعل ذلك فقد اتخذ من دونه أندادًا يحبّهم (3) كحبّ الله، والذين آمنوا أشدّ حبًّا لله. وأخبر عمّن سوّى بينه وبيّن الأنداد في الحبّ أنّهم يقولون في النار لمعبوديهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)} [الشعراء: 97، 98].
وبهذا التوحيد في الحبّ أرسل الله سبحانه جميع رسله، وأنزل جميع كتبه، وأطبقت عليه دعوةُ الرسل من أولهم إلى آخرهم، ولأجله خلق السماوات والأرض والجنة والنار، فجعل الجنّة لأهله، والنار للمشركين به فيه (4).
__________
(1) ز: “وإنه”.
(2) ف: “فإنهم لم يتخذوهم من دونه بل موالاتهم”.
(3) س، ف: “يحبونهم”.
(4) “فيه” ساقط من ف.

(1/534)


وقد أقسم النبي – صلى الله عليه وسلم – أنّه “لا يؤمن عبدٌ حتى يكونَ هو أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين” (1) فكيف بمحبة الربّ جلّ جلاله؟
وقال لعمر بن الخطاب: “لا حتّى أكون أحبَّ إليك من نفسك” (2).
أي لا تؤمن حتى تصل محبتك لي إلى هذه الغاية.
وإذا كان النبي – صلى الله عليه وسلم – أولى بنا من أنفسنا في المحبة ولوازمها، أفليس الربّ -جلّ جلاله، وتقدّست أسماؤه، وتبارك اسمه، وتعالى جدّه، ولا إله غيره- أولى بمحبّيه (3) وعباده من أنفسهم؟
وكلُّ ما منه إلى عبده المؤمن يدعوه إلى محبته، مما يحبّ العبد أو يكره. فعطاؤه ومنعه (4)، ومعافاته وابتلاؤه، وقبضه وبسطه، وعدله وفضله، وإماتته وإحياؤه، ولطفه وبرّه، ورحمته وإحسانه، وستره وعفوه، وحلمه وصبره على عبده، وإجابته لدعائه، وكشف كربه، وإغاثة لهفته، وتفريج كربته -من غير حاجة منه إليه، بل (5) مع غناه التامّ عنه من جميع الوجوه (6) – كلُّ ذلك (7) داع للقلوب إلى تألّهه ومحبته.
بل تمكينُه عبدَه من معصيته، وإعانتُه عليه وسَترُه حتى يقضي وطره
__________
(1) تقدّم تخريجه (464).
(2) تقدم تخريجه (464).
(3) ل، س: “بمحبته”، تصحيف.
(4) ف: “عطاؤه ومنعه”. وقد سقط “ومنعه” من ز.
(5) “بل” ساقطة من ز، و”مع” ساقطة من س.
(6) ف: “كل الوجوه”.
(7) ل: “وكل ذلك” خطأ، وقد سقط منها “داعٍ”.

(1/535)


منها، وكلاءته وحراسته له وهو يقضي وطره من معصيته، بعينه، ويستعين عليها بنعمه = من أقوى الدواعي إلى محبته.
فلو أنّ مخلوقًا فعل بمخلوق أدنى شيء من ذلك لم يملك قلبَه عن محبته، فكيف لا يحبّ العبد بكل قلبه وجوارحه من يحسن إليه على الدوام بعدد الأنفاس، مع إساءته؟ فخيره إليه نازل، وشرّه إليه صاعد، يتحبّب إليه بنعمه وهو غنيّ عنه، والعبد يتبغّض إليه بالمعاصي وهو فقير إليه (1)! فلا إحسانُه وبرّه وإنعامه عليه يصدّه عن معصيته، ولا معصيةُ العبد ولؤمُه يقطع إحسانَ ربّه عنه!
فألأمُ اللؤم تخلّفُ القلوب عن محبة مَن هذا شأنه، وتعلّقُها بمحبة سواه!
وأيضًا فكلّ من تحبّه من الخلق ويحبّك إنّما يريدك لنفسه وغرضه منك، والله سبحانه وتعالى يريدك لك، كما في الأثر الإلهي: “عبدي، كلٌّ يريدك لنفسه، وأنا أريدك لك” (2) فكيف لا يستحي العبد أن يكون ربه له (3) بهذه المنزلة، وهو مُعرِض عنه، مشغول بحبّ غيره، قد استغرق (4) قلبَه محبةُ سواه؟
وأيضًا فكلّ من تُعامله من الخلق إن لم يربح عليك لم يُعاملك،
__________
(1) مأخوذ من “أثر إلهي” قال وهب بن منبه إنه قرأه في بعض الكتب. انظر حلية الأولياء (4/ 31). ونقله المؤلف في غير موضع. انظر: زاد المعاد (2/ 409)، ومدارج السالكين (1/ 464).
(2) ذكره المصنف أيضًا في مدارج السالكين (3/ 407).
(3) ف: “له ربه”.
(4) س، ل: “وقد استغرق”.

(1/536)


ولا بدّ له (1) من نوع من أنواع الربح. والربّ تعالى إنّما يعاملك لتربحَ أنت عليه أعظمَ الربح وأعلاه. فالدرهم بعشرة أمثاله إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والسيئة بواحدة، وهي أسرع شيء محوًا.
وأيضًا فهو سبحانه خلقك لنفسه، وخلق كلَّ شيء لك في الدنيا والآخرة. فمن أولى منه باستفراغ الوسع في محبته وبذل الجهد في مرضاته؟
وأيضًا فمطالبك بل مطالب الخلق كلهم جميعًا لديه، وهو أجود الأجودين، وأكرم الأكرمين، وأعطى عبده قبل أن يسأله فوق ما يؤمّله. يشكر القليل من العمل وينمّيه، ويغفر الكثير من الزلل ويمحوه (2). {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن: 29]. لا يشغله سمع عن سمع، ولا يغلّطه كثرة المسائل، ولا يتبرّم بإلحاح الملِحّين، بل يحبّ الملحّين في الدعاء. ويُحِبّ أن يُسألَ، ويغضب (3) إذا لم يُسال. يستحي من عبده حيث (4) لا يستحي العبد منه، ويستره حيث لا يستر نفسه، ويرحمه حيث لا يرحم نفسه. دعاه بنعمه وإحسانه (5) وأياديه إلى كرامته ورضوانه، فأبى. فأرسل رسله في طلبه، وبعث إليه معهم عهدَه. ثم نزل سبحانه إليه بنفسه، وقال: “من يسألني
__________
(1) “له” ساقط من س.
(2) بعده في س، ف: “ويسأله”.
(3) ف: “فيغضب”.
(4) ف: “من حيث”. والعبارة “يستحي … حيث لا” ساقطة من س.
(5) س: “دعاه بإحسانه”.

(1/537)


فأعطيه؟ من يستغفرني فاغفر له؟ ” (1).
أدعوكَ للوصل تأبَى … أبعَثْ رسولي في الطلَبْ (2)
أنزِلْ إليكَ بنفسي … ألقاكَ في النُّوّامْ! (3)
وكيف لا تحبّ القلوبُ من لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيّئات إلا هو، ولا يجيب الدعَوات إلا هو، ولا يُقيل (4) العثَرات ويغفر الخطيئات ويستر العورات ويكشف الكرُبات ويُغيث اللهفات ويُنيل الطلَبات سواه؟
فهو “أحقُّ مَن ذُكِر، وأحقّ من شُكِر، وأحقّ من عُبد، وأحقّ من حُمِد، وأنصَر من ابتُغِي، وأرأف من ملَك، وأجود من سئلَ، وأوسع من أعطى، وأرحم من استُرْحِم، وأكرم من قُصِد” (5)، وأعزّ من التُجئ إليه، وأكفى من تُوُكِّل عليه (6). أرحَمُ بعبده من الوالدة بولدها (7)، وَأشدّ
__________
(1) سبق تخريجه (233).
(2) ل: “يطلبك”.
(3) لم يرد هذا الشعر في س. وذهب على الناشرين أنه نظم، فأثبتوه نثرًا!
(4) ف: “ومن يقيل”. وفي ل، ز: “ولا يجيب الدعوات ويقيل العثرات”.
(5) هذا لفظ حديث أخرجه الطبراني في الكبير وفي الدعاء عن أبي أمامة الباهلي أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان إذا أصبح قال: …. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 117): رواه الطبراني وفيه فضالة بن عبيد مجمع على ضعفه.
وقد ذكره ابن القيم مضمّنًا في الوابل الصيب (153) أيضًا.
(6) س، ف: “توكل العبد عليه”. ل: “توكل عليه العبد”.
(7) كما جاء في حديث عمر رضي الله عنه. أخرجه البخاري في الأدب، باب رحمة الولد … (5999)؛ ومسلم في التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى =

(1/538)


فرحًا بتوبة التائب من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة، إذا يئس من الحياة ثم وجدها (1).
وهو الملِك لا شريك له، والفرد فلا ندّ (2) له. كلّ شيء هالك إلا وجهه. لن يُطاع إلا بإذنه، ولن يُعصى إلا بعلمه. يُطاع فيَشْكرُ، وبتوفيقه ونعمته أطِيعَ. ويُعصَى فيغفر ويعفو (3)، وحقُّه أضِيعَ.
فهو أقرب شهيد وأجلّ حفيظ. وأوفى وفيّ بالعهد، وأعدل قائم بالقسط. حال دون النفوس، وأخذ بالنواصي، وكتب الآثار، ونسخ الآجال. فالقلوب له مفضية، والسرّ عنده علانية. والغيب لديه (4)
مكشوف، وكلّ أحد إليه ملهوف (5).
عنَتِ الوجوه لنور وجهه، وعجزت القلوب عن إدراك كنهه، ودلّت الفِطَر والأدلّة كلّها على امتناع مثله وشبهه. أشرقت لنور وجهه الظلمات، واستنارت له الأرض والسماوات، وصلحت عليه جميع المخلوقات. “لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام. يحفظ القسط، ويرفعه. يُرفَع إليه عملُ الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل. حجابه النور، لو كشفه لأحرقتْ سُبُحاتُ وجهه ما انتهى إليه
__________
= (2754).
(1) يشير إلى حديث ابن مسعود رضي الله عنه. أخرجه البخاري في الدعوات، باب التوبة (6358)، ومسلم في التوبة، باب في الحض على التوبة (2744).
(2) س، ل: “لاندّ”.
(3) س: “فيعفو ويغفر”. وسقط “ويعفو” من ز.
(4) ز: “عنده”.
(5) بعض هذه الألفاظ وارد في حديث أبي أمامة السابق.

(1/539)


بصره من خلقه” (1).
ما اعتاض باذلُ حبّه لسواه … مِن عوضٍ ولو ملَكَ الوجودَ بأسرِهِ
فصل
وهاهنا أمر عظيم يجب على اللبيب الاعتناء به، وهو أنّ كمال اللذة والفرح والسرور ونعيم القلب وابتهاج الروح تابع لأمرين:
أحدهما: كمال المحبوب في نفسه وجماله وأنّه أولى بإيثار الحبّ (2) من كلّ ما سواه.
والأمر الثاني: كمال محبته، واستفرغ الوسع في حبّه، وإيثار قربهِ والوصولِ إليه على كلّ شيء.
وكلّ عاقل يعلم أنّ اللذة بحصول المحبوب بحسب قوة محبته. فكلّما كانت المحبة أقوى (3) كانت لذة المحبّ (4) أكمل. فلذة من اشتد ظمؤه بإدراك الماء الزلال، ومن اشتدّ جوعه بأكل الطعام الشهيّ ونظائر ذلك على حسب شوقه وشدة إرادته ومحبته.
وإذا (5) عُرف هذا فاللذة والسرور والفرح أمر مطلوب في نفسه، بل هو مقصود كلّ حيّ، وإذا كانت اللذة مطلوبة لنفسها، فهي
__________
(1) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. أخرجه مسلم في الإيمان، باب في قوله عليه السلام: إن الله لا ينام … (179).
(2) ل، حاشية س: “المحبة”.
(3) “أقوى” ساقط من ز.
(4) ف: “الحب”.
(5) س: “فإذا”.

(1/540)


تُذَمّ (1) إذا أعقبَتْ ألمًا أعظمَ منها، أو منعتْ لذةً خيرًا وأجلّ منها. فكيف إذا أعقبت أعظمَ الحسرات، وفوّتت أعظم اللذّات والمسرّات؟ وتُحمَد إذا أعانت على لذة عظيمة دائمة مستقرّة لا تنغيص فيها ولا نكد بوجهٍ ما (2)، وهي لذة الآخرة ونعيمها وطيب العيش فيها (3). قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى: 16، 17]، وقال السحرة لفرعون لمّا آمنوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)} (4) [طه: 72، 73].
والله سبحانه خلق الخلق ليُنيلَهم هذه اللذة الدائمة في دار الخلد، وأما الدنيا فمنقطعة، ولذّاتها لا تصفو أبدًا ولا تدوم، بخلاف الآخرة فإنّ لذّاتها دائمة، ونعيمها خالص من كل كدر وأم، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين مع الخلود أبدًا. ولا تعلم نفس ما أخفى الله لعباده فيها (5) من قرة أعين، بل فيها ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر.
وهذا المعنى الذي قصده الناصح لقومه بقوله: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)} (6) [غافر: 38، 39] فأخبرهم أنّ الدنيا متاع
__________
(1) ف: “ندمٌ”، تصحيف.
(2) ل: “وتنكد بوجه”.
(3) “ولا نكد … فيها” ساقط من س.
(4) في النسخ: “اقض” دون الفاء.
(5) ف: “فلا تعلم نفس ما أخفي لهم”.
(6) في النسخ: “اتبعوني، بإثبات الياء، وقد أثبتها أبو عمرو وقالون في الوصل، =

(1/541)


يُسْتَمْتعَ (1) بها إلى غيرها، وأنّ الآخرة هي المستقَرّ.
وإذا عُرِف أنّ لذّات الدنيا ونعيمها متاع ووسيلة إلى لذّات الآخرة (2)، ولذلك خُلقت الدنيا ولذّاتها، فكلّ لذة أعانت على لذة الآخرة وأوصلتْ إليها لم يُذَمَّ تناولُها، بل يُحمَد بحسب إيصالها إلى لذّة الآخرة.
إذا عُرِف هذا، فأعظمُ نعيم الآخرة ولذّاتها: النظرُ إلى وجه الربّ جلّ جلاله، وسماعُ كلامه منه، والقربُ منه؛ كما ثبت في الصحيح في حديث الرؤية: “فوالله ما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه” (3).
وفي حديث آخر: “إنّه إذا تجلّى لهم ورأوه نسُوا ما هم فيه من النعيم” (4).
وفي النسائي ومسند الإِمام أحمد من حديث عمّار بن ياسر عن
__________
= وابن كثير في الحالين. الإقناع (755).
(1) س، ل: “يتمتع”.
(2) ف: “لذة الآخرة”.
(3) ف: “إلى وجهه الكريم”. وهو من حديث صهيب رضي الله عنه. أخرجه مسلم في الإيمان” باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى (181).
(4) أخرجه ابن ماجه (184) والعقيلي في الضعفاء (2/ 274 – 275) وابن أبي الدنيا في صفة الجنّة (98) وغيرهم بنحوه. فيه الفضل بن عيسى الرقاشي متروك الحديث. والحديث تكلم فيه العقيلي وابن عدي وابن الجوزي وابن كثير والبوصيري. وجاء عن الحسن البصري بمثله عند الآجري في الشريعة (572). وفي سنده عمر بن مدرك القاص. قال يحيى بن معين: كذاب. انظر الجرح (6/ 136) ولسان الميزان (6/ رقم 5690).

(1/542)


النبي – صلى الله عليه وسلم – في دعائه: “وأسألك لذّةَ النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك” (1).
وفي كتاب السنّة لعبد الله ابن الإِمام أحمد (2) مرفوعًا: “كأنّ الناس يوم القيامة لم يسمعوا القرآن. إذا سمعوه (3) من الرحمن، فكأنّهم (4) لم يسمعوه قبل ذلك”.
وإذا عُرِف هذا، فأعظمُ الأسباب التي تُحصِّل هذه اللذّةَ هو أعظمُ لذّات الدنيا على الإطلاق، وهو لذّةُ معرفته سبحانه ولذّةُ محبته، فإن ذلك هو جنّة الدنيا ونعيمها العالي؛ ونسبةُ لذّاتها الفانية إليه كتَفْلةٍ في بحرٍ، فإنّ الروح والقلب والبدن إنّما خلق لذلك. فأطيبُ ما في الدنيا معرفتُه ومحبّتُه، وأنشد ما (5) في الجنّة رؤيتُه ومشاهدتُه. فمحبّتُه ومعرفتُه قرّة العيون، ولذة الأرواح، وبهجة القلوب، ونعيم الدنيا وسرورها. بل لذّاتُ الدنيا القاطعةُ عن ذلك تنقلب آلامًا وعذابًا، ويبقى صاحبها في
__________
(1) سبق تخريجه (428 – 429).
(2) لم أجده في المطبوع. والحديث أخرجه الرافعي في التدوين (2/ 403) من طريق إسماعيل بن رافع عن محمَّد بن كعب القرظي عن أبي هريرة قال قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “كأن الناس لم يسمعوا القرآن حين يسمعونه من الرحمن يتلوه عليهم يوم القيامة”.
ورواه بعضهم من قول محمَّد بن كعب القرظي قال: “كان الناس لم يسمعوا القرآن قبل يوم القيامة حين يتلوه الله عليهم”. أخرجه أبو الشيخ الأصبهاني (الدر المنثور 3/ 13).
والمرفوع لا يصح؛ لأن فيه إسماعيل بن رافع المدني ضعيف.
(3) ز: “سمعوا”.
(4) ف: “كانهم”.
(5) س: “والدنيا”، تحريف. ولمّا أشكلت الكلمة على بعض من قرأ النسخة ضرب عليها ثلاث مرَّات!

(1/543)


المعيشة الضَّنْك، فليست الحياة الطيبة إلا بالله.
وكان بعض المحبّين تمرّ به أوقات، فيقول: إن كان أهل الجنّة في مثل هذا، إنّهم لفي عيش طيّب! (1)
وكان غيره يقول: لو علم الملوكُ ما نحن فيه لَجالَدونا عليه بالسيوف (2).
وإذا كان صاحب المحبة الباطلة التي هي عذاب على قلب المحبّ (3) يقول في حاله:
وما الناس إلا العاشقون ذوو الهوى … ولا خيرَ فيمن لا يحِبّ ويعشقُ (4)
ويقول الآخر (5):
أفِّ لِلدّنيا متى ما لم يكن (6) … صاحبُ الدنيا محِبًّا أو حبيبا (7)
__________
(1) سبق في ص (186).
(2) سبق أيضًا في ص (186).
(3) ف: “كان المحبة … عذاب القلب والمحب”. وفي ل: “على قول المحب”.
(4) البيت للعباس بن الأحنف في ديوانه (222). وقد عزاه المؤلف إليه في روضة المحبين (282). وانظر منازل الأحباب (50) ومدارج السالكين (3/ 212).
(5) بل صاحب البيت السابق نفسه، كما في منازل الأحباب (50). وانظر ديوان العباس (58).
(6) ز: “إذا ما لم يكن”. وكذا في المنازل والديوان. وفي ل: “متى لم يكن”، خطأ.
(7) كذا ورد البيت في س، ومنازل الأحباب. وهي رواية مغيّرة، فإن الأبيات التي منها هذا البيت من الضرب الثالث من الرمل، وعجزه في الديوان (58) هكذا:
صاحبُ الدنيا حبيبًا أو محبّ
والذي في النسخة س والمنازل من الضرب الأول. وفي خا: “محبًّا أو حبيبْ”، وفي النسخ الأخرى: “محبّ أو حبيبْ”، وهما من الضرب الثاني!

(1/544)


ويقول الآخر:
ولا خيرَ في الدنيا ولا في نعيمها … وأنتَ وحيدٌ مفرَدٌ غيرُ عاشقِ (1)
ويقول الآخر:
اسكُنْ إلى سكَنٍ تلَذُّ بحبّه … ذهب الزمانُ وأنتَ منفردُ (2)
ويقول الآخر:
تشكّى المحبّون الصبابةَ ليتني … تحمّلتُ ما يلقَون مِن بينهم وحدي
فكانت لقلبي لذّةُ الحبّ كلّها … فلم يلقَها قبلي محِبٌّ ولا بعدي (3)
فكيف بالمحبة التي هي حياة القلوب وغذاء الأرواح، وليس للقلب
__________
(1) منازل الأحباب (51). وانظر: روضة المحبين (283)، ومدارج السالكين (3/ 312).
(2) البيت لبشار بن برد من قصيدة في ديوانه (ابن عاشور: 3/ 62، إحسان عباس: 269) مطلعها:
دَعْ ذكرَ عبدةَ إنه فَنَدُ … وتعزَّ ترقدُ مثلَ ما رقدوا
ورواية صدر البيت فيه:
فاسكُنْ إلى سكَنٍ تُسَرُّ به
ويروى: “تلذّ به”. انظر: ديوانه (العلوي 66، الحاشية). فالأبيات من الضرب الرابع من الكامل. والذي ورد هنا من الضرب الثاني. وفي روضة المحبين (284): ” … وأنت خالٍ مفردُ” وفي مدارج السالكين (3/ 212): “وأنت منفرد به” من الضرب الأول. ولا أدري أذلك كله من تصرّف ذاكرة المؤلف أم فيه نصيب للناسخين والناشرين أيضًا؟
(3) سبق البيتان في ص (427).

(1/545)


لذّة ولا نعيم ولا فلاح ولا حياة إلا بها، وإذا فقدها القلب كان ألمه أعظم من ألم العين إذا فقدت نورها، والأذنِ إذا فقدت سمعها، والأنفِ إذا فقد شمّه، واللسانِ إذا فقد نطقَه؟ بل فسادُ القلب إذا خلا من محبة فاطره وبارئه وإلهه الحقّ أعظمُ من فساد البدن (1) إذا خلا من الروح. وهذا أمر
لا يصدّق به إلا من فيه حياة، و”ما لجرحٍ بميِّت إيلامُ” (2)!
والمقصود أنّ أعظم لذّات الدنيا هو السبب الموصل إلى أعظم لذّة في الآخرة.

ولذّات الدنيا ثلاثة أنواع:
فأعظمها وأكملها: ما أوصل إلى لذة الآخرة. ويثاب الإنسان على هذه اللذة أتمّ ثواب. ولهذا كان المؤمن يثاب على ما يقصد به وجهَ الله من أكله وشربه ولبسه ونكاحه، وشفاء غيظه بقهر (3) عدو الله وعدوّه، فكيف بلذة إيمانه ومعرفته بالله، ومحبته له (4)، وشوقه إلى لقائه، وطمعه في رؤية وجهه الكريم في جنات النعيم؟
النوع الثاني: لذة تمنع لذة الآخرة، وتُعقِب آلامًا أعظمَ منها، كلذّة الذين اتخذوا من دون الله أوثانًا مودةَ بينهم في الحياة الدنيا، يحبّونهم كحبّ الله، ويستمتعون بعضهم ببعض، كما يقولون في الآخرة إذا لقُوا ربهم: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ
__________
(1) “إذا خلا … البدن” ساقط من س.
(2) للمتنبى، وقد سبق في ص (133).
(3) ف: “بموت”.
(4) “له” ساقط من ز. وكذلك “بالله” من ل.

(1/546)


الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)} [الأنعام:128 – 129]، ولذّةِ أصحاب الفواحش والظلم والبغي في الأرض والعلوّ بغير الحق.
وهذه اللذّات في الحقيقة إنّما هي استدراج من الله لهم، ليذيقهم بها أعظم الآلام، ويحرمهم بها أكملَ اللذّات، بمنزلة من قدّم لغيره طعامًا لذيذًا مسمومًا يستدرجه به (1) إلى هلاكه.
قال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)} [الأعراف: 182، 183].
قال بعض السلف في تفسيرها: كلّما أحدثوا ذنبًا أحدثنا لهم نعمةً (2). {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)} [الأنعام: 44، 45].
وقال تعالى في أصحاب (3) هذه اللذّات: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)} [المؤمنون: 55، 56].
وقال في حقّهم: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: 55].
وهذه اللذّات تنقلب آخرًا آلامًا من أعظم الآلام، كما قيل:
__________
(1) “به” ساقط من ز.
(2) جاء عن الضحاك قال: “كلما جددوا معصية جددنا لهم نعمة”. ذكره الواحدي في الوسيط (2/ 431) والبغوي في تفسيره (3/ 308). وجاء عن عبد الله بن داود الخريبي أخرجه ابن أبي الدنيا في الشكر (116)، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (7/ 7) والبيهقي في الأسماء والصفات (1024)، وسنده صحيح. وجاء عن يحيى بن المثنى عن أبي الشيخ (الدر المنثور 3/ 272).
(3) ل: “لأصحاب”.

(1/547)


مآربُ كانت في الحياة لأهلها … عِذابًا فصارت في المعاد عَذابا (1)

النوع الثالث: لذة لا تعقِبُ لذةً في دار القرار ولا ألمًا، ولا تمنع أصل لذة دار القرار، وإن منعَتْ كمالَها (2). وهذه اللذة المباحة التي لا يستعان بها على لذة الآخرة. فهذه زمانها يسير، ليس لتمتُّعُ النفس بها قدر، ولابدّ أن تشغل (3) عمّا هو خير وأنفع منها (4).
وهذا القسم هو الذي عناه النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله: “كلّ لهو يلهو به الرجل فهو باطل، إلا رميَه بقوسه، وتأديبَه فرسه، وملاعبتَه امرأته؛ فإنهنّ من الحقّ” (5).
فما أعان على اللذة المطلوبة لذاتها فهو حقّ، وما لم يعن عليها فهو باطل (6).
فصل
فهذا الحبّ لا يُنكَر ولا يُذَمّ، بل هو أحمد أنواع الحب (7). . وكذلك
__________
(1) س: “فصارت في الممات” وقد سبق البيت في ص (404).
(2) ز: “لذة كمالها”.
(3) س: “تشتغل”.
(4) “منها” ساقط من ف.
(5) أخرجه أبو داود (2513) والترمذي (1637) والنسائي (3580) وابن ماجه (2811) وأحمد في المسند (4/ 144) والحاكم في المستدرك (2467). من حديث عقبة بن عامر الجهني. قال الترمذي: “هذا حديث حسن”. وفي نسخة: “لهذا حديث حسن صحيح”. وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
(6) أشار شيخ الإِسلام إلى هذا المعنى مرارًا في الفتاوى وغيرها.
(7) ف: “المحبة”.

(1/548)


حبّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإنما نعني المحبة الخاصّة، وهي التي تشغل قلب المحبّ (1) وفكره وذكره لمحبوبه، وإلا فكلّ مسلم في قلبه محبةٌ لله (2) ورسوله، لا يدخل في الإِسلام إلا بها. والناس متفاوتون في درجات هذه المحبة تفاوتًا لا يحصيه إلا الله، فبين محبة الخليلين ومحبة غيرهما ما بينهما.
فهذه المحبة التي تلطّف الروح (3)، وتخفّف أثقال التكاليف، وتسخّي البخيل، وتشجّع الجبان، وتصفّي الذهن، وتروّض النفس، وتطيّب الحياة على الحقيقة، لا محبة الصور المحرّمة. وإذا بُليت السرائر يوم اللقاء كانت سريرةُ صاحبها من خير (4) سرائر العباد، كما قيل:
سيبقى لكم في مضمَر القلبِ والحشا … سريرةُ حُبٍّ يومَ تُبلَى السرائرُ (5)
وهذه المحبة التي تنوِّر الوجه، وتشرح الصدر، وتحيي القلب.

وكذلك محبة كلام الله، فإنّه من علامة محبّة الله. وإذا أردت أن تعلم (6) ما عندك وعند غيرك من محبة الله، فانظر إلى محبة القرآن (7) من
__________
(1) ز: “قلبه”.
(2) س، ف: “محبة الله”.
(3) “الروح” من ف.
(4) ل: “خير” دون “من”.
(5) ف: “سرائر حبّ”. والبيت للأحوص الأنصاري. انظر: شعره المجموع (145). وقد تمثل المؤلف به في روضة المحبين (405) والتبيان (66).
(6) ف: “أن تعرف”، وهو ساقط من س.
(7) ما عدا ز: “فانظر محبة القرآن”.

(1/549)


قلبك، والتذاذكِ بسماعه أعظمَ من التذاذ أصحاب (1) الملاهي والغناء المطرب (2) بسماعهم، فإنه من المعلوم أنّ من أحبّ محبوبًا كان كلامه وحديثه أحبَّ شيءٍ إليه، كما قيل:
إنْ كنتَ تزعُم حُبّي … فلِمْ هجرتَ كتابي
أمَا تأمّلتَ ما فيـ … ـهِ مِن لذيذِ خطابي (3)
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: لو طهرتْ قلوبنا لما شبعَتْ (4) من كلام الله (5).
وكيف يشبع المحِبُّ من كلام محبوبه، وهو غاية مطلوبه! وقال النبي – صلى الله عليه وسلم – يومًا لعبد الله بن مسعود: “اقرأ عليّ”، فقال: أقرأ عليك، وعليك أنزِل؟ فقال: “إنّي أحبّ أن أسمعه من غيري”. فاستفتح، وقرأ سورة النساء، حتّى إذا بلغ قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)} [النساء: 41] قال: “حسبك”. فرفع رأسه، فإذا عينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تذرِفان من البكاء” (6).
__________
(1) “أصحاب” ساقط من ز.
(2) ف: “الغناء والطرب”.
(3) البيتان في روضة المحبين (312).
(4) س، ف: “ما شبعت”.
(5) أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائده على الزهد (678) وفي زوائده على فضائل الصحابة (775) ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (7/ 272، 300)، من طريق سفيان بن عيينة قال: قال عثمان بن عفان فذكره. وسنده ضعيف للانقطاع.
(6) أخرجه البخاري في فضائل القرآن، باب البكاء عند قراءة القرآن (5055)، ومسلم في صلاة المسافرين، باب فضل استماع القرآن (805).

(1/550)


وكان الصحابة إذا اجتمعوا وفيهم أبو موسى يقولون: يا أبا موسى ذكّرنا ربَّنا، فيقرأ وهم يستمعون (1).
فلمحبّي القرآن من الوجد والذوق واللذة والحلاوة والسرور أضعافُ ما لمحبي السماع الشيطاني. فإذا رأيت الرجل: ذوقَه وجدَه وطربَه ونشوتَه (2) في سماع الأبيات دون سماع الآيات، وفي سماع الألحان دون سماع القرآن، وهو كما قيل:
تُقرا عليكَ الختمَه (3) … وأنتَ جامِدْ كالحجَرْ
وبيتٌ من الشعرِ يُنْشَدْ (4) … تَميلُ كالنَّشْوانْ (5)
__________
(1) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن (79) والدارمي في سننه (3539،3536) وابن حبان في صحيحه (7196) وأبو نعيم في الحلية (1/ 258) والبيهقي في الكبرى (10/ 231) وغيرهم من طرق عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوت قال: وكان عمر بن الخطاب، فذكره. وسنده ضعيف للانقطاع، فأبو سلمة لم يدرك عمر بن الخطاب. انظر جامع التحصيل (378).
ورواه جعفر بن برقان عن حبيب بن أبي مرزوق قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب، فذكره. ورواه أبو نضرة المنذر بن مالك العبدي قال: قال عمر لأبي موسى، فذكره. أخرجهما ابن سعد في الطبقات (4/ 109).
قلت: حبيب يروي عن نافع وعروة وعطاء، فهو لم يدرك عمر. وأبو نضرة سمع من صغار الصحابة كابن عباس وأبي سعيد الخدري فلعله تلقّاه منهم.
وهذا يدل على أن لهذا الأثر أصلًا، والله أعلم.
(2) ف: “شوقه”. ل: “تشوقه”، وكلاهما تصحيف.
(3) س:”يقرأ”.
(4) في س، ل: “بيت” دون الواو قبلها. وفي ف: “وبيت شعر”. وفي خب: “بيت الشعر”.
(5) ف: “فتميل”. ل: “كالسكران”.

(1/551)


فهذا من أقوى الأدلّة على فراغ قلبه من محبة الله وكلامه، وتعلّقه بمحبة سماع الشيطان؛ والمغرور يعتقد أنّه على شيء!
ففي محبة الله وكلامه ورسوله أضعاف أضعاف ما ذكر (1) السائل من فوائد العشق ومنافعه، بل لا حبَّ على الحقيقة أنفع منه؛ وكل حب سوى ذلك باطل، إنْ لم يُعِنْ عليه ويشوِّق المحبَّ (2) إليه.
فصل
وأما محبّة النِّسْوان فلا لوم على المحِبّ فيها، بل هي من كماله (3). وقد امتن الله سبحانه بها (4) على عباده فقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)} [الروم: 21]. فجعل المرأة سكنًا للرجل يسكن قلبه إليها، وجعل بينهما خالص الحبّ، وهو المودة المقترنة بالرحمة.
وقد قال تعالى عقيب ذكره ما أحلّ لنا من النساء وما حرّم منهن: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النساء: 26 – 28].
ذكر سفيان الثوري في تفسيره عن ابن طاووس عن أبيه:
__________
(1) ف: “طلب”.
(2) ف: “يسوق” بالمهملة. وفي ز: “يسوق المحبة”.
(3) ف: “هي كماله”.
(4) ف: “امتن … ” بإسقاط “وقد”. و”بها” ساقط من س.

(1/552)


قال (1): إذا نظر إلى النساء لم يصبر (2).
وفي الصحيح من حديث جابر عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: أنّهّ رأى امرأةً، فأتى زينب، فقضى حاجته منها، وقال: “إنّ المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأةً فأعجبته فليأتِ أهلَه، فإنّ ذلك يرُدّ ما في نفسه” (3).
ففي هذا الحديث عدة فوائد:
منها: الإرشاد إلى التسلّي عن المطلوب بجنسه، كما يقوم الطعام (4) مقام الطعام، والثوب مقام الثوب.
ومنها: الأمر بمداواة الإعجاب بالمرأة المورِثِ لشهوتها بأنفع الأدوية، وهو قضاء وطره من أهله، وذلك ينقض شهوته لها.
وهذا كما أرشد المتحابَّين إلى النكاح، كما في سنن ابن ماجه (5)
__________
(1) ف: “كان”. س، ل: “قال: كان”.
(2) لم أجده في المطبوع. والذي فيه (93): “سفيان عن معمر عن طاوس في قوله: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} قال: من أمر النساء”. كذا في تفسيره.
والصواب: “سفيان عن معمر عن ابن طاووس عن طاووس”. هكذا أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (1/ رقم 553) والطبري (5/ 30) وغيرهما. فلعل أبا حذيفة راوي تفسير الثوري وهم فيه أو سقط من الناسخ. والذي ذكره المؤلف عن الثوري أخرجه الخرائطي في اعتلال القلوب (117) وابن الجوزي في ذم الهوى (164)، وسنده صحيح.
(3) أخرجه مسلم في النكاح، باب ندب من رأى امرأة … (1403).
(4) ف: “كما تقدّم، كقيام الطعام”.
(5) برقم (1847). وأخرجه ابن أبي حاتم في العلل (2252) والعقيلي في الضعفاء (4/ 134) والطبراني (11/ رقم 11009) وتمام في فوائده (الروض =

(1/553)


مرفوعًا: “لم يُرَ للمتحابين مثلُ النكاح”.
فنكاح المعشوقة هو دواء العشق الذي جعله الله (1) دواءه شرعًا وقدرًا. وبه تداوى داود – صلى الله عليه وسلم -، ولم يرتكب نبي الله مرَّمًا، وإنّما تزوّج المرأةَ، وضمَّها إلى نسائه لمحبته لها، وكانت توبته بحسب منزلته عند الله وعلوّ مرتبته. ولا يليق بنا المزيد على هذا (2).
وأما قصة زينب بنت جحش، فزيد كان قد عزم على طلاقها ولم توافقه، وكان يستشير النبيّ – صلى الله عليه وسلم – في فراقها (3)، وهو يأمره بإمساكها، فعلم
__________
= البسام: 732 – 734) وغيرهم من طريق محمد بن مسلم الطائفي عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس فذكره.
ورواه سفيان بن عيينة وعبد الملك بن جريج ومعمر بن راشد كلهم عن إبراهيم بن ميسرة عن طاووس عن النبي – صلى الله عليه وسلم – مرسلًا. أخرجه العقيلي (4/ 134) وعبد الرزاق (6/ 151، 168) وغيرهما. قال العقيلي: “هذا أولى”.
ورواه عبد الصمد بن حسان ومؤمل بن إسماعيل عن الثوري عن إبراهيم بن ميسرة عن طاووس عن ابن عباس مرفوعا. أخرجه الخليلي في الإرشاد (2/ 653) و (3/ 947) وابن جميع في معجمه (244). قال الخليلي: “هذا جوَّده عبد الصمد والمؤمل بن إسماعيل عن سفيان. ورواه غيرهما عن سفيان عن طاووس مرسلًا. ورواه محمَّد بن مسلم الطائفي عن إبراهيم مجوّدًا”.
قلت: كلامه هذا يدل على أن من رفعه عن الثوري أخطأ فيه، ولهذا عدّ الخليلي هذا الحديث مما تفرد به عبد الصمد عن الثوري. راجع: الروض البسام بترتيب وتخريج فوائد تمام (2/ 367 – 368) للدوسري.
(1) سقط لفظ الجلالة من ز.
(2) بل القصة نفسها باطلة من أكاذيب اليهود، ولم يسلَم نبي من أنبيائهم من القبائح التي افتروها عليهم. وانظر ما سبق في ص (529).
(3) ل: “بفراقها”.

(1/554)


رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنّه مفارقها ولا بدّ، فأخفى في نفسه أن يتزوجها إذا فارقها زيد، وخشي مقالة الناس أنّ رسول الله (1) – صلى الله عليه وسلم – تزوج زوجة ابنه، فإنّه كان قد تبنّى زيدًا قبل النبوة، والربُّ تعالى يريد أن يشرع شرعًا عامًّا (2) فيه مصالح عباده. فلما طلّقها زيد، وانقضت عدّتها منه (3)، أرسله إليها يخطبها لنفسه. فجاء زيد، واستدبر الباب بظهره، وعظُمتْ في صدره لمّا ذكرها رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فناداها من وراء الباب: يا زينب إنّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يخطبكِ. فقالت: ما أنا بصانعة شيئًا حتى أؤامرَ ربّي، وقامت إلى محرابها، فصلّتْ. فتولّى الله عَزَّ وَجَلَّ نكاحها من رسولِه (4) بنفسه، وعقد النكاح له فوق عرشه، وجاء الوحي بذلك: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]، فقام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لوقته، فدخل عليها (5). فكانت (6) تفخر على نساء النبي – صلى الله عليه وسلم – بذلك (7)، وتقول: أنتن زوّجكنّ أهاليكن، وزوّجني الله من فوق سبع سماوات (8)!
فهذه قصة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مع زينب (9).
__________
(1) ف: “أن النبي – صلى الله عليه وسلم -“.
(2) “عامًّا” ساقط من س.
(3) “منه” ساقط من ز.
(4) س، ل: “رسول الله – صلى الله عليه وسلم -“.
(5) أخرجه مسلم في النكاح، باب زواج زينب بنت جحش (1428) من حديث أنس رضي الله عنه.
(6) ف: “وكانت”.
(7) “بذلك” لم يرد في ز.
(8) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد (7420، 7421) من حديث أنس رضي الله عنه.
(9) انظر ما نقلنا في ص (528) من كلام المؤلف في زاد المعاد (4/ 266).

(1/555)


ولا ريب أنّ النبي – صلى الله عليه وسلم – كان قد حُبِّب إليه النساء (1)، كما في الصحيح من حديث أنس عنه – صلى الله عليه وسلم -: “حُبِّب إليّ من دنياكم النساء والطيب، وجُعِلت قرّةُ عيني في الصلاة” (2).
هذا لفظ الحديث، لا ما يرويه بعضهم (3): “حُبِّب إليّ من دنياكم ثلاث … “.
__________
(1) لم ترد “كان” في ل. ولم ترد “قد” في ف. ثم سقطت كلمة “النساء” من ز.
(2) أخرجه النسائي (3939، 3940) وأحمد 3/ 128 (12315) والعقيلي (2/ 160) والحاكم 2/ 174 (2676) وابن أبي عاصم في الزهد (235) وغيرهم من طريق سلام أبي المنذر وجعفر بن سليمان الضبعي وسلام بن أبي الصهباء كلهم عن ثابت عن أنس فذكره.
قلت: سلام في حفظه لين. وقال العقيلي: “لا يتابع على حديث”، وذكر هذا الحديث ضمن مناكيره. وأما رواية جعفر بن سليمان فالراوي عنه ضعيف. وجعفر في حفظه مقال، وخاصة في روايته عن ثابت البناني. وأما رواية سلام بن أبي الصهباء، فسلام ضعيف. والحديث جعله ابن عدي ضمن مناكيره. لكن خالفهم حماد بن زيد قال الدارقطني: “وخالفهم حماد بن زيد فرواه عن ثابت مرسلًا”.
وكذلك رواه محمَّد بن ثابت مرسلًا. انظر تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الكشاف للزيلعي (1/ 196).
ورواه سليمان بن طرخان وليث بن أبي سليم عن النبي – صلى الله عليه وسلم – بنحوه. أخرجه عبد الرزاق في المصنف (4/ رقم 7939). والحديث صححه الحاكم والضياء في المختارة والذهبي والمؤلف والعراقي وابن حجر.
(3) كالزمخشري في الكشاف، والغزالي في الإحياء، والقاضي عياض في مشارق الأنوار وغيرهم. انظر لسان الميزان (1/ 139) و (9/ 58) وكشف الخفا (1/ 406). وتكلم في هذا اللفظ جماعة منهم: شيخ الإِسلام والمؤلف والزيلعي وابن حجر والعراقي والسخاوي والمناوي والزركشي وغيرهم. راجع فيض القدير (3/ 370).

(1/556)


زاد الإِمام أحمد في كتاب الزهد (1) في هذا الحديث: “أصبر عن الطعام والشراب، ولا أصبر عنهنّ”.
وقد حسده أعداء الله اليهود على ذلك، فقالوا: ما همّه إلا النكاح، فردّ الله سبحانه عن رسوله، ونافح عنه، فقال: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)} [النساء: 54] (2).
وهذا خليل الله إبراهيم إمام الحنفاء كان عنده سارة أجمل نساء العالمين، وأحبّ هاجَر، وتسرّى بها.
وهذا داود كان عنده تسعة وتسعون امرأةً، فأحبّ تلك المرأة، وتزوّج بها، فكمّل المائة (3).
__________
(1) تقدم الكلام على هذه الزيادة في ص (483).
(2) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ رقم 5470) والطبري من طريق العوفي عن ابن عباس. وسنده ضعيف جدًّا. وجاء عن سعيد بن جبير والسدّي والضحاك وعطية نحو ذلك (ز). وهو بعيد من السياق، والصواب “أن معنى الفضل في هذا الموضع: النبوة التي فضل الله بها محمدًا وشرّف بها العرب إذ آتاها رجلًا منهم دون غيرهم … ” كما قال ابن جرير (8/ 479).
وقال ابن كثير في تفسيره (1/ 486) ولم يشر إلى قول آخر البتة: “يعني بذلك حسدهم النبي – صلى الله عليه وسلم – على ما رزقه الله من النبوة العظيمة. ومنعهم من تصديقهم إياه حسدهم له لكونه من العرب وليس من بني إسرائيل”. ثم ما الذي يحمل اليهود على حسد النبي – صلى الله عليه وسلم – على ذلك. أكان ذلك محرّمًا عليهم أو على أنبيائهم؟ (ص).
(3) قصة باطلة، كما سبق (529، 554).

(1/557)


وهذا سليمان ابنه كان يطوف في الليلة على تسعين امرأةً (1).
وقد سئل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن أحب الناس إليه، فقال: “عائشة (2).
وقال عن خديجة (3): “إني رُزِقت حبَّها” (4).
فمحبة النساء من كمال الإنسان. قال ابن عباس: خير هذه الأمة أكثرها نساءً (5).
وقد ذكر الإِمام أحمد (6) أن عبد الله بن عمر وقع في سهمه يوم
__________
(1) ف: “سبعين امرأة”. والحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه البخاري في النكاح، باب قول الرجل: لأطوفنّ الليلة على نسائي (5242) وفيه: “بمائة امرأة”. وفي أحاديث الأنبياء (3424): “على سبعين”، وفيه: “قال شعيب وابن أبي الزناد: “تسعين” وهو أصح”. وأخرجه مسلم في الأيمان باب الاستثناء (1654)، وفي إحدى رواياته: “كان لسليمان ستون امرأة”. ولفظ
الحديث: “قال: لأطوفنّ عليهن الليلة … ” وبينه وبيّن قول المصنف: “كان يطوف” فرق واضح.
(2) سبق تخريجه (446).
(3) ف: “في خديجة”.
(4) من حديث عائشة رضي الله عنها. أخرجه مسلم في “فضائل الصحابة” باب فضائل خديجة رضي الله عنها (2435).
(5) أخرجه البخاري في النكاح، باب كثرة النساء (5069) عن سعيد بن جبير عنه.
قال الحافظ ابن حجر: “والذي يظهر أن مراد ابن عباس بالخير: النبي – صلى الله عليه وسلم – … “. الفتح (9/ 114).
(6) في العلل ومعرفة الرجال (2/ 260). وذكره الدوري في تاريخه (4/ رقم 4981) وأخرجه الخرائطي في اعتلال القلوب (151) كلهم من طريق هشيم بن بشير عن علي بن زيد بن جدعان عن أيوب بن عبد الله اللخمي عن ابن عمر فذكره.
قال الإِمام أحمد ويحيى بن معين: “لم يسمعه هشيم من علي بن زيد”.
ورواه جماعة عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد به بمثله. أخرجه ابن أبي =

(1/558)


جلولاء جاريةٌ كأنّ عنقها إبريق فضّة. قال عبد الله: فما صبرتُ أنْ قبّلتُها، والناس ينظرون.
وبهذا احتجّ الإِمام أحمد على جواز الاستمتاع من المسبيّة قبل الاستبراء بغير الوطء، بخلاف الأمة المشتراة. والفرق بينهما أنّه لا يتوهَّم انفساخ الملك في المسبيّة، بخلاف المشتراة فقد ينفسخ فيها (1) الملك، فيكون مستمتِعًا بأمةِ غيره (2).
وقد شفع النبيّ – صلى الله عليه وسلم – لعاشق أن تواصله معشوقته (3) بأن تتزّوج به، فأبت. وذلك في قصة مغيث وبريرة، فإنّه رآه يمشي خلفها بعد فراقها، ودموعه تجري على خدّيه، فقال لها: “لو راجعتيه”! (4) فقالت: أتأمرني يا رسول الله؟ قال: “لا، إنّما أشفع”. فقالت (5): لا حاجة لي به. فقال لعمّه: “يا عبّاس ألا تعجَب من حبِّ مغيثٍ بريرةَ،
__________
= شيبة (3/ رقم 16650) والبخاري في تاريخه (1/ 419) والحربي في غريب الحديث (3/ 1112) وابن المنذر في الأوسط (التلخيص الحبير: 3/ 4) والمحلى (10/ 320). قلت: في هذا السند ضعف. فعلي بن زيد في حفظه ضعف. وأيوب اللخمي تابعي سمع ابن عمر، وذكره ابن حبان في الثقات، ولم يوثقه غيره.
(1) ز: “بها”. وقد سقط منها: “والفرق … ينفسخ”.
(2) وهي إحدى الروايتين عن أحمد. والظاهر عنه تحريم مباشرتها فيما دون الفرج لشهوة. قاله صاحب المغني (11/ 277).
(3) ز: “يواصله معشوقه”. وكذا في س مع تأنيث الفعل.
(4) كذا في جميع النسخ وفي رواية ابن ماجه (2075). وهي لغة ضعيفة. وفي أصول صحيح البخاري: “راجعتِه”. انظر الفتح (9/ 409).
(5) ف: “قالت”.

(1/559)


ومن بغضها له؟ ” (1) ولم ينكر عليه حبّها، وإنْ كانت قد بانَتْ منه، فإنّ هذا ما لا يملكه (2).
وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يسوّي بين نسائه في القَسْم، ويقول: “اللهمّ هذا قَسْمي فيما أملك، فلا تلُمْني فيما لا أملك” (3). يعني الحبّ.
وقد قال تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129]، يعني: في الحبّ والجماع.
__________
(1) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. أخرجه البخاري في الطلاق، باب شفاعة النبي – صلى الله عليه وسلم – في زوج بريرة (5283).
(2) ز: “لا يملك”.
(3) أخرجه أبو داود (2134) والترمذي (1140) والنسائي (3943) وابن ماجه (1971) وأحمد 6/ 144 (25111) وابن حبان (4205) والحاكم 2/ 204 (2761) وغيرهم من طرق عن حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد -رضيع عائشة- عن عائشة فذكرته.
ورواه حماد بن زيد وإسماعيل بن علية وعبد الوهاب الثقفي -في الرواية الصحيحة عنه- كلهم عن أيوب عن أبي قلابة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – مرسلًا. أخرجه الطبري في تفسيره (5/ 314، 315) وابن سعد في الطبقات (2/ 231) وابن أبي شيبة في المصنف (4/ رقم 17534).
قال الترمذي: “هكذا رواه غير واحد عن حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة أن النبي – صلى الله عليه وسلم -. ورواه حماد بن زيد وغير واحد عن أيوب عن أبي قلابة مرسلًا أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يقسم. وهذا أصح من حديث حماد بن سلمة”.
قلت: والحديث صححه ابن حبان والحاكم. وتكلم فيه البخاري وأبو زرعة والنسائي والترمذي والدارقطني ورأوا أنه مرسل.
انظر: علل ابن أبي حاتم (1279) والعلل الكبير للترمذي (286) والتلخيص الحبير (3/ 159) ونصب الراية (3/ 214).

(1/560)


ولم يزل الخلفاء الراشدون والرحماء من الناس يشفعون في العشّاق إلى معشوقهم الجائز وصلُهن، كما تقدّم من فعل أبي بكر وعثمان.
وكذلك عليّ أُتيَ بغلام من العرب وُجدَ في دار قوم بالليل، فقال له: ما قصّتك؟ قال: لستُ بسارقِ، ولكنّي أَصدُقك:
تعلّقتُ في دار الرِّياحيِّ خَودةً … يذِلّ لها من حسن منظرها البدرُ (1)
لها في بنات الروم حسن ومنظرٌ … إذا افتخرتْ بالحسن جانبَها الفخرُ (2)
فلما طرقتُ الدار من حَرِّ مُهْجةٍ … أتيتُ وفيها من توقّدها الجمرُ (3)
تبادَرَ أهلُ الدار لي ثم صيَّحوا … هو اللصُّ محتومًا له القتلُ والأسرُ (4)
فلما سمع علي رضي الله عنه شعره رَقَّ له، وقال للمهلَّب بن رِياح (5): اسمح له بها، فقال: يا أمير المؤمنين سَلْه مَن هو؟ فقال:
__________
(1) ف: “الرباحي” بالباء. وفي ز بالنون. وأهمل النقط في س، خب. ولعل الصواب ما أثبت من ل واعتلال القلوب ومنازل الأحباب.
(2) س، خا: “الفجر”. وفي ز: “الهجر” تحريف. وما قبلها في ل: “حافيها”.
وفي غيرها: “حافتها”. وفي منازل الأحباب: “كان لها”. وفي روضة المحبين، والواضح المبين: “صدّقها”. والأقرب إلى رسم النسخ ما أثبتنا من اعتلال القلوب. فإن صحّ كان المعنى من قولهم: جانبه الشيء مجانبةً: صار إلى جنبه، والكلمة من الأضداد. انظر اللسان (جنب 1/ 275). وفي ف: “فالحسن”.
(3) ف، ز: “أبيت”.
(4) “لي”: كذا في ف، وروضة المحبين، والواضح المبين. وفي غيرها: “بي”.
وفي ف: “ثم أصبحوا”، تحريف.
(5) في اعتلال القلوب، ومنازل الأحباب زيادة: “اليربوعي”. وفي النسخ “رباح” =

(1/561)


النهّاس بن عُيينة (1). فقال: خذها، فهي لك (2).
واشترى معاوية جاريةً، فأعجب بها إعجابًا شديدًا، فسمعها يومًا تنشد أبياتًا منها:
وفارقتُه كالغصن يهتزُّ في الثرى … طريرًا وسيمًا بعد ما طرَّ شاربُه
فسألها، فأخبرته أنّها تحِبّ سيّدَها، فردّها إليه، وفي قلبه منها (3).
__________
= بالموحدة ولعله تصحيف. ورياح بن يربوع بطن من تميم. ولم أجد ترجمة للمهلّب هذا.
(1) في الاعتلال والمنازل وروضة المحبين زيادة: “العِجْلي”. وكذا وقع “عُيينة” في النسخ والمصادر التي وردت فيها القصة. وأراه مصحفًا، والصواب: “عُتيبة”. ولعل أباه عتيبة بن النهّاس العجلي. وكان من وجوه قومه، وله إدراك ومشاهد في خلافة أبي بكر رضي الله عنه. وأخوه عتّاب بن النهاس كان شريفًا. والمغيرة بن عتيبة بن النهّاس كان قاضي الكوفة. انظر الإصابة (5/ 121). فهذا النهّاس -إن صحت القصة- سمي باسم جدّه.
(2) أخرجه الخرائطي في اعتلال القلوب (232 – 233) من طريق أبي مخنف قال: رفع إلى علي بن أبي طالب … فذكره. وسنده تالف. فيه أبو مخنف لوط بن يحيى، وكان شيعيًّا محترقًا. قال أبو حاتم الرازي: متروك الحديث. وقال ابن معين: ليس بثقة. وقال الذهبي: أخباري تالف لا يوثق به. انظر الجرح والتعديل (7/ 182) ولسان الميزان (6/ 435 – 431). (ز).
وانظر القصة في منازل الأحباب (265) والواضح المبين (31) وروضة المحبين (521). (ص).
(3) نقل المؤلف هذه القصة في روضة المحبين (522) من كتاب امتزاج النفوس للحكيم محمد بن أحمد التميمي. وكذا نقلها منه صاحب الواضح المبين (31). وفي الروضة والواضح المبين: “فسألها، فقالت: هو ابن عمّي، فردّها إليه، وفي نفسه منها”. وهنا وقف النصّ في الروضة. وتكملته في الواضح المبين: ” … المقيم المقعد”.

(1/562)


وذكر الزمخشري في ربيعه (1) أنَّ زبيدة (2) قرأت في طريق مكة على حائط:
أمَا في عباد الله أو في إمائه … كريمٌ يُجلّي الهمَّ عن ذاهبِ العقلِ
له مقلةٌ أما المآقي قريحةٌ … وأما الحشا فالنارُ منه على رِجْلِ
فنذرت أن تحتال لقائلهما إن عرفَتْه حتّى تجمع بينه وبيّن من يحبّه. فبينا هي بالمزدلفة إذ سمعتْ من ينشد البيتين، فطلبته، فزعم أنّه قالهما في ابنة عمّ له، نذر أهلها أن لا يزوّجوها منه. فوجّهتْ إلى الحيّ، وما زالت تبذل لهم المال حتّى زوّجوها منه؛ وإذا المرأة أعشق له منه لها. فكانت تعدّه من أعظم حسناتها، وتقول: ما أنا بشيء أسرَّ منّي من جمعي بين ذلك الفتى والفتاة.
قال الخرائطي (3): وكان لسليمان بن عبد الملك غلام وجارية يتحابّان، فكتب الغلام لها يومًا:
ولقد رأيتكِ في المنام كأنّما … عاطيتنِي من ريق فيكِ الباردِ
وكأنّ كفّكِ في يدي وكأنّنا … بتنا جميعًا في فراشٍ واحدِ
فطفقتُ يومي متراقدًا … لأراكِ في نومي ولستُ براقدِ (4)
__________
(1) ربيع الأبرار (3/ 121). ومنه نقلها في روضة المحبين (530) أيضًا.
(2) بنت جعفر، زوج هارون الرشيد.
(3) وكذا نقلها المؤلف عن الخرائطي في روضة المحبين (531) أيضًا، ولم أجدها في اعتلال القلوب. وهي في ربيع الأبرار (3/ 122) والواضح المبين (34).
(4) “طفقت لا هنا بمعنى لزمتُ. انظر: المحكم لابن سيده (6/ 176).

(1/563)


فأجابته الجارية؟
خيرًا رأيتَ وكل ما أبصرتَه … ستناله منّي برغم الحاسدِ
إنّي لأرجو أن تكون معانقي … فتبيتَ فوق ثديٍ ناهدِ
وأراك بين خَلاخلي ودَمالجي … وأراك فوق ترائبي ومجاسدي (1)
فبلغ ذلك سليمانَ، فانكحها الغلامَ، وأحسن حالهما (2)، على فرط غيرته.
وقال جامع بن مُرخية (3):
سألتُ سعيدَ بن المسيب مفتيَ الْـ … ـمدينةِ هل في حبِّ دهماءَ من وِزْرِ (4)
فقال سعيدُ بن المسيّب إنّما … تلام على ما تستطيع من الأمرِ (5)
__________
(1) الدمالج: جمع دُمْلُج، وهو ما يحيط بالعضد من الحليّ. والمجاسد: جمع مِجسَد، وهو الثوب الذي يلي الجسد.
(2) س: “حسّن حالهما”. وفي الواضح المبين: “أحسن جهازهما”، وهو أجود.
(3) ف، ز: “مرحبة” مضبوطًا في ف بفتح الحاء مع علامة الإهمال. وفي س: “مزجية”. والصواب ما أثبتنا من الواضح المبين (36). وهو جامع بن مرخية الكلابي من شعراء الحجاز في العصر الأموي. ذكره صاحب الأغاني (9/ 143) في ترجمة عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود. وسمّاه الغندجاني في فرحة الأديب (103) “جامع بن عمرو بن مرخية”، وأنشد ابن السكيت له بيتًا في إصلاح المنطق (290). وانظر اللسان (مهل، برم).
(4) ف: “في الحب دهمًا”! و”دهماء” صاحبة الشاعر. ذكرها في أبيات أخرى أيضًا (فرحة الأديب: 103). وفي الأغاني: “ظمياء”.
(5) أثبتَ النسّاخ والناشرون البيتين كالنثر!

(1/564)


فقال سعيد: والله ما سألني أحد عن هذا، ولو سألني ما كنت (1) أجيب إلا به (2).
فعشق النساء (3) ثلاثة أقسام:
عشق هو قربة وطاعة، وهو عشق الرجل امرأته وجاريته. وهذا العشق نافع فإنّه أدعى إلى المقاصد التي شرع الله لها النكاح، وأكفُّ للبصر والقلب عن التطلّع (4) إلى غير أهله. ولهذا يُحْمَد هذا العاشق عند الله وعند الناس.
وعشق هو مقتٌ من الله، وبعدٌ من رحمته، وهو أضرّ شيء على العبد في دينه ودنياه؛ وهو عشق المردان. فما ابتلي به (5) إلا من سقط من عين الله، وطرده عن بابه (6)، وأبعد قلبَه عنه. وهو من أعظم الحجب القاطعة عن الله، كما قال بعض السلف: إذا سقط العبد من عين الله ابتلاه بمحبّة المردان.
__________
(1) ف، ز: “لما كنت”.
(2) روى صاحب الأغاني عن الزبير بن بكار أن قول جامع لما بلغ سعيدًا قال: “كذَب والله ما سألني ولا أفتيته بما قال”.
ونقل القصة صاحب الظرف والظرفاء (160) عن ثعلب، وفيه: “ابن مرجانة الشاعر”. وهو تحريف. وانظر الرد على مثل هذه الفتاوى المزعومة في روضة المحبين (247،227).
(3) في حاشية س: “ظ فالعشق ثلاثة”، لأن القسم الثاني ليس من عشق النساء.
وقد يكون الصواب في المتن: “فعشق الناس”.
(4) س: “إلى التطلع”، غلط.
(5) ز: “به أحد”.
(6) ف، ل: “طُرِد”. وفي ف: “من بابه”.

(1/565)


وهذه المحبة هي (1) التي جلبت على قوم لوط ما جلبت، فما أُتُوا إلا من هذا العشق (2) قال تعالى {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)} [الحجر: 72].
ودواء هذا الداء الدويّ: الاستعانة (3) بمقلّب القلوب، وصدق اللجأ إليه، والاشتغال بذكره، والتعوّض بحبّه وقربه، والتفكّر في الألم الذي يُعقِبه هذا العشقُ، واللذّةِ التي تفوته به؛ فيترتّب عليه فواتُ أعظم محبوب، وحصولُ أعظم مكروه. فإن أقدمت نفسُه على هذا وآثرتْه، فليكبّر عليها تكبيرَه على الجنازة، ولْيعلَمْ أنّ البلاء قد أحاط به!
والقسم الثالث من العشق: عشق مباح لا يُملَك، كعشق من وُصفت له امرأة جميلة، أو رآها فجأة من غير قصد، فأورثه ذلك عشقًا لها، ولم يُحدِث له ذلك العشق معصيةً؛ فهذا لا يُملَك ولا يعاقَب عليه. والأنفع له مدافعته، والاشتغال بما هو أنفع له. والواجب على هذا أن يكتم، ويعفّ، ويصبر على بلواه. فيثيبه الله على ذلك، ويعوّضه على صبره لله، وعفّته، وتركِه طاعة هواه، وإيثارِ مرضاة الله وما عنده.
__________
(1) لم ترد “هي” في ف، ل.
(2) ل: “إلا من هذا الباب الضيق”.
(3) ف، ز: “الاستغاثة”.

(1/566)


فصل
والعشاق ثلاثة أقسام (1):
منهم من يعشق الجمال المطلق.
ومنهم من يعشق الجمال المقيّد، سواء طمع بوصاله أو لم يطمع.
ومنهم من لا يعشق إلا من يطمع في الوصول إليه.
وبيّن هذه الأنواع تفاوت في القوة والضعف. فعاشق الجمال المطلق قلبه (2) يهيم في كلّ واد، وله في كلّ صورة جميلة مراد!
يومًا بُحزْوَى ويومًا بالعُذَيب ويَو … مًا بالعقيق ويومًا بالخُلَيصاءِ
وتارةً تنتحي نجدًا وآونةً … شِعْبَ العقيق وطورًا قصرَ تيماءِ (3)
فهذا عشقه واسع، ولكنّه غير ثابت كثير التنقّل (4).
يهيم بهذا ثم يعشق غيرَه … ويسلاهُمُ من وقته حين يُصبحُ (5)
__________
(1) انظر: روضة المحبين (187).
(2) “المطلق” ساقط من س. و”قلبه” ساقط من ف.
(3) ف: “ينتجي” تصحيف. والبيتان من قصيدة صاحبيّة لأبي محمَّد الخازن.
انظر: اليتيمة (3/ 191)، وفيه: “بحزوى ويومًا بالعقيق، وبالعذيب يومًا”.
(4) “كثير التنقل” ساقط من ل، وفيها: “وقال آخر”.
(5) “ثم يعشق يخرج” ساقط من س. والبيت من أبيات لسمنون بن حمزة أوردها المؤلف في طريق الهجرتين (32) دون نسبة. وعزاها صاحب الزهرة (62) إلى “بعض أهل هذا العصر”. وسمنون توفي بعد الجنيد (297 هـ) فهو معاصر لأبي بكر المتوفى 296 هـ أو 297 هـ. وقد أوردها السلمي في طبقات الصوفية (198) لسمنون، ونقلها عنه الخطيب في تاريخ بغداد (9/ 236). وانظر صفة =

(1/567)


وعاشق الجمال المقيّد أثبتُ على معشوقه، وأدوَمُ محبةً له. ومحبته أقوى من محبة الأول لاجتماعها في واحد، وتقسُّم الأولى، ولكن يضعفها عدم الطمع في الوصال.
وعاشق الجمال الذي يطمع في وصاله أعقَلُ العشّاف وأعرَفهم، وحبّه أقوى لأنّ الطمع يُمِدّه ويُقوّيه.
فصل
وأمّا حديث “من عشِقَ فعفَّ (1) “، فهذا يرويه سُوَيد بن سعيد، فقد أنكره حفّاظ الإِسلام عليه (2).
قال ابن عدي في كامله (3): هذا الحديث أحد ما أُنكِر على سويد.
وكذا ذكره البيهقي، وابن طاهر في الذخيرة (4)، والتذكرة (5).
وأبو الفرج بن الجوزي، وعدّه في الموضوعات (6).
__________
= الصفوة (1/ 485).
(1) مكان “فعف” بياض في س. وفي ف: “فعفّ وكتم”.
(2) سبق تخريجه (528 – 529)، وانظر: زاد المعاد (4/ 275 – 278) وروضة المحبين (287 – 289).
(3) ليس في المطبوع فلعله مما سقط منه، وما أكثره!. وإنما فيه بعد أن ساق له أحاديث (3/ 428 – 429) ليس هذا منها: “ولسويد مما أنكرت عليه غير ما ذكرت، وهو إلى الضعف أقرب”.
(4) لم أجده في المطبوع.
(5) تذكرة الموضوعات (91).
(6) وكذا قال المؤلف في الزاد (4/ 277) والروضة (289). قال الكناني في تنزيه الشريعة (364): “ذكر غير واحد من المصنفين أن هذا الحديث أورده ابن الجوزي في الموضوعات وأعله بسويد بن سعيد. وتعقّبوه بأنّ سويدًا من رجال مسلم وبأنه =

(1/568)


وأنكره أبو عبد الله الحاكم (1) -على تساهله- وقال: أنا أتعجّب منه (2).
قلت: والصواب في الحديث أنه من كلام ابن عبّاس رضي الله عنهما موقوفًا عليه، فغلِط سويد في رفعه (3). قال محمَّد بن خلف بن المرزبان (4): حدّثنا أبو بكر الأزرق، عن سويد به، فعاتبته على ذلك، فأسقط ذكرَ النبي – صلى الله عليه وسلم -. فكان (5) بعد ذلك يسأل (6) عنه، فلا يرفعه (7).
ولا يشبه هذا كلام النبوة.
وأمّا رواية الخطيب (8) له عن الأزهري: حدّثنا المعافى بن زكريا،
__________
= تابعه المنجنيقي. ومن طريقه أخرجه الدارقطني. ولم يذكر السيوطي الحديث في كتبه. فلعل نسخ الموضوعات تختلف، والله أعلم”. هذا، وقد ذكره ابن الجوزي في العلل المتناهية (771).
(1) في تاريخ نيسابور، كما في زاد المعاد (4/ 277).
(2) ف: “أعجب منه”.
(3) وقال المؤلف في الزاد (4/ 277): “وفي صحته موقوفًا على ابن عباس نظر”.
وذلك من أجل سويد بن سعيد الذي رماه الناس بالعظائم، وأنكره يحيي بن معين، وقال: هو ساقط كذاب، لو كان لي فرس ورمح كنت أغزوه … إلى آخر ما ذكره المؤلف.
(4) ذم الهوى (329).
(5) ل: “وكان”.
(6) ف: “إذا سئل”.
(7) ز: “ولا يرفع”. وانظر المقاصد الحسنة (491 – 493).
(8) في تاريخ بغداد (12/ 475) وابن الجوزي في ذم الهوى (258). فيه أحمد بن محمَّد بن مسروق. قال الدارقطني: “ليس بالقوي، يأتي بالمعضلات”. قلت: رواه جماعة -كما تقدم- بالطريق المشهور. ولهذا قال الخطيب: “رواه غير =

(1/569)


حدثنا قُطبة بن الفضل، حدثنا أحمد بن محمَّد بن مسروق، حدثنا سويد، حدثنا ابن مسهر (1)، عن هشام بن عروة (2)، عن أبيه، عن عائشة مرفوعًا؛ فمن أبيَنِ الخطأ. ولا يحتمل (3) هشام عن أبيه عن عائشة (4) مثلَ هذا عند من شمّ أدنى رائحة من الحديث (5).
ونحن نُشهد الله أنّ عائشة ما حدّثت بهذا عن رسول الله (6) – صلى الله عليه وسلم – قطّ، ولا حدّث به عنها عروة، ولا حدّث به عنه هشام قطّ.
وأمّا حديث ابن الماجشون عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس مرفوعًا؛ فكذِبٌ على ابن الماجشون، فإنّه لم يحدث (7) بهذا ولا حدّث به عنه الزبير بن بكّار، وإنما هذا من تركيب بعض الوضّاعين.
ويا سبحان الله! كيف يحتمل هذا الإسناد مثل هذا المتن؟ فقبّح الله
__________
= واحد عن سويد عن علي عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس، وهو المحفوظ”.
ومما يدل على عدم ثبوته أيضًا أنه كان يضطرب فيه، فمرة على وجه الصواب كما عند ابن الجوزي في الذم (256)، ومرة عن عائشة.
(1) ف: “أبو مسهر”، خطأ. وفي س تحرّف كل “ثنا” في هذا السند إلى “بن”. فوقع فيه: “سويد بن مسهر”. ولعل الأصل كان “سويد ثنا ابن مسهر” كما في ز، ل: فلما تحرَّف “ثنا” إلى “بن” تكررت كلمة “بن” فحذفت إحداهما.
(2) ز: “عن عروة” خطأ.
(3) س: “ولا يحمل”. ف: “ولا يتحمل”.
(4) “مرفوعًا … عائشة” ساقط من ل.
(5) وانظر: زاد المعاد (4/ 277) وروضة المحبين (289).
(6) ف: “عن النبي”.
(7) ز: “ما حدّث”.

(1/570)


الوضّاعين!
وقد ذكره أبو الفرج (1) من حديث محمَّد بن جعفر بن سهل، حدثنا يعقوب بن عيسى من ولد عبد الرحمن (2) بن عوف، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد مرفوعًا.
وهذا غلط قبيح، فإنّ محمَّد بن جعفر هذا هو الخرائطيّ، ووفاته سنة سبع وعشرين وثلاث مائة، فمحال أن يدرك شيخُه يعقوبُ ابنَ أبي نَجيح، لا سيّما وقد رواه في كتاب الاعتلال (3) عن يعقوبَ هذا، عن الزبير، عن عبد الملك، عن عبد العزيز، عن ابن أبي نجيح.
والخرائطي هذا (4) مشهور بالضعف في الرواية، ذكره أبو الفرج (5) في كتاب الضعفاء (6).
وكلام حفاظ الإِسلام في إنكار هذا الحديث هو الميزان، وإليهم
__________
(1) في العلل المتناهية (1288) وذم الهوى (326).
(2) “عبد الرحمن” تكرر في ل.
(3) اعتلال القلوب (79).
(4) “هذا” ساقط من ف.
(5) بعده في س: “ابن الجوزي”.
(6) لم يذكره ابن الجوزي في كتاب الضعفاء (3/ 46 – 47) وإنما ذكر رجلين آخرين أحدهما محمَّد بن جعفر المدائني، والآخر محمَّد بن جعفر بن عبد الله بن جعفر، فلعل المؤلف رحمه الله قد وهِمَ. وقد نبّه على ذلك الألباني في السلسلة الضعيفة (1/ 589 – 590) كما تعقّب المؤلف في تضعيفه للخرائطي وقال: “أما الخرائطي فلا أعرف أحدًا من المتقدمين رماه بشيء من الضعف … وقال فيه ابن ماكولا: كان من الأعيان الثقات … “.

(1/571)


يرجع في هذا الشأن. وما صحّحه، بل ولا حسّنه أحد يُعوَّل في علم الحديث عليه، ويُرجَع في التصحيح (1) إليه؛ ولا مَن عادتُه التساهل والتسامح، فإنّه لم يُطنِّف (2) نفسَه له. ويكفي أن ابن طاهر الذي يتساهل في أحاديث التصوف، ويروي منها الغثّ والسمين والمنخنقة والموقودة قد أنكره، وحكم ببطلانه (3).
نعم، ابن عبّاس غير مستنكَر ذلك عنه. وقد ذكر أبو محمَّد بن حزم عنه أنَّه سئل عن الميت عشقًا، فقال: قتيل الهوى، لا عقل ولا قود! (4) ورُفِع إليه بعرفات شابّ قد صار (5) كالفرخ، فقال: ما شأنه؟ قالوا: العشق. فجعل عامة يومه يستعيذ من العشق (6). فهذا نفَس من قال: من عشِق وعفَّ وكتَم ومات، فهو شهيد.
ومما يوضح ذلك أنّ النبي – صلى الله عليه وسلم – عدّ الشهداء في الصحيح، فذكر المقتول في الجهاد، والمبطون، والحرِق، والنفَساء يقتلها ولدها، والغرِق، وصاحب ذات الجنب (7)، ولم يعُدّ منهم العاشق يقتله العشق.
__________
(1) ف، ل: “الصحيح”، تحريف.
(2) ل: “يطيف”، تصحيف. طنّفه بالأمر: اتهمه به. وطنّف للأمر: قارفه. وطنّف نفسه إلى الشيء: أدناها إلى الطمع فيه. ولعل المقصود أن المتساهل أيضًا لم يدفع نفسه إلى تصحيح الحديث.
(3) وذكره في تذكرة الموضوعات (91) كما سبق.
(4) طوق الحمامة (6). وقد سقط من س “لا عقل”.
(5) ز: “صار” دون “قد”.
(6) سبق تخريجه (498).
(7) أخرجه الإِمام مالك في الموطأ، كتاب الجنائز، باب النهي عن البكاء على الميت (555) من حديث جابر بن عتيك. قال النووي: “وهذا الحديث الذي =

(1/572)


وحسب قتيل العشق أن يصحّ (1) له هذا الأثر عن ابن عباس (2) على أنّه لا يدخل تحته حتّى يصبر لله، ويعفّ لله، ويكتم لله. وهذا لا يكون إلا مع قدرته على معشوقه، وإيثار محبة الله وخوفه ورضاه.
وهذا من أحقّ من دخل تحت قوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: 40، 41] وتحت قوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن: 46].
فنسأل الله العظيم ربَّ العرش العظيم أن يجعلنا ممن آثر حبّه على هواه، وابتغى بذلك قربه ورضاه (3).
__________
= رواه مالك صحيح بلا خلاف، وإن كان البخاري ومسلم لم يخرجاه”. شرح النووي (13/ 66).
(1) س: “صح”.
(2) ولكن المؤلف رحمه الله قال نفسه -كما تقدم- في زاد المعاد (4/ 277): “وفي صحته موقوفًا على ابن عباس نظر”.
(3) بعده في س: “آمين آخر الكتاب … “. وفي ف: “تم الكتاب والحمد لله ربِّ العالمين … ” وفي ز: “تم الكتاب بحمد الله وحسبنا الله ونعم الوكيل”. وفي ل: “بمنّه وكرمه إنه جواد كريم” ثم بعد بياض كتب: “تم الكتاب … “. وكذا في خا.

(1/573)