![](https://ataat.com.sa/wp-content/uploads/2024/12/الروح-446x470.jpg)
http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
الكتاب: الروح
[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (26)]المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 – 751)
حققه: محمد أجمل أيوب الإصلاحي
خرج أحاديثه: كمال بن محمد قالمي
راجعه: سعود بن عبد العزيز العريفي – جديع بن محمد الجديع
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثالثة، 1440 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الأجزاء: 2 (في ترقيم واحد متسلسل)
قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]كتاب الروح
تأليف
ابن قيم الجوزية
(691 – 751)
تحقيق
محمد أجمل أيوب الإصلاحي
(المقدمة/1)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمُ
مقدمة التحقيق
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الكريم نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإن كتاب الروح للإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله من الكتب النادرة في بابه. وقد وصلت إلينا كتب في النفس لابن سينا (ت 428) وابن باجَّه الأندلسي (ت 533) وفخر الدين الرازي (ت 606) وقطعة من كتاب أبي البركات البغدادي (ت 560)، ولكن كتاب ابن القيم هذا ينتمي إلى فئة أخرى من الكتب، وهي مصنفات محمد بن نصر المروزي (ت 294) وأبي يعقوب النهرجُوري (ت 303) وأبي إسحاق ابن شاقْلا (ت 369) وأبي عبد الله ابن منده (ت 395) والقاضي أبي يعلى (ت 458). ولاسيّما كتاب الحافظ ابن منده “النفس والروح” الذي هو من أهم موارد كتاب الروح، وكان كتابًا كبيرًا.
وكل هذه المصنفات لا علم لنا الآن بوجودها في خزائن الكتب، بل لابن القيم نفسه كتاب آخر كبير ألَّفه قبل كتاب الروح هذا، وسمَّاه “الروح والنفس”، وأحال عليه في هذا الكتاب وغيره، ولكن لم نقف عليه، ولا ندري أضاع فيما ضاع من نفائس تراث ابن القيم أم لا يزال مخبوءًا في زاوية من الزوايا منتظرًا من يفتش عنه ويظهره للناس؟ فكتاب الروح لابن القيم هو الكتاب الوحيد بين أيدينا اليوم من الكتب المصنفة في هذا الباب على منهج السلف.
(المقدمة/5)
وأصل هذا الكتاب جواب عن أسئلة سئل عنها المصنف، وهي اثنان وعشرون سؤالًا، معظمها عن أحوال البرزخ وعذاب القبر ومستقر الروح بعد الموت، ومنها أسئلة عن حقيقة النفس وقِدَمها وما إلى ذلك. والمصنف رحمه الله على طريقته في الجواب أفاض وأطنب، وبحث واستقصى، واستطرد فأفاد. فضم كتابه هذا مسائل عظيمة ومباحث مبسوطة وفوائد متنوعة في العقيدة والتفسير والحديث والفقه وتزكية النفس. وقد شهد بعض جلة العلماء بأن ابن القيم رحمه الله قد بلغ في بعض أجوبته من استيعاب وجوه القول وتتبع حجج الخصوم والرد عليها ما لا مزيد عليه. ومن ثم كان كتاب الروح موردًا عذبًا لكلِّ من ألَّف بعده في مسائل الروح وأحوال البرزخ.
وقد طبع كتاب الروح قديمًا في الهند، فكانت طبعته الأولى صدرت سنة 1318، وأعيد طبعه هناك مرات. ثم طبع في مصر سنة 1376. وبعد ذلك صدرت طبعات كثيرة.
وحُقِّق الكتاب لأول مرة سنة 1404 في رسالة علمية عن ثلاث نسخ خطية، وطبعت في الرياض سنة 1406، وكانت تلك خطوة أولى في سبيل إخراج نص الكتاب حسب المنهج العلمي.
ونشرتنا هذه خطوة جديدة في هذا السبيل. وقد اعتمدنا في تحرير نص الكتاب على ست نسخ خطية مع الاستئناس بنسختين أخريين، والرجوع إلى موارد الكتاب وغيرها، فأمكن ــ بفضل الله وحده ــ تصحيح كثير من التصحيفات والأوهام. وأرجو أن يكون النص في هذه النشرة أقرب إلى نص المؤلف مما كان عليه في النشرات السابقة.
(المقدمة/6)
وقدمت بين يدي الكتاب فصولًا تعريفية تحدثت فيها عن نسبة الكتاب، وعنوانه، وزمن تأليفه، ومطالبه، وموارده، والصادرين عنه، وأهميته والثناء عليه، ومختصراته، وطبعاته. ثم وصفت النسخ الخطية التي اعتمدت عليها، والمنهج الذي سلكته في إعداد هذه النشرة. وقد أطلت في تحقيق نسبة الكتاب ــ مع أن الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله قد سبق بذلك قبل زمن طويل ــ لأني رأيت فريقًا من الناس لا يزالون في ريبهم يترددون.
وآمل من العلماء والباحثين الأفاضل، إذا وقفوا على خلل أو زلل في تصحيح النص أو التعليق عليه، أن لا يغضُّوا أبصارهم، بل حقُّ العلم عليهم أن ينبِّهوا عليه متفضِّلين مشكورين.
وأشكر الإخوة المسؤولين والعاملين في أقسام المخطوطات في مكتبة الحرم المكي الشريف، ومركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالرياض على ما تكرَّموا به من تصوير النسخ المطلوبة من كتاب الروح وتيسير الاستفادة من غيرها، فجزاهم الله خير الجزاء. وقد سعى أخونا الدكتور عثمان جمعة ضميرية لتصوير مخطوطات الكتاب المحفوظة في مركز جمعة الماجد بدبي، فشكر الله سعيه وجعله في ميزان حسناته.
أسأل الله أن يتقبَّل هذا الجهد المتواضع وينفع به، وأن يجزل المثوبة لمؤلف الكتاب الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله. وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الرياض محمد أجمل أيوب الإصلاحي
16 رمضان 1431
(المقدمة/7)
تحقيق نسبة الكتاب
كتاب الروح من أشهر كتب ابن القيم. ذكره المترجمون له ضمن مؤلفاته، وأقبل على نسخه الورَّاقون، واستفاد منه أهل العلم على اختلاف مذاهبهم وطبقاتهم وعلى تباعد أزمانهم وبلدانهم. فمنهم من تلمذ لابن القيم، ومنهم من عاصره. ومنهم الحنبلي والشافعي والحنفي، ومنهم الشامي والمصري والعراقي والنجدي واليماني. ومنهم من اختصره أو لخصه وأعاد ترتيبه، ومنهم من اقتصر على النقل منه. ومنهم من أعجب به وأثنى عليه. ولكن لم نر منهم من القرن الثامن إلى القرن الرابع عشر مَن تردّد في نسبة الكتاب إلى ابن القيم. بل ألفيناهم جميعًا مطبقين على عزوه إليه عزوًا صريحًا، حتى كانت سنة 1384، إذ ظهر في مجلة “الهدي النبوي” الصادرة في القاهرة عنوان “هل كتاب الروح ليس لابن القيم؟ “. وذلك في ذيل الحلقة الثالثة من سلسلة مقالات الشيخ محمد نجيب المطيعي رحمه الله في تعقب أحاديث وحكايات واردة في كتاب الروح (1). قال الشيخ: “سألني أخي الأستاذ جميل غازي رئيس قسم الثقافة والتوجيه المعنوي بالعلاقات العامة بمحافظة الدقهلية عما إذا كان هذا الكتاب (الروح) هو لابن القيم قطعًا، أم أنه منسوب إليه؟ وهل هذا الكتاب يتفق مع منهج ابن القيم الذي عُرف بالدقة والضبط والتثبت؟ فأقول: إن هذا الكتاب لابن القيم يقينًا، وذلك للأسباب الآتية”.
(1) المجلد 29، العدد 12، شهر ذي الحجة، ص 41 ــ 42. وقد أوقفني عليه أخي الشيخ جديع بن محمد الجديع، فجزاه الله خيرًا.
(المقدمة/8)
ثم ذكر خمسة أسباب أهمُّها: ما ذكره ابن القيم في كتاب الروح أن بعضهم رأى شيخ الإسلام ابن تيمية في المنام بعد موته؛ وقال: إن ذلك لا يدل على صحة نسبة الكتاب إلى ابن القيم فحسب، بل يدل على زمن تأليفه أيضًا، وهو بعد وفاة شيخ الإسلام.
واستدل بمنهج ابن القيم في البحث وأسلوبه وموضوعات الكتاب، وقال: “والذي يشكُّ في نسبة الكتاب إلى الشيخ عليه أن يثبت من كتبه الأخرى ما يهدم القضايا البارزة في كتابه هذا”.
والظاهر أن السائل ــ وهو الشيخ جميل غازي رحمه الله ــ لم يصدر في سؤاله عن دراسة لكتاب الروح، ولعل نقد الشيخ المطيعي لبعض الروايات والآثار الواردة فيه أثار في نفسه الشك في نسبة الكتاب، فكتب إليه مستفسرًا.
ثم أخرج الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله سنة 1398 (1) كتاب “الآيات البينات في عدم سماع الأموات عند الحنفية السادات” لخير الدين الآلوسي (ت 1317) وصدّره بمقدمة ضافية ذكر فيها كتاب الروح أولًا في حاشيتها (ص 40) فقال: “كتاب الروح المنسوب لابن القيم”. ثم في (ص 60) أورد كلامًا لابن القيم مع الرد عليه وقال: ” … ولهذا وغيره فإني في شك كبير من صحة نسبة الروح إليه، أو لعله ألفه في أول طلبه للعلم، والله أعلم”.
(1) وهي تاريخ مقدمة الشيخ الألباني لكتاب الآلوسي. وفيها صدرت الطبعة الأولى من الكتاب فيما يبدو، فإن طبعته الثانية صدرت في العام التالي 1399.
(المقدمة/9)
وقد أصدر الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله كتابه “ابن قيم الجوزية ــ حياته وآثاره” في عام 1400، فذكر أنه “قد انتشر على ألسنة بعض طلاب العلم أن كتاب الروح ليس لابن القيم أو أنه ألَّفه قبل اتصاله بشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. هذا ما تناقلته الألسن ومرّ على الأسماع في المجالس والمباحثات، ولم أر ذلك مدوَّنًا في كتاب، ولعل شيئًا من ذلك قد دُوِّن ولكن لم يتيسر الوقوف عليه” (1).
وكأن ما سمع الشيخ بكر كان صدى لما ذكره الشيخ الألباني في مقدمة “الآيات البينات”، ولكن لم يكن الكتاب المذكور قد صدر حينما أعدّ الشيخ بكر رسالته عن ابن القيم، فلم يقف عليه، كما فاته الاطلاع على سؤال الشيخ جميل غازي وجواب الشيخ محمد نجيب المطيعي. وقد رد الشيخ بكر على الشبهتين، وأثبت أن كتاب الروح لابن القيم بلا ريب، وأنه ألّفه بعد اتصاله بشيخ الإسلام لا قبله.
وذكر الشيخ بكر أنه لتحقيق هذه المسألة قرأ كتاب الروح من أوله إلى آخره قراءة المتأمل الفاحص، فتبين له أن ما تناقلته الألسن “نتائج موهومة سبيلها النقض، ونهايتها الرفض المحض، وأنها إنما انتشرت من غير دراسة ولا تحقيق”.
وصدق الشيخ، فلم يكن كلام الشيخ الألباني أيضًا صادرًا عن دراسة لكتاب الروح، وإنما الذي أثار الشك في نفسه أنه وجد في كتاب الروح رأيًا واحتجاجًا مخالفًا لما عهده من منهج ابن القيم، وخادشًا لصورته المرسومة في ذهنه، ثم إن الاعتقاد بأن الموتى يسمعون هو السبب الأقوى الموجب
(1) ابن قيم الجوزية ــ حياته، آثاره، موارده؛ دار العاصمة، 1423 (ص 254).
(المقدمة/10)
للاستغاثة بغير الله عند المبتدعة (1)، فضاق الشيخ بما ذهب إليه ابن القيم، فأنكره، وشك في نسبة الكتاب نفسه إلى ابن القيم إلا أن يكون قد ألّفه قبل اتصاله بشيخ الإسلام.
يقول الشيخ: “وأغرب ما رأيت لهم من الأدلة قول ابن القيم رحمه الله في الروح (ص 8) تحت المسألة الأولى: هل تعرف الأموات بزيارة الأحياء وسلامهم أم لا؟ فأجاب بكلام طويل جاء فيه ما نصه … “.
ثم نقل قول ابن القيم: “ويكفي في هذا تسميته المسلِّم عليهم زائرًا، ولولا أنهم يشعرون به لما صح تسميته زائرًا؛ فإن المزور إن لم يعلم بزيارة من زاره لم يصح أن يقال: زاره. هذا هو المعقول من الزيارة عند جميع الأمم. وكذلك السلام عليهم أيضًا، فإن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلِّم محال. وقد علّم النبي – صلى الله عليه وسلم – أمته إذا زاروا القبور أن يقولوا: “سلام عليكم أهل الديار … وهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب، ويعقل ويرد، وإن لم يسمع المسلِّم الردّ”.
وعقب الشيخ على ذلك قائلًا: “رحم الله ابن القيم، فما كان أغناه عن الدخول في مثل هذا الاستدلال العقلي، الذي لا مجال له في أمر غيبي كهذا؛ فوالله لو أن ناقلًا نقل هذا الكلام عنه ولم أقف أنا بنفسي عليه لما صدقته لغرابته، وبعده عن الأصول العلمية، والقواعد السلفية، التي تعلمناها منه، ومن شيخه الإمام ابن تيمية؛ فهو أشبه شيء بكلام الآرائيين والقياسيين الذي يقيسون الغائب على الشاهد، والخالق على المخلوق، وهو قياس باطل فاسد، طالما ردّ ابن القيم أمثاله على أهل الكلام والبدع؛ ولهذا وغيره
(1) الآيات البينات (ص 25).
(المقدمة/11)
فإني في شك كبير من صحة نسبة “الروح” إليه، أو لعله ألَّفه في أول طلبه للعلم. والله أعلم، ثم إن كلامه مردود في شطريه بأمرين … ” (1).
قلت: قول ابن القيم: “فإن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلِّم محال … وإن لم يسمع المسلِّم الردّ” نقله بعينه الحافظ ابن كثير في تفسيره (6/ 325 – 327) ضمن اقتباس طويل من كتاب الروح. فهل يدعو ذلك إلى الشك في نسبة التفسير إلى ابن كثير؟
وماذا عسى أن يقول الشيخ لو درى أن هذا الاستدلال بعينه مأخوذ من كلام شيخ الإسلام الذي قال: “وقد ثبت عنه في الصحيحين من غير وجه أنه كان يأمر بالسلام على أهل القبور، ويقول: “قولوا: السلام عليكم أهل الديار … ” فهذا خطاب لهم، وإنما يخاطَب مَن يسمَع” (2).
وقال في موضع آخر: “والميت قد يعرف من يزوره. ولهذا كانت السنة أن يقال: السلام عليكم، أهل دار قوم مؤمنين … ” إلخ (3).
وسيأتي عرض المسألة في فصل آخر، وإنما يعنينا هنا ما يتعلق بنسبة الكتاب. والدلائل على صحتها متوافرة متنوعة (4)، وقد قسمناها إلى قسمين: القسم الأول في الدلائل الخارجية، والقسم الثاني في الدلائل الداخلية.
(1) الآيات البينات (ص 60).
(2) مجموع الفتاوى (24/ 363).
(3) مجموع الفتاوى (24/ 304).
(4) انظر جملة منها في كتاب “ابن قيم الجوزية ــ حياته، آثاره، موارده” للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله (ص 255 – 258).
(المقدمة/12)
أما القسم الأول فمن أظهر دلائله:
1) أن ابن القيم نفسه ذكره في كتابه جلاء الأفهام (557)، فلما أورد حديث أبي هريرة: “إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان” الحديث، قال: “وقد استوفيت الكلام على هذا الحديث وأمثاله في كتاب الروح”. يقصد كلامه في المسألة السادسة.
2) أن الحافظ ابن رجب (ت 795) ــ وهو من تلامذة ابن القيم ــ نقل في كتابه “أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور” نصوصًا عديدة من كتاب الروح ــ كما سيأتي ــ فقال في (ص 68): “وذكر شيخنا أبو عبد الله ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الروح … “. ونقل حكاية. ثم قال (ص 69): “قال شيخنا”، ونقل حكاية أخرى. وانظر الحكايتين في المسألة السابعة.
3) أن أبا عبد الله محمد بن محمد بن محمد المنبجي الحنبلي (ت 785) قد ألّف كتابه “تسلية أهل المصائب” سنة 777، واستفاد فيه من كتاب الروح ونسبه إلى ابن القيم بصراحة، فقال: “قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتاب الروح له: حدثني صاحبنا أبو عبد الله … ” (ص 271). والحكاية التي نقلها واردة في المسألة السابعة. وكذلك لما نقل ردّ ابن القيم على ما زعمه ابن حزم من عدم ردّ الأرواح في القبور إلى الأجساد قبل يوم القيامة قال: “فهذا العلامة ابن القيم رحمه الله قد كفانا مؤنة الرد بلا تكلف” (ص 278). وهذا الردّ في المسألة السادسة.
4) أن نُسَخه الخطية المنتشرة في خزائن الشرق والغرب ويبلغ عددها نحو أربعين نسخة كلها مجمعة على نسبته إلى ابن القيم. وأقدمها نسخة الظاهرية المكتوبة سنة 774 بعد وفاة ابن القيم بثلاث وعشرين سنة، وهي الأصل الذي اعتمدنا عليه في نشرتنا هذه.
(المقدمة/13)
5) ذكره الحافظ ابن حجر (ت 852) في ترجمة ابن القيم في كتابه الدرر الكامنة (3/ 402) (1). وكذلك نسبه إليه فيما نقله منه في فتح الباري: (3/ 239)، (6/ 444، 445)، (8/ 403). ولفظه فيها جميعًا: “ابن القيم في كتاب الروح”.
6) أن إبراهيم بن عمر البقاعي (ت 885)، وهو من كبار أصحاب الحافظ ابن حجر، قد اختصر كتاب الروح وأعاد ترتيبه وسماه “سر الروح”. وقال في مقدمته: “فإني كاتب إن شاء الله تعالى في هذه الأوراق المقصود بالحقيقة من كتاب الروح للإمام العلامة شمس الدين محمد بن قيم الجوزية الدمشقي الحنبلي سقى الله ثراه ورحم منقلبه ومثواه … ” (ص 2).
7) ذكره جلال الدين السيوطي (ت 911) في ترجمة ابن القيم في بغية الوعاة (1/ 63) ونسبه إليه في كتبه الأخرى، منها كتابه “شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور” الذي قال في خاتمته: “خاتمة في فوائد تتعلق بالروح لخصت أكثرها من كتاب الروح لابن القيم” (ص 414). وقد نقل نصوصًا كثيرة منه في أثناء الكتاب أيضًا فقال في موضع: “وذكر ابن القيم في كتاب الروح” (ص 245). وقال في كتاب الحبائك في أخبار الملائك: “وقال العلامة شمس الدين ابن القيم في كتاب الروح” (ص 263). ونحوه في كتاب الحاوي للفتاوي له (1/ 212)، وفيه أيضًا: ” … قولان للحنابلة حكاهما ابن القيم في كتاب الروح” (2/ 165). وهذه النصوص والأقوال كلها واردة في كتاب الروح الذي بين أيدينا.
(1) وكذلك ذكره في ترجمته السيوطي (ت 911) في بغية الوعاة (1/ 63) كما سيأتي، وابن العماد الحنبلي (ت 1089) في شذرات الذهب (8/ 290) والشوكاني (ت 1250) في البدر الطالع (2/ 143).
(المقدمة/14)
8) ذكر شمس الدين ابن طولون (ت 953) في كتابه الفلك المشحون (ص 42) كتابًا له بعنوان “الفتوح في حقيقة الروح”، وقال: “لخصته من كتاب الروح لابن القيم مع تتمات”.
9) قد تعقب محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني (ت 1182) في كتابه جمع الشتيت في شرح أبيات التثبيت (ص 80) كلام ابن القيم في تلقين الميت بعد دفنه، وكذلك أشار في تأنيس الغريب (ص 175) إلى أن أدلة القائلين بخلق الأرواح قبل الأجساد واضحة، وأن ابن القيم “تكلف لردّها فما نهض ما قاله”. ولكن لم يشك في نسبة كتاب الروح إليه، بل أكثر من النقل منه مع عزوه إليه، ومن ذلك قوله: “واعلم أنه قد بسط الجواب وزاد عليه ابن القيم رحمه الله في كتابه الروح، ولا غناء عن استيفاء ما ذكره، فإن المسألة مهمة والإيمان بها متعين” (ص 49)، ثم نقل نصًّا طويلًا من المسألة السابعة في الرد على منكري عذاب القبر. ومنه قوله: “قال ابن القيم في كتاب الروح” (ص 81). والجدير بالذكر أن الأمير كتب نسخة من كتاب الروح بخطه، وهي محفوظة في مكتبة ندوة العلماء بالهند. وقال في سبل السلام: “وذهب ابن القيم إلى عموم المسألة، وبسط المسألة في كتاب الروح” (2/ 113) يعني مسألة اختصاص هذه الأمة بالسؤال في القبر دون الأمم السالفة. وينظر أيضًا (2/ 114).
10) أن شمس الدين محمد بن أحمد السفَّاريني الحنبلي (1114 – 1188) ــ وهو معروف بكثرة النقل من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ــ نقل نصوصًا كثيرة من كتاب الروح في كتابيه: البحور الزاخرة في أحوال الآخرة، ولوامع الأنوار البهية، فقال في البحور عندما ذكر القول
(المقدمة/15)
المختار عند ابن القيم في حقيقة الروح: “اختار هذا القول الإمام المحقق ابن القيم في كتابه الروح من أقوال عديدة”. ثم أثنى على الكتاب فقال: “وكتابه هذا من أجلّ ما رأينا في هذا الفن بل هو أجلها وأعظمها … ” (1/ 100). وكذا في كتاب لوامع الأنوار صدَّر نقوله من كتاب الروح في مواضع بقوله: “قال الإمام المحقق ابن القيم في كتاب الروح”. انظر مثلًا: 2/ 8 – 10، 12، 18، 20، 21، 23، 32، 38، 52، 60، 157.
11) الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بُطين (1194 – 1282) مفتي الديار النجدية في عهده وأحد علماء الدعوة في عهد الدولة السعودية الثاني. وكانت له عناية بكتب ابن القيم، فقد اختصر إغاثة اللهفان وبدائع الفوائد (1). وبين يدي نسخة من كتاب الروح كانت في حوزة الشيخ أبا بطين، وفي حاشيتها تعليقات بخطه. ومنها تعقيب على استدلال ابن القيم بعمل الناس على تلقين الميت بعد دفنه (ق 8/أ)، ولكن لم يبد شكًّا في نسبة الكتاب.
12) الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (1225 – 1293) من كبار أئمة الدعوة (2)، وله رد على رجل عراقي يدعى داود بن سليمان بن جرجيس طبع بعنوان: “تحفة الطالب والجليس في كشف شبه داود بن جرجيس” جاء فيه: “ومن العجب أن هذا العراقي زعم أن ابن القيم قال في كتاب الروح … ” (ص 66). ثم قال: “وكتاب الروح موجود ومسموع من المشايخ الثقات العارفين بنصوصه وأقواله وأصوله وفروعه”.
(1) انظر ترجمته في آخر الدرر السنية (16/ 2/427)، والسحب الوابلة (ص 626).
(2) ترجمته في آخر الدرر السنية (16/ 2/413)، ومشاهير علماء نجد (ص 69).
(المقدمة/16)
13) وكتاب “الآيات البينات” الذي أخرجه الشيخ الألباني رحمه الله وشكك في نسبة الكتاب إلى ابن القيم في مقدمته، لم يشك صاحبه أبو الخير نعمان بن محمود الآلوسي (ت 1317) في نسبة كتاب الروح إلى ابن القيم، فلما نقل نصًّا منه قال: “قال الحافظ ابن القيم في كتاب الروح” (ص 137) وفي موضع آخر: “وقد ردّه العلامة ابن القيم في كتاب الروح” (ص 121). وكذلك في كتابه الشهير جلاء العينين في محاكمة الأحمدين نقل نصًّا من كتاب الروح في مستقر الأرواح فقال: “وقال العلامة ابن القيم من كلام طويل في كتاب الروح ما نصه” (ص 468). وفي موضع آخر: “وفي كتاب الروح للحافظ ابن القيم بعد أن أيد وصول ثواب قراءة القرآن للأموات بأدلة كثيرة قال ما نصه” (ص 645).
وقبله والده شهاب الدين محمود بن عبد الله الآلوسي (1217 – 1270) لما ذكر في روح المعاني مذهب القائلين بجوهرية الروح وأنها ليست داخلة البدن ولا خارجة عنه قال: “ورد هذا المذهب ابن القيم في كتاب الروح بما لا مزيد عليه” (12/ 56)، ونحوه في (15/ 163، 309). وفي موضع آخر ذكر أن المعول عليه عند المحققين قولان: الأول أن الإنسان عبارة عن جسم نوراني علوي حي متحرك … إلخ. ثم قال: “وقال ابن القيم في كتابه الروح: إنه الصواب ولا يصح غيره، وعليه دلّ الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة، وذكر له مائة دليل وخمسة أدلة فليراجع” (8/ 148).
ثم ذكر القول الثاني إنه ليس بجسم ولا جسماني وهو الروح وليس بداخل العالم ولا خارجه إلخ، ثم قال: “وللشيخ الرئيس رسالة مفردة في ذلك … وابن القيم زيف حججه في كتابه. وهو كتاب مفيد جدًّا يهب للروح روحًا ويورث للصدر شرحًا”.
(المقدمة/17)
ونكتفي بهذا من الدلائل الخارجية على إثبات نسبة كتاب الروح إلى ابن القيم، وسيأتي المزيد في فصل “الصادرين عنه”.
أما القسم الثاني من الدلائل، وهي التي سميناها دلائل داخلية فهي مبثوثة في الكتاب، وإليكم أبرزها:
1) ذكر ابن القيم في كتاب الروح هذا كتابًا آخر له في موضوع الروح نفسه فقال في المسألة الخامسة: “وعلى هذا ــ يعني كون الروح ذاتًا قائمة بنفسها تصعد وتنزل وتتصل وتنفصل … ــ أكثر من مائة دليل قد ذكرناها في كتابنا الكبير معرفة الروح والنفس” (ص 123).
وقد ذكر هذا الكتاب الذي وصفه هنا بالكبير في كتابه مفتاح دار السعادة (3/ 105) وفي جلاء الأفهام مرتين (ص 298، 371) وسماه كتاب الروح والنفس.
2) ذكر ابن القيم في عشرة مواضع من كتاب الروح شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وفي الكتاب مواضع أخرى نقل فيها كلام شيخه دون الإشارة إليه. وسيأتي تفصيلها في بحث موارد الكتاب.
3) أورد في المسألة الرابعة حديثين وقال: إن أحدهما دخل في الآخر وركب الراوي بين اللفظين، ثم قال: “وكان شيخنا أبو الحجاج يقول ذلك”. يعني الحافظ أبا الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي (ت 742) صاحب تهذيب الكمال وهو من شيوخ ابن القيم. وكثيرًا ما ينقل عنه ولا سيما في الحديث والرجال (1).
(1) ابن قيم الجوزية للشيخ بكر أبو زيد (ص 177).
(المقدمة/18)
4) في الكتاب مباحث ومسائل ولطائف وفوائد كثيرة تكلم عليها ابن القيم في كتبه الأخرى، فكان كلامه عليها هنا وهناك واحدًا في رأيه واستدلاله وأسلوب تناوله. ومن ذلك:
1 – تفسيره لقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية [الأعراف: 172] في المسألة الثامنة عشرة، فقد ذهب رحمه الله في تفسيرها ــ خلافًا لمذهب “أهل الحديث وكبراء أهل العلم” كما يقول ابن الأنباري ــ إلى أن المراد ما فطرهم سبحانه عليه من الإقرار بربوبيته، وأنه ربهم وفاطرهم، وأنهم مخلوقون ومربوبون، ثم أرسل إليهم رسله يذكِّرونهم بما في فطرهم وعقولهم، وقال: نظم الآية إنما يدل على هذا من وجوه متعددة، ثم ذكر عشرة وجوه. وبهذا فسرها ابن القيم في كتاب السماع (384 – 385)، واستدل بسبعة وجوه من الوجوه العشرة المذكورة في كتاب الروح.
2 – المسألة الحادية والعشرون في كتاب الروح عن النفس أواحدة هي أم ثلاث؟ ذكر فيها أن كثيرًا من الناس وقع في كلامهم أن لابن آدم ثلاث أنفس: مطمئنة ولوامة وأمارة، ثم قال: والتحقيق أنها نفس واحدة ولكن لها صفات، فتسمى باعتبار كل صفة باسم. ثم تكلم على الصفات الثلاث وأفاض في الكلام. وفي كتابه إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان عقد الباب الحادي عشر على علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه. ومهد له بالكلام على النفس أواحدة هي أم ثلاث، ثم وصف الثلاث وصفًا مختصرًا بذكر الخلاف واشتقاق اللوامة من اللوم أو التلوم. وهذا كله موافق لما في كتاب الروح، والفرق بينهما في التفصيل والاختصار أو بعض الزيادة.
(المقدمة/19)
3 – المسألة الأولى في كتاب الروح: هل تعرف الأموات بزيارة الأحياء وسلامهم عليهم أو لا؟ وقد أجاب عنها المؤلف بالإثبات. فهو يرى أن الميت يعرف زيارة الحي ويستبشر به، ويسمع سلامه عليه. ومما استدلّ به على ذلك أن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلِّم محال.
وقد ساق في كتابه زاد المعاد الحديث الطويل المروي عن لقيط بن عامر واستخرج منه فوائد كثيرة منها:
“وقوله: (حيثما مررت بقبر كافر فقل: أرسلني إليك محمد). هذا إرسال تقريع وتوبيخ، لا تبليغ أمر ونهي. وفيه دليل سماع أصحاب أهل القبور كلام الأحياء وخطابهم لهم” (3/ 685).
4 – وفي هذه المسألة قد استشهد المؤلف ببعض الحكايات والأقوال التي نقلها من كتاب القبور لابن أبي الدنيا، باب معرفة الموتى بزيارة الأحياء. منها حكاية عاصم الجحدري، وقول محمد بن واسع، وقول الضحاك، وحكاية عن مطرف بن عبد الله، وكلها تتعلق بيوم الجمعة.
وفي زاد المعاد لما عدد خصائص يوم الجمعة قال: “الحادية والثلاثون: أن الموتى تدنو أرواحهم من قبورهم وتوافيها في يوم الجمعة، فيعرفون زوارهم ومن يمرّ بهم ويسلِّم عليهم ويتلقاهم في ذلك اليوم أكثر من معرفتهم بهم في غيره من الأيام، فهو يوم يلتقي فيه الأحياء والأموات”.
ثم استشهد على ذلك بقصة مطرف، وقصة عاصم، وقول محمد بن واسع، وقول الضحاك. (1/ 415 – 416).
5 – في الفرق بين الصبر والقسوة، ذكر أن “القلوب ثلاثة: قلب قاس
(المقدمة/20)
غليظ بمنزلة اليد اليابسة، وقلب مائع رقيق جدًّا .. وأصح القلوب: القلب الرقيق الصافي الصلب”. وترى هذه الأقسام الثلاثة ووصفها بنحو ما قال هنا في الوابل الصيب (120 – 122) وشفاء العليل (105 – 192).
6 – قوله تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 ــ 30] رجح فيه ابن القيم أن ذلك يقال للنفس المطمئنة عند الموت ويوم القيامة أيضًا. فجمع بين القولين، فلا منافاة بينهما. كذا قال في كتاب الروح في المسألة الحادية والعشرين وفي مدارج السالكين (2/ 171 – 179).
7 – المسألة الثامنة عشرة في تقدم خلق الأرواح على الأجساد أو تأخر خلقها عنها، وقد رد ابن القيم على القائلين بأن الأرواح خلقت قبل الأجساد. وقد خطَّأ قولهم هذا في روضة المحبين (120) أيضًا.
8 – المسألة السابعة في الرد على الملاحدة والزنادقة المنكرين لعذاب القبر وسعته وضيقه وكونه حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة. وقد مهد ابن القيم بثلاثة أمور أولها: “أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يخبروا بما تحيله العقول وتقطع باستحالته، بل أخبارهم قسمان: أحدهما ما تشهد به العقول والفطر، الثاني: ما لا تدركه العقول بمجردها … “. و”الأمر الثاني أن يفهم عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – مراده من غير غلو ولا تقصير، فلا يحمل كلامه ما لا يحتمله ولا يقصر به عن مراده وما قصده من الهدى والبيان”.
ثم قال: “وقد حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال والعدول عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله، بل سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل
(المقدمة/21)
بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع، ولاسيَّما إن أضيف إليه سوء القصد. فيتفق سوءُ الفهم في بعض الأشياء من المتبوع مع حسن قصده، وسوءُ القصد من التابع، فيا محنة الدين وأهله! “.
وقد عقد المؤلف الفصل الحادي والعشرين من كتابه “الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة” في بيان الأسباب الجالبة للتأويل. وذكر أربعة أسباب: اثنين من المتكلم واثنين من السامع، وهما سوء الفهم وسوء القصد. وقال: “فلما حدث بعد انقضاء عصرهم ــ يعني الصحابة ــ من ساء فهمه وساء قصده وقعوا في أنواع من التأويل بحسب سوء الفهم وفساد القصد … وإذا تأملت أصول المذاهب الفاسدة رأيت أربابها قد اشتقوها من بين هذين الأصلين … ” (500 – 510). وذكر في “شفاء العليل” من آثار القسوة تحريف الكلم عن مواضعه ثم قال: “وذلك من سوء الفهم وسوء القصد” (ص 106).
وفي زاد المعاد ذكر من فقه قصة قدوم وفد نجران “أن الكلام عند الإطلاق يحمل على ظاهره حتى يقوم دليل على خلافه … ” وأشار إلى إيراد النصارى على قوله تعالى: {يَاأُخْتَ هَارُونَ} [مريم: 28]. قال: ” … فإيراده إيراد فاسد وهو إما من سوء الفهم أو سوء القصد”. (3/ 644).
5) من منهج ابن القيم في البحث أنه في المسائل الخلافية يستقصي الأقوال وحجج القائلين بها، ثم يناقشها قولًا قولًا بعرضها على الكتاب والسنة دون تعصب لهذا أو ذاك، وقد يقيم مناظرة بين الخصوم، فهذا يحتج على ذاك، ثم ذاك يرد على هذا، وهكذا حتى يظهر الصواب. ومن أمثلة ذلك
(المقدمة/22)
في كتاب الروح: مسألة مستقر الأرواح، ومسألة حقيقة النفس، ومسألة انتفاع أرواح الموتى بشيء من سعي الأحياء. فلما حشد أقوال الناس في مصير الأرواح بعد الموت في المسألة الخامسة عشرة قال: “فهذا ما تلخص لي من جميع أقوال الناس في مصير أرواحهم بعد الموت، ولا تظفر به مجموعًا في كتاب واحد غير هذا البتة. ونحن نذكر مآخذ هذه الأقوال، وما لكل قول وما عليه، وما هو الصواب من ذلك الذي دل عليه الكتاب والسنة، على طريقتنا التي منّ الله بها”.
وهذه الطريقة يعرفها كل من اطلع على كتب ابن القيم.
6) قول ابن القيم في النص السابق: “ولا تظفر به مجموعًا في كتاب واحد غير هذا البتة” من العبارات المألوفة في كتب ابن القيم. وكثيرًا ما ينبِّه قارئه على قيمة المادة التي تجشم جمعها من المصادر المختلفة في مكان واحد. وهذا من سمات منهجه في التأليف. ومن أمثلة ذلك: قوله في حادي الأرواح: “فهذا نهاية إقدام الفريقين في هذه المسألة، ولعلك لا تظفر به في غير هذا الكتاب” (ص 791).
وقال فيه أيضًا: “فتأمل هذه الأبواب وما تضمنته من النقول والمباحث والنكت والفوائد التي لا تظفر بها في غير هذا الكتاب البتة … ” (100).
وقال في إعلام الموقعين: “قد أتينا على ذكر فصول نافعة وأصول جامعة في تقرير القياس والاحتجاج به، لعلك لا تظفر بها في غير هذا الكتاب ولا بقريب منها” (1/ 227). وانظره أيضًا (4/ 81، 222)، وطريق الهجرتين (ص 798) وعدة الصابرين (ص 11) ومدارج السالكين (1/ 227، 400)، ومفتاح دار السعادة (1/ 276)، وبدائع الفوائد (ص 1603).
(المقدمة/23)
7) في آخر كتاب الروح باب طويل في الفروق، ولكن الفروق الثمانية التي ختم بها الكتاب هي خلاصة القواعد التي قامت عليها دعوة شيخ الإسلام وأصحابه في إصلاح الأمة والرجوع بها إلى الكتاب والسنة في العقيدة والعبادات والمعاملات والسلوك جميعًا. فالفروق الثلاثة: “الفرق بين توحيد المرسلين وتوحيد المعطلين، والفرق بين تنزيه الرسل وتنزيه المعطلة، والفرق بين إثبات حقائق الأسماء والصفات وبين التشبيه والتمثيل” تدور حول التوحيد. و”الفرق بين تجريد متابعة المعصوم وبين إهدار أقوال العلماء وإلغائها، والفرق بين الحكم المنزل الواجب الاتباع والحكم المؤول الذي نهايته أن يكون جائز الاتباع عند الضرورة ولا درك على مخالفه” حول تقليد الأئمة الفقهاء المجتهدين. و”الفرق بين تجريد التوحيد وبين هضم أرباب المراتب، والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، والفرق بين الحال الإيماني والحال الشيطاني” حول التصوف. ومعظم مؤلفات ابن القيم دائرة على هذه المحاور، فلا يخفى على من له شيء من الأنسة بكتبه أن كتاب الروح أيضًا قد خرج من المعدن نفسه.
8) ابن القيم رحمه الله معروف بطول النفس وإشباع الكلام والاستطراد، وبعض المباحث التي يستطرد إليها يكون أهم من الموضوع الأصلي الذي عقد الكلام عليه، وكثيرًا ما ينبه في آخر هذه الفصول والمباحث الطويلة على أن أهميتها وشدة الحاجة إليها هي التي اقتضت الإطالة فيها. فقال في كتاب الروح بعدما أورد فصولًا كثيرة في الفروق: “ولا تستطل هذا الفصل فلعله من أنفع فصول الكتاب والحاجة إليه شديدة … “.
(المقدمة/24)
ومن أمثلة هذا التنبيه في الكتب الأخرى: قوله في الداء والدواء: “ولا تستطل هذا الفصل فإن الحاجة إليه شديدة لكل أحد” (ص 50).
وقال في عدة الصابرين: “ولا تستطل هذا الفصل المعترض في أثناء هذه المسألة، فلعله أهم منها وانفع” (ص 359).
وقال في بدائع الفوائد: “ولا تستطل هذا الفصل فإنه أهم مما قصد بالكلام” (1/ 128)، وانظره أيضًا (1/ 268).
وقال في مفتاح دار السعادة: “ولا تستطل هذا الفصل وما فيه من نوع تكرار يشتمل على مزيد فائدة، فإن الحاجة إليه ماسة والمنفعة عظيمة” (2/ 200).
أكتفي بهذه الشواهد وهي كثيرة، وأقول أنا أيضًا لقارئ هذه المقدمة: لا تستطل هذا الفصل، فإني كنت أظن أن أمر نسبة هذا الكتاب إلى ابن القيم قد أصبح مفروغًا منه بعد التحقيق الذي دوَّنه الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله في كتابه “ابن قيم الجوزية” كما سبق، ولكن رأيت طائفة من طلبة العلم لا يزالون يتساءلون عن صحة نسبته إلى ابن القيم، فكأن الشبهة لا تزال عالقة بالأذهان، مع أن كتاب الشيخ بكر قد صدر قبل أكثر من ثلاثين سنة، ثم أعيد طبعه أكثر من مرة، ثم صدرت نشرة الدكتور بسام العموش وأكدت نسبة الكتاب. ومن ثم أطلت في هذا المبحث بعض الإطالة، وسيأتي في الفصول القادمة ما يؤيد ذلك ويعزِّزه.
(المقدمة/25)
عنوان الكتاب
لم ينص ابن القيم في كتاب الروح على عنوانه، ولكنه أحال عليه بهذا الاسم في كتابه جلاء الأفهام (ص 557) كما سبق. وبه سماه المترجمون له كالحافظ ابن حجر والسيوطي وابن العماد وغيرهم. والناقلون منه ــ ومنهم تلميذه الحافظ ابن رجب، وشمس الدين المنبجي ــ وهم كُثْر، ذكروه بهذا الاسم أيضًا.
وهذا العنوان هو الوارد في مخطوطاته الكثيرة التي يبلغ عددها زهاء أربعين نسخة ما عدا مخطوطتين: إحداهما محفوظة في المكتب الهندي في لندن برقم (B 87) وصورتها في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، وقد ورد عنوان الكتاب في أولها: “روح الأرواح” مع هذه الزيادة: “تحقيق أحوال ما بعد الموت والآخرة والبرزخ”. وهو غلط منشؤه فيما يبدو الخلط بين ابن الجوزي وابن قيم الجوزية، فإن “روح الأرواح” كتاب لابن الجوزي في الوعظ، وهو مطبوع. ومن قبل ما خلط الوراقون بينهما فنسبوا بعض كتب ابن الجوزي إلى ابن قيم الجوزية (1).
أما المخطوطة الأخرى فهي نسخة الظاهرية التي هي أقدم نسخ الكتاب فيما نعلم، وقد اعتمدنا عليها في إعداد هذه النشرة. وقد ثبت فيها اسم الكتاب في صفحة العنوان هكذا:”كتاب الروح والنفس”. وكتبت كلمة “النفس” بخط مائل.
(1) انظر: ابن قيم الجوزية للشيخ بكر أبو زيد (26 – 27)، (202 – 208).
(المقدمة/26)
وليس العنوان فيما أرى بخط ناسخ المخطوطة، ولا شك أن الذي كتبه لم يقرأ الكتاب كاملًا؛ فإن ابن القيم نفسه أحال فيها على كتاب آخر له كبير “في معرفة الروح والنفس”، فهذا الكتاب غيره لا محالة. ومن ثم علَّق بعض من قرأ هذه النسخة تحت العنوان المذكور بخط مائل أيضا: “قلت: الصواب ترك (والنفس)، فإن لمؤلف هذا الكتاب كتاب كبير (كذا) في معرفة الروح والنفس، أشار إليه في جواب المسألة الخامسة من هذا الكتاب. والله أعلم”.
وهذا قاطع ــ كما ترى ــ في أن العنوان المكتوب في أول هذه النسخة خطأ صرف. ولعل كاتبه اجتهد في تسمية هذا الكتاب من عنده، إذ وجد النسخة غفلًا من العنوان، ورأى المؤلف قد خصص المسائل الثلاث الأخيرة لحقيقة النفس وما إليها، والمسألة الأولى منها مطولة جدًّا، فبدا له أن عنوان “الروح والنفس” أنسب لهذا الكتاب من عنوان “الروح”، وهو لا يعلم أصلًا أن للمؤلف كتابًا آخر كبيرًا بعنوان “الروح والنفس”.
وهنا وقفتان:
الوقفة الأولى: أورد خير الدين الآلوسي (ت 1317) في كتابه جلاء العينين في محاكمة الأحمدين خمسة بحوث موجزة في الروح. الثاني منها في حقيقة الإنسان وقال: “إن المعول عليه عند المحققين قولان: الأول أنه عبارة عن جسم نوراني علوي … وقال المحقق ابن القيم في كتاب الروح إنه الصواب، وعليه دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة” إلخ (ص 168). وهذا كله منقول من روح المعاني لوالده. ولكن بعد أسطر لما ختم البحث قال: “ومن أراد الإحاطة بالأدلة والتفصيل فليرجع إلى كتب الإمام الرازي … وإلى كتاب الروح والنفس لابن القيم وروح المعاني وغيرها (ص 169).
(المقدمة/27)
ثم بعد صفحتين فقط تطرق إلى البحث الرابع في مستقر الأرواح، ونقل الأقوال المختلفة فيه من كتابنا هذا، ثم قال: “وإن أردت تفصيل أدلة هذه الأقوال فعليك بكتاب الروح لابن القيم عليه الرحمة” (ص 171) ثم نقل نصًّا منه.
فهل كان خير الدين رحمه الله يملك نسخة من كتاب الروح وأخرى من كتاب الروح والنفس، فكان يحيل مرة على هذه، وأخرى على تلك، إحالة مقصودة؟ لا أرى ذلك، وإنما هو من التسامح في تسمية الكتاب الذي بين أيدينا، وهو مصدر النقل، وهو المقصود بالإحالة في المواضع المذكورة.
الوقفة الثانية: ذكر الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله في أثناء كلامه على كتاب الروح والنفس لابن القيم: “وذكره السفاريني في شرح الثلاثيات (1/ 584، 734) ” (1).
قلت: يعني قول السفاريني في الموضعين: “وقال الإمام ابن القيم في كتابه (الروح الكبرى) “. وقد وصف ابن القيم كتاب الروح والنفس بأنه “كبير” فلما سمّاه السفاريني بالروح الكبرى دل ذلك على أنه قصد كتاب (الروح والنفس) ولتمييزه عن كتاب (الروح) وصفه بالكبر.
وأضيف هنا أن السفاريني في موضعين من كتابه غذاء الألباب أيضًا سماه بالروح الكبرى (1/ 360)، (2/ 173).
وقد تأملت المواضع الأربعة فلاحظت الأمور الآتية:
1) نقل في الموضع الأول (1/ 584) نصًّا قصيرًا من المسألة
(1) ابن قيم الجوزية (ص 259).
(المقدمة/28)
الملحقة بالمسألة السادسة، وهي: هل عذاب القبر على النفس أو البدن أو كليهما؟ ثم قال في الصفحة التالية (1/ 585): “قال ابن القيم في (الروح) “. ونقل نصًّا طويلًا من المسألة نفسها، فهل يعقل ــ إذا فرضنا أن السفاريني كان يملك نسخة من “الروح الصغرى” وأخرى من “الروح الكبرى” ــ أن ينقل أولًا نصًّا قصيرًا من (الكبرى) ثم ينقل بعده نصًّا آخر طويلًا من (الصغرى)؟ والنصّان من مسألة واحدة قد وردت في الصغرى، فما الذي ألجأه إلى التفريق بينهما في الإحالة؟
2) في الموضع الثاني بعد شرح الحديث الخامس والسبعين في الاستعاذة من عذاب القبر نبه السفاريني على أمرين: الأول أسباب عذاب القبر، ونقل المسألة التاسعة كاملًا إلا يسيرًا (1/ 734 – 737). ثم نقل تحت “التنبيه الثاني” نحو نصف المسألة العاشرة في المنجيات من عذاب القبر. ثم قال: “وقال ابن القيم في محل آخر من الروح” ونقل نصًّا من المسألة الرابعة عشرة في دوام عذاب القبر أو انقطاعه. فقوله في هذا النقل المتصل بالنقل السابق: “محل آخر من الروح” صريح في أن النقول الثلاثة كلها من كتاب واحد سماه في أولها “الروح الكبرى” وفي الثالث “الروح”.
3) ويلاحظ أنه في الموضعين المذكورين سماه عند بداية النقل الأول بالروح الكبرى، ثم سماه بالروح.
4) أما في غذاء الألباب فنقل في الموضع الأول (1/ 360) نصًّا من فصل الفرق بين الرجاء والتمني، وفي الموضع الثاني (2/ 173) من فصل الفرق بين المهابة والكبر، ثم الفرق بين الصيانة والكبر. والفروق الثلاثة كلها من جملة الفروق الواردة في آخر كتاب الروح.
(المقدمة/29)
فالذي يظهر لي ــ والله أعلم ــ أن النصوص المذكورة مثل نصوص أخرى كثيرة نقلها السفاريني جميعًا من كتاب الروح هذا، وإنما سماه بالروح الكبرى في المواضع الأربعة تعظيمًا لها وتنويها بأهميته.
أما كتاب الروح والنفس الذي ذكره ابن القيم في جلاء الأفهام ومفتاح دار السعادة، ووصفه في كتاب الروح بأنه كبير، فلم نقف له على ذكر أو نقل منه في المصادر.
(المقدمة/30)
زمن تأليف الكتاب
سبق في الفصل الأول أن الشيخ الألباني رحمه الله ذكر احتمالًا، إن صحت نسبة الكتاب إلى ابن القيم، وهو أن يكون قد ألَّفه في بداية الطلب، يعني قبل اتصاله بشيخ الإسلام ابن تيمية وتأثره بفكره ومنهجه.
وقد ردَّ الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله هذا الاحتمال بأن ابن القيم ذكر فيه شيخ الإسلام في نحو عشرة مواضع مستشهدًا بأقواله وذاكرًا لاختياراته على عادته المألوفة في عامة مؤلفاته (1). وفي أول موضع منها قال:
“وقد حدثني غير واحد ممن كان غير مائل إلى شيخ الإسلام ابن تيمية أنه رآه بعد موته وسأله عن شيء كان يشكل عليه من مسائل الفرائض وغيرها فأجابه بالصواب” (ص 96).
وهذا قاطع بأن كتاب الروح أُلِّف بعد وفاة شيخ الإسلام سنة 728.
ويؤيد هذا أن ابن القيم نقل في المسألة السابعة من الكتاب حكاية فقال: “وحدثني صاحبنا أبو عبد الله محمد بن منتاب السلامي، وكان من خيار عباد الله، وكان يتحرى الصدق … ” (ص 200). وقد توفي ابن منتاب أيضًا سنة 728 (2).
وقد نقل ابن القيم في المسألة التاسعة عشرة حكاية حدثه إياها القاضي نور الدين بن الصائغ. وقد ورد بعد اسمه في النسختين (ب، ط): “رحمه
(1) ابن قيم الجوزية (ص 256).
(2) انظر ترجمته في أعيان العصر (4/ 437) والدرر الكامنة (3/ 437).
(المقدمة/31)
الله”. فإن صح هذا كان تأليف كتاب الروح بعد وفاة القاضي في الطاعون سنة 749. ولكن لا سبيل إلى تصويب ما ورد في النسختين المذكورتين.
بل ثمة قرينة أخرى تشير إلى أن الكتاب ألف قبل سنة 740. وذلك أن كتاب ابن القيم في السماع أُلِّف جوابًا عن استفتاء كان سنة 740 كما ورد النص على ذلك في الكتاب (ص 87). وذكر فيه المؤلف من كتبه زاد المعاد (ص 202). ومن الكتب المذكورة في الزاد: جلاء الأفهام (1/ 87، 93). وفي جلاء الأفهام أحال المصنف على كتاب الروح وقال: “وقد استوفيت الكلام على هذا الحديث وأمثاله في كتاب الروح” (ص 557).
فيمكن القول بأن كتاب الروح أُلِّف قبل جلاء الأفهام، وزاد المعاد، وكتاب السماع، ما بين عامي (728) و (740).
(المقدمة/32)
سبب التأليف وبناء الكتاب
كتاب الروح من الكتب التي ألفها ابن القيم إجابة عن سؤال أو أسئلة عُرضت عليه. مثله مثل الداء والدواء، والطرق الحكمية، وكتاب الصلاة، وكتاب السماع، والمنار المنيف وغيرها. يدل على ذلك قوله في آخر المسألة الأولى: “والمقصود: جواب السائل … “، وقوله: “وأما المسألة السابعة: وهي قول السائل … “، ونحوه في الثامنة والتاسعة. وقوله: “وأما المسألة العاشرة، وهي قوله … “. ونحوه في الرابعة عشرة. وكذا قوله في آخرها: “وسيأتي إن شاء الله تمام لهذه في جواب السؤال عن انتفاع الأموات بما تهديه إليهم الأحياء” يعني المسألة السادسة عشرة.
مثل هذه الكتب التي بنيت على الاستفتاء، منها ما خلا من خطبة الكتاب وافتتح المؤلف فيه جوابه بعد “الحمد لله” مباشرة نحو الداء والدواء. وردت في أوله صورة الاستفتاء ثم “فأجاب الشيخ الإمام … رضي الله عنه: الحمد لله. ثبت في صحيح البخاري … “. ومثله في كتاب السماع. ومنها ما استهله بخطبة قصيرة نحو كتاب الصلاة.
أما كتاب الروح فلا صورة فيه للاستفتاء ولا خطبة، وإنما بدأ الجواب بقوله: “أما المسألة الأولى” كما صرح بذلك أحد النساخ. ولا شك أن المؤلف قد افتتح جوابه بالحمدلة أو نحوها كما في الداء والدواء، وكان على تلامذته أو غيرهم ممن عني بنسخ كتابه أن يتبعوا في ذلك أصل المؤلف، وليس فيه ما يبعث على الاستغراب، ولكن جماعة منهم لم يعجبهم خلوُّ مثل هذا الكتاب الجليل من الخطبة، فتكلفوا وتطوعوا بإنشاء مقدمات له من عندهم. وقد حملت إلينا النسخ التي بين أيدينا ثلاثة نماذج
(المقدمة/33)
منها، وسنثبتها عند وصف النسخ المعتمدة في التحقيق.
أما المسائل التي اشتمل عليها كتاب الروح فهي: إحدى وعشرون مسألة. وذلك حسب ترقيمها في جميع النسخ الخطية التي بين أيدينا إلا نسخة واحدة (ن)، وكذا في النسخ المطبوعة. وذلك راجع إلى ترقيمها في أصل المؤلف. وقد نص على هذا العدد في مقدمة عدد من النسخ، ومنها نسخة الظاهرية ــ وهي أقدم النسخ ــ فجاء فيها: “أما بعد، فهذا كتاب مشتمل على إحدى وعشرين مسألة في الأرواح وما يتعلق بها … “. وأكد برهان الدين البقاعي (ت 885) ذلك في مقدمة سر الروح فقال: “وهو إحدى وعشرون مسألة”.
أما النسخة (ن) فعدد المسائل حسب ترقيمها اثنتان وعشرون مسألة. وذلك أن المؤلف بعد المسألة السادسة، وهي أن الروح هل تعاد إلى الميت في قبره وقت السؤال أو لا؟ قال: “وهذا يتضح بجواب المسألة، وهي قول السائل: هل عذاب القبر على النفس أو على البدن … ؟ “.
يظهر أن هذه المسألة ــ وهي من جملة المسائل المعروضة عليه كما تفيد عبارة “قول السائل”، وهي مسألة طويلة ــ قد ألحقها المؤلف فيما بعد، وتركها غفلًا دون ترقيم، لأن ذلك يقتضي تغيير الترقيم لأربع عشرة مسألة من الثامنة إلى الحادية والعشرين، إن كان أضافها بعد الفراغ من المسألة الأخيرة.
وهذه الإضافة كانت سببًا لاضطراب في النُّسَخ، فناسخ (ق) رقَّم المسألة الملحقة بالسابعة، والسابعة بالثامنة، وأبقى التاسعة على حالها، فتكررت فيها التاسعة.
(المقدمة/34)
أما النسخة (ن) وكانت هي ــ أو أصلها ــ جريئة في إصلاح المتن، فرقمت المسألة الملحقة بالسابعة، ثم أصلحت الترقيم في سائر المسائل، فبلغ عددها 22 مسألة.
هل هذه المسائل الاثنتان والعشرون التي أجاب عنها المؤلف كلها كانت معروضة عليه، أو أضاف هو بعض المسائل إتمامًا للكلام على مسألة أو نظرًا إلى أهميتها؟
يلوح هذا التساؤل في مقدمة النسخة (ط) التي قال كاتبها ضمن ثنائه على الكتاب: “يشتمل على جملة من المسائل تتضمن الكلام على أرواح الأموات والأحياء بالدلائل من الكتاب والسنة والآثار وأقوال العلماء الأخيار، لا أدري أسئل مصنفه ــ قدس الله روحه ــ عنها فأجاب أم سئل عن البعض ولكن هو أطال الخطاب، فإني رأيته مجردًا عن خطبة وسؤال أصلًا، مبتدأ فيه بقوله: (أما المسألة الأولى هل يعرف الأموات بزيارة الأحياء أم لا؟) “.
ومما يثير السؤال أننا نقرأ في المسألة الخامسة قول المؤلف: “ولا يمكن جواب هذه المسألة إلا على أصول أهل السنة … والقول إنها ذات قائمة بنفسها تصعد وتنزل وتتصل وتنفصل .. وعلى هذا أكثر من مائة دليل، وقد ذكرناها في كتابنا الكبير في معرفة الروح والنفس، وبيَّنَّا بطلان ما خالف هذا القول من وجوه كثيرة وأن من قال غيره لم يعرف نفسه”.
ثم إذا وصلنا إلى المسألة التاسعة عشرة في حقيقة النفس وجدناها مصداقًا لما ذكره هنا عن كتاب الروح والنفس. فهي مسألة كبيرة أطال فيها الكلام، وذكر مائة وستة عشر دليلًا (حسب تعديده) على قوله، ثم أورد
(المقدمة/35)
اثنتين وعشرين حجة للخصم ثم ردَّ عليها جميعًا. فهل هذه المسألة لم تكن من المسائل المعروضة عليه أو كانت معروضة لكن كانت نيته أن يتناولها بالاختصار، وأن يحيل للتفصيل على كتاب الروح والنفس، بيد أنه لما تكلم عليها غيَّر رأيه؟
يؤيد الاحتمال الأخير أنه لو كانت الإجابة عن السؤال المذكور على هذا الوجه من الإضافة والإطناب مقصودة من بداية الأمر لأحال هناك على هذه المسألة التاسعة عشرة بدلًا من الإحالة على كتاب الروح والنفس. كما فعل في المسألة الخامسة عشرة، إذ قال: ” … فالقول الصحيح غيره، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى، إذ ليس الغرض في جواب هذه المسألة الكلام في الأرواح هل هي مخلوقة قبل الأجساد أم لا؟ “. فأحال على المسألة الثامنة عشرة من هذا الكتاب، ولم يحل على كتابه الكبير في الروح والنفس، مع أن هذا البحث لا بد أن يكون من أهم موضوعاته.
بل لعل المؤلف لم يكن في باله وهو يكتب عنوان المسألة التاسعة عشرة أن يتوسع في الكلام عليها، فإنه لم يقتصر فيه على سؤال واحد بل ضمَّنها ثلاثة أسئلة، فقال: “وأما المسألة التاسعة عشرة وهي: ما حقيقة النفس … ؟ وهل هي الروح أو غيرها؟ وهل الأمارة واللوامة والمطمئنة نفس واحدة لها هذه الصفات أم هي ثلاث أنفس؟ “.
وصنيعه هذا في العنوان يدل على أنه كان يريد أن يتكلم تحته على المسائل الثلاث ويختم بها الكتاب. والمسألة الأولى منها هي التي تحتاج إلى إفاضة القول، فيتكلم عليها بشيء من التفصيل ويحيل للتوسع في أدلته والرد على المنازعين على كتابه الكبير في الروح والنفس. ولكنه لما خاض
(المقدمة/36)
في المسألة بدا له ــ فيما أظن ــ أن ينقل المسألة برمتها أو بشيء من التصرف من كتاب الروح والنفس.
ومثل هذا حصل في المسألة الثالثة في الكلام على النفس المطمئنة والنفس اللوامة، فقد انجرَّ الكلام إلى ذكر بعض الفروق، والمؤلف له عناية خاصة بها لأهميتها في الدين، فقد قال: “إن الدين كله فرق”، فأطلق العنان لقلمه الفياض وتكلم على خمسة وثلاثين فرقًا، ثم توقف قليلًا لتنبيه القارئ على خطر باب الفروق، ثم عاد فتكلم على ثمانية فروق ختم بها الكتاب.
فلو علم المؤلف أن المسألة الأولى من المسائل الثلاث ستستغرق نحو 44 صفحة (من الطبعة الهندية) والثالثة نحو 82 صفحة في حين أن الثانية لا تحتاج إلا إلى خمس صفحات فحسب= لو علم ذلك واستقبل من أمره ما استدبر لم يجمعهن قط في مسألة واحدة، وهي المسألة التاسعة عشرة. وقد اضطر لما اتسع الكلام على الأولى إلى إفراد الثانية بالعشرين والثالثة بالحادية والعشرين، ولكن بقي ذكر الثلاث كلها في المسألة التاسعة والعشرين كما كان، وفات المؤلف أن يعود إليها ليحذف الثانية والثالثة من عنوانها.
وإليكم الآن مسائل الكتاب حسب ترتيب المؤلف:
1 – هل تعرف الأموات بزيارة الأحياء وسلامهم عليهم أو لا؟
2 – أرواح الموتى هل تتلاقى وتتزاور وتتذاكر أو لا؟
3 – هل تتلاقى أرواح الأحياء وأرواح الأموات؟
4 – هل تموت الروح أو الموت للبدن وحده؟
5 – الأرواح بعد مفارقة الأبدان إذا تجرّدت فبأي شيء يتميز بعضها من بعض حتى تتعارف وتتلاقى … ؟
(المقدمة/37)
6 – هل تعاد الروح إلى الميت في قبره وقت السؤال أو لا؟
- هل عذاب القبر على النفس والبدن أو على أحدهما، وهل يشارك البدن النفس في النعيم والعذاب أو لا؟
7 – ما جوابنا للملاحدة والزنادقة المنكرين لعذاب القبر وسعته وضيقه .. ؟
8 – ما الحكمة في كون عذاب القبر لم يذكر في القرآن … ؟
9 – ما الأسباب التي يعذب بها أصحاب القبور؟
10 – ما الأسباب المنجية من عذاب القبر؟
11 – السؤال في القبر هل هو عام في حق المسلمين والمنافقين والكفار أو يختص بالمسلم والمنافق؟
12 – هل سؤال منكر ونكير مختص بهذه الأمة أو يكون لها ولغيرها؟
13 – هل يمتحن الأطفال في قبورهم؟
14 – هل عذاب القبر دائم أو منقطع؟
15 – أين مستقر الأرواح ما بين الموت إلى القيامة؟
16 – هل تنتفع أرواح الموتى بشيء من سعي الأحياء او لا؟
17 – هل الروح قديمة أو محدثة مخلوقة؟
18 – هل تقدم خلق الأرواح على الأجساد أو تأخر خلقها عنها؟
19 – ما حقيقة النفس؟
20 – هل النفس والروح شيء واحد أو شيئان متغايران؟
21 – هل النفس واحدة أم ثلاث؟
(المقدمة/38)
إذا نظرنا في هذه المسائل تبين لنا:
أ- أن معظم المسائل تتعلق بأحوال البرزخ.
ب – أن عشر مسائل منها في عذاب القبر والسؤال فيه.
ج- أن المسألة السادسة عشرة منها وهي مسألة إهداء القرب على الميت من مسائل الفقه أيضًا.
د- أن خمس مسائل منها ــ وهي: حقيقة النفس وقدمها وحدوثها، وصلتها بالروح، وتقدم خلقها على الأجساد أو تأخره، والموت له أو للبدن فقط ــ مما تعرض له الفلاسفة أيضًا.
هـ- المسألة الحادية والعشرون ــ وهي في النفس المطمئنة واللوامة والأمارة ــ من أهم مسائل تزكية النفس.
و- بعض المسائل صغير الحجم، وبعضها مطول. ومن المسائل المطولة: مسألة مستقر الأرواح (15) وإهداء القرب إلى الميت (16) وحقيقة النفس (19).
وقد انطوت هذه المسائل على مباحث أخرى مهمة منها: باب نفيس مطول من الفروق، ومسألة تلقين الميت، وتفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172]، وقوله تعالى: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} الآية [الزمر: 42]، وغير ذلك.
(المقدمة/39)
عرض بعض مسائل الكتاب
عقدنا هذا المبحث لعرض مسائل ناقش فيها بعض أهل العلم الإمام ابن القيم، وسنضع بين يدي القارئ ما استدل به رحمه الله على ما ذهب إليه وما نوقش به، وهي مسائل ثلاث كانت مثار الشك في نسبة الكتاب إلى المؤلف أو القول بأنه من أوائل مصنفاته قبل اتصاله بشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
1) معرفة الأموات بزيارة الأحياء وسلامهم عليهم (ص 5 – 43).
استدل المؤلف على ذلك بما يلي:
1 – قال ابن عبد البر: ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “ما من مسلم يمر بقبر أخيه كان يعرفه في الدنيا، فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحَه حتى يرد عليه السلام”، قال ابن القيم: “فهذا نص في أنه يعرفه بعينه ويرد عليه السلام”.
2 – قول النبي – صلى الله عليه وسلم – لقتلى بدر: “يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًّا، فإني وجدت ما وعدني ربي حقًّا؟ ” فلما استغرب عمر نداءه قال: “والذي بعثني بالحق، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون جوابًا”. والحديث في الصحيحين.
3 – حديث أنس في الصحيحين وفيه: “أن الميت يسمع قرعَ نعال المشيِّعين له إذا انصرفوا عنه”.
4 – تشريع السلام على أهل القبور، فقول المسلم: “السلام عليكم دار قوم مؤمنين” خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا ذلك لكان بمنزلة خطاب المعدوم والجماد.
(المقدمة/40)
5 – تواتر الآثار عن السلف بأن الميت يعرف بزيارة الحي له ويستبشر به. وقد أورد المؤلف آثارًا ومنامات كثيرة ساقها ابن أبي الدنيا في كتابه القبور تحت باب “معرفة الموتى بزيارة الأحياء”.
6 – تسمية المسلِّم عليهم “زائرًا”، فإن المزور إن لم يعلم بزيارة من زاره لم يصح أن يقال: زاره. وكذلك السلام على من لم يعلم بالمسلِّم محال.
قال: “فهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ويرد، وإن لم يسمع المسلِّم الردَّ”.
7 – استئناس الميت بالمشيِّعين لجنازته بعد دفنه كما جاء في حديث عمرو بن العاص في صحيح مسلم.
8 – ذكر عن جماعة من السلف أنهم أوصوا أن يقرأ عند قبورهم وقت الدفن.
9 – تلقين الميت.
10 – وقد ذكر منامات تفيد أن الموتى إذا صلى الرجل قريبًا منهم شاهدوه، وعلموا صلاته، وغبطوه على ذلك، وقال: “وهذه المرائي وإن لم تصلح بمجردها لإثبات مثل ذلك، فهي على كثرتها قد تواطأت على هذا المعنى، وتواطؤ رؤيا المؤمنين على شيء كتواطؤ روايتهم له وكتواطؤ رأيهم على استحسانه واستقباحه. على أنا لم نثبت هذا بمجرد الرؤيا، بل بما ذكرناه من الحجج وغيرها”.
وذكر منامات أخرى كثيرة وختم المسألة بقوله: “الميت إذا عرف مثل هذه الجزئيات وتفاصيلها، فمعرفته بزيارة الحي له وسلامه عليه ودعائه له
(المقدمة/41)
أولى وأحرى”.
هذه خلاصة ما قال ابن القيم وما استدل به.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: هل الميت يسمع كلام زائره، ويرى شخصه؟
فأجاب: “الحمد لله رب العالمين. نعم يسمع الميت في الجملة”، واستدل من الأدلة السابقة بالثالث، فالثاني، فالرابع، فالأول، ثم بما جاء في السنن أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي … ” الحديث، وما جاء فيها من قوله: “إن الله وكَّل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام”.
ثم قال: “فهذه النصوص وأمثالها تبين أن الميت يسمع في الجملة كلام الحي، ولا يجب أن يكون السمع له دائمًا، بل قد يسمع في حال دون حال، كما قد يعرض للحي، فإنه قد يسمع أحيانًا خطاب من يخاطبهم، وقد لا يسمع لعارض يعرض له. وهذا السمع سمع إدراك، ليس يترتب عليه جزاء، ولا هو السمع المنفي بقوله: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] فإن المراد بذلك سمع القبول والامتثال. فإن الله جعل الكافر كالميت الذي لا يستجيب لمن دعاه، وكالبهائم التي تسمع الصوت ولا تفقه المعنى. فالميت وإن سمع الكلام وفقه المعنى فإنه لا يمكنه إجابة الداعي ولا امتثال ما أمر به ونهى عنه، فلا ينتفع بالأمر والنهي. وكذلك الكافر لا ينتفع بالأمر والنهي وإن سمع الخطاب وفهم المعنى كما قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23].
(المقدمة/42)
وأما رؤية الميت، فقد روي في ذلك آثار عن عائشة وغيرها” (1).
وسئل ثانية: هل يعرف الميت من يزوره أم لا؟ مع أسئلة أخرى، فقال: “والميت قد يعرف من يزوره، ولهذا كانت السنة أن يقال، السلام عليكم، أهل دار قوم مؤمنين … ” الحديث (2).
وسئل ثالثة عن الأحياء إذا زاروا الأموات هل يعلمون بزيارتهم؟
فأجاب: “وأما علم الميت بالحي إذا زاره، وسلم عليه، ففي حديث ابن عباس قال: قال رسول الله ^: “ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه، ورد عليه السلام”. قال ابن عبد البر (في الفتاوى: “ابن المبارك” تحريف): ثبت ذلك عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، وصححه عبد الحق صاحب الأحكام” (3).
وقال في جواب آخر: “فإن الميت يسمع النداء كما ثبت في الصحيح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال … ” وذكر الدليل الثالث، فالثاني، فالرابع، فالأول وهو حديث ابن عباس.
وقد ذكر شيخ الإسلام تصحيح ابن عبد البر للحديث في الفتاوى (4/ 295) وغيره، واستدل في أكثر من عشرة مواضع من كتبه، وهو الذي افتتح به ابن القيم جوابه عن هذه المسألة.
المقارنة بين أجوبة شيخ الإسلام هذه وجواب ابن القيم تدل على أن
(1) مجموع الفتاوى (24/ 362 – 364).
(2) مجموع الفتاوى (24/ 303 – 304).
(3) مجموع الفتاوى (23/ 331).
(المقدمة/43)
ابن القيم بنى جوابه على أجوبة شيخه، والأدلة الأربعة الأولى هي أدلة شيخه. ثم زاد عليه بعض الأدلة وأيدها بالآثار والمنامات.
لكن الفرق بين جوابيهما أن شيخ الإسلام يرى أن الميت يسمع في الجملة كما قال في جوابه الأول مرتين، وزاد في المرة الثانية أنه “لا يجب أن يكون السمع له دائمًا، بل قد يسمع في حال دون حال”. و”قد” هنا للتقليل. ويرى أن الميت قد يعرف من يزوره كما قال في جوابه الثاني، فهذه المعرفة أيضًا ليست دائمة.
أما ابن القيم فقد توسّع وعمم في كلامه. وقد نقل صاحبه ابن كثير في تفسيره (6/ 325 – 327) من أول المسألة إلى آخر قول ابن القيم بعد الدليل السادس. وقد حذف الاستدلال بتسمية المسلِّم زائرًا، ولكن نقل قوله: “والسلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلِّم محال”. فكأن ابن كثير موافق لابن القيم في هذه المسألة وما استدل به مما نقله.
وقد ناقش الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله في مقدمته لكتاب “الآيات البينات في عدم سماع الأموات عند الحنفية السادات” (ص 98) دلائل القائلين بالسماع، فرد على الدليل الأول بأنه خاص بأهل القليب وكان خرقًا للعادة، وعلى الثاني بأن قرع النعال خاص بوقت وضعه في قبره. وذكر أنهم استدلوا بأحاديث أخرى لا تصح أسانيدها. ومنها حديث ابن عباس الذي نقل تصحيحه عن ابن عبد البر وصححه شيخ الإسلام وغيره (انظر ص 132).
ثم قال: “وأغرب ما رأيت لهم من الأدلة قول ابن القيم في الروح تحت المسألة الأولى … فأجاب بكلام طويل جاء فيه ما نصه” ونقل استدلاله
(المقدمة/44)
بتسمية المسلم على الميت زائرًا وسلامه عليه وقال: “رحم الله ابن القيم فما كان أغناه عن الدخول في مثل هذا الاستدلال العقلي … ” إلخ. وقد سبق أن نقلنا تعقيبه هذا في مبحث تحقيق نسبة الكتاب.
ثم رد الأول بزيارة البيت الحرام وزيارة قباء وتسمية طواف الإفاضة بطواف الزيارة. وردّ الثاني بمخاطبة الصحابة للنبي – صلى الله عليه وسلم – في تشهد الصلاة بقولهم: السلام عليك أيها النبي، وهم خلفه قريبًا أو بعيدًا في مسجده وغير مسجده (ص 60).
هذا في مقدمة الكتاب، ثم في تعليقه على كلام الآلوسي أشار إلى أشياء أخرى في الرد على الاستدلال بالسلام. وذكر ابن القيم فقال (ص 132): “وكأنه رحمه الله … لم يستحضر قول شيخ الإسلام ابن تيمية في توجيه هذا السلام ونحوه، فقال في الاقتضاء (ص 416) وقد ذكر حديث الأعمى المشار إليه آنفًا (يعني قوله: يا محمد إني توجهت بك إلى ربي … وهذا إذا افترض أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان بعيدًا أو غائبًا عنه لا يسمعه): “هذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادى في القلب، فيخاطب لشهوده بالقلب كما يقول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. والإنسان يفعل هذا كثيرًا، يخاطب من يتصوره في نفسه وإن لم يكن في الخارج من سمع الخطاب”.
قلت: جاء كلام شيخ الإسلام هذا في توجيه حديث الأعمى، ولكن استدلاله بالسلام على الميت قد ورد في الجواب عن المسألة التي نحن فيها، كما سبق.
ومما استدل به ابن القيم على معرفة الأموات بزيارة الأحياء تلقين الميت بعد الدفن، وهي المسألة الآتية.
(المقدمة/45)
2) تلقين الميت بعد الدفن (ص 29 – 33).
هذه المسألة من المسائل العارضة في كتاب الروح، وقد استدل بها ابن القيم على سماع الأموات وقال: ولولا أنه يسمع ذلك وينتفع به لم يكن فيه فائدة وكان عبثًا. ثم ذكر أن الإمام أحمد استحسن التلقين واحتج عليه بالعمل. وذكر حديث أبي أمامة وقال: “فهذا الحديث وإن لم يثبت، فاتصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار ومن غير إنكار كافٍ في العمل به”.
أما استحسان الإمام أحمد للتلقين، فلم أجده، وإنما المذكور عنه إباحته، كما في مجموع الفتاوى (24/ 296 – 299) وغيره. وابن القيم نفسه لما ذكر في كتابه زاد المعاد هديَ النبي في الجنائز قال: “ولا يلقن الميت، كما يفعله الناس اليوم. وأما الحديث الذي رواه الطبراني … لا يصح رفعه. ولكن قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: فهذا الذي يفعلونه إذا دفن الميت، يقف الرجل ويقول: يا فلان بن فلانة، اذكر ما فارقت عليه الدنيا: شهادة أن لا إله إلا الله. فقال: ما رأيت أحدًا فعل هذا إلا أهل الشام، حين مات أبو المغيرة، جاء إنسان فقال ذلك … ” (1). فهذا يدل على أنه لم يكن التلقين معمولًا به في سائر الأمصار والأعصار كما ذكر في كتاب الروح.
وقد سبق في مبحث “زمن تأليف الكتاب” أن كتاب الروح من الكتب التي ألفها ابن القيم قبل زاد المعاد، فينبغي أن يعدّ قوله في الزاد آخر قوليه في المسألة.
هذا، وقد تعقب كلام المؤلف في كتاب الروح الأمير الصنعاني فقال
(1) زاد المعاد (1/ 522 – 523).
(المقدمة/46)
في كتابه “جمع الشتيت”: “وهو كما تراه في غاية الضعف فإنه يقال له أولًا: لا تشكُّ أنت ولا تنكر أن أعظم الأئمة اتباعًا واقتداء برسول الله – صلى الله عليه وسلم – هم أصحابه، ونعلم يقينًا أنه لم يأت عنهم حرف واحد أنهم لقنوا أبا بكر ولا عمر ولا عثمان ولا عليًّا رضي الله عنهم، ولا أن أحدًا من هؤلاء الخلفاء لقن ميتًا بعد دفنه، بل ولا يمكن والله أن يأتي برواية عن أحد من الصحابة أنه قام على قبر غيره وقال: يا فلان بن فلانة، ولا قام أحد على قبر صحابي يناديه. فكيف يقول ابن القيم مع إمامته إنه اتصل العمل به في سائر الأمصار والأعصار؟ ثم يقال له ثانيًا: هذا الإمام أحمد يقول: ما رأى أحدًا يفعله إلا أهل الشام حين مات أبو المغيرة، فكيف يقول:” سائر الأمصار والأعصار”، وأحمد يخبر أنه لم يفعله إلا أهل الشام حين مات أبو المغيرة؟ وكم من أعصار قبله خلت من وفاته – صلى الله عليه وسلم -. وأما الأمصار فلم تكن انحصرت في الشام”.
وقد علق الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين رحمه الله في نسخته من كتاب الروح تعليقًا طويلًا على أمر الاستحسان والعمل في سائر الأمصار، وقد نقلناه منه في موضعه.
3) قراءة القرآن وإهداؤها للميت (ص 416 – 418).
وهي جزء من المسألة السادسة عشرة من مسائل الكتاب في انتفاع الموتى بسعي الأحياء، أجاب عنها ابن القيم بجواب طويل مستفيض ذكر فيه أولًا: أن أهل السنة مجمعون على الانتفاع بأمرين، أحدهما: ما تسبب إليه الميت، والثاني: الدعاء والاستغفار له والصدقة والحج عنه. وإنما الخلاف في العبادات البدنية كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر. ثم ساق أدلة
(المقدمة/47)
انتفاع الميت بما تسبب إليه وما لم يتسبب، فذكر أدلة وصول ثواب الصدقة والصوم والحج. ثم قال: “وهذه النصوص متظاهرة على وصول ثواب الأعمال إلى الميت إذا فعلها الحي عنه، وهذا محض القياس، فإن الثواب حق للعامل فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يُمنع من ذلك”.
وقال أيضًا: “وقد نبه النبي – صلى الله عليه وسلم – بوصول ثواب الصوم الذي هو مجرد ترك ونية تقوم بالقلب … على وصول ثواب القرآن التي هي عمل باللسان وتسمعه الأذن وتراه العين بطريق الأولى … والعبادات قسمان: مالية وبدنية. وقد نبه الشارع بوصول ثواب الصدقة على وصول ثواب سائر العبادات المالية، ونبه بوصول ثواب الصوم على وصول ثواب سائر العبادات البدنية. وأخبر بوصول ثواب الحج المركب من المالية والبدنية. فالأنواع الثلاثة ثابتة بالنص والاعتبار”.
ثم ذكر أدلة المانعين من الوصول، ثم أدلة المقتصرين على وصول العبادات التي يدخلها النيابة كالصدقة والحج، ثم جواب القائلين بالوصول عن أدلة الفريقين. وهو جواب مطول قرر في آخره أن قراءة القرآن وإهداءها للميت تطوعًا بغير أجرة تصل إليه.
وهذا هو جواب شيخ الإسلام أيضًا لما سئل عن ذلك فقال: “من قرأ القرآن محتسبًا وأهداه إلى الميت نفعه ذلك” (1). فكأن جواب ابن القيم تفصيل وتشييد لجواب شيخ الإسلام. وهو مذهب أحمد وأبي حنيفة وطائفة من أصحاب مالك والشافعي. والمشهور من مذهب الشافعي ومالك أن العبادات البدنية لا يصل ثوابها إلى الميت.
(1) مجموع الفتاوى (24/ 300).
(المقدمة/48)
وقد أورد ابن القيم في آخر المسألة إيرادات على قوله، ثم أجاب عنها. وقد ناقش السيد رشيد رضا في تفسير المنار إجابات ابن القيم فقال: ” … وهو لم ينس من حجج المانعين لوصول ثواب قراءة القرآن ونحوها عدم نقل شيء من ذلك عن السلف، ولكنه وهو من أكبر أنصار اتباع السلف قد أجاب عن هذه الحجة بجواب ضعيف جدًّا”.
وبعد ما ساق كلام ابن القيم بطوله، بدأ ردَّه عليه بقوله:
“عفا الله عن شيخنا وأستاذنا المحقق، فلولا الغفلة عن تلك المسألة الواضحة لما وقع في هذه الأغلاط التي نردها عليه ببعض ما كان يردها هو في غير هذه الحالة، وسبحان من لا يغفل ولا يعزب عن علمه شيء”.
ثم ردّ على جواب ابن القيم ردًّا مفصلًا.
ومما قال في ردّه على تعليل ابن القيم عدمَ نقلِ شيء من هذه الأعمال لحرص السلف على كتمان أعمال البر: “ما من نوع من أنواع البر المشروعة إلا وقد نقل عنهم فيه الكثير الطيب، حتى الصدقات التي صرح القرآن بتفضيل إخفائها على الإبداء تكريما للفقراء وسترا عليهم، ولما قد يعرض فيها من المن والأذى والرياء المبطلة لها. وقراءة القرآن للموتى ليست كذلك حتى إن المراءاة بها مما لا يكاد يقع؛ لأن الذي يقرأ لغيره لا يعد من العباد الممتازين على غيرهم فيكتمه خوف الرياء. ثم أين الذين نصبوا أنفسهم للإرشاد والقدوة والدعوة إلى الخير من الصحابة والتابعين، لِمَ لم يؤثر عنهم قول ولا فعل في هذا النوع من البر الذي عم بلاد الإسلام بعد خير العصور لو كان مشروعا؟ فهل يمكن أن يقال: إنهم كانوا يتركون الأمر بالبر، كما قيل جدلا: إنهم أخفوا هذا النوع منه وحده؟ كلا، إنهم كانوا هداة
(المقدمة/49)
بأقوالهم وأعمالهم، وتأثير الأعمال في الهداية أقوى”.
وأما قول ابن القيم: إن القائل بأن أحدًا من السلف لم يفعل ذلك قائل ما لا علم له به .. إلخ. فرد عليه السيد رشيد رضا بقوله: “الذي يثبت ما ذكر للسلف أجدر بقول ما لا علم له به، وناهيك به إذا كان معترفا بأنه لم ينقل ذلك عن أحد منهم، والنفي هو الأصل، وحسب النافي نفيه للنقل عنهم في أمر تدل الآيات الصريحة على عدم شرعيته، ويدل العقل وما علم بالضرورة من سيرتهم أنه لو كان مشروعا لتواتر عنهم أو استفاض”.
أما قول ابن القيم: “وسر المسألة أن الثواب ملك للعامل، فإذا تبرع به وأهداه إلى أخيه المسلم أوصله الله إليه، فما الذي خصَّ من هذا ثواب قراءة القرآن وحجر على المرء أن يوصله إلى أخيه”، فقال في مناقشته: “لم نكن ننتظره من أستاذنا ومرشدنا إلى اتباع النقل في أمور الدين دون النظريات والآراء، على أن هذه القاعدة النظرية غير مسلمة؛ فإن الثواب أمر مجهول بيد الله تعالى وحده كأمور الآخرة كلها، فإنها من علم الغيب التي لا مجال للعقل فيها. وما وعد الله تعالى به المؤمنين الصالحين المخلصين له الدين من الثواب على الإيمان والأعمال بشروطها لا يعرفون كنهه ولا مستحقه على سبيل القطع؛ ولذلك أمروا بأن يكونوا بين الخوف والرجاء، ولا يوجد في الآيات ولا الأخبار الصحيحة ما يدل على أن العامل يملك ثواب عمله وهو في الدنيا كما يملك الذهب والفضة أو القمح والتمر فيتصرف فيه كما يتصرف فيها بالهبة والبيع”.
وقول ابن القيم: “وهذا عمل الناس حتى المنكرين في سائر الأعصار والأمصار من غير نكير من العلماء”، ردّ عليه السيد رشيد رضا بقوله:
(المقدمة/50)
“وعمل الخلف وحده في أمر تعبدي كهذا لا حجة فيه، على أنهم لم يجمعوا عليه” (1).
والغريب أن الأمير الصنعاني الذي وصم ابن القيم في مسألة التلقين بالتعصب، نقل معظم كلامه في مسألة إهداء القُرَب وقال: “فإن قلت: هذا شيء ما فعله سلف الأمة من الصحابة وغيرهم، وهم أحرص الناس على الخير. قلت: قد فعله هذا الصحابي لأشرف خلق الله ــ يعني قول أبيّ لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -: أجعل لك صلاتي كلها، والمقصود: الصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم – ــ ومن أين لك أنه لم يفعل السلف ذلك، فإنه لا يشترط في هذه الهبة إشهاد الناس عليها ولا إخبارهم بها؟ وهب أنه ما فعل هذا أحد منهم فإنه لا يقدح فيهم لأنه مندوب لا واجب، ولأنه قد ثبت لنا دليل جواز فعله سواء سبقنا إليه أحد أو لا؟ ” (2).
وإهداء القُرَب إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ــ الذي رآه شيخ الإسلام وغيره بدعة (3)، فإن الصحابة لم يكونوا يفعلونه ــ استدل الأمير على جوازه أيضًا بقول أُبيّ!
(1) تفسير المنار (8/ 226 – 230).
(2) تأنيس الغريب (ص 188).
(3) جامع المسائل (4/ 254).
(المقدمة/51)
موارد الكتاب
موارد المؤلف في كتاب الروح نوعان: أحدهما نقول من الكتب سمَّاها أو سمَّى أصحابها، والآخر نقول شفوية أسندها إلى بعض شيوخه وأصحابه. أما النصوص التي نقلها من كتب شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية فصرَّح بالنقل عنه أحيانًا، ولم يصرح أحيانًا أخرى. وهذا منهجه المعروف في النقل عن شيخه.
وكثيرًا ما يغفل الإشارة إلى مصدره، وقد يذكر مؤلفه في خلال النقل، وقد يحيل على مصدر، مع أنه نقل منه بواسطة كتاب آخر، وقد يكون صاحب هذا المصدر الوسيط واهمًا في النقل، فينتقل وهمه إلى كتاب الروح. وقد نبهت على ما وقفت منه في حواشي الكتاب.
وقد رأيت أن أتحدث عن موارد المؤلف في هذا الكتاب مسألة مسألة، ولا أشير إلى الصحيحين والموطأ وكتب السنن ونحوها لاستفاضة النقل منها، وستأتي أسماؤها مع أماكنها في الفهرس الخاص بالكتب المذكورة في المتن.
- المسألة الأولى في معرفة الأموات بزيارة الأحياء وسلامهم عليهم.
بُنِيت هذه المسألة ــ فيما ظهر لي ــ على بعض فتاوى شيخ الإسلام كالفتوى الواردة في المجموع، وقد سئل عن معرفة الميت بزائره وسماعه لكلامه (24/ 3039) و (24/ 362). وتصحيح ابن عبد البر لحديث: “ما من مسلم يمر بقبر أخيه … ” والاستدلال بالسلام على الموتى على معرفتهم بالمسلِّم كلاهما مأخوذ من كلام الشيخ، وإن لم يشر المؤلف إلى ذلك.
(المقدمة/52)
ومن موارد هذه المسألة: كتاب القبور لابن أبي الدنيا. وقد نص المؤلف عليه وعلى الباب الذي نقل منه، وهو “باب معرفة الموتى بزيارة الأحياء”، ومطبوعة كتاب القبور ناقصة، والباب المذكور ساقط منها. وقد وردت بعض الأخبار التي ساقها المؤلف في كتاب المنامات لابن أبي الدنيا أيضًا، ولكن المصدر الرئيس في هذه المسألة كتاب القبور.
ومن مواردها: كتاب القراءة عند القبور من كتاب الجامع للخلال.
ونقل فيها عن عبد الحق الإشبيلي، والمصدر كتابه العاقبة في ذكر الموت. وعن ابن عبد البر، والنقل من كتابه الاستيعاب.
ونقل حكاية عن ابن الجوزي، ولكن لم يسم الكتاب الذي أخذها منه، والجدير بالذكر أنها وردت في المنتظم والثبات عند الممات ــ وكلاهما لابن الجوزي ــ على وجه مختلف.
- المسألة الثانية في تزاور أرواح الموتى وتذاكرها.
بعض الأخبار التي نقلها المؤلف في هذه المسألة وعزاها إلى ابن أبي الدنيا قد وردت في كتاب المنامات وكتاب ذكر الموت له، ولكن يظهر أن مصدرها أيضًا كتاب القبور، فإني رأيت بعضها في كتاب الإصابة معزوًّا إلى كتاب القبور. - المسألة الثالثة في تلاقي أرواح الأحياء وأرواح الأموات.
في أول هذه المسألة نقل كلامًا لشيخ الإسلام ابن تيمية، بشيء من التصرف والتعليق عليه من “شرح حديث النزول”. ولم يذكر الشيخ إلا في أثناء النقل إذ قال: “واختار شيخ الإسلام هذا القول وقال: … “. ثم خلط
(المقدمة/53)
تعليقه وقول الشيخ، وأوهم سياقه أن قوله: “والتحقيق أن الآية تتناول النوعين … ” من كلامه هو، كما فهم شمس الدين السفاريني في البحور الزاخرة (1/ 126)، مع أنه تحقيق شيخ الإسلام.
ثم نقل منامات كثيرة معظمها من كتاب “المنامات” لابن أبي الدنيا، دون الإشارة إلى الكتاب أو مؤلفه. وبعضها من كتاب العاقبة، وذكر مؤلفه في موضعين.
ومن موارد هذه المسألة: كتاب “النفس والروح” لابن منده وهو مفقود، وكتاب “المجالسة” للدينوري، والنص المنقول منه لم يرد في مخطوطاته.
وثمة حكايات غريبة نقلها عن علي بن أبي طالب القيرواني العابر، ولم يذكر كتابه، ولعله كتاب “البستان” الذي أحال عليه في المسألة السابعة.
وختم المسألة بأن “غير واحد ممن كان غير مائل إلى شيخ الإسلام ابن تيمية” حدثه أنه رآه بعد موته وسأله عن شيء كان يشكل عليه في مسائل الفرائض وغيرها، فأجابه بالصواب. وليته سمَّى بعض أولئك!
- المسألة الرابعة: الموت للروح أو للبدن وحده؟
من مصادرها: كتاب التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة للقرطبي، وقد سمَّى المؤلف دون الكتاب.
ومنها: زاد المسير لابن الجوزي، نقل منه أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68].
(المقدمة/54)
وحكى فيها عن شيخه الحافظ أبي الحجاج المزي قوله في حديث: إنه دخل على الراوي في حديث آخر.
- المسألة السادسة في عودة الروح إلى الميت في قبره وقت السؤال.
فيها عدة نقول من شرح حديث النزول لشيخ الإسلام. وبعضها من غير تصريح بأنه من كلام الشيخ.
ونقل فيها من كتاب الملل والنحل لابن حزم، وكتاب النفس والروح لابن منده، وقد يكون نقله من الكتاب الأخير بواسطة شرح حديث النزول لشيخ الإسلام. - المسألة الملحقة بالسادسة في عذاب القبر هل هو على النفس والبدن أو أحدهما؟
إذا استثنينا أقوال الإمام أحمد فالمسألة كلها بأحاديثها وآثارها وأقوالها مأخوذة من مصدرين: فتوى لشيخ الإسلام، والتذكرة للقرطبي. وقد صرّح المؤلف في أولها بأن شيخ الإسلام قد سئل عن هذه المسألة وهو ذاكر “لفظ جوابه”، والمسألة في مجموع الفتاوى (4/ 282 – 295). أما تذكرة القرطبي فلم يشر إليها المؤلف، وقد ساق الأحاديث مساق القرطبي، فوهم في بعضها. ونقل ثلاثة آثار من كتاب الطاعة والمعصية لعلي بن معبد بأسانيدها، وهي في التذكرة محذوفة الأسانيد، فلا أدري أنقلها من كتاب ابن معبد مباشرة، أم كانت عنده نسخة أخرى من التذكرة؟ ومن التذكرة نقل أقوال المعتزلة في عذاب القبر. وتصرف في النقل في بعض المواضع، فوقع في الخطأ، كما ستراه في موضعه.
(المقدمة/55)
- المسألة السابعة في الرد على المنكرين لعذاب القبر وسعته وضيقه.
من مواردها: كتاب التذكرة، وقد بنى بعض أجوبته على كلام القرطبي دون إشارة إليه؛ وكتاب المحتضرين لابن أبي الدنيا، ولم ينص على اسم الكتاب؛ وكتاب القبور له.
وأحال للمنامات على كتاب المنامات لابن أبي الدنيا، وكتاب البستان للقيرواني العابر.
ونقل خبرًا عن شيخ الإسلام بلفظ “أخبرني شيخنا عن بعض المحتضرين، فلا أدري أشاهد أو أُخبر عنه … “.
ونقل خبرين عن اثنين من أصحابه، فقال في الخبر الأول: “حدثني صاحبنا أبو عبد الله محمد بن الرُّزيز الحرّاني أنه خرج من داره … “. وصفه ابن كثير بالإمام العالم العابد الناسك العالم خطيب الجامع الكريمي بالقُبَيبات، وأرخ وفاته في سنة 743. انظر ترجمته في البداية والنهاية (18/ 458). وقد تصحف “الرُّزيز” في المراجع إلى “الوزير” و”رزين”.
وقال في الخبر الثاني: “حدثني صاحبنا أبو عبد الله محمد ابن منتاب السلامي، وكان من خيار عباد الله، وكان يتحرى الصدق. قال: جاء رجل إلى سوق الحدادين ببغداد … “.
وقد ترجم لابن منتاب الصفديُّ في أعيان العصر (4/ 437) وابن حجر في الدرر الكامنة (3/ 437). وتوفي بدمشق سنة 728، كما سبق. - المسألة العاشرة في الأسباب المنجية من عذاب القبر.
من مواردها: مسند عبد بن حميد، والتمهيد لابن عبد البر، ومسند
(المقدمة/56)
الطيالسي، والترغيب والترهيب لأبي موسى المديني، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم، والأسامي والكنى لأبي أحمد الحاكم، ولم ينص على الكتابين الأخيرين.
ومن مواردها: تذكرة القرطبي، وقد انخدع بطريقته في النقل، وذلك أن الحكيم الترمذي فسر قوله – صلى الله عليه وسلم -: “كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة” في كتابه نوادر الأصول، ونقل القرطبي جزءًا منه وقال في آخره: “قاله الترمذي الحكيم”، ثم قال: “قلتُ: إذا كان الشهيد لا يفيق … “. مع أن قوله هذا تتمة كلام الحكيم، ويجب حذف “قاله الترمذي الحكيم. قلت”. وقد نقل ابن القيم تفسير الترمذي الحكيم أولًا دون الإشارة إليه، مما يوهم أنه تفسير ابن القيم، ثم قال: “قال أبو عبد الله القرطبي: إذا كان الشهيد … ” وردّ عليه.
ونقل فيها عن شيخ الإسلام تعظيمه لحديث عبد الرحمن بن سمرة في رؤيا النبي – صلى الله عليه وسلم – الطويلة. قال: “سمعت شيخ الإسلام يعظم أمر هذا الحديث … “.
- المسألة الحادية عشرة في كون السؤال في القبر عامًّا للمسلمين والمنافقين والكفار.
نقل فيها من التمهيد قول ابن عبد البر: إن الفتنة في القبر لا تكون إلا للمؤمن والمنافق، وردّ عليه. - المسألة الثانية عشرة في اختصاص السؤال في القبر بهذه الأمة أو عمومه.
نقل فيها أقوال الحكيم الترمذي وعبد الحق الإشبيلي والقرطبي، ومصدرها جميعًا تذكرة القرطبي.
(المقدمة/57)
- المسألة الثالثة عشرة في امتحان الأطفال في قبورهم.
مبناها على فتوى شيخ الإسلام الواردة في مجموع الفتاوى (4/ 277، 280) وجامع المسائل (4/ 222). - المسألة الرابعة عشرة في دوام عذاب القبر وانقطاعه.
من مواردها: كتاب القبور لابن أبي الدنيا، ولم يسم الكتاب. - المسألة الخامسة عشرة في مستقر الأرواح في البرزخ.
من أهم مواردها: التمهيد لابن عبد البر، ثم كتاب النفس والروح لابن منده، ثم كتاب الفصل في الملل والنحل لابن حزم. ولم يسم الكتب، وإنما ذكر أصحابها. وبعض النصوص المنقولة من الملل والنحل لم ترد في نسخته المطبوعة.
ومنها: كتاب الرد على ابن قتيبة لمحمد بن نصر المروزي (ص 380). - المسألة السادسة عشرة في انتفاع أرواح الموتى بشيء من سعي الأحياء.
من مواردها: مسائل الإمام أحمد برواية محمد بن يحيى الكحال، والمفهم في شرح صحيح مسلم لأبي العباس أحمد بن عمر القرطبي، ومعرفة السنن والآثار للبيهقي، والرعاية لأبي عبد الله ابن حمدان.
ومما لم يسمه: الاستذكار لابن عبد البر، والصحاح للجوهري.
ونقل فيها نصًّا من بعض كتب أبي الوفاء ابن عقيل.
ومن مواردها: فتوى شيخ الإسلام عن قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ
(المقدمة/58)
إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] في مجموع الفتاوى (24/ 306 – 324) وقد ذكر قول طائفة إن القرآن لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره وإنما نفى ملكه لغير سعيه، ثم قال: “وكان شيخنا يختار هذه الطريقة ويرجحها”.
- المسألة السابعة عشرة في قِدم الروح وحدوثها.
من مواردها: فتوى شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (4/ 216 – 231) وقد نقل ابن القيم نصًّا طويلًا منها (424 – 427).
ومنها: كتاب الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد. وقد يكون نقله بواسطة الفتوى المذكورة، ولكن في اللفظ اختلاف.
وفي الكلام على الإضافة إلى الله يبدو أنه صادر عن كتاب الجواب الصحيح لشيخ الإسلام (2/ 155 – 161).
ومنها: كتاب النفس والروح لابن منده، وقد نقل من خطبة الكتاب، ثم نقل بعض الأحاديث والآثار منه.
ومنها: كتاب محمد بن نصر المروزي، ولعله “الرد على ابن قتيبة” وقد سماه في المسألة الخامسة عشرة. وقد يكون مصدر النقل كتاب ابن منده. - المسألة الثامنة عشرة في تقدم خلق الأرواح على الأجساد أو تأخره.
ذكر فيها أن في المسألة قولين حكاهما شيخ الإسلام وغيره. وقد ذكر الشيخ القولين في درء التعارض (8/ 414).
وفيها كلام مفصل على قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية [الأعراف: 172]. وقد ذكر ابن
(المقدمة/59)
رُشيِّق المغربي في أسماء مؤلفات شيخ الإسلام “ثلاث قواعد، أكثر من سبعين ورقة” (1) في الآية المذكورة. ولعلها من أهم موارد ابن القيم في هذه المسألة.
ومن مواردها: كتاب النفس والروح لابن منده، والتفسير البسيط للواحدي، وأقوال أبي إسحاق الزجاج وابن الأنباري وغيرهما كلها مأخوذة منه؛ والملل والنحل لابن حزم، والتمهيد لابن عبد البر، ونظم القرآن لأبي علي الجرجاني، وبعض النصوص المنقولة منه قد وردت في البسيط. ولم يذكر المؤلف الكتب المذكورة، وإنما سمَّى مؤلفيها بعض الأحيان.
ونقل من تفسير ابن عيينة، ولكن يبدو أن مصدره كتاب محمد بن نصر المروزي.
وقد ذكر مرة واحدة الزمخشري وابن الجوزي والواحدي والماوردي، والمقصود من كتبهم: الكشاف، وزاد المسير، والبسيط، والنكت والعيون.
والأقوال التي نقلها في تجريح أبي جعفر الرازي كلها في تهذيب الكمال لشيخه المزي إلا قول ابن حبان فهو في كتاب المجروحين له.
- المسألة التاسعة عشرة في حقيقة النفس.
من مواردها: مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري، والملل والنحل لابن حزم.
ونقل فيها نصًّا للفخر الرازي لم أجده في كتابه في النفس ــ والغريب أن ابن القيم لم يرجع إليه ــ ولا في تفسيره وما وقفت عليه من كتبه.
(1) الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية (ص 286).
(المقدمة/60)
ونقل فيها حكاية عن القاضي نور الدين بن الصائغ المتوفى سنة 749.
ومن مواردها: كتاب المنامات لابن أبي الدنيا وقد سمَّى الكتاب، وغريب الحديث لابن قتيبة ولم يذكر الكتاب، وكتاب الاستذكار وقد ذكر مؤلفه، والصحاح للجوهري، نقل منها تفسير كلمة الجسم. وكتاب الرؤيا لمسعدة، ولعله مسعدة بن اليسع بن قيس الباهلي، ولم أقف على خبر لهذا الكتاب.
ونقل بعض المنامات عن القيرواني العابر، وهو صاحب كتاب البستان الذي نقل منه في بعض المسائل السابقة.
في هذه المسألة أفاض ابن القيم في إثبات جسمية الروح، ثم ساق 22 دليلًا للمنازعين. وقد ذكر الآلوسي الكبير (1) أن للشيخ “الرئيس رسالة مفردة في ذلك سماها بالحجج العشر .. (2). وابن القيم زيَّف حججه في كتابه”. وقد رجعت إلى هذه الرسالة ورسالة أخرى لابن سينا في معرفة النفس، وكذلك إلى كتابيه “النجاة” و”الشفاء”، ولكن لم أجد فيها إلا بعض الدلائل التي ذكرها ابن القيم هنا. وقد نقل دليلًا منها عن أبي البركات البغدادي، ولم أجده في كتاب المعتبر له، ولعله في كتابه في النفس، وقد وصلت إلينا قطعة منه، ولكن ليس فيها النص المنقول هنا. وقد تكون دلائل أخرى أيضًا منقولة من الكتاب المذكور.
(1) روح المعاني (15/ 156).
(2) في مطبوعة روح المعاني:” الغر”، ولعله تصحيف. والرسالة مطبوعة في دائرة المعارف العثمانية بحيدراباد الدكن.
(المقدمة/61)
ولا أدري أكان كتاب أبي بكر الرازي (ت 313) في أن النفس ليست بجسم (1) من موارد المؤلف في هذه المسألة أم لا؟
وقد رد ابن القيم على أدلة المنازعين جميعًا ردًّا مفصلًا، ولم أقف ــ مع الأسف ــ على موارد ابن القيم فيها. وقد أورد ضمنها قولًا لابن سينا، وهذا أيضًا لم أجده.
- المسألة العشرون: هل النفس والروح شيء واحد أو شيئان متغايران؟
من مواردها: الصحاح للجوهري، نقل منه تفسير النفس؛ وكتاب النفس والروح لابن منده. - المسألة الحادية والعشرون: هل النفس واحدة أو ثلاث؟
نقل فيها أقوال المفسرين في “النفس المطمئنة” من تفسير الطبري دون الإشارة إليه. وفيها باب مطول من الفروق، لم يصدر فيها ابن القيم عن كتاب آخر، بل معظم الكلام من نتائج فكره وفيض خاطره.
(1) انظر: الفهرست للنديم (2/ 311)، وهذا غير كتابيه الكبير والصغير في النفس.
(المقدمة/62)
الصادرون عنه
الصادرون عن كتاب الروح كثيرون، معظمهم صرَّح بمصدره، فسمَّى الكتاب والمؤلف جميعًا أو اكتفى بذكر المؤلف. ومنهم من نقل دون الإشارة إلى الكتاب أو مؤلفه. ومن هؤلاء: الحافظ ابن كثير (ت 774) وابن أبي العز الحنفي (ت 792) شارح العقيدة الطحاوية.
أما الأول فقد نقل في تفسيره (6/ 325 – 327) نصًّا طويلًا من المسألة الأولى في معرفة الأموات بزيارة الأحياء بشيء من الاختصار. وتأثره بابن القيم بادٍ أيضًا في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172].
وأما ابن أبي العز الحنفي، فقد ساق في شرح الطحاوية (219 – 220) الوجوه العشرة كلها التي استدلّ بها ابن القيم على رأيه من نظم الآية المذكورة. وكذلك نقل من المسائل (4، 5، 7، 12، 15، 16، 17، 18، 20، 21)، ولخص عدة مسائل منها كاملة. انظر شرح الطحاوية (384 – 401)، (458 – 465).
والذين صرحوا بالنقل بين مكثر ومقل.
أما المكثرون، فمنهم:
- شمس الدين محمد بن محمد المنبجي الحنبلي (ت 785).
وقد ألَّف كتابه “تسلية أهل المصائب” سنة 777 إثر الطاعون الذي مات فيه ألوف من الناس. نقل فيه من كتاب الروح بالنص في الصفحات
(المقدمة/63)
(271، 277 – 278، 284، 288، 291، 296). وهي من الباب الخامس والعشرين في أن الله يثبت الذين آمنوا عند السؤال في القبر، والباب السادس والعشرين في اجتماع الأرواح وهيئتها وأين محلها. وقد جمع في البابين عدة مسائل من مسائل كتاب الروح.
ولا تظن أن الاستفادة من كتاب الروح محصورة في الصفحات المذكورة، بل نصوص أخرى كثيرة مصدرها كتابنا هذا. منها جواب شيخ الإسلام الذي أورده ابن القيم في أول المسألة الملحقة بالسادسة، وقد عقب في أثنائه على كلام الشيخ للتوضيح، دون تنبيه، فنقله المنبجي (ص 291 – 293) على أنه كله من كلام شيخ الإسلام. ولم يشر إلى أنه نقله من كتاب الروح.
- ابن رجب الحنبلي (ت 795).
كتابه “أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور” أصله كتاب أخبار يشاركه في معظم أبوابه كتاب الروح. ولم يذكر ابن رجب كتاب شيخه إلا في موضع واحد (68 – 69) إذ نقل قصتين إحداهما رواها ابن القيم عن ابن منتاب السلامي التاجر والأخرى عن صاحبه ابن الرزيز الحراني. ولكن ابن رجب قد نسج في أبواب كثيرة من كتابه على منوال شيخه، وعدد كبير من الآثار والأخبار التي أوردها فيه مصدرها كتاب الروح. وحسبك أن تلقي نظرة خاطفة في الباب التاسع من كتاب الأهوال في ذكر محل أرواح الموتى في البرزخ، الذي يقابل المسألة الخامسة عشرة في كتاب الروح. - جلال الدين السيوطي (ت 911).
له كتاب “شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور”. وهو أيضًا في
(المقدمة/64)
أصله كتاب أخبار ويشارك كتاب الروح في أبواب كثيرة. وقد ختم كتابه بفوائد تتعلق بالروح وقال بصراحة: “لخصت أكثرها من كتاب الروح لابن القيم” (414). وهو أيضًا في مسألة مستقر الأرواح قد اعتمد كثيرًا على كتاب الروح. والمواضع التي سمى فيها ابن القيم هي: (199، 201، 210، 245، 247، 275، 297، 312، 313، 315، 316، 317، 318، 325، 332، 351، 352، 414، 421، 422).
وقد نقل السيوطي في مؤلفاته الأخرى أيضًا من كتاب الروح. ومنها الحاوي للفتاوي (1/ 212)، (2/ 165، 166) والحبائك في أخبار الملائك (ص 263).
- شمس الدين محمد بن أحمد السفاريني الحنبلي (ت 1188).
وهو في مؤلفاته كثير الاعتماد على كتب شيخ الإسلام وابن القيم، وينقل فصولًا كاملة منها. وله كتاب كبير سماه “البحور الزاخرة في أحوال الآخرة” ضمّنه نصوصًا كثيرة من كتاب الروح، فالصفحات (1/ 100 – 130) قلما تخلو صفحة منها من قوله: “قال المحقق” يعني ابن القيم. وانظر النقول من كتاب الروح في (1/ 178 – 181، 202 – 204، 219 – 228، 234، 240 – 245، 270 – 275، 278 – 281، 298، 302 – 303، 314 – 319).
وكذلك نقل منه في كتابه لوامع الأنوار البهية (2/ 8، 9، 10، 12، 17 – 63، 157) وغذاء الألباب (1/ 87، 360)، (2/ 173) وشرح ثلاثيات المسند (1/ 584 – 587، 588، 733، 734 – 737). - محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني (ت 1180).
للسيوطي أبيات في تثبيت الميت شرحها الأمير الصنعاني وسمَّى
(المقدمة/65)
الشرح “جمع الشتيت في شرح أبيات التثبيت”، ثم نظم تكملة أبيات السيوطي وشرحها أيضًا وسماه “تأنيس الغريب وبشرى الكئيب بلقاء الحبيب”، وقد طبع التأنيس في ذيل جمع الشتيت في كتاب واحد. ولما كانت الأبيات في مساءلة الميت وعذاب القبر وما إليه نقل الشارح نصوصًا طويلة من كتاب الروح. انظر الصفحات (34، 45، 49 – 54، 55 – 56، 59 – 67، 79، 81 – 82، 83 – 85، 94، 107 – 109، 141 – 142). أما “تأنيس الغريب” الذي يشغل الصفحات (163 – 188) من الكتاب فلا تخلو صفحة منه من كلام ابن القيم.
وقد تعقب الأمير أحيانًا ابن القيم في بعض المسائل منها مسألة تلقين الميت (80)، وتقدم خلق الأرواح على الأجساد (175)، كما سبق.
وقد نقل الأمير من كتاب الروح، وأحال عليه في كتابه سبل السلام (2/ 113، 114) أيضًا.
وأما المقلون، فمنهم:
- ابن حجر العسقلاني (ت 852) في فتح الباري (3/ 239، 240)، (6/ 444، 445)، (8/ 403).
- ومحمد بن يوسف الصالحي (ت 942) في سبل الهدى والرشاد (2/ 359)، (3/ 186، 568).
- وزين الدين المناوي (ت 1031) في فيض القدير شرح الجامع الصغير (2/ 505)، (3/ 34، 158، 251)، (4/ 57، 366، 408).
- ومنصور بن يونس البهوتي الحنبلي (ت 1051) في كشاف القناع عن متن الإقناع (1/ 608، 634).
(المقدمة/66)
- وصالح بن محمد العمري الفُلَّاني (ت 1218) في إيقاظ همم أولي الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار (113).
- ومصطفى بن سعد الرُّحيباني (ت 1243) في مطالب أولي النهى (1/ 909، 927).
- وابن عابدين (ت 1252) في حاشيته على الدر المختار (2/ 192، 243).
- والآلوسي الكبير (ت 1270) في روح المعاني (15/ 152 – 162) تحت قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} وقد أحال عليه في (23/ 57)، (30/ 98) أيضًا.
(المقدمة/67)
أهمية الكتاب والثناء عليه
المسائل التي احتوى عليها كتاب الروح ــ سواء أكانت رئيسة أم جلبها الاحتجاج أو الاستطراد ــ منها مسائل شريفة هي نفسها في غاية الأهمية لصلتها بالعقيدة أو تزكية النفس. وقد تكون أهميتها راجعة إلى المنهج الذي سلكه ابن القيم في تناولها من حيث الشمول والإحاطة وحشد المذاهب وأدلتها ثم الفصل بينها وترجيح الراجح منها في ضوء الكتاب والسنة.
ومن القسم الأول: المسائل المتعلقة بعذاب القبر. وهي عشر مسائل، ولا سيما المسألة السابعة في الرد على الملاحدة والزنادقة المنكرين لعذاب القبر وسعته وضيقه وقولهم: إنا نكشف القبر فلا نجد فيه ملائكة يعذبون الموتى بمطارق الحديد، ولا نجد هناك حيَّات ولا ثعابين ولا نيرانًا تأجَّجُ. ولو كشفنا حاله في حالة من الأحوال لوجدناه لم يتغير. ولو وضعنا على يمينه الزئبق وعلى صدره الخردل لوجدناه على حاله إلخ.
أشار السيوطي في أبيات التثبيت إلى هذا الاعتراض وجواب القاضي ابن العربي عنه وأن إمام الحرمين نحا نحوه في كتاب الإرشاد، وكذا الغزالي في الإحياء. قال:
وحجةُ الإسلام في الإحياء … وكم إمامٍ راح ذا اكتفاء
يريد أن جماعة من الأئمة اكتفوا بجواب القاضي ابن العربي. كذا فسَّره الأمير الصنعاني ثم قال: “واعلم أنه قد بسط الجواب وزاد عليه ابن القيم رحمه الله في كتاب الروح، ولا غناء عن استيفاء ما ذكره؛ فإن المسألة مهمة، والإيمان بها متعين. قال في بسط كلام ابن العربي وإن لم يتعرض لذكره
(المقدمة/68)
لكنه يصلح بسطًا له ما لفظه: … ” (1). ثم نقل المسألة.
ولأهمية هذا المبحث أفرده بعض علماء الهند وسماه “الرسالة القبرية في الرد على منكري عذاب القبر من الزنادقة والقدرية”. ونشرها ضمن مجموعة صدرت باسم “الهدية السعيدية فيما جرى بين الوهابية والأحمدية” (2).
ومن المسائل التي اتسمت بالتتبع الشديد والاستقصاء البالغ: مسألة مستقر الأرواح بعد الموت إلى قيام الساعة. ولم يبالغ ابن القيم إذ قال بعد ذكر مذاهب الناس في ذلك: “فهذا ما تلخص لي من جميع أقوال الناس في مصير أرواحهم بعد الموت، ولا تظفر به مجموعًا في كتاب واحد غير هذا البتة”. ومن ثم كلُّ من تكلم على هذه المسألة بعد ابن القيم كان عالةً عليه.
ومنها أيضًا: مسألة حقيقة النفس. وقد حشد في إثبات جسميتها نحو 115 وجهًا. ثم ساق 22 دليلًا للمنازعين وقال في ذلك: “فهذا كل ما موهت به هذه الطائفة المبطلة من منخنقة وموقوذة ومتردية، ونحن نجيبهم عن ذلك كله فصلًا بفصل بحول الله وقوته ومعونته”. وقد استغرقت هذه المسألة نحو السُّبع من حجم الكتاب. قال الآلوسي الكبير: “وردَّ هذا المذهب ــ يعني كون الروح جوهرًا مجردًا لا خارج العالم ولا داخله ــ ابنُ القيم في كتاب الروح بما لا مزيد عليه” (3). وقال في موضع آخر: “وتحقيق
(1) جمع الشتيت (ص 49).
(2) انظر: ابن قيم الجوزية للشيخ بكر أبو زيد (254).
(3) روح المعاني (23/ 57).
(المقدمة/69)
ذلك بما لا مزيد عليه في كتاب الروح للعلامة ابن القيم عليه الرحمة” (1).
إن قول الآلوسي هذا ــ وهو مَن هو في الاطلاع على كتب الفلاسفة والمتكلمين والمتصوفة ــ يُعَدُّ شهادة كبيرة بقيمة هذا المبحث من كتاب الروح.
ومن مسائل الكتاب ــ وهي المسألة الخامسة ــ أن الأرواح، بعد مفارقة الأبدان إذا تجردت، بأي شيء يتميز بعضها من بعض، حتى تتعارف وتتلاقى؟ وقد نبَّه المصنف نفسه على أنها مسألة نادرة ” لا تكاد تجد من تكلم فيها، ولا تظفر فيها من كتب الناس بطائل ولا غير طائل، ولاسيَّما على أصول من يقول بأنها مجردة عن المادة وعلائقها”
أما المباحث العارضة التي استطرد إليها المؤلف، فمن أهمها: مبحث الفروق في آخر الكتاب، وهو مبحث نفيس أفاض فيها الكلام، وأشاد بأهميته قائلا: “ولا تستطل هذا الفصل، فلعله من أنفع فصول الكتاب، والحاجة إليه شديدة”.
ومنها الكلام ضمن المسألة الرابعة على قول النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: “فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عز وجل”. نبَّه المصنفُ على أهميته، وقال: “ولو لم يكن في الجواب إلا كشف هذا الحديث وشأنه لكان حقيقًا أن يُعَضَّ عليه بالنواجذ”.
- ولكتاب الروح أهمية أخرى عند المعنيين بالتراث. فقد تضمن نصوصًا من كتب لا تزال مفقودة حتى الآن.
(1) روح المعاني (30/ 98).
(المقدمة/70)
- ومنها كتاب ” النفس والروح” لابن منده. نقل نصوصًا منه شيخ الإسلام وابن القيم وابن حجر وغيرهم، ولكن كتاب الروح انفرد بإيراد مقدمة الكتاب، والإشارة إلى بعض أبوابه، في المسألة السابعة عشرة.
- ومنها “نظم القرآن” للحسن بن يحيى الجرجاني. نقل منه ابن القيم نصوصًا بعضها في التفسير البسيط للواحدي.
- ومنها كتاب “البستان” لعلي بن أبي طالب القيرواني العابر. وقد نقل منه ابن القيم أخبارًا عديدة، وهي نصوص نادرة انفرد بها كتاب الروح. ولم أجد نقلًا من الكتاب المذكور إلا في الروض الأنف للسهيلي (1/ 276)، (2/ 66). وقد نقل ابن غنام المقدسي العابر في كتابه “المعلم على حروف المعجم” من “مختصر القيرواني” و”القصيدة الرائية” له، ولكن لم يشر إلى كتاب البستان.
- ومنها: كتاب مسعدة في الرؤيا. ولم أر من ذكر هذا الكتاب.
- وكذلك تضمن نصوصًا من كتب لم ترد في نسخها المطبوعة. ومنها كتاب الملل والنحل لابن حزم، والمجالسة للدينوري. ومنها كتاب القبور لابن أبي الدنيا، أورد منها ابن القيم آثارًا كثيرة، ولما تظهر نسخة كاملة من الكتاب المذكور.
- وأختم هذا الفصل بكلمات في الثناء على الكتاب.
1 – وأولها كلمة منشئ المقدمة الواردة في نسخة قليج باشا المكتوبة سنة 821. فهو من علماء القرن الثامن وتوفي في التاسع. قال:
“وبعد، فهذا كتاب عظيم النفع، جليل القدر، كثير الفائدة، ما صنف مثله
(المقدمة/71)
في معناه، فلا تكاد تجد ما تضمنه من بدائع الفوائد وفرائد القلائد في كتاب سواه”.
2 – وقال شمس الدين السفاريني (ت 1188) في البحور الزاخرة:
“وكتابه هذا من أجلّ ما رأينا في هذا الفن، بل هو أجلّها وأعظمها. ولا ينبغي لمن له رغبة في العلوم أن يجهله ولا شيئًا منه، فعليك به فإنه مفيد جدًّا” (1).
3 – وقال شهاب الدين الآلوسي (ت 1270) في روح المعاني:
“وهو كتاب مفيد جدًّا يهب للروح رَوحًا، ويورث للصدر شرحًا” (2).
4 – وقال الشيخ عبيد الله الرحماني المباركفوري (ت 1414) في شرحه لمشكاة المصابيح:
” … فعليك أن تطالعه، فإنه كتاب جليل القدر، ما صنف مثله
في معناه” (3).
5 – وقد أثنى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله على فصل الفروق، فقال:
” ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله في كتاب الروح بحثًا مهمًّا في الفرق بين الصفات الكريمة والصفات الذميمة، والفرق بين صفات أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وهو بحث جدير بالعناية والمراجعة. رحم الله كاتبه رحمة واسعة” (4).
(1) البحور الزاخرة (1/ 100).
(2) روح المعاني (15/ 156).
(3) مرعاة المفاتيح (1/ 218).
(4) الفوائد المتنوعة للشيخ ابن باز (73).
(المقدمة/72)
اختصار الكتاب وترجمته
أولاً: اختصاره
عني غير واحد من العلماء باختصار الكتاب وتلخيصه ومنه:
1) “سر الروح”
لبرهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي (ت 885). وهو أهم مختصرات الكتاب. ولم يقتصر البقاعي على اختصاره، بل أعاد ترتيبه، وزاد زيادات.
وفي ذلك يقول في مقدمته: “وبعد، فإني كاتب إن شاء الله تعالى في هذه الأوراق المقصود بالحقيقة من كتاب الروح للإمام العلامة … وذلك هو الصحيح من الأقوال في كل مسألة بأقوى أدلتها. وربما زدت شيئًا فميزته غالبًا بـ”قلت والله أعلم”. ورتبته أحسن من ترتيبه، وبالغت جهدي في تهذيبه. وكنت ظننت أنه يكون بعد الزيادة والتحرير في نحو ثلثه، والثلث كثير، فجاء في نصفه فائقًا في رصفه ووصفه. ولم أخِلَّ بشيء من مختاره، ولا حذفت صحيحًا من أحاديثه وأخباره”.
ثم قال: “وهو إحدى وعشرون مسألة، منها ما هو فرع من غيره، فرددتها على عشر مسائل”.
وهذا ترتيب البقاعي لمسائل كتاب الروح:
الأولى: في حقيقة الروح والنفس، وفي أنهما واحد أم شيئان متغايران، وفي أن النفس واحدة أم ثلاث؟
(المقدمة/73)
- جمع المسائل (19، 20، 21) في مسألة واحدة. وقد سبقه إلى ذلك ابن القيم كما رأينا في عنوان المسألة (19)، ولكنه لما توسع فيها أفرد المسألتين الأخريين.
الثانية: أهي قديمة أم محدثة، وبعد إثبات حدوثها، أفتقدم خلقها على خلق الجسد أو تأخر عنه؟ - جمع فيها المسألتين (17، 18).
الثالثة: ما حالها؟ أتموت أم الموت للبدن وحده؟ - وهي المسألة (4) في الأصل.
الرابعة: في أنها هل تعاد إلى الميت ومتى تعاد؟ - وهي المسألة (6) في الأصل.
الخامسة: في مستقر الأرواح ما بين الموت والقيامة ومتى تزار القبور؟ - وهي المسألة (15) في الأصل.
السادسة: في أنها هل لها إدراك بعد الموت أم لا؟ وفيه ثلاثة أمور … - جمع فيها المسائل الثلاث الأوَل وهي معرفة الأموات بزيارة الأحياء وسلامهم، وتلاقي أرواح الموتى، وتلاقي أرواح الأحياء والأموات.
السابعة: بأي شيء تتمايز الأرواح بعد مفارقة الأشباح حتى تتعارف؟ وهل تتشكل بأشكال أبدانها أو لا؟ - وهي المسألة (5) في الأصل.
(المقدمة/74)
الثامنة: في فتنة القبر بالسؤال، وفيه ثلاثة أمور: الأول: أيخص ذلك هذه الأمة أم يعم جميع الأمم؟ الثاني: هل يعم مكلفي هذه الأمة وغير مكلفيهم أو لا؟ الثالث: أيعم المسلمين والكفار أم يخص المؤمنين والمنافقين؟
- جمع فيها المسائل (11، 12، 13) مع تقديم (12) على (11).
التاسعة: هل تنتفع أرواح الموتى بشيء من سعي الأحياء أو لا؟ - وهي المسألة (16) في الأصل.
العاشرة: في عذاب القبر ونعيمه، وما محله، أهو النفس أم البدن أم هما؟ وهل ذكر في القرآن؟ وفي أنه دائم أم منقطع؟ وما يوقع فيه وما ينجي منه؟ - جمع فيها خمس مسائل وهي: الملحقة بالمسألة السادسة ثم (7، 8، 9، 10).
ولا شك أن البقاعي كان موفقًا في ترتيب الكتاب على هذا الوجه، فهو ترتيب منطقي متدرج. وتلخيصه أيضًا جيد في الجملة، ولكن لا يغني عن الأصل.
وكتاب سرّ الروح مطبوع، وقد صدرت طبعته الأولى في القاهرة سنة 1326 على نفقة محمد أمين الخانجي.
2) “الفتوح في حقيقة الروح”
لشمس الدين ابن طولون (ت 953). ذكره في الفلك المشحون (ص 42)، وقال: “لخصته من كتاب الروح لابن القيم مع تتمات”. ونسخة الظاهرية التي هي أقدم نسخ كتاب الروح كانت في ملك ابن طولون، كما سيأتي.
(المقدمة/75)
3) “مختصر كتاب الروح”
لإسماعيل بن محمد بن ركين. نسخة منه في المكتبة الأزهرية برقم 302737 في 8 ورقات. وصورتها بين يديّ. بداية النسخة: “قال سيدنا ومولانا الشيخ إسماعيل بن محمد بن ركين عفا الله عنه وعن المسلمين: هذا مختصر من كتاب الروح للشيخ الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى مشتمل على جميع مقاصد الكتاب المذكور، والحمد لله وحده على نعمه، وإرساله المزيد من فضله وكرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تبرئ القلب من سقمه … وبعد، فهذه كراسة مختصرة من كتاب الروح لشيخ الإسلام ابن قيم الجوزية قدس الله روحه ونور ضريحه احتوت على مقاصد الكتاب أعريته عن الدليل ليقرب التناول. منها: هل تعرف الأموات بزيارة الأحياء وسلامهم عليهم؟ فجوابه … “.
لم أقف على ترجمة لإسماعيل بن محمد بن ركين، ولكن نسخة من هذا المختصر نفسه محفوظة في دار الكتب الظاهرية برقم 6196 (ق 1 – 6) وذكر في فهرس مخطوطات التصوف (2/ 639) أن ناسخها المؤلف محمد الأزهري. وقال مفهرسها الشيخ رياض المالح إن المؤلف لعله: شمس الدين محمد بن محمد بن علي الحسباني الغماري المدني المالكي المعروف بالأزهري المتوفى سنة 962.
وقد ذكر في فهرس دار الكتب المصرية (1/ 206) “مختصر كتاب الروح” لبعض الفضلاء برقم 59 مجاميع، ولعله نسخة أخرى من مختصر ابن ركين.
وفي مكتبة ندوة العلماء في لكنؤو (الهند) نسخة من “مقاصد الروح”
(المقدمة/76)
لمؤلف مجهول برقم 936 (16 ص) كما في فهرست مخطوطاتها (378) وهي أيضًا نسخة من مختصر ابن ركين، والعنوان مأخوذ من قوله في المقدمة: “احتوت على مقاصد الكتاب”.
4) “قاعدة مختصرة من كتاب الروح”
اختصار الشيخ إسماعيل بن محمد بن بردس. فرغ منه في 15 جمادى الأولى سنة 979. نسخة منه بخط المؤلف مذكورة في فهرست الكتبخانة الخديوية (6/ 167).
إسماعيل بن محمد بن بردس البعلي توفي سنة 766، وابنه محمد بن إسماعيل سنة 830، انظر الأعلام (1/ 324)، و (6/ 37) فلا يمكن أن يكون أحدهما صاحب هذا الاختصار الذي فرغ منه سنة 979.
5) “نفحة الأرواح وتحفة الأفراح”
لعبد الوهاب بن عبد الوهاب بن عبد الله الشافعي. ضمن مجموع في مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض برقم 954 (77 – 120) انظر: الأثبات في مخطوطات الأئمة (ص 264).
6) “أسرار الأرواح”
نسخة من هذا المختصر محفوظة في مكتبة غازي خسرو في يوغوسلافيا برقم 3429. وصورة منها في مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بدبي برقم 325. وهي في 30 ورقة.
وفي آخرها: ” … تمت الرسالة في أسرار الأرواح بعون الله تعالى وحسن توفيقه على يد أضعف عباد الله تعالى وأحقرهم يوسف حفظه الله تعالى من جميع التأسف وغفر الله له … “.
(المقدمة/77)
وتاريخ نسخها 27 جمادى الآخرة سنة 1007.
7) وقد اختار العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي (ت 1386) رحمه الله مباحث من الكتاب، ولخَّص كثيرًا من الفروق وعلَّق على بعضها، في مجموع (ق 234 – 247) بخطه محفوظ في مكتبة الحرم المكي الشريف برقم 4656. أفادني بذلك أخي الشيخ علي العمران، وأرسل إلي التعليق المذكور بعد ما انتهى صف الكتاب، فرأيت إثباته هنا للفائدة.
- تكلم ابن القيم في (ص 699) على الفرق بين الجزع والرقة، فعلَّق عليه الشيخ المعلمي بقوله:
“أقول: لم يوضح الفرق. والذي يظهر أن الفرق إنما هو اتباع رضوان الله. ورضوان الله هو في الرقة والرحمة دائمًا، إلا أن تؤدي إلى ترك ما أمر به أو فعل ما نهى عنه” (ق 245). - وفي (ص 702) تكلم ابن القيم على الفرق بين الحقد والموجدة، فعلَّق الشيخ:
“أقول: الموجدة ما يمكن أن يزيله العتاب والاعتذار والصلح. والحقد بخلاف ذلك، ولاسيما إذا كان مع إظهار عدم التأثر. وأشد منه إذا كان بعد إظهار العفو والرضا. وأشد منه إذا كان أشد مما تقتضيه الإساءة، بحيث يحمل صاحبه على عقوبة أعظم من الفعل” (ق 246).
8) “مختصر لمسائل كتاب الروح”
وقفت على نسخة إلكترونية منه، وهو من إعداد الشيخ سليمان بن صالح الخراشي.
(المقدمة/78)
ثانيًا: ترجمة الكتاب
ترجم الشيخ راغب رحماني كتاب الروح إلى اللغة الأردية. وقد صدرت طبعتها العاشرة سنة 1982 في كراشي بباكستان، والناشر: “نفيس أكادمي”.
(المقدمة/79)
الطبعات السابقة
أول طبعة لكتاب الروح صدرت عن دائرة المعارف النظامية بحيدراباد الدكن سنة 1318= 1900 م في 448 صفحة، وتلتها طبعات أخرى، والتي بين يدي صورة من الطبعة الثانية التي صدرت عن الدائرة سنة 1324= 1906 م، ولم أجد فيها اسم المصحح ولا إشارة إلى النسخة الخطية التي اعتمد عليها في تصحيح الكتاب.
أما البلاد العربية فقد طبع فيها كتاب الروح بعد صدور الطبعة الهندية بثمان وخمسين سنة. وقامت بطبعه مكتبة محمد علي صبيح بالقاهرة سنة 1376= 1957 م، وعدد صفحاتها 280 صفحة.
ثم طبع الكتاب مرارًا في القاهرة وبيروت ودمشق والرياض، وجلُّها صادرة عن الطبعة الهندية دون الرجوع إلى النسخ الخطية.
أما النشرات التي اعتمد فيها على النسخ الخطية، فقد وقفت منها على نشرتين:
إحداهما: نشرة الدكتور بسام علي سلامة العموش. وأصلها رسالة علمية نال بها شهادة الدكتوراة من كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سنة 1404. وقد طبعتها دار ابن تيمية للنشر والتوزيع والإعلام بالرياض سنة 1406 في جزئين.
وقد اعتمد فيها على ثلاث نسخ:
1 – نسخة محفوظة في الظاهرية، وذكر الباحث أنها كتبت في محرم 1199 هـ، وهو خطأ. فهذا التاريخ المكتوب على صفحة العنوان لوقفها على الخانقاه السميصاتية. والنسخة غير مؤرخة.
(المقدمة/80)
2 – نسخة أخرى من الظاهرية مكتوبة سنة 856.
3 – نسخة تركية من جامعة إستانبول في 87 ورقة، لم يذكر تاريخ نسخها.
لم تحظ هذه النشرة بحسن الإخراج، غير أنها كانت الخطوة الأولى في سبيل تحقيق كتاب الروح. وقد مضى عليها الآن نحو خمس وعشرين سنة، وقد طبعت في هذه المدة كتب كثيرة من التراث المخطوط، وظهرت وسائل للبحث والتفتيش لم تكن مهيأة للباحثين في ذلك الزمن، ثم أدوات تحقيق النص لا يملكها كل دارس ولاسيَّما إذا كان حديث عهد بهذا الفن، ولذلك أرى الطالب الذي يقدم على تحقيق كتاب في رسالة علمية خليقًا بأن يشكر ويعذر.
ومن ثم لست بصدد نقد هذه النشرة، غير أني أذكر هنا ثلاثة نماذج فحسب من الأغلاط الواضحة التي وقع فيها الباحث في تحقيق المسألة الأولى، ولها فيها نظائر أخرى.
1 – نقل ابن القيم في بداية المسألة الأولى أحاديث وآثارًا من كتاب القبور لابن أبي الدنيا بأسانيدها، وأولها: “حدثنا محمد بن عون، حدثنا يحيى بن يمان، عن عبد الله بن سمعان … ” (ص 169) فترجم المحقق لابن أبي الدنيا وذكر أنه ولد في 208 هـ وتوفي 281 هـ، ثم ترجم لمحمد بن عون نقلا عن تهذيب التهذيب (9/ 384): “محمد بن عون أبو عبد الله الخراساني، قال ابن معين وأبو داود: ليس بشيء … مات 140 – 150 هـ”. ثم ترجم ليحيى بن يمان وبقية رجال الإسناد. ولم يسأل نفسه: كيف يروي ابن أبي الدنيا المولود في 208 هـ عن محمد بن عون الخراساني المتوفى سنة 140 أو 150 هـ؟
(المقدمة/81)
قلت: شيخ ابن أبي الدنيا: أبو عون محمد بن عون الزيادي.
2 – وخبر آخر نقله ابن القيم من كتاب ابن أبي الدنيا بسنده: “حدثني محمد بن عبد العزيز بن سليمان، حدثنا بشر بن منصور قال … ” (ص 175). فترجم المحقق في حاشيته لمحمد بن عبد العزيز نقلًا عن أعلام الزركلي (6/ 208): “محمد بن عبد العزيز بن أبي القاسم عبد الرحمن بن عمر بن سليمان الشريف الهاشمي الإدريسي المصري مؤرخ حافظ للحديث ولد في صعيد مصر 568 هـ وتوفي 649 هـ تصدر للتدريس بالعمرية في القاهرة”.
أولًا: سقط هنا من أول السند: “حدثني محمد”، وهو محمد بن الحسين البرجلاني شيخ ابن أبي الدنيا.
ثانيا: هل يعقل أن يروي ابن أبي الدنيا المولود في 208 هـ، أو شيخه البرجلاني المولود قبله عن محمد بن عبد العزيز الهاشمي المولود في 568 هـ؟
قلت: المقصود هنا: محمد بن عبد العزيز بن سلمان (لا سليمان) العابد.
3 – وفي خبر آخر من كتاب القبور سنده: ” … سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي أن ابن شاس خرج في جنازة … “.
كذا أثبت “ابن شاس”، وذكر في الحاشية أن في (ظ 1): “ابن ميناس”. ثم ترجم لابن شاس من الأعلام (4/ 124) فقال: “عبد الله بن محمد بن نجيم بن شاس بن نزار الجذامي السعدي المصري جلال الدين أبو محمد شيخ المالكية في عصره. توفي 616 هـ). (ص 179).
(المقدمة/82)
وفي الحاشية التي قبلها ترجم لأبي عثمان النهدي نقلًا عن تهذيب التهذيب (6/ 277) وذكر أنه مات سنة 95 هـ.
وذهب عليه أن أبا عثمان النهدي الذي ذكر قبل سطرين أنه توفي سنة 95 هـ كيف يدرك الجذامي المتوفى سنة 616 هـ، أي بعد وفاة النهدي بأكثر من خمسمائة سنة؟
أما النشرة الأخرى، فهي نشرة الأستاذ يوسف علي بديوي. وهي من مطبوعات دار ابن كثير في دمشق وبيروت. ولعلها صدرت لأول مرة سنة 1410، فهذا تاريخ مقدمة المحقق. وبين يدي طبعتها الخامسة التي ظهرت سنة 1422 في 636 صفحة.
والنسخ المعتمدة فيها ثلاث أيضًا وهي:
1 – نسخةالظاهرية برقم 7125 المكتوبة سنة 856.
2 – نسخة الظاهرية برقم 3188 ذكر أنها من خطوط القرن العاشر.
3 – نسخة الظاهرية برقم 4508 المكتوبة سنة 774.
وذكر المحقق أنه جعل النسخة الأخيرة أصلًا، واستعان بالنسختين الأوليين. وذكر في منهجه أنه عني بتخريج الأحاديث وبعض الآثار وشرح بعض الألفاظ، ووضع فهرسين، أحدهما للآيات والآخر للأحاديث.
وتمتاز هذه النشرة إلى ما ذكره بحسن الإخراج وجمال الخط، ولكنها مثل تحقيقه لطريق الهجرتين وغيره ليست نشرة علمية، وإن كانت أفضل من الطبعات الأخرى التجارية.
(المقدمة/83)
وثمة نشرة ثالثة بتحقيق عادل عبد المنعم أبو العباس صدرت من مكتبة القرآن بالقاهرة، وقد أثبت في أولها صورة للصفحتين الأولى والأخيرة من مخطوطة نسخها عمر بن موسى بن أحمد الصفدي الحنبلي عام 800. وليس في هذه النشرة من التحقيق إلا هذه الصورة!
(المقدمة/84)
النسخ الخطية المعتمدة
لكتاب الروح نسخ خطية كثيرة متفرقة في خزائن الكتب في الشرق والغرب، ويبلغ عددها نحو أربعين نسخة كاملة وناقصة، مؤرخة وغير مؤرخة. ولقد وددت لو تهيأ لي الاطلاع على النسخ الجيدة منها ثم اختيار أجودها للاعتماد عليها في إعداد هذه النشرة، ولكن “ما كل ما يتمنى المرء يدركه”. فحرصت على الحصول على أقدم نسخ الكتاب، ثم على نسخ تكون منقولة من أصول مختلفة؛ ليمكن الوصول إلى نص أقرب إلى الصحة. وهاك وصفها:
1) نسخة الظاهرية (الأصل/ أ).
رقمها في دار الكتب الظاهرية 5408، وهي مكتوبة بخط النسخ، في 178 ورقة، وفي كل صفحة 21 سطرًا، وقد فرغ من نسخها أحمد بن محمد بن أحمد البعلي المسيري الحنبلي في 8 جمادى الأولى سنة 774 كما جاء في خاتمة النسخة.
لم أجد ترجمة الناسخ، وكلمة “المسيري” قرأها مفهرس مخطوطات التصوف في دار الكتب الظاهرية الأستاذ رياض المالح رحمه الله: “السري”، ولكن في الكلمة كما رسمها الناسخ بعد اللام ميمًا وسنَّين زائدتين على أسنان السين. فالصواب إن شاء الله ما أثبت، وهي نسبة إلى “مسير” قرية بالغربية من مصر (1).
(1) انظر: تاج العروس (سير 12/ 123).
(المقدمة/85)
هذه أقدم نسخ الكتاب، وأقربها من عهد المؤلف، وأدناها إلى الصحة في الجملة.
في صفحة العنوان كتب اسم الكتاب: “كتاب الروح والنفس”، ويبدو لي أولًا أنه ليس بخط كاتب النسخة، وثانيًا: كلمة “والنفس” التي كتبت مائلة زيادة من غير كاتب العنوان. وهي خطأ نبه عليه بعض قراء النسخة بقوله: “قلت: الصواب ترك (والنفس) … ” إلخ كما سبق في فصل عنوان الكتاب.
وتحت العنوان: “ويشتمل على أحدٍ (كذا) وعشرين مسألة”.
وتحتها: “تأليف الشيخ الإمام العلم العلامة الحجة البارع بقية السلف الكرام أحد الأئمة الأعلام حامل راية التفسير والعلم الشهير بترجمان القرآن وسابق الأقران أبي عبد الله شمس الدين محمد بن الشيخ الصالح أبي بكر بن أيوب الحنبلي المعروف بابن قيم الجوزية قدس الله روحه ونور ضريحه وجعل أبواب الجنان بين يديه مفتوحة. آمين يا رب العالمين”.
وتحت العبارة السابقة ختم دار الكتب الظاهرية الأهلية بدمشق. وفي الصفحة قيد مطالعة نصه: “طالع فيه الفقير محمد بن السيد صالح الكيلاني الشافعي عفي عنه”، وثلاثة قيود تملك:
1 – “من كتب محمد بن طولون”، وهو شمس الدين محمد بن علي بن طولون الدمشقي الصالحي الحنفي المتوفى سنة 953. وقد سبق أن ابن طولون اختصر كتاب الروح مع تتمات في كتابه سمَّاه “الفتوح في حقيقة الروح”. ولعله اعتمد في اختصاره على نسخته هذه.
2 – “تملكته بالشراء من تركة المرحوم الشيخ محمد البيطار أمين الفتوى في دمشق الشام في 1313. الفقير محمد أبو السعود الشهير بالحسيبي الحسني الحسيني عفا الله عنه آمين”.
(المقدمة/86)
الشيخ محمد بن حسن البيطار توفي سنة 1312. وأما الشيخ محمد أبو السعود فكان نقيب الأشراف في دمشق، وتوفي سنة 1341.
3 – “ملكه من صدقات الله تعالى العبد الفقير إلى عفو ربه القدير المعترف بالذنب والتقصير محمد بن النوعي غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين ولمن نظر فيه ودعا له بالمغفرة ولجميع المسلمين”.
بداية النسخة بعد البسملة: “الحمد لله العلي العظيم … أما بعد، فهذا كتاب مشتمل على إحدى وعشرين مسألة في الروح وما يتعلق بها. أما المسألة الأولى … “.
من يقرأ هذه البداية يظن أن خطبة الكتاب للمؤلف، ولكن الظاهر أنها من عمل بعض النساخ، وهي خطبة ملفقة، أخذت من خطبة كتاب تحفة المودود وغيره.
والنسخة قوبلت على أصلها. يدل على ذلك بلاغات المقابلة والتصحيحات الكثيرة في الحواشي والدوائر المنقوطة. وفي بعض المواضع كتب الناسخ في الحاشية “كذا” إذ رسم الكلمة كما وجدها في الأصل (ق 141/ب). وإن تشوهت في الكتاب كتبها في الحاشية مجودة، وفوقها “بيان” كما في (ق 80/ب) وانظر بيانًا آخر في (ق 84/أ).
وفي النسخة اقتراحات وتصحيحات بخط بعض القراء. منها أنه جاء في المتن: “يا صاحب القبر الغريب هدية من أخ عليك شفيق”. فوضع إشارة بعد “الغريب” وعلق في الحاشية: “لعله هذه” (ق 85/أ) يعني: هذه هدية.
وفي الصفحة نفسها: “إي والله يترفون مثل النور”. كذا ورد “يترفون”، فقال هذا المحشي: “لعله يترفرف”. وقد أصاب.
(المقدمة/87)
وجاء في (ق 70/ب): ” … ألست بربكم أن لا تقولوا إنا كنا عن هذا غافلين” فضرب على “لا” إذ ظن أن المقصود لفظ الآية، وليس كذلك.
وفي (ق 86/أ): “ولو خرج أهل الكبائر من الموحدين من النار منها”. وضع علامة قبل “منها” وكتب: “لعله: لخرج المشركون”. وهو صحيح.
وقد سقطت في مواضع من النسخة كلمة أو جملة أو سطر، وفيها أخطاء وتصحيفات، وفي موضع بياض بقدر كلمتين، ولكنها مع ذلك أصح النسخ.
2) نسخة آشتيان (ب)
هذه النسخة محفوظة برقم 8 في مكتبة الحوزة العلمية بمدينة آشتيان في شمال إيران، وصورتها الرقمية في مجمع الذخائر الإسلامية الإيرانية. خطها نسخي جميل، وهي في 231 ورقة، وفي كل صفحة 17 سطرًا. وكلمة “فصل” كتبت بالحمرة.
وقد فرغ من نسخها أحمد بن عمر بن محمد بن متمم نهار الأحد تاسع شهر ذي القعدة سنة 780 كما ورد في خاتمة النسخة. وقوبلت على أصلها.
ضاعت منها الورقة الأولى التي تضمنت اسم الكتاب والمؤلف وخطبته، فأضيفت مكانها ورقة كتبت فيها خطبة الكتاب، فبقيت الصفحة الثانية فارغة، فكتب فيها فهرس المسائل. وكثير من أوراقها قد أصابتها الرطوبة.
بدايتها بعد “بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي”: “قال الشيخ الإمام العالم العلامة الحجة البارع بقية السلف الكرام الأئمة الأعلام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية رحمه الله: الحمد الله العلي العظيم … “.
(المقدمة/88)
وفوقها في أعلى الصفحة صورةُ وقفيةٍ باللغة الفارسية تفيد أن هذه النسخة مما وقفه الشيخ زين العابدين، وهو جدُّ الدكتور غلام رضا دانش الآشتياني الذي قتل في انفجار المكتب المركزي للحزب الجمهوري الإسلامي سنة 1981، واسم الدكتور مذكور في الوقفية.
وفي حواشي الأوراق (131/أ- 136/ب) نسخة كاملة من الأربعين النووية بخط سيف بن عمر كما في آخرها. ولعل هذا الناسخ هو الذي قرأ هذه النسخة، ونبَّه في حواشيها على أهمية بعض المسائل كقوله في (55/أ) “مسألة جليلة القدر” يعني المسألة السابعة. و”قف على فائدة هذا الفصل” (87/ب)، و”قف على قوله: (في السماء التي فيها الله) ” (95/أ)، و”قف على هذا الفصل في إهداء الثواب للميت” (121/ب).
لم أقف على ترجمة كاتب النسخة ولا كاتب الأربعين النووية.
3) نسخة قليج علي باشا (ق)
صورة منها في مركز الملك فيصل برقم 1 – 2499 – ف. والأصل محفوظ في مكتبة مدرسة قليج علي باشا في تركيا برقم 566. وقد وقفه عليها دباغ زاده الحاج إبراهيم أفندي. عدد أوراق النسخة حسب الترقيم الوارد فيها 295 ورقة، والصواب أنها في 201 ورقة، وذلك أن الذي رقَّمها أخطأ، فترك أولًا ترقيم الورقة الأولى، ثم كرر ترقيم الورقات 19 و 83 و 96، ورقّم الورقة الرابعة والتسعين بالثالثة والثمانين، والخامسة والتسعين بالرابعة والتسعين، ولما وصل إلى ق 122 زاد مائة، فكتب 222 واستمر على ذلك!
(المقدمة/89)
وفي كل ورقة 17 سطرًا. وخطُّها نسخي جميل مضبوط في مواضع كثيرة. وقد فرغ من نسخها محمد بن طُنبُغا الحنفي في سلخ شهر رمضان سنة 822.
والنسخة مقابلة على أصلها، يدل على ذلك بلاغات المقابلة. وقد أخذ في مقابلتها على نسخة أخرى أيضًا، ولكن لم يظهر أثرها إلا في الورقات الثلاث الأولى.
ومن عناية الكاتب بنسخته أنه يكتب بداية كل حديث أو خبر أو دليل جديد بحرف كبير، كما يقسم النص على فقرات. ويهتم بالضبط أيضًا.
ونجد في حواشي النسخة تنويهًا ببعض المطالب فكتب مثلًا في (98/أ): “مطلب حسن”. وفي (99/أ): “تحقيق حسن”. وفي (102/ب) في بداية “فصل: وأما قولكم إن التكاليف امتحان وابتلاء … ” كتب تحت كلمة “مطلب”: “تتبّع هذا الفصل إلى آخره فإنه نافع حسن وإحسان (كذا) والله الموفق والهادي”. وهي بخط بعض قراء النسخة.
في صفحة العنوان كتب اسم الكتاب وتحته اسم المؤلف هكذا: “كتاب الروح للشيخ الإمام صاحب الأخلاق الملكية والصفات القدسية أبي عبد الله محمد بن قيم الجوزية عفي عنهما آمين”.
وفوقها قيد تملُّك نصه: “استصحبه الفقير إليه عز شأنه دباغ زاده الحاج إبراهيم … “.
وتحته ختم وقف النسخة على مدرسة قليج علي.
وعن يمين القيد المذكور قيد آخر: “من كتب العبد الفقير إليه تعالى علي القاضي بالقدس الشريف سابقًا”.
(المقدمة/90)
وعن يساره قيد لم يظهر سطره الأول في التصوير. والمقروء منه: “العبد الفقير حسن بن محمد الصدفي غفر لهم”.
وتحت اسم مؤلف الكتاب نقل بعضهم نصًّا من تذكرة القرطبي. وفي الركن الأيسر في أسفل الصفحة قيد تملك آخر مؤرخ في شهر صفر 982 كتبه أحمد بن محمد.
بداية النسخة بعد البسملة و”رب يسِّر”: “الحمد لله المتصف بصفات الكمال … ” وهي خطبة طويلة أنشأها بعض الفضلاء، وقد وردت أيضًا في نسخة الظاهرية المكتوبة سنة 856، وفي النسخة التي طبعت عنها الطبعة الهندية.
ذكر الشيخ محمد رياض المالح رحمه الله في حاشية فهرسه لمخطوطات الظاهرية ــ التصوف (1/ 745): “هذه الخطبة من مختصره للبرهان البقاعي كما جاء في مقدمة المطبوعة”. يعني طبعة محمد علي صبيح.
وقال الأستاذ يوسف علي بديوي في نشرته (ص 52): “وفي النسخة (أ) ثمة مقدمة بقلم برهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي (ت 885) كتبها لكتابه “سر الروح” الذي اختصره من كتاب الروح لابن القيم، ثم اشتهرت على أنها لابن القيم. يقول البقاعي: أما بعد، فهذا كتاب عظيم النفع … بهذه الخطبة المباركة”.
وهذا كلام متهافت عجيب.
أولًا: متى اشتهر أن هذه الخطبة لابن القيم؟ ومن زعم هذا؟ وكيف
(المقدمة/91)
يشتهر ذلك، وكاتب الخطبة نفسه يقول فيها: إنه رأى الكتاب مجرّدًا عن خطبة وسؤال، فأحبَّ أن يفتتحه بهذه الخطبة؟
ثانيًا: كتاب سر الروح مطبوع، وقد طبعه محمد أمين الخانجي في القاهرة سنة 1326 بتصحيح محمد بدر الدين النعساني الحلبي. وليس فيه هذه الخطبة. بل أوله: “الحمد لله جاعل الروح من أمره أبدعها أحسن إبداع، وأودعها خفي السر فدلت بجلالتها على عظيم سلطانه وقدره، وجلّت بدقتها أن يدركها عقل في سرِّه أو جهره … “. وهي خطبة قصيرة.
ثالثًا: ألَّف البقاعي سر الروح سنة 853 كما ذكر في آخر الكتاب، ونسختنا التي تحمل هذه الخطبة قد كتبت سنة 822 أي قبل تأليف سر الروح بإحدى وثلاثين سنة!
- نص خطبة الكتاب الواردة في هذه النسخة:
“الحمد لله المتصف بصفات الكمال، المنعوت بنعوت الجلال، الذي علم ما كان وما يكون وما هو كائن في الحال والمآل، وحكم بالموت على كل ذي روح من مخلوقاته، وساوى فيه بين الملك والمملوك، والغني والفقير، والشريف والضعيف، والعاصي والمطيع من سكان أرضه وسماواته، فهو أول عدل الآخرة بين برياته.
قبض روحَ هذا بعد ما عمر الدنيا، وزَخرَف البناءَ، وتوطَّنها، وليست لحيّ وطنا. وقبض روح الآخر الذي اجتهد في إصلاح آخرته، وجعل الدنيا لجَّةً، واتخذ صالح الأعمال فيها سُفُنا. فشتان ما بين خروج الروحين من الجسدين! هذه لها السعادة والهنا، وتلك لها الخيبة والشقاوة والعنا. هذه
(المقدمة/92)
ترتع في رياض الجنة، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش في لذة ونعيم، وتلك محبوسة تُعذَّب في نار الجحيم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهٌ تحبب إلى عباده بنعمه وآلائه، وابتدأهم سبحانه وتعالى بإحسانه العميم وعطائه، فعياذًا بعزته جل جلاله أن يختم بالإساءة وقد بدأَنا بالإحسان، فله سبحانه الحمد والشكر والنعمة والفضل والخلق والأمر والثناء الحسن الجميل والامتنان.
وأشهد أن محمدًا صلوات الله وسلامه عليه عبده ورسوله الطيب الروح والجسد، سيد ولد آدم وأفضل من قام وركع وسجد، الذي أنزل عليه في كتابه العزيز ومن أصدق من الله قيلًا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، وعلى آله وصحبه خير القرون الذين اهتدوا وما بدَّلوا تبديلا، صلاة دائمة بدوام السموات والأرض، إلى أن يرث الله سبحانه وتعالى الأرض ومن عليها للحساب والعرض، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
وبعد، فهذا كتاب عظيم النفع، جليل القدر، كثير الفائدة، ما صُنِّف مثلُه في معناه، فلا تكاد تجد ما تضمنه من بدائع الفوائد وفرائد القلائد في كتاب سواه. ويشتمل على جملة من المسائل تتضمن الكلام على أرواح الأموات والأحياء بالدلائل من الكتاب والسنة والآثار وأقوال العلماء الأخيار، لا أدري أسئل مصنفه قدَّس الله روحه عنها فأجاب، أم سئل عن البعض ولكن هو أطال الخطاب؟ فإني رأيته مجردًا عن خطبة وسؤال أصلًا، مبتدأ فيه بقوله: “أما المسألة الأولى هل تعرف الأموات زيارة الأحياء أم لا؟ “.
(المقدمة/93)
فأحببت بعد استخارة الله سبحانه وتعالى أن أفتتحه بهذه الخطبة المباركة العظيمة، لكونه كتابًا في ضمن مسائله التي تتأملها وتشاهدها كلُّ درَّة يتيمة، لينشرح صدر الناظر فيه، ولتقوى همته على النظر في بدائع فوائده ودقائق معانيه.
والله سبحانه وتعالى المسؤول المرجوُّ الإجابة أن يعصمنا من الزيغ والزلل، وأن يوفقنا لصالح النية والقول والعمل، وأن يرفع درجات مؤلفه في جنات النعيم، وأن ينفع به الناظر فيه، إنه سميع عليم، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل”.
4) نسخة الشيخ أبا بطين رحمه الله (ط)
هي محفوظة في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالرياض برقم 12370. وهي بخط نسخ واضح، وفي 188 ورقة، وفي كل صفحة 17 سطرًا. أما الترقيم الوارد في النسخة، فهو خطأ، إذ قفز العادُّ من 34 إلى 44 فبلغ عدد أوراق النسخة 198 ورقة.
ناسخها محمد بن مصطفى الحنفي المقدسي، وقد فرغ من كتابتها ليلة الثلاثاء، الحادي عشر من شهر ذي القعدة سنة 881.
في صفحة العنوان تحت عنوان الكتاب كتب اسم المؤلف مع هذه الألقاب: “الشيخ الإمام العالم العامل العلامة الحافظ ناصر السنة … ” ولكن أخطأ في اسم جدّه “سعد” فكتب “سعيد”. والخطأ نفسه وارد في آخر النسخة أيضًا.
وعن يساره أرخ بعضهم وفاة ابن القيم مع ذكر مدفنه.
(المقدمة/94)
وفي أسفل الصفحة قيدُ تملُّك نصه: “دخل في نوبة فقير رحمة ربه العلي محمد بن عوض السفاريني الحنبلي مذهبًا، الخلوتي طريقةً، التيمي اعتقادًا، في شهر ربيع الأول في اليوم الثالث عشر خلت (كذا) منه سنة 1151 بثمن قدره أربع زلط ونصف”. وفوق القيد وتحته ختم كاتبه.
لم أجد ترجمة السفاريني المذكور، وكذا قرأت “التيمي”، والظاهر أنه يقصد عقيدة شيخ الإسلام ابن تيمية. و”زُلُط” جمع زلطة، وهي عملة تركية كانت متداولة على الغالب في فلسطين (1).
وفي وسط الصفحة ختم كبير لم يظهر منه شيء، وفي أعلاها: “وقف الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين رحمه الله تعالى”.
والشيخ رحمه الله (1194 – 1282) من أجلة علماء نجد ومفتيها في عهده كما سبق. وقد علق في ثلاثة مواضع من النسخة. (7/أ، 26/ب، 30/ب-31/أ). وقد أكد بعض من قرأها بأنها بخط الشيخ، فقال في آخر الحاشية الثالثة: “هذا الهامش بقلم الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين رحمه الله أعرفه يقينًا، حتى لا يخفى”. ونحوه في الحاشيتين الأخريين. وفي الأولى سماه “شيخ مشايخنا”.
وفي (ق 36/ب) حاشية نقل فيها تفسير كلمة “مشعوف” من النهاية لابن الأثير في آخرها كتب القارئ نفسه: “بقلم الشيخ علي بن عيسى رحمه الله”.
وهو الشيخ علي بن عبد الله ابن عيسى مفتي الوشم (1249 – 1331) (2)
(1) معجم الألفاظ التاريخية في العصر المملوكي، للأستاذ محمد أحمد دهمان (ص 87).
(2) انظر ترجمته في علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/ 223 – 228).
(المقدمة/95)
من تلامذة الشيخ أبا بطين رحمهما الله.
وفي الحاشية العليا من (ق 30/ب) تعليق يتضمن قول القرطبي من تذكرته في تأويل قوله ^: “حتى ينتهي إلى السماء التي فيها الله تعالى” إن المعنى: أمر الله وحكمته إلخ. وصاحب هذا التعليق هو الذي أرخ وفاة ابن القيم في صفحة العنوان. فعقب بعضهم عليه بقوله: “هذه الحاشية على رأي متأخري الأشاعرة لا على رأي السلف”. وتحته حاشية طويلة للشيخ أبا بطين ملأت الحاشيتين اليمنى والسفلى من هذه الصفحة، والحاشيتين السفلى واليسرى من الصفحة التالية، وهي في الرد على من حرَّف في الحديث الوارد في المتن، فكتب “إلى السماء التي يسمع فيها الخطاب”. وهو غير من نقل في تعليقه قول القرطبي.
والنسخة مقابلة على أصلها. وبعض الفروق المذكورة في الحواشي تدل على أنها قوبلت في مواضع على نسخة أخرى أيضًا. وناسخها أيضًا اهتم بكتابة أول الحديث والخبر ونحوه بحرف كبير أو يضع فوقه خطًّا ممدودًا.
بداية النسخة بعد البسملة: “رب يسر برحمتك. الحمد لله العلي العظيم … وبركاته. المسألة الأولى معرفة الميت … وسلامه عليه. ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ما من مسلم … ” فهي تتفق في الخطبة مع (أ، ب).
في آخر النسخة بعد خاتمة النسخ نقل طويل بعنوان “ذكر شيء من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية ومولده ووفاته تغمده الله برحمته” من كتاب الرد الوافر لابن ناصر الدين.
(المقدمة/96)
5) نسخة مكتبة الأوقاف ببغداد (غ)
رقمها في المكتبة 7069، وكانت موقوفة على المدرسة النعمانية. وهي بخط نسخي واضح في 108 ورقة، وفي كل صفحة 25 سطرًا. تم نسخها بعيد الفطر يوم الاثنين السادس والعشرين من شهر جمادى الآخرة سنة 1117، كما في خاتمة النسخة. وكتب الناسخ فيها اسمه هكذا “أحمد بن شيخ درويش الدوري بلدًا والبغدادي مسكنًا خطيب الشيخ معروف عليه الرحمة”.
لم يكتب اسم الكتاب في أولها، وإنما بدأت النسخة بعد البسملة وما إليها بقوله: “قال الشيخ الإمام العلامة الحجة البارع بقية السلف الكرام أحد الأئمة الأعلام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: الحمد لله العلي … “.
وبجانب هذه العبارة ختم المدرسة النعمانية، ويوجد الختم في الصفحة التالية وفي آخر الكتاب أيضًا.
وفي النسخة قيد تملك واحد يفيد أنها وصلت إلى محمد أمين البرقاوي الوصي الحنبلي بدمشق الشام من تركة شيخه محمد سعدي السيوطي في غرة صفر الخير سنة 1258، وتحته ختمه.
في موضع واحد رأيت كلمة “بلغ” مما يدل على أن النسخة قوبلت على الأصل. وبعض الفروق المذكورة في الحواشي مع حرف الخاء تدل على أنها قوبلت على نسخة أخرى أيضًا.
بين نسخة الظاهرية (أ) وبين هذه النسخة توافق كبير، حتى خيل إلي في أول الأمر أن هذه منقولة من الأولى، ولكن ظهر فيما بعد ما يرد ذلك. فقد
(المقدمة/97)
وقع سقط في عدة مواضع من نسخة الظاهرية من كلمة إلى سطر تقريبًا، ولكن لا سقط في هذه. انظر مثلًا نسخة الظاهرية، الأوراق (109/أ، 112/ب، 113/ب، 117/أ، 120). فذلك التوافق مع هذا الاختلاف يدل على أنهما منحدرتان من أصل واحد.
6) نسخة الحرم المكي الشريف (ج)
هي محفوظة في مكتبة الحرم المكي الشريف برقم 2508/أ، عدد أوراقها 186 ورقة. وقد رقمت صفحاتها فبلغت 372 صفحة، وفي كل صفحة 21 سطرًا. وقد تمت كتابتها في شهر جمادى الأولى سنة 1123، كما في آخر النسخة. وذكر في الصفحة السابقة تاريخ الفراغ من أصلها. وهو الخامس من شوال سنة 788. ولكن لم يكتب ناسخ هذه النسخة اسمه ولا ناسخ أصلها.
في وسط صفحة العنوان اسم الكتاب واسم المؤلف. وبالجانبين ختمان للشريف عبد المطلب بن الشريف غالب. أحدهما مؤرخ في سنة 1251. والشريف عبد المطلب بن غالب بن مساعد الحسني من أمراء مكة، وقد توفي سنة 1303 (1). والختم الآخر الذي لم يظهر كاملًا يتضمن وقف الكتاب.
وفي أسفل الصفحة نصٌّ فيه ذكر ثلاث درجات للعبادة عند الصوفية. وفي الحاشية اليسرى بيتان:
كاف الكنوز وكاف الكيمياء معًا … لا يوجدان فدع عن نفسك الطمعا
(1) انظر ترجمته في الأعلام للزركلي (4/ 154).
(المقدمة/98)
وقد تحدث أقوام باجتماعهما … وما أظنهما كانا ولا اجتمعا
كذا ورد صدر البيت الثاني غير موزون، ولعل الصواب “تحدَّث قوم”.
وفي الحاشية اليمنى من الصفحة التالية ختم آخر لخزانة كتب السلطان عبد المجيد.
وقد صرح الناسخ في آخر النسخة بأنها قوبلت على أصلها، وبلاغات المقابلة والتصحيحات والاستدراكات تؤكد ذلك. ولكن قد رتبت المسائل فيها ورقمت على وجه غريب. فترقيم المسائل فيها هكذا: 1 – 4، 6، 7، 5، 6، 7، 7، 8، 10 – 16، 18، 18، 19.
الذي يلاحظ مع اضطراب الترقيم أن “المسألة السابعة” تكررت ثلاث مرات، و”الثامنة عشرة” مرتين.
أما ترتيب المسائل فهو على هذا الوجه:
المسائل (1 – 4) مرتبة، وبعدها المسألتان (17، 18) برقم 6، 7.
ثم المسائل (5 – 7) مرتبة. وبعدها المسألتان (8، 9) برقم 7، 8.
ثم المسائل (10 – 16) مرتبة. وبعدها المسائل (19 – 21) برقم 18، 18، 19.
النظر في هذا الترتيب يكشف أنه لا خطأ فيه إلا أن المسألتين (17، 18) وقعتا في غير مكانهما. ولعل ذلك راجع إلى اضطراب في أوراق الأصل المنقول منه. وهو أمر سهل ولكن الغريب هو الاضطراب والتكرار في ترقيم المسائل، وعدم التنبه والتنبيه عليه في أثناء النسخ والمقابلة.
(المقدمة/99)
والنسخة كاملة إلا أن سقطًا بمقدار ورقة قد وقع بين الصفحتين 163 و 164.
وهي في نصها قريبة من نسخة آشتيان (ب) ولعلهما منحدرتان من أصل واحد.
بدأت النسخة بعد البسملة والصلاة والتسليم بخطبة انفردت به هذه النسخة، وسيأتي نصُّها. وبعد الخطبة: “ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – … ” فلم يذكر “المسألة الأولى” ولا عنوانها.
وقد انتهت بخاتمة طويلة. والخطبة والخاتمة كلتاهما منقولة من الأصل المنسوخ سنة 788. أما ناسخ هذه النسخة فقد أورد بعد خاتمة الأصل قصة امرأة علوية، ثم أثبت تاريخ الفراغ منها.
وميزة هذه النسخة أنها قد انفردت بالصواب والتمام في موضع من المسألة التاسعة عشرة، فإن عبارة منها قد وردت في النسخ الأخرى كلها ناقصة أو مصحفة.
- نص خطبة الكتاب الواردة في هذه النسخة
الحمد لله مُعِزِّ من أطاعه واتقاه، ومُذِلِّ من خالف أمره وعصاه. الهادي إلى صراطه المستقيم من استهداه، والقريب ممن أمّل فضله ورجاه، والمجيب دعوةَ المضطرِّ إذا دعاه، والرقيب على ما أسرَّه العبد وأبداه، والكافي لمن توكل عليه فلا يكِلُه إلى غيره ولا يُحوِِجه إلى سواه. الحليم الذي لا يعجل بالعقوبة على من عصاه، يبارزه بالعظائم وهو يسوق إليه رزقه ولا ينساه. الكريم الذي يمينه ملأى، لا تَغيضها نفقة، سحَّاءُ الليل والنهار، فلا ينقص خزائنه على سعته عطاياه. الجواد الذي لا يخيب لديه من أنزل به
(المقدمة/100)
آماله وعلّق به رجاه. الغفور الذي يغفر لمن لا يشرك به، ولو ملأت قُرابَ الأرض خطاياه. الرحيم الذي هو أرحم بعباده من الوالدة بولدها. التواب الذي يفرح بتوبة عبده أشدَّ من فرح الفاقد لراحلته عليها طعامه وشرابه إذا وجدها. السميع الذي يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، فلا يشغله سمع عن سمع، فلا تغلِّطه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحِّين. البصير الذي يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء. يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن، يغفر ذنبًا، ويفرِّج كربًا، ويضع أقوامًا، ويرفع آخرين.
أحمده، والذي يستحقه من الحمد فوق حمد الحامدين، فإنه ذو القوة المتين. وأستهديه سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله المرسلين ورب الأولين والآخرين. ذلكم الله ربكم فتبارك الله ربُّ العالمين. هو الحي الذي لا إله إلا هو، فادعوه مخلصين له الدين. الحمد لله رب العالمين.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الأمين ورسوله المبين الذي بعثه رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين. فهدى به من الضلالة، وعلَّم به من الجهالة، وكثَّر به بعد القلة، وأعزَّ به بعد الذلة، وأقام به الملة العوجاء، وأبان به المحجة البيضاء، فلم يزل ^ مشمِّرًا في ذات الله لا يردُّه عنه رادّ، صادعًا بأمره لا يصدّه عنه صادّ، حتى طلع فجر الإيمان، وأشرقت شمس التوحيد والعرفان، وسارت دعوته مسيرةَ الشمس في الأقطار، وبلغ دينه ما بلغ الليل والنهار. فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين صلاة دائمة بدوام السموات والأرضين، وسلَّم وبارك”.
(المقدمة/101)
7) نسخة مركز الملك فيصل (ن)
هذه النسخة محفوظة في مكتبة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالرياض، وكانت ضمن مجموع، ففصلت منه وأعطيت رقم 13494، كما ذكر المفهرس.
وهي في 18 كراسة، ضاعت منها الكراسة الأولى، فذهبت صفحة العنوان والمسألة الأولى، وورقة من المسألة الثانية. وقد ذكر اسم الكتاب في بداية كل كراسة مع رقمها.
والنسخة في وضعها الراهن في 165 ورقة، وفي كل صفحة 21 سطرًا، وكتبت بخط نسخي واضح، وقد فرغ من كتابتها محمد بن محمد بن بصاقة سنة 813. فهي النسخة الثالثة من النسخ التي بين أيدينا من حيث القدم. وقوبلت على أصلها كما يظهر من بلاغات المقابلة والدوائر المنقوطة. وفيها اهتمام بالضبط في الجملة.
وقيمة هذه النسخة في انفرادها بأشياء منها:
1 – قراءات اجتهادية لا توجد في غيرها، وستجد المهم منها في الحواشي.
2 – المسألة الملحقة بالسادسة سميت فيها “المسألة السابعة” والسابعة “المسألة الثامنة” واستمر هذا الترقيم إلى آخر الكتاب، فأصبحت المسألة الحادية والعشرون فيها الثانية والعشرين.
3 – حذفت كلمة “فصل” التي تأتي قبل المسألة الجديدة، وفي داخل المسائل من جميع الكتاب إلا في خمسة مواضع أو أقل.
(المقدمة/102)
4 – لا تثبت الآيات كاملة بل تختصرها.
5 – لا تذكر أحيانًا أسماء كتب الحديث الستة، بل ترمز إليها بالحروف (خ، م، ت، د، س، ق) ويضع عليها خطًّا ممدودًا. نحو “في جامع ت”، و”في سنن ق”. انظر الأوراق (52، 53، 66، 68).
وقد سقط فصل كامل في (ق 61) بسبب انتقال النظر.
8) نسخة المكتبة الأزهرية (ز)
رقمها 1241، وكانت موقوفة على رواق الأروام بالأزهر. وهي بخط النسخ في 81 ورقة، وتمت كتابتها في شهر رجب سنة 853.
في صفحة الغلاف كتب عنوان الكتاب واسم المؤلف، وأن النسخة “وقف لله تعالى على رواق الأروام بالجامع الأزهر” ثم فهرس مسائل الكتاب.
وبداية الكتاب:”بسم الله الرحمن الرحيم {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}. قال شيخ الإسلام العلامة الأوحد المحقق شمس الدين أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية وقد سئل عن الروح: المسألة الأولى وهي هل تعرف الأموات بزيارة الأحياء وسلامهم عليهم أم لا؟ قال ابن عبد البر: ثبت … “.
وكتب في الحاشية العليا: “وقف عنبر آغا”.
وفي آخر النسخة بعد خاتمة النسخ عبارة كتبها طوغان شيخ المحمدي الأشرفي سنة 861. يبدو من خطه أنه هو صاحب بعض التعليقات في حواشي النسخة. ولم يترجم السخاوي لطوغان هذا في الضوء اللامع، غير
(المقدمة/103)
أنه مؤلف كتاب “المقدمة السلطانية في السياسة الشرعية” ألفه سنة 875، وهو مطبوع.
والنسخة فيها خرم كبير بعد (ق 38) ذهب بآخر المسألة السابعة وأول المسألة التاسعة عشرة، والمسائل (8 – 18) كاملة.
من طريقة ناسخ هذه النسخة أنه في موضع “الأولى” و”الثانية” و”الثالثة” يكتب الأرقام (1، 2، 3) في الفصول والمسائل والأقسام والوجوه. فتجد فيها “الوجه 1” مكان “الوجه الأول”.
وفيها أخطاء وتصحيفات كثيرة، بيد أنها أصابت في موضع أخطأت فيه النسخ كلها.
(المقدمة/104)
منهج التحقيق
تبيَّن لي من دراسة النص في النسخ المختلفة أن نسخة المصنف التي ترجع إليها أصول هذه النسخ لم تحظ منه بالمراجعة والقراءة عليه. فبقي فيها أشياء من السهو في الترقيم وسبق القلم وما نتج عن إهمال الحروف وسرعة الكتابة من ضروب الإشكال. وقد اجتهد الوراقون في قراءة النص، فأفلحوا حينًا، وأخفقوا حينًا، فرسم بعضهم الكلمة المشكلة رسمًا. وتجرأ بعضهم فأصلحها بل أصلح الجملة، فأصاب مرة وأخطأ مرات. وقد أدى ذلك كله إلى وجود خلافات كثيرة بين النسخ.
وقد رأيت من قبل في تحقيق طريق الهجرتين أن نسخة الفاتح التي نص كاتبها على أنه نقلها من نسخة المصنف لم يكن الاعتماد عليها وحدها كافيًا للوصول إلى نص سليم، لولا نسخة المصنف التي كشفت عن أخطاء وقع فيها كاتب نسخة الفاتح. فكيف بنسخ كتاب الروح التي لم يخبرنا نُسّاخها شيئًا عن أصولهم، فلا ندري من كتبها ومتى كتبها وكم نسخة بينها وبين أصل المؤلف. نعم، ذكر كاتب النسخة (ج) تاريخ كتابة أصلها، ولكن بعدما نسي هو أن يذكر اسمه!
النسخ التي اعتمدت عليها في تصحيح النص خمس، وهي ذوات الرموز (أ، ب، ق، ط، غ). وأضفت إليها نسخة سادسة رمزها (ن) لانفرادها بأمور سبق ذكرها في وصفها. أما النسختان (ج، ز) فكان الرجوع إليهما للاستئناس.
ولما كانت نسخة الظاهرية المكتوبة سنة 774 أقرب النسخ إلى زمن
(المقدمة/105)
المؤلف وأصحَّها في الجملة على ما فيها من السقط في مواضع وإهمال الحروف ولاسيما في حرف المضارعة في مواضع كثيرة التزمت في الحواشي بالنص على قراءاتها المرجوحة. أما النسخ الأخرى، فقد أغفلت الإشارة إلى كثير من أغلاطها وفروقها التي لا غناء فيها.
وفي إثبات خطبة الكتاب اتبعت نسخة الظاهرية، مع اعتقادي بأنها ليست من كلام المؤلف، وهي خطبة ملفقة غير لائقة بمنزلة الكتاب.
وللاستفادة من قراءات النسخ الأخرى رجعت في المواضع المشكلة إلى نشرة الدكتور بسام العموش المعتمدة على ثلاث نسخ أخرى. وإذا ذكرت في حاشيتي “النسخ المطبوعة” فأقصد هذه النشرة، ونشرة الأستاذ يوسف بديوي، وطبعة دار الحديث بالقاهرة (ط 2، سنة 1419). أما الطبعة الهندية فقد وصلت إليّ عندما شارفت على الفراغ، ولكن تبيَّن أن الطبعات الأخرى ــ ومنها المحققة ــ كانت في كثير من تصرفاتها في النص تابعة للطبعة الهندية دون إشارة إليها في بعض الأحيان.
وإن الرجوع إلى موارد المؤلف قد أفاد كثيرًا في تقويم النص، وحلِّ بعض الإشكالات الناتجة من وهم المصنف في النقل أو وهم مصدره.
ومما يؤسفني أني لم أتمكن من الوصول إلى موارد المصنف في مسألة حقيقة النفس، فآمل من الباحثين المختصين بالفلسفة، إذا وقفوا على شيء منها، أن يفيدوني بها مشكورين.
وقد عنيت بضبط المشكل من النص، وتفسير غريبه وغامضه، وربط مباحث الكتاب بكتب المؤلف الأخرى وكتب شيخه. ولم أترجم للأعلام إلا إذا اقتضى الأمر.
(المقدمة/106)
وقد تولى تخريج الأحاديث النبوية ما عدا أحاديث الصحيحين أخي الدكتور كمال بن محمد قالمي جزاه الله خيرا. أما أحاديث الصحيحين والآثار والأقوال والأشعار فخرّجتُها أنا. وأخيرًا صنعت للكتاب فهارس كاشفة لفظية وعلمية. والحمد لله رب العالمين أولا وآخرا.
(المقدمة/107)
نماذج مصورة
من النسخ الخطيَّة المعتمدة
(المقدمة/109)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الحمد لله العلي العظيم، الحليم الحكيم، الغفور الرحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين. الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين. لقد (1) خلق الإنسان من سُلالة من طين. ثم جعله نطفة في قرارٍ مكين. ثم خلق النطفةَ عَلَقةً سوداءَ للناظرين. ثم خلق العلقةَ مُضغةً، وهي قطعة لحم بقدر أكلة الماضغين. ثم خلق المضغةَ عظامًا مختلفةَ المقادير والأشكال أساسًا يقوم عليه هذا البناءُ المتين (2). ثم كسا العظامَ لحمًا هو لها كالثوب لِلَّابسين. ثم أنشأ خلقًا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين.
فسبحان مَن شملت قدرتُه كلَّ مقدور. وجرت مشيئتُه في خلقه بتصاريف الأمور. وتفرَّد بمُلك السماوات والأرض، يخلق ما يشاء. {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 6].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهًا جلَّ عن المثيل والنظير. وتعالى عن الشريك والظهير. وتقدَّس عن شبه خلقه، فـ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
(1) يشبه رسم الكلمة في الأصل (أ): “بهر”. والظاهر أنه تحريف “لقد” كما أثبتنا. ولم ترد أصلًا في (ب). وفي (ط): “أبهر”، وفوقها: “الذي”، وكأنّ كاتبها يرى أن “أبهر” تحريف “الذي”، وليس بعيدًا. وفي (غ): “الذي بهر”. ويظهر أن ناسخها وجد “الذي” في حاشية نسخة، فظن أنها من المتن. ولا معنى للفعلين: “بَهَرَ” أو “أبهَرَ” هنا. وفي مطبوعة تحفة المودود: أظهر.
(2) (غ): “المبين”، وهو تصحيف.
(1/3)
وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، وخيرتُه من خلقه (1)، وأمينُه على وحيه، وحجَّتُه على عباده؛ أرسله رحمةً للعالمين، وقدوةً للعاملين، ومحجَّةً للسالكين، وحجَّةً على العباد أجمعين. فصلّى اللهُ وملائكتُه ورسلُه عليه. وعليه السلام ورحمة الله وبركاته (2).
أما بعد (3)، فهذا الكتاب مشتمل على إحدى وعشرين مسألةً في الروح وما يتعلَّق بها (4).
(1) “من خلقه” زيادة من (ب، ط).
(2) (ب): “ف صلى الله عليه وسلم “. ولم يرد “رحمه الله” في (غ).
(3) “أما بعد .. بها” لم يرد في (ط).
(4) هذه المقدمة وردت في (أ، ب، ط، غ). وهي مأخوذة من مقدمة كتاب تحفة المودود في أحكام المولود للمصنف، اقتبسها وأضافها إلى كتاب الروح بعض ناسخيه، إذ وجده خِلْوًا من المقدمة. وقد انفردت كل من (ق، ج، ز) بمقدّمة مستقلة. وآثرنا إثبات هذه لورودها في أقدم النسخ التي بين أيدينا. وانظر المقدمات الأخرى في مقدمة التحقيق.
(1/4)
[2 أ] أمّا (1) المسألة الأولى
وهي هل تَعرفُ الأمواتُ بزيارةِ الأحياء
وسلامِهم عليهم أم لا؟
فقال ابنُ عبد البَرِّ: ثبت عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “ما من مسلمٍ (2) يمرُّ بقبر أخيه، كان يعرفه في الدنيا، فيُسلِّمُ عليه إلا ردَّ اللهُ عليه روحَه حتى يردَّ عليه السلام” (3).
(1) “أما” لم ترد في (ط، ز). ومن “أما” إلى “ابن عبد البر” لم يرد في (ج). وفي (ط) بعد المسألة الأولى: “معرفة الميت بزيارة الحي ودعائه له وسلامه عليه. ثبت … “.
(2) سيأتي الحديث بلفظ: “ما من رجل”. وكذا في المصادر المذكورة في الحاشية الآتية. وفي بعضها: “ما من أحد”.
(3) وهو حديث ابن عباس. وسيأتي مرة أخرى في هذا الباب. وهنا تنبيهات:
الأولى: “قال ابن عبد البر: ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – … ” كذا في بدائع الفوائد (662) وتهذيب السنن (1930).
الثانية: في مجموع الفتاوى (24/ 331): “قال ابن المبارك: ثبت ذلك عن النبي – صلى الله عليه وسلم – “. والظاهر أن “ابن المبارك” تحريف “ابن عبد البر”. وقد ذكر شيخ الإسلام تصحيح ابن عبد البر للحديث في الفتاوى (4/ 295) وغيره. وصححه هو أيضًا في (24/ 173). واستدلّ به في أكثر من عشرة مواضع من كتبه. انظر مثلًا: اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 178) ومجموع الفتاوى (24/ 303، 363).
الثالثة: في فيض القدير (5/ 622) أن الحافظ العراقي أفاد أن ابن عبد البر خرّجه في التمهيد والاستذكار بإسناد صحيح من حديث ابن عباس. وعزاه القرطبي في التذكرة (410) والسيوطي في شرح الصدور (273) والصنعاني في بشرى الكئيب (166) أيضًا إلى التمهيد والاستذكار.
= … قلت: لم أجد الحديث في كتاب التمهيد المطبوع. وهو في الاستذكار (1/ 234)، ولكن لم أر فيه تصحيح ابن عبد البر للحديث.
الرابعة: قال ابن رجب في أهوال القبور (82): “خرّجه ابن عبد البر. وقال عبد الحق الإشبيلي: إسناده صحيح. يشير إلى أنّ رواته كلهم ثقات. وهو كذلك إلا أنه غريب، بل منكر”. وتصحيح عبد الحق للحديث في أحكامه الصغرى (1/ 80) والوسطى (2/ 152). (الإصلاحي).
الخامسة: الظاهر أن ابن رجب رحمه الله عنى بثقة رواته الربيع بن سليمان فمن فوقه، وأما شيخ ابن عبد البر، فله ترجمة في جذوة المقتبس (ص 277) للحميدي وقال: “عبيد بن محمد أبو عبد الله كان رجلًا صالحًا يضرب به المثل في الزهد، سكن قرطبة”.
وأما شيخته المملية فاطمة بنت الريان فلم أجد لها ذكرًا في كتب التراجم المتوفرة، والظاهر أنها لم تكن بتلك الحافظة فقد خالفها في إسناده جمعٌ من أصحاب الربيع بن سليمان المراديّ حيث رووه عنه، عن بشر بن بكر، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، فرفعه.
أخرجه تمام في فوائده (139) عن الحسن بن حبيب، وأبي علي أحمد بن محمد بن فضالة الحمصي.
وأخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (6/ 137) من طريق إسحاق بن إبراهيم بن عمران الكرماني، وأبي العباس محمد بن يعقوب الأصم. فرَّقهما.
أربعتهم عن الربيع بن سليمان به.
وأخرجه ابن جُميع الصيداوي في معجم شيوخه (333) عن عيسى بن موسى البلدي، عن الربيع بن سليمان به. إلا أنه سقط من إسناده عطاء بن يسار، فلا أدري أحصل ذلك سهوًا أو هو لون آخر من الاختلاف؟ والأقرب الثاني، فقد رواه الذهبي في سير أعلام النبلاء (12/ 590) من طريق الصيداوي بإسناده سواء، ثم قا ل: “غريب، ومع ضعفه ففيه انقطاع، ما علمنا زيدًا سمع أبا هريرة”.
ومن طريق الخطيب أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية (1523) من طريق أبي العباس الأصم. وحده به. وقال عقبه: “هذا حديث لا يصح وقد أجمعوا على= تضعيف عبد الرحمن بن زيد، قال ابن حبان: كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم حتى كثر ذلك في روايته من رفع المراسيل وإسناد الموقوف، فاستحقّ الترك” اهـ.
وقال ابن رجب: “عبد الرحمن بن زيد فيه ضعف، وقد خولف في إسناده”.
قلت: يشير إلى ما أخرجه ابن أبي الدنيا في القبور ــ كما عند المصنف، وليس في المطبوع منه ــ عن محمد بن قدامة الجوهريّ، عن معن بن عيسى القزاز، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي هريرة موقوفًا. وإسناده ضعيف جدًّا علته محمد بن قدامة الجوهري البغدادي، قال ابن معين: “ليس بشيء”، وقال أبو داود: “ضعيف لم أكتب عنه شيئًا قط” (انظر: الميزان 4/ 15).
والحاصل أن الحديث لا يثبت مرفوعًا ولا موقوفًا، بل هو منكر كما قاله ابن رجب رحمه الله. وقد أورده الألباني في السلسلة الضعيفة (4493) (قالمي).
(1/5)
فهذا نصٌّ في أنه يعرفه بعينه، ويرُدُّ عليه السلام.
وفي الصحيحين (1) عنه – صلى الله عليه وسلم – من وجوهٍ متعددةٍ: أنه أمر بقتلى بدر، فأُلقُوا في قَلِيب. ثم جاء حتى وقف عليهم، وناداهم بأسمائهم: “يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربُّكم حقًّا؟ فإنّي وجدتُ ما وعدني ربِّي حقًّا”. فقال له عمرُ: يا رسول الله، ما تخاطب من أقوامٍ (2) قد جَيَّفوا (3)؟ فقال: “والذي بعثني بالحقِّ ما أنتم بأسمَعَ لما أقول منهم، ولكنَّهم لا يستطيعون جوابًا”.
وثبت (4) عنه – صلى الله عليه وسلم -: أنّ الميِّت يسمع قَرْعَ نعال المشيِّعين له، إذا انصرفوا
(1) أخرجه البخاري في الجنائز (1370) وغيره عن ابن عمر، وعنه وعن أبي طلحة في المغازي (3980، 3976). وأخرجه مسلم في كتاب الجنة من حديث عمر (2873) وأنس (2874) وأبي طلحة (2875).
(2) في حاشية (ق) إشارة إلى أن في نسخة: “قوم”.
(3) جيَّف الميِّتُ: أنتن.
(4) من “وثبت عنه” إلى “وإن لم يسمع المسلم الردّ” في (ص 17) نقله ابن كثير في تفسيره (6/ 325 – 327) بشيء من الاختصار دون إشارة إلى ابن القيم.
(1/7)
عنه (1).
وقد شرع النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – لأمَّته، إذا سلَّموا على أهل القبور، أن يسلموا عليهم سلامَ مَن يخاطبونه، فيقول المسلِّم (2): “السلام عليكم دارَ قوم مؤمنين” (3). وهذا خطاب لمن يسمعُ ويعقل، ولولا ذلك لكان هذا الخطابُ بمنزلة خطاب المعدوم والجَماد (4).
والسلف مجمِعون على هذا (5)، وقد تواترت الآثار (6) عنهم بأنّ الميّتَ يَعرف بزيارة الحيِّ له ويستبشر به.
قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن أبي الدنيا في “كتاب القبور”، باب معرفة الموتى بزيارة الأحياء (7):
حدثنا محمد بن عَوْن، حدثنا يحيى بن يَمَان (8)، عن عبد الله بن
(1) أخرجه الشيخان من حديث أنس بن مالك، وسيأتي بتمامه في (ص 157).
(2) “المسلم” ساقط من (ق).
(3) أخرجه مسلم في الطهارة عن أبي هريرة (249)، وفي الجنائز عن عائشة (974).
(4) انظر الاستدلال بعينه بهذا الحديث عند شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (24/ 304، 363). وقال في الموضع الأخير: “فهذا خطاب لهم، وإنما يخاطَب من يَسمَع”. وهو يرى “أن الميت يسمع في الجملة كلام الحي، ولا يجب أن يكون السمع له دائمًا، بل قد يسمع في حال دون حال … “.
(5) (ب، ج، ط): “ذلك”.
(6) في (ب): “الأخبار”، وأشير في حاشية (ق) أيضًا إلى هذه النسخة.
(7) كتاب القبور مطبوع، ولكنه ناقص، فلم يرد فيه شيء من الأخبار التي نقلها المؤلف هنا، وسأخرجها عمن عزا إلى كتاب القبور وغيره.
(8) في (ب): “أنبأنا ابن أبان”، وهو خطأ.
(1/8)
سِمْعان، عن زيد بن أسلم، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ما مِن رجل يزور قبر أخيه ويجلسُ عنده إلا استأنس به وردَّ عليه حتى يقوم” (1).
حدثنا محمد بن قُدامة الجوهريُّ، حدثنا معن بن عيسى القزّاز، أخبرنا هشام بن سعد، حدثنا زيد بن أسلم، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: إذا مرَّ الرجل بقبرٍ يعرفه فسلَّم عليه ردَّ عليه السلام وعَرَفه. وإذا مرَّ بقبر لا يعرفه فسلَّم عليه ردَّ عليه السلام (2).
حدثنا [2 ب] محمد بن الحسين، حدثني يحيى بن بِسْطام الأصفر (3)، حدثني مِسْمَع (4)، حدثني رجلٌ من آل عاصمٍ الجَحدريِّ (5)، قال: رأيت
(1) لم أجده في المطبوع من كتاب القبور. وإسناده ضعيف جدًّا؛ آفته عبد الله بن سمعان نُسب إلى جده، وهو عبد الله بن زياد بن سليمان بن سمعان المخزومي المدني، قال الحافظ في التقريب: “متروك اتهمه بالكذب أبو داود وغيره”. ومحمد بن عون شيخ ابن أبي الدنيا هو أبو عون الزيادي البصري، ثقة له ترجمة في الجرح والتعديل (8/ 48).
والحديث عزاه ابن رجب في أهوال القبور (ص 164) لابن أبي الدنيا، وأعلّه بعبد الله بن سمعان قال: “وهو متروك”. (قالمي).
(2) أخرجه البيهقي في الشعب (9296) عن ابن أبي الدنيا بسنده هذا، وقد سبق الكلام عليه في الحديث الأول.
(3) ويقال له أيضًا: “المصفّر”، كما في لسان الميزان (6/ 243).
(4) في (ز): “مسلم”، وفي (ب، ج): “مستمع”. وكلاهما تحريف. وهومسمع بن عاصم، من عُبَّاد أهل البصرة. انظر: لسان الميزان (6/ 36).
(5) في (ق) هنا وفيما يأتي: “الحجازي”، تحريف.
(1/9)
عاصمًا الجحدري (1) في منامي بعد موته بسنتين، فقلت: أليس قد متَّ؟ قال: بلى. قلت: فأين أنت؟ قال: أنا والله في روضة من رياض الجنة، أنا ونفرٌ من أصحابي، نجتمع كلَّ ليلةِ جمعةٍ وصبيحتها إلى بكر بن عبد الله المُزَنيِّ، فنتلقَّى أخباركم. قال: قلت: أجسادُكم (2) أم أرواحكم؟ قال: هيهات، بَليتِ الأجسام، وإنما تتلاقى الأرواح. قال: قلت: فهل تعلمون بزيارتنا إياكم؟ قال: نعم، نعلم بها عشيَّةَ الجمعة (3) ويومَ الجمعة كلَّه، ويوم السبت إلى طلوع الشمس. قال: قلت: فكيف ذلك دون الأيام كلِّها؟ قال: لِفَضلِ يوم الجمعة وعظمتهِ (4).
وحدثنا محمد بن الحسين، حدثني بكر بن محمد (5)، حدثنا جسر (6) القصاب قال: كنت أغدو مع محمد بن واسع في كل غداةِ سبتٍ حتى نأتي الجَبَّان (7)، فنقف على القبور، فنسلِّم عليهم، وندعو لهم، ثم ننصرف. فقلت ذات يوم: لو صيَّرتُ هذا اليوم يومَ الاثنين! قال: بلغني أنَّ الموتى يعلمون بزُوَّارهم يوم الجمعة، ويومًا قبلها، ويومًا بعدها (8).
(1) في (ز): “رأيت رجلًا من أصحابي”.
(2) في (ط): “أجسامكم”، وأشير في الحاشية إلى ما في غيرها.
(3) (ط): “ليلة الجمعة”.
(4) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (58). وأورده ابن رجب في أهوال القبور (83).
(5) (ز): “بشر بن محمد”.
(6) في (أ، ق، ز، غ): “حسن”. وفي (ب، ط، ج): “جبير”. وكلاهما تصحيف. وهو جسر بن فرقد القصاب، أبو جعفر، بصري. انظر: لسان الميزان (2/ 104).
(7) الجبّان والجبّانة: المقبرة.
(8) أورده ابن رجب في أهوال القبور (84) عن ابن أبي الدنيا.
(1/10)
حدثني محمد، حدثنا عبد العزيز بن أبَان، قال: حدثنا سفيان الثوري، قال: بلغني عن الضحاك أنه قال: من زار قبرًا يومَ السبت قبل طلوع الشمس عَلِم الميِّتُ بزيارته. فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لمكان (1) يوم الجمعة (2).
حدثنا خالد بن خِدَاش (3)، حدثنا جعفر بن سليمان (4)، عن أبي التَّيَّاح، قال: كان مُطَرِّف يغدو، فإذا كان يومُ الجمعة أَدلَجَ. قال: وسمعت أبا التَّيَّاح يقول: بلغنا أنه كان يُنوَّر له في سوطه، فأقبل ليلةً حتى إذا كان عند المقابر هَوَّمَ (5)، وهو على فرسه، فرأى أهلَ القبور: كلَّ صاحب قبر جالسًا على قبره، فقالوا: هذا مطرِّفٌ يأتي الجمعة. قلت: وتعلمون عندكم يوم الجمعة؟ قالوا: نعم، ونعلم ما يقول فيه الطير، قلت: وما يقولون: قالوا: يقولون: سلامٌ سلامٌ (6).
حدثني محمد بن الحسين، حدثني يحيى بن أبي بُكير (7) حدثني الفضل بن الموفَّق ابنُ خالِ سفيانَ بن عيينة، قال: لما مات أبي جزعت عليه
(1) في الأصل: “لما كان”، سبق قلم.
(2) أخرجه البيهقي في الشعب (7/ 18) عن ابن أبي الدنيا بهذا السند. وعنه أيضًا ابن رجب في الأهوال (84).
(3) في (ط): “خراش”، تحريف.
(4) في الأصل: “سلمان”، والصواب ما أثبتناه من غيره.
(5) هوَّمَ: هزَّ رأسه من النعاس. وقد تحرف في جميع النسخ ماعدا (ز) إلى “يقوم”.
(6) أخرجه البيهقي في الشعب (7/ 18) من طريق ابن أبي الدنيا. وعزاه إليه ابن رجب في الأهوال (84). وأخرجه أبو نعيم في الحلية (2/ 205).
(7) في (ب، ج، ز، غ): “أبي بكر”، وهو خطأ.
(1/11)
جزعًا شديدًا، فكنت [3 أ] آتي قبره في كل يوم؛ ثم إنّي قصَّرتُ عن ذلك (1) ما شاء الله، ثم إني أتَيتُه (2) يومًا، فبينا أنا جالس عند القبر غلبتني عيناي، فنمتُ، فرأيت كأنَّ قبر أبي قد انفرج (3)، وكأنه قاعد في قبره متوشِّحًا أكفانه، عليه سَحنةُ (4) الموتى. قال: فكأني بكيتُ لما رأيته، قال: يا بُنَيَّ ما بَطَّأَ بك عنّي؟ قلت: وإنك لَتعلمُ بمجيئي؟ قال: ما جئتَ مرَّةً إلا علمتُها. وقد كنتَ تأتيني فأُسَرُّ (5) بك، ويُسَرُّ مَن حولي بدعائك. قال: فكنت آتيه بعد ذلك كثيرًا (6).
حدثني محمد، حدثني يحيى بن بِسطام، حدثني عثمان بن سَوْدَة (7) الطُّفاوي ــ قال: وكانت أمُّه من العابدات، وكان يقالُ لها: راهبة ــ قال: لما احتُضِرتْ رفعَتْ رأسها إلى السماء فقالت: يا ذُخري وذخيرتي، ومَن عليه اعتمادي في حياتي وبعد موتي؛ لا تخذُلْني عند الموت، ولا تُوحِشني في قبري.
قال: فماتت، فكنت آتيها في كلِّ جمعة، فأدعو لها، وأستغفر لها ولأهل القبور. فرأيتها ذات يوم في منامي، فقلت لها (8): يا أُمَّهْ كيف أنت؟ قالت:
(1) (ز): “عنه”.
(2) (ز): “ثم أتيته”.
(3) (ب): “انفتح”.
(4) (ط، ز): “سجية”، تصحيف.
(5) (ب، ط): “فآنس”. وأشير إلى هذه النسخة في طرّة (ق) أيضًا.
(6) أخرجه البيهقي في الشعب (6/ 202). وابن رجب في الأهوال (84) بهذا السند. وإلى ابن أبي الدنيا والبيهقي عزاه السيوطي في شرح الصدور (301).
(7) (أ، غ): سُوَيد.
(8) “لها” من (ب، ط، ج).
(1/12)
أي بُنيَّ إن للموت لكُرْبةً شديدةً، وإنّي بحمد الله لفي برزخ محمود نَفْرِش فيه الرَّيحان ونتوسَّد (1) فيه السُّندسَ والإستبرقَ إلى يوم النشور. فقلت لها: ألكِ حاجة؟ قالت: نعم. قلت: وما هي؟ قالت: لا تَدَعْ ما كنت تصنعُ من زيارتنا والدعاء لنا، فإني لأبشَّرُ (2) بمجيئك يومَ الجمعة إذا أقبلت من أهلك. يقال لي: يا راهبةُ، هذا ابنُك قد أقبل، فأُسَرُّ ويُسَرُّ بذلك مَن حولي من الأموات (3).
حدثني محمد، حدثني محمد بن عبد العزيز بن سليمان (4)، حدثنا بِشرْ بن منصور قال: لما كان زمن الطاعون كان رجلٌ يختلف إلى الجَبَّان، فيشهد (5) الصلاة على الجنازة، فإذا أمسى وقف على باب المقابر، فقال: آنَسَ الله وَحْشتَكم، ورحم غُربتَكم، وتجاوز عن مسيئكم، وقَبِل حسناتكم. لايزيد على هؤلاء الكلمات. قال (6): فأمسيت ذات ليلة، وانصرفتُ إلى أهلي، ولم آتِ المقابر، فأدعوَ، كما كنت أدعو. قال: فبينا أنا نائم، إذا (7)
(1) كذا في (أ، غ). وفي غيرهما: “يُفرش .. ويُتوسَّد” بالبناء للمجهول. وفي شعب البيهقي: “أفرش … وأتوسَّد”.
(2) (ب): “لآنس”، تصحيف.
(3) أخرجه البيهقي من طريق محمد بن الحسين في الشعب (6/ 203). وعزاه ابن رجب في الأهوال (85) إلى ابن أبي الدنيا. وإليه وإلى البيهقي عزاه السيوطي في شرح الصدور (301). وانظر: صفة الصفوة (4/ 42).
(4) كذا في جميع النسخ. والأرجح: سَلمان، كما سيأتي في المسألة الثالثة.
(5) (ب، ط، ج): “ويشهد”.
(6) “قال” ساقط من الأصل.
(7) (ز): “إذا أنا”. وكذا في “شعب” البيهقي.
(1/13)
بخلق كثير قد جاؤوني، فقلت (1): ما أنتم؟ وما حاجتُكم؟ قالوا: نحن أهل المقابر. قلت: ما حاجتكم؟ [3 ب] قالوا: إنَّك عَوَّدتنا منك هديةً عند انصرافك إلى أهلك. قلت: وما هي؟ قالوا: الدعواتُ التي كنت تدعو بها. قال: قلت: فإنّي أعود لذلك. قال: فما تركتُها بعد (2).
حدثني محمد، حدثني أحمد بن سهل، حدثني رِشْدين بن سعد (3)، عن رجل، عن يزيد بن أبي حبيب، أن سُلَيم بن عُمَير (4) مرَّ على مقبرة، وهو حاقن قد غلبه البول، فقال له بعضُ أصحابه: لو نزلتَ إلى هذه المقابر، فبُلتَ في بعض حُفَرها! فبكى، ثم قال: سبحان الله! والله إنّي لأستحيي من الأموات، كما أستحيي من الأحياء (5).
ولولا أن ا لميت يشعر بذلك لما استَحْيا منه.
وأبلغُ من ذلك أنَّ الميِّت يعلم بعمل الحيِّ من أقاربه وإخوانه.
قال عبد الله بن المبارك: حدثني ثور بن يزيد، عن أبي رُهْم (6)، عن أبي
(1) (ب، ق، ج، ز): “قلت”.
(2) أخرجه البيهقي في الشعب (7/ 17) عن طريق ابن أبي الدنيا. وأورده عنه ابن رجب في الأهوال (125). وعنه وعن البيهقي: السيوطي في شرح الصدور (300).
(3) (ز): “رشيد بن سعيد”، تحريف.
(4) في (ب): “عتر”. وفي (ز): “عمر”. وكلاهما تحريف.
(5) عزاه السيوطي في شرح الصدور (388) إلى كتاب القبور.
(6) في جميع النسخ: “إبراهيم”. وهو تحريف. صوابه ما أثبتنا من الزهد وغيره. وهو أبو رُهم السماعي يروي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه. وانظر ما يأتي في (ص 35).
(1/14)
أيوب قال: تُعرَض أعمالُ الأحياء على الموتى (1)، فإذا رأوا حسنًا فرحوا واستبشروا، وإن رأوا سُوءًا قالوا: اللهم راجِعْ به (2).
وذكر ابن أبي الدنيا عن أحمد بن أبي الحَوَاري قال: حدثني محمد أخي قال: دخل عبَّاد بن عباد على إبراهيم بن صالح ــ وهو على فلسطين ــ فقال: عظني، قال: بم أعظك أصلحك الله؟ بلغني أن أعمال الأحياء (3) تُعرَض على أقاربهم من الموتى، فانظر ما يُعرَض (4) على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من عملك. فبكى إبراهيم حتى أخضَلَ لحيتَه (5).
قال ابن أبي الدنيا: وحدثني محمد بن الحسين، حدثني خالد بن عمرو الأمويُّ، حدثنا صدقة بن سليمان الجعفري قال: كانت لي سيرة (6) سَمِجة، فمات أبي، فأُبتُ (7)، وندمتُ على ما فرَّطتُ. قال: ثم زلَلْتُ أيَّما زلّة، فرأيتُ
(1) (ز): الأموات.
(2) الزهد لابن المبارك (443). ومن طريقه أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (3).
(3) (ب، ط، ج): “العباد”، وأشير في حواشيها إلى ما في غيرها.
(4) (ب): “ماذا تعرض”.
(5) عزاه السيوطي في شرح الصدور (343) إلى ابن أبي الدنيا وابن منده وابن عساكر. انظر تاريخ دمشق (6/ 447). وأخرجه أبو نعيم في الحلية (10/ 21). وكان إبراهيم ابن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي أميرًا على كور دمشق والأردن في خلافة المهدي والهادي وهارون الرشيد. وتوفي سنة 176. انظر ترجمته في تاريخ دمشق.
(6) كذا في (ط، ز، ج). وفي غيرها: “شرّة” وكذا في المنامات وأهوال القبور. والشِرّة: الحدّة والنشاط والرغبة. ولعلّ المثبت أشبه بالسياق.
(7) في (ج): أنبت. وفي (ز): تبتُ.
(1/15)
أبي في المنام، فقال: أي بُنيَّ ما كان أشدَّ فرحي بك، وأعمالُك تُعرَض علينا، فنشَبِّهها بأعمال الصالحين! فلما كانت هذه المرَّة استحييت لذلك حياءً شديدًا، فلا تُخزِني فيمن حولي من الأموات. قال: فكنت أسمعه بعد ذلك يقول في دعائه في السَّحَر ــ وكان لي جارًا (1) بالكوفة ــ: أسألك إنابةً لا رجعةَ فيها ولا حَوْر، يا مصلح الصالحين، ويا هاديَ المضلّين، ويا أرحم الراحمين (2).
وهذا باب فيه آثارٌ كثيرة عن الصحابة. وكان بعض الأنصار من أقارب عبد الله بن رواحة يقول: إني أعوذ بك من عمل أخزَى به [4 أ] عند عبد الله بن رواحة. كان (3) يقول ذلك بعد أن استُشْهِد عبد الله (4).
ويكفي في هذه تسميةُ المسلِّم عليهم (5) “زائرًا”، ولولا أنهم يشعرون به لما صحَّ تسميته زائرًا؛ فإن المزُورَ إن لم يعلم (6) بزيارةِ مَن زاره لم يصحَّ أن يقال: زاره. هذا هو المعقولُ من الزيارة عند جميع الأمم.
وكذلك السلام عليهم أيضًا، فإنَّ السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلِّم محالٌ. وقد علَّم النبي – صلى الله عليه وسلم – أمَّته إذا زاروا القبور أن يقولوا: “سلام
(1) (ط): “جارًا لي”.
(2) (ط، ج): “راحم المذنبين”. وكذا في المنامات لابن أبي الدنيا (17). وأخرجه عنه ابن رجب في الأهوال (88).
(3) لم يرد “كان” في (ب، ط، ج).
(4) أخرجه ابن المبارك في الزهد (165) ومن طريقه ابن أبي الدنيا في المنامات. وأورده ابن رجب في الأهوال (87) والسيوطي في شرح الصدور (343، 344). والأنصاري هو أبو الدرداء.
(5) “عليهم” ساقط من (ب).
(6) (ط): “لو لم يعلم”.
(1/16)
عليكم أهلَ الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحمُ الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية” (1).
= فهذا السلامُ والخطاب والنداء لِموجودٍ يَسمع ويُخاطب ويَعقِل ويَرُدُّ، وإن لم يسمع المسلِّم الردَّ (2).
وإذا صلَّى الرجل قريبًا منهم شاهدوه، وعلموا صلاته، وغَبَطوه على ذلك.
قال يزيد بن هارون: أخبرنا سليمان التيميُّ، عن أبي عثمانَ النهديِّ أن ابن مِيناس خرج في جنازةٍ في يوم، وعليه ثياب خِفَاف، فانتهى إلى قبر. قال: فصلَّيت ركعتين ثم اتَّكأت عليه، فوالله إنَّ قلبي ليقظانُ إذ سمعت صوتًا من القبر: إليك عنِّي لا تُؤْذِني (3)، فإنكم قوم تعملون ولا تعلمون ونحن قوم نعلَمُ ولا نعمل، ولأَنْ يكونَ لي مثلُ ركعتيك أحبُّ إليَّ من كذا وكذا (4). فهذا قد علم باتكاء الرجل على القبر، وبصلاته.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثني الحسين بن علي العِجْليُّ، ثنا محمد بن الصَّلت، ثنا إسماعيل بن عياش، عن ثابت بن سليم (5)، ثنا أبو قلابة قال: أقبلتُ من الشام إلى البصرة، فنزلت منزلًا، فتطهَّرت، وصلَّيت ركعتين بِليل،
(1) أخرجه مسلم من حديث عائشة (974) وبريدة (975).
(2) هنا انتهى ما نقله ابن كثير في تفسيره. انظر بدايته في ص (7). وانظر تعقيب الألباني على ذلك في مقدمته لكتاب الآيات البينات (ص 60) وحاشيته عليه (ص 132).
(3) (أ، ق، ز): “لا تُؤذيني”.
(4) أخرجه البيهقي في الدلائل (7/ 40). وأورده ابن رجب في الأهوال (40) عن ابن أبي الدنيا. والسيوطي عنه وعن البيهقي في شرح الصدور (285).
(5) في (أ، ط) ضُبط بضم السين.
(1/17)
ثم وضعت رأسي على قبر، فنمت. ثم انتبهت فإذا صاحب القبر يشتكيني (1)، يقول: قد آذيتني منذ الليلة. ثم قال: إنكم تعملون ولا تعلمون، ونحن نعلم ولا نقدر على العمل. ثم قال: الركعتين اللتين (2) ركَعْتَهما خير من الدنيا وما فيها. ثم قال: جزى الله أهل الدنيا خيرًا أقْرِهِم (3) منَّا السلام، فإنه يدخل علينا من دعائهم نورٌ أمثالُ الجبال (4).
وحدثني الحسين العِجْلي، ثنا عبد الله بن نمير، ثنا مالك بن مِغْول، عن منصور، عن [4 ب] زيد بن وَهْب، قال: خرجت إلى الجَبَّانة، فجلست فيها، فإذا رجل قد جاء إلى قبر، فسوَّاه، ثم تحول إليَّ، فجلس. قال: فقلت له: ما هذا القبر؟ قال: أخ لي. فقلت: أخ لك؟ فقال: أخ لي في الله، رأيته فيما يرى النائم، فقلت: فلانُ، عِشتَ! الحمد لله رب العالمين. قال: قد قلتَها (5)، لأَن أقدرَ على أن أقولها أحبُّ إليّ من الدنيا وما فيها. ثم قال: ألم تر حيث كانوا يدفنوني (6)، فإن فلانًا قام، فصلى ركعتين؟ لأَن أكونَ أقدر على أن أصلِّيَهما أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها (7).
(1) (ز، ط، غ): “يشكتي”.
(2) كذا في جميع النسخ. وفي الأهوال وشرح الصدور: “إنّ الركعتين … “.
(3) كذا في جميع النسخ بحذف الهمزة.
(4) أورده عن ابن أبي الدنيا: ابن رجب في الأهوال (40) والسيوطي في شرح الصدور (396).
(5) (ج): “كلمة قد قلتها”. وهي زيادة من بعض النسّاخ.
(6) كذا في جميع النسخ بحذف نون الرفع.
(7) أخرجه البيهقي في الشعب (7/ 19) من طريق ابن أبي الدنيا. وعنه أورده ابن رجب في الأهوال (40).
(1/18)
حدثني أبو بكر التَّيمي (1)، ثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث بن سعد، حدثني حُميد الطويل، عن مُطَرِّف بن عبد الله الحَرَشي (2) قال: خرجنا إلى الربيع في زمانه، فقلنا: ندخلُ يوم الجمعة لشهودها، وطريقنا على المقبرة، قال: فدخلنا، فرأيت جنازة في المقبرة، فقلت: لو اغتنمتُ شهودَ هذه الجنازة، فشهدتها. قال: فاعتزلت ناحيةً قريبًا من قبر، فركعت ركعتين خَفَّفتُهما لم أَرْضَ إتقانَهما. ونعستُ، فرأيتُ صاحب القبر يكلِّمني، وقال: ركعتَ ركعتين لم ترضَ إتقانهما! قلتُ: قد كان ذلك. قال: تعملون، ولا نستطيع أن نعمل. لأن أكونَ ركعتُ مثلَ ركعتيك أحبُّ إليّ من الدنيا بحذافيرها. فقلتُ: من هاهنا؟ فقال: كلُّهم مسلِمٌ، وكلُّهم قد أصاب خيرًا (3). فقلتُ: مَن هاهنا أفضلُ؟ فأشار إلى قبر. فقلت في نفسي: اللهم ربَّنا أخرِجْه إليَّ، فأكلِّمَه. قال: فخرج من قبره فتى شابٌّ، فقلت: أنت (4) أفضل مَنْ هاهنا؟ قال: قد قالوا ذلك. قلت: فبأيِّ شيء نلتَ ذلك؟ فوالله ما أرى لك ذلك السِّنَّ، فأقولَ: نلتَ ذلك بطول الحج والعمرة والجهاد في سبيل الله والعمل. قال: قد ابتُلِيتُ بالمصائب، فرُزِقْتُ الصبرَ عليها، فبذلك فَضَلْتُهم (5).
(1) في (ب، ط، ج): “النحوي”. وفي (ز): “التميمي” ولعلهما تحريف. فإنه من ولد أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وهو تيمي.
(2) في (ق) بالسين المهملة، وفي (أ) بالجيم والشين. وفي (ز): “الجهني”. والصواب ما أثبتنا من غيرها، نسبة إلى بني الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. انظر: اللباب (1/ 357).
(3) (ز): أصابه خير.
(4) (ز): إنّك.
(5) أخرجه البيهقي في الشعب (7/ 248) من طريق ابن أبي الدنيا. وعنه أورده ابن رجب في الأهوال (40) والسيوطي في شرح الصدور (365).
(1/19)
وهذه المرائي وإن لم تصلُح بمجرَّدها لإثبات مثل ذلك، فهي على كثرتها ــ وإنها لا يحصيها إلا الله ــ قد تواطأَتْ على هذا المعنى. وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “أرى رؤياكم قد تواطأَتْ على أنها في العشر الأواخر” (1) يعني ليلةَ القدر، فإذا [5 أ] تواطأت رؤيا المؤمنين على شيء كان كتواطؤِ (2) روايتهم له، وكتواطؤ رأيهم على استحسانه واستقباحه. وما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحًا فهو عند الله قبيح (3)؛ على أنَّا لم نُثبِت هذا بمجرد الرؤيا، بل بما ذكرناه من الحُجَج وغيرها.
وقد ثبت في الصحيح أنَّ الميِّت يستأنسُ بالمشيِّعين لجنازته بعد دفنه.
فروى مسلم في صحيحه (4) من حديث عبد الرحمن بن شِمَاسة المَهْرِيِّ (5) قال: حضَرْنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فبكى طويلًا، وحوَّل وجهه إلى الجدار، فجعل ابنُه يقول: ما يُبكيك يا أبتاه؟ أما بشَّرك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بكذا؟ فأقبل بوجهه، فقال: إنَّ أفضلَ ما نُعِدُّ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. وإني كنت على أطباقٍ ثلاث، لقد رأيتُني وما أحدٌ أشدَّ بغضًا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – مني، ولا أحبَّ إليَّ أن أكون قد استمكنتُ منه، فقتلته. فلو مِتُّ على تلك الحال لكنت من أهل النار.
(1) أخرجه البخاري (2015)، ومسلم (1165) من حديث ابن عمر.
(2) رسمها في جميع النسخ هنا وفيما يأتي: “كتواطي”.
(3) يشير إلى ما رواه الحاكم في المستدرك (4465) وغيره عن ابن مسعود موقوفًا.
(4) برقم (121).
(5) (ق): “المهيري”، خطأ.
(1/20)
فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فقلت: ابسط يدك فلأبايعْكَ، فبسط يمينه. قال: فقبضتُ يدي. فقال: “مالك يا عمرو؟ ” قلت (1): أردتُ أن أشترط. قال: “تشترطُ ماذا؟ ” قلت: أن يُغفَر لي. قال: “أما علمتَ أنَّ الإسلام يهدم ما كان قبله، وأنَّ الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأنَّ الحج يهدم ما كان قبله؟ “. وما كان أحدٌ أحبَّ إليَّ من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا أجلَّ (2) في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالًا له، ولو سئلتُ أن أصفه ما أطَقْتُ لأني لم أكن أملأُ عينيَّ منه، ولو متُّ على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة.
ثم ولينا أشياءَ ما أدري ما حالي فيها.
فإذا أنا متُّ فلا تصحَبْني نائحةٌ ولا نار. فإذا دفنتموني فسُنُّوا عليَّ التراب سَنًّا (3)، ثم أقيموا حول قبري قَدرَ ما تُنحر جَزور ويُقسَم لحمُها، حتى أستأنس بكم، وأنظرَ ماذا [5 ب] أراجعُ به رسلَ ربِّي.
فدلَّ على أنَّ الميِّت يستأنس بالحاضرين عند قبره ويُسَرُّ بهم.
وقد ذُكِر عن جماعة من السلف أنهم أوصَوْا أن يُقرأ عند قبورهم وقت الدفن.
قال عبد الحق (4): يروى أنَّ عبد الله بن عمر أمر أن يُقرأ عند قبره سورة
(1) (ب، ز، غ، ج): “قال”.
(2) ما عدا الأصل و (غ): “أحلا”.
(3) أي صُبُّوه صبًّا سهلًا. ويروى بالمعجمة. انظر: مشارق الأنوار (2/ 223). وفي الأصل و (غ) وضع النقط مع علامة الإهمال، للدلالة على جواز الوجهين.
(4) في (ز): “عبد الحكيم”، وهو خطأ، فإن المقصود عبد الحق الإشبيلي.
(1/21)
البقرة. وممن رأى ذلك العلاء بن عبد الرحمن. وكان الإمام أحمد ينكر ذلك أولًا حيث لم يبلغه فيه (1) أثر، ثم رجع عن ذلك (2).
وقال الخلَّال في “الجامع”، كتاب القراءة عند القبور: أخبرنا العباس بن محمد الدُّوريُّ، حدثنا يحيى بن معين، حدثنا مبشِّر الحلبي، حدثني عبد الرحمن بن العلاء بن اللَّجْلاج (3)، عن أبيه قال: قال أبي: إذا أنا متُّ فضعني في اللحد، وقل: بسم الله وعلى سنة رسول الله، وشُنَّ عليّ التراب شنًّا (4)، واقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة وخاتمتها (5)، فإني سمعت عبد الله بن عمر يقول ذلك. قال عباس الدُّوري: سألت أحمد بن حنبل، قلت: تحفظُ في القراءة على القبر شيئًا؟ فقال: لا. وسألت يحيى بن معين فحدَّثني بهذا الحديث (6).
(1) (ب، ط): في ذلك.
(2) كتاب “العاقبة في ذكر الموت” (184). سياق المصنف يوهم أن الذي رآه العلاء، وأنكره أحمد ثم رجع عنه هو: قراءة سورة البقرة، ولكن المقصود مجرّد إباحة القراءة كما في كتاب “العاقبة”. ثم فيه أن العلاء “روى” إباحة القراءة، لا “رأى”.
(3) تصحف في (ق) إلى: “الحلاج”، وفي (ز): “اللحاج”. ومثله الأثر التالي.
(4) في (ب، ق، ز): بالسين المهملة.
(5) في (ب): “بفاتحة الكتاب وخاتمتها”. وفي (ز): “فاتحة … “. وهو غير مستقيم. وفي كتاب الخلَّال: “بفاتحة الكتاب وأول البقرة وخاتمتها”. ولكن في المعجم الكبير وغيره كما أثبتنا من النسخ.
(6) القراءة عند القبور للخلَّال برقم (1). وانظر: الأمر بالمعروف له (243)، وتاريخ يحيى بن معين برواية الدوري (5413، 5414). وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (19/ 221).
(1/22)
قال الخلَّال: وأخبرني الحسن (1) بن أحمد الورَّاق، حدثني علي بن موسى (2) الحدَّاد ــ وكان صدوقًا ــ قال: كنت مع أحمد بن حنبل ومحمد ابن قُدامة الجوهريِّ (3) في جنازة، فلما دُفن الميت جلس رجل ضرير يقرأ عند القبر، فقال له أحمد: يا هذا، إنَّ القراءة عند القبر بدعة. فلما خرجنا من المقابر قال محمد بن قدامة لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله، ما تقول في مبشِّر (4) الحلبي؟ قال: ثقةٌ. قال: كتبتَ عنه شيئًا؟ قال: نعم. قال: فأخبَرني مبشرٌ، عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج، عن أبيه أنه أوصى إذا دُفن أن يقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها. وقال: سمعت ابن عمر (5) يوصي بذلك. فقال له أحمد: فارجع، وقُل للرجل يقرأ (6).
وقال الحسن بن الصباح الزَّعفراني: سألت الشافعيَّ عن القراءة عند القبر، فقال: لا بأس به (7).
(1) (ق): الحسين.
(2) (ب): حدثني ابن موسى.
(3) “ومحمد .. الجوهري” ساقط من (ب).
(4) تصحف في (ز) إلى “ميسر” في هذا الأثر والأثر السابق.
(5) في (ز): “سمعت عمر”، وهو خطأ.
(6) القراءة عند القبور (3)، والأمر بالمعروف (246). وللألباني كلام عليه في أحكام الجنائز له (192).
(7) القراءة عند القبور (4)، والأمر بالمعروف (248). قال الحافظ ابن حجر في الإمتاع (85 ــ 86): “وهذا نص غريب عن الشافعي، والزعفراني من رواة القديم، وهو ثقة. وإذا لم يرد في الجديد ما يخالف منصوص القديم فهو معمول به، ولكن يلزم من ذلك أن يكون الشافعي قائلًا بوصول ثواب القرآن”.
وقال شيخ الإسلام في الاقتضاء (2/ 264): “ولا يحفظ عن الشافعي نفسه في هذه المسألة كلام، وذلك لأن ذلك كان عنده بدعة”.
(1/23)
وذكر الخلَّال عن الشَّعبيِّ قال: كانت الأنصار إذا مات لهم الميت اختلفوا إلى قبره يقرؤون عنده القرآن (1).
قال [6 أ]: وأخبرني أبو يحيى الناقد قال: سمعت الحسن بن الجَرَوي (2) يقول: مررت على قبر أختٍ لي فقرأت عندها “تبارك” لِمَا يُذكر فيها، فجاءني رجل فقال: إني رأيت أختَك في المنام تقول جزى الله أبا علي خيرًا، فقد انتفعتُ بما قرأ (3).
أخبرني الحسن بن الهيثم قال: سمعت أبا بكر بن الأطروش ابنَ بنت أبي نصر التَّمَّار (4) يقول: كان رجل يجيء إلى قبر أمه يوم الجمعة، فيقرأ سورة يس. فجاء في بعض أيامه، فقرأ سورة يس، ثم قال: اللهم إن كنتَ قسمتَ لهذه السورة ثوابًا فاجعلها في أهل هذه المقابر. فلما كان في الجمعة التي تليها جاءت امرأة، فقالت: أنتَ فلان بن فلانة؟ قال: نعم. قالت: إن بنتًا لي ماتت، فرأيتها في النوم جالسةً على شَفير قبرها، فقلت: ما أجلسكِ هاهنا؟ فقالت: إن فلان بن فلانة جاء إلى قبر أمه، فقرأ سورة يس، وجَعَل ثوابها لأهل المقابر. فأصابنا من رَوح ذلك، وغُفر لنا، أو نحو ذلك (5).
وفي النَّسائي وغيره من حديث مَعقِل بن يسار المُزَني عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه
(1) القراءة عند القبور (7). وانظر الكلام عليه في أحكام الجنائز للالباني (193).
(2) في (ط): “الجريري” بالجيم، وفي (ب) بالحاء، وكلاهما خطأ.
(3) القراءة عند القبور (9)، والأمر بالمعروف (215)
(4) (ط، ق، ز): نصر بن التمار.
(5) القراءة عند القبور (11)، والأمر بالمعروف (253).
(1/24)
قال: “اقرؤوا (يس) عند موتاكم” (1).
وهذا يَحتمل أن يُراد به قراءتُها على المحتَضَر عند موته، فيكون مثل قوله: “لقِّنوا موتاكم لا إله إلا الله” (2). ويحتمل أن يرادَ به القراءةُ عند القبر (3). والأول أظهَرُ لوجوه:
الأول: أنه نظير قوله: “لقِّنوا موتاكم لا إله إلا الله”.
(1) أخرجه النسائي في الكبرى، كتاب عمل اليوم والليلة (10913) من طريق عبد الله بن المبارك، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن معقل بن يسار، به، فذكره.
وأخرجه ابن حبان (3002) من طريق يحيى القطان، عن سليمان التيمي بإسناده، مثله.
وأخرجه أبو داود (3121)، وابن ماجه (1448)، والإمام أحمد (20301، 20314)، والحاكم (1/ 565) من طرق عن ابن المبارك، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان ــ وليس بالنهدي ــ عن أبيه، عن معقل بن يسار، به. وقال الحاكم: “أوقفه يحيى بن سعيد وغيره عن سليمان التيمي، والقول فيه قول ابن المبارك؛ إذ الزيادة من الثقة مقبولة”.
بل سبق أن يحيى القطان رفعه أيضًا كما في رواية ابن حبان، ورفعه أيضًا المعتمر بن سليمان عن أبيه، لكنه جعله عن رجل، عن أبيه، عن معقل بن يسار، به، نحوه مطولًا. أخرجه النسائي في الكبرى (10914)، والإمام أحمد (20300).
والخلاصة أن في أسانيده اضطرابًا وجهالة؛ لأن مداره على أبي عثمان وهو غير معروف وليس هو بالنهدي ــ كما جاء في الرواية ــ وكذا أبوه في الرواية الأخرى لا يُعرف أيضًا.
قال الحافظ ابن حجر في التلخيص (2/ 104): “أعلَّه ابن القطان بالاضطراب وبالوقف، وبجهالة حال أبي عثمان وأبيه. ونقل أبو بكر بن العربي عن الدارقطني أنه قال: هذا حديث ضعيف الإسناد، مجهول المتن، ولا يصح في الباب حديث” اهـ. وضعَّفه النووي في الخلاصة (2/ 925)، والمجموع (5/ 110). (قالمي).
(2) أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري (916) وأبي هريرة (917).
(3) ما عدا (أ، غ، ق): “قبره”.
(1/25)
الثاني: انتفاعُ المحتَضَر بهذه السورة لما فيها من التوحيد، والمعَادِ، والبشرى بالجنة لأهل التوحيد، وغبطةِ من مات عليه بقوله: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 26، 27]. فتستبشر الروح بذلك، فتحبُّ لقاءَ الله، فيحبُّ اللهُ لقاءَه. فإنَّ هذه السورة قلبُ القرآن (1) ولها خاصِّية عجيبة في قراءتها عند المحتضَر.
وقد ذكر أبو الفرج ابن الجوزي قال: كنَّا عند شيخنا أبي الوقت عبد الأول، وهو في السياق، وكان آخر عهدنا به أنه نظر إلى السماء، وضحك، وقال: {يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}. [6 ب] وقضى (2).
الثالث: أنَّ هذا عملُ الناس وعادتُهم قديمًا وحديثًا: يقرؤون (يس) عند المحتضر.
الرابع: أنّ الصحابة لو فهموا من قوله – صلى الله عليه وسلم -: “اقرؤوا (يس) عند موتاكم” قراءتَها عند القبر لما أَخلُّوا به، وكان ذلك أمرًا معتادًا مشهورًا بينهم.
الخامس: أنَّ انتفاعَه باستماعها، وحضورَ قلبه وذهنهِ عند قراءتها في آخر عهده بالدنيا هو المقصود. وأما قراءتُها عند قبره، فإنه لا يثابُ على ذلك، لأن الثواب إما بالقراءة أو بالاستماع، وهو عمل، وقد انقطع من الميت.
(1) يشير إلى ما رواه الترمذي من حديث أنس (2887).
(2) الذي في المنتظم لابن الجوزي (10/ 82) أن أبا عبد الله التكريتي الصوفي حدَّثه، قال: أسندتُه إليّ، فمات، فكان آخر كلمة قالها: {يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ}. ومثله في كتاب الثبات عند الممات له (181).
(1/26)
فصل
وقد ترجم الحافظ أبو محمد عبد الحق الإشبيليُّ (1) على هذا، فقال: “ذِكْرُ ما جاء أنّ الموتى يَسألون عن الأحياء، ويَعرفون أقوالهم (2) وأعمالهم”. ثم قال: ذَكَر أبو عمر ابن عبد البر من حديث ابن عباس عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: “ما من رجل يمرُّ بقبر أخيه المؤمنِ كان يعرفه فيسلِّمُ عليه إلا عَرَفه وردَّ عليه السلام” (3).
ويُروَى هذا من حديث أبي هريرة موقوفًا. قال (4):فإن لم يعرفه وسلَّم عليه ردَّ عليه السلام (5).
قال: ويروى من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ما من رجل يزور قبرَ أخيه، فيجلسُ عنده إلا استأنسَ به حتى يقوم” (6).
واحتج الحافظ أبو محمد في هذا الباب بما رواه أبو داود في سُننه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ما من أحد يسلِّم عليَّ إلا ردَّ الله عليَّ روحي حتى أردَّ عليه السلام” (7).
(1) في كتابه: العاقبة في ذكر الموت والآخرة (155). وكلمة “الإشبيلي” ساقطة من (ب).
(2) في العاقبة: “أحوالهم”.
(3) سبق في (ص 5).
(4) يعني أبا هريرة.
(5) سبق حديث أبي هريرة في (ص 6).
(6) سبق تخريجه في (ص 9).
(7) أخرجه أبو داود (2041)، والإمام أحمد (10815)، والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 245) من طرق عن عبد الله بن يزيد المقرئ، ثنا حيوة بن شريح، عن أبي صخر حميد بن زياد، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة، به.
قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 174): “على شرط مسلم”. وقال العراقي في المغني عن حمل الأسفار (1023): “سنده جيد”. وحسَّن إسناده السخاوي في القول البديع (ص 229). وانظر الكلام عليه مفصلًا في الصارم المنكي (189 ــ 197) لابن عبد الهادي. (قالمي).
(1/27)
قال: وقال سليمان بن نُعَيم: رأيت النبي – صلى الله عليه وسلم – في النوم، فقلت: يا رسول الله، هؤلاء الذين يأتونك ويسلِّمون عليك، أتفْقَه منهم؟ قال: “نعم، وأردُّ عليهم” (1).
قال: وكان – صلى الله عليه وسلم – يعلِّمهم أن يقولوا إذا دخلوا المقابر: “السلام عليكم أهل الديار .. ” الحديث (2). قال: وهذا يدل على أنَّ الميّت يعرف سلام من يسلِّم عليه، ودعاءَ من يدعو له (3).
قال أبو محمد [7 أ]: ويُذكر عن الفضل بن الموفَّق قال: كنت آتي قبر أبي المرَّة بعد المرَّة، فأُكثِرُ من ذلك، فشهدت يومًا جنازة في المقبرة التي دُفن فيها، فتعجَّلْتُ لحاجتي، ولم آتِه. فلما كان من الليل رأيته في المنام، فقال لي: يا بنيَّ، لم لا تأتيني؟ قلت له: يا أبت، وإنك لَتعلَمُ بي إذا أتيتك؟ قال: إي والله يا بني! لا أزال أطَّلع عليك حين تطلُع من القنطرة حتى تصل إليَّ، وتقعد عندي، ثم تقوم. فلا أزال أنظر إليك حتى تجوز القنطرة (4).
(1) كتاب العاقبة (156).
(2) سبق تخريجه في (ص 8).
(3) كتاب العاقبة (156 – 157).
(4) كتاب العاقبة (157 – 158).
(1/28)
قال ابن أبي الدنيا: حدثني إبراهيم بن سيّار (1) الكوفي، قال: حدَّثني الفضل بن الموفق. فذكر القصة (2).
وصحَّ عن عمرو بن دينار أنه قال: ما من ميِّتٍ يموت إلا وهو يعلم ما يكون في أهله بعده. وإنهم لَيغسلونه ويكفنونه، وإنه لينظر إليهم (3).
وصحَّ عن مجاهد أنه قال: إنَّ الرجلَ لَيُبشَّر (4) في قبره بصلاح ولده من بعده (5).
فصل (6)
ويدلُّ على هذا أيضًا ما جرى عليه عمل الناس قديمًا وإلى الآن من
(1) في جميع النسخ: “بشار”، وهو تصحيف. والصواب ما أثبتنا. انظر: الإكمال لابن ماكولا (4/ 432). وجاء على الصواب في أهوال القبور لابن رجب (84).
(2) رواها ابن أبي الدنيا في المنامات (19) عن محمد بن الحسين عن الفضل. ولعل المؤلف نقلها من كتاب القبور.
(3) أورده ابن رجب في أهوال القبور (86) عن كتاب القبور لابن أبي الدنيا.
(4) (ط): لَيُسَرُّ.
(5) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (16) قال: حدثنا أبو هشام، حدثنا يحيى بن يمان عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه. وفيه عبد الوهاب بن مجاهد. قال ابن حجر: متروك، وقد كذّبه الثوري. ويحيى بن يمان صدوق عابد يخطئ كثيرًا وقد تغيَّر. وأبو هشام الرفاعي، قال البخاري: رأيتهم مجمعين على ضعفه. انظر: التقريب (368، 598، 514). وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى أبي نعيم في الحلية، ولم أجده فيه. فقول المصنف: “صحّ عن مجاهد” فيه نظر.
هذا، وا لعبارة: “قال ابن أبي الدنيا … من بعده” ساقطة من (ب).
(6) بعده في (ط): “في تلقين الميت”. وفوقها في أولها وآخرها حرف الحاء علامة للمحذوف.
(1/29)
تلقين الميت في قبره. ولولا أنه يَسمع ذلك وينتفعُ به لم يكن فيه فائدةٌ وكان عبثًا.
وقد سئل عنه الإمام أحمد، فاستحسنه، واحتجَّ عليه بالعمل (1).
ويُروى فيه حديثٌ ضعيف ذكره الطبراني في معجمه (2)
من حديث أبي
(1) لم أجد ما نقله المؤلف عن الإمام أحمد. والذي ذكره شيخ الإسلام أنه رخّص فيه، وإنّما استحبه طائفة من أصحابه وأصحاب الشافعي.
انظر: مجموع الفتاوى (24/ 296 – 299)، والاختيارات الفقهية (1/ 446)، والفروع (3/ 384).
وابن القيم نفسه قال وهو يذكر هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – في الجنائز: “ولا يلقن الميت، كما يفعله الناس اليوم. وأما الحديث الذي رواه الطبراني … لا يصح رفعه. ولكن قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: فهذا الذي يصنعونه إذا دُفن الميت، يقف الرجل ويقول: يا فلان بن فلانة، اذكر مافارقت عليه الدنيا: شهادة أن لا إله إلا الله. فقال: ما رأيت أحدًا فعل هذا إلا أهل الشام، حين مات أبو المغيرة، جاء إنسان فقال ذلك … ” زاد المعاد (1/ 522 – 523). فليس فيما ذكره ما يدلّ على أن الإمام أحمد استحسنه.
وفي نسخة (ط) هنا حاشية طويلة صرّح بعض القراء أنها بخط الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين رحمه الله. نقل فيها الشيخ أولًا من الفروع والاختيارات ما يفيد أن المذكور عن الإمام أحمد إباحة التلقين، لا استحبابه كما قال ابن القيم.
ثم نقل من المغني قول ابن قدامة: “لم أسمع في التلقين شيئًا عن أحمد، ولا أعلم للأئمة فيه قولًا سوى ما رواه الأثرم … إلخ”. واحتج به على أن العمل بالتلقين لم يكن “مشهورًا ولا ظاهرًا في جميع بلاد الإسلام، بل كلام أحمد يدلّ على أن جميع بلاد الإسلام التي دخلها أحمد رحمه الله لم يكونوا يفعلون ذلك، سوى ما حكاه عن أهل الشام حين مات هذا الرجل”.
(2) الكبير (7979) من طريق سعيد بن عبد الله الأودي، قال: شهدت أبا أمامة وهو في النزع، فقال: “إذا مت فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن نصنع بموتانا، أمرنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال. (فذكره مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ).
وأورده المصنف في زاد المعاد (1/ 523) بلفظ الطبراني سواء، ثم قال: “فهذا حديث لا يصح رفعه”. وقال في حاشيته على سنن أبي داود (4781 ــ باب في تغيير الأسماء): “هذا الحديث متفق على ضعفه فلا تقوم به حجة”. وسيأتي قوله: “إنه لم يثبت”.
وضعّفه النووي في الخلاصة (2/ 1029) والمجموع (5/ 274)، والعراقي في تخريج الإحياء (2/ 1229) وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 324) للطبراني في الكبير، وقال: “فيه من لم أعرفه جماعة”. لكن قال الحافظ في التلخيص (2/ 310): “إسناده صالح، وقد قوّاه الضياء في أحكامه”. وتعقبه الألباني بما تراه في الضعيفة (599). (قالمي).
(1/30)
أمامة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إذا مات أحدكم، فسوَّيتُم عليه الترابَ، فلْيقمْ أحدكم على رأس قبره، ثم يقول: يا فلان بن فلانة. فإنه يسمع (1) ولا يجيب. ثم ليقل (2): يا فلان بن فلانة، الثانيةَ. فإنه يستوي قاعدًا. ثم ليقل: يا فلان بن فلانة. فإنه يقول (3): أرشِدْنا، رحمك (4) الله. ولكنكم لا تسمعون. فيقول: اذكر ما خرجتَ عليه من الدنيا: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأنك رضيتَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا، وبالقرآن إمامًا. فإنَّ منكرًا ونكيرًا يتأخر كل واحد منهما ويقول: انطلِقْ ما يُقعِدنا (5) عند هذا، وقد (6) لُقِّن حجتَه؟
(1) (ب): “يسمعه”. وأشار إلى هذه النسخة في هامش (ط). وكذا عند الطبراني.
(2) (أ، غ): “يقول”.
(3) (أ، غ): “فيقول”.
(4) (ط): “يرحمك”. (أ، غ، ق): “رحمكم”.
(5) (ب، ط): “ما نقعد”.
(6) (ب، ط، ج): “ولقد”.
(1/31)
ويكون الله حجيجه دونهما”. فقال رجل: يا رسول الله، فإن لم يعرف أمَّه؟ قال [7 ب]: “ينسبه إلى أمه حوَّاء”.
فهذا الحديث، وإن لم يثبت، فاتصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار، ومن غير إنكار، كافٍ في العمل به (1). وما أجرى الله سبحانه العادةَ قطُّ بأنّ أمّةً طبَّقت مشارق الأرض ومغاربها، وهي أكمل الأمم عقولًا وأوفرُها معارفَ، تُطبِق على مخاطبةِ مَن لا يسمع ولا يعقل، وتستحسن ذلك، ولا ينكرُه منها منكِر، بل سنَّه (2) الأول للآخِر، ويقتدي فيه الآخِر بالأول (3). فلولا أنَّ المخاطَب يسمع وإلا كان (4) ذلك بمنزلة الخطاب للتراب والخشبِ والحجر أو للمعدوم (5)، وهذا، وإن استحسنه واحد، فالعقلاء قاطبةً على استقباحه واستهجانه.
وقد روى أبو داود في سننه (6) بإسناد لا بأس به أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – حضر
(1) سبق أنّ العمل به لم يُعرف إلا في بلاد الشام.
(2) (ب، ط، ج): “يسنّه”.
(3) انظر تعقيب الأمير الصنعاني على ذلك في كتابه جمع الشتيت (80).
(4) “وإلا” هنا في غير موضعها، ولا يستقيم المعنى إلا بحذفها. وهو من التراكيب الملحونة الشائعة في عهد المؤلف. انظر تعليقنا على طريق الهجرتين (44) والداء والدواء (500).
(5) (ب، ط): “أو المعدوم”. (ق، ج): “والمعدوم”.
(6) برقم (3221). وأخرجه الحاكم (1/ 370)، والضياء المقدسي في المختارة (388) من طرق عن هشام بن يوسف الصنعاني، ثنا عبد الله بن بحير، عن هانئ مولى عثمان، قال: سمعت عثمان بن عفان يقول. (فذكره).
وقال الحاكم: “صحيح الإسناد”، وقال النووي في المجموع شرح المهذب (5/ 292): “إسناده جيد”. (قالمي).
(1/32)
جنازة رجل، فلما دُفن قال: “سَلُوا لأخيكم التثبيت، فإنه الآن يُسأل”. فأخبرَ أنه يُسأل حينئذ، وإذا كان يُسأل فإنَّه يسمع التلقين.
وقد صحَّ عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنَّ الميت يسمع قرْعَ نعالهم إذا ولَّوا منصرفين (1).
وذكر عبد الحق عن بعض الصالحين: قال: مات أخ لي، فرأيته في النوم، فقلت: يا أخي، ما كان حالك حين وُضِعتَ في قبرك؟ قال: أتاني آتٍ بشهاب من نار، فلولا أنَّ داعيًا دعا لي لهلكتُ (2).
وقال شَبِيب بن شَيْبَة: أوصتني أمي عند موتها، فقالت: يا بُنَيَّ إذا دفنتَني فقُم عند قبري، وقل: يا أم شبيب (3) قُولي: لا إله إلا الله. فلما دفنتُها قمتُ عند قبرها، فقلت: يا أمَّ شبيب قُولي: لا إله إلا الله. ثم انصرفتُ. فلما كان من الليل رأيتها في النوم، فقالت: يا بنيَّ، كدتُ أن أهلِكَ لولا أن تداركني (4) “لا إله إلا الله”، فقد حفظتَ وصيتي يا بنيّ (5).
وذكر ابن أبي الدنيا عن تُماضِرَ بنت سهل امرأةِ أيوب بن عيينة (6) قالت: رأيت (7) سفيان بن عيينة في النوم فقال لي: جزى الله أخي أيوبَ عنّي
(1) سيأتي بتمامه في (ص 157) وثمة تخريجه.
(2) كتاب العاقبة (182).
(3) في (ز) والمنامات والعاقبة هنا وفيما يأتي: “أم شيبة”.
(4) (ب، ط، ج): تداركتني.
(5) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (18). وانظر: كتاب العاقبة (183).
(6) (ب، ز): “عتبة”. وفي حاشية (ط): “صوابه عتبة”.
(7) الذي في كتاب المنامات أن ابنة سفيان بن عيينة هي التي رأت أباها في المنام. وكذا في الأهوال لابن رجب عن ابن أبي الدنيا.
(1/33)
خيرًا، فإنه يزورني كثيرًا، وقد كان عندي اليوم. فقال أيوب: نعم حضرتُ الجبَّان (1) اليوم، فذهبت إلى قبره (2).
وصحَّ عن حمَّاد بن سلَمة، [8 أ] عن ثابت، عن شهر بن حَوْشَب أنَّ الصعب بن جَثَّامة وعوفَ بن مالك كانا متواخيين (3). قال صعب لعوف: أي أخي: أيُّنا مات قبل صاحبه فَلْيَتَرايا (4) له. قال: أوَ يكون ذلك؟ قال: نعم. فمات صعب، فرآه عوف فيما يرى النائم، كأنه قد أتاه. قال: قلت: أي أخي. قال: نعم. قلت: ما فُعِل بكم؟ قال: غُفِر لنا بعد المشايب (5). قال: ورأيت
(1) (ب، ط، ج): “جنازة”. وكذا في المنامات.
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (20). ومنه في كتاب الأهوال (84).
(3) لغة في “متآخيين”. انظر: اللسان (14/ 22 أخا).
(4) كذا في جميع النسخ بإبدال الهمزة ياء وإثبات حرف العلّة في المضارع المجزوم من المعتل اللام. والجادّة: فَلْيَتَراءَ. وتراءى له: تصدّى له ليراه.
(5) اضطربت النسخ والمصادر في إثبات هذه الكلمة اضطرابًا شديدًا. ففي (أ، غ، ز): “المشارب”، وفي (ق): بالسين المهملة، وفي (ب، ج): “المشاربة”، وصحح في هامش (ج): “المشازرة” مع تفسيرها بالفارسية. وفي (ط): “المشارفة”. وفي أهوال القبور: “المساوي”، وفي شرح الصدور: “المشاق”، وفي المنامات ــ وهو مصدر الجميع ــ: “المصائب”. ولكني اخترت ــ مع كون “المصائب” و”المشاق” أوضح ــ ما ورد في الجليس الصالح، لأن المعافى بن زكريا نصّ على روايته وشرحه، ثم هو أقرب إلى ما في معظم أصولنا. أما كتاب المنامات وغيره فلا نعرف ما في أصولها، ولا ثقة بما أثبته ناشروها.
قال المعافى: “يتجه فيه وجهان من التأويل: أحدهما: أنه شاب الشيءَ إذا خالطه ومازجه، فكأنه عنى أنه لقي ــ مع أنه نجا وفاز ــ أمورًا فظيعة راعته حين عاينها يومئذ. وهو يوم الفزع الأكبر … والوجه الثاني: أنه من الشيب والمشيب، وقد وصفه الله تعالى بأنه يجعل الولدان شيبًا”.
قلت: الوجه الثاني هو الظاهر. ويؤيده ورود كلمة “المُشيبات” في خبر آخر في مثل هذا السياق أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (159).
وقد وردت أيضًا في حديث أبي أمامة في مسند أحمد (36/ 566) برقم (22232)، وضبطت بكسر الياء المشددة. ويجوز بسكونها. والمشايب كالمشيبات جمع المُشِيبة.
(1/34)
لُمعةً سوداءَ في عنقه، قلت: أي أخي ما هذه؟ قال: عشرة دنانير استسلفتُها من فلان اليهودي، فهنَّ (1) في قَرَني (2)، فأعطوه إياها. واعلم أي أخي أنه لم يحدث في أهلي حدَثٌ بعد موتي إلا قد لحق بي خبره، حتى هرّةٌ لنا ماتت منذ أيام. واعلم أنَّ بنتي تموت إلى ستة أيام، فاستوصُوا بها معروفًا.
فلما أصبحتُ قلت: إنَّ في هذا لَمَعْلمًا (3)، فأتيت أهله، فقالوا: مرحبًا بعوفٍ! أهكذا تصنعون بتركة إخوانكم؟ (4) لم تقرَبْنا منذ مات صعب! قال: فاعتلَلْتُ بما يعتلُّ به الناس. فنظرتُ إلى القرَن، فأنزلتُه، فانتثلْتُ (5) ما فيه، فوجدتُ الصُّرَّة التي فيها الدنانير، فبعثتُ بها إلى اليهودي، فقلت: هل كان لك على صعب شيء؟ قال: رحم الله صعبًا، كان من خيار أصحاب محمد (6) (- صلى الله عليه وسلم -)، هي له. قلت: لَتُخْبِرنِّي. قال: نعم، أسلفتُه عشرة دنانير.
(1) (ب، ط، ز، ج): “فهي”.
(2) (ط): “قرن”. والقَرَن: الكنانة.
(3) (ز): “لعبرة”.
(4) (ب، ط، ج): “أهكذا تتركون إخوانكم”.
(5) أي استخرجت.
(6) ما عدا (ب، ط، ج): “رسول الله”.
(1/35)
فنبذتُها إليه. قال: هي والله بأعيانها. قال: قلت: هذه واحدة.
قال: فقلت: هل حدث فيكم حدثٌ بعد موت صعب؟ قالوا: نعم حدث فينا كذا، حدث فينا كذا. قال: قلت: اذكروا. قالوا: نعم. هِرَّةٌ ماتت منذ أيام، فقلت: هاتان اثنتان. قلت: أين ابنة أخي؟ قالوا: تلعب، فأُتِيتُ بها، فمَسِسْتُها، فإذا هي محمومة، فقلت: استوصُوا بها معروفًا. فماتت لستة أيام (1).
وهذا من فقه عوف رحمه الله، وكان من الصحابة، حيث نفَّذ وصية صعب بن جثَّامة بعد موته، وعلم صحة قوله بالقرائن التي أخبره بها، من أنَّ الدنانير عشرة، وهي في القَرَن، ثم سأل اليهودي، فطابق قولُه لما في الرؤيا، فجزم عوف بصحة الأمر، فأعطى (2) اليهودي الدنانير. وهذا فقه إنما يليق بأفقهِ الناس وأعلمِهم، وهم أصحاب [8 ب] رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. ولعل أكثر المتأخرين ينكر ذلك ويقول: كيف جاز لعوف أن ينقل الدنانير من تركة صعب ــ وهي لأيتامه وورثته ــ إلى يهودي بمنام؟
ونظيرُ هذا من الفقه الذي خصَّهم الله به دون الناس قصَّةُ ثابت بن قيس بن الشمَّاس. وقد ذكرها أبو عمر بن عبد البر وغيرُه، قال أبو عمر (3): أخبرنا عبد الوارث بن سفيان، حدثنا قاسم بن أصبَغ، حدثنا أبو الزِّنْباع
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (25). ومنه في الأهوال (89). ومنه ومن عيون الحكايات لابن الجوزي في شرح الصدور (352). وأخرجه الجريري في الجليس الصالح (3/ 274). وقد أخرجه ابن المبارك في الزهد (830) على وجه آخر. قال ابن رجب: وهو أشبه.
(2) (ب، ط، ج): “وأعطى”.
(3) في كتاب الاستيعاب (1/ 201).
(1/36)
رَوْح بن الفرج، ثنا سعيد بن عفير وعبد العزيز بن يحيى المدني، ثنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن إسماعيل بن محمد بن ثابت الأنصاري، عن ثابت بن قيس بن شمَّاس أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال له: “يا ثابتُ، أما ترضى أن تعيش حميدًا، وتُقتَل (1) شهيدًا، وتدخل الجنة؟ ” قال مالك: فقُتِل ثابت بن قيس يوم اليمامة شهيدًا (2).
(1) (ط): “وتموت”.
(2) أخرجه محمد بن الحسن الشيباني في موطئه (945 ــ مع التعليق الممجد) عن مالك، بإسناده، وفي أوله قصة.
ومن طريق مالك أخرجه أيضًا الطبراني في المعجم الكبير (1312)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (1328).
وفي إسناده إسماعيل بن محمد بن ثابت لم يوثقه غير ابن حبان بذكره إياه في الثقات (4/ 16). وفيه انقطاع أيضًا، لأن إسماعيل لم يدرك جده ثابتًا، كما قاله الحافظ في تعجيل المنفعة (1/ 309)، وفي فتح الباري (6/ 621).
ورواه الحاكم في المستدرك (3/ 234) من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدثني أبي، عن ابن شهاب، قال: أخبرني إسماعيل بن محمد بن ثابت الأنصاري، عن أبيه، أن ثابت بن قيس قال: يا رسول الله، لقد خشيت أن أكون قد هلكت. (الحديث). وقال: “على شرط الشيخين”.
وليس كما قال رحمه الله، لأن إسماعيل بن محمد بن ثابت وأباه ليسا من رجال الشيخين، ثم هو مرسل أيضًا محمد بن ثابت لم تثبت له صحبة وهو يستصغر عن حضور القصة المذكورة، بل في سماعه من أبيه نظر، قال الحافظ في ترجمته من التهذيب (9/ 84): “والظاهر أن رواية محمد عن أبيه، وعن سالم أيضًا مرسلة؛ لأنهما قتلا يوم اليمامة وهو صغير إلا أن يكون حفظ عن أبيه وهو طفل، وقد أوردوه في الصحابة على قاعدتهم ولا تصح له صحبة”.
والحديث يتقوّى بما بعده، ولقصة رفع الصوت شاهد من حديث أنس عند البخاري (3613)، ومسلم (119)، وفيه قول النبي – صلى الله عليه وسلم – له: “إنك لستَ من أهل النار، ولكن من أهل الجنة”. (قالمي).
(1/37)
قال أبو عمر (1): وروى هشام بن عمار، عن صَدقة بن خالد، ثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: حدثني عطاء الخراسانيُّ قال: حدثتني ابنة ثابت بن قيس بن شمَّاس قالت: لما نزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] دخل أبوها بيته، وأغلق عليه بابه. ففقده رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وأرسل إليه يسأله: ما خبره؟ قال: أنا رجل شديد الصوت، أخاف أن يكون قد حَبط عملي. قال: “لستَ منهم، بل تعيشُ بخير، وتموتُ بخير”.
قال: ثم أنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18]. فأغلق عليه بابه (2)، وطفق يبكي. ففقده رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فأرسل إليه، فأخبره، فقال: يا رسول الله إني أحِبّ الجَمَال، وأحِبّ أن أسودَ قومي. فقال: “لست منهم، بل تعيش حميدًا، وتقتل شهيدًا، وتدخلُ الجنة”.
قالت (3): فلما كان يومُ اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مسيلمة، فلما التقَوا انكشفوا، فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة: ما هكذا كنَّا نقاتل مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. ثم حفر كلُّ واحد له حفرةً، فثبَتا، وقاتلا حتى قُتِلا. وعلى ثابت يومئذ درعٌ له نفيسةٌ، فمرَّ به رجل من المسلمين [9 أ] فأخذها.
فبينا رجل من المسلمين نائم، إذ أتاه ثابت في منامه، فقال له:
(1) في الاستيعاب أيضًا (1/ 201 – 203).
(2) من “ففقده” إلى هنا سقط من (ز).
(3) (ب، ط، ز): “قال”، وهو ساقط من (ج).
(1/38)
أوصيك (1) بوصية، فإياك أن تقول: هذا حلم، فتضيعَه! إنّي لمّا قُتِلتُ أمسِ مرَّ بي رجلٌ من المسلمين، فأخذ درعي. ومنزلُه في أقصى الناس، وعند خبائه فرسٌ يستنُّ في طِوَله (2)، وقد كفأ على الدرع بُرمَةً (3)، وفوق البرمة رَحْلٌ. فأتِ خالدًا، فمُرْه أن يبعث إلى درعي، فيأخذَها. وإذا قدمتَ المدينة على خليفة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ــ يعني أبا بكر الصديق ــ فقل له: إن عليَّ من الدين كذا وكذا، وفلانٌ من (4) رقيقي عتيق، وفلان.
فأتى الرجل خالدًا، فأخبره، فبعث إلى الدرع فأُتي بها. وحدَّث أبا بكر برؤياه، فأجاز وصيته. قال: ولا نعلم أحدً أجيزت وصيتُه بعد موته غيرَ ثابت بن قيس رحمه الله (5).
انتهى ما ذكره أبو عمر.
(1) (ب، ط، ج): “إني أوصيك”.
(2) الطِّوَل: الحبل الذي يطوَّل للدابة، فترعى فيه. والاستنان: النشاط والمرح.
(3) البُرمة: القدر.
(4) لم ترد “من” في (ب، ط، ج).
(5) أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3399) قال: حدثنا هشام بن عمار بإسناده إلى قوله: “إلى مُسيلمة”.
ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده الكبير ــ كما في المطالب العالية (3721) ــ، والطبراني في المعجم الكبير (1320) من طريقين عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بإسناده، مطولًا.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 322): “رواه الطبراني، وبنت ثابت بن قيس لم أعرفها وبقية رجاله رجال الصحيح، والظاهر أن بنت ثابت بن قيس صحابية، فإنها قالت: سمعت أبي”.
قلت: وما استظهره رحمه الله وجيه جدًّا؛ لأن تصريحها بالسماع من أبيها الذي قتل في خلافة أبي بكر رضي الله عنه في وقعة اليمامة أوائل سنة (12 هـ) دليل على إدراكها لزمن النبوة وهي مميزة. ولذلك أوردها في الصحابة أبو نعيم في معرفة الصحابة ترجمة (4221) وأخرج لها هذا الحديث من طريق ابن أبي عاصم، واستدركها أبو موسى المديني على ابن منده، كما في أُسد الغابة ترجمة (7635). (قالمي).
(1/39)
فقد اتفق خالد وأبو بكر الصديق والصحابة معه على العمل بهذه الرؤيا، وتنفيذِ الوصية بها، وانتزاعِ الدرع ممَّن هو في يده بها. وهذا (1) محض الفقه.
وإذا كان أبو حنيفة وأحمد ومالك يقبلون قول المدَّعي من الزوجين ما يصلح له دون الآخر لقرينة صدقه (2)، فهذا أولى.
وكذلك أبو حنيفة (3) يقبل قول المدَّعي للحائط بوجوه (4) الآجُرِّ إلى جانبه وبمعاقد القُمُط (5).
(1) (ب، ط، ج): “وهذا هو”.
(2) انظر: المغني (14/ 333).
(3) الصواب أن ما ذكره مذهب صاحبيه. والمؤلف نفسه عزاه في الطرق الحكمية (361) إلى أبي يوسف. أما أبو حنيفة فإنه كالشافعي لا ينظر إلى وجوه الآجرِّ ونحوها. انظر: المبسوط للسرخسي (17/ 165)، والفتاوى الهندية (4/ 99)، والمغني (7/ 43).
(4) في النسخ المطبوعة: “بوجود”، والصواب ما أثبتنا، وقد أجمعت عليه النسخ الخطية، فخالفها بعض الناشرين. وانظر: المغني (7/ 43)، والتلقين للقاضي عبد الوهاب (2/ 171).
(5) كذا ضبط في (ب، ق) بضمتين: جمع قِماط، وهو ما يُعمل من ليف وخُوص ونحوه يُشَدّ به الخُصُّ وهو البيت الذي يعمل من القصب. وقيل غير ذلك. انظر: المصباح المنير (516). وضبطه الجوهري بكسر القاف وسكون الميم: القِمْط، بمعنى القماط. انظر: الصحاح (1154) والنهاية (4/ 108).
(1/40)
وقد شرَع الله حدَّ المرأة بأيمان الزوج وقرينةِ نُكولها، فإن ذلك من أظهر الأدلَّة على صدق الزوج (1).
وأبلغُ من ذلك قتل المقسَم عليه في القَسامة بأيمان المدّعين مع القرينة الظاهرة من اللَّوْث (2).
وقد شَرَع الله سبحانه قبول قول المدَّعين لترِكةِ ميتهم، وإذا مات في السفر، وأوصى إلى رجلين من غير المسلمين، فاطَّلع الورثة على خيانة الوصيَّيْن. فإنّهما يحلفان بالله، ويستحقَّانه (3)، وتكون أيمانهما أولى من أيمان الوصيين. وهذا أنزله الله سبحانه في آخر الأمر في سورة المائدة، وهي آخر القرآن نزولًا، ولم ينسخها شيء، وعمل بها الصحابة بعده (4).
وهذا دليل على أنه يُقضَى في الأموال باللَّوث، وإذا كان الدم يباح باللَّوث في القسامة مع خطره، فأن يُقضَى باللَّوث ــ وهو القرائن الظاهرة ــ في الأموال أولى وأحرى (5).
وعلى هذا [9 ب] عمل ولاةُ العدل في استخراج السَّرِقات من السُّرَّاق
(1) انظر: الطرق الحكمية (312)، وزاد المعاد (5/ 368).
(2) عرّفه المؤلف بالقرائن الظاهرة. وفي المصباح المنير (560) عن الأزهري أنه: البينة الضعيفة غير الكاملة. وانظر في تأثيره في الدماء والحدود والأموال: إعلام الموقعين (4/ 371)، والطرق الحكمية (11). وانظر: القسامة في إعلام الموقعين (1/ 102).
(3) (ب، ط، ج): “يستحقان”.
(4) انظر: الطرق الحكمية (491 – 492).
(5) قارن بالطرق الحكمية (507) وزاد المعاد (3/ 149).
(1/41)
حتى إنّ كثيرًا ممَّن ينكر ذلك عليهم يستعين بهم إذا سُرِق ماله (1).
وقد حكى الله سبحانه عن الشاهد الذي شهد بين يوسفَ الصدِّيق وامرأة العزيز أنه (2) حكم بالقرينة على صدق يوسف وكذب المرأة، ولم ينكر الله سبحانه عليه ذلك، بل حكاه عنه تقريرًا له (3).
وأخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – عن نبي الله سليمان بن داود أنه حكم بين المرأتين اللتين تداعتا (4) الولدَ للصغرى، بالقرينة التي ظهرت له، لمَّا قال: ائتوني بالسكِّين أشقُّ الولد بينكما (5). فقالت الكبرى: نعم. رضيَتْ بذلك للتأسّي بفقد ابن صاحبتها. وقالت الأخرى: لا تفعل (6)، هو ابنها. فقضَى به لها للشفقة والرحمة التي قامت بقلبها، حتى سمحت به للأخرى، ويبقى حيًّا وتنظرُ إليه (7).
وهذا من أحسن الأحكام وأعدَلها، وشريعةُ الإسلام تقرِّر مثل هذا، وتشهدُ بصحَّته. وهل الحكمُ بالقافة (8) وإلحاقُ النسب بها إلّاَ اعتمادًا (9)
(1) انظر: الطرق الحكمية (14 – 18).
(2) (ب، ط، ج): “عن شاهد يوسف أنه”.
(3) (ب، ط): “مقرًّا له”. (ج): “مقررًا له”. وانظر: الطرق الحكمية (10)، زاد المعاد (3/ 149)، بدائع الفوائد (1037)، إغاثة اللهفان (2/ 66).
(4) في جميع النسخ: “تداعيا”. وفي (ب) وضعت نقطتا التاء أيضًا، وهو الوجه.
(5) (ب): بينهما.
(6) (ب): لا تفعلوا.
(7) أخرجه البخاري (3427)، ومسلم (1720) من حديث أبي هريرة.
(8) (ب): “القسامة”، تحريف.
(9) في النسخ المطبوعة: “بها للاعتماد”، وهو خطأ.
(1/42)
على قرائن الشَّبَه، مع اشتباهها وخفائها غالبًا (1).
المقصود أنّ القرائن التي قامت في رؤيا عوف بن مالك وقصةِ (2) ثابت بن قيس لا تقصرُ عن كثير من هذه القرائن، بل هي أقوى من مجرد وجوه الآجُرِّ ومعاقد القُمُط، وصلاحية المتاع للمدَّعي دون الآخر في مسألة الزوجَين والصانعَين. وهذا ظاهر لا خفاء به، وفِطَرُ الناس وعقولُهم تشهد بصحته، وبالله التوفيق.
والمقصود: جوابُ السائل، وأنَّ الميت إذا عرَف مثل هذه الجزئيات وتفاصيلها، فمعرفتُه بزيارة الحيِّ له وسلامِه عليه ودعائه له أولى وأحرى.
(1) انظر: الطرق الحكمية (573)، إعلام الموقعين (2/ 316)، زاد المعاد (5/ 374).
(2) (ب، ط، ج): “قضية”.
(1/43)
فصل
وأما (1) المسألة الثانية
وهي أن أرواح الموتى هل تتلاقى وتتزاور وتتذاكر أم لا؟
فهي أيضًا مسألة شريفة كبيرة القَدْر، وجوابُها أن الأرواح قسمان: أرواح معذَّبة، وأرواح منعَّمة. فالمعذَّبة في شغلٍ مما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي. والأرواحُ المنعَّمةُ المرسَلَةُ غيرُ المحبوسة تتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما كان منها في الدنيا وما يكون من أهل الدنيا، فتكون كلُّ روح مع رفيقها الذي هو (2) على مثل عملها. [10 أ] وروحُ نبينا محمد (3) – صلى الله عليه وسلم – في الرفيق الأعلى.
قال الله تعالى (4): {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]. وهذه المعيَّةُ ثابتةٌ في الدنيا وفي دار البرزخ وفي دار الجزاء. والمرءُ مع من أحبَّ (5) في هذه الدور الثلاثة (6).
(1) لم يرد في (ز).
(2) “هو”: ساقط من (ط).
(3) لم يرد في (ب، ط).
(4) (ب): “قال تعالى”.
(5) يشير إلى حديث: “المرء مع من أحبّ” المتفق عليه من حديث ابن مسعود وأبي موسى. أخرجه البخاري (6168، 6170)، ومسلم (2640، 2641).
(6) (ز): “الثلاث”. والمثبت من غيرها جائز.
(1/44)
وروى جرير، عن منصور، عن أبي الضحي، عن مسروق قال: قال أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم -: ما ينبغي لنا أن نفارقك (1) في الدنيا، فإذا مِتَّ رُفِعْتَ فوقنا، فلم نَرَك. فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} النساء: 69.
وقال الشعبي: جاء رجل من الأنصار وهو يبكي إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -، فقال: “ما يُبكيك يا فلان؟ ” فقال: يا نبيَّ الله والذي (3) لا إله إلا هو لأَنت (4) أحبُّ إليّ من أهلي ومالي، والله الذي لا إله إلا هو لأنت أحبُّ إلي من نفسي. وإنّا نذكرك أنا وأهلي، فيأخذُني كذا حتَّى أراك. فذكرتُ موتَك وموتي، فعرفتُ أنّي لن أجامعك إلا في الدنيا (5)، وأنّك تُرفَعُ في النبيين (6)، وعرفتُ أنّي إن دخلتُ الجنة كنتُ في منزل أدنى من منزلك. فلم يَرُدَّ (7) النبي – صلى الله عليه وسلم – (8) شيئًا، فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} إلى قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} (9)
(1) (ب، ط): “نقاربك”، تصحيف.
(2) تفسير الطبري ــ شاكر (8/ 534). وأخرجه ابن أبي حاتم (5614).
(3) (ب، ج، ط): “والله الذي”.
(4) في الأصل و (ق، ز): “أنت”.
(5) “فعرفت … الدنيا” ساقط من (ب، ج). وجامَعَه: اجتمع معه.
(6) (ب، ط): “مع النبيين”.
(7) (ق): “فلم يردّ عليه”.
(8) من هنا تبدأ المقابلة على (ن).
(9) في (ب، ج، ط) اكتفى بتكملة الآية (69).
(1/45)
النساء: 69،70.
وقال تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 – 30]. أي ادخلي في جملتهم، وكوني معهم. وهذا يقال للروح عند الموت (2).
وفي قصة الإسراء من حديث عبد الله بن مسعود قال: “لما أسري بالنبي – صلى الله عليه وسلم – لقي إبراهيمَ وموسى وعيسى ــ صلوات الله وسلامه عليهم ــ فتذاكروا الساعة، فبدؤوا بإبراهيم فسألوه عنها، فلم يكن عنده منها علم، ثم بموسى فلم يكن عنده منها علم، حتى أجمعوا (3) الحديثَ إلى [10 ب] عيسى فقال عيسى: عَهِد الله إليَّ فيما دون وَجْبَتها (4). فذكر خروج الدجال، قال: فأهبطُ، فأقتلُه. ويرجع الناس (5) إلى بلادهم فيستقبلهُم يأجوجُ ومأجوج، وهم من كلِّ حَدَب ينسِلون، فلا يمرُّون بماء إلا شربوه، ولا
(1) تفسير الطبري، طبعة التركي (7/ 216). وهو ساقط من طبعة شاكر. وانظر: تفسير ابن المنذر (781). وروي مرفوعًا من حديث عائشة، أخرجه الطبراني في الصغير (52)، والأوسط (477). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 7): ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران العابدي، وهو ثقة.
(2) وقيل: عند البعث. وسيأتي في المسألة الثامنة أن ظاهر الآية يؤيد القول الأول. وقد رجّح في المسألة الرابعة عشرة ومدارج السالكين (2/ 209 – 210) عدم التنافي بين القولين، فيقال لها ذلك عند الموت وعند البعث. وتبعه ابن كثير في التفسير (4/ 511).
(3) “حتى أجمعوا” كذا في جميع النسخ. وفي المستدرك ــ وهو مصدر المؤلف ــ “فتراجعوا”. وفي تفسير الطبري (15/ 413) وغيره: “فردُّوا الأمر”.
(4) الوجبة: صوت الشيء يسقط، فيسمع له كالهدّة. يعني: قيام الساعة.
(5) “الناس” ساقط من (أ، ق، غ).
(1/46)
يمرُّون بشيءٍ إلا أفسدوه. فيجأرون إلى الله تبارك وتعالى، فيدعون (1) الله، فيميتهم. فتَجْأَرُ الأرض إلى الله من ريحهم، ويجأرون إليَّ، فأدعو، ويرسل اللهُ السماءَ بالماء، فتحملُ أجسامهم، فتقذفها (2) في البحر. ثم تُنسَفُ الجبالُ وتُمَدُّ الأرض مدَّ الأديم. فعهِدَ الله إليَّ إذا كان كذلك (3) فإنّ الساعة من الناس كالحامل المتِمِّ لا يدري أهلُها متى تَفْجَؤُهم بولادتها (4) ليلًا أو نهارًا” (5).
ذكره الحاكم والبيهقي (6) وغيرهما.
وهذا نصٌّ في تذاكُر الأرواحِ العلمَ.
وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن الشهداء بأنهم أحياءٌ عند ربهم يُرزَقون، وأنهم يستبشِرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، وأنهم
(1) في النسخ: “فيدعوا” بالباء أو التاء. صوابه ما أثبتنا من المستدرك. و”فيدعوا الله”: ساقط من (ب).
(2) (ن، ق): “فيحمل … فيقذف” بالياء، وكذا في المستدرك.
(3) (ب، ج، ط): “ذلك”.
(4) (ب، ج، ق، غ): “بولادها”.
(5) أخرجه ابن ماجه (4081)، وابن أبي شيبة (37525)، وأبو يعلى (5294)، والحاكم (2/ 384)، و (4/ 488 ــ 489). وفي إسناده مؤثر بن عفازة. قال العجلي: “من أصحاب عبد الله، ثقة” (معرفة الثقات ترجمة 1808). وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 463). وبقية رجاله ثقات. وقال الحاكم: “صحيح الإسناد” .. وزاد في الموضع الأول: “ومؤثر فليس بمجهول، قد روى عن عبد الله بن مسعود والبراء بن عازب، وروى عنه جماعة من التابعين”. وكذا صحح إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (3/ 261). (قالمي).
(6) في كتاب البعث والنشور، وليس في المطبوع. وقد عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (5/ 674).
(1/47)
يستبشرون بنعمة من الله وفضل (1). وهذا يدلُّ على تلاقيهم من ثلاثة أوجه:
أحدها (2): أنهم أحياءٌ عند الله، وإذا كانوا أحياء فهم يتلاقون.
الثاني: أنَّهم إنما استبشروا بإخوانهم لقدومهم عليهم ولقائهم لهم.
الثالث: أنّ (3) لفظ “يستبشرون” يفيد في اللغة أنهم يبشِّر بعضُهم بعضًا مثل “يتباشرون”.
وقد تواترت المرائي بذلك. فمنها ما ذكره صالح بن بَشِير قال: رأيت عطاءً السَّلِيمي (4) في النوم بعد موته فقلت له: يرحمك الله (5)، لقد كنتَ طويل الحزن في الدنيا. فقال: أما والله لقد أعقبني ذلك فرحًا طويلًا وسرورًا دائمًا. فقلتُ: في أيّ الدرجات أنت؟ قال: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} النساء: 69.
(1) يشير إلى الآيات (169 – 171) من سورة آل عمران.
(2) “أحدها”: ساقط من (ن).
(3) “أن”: ساقط من (ب، ط).
(4) في جميع النسخ: “السلمي”. وقد ضبط في: (أ، ط، غ) بضم السين، وهو تحريف. والصواب ما أثبتنا، نسبة إلى سَليمة بن مالك بن فهم، بطن من الأزد. وهو زاهد مشهور من أهل البصرة، من صغار التابعين، قيل إ نه مات بعد سنة 140. انظر: اللباب لابن الأثير (2/ 134) وسير أعلام النبلاء (6/ 86) وتوضيح المشتبه (5/ 157).
(5) (ب، ط): “رحمك الله”.
(6) إحياء علوم الدين (4/ 508). وأخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (56) بنحوه. ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (6/ 184).
(1/48)
وقال عبد الله بن المبارك: رأيت سفيانَ الثوريَّ في النوم فقلت له: ما فَعَل الله بك؟ قال: لقيتُ (1) محمدًا وحِزْبَه (2).
وقال صخر بن راشد (3): رأيتُ عبد الله بن المبارك في النوم بعد موته، فقلتُ أليس قد متَّ؟ قال: بلى، قلت: فما صنَعَ الله بك؟ قال: غفر لي مغفرةً أحاطت بكل ذنبٍ. قلت: فسفيان الثوري؟ قال (4): بخٍ بخ! [11 أ] ذاك {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} النساء: 69.
وذكر ابن أبي الدنيا (6) من حديث حمّاد بن زيد، عن هشام بن حسّان، عن حفصة (7) بنت راشد قالت: كان مروان المُحَلِّمي لي جارًا (8)، وكان قاضيًا (9)
مجتهدًا، قالت: فمات فوجَدْتُ عليه وَجْدًا شديدًا، قالت: فرأيته
(1) (ط): “أتيت”.
(2) العاقبة في ذكر الموت (223). وأخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (45).
(3) (ب): “أسد”، تحريف.
(4) (أ، ق): “فقال”.
(5) العاقبة (223). وأخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (63).
(6) في المنامات (35). وانظر: العاقبة (229).
(7) في (أ، ق، ن): “يقضة”، تحريف.
(8) (ن): “جارًا لي”. (ط): “قالت: رأيت مروان المحلِّمي، وكان لي جارًا”. ونحوه في (ب، ج)، ولكن سقط منهما: “وكان”.
(9) كذا في (أ، ط، غ)، والمنامات، وأنا في ريب منه. وفي العاقبة: “عابدًا” وهو أقرب إلى السياق. وفي تاريخ مدينة السلام (3/ 293): “ناصبًا”. وفي (ب): “مخلصًا”، وهو مغيَّر.
ترجمته في التاريخ الكبير للبخاري (1582)، والجرح والتعديل (1247). وكنّاه أبو حاتم بأبي عثمان العجلي، وكنيته في هذه الحكاية أبو عبد الله.
(1/49)
فيما يرى النائم، قلت: أبا عبد الله، ما صنع بك ربُّك؟ قال: أدخلني الجنة. قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم رُفِعتُ إلى أصحاب اليمين. قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم رُفِعتُ إلى المقرَّبين. قلت: فمَنْ رأيتَ من إخوانك؟ قال: رأيت الحسن (1)، وابنَ سيرين، وميمون بن سِيَاه.
قال حمّاد: قال هشام بن حسَّان: فحدَّثتني أمُّ عبد الله ــ وكانت من خيار نساء أهل البصرة ــ قالت: رأيتُ فيما يرى النائم كأنّي دخلتُ دارًا حسنة ثم دخلتُ بستانًا ــ فذكرَتْ من حسنه ما شاء الله ــ فإذا أنا فيه برجل متَّكئٍ على سرير من ذهب، وحوله الوُصَفاء (2)، بأيديهم الأكاويب (3). قالت: فإني لمتعجِّبةٌ من حسن ما أرى، إذ قيل: هذا مروان المحلِّمي أقبلَ، فوثبَ، فاستوى جالسًا على سريره. قالت: واستيقظتُ (4) من منامي، فإذا جنازة مروان قد مُرَّ بها على بابي تلك الساعة.
وقد جاءت سنّةٌ صريحةٌ بتلاقي الأرواح وتعارُفِها. قال ابن أبي الدنيا (5): حدَّثني محمَّد بن عبد الله بن بَزيع، أخبرنا فُضَيل بن سليمان
(1) زاد في (ن): “البصري”. وكذا في العاقبة.
(2) (ق): “الوصائف”. وفي العاقبة: “الوصائف بأيديهن”. (ن): “الوصيفات”. (ز): “الوصفان”. والوصيف: الخادم، غلامًا كان أو جارية. انظر: لسان العرب (9/ 357).
(3) جمع أكواب. وفي (ن): “الأكاوب”.
(4) (ط): “فاستيقظت”.
(5) في المنامات (14). وعزاه ابن حجر في الإصابة (7/ 351) إلى كتاب القبور لابن أبي الدنيا.
(1/50)
النُّمَيْري (1)، حدثني يحيى بن عبد الرحمن بن أبي لَبيبة (2)، عن جدِّه قال: لما مات بِشْر بن البراء بن معرورٍ وجَدَتْ عليه أمُّ بشر وَجْدًا شديدًا، فقالت: يا رسول الله، إنه لا يزال الهالكُ يهلِك من بني سَلَمة، فهل تتعارف الموتى، فأُرسِلَ إلى بشرٍ بالسلام؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “نعم والذي نفسي بيده، يا أمَّ بشر، إنهم ليتعارفون كما يتعارف الطيرُ في رؤوس الشجر”. فكان (3) لا يهلك هالك من بني سَلَمة إلا جاءته أمّ بِشْر، فقالت: يا فلان، عليك السلام. فيقول: وعليك. فتقول: اقرأ على بِشْرٍ السلام (4).
وذكر [11 ب] ابن أبي الدنيا (5) من حديث سفيان، عن عمرو بن دينار،
(1) تحرفت في (ق) إلى “البهري”، وفي (ن) إلى “النهري”.
(2) تحرفت في النسخ إلى: “ليينة، ولبينة، وكبيبة”.
(3) (ب، ن): “وكان”.
(4) إسناده ضعيف، لأجل يحيى بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة، نُسب إلى جدِّه وهو يحيى بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة. قال ابن معين في تاريخه (251 ــ رواية الدوري): “ابن أبي لبيبة الذي يروي عنه وكيع ليس حديثه بشيء”. وقال أبو حاتم: “ليس بقوي” الجرح والتعديل (9/ 166). وانظر: الكامل لابن عدي (7/ 233).
تنبيه: وقول ابن معين أنزله المزي على والد المترجم (محمد بن عبد الرحمن) الذي أخرج حديثه أبو داود والنسائي. وجدُّه يحتمل جده الأدنى وهو عبد الرحمن، ويحتمل جدّه الأعلى وهو أبو لبيبة، كما في لسان الميزان (7/ 343).
وكل منهما مترجم في القسم الأول من الإصابة لابن حجر على اختلاف في إثبات صحبتهما راجع ترجمة الأول برقم (5214)، والآخر برقم (10563). (قالمي).
(5) في كتاب القبور ــ فيما يبدو ــ وليس في القطعة المطبوعة منه. وأخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 311). والبيهقي في الشعب (7/ 21).
(1/51)
عن عبيد بن عمير، قال: أهل القبور يتوَكَّفون (1) الأخبار، فإذا أتاهم الميِّت قالوا: ما فَعَل فلان؟ فيقول: صالح. ما فعل فلان؟ يقول (2): صالح. ما فعل فلان؟ فيقول: ألم يأتكم؟ أوَما قدِمَ عليكم؟ فيقولون: لا. فيقول: إنّا لله وإنا إليه راجعون، سُلِك به غيرُ سبيلنا (3).
وقال صالح المُرِّيُّ (4): بلغني أنّ الأرواح تتلاقى عند الموت، فتقول أرواح الموتى للروح التي تخرج إليهم: كيف كان مأواك؟ وفي أي الجسدين (5) كنتِ: في طيِّب أم خبيث؟ ثم بكى حتى غلبه البكاء (6).
وقال عُبَيد بن عُمَير أيضًا: إذا مات الميت تلقَّته الأرواح يستخبرونه كما يُستخبَر الرَّكْبُ: ما فعل فلان؟ ما فعل فلان؟ فإذا قال: توفي، ولم يأتهم، قالوا: ذُهِب به إلى أمِّه الهاوية (7).
وقال سعيد بن المسيِّب (8): إذا مات الرجل استقبله ولده (9) كما
(1) أي: ينتظرونها ويسألون عنها. اللسان (9/ 364).
(2) (ب، ج، ط): “فيقول”.
(3) (ط): “إلى غير سبيلنا”.
(4) (ج، ق): “المزني”، تصحيف.
(5) (ج، ن، ق): “الجسد”.
(6) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (60) وذكر الموت (273).
(7) أخرجه ابن أبي الدنيا في ذكر الموت (276). وأبو نعيم في الحلية (3/ 310).
(8) كذا في جميع النسخ. والصواب: سعيد بن جبير، كما صرَّح به ابن رجب في أهوال القبور (30). وانظر: شرح الصدور (135).
(9) في (ن): “والده”، ولعلّه مغيّر. وفي أهوال القبور: “أهله”.
(1/52)
يُستقبَل الغائب (1).
وقال عبيد بن عمير: لو أنِّي آيسٌ من لقاء (2) مَن مات من أهلي لألفاني قد متُّ كَمَدًا (3).
وذكر معاوية بن يحيى، عن عبد الله بن سَلَمة (4) أنَّ أبا رُهْمٍ السِّمَعِيَّ (5) حدَّثه أنّ أبا أيوب الأنصاريَّ حدَّثه أنّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “إنّ نفس المؤمن إذا قُبضت تلقَّاها أهلُ الرحمة من عند الله كما يُتلقَّى البشيرُ في الدنيا، فيقولون: أنظِروا أخاكم حتَّى يستريح فإنّه كان في كرب شديد، فيسألونه: ماذا فعل فلان (6)؟ وما فعلتْ فلانة؟ وهل تزوّجت فلانة؟ فإذا سألوه عن رجل (7) مات
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (15)، وذكر الموت (275).
(2) (ب، ج، ن): “لُقيّ” مضبوطًا بضمّ اللام.
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في ذكر الموت (276)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 310).
(4) في (ن) وحدها: “عبد الرحمن بن سلمة”. وفي المعجمين الكبير والأوسط للطبراني: “عبد الرحمن بن سلامة”، وكذا في أهوال القبور (30). وهو أحد شيوخ مكحول الشامي كما في تهذيب الكمال (2/ 281) و (28/ 465).
(5) في الأصل و (غ): “المسمعي”، وهو تحريف. والسِّمَعي نسبة إلى السِّمَع بكسر السين وفتح الميم، وقيل: بسكون الميم، وقيل: بفتحهما. وهو السمع بن مالك بطن من حمير. ويقال في السمعي: “السِّماعي” أيضًا. انظر: الإكمال (4/ 459) والمشتبه (370) وتوضيح المشتبه (5/ 166). وتحرّف “أبو رهم” في (ب، ق) إلى: “إبراهيم”. وهو أحزاب بن أسِيد. قال ابن حجر في التقريب (286): مختلف في صحبته، والصحيح أنه مخضرم ثقة.
(6) في (ب، ط) تكرّر “ماذا فعل فلان”.
(7) (ط): “قد مات”.
(1/53)
قبله قال: إنه قد مات (1) قبلي، قالوا: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ذُهِبَ به إلى أمّه الهاوية؛ فبئست الأمُّ، وبئست المربِّية! ” (2).
(1) (ن): “إنه مات”.
(2) في إسناده معاوية بن يحيى ــ لعله الصدفي ــ أبو روح الشامي الدمشقي، وهو ضعيف كما في التقريب، وشيخه لم نظفر له بترجمة، كما سبق .. والحديث أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (3887)، والأوسط (148)، ومسند الشاميين (1544) من طريق مسلمة بن علي، عن زيد بن واقد ــ وزاد في الأوسط والمسند: وهشام بن الغاز ــ عن مكحول، عن عبد الرحمن بن سلامة، عن أبي رهم، به، نحوه، وزاد في آخره: “إن أعمالكم تُعرض على أقاربكم وعشائركم من أهل الآخرة … “.
ومسلمة بن علي هو الخشني الدمشقيّ متروك، كما في التقريب.
ورواه ابن حبان في المجروحين (1/ 335 ــ 336)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1522) من طريق سلام بن سلم الطويل، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أبي رُهْم، به، بنحو حديث مسلمة. وسلام الطويل واهٍ، قال ابن حبان: “يروي عن الثقات الموضوعات كأنه كان المتعمد لها”. وقال ابن الجوزي: “هذا حديث لا يصح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وسلام هو الطويل وقد أجمعوا على تضعيفه، وقال النسائي والدار قطني: “متروك”. وقد روي عن أبي أيوب موقوفًا، وهذا شيء يروى عن عبيد بن عمير”.
والموقوف عن أبي أيوب رواه ابن المبارك في الزهد (443) عن ثور بن يزيد، عن أبي رهم السماعي، عن أبي أيوب الأنصاري، قال (فذكره).
قال العراقي في المغني عن حمل الأسفار (4456): “إسناده جيد”.
قلت: وهو كذلك إن كان الواسطة بين ثور بن يزيد الحمصي وأبي رُهم خالد بن معدان ــ كما في الطريق السابق ــ وإلا فالظاهر أنه منقطع.
والمروي عن عبيد بن عمير أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (35006)، وعبد الله بن أحمد في السنة (1464) ورجاله ثقات.
قال الحافظ في فتاوى له مطبوعة مع الإمتاع بالأربعين المتباينة السماع (ص 88): “وهذا موقوف على عبيد بن عمير أحد كبار التابعين والإسناد صحيح إليه ومثله لا يقال من قبيل الرأي فهو من قبيل المرسل”.
ويشهد له وللذي قبله ما رواه النسائي (1832)، وابن حبان (3014)، والحاكم (1/ 353) من طريق معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن قسامة بن زهير، عن أبي هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وفيه: “فيأتون به أرواح المؤمنين، فلهم أشدُّ فرحًا به من أحدكم بغائبه يقدم عليه، فيسألونه: ماذا فعل فلان؟ ماذا فعل فلان؟ فيقولون: دعوه، فإنه كان في غمِّ الدنيا، فإذا قال: أما أتاكم؟ قالوا: ذُهب به إلى أمِّه الهاوية”.
ورواه الحاكم أيضًا من طريق معمر عن قتادة بهذا الإسناد، ومن طريق همام بن يحيى، عن قتادة، عن أبي الجوزاء، عن أبي هريرة، رفعه. ثم قال: “هذه الأسانيد كلها صحيحة، وشاهدها حديث البراء بن عازب” وحديث البراء أورده المصنف تحت المسألة السادسة، وسيخرج هناك. (قالمي).
(1/54)
وقد تقدمَّ حديث يحيى بن بسطام (1): حدّثني مِسْمَع بن عاصم، قال: رأيتُ عاصمًا الجَحْدَري (2) في منامي بعد موته بسنتين، فقلت: أليس قد مِتَّ؟ قال: بلى، قلت: فأين أنت؟ قال: أنا والله في روضة من رياض الجنة، أنا ونفرٌ من أصحابي، نجتمع كلَّ ليلةِ جمعةٍ وصبيحتها إلى بكر بن عبد الله المُزَني، فنتلقَّى (3) أخباركم. قال: قلت: أجسامكم أم أرواحكم؟ قال: هيهات! بلِيت الأجسام، وإنّما تتلاقى [12 أ] الأرواح (4).
(1) في المسألة الأولى.
(2) (ق): “الحجازي”، تحريف.
(3) (ب، ط): “نتلقى”.
(4) زاد في (ن): “والله أعلم بالصواب”.
(1/55)
فصل
وأما (1) المسألة الثالثة
وهي أنه هل (2) تتلاقى أرواح الأحياء وأرواح الأموات؟
فشواهد هذه المسألة وأدلَّتُها أكثرُ من أن يحصيَها إلا الله تعالى. والحسُّ والواقع من أعدل الشهود بها، فتلتقي أرواح الأحياء والأموات، كما تلتقي أرواح الأحياء. وقد قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42].
قال (3) أبو عبد الله بن منده (4): حدثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم، ثنا عبد الله بن الحسن (5) الحَرَّاني، ثنا جدِّي أحمد بن أبي شعيب، ثنا موسى بن أعيَن، عن مطرِّف، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في هذه الآية قال: بلغني أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام، فيتساءلون بينهم، فيمسك الله أرواحَ الموتى، ويرسل أرواحَ
(1) “فصل وأما” لم يرد في (ن).
(2) في (ط، ج): “وهي أنه”. (ق): “وهي هل”.
(3) من هنا إلى ما قبل: “وقد دلّ على التقاء … ” منقول بتصرف وتعليق عليه من مجموع الفتاوى (5/ 451 – 453).
(4) في كتاب الروح والنفس كما في الفتاوى.
(5) في جميع النسخ الخطية والمطبوعة: “حسين”. والصواب ما أثبتنا من الفتاوى وكتب الرجال. انظر: تهذيب التهذيب (2/ 254).
(1/56)
الأحياء إلى أجسادها (1).
وقال ابن أبي حاتم في تفسيره (2): ثنا عبد الله بن سليمان، ثنا الحسين، ثنا عامر، ثنا أسباط، عن السدِّي في قوله: {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}. قال: يتوفاها في منامها، فتلتقي روحُ الحيّ وروح الميت فيتذاكران ويتعارفان، قال: فترجع روحُ الحي إلى جسده في الدنيا إلى بقية أجلها، وتريدُ روح الميت أن ترجع إلى جسده فتُحْبَسُ.
وهذا أحد القولين في الآية، وهو أنَّ الممسَكة مَن تُوفّيت وفاة الموت أولًا، والمرسَلة من توفيت وفاة النوم. والمعنى على هذا القول: أنه يتوفَّى نفسَ الميت، فيمسكها، ولا يرسلها إلى جسدها قبل يوم القيامة. ويَتوفَّى نفس النائم، ثم يرسلها إلى جسدها إلى بقية أجلها، فيتوفاها الوفاةَ الأخرى.
والقول الثاني في الآية (3): أنّ الممسَكة والمرسَلة في الآية كلاهما تُوُفِّيَ (4) وفاة النوم، فمن استكمَلت أجلَها أمسكها عنده، فلا يرُدُّها إلى جسدها، ومن لم تستكمل أجلَها ردَّها إلى جسدها لتستكمله.
واختار شيخ الإسلام (5) هذا القول، وقال: عليه (6) يدلُّ [12 ب]القرآنُ
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط (122). وعزاه السيوطي في شرح الصدور (351) إليه وإلى ابن منده وبقي بن مخلد.
(2) لم أجده في المطبوع منه. وأخرجه الطبري في التفسير (20/ 216).
(3) بعدها في مجموع الفتاوى (5/ 452): “وعليه الأكثرون”. وانظر أيضًا: (9/ 289).
(4) كذا في جميع النسخ. والوجه: كلتاهما توفيت.
(5) زاد في (ب، ط، ج): رحمه الله. وكلام الشيخ ليس فيه تصريح بأن هذا القول مختاره.
(6) ما عدا (أ، غ، ق): “يدل عليه”.
(1/57)
والسنة. قال: فإنه سبحانه ذكر إمساكَ التي قَضَى عليها الموت من هذه الأنفس التي توفاها وفاةَ النوم. وأما التي توفاها حين موتها، فتلك لم يصفها بإمساكٍ ولا بإرسال، بل هي قِسْم ثالث (1).
والذي يترجَّح هو القول الأول: لأنّه سبحانه أخبر بوفاتين: وفاة كبرى وهي وفاة الموت، ووفاة صغرى وهي وفاة النوم. وقسَم الأرواح قسمين: قسمًا قضى عليها الموت، فأمسكها عنده وهي التي تَوفَّاها وفاة الموت. وقسمًا لها بقيةُ أجلٍ، فردَّها إلى جسدها إلى استكمال أجلها. وجعل سبحانه الإمساك والإرسال حُكمَين للوفاتين المذكورتين أولًا: فهذه ممسَكة، وهذه مرسَلة. وأخبر أنَّ التي لم تمُت هي التي توفَّاها في منامها، فلو كان قد قَسَم وفاة النوم إلى قسمين: وفاة موت، ووفاة نوم = لم يقل: {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ} فإنها من حين قُبِضت ماتت. وهو سبحانه قد أخبر أنها لم تمُت، فكيف يقول بعد ذلك: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ}؟
ولمن نصَرَ هذا القولَ أن يقول: قوله: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} بعد أن توفّاها وفاة النوم. فهو سبحانه توفَّاها أولًا وفاة نومٍ، ثم قضى عليها الموت بعد ذلك.
والتحقيق (2) أنَّ الآية تتناول النوعين، فإنه سبحانه ذكر وفاتين: وفاة
(1) مجموع الفتاوى (5/ 453). ويريد بالسنة قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه. فإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين” (متفق عليه). انظر: مجموع الفتاوى (4/ 275). وانظر: الردّ على المنطقيين (485).
(2) من “والذي يترجح .. ” كان من تعليق المصنف على كلام شيخه. ويوهم السياق أن هذا “التحقيق” أيضًا جزء من تعليقه. والواقع أنه من كلام شيخ الإسلام. انظر: مجموع الفتاوى (5/ 453).
(1/58)
نوم، ووفاة موت، وذكر إمساك المتوفاة وإرسال الأخرى، ومعلوم أنه سبحانه يمسك كل نفسِ ميتٍ سواءٌ مات في النوم أو في اليقظة، ويرسل نفس من لم يمت. فقوله: {يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} يتناول من مات في اليقظة ومن (1) مات في المنام (2).
وقد دلَّ على التقاء أرواح الأحياء والأموات أنّ الحيَّ يرى الميتَ في منامه، فيستخبره، ويخبره الميّت بما لا يعلمه الحيّ، فيصادِف خبرَه كما أخبر في الماضي والمستقبل. وربما أخبره بمال دفنه الميّتُ في مكان لم يعلم به سواه. وربما أخبره بدَين عليه، وذكر له شواهده وأدلته.
وأبلغُ من هذا أنه يخبره بما عمله من عمل لم يطَّلع عليه أحد من العالمين. وأبلغ من هذا (3) أنّه يخبره [13 أ] أنّك تأتينا إلى وقت كذا وكذا، فيكون كما أخبر. وربما أخبره عن أمور يقطع الحيُّ أنه لم يكن يعرفها غيره (4).
(1) “مَن” من: (ن، غ).
(2) وتكملة كلام شيخ الإسلام: “وما ذكر من التقاء أرواح النيام والموتى لا ينافي ما في الآية، وليس في لفظها دلالة عليه. لكن قوله: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} يقتضي أنه يمسكها، لا يرسلها كما يرسل النائمة، سواء توفاها في اليقظة أو في النوم”.
(3) ما عدا (أ، غ، ق): “ذلك”.
(4) “غيره”: ساقط من (ن).
(1/59)
وقد ذكرنا قصة الصَّعب بن جَثَّامة وقوله لعوف بن مالك ما قال له (1). وذكرنا قصة ثابت بن قيس بن شمّاس وإخباره لمن رآه بدرعه وما عليه من الدين (2)، وقصةَ صدقة بن سليمان الجعفريِّ وإخبار أبيه (3) له بما عمل من بعده، وقصةَ شَبيب بن شيبة وقول أمّه له بعد الموت: جزاك الله خيرًا، حيث لقَّنها لا إله إلا الله (4)، وقصة الفضل بن الموفق مع أبيه وإخباره إياه بعلمه بزيارته (5).
وقال سعيد بن المسيّب: التقى عبد الله بن سلام وسلمانُ الفارسي، فقال أحدهما للآخر: إن متَّ قبلي، فالقَني فأخبِرني ما (6) لقيت من ربك. وإن أنا متُّ قبلك لقيتك فأخبرتك. فقال الآخر: وهل تلتقي الأموات والأحياء؟ قال: نعم، أرواحهم في الجنة تذهب حيث شاءت. قال: فمات فلان، فلقيَه (7) في المنام، فقال له (8): توكَّلْ وأَبشِرْ، فلم أر مثلَ التوكل قطّ (9).
(1) انظر: المسألة الأولى (ص 34)، وكلمة “قصة” ساقطة من (ط). وفيها أيضًا: “ما قاله”.
(2) انظر: المسألة الأولى (ص 37).
(3) من (ن) وهو الصواب، وفي غيرها: “ابنه”، تصحيف. وقد سبقت القصة في المسألة الأولى (ص 15).
(4) انظر: المسألة الأولى (ص 33).
(5) من (أ، ن). وفي غيرهما: “ابنه”، وهو تصحيف. انظر ما سبق في (ص 11، 28).
(6) (ن، ط، ز): “بما”.
(7) كذا في (ط) والمنامات، وهو مقتضى السياق. وفي غيرهما: “فلقيته”.
(8) “له” من (أ، غ).
(9) زاد هنا في (ب، ط، ج): “رواه الإسماعيلي في مسند عمر رضي الله عنه”. وأخشى أن يكون حاشية في بعض النسخ متعلّقة بالخبر الآتي، ثم أُقحمت في المتن هنا. وأخرج هذا الخبر ابن أبي الدنيا في المنامات (21) والتوكل على الله (12). وعقب ابن عساكر عليه في تاريخ دمشق (21/ 460) بأن سلمان مات قبل ابن سلام.
(1/60)
وقال العباس بن عبد المطلب: كنت أشتهي أن أرى عمر في المنام، فما رأيته إلا عند قرب الحول (1)، فرأيته يمسح العرق عن جبينه، وهو يقول (2): هذا أوان فراغي. إن كاد عرشي ليُهَدُّ (3)، لولا أنّي لقيتُ رؤوفًا رحيمًا (4).
ولما حضرت شُرَيحَ بن عابد (5) الثُّمالي (6) الوفاةُ دخل عليه
(1) (ب، ط، ن، ج): “قريب الحول”.
(2) (ب، ط): “ويقول”.
(3) (ن): “لَيُتَلُّ”. وفسّر تحته بين السطرين: “يُزعزَع”. وتَلَّه: صرعه.
(4) المنامات (22). وأخرجه ابن سعد في الطبقات من عدة طرق (3/ 375 – 376). وأحمد في فضائل الصحابة (921). وانظر: الحلية (1/ 54) وتاريخ دمشق (44/ 483).
(5) كذا في جميع النسخ الخطية والمطبوعة. فالظاهر أنه كذا وقع في نسخة المؤلف. وفيه سقط أدّى إلى خلط بين راوي القصة وصاحبها. أما الراوي فهو شُريح بن عُبيد الحضرمي الحمصي المتوفى بعد المائة كما في التقريب (265). وأما صاحب القصة التي حضره الموت، فهو كما في المنامات، وطبقات ابن سعد والزهد لأبي داود: عبد الله بن عائذ الثُّمالي.
وقد اختلفت النسخ في ضبط “عائذ”، فهو كذا بالذال المعجمة في (ن). وبالمهملة “عائد” في (أ، ق، غ).
وقد وردت كنيته في القصة “أبو الحجاج” وهذه كنية عبد الله بن عبد ــ ويقال: عابد ــ ويقال: عبد بن عبد الثمالي. انظر المقتنى للذهبي (1338) والإصابة (4/ 663). فهذا يدلّ على أن الشخصين واحد. ولكن الحافظ ابن حجر فرّق بينهما، ونعى في ترجمة عبد الله بن عائذ (4/ 141) على أبي أحمد العسكري أنه وهم في خلطه بينهما.
(6) (ب): “اليماني”، تصحيف.
(1/61)
غُضَيف (1) بن الحارث، وهو يجود بنفسه، فقال: يا أبا الحجاج، إن قدرتَ على أن تأتيَنا بعد الموت فتخبرَنا بما ترى، فافعل. قال: وكانت كلمة مقبولة (2) في أهل الفقه. قال: فمكث زمانًا لا يراه، ثم رآه في منامه، فقال له (3): أليس قد متَّ؟ قال: بلى. قال: فكيف حالك؟ قال: تجاوزَ ربُّنا عنّا الذنوبَ، فلم يهلِك منّا إلا الأحراض. قلت: وما الأحراض؟ قال: الذين يشار إليهم بالأصابع في الشرّ (4).
وقال عبد الله (5) بن عمر بن عبد العزيز: رأيت أبي في النوم بعد موته، كأنه في حديقة، فدفع إليَّ تفاحات، فأوَّلْتُهنّ الولدَ. فقلت: أيَّ الأعمال
(1) كذا في (ط) مضبوطًا، وهو الصواب. وفي غيرها بالعين المهملة أو بالعين والصاد المهملتين، تصحيف. وفي التقريب (443): ويقال بالطاء. وهو ابن الحارث السَّكوني، ويقال: الثمالي. حمصي، مختلف في صحبته. مات سنة بضع وستين.
(2) (ب، ط، ز، ج): “مقولة”.
(3) “له” ساقطة من (ن).
(4) في (ق، ز): “الشيء”، تحريف. وكذا في (أ، غ). ولكن أشير في حاشيتهما إلى ما في غيرهما. وقد ورد مثل هذا التفسير لكلمة الأحراض في خبر عوف بن مالك. والأحراض جمع حَرَض. انظر: اللسان (7/ 134، 135).
والخبر أخرجه ابن سعد في الطبقات (7/ 415) وابن أبي الدنيا في المنامات (23). وأبو داود في الزهد (521) وانظر: شرح الصدور (359).
(5) كذا في جميع النسخ. ولكن في المنامات ــ وهو مصدر المؤلف فيما يظهر ــ وتاريخ دمشق: “عبد العزيز”، وقد غيَّر ناشر طبعة دار ابن كثير المتن، فأثبت “عبد العزيز” مكان عبد الله، وزعم أن تصويبه هذا من نسخة الظاهرية المنسوخة سنة 774 هـ. وهذا غير صحيح.
(1/62)
وجدتَ أفضل؟ فقال: الاستغفار أي بنيّ (1).
ورأى مسلمةُ بن عبد [13 ب] الملك عمرَ بن عبد العزيز بعد موته فقال: يا أمير المؤمنين، ليت شِعري إلى أيّ الحالات صرتَ بعد الموت؟ قال: يا مسلمة، هذا أوان فراغي، والله ما استرحتُ إلا (2) الآن. قال: قلت: فأين أنت يا أمير المؤمنين؟ قال: مع أئمة الهدى في جنَّات عدن (3).
وقال صالح البرَّاد: رأيت زُرَارة بن أوفى بعد موته، فقلت: رحمك الله، ماذا قيل لك؟ وماذا قلت؟ فأعرضَ عني. قلت: فما صنع الله بك؟ قال: تفضَّلَ عليَّ بجوده وكرمه. قلت: فأبو العلاء يزيد (4) أخو مطَرِّف؟ قال: ذاك (5) في الدرجات العلى، قلت: فأيُّ الأعمال أبلغُ فيما عندكم؟ قال: التوكل وقِصَرُ الأمل (6).
وقال مالك بن دينار: رأيت مسلم بن يسار بعد موته، فسلَّمتُ عليه، فلم
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (26)، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (36/ 331)، وعنه في شرح الصدور (372).
(2) (أ، غ، ق): “إلى”.
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (27)، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمَشق (45/ 262) وانظر: شرح الصدور (361).
(4) في جميع النسخ: “أبو العلاء بن يزيد”، وهو خطأ، وكلمة “بن” مُقحمة، فأبو العلاء هو يزيد بن عبد الله بن الشّخير، أخو مطرِّف بن عبد الله بن الشخّير. من كبار التابعين. كان يقول: أنا أكبر من الحسن البصري بعشر سنين. توفي سنة 108. انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 493).
(5) “ذاك” ساقطة من (ب، ن).
(6) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (28)، وقصر الأمل (30).
(1/63)
يردَّ عليَّ السلام، فقلت: ما يمنعك أن تردَّ عليَّ السلام؟ قال: أنا ميّت، فكيف أردّ عليك السلام؟ فقلت له: فماذا لقيتَ بعد الموت؟ قال: لقيتُ والله أهوالًا وزلازلَ عظامًا شِدادًا. قال: قلت له: فما كان بعد ذلك؟ قال: وما تراه يكون من الكريم؟ قبل منَّا الحسنات. وعفا لنا عن السيئات، وضمِنَ عنّا التبعات. قال: ثم شهق مالك (1) شهقةً، خرَّ مغشيًّا عليه. قال: فلبث بعد ذلك أيامًا مريضًا، ثم انصدعَ قلبه، فمات (2).
وقال سهيل (3) أخو حزمٍ: رأيت مالك بن دينار (4) بعد موته فقلت: يا أبا يحيى (5)، ليت شِعري ماذا قَدِمتَ به على الله؟ قال: قدمتُ بذنوب كثيرة محاها عنّي حسنُ الظن بالله عزَّ وجلَّ (6).
(1) كلمة “مالك”: ساقطة من (ن).
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (30) وحسن الظن بالله (130) وأبو نعيم في الحلية (2/ 295)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (58/ 149) ومنه في شرح الصدور (371).
(3) ما عدا (أ، غ): “سهل”. وسهيل بن أبي حزم القُطَعي أبوبكر البصري. وأخوه حزم يكنى أبا عبد الله. انظر: التقريب (259، 157).
(4) في جميع النسخ: “خالد بن دينار”، وهو تحريف. والصواب ما أثبتنا من المنامات وحسن الظن بالله لابن أبي الدنيا. ويؤيده أن الكنية المذكورة فيما يأتي: أبو يحيى، وهي كنية مالك بن دينار. أما خالد بن دينار البصري فكنيته: أبو خَلْدة. انظر: التقريب (187).
(5) (ب): “أبا الحسن”، تحريف.
(6) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (32) وحسن الظن بالله (7)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (56/ 441) ومنه في شرح الصدور (369).
(1/64)
ولما مات رجاءُ بن حَيْوَة رأته امرأة عابدة، فقالت: يا أبا المقدام، إلامَ صِرتُم (1)؟ قال: إلى خير، ولكن فزعنا بعدكم فزعةً ظننّا أنّ القيامة قد قامت. قالت: قلت: وممّ ذاك؟ قال: دخل الجرَّاحُ (2) وأصحابه الجنَّة بأثقالهم حتى ازدحموا على بابها (3).
وقال جميل بن مُرَّة: كان مورِّق العِجْليُّ لي أخًا وصديقًا، فقلت له (4) ذات يوم: أيُّنا مات قبل صاحبه فليأتِ صاحبَه، فلْيخبِرْه بالذي صار إليه. قال: فمات مورِّق، فرأت أهلي في منامها كأنّه أتانا كما كان يأتي، فقرع الباب كما كان يقرع (5). قالت [14 أ]: فقمتُ ففتحتُ له كما كنت أفتح، وقلت: ادخل يا أبا المعتَمِر إلى أن يأتي أخوك (6). فقال: كيف أدخل وقد ذقت الموت؟ إنما (7) جئت لأُعلِمَ جميلًا بما صنع الله بي، أعلِميه أنّه قد جعلني في المقرَّبين (8).
ولما مات محمد بن سِيرين حزِنَ عليه بعض أصحابه (9) حزنًا شديدًا،
(1) (ط): “صرت”.
(2) يعني: أبا عقبة الجرّاح بن عبد الله الحَكَمي. قتله وأصحابه الخزَرُ سنة 112. وفيها مات رجاء بن حيوة. انظر ترجمة الجرّاح في سير أعلام النبلاء (5/ 189).
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (38) وشرح الصدور (369).
(4) “له”: ساقط من (أ، غ).
(5) (ب، ن، ط، ج): “يقرعه”.
(6) رسم “يأتي” في (أ، ز): “يأت”. وفي (ن): “إلى باب أخيك”.
(7) (ب، ط، ج): “أنا”.
(8) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (38).
(9) هو الحكم بن عتيبة الكندي، كما في المنامات.
(1/65)
فرآه في المنام في حالٍ حسنة، فقال: يا أخي، قد أراك في حال تَسُرُّني (1)، فما صنع الحسن؟ قال: رُفِع فوقي بسبعين درجةً. قلت: ولمَ ذاك، وقد كنَّا نرى أنك (2) أفضلُ منه؟ قال: ذاك بطول حزنه (3).
وقال ابن عيينة: رأيت سفيان الثوريَّ في النوم، فقلتُ: أوصني. فقال: أقِلَّ من معرفة الناس (4).
وقال عمّار بن سيف: رأيت الحسن بن صالح (5) في منامي، فقلت: قد كنتُ متمنّيًا للقائك، فماذا عندك فتخبرَنا به؟ فقال: أبشر، فإنّي لم أرَ مثلَ حسنِ الظن بالله شيئًا (6).
ولما مات ضَيْغَم العابدُ رآه بعض أصحابه (7) في المنام (8) فقال: أما صلَّيتَ عليَّ؟ قال: فذكرت علّةً كانت، فقال: أما لو كنتَ صلّيت عليّ ربحتَ رأسَك (9).
(1) (ب، ط، ق): “يسرّني”.
(2) (ز): “نراك”.
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (40).
(4) أخرجه ابن أبي الدنيا المنامات (44). هذه وصيته في المنام، وبها أوصى في اليقظة أيضًا! انظر: كتاب العزلة لابن أبي الدنيا (41).
(5) الحسن بن صالح بن صالح بن حيّ بن شُفَي الهمداني الثوري. فقيه عابد (100 – 169) انظر: التقريب (161).
(6) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (48). وحسن الظن بالله (9).
(7) هو ابن ثعلبة كما في المنامات. وهو عبد الله بن ثعلبة الحنفي المترجم في الحلية (6/ 245).
(8) (ط، ج): “منامه”.
(9) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (50).
(1/66)
ولما ماتت رابعةُ رأتها امرأة (1) من أصحابها وعليها حُلَّةُ إسْتَبْرَقٍ، وخِمارٌ من سُندُس، وخمارٌ من صوف (2)، فقالت لها: ما فعلت الجُبَّة التي كفَّنتُكِ (3) فيها، والخمار الصوف؟ قالت: والله إنّه نُزِعَ عني (4)، وأُبدِلْتُ به هذا الذي ترَيْن عليَّ، وطُوِيت أكفاني، وخُتِم عليها، ورُفِعتْ في علّييّن؛ ليكملَ لي ثوابها يوم القيامة. قالت: فقلت لها: لهذا كنتِ تعملين أيام الدنيا؟ فقالت: وما هذا عندما رأيت من كرامة الله (5) لأوليائه!
فقلت لها: فما فعلت عَبْدة (6) بنت أبي كلاب؟ فقالت: هيهات هيهات! سبقتنا ــ والله ــ إلى الدرجات العلى! قالت: قلت: وبمَ، وقد كنتِ عند الناس أعبدَ منها؟ فقالت: إنها لم تكن تبالي على أيّ حال أصبحتْ من الدنيا أو أمست.
فقلت: فما فعل أبو مالك؟ تعني ضيغمًا. فقالت: يزور الله تبارك وتعالى متى شاء.
قالت: قلت: فما فعل بِشْر بن منصور؟ (7) قالت: بخٍ بخٍ! أُعطِيَ والله
(1) هي عبدة بنت أبي شوّال، كما في المنامات.
(2) كذا في جميع النسخ: “وخمار من صوف”. والصواب حذفها، أو إضافة “وكانت قد دفنت في جبة من شعر” قبلها.
(3) رسمها في (أ، ق): “كفّنتكي”.
(4) (ب، ط، ج): “لقد نزعه عنّي”. وفي (ن): ” … مني”.
(5) هذا في (أ، غ، ق) والمنامات. وفيما عداها: “كرم الله”.
(6) كذا “عبدة” في جميع النسخ والمنامات وصفة الصفوة في ترجمة رابعة (2/ 211). ولكن سماها ابن الجوزي في ترجمتها (2/ 213): “عُبيدة” مصغّرًا، ولما نقل الجزء المتعلق بها من هذا الخبر في ترجمتها سمَّاها عبيدة أيضًا.
(7) بشر بن منصور السَّليمي أبو محمد الأزدي البصري مات سنة 180. ترجمته في الحلية (6/ 239). ونقل ابن الجوزي في ترجمته في صفة الصفوة (2/ 191) الجزء المتعلق به من هذا الخبر. وانظر: التقريب (124).
(1/67)
فوق ما كان يأمل!
قالت: قلت: مُرِيني بأمر أتقرَّب به إلى الله تعالى. قالت: عليكِ بكثرة ذكر الله، فيوشك أن تغتبطي بذلك في قبرك (1).
ولما مات عبد العزيز بن [14 ب] سليمان (2) العابد رآه بعض أصحابه، وعليه ثياب خضرٌ، وعلى رأسه إكليل من لؤلؤ. فقال: كيف كنتَ بعدنا؟ وكيف وجدتَ طعم الموت؟ وكيف رأيتَ الأمر هنا؟ قال: أما الموت فلا تسأل عن شدة كربه وغمّه (3)، إلا أنّ رحمةَ الله وارَتْ عنا كلَّ عيب، وما تلقَّانا إلا بفضله (4).
وقال صالح بن بَشير (5): لما مات عطاء السَّليمي (6) رأيته في
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (51). وانظر: العاقبة (225)، وصفة الصفوة (2/ 211).
(2) كذا “سُلَيمان” في جميع النسخ والمنامات والعاقبة. ولكن في ترجمته في الحلية (6/ 262) وصفة الصفوة (2/ 192) وفي مواضع كثيرة من كتب التراجم: “سلمان”. وهو الصحيح فيما يظهر. وابنه محمد يروي عنه.
(3) (أ، غ): “وعظمه”.
(4) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (53). وانظر: العاقبة (118).
(5) هذا الصواب من (ط) ومصادر التخريج. وفي (ب): “يسر”، وفيما عدا (ط، ب): “بشر”، وكلاهما تصحيف. وهو صالح بن بشير المُرِّي، أبو بِشر البصري، القاصّ الزاهد. التقريب (271).
(6) ما عدا (ب، ط، ج): “السلمي”. وهو خطأ. انظر: توضيح المشتبه (5/ 157).
(1/68)
منامي، فقلتُ: يا أبا محمد، ألستَ في زمرة الموتى؟ قال: بلى. قلت: فماذا صرتَ إليه بعد الموت؟ قال: صرتُ والله إلى خير كثير، وربِّ غفور شكور. قال: قلت: أمَا والله لقد كنتَ طويل الحزن في دار الدنيا! فتبسَّم، وقال: والله لقد أعقبني ذلك راحةً طويلة، وفرحًا دائمًا. قلت: ففي أيِّ الدرجات أنت؟ قال: مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا (1).
ولما مات عاصم الجحدري (2) رآه بعضُ أهله في المنام فقال: أليس قد متَّ؟ قال: بلى. قال: فأين أنت؟ قال: أنا والله في روضة من رياض الجنة أنا ونفر من أصحابي، نجتمعُ كلَّ ليلةِ جمعة وصبيحتها إلى بَكر بن عبد الله المُزَني، فنتلقَّى أخباركم. قال: قلت: أجسادكم أم أرواحكم؟ قال: هيهات! بليتِ الأجساد، وإنّما تتلاقى الأرواحُ (3).
ورُئِي الفضيل بن عِيَاض بعد موته، فقال: لم أرَ للعبد خيرًا من ربّه (4).
وكان مُرّةُ الهَمْدانيُّ (5) قد سجد حتى أكل التراب جبهته، فلما مات رآه
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (56) ــ وفي مطبوعته نقص ــ وفي الهم والحزن (128). ومن طريقه في الحلية (6/ 172).
(2) (ق): “الحجازي”، تحريف.
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (58). وقد سبق في المسألتين الأولى والثانية.
(4) أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/ 104) بسنده عن محمد بن فضيل.
(5) (ن): “قرّة”، تصحيف، فهو مُرَّة بن شَرَاحيل الهمْداني الكوفي. يقال له: مرة الطيّب ومرة الخير، لعلمه وعبادته. مخضرم، توفي سنة 76. وقيل: بعد ذلك. انظر: التقريب (525)، وسير أعلام البنلاء (4/ 74).
(1/69)
رجل من أهله في منامه، وكأنَّ موضع سجوده كهيئة الكوكب الدُرِّي، فقال: ما هذا الأثر (1) الذي أرى بوجهك؟ قال: كُسِي موضعُ السجود بأكل التراب له نورًا. قال: قلت: فما منزلتك في الآخرة؟ قال: خيرُ منزلٍ، دارٌ لا ينتقل عنها أهلها ولا يموتون (2).
وقال أبو يعقوب القارئ: رأيتُ في منامي رجلًا آدمَ طُوالًا، والناس يتبعونه. قلت: من هذا؟ قالوا: أويسٌ القَرَنيُّ. فاتَّبعتُه، فقلت (3): أوصِني، يرحمك الله. فكلَحَ في وجهي. فقلت: مسترشِدٌ، فأرشِدْني، رحمك الله. فأقبل عليَّ، فقال: ابتغِ رحمةَ الله عند محبّته، واحذر نقمتَه عند معصيته، ولا تقطع رجاءك منه في خلال [15 أ] ذلك. ثم ولَّى، وتركني (4).
وقال ابن السَّمَّاك: رأيت مِسْعَرًا في النوم، فقلت: أيَّ الأعمال وجدْتَ أفضلَ؟ قال: مجالس الذكر (5).
وقال الأجلح: رأيتُ سَلَمةَ بن كُهيَل في النوم، فقلت: أيَّ الأعمال وجدتَ أفضل؟ قال: قيام الليل (6).
(1) “الأثر”: ساقط من (ز).
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (65). وانظر: اعتلال القلوب (357) وصفة الصفوة (3/ 34).
(3) ساقط من الأصل.
(4) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (66)، وحسن الظن بالله (135). ومن طريقه في شعب الإيمان (1065) وتاريخ دمشق (9/ 455).
(5) أخرجه ابن ابي الدنيا في المنامات (69).
(6) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (70) والتهجد وقيام الليل (33).
(1/70)
وقال أبو بكر بن أبي مريم: رأيت وفاء (1) بن بِشْر بعد موته، فقلت: ما فعلْتَ يا وفاء؟ قال: نجوتُ بعد كلّ جهد. قلت: فأيُّ الأعمال وجدتموها أفضل؟ قال: البكاء من خشية الله عزوجل (2).
وقال الليث بن سعد: عن موسى بن وَرْدان (3) أنه رأى عبد الله بن أبي حبيبة بعد موته فقال: عُرِضتْ عليَّ حسناتي وسيئاتي، فرأيت في حسناتي حباتِ رمَّان التقطْتُهنَّ فأكلتُهنّ. ورأيت في سيئاتي خيطَيْ حريرٍ (4) كانا في قَلَنْسُوَتي (5).
وقال سُنَيد بن داود: حدثني ابن أخي جُوَيريَة (6) بن أسماء قال: كنا بعَبَّادانَ، فقدم علينا شابٌّ من أهل الكوفة متعبِّدٌ، فمات بها في يوم شديد الحرّ، فقلت: نُبْرِدُ، ثم نأخذ في جَهازه (7). فنمتُ فرأيت (8) كأنّي في المقابر، فإذا بقُبَّةِ جوهرٍ تتلألأُ حسنًا، وأنا أنظر إليها، إذ انفلقَتْ، فأشرفَتْ (9) منها جاريةٌ ما رأيت مثلَ حسنها، فأقبلت عليَّ، فقالت: بالله لا تحبِسهْ عنّا إلى
(1) قيّده الخطيب بالقاف، والصواب بالفاء كما هنا. انظر: توضيح المشتبه (9/ 191). وفي الإحياء (4/ 510): “ورقاء”، تحريف.
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (71).
(3) (ز): “داود”، وهو خطأ. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب (10/ 376).
(4) (ز): “خيطين حريرًا”.
(5) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (75).
(6) (ن): “حيوة”، تحريف. وابن أخيه: عبد الله بن محمد بن أسماء.
(7) (ن): “جنازته”. (ز): “تجهيزه”.
(8) (ن، ط، ج): “فرأيت في النوم”. (ب): ” … في المنام”.
(9) (أ): “فأشرف”. (غ، ق): “وأشرف”. وفي (ن، ج، ز) بالقاف، تصحيف.
(1/71)
الظهر. قال: فانتبهتُ فزعًا، وأخذت في جهازه، وحفرت له قبرًا في الموضع الذي رأيت فيه القُبَّة، فدفنته فيه (1).
وقال عبد الملك بن عتَّاب (2) الليثيُّ: رأيت عامر بن عبد قيس في النوم، فقلت: أيَّ الأعمال وجدتَ أفضل؟ قال: ما أريدَ به وجهُ الله عزَّ وجلّ (3).
وقال يزيد بن هارون: رأيتُ أبا العلاء أيوب بن مسكين في المنام، فقلت: ما فعل بكَ ربُّك؟ قال: غفر لي. قلتُ: بماذا؟ قال: بالصوم والصلاة. قلتُ: أرأيتَ منصورَ بن زاذان؟ قال: هيهاتَ! ذاك نرى قصره (4) من بعيد (5).
وقال يزيد بن نَعامة: هلكتْ جاريةٌ في طاعون الجارف، فلقيها أبوها بعد موتها، فقال لها: يا بُنيَّة، أخبريني عن الآخرة. قالت: يا أبتِ، قدِمنا [15 ب] على أمرٍ عظيمٍ، نعلم ولا نعمل، وتعملون ولا تعلمون. واللّهِ،
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (77).
(2) كذا في جميع النسخ وكتاب الإخلاص والنية لابن أبي الدنيا، وعنه في تاريخ دمشق. ولم أجد له ترجمة. وفي كتاب المنامات: عبد الملك بن يعلى الليثي. وكان قاضيًا بالبصرة قبل الحسن البصري ومات بعد المائة. انظر: طبقات ابن سعد (7/ 217)، والتقريب (366).
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (80) والإخلاص والنية (13)، وعنه في تاريخ دمشق (26/ 42).
(4) المنامات: “قصوره”.
(5) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (82).
(1/72)
لتسبيحةٌ أو تسبيحتانِ أو ركعة أو ركعتان (1) في صحيفة عملي (2) أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها (3).
وقال كَثِير بن مُرَّةَ: رأيتُ في منامي كأنّي دخلتُ درجةً عليا في الجنة، فجعلتُ أطوف بها، وأتعجبُ منها، فإذا أنا بنساءٍ من نساء المسجد في ناحيةٍ منها، فذهبتُ حتى سلَّمت عليهن، ثم قلت: بمَ بلغتُنَّ هذه الدرجة؟ قُلن: بسجداتٍ، وكُسَيرات (4).
وقال مزاحمٌ مولى عمر بن عبد العزيز، عن فاطمة بنت عبد الملك امرأةِ عمر بن عبد العزيز قالت: انتبهَ عمر بن عبد العزيز ليلةً، فقال: لقد رأيتُ رؤيا معجبة. قالت: فقلت: جُعلتُ فِداك، فأخبِرْني بها. فقال: ما كنتُ لأُخبركِ بها حتى أُصْبِحَ. فلما طلع الفجرُ خرجَ، فصلّى، ثم عاد (5) إلى مجلسه. قالت: فاغتنمتُ خَلْوته فقلت: أخبرني بالرؤيا التي رأيتَ.
قال: رأيتُ كأنّي دُفِعتُ (6) إلى أرضٍ خضراءَ واسعةٍ، كأنّها بساطٌ أخضرُ. وإذا فيها قصرٌ أبيضُ كأنّه الفضةُ، وإذا خارجٌ قد خرج من ذلك
(1) كذا في (ب، ط، ج، ز) والمنامات. وفي (ن، غ): “أو تسبيحات أو ركعة أو ركعات”. وفي (أ، ق): “أو تسبيحات أو ركعة أو ركعتان”.
(2) (أ، غ، ز): “عمل”.
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (86) وعنه في الأهوال (41).
(4) يعني: تصدَّقن بها. وقد غيَّرها الناشرون فأثبتوا: “وتكبيرات”!
(5) (أ، ز): “دعا”.
(6) كذا في المنامات وجميع النسخ إلا (غ) ــ وهي متأخرة ــ ففيها بالراء، وكذا في النسخ المطبوعة.
(1/73)
القصر، فهتفَ بأعلى صوته يقول: أين محمدُ بن عبد الله بن عبد المطلب؟ أين رسولُ الله؟ إذْ أقبل رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – حتى دخل ذلك القصر.
قال: ثم إنَّ آخَرَ خرج من ذلك القصر، فنادى: أين أبو بكر الصديقُ؟ أين ابنُ أبي قُحافة؟ إذ أقبل أبو بكر حتى دخل ذلك القصرَ. ثم خرج آخرُ، فنادى: أين عمرُ بن الخطّاب؟ فأقبل عمرُ حتى دخل ذلك القصر. ثم خرج آخرُ، فنادى: أين عثمانُ بن عفان؟ فأقبل حتى دخل ذلك القصر. ثم خرج آخر، فنادى: أين عليُّ بن أبي طالب؟ فأقبل حتى دخل ذلك القصرَ. ثم إنّ آخرَ خرج، فنادى: أين عمرُ بن عبد العزيز؟ قال عمرُ: فقمتُ حتى دخلتُ ذلك (1) القصرَ.
قال فدُفِعتُ (2) إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، والقوم حولَه. فقلت بيني وبين نفسي: أين أجلِسُ؟ فجلستُ إلى جَنْب أبي عمرَ بن الخطاب. فنظرتُ فإذا أبو بكر عن يمين النبي – صلى الله عليه وسلم -، وإذا عمرُ [16 أ] عن يساره، فتأملتُ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم -، فإذا بين رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وبين أبي بكر رجل. فقلت (3): من هذا الرجل الذي بين رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وبين أبي بكر؟ فقال: هذا عيسى ابن مريم. فسمعتُ هاتفًا يهتِف، وبيني وبينه سترُ نور: يا عمر بن عبد العزيز، تمسَّكْ بما أنت عليه، واثبُتْ على ما أنت عليه.
ثم كأنّه أُذِنَ لي في الخروج، فقمتُ، فخرجت من ذلك القصر. فالتفتُّ
(1) لم ترد في (ن).
(2) (ب، ز، غ): “رفعت” بالراء.
(3) يعني: لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما في المنامات.
(1/74)
خلفي، فإذا أنا بعثمان بن عفان، وهو خارجٌ من ذلك القصر، يقول (1): الحمدُ لله الذي نصَرني رَبِّي (2)؛ وإذا عليُّ بن أبي طالب في أثره خارجٌ من ذلك القصر (3)، وهو يقول: الحمد لله الذي غَفَرَ لي رَبِّي (4)!
وقال سعيد بن أبي عَروبةَ عن عمر بن العزيز: رأيتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر وعمر جالسان عنده، فسلَّمت، وجلستُ، فبينا أنا جالسٌ إذ أُتِي بعليٍّ ومعاوية، فأُدخِلا بيتًا، وأُجيف (5) عليهما البابُ، وأنا أنظر. فما كان بأسرعَ من أن خرج عليٌّ، وهو يقول: قُضي لي، وربِّ الكعبة. وما كان بأسرعَ من أن خرج معاويةُ (6) على أثره، وهو يقول: غُفِر لي، وربِّ الكعبة (7).
وقال حمَّاد: عن أبي هاشم (8): جاء رجلٌ إلى عمر بن عبد العزيز فقال:
(1) ما عدا (أ، ق، غ): “وهويقول”.
(2) كذا في جميع النسخ والمنامات وتاريخ دمشق.
(3) من “يقول” إلى هنا سقط من (ب).
(4) كذا في جميع النسخ غير (ج). وفي تاريخ دمشق وفي (ج) والمنامات: “غفر لي ذنبي”. والخبر أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (123) وعنه في تاريخ دمشق (45/ 246).
(5) أي: رُدَّ.
(6) (ن): “معاوية بن أبي سفيان”.
(7) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (124)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (59/ 140).
(8) ما عدا (ب، ط، ج): “حماد بن أبي هاشم”، وهو خطأ. فالراوي هنا حماد بن زيد عن أبي هاشم الرمّاني الواسطي، كما في مصادر التخريج.
(1/75)
رأيتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في المنام، وأبو بكر عن يمينه، وعمرُ عن شماله (1)، وأقبل رجلان يختصمان، وأنتَ بين يديه جالسٌ. فقال لك: يا عمرُ إذا عَمِلتَ فاعمَلْ بعمل هذين: لأبي بكر وعمر. فاستحلفه عمرُ: بالله، أرأيتَ هذه الرؤيا؟ فحلفَ، فبكى عمرُ (2).
وقال عبد الرحمن (3) بن غَنْم: رأيتُ معاذَ بن جبل بعد وفاته بثلاث على فرسٍ أبلق، وخلفَه رجالٌ بيضٌ، عليهم ثيابٌ خضرٌ، على خيل بُلْق. وهو قُدَّامهم، وهو يقول: {يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 26 – 27]. ثم التفتَ عن يمينه وشماله يقول: يا ابنَ رواحة، يا ابنَ مظعون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 74] ثمّ صافحني، وسلَّم عليَّ (4).
وقال قَبيصة بن عُقبة: رأيتُ سفيانَ الثوري في المنام (5) بعد موته [16 ب]، فقلت: ما فعل اللهُ بك؟ فقال (6):
(1) (ز): “يساره”.
(2) (ق): “عمر بن عبد العزيز”. والخبر أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (120) وعنه في تاريخ دمشق (45/ 175). وانظر: سير أعلام النبلاء (5/ 127).
(3) (ن): “عبد الرحيم”، خطأ.
(4) الخبر في كتاب العاقبة (222).
(5) (ن): فيما يرى النائم.
(6) “رأيت … فقال” ساقط من (ب).
(1/76)
نظرتُ إلى ربّي عِيانًا فقال لي … هنيئًا رضائي عنك يا ابن سعيد
فقد كنتَ قوَّامًا إذا الليلُ قد دجا … بِعَبْرةِ محزونٍ وقلبِ عميد
فدونكَ فاختَرْ أيَّ قصرٍ تريده … وزُرْني فإنّي منك غيرُ بعيد (1)
وقال سفيانُ بن عُيينة (2): رأيتُ سفيانَ الثوري بعد موته، يطيرُ في الجنة في نخلةٍ إلى شجرة، ومن شجرةٍ إلى نخلة، وهو يقول: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61]. فقيل له: بما أُدْخِلت (3) الجنة؟ قال: بالوَرع، بالورع (4). قيل له: فما فعل عليُّ بن عاصم؟ قال: ما نراه إلا مثلَ الكوكب (5).
وكان شعبة بن الحجَّاج ومِسْعَر بن كِدام حافظَين، وكانا جليلَيْن (6). قال أبو أحمد اليزيدي (7):
رأيتُهما بعد موتهما فقلت: أبا بسطام، ما فعل الله
(1) كتاب العاقبة (223). وأخرجه أبو نعيم في الحلية (7/ 74).
(2) (ب، ط، ج): وقال ابن عيينة.
(3) (ن): «دخلت».
(4) «بالورع» الثانية أسقطها ناسخ (ن) ظنًّا منه أنها مكررة. وخوفًا من ذلك وضعت عليها علامة «صح» في (ب، ط، ق).
(5) كتاب العاقبة (223). وانظر: المنامات لابن أبي الدنيا (275).
(6) كذا في (ق، غ)، وفي غيرهما: «خليلين»، وفي (ز): «خليطين». وسياق الكلام في العاقبة (223): «رجلين فاضلين جليلين … وكان شعبة أكبر وأجلّ».
(7) كذا في (ب، ق، ز، ج) وكتاب العاقبة. وفي (أ، غ): «الترمذي». وفي (ن): «البريدي». وفي (ط): «أحمد بن اليزيدي». وقد وجدت أبا أحمد الترمذي ممن يروي عن سليمان بن أبي الشيخ (ت 246).
والسياق ينبئ بأنه من أقران شعبة ومسعر، بل من تلامذتهما، فإنه قال: وكنت إلى شعبة أميل منّي إلى مسعر.
وقد أخرج الخبر ابن عساكر في تاريخ دمشق (52/ 166) بسنده عن هارون بن هزاري قال: سمعت محمد بن تسنيم الدمشقي يقول: «رأيت شعبة ومسعرًا في النوم … ». وسياقه شبيه بسياق خبرنا. فهذا أيضًا «آنس بشعبة منه بمسعر». لم أعرف محمد بن تسنيم الدمشقي، ولكن هارون بن هزاري معروف، وهو أبو موسى القزويني المتوفى سنة 251.
وقال الذهبي في السير (1/ 219): وروي عن عبد القدوس بن محمد الحبحابي: سمعت أبي يقول: «لما مات شبعة أُريته بعد سبعة أيام، وهو آخذ بيد مسعر … » وهذا مثل ما في خبر الدمشقي: «وكفّ مسعر في كفّ شعبة».
وعبد القدوس وأبوه كلاهما معروف. فهو عبد القدوس بن محمد بن عبد الكبير بن شعيب بن الحبحاب الأزدي، أبو بكر العطار البصري، من رواة البخاري. وقد حكى البخاري في التاريخ الصغير (2/ 281) عنه أن أباه أبا عبد الله محمد بن عبد الكبير مات سنة 206. فهذا معاصر لمحمد بن تسنيم الدمشقي، ولكن الغريب أن كليهما أميل إلى شعبة، وأنهما جميعًا رأيا أن كف شعبة بكف مسعر. ثم الأبيات الآتية نفسها أنشدها شعبة محمد بن تسنيم الدمشقي وأبا عبد الله البصري وأبا أحمد اليزيدي أو الترمذي جميعًا!
(1/77)
بك؟ فقال: وفَّقك الله لحفظ ما أقول:
حَبَاني إلهي في الجنانِ بقُبَّةٍ … لها ألفُ بابٍ من لُجَين وجوهرًا (1)
(1) في العاقبة: «مجوهرا». وكذا وردت الأبيات في جميع النسخ ومصدر المؤلف ــ وهو كتاب العاقبة ــ مفتوحة القوافي. وعلى هذا نصبُ «جوهر» في البيت الأول و «مسعر» في البيت الثالث يُحوج إلى التكلف. وبيتان آخران في المصادر لا يستقيم نصب القافية فيهما.
وقد ضبطها ناشر سير أعلام النبلاء برفع بعضها وكسر الأخرى، ولم يضبط «فأكثر» وهو فعل ماضٍ، ونبّه على أن في الأبيات إقواء ظاهرًا. وأرى أن الأبيات مقيّدة القوافي، وهي من الضرب الثالث من الطويل.
(1/78)
وقال ليَ الرحمنُ يا شعبةُ الذي … تبحَّرَ في جمعِ العلوم فأكثرا
تنعَّمْ بقُربي إنني عنك ذو رضًا … وعن عبديَ القوَّام في الليل مِسْعَرا
كفى مِسْعرًا عِزًّا بأنْ سيزورني … وأَكشِفُ عن وجهي الكريم لينظرا
وهذا فَعالي بالذين تنسَّكوا (1) … ولم يألَفُوا في سالفِ الدهر منكرا
قال أحمدُ بن محمد الكنديُّ: رأيتُ أحمد بن حنبل في النوم، فقلت: يا أبا عبد الله، ما فعل الله بك؟ قال: غفَر لي، ثم قال: يا أحمد، ضُرِبتَ فيَّ ستّين سوطًا؟ قلت: نعم يا ربّ. قال: هذا وجهي قد أبحتُكَ، فانظُرْ إليه (2).
وقال أبو بكر (3) أحمدُ بن محمد بن الحجَّاج: حدثني رجلٌ من أهل طَرَسوس قال: دعوتُ الله عز وجل أن يُريني أهلَ القبور حتى أسألَهم عن أحمد بن حنبل ما فَعَل الله به؟ فرأيتُ بعد عشر سنين في المنام، كأنَّ أهلَ القبور قد قاموا على قبورهم، فبادروني (4) بالكلام، فقالوا: [17 أ] يا هذا، كم تدعو الله عز وجل أن يُرِيَك إيَّانا! تسألنا عن رجل لم يَزَلْ منذ فارقكم تحليه (5) الملائكةُ تحت شجرة طوبى.
(1) (ط، ز): «تمسّكوا».
(2) كتاب العاقبة (224). وأخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (4/ 421). وانظر: سير أعلام النبلاء (11/ 349).
(3) «أبو بكر» ساقط من (ن، ط).
(4) (ن):» فبارزوني»، تصحيف.
(5) كذا في الأصل مع علامة الإهمال تحت الحاء، وكذا في (غ، ق، ن، ز). وفي (ب، ط): «عليه»، ثم زاد بعضهم في (ب) بعد «الملائكة»: «ترفّه». والذي في كتاب العاقبة ــ مصدر المؤلف ــ: «تحفّه» وهو أظهر.
(1/79)
قال أبو محمد (1) عبد الحقّ: وهذا الكلامُ من أهل القبور إنما هو إخبارٌ عن عُلوِّ درجة أحمد بن حنبل وارتفاع مكانه وعِظَمِ منزلته، فلم يقدِروا أن يُعبِّروا عن صفة حاله وعمّا هو فيه إلّا بهذا (2)، وما هو في معناه (3).
وقال أبو جعفر السقَّا صاحبُ بِشْر بن الحارث: رأيتُ بشرًا الحافي ومعروفًا (4) الكرخي، وهما جائيان. فقلت: من أين؟ فقالا: من جنة الفردوس، زُرنا كليم الله موسى (5).
وقال عاصم الجزَري (6):
رأيتُ في النوم كأنّي لقيتُ بِشْر بن الحارث،
(1) ساقط من (ن).
(2) (ن، ز): «أو». وكذا في كتاب العاقبة.
(3) كتاب العاقبة (224).
(4) (أ، ن، ع، ز): «معروف».
(5) كتاب العاقبة (225). وأخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (10/ 224) وعنه في شرح الصدور (373).
(6) (ن): «الجحدري» وهو خطأ صرف فإنه توفي سنة 129 قبل مولد الإمام أحمد سنة 164. وأثبتُّ ما اتفقت عليه النسخ الأخرى لموافقتها كتاب العاقبة وهو مصدر المؤلف.
ولكن في تاريخ بغداد وغيره من المصادر: «الحربي»، وهو الصواب في ظنِّي، نسبة إلى محلّة الحربيّة ببغداد، ولكن لم أجد له ترجمة.
وأثبت ناشر الذيل على طبقات الحنابلة (1/ 309): «الجرمي»، وجزم بصحته، وأحال على تهذيب التهذيب، وهو خطأ بلا ريب؛ فإن عاصم بن كليب الجرمي الكوفي توفي سنة 137 قبل مولد الإمام أحمد. وسأله الأثرم عن الجرمي فقال: لا بأس بحديثه. انظر: تهذيب التهذيب (5/ 55).
(1/80)
فقلتُ: من أين يا أبا نصر؟ قال: من عِلِّيِّين. قلتُ (1): ما فعل أحمدُ بن حنبل؟ قال: تركتُه الساعةَ مع عبد الوهّاب الورّاق بين يدي الله عزَّ وجلَّ يأكلان ويشربان. قلتُ له: فأنتَ؟ قال: عَلِمَ الله قلَّةَ رغبتي في الطعام، فأباحني النظرَ إليه (2).
وقال أبو جعفر السقّاء: رأيتُ بِشْر بن الحارث في النوم (3) بعد موته، فقلتُ: أبا نصر، ما فعل الله بك؟ قال: أطلقني (4)، ورحمني، وقال لي: يا بِشْرُ، لو سجدتَ لي في الدنيا على الجمر ما أدّيتَ شكرَ ما حشوتُ قلوب عبادي منك، وأباح لي نصفَ الجنة، فأسرحُ فيها حيث شئتُ، ووعدني أن يغفرَ لمن تَبِع جنازتي. فقلت: ما فعل أبو نصر التمَّار؟ فقال: ذاك فوق الناس بصَبْره على بلائه (5) وفقره (6).
قال عبد الحق: لعله أراد بقوله: «نصف الجنة» نصف نعيمها؛ لأن
(1) (ب، ن، ط، ج): «فقلت».
(2) كتاب العاقبة (226). وأخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (11/ 27) ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (10/ 223). وانظر: صفة الصفوة (2/ 370) وشرح الصدور (373).
(3) «فقلت: من أين يا أبا نصر … » إلى هنا ساقط من (ز).
(4) كذا في (أ، غ). وفي (ز، ق)، العاقبة: «ألطفني». وفي غيرها: «لطف بي». وفي تاريخ بغداد: «وقفني فرحم شيبتي». وفي المنامات: «غفر لي».
(5) في تاريخ بغداد وتاريخ دمشق: «على بُنَيَّاته».
(6) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (10/ 420) ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (10/ 227). ونحوه مختصرًا في المنامات عن رجل (278). والمنام نفسه رواه أبو نعيم بسنده عن سفيان بن محمد المصيصي! ومصدر المؤلف كتاب العاقبة (226).
(1/81)
نعيمَها نصفان: نصفٌ رُوحاني، ونصفٌ جسماني (1). فيتنعَّمون أولًا بالروحاني، فإذا رُدَّت الأرواحُ إلى الأجساد أَضِيفَ لهم النعيم الجسماني إلى الروحاني (2).
وقال غيره: نعيم الجنة مرتَّب على العلم والعمل، وحظُّ بشرٍ من العمل كان أوفى من حظِّه من العلم (3)، والله أعلم.
وقال بعض الصالحين: رأيتُ أبا بكر الشِّبلي في المنام، وكأنه قاعدٌ في مجلس الرُّصافة بالموضع الذي كان يقعد فيه. وإذا به قد أقبل، وعليه ثياب [17 ب] حِسان، فقمتُ إليه وسلَّمتُ عليه، وجلستُ بين يديه، فقلت له: مَنْ أقربُ أصحابِك إليك؟ قال: ألهَجُهم بذكر الله، وأقوَمُهم بحقِّ الله، وأسرَعُهم مبادرةً في (4) مرضاة الله (5).
وقال أبو عبد الرحمن الساحليُّ: رأيتُ مَيْسرةَ بن سُليم في المنام بعد موته، فقلت له: طالتْ غَيبتُك. فقال: السفر طويل. فقلت له: فما الذي قَدِمتَ عليه؟ فقال: رُخِّصَ لي، لأنّا كنّا نُفتي بالرُّخَص. فقلت: فما تأمرني به؟ قال: اتِّباع الآثار وصحبة الأخيار يُنجِّيان من النار، ويُقرِّبان من
(1) (ن): «جثماني» هنا وفي الموضع الآتي.
(2) كتاب العاقبة (226).
(3) (أ، ق، غ): «في العلم».
(4) (ن): «إلى».
(5) كتاب العاقبة (227). وكذا فيه أن هذا السؤال والجواب وقعا في المنام. وفي تاريخ بغداد (14/ 428) أن أبا الحسن بن أنس العطار سمع الشبلي سئل فأجاب. يعني في اليقظة. وانظر: تاريخ دمشق (66/ 66).
(1/82)
الجبار (1).
وقال أبو جعفر الضرير (2): رأيتُ عيسى بن زاذان بعد موته فقلت: ما فعل الله بك؟ فأنشأ يقول:
لو رأيتَ الحِسانَ في الخُلد حولي … وأكاويبَ مَعْهُمُ (3) لِلشَّرابِ
يَترنَّمنَ بالكتاب جميعًا … يَتمشَّين مُسْبِلاتِ الثِّيابِ (4)
وقال بعض أصحاب ابن جُريج: رأيتُ كأنّي جئتُ إلى هذه المقبرةِ التي بمكة، فرأيتُ على عامَّتها سُرادقًا، ورأيتُ منها قبرًا عليه سُرادق، وفُسطاط، وسِدرة. فجئتُ حتى دخلتُ، فسلَّمتُ عليه، فإذا مسلمُ بن خالد الزَّنْجي. فسلَّمت عليه، وقلت: يا أبا خالد، ما بالُ هذه القبور عليها سُرادق، وقبرُك عليه سُرادق وفُسطاط، وفيه سِدرة؟ فقال: إني كنتُ كثيرَ الصيام. فقلت: فأين قبرُ ابن جُريج؟ دُلَّني عليه، فقد كنتُ أجالسه، وأنا أحبُّ أن أسلِّم عليه. فقال هكذا بيده: هيهات، وأدار إصبعَه السبّابةَ: وأين قبرُ ابن جريج؟ رُفِعت صحيفته في عِلِّيِّين (5)!
(1) كتاب العاقبة (228).
(2) كذا في العاقبة. وفي المنامات أن صاحب المنام إسحاق بن إبراهيم الثقفي، وهو أبو يعقوب الكوفي!
(3) كذا ضمير الجمع المذكر للحسان في (أ، ب، ج، ق، غ). وفي (ط، ز)، المنامات: «معهنّ»، ولكنه يكسر الوزن. وفي (ن): «وأكاويب أشرعت بالشراب». وفي العاقبة: «وأكاويبها بصافي الشراب» ولعلهما من إصلاح النسّاخ.
(4) كتاب العاقبة (228). وأخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (146).
(5) كتاب العاقبة (230).
(1/83)
ورأى حمَّادَ بن سلَمة في النوم بعضُ أصحابه، فقال له: ما فعل اللهُ بك؟ فقال: قال لي: طالما كدَدْتَ نفسَك في الدنيا، فاليوم أطيلُ راحتَك وراحةَ المتعبين.
وهذا بابٌ طويل جدًا. فإن لم تسمح نفسك بتصديقه، وقلت: هذه منامات، وهي غير معصومة، فتأمَّلْ من رأى صاحبًا له أو قريبًا أو غيره، فأخبَرَه بأمر لا يعلمه إلا صاحبُ الرؤيا، أو أخبَره بمال دفَنَه هو أو غيره، أو حذَّره من أمر يقع، أو بشَّرَه بأمر يوجد، فوقع كما قال؛ أو أخبَره بأنه يموت هو أو بعضُ [18 أ] أهله إلى كذا وكذا، فيقع كما أخبر؛ أو أخبَره بِخِصْب أو جَدْب أو عدوٍّ أو نازلة أو مرض يعرِضُ له (1)، فوقع كما أخبَر. والواقعُ من ذلك لا يُحصيه إلا الله، والناسُ مشتركون فيه، وقد رأينا نحن وغيرُنا من ذلك عجائب.
وأبطَلَ (2) مَن قال: إن هذه كلَّها علوم وعقائد في النفس تظهر لصاحبها عند انقطاع نفسِه عن الشواغل البدنية بالنوم. وهذا عينُ الباطل والمحال، فإنَّ النفسَ لم يكن فيها قطُّ معرفةُ هذه الأمور التي يخبر بها الميِّت، ولا خَطرتْ ببالها، ولا عندها علامةٌ عليها ولا أمارةٌ بوجهٍ ما.
ونحن لا ننكر أنَّ الأمرَ قد يقع كذلك، وأنَّ من الرؤيا ما يكون من حديثِ النَّفس وصورة الاعتقاد. بل كثيرٌ من مرائي الناس إنَّما هي من مجرد صور اعتقادهم المطابقِ وغير المطابق، فإنَّ الرؤيا على ثلاثة أنواع: رؤيا من الله،
(1) (ق): «مرض أو بغرض له»، زاد «أو» ثم صحَّف.
(2) (ن): «وأبطل من ذلك».
(1/84)
ورؤيا من الشيطان، ورؤيا من حديث النفس (1).
والرؤيا الصحيحةُ أقسام منها: إلهامٌ يُلقيه الله سبحانه في قلب العبد. وهو كلامٌ يُكلِّم به الربُّ عبدَه في المنام، كما قال عبادة بن الصامت (2) وغيره (3). ومنها: مَثَلٌ يضربِه له ملكُ الرؤيا الموكلُ بها. ومنها: التقاءُ روحِ النائم بأرواح الموتى من أهله وأقاربه وأصحابه وغيرهم، كما ذكرناه (4). ومنها: عروجُ (5) روحه إلى الله سبحانه وتعالى وخطابُها له. ومنها: دخولُ روحه إلى الجنة ومشاهدتُها وغير ذلك. فالتقاءُ أرواح الأحياء والموتى نوعٌ من أنواع الرؤيا الصحيحة التي هي عند الناس من جنس المحسوسات.
وهذا موضعٌ اضطرب فيه الناس. فمن قائلٍ: إنَّ العلومَ كلَّها كامنة في النفس، وإنما اشتغالُها بعالم الحسِّ يحجبُ عنها مطالعتَها (6)، فإذا تجرَّدت
(1) هذا التقسيم مما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة: البخاري (7017)، ومسلم (2263).
(2) أورده المصنف وشيخه في عدة مواضع من كتبهما. انظر: الرد على المنطقيين (485)، النبوات (179)، بدائع الفوائد (513)، مدارج السالكين (1/ 51). وأشار في مواضع أخرى إلى أنه روي مرفوعًا. مجموع الفتاوى (12/ 398)، حادي الأرواح (838). وقد أخرج هذا المرفوع الحكيم الترمذي في النوادر (1/ 390). قال ابن حجر: وهو من روايته عن شيخه عمر بن أبي عمر، وهو واهٍ. وفي سنده جنيد. (فتح الباري 12/ 354). وقال الهيثمي في المجمع (7/ 362): رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفه.
(3) لعله يعني: أبا الدرداء. انظر: مجموع الفتاوى (6/ 180).
(4) (ب): «ذكرنا».
(5) في (أ، غ): «مثل عروج»، وكلمة «مثل» مقحمة.
(6) (ب، غ، ق، ز): «مَطالِعها».
(1/85)
بالنوم رأت منها بحسب استعدادها. ولما كان تجرُّدها بالموت أكملَ كانت علومُها ومعارفُها هناك أكملَ.
وهذا فيه حقٌّ وباطلٌ، فلا يُرَدُّ كلُّه، ولا يُقبَل كلُّه. فإنَّ تجرُّدَ النفس يُطْلِعُها على علوم ومعارف لا تحصل بدون التجرُّد، لكن لو تجرَّدتْ كلَّ التجرد لم تطَّلِعْ على علم الله الذي [18 ب] بعث به رسولَه، وعلى تفاصيل ما أخبر به عن الرسل الماضية والأمم الخالية، وتفاصيل المعاد وأشراط الساعة، وتفاصيل الأمر والنهي والأسماء والصفات والأفعال وغير ذلك مما لا يُعلَم إلا بالوحي. ولكن تجرُّد النفسِ عونٌ لها على معرفة ذلك، وتلقِّيه من معدِنه أسهل وأقرب وأكثر مما يحصل للنفس المنغمسة (1) في الشواغل البدنية.
ومِن قائلٍ: إنَّ هذه المرائي علوم يخلقها (2) الله في النفس ابتداءً بلا سبب. وهذا قول منكري الأسباب والحِكَم والقوى، وهو قولٌ مخالفٌ للشرع والعقل والفطرة.
ومِن قائلٍ: إنَّ الرؤيا أمثالٌ مضروبةٌ يضربها الله للعبد بحسب استعداده وإلْفهِ، على يدِ ملَك الرؤيا. فمرةً يكون مثلاً مضروبًا، ومرةً يكون نفسَ ما رآه الرائي، فيطابق الواقعَ مطابقةَ العلم لمعلومه. وهذا أقربُ من القولين قبلَه، ولكن الرؤيا ليست مقصورةً عليه، بل لها أسبابٌ (3) أُخَر كما تقدَّم: من
(1) في جميع النسخ: «المنعمة»، وهو تصحيف لما أثبتنا من الطبعة الهندية وغيرها.
(2) (ق): «عَلقَها»، تحريف. انظر: فتح الباري (12/ 353).
(3) ساقط من (ق).
(1/86)
ملاقاة الأرواح وإخبارِ بعضها بعضًا (1)، ومن إلقاءِ المَلَكِ (2) في القلب والرُّوع، ومن رؤيةِ الروح للأشياء مكافحةً بلا واسطة.
وقد ذكر أبو عبد الله ابن منده الحافظ في كتاب «النفس والروح» من حديث محمد بن حُميد، ثنا عبد الرحمن بن مَغْراء الدَّوْسي (3)،
ثنا الأزهرُ بن عبد الله الأزدي، عن محمد بن عجلان، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه قال: لقي عمرُ بن الخطاب عليَّ بن أبي طالب، فقال له: يا أبا حسن، ربما شهدتَ وغِبنا، وشهدنا وغِبتَ. ثلاثٌ أسألُك عنهن، فهل عندك منهن علم؟ فقال عليُّ بن أبي طالب: وما هنَّ؟ فقال: الرجل يحبُّ الرجلَ ولم يرَ منه خيرًا، والرجلُ يبغضُ الرجلَ ولم يرَ منه شرًّا. فقال عليٌّ: نعم، سمعتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «إنَّ الأرواحَ جنودٌ مُجنَّدةٌ تلتقي في الهواء، فتَشَامُّ (4)، فما تعارفَ منها ائتلفَ، وما تناكرَ منها اختلفَ». فقال عمر: واحدة.
قال عمر: والرجل: يحدَّث الحديثَ إذا نَسِيَه، فبينا هو قد نَسِيَه (5) إذ ذكَره. فقال: نعم، سمعتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «ما في القلوب قلبٌ [19 أ] إلا
(1) (ن): «وإخبار لبعض».
(2) كذا في (ب، ن، ج). وفي غيرها: «الملك الذي». وفي (ق): «التقاء».
(3) كذا في (ب)، وهذا هو الصواب. وفي (ن، ج): «عبد الرحمن بن معن»، وهو وهمٌ مشهور. انظر: تقريب التهذيب (350).
ولكن في الأصل: «أبو عبد الرحمن بن معن»، وفي (ق، ط، ز): «أبو عبد الرحمن ابن مغراء» فهل سقط «زهير» بعد «أبو»؟ فإن عبد الرحمن يكنى بأبي زهير.
(4) وفي حديث ابن مسعود كما سيأتي: «فتشامُّ كما تشامُّ الخيلُ». أي يشَمُّ بعضُها بعضًا. ومنه قولك: شاممتُ فلانًا، إذا دنوتَ منه، وتعرَّفتَ ما عنده. انظر: لسان العرب (شمم 12/ 326).
(5) (أ، ق، غ، ز): «هو ومن نسيه».
(1/87)
وله سحابةٌ كسحابةِ القمر، بينا القمرُ مضيء إذ تجلَّلتْه (1) سحابةٌ فأظلمَ، إذ تجلَّتْ فأضاء. وبينا القلبُ يتحدث إذ تجلَّلته سحابةٌ فنسي، إذ تجلَّتْ (2) عنه فيذكر (3)». قال عمرُ: اثنتان.
قال: والرجلُ يرى الرؤيا، فمنها ما يصدُق ومنها ما يكذِب. فقال: نعم، سمعتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «ما مِن عبدٍ ينام يتملَّى نومًا (4) إلا عُرِجَ بروحه إلى العرش. فالذي لا يستيقظ دون العرش، فتلك الرؤيا التي تصدق. والذي يستيقظ دون العرش، فهي التي تكذب». فقال عمرُ: ثلاثٌ كنتُ في طلبهنَّ، فالحمد لله الذي أصبتُهنَّ قبل الموت (5).
(1) أي غشيته. وفي الأصل: «تخللته»، تصحيف.
(2) الأصل: «انجلت».
(3) كذا في جميع النسخ، والسياق يقتضي: «فتذكر» أو «فذكر» كما في الأوسط (5220) وغيره.
(4) أي ينام طويلاً. وفي (أ، ن، غ): «يمتلئ».
(5) أخرجه العقيلي في الضعفاء (1/ 135)، والطبراني في الأوسط (5220)، والحاكم في المستدرك (4/ 396، 397)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 196) من طرق عن ابن مغراء بإسناده، وهو بتمامه عند الطبراني.
واقتصر العقيلي على الحديث الأول، وأبو نعيم على الثاني، والحاكم على الثالث.
وضعَّفه العراقي في تخريجه أحاديث الإحياء (1220).
ولما سكت عنه الحاكم تعقبه الذهبي بقوله: «حديث منكر، لم يصححه المؤلف، وكأنّ الآفة من أزهر».
وقال الهيثمي في المجمع (1/ 162): «فيه أزهر بن عبد الله، قال العقيلي: «حديثه غير محفوظ عن ابن عجلان، وهذا الحديث يعرف من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي موقوفًا». وبقية رجاله ثقات».
وكذا أعلَّه بالوقف أيضًا ابن عبد الهادي في الصارم المنكي (301).
والحديث الأول يغني عنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم (2638)، والبخاري (3336) تعليقًا من حديث عائشة رضي الله عنها، وسيأتي عند المؤلف. (قالمي).
(1/88)
وقال بقية بن الوليد: ثنا صفوان بن عمرو، عن سُليم بن عامر الحضرمي قال: قال عمر بن الخطاب: عَجِبتُ لرؤيا الرجل يرى الشيء، لم يخطُرْ له على بال، فيكون (1) كأخذٍ بيد. ويرى الشيء، فلا يكون شيئًا. فقال عليُّ بن أبي طالب: يا أميرَ المؤمنين، يقول الله عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42].
قال: والأرواحُ يُعرَجُ بها في منامها، فما رأتْ وهي في السماء فهو الحقُّ، فإذا رُدَّتْ إلى أجسادها تلقَّتْها الشياطين في الهواء، فكذَبتْها، فما رأتْ من ذلك فهو الباطل.
قال: فجعل عمرُ يتعجَّب من قول عليٍّ (2).
قال ابن منده: هذا خبر مشهور عن صفوان بن عمرو وغيره، ورُوي عن أبي الدرداء.
وذكر الطبراني (3) من حديث عليِّ بن أبي طلحة، أنَّ عبد الله بن عباس
(1) (ب، ط): «ويكون».
(2) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (18398) وابن مردويه. انظر: الدر المنثور (7/ 231).
(3) لم أجده في معاجمه المطبوعة. وفي بعضها نقص. وقد يكون أخرجه في كتاب الرؤيا له.
(1/89)
قال لعمر بن الخطاب: يا أميرَ المؤمنين، أشياء أسألك عنها. قال: سَلْ عما شئتَ. قال: يا أميرَ المؤمنين، مِمَّ يذكرُ الرجلُ؟ ومِمَّ ينسى؟ وممَّ تصدقُ الرؤيا؟ ومِمَّ تكذبُ؟
فقال له عمر: إنَّ على القلب طَخَاءةً كطخاءة القمر (1)، فإذا تغشَّت القلب نسي ابنُ آدم، فإذا انجلتْ ذكَر ما كان نسِي. وأمَّا مِمَّ تصدقُ الرؤيا، ومِمَّ تكذب؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يقول: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}. فمن دخل منها في ملكوت السماء فهي التي [19 ب] تصدقُ، وما كان منها دون ملكوتِ السماء فهي التي تكذب (2).
وروى ابنُ لهيعة عن عثمان بن نُعيم الرُّعيني، عن أبي عثمان الأصبحي، عن أبي الدرداء قال: إذا نام الإنسان (3) عُرِجَ بروحه حتى يُؤتى بها العرش، فإن كان طاهرًا أُذِنَ لها بالسجود، وإن كان جنبًا لم يُؤذنْ لها بالسجود (4).
وروى جعفر بن عون عن إبراهيم الهجَري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إنَّ الأرواحَ جنودٌ مجندةٌ تتلاقى، فتَشامُّ كما تشامّ الخيلُ، فما تعارفَ منا ائتلفَ، وما تناكرَ منها اختلفَ (5).
ولم يزل الناسُ قديمًا وحديثًا تعرفُ هذا وتشاهِدهُ. قال جميل بن مَعمَر
(1) الطخاءة: الغشاء والظلمة والغيم.
(2) أورده الحكيم في نوادر الأصول (1/ 169) عن ابن عباس.
(3) (ن): «الرجل».
(4) أخرجه ابن المبارك في الزهد (1245). وانظر: نوادر الأصول للحكيم (3/ 220).
(5) أخرجه البيهقي في الشعب (9038).
(1/90)
العُذْري (1):
أظَلُّ نهاري مُستهامًا وتلتقي … مع الليل روحي في المنام وروحُها (2)
فإن قيل: فالنائمُ يرى غيره من الأحياء يُحدِّثه ويخاطبه، وربما كان بينهما مسافة بعيدة، ويكون المرئيُّ يقظانَ، روحُه لم تفارق جسدَه، فكيف التقت روحاهما؟
قيل: هذا إما أن يكون مثلاً مضروبًا، ضربه ملكُ الرؤيا للنائم (3)، أو يكون حديثَ نفس من الرائي تجرَّد له في منامه، كما قال حبيبُ بن أوس (4):
سَقيًا لِطَيفِكَ مِن زَورٍ أتاكَ به … حديثُ نفسِك عنه وهو مشغولُ (5)
(1) (ط): «العدوي». (ز): «العبدري». وكلاهما تحريف. و «العذري» ساقط من (ن). وفي (ب) تحرف «جميل» إلى «علي».
(2) ديوان جميل (51).
(3) «للنائم» ساقط من (ن).
(4) هذا وهمٌ، فإن البيت الآتي لجِران العود النُّميري في ديوانه (100) عن منتهى الطلب. وسبب الوهم أن بيت النميري يُذكر مع قول أبي تمام:
عادك الزَّورُ ليلةَ الرَّعْلِ مِن رَمْـ … ـلَةَ بين الحِمَى وبين المَطالي
نَمْ فما زارك الخيالُ ولكنْـ … نَكَ بالفكر زُرتَ طيفَ الخيالِ
للدلالة على أنّه أخذ معناه من قول النُّمَيري.
وقال أبو تمام أيضًا:
استزارته فكرتي في المنامِ … فأتاني في خُفيةٍ واكتتامِ
انظر: الموازنة للآمدي (2/ 168).
(5) «لطيفك»: كذا في (ن) والموازنة. وفي النسخ الأخرى: «لضيفك». وفي الديوان: «لِزَورك».
(1/91)
وقد تتناسب الرُّوحانِ وتشتدُّ علاقةُ إحداهما بالأخرى، فيشعر كلٌّ منهما ببعض ما يحدث لصاحبه، وإنْ (1) لم يشعرْ بما يحدثُ (2) لغيره لشدة العلاقة بينهما، وقد شاهد الناس من ذلك عجائب.
والمقصود أن أرواحَ الأحياء تتلاقى في النوم، كما تتلاقى أرواحُ الأحياء والأموات.
قال بعضُ السلف: إنَّ الأرواحَ تتلاقى في الهواء، فتتعارف، وتتناكر، فيأتيها ملكُ الرؤيا بما هو لاقيها من خير أو شر. قال: وقد وكَّلَ اللهُ بالرؤيا الصادقةِ ملَكًا علَّمه وأَلهمه معرفةَ كلِّ نفس بعينها، واسمِها، ومنقلَبِها في دينها ودنياها، وطبعِها، ومعارفِها؛ لا يشتبه عليه منها شيء، ولا يغلطُ فيها، فيأتيه نسخة (3) من علمِ غيب الله من أُمِّ الكتاب بما هو مُصيبٌ لهذا الإنسان [20 أ] من خيرٍ وشرٍّ في دينه ودنياه. ويضربُ له فيها الأمثال والأشكال على قدر عادته، فتارةً يبشِّره بخير قدَّمه أو يقدِّمه، ويُنذره من معصية ارتكبها أو هَمَّ بها، ويحذّره من مكروه انعقدتْ أسبابه؛ لِيعارض تلك الأسبابَ بأسبابٍ تدفعها، ولغير ذلك من الحِكم والمصالح التي جعلها الله في الرؤيا نعمةً منه ورحمةً وإحسانًا وتذكيرًا وتعريفًا. وجعل أحدَ طُرق ذلك تلاقيَ الأرواح وتذاكُرَها وتعارفَها.
وكم ممن كانت توبتُه وصلاحُه وزهدُه وإقبالُه على الآخرة عن منامٍ رآه أو رُئِيَ له! (4) وكم ممن استغنى وأصابَ كنزًا أو دفينًا عن منام!
(1) (ن): «وإنما»، وهو خطأ.
(2) (ب، ط): «حدث».
(3) (ن): «بنتيجة»، وكأنّه مغيَّر.
(4) «وكم ممن … رئي له» ساقط من (ن).
(1/92)
وفي كتاب «المجالسة» (1) لأبي بكر أحمد بن مروان المالكي عن ابن قتيبة (2)، عن أبي حاتم، عن الأصمعيِّ، عن المعتمر بن سليمان، عمن حدَّثه قال: خرجنا مرَّةً في سفر، وكنَّا ثلاثة نفر، فنام أحدُنا، فرأينا مثل المصباح خرج من أنفه، فدخل غارًا قريبًا منه، ثم رجع، فدخل أنفَه. فاستيقظ يمسح وجهَه، وقال: رأيتُ عجبًا، رأيتُ في هذا الغار كذا (3). فدخلناه، فوجدنا فيه بقيةً من كنزٍ كان (4).
وهذا عبد المطلب دُلَّ في النوم على زمزم، وأصاب الكنزَ الذي كان هناك (5).
وهذا عُمير بن وهب أُتيَ في نومه، فقيل له: قُمْ إلى موضع كذا وكذا من البيت، فاحفِرْه تَجِدْ مال أبيك. وكان أبوه قد دفَن مالاً، ومات، ولم يُوصِ به (6). فقام عُميرٌ من نومه، فاحتفر حيث أمره، فأصاب عشرة آلاف درهم وتِبرًا كثيرًا. فقضى دينَه، وحَسُن حالُه وحال أهل بيته. وكان ذلك عقيب إسلامه، فقالت له الصغرى من بناته: يا أبتِ، ربُّنا هذا الذي حبَانا بدِينه خيرٌ من هُبل والعزَّى! ولولا أنه كذلك ما ورَّثك هذا المالَ، وإنّما عبدتَه أيامًا قلائلَ (7).
(1) لم يرد هذا الخبر في المخطوطات التي اعتمد عليها ناشر «المجالسة»، فاستدركه من كتاب الروح.
(2) الأصل: «أبي قتيبة»، تحريف.
(3) في النسخ المطبوعة: «كذا وكذا» وأشير في حاشية (أ، ط) إلى أن في نسخة: «كنزًا».
(4) «كان» ساقط من (ط).
(5) سيرة ابن هشام (1/ 146).
(6) (ب، ط، ج): «بها». وهو ساقط من (ن).
(7) لم أجد هذا الخبر. وقد نقله المؤلف من كتاب للقيرواني العابر كما يظهر من كلامه الآتي. ولعله كتاب «البستان» الذي أحال عليه في المسألة السابعة.
(1/93)
قال عليُّ بن أبي طالب القيرواني العابر (1): وما حديث عُميرٍ هذا واستخراجُه المال بالمنام بأعجبَ (2) مما كان عندنا وشاهدناه في عصرنا بمدينتنا (3) من أبي محمد عبد الله (4) البغانشي. وكان رجلاً صالحًا مشهورًا برؤية [20 ب] الأمواتِ وسؤالهم عن الغائبات ونَقْله ذلك إلى أهلهم وقراباتهم، حتى اشتهر بذلك، وكَثُر منه. فكان المرء يأتيه، فيشكو إليه أنَّ حميمَه (5) قد مات من غير وصيةٍ، وله مالٌ لا يهتدى إلى مكانه، فيَعِدُه خيرًا. ويدعو الله في ليلته، فيتراءى له الميت الموصوف، فيسأله عن الأمر، فيخبره به.
فمن نوادره: أنّ امرأةً عجوزًا من الصالحات تُوفيت ولامرأةٍ عندها سبعة دنانير وديعة. فجاءت إليه صاحبةُ الوديعة، وشكَتْ إليه ما نزل بها، وأخبرته باسمها واسمِ الميتة صاحبتها. ثم عادتْ إليه من الغد، فقال لها: تقول لك فلانةُ: عُدِّي من سقف بيتي سبعَ خَشَبات تجدي الدنانيرَ في
(1) كُتب القيرواني هذا كانت متداولة بين أهل المغرب في عهد ابن خلدون، كما ذكر في المقدمة (1006)، وسمّى منها «كتاب الممتع». وكانت مؤلفاته ــ وقد بلغت مائة تأليف، ومنها موطأ الموطأ ــ من مرويات ابن خير (ت 575). انظر فهرسته (442).
(2) في (أ، ب، ق): «وأما حديث … بأعجب» وفيه خلل. فإما أن يكون الصواب كما أثبتنا من (ط، غ)؛ أو سقطت كلمة كما في (ج): «وأما حديث … [ليس] بأعجب». وفي (ز): « …. [ليس هو] بأعجب». وفي (ن): «وأما … فأعجب»، وهو خطأ.
(3) ساقط من (ن).
(4) في (ن): «أبي عبد الله»، ففيها سقط.
(5) (ق): «حميه»، وكذا كان في الأصل، فأصلح.
(1/94)
السابعة (1) في خِرقة صوفٍ. ففعلتْ ذلك، فوجدَتْها كما وصفَ لها.
قال: وأخبرني رجلٌ لا أظنُّ به كذبًا قال: استأجرتني امرأةٌ من أهل الدنيا على هدم دارٍ لها وبنائها بمال معلوم، فلما أخذتُ في الهدم لزمت الفَعَلة هي ومن معها (2). فقلت: مالك؟ قالت: والله ما لي إلى هدمِ هذه الدار من حاجةٍ، لكن أبي مات، وكان ذا يَسار كثير (3)، فلم نجدْ له كبيرَ (4) شيء، فَخِلتُ أنَّ مالَه مدفونٌ، فعمَدتُ إلى هدم الدار لعلِّي أجد شيئًا.
فقال لها بعض من حَضَرنا: لقد فاتَكِ ما هو أهونُ عليك من هذا! قالت (5): وما هو؟ قال: فلانٌ تمضِين إليه، وتسألينه أن يُبيِّت قصتكِ (6) الليلةَ، فلعله يرى أباك، فيدلّكِ على مكانِ ماله بلا تعب ولا كُلفة. فذهبتْ إليه ثم عادتْ إلينا، فزعمَتْ أنه كتب اسمَها واسمَ أبيها عنده.
فلما كان من الغد بكَّرتُ إلى العمل، وجاءت المرأة من عند الرجل، فقالت: إن الرجل قال لي: رأيتُ أباكِ وهو يقول: المال في الحَنِيَّة (7). قال: فجعلنا نحفِر تحت الحَنِيَّة وفي جوانبها، حتّى لاح لي شَقٌّ، وإذا المالُ فيه.
(1) «في السابعة» ساقط من (ن).
(2) (ن): «الهدم جاء امرأة فلزمت الفعلة».
(3) كذا بالمثلثة في (ط، ق، غ، ج). وفي غيرها مهملة.
(4) كذا بالموحدة في (أ، ب، ط). وفي (ج، غ) بالمثلثة.
(5) من «والله مالي … » إلى هنا سقط من (ن).
(6) (ق): «قضيتك».
(7) الحنيّة من البناء: ما كان منحنيًا كالقوس. والحنية: الطاق، والقبو. انظر: تكملة المعاجم العربية (3/ 358).
(1/95)
قال: فأخذنا في التعجب، والمرأةُ تستخِفُّ بما وجدتْ، وتقول: مال أبي كان (1) أكثرَ من هذا! ولكنّي أعود إليه. فمضتْ، فأعلمَتْه، ثم سألته المعاودةَ.
فلما كان من الغد أَتَتْ، وقالت: إنه قال لها: إنّ إباك يقول لك: احفِري [21 أ] تحت الخابية (2) المربَّعة التي في مخزن الزيت. قال: ففتحت المخزنَ، فإذا بخابيةٍ مربَّعة في الركن، فأزلناها، وحفَرنا تحتها، فوجدنا كوزًا كبيرًا فأخذَتْه.
ثم دام بها الطمعُ في المعاودة، ففعلَتْ، فرجَعتْ من عنده، وعليها الكآبةُ. فقالت: زعم أنه رآه، وهو يقول له: قد أخذتْ ما قُدِّر لها، وأما ما بقي فقد جلسَ عليه عفريتٌ من الجنِّ يحرُسه إلى من قُدِّر له.
والحكاياتُ في هذا الباب كثيرةٌ جدًا.
وأما من حصل له الشفاءُ باستعمال دواءٍ رأى مَن وصفَه له في منامه، فكثير جدًا.
وقد حدَّثني غيرُ واحدٍ ممّن كان غيرَ مائل إلى شيخِ الإسلام ابن تيمية، أنه رآه بعد موته، وسأله عن شيء كان يُشكِل عليه من مسائل الفرائض وغيرها، فأجابه بالصواب.
وبالجملة، فهذا أمرٌ لا ينكره إلا مَن هو مِن أجهلِ الناس بالأرواح وأحكامها وشأنها. وبالله التوفيق.
(1) الأصل: «كان مال أبي». ولم ترد «كان» في (ز).
(2) الخابية: الجرَّة الكبيرة.
(1/96)
فصل
وأمَّا (1) المسألة الرابعة
وهي أنّ الروح هل تموت، أم الموت للبدن وحده؟
فقد اختلف الناسُ في هذا (2). فقالت طائفة: تموت وتذوق الموتَ؛ لأنها نفس، وكلُّ نفس ذائقةُ الموت.
قالوا: وقد دلَّت الأدلَّة على أنه لا يبقى إلا الله وحده. قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27]. وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88].
قالوا: وإذا كانت الملائكة تموت، فالنفوسُ البشرية أولى بالموت.
قالوا: وقد قال تعالى عن أهل النار إنهم قالوا: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11]، فالموتة الأولى هي المشهودة، وهي للبدن، والأخرى للروح.
وقال آخرون: لا تموت الأرواحُ، فإنها خُلِقَت للبقاء، وإنما تموت الأبدانُ. قالوا: وقد دلَّ على هذا الأحاديثُ الدالَّةُ على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يَرجِعَها الله في أجسادها، ولو ماتت الأرواحُ لانقطع (3)
(1) «فصل وأما» لم يرد في (ن).
(2) لخّص هذه المسألة ابن أبي العزّ في شرح الطحاوية (390 ــ 391) دون الإشارة إلى ابن القيم.
(3) (ن): «لزال».
(1/97)
عنها النعيمُ والعذاب. وقد قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} [آل عمران: 169 – 170]. هذا مع القطع بأنَّ أرواحَهم قد فارقتْ أجسادهم، وقد ذاقت الموت.
والصوابُ أن يقال: موتُ النفوس هو مفارقتُها لأجسادها وخروجُها منها. فإن أُريد بموتها هذا القدر، فهي ذائقة الموت. وإن أريدَ أنها تُعدَم وتضمحلُّ وتصير عدمًا محضًا، فهي لا تموت بهذا الاعتبار؛ بل هي باقيةٌ بعد خلقها في نعيم أو في عذاب، كما سيأتي إن شاء الله تعالى بعد هذا، وكما صرَّح به النصُّ أنّها كذلك حتى يردَّها الله في جسدها.
وقد نظم أحمدُ بن الحسين الكندي (1) هذا الاختلاف في قوله:
تنازَعَ الناسُ حتى لا اتفاقَ لهم … إلَّا على شَجَبٍ والخُلْفُ في شَجَب
فقيل تخلُصُ نفسُ المرءِ سالمةً … وقيل تشرَكُ جسمَ المرء في العَطَب
فإن قيل: فعند (2) النفخ في الصور، هل تبقى الأرواحُ حيَّةً كما هي، أو تموت ثم تحيا؟
قيل: قد قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68]. فقد استثنى الله سبحانه بعضَ من في السموات ومن في الأرض من هذا الصَّعق. فقيل: هم الشهداء. هذا قول أبي
(1) يعني أبا الطيب المتنبي. وانظر البيتين في شرح ديوانه للواحدي (612).
(2) (أ، ب): «فبعد».
(1/98)
هريرة، وابن عباس، وسعيد بن جُبير.
وقيل: هم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملَك الموت. وهذا قول مقاتل وغيره.
وقيل: هم الذين في الجنةِ من الحور العين وغيرهم ومَن في النار من أهلِ العذاب وخَزَنتها. قاله أبو إسحاق بن شاقلا (1) من أصحابنا (2).
وقد نصَّ الإمام أحمد على أنَّ الحورَ العين والوِلدان لا يمُتْنَ عند النفخ في الصور (3).
وقد أخبر سبحانه أن أهلَ الجنة {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56]. وهذا نصٌّ على أنهم لا يموتون غيرَ تلك الموتة الأولى، فلو ماتوا مرةً ثانية لكانت موتتان.
وأما قولُ أهل النار: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ}، فتفسيرُ هذه الآيةِ: الآيةُ (4) [22 أ] التي في البقرة، وهي قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ
(1) ضبط في (ق) بسكون القاف. وكذا ضبطه السمعاني في الأنساب (3/ 382). ولكن صاحب التاج ضبطه في تكملته (6/ 154) بضم القاف.
(2) نقل المؤلف الأقوال المذكورة من زاد المسير (6/ 195). وانظر: التذكرة للقرطبي (1/ 454)، وفتح الباري (11/ 370).
(3) ذكره أبو العباس الإصطخري في مسائله. انظر: طبقات ابن أبي يعلى (1/ 60). ونقله المصنف عنه في حادي الأرواح (98). وانظر أيضًا: حادي الأرواح (484، 834).
(4) (ط، ج): «الآية والآية». أقحم الواو، فأفسد الكلام. وفي (ن): «هذه الآية والتي»، أقحم وأسقط. وفي (غ): «هذه الآية التي»، أسقط إذ ظن «الآية» الثانية مكررة.
(1/99)
بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28]. فكانوا أمواتًا وهم نُطَفٌ في أصلاب آبائهم وفي أرحام أمهاتهم، ثم أحياهم بعد ذلك، ثم أماتهم، ثم يحييهم يوم النشور. وليس في ذلك إماتةُ أرواحهم قبل يوم القيامة، وإلا كانت ثلاث موتات.
وصعقُ الأرواح عند النفخ في الصور لا يلزم منه موتُها. ففي الحديث الصحيح: «أن الناسَ يَصْعَقون يومَ القيامة، فأكونُ أولَ من يُفيق، فإذا موسى آخذٌ بقائمة العرش، فلا أدري أفاقَ قبلي أم جُوزي بصعقة يوم الطور» (1). فهذا صعقٌ في موقف القيامة إذا جاء الله سبحانه لفصل القضاء، وأشرقت الأرضُ بنوره (2)، فحينئذٍ تَصعقُ الخلائقُ كلُّهم. قال تعالى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} [الطور: 45]، ولو كان هذا الصَّعق موتًا لكانت (3) موتة أخرى.
وقد تنبَّه لهذا جماعةٌ من الفضلاء. فقال أبو عبد الله القرطبي: ظاهرُ هذا الحديث أن هذه صعقةُ غشي تكون يوم القيامة، لا صعقة الموت الحادثة عند نفخ الصور (4).
قال: وقد قال شيخنا أحمدُ بن عمر (5): وظاهرُ حديث النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – يدلُّ
(1) أخرجه البخاري (3398)، ومسلم (2374) من حديث أبي سعيد الخدري.
(2) (ب، ط، ن، ج): «بنور ربها».
(3) (ن): «لكان».
(4) التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (1/ 457). وهو جزء من كلام للحليمي في المنهاج (1/ 431، 432) نقله القرطبي.
(5) أبو العباس القرطبي في كتابه المفهم (6/ 232).
(1/100)
على أنّ هذه الصَّعقةَ إنما هي بعد النفخة الثانية: نفخة البعث. ونصُّ القرآن يقتضي أن ذلك الاستثناءَ إنما هو بعد (1) نفخة الصَّعق. ولما كان هذا قال بعضُ العلماء: يَحتمِلُ أن يكون موسى ممن لم يمتْ من الأنبياء. وهذا باطلٌ (2).
وقال القاضي عياض (3): يحتمل أن يكون المرادُ بهذه صعقة فزعٍ بعد النشور حين تنشقُّ السماء والأرض. قال: فتستقلُّ الأحاديثُ والآيات (4).
وردَّ عليه أبو العباس القرطبي، فقال (5): يردُّ هذا قولُه في الحديث الصحيح: أنه حين يخرجُ من قبره يلقى موسى آخذًا بقائمةِ العرش. قال: وهذا إنما هو عند نفخةِ البعث (6).
قال أبو عبد الله: وقال شيخنا أحمدُ بن عمر (7): والذي يُزيح هذا الإشكالَ ــ إن شاء الله تعالى ــ أنّ الموتَ ليس بعدمٍ محض، وإنما هو انتقالٌ من حال إلى حال. ويدلُّ [22 ب] على ذلك أن الشهداءَ بعد قتلهم وموتهم أحياءٌ عند ربهم، يُرزقون فرحين مستبشرين. وهذه صفةُ الأحياء في الدنيا. وإذا كان هذا في الشهداء كان الأنبياءُ بذلك أحقَّ وأولى، مع أنه قد صحَّ عن
(1) (ب، ج): «هو تفسير». (ط): «هو بعد تفسير».
(2) التذكرة (1/ 459).
(3) في إكمال المعلم (7/ 357)، والنقل من التذكرة.
(4) (أ، ق، غ): «الآثار»، تحريف.
(5) في المفهم (6/ 233)، والنقل من التذكرة.
(6) في جميع النسخ: «نفخة الفزع». والصواب ما أثبتنا من المفهم، وكذا في التذكرة. وهو مقتضى السياق.
(7) في المفهم (6/ 233 ــ 234). والنقل من التذكرة (1/ 459 ــ 461).
(1/101)
النبي – صلى الله عليه وسلم – أنَّ الأرضَ لا تأكلُ أجسادَ الأنبياء (1)، وأنه – صلى الله عليه وسلم – اجتمعَ بالأنبياء ليلةَ الإسراء في بيت المقدس وفي السماء وخصوصًا بموسى (2). وقد أخبر بأنه ما من مسلم يُسلِّم عليه إلا ردَّ الله عليه روحَه حتى يردَّ عليه السلام (3)، إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطعُ بأن موتَ الأنبياء إنما هو راجعٌ إلى أن غُيِّبوا عنّا بحيث لا نُدركهم، وإن كانوا موجودين أحياءً (4). وذلك كالحال في الملائكة، فإنهم أحياءٌ موجودون، ولا نراهم.
وإذا تقرَّر أنهم أحياءٌ، فإذا نُفخ في الصور نفخة الصَّعق صعق كل من في
(1) أخرجه أبو داود (1047، 1531)، والنسائي (1374)، وابن ماجه (1636)، والإمام أحمد (16162)، وابن خزيمة (1733)، وابن حبان (910)، والحاكم (1/ 278) من حديث أوس بن أبي أوس الثقفي رضي الله عنه.
وقال الحاكم: «صحيح على شرط البخاري».
وقال ابن كثير في تفسيره (6/ 473): «قد صحّح هذا الحديث ابن خزيمة، وابن حبان، والدارقطني، والنووي في الأذكار».
وقد أعلَّه بعض الأئمة بما لا يقدح، كما شرحه المؤلف في جلاء الأفهام (78، 83). (قالمي).
(2) انظر حديث أنس في صحيح البخاري (3887) وصحيح مسلم (164).
(3) سبق تخريجه في المسألة الأولى (ص 27).
(4) هنا في (ط) تعليق بخط الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البابطين رحمه الله، لم يظهر كاملاً وفي آخره: «وقوله: إن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن غُيِّبوا عنَّا إلخ. مقتضى هذا الكلام أنهم لم يذوقوا الموت، وإنما هو مجرد تغييب كتغييب الملائكة عنَّا. وهذا باطل، ونصوص الكتاب والسنة صريحة في أنهم ماتوا. وابن القيم رحمه الله ردّ هذا القول في الكافية أحسن ردّ، وإنما لم يتكلم على ذلك هنا لأنه ليس بصدد هذه المسألة». وانظر الأبيات التي أشار إليها المحشي في الكافية الشافية (2840 ــ 2955).
(1/102)
السموات والأرض إلا من شاء الله، فأما صعق غير الأنبياء فموت، وأما صَعقُ الأنبياء فالأظهرُ أنه غَشيْةٌ. فإذا نُفِخ في الصور نفخة البعث، فمن مات حَيِي، ومن غُشي عليه أفاقَ.
ولذلك قال – صلى الله عليه وسلم – في الحديث المتفق على صحته: «فأكون أولَ من يُفيق». فنبيُّنا (1) أولُ من يخرج من قبره قبل جميع الناس إلا موسى، فإنه حصل فيه تردُّدٌ: هل بُعِث قبلَه من غَشْيته، أو بقي على الحالةِ التي كان عليها قبل نفخةِ الصَّعق مفيقًا؛ لأنه حُوسب بصعقةِ (2) يوم الطُّور. وهذه فضيلةٌ عظيمة لموسى عليه السلام (3). ولا يلزم من فضيلةٍ واحدة أفضليَّةُ موسى على نبينا مطلقًا، لأن الشيء الجزئيَّ (4) لا يوجب أمرًا كليًّا. انتهى (5).
قال أبو عبد الله القرطبي (6): إنْ حُمِل الحديث على صعقةِ الخلق يوم القيامة فلا إشكالَ. وإنْ حُمِل على (7) صعقة الموت عند النَّفخ في الصور، فيكون ذكرُ يوم القيامة مرادًا به أوائله. فالمعنى: إذا نُفخ في الصور نفخةُ
(1) (ن): «فتبين»، تحريف.
(2) (ب، ط، ج): «بصعقته».
(3) هنا انتهى كلام أبي العباس القرطبي.
(4) رسمها في (أ، ب، ق): «الجزوي» بالواو.
(5) قوله: «انتهى» يوهم أن ما سبق كله كلام أبي العباس، والحق أن «ولا يلزم … » إلخ تعليق أبي عبد الله على كلام شيخه.
(6) الكلام الآتي ليس لأبي عبد الله، وإنما هو جزء من كلام طويل للحليمي، نقله أبو عبد الله من كتابه المنهاج. وهذا الجزء متصل بما نقله ابن القيم من قبل في أول نقله عن القرطبي.
(7) «صعقة الخلق … على» سقط من (ن) لانتقال النظر.
(1/103)
البعث كنتُ أولَ من يرفع رأسَه، فإذا موسى آخذٌ بقائمةٍ من قوائم العرش، فلا أدري أفاقَ قبلي، أم جُوزي بصعقةِ الطور (1).
قلت: وحملُ الحديث على هذا لا [23 أ] يصحُّ: لأنه عليه السلام تردَّدَ هل أفاق موسى قبلَه أم لم يَصْعَق، بل جُوزي بصعقة الطور. فالمعنى: لا أدري أصَعِق أم لم يَصْعَق. وقد قال في الحديث: «فأكون أولَ من يُفيق»، وهذا يدلُّ على أنه – صلى الله عليه وسلم – يَصعق فيمن يَصعق، وأن التردَّدَ حصل في موسى: هل صَعِق وأفاق قبله من صعقته، أم لم يَصعق؟ ولو كان المرادُ به الصعقةَ الأولى ــ وهي صعقةُ موت ــ لكان – صلى الله عليه وسلم – قد جزم بموته، وتردّد: هل مات موسى، أو (2) لم يمتْ. وهذا باطلٌ لوجوه كثيرة. فعُلم أنها صعقةُ فزَع، لا صعقة موت. وحينئذٍ فلا تدلُّ الآية على أنّ الأرواحَ كلَّها تموت عند النفخةِ الأولى. نعم، تدلُّ على موت الخلائق عند النفخة الأولى، وكلُّ من لم يذق الموتَ قبلها فإنه يذوقه حينئذ. وأما من ذاقَ الموتَ أو من لم يُكتب عليه الموتُ، فلا تدل الآية على أنه يموت موتةً ثانية. والله أعلم (3).
فإن قيل: فكيف تصنعون بقوله في الحديث: «إن الناسَ يُصعقون يوم القيامة، فأكون أولَ من تنشقُّ عنه الأرضُ، فأجدُ موسى باطشًا بقائمة العرش»؟ (4).
قيل: لا ريب أن هذا اللفظَ قد ورد هكذا، ومنه نشأ الإشكالُ، ولكنه
(1) التذكرة (1/ 457 ــ 458).
(2) (ب، ط، ن): «أم».
(3) لم يرد «والله أعلم» في (ن).
(4) البخاري (2412).
(1/104)
دخل فيه على الراوي حديثٌ من حديث، فركَّب بين اللفظين، فجاء هذا. والحديثان هكذا:
أحدهما: «أن الناسَ يَصعقون يوم القيامة، فأكون أولَ من يُفيق» (1).
والثاني هكذا: «أنا أولُ من تنشقُّ عنه الأرضُ يوم القيامة». ففي الترمذي وغيره من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «أنا سيدُ ولد آدمَ يوم القيامة، ولا فخر. وبيدي لواءُ الحمد، ولا فخر. وما من نبيٍّ يومئذ آدمُ فمَن سواه إلا تحت لوائي. وأنا أولُ من تنشقُّ عنه الأرضُ، ولا فخر» قال الترمذي: حديث حسن صحيح (2).
فدخل على الراوي هذا الحديثُ في الحديث الآخر. كان (3) شيخنا أبو الحجَّاج (4) يقول ذلك (5).
فإن قيل: فما تصنعون بقوله: «فلا أدري أفاقَ قبلي أم كان ممن استثنى الله عز وجل»؟ (6). والذين استثناهم الله إنما هم مُستثنَون من صعقة النَّفخة،
(1) البخاري (3398).
(2) أخرجه في التفسير (3148) وأبواب المناقب (3615). وأخرجه ابن ماجه (4308) وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، لكن له شواهد منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم (2278). (قالمي).
(3) (ب، ط): «فان»، تصحيفًا.
(4) كذا في (أ، غ). وفي (ن): «الحافظ أبو الحجاج»، وفي (ج، ز): «أبو الحجاج الحافظ». وفي (ق): «أبو الحجاج الحافظ المزّي»، وفي (ب، ط): «أبو الحجاج المزّي الحافظ».
(5) وانظر كلامًا للحافظ ابن حجر في الجمع بين الحديثين في فتح الباري (6/ 444).
(6) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة (2373).
(1/105)
لا من صعقة يوم القيامة، [23 ب] كما قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68]، ولم يقع الاستثناء من صعقة الخلائق يوم القيامة.
قيل: هذا ــ والله أعلم ــ غير محفوظ، وهو وَهَمٌ من بعض الرواة. والمحفوظ ما تواطأتْ عليه الرواياتُ الصحيحة من قوله: «فلا أدري أفاقَ قبلي أم جُوزي بصعقة الطور»، فظن بعضُ الرواة أنَّ هذه الصعقة هي صعقة النفخة، وأنَّ موسى داخلٌ فيمن استُثني منها. وهذا لا يلتئم على مَساق الحديث قطعًا، فإن الإفاقة حينئذ هي إفاقة البعث، فكيف يقول: لا أدري أَبُعِثَ قبلي؟ أم جُوزي بصعقة الطور؟ فتأمَّله.
وهذا بخلاف الصعقة التي يَصْعَقُها الخلائق (1) يوم القيامة إذا جاء الله سبحانه لفصل القضاء بين العباد، وتجلَّى لهم، فإنهم يَصعقون جميعًا. وأما موسى – صلى الله عليه وسلم – فإن كان لم يَصعق معهم فيكون قد حُوسِبَ (2) بصعقته يوم تجلَّى ربُّه للجبل فجعله دكًّا، فجُعلت صعقةُ هذا التجلِّي عوضًا من صعقة الخلائق لتجلِّي الربّ يوم القيامة. فتأمل هذا المعنى العظيم.
ولو لم يكن في الجواب إلا كشفُ هذا الحديثِ وشأنه لكان حقيقًا أن يُعَضَّ عليه بالنواجذ. ولله الحمد والمنة. وبه (3) التوفيق (4).
(1) (ب، ط، ن، ج): «الناس».
(2) (ب، ط، ن، ج): «جُوزي».
(3) (ب، ط، ز، ج): «وبيده».
(4) لم يرد ما بعد «بالنواجذ» في (ن).
(1/106)
فصل
وأما (1) المسألة الخامسة
وهي أنّ الأرواحَ، بعد مفارقة الأبدان إذا تجرَّدت، بأيِّ شيء يتميَّز بعضُها من بعض، حتى تتعارفَ وتتلاقى؟ وهل تَشَكَّلُ (2) إذا تجردتْ بشكل بدنها الذي كانت فيه وتلبس صورتَه، أم كيف يكون حالُها؟
فهذه (3) مسألةٌ لا تكاد تجد من تكلَّم فيها، ولا تظفرُ فيها من كتب الناس بطائلٍ ولا غير طائل، ولا سيّما على (4) أصول من يقول بأنها مجرّدةٌ عن المادة وعلائقها، وليست بداخل العالم ولا خارجه، ولا لها (5) شكلٌ ولا قدرٌ ولا شخصٌ؛ فهذا السؤال على أصولهم مما لا جوابَ لهم عنه (6).
وكذلك من يقول: هي عَرضٌ من أعراض البدن، فتميُّزها عن غيرها مشروطٌ بقيامها (7) ببدنها. فلا تميُّزَ (8) لها بعد الموت، بل لا وجودَ لها على أصولهم، بل تعدمُ وتبطل باضمحلال [24 أ] البدن كما تبطل سائر صفات
(1) «فصل وأما» لم ترد في (ن). وفي (ز) لم ترد «وأما».
(2) ما عدا (أ، ق): «تتشكل».
(3) (ن): «وهذه».
(4) «فيها … على» ساقط من (ب).
(5) «لها» ساقط من الأصل.
(6) ستأتي الأقوال في حقيقة الروح في المسألة التاسعة عشرة.
(7) (ط): «ببقائها».
(8) كذا في (أ، غ). وفي (ق): «تمييز»، وفي غيرها: «ولا تميز».
(1/107)
الحي (1).
ولا يمكن جواب هذه المسألة إلا على أصول أهل السنة التي تظاهرتْ عليها أدلةُ القرآن والسنة والآثار والاعتبار والعقل (2)، والقولِ (3): إنّها ذاتٌ قائمةٌ بنفسها تصعَدُ وتنزل، وتتصلُ وتنفصل، وتخرج وتذهب وتجيء، وتتحرك وتسكن. وعلى هذا أكثر من مئة دليلٍ قد ذكرناها في كتابنا الكبير في معرفة الروح والنفس (4)، وبينَّا بطلانَ ما خالف هذا القول من وجوهٍ كثيرة، وأنَّ من قال غيرَه لم يعرف نفسَه.
وقد وصفها الله سبحانه وتعالى بالدخول والخروج والقبض والتوفي والرجوع وصعودها إلى السماء وفتحِ أبوابها لها وغَلْقها عنها، فقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} [الأنعام: 93]. وقال تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 ــ 30] وهذا يقال لها عند المفارقة للجسد.
وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7 – 8]،
(1) في الأصل: «صفات سائر الحي»، سبق قلم.
(2) «والعقل» ساقط من (ب).
(3) «والقول» معطوف على «أصول». وقد ضبط في (ق، غ) بالكسر. وضبط في (ط) بالضم، وهو خطأ. وفي (ن): «فالقول … تسكن وغير هذا عليه» وهو سياق فاسد.
(4) ذكر المؤلف كتابه هذا في جلاء الأفهام (298، 371) ومفتاح دار السعادة (3/ 105) أيضًا. وفي (ن): «الأرواح والأنفس»، وفي (ب): «الأرواح والنفس».
(1/108)
فأخبر أنه سوَّى النفس، كما أخبر أنه سوَّى البدن (1) في قوله: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار: 7]، فهو سبحانه سوَّى نفسَ الإنسان كما سوَّى بدنَه، بل سوَّى بدنه كالقالَب لنفسه (2). فتسويةُ البدن تابعٌ لتسوية النفس، والبدن موضوعٌ لها كالقالَب لما هو موضوعٌ له (3).
ومن هاهنا يُعلم أنها تأخذ من بدنها صورةً تتميَّز بها عن غيرها، فإنها تتأثَّر وتنتقل عن البدن، كما يتأثَّر البدنُ وينتقل عنها. فيكتسبُ البدنُ الطيّبَ والخبيثَ من طيِّب النفس وخبيثها، وتكتسب النفسُ الطيِّب والخَبيثَ من طيِّب البدن وخبيثه (4). فأشدُّ الأشياء ارتباطًا وتناسبًا وتفاعلًا وتأثُّرًا من أحدهما بالآخر الروحُ والبدنُ. ولهذا يقال لها عند المفارقة: اخرُجي أيتها الروح (5) الطيبة كانت في الجسدِ الطيِّبِ، واخرُجي أيتها الروح الخبيثة كانت في الجسدِ الخبيث (6).
وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42]، فوصفَها بالتوفِّي والإمساك والإرسال، كما وصفَها بالدخولِ والخروجِ
(1) (أ، غ): «النفس كما سوى البدن».
(2) ساقط من (ب).
(3) (ن): موضوع لما هو له.
(4) كذا في جميع النسخ إلا (ن)، ففيها سقط واضطراب، فأثبتت مرة «الخبيث» وأخرى «الخبث».
(5) (ق): «النفس».
(6) سيأتي الحديث بتمامه في المسألة القادمة.
(1/109)
والرجوع والتسوية.
وقد أخبر النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أن بصرَ الميت يتبع نفسَه إذا قُبضت (1).
وأخبر أن الملك يَقبِضُها، فتأخذها الملائكةُ من يده، فيوجد لها كأطيبِ نفحةِ مسك وُجدت على وجه الأرض، أو كأنتن (2) ريحِ جِيفةٍ وُجدت على وجه الأرض (3). والأعراض لا ريحَ لها، ولا تُمسَك (4)، ولا تُؤخذ من يدٍ إلى يد.
وأخبر أنها تصعَدُ إلى السماء، ويصلِّي عليها كلُّ ملك لله بين السماء والأرض، وأنها تُفتح لها أبوابُ السماء، فتصعد من سماءٍ إلى سماء، حتى يُنتهَى بها إلى السماء التي فيها (5) الله عز وجل، فتوقفُ بين يديه، ويأمر بكتابةِ اسمه (6) في ديوان أهل عِلِّيِّين أو ديوان أهل سِجِّين، ثم تردُّ إلى الأرض. وأنّ روح الكافر تُطرح طرحًا، وأنها تدخل مع البدن في قَبرها للسؤال (7).
وقد أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن نَسَمةَ المؤمن ــ وهي روحه ــ طائرٌ يعلُقُ في شجر
(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم (920) وسيأتي نصه في المسألة التاسعة عشرة.
(2) (ن): «كأشرّ»، تصحيف.
(3) يشير إلى حديث البراء بن عازب، وهو حديث طويل سيأتي في أول المسألة القادمة.
(4) (ق): «مسك»، غلط.
(5) في (ق) طمس بعض القراء: «السماء التي فيها» وكتب مكانها: «بين يدي».
(6) ما عدا (أ، غ): «اسمها».
(7) كما في حديث البراء الطويل، وسيأتي بتمامه.
(1/110)
الجنة حتى يردَّها الله إلى جسدها (1).
وأخبر أن أرواح الشهداء في حواصل طيرٍ خضر ترِد أنهارَ الجنة وتأكلُ من ثمارها (2).
وأخبر أن الروحَ تُنَعَّم وتُعذَّب في البرزخ إلى يوم القيامة (3).
وقد أخبر سبحانه عن أرواح قومِ فرعونَ أنها تُعرض على النار غُدوًّا وعَشيًّا قبل يوم القيامة (4).
وقد أخبر سبحانه عن الشهداءِ بأنهم {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]. وهذه حياةُ أرواحهم، ورزقُها دارًّا (5)، وإلا فالأبدان قد تمزَّقتْ.
(1) أخرجه الإمام مالك في الموطأ (1/ 240) ومن طريقه النسائي (2072)، وابن ماجه (4271) والإمام أحمد (15778) من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه. وإسناده صحيح، وصححه ابن حبان (4657). (قالمي).
وسيأتي الحديث مع كلام مفصل عليه للمصنف في المسألة الخامسة عشرة.
(2) كما ورد في بعض روايات الأحاديث الآتية عن ابن مسعود وابن عباس.
(3) ستأتي الأحاديث الدالّة عليه في المسألة القادمة.
(4) يشير إلى قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46].
(5) كذا «دارًّا» في (أ، ب، ق، ج)؛ غير أن بعضهم ضرب على الألف في الأصل، وطمسها في (ب) ليكون مرفوعًا خبرًا للرزق. وفي (ز): «درًّا». ثم في (ب، ج): «دارًّا والأبدان» بحذف «وإلا». وفي (ن، غ): «رزقها وإلا فالأبدان» بحذف «دارًّا». ولعل هذا أقرب. ولا أستبعد أن تكون «وإلا» تحرفت إلى «دارا»، ثم أضيفت «وإلا» من نسخة أخرى. وفي (ط): «رزقها والأبدان» بحذف الاثنين.
(1/111)
وقد فسَّر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هذه الحياةَ بأنّ «أرواحَهم في جوف طيرٍ خُضْرٍ، لها قناديلُ مُعلَّقة بالعرش، تسرحُ في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل. فاطَّلع عليهم ربهم اطّلاعةً فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أيَّ شيء نشتهي؟ ونحن نسرحُ من الجنة حيث شئنا، ففعل (1) بهم ذلك ثلاثَ مرات، فلما رَأَوا أنهم لن (2) يُترَكوا من أن يسألوا قالوا: نريد أن تُرَدَّ أرواحُنا في أجسادنا، حتى نُقتَلَ في سبيلك مرةً أخرى» (3).
وصحَّ عنه – صلى الله عليه وسلم -: «أنّ أرواح الشهداء [25 أ] في طيرٍ خُضْر تَعْلُقُ من ثمر الجنة» (4). وتعلُق بضم اللام: أي تأكل العُلْقة (5).
وقال ابن عباس: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «لما أُصيب إخوانُكم بأُحد جعل الله أرواحَهم في أجوافِ طيرٍ خُضْر ترِدُ أنهارَ الجنة، وتأكلُ من ثمارها، وتأوي إلى قناديل (6) من ذهب في ظلِّ العرش. فلما وجدوا طيبَ مَشربهم ومأكلهم وحسنَ مَقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا، لئلا يزهَدوا في الجهاد، ولا ينكُلوا (7) عن الحرب. فقال الله عز وجل: أنا أُبلِّغهم
(1) (ب، ط، ن): «يفعل».
(2) (ب، ط، ن): «لم».
(3) أخرجه مسلم (1887) من حديث عبد الله بن مسعود.
(4) أخرجه الترمذي من حديث مالك بن أبي كعب (1641) وقال: حديث حسن صحيح.
(5) في هامش (ط): «العلقة: الشيء اليسير».
(6) (ن): «قناديل معلقة».
(7) (ن): «يتكلفوا»، تحريف.
(1/112)
عنكم. فأنزل الله تعالى على رسوله – صلى الله عليه وسلم -: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 169] الآيات». رواه الإمام أحمد (1).
وهذا صريحٌ في أكلها، وشربها، وحركتها، وانتقالها، وكلامِها. وسيأتي مزيدٌ لتقرير ذلك عن قرب (2) إن شاء الله تعالى.
وإذا كان هذا شأنَ الأرواح، فتميُّزُها بعد المفارقة يكون أظهرَ من تميُّز (3) الأبدان. والاشتباهُ بينها أبعد من اشتباهِ الأبدان، فإن الأبدانَ تشتبه كثيرًا، وأما الأرواح فقلَّما تَشتبه.
يوضِّح هذا أنَّا لم نشاهد أبدانَ الأنبياء والصحابة والأئمة، وهم متميِّزون في علمنا أظهرَ تميُّز، وليس ذلك التميُّز راجعًا إلى مجرَّد أبدانهم، وإن ذكر لنا من صفات أبدانهم ما يختصُّ به أحدُهم عن الآخر. بل التميُّز
(1) في المسند (2388) من طريق إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق، حدثني إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد، عن أبي الزبير المكي، عن ابن عباس.
ورواه أبو داود (2520)، وعبد الله بن أحمد في زيادته على المسند (2389)، وأبو يعلى (2331)، والحاكم (2/ 88، 297 ــ 298) من طريق عبد الله بن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فذكره.
قال ابن كثير في تفسيره (2/ 163): «وهذا أثبت» يعني بذكر سعيد بن جبير.
وقال الحاكم في الموضعين: «صحيح على شرط مسلم».
وحسنه ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (4/ 338)، والألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1379). (قالمي).
(2) (ب، ط، ن، ج): «عن قريب».
(3) (أ، غ): «تمييز».
(1/113)
الذي عندنا بما عَلِمناه وعَرَفناه من صفات أرواحهم وما قام بها. وتميُّزُ الروح عن الروح بصفاتها أعظمُ من تميُّز البدن عن البدن بصفاته. ألا ترى أن بدنَ المؤمن والكافر قد يشتبهانِ كثيرًا، وبين روحَيْهما أعظمُ التباين والتميُّز. وأنت ترى أخوين شقيقين مشتبهين في الخِلْقة (1) غاية الاشتباه، وبين روحَيْهما غايةُ التباين. فإذا تجردتْ هاتان الروحان كان تميُّزهما في غاية الظهور.
وأُخبركَ بأمرٍ إذا تأمَّلتَ أحوال الأنفس والأبدان شاهدتَه عِيانًا: قَلَّ أن ترى بدنًا قبيحًا وشكلاً شنيعًا إلا وجدتَه مُرَكَّبًا على نفسٍ تُشاكله وتناسبه، وقَلَّ أن ترى آفةً في بدن إلا وفي روح صاحبه آفةٌ تناسبها (2). ولهذا [25 ب] تأخذ أصحاب الفراسة أحوالَ النفوس من أشكال الأبدان وأحوالها، فقلَّ أن تخطئ (3) ذلك. ويُحكَى (4) عن الشافعي رحمه الله في ذلك عجائب (5).
وقلَّ أن ترى شكلاً حسنًا وصورةً جميلة وتركيبًا لطيفًا إلا وجدتَ الروح المتعلِّقةَ به مناسبةً له. هذا ما لم يُعارض ذلك ما يُوجِب خلافَه من تعلُّم وتدرُّب واعتياد.
وإذا كانت الأرواح العلوية ــ وهم الملائكة ــ متميزًا بعضهم عن بعض من غير أجسامٍ تحملهم، وكذلك الجن، فتميُّز الأرواح البشرية أولى.
(1) (ط): «الخلقة والصورة».
(2) «وقل أن ترى آفة … تناسبها» ساقط من (ق).
(3) (ب، ط): «يخطئ».
(4) (ب، ط، ن): «حكي».
(5) وقد حكى المصنف طائفة منها في مفتاح دار السعادة (3/ 251 ــ 253).
(1/114)
فصل
وأما (1) المسألة السادسة
وهي أنَّ الروح هل تُعاد إلى الميتِ في قبره وقتَ السؤال، أم لا تُعاد؟
فقد كفانا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – أمرَ هذه المسألة، وأغنانا عن أقوال الناس، حيث صرَّح بإعادة الروح إليه، فقال البراء بن عازب:
كنا في جنازة في بقيع الغَرْقد، فأتانا النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -، فقعد، وقعدنا حوله، كأنّ على رؤوسنا الطير، وهو يُلحَدُ له، فقال: «أعوذ بالله من عذاب القبر» ثلاث مرات. ثم قال: «إن العبدَ المؤمن (2) إذا كان في إقبالٍ من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزلت إليه الملائكة (3) كأنَّ وجوهَهم (4) الشمس، فجلسوا (5) منه مدَّ البصر. ثم يجيء ملكُ الموت حتى يجلِسَ عند رأسه، فيقول: أيتها النفسُ الطيِّبة، اخرُجي إلى مغفرةٍ من الله ورضوان».
قال: «فتخرُج تَسيل، كما تسيل القطرةُ من فِي السِّقاء، فيأخذُها. فإذا أخذَها لم يَدَعوها في يده طرفةَ عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحَنُوط، ويخرج منها كأطيبِ نفحةِ مسكٍ وُجدَتْ على وجه الأرض».
(1) «فصل وأما» لم يرد في (ن). ولم يرد «وأما» في (ز).
(2) «المؤمن» من (أ، غ).
(3) (ن): «ملائكة».
(4) (ب، ط، ن): «على وجوههم».
(5) (أ، ز، غ): «يجلسوا». (ق): «يجلسون».
(1/115)
قال: «فيصعَدون بها فلا يمرُّون بها ــ يعني: على ملأ من الملائكة ــ إلا قالوا: ما هذا الرُّوحُ الطيِّب؟ (1) فيقولون: فلانُ بن فلان ــ بأحسن أسمائه التي كانوا يُسمونه به (2) في الدنيا ــ حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيُفتَحُ له. فيُشيِّعه من كل سماء مقرَّبوها إلى السماء التي تليها، حتى يُنتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل (3)، فيقول الله عز وجل: اكتُبوا [26 أ]
(1) (ب، ط، ن، ج): «هذه الروح الطيبة».
(2) «به» ساقط من (ب، ط، م، ن).
(3) في (ن) بعد «فيها» فوق السطر: «أمر». يعني أن تأويل «فيها الله»: فيها أمر الله. وقد طغى بعض القراء فطمس في (م): «السماء التي فيها»، وكتب مكانها: «بين يدي»!
وفي (ط) طمس «فيها الله عز وجل» وكتب مكانها: «يسمع فيها الخطاب». وهذه جراءة غريبة على تغيير لفظ الحديث. وفي الحاشية العليا من (ق 29/ب) من هذه النسخة تعليق منقول من كتاب التذكرة للقرطبي يفيد أن معنى «فيها الله»: فيها أمر الله وحكمه. وفيها تعليق طويل استغرق الحاشيتين اليمنى والسفلى من الصفحة المذكورة، والسفلى واليسرى من (ق 30/أ). وهو بخط الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبابطين رحمه الله. أوله: «يا عجبا لمحرّف حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومغيِّر ألفاظه! كيف يصف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ربه بأنه في السماء كما في حديث البراء المذكور، وكذلك حديث أبي هريرة الموافق لحديث البراء في إثبات الله سبحانه بأنه في السماء، وكذلك حديث الرقية المرفوع، وكذلك قوله للجارية: أين الله؟ قالت: في السماء= فهذا أعلم الأمة بربه وأخشاهم يصف ربه بأنه في السماء ويشهد لمن وصفه بذلك بالإيمان، ونقل الصحابة ألفاظه للتابعين، ونقلها التابعون وبلّغوها لمن بعدهم كما سمعوها، وتداولها أهل الحديث وأئمة الإسلام، وأثبتوها في كتبهم وأقرُّوها على ظاهرها، وقالوا: أمِرّوها كما جاءت، وقالوا: تفسيرها قراءتها. فلمّا لم يتسع عطن هذا المعطِّل لذلك حمله تعطيله وجهله على أن غيَّر لفظ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وحرَّفه. ولم يكتف بتغيير معناه مع إقرار لفظه كما يفعله الكثير كقول القرطبي في تأويل هذا الحديث. فلهذا المحرّف أوفر نصيب من مشابهة اليهود الذين يحرفون الكلم عن مواضعه. ففيه تصديق قوله – صلى الله عليه وسلم -: «لتتبعن سنن من كان قبلكم».
ثم ردّ على تأويل القرطبي وغيره بأنه «باطل قطعًا فإن أمرَه وحكمه لا يختص بسماء دون سماء ولا بالسماء دون الأرض … ومن توهم من قوله: إنه سبحانه في السماء أنه سبحانه داخل السماوات فهو جاهل ضال. وليس هذا بمراد من اللفظ ولا ظاهر فيه، إذ السماء يراد بها العلو، فكلُّ ما علا فهو سماء سواء كان فوق الأفلاك أو تحتها … إلخ.
(1/116)
كتابَ عبدي في علِّيِّين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتُهم، وفيها أُعيدهم، ومنها أخرجهم (1) تارة أخرى» (2).
قال: «فتُعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان، فيُجلسانه، فيقولان له: من ربُّك؟ فيقول: ربِّي الله. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلامُ. فيقولان له: ما هذا الرجلُ الذي بُعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله. فيقولان له: وما عِلْمُك؟ فيقول: قرأتُ كتاب الله، فآمنتُ به، وصدَّقت. فينادي منادٍ من السماء أن: صدَق عبدي، فأفرِشوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة».
قال: «فيأتيه من ريحها (3) وطِيبها، ويُفسَح له في قبره مدَّ بصره».
قال: «ويأتيه رجل حسنُ الوجه حسنُ الثياب طَيِّبُ الريح، فيقول: أبشِرْ بالذي يسُرُّك، هذا يومُك الذي كنت تُوعَد. فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجهُ يجيء بالخير! فيقول له: أنا عملُك الصالح. فيقول: ربِّ أقم الساعة، حتى أَرجع إلى أهلي ومالي».
(1) (ن): «خلقته، أعيده، أخرجه» بضمير الإفراد.
(2) (ب، ط): «قال قال».
(3) (ب، ط، ن، ج): «روحها».
(1/117)
قال: «وإنَّ العبدَ الكافر إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكةٌ سُودُ الوجوه، معهم المُسُوح (1)، فيجلسون منه مدَّ البصر. ثم يجيء ملكُ الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفسُ الخبيثة اخرُجي إلى سَخَطٍ من الله وغَضَب».
قال: «فتَفرَّق في جسده، فينتزعها، كما يُنتزَع السَّفُّود من الصوف المبلول، فيأخذها. فإذا أخذَها لم يدَعوها في يده طرفةَ عين حتى يجعلوها في تلك المُسوح، ويخرج منها كأنتنِ ريح جيفةٍ وُجدت على وجه الأرض. فيصعَدون بها فلا يمرُّون بها (2) على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الرُّوحُ الخبيث؟ فيقولون: فلانُ بن فلان ــ بأقبحِ أسمائه التي كان يُسمى بها في الدنيا ــ حتى يُنتهى بها (3) إلى السماء الدنيا، فيُستفتح له (4) فلا يُفتَح له».
ثم قرأ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]، فيقول الله عز وجل: اكتُبوا كتابَه في سِجِّين في الأرض السُّفلى، فتُطرح روحُه طرحًا». ثم قرأ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31].
فتعاد روحُه في جسده، ويأتيه ملكان، فَيُجلِسانه، فيقولان له: من ربُّك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري. فيقولان له: ما هذا الرجلُ الذي بُعِث فيكم؟
(1) جمع المِسْح، وهو الكساء من الشعر.
(2) (ن): «فلا تمرّ».
(3) (ق، ج): «به».
(4) (ط): «لها».
(1/118)
فيقول: هاه، هاه، لا أدري. فينادي منادٍ من السماء: أن: كَذَب، فأفرِشوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار. فيأتيه من حرِّها وسَمُومها، ويُضيَّق عليه قبرُه حتى تختلِفَ فيه أضلاعُه. ويأتيه رجلٌ قبيح الوجه قبيح الثياب مُنتِنُ الريح، فيقول: أبشِرْ بالذي يَسوءك! هذا يومك الذي كنت تُوعَد. فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجهُ يجيء بالشر. فيقول: أنا عملك الخبيثُ. فيقول: ربِّ (1) لا تُقِم الساعة».
رواه الإمام أحمد، وأبو داود. وروى النسائي وابن ماجه أوله. ورواه أبو عوانة الإسفراييني في «صحيحه» (2).
(1) (ب، ط): «ربّي».
(2) أخرجه أبو داود (4753)، وأبو داود الطيالسي (789)، وعبد الرزاق (6737)، والإمام أحمد (18534)، وأبو عوانة في صحيحه كما في إتحاف المهرة (2/ 459)، والحاكم (1/ 37 ــ 39)، والبيهقي في شعب الإيمان (395) بطوله، بعضهم يزيد على بعض.
وأخرج بعضه النسائي (2001)، وابن ماجه (1549)، وابن خزيمة في التوحيد (175، 176)، كلهم من طريق المِنهال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء بن عازب.
وصحَّح إسناده البيهقي، والبوصيري في إتحاف الخيرة المهرة (2/ 438).
وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجا جميعًا بالمنهال بن عمرو، وزاذان أبي عمر الكندي. وفي هذا الحديث فوائد كثيرة لأهل السنة وقمع للمبتدعة».
كذا قال رحمه الله، وإنما زاذان من رجال مسلم وحده، والمنهال من رجال البخاري وحده.
وصحَّحه المؤلف. كما سيأتي، وردّ على من طعن فيه، وكذا فعل في تهذيب مختصر سنن أبي داود (4586) ونقل فيه تصحيح أبي نعيم أيضًا وتحسين أبي موسى المديني له. (قالمي).
(1/119)
وذهب إلى القول بموجب هذا الحديثِ جميعُ أهل السنَّة والحديث من سائر الطوائف.
وقال أبو محمد بن حزم في كتاب «الملل والنحل» له (1): وأما من ظنَّ أن الميتَ يحيا في قبره قبل يوم القيامة، فخطأ؛ لأنّ (2) الآيات التي ذكرنا تمنع من ذلك. يعني قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11]، وقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28].
قال: ولو كان الميتُ يَحيا في قبره لكان تعالى قد أماتنا ثلاثًا وأحيانا ثلاثًا. وهذا باطلٌ، وخلافُ القرآن، إلا من أحياه اللهُ تعالى آيةً لنبيٍّ من الأنبياء و (3) {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: 243]، والذي {مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة: 259]، ومن خصَّه نصٌّ.
وكذلك قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42] فصحَّ بنصِّ القرآن أن أرواحَ سائر من ذكرنا لا ترجع إلى جسده
(1) الفصل في الملل والنحل (4/ 56 ــ 57). وهنا زيادات لم ترد في المطبوع منه.
(2) (م): «إذ». (أ، غ): «إن).
(3) كذا بواو العطف في جميع النسخ والملل والنحل (طبعة الخانجي) معطوفًا على «من أحياه». وقد حذفوها في بعض طبعات الملل. وفي المحلى (1/ 22): «كمن أحياه عيسى عليه السلام وكل من جاء فيه بذلك نصّ».
(1/120)
إلا إلى الأجل المسمَّى، وهو يوم القيامة.
وكذلك أخبر رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – أنه رأى الأرواحَ ليلةَ أُسري به عند سماء الدنيا: من عن يمين [27 أ] آدمَ أرواحُ أهل السعادة، وعن شماله أرواحُ أهل الشقاء (1).
وأخبر يومَ بدر إذ خاطب الموتى أنهم قد سمعوا قولَه قبل أن تكون لهم قبورٌ، ولم يُنكِر على الصحابة قولَهم: «قد جَيَّفوا»، وأعلَمَ أنهم سامعون قولَه مع ذلك (2). فصحَّ أن الخطاب والسَّماع لأرواحهم فقط بلا شكّ، وأما الجسد فلا حِسَّ له.
وقد قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22]، فنفى السمعَ عمن في القبور، وهي الأجساد بلا شك، ولا يشكُّ (3) مسلمٌ أنّ الذي نفى الله عزَّ وجلَّ عنه السمعَ هو غيرُ الذي أثبت له رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – السمع (4).
قال: ولم يأتِ قطُّ عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في خبرٍ صحيح أن أرواحَ الموتى تُرَدُّ إلى أجسادهم عند المسألة (5)، ولو صحَّ ذلك عنه لقلنا به.
(1) (ط، ز): «الشقاوة». وانظر حديث الإسراء عن أنس في صحيح البخاري (349) وصحيح مسلم (163).
(2) تقدم تخريجه في أول الكتاب (ص 7).
(3) (م): «فلا يشك».
(4) هذه الفقرة «وقد قال تعالى … السمع» لم ترد في النسخ المطبوعة من الملل.
(5) هذا في (أ، غ) والملل والنحل (طبعة الخانجي). وفي النسخ الأخرى: «المسايلة»، وكذا في بعض طبعات الملل والنحل أيضًا، وكلاهما صحيح.
(1/121)
قال: وإنما تفرَّد بهذه الزيادة من رَدِّ الأرواحِ في القبور إلى الأجساد المِنهالُ بن عمرو وحده، وليس بالقوي، تركه شعبة (1) وغيره. وقال فيه المغيرة بن مِقْسَم (2) الضبِّي ــ وهو أحد الأئمة ــ: ما جازتْ للمِنهال بن عمرو قطُّ شهادةٌ في الإسلام على باقة بَقْل! (3).
وسائرُ الأخبار الثابتة على خلاف ذلك.
قال: وهذا (4) الذي قلنا (5) هو الذي صحَّ أيضًا عن الصحابة.
(1) (أ، غ، ز): «سعيد»، تحريف.
(2) ضبط في (ط، ق) بضم الميم، وفي (ق، ن) بتثقيل السين، ولعل الناسخ ظن علامة الإهمال شدّة. والصواب بكسر الميم وفتح السين كما أثبتنا.
(3) في جمع النسخ الخطية والمطبوعة: «على ما قد نقل». و «ما قد نقل» تحريف ما أثبتنا. ونقله الآلوسي في الآيات البينات (83) على الصواب.
ولم أجد قول المغيرة هذا. والذي نُقل عنه في تهذيب التهذيب (10/ 320) وغيره أنه قال ليزيد بن أبي زياد: نشدتك بالله تعالى هل كانت تجوز شهادة المنهال على درهمين؟ قال: اللهم، لا.
نعم، نقل ابن القيم في تهذيب السنن (1/ 134) أن ابن حزم كان يقول: لا يُقبل في باقة بقل. وانظر: بيان الوهم والإيهام (3/ 362).
و «باقة بقل» مثل للشيء الحقير. في ترجمة واصل بن عطاء المعتزلي أنه كان يتوقف في عدالة أصحاب الجمل ويقول: «إحدى الطائفتين فسقت لا بعينها، فلو شهد عندي علي وعائشة وطلحة على باقة بقل لم أحكم بشهادتهم». لسان الميزان (6/ 215).
هذا، والعبارة «وقال فيه المغيرة … بقل» لم يرد في النسخ المطبوعة من كتاب الملل والنحل.
(4) (ب، ط، ج): «وهذا الحديث». والظاهر أنّ كلمة «الحديث» مقحمة.
(5) (ن): «قلناه».
(1/122)
ثم ذكرَ من طريق ابن عُيينة، عن منصور بن صفيةَ، عن أُمِّه صفيةَ بنت شيبة قالت: دخل ابن عمرَ المسجدَ فأبصر ابنَ الزبير مطروحًا قبل أن يُصلبَ (1)، فقيل له: هذه أسماء بنت أبي بكر الصديق. فمال ابن عمر إليها، فعزَّاها، وقال: إنّ هذه الجُثثَ ليست بشيء، وإنّ الأرواحَ عند الله. فقالت أمه: وما يمنعني، وقد أُهدي رأسُ يحيى بن زكريا إلى بَغيٍّ من بغايا بني إسرائيل (2)!
قلت: وما ذكره أبو محمد فيه حقٌّ وباطلٌ. أما قوله: من ظنَّ أنّ الميت يحيا في قبره فخطأ؛ فهذا فيه إجمالٌ إن أراد به الحياةَ المعهودة في الدنيا التي تقوم فيها الروحُ بالبدن، وتدبِّره وتصرِّفه ويحتاج معها إلى الطعام والشراب [27 ب] واللِّباس، فهذا خطأ كما قال، والحِسُّ والعقل يُكذِّبه كما يُكذِّبه النصُّ.
وإن أراد به حياةً أخرى غيرَ هذه الحياة، بل تُعاد الروحُ إليه إعادةً غير الإعادة المألوفة في الدنيا، ليُسأل ويُمتحن في قبره= فهذا حقٌّ، ونَفيُه خطأ. وقد دلَّ عليه النصُّ الصحيح الصريح، وهو قوله: «فَتُعاد روحُه في جسده».
وسنذكر الجوابَ عن تضعيفه للحديث (3) إن شاء الله.
وأما استدلاله بقوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ}
(1) (ط، م): «يغلب»، تحريف. وزاد في (ب) قبله: «يدفن».
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنَّف (31317، 32567، 38483). وعزاه السيوطي في شرح الصدور (270) إلى المصنف وإلى كتاب العزاء لابن أبي الدنيا. وانظر: المحلى (1/ 22).
(3) انظر (ص 137).
(1/123)
[غافر: 11] فلا ينفي ثبوتَ هذه الإعادةِ العارضة للروح في الجسد للمساءلة (1). كما أنَّ قتيلَ بني إسرائيل الذي أحياه الله بعد قتله ثم أماتَه، لم تكن تلك الحياةُ العارضة له مُعتدًّا بها، فإنه حَيِيَ لحظةً بحيث قال: فلانٌ قتلني، ثمَّ خرَّ ميتًا. على أن قوله: «ثم تُعاد روحُه في جسده» لا يدلُّ على حياة مستقرة، وإنما يدلُّ على إعادةٍ لها إلى البدن وتعلُّقٍ به. والرّوحُ لم تزل متعلقةً ببدنها، وإن بَلِي، وتمزَّق. وسِرُّ ذلك أنَّ الروح لها بالبدن خمسةُ أنواع من التعلُّق متغايرةُ الأحكام (2):
أحدها: تعلُّقها به في بطن الأمِّ جنينًا (3).
الثاني: تعلُّقها به (4) بعد خروجه إلى وجهِ الأرض.
الثالث: تعلُّقها به في حال النوم، فلها به تعلُّقٌ من وجه، ومفارقةٌ من وجه.
الرابع: تعلُّقها به في البرزخ، فإنها وإن فارقته وتجردَتْ عنه فإنها لم تُفارقْه فراقًا كليًّا بحيث لا يبقى لها التفات (5) إليه البتة. وقد ذكرنا في أول الجواب من الأحاديث والآثار ما يدلُّ على ردِّها إليه وقتَ سلام المسلِّم، وهذا الردُّ إعادةٌ خاصة لا تُوجِب حياةَ البدن قبل يوم القيامة.
(1) رسمها في النسخ: «للمسايلة». وفي (م): «للمسألة».
(2) هذه الأنواع الخمسة وكلام المصنف عليها نقلها بنصها ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية (395) دون الإشارة إلى ابن القيم.
(3) «جنينًا» ساقط من (ب، ط، ج).
(4) «به» ساقط من (ن).
(5) (ن): «النقل»، تحريف.
(1/124)
الخامس: تعلُّقها به يومَ بعث الأجساد. وهو أكملُ أنواع تعلُّقها بالبدن، ولا نسبة (1) لما قبله من أنواع التعلُّق إليه؛ إذ هو تعلُّقٌ لا يقبل البدنُ معه موتًا ولا نومًا ولا فسادًا.
وأما قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42] فإمساكُه سبحانه [28 أ] التي قضى عليها الموتَ لا يُنافي ردَّها إلى جسد الميت في وقتٍ ما ردًّا عارضًا لا يوجب له الحياةَ المعهودة في الدنيا. وإذا كان النائم روحُه في جسده، وهو حيٌّ، وحياتُه غير حياة المستيقظ، فإنَّ النوم شقيقُ الموت؛ فهكذا الميتُ إذا أعيدت روحُه إلى جسده كانت له حالٌ متوسطةٌ بين الحيِّ وبين الميِّت الذي لم تُرَدَّ روحُه إلى بدنه، كحال النائمِ المتوسطة بين الحيِّ والميت. فتأمَّلْ هذا يُزيح (2) عنك إشكالاتٍ كثيرة.
وأمَّا إخبارُ النبي – صلى الله عليه وسلم – عن رؤية الأنبياء ليلةَ أُسرِي به، فقد زعم بعضُ أهل الحديث (3) أنَّ الذي رآه أشباحهم وأرواحهم. قال: فإنهم أحياءٌ عند ربهم يُرزقون. وقد رأى إبراهيمَ مُسنِدًا ظهرَه إلى البيت المعمور (4)، ورأى موسى قائمًا في قبره يُصلِّي (5). وقد نعتَ الأنبياءَ لما رآهم بنعت الأشباح، فرأى
(1) في (ط): «ولا يشبه»، تصحيف. ولما أشكل «إليه» الآتية غيَّره الناسخ أو غيرُه: «البتة».
(2) كذا في جميع النسخ. وسيأتي نحوه في (ص 186) وفي شرح الطحاوية: «يُزِحْ»، مجزوم لأنه جواب الطلب.
(3) (أ، غ): «الخبرة»، تحريف.
(4) كما في حديث أنس، أخرجه مسلم في الإيمان (162).
(5) كما في حديث أنس، أخرجه مسلم في فضائل موسى (2375).
(1/125)
موسى آدمَ ضَرْبًا طُوالاً كأنه من رجال شَنوءةَ (1)، ورأى عيسى يقطُر رأسُه كأنما خرج من دِيماس (2)، ورأى إبراهيمَ فشبَّهه بنفسه (3).
ونازعهم في ذلك آخرون، وقالوا: هذه الرؤية إنما هي لأرواحهم دون أجسادهم، والأجسادُ في الأرض قطعًا، إنما تُبعَث يوم تُبعَث (4) الأجساد. ولم تُبعثْ قبل ذلك، إذ لو بُعثت قبل ذلك لكانت قد انشقَّتْ عنها الأرض قبل يوم القيامة، وكانت تذوقُ الموتَ عند نفخة الصور. وهذه موتة ثالثة، وهذا باطل قطعًا.
ولو كانت قد بُعثت الأجسادُ من القبور لم يُعِدْهم الله إليها، بل كانت في الجنة. وقد صحَّ عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: أنَّ الله حرَّم الجنَّةَ على الأنبياء حتى يدخُلَها هو (5). وهو أولُ من يستفتح بابَ الجنة (6)، وأولُ من تنشقُّ عنه الأرض، لم تنشقَّ عن أحد قبله (7).
ومعلومٌ بالضرورة أن جسدَه – صلى الله عليه وسلم – في الأرض طريٌّ مُطَرًّى. وقد سأله
(1) انظر حديث ابن عباس في البخاري (3239) ومسلم (165)، وحديث أبي هريرة في البخاري (3394) وحديث جابر في مسلم (167). والضَّرْب: الخفيف اللحم.
(2) يعني: الحمام. وجاء وصف عيسى بهذا في حديث أبي هريرة في صحيح البخاري (3394) وصحيح مسلم (168).
(3) انظر الحديث السابق.
(4) (ق): «بعث».
(5) انظر حديث أنس في صحيح مسلم (197).
(6) انظر حديث أنس في صحيح مسلم (196).
(7) انظر حديث أبي سعيد في صحيح البخاري (2412).
(1/126)
الصحابةُ: كيف تُعرَض صلاتنا عليك، وقد أَرِمتَ؟ فقال (1): «إنّ الله حرَّم على الأرض أن تأكلَ أجساد الأنبياء» (2). ولو لم يكن جسده في ضريحه لما أجاب بهذا الجواب. وقد صحَّ عنه أنَّ الله وكَّلَ بقبره ملائكةً يُبلِّغونه عن أمته السلام (3). وصحَّ عنه أنه خرج بين أبي بكر وعمرَ، وقال: «هكذا [28 ب] نُبعَث» (4). هذا مع القطع بأنَّ روحَه الكريمةَ في الرفيق الأعلى في أعلى عِلِّيِّين مع أرواح الأنبياء.
وقد صحَّ عنه أنه رأى موسى قائمًا يُصلِّي في قبره ليلةَ الإسراء، ورآه في السماء السادسة أو السابعة (5). فالروح كانت هناك، ولها اتصالٌ بالبدن في
(1) (ب، ط، ن): «قال».
(2) سبق تخريجه في المسألة الرابعة (ص 102).
(3) أخرجه النسائي (1282)، والإمام أحمد (4210، 4320)، وأبو يعلى (5213) وعنه ابن حبان (914)، والحاكم (2/ 421) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. وقال الحاكم: «صحيح الإسناد» وهو كما قال. وصححه المصنف في جلاء الأفهام (55)، وانظر أيضًا (532). (قالمي).
(4) أخرجه الترمذي (3669) وابن ماجه (99)، وابن أبي عاصم في السنة (1418)، والبزار (5852)، والحاكم (3/ 68) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وفي سنده سعيد بن مسلمة بن هشام بن عبد الملك بن مروان الأموي، متفق على ضعفه. انظر: تهذيب التهذيب (4/ 83).
وبه أعله الترمذي فقال عقب الحديث: «حديث غريب، وسعيد بن مسلمة ليس عندهم بالقوى». وسكت عنه الحاكم، فتعقبه الذهبي بقوله: «سعيد ضعيف». (قالمي).
(5) مرَّ آنفًا.
(1/127)
القبر، وإشرافٌ (1) عليه، وتعلُّقٌ به؛ بحيث يُصلِّي في قبره، ويردُّ سلامَ من سلَّم عليه، وهي (2) في الرفيق الأعلى.
ولا تنافي بين الأمرين، فإن شأنَ الأرواح غير شأن الأبدان. وأنت تجد الروحين المتلائمتين المتناسبتين في غاية التجاور والقرب، وإن كان بين بدنيهما بُعْدُ المشرقين. وتجد الروحين المتنافرتين (3) المتباغضتين بينهما غاية البُعد، وإن كان جسداهما متجاورين متلاصقين.
«وليس نزول الروح وصعودها وقربها وبعدها من جنس ما للبدن، فإنها تصعَد إلى فوق السموات، ثم تهبط إلى الأرض ما بين قبضها ووضعِ الميت في قبره. وهو زمن يسير لا يصعَد البدن وينزل في مثله. وكذلك صعودها وعَوْدها إلى البدن في النوم واليقظة. وقد مثَّلها بعضهم بالشمس وشعاعها؛ فإنها في السماء، وشعاعُها (4) في الأرض» (5).
قال شيخنا: «وليس هذا مثالاً مطابقًا، فإنَّ نفسَ الشمس لا تنزِل من السماء، والشُّعاع الذي على الأرض ليس هو الشمسَ ولا صفتَها، بل هُو عرضٌ حصل بسبب الشمس والجِرم المقابل لها. والروح نفسها تصعَد وتنزِل» (6).
(1) (ن): «إشراق»، تصحيف.
(2) (ط): «وهو».
(3) (أ، غ): «المتفارقتين».
(4) «فإنما … شعاعها» ساقط من (ن).
(5) هذه الفقرة منقولة من شرح حديث النزول لشيخ الإسلام ابن تيمية. انظر: مجموع الفتاوى (5/ 437 ــ 438).
(6) المصدر السابق.
(1/128)
وأما قولُ الصحابة للنبي – صلى الله عليه وسلم – في قتلى بدر: «كيف تخاطب أمواتًا قد جَيَّفوا؟» (1) مع إخباره بسماعهم (2) كلامَه، فلا ينفي ذلك ردَّ أرواحهم إلى أجسادِهم ذلك الوقتَ ردًّا يسمعون به خطابه، والأجساد قد جَيَّفت، فالخطاب للأرواح المتعلّقة بتلك الأجساد التي قد فسدت.
وأما قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] فسياقُ الآية يدلُّ على أنَّ المرادَ منها: أنَّ الكافرَ مَيِّتُ القلب، لا يقدرُ على إسماعه سماعًا ينتفع به، كما أنَّ مَن في القبور لا يقدر (3) على إسماعهم سماعًا ينتفعون به. ولم يُرِدْ [29 أ] سبحانه أنَّ أصحابَ القبور لا يسمعون شيئًا البتة. كيف وقد أخبر النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أنهم يسمعون خفقَ نِعال المشيِّعين، وأخبر أن قتلى بدر سمعوا كلامَه وخطابَه، وشرعَ السلامَ عليهم بصيغة الخطاب للحاضر الذي يسمع، وأخبر أنَّ من سلَّم على أخيه المؤمن ردَّ عليه السلام (4)؟ وهذه الآية نظيرُ قوله: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل: 80].
وقد يقال: نفيُ إسماعِ الصُّمِّ مع نفي إسماعِ الموتى يدلُّ على أنَّ المرادَ عدمُ أهليّة كلٍّ منهما للسماع. وأنَّ قلوبَ هؤلاء لما كانت ميتةً صُمًّا (5) كان إسماعها ممتنعًا بمنزلة خطاب الميِّت والأصمِّ. وهذا حقٌّ، ولكن لا ينفي
(1) تقدم في أول الكتاب (ص 7).
(2) (ب، ج): «إنكاره لسماعهم».
(3) (ط): «يقدرون».
(4) الأحاديث المذكورة قد سبق تخريجها في أول الكتاب.
(5) في معظم النسخ ضبط بتنوين الميم.
(1/129)
إسماعَ الأرواح بعد الموت إسماعَ توبيخٍ وتقريع، بواسطة تعلّقها بالأبدان في وقت ما، فهذا غير الإسماع المنفي (1). والله أعلم.
وحقيقةُ المعنى: إنك لا تستطيع أن تُسمِعَ من لم يشأ (2) الله أن يُسمعَه. إن أنت إلا نذير، أي: إنما جعل الله لك الاستطاعةَ على الإنذار الذي كلَّفك إياه، لا على إسماع من لم يشأ الله إسماعَه.
وأما قوله: إن الحديث لا يصحُّ لتفرُّدِ المِنهال بن عمرو وحده به (3)، وليس بالقوي؛ فهذا من مجازفته رحمه الله (4). فالحديث صحيحٌ، لا شكَّ فيه. وقد رواه عن البراء بن عازب جماعة غير زاذان، منهم: عَدي بن ثابت، ومحمدُ بن عقبة، ومجاهد.
قال الحافظ أبو عبد الله بن منده في كتاب «الروح والنفس» (5): أخبرنا محمد بن يعقوب بن يوسف، ثنا محمد بن إسحاق الصغاني (6)، أنا أبو النضر هاشمُ بن القاسم، ثنا عيسى بن المسيب، عن عَدِي بن ثابت، عن
(1) وانظر: مجموع الفتاوى (24/ 364).
(2) (أ، غ): «لو يشاء».
(3) «به» من (ط).
(4) سيأتي الردّ على تضعيف المنهال.
(5) وقد نقله منه شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (5/ 442 ـــ 444).
(6) في جميع النسخ الخطية والمطبوعة: «الصفار». وهو تحريف. والصواب ما أثبتنا من الفتاوى. وقد ولد محمد بن إسحاق الصفار سنة 289، وتوفي سنة 371. (تاريخ بغداد 1/ 260، سير أعلام النبلاء 16/ 299). وقد توفي محمد بن يعقوب بن يوسف وهو أبو العباس الأصم سنة 277، فكيف يحدث عن الصفار؟
(1/130)
البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في جِنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولمَّا يُلحَدْ. فجلس، وجلسنا حوله (1) كأنَّ على أكتافنا فِلَقَ الصخر، وعلى رؤوسنا الطير. فأرَمَّ (2) قليلاً ــ والإرمام: السكوت ــ فلما رفع رأسه قال:
«إن المؤمنَ إذا كان في قُبُل [29 ب] من الآخرة، ودُبُر من الدنيا، وحضره ملكُ الموت؛ نزلت (3) عليه ملائكةٌ معهم كفن من الجنة، وحَنوط من الجنة، فجلسوا منه مدَّ البصر. وجاء ملَك الموت، فجلس عند رأسه، ثم قال: اخرجي أيتها النفس المطمئنة، اخرُجي إلى رحمة الله ورضوانه. فتسيل نفسُه كما تقطُر القطرة من السِّقاء. فإذا خرجتْ نفسه صلَّى عليه كلُّ من بين السماء والأرض (4) إلا الثقلين. ثم يصعَد به إلى السماء، فتُفتح له السماء (5). ويُشيِّعه مقرَّبوها إلى السماء الثانية والثالثة والرابعة والخامسة
(1) «حوله» من (ن). وفي (ق): «فجلسنا وجلس».
(2) «أرمَّ» و «الإرمام» في جميع النسخ الخطية والمطبوعة بالزاي، وهو تصحيف من النسَّاخ. ولعلهم ظنّوا علامة الإهمال في أصولهم نقطة. وفي (ط) حاشية نصّها: «قال في المجمل: الأزم: الإمساك، في الزاي مع الميم». وذهب على المحشي أنّ التصريح بمصدره في الحديث قاطع بأنه من (ر م م)، لا من (أزم). نعم، يروى في حديث آخر: «فأرمَّ القومُ»، و «فأَزَم … » النهاية (2/ 267). ولكن راوي حديثنا نصّ بذكر المصدر على أن الفعل هنا بالراء.
(3) (ب، ط، ز): «نزل». وفي (ز) بعد «عليه» زيادة: «من السماء».
(4) (ن): «كل شيء بين … ». وفي مجموع الفتاوى: «كل ملك». وفي (ز): «كل شيء في … ». وفي (ب، ط، ج): «كل شيء بين الأرض والسماء».
(5) «السماء» لم يرد في (ن).
(1/131)
والسادسة والسابعة إلى العرش: مقرَّبو كلِّ سماء (1).
فإذا انتهى إلى العرش كُتِبَ كتابُه في عِلِّيين، ويقول الربُّ عز وجل: رُدُّوا عبدي إلى مَضْجَعه، فإني وعدتُهم أنِّي منها خلقتهم، وفيها أُعيدهم، ومنها أُخرجهم تارةً أخرى. فيُرَدُّ إلى مضجعه، فيأتيه منكرٌ ونكيرٌ يُثيران الأرض بأنيابهما، ويفحصان الأرضَ بأشعارهما، فيجلسانه، ثم يقال له: يا هذا، مَنْ ربُّك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان: صدقتَ. ثم يقال له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان: صدقتَ. ثم يقال له (2): من نبيُّك؟ فيقول: محمدٌ رسول الله. فيقولان: صدقتَ.
ثم يُفسَح له في قبره مدَّ بصرِه، ويأتيه رجلٌ حسن الوجه، طيِّبُ الريح، حسن الثياب، فيقول: جزاكَ الله خيرًا، فوالله ــ ما علمتُ ــ إن كنتَ لسريعًا في طاعةِ الله، بطيئًا عن معصية الله. فيقول: وأنت جزاك الله خيرًا، فمن أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح (3). ثم يُفتح له بابٌ إلى الجنة، فينظر إلى مقعدِه ومنزله منها حتى تقومَ الساعة.
وإنّ الكافر إذا كان في دُبُرٍ من الدنيا وقُبُلٍ من الآخرة، وحضره الموت؛ نزلتْ عليه من السماء ملائكةٌ معهم كفن من نار، وحَنُوطٍ من نار. قال: فيجلسون منه مدَّ بصرِه، وجاء ملكُ الموت، فجلس عند رأسه، ثم قال: اخرُجي أيتها النفسُ الخبيثة، اخرُجي إلى غضب الله وسَخَطه. فتتفرَّق (4)
(1) «مقربو كل سماء» لم يرد في (ن).
(2) «له» ساقط من (ط، ج، ن).
(3) «الصالح» ساقط من (ن).
(4) (ب، ط): «فتفرّق». وفي (ق): «تفترق»، تصحيف.
(1/132)
روحه في جسده كراهية أن [30 أ] تخرج لما تَرى وتُعاين. فيستخرجها، كما يُستخرج السَّفُّود من الصوف المبلول. فإذا خرجت نفسُه لَعنه كل شيء بين السماء والأرض إلا الثقلين.
ثم يُصعَد به إلى السماء، فتُغلَق دونه. فيقول الربُّ: رُدُّوا عبدي إلى مضجعه، فإنّي وعدتُهم أنّي منها خلقتهم، وفيها أُعيدهم، ومنها أُخرجهم تارةً أخرى؛ فتُرَدُّ روحه إلى مضجعه. فيأتيه منكرٌ ونكيرٌ يبتدرانِ (1) الأرض بأنيابهما، ويفحصان الأرض بأشعارهما، أصواتُهما كالرعد القاصف، وأبصارُهما كالبرق الخاطف. فيُجلسانه، ثم يقولان: يا هذا، مَنْ ربُّك؟ فيقول: لا أدري، فينادَى من جانب القبر: لا دريتَ! فيضرِبانه بمِرزَبَّةٍ (2) من حديد لو اجتمع عليها مَن بين الخافقين لم تُقَلَّ، ويُضيَّق عليه قبرُه حتى تختلفَ أضلاعُه. ويأتيه رجلٌ قبيحُ الوجه، قبيحُ الثياب، مُنتن الريح؛ فيقول: جزاك الله شرًّا! فوالله ــ ما علمت ــ إن كنتَ لبطيئًا عن طاعةِ الله سريعًا في معصيةِ الله. فيقول: ومن أنت؟ فيقول: أنا عملُكَ الخبيثُ. ثم يُفتح له بابٌ (3) إلى النار، فينظر إلى مقعده فيها حتى تقوم الساعةُ» (4). رواه الإمام أحمد
(1) كذا في (أ، ق، غ). وفي غيرها: «يثيران».
(2) ضبط في (ط) بتشديد الباء، ويجوز بتخفيفها. والمرزبة: المطرقة الكبيرة.
(3) في (أ، ن، غ): «بابًا».
(4) في إسناده عيسى بن المسيب البجلي الكوفي قاضيها ضعيف؛ ضعَّفه ابن معين والنسائي والدارقطني وغيرهم. له ترجمة في لسان الميزان (4/ 405).
وحديثه يصلح في المتابعات ولأجل ذلك ساق المؤلف حديثه هنا. وعزوه للإمام أحمد فلعله في غير المسند فإني لم أره فيه. (قالمي).
(1/133)
ومحمود بن غيلان وغيرهما عن أبي النضر (1).
ففيه أنَّ الأرواح تُعاد إلى القبر، وأنَّ الملَكين يُجلِسان الميِّتَ ويَستنطقانه.
ثم ساقه ابن مَنْده من طريق محمد بن سلَمةَ، عن خُصَيفٍ الجَزَري (2)، عن مجاهد، عن البراء بن عازب قال: كنا في جِنازة رجلٍ من الأنصار، ومعنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فانتهينا إلى القبر، ولم يُلحَد (3)، ووُضعت الجنازة. وجلس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (4) فقال: «إنّ المؤمنَ إذا احتُضِرَ أتاه ملَكٌ في أحسن صورةٍ وأطيبه ريحًا، فجلس عنده لقبضِ روحه، وأتاه ملكان بِحَنوطٍ من الجنة وكفنٍ من الجنة، وكانا منه على بعيد، فيستخرج ملَكُ الموت روحَه من جسده رَشحًا. فإذا صارت إلى ملك الموت (5) ابتدَرها الملكان، فأخذاها (6) منه، فحنَّطاها بِحَنوط من الجنة، وكفَّناها بكفن من الجنة.
ثم عَرجا به إلى الجنة، فتُفتح له أبوابُ السماء، وتستبشر الملائكة بها، ويقولون: لمن هذه الروحُ الطيِّبة التي فُتحت لها أبواب السماء؟ ويُسمَّى [30 ب] بأحسن الأسماء التي كان يُسمَّى بها في الدنيا، فيقال: هذه روحُ فلان.
(1) هنا انتهى النقل من كتاب ابن منده. انظر: مجموع الفتاوى (5/ 444).
(2) كذا على الصواب في (أ، غ). وفي معظم النسخ بالحاء المهملة. وكذلك «الجزري» تصحف في (ب، ج، ط) إلى «الجوزي». وفي (ق): «الخرزي».
(3) «فانتهينا …. » إلى هنا ساقط من (ب).
(4) (ز، ج): «ولما يلحد».
(5) (ب، ط، ج): «فإذا استخرج ملك الموت روحه.
(6) (ب، ط، ج): «يأخذانها».
(1/134)
فإذا صُعِد بها إلى السماء شيَّعها مُقرَّبو كلِّ سماء حتى تُوضَع بين يدي الله عزَّ وجلَّ عند العرش، فيُخرَج عملُها من عِلِّيين، فيقول الله للمقرَّبين: اشهدوا أنّي قد غفرتُ لصاحب هذا العمل. ويُختَم كتابه، فيُرَدُّ (1) في عِلِّيين، فيقول (2) الله عز وجل: رُدُّوا روحَ عبدي إلى الأرض، فإنّي وعدتُهم أن أردَّهم فيها». ثم قرأ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55].
فإذا وُضِع المؤمن في لحده (3) فُتح له بابٌ عند رجليه إلى الجنة، فيقال له: انظر إلى ما أعدَّ الله لك من الثواب! ويُفتح له بابٌ عند رأسه إلى النار، فيقال له: انظر ماذا صرف الله عنك من العذاب! ثم يقال له (4): نَمْ قرير العين! فليس شيء أحبَّ إليه من قيام الساعة».
وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إذا وُضِع المؤمن في لحده تقول له الأرض: إن كنتَ لحبيبًا إليَّ، وأنت على ظهري؛ فكيف إذا صِرتَ اليوم في بطني! سأُريك ما أصنع بك (5). فيُفسَح له في قبره مدَّ بصره».
وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إذا وُضِع الكافر في قبره أتاه منكر ونكير، فيُجلِسانه، فيقولان له: من ربُّك؟ فيقول: لا أدري. فيقولان له: لا دَريَت! فيضربانه ضربةً، فيصير رمادًا. ثم يُعاد، فيُجلَس، فيقال له: ما قولك في هذا
(1) (ب، ط، ن، ج): «ويرد».
(2) ما عدا (أ، ق، غ): «ثم يقول».
(3) (ق، ز): «قبره».
(4) «له» ساقط من (ب).
(5) لم يرد «بك» في (أ، غ).
(1/135)
الرجل؟ فيقول: أيُّ رجل (1)؟ فيقولان: محمد (2) – صلى الله عليه وسلم -. فيقول: قال الناسُ إنَّه رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -. فيضرِبانه ضربةً، فيصير رمادًا» (3).
هذا حديث ثابتٌ مشهور مستفيض، صحَّحه جماعةٌ من الحفاظ، ولا نعلم أحدًا من أئمة الحديث طعن فيه. بل رووه في كتبهم، وتلقَّوه بالقبول، وجعلوه أصلاً من أصول الدين في عذاب القبر ونعيمه، ومساءلة (4) منكر ونكير، وقبض الأرواح وصعودها إلى بين يدي الله ثم رجوعها إلى القبر.
وقولُ أبي محمد (5): «لم يروه غيرُ زاذان»، فوهَمٌ منه، بل رواه عن
(1) كذا في (أ، غ). وفي (ز): «أي الرجال». وفي غيرها: «أي الرجل».
(2) (ب، ط، ن، ج): «محمد رسول الله».
(3) وهذا إسناد لا بأس به في المتابعات، خصيف هو ابن عبد الرحمن الجزري تُكلم فيه لسوء حفظه، وبقية رجاله ثقات. (قالمي).
(4) رسمها في النسخ: «مسايلة».
(5) هذه الفقرة من هنا إلى قول ابن عدي في آخرها من كلام شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (5/ 446 ــ 447). نقلها المصنف مع التصرف في أولها. ولفظ الشيخ: «وزعم ابن حزم أنّ (العَود) لم يروه إلا زاذان عن البراء، وضعَّفه. وليس الأمر كما قاله بل رواه غير زاذان عن البراء … ».
والظاهر أن هذا وهمٌ من الشيخ، فإنَّ ما زعمه ابن حزم هو أن (العود) لم يروه إلا المنهال بن عمرو، وضعَّفه. أما زاذان فلم يقل فيه ابن حزم شيئًا لا في المحلى ولا في الملل والنحل. والدليل على ذلك أن الشيخ لم يُشر بعد ذلك إلى زعم ابن حزم بتفرد المنهال بالعود، وإنما ردَّ على تضعيفه إياه.
أما ابن القيم، فغيَّر عبارة الشيخ، فنسب إلى ابن حزم أنه قال: «لم يروه غير زاذان». ومفاده أنه لم يرو هذا الحديث عن البراء غير زاذان. وهذا واضح من الردّ عليه. وهو وهمٌ آخر أدّى إليه الاعتماد على كلام الشيخ ثم التصرف فيه، مع أن المصنف قد أورد من قبل كلام ابن حزم من كتابه الملل والنحل، وليس فيه شيء عن زاذان. وسيردّ في الفقرة الآتية على زعم ابن حزم بتفرد المنهال بالعود مع ضعفه، ثم يذكر فيما بعد أن غير ابن حزم ــ يعني ابن حبان ــ أعلّ الحديث بأن زاذان لم يسمعه من البراء. وقد أعلَّه ابن حبان أيضًا بالانقطاع بين الأعمش والمنهال. فإن صح كلام المصنف في هذه الفقرة من تفرُّد زاذان بالحديث اجتمعت فيه أربع علل؛ مع أنه لما تكلم عليه في تهذيب السنن (13/ 63 ــ 64) قال: «ومجموع ما ذكراه ــ يعني ابن حزم وابن حبان ــ ثلاث: إحداها ضعف المنهال. والثانية أن الأعمش لم يسمعه من المنهال، والثالثة أن زاذان لم يسمعه من البراء».
وهذا هو الصواب، والأُولى من هذه فقط لابن حزم.
(1/136)
البراء غير زاذان. ورواه عنه عديُّ بن ثابت، ومجاهد بن جبر، ومحمد بن عُقْبة وغيرهم. وقد جمع الدارقطني طُرُقَه في مصنَّف مفرد. وزاذان من الثِّقات، روى عن أكابر الصحابة كعُمر وغيره. وروى له مسلم في «صحيحه». قال يحيى بن معين: ثقة. وقال حُميد بن هلال ــ وقد سئل عنه ــ: هو ثقة، لا يُسأل عن مثل هؤلاء. وقال ابن عديِّ: أحاديثه لا بأس بها إذا روى عنه ثقة (1).
وقوله: إن المِنهال بن عمرو تفرَّد بهذه الزيادة، وهي قوله: «فتعاد روحه في جسده»، وضَعَّفه؛ فالمِنهال أحد الثقات العدول. قال ابن معين: المنهال ثقة، وقال العجلي: كوفيٌّ ثقة. وأعظمُ ما قيل فيه: إنه سُمِع من بيته صوتُ غناء. وهذا لا يُوجب القدحَ في روايته واطِّراح حديثه. وتضعيفُ ابن حزم له لا شيء (2)،
(1) في جميع النسخ الخطية والمطبوعة: «روى عن ثقة». والصواب ما أثبتنا من الكامل لابن عدي (3/ 236). وانظر: تهذيب التهذيب (3/ 303). وهو على الصواب في مجموع الفتاوى.
(2) «له» ساقط من (أ، غ). ثم فيهما وفي (ز، ق): «لا شيئًا».
(1/137)
فإنه لم يذكر موجِبًا لتضعيفه غيرَ تفرُّده بقوله: «فتعاد روحه في جسده» (1)، وقد بينَّا أنه لم يتفرَّد بها، بل قد رواها غيره.
وقد رُوي ما هو أبلغُ منها، أو نظيرها، كقوله: «فتُرَدُّ إليه روحُه»، وقوله: «فتصير إلى قبره»، وقوله: «فيستوي جالسًا»، وقوله: «فيُجلِسانه»، وقوله: «فيُجْلَس في قبره». وكلُّها أحاديث صحيحة لا مَغْمزَ فيها (2).
وقد أعلَّ غيرُه (3) الحديثَ بأن زاذان لم يسمعه من البراء. وهذه العلَّة
(1) قال في تهذيب السنن (1/ 133 ــ 134): «والذي غرّ ابن حزم شيئان: أحدهما قول عبد الله بن أحمد عن أبيه: تركه شعبة على عمد. والثاني أنه سمع من داره صوت طنبور». والذي سمع هو شعبة قال: فرجعت ولم أسأله. قيل: فهلا سألته! فعسى كان لا يعلم به. وانظر أيضًا: تهذيب السنن (9/ 23، 13/ 64).
وقال جرير عن مغيرة: كان حسن الصوت، وكان له لحن يقال له: «وزن سبعة». انظر: تهذيب التهذيب (10/ 320).
(2) هذه الألفاظ كلها وردت في كتابنا هذا إلا «فيستوي جالسًا». وقد ورد في حديث أبي تميم الداري، وأخرجه أبو يعلى الموصلي بسند ضعيف. انظر: إتحاف الخيرة المهرة (1852). وفي حديث لقيط بن عامر أخرجه الحاكم (8683) وصححه. وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند (26/ 123) وصححه ابن القيم في زاد المعاد (3/ 677) وحادي الأرواح (536) ونقل تصحيحه عن أبي عبد الله ابن منده وأبي الخير بن حمدان. وفي سنده دلهم بن الأسود، وعبد الرحمن بن عياش، والأسود بن عبد الله. ولم يوثقهم إلا ابن حبان. وقال ابن حجر: وهو حديث غريب جدًّا. انظر: تهذيب التهذيب (5/ 57).
(3) لم يسمّه المصنف هنا، وكأنّه يتابع في هذه الفقرة شيخه. انظر: مجموع الفتاوى (5/ 438، 439). والذي أعلَّه بما ذكر هو ابن حبّان. وقد أعلَّه بعلة أخرى لم يشر إليها المصنف هنا، وهي الانقطاع بين الأعمش والمنهال. انظر: صحيح ابن حبان (3117). وقد أجاب المصنف عن العلتين في تهذيب السنن (13/ 63 ــ 65).
(1/138)
باطلة، فإنّ أبا عوانة الإسفراييني رواه في «صحيحه» بإسناده، وقال: عن ابن عمرو، عن (1) زاذان الكندي قال: سمعتُ البراء بن عازب. وقال الحافظ أبو عبد الله بن منده: هذا إسناد متصل مشهور، رواه جماعة عن البراء (2).
ولو نزلنا عن حديث البراء، فسائرُ الأحاديث الصحيحة صريحة في ذلك، مثل حديث ابن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن يسار (3)، عن أبي هريرة أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «إن الميتَ تحضُره (4) الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح قال: اخرجي أيتها النفسُ الطيِّبة كانت في الجسد الطيِّب، اخرجي حميدةً، وأبشري برَوح وريحان وربٍّ غير غضبان».
قال: «فيقولون (5) ذلك حتى تخرج، ثم يُعرَج بها إلى السماء، فيُستفتَح لها، فيقال: مَن هذا؟ فيقولون: فلان (6). فيقولون: مرحبًا بالنفس [31 ب] الطيِّبة كانت في الجسد الطيِّب، ادخلي حميدةً، وأبشري برَوحٍ ورَيحان وربٍّ غير غضبان. فيقال لها ذلك، حتى يُنتهَى بها (7) إلى السماء التي فيها
(1) في (أ، غ): «بن»، وهو تحريف. وابن عمرو هو المنهال بن عمرو.
وفي (ن) حذف «عن». وفي (ب، ط): «إن ابن عمرو زاذان». وهو غلط.
(2) كتاب الإيمان لابن منده (1064).
(3) (ب): «بشار»، تصحيف.
(4) (ب، ط، ج): «يحضر». وفي (ز): «إن الملائكة تحضر الميت».
(5) (ق): «فيقول».
(6) (ق): «فلان بن فلان».
(7) (ط): «تنتهي».
(1/139)
الله عزَّ وجلَّ.
وإذا كان الرجلَ السوء قال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث. اخرجي (1) ذميمة، وأبشري بحميمٍ وغسَّاقٍ وآخرَ من شَكْله أزواج. فيقولون ذلك حتى تخرج، ثم يُعرَج بها إلى السماء، فيُستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان، فيقولون: لا مرحبًا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث. ارجعي ذميمة، فإنَّه (2) لن تُفتَح (3) لك أبوابُ السماء. فتُرسَل بين السماء والأرض، فتصير إلى القبر.
فيُجلَس الرجلُ الصالحُ في قبره غير فَزِع ولا مشعوف (4)، ثم يقال: فيمَ كنتَ؟ يقول: في الإسلام (5). [فيقال]: ما هذا الرجل؟ فيقول: محمدٌ رسول
(1) في جميع النسخ: «ارجعي». وهو خطأ هنا. والصواب ما أثبتنا من المسند (14/ 378) و (42/ 15) وغيره.
(2) (أ، غ، ز): «فإنها».
(3) (ز): «لا تفتح».
(4) في جميع النسخ: «معوق». وهو تصحيف ما أثبتنا من المسند (42/ 12) ومجموع الفتاوى (5/ 446). وفي (ط) حاشية بخط الشيخ علي بن عيسى رحمه الله. نقل فيها عن النهاية لابن الأثير (شعف): «في حديث عذاب القبر: فإذا كان الرجل صالحًا أجلس في قبره غير فزع ولا مشعوف. الشعف: شدة الفزع حتى يذهب بها القلب … ».
(5) في جميع النسخ: «فما كنت تقول في الإسلام ما هذا الرجل» وهو سياق فاسد وقد تحرَّف «فيما» ــ وكانوا يكتبون ما الاستفهامية بالألف مع دخول حرف الجر عليها ــ إلى «فما»، ثم سقط «فيقال».
انظر: المسند (42/ 12) وإثبات عذاب القبر للبيهقي (29) وقارن بمجموع الفتاوى (5/ 446).
(1/140)
الله، جاءنا بالبينات من قِبَل الله، فآمنَّا، وصدَّقنا». وذكر تمام الحديث (1).
قال الحافظ أبو نُعيم: هذا حديث متفق على عدالة ناقليه (2). اتَّفق الإمامان محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجَّاج (3) على ابن أبي ذئب، ومحمد بن عمرو بن عطاء، وسعيد (4) بن يسار، وهم من شرطهما. ورواه المتقدمون الكبار عن ابن أبي ذئب، مثل ابن أبي فُديك، وعنه دُحيم (5) بن إبراهيم. انتهى. ورواه عن ابن أبي ذئب غيرُ واحدٍ (6).
وقد احتجَّ أبو عبد الله ابن منده على إعادة الروح إلى البدن، بأن قال:
(1) أخرجه ابن ماجه (4262)، والإمام أحمد (8769)، والنسائي في الكبرى (11442)، وابن خزيمة في التوحيد (176: 15 ــ 18)، وابن منده في الإيمان (1068)، وأبو بكر الآجري في الشريعة (923) كلهم من طريق ابن أبي ذئب بإسناده.
وعزاه البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة (12/ 440) لابن أبي شيبة وصحّح إسناده. (قالمي).
(2) (أ، ق، غ): «ناقله».
(3) زاد في (ط): «القشيري».
(4) (ن): «شعبة»، تحريف.
(5) «وعنه دحيم» تحرّف في النسخ إلى «وعبد الرحيم». وأقربها إلى الصحة (ب) التي رسم ناسخها: «وعبد رحم» (كذا). وفي (ن): «وعبد الرحمن بن إبراهيم». ودحيم اسمه: عبد الرحمن، ولكن المقصود هنا أنه رواه عن ابن أبي فديك.
(6) «ورواه … غير واحد» عقَّب به شيخ الإسلام على كلام أبي نعيم. وقد نقل ابن القيم حديث أبي هريرة مع كلام أبي نعيم وتعقيب الشيخ بنصّه من شرح حديث النزول له غير أنه أخّر كلام أبي نعيم، وكان مقدَّمًا في الأصل. انظر: مجموع الفتاوى (5/ 445 – 446).
(1/141)
أبنا محمد بن الحسين بن الحسن، ثنا محمد بن يزيد النيسابوري، ثنا حماد بن قيراط، ثنا محمد بن الفضل، عن يزيد بن عبد الرحمن الصائغ البلخي (1). عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس أنه قال:
بينما رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – ذاتَ يومٍ قاعدٌ تلا هذه الآية: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} الآية [الأنعام: 93]. قال: «والذي نفسُ محمد بيده، ما من نفسٍ تُفارق الدنيا حتى ترى مقعدَها من الجنة أو النار». ثم قال: «فإذا كان عند ذلك صُفَّ (2) له سِماطان من الملائكة، ينتظمان ما بين الخافقين، كأنَّ وجوهَهم الشمسُ. فينظر إليهم ما يرى غيرَهم، وإن (3) كنتم تَرون أنّهم ينظرون (4) إليكم، مع كل ملكٍ أكفانٌ وحَنُوطٍ.
[32 أ] فإن كان مؤمنًا بشَّروه بالجنة، وقالوا: اخرجي أيتها النفس الطيِّبة (5) إلى رضوان الله وجنَّته (6)، فقد أعدَّ الله لكِ من الكرامة ما هو خيرٌ لك من الدنيا وما فيها. فلا يزالون يُبشِّرونه ويَحُفُّون به، فلَهم ألطفُ وأرأفُ من الوالدة بولدها. ثم يَسُلُّون روحَه من تحت كل ظُفر ومَفْصِل، ويموت الأول فالأول، ويهون (7) عليه، وإن كنتم ترونه شديدًا، حتَّى تبلغ ذَقَنه».
(1) (أ، غ): «البجلي». ولعله تحريف.
(2) كذا ضبط في (ب، ط، ن) بالبناء للمجهول. والفعل لازم ومتعد.
(3) ما عدا (ط، ن): «فإن»، تحريف.
(4) كذا في جميع النسخ، يعني المحتضرين. وفي الدر المنثور (6/ 133): «أنه ينظر»، وهو أشبه بالسياق.
(5) (ب، ط، ج): «المطمئنة».
(6) (ق): «رحمته». والعبارة «فإن كان … جنته» ساقطة من (ن).
(7) (ب، ط، ج): «تهون».
(1/142)
قال: «فلَهِي أشدُّ كراهيةً للخروج من الجسد، من الولد حين يخرجُ من الرحم، فيبتدرونها، كلُّ ملكٍ منهم، أيُّهم يَقبِضها. فيتولَّى قبضها ملكُ الموت». ثم تلا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (1): {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11] «فيتلقَّاها بأكفانٍ بيض، ثم يحتضنها (2) إليه، فلهو أشدُّ لزومًا لها من المرأة إذا ولدتها. ثم يفوح منها ريحٌ أطيبُ من المسك، فيستنشقون ريحَها، ويتباشرون بها (3)، ويقولون: مرحبًا بالرِّيح الطيبة والرُّوح الطيِّبِ! اللهم صلِّ عليه رُوحًا، وصلِّ على جسدٍ خرجتْ منه».
قال: «فيصعَدون بها (4). ولله عزَّ وجلَّ خلقٌ في الهواء لا يَعلَم عِدَّتهم إلا هو، فيفوح لهم منها ريحٌ أطيبُ من المسك، فيصلُّون عليها ويتباشرون بها. وتفتح لهم أبوابُ السماء، فيصلِّي عليها كلُّ ملك، في كلِّ سماء تمرُّ بهم، حتى يُنتهى بها (5) بين يدي الملك الجبَّار. فيقول الجبّارُ: مرحبًا بالنفس الطيِّبة وبجسدٍ خرجتْ منه! وإذا قال الربُّ عزَّ وجلَّ للشيء: مرحبًا، رحُبَ (6) له كلُّ شيء، ويذهب عنه كلُّ ضيق.
ثم يقول لهذه النفس الطيبة: أدخلوها الجنةَ، وأرُوها مقعدَها من الجنة،
(1) زاد في (ط): «قوله تعالى».
(2) (ب، ط، ج): «فيحضنها».
(3) «بها» لم يرد في (أ، غ).
(4) زاد في (ط): «إلى السماء».
(5) زاد في (ط): «إلى».
(6) الضبط من (ط)، يعني: اتسع. وفي (ب): «وجب» تصحيف.
(1/143)
واعرِضوا عليها ما أعددتُ لها من الكرامة والنعيم. ثم اذهبوا بها إلى الأرض، فإنِّي قضيتُ أنّي منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارةً أخرى. فوالذي نفس محمد بيده، لهي أشدُّ كراهيةً للخروج، منها حين كانت تخرج من الجسد. وتقول: أين تذهبون بي؟ إلى ذلك الجسد الذي كنتُ فيه؟»
قال: «فيقولون: إنَّا مأمورون بهذا، فلابدَّ لك منه. فيهبطون به على قَدْر فراغِهم من غُسْله وأكفانه، فيُدخِلون [32 ب] ذلك الروحَ بين جسده وأكفانه» (1).
فدلَّ هذا (2) الحديث أنَّ الروح تُعاد بين الجسد والأكفان. وهذا عَودٌ غير التعلُّق الذي كان لها في الدنيا بالبدن، وهو نوعٌ آخرُ؛ وغير تعلُّقها به
(1) في إسناده حماد بن قيراط النيسابوريّ، قال ابن حبان في المجروحين (1/ 254): «يقلب الأخبار على الثقات، ويجيء عن الأثبات بالطامات، لا يجوز الاحتجاج به ولا الرواية عنه إلا على سبيل الاعتبار، وكان أبو زرعة الرازي يمرِّض القول فيه».
وأورد ابن عدي في الكامل (2/ 250 ــ 251) بعض مناكيره، ثم قال: «ولحماد بن قيراط غير ما ذكرت من الحديث، وعامة ما يرويه فيه نظر». وتنظر ترجمته في لسان الميزان (2/ 352).
وأما شيخه وشيخ شيخه فلم أهتد إليهما.
والحديث أشار إليه ابن كثير في تفسيره (3/ 302) فقال: «وقد ذكر ابن مردويه ههنا حديثًا مطولاً جدًا من طريق غريبة، عن الضحَّاك، عن ابن عباس، مرفوعًا».
وساقه السيوطي في الدر المنثور (6/ 133) بطوله وقال: «أخرجه ابن مردويه بسند ضعيف». (قالمي).
(2) «هذا» ساقط من (ط). وفي (ن): «فثبت بهذا».
(1/144)
حالَ النوم، وغير تعلُّقها به وهي في مقرِّها؛ بل هو عَودٌ خاصٌّ للمسألة (1).
قال شيخُ الإسلام (2): الأحاديثُ الصحيحة المتواترة تدلُّ على عَود الروح إلى البدن وقت السؤال. وسؤالُ البدن بلا روح قولٌ قاله طائفة من الناس، وأنكره الجمهور. وقابلهم آخرون، فقالوا: السؤالُ للروح بلا بدن، وهذا قاله ابن مسرَّة (3) وابن حزم. وكلاهما غلط، والأحاديث الصحيحة تردُّه، ولو كان ذلك على الروحِ فقط لم يكن للقبر بالروح اختصاصٌ.
(1) ما عدا (أ، غ): «للمساءلة»، ورسم كالعادة بالياء.
(2) في شرح حديث النزول. انظر: مجموع الفتاوى (5/ 446). وانظر أيضًا: (4/ 262)، (5/ 525).
(3) في (ط، ز، غ) يحتمل قراءة «ابن مرة». وفي (ج، ن): «ابن ميسرة»، وكذا في مجموع الفتاوى في المواضع المذكورة في الحاشية السابقة. والصواب ما أثبتنا من (أ، ب، ق) غير أن كلمة «ابن» سقطت من الأصل. ولعل المقصود هنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مسرّة القرطبي الصوفي المتكلم المتوفى سنة 319. انظر ترجمته في تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي (2/ 55). وهناك أبو الحزم وهب بن مسرّة الحجاري الحافظ الفقيه المحدث المتوفى سنة 346. وابن حزم ممن أخذ عن أصحابه. ترجمته في كتاب ابن الفرضي (2/ 207). وقد ذكر ابن حزم في الملل والنحل مذهب ابن مسرّة الصوفي في بعض المسائل لكن لم يشر إلى أن عذاب القبر عنده على الروح فقط.
(1/145)
فصل (1)
وهذا يتضح بجواب المسألة (2) [الملحقة بالسادسة]، وهي قول السائل: هل عذاب القبر على النفس والبدن، أو على النفس دون البدن، أو على البدن دون النفس؟ وهل يُشارك البدنُ النفسَ في النعيمِ والعذاب أم لا؟
وقد سُئل شيخُ الإسلام عن هذه المسألة ــ ونحن نذكر لفظَ جوابه ــ فقال (3):
«بل العذابُ والنعيم على النفس والبدن جميعًا باتِّفاق أهل السنة والجماعة. تُنعَّم النفسُ وتُعذَّب منفردةً عن البدن، وتُنعَّم وتُعذَّب متَّصلة بالبدن، والبدن متَّصلٌ بها، فيكون النعيمُ والعذاب عليهما في هذه الحال
(1) كلمة «فصل» لم ترد في (ن).
(2) كذا في جميع النسخ ما عدا (ق، ن)، ففيهما «المسألة السابعة». واستّمرت (ن) على هذا الترقيم، فالمسألة الأخيرة التي هي الحادية والعشرون في النسخ الأخرى صارت الثانية والعشرين في (ن). أما (ق) فسارت مع (ن) إلى المسألة الثامنة، فهي عندها التاسعة، ولكن لما جاءت التاسعة في غيرها فارقت (ن)، وكتبت «التاسعة» مكررة وتابعت النسخ الأخرى. والظاهر من السياق أن الصواب مع (ن)، وحقّ هذه المسألة أن تكون مستقلّة برقمها، ولكن يظهر لي ــ والله أعلم ــ أن المؤلف رحمه الله أضافها بعد إكمال الكتاب، ولم يرقِّمها في أصله، فبقيت غير مرقَّمة في النسخ المنقولة عنه أيضًا. وزيادة «السابعة» هنا من بعض النسَّاخ، ومن هنا انفردت بها (ن)، ولم تستمر عليها (ق). وقد سميتها «الملحقة بالسادسة» لتمييزها من السادسة مع الحفاظ على ترقيم المسائل في النسخ.
(3) انظر: مجموع الفتاوى (4/ 282 ــ 295).
(1/146)
مجتمعَين، كما يكون للروح (1) منفردةً عن البدن.
وهل يكون العذاب والنعيم للبدن بدون الروح؟ هذا فيه قولان مشهوران لأهل الحديث والسنة وأهل الكلام. وفي المسألة أقوال شاذّة ليست من أقوال أهل السنة والحديث: قولُ من يقول (2): إنّ النعيمَ والعذابَ لا يكون إلا على الروح، وإنَّ البدنَ لا يُنعَّم ولا يُعذَّب. وهذا تقوله (3) الفلاسفة المنكرون لمعاد الأبدان، وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين. ويقوله كثير من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم الذين يُقِرُّون بمعاد الأبدان، لكن يقولون: لا يكون ذلك في البرزخ، وإنما يكون عند القيام من القبور».
[33 أ] لكن (4) هؤلاء يُنكرون عذاب البدن في البرزخ فقط، ويقولون: إنَّ الأرواحَ هي المنعَّمة أو المعذَّبة في البرزخ، فإذا كان يومُ القيامة عُذِّبت الروح والبدن معًا. وهذا القول قاله طوائفُ من المسلمين من أهل الكلام والحديث وغيرهم، وهو اختيارُ ابن حزم وابن مسَرَّة (5). فهذا القول ليس من الأقوال الثلاثة الشاذّة، بل هو مضاف إلى قول من يقول بعذاب القبر، ويُقِرُّ بالقيامة، ويُثبِت معاد الأبدان والأرواح، ولكن هؤلاء لهم في عذاب القبر ثلاثة أقوال:
(1) في جميع النسخ: «تكون الروح»، وفي (ب، ز): «يكون». والصواب ما أثبتنا من الفتاوى.
(2) ذكر شيخ الإسلام ثلاثة أقوال شاذّة، وهذا هو الأول.
(3) ما عدا (أ، ق)، الفتاوى: «يقوله».
(4) هذا تعليق ابن القيم عقّب به على كلام شيخه للتوضيح.
(5) (أ، ط، غ): «ابن مرة». (ن، ج): «ابن ميسرة». وفي (ز): «مرّة» دون كلمة «ابن». والمثبت من (ب، ق). وقد مرّ ذكره قريبًا.
(1/147)
أحدها: أنَّه على الروح فقط.
الثاني: أنَّه عليها وعلى البدن بواسطتها.
الثالث: أنَّه على البدن فقط.
وقد يُضمُّ إلى ذلك القولُ الثاني (1)، وهو قول من يُثبِت عذاب القبر، ويَجعل الروحَ هي الحياةَ. ويُجعَل الشاذُّ (2) قولَ منكر عذاب الأبدان مطلقًا، وقولَ من يُنكر عذابَ الروح مطلقًا.
فإذا جعلت الأقوال الشاذَّة ثلاثةً، فالقولُ الثاني الشاذُّ (3): «قولُ من يقول: إنَّ الروحَ بمفردها لا تُنعَّم ولا تُعذَّب. وإنما الروحُ هي الحياة. وهذا يقوله طوائفُ من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية، كالقاضي أبي بكر وغيره، وينكرون أنَّ الروحَ تبقى بعد فراق البدن. وهذا قولٌ باطل، وقد خالفه أصحابه أبو المعالي الجويني وغيره. بل قد ثبت بالكتابِ والسنّة واتِّفاق سلف الأمة أنّ الروحَ تبقى بعد فراق البدن (5)، وأنّها منعَّمة أو مُعذَّبة.
والفلاسفة الإلهيون يُقِرُّون بذلك، لكن ينكرون معاد الأبدان. فهؤلاء يُقِرُّون بمعاد الأبدان، لكن ينكرون معاد الأرواح ونعيمها وعذابها بدون الأبدان. وكلا القولين خطأ وضلال، لكن قولُ الفلاسفة أبعدُ عن أقوال أهل
(1) يعني: من الأقوال الشاذّة عند شيخه.
(2) في جميع النسخ ما عدا (ن): «الفساد»، وهو تحريف.
(3) انتهى تعليق ابن القيم، ورجع السياق إلى كلام شيخ الإسلام.
(4) من مجموع الفتاوى.
(5) «فإذا جعلت … البدن» ساقط من (ب، ط، ج).
(1/148)
الإسلام، وإن كان قد يوافقهم عليه من يعتقد أنّه متمسِّك بدين الإسلام، بل من يظنُّ أنّه من أهل المعرفة والتصوف والتحقيق والكلام (1).
والقول الثالث الشاذُّ: قول من يقول: إن البرزخ ليس فيه نعيم ولا عذاب، بل لا يكون ذلك حتى تقومَ الساعة الكبرى. كما يقول [33 ب] ذلك من يقوله من المعتزلة ونحوهم، ممن ينكر عذابَ القبر ونعيمَه، بناءً على أنَّ الروح لا تبقى بعد فراق البدن، وأنَّ البدنَ لا يُنعَّم ولا يُعذَّب.
فجميع هؤلاء الطوائف ضُلَّال في أمر البرزخ، لكنهم خيرٌ من الفلاسفة، فإنهم مُقِرُّون بالقيامة الكبرى».
فصل (2)
«فإذا عرَفتَ هذه الأقوالَ الباطلة (3)، فلتعلَمْ أنّ مذهب سلف الأمة وأئمتها: أنّ الميتَ إذا مات يكون في نعيم أو عذاب، وأنّ ذلك يحصل لروحه وبدنه، وأنّ الروحَ تبقى بعد مفارقة البدن مُنعَّمة أو مُعذَّبة، وأنها تتَّصل بالبدن أحيانًا فيحصل (4) له معها النعيم أو العذاب. ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أُعيدت الأرواح إلى الأجساد، وقاموا من قبورهم لربِّ العالمين. ومعادُ الأبدان متفقٌ عليه بين المسلمين واليهود والنصارى».
(1) (ب، ط، ن، ج): «والتحقيق في الكلام».
(2) كلمة «فصل» لم ترد في (ب، ن، ج)، ولا في مجموع الفتاوى.
(3) الفتاوى: الثلاثة الباطلة.
(4) (ق، ط): «يحصل».
(1/149)
فصل (1)
«ونحن ننصر (2) ما ذكرناه. فأما أحاديثُ عذاب القبر ومساءلة منكر ونكير، فكثيرةٌ متواترة عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، كما في «الصحيحين» (3) عن ابن عباس أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – مرَّ بقبرين، فقال: «إنهما لَيُعذَّبان، وما يُعذَّبان في كبير. أما أحدُهما فكان لا يستتر (4) من البول، وأما الآخرُ فكان يمشي بالنميمة». ثم دعا بجريدة رَطْبة، فشقَّها نصفين، فقال: «لعله يخفَّفُ عنهما ما لم يَيْبسا».
وفي «صحيح مسلم» (5): عن زيد بن ثابت قال: بينا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – في حائط لبني النجار على بغلته، ونحن معه، إذ حادت به، فكادت تلقيه، فإذا أقبُرٌ ستة أو خمسة أو أربعة. فقال: «من يعرف أصحابَ هذه القبور؟» فقال رجل: أنا. قال: «فمتى مات هؤلاء؟» قال: ماتوا في الإشراك. فقال: «إنَّ هذه الأمةَ تُبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوتُ الله أن يُسمِعكم من عذاب القبر الذي أسمعُ منه». ثم أقبل علينا بوجهه، فقال: «تعوَّذوا بالله من عذاب النار». قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار. قال (6): «تعوَّذوا بالله من عذاب القبر». قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر. [34 أ] قال: «تعوَّذوا بالله من الفتن ما
(1) لا وجود لكلمة «فصل» في (ب، ن، ج) والفتاوى.
(2) من (أ، غ). وفي (ب، ط، ن): «نبيّن». وفي الفتاوى: «ونحن نذكر ما يبيِّن ما ذكرناه». وفي (ق): «نضمن». وفي (ز): «نضم». ولعلها تصحيف «ننصر».
(3) البخاري (216) ومسلم (292).
(4) (ن): «يستبرئ».
(5) برقم (2867).
(6) «تعوّذوا … قال» ساقط من (ط).
(1/150)
ظهر منها وما بطن». قالوا: نعوذُ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قال: «تعوَّذوا بالله من فتنة الدجَّال». قالوا: نعوذُ بالله من فتنة الدجَّال.
وفي «صحيح مسلم» (1) وجميع السنن (2): عن أبي هريرة أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال: «إذا فَرَغ أحدُكم من التشهد الأخير، فليتعوَّذ بالله من أربعٍ: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجَّال».
وفي «صحيح مسلم» (3) أيضًا وغيره (4): عن ابن عبّاس أنّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – كان يُعلِّمهم هذا الدعاءَ، كما يُعلِّمهم السورةَ من القرآن: «اللهم إنِّي أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذُ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذُ بك من فتنة المسيح الدجَّال».
وفي «الصحيحين» (5): عن أبي أيوب قال: خرج النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -، وقد وجَبت الشمسُ، فسمع صوتًا، فقال: «يهود تُعذَّب في قبورها».
وفي «الصحيحين» (6): عن عائشة قالت: دخلتْ عليَّ عجوزٌ من عجائز
(1) برقم (588).
(2) أخرجه أبو داود (983) والنسائي (1309) وابن ماجه (909). وانظر: الترمذي (3604).
(3) برقم (590).
(4) «وغيره» ساقط من (ط). وأخرجه أبو داود (1542) والترمذي (3494) والنسائي (2062).
(5) البخاري (1375) ومسلم (2869).
(6) البخاري (6366) ومسلم (586). وكذا سياق الحديث في مجموع الفتاوى (4/ 286). وفي الصحيحين أن الداخلة على عائشة عجوزان.
(1/151)
يهود المدينة، فقالت: إنّ أهلَ القبور يُعذَّبون في قبورهم. قالت: فكذَّبتُها، ولم أُنعِمْ أن أُصدِّقَها. قالت: فخرجَتْ، ودخل عليَّ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -، فقلتُ: يا رسول الله، إنَّ عجوزًا من عجائز يهود أهل المدينة دخلتْ، فزعمتْ أنَّ أهلَ القبور يُعذَّبون في قبورهم. قال: «صدقَتْ، إنَّهم يُعذَّبون عذابًا تسمعُه البهائمُ كلُّها». قالت: فما رأيتُه بعدُ في صلاة إلا يتعوَّذ من عذاب القبر.
وفي صحيح ابن حِبَّان (1): عن أمِّ مبشِّر قالت: دخل عليَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وهو يقول: «تعوَّذوا بالله من عذاب القبر» فقلت: يا رسول الله، وللقبر (2) عذاب؟ قال: «إنهم لَيعذَّبون في قبورهم عذابًا تسمعه البهائم».
قال بعض أهل العلم (3): ولهذا السبب يذهب الناس بدوابِّهم إذا مَغِلَتْ (4)
(1) برقم (3125) من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن أمِّ مبشر. وأخرجه ابن أبي شيبة (12025)، والإمام أحمد (27044) كلاهما عن أبي معاوية به.
وإسناده جيد. أبو سفيان هو طلحة بن نافع الواسطي، وأبو معاوية هو محمد بن خازم الضرير.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 56): «رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح». (قالمي).
(2) (ب، ط، ج): «أللقبر».
(3) مجموع الفتاوى: «بعضهم». وفي تلخيص كتاب الاستغاثة (2/ 590): «وهذا المعنى كنت أذكره للناس، ولم أعلم أحدًا قاله. ثم وجدته قد ذكره بعض العلماء». وانظر: مجموع الفتاوى (4/ 287)، (35/ 139) ومختصر الفتاوى المصرية (314) والبداية والنهاية (12/ 598).
(4) المغَل: مَغْص يأخذ الدوابَّ عن أكل التراب (المصباح المنير). ويظهر مما ذكر هنا وفي المصادر السابقة أنه يسبّب الإمساك الشديد.
(1/152)
إلى قبور اليهود والنصارى والمنافقين كالإسماعيلية والنُّصَيرية والقرامطة من بني عُبيد وغيرهم الذين بأرض مصر والشام، فإنَّ أصحاب الخيل يقصدون قبورهم لذلك، كما يقصِدون قبور اليهود والنصارى. قالوا: فإذا سمعت الخيلُ عذاب القبر أحدَثَ لها ذلك فزَعًا وحرارةً تذهب بالمَغَل (1).
وقد قال عبد الحقّ الإشبيليُّ (2): حدثني الفقيه أبو الحكم بن بَرَّجان (3) ــ وكان من أهل العلم والعمل ــ أنهم دفنوا ميتًا بقريتهم في شرق (4) إشبيلية. فلما فرغوا من دفنه قعدوا ناحيةً يتحدثون، ودابةٌ ترعى قريبًا منهم، فإذا بالدابَّة قد أقبلت مسرعةً إلى القبر، فجعلت أذنَها عليه، كأنها تستمع (5)، ثم ولَّت فارَّة. ثم عادت إلى القبر، فجعلت أذنها عليه، كأنها تستمع (6)، ثم ولَّت فارة. فعلت ذلك مرة بعد مرة.
(1) في تلخيص كتاب الاستغاثة (2/ 590): «فبسبب الرعب الذي يحصل لها تنحلُّ بطونها، فتروث، فإن الفزع يقتضي الإسهال».
(2) في كتاب العاقبة (247).
(3) عبد السلام بن عبد الرحمن اللخمي الإشبيلي، من أهل المعرفة بالقراءات والحديث. نعته الذهبي بشيخ الصوفية. توفي سنة 536. سير أعلام النبلاء (20/ 72). و «بَرَّجان» ضبط في (ق) بضم الموحدة، وهو خطأ. انظر: وفيات الأعيان (4/ 237).
(4) (أ، ق، ج): «شرف». وفي (ن): «سوق». والمثبت من غيرها. وكذا في العاقبة، وتذكرة القرطبي (408).
(5) (ق، ن، ز، غ): «تسمع».
(6) ما عدا (أ، ج): «تسمع». و «كأنها تستمع» ساقطة من (ب).
(1/153)
قال أبو الحكم: فذكرت عذاب القبر، وقولَ النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إنهم ليعذَّبون عذابًا تسمعه البهائم».
ذكَر لنا هذه الحكاية ــ ونحن نسمع عليه «كتاب مسلم» ــ لما انتهى القارئ إلى قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إنهم ليعذَّبون عذابًا تسمعه البهائم» (1).
وهذا (2) السماع واقع على أصوات المعذَّبين. قال هنَّاد بن السَّرِيّ في كتاب «الزهد» (3): ثنا وكيعٌ، عن الأعمش، عن شَقِيق، عن مسروق عن عائشة قالت: دخلتْ عليَّ يهودية، فذكرتْ عذاب القبر، فكذَّبتُها. فدخل النبي – صلى الله عليه وسلم – عليَّ، فذكرتُ ذلك له، فقال: «والذي نفسي بيده، إنّهم ليعذَّبون في قبورهم حتى تسمعَ البهائم أصواتهم» (5).
قلتُ (6): وأحاديث المسألة في القبر كثيرة، كما في الصحيحين والسُّنن عن البراء بن عازب أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «المسلم إذا سُئِل في قبره، فيشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فذلك قول الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]».
(1) في (ن): «القارئ إلى هذا الحديث».
(2) (ق): «فهذا».
(3) برقم (347). وأخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده (1416) عن وكيع، به. وإسناده صحيح. (قالمي).
(4) ساقط من جميع النسخ، وقد أضفناه من مصادر التخريج.
(5) من «وقد قال عبد الحق الإشبيلي … » إلى هنا لم يرد في مجموع الفتاوى. ولعله إضافة من ابن القيم إلى كلام شيخه.
(6) السياق موهمٌ أن القائل هنا ابن القيم، ولكن الكلام الآتي لشيخ الإسلام. وليس في الفتاوى (4/ 287): «قلت».
(1/154)
وفي لفظ: «نزلت في عذاب القبر. يقال له: مَن ربُّك؟ فيقول: ربِّي الله، ونبيِّي محمد (1). فذلك قول الله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}» (2).
وهذا الحديث قد رواه أهل السنن والمسانيد مطوَّلاً كما تقدّم.
وقد صرح في هذا (3) الحديث بإعادة الروح إلى البدن، وباختلاف أضلاعه. وهذا بيِّنٌ في أنّ العذاب على الروح والبدن [35 أ] مجتمعين.
وقد روى مثلَ حديث البراء في قبض الروح والمساءلة (4) والنعيم والعذاب أبو هريرة ــ وحديثُه في المسند وصحيح أبي حاتم (5) ــ أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إن الميّت إذا وُضِع في قبره إنّه يسمع خفق نعالهم حين يولُّون
(1) (أ، ق، غ): «الله ربي، ومحمد نبيّي».
(2) أخرجه البخاري (4699)، ومسلم (2871)، وأبو داود (4750)، والترمذي (3120)، والنسائي (2057)، وابن ماجه (4269) من حديث سعد بن عبيدة، عن البراء بن عازب رضي الله عنه. وهو عند البخاري وأبي داود بنحو اللفظ الأول. وعند الآخرين بنحو اللفظ الثاني. (قالمي).
(3) لم يرد «هذا» في (ب، ط، ز، ج).
(4) رسمها في النسخ: «المسايلة».
(5) أخرجه أحمد (8563) مختصرًا، وابن حبان (3113)، والحاكم (1/ 379 ــ 380) من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
وأخرجه من هذا الوجه ابن أبي شيبة (12062)، وعبد الرزاق (6703)، والطبراني في الأوسط (2630) وغيرهم. وصححه الحاكم على شرط مسلم.
وقال الهيثمي في المجمع (3/ 52): «رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن». وهو كما قال. (قالمي).
(1/155)
عنه، فإن كان مؤمنًا كانت الصلاة عند رأسه، والصيام عن يمينه، والزكاة عن شماله، وكان فعلُ الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان عند رجليه.
فيؤتَى من قِبَل رأسه، فتقول الصلاة: ما قِبَلي مدخل. ثم يؤتى من يمينه، فيقول الصيام: ما قِبَلي مدخل. ثم يؤتى عن يساره، فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل. ثم يؤتى من قِبَل رجليه، فيقول فِعْلُ الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان: ما قِبَلي مدخل.
فيقول له (1): اجلِسْ. فيجلس، قد مُثِّلتْ له الشمسُ، وقد آضَتْ (2) للغروب. فيقال له: هذا الرجلُ الذي كان فيكم، ما تقول فيه؟ وما تشهد به عليه؟ فيقول: دعوني حتى أصلِّي (3). فيقولون: إنك ستصلِّي، أخبِرْنا عَمّا نسألك عنه. أرأيت هذا الرجلَ الذي كان فيكم، ما تقول فيه؟ وماذا تشهد عليه؟ فيقول: محمدٌ، أشهد أنَّه رسول الله، جاء بالحقّ من عند الله. فيقال له: على ذلك حَيِيتَ، وعلى ذلك مِتَّ، وعلى ذلك تُبعَث إن شاء الله.
ثم يفتح له باب إلى الجنة، فيقال له: هذا مقعدك وما أعدَّ الله لك فيها. فيزداد غبطةً وسرورًا. ثم يُفسَح له في قبره سبعون ذراعًا، وينَّور له فيه، ويعاد الجسد لما بُدِئ منه، وتُجعل نَسَمتُه في النَّسَم الطيِّب، وهي طير يعلُق (4) في
(1) «له» ساقط من (ط).
(2) كذا في جميع النسخ. وفي مجموع الفتاوى: «أصغت». وفي كتاب ابن حبان: «أُدنيت». وفي بعض المصادر: «تدانت أو دنت». وآضت: عادت.
(3) (ب، ط، ج): «دعوني أصلي».
(4) (ب، ط، ج): «تعلق». وقد سبق تفسيره.
(1/156)
شجر الجنة». قال: «فذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}».
وذكر في الكافر ضدَّ ذلك إلى أن قال: «ثم يُضَيَّق عليه في قبره إلى أن تختلِفَ فيه أضلاعه، فتلك المعيشةُ الضَّنْكُ التي قال الله: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]» (1).
وفي الصحيحين (2) من حديث قتادة، عن أنس أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إنَّ الميت إذا وُضِع في قبره، وتولَّى عنه أصحابُه [35 ب] ــ إنّه ليَسمع خفقَ نعالهم ــ أتاه ملكان فيقرِّرانِه (3)، فيقولان له: ما كنتَ تقول في هذا الرجل محمد؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله». قال: «فيقول (4): انظر إلى مقعدك من النار، قد أَبْدَلَك الله به مقعدًا من الجنة». قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «فيراهما جميعًا».
قال قتادة: وذُكِر لنا أنَّه يُفسَح له في قبره سبعون ذراعًا، ويُملأ عليه خَضِرًا إلى يوم يبعثون. ثم رجع إلى حديث أنس. قال: «فأمّا (5) الكافرُ
(1) ثم ساق شيخ الإسلام حديث البراء بطوله، ثم ذكر حديث أنس الآتي وما بعده. مجموع الفتاوى (4/ 292 ــ 295).
(2) البخاري (1374) ومسلم (2870).
(3) (ق): «فيقعدانه». وهو لفظ الصحيحين. وفي النسخ الأخرى كلها ومجموع الفتاوى ما أثبتنا.
(4) كذا في جميع النسخ والفتاوى. وغيَّره بعض القراء في (ن) إلى «فيقولان». وفي الصحيحين: «فيقال له».
(5) (ب، ط، ج): «وأما».
(1/157)
والمنافق فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس. فيقولان: لا دريْتَ ولا تَلَيْتَ! ثم يُضرَب بمطراقٍ من حديد بين أذنيه، فيصيح صيحةً، فيسمعُها مَن عليها غيرَ الثقَلَين».
وفي صحيح أبي حاتم (1)، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إذا قُبِر أحدُكم أو الإنسان أتاه ملَكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما: المنكَرُ، والآخر: النَّكير، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد – صلى الله عليه وسلم -؟ فهو قائلٌ ما كان يقول. فإن كان مؤمنًا قال: هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله. فيقولان له: إنْ كنّا لَنَعلمُ أنّك تقول ذلك. ثم يُفسَح له في قبره سبعون ذراعًا في سبعين ذراعًا، وينَّور له فيه، ويقال له: نَمْ. فيقول: أرجعُ إلى أهلي ومالي، فأُخبِرهم! فيقولان: نَمْ كنَومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحبُّ أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك.
وإن كان منافقًا قال: لا أدري، كنتُ اسمع الناس يقولون شيئًا، فكنتُ أقوله. فيقولان له: كنَّا نعلم أنَّك تقول ذلك. ثم يقال للأرض: التَئِمي عليه. فتلتئم (2) عليه، حتى تختلفَ فيها أضلاعه. فلا يزال معذّبًا حتى يبعثَه الله من مضجعه ذلك».
(1) برقم (3117) من طريق عبد الرحمن بن إسحاق، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة.
وأخرجه من هذا الوجه الترمذي (1071)، وابن أبي عاصم في السنة (864)، والآجري في الشريعة (858)، والبيهقي في إثبات عذاب القبر (56). وقال الترمذي: «حسن غريب». وينظر: السلسلة الصحيحة (1391). (قالمي).
(2) رسم الفعلين في النسخ: التامي، تلتيم.
(1/158)
وهذا صريح في أنَّ البدن يُعذَّب (1).
وعن أبي هريرة أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إذا حُضِرَ المؤمنُ (2) أتته الملائكة بحريرة بيضاء، فيقولون: اخرجي أيتها الروح الطيّبة راضيةً مرضيًّا عنكِ [36 أ] إلى رَوحٍ ورَيحانٍ وربٍّ غيرِ غضبان. فتخرج كأطيب ريح المسك، حتّى إنّه ليناولُه بعضهُم بعضًا، حتّى يأتوا به بابَ السماء، فيقولون: ما أطيبَ هذه الريحَ التي جاءتكم من الأرض! فيأتون به أرواحَ المؤمنين، فلَهم أشدُّ فرحًا به من أحدكم بغائبه يقدَمُ عليه. فيسألونه: ماذا فعل فلان؟» قال: «فيقولون: دَعُوه يستريح، فإنه كان في غمِّ الدنيا. فإذا قال: أتاكم (3)، فيقولون: إنه ذُهِب به إلى أمه الهاوية (4).
وإنّ الكافر إذا احتُضِر أتته ملائكة العذاب بمِسْحٍ، فيقولون: اخرجي مسخوطًا عليك إلى عذاب الله! فتخرج كأنتَنِ ريحِ جيفةٍ، حتى (5) يأتوا به بابَ الأرض، فيقولون: ما أنتنَ هذه الروحَ! حتى يأتوا به أرواحَ الكفار».
رواه النسائي، والبزار، ومسلم مختصرًا (6).
(1) لفظ شيخ الإسلام: «وهذا الحديث فيه اختلاف أضلاعه وغير ذلك، مما يبيِّن أن البدن نفسه يعذَّب». فاختصره المصنف كما ترى.
(2) أي حضره الموت. وفي (ق): «احتضر».
(3) (ب، ط، ج): «إنه أتاكم».
(4) «فإذا قال … الهاوية» ساقط من (ن).
(5) «حتى» ساقطة من (ن).
(6) أخرجه النسائي (1833)، والبزار (8219)، وابن حبان (3014)، والحاكم (1/ 353) من طريق هشام الدستوائي، عن قتادة، عن قسامة بن زهير، عن أبي هريرة.
وأخرجه الحاكم أيضًا من طريق معمر، عن قتادة، به.
وصحَّح إسناده الحافظ العراقي في المغني عن حمل الأسفار (4392).
وقال الحاكم: «وقال همام بن يحيى عن قتادة عن أبي الجوزاء عن أبي هريرة».
يشير بذلك إلى الاختلاف على قتادة، وما رواه عنه معمر وهشام هو الأشبه بالصواب، ولا يمنع أن يكون فيه لقتادة شيخان؛ لأن قتادة واسع الرواية وهو ممن تدور عليه الأسانيد.
وحديث همام أخرجه ابن حبان (3013) وهو الحديث التالي عند المصنف.
وحديث أبي هريرة هذا سبق تخريجه بسياق أطول من رواية سعيد بن يسار، عنه. (قالمي).
(1/159)
وأخرجه أبو حاتم في صحيحه (1) وقال: «إن المؤمن إذا حضره الموتُ حضرته ملائكة الرحمة. فإذا قُبض جُعلت (2) روحه في حريرة بيضاء، فيُنطلَق بها إلى باب السماء، فيقولون: ما وجدنا (3) ريحًا أطيب من هذه. فيقال: ما فعل فلان؟ ما فعلت فلانة؟ فيقال: دعوه يستريح (4)، فإنَّه كان في غمِّ الدنيا. وأما الكافر إذا (5) قُبضت نفسُه (6) ذُهب بها إلى الأرض، فتقول خَزَنة الأرض: ما وجدنا ريحًا أنتنَ من هذه، فيُبلغ بها إلى الأرض السفلى» (7).
(1) سبق تخريجه في الحاشية السابقة.
(2) (ب، ط، ج): «وضعت».
(3) (ب، ط): «رحنا».
(4) «يستريح» ساقط من (ط).
(5) (ب، ط، ج): «فإذا».
(6) (ن): «روحه».
(7) هنا انتهى ما نقله المصنف من كلام شيخه. انظر: مجموع الفتاوى (4/ 295). وفيما بعده إلى آخر الفصل كأنه اعتمد في سياق الأحاديث على تذكرة القرطبي (323 ــ 325).
(1/160)
وروى النسائي في سننه (1) من حديث عبد الله بن عمر، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «هذا الذي تحرَّك له العرش، وفُتِحت له أبوابُ السماء، وشهد له سبعون ألفًا من الملائكة، لقد ضُمَّ ضَمَّةً، ثم فُرِّج عنه». قال النسائي: يعني سعد بن معاذ (2).
ورَوَى (3) من حديث عائشة قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «للقبر ضغطةٌ لو
(1) برقم (2055) عن إسحاق بن إبراهيم (هو ابن راهويه)، عن عمرو بن محمد العنقزيّ، عن عبد الله بن إدريس، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر.
وأخرجه من هذا الوجه أيضًا الطبراني في الكبير (1707) والأوسط (5333). وقال: «لم يرو هذا الحديث عن عبيد الله إلا ابن إدريس».
وإسناده صحيح. رجاله رجال الصحيح.
وينظر: السلسلة الصحيحة (1695). (قالمي).
(2) لم أجده في السنن. وقال السيوطي في شرحه: «زاد البيهقي في كتاب عذاب القبر [109]: يعني سعد بن معاذ».
ولكن كذا وقع في تذكرة القرطبي (323)، فلعله وهم في عزو ما قاله البيهقي إلى النسائي، وتابعه المصنف.
(3) ضبط في (ب): «رُوي». ولكن قال المصنف فيما بعد: «رواه». والسياق موهمٌ أن هذا الحديث أيضًا رواه النسائي. والمصنف صادر عن تذكرة القرطبي، والقرطبي صادر عن كتاب العاقبة (244).
والسياق في العاقبة: «وذكر النسائي عن ابن عمر … ومن حديث شعبة بن الحجاج بإسناده إلى عائشة أم المؤمنين … وذكر مسلم من حديث عبد الله بن عمر». فذكرُ حديث شعبة بعد النسائي وقبل مسلم قد يُوهم أن حديث شعبة أيضًا من كتاب النسائي. وسياق القرطبي في التذكرة (323): «النسائي عن عبد الله بن عمر … ومن حديث شعبة … » إلخ. فتابع عبد الحق بالنص. وليس فيه تصريح بأن حديث شعبة رواه النسائي، خلافًا لابن القيم الذي تصرَّف في النقل، فقال: «رواه من حديث شعبة»، فصرَّح بأنه رواه النسائي، إذ لا مرجع للضمير غيره؛ إلا أن يقال: إن الفاعل سقط من النسخ، وكان في أصل المصنف مثلاً: «رواه [أحمد] من حديث شعبة». والله أعلم.
(1/161)
نجا منها أحد لنجا منها سعدُ بن معاذ». رواه من حديث شعبة (1).
وقال هنَّاد بن السَّرِيّ (2): حدثنا محمد بن فُضَيل، عن أبيه، عن ابن أبي مُليَكة قال: ما أُجِيرَ من ضغطة القبر أحدٌ، ولا سعدُ بن معاذ الذي منديلٌ من مناديله خيرٌ من الدنيا وما فيها.
(1) أخرجه البغوي في الجعديات (1566)، وابن جرير الطبري في تهذيب الآثار (897 ــ مسند عمر بن الخطاب)، وابن حبان (3112)، والبيهقي في شعب الإيمان (396)، وفي إثبات عذاب القبر (119، 120) من طرق عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن نافع، عن صفية امرأة ابن عمر، عن عائشة.
وأخرجه الإمام أحمد (24283) من طريقين عن شعبة، فقال في الأولى: «عن نافع عن عائشة» ولم يذكر الواسطة، وقال في الأخرى: «عن إنسان عن عائشة» ولم يسمه.
وقال الحافظ العراقي في تخريجه أحاديث الإحياء (4466): «رواه أحمد بإسناد جيد».
ولكن علم من رواية الجماعة عن شعبة أن نافعًا يرويه عن عائشة بواسطة صفية امرأة ابن عمر.
وإسناده صحيح. رجاله رجال الصحيح. (قالمي).
(2) في كتاب الزهد (356).
(1/162)
قال (1) [36 ب]: وحدثنا عَبْدة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع قال: لقد (2) بلغني أنه شهد جنازة سعدِ بن معاذ سبعون ألفَ ملَك لم ينزلوا إلى الأرض قطُّ. ولقد بلغني أنّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «لقد ضُمَّ صاحبُكم في القبر ضمَّةً».
وقال علي بن معبد (3):
حدّثنا عبيد الله، عن زيد (4) بن أبي أُنَيْسة، عن جابر، عن نافع قال: أتينا صفيةَ بنت أبي عبيد امرأةَ عبد الله بن عمر، وهي فَزِعةٌ (5)، فقلنا: ما شأنُك؟ فقالت: جئت من عند بعض نساء النبي – صلى الله عليه وسلم -، فحدَّثتني أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «إنْ كنت لأرى لو أنَّ أحدًا أُعْفِيَ من عذاب القبر لعُوفيَ (6) منه سعدُ بن معاذ. لقد ضُمَّ فيه ضَمَّةً» (7).
(1) في كتاب الزهد (358). ورجاله ثقات ولكنه مرسل. وعبدة هو ابن سليمان الكلابي الكوفي. (قالمي).
(2) «لقد» ساقط من الأصل.
(3) في (ب، ن): «علي بن سعيد». وهو تحريف. والآثار الثلاثة الآتية خرَّجها القرطبي في التذكرة (324) من كتاب «الطاعة والمعصية» لعلي بن معبد، غير أنه حذف أسانيدها. أما المصنف فساقها بأسانيدها ولكن لم يصرّح باسم الكتاب.
وهو علي بن معبد بن شدَّاد العبدي أبو الحسن ــ ويقال: أبو محمد ــ الرَّقِّي نزيل مصر. توفي سنة 218. انظر: تهذيب التهذيب (7/ 384). وكتابه «الطاعة والمعصية» ذكره ابن خير في فهرسته (272) وابن حجر في المعجم المفهرس (92).
(4) (أ، ن): «يزيد»، تحريف.
(5) (ق): «خزاعة».
(6) في جميع النسخ والتذكرة هنا: «لعفي»، ولعله تصحيف سماعي لما أثبتنا من الأوسط للطبراني (1159) وحلية الأولياء (3/ 174).
(7) أخرجه الطبراني في الأوسط (1159) قال: حدثنا أحمد (هو ابن داود المكي) ثنا عبيد الله (هو ابن عمرو الرقي) بإسناده. وفيه جابر وهو ابن يزيد الجعفي وهو متروك.
وقال الهيثمي في المجمع (3/ 47): «وهو مرسل وفي إسناده من لم أعرفه». كذا قال! ولم يتبين لي وجه الإرسال فيه؛ لأنه من رواية نافع عن صفية، عن بعض زوجات النبي – صلى الله عليه وسلم -، إلا إذا كان على مذهب من يسمي حديث الصحابي المبهم مرسلاً كالبيهقي وغيره. وقد سبق في رواية سعد بن إبراهيم أنّ نافعًا يرويه عن صفية، عن عائشة رضي الله عنها. وقوله رحمه الله: «وفي إسناده من لم أعرفه» كذا ولعله يعني شيخ الطبراني وإلا فرواته معروفون بالثقة سوى جابر الجعفي فهو معروف بالضعف. والله أعلم. (قالمي).
(1/163)
وحدثنا مروان بن معاوية، عن العلاء بن المسيّب، عن معاوية العبسي، عن زاذان أبي عمر (1)، قال: لما دَفَن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ابنتَه جلس عند القبر، فتربَّد وجهُه، ثم سُرِّي عنه. فقال له أصحابه: رأينا وجهك آنفًا، ثم سُرِّي عنك. فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «ذكرت ابنتي وضعْفَها وعذابَ القبر، فدعوت الله، ففرَّج عنها. وَايم الله لقد ضُمَّت ضَمَّةً سمعها مَن بين الخافقين» (2).
(1) (ب): «أبي عمرو». (ز): «بن عمر». وفي غيرهما: «بن عمرو». والصواب ما أثبتنا. وكذا في التذكرة.
(2) أخرجه سعيد بن منصور في سننه كما في اللآلئ المصنوعة (2/ 434) عن مروان بن معاوية بإسناده. ومن طريق سعيد بن منصور أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية (1518)، وفي الموضوعات (3/ 233).
وهو مرسل، زاذان أبو عمر ذكره ابن سعد في الطبقات (6/ 178) في الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة، وقال: «كان ثقة قليل الحديث»، ووثقه أيضًا ابن معين والخطيب وغيرهما. (انظر: تهذيب التهذيب 3/ 303). وأما معاوية العبسي فلم أظفر له بترجمة.
وله شاهد من حديث أنس. أخرجه الطبراني في الأوسط (5810) من طريق زكريا بن سلام، عن سعيد بن مسروق عن أنس.
قال الحافظ ابن رجب في أهوال القبور (ص 116): «وزكريا قيل: إنه مجهول، وسعيد بن مسروق لم يُدرك أنسًا فهو منقطع».
وله طريق أخرى من رواية الأعمش، لكن اختُلف عليه كثيرًا كما شرح ذلك أبو الحسن الدارقطني في العلل (12/ 251) ثم قال: «والحديث مضطرب عن الأعمش».
ونقله عنه ابن الجوزي في الموضوعات وقال: «هذا حديث لا يصح من جميع طرقه». (قالمي).
(1/164)
وحدثنا شعيب، عن ابن دينار (1)، عن إبراهيم الغنَوي، عن رجل قال: كنت عند عائشة، فمرَّت جنازة صبيٍّ، فبكت، فقلت لها: ما يُبكيكِ يا أمَّ المؤمنين؟ فقالت: هذا الصبي بكيتُ له شفقةً عليه من ضمَّة القبر.
ومعلوم أنَّ هذا كلَّه للجسد (2) بواسطة الروح.
فصل
وهذا كما أنَّه مقتضَى السنّة الصحيحة، فهو متفق عليه بين أهل السنة.
قال المرُّوذي: قال أبو عبد الله: عذابُ القبر حقٌّ لا ينكره إلا ضالٌّ مُضِلّ (3).
وقال حنبل: قلت لأبي عبد الله في عذاب القبر، فقال: هذه أحاديثُ
(1) في (ب، ط، ج): «سعيد» موضع «شعيب». وفي (ن): «حدثنا سعيد بن دينار». وعزاه ابن رجب في الأهوال (61) إلى هناد بن السري عن سعيد بن دينار. ولم أجده في كتاب الزهد لهناد.
(2) «للجسد» ساقط من (ط).
(3) طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/ 149).
(1/165)
صحاحٌ نؤمن بها، ونُقِرُّ بها. كلُّ ما جاء عن النبي – صلى الله عليه وسلم – إسنادُه جيِّدٌ (1) أقررنا به. إذا لم نُقِرَّ بما جاء به الرسول، ودفَعناه، وردَدْناه= رددنا على الله أمرَه. قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7]. قلت له: وعذابُ القبر حقٌّ؟ قال: حقٌّ، يعذَّبون في القبور.
قال (2): وسمعت أبا عبد الله يقول: نؤمن بعذاب القبر وبمنكر ونكير، وأنَّ العبد يُسأل في قبره فـ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} في القبر (3).
وقال أحمد بن القاسم (4): قلتُ: يا أبا عبد الله، تُقِرُّ بمنكر ونكير، وما يروَى في عذاب القبر؟ فقال: سبحان الله! نعم، نُقِرُّ بذلك، ونقوله. قلت: هذه اللفظة نقول (5): «منكَر ونكير» هكذا، أو نقول ملكين؟ قال: منكر ونكير. قلت: يقولون ليس في حديثٍ منكر ونكير. قال: هو هكذا. يعني: أنهما منكر ونكير.
(1) في النسخ كلها ما عدا (ن): «إسنادٌ جيِّدٌ». وقد ضبط في الأصل بتنوين الكلمتين. وكذا نقله من كتاب الروح المنبجي في تسلية أهل المصائب (285) والسفاريني في لوامع الأنوار (2/ 23). ولعل صوابه ما أثبتناه من حادي الأرواح للمصنف (708). وفي (ن): «بإسناد جيد». وكذا في مجموع الفتاوى (6/ 500) في جواب أبي عبد الله عن سؤال حنبل في مسألة الرؤية. وفي كتاب اللالكائي (889): بأسانيد جيدة.
(2) نقله المنبجي في تسلية المصائب (285) والسفاريني في لوامع الأنوار (2/ 23).
(3) «في القبر» ساقط من (ن). وقد سبق أن الآية نزلت في عذاب القبر.
(4) ذكره بنحوه ابن أبي يعلى في ترجمته في طبقات الحنابلة (1/ 135).
(5) كذا في (ط، ع) بالنون «نقول» هنا وفيما بعد. وفي غيرهما لم ينقط.
(1/166)
وأما أقوال أهل البدع والضلال (1)، فقال أبو الهُذَيل والمَرِيسي (2):
من خرج عن سمَة الإيمان فإنه يعذَّب بين النفختين، والمسألةُ في القبر إنما تقع في ذلك الوقت.
وأثبت الجُبَّائي وابنه (3) والبَلْخي (4) عذاب القبر، ولكنهم نفَوْه عن المؤمنين، وأثبتوه لأصحاب التخليد من الكفار (5) والفُسَّاقِ على أصولهم.
(1) هذه الأقوال إلى آخر الفصل منقولة من كتاب التذكرة للقرطبي (378 ــ 380). وانظر: المواقف للإيجي (3/ 517).
(2) كذا في جميع النسخ. وفي تذكرة القرطبي ــ وهو مصدر المؤلف ــ: «بِشْر». والمقصود به: بِشر بن المعتمر الهلالي. وقد صرَّح بذلك الآمدي في أبكار الأفكار (الآيات البينات: 87) والعضد في المواقف (3/ 517). ولكن ابن القيِّم توهَّم أن المراد: بِشر بن غياث المريسي، فتصرَّف في نقل كلام القرطبي، وكتب مكان «بشر»: «المريسي» مع أنَّ القرطبي ميَّز بينهما. فذكر ابن المعتمر باسمه «بشر» في أول الفقرة، وذكر ابن غياث في آخرها باسمه ونسبه: «بشر المريسي».
أضف إلى ذلك أن السياق يأبى أن يراد هنا المريسي، فإن القرطبي نقل أولاً أقوال طائفة من المعتزلة القائلين بعذاب القبر، ومنهم أبو الهذيل وبشر، ثم قال: «وأما الباقون من المعتزلة … فإنهم أنكروا عذاب القبر أصلاً». وذكر من هؤلاء «بشرًا المريسي». فلا يعقل أن يكون المريسي منكرًا لعذاب القبر أصلاً وقائلاً به في وقت واحد.
(3) الجبَّائي محمد بن عبد الوهاب (ت 303) وابنه عبد السلام (ت 321). ترجمتهما في طبقات المعتزلة (80، 94).
(4) عبد الله بن أحمد البلخي الكعبي، رأس الفرقة الكعبية (ت 319). ترجمته في المصدر السابق (88).
(5) في (ط، ج): «في النار» مكان «من الكفار».
(1/167)
وقال كثير من المعتزلة: لا يجوز تسمية ملائكة الله بمنكَر ونكير، وإنّما المنكَر: ما يبدو من تلجلجه إذا سئل؛ والنكير: تقريعُ الملكين له.
وقال الصالحي (1) وصالح قُبَّة (2): عذاب القبر يجري على المؤمن من غير ردِّ الأرواح إلى الأجساد، والميتُ يجوز أن يأْلَم ويُحِسَّ ويعلمَ بلا روح. وهذا قول جماعة من الكرَّامية.
وقال بعض المعتزلة: إن الله سبحانه يعذِّب الموتى في قبورهم، ويُحدِثُ فيهم الآلام، وهم لا يشعرون. فإذا حُشروا وجدوا تلك الآلام، وأحسُّوا بها. قالوا: وسبيل المعذَّبين من الموتى كسبيل السكران والمغشيّ عليه، لو ضُرِبوا لم يجدوا الألم، فإذا عاد إليهم العقل أحسُّوا بألم الضرب.
وأنكر جماعة منهم عذاب القبر رأسًا مثل ضِرار بن عمرو (3). ويحيى بن كامل (4)، وهو قول المَريسي.
(1) في (ب، ط، ن، ج): «الصنابحي». والصواب ما أثبتنا من غيرها والتذكرة. وهو أبو الحسين محمد بن مسلم الصالحي، رأس الفرقة الصالحية، من قدماء المعتزلة. انظر: طبقات المعتزلة (72).
(2) في جميع النسخ الخطية ما عدا (ن، ز): «فيه»، وكذا في المطبوعة. وفي (ن، ز): «فتنة». وكلاهما تصحيف. والصواب ما أثبتنا من التذكرة. وقد أشار الأستاذ بسام العموش إلى احتمال هذا التصحيف في نشرته للروح (297)، ولكنه لم يكن على بينة منه فلم يثبته في المتن. وانظر في صالح قبَّة: طبقات المعتزلة (73) ومقالات الإسلاميين (406 ــ 407) وفيه سبب تلقيبه.
(3) رأس الفرقة الضرارية. ترجمته في الفهرست (214) وسير أعلام النبلاء (10/ 544).
(4) كان من أصحاب المريسي ومن المرجئة ثم انتقل إلى مذهب الإباضية. الفهرست (233).
(1/168)
فهذه أقوال أهل الحَيْرة والضلالة (1).
فصل
ومما ينبغي أن يُعلم أنَّ عذاب القبر هو عذاب البرزخ. فكلُّ من مات، وهو مستحِقٌّ للعذاب، ناله نصيبه منه، قُبر أو لم يُقبر. فلو أكلته السباع، أو أُحرِق حتى صار رمادًا، أو نُسِف في الهواء، [37 ب] أَو صُلِب، أو غَرِق في البحر= وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى المقبور (2).
وفي «صحيح البخاري» (3) عن سَمُرة بن جُنْدُب قال: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا صلَّى صلاةً أقبل علينا بوجهه، فقال: «من رأى منكم الليلة رؤيا؟» قال: فإن رأى أحدٌ رؤيا قصَّها. فيقول ما شاء الله. فسألنا يومًا، فقال: «هل رأى أحد منكم رؤيا؟» قلنا: لا. قال: «لكنّي رأيتُ الليلةَ رجلين أتياني، فأخذا بيدي، وأخرجاني إلى الأرض المقدَّسة. فإذا رجل جالس، ورجل قائم، بيده كَلُّوبٌ من حديد، يُدخله في شِدْقِه حتى يبلغ قفاه، ثم يفعل بشِدقه الآخرِ مثلَ ذلك، ويلتئم شِدقه هذا، فيعود، فيصنع مثله.
قلتُ: ما هذا؟ قالا: انطِلْق.
فانطلقنا حتى أتَيْنا على رجلٍ مضطجع على قَفاه، ورجلٌ قائمٌ على رأسه بصخرة أو فِهْر، فيشدَخ بها رأسَه. فإذا ضربه تدَهْدَهَ الحجر، فانطلقَ إليه
(1) (ن، ز): «الضلال».
(2) في (ق، ز) والنسخ المطبوعة: «القبور»، تحريف. وانظر «الأمر الثامن» في المسألة الآتية.
(3) برقم (1386).
(1/169)
ليأخذه، فلا يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسُه، وعاد رأسه كما هو، فعاد إليه، فضربه.
قلتُ: ما هذا؟ قالا: انطلِق.
فانطلقنا إلى نَقْبٍ مثل التنّور، أعلاه ضيِّق، وأسفلُه واسع، يوقَد تحته نارٌ (1). فإذا فيه رجالٌ ونساءٌ عراةٌ. فيأتيهم اللهب من تحتهم، فإذا اقترب (2) ارتفعوا حتى كادوا يخرجوا (3)، فإذا خمدت رجعوا.
فقلت: ما هذا؟ قالا: انطلق.
فانطلقنا، حتى أتينا على نهر من دمٍ، فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة. فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمَى الرجلُ بحجرٍ في فيه، فردَّه حيث كان. فجَعل كلَّما جاء ليخرج رمَى في فيه بحجر، فرجع كما كان.
فقلت: ما هذا، قالا: انطلق.
فانطلقنا حتى انتهينا إلى روضة خضراءَ، فيها شجرةٌ عظيمة، وفي أصلها شيخ وصبيان. وإذا رجل قريب من الشجرة، بين يديه نارٌ يوقدها. فصعدا بي الشجرة، وأدخلاني دارًا لم أرَ قط أحسنَ منها، فيها شيوخ وشبَّان (4). ثم صعدا بي فأدخلاني دارًا هي أحسن وأفضل.
(1) (ق): «نارًا».
(2) (ب، ط): «ضرمت». (ن): «أضرمت».
(3) كذا في الأصل وغيره ما عدا (ط، ز) والنون حذفت للتخفيف. وقد يكون المؤلف أثبت «كاد أن يخرجوا» كما في الصحيح، فأخطأ الناسخ. وفي (ط، ز): «يخرجون».
(4) في الصحيح: «رجال شيوخ وشباب ونساء وصبيان».
(1/170)
قلت [38 أ]: طَوَّفْتُماني (1) الليلة، فأخبِراني عما رأيتُ. قالا: نعم. الذي رأيتَه يُشَقُّ شِدقُه كذَّاب يحدِّث بالكَذْبة، فتُحمَل عنه حتَّى تبلغ الآفاق؛ فيُصنَع به إلى القيامة. والذي رأيته يُشدَخ رأسُه، فرجلٌ علَّمه الله القرآن، فنام عنه بالليل، ولم يعمل به في النهار؛ يُفعل به إلى يوم القيامة. وأما الذي رأيت في النَّقْب فهم الزناة. والذي رأيتَه في النهر فآكلُ الربا.
وأما الشيخ الذي في أصل الشجرة فإبراهيم، والصبيانُ حوله فأولاد الناس، والذي يوقِد النار فمالكٌ خازُن النار. والدارُ الأولى دار عامَّة المؤمنين، وأما هذه الدار فدار الشهداء. وأنا جبريل، وهذا ميكائيل، فارفع رأسك. فرفعتُ رأسي، فإذا قصر مثلُ السحابة. قالا: ذاك منزلك، قلت (2): دَعاني أدخلْ منزلي، قالا: إنه بقي لك عمر لم تستكمله، فلو استكملتَه أتيتَ منزلك».
وهذا نصٌّ في عذاب البرزخ، فإنَّ رؤيا الأنبياء وَحْي مطابق لما في نفس الأمر.
وقد ذكر الطحاوي (3) عن ابن مسعود عن (4) النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «أُمِر بعبد
(1) (ب، ط): «طُفتمابي».
(2) (ب، ط، ج): «فقلت».
(3) في مشكل الآثار (3185) قال: حدثنا فهد بن سليمان، ثنا عمرو بن عون الواسطي، ثنا جعفر بن سليمان، عن عاصم، عن شقيق، عن ابن مسعود.
ورجاله ثقات غير عاصم هو ابن أبي النجود وهو صدوق له أوهام، حجة في القراءة، وحديثه في الصحيحن، كما في التقريب. وجوَّد إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة (2774). (قالمي).
والمصنف صادر عن تذكرة القرطبي. (الإصلاحي).
(4) ما عدا (أ، ق، غ): «أنَّ».
(1/171)
من عباد الله أن يُضرَب في قبره مائة جلدة. فلم يزل يسألُ الله ويدعوه حتى صارت واحدة (1)، فامتلأ قبره عليه (2) نارًا. فلما ارتفع عنه أفاق، فقال: علاَم جلدتموني؟ قالوا: إنّك صلَّيت صلاة بغير طهور، ومررت على مظلوم فلم تنصره».
وقد ذكر البيهقي (3) حديث الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي
(1) في (ب، ط) زيادة: «فضرباه». وفي مشكل الآثار مكانها: «فجُلد جلدة واحدة».
(2) (أ): «عليه قبره».
(3) في دلائل النبوة (679) والمصنف صادر عن تذكرة القرطبي (401). (الإصلاحي).
أخرجه البيهقي من طريق أبي جعفر الرازي وهو عيسى بن ماهان، عن الربيع بن أنس، بطوله.
ومن هذا الوجه أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (13184)، وابن جرير الطبري في تفسيره (14/ 424 ــ 435)، والبزار (55 ـ كشف الأستار). إلا أنه وقع عند ابن أبي حاتم والبزار الشك في شيخ الربيع بن أنس أو غيره. ووقع عند الطبري الشك في الصحابي: «عن أبي هريرة أو غيره» وزاد: «شك أبو جعفر» يعني عيسى بن ماهان الرازيّ.
قال البزار: «وهذا لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد من هذا الوجه».
وفي إسناده أبو جعفر الرازي واسمه عيسى بن أبي عيسى عبد الله بن ماهان، صدوق سيئ الحفظ كما في التقريب، ومن سوء حفظه شكّه في التابعي هل هو أبو العالية الرياحي واسمه نُفيع بن مهران وهو ثقة من رجال الجماعة أو غيره فيكون مجهولاً.
ولذلك قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 72) ــ بعد أن عزاه للبزار ــ: «رجاله موثقون إلا أن الربيع بن أنس، قال: عن أبي العالية أو غيره، فتابعيه مجهول».
والحديث أورده ابن كثير في تفسيره (5/ 32 ــ 38) عن الطبري بطوله ثم قال عقبه: «أبو جعفر الرازي قال فيه الحافظ أبو زرعة الرازي: يَهِم في الحديث كثيرًا، وقد ضعَّفه غيره أيضًا، ووثقه بعضهم، والأظهر أنه سيئ الحفظ ففيما تفرد به نظر. وهذا الحديث في بعض ألفاظه غرابة ونكارة شديدة، وفيه شيء من حديث المنام من رواية سمرة بن جندب في المنام الطويل عند البخاري، ويشبه أن يكون مجموعًا من أحاديث شتى، أو منام أو قصة أخرى غير الإسراء، والله أعلم». (قالمي).
(1/172)
هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في هذه الآية: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} الآية [الإسراء: 1]، قال: «أُتي بفرس، فحُمل عليه». قال: «كلُّ خطوة منتهى أقصى بصره. فسار، وسار معه جبريلُ، فأتَى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم، كلَّما حصدوا عاد كما كان، فقال: يا جبريل مَن هؤلاء؟ قال: هؤلاء المهاجرون (1) في سبيل الله، يُضاعَف لهم الحسنةُ بسبعمائة {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39].
ثم أتى على قوم تُرضَخ رؤوسهم بالصخر، كلَّما رُضِخت عادت [38 ب] كما كانت، لا يُفَتَّرُ عنهم شيءٌ من ذلك. قال: يا جبريل مَن هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل (2) رؤوسهم عن الصلاة.
قال: ثم أتى على قوم، على أقبالهم رِقاعٌ، وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الأنعام على الضَّريع، والزَّقُّوم، ورَضْفِ (3) جهنَّم، وحجارتها. قال: ما هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدُّون صدقات أموالهم. وما ظلمهم الله، وما الله بظلام للعبيد.
(1) ما عدا (أ، ق): «المجاهدون». وقد غيَّر بعضهم في (ب) «المهاجرون» إلى «المجاهدون». وفي الدلائل ما أثبتنا.
(2) (ب، ط، ن، ج): «تنام».
(3) ما عدا (ب، ط): «وصف»، تصحيف. والرضف: الحجارة التي حميت بالشمس أو النار.
(1/173)
ثم أتى على قوم، بين أيديهم لحمٌ من (1) قِدْر نضيج، ولحم آخر خبيث. فجعلوا يأكلون من الخبيث، ويدَعُون النضيج الطيب. فقال: يا جبريل مَن هؤلاء؟ قال: هذا الرجل يقوم، وعنده امرأة حلالاً طيبًا (2)، فيأتي المرأةَ الخبيثة، فتبيتُ معه حتى تصبح.
ثم أتى على خشبة على الطريق، لا يمرُّ بها شيء إلا قصَفَتْه. يقول الله تعالى: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} [الأعراف: 86].
ثم مرَّ على رجل قد جمَعَ حُزمةً عظيمةً لا يستطيع حملَها، وهو يريد أن يزيدَ عليها. قال: يا جبريل ما هذا؟ قال: هذا (3) رجل من أمتك، عليه أمانةٌ، لا يستطيع أداءها، وهو يزيد عليها.
ثم أتى على قوم تُقَرَض شفاههم بمقاريض (4) من حديد، كلَّما قُرِضت عادت كما كانت، لا يفتَّر عنهم شيء. قال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء الفتنة (5).
ثم أتى على حجر صغير، يخرج منه ثور عظيم. فجعل الثور (6) يريد أن يدخل من حيث خرج ولا يستطيع، قال: ما هذا يا جبريل؟ قال (7): هذا الرجل
(1) (ن، ز): «في». وكذا في الدلائل.
(2) (ق، ز): «حلال طيب».
(3) «هذا» من (ق، ن، ج) والدلائل.
(4) (أ، غ): «بمقارض».
(5) (ط): «أمتك».
(6) «الثور» ساقط من (أ، غ).
(7) «هؤلاء خطباء … قال» ساقط من (ن).
(1/174)
يتكلم بالكلمة، فيندم عليها، فيريد أن يردَّها، فلا يستطيع». وذكر الحديث.
وذكر البيهقي (1)
أيضًا في حديث الإسراء من رواية أبي سعيد الخُدري عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «فصعدْتُ أنا وجبريلُ، فاستفتح جبريل، فإذا بآدم (2) كهيئته يومَ خلقه الله على صورته، تُعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين، فيقول: روحٌ طيِّبة ونَفْس طيِّبة، اجعلوها في علِّيين. ثم تُعرض عليه (3) أرواح ذريته الفُجَّارِ، فيقول: روح خبيثة ونفس خبيثة، اجعلوها في سِجِّين.
ثم مضَيْتُ هنيَّة، فإذا أنا بأَخوِنَة [39 أ]، عليها لحمٌ مُشرَّح (4) ليس بقربها أحد. وإذا بأخْوِنة أخرى، عليها لحم قد أرْوَحَ ونَتِن، وعندها ناس يأكلون منها. قلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء يتركون الحلال ويأتون الحرام.
(1) في دلائل النبوة (677) والمصنف صادر عن تذكرة القرطبي (403). (الإصلاحي).
أخرجه البيهقي بسنده عن أبي محمد بن أسد الحماني، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري.
وأخرجه ابن جرير الطبريّ في تفسيره (14/ 436 ــ 441) من طريقين عن أبي هارون به، مطوّلا ومختصرًا.
وإسناده ضعيف جدًّا. علّته أبو هارون العبدي مشهور بكنيته واسمه عمارة بن جُوَيْن. قال الحافظ في التقريب: «متروك ومنهم من كذبه».
وساقه الحافظ ابن كثير في تفسيره (5/ 21 ــ 25) عن البيهقي بطوله، ثم قال في آخره: «أبو هارون العبدي واسمه عمارة بن جوين وهو مضعَّف عند الأئمة، وإنما سقنا حديثه هاهنا لما في حديثه من الشواهد لغيره». (قالمي).
(2) (أ، غ): «آدم».
(3) «عليه» ساقط من (ب، ط).
(4) زاد بعضهم في الأصل واوًا بين الراء والحاء ليقرأ «مشروح» كما في (غ).
وفي (ب، ط، ن، ج): «يشرح».
(1/175)
قال: ثم مضيت هنيَّة فإذا أنا بأقوامٍ بطونُهم أمثالُ البيوت (1)، كلّما نهض أحدهم خرَّ يقول: اللهم لا تُقِم الساعة. قال: وهم على سابلةِ آل فرعون. قال: فتجيء السابلة (2)، فتطؤُهم، فيصيحون (3). قلت: يا جبريل (4) من هؤلاء؟ قال: هؤلاء {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275].
قال: ثم مضَيْت هنيَّةً، فإذا أنا بقوم (5)، مشافِرُهم كمشافر الإبل، فتُفتَح (6) أفواهُهم، فيُلْقَمون الجمر، ثم يخرج من أسافلهم، فسمعتهم يصيحون (7). قلت: من هؤلاء؟ قال: الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا.
ثم مضيت هنيَّة، فإذا أنا بنساء معلَّقات بثُدِيِّهن، فسمعْتُهن يصِحْن. قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزواني.
ثم مضيت هنيَّة، فإذا أنا بقوم يُقطع من جنوبهم اللحمُ، فيُلْقَمون، فيقال: كُلْ ما كنت تأكل من لحم أخيك. قلت: من هؤلاء؟ قال: الهمَّازون من أمتك». وذكر الحديث بطوله.
(1) (ط): «كأمثال البيوت».
(2) السابلة: الطريق المسلوك، والسالكون عليه.
(3) (ب، ط، ج): «يضجُّون».
(4) «يا جبريل» ساقط من (ط).
(5) (ط، ن): «بأقوام».
(6) (ط، ج): «فتنفتح».
(7) (ب، ط، ج): «يضجُّون».
(1/176)
وفي سنن أبي داود (1) من حديث أنس بن مالك قال (2): قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «لما عُرج بي مررتُ بقومٍ، لهم أظفارٌ من نحاس، يخمِشُون وجوههم وصدورهم. فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم».
وقال أبو داود الطيالِسيُّ في مسنده (3): حدثنا شعبةُ، عن الأعمش، عن
(1) (ن): «وفي د». كذا اكتفى بالرمز. والحديث فيه برقم (4878). وانظر: تذكرة القرطبي (404). (الإصلاحي».
أخرجه أبو داود من طريق بقية وأبي المغيرة كلاهما عن صفوان، عن راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير كلاهما عن أنس.
وأخرجه الإمام أحمد (13340)، والطبراني في الأوسط (8)، وفي مسند الشاميين (932) من طريق أبي المغيرة، به. وإسناده صحيح، رجاله ثقات شاميون؛ وصفوان هو ابن عمرو الحمصي، وأبو المغيرة هو عبد القدوس بن الحجاج الحمصي. وانظر: السلسلة الصحيحة (533). (قالمي).
(2) «قال» ساقط من (ب، ط).
(3) برقم (2768) وانظر: التذكرة (395). (الإصلاحي).
ورجاله ثقات، غير أنّ أصحاب الأعمش خالفوا شعبة في إسناده ولفظه؛ فأخرجه البخاري (652)، ومسلم (292) من طريق وكيع. والبخاري (218) من طريق أبي معاوية محمد بن خازم، و (1378) من طريق جرير. ومسلم من طريق عبد الواحد بن زياد. أربعتهم عن الأعمش، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس، وفيه: «لا يستتر من بوله» بدل «فكان يأكل لحوم الناس». فتبين بهذا أن مجاهدًا لم يسمعه من ابن عباس، فيكون في إسناد الطيالسي انقطاع، وشذوذ في قوله: «فكان يأكل لحوم الناس» يعني يغتابهم.
ويجوز أن يكون مجاهد سمع الحديث من الوجهين، بواسطة وبغير واسطة؛ يؤيد ذلك أن الإمام البخاري (216، 6055) رواه من طريق منصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن ابن عباس، لكن بلفظ الجماعة. (قالمي).
(1/177)
مجاهد، عن ابن عباس أنّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أتى على قبرين فقال: «إنهما لَيُعذَّبان في غير كبير (1). أمَّا أحدهما فكان يأكل لحوم الناس. وأما الآخر فكان صاحب نميمة. ثم دعا بجريدة، فشَقَّها نصفَين، فوضع نصفَها على هذا القبر، ونصفها على هذا القبر، وقال: عسى أن يخفَّف عنهما ما دامتا رَطبتين».
وقد اختلف الناس في هذين: هل كانا كافرين أو مؤمنين؟
فقيل: كانا كافرين. وقوله: «وما يعذّبان في كبير» (2) يعني: بالإضافة إلى الكفر والشِّرك. قالوا: ويدلُّ عليه [39 ب] أنَّ العذاب لم يرتفع عنهما، وإنما خُفّف (3). وأيضًا فإنه (4) خُفِّف مدةَ رُطوبة الجريدة فقط. وأيضًا فإنّهما لو كانا مؤمنين لشَفَع فيهما ودعا لهما النبي – صلى الله عليه وسلم -، فرُفع عنهما العذابُ بشفاعته. وأيضًا ففي بعض طرق الحديث: أنهما كانا كافرين. وهذا التعذيبُ زيادةٌ على تعذيبهما بكفرهما وخطاياهما، وهو دليل على أنَّ الكافر يعذَّب بكفره وذنوبه جميعًا. وهذا اختيار أبي الحَكَم بن بَرَّجان (5).
(1) (ب، ط، ج، ز): «وما يعذبان في كبير» موضع «في غير كبير». والمثبت من غيرها موافق لما في المسند. ولعل بعض الناسخين نظر إلى اللفظ الذي سيأتي في الكلام على الحديث، فأثبته هنا ليزول الخلاف بين المتن والشرح.
(2) لم يسبق هذا اللفظ في كلام المصنف، ولكنه ينقل من تذكرة القرطبي الذي أورد أحاديث مختلفة وتكلم عليها. وهذا لفظ الصحيحين.
(3) (ط، ز): «يخفف». (ن): «خفف عنهما».
(4) (ط): «إنه».
(5) في كتابه: «الإرشاد الهادي إلى التوفيق والسداد». انظر: التذكرة للقرطبي (396). وبه جزم أبو موسى المديني، كما في فتح الباري (1/ 321).
(1/178)
وقيل: كانا مسلمين لنفيْهِ – صلى الله عليه وسلم – التعذيبَ بسببٍ غير السببين المذكورين، ولقوله: «وما يعذبان في كبير»، والكفرُ والشرك أكبر الكبائر على الإطلاق. ولا يلزم أن يشفَع النبي – صلى الله عليه وسلم – لكل مسلم يعذَّب في قبره على جريمة من الجرائم (1)، فقد أَخبر عن صاحب الشَّملة الذي قُتل في الجهاد أنَّ الشملة تشتعل عليه نارًا في قبره، وكان مسلمًا مجاهدًا (2). ولا يُعلَم ثبوت هذه اللفظة، وهي قوله: «كانا كافرين» (3)، ولعلها لو صحَّت ــ وكَلَّا (4) ــ فهي من
(1) في (أ، غ): «على الحرام». سقط وتحريف.
(2) يشير إلى حديث أبي هريرة. أخرجه البخاري (4234) ومسلم (115).
(3) أخرج الطبراني في الأوسط (4628) من طريق ابن لهيعة، عن أسامة بن زيد، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: «مرَّ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – على قبور نساء من بني النجار، هلكوا في الجاهلية، فسمعهم يعذَّبون في القبور في النميمة». قال الطبراني: «لم يرو هذا الحديث عن أسامة بن زيد إلا ابن لهيعة». ومن هذا الوجه رواه أبو موسى المديني، كما في فتح الباري (1/ 321)، ولفظه: «أن النبي – صلى الله عليه وسلم – مرَّ على قبرين من بني النجار هلكا في الجاهلية، فسمعهما يعذبان في البول والنميمة» قال أبو موسى: «هذا وإن كان ليس بقوي لكن معناه صحيح».
قال الحافظ ابن حجر: «لكن الحديث الذي احتج به أبو موسى ضعيف كما اعترف به، وقد رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم وليس فيه سبب التعذيب، فهو من تخليط ابن لهيعة».
يعني الحافظ ما أخرجه الإمام أحمد (14152) من طريق ابن جريج، عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله، فذكره. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 55): «رجاله رجال الصحيح». (قالمي).
(4) «وكلا» ضرب عليه في الأصل، ولم يرد في (ب، غ).
(1/179)
قول بعض الرواة. والله أعلم. وهذا اختيار أبي عبد الله القرطبي (1).
(1) التذكرة (396). ورجح ابن حجر احتمال كونهما كافرين في حديث جابر الطويل الذي أخرجه مسلم (3006). أما حديث ابن عباس، فالظاهر من مجموع طرقه أنهما كانا مسلمين. انظر: فتح الباري (1/ 321).
(1/180)
فصل
وأما المسألة السابعة (1)
وهي قول السائل: ما جوابُنا للملاحدة والزنادقة المنكرين لعذاب القبر وسَعته وضِيقه، وكونِه حفرةً من حُفَر النار أو روضةً من رياض الجنة، وكونِ الميت لا يجلس ولا يقعد فيه؟
قالوا (2): فإنّا نكشف القبر، فلا نجد فيه ملائكة عُمْيًا صُمًّا يضربون الموتى بمطارق الحديد، ولا نجد هناك حيَّاتٍ ولا ثعابينَ ولا نيرانًا تأجَّجُ. ولو كشفنا حالَه في حالة من الأحوال لوجدناه لم يتغير. ولو وضعنا على عينيه الزئبقَ، وعلى صدره الخَرْدل، لوجدناه على حاله. وكيف (3) يُفسَح له مدَّ بصره، أو يُضيَّق عليه، ونحن نجده بحاله، ونجد مساحته على حدِّ (4) ما حفرناها، لم تزد ولم تنقص؟ وكيف يسَعُ ذلك اللحد الضيِّق له وللملائكة وللصورة التي تؤنسه أو توحشه؟
قال إخوانهم من أهل البدع والضلال (5): وكلُّ حديث يخالف مقتضَى [40 أ] العقول والحسِّ يُقطَعُ بتخطئة ناقليه (6).
(1) «فصل وأما» لم يرد في (ن). ثم فيها وفي (ق): «المسألة الثامنة» لترقيم المسألة السابقة بالسابعة.
(2) قارن بتذكرة القرطبي (371).
(3) (ق): «فكيف».
(4) (ب، ط، ن، ج): «قدر». والمثبت من غيرها موافق للتذكرة.
(5) في التذكرة (373): «فإن قالوا». وفي (ب، ط، ح): «الضلال والبدع».
(6) (أ، ق، غ): «قائله». والمثبت من غيرها موافق للتذكرة.
(1/181)
قالوا (1): ونحن نرى المصلوب على خشبته (2) مدةً طويلة، لا يسأل ولا يجيب، ولا يتحرّك، ولا يتوقَّد جسمُه نارًا؛ ومن افترسته السباع، ونهشَتْه (3) الطيور، وتفرّقت أجزاؤه في أجواف السباع، وحواصل الطيور (4)، وبطون الحيتان (5)، ومدارج الرياح= كيف تُسأَلُ أجزاؤه مع تفرُّقها؟ وكيف يُتصوَّر مسألةُ (6) الملكين لِمَن هذا وصفُه؟ وكيف يصير القبر على هذا روضةً من رياض الجنة أو حفرةً من حفر النار؟ وكيف يضيق عليه حتى تلتئم أضلاعه؟
ونحن نذكر أمورًا يُعلم بها الجواب:
الأمر الأول (7): أن يُعلَم أنّ الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يخبروا بما تُحيله العقول، وتقطع باستحالته. بل أخبارهم قسمان:
أحدهما: ما تشهد به العقول والفِطَر (8).
الثاني: ما لا تدركه العقول بمجرَّدها، كالغيوب التي أخبروا بها عن تفاصيل البرزخ واليوم الآخر، وتفاصيل الثواب والعقاب.
(1) قارن بالتذكرة (373 ــ 374).
(2) (ق، ن، ز): «خشبةٍ». (ط): «الخشبة».
(3) في (ق) كتب فوق الشين «معًا» يعني بالمهملة والمعجمة كلتيهما.
(4) ما عدا (ق، ز): «حواصل السباع وأجواف الطيور».
(5) ما عدا (ب، ط، ط): «الحيّات». وفي التذكرة: «أجواف الطير، وبطون الحيتان، وحواصل الطير».
(6) (ب): «تتصور مساءلة».
(7) «الأمر» ساقط من (ب).
(8) (ق، ن، ز، غ): «الفطن»، تصحيف.
(1/182)
ولا يكون خبرهم مُحالًا في العقول أصلًا. وكلُّ خبر يُظَنُّ (1) أنَّ العقل يُحيله، فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون الخبر كذبًا عليهم، أو يكون ذلك العقلُ فاسدًا. وهو شبهة خيالية يظنُّ صاحبُها أنَّها معقول صريح. قال تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ: 6]. وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 19].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} [الرعد: 36]. والنفوس لا تفرح بالمحال.
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 57، 58]. والمحال لا يَشفي، ولا يحصل به هدًى ولا رحمةٌ، ولا يُفرَح (2) به.
فهذا أمرُ مَن لم يستقرَّ في قلبه خيرٌ، ولم يثبُتْ له على الإسلام قدمٌ، وكان أحسن أحواله الحيرة والشكّ.
فصل
الأمر الثاني (3): أن يُفهَم عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – مرادُه من غير [40 ب] غلُوٍّ ولا
(1) (ق): «نظن». وهو مضبوط في (ط).
(2) (ط): «فلا يفرح».
(3) أورد أوله شارح الطحاوية (396) بشيء من التصرف دون إشارة إلى ابن القيم.
(1/183)
تقصير، فلا يُحمَّلَ (1) كلامُه ما لا يحتمله، ولا يُقَصَّرَ به عن مراده وما قصَدَه من الهدى والبيان.
وقد حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال والعدول عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله. بل سوءُ الفهم عن الله ورسوله أصلُ كلِّ بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، بل هو أصلُ كل خطأ في الأصول والفروع؛ لا سيَّما إن أضيف إليه سوءُ القصد، فيتفق سوءُ الفهم في بعض الأشياء من المتبوع مع حُسْن قَصْده، وسوءُ القصد من التابع (2). فيا محنةَ الدين وأهلهِ! والله المستعان.
وهل أوقع القدريَّة والمرجئةَ والخوارجَ والمعتزلةَ والجهميةَ والرافضةَ وسائرَ طوائف أهل البدع إلا سوءُ الفهم عن الله ورسوله، حتى صار الدين بأيدي أكثرِ الناس (3) هو مُوجَبَ هذه الأفهام! والذي فهمه الصحابةُ ومن تَبِعهم عن الله ورسوله، فمهجورٌ لا يُلتفَت إليه، ولا يَرفع هؤلاء به رأسًا!
ولكثرة أمثلة هذه القاعدة تركناها، فإنَّا لو ذكرناها لزادت على عشرة ألوفٍ (4)؛ حتّى إنّك لتمرُّ على الكتاب من أوله إلى آخره، فلا تجدُ صاحبَه فَهِمَ عن الله ورسوله مرادَه كما ينبغي في موضع واحد!
وهذا إنما يعرفه من عَرَف ما عند الناس، وعَرَضه على ما جاء به الرسول. وأما مَن عَكَس الأمرَ بعرض ما جاء به الرسول على ما اعتقده،
(1) (ط): «ولا يحمل».
(2) وانظر: الصواعق المرسلة (507)، ومجموع الفتاوى (16/ 310).
(3) في (أ، غ): «أكثر أهل الناس»!
(4) ما عدا (أ، ق، غ): «عشرات ألوف».
(1/184)
وانتحله، وقلَّد فيه مَن أحسَنَ به الظنَّ (1)؛ فليس يُجدي الكلامُ معه شيئًا. فدعه وما اختاره لنفسه، وولِّه ما تولَّى، واحمَدِ الذي عافاك مما ابتلاه به.
فصل
الأمر الثالث (2): أنّ الله سبحانه جعل الدُّورَ ثلاثةً: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار؛ وجعل لكلِّ دار أحكامًا تختصُّ بها. وركَّب هذا الإنسان من بدن ونفس، وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان، والأرواحُ تبعٌ (3) لها. ولهذا جعل أحكامه الشرعيةَ مرتَّبةً على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح، وإن أضمَرت النفوسُ خلافَه. وجعل أحكام البرزخ على الأرواح، والأبدانُ تبعٌ لها. فكما تبعت الأرواحُ الأبدانَ في أحكام الدنيا، فتألمت بألمها، والتذَّت [41 أ] براحتها، وكانت هي التي باشرت أسباب النعيم والعذاب= تبعت الأبدانُ الأرواحَ في نعيمها وعذابها، والأرواح حيئنذ هي التي تباشر (4) العذاب والنعيم.
فالأبدان هنا ظاهرة، والأرواح خفية، والأبدان كالقبور لها. والأرواحُ هناك ظاهرة، والأبدان خفية في قبورها. تجري أحكام البرزخ على الأرواح،
(1) (ن): «الظن به».
(2) لخَّصه شارح الطحاوية مضيفًا إليه جملة من الأمر الرابع (396) دون إشارة إلى ابن القيم.
(3) هنا وفيما يأتي غيّره بعض القراء في (أ، ن) إلى «تبعًا»، وكذا في (غ) والنسخ المطبوعة وهو خطأ.
(4) كان في الأصل: «باشرت»، فضرب بعضهم على التاء، وزاد تاءً قبل الباء ليقرأ: «تباشر». وفي (ق): «تباشرت»، كأن ناسخها جمع بين الصيغتين.
(1/185)
فتسري إلى أبدانها نعيمًا أو عذابًا، كما تجري أحكام الدنيا على الأبدان، فتسري إلى أرواحها نعيمًا أو عذابًا.
فأحِطْ بهذا الموضع علمًا، واعرِفْه كما ينبغي، يزيل (1) عنك كلَّ إشكالٍ يُورَد عليك من داخل وخارج.
وقد أرانا الله سبحانه بلطفه ورحمته وهدايته من ذلك أنموذجًا في الدنيا من حال النائم، فإنَّ ما يُنَعَّم به أو يُعذَّب في نومه يجري على روحه أصلًا، والبدنُ تبع له؛ وقد يقوى حتى (2) يؤثرَ في البدن تأثيرًا مشاهَدًا، فيَرى النائم في نومه (3) أنه ضُرِب، فيُصبح، وأثرُ الضرب في جسمه. ويرى أنه قد أكل أو شرب، فيستيقظ، وهو يجد أثر الطعام والشراب في فيه، ويذهب عنه الجوع والظمأ.
وأعجبُ من ذلك أنك ترى النائم يقوم في نومه (4)، ويضربُ، ويبطِش، ويدافع، كأنه يقظانُ، وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك. وذلك (5) أنَّ الحكمَ لمَّا جرى على الروح استعانت بالبدن من خارجه، ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحسَّ.
فإذا كانت الروح تتألَّم وتنعَم (6) ويصل ذلك إلى بدنها بطريق الاستتباع،
(1) كذا غير مجزوم في جميع النسخ. وقد سبق نحوه في (ص 125).
(2) (ق): «حين»، تحريف.
(3) «في نومه» ساقط من (ن).
(4) ما عدا (أ، ز، غ): «من نومه».
(5) «وذلك» استدرك في حاشية الأصل عند المقابلة. ولم يرد في (ز). وفي غيرهما: «لأن» في موضع «وذلك أن».
(6) ضبط في (ط) بضم التاء وتشديد العين. وفي النسخ المطبوعة: «تتنعم».
(1/186)
فهكذا في البرزخ، بل أعظم، فإنَّ تجرُّدَ الروح هناك أكملُ (1) وأقوى وهي متعلقة ببدنها لم تنقطع عنه كلَّ الانقطاع. فإذا كان يومُ حشر الأجساد وقيامِ الناس من قبورهم، صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد ظاهرًا باديًا أصلًا.
ومتى أعطيتَ هذا الموضع حقَّه تبيَّن لك أنّ ما أخبر به الرسول – صلى الله عليه وسلم – من عذاب القبر ونعيمه، وضيقه وسعته، وضمِّه، وكونه حفرةً من حفر النار، أو روضةً من رياض الجنة مطابقٌ للعقل، وأنَّه حقٌّ لا مِريَة فيه، وأنَّ مَن أشكَلَ عليه ذلك فمن سوء فهمه وقلة علمه أُتيَ، كما قيل [41 ب]:
وكم مِن عائبٍ قولًا صحيحًا … وآفَتُه من الفهمِ السَّقيمِ (2)
وأعجبُ من ذلك أنك تجد النائمَين (3) في فراش واحد، وهذا روحُه في النعيم، ويستيقظ وأثرُ النعيم على بدنه. وهذا روحُه في العذاب، ويستيقظ وأثرُ العذاب على بدنه. وليس عند أحدهما خبرٌ بما عند الآخر. فأمرُ البرزخ أعجبُ من ذلك.
فصل (4)
الأمر الرابع: أنَّ الله سبحانه جعل أمر الآخرة وما كان متصلًا بها غيبًا، وحَجَبها عن إدراك المكلَّفين في هذه الدار. وذلك من كمال حكمته،
(1) (ق): «أجمل»، تصحيف.
(2) للمتنبي في ديوانه بشرح الواحدي (339).
(3) ما عدا (أ، ق، غ): «نائمين».
(4) «فصل» لم يرد في (ن).
(1/187)
ولِيتميَّزَ المؤمنون بالغيب من غيرهم.
فأولُ ذلك أنَّ الملائكة تنزل على المحتضَر، وتجلس قريبًا منه، ويشاهدهم عِيانًا. ويتحدثون عنده، ومعهم الأكفانُ والحَنُوط، إما من الجنة أو من النار؛ ويؤمِّنون على دعاء الحاضرين بالخير أو الشر. وقد يسلِّمون على المحتضَر، ويردُّ عليهم تارةً بلفظه، وتارةً بإشارته، وتارةً بقلبه حيث لا يتمكن من نطق ولا إشارة (1).
وقد سُمِع بعضُ المحتضَرين يقول: أهلًا وسهلًا ومرحبًا بهذه الوجوه!
وأخبرني شيخنا عن بعض المحتضَرين، فلا أدري أشاهدَه أو أُخبر عنه، أنَّه سُمِع، وهو يقول: عليك السلام (2)، هاهنا فاجلس، وعليك السلام، هاهنا فاجلس.
وقصة خيرٍ النَّسَّاجِ مشهورة، حيث قال عند الموت: اصبِرْ ــ عافاك الله ــ فإنَّ ما أُمِرتَ به لا يفوت، وما أُمِرتُ به يفوت. ثم استدعى بماء، فتوضأ، وصلَّى، ثم قال: امض لما أُمِرتَ به، ومات (3).
وذكر ابن أبي الدنيا (4) أنَّ عمر بن عبد العزيز لمَّا كان في يومه الذي
(1) ما عدا (أ، ق، غ): «وإشارة».
(2) (ط، ن): «وعليك السلام». وفي (ب، ج) جاءت «وعليك … فاجلس» مرة واحدة.
(3) انظر: طبقات الصوفية (323)، وحلية الأولياء (10/ 307)، والرسالة القشيرية (437) والعاقبة (227). وخير النسّاج من الزهاد الكبار، صَحِب الجنيد وأبا حمزة البغدادي. توفي سنة 322. سير أعلام النبلاء (15/ 269).
(4) في المحتضرين (88).
(1/188)
مات فيه قال: أجلِسوني. فأجلَسوه، فقال: أنا الذي أمرتَني فقصَّرتُ، ونهيتَني فعصيتُ ــ ثلاثَ مرات ــ ولكن لا إله إلا الله. ثم رفع رأسه، فأحدَّ النظر. فقالوا: إنّك لتنظر نظرًا شديدًا يا أمير المؤمنين! فقال: إني لأرى حَضرةً ما هم بإنس ولا جنّ. ثم قُبض.
وقال مَسْلَمة بن عبد الملك: لما احتُضِر عمرُ بن عبد العزيز كنَّا عنده في قبةٍ، فأومأ إلينا أن اخرجوا. فخرجنا، [42 أ] فقعدنا حول القبة، وبقي عنده وصيف، فسمعناه يقرأ هذه الآية: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] ما أنتم بإنس ولا جانٍّ. ثم خرج الوصيف، فأومأ إلينا أن ادخلوا. فدخلنا (1) فإذا هو قد قُبض (2).
وقال فَضَالة بن دينار: حضرتُ محمد بن واسع، وقد سُجِّي للموت، فجعل يقول: مرحبًا بملائكة ربِّي، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وشمِمْتُ رائحةً طيبةً لم أشَمَّ رائحةً (3) قطُّ أطيبَ منها. ثم شَخَص ببصره (4)، فمات (5).
والآثار في ذلك أكثرُ من أن تُحصَر، وأبلغ. ويكفي من ذلك كلِّه قولُ الله عز وجل: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ
(1) «فدخلنا» ساقط من (ن).
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في المحتضرين (89).
(3) من (أ، غ).
(4) زاد في الأصل: «إلى السماء» وكتب فوقها: «لا» أولها و «إلى» آخرها.
(5) أخرجه ابن أبي الدنيا في المحتضرين (193).
(1/189)
إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} [الواقعة: 83 ــ 85]. أي: أقرب إليه بملائكتنا ورُسُلنا، ولكنكم لا ترونهم. فهذا أول الأمر، وهو غير مرئيّ لنا (1) ولا مشاهَد، وهو في هذه الدار.
ثم يمُدُّ الملَكُ يدَه إلى الروح، فيقبضُها، ويخاطبها. والحاضرون لا يرونه، ولا يسمعونه. ثم تخرج، فيخرج لها نور مثلُ شعاع الشمس، ورائحةٌ أطيب من رائحة المسك. والحاضرون لا يرون ذلك، ولا يشَمُّونه. ثم تصعد بين سِماطَين من الملائكة، والحاضرون لا يرونهم. ثم تأتي الروح فتشاهِد (2) غسلَ البدن وتكفينَه وحملَه، وتقول: قدِّموني، قدِّموني، أو إلى أين تذهبون بي؟ ولا يسمع (3) الناس ذلك.
فإذا وُضِع في لحده، وسُوِّي عليه التراب؛ لم يحجب الترابُ الملائكة (4) عن الوصول إليه. بل لو نُقِر له حجرٌ، فأودع فيه، وخُتِم عليه بالرصاص؛ لم يمنع وصولَ الملك (5)، إليه. فإن هذه الأجسام الكثيفة لا تَمنَعُ خرق الأرواح لها. بل الجنُّ لا يمنعها ذلك. بل قد جعل الله سبحانه الحجارة والتراب للملائكة بمنزلة الهواء للطير. واتساعُ القبر وانفساحُه للروح بالذات، والبدنِ تَبَعًا، فيكون البدن في لحدٍ أضيقَ من ذراع، وقد فُسِح له مَدَّ بصره تبعًا لروحه.
(1) «لنا» ساقط من (ن).
(2) (ب، ط، ن): «وتشاهد».
(3) (ق): «فلا يسمع».
(4) (ن): «الملائكة الترابُ».
(5) (ط): «الملائكة».
(1/190)
وأما عَصْرةُ القبر حتى تختلف بعضُ أضلاع الموتى، فلا يردُّه حِسٌّ ولا عقل ولا فطرة. ولو قُدِّر أنَّ أحدًا نبش عن ميِّت، فوجد أضلاعه كما هي لم تختلف [42 ب]، لم يمنع (1) أن تكون قد عادت إلى حالها بعد العصرة (2). فليس مع الزنادقة والملاحدة إلا مجرَّدُ تكذيب الرسول.
ولقد أخبَرَ بعضُ الصادقين (3) أنَّه حفر ثلاثة أقْبُر، فلما فرغ منها اضطجع ليستريح، فرأى فيما يرى النائم ملَكَين نزلا، فوقفا على أحد الأقبر، فقال أحدهما لصاحبه: اكتب فرسخًا في فرسخ. ثم وقفا على الثاني، فقال: اكتب ميلًا في ميل. ثم وقفا على الثالث، فقال: اكتب فِتْرًا في فتر. ثم انتبه، فجيء برجل غريب لا يُؤْبَه له، فدُفن في القبر الأول. ثم جيء برجل آخر، فدفن في القبر الثاني. ثم جيء بامرأة مُترَفة من وجوه البلد حولها ناس كثير، فدُفِنتْ في القبر الضيِّق الذي سمعتُه (4) يقول: فِتْرًا في فِتْر. والفِتْر: ما بين الإبهام والسبَّابة.
(1) (ب، ط، ن، ج): «لم يمتنع».
(2) (ب، ط، ن، ج): «العصر».
(3) (ط): «الصالحين». وقد نقل المصنف هذه القصة بنصها من تذكرة القرطبي (387) ولكن سياقه مختلف عن سياق المصنف. قال القرطبي: «سمعتُ بعض علمائنا يقول: إن حفّارًا كان بقرافة مصر يحفر القبور، فحفر ثلاثة أقبر … ». فالعالم الذي أخبر بالقصة لم يكن حفَّارًا، ولا صرَّح بأنه سمع القصة من الحفّار نفسه.
(4) (ب): «سمعه». وهو مقتضى السياق، ولكن يظهر أن ناسخها أصلح ما في سائر النسخ. هذا، وفي التذكرة: «سَعتُه فِترًا في فِتر» (كذا).
(1/191)
فصل
الأمر الخامس (1): أنَّ النار التي في القبر والخُضْرة (2) ليست (3) من نار الدنيا ولا من (4) زرع الدنيا، فيشاهدَه مَن شاهد نار الدنيا وخُضرَتها. وإنما هي (5) من نار الآخرة وخضرتها، وهي (6) أشدُّ من نار الدنيا. ولا يحسُّ به أهل الدنيا، فإن الله سبحانه يُحْمي عليه ذلك الترابَ والحجارة التي عليه وتحته حتى يكون أعظمَ حرًّا من جمر الدنيا. ولو مسَّها أهل الدنيا لم يحسُّوا بذلك.
بل أعجبُ من هذا أنَّ الرجلين يُدفنان، أحدُهما إلى جنب الآخر، وهذا في حفرة من حُفَر النار، لا يصل حرُّها إلى جاره. وذلك في روضة من رياض الجنة، لا يصل رَوْحُها ونعيمُها إلى جاره.
وقدرة الربِّ تعالى أوسع وأعجب من ذلك. وقد أرانا من آيات قدرته في هذه الدار ما هو أعجبُ من ذلك بكثير، ولكنَّ النفوس مولعة بالتكذيب بما لم تُحِط به علمًا، إلا من وفَّقه الله وعصمه. فيفرَش للكافر لوحان من نار، يشتعل عليه قبرُه بهما كما يشتعل التنور. فإذا شاء الله سبحانه أن يُطلِع على ذلك بعضَ عَبيده (7) أطلعه، وغيَّبه عن غيره؛ إذ لو اطَّلع عليه العباد
(1) لخَّصه شارح الطحاوية (396) دون إشارة إلى المصنف.
(2) في (ب، ج) هنا وفيما يلي: «خَضِر» مكان «الخضرة».
(3) (ب، ط): «ليس».
(4) هنا وقع خرم كبير في (ز) امتدَّ إلى المسألة التاسعة عشرة.
(5) (ب، ط، ج): «هو».
(6) (أ، ب، ط، ج): «هو».
(7) (ب، ط، ن، ج): «عباده».
(1/192)
كلُّهم لزالت حكمةُ (1) التكليف والإيمان بالغيب، ولما تدافَنَ الناس، كما في الصحيح (2) عنه – صلى الله عليه وسلم -: «لولا أن تدافنوا لدعوتُ الله أن يُسمِعَكم من عذاب القبر [43 أ] ما أسمع».
ولما كانت هذه الحكمة منفيَّةً في حقّ البهائم سمعت ذلك وأدركته (3)، كما حادت برسول الله – صلى الله عليه وسلم – بغلتُه، وكادت تُلقِيه لمّا مرَّ بمن يُعذب في قبره (4).
وحدَّثني صاحبنا أبو عبد الله محمد بن الرُّزَيز (5) الحَرَّانيُّ أنه خرج من
(1) في جميع النسخ: «كلمة» غير الأصل التي يحتمل رسمها قراءة «حكمة»، وهي الصواب.
(2) (أ، ق، غ): «الصحيحين» والحديث في صحيح مسلم، وقد سبق.
(3) (ق): «فأدركته».
(4) جزء من الحديث السابق.
(5) كذا في (أ، غ) بالراء والزاي مكررةً. وضبط بعض قراء (غ) بضم الراء وفتح الزاي مصغَّرًا. وهذا هو الصواب. وقد نصّ عليه في تبصير المنتبه (642) وتوضيح المشتبه (4/ 294).
وفي (ق): «رزين». وفي النسخ الأخرى والبداية والنهاية (18/ 179، 458) والدارس (2/ 417، 418): «الوزير»، وكلاهما تصحيف.
وهو محمد بن عبد الواحد بن يوسف الحرّاني الآمدي (في البداية والنهاية: «الأسدي»، تحريف) الحنبلي. نعته ابن كثير بـ «الإمام العالم العابد الناسك الصالح خطيب الجامع الكريمي بالقُبيبات»، وأرخ وفاته في 17 شعبان من سنة 743. وقد ضبط في السحب الوابلة (994): «الرَّزيز» مكبّرًا، وقال محققه: «ولم أجده في مصدر آخر ــ يعني غير الدرر الكامنة (4/ 35) ـ لذا لا نحسن ضبط الرزيز» ومن ثم لم يقف على الصواب في تاريخ وفاته أيضًا، فاكتفى بالنقل من حاشية الدرر: «مات في رجب سنة 796 هـ» مع التنبيه على أن الحافظ لم يذكره في وفياتها في إنباء الغمر.
(1/193)
داره بعد العصر بآمِدَ إلى بستانٍ. قال: فلمّا كان قبل غروب الشمس توسطتُ (1) القبورَ، فإذا بقبر منها، وهو جمرةُ نار مثلُ كُور الزجَّاج (2)، والميتُ في وسطه. فجعلتُ (3) أمسح عينيَّ، وأقول: أنائم أنا أم يقظانُ؟ قال: ثم التفتُّ إلى سور المدينة، وقلت: والله ما أنا بنائم. ثم ذهبت إلى أهلي، وأنا مدهوشٌ، فأتَوْني بطعام، فلم أستطع أن آكلُ. ثم دخلت البلد، فسألت عن صاحب القبر، فإذا به مَكَّاسٌ قد توفِّي ذلك اليوم (4).
فرؤيةُ هذه النار في القبر كرؤية الملائكة والجنِّ تقع أحيانًا لمن شاء الله أن يُريه ذلك.
وقد ذكر ابن أبي الدنيا في «كتاب القبور» (5) عن الشعبي أنّه ذكر
(1) (أ، غ): «توسط».
(2) ضبطه من (غ). وكور الزجّاج: مَوقده لصهر الزجاج.
(3) (ب، ط، ج): «وجعلت».
(4) (ن): في ذلك اليوم. وقد نقل الحكاية من كتابنا هذا ابن رجب في أهوال القبور (69).
(5) برقم (92)، ومن طريقه البيهقي في دلائل النبوة (3/ 89، 90)، وفي سنده مجالد وهو ابن سعيد الهمداني فيه ضعف، وهو مرسل. وأخرجه ابن أبي شيبة (30478) بسنده عن مسلم (وهو ابن صُبَيْح أبو الضُّحى) نحوه ورجاله ثقات وهو مرسل أيضًا.
وجاء موصولًا عن ابن عمر رضي الله عنهما، رواه الطبراني في الأوسط (6560)، واللالكائي في أصول الاعتقاد (1739) من طريق عبد الله بن محمد بن المغيرة، عن مالك بن مغول، عن نافع عن ابن عمر قال: «بينا أنا أسير، بجنبات بدر إذ خرج رجل من الأرض … » فذكره بنحوه، وفي سنده عبد الله بن محمد بن المغيرة الكوفي نزيل مصر، له ترجمة في لسان الميزان (3/ 332) قال أبو حاتم: «ليس بقوي»، وقال ابن عدي: «عامة ما يرويه لا يتابع عليه». لكنه توبع على هذا الحديث، فرواه أبو نعيم في أخبار أصبهان (1/ 253) من طريق جويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر. وإسناده لا بأس به في المتابعات.
وبالجملة فالحديث بمجموع طرقه حسن لغيره. والله أعلم. (قالمي).
(1/194)
رجلًا (1) قال للنبي – صلى الله عليه وسلم -: مررتُ ببدر، فرأيت رجلًا يخرج من الأرض، فيضربُه رجلٌ بمِقْمعة حتى يغيبَ في الأرض؛ ثم يخرج، فيفعل به ذلك. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «ذلك أبو جهل بن هشام يُعذَّب إلى يوم القيامة».
وذكر (2) من حديث حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه قال: بينا أنا أسير بين مكة والمدينة على راحلة، وأنا مُحقِبٌ (3) إداوةً، إذ مررت بمقبرة، فإذا رجل خارجٌ من قبره يلتهب نارًا، وفي عنقه سلسلةٌ يجرُّها. فقال: يا عبد الله انضَحْ، يا عبد الله انضح (4). فوالله ما أدري أعرفني باسمي، أم كما يدعو الناس. قال: فخرج آخَرُ فقال: لا عبد الله لا تنضح، يا عبد الله لا تنضح. ثم اجتذب السلسلة، فأعاده في قبره.
وقال ابن أبي الدنيا (5): وحدَّثني أبي، ثنا موسى بن داود، ثنا حمّاد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: بينما راكبٌ يسير بين مكة والمدينة،
(1) (ب، ط، ن، ج): «الشعبي أن رجلًا».
(2) في كتاب القبور (93).
(3) (ن): «محتقب»، وهو بمعناه.
(4) هذه الجملة هنا وفيما يأتي وردت في (ن) مرة واحدة. ظنّها ناسخها مكررةً. ثم فيها في الموضعين: «يا أبا عبد الله» وهو غلط. نبَّه عليه بعض القراء في حاشية النسخة.
(5) في كتاب القبور (95).
(1/195)
إذ مرَّ بمقبرة، فإذا برجل قد خرج من قبره، يلتهبُ نارًا، مصفَّدًا في الحديد، فقال: يا عبد الله انضح، يا عبد الله انضح، قال: وخرج [43 ب] آخرُ يتلوه فقال: يا عبد الله لا تنضح، يا عبد الله لا تنضح. قال: وغُشِي على الراكب، وعَدَلتْ به راحلته إلى العَرْج (1). قال: وأصبح قد (2) ابيضَّ شعره. فأُخبِر عثمانُ بذلك، فنهى أن يسافر الرجل وحدَه.
وذكر (3) من حديث سفيان، حدثنا داود بن شابور (4)، عن أبي قَزَعة (5) قال: مررنا في بعض المياه التي بيننا وبين البصرة، فسمعنا نهيق حمار، فقلنا لهم: ما هذا النهيقُ؟ قالوا: هذا رجل كان عندنا، كانت أمه (6) تكلِّمه بالشيء، فيقول لها: انهقي نهيقَك. فلما مات سُمِع هذا النهيقُ من قبره كلَّ ليلة.
وذكر (7) أيضًا عن عمرو بن دينار قال: كان رجلٌ من أهل المدينة، وكانت له أخت في ناحية المدينة، فاشتكت، وكان يأتيها يعودها. ثم ماتت، فدفنها. فلما رجع ذكَر أنه نسي شيئًا في القبر (8) كان معه، فاستعان برجل من
(1) واد في طريق الحاج القديم بين مكة والمدينة، ويقع على بعد 113 كِيلا من المدينة. معجم المعالم الجغرافية في السيرة (203).
(2) (ب، ط، ن، ج): «وقد».
(3) في كتاب القبور (96) ومن عاش بعد الموت (26).
(4) ما عدا الأصل: بالسين المهملة.
(5) في كتاب القبور زيادة: «رجل من أهل البصرة، عنه أو عن رجل». وفي كتاب من عاش: « … عنه أو عن غيره».
(6) في (أ، غ): «له أمّ»، وهو مستدرك في حاشية الأصل. وفي (ط): «امرأته»، تحريف.
(7) في كتاب القبور (97). وأخرجه أيضًا في كتاب الوَرع (84).
(8) (ب، ط): «قبرها».
(1/196)
أصحابه. قال: فنبشنا (1) القبر، ووجدتُ (2) ذلك المتاع. فقال للرجل: تنحَّ، حتَّى أنظر على أي حال أختي؟ فرفع بعضَ ما على اللحد؟ فإذا القبر مشتعلٌ نارًا، فردَّه، وسوَّى القبر. فرجع إلى أمه، فقال: ما كان حال أختي؟ فقالت: ما تسألُ عنها، وقد هلكتْ؟ فقال: لَتُخْبِرِنِّي (3). قالت: كانت تؤخِّر الصلاة، ولا تصلِّي فيما أظنّ بوضوء؛ وتأتي أبواب الجيران، فتُلْقِمُ أذنهَا أبوابَهم، وتُخرِج حديثهم.
وذَكر (4) عن حصين الأسدي قال: سمعت مَرثَد بن حَوشَب قال: كنتُ جالسًا عند يوسف بن عمر، وإلى جنبه رجل كأنَّ شُقَّة وجهه صفحةٌ من حديد. فقال له يوسف: حدِّث مرثدًا بما رأيت. فقال: كنت شابًّا قد أتيتُ هذه الفواحش، فلما وقع الطاعون قلت: أخرجُ إلى ثغر من هذه الثغور. ثم رأيت أن أحفر القبور، فإنّي لِلَيلةٍ (5) بين المغرب والعشاء قد حفرتُ قبرًا، وأنا متكئٌ على تراب قبر آخر، إذ جيء (6) بجنازة رجلٍ حتى دُفن في ذلك القبر، وسوَّوا عليه. فأقبل طيران أبيضان من المغرب مثلُ البعيرين حتَّى سقط أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه. ثم أثاراه، ثم تدلَّى أحدهما في القبر، والآخر على شفيره. فجئت حتى [44 أ] جلست على شفير القبر، وكنتُ رجلًا لا يملأ جوفي شيءٌ. قال: فسمعته يقول: ألستَ الزائرَ أصهارَك في
(1) (ط): «نبشنا». (ب): «فنبشا».
(2) (ط): «ووجدنا». (ن): «فوجدنا». (ب): «ووجدا».
(3) (ق، ن، غ): «لتخبريني».
(4) في كتاب القبور (98).
(5) (ق، ن، ج): «الليلة». وفي كتاب القبور: «فإذا بي بليلة».
(6) (ق): «جاءوا».
(1/197)
ثوبين مُمَصَّرين تسحبُهما (1) كِبْرًا، تمشي الخيلاء؟ فقال: أنا أضعف من ذلك (2). قال: فضربه ضربةً امتلأ القبر حتى فاض ماءً ودُهنًا. ثم عاد، فأعاد عليه القول، حتى ضربه ثلاث ضربات، كلَّ ذلك يقول ذلك. ويذكر أنّ القبر يفيض ماءً ودهنًا. قال: ثم رفع رأسه، فنظر إليَّ، فقال: انظر (3)، أين هو جالس نكَّسه (4) الله! قال: ثم ضرب جانب وجهي فسقطتُ. فمكثتُ ليلتي حتّى أصبحت. قال: ثم أخذت أنظر إلى القبر، فإذا هو على حاله.
فهذا الماء والدهن في رأي العين لهذا الرائي هو نار تأجَّجُ للميِّت، كما أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الدجّال: أنه يأتي معه بماء ونار، فالنار ماء بارد، والماء نار تأجَّجُ (5).
وذكر ابن أبي الدنيا (6) أنَّ رجلًا سأل أبا إسحاق الفزاريَّ عن النَّباش: هل له توبة؟ فقال: نعَم إن صحَّت نيته، وعلم الله منه الصدقَ. فقال له الرجل: كنت أنبُش القبور، وكنت أجد قومًا وجوهُهم لغير القِبلة. فلم يكن عند الفزاريِّ في ذلك شيء، فكتب إلى الأوزاعي يخبره بذلك، فكتب إليه
(1) (ق): «بمصرين». وفي (ب، ط): «نسجتهما». وكلاهما تصحيف.
وثوب ممصَّر: مصبوغ بالطين الأحمر أو بحمرة خفيفة.
(2) «فقال … ذلك» ساقط من (ن).
(3) ما عدا (أ، ق، غ): «انظروا».
(4) (ن): «ثبَّتَه». وفي غيرها: «بلسه» وتصحيحه من كتاب القبور، وشرح الصدور (138).
(5) أخرجه البخاري (3450) من حديث حذيفة بن اليمان.
(6) في كتاب القبور (99).
(1/198)
الأوزاعي: تُقبَل توبتُه (1) إذا صحَّت نيته، وعلم الله الصدق من قلبه. وأما قوله: إنَّه كان يجد قومًا وجوههم لغير القبلة، فأولئك قوم ماتوا على غير السنّة.
وقال ابن أبي الدنيا (2): حدَّثني عبد المؤمن بن عبد الله بن عيسى القيسي أنه قيل لنبّاشٍ قد تاب: ما أعجبُ ما رأيتَ؟ قال: نبشتُ رجلًا. قال (3): فإذا هو مسمَّر بالمسامير في سائر جسده، ومسمارٌ كبير في رأسه، وآخرُ في رجليه.
قال (4): وقيل لنبَّاشٍ آخر: ما أعجبُ ما رأيتَ؟ قال: رأيتُ جمجمةَ إنسانٍ مصبوبٌ (5) فيها رصاص (6).
قال (7): وقيل لنبَّاشٍ آخرَ: ما كان سبب توبتك؟ قال: عامَّةُ مَن كنت أنبُش، كنتُ أراه محوَّلَ الوجه عن القبلة.
قلتُ: وحدَّثني صاحبنا أبو عبد الله محمد ابن مُنتاب السَّلامي (8)،
(1) «توبته» ساقط من (ق).
(2) في كتاب القبور (100).
(3) من (أ، ق، غ).
(4) هذا الخبر ساقط من كتاب القبور المطبوع.
(5) كذا ضبط في (غ). وفي شرح الصدور (238): «مصبوبًا».
(6) (ق، ب، ج): «رصاصًا».
(7) وقد عزاه إليه ابن رجب في أهوال القبور (68) وهو ساقط من كتاب القبور المطبوع.
(8) هو محمد بن داود بن محمد بن منتاب، شمس الدين أبو عبد الله الموصلي السلامي الشافعي التاجر. قال الذهبي: قلّ أن رأيت مثله في الدين والمحاسن والوقار والإيثار. وقف كتبًا كبارًا بدمشق وبغداد. توفي بدمشق سنة 728. أعيان العصر (4/ 437)، الدرر الكامنة (3/ 437).
(1/199)
وكان من خيار عباد الله، وكان يتحرَّى [44 ب] الصدق. قال: جاء رجل إلى سوق الحدَّادين ببغداد، فباع مساميرَ صغارًا، المسمارُ برأسين. فأخذها الحدَّاد، وجعل يُحْمي عليها، فلا تلينُ معه حتى عجَز عن ضربها. فطلب البائعَ، فوجده، فقال: من أين لك هذه المسامير؟ فقال: لقيتُها. فلم يزل به حتَّى أخبره أنه (1) وجد قبرًا مفتوحًا، وفيه عظامُ ميِّتٍ منظومةٌ بهذه المسامير. قال: فعالجتُها على أن أُخرِجها، فلم أقدر، فأخذتُ حجرًا، فكسرتُ عظامه، وجمعتُها. قال: وأنا رأيت تلك المسامير. قلت له: فكيف صفتها؟ قال: المسمار صغير برأسين (2).
قال ابن أبي الدنيا (3): وحدَّثني أبي، عن أبي الحَريش (4)، عن أمِّه قالت (5): لما حفر أبو جعفر (6) خندقَ الكوفة حوَّل الناسُ موتاهم، فرأينا
(1) ما عدا (أ، ق، غ): «بأنه»
(2) نقله من كتاب الروح: ابن رجب في أهوال القبور (68) وعلَّق عليه بقوله: «هذه الحكاية مشهورة ببغداد، وقد سمعتها وأنا صبي ببغداد، وهي مستفيضة بين أهلها». ونقله أيضًا السيوطي في شرح الصدور (245). وتحرّف «منتاب» في الكتابين إلى «سنان».
(3) في كتاب القبور (102).
(4) كذا في (ن). وفي (ط): «الحرس». وفي (غ) بالجيم. وفي النسخ الأخرى: «الحريس». وفي مطبوعة القبور وشرح الصدور: «الجريش».
(5) ما عدا (ق): «عن أبيه قال». والمثبت موافق لما في كتاب القبور وشرح الصدور (238)، والأهوال (68). ويظهر أنه كان كذا في الأصل، فغيَّره بعضهم.
(6) تعني: المنصور الخليفة، وقد أمر بحفر خندق الكوفة سنة 155. البداية والنهاية (13/ 435).
(1/200)
شابًّا ممن حُوِّل عاضًّا على يديه.
وذكر (1) عن سِمَاك بن حرب قال: مرَّ أبو الدرداء بين القبور، فقال: ما أسكَنَ ظواهرَك، وفي دواخلك (2) الدواهي!
وقال ثابت البُنَاني: بينا أنا أمشي في المقابر، وإذا صوتٌ خلفي (3)، وهو يقول: يا ثابتُ، لا يغرَّنَّك سكوتُها (4)، فكم من مغمومٍ فيها! فالتفتُّ فلم أر أحدًا (5).
ومرَّ الحسن على مقبرة، فقال: يا لهم من عسكر، ما أسكتهم (6)! وكم فيهم من مكروب (7)!
وذكر ابن أبي الدنيا (8) أنّ عمر بن عبد العزيز قال لمسلمة بن عبد الملك: يا مسلمةُ، مَن دفن أباك؟ قال: مولاي فلان. قال: فمن دفن الوليد؟ قال: مولاي فلان. قال: فأنا أحدِّثك ما حدَّثني به: إنه لما دفَن أباك والوليدَ، فوضعهما في قبورهما، وذهب ليحُلَّ العقد عنهما= وجد وجوههما قد حُوِّلت في أقفيتهما. فانظر يا مسلمة، إذا أنا مِتُّ فالتمس وجهي، فانظر:
(1) في كتاب القبور (101).
(2) (ب، ق، ن): «داخلك». وكان في الأصل: «دواخلك»، فضرب بعضهم على الواو.
(3) (ب، ج): «خفي»، تحريف.
(4) (ق، ط): «سكونها».
(5) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور (107، 14) والهواتف (45).
(6) (ق، ب، ط): «أسكنهم». وفي الأهوال (130): «يسكتهم».
(7) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور (108).
(8) في كتاب القبور (123).
(1/201)
هل نزل بي ما نزل بالقوم، أوْ هل عوفيتُ من ذلك؟ قال مسلمة: فلما مات عمر وضعته في قبره، فلمست وجهه، فإذا هو مكانه.
وذكر ابن أبي الدنيا (1) عن بعض السلف قال: ماتت ابنة لي، فأنزلتُها القبر. فذهبتُ أُصلِح اللَّبِنَة، فإذا هي قد حُوِّلت عن القبلة. فاغتممتُ لذلك غمًّا شديدًا، فأُريتُها في النوم، فقالت: يا أبتِ أغتممتَ لِما رأيت؟ فإنَّ عامَّة مَن حولي محوَّلون (2) عن القبلة. قال: كأنها تريد الذين ماتوا مُصرِّين على الكبائر.
وقال عمرو بن ميمون: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: كنتُ فيمن دلَّى الوليدَ بن عبد الملك في قبره، فنظرتُ إلى ركبتيه قد جُمِعتا في عنقه. فقال ابنه: عاش أبي، وربِّ الكعبة! فقلتُ: عُوجِلَ أبوك، وربِّ الكعبة! فاتَّعظ بها عمر بعده (3).
وقال عمر بن عبد العزيز ليزيد بن المهلَّب لما استعمله (4)
على العراق: يا يزيدُ، اتَّقِ الله، فإنّي حين وضعتُ الوليد في لحدِه، فإذا هو
(1) في كتاب القبور (125)، قال: حدثني عبد المؤمن، حدثني رجل قال: ماتت ابنة لي … إلخ.
(2) ما عدا (ن): «محوّلين». وكذا في كتاب القبور، فلعل ناسخ (ن) أصلح المتن.
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور (127).
(4) الذي في كتاب القبور أن سليمان بن عبد الملك لما استعمل يزيد على العراق وخراسان ودَّعه عمر بن عبد العزيز قائلًا: يا يزيد … إلخ.
وانظر: تاريخ دمشق (63/ 181). ولعلّ المصنف كتب: «اُستُعمل» مبنيًّا للمجهول، فقرأه الناسخون: استعمله.
(1/202)
يركض (1) في أكفانه (2).
وقال يزيد بن هارون: أبنا هشام بن حسَّان، عن واصلٍ مولى أبي عُيينة (3)، عن عَمرو بن هَرِم (4) عن عبد الحميد بن محمود قال: كنت جالسًا عند ابن عباس، فأتاه قوم، فقالوا: إنّا خرجنا حُجَّاجًا، ومعنا صاحبٌ لنا، حتى إذا أتينا ذا الصِّفاح (5) مات. فهيأناه، ثم انطلقنا، فحفرنا له، ولحَدْناه (6). فلما فرغنا من لحده إذا نحن بأسْودَ قد ملأ اللحد، فحفرنا له آخر، فإذا به قد ملأ لحدَه. فحفرنا آخر، فإذا به. فقال ابن عباس: ذاك الغُلُّ الذي يُغَلُّ به (7). انطلقوا، فادفنوه في بعضها. فوالذي نفسي بيده، لو حفرتم
(1) (ب): «إذا هو يركض». (ق): «فإذا يركض». وفي كتاب القبور: «يرتكض». وفي رواية أخرى في تاريخ دمشق: «اضطرب في أكفانه»، وفيه: «ركض في لحده، أي: ضرب برجله الأرض».
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور (126).
(3) في جميع النسخ: «ابن عيينة»، والصواب ما أثبتنا من كتاب القبور. وانظر: تهذيب التهذيب (11/ 105) وغيره.
(4) في جميع النسخ: «زهدم»، وهو تحريف ما أثبتنا من كتاب العقوبات، وشعب الإيمان (5311)، وشرح أصول الاعتقاد للالكائي (1742). وهو عمرو بن هرم الأزدي البصري، مات سنة 245. انظر: تهذيب التهذيب (8/ 113).
(5) كذا في جميع النسخ وكتاب القبور، وغيّره بعضهم في الأصل إلى «ذات» كما في الأهوال (66) وشرح الصدور (239). وفي شعب الإيمان وكتاب اللالكائي: «الصفاح»، وهو المعروف. انظر: معجم البلدان (3/ 412).
(6) (ق): «لحدنا له». وهو ساقط من (ن).
(7) في شعب الإيمان وكتاب اللالكائي: «ذاك عمله الذي كان يعمل». ولا يبعد أن يكون ما في كتاب القبور تحريفًا لهذا.
(1/203)
الأرضَ كلَّها لوجدتموه فيه (1)، فانطلقنا فوضعناه في بعضها. فلما رجعنا أتينا أهله بمُتَيِّعٍ (2) له معنا، فقلنا لامرأته: ما كان يعمل زوجك؟ قالت: كان يبيع الطعام، فيأخذ منه كلَّ يومٍ قوتَ أهله، ثم يقرِضُ القَصَل (3) مثلَه (4)، فيلقيه فيه (5).
وقال ابن أبي الدنيا (6): حدثني محمد بن الحسين، قال: حدَّثني أبو إسحاق صاحب الشاء (7) قال: دُعيت إلى ميت لأغسِّله، فلما كشفت الثوب
(1) كذا في جميع النسخ. ولعل المقصود: في لحده. وفي كتاب القبور: «فيها».
(2) تصغير «متاع».
(3) وهو ما يخرج من الطعام فيرمى به، ومثله: القُصالة .. قال اللحياني: هي ما يخرج من الطعام، فيرمى به، ثم يُداس الثانيةَ، وذلك إذا كان أجَلَّ من التراب والدقاق قليلًا. انظر: اللسان (11/ 558). وفي كتاب العقوبات: «ثم ينظر مثله من الشعير والقصب، فيقطعه، ويخلطه في طعامه». وفي شعب الإيمان: «ثم ينظر مثله من قصب الشعير». ولعل القصب تحريف القصل.
(4) (ب، ط): «منه».
(5) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور (128) والعقوبات (338).
(6) في كتاب القبور (129).
(7) رسمها في الأصل: «السا» وفوقها تضبيب. وفي الحاشية: «ط» فأثبت صاحبا نشرتي دار ابن تيمية ودار ابن كثير «الشاط». والظاهر أنها «ظ» المعجمة وهو رمز معروف لما فيه نظر. وفي كتاب القبور: «الشاة»، فأقرب ما يكون منه ومن رسم الأصل: «الشاء» جمع الشاة كما أثبتنا.
وفي (ن): «صاحب أبي». وفي (غ): «صاحب النعا» وفوق الألف: ن. أما في (ب، ط، ج) فحذفوا الكلمتين، واستراحوا. وكذا فعل السيوطي أو ناسخ كتابه شرح الصدور (238).
وممن لقب بصاحب الشاء: أبو سعيد سكن بن أبي خالد، يروي عن الحسن. ويقال له أيضًا: صاحب الغنم. انظر: الزهد لأحمد (270) والجوع لابن أبي الدنيا (200). ومنهم خلف بن عنبس صاحب الشاء. انظر: الإكمال (6/ 82).
(1/204)
عن وجهه إذا بحيَّة قد تطوَّقتْ على حلقه. فذكر من غِلَظها، قال: فخرجت ولم أغسله. فذكروا أنه كان يسبُّ الصحابة رضي الله عنهم.
وذكر ابن أبي الدنيا (1)، عن سعيد بن خالد بن يزيد (2) الأنصاري، عن رجل من أهل البصرة كان يحفر القبور. قال: حفرت قبرًا ذات يوم، ووضعت رأسي قريبًا منه، فأتتني امرأتان في منامي، فقالت إحداهما: يا عبد الله، نَشَدتُك [45 ب] بالله إلا صرَفتَ عنَّا هذه المرأة، ولم تجاورنا بها. فاستيقظتُ فَزِعًا، فإذا (3) بجنازة امرأة قد جيء بها. فقلت: القبر وراءكم، فصرفتُهم عن ذلك القبر. فلما كان بالليل إذا أنا بالمرأتين في منامي تقول إحداهما: جزاك الله عنَّا خيرًا، فلقد صرفتَ عنا شرًّا طويلًا. قلت (4): ما لِصاحبتِك لا تكلّمني، كما تكلِّميني (5) أنت؟ قالت: إن هذه ماتت عن غير وصية وحُقَّ لمن مات عن غير وصية (6) ألا يتكلَّم إلى يوم القيامة.
وهذه (7) الأخبار وأضعافُها وأضعاف أضعافِها ــ مما لا يتَّسع لها
(1) في كتاب القبور (137).
(2) (ب، ج): «زيد».
(3) (ط): «وإذا».
(4) (ط): «فقلت».
(5) كذا بحذف نون الرفع في جميع النسخ وكتاب القبور.
(6) «وحقّ … وصية» ساقط من (ن).
(7) ما عدا (أ، ق، غ): «فهذه».
(1/205)
الكتاب ــ مما أراه الله سبحانه لبعض عباده من عذاب القبر ونعيمه عِيَانًا.
وأما رؤية المنامِ، فلو ذكرناها لجاءت عدّة أسفار. ومن أراد الوقوفَ عليها، فعليه بكتاب «المنامات» لابن أبي الدنيا، وكتاب «البستان» (1) للقيرواني، وغيرِهما من الكتب المتضمِّنة لذلك. وليس عند الملاحدة والزنادقة إلا التكذيبُ بما لم يحيطوا بعلمه.
فصل
الأمر السادس (2): أنّ الله سبحانه يُحْدِث في هذه الدار ما هو أعجبُ من ذلك. فهذا جبريلُ كان ينزل على النبي – صلى الله عليه وسلم -، ويتمثَّلُ له رجلًا، فيكلِّمه بكلام يسمعه. ومَن (3) إلى جانب النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يراه، ولا يسمعُه. وكذلك غيره من الأنبياء. وأحيانًا يأتيه الوحي في مثل صَلصلَة الجرس، ولا يسمعه غيره من الحاضرين.
وهؤلاء الجنُّ يتحدَّثون ويتكلَّمون بالأصوات المرتفعة بيننا، ونحن لا نسمعهم. وقد كانت الملائكة تضرب الكفَّارَ بالسياط، وتضربُ رقابهم، وتصيح بهم؛ والمسلمون معهم لا يرونهم، ولا يسمعون كلامهم. والله سبحانه قد حجب بني آدم عن كثير مما يُحْدِثه في الأرض، وهو بينهم. وقد
(1) لم ينقط ناسخ الأصل التاء، وأسنان السين أيضًا لم تبرز، فقرأه ناسخ (غ): «البيان» وكذا في نشرة دار ابن كثير. وقد سبق ذكر القيرواني في (ص 94)، وسيأتي النقل من كتاب البستان هذا (ص 544، 551، 552).
(2) ما عدا (أ، ن، غ): «السابع» وهو خطأ. وهذا الأمر تفصيل الوجه الثاني من جواب القرطبي عن هذه المسألة. التذكرة (375).
(3) (ب، ط): «ومن هو».
(1/206)
كان جبريل يقرئ النبي – صلى الله عليه وسلم -، ويدارسُه القرآن، والحاضرون لا يسمعونه.
وكيف يستنكر من يعرف (1) الله سبحانه ويُقِرُّ بقدرته، أن يُحدِثَ حوادثَ يَصرِفُ (2) عنها أبصارَ بعض خلقه (3)، حكمةً منه ورحمةً بهم؛ لأنّهم لا يطيقون رؤيتها وسماعَها؟ والعبد أضعفُ بصرًا وسمعًا من أن يثبُتَ لمشاهدة عذاب القبر. وكثيرٌ (4) ممن أشهده الله ذلك صَعِق [46 أ] وغُشي عليه، ولم ينتفع بالعيش زمنًا. وبعضهم (5) كُشِف قناعُ قلبه، فمات. فكيف ينكَر في الحكمة الإلهية إسبالُ غطاء يحول بين المكلَّفين وبين مشاهدة ذلك، حتى إذا كُشِفَ الغطاءُ رأوه وشاهدوه عيانًا.
ثم إنّ العبد قادر على أن يزيل الزئبق والخردل عن عين الميِّت وصدره، ثم يردَّه بسرعة. فكيف يعجزُ عنه الملَك؟ وكيف لا يقدر عليه مَن هو على كل شيء قدير؟ وكيف (6) تعجز قدرته عن إبقائه في عينيه وعلى صدره، لا
(1) (ن): «يعبد».
(2) (ن): «تُصرَف».
(3) (ن): «أبصار خلقه».
(4) ما عدا (ن): «وكثيرًا» ولم يتبين لي وجه نصبه.
(5) (ب، ط): «بالعيش وسأل بعضهم»، وهو تحريف طريف. والمصنف يشير إلى ما رواه ابن إسحاق في حديث شهود الملائكة غزوة بدر من قول الغفاري: « … إذ دنت منّا سحابة، فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعتُ قائلًا يقول: أقدِمْ حَيزومُ. فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه، فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلِكُ، ثم تماسكتُ». سيرة ابن هشام (1/ 633).
(6) (ب، ط، ج): «فكيف».
(1/207)
يسقط (1) عنه؟ وهل قياسُ أمر البرزخ على ما يشاهدُه (2) الناس في الدنيا إلا محض الجهل والضلال، وتكذيب أصدق الصادقين، وتعجيز رب العالمين، وذلك غايةُ الجهل والظلم.
وإذا كان أحدنا يمكنه توسعةُ (3) القبر عشرةَ أذرع ومائة ذراع فأكثر (4)، طولًا وعرضًا وعمقًا، ويستر توسُّعه (5) عن الناس، ويُطلِع عليه من يشاء (6) = فكيف يعجز ربُّ العالمين أن يوسِّعه ما يشاء على من يشاء، ويسترَ ذلك عن أعين بني آدم (7)، فيراه بنو آدم ضيِّقًا، وهو أوسعُ شيء، وأطيبُه ريحًا، وأعظمُه إضاءةً ونورًا، وهم لا يرون ذلك؟
وسرُّ المسألة: أنَّ هذه التوسعةَ والضيق والإضاءة والخضرة والنار ليس من جنس المعهود في هذا العالم، والله سبحانه إنما أشهدَ بني آدم في هذه الدار ما كان فيها ومنها. فأما ما كان من أمر الآخرة، فقد أَسْبَلَ عليه الغطاءَ ليكون (8) الإقرارُ به والإيمانُ سببًا لسعادتهم، فإذا كُشِفَ عنهم الغطاءُ صار عيانًا مشاهدًا.
(1) (ب، ط، ج): «ولا يسقط».
(2) (ب، ط، ج): «يشاهد».
(3) ما عدا (أ، ق، غ): «توسيع».
(4) ما عدا (أ، غ): «وأكثر».
(5) (ب، ق، ن): «توسيعه». (ط): «توسعته».
(6) في (ب، ط) هنا وفيما يأتي: شاء.
(7) (ب، ط، ج): «عيون بني آدم».
(8) (ب، ط، ج): «فيكون». وقد سقط «ليكون … الغطاء» من (ن).
(1/208)
فلو كان الميت بين الناس موضوعًا لم يمتنع أن يأتيه الملكان ويسألانه، من غير أن يشعر الحاضرون بذلك، ويجيبهما من غير أن يسمعوا كلامه، ويضربانه من غير أن يشاهد الحاضرون ضرْبَه. وهذا الواحد منّا ينام إلى جنب صاحبه، فيُعذَّب في النوم، ويُضرَب، ويألَم، وليس عند المستيقظ خبر من ذلك البتَّة، وقد يسري (1) أثر الضرب والألم إلى جسده.
ومِن أعظم الجهل استبعادُ شقِّ الملَكِ الأرضَ والحجرَ، وقد جعلها (2) الله سبحانه له (3) كالهواء للطير، ولا يلزم من حَجْبِها للأجسام الكثيفة [46 ب] أن تتولَّج فيها حَجْبُها للأرواح اللطيفة. وهل هذا إلا من أفسد القياس؟ وبهذا وأمثالِه كُذِّبت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.
فصل
الأمر السابع (4): أنه غير ممتنِعٍ أن تُردَّ الروح (5) إلى المصلوب والغريق والمحترق (6) ونحن لا نشعر بها، إذ ذلك الردُّ نوع آخرُ غير المعهود. فهذا المغمَى عليه والمسكوتُ (7) والمبهوتُ أحياء، وأرواحُهم معهم، ولا
(1) ما عدا (أ، غ): «سرى».
(2) (ق): «جعلهما».
(3) «له» لم يرد في (أ، غ).
(4) (ق، ب، ط، ج): «الثامن»، والصواب ما أثبتنا من الأصل و (ن، غ) وقارن هذا الأمر بالوجه الثالث من جواب القرطبي في التذكرة (376).
(5) في (أ، غ): «الروح ترد».
(6) كذا في الأصل. وفي (ق، ب، ط، غ): «المحرَق». وفي (ن، ج): «الحريق».
(7) يعني من أصابته السكتة. والكلمة لم ترد في المعجمات. وفي التذكرة: صاحب السكتة.
(1/209)
نشعر (1) بحياتهم. ومن تفرقت أجزاؤه لا يمتنع على من هو على كل شيء قدير أن يجعل للروح اتصالًا بتلك الأجزاء، على تباعُدِ ما بينهما (2) وقربه، ويكون في تلك الأجزاء شعورٌ بنوع من الألم واللذَّة.
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد جعل في الجمادات شعورًا (3) وإدراكًا تُسبِّح ربَّها به، وتسقط (4) الحجارةُ من خَشيته، وتسجد له الجبال والشجر، وتسبِّحه الحصَى والمياهُ والنبات.
قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]. ولو كان التسبيح هو مجرَّد دلالتها على صانعها لم يقل: {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (5) فإنَّ كلَّ عاقل يفهم (6) دلالتها على صانعها (7).
(1) ما عدا (أ، ق، غ): «يُشعر».
(2) كذا في (أ، غ) يعني بين الروح وأجزاء الجسم. وفي غيرهما: «بينها». وكأنّ في (ق، ط) تغييرًا في المتن.
(3) زاد في (ب): «بنوع من الألم». وأشير إليها في حاشية (ط). وهو غلط سببه انتقال النظر. وجواب «إذا» سيأتي بعد الشواهد على تسبيح الجمادات.
(4) (ن): «تهبط».
(5) «ولو كان … تسبحهم» ساقط من (ن).
(6) ما عدا (أ، غ): «يفقه».
(7) وقد ذكر المصنف في مفتاح دار السعادة (2/ 106) أن هذا القول ــ وهو أنّ المراد من تسبيح الجمادات دلالتها على صانعها فقط ــ باطل من أكثر من ثلاثين وجهًا قد ذكر أكثرها في موضع آخر. وانظر: جامع الرسائل لشيخ الإسلام (1/ 40). والقول المذكور نسبه ابن الجوزي في زاد المسير (4/ 453) إلى جماعة من العلماء.
(1/210)
وقال تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} [ص: 18] والدلالة على الصانع لا تَختصُّ بهذين الوقتين.
وكذلك قوله: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: 10] والدلالة لا تختصُّ معِيَّته (1) وحده. وكذَب على الله من قال: التأويبُ رجعُ الصدى (2)، فإنّ هذا يكون لكل مصوِّت.
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج: 18]. والدلالة على الصانع لا تختصُّ بكثير من الناس.
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41] فهذه صلاةٌ وتسبيح حقيقة يعلمها الله وإن جحدها الجاهلون (3) المكذبون.
وقد أخبر تعالى عن الحجارة أنَّ بعضها يزولُ من مكانه، ويسقط (4) من
(1) (ن): «بمعيته». وفي (ب، ج): «بعينه». وفي (ط): «بعينيه» وكلاهما تصحيف.
(2) ما عدا (أ، غ): «الصدر»، وهو تحريف. وفي (ط) حاشية لبعض القراء: «لعله الصوت أو الصدا». ثم نقل قول البغوي في تفسيره (3/ 595): «وكان داود إذا نادى بالناحية أجابته الجبال بصداها، وعكف الطير عليه من فوقه، فصدى الجبال الذي يسمعه الناس اليوم من ذلك». ثم قال: فلعل هذا هو الذي ردّه المصنّف.
(3) في (ج) زاد بعده واو العطف. وفي (ب، ط، ن): «الجاحدون». وفي (ط، ن) زاد واو العطف.
(4) (ن): «يهبط».
(1/211)
خشيته. وقد أخبر عن الأرض والسماء أنهما يأذنان له، ــ وحُقَّ لهما (1) ذلك ــ أي (2): يستمعان كلامه؛ وقد خاطبهما، فسمعا خطابه، وأحسنا جوابه، فقال لهما: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]. وقد كان الصحابة يسمعون تسبيح الطعام، وهو يؤكل (3). وسمعوا حنين الجذع اليابس في المسجد (4) [47 أ].
فإذا (5) كانت هذه الأجسام فيها (6) الإحساس والشعور، فالأجسام التي كانت فيها الروح والحياة أولى بذلك.
وقد أشهد الله سبحانه عباده في هذه الدار إعادةَ حياةٍ كاملة إلى بدن قد فارقته الروح، فتكلَّم، ومشى، وأكل وشرب، وتزوّج ووُلد له؛ كالذين {خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: 243]، وكالذي {مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة: 259]، وكقتيلِ بني
(1) (أ، ق، غ): «قولهما»، تحريف.
(2) (ب، ط، ج): «أن».
(3) يشير إلى حديث ابن مسعود الذي أخرجه البخاري في المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (3579).
(4) انظر ما أخرجه البخاري في كتاب المناقب من حديث ابن عمر (3583) وجابر بن عبد الله (3584، 3585).
(5) سياق الكلام: «وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد جعل في الجمادات شعورًا وإدراكًا … فإذا كانت هذه الأجسام». طال الفصل بين إذا وجوابها فأعاد «فإذا كانت … ».
(6) (أ، غ): «منها».
(1/212)
إسرائيل، وكالذين قالوا لموسى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] فأماتهم الله، ثم بعثهم من بعد موتهم، وكأصحاب الكهف، وكقصة إبراهيم في الطيور الأربعة.
= فإذا أعاد الحياة التامَّة (1) إلى هذه الأجساد بعد ما بَرَدت بالموت، فكيف يمتنع على قدرته الباهرة (2) أن يعيد إليها بعدَ موتها حياةً ما غيرَ مستقرَّة يقضي بها ما أمره فيها، ويستنطقُها بها، ويعذِّبها أو ينعِّمها بأعمالها؟ وهل إنكار ذلك إلا مجردُ تكذيب وعناد وجحود؟ وبالله التوفيق.
فصل
الأمر الثامن (3): أنه ينبغي أن يُعلَم أنَّ عذاب القبر ونعيمَه اسمٌ لعذاب البرزخ ونعيمه، وهو ما بين الدنيا والآخرة (4). قال تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100]. وهذا البرزخ يُشرف أهله فيه على الدنيا والآخرة.
وسمِّي عذابَ القبر ونعيمَه وأنه روضة (5) أو حفرةُ نار باعتبار غالب الخلق، فالمصلوبُ والحريق والغريق (6) وأكيل السِّباع والطيور، له من
(1) (ب): «العامة»، تحريف.
(2) (ب، ط، ن، ج): «القاهرة».
(3) (ب، ط، ق، ج): «التاسع»، خطأ.
(4) (أ، ق، غ): «وقال».
(5) زاد في (ط): «من رياض الجنة».
(6) (ب، ط، ج): «المحرق والمغرق». (ق، ن): «الحرق والغرق».
(1/213)
عذاب البرزخ ونعيمه قِسْطُه الذي تقتضيه (1) أعماله، وإن تنوعت أسباب النعيم والعذاب وكيفياتهما.
وقد (2) ظنَّ بعضُ الأوائل (3) أنّه إذا حُرِق جسده بالنار، وصار رمادًا، وذُرِي بعضه في البحر وبعضه في البرِّ (4) في يوم شديد الريح= أنه ينجو من ذلك، فأوصى (5) بنيه أن يفعلوا به ذلك. فأمر الله البحرَ فجمع ما فيه، وأمر البرَّ فجمع ما فيه، ثم قال: قم، فإذا هو قائم بين يدي الله فسأله (6): ما حملك على ما فعلت؟ فقال (7): خَشْيتُك يا ربِّ، وأنت أعلم. فما تلافاه أن رحمه (8).
فلم يفُتْ عذابُ البرزخ [47 ب] ونعيمه لهذه (9) الأجزاء التي صارت في هذه الحال، حتى لو عُلِّق الميت على رؤوس الأشجار في مهابِّ الرياح لأصابَ جسده من عذاب البرزخ حظُّه ونصيبُه. ولو دُفن الرجل الصالح في
(1) (ق، غ): «يقتضيه». ولم ينقط أوله في الأصل.
(2) (أ، ق، غ): «فقد».
(3) (ن): «أولئك»، تحريف.
(4) في (ب، ج) قدّم البرّ على البحر.
(5) (ب، ج)، «ما حرض» تحريف.
(6) (ب، ط، ج): «قال».
(7) (ب، ط، ج): «قال».
(8) يشير إلى ما أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3478، 3481) ومسلم في التوبة باب سعة رحمة الله (2756، 2757) من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري.
(9) في الأصل: «هذه» ولكن أخشى أن اللام لم تظهر في الصورة كما لم تظهر همزة الوصل من «الأجزاء».
(1/214)
أتُّون من النار لأصاب جسدَه من نعيم البرزخ ورَوحه نصيبُه وحظُّه، فيجعل الله النارَ على هذا بردًا وسلامًا، والهواءَ على ذلك (1) نارًا وسَمُومًا. فعناصرُ العالم وموادُّه منقادة لربِّها وفاطرِها وخالقها، يُصَرِّفُها كيف يشاء (2). ولا يستعصي عليه منها شيء أراده، بل هي طوع مشيئته، مذلَّلةٌ منقادةٌ لقدرته. ومَن أنكر هذا فقد جحدَ ربَّ العالمين، وكفر به، وأنكر ربوبيته.
فصل
الأمر التاسع (3): أن الموت معادٌ وبعث أوَّل، فإنَّ الله سبحانه جعل لابن آدم معادَين وبعثَين، يجزي فيهما الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
فالبعث الأول: مفارقةُ الروح للبدن، ومصيرها إلى دار الجزاء (4) الأول.
والبعث الثاني: يومَ يردُّ الله الأرواح إلى أجسادها، ويبعثُها من قبورها إلى الجنة أو إلى النار، وهو الحشر الثاني. ولهذا في الحديث الصحيح: «وتؤمن بالبعث الآخر» (5)، فإنَّ البعث الأول لا ينكره أحد، وإن أنكر كثير من الناس الجزاء فيه والنعيم والعذاب.
(1) (ط): «هذا».
(2) (ط): «شاء».
(3) كذا في (ن، غ). وهو الصواب. ومما يستغرب أن الأصل الذي استمرّ على الصواب من الأمر الأول إلى الثامن أخطأ هنا وساير النسخ الأخرى.
(4) (ن): «الحشر»، تصحيف. وانظر في تفسير «البعث الأول»: فتح الباري (1/ 118).
(5) أخرجه البخاري في التفسير (4777) ومسلم في الإيمان (9) من حديث أبي هريرة.
(1/215)
وقد ذكر الله سبحانه هاتين القيامتين ــ وهما الصغرى والكبرى ــ في سورة المؤمنين، وسورة الواقعة، وسورة القيامة، وسورة المطففين، وسورة الفجر، وغيرها من السور. وقد اقتضى عدلُه وحكمتُه أن جعلهما داري جزاءٍ للمحسن والمسيء (1)، ولكنَّ توفية الجزاء إنما يكون يومَ المعاد الثاني في دار القرار، كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185].
وقد اقتضى عدلُه وأوجبت أسماؤه الحسنى وكمالُه المقدَّس تنعيمَ أبدان أوليائه وأرواحهم، وتعذيبَ أبدان أعدائه وأرواحهم؛ فلابدَّ أن يذيق بدنَ المطيع له وروحَه من النعيم واللذة ما يليق به [48 أ]، ويذيق بدنَ الفاجر العاصي له وروحَه من الألم والعقوبة ما يستحقّه. هذا موجَب عدلِه وحكمتِه وكمالِه المقدَّس.
ولما كانت هذه الدارُ دارَ تكليف وامتحان، لا دار جزاء، لم يظهر فيها ذلك. وأما البرزخ فأولُ دار الجزاء، فظهر فيها من ذلك ما يليق بتلك الدار، وتقتضى الحكمةُ إظهارَه. فإذا كان يومُ القيامة الكبرى وَفَّى (2) أهلَ الطاعة وأهلَ المعصية ما يستحقُّونه من نعيم الأبدان والأرواح وعذابهما.
وعذابُ (3) البرزخِ ونعيمُه أولُ عذاب الآخرة ونعيمها. وهو مشتقٌّ منه، وواصِلٌ إلى أهل البرزخ من هناك، كما دلَّ عليه القرآن والسنة الصريحةُ في
(1) (ن): «للمحسنين والمسيئين». ونحوه في (ق) دون لام الجرّ.
(2) الضبط من (أ، ط، ن). ويجوز بالبناء للمجهول.
(3) ما عدا الأصل: «فعذاب». وقد عدّل بعض القراء في الأصل أيضًا، فزاد فاءً، ونسي حذف الواو.
(1/216)
غير موضع دلالةً صريحةً، كقوله: «فيفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من رَوْحها ونعيمها»، وفي الفاجر: «فيفتح له باب إلى النار، فيأتيه من حرِّها وسمومها» (1). ومعلوم قطعًا أنَّ البدن يأخذ حظَّه من هذا الباب كما تأخذ الروح حظَّها، فإذا كان يومُ القيامة دخَلَ من ذلك الباب إلى مقعده الذي هو داخلُه.
وهذان البابان يصل منهما إلى العبد في هذه الدار أثرٌ خفيٌّ محجوب بالشواغل والغواشي الحسيَّة (2) والعوارض، ولكن يُحِسُّ به كثير من الناس، وإن لم يعرف سببه، ولا يُحسِن التعبيرَ؛ فوجود الشيء غيرُ الإحساس به والتعبيرِ عنه. فإذا مات كان وصول ذلك الأثر إليه من ذَيْنك البابين أكملَ، فإذا بُعِث كَمُل وصولُ ذلك (3) الأثر إليه. فحكمةُ الربِّ تعالى منتظمة لذلك أكملَ انتظام في الدور الثلاثة.
(1) سبق تخريجه في أول المسألة السادسة.
(2) (ن): «الجسمية». (ب، ط، ج): «الجسيمة».
(3) (أ، غ): «بُعِث وصل ذلك».
(1/217)
فصل
وأما المسألة الثامنة (1)
وهي قول السائل: ما الحكمةُ في كون عذاب القبر لم يذكر في القرآن، مع شدة الحاجة إلى معرفته والإيمان به ليُحذَر ويُتَّقى؟
فالجواب من وجهين: مجمل، ومفصل.
فأما (2) المجمل، فهو أنَّ الله سبحانه أنزل على رسوله وَحْيَين، وأوجب على عباده الإيمان بهما والعمل بما فيهما، وهما الكتابُ والحكمةُ؛ كما (3) قال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113]. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2]. وقال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34].
والكتاب هو القرآن، والحكمة هي السنة، باتفاق السلف. وما أخبر به الرسول عن الله، فهو في وجوب تصديقه والإيمان به كما أَخبرَ به الربُّ تعالى على لسان رسوله. هذا أصلٌ متفق عليه بين أهل الإسلام، لا ينكره إلا من ليس منهم. وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إني أوتيتُ الكتابَ ومثلَه معه» (4).
(1) «فصل وأما» لم يرد في (ن). وسقط من (ب، ط): «وأما». وفي (ق، ن): «التاسعة». وزاد في (ن) بعدها: «منه».
(2) ما عدا (أ، غ): «وأما».
(3) «كما» من (أ، غ). وفي (ط): «وقال».
(4) أخرجه أبو داود (4604)، والإمام أحمد (17147) من حديث المقدام بن معديكرب رضي الله عنه وإسناده صحيح. وصححه المصنف في التبيان في أيمان القرآن (ص 370). وانظر: السلسلة الصحيحة (2870). (قالمي).
(1/218)
وأما الجواب المفصل، فهو أنَّ نعيم البرزخ (1) وعذابَه مذكور في القرآن في غير موضع. فمنها: قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93].
وهذا خطاب لهم عند الموت قطعًا (2)، وقد أخبرت الملائكة ــ وهم الصادقون ــ أنَّهم حينئذٍ يُجزون عذاب الهون. ولو تأخَّر عنهم ذلك إلى انقضاء الدنيا لما صحَّ أن يقال لهم: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ}.
ومنها (3) قوله تعالى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 45 – 46]. فذَكَر عذابَ الدَّارَين ذكرًا صريحًا لا يحتمل غيره.
ومنها قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الطور: 45 ــ 47] وهذا يحتمل أن (4) يراد به عذابهم بالقتل
(1) ما عدا (أ، ق، غ): «الروح»، تصحيف. وفي (ق): «النعيم»، خطأ.
(2) لم يرد «قطعًا» في (أ، ق، غ).
(3) «منها» من (أ، ق، غ).
(4) في (ب، ط، ج): «الذي». تحريف اختلّ به المعنى.
(1/219)
وغيره في الدنيا، وأن يراد به عذابُهم في البرزخ. وهو أظهر، لأن كثيرًا منهم مات (1)، ولم يعذَّب في الدنيا. وقد يقال ــ وهو أظهر ــ أنَّ من مات منهم عُذِّب في البرزخ، ومن بقي منهم (2) عُذِّب في الدنيا بالقتل وغيره. فهو وَعيدٌ بعذابهم في الدنيا وفي البرزخ.
ومنها قوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21]. وقد احتجَّ بهذه الآية جماعة ــ منهم عبد الله بن عباس (3) ــ على عذاب القبر. وفي الاحتجاج بها شيءٌ؛ لأنَّ هذا عذابٌ في الدنيا يُستدعى به (4) رجوعُهم عن الكفر. ولم يكن هذا مما يخفَى على حبر الأمة وترجمان القرآن (5)، لكن من فِقْهه [49 أ] في القرآن ودِقَّة فهمه فيه، فَهِم منها عذابَ القبر؛ فإنَّه سبحانه أخبر أنَّ له فيهم عذابين: أدنى وأكبر، فأخبر أنه يذيقُهم بعض الأدنى ليرجعوا، فدلَّ على أنه بقي لهم من الأدنى بقيةٌ يعذَّبون بها بعد عذاب الدنيا. ولهذا قال: {مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى}، ولم يقل: ولنذيقنَّهم العذاب الأدنى (6) فتأمَّلْه.
(1) «مات» ساقط من (ن).
(2) «منهم» من (أ، ق، غ).
(3) لم أجده منهم، وإنما نُسب إليه في رواية ابن أبي طلحة: أنه مصائب الدنيا. وفيما رواه عكرمة: الحدود. أما القول بأن المراد عذاب القبر أو هو وعذاب الدنيا، فنسب إلى البراء بن عازب، ومجاهد. انظر: تفسير الطبري (18/ 631)، وزاد المسير (6/ 341).
(4) ما عدا (أ، ق، غ): «بهم»، وهو خطأ.
(5) في (ب، ط، ج) دون واو العطف قبله.
(6) «ولم يقل … الأدنى» ساقط من (ن).
(1/220)
وهذا نظير قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «فيفتح له طاقةٌ إلى النار، فيأتيه من حرِّها وسَمومها» (1). ولم يقل: فيأتيه حرُّها وسمومها، فإنَّ الذي وصل إليه بعض ذلك، وبقي له أكثر. والذي ذاقه أعداء الله في الدنيا بعضُ العذاب الأدنى، وبقي لهم ما هو أعظم منه.
ومنها: قوله تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} الواقعة: 83 ــ 96، فذكر هاهنا أحكامَ الأرواح عند الموت، وذكر في أول السورة أحكامها يوم المعاد الأكبر (3)، وقدَّم ذلك على هذا تقديم الغاية (4)، إذ هي أهم وأولى بالذكر. وجعلهم عند الموت ثلاثةَ أقسام، كما جعلهم في الآخرة ثلاثة أقسام.
ومنها: قوله تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} (5) [الفجر: 27 ــ 30]. وقد اختلف السلف
(1) سبق تخريجه في المسألة السادسة.
(2) في (ن) اكتفى الناسخ بكتابة الآيات إلى «المقربين» ثم قال: «إلى آخرها».
(3) ما عدا (أ، غ): «الآخرِ». وانظر: المسألة الرابعة عشرة، وطريق الهجرتين (420).
(4) زاد في (ق): «للقائه».
(5) هنا أيضًا أثبت ناسخ (ن) الآيتين 27 ــ 28 ثم قال: إلى آخر الآية.
(1/221)
متى يقال لها ذلك؟ فقالت طائفة: يقال لها ذلك (1) عند الموت. وظاهرُ اللفظ مع هؤلاء، فإنه خطابٌ للنفس التي قد تجرَّدت عن البدن، وخرجت منه. وقد فسَّر ذلك النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – بقوله في حديث البراء وغيره: «فيقال لها: اخرجي راضيةً مرضيًّا عنك» (2). وسيأتي تمام تقرير هذا في المسألة التي يُذكَر فيها مُستقَرُّ الأرواح في البرزخ إن شاء الله تعالى (3).
وقوله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} مطابق لقوله عليه السلام [49 ب]: «اللهم الرفيق الأعلى» (4)، وأنت إذا تأمَّلت أحاديث (5) عذاب القبر ونعيمه وجدتها تفصيلًا وتفسيرًا لما دلَّ عليه القرآن. وبالله التوفيق (6).
(1) «ذلك» من (ب، ط، ج).
(2) سبق تخريجه في المسألة الملحقة بالسادسة (ص 159).
(3) انظر المسألة الخامسة عشرة. ومدارج السالكين (2/ 179).
(4) أخرجه البخاري (4463) ومسلم (2444) من حديث عائشة.
(5) كلمة «أحاديث» ساقطة من (ن).
(6) «وبالله التوفيق» لم يرد في (ن).
(1/222)
فصل
وأما المسألة التاسعة (1)
وهي قول السائل: ما الأسباب التي يعذَّب بها أصحاب القبور؟
فجوابها من وجهين: مجمل ومفصَّل.
أما المجمل: فإنهم يعذَّبون على جهلهم بالله، وإضاعتهم لأمره، وارتكابهم لمعاصيه. فلا يعذِّب الله روحًا عرفته، وأحبَّته، وامتثلت أمرَه، واجتنبت نهيَهُ؛ ولا بدَنًا (2) كانت فيه أبدًا، فإنّ عذاب القبر وعذاب الآخرة أثرُ غضب الله وسُخْطِه على عبده، فمَن أغضب الله وأسخطَه في هذه الدار، ثم لم يتب، ومات على ذلك (3)، كان له من عذاب البرزخ بقدر غضبِ الله وسخطهِ عليه؛ فمستقِلٌّ ومستكثِر، ومصدِّقٌ ومكذِّب.
وأما الجواب المفصَّل، فقد أخبرَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن الرجلين الذين رآهما يعذَّبان في قبورهما، يمشي أحدهما بالنميمة بين الناس، ويترك (4) الآخرُ الاستبراءَ من البول (5). فهذا ترَكَ الطهارة الواجبة، وذلك ارتكب السببَ المُوقِعَ للعداوة بين الناس بلسانه، وإن كان صادقًا. وفي هذا تنبيه على أنَّ المُوقِعَ بينهم العداوةَ بالكذب والزُّور والبهتان أعظمُ عذابًا، كما أنَّ
(1) في (ن): «العاشرة» ولم يرد فيها «فصل وأما».
(2) (ب، ج): «ولابدمَا» وكذا كان محرّفًا في (ط) أيضًا فأصلحه بعضهم.
(3) «على ذلك» ساقط من (ن).
(4) (ب، ن، ج): «ترك».
(5) تقدم الحديث في المسألة الملحقة بالسادسة (ص 150).
(1/223)
في ترك الاستبراء من البول تنبيهًا على أنَّ مَن تَرَك الصلاة التي الاستبراءُ من البول بعضُ واجباتها وشروطها (1)، فهو أشدُّ عذابًا. وفي حديث شعبة: «أما أحدهما فكان يأكل لحوم الناس» (2). فهذا مغتاب، وذلك نمَّام.
وقد تقدَّم (3) حديث ابن مسعود في الذي ضُرب سوطًا امتلأ القبر عليه به (4) نارًا، لكونه صلَّى صلاة واحدة بغير طهور، ومرَّ على مظلوم فلم ينصره.
وقد تقدَّم (5) حديث سَمُرة في صحيح البخاري في تعذيب من يكذب الكذبة، فتبلغ الآفاق؛ وتعذيب من يقرأ القرآن، ثم ينام عنه بالليل، ولا يعمل به بالنهار؛ وتعذيب الزُّناةِ والزواني، وتعذيب آكل الربا، كما شاهدهم النبي – صلى الله عليه وسلم – [50 أ] في البرزخ.
وتقدَّم (6) حديث أبي هريرة الذي فيه رَضْخُ رؤوس أقوام بالصخر لتثاقُلِ رؤوسهم عن الصلاة، والذين يسرحون بين الضَّريع والزقّوم لتركهم زكاة أموالهم، والذين يأكلون اللحم المنتِنَ الخبيث لزناهم، والذين تُقرَض شفاهُهم بمقاريض من حديث لقيامهم في الفتن بالكلام والخطب.
(1) (ن): «وأعظم شروطها».
(2) تقدّم في المسألة الملحقة بالسادسة (ص 177).
(3) في المسألة الملحقة بالسادسة (ص 171).
(4) «به» في (أ، ق، غ).
(5) في المسألة الملحقة بالسادسة (ص 169).
(6) في المسألة الملحقة بالسادسة (ص 172).
(1/224)
وتقدَّم (1) حديث أبي سعيد وعقوبة أرباب تلك الجرائم. فمنهم مَن بطونُهم أمثالُ البيوت، وهم على (2) سابلة آل فرعون، وهم أَكَلة الربا. ومنهم من تُفتَح أفواههم فيُلقَمون الجمرَ حتى (3) يخرج من أسافلهم، وهم أَكَلة (4) أموال اليتامى. ومنهم المعلَّقات بثُدِيِّهنَّ، وهنَّ الزواني. ومنهم من تُقطَع جنوبهم ويُطعَمون لحومَهم، وهم المغتابون. ومنهم من لهم أظفار من نحاس يخمِشون وجوههم وصدورهم، وهم الذين يمزّقون أعراض الناس.
وقد أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – عن صاحب الشَّملة التي غلَّها من المغنم أنها تشتعل عليه نارًا في قبره (5). هذا، وله فيها حقٌّ، فكيف بمن ظلم غيرَه بما (6) لا حقَّ له فيه!
فعذابُ القبر من معاصي القلب والعين والأذن والفم واللسان والبطن والفرج واليد والرجل، والبدنِ كلِّه.
فالكذَّابُ (7)، والنمَّام، والمغتاب، وشاهد الزور، وقاذف المحصَن، والمُوضِع في الفتنة، والداعي إلى البدعة، والقائل على الله ورسوله ما لا علمَ له به، والمجازف في كلامه.
(1) في المسألة الملحقة بالسادسة (ص 175).
(2) ساقطة من (ن).
(3) في (ب، ط، ج): «ويخرج».
(4) (ب، ط، ج): «أكلوا» ولعل المقصود: «آكِلو»، فقد ضبطت الكاف بالكسرة في (ب).
(5) سيأتي نصه في (ص 347).
(6) كذا في الأصل. وفي غيرها: «ما». وغيّره بعضهم في (ن) إلى «فيما».
(7) (ب، ن، ج): «كالكذاب».
(1/225)
وآكلُ الربا، وآكل أموال اليتامى، وآكل السُّحت من الرشوة والبِرْطِيل (1) ونحوهما، وآكل مالِ أخيه المسلم بغير حقٍّ أو مال المعاهَد، وشارب المسكِر، وآكل لقمة الشجرة الملعونة، والزاني، واللوطي، والسارق، والخائن، والغادر (2)، والمخادع، والماكر، وآخذ الربا (3)، ومعطيه، وكاتبه (4)، وشاهداه؛ والمحلل والمحلَّل له، والمحتال على إسقاط فرائض الله وارتكاب محارمه، ومؤذي المسلمين، ومتَّبع عوراتهم.
والحاكم بغير ما أنزل الله (5)، والمفتي بخلاف (6) ما شرَعَه الله، والمعين على الإثم والعدوان، وقاتل النفس التي حرم الله، والملحِد في حرم الله، والمعطِّل لحقائق أسماء الله وصفاته الملحِد (7) فيها، والمقدِّم رأيَه (8) وذوقَه وسياسته على سنَّة [50 ب] رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
والنائحةُ والمستمِعُ إليها، ونوَّاحو (9) جهنَّم ــ وهم المغنُّون (10) الغناءَ الذي حرَّمه الله ورسولُه ــ والمستمعُ إليهم، والذين يبنون المساجد على
(1) البِرطيل: الرشوة.
(2) (ب): «الغالّ».
(3) (ب، ط، ج): «آكل الربا وموكله».
(4) ساقط من (ب، ط، ن، ج).
(5) «والحاكم … » ساقط من (ب، ج).
(6) (ط): «بغير».
(7) (ب، ط، ن): «والملحد».
(8) «رأيه» ساقط من (ب، ج).
(9) في جميع النسخ: «ونوّاحي»، وهو معطوف على مرفوع.
(10) (أ، ق، غ): «المغنيون».
(1/226)
القبور، ويُوقدون عليها القناديل والسرج؛ والمطفِّفون في استيفاء ما لهم إذا أخذوه، وهَضْمِ ما عليهم إذا بذلوه، والجبَّارون، والمتكبِّرون، والمراؤون (1) والهمّازون، واللمّازون، والطاعنون (2) على السلف، والذين يأتون الكَهَنة والمنجِّمين والعرَّافين (3)، فيسألونهم، ويصدِّقونهم.
وأعوانُ الظلَمَة الذين قد باعوا آخِرَتهم بدنيا غيرهم (4)، والذي إذا خوَّفتَه بالله وذكَّرته به لم يرعَوِ، ولم ينزجر؛ فإذا خوَّفته بمخلوقٍ مثلِه خاف، وارعوى، وكفَّ عمَّا هو فيه.
والذي يُهدَى بكلام الله ورسوله، فلا يهتدي، ولا يرفع به رأسًا؛ فإذا بلغه عمَّن يُحسِنُ به الظنَّ، ممَّن يصيب ويخطئ، عضَّ عليه بالنواجذ، ولم يخالفه. والذي يُقرأ عليه القرآنُ، فلا يؤثِّر فيه، وربما استثقَلَ به؛ فإذا سمع قرآن الشيطان، ورقية الزنا، ومادّة النفاق= طاب سِرُّه (5)، وتواجَدَ، وهاج من قلبه دواعي الطرب، وودَّ أنَّ المغنِّي لا يسكتُ. والذي يحلف بالله، ويكذب، فإذا حلف بالبندق (6)، أو
(1) ساقط من (ن).
(2) أسقط ناسخ (ن): «اللمازون»، وكتب: «الطعانون».
(3) (ط): «الطرقين»، تحريف.
(4) سقط «غيرهم» من (ج). وفي (ب، ط): «بدنياهم ودنيا غيرهم».
(5) (ب): «مسرة». (ط): «مرةً». (ن): «مشربه». وكله تحريف.
(6) كان رماة البندق يحلفون به في عهودهم فيما بينهم. انظر: مجموع الفتاوى (1/ 204). وانظر عن شرع البندق وعهود رماته: مجموع الفتاوى (11/ 451)، (25/ 407). وفي (ن): «حلف بأبيه». ولعل «بالبندق» خفي على ناسخها أو ناسخ أصلها، فتصرَّف في المتن.
(1/227)
برأس شيخه (1) أو تُربته (2) أو سراويل الفتوة (3)، أو حياة من يحبُّه ويعظِّمه من المخلوقين= لم يكذب، ولو هُدِّد وعُوقب.
والذي يفتخرُ بالمعصية، ويتكثَّر بها بين إخوانه وأضرابه، وهو المجاهر؛ والذي لا تأمنُه على مالك وحرمتك (4)، والفاحش اللسان البذيء (5) الذي تركه الناس (6) اتقاءَ شرَّه وفُحْشه.
والذي يؤخِّر الصلاة إلى آخر وقتها، وينقُرُها، ولا يذكر الله فيها إلا قليلًا، ولا يؤدِّي زكاةَ ماله طيِّبةً بها نفسُه، ولا يحجُّ مع قدرته على الحجِّ، ولا يؤدِّي ما عليه من الحقوق مع قدرته عليها، ولا يتورَّع من لَحْظةٍ (7) ولا لفظةٍ ولا أَكلةٍ ولا خَطوةٍ، ولا يبالي بما حصّل المال من حلال أو حرام، ولا يصلُ رَحِمه؛ ولا يرحم [51 أ] المسكين، ولا الأرملَة ولا اليتيمَ، ولا الحيوان البهيمَ؛ بل يدُعُّ اليتيم، ولا يحضُّ على طعام المسكين، ويرائي العالمين،
(1) «برأس» تحرّف في أكثر النسخ المطبوعة إلى «برئ من».
(2) في (أ، ق، غ): «قريبه»، وهو تصحيف. ويبدو أنّ الحلف بتُرَب الأنبياء والصالحين كان رائجًا في عهد المصنف. وقد ذكره شيخ الإسلام مع أيمان البندق وسراويل الفتوة في رسالته في التوسل. مجموع الفتاوى (1/ 204).
(3) كان الحلف بها شائعًا عند أهل الفتوة. انظر المصدر السابق. وفي (ن): «لباس الفتوة». وهو تصرّف في المتن.
(4) غيّره بعضهم في الأصل إلى «حريمك»!
(5) ساقط من (ب، ط).
(6) «الناس» ساقط من (ق). وفي (ب، ط) مع هذا السقط: «تتركه»، يعني: أنت. وكأنه إصلاح للجملة.
(7) (ن): «في لحظة».
(1/228)
ويمنع الماعون، ويشتغل بعيوب الناس عن عيبه، وبذنوبهم عن ذنبه.
= فكلُّ هؤلاء وأمثالُهم يعذَّبون في قبورهم بهذه الجرائم بحسَبِ كثرتها وقلِّتها، وصِغَرها وكِبَرها (1).
ولما كان أكثر الناس كذلك كان أكثر أصحاب القبور معذَّبين، والفائزُ منهم قليل. فظواهر القبور تراب، وبواطنها (2) حسرات وعذاب. ظواهرُها بالتراب والحجارة المنقوشة مَبْنِيَّات، وفي باطنها الدواهي والبَلِيَّات، تغلي بالحسرات، كما تغلي القدور بما فيها. ويحِقّ لها، وقد حيل بينها وبين شهواتها وأمانيها.
تالله لقد وعظَتْ، فما تركت لواعظٍ مقالًا، ونادت: يا عُمَّار الدنيا لقد أعمرتم (3) دارًا موشكة بكم زوالًا، وخرَّبتم دارًا أنتم مسرعون (4) إليها انتقالًا. عمَّرتم بيوتًا لغيركم منافعُها وسُكنْاها، وخرّبتم بيوتًا ليس لكم مساكنُ سواها: هذه دار الاستيفاء (5)، ومستودعُ الأعمال، وبَيدَر الزرع (6).
(1) (أ، ق، غ): «صغيرها وكبيرها».
(2) ما عدا (أ، ق، غ): «فظاهر … وباطنها».
(3) ما عدا (أ، غ): «عمرتم. ثم جاءت السجعتان: «زوالًا» وانتقالًا في (ب، ط) بعد «سواها».
(4) (ب، ن): «تسرعون».
(5) كذا في جميع النسخ. والمراد بها المساكن التي خرّبوها، وهي مساكن البرزخ والدار الآخرة. فلمَّا توهم ناشرو الكتاب أن المراد بهذه دار الدنيا، وبما بعدها دار الآخرة، غيَّر كثير منهم «الاستيفاء» إلى «الاستباق»، وزادوا واوًا قبل «محلّ العبر».
(6) كذا في جميع النسخ. وغيّره الناشرون لوهمهم المذكور إلى «بذر».
(1/229)
هذه محلُّ العبر (1)، رياض من رياض الجنة، أو حُفرة (2) من حُفَر النار.
(1) (ق): «الغير». (ن): «الصبر». وفي النسخ المطبوعة: «وهذه محلٌّ للعبر».
(2) في (ج): «حُفَر»، وهو أشبه بالسياق.
(1/230)
فصل
وأمَّا المسألة العاشرة (1)
وهي قوله: ما هي الأسباب المنجية من عذاب القبر؟
فجوابها أيضًا من وجهين: مجمل، ومفصّل.
أمَّا المجمل، فهو تجنُّب (2) تلك الأسباب التي تقتضي عذاب القبر. ومن أنفعها (3): أن يجلس الإنسان (4) عندما يريدُ النومَ لله (5) ساعةً، يحاسبُ نفسه فيها (6) على ما خسِره وربِحه في يومه، ثم يجدِّد له (7) توبةً نصوحًا بينه وبين الله، فينام على تلك التوبة، ويعزِم على أن لا يعاوِدَ الذنب إذا استيقظ. ويفعل هذا (8) كلَّ ليلة، فإن مات من ليلته مات على توبة، وإن استيقظ استيقظ مستقبِلًا للعمل، مسرورًا بتأخير أجله حتى يستقيل ربَّه، ويستدرِكَ ما فاته.
وليس للعبد أنفعُ من هذه التوبة (9) ولاسيَّما إذا عقَّب (10) ذلك بذكر الله
(1) في (ن): «الحادية عشرة». ولم يرد فيها «فصل وأما».
(2) (أ، ق، غ): «بحسب»، تصحيف.
(3) يعني الأسباب المنجية.
(4) ما عدا (أ، غ): «الرجل».
(5) ساقط من (ن).
(6) ما عدا (أ، ق، غ): «فيها نفسه».
(7) ساقط من (ط).
(8) (ط): «هكذا».
(9) ساقط من (ط). وفي (ب، ق، ن): «النومة»، تصحيف.
(10) (ط، ن): «أعقب».
(1/231)
واستعمال السُّنن التي وردت عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -[51 ب] عند النوم، حتى يغلبَه النوم. فَمَن أراد الله به خيرًا وفَّقه لذلك، ولا قوة إلا بالله.
وأما الجواب المفصَّل، فنذكر أحاديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيما يُنجِي من عذاب القبر.
فمنها: ما رواه مسلم في صحيحه (1) عن سلمان قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «رِباطُ يومٍ وليلةٍ (2) خيرٌ من صيام شهر وقيامه. وإن مات أُجري عليه عملُه الذي كان يعمله (3)، وأجري عليه رزقُه، وأمِنَ الفَتَّانَ».
وفي جامع الترمذي (4) من حديث فَضالة بن عبيد عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «كلُّ ميِّت يُخْتَم على عمله إلا الذي مات مرابطًا في سبيل الله، فإنه يُنمَى له عملُه إلى يوم القيامة، ويأمنُ من فتنة القبر». قال الترمذي (5): هذا حديث حسن صحيح.
وفي سنن النسائي (6) عن راشد بن سعد، عن رجل من أصحاب
(1) برقم (1913).
(2) زاد في (ط): «في سبيل الله».
(3) (ط): «يعمل».
(4) برقم (1621)، وأخرجه أبو داود (2500)، والإمام أحمد (23951)، وابن حبان (4624)، والحاكم (2/ 79) من طريق أبي هانئ الخولاني، عن عمرو بن مالك الجَنْبِي، عن فضالة بن عبيد. وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم». قلت: عمرو بن مالك الجنبي المصري ثقة لكنه ليس من رجال الشيخين. (قالمي).
(5) في (ن) مكان «الترمذي»: «ت»، وحذف بعده «هذا». وفي أول هذه الفقرة، وفيما يأتي أيضًا استعمل هذا الرمز أحيانًا.
(6) برقم (2053)، وصحح إسناده الألباني في أحكام الجنائز (ص 50). (قالمي). وسيأتي شرح الحديث.
(1/232)
النبي (1) – صلى الله عليه وسلم – أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله ما بالُ المؤمنين (2) يُفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: «كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنةً».
وعن المقدام (3) بن معدِ يكَرِب قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «للشهيد عند الله ستُّ خصال: يُغفَر له في أول دَفعةٍ من دمه (4)، ويُرَى مقعدَه من الجنة، ويُجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويُوضَع على رأسه تاج الوقار، الياقوتةُ منه خيرٌ من الدنيا وما فيها، ويزوَّج ثنتين (5) وسبعين زوجةً من الحور العين، ويشفَّع في سبعين من أقاربه» (6) رواه ابن ماجه، والترمذيُّ (7)، وهذا لفظه، وقال: هذا حديث حسن صحيح (8).
(1) (ط): «رسول الله».
(2) بعدها سقطت ورقة من (ج).
(3) (ط): «المقداد»، تحريف.
(4) «من دمه» لم يرد في (ب، ط). وكذلك في بعض نسخ الجامع.
(5) (ط): «بثنتين».
(6) «من أقاربه» ساقط من (ن).
(7) أخرجه الترمذي (1663) من طريق بقية بن الوليد.
وأخرجه ابن ماجه (2799)، وسعيد بن منصور في سننه (2562)، وعبد الرزاق في مصنفه (9559)، والإمام أحمد (17182)، وابن أبي عاصم في الجهاد (204) من طريق إسماعيل بن عياش كلاهما عن بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن المقدام بن معديكرب. وصحّح إسناده الألباني في أحكام الجنائز (ص 50). (قالمي).
(8) في (ب، ن): «حسن صحيح غريب». وكذا في النسخ المطبوعة للجامع، وتذكرة القرطبي (419).
(1/233)
وعن ابن عباس قال: ضرَبَ رجلٌ من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خِباءَه على قبر، وهو لا يحسَبُ أنه قبرٌ؛ فإذا (1) إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فأتى النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله، ضربتُ خبائي على قبر، وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا (2) قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها. فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – [52 أ]: «هي المانعة، هي المنجيةُ، تُنجِيه من عذاب القبر» (3).
قال
(1) (ب، ط): «فإذا هو».
(2) (ب، ط): «فإذا هو».
(3) أخرجه الترمذي (2890) قال: ثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، ثنا يحيى بن عمرو بن مالك، عن أبيه، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس.
ومن هذا الوجه أخرجه البزار في مسنده (5300)، والطبراني في المعجم الكبير (12801)، وابن عدي في الكامل (7/ 205)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 81)، والبيهقي في إثبات عذاب القبر (165).
وفيه يحيى بن عمرو بن مالك النُّكريّ له ترجمة في التهذيب، وهو متفق على ضعفه، وقال العقيلي: «لا يتابع على حديثه»، وترجمه ابن عدي في الكامل وعدّ له هذا الحديث من جملة ما أنكر عليه، وقال في آخر ترجمته: «وهذه الأحاديث التي ذكرتها عن يحيى بن عمرو بن مالك عن أبيه عن أبي الجوزاء عن ابن عباس كلها غير محفوظة تفرد بها يحيى بهذا الإسناد».
وفي الباب عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «يؤتى الرجل في قبره من قبل رجليه فتقول رجلاه: ليس لكم على ما قبلي سبيل، قد كان يقوم عليّ بسورة الملك. قال: فيؤتى جوفه فيقول جوفه: ليس لكم على ما قبلي سبيل، قد وعى فيَّ سورة الملك. قال: فتؤتى رأسه فيقول لسانه ليس لكم على ما قبلي سبيل، قد كان يقوم فيّ بسورة الملك. فقال عبد الله: هي المانعة بإذن الله عز وجل من عذاب القبر، وهي في التوارة سورة الملك، ومن قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب».
رواه عبد الرزاق (6025)، والفريابي في فضائل القرآن (32، 34، 35)، وابن الضريس في فضائل القرآن (232، 233)، والحاكم (2/ 498) وإسناده جيد، وصحَّحه الحاكم. وهو في حكم المرفوع. (قالمي).
(1/234)
الترمذي: هذا حديث حسن غريب (1).
ورُوِّينا في «مسند عبد بن حُميد» (2)، عن إبراهيم بن الحكم، عن أبيه،
(1) في بعض نسخ «الجامع»: «حديث غريب» فقط كما في تحفة الأشراف (5367)، وتفسير ابن كثير (8/ 174) وهو الأنسب لحال إسناده. (قالمي).
(2) المنتخب من المسند (601)، وأخرجه البزار (2305. كشف الأستار)، والطبراني في المعجم الكبير (11616) من طريق سلمة بن شبيب، عن إبراهيم بن الحكم، به، مقتصرًا على المرفوع، وزاد في آخره: «يعني {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}» وعند البزار: «يعني يس». وقال البزار: «لا نعلمه يروى عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد».
قلت: وإسناده ضعيف جدًّا؛ علّته إبراهيم بن الحكم هو ابن أبان له ترجمة في التهذيب (1/ 115 ــ 116) وهو مجمع على ضعفه، ضعّفه جدًّا ابن معين، والبخاري وأبو داود والنسائي والعقيلي وغيرهم، ونقل ابن عدي في الكامل (1/ 242) عن عباس بن عبد العظيم يقول: وذكرنا له أو ذكر له إبراهيم بن الحكم بن أبان فقال: كانت هذه الأحاديث في كتبه مراسيل ليس فيها ابن عباس ولا أبو هريرة يعني أحاديث أبيه عن عكرمة. وأورد له ابن عدي أحاديث يرويها عن أبيه عن عكرمة موصولة، ثم قال: «ولإبراهيم بن الحكم غير هذه الأحاديث عن أبيه، وبلاؤه مما ذكروه أنه كان يوصل المراسيل عن أبيه، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه».
وبه أعلّ الحديث الحافظ ابن كثير في تفسيره (8/ 174 ــ 175)، والهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 127)، والبوصيري في إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة (6/ 291).
ولكن لم يتفرد به بل توبع عليه، فأخرجه الحاكم (1/ 565) من طريق حفص بن عمر العدني، حدثني الحكم بن أبان، به. وقال: «هذا إسناد عند اليمانيين صحيح». فتعقبه الذهبي بقوله: «حفص واهٍ» يعني حفص بن عمر بن ميمون العدني، له ترجمة في التهذيب (2/ 410 ــ 411) قال ابن معين والنسائي: ليس بثقة، وقال أبو داود: ليس بشيء، وفي رواية عنه: منكر الحديث، وقال العقيلي: يحدث بالأباطيل، وقال ابن عدي: عامة حديثه غير محفوظ، وبالجملة فهو لا يختلف عن إبراهيم بن الحكم في الضعف إن لم يكن أسوأ حالًا منه. (قالمي).
(1/235)
عن عكرمة، عن ابن عباس أنَّه قال لرجل: ألا أُتحِفُك بحديثٍ تفرح به؟ قال الرجل: بلى. قال: اقرأ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] احفَظْها، وعَلِّمها أهلَك وولدَك وصبيانَ بيتك وجيرانك، فإنّها المنجيةُ، والمجادِلةُ، تجادلُ ــ أو تخاصمُ (1) ــ يوم القيامة عند ربِّها لقارئها، وتطلبُ له إلى ربِّها أن يُنجِيَه من عذاب النار، إذا كانت في جوفه. وينجي الله بها صاحبَها (2) من عذاب القبر. قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «لودِدْتُ أنها في قلب كل إنسان من أمتي».
قال أبو عمر بن عبد البر (3): وصحَّ عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «إن سورة ثلاثين آيةً شفعت في صاحبها حتى غُفِر له {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}» (4).
(1) (ط، ن): «وتخاصم».
(2) (ق): «صاحبتها»، خطأ.
(3) في التمهيد (7/ 262).
(4) أخرجه أبو داود (1400)، والترمذي (2891)، والنسائي في الكبرى (11612)، وابن ماجه (3786)، والإمام أحمد (7975)، وابن حبان (787، 788)، والحاكم (1/ 565) من طرق عن شعبة، عن قتادة، عن عباس الجشمي، عن أبي هريرة، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال (فذكره).
وحسنه الترمذي، وصحح إسناده الحاكم. ورجاله ثقات سوى عباس الجشمي فلم يوثقه غير ابن حبان، ولم يرو عنه إلا قتادة وسعيد الجريريّ.
وله شاهد من حديث أنس رضي الله عنه أخرجه الطبراني في الأوسط (3654)، والصغير (490) ومن طريقه ضياء الدين المقدسي في المختارة (1739). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 127): «رواه الطبراني في الصغير والأوسط ورجاله رجال الصحيح». قلت: سوى شيخ الطبراني سليمان بن داود بن يحيى الطبيب فلا يعرف بجرح أو تعديل. (قالمي).
(1/236)
وفي «سنن ابن ماجه» (1)
من حديث أبي هريرة يرفعه: «من مات مريضًا مات شهيدًا، ووُقِيَ فتنة القبر، وغُدِيَ ورِيحَ عليه برزق من الجنّة».
وفي «سنن النسائي» (2) عن جامع بن شداد قال: سمعت عبد الله بن
(1) برقم (1615) من طريق ابن جريج، أخبرني إبراهيم بن محمد بن أبي عطاء، عن موسى بن وردان، عن أبي هريرة.
ومن هذا الوجه أخرجه عبد الرزاق (9622)، وأبو يعلى الموصلي (6145)، والطبراني في الأوسط (5262)، وابن الجوزي في الموضوعات (3/ 216).
وقال ابن الجوزي عقبه: «هذا حديث لا يصح، ومدار الطرق على إبراهيم وهو ابن أبي يحيى، وقد كانوا يدلسونه لأنه ليس بثقة … وهو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي واسم أبي يحيى سرحان، قال مالك ويحيى بن سعيد وابن معين: هو كذاب، وقال أحمد بن حنبل: قد ترك الناس حديثه، وقال الدارقطني: هو متروك».
ونقل عن الإمام أحمد أنه قال: «إنما هو من مات مرابطًا وليس هذا الحديث بشيء» اهـ. وكذا قال أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان، كما في العلل لابن أبي حاتم (1065).
وسيأتي تنبيه المصنف رحمه الله على ضعف الحديث وأن ابن ماجه انفرد بتخريجه من بقية أصحاب الكتب الستة وفي إفراداته غرائب ومنكرات. (قالمي).
(2) برقم (2052) من طريق شعبة، عن جامع بن شداد، بهذا الإسناد.
ومن هذا الوجه أخرجه أبو داود الطيالسي (1384)، والإمام أحمد (18310، 18311)، وابن حبان (2933). وزادوا جميعًا: «قال الآخر: بلى». قال الحافظ ابن حجر في فتاوى له مطبوعة مع الإمتاع بالأربعين المتباينة السماع (ص 81): «إسناده صحيح».
وأخرجه الترمذي (1064)، والإمام أحمد (18312) من طريق أبي سنان سعيد الشيباني، عن أبي إسحاق، قال: مات رجل صالح فأُخرج بجِنازته، فلما رجعنا تلقانا خالد بن عرفطة وسليمان بن صُرَد. وكلاهما قد كانت له صحبة. فذكره. وقال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب في هذا الباب، وقد روي من غير هذا الوجه». (قالمي).
(1/237)
يسار (1) يقول: كنت جالسًا مع سليمان بن صُرَد وخالد بن عُرْفُطة، فذكروا أنَّ رجلًا مات ببطنه، فإذا هما يشتهيان أن يكونا شَهِدا جنازته، فقال أحدهما للآخر: ألم يقل رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «من يقتله بطنه لم يعذَّب في قبره»؟
وقال أبو داود الطيالسي في «مسنده» (2): ثنا شعبة، حدَّثني أحمد بن جامع بن شدَّاد قال: حدَّثني (3) أبي، فذكره، وزاد: فقال الآخر: بلى (4).
وفي «الترمذي» (5) من حديث ربيعة بن سيف، عن عبد الله بن عمرو
(1) (أ، ق، غ): «يشكر»، تحريف.
(2) برقم (1384).
(3) «حدثني أحمد بن جامع …. أبي» كذا في جميع النسخ. ولا أدري ما هذا! فإن إسناد الطيالسي كإسناد النسائي: «حدثنا شعبة قال: أخبرني جامع بن شداد، عن عبد الله بن يسار». ولا يعرف ابن لجامع يسمى أحمد ويروي عنه. والمصنف ينقل عن تذكرة القرطبي (422) والسند فيها على الصواب.
(4) تابع المصنف في ذلك القرطبي. وهو غريب، فإن الزيادة المذكورة واردة في سنن النسائي: المجتبى والكبرى كلتيهما.
(5) برقم (1074). وأخرجه الإمام أحمد (6582) من طريق هشام بن سعد، عن سعيد بن أبي هلال، عن ربيعة بن سيف، به. وإسناده منقطع كما قاله الترمذي.
ولكن جاء موصولًا من وجه آخر، كما ذكره المصنف فيما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (1514، 1569) من طريق بشر بن عمر، والطبراني في المعجم الكبير (14251) من طريق خالد بن نزار. كلاهما عن هشام بن سعد، عن سعيد بن أبي هلال، عن ربيعة بن سيف الإسكندراني، عن عياض بن عقبة الفهري، عن عبد الله بن عمرو، به.
وعياض بن عقبة مجهول لا يعرف. لكن له طريق أخرى أخرجها الإمام أحمد (6646، 7050)، والطبراني في الكبير (14747)، والبيهقي في إثبات عذاب القبر (173) من طرق عن بقية بن الوليد، عن معاوية بن سعيد التجيي، عن أبي قبيل، عن عبد الله بن عمرو، به.
ومعاوية بن سعيد روى عنه جمع وذكره ابن حبان في الثقات (9/ 166)، وبقية رجاله ثقات؛ أبو قبيل اسمه حُيي بن هانئ المصري وثقه الإمام أحمد وابن معين وأبو زرعة والفسوي وأحمد بن صالح المصري، وقال أبو حاتم: صالح الحديث (تهذيب التهذيب 3/ 73)، وبقية بن الوليد صرَّح بالتحديث في جميع السند عند أحمد والبيهقي.
وله طريق أخرى عند البيهقي في إثبات عذاب القبر (174) من طريق ابن وهب، أخبرني ابن لهيعة، عن سيار بن عبد الرحمن الصدفي، أن عبد الله بن عمرو كان يقول: «من توفي يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقي الفتّان».
وفيه ابن لهيعة وهو سيئ الحفظ غير أنّ رواية العبادلة عنه أعدل من غيرها وهذه منها، ولكن فيه انقطاع فإن سيار بن عبد الرحمن الصدفي المصري لم يدرك عبد الله بن عمرو وهو معدود عند الحافظ في الطبقة السادسة الذين لم يثبت لهم لقاء أحد من الصحابة؛ ولذا قال ابن حبان بعد أن ترجمه في ثقات التابعين (4/ 335): «يروي المراسيل» ثم أعاد ترجمته في ثقات أتباع التابعين (6/ 421).
وله شاهد من حديث أنس رضي الله عنه، أخرجه أبو يعلى (4113). قال الهيثمي في المجمع (2/ 319): «وفيه يزيد الرقاشي وفيه كلام».
وبالجملة فالحديث بمجموع طرقه وشاهده قابل للتحسين. والله أعلم. (قالمي).
(1/238)
قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة
(1/239)
إلا وقاه الله فتنةَ القبر». قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب (1). وليس إسناده بمتصل، ربيعةُ بن سيف إنما يروي عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي (2) عن عبد الله بن عمرو، ولا يُعرف لربيعة بن سيف سماع من عبد الله بن عمرو. انتهى.
[52 ب] وقد روى الترمذي الحكيم (3) من حديث ربيعة بن سيف (4) هذا عن عِياض بن عُقبة الفِهْري عن عبد الله بن عمرو.
وقد رواه أبو نعيم الحافظ (5) عن محمد بن المنكدر (6)، عن جابر مرفوعًا، ولفظه: «من مات ليلةَ الجمعة أو يوم الجمعة أُجيرَ من عذاب القبر، وجاء يوم القيامة وعليه طابَعُ الشهداء». تفرَّد به عمر بن موسى الوَجِيهي (7)،
(1) في النسخ المطبوعة وتحفة الأشراف: «حديث غريب» من غير تحسين، فلعله هو الصواب لحكمه عليه بالانقطاع. (قالمي).
(2) (ق): «الحيلي»، تصحيف.
(3) في نوادر الأصول برقم (1514، 1569). وفي (ب، ط): «روى الحاكم»، سقط وتحريف. وانظر: تذكرة القرطبي (422).
(4) «بن سيف» ساقط من (ب).
(5) في حلية الأولياء (3/ 155)، وقال: «غريب من حديث جابر ومحمد (يعني ابن المنكدر) تفرد به عمر بن موسى وهو مدني فيه لين». هو عمر بن موسى بن وجيه الوجيهي والمشهور أنه حمصي، ويقال: كوفي، وهو هالك، قال ابن معين: ليس بثقة، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي والدارقطني: متروك، وقال: أبو حاتم: ذاهب الحديث كان يضع الحديث، وقال ابن عدي: هو في عداد من يضع الحديث متنًا وإسنادًا. انظر: لسان الميزان (4/ 332 ــ 334). (قالمي).
(6) في (ب، ط): «من حديث محمد بن المنذر»، تصرف وتحريف.
(7) (ب): «الوجهين»، تحريف.
(1/240)
وهو مدني ضعيف (1).
وقوله – صلى الله عليه وسلم -: «كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة» معناه (2) ــ والله أعلم ــ أنَّه: قد (3) امتُحِن نفاقُه من إيمانه ببارقة السيف على رأسه، فلم يفِرَّ. فلو كان منافقًا لما صبر لبارقة السيف على رأسه (4)، فدلَّ على أنَّ إيمانه هو الذي حمله على بذل نفسه لله وتسليمها له، وهاجَ من قلبه حميةَ (5) الغضبِ لله ورسوله وإظهارِ دينه وإعزاز كلمته. فهذا قد أظهر صدق ما في ضميره، حيث (6) برز للقتل، فاستغنى بذلك عن الامتحان في قبره.
قال أبو عبد الله القُرطبيُّ (7): إذا كان الشهيد لا يُفتَن، فالصِّدِّيق أجلُّ خطرًا وأعظم أجرًا (8) أن لا يُفتَن؛ لأنه مقدَّمٌ ذكرُه في التنزيل على الشهداء.
(1) وانظر: تذكرة القرطبي (423). وقال المصنف في تهذيب السنن (1/ 368): «متروك، منسوب إلى الوضع».
(2) أصل هذا التفسير للحكيم الترمذي في نوادر الأصول (2/ 1218). نقله المصنف من تذكرة القرطبي (424) مع التصرف في صياغته.
(3) (ق): «أعلم وقد».
(4) «فلم يفر … رأسه» ساقط من (ب).
(5) هنا انتهى السقط في (ج).
(6) (ن): «حين».
(7) في التذكرة (424). ولكنه ليس من كلام القرطبي، وإنما هو تتمة كلام الحكيم الترمذي السابق في شرح الحديث. وقد ختمه القرطبي بعزوه إليه: «قاله الترمذي الحكيم»، ثم قال: «قلت: وإذا كان الشهيد … » فاقتطع هذه التتمة من كلام الحكيم، وفصل بينها وبينه بالعزو!
(8) كذا في جميع النسخ. وفي التذكرة بعده: «فهو أحرى أن لا يفتن». وفي نوادر الأصول: «أجلّ خطرًا، فهو أحرى … ». وأخشى أن يكون في نسخة منه: «أحرا» بالألف فقرأه ناسخ بالجيم فزاد قبله: «أعظم».
(1/241)
وقد صحَّ في المُرابط الذي هو دون الشهيد أنه لا يُفتن (1)، فكيف بمن هو أعلى رتبةً منه ومن الشهيد؟
والأحاديث الصحيحة تردُّ هذا القول، وتُبيِّن أنَّ الصدِّيق يُسأل في قبره كما يُسأل غيرُه. وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأس الصدِّيقِين، وقد قال للنبي (2) – صلى الله عليه وسلم – لما أخبره عن سؤال الملك (3) في القبر، فقال: وأنا على مثل حالتي هذه؟ فقال: «نعم» وذكر الحديث (4).
(1) (ق): «لا يفتتن».
(2) ما عدا (أ، ق، غ): «النبي»، تصحيف.
(3) (ب، ن): «الملكين».
(4) أخرجه أبو بكر بن أبي داود في البعث والنشور (7) عن محمد بن إسماعيل الأحمسي، ثنا مفضل بن صالح أبو جميلة، ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي شهر، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «كيف أنت إذا كنت في أربعة أذرع في ذراعين، ورأيت منكرًا ونكيرًا؟ … » الحديث.
ومن هذا الوجه أخرجه الذهبي في الميزان (4/ 167 ــ 168) وقال: «أبو شهم ــ ويقال: أبو شمر ــ فيه جهالة»، وقال في ترجمة أبي شهر (4/ 537): عن عمر، وعنه ابن أبي خالد بخبر منكر في منكر ونكير. لا يعرف، وقيل: مصحّف أبو شهم، وقيل: أبو شمر، وقيل: أبو سهيل» اهـ.
وأخرجه البيهقي في إثبات عذاب القبر (118) والاعتقاد (ص 127) من طريق علي بن المديني، ثنا مفضل بن صالح، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي سهيل، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «يا عمر، كيف أنت إذا كنت في أربع من الأرض في ذراعين فرأيت منكرًا ونكيرًا … » الحديث.
قال البيهقي في الاعتقاد: «غريب بهذا الإسناد، تفرّد به مفضّل هذا، وقد رويناه من وجه آخر عن ابن عباس، ومن وجه آخر صحيح عن عطاء بن يسار عن النبي – صلى الله عليه وسلم – مرسلًا … ».
ومفضل بن صالح هذا، قال فيه البخاري وأبو حاتم: منكر الحديث. تهذيب التهذيب (10/ 272).
وأما رواية عطاء المرسلة فأخرجها الحارث بن أبي أسامة (281 ــ بغية الباحث) والبيهقي في إثبات عذاب القبر (116) من طريق إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لعمر بن الخطاب (الحديث).
قال البوصيري في إتحاف الخيرة (2/ 492): «مرسل ورجاله ثقات». (قالمي).
(1/242)
وقد اختلف الناس (1) في الأنبياء: هل يسألون في قبورهم؟ على قولين، وهما وجهان في مذهب أحمد وغيره (2). ولا يلزم من هذه الخاصِّية (3) التي اختصَّ بها الشهيد أن يشاركه الصدِّيق في حُكمها، وإن كان أعلى منه، فخواصُّ الشهداء قد تنتفي عمَّن هو أفضلُ منهم، وإن كان أعلى منهم درجة.
وأما حديث «ابن ماجه»: «من مات مريضًا مات شهيدًا، ووُقِيَ فتنةَ القبر» فمن أفراد ابن ماجه، وفي أفراده غرائبُ ومنكراتٌ. ومثل هذا الحديث مما يُتوقف فيه (4) ولا يشهد به على رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. فإن صحَّ فهو مقيَّد بالحديث (5) الآخر، وهو الذي يقتله بطنه. فإنَّه (6) صحَّ عنه أنه قال:
(1) «الناس» ساقط من (ق).
(2) انظر: جامع المسائل (3/ 238).
(3) (ن): «الخاصة».
(4) «فيه» ساقط من (ب، ط، ج).
(5) (ق): «للحديث».
(6) (ب، ق): «فإن»، خطأ.
(1/243)
«المبطون شهيد» (1)، فيحمل هذا المطلق على ذلك المقيَّد. والله أعلم.
وقد جاء فيما يُنجي من عذاب القبر حديث فيه الشفاء، رواه أبو موسى (2) المديني، وبنى عليه كتابه (3) في «الترغيب والترهيب»، وجعله شرحًا له (4). رواه (5) من حديث الفَرَج (6) بن فَضَالة، حدَّثنا هلالٌ أبو جَبَلة، عن سعيد بن المسيِّب، عن عبد الرحمن بن سَمُرة قال: خرج علينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ونحن في صُفَّة بالمدينة، فقام علينا، فقال:
«إني رأيتُ البارحةَ عجبًا، رأيتُ رجلًا من أمتي أتاه ملكُ الموت ليقبضَ روحَه، فجاءه (7) برُّه بوالديه، فردَّ ملكَ الموت عنه.
ورأيتُ رجلًا من أمتي قد بُسط عليه عذابُ القبر، فجاءه (8) وضوؤه، فاستنقذه من ذلك (9).
ورأيت رجلًا من أمتي قد احتوشَتْه الشياطين، فجاءه (10) ذكرُ الله،
(1) أخرجه البخاري (5733) ومسلم (1914) من حديث أبي هريرة.
(2) (ب، ج): «أبو علي»، خطأ.
(3) (ق): «وبيّن علَّته في كتابه»، تصحيف طريف.
(4) أورده المصنف أيضًا في الوابل الصيب (199 ــ 205) وقال نحو هذا، وسيأتي كلام المصنف على رواته.
(5) «رواه» ساقط من (ط).
(6) (أ، ق، غ): «أبي الفرج»، وهو خطأ، وسيأتي فيها مرة أخرى على الصواب.
(7) ما عدا (أ، ن، غ): «فجاء».
(8) (ب، ط): «فجاء».
(9) «ورأيت … ذلك» ساقط من (ق).
(10) (ب، ط): «فجاء».
(1/244)
فطرد (1) الشياطين عنه.
ورأيتُ رجلًا من أمتي قد احتوشَتْه ملائكةُ العذاب، فجاءته صلاتُه (2)، فاستنقذَتُه من أيديهم (3).
ورأيت رجلًا من أمتي يلهثُ عطَشًا، كلَّما دنا من حوضٍ مُنِعَ وطُرِد، فجاءه صيامُ شهر رمضان (4)، فأسقاه وأَرواه (5).
ورأيتُ رجلًا من أمتي ورأَيتُ النبيين جلوسًا حَلَقًا حَلَقًا (6)، كلَّما دنا إلى حَلْقةٍ طُرِد، فجاءه غُسلُه من الجنابة، فأخذ بيده، فأقعدَه (7) إلى جنبي.
ورأيتُ رجلًا (8) من أمتي من بين يديه ظُلمةٌ، ومن خَلْفه ظُلمة (9)، وعن يمينه ظُلْمةٌ، وعن يساره ظُلمةٌ، ومن فوقه ظُلمةٌ، وهو مُتحيِّر فيه. فجاءه حَجُّه وعُمرته، فاستخرجاه من الظُّلمة، وأدْخلاه في النور.
ورأيت رجلًا من أمتي يتَّقي بوجهه وَهَجَ النار وشَررَها. فجاءته صدقتُه، فصارتْ سُتْرةً بينه وبين النار، وظلًّا (10) على رأسه.
(1) (ق): «فطيّر».
(2) (أ، ب): «صلواته».
(3) هذه الفقرة ساقطة من (ن).
(4) (ط): «صيام رمضان».
(5) «وأرواه» ساقط من (ب).
(6) ساقط من (ن).
(7) (ط): «وأقعده».
(8) ساقط من (ب).
(9) «ومن خلفه ظلمة» ساقط من (ط).
(10) (ق، ج، غ): «ظلل». وفي الأصل غيَّر بعضهم «ظلا» إلى «ظلل». وفي (ب): «ظلل». وفي الوابل الصيب: «وظللت».
(1/245)
ورأيت رجلًا من أمتي يُكلِّم المؤمنين، ولا يُكلّمونه، فجاءته صلتُه لرحمه، فقالت: يا معشر المسلمين إنَّه كان وَصُولًا لرحِمه، فَكلِّموه. فكلَّمه المؤمنون، وصافحوه، وصافَحهم.
ورأيت رجلًا من أمتي قد احتوشَتْه الزَّبانية. فجاء أمره بالمعروف ونَهيْه عن المنكر، فاستنقَذَه من أيديهم، وأَدخله في ملائكة الرحمة.
ورأيتُ رجلًا من أمتي جاثيًا على رُكبتَيْه، وبينه وبين الله حِجابٌ فجاءه حسنُ خُلُقه، فأخذ بيده، فأدخله (1) على الله عز وجل.
ورأيتُ رجلًا من أمتي قد ذهبت صحيفته من قِبَل شماله، فجاءه (2) خوفُه من الله عز وجل، فأخذ صحيفتَه، فوضعها في يمينه.
ورأيت رجلًا من أمتي خَفَّ ميزانُه، فجاءه أفراطُه (3) فثقَّلوا ميزانَه.
ورأيتُ رجلًا من أمتي قائمًا على شفير جهنم، فجاءه رجاؤه من الله عز وجل، فاستنقذه من ذلك، ومضى.
ورأيتُ رجلًا من أمتي قد هوى في النار. فجاءته (4) دمعتُه التي بكى من خشية الله عز وجل، فاستنقذتْه من ذلك.
ورأيتُ رجلًا من أمتي قائمًا على الصراط، يُرعَدُ كما ترعدُ السَّعَفةُ في
(1) (ط): «وأدخله».
(2) (ط): «فجاء».
(3) يعني: أولاده الصغار.
(4) (ب): «فجاءه».
(1/246)
ريح عاصف. فجاءه حسنُ ظنِّه بالله عز وجلّ، فسكَّن رُوعَه (1)، ومضى.
ورأيتُ رجلًا من أمتي يزحَفُ (2) على الصراط، ويَجثو (3) أحيانًا، ويتعلّق أحيانًا. فجاءته صلاتُه عليَّ، فأقامته على قدميه، وأنقذتُه.
ورأيتُ رجلًا من أمتي انتهى إلى باب الجنة (4)، فَغُلِّقت الأبوابُ دونه. فجاءته «أشهد (5) أن لا إله إلا الله» ففَتحَتْ له الأبوابَ، وأدخلَتْه الجنة» (6).
(1) في حاشية الأصل إشارة إلى أن في نسخة: «رعدة».
(2) (ق، ج): «يرجف»، تصحيف.
(3) ما عدا (أ، ق، غ): «يحبو».
(4) ما عدا (أ، غ): «أبواب».
(5) ما عدا (أ، غ): «شهادة».
(6) ومن هذا الوجه أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية (1165)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (34/ 406 ــ 407). وسيأتي تعليق المصنف رحمه الله على هذه الرواية.
وأخرجه بحشل في تاريخ واسط (ص 169 ــ 170)، والخرائطي في مكارم الأخلاق (49)، والطبراني في الأحاديث الطوال (39 ــ آخر المعجم الكبير)، وعبد الملك بن بشران في الأمالي (250)، وابن شاهين في الترغيب في فضائل الأعمال (526)، وابن حبان في المجروحين (3/ 43 ــ 44)، وأبو القاسم الأصبهاني في الترغيب والترهيب (1682، 2518)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1166) من طريق علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب، به. بطوله إلا الخرائطي وابن حبان وابن الجوزي فببعضه.
وأخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (1329) من طريق ابن أبي فديك، عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله، عن سعيد بن المسيب، به، بطوله.
وله طرق أخرى غير هذه لكن لا تخلو من صاحب مناكير أو مجهول لا يعرف، وقد تتبعها ودرسها وتكلم على رواتها محقق كتاب «الوابل الصيب» الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن قائد فجزاه الله خيرًا وخلص إلى ضعف الحديث، وسبقه إلى ذلك العلامة الألباني رحمه الله في «السلسلة الضعيفة» (1084)، وقبلهما الحافظ ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/ 211) فقال: «هذا حديث لا يصح».
ومع ذلك فقد كان بعض أهل العلم يعظِّم شأنه، كما ذكر المصنّف ذلك عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وأورده في الوابل الصيب (ص 199)، فقال: «هذا الحديث العظيم الشريف القدر الذي ينبغي لكل مسلم أن يحفظه فنذكره بطوله لعموم فائدته وحاجة الخلق إليه»، ثم نقل عن شيخ الإسلام بنحو ما نقله عنه ههنا، وقال أبو عبد الله القرطبي في التذكرة (2/ 595): «هذا حديث عظيم؛ ذكر فيه أعمالًا خاصة تنجي من أهوال خاصة». وقال المناوي في فيض القدير (3/ 34) معلقًا على كلام المصنف فيما نقله عن شيخ الإسلام أن أصول السنة تشهد له: «ورونق كلام النبوة يلوح عليه، وهو من أحسن الأحاديث الطوال، ليس من دأب المصنف إيرادها في هذا الكتاب (يعني السيوطي في الجامع الصغير) لكنه لكثرة فوائده وجموم فرائده وأخذه بالقلوب اقتحم مخالفة طريقته فأورده إعجابًا بحسنه وحرصًا على النفع به». قلت: وعلى هذا المعنى يُنزَّل قول أبي موسى المديني رحمه الله: «هذا حديث حسن جدًا» لا أنه أراد به الحسن الاصطلاحي، فتنبه.
ولا ريب أنَّ كلَّ كلام ثبت عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فهو حسن عظيم، ولكن ليس كلُّ كلام حسن جميل يضاف إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، كما ذكر ابن الجوزي في مقدمة كتابه الموضوعات (1/ 41 ــ 42) عن قوم استجازوا وضع الأسانيد لكل كلام حسن، ونقله عنه الشيخ اللكنوي في الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة (ص 16) وعلَّق عليه بقوله: «زعمًا منهم أن الحسن كله أمر شرعي لا بأس بنسبته إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولم يفهموا أن قول الرسول – صلى الله عليه وسلم – حسن صادق، وعكس الكلية لا يصدق؛ فلا يصح كون كلّ حسن قول الرسول – صلى الله عليه وسلم -، فنسبته إليه كذب» اهـ. (قالمي).
(1/247)
قال الحافظ أبو موسى: هذا حديثٌ حسنٌ جدًّا، رواه عن سعيد بن
(1/248)
المسيِّب عمر (1) بن ذرٍّ، وعليُّ بن زيد بن جُدعان.
ونحو هذا الحديث ممَّا قيل فيه: إن رؤيا الأنبياء وحي (2)، فهي على ظاهرها؛ لا (3) كنحو ما رُوي عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «رأيتُ كأنَّ سَيفي انقطع، فأوَّلتُه كذا وكذا، ورأيتُ بقرًا تُنحَر» (4)، و «رأيتُ كأنَّا في دار عُقبةَ بن رافع» (5).
وقد روى في رؤياه الطويلة من حديث سَمُرة في «الصحيح» (6) ومن حديث عليٍّ (7)، وأبي أُمامةَ (8). ورواياتُ هؤلاء الثلاثة قريبٌ بعضها من بعض، مشتملة على ذكر عقوبات جماعةٍ من المعذَّبين في البرزخ. فأما في
(1) (ق): «وعمر». وفي (ن): «عمرو»، وكلاهما خطأ.
(2) روي عن عبيد بن عمير في صحيح البخاري (138) وعن ابن عباس في جامع الترمذي (3689).
(3) «لا» ساقطة من (ب، ط).
(4) من حديث أبي موسى. أخرجه البخاري (3622) ومسلم (2272).
(5) أخرجه مسلم (2270) من حديث أنس.
(6) تقدم في المسألة الملحقة بالسادسة.
(7) أخرجه ابن عدي في الكامل (5/ 123 ــ 124) مختصرًا، وابن عساكر في تاريخ دمشق (19/ 451) مطولًا، وفي سنده عمرو بن خالد الكوفي ثم الواسطيّ كذبه الإمام أحمد وابن معين وغيرهما. (قالمي).
(8) أخرجه ابن خزيمة (1986)، وابن حبان (7491)، والحاكم (2/ 209 ــ 210)، والطبراني في الكبير (7667)، والبيهقي في إثبات عذاب القبر (111).
وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم». وعزاه الهيثمي في المجمع (1/ 77) للطبراني في الكبير وقال: «ورجاله رجال الصحيح».
وأخرجه النسائي في السنن الكبرى (3286) مختصرًا. (قالمي).
(1/249)
هذه الرواية، فذَكَر العقوبةَ، وأتبعها بما يُنجي صاحبها من العمل (1).
وراوي (2) هذا الحديث عن ابن المسيِّب هلالٌ أبو جبَلة، مدنيٌّ، لا يُعرف بغير هذا الحديثِ (3). ذكره ابنُ أبي حاتم (4) عن أبيه هكذا، وذكره الحاكمُ أبو أحمد والحاكمُ أبو عبد الله: «أبو جبل» بلا هاء، وحَكَياه عن مسلم (5).
وراويه (6) عنه الفَرَج بن فَضالةَ. وهو وسطٌ في الرواية، ليس بالقويِّ [54 أ] ولا المتروك (7). وراويه عنه بشرُ بن الوليد الفقيهُ المعروف بأبي الخطيب (8). كان حسنَ المذهب جميلَ الطريقة.
(1) (ب، ط): «الغل»، تحريف. و «صاحبها» ساقط من (ب، ط، ن، ج).
(2) (ن): «وروى».
(3) قال ابن الجوزي في العلل المتناهية (1166): مجهول.
(4) في الجرح والتعديل (9/ 77).
(5) انظر: الأسامي والكنى لأبي أحمد الحاكم (1236)، والكنى والأسماء لمسلم (611)، والمقتنى (1215) وفيها جميعًا «أبو جيل» بالياء المثناة، وهو تصحيف.
(6) (ق): «ورواه» هنا وفيما يأتي.
(7) قال عبد الرحمن بن مهدي: «حديث فرج بن فضالة عن أهل الحجاز أحاديث مقلوبة منكرة». وهو هنا يروي عن مدني مجهول. وقال أبو عبد الله الحاكم: «ممن لا يحتج بحديثه». انظر: تهذيب التهذيب (8/ 260).
(8) في (ق، ب) بالسين مع علامة الإهمال. وهو القاضي بشر بن الوليد الكندي، من أخصّ أصحاب القاضي أبي يوسف. توفي سنة 238. وكنيته المذكورة في ترجمته: أبو الوليد. فلا أدري أتحرّف «الوليد» إلى «الخطيب» هنا أم هي كنية أخرى له. انظر: تاريخ بغداد (7/ 80 ــ 84).
(1/250)
وسمعتُ (1) شيخَ الإسلام يُعظِّم أمرَ هذا الحديث، وقال: أصول السنة تشهدُ له، وهو من أحسن الأحاديث (2). والله التوفيق.
(1) وقال في الوابل الصيب (205): «وكان شيخ الإسلام ابن تيمية ــ قدس الله روحه ــ يعظم شأن هذا الحديث. وبلغني عنه أنه كان يقول: «شواهد الصحة عليه».
(2) قوله: «من أحسن الأحاديث» كقول أبي موسى: «حديث حسن جدًّا»، ليس المقصود منه الحسن الاصطلاحي كما سبق في تخريج الحديث. وانظر تعقيب الألباني على قوله: «أصول السنة تشهد له» في الضعيفة (14/ 1239).
(1/251)
فصل
وأمّا المسألة الحادية عشرة (1)
وهي أن السؤال في القبر هل هو عامٌّ في حقِّ المسلمين والمنافقين والكفار، أو يختصُّ بالمسلم والمنافق؟
فقال أبو عمر بن عبد البرّ في كتاب «التمهيد» (2): والآثارُ الدالَّة (3) على أنَّ الفتنة في القبر لا تكون إلا لمؤمنٍ أو منافق ممَّن (4) كان منسوبًا إلى أهل القبلةِ ودين الإسلام بظاهر الشهادة. وأمّا الكافر الجاحد (5) المبطل، فليس ممّن يُسأل عن ربِّه ودينه ونبيِّه. وإنما يُسأل عن هذا أهل الإسلام، فيُثبِّتُ الله الذين آمنوا، ويرتابُ المبطلون (6).
والقرآن والسنَّة تدلُّ على خلاف هذا القول (7)، وأنَّ السؤالَ للكافر
(1) (ب، ط، ج): «عشر» بالتذكير. وفي (ن): «الثانية عشرة»، ولم يرد فيها «فصل وأمَّا».
(2) (22/ 252). والنقل من كتاب التذكرة للقرطبي (413 ــ 414).
(3) كذا في الأصل. وفي غيره: «الدالَّة تدلُّ»، ومثله في التذكرة، وصوابه في التمهيد: «الآثار الثابتة تدلّ».
(4) ما عدا الأصل: «مَن»، خطأ.
(5) (ق، ن): «والجاحد».
(6) كذا في التذكرة. وفي التمهيد مكان «فيثبت … المبطلون» قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا .. } الآية.
(7) «القول» ساقط من (ط). وذكر الحافظ ابن حجر أن مستند القائلين به ما رواه عبد الرزاق من طريق عبيد بن عمير أحد كبار التابعين قال: «إنما يفتن رجلان: مؤمن ومنافق. وأما الكافر فلا يسأل عن محمد ولا يعرفه» ثم قال: «وهذا موقوف، والأحاديث الناصة على أن الكافر يُسأل مرفوعة مع كثرة طرقها الصحيحة، فهي أولى بالقبول». ثم نقل كلام ابن عبد البر وتعقيب ابن القيم عليه. فتح الباري (3/ 239). وقد ردَّ السيوطي في شرح الصدور (199) على ابن القيم.
(1/252)
والمسلم. قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]، وقد ثبت في الصحيح (1) أنها نزلت في عذاب القبر حين يُسأل: من ربُّك، وما دينُك.
وفي «الصحيحين» (2): عن أنس بن مالك، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «إن العبدَ إذا وُضِع في قبره وتولَّى عنه أصحابُه إنه ليسمع قَرْعَ نعالهم» وذكر الحديث. زاد البخاري: «وأما المنافقُ والكافر فيقال له: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنتُ أقول ما يقول الناسُ. فيقال: لا دَريتَ ولا تَليت. ويُضرب بمطرقةٍ من حديد، يصيحُ صيحةً يسمعها من يليه إلا الثقلين».
هكذا في البخاري: «وأما المنافق والكافر» بالواو (3).
وقد تقدَّم (4) في حديث أبي سعيدٍ الخدري الذي رواه ابن حبّان (5)
(1) (ن): صحيح مسلم. وقد سبق في المسألة الملحقة بالسادسة (ص 154).
(2) تقدَّم في المسألة الملحقة بالسادسة (ص 157).
(3) كذا في باب ما جاء في عذاب القبر (1374). ولكن في باب الميت يسمع خفق النعال (1338): «الكافر أو المنافق» بالشك. وانظر: فتح الباري (3/ 238).
(4) كذا السياق في جميع النسخ. وحديث أبي سعيد لم يتقدم. فلعل قوله: «وقد تقدم» متعلق بالحديث السابق إذ تقدَّم في المسألة الملحقة بالسادسة، ثم لعله كان في الأصل: «وفي حديث أبي سعيد … » فسقطت الواو من النسخ.
(5) كذا في جميع النسخ التي بين يديّ. وفي نشرة العموش وغيرها: ابن ماجه. ولم أجد عزوه إلى ابن ماجه ولا إلى ابن حبان. وقد عزاه السيوطي في شرح الصدور (184) إلى أحمد، والبزار، وابن أبي الدنيا، وابن أبي عاصم في السُّنة، وابن مردويه، والبيهقي. أما ابن حبَّان فقد أخرج حديث أبي هريرة، وقد تقدَّم في المسألة الملحقة بالسادسة.
(1/253)
والإمام أحمدُ (1):
كنّا في جنازة مع النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: «يا أيها الناسُ إنَّ هذه الأمةَ تُبتلى في قبورها، فإذا الإنسان دُفِنَ (2) وتولَّى عنه أصحابه جاءه ملك (3) وفي يده مِطراقٌ (4)، فأقعدَه فقال: ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنًا قال: أشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، [54 ب] وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله. فيقول له: صدقتَ، فيَفتح له بابًا إلى النار، فيقول له (5): هذا منزلُكَ لو كفرتَ بربك.
(1) في المسند (17/ 32). وأخرجه البزَّار (872 كشف الأستار) من طريق أبي عامر عبد الملك بن عمرو، ثنا عباد بن راشد، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري.
قال البزَّار: لا نعلمه عن أبي سعيد إلا بهذا الإسناد. وأورده الهيثمي في «المجمع» (3/ 48) وقال: «ورواه أحمد والبزَّار ورجاله رجال الصحيح». قلت: بل عباد بن راشد إنما أخرج له البخاري حديثًا واحدًا مقرونًا بغيره، كما في هدي الساري (ص 412)، ولذلك لما أورده ابن كثير في تفسيره (4/ 498) من طريق الإمام أحمد قال: «وهذا إسناد لا بأس به؛ فإن عباد بن راشد التميمي روى له البخاري مقرونًا، ولكن ضعَّفه بعضهم». (قالمي)
(2) (ط): «فإن الإنسان إذا دفن».
(3) (ط): «الملك».
(4) (ط): «مطرق».
(5) «له» ساقط من (ب، ط، ق).
(1/254)
وأما الكافر والمنافق، فيقول له (1): ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، فيقال له: لا دريتَ ولا اهتديتَ! ثم يَفتح له بابًا إلى الجنة، فيقول له (2): هذا منزلك (3) لو آمنتَ بربك. فأمَّا إذ كفرتَ، فإنّ الله أبدلك به هذا. ثم يَفتح له بابًا (4) إلى النار. ثم يقمعه الملكُ بالمطراق (5) قمعةً يسمعه خلقُ الله إلا الثقلين».
فقال بعضُ الصحابة: يا رسول الله، ما أحدٌ يقوم على رأسه ملَكٌ إلا هِيلَ (6) عند ذلك! فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]».
وفي حديث البراء بن عازب الطويل (7): «وأما الكافر إذا كان في قُبل من الآخرة وانقطاعٍ من الدنيا نزل عليه ملائكة من السماء معهم مُسوح». وذكر الحديث إلى أن قال: «ثم تعاد روحُه في جسده في قبره»، وذكر الحديث.
(1) ساقط من (ط).
(2) ساقط من (ن).
(3) (ب، ن، ج): «مقعدك».
(4) (ب، ط، ج): «باب».
(5) (ب، ط، ج): «بالمطارق».
(6) أي فزع من الهول. وفي (ق، ب، ط، ج) بالباء الموحدة، وضبط في (ط): «هَبُل». وهو تصحيف.
(7) سبق تخريجه في المسألة السادسة (ص 131).
(1/255)
وفي لفظ: «فإذا كان فاجرًا (1) جاءه ملك الموت فجلس عند رأسه». فذكر الحديث إلى قوله: «ما هذه الرُّوح الخبيثة؟ فيقولون: فلان، بأسوأ أسمائه. فإذا انتُهي به (2) إلى السماء الدنيا أُغلقتْ دونه». قال: «فيُرمى به من السماء». ثم قرأ قوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]. قال: «فتعاد إليه روحه في جسده، ويأتيه ملكان شديدا الانتهار، فيُجلِسانه، وينتهرانه، فيقولان: من ربُّك؟ فيقول: هاه لا أدري. فيقولان: لا دريتَ! فيقولان: ما هذا النبي (3) الذي بُعِث فيكم؟ فيقول: سمعتُ الناس يقولون ذلك، لا أدري. فيقولون له: لا دريتَ! وذلك قوله تعالى: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]». وذكر الحديث.
واسمُ «الفاجر» في عُرف القرآن والسنّة يتناول الكافرَ قطعًا، كقوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13، 14]، وقوله: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين: 7].
وفي لفظ آخر في حديث البراء: «وإنَّ الكافرَ إذا كان في قُبُل من الآخرة وانقطاعٍ [55 أ] من الدنيا نزل إليه ملائكة شِداد (4) غِضاب، معهم ثيابٌ من
(1) (أ، ق، غ): «كافرًا». والمثبت من غيرها هو الشاهد. وهذا اللفظ في مسند الطيالسي (789).
(2) ساقط من (ب، ط، ن، ج).
(3) (ب، ط، ج): «هذا الذي».
(4) ساقط من (ط).
(1/256)
نار، وسرابيلُ من قَطِران، فيحتوشونه، فتُنزَع (1) روحُه كما يُنزَع السَّفُّود الكثيرُ (2) الشُّعَب من الصوف المبتلِّ. فإذا خرجت لعنه كلُّ ملكٍ بين السماء والأرض وكلُّ ملك في السماء». وذكر الحديث إلى أن قال: «إنه لَيسمعُ خفق نعالهم إذا ولَّوا مدبرين، فيقال: يا هذا، من ربُّك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: لا أدري. فيقال: لا دريت!» وذكر الحديث. رواه حمَّاد بن سلمة، عن يونس بن خبَّاب (3)، عن المنهال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء (4).
وفي حديث عيسى بن المسيّب، عن عدي بن ثابت، عن البراء: خرجنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في جنازة رجل من الأنصار وذكر الحديث إلى أن قال: «وإن الكافرَ إذا كان في دُبر من الدنيا، وقُبل (5) من الآخرة، وحضره الموتُ= نزلتْ عليه من السماء (6) ملائكة معهم كفن من نار وحَنوط من نار». فذكر الحديث إلى أن قال: «فَتُردُّ روحُه إلى مَضْجعه، فيأتيه منكرٌ ونكيرٌ يثيران الأرض بأنيابهما، ويفحصانِ (7) الأرض بأشعارهما، أصواتُهما كالرعد القاصف، وأبصارُهما كالبرق الخاطف، فيُجلِسانه، ثم يقولان: يا هذا، من
(1) (ق): «فتنتزع».
(2) (ق): «الكبير»، تصحيف.
(3) (ط): «حِبّان»، تصحيف.
(4) أخرجه أحمد في المسند من طريق معمر عن يونس (30/ 577) ومن طريق حماد بن زيد عن يونس (3/ 579) مثله.
(5) (ب، ط، ج): «إقبال».
(6) لم يرد في (أ، ق، غ).
(7) (ب، ط): «يفصحان»، تصحيف.
(1/257)
ربُّك؟ فيقول: لا أدري. فينادى من جانب القبر: لا دَريتَ! فيضرِبانه بمِرْزبة من حديدٍ لو اجتمع عليها (1) مَن بين الخافقين لم يُقِلَّ (2) ويضيَّق عليه قبرُه حتى تختلف أضلاعه». وذكر الحديث.
رواه الإمام أحمدُ في «مسنده» (3) عن أبي النَّضر هاشم بن القاسم، حدثنا عيسى بن المسيّب، فذكره.
وفي حديث محمد بن سلمة، عن خُصيفٍ، عن مجاهد، عن البراء قال: كنّا في جِنازة رجل من الأنصار، ومعنا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -. فذكر الحديث إلى أن قال: وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «وإذا وُضِعَ الكافرُ في قبره (4) أتاه منكر ونكير، فيُجلِسانه، فيقولان له: من ربُّك؟ فيقول: لا أدري. فيقولان له: لا [55 ب] دَريتَ!». الحديث وقد تقدَّم (5).
وبالجملة فعامَّةُ من روى حديثَ البراء (6) بن عازب قال فيه: «وأما الكافر» بالجزم. وبعضهم قال: «وأما الفاجر». وبعضهم قال: «وأما المنافق
(1) «عليها» ساقط من (ب، ط، ن).
(2) ضُبط في (ط): «يُقَلّ. وفي (ن): «تُقَلَّ».
(3) لم أجده في المسند من هذا الطريق. وقد أخرجه الطبري في تهذيب الآثار ــ مسند عمر (723)، وابن منده في كتاب الروح والنفس، ومنه قد أورده المصنف في المسألة السادسة.
(4) «في قبره» لم يرد في (أ، ق، غ).
(5) في المسألة السادسة.
(6) (ب، ط): «فعامة ما روى البراء».
(1/258)
أو المرتاب» (1). وهذه اللفظة (2) من شكّ بعض الرواة هكذا في الحديث: لا أدري أيّ ذلك قال. وأما مَن ذكر الكافر والفاجرَ فلم يشكَّ، وروايةُ من لم يشكّ مع كثرتهم أولى من رواية من شكَّ مع انفراده؛ على أنه لا تناقضَ بين الروايتين، فإنّ المنافق يُسأل كما يُسأل الكافرُ والمؤمن، فَيُثبِّتُ الله الذين آمنوا بالإيمان (3)، ويُضِلُّ الله الظالمين، وهم الكفار والمنافقون.
وقد جمع أبو سعيد الخدري في الحديث الذي رواه أبو عامر العَقَدي (4)، حدثنا عبَّاد بن راشد، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: شهدنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جنازة. فذكر (5) الحديث، وقال: «وإن كان كافرًا أو منافقًا يقول له (6): ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري» (7) وهذا صريحٌ في أنَّ السؤالَ للكافر والمنافق.
وقولُ أبي عمر رحمه الله: «وأما الكافر الجاحد المبطِل، فليس ممن يُسأل عن ربه ودينه». فيقال له: ليس كذلك، بل هو من جملةِ المسؤولين، وأولى بالسؤال من غيره. وقد أخبر الله تعالى في كتابه أنه يَسأل الكفارَ (8)
(1) في حديث أسماء، أخرجه البخاري (86) ومسلم (905). وفي (أ، ق، غ): «والمرتاب» خطأ.
(2) «اللفظة» ساقطة من الأصل.
(3) ما عدا (أ، غ): «أهل الإيمان».
(4) زاد في (ط): «قال».
(5) (ط): «وذكر».
(6) «له» ساقط من (ط). وفي (ب، ج): «يقولوا».
(7) سبق تخريجه قريبًا.
(8) (ق، ن): «الكافر». وفي الأصل: «يسأل يوم القيامة» دون هذه الزيادة.
(1/259)
يومَ القيامة قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65]، وقال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93]، وقال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6]، فإذا سئلوا يومَ القيامة، فكيف لا يُسألون في قبورهم؟ (1) فليس لما ذكَره أبو عمر رحمه الله وجه.
(1) لخص الحافظ ابن حجر في الفتح (3/ 239) جواب ابن القيم، وأورد على الاستدلال بالآيات المذكورة هنا أن «للنافي أن يقول: إن هذا السؤال يكون يوم القيامة»، ولم يلتفت إلى آخر كلام ابن القيم: «فإذا سئلوا … » إلخ.
(1/260)
فصل
وأما المسألة الثانية عشرة (1)
وهي (2) أنَّ سؤالَ منكرٍ ونكيرٍ هل هو مختصٌّ بهذه الأمة،
أو يكون لها ولغيرها؟
فهذا موضعٌ قد (3) تكلَّم فيه الناس. فقال أبو عبد الله الترمذي (4): إنما سؤال الميت في هذه الأمة خاصّةً؛ لأنّ الأمم قبلنا كانت الرسل تأتيهم بالرسالة، فإذا أبوا كفَّت الرسل، واعتزلوهم، وعوجلوا بالعذاب. فلما بَعث الله محمدًا – صلى الله عليه وسلم – بالرحمة أمانًا (5) للخلق كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] أمسك عنهم العذابَ، وأعطى السيفَ، حتى يدخل في دين الإسلام مَن دخل لمهابة (6) السيف، ثم يرسخ الإيمان في قلبه، فأُمهِلوا. فمِن هاهنا ظهر أمرُ النِّفاق، فكانوا يُسِرُّون الكفر، ويُعلِنون الإيمان، فكانوا بين المسلمين في سِتْر. فلما ماتوا قيَّض الله لهم فتَّانَي القبر ليستخرج سرّهم بالسؤال. و {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال: 37]،
(1) ما عدا الأصل: «عشر» بالتذكير. وفي (ن): «الثالثة عشرة» ولم يرد فيها «فصل وأمَّا».
(2) «وهي» ساقط من (ب، ج). والواو ساقطة من (ط).
(3) ساقطة من (ب، ط، ن، ج).
(4) في نوادر الأصول ــ المسندة (1020). والمؤلف صادر عن تذكرة القرطبي (414).
(5) (ق، ن): «إمامًا»، تصحيف. وفي النوادر: «وأمانًا».
(6) كان في الأصل: «من مهابة»، ثم ضرب على «من»، ولم تظهر اللام في الصورة. وفي غيره والتذكرة والنوادر ما أثبتنا. ولو قيل: «مهابةَ السيف» لكان صوابًا أيضًا.
(1/261)
فـ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27].
وخالف (1) في ذلك آخرون، منهم عبدُ الحق الإشبيليُّ والقرطبيُّ (2)، وقالوا (3): السؤال لهذه الأمة ولغيرها (4).
وتوقَّف في ذلك آخرون، منهم أبو عمر بن عبد البر، فقال: وفي حديث زيد (5) بن ثابت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «إن هذه الأمة تُبتلى في قبورها» (6). ومنهم (7) من يرويه: «تُسأل» (8). وعلى هذا اللفظ يحتمل أن تكون هذه الأمة خُصَّت بذلك، فهذا (9) أمر لا يُقطَع عليه (10).
وقد احتجَّ مَن خصَّه بهذه الأمة بقوله – صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ هذه الأمة تُبتلى في
(1) (ب، ط، ن، ج): «وخالفه».
(2) «منهم … القرطبي» ساقط من (ب، ج). و «القرطبي» فقط ساقط من (ط).
(3) (أ، غ): «وقال».
(4) (ب، ط، ن، ج): «وغيرها». وانظر قول عبد الحق في كتاب العاقبة (246). وقد صوَّبه القرطبي في التذكرة (415).
(5) (ب، ط، ج): «يزيد». وكان في الأصل أيضًا هكذا ثم أصلح. وقد سبق الحديث في المسألة الملحقة بالسادسة (ص 150).
(6) (ب، ط، ج): «قبورهم».
(7) الواو ساقطة (ب، ط، ن، ج).
(8) تحرف في (ب، ج) إلى «قال»، ثم زاد قبله في (ط) «يسأل». وفي (ن): «ولا يسأل»، خطأ.
(9) (ب، ط، ج، ن): «وهذا».
(10) التمهيد (22/ 253). وانظر تذكرة القرطبي (414).
(1/262)
قبورها»، وبقوله: «أوحي إليَّ أنَّكم تُفتَنون في قبوركم» (1). وهذا ظاهر في الاختصاص بهذه الأمة. قالوا: ويَدلُّ عليه قول الملَكين له: ما كنتَ تقول في هذا الرجل الذي بُعثَ فيكم؟ فيقول المؤمن: أشهد أنه عبد الله ورسوله (2). فهذا خاصٌّ بالنبي – صلى الله عليه وسلم -. وقوله في الحديث الآخر: «إنّكم بي تُمتَحنون، وعنّي تُسألون» (3).
وقال الآخرون: لا يدلُّ هذا على اختصاص السؤال بهذه الأمة دون سائر الأمم، فإنّ قوله: «إنّ (4) هذه الأمة» إما أن يراد به أمّة الناس، كما قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38] وكلُّ جنس من أجناس الحيوان يُسمَّى أمّةً، وفي الحديث: «لولا أنّ الكلاب أمةٌ من الأمم لأمَرْتُ بقتلها (5)» (6). وفيه أيضًا حديث النبي الذي
(1) أخرجه البخاري (86) ومسلم (505) من حديث أسماء.
(2) سبق تخريجه.
(3) قطعة من حديث طويل أخرجه الإمام أحمد (25089)، والبيهقي في «إثبات عذاب القبر» (37، 38) من حديث عائشة رضي الله عنها، بلفظ: «وأما فتنة القبر فبي تفتنون وعني تُسألون». وكذا رواه إسحاق بن راهويه (1170، مسند عائشة) بلفظ: «وأما فتنة القبر فإنهم يسألون عني». وصحَّح إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (5184). (قالمي)
(4) ساقطة من (ب، ط، ج).
(5) (أ، غ): «بقتلهم».
(6) أخرجه أبو داود (2845)، والترمذي (1486)، والنسائي (4280)، وابن ماجه (3205)، وأحمد (6788)، وابن حبان (5657) من طريق يونس بن عبيد، عن الحسن، عن عبد الله بن المغفل رضي الله عنه. وإسناده صحيح. والحسن صرَّح بالتحديث عند ابن حبان (5656) من وجه آخر. (قالمي)
(1/263)
قرصته نملةٌ، فأمَرَ بقرية النمل، فأُحرِقت، فأوحى الله إليه (1): من أجل أن قرصتك (2) نملةٌ واحدةٌ [56 ب] أحرقْتَ أمّةً من الأمم تسبِّح (3)؟
وإن كان المراد به أمته – صلى الله عليه وسلم – الذين (4) بُعِث فيهم، لم يكن فيه ما ينفي سؤالَ غيرهم من الأمم؛ بل قد يكون ذكرُهم إخبارًا بأنهم مسؤولون (5) في قبورهم، وأنَّ ذلك لا يختصُّ بمن قَبْلَهم لفضل هذه الأمة وشرفها على سائر الأمم.
وكذلك قوله – صلى الله عليه وسلم -: «أوحي إلي أنّكم تُفتنون في قبوركم»، وكذلك إخباره عن قول الملكين: «ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟» هو إخبارٌ لأمته بما تُمتَحن به في قبورها.
والظاهر ــ والله أعلم ــ أنّ كلَّ نبيٍّ (6) مع أمته كذلك، وأنَّهم معذَّبون (7) في قبورهم بعد السؤال لهم، وإقامةِ الحجّة عليهم، كما يعذَّبون في الآخرة بعد السؤال (8) وإقامة الحجَّة (9)، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(1) «إليه» ساقط من (ن).
(2) «أن قرصتك» ساقط من (ب).
(3) أخرجه البخاري (3019) من حديث أبي هريرة.
(4) (ق، غ): «الذي». وكذا كان في الأصل، فأصلح.
(5) الأصل: «مساولون». يعني: مساءلون.
(6) في (ب، ط) زيادة: «أرسل».
(7) (ط): «يعذبون».
(8) في (ط، ن) زيادة: «لهم».
(9) في (ب، ط، ن) زيادة: «عليهم». وقال الحافظ في الفتح (3/ 240): «ظاهر الأحاديث الأول، وبه جزم الحكيم الترمذي … وجنح ابن القيم إلى الثاني. وقال … » فنقل جوابه. وانظر تلخيص المسألة من كتابنا هذا في شرح الطحاوية (397).
(1/264)
فصل
وأما المسألة الثالثة عشرة (1)
وهي أنَّ الأطفال هل يمتحنون (2) في قبورهم؟
اختلفَ الناس في ذلك على قولين، هما وجهان لأصحاب أحمد (3).
وحجة من قال إنهم يُسألون: أنه تُشرَع (4) الصلاة عليهم، والدعاء لهم، وسؤالُ الله أن يَقِيَهم عذاب القبر وفتنة القبر؛ كما ذكر مالكٌ في موطَّئه (5) عن أبي هريرة أنه (6) صلَّى على جنازة صبيٍّ، فسُمِع من دعائه: «اللهم قِهِ عذاب
(1) (ق، غ): «عشر» بالتذكير. وفي (ن): «الرابعة عشر» ولم يرد فيها «فصل وأمّا».
(2) (أ، غ): «تمتحن».
(3) انظر: مجموع الفتاوى (4/ 277، 280)، قال: «أحدهما أنه لا يمتحن ــ يعني الصغير ــ وأن المحنة إنما تكون على من كلف في الدنيا. قاله طائفة منهم القاضي أبو يعلى وابن عقيل. والثاني: أنه يمتحن، وهو قول أكثر أهل السُّنة. ونقله أبو الحسن بن عبدوس عن أصحاب الشافعي».
(4) (ق): «لم تشرع»، وهو خطأ غريب.
(5) في كتاب الجنائز برقم (610). ولفظه: «اللهم أعِذْه من عذاب القبر». ولعل المؤلف اعتمد على كلام شيخه. انظر: جامع المسائل (4/ 222).
(6) في الأصل بعده: «صلى الله عليه وسلم». (ونحوه في مجموع الفتاوى 4/ 277، 280). وفوق السطر قبل «صلى»: مِن، وبعد «سلم»: إلى. يعني أنها زائدة. ثم جاء بعض القراء، فضرب على الكلمتين. ولعل مردّ هذه الزيادة وحذفها إلى ما ذكر شيخ الإسلام في جامع المسائل (3/ 238) أنه «ثبت عن أبي هريرة ــ وروي مرفوعًا ــ أنه صلَّى على طفل … ». والمرفوع أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (1/ 374) والبيهقي في إثبات عذاب القبر (160). والصواب هو الموقوف.
(1/265)
القبر».
واحتجُّوا بما رواه علي بن معبد (1) عن عائشة أنَّه مُرَّ عليها بجنازة صبيٍّ صغير، فبكت، فقيل لها: ما يُبكيك يا أمَّ المؤمنين؟ فقالت: هذا (2) الصبي بكيتُ له شفقةً عليه من ضَمَّة القبر.
واحتجوا بما رواه هنَّاد بن السَّريّ (3)، ثنا أبو معاوية عن يحيى بن سعيد، عن سعيد (4) بن المسيّب، عن أبي هريرة قال: إن كان لَيُصلِّي على المنفُوسِ، ما إن عمل خطيئةً قطُّ، فيقول: اللهم أَجِرْه من عذاب القبر.
قالوا: والله سبحانه يُكمِل لهم عقولهم ليعرفوا بذلك منزلتهم، ويُلهَمون (5) الجوابَ عما يُسألون عنه.
قالوا: وقد دلَّ على ذلك الأحاديث الكثيرة التي فيها أنهم يُمتحنون في الآخرة. وحكاه الأشعريُّ عن أهل السنّة والحديث (6)، فإذا امتُحِنوا في
(1) في كتاب الطاعة والمعصية. وقد سبق.
(2) ساقط من (ط).
(3) في كتاب الزهد (351).
(4) «عن سعيد» ساقط من (ط، ن).
(5) (ق): «ويكتمون»، تحريف.
(6) يعني امتحانهم في الآخرة. ومثله في طريق الهجرتين (873) ومجموع الفتاوى (4/ 278): «وهو الذي ذكره أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة واختاره». وانظر: الفتاوى (4/ 281، 303) وجامع المسائل (3/ 238).
ونصّ ما ذكره الأشعري في المقالات (296) من قول أصحاب الحديث وأهل السُّنة: «أن الأطفال أمرهم إلى الله؛ إن شاء عذّبهم، وإن شاء فعل بهم ما أراد». وفي الإبانة (194) نقل حديثًا يدلّ على امتحان الأطفال في الآخرة.
(1/266)
الآخرة لم يمتنع امتحانهم في القبور.
قال الآخرون: السؤال إنما يكون لمن عَقَل الرسولَ والمرسِل (1) [57 أ]، فيُسأل: هل آمن بالرسول وأطاعه أم لا؟ فيقال له: ما كنتَ تقول في هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فأما الطفلُ الذي لا تمييزَ له بوجه ما، فكيف يقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بُعِث فيكم؟ ولو رُدَّ إليه عقله في القبر فإنه لا يُسأل عما لم يتمكَّن من (2) معرفته والعلم به، فلا فائدة في هذا السؤال (3).
وهذا بخلاف امتحانهم في الآخرة، فإنَّ الله سبحانه يُرسل إليهم رسولاً، ويأمرُهم بطاعة أمره، وعقولُهم معهم. فمن أطاعه منهم نجا، ومن عصاه أدخله النار. فذلك امتحانٌ بأمر (4) يأمرهم به يفعلونه ذلك الوقت، لا أنه سؤال عن أمر مضى لهم في الدنيا من طاعةٍ أو عصيانٍ كسؤال الملكين في القبر.
وأما حديث أبي هريرة فليس المرادُ بعذاب القبر فيه عقوبة الطفل على ترك طاعة أو فعلِ معصية قطعًا، فإنّ الله لا يعذِّب أحدًا بلا ذنبٍ عَمِله، بل عذاب القبر قد يراد به الألمُ الذي يحصلُ للميت بسبب غيره، وإن لم يكن عقوبةً على عملٍ عَمِله (5). ومنه قوله – صلى الله عليه وسلم -: «إنّ الميِّت لَيُعَذَّبُ ببكاء أهله
(1) «والمرسل» ساقط من (ب).
(2) ساقط من (ب، ط، ج).
(3) (ق): «ولا فائدة … ». (أ، غ): «ولا فائدة بهذا السؤال».
(4) «بأمر» ساقط من (ب، ن، ج).
(5) (ب، ط، ج): «على عمله».
(1/267)
عليه» (1). أي: يتألَّم بذلك (2) ويتوجَّع منه، لا أنه يعاقَبُ بذنب الحيِّ {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]. وهذا كقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «السفر قطعة من العذاب» (3). فالعذابُ أعمُّ من العقوبة. ولا ريبَ أنَّ في القبر من الآلام والهموم (4) والحسرات ما قد يَسْري أثرُه إلى الطفل فيتألمُ به، فيشرعُ للمصلِّي عليه أن يسأل الله تعالى له أن يَقِيَه ذلك العذاب (5). والله أعلم (6).
(1) أخرجه البخاري (1286) ومسلم (927) من حديث ابن عمر.
(2) (ب، ط، ج): «من ذلك».
(3) أخرجه البخاري (1804) ومسلم (1927) من حديث أبي هريرة.
(4) في (ب، ط، ن، ج) زيادة: «والغموم».
(5) (ب، ط، ج): «يقيه عذاب القبر».
(6) لم يرد «والله أعلم» في (ن).
(1/268)
فصل
وأما المسألة الرابعة عشرة (1)
وهي قوله: هل عذاب القبر دائم أو منقطع؟ (2)
فجوابها أنه نوعان:
نوع دائم، سوى ما وردَ في بعض الحديث (3) أنه يخفَّف عنهم ما بين النفختين، فإذا قاموا من قبورهم قالوا: {يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} (4) [يس: 52].
ويدلُّ على دوامه قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46].
ويدلُّ عليه ما تقدَّم (5) في حديث سَمُرة الذي رواه البخاري في رؤيا النبي – صلى الله عليه وسلم – وفيه: «فهو يُفعَل به ذلك إلى يوم القيامة». وفي [57 ب] حديث ابن عبّاس في قصة الجريدتين: «لعله يخفَّف عنهما ما لم يَيْبَسا». فجعل التخفيف مقيَّدًا بمدّة رطوبتهما فقط.
(1) (أ، ق، غ): «عشر». وفي (ن): «الخامسة عشرة» ولم يرد فيها «فصل وأمَّا».
(2) (ب، ط، ن، ج): «ينقطع».
(3) لم أجد فيه حديثًا مرفوعًا. ولعله يشير إلى ما روي عن أُبي بن كعب وابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم أن الله تعالى يرفع عنهم العذاب بين النفختين، فيرقدون. تفسير البغوي (3/ 644). وانظر: تفسير الطبري (19/ 456) وتذكرة القرطبي (478) وتفسيره (17/ 464 ــ 465).
(4) فيما عدا (أ، ن، غ): « … مرقدنا هذا».
(5) في المسألة الملحقة بالسادسة (ص 169)، وكذا الحديثان الآتيان (ص 150، 172).
(1/269)
وفي حديث الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي هريرة: «ثم أتى على قوم ترضَخ رؤوسهم بالصخر، كلما رُضخت عادت، لا يفتَّر عنهم من ذلك شيء» وقد تقدَّم.
و (1) في الصحيح (2) في قصة الذي لبس بُردين، وجعل يمشي يتبختر: «فخَسَف الله به الأرض، فهو يتجَلجَل فيها إلى يوم القيامة».
وفي حديث البراء بن عازب في قصة الكافر: «ثمّ يُفتَح له بابٌ (3) إلى النار، فينظر إلى مقعده فيها حتى تقوم الساعة». رواه الإمام أحمد (4). وفي بعض طرقه: «ثمّ يخرِقُ له خرقًا إلى النار، فيأتِيه من غَمِّها ودخانها إلى يوم القيامة» (5).
النوع الثاني: إلى (6) مدّةٍ، ثم ينقطع. وهو عذابُ بعض العصاة الذين خفَّت جرائمهم، فيعذَّب بحسَب جُرْمه (7)، ثم يخفَّفُ عنه؛ كما يعذَّب في النار مدّةً، ثم يزول عنه العذاب.
وقد ينقطع عنه العذاب بدعاءٍ أو صدقة أو استغفار، أو ثواب حج، أو قراءةٍ تصل إليه من بعض أقاربه أو غيرهم. وهذا كما يشفع الشافع في
(1) الواو ساقطة من (أ، ب، غ).
(2) أخرجه البخاري (5789) ومسلم (2088) من حديث أبي هريرة.
(3) (ق): «بابًا».
(4) سبق تخريجه في المسألة السادسة (ص 131).
(5) نحوه في فتاوى ابن حجر في آخر كتابه الإمتاع (75). ولعله صادر عن كتاب الروح.
(6) (ب): «أنه»، تحريف.
(7) (ط): «جريمته».
(1/270)
المعذَّب في الدنيا (1)، فيخلصُ من العذاب بشفاعته (2)؛ لكن هذه شفاعة قد تكون بدون (3) إذن المشفوع عنده. والله تعالى لا يتقدَّم أحدٌ بالشفاعة بين يديه إلا من بعد إذنه، فهو الذي يأذن للشافع أن يشفع إذا أراد أن يرحمَ المشفوعَ له (4).
ولا يُغترَّ (5) بغير هذا، فإنه شركٌ وباطل يتعالى الله عنه: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} (6) [يونس: 3]، {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23]، {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر: 44].
وقد ذكر ابنُ أبي الدنيا (7): حدَّثني محمد بن موسى الصائغ، حدثنا عبد الله بن نافع، قال: مات رجل من أهل المدينة، فرآه رجل كأنه من أهل النار، فاغتمَّ لذلك. ثم إنه بعد سابعة أو ثامنة رآه كأنه من أهل الجنة، فقال (8):
(1) «في الدنيا» ساقط من (ط).
(2) (أ، غ): «بشفاعة». و «الشافع … بشفاعته» ساقط من (ب). وكذا «في المعذب … بشفاعته» ساقط من (ج).
(3) (ق): «بذلك»، تحريف.
(4) (ب، ط، ج): «الميت المشفوع له».
(5) (ب، ط، ج): «فلا يغتر». (ن): «فلا تغتر».
(6) ما عدا (أ، غ): «فما … »، وهو خطأ. ولم ترد هذه الآية في (ن).
(7) في كتاب القبور (139).
(8) (ب، ط، ج): «قال».
(1/271)
ألم تكن قلت إنّك من أهل النار؟ قال: قد كان ذلك إلا أنه دُفن معنا رجل من الصالحين [58 أ]، فشفَع في أربعين من جيرانه، فكنت أنا (1) منهم.
قال ابنُ أبي الدنيا (2): وحدَّثنا أحمد بن يحيى (3) قال: حدثني بعضُ أصحابنا (4) قال: مات أخي (5)، فرأيته في النوم، فقلت: ما كان حالُك حين وُضِعْت في قبرك؟ قال: أتاني آتٍ بشهابٍ من نار، فلولا أنّ داعيًا دعا لي لرأيت أنه سيضربني به (6).
وقال عمرو (7) بن جرير: إذا دعا العبد لأخيه الميت أتاه بها ملَكٌ إلى القبر، فقال: يا صاحب القبر الغريب (8)، هديةٌ من أخ عليك شفيق (9).
وقال بشَّار بن غالب: رأيت رابعةَ في منامي، وكنتُ كثير الدعاء لها، فقالت لي: يا بشَّار بن غالب، هداياك تأتينا على أطباقٍ من نور مخمَّرةٍ بمناديل الحرير. قلت: وكيف ذاك؟ قالت: هكذا دعاءُ المؤمنين الأحياء إذا
(1) ساقط من (ب، ط، ن، ج).
(2) عزاه إليه ابن رجب في الأهوال (22) والسيوطي في شرح الصدور (366).
(3) الأهوال وشرح الصدور: أحمد بن بجير.
(4) (ن): «يحيى عن بعض أصحابه».
(5) (ط، ن، ج): «أخ لي». وكذا في الأهوال وشرح الصدور.
(6) هذا الخبر ساقط من (ب).
(7) (ط): «عمر».
(8) في الأصل وضع بعض القراء علامة بعد «الغريب» وكتب في الحاشية: «لعله هذه». يعني: هذه هدية. فظنه ناسخ لحقًا، وأقحم في (غ) في المتن.
(9) أخرجه ابن أبي الدنيا كما في الأهوال (125) وشرح الصدور (396).
(1/272)
دَعَوا للموتى فاستُجيب لهم، جُعِل (1) ذلك الدعاء على أطباقِ النور، وخُمِّرَ بمناديل الحرير، ثم أُتِيَ (2) الذي دُعِيَ (3) له من الموتى، فقيل: هذه هدية فلان إليك (4).
قال ابنُ أبي الدنيا: وحدَّثني أبو عبد الله بن بُجير (5) قال: حدثني بعض أصحابنا (6) قال: رأيتُ أخًا لي في النوم بعد موته، فقلت: أيصل إليكم دعاء الأحياء؟ قال: إي والله، يترفرف (7) مثلَ النور، ثم نَلبَسه (8)!
وسيأتي ــ إن شاء الله تعالى ــ تمامٌ لهذا (9) في جواب السؤال عن (10) انتفاع الأموات بما يُهديه إليهم الأحياء.
(1) (ب، ط، ن، ج): «يجعل».
(2) زاد بعده في (ط): «به».
(3) (ب، ط، ن، ج): «دعا».
(4) أخرجه ابن أبي الدنيا كما في الأهوال (125) وشرح الصدور (397).
(5) (أ، غ): «أبو عبد بن بحتر». وفي (ق) أيضًا: «أبو عبد» وفي (ن): «عبد الله بن بجير». والصواب المثبت من غيرها.
(6) (ن): « … بجير عن بعض أصحابه».
(7) (أ، ق): «يترفون». وفي حاشية الأصل: «لعله يترفرف».
(8) كذا بالنون في (ق) والمصادر الأخرى. ولم يتضح أوله في الأصل. وفي غيرها: «يلبسه». والخبر عزاه إلى ابن أبي الدنيا: ابن رجب في الأهوال (125) والسيوطي في شرح الصدور (396).
(9) ما عدا (أ، ن، غ): «لهذه».
(10) «جواب السؤال عن» ساقط من (ن).
(1/273)
فصل
وأمّا المسألة الخامسة عشرة (1)
وهي: أين (2) مستقرُّ الأرواح ما بين الموت إلى القيامة؟ هل هي في السماء أم (3) في الأرض؟ وهل هي في الجنة والنار (4) أم لا؟ وهل تُودَع في أجساد غير أجسادها التي كانت فيها، فتنعَّم وتعذَّب فيها، أم تكون مجرَّدة؟
فهذه مسألة عظيمة تكلَّم فيها الناس، واختلفوا فيها. وهي إنما تُتلقَّى من السمع فقط، واختُلِف في ذلك (5).
فقال قائلون: أرواح المؤمنين عند الله في الجنة ــ شهداء كانوا أم غير شهداء ــ إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرةٌ ولا دَيْن، وتلقَّاهم (6) ربّهم بالعفو عنهم والرحمة لهم. وهذا مذهب أبي هريرة، وعبد الله بن عمرو (7).
(1) (ق، غ): «عشر» بالتذكير. وفي (ن): «السادسة عشر». ولم يرد فيها «فصل وأمَّا».
(2) ما عدا الأصل: «أن».
(3) (ن): «هل هو في السماء أو».
(4) (ق، ن): «أو النار».
(5) لخَّص هذه المسألة من كتاب الروح شارح الطحاوية (398 ــ 401) دون الإشارة إليه.
(6) في (أ، ب، ط، ج): «يلقاهم». والمثبت من (ق) والتمهيد لابن عبد البر (11/ 59).
(7) في (أ، ق، غ): «عبد الله بن عمر»، وكذا في التمهيد، ولعل الصواب: «عبد الله بن عمرو» كما أثبتنا من النسخ الأخرى. وسيأتي هكذا في الأصل أيضًا. وكذا نقله ابن رجب في الأهوال (105) عن ابن عبد البر. والعبارة «فقال قائلون … عمرو» منقولة من التمهيد، وسيأتي النص على ذلك.
(1/274)
وقالت طائفة: هم بفناء الجنة على بابها يأتيهم من رَوْحها [58 ب] ونعيمها ورزقها.
وقال طائفة: الأرواح على أفنية قبورها.
وقال مالك: بلغني أنَّ الروح مرسَلة تذهب حيث شاءت (1).
وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله: أرواح الكفار (2) في النار، وأرواح المؤمنين في الجنة (3).
وقال أبو عبد الله بن منده: وقال طائفة من الصحابة والتابعين: أرواح المؤمنين عند الله عزَّ وجلَّ، ولم يزيدوا على ذلك.
قال: وروي عن جماعة من الصحابة والتابعين أنّ (4) أرواح المؤمنين بالجابية، وأرواح الكفار ببَرَهُوتَ: بئرٌ بحضرموت (5).
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا عنه في كتاب ذكر الموت. كذا في مجموع الفتاوى (4/ 295) ولم أجده في المطبوع منه. وذكره ابن عبد البر في الاستذكار (3/ 88).
(2) (ب، ط، ج، ن): «إن أرواح».
(3) كذا حكاه القاضي أبو يعلى ومن اتبعه عن عبد الله بن أحمد عن أبيه. ولم ينقله عبد الله، وإنما نقله حنبل. قاله ابن رجب في الأهوال (103). وفي مسائل عبد الله (546): سألت أبي عن أرواح الموتى: أتكون في أفنية قبورها، أم في حواصل طير، أم تموت كما تموت الأجساد؟ فقال: قد روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «نسمة المؤمن طائر يعلق … » الحديث. ثم ذكر قول عبد الله بن عمرو: إن أرواح المؤمنين في أجواف طير خضر … إلخ.
(4) لم ترد «أن» في (ب، ط، ج، ن).
(5) أخرجه ابن أبي الدنيا في ذكر الموت (544) عن عبد الله بن عمرو.
(1/275)
وقال صفوان بن عمرو: سألت عامر بن عبد الله أبا اليمان: هل لأنفس المؤمنين مجتمَع؟ فقال: إنَّ الأرض التي يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] قال: هي الأرض التي يجتمع إليها أرواح المؤمنين (1) حتى يكون البعث (2)، وقالوا: هي الأرض التي يُورِثها الله المؤمنين في الدنيا.
وقال كعب: أرواح المؤمنين في علِّيين في السماء السابعة، وأرواح الكفار في سجِّينٍ في الأرض السابعة تحت خَدّ إبليس (3).
وقالت طائفة: أرواح المؤمنين ببئر زمزم، وأرواح الكفار ببئر بَرَهُوتَ (4).
وقال سلمان الفارسي: أرواح المؤمنين (5) في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت، وأرواح الكفار في سجِّين (6). وفي لفظ عنه: نَسَمةُ المؤمن
(1) زاد في (ط): «في الدنيا».
(2) قال السيوطي في شرح الصدور (330): «أخرجه ابن منده. وهذا غريب جدًّا. وتفسير الآية بذلك أغرب». وأخرجه ابن جرير في تفسيره (16/ 437). وانظر: الأهوال (114). وسيأتي الكلام على الآية.
(3) أخرجه ابن المبارك في الزهد (1223) والطبري في التفسير (24/ 194، 195) وسيأتي الأثر كاملاً عند مناقشة القائلين بأن أرواح المؤمنين عند الله تعالى ولم يزيدوا على ذلك.
(4) أخرجه ابن أبي الدنيا في ذكر الموت (541، 542) عن علي بن أبي طالب.
(5) (ط): «إن أرواح المؤمنين». وقد سقط من (ب، ج): «أرواح … من الأرض».
(6) أخرجه ابن المبارك في الزهد (429) وابن أبي الدنيا في ذكر الموت (543).
(1/276)
تذهب في الأرض حيث شاءت (1).
وقالت طائفة: أرواح المؤمنين عن يمين آدم، وأرواح الكفار عن شماله.
وقالت طائفة أخرى منهم ابن حزم (2): مستقرُّها حيث كانت قبل خلق أجسادها.
قال (3): والذي نقول به (4) في مستقَرِّ الأرواح هو ما قاله الله عز وجل ونبيُّه – صلى الله عليه وسلم -، لا نتعداه. فهو البرهان الواضحُ، وهو أنَّ الله عزَّ وجلَّ قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ (5) وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} [الأعراف: 11]، فصحَّ أنَّ الله تعالى خلق الأرواح جملةً. وكذلك أخبر – صلى الله عليه وسلم -: «أنّ الأرواح جنودٌ مجنَّدةٌ، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» (6). وأخذ الله عهدها وشهادتها له (7) بالربوبية، وهي
(1) صفة الصفوة (1/ 555).
(2) (ن): «أبو محمد ابن حزم».
(3) في الفِصَل (2/ 321 ــ 322).
(4) (ن): «نعوِّل عليه، ونقول به».
(5) كذا في جميع النسخ على قراءة أبي عمرو من السبعة. ولم يثبت ناسخ (ن) الآية كاملة.
(6) أخرجه البخاري من حديث عائشة (3336)، ومسلم من حديث أبي هريرة (2638).
(7) «له» ساقط من (ن). وفي (ط): «وأخذ شهادتها له». وفي (ب، ج): «وأخذ الله شهادتها له».
(1/277)
مخلوقة مصوَّرة عاقلة، قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم، وقبل أن يُدخلَها في الأجساد، والأجسادُ يومئذ تراب وماء. ثم أقرَّها (1) حيث شاء، وهو البرزخ الذي ترجع إليه عند الموت. ثم لا يزال يبعث منها الجملةَ بعد الجملة، فينفخها في الأجساد المتولِّدة من المنيِّ.
إلى أن قال: فصحَّ أنَّ الأرواح أجسام حاملة (2) لأعراضها من التعارف والتناكر، وأنَّها عارفة مميزة. فيبلوهم الله في الدنيا كما يشاء، ثم يتوفّاها، فترجعُ إلى البرزخ الذي رآها فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليلة أُسري به عند سماء الدنيا. أرواحُ أهل السعادة عن يمين آدم، وأرواح أهل الشقاء عن يساره، وذلك عند منقطع العناصر. وتُعجَّل أرواحُ الأنبياء والشهداء إلى الجنة.
قال: وقد ذكر محمد بن نصر المروزي عن إسحاق بن راهويه أنه ذكر هذا الذي قلنا بعينه. قال: وعلى هذا أجمع أهل العلم.
قال ابن حزم: وهو قول جميع أهل الإسلام. قال: وهذا هو قول الله تعالى: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} الواقعة: 8 ــ 14، وقوله تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} [الواقعة: 88 ــ 89] إلى
آخرها.
(1) (ب، ط): «أخرها». (ج): «أخرجها». وكلاهما تصحيف.
(2) (ب، ط، ق، ج): «كاملة»، تصحيف.
(3) لم يثبت ناسخ (ن) إلا الآيتين (8، 9).
(1/278)
فلا تزال (1) الأرواح هنالك حتى يتمَّ عدد الأرواح (2) كلِّها بنفخها في الأجساد، ثم برجوعها (3) إلى البرزخ، فتقوم الساعة، ويعيد الله عزَّ وجلَّ الأرواح إلى الأجساد ثانيةً (4)، وهي الحياة الثانية، ويحاسب الخلق: فريق في الجنة، وفريق في السعير، مخلَّدين أبدًا. انتهى.
وقال أبو عمر بن عبد البرّ: أرواح الشهداء في الجنة، وأرواح عامَّة المؤمنين على أفنية قبورهم. [59 ب] ونحن نذكر كلامه وما احتجَّ به، ونبيِّن ما فيه.
وقال ابن المبارك، عن ابن جريج، فيما قرئ (5) عليه عن مجاهد: ليس هي في الجنة، ولكن يأكلون من ثمارها، ويجدون ريحها (6).
وذكر معاويةُ بن صالح عن سعيد بن سويد أنه سأل ابن شهاب عن أرواح المؤمنين، فقال: بلغني أنَّ أرواح الشهداء كطير خضر معلَّقة بالعرش، تغدو وتروح إلى رياض الجنة، تأتي ربَّها في (7) كلِّ يوم، تسلِّمُ عليه (8).
(1) (ن): «ولا تزال».
(2) (ن): «عددها».
(3) (ن): «يرجعها» ولعله إصلاح من الناسخ؛ لأنه أثبت قبله: «ينفخها».
(4) (ن): «ثانيًا».
(5) كذا في الأصل والتمهيد. وفي (ب، ط، ق، ج): «قرأ»، ومثله في تفسير ابن المنذر. وفي (ن): «قرأه».
(6) أخرجه من هذا الطريق ابن عبد البر في التمهيد (11/ 63) وابن المنذر في تفسيره (1179). وانظر تفسير مجاهد (21). وقوله: «هي» أي أرواح الشهداء. وانظر: الاستذكار (3/ 90).
(7) ساقطة من (ن).
(8) عزاه ابن رجب في الأهوال (93) إلى ابن منده. وفيه: «يحيى بن صالح عن سعيد». وانظر: شرح الصدور (305).
(1/279)
وقال أبو عمر بن عبد البرّ (1) في شرح حديث ابن عمر: «إنّ أحدكم إذا مات عُرِض عليه مقعدُه بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار. يقال له: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة» (2). قال (3): وقد استدَلَّ به مَن ذهب إلى أنَّ الأرواح على أفنية القبور. وهو أصحُّ ما ذُهِب إليه في ذلك ــ والله أعلم ــ لأنَّ الأحاديث بذلك أحسنُ مجيئًا وأثبتُ نقلاً من غيرها (4).
قال: والمعنى عندي أنَّها قد تكون على أفنية قبورها، لا على أنها تلزم (5) ولا تفارقُ أفنية القبور. بل هي (6) كما قال مالك (7) رحمه الله: إنه (8) بلغنا أنَّ الأرواح تسرح حيث شاءت.
قال: وعن مجاهد أنه قال: الأرواح على أفنية القبور سبعة أيام من يوم دفنِ الميت، لا تفارق ذلك. والله أعلم (9).
وقالت فرقة: مستقرُّها العدمُ المحض. وهذا قول من يقول: إنّ النفس
(1) (ب، ط، ج): «وقال أبو عمرو» وهو خطأ.
(2) أخرجه البخاري (1379) ومسلم (2866).
(3) ساقط من (ن). وفي (ب، ط): «وقال».
(4) «لأن … غيرها» ساقط من (ق).
(5) (ن): «لا تلزم»، وهو خطأ. وفي الاستذكار: «لا تريم» ولعله تحرّف في (ن).
(6) «بل هي» ساقط من (أ، ق، غ). ولا يستقيم المعنى بدونها.
(7) (ق): «الإمام مالك».
(8) «إنه» ساقط من (أ، غ).
(9) الاستذكار (3/ 88).
(1/280)
عرَض من أعراض البدن كحياته وإدراكه، فتُعدَم بموت البدن، كما تُعدَم سائرُ الأعراض المشروطة بحياته. وهذا قولٌ مخالفٌ لنصوص القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين، كما سنذكر ذلك إن شاء الله. والمقصود: أنَّ عند هذه الفرقة المبطِلة مستقَرّ الأرواح بعد الموت العدمُ المحض.
وقالت فرقة: مستقرُّها بعد الموت أبدان أُخَر تُناسب أخلاقها وصفاتها التي اكتسبتها في حال حياتها، فتصيرُ كلُّ روح إلى بدن حيوانٍ يشاكِلُ تلك الأرواحَ. فتصيرُ النفس السَّبُعيّةُ إلى أبدان السباع، والكَلبيةُ إلى أبدان الكلاب، والبهيميةُ إلى أبدان البهائم، والدنيَّة السُّفليَّة (1) إلى أبدان الحشرات. وهذا قول التناسُخيَّة منكري المعاد [60 أ] وهو قول خارج عن أقوال أهل الإسلام كلّهم.
فهذا ما تلخَّص لي من جميع (2) أقوال الناس في مصير أرواحهم بعد الموت، ولا تظفر (3) به مجموعًا في كتاب واحد غير هذا (4) البتَّة. ونحن نذكر مآخذ هذه الأقوال، وما لكل قول وما عليه، وما هو الصواب من ذلك الذي دلَّ عليه الكتاب والسنَّة، على طريقتنا التي مَنَّ الله بها، وهو مَرجوُّ الإعانة (5) والتوفيق.
(1) (ق): «والسفلية».
(2) كذا في (أ، ن). وهي ساقطة من (غ). وفي غيرها: «جمع».
(3) (ب، ط، ن): «يظفر» وضبطت الياء في (ط) بالضم.
(4) (ق): «واحد هكذا».
(5) (ب، ط، ج): «المرجو للاعانة». وقد تحرّف «المرجو» في (ن) إلى «الموجد».
(1/281)
فصل
فأمَّا (1) من قال: هي في الجنة، فاحتجَّ بقوله تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} [الواقعة: 88، 89].
قال: وهذا ذكره سبحانه عقيبَ ذكر (2) خروجها من البدن بالموت، وقسَّم الأرواح إلى (3) ثلاثة أقسام: مقرَّبين، وأخبر أنّهم (4) في جنّة نعيم (5)؛ وأصحاب يمين (6)، وحكم لها بالسلام (7)، وهو يتضمَّن سلامتها من العذاب. ومكذِّبةٍ ضالَّةٍ، وأخبر أنَّ لها نُزُلاً من حميم وتصليةَ جحيم.
قالوا: وهذا بعد مفارقتها للبدن قطعًا. وقد ذكر سبحانه حالها يوم القيامة في أول السورة. فذكر (8) حالها بعد الموت، وبعد البعث.
واحتجُّوا بقوله تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 ــ 30]. وقد قال غيرُ واحد من الصحابة والتابعين: إنَّ هذا يقال لها عند خروجها من الدنيا، يبشِّرها
(1) (ط): «وأما».
(2) ساقط من (ق).
(3) (ق): «على».
(4) كذا في الأصل و (غ). وفي غيرهما: «أنّها».
(5) ما عدا (أ، ن، غ): «النعيم».
(6) (ط): «اليمين».
(7) (ن): «السلامة».
(8) ما عدا (أ، ق، غ): «وذكر»، تصحيف.
(1/282)
الملَك بذلك. ولا ينافي ذلك قولَ من قال: إن هذا يقال لها (1) في الآخرة، فإنه يقال لها عند الموت وعند البعث (2).
وهذه من البشرى التي قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} فصلت: 30. وهذا التنزُّل (4) يكون عند الموت، ويكون في القبر، ويكون عند البعث، وأول بشارة الآخرة عند الموت.
وقد تقدَّم في حديث البراء بن عازب (5) أنَّ الملَك يقول لها عند قبضها: أبشري برَوْح ورَيحان. وهذا من ريحان الجنّة.
واحتجُّوا بما رواه مالك في الموطأ (6)، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، أنّه (7) أخبره أنَّ أباه كعب بن مالك كان يحدِّث أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «إنما نَسَمةُ المؤمن طائرٌ يعلُق في شجر الجنة حتى يَرجِعه الله إلى جسده (8) يوم يبعثه».
(1) «عند خروجها … لها» ساقط من (ن).
(2) انظر: مدارج السالكين (2/ 178 ــ 179).
(3) اختصر ناسخ (ن) الآية.
(4) (ط): «النزل». (ن): «التنزيل». وكلاهما تصحيف.
(5) بل في حديث أبي هريرة. وقد سبق في المسألة السادسة (ص 139).
(6) برقم (569). وانظر التمهيد (11/ 56).
(7) «أنه» ساقط من (ن). و «بن مالك» ساقط من (ب، غ).
(8) (أ، ق، غ): «إلى حياة»، تحريف.
(1/283)
قال أبو عمر (1): وفي رواية مالكٍ هذه بيانُ سماع الزهري لهذا الحديث من عبد الرحمن بن كعب بن مالك. وكذلك [60 ب] رواه يونس عن الزهري قال: سمعت عبد الرحمن بن كعب بن مالك (2) يحدِّث عن أبيه. وكذلك رواه الأوزاعيُّ عن الزهري: حدثني عبد الرحمن بن كعب.
وقد أَعَلَّ محمد بن يحيى الذُّهلي هذا الحديث بأنَّ شعيب بن أبي حمزة، ومحمد ابن أخي الزهري، وصالح بن كيسان= روَوْه عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن جدِّه كعب، فيكون منقطعًا (3). وقال صالح بن كيسان: عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن أنَّه بلغه أنَّ كعب بن مالك كان يحدِّث. قال الذهلي: وهذا المحفوظ عندنا، وهو الذي يُشبه حديث صالح وشعيب وابن أخي الزهري.
وخالفه في هذا غيرُه من الحفَّاظ، فحكموا لمالك والأوزاعي (4).
قال أبو عمر (5): فاتفق مالك، ويونس بن يزيد، والأوزاعي، والحارث بن فُضَيل على رواية هذا الحديث عن الزهري، عن
(1) في كتاب التمهيد (11/ 56 ــ 57).
(2) «وكذلك … مالك» ساقط من (ب، ج، ن).
(3) على رأي من يرى عدم سماعه من جده، وهو قول الذهلي حيث قال في علل حديث الزهري: «ما أظنه سمع من جدِّه شيئًا». وقال الدارقطني: «روايته عن جده مرسل». انظر: تهذيب التهذيب (9/ 215). (قالمي)
(4) (ب، ط، ن، ج): «للأوزاعي». ولم ترد هذه الفقرة في التمهيد، فلعله من كلام المؤلف.
(5) التمهيد (11/ 57).
(1/284)
عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه. وصححه الترمذي وغيره (1).
قال أبو عمر (2): ولا وجهَ عندي لما قاله (3) محمد بن يحيى من ذلك، ولا دليل عليه. واتفاقُ (4) مالك ويونس بن زيد والأوزاعيِّ ومحمد بن إسحاق أولى بالصواب، والنفسُ إلى قولهم وروايتهم أسكنُ، وهم من الحفظ والإتقان بحيث لا يقاس بهم مَن خالفهم في هذا الحديث (5). انتهى (6).
وقد قال محمد الذهلي: سمعت علي بن المديني يقول: وُلِدَ لكعبٍ (7) خمسة: عبد الله، وعبيد الله، ومعبد، وعبد الرحمن، ومحمد. قال الذهلي: فسمع الزهري من عبد الله (8) بن كعب، وكان قائد أبيه حين عمِيَ، وسمع
(1) إنما صحَّحه الترمذي (1641) من رواية سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه. بلفظ: «إن أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمرة الجنة أو شجر الجنة».
ولكن صحَّحه ابن حبان (4657) من رواية الليث عن الزهريّ، به، بمثل رواية مالك سندًا ومتنًا. (قالمي)
والجملة «وصححه الترمذي وغيره» لم ترد في التمهيد (الإصلاحي).
(2) التمهيد (11/ 58).
(3) (ب، ج): «والأوجه عندي ما قاله»، تحريف عكس المعنى.
(4) (ط): «ولا دليل على اتفاق» تحريف أفسد السياق.
(5) انظر: الاستذكار (8/ 357)، وللمزيد يراجع كتاب الإيماء إلى أطراف أحاديث كتاب الموطأ لأبي العباس الداني (2/ 182 ــ 187) (قالمي).
(6) يعني كلام أبي عمر، لا النقل من كتابه، فإن الفقرة الآتية منقولة منه (11/ 56).
(7) (ب، ط، ج): «ولدُ كعبٍ».
(8) (ب، ط، ن): «عبيد الله». والصواب ما أثبتنا من غيرها والتمهيد. وانظر: تهذيب التهذيب (5/ 369).
(1/285)
من عبد الرحمن بن كعب، وسمع من عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب (1). وروى عن بَشير (2) بن عبد الرحمن بن كعب، ولا أراه سمع منه. انتهى.
فالحديث إن كان لعبد الرحمن (3) عن أبيه كعبٍ ــ كما قال مالك ومَن معه ــ فظاهرٌ. وإن كان لعبد الرحمن بن عبد الله بن كعب عن جدِّه ــ كما قال شعيب ومَن معه ــ فنهايته أن يكون مرسَلاً من هذه الطريق، وموصولاً من الأخرى. والذين وصلوه ليسوا بدون الذين أرسلوه قَدْرًا ولا عددًا (4). فالحديث من صحاح الأحاديث، وإنما لم يخرِّجه صاحبا الصحيح لهذه العلّة، والله أعلم.
قال أبو عمر (5): وأما قوله: «نسمة المؤمن»، فالنسمة هاهنا: الروح.
(1) هذه الجملة ساقطة من (ن).
(2) ضبط في الأصل بضم الباء. وفي (ن): «بشر». والصواب ما أثبتنا. انظر: الإكمال لابن ماكولا (1/ 284).
(3) (ن): «لعبد الله»، خطأ.
(4) ويجوز أن يكون ذلك كله محفوظًا عن الزهري لاختلاف أصحابه الثقات الكبار عليه، فكان تارة يحدث به عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، وتارة عن ابن أخيه عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب. ونظير ذلك روايته عنهما في قصة توبة كعب بن مالك رضي الله عنه في غزوة تبوك، وقد أخرج البخاري بعضه عنه عن عبد الرحمن بن كعب، وبعضه عن عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب. قال الحافظ في الفتح (6/ 114): «وقد سمع الزهري منهما جميعًا». (قالمي).
(5) التمهيد (11/ 58).
(1/286)
يدلُّ على ذلك قوله – صلى الله عليه وسلم – في الحديث نفسه: «حتى يَرْجِعَه الله إلى جسده يوم يبعثه». وقيل: النسمة: الروح والنفس والبدن. وأصل هذه اللفظة، أعني النسمة: الإنسان بعينه، وإنما قيل للروح: نسمةٌ ــ والله أعلم ــ لأن (1) حياة الإنسان بروحه (2)، فإذا فارقته (3) عُدم أو صار كالمعدوم. والدليل على أنّ النسمة الإنسان قوله – صلى الله عليه وسلم -: «من أعتق نسمةً مؤمنةً» (4)، وقولُ عليٍّ رضي الله عنه: «والذي فلَقَ الحبَّةَ وبرأ النسمة» (5). وقال الشاعر (6):
(1) ما عدا (أ، غ): «أن».
(2) (ب، ط، ن، ج): «روحه».
(3) (ب، ن، ج): «وإذا فارقه». (ط): «فإذا فارقه».
(4) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (8/ 466)، وابن أبي شيبة في المصنف (12634)، والنسائي في الكبرى (4877)، والطبراني في المعجم الكبير (186)، والأوسط (3738) من حديث فاطمة بنت علي بن أبي طالب، عن أبيها رضي الله عنه. وإسناده حسن لولا أن فيه انقطاعًا؛ فإن فاطمة وهي الصغرى قال أبو حاتم في المراسيل (969): «لم تسمع من أبيها شيئًا، وقد رأت أباها». وكذا قال العجلي في ثقاته (2346).
وله شاهد من حديث أبي قلابة عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه، أخرجه عبد الرزاق (154) في حديث طويل، وفيه انقطاع أيضًا؛ فإن أبا قلابة هو عبد الله بن زيد الجرمي عن عمرو بن عبسة مرسل، قاله المزي في تهذيب الكمال (22/ 120. ترجمة عمرو بن عبسة).
وروي من وجوه كثيرة عن عمرو بن عبسة، لكن بلفظ: «من أعتق رقبة» أو نحوه، انظر: السلسلة الصحيحة (2681). وهو بهذا اللفظ في الصحيحين وغيرهما. (قالمي)
(5) البخاري (3047)، ومسلم (78).
(6) كذا في التمهيد (11/ 58). ولكن في الاستذكار (3/ 91) نسب البيت إلي ذي الرمة. والصواب أنه للأعشى من قصيدة يمدح بها قيس بن معديكرب.
وصلة البيت قبله في ديوانه (1/ 200):
وما أيْبُليٌّ على هَيكلٍ … بناه وصلَّبَ فيه وصارا
يُراوِح من صلَوات المليـ … ـكِ طورًا سجودًا وطورًا جُؤارًا
بأعظم منك ………………. … ………………………….
وفي الديوان: «منه». وقد تصحفت «نقضن» و «تقى» و «منك» في النسخ الخطية.
(1/287)
بأعظمَ منك تُقًى في الحسابِ … إذا النَّسَماتُ نَفَضْنَ الغُبارا
يعني: إذا بُعِث الناس من قبورهم يوم القيامة.
وقال الخليل بن أحمد: النسمة: الإنسان. قال: والنسمة الروح. والنسيم: هبوب الريح (1).
وقوله: «تعلق في شجر الجنَّة»، يُروىَ بفتح اللام، وهو الأكثر، ويروى بضمِّ اللام، والمعنى واحد، وهو: الأكل والرعي. يقول: تأكل من ثمار الجنة، وترعى (2) وتسرحُ بين أشجارها (3). والعَلوقة والعَلاق والعَلوق: الأكل والرَعي (4). تقول العرب: ما ذاق اليوم عَلوقًا أي: طعامًا. قال الربيع بن زياد يصف الخيل (5):
(1) كتاب العين (7/ 275).
(2) «ترعى» لم ترد في (أ، ق، غ).
(3) كذا قال في التمهيد (11/ 59) إن معنى «تعلق» بضم اللام وفتحها واحد. وفي الاستذكار (3/ 90): «وفي قول ابن مسعود: «تسرح بالجنة» ما يعضد رواية من روى «تعلَق» بفتح اللام؛ لأن معنى ذلك: تسرح. ومن روى «تعلُق» فالمعنى فيه عند أهل اللغة: تأكل وترعى». وما قاله في التمهيد أصح.
(4) يقصد ما يؤكل وما يُرعى، أي الاسم لا المصدر.
(5) من أبيات له في الحماسة (1/ 495) والأغاني (17/ 130) وغيرهما. وكذا «علوقة» في التمهيد والاستذكار. والرواية: عدوفًا وعدوفةً، بالدال والذال. انظر قصة أبي عمرو مع يزيد بن مزيد الشيباني في اللسان (عدف). وانظر: إصلاح المنطق (390) والتعازي والمراثي (281) والمستقصى (2/ 322).
(1/288)
ومجنَّباتٍ ما يَذُقْنَ عَلوقةً … يمصَعْن بالمُهُرات والأمهار
وقال الأعشى (1):
وفَلاةٍ كأنّها ظهرُ تُرْسٍ … ليس فيها غيرَ الرَّجيعِ علاقُ
قلت (2): ومنه قول عائشة: والنساءُ إذ ذاك خِفافٌ، لم يغشَهنَّ اللحمُ، إنَّما يأكلن العُلْقَة من الطعام (3). وأصل اللفظة من التعلُّق، وهو ما يَعلَقُ القلبَ والنفسَ من الغذاء.
قال (4): واختلف العلماء في معنى هذا الحديث، فقال قائلون منهم: أرواح المؤمنين عند الله في الجنة، شهداءَ كانوا أم غيرَ شهداء، إذ لم يحبِسْهم عن الجنَّة كبيرةٌ ولا دَين، وتلقَّاهم ربُّهم بالعفو عنهم والرحمة لهم.
قال: واحتجّوا بأنَّ هذا الحديث لم يخُصَّ فيه شهيدًا من غير شهيد.
(1) من قصيدة في ديوانه (2/ 55). والرواية المشهورة: ليس إلا الرجيعَ فيها علاق.
وفي التمهيد: «ليس فيها إلا … ». وكذا في المحكم (1/ 124). وفي (أ، ق): «فيها الرجيع». وفي طرّة الأصل: «من» مع علامة صح. يعني: «فيها من الرجيع» كما في (غ). وفي النسخ الأخرى: «غير الرجيع» كما أثبتنا. ولا أدري أكان في أصل المؤلف هكذا، أم سقطت «إلا» من الأصل ــ والمصدر: التمهيد ــ فأكمل النساخ بزيادة «غير»، فاستقام الوزن، وصحّ المعنى!
(2) والقائل: ابن القيم.
(3) أخرجه البخاري (2661)، ومسلم (2770).
(4) التمهيد (11/ 59 ــ 61).
(1/289)
واحتجُّوا أيضًا بما رُويَ عن أبي هريرة (1): إنَّ أرواح الأبرار في علِّيين، وأرواحَ الفُجَّار في سجين (2). وعن عبد الله بن عمرو (3) مثلُ ذلك (4).
قال أبو عمر: وهذا قول يعارضه من السنّة ما لا مَدْفعَ في صحة نقله، وهو قوله: «إذا مات أحدُكم عُرِض عليه [61 ب] مقعدُه بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار. يقال له: هذا مقعدك، حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة» (5).
وقال آخرون (6): إنما معنى هذا الحديث في الشهداء دون غيرِهم، لأن القرآن والسنةَ إنما يدُلان على ذلك. أما القرآن فقوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآية [آل عمران: 169، 170].
وأما الآثار، فذكَرَ حديث أبي سعيد الخُدريِّ (7) من طريق بقيِّ بن مخلد مرفوعًا: «الشهداء يغدون ويروحون (8)، ثم يكون مأواهم إلى قناديلَ معلَّقةٍ بالعرش، فيقول لهم الربُّ تبارك وتعالى: هل تعلمون كرامةً أفضلَ من
(1) فيما عدا (أ، ق، غ) زيادة: «قال».
(2) لم أجده في غير التمهيد.
(3) كذا في جميع النسخ. وفي التمهيد: «ابن عمر».
(4) (أ، غ): «مثل هذا الحديث».
(5) تقدم قبل قليل (ص 280).
(6) (ب، ط، ن، ج): «الآخرون».
(7) (ب، ط، ج): «فذكر عن أبي سعيد الخدري».
(8) بعده في التمهيد: «إلى رياض الجنة».
(1/290)
كرامةٍ أكرَمْتُكموها؟ فيقولون: لا، غير أنا وددنا أنَّك أعدْتَ أرواحنا في أجسادنا حتَّى نقاتلَ مرةً أخرى، فنُقتَل في سبيلك». رواه عن هنَّاد، عن إسماعيل بن المختار، عن عطيَّة، عنه (1).
ثم ساق حديث ابنِ عباس قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «لمَّا أصيب إخوانكم ــ يعني يومَ أحد ــ جعل الله أرواحَهم في أجواف طير خُضْرٍ تَرِدُ أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديلَ من ذهبٍ مذلَّلةٍ (2) في ظلّ العرش. فلما وجدوا طيبَ مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: من يبلِّغ إخواننا أنَّا أحياءٌ (3) في الجنة نُرزَق لئلا ينكُلوا عن الحرب، ولا يزهَدوا في الجهاد؟ قال: فقال الله تعالى: أنا أبلِّغهم عنكم، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]» (4).
والحديث في مسند أحمد، وسُنن أبي داود (5).
(1) أخرجه هنّاد بن السري في الزهد (156). ومن طريقه أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (1411). وإسناده ضعيف، فيه علتان: عطية وهو ابن سعد العوفي سيئ الحفظ وهو مدلس وقد عنعن، وشيخ هنّاد إسماعيل بن المختار لا يُعرف، وقال البخاري في التاريخ الكبير (1/ 374): «عن عطية، سمع منه هنَّاد بن السري فيه نظر لم يصح حديثه». وانظر: لسان الميزان (1/ 438). (قالمي)
(2) في (أ، غ): «مدلية»، ولعل صوابها: «مدلّاة». وفي غيرهما: «مدللة» وصوابها ما أثبتنا ــ وكذا في التمهيد ــ من ذُلِّل الكرْمُ: دُلِّيت عناقيده. قال تعالى: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان: 14].
(3) «أحياء» ساقط من (أ، غ).
(4) «وأما الآثار … يرزقون» ساقط من (ن).
(5) المسند (4/ 218)، أبو داود (2520). وقد سبق في المسألة الخامسة (ص 112).
(1/291)
ثم ذكر حديث الأعمش عن عبد الله بن مُرَّة عن مسروق قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (1) [آل عمران: 169] فقال: أمَا إنَّا قد سألنا عن ذلك، فقال: «أرواحُهم في جَوْف طير خُضْر تسرَح في الجنة في أيِّها شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل. فاطَّلع إليهم ربُّك اطِّلاعةً، فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: وأيَّ شيء (2) نشتهي، ونحن [62 أ] نسرَحُ من الجنة حيث نشاء! ففعَل بهم ذلك (3) ثلاثَ مرات، فلما رأَوْا أنهم لم يُترَكوا من أن يُسألوا قالوا: يا ربِّ نريدُ أن تَرُدَّ أرواحَنا في أجسادنا حتى نُقتَل في سبيلك مرّةً أخرى. فلما رأى أن ليس لهم حاجةٌ تُرِكوا».والحديث في صحيح مسلم (4).
قلتُ: وفي صحيح البخاري (5) عن أنس أنَّ أمَّ الرُّبَيِّع بنت البراء ــ وهي (6) أمُّ حارثة بن سُراقة ــ أتت النبي – صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا نبيَّ الله، ألا تحدِّثني عن حارثة؟ ــ وكان قُتِل يومَ بدر، أصابه سهمٌ غَرْبٌ (7) ــ فإن كان في الجنة صبرتُ، وإن كان غير ذلك اجتهدتُ عليه في البكاء. قال: «يا أمَّ حارثة، إنّها جِنان (8)، وإنَّ ابنكِ أصاب الفردوس الأعلى».
(1) الآية فيما عدا (أ، ق، غ) إلى {أمواتًا}.
(2) ما عدا (أ، ق، غ): «أي شيء» دون الواو.
(3) (ق): «ذلك بهم».
(4) برقم (1887) وقد تقدم في المسألة الخامسة (ص 112).
(5) برقم (2809).
(6) «وهي» ساقط من (ط).
(7) وهو الذي لا يُدرى راميه.
(8) بعدها في (ق): «في الجنة». وكذا في الصحيح في كتاب الجهاد.
(1/292)
ثم ساق (1) من طريق بَقي بن مخلد، ثنا يحيى بن عبد الحميد، ثنا ابن عيينة، عن عبيد الله (2) بن أبي يزيد، سمع ابن عباس يقول: أرواحُ الشهداء تَجُول في أجواف طير خضر تَعْلُق في ثمر الجنة.
ثم ذكر عن معمر، عن قتادة قال: بلغنا أنَّ أرواح الشهداء في صُوَر طيرٍ بيضٍ تأكل من ثمار الجنة.
ومن طريق أبي عاصم النبيل، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن مَعْدان، عن عبد الله (3) بن عمرو (4): «أرواح الشهداء في طير كالزرازير يتعارفون ويُرزَقون من ثمر الجنة».
قال أبو عمر (5): وهذه الآثار كلّها تدلُّ على أنهم الشهداءُ دون غيرهم. وفي بعضها: في صُوَر طير، وفي بعضها: في أجواف طير، وفي بعضها: كطير خضر.
قال: والذي يُشبِه عندي ــ والله أعلم ــ أن يكون القول (6) قولَ من قال: كطير (7)، أو صور طير؛ لمطابقته لحديثنا (8) المذكور. يريد حديث كعب بن
(1) التمهيد (11/ 63 ــ 64).
(2) (أ، ن، غ): «عبد الله»، تصحيف.
(3) (ط): «عبيد الله»، تصحيف.
(4) زاد في (ط): «أنّ».
(5) التمهيد (11/ 64 ــ 65).
(6) (ب، ج): «العدل»، تصحيف.
(7) (ب، ط): «كطير خضر». وبعده في (ط): «أو صور طير خضر».
(8) (ب، ط، ج): «حديثنا».
(1/293)
مالك، وقوله فيه: نسمة المؤمن طائر، ولم يقل: في جوف طائر (1).
قال: وروى عيسى بن يونس حديث ابن مسعود (2) عن الأعمش، عن عبد الله بن مُرَّة، عن مسروق، عن عبد الله: «كطير خضر».
قلت: والذي في صحيح مسلم: «في أجواف طير خُضر».
قال أبو عمر: فعلى هذا التأويل، كأنه – صلى الله عليه وسلم – قال: «إنما نسَمَةُ المؤمن من الشهداء طائر (3) يعلق في شجر الجنة».
قلتُ: لا تنافي بين قوله – صلى الله عليه وسلم -: «نسمة المؤمن طائر [62 ب] يعلق في شجر الجنة» وبين قوله: «إن أحدكم إذا مات عُرِض عليه مقعدُه بالغداة والعَشِيِّ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار».وهذا الخطاب يتناول الميِّتَ على فراشه والشهيدَ، كما أنَّ قوله: «نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة» يتناول الشهيدَ وغيرَه. ومع كونه يُعرَض عليه مقعده بالغداة والعشيِّ تَرد روحُه أنهارَ الجنة، وتأكل من ثمارها. وأما المقعدُ الخاص به والبيتُ الذي أُعِدَّ له، فإنَّه إنما يدخله يوم القيامة.
ويدلُّ عليه أنَّ منازلَ الشهداء ودُورَهم وقصورَهم التي أَعدَّ الله لهم ليست هي (4) تلك القناديل التي تأوي إليها أرواحُهم في البرزخ قطعًا. فهم
(1) «ولم … طائر» ساقط من (ن).
(2) في الأصل ضرب بعضهم على «مسعود» وكتب في الطرّة: «منصور» مع علامة صح. وهو غلط منه إذ ظنَّ أن «ابن مسعود» هنا يروي عن الأعمش! وكذا «ابن منصور» في (غ).
(3) (ب، ج): «كطائر». وأشار إلى هذه النسخة في طرّة (ط). وهو خطأ.
(4) (ب، ط، ج): «من»، تحريف.
(1/294)
يَرَوْن منازلهم ومقاعدهم من الجنّة، ويكون مستقرُّهم في تلك القناديل المعلَّقة بالعرش، فإنَّ الدخول التامّ الكامل إنما يكون يوم القيامة، ودخولُ الأرواح الجنة في البرزخ أمرٌ دون ذلك.
ونظير هذا: أهلُ الشقاء تُعرَض أرواحُهم على النار غدوًّا وعشيًّا، فإذا كان يومُ القيامة دخلوا منازلهم ومقاعدهم التي كانوا يُعرضون عليها في البرزخ. فتنعُّمُ الأرواحِ بالجنة في البرزخ شيء، وتنعُّمُها مع الأبدان بها يوم القيامة شيء آخر. فغذاء الروح من الجنة في البرزخ دون غذائها (1) مع بدنها يوم البعث. ولهذا قال: «تعلُق في شجر الجنة»، أي: تأكل العلقة، وأما تمامُ الأكل والشرب واللبس والتمتُّع فإنما (2) يكون إذا رُدَّت (3) إلى أجسادها يوم القيامة. فظهر (4) أنه لا يعارِض هذا القولَ من السنّة شيءٌ، وإنما تُعاضدِهُ السنَّةُ وتوافقه.
وأما قول من قال: إنَّ حديث كعب في الشهداء دون غيرهم، فتخصيصٌ ليس في اللفظ ما يدلُّ عليه. وهو حَمْلُ اللفظ العامِّ على أقلِّ مسمَّياته، فإنّ الشهداء بالنسبة إلى عموم المؤمنين قليلٌ جدًّا، والنبي – صلى الله عليه وسلم – علَّق هذا الجزاء بوصفِ الإيمان، فهو المقتضي له، لم يعلِّقه بوصف الشهادة.
ألا ترى أنَّ الحكم الذي اختَصَّ [63 أ] بالشهداء عُلِّق بوصف الشهادة، كقوله في حديث المقدام بن معديكرب: «للشهيد عند الله ستُّ خصال:
(1) (ق): «عذابها».
(2) (ب، ط، ج): «إنما».
(3) زاد في (ق): «الأرواح».
(4) (ق): «وظهر».
(1/295)
يُغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعدَه من الجنة، ويُحلَّى حُلَّة الإيمان، ويزوَّجُ من الحور العين، ويجارُ من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضعُ على رأسه تاجُ الوَقار، الياقوتةُ منه خيرٌ من الدنيا وما فيها، ويزوَّج اثنتين وسبعين من الحور العين (1)، ويشفَّع في سبعين إنسانًا (2) من أقاربه» (3). فلما كان هذا يختصُّ (4) بالشهيد قال: «إنَّ للشهيد»، ولم يقل: إنّ (5) للمؤمن.
وكذلك قولُه في حديث قيسٍ الجُذاميِّ: «يعطَى الشهيدُ ستَّ خصال» (6). وكذلك سائر الأحاديث والنصوص التي عُلِّق فيها الجزاءُ بالشهادة. وأما ما عُلِّق فيه الجزاءُ بالإيمان، فإنَّه يتناول كلَّ مؤمن، شهيدًا كان أو غير شهيد.
وأما النصوصُ والآثار (7) التي ذُكرت (8) في رزق الشهداء وكَوْنِ
(1) هذه الخصلة ساقطة من (ن).
(2) لم يرد «إنسانًا» في (أ، غ).
(3) تقدم تخريجه في المسألة العاشرة (ص 233).
(4) (ط): «هذه تختص».
(5) ساقطة من (ط).
(6) أخرجه الإمام أحمد (17783)، والطبراني في مسند الشاميين (204)، والبيهقي في شعب الإيمان (4252، 4253)، وفي إثبات عذاب القبر (161) من طريق عبد الرحمن ابن ثابت بن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، عن كثير بن مرة، عن قيس الجذاميّ.
وهذا إسناد لا بأس به في الشواهد؛ عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان الدمشقي فيه ضعف من قِبل حفظه، وبقية رجاله ثقات. (قالمي)
(7) (ق): «فالآثار».
(8) ما عدا (ن): «ذكر».
(1/296)
أرواحهم في الجنّة، فكلُّها حقٌّ، وهي لا تدلُّ على انتفاءِ دخول أرواح المؤمنين الجنَّة، ولاسيَّما الصدِّيقين الذين هم أفضلُ من الشهداء بلا نزاع (1) بين الناس. فيقال لهؤلاء: ما تقولون في أرواح الصدِّيقين، هل هي في الجنة أم لا؟ فإن قالوا: إنَّها في الجنة ــ ولا يسوغ لهم غير هذا القول ــ قيل: فثبت أنَّ هذه النصوص لا تدلُّ على اختصاص أرواح الشهداء بذلك.
وإن قالوا: ليست في الجنة، لزمهم من ذلك أن تكون أرواحُ سادات الصحابة كأبي بكر الصدِّيق (2) وأُبَيِّ بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وأبي الدرداء، وحذيفة بن اليمان وأشباههم ليست في الجنة؛ وأرواحُ شهداء زماننا في الجنة. وهذا معلومُ البُطلانِ ضرورةً.
فإن قيل: فإذا كان هذا حكم (3) لا يختصُّ بالشهداء، فما الموجِبُ لتخصيصهم بالذكر في هذه النصوص؟
قيل: تخصيصهم بالذكر في هذه النصوص دلَّ على (4) التنبيه على فضل الشهادة وعلوِّ درجتها، وأنَّ هذا مضمون لأهلها ولا بدَّ، وأنَّ لهم منها أوفرَ نصيب. فنصيبُهم (5) من هذا النعيم في البرزخ أكملُ من نصيب غيرهم
(1) (ب، ط): «فلا نزاع»، تصحيف.
(2) (ق): «كأبي بكر وعمر». وانظر ما يأتي في (ص 332).
(3) كذا في جميع النسخ. وفي (ج): «حكمًا»، ولكن الظاهر أنه إصلاح.
(4) «قيل … دلَّ» مستدرك في طرّة الأصل بخط ناسخه، وفي صلب المتن في (غ). والعبارة ساقطة من غيرهما، إلا أن بعض قراء (ط) غيّر «على» إلى «قلت». وفي متن (ن) في موضعها: «قلنا»، فاستقام الكلام.
(5) ما عدا (ب، ط): «فيصيبهم»، تصحيف.
(1/297)
من الأموات على فُرُشِهم، وإن كان الميِّت على فراشه أعلى درجةً من كثير (1) منهم، فله نعيمٌ يختصُّ به، لا يشاركه فيه مَن هو دونه.
ويدلُّ [63 ب] على هذا أنَّ الله سبحانه جعل أرواح الشهداء في أجواف طير خُضر، فإنَّهم لما بذلوا أبدانَهم (2) لله حتى أتلفها أعداؤه فيه أعاضَهم منها في البرزخ أبدانًا خيرًا منها، تكونُ فيها إلى يوم القيامة. ويكون تنعُّمها بواسطة تلك الأبدان أكملَ من نعيم (3) الأرواح المجرَّدة عنها. ولهذا كانت نسمة المؤمن في صورة طير أو كطير، ونسمةُ الشهيد في جوف طير.
وتأمَّلْ لفظ الحديثين، فإنه قال: «نسمةُ المؤمن طير»، فهذا يعمُّ الشهيد وغيرَه. ثم خصَّ الشهيد بأن قال: «هي في جوف طير»، ومعلوم أنها إذا كانت في جوف طير صَدَق عليها أنها طير. فصلوات الله وسلامه على مَن يصدِّقُ كلامُه بعضُه بعضًا، ويدلُّ على أنه حقٌّ من عند الله. وهذا الجمع أحسن من جمعِ أبي عمر وترجيحِه روايةَ مَن روى: «أرواحهم كطير خضر». بل الروايتان حقٌّ وصواب، فهي كطير خضر، وفي أجواف طير خضر.
فصل
وأما قول مجاهد: ليس هي في الجنة، ولكن يأكلون من ثمارها ويجدون ريحها. فقد يُحتَجُّ لهذا القول بما رواه الإمام أحمد في مسنده (4)
(1) «من كثير» ساقط من (ط).
(2) (ق): «أنفسهم».
(3) ما عدا (أ، غ): «تنعم».
(4) برقم (2390). وأخرجه ابن حبان (4658)، والحاكم (2/ 74)، والطبراني في المعجم الكبير (10825)، والبيهقي في إثبات عذاب القبر، كلهم من طريق ابن إسحاق، به. وهو في سيرة ابن إسحاق (2/ 119 ــ سيرة ابن هشام) وإسناده حسن لأجل ابن إسحاق وقد صرّح بالتحديث في السيرة وعند أحمد وابن حبان وغيرهما. وصححه الحاكم، وقال ابن كثير في تفسيره (2/ 164): «وهو إسناد جيد». (قالمي).
(1/298)
من حديث ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر (1)، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «الشهداء على بارِقِ نهرٍ (2) بباب الجنة، في قبةٍ خضراءَ، يخرج عليهم رزقُهم من الجنة بكرةً وعشيةً».
وهذا لا ينافي كونَهم في الجنة، فإنَّ ذلك النهرَ من الجنّة، ورزقُهم يخرج عليهم من الجنة، فهم في الجنة، وإن لم يصيروا على مقاعدهم منها. فمجاهدٌ نفى الدخول الكامل من كلِّ وجه، والتعبيرُ يقصُر عن الإحاطة بتمييز هذا من هذا. وأكملُ العبارة وأدلُّها