الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة
الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة
http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة |
الكتاب: الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة [آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (33)]المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 – 751) تحقيق: حسين بن عكاشة بن رمضان تخريج: حسين بن حسن باقر – كريم محمد عيد راجعه: محمد أجمل الإصلاحي – سعود بن عبد العزيز العريفي الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت) الطبعة: الأولى (لدار ابن حزم)، 1442 هـ – 2020 عدد الأجزاء: 2 (في ترقيم واحد متسلسل) قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] |
آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (33)
الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة
تأليف
الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية
(691 هـ – 751 هـ)
تحقيق
حسين بن عكاشة بن رمضان
تخريج
حسين بن حسن باقر – كريم محمد عيد
وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة
بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى)
دار عطاءات العلم – دار ابن حزم
(المقدمة/1)
راجع هذا الجزء
محمد أجمل الإصلاحي
سعود بن عبد العزيز العريفي
(المقدمة/3)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعد، فيعدّ الإمام شمس الدِّين ابن القيِّم (ت 751 هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ أحد المصنِّفين الذين عمَّ النفع بكتبهم شرقًا وغربًا عجمًا وعربًا، ومصنَّفاته من أعظم الكتب التي انتفع بها المسلمون في العقائد والفقه والسِّيرة النبوية والزُّهد والرَّقائق والأذكار وفي الحديث والعلل والأصول والفرق والمذاهب.
وكتاب «الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة» أحد أنفس الكتب في الرد على الجهمية والمعطلة، وهو كتابٌ جليل الشأن، محكم البنيان، هدم فيه الإمام ابن القيِّم حصونهم من أساسها، وحشد لنقض مذاهبهم أدلة المنقول والمعقول، فلم يُبق لهم حجةً يتعلقون بها لا منقولًا صحيحًا ولا معقولًا صريحًا.
وهو من أكبر الكتب في الردِّ على الجهمية والمعطلة ونُصرة العقيدة السلفية، مع استطرادات كثيرة جدًّا، شحنه ابن القيِّم بفوائد: عقدية وتفسيرية وفقهية وحديثية ولغوية وغيرها، وطالع له كتبًا كثيرةً جدًّا.
ومن دواعي الأسى أننا لم نعثر إلَّا على نحو نصف الكتاب فقط، ولم نجد بقيته بعدُ، نسأل الله أن ييسر الحصول عليها بمنِّه وكرمه.
وهذا الكتاب حقيق أن تكثر به الطبعات ليعم النفع به، فإنه من أحسن الكتب في بابه وأقواها حجة.
(المقدمة/5)
وقد قدمت بين يدي التحقيق تعريفًا بالكتاب قسمته على مباحث، هذا مسردها:
(1) توثيق نسبة الكتاب إلى ابن القيِّم.
(2) عنوان الكتاب.
(3) حجم الكتاب.
(4) عرض موجز لموضوعات الكتاب.
(5) منهج الكتاب.
(6) مصادر الكتاب.
(7) مكانة الكتاب.
(8) مختصرات الكتاب.
(9) طبعات الكتاب السابقة.
(10) مخطوطات الكتاب.
(11) منهج التحقيق.
وأتقدم بالشكر لكل من أعان على إتمام هذه الطبعة، وأسأل الله أن ينفع بها عموم المسلمين، إنه جواد كريم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
(المقدمة/6)
(1) توثيق نسبة الكتاب إلى ابن القيِّم
كتاب «الصواعق» ثابت النسبة للإمام ابن القيِّم ـ رحمه الله تعالى ـ وقد تضافرت على ذلك الأدلة، وقد قسمتها إلى أدلة داخلية من الكتاب، وأدلة خارجية:
أمَّا الأدلة الداخلية فمنها:
الأول: ما في ثنايا الكتاب من إحالة الإمام ابن القيِّم على كتبه المشهورة:
فقد أحال على ثلاثة من كتبه المشهورة، هي:
1 – «اجتماع الجيوش الإسلامية» في قوله (ص 846): «وقد ذكرنا في كتاب «اجتماع العساكر الإسلامية على غزو الفرقة الجهمية» أضعاف أضعاف هذه النقول عن الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة الأربعة نصًّا صريحًا عنهم، نقل أصحابهم وغيرهم، وأئمة التفسير، وأئمة اللغة، وأئمة النحو، وأئمة الفقه، وسادات الصوفية، وشعراء الجاهلية والإسلام، ممَّا في بعضه كفاية لمن أراد الله هدايته». وفي قوله (ص 890): «وهذه النقول التي حكيناها قليلٌ من كثيرٍ، وقد ذكرنا أضعاف أضعافها في كتاب «اجتماع العساكر الإسلامية على غزو الفرقة الجهمية». وهذه الأقوال في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 162 – 510).
2 – «حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح» في قوله (ص 915): «وقد ذكرنا في كتاب «صفة الجنة» أربعين دليلًا على مسألة الرُّؤية من الكتاب والسُّنَّة». وهي في «حادي الأرواح» (2/ 605 – 714).
3 – «مفتاح دار السعادة» في قوله (ص 1025 – 1026): «وعلى هذا
(المقدمة/7)
الأصل تنشأ مسألة التحسين والتقبيح، وقد ذكرناها مستوفاةً في كتاب «المفتاح» وذكرنا على صحتها فوق الخمسين دليلًا». وهي في «مفتاح دار السعادة» (2/ 875 – 891).
الثاني: ما في ثنايا الكتاب من نقل الإمام ابن القيِّم عن شيوخه المعروفين:
فقد ذكر ابن القيِّم في كتابه هذا اثنين من شيوخه المشهورين، هما:
1 – شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية (ت 728 هـ).
ذكره في غير موضع وكان به حفيًّا.
2 – الشيخ عبد الله بن عبد الحليم ابن تيمية (ت 727 هـ) (1).
ذكر ابن القيم (ص 131) مناظرة وقال: «حدثني بمضمونها شيخُنا عبد الله ابن تيمية – رحمه الله -».
الثالث: اختيارات ابن القيِّم المشهورة وإحالاته على أبحاثه عنها، منها:
1 – مسألة دخول الكفّارة في الحلف بالطلاق وكون الثلاث في كلمةٍ واحدةٍ واحدةً، قال (ص 335): «فالذي يَجزِم به أن دخول الكفارة في الحلف بالطلاق وكون الثلاث في كلمةٍ واحدةٍ واحدةً أحد الوجهين في مذهب أحمد، وهو مخرَّج على أصوله أصحَّ تخريج، والغرض نقض قول مَن ادعى الإجماع في ذلك، ولتقرير هذه المسألة موضع آخر». وينظر: «زاد المعاد» (5/ 344 – 383) و «إغاثة اللهفان» (1/ 499 – 569) و «بدائع الفوائد» (3/ 31 – 38). ولقد نصر الإمام ابن القيم هذه المسألة وأُوذي بسببها كما
_________
(1) ترجمته في: «المعجم المختص بالمحدثين» للذهبي (ص 121) و «أعيان العصر» للصفدي (2/ 692) و «ذيل طبقات الحنابلة» لابن رجب (4/ 477).
(المقدمة/8)
هو معلوم.
2 – مسألة طلاق الحائض، لما ذكر حديث عبد الله بن عمر طلَّق امرأته وهي حائض، قال (ص 340): «والكلام على هذا الحديث وعلى الحديث الآخر: «أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ» وبيان عدم التعارض بينهما له موضعٌ آخَرُ». وقد تكلم الإمام ابن القيم – رحمه الله – على هذه المسألة بتوسُّع في «تهذيب السنن» (1/ 483 – 516) وختمها بقوله: «وقد أفردت لهذه المسألة مصنَّفًا مستقلًّا، ذَكَرتُ فيه مذاهب الناس ومآخذهم، وترجيح القول الراجح، والجواب عمَّا احتجَّ به أصحاب القول الآخر».
3 – مسألة نكاح المحلل، قال (ص 299): «وغير ذلك من الوجوه التي أَفهَمَتْ منها الآية بطلانَ نكاح المحلِّل، وهي عشرة، قد ذكرناها في موضع آخر». وينظر عن نكاح المحلل «زاد المعاد» (5/ 154 – 157) و «إغاثة اللهفان» (1/ 473 – 495).
الرابع: أسلوب الإمام ابن القيِّم الذي لا يخطئه من يعرفه.
أسلوب يمتاز بعذوبة اللفظ، وسلاسة العبارة، وحُسن التقسيم، مع الإحاطة بأطراف المسائل وكثرة الاستشهاد بالكتاب والسُّنة وآثار السلف، فتأتي كتبه في غاية القوة مع الإنصاف وحُسن العبارة؛ قال الشوكاني في «البدر الطالع» (2/ 144 – 145): «وله من حُسن التَّصرف مع العذوبة الزَّائدة، وحُسن السِّياق ما لا يقدر عليه غالب المصنِّفين، بحيث تعشق الأفهام كلامه، وتميل إليه الأذهان، وتحبُّه القلوب، وليس له على غير الدَّليل معوَّل في الغالب … وغالب أبحاثه الإنصاف والميل مع الدَّليل حيث مال، وعدم التَّعويل على القيل والقال، وإذا استوعب الكلام في بحثٍ وطوَّل ذيوله أتى
(المقدمة/9)
بما لم يأت به غيره، وساق ما ينشرح له صدور الرَّاغبين في أخذ مذاهبهم عن الدَّليل».
وأمَّا الأدلة الخارجية فكثيرة، منها:
الأول: أن الإمام ابن القيِّم نفسه أحال عليه في عدة كتبٍ من كتبه المشهورة:
منها: قوله في «مدارج السالكين» (4/ 306): «وكذلك كان تأويل آيات الصفات وأحاديثها بما يخرجها عن حقائقها من جنس تأويل آيات المعاد وأخباره، بل أبعد منه لوجوهٍ كثيرةٍ، ذكرتها في كتاب «الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة».
ومنها: قوله في «إغاثة اللهفان» (2/ 526): «وقد دل على هذا نسبة الله سبحانه ذلك الكيد إلى نفسه بقوله: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ اِلْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اَللَّهُ} [يوسف: 76] وهو سبحانه ينسب إلى نفسه أحسن هذه المعاني، وما هو منها حكمة وحق وصواب، وجزاء للمسيء، وذلك غاية العدل والحق … كما قد بسطنا هذا المعنى واستوفينا عليه الكلام في كتاب «الصواعق».
ومنها: قوله في «الكافية الشافية» (ص 517):
عشرون وجهًا تبطل التأويل باسـ … ـتولى ف لا تخرج عن القرآن
قد أفردت بمصنف هو عندنا … تصنيف حبر عالم رباني
ولقد ذكرنا أربعين طريقة … قد أبطلت هذا بحسن بيان
هي في «الصواعق» إن ترد تحقيقها … لا تختفي إ لا على العميان
(المقدمة/10)
الثاني: وجود «مختصر الصواعق» للإمام محمد الموصلي تلميذ مصنِّفه.
وهو مختصرٌ نافعٌ جدًّا، مشهور مطبوع عدة طبعات، وهو مختصر يحافظ على عبارة المصنِّف غالبًا، وسيأتي الكلام عليه.
وكذلك وجود «مختصر الصواعق» للشيخ محمد بن عبد الوهاب.
الثالث: نقل أهل العلم عن «الصواعق».
للأسف لم أقف على نقول كثيرة من «الصواعق»، وممَّن وقفت على نقله عنه: الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب في «فتح المجيد» (ص 56 – 57) وفي «كشف ما ألقاه إبليس من البهرج والتلبيس على قلب داود بن جرجيس» (ص 144 – 146، 149 – 152) والشيخ سليمان بن سحمان في «إقامة الحجة والدليل وإيضاح المحجة والسبيل» (ص 48 – 49).
الرابع: نسب «الصواعق» إلى الإمام ابن القيِّم جماعةٌ كثيرةٌ من أهل العلم.
منهم: شهاب الدِّين ابن رجب في «معجم شيوخه» -كما في «المنتقى من معجم شيوخ ابن رجب» (ص 101) – وابنه زين الدِّين ابن رجب في «ذيل طبقات الحنابلة» (5/ 175) وابن حجر في «الدُّرر الكامنة» (3/ 402) والعليمي في «الدُّر المنضد» (2/ 522) وفي «المنهج الأحمد» (5/ 94) والدَّاودي في «طبقات المفسرين» (2/ 96) وحاجي خليفة في «سلم الوصول» (3/ 62) وفي «كشف الظنون» (2/ 1083) وابن العماد في «شذرات الذهب» (8/ 290) والشَّوكاني في «البدر الطَّالع» (2/ 144) وابن
(المقدمة/11)
بدران في «منادمة الأطلال» (ص 241) وصدِّيق حسن خان في «التَّاج المكلَّل» (ص 411) وفي «أبجد العلوم» (3/ 140) وإسماعيل البغدادي في «هدية العارفين» (2/ 158 – 159) والشَّطي في «مختصر طبقات الحنابلة» (69) والآلوسي في «جلاء العينينِ» (ص 49 – 51) والزِّركلي في «الأعلام» (6/ 56) وكحالة في «معجم المؤلفين» (3/ 165) وغيرهم.
كل هذا يجعلنا لا نرتاب في صحة نسبة «الصواعق المرسلة» إلى الإمام ابن القيِّم.
* * * * *
(المقدمة/12)
(2) عنوان الكتاب
اختلف عنوان الكتاب في المخطوطات والمصادر اختلافًا يسيرًا، بيانه أن العنوان قد ذُكر على أوجه:
الأول: «الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة».
كذا سمَّاه الإمام ابن القيِّم نفسه في «مدارج السالكين» (4/ 306).
وكذا سمَّاه محمد بن الموصلي في أول «مختصره» (1/ 3).
وكذا سمَّاه ابن حجر في «الدُّرر الكامنة» (3/ 403) وابن العماد في «شذرات الذهب» (8/ 290) وحاجي خليفة في «كشف الظنون» (2/ 1083) والشَّوكاني في «البدر الطَّالع» (2/ 144) وصدِّيق حسن خان في «التَّاج المكلَّل» (ص 411) والآلوسي في «جلاء العينينِ» (ص 49 – 51) والزِّركلي في «الأعلام» (6/ 56) وغيرهم.
ووقع في «هدية العارفين» (2/ 159): «الصَّواعق المرسلة على الجهميَّة المعطِّلة». بغير واو.
الثاني: «الصَّواعق المرسلة على المعطِّلة».
كذا سمَّاه شهاب الدِّين ابن رجب في «معجم شيوخه»، كما في «المنتقى منه (ص 101).
الثالث: «الصَّواعق المنزلة على الجهمية والمعطِّلة».
كذا سمَّاه زين الدِّين ابن رجب في «ذيل طبقات الحنابلة» (5/ 175): والعليمي في «الدُّر المنضد» (2/ 522) و «المنهج الأحمد» (5/ 94)
(المقدمة/13)
والدَّاودي في «طبقات المفسرين» (2/ 96) وابن بدران في «منادمة الأطلال» (ص 241) وصدِّيق حسن خان في «أبجد العلوم» (3/ 140) والشَّطي في «مختصر طبقات الحنابلة» (69) وكحالة في «معجم المؤلفين» (3/ 165).
الرابع: «الصَّواعق المرسلة على فرق المعتزلة والجهميَّة المعطِّلة».
كذا جاء عنوان الكتاب في مخطوطة برلين، وكتب على حاشيته: ويقال: «الصواعق المرسلة على فرق البدع المتأولة».
الخامس: «الصَّواعق المنزلة على الطائفة الجهمية والمعطِّلة».
كذا جاء عنوان الكتاب في مخطوطة حلب، وكذا سمَّاه كحالة في «معجم المؤلفين» (3/ 165).
وقد رأيت أن العنوان الأول أوثق وأشهر وأكثر ورودًا في المصادر؛ فأثبته.
* * * * *
(المقدمة/14)
(3) حجم الكتاب
اختلفت المصادر في تحديد حجم الكتاب، وعدد مجلداته، على أوجهٍ:
الأول: أنه في مجلدات.
كذا قال كلٌّ من: شهاب الدِّين ابن رجب في «معجم شيوخه» ـ كما في «المنتقى منه» (ص 101) ـ وابنه زين الدِّين ابن رجب في «ذيل طبقات الحنابلة» (5/ 175)، والعليمي في «الدُّر المنضد» (2/ 522)، وفي «المنهج الأحمد» (5/ 94)، وصدِّيق حسن خان في «التَّاج المكلَّل» (ص 411) و «أبجد العلوم» (3/ 140)، والشَّطي في «مختصر طبقات الحنابلة» (69).
الثاني: أنه في مجلدين.
كذا قال ابن العماد في «شذرات الذهب» (8/ 290)، وابن بدران في «منادمة الأطلال» (ص 241).
الثالث: أنه في مجلد.
كذا قال الدَّاودي في «طبقات المفسرين» (2/ 96).
وحجم المجلدات يختلف باختلاف عدد أوراقها وعدد الأسطر ومقاس الورق وحجم الخط وطريقة الكتابة، فمثلًا «صحيح البخاري» مخطوطاته لا تُحصى، فنجد نسخةً تامةً في مجلدٍ واحدٍ، ونسخة في مجلدين، وثلاثة، إلى ثلاثين مجلدًا.
ولا شك أن كتاب «الصواعق المرسلة» كبير الحجم، فهو أكبر من مجلدٍ بالحجم المعتاد، فربما يقع في مجلدين كبار أو في مجلدات، فالقدر الذي وقفنا عليه يقع في نسخة حلب في 137 ورقة مسطرتها 35 سطرًا، وقد
(المقدمة/15)
تبين أن أصلها كان في مجلدين، فقد وجدت على حاشية الورقة 92 من هذه النسخة: «مطلب أول الجزء الثاني».
ووجدت المؤرخ إبراهيم بن صالح بن عيسى النجدي يقول في رسالة للشيخ عبد الله بن خلف الدحيان: «ومن طرف المجلد الذي ذكرنا لجنابكم عنه أنه خرج من أيدينا، الذي هو من «الصواعق»، فهو مجلد قطع الربع لطيف، وخطه وسط، ولا عليه تصحيحات، وهو المجلد الأول، ولا بعد وقفت على «الصواعق» بكاملها، ولا رأيت غير المجلد المذكور منها، ولا أدري كم هي من مجلد؟ والتراجم التي عندي لابن القيم إذا ذُكرت فيها مصنَّفاته قالوا: وله كتاب «الصواعق» مجلدات» (1).
* * * * *
_________
(1) «مجموع رسائل وإجازات ونظم الشيخ المؤرخ النسابة إبراهيم بن صالح بن عيسى» (ص 16).
(المقدمة/16)
(4) عرض موجز لموضوعات الكتاب
بدأه الإمام ابن القيِّم بمقدمةٍ رائقةٍ حمد الله تعالى فيها، وشهد لله تعالى بالوحدانية، وأنه موصوف بصفات الجلال، ومنعوت بنعوت الكمال، وشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، وحُجته على عباده، بعثه اللهُ وأهلُ الأرض أحوجُ إلى رسالته من غيث السماء، ومن نور الشمس الذي يُذهِب عنهم حَنَادِسَ الظَّلماء، فحاجتهم إلى رسالته فوق جميع الحاجات، وضرورتهم إليها مقدَّمة على جميع الضرورات؛ فإنه لا حياةَ للقلوب ولا نعيم ولا لذة ولا سرور ولا أمان ولا طمأنينة إلَّا بأن تَعْرِفَ ربها ومعبودها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويكون أحبَّ إليها ممَّا سواه، ويكون سعيُها في ما يقرِّبها إليه ويُدنِيها من مرضاته، ومن المحال أن تستقل العقول البشرية بمعرفة ذلك وإدراكه على التفصيل؛ فأساسُ دعوة الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- معرفةُ الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله.
ثم ختمها بسؤال نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو: «كيف يكون هؤلاء المحجوبون المنقوصون الحيارى المتهوِّكون أعلمَ بالله وصفاته وأسمائه وآياته من السابقين الأوَّلِين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ورثةِ الأنبياء وخلفاءِ الرُّسل، ومصابيح الدُّجى وأعلام الهُدى، الذين بهم قام الكتابُ وبه قاموا، وبهم نطق الكتابُ وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، وأحاطوا من حقائق المعارف بما لو جُمعت حكمةُ مَن عداهم وعلومهم إليه لاستحى مَن يطلب المقابلة! ثم كيف يكون أفراخُ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان
(المقدمة/17)
وورثة المجوس والمشركين وضُلَّال الصابئين وأشباههم وأشكالهم أعلمَ بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان!».
وجعل ابنُ القيِّم الكتابَ كلَّه جوابًا على هذا السؤال، فقال: «إنما يتبيَّنُ حقيقةُ الجواب بفصول».
ثم ذكر فصول الكتاب، وعددها أربعة وعشرون فصلًا، متفاوتة الحجم، فيقع بعضها في صفحتين أو صفحات قليلة، ويقع بعضها في عشرات الصفحات، ويقع الفصل الرابع والعشرون منها في مئات الصفحات.
وهذا عرضٌ موجزٌ لفصول الكتاب وموضوعاتها الرئيسة:
الفصل الأول: في معرفة حقيقة التأويل ومسمَّاه لغةً واصطلاحًا.
التأويل هو تفسيرُ ما يؤولُ إليه الشيءُ، ثم تُسمَّى العاقبة تأويلًا، وتُسمَّى حقيقة الشيء المخبَر به تأويلًا، ويُسمَّى تعبيرُ الرؤيا تأويلًا بالاعتبارين؛ فإنه تفسيرٌ لها، وهو عاقبتها وما تؤول إليه، وتُسمَّى العِلة الغائية والحكمة المطلوبة بالفعل تأويلًا؛ لأنها بيانٌ لمقصود الفاعل وغرضه من الفعل الذي لم يعرف الرائي له غرضَه به.
والتأويل في اصطلاح أهل التفسير والسلف من أهل الفقه والحديث مرادهم به معنى التفسير والبيان، وأمَّا المعتزلة والجهمية وغيرهم من فرق المتكلمين فمرادهم بالتأويل: صرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه وما يخالف ظاهرَه.
الفصل الثاني: وهو انقسام التأويل إلى صحيح وباطل.
التأويل الصحيح هو الذي يُوافق ما دلَّت عليه النصوص، وجاءت به
(المقدمة/18)
السُّنَّة ويطابقها. والتأويل الفاسد هو الذي يُخالف ما دلَّت عليه النصوصُ وجاءت به السُّنَّة، ولا فرقَ بين باب الخبر والأمر في ذلك. وكل تأويلٍ وافق ما جاء به الرسول فهو المقبول، وما خالفه فهو المردود.
ثم قسم التأويل الباطل إلى عشرة أنواعٍ، ثم قال: «فهذه بعض الوجوه التي يُفَرَّقُ بها بين التأويل الصحيح والباطل».
الفصل الثالث: في أنَّ التأويل إخبارٌ عن مراد المتكلم لا إنشاء.
المقصود فَهْمُ مراد المتكلم بكلامه، فإذا قيل معنى اللفظ كذا وكذا، كان إخبارًا بالذي عَنَاه المتكلم، فإن لم يكن هذا الخبرُ مطابقًا كان كذبًا على المتكلم، فالحملُ إمَّا إخبارٌ عن المتكلم بأنه أراد ذلك المعنى، فهذا الخبر إمَّا صادقٌ إن كان ذلك المعنى هو المفهوم من لفظ المتكلم، وإمَّا كاذبٌ إن كان لفظُه لم يدلَّ عليه، وإمَّا إنشاءٌ لاستعمال ذلك اللفظ في هذا المعنى، وهذا إنما يكون في كلام تُنشِئه أنت، لا في كلام الغير.
الفصل الرابع: في الفرق بين تأويل الخبر وتأويل الطلب.
المقصود من تأويل الخبر هو تصديق مُخبِره، ومن تأويل الطلب هو امتثاله، وكل تأويلٍ يعود على المخبر بالتعطيل وعلى الطلب بالمخالفة تأويل باطل.
الفصل الخامس: في الفرق بين تأويل التحريف وتأويل التفسير وأن الأول ممتنعٌ وقوعُه في الخبر والطلب والثاني يقع فيهما.
التفسير هو: إبانة المعنى وإيضاحه، والتحريف: العدول بالكلام عن وجهه وصوابِه إلى غيره. وهو نوعان: تحريفُ لفظه، وتحريفُ معناه.
(المقدمة/19)
والتأويل يتجاذبه أصلانِ: التفسير والتحريف، فتأويل التفسير هو الحق، وتأويل التحريف هو الباطل. فالتأويل الباطل هو إلحادٌ وتحريفٌ، وإن سمَّاه أصحابُه تحقيقًا وعرفانًا وتأويلًا.
الفصل السادس: في تعجيز المتأولين عن تحقيق الفرق بين ما يسوغ تأويلُه من آيات الصِّفات وأحاديثها وما لا يسوغ.
حقيقة الأمر أن كل طائفةٍ تتأوَّل ما يخالف نِحْلتَها ومذهبَها، فالعيارُ على ما يُتأوَّل وما لا يُتأوَّل هو المذهبُ الذي ذهبتْ إليه والقواعد التي أصَّلَتْها، فما وافقها أقرُّوه ولم يتأوَّلوه، وما خالفها فإن أمكنهم دفعُه، وإلَّا تأوَّلوه.
وكلٌّ مِن هؤلاء يتأول دليلًا سمعيًّا، ويُقِرُّ على ظاهره نظيرَه أو ما هو أشد قبولًا للتأويل منه؛ لأنه ليس عندهم في نفس الأمر ضابطٌ كُلي مطَّرِد منعكس، يُفرَّق به بين ما يُتأوَّل وما لا يُتأوَّل، إن هو إلَّا المذهب وقواعده وما قاله الشيوخ. وهؤلاء لا يمكن أحدًا منهم أن يحتج على مبطِلٍ بحُجةٍ سمعيةٍ؛ لأنه يسلك في تأويلها نظير ما سلكَه هو في تأويل ما خالف مذهبَه.
الفصل السابع: في إلزامهم في المعنى الذي جعلوه تأويلًا نظير ما فروا منه.
هذا فصلٌ بديعٌ لمن تأمله، يعلم به أن المتأوِّلين لم يستفيدوا بتأويلهم إلَّا تعطيلَ حقائق النصوص والتلاعب بها وانتهاك حرمتها، وأنهم لم يتخلصوا ممَّا ظنُّوه محذورًا، بل هو لازمٌ لهم فيما فرُّوا إليه كلزومه فيما فرُّوا منه. بل قد يقعون فيما هو أعظمُ محذورًا، والمقصود أن المتأول يفر من أمرٍ، فيقع في نظيره.
(المقدمة/20)
فهلَّا أقرَّ النصوص على ما هي عليه، ولم ينتهك حُرمتَها؛ إذ كان التأويل لا يُخرِجه ممَّا فرَّ منه، فإن المتأول إمَّا أن يذكر معنًى ثبوتيًّا، أو يتأوَّل اللفظ بما هو عدمٌ محضٌ، فإنْ تأوَّله بمعنى ثبوتي كائنًا ما كان لزمه فيه نظيرُ ما فرَّ منه. فهو في تأويله بين التعطيل والتشبيه مع جِنايته على النَّص وانتهاكه حُرمته، فهلَّا عظَّم قَدْره، وحفظ حرمتَه، وأقرّه وأمرّه مع نفي التشبيه والتخلص من التعطيل!
الفصل الثامن: في بيان خطئهم في فهمهم من النصوص المعانيَ الباطلةَ التي تأوَّلوها لأجلها فجمعوا بين التشبيه والتعطيل.
هذا الفصل في الكشف عن عجيب أمر المتأوِّلين، فإنهم فهموا من النصوص الباطلَ الذي لا يجوز إرادتُه، ثم أخرجوها عن معناها الحقِّ المراد منها، فأساؤوا الظنَّ بها وبالمتكلِّم بها، وعطَّلوها عن حقائقها التي هي عين كمال الموصوف بها.
فانظر إلى أقبح التشبيه والتمثيل الذي ادَّعوا أنه ظاهر النصوص، وإلى التعطيل الذي سطَوْا به عليها وسمَّوْه تأويلًا! فصحَّ أنهم جمعوا بين فَهْم التشبيه منها، واعتقاد التعطيل، ونسبة قائلها إلى قصد ما يضاد البيان والإرشاد.
الفصل التاسع: في الوظائف الواجبة على المتأوِّل التي لا يُقبل منه تأويله إلَّا بها.
عليه أربعة أمورٍ لا يتم له دعواه إلَّا بها:
الأمر الأول: بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي تأوَّله في ذلك التركيب الذي وقع فيه، وإلَّا كان كاذبًا على اللغة مُنشِئًا وضعًا مِن عنده.
(المقدمة/21)
الثاني: بيان تعيين ذلك المعنى؛ فإنه إذا أُخرج عن حقيقته قد يكون له معانٍ، فتعيين ذلك المعنى يحتاج إلى دليل.
الثالث: إقامة الدليل الصارِف للفظ عن حقيقته وظاهره، فلا يجوز العدول عنه إلَّا بدليلٍ صارفٍ يكون أقوى منه.
الرابع: الجواب عن المعارض، فإن مُدَّعي الحقيقة قد أقام الدليل العقلي والسمعي على إرادة الحقيقة.
الفصل العاشر في أن التأويل شرٌّ من التعطيل فإنه يتضمن التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص وإساءة الظن بها.
فإن المُعطِّل والمؤوِّل قد اشتركا في نفي حقائق الأسماء والصِّفات، وامتاز المُؤوِّل بتلاعبه بالنصوص وانتهاكه لحُرمتها وإساءة الظن بها، ونسبة قائلها إلى التكلم بما ظاهرُه الضلال والإضلال، فجمعوا بين أربعة محاذير:
المحذور الأول: اعتقادهم أن ظاهر كلام الله ورسوله المُحال الباطل، ففهموا التشبيه أولًا.
ثم انتقلوا عنه إلى المحذور الثاني وهو: التعطيل، فعطلوا حقائقها بناءً منهم على ذلك الفهم الذي يليق بهم، ولا يليق بالرَّبِّ جل جلاله.
المحذور الثالث: نسبة المتكلِّم، الكاملِ العلمِ، الكاملِ البيانِ، التامِّ النصحِ إلى ضد البيان والهدى والإرشاد، وأن المتحيِّرين المتهوِّكين أجادوا العبارة في هذا الباب، وعبَّرُوا بعبارةٍ لا تُوهِم من الباطل ما أوهمتْه عبارة المتكلم بتلك النصوص. ولا ريب عند كل عاقلٍ أن ذلك يتضمن أنهم كانوا أعلمَ منه أو أفصحَ أو أنصحَ للناس.
(المقدمة/22)
المحذور الرابع: تلاعُبهم بالنصوص وانتهاك حرماتها.
الفصل الحادي عشر: في أن قصْدَ المتكلم من المخاطب حملَ كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته ينافي قصدَ البيان والإرشاد والهدى، وأن القصدين يتنافيان، وأنَّ تركَه بدون ذلك الخطاب خيرٌ له وأقرب إلى الهدى.
لو أراد اللهُ ورسوله من كلامه خلافَ حقيقته وظاهره الذي يفهمه المخاطب لَكان قد كلَّفه أن يفهم مراده بما لا يدل عليه، بل بما يدل على نقيض مراده، وأراد منه فَهْمَ النفي بما يدل على غاية الإثبات، وفَهْمَ الشيء بما يدل على ضدِّه.
الفصل الثاني عشر: في بيان أنه مع كمال عِلم المتكلم وفصاحته وبيانه ونصحه يمتنع عليه أن يريد بكلامه خلافَ ظاهره وحقيقته وعدمُ البيان في أهم الأمور وما تشتد الحاجة إلى بيانه
اكتفى من هذا الفصل بذِكْر مناظرةٍ جرَتْ بين جهميٍّ معطِّلٍ وسُنِّيٍّ مُثبِتٍ.
الفصل الثالث عشر: في بيان أن تيسير القرآن للذكر يُنافي حملَه على التأويل المخالف لحقيقته
لا تجد كلامًا أحسن تفسيرًا ولا أتمَّ بيانًا من كلام الله سبحانه، ولهذا سمَّاه سبحانه بيانًا، وأخبر أنه يسَّره للذِّكر. وتيسيرُه للذكر يتضمن: تيسير ألفاظه للحفظ، وتيسير معانيه للفهم، وتيسير أوامره ونواهيه للامتثال.
ومعلوم أنه لو كان بألفاظٍ لا يفهمها المخاطب لم يكن مُيسَّرًا له، بل كان مُعسَّرًا عليه. فهكذا إذا أُريدَ مِن المخاطب أن يفهم من ألفاظه ما لا يدل
(المقدمة/23)
عليه من المعاني، أو يدل على خلافه، فهذا من أشد التعسير، وهو منافٍ للتيسير.
الفصل الرابع عشر في أن التأويل يعود على المقصود من وضع اللغات بالإبطال.
المقصود أن العبد لا يعلم ما في ضمير صاحبه إلَّا بالألفاظ الدالة على ذلك، فإذا حمل السامعُ كلامَ المتكلم على خلاف ما وُضع له وخلاف ما يُفهم منه عند التخاطب عاد على مقصود اللغات بالإبطال، ولم يحصل مقصود المتكلم، ولا مصلحة المخاطَب، وكان ذلك أقبحَ من تعطيل اللسان عن كلامه، ولهذا كان التأويل الباطل فتحًا لباب الزندقة والإلحاد، وتطريقًا لأعداء الدِّين على نقضه.
الفصل الخامس عشر: في جنايات التأويل على أديان الرُّسل وأن خراب العالم وفساد الدنيا والدِّين بسبب فتح باب التأويل.
الآفات التي جَنَتْها ويجنيها كل وقتٍ أصحابُها على الملة والأُمة من التأويلات الفاسدة أكثرُ من أن تُحصَى أو يبلغها وصفُ واصفٍ، أو يحيط بها ذِكْر ذاكرٍ، ولكنها في جملة القول أصل كل فسادٍ وفتنةٍ، وأساس كل ضلالٍ وبدعةٍ، والمولِّدة لكل اختلافٍ وفُرقةٍ، والناتِجة أسبابَ كلِّ تباينٍ وعداوةٍ وبغضة.
الفصل السادس عشر: في بيان ما يقبل التأويلَ من الكلام وما لا يقبله.
المقصود أن الكلام الذي هو عرضة التأويل أن يكون له عدة معانٍ، وليس معه ما يبيِّن مراد المتكلم، فهذا للتأويل فيه مجالٌ واسعٌ، وليس في كلام الله ورسوله من هذا النوع شيءٌ من الجُمَل المركبة، وإنْ وقَعَ في
(المقدمة/24)
الحروف المفتتَح بها السورُ.
الفصل السابع عشر: في أن التأويل يُفسِد العلوم كلها إنْ سُلِّط عليها ويرفع الثقة بالكلام ولا يمكن أُمةً من الأمم أن تعيش عليه.
معلومٌ أن العلوم إنما قصد بها مصنِّفوها بيانَها وإيضاحها للمتعلمين، وتفهيمهم إياها بأقربِ ما يَقْدِرون عليه من الطرق. فإن سُلِّط التأويل على ألفاظهم، وحملها على غير ظواهرها، لم يُنتفَع بها وفسدت، وعاد ذلك على موضوعها ومقصودها بالإبطال.
فكيف يُسلَّط التأويلُ على كلام مَن لا يجوز عليه الخطأ والغلط والتناقض وضد البيان والإرشاد؟! هذا مع كمال علمه، وكمال قدرته على أعلى أنواع البيان، وكمال نُصحِه وهُداه وإحسانه، وقصده الإفهامَ والبيانَ لا التعميةَ والإلغاز.
فصل: في بيان أنه إنْ سُلِّط على آيات التوحيد القولي العلمي وأخباره لزم تسليطُه على آيات التوحيد العملي وأخباره وفسد التوحيد معرفةً وقصدًا.
إنْ سُلِّط التأويل على التوحيد الخبري العلمي كان تسليطه على التوحيد العملي القصدي أسهلَ، وانمحت رسوم التوحيد، وقامت معالم التعطيل والشرك. ولهذا كان الشرك والتعطيل متلازمينِ، لا ينفك أحدهما عن صاحبه.
الفصل الثامن عشر: في انقسام الناس في نصوص الوحي إلى أصحاب تأويلٍ وأصحاب تخييلٍ وأصحاب تجهيلٍ وأصحاب تمثيلٍ وأصحاب سواء السبيل.
هذه خمسة أصناف انقسم الناس إليها في هذا الباب بحسب اعتقادهم ما
(المقدمة/25)
أُريدَ بالنصوص، ثم بيَّن الإمام ابن القيِّم هذه الأصناف، وختم الفصل بقوله: «فقاتَلَ اللهُ أصحابَ التحريف والتأويل، وأصحابَ التخييل، وأصحاب التجهيل، وأصحاب التشبيه والتمثيل. ماذا حُرِمُوه من الحقائق الإيمانية والمعارف الإلهية، وماذا تعوضوا به من زُبالة الأذهان ونُخالة الأفكار! فما أشبَهَهم بمن كان غذاؤهم المَنَّ والسَّلْوى بلا تعبٍ ولا كُلْفةٍ، فآثَروا عليه الفُومَ والعدس والبصل، وقد جرت عادةُ الله سبحانه أن يُذِلَّ مَن آثَرَ الأدنى على الأعلى، ويجعله عبرةً للعقلاء».
الفصل التاسع عشر: في الأسباب التي تسهل على النفوس الجاهلة قبول التأويل مع مخالفته للبيان الذي علَّمه الله الإنسان وفَطَره على قبوله.
التأويل يجري مَجرى مخالفة الطبيعة الإنسانية والفطرة التي فُطر عليها العبد، فإنه ردُّ الفهم من جريانه مع الأمر المعتاد المألوف إلى الأمر الذي لم يُعهَد ولم يُؤلف. وما كان هذا سبيلَه فإن الطباع السليمة لا تتقاضاه بل تنفر منه وتأباه، فلذلك وضع له أربابُه أصولًا ومهَّدوا له أسبابًا تدعو إلى قبوله، وهي أنواع. ثم ذكر منها ستة أنواع.
الفصل العشرون: في بيان أن أهل التأويل لا يمكنهم إقامة الدليل السمعي على مبطل أبدًا.
قال فيه: «من المعلوم أن كل مبطلٍ أنكر على خصمه شيئًا من الباطل قد شاركه في بعضه أو في نظيره، فإنه لا يتمكن مِن دحْضِ حُجته وكسرِ باطله؛ لأن خصمه تسلَّط عليه بمثل ما تسلط هو به عليه». ثم بيَّن ذلك، وذكر كثيرًا من حجج القرآن، وأشار أن مقصوده بيان أن القرآن متضمِّنٌ للأدلة العقلية والبراهين القطعية التي لا مطمعَ في التشكيك والأَسْوِلة عليها إلَّا لمعاندٍ مكابرٍ.
(المقدمة/26)
الفصل الحادي والعشرون: في الأسباب الجالبة للتأويل.
وهي أربعة أسباب: نقصان بيان المتكلم، وسوء قَصْده. وسوء فهم السامع، وسوء قَصْده. ودرجات الفهم متفاوتة في الناس أعظم تفاوتٍ، فإنَّ قُوى الأذهان كقوى الأبدان، والناس متفاوتون في هذا وهذا تفاوُتًا لا ينضبط.
الفصل الثاني والعشرون: في أنواع الاختلاف الناشئة عن التأويل وانقسام الاختلاف إلى محمود ومذموم.
تكلم فيه عن نوعي الاختلاف في كتاب الله.
الفصل الثالث والعشرون: في أسباب الخلاف الواقع بين الأئمة بعد اتفاقهم على أصلٍ واحدٍ وتحاكمهم إليه وهو كتاب الله وسُنَّة رسوله.
نقل فيه عن أبي محمد بن حزم، ثم نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية أسباب الاختلاف وهذَّبها وزادها إيضاحًا وبيانًا، وهذا الفصل حقيق أن يُفرد بالطباعة ليعم النفع به، وهو يتكلم عن أسباب الخلاف في الفروع لذلك يبدو لي أن الأنسب له كتاب «أعلام الموقعين» أو كتاب «بدائع الفوائد».
الفصل الرابع والعشرون: في ذكر الطواغيت الأربع التي هدم بها أصحابُ التأويل الباطل معاقلَ الدِّين، وانتهكوا بها حُرمة القرآن، ومحَوْا بها رُسومَ الإيمان، وهي:
قولهم: إنَّ كلام الله وكلام رسوله أدلةٌ لفظية لا تفيد علمًا ولا يحصل منها يقين.
وقولهم: إنَّ آيات الصِّفات وأحاديث الصِّفات مجازاتٌ لا حقيقة لها.
(المقدمة/27)
وقولهم: إنَّ أخبار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الصحيحة لا تفيد العلم، وغايتها أن تفيد الظن.
وقولهم: إذا تعارَضَ العقلُ ونصوصُ الوحي أخذنا بالعقل ولم نلتفت إلى الوحي (1).
وهذا الفصل هو بيت القصيد وغاية المريد من الكتاب، وكل ما قبله تمهيد له.
قال المصنِّف: «فهذه الطَّواغيت الأربع هي التي فعلتْ بالإسلام ما فعلتْ، وهي التي مَحَتْ رُسُومَه، وأزالتْ مَعالِمَه، وهدمتْ قواعِدَه، وأسقطتْ حُرمةَ النُّصوص من القلوب، ونهجتْ طريق الطَّعن فيها لكل زنديقٍ ومُلحِدٍ، فلا يحتجُّ عليه المحتجُّ بحجَّة من كتاب الله أو سُنَّة رسوله إلَّا لجأ إلى طاغوتٍ من هذه الطَّواغيت واعتصم به، واتخذه جُنَّةً يصدُّ به عن سبيل الله.
والله تعالى بحوله وقُوَّته ومنِّه وفضله قد كسر هذه الطَّواغيت طاغوتًا طاغوتًا على أَلسنة خُلفاء رُسُله وورثة أنبيائه، فلم يَزَلْ أنصار الله ورسوله يَصيحون بأهلها من أقطار الأرض، ويرجمونهم بشُهُب الوحي، وأدلة المعقول، ونحن نُفرِد الكلام عليها طاغوتًا طاغوتًا».
أمَّا الطَّاغوت الأول: وهو قولهم: «نصوص الوحي أدلةٌ لفظيةٌ، وهي لا تُفيد اليقين». فقد أبطله من ثلاثةٍ وسبعين وجهًا، ولم يترك لهم حجةً ولاشبهةً.
_________
(1) كذا أخَّر ابن القيِّم هذا الطاغوت في مقدمة الفصل، وعند الرد المفصل قدَّمه فعدَّه الطاغوت الثاني، وهو الذي استغرق الرد عليه نحو نصف الموجود من الكتاب.
(المقدمة/28)
وأمَّا الطَّاغوت الثَّاني: وهو قولهم: «إن تعارَضَ العقل والنقل وجب تقديم العقل». فقد انتفع في إبطاله بكتاب شيخه ابن تيمية «درء تعارض العقل والنقل» انتفاعًا كبيرًا، ولم يغفل الإشارة إلى ذلك، بل قال: «وقد أشفى شيخ الإسلام في هذا الباب بما لا مَزِيدَ عليه، وبَيَّنَ بطلانَ هذه الشُّبهة وكَسَّرَ هذا الطَّاغوت في كتابه الكبير، ونحن نشير إلى كلماتٍ يسيرةٍ هي قطرة من بحره، تتضمن كسره ودحضه، وذلك يظهر من وجوهٍ». فذكر مائتين واثنين وأربعين وجهًا حسب ما وُجد من الكتاب، واستغرق نحو ثلثي الموجود من الكتاب.
وينبغي التفطن لموضعين:
الأول: أن في المخطوط (ق 54 ب) انتقل من الوجه السابع والأربعين إلى الوجه الخمسين مباشرة، ولم يذكر الوجهين الثَّامن والأربعين والتَّاسع والأربعين، فإمَّا أن يكون سقط الوجهان الثَّامن والأربعون والتَّاسع والأربعون، أو يكون ترقيم الوجوه خطأً.
والثاني: أن في المخطوط (ق 69 ب) انتقل من الوجه الثاني والسبعين إلى الوجه التاسع والسبعين مباشرة، فلم يذكر من الثالث والسبعين إلى الثامن والسبعين. وكتب الناسخ بحاشية «ح»: «هكذا في الأصل».
فيكون الموجود من أوجه الرد على هذا الطاغوت مائتين وأربعة وثلاثين وجهًا فقط.
فهذا هو القدر الموجود من الكتاب، وبقي ما يتعلق بكسر الطاغوتين الثالث والرابع لم نعثر عليه بعد.
(المقدمة/29)
– مع التنبه إلى أن الإمام ابن القيِّم بدا له في ثنايا الكتاب أن يزيد فصلًا في آخره بعد هذه الفصول الأربعة والعشرين، فقد قال (ص 472): «وسنفرد الكلام على هذا بفصلٍ مستقلٍّ بعد كسر الطواغيت الأربعة التي نصبوها لهدم معاقل الدِّين، ونبيِّن معنى المحكم بمعناه، ونبيِّن أن آيات الصِّفات محكمةٌ فإنها من أبين الكتاب إحكامًا، وأن ما تضمنته من الإحكام أعظم ممَّا تضمنه ما عداها، بعون الله وتوفيقه».
وهذا الفصل لم يُذكر في آخر «مختصر الصواعق» للموصلي، فالله أعلم هل كتبه ابن القيِّم أم لا.
* * * * *
(المقدمة/30)
(5) منهج المؤلف في كتابه
هذه بعض معالم منهجه في الكتاب:
– بنى الكتاب بناءً محكمًا معتمدًا على النبعين الصافيين: القرآن والسُّنة، وقد عاش حياته ناصرًا لهما داعيًا إليهما، واستمع إليه وهو يقول (ص 269): «إذا كان الأصل واحدًا والغاية المطلوبة واحدةً، والطريق المسلوكة واحدةً، لم يكد يقعُ اختلافٌ، وإن وقع كان اختلافًا لا يضر، كما تقدم من اختلاف الصحابة؛ فإن الأصلَ الذي بنوا عليه واحدٌ، وهو كتاب الله وسُنة رسوله، والقصدَ واحدٌ، وهو طاعة الله ورسوله، والطريقَ واحدٌ، وهو النظرُ في أدلة القرآن والسُّنَّة وتقديمها على كل قولٍ ورأيٍ وقياسٍ وذوقٍ وسياسةٍ».
أمَّا القرآن فقد كان يستحضر آياته وقت حاجته إليها كأنها بين عينيه، وقد شحن الكتاب بالآيات البينات، مع تأمله وتدبره في معانيها ومعرفته بالتفسير وعلومه؛ ويراجع فهرس الآيات وفهرس التفسير.
وأمَّا السُّنة فابن القيِّم حافظٌ كبيرٌ؛ ويكفي للدلالة على علو قدره في حفظ الحديث وفهم معانيه شهادة شيخه حافظ الدُّنيا جمال الدِّين المِزِّي؛ قال الحافظ أبو بكر محمد بن المحب: قلت أمام شيخنا المِزِّيِّ: ابن القيِّم في درجة ابن خُزيمة. فقال: «هو في هذا الزَّمان كابن خُزيمة في زمانه» (1). ويظهر حفظه في استحضاره للأحاديث وقت حاجته إليها، وعزوه غالب الأحاديث إلى مصادرها من كتب السُّنة، ومحافظته على لفظ الرواية غالبًا، وانتقائه
_________
(1) نقله ابن ناصر الدِّين في «الرد الوافر» (ص 120).
(المقدمة/31)
لأصح الروايات في الباب، فإن جُلَّ الأحاديث المذكورة في الكتاب للاستدلال أحاديث صحيحة مشهورة، والنزر اليسير المضعف منها هو مع قلته من النوع المتجاذب بين الحفاظ فمنهم من يقويه ومنهم من يضعفه، كحديث الأطيط (1)، وأما النادر الضعيف كحديث: «بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ، فَرَفَعُوا رُؤُوسَهُمْ، فَإِذَا الْجَبَّارُ جَلَّ جَلَالُهُ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ» فهو يذكره للاستشهاد مع الأدلة الأخرى، أو يذكره عرضًا في استطراداته.
وتمكن ابن القيِّم من الكتاب والسُّنة قوَّى حجته وأعانه على الجمع بين الروايات والترجيح بينها وبيان الصحيح منها والسقيم، ودحض شبهات الفرق ورد أباطيلهم، من ذلك:
قوله (ص 500 – 501): «إن المسائل التي يُقال إنه قد تعارَض فيها العقل والسمع ليست من المسائل المعلومة بصريح العقل كمسائل الحساب والهندسة والطبيعيات اليقينية، فلم يجئ في القرآن ولا في السُّنَّة حرفٌ واحدٌ يخالف العقل في هذا الباب. وما جاء من ذلك فهو مكذوبٌ ومفترًى كحديث: «إن الله لمَّا أراد أن يخلق نفسه خَلَقَ خيلًا فأجراها فعَرِقت، فخلق نفسه من ذلك العرق»، وحديث: «نزوله عشية عرفة على جمل أورق يصافح الركبان، ويعانق المشاة».
وقوله (ص 1106 – 1007): «ومن هذا معارضة بعضهم الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تكلم فيها النبي – صلى الله عليه وسلم – بأين الله؟ وسمع السؤال بأين الله؟ وأقرَّ السائل عليه ولم ينكره. كما كفره هؤلاء، فعارضوها كلها بحديثٍ
_________
(1) ينظر تخريجه (ص 994).
(المقدمة/32)
مكذوبٍ موضوعٍ في إسناده من لا يُدرى من أي الدوابِّ هو، كشيحة الذي لا ذكر له في شيءٍ من كتب الحديث، ولعل بعض الوضاعين نسبه إلى واحد الشِّيح. والحديث أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال وقد سُئل أين الله؟ فقال: «لَا يُقَالُ أَيْنَ لِمَنْ أَيَّنَ الْأَيْنَ». فعارض هذا الأحاديث الصحيحة المستفيضة التي نطق فيها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالأين، وأقرَّ على إطلاقها بهذا الحديث الركيك الذي يستحيي من التكلُّم به آحاد الناس، فضلًا عن سيِّد ولد آدم».
وقوله (ص 723): «ولهذا لمَّا علم هؤلاء أنه يستحيل كتمان ذلك عن خواصه وضعوا أحاديث بيَّنوا فيها أنه كان له خطابٌ مع خاصَّته غير الخطاب العامِّي، مثل الحديث المُختلق المُفترى عن عمر أنه قال: «كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يتحدث مع أبي بكر وكنت كالزنجي بينهما».
– وأكثر ابن القيِّم من الاستشهاد بأقوال السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، وقد نقل كثيرًا منها من كتاب «خلق أفعال العباد» للإمام البخاري.
– وكذلك استشهد بكثير من الأشعار، وذكر بعض الأشعار للرد عليها، وكان أحيانا يسمي منشدها، وأحيانًا يغفل ذكره، وقد ترجح لي أن بعض هذه الأشعار للإمام ابن القيِّم نفسه، كما في (ص 372، 617 – 619).
– وجمع ابن القيِّم بين المنقول والمعقول، ممَّا أعانه على تمييز صحيح الأقوال والآراء والمذاهب من ضعيفها وحقها من باطلها، وهذا ظاهر في الكتاب.
– وحرَّر ابن القيم في كل مسألة موضع النزاع وبيَّن معاني المصطلحات المجملة؛ وأظهر ما حوته من المعاني الصحيحة والباطلة، وأعانه على ذلك
(المقدمة/33)
تمكنه من اللغة، وهو يقول (ص 572 – 573): «إن هؤلاء المعارضين للكتاب والسُّنَّة بعقلياتهم ـ التي هي في الحقيقة جهليات ـ إنما يبنون أمرهم في ذلك على أقوالٍ مشتبهةٍ مجملةٍ تحتمل معاني متعددة، ويكون ما فيها من الاشتباه في المعنى والإجمال في اللفظ يوجب تناولها بحقٍّ وباطلٍ، فبما فيها من الحقِّ يقبل من لم يُحِط بها علمًا ما فيها من الباطل لأجل الاشتباه والالتباس، ثم يُعارضون بما فيها من الباطل نصوص الأنبياء. وهذا منشأ ضلال من ضلَّ من الأمم قبلنا. وهو منشأ البدع كلها».
ومن أمثلة ذلك:
قوله (ص 583 – 584): «لفظ الجسم لم ينطق به الوحي إثباتًا، فتكون له حرمة الإثبات، ولا نفيًا، فيكون له إلغاء النفي، فمن أطلقه نفيًا أو إثباتًا سُئل عمَّا أراد به». ثم بين ما يحتمله لفظه من المعاني الصحيحة والباطلة.
وقوله (ص 589): «إن التركيب يُطلق ويُراد به خمسة معانٍ». ثم بيَّنها.
وقوله (ص 575): «التوحيد اسم لستة معانٍ: توحيد الفلاسفة، وتوحيد الجهمية، وتوحيد القدرية الجبرية، وتوحيد الاتحادية؛ فهذه الأربعة أنواعٍ من التوحيد جاءت الرسل بإبطالها، ودلَّ على بطلانها العقل والنقل». ثم أفاض في بيان بطلانها.
– وألزم ابن القيِّم المخالفين إلزامات في غاية القوة، منها:
قوله (ص 619): «أمَّا الفلاسفة فأثبتوا وجود الصَّانع بطريق التركيب، وهو أن الأجسام مركبة، والمركب يفتقر إلى أجزائه، وكل مفتقرٍ ممكنٌ، والممكن لا بد له من وجود واجبٍ، وتستحيل الكثرة في ذات الواجب بوجهٍ من الوجوه؛ إذ يلزم تركيبه وافتقاره، وذلك ينافي وجوبه. وهذا هو غاية
(المقدمة/34)
توحيدهم، وبه أثبتوا الخالق على زعمهم، ومعلومٌ أن هذا من أعظم الأدلة على نفي الخالق؛ فإنه ينفي قدرته ومشيئته وعلمه وحياته؛ إذ لو ثبتت له هذه الصِّفات ـ بزعمهم ـ لكان مركبًا، والمركب مفتقرٌ إلى غيره، فلا يكون واجبًا بنفسه».
وقوله (ص 832): «إن اللوازم التي تلزم المعطلة النُّفاة شرٌّ من اللوازم التي تلزم المشبهة المحضة، دع المثبتة لحقائق الأسماء والصفات المنزهين الله عن شبه المخلوقات، فإنهم يلزمهم عشرة لوازم». ثم فصَّلها.
وينظر (ص 646 – 647، 675، 913).
ثم قرر قاعدةً عامةً فيقول (ص 1078): «هذا شأن جميع قضاياهم الكاذبة التي تتضمن تعطيل ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله، فإنها تستلزم إثبات الباطل وإبطال الحقِّ».
– وبيَّن مخالفتهم للعقل مع ادعائهم التمسك به، فيقول (ص 1109): «والعجب أن هؤلاء مع شدة تمسكهم بالعقليات واعتنائهم بها حين عارضوا بينها وبين الوحي يجمعون بين النقيضين، ويُثبتون الشيء وينفون لازمه، وينفون اللازم ويثبتون ملزومه، وذلك مخالفةٌ لصريح العقل».
– ودفع إلزامات المخالفين لأهل السنة اللوازم الباطلة، وبيَّن أنها غير لازمة لهم، ويبين أن لازم الحق حقٌّ.
– وأحال ابن القيِّم لاستيفاء الأدلة على كتبه الأخرى أحيانًا؛ كما في (ص 846، 890، 915، 1025).
– وكرر ابن القيِّم بعض المعاني مرارًا بألفاظ مختلفة ليثبت المعنى ويرسخه في الأذهان.
(المقدمة/35)
– وفي الكتاب استطرادات كثيرة حافلة بالفوائد، وما أجمل استطراداته في تفسير آيات كريمات وتدبُّر معانيها، وكذلك استطرادته في التدبُّر في خلق الله تعالى.
– ومع الإسهاب الظاهر في مباحث الكتاب إلا أن ابن القيِّم أشار في عدَّة مواضع إلى أنه كَتَبه مختصرًا؛ وتمنى لو تيسر له بسطه، ومن هذه الإشارات:
قوله (ص 473): «وهذا قطرةٌ من بحرٍ نبَّهنا به تنبيهًا يعلم به اللبيب ما وراءه، وإلا فلو أعطينا هذا الموضع حقَّه ـ وهيهات أن يصل إلى ذلك علمنا أو قدرتنا ـ لكتبنا فيه عدة أسفارٍ. وكذا كل وجهٍ من هذه الوجوه، فإنه لو بُسط وفُصِّل لاحتمل سفرًا أو أكثر، والله المستعان، وبه التوفيق».
وقوله (ص 642): «إن كل شُبهةٍ من شُبه أرباب المعقولات عارضوا بها الوحي فعندنا ما يبطلها بأكثر من الوجوه التي أبطلنا بها معارضة شيخ القوم، وإن مدَّ الله في الأجل أفردنا في ذلك كتابًا كبيرًا».
وينظر (ص 783، 825).
– وظهر في الكتاب إنصاف الإمام ابن القيِّم، وكان يُوثق الأقوال بعزوها إلى مصادرها، ويقول (ص 904): «ونحن لا نحيلك على عدمٍ، بل نحكي ألفاظهم بعينها معزوةً إلى مكانها». ويُفرق بين القول ولا زمه، فيقول (ص 777): «أن هؤلاء المعارضين للوحي بآرائهم جعلوا كلام الله ورسوله من الطرق الضعيفة المزيفة التي لا يتمسك فيها في العلم واليقين. ولعلك تقول إنا حكينا ذلك عنهم بلازم قولهم، فاسمع حكاية ألفاظهم». ثم حكاها.
فمن إنصافه أنه عاب على من يحكي مذاهب الناس بما يعتقده لازمًا لأقوالهم؛ فقال (ص 826): «ولعل جاهلًا أن يقول: إنَّا قلنا عليهم ما لم
(المقدمة/36)
يقولوا، أو استجزنا ما يستجيزونه هم من حكاية مذاهب الناس عنهم بما يعتقدونه هم لازمًا لأقوالهم، فيكذبون عليهم كذبًا صريحًا … فنحن لا نستجيز ذلك على أحدٍ من الناس، ولكن هذه كتب القوم فراجعها، ولا تُقلِّد الحاكي عنهم».
– وظهرت في الكتاب روح الإمام ابن القيِّم الناقدة، فكما انتقد المذاهب والآراء والأقوال، وبيَّن صحيحها من سقيمها، انتقد الأشخاص والكتب.
أمَّا انتقاده وتقويمه للأشخاص فمنه:
وصفه (ص 881) لسعيد بن عامر الضُّبَعي بأنه «إمام أهل البصرة علمًا ودينًا من طبقة شيوخ الشافعي وأحمد وإسحاق».
ووصفه (ص 848) لعبد الوهاب الوراق بأنه «الرجل الصالح العالم، الذي سُئل الإمام أحمد من يُسأل بعدك؟ فقال: سلوا عبد الوهاب الوراق».
ووصفه (ص 1009) للإمام محمد بن إسماعيل البخاري بأنه «حافظ الإسلام».
وقوله (ص 330) عن أبي بكر بن المنذر: «هو من أعلم الناس بالإجماع والاختلاف».
ووصفه (ص 872) لأبي عمر الطلمنكي المالكي بأنه «أحد أئمة وقته بالأندلس».
ووصفه (ص 870) للإمام ابن عبد البر بأنه «إمام أهل السُّنَّة ببلاد الغرب».
(المقدمة/37)
ووصفه (ص 867) لعبد القادر الكيلاني بأنه «الشيخ المتفق على كراماته وآياته وولايته، المقبول عند جميع الفرق».
ووصفه (ص 877) لأبي محمد موفق الدِّين بن قدامة المقدسي بأنه «الشيخ الإمام المتفق على إمامته وعلمه وصلاحه وكراماته».
وقوله (ص 508) عن أبي الوليد بن رشد: «هو من أعلم النَّاس بمذاهب الفلاسفة ومقالاتهم».
وقوله (ص 508) عن أبي الحسن الآمدي: «أفضل المتأخرين في زمانه».
وقوله (ص 335) عن شيخ الإسلام ابن تيمية: «حكاه شيخنا واختاره وأفتى به، وأقلُّ درجات اختياراته أن يكون وجهًا في المذهب. ومن الممتنع أن يكون اختيار ابن عقيل وأبي الخطاب والشيخ أبي محمد وجوهًا يُفتى بها، واختيارات شيخ الإسلام لا تصل إلى هذه المرتبة».
وينظر أيضًا (ص 642).
وأمَّا نقده وتقويمه للكتب فمنه:
قوله (ص 1009 – 1010) عن كتاب «خلق أفعال العباد» للبخاري: «هو من أجلِّ كُتبه الصغار».
وقوله (ص 869) عن «الموجز» لأبي الحسن الأشعري: «أجلّ كتبه وأكبرها». وقوله عنه (ص 839): «من أجلِّ كتبه المتوسطات».
ووصف (ص 869 – 870) «الإبانة» لأبي الحسن الأشعري أنها أشهر كتب الأشعري، وقال: «اعتمد عليها أنصر الناس له وأعظمهم ذبًّا عنه من
(المقدمة/38)
أهل الحديث أبو القاسم بن عساكر؛ فإنه اعتمد على هذا الكتاب وجعله من أعظم مناقبه في كتاب «تبيين كذب المفتري».
وقوله (ص 337) عن «الأحاديث المختارة» للضياء المقدسي: «هي أصح من صحيح الحاكم».
ولما نقل عن الحميدي فصلًا من كلام أبي محمد بن حزم في أسباب اختلاف الأئمة قال (ص 270): «وهو من أحسن كلامه».
وقوله (ص 507) عن المِجَسْطي لبطليموس: «فيه قضايا كثيرة لا يقوم عليها دليلٌ صحيحٌ، وقضايا ينازعه فيها غيره، وقضايا مبنية على أرصاد منقولة عن غيره تقبل الغلط والكذب، وفيه قضايا برهانية صادقة».
– وقد ظهر في الكتاب جليًّا محبة الإمام ابن القيِّم للعلم وحرصه على تحصيله، حتى قال (ص 642): «ولو نعلم أن في الأرض من يقول ذلك ويقوم به تبلغ إليه أكباد الإبل لاقتدينا بالمسير إليه بموسى في سفره إلى الخضر، وبجابر بن عبد الله في سفره إلى عبد الله بن أُنيسٍ لسماع حديثٍ واحدٍ، ولكن أزهد النَّاس في عالمٍ قومه».
– وقد انتفع ابن القيِّم في هذا الكتاب بشيخ الإسلام ابن تيمية وبكتبه عامةً وبكتابه «درء تعارض العقل والنقل» خاصةً.
والكتاب يُظهِر أن الإمام ابن القيِّم -رحمه الله تعالى- «تفنن في علوم الإسلام، وكان عارفًا بالتفسير لا يُجارى فيه، وبأصول الدِّين، وإليه فيهما المنتهى، والحديث ومعانيه وفقهه ودقائق الاستنباط منه، لا يُلحق في ذلك، وبالفقه وأصوله وبالعربية، وله فيها اليد الطُّولى، وتعلم الكلام والنَّحو وغير ذلك، وكان عالمًا بعلم السُّلوك وكلام أهل التَّصوف وإشاراتهم ودقائقهم، له
(المقدمة/39)
في كل فنٍّ من هذه الفنون اليد الطُّولى». كما وصفه تلميذه زين الدِّين ابن رجب في «الذيل على طبقات الحنابلة» (5/ 171 – 172).
وأمَّا الكلام على أسلوب الإمام ابن القيِّم الأدبي ومميزاته فقد سبقنا للكلام عليه جماعة من الباحثين جزاهم الله خيرًا (1).
* * * * *
_________
(1) منهم الأستاذ الدكتور محمود رزق سليم في كتابه «عصر سلاطين المماليك» (3/ 268 – 271) والدكتور طاهر سليمان حمودة في كتابه «ابن قيم الجوزية جهوده في الدرس اللغوي» (58 – 63).
(المقدمة/40)
(6) مصادر الكتاب
تنقسم مصادر الإمام ابن القيِّم -رحمه الله تعالى- إلى ثلاثة أقسام:
الأول: مشاهدات ابن القيِّم:
قال (ص 135): «وقريبٌ من هذه المناظرة ما جرى لي مع بعض علماء أهل الكتاب (1)، فإنه جمعَني وإياه مجلسُ خلوةٍ، أفضى بنا الكلام إلى أن جرى ذِكر مسبَّة النصارى لربِّ العالمين مسبةً ما سبَّه إيَّاها أحدٌ من البشر، فقلت له: وأنتم بإنكاركم نبوةَ محمدٍ – صلى الله عليه وسلم – قد سببتم الربَّ تعالى أعظمَ مسبةً».
وقال (ص 141 – 142): «فطريقتهم ضدُّ طريقة القرآن من كل وجهٍ، إذ طريقة القرآن حقٌّ بأحسن تفسيرٍ وأبينِ عبارةٍ، وطريقتهم معانٍ باطلة بأعقدِ عبارةٍ وأطولها وأبعدها من الفهم، فيجهد الرجل الظمآن نفسَه وراءهم حتى تنفد قُواه، فإذا هو قد اطلع على سرابٍ بِقِيعَةٍ … والله يعلم أنَّا لم نَقُلْ ذلك تقليدًا لغيرنا، بل إخبارًا عمَّا شاهدناه ورأيناه».
وقال (ص 1004): «وأمَّا إطلاقهم العبارات القبيحة الدالة على الاستهانة، فهم لا يتحاشون منها، بل يُصرِّحون بقولهم: أي شيءٍ في المصحف سوى المِداد والورق. ويقولون: ليس في المصحف كلام الله، ولم ينزل إلى الأرض لله كلام، وهذا الذي يقرؤُه المسلمون ليس بكلام الله حقيقةً. وقد رأينا نحن وغيرنا هؤلاء مشاهدةً، وسمعنا بعض أقوالهم التي حكيناها، وهذه الفروع واللوازم فروع ذلك الأصل الباطل».
_________
(1) ذكر ابن القيِّم هذه المناظرة أيضًا في «التبيان في أيمان القرآن» (ص 270 – 274) وغيره، وبيَّن أنه كانت مع أكبر علماء اليهود.
(المقدمة/41)
الثاني: مشافهة شيوخه له.
وقد صرَّح بمشافهة اثنين من شيوخه:
فقال (ص 508): «وحدثني شيخ الإسلام قال: حكى لي بعض الأذكياء وكان قد قرأ على أفضل أهل زمانه في الكلام والفلسفة، وهو ابن واصل الحموي … ».
وقال في الفصل الثاني عشر (ص 131): «نكتفي من هذا الفصل بذِكْر مناظرةٍ جرَتْ بين جهميٍّ معطِّلٍ وسُنِّيٍّ مُثبِتٍ، حدثني بمضمونها شيخُنا عبد الله ابن تيمية – رحمه الله -».
الثالث: نقله عن أهل العلم.
كان الإمام ابن القيِّم محبًّا للكُتب جمَّاعًا لها، ومكتبته كانت غاية في الكبر والتنوع، قال ابن كثير في «البداية والنهاية» (18/ 524): «اقتنى من الكتب ما لا يتهيَّأ لغيره تحصيل عُشره من كتب السَّلف والخلف». وقال الصفدي في «أعيان العصر» (4/ 368): «ما جمع أحدٌ من الكتب ما جمع، لأن عمره أنفقه في تحصيل ذلك، ولمَّا مات شيخنا فتح الدِّين (1) اشترى من كتبه أمهات وأصولًا كبارًا جيدة، وكان عنده من كل شيءٍ في غير ما فنٍّ ولا مذهب، بكل كتابٍ نسخ عديدة».
وقد جمعت ما وقفت عليه من أسماء الكتب التي نقل عنها الإمام ابن القيِّم في الجزء الموجود من الكتاب فبلغت مائة وخمسة وعشرين مصنَّفًا، وهي:
_________
(1) هو الحافظ فتح الدِّين محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله ابن سيِّد الناس اليَعْمَري الأندلسي (ت 734 هـ) ترجمته في «أعيان العصر» (5/ 201 – 244).
(المقدمة/42)
1 – «الآراء والديانات» للنوبختي.
2 – «الإبانة» لأبي الحسن الأشعري.
3 – «الإبانة» لأبي بكر الباقلاني.
4 – «الإبانة» لأبي نصر السجزي.
5 – «إبطال التأويلات لأخبار الصفات» للقاضي أبي يعلى.
6 – «أبكار الأفكار» للآمدي.
7 – «إثبات صفة العلو» لابن قدامة المقدسي.
8 – «الإجماع» لابن المنذر.
9 – «الأحاديث المختارة» للضياء المقدسي.
10 – «إحياء علوم الدين» للغزالي.
11 – «كتاب اختلاف العلماء» لإسحاق بن راهويه.
12 – «الإرشاد» لأبي المعالي الجويني.
13 – «أساس التقديس» للرازي، ولم يُسمِّ الكتاب.
14 – «الاستذكار» لابن عبد البر.
15 – «الأسماء والصفات» للبيهقي.
16 – «أقسام اللذات» لفخر الدِّين الرازي.
17 – «الأم» للشافعي.
18 – «الإنجيل».
(المقدمة/43)
19 – «الأوسط» لابن المنذر، ولم يُسمِّ الكتاب.
20 – «بُد العارف» لابن سبعين، نقل من مقدمته.
21 – «البدع والنهي عنها» لابن وضَّاح، وسمَّاه «الحوادث والبدع».
22 – «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي، وسمَّاه «تاريخ الخطيب».
23 – «تاريخ نيسابور» للحاكم.
24 – «تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري» للحافظ أبي القاسم ابن عساكر.
25 – «التفسير البسيط» للواحدي. نقل منه ابن القيم في غير موضع، ولم يُسمِّه، بل صرح باسم الواحدي في بعضها، ولم يصرح في بعضها.
26 – «تفسير ابن الخطيب» هو «مفاتيح الغيب» للفخر الرازي.
27 – «تفسير سُنيد بن داود».
28 – «تفسير عبد بن حُميد»، ولم يُسمِّ الكتاب.
29 – «التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد» لابن عبد البر.
30 – «التمهيد في أصول الدِّين» لأبي بكر الباقلاني.
31 – «تهافت التهافت» لابن رشد.
32 – «تهافت الفلاسفة» لأبي حامد الغزالي.
33 – «كتاب التوحيد» لابن خزيمة.
34 – «التوراة».
(المقدمة/44)
35 – «الجامع» للترمذي.
36 – «الجامع» للخلَّال.
37 – «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي.
38 – «جامع بيان العلم وفضله» لابن عبد البر، وسمَّاه «فضل العلم».
39 – «جامع البيان عن تأويل آي القرآن» لابن جرير الطبري، ولم يُسمِّ الكتاب.
40 – «الجمع بين الصحيحين» للحميدي. نقل منه ابن القيم فصلًا رائعًا عن أسباب اختلاف العلماء، رواه الحميدي عن شيخه ابن حزم، ولم يُسم الكتاب (1).
41 – «الحاوي» للماوردي.
42 – «الحجة على تارك المحجة» للشيخ نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي.
43 – «حقائق التفسير» لأبي عبد الرحمن السلمي.
44 – «الخصائص» لأبي الفتح عثمان بن جني، ولم يُسمِّ الكتاب.
45 – «خلق أفعال العباد» للإمام البخاري. أكثر المصنِّف من النقل عنه في الرد على الجهمية، وسمَّاه «خلق الأفعال».
_________
(1) لهذا فات العلامة بكر أبو زيد – رحمه الله – ذِكْره في موارد ابن القيِّم في كتابه «ابن قيم الجوزية حياته وآثاره وموارده» (ص 340)، وكذا الدكتور دخيل الله في مقدمة طبعته من الصواعق (ص 87).
(المقدمة/45)
46 – «درء تعارض العقل والنقل» لشيخ الإسلام ابن تيمية. ولقد عظمت استفادة المصنِّف من هذا الكتاب فلخَّصه وهذَّبه ورتَّبه في هذا الكتاب، وقد كان به حفيًّا؛ فقال في «الكافية الشافية» (ص 769):
واقرأ كتاب العقل والنقل الذي … 1 – … ما في الوجود له نظير ثان
47 – «ديوان الأخطل».
48 – «الدقائق» لأبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني.
49 – «الذخيرة البرهانية» للإمام ابن مازة نقل منه أقوال أئمة الحنفية في مسألة الطلاق، وسمَّاه «الذخيرة» مهملًا دون تقييد (1).
50 – «ذم الكلام وأهله» لإسماعيل بن عبد الله الهروي.
51 – «الرد على الجهمية والزنادقة» للإمام أحمد. نقل منه المصنِّف في مواطن عدة، وانتفع به كثيرًا.
52 – «الرد على الجهمية» لعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي.
53 – «رد عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد». وقد كان ابن القيِّم بكتاب الدارمي هذا وكتابه الآخر «الرد على الجهمية» حفيًّا؛ فقال في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (1/ 347 – 348): «كتاباه من أجلِّ الكتب المصنَّفة في السُّنة وأنفعها، وينبغي لكل طالب سُنةٍ -مراده الوقوف على ما كان عليه الصحابة والتابعون والأئمة- أن يقرأ كتابيه، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – يوصي بهذين الكتابين أشد الوصية ويعظمهما جدًّا، وفيهما
_________
(1) فليس هو «الذخيرة» للقرافي كما ظن العلامة بكر أبو زيد – رحمه الله – في كتابه «ابن قيم الجوزية حياته وآثاره وموارده» (ص 344) والدكتور دخيل الله في مقدمته (ص 88).
(المقدمة/46)
من تقرير التوحيد والأسماء والصفات بالعقل والنقل ما ليس في غيرهما».
54 – «رسائل إخوان الصفا».
55 – «رسالة الأشعري إلى أهل الثغر».
56 – «الرسالة الأضحوية» لابن سينا.
57 – «الرسالة النظامية» لأبي المعالي الجويني.
58 – «الرسالة» للإمام الشافعي.
59 – «رسالة» لأبي عثمان النيسابوري، وهو كتاب «عقيدة السلف وأصحاب الحديث» لأبي عثمان الصابوني.
60 – «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» لشيخ الإسلام ابن تيمية. لخَّصه المصنِّف في كلامه على أسباب اختلاف العلماء وهذَّبه وزاد عليه وزاده إيضاحًا.
61 – «السُّنة» لعبد الله بن الإمام أحمد.
62 – «السُّنة» لأبي بكر الخلال.
63 – «السُّنن» لأبي داود السجستاني.
64 – «السُّنن» لابن ماجه القزويني.
65 – «السنن» للنسائي.
66 – «السِّيرة النبوية» لابن هشام، ولم يُسمِّ الكتاب.
67 – «شرح أسماء الله الحسنى» لأبي عبد الله القرطبي.
(المقدمة/47)
68 – «شرح الإنجيل». نقل عنه بواسطة الشهرستاني.
69 – «شرح التفريع» للتلمساني المالكي.
70 – «شرح التنبيه» لأبي القاسم عبد الرحمن بن يونس. نقل منه فصلًا عن الطلاق.
71 – «شرح القدوري». نقل منه بواسطة «الذخيرة البرهانية» لابن مازة.
72 – «شعار الدِّين» للخطابي، ولم يُسم الكتاب إنما صرَّح بالنقل عن الخطابي، وربما نقل عنه بواسطة «منهاج السُّنة» لابن تيمية.
73 – «الشفاء» لابن سينا.
74 – «الصحاح» للجوهري.
75 – «صحيح البخاري».
76 – «صحيح ابن حِبَّان».
77 – «صحيح مسلم».
78 – «كتاب الصفات» لأبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب.
79 – «كتاب الطهور» لإبراهيم بن مسلم الخوارزمي، نقل منه مسألة في نقض الوضوء بمس الذَّكَر.
80 – «العقيدة» لأبي أحمد الكرجي.
81 – «عقيدة أبي نعيم الأصبهاني».
82 – «العلل» للدارقطني. ذكر منه حديثًا هو فيه معلقٌ.
(المقدمة/48)
83 – «علوم الحديث» للحاكم.
84 – «العمدة» لابن قدامة المقدسي.
85 – «الغنية» لعبد القادر الكيلاني، ولم يُسمِّ الكتاب.
86 – «فتاوى القفال».
87 – «الفتوى الحموية الكبرى» لابن تيمية، ولم يُسمِّ الكتاب.
88 – «فصوص الحكم» لابن عربي. نقل منه ما زعمه أن خاتم الأنبياء يأخذ عن خاتم الأولياء.
89 – «الفنون» لأبي الوفاء بن عقيل. نقل منه فصلًا كبيرًا، ولم يُسم الكتاب.
90 – «القضاء» لأبي عُبيدٍ القاسم بن سلام.
91 – «الكتاب» لسيبويه، صرَّح بالنقل عن سيبويه ولم يُسمِّ الكتاب.
92 – «الكشاف» للزمخشري.
93 – «الكشف عن مناهج الأدلة» لأبي الوليد بن رشد. نقل منه المصنِّف فصلًا في تقرير علو الله تعالى على عرشه والرد على الفلاسفة.
94 – «المجسطي» لبطليموس.
95 – «المحصل» للرازي، ولم يُسمِّ الكتاب.
96 – «المحلى» لابن حزم، ولم يُسمِّ الكتاب.
97 – «مختصر المُزَني».
(المقدمة/49)
98 – «المدخل لعلم السنن» للبيهقي.
99 – «المراسيل» لأبي داود السجستاني.
100 – «مسائل أحمد وإسحاق» لإسحاق بن منصور الكوسج.
101 – «مسائل أحمد وإسحاق» لحرب الكرماني.
102 – «مسائل صالح بن أحمد بن حنبل لأبيه».
103 – «المستدرك على الصحيحين» للحاكم النيسابوري، ويُسميه «صحيح الحاكم».
104 – «المسند» للإمام أحمد بن حنبل.
105 – «مسند علي» للحافظ مطين. نقل منه حديثًا.
106 – «مشارق الأنوار على صحاح الآثار» للقاضي عياض، أحال عليه في تفسير حديث: «لا طلاق في إغلاق».
107 – «المصنَّف» لعبد الرزاق، وسمَّاه «الجامع».
108 – «المضنون به على غير أهله» لأبي حامد الغزالي.
109 – «مطالع الأنوار» لأبي إسحاق بن قرقول. أحال عليه في تفسير حديث: «لا طلاق في إغلاق».
110 – «مطامح الأفهام في شرح كتاب الأحكام» لعبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد المعروف بابن بزيزة. نقل منه فصلًا عن الطلاق الثلاث.
111 – «معجم الطبراني». أطلقه المصنِّف ولم يُحدد أي المعاجم هو، وحيث أُطلق فالمراد «المعجم الكبير» للطبراني، والحديث الذي ذكره
(المقدمة/50)
المصنِّف موجود في المعجمين «الكبير» و «الأوسط».
112 – كتاب «المعرفة» لأبي أحمد العسال.
113 – «مقالات غير الإسلاميين» لأبي الحسن الأشعري.
114 – «المقالات الكبير» لأبي الحسن الأشعري.
115 – «مقالات المصلين» لأبي الحسن الأشعري.
116 – «المقدمات الممهدات في الأحكام الشرعية» لابن رشد.
117 – «الملل والنحل» للشهرستاني.
118 – «الموجز» لأبي الحسن الأشعري.
119 – «الموطأ» للإمام مالك.
120 – «نظم السلوك» قصيدة ابن الفارض.
121 – «النظم». نقل منه غالبًا بواسطة «التفسير البسيط» للواحدي، ولم يُسم صاحبه.
122 – «نهاية العقول في دراية الأصول» للرازي.
123 – «الوثائق» لابن مغيث المالكي.
124 – «الوصول إلى معرفة الأصول» لأبي عمر الطلمنكي.
125 – «الهداية» لأبي الخطاب الكلوذاني، ولم يُسمِّ الكتاب.
هذا ما وقفت عليه من المصادر التي صرَّح بها ابن القيِّم أو صرَّح باسم مصنِّفها وتبين لي مصدر نقله، ومن هذا العرض يتبين أن مصادره متنوعة
(المقدمة/51)
تنوعًا كبيرًا، فمنها كتب في التفسير وعلومه، وكتب في الحديث وعلومه، وكتب في شروح الحديث وفقهه، وكتب في التوحيد والعقيدة، وكتب في الفرق والملل والنحل، وكتب في الرد على الجهمية، وكتب الفلاسفة والمنطقيين، وكتب في الرد عليهم، وكتب في اللغة وغريب الحديث، وكتب في فقه المذاهب الأربعة وأصولها، وكتب في فقه المذاهب الأخرى، وكتب في الآداب والسلوك، وكتب في التاريخ، وكتب عامة.
* * * * *
(المقدمة/52)
(7) مكانة الكتاب
«الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة» أحد أنفس كتب الإمام ابن القيِّم وأقواها، وهو من أقوى الكتب في الرد على الجهمية والمعطلة بل على الفرق المبتدعة في العقيدة مطلقًا، قد جمع بين صحيح المنقول وصريح المعقول، فقد وافق اسمه مسمَّاه؛ فهو كما سمَّاه مصنِّفه صواعق مرسلة على المبتدعة، يُقرر عقيدة أهل السُّنة والجماعة ويُبطل ما خالفها بالدليل الساطع والبرهان الناصع، مع الإنصاف التامِّ، وحُسن العرض، وسلاسة الأسلوب، لا يكاد يدانيه في ذلك كتاب آخر.
وهذا الكتاب الجليل يُظهر تمكُّن الإمام ابن القيِّم – رحمه الله – في العلوم، مع قوة تأصيله وبساطة تفصيله.
وقد أثنى عليه جماعة من أهل العلم ثناءً حسنًا، منهم:
العلَّامة عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، قال بعد ذكره لابن تيمية: «ولتلميذه العلَّامة ابن القيِّم في بيان أنواع التوحيد والرد على أهل البدع المصنَّفات الكثيرة المفيدة، فمن أحسنها: «إغاثة اللهفان»، وكتاب «الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة» (1).
والعلَّامة أحمد بن إبراهيم بن عيسى، قال في «توضيح المقاصد» (2/ 27) عن «الصواعق»: «هو في مجلدات، في غاية الإجادة والنفاسة».
والعلَّامة محمود شكري الألوسي، قال (2): «وتفصيل الكلام في هذا
_________
(1) «الدرر السنية في الأجوبة النجدية» (2/ 219).
(2) «غاية الأماني في الرد على النبهاني» (1/ 447).
(المقدمة/53)
المقام يُطلب من كتب شيخ الإسلام وتلامذته، فإنهم أحسن من صنَّف في هذه المسائل، وفيها يجد المنشد ضالته، وقد ألف الشيخ الحافظ أبو بكر الشهير بابن القيِّم كتابه «غزو الجيوش الإسلامية في الرد على الجهمية» وكتابه «الصواعق المرسلة على الدهرية (1) والمعطلة» في هذه المطالب العالية، وبسط كلامه فيها كل البسط، كما هو شأن كرمهم وجودهم في سخاء نفوسهم ببذل كنوز العلم طيب الله تعالى ثراهم».
والشيخ محمد حامد الفقي، قال: «وخير كتابٍ لابن القيِّم في هذا الباب وأشده وقعًا، وأنكاه فعلاً في هذه البدع الزائفة كتاب «الصواعق المرسلة»؛ فهو ـ والله ـ كاسمه صواعق أرسلها اللهُ من قلم ابن القيِّم على رؤوس أهل الزيغ والضلال والتعطيل والإلحاد، لم يُبقِ ـ والله ـ لقائل قولًا، ولا لشيطان كيدًا، وحق على كل مسلم غيور على دينه أن يقرأ هذا الكتاب قراءة تدبرٍ وإمعانٍ، وأن يتقلد بغالي درره، التي يعز مطلبها، ويقل وجودها إلَّا في هذا البحر العُباب» (2).
والشيخ عبد الرحمن الوكيل، قال في تعليقه على «الروض الأنف» (6/ 556) في الكلام على صفات الله تعالى كاليد والعين: «من خير من كتب عن هذا الإمام ابن القيِّم في كتابه «الصواعق المرسلة» فراجعه».
* * * * *
_________
(1) كذا، والصواب «الجهمية».
(2) من مقال منشور في مجلة الإصلاح، في غرة شوال سنة 1347 هـ.
(المقدمة/54)
(8) مختصرات الكتاب
للكتاب حسب علمي مختصران:
المختصر الأول: مختصر العلَّامة شمس الدِّين محمد بن الموصلي (ت 774 هـ)
وهو أقدم المختصَرَينِ وأشهرهما، وأكبرهما حجمًا، وأكثرهما فائدة، وقد طُبع عدَّة طبعات، وانتشرت طبعاته قبل أن يُوجد شيءٌ من «الصواعق» نفسه وبعده، وقد عمَّ النفع به.
ولم يُفصح المختصر عن منهجه في الاختصار، إنما قال في مقدمته: «أمَّا بعد، فهذا استعجال «الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة» انتخبته من كلام شيخ الإسلام وقدوة الأنام ناصر السُّنة شمس الدِّين أبي عبد الله محمد ابن قيِّم الجوزية رحمه الله تعالى». ثم بدأ في الكتاب.
وهو مختصرٌ حافظ على روح كتاب «الصواعق» وحافظ على أسلوب ابن القيِّم وعباراته، ونادرًا ما غيَّر من كلامه شيئًا، بل حذف بعض الكلمات وبعض العبارات وربط بين ما تبقى ليبقى السياق متصلًا، وكذلك حذف بعض الفقرات والأوجه التي ذكرها ابن القيِّم، وبعض استطراداته في ثنايا هذه الأوجه.
فمثلًا قد أبطل ابن القيِّم الطاغوت الأول ـ وهو قولهم: «نصوص الوحي أدلةٌ لفظيةٌ، وهي لا تُفيد اليقين» ـ من ثلاثةٍ وسبعين وجهًا، فاكتفى المختصر منها بذكر سبعة وخمسين وجهًا.
وأبطل ابن القيِّم الطاغوت الثاني ـ وهو قولهم: «إن تعارَضَ العقل
(المقدمة/55)
والنقل وجب تقديم العقل» ـ من مائتين واثنين وأربعين وجهًا، فاكتفى المختصر منها بذكر اثنين وخمسين وجهًا فقط. مع اختصارٍ أيضًا في ذكر بعض هذه الوجوه (1).
والنسخة التي جرت عليها الإحالة هي التي حققها الدكتور الحسن بن عبد الرحمن العلوي، في أربعة مجلدات، وطُبعت في مكتبة أضواء السلف بالرياض، الطبعة الأولى سنة 1425 هـ- 2004 م.
ولم يسلم المختصر من السقط، فمع تعدد مخطوطاته التي وقفت عليها (2) فقد وقع سقطٌ كبيرٌ في جميعها للأسف، وهو يقابل من «الصواعق» من أثناء (ص 255) إلى آخر (ص 422). وسيأتي ذكره عند وصف النسخة «م»، وينظر تعليق محققه (1/ 210).
وقد انتفعنا بهذا المختصر في ضبط نصِّ الكتاب نفعًا كبيرًا، وقد اعتمدت في المقابلة والمراجعة على أنفس مخطوطاته المكتوبة سنة 758 هـ، وسميتها «م»، وسيأتي وصفها، وإنما اعتمدتها دون المطبوع لنفاستها ولضبط كثيرٍ من كلماتها.
وتعظم أهمية هذا المختصر لأنه حوى اختصار الجزء المفقود من «الصواعق»، وهو جزءٌ كبيرٌ، يبدأ من أثناء (ص 570) وينتهي آخر (ص 1648).
_________
(1) ينظر مقدمة طبعة أضواء السلف للمختصر (ص 73 – 77).
(2) وقفنا لـ «مختصر الصواعق» على تسع نسخ، أربع منها في الهند، وأربع في المملكة، والتاسعة في القاهرة، وأنفسها نسخة مكتبة دار العلوم لندوة العلماء في لكنو بالهند، التي اعتمدناها، وبقيتها نسخ حديثة، وقد ترجح لي أنها كلها ترجع إلى النسخة «م» إمَّا مباشرة أو بواسطة.
(المقدمة/56)
المختصر الثاني: مختصر الإمام محمد بن عبد الوهاب (ت 1206 هـ).
وقفنا عليه مؤخرًا، وهذه بياناته: «مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة للإمام ابن القيِّم» اختصره الإمام محمد بن عبد الوهاب، تحقيق د. دغش بن شبيب العجمي، طُبع في مكتبة أهل الأثر بالكويت، الطبعة الأولى، 1437 هـ- 2016 م.
وهو منتقى صغير من الكتاب، إذ جاء بمقدمته وفهارسه في مائتين وأربع وخمسين صفحة، ولعله يصلح أن يكون مدخلًا لكتاب «الصواعق».
* * * * *
(المقدمة/57)
(9) طبعات الكتاب
الطبعة الأولى: حققها الدكتور علي بن محمد الدخيل الله ـ جزاه الله خيرًا ـ وطُبعت في دار العاصمة بالرياض، في أربع مجلدات، الطبعة الأولى سنة 1408 هـ، وأصلها رسالة دكتوراة مقدمة لكلية أصول الدِّين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بإشراف الأستاذ الدكتور محمد رشاد سالم.
وهي طبعة جيدة بذل فيها المحقق الفاضل جهدًا كبيرًا في ضبط الكتاب وتقويم نصِّه واستدراك ما سقط منه، والتقديم له وفهرسة محتواه، كما يُشكر له أنه أول من حقق الموجود من الكتاب كاملًا، ويُؤخذ عليه قلة رجوعه للمختصر في مواطن الإشكال.
وقد انتفع الناس بهذه الطبعة لأكثر من ثلاثين سنة، وهي التي كانت بين يدي أثناء العمل، وقد انتفعت بها كثيرًا، وخالفت محققها كثيرًا أيضًا.
ومع جودة الطبعة فلم تسلم من شوائب التصحيف والسقط والخلل، خاصة في الفهارس، وأكبر سقط وقع فيها كان في (4/ 1258) أثناء السطر العاشر فقد سقطت ثمانية أسطر قبل قوله: «ولا ضابط لفرقة منكم»، وهي:
«فإن قلتم: إن العقل يُعارض جميع المنقول كان هذا من الكفر والإلحاد والزندقة ما لا مزيد عليه. وإن قلتم: بل المعارضة حاصلةٌ بين العقل وبين بعض المنقول دون بعض، قيل لكم: فما هو القدر الذي عارضه العقل من المنقول وما جنسه وصفته، وفي أي باب هو؟ فإن قلتم: ما خالف صريح العقل. كان هذا تعريفًا دوريًا غير مقيد، وكان حاصل كلامكم إذا عارض العقل لما خالف العقل وجب تقديم العقل، وهذا من جنس الهذيان.
(المقدمة/58)
فإن قلتم: نحن قلنا إذا جاء النقل بخلاف العقل وجب تقديم العقل. قيل لكم: فالسؤال عائد بعينه، والمطالبة قائمة، ففي أي الأنواع جاء النقل مناقضًا للعقل». قد اكتفيت بذكر هذا المثال الواحد، ولم أر من ضرورة لتسويد الصفحات بأمثلة التصحيف والسقط.
الطبعة الثانية: حققها الدكتور أحمد عطية الغامدي والدكتور علي بن ناصر الفقيهي، وطُبعت في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، كلية الدعوة وأصول الدِّين، الطبعة الأولى سنة 1406 هـ، وطُبعت بعنوان «الصواعق المنزلة على الطائفة الجهمية والمعطلة»، وقد ذكر المحققان في مقدمتها أنها في ثلاث مجلدات، ولم أقف إلا على المجلدين الأول والثاني منها فقط.
* * * * *
(المقدمة/59)
(10) مخطوطات الكتاب
للأسف لم نقف على نسخة تامة من الكتاب، ولا نعلم للكتاب إلا ثلاث نسخ: نسخة حلب، ونسخة برلين، ونسخة المتحف العراقي (1)، ولما كانت نسخة المتحف العراقي منقولة من نسخة حلب فقد استغنينا عنها بوجود أصلها المنقولة منه.
النسخة الأولى نسخة حلب:
نسخة محفوظة في المكتبة العثمانية بحلب، وقد ضُمت إلى مكتبة الأسد الوطنية تحت رقم 15324.
تقع في 137 ورقة، 273 صحيفة، من الحجم الكبير، مسطرتها 35 سطرًا، متوسط عدد الكلمات في السطر سبع عشرة كلمة.
عنوانها: «كتاب الصواعق المنزلة على الطائفة الجهمية والمعطلة تصنيف الإمام العلَّامة محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن القيم الحنبلي رحمه الله تعالى».
أولها: أول الكتاب.
وآخرها: آخر الموجود من الكتاب، ثم كتب الناسخ: «أنهاه كاتبه يوم
_________
(1) حاولنا الحصول على هذه النسخة مرارًا وبوسائل مختلفة، لكن لم نتمكن من ذلك، وكانت نتيجة إحدى المحاولات ناجحة لكن لما وصلنا المخطوط من العراق تبين أنه نسخة من المختصر لا الأصل! وهنا نشكر كل من أعان في سبيل الحصول عليها ومنهم د. ياسر البدري، والشيخ إبراهيم الهاشمي الأمير، ونهيب بمن يتمكن من الحصول على مصورتها أن يتواصل معنا. [علي العمران].
(المقدمة/60)
17 من ذي القعدة سنة 1110 على ما وجدناه في الأصل، ونعوذ بالله من الزيادة والنقصان». ولم يذكر الناسخ اسمه، واتبع نظام التعقيبة.
وكتب الناسخ آخره: «جملته كراس 14 إلا 3 أوراق».
كتب الناسخ على حاشيتها بعض العناوين الجانبية للموضوعات، تحت عنوان «مطلب»، لم نجد كبير فائدة في الإشارة إليها.
كُتبت النسخة بالمداد الأسود إلا عناوين الفصول وبعض الوجوه فقد كُتبت بالمداد الأحمر، ووُضعت خطوط حمراء فوق بعض الكلمات، وجُعلت الكتابة داخل إطار مستطيل باللون الأحمر، والصفحة الأولى مذَهَّبة ومزخرفة بزخارف نباتية.
وعلى لوحة العنوان تملّك نصه: «تملكه عبده الضعيف الحقير شيخ الحرم سابقا أبو بكر أغا في 10 جماد الآخر سنة 1112».
وعليها خاتم بيضاوي صغير لم يتبين ما فيه، وخاتم مستطيل فيه وقفية المكتبة العثمانية.
وهذه النسخة مقابلة على أصلها المنقولة منه، يدل على ذلك وجود اللحوقات المصححة على حواشي بعض أوراقها، وهي أتم النسختين، ويعيبها كثرة التصحيف والسقط، وقد يقصر السقط وقد يطول، وأطول سقط وقع بها كان في السطر الأول من الورقة السابعة والثلاثين، فقد سقط منها عشرات الصفحات، وكُتب بحاشيتها: «هكذا وجدنا في الأصل». فظهر أن السقط كان في أصلها، وقد استدركت هذا السقط من النسخة «ب».
وقد رمزت لهذه النسخة بحرف «ح».
(المقدمة/61)
النسخة الثانية نسخة برلين:
نسخة محفوظة في مكتبة برلين ضمن مجموع رقم 2094، «الصواعق» هي الرسالة الأولى في المجموع، ثم يليها فوائد نحوية في نصف صفحة، ثم «الرسالة التبوكية» للمصنف (ق 100 ب-113 ب).
تقع في 97 ورقة، من 3 ب إلى 100 أ، من الحجم المتوسط، مسطرتها 23 سطرًا، متوسط عدد الكلمات في السطر ثلاث عشرة كلمة.
عنوانها: «كتاب الصَّواعق المرسلة على فرق المعتزلة والجهميَّة والمعطِّلة تصنيف الشيخ الإمام العالم العلَّامة الذاب عن كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – شمس الدِّين أبي عبد الله محمد بن الشَّيخ الصَّالح أبي بكر بن أيوب ابن القيِّم الجوزيَّة [كذا]». وكتب على الحاشية: «ويقال الصواعق المرسلة على فرق البدع المتأولة».
أولها: أول الكتاب.
وآخرها: «وتأمَّلْ أقوالهم تعلمْ أيَّ النوعين معه العقل، ومن الذي خرج عن صريحه! وبالله التوفيق». فهي تمثل قرابة ثلث الموجود من الكتاب فقط.
ولم يذكر اسم الناسخ ولا تاريخ النسخ، واتبع الناسخ نظام التعقيبة.
وليس على النسخة تملّكات ولا وقفيات.
وهذه النسخة مقابلة على أصلها، يدل على ذلك قول الناسخ آخرها: «بلغ بحمد الله مقابلة حسب الطاقة». وكذلك وجود اللحوقات المصححة على حواشي بعض أوراقها، وهذه النسخة أصح من نسخة حلب، ولم تسلم
(المقدمة/62)
أيضًا من التصحيف والسقط، وترك الناسخ نصف وجه الورقة الخامسة والتسعين بياضًا، وكتب: «أظنه بياض صحيح». ثم ترك ظهرها كله بياضًا، وكتب: «أظنه بياض صحيح». وعلى النسخة حواش كثيرة، بعضها شرح لكلمات غريبة، وبعضها عناوين لبعض الموضوعات، ولم نشر إليها في التعليقات لقلة جدواها.
وقد رمزت لهذه النسخة بحرف «ب».
فقد ظهر من هذا الوصف أن نسخة حلب أتم النسختين؛ فقد تفردت بنحو ثلثي القدر الموجود من الكتاب، لكنها للأسف كثيرة التصحيف، وأن نسخة برلين أوثق النسختين، وقد سدت نقص نسخة حلب في مواضع، بل لقد تفردت بفصول بأكملها، سقطت من نسخة حلب، وأنها لم تسلم كذلك من تصحيف وسقط، لذلك راجعت نسخ «مختصر الصواعق»، واخترت أوثقها فجعلتها نسخة مساعدة في ضبط الكتاب، وهذا وصفها:
وصف نسخة «مختصر الصواعق»:
نسخة محفوظة في مكتبة دار العلوم لندوة العلماء في لكنو بالهند.
تقع في 260 ورقة، مسطرتها 23 سطرًا، متوسط عدد الكلمات في السطر خمس عشرة كلمة.
عنوانها: «مختصر كتاب الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة تأليف الإمام العالم العلَّامة مفتي المسلمين الشيخ شمس الدِّين أبي عبد الله محمد بن الشيخ الإمام العالم أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية قدس الله روحه ونور ضريحه».
(المقدمة/63)
أولها: أول الكتاب.
وآخرها: آخر الكتاب، ثم كتب الناسخ: «تم الكتاب بحمد الله وعونه في خامس شهر شعبان المبارك سنة ثمانٍ وخمسين وسبعمائة على يد العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن عثمان بن محمد بن سلمان الزرعي الدمشقي غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين، ولمن نظر فيه ودعا لكتابه بالمغفرة والرحمة، حامدًا لله تعالى ومصليًا على رسوله محمدٍ وآله وصحبه، وحسبنا الله ونعم الوكيل». واتبع الناسخ نظام التعقيبة أحيانًا.
وكُتب على بعض حواشي ورقاتها تعليقات، لم نجد كبير فائدة في الإشارة إليها.
وعلى لوحة العنوان تملكات ومطالعات كثيرة.
وهي نسخة في غاية الجودة، كثيرٌ من كلماتها مشكولٌ، وقد نفعنا الله بها في تصحيح كثيرٍ من التصحيفات واستدراك كثيرٍ من السقوطات، وللأسف قد ضاع منها عدة كراسات موضعها بين الورقتين الثانية والثلاثين والثالثة والثلاثين، وقد تبين لي أن هذه النسخة هي أصل كل النسخ التي وقفت عليها للمختصر ـ فقد انتقل هذا السقط منها إلى كل المخطوطات الأخرى، ومن ثم وقع هذا السقط في طبعات المختصر جميعها.
وقد رمزت لهذه النسخة بحرف «م».
* * * * *
(المقدمة/64)
(11) منهج التحقيق
تسلمت عند الاتفاق على تحقيق الكتاب من الجهة الراعية لذلك ملفًا فيه متن الكتاب مخرَّج الأحاديث الأحاديث والآثار، ونسخة من المنهج المتبع في تحقيق كتب المشروع.
وكان تفصيل عملنا في تحقيق الكتاب: ضبط النصِّ، والتعليق عليه، والتقديم له، وفهرسة محتوياته.
أمَّا ضبط النصِّ:
– فقد قابلنا النَّصَّ على المخطوطتين، ثم على ما وجُد منه في نسخة المختصر «م»، وقد قرأ عليّ الكتاب أخي مجدي السيد أمين وأنا ممسك بالمخطوطات.
– وقابلت النقول على مصادرها، وأثبتنا الرَّاجح في المتن، وما كان من غير النسخ الثلاث وضعته بين معقوفين.
– وقسمت النصَّ إلى فقرات، وأضفت إليه علامات الترقيم المناسبة.
– ووضع أخي عاطف بن محمود الآيات الكريمة من المصحف مشكولة بالرسم العثماني وفق رواية الدوري عن أبي عمرو البصري، وهي القراءة المعروفة في عصر المؤلف -رحمه الله تعالى-، وقد وافق رسم الآيات في مخطوطات الكتاب هذه القراءة إلا في موضعين نبهتُ عليهما في الهوامش، وقد وضعنا تخريج الآيات داخل المتن عقب كل آية بين معقوفين بحجم أقل من حجم الكتابة.
– وضبطنا الأحاديث النَّبوية الشَّريفة بالشَّكل التام، وكذا الأشعار.
(المقدمة/65)
– وضبطنا بالشَّكل ما يُشكل من الألفاظ والأسماء والكنى والأنساب والأماكن والبلدان وغيرها.
– وضعنا في النص أوائل ورقات المخطوطة «ح» هكذا [ق 1 ب]، إلا في الجزء الذي سقط منها فوضعنا أوائل ورقات النسخة «ب» هكذا [ب 75 أ].
وأمَّا التعليق على النصِّ:
– فقد وثَّقنا نُقول الكتاب بعزوها إلى مصادرها، وعزونا الأشعار إلى دواوينها ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا، وإلَّا عزوناها إلى كتب اللغة والأدب.
– خرج أحاديث الكتاب الأخ حسين باقر ثم راجعها الأخ كريم بن محمد عيد، فعدّل وأكمل، ثم راجعته مرة ثانية فاستوفيت التعديل والإكمال.
– واستوفينا عزو إحالات المصنِّف لما تقدم من الكتاب وما سيأتي إلى صفحاتها، وذلك لربط أجزاء الكتاب ببعضها.
– وعلَّقنا على بعض ما يحتاج إلى بيانٍ وإيضاحٍ من نصوص الكتاب، كشرح كلمةٍ غريبةٍ أو إيضاح إبهامٍ أو إزالة لبسٍ أو استدراك، كل ذلك على وجه الاختصار.
– وربطنا أبحاث ابن القيِّم بكتبه الأخرى.
ثم راجع الكتاب الشيخان الفاضلان د. محمد أجمل الإصلاحي ود. سعود بن عبد العزيز العريفي ـ جزاهما الله خيرًا ـ فصححا كثيرًا من الأخطاء، ونبها على كثيرٍ من المواضع التي تحتاج إلى مراجعة وتدقيق، وأشارا بحذف بعض الشروحات اللغوية ونحوها، ودققا علامات الترقيم وغيرها.
وأمَّا مقدمة التحقيق: فكتبتها في أحد عشر مباحثًا سبق سردها.
(المقدمة/66)
وأمَّا الفهارس فقد صنعنا الفهارس التي تيسر الانتفاع بالكتاب، وهي نوعان فهارس لفظية وعلمية:
أولًا: الفهارس اللفظية:
(1) فهرس الآيات القرآنية.
(2) فهرس الأحاديث والآثار.
(3) فهرس الأعلام.
(4) فهرس الفرق والجماعات.
(5) فهرس الأماكن والبلدان.
(6) فهرس الكتب.
(7) فهرس الأشعار.
ثانيًا: الفهارس العلمية:
(1) فهرس التفسير وعلوم القرآن.
(2) فهرس الحديث وعلومه.
(3) فهرس العقيدة.
(4) فهرس الفقه وأصوله.
(5) فهرس اللغة والنحو
(6) فهرس الفوائد المتفرقة.
ثم فهرس الموضوعات.
(المقدمة/67)
وقد عاونني في عمل جُلِّ هذه الفهارس أخي مجدي السيد أمين.
ووضعت عقب المقدمة نماذج من صور المخطوطات المعتمدة في التحقيق.
والخلاصة أن طبعتنا تميزت بعدة ميزات:
منها: الاجتهاد في ضبط الكتاب، ومن ذلك وضع الآيات بالرسم العثماني من المصحف وفق قراءة الدوري عن أبي عمرو البصري ـ وهي قراءة الإمام ابن القيِّم (1) ـ وضبط الأحاديث والأشعار بالشكل التام، وضبط المشكل ممَّا سواهما.
ومنها: اعتماد أنفس نسخ «مختصر الصواعق» نسخة مساعدة في ضبط المتن، ممَّا أعان على تصويب كثيرٍ من الأخطاء واستدراك كثيرٍ من السقوطات.
ومنها: العناية الكبيرة بتخريج الأحاديث والأشعار وتوثيق النقول والأقوال، ومقابلتها على أصولها، ممَّا أعان على تصويب كثيرٍ من الأخطاء واستدراك كثيرٍ من الخلل والسقط أيضًا.
ومنها: العناية الكبيرة بفهرسة محتويات الكتاب.
ومنها: حُسن التنسيق والطباعة، ولملمة حجم الكتاب في مجلدين بدلًا من أربعة في الطبعة المتداولة.
* * * * *
_________
(1) معرفة قراءة المصنِّف في غاية الأهمية لضبط الكتاب، وإلا سيُخطأ الصواب، كما وقع لمحقق «الصواعق» (756) ولمحقق «مختصر الصواعق» (1/ 235) في قوله تعالى: {وَاَلَّيْلِ إِذَا دَبَرَ} [المدثر: 33].
(المقدمة/68)
نماذج
من صور المخطوطات
(المقدمة/69)
(المقدمة/70)
عنوان نسخة حلب «ح»
(المقدمة/71)
أول نسخة حلب (ح)
(المقدمة/72)
آخر نسخة حلب (ح)
(المقدمة/73)
أول نسخة برلين «ب»
(المقدمة/74)
آخر نسخة برلين «ب»
(المقدمة/75)
عنوان «مختصر الصواعق» «م»
(المقدمة/76)
أول نسخة المختصر «م»
(المقدمة/77)
آخر نسخة المختصر «م»
(المقدمة/78)
بسم الله الرحمن الرحيم
ربِّ يسِّر بفضلك يا كريم، وصلَّى الله على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلَّم أجمعين (1).
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلَّا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، الموصوف بصفات الجلال، المنعوت بنعوت (2) الكمال، المُنزَّه عمَّا يضاد كماله مِن سلبِ حقائق أسمائه وصفاته، المستلزم لوصفه (3) بالنقائص وشبه (4) المخلوقين، فنفْيُ حقائق أسمائه وصفاته متضمِّنٌ للتعطيل والتشبيه، وإثباتُ حقائقها على وجه الكمال الذي لا يستحقه سواه هو حقيقة التوحيد والتنزيه، فالمُعطِّلُ جاحدٌ لكمال المعبود، والمُمثِّلُ مشبِّهٌ له بالعبيد، والمُوحِّدُ مُثبِتٌ (5) لحقائق أسمائه وكمال أوصافه، وذلك قُطب رَحَى التوحيد، فالمُعطِّل يعبد عدمًا، والمُمثِّل يعبد صنمًا، والمُوحِّد يعبد ربًّا ليس كمثله شيءٌ، له الأسماء الحُسنى والصِّفات العُلى، وسع كلَّ شيءٍ رحمةً وعلمًا.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، وحُجته على عباده، فهو رحمته المهداة إلى العالمين، ونعمته التي أتمَّها على أتباعه من المؤمنين، أرسله على حين فترةٍ من الرُّسل، ودروسٍ من الكتب،
_________
(1) من قوله «رب يسر» إلى هنا في «ب»: «وبه أستعين».
(2) «ح»: «ونعوت».
(3) «ح»: «بوصفه».
(4) «ح»: «وسنة».
(5) «ح»: «مبين».
(1/3)
وطموسٍ من السُّبل (1)، وقد استوجب أهل الأرض أن ينزل بساحتهم العذاب، وقد نظر الجبار جلَّ جلاله إليهم، فمقتهم (2) عربَهم وعجمهم إلَّا بقايا من أهل الكتاب، وكانت الأمم إذ ذاك ما بين مشركٍ بالرحمن، عابدٍ للأوثان، وعابدٍ للنيران، وعابدٍ للصلبان، أو عابدٍ للشمس والقمر والنجوم، كافرٍ بالله الحي القيوم، أو تائهٍ في بيداءِ ضلالتِه حيرانَ، قد استهواه الشيطان، وسدَّ عليه طريق الهدى والإيمان، فالمعروف عنده ما وافَقَ إرادته ورضاه، والمنكر ما خالف هواه، قد تخلى عنه الرحمنُ، وقارنَه الخِذلان، يسمع ويبصر بهواه لا بمولاه، ويبطش ويمشي بنفسه وشيطانِه لا بالله، فبابُ الهُدى دونه مسدود، وهو عن الوصول إلى معرفة ربِّه واتباع مرضاته مصدود، فأهل الأرض بين تائهٍ حيرانَ، وعبدٍ للدنيا فهو عليها لهفان، ومنقادٍ للشيطان، جاهلٍ أو جاحدٍ أو مشركٍ بالرحمن.
فالأرض قد غَشِيتها ظُلمةُ الكفر والشرك والجهل والعناد، وقد استولى عليها أئمة (3) الكفر وعساكر الفساد، وقد استند كلُّ قومٍ إلى ظُلمات آرائهم، وحكموا على الله وبين عباده بمقالاتهم الباطلة وأهوائهم، فسُوق الباطل نافقةٌ لها القيام، وسوق الحق كاسدةٌ لا تُقام، فالأرض قد صالت جيوش الباطل في أقطارها ونواحيها، وظنَّت أن تلك الدولة تدوم لها، وأنه لا مطمعَ بجند الله وحزبه فيها.
فبعث اللهُ رسولَه وأهلُ الأرض أحوجُ إلى رسالته من غيث السماء،
_________
(1) «السبل» سقط من «ح».
(2) «ح»: «فمنهم».
(3) «ح»: «أمة».
(1/4)
ومن نور الشمس الذي يُذهِب عنهم حَنَادِسَ (1) الظَّلماء، فحاجتهم إلى رسالته فوق جميع الحاجات، وضرورتهم إليها مقدَّمة على جميع الضرورات؛ فإنه لا حياةَ للقلوب ولا نعيم ولا لذة ولا سرور ولا أمان ولا طمأنينة إلَّا بأن تَعْرِفَ ربها ومعبودها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويكون أحبَّ إليها ممَّا سواه، ويكون سعيُها في ما يقرِّبها إليه ويُدنِيها من مرضاته، ومن المحال أن تستقل العقول البشرية بمعرفة ذلك وإدراكه على التفصيل؛ فاقتضت رحمةُ العزيز الرحيم أنْ بَعَثَ الرسلَ به مُعَرِّفِين، وإليه دَاعِين، ولمن أجابهم مُبَشِّرِين، ولمن خالفهم مُنْذِرين، وجعل مفتاح دعوتهم وزُبدة رسالتهم معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله؛ إذ على هذه المعرفة تنبني مطالبُ الرسالة جميعها، فإن (2) الخوف والرجاء والمحبة والطاعة والعبودية تابعةٌ لمعرفة المَرْجُوِّ المَخُوف المَحْبُوب المُطَاع المَعْبُود.
ولمَّا كان مفتاح الدعوة الإلهية معرفة الربِّ تعالى قال أفضلُ الداعين إليه سبحانه لمعاذ بن جبل وقد أرسله إلى اليمن: «إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ … » وذكر باقي الحديث، وهو في الصحيحين (3)، وهذا اللفظ لمسلم.
فأساسُ دعوة الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ معرفةُ الله سبحانه
_________
(1) جمع حِنْدِس، وهو الليل شديد الظلمة. «الصحاح» (3/ 916).
(2) «ب»: «وإن».
(3) البخاري (1496) ومسلم (19).
(1/5)
بأسمائه وصفاته وأفعاله، ثم يتبع ذلك أصلانِ عظيمان (1):
أحدهما: تعريف الطريق المُوصِلة إليه، وهي شريعته المتضمِّنة لأمره ونهيه.
الثاني: تعريف السالكين ما لهم بعد الوصول إليه من النعيم الذي لا ينفَد، وقُرةِ العين التي لا تنقطع.
وهذان الأصلان تابعان للأصل الأول، ومبنيَّان عليه، فأعرفُ الناس بالله أتبعُهم للطريق الموصل إليه، وأعرفُهم بحال السالكين عند القدوم عليه. ولهذا سمَّى اللهُ سبحانه ما أنزل (2) على رسوله رُوحًا لتوقُّف الحياة الحقيقية عليه، ونورًا لتوقف الهداية عليه. قال الله تبارك وتعالى: {يُلْقِي اِلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 14] في موضعين من كتابه (3). وقال [ق 2 أ] عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا اَلْكِتَابُ وَلَا اَلْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 49].
فلا روحَ إلَّا فيما جاء به، ولا نورَ إلَّا فيما استضاء (4) به، فهو الحياة والنور، والعصمة والشفاء، والنجاة والأمن.
والله سبحانه وتعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، فلا هدى إلَّا
_________
(1) «ب»: «أصلين عظيمين».
(2) «ب»: «أنزله».
(3) يقصد بالموضع الثاني قوله تعالى: {يُنزِلُ اُلْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2].
(4) «ب»: «في الاستضاءة».
(1/6)
فيما جاء به، ولا يقبل الله من أحدٍ دِينًا يَدِينه به إلَّا أن يكون موافقًا لدينه. وقد نزَّه سبحانه وتعالى نفسه عمَّا يصفه به العباد، إلَّا ما وصفه به المرسلون (1) فقال: {سُبْحَانَ اَللَّهِ عمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اَللَّهِ اِلْمُخْلِصِينَ} [الصافات: 159 – 160] قال غيرُ واحدٍ من السلف: هم الرُّسل (2).
وقال الله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ اِلْعِزَّةِ عمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى اَلْمُرْسَلِينَ (181) وَاَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اِلْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 – 182] فنزَّه نفسَه عمَّا يصفه به الخلقُ، ثم سلَّم على المرسلين؛ لسلامة ما وصفوه به من النقائص والعيوب، ثم حمد نفسَه على تفرُّده بالأوصاف التي يستحق عليها كمال الحمد.
الإسلام والرعيل الأول، ثم فَرَق على أثرهم التابعون (3)، وتَبِعهم على منهاجهم اللاحقون، يوصي بها الأولُ الآخِرَ، ويقتدي فيه اللاحقُ بالسابق، وهم في ذلك بنبيهم مقتدون، وعلى منهاجه سالكون، قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اِتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]. فـ {مَنِ اِتَّبَعَنِي} إن كان عطفًا على الضمير في {أَدْعُوا
_________
(1) «ح»: «ما وصف به المرسلين». وهو يقلب المعنى.
(2) لم نقف عليه، وقال ابن كثير في «تفسيره» (7/ 42): «وقوله: {سُبْحَانَ اَللَّهِ عمَّا يَصِفُونَ} أي: تعالى وتقدس وتنزَّه عن أن يكون له ولدٌ، وعمَّا يصفه به الظالمون الملحدون علوًّا كبيرًا، وقوله: {إِلَّا عِبَادَ اَللَّهِ اِلْمُخْلِصِينَ} استثناء منقطع، وهو من مُثبَت، إلا أن يكون الضمير في قوله: {عمَّا يَصِفُونَ} عائدًا إلى جميع الناس، ثم استثنى منهم المخلِصين، وهم المتَّبِعون للحق المنزَل على كل نبي ومرسَل».
(3) أي: فزعوا ومضوا على أثرهم، ينظر «زاد المعاد» للمصنِّف (3/ 864).
(1/7)
فتضمنت هذه الكلمة إثبات صفات الكمال الذي أثبته لنفسه (1)، وتنزيهه عن العيوب والنقائص والتمثيل، وأنَّ ما وصف به نفسه فهو الذي يوصف به، لا ما وصفه به (2) الخلق، ثم قال: «والحمد لله الذي لا يُؤدَّى شكرُ نعمةٍ من نعمه إلَّا بنعمةٍ منه تُوجب على مُؤدِّي شكرِ ماضي نعمه بأدائها نعمةً حادثةً يجب عليه شكرُه بها» (3). فأثبت في هذا القدر أنَّ فِعل الشكر إنَّما هو بنعمته على الشاكر، وهذا يدل على أنه – رحمه الله – مثبتٌ للصفات والقدر.
وعلى ذلك درَجَ يَزَكُ (4) الإسلام والرعيل الأول، ثم فَرَق على أثرهم التابعون (5)، وتَبِعهم على منهاجهم اللاحقون، يوصي بها الأولُ الآخِرَ، ويقتدي فيه اللاحقُ بالسابق، وهم في ذلك بنبيهم مقتدون، وعلى منهاجه سالكون، قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اِتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]. فـ {مَنِ اِتَّبَعَنِي} إن كان عطفًا على الضمير في {أَدْعُوا
__________
(1) «ح»: «لرؤيته».
(2) «به». سقط من «ح».
(3) «الرسالة» (ص 7 – 8).
(4) «ح» يزل. باللام، واليزك: كلمة فارسية معناها حرس الطليعة. «تكملة المعاجم العربية» (11/ 118) وقد استعملها المصنِّف ـ رحمه الله تعالى ـ في «النونية» وبيَّن معناها فقال:
2437 قومٌ أقامهم الإلهُ لحفظ هذا الـ … ـدين من ذي بدعةٍ شيطانِ
2438 وأقامهم حرسًا من التبديل … والتحريف والتتميم والنقصانِ
2439 يَزَك على الإسلام بل حصن له … يأوي إليه عساكر الفرقان
(5) أي: فزعوا ومضوا على أثرهم، ينظر «زاد المعاد» للمصنِّف (3/ 864).
(1/8)
إِلَى اَللَّهِ} فهو دليلٌ أنَّ أتباعه هم الدعاة إلى الله، وإن كان عطفًا على الضمير المنفصل فهو صريح أنَّ أتباعَه هم أهل البصيرة فيما جاء به دون من عداهم (1). والتحقيق أن العطف يتضمَّنُ المعنيين، فأتباعه هم أهل البصيرة الذين يدعون إلى الله.
وقد شهِد سبحانه لمن يرى أن ما جاء به من عند الله هو الحقُّ لا آراء الرجال بالعلم، فقال تعالى: {وَيَرَى اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْعِلْمَ اَلَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ اَلْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ اِلْعَزِيزِ اِلْحَمِيدِ} [سبأ: 6]. وقال تعالى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ اَلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 21]. فمن تعارَضَ عنده حقائقُ ما جاء به وآراء الرجال، فقدَّمها عليه أو (2) توقَّف فيه، أو قدحت في كمال معرفته وإيمانه به؛ لم يكن من الذين شَهِد الله لهم بالعلم، ولا يجوز أن يُسمَّى بأنه من أهل العلم.
فكيف يكون الداعي إلى الله على بصيرةٍ ـ الذي وصفه الله بأنه سراجٌ منيرٌ (3)، وبأنه هادٍ إلى صراطٍ مستقيم (4)، وبأنَّ من اتبع النور الذي أنزل معه فهو المفلح لا غيره (5)، وأنَّ من لم يُحَكِّمْه في كل ما ينازع فيه المتنازعون
_________
(1) ذكَر القولين في تفسير الآية: الواحدي في «البسيط» (12/ 263)، والبغوي في «معالم التنزيل» (4/ 284).
(2) «ح»: «إذا».
(3) في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اَللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} [الأحزاب: 45 – 46].
(4) في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 49].
(5) في قوله تعالى: {فَاَلَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاَتَّبَعُوا اُلنُّورَ اَلَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ اُلْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157].
(1/9)
وينقاد لحُكْمِه، ولا يكون عنده حرجٌ منه، فليس بمؤمنٍ (1) ـ قد أخبر الأُمة عن الله وأسمائه وصفاته بما الحقُّ في خلاف ظاهره، والهُدى في إخراجه عن حقائقه، وحمله على وحشي اللغات ومستكرَهات التأويل، وأنَّ حقائقه ضلالٌ وتشبيهٌ وإلحادٌ، والهدى والعلم في مجازه وإخراجه عن حقائقه، وإحالة (2) الأُمة فيه على آراء المتحيرين وعقول المتهوِّكين (3)؛
فيقول: إذا أخبرتكم عن الله وصفاته العلى بشيءٍ فلا تعتقدوا حقيقته، وخذوا معرفة مُرادي به من آراء الرجال ومعقولها؛ فإن الهدى والعلم فيه.
والدِّين إذا أُحِيلَ (4) على تأويلات المتأولين انتقضتْ عُرَاه كلها، ولا تشاء طائفةٌ من طوائف أهل الضلال أن تتأول النصوص على مذهبها إلَّا وجدت السبيل إليه، وقالت لمن فتح لها باب التأويل: إنَّا تأولنا كما تأولتم، والنصوص أخبرتْ بما تأوَّلناه، كما أخبرتْ بما تأولتموه، فما الذي جعلكم في تأويلكم مأجورين، وجعلَنا عليه مأزورين (5)؟ والذي قادكم إلى التأويل
_________
(1) بعده في «ح»: «لأن الرسول عنده». وأراها زائدة. وقوله: «وأنَّ من لم يُحَكِّمْه في كل ما ينازع فيه المتنازعون وينقاد لحُكْمِه ولا يكون عنده حرج منه فليس بمؤمنٍ». كذا وقع في النسختين وفي «المختصر»، وفيه إشكال، والمعنى المراد ظاهر، مقتبَس من قوله تعالى: {* فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 64].
(2) «ح»: «وأحال».
(3) التهوك كالتهور، وهو الوقوع في الأمر بغير روية، والمتهوك: الذي يقع في كل أمر، وقيل: هو التحير .. «النهاية في غريب الحديث» (5/ 282).
(4) «إذا أحيل». سقط من «ح».
(5) «ب»: «مأزورين عليه».
(1/10)
ما تقولون إنه معقول فمعنا نظيرُه أو أقوى منه أو دونه.
وسيأتي تمامُ هذا في بيان عجز المتأوِّلين عن الفرق بين ما يسوغ تأويله وما لا يسوغ (1).
والمقصود أنَّ الله سبحانه قد أخبر أنه أكملَ له ولأُمَّتِه به دينَهم، وأتمَّ عليهم به نعمته، ومحالٌ مع هذا أن يَدَع أهم ما خُلِق له الخَلْق، وأُرْسِلَت به الرُّسل، وأُنْزِلَت به الكتب، ونُصِبَت عليه القِبلة، وأُسِّست (2) عليه المِلَّة ـ وهو باب الإيمان به ومعرفته ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله ـ ملتبسًا مشتبهًا حقُّه بباطله، لم يتكلم فيه بما هو الحق، بل تكلم بما ظاهرُه الباطل، والحق في إخراجه عن ظاهره.
وكيف يكون أفضلُ الرُّسل وأجلُّ الكتب غيرَ وافٍ بتعريف ذلك على أتمِّ [ق 2 ب] الوجوه، مبيِّنٍ له بأكمل البيان، موضِّحٍ له غاية الإيضاح، مع شدة حاجة النفوس إلى معرفته، ومع كونه أفضل ما اكتسبته النفوس، وأجلَّ ما حصَّلته القلوب.
ومن أبْينِ المُحَال أن يكون أفضلُ الرُّسل قد علَّم أُمَّتَه آدابَ البول قبله وبعده ومعه، وآدابَ الوطء، وآدابَ الطعام والشراب، ويترك أن يعلِّمهم ما يقولونه بألسنتهم وتعتقده قلوبهم في ربهم ومعبودهم الذي معرفتُه غايةُ المعارف، والوصول إليه أجلُّ المطالب، وعبادته وحده لا شريك له أقربُ الوسائل؛ ويخبرهم فيه بما ظاهره باطلٌ وإلحاد، ويحيلهم في فَهْم ما أخبرهم
_________
(1) وهو الفصل السادس.
(2) «ح»: «وانتصبت».
(1/11)
به على مستكرَهات التأويلات ومستنكَرات المجازات، ثم يحيلهم في معرفة الحق على ما تحكم به عقولهم، وتُوجِبه آراؤهم.
هذا وهو القائل: «تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ» (1). وهو القائل: «مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيَنْهَاهُم عَن شَرِّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ» (2). وقال أبو ذرٍّ: «لقد تُوفِّيَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وما طائرٌ يقلِّبُ جناحيه في السماء إلَّا ذَكَّرَنا منه عِلمًا» (3). وقال عمر بن الخطاب: «قام فينا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – مَقامًا، فذكر بدء الخَلْق، حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك مَن حفظَه ونسيه مَن نسيه» ذكره البخاري (4).
و «صلَّى بهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – صلاة
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد (17606) وابن ماجه (43) وابن أبي عاصم في «السنة» (48، 49) والحاكم (1/ 96) عن العرباض بن سارية – رضي الله عنه -. وهو قطعة من حديث الموعظة البليغة المشهور. وقال المنذري في «الترغيب والترهيب» (1/ 88): «رواه ابن أبي عاصم في كتاب «السنة» بإسناد حسن».
(2) أخرجه مسلم (1844) عن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما -.
(3) أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (21970، 22053) والبزار في «المسند» (9/ 341) وابن حبان (65) والطبراني في «المعجم الكبير» (2/ 155). وقال الهيثمي في «المجمع» (8/ 264): «ورجال الطبراني رجال الصحيح، غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ وهو ثقة، وفي إسناد أحمد من لم يُسم». واختُلِف في وصل هذا الحديث وإرساله، ورجح الدارقطني إرساله. يُنظر: «علل الدارقطني» (1148) و «أطراف الغرائب» (4712). وروى مسلم في «صحيحه» (262) «قيل لسلمان الفارسي – رضي الله عنه -: قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟ قال: أجل».
(4) «صحيح البخاري» (3192).
(1/12)
الظهر، ثم خطبهم حتى حضرت العصرُ، فصلى العصر، ثم خطب بهم حتى غربت الشمس، فلم يَدَع شيئًا كان ولا يكون مِن خَلْقِ آدم إلى قيام الساعة حتى أخبرهم به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه» (1).
فكيف يتوهَّم مَن لله ولرسوله ودِينه في قلبه وقارٌ أن يكون رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – قد أمسك عن بيان هذا الأمرِ العظيم، ولم يتكلم فيه بالصواب، بل تكلَّم بما ظاهره خلافُ الصواب؟! بل لا يتم الإيمان إلَّا باعتقاد أن بيان ذلك قد وقَعَ من الرسول على أتمِّ الوجوه وأوضحه غاية الإيضاح، ولم يدَعْ بعده لقائلٍ مقالًا ولا لمتأولٍ تأويلًا.
ثم من المحال أن يكون خيرُ الأُمة وأفضلُها وأعلمها وأسبقها إلى كل فضلٍ وهُدًى ومعرفةٍ قصَّروا في هذا الباب فجفَوْا عنه، أو تجاوزوا فغَلَوْا فيه، وإنما ابْتُلِيَ مَن خرج عن منهاجهم بهذين الداءين، وهُدوا لأحد الانحرافين.
ويَزَك الإسلام (2) وعصابة الإيمان وحُماة الدِّين هم الذين كانوا في هذا الباب قائلين بالحقِّ معتقدين له داعين إليه.
فإن قيل: القوم كانوا عن هذا الباب مُعرِضِين، وبالزهد والعبادة والجهاد مشتغلين، لم يكن هذا الباب من هِمَّتهم ولا عنايتهم به.
قيل: هذا من أَبْيَنِ المحال وأبطلِ الباطل، بل كانت عنايتهم بهذا الباب فوق كل عنايةٍ، واهتمامهم به فوق كل اهتمامٍ؛ وذلك بحسب حياة قلوبهم ومحبتهم لمعبودهم ومنافستهم في القرب منه، فمَن في قلبه أدنى حياةٍ أو
_________
(1) أخرجه مسلم (2892) عن أبي زيد عمرو بن أخطب الأنصاري – رضي الله عنه – بنحوه.
(2) أي: حرسه، كما تقدم (ص 8).
(1/13)
محبةٍ لربه وإرادةٍ لوجهه وشوقٍ إلى لقائه فطلبُه لهذا الباب وحرصُه على معرفته وازدياده من التبصر فيه وسؤاله واستكشافه عنه هو أكبرُ مقاصده، وأعظم مطالبه وأجلُّ غاياته، وليست القلوب الصحيحة والنفوس المطمئنة إلى شيءٍ من الأشياء أشوقَ منها إلى معرفة هذا الأمر، ولا فرحُها بشيءٍ أعظمَ من فرحها بالظفر بمعرفة الحقِّ فيه. فكيف يمكن مع قيام هذا المقتضي ـ الذي هو من أقوى المقتضيات ـ أن يتخلف عنه أثره في خيار الأُمة وسادات أهل العلم والإيمان، الذين هِمَمهم أشرف الهمم، ومطالبهم أجلُّ المطالب، ونفوسهم أزكى النفوس، فكيف يُظن بهم الإعراضُ عن مثل هذا الأمر العظيم أو الغفلة عنه، أو التكلم بخلاف الصواب فيه واعتقاد الباطل.
ومن المُحال أن يكون تلاميذ المعتزلة وورثةُ الصابئين وأفراخ اليونان ـ الذين شهدوا على أنفسهم بالحيرة والشك وعدم العلم الذي يطمئن إليه القلب، وأشهدوا اللهَ وملائكته عليهم به (1)، وشهد به عليهم الأشهادُ من أتباع الرُّسل ـ أعلم بالله وأسمائه وصفاته وأعرف به ممَّن شهد الله ورسوله لهم بالعلم والإيمان، وفضَّلهم على من سبقهم ومَن يجيء بعدهم إلى يوم القيامة، ما خلا النبيين والمرسلين. وهل يقول هذا إلَّا غبيٌّ جاهلٌ لم يَقدِر قدْر السلف، ولا عرف الله ورسوله وما جاء به!
قال شيخنا (2): «وإنما أُتي (3) هؤلاء المبتدعةُ ـ الذين فضَّلوا طريقة الخلف على طريقة السَّلف ـ من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد
_________
(1) «به» ليس في «ب».
(2) «الفتوى الحموية الكبرى» (ص 188 – 195) بتصرف.
(3) «ح»: «والحال في».
(1/14)
الإيمان بألفاظ القرآن والحديث، من غير فقهٍ ولا فهمٍ لمراد الله تعالى ورسوله منها، واعتقدوا أنهم بمنزلة الأُميين الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ اَلْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 77]، وأن طريقة المتأخرين هي استخراجُ معاني النصوص وصرفُها عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات ومستنكر التأويلات.
فهذا الظن الفاسد أوجبَ تلك المقالةَ التي مضمونها نبذُ الكتاب والسُّنَّة وأقوال الصحابة والتابعين [ق 3 أ] وراء ظهورهم، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف والكذب عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف، وسببُ ذلك اعتقادُهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلَّت عليها هذه النصوص. فلمَّا اعتقدوا التعطيل وانتفاء الصِّفات في نفس الأمر، ورأوا أنه لا بد للنصوص من معنًى، بقوا متردِّدين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى ـ وهذا الذي هو طريقة السلف عندهم ـ وبين صرف اللفظ عن حقيقته وما وُضِعَ له إلى ما لم يُوضَع له ولا دَلَّ عليه بأنواع من المجازات والتكلُّفات (1)، التي هي بالألغاز والأحاجي أشبهُ منها بالبيان والهدى، كما سيأتي بيانه مفصَّلًا إن شاء الله.
وصار هذا الباطل مركَّبًا من فساد العقل والجهل بالسمع، فلا سمعَ ولا عقل، فإن النفي والتعطيل إنما اعتمدوا فيه على شبهاتٍ فاسدةٍ ظنوها معقولاتٍ صحيحةً، فحرَّفوا لها النصوص السمعية عن مواضعها، فلمَّا ابتُني (2) أمرُهم على هاتين المقدمتين الكاذبتين كانت النتيجة استجهالَ
_________
(1) «ح»: «وبالتكليفات».
(2) في «الفتوى الحموية»: «انبنى».
(1/15)
السابقين ـ الذين هم أعلمُ الأُمة بالله وصفاته ـ واعتقاد أنهم كانوا أُميين بمنزلة الصالحين البُلْه، الذين لم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأن الخلف هم الفضلاء العلماء الذين حازوا قصَبَ السبقِ، واستولوا على الغاية، وظفروا من الغنيمة بما فات السابقين الأوَّلين.
فكيف يتوهَّم مَن له أدنى مُسكةٍ (1) من عقلٍ وإيمانٍ أن هؤلاء المتحيِّرين الذين كَثُرَ في باب العلم بالله اضطرابُهم، وغلظ عن معرفة الله حجابُهم، وأخبر الواقف على نهايات إقدامهم بما انتهى إليه من مَرَامهم وأنه الشك والحيرة حيث يقول (2):
لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ (3) المَعَاهِدَ كُلَّهَا … وَسَيَّرْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ
فَلَمْ أَرَ إِلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ … عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارِعًا سِنَّ نَادِم
ويقول الآخر (4):
_________
(1) يقال: فيه مُسكة من خير بالضم: أي بقية. «الصحاح» (4/ 1608).
(2) البيتان أنشدهما الشهرستاني في «نهاية الإقدام» (ص 3) ولم ينسبهما لأحد. وقال ابن خلِّكان في «وفيات الأعيان» (4/ 274) في ترجمة الشهرستاني: «وذكر في أوَّل كتاب «نهاية الإقدام» بيتين وهما ـ فذكرهما ـ ولم يذكر لمن هذان البيتان. وقال غيره: هما لأبي بكر محمد بن باجه المعروف بابن الصائغ الأندلسي». وقال ابن خلكان في «وفيات الأعيان» (2/ 161) في ترجمة ابن سينا: «ويُنسب إليه البيتان اللذان ذكرهما الشهرستاني في أول كتاب «نهاية الإقدام».
(3) زاد بعده في «ح»: «في تلك».
(4) الأبيات أنشدها الفخر الرازي في «رسالة ذم لذات الدنيا» (ص 262) لنفسه، ورواها الشاطبي في «الإفادات والإنشادات» (1/ 84 – 85) بإسناده إليه.
(1/16)
نِهَايَةُ إِقْدَامِ العُقُولِ عِقَالُ … وَأَكْثَرُ سَعْيِ الْعَالَمِينَ ضَلَالُ
وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِنَا … وَغَايَةُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَالُ
ولَمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمْرِنَا … سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلَ وَقَالُوا
وقال الآخر (1): «لقد خضتُ البحر الخِضَمَّ (2)، وتركتُ أهلَ الإسلام وعلومهم، وخضتُ في الذي نهَوْني (3) عنه، والآن إن (4) لم يتداركني ربي برحمته فالويل لي، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي».
وقال آخر (5): «أكثرُ الناس شكًّا عند الموت أصحاب الكلام» (6).
وقال آخر منهم عند موته (7): «اشهدوا عليَّ أني أموتُ وما عرفت شيئًا إلَّا أن الممكن يفتقر إلى واجبٍ. ثم قال: والافتقار أمرٌ عدميٌّ، فلم أعرف شيئًا».
وقال آخر، وقد نزلت به نازلةٌ من سلطانه، فاستغاث بربِّ الفلاسفة فلم
_________
(1) هو إمام الحرمين الجويني، نسبَه له شيخُ الإسلام في «درء تعارض العقل والنقل» (1/ 407) وفي غيره، والسبكي في «الطبقات الكبرى» (5/ 185).
(2) البحر الخضم: كثير الماء. «جمهرة اللغة» (1/ 608) شبَّه به الآراء والأهواء لكثرتها وتفرقها.
(3) «ح»: «نهوا».
(4) «إن» سقط من «ب».
(5) نسبَه شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (4/ 28) لأبي حامد الغزالي.
(6) هذا آخر النقل من «الفتوى الحموية».
(7) هو الخونجي، قال ابن تيمية في «درء تعارض العقل والنقل» (3/ 262): «وقد بلغني بإسنادٍ متصلٍ عن بعض رؤوسهم، وهو الخونجي صاحب «كشف الأسرار في المنطق»، وهو عند كثير منهم غاية في هذا الفن». فذكره.
(1/17)
يُغَثْ، قال (1): «ثم استغثتُ بربِّ الجهمية فلم يُغِثْني، ثم استغثتُ بربِّ القدَرية فلم يغثني، ثم استغثتُ بربِّ المعتزلة فلم يغثني. قال: فاستغثت بربِّ العامة فأغاثني».
قال شيخنا (2): «وكيف يكون هؤلاء المحجوبون المنقوصون الحيارى (3) المتهوِّكون أعلمَ بالله وصفاته وأسمائه وآياته من السابقين الأوَّلِين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ورثةِ الأنبياء وخلفاءِ الرُّسل، ومصابيح الدُّجى وأعلام الهُدى، الذين بهم قام الكتابُ وبه قاموا، وبهم نطق الكتابُ وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، وأحاطوا من حقائق المعارف بما لو جُمعت حكمةُ مَن عداهم وعلومهم إليه لاستحى مَن يطلب المقابلة! ثم كيف يكون أفراخُ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان وورثة المجوس والمشركين وضُلَّال الصابئين وأشباههم وأشكالهم أعلمَ بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان!».
* * * * *
_________
(1) لم أقف على قائله.
(2) «شيخنا» ليس في «ح». والنقل من «الفتوى الحموية» (ص 196 – 200).
(3) «ب»: «الجبارين».
(1/18)
فصل
فهذه مقدِّمة بين يدَيْ جواب السؤال المذكور، وإنما يتبيَّنُ (1) حقيقةُ الجواب بفصول:
الفصل الأول: في (2) معرفة حقيقة التأويل ومسمَّاه لغةً واصطلاحًا.
الفصل (3) الثاني: في انقسام التأويل إلى صحيحٍ وباطلٍ.
الفصل الثالث: في أنَّ التأويل إخبارٌ عن مراد المتكلم لا إنشاء.
الفصل الرابع: في الفرق بين تأويل الخبر وتأويل الطلب.
الفصل الخامس: في الفرق بين تأويل التحريف وتأويل التفسير، وأنَّ الأول يمتنع وقوعُه في الخبر والطلب، والثاني يقع فيهما.
الفصل السادس: في تعجيز المتأوِّلين عن تحقيق الفرق بين ما يسوغ تأويلُه من آيات الصِّفات وأحاديثها وما لا يسوغ.
الفصل السابع: في إلزامهم في المعنى الذي جعلوه تأويلًا نظيرَ ما فرُّوا منه.
الفصل الثامن: في بيان خطئهم في فَهْمهم من النصوص المعاني الباطلة التي تأوَّلوها لأجلها، فجمعوا بين التشبيه والتعطيل.
الفصل التاسع: في الوظائف الواجبة على المتأوِّل التي لا يقبل منه تأويله إلَّا بها.
_________
(1) «ح»: «تبيين».
(2) «الفصل الأول في». في «ح»: «أحدها».
(3) من قوله: «الفصل الثاني». إلى آخر فهرس الفصول ليس في «ح».
(1/19)
الفصل العاشر: في أنَّ التأويل شرٌّ من التعطيل، فإنه يتضمن التشبيه والتعطيل، والتلاعب بالنصوص.
الفصل الحادي عشر: في أن قصدَ المتكلم من المخاطب حمْلَ كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته ينافي قصد البيان والإرشاد (1).
الفصل الثاني عشر: في بيان أنه مع كمال عِلم المتكلم وفصاحته وبيانه ونُصحه يمتنع عليه أن يريد بكلامه خلافَ ظاهره وحقيقته، وعدم البيان في أهم الأمور وما تشتد الحاجة إلى بيانه.
الفصل الثالث عشر: في بيان أن تيسير القرآن للذِّكر يُنافي حمْله على التأويل المخالف لحقيقته وظاهره.
الفصل الرابع عشر: في أن التأويل يعود على المقصود من وضع اللغات بالإبطال.
الفصل الخامس عشر: في جنايات التأويل على أديان الرُّسل، وأن خراب العالم وفساد الدنيا والدِّين بسبب فتح باب التأويل.
الفصل السادس عشر: في بيان ما يقبل التأويلَ من الكلام وما لا يقبله.
الفصل السابع عشر: في أنَّ التأويل يُفسِد العلوم كلها إنْ سُلِّط عليها، ويرفع الثقة بالكلام إن سُلِّط عليه (2)، …………………………………
_________
(1) «ب»: «والاعتقاد». والمثبت من عنوان الفصل فيما سيأتي.
(2) في «ب»: «عليها». والصواب ما أثبت، وقد يكون «إنْ سُلِّط عليها» تكرَّر خطأ في «ب»، فإنه لم يرد في عنوان الفصل فيما سيأتي.
(1/20)
ولا يمكن أُمةً من الأمم أن (1) تعيش عليه.
الفصل الثامن عشر: في انقسام الناس في نصوص الوحي إلى أصحاب تأويل، وأصحاب تخييل، وأصحاب تمثيل، وأصحاب تجهيل، وأصحاب سواء السبيل.
الفصل التاسع عشر: في الأسباب التي تُسهِّل على النفوس الجاهلة قَبولَ التأويل مع مخالفته للبيان (2) الذي علَّمه الله الإنسان وفطَرَه على قبوله.
الفصل العشرون: في بيان أنَّ أهل التأويل لا يمكنهم إقامة الدليل السمعي على مبطلٍ أبدًا.
الفصل الحادي والعشرون: في الأسباب الجالِبة للتأويل.
الفصل الثاني والعشرون: في أنواع الاختلاف الناشئة عن التأويل، وانقسام الاختلاف إلى محمودٍ ومذمومٍ.
الفصل الثالث والعشرون: في أسباب الخلاف الواقع بين الأئمة بعد اتفاقهم على أصلٍ واحدٍ وتحاكُمهم إليه، وهو كتاب الله وسُنَّة رسوله.
الفصل الرابع والعشرون: في ذكر الطواغيت الأربع التي هدم بها أصحابُ التأويل الباطل معاقلَ الدِّين، وانتهكوا بها حرمة القرآن، ومحَوْا بها رُسومَ الإيمان، وهي:
قولهم: إنَّ كلام الله وكلام رسوله أدلةٌ لفظية لا تفيد علمًا ولا يحصل
_________
(1) «أن» أثبتُّه من عنوان الفصل فيما سيأتي.
(2) «للبيان» سقط من «ب» في هذا الموضع، وأثبتناه من عنوان الفصل في موضعه.
(1/21)
منها يقين.
وقولهم: إنَّ آيات الصِّفات وأحاديث الصِّفات مجازاتٌ لا حقيقة لها.
وقولهم: إنَّ أخبار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الصحيحة لا تفيد العلم، وغايتها أن تفيد الظن.
وقولهم: إذا تعارَضَ العقلُ ونصوصُ الوحي أخذنا بالعقل ولم نلتفت إلى الوحي (1).
والله المسؤول أن يُريَنا الحقَّ حقًّا ويوفِّقَنا لاتباعه، ويرينا الباطل باطلًا ويُعِيننا على اجتنابه، وألَّا يجعلنا ممَّن يتقدم بين يديه ويدي رسوله، ولا ممن يُقَدِّم آراء الرجال وما نحتته أفكارها على نصوص الوحي. وهو المسؤول أن يوفِّقَنا لما طلبناه، وأن يجعله خالصًا لوجهه، مُدْنِيًا مِن رضاه، إنه خير مسؤولٍ، وأكرم مأمولٍ، وبه المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله.
* * *
_________
(1) آخر السقط من «ح».
(1/22)
الفصل الأول
في معرفة حقيقة التأويل ومسمَّاه لغةً واصطلاحًا
التأويل: تفعيل مِن آلَ يؤولُ إلى كذا: إذا صار إليه، فالتأويل: التصيير، وأَوَّلتُه تأويلًا: إذا صيرتَه إليه، فآلَ وتأوَّلَ، وهو مطاوِعُ أوَّلْتَه.
وقال الجوهري (1): «التأويل: تفسيرُ ما يؤولُ إليه الشيءُ، وقد أوَّلتُه تأويلًا وتأوَّلْتُه بمعنًى؛ قال الأعشى (2):
عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَأَوَّلُ حُبَّهَا … تَأَوُّلَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَا
قال أبو عبيدة: يعني تفسير حبِّها ومرجعه، أي أنه كان صغيرًا في قلبه فلم يزل يَنبُتُ حتى صار قديمًا كهذا [ق 3 ب] السَّقب (3) الصغير، لم يزل يشبُّ حتى صار كبيرًا مثل أمه وصار له ابنٌ يصحبه». انتهى كلامه.
ثم تُسمَّى العاقبة تأويلًا؛ لأنَّ الأمر يصير إليها، ومنه قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللَّهِ وَاَلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاَلْيَوْمِ اِلْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 58].
وتُسمَّى حقيقة الشيء المخبَر به تأويلًا؛ لأن الأمر ينتهي إليها، ومنه قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ اُلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَد جَّاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 52] فمجيءُ تأويله مجيءُ نفس ما أخبرت
_________
(1) «تاج اللغة وصحاح العربية» (4/ 1627).
(2) «ديوان الأعشى» (ص 113).
(3) «ح»: «الشهب». وهو تصحيف، قال الجوهري في «الصحاح» (1/ 148): «السقب: الذكر من ولد الناقة، ولا يقال للأنثى سقبة، ولكن حائل».
(1/23)
به الرُسل من اليوم الآخر والمعاد وتفاصيله والجنة والنار.
ويُسمَّى تعبيرُ الرؤيا تأويلًا بالاعتبارين؛ فإنه تفسيرٌ لها، وهو عاقبتها وما تؤول إليه، وقال يوسف لأبيه: {يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيَايَ مِن قَبْلُ} [يوسف: 100] أي: حقيقتها ومصيرها إلى هاهنا انتهت.
وتُسمَّى العِلة الغائية والحكمة المطلوبة بالفعل تأويلًا؛ لأنها بيانٌ لمقصود الفاعل وغرضه من الفعل الذي لم يعرف الرائي له غرضَه به. ومنه قول الخضر لموسى ـ عليهما السلام ـ بعد أن ذكَر له الحكمة المقصودة بما فعله من تخريق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار بلا عوض: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 77]. فلمَّا أخبره بالعلة الغائية التي انتهى إليها فعله قال: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 81].
فالتأويل في كتاب الله سبحانه وتعالى المراد به: حقيقة المعنى الذي يؤول اللفظ إليه، وهي الحقيقة الموجودة في الخارج، فإن الكلام نوعان: خبرٌ وطلبٌ. فتأويل الخبر هو الحقيقة، وتأويل الوعد والوعيد هو نفس الموعود والمتوعد به، وتأويل ما أخبر الله به مِن صفاته وأفعاله نفس ما هو عليه سبحانه، وما هو موصوفٌ به من الصِّفات العُلى، وتأويل الأمر هو نفس الأفعال المأمور بها. قالت عائشة: «كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول في ركوعه وسجوده: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ. يتأوَّلُ القرآنَ» (1). فهذا التأويل هو نفس فِعل المأمور به (2)، فهذا التأويل في كلام الله ورسوله.
_________
(1) أخرجه البخاري (817) ومسلم (484).
(2) «به» ليس في «ب».
(1/24)
وأمَّا التأويل في اصطلاح أهل التفسير والسلف من أهل الفقه والحديث فمرادهم به معنى التفسير والبيان. ومنه قول ابن جرير وغيره: «القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا»، يريد: تفسيره. ومنه قول الإمام أحمد في كتابه في «الرد على الجهمية» (1): «فيما تأولته مِن القرآن على غير تأويله». فأبطلَ تلك التأويلاتِ التي ذكروها، وهي تفسيرها المراد بها، وهو تأويلها عنده. فهذا التأويل يرجع إلى فَهْم المعنى (2) وتحصيله في الذهن، والأول يعود إلى وقوع حقيقته في الخارج.
وأمَّا المعتزلة والجهمية وغيرهم من فرق المتكلمين فمرادهم بالتأويل: صرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه وما يخالف ظاهرَه (3). وهذا هو الشائع في عُرف المتأخرين من أهل الأصول والفقه، ولهذا يقولون: «التأويل على خلاف الأصل»، و «التأويل يحتاج إلى دليل».
وهذا التأويل هو الذي صُنِّف في تسويغه وإبطاله من الجانبين، فصَنَّف جماعةٌ في تأويل آيات (4) الصِّفات وأخبارها، كأبي بكر بن فُورَك (5) وابن مهدي الطبري (6) وغيرهما، وعارَضهم آخرون فصنَّفوا في إبطال تلك
_________
(1) «الرد على الجهمية» (ص 97).
(2) «ح»: «المؤمن».
(3) «وحقيقته إلى مجازه وما يخالف ظاهره» ليس في «ح».
(4) «ب»: «إثبات».
(5) كتابه «مشكل الحديث وبيانه» مطبوع معروف متداوَل.
(6) هو أبو الحسن علي بن محمد بن مهدي الطبري تلميذ الشيخ أبي الحسن الأشعري، له كتاب «مشكل الأحاديث الواردة في الصفات» أو «تأويل الأحاديث المشكلات الواردات في الصفات»، كما في ترجمته في «تبيين كذب المفتري» لابن عساكر (ص 195 – 196) و «تاريخ الإسلام» للذهبي (8/ 492) و «طبقات الشافعية الكبرى» للسبكي (3/ 466). وله مخطوط اسمه «تأويل الآيات المشكلة الموضحة» محفوظ في مكتبة طلعت المودعة بدار الكتب المصرية، في مجموع رقم 491.
(1/25)
التأويلات (1)، كالقاضي أبي يعلى (2) والشيخ موفَّق الدِّين ابن قُدامة (3). وهو الذي حكى (4) غيرُ واحدٍ إجماعَ السلف على عدم القول به، كما سيأتي حكاية ألفاظهم، إن شاء الله تعالى.
* * * * *
_________
(1) «ح»: «ذلك التأويل».
(2) كتابه «إبطال التأويلات لأخبار الصفات» مطبوع معروف متداوَل.
(3) رسالته «ذم التأويل» مطبوعة معروفة متداوَلة.
(4) «ب»: «حكي عن».
(1/26)
فصل
وعلى هذا ينبني (1) الكلام في (2)
الفصل الثاني
وهو: انقسام التأويل إلى صحيح وباطل
فالتأويل الصحيح هو القسمان الأولان، وهما حقيقة المعنى وما يؤول إليه في الخارج، أو تفسيره وبيان معناه، وهذا التأويل يعمُّ المحكم والمتشابه والأمر والخبر.
قال جابر بن عبد الله في حديث حجة الوداع: «ورسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – بين أَظهُرنا ينزل عليه القرآنُ، وهو يعلم تأويلَه، فما عَمِل به من شيءٍ عملنا به» (3). فعِلْمُه صلوات الله وسلامه عليه بتأويله هو عِلمه بتفسيره وما يدل عليه، وعَملُه (4) به هو تأويلُ ما أُمِر به ونُهِيَ عنه.
ودخل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مكة في عمرة القضاء، وعبد الله بن رواحة آخِذٌ بخِطام ناقته وهو يقول (5):
_________
(1) «ح»: «يبنى».
(2) «في» ليس في «ب».
(3) أخرجه مسلم (1218) في حديث حجة الوداع الطويل.
(4) «ب»: «وعلمه». وهو تصحيف.
(5) الحديث أخرجه الطبري في «تاريخه» (3/ 24) والطبراني في «المعجم الكبير» (14999) وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (4114) والبيهقي في «دلائل النبوة» (4/ 323) عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر مرسلًا. وأخرجه الفاكهي في «أخبار مكة» (627) عن أم عمارة الأنصارية – رضي الله عنها – به. وأخرجه الترمذي (2847) والنسائي (2873) وابن خزيمة (2680) وابن حبان (4521) عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – دون قوله: «نحن قتلناكم على تأويله» ـ وهو موضع الشاهد هنا ـ وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح غريب».
(1/27)
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ … خَلُّوا فكُلُّ الْخَيْرِ فِي رَسُولِهِ
يَا رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ (1) … أَعْرِفُ حَقَّ اللهِ فِي قَبُولِهِ
نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ … كَمَا قَتَلْنَاكُمْ (2) عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ … وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِه
قال ابن هشام (3): «نحن قتلناكم على تأويله … إلى آخر الأبيات لعمار بن ياسر في غير هذا اليوم. والدليل على ذلك أن ابن رواحة إنما أراد المشركين، والمشركون لم يُقِرُّوا بالتنزيل، وإنما يُقاتل على التأويل مَن أقرَّ بالتنزيل».
وهذا لا يلزم إن صحَّ الشِّعر عن ابن رواحة؛ لأن المراد بقتالهم على التأويل هو تأويل قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرَامَ إِن شَاءَ اَللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27]. وكان دخولُهم المسجد الحرام عامَ القضية آمنين هو تأويلَ هذه الرؤيا التي أراها (4) [ق 4 أ] رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – وأنزلها الله في كتابه. ويدل عليه أن الشِّعر إنما يناسب خطاب الكفار.
_________
(1) «يا رب إني مؤمن بقيله». في «ح»: «رسالة من هو من مثله».
(2) «ب»: «قلناكم». وهو تصحيف.
(3) «تهذيب السيرة» (2/ 371).
(4) «ب»: «رآها».
(1/28)
يبقى أن يقال: فلم يكن هناك قتالٌ حتى يقول: نحن (1) قتلناكم؟
فيقال: هذا تخويف (2) وتهديد، أي: إن قاتلتمونا قاتلناكم، وقتلناكم على التأويل والتنزيل. وعلى التقديرين فليس المرادُ بالتأويل صرْفَ اللفظ عن حقيقته إلى مجازه.
ومن هذا قول الزُّهري: «وقعت الفتنة وأصحاب محمدٍ متوافِرون، فأجمعوا أن كل مالٍ أو دمٍ أُصيب بتأويل القرآن فهو هدَرٌ، أَنزلوهم منزلة أهل الجاهلية» (3).
أي: إن القبيلتين في الفتنة إنما اقتتلوا على تأويل القرآن ـ وهو تفسيره ـ وما ظهر لكل طائفةٍ منه حتى دعاهم إلى القتال. فأهلُ الجمل وصِفين إنما اقتتلوا على تأويل القرآن (4)، وهؤلاء يحتجون به وهؤلاء يحتجون به (5).
نعم، التأويل الباطل تأويل أهل الشام قوله – صلى الله عليه وسلم – لعمار: «تَقْتُلُكَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ» (6). فقالوا: نحن لم نقتله، إنما قتله مَن جاء به حتى أوقعه بين
_________
(1) «نحن» ليس في «ح».
(2) في «ح»: «تحريف». وهو تصحيف.
(3) أخرجه الخلال في «السنة» (127).
(4) من قوله: «وهو تفسيره» إلى هنا ليس في «ب».
(5) «وهؤلاء يحتجون به» ليس في «ح».
(6) أخرجه مسلم (2915، 2916) عن أبي سعيد الخدري عن أبي قتادة الأنصاري وأم سلمة – رضي الله عنهم -. ووقعت هذه اللفظة في بعض روايات «صحيح البخاري» (447) عن أبي سعيد الخدري، وينظر «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (35/ 74) و «فتح الباري» لابن حجر (1/ 542). وقال ابن حجر في «فتح الباري» (1/ 543): «روى حديث: «تقتلُ عمارًا الفئةُ الباغيةُ» جماعة من الصحابة، منهم: قتادة بن النعمان كما تقدم، وأم سلمة عند مسلم، وأبو هريرة عند الترمذي، وعبد الله بن عمرو بن العاص عند النسائي، وعثمان بن عفان وحذيفة وأبو أيوب وأبو رافع وخزيمة بن ثابت ومعاوية وعمرو بن العاص وأبو اليسر وعمار ـ نفسه ـ وكلها عند الطبراني وغيره، وغالب طرقها صحيحة أو حسنة، وفيه عن جماعة آخرين يطول عدُّهم». وقال النووي في «شرح صحيح مسلم» (18/ 40): «قال العلماء: هذا الحديث حُجةٌ ظاهرةٌ في أن عليًّا – رضي الله عنه – كان محقًّا مصيبًا، والطائفة الأخرى بغاة، لكنهم مجتهدون فلا إثم عليهم لذلك».
(1/29)
رماحنا. فهذا هو التأويل الباطل المخالِف لحقيقة اللفظ وظاهره؛ فإن الذي قتله هو الذي باشَرَ قتْلَه، لا مَن استنصر به. ولهذا ردَّ عليهم مَن هو أولى بالحق والحقيقة منهم؛ فقالوا: فيكون رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه هم الذين قتلوا حمزة والشهداء معه؛ لأنهم أتوا بهم حتى أوقعوهم تحت سيوف المشركين.
ومن هذا قول عروة بن الزبير لمَّا روى حديث عائشة: «فُرضت الصلاةُ ركعتين ركعتين، فزِيدَ في صلاة الحضر، وأُقرَّت صلاةُ السفر. فقيل له: فما بال عائشة أتمَّت في السفر (1)؟ قال: تأوَّلت كما تأول عثمان» (2). وليس مراده أن عائشة وعثمان تأوَّلا آية القصر على خلاف ظاهرها، وإنما مراده أنهما تأولا دليلًا قام عندهما اقتضى جوازَ الإتمام فعملا به، وكان عملُهما به هو تأويلَه، فإن العمل بدليل الأمر هو تأويله، كما كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يتأول قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاَسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3] بامتثاله بقوله:
_________
(1) «فقيل له فما بال عائشة أتمت في السفر» ليس في «ب».
(2) أخرجه البخاري (1090) ومسلم (685).
(1/30)
«سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» (1). وكأن عائشة وعثمان تأوَّلا قوله: {فَإِذَا اَطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا اُلصَّلَاةَ} [النساء: 102] وإنَّ إتمامها من إقامتها.
وقيل: تأوَّلت عائشة أنها أُم المؤمنين، وأن أُمهم حيث كانت فكأنها مقيمة بينهم، وأن عثمان كان إمامَ المسلمين، فحيث كان فهو منزله. أو أنه كان قد عزم على الاستيطان بمنى، أو أنه كان قد تأهَّل بها، ومَن تأهَّل (2) ببلدٍ لم يثبت له حُكم المسافر. أو أن الأعراب كانوا قد كثروا في ذلك الموسم، فأحبَّ أن يعلمهم فرض الصلاة وأنه أربعٌ. أو غير ذلك من التأويلات التي ظنَّاها أدلةً مقيِّدة لمطلق القصر أو مخصصة لعمومه، وإن كانت كلها ضعيفة.
والصواب هَدْيُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه كان إمامَ المسلمين، وعائشة أُم المؤمنين في حياته وبعد وفاته، وقد قَصَرَت معه، ولم يكن عثمان لِيقيمَ بمكة وقد بلغه «أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إنما رَخَّصَ بها للمهاجر (3) بعد قضاء نُسكه ثلاثًا» (4). والمسافر إذا تزوج في طريقه لم يثبت له حُكمُ الإقامة بمجرد التزوج ما لم يُزمِعِ (5) الإقامة وقَطْع السفر.
وبالجملة فالتأويل الذي يُوافق ما دلَّت عليه النصوص، وجاءت به السُّنَّة
_________
(1) متفق عليه، وقد تقدم.
(2) من قوله: «أو أنه كان قد عزم» إلى هنا سقط من «ح».
(3) «ب»: «للمهاجرين».
(4) أخرجه البخاري (3933) ومسلم (1352) عن العلاء بن الحضرمي – رضي الله عنه -.
(5) «ب»: «ترفع». وهو تصحيف.
(1/31)
ويطابقها، هو التأويل الصحيح. والتأويل الذي يُخالف ما دلَّت عليه النصوصُ وجاءت به السُّنَّة هو التأويل الفاسد، ولا فرقَ بين باب الخبر والأمر في ذلك. وكل تأويلٍ وافق ما جاء به الرسول فهو المقبول، وما خالفه فهو المردود.
فالتأويل الباطل أنواعٌ:
أحدها: ما لم يحتمله اللفظُ بوضعه، كتأويل قوله – صلى الله عليه وسلم -: «حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ عَلَيْهَا رِجْلَهُ» (1) بأنَّ الرِّجْلَ جماعةٌ من الناس، فإن هذا لا يُعرف في شيءٍ من لغة العرب البتةَ.
الثاني: ما لم يحتمله اللفظُ ببِنْيته الخاصة من تثنية أو جمعٍ، وإن احتملَه مفردًا، كتأويل قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74] بالقدرة.
الثالث: ما لم يحتمله سياقُه (2) وتركيبه، وإن احتمله في غير ذلك السياق، كتأويل قوله: {* هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ اُلْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 159] بأن إتيان الرب إتيانُ بعض آياته التي هي أمرُه. وهذا يأباه السياق كلَّ الإباء؛ فإنه يمتنع حملُه على ذلك مع التقسيم والترديد والتنويع.
وكتأويل قوله: «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ، وَكَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي الظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ» (3).
_________
(1) أخرجه البخاري (4850) ومسلم (2846) عن أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(2) «ب»: «بسياقه».
(3) أخرجه البخاري (7439) ومسلم (183) عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – بنحوه.
وأحاديث الرؤية متواترة عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، رواها عنه جماعة كبيرة من الصحابة – رضي الله عنهم -، وقد جمعها المصنف في آخر كتابه «حادي الأرواح» (2/ 625 – 685).
(1/32)
فتأويل الرُّؤية في هذا السياق بما يخالف حقيقتَها وظاهرها في غاية الامتناع، وهو ردٌّ وتكذيبٌ تَستَّرَ صاحبُه بالتأويل.
الرابع: ما لم يُؤلَف استعمالُه في ذلك المعنى في لغة المخاطب، وإنْ أُلِفَ في الاصطلاح الحادث. وهذا موضع زلَّت فيه (1) أقدامُ كثيرٍ من الناس، وضلَّت فيه أفهامهم؛ حيث تأولوا كثيرًا من ألفاظ النصوص بما لم يُؤلَفِ استعمالُ اللفظ له في لغة العرب البتةَ، وإن كان معهودًا في اصطلاح المتأخرين. وهذا ممَّا ينبغي التنبُّه له؛ فإنه حصل بسببه من الكذب على الله ورسوله ما حصل.
كما تأوَّلت طائفةٌ قوله تعالى: {فَلَمَّا أَفَلَ} [الأنعام: 77، 78] بالحركة، وقالوا: استدلَّ بحركته على بطلان ربوبيته. ولا يُعرف في اللغة التي نزل بها القرآنُ أن الأفول هو الحركةُ البتةَ في موضعٍ واحدٍ.
وكذلك تأويل «الأحد» بأنه الذي لا يتميز منه شيءٌ عن شيءٍ البتةَ. ثم قالوا: لو كان فوق العرش [ق 4 ب] لم يكن أحدًا. فإن تأويل الأحد بهذا المعنى لا يعرفه أحدٌ من العرب ولا أهل اللغة، ولا يُعرَف استعمالُه في لغة القوم في هذا المعنى في موضعٍ واحدٍ أصلًا، وإنما هو اصطلاح الجهمية والفلاسفة والمعتزلة ومَن وافقهم.
وكتأويل قوله: {ثُمَّ اَسْتَوَى عَلَى اَلْعَرْشِ} [الأعراف: 53] بأن المعنى أقبل
_________
(1) زاد بعده في «ب»: «أكثر».
(1/33)
على خلق العرش، فإن هذا لا يُعرف في لغة العرب، بل ولا غيرها من الأُمم أن مَنْ أقبل على الشيء يقال: قد استوى عليه، ولا يقال لمن أقبل على الرجل: قد استوى عليه، ولا لمن أقبل على عمل من الأعمال من قراءة أو كتابة أو صناعة: قد استوى عليها، ولا لمن أقبل على الأكل قد استوى على الطعام. فهذه لغة القوم وأشعارهم وألفاظهم موجودة ليس في شيءٍ (1) منها ذلك البتة.
وهذا التأويل يَبطُل من وجوهٍ كثيرةٍ سنذكرها في موضعها (2)، لو لم يكن منها إلَّا تكذيب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لصاحب هذا التأويل لكفاه، فإنه قد ثبت في الصحيح (3): «إِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ». فكان العرش موجودًا قبل خلْقِ السماوات والأرض بأكثر من خمسين ألف سنة، فكيف يقال إنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم أقبل على خلق العرش.
والتأويل إذا تضمَّن تكذيب صاحبه (4) فحسبُه ذلك بطلانًا، وأكثر تأويلات القوم من هذا الطراز، وسيمر بك منها ما هو قُرة عين لكل موحدٍ، وسخنة عين لكل ملحدٍ.
_________
(1) «ب»: «بشيء».
(2) للأسف هو في الجزء المفقود من الكتاب، وهو في «مختصر الصواعق» (3/ 888 – 946).
(3) صحيح مسلم (2653) عن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما -.
(4) «ب»: «الرسول».
(1/34)
الخامس: ما أُلِفَ استعماله في ذلك المعنى لكن في غير التركيب الذي ورد به النصُّ، فيحمله المتأوِّل في هذا التركيب الذي لا يحتمله على مجيئه في تركيبٍ آخر يحتمله، وهذا مِن أقبحِ الغلط والتلبيس (1)، كتأويل اليدين في قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74] بالنعمة. ولا ريب أن العرب تقول: لفلان عندي يدٌ، وقال عروة بن مسعود للصدِّيق: «لولا يدٌ لك عندي لم أَجْزِكَ بها لَأجبتُك» (2)؛ ولكن وقوع اليد في هذا التركيب الذي أضاف سبحانه فيه الفعلَ إلى نفسه، ثم تعدَّى الفعلُ إلى اليد بالباء التي هي نظير: كتبتُ بالقلم، وثنَّى (3) اليد، وجعل ذلك خاصةً خَصَّ بها صفِيَّه آدمَ دون البشر، كما خَصَّ المسيح بأنه نفَخَ فيه مِن رُوحه، وخَصَّ موسى بأنه كلَّمه بلا واسطة، فهذا ممَّا يحيل تأويل اليد في النصِّ بالنعمة، وإن كانت في تركيبٍ آخر تصلح لذلك، فلا يلزم من صلاحية اللفظ لمعنًى ما في تركيبٍ صلاحيته له في كل تركيبٍ.
وكذلك قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (21) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 21 – 22] يستحيل فيها تأويلُ النظر بانتظار الثواب؛ فإنه أضاف النظرَ إلى الوجوه التي هي محلُّه، وعدَّاه بحرف «إلى» التي إذا اتصل بها فِعل النظر كان مِن نَظرِ العين ليس إلَّا، ووصَفَ الوجوهَ بالنضرة التي لا تحصل إلَّا مع حضور ما يُتنعَّم به لا مع التنغيص بانتظاره، ويستحيل مع هذا التركيب تأويلُ النظر بغير الرؤية، وإن
_________
(1) «ب»: «والبلية».
(2) أخرجه البخاري (2731) عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم في حديث صلح الحديبية الطويل.
(3) «ح»: «وهي».
(1/35)
كان النظرُ بمعنى الانتظار قد استُعْمِل في قوله: {اُنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} [الحديد: 13] وقوله تعالى: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ اُلْمُرْسَلُونَ} [النمل: 36].
ومثلُ هذا قولُ الجهمي المُلبِّس: «إذا قال لك المشبِّه: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] فقل له: العرش له عدَّة (1) معانٍ، والاستواء له خمسةُ معانٍ، فأي ذلك المراد؟ فإن المشبِّه يتحير ولا يدري ما يقول، ويكفيك مؤونته».
فيقال لهذا الجاهل الظالم الفاتن المفتون: ويلَك! ما ذنب الموحِّد الذي سمَّيتَه أنت وأصحابك مُشبِّهًا، وقد قال لك نفس ما قال الله، فوالله لو كان مُشبِّهًا ـ كما تزعم ـ لكان أولى بالله ورسوله منك؛ لأنه لم يتعدَّ النص.
وأمَّا قولك: «للعرش سبعة معانٍ أو نحوها، وللاستواء خمسة معانٍ». فتلبيسٌ منك، وتمويهٌ على الجُهال، وكذبٌ ظاهرٌ؛ فإنه ليس لعرش الرحمن الذي استوى عليه إلَّا معنًى واحد، وإن كان للعرش من حيث الجملة عدة معانٍ، فاللام للعهد، وقد صار بها العرشُ مُعَيَّنًا، وهو عرش الربِّ جل جلاله الذي هو سَرِير مُلكه، الذي اتفقت عليه الرُّسل (2)، وأقرَّت به الأُمم إلَّا مَن نابَذَ الرُّسلَ.
وقولك: «الاستواء له عدَّة معانٍ». تلبيسٌ آخر؛ فإن الاستواء المُعدَّى بأداة «على» ليس له إلَّا معنًى واحد. وأمَّا الاستواء المطلق فله عدة معانٍ،
_________
(1) «ح»: «عنده» والمثبت من «ب»، «م»، وكتب فوقه في «ب»: «سبعة». وعليه «ظ» أي أنه استظهار من الناسخ.
(2) من قوله: «جل جلاله» إلى هنا سقط من «ح».
(1/36)
فإن العرب تقول: استوى كذا: إذا انتهى وكملَ. ومنه قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاَسْتَوَى} [القصص: 13]. وتقول: استوى وكذا: إذا ساواه، نحو قولهم: استوى الماءُ والخشبةُ، واستوى الليلُ والنهارُ. وتقول: استوى إلى كذا: إذا قصدَ إليه عُلوًّا وارتفاعًا، نحو: استوى إلى السطح والجبل. واستوى على كذا أي: إذا ارتفع عليه وعلا عليه. لا تعرف العربُ غيرَ هذا.
فالاستواء في هذا التركيب نَصٌّ لا يحتمل غيرَ معناه، كما هو نصٌّ في قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاَسْتَوَى} [القصص: 13] لا يحتمل غيرَ معناه، ونصٌّ في قولهم: «استوى الليلُ والنهارُ» في معناه لا يحتمل غيره. فدعوا التلبيس (1) فإنه لا يُجدِي عليكم إلَّا مقتًا عند الله وعند الذين آمنوا.
السادس: اللفظ الذي اطَّرد استعمالُه في معنًى هو ظاهرٌ فيه، ولم يُعهَد استعمالُه في المعنى المؤوَّل، أو عُهِدَ استعمالُه فيه نادرًا، فتأويلُه حيث وردَ، وحملُه على خلاف المعهود من استعماله باطلٌ، فإنه يكون تلبيسًا وتدليسًا يُناقض البيانَ والهداية. بل إذا أرادوا استعمال مثل هذا في غير معناه المعهود حفُّوا به من القرائن ما يُبيِّن للسامع مرادَهم به؛ لئلَّا يسبق فهمه إلى معناه المألوف. ومن تأمَّل [ق 5 أ] لغةَ القوم وكمالَ هذه اللغة وحكمةُ واضعها تبيَّن له صحة ذلك.
وأمَّا أنهم يأتون إلى لفظٍ له معنًى قد أُلف استعمالُه فيه، فيُخرِجونه عن معناه، ويطردون استعماله في غيره، مع تأكيده بقرائن تدل على أنهم أرادوا معناه الأصلي؛ فهذا من أمحلِ المحالِ. مثاله قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اَللَّهُ مُوسى
_________
(1) «ب»: «التلبس».
(1/37)
يا تَكْلِيمًا} [النساء: 163]، وقوله – صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ وَلَا حَاجِبٌ يَحْجُبُهُ» (1)، وقوله: «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا» (2). وهذا شأن أكثر نصوص الصِّفات إذا تأمَّلها مَن شرح الله صدره لقَبولها، وفرح بما أُنزِلَ على الرسول منها، يراها قد حُفَّت (3) من القرائن والمؤكِّدات بما (4) ينفي عنها تأويلَ المتأوِّل.
السابع: كل تأويلٍ يعود على أصل النصِّ بالإبطال فهو باطلٌ، كتأويل قوله – صلى الله عليه وسلم -: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ (5) نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» (6) بحمله على الأَمَةِ؛ فإن هذا التأويل ـ مع شدة مخالفته لظاهر اللفظ ـ يرجع على أصل النصِّ بالإبطال، وهو قوله: «فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا»، ومهرُ الأَمة إنما هو للسيد، فقالوا: نحمله على المكاتَبة. وهذا
_________
(1) أخرجه البخاري (7443) ومسلم (1016) عن عدي بن حاتم – رضي الله عنه -، وهذا لفظ البخاري.
(2) متفق عليه، وقد تقدم تخريجه.
(3) بعده في «ب»: «به».
(4) «ب»: «ما».
(5) «ب»: «نكحت».
(6) أخرجه أحمد (25104) وأبو داود (2083) والترمذي (1102) وابن ماجه (1879) وابن حبان (4074) والحاكم (2/ 182) عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها -، وحسَّنَه الترمذي، وصححه الحاكم وابن حبان وابن عبد الهادي في «التنقيح» (4/ 286) وابن الملقن في «البدر المنير» (7/ 533) ونقل ابن حجر في «البلوغ» (379) عن أبي عوانة تصحيحه. وينظر «نصب الراية» للزيلعي (3/ 184) و «موافقة الخُبر الخَبر» لابن حجر (2/ 205).
(1/38)
يرجع على أصل النص بالإبطال من وجهٍ آخر، فإنه أتى فيه بـ «أي» الشرطية التي هي من أدوات العموم، وأكَّدها بـ «ما» المقتضية تأكيدَ العموم (1)، وأتى بالنكرة في سياق الشرط، وهي تقتضي العموم، وعلَّق بطلان النكاح بالوصف المناسب له المقتضي لوجود الحكم بوجوده، وهو نكاحها نفسها، ونبَّهَ على العلة المقتضية للبطلان، وهي افتياتها على وليها، وأكد الحُكم بالبطلان مرةً بعد مرةٍ ثلاثَ مرات، فحملُه على صورة لا تقع في العالَم إلَّا نادرًا يرجع على مقصود النص بالإبطال (2). وأنت إذا تأملتَ عامة تأويلات الجهمية رأيتَها من هذا الجنس بل أشنع.
الثامن: تأويل اللفظ الذي له معنًى ظاهر لا يُفهَم منه عند إطلاقه سواه بالمعنى الخفي الذي لا يطَّلع عليه إلَّا أفراد من أهل النظر والكلام، كتأويل لفظ الأحد الذي تفهمه الخاصةُ والعامة بالذات المجردة عن الصِّفات التي لا يكون فيها معنيان (3) بوجهٍ ما، فإن هذا لو أمكن ثبوتُه في الخارج لم يُعرَف إلَّا بعد مقدمات طويلة صعبة (4) جدًّا، فكيف وهو محال في الخارج، وإنَّما يفرضه الذهن فرضًا، ثم يستدل على وجوده الخارجي! فيستحيل وضعُ اللفظ المشهور عند كل أحدٍ لهذا المعنى الذي هو في غاية الخفاء، وستمرُّ بك نظائرُه إن شاء الله تعالى.
التاسع: التأويل الذي يُوجِب تعطيل المعنى الذي هو في غاية العلوِّ
_________
(1) «وأكدها بما المقتضية تأكيد العموم». سقط من «ح».
(2) «ب»: «بالبطلان».
(3) في النسختين: «معنيين». والمثبت من «م».
(4) «ب»: «ضعيفة».
(1/39)
والشرف، ويحطه إلى معنًى دونه بمراتبَ كثيرةٍ. وهو شبيه بعزلِ سلطانٍ عن مُلكه، وتوليته مرتبةً دون المُلك بكثيرٍ. مثالُه تأويل الجهمية قولَه: {وَهْوَ اَلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 19] وقولَه: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] ونظائره بأنها فوقية الشرف، كقولهم: الدرهم فوق الفَلْس، والدينار فوق الدرهم. فتأمَّلْ تعطيلَ المتأوِّلين حقيقةَ الفوقية المطلقة التي هي من خصائص الربوبية، وهي المستلزِمة لعظمة الربِّ جل جلاله، وحطَّها إلى كَوْن قَدْره فوق قَدْر بني آدم، وأنه أشرفُ منهم.
وكذلك تأويلهم علوَّه بهذا المعنى، وأنه كعلوِّ الذهب على الفضة. وكذلك تأويلهم استواءَه على عرشه بقدرته عليه، وأنه غالب له. فيالله العجب هل ضلَّت العقول، وتاهت الأحلام (1)، وشكَّت العقلاءُ في كونه سبحانه غالبًا لعرشه قادرًا عليه، حتى يُخبِرَ به سبحانه في سبعة مواضعَ من كتابه مطردةٍ بلفظٍ واحدٍ، ليس فيها موضعٌ واحدٌ يُراد به المعنى الذي أبداه المتأوِّلون، وهذا التمدُّح والتعظيم كله لأجل أن يُعرِّفنا أنه قد غلب عرشَه وقدَرَ عليه، وكان ذلك بعد خلق السماوات والأرض! أفترى أنه (2) لم يكن سبحانه غالبًا للعرش قادرًا عليه في مدة تزيد على خمسين ألف سنةٍ، ثم تَجدَّدَ له ذلك بعد خَلْقِ هذا العالَم؟!
العاشر: تأويلُ اللفظ بمعنًى لم يدل عليه دليلٌ من السياق ولا معه قرينة تقتضيه، فإن هذا لا يقصده المبيِّنُ الهادي بكلامه، إذ لو قصدَه لحفَّ بالكلام قرائنَ تدل على المعنى المخالِف لظاهره؛ حتى لا يُوقِعَ السامعَ في اللبس
_________
(1) «ح»: «الأحكام». وهو تصحيف.
(2) «أنه» من «ب».
(1/40)
والخطأ، فإن الله سبحانه أنزل كلامه بيانًا وهدًى، فإذا أراد به خلاف ظاهره، ولم يحفَّ به قرائنَ تدل على المعنى الذي يتبادر غيرُه إلى فَهْم كل أحدٍ لم يكن بيانًا ولا هدًى.
فهذه بعض الوجوه التي يُفَرَّقُ بها بين التأويل الصحيح والباطل، وبالله المستعان.
* * * * *
(1/41)
الفصل الثالث (1)
في أنَّ التأويل إخبارٌ عن مراد المتكلم لا إنشاءٌ
فهذا (2) الموضع ممَّا يغلط فيه كثيرٌ من الناس غلطًا قبيحًا، فإن المقصود فَهْمُ مراد المتكلم بكلامه، فإذا قيل معنى اللفظ كذا وكذا، كان إخبارًا بالذي عَنَاه المتكلم، فإن لم يكن هذا الخبرُ مطابقًا كان كذبًا على المتكلم.
ويُعْرَف مراد المتكلِّم بطرقٍ متعددةٍ:
منها: أن يُصرِّح بإرادة ذلك المعنى.
ومنها: أن يستعمل اللفظَ الذي له معنًى ظاهر بالوضع، ولا تبيَّن (3) بقرينة تصحب الكلامَ أنه لم يُردْ ذلك المعنى.
فكيف إذا حفَّ بكلامه ما يدل على أنه إنما أراد حقيقتَه وما وُضِعَ له، كقوله: {وَكَلَّمَ اَللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 163]. و «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي (4) الظَّهِيرَةِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ» (5). و «اللهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ بِأَرْضٍ دَوِّيَّةٍ مَهْلَكَةٍ (6)، عَلَيْهَا طَعَامُهُ
_________
(1) «ح»: «الثاني».
(2) «ب»: «هذا».
(3) كذا في النسختين.
(4) «في» ليس في «ب».
(5) متفق عليه، وقد تقدم تخريجه.
(6) أمَّا دوية فاتفق العلماء على أنها بفتح الدال وتشديد الواو والياء جميعًا، والدوية: الأرض القفر والفلاة الخالية، وأمَّا المهلكة فهي بفتح الميم وبفتح اللام وكسرها، وهي موضع خوف الهلاك. «شرح صحيح مسلم» للنووي (17/ 61).
(1/42)
وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا، فَنَامَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فَإِذَا رَاحِلَتُه عِنْدَ رَأْسِهِ، فاللهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ» (1). فهذا ممَّا يقطع السامعُ فيه بمراد المتكلمِ، فإذا أخبر عن مراده [ق 5 ب] بما دلَّ عليه حقيقة لفظه الذي وُضِعَ له (2) مع القرائن المؤكِّدة له كان صادقًا في إخباره. وأمَّا إذا تأوَّل كلامَه بما لم (3) يدلَّ عليه لفظه، ولا اقترن به (4) ما يدلُّ عليه، فإخبارُه بأن هذا مراده كذبٌ عليه.
فقول القائل: يُحمَلُ (5) اللفظُ على كذا وكذا. يقال له: ما تعني بالحمل؟ أتعني به أن اللفظ موضوع لهذا المعنى، فهذا نقلٌ مجردٌ موضعُه كتب اللغة، فلا أثرَ لحملك. أم تعني به اعتقادَ أن المتكلم أراد ذلك المعنى الذي حملتَه عليه، فهذا قولٌ عليه بلا علمٍ، وهو كذبٌ مفترًى إن لم تأتِ بدليلٍ يدل على أن المتكلم أراده. أم تعني به أنك أنشأت (6) له معنًى، فإذا سمعتَه اعتقدت أن ذلك معناه؛ وهذا حقيقة قولك وإن لم تُرِدْه.
فالحملُ إمَّا إخبارٌ عن المتكلم بأنه أراد ذلك المعنى، فهذا الخبر إمَّا صادقٌ إن كان ذلك المعنى هو المفهوم من لفظ المتكلم، وإمَّا كاذبٌ إن كان
_________
(1) أخرجه البخاري (6308) ومسلم (2744) عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -.
(2) «له» ليس في «ح».
(3) «لم» ليس في «ب».
(4) «ب»: «عليه».
(5) «ح»: «ويحمل».
(6) «ب»: «أن الشيء».
(1/43)
لفظُه لم يدلَّ عليه، وإمَّا إنشاءٌ لاستعمال ذلك اللفظ في هذا المعنى، وهذا إنما يكون في كلام تُنشِئه أنت، لا في كلام الغير.
وحقيقة الأمر أن قول القائل: نحمله على كذا، أو نتأولُه بكذا. إنما هو من باب دفْعِ دلالة اللفظ على ما وُضِعَ له، فإن منازعَه لما احتجَّ عليه به، ولم يمكنه دفعُ ورودِه، دفَعَ معناه، وقال: أحملُه على خلاف ظاهره.
فإن قيل: بل للحمل معنًى آخر لم تذكروه، وهو أن اللفظ لمَّا استحال أن يراد به حقيقتُه وظاهرُه ولا يمكن تعطيله، استدللنا بوروده وعدم إرادة ظاهره على أن مجازه هو المراد، فحملناه عليه دلالةً، لا ابتداءً وإنشاءً.
قيل: فهذا المعنى هو الإخبار عن المتكلم أنه أراده، وهو إمَّا صدقٌ أو كذبٌ ـ كما تقدم ـ ومن الممتنع أن يريد خلاف حقيقته وظاهره، ولا يُبَيِّن للسامع المعنى الذي أراده، بل يقترن (1) بكلامه ما يُؤكد إرادة الحقيقة، ونحن لا نمنع أن المتكلم قد يريد بكلامه خلاف ظاهره إذا قصد التعميةَ على السامع حيث يسوغ ذلك، كما في المعاريض التي يجب أو يسوغ تعاطيها، ولكن المنكر غاية الإنكار أن يريد بكلامه خلافَ ظاهره وحقيقته إذا قصد البيانَ والإيضاح وإفهام مراده. فالخطاب نوعان: نوعٌ يُقصَد به التعميةُ على السامع، ونوعٌ يُقصَد به البيانُ والهداية والإرشاد. فإطلاقُ اللفظ وإرادةُ خلاف حقيقته وظاهره من غير قرائنَ تحتفُّ به تُبيِّنُ المعنى (2) المراد، محلُّه النوع الأول لا الثاني، والله أعلم.
_________
(1) «ب»: «يعرب».ولعله تحريف «يقرن».
(2) «المعنى» ليس في «ب».
(1/44)
الفصل الرابع (1)
في الفرق بين تأويل الخبر وتأويل الطلب
لمَّا كان الكلام نوعان (2): خبرٌ وطلبٌ، وكان المقصود من الخبر تصديقه، ومن الطلب امتثاله، كان المقصود من تأويل الخبر هو تصديق مُخبِره، ومن تأويل الطلب هو امتثاله، وكان كل تأويلٍ يعود على المخبِر بالتعطيل وعلى الطلب بالمخالفة تأويلًا باطلًا.
والمقصود الفرقُ بين تأويل الأمر والنهي وتأويل الخبر، فالأول معرفته فرضٌ على كل مكلَّفٍ؛ لأنه لا يمكنه الامتثالُ إلَّا بعد معرفة تأويله.
قال سفيان بن عيينة: «السُّنَّة هي تأويل الأمر والنهي» (3).
ولا خلاف بين الأُمة أنَّ الراسخين في العلم يعلمون هذا التأويل، وأرسخُهم في العلم أعلمُهم به. ولو كان معرفة هذا التأويل ممتنعًا على البشر لا يعلمه إلَّا اللهُ لكان العمل بنصوصه ممتنعًا، كيف والعمل بها واجبٌ، فلا بد أن يكون في الأُمة من يعرف تأويلَها، وإلا كانت الأُمة كلها مضيعةً لما أُمرت به.
وقد يكون معنى النَّص بيِّنًا جليًّا، فلا تختلف الأُمة في تأويله، وإن وقع الخلاف في حُكمه لخفائه على من لم يبلغه، أو لقيام معارضٍ عنده، أو
_________
(1) «ح»: «الثالث».
(2) كذا في النسختين بالألف، وهو خبر كان.
(3) لم نقف عليه مسندًا إلى ابن عيينة بهذا اللفظ، وقد نسبه له شيخ الإِسلام ابن تيمية في «درء تعارض العقل والنقل» (1/ 206) و «التدمرية» (ص 94).
(1/45)
لنسيانه = فهذا يُعذَر فيه المخالف إذا كان قصدُه اتباعَ الحق، ويثيبه اللهُ على قصده. وأمَّا من بلغه النَّصُّ وذكره، ولم يقم عنده ما يعارضه، فإنه لا يسعه مخالفتُه، ولا يُعذَر عند الله بتركه لقول أحدٍ كائنًا من كان.
وقد تكون دلالة اللفظ غير جليةٍ، فيشتبه المرادُ به بغيره، فهنا مُعترَك النزاع بين أهل الاجتهاد في تأويله، ولأجل التشابه وقع النزاع، فيَفهم منها هذا (1) معنًى فيؤولها به، ويَفهم منها غيره معنًى آخر فيؤولها به. وقد يكون كلا الفهمين صحيحًا، والآية دلت على هذا وهذا، ويكون الراسخ في العلم هو الذي أوَّلَها بهذا وهذا، ومَن أثبت أحد المعنيين ونفى الآخر أقلُّ رسوخًا. وقد يكون أحدُ المعنيين هو المراد لا سيما إذا كانا متضادين، والراسخ في العلم هو الذي أصابه. فالتأويل في هذا القسم مأمورٌ به، مأجورٌ عليه صاحبُه، إمَّا أجرًا واحدًا وإمَّا أجرينِ (2).
وقد تنازع الصحابة في تأويل قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اُلنِّكَاحِ} [البقرة: 235] هل هو الأب أو الزوج (3).
وتنازعوا في تأويل قوله: {أَوْ لَامَسْتُمُ اُلنِّسَاءَ} [النساء: 43] هل هو الجماع، أو اللمس باليد والقُبلة ونحوها (4).
وتنازعوا في تأويل قوله: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] هل
_________
(1) «ب»: «هذا منها».
(2) «ب»: «أجران».
(3) يُنظر: «تفسير الطبري» (4/ 317 – 332) و «الدر المنثور» للسيوطي (3/ 30 – 31).
(4) يُنظر: «تفسير الطبري» (7/ 62 – 75) و «الدر المنثور» (4/ 457 – 460).
(1/46)
هو المسافر يصلي بالتيمم مع الجنابة، أو المجتاز بمواضع الصلاة كالمساجد وهو جنب (1).
وتنازعوا في تأويل ذوي القربى المستحقين من الخُمس، هل هم قَرابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أو قرابة الإمام (2).
وتنازعوا [ق 6 أ] في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِيئَ اَلْقُرْآنُ فَاَسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف: 204] هل يدخل فيه قراءة الصلاة الواجبة أم لا (3)؟
وتنازعوا في تأويل قوله: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 232] هل يتناول اللفظُ الحاملَ أم هو للحائل (4) فقط (5)؟
وتنازعوا في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اُلْمَيْتَةُ} [المائدة: 4] هل يدخل فيه ما مات في البحر أم لا (6)؟
_________
(1) يُنظر: «تفسير الطبري» (7/ 49 – 54) و «الدر المنثور» (4/ 453 – 455).
(2) يُنظر: «تفسير الطبري» (11/ 193 – 196) و «تفسير ابن أبي حاتم» (5/ 1704 – 1705).
(3) يُنظر: «تفسير الطبري» (10/ 658 – 667) و «تفسير ابن أبي حاتم» (5/ 1645 – 1647).
(4) «ب»: «للحامل».
(5) يُنظر: «أحكام القرآن» للجصاص (2/ 119 – 120) و «الاستذكار» لابن عبد البر (18/ 175) و «زاد المعاد» للمصنف (5/ 528 – 529).
(6) يُنظر: «أحكام القرآن» للجصاص (1/ 132 – 135) و «التجريد» للقدوري (12/ 62 – 63) و «التمهيد» لابن عبد البر (23/ 12).
(1/47)
وتنازعوا في تأويل الكلالة (1).
وفي تأويل قوله تعالى: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ اِلسُّدُسُ} (2) [النساء: 11].
وأمثال ذلك.
ولم يتنازعوا في تأويل آيات الصِّفات وأخبارها في موضعٍ واحدٍ، بل اتفقتْ كلمتُهم وكلمة التابعين بعدهم على إقرارها وإمرارها، مع فهم معانيها وإثبات حقائقها. وهذا يدل على أنها أعظم النوعين بيانًا، وأن العناية ببيانها أهمُّ؛ لأنها من تمام تحقيق الشهادتين، وإثباتها من لوازم التوحيد، فبيَّنها الله ورسوله بيانًا شافيًا (3) لا يقع فيه لبسٌ ولا إشكالٌ يوقع الراسخين في العلم في منازعةٍ ولا اشتباهٍ.
ومَن شرَح الله لها صدره ونوَّر لها قلبه يعلم أن دلالتها على معانيها أظهرُ من دلالة كثير من آيات الأحكام على معانيها. ولهذا آيات الأحكام لا يكاد يفهم معانيَها إلَّا الخاصةُ من الناس، وأمَّا آيات الأسماء والصفات فيشترك
_________
(1) الكلالة: من قولك: تكلَّله النسب. وهو مَن مات ولم يكن له والد ولا ولدٌ، ورُوي عن ابن عباس أن الكلالة ما دون الولد، وروي عن غيره أن الكلالة ما خلا الأب. ويُنظر: «تفسير الطبري» (6/ 475 – 480) و «تفسير ابن أبي حاتم» (3/ 887) و «الدر المنثور» (5/ 143 – 152).
(2) اختُلف في عدد الإخوة الذين يحجبون الأم من الثلث إلى السدس، فقيل اثنان، ورُوي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن أقلهم ثلاثة. ينظر: «تفسير الطبري» (6/ 464 – 467) و «السنن الكبرى» للبيهقي (7/ 227). وأفرد الحافظ ابن عبد الهادي لهذه المسألة جزءًا، ذكره ابن رجب في «ذيل الطبقات» (5/ 129).
(3) «شافيا» ليس في «ب».
(1/48)
في فهمها الخاص والعام، أعني: فَهْم أصل المعنى لا فهم الكُنْه والكيفية. ولهذا أشكل على بعض الصحابة قوله: {يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اُلْخَيْطُ اُلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اِلْأَسْوَدِ} حتى بُيِّنَ لهم بقوله: {مِنَ اَلْفَجْرِ} [البقرة: 186] ولم يشكل عليه ولا على غيره قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 185] وأمثالها من آيات الصِّفات، وأشكل على عمر بن الخطاب آية الكلالة، ولم يشكل عليه أول الحديد وآخر الحشر وأول سورة طه، ونحوها من آيات الصِّفات (1).
وأيضًا فإن بعض آيات الأحكام مجملة عُرِفَ بيانها بالسُّنَّة؛ كقوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 195] فهذا مجملٌ في قدْر الصيام والإطعام، فبيَّنته السُّنَّة بأنه صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة (2). وكذلك قوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ اِلْعَتِيقِ} [الحج: 27] مجملٌ في مقدار الطواف، فبيَّنته السُّنَّة بأنه سبعٌ (3). ونظائره كثيرة، كآية السرقة وآية الزكاة وآية الحج. وليس في آيات الصِّفات وأحاديثها مجملٌ يحتاج إلى بيانٍ مِن خارج، بل بيانها فيها، وإن جاءت السُّنَّة بزيادة في البيان والتفصيل فلم تكن آيات الصِّفات مجملةً محتملةً لا يُعلَم (4) المرادُ منها إلَّا بالسُّنَّة،
_________
(1) من قوله: «وأشكل على عمر» إلى هنا ليس في «ح».
(2) «بأنه صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة». في «ب»: «بنسك شاة أو إطعام ستة مساكين أو صيام ثلاثة أيام». والحديث أخرجه البخاري (1814) ومسلم (1201) عن كعب بن عجرة – رضي الله عنه -.
(3) من قوله: «وكذلك قوله» إلى هنا ليس في «ح».
(4) في «ب»: «مجملة لا يفهم».
(1/49)
بخلاف آيات الأحكام.
فإن قيل: هذا يرده ما قد عُرِفَ أن آياتِ الأمر والنهي والحلال والحرام مُحْكَمَةٌ، وآياتِ الصِّفات مُتشابهةٌ، فكيف يكون المُتشابه أوضحَ من المُحْكم؟!
قيل: التشابه والإحكام نوعان: تشابُه وإحكام يعمُّ الكتابَ كله، وتشابُه وإحكام يخص بعضه دون بعضٍ.
فالأول: كقوله تعالى: {اِللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ اَلْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا} [الزمر: 22] وقوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1] وقوله: {يس وَاَلْقُرْآنِ اِلْحَكِيمِ} [يس: 1].
والثاني: كقوله: {هُوَ اَلَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ اُلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7].
فإن أردتم بتشابه آيات الصِّفات النوع الأول فنَعَم، هي متشابهة غير متناقضة، يشبه بعضها بعضًا، وكذلك آيات الأحكام. وإن أردتم أنه (1) يشتبه المرادُ بها بغير المراد، فهذا وإن كان يعرض لبعض الناس فهو أمر نسبي إضافي، فيكون متشابهًا بالنسبة إليه دون غيره. ولا فرقَ في هذا بين آيات الأحكام وآيات الصِّفات، فإن المراد قد يشتبه (2) فيهما بغيره على بعض الناس دون بعض.
وقد تنازَعَ الناس في المحكم والمتشابه تنازُعًا كثيرًا، ولم يُعرف عن أحدٍ
_________
(1) في «ح»: «أن».
(2) في «ح»: «تشبه».
(1/50)
من الصحابة قط أن المتشابه آيات الصِّفات، بل المنقول عنهم يدل على خلاف ذلك، فكيف تكون آيات الصِّفات متشابهة (1) عندهم، وهم لا يتنازعون في شيءٍ منها، وآيات الأحكام هي المُحكَمة، وقد وقع بينهم النزاع في بعضها؟! وإنَّما هذا قول بعض المتأخرين، وسيأتي إشباع الكلام في هذا في الفصل المعقود له إن شاء الله تعالى.
* * * * *
_________
(1) في «ح»: «متشابه».
(1/51)
الفصل الخامس (1)
في الفرق بين تأويل التحريف وتأويل التفسير
وأن الأول ممتنعٌ (2) وقوعُه في الخبر والطلب والثاني يقع فيهما
ذكَر الله سبحانه التحريف ـ وذمَّه حيث ذكره ـ وذكر التفسير وذكر التأويل.
فالتفسير هو: إبانة المعنى وإيضاحه، قال الله تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33] وهذا غاية الكمال، أن يكون المعنى في نفسه حقًّا، والتعبير عنه أفصحَ تعبيرٍ وأحسنه. وهذا شأن القرآن وكلام الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
والتحريف: العدول بالكلام عن وجهه وصوابِه إلى غيره. وهو نوعان: تحريفُ لفظه، وتحريفُ معناه. والنوعان مأخوذان في الأصل عن اليهود، فهم الراسخون فيهما (3)، وهم شيوخ المحرِّفين وسلفُهم؛ فإنهم حرَّفوا كثيرًا من ألفاظ التوراة، وما غُلِبوا عن تحريف لفظه حرَّفوا معناه، ولهذا وُصفوا بالتحريف في القرآن دون غيرهم من الأُمم. ودرج على آثارهم في ذلك الرافضةُ؛ فهم أشبهُ بهم من القُذَّة بالقُذَّة (4)، والجهميةُ؛ فإنهم سلكوا في
_________
(1) «ح»: «الرابع».
(2) «ب»: «يمتنع».
(3) «ح»: «فيها».
(4) القذة: ريشة السهم، وقوله: «أشبه بهم من القذة بالقذة» أراد تمام الشبه بينهما؛ لأن كل واحدة من القذتين تُقَّدر على قدر صاحبتها وتقطع. ينظر «النهاية في غريب الحديث» (4/ 28).
(1/52)
تحريف النصوص الواردة (1) في الصِّفات مسالكَ إخوانهم من اليهود. ولمَّا لم يتمكنوا من تحريف نصوص القرآن حرَّفوا معانيَه وسطَوْا عليها، وفتحوا باب التأويل لكل ملحدٍ يكيد الدِّين، فإنه جاء فوجد بابًا مفتوحًا وطريقًا مسلوكة، ولم يمكنهم أن يُخرِجوه من بابٍ، أو يردُّوه من طريقٍ قد شاركوه فيها. وإن كان الملحد قد وسَّع بابًا هم فتحوه وطريقًا [ق 6 ب] هم اشتقوه (2) فهُمَا بمنزلة رجلين ائتُمِنا على مالٍ، فتأوَّل أحدهما وأكل منه دينارًا، فتأوَّل الآخر، وأكل منه عشرة. فإذا (3) أنكر عليه صاحبُه قال: إن حلَّ (4) أكلُ الدينار بالتأويل حلَّ (5) أكلُ العشرة به. ولا سيما إذا زعم آكِلُ الدينار أن الذي ائتمنه إنما أراد منه التأويل، وأن المتأول أعلم بمراده من الممسك، فيقول له صاحبه: أنا أسعدُ منك وأولى بأكل هذا المال.
والمقصود أن التأويل يتجاذبه أصلانِ: التفسير والتحريف، فتأويل التفسير هو الحق، وتأويل التحريف هو الباطل.
فتأويل التحريف من جنس الإلحاد؛ فإنه هو المَيْل بالنصوص عمَّا هي عليه، إمَّا بالطعن فيها، أو بإخراجها عن حقائقها مع الإقرار بلفظها. وكذلك الإلحاد في أسماء الله، تارةً يكون بجحد معانيها وحقائقها، وتارةً يكون بإنكار المُسمَّى بها، وتارة يكون بالتشريك بينه وبين غيره فيها. فالتأويل الباطل هو
_________
(1) «الواردة» ليس في «ب».
(2) «ح»: «استبقوه».
(3) «ح»: «وإذا».
(4) «ح»: «أكل».
(5) «ح»: «أكل».
(1/53)
إلحادٌ وتحريفٌ، وإن سمَّاه أصحابُه تحقيقًا وعرفانًا وتأويلًا.
فمِن تأويل التحريف والإلحاد تأويل الجهمية قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اَللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 163] أي: جرَّحَ قلبَه بالحِكم والمعارف تجريحًا.
ومن تحريف اللفظ تحريف إعراب قوله: {وَكَلَّمَ اَللَّهُ} من الرفع إلى النصب، وقال: وكلم اللهَ، أي: موسى كلم الله، ولم يكلمه اللهُ. وهذا من جنس تحريف اليهود، بل أقبح منه، واليهود في هذا الموضع أولى بالحق منهم. ولمَّا حرَّفها بعض الجهمية هذا التحريفَ قال له بعض أهل التوحيد: فكيف تصنع بقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143]؟! فبُهت المحرِّف.
ومن هذا أن بعض الفرعونية سأل بعض أئمة العربية: هل يمكن أن يُقرأ «العرشُ» بالرفع في قوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4]؟ وقصد الفرعوني بهذا التحريف أن يكون الاستواءُ صفةً للمخلوق لا للخالق، ولو تيسر لهذا الفرعوني هذا التحريف في هذا الموضع لم يتيسر له في سائر الآيات!
ومن تأويل التحريف تأويل قوله – صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاواتِ كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ (1) عَلَى الصَّفْوَانِ فَيُصْعَقُونَ، فَيَكُون أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ جِبْرِيلُ» (2).
قالوا: تأويله إذا تكلَّم مَلَكُ الله بالوحي، لا أن الله يتكلم. فجعلوا
_________
(1) كذا، وفي «سنن أبي داود» وغيره من مصادر التخريج: «صلصلة كجر السلسلة».
(2) أخرجه أبو داود (4738) وابن خزيمة في «التوحيد» (207) وابن حبان (37) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (548) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (433) عن ابن مسعود – رضي الله عنه – مرفوعًا بنحوه.
ورواه البخاري في «خلق أفعال العباد» (482، 484) وابن خزيمة في «التوحيد» (208) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (549) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (432) عن ابن مسعود – رضي الله عنه – موقوفًا. وعلقه البخاري في «صحيحه» (9/ 141).
ورجح الموقوف الدارقطني في «العلل» (852) والخطيب في «تاريخه» (13/ 328).
ولم أقف في حديث ابن مسعود – رضي الله عنه – على قوله: «فيكون أول من يفيق جبريل». وقد وجدت المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ في «تهذيب السنن» (3/ 303) عقب ذكره لحديث ابن مسعود عزا نحو هذا اللفظ للبيهقي من حديث نعيم بن حماد، حدثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن يزيد بن جابر، عن ابن أبي زكريا، عن رجاء بن حيوة، عن النواس بن سمعان – رضي الله عنه -. قلت: والحديث في «الأسماء والصفات» (435)، وقد رواه ابن أبي عاصم في «السنة» (515) وابن خزيمة في «التوحيد» (206) وغيرهما. لكن قال عنه عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم: لا أصل له. نقله عنه أبو زرعة الدمشقي في «تاريخه» (1783).
وروى البخاري في «صحيحه» (7481) عن أبي هريرة – رضي الله عنه – مرفوعًا نحو حديث ابن مسعود – رضي الله عنه -.
وفي الباب عن جماعة من الصحابة – رضي الله عنهم – مرفوعًا وموقوفًا، ينظر: «الدر المنثور» (12/ 208 – 211).
(1/54)
صعقَ الملائكة وخرورهم سُجَّدًا لكلام جبريل الذي قد صُعق معهم مِن كلام نفسه.
ومن تأويل التحريف تأويلُ القدرية المجوسية نصوصَ القَدَرِ بما أخرجها عن حقائقها ومعانيها، وتأويلُ الجهمية نصوصَ الصِّفات بما أخرجها عن حقائقها، وأوجبَ تعطيل الربِّ جل جلاله عن صفات كماله،
(1/55)
كما عطلته القدريةُ عن كمال قدرته ومشيئته.
فنحن لا ننكر التأويل، بل حقيقةُ العلم هو التأويلُ، والراسخون في العلم هم أهل التأويل، ولكن أي التأويلينِ؟ فنحن أسعدُ بتأويل التفسير من غيرنا، وغيرنا أشقى بتأويل التحريف منَّا، والله الموفِّق للصواب.
* * * * *
(1/56)
الفصل السادس (1)
في تعجيز المتأولين عن تحقيق (2) الفرق بين ما يسوغ تأويلُه من آيات (3) الصِّفات وأحاديثها وما لا يسوغ
لا ريب أنَّ الله سبحانه وصف نفسه بصفات، وسمَّى نفسه بأسماء، وأخبر عن نفسه بأفعال. فسمَّى نفسه بالرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، إلى سائر ما ذَكَر من أسمائه الحُسنى. ووصف نفسه بما ذكره من الصِّفات، كسورة الإخلاص وأول الحديد وأول طه وغير ذلك، ووصف نفسه بأنه يحب ويكره، ويمقت ويرضى، ويغضب ويأسف ويسخط، ويجيء ويأتي وينزل إلى سماء الدنيا، وأنه استوى على عرشه، وأن له عِلمًا وحياة وقدرة وإرادة وسمعًا وبصرًا ووجهًا، وأنَّ له يدين، وأنَّه فوق عباده، وأن الملائكة تعرج إليه وتنزل بالأمر من عنده، وأنه قريب، وأنه مع المحسنين، ومع الصابرين، ومع المتقين، وأنَّ السماوات مطويات بيمينه.
ووصفه رسوله بأنه يفرح ويضحك، وأن قلوب العباد بين أصابعه، وغير ذلك ممَّا وصف به نفسَه ووصفه به رسولُه.
فيقال للمتأوِّل: هل تتأول هذا كله على خلاف ظاهره، وتمنع حملَه على حقيقته، أم تُقِرُّ (4) الجميع على ظاهره وحقيقته، أم تفرِّق بين بعض
_________
(1) «ح»: «الخامس».
(2) «ح»: «حقيقة».
(3) «ح»: «إثبات».
(4) «ح»: «تفسر».
(1/57)
ذلك وبعضه؟
فإن تأوَّلت الجميع وحملتَه على خلاف حقيقته كان ذلك عنادًا ظاهرًا وكفرًا صُراحًا وجحدًا للربوبية (1)، وحينئذٍ فلا تستقر لك قدمٌ على إثبات ذات الرب تعالى، ولا صفة من صفاته، ولا فعل من أفعاله. فإن أعطيتَ هذا من نفسك ولم تستهجنه التحقتَ (2) بإخوانك الدهرية الملاحدة الذين لا يُثْبتون للعالَم خالقًا ولا ربًّا.
فإن قلتَ: بل أُثْبِتُ أنَّ للعالَم صانعًا وخالقًا، ولكن لا أصفه بصفة تقع على خلقه، وحيث وصف بما يقع على المخلوق أتأوَّلُه.
قيل لك: فهذه الأسماء الحُسنى والصفات التي وصف بها نفسَه هل تدل على معانٍ ثابتة هي حقٌّ في نفسها أم لا تدل؟ فإن نفيتَ دلالتها على معنًى ثابت كان ذلك غايةَ التعطيل، وإن أثبتَّ دلالتها [ق 7 أ] على معانٍ هي حقٌّ ثابتٌ، قيل لك: فما الذي سوَّغ لك تأويل بعضها دون بعض؟ وما الفرق بين ما أثبتَّه ونفيتَه وسكتَّ عن إثباته ونفيه من جهة السمع أو (3) العقل؟
ودلالة النصوص (4) على أنَّ له سمعًا وبصرًا وعلمًا وقدرةً وإرادةً وحياةً وكلامًا كدلالتها على أن له رحمةً ومحبةً وغضبًا ورضًى وفرحًا وضحكًا ووجهًا ويدينِ، فدلالة النصوص على ذلك سواء، فلِمَ نفيتَ حقيقةَ رحمتِه
_________
(1) «ح»: «لربوبيته».
(2) «ح»: «ألحقت».
(3) «ب»: «و».
(4) «ح»: «النص».
(1/58)
ومحبته ورضاه وغضبه وفرحه وضحكه وأولتَها بنفس الإرادة؟
فإن قلتَ: لأن (1) إثباتَ الإرادة والمشيئة لا يستلزم تشبيهًا وتجسيمًا، وإثباتَ حقائق هذه الصِّفات يستلزم التشبيهَ والتجسيم، فإنها لا تُعقَل إلَّا في الأجسام، فإن الرحمة رقَّة تعتري طبيعة الحيوان، والمحبة ميل النفس لجلب ما ينفعها، والغضب غليان دم القلب طلبًا للانتقام، والفرح انبساط دم القلب لورود ما يسرُّه عليه.
قيل لك (2): وكذلك الإرادة هي مَيْلُ النفس إلى جلب ما ينفعها ودفْعِ ما يضرها، وكذلك جميع ما أثبتَّه من الصِّفات إنما هي أعراض قائمة بالأجسام في الشاهد، فإن العلم انطباع صورة المعلوم (3) في نفس العالِم، أو صفة عَرَضية قائمة به، وكذلك السمع والبصر والحياة أعراض قائمة بالموصوف، فكيف لزم التشبيهُ والتجسيم من إثبات تلك الصِّفات، ولم يلزم من إثبات هذه؟
فإن قلتَ: لأني (4) أثبتُّها على وجهٍ لا يُماثل صفاتنا ولا يشابهها.
قيل لك: فهلَّا أثبتَّ الجميع على وجه لا يُماثل صفات المخلوقين ولا يشابهها (5)، ولِمَ فهمتَ من إطلاق هذا (6) التشبيهَ والتجسيم، وفهمتَ
_________
(1) «ح»: «إن».
(2) «ح»: «قبل ذلك».
(3) «ب»: «العلوم».
(4) «ح»: «أنا».
(5) من قوله: «قيل لك: فهلا أثبت» إلى هنا ليس في «ح».
(6) «ح»: «هذه».
(1/59)
من إطلاق تلك التنزيهَ والتوحيد؟ وهلَّا قلتَ: أثبتُّ له رحمةً (1) ومحبةً وغضبًا ورضًى وضحكًا ليس من جنس صفات المخلوقين.
فإن قلتَ: هذا لا يُعقل.
قيل لك: فكيف عقلتَ سمعًا وبصرًا وحياةً وإرادةً ومشيئةً ليست من جنس صفات المخلوقين؟!
فإن قلتَ: أنا أفرِّق بين ما يُتأوَّل وبين (2) ما لا يُتأوَّل بأن (3) ما دلَّ العقل على ثبوته يمتنع تأويلُه، كالعلم والحياة والقدرة والسمع والبصر. وما لا يدل عليه العقلُ يجب أو يسوغ تأويله، كالوجه واليد والضحك والفرح والغضب والرضى، فإن الفعل (4) المحكَم دلَّ على قدرة الفاعل، وإحكامه دلَّ على علمه، والتخصيص دلَّ على الإرادة، فيمتنع مخالفة ما دلَّ عليه صريح العقل.
قيل لك أولًا: وكذلك الإنعام والإحسان وكشْف الضر وتفريج الكربات دلَّ على الرحمة، كدلالة التخصيص على الإرادة سواء. والتخصيصُ بالكرامة والاصطفاءُ والاجتباءُ دالٌّ على المحبة كدلالة ما ذكرتَ على الإرادة، والإهانةُ والطردُ والإبعادُ والحرمانُ دالٌّ على المقت والبغض كدلالة ضده على الحب والرضى، والعقوبةُ والبطشُ والانتقامُ (5) دالٌّ على الغضب كدلالة ضدِّه على الرضى.
_________
(1) «ح»: «وجه».
(2) «بين» ليس في «ب».
(3) «ب»: «فإن».
(4) «ب»: «العقل».
(5) «ح»: «والإسقام».
(1/60)
ويقال ثانيًا: هَبْ أن العقل لا يدل على إثبات هذه الصِّفات التي نفيتَها، فإنه لا ينفيها، والسمع دليلٌ مستقلٌّ بنفسه، بل الطمأنينة إليه في هذا الباب أعظمُ من الطمأنينة إلى مجرد العقل، فما الذي يُسوِّغ لك نفيَ مدلوله؟
ويقال لك ثالثًا: إن كان ظاهر النصوص يقتضي تشبيهًا وتجسيمًا فهو يقتضيه في الجميع، فأوِّلِ الجميعَ، وإن كان لا يقتضي ذلك لم يَجُزْ تأويلُ شيءٍ منه. وإن زعمتَ أن (1) بعضها يقتضيه وبعضها لا يقتضيه طُولِبتَ بالفرق بين الأمرين، وعادت المطالبة جذَعًا.
ولمَّا تفطَّنَ بعضُهم لتعذُّر الفرق قال: ما دلَّ عليه الإجماعُ كالصِّفات السبعة لا يُتأوَّل، وما لم يدلَّ عليه إجماعٌ فإنه يُتأوَّل. وهذا كما تراه مِن أفسد الفروق، فإن مضمونه أن الإجماع أثبتَ ما يدل على التجسيم والتشبيه، ولولا ذلك لتأولناه، فقد اعترفوا بانعقاد الإجماع على التشبيه والتجسيم، وهذا قدحٌ في الإجماع فإنه لا ينعقد على باطل.
ثم يقال: إن كان الإجماع قد انعقد على إثبات هذه الصِّفات، وظاهرُها يقتضي التجسيم والتشبيه (2)، بطل نفيُكم لذلك، وإن لم ينعقد عليها بطل التفريقُ به.
ثم يقال: خصومكم من المعتزلة لم تُجمِع (3) معكم على إثبات هذه الصِّفات.
_________
(1) «أن» ليس في «ب».
(2) «ح»: «التشبيه والتجسيم».
(3) في النسختين: «يجمع». والمثبت من «م».
(1/61)
فإن قلتم: انعقد الإجماع قبلهم.
قيل: صدقتم والله، والذين أجمعوا قبلهم على هذه الصِّفات أجمعوا على إثبات سائر الصِّفات ولم يخصُّوها بسبعٍ، بل تخصيصُها بسبع خلافُ قول السلف وقول الجهمية والمعتزلة. فالناس كانوا طائفتين: سلفية وجهمية، فحدَثَت الطائفةُ السَّبعية، واشتقت قولًا بين القولين، فلا للسلف اتبعوا، ولا مع الجهمية بقوا.
وقالت طائفة أخرى: ما لم يكن ظاهرُه جوارح وأبعاض، كالعلم والحياة والقدرة والإرادة والكلام لا يُتأوَّل. وما كان ظاهره جوارح وأبعاض، كالوجه واليدين والقدم والسَّاق والإصبع، فإنه يتعين تأويلُه؛ لاستلزام إثباته التركيبَ والتجسيم.
قال المُثبِتون: جوابُنا لكم بعين الجواب (1) الذي تُجِيبون به (2) خصومَكم من الجهمية والمعتزلة نفاةِ الصِّفات، فإنهم قالوا لكم: لو قام به سبحانه صفةٌ وجودية [ق 7 ب]، كالسمع والبصر والعلم والقدرة والحياة، لكان مَحَلًّا للأعراض، ولزم التركيبُ والتجسيم والانقسام، كما قلتم: لو كان له وجهٌ ويدٌ وإصبعٌ لزم التركيبُ والانقسام. فحينئذٍ فما هو جوابكم لهؤلاء نجيبكم به.
فإن قلتم: نحن نُثبِت هذه الصِّفات على وجهٍ لا تكون أعراضًا، ولا نسمِّيها أعراضًا، فلا يستلزم تركيبًا ولا تجسيمًا.
_________
(1) «الجواب» من «ب».
(2) «به» من «ب».
(1/62)
قيل لكم: ونحن نُثبِت الصِّفات التي أثبتها اللهُ لنفسه و (1) نفيتموها أنتم عنه على وجهٍ لا يستلزم الأبعاضَ والجوارح، ولا يُسمَّى المتصفُ بها مركَّبًا ولا جسمًا ولا منقسمًا.
فإن قلتم: هذه لا يُعقل منها إلَّا الأجزاء والأبعاض.
قلنا لكم: وتلك لا يُعقل منها إلَّا الأعراض.
فإن قلتم: العَرَضُ لا يبقى زمانينِ، وصفاتُ الربِّ باقيةٌ قديمة أبدية فليست أعراضًا.
قلنا: وكذلك الأبعاض، هي ما جاز مفارقتُها وانفصالها وانفكاكها، وذلك في حقِّ الربِّ تعالى مُحالٌ، فليست أبعاضًا ولا جوارحَ، فمفارقة الصِّفات الإلهية للموصوف بها مستحيلٌ مطلقًا في النوعين، والمخلوق يجوز أن تفارقه أعراضه وأبعاضه.
فإن قلتم: إن كان الوجهُ عينَ اليد وعينَ الساق والإصبع فهو مُحالٌ، وإن كان غيرَه لزم التميزُ (2)، ويلزم التركيب.
قلنا لكم: وإن كان السمع هو عين البصر، وهما نفس العِلم، وهي نفس الحياة والقدرة، فهو مُحالٌ، وإن تميزت لزم التركيب. فما هو جوابٌ لكم فالجواب مشتركٌ.
فإن قلتم: نحن نعقل صفاتٍ ليست أعراضًا تقوم بغير جسمٍ متحيزٍ (3)،
_________
(1) «ب»: «إذ».
(2) «ح»: «التمييز».
(3) ليس في «ح».
(1/63)
وإن لم يكن لها نظيرٌ في الشاهد.
قلنا لكم: فاعقلوا صفاتٍ ليست بأبعاض تقوم بغير جسمٍ، وإن لم يكن له (1) في الشاهد نظير.
ونحن لا ننكر الفرق بين النوعين في الجملة، ولكنْ فرقٌ غير نافعٍ لكم في التفريق بين النوعين، وأنَّ أحدهما يستلزم التجسيمَ والتركيب والآخرَ لا يستلزمه. ولمَّا أخذ هذا الإلزامُ بحُلُوق (2) الجهمية قالوا: الباب كله عندنا واحد، ونحن ننفي الجميعَ.
فتَبَيَّن (3) أنه لا بد لكم من واحدٍ من أمورٍ ثلاثةٍ: إمَّا هذا (4) النفي العام والتعطيل المحض، وإمَّا أن تصفوا الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسولُه، ولا تتجاوزوا القرآن والحديث، وتتَّبعُوا في ذلك سبيل السلف الماضين (5)، الذين هم أعلمُ الأمة بهذا الشأن نفيًا وإثباتًا، وأشد تعظيمًا لله وتنزيهًا له عمَّا لا يليق بجلاله. فإن المعاني المفهومة من الكتاب والسُّنَّة لا تُرد بالشُّبهات، فيكون ردُّها من باب تحريف الكَلِم عن مواضعه. ولا يترك تدبرها ومعرفتها، فيكون ذلك مشابَهةً للذين إذا ذُكِّروا بآيات ربهم خرُّوا عليها صُمًّا وعُميانًا.
_________
(1) من قوله: «نظير في الشاهد» إلى هنا ليس في «ح».
(2) «ح»: «بحراق».
(3) «ح»: «فبين».
(4) «ح»: «هكذا».
(5) «ح»: «الماضي».
(1/64)
ولا يقال: هي ألفاظ لا تُعقَل معانيها ولا يُعرف المرادُ منها، فيكون ذلك مشابَهةً للذين لا يعلمون الكتاب إلَّا أمانيَّ. بل هي آياتٌ بيناتٌ دالةٌ على أشرف المعاني وأجلِّها، قائمة حقائقها في صدور الذين أُوتوا العلم والإيمان إثباتًا بلا تشبيهٍ، وتنزيهًا بلا تعطيلٍ، كما قامت حقائق سائر صفات الكمال في قلوبهم كذلك.
فكان الباب عندهم بابًا واحدًا، قد اطمأنت به قلوبهم، وسكنت إليه نفوسهم، فآنَسُوا من صفات كماله ونعوت جلاله بما استوحش منه الجاهلون المعطِّلون، وسكنت قلوبهم إلى ما نفر منه الجاحدون. وعلموا أن الصِّفات حُكمها حكمُ الذات، فكما أن ذاته سبحانه لا تُشبِه الذوات فصفاتُه لا تشبه الصِّفات. فما جاءهم من الصِّفات عن المعصوم تلقَّوْه بالقبول، وقابلوه بالمعرفة والإيمان والإقرار لعلمهم بأنه صفةُ مَن لا شبيهَ (1) لذاته ولا لصفاته.
قال الإمام أحمد: «إنما التشبيه أنِّي أقول (2): يدٌ كَيَدٍ، أو وجهٌ كوجهٍ» (3).
فأمَّا إثبات يدٍ ليست كالأيدي، ووجهٍ ليس كالوجوه، فهو كإثبات ذات ليست كالذوات، وحياةٍ ليست كغيرها من الحياة، وسمعٍ وبصرٍ ليس كالأسماع والأبصار.
_________
(1) «ح»: «يشبه».
(2) «ب»: «أن تقول».
(3) أخرجه ابن بطة في «الإبانة الكبرى» (7/ 326) … من رواية حنبل بن إسحاق عن الإمام أحمد، ونقله القاضي أبو يعلى في «إبطال التأويلات» (1/ 43).
(1/65)
وليس إلَّا هذا المسلك، أو مسلك التعطيل المحض، أو التناقض الذي لا يَثبُت لصاحبه قدمٌ في النفي ولا في الإثبات، وبالله التوفيق.
وحقيقة الأمر أن كل طائفةٍ تتأوَّل ما يخالف نِحْلتَها (1) ومذهبَها، فالعيارُ على ما يُتأوَّل وما لا يُتأوَّل هو المذهبُ الذي ذهبتْ (2) إليه والقواعد التي أصَّلَتْها (3)، فما وافقها أقرُّوه ولم يتأوَّلوه، وما خالفها فإن أمكنهم دفعُه، وإلَّا تأوَّلوه.
ولهذا لما أصَّلتِ الرافضةُ عداوةَ الصحابة ردوا كل ما جاء في فضائلهم والثناء عليهم أو تأوَّلُوه.
ولمَّا أصَّلت الجهميةُ أنَّ الله لا يتكلم ولا يكلِّم أحدًا، ولا يُرى بالأبصار، ولا هو فوق عرشه مبايِنٌ لخلقه، ولا له صفة تقوم به. أوَّلوا كل ما خالف ما أصَّلوه.
ولمَّا أصَّلتِ القدريةُ أنَّ الله سبحانه لم يخلق أفعالَ عباده ولم يُقدِّرها عليهم، أوَّلُوا كل ما خالف أصولهم (4).
_________
(1) «ح»: «نحلها».
(2) «ح»: «ذهب».
(3) «ح»: «أصلها».
(4) «ب»: «ذلك».
(1/66)
ولمَّا أصَّلت المعتزلةُ القول بنفوذ الوعيد، وأن مَنْ دخل النار لم يخرج منها أبدًا، أوَّلُوا كل ما خالف أصولهم (1).
ولمَّا أصَّلت المرجئةُ أنَّ الإيمان هو المعرفة، وأنَّها لا تزيد ولا تنقص، أوَّلوا ما خالف أصولهم.
ولمَّا أصَّلت الكُلَّابيةُ أنَّ الله سبحانه لا يقوم به ما يتعلق بقدرته ومشيئته، وسمَّوْا ذلك حلولَ الحوادث، أوَّلوا كل ما خالف هذا الأصل.
ولمَّا أصَّلت الجبريةُ أنَّ قدرة العبد لا تأثيرَ لها في الفعل بوجهٍ من الوجوه، وأن حركات [ق 8 أ] العباد بمنزلة هُبوب الرياح وحركات الأشجار، أوَّلوا كل ما جاء بخلاف ذلك.
فهذا في (2) الحقيقة هو عيار التأويل عند الفرق كلِّها، حتى المقلِّدين في الفروع ـ أتباع الأئمة الذين اعتقدوا المذهب ثم طلبوا الدليل عليه ـ ضابطُ ما يُتأوَّل عندهم وما لا يُتأوَّل: ما خالف المذهبَ أو وافقَه. ومَن تأمَّل مقالات الفرق ومذاهبها رأى ذلك عِيانًا، وبالله التوفيق.
وكلٌّ مِن هؤلاء يتأول دليلًا سمعيًّا، ويُقِرُّ على ظاهره نظيرَه أو ما هو أشد (3) قبولًا للتأويل منه؛ لأنه ليس عندهم في نفس الأمر ضابطٌ كُلي (4) مطَّرِد منعكس، يُفرَّق به بين (5) ما يُتأوَّل وما لا يُتأوَّل، إن هو إلَّا المذهب وقواعده وما قاله الشيوخ. وهؤلاء لا يمكن أحدًا (6) منهم أن يحتج على
_________
(1) قوله: «ولما أصَّلت المعتزلة» إلى هنا ليس في «ح».
(2) في «ب»: «هو». وكتب فوقه: «في».
(3) «ب»: «شواهد».
(4) «ح»: «جلي».
(5) «به بين» من «ب».
(6) «ح»: «أحد».
(1/67)
مبطِلٍ بحُجةٍ سمعيةٍ؛ لأنه يسلك في تأويلها نظير ما سلكَه هو في تأويل ما خالف مذهبَه، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله (1).
* * * * *
_________
(1) سيأتي في الفصل العشرين.
(1/68)
الفصل السابع (1)
في إلزامهم في المعنى الذي جعلوه تأويلًا نظير ما فروا منه
هذا فصلٌ بديعٌ لمن تأمله، يعلم به أن المتأوِّلين لم يستفيدوا بتأويلهم إلَّا تعطيلَ حقائق النصوص والتلاعب بها وانتهاك حرمتها، وأنهم لم يتخلصوا ممَّا ظنُّوه محذورًا، بل هو لازمٌ لهم فيما فرُّوا إليه كلزومه فيما فرُّوا منه. بل قد يقعون (2) فيما هو أعظمُ محذورًا، كحال الذين تأوَّلوا (3) نصوص العلو والفوقية والاستواء فرارًا من التحيز والحصر، ثم قالوا: هو في كل مكانٍ بذاته. فنزهوه عن استوائه على عرشه ومباينته لخلقه، وجعلوه في أجواف البيوت والآبار والأواني والأمكنة التي (4) يُرغَب عن ذكرها. فهؤلاء قُدماء الجهمية، فلما عَلِم متأخِّروهم فسادَ ذلك قالوا: ليس وراء العالَم ولا فوق العرش إلَّا العدمُ المحض، وليس هناك ربٌّ يُعبد، ولا إله يُصلَّى له (5) ويُسجَد، ولا هو أيضًا في العالَم، فجعلوا نسبته إلى العرش كنسبته إلى أخسِّ مكانٍ، تعالى اللهُ عن قولهم علوًّا كبيرًا.
وكذلك فَعَل الذين نفَوُا القدَرَ السابق تنزيهًا لله عن مشيئة القبائح وخَلْقها، ونسبوه إلى أن يكون في مُلكه ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون، ولا يَقدِر على أن يَهدي ضالًّا ولا يُضِل مهتديًا، ولا يَقلِبُ قلبَ العاصي إلى
_________
(1) «ح»: «السادس».
(2) «ح»: «ينفون». وهو تحريف.
(3) «ح»: «قالوا».
(4) «ح»: «الذي».
(5) «ح»: «إليه».
(1/69)
الطاعة ولا المطيعِ إلى المعصية.
وكذلك الذين نزَّهوه عن أفعاله وقيامها به، وجعلوه كالجماد الذي لا يقوم به فعلٌ. وكذلك الذين نزَّهوه عن الكلام القائم به بقدرته ومشيئته، وجعلوه كالأبكم الذي لا يَقدِر أن يتكلَّم. وكذلك الذين نزَّهوه عن صفات كماله وشبَّهوه بالناقص الفاقد لها أو بالمعدوم. وهذه حال كل مُبطِل مُعطِّل لما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله.
والمقصود أن المتأول يفر من أمرٍ (1)، فيقع في نظيره.
مثاله: إذا تأوَّل المحبةَ والرحمة والرضى والغضب والمقت بالإرادة. قيل له: يلزمك في الإرادة ما لَزِمك في هذه الصِّفات، كما تقدَّم تقريره.
وإذا تأوَّل الوجهَ بالذات، قيل له: فيلزمك في الذات ما لَزِمك في الوجه، فإنَّ لفظ الذات يقع على القديم والمُحْدَث، كما يقع لفظ الوجه على القديم والمُحْدَث (2).
وإذا تأوَّل لفظَ اليد بالقدرة، فالقدرة يُوصَف بها الخالقُ والمخلوق، فإن فررتَ من اليد لأنها تكون للمخلوق، ففِرَّ من القدرة لأنه يُوصف بها.
وإذا تأوَّل السمعَ والبصر بالعلم فِرارًا من التشبيه، لزمه ما فرَّ منه في العلم.
وإذا تأوَّل الفَوْقية بفوقية القهر، لَزِمه فيها ما فرَّ منه من فوقية الذات، فإن
_________
(1) «ب»: «الأمر».
(2) «كما يقع لفظ الوجه على القديم والمحدث» ليس في «ح».
(1/70)
القاهر مَنِ اتصف بالقوة والغلبة، ولا يُعقل هذا (1) إلَّا جسمًا، فإن أثبته العقل غير جسمٍ لم يعجز عن إثبات فوقية الذات لغير جسمٍ.
وكذلك مَن تأوَّل الإصبعَ بالقدرة، فإن القدرة أيضًا صفةٌ قائمة بالموصوف وعَرَضٌ من أعراضه، ففَرَّ من صفةٍ إلى صفةٍ.
وكذلك من تأوَّل الضحِكَ بالرضى، والرضى بالإرادة، إنما فرَّ من صفةٍ إلى صفةٍ.
فهلَّا أقرَّ النصوص على ما هي عليه، ولم ينتهك حُرمتَها؛ إذ (2) كان التأويل لا يُخرِجه ممَّا فرَّ منه، فإن المتأول إمَّا أن يذكر معنًى ثبوتيًّا، أو يتأوَّل اللفظ بما هو عدمٌ محضٌ، فإنْ تأوَّله بمعنى ثبوتي كائنًا ما كان لزمه فيه نظيرُ ما فرَّ منه.
فإن قال: أنا أثبتُّ ذلك المعنى على وجهٍ لا يستلزم تشبيهًا.
قيل له: فهلَّا أثبتَّ المعنى الذي تأوَّلتَه على وجهٍ لا يستلزم تشبيهًا.
فإن قال: ذلك أمر (3) لا يُعقَل.
قيل له: فكيف عَقلتَه في المعنى الذي أثبتَّه، وأنت وسائرُ أهل الأرض إنما تفهم المعانيَ الغائبة بما تفهمها به في الشاهد (4)، ولولا ذلك لما عقلتَ أنت ولا أحدٌ شيئًا غائبًا البتةَ، فما أبديتَه في التأويل إن كان له نظيرٌ في الشاهد
_________
(1) «هذا» ليس في «ح».
(2) «ح»: «أو».
(3) «ب»: «أمرًا».
(4) «ح»: «المشاهدة».
(1/71)
لزمك التشبيهُ، وإن لم يكن له نظيرٌ لم يمكنك تعقله البتة. وإن أوَّلتَ النَّص بالعدم عطَّلتَه. فأنت في تأويلك بين التعطيل والتشبيه مع جِنايتك على النَّص وانتهاكك حُرمته، فهلَّا عظَّمتَ قَدْره، وحفظتَ حرمتَه، وأقررتَه وأمررتَه مع نفي التشبيه والتخلص من التعطيل! وبالله التوفيق (1).
* * * * *
_________
(1) «من التعطيل وبالله التوفيق» ليس في «ب».
(1/72)
الفصل الثامن (1)
في بيان خطئهم في فهمهم من النصوص المعانيَ الباطلةَ التي تأوَّلوها لأجلها فجمعوا بين التشبيه والتعطيل
هذا الفصل من عجيب [ق 8 ب] أمر المتأوِّلين، فإنهم فهموا من النصوص الباطلَ الذي لا يجوز إرادتُه، ثم أخرجوها عن معناها الحقِّ المراد منها، فأساؤوا الظنَّ بها وبالمتكلِّم بها، وعطَّلوها عن حقائقها التي هي عين كمال الموصوف بها. ونقتصر من ذلك على مثالٍ ذكره بعض الجهمية، ونذكر ما عليه فيه.
قال الجهمي: ورد في القرآن ذِكرُ الوجه، وذكر الأعين، وذكر العين الواحدة، وذكر الجَنْب الواحد، وذكر الساق الواحد (2)، وذكر الأيدي، وذكر اليدين، وذكر اليد الواحدة (3). فلو أخذنا بالظاهر لزمنا إثبات شخصٍ له وجهٌ، وعلى ذلك الوجه أعينٌ كثيرةٌ، وله جنبٌ واحدٌ، وعليه أيدٍ كثيرةٌ، وله ساقٌ واحدٌ، ولا نرى (4) في الدنيا شخصًا أقبح صورة من هذه الصورة المتخيَّلة، ولا نظن أن عاقلًا يرى أن يصف ربه بهذه الصفة (5).
_________
(1) «ح»: «السابع».
(2) كذا بالتذكير، وسيأتي له نظائر، والساق مؤنث. وفي مصدر النقل وهو «أساس التقديس»: «الواحدة» على الأصل.
(3) «وذكر اليدين وذكر اليد الواحدة» ليس في «ب».
(4) في النسختين: «يرى». وهو تصحيف
(5) قاله الرازي في «أساس التقديس» (ص 105).
(1/73)
قال السُّني (1) المعظِّم لحرمات كلام الله: قدِ ادعيتَ أيها الجهمي أن ظاهر القرآن، الذي هو حُجَّة الله على عباده، والذي هو خير الكلام وأصدقُه وأحسنه وأفصحه، وهو الذي هدى اللهُ به عباده، وجعله شفاءً لما في الصدور وهدًى ورحمةً للمؤمنين، ولم ينزل كتابٌ من السماء أهدى منه ولا أحسنُ ولا أكمل، فانتهكتَ حُرمته وعضهته (2)، ونسبتَه إلى أقبح النقص والعيب؛ فادعيتَ أن ظاهره ومدلوله إثبات شخصٍ له وجهٌ وفيه أعينٌ كثيرةٌ، وله جنبٌ واحدٌ وعليه أيدٍ كثيرةٌ، وله ساقٌ واحدٌ. فادعيتَ أن ظاهر ما وصف اللهُ به نفسه في كتابه يدل على هذه الصفة الشنيعة المستقبَحة، فيكون سبحانه قد وصف نفسه بأشنع الصِّفات في ظاهر كلامه. فأيُّ طعنٍ في القرآن أعظمُ مِن طعن مَن يجعل هذا ظاهره ومدلوله؟! وهل هذا إلَّا مِن جنس قول الذين جعلوا القرآن عِضين (3)، فعضهوه (4) بالباطل، وقالوا: هو سحر أو شِعر أو كذبٌ مُفترى؟ بل هذا أقبح من قولهم من وجهٍ، فإن أولئك أقروا بعظمة الكلام وشرف قدْره وعلوِّه وجلالته، حتى قال فيه رأسُ الكفر: «والله إن لِكلامه لَحلاوةً، وإن عليه لَطلاوةً، وإن أسفله لمُغدِق، وإن أعلاه لجنًى (5)
_________
(1) «السني» ليس في «ح».
(2) «ح»: «وعظمته». وعضهته: أي رميته بالكذب والبهتان. «الصحاح» (6/ 2241).
(3) قال الواحدي في «التفسير البسيط» (12/ 662 – 663): «قال ابن عباس في قوله {اَلَّذِينَ جَعَلُوا اُلْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر: 91]: «يريد جزَّؤوه أجزاءً، فقالوا: سحر، وقالوا: أساطير الأولين، وقالوا: مفترى». وهذا قول قتادة، واختيار الزجاج وأبي العباس وأبي عبيدة».
(4) في «ب»: «فعظهوه» بالظاء. وفي «ح»: «فعظموه». وهو تحريف.
(5) «ب»: «لمثمر» وعليه علامة نسخة. ثم كتب على الحاشية: «لجنًى» وصححه. قلت: المشهور في هذا الأثر لفظ «لمثمر». فكأن المثبت رواية بالمعنى ..
(1/74)
وإنه لَيعلو وما يُعلى، وما يشبه كلام البشر» (1).
ولم يَدَّعِ أعداءُ الرسول الذين جاهروه بالمحاربة والعداوة أن ظاهر كلامه أبطلُ الباطل وأبينُ المحال، وهو (2) وصف الخالق سبحانه بأقبحِ الهيئات والصور. ولو كان ذلك ظاهر القرآن لَكان ذلك من أقرب الطرق لهم إلى الطعن فيه، وقالوا: كيف تدعونا إلى عبادة ربٍّ له وجهٌ عليه عيون كثيرة وجَنْبٌ واحد، وساق واحد، وأيدٍ كثيرة؟ فكيف كانوا يسكتون له على ذلك، وهم يُورِدُون عليه ما هو أقل من هذا بكثيرٍ، كما أوردوا عليه المسيح لما قال (3): {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اِللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 97] فتعلقوا (4) بظاهر ما لم يدل على ما أوردوه، وهو دخول المسيح فيما عُبِدَ من دون الله، إمَّا بعموم (5) لفظ «ما»، وإمَّا بعموم المعنى، فأوردوا على هذا الظاهر هذا الإيرادَ.
_________
(1) قاله الوليد بن المغيرة، أخرجه الحاكم في «المستدرك» (2/ 506) والبيهقي في «شعب الإيمان» (133) وفي «دلائل النبوة» (2/ 198) والواحدي في «أسباب النزول» (436) عن ابن عباس – رضي الله عنهما – عن الوليد.
ورواه عبد الرزاق في «التفسير» (2/ 328) والطبري في «التفسير» (23/ 429) عن عكرمة عن الوليد بن المغيرة مرسلًا لم يذكر ابن عباس.
(2) «هو» ليس في «ح».
(3) «ح»: «قالوا».
(4) «ب»: «فتعقلوا».
(5) «ب»: «لعموم».
(1/75)
وأورد (1) أهلُ الكتاب على قوله: {يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ اِمْرَأَ سَوْءٍ} [مريم: 27] أن بين هارون وعيسى ما بينهما (2)، وليس ظاهر القرآن أنه هارون بن عمران بوجهٍ. وكانوا يتعنتون فيما يوردونه على القرآن هذا ودونه (3)، فكيف يجدون ما ظاهره إثبات ربٍّ شأنُه وهيئته ما ذكَره هذا الجهمي، ولا يصيحون به على رؤوس الأشهاد، ويُشنِّعون عليه بإثباته في كل حاضرٍ وبادٍ! فالقوم على شِركهم وشدةِ عداوتهم لله ورسوله كانوا أصحَّ أفهامًا (4) من الجهمية الذين نسبوا ظاهر القرآن إلى هذه الصفة القبيحة، ولكنَّ الأذهان الغُلْف والقلوب العُمْيَ والبصائر الخُفَّاشية (5) لا يكثر عليها أن تفهم هذا من ظاهر القرآن.
قال أنصارُ الله: ونحن نبيِّن أن هذه الصورة الشنيعة ليست (6) ظاهرَ
_________
(1) «ح»: «وأوردوا».
(2) أخرج مسلم (2135) عن المغيرة بن شعبة – رضي الله عنه – قال: «لما قدمتُ نجران سألوني فقالوا: إنكم تقرؤون {يَاأُخْتَ هَارُونَ} وموسى قبل عيسى بكذا وكذا. فلما قدمتُ على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سألتُه عن ذلك، فقال: إنهم كانوا يُسمُّون بأنبيائهم والصالحين قبلَهم».
(3) «على القرآن هذا ودونه» ليس في «ب».
(4) «ح»: «أذهانًا».
(5) نسبة للخفاش؛ وذلك لأنه لا يكاد يبصر بالنهار. «المصباح المنير» (1/ 175). قال المصنِّف في «مفتاح دار السعادة» (2/ 857): «أصحابُ البصائر الضعيفة الخفاشية الذين نسبة أبصارهم إلى هذا النور كنسبة أبصار الخفاش إلى جرم الشمس، فهم تبعٌ لآبائهم وأسلافهم؛ دينهم دين العادة والمنشأ».
(6) بعده في «ح»: «تفهم». والسياق لا يستقيم بها.
(1/76)
القرآن من وجوهٍ:
أحدها: أنَّ الله سبحانه إنَّما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم ممَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 70]. فدعوى الجهمي أن ظاهر هذا إثباتُ (1) أعين كثيرة وأيدٍ كثيرة فِرْيةٌ ظاهرة، فإنه إنْ دلَّ ظاهره على إثبات أعين كثيرة وأيدٍ كثيرة دلَّ على خالقينَ كثيرينَ؛ فإن لفظ الأيدي مضاف إلى ضمير الجمع، فادَّعِ أيها الجهمي أن ظاهره إثبات أيدٍ كثيرة لآلهةٍ متعددةٍ، وإلَّا فدعواك أنَّ ظاهره أيدٍ كثيرة لِذاتٍ واحدة خلاف الظاهر. وكذلك قوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] إنما ظاهره بزعمك أعينٌ كثيرة على ذوات متعددة، لا على ذات واحدة.
الثاني: أن يقال لك: دعواك أن ظاهر القرآن إثبات أيدٍ كثيرة في جنبٍ واحدٍ كذبٌ آخر، فأين في ظاهر القرآن أن الأيدي في الجنب؟ وكأنك إنما أخذت هذا من القياس على بني آدم، فشبَّهتَ أولًا وعطَّلتَ ثانيًا. وكذلك جعْلك الأعينَ الكثيرة في (2) الوجه الواحد ليس في ظاهر القرآن ما يدل على هذا، وإنما أخذتَه من التشبيه بالآدمي والحيوان. ولهذا قال بعض أهل العلم: «إن كل مُعطِّلٍ مشبِّهٌ، ولا يستقيم له التعطيل إلَّا بعد التشبيه».
الثالث: أن يقال: أين في ظاهر القرآن إثبات ساقٍ واحدٍ لله وجنبٍ واحدٍ؟ فإنه سبحانه قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [القلم: 42] [ق 9 أ] وقال: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اِللَّهِ} [الزمر: 53] فعلى
_________
(1) «إثبات» ليس في «ب».
(2) «في» ليس في «ب».
(1/77)
تقدير أن يكون السَّاق والجنب من الصِّفات، فليس في ظاهر القرآن ما يُوجِب ألَّا يكون له إلَّا ساق واحد وجنب واحد، فلو دلَّ على ما ذكرتَ لم يدلَّ على نفي ما زاد على ذلك، لا بمنطوقه ولا بمفهومه. حتى إن (1) القائلين بمفهوم اللقب (2) لا يدل ذلك عندهم على نفي ما عدا المذكور؛ لأنه متى كان للتخصيص بالذكر سببٌ غير الاختصاص (3) بالحكم لم يكن المفهوم مرادًا بالاتفاق. وليس المراد بالآيتين إثبات الصفة حتى يكون تخصيص أحد الأمرين بالذكر مرادًا، بل المقصود حُكم آخر؛ وهو بيان تفريط العبد في حقِّ الله وبيان سجود الخلائق إذا كشفَ عن ساقٍ، وهذا حُكم قد يختص بالمذكور دون غيره، فلا يكون له مفهومٌ.
الرابع: هَبْ أنه سبحانه أخبر أنه يكشف عن ساقٍ واحدةٍ هي صفة، فمن أين في ظاهر القرآن (4) أنه (5) ليس له إلَّا تلك الصِّفة الواحدة؟ وأنت لو سمعتَ قائلًا يقول: كشفتُ عن عيني، وأبديتُ عن ركبتي وعن ساقي أو قدمي أو يدي؟ هل يُفهَم منه أنه ليس له (6) إلَّا ذلك الواحدُ فقط، فكم هذا
_________
(1) «إن» ليس في «ب».
(2) «ب»: «القلب». ومفهوم اللقب: إذا عُلق الحكم باسم جنس، كتخصيص الرِّبَوِيات الستة بتحريم التفاضل، أو اسم علم كقولك: زيد عالم. والجمهور على أنه ليس بحجة. ينظر «شرح مختصر الروضة» للطوفي (2/ 771 – 775).
(3) «ب»: «سببا لاختصاص».
(4) «القرآن» ليس في النسختين، وأثبته من «م».
(5) في «ب»: «آية».
(6) في النسختين: «لك». والمثبت من «م».
(1/78)
التلبيس والتدليس! فلو قال واحدٌ من الناس هذا لم يكن ظاهر كلامه ذلك، فكيف يكون ظاهر أفصح الكلام (1) وأبينه ذلك؟
الخامس: أن المفرد المضاف يُراد به ما هو أكثر من واحدٍ، كقوله:
{وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] وقوله: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكِتَابِهِ (2)} [التحريم: 12] وقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 186]. فلو كان الجنب والساق صفةً لكان بمنزلة قوله: {بِيَدِهِ اِلْمُلْكُ} [الملك: 1] و {بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ} (3) [آل عمران: 26] و {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِيَ} [طه: 39].
السادس: أن يقال: من أين في ظاهر القرآن إثبات جنبٍ واحدٍ هو صفة الله؟ ومن المعلوم أن هذا لا يُثبِته أحدٌ من بني آدم، وأعظم الناس إثباتًا للصفات هم أهل السُّنَّة والحديث، الذين يثبتون لله الصِّفات الخبرية،
_________
(1) بعده في «ح»: «هذا لم يكن».
(2) قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم وخارجة عن نافع {وكُتُبِهِ} جماعة، وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم ـ في رواية أبي بكر ـ وحمزة والكسائي {وَكِتَابِهِ} واحدًا. حُجة مَن قال: {وكتبه} فجمع، أنه موضع جمع، ألا ترى أنها قد صدَّقتْ بجميع كُتب اللَّه، فمعنى الجمع لائق بالموضع حسن. ومَن قال: {كتابه} أراد الكثرة والشياع، وقد يجيء ذلك في الأسماء المضافة، كما جاء في المفردة التي بالألف واللام، قال: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اَللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 36]، فكما أن المراد بنعمة اللَّه الكثرة، كذلك في قوله: {وكتابه}. قاله أبو علي الفارسي في «الحجة للقراء السبعة» (6/ 304).
(3) قدمها في «ب» على قوله: {بِيَدِهِ اِلْمُلْكُ}.
(1/79)
ولا يقولون إن لله جنبًا واحدًا ولا (1) ساقًا واحدةً.
قال عثمان بن سعيد الدارمي في «نقضه على المريسي» (2): «وادَّعى المُعارِض زُورًا على قوم أنهم يقولون في تفسير قول الله: {يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اِللَّهِ} [الزمر: 53] إنهم يعنون بذلك (3) الجنب الذي هو العضو، وليس ذلك على ما يتوهمونه».
قال الدَّارمي: «فيقال لهذا المعارِض: ما أرخصَ الكذبَ عندك وأخفَّه على لسانك! فإن كنتَ صادقًا في دعواك فأشِرْ بها إلى أحدٍ من بني آدم قاله، وإلَّا فلِمَ تُشنِّع بالكذب على قومٍ هم أعلم بهذا التفسير منك، وأبصرُ بتأويل كتاب الله منك ومن إمامك؟ إنما تفسيرها عندهم تحسر الكفار على ما فرطوا في الإيمان والفضائل التي تدعو إلى ذات الله، واختاروا عليها الكفرَ والسخرية بأولياء الله فسمَّاهم الساخرين. فهذا تفسير الجَنْب عندهم، فمن أنبأك أنهم قالوا جَنْبٌ من الجنوب؟ فإنه لا يجهل هذا المعنى كثيرٌ من عوامِّ المسلمين، فضلًا عن علمائهم. وقد قال أبو بكر الصدِّيق – رضي الله عنه -: «الكذب مجانِبٌ للإيمان» (4). وقال ابن مسعود: «لا يجوز من الكذب جدٌّ ولا هزلٌ» (5).
_________
(1) «لا» ليس في «ب».
(2) «نقض عثمان بن سعيد على المريسي» (2/ 807).
(3) «بذلك» ليس في «ح».
(4) أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (17) والبيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 196) والضياء في «المختارة» (1/ 145). وقال البيهقي: هذا موقوف، وهو الصحيح، وقد روي مرفوعًا. وينظر «المقاصد الحسنة» للسخاوي (796).
(5) أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (3973) وسعيد بن منصور في «التفسير» (1047) وابن أبي شيبة في «المصنف» (26114). ورواه الحاكم في «المستدرك» (1/ 127) مرفوعًا، وقال: «إنما تواترت الرواياتُ بتوقيف أكثر هذه الكلمات».
(1/80)
وقال الشَّعبي: «من كان كذابًا فهو منافقٌ» (1).
وتوجيه ذلك أنَّ الله قال: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (53) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (54) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (55) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر: 53 – 56] فهذا إخبارٌ عمَّا تقوله هذه النفس الموصوفة بما وُصفت به، وعامة هذه النفوس لا تعلم أن لله جَنبًا، ولا تقر بذلك كما هو الموجود منها في الدنيا، فكيف يكون ظاهر القرآن أن الله أخبر عنهم بذلك؟ وقد قال عنهم: {يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اِللَّهِ}. والتفريط فعلٌ أو تركُ فعلٍ، وهذا لا يكون قائمًا بذات الله، لا في جَنب ولا في غيره، بل يكون منفصلًا عن (2) الله، وهذا معلوم بالحسِّ والمشاهدة. وظاهر القرآن يدل على أن قول القائل: {يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اِللَّهِ} ليس أنه جعل فِعله أو تركَه في جَنبٍ يكون من صفات الله وأبعاضه، فأين في ظاهر القرآن ما يدل على أنه ليس لله إلَّا جنبٌ واحدٌ يعني به الشِّق؟
السابع: أن يقال: هَبْ أن القرآن دلَّ ظاهره على إثبات جَنبٍ هو صفة، فمن أين يدلُّ ظاهره أو باطنه على أنه جنبٌ واحدٌ وشِقٌّ واحدٌ؟ ومعلوم أن
_________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (26118) وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (2/ 699). وأثر الشعبي آخر النقل عن الإمام الدارمي.
(2) «ب»: «من».
(1/81)
إطلاق مثل هذا لا يدلُّ على أنه شِقٌّ واحدٌ (1)، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لعمران بن حصين: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» (2). وهذا لا يدل على أنه ليس لعمران بن حصين (3) إلَّا جنبٌ واحدٌ.
فإن قيل: المراد على جنبٍ من جنبيك.
قلنا: فقد عُلم أن ذكر الجنب مفردًا لا ينفي أن يكون معه غيرُه، ولا يدل ظاهر اللفظ على ذلك بوجهٍ.
ونظير هذا اللفظ: «القَدَم»، إذا ذُكِرَ مفردًا لم يدلَّ على أنه ليس لمن نُسِبَ إليه إلَّا قَدَمٌ واحدٌ، كما في الحديث الصحيح: «حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ عَلَيْهَا (4) قَدَمَهُ» (5). وفي الحديث: «أَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي» (6).
الثامن: [ق 9 ب] أن نقول: من أين في ظاهر القرآن أن لله ساقًا؟ وليس معك إلَّا قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [القلم: 42]، والصحابة متنازعون في تفسير الآية: هل المراد (7) الكشف عن الشدة، ……………..
_________
(1) قوله: «ومعلوم أن إطلاق» إلى هنا سقط من «ح».
(2) أخرجه البخاري (1117).
(3) «بن حصين» ليس في «ب».
(4) «ح»: «عليها رب العزة».
(5) متفق عليه، وقد تقدم تخريجه.
(6) أخرجه البخاري (3532) ومسلم (2354) عن جبير بن مطعم – رضي الله عنه – بلفظ: «وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي».
(7) بعده في «ح»: «به».
(1/82)
أو المراد بها (1) أن الربَّ تعالى يكشف عن ساقه (2)؟ ولا يُحفَظ عن الصحابة والتابعين نزاعٌ فيما يُذكَر أنه من الصِّفات أم لا في غير هذا الموضع، وليس في ظاهر القرآن ما يدل على أن (3) ذلك صفةٌ لله؛ لأنه سبحانه لم يُضِف السَّاق إليه، وإنما ذكره مجردًا عن الإضافة منكَّرًا. والذين أثبتوا ذلك صفةً كاليدين والإصبع لم يأخذوا ذلك من ظاهر القرآن، وإنما أثبتوه بحديث أبي سعيد الخدري المتفَق على صحته ـ وهو حديث الشفاعة الطويل ـ وفيه: «فَيَكْشِفُ الرَّبُّ عَنْ سَاقِهِ، فَيَخِرُّونَ لَهُ سُجَّدًا» (4).
ومَن حملَ الآية على ذلك قال: قولُه تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى اَلسُّجُودِ} [القلم: 42] مطابقٌ لقوله – صلى الله عليه وسلم -: «فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ فَيَخِرُونَ لَهُ سُجَّدًا». وتنكيره للتعظيم والتفخيم، كأنه قال: يُكشف عن ساقٍ عظيمةٍ جلَّت عظمتُها وتعالى شأنُها أن يكون لها نظيرٌ أو مثيلٌ أو شبيهٌ.
قالوا: وحملُ الآية على الشدة لا يصح بوجهٍ؛ فإن لغة القوم في مثل ذلك أن يقال: كشفت الشدة (5)، لا كشفت (6) عنها. كما قال الله تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ اُلْعَذَابَ} [الزخرف: 49]، وقال: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ} [المؤمنون: 76]. فالعذاب والشدة هو المكشوف لا المكشوف عنه.
_________
(1) «ح»: «به».
(2) ينظر «الدر المنثور» (14/ 642 – 648).
(3) بعده في «ح»: «بعد».
(4) أخرجه البخاري (4919) ومسلم (183).
(5) بعده في «ح»: «عن القدم». وبعده في «م»: «عن القوم».
(6) «ب»: «كشف».
(1/83)
وأيضًا فهناك تحدث الشدة وتشتدُّ لا تُزَال إلَّا (1) بدخول الجنة، وهناك لا يُدعَوْن إلى السجود، وإنما يُدعَوْن إليه أشد ما كانت الشدة.
التاسع: أنَّ دعوى الجهمي أنَّ ظاهر القرآن يدلُّ على أنَّ لله سبحانه أيديًا كثيرةً على جنبٍ واحدٍ، وأعينًا كثيرةً على وجهٍ واحدٍ، عضهٌ للقرآن وتنقُّصٌ له وذمٌّ، ولا يدل ظاهر القرآن ولا باطنه على ذلك بوجهٍ ما، ولا فَهِمَه مَن له عقلٌ. ولو كان ذلك ظاهر القرآن لكان المخبِر به مُنفِّرًا للمدعوين عن الإيمان بالله ورسوله، ومُطَرِّقًا (2) لهم إلى (3) الطعن عليه. والله سبحانه قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]، وقال: {وَاَصْنَعِ اِلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37]، وقال: {وَاَصْبِر لِّحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 46]، وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا (4) أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم ممَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 70]، وقال في قصة موسى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِيَ} [طه: 39] فذكر العين المفردة مضافةً إلى الضمير المفرد، والأعينَ مجموعةً مضافةً إلى ضمير الجمع.
وذِكرُ العين مفردةً لا يدل على أنها عينٌ واحدةٌ، ليس إلَّا كما يقول القائل: أفعل هذا على عيني، وأجيئك على عيني؛ وأحمله على عيني. ولا يريد به أن له عينًا واحدةً، فلو فهم أحدٌ هذا من (5) ظاهر كلام المخلوق
_________
(1) «ب»: «إنما تزال».
(2) طرَّق له: إذا جعل له طريقًا، ويقال: طرَّق طريقًا: إذا سهَّله حتى طرقه الناس بسيرهم. «تاج العروس» (26/ 80).
(3) «إلى» ليس في «ب».
(4) «أو لم يروا». في «ح»: «وآية لهم». أدخل آيةً في آية.
(5) «من». سقط من «ب».
(1/84)
لعُدَّ أخرقَ. وأمَّا إذا أُضيفت العين إلى اسم الجمع ظاهرًا أو مضمَرًا فالأحسن جمعُها مشاكلةً للفظ، كقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] وقوله: {وَاَصْنَعِ اِلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37]. وهذا نظير المشاكلة في لفظ اليد المضافة إلى المفرد كقوله: {بِيَدِهِ اِلْمُلْكُ} [الملك: 1] و {بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ} (1) [آل عمران: 26]. وإن أُضيفت (2) إلى ضميرِ جمعٍ جُمِعت كقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم ممَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 70]. وكذلك إضافة اليد والعين إلى اسم الجمع الظاهر، كقوله: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي اِلنَّاسِ} [الروم: 40] وقوله: {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ اِلنَّاسِ} [الأنبياء: 61].
وقد نطق القرآنُ والسُّنَّة بذكر اليد مضافةً إليه سبحانه مفردةً ومثناة ومجموعة، وبلفظ العين مضافةً إليه مفردةً ومجموعة. ونطقت السُّنَّةُ بإضافتها إليه مثناةً، كما قال عطاء عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ قَامَ بَيْنَ عَيْنَيِ الرَّحْمَنِ، فَإِذَا الْتَفَتَ قَالَ لَهُ رَبُّهُ: إِلَى مَنْ تَلْتَفِتُ، إِلَى خَيْرٍ لَكَ مِنِّي» (3).
_________
(1) «ب»: «بيده الخير».
(2) «ب»: «فإن أضفت».
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في «التهجد» (508) والمرزوي في «تعظيم قدر الصلاة» (128) والبزار في «المسند» (9332) والعقيلي في «الضعفاء» (1/ 234) من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي عن عطاء به. وقال الهيثمي في «المجمع» (2/ 80): «وفيه إبراهيم بن يزيد الخوزي، وهو ضعيف». وقال البزار: «هذا الحديث رواه طلحة بن عمرو عن عطاء عن أبي هريرة – رضي الله عنه – موقوفًا». قلنا: قد رواه عبد الرزاق في «المصنف» (3270) وابن أبي شيبة في «المصنف» (4572) والعقيلي في «الضعفاء» (1/ 235) من طريق ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة موقوفًا بنحوه، وقال العقيلي: «هذا أولى من حديث إبراهيم». وقد رُوِيَ في هذا المعنى عدة أحاديث، ينظر: «فتح الباري» لابن رجب (6/ 445 – 447).
(1/85)
وقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ» (1) صريحٌ في أنه ليس المراد إثبات عينٍ واحدةٍ ليس إلَّا، فإن ذلك عورٌ ظاهرٌ، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. وهل يَفهم مِن قول الداعي: «اللهم احرُسْنا بعينِكَ التي لا تنامُ» أنها عينٌ واحدةٌ ـ ليس إلَّا ـ إلَّا (2) ذهنٌ أقلفُ وقلبٌ أغلف.
قال خلف بن تميم (3): حدثنا عبد الجبار بن كثير، قال: «قيل لإبراهيم بن أدهم: هذا السبع! فنادى: يا قسورة، إن كنت أُمرتَ فينا بشيءٍ وإلَّا. يعني: فاذهب. فضرب بذَنَبه، وولَّى مُدبِرًا. فنظر إبراهيم إلى أصحابه وقال: قولوا: اللهم احرُسْنا بعينك التي لا تنام، واكْنُفْنا بكَنَفِك الذي لا يُرام، وارحمنا بقدرتك علينا، ولا (4) نَهلِكُ وأنت الرجاء» (5).
قال عثمان الدارمي (6): الأعور ضد البصير بالعينينِ، وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – في الدجَّال: «إنَّهُ أَعْوَرُ، وَإنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ» (7).
_________
(1) أخرجه البخاري (7131) ومسلم (2933) عن أنس بن مالك – رضي الله عنه -.
(2) «إلا» سقط من «ح».
(3) «ح»: «بهم». وهوتحريف، وخلف بن تميم بن أبي عتاب التميمي الدارمي ترجمته في «تهذيب الكمال» (8/ 276).
(4) «لا» ليس في «ب».
(5) أخرجه ابن أبي الدنيا في «مجابو الدعوة» (101) واللالكائي في «كرامات الأولياء» (224) وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (8/ 4) والخطيب في «الزهد» (106) وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (6/ 319).
(6) «النقض على المريسي» (1/ 305).
(7) متفق عليه، وقد تقدم تخريجه.
(1/86)
وقد احتجَّ السلف على إثبات العينينِ له سبحانه بقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]. وممَّن صرَّح بذلك إثباتًا واستدلالًا أبو الحسن الأشعري في كُتبه كلِّها، فقال في «المقالات» و «الموجز» و «الإبانة» وهذا لفظه فيها: «وجملة قولنا: أن نُقِر بالله وملائكته وكتبه ورُسله (1) … ». إلى أن قال: «وأن الله مستوي على عرشه، كما قال: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] وأن له وجهًا، كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو اُلْجَلَالِ وَاَلْإِكْرَامِ} [الرحمن: 25]، وأن له يدينِ، كما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 66]، وقال (2): {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74]، وأن له عينين بلا كيفٍ، كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]» (3).
فهذا الأشعري والناس قبله وبعده [ق 10 أ] ومعه لم يفهموا من الأعين أعينًا كثيرةً على وجهٍ، ولم يفهموا من الأيدي أيديًا كثيرةً على شِقٍّ واحدٍ، حتى جاء هذا الجهمي فعضَهَ القرآن، وادَّعى أن هذا ظاهره، وإنما قصد هذا وأمثاله التشنيعَ على مَن بدَّعه وضلَّله من أهل السُّنَّة والحديث. وهذا شأن الجهمية في القديم والحديث، وهُم بهذا الصنيع على الله ورسوله وكتابه يشنِّعون {وَقُلِ اِعْمَلُوا فَسَيَرَى اَللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَاَلْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ اِلْغَيْبِ وَاَلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 106].
فما ذنبُ أهل السُّنَّة والحديث إذا نطقوا بما نطقت به النصوص، وأمسكوا عمَّا أمسكتْ عنه، ووصفوا الله بما وصف به نفسَه ووصفه رسولُه،
_________
(1) «ح»: «ورسوله».
(2) «قال» ليس في «ح».
(3) «الإبانة» (ص 21 – 21) بتصرف.
(1/87)
وردُّوا تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلِين الذين عقدوا ألوية الفتنة، وأطلقوا أَعِنَّة المحنة، وقالوا على الله وفي الله بغير علمٍ؛ فردوا باطلهم وبيَّنوا زيفهم، وكشفوا إفكهم، ونافحوا عن الله ورسوله؛ فلم يقدروا على أخذ الثأر منهم إلَّا بأن سمَّوهم مشبِّهةً ممثِّلةً مجسِّمة حشويةً.
ولو كان لهؤلاء عقولٌ لَعلموا أن التلقيب بهذه الألقاب ليس لهم، وإنما هو لمن جاء بهذه النصوص، وتكلَّم (1) بها، ودعا الأُمة إلى الإيمان بها ومعرفتها (2)، ونهاهم عن تحريفها وتبديلها. فدَعُوا التشنيع بما تعلمون ـ أنتم وكلُّ عاقلٍ منصفٍ ـ أنه كذبٌ ظاهرٌ، وإفكٌ مفترًى، لا يُعلَم به قائل يُناظر عن مقالته. فهل تدفعون عن أنفسكم التعطيلَ ونفْيَ حقائق صفات الكمال عن ربِّ العالمين، وأنها مجازٌ لا حقيقة لها، وأن ظاهرها كفرٌ وتشبيهٌ وإلحادٌ؟ فلو كان خصومكم كما زعمتم ـ وحاشاهم ـ مشبِّهةً ممثلةً مجسمةً لكانوا أقلَّ تنقصًا لربِّ العالمين وكتابِه وأسمائه وصفاته منكم بكثيرٍ كثيرٍ، لو كان قولهم يقتضي التنقصَ (3)، فكيف وهو لا يقتضيه! ولو صرَّحوا به فإنهم يقولون: نحن أثبتْنا لله غاية الكمال ونعوت الجلال، ووصفناه بكل صفة كمالٍ، فإن لزم من هذا تجسيمٌ أو تشبيهٌ (4) لم يكن هذا نقصًا ولا عيبًا ولا ذمًّا بوجهٍ من الوجوه، فإن لازم الحقِّ حقٌّ، وما لزم من إثبات كمال الربِّ ليس بنقصٍ. وأمَّا أنتم فنفيتم عنه صفات الكمال، ولا ريب أن لازم هذا النفي وصفه
_________
(1) «ب»: «وتكلموا».
(2) «ح»: «وبمعرفتها».
(3) «ح»: «التنقيص».
(4) «ب»: «تجسيمًا أو تشبيهًا».
(1/88)
بأضدادها من العيوب والنقائص. فما سوَّى اللهُ ولا رسوله ولا عقلاء عباده بين مَن نفى كمالَه المقدس حذَرًا من التجسيم، وبين مَن أثبت كمالَه الأعظم وصفاته العلى بلوازم ذلك كائنةً ما كانت.
فلو فرضنا في الأُمة مَن يقول: له سمعٌ كسمع المخلوق وبصرٌ كبصره لكان أدنى إلى الحقِّ ممَّن يقول: لا سمعَ له ولا بصرَ.
ولو فرضنا في الأُمة مَن يقول: إنه متحيِّزٌ على عرشه تحيط به الحدودُ والجهات، لَكان أقرب إلى الصواب مِن قول (1) مَن يقول: ليس فوق العرش إلهٌ يُعبَد، ولا ربٌّ يُصلى له (2) ويُسجَد، ولا تُرفَع إليه الأيدي، ولا ينزل مِن عنده شيءٌ ولا يَصعد إليه شيءٌ، ولا هو فوق خلقِه ولا مُحايِثهم ولا مُبايِنهم.
ولو فرضنا في الأُمة مَن يقول: إنه يتكلم كما يتكلم الآدمي، وإن (3) كلامه بآلاتٍ وأدوات تُشبِه آلات الآدميين وأدواتهم، لَكان خيرًا ممَّن يقول: إنه ما تكلَّم ولا يتكلَّمُ، ولا قال ولا يقول، ولا يقوم به كلامٌ البتةَ. فإن هذا القائل يُشبِّهه بالأحجار والجمادات التي لا تَعقِل، وذلك المشبِّه وصفه بصفات الأحياء الناطقين.
وكذلك لو فرضنا في الأُمة مَن يقول: له يدانِ كأيدينا، لَكان خيرًا ممَّن يقول: ليس له يدان. فإن هذا معطِّلٌ مكذِّبٌ لله رادٌّ على الله ورسوله، وذلك المشبِّه غالطٌ مخطئٌ في فَهْمه. فالمُشبِّه على زعمكم (4) الكاذبِ لم يُشبِّهْه
_________
(1) «من قول» سقط من «ب».
(2) «له» سقط من «ب».
(3) بعد في «ح»: «كان». وهي زائدة.
(4) «ح»: «زعمهم».
(1/89)
تنقيصًا له وجحدًا لكماله، بل ظنًّا أنَّ إثبات الكمال لا يمكن إلَّا بذلك، فقابلتموه بتعطيل كماله، وذلك غاية التنقُّص (1).
العاشر: أنك أيها الجهمي في فَهْمك عن الله أن ظاهر كلامه إثباتُ أيدٍ متعددة على جنبٍ واحدٍ، وعيون متعددة في وجهٍ واحدٍ، قد ضاهيتَ النصارى الذين احتجوا على تثليثهم وإثباتِ آلهة متعدِّدة بظاهر قوله: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ وَنُمِيتُ} [ق: 43] وأمثاله، وفي هؤلاء أنزل الله تعالى: {فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ اِبْتِغَاءَ اَلْفِتْنَةِ وَاَبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]. وفي الصحيح عن عائشة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «يَا عَائِشَةُ، إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ، فَاحْذَرُوهُمْ» (2).
وهذا الفهم الفاسد إنما أتى مِن قِبل عُجم القلوب والألسنِ، فَهُمُ الذين أفسدوا الدِّين وشوشوا على (3) الناس، وإلا فلغة العرب متنوعة في إفراد المضاف وتثنيته وجمعه بحسب أحوال المضاف إليه. فإن أضافوا الواحد المتصل إلى مفردٍ أفردوه، وإن أضافوه إلى اسم جمعٍ ظاهر أو مضمَر جمعوه، وإن أضافوه إلى اسم مثنى فالأفصح من لغتهم جمعُه لقوله تعالى: {فَقَد صَّغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] وإنما هما (4) قلبانِ لا غيرَ، وقوله: {وَاَلسَّارِقُ وَاَلسَّارِقَةُ فَاَقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 40]. وتقول العرب: اضربْ أعناقهما، واقطعْ ألسنتهما. وهذا أفصحُ استعمالهم. وتارةً يُفرِدون المضاف،
_________
(1) «ب»: «النقص».
(2) أخرجه البخاري (4547) ومسلم (2665).
(3) «على» ليس في «ح».
(4) «ح»: «وإنهما».
(1/90)
فيقولون: لسانهما وقلبهما وظهرهما. وتارةً يُثنُّونه، كقوله (1):
ظَهْرَاهُما مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَينْ
والقرآن إنما نزل بلغة العرب، لا بلغة العجم [ق 10 ب] والطماطم (2) والأنباط الذين أفسدوا الدِّين، وتلاعبوا بالنصوص، وانتهكوا حرماتها، وجعلوها عرضةً لتأويل الجاهلين وانتحال المبطِلين. وإذا كان من لغتهم وضْعُ الجمع موضعَ التثنية لئلَّا يجمعوا في لفظٍ واحدٍ بين تثنيتينِ، ولا لبسَ هناك، فلَأنْ يُوضَع الجمع موضعَ التثنية فيما إذا كان المضاف إليه مجموعًا أولى بالجواز. يدل عليه أنك لا تكاد تجد في كلامهم: عَيْنَيْنا ويدينا ونحو ذلك. ولا يلتبس (3) على السامع قول المتكلم: نراك بأعيننا، ونأخذك بأيدينا ونحو ذلك. ولا يفهم منه بشرٌ على وجه الأرض عيونًا كثيرةً على وجهٍ واحدٍ، وأيديًا متعددة على بدنٍ واحدٍ، فهل قَدَرَ القرآنَ حقَّ قدْرِه مَن زعم أن هذا ظاهره؟!
_________
(1) هو خطام المجاشعي، نسبه له سيبويه في «الكتاب» (2/ 48) وابن منظور في «لسان العرب» (2/ 89)، ونسبه سيبويه في «الكتاب» (3/ 622) لهميان بن قحافة، قال البغدادي في «خزانة الأدب» (7/ 548): «والصحيح أن هذين البيتين من رجز لخطام المجاشعي، وهو شاعر إسلامي، لا لهميان بن قحافة». وقد جمع فيه بين اللغتين تثنية المضاف إلى المثنى وجمعه، فإنه أتى بتثنية المضاف في «ظهراهما»، وبجمعه في «ظهور الترسين».
(2) رجل طِمطم وطِمطمي ـ بكسرهما ـ وطُمطماني ـ بالضم ـ أي: في لسانه عجمة لا يُفصح. «تاج العروس» (33/ 26).
(3) «ح»: «يلبس».
(1/91)
الوجه الحادي عشر: لفظ اليد جاء في القرآن (1) على ثلاثة أنواع: مفردًا ومثنًّى ومجموعًا. فالمفرد كقوله: {بِيَدِهِ اِلْمُلْكُ} [الملك: 1]، والمثنى كقوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74]، والمجموع كقوله: {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 70]. فحيث ذكر اليدَ مثناةً أضاف الفعل إلى نفسه بضمير الإفراد، وعدَّى الفعل (2) بالباء إليهما، فقال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74]. وحيث ذكرها مجموعة أضاف العمل إليها، ولم يُعدِّ الفعل بالباء، فهذه ثلاثة (3) فروق. فلا يحتمل {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74] من المجاز ما يحتمله {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 70]، فإن كل أحدٍ يفهم من قوله {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 70] ما يفهمه من قوله: عَملْنا وخلَقْنا، كما يفهم ذلك من قوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (4) [الشورى: 28]. وأمَّا قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74] فلو كان المراد منه مجرد الفعل لم يكن لذِكر اليد بعد نسبةِ الفعل إلى الفاعل معنًى، فكيف وقد دخلت عليها الباءُ، فكيف إذا ثُنِّيت؟!
وسِرُّ الفرق أن الفعل قد يُضاف إلى يد ذي اليد، والمراد الإضافة إليه كقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10]، {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 28]. وأمَّا إذا أُضيف إليه الفعل، ثم عُدِّي بالباء إلى يده مفردةً أو مثناةً، فهو ما باشرته يدُه. ولهذا قال عبد الله بن عمرو: «إن الله لم يخلق بيده إلَّا ثلاثًا:
_________
(1) «ب»: « … عشر أن القرآن جاء في اليد».
(2) «الفعل» ليس في «ب».
(3) في النسختين: «ثلاث». والمثبت من «م».
(4) كُتبت الآية في النسختين في هذا الموضع والذي يليه بغير فاء.
(1/92)
خلقَ آدمَ بيده، وغرس جنة الفردوس بيده … » (1)، وذكر الثالثة (2). فلو كانت اليد هي القدرةَ لم يكن لها اختصاصٌ بذلك، ولا كانت لآدم فضيلةٌ بذلك على شيءٍ ممَّا خُلق بالقدرة.
وقد أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم -: «أَنَّ أَهْلَ الْمَوْقِفِ يَأْتُونَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ، أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ» (3). فذكروا أربعة أشياء كلُّها خصائصُ.
وكذلك قال آدم لموسى في محاجَّته له: «اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ، وَخَطَّ لَكَ الْأَلْوَاحَ بِيَدِهِ» (4). وفي لفظٍ آخر: «كَتَبَ لَكَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ» (5). وهو من أصحِّ الأحاديث.
_________
(1) لم نَقِفْ عليه من قول ابن عمرو – رضي الله عنهما -، وسيأتي عن عبد الله بن الحارث مرفوعًا، وقد رُوي بنحوه موقوفًا على جماعة من الصحابة، منهم عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: «خلق اللهُ أربعةَ أشياء بيده: العرشَ وجنات عدن والقلم وآدم، وقال لسائر خلْقِه: كن فكان». رواه الدارمي في «النقض» (1/ 261) والطبري في «التفسير» (20/ 145) والحاكم في «المستدرك» (2/ 319) والآجُرِّي في «الشريعة» (756) وأبو الشيخ في «العظمة» (213) وابن بطة في «الإبانة» (317) وقال الحاكم: «حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه». وجوَّد إسناده الذهبي في «العلو» (185) وابن ناصر الدين في «جامع الآثار» (2/ 160).
(2) «وذكر الثالثة» ليس في «ح».
(3) أخرجه البخاري (7516) ومسلم (193) عن أنس – رضي الله عنه -.
(4) أخرجه البخاري (6614) ومسلم (2652) عن أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(5) أخرجه مسلم (2652).
(1/93)
وكذلك الحديث الآخر المشهور: «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا: يَا رَبِّ، خَلَقْتَ بَنِي آدَمَ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَنْكِحُونَ وَيَرْكَبُونَ، فَاجْعَلْ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةَ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا أَجْعَلُ صَالِحَ ذُرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي، كَمَنْ قُلْتُ لَهُ كُنْ فَكَانَ» (1).
وهذا التخصيص إنما فُهِم من قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74]، فلو كانت مثل قوله: {مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 70] لكان هو والأنعام في ذلك سواء. فلما فَهِم المسلمون أن قوله: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74] يُوجِب (2) له تخصيصًا وتفضيلًا، بكونه مخلوقًا (3) باليدين، على من أُمر أن يسجد له، وفهم ذلك أهلُ الموقف حتى (4) جعلوه من خصائصه،
_________
(1) أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (13/ 658) و «المعجم الأوسط» (6173) عن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما -. وقال الهيثمي في «المجمع» (265): «فيه إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي، وهو كذاب متروك، وفي سند «الأوسط» طلحة بن زيد، وهو كذاب أيضًا». ونقله الزيلعي في «تخريج الكشاف» (2/ 276) وفيه ابن عمر بدل «ابن عمرو».
وأخرجه الدارمي في «النقض» (1/ 257) عن عبد الله بن عمرو بن العاص موقوفًا، وقال الذهبي في «العلو» (183): «إسناده صالح».
وأخرجه الدارمي في «النقض» (1/ 256) وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 48) عن ابن عمر مرفوعًا، وصحَّح الدارقطني في «العلل» (2843) وقفه.
وفي الباب عن جماعة من الصحابة والتابعين مرفوعًا ومرسلًا، ينظر: «تخريج الكشاف» للزيلعي (2/ 276 – 278) و «الدر المنثور» للسيوطي (9/ 400 – 402).
(2) «ب»: «موجبًا». وفي «ح»: «فوجب». والمثبت من «م».
(3) «بكونه مخلوقا». سقط من «ب».
(4) «ح»: «حين».
(1/94)
كانت التسوية (1) بينه وبين قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم ممَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 70] خطأً محضًا (2).
وكذلك قول النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الصحيح: «يَقْبِضُ اللَّهُ سَمَاوَاتِهِ بِيَدِهِ وَالْأَرْضَ بِالْيَدِ الْأُخْرَى» (3).
وقوله: «يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ الخَلْقَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ، وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْقِسْطُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ» (4).
وقال تعالى: {وَقَالَتِ اِلْيَهُودُ يَدُ اُللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 66].
وفي الحديث الذي رواه مسلمٌ في «صحيحه» (5) في أعلى أهل الجنة منزلةً: «أُولَئِكَ الَّذِينَ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدَيَّ وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا».
وقال أنس بن مالكٍ: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «خَلَقَ اللَّهُ جَنَّةَ عَدْنٍ، وَغَرَسَ أَشْجَارَهَا بِيَدِهِ، فَقَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي. فَقَالَتْ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» (6).
_________
(1) «ب»: «كان تسوية».
(2) في النسختين: «خطأ محض». والمثبت من «م».
(3) أخرجه أبو داود (4732) بنحوه، وأصل الحديث في البخاري (4812) ومسلم (2787).
(4) أخرجه البخاري (7419) ومسلم (993) عن أبي هريرة – رضي الله عنه – بنحوه.
(5) «صحيح مسلم» (189) عن المغيرة بن شعبة – رضي الله عنه -.
(6) أخرجه ابن عدي في «الكامل» (6/ 329) وابن بطة في «الإبانة» (7/ 302) والحاكم في «المستدرك» (2/ 392) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (691) من طريق علي بن عاصم عن حميد به. وقال الحاكم: «حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه». فتعقبه الذهبي بقوله: «بل ضعيف». وقال الذهبي في «الميزان» (3/ 137): «وهذا باطل».
ورواه الدارمي في «النقض» (1/ 264) والآجري في «الشريعة» (759) عن أنسٍ عن كعبِ الأحبار موقوفًا.
ورواه الطبراني في «المعجم الكبير» (11/ 184، 12/ 147) و «المعجم الأوسط» (738، 5518) عن ابن عباس – رضي الله عنه – بنحوه. وجوَّد المنذري في «الترغيب» (3942) والهيثمي في «المجمع» (18636) أحد إسنادَي «الأوسط».
(1/95)
وقال عبد الله بن الحارث: قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ بِيَدِهِ: خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَكَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَغَرَسَ الْفِرْدَوْسَ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَعِزَّتِي لَا يَسْكُنُهَا مُدْمِنُ خَمْرٍ وَلَا دَيُّوثٌ» (1).
وفي «الصحيح» (2) عنه – صلى الله عليه وسلم -: «تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً يَتَكَفَّؤُهَا الْجَبَّارُ بِيَدِهِ، كَمَا يَتَكَفَّأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ».
وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول في استفتاح الصلاة: «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ» (3).
وفي «الصحيح» (4) أيضًا عنه – صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ
_________
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في «صفة الجنة» (39) والخرائطي في «مساوئ الأخلاق» (431) وأبو الشيخ في «العظمة» (1017) والدارقطني في «الصفات» (28) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (692) وقال: هذا مرسل. وقال ابن القيم في «حادي الأرواح» (1/ 215) المحفوظ أنه موقوف.
(2) البخاري (6520) ومسلم (2792) عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه -.
(3) أخرجه مسلم (771) عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -.
(4) صحيح مسلم (2759) عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه -.
(1/96)
النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ (1) بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا».
وقال عبد الله بن مسعود: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «الْأَيْدِي ثَلَاثَةٌ: فَيَدُ اللَّهِ الْعُلْيَا، وَيَدُ الْمُعْطِي الَّتِي تَلِيهَا، وَيَدُ السَّائِلِ السُّفْلَى» (2).
وفي «الصحيح» (3) عنه – صلى الله عليه وسلم -: «الْمُقْسِطُونَ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنَابِرَ [ق 11 أ] مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ ـ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ ـ الَّذِيْنَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ (4) وَمَا وَلُوا».
_________
(1) «يبسط يده» ليس في «ب». وفي «ح»: «يبسط يداه». والمثبت من «م». وكذا هو في «صحيح مسلم».
(2) أخرجه الإمام أحمد في «مسنده» (4349) وابن خزيمة في «صحيحه» (2435) والحاكم في «المستدرك» (1/ 408) والبيهقي في «السنن الكبرى» (4/ 198). وقال البيهقي: «رواه إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود مرفوعًا وموقوفًا».
ورواه الطيالسي في «مسنده» (310) من طريق شعبة عن إبراهيم الهجري به موقوفًا، وقال: غير شعبة يرفعه.
وأخرجه الإمام أحمد في «مسنده» (16134، 17505) وأبو داود في «السنن» (1649) وابن خزيمة في «صحيحه» (2440) وابن حبان في «صحيحه» (3362) والحاكم في «المستدرك» (1/ 408) والبيهقي في «السنن الكبرى» (4/ 198) عن أبي الأحوص عن أبيه مالك بن نضلة – رضي الله عنه -، وقال الحاكم: «حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه». وقال ابن حجر في «الإصابة» (9/ 489): «وسنده صحيح».
(3) أخرجه مسلم (1827) عن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما -.
(4) «ب»: «وأهاليهم».
(1/97)
وفي «المسند» وغيره (1) من حديث أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَنَفَخَ فِيهِ (2) الرُّوحَ عَطَسَ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. فَحَمِدَ اللَّهَ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: يَرْحَمُكَ رَبُّكَ يَا آدَمُ. وَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةِ ـ إِلَى مَلَأٍ مِنْهُمْ جُلُوسٍ ـ فَقُلِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَذَهَبَ فَقَالُوا: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: هَذِهِ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ بَنِيكَ بَيْنَهُمْ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ـ وَيَدَاهُ مَقْبُوضَتَانِ ـ: اخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ. فَقَالَ: اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي، وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ مُبَارَكَةٌ. ثُمَّ بَسَطَهَا فَإِذَا فِيهَا آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ … » وذكر الحديث.
وقال عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ. ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذَرِّيَّةً، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ» (3).
_________
(1) أخرجه الترمذي (3368) والنسائي في «السنن الكبرى» (9975) وابن خزيمة في «التوحيد» (89) وابن حبان (6167) والحاكم في «المستدرك» (1/ 64، 4/ 263) وقال الترمذي: حديث حسن غريب. وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وأعلَّه النسائي، وصحَّح وقْفه على عبد الله بن سلام – رضي الله عنه -.
(2) بعده في «ح»: «من».
(3) أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 898) وأحمد (318) وأبو داود (318) والترمذي (3075) وابن حبان (6166) والحاكم (1/ 27) عن مسلم بن يسار عن عمر – رضي الله عنه – به. وقال الترمذي: «حديث حسن». وقال الحاكم: «الحديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه». وقال ابن عبد البر في «التمهيد» (6/ 3 – 6): «هذا الحديث منقطع الإسناد؛ لأن مسلم بن يسار هذا لم يلقَ عمر بن الخطاب، وبينهما في هذا الحديث نعيم بن ربيعة، وهو أيضًا مع هذا الإسناد لا تقوم به حُجة، ومسلم بن يسار هذا مجهول، وقيل إنه مدني وليس بمسلم بن يسار البصري». وقال: «وجملة القول في هذا الحديث أنه حديث ليس إسناده بالقائم؛ لأن مسلم بن يسار ونعيم بن ربيعة جميعًا غير معروفين بحمل العلم، ولكن معنى هذا الحديث قد صح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – من وجوه كثيرة ثابتة يطول ذكرها، من حديث عمر بن الخطاب وغيره جماعة». وينظر: «الدر المنثور» للسيوطي (6/ 656 – 660).
(1/98)
وقال هشام بن حكيم عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ أَخَذَ ذُرِّيَّةَ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ أَفَاضَ بِهِمْ فِي كَفَّيْهِ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَهَؤُلَاءِ لِلنَّارِ» (1).
وقال عبد الله بن عمرو: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ نَفَضَهُ نَفْضَ الْمِزْوَدِ، فَخَرَجَ مِنْهُ مِثْلُ الذَّر، فَقَبَضَ قَبْضَتَيْنِ، فَقَالَ لِمَا فِي الْيَمِينِ: فِي الْجَنَّةِ. وَلِمَا فِي الْأُخْرَى: فِي النَّارِ» (2).
وقال أبو موسى الأشعري عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ
_________
(1) رواه ابن أبي عاصم في «السنة» (168) والفريابي في «القدر» (22) والطبراني في «مسند الشاميين» (1854، 1855) والآجري في «الشريعة» (330) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (712) من طريق راشد بن سعد عن عبد الرحمن بن قتادة، واختلف عليه، فقيل عن هشام بن حكيم وقيل عن أبيه عن هشام بن حكيم، وقيل عن أبيه وهشام، وقيل عن عبد الرحمن بن قتادة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وأعله ابن عبد البر في «الاستيعاب» (2/ 851) وابن السكن ـ كما في «الإصابة» لابن حجر (6/ 554) ـ بالاضطراب، وقال البوصيري في «إتحاف الخيرة» (1/ 170): «هذا إسناد ضعيف غريب».
(2) أخرجه ابن وهب في «القدر» (15) والطبري في «التفسير» (20/ 471) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (713).
(1/99)
قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ (1)، فَمِنْهُمُ الْأَحْمَرُ وَالْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ، وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ، وَالطَّيِّبُ وَالْخَبِيثُ» (2).
وقال سلمان الفارسي: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَمَّرَ طِينَةَ آدَمَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ـ أَوْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ـ ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ فِيهَا، فَخَرَجَ كُلُّ طَيِّبٍ بِيَمِينِهِ، وَخَرَجَ كُلُّ خَبِيثٍ بِيَدِهِ الْأُخْرَى، ثُمَّ خَلَطَ بَيْنَهُمَا» (3).
وقال أبو هريرة: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ ـ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ ـ إِلَّا أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ. وَإِنْ كَانَتْ ثَمَرَةً فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ». متفقٌ على صحته (4).
وقال أنس: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ وَعَدَنِي أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفٍ. فقال أبو بكر: زدنا يا رسول الله. قال: وَهَكَذَا، وجمَعَ يديه. قال: زدنا يا رسول الله. قال: وَهَكَذَا. قال: زدنا يا رسول الله. قال (5) عمرُ:
_________
(1) قوله: «فجاء بنو آدم على قدر الأرض» ليس في «ب».
(2) أخرجه أحمد (20170) وأبو داود (4693) والترمذي (2955) وابن خزيمة في «التوحيد» (101، 102) وابن حبان (6160) والحاكم (2/ 261). وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح». وقال الحاكم: «صحيح الإسناد، ولم يخرجاه».
(3) أخرجه الدارمي في «النقض» (1/ 274) والفريابي في «القدر» (10 – 13) والآجري في «الشريعة» (431، 432) وأبو الشيخ في «العظمة» (1006) وابن بطة في «الإبانة» (1650) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (716 – 717) وقال البيهقي: «ورُوِيَ ذلك من وجه آخر ضعيف عن التيمي مرفوعًا، وليس بشيء». وصحح الموقوفَ الدارقطني في «العلل» (931).
(4) أخرجه البخاري (1410) ومسلم (1014).
(5) «ب»: «فقال».
(1/100)
حسبك. فقال أبو بكر: دعني يا عمر، وما عليك أن يُدخِلنا الله الجنةَ كلَّنا. قال (1) عمر: إن شاء اللهُ أدخل خلقَه الجنةَ بكفٍّ واحدةٍ. فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: صَدَقَ عُمَرُ» (2).
وقال نافع بن عمر: «سألتُ ابن أبي مليكة عن يد الله: أواحدة أم اثنتان؟ فقال: لا، بل اثنتان» (3).
وقال ابن عباس: «ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهما في يد الله إلَّا كخردلةٍ في (4) يدِ أحدكم» (5).
وقال ابن عمر (6) …………………………………………….
_________
(1) «ب»: «فقال».
(2) أخرجه أحمد (13032) والطبراني في «المعجم الأوسط» (3400) و «المعجم الصغير» (342) والضياء في «المختارة» (7/ 254). وقال ابن حجر في «الفتح» (11/ 411): «سنده جيد، لكن اختُلِف على قتادة في سنده اختلافًا كثيرًا». وقال الدارقطني في «العلل» (2642): «رواه معمر عن قتادة عن النضر بن أنس عن أنس، وخالفه أبو هلال الراسبي، فرواه عن قتادة عن أنس، وخالفهما هشام الدستوائي، فرواه عن قتادة عن أبي بكر بن أنس، عن أبي بكر بن عمير الأنصاري، عن أبيه عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، والقول ما قال هشام؛ لأن أبا هلال ضعيف، ومعمر سيئ الحفظ لحديث قتادة والأعمش». وصحح ابن عبد البر في «الاستيعاب» (3/ 1218) إسناد الحديث من طريق هشام الدستوائي.
(3) أخرجه الدارمي في «النقض» (1/ 286) وصححه الذهبي في «الأربعين في صفات رب العالمين» (79).
(4) «ح»: «من».
(5) أخرجه عبد الله بن أحمد في «السنة» (1090) وابن جرير في «التفسير» (20/ 246).
(6) أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (106) والفريابي في «القدر» (416) والآجري في «الشريعة» (339) وابن بطة في «الإبانة» (1365) عن ابن عمر مرفوعًا، وينظر «السلسلة الصحيحة» للألباني (3136).
(1/101)
وابن عباس (1): «أولُ شيءٍ خلقَه الله القلمُ، فأخذه بيمينه ـ وكلتا يديه يمين ـ فكتب (2) الدنيا وما فيها من عملٍ معمولٍ في برٍّ وبحرٍ ورطبٍ ويابسٍ، فأحصاه عنده».
وقال ابن عباسٍ في قوله تعالى: {وَاَلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 64] «يقبض اللهُ عليها فما يُرى طرفاها في يده» (3).
وقال ابن عمر: «رأيتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قائمًا على المنبر، فقال: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي قَبْضَتِهِ، ثُمَّ قَالَ هَكَذَا ـ وَمَدَّ يَدَهُ وَبَسَطَهَا ـ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا اللَّهُ، أَنَا الرَّحْمَنُ … » (4) وذكر الحديث.
_________
(1) أخرجه البيهقي في «القدر» (242) من طريق جويبر، عن رجل، عن مجاهد، عن ابن عباس موقوفًا بنحوه.
ورواه الدارمي في «الرد على الجهمية» (253) وعبد الله بن أحمد في «السنة» (854) وأبو يعلى في «المسند» (2329) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (803) مرفوعًا بنحوه دون ذكر اليد.
(2) «ح»: «فكانت».
(3) لم نقف عليه، وأقرب لفظ وقفنا عليه ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 368) قال: «روى أبو الشيخ وغيره عن ابن عباس قال: «ما السماوات السبع والأرضون السبع، وما فيهن وما بينهن، في يد الرحمن إلَّا كخردلةٍ في يد أحدكم»، وفي لفظ: «إنها لَتغيبُ في يده حتى لا يُرى طرفاها». اهـ، ولم أقف عليه مسندًا.
(4) أخرجه النسائي في «السنن الكبرى» (7662) وابن حبان (7234) وأصله في البخاري (7412) ومسلم (2788).
(1/102)
وقال ابن وهب: عن أسامة، عن نافع، عن ابن عمر «أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قرأ على المنبر {وَاَلْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَاَلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 64] قال: مَطْوِيَّةٌ فِي كَفِّهِ يَرْمِي بِهَا كَمَا يَرْمِي الْغُلَامُ بِالْكُرَةِ» (1).
وقال عُبيد الله بن مِقْسَم: «نظرتُ إلى عبد الله بن عمر كيف صنع حيث يحكي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: يَأْخُذُ اللَّهُ سَمَاوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ (2) بِيَدِهِ، فَيَقُولُ: أَنَا اللَّهُ. وَيَقْبِضُ أَصَابِعَهُ وَيَبْسُطُهَا وَيَقُولُ: أَنَا الرَّحْمَنُ (3) أَنَا الْمَلِكُ. حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ (4) مِنْهُ، حَتَّى إِنِّي أَقُولُ: أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -» (5)؟!
وقال زيد بن أسلم: «لمَّا كتب اللهُ التوراةَ بيده قال: باسمِ الله، هذا كتابُ (6) الله بيده لعبده موسى، يسبِّحني ويقدِّسني، ولا يحلف باسمي آثِمًا؛ فإني لا أُزكِّي مَن حلفَ باسمي آثمًا» (7).
_________
(1) أخرجه الطبري في «التفسير» (20/ 247) وابن منده في «الرد على الجهمية» (13) وله شواهد، ورُوِيَ بألفاظ يصدق بعضُها بعضًا، وينظر «مجموع الفتاوى» (6/ 561) و «فتح الباري» (13/ 396).
(2) «ب»: «وأرضه».
(3) بعده في «ح»: «أنا الرحمن».
(4) «شيء» ليس في «ح».
(5) أخرجه مسلم في «صحيحه» (2788).
(6) بعده في «ح»: «من». وليس هذا اللفظ في «م» ولا في مصدري التخريج.
(7) أخرجه عبد الله بن أحمد في «السنة» (576) والنجاد في «الرد على من يقول القرآن مخلوق» (101).
(1/103)
وإنما ذكرنا هذه النصوص التي هي غَيْضٌ من فيضٍ؛ ليعلم الواقفُ عليها أنها لا يفهم أحدٌ من عقلاء بني آدم منها شخصًا له شِقٌّ واحدٌ، وعليه أيدٍ كثيرة، وله ساقٌ واحدٌ، وله وجهٌ واحدٌ، وفيه عيونٌ كثيرةٌ. فهذه نصوص القرآن والسُّنَّة كما ترى، هل يفهم منها [عاقلٌ] (1) ما ذكره هذا الجهمي، أو أحدٌ ممَّن له أدنى فَهْم؟!
ومَن هذا قدْرُ النصوص عنده فهو حقيقٌ بألَّا يقبل منها شيئًا، ولا ينال منها هدًى، ولا يظفر منها بعلمٍ. وهي في حقِّه كما قال الله تعالى: {وَنُنزِلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ اُلظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]، وقوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَت سُّورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (125) وَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125 – 126] [ق 11 ب]، وقوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَاَلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهْوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 43]، وقوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا اَلْفَاسِقِين} (2) [البقرة: 25].
والله يعلم أن هذا من أعظم العضَهِ لها والتنقيص والطعن على مَن تكلَّم بها (3) وجاء بها (4). أو يقال له: هذا ظاهر كلامك وحقيقته.
فانظر إلى أقبح التشبيه والتمثيل الذي ادَّعوا أنه ظاهر النصوص، وإلى
_________
(1) ليس في النسختين، وزدته ليستقيم الكلام.
(2) من قوله: «وهي في حقه». إلى هنا ليس في «ب».
(3) «ب»: «والتنقص بها ولَمْزِ من تكلم بها».
(4) «ح»: «وأجابها».
(1/104)
التعطيل الذي سطَوْا به عليها وسمَّوْه تأويلًا! فصحَّ أنهم جمعوا بين فَهْم التشبيه منها، واعتقاد التعطيل، ونسبة قائلها إلى قصد ما يضاد البيان والإرشاد، والله المستعان.
* * * * *
(1/105)
الفصل التاسع (1)
في الوظائف الواجبة على المتأوِّل التي (2) لا يُقبل منه تأويله إلَّا بها
لمَّا كان الأصل في الكلام هو الحقيقةَ والظاهرَ كان العدول به عن حقيقته وظاهره مُخرجًا له عن (3) الأصل، فاحتاج مُدَّعِي ذلك إلى دليلٍ يُسوِّغ له إخراجه عن أصله. فعليه أربعة أمورٍ لا يتم له دعواه إلَّا بها:
الأمر الأول: بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي تأوَّله في ذلك التركيب الذي وقع فيه، وإلَّا كان كاذبًا على اللغة مُنشِئًا وضعًا مِن عنده، فإن اللفظ قد لا يحتمل ذلك المعنى لغةً، وإن احتمله فقد لا يحتمله في ذلك التركيب الخاص.
وكثيرٌ من المتأوِّلين لا يبالي إذا تهيأ له (4) حملُ اللفظ على ذلك المعنى بأي طريقٍ أمكنه أن يدَّعي حملَه عليه، إذ مقصودُه (5) دفع الصائل، فبأي طريقٍ اندفع عنه دفَعَه، والنصوص قد صالت على قواعده الباطلة، فبأي طريقٍ تهيأ له دَفْعُها دَفَعَها (6)، ليس مقصودُه أخْذَ الهدى والعلم والإرشاد منها، فإنه قد أصَّلَ أنها أدلةٌ لفظيةٌ لا يُستفاد منها يقينٌ (7) ولا علمٌ ولا معرفةٌ
_________
(1) «ح»: «الثامن».
(2) «ح»: «الذي».
(3) «ب»: «من».
(4) «له» ليس في «ح».
(5) «ح»: «مقصود».
(6) «دفعها» ليس في «ح».
(7) «يقين». سقط من «ح».
(1/106)
بالحق، وإنما المُعوَّل على آراء الرجال وما تقتضيه عقولها.
وأنت إذا تأملتَ تأويلاتهم رأيت كثيرًا منها لا يحتمله اللفظ في اللغة التي وقع بها التخاطبُ، وإن احتمله لم يحتمله في ذلك التركيب الذي تأوَّلَه. وليس لأحدٍ أن يحمل كلامَ الله ورسوله على كل ما ساغ في اللغة أو الاصطلاح لبعض الشُّعراء أو الخُطباء أو الكُتَّاب أو العامة، إلَّا إذا كان ذلك غيرَ مخالفٍ لِمَا عُلِمَ من وصف الربِّ تعالى وشأنه، وما تضافرت به صفاتُه لنفسه وصفات رسوله له، وكانت إرادةُ ذلك (1) المعنى بذلك اللفظ ممَّا يجوز ويصلح نسبتها إلى الله ورسوله، لا سيما والمتأوِّل يخبر (2) عن مراد الله ورسوله، فإن تأويل كلام (3) المتكلم بما يوافق ظاهرَه أو يخالفه (4) إنما هو بيان لمراده. فإذا عُلم أن المتكلم لم يُرِدْ هذا (5) المعنى، وأنه يمتنع أن يريده، وأن في صفات كماله ونُعوت جلاله ما يمنع من إرادته، وأنه يستحيل عليه من وجوهٍ كثيرةٍ أن يريده = استحال الحُكمُ عليه بإرادته.
فهذا أصلٌ عظيمٌ يجب معرفته، ومَن (6) أحاط به معرفةً تبيَّنَ له أن كثيرًا ممَّا (7)
_________
(1) من قوله: «ذلك غير مخالف» إلى هنا سقط من «ح».
(2) «ب»: «مخبر».
(3) بعده في «ح» لفظ الجلالة.
(4) من هنا وقع في «ب» سقطٌ كبير حتى أثناء الفصل الحادي عشر، وسنُنبِّه على انتهائه في محله بإذن الله تعالى.
(5) «ح»: «لهذا». والمثبت من «م».
(6) «ح»: «وممن». والمثبت من «م».
(7) «ح»: «ما». والمثبت من «م».
(1/107)
يدَّعِيه المحرِّفون من التأويلات ممَّا يُعلَم قطعًا أن المتكلم لا يصلح أن يريده بذلك الكلام، وإن كان ذلك ممَّا يُسوِّغ لبعض الشعراء وكُتَّاب الإنشاء واللغة من القاصدين التعمية لغرض من الأغراض. فلا بد أن يكون المعنى الذي تأوله المتأوِّل ممَّا (1) يسوغ استعمال اللفظ فيه في تلك اللغة التي وقع بها التخاطب، وأن يكون ذلك المعنى ممَّا يجوز نسبتُه إلى الله، وألَّا يعود على شيءٍ من صفات كماله بالإبطال والتعطيل، وأن يكون معه قرائنُ تحتفُّ به، تُبَيِّن (2) أنه مرادٌ باللفظ، وإلَّا كانت دعوى إرادته كذبًا على المتكلم. ونحن نذكر لذلك أمثلة (3):
المثال الأول: تأويل قوله تعالى: {خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اَسْتَوَى عَلَى اَلْعَرْشِ} [الأعراف: 53] بأنه أقبل على خَلْقه، فهذا إنشاء منهم لوضع لفظ «استوى» على: أقبل على خَلْقِه. وهذا لم يقله أحدٌ من أهل اللغة، فإنهم ذكروا معانيَ «استوى»، ولم يذكر أحدٌ منهم أصلًا في معانيه الإقبال على الخلق. فهذه كتب اللغة طَبَقُ الأرضِ (4) هل تجدون أحدًا منهم يحكي ذلك عن (5) اللغة؟ وأيضًا فإنَّ استواء الشيء والاستواء إليه وعليه يستلزم وجودَه، ووجودَ ما نسبتَ إليه الاستواء بـ «إلى» أو بـ «على»، فلا يقال: استوى إلى أمرٍ معدومٍ، ولا استوى عليه. فهذا التأويل إنشاءٌ
_________
(1) «ح»: «ما». والمثبت من «م».
(2) «ح»: «بين». والمثبت من «م».
(3) لم يذكر هنا غير مثال واحد فقط.
(4) يعني: كثرتها وانتشارها.
(5) «ح»: «على». والمثبت من «م».
(1/108)
محضٌ لا إخبارٌ صادقٌ عن استعمال أهل اللغة.
وكذلك تأويلهم الاستواءَ بالاستيلاء؛ فإن هذا لا تعرفه العرب من لغاتها، ولم يقله أحدٌ من أئمة اللغة. وقد صرَّح أئمةُ اللغة كابن الأعرابي وغيره بأنه لا يُعرَف في اللغة. ولو احتمل ذلك لم يحتمله هذا التركيب؛ فإن استيلاءه سبحانه وغلبته للعرش لم يتأخر عن خلق السماوات والأرض، والعرشُ مخلوقٌ قبل خلْقِها بأكثرَ من خمسين ألف سنةٍ، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق فيما صحَّ عنه (1). وبطلان هذا التأويل من أربعين وجهًا، سنذكرها في موضعها في هذا الكتاب (2) إن شاء الله.
والمقصود ذِكر الوظائف التي على المتأوِّل، فعليه أن يُبيِّنَ احتمال اللفظ للمعنى الذي ذَكَره أولًا.
ويُبيِّن تعيين ذلك المعنى ثانيًا؛ فإنه إذا أُخرج عن حقيقته قد يكون له معانٍ، فتعيين ذلك المعنى يحتاج إلى دليل.
الثالث: إقامة الدليل الصارِف للفظ عن حقيقته وظاهره [ق 12 أ]، فإن دليل المُدَّعِي للحقيقة والظاهر قائمٌ، فلا يجوز العدول عنه إلَّا بدليلٍ صارفٍ يكون أقوى منه.
الرابع: الجواب عن المعارض، فإن مُدَّعي الحقيقة قد أقام الدليل العقلي والسمعي على إرادة الحقيقة:
_________
(1) رواه مسلم، وتقدم تخريجه (ص 34).
(2) للأسف هو في الجزء المفقود من الكتاب، ينظر «مختصر الصواعق» للموصلي (3/ 888 – 945).
(1/109)
أمَّا السمعي فلا يمكنك المكابرة أنه معه.
وأمَّا العقلي فمن وجهين: عام وخاص. فالعام: الدليل الدال على كمال عِلم المتكلم وكمال بيانه وكمال نُصحه. والدليل العقلي على ذلك أقوى من الشُّبَه الخيالية التي يستدل بها النفاةُ بكثيرٍ. فإن جاز مخالفة هذا الدليل القاطع فمخالفةُ تلك الشُّبَه الخيالية أولى بالجواز. وإن لم تَجُزْ مخالفةُ تلك الشُّبَه فامتناع مخالفة الدليل القاطع أولى.
وأمَّا الخاص فإنَّ كل صفةٍ وصف الله بها نفسَه ووصفه بها رسولُه فهي صفة كمال قطعًا؛ فلا يجوز تعطيل صفات كماله وتأويلها بما يُبطِل حقائقها.
فالدليل العقلي الذي دلَّ على ثبوت الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر دلَّ نظيرُه على ثبوت الحكمة والرحمة والرضى والغضب والفرح والضحك. والذي دلَّ على أنه فاعِلٌ بمشيئته واختياره دلَّ على قيام أفعاله به، وذلك عين الكمال المقدس. وكلُّ صفة دلَّ عليها القرآن والسُّنَّة فهي صفة كمالٍ، والعقل جازمٌ بإثبات صفات الكمال للربِّ سبحانه، ويمتنع أن يصف نفسه أو يصفه رسولُه بصفةٍ توهم نقصًا. وهذا الدليل أيضًا أقوى من كل شبهةٍ للنفاة. يوضحه أنَّ أدلةَ مُبايَنةِ الربِّ لخَلْقِه وعلوِّه على جميع مخلوقاته أدلةٌ عقلية (1) فطرية تُوجِب العلم الضروري بمدلولها.
وأمَّا السمعية فتقارب ألف دليلٍ، فعلى المتأوِّل أن يُجيب عن ذلك كله، وهيهات له بجوابٍ صحيحٍ عن بعض ذلك! فنحن نطالبه بجوابٍ صحيحٍ عن دليلٍ واحدٍ، وهو أنَّ الرَّبَّ تعالى إمَّا أن يكون له وجودٌ خارجي عن
_________
(1) من قوله «الرب» إلى هنا سقط من «ح»، وأثبته من «م».
(1/110)
الذهن ثابت في الأعيان أو لا، فإن لم يكن له وجودٌ خارجي كان خيالًا قائمًا بالذهن لا حقيقةَ له. وهذا حقيقة قول المُعطِّلة وإن تستَّروا بزخرفٍ من القول. وإن كان وجوده خارج الذهن فهو مُبايِن له، إذ هو منفصل عنه، إذ لو كان قائمًا به لَكان عَرَضًا من أعراضه، وحينئذٍ فإما أن يكون هو هذا العالَمَ أو غيره، فإن كان هذا العالَم فهو تصريح بقول أصحاب وحدة الوجود، وأنه ليس لهذا العالَمِ ربٌّ مُبايِنٌ له منفصلٌ عنه. وهذا أَكفرُ أقوال أهل الأرض. وإن كان غيره فإمَّا أن يكون قائمًا بنفسه أو قائمًا بالعالَم، فإن كان قائمًا بالعالَم فهو جزءٌ من أجزائه، أو صفة من صفاته، وليس هذا بقيُّوم السماوات والأرض. وإن كان قائمًا بنفسه ـ وقد عُلم أن العالَم قائم بنفسه ـ فذاتان قائمتان بأنفسهما ليست إحداهما داخلةً في الأخرى، ولا خارجةً عنها، ولا متصلةً بها، ولا منفصلةً عنها، ولا مُحايِثة ولا مُبايِنة، ولا فوقها ولا تحتها، ولا خلفها ولا أمامها، ولا عن يمينها ولا عن شمالها = كلامٌ له خبءٌ لا يخفى على عاقلٍ منصفٍ، البديهة (1) الضرورية حاكمة بامتناع هذا واستحالة تصوُّره، فضلًا عن التصديق به.
قالوا: فنحن نطالبكم بجوابٍ صحيحٍ عن هذا الدليل الواحد من جملة ألف دليل، ونعلم قبل المطالبة أنه لو اجتمع كلُّ جهميٍّ على وجه الأرض لَما أجابوا عنه بغير المكابرة والتشنيع على أهل الإثبات بالتجسيم والسبِّ (2)، وهذه وظيفة كل مبطِل قامت عليه حُجةُ الله. فدعوا (3) الشناعة
_________
(1) في «م»: «والبديهة».
(2) «ح»: «والتفسير والسبب». والمثبت من «م».
(3) «ح»: «قد عوام». ولعل المثبت هو الصواب.
(1/111)
بالفِرْية والكذب والاختلاق (1)، هل يمكنكم الخروج من دائرة المعطِّلين الذين قالوا: لو كان للعالَم صانعٌ قائمٌ (2) بنفسه لَكان إمَّا داخلًا فيه أو خارجًا عنه، وإمَّا متصلًا أو منفصلًا عنه، وإمَّا مُحايِثًا له أو مُبايِنًا له، وإمَّا فوقه أو تحته، أو عن يمينه أو عن شماله، أو خلفه أو أمامه، فحيث لم يَثبُت له شيءٌ من ذلك استحالَ أن يكون مُغايِرًا للعالَم قائمًا بنفسه.
قالوا: وهذه العقول والفِطَر حاضرة، إذا عُرِض عليها ذلك وجدتَه من باب الجمع بين النقيضين. فدعونا من إخراج نصوص الوحي عن (3) حقائقها، ودعوى أنها مجازات لا حقائقَ لها، لا تفيد يقينًا، ولا يُستفاد منها علمٌ بما يجب لله ويمتنع عليه البتةَ؛ إذ هي أدلة لفظية، وظواهر غير مفيدة لليقين (4)، وأجيبوا (5) هؤلاء المعطِّلة وأولئك المجسِّمة بزعمكم، وإلَّا فَلْيستحْيِ مِن مراجمة (6) الناس بالأحجار مَن سقفُ بيتِه من الزُّجاج.
* * * * *
_________
(1) «ح»: «والاختلاف».
(2) «ح»: «صانعًا قائمًا».
(3) «ح»: «من».
(4) «ح»: «للتعيين». والمثبت هو الصواب، وقد مر على الصواب مرارًا.
(5) «ح»: «أحيسوا». والمثبت هو الصواب.
(6) «ح»: «مزاحمة» بالزاي والحاء، وهو تصحيف ما أثبت.
(1/112)
الفصل العاشر (1)
في أن التأويل شرٌّ من التعطيل
فإنه (2) يتضمن التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص وإساءة الظن بها
فإن المُعطِّل والمؤوِّل قد اشتركا في نفي حقائق الأسماء والصِّفات، وامتاز المُؤوِّل بتلاعبه بالنصوص وانتهاكه لحُرمتها وإساءة الظن بها، ونسبة قائلها إلى التكلم بما ظاهرُه الضلال والإضلال، فجمعوا بين أربعة محاذير:
اعتقادهم أن (3) ظاهر كلام الله ورسوله المُحال الباطل، ففهموا التشبيه أولًا.
ثم انتقلوا عنه إلى المحذور الثاني: وهو التعطيل، فعطلوا حقائقها بناءً منهم على ذلك الفهم الذي يليق بهم، ولا يليق بالرَّبِّ جل جلاله.
المحذور الثالث: نسبة المتكلِّم، الكاملِ العلمِ، الكاملِ البيانِ، التامِّ النصحِ إلى ضد البيان والهدى والإرشاد [ق 12 ب]. وإن المتحيِّرين (4) المتهوِّكين أجادوا العبارة في هذا الباب، وعبَّرُوا بعبارةٍ لا تُوهِم من الباطل ما أوهمتْه عبارة المتكلم بتلك النصوص، ولا ريب عند كل عاقلٍ أن ذلك يتضمن أنهم كانوا أعلمَ منه أو أفصحَ أو أنصحَ للناس.
_________
(1) «ح»: «التاسع». والمثبت من الفهرس المتقدم في مقدمة الكتاب.
(2) «فإنه» ليس في «ح»، ومثبت من «م».
(3) «ح»: «إلى». والمثبت من «م».
(4) «ح»: «المبحرين». والمثبت من «م».
(1/113)
المحذور الرابع: تلاعُبهم بالنصوص وانتهاك حرماتها، فلو رأيتَها (1) وهم يلوكونها بأفواههم، وقد حلَّت بها المَثُلاتُ، وتلاعَبَ بها أمواج (2) التأويلات، وتقاذفت (3) بها رياحُ الآراء، واحتوشتها رماحُ الأهواء، ونادى عليها أهل التأويل في سُوق مَن يزيد، فبذَلَ كل واحدٍ في ثمنها من التأويلات ما يريد. فلو شاهدتَها بينهم وقد تخطَّفها أيدي الاحتمالات، ثم قُيِّدَت بعدما كانت مطلَقةً بأنواع الإشكالات، وعُزِلَت عن سلطنة اليقين، وجُعِلَت تحت حُكم تأويل الجاهلين!
هذا وطالما نُصِبَت لها حبائلُ الإلحاد (4)، وبقيت عرضةً للمطاعن (5) والإفساد، وقعدَ النُّفاةُ على صراطها المستقيم بالدفع في صدورها والأعجاز، وقالوا: لا طريق لك علينا، وإن كان لا بد فعلى سبيل المجاز! فنحن أهل المعقولات وأصحاب البراهين، وأنت أدلة لفظية وظواهر سمعية لا تفيد العلم ولا اليقين. فسندُك (6) آحادٌ وهو عرضة للطعن في الناقلين، وإن صحَّ وتواتَرَ ففَهْم (7) مراد المتكلم منه موقوفٌ على انتفاء عشرة أشياء (8)،
_________
(1) «ح»: «رأينا». والمثبت من «م».
(2) «ح»: «الأمواج». والمثبت من «م».
(3) «ح»: «وتعاد فيه».
(4) «ح»: «الاتحاد». ولعل المثبت هو الصواب.
(5) «ح»: «وعرضة ولمطاعن».
(6) «ح»: «فستذكر». والمثبت من «م».
(7) «ح»: «فهم». والمثبت من «م».
(8) «أشياء» سقط من «ح». وأثبته من «م». وسيأتي بيان المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ لهذه الأمور العشرة مفصَّلةً وردها بأحسن بيان.
(1/114)
لا سبيل إلى العلم بانتفائها عند الناظرين والباحثين.
فلا إله إلَّا الله والله أكبر، كم هدمت بهذه المعاول من معاقل الإيمان، وثلمت بها حصونُ حقائق السُّنَّة والقرآن! وكم أطلقت في نصوص الوحي من لسان كل جاهلٍ أخرق ومنافقٍ أرعن، وطرَّقت لأعداء الدين الطريق، وفتحت الباب لكل (1) مبتدعٍ وزنديقٍ!
ومَن نظَرَ في التأويلات المخالِفة لحقائق النصوص رأى من ذلك ما يُضحِك عجبًا، ويُبكِي حزنًا، ويثير حَمِيةً للنصوص وغضبًا، قد أعاد عَذْبَ النصوص مِلْحًا أُجاجًا، وخرجت الناسُ من الهدى والعلم أفواجًا، فتحيَّزت كل طائفة إلى طاغوتها، وتصادمت تصادُمَ النصارى في شأن ناسوتها ولاهوتها. ثم تمالَأَ الكل على غزو جند الرحمن، ومعاداة حزب السُّنَّة والقرآن، فتداعَوْا إلى حربهم تداعِيَ الأَكَلة إلى قصعتها، وقالوا: نحن وإن كنا مختلفين (2) فإنا على محاربة هذا الجند متفقون، فمِيلُوا بنا عليهم ميلةً واحدة، حتى تعود دعوتهم باطلة وكلمتهم خامدة. وغرَّ المخدوعين كثرتُهم التي ما زادتهم عند الله ورسوله وحزبه إلَّا قلةً، وقواعدهم التي ما زادتهم إلَّا ضلالًا وبُعدًا عن الملة. وظنوا أنهم بجموعهم المعلولة يملؤون قلوب أهل السُّنَّة إرهابًا منهم وتعظيمًا، {وَلَمَّا رَأَى اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اَللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اَللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].
وأنت إذا تأملتَ تأويلات القرامطة والملاحدة والفلاسفة والرافضة
_________
(1) «ح»: «فكل». والمثبت هو الصواب.
(2) «ح»: «محلقين». والمثبت هو الصواب.
(1/115)
والقدرية والجهمية، ومَن سلك سبيل هؤلاء من المقلِّدين لهم في الحُكم والدليل، ترى الإخبار بمضمونها عن الله ورسوله لا يقصر عن الإخبار عنه بالأحاديث الموضوعة المصنوعة، التي هي ممَّا عملته أيدي الوضَّاعين، وصاغته ألْسِنة الكذابين. فهؤلاء اختلقوا عليه ألفاظًا وضعوها، وهؤلاء اختلقوا في كلامه معانيَ ابتدعوها.
فيا محنة الكتاب والسُّنَّة بين الفريقين! ويا نازلة نزلت بالإسلام من الطائفتين؟ فهما عَدوانِ للإسلام كائدانِ، وعن الصراط المستقيم ناكبان، وعن قصد السبيل جائران.
فلو رأيتَ ما يصرف إليه المحرِّفون أحسن الكلام وأبينه وأفصحه وأحقه بكل هدًى وبيانٍ وعلم من المعاني الباطلة والتأويلات الفاسدة، لَكدتَ تقضي من ذلك عجبًا، وتتخذ في بطن الأرض سَرَبًا! فتارةً تعجب، وتارةً تغضب، وتارةً تبكي، وتارةً تضحك، وتارة تتوجع لِمَا نزل بالإسلام، وحلَّ بساحة الوحي ممَّن هم أضل مِن الأنعام.
فكشفُ عورات هؤلاء وبيانُ فضائحهم وفساد قواعدهم من أفضل الجهاد في سبيل الله. وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لحسان بن ثابت: «إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ مَعَكَ مَا دُمْتَ تُنَافِحُ عَنْ رَسُولِهِ» (1). وقال: «اهْجُهُمْ ـ أَوْ هَاجِهِمْ ـ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ» (2). وقال: «اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ القُدُسِ مَا دَامَ يُنَافِحُ عَنْ رَسُولِكَ» (3).
_________
(1) أخرجه مسلم (2490) عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها -.
(2) أخرجه البخاري (3213) ومسلم (2486) عن البراء بن عازب – رضي الله عنه -.
(3) أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (4/ 37) عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها -، وأصل الحديث رواه البخاري (453) ومسلم (2485) عن أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(1/116)
وقال عن هجائه لهم: «والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ فِيهِمْ مِنَ النَّبْلِ» (1).
وكيف لا يكون بيانُ ذلك من الجهاد في سبيل الله، وأكثرُ هذه التأويلات المخالِفة للسلف الصالح ـ من الصحابة والتابعين وأهل الحديث قاطبةً وأئمة الإسلام الذين لهم في الأمة لسان صدق ـ يتضمن مِن عبثِ المتكلم بالنصوص وسوء الظن بها (2) من جنس ما تضمنه طعنُ الذين يلمزون الرسول ودينه وأهلِ النفاق والإلحاد؛ لِمَا فيه من دعوى أن ظاهر كلامه إفكٌ ومحال، وكفرٌ وضلال، وتشبيهٌ وتمثيل أو تخييل. ثم صرفها إلى معانٍ يُعلَم أن إرادتها بتلك الألفاظ من نوع [ق 13 أ] الأحاجي والألغاز، لا يصدر ممَّن قصده نصحٌ وبيان. فالمدافعةُ عن كلام الله ورسوله والذبُّ عنه من أفضل الأعمال وأحبِّها إلى الله وأنفعها للعبد.
ومَن رزقه الله بصيرةً نافذةً عَلِمَ سخافةَ عقول هؤلاء المحرِّفين، وأنهم من أهل الضلال المبين، وأنهم إخوان الذين ذمَّهم اللهُ بأنهم يحرِّفون الكلم عن مواضعه، الذين لا يفقهون ولا يتدبرون القول، وشبَّههم بالحُمُر المستنفِرة (3)
_________
(1) أخرجه النسائي (2893) وابن خزيمة (2680) عن أنس بن مالك – رضي الله عنه -، وفيه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال ذلك لعبد الله بن رواحة، وأصل الحديث رواه مسلم (2490) عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها -، أنه – صلى الله عليه وسلم – قال: «اهجُوا قريشًا، فإنه أشدُّ عليها مِن رَشْقٍ بالنَّبْلِ». فأرسل إلى ابن رواحة فقال: «اهجُهُمْ». فهجاهم، فلم يَرْضَ، فأرسل إلى كعب بن مالك، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت … الحديث.
(2) «ح»: «به». والمثبت هو الصواب.
(3) يعني: قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ اِلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 49 – 51].
(1/117)
تارةً، وبالحمار الذي يحمل أسفارًا (1).
ومَنْ قَبِلَ التأويلاتِ المُفتراة على الله ورسوله، التي (2) هي تحريفٌ لكلام الله ورسوله عن مواضعه، فهو من جنس الذين قَبِلوا قرآن مسيلِمة المختلَق المفترَى، وقد زعم أنه شريكٌ لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
رئيسًا (3) وكبيرًا مطاعًا يجعله شريكًا له في التصديق والطاعة والقبول إن لم يقدِّمه عليه، لا سيما الغالية من الجهمية والباطنية والرافضة والاتحادية، فإن عندهم من كلام ساداتهم وكبرائهم ما يضاهون به كلامَ الله ورسوله. وكثيرًا ما يقدِّمونه عليه عِلمًا وعملًا، ويَدَّعون فيه من التحقيق والتدقيق والعلم والعرفان ما لا يثبتون مثلَه للسُنَّة والقرآن.
ومَن تلبَّس منهم بالإسلام يقول: كلامنا يُوصِل إلى الله، والقرآن وكلام الرسول يوصل إلى الجنة. وكلامنا للخواص، والقرآن للعوام.
وكثيرٌ منهم يقول: كلامنا برهانٌ، وطريق القرآن خطابة.
ومنهم من يقول: القرآن والسُّنَّة طريق السلامة، وكلامنا طريق العلم والتحقيق.
وكثيرٌ منهم يقول: لم يكن الصحابة مَعنيِّين بهذا الشأن، بل كانوا قومًا أُمِّيين، فتحوا البلاد وأقاموا الدِّين بالسيف، وسلَّموا إلينا النصوص نتصرف
_________
(1) يعني: قوله تعالى: {مَثَلُ اُلَّذِينَ حُمِّلُوا اَلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ اِلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5].
(2) «ح»: «الذي». وهو خطأ واضح.
(3) سقط قبله شيء من «ح»، نحو: «وكذا كل مَنِ اتخذ مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم -».
(1/118)
فيها ونستنبط منها، فلهم علينا مَزيَّةُ الجهاد والزهد والورَع، ولنا عليهم (1) مزيةُ العلم بالحقائق والتأويل. وإن لم يعلموا هذا من قلوبهم ـ والله يشهد به عليهم ويعلمه كامنًا في صدورهم ـ يبدو على فَلتاتِ لسانِ مَن لم يصرِّح به منهم.
ومِن محققي هؤلاء مَن يدعي أن الرُّسل يستفيدون العلمَ بالله من طريقهم، ويتلقَّوْنه من مِشْكَاتهم، ولكن يخاطبون الناس على قدر عقولهم، فلم يصرحوا لهم بالحق ولم ينصحوا لهم به.
وكلٌّ من هؤلاء قد نصب دون الله ورسوله طاغوتًا يُعوِّل عليه، ويدعو عند التحاكُم إليه. فكلامه عنده محكمٌ لا يسوغ تأويله ولا يخالَفُ ظاهره، وكلام الله ورسوله إذا لم يوافقه فهو مجملٌ متشابهٌ يجب تأويله أو يسوغ. فضابط التأويل عندهم ما خالف تلك الطواغيت.
ومَن تدبَّر هذا الموضع انتفع به غاية النفع، وتخلَّص به مِن أشراك الضلال. فإن الذين يقرُّون برسالة النبي – صلى الله عليه وسلم -، وفيهم نوع إيمانٍ به، منهم مَن يجعل له شريكًا في الطاعة، كما كان المنافقون يطيعون عبد الله بن أُبَيٍّ رأس المنافقين وكبيرهم (2)، وكان كثيرٌ ممَّن في قلبه نوع مرضٍ ـ وإن لم يكن منافقًا خالصًا ـ يطيعه في كثير من الأمور ويَقبَل منه، كما قال تعالى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47] والمعنى على أصحِّ القولين: وفيكم مستجيبون لهم قابلون منهم (3). كما قال الله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة: 43] أي:
_________
(1) «ح»: «لهم».
(2) «ح»: «وكيدهم».
(3) وهو قول قتادة وابن إسحاق، رواه عنهما الطبري في «تفسيره» (11/ 486) والثعلبي في «الكشف والبيان» (13/ 397). والقول الآخر هو قول مجاهد وابن زيد، رواه عنهما الطبري في «تفسيره» (11/ 486) والثعلبي في «الكشف والبيان» (13/ 396).
(1/119)
قابلون له. ومَن حملَ (1) الآية على العيون والجواسيس فقوله ضعيفٌ لوجوهٍ كثيرةٍ، ليس هذا موضعها.
وكما كان أصحاب مسيلِمة يقولون: إنه شريكه في الطاعة، وإنه يُقبَل منه كما يُقبَل من النبي – صلى الله عليه وسلم -.
وكان عبد الله بن أُبَيٍّ يقدم سياسته ورأيه على ما جاء به أحيانًا، ويغضب إذا لم يسمع منه، ويغضب له قومه.
وكذلك رئيس الخوارج السَّجَّاد العَبَّاد الذي بين عينيه أثر السجود، قدَّم عقله وزايَدَ على ما جاء به في قسمة المال، وزعم أنه لم يعدل فيها (2).
وكذلك غُلاة الرافضة قدَّموا عقولهم وآراءهم على ما جاء به، وزعموا أنه لم يعدل حيث أمَرَ أبا بكر أن يصلي بالناس (3) وابنُ عمِّه حاضر، ولم يعدل حيث أثنى على أبي بكر وعمر وعظَّمهما، فأوجبَ (4) أن الأمة بعده وَلَّوهما دون ابن عمِّه.
وكذلك الجهمية، قدَّموا عقولهم وآراءهم على ما جاء به، وزعموا أنه لم يعدل في العبارة، حيث عدل عن العبارة التي عبَّرُوا هم بها عن الله سبحانه، وعبَّر بما أوقع الأمةَ في اعتقاد التشبيه والتجسيم، وحمَّلَهم كلفةَ التأويل وجشَّمهم مشقتَه، وأوقع الخلافَ بين الأُمة بتلك العبارات التي عباراتهم
_________
(1) «ح»: «حلى». ولعل المثبت هو الصواب.
(2) أخرجه البخاري (3150) ومسلم (1062) عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -.
(3) أخرجه البخاري (664) ومسلم (418) عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها -.
(4) «ح»: «أوجب».
(1/120)
بزعمهم أعظمُ تنزيهًا لله وأقل إيهامًا للمحال منها.
فهؤلاء وأمثالهم هم السَّلف لكل خلفٍ يدَّعِي أن لغير الله ورسوله معه حُكمًا في مضمون الرسالة، إمَّا في العلميات وإمَّا في العمليات، وإمَّا في الإرادات والأحوال، وإمَّا في السياسات وأحكام الأموال. فيُطاع هذا الغير كما يُطاع الرسول، بل الله يعلم أن كثيرًا منهم أو أكثرَهم قد قدَّموا طاعته على طاعة الرسول.
فكل هؤلاء فيهم شبهٌ من أتباع مُسيلِمة وابن أُبَيٍّ وذي الخُويصِرة، فلكل خلفٍ سلفٌ، ولكل تابعٍ متبوعٌ، ولكل مرؤوسٍ رئيسٌ، فمَن قرنَ بالرسالة رئاسةً مطاعةً أو سياسةً حاكمةً، بحيث يجعل طاعتها كطاعة الرسالة، ففيهم شبهٌ من أتباع عبد الله بن أُبَي، ومَنِ اعترض على الكتاب والسُّنَّة بنوع تأويلٍ من قياسٍ أو ذَوقٍ أو عقلٍ أو حالٍ ففيه شبهٌ من الخوارج أتباع ذي الخويصِرة، ومَن نصبَ طاغوتًا دون الله ورسوله [ق 13 ب] يدعو ويحاكِم إليه ففيه شبهٌ من أتباع مسيلِمة. وقد يكون في هؤلاء مَن هو شرٌّ من أولئك، كما كان فيهم من هو خيرٌ منهم أو مثلهم. وهؤلاء كلُّهم قد أعقبهم هذا الصنيعُ نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقَوْن ربهم، وإنما تبيَّنُ لهم حقيقته إذا بُليت السرائر ومُدَّت الضمائر، وبُعثِرَ ما في القبور، وحُصِّل ما في الصدور، ولا يستقر للعبد قدمٌ في الإسلام حتى يعقد قلبه وسرَّه على أن الدِّين كله لله، [وأن الهدى هدى الله، وأن الحق دائرٌ مع الرسول – صلى الله عليه وسلم – وجودًا وعَدَمًا، وأنه لا مطاع] (1) سواه، ولا متبوع غيره، وأن كلام غيره يُعرَض على كلامه، فإن وافقه قَبِلْناه، لا لأنه قاله، بل لأنه أخبر به عن الله ورسوله؛ وإن خالَفَه ردَدْناه واطَّرَحْناه. ولا يُعرَض كلامه ـ
_________
(1) سقط من «ح»، وأثبته من «م».
(1/121)
صلوات الله وسلامه عليه ـ على آراء القيَّاسين، ولا عقول الفلاسفة والمتكلمين، ولا على سياسة الولاة الحاكمين والسلاطين، ولا أذواق المتزهِّدين والمتعبِّدين؛ بل تُعرَض هذه كلها على ما جاء به عَرْضَ الدراهم المجهولِ حاملُها على أخبرِ الناقدين، فما حَكمَ بصحته منها فهو المقبول، وما حَكمَ بردِّه فهو المردود، والله الموفِّق للصواب.
* * * * *
(1/122)
الفصل الحادي عشر (1)
في أن قصْدَ المتكلم من المخاطب حملَ كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته ينافي قصدَ البيان والإرشاد والهدى، وأن القصدين يتنافيان (2)، وأنَّ تركَه بدون ذلك الخطاب خيرٌ له وأقرب إلى الهدى
لمَّا كان المقصود بالخطاب دلالة السَّامع وإفهامه مرادَ المتكلم بكلامه، وتبيينه له ما في نفسه من المعاني ودلالته عليها بأقرب الطرق، كان ذلك موقوفًا (3) على أمرين: بيان المتكلم، وتمكُّن السامع من الفهم.
فإن لم يحصل البيانُ من المتكلم، أو حصل ولم يتمكن السامع من الفهم، لم يحصل مراد المتكلم. فإذا بيَّنَ المتكلم مرادَه بالألفاظ الدالة على مراده، ولم يعلم السامع معانيَ تلك الألفاظ، لم يحصل له البيان. فلا بد مِن تمكُّن السامع من الفهم، وحصول الإفهام من المتكلم.
فحينئذٍ لو أراد اللهُ ورسوله من كلامه خلافَ حقيقته وظاهره الذي يفهمه المخاطب لَكان قد كلَّفه أن يفهم مراده بما لا يدل عليه، بل بما يدل على نقيض مراده، وأراد منه فَهْمَ النفي بما يدل على غاية الإثبات، وفَهْمَ الشيء بما يدل على ضدِّه، وأراد منه أن يفهم أنه ليس فوق العرش إلهٌ يُعبَد، ولا إله يُصَلَّى له (4) ويُسجَد، وأنه لا داخلَ العالَم ولا خارجَه ولا فوقه
_________
(1) في «ح»: «العاشر». والمثبت من الفهرس المتقدم في مقدمة الكتاب.
(2) «ح»: «ينافيان». والمثبت من «م».
(3) «ح»: «مرفوعًا». والمثبت من «م».
(4) «ح»: «إليه».
(1/123)
ولا تحته ولا خلفه ولا أمامه، بقوله: {قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 9]. وأراد النبي – صلى الله عليه وسلم – إفهامَ أُمته هذا المعنى بقوله: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بن مَتَّى» (1).
وأراد إفهامَ كَوْنه خَلَقَ آدم بقدرته ومشيئته بقوله: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74].
وأراد إفهام تخريب السماوات والأرض وإعادتها إلى العدم بقوله: «يَقْبِضُ اللَّهُ سَمَاوَاتِهِ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، وَالْأَرْضَ بِالْيَدِ الْأُخْرَى، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ» (2).
وأراد إفهام معنى: مَنْ ربُّك؟ ومَنْ تعبد؟ بقوله: «أَيْنَ اللهُ؟» (3) وأشار بإصبعه إلى السماء مستشهِدًا بربه (4)، وليس هناك ربٌّ ولا إلهٌ، وإنما أراد إفهام السامعين أن الله قد سمع قولَه وقولهم، فأراد بالإشارة بإصبعه بيان كَوْنه قد سمع قولهم.
_________
(1) أخرج البخاري (3215) ومسلم (2376) عن أبي هريرة – رضي الله عنه – مرفوعًا: «لا يَنبغِي لِعبدٍ أن يقولَ: أنا خيرٌ مِن يُونُسَ بن مَتَّى». ولم نقف عليه باللفظ الذي ذكره المصنِّف – رحمه الله – إلَّا في «الشفاء» للقاضي عياض (1/ 265) دون سند، وتبعه غير واحد، وقال السيوطي في «مناهل الصفا» (ص 75): «لم أقف عليه بهذا اللفظ». وقال السخاوي في «الأجوبة المرضية» (2/ 429) نحوه.
(2) تقدم تخريجه.
(3) أخرجه مسلم (537) عن معاوية بن الحكم السلمي – رضي الله عنه -.
(4) أخرجه مسلم (1218) عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – في حديث حجة الوداع الطويل.
(1/124)
وأمثال ذلك من التأويلات الباطلة:
كقول بعضهم في معنى قوله: «عامَلَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – أهلَ خيبرَ على شَطرِ ما يخرج منها مِن ثمرٍ وزرعٍ» (1): إن معناه ضرَبَ عليهم الجزيةَ. وهذا كذبٌ على اللفظ، وكذبٌ على الرسول؛ فإنه ليس ذلك معنى اللفظ، وأهلُ خيبر لم يضرب عليهم الجزيةَ؛ لأنه صالَحَهم وفتحَها قبل نزول فرْضِ الجزية.
وكتأويل بعضهم قولَه – صلى الله عليه وسلم -: «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ» (2) أن المراد به الْتِقامُ الثدي من غير ارتضاع اللبن ودخوله إلى جوفه.
إلى أضعافِ أضعافِ ذلك من التأويلات الباطلة التي يعلم السامعُ قطعًا أنها لم تُرَد بالخطاب بقصد المتكلم لها بتلك الألفاظ الدالة على نقيضها من كل وجهٍ لا يجامع (3) قصدَ البيان والدلالة (4).
قال شيخ الإسلام (5): «إن كان الحقُّ فيما يقوله هؤلاء النُّفاة الذين لا يُوجد ما يقولونه في الكتاب والسُّنَّة، وكلام القرون الثلاثة المعظَّمة على سائر القرون، ولا في كلام أحدٍ من أئمة الإسلام المقتدَى بهم؛ بل ما في الكتاب والسُّنَّة وكلام السلف والأئمة يوجد دالًّا (6) على خلاف الحق عندهم، إمَّا نصًّا وإمَّا ظاهرًا، بل دالًّا عندهم على الكفر والضلال = لَزِمَ من
_________
(1) أخرجه البخاري (2328) ومسلم (1551) عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما -.
(2) أخرجه مسلم (1450) عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها -.
(3) كذا في «ح»، والسياق غير بينٍ، فلعله قد سقط شيء.
(4) «ح»: «والدالة».
(5) لم أقف على هذا الكلام الرائع لشيخ الإسلام في كتبه التي تحت يدي.
(6) «ح»: «وإلا».
(1/125)
ذلك لوازمُ باطلة:
منها: أن يكون الله سبحانه قد أنزل في كتابه وسُنة نبيه من هذه الألفاظ ما يُضِلُّهم ظاهرُه ويُوقِعهم في التشبيه والتمثيل.
ومنها: أن يكون قد ترك (1) بيانَ الحق والصواب لهم، ولم يفصح به، بل رمزَ إليه رمزًا وألغزه إلغازًا، لا يُفهم منه ذلك إلَّا بعد الجهد الجَهِيد.
ومنها: أن يكون قد كلَّف عبادَه ألَّا يفهموا من تلك الألفاظ حقائقها وظواهرها، وكلَّفهم أن يفهموا منها ما لا تدل عليه، ولم يجعل معها قرينة تُفهِم ذلك.
ومنها: أن يكون دائمًا متكلمًا في هذا الباب بما ظاهره خلاف الحق بأنواع متنوعة من الخطاب، تارةً بأنه استوى على عرشه، وتارةً بأنه فوق عباده، وتارةً بأنه العلِيُّ الأعلى، وتارةً بأن الملائكة تعرُجُ إليه، وتارةً بأن الأعمال الصالحة تُرفع إليه، وتارةً بأن الملائكة في نزولها من العلو إلى أسفلَ تنزل مِن عنده، وتارةً بأنه رفيع الدرجات، وتارةً بأنه في السماء، وتارةً بأنه الظاهر الذي ليس فوقه شيءٌ، وتارةً بأنه فوق [ق 14 أ] سماواته على عرشه، وتارةً بأن الكتاب نزل من عنده، وتارةً بأنه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، وتارةً بأنه يُرى بالأبصار عيانًا يراه المؤمنون فوق رؤوسهم، إلى غير ذلك مِن تنوُّع الدلالات على ذلك، ولا يتكلم فيه بكلمةٍ واحدةٍ تُوافق ما يقوله النفاة، ولا يقول في مقامٍ واحدٍ قطُّ ما هو الصوابُ فيه لا نصًّا ولا ظاهرًا، ولا يُبَيِّنه (2).
_________
(1) «ح»: «نزل». والمثبت من «م».
(2) «ح»: «يبينوه». والمثبت من «م».
(1/126)
ومنها: أن يكون أفضلُ الأُمة وخير القرون قد أمسكوا مِن أولهم إلى آخرهم عن قول الحق في هذا النبأ (1) العظيم الذي هو من أهم أصول الإيمان، وذلك إمَّا جهلٌ ينافي العلمَ، وإمَّا كتمانٌ ينافي البيانَ، ولقد أساء الظن بخيار الأُمة مَن نسبَهم إلى ذلك.
ومعلوم أنه إذا ازدوج التكلمُ بالباطل والسكوت عن بيان الحق تولَّدَ مِن بينهما جهل الحق وإضلال الخلق. ولهذا لمَّا اعتقد النفاة التعطيل صاروا يأتون من العبارات بما يدل على التعطيل والنفي نصًّا وظاهرًا، ولا يتكلمون بما يدل على حقيقة الإثبات لا نصًّا ولا ظاهرًا، وإذا وردَ عليهم من النصوص ما هو صريحٌ أو ظاهر في الإثبات حرَّفوه أنواعَ التحريفات، وطلبوا له مُستكرَه التأويلات.
ومنها: أنهم التزموا لذلك تجهيلَ السَّلف، وأنهم كانوا أُمِّيين مُقبِلين على الزهد والعبادة والورع والتسبيح وقيام الليل، ولم تكن الحقائق من شأنهم.
ومنها: أنَّ ترْكَ الناس من إنزال هذه النصوص كان أنفعَ لهم وأقربَ إلى الصواب، فإنهم ما استفادوا بنزولها غير التعرُّض للضلال، ولم يستفيدوا منها يقينًا ولا علمًا بما يجب لله ويمتنع عليه، إذ ذاك إنما يُستفاد من عقول الرجال وآرائها.
فإن قيل: استفدنا منها الثوابَ على تلاوتها وانعقادَ الصلاة بها.
قيل: هذا تابعٌ للمقصود بها بالقصد الأول، وهو الهدى والإرشاد والدلالة على إثبات حقائقها ومعانيها والإيمان بها؛ فإن القرآن لم ينزل
_________
(1) «ح»: «الثنا». والمثبت من «م».
(1/127)
لمجرد التلاوة وانعقاد الصلاة عليه، بل أُنزل ليُتدبَّر ويُعقَل، ويُهتدى (1) به علمًا وعملًا، ويُبصِّر من العمى، ويُرشِد من الغي، ويُعلِّم من الجهل، ويَشفِي من العِيِّ (2)، ويهدي إلى صراط مستقيم. وهذا القصدُ ينافي قصدَ تحريفه وتأويله بالتأويلات الباطلة المستكرَهة، التي هي مِن جنس الألغاز والأحاجي، فلا يجتمع قصدُ الهدى والبيان وقصدُ ما يضاده أبدًا، وبالله التوفيق» (3).
وممَّا (4) يُبَيِّنُ ذلك أنَّ الله تعالى وصف كتابَه بأوضح البيان وأحسن التفسير، فقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وقال: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ اُلَّذِي اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64]. فأين بيانُ المختلَف فيه والهدى والرحمة في ألفاظٍ ظاهرها باطلٌ، والمراد منها يُطلب بأنواع التأويلات المستنكَرة المستكرَهة لها، التي (5) لا تُفهَم منها بل (6) يُفهَم منها ضدُّها.
وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]؟ فأين بيَّن (7) الرسولُ ما يقوله النُّفاة والمتأوِّلون؟
_________
(1) «ح»: «يهدى». والمثبت من «م».
(2) «ح»: «الغي». والمثبت من «م».
(3) آخر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية فيما يبدو.
(4) «ح»: «وما». والمثبت من «م».
(5) «ح»: «الذي». والمثبت من «م».
(6) «تفهم منها بل» سقط من «ح». وأثبته من «م».
(7) «ح»: «يبين». والمثبت من «م».
(1/128)
وقد قال تعالى: {وَاَللَّهُ يَقُولُ اُلْحَقَّ وَهْوَ يَهْدِي اِلسَّبِيلَ} [الأحزاب: 4]، فأخبر أنه يقول الحقَّ ويهدي السبيل بقوله، وعند النُّفاة إنما (1) حصلت الهداية بأبكار أفكارهم، ونتائج آرائهم وعقولهم.
وقال تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 185]، وقال: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اَللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية: 5]. وعند النُّفاة المُخرِجين لنصوص الوحي عن إفادة اليقين إنَّما حصل (2) الإيمانُ بالحديث الذي أسَّسه الفلاسفة والجهمية والمعتزلة ونحوهم، فبه آمنوا وبه اهتدوا، وبه عرفوا الحقَّ من الباطل، وبه صحَّت عقولهم ومعارفهم.
وقال تعالى (3): {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اِللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 81]. وأنت لا تجد الاختلاف في شيءٍ أكثرَ منه في آراء المتأولين وسوانح أفكارهم وزبالة أذهانهم (4)، التي يُسمونها قواطع عقلية وبراهين يقينية، وهي عند (5) التحقيق خيالاتٌ وهمية وقوادحُ فكرية، نبذوا بها القرآن والسُّنَّة وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ اَلْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (113) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ اُلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا
_________
(1) «ح»: «إذا». والمثبت من «م».
(2) بعده في «ح»: «له». وليست في «م».
(3) عند قوله تعالى {وَلَوْ} انتهى السقط الطويل الواقع في «ب»، الذي بدأ في أثناء الفصل التاسع.
(4) «ح»: «رذالة أوهامهم».
(5) «ب»: «عين».
(1/129)
مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ ( 114) أَفَغَيْرَ اَللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهْوَ اَلَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ اُلْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَاَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اُلْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنزَلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ (115) وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهْوَ اَلسَّمِيعُ اُلْعَلِيمُ (116) وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي اِلْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اِللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا اَلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ( 117) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهْوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 113 – 118].
* * * * *
(1/130)
الفصل الثاني (1) عشر
في بيان أنه مع كمال عِلم المتكلم وفصاحته وبيانه ونصحه يمتنع عليه أن يريد بكلامه خلافَ ظاهره وحقيقته وعدمُ البيان في أهم الأمور وما تشتد الحاجة إلى بيانه
نكتفي من هذا الفصل بذِكْر مناظرةٍ جرَتْ بين جهميٍّ معطِّلٍ وسُنِّيٍّ مُثبِتٍ، حدثني بمضمونها شيخُنا عبد الله بن تيمية – رحمه الله -، أنه جمعَه وبعضَ الجهمية مجلسٌ (2)، فقال الشيخ: قد تطابقت نصوص الكتاب والسُّنَّة والآثار على إثبات الصِّفات [ق 14 ب] لله، وتنوعت دلالتها عليها أنواعًا تُوجِب العلم الضروري بثبوتها، وإرادة المتكلم اعتقادَ ما دلَّت عليه. والقرآن مملوءٌ مِن ذِكر الصِّفات، والسُّنَّة ناطقةٌ بمثل (3) ما نطق به القرآن، مقرِّرةٌ له مصدِّقةٌ له، مشتمِلة على زيادة في الإثبات. فتارةً بذكر الاسم المشتمِل على الصِّفة، كالسميع البصير العليم القدير العزيز الحكيم، وتارةً بذكر المصدر، وهو الوصف الذي اشتُقَّت منه تلك الصفة، كقوله: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 165]، وقوله: {إِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلرَّزَّاقُ ذُو اُلْقُوَّةِ اِلْمَتِينُ} [الذاريات: 58]، وقوله: {إِنِّيَ اَصْطَفَيْتُكَ عَلَى اَلنَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144]، وقوله: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 81].
وقوله – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الصحيح: «حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ
_________
(1) «ح»: «الحادي».
(2) في النسختين: «مجلسًا». وكذا في «م».
(3) «ح»: «على».
(1/131)
سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» (1).
وقوله في دعاء الاستخارة: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ» (2).
وقوله: «أَسْأَلُكَ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ» (3).
وقول عائشة: «الحمد لله الذي (4) وَسِعَ سمعُه الأصواتَ» (5).
ونحوه.
وتارةً يذكر (6) حُكم تلك الصفة، كقوله: {قَد سَّمِعَ اَللَّهُ} [المجادلة: 1] و {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 45]، وقوله: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ اَلْقَادِرُونَ} [المرسلات: 23]، وقوله: {عَلِمَ اَللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 186] ونظائر ذلك.
ويُصرِّح في الفوقية بلفظها الخاص، وبلفظ العلوِّ والاستواء، وأنه في
_________
(1) أخرجه مسلم (179) عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه -.
(2) أخرجه البخاري (6382) عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما -.
(3) أخرجه الإمام أحمد (18615) والنسائي (1305) وابن حبان (1971) والحاكم (1/ 524) عن عمار بن ياسر – رضي الله عنهما -، وقال الحاكم: «حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه».
(4) «الذي» ليس في «ب».
(5) علقه البخاري في «صحيحه» (9/ 117) ووصله الإمام أحمد (24832) والنسائي (3460) وابن ماجه (188) وصححه ابن حجر في «تغليق التعليق» (5/ 339).
(6) «يذكر» سقط من «ح».
(1/132)
السماء، وأنه ذو المعارج، وأنه رفيع الدرجات، وأنه تعرُجُ إليه الملائكةُ وتنزل مِن عنده، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا، وأن المؤمنين يرونه بأبصارهم عيانًا مِن فوقهم، إلى أضعاف أضعاف (1) ذلك، ممَّا لو جُمعت النصوصُ والآثار فيه لم تنقص عن نصوص الأحكام وآثارها.
ومن أَبْيَنِ المحال وأوضح الضلال حملُ ذلك كله على خلاف حقيقته وظاهره، ودعوى المجاز فيه والاستعارة، وأن الحق في أقوال النُّفاة المعطِّلين، وأن تأويلاتهم هي المرادة من هذه النصوص؛ إذ يلزم من (2) ذلك أحدُ محاذيرَ ثلاثةٍ، لا بد منها أو من بعضها، وهي: القدحُ في علم المتكلم بها، أو في بيانه، أو في نُصحه.
وتقرير ذلك أنه يقال: إمَّا أن يكون المتكلم بهذه النصوص عالمًا أن الحق في تأويلات النُّفاة المعطِّلين أو لا يعلم ذلك. فإن لم يعلم ذلك ـ والحقُّ فيها (3) ـ كان ذلك قدحًا (4) في علمه. وإن كان عالمًا أن الحق فيها فلا يخلو؛ إمَّا أن يكون قادرًا على التعبير بعباراتهم ـ التي هي تنزيهٌ لله بزعمهم عن التشبيه والتمثيل والتجسيم، وأنه لا يعرف اللهَ مَن لم ينزِّهه بها ـ أو (5) لا يكون قادرًا على تلك العبارات. فإن لم يكن قادرًا على التعبير بذلك لزم القدحُ في فصاحته، وكان ورثةُ الصابئة وأفراخ الفلاسفة وأوقاح المعتزلة
_________
(1) «أضعاف» ليس في «ب».
(2) «من» سقط من النسختين، وأثبته من «م».
(3) «ب»: «فيهما».
(4) في «ح»: «قد جاء».
(5) «ح»: «إذ».
(1/133)
والجهمية وتلامذة الملاحدة أفصحَ منه وأحسنَ بيانًا وتعبيرًا عن الحق. وهذا ممَّا يعلم بطلانَه بالضرورة أولياؤه وأعداؤه، موافقوه ومخالفوه، فإن مخالفيه لم يشكُّوا في أنه أفصح الخلق وأقدرهم على حُسن التعبير بما يُطابق المعنى ويُخلِّصه من اللبس والإشكال.
وإن كان قادرًا على ذلك، ولم يتكلم به، وتكلم دائمًا بخلافه وما يناقضه، كان ذلك قدحًا في نُصحه. وقد وصف الله رسله بكمال النُّصح والبيان، فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 5]، وأخبر عن رسله بأنهم أنصحُ الناس لأُممهم. فمع النُّصح والبيان والمعرفة التامة كيف يكون مذهب النُّفاة المعطِّلة أصحاب التحريف هو الصوابَ، وقولُ أهل الإثبات أتباع القرآن والسُّنَّة باطلًا؟! هذا مضمون المناظرة.
فقال له الجهمي: انزل بنا إلى الوطاءة (1).
قلت له: ما أراد بذلك؟
قال: أراد أنك خاطبتني مِن فوقُ، وتجوَّهْتَ (2) عليَّ بجاهٍ لا يمكنني مقاومته، فانزل بنا إلى مباحث الفضلاء وقواعد النُّظار، أو نحو هذا من الكلام.
فليتدبر الناصحُ لنفسه ـ الموقِن بأن الله (3) لا بد سائله عمَّا أجاب به
_________
(1) لعله من الوطأة التي هي موضع القدم، أراد: لا تتعاظمْ عليَّ وانزِلْ إليَّ. ينظر «تاج العروس» (1/ 494 – 495).
(2) أراد: تعاظمت. ينظر «تاج العروس» (36/ 371).
(3) «ح»: «بالله».
(1/134)
رسوله ـ هذا المقامَ، ولْيتحيَّز بعدُ إلى (1) أين شاء، فلم يكن الله ليجمعَ بين النُّفاة المعطلين المحرِّفين وبين أنصاره وأنصار رسوله وكتابه (2) إلَّا جمعَ امتحانٍ وابتلاء، كما جمع بين الرُّسل وأعدائهم في هذه الدار.
قلت: وقريبٌ من هذه المناظرة ما جرى لي مع بعض علماء أهل الكتاب (3)، فإنه جمعَني وإياه مجلسُ خلوةٍ، أفضى بنا (4) الكلام إلى أن جرى ذِكر مسبَّة النصارى لربِّ العالمين مسبةً ما سبَّه إيَّاها أحدٌ من البشر، فقلت له: وأنتم بإنكاركم نبوةَ محمدٍ – صلى الله عليه وسلم – قد سببتم الربَّ تعالى أعظمَ مسبةً.
قال: وكيف ذلك؟
قلت: لأنكم تزعمون أن محمدًا مَلِكٌ ظالمٌ، ليس برسولٍ صادقٍ، وأنه خرج يستعرض الناس بسيفه، فيستبيح أموالهم ونساءهم وذراريَّهم، ولا يقتصر على ذلك حتى يَكذِبَ على الله ويقولَ: الله أمرني بهذا وأباحه لي. ولم يأمره اللهُ ولا أباح له ذلك. ويقولَ: أُوحِيَ إليَّ. ولم يُوحَ إليه شيءٌ. وينسخَ شرائعَ الأنبياء مِن عنده، ويُبطِلَ منها ما يشاء، ويُبقِيَ منها ما يشاء، ويَنسُبَ ذلك كله إلى الله، ويقتلَ أولياءه وأتباعَ رُسله، ويسترقَّ نساءهم وذُرياتهم. فإمَّا أن يكون الله سبحانه رائيًا لذلك كله عالمًا به مطلعًا عليه أو لا.
فإن قلتم: إن ذلك بغير علمه واطلاعه [ق 15 أ] نسبتموه إلى الجهل
_________
(1) «ح»: «أجدال».
(2) «ح»: «وكأنه».
(3) ذكر المصنف – رحمه الله – هذه المناظرة أيضًا في «التبيان في أيمان القرآن» (ص 270 – 274) وفي «هداية الحيارى» (ص 384 – 385) وبيَّن أنه كانت مع أكبر علماء اليهود.
(4) «ب»، «ح»: «بيننا». والمثبت من «م».
(1/135)
والغباوة، وذلك من أقبح السبِّ. وإن كان عالمًا به رائيًا له مشاهدًا لما يفعله فإمَّا أن يَقدِر على الأخذ على يديه ومنعه من ذلك أو لا.
فإن قلتم: إنه غير قادرٍ على منعه والأخذ على يده (1) نسبتموه إلى العجز والضعف.
وإن قلتم: بل هو قادر على منعه ولم يفعل نسبتموه إلى السفه والظلم والجور.
هذا، وهو مِن حين ظهرَ إلى أن توفاه ربُّه يُجيب دعواتِه ويقضي حاجاتِه، ولا يسأله حاجةً إلَّا قضاها له، ولا يدعوه بدعوةٍ إلَّا أجابها له، ولا يقوم له عدوٌّ إلَّا ظفر به، ولا تقوم له رايةٌ إلَّا نصرها، ولا لواء إلَّا رفعه، ولا مَن يُناوِئه ويعاديه إلَّا بتره ووضعَه. فكان أمرُه مِن حين ظهر إلى أن تُوفي يزداد على الأيام والليالي ظهورًا وعلوًّا ورفعةً، وأمرُ مخالفيه لا يزداد إلَّا سُفولًا واضمحلالًا. ومحبتُه في قلوب الخلق تزيد على ممر الأوقات، وربه تعالى يؤيده بأنواع التأييد، ويرفع ذِكره غايةَ الرفع. هذا، وهو عندكم من أعظم أعدائه وأشدهم ضررًا على الناس، فأيُّ (2) قدحٍ في ربِّ العالمين، وأيُّ مسبةٍ له، وأيُّ طعنٍ فيه أعظمُ من ذلك!
فأخذ الكلام منه مأخذًا ظهرَ عليه، وقال: حاشَ لله أن نقول فيه هذه المقالة، بل هو نبيٌّ صادقٌ، كلُّ مَنِ اتبعه فهو سعيدٌ، وكلُّ منصِفٍ منَّا يُقرُّ بذلك، ويقول: أتباعه سُعداء في الدارين.
_________
(1) «والأخذ على يده». في «ح»: «ولم يفعل».
(2) «ح»: «وأي».
(1/136)
قلت له: فما يمنعك من الظفر بهذه السعادة (1)؟
فقال: وأتباع كل نبيٍّ من الأنبياء كذلك، فأتباع موسى أيضًا سُعداء.
قلت له: فإذا أقررتَ أنه نبيٌّ صادقٌ فقد (2) كفَّرَ مَن لم يتبعه، واستباح دمه وماله، وحكمَ له بالنار. فإنْ صدَّقتَه في هذا وجب عليك اتباعُه، وإن كذبتَه فيه لم يكن نبيًّا، فكيف يكون أتباعُه سعداءَ؟!
فلم يُحِرْ جوابًا (3)، وقال: حدِّثْنا (4) في غير هذا.
فانظر هذه الموازنة والمشابهة بين ما لزم الجهمية النُّفاة من القدح والطعن في المتكلم بنصوص الصِّفات، وما لزم منكري نبوةِ محمدٍ – صلى الله عليه وسلم – من الطعن والقدح في الربِّ تعالى.
وإذا ضممتَ هذا إلى ما يلزمهم من الطعن في كلامه ولمزه (5) واشتماله على ما ظاهرُه كفرٌ وضلالٌ وباطلٌ ومحالٌ علمتَ حقيقةَ الحال، وتبيَّن لك الهدى من الضلال، والله المستعان.
* * * * *
_________
(1) «السعادة» ليس في «ب».
(2) «ب»: «فهو».
(3) أي: لم يرجع ولم يرد. «النهاية في غريب الحديث والأثر» (1/ 458).
(4) «ب»: «خُذ بنا».
(5) «ح»: «أمره».
(1/137)
الفصل الثالث (1) عشر
في بيان أن تيسير القرآن للذكر يُنافي حملَه على التأويل المخالف لحقيقته وظاهره
أنزل الله سبحانه الكتاب شفاءً لما في الصدور وهدًى ورحمة للمؤمنين، ولذلك (2) كانت معانيه أشرف المعاني، وألفاظه أفصح الألفاظ وأَبْينها وأعظمها مطابَقةً لمعانيها المرادة منها، كما وصف سبحانه به كتابه في قوله: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33] فالحق هو المعنى والمدلول الذي تضمنه الكتاب، والتفسير الأحسن هو الألفاظ الدالة على ذلك الحق فهي تفسيره وبيانه.
والتفسير أصله من (3) الظهور والبيان، ويلاقيه (4) في الاشتقاق الأكبر الإسفارُ، ومنه أسفر الفجرُ: إذا أضاء ووضحَ، ومنه السفر لبروز المسافر من البيوت وظهوره، ومنه السِّفْر (5) الذي يتضمن إظهار ما فيه من العلم وبيانه. فلا بد من (6) أن يكون التفسير مطابقًا للمفسَّر مفهمًا له، وكلما كان فهم المعنى منه أوضحَ وأبينَ كان التفسير أكملَ وأحسن (7). ولهذا لا تجد كلامًا
_________
(1) «ح»: «الثاني».
(2) «ب»: «فلذلك».
(3) «ح»: «في».
(4) «ح»: «وباقيه». وفي «ب»: «تلاقيه». والمثبت من «م».
(5) «السفر» ليس في «ح».
(6) «من» ليس في «ح».
(7) «ب»: «أحسن وأكمل».
(1/138)
أحسن تفسيرًا ولا أتمَّ بيانًا من كلام الله سبحانه، ولهذا سمَّاه سبحانه بيانًا، وأخبر أنه يسَّره للذِّكر. وتيسيرُه للذكر يتضمن أنواعًا من التيسير:
أحدها (1): تيسير ألفاظه للحفظ.
الثاني: تيسير معانيه للفهم.
الثالث: تيسير أوامره ونواهيه للامتثال (2).
ومعلوم أنه لو كان بألفاظٍ لا يفهمها المخاطب لم يكن مُيسَّرًا له، بل كان مُعسَّرًا عليه. فهكذا إذا أُريدَ مِن المخاطب أن يفهم من ألفاظه ما لا يدل عليه من المعاني، أو يدل على خلافه، فهذا من أشد التعسير (3)، وهو منافٍ للتيسير؛ فإنه لا شيءَ أعسرُ على الأمة من أن يُراد منهم أن يفهموا كَوْنه سبحانه لا داخل العالَم ولا خارجه ولا متصلًا به ولا منفصلًا عنه ولا مُبايِنًا له ولا مُحايِثًا، ولا يُرى بالأبصار عيانًا، ولا له وجه ولا يد، من قوله: {قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ومن قول رسوله: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بن مَتَّى» (4)، ومن قوله: {اِلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر: 6]، وأن يجهدوا أنفسهم ويكابدوا أعظم المشقة في تطلُّب (5) أنواع الاستعارات، وضروب المجازات، ووحشيِّ اللغات؛
_________
(1) «ح»: «إحداها».
(2) «ح»: «للأمثال».
(3) «ح»: «التفسير». وهو تحريف.
(4) تقدم تخريجه (ص 124).
(5) «ح»: «طلب».
(1/139)
ليحملوا عليه آيات الصِّفات وأخبارها، فيصرفوا قلوبهم وأفهامهم عمَّا تدل عليه، ويفهموا منها ما لا تدل عليه، بل تدل على خلافه.
ويقول: اعلموا يا عبادي أني أردتُ منكم أن تعلموا أني لست فوق العالَم ولا تحته، ولا فوق عرشي، ولا ترفع الأيدي إليَّ، ولا يعرُجُ إليَّ شيءٌ، ولا ينزل من عندي شيءٌ من قولي: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4]، ومن قولي: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]، ومن قولي: {تَعْرُجُ اُلْمَلَائِكَةُ وَاَلرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]، ومن قولي: {بَل رَّفَعَهُ اُللَّهُ إِلَيْهِ} (1) [النساء: 157]، ومن قولي: {رَفِيعُ اُلدَّرَجَاتِ ذُو اُلْعَرْشِ} [غافر: 14] ومن قولي: {وَهْوَ اَلْعَلِيُّ اُلْعَظِيمُ} [البقرة: 253]، ومن قولي: {سَبِّحِ اِسْمَ رَبِّكَ اَلْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، ومن قولي: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (21) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 21 – 22]، ومن قولي: {* آامِنتُم مَّن فِي اِلسَّمَاءِ اَن يَخْسِفَ بِكُمُ اُلْأَرْضَ} [الملك: 17]، ومن قولي: {تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41]، ومن قولي: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ اُلْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102]. وأن تفهموا أنه ليس لي يدانِ من قولي: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74]، ومن قولي: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 66]، ولا عين من قولي: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِيَ} [طه: 39]. فإنكم إذا فهمتم من هذه [ق 15 ب] الألفاظ حقائقَها وظواهرها فهمتم خلاف مرادي منها، بل مرادي منكم أن تفهموا منها ما يدل على خلاف حقائقها وظواهرها.
فأي تيسيرٍ يكون هناك! وأي تعقيدٍ وتعسيرٍ لم يحصل بذلك! ومعلوم أن خطاب الرجل بما لا يفهمه إلَّا بترجمة أيسرُ عليه من خطابه بما كُلِّف أن
_________
(1) «ومن قوله {بَل رَّفَعَهُ اُللَّهُ إِلَيْهِ}» ليس في «ب».
(1/140)
يفهم منه خلاف موضوعه (1) وحقيقته بكثيرٍ. فتيسيرُ (2) القرآن منافٍ لطريقة النُّفاة المحرِّفين أعظمَ منافاةً. ولهذا لمَّا عسر عليهم أن يفهموا منه النفي، وعزَّ (3) عليهم ذلك، عوَّلوا فيه على الشُّبَه الخيالية (4) التي سمَّوْها قواطع عقلية وقواعد يقينية (5). وإذا تأملها مَن نوَّر اللهُ قلبَه، وكحَّل عينَ بصيرته بمِرْوَد الإيمان، رآها «لحم جملٍ غثٍّ على رأس جبلٍ وعرٍ، لا سهل فيُرتقى، ولا سمين فيُنتقَل» (6)، وهي من جنس خيالات الممرورين (7) وأصحاب الهوس، وقد سودوا بها القلوب والأوراق.
فطريقتهم ضدُّ طريقة القرآن من كل وجهٍ، إذ طريقة القرآن حقٌّ بأحسن تفسيرٍ وأبينِ عبارةٍ، وطريقتهم معانٍ باطلة بأعقدِ عبارةٍ وأطولها وأبعدها من الفهم. فيجهد الرجل الظمآن (8) نفسَه وراءهم حتى تنفد قُواه، فإذا هو قد اطلع على سرابٍ بِقِيعَةٍ: {يَحْسِبُهُ اُلظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اَللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاَللَّهُ سَرِيعُ اُلْحِسَابِ ( 38) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ
_________
(1) «ح»: «موضعه».
(2) «ح»: «تفسير».
(3) «ح»: «وعسر».
(4) «ح»: «الخالية». وهو تحريف.
(5) «ح»: «وقواطع تفنيد». وهو تحريف.
(6) مقتبس من حديث أم زرع الذي رواه البخاري (5189) ومسلم (2448) عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها -.
(7) أي: المجانين، قال الثعالبي في «فقه اللغة وسر العربية» (ص 108): «إذا كان الرجل يعتريه أدنى جنون وأهونه فهو موسوس، فإذا زاد ما به قيل: به رئي من الجن. فإذا زاد على ذلك فهو ممرور».
(8) «ب»: «المضمار».
(1/141)
لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اِللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور: 38 – 39]. والله يعلم أنَّا لم نَقُلْ ذلك تقليدًا لغيرنا (1)، بل إخبارًا عمَّا شاهدناه ورأيناه.
وإذا أحببتَ أن تعلم ذلك حقيقةً فتأمَّل عامة مطالبهم وأدلتهم عليها، كيف تجدها مطالب ـ بعد التعب الشديد والجهد الجَهِيد ـ لا يحصل منها على مطلبٍ صحيحٍ، فإنهم بعد الكدِّ والجهد لم يثبتوا للعالَم ربًّا مباينًا عنه منفصلًا منه، بل بعد الجهد الشديد في إثبات موجودٍ لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلًا به ولا منفصلًا عنه، هم شاكُّون في وجوده: هل هو نفس ماهيته أو زائد عليها؟ فمِن ذاهبٍ إلى أنه زائدٌ، ومن ذاهبٍ إلى أنه ليس بزائدٍ، ومن متوقفٍ في وجوده شاكٍّ فيه، هل هو نفس ماهيته أو زائد عليها؟
ثم هم شاكُّون في أن صفاته هل (2) هي وجودية أو عدمية، أو لا وجودية ولا عدمية؟ وهل هي زائدة على الموصوف أو ليست زائدة؟ فكيف تثبت له على وجهٍ لا يُوجِب تكثُّرًا في الذات ولا مغايرة بينها، فبعضهم يجعلها أمورًا عدمية، وبعضهم أحوالًا نسبية (3)، وبعضهم يتوقف فيها. ومنهم مَن يجعل علمه نفس ذاته، فيجعل ذاته علمًا، ومنهم مَن يجعل علمه نفس معلومه، ومنهم من يجعل علمه واحدًا لا يتعدد (4) ولا ينقسم، فيجعل علمه بوجود
_________
(1) «ب»: «كغيرنا».
(2) «هل» ليس في «ب».
(3) «ح»: «سنية».
(4) «ح»: «يتعدى».
(1/142)
الشيء هو عين (1) علمه بعدمه، وعلمه بكونه يُطاع هو نفس علمه بكونه يُعصَى. هذا إذا أثبتَ علمه بالمُعيَّنات والجزئيات، ومَن لم يُثبِته منهم قال لا يعلم من الموجودات المعينة (2) شيئًا البتة.
وكذلك اضطربوا في كلامه: فمنهم مَن لم يُثبِت له كلامًا البتةَ، فلا قال عنده ولا يقول، ولا أمَرَ ولا نهى، ولا كلَّم ولا تكلَّم. ومَن يقرب منهم إلى الإسلام قال: كل ذلك مخلوق خلقه في الهواء أو في اللوح المحفوظ.
ومنهم من قال: كلامه معنًى واحد، فالمعنى (3) ليس له بعضٌ ولا كل، وليس بحروفٍ ولا أصواتٍ. وذلك المعنى الواحد الذي لا ينقسم هو معاني كُتُبِه كلها، فالقرآن هو نفس التوراة، وهما نفس الإنجيل والزبور، اختلفت أسماؤها باختلاف التعبير عن ذلك المعنى الواحد. ثم ذلك المعنى ليس من جنس العلوم (4) ولا الإرادات، بل (5) حقيقته مغايرة لحقيقتها (6). ثم ذلك المعنى المشار إليه يجوز تعلُّق الحواس الخمس به؛ فيُسمَع ويُرى ويُلمَس ويُشم ويُذاق. وكذلك سائر الأعراض يجوز تعلق الإدراكات كلها بها، فيجوز أن تُشم الأصوات وتُرى وتُذاق وتُلمس، ويجوز أن تُسمع الروائح
_________
(1) «عين» ليس في «ح».
(2) «بالمعينات والجزئيات ومن لم يثبته منهم قال لا يعلم من الموجودات المعينة». في «ح»: «بالمغيبات».
(3) «ب»: «واحدا بالعين».
(4) «ح»: «المعلوم».
(5) بعده في «ح»: «هي». وهو لفظ زائد.
(6) «ح»: «لحقيقتهما».
(1/143)
وترى (1) وتُلمس. قالوا: وهذا حكم (2) سائر الصِّفات.
فجعلوا الإرادة واحدةً بالعين (3)، وإرادة إيجاد الشيء هي عين إرادة إعدامه، وإرادة تحريكه هي عين إرادة تسكينه، وإرادة إبقائه (4) هي عين إرادة إفنائه (5)، وإنما المختلف تعلقاتها فقط، وكذلك قالوا في القدرة.
وأمَّا إذا حفروا (6) على مطلب الجوهر الفرد ومطلب العرض هل يبقى زمانين أم لا؟ ومطلب الأجسام هل هي متماثِلة أو متبايِنة؟ ومطلب الأحوال هل هي ثابتة أم لا؟ وهل هي وجودية أو عدمية أو لا ذا ولا ذا؟ ومطلب الزمان والمكان ما حقيقتهما؟ وهل هما وجوديان أو عدميان؟ ومطلب [ق 16 أ] الكسب هل له حقيقة أم لا؟ وما حقيقته؟ ومطلب الفعل هل هو قائم بالفاعل أم لا؟ فإن قام به فهل هو مقارِنٌ له أم لا؟ فإن تأخَّرَ عنه فما الموجب (7) لتأخُّره؟ وإنْ قارنه فهل (8) كان قديمًا بقِدَمه؟ وإن لم (9) يقم به فكيف يكون فاعلًا بلا (10) فعلٍ يقوم به؟ كما لا يكون سميعًا بصيرًا مريدًا
_________
(1) «وترى» ليس في «ح».
(2) «ب»: «وهكذا هم في».
(3) «ح»: «بالمعنى».
(4) «ح»: «إنعامه». وهو تحريف.
(5) «ح»: «إثباته». وهو تحريف.
(6) «ح»: «حضروا».
(7) «ب»: «فالموجب».
(8) «فهل» ليس في «ب».
(9) «لم» سقط من «ب».
(10) «ح»: «بل».
(1/144)
قادرًا بلا سمعٍ ولا بصرٍ ولا إرادةٍ تقوم به.
إلى عامة (1) مطالبهم التي إذا انتهى حفرهم (2) وصَلُوا إلى ما يحيله (3) العقل والسمع، فترى أحدهم يبني، حتى إذا ظن أنه قد ارتفع بناؤه جاء الآخر بمَعاوِلَ من التشبيه (4) والتشكيك، فهَدَم عليه جميعَ ما بناه، وبنى مكانه بناءً آخر، حتى إذا ظن أن بناءه قد كمل عاد الباني الأول بنظير تلك المعاول فهدم بناءه، فلا يزالون كذلك، كما قال شاعرهم (5):
وَنَظِيرِي فِي الْعِلْمِ مِثْلِيَ أَعْمَى … فَتَرَانَا فِي حِنْدِسٍ نَتَصَادَمْ
فهذه القواعد الفاسدة هي التي حملتهم على تلك التأويلات الباطلة؛ لأنهم رأوها لا تلائم نصوص الوحي، بل بينها وبينها الحربُ العَوانُ، فأجهدوا أنفسهم وكدُّوا خواطرهم في الصُّلح، وزعموا أن ذلك إحسان وتوفيق! وكأن الله سبحانه أنزل هذه الآياتِ في شأنهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى اَلطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ اُلشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اَللَّهُ وَإِلَى اَلرَّسُولِ رَأَيْتَ اَلْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا (60) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ
_________
(1) «ب»: «غاية».
(2) «ح»: «جمعهم هم».
(3) «ب»: «تخيله».
(4) «ح»: «الشبه».
(5) البيت لأبي العلاء المعري في «ديوان اللزوميات» (2/ 336) وروايته:
وبصير الأقوام مثلي أعمى … فهلموا في حندس نتصادم
(1/145)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (61) أُوْلَئِكَ اَلَّذِينَ يَعْلَمُ اُللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 59 – 62].
* * * * *
(1/146)
الفصل الرابع (1) عشر
في أن التأويل يعود على المقصود من (2) وضع اللغات بالإبطال
لمَّا جعل الله سبحانه نوع الإنسان يحتاج بعضُه إلى بعضٍ، فلا يمكن الإنسانَ (3) أن يعيش وحده، بل لا بد له من مشاركٍ ومعاوِنٍ من بني جنسه، كما قيل: الإنسان مدني بالطبع، وكان لا يعرف كل منهم ما يريد صاحبُه من الأفعال والتُّروك إلَّا بعلامة تدل على ذلك، وتلك العلامة إمَّا تحريك جسمٍ من الأجسام المنفصلة عنه، أو تحريك بعض أعضائه، فيجعل لكل معنًى حركة خاصة، ومعلوم أن في الأول من العُسر والمشقة وعدم الإحاطة بالتعريف ما يمنع وضعه، فكان تحريك الأعضاء أسهل وأدلَّ وأعمَّ، وكانت حركة الأعضاء نوعين، نوعٌ للبصر ونوعٌ للأذن، والذي للأذن أعم، والإنسان إليه أحوج. وكان أولى هذه الأعضاء بأن يجعل حركاتها (4) دالةً مُعَرِّفةً هو اللسان (5)؛ لأن حركته أخف وأسهل، وتنوُّعها أعظم وأكثر من تنوع حركة غيره، وترجمته عمَّا (6) في القلب أظهرُ من ترجمة غيره، ويتمكن المعرِّف بحركاته (7) من حركات مفردة ومؤلفة، يحصل بها من الفرق والتمييز ما
_________
(1) «ح»: «الثالث».
(2) «ح»: «في».
(3) «الإنسان» ليس في «ب».
(4) «ح»: «حركته».
(5) «ح»: «وهو الإنسان». وهو تحريف.
(6) «ح»: «كما». وهو تحريف.
(7) «ح»: «وتمكن المعروف لحركاته». وهو تحريف.
(1/147)
لا يحصل بغيره (1) = كان (2) أقربُ الطرق إلى هذا المقصد (3) هو الكلامَ الذي جعله الله سبحانه في اللسان، وجعله دليلًا على ما في الجَنان، وجعل ذلك من دلائل ربوبيته ووحدانيته وكمال علمه وحكمته.
قال الله (4) تعالى: {اِلرَّحْمَنُ عَلَّمَ اَلْقُرْآنَ (1) خَلَقَ اَلْإِنسَانَ عَلَّمَهُ اُلْبَيَان} [الرحمن: 1 – 2] وقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ اُلنَّجْدَيْنِ} [البلد: 8 – 10].
وقال الشاعر (5):
إِنَّ الْبَيَانَ مِنَ الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا … جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلَا
هكذا قال الشاعر هذا البيت، وهكذا هو (6) في «ديوانه»، قال أبو البيان (7): أنا رأيته في «ديوانه» (8) كذلك، فحرَّفه عليه بعض النُّفاة وقالوا:
_________
(1) «ح»: «لغيره».
(2) جواب «لما» الواردة في أول الفصل.
(3) «ح»: «القصد».
(4) «ب»: «فقال».
(5) نُسب هذا البيت إلى الأخطل، نسبه إليه ابن عصفور في «شرح الجمل» (ص 85) وابن هشام في «شرح الشذور» (ص 35). والبيت ليس في «ديوان الأخطل»، إنما ألحقه محقق «الديوان» مما نسب إليه (ص 508).
(6) «هو» ليس في «ح».
(7) هو الشيخ نبأ بن محمد بن محفوظ الشافعي (ت 551 هـ) شيخ الطريقة البيانية، ترجمته في «معجم الأدباء» لياقوت (6/ 2742) و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (20/ 326).
(8) كان أبو البيان ينشد هذا البيت لابن صمصام الرقاش بلفظ:
إِنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا … جُعِلَ اللِّسَانُ لِمَا يَقُولُ رَسُولَا
في تسعة أبيات، وينكر نسبته إلى الأخطل أصلًا، ويقول: «من زعم أن هذا الشعر للأخطل التغلبي فقد أخطأ». نقله عنه اليونيني في «ذيل مرآة الزمان» (3/ 189). وقال ابن قدامة في «البرهان» (ص 152): «سمعت شيخنا أبا محمد بن الخشاب – رحمه الله -، وكان إمام عصره في العربية ـ يقول: قد فتشت دواوين الأخطل العتيقة فلم أجد هذا البيت فيها».
(1/148)
إِنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا … جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْكَلَامِ دَلِيلَا
والمقصود أن العبد لا يعلم ما في ضمير (1) صاحبه إلَّا بالألفاظ الدالة على ذلك، فإذا حمل السامعُ كلامَ المتكلم على خلاف ما وُضع له وخلاف ما يُفهم منه عند التخاطب (2) عاد على مقصود اللغات بالإبطال، ولم يحصل مقصود المتكلم، ولا مصلحة (3) المخاطَب، وكان ذلك أقبحَ من تعطيل (4) اللسان عن كلامه، فإن غاية ذلك أن تفوت مصلحة البيان، وإذا حُمل على ضد مقصوده فوَّتَ مصلحة البيان، وأوقع في ضد المقصود. ولهذا قال بعض العقلاء: اللسان الكذوب شرٌّ من اللسان (5) الأخرس، لأن اللسان (6) الأخرس قد تعطلت منفعته، ولم يحدث منه فسادٌ، ولسان الكذوب قد تعطلت منفعته، وزاد بمفسدة الكذب. فالمتكلم بما ظاهره وحقيقته ووضعُه
_________
(1) «ح»: «ضميره».
(2) «ح»: «المخاطب».
(3) «ح»: «مصالحة».
(4) «ح»: «تعليل».
(5) «ب»: «لسان».
(6) «ب»: «لسان».
(1/149)
باطلٌ وضلالٌ ـ وهو يريد به أن يفهم منه خلاف وضعه وحقيقته ـ أضرُّ على المخاطَب، ولسان الأخرس أقل مفسدةً منه. فترك وضع اللغات أنفعُ للناس (1) من تعريضها للتأويل المخالف لمفهومها وحقائقها. وهكذا كل عضوٍ خُلق لمنفعة إذا لم يحصل منه إلَّا ضد تلك المنفعة كان عدمه خيرًا من وجوده.
يوضح (2) ذلك أن المتكلم بكلامٍ ـ له حقيقةٌ وظاهرٌ [ق 16 ب] لا يُفهم منه غيره ـ مريدٌ بكلامه حقيقته وما يدل عليه ويُفهم (3) منه. فإذا ادَّعى أني أردتُ بكلامي خلاف ظاهره وما يُفهم منه كان كاذبًا؛ إمَّا في دعوى إرادة ذلك، أو في دعوى إرادة (4) البيان والإفهام؛ فحملُ كلامه على التأويل الباطل تكذيبٌ له في أحد الأمرين ولا بد.
ولهذا كان التأويل الباطل فتحًا لباب الزندقة والإلحاد، وتطريقًا لأعداء الدِّين على نقضه، وبيانه بذكر (5):
* * * * *
_________
(1) «ح»: «للإنسان».
(2) «ح»: «أوضح».
(3) «ح»: «ما يفهم».
(4) «ح»: «إرادته».
(5) في النسختين: «يذكر».
(1/150)
الفصل الخامس (1) عشر
في جنايات التأويل على أديان الرُّسل
وأن خراب العالم وفساد الدنيا والدِّين بسبب فتح باب التأويل
إذا تأمل المتأمِّل فساد العالَم، وما وقع فيه من التفرق (2) والاختلاف، وما دُفِع إليه أهل الإسلام، وجده ناشئًا من جهة التأويلات المختلفة المستعملة في آيات القرآن وأخبار الرسول صلوات الله وسلامه عليه، التي تعلق بها المختلفون على اختلاف أصنافهم في أصول الدِّين وفروعه، فإنها أوجبت ما أوجبت من التباين والتحارب، وتفرُّق الكلمة، وتشتُّت (3) الأهواء، وتصدُّع الشمل، وانقطاع الحبْل، وفساد ذات البَيْن، حتى صار يُكفِّر ويلعن بعضُهم بعضًا، وترى طوائف منهم تسفِكُ دماء الآخرين، وتستحلُّ منهم في (4) أنفسهم وحُرمهم وأموالهم ما هو أعظم ممَّا يرصدهم به أهل دار الحرب من المنابِذين لهم.
فالآفات التي جَنَتْها وتجنيها (5) كل وقتٍ أصحابُها على الملة والأُمة من التأويلات الفاسدة أكثرُ من أن تُحصَى أو يبلغها وصفُ واصفٍ، أو يحيط بها ذِكْر ذاكرٍ، ولكنها في جملة القول أصل كل فسادٍ وفتنةٍ، وأساس كل
_________
(1) «ح»: «الرابع».
(2) «ح»: «التفريق».
(3) «ح»: «وتشتيت».
(4) «في» ليس في «ب».
(5) «ب»: «ويجنيها».
(1/151)
ضلالٍ وبدعةٍ، والمولِّدة لكل اختلافٍ وفُرقةٍ، والناتِجة أسبابَ كلِّ تباينٍ وعداوةٍ وبغضة.
ومن عظيم آفاتها ومصيبة الأُمة بها أن الأهواء المضِلة والآراء المهلِكة التي تتولد مِن قِبَلها لا تزال تنمو وتتزايد على ممرِّ الأيام وتعاقُب الأزمنة. وليست الحال في الضلالات التي حدثت مِن قبل أصول الأديان الفاسدة كذلك؛ فإن فساد تلك معلومٌ عند الأُمة، وأصحابها لا يطمعون في إدخالها في دين الإسلام، فلا يطمع أهل الملة اليهودية ولا النصرانية ولا المجوسية ولا الثانوية ونحوهم أن يُدخِلوا أصول مللهم (1) في الإسلام، ولا يدعوا مسلمًا إليه، ولا يدخلوه إليهم من بابه أبدًا، بخلاف فرقة التأويل، فإنهم يدعون المسلم من باب القرآن والسُّنَّة وتعظيمهما، وأن لنصوصهما تأويلًا لا يُوجد إلَّا عند خواص أهل العلم والتحقيق، وأن العامة في عمًى عنه؛ فضرر هذه الفرقة على الإسلام وأهله أعظم من ضرر أعدائه المنابذين له. ومثلهم ومثل أولئك كمثل قومٍ في حصنٍ حاربهم عدوٌّ لهم فلم يطمعوا (2) في فتح حصنهم والدخول عليهم، فعمَدَ جماعةٌ من أهل الحصن ففتحوه له، وسلَّطُوه على الدخول إليه، فكان مُصاب أهل الحصن مِن قِبَلهم.
وبالجملة، فالأهواء المتولِّدة من قبل التأويلات الباطلة فغير محصورة ولا متناهية، بل هي متزايدة نامية بحسب سوانح المتأولين وخواطرهم، وما تُخرِجهم إليه ظنونهم وأوهامهم. ولذلك لا يزال المستقصي عند نفسه في البحث عن المقالات وتتبُّعِها يهجم على أقوال من مذاهب أهل التأويل لم
_________
(1) «ح»: «ملتهم».
(2) «ح»: «يطيعوا».
(1/152)
تكن تخطر له على بالٍ، ولا تدور له في خيال، ويرى أمواجًا من زَبَد الصدور تتلاطم، ليس لها ضابط إلَّا سوانحُ وخواطر وهوسٌ تقذف به النفوس التي لم يؤيِّدها الله بروح الحق، ولا (1) أشرقت عليها شمسُ الهداية، ولا باشرت حقيقةَ الإيمان، فخواطرُها وهوسُها لا غايةَ له يقف عندها. فإن أردت الإشراف على ذلك فتأمَّلْ كُتب المقالات والآراء والدِّيانات، تجدْ كل ما يخطر ببالك قد ذهب إليه ذاهبون، وصار إليه صائرون، ووراء ذلك ما لم يخطر لك على بالٍ.
وكلُّ هذه الفرق تتأول نصوص الوحي على قولها، وتحمله على تأويلها؛ ومع ذلك فتجد أُولِي العقول الضعيفة إلى الاستجابة لهم مسارِعين، وفي القبول منهم راغبين. فهم مبادرون إلى أخْذِ ما يوردونه عليهم، وقبولهم إيَّاه عنهم، وعلى الدعوة إليه هم أشد حرصًا منهم على الدعوة إلى الحق الذي جاءت به الرُّسل. ولم يُوجد الأمر في قبول دعوة الرسل كذلك، بل قد عُلم ما لَقِيَ المرسلون في الدعوة إلى الله من الجَهْد والمشقة والمكابدة، ولقُوا أشد العناء والمكروه، وقاسوا أبلغ الأذى، حتى استجاب لهم مَنِ استجاب إلى الحق الذي هو مُوجِب الفِطَر، وشقيق الأرواح، وحياة القلوب، وقرة العيون، ونجاة النفوس، حتى إذا أطْلَعَ شيطان التأويل رأسَه، وأبدى لهم عن ناجذيه، ورفع لهم عَلَمًا [ق 17 أ] من التأويل، طاروا إليه زَرَافاتٍ ووُحدانًا. فهم إخوان السِّفِلة الطَّغَام، أشباه الأنعام، بل أضل من الأنعام، طَبْلٌ يجمعهم، وعصًا تفرِّقُهم! فانظر ما لَقِيَه نوح وإبراهيم وصالح وهود وشعيب وموسى وعيسى ومحمد ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ في
_________
(1) «لا» ليس في «ح».
(1/153)
الدعوة إلى الله، من الرد عليهم، والتكذيب لهم، وقصدهم بأنواع الأذى، حتى ظهرت دعوةُ مَن ظهرت دعوته منهم، وأقاموا دين الله.
وانظر سرعة المستجيبين لدعاة الرافضة والقرامطة الباطنية والجهمية والمعتزلة، وإكرامهم لدُعاتهم، وبذل أموالهم، وطاعتهم لهم (1) من غير برهانٍ أتوهم به، أو آية أروهم إيَّاها، غير أنهم دَعَوهم إلى تأويلٍ تستغربه النفوس وتستطرفه (2) العقول، وأوهموهم أنه من وظيفة الخاصة الذين ارتفعوا به عن طبقة العامة، فالصائر إليه معدودٌ في الخواص، مفارقٌ للعوام. فلم تر شيئًا من المذاهب الباطلة والآراء الفاسدة المستخرجة بالتأويل قُوبِلَ الداعي إليه الآتي به أولًا بالتكذيب له والرد عليه، بل ترى المخدوعين المغرورين يُجفِلون إليه إجفالًا، ويأتون إليه أرسالًا، تؤزُّهم إليه شياطينهم ونفوسهم (3) أزًّا، وتزعجهم إليه إزعاجًا، فيدخلون فيه أفواجًا، يتهافتون فيه تهافُتَ الفراش في النار، ويَثُوبون إليه مثابة الطير إلى الأوكار.
ثم من عظيم آفاته سهولةُ الأمر على المتأوِّلين في نقل المدعوين عن مذاهبهم وقبيح اعتقادهم إليه، ونَسْخِ الهدى من صدورهم، فإنهم ربما اختاروا للدعوة إليه رجلًا مشهورًا بالديانة والصيانة، معروفًا بالأمانة، حسنَ الأخلاق، جميلَ الهيئة، فصيحَ اللسان، صبورًا على التقشف والتزهد، مرتاضًا لمخاطبة الناس على اختلاف طبقاتهم. ويتهيأ لهم مع ذلك مِن عيب أهل الحق، والطعن عليهم، والإزراء بهم، ما يظفر به المفتِّش عن العيوب.
_________
(1) «لهم» ليس في «ب».
(2) «ب»: «وتستظرفه».
(3) «ح»: «وتغويهم إليه».
(1/154)
فيقولون للمغرور المخدوع: وازِنْ بين هؤلاء وهؤلاء، وحكِّمْ عقلك، وانظرْ إلى نتيجة الحق والباطل. فيتهيأ لهم بهذا الخداع ما لا يتهيأ بالجيوش، وما لا يطمع في الوصول إليه بدون تلك (1) الجهة.
ثم من أعظم جنايات التأويل على الدِّين وأهله وأبلغها نكايةً فيه أن المتأول يجد بابًا مفتوحًا لما يقصده من تشتيت كلمة أهل الدِّين وتبديد نظامهم، وسبيلًا سهلة إلى ذلك. فإنه يحتجر (2) من المسلمين بإقراره معهم بأصل التنزيل، ويدخل نفسه في زُمرة أهل التأويل، ثم بعد ذلك يقول ما شاء ويدعي ما أحب. ولا يُقدَر (3) على منعه من ذلك لادعائه أن أصل التنزيل مشتركٌ بينك وبينه، وأن عامة الطوائف المُقِرَّة به (4) قد تأولت كل طائفةٍ لنفسها تأويلًا ذهبت (5) إليه، فهو يُبدِي نظيرَ تأويلاتهم ويقول: ليس لك أن تبدي في التأويل مذهبًا إلَّا ومثله سائغ لي، فما الذي أباحه لك وحظَرَه عليَّ، وأنا وأنت قد أقررنا بأصل التنزيل، واتفقنا على تسويغ (6) التأويل؟ فلِمَ كان تأويلك مع مخالفته لظاهر التنزيل سائغًا، وتأويلي أنا مُحرَّمًا؟ فتعلُّقه بهذا أبلغُ مكيدةٍ يستعملها، وأنكى سلاحٍ يحارب به. فهذه الآفات وأضعافها إنما لقيها أهل الأديان من المتأولين (7)، فالتأويل هو الذي فرَّق اليهود إحدى
_________
(1) من قوله: «بهذا الخداع» إلى هنا سقط من «ح».
(2) «ب»: «يحتجز».
(3) كذا ضبط في «ب» وقد يكون تصحيف: «ولا تقدر» لقوله فيما بعد: «بينك وبينه».
(4) «ح»: «المعروفة»، تحريف.
(5) «ح»: «وادعت». ولعل صوابه «ودَعَتْ».
(6) «ح»: «تنويع».
(7) «ح»: «التأويل وإلا».
(1/155)
وسبعين فرقةً، والنصارى ثنتين (1) وسبعين فرقة (2)، وهذه الأُمة ثلاثًا وسبعين فرقة (3).
فأمَّا اليهود فإنهم بسبب التأويلات التي استخرجوها بآرائهم مِن كُتبهم صاروا فرقًا مختلفة، بعد اتفاقهم على أصل الدِّين والإيمان بما في التوراة والزبور وكُتب أنبيائهم التي يدرسونها ويؤمنون بها.
وبسبب التأويلات الباطلة مُسِخُوا قردةً وخنازير، وجرى عليهم من الفتن والمحن ما قصَّه الله. وبالتأويل الباطل عبدوا العجلَ حتى آلَ أمرُهم إلى ما آلَ. وبالتأويل الباطل فارقوا حُكمَ التوراة، واستحلوا المحارم، وارتكبوا المآثِمَ. فهُمْ (4) أئمة التأويل والتحريف والتبديل، والناسُ لهم فيه تبعٌ، فلا تبلغ فرقة مبلغَهم فيه (5).
وبالتأويل استحلوا محارمَ الله بأدنى (6) الحِيَلِ. وبالتأويل قتلوا الأنبياء، فإنهم قتلوهم وهم مصدِّقون بالتوراة وبموسى. وبالتأويل والتحريف حلَّتْ بهم المَثُلات، وتتابعت عليهم العقوبات، وقُطِعُوا في الأرض أُممًا، وضُربت عليهم الذلةُ والمسكنة وباؤوا بغضبٍ من الله.
وبالتأويل دفعوا نبوة عيسى ومحمدٍ ـ صلوات الله وسلامه عليهما ـ وقد
_________
(1) «ح»: «اثنين».
(2) «فرقة» ليس في «ب».
(3) «فرقة» ليس في «ب».
(4) «ح»: «وهم».
(5) من قوله «والناس» إلى هنا سقط من «ح».
(6) «ح»: «بأقل».
(1/156)
استُهِلَّت (1) التوراة وكُتبُ الأنبياء بالبشارة بهما وظهورهما، ولا سيما البشارات بمحمدٍ – صلى الله عليه وسلم -، فإنها متظاهرة في كُتبهم بصفة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومَخرجه ومَبعثه ودعوته وكتابه وصفة أُمته وسيرتهم وأحوالهم، بحيث كان علماؤهم لمَّا رأَوْه وشاهدوه عرفوه معرفتهم أنبياءهم (2). ومع هذا فجحدوا أمْرَه – صلى الله عليه وسلم – [ق 17 ب]، ودفعوه على قومه (3) وظهوره بالتأويلات التي استخرجوها من تلك الألفاظ التي تضمنتها (4) البشاراتُ، حتى التبس الأمرُ بذلك على أتباعهم ومَن لا يعلم الكتاب إلَّا أمانيَّ، وخُيِّل إليهم بتلك التأويلات ـ التي هي من جنس تأويلات الجهمية والرافضة والقرامطة ـ أنه ليس هو، فسطَوْا على تلك البشارات بكتمان ما وجدوا السبيل إلى كتمانه، وما غُلبوا عن كتمانه حرَّفوا لفظه عمَّا هو عليه، وما عجزوا عن تحريف لفظِه حرَّفوا معناه بالتأويل.
ووَرِثَهم أشباهُهم من المنتسبين إلى الملة في (5) هذه الأمور الثلاثة، وكان عُصبة الوارثين لهم في ذلك ثلاثَ طوائفَ: الرافضة والجهمية والقرامطة؛ فإنهم اعتمدوا في النصوص المخالِفة لضلالهم هذه الأمور الثلاثة، والله سبحانه ذمَّهم على التحريف والكتمان. والتحريف نوعان: تحريف اللفظ، وهو تبديله. وتحريف المعنى، وهو صرف اللفظ عنه إلى
_________
(1) «ب»: «اشتملت».
(2) «ح»: «إياهم». والمثبت من «ب». وله وجه، والأوجه أن تكون: «أبناءهم»، كما في قوله تعالى: {اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اُلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 145].
(3) «قومه» كذا في النسختين، ولعله تحريف.
(4) «ح»: «تضمنها».
(5) «ب»: «و».
(1/157)
غيره مع بقاء صورة اللفظ.
وأمَّا فسادُ دين النصارى من جهة التأويل، فأولُ ذلك ما عَرَض في التوحيد الذي هو عمود الدِّين، فإن سلف المُثلِّثة قالوا في الربوبية بالتثليث وحديث الأقانيم والأب والابن وروح القدس، ثم اختلف مَن بعدَهم في تأويل كلامهم اختلافًا تباينوا (1) به غايةَ التبايُن، وإنما عرض لهم هذا الاختلافُ من جهة التأويلات الباطلة. وكانت حالهم فيما جنَتْ عليهم التأويلات الباطلة أفسدَ حالًا من اليهود، فإنهم لم يصِلُوا بتأويلهم إلى ما وصل إليه عُبَّاد الصليب من نسبة الربِّ تعالى إلى ما لا يليق به، ثم دفعوا بالتأويل إلى إبطال شرائع التوراة، فأبطلوا الختان، واستحلوا السبت، واستباحوا الخنزير، وعطلوا الغُسْل من الجنابة.
وكان الذي فتح عليهم أبواب هذه التأويلات بُولِس، فاستخف جماعةً من ضعفاء العقول، فقَبِلُوا منه تلك التأويلات، ثم أورثت (2) الخلاف بينهم حتى آل أمرهم إلى ما آلَ إليه مِنِ انسلاخهم عن شريعة المسيح في التوحيد والعمليات. ثم تأولت اليعقوبية ـ أتباع يعقوب البراذعي ـ تأويلًا، فتأولت النسطورية ـ أتباع نسطورس (3). ……………………………….
_________
(1) «ح»: «باينوا».
(2) «ح»: «أورث». وله وجه بعود الضمير إلى بولس.
(3) «ب»: «نسطور بن». وفي «ح»: «نسطورين». ولعل المثبت هو الصواب؛ فنسطورس بَطْرق القسطنطينية، هو رأس الطائفة النسطورية، ويقال له: نسطوريوس ونسطور، كان قبل الإسلام، ذكره ابن الأثير في «الكامل في التاريخ» (1/ 301) وقال: «ومن العجائب أن الشهرستاني ـ مصنِّف كتاب «نهاية الإقدام» في الأصول، ومصنِّف كتاب «الملل والنحل» في ذكر المذاهب والآراء القديمة والجديدة ـ ذكر فيه أن نسطور كان أيام المأمون، وهذا تفرد به، ولا أعلم له في ذلك موافِقًا». قلتُ: وتابَعَ الشهرستاني غيرُ واحد من المتأخرين.
(1/158)
غيره (1)، فتأولت المَلِكية ـ وهم الذين على دين المَلِك ـ غيره، فاضمحل الدِّين، وخرجوا منه خروج الشعرة من العجين. فلو تأملتَ تأويلاتهم لَرأيتَها واللهِ من جنس تأويلات الجهمية والرافضة والمعتزلة، ورأيتَ الجميع من مِشكاةٍ واحدةٍ، ولولا خوفُ التطويل لَذكرنا لك (2) تلك التأويلات، ليُعلَم أنها وتأويلات المحرِّفين من هذه الأُمة
رَضِيعَا لِبَانٍ ثَدْيَ أُمٍّ تَقَاسَمَا … بأَسْحَمَ دَاجٍ عَوْضُ لا نَتَفَرَّقُ (3)
ولو رأيتَ تأويلاتِهم لنصوص التوراة في الأخبار والأمر والنهي لَقلتَ: إن أهل التأويل الباطل من هذه الأمة إنما تلَقَّوْا تأويلاتهم عنهم، وعجبتَ مِن تشابُهِ قلوبهم، ووقوع الحافر على الحافر، والخاطر على الخاطر. «ولم يزل أمرُ بني إسرائيل مستقيمًا حتى فشا فيهم المولَّدُون أبناءُ سبايا الأُمم (4)، فاشتقوا لهم الرأيَ، وسَلَّطُوا التأويلَ على نصوص التوراة، فضَلُّوا وأَضَلُّوا» (5).
_________
(1) «ب»: «عبرة».
(2) «لك» ليس في «ح».
(3) البيت للأعشى في «ديوانه» (ص 225). والرواية: «رضيعي لبان»، وقد تصرف فيها المصنِّف لتناسب السياق، كما فعل في «مسألة السماع» (ص 177، 241). وفي «البدائع» (ص 455) و «الداء والدواء» (ص 224): «رضيعي» على الأصل، وسيأتي البيت مرةً أخرى في كتابنا هذا، قوله «رضيعي لبان» يريد أنهما أخوان، و «بأسحم داج» يعني: الليل، أي: تحالفا بالليل. وقيل غير ذلك.
(4) «الأمم» ليس في «ح».
(5) قد رُوِيَ نحو هذا اللفظ مرفوعًا، أخرجه ابن ماجه (56) والبزار (6/ 402) والطبراني في «الكبير» (13/ 642) عن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما -، وضعفه البوصيري في «مصباح الزجاجة» (21) وابن حجر في «إتحاف المهرة» (9/ 588) وقد رُوي عن جماعة من الصحابة والتابعين مرفوعًا وموقوفًا. ينظر: «ذم الكلام» للهروي (1/ 72 – 75) و «بيان الوهم والإيهام» لابن القطان (2/ 347 – 348) و «معرفة السنن والآثار» للبيهقي (1/ 187).
(1/159)
وهؤلاء النصارى لم يزل أمرُهم بعد المسيح على منهاج الاستقامة حتى ظهر فيهم المتأوِّلون، فأخذت (1) عُرى دينهم تنتقض. والمتأوِّلون يجتمعون مَجمعًا بعد مجمعٍ، وفي كل مجمعٍ يخرج لهم تأويلات تُناقض الدِّين الصحيح، فيلعنهم (2) أصحابُ المجمع الآخر، ولا يوافقونهم عليها، حتى جمَعَهم الملكُ قُسْطَنطِين من أقطار الأرض، فبلغوا ثلاثمائة وثمانية عشر بَتْركًا (3) وأُسْقُفًّا (4)، فتأولوا (5) لهم هذه الأمانة التي بأيديهم اليوم، وأبطلوا من دين المسيح ما شاؤوا، وزادوا فيه ونقصوا، ووضعوا من الشرائع ما شاؤوا، وكلُّ ذلك بالتأويل، وقد ذكروا الظواهر التي تأولوها.
وبالتأويل جعلوا الله ثالث ثلاثة، وجعلوا المسيح ابنه، وجعلوه هو الله، فقالوا: هذا وهذا وهذا (6). تعالى اللهُ عن قولهم. وبالتأويل تركوا الختان،
_________
(1) «ح»: «فأخذوا».
(2) «ح»: «فتلقنهم». وفي «ب»: «فتلقيهم». والمثبت أقرب إلى المعنى الصحيح والرسم.
(3) البترك ويقال البطرك: مقدَّم النصارى. «لسان العرب» (10/ 401). ويظهر من كلام المصنِّف في «مفتاح دار السعادة» (3/ 1237) أنه فوق المطران وتحت الأسقف.
(4) الأسقف: رئيس النصارى في الدِّين، أعجمي تكلمت به العرب. «لسان العرب» (9/ 156).
(5) «ح»: «فتلوا».
(6) «وهذا» ليس في «ح».
(1/160)
وأباحوا الخنزير، وهم (1) يعلمون أن المسيح اختتن وحرَّمَ الخنزير. وبالتأويل نقلوا الصوم من مَحِلِّه إلى الفصل الربيعي، وزادوه حتى صار خمسين يومًا. وبالتأويل عبدوا الصليب والصور. وبالتأويل فارقوا حُكم التوراة والإنجيل.
فصل
ومن أعظم آفات التأويل وجناياته أنه إذا سُلِّط على أصول الإيمان والإسلام اجتثَّها وقلَعَها، فإن أصول الإيمان خمس (2)، وهي: الإيمان بالله وملائكتِه وكُتبه ورسله واليوم الآخر، وأصول الإسلام خمسة، وهي: كلمة الشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت؛ فعمد
_________
(1) «وهم» ليس في «ح».
(2) المشهور أن أصول الإيمان ستة، وهي الواردة في جواب النبي – صلى الله عليه وسلم – لجبريل عليه السلام لما سأله عن الإيمان، فقال: «أن تؤمن بالله، وملائكتِه، وكُتبِه، ورسلِه، واليومِ الآخِرِ، وتؤمنَ بالقدَرِ خيرِه وشرِّه». رواه مسلم (8) عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -. ولا شك أن الأصول الخمسة تتضمن الإيمان بالقدَرِ كذلك، وقد بيَّن الإمام ابن القيم مأخذَه ودليله؛ فقال في «مفتاح دار السعادة» (1/ 442): «أصول الإيمان الخمسة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر. فإن مَن لم يؤمن بهذه الخمسة لم يدخل في باب الإيمان، ولا يستحق اسم المؤمن؛ قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَاَلْيَوْمِ اِلْآخِرِ وَاَلْمَلَائِكَةِ وَاَلْكِتَابِ وَاَلنَّبِيِّينَ} [البقرة: 176]، وقال: {وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاَلْيَوْمِ اِلْآخِرِ فَقَد ضَّلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 135]. ولمَّا سأل جبريل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. قال: صدقت». قلت: وهذا اللفظ رواه محمد بن نصر المروزي في كتاب «السنة» (365) عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -.
(1/161)
أرباب التأويل إلى أصول الإيمان والإسلام فهدموها بالتأويل. وذلك أن مَعقِد هذه الأصول العشرة تصديق الرسول فيما أخبَرَ وطاعته فيما أمَرَ. فعمدوا إلى أجَلِّ الأخبار، وهو ما أخبر به عن الله من أسمائه وصفاته ونعوت كماله، فأخرجوه عن [ق 18 أ] حقيقته وما وُضع له.
وهذا القسم من الأخبار أشرف أنواع الخبر، والإيمانُ به أصل الإيمان بما عدَاه، واشتمالُ القرآن بل والكتب الإلهية عليه أكثر من اشتمالها على ما عداه، وتنوعُ الدلالة بها على ثبوت مَخبَره أعظم من تنوعها في غيره؛ وذلك لشرف متعلقه وعظمته وشدة الحاجة إلى معرفته، وكانت (1) الطرق إلى تحصيل معرفته أكثر وأسهل وأبينَ من غيره.
وهذا من كمال حكمة الربِّ تبارك وتعالى وتمام نعمته وإحسانه، أنه كلما كانت حاجة العباد إلى الشيء أقوى وأتمَّ كان بذلُه لهم أكثر، وطرقُ وصولهم إليه أكثر وأسهل. وهذا في الخَلْق والأمر، فإن حاجتهم لمَّا كانت إلى الهواء أكثر من الماء والقوت كان موجودًا معهم في كل مكانٍ وزمانٍ، وهو أكثر من غيره. وكذلك لمَّا كانت حاجتهم بعده إلى الماء شديدة ـ إذ هو مادة أقواتهم ولباسهم وفواكههم وشرابهم ـ كان مبذولًا لهم أكثر من غيره. وكذلك حاجتهم إلى القوت لمَّا كانت أشد من حاجتهم إلى الإيواء (2) كان وجود القوت أكثر، وهكذا الأمر في مراتب الحاجات.
ومعلوم أن حاجتهم إلى معرفة ربهم وفاطرهم ومعبودهم جل جلاله فوق مراتب هذه الحاجات كلها؛ فإنهم لا سعادة لهم ولا فلاح ولا صلاح
_________
(1) «ح»: «وكا».
(2) «ح»: «الإبراء». وفي «ب»: «الإبزار». ولعل المثبت من المطبوع هو الصواب.
(1/162)
ولا نعيم إلَّا بأن يعرفوه ويعبدوه (1)، ويكون هو وحدَه غاية مطلوبهم، ونهاية مرادهم؛ وذِكرُه والتقرب (2) إليه قرةُ عيونهم وحياة قلوبهم. فمتى فَقَدُوا ذلك كانوا أسوأ حالًا من الأنعام بكثيرٍ، وكانت الأنعام أطيب عيشًا منهم في العاجل، وأسلم عاقبة في الآجل.
وإذا عُلم أن ضرورة العبد إلى معرفة ربِّه ومحبته وعبادته والتقرب إليه فوق كل ضرورة، كانت الطُّرقُ المُعرِّفةُ لهم ذلك أيسرَ طرق العلم على الإطلاق وأسهلها وأهداها وأقربها، وبيانُ الربِّ تعالى لها فوق كل بيان. فإذا سُلِّط التأويل على النصوص المشتملة عليها فتسليطه (3) على النصوص التي ذُكِرَت فيها الملائكة أقربُ بكثيرٍ.
يُوضحه أن الربَّ تعالى لم يذكر للعباد من صفات ملائكته وشأنهم وأفعالهم وأسمائهم عُشر مِعْشار ما ذَكَر لهم من نعوت جلاله وصفات كماله وأسمائه وأفعاله. فإذا كانت هذه قابلة للتأويل فالآيات التي ذُكِرَت فيها الملائكة أَوْلى بقبوله (4). ولذلك تأولها (5) الملاحدةُ، كما تأولوا نصوص المعاد واليوم الآخر، وأبدَوْا له تأويلات ليست بدون تأويلات الجهمية لنصوص الصِّفات. وأوَّلت هذه الطائفةُ عامة نصوص الأخبار الماضية والآتية، وقالوا للمتأولين من الجهمية: بيننا وبينكم حاكمُ العقل، فإن القرآن بل الكتب المنزلة مملوءة بذكر
_________
(1) «ح»: «ويعتقدوه».
(2) «ح»: «والقرب».
(3) «ح»: «فتسلطه».
(4) «ب»: «بقوله».
(5) «ب»: «تأولتها».
(1/163)
الفوقية وعلو الله تعالى على عرشه، وأنه تكلَّم (1) ويتكلم، وأنه موصوف بالصفات، وأن له أفعالًا تقوم به (2) هو بها فاعلٌ، وأنه يُرى بالأبصار، إلى غير ذلك من نصوص الصِّفات، التي إذا قِيسَ إليها نصوص حَشْرِ هذه الأجساد وخراب هذا العالم وإعدامه وإنشاء عالَم آخر، وُجدت نصوصُ الصِّفات أضعافَ أضعافها، فهذه الآيات والأخبار الدالة على علو الربِّ تعالى على خلقه وفوقيته واستوائه على عرشه قد قيل إنها تُقارِبُ الألفَ، وقد أجمعت عليها الرسلُ من أولهم إلى آخرهم. فما الذي سوَّغَ لكم تأويلها، وحرَّمَ علينا تأويل (3) نصوص حشْرِ الأجساد وخراب العالَم؟
فإن قلتم: الرُّسل أجمعوا على المجيء به، فلا يمكن تأويله.
قيل: وقد أجمعوا على أن الله فوق عرشه، وأنه متكلمٌ مُكلَّمٌ، فاعلٌ حقيقةً، موصوف بالصفات، فإنْ مُنِعَ إجماعهم هناك من التأويل وَجَبَ أن يمنع هاهنا.
فإن قلتم: العقل أوجبَ تأويلَ نصوص الصِّفات، ولم يوجب (4) تأويل نصوص المعاد.
قلنا: هاتوا أدلة العقول التي تأولتم بها الصِّفات، ونحضر نحن أدلة العقول التي تأولنا بها المعاد وحشْرَ الأجساد، ونوازن بينها ليتبَّينَ أيها (5) أقوى.
_________
(1) «ح»: «يكلم».
(2) «ب»: «يقوم».
(3) «تأويل» سقط من «ح».
(4) «ح»: «يجب».
(5) «ح»: «لتبيين أنها».
(1/164)
فإن قلتم: إنكار المعاد تكذيبٌ لِمَا عُلم من دِين الرسل بالضرورة.
قلنا: وإنكار صفات الربِّ وأنه متكلم آمرٌ ناهٍ (1) فوق سماواته، وأن الأمر ينزل مِن عنده ويصعد إليه تكذيبٌ لما عُلم أنهم جاؤوا به ضرورةً.
فإن قلتم: تأويلنا للنصوص التي جاؤوا بها لا يستلزم تكذيبهم وردَّ أخبارهم.
قلنا: فمن أين صار تأويلنا للنصوص التي جاؤوا بها في المعاد (2) يستلزم تكذيبهم وردَّ أخبارهم دون تأويلكم إلَّا لمجرد (3) التحكم والتشهِّي.
[ق 18 ب] فصاحت القرامطة والملاحدة والباطنية وقالت: ما الذي سوَّغَ لكم تأويل الأخبار، وحرَّم علينا تأويلَ الأمر والنهي والتحريم والإيجاب، وموردُ الجميع من مِشكاةٍ واحدةٍ، فنحن سلكنا في تأويل الشرائع العملية نظير ما سلكتم في تأويل النصوص الخبرية؟
قالوا: وأين تقع نصوص الأمر والنهي من (4) نصوص الخبر؟
قالوا: وكثيرٌ (5) منكم قد فتحوا لنا باب التأويل في الأمر، فأوَّلُوا أوامر ونواهي كثيرة صريحة الدلالة أو ظاهرة الدلالة في معناها بما يُخرجها عن حقائقها وظواهرها. فهَلُمَّ (6) نضعها في كفةٍ، ونضع تأويلاتنا في كفةٍ، ونوازن
_________
(1) «ناه» سقط من «ح».
(2) «ب»: «العناد».
(3) «إلا لمجرد» في «ب»: «بمجرد».
(4) «ب»: «و».
(5) «وكثير» ليس في «ب».
(6) «ح»: «فلهم».
(1/165)
بينهما (1)! ونحن لا ننكر أنَّا أكثر تأويلًا منهم وأوسعُ، لكنَّا وجدنا بابًا مفتوحًا فدخلناه، وطريقًا مسلوكًا فسلكناه، فإن كان التأويل حقًّا فنحن أسعد الناس به، وإن كان باطلًا فنحن وأنتم مشتركون فيه، ومستقلٌّ ومستكثِرٌ!
فهذا من شؤم جناية التأويل على أصول الإيمان والإسلام.
وقد قيل: إنَّ طردَ إبليس ولعنه إنما كان بسبب التأويل، فإنه عارَضَ النص بالقياس وقدَّمه عليه، وتأول لنفسه أن هذا القياس العقلي مقدَّمٌ على نصِّ (2) الأمر بالسجود، فإنه (3) قال: {أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ} [الأعراف: 11]. وهذا دليلٌ قد حُذفت إحدى مقدمتَيْهِ، وهي أن الفاضل لا يخضع للمفضول، وطوى ذِكر هذه المقدمة كأنها مقرَّرة لكونها معلومة (4)، وقرَّر المقدمة الأولى بقوله {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 11] فكان نتيجة المقدمتين امتناعه من السجود. وظن أن هذه الشبهة العقلية تنفعه في تأويله، فجرى عليه ما جرى، وصار إمامًا لكلِّ مَن عارض نصوص الوحي بتأويله الباطل إلى يوم القيامة. ولا إله إلَّا الله، كم لهذا الإمام اللعين من أتباعٍ من العالمين!
وأنت إذا تأملتَ عامة شُبَه المتأولين ـ التي تأولوا لأجلها النصوص وعطلوها ـ رأيتها من جنس شبهته. والقائل: «إذا تعارض العقل والنقل قدَّمنا
_________
(1) «ب»: «بينها».
(2) «ح»: «نصوص».
(3) «ح»: «لأنه».
(4) هكذا في «ب» وفي «ح»: «المقدمة منها صورة لكونها معلومة» وفي «م»: «المقدمة كأنها صورة معلومة» والظاهر أن «صورة» تحريف «مقررة».
(1/166)
العقل» من هاهنا اشتق هذه القاعدة، وجعلها أصلًا لردِّ نصوص الوحي التي يزعم أن العقل يخالفها، كما زعم إمامه أن دليل العقل يخالف نصَّ الأمر بالسجود حين (1) قدَّمه عليه. وعرضت لعدوِّ الله هذه الشبهة من ناحية كِبْره الذي منعه من الانقياد المحض لنص الوحي، وهكذا تجد (2) كل مُجادِلٍ في نصوص الوحي بالباطل إنما يحمله على ذلك كِبرٌ في صدره ما هو ببالغه. قال الله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اِللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاَسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اُلْبَصِيرُ} [غافر: 56].
وكذلك خروج آدم من الجنة إنما كان بسبب التأويل، وإلَّا فهو – صلى الله عليه وسلم – لم يقصد بالأكل معصيةَ الربِّ، والتجرؤَ على مخالفة نهيه، وأن يكون ظالمًا مستحِقًّا للشقاء بخروجه من الجنة. هذا لم يقصده أبو البشر قطعًا.
ثم اختلف الناس في وجه تأويله، فقالت طائفة: تأول بحمله النهيَ المطلق على الشجرة المعينة، وغرَّه عدوُّ الله بأن جنس تلك الشجرة هي شجرة الخُلْد، وأطمعه (3) في أنه إنْ أكل منها لم يخرج من الجنة.
وفي هذا الذي قالوه نظرٌ ظاهرٌ؛ فإن الله سبحانه أخبر أن إبليس قال له: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ اِلشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ اَلْخَالِدِينَ} [الأعراف: 19]، فذكَرَ لهما عدو الله الشجرة التي نُهِيَا عنها، إمَّا بعينها أو بجنسها، وصرَّح لهما بأنها هي المنهي عنها، ولو كان عند آدم أن
_________
(1) «ح»: «حتى».
(2) «ح»: «نجد».
(3) «ح»: «وأطعمه». وكذا كانت في «ب»، ثم كتب الناسخ على الحاشية: «طمعه» وعليه: «ن».
(1/167)
المنهي عنه تلك الشجرة المعينة دون سائر النوع لم يكن عاصيًا بأكله من غيرها، ولا أخرجه الله من الجنة ونزع عنه لباسه.
وقالت فرقة أخرى: تأول آدم أن النهي نهي تنزيهٍ لا نهي تحريمٍ، فأقدم على الأكل لذلك.
وهذا باطلٌ قطعًا من وجوهٍ كثيرةٍ، يكفي منها قوله تعالى: {فَتَكُونَا مِنَ اَلظَّالِمِينَ} [البقرة: 34]. وأيضًا فحيث نهى الله عن فعل الشيء بقربانه لم يكن إلَّا للتحريم، كقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 220] {وَلَا تَقْرَبُوا اُلزِّنَى} [الإسراء: 32] {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ اَلْيَتِيمِ} [الأنعام: 153]. وأيضًا لو كان للتنزيه لَمَا أخرجه الله من الجنة وأخبر أنه عصى ربَّه.
وقالت طائفة: بل كان تأويله أن النهي إنما كان عن قُربانهما وأكلهما معًا، لا عن أكل كلٍّ منهما على انفراده؛ لأن قوله: {وَلَا تَقْرَبَا} [البقرة: 34] نهيٌ لهما على الجمع، ولا يلزم من حصول النهي حالَ الاجتماع حصوله حال الانفراد.
وهذا التأويل ذكره ابن الخطيب في «تفسيره» (1)، وهو كما ترى في البطلان والفساد. ونحن نقطع أن هذا التأويل لم يخطر بقلب آدم وحواء البتةَ، وهما كانا أعلمَ بالله من ذلك، وأصحَّ أفهامًا! أفترى فَهِمَ أحدٌ عن الله من قوله: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ اَلْيَتِيمِ} [الأنعام: 153] {وَلَا تَقْرَبُوا اُلزِّنَى} [الإسراء: 32] ونظائره: أي إنما نهيتكم عن اجتماعكم [ق 19 أ] على ذلك، دون انفراد
_________
(1) «مفاتيح الغيب» (3/ 462).
(1/168)
كل واحدٍ منكم به (1)؟! فيا للعجب من أوراق وقلوب تُسَوَّد على هذه الهذيانات، وتجد لها حاملًا وقابلًا يستحسنها ويُصغِي بقلبه وسمعِه إليها!
والصواب في ذلك أن يقال: إن آدم صلوات الله وسلامه عليه لما قاسَمَه عدو الله أنه ناصحٌ، وأخرج الكلام على أنواع متعددة من التأكيد:
أحدها: القَسَم.
الثاني: الإتيان بالجملة اسميةً لا فعلية.
الثالث: تصديرها بأداة التأكيد.
الرابع: الإتيان بلام التأكيد في الخبر.
الخامس: الإتيان به اسمَ فاعلٍ لا فعلًا دالًّا على الحدث.
السادس: تقديم المعمول على العامل فيه (2).
ولم يكن آدم يظن أن أحدًا يُقسِم بالله كاذبًا يمينَ غَموسٍ يتجرأ فيها على الله هذه الجرأة، فغرَّه عدو الله بهذا التأكيد والمبالغة، فظن آدم صِدقَه، وأنه إنْ أكل منها لم يخرج من الجنة، ورأى أن الأكل ـ وإن كان فيه مفسدة ـ فمصلحة الخلود أرجحُ، ولعله يتأتى له استدراك مفسدة النهي في أثناء ذلك، إمَّا باعتذارٍ، وإمَّا بتوبةٍ، وإمَّا بغير ذلك. كما تجد هذا التأويل قائمًا في نفس كل مَن يؤمن بالله واليوم الآخر إيمانًا لا شك فيه؛ إذا أقدم على المعصية؛ فوازِنْ بين هذا التأويل وبين تأويلات المحرِّفين يظَهْر لك الصوابُ من الخطأ. والله الموفِّق للصواب.
_________
(1) «به» ليس في «ب».
(2) «فيه» ليس في «ب».
(1/169)
فصل
ومن جنايات التأويل ما وقع في الإسلام من الحوادث بعد موت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإلى يومنا هذا، بل في حياته ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فإن خالد بن الوليد قتل بني جَذِيمة بالتأويل، ولهذا تبرَّأَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مِن صُنعه، وقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ» (1).
ومنعَ الزكاةَ مَن منعها من العرب ـ بعد موت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ـ بالتأويل، وقالوا: إنما قال الله لرسوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتِكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة: 104]، وهذا لا يكون لغيره. فجرى بسبب هذا التأويل الباطل على الإسلام وأهلِه ما جرى.
ثم جرت الفتنةُ التي جرَّتْ قَتْلَ عثمان بالتأويل، ولم يزل التأويلُ يأخذ مأخذَه حتى قُتل به عثمانُ، فأَخذَ في الزيادة والتولد حتى قُتِل به بين عليٍّ ومعاوية بصفين سبعين (2) ألفًا أو أكثر من المسلمين، وقُتِلَ أهلُ الحرَّة (3) بالتأويل، وقُتل نوبةَ الجمل بالتأويل مَن قُتل، ثم كان قُتِل ابن الزبير ونُصِبَ
_________
(1) أخرجه البخاري (4339) عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما -.
(2) كذا في النسختين!
(3) لما استباح جيش يزيد بن معاوية المدينة النبوية، «فإن أهل المدينة النبوية نقضوا بيعته وأخرجوا نوابه وأهله فبعث إليهم جيشًا؛ وأمره إذا لم يطيعوه بعد ثلاث أن يدخلها بالسيف ويبيحها ثلاثًا، فصار عسكره في المدينة النبوية ثلاثًا يقتلون وينهبون ويفتضون الفروج المحرمة». قاله شيخ الإسلام «مجموع الفتاوى» (3/ 412). وأخبار هذه المصيبة مبسوطة في كتب التاريخ في أحداث سنة ثلاث وستين من الهجرة.
(1/170)
المنجنيقُ على البيت بالتأويل، ثم كانت فتنة ابن الأشعث وقُتِل مَن قُتِل من المسلمين (1) بدَيْرِ الجماجم (2) بالتأويل، ثم كانت فتنة الخوارج ـ ما لقي المسلمون من حروبهم وأذاهم ـ بالتأويل (3)، ثم خروج أبي مسلم (4) وقتْله بني أُمية وتلك الحروب العظام بالتأويل، ثم خروج العلويين وقتْلهم وحبْسهم ونفْيهم بالتأويل، إلى أضعاف أضعاف ما ذكرنا من حوادث الإسلام التي جرها التأويل.
وما ضُرب مالكٌ بالسياط وطِيفَ به إلَّا بالتأويل، ولا ضُرب الإمام أحمد بالسياط وطُلب قتله إلَّا بالتأويل، ولا قُتل أحمد بن نصر الخزاعي (5) إلَّا بالتأويل، ولا جرى على نُعيم بن حمادٍ الخُزاعي ما جرى (6) وتوجَّعَ أهلُ
_________
(1) «من المسلمين» ليس في «ب».
(2) كانت سنةَ اثنتين أو ثلاث وثمانين بين جيشين عظيمين، جيش بقيادة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكندي، وجيش بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي. وينظر «تاريخ الطبري» (6/ 346) و «الكامل» لابن الأثير (3/ 494).
(3) من قوله: «ثم كانت فتنة الخوارج» إلى هنا ليس في «ب».
(4) أبو مسلم الخراساني صاحب الدعوة، وهازم جيوش الدولة الأموية، والقائم بإنشاء الدولة العباسية. ترجمته في «سير أعلام النبلاء» (6/ 48 – 73).
(5) قال الذهبي في «العبر» (1/ 408): «قتله الواثق بيده لامتناعه من القول بخلق القرآن، ولكونه أغلظ للواثق في الخطاب وقال له: يا صبي. وكان رأسًا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فقام معه خلقٌ من المطوعة واستفحل أمرهم؛ فخافته الدولة من فتق يتم بذلك».
(6) قال الذهبي في «العبر» (1/ 405): «امتُحِن بخلق القرآن فلم يُجِب؛ فحُبس وقُيِّد، ومات في الحبس رحمه الله تعالى».
(1/171)
الإسلام لمُصابه إلَّا بالتأويل، ولا جرى على محمد بن إسماعيل البخاري ما جرى ونُفِيَ وأُخرِجَ من بلده إلَّا بالتأويل، ولا قُتل مَن قُتل مِن خلفاء الإسلام ومُلوكه إلَّا بالتأويل، ولا جرى على شيخ الإسلام عبد الله أبي (1) إسماعيل الأنصاري ما جرى، وطُلب قَتْلُه بضعةً وعشرين مرةً إلَّا بالتأويل، ولا جرى على أئمة السُّنَّة والحديث ما جرى حين (2) حُبِسُوا وشُردوا وأُخرجوا من ديارهم إلَّا بالتأويل، ولا جرى على شيخ الإسلام ابن تيمية ما جرى من خُصومه بالسَّجْن (3)، وطلب قتله أكثر من عشرين مرة إلَّا بالتأويل.
فقاتل الله التأويل الباطل (4) وأهلَه، وأخذ حقَّ دِينه وكتابه ورسوله وأنصاره منهم، فماذا هدموا من معاقل الإسلام، وهدُّوا من أركانه، وقلعوا من قواعده! ولقد تركوه أرقَّ من الثوب الخَلَق البالي، الذي تطاولت عليه السنون وتوالت عليه الأهوية والرياح.
ولو بسطنا هذا الفصل وحده وما جناه التأويل على الأديان والشرائع وخراب العالم لَقام منه عدةُ أسفار، وإنما نبَّهنا تنبيهًا يعلم به العاقلُ ما وراءه. وبالله التوفيق.
* * * * *
_________
(1) في النسختين: «بن». وهوتصحيف، وشيخ الإسلام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي الأنصاري الهروي ترجمته في «سير أعلام النبلاء» (18/ 503).
(2) «ح»: «حتى».
(3) «ح»: «بالسحر الباطلة».
(4) «الباطل» ليس في «ح».
(1/172)
الفصل السادس (1) عشر
في بيان ما يقبل التأويلَ من الكلام وما لا يقبله
لمَّا (2) كان وضعُ الكلام للدلالة على مراد المتكلم، وكان مراده لا يُعلَم إلَّا بكلامه، انقسم كلامه ثلاثة أقسام:
أحدها: ما هو نصٌّ في مراده لا يحتمل غيره.
الثاني: ما هو ظاهرٌ في مراده، وإن احتمل أن يريد غيره.
الثالث: ما ليس بنصٍّ ولا ظاهرٍ في المراد، بل هو مجمل يحتاج إلى البيان.
فالأول يستحيل دخول التأويل فيه، وتحميلُه التأويلَ كذبٌ ظاهرٌ على المتكلم. وهذا شأن عامة نصوص القرآن الصريحة في معناها كنصوص آيات الصِّفات والتوحيد، وأن الله سبحانه [ق 19 ب] مُكلَّمٌ متكلمٌ آمرٌ ناهٍ قائلٌ مخبرٌ مُوصِي حاكمٌ واعدٌ مُوعِدٌ مُنبِئٌ هادٍ داعٍ إلى دار السلام (3)، فوق عباده. عليٌّ (4) على كل شيءٍ، مستوٍ على عرشه، ينزل الأمرُ من عنده ويَعرُجُ إليه، وأنه فعالٌ حقيقةً، وأنه كلَّ يوم في شأنٍ، فعَّال لما يريد، وأنه ليس للخلق مِن دونه وليٌّ ولا شفيعٌ ولا ظهيرٌ، وأنه المنفرد بالربوبية والإلهية والتدبير والقيومية، وأنه يعلم السر وأخفى، وما تسقط من ورقة إلَّا يعلمها، وأنه
_________
(1) «ح»: «الخامس».
(2) «ب»: «ولما».
(3) «ب»: «الإسلام». والمصنف – رحمه الله – يشير إلى قوله تعالى: {وَاَللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ اِلسَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [يونس: 25].
(4) «علي» ليس في «ح».
(1/173)
يسمع الكلام الخفي كما يسمع الجهر، ويرى ما في السماوات والأرض، ولا يخفى عليه منها ذرةٌ واحدةٌ، وأنه على كل شيءٍ قديرٌ، فلا يخرج مقدورٌ واحد عن (1) قدرته البتةَ، كما لا يخرج عن علمه ولا (2) تكوينه، وأن له ملائكة مدبِّرات بأمره للعالَم، تصعد وتنزل وتتحرك وتنتقل من مكانٍ إلى مكانٍ، وأنه يذهب بالدنيا ويُخرِّب هذا العالَم، ويأتي بالآخرة ويبعث مَن في القبور، جلَّ جلاله. إلى أمثال ذلك من النصوص التي هي في الدلالة على مرادها كدلالة لفظ العشرة والثلاثة على مدلوله، وكدلالة لفظ الشمس والقمر والليل والنهار والبَرِّ والبحر والخيل والبِغال والإبل والبقر والغنم (3) والذَّكَر والأنثى على مدلولها، لا فرقَ بين ذلك البتةَ.
ولهذا لما سلَّطت الجهميةُ التأويلَ على نصوص الصِّفات سلَّطت الباطنيةُ التأويلَ على هذه الأمور، وجعلوها أمثالًا مضروبةً أُريدَ بها خلاف حقائقها وظواهرها، وجعلوا القرآن والشرع كله مؤولًا (4)، ولهم في التأويل كتبٌ مستقلةٌ نظير كتب الجهمية في تأويل آيات الصِّفات وأحاديثها.
فهذا القسم إن سُلِّط التأويلُ عليه عاد الشرع كله متأوَّلًا؛ لأنه أظهر أقسام القرآن ثبوتًا وأكثرها ورودًا، ودلالةُ القرآن عليه متنوِّعةٌ غايةَ التنوع؛ فقَبولُ ما سواه للتأويل أقربُ من قبوله بكثيرٍ.
_________
(1) «ح»: «من».
(2) «لا» ليس في «ب».
(3) «والغنم» ليس في «ب».
(4) «كله مؤولًا» في «ح»: «أمثالًا كله».
(1/174)
فصل
القسم الثاني: ما هو ظاهر في مراد المتكلم ولكنه يقبل التأويل. فهذا يُنظَر في وروده، فإن اطَّرد استعمالُه على وجهٍ واحدٍ استحال تأويله بما يخالف ظاهرَه؛ لأن التأويل إنما يكون لموضع (1) جاء نادرًا خارجًا عن نظائره منفردًا عنها، فيُؤوَّل حتى (2) يُرَدَّ إلى نظائره. وتأويل هذا غير ممتنعٍ؛ لأنه إذا عُرف من عادة المتكلم باطراد كلامه في توارُد (3) استعماله معنًى أَلِفَه ـ أي المخاطب (4) ـ فإذا جاء موضع يخالفه ردَّه السامع بما عَهِد من عُرف المخاطب إلى عادته المطردة. هذا هو المعقول في الأذهان والفِطر، وعند كافة (5) العقلاء.
وقد صرَّح أئمةُ العربية بأن الشيء إنما يجوز حذفه إذا كان الموضع الذي ادُّعي فيه حذفه قد استُعمِل فيه ثبوته أكثر مِن حذفه، فلا بد أن يكون موضع ادعاء الحذف عندهم صالحًا للثبوت، ويكون الثبوت مع ذلك أكثرَ من الحذف (6)، حتى (7) إذا جاء ذلك محذوفًا في موضع عُلِمَ بكثرة ذِكره في نظائره أنه قد أُزيلَ من هذا الموضع فحُمِلَ عليه. فهذا شأن مَن يقصد البيان
_________
(1) «ب»: «لوضع».
(2) في النسختين: «حين». والمثبت من «م».
(3) «ب»: «موارد».
(4) «ب»: «المخاطبون».
(5) «ح»: «الكافة».
(6) من قوله: «عندهم صالحا» إلى هنا ليس في «ح».
(7) «حتى» ليس في «ب».
(1/175)
والدلالة، وأما من يقصد التلبيس والتعمية فله شأنٌ آخر.
والقصد أن الظاهر في معناه إذا اطَّرد استعماله في موارده (1) اطرادًا مستويًا امتنع تأويله، وإن جاز تأويلُ ظاهرِ ما لم يطَّرِد في موارد استعماله. ومثال ذلك اطِّراد قوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4]، {ثُمَّ اَسْتَوَى عَلَى اَلْعَرْشِ} [الأعراف: 53] في جميع موارده من أولها إلى آخرها على هذا اللفظ، فتأويله بـ «استولى» باطلٌ. وإنما كان يصح أنْ لو كان أكثَرُ مجيئه بلفظ «استولى»، ثم يخرج موضع عن نظائره، ويرد بلفظ «استوى»، فهذا كان يصح تأويله بـ «استولى». فتفطَّنْ لهذا (2) الموضع، واجعلْه قاعدةً فيما يمتنع (3) تأويلُه من كلام المتكلم، وما يجوز تأويله.
ونظير هذا اطراد النصوص بالنظر إلى الله هكذا: «تَرَوْنَ رَبَّكُمْ» (4)، «تَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّكُمْ» (5)، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22]. ولم يَجِئْ في موضعٍ واحدٍ: «ترون ثواب ربكم»، فيُحمَلَ عليه ما خرج عن نظائره.
ونظير ذلك اطِّراد قوله: {وَنَادَيْنَاهُ} [مريم: 51]، {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} (6) [القصص: 62]، {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} [الأعراف: 21]، {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ اِلطُّورِ إِذْ
_________
(1) «ب»: «مراده».
(2) «ب»: «بهذا».
(3) «ح»: «تمنع».
(4) أخرجه البخاري (554) ومسلم (633) عن جرير بن عبد الله – رضي الله عنه -.
(5) أخرجه النسائي في «السنن الكبرى» (11640) والطبراني في «المعجم الكبير» (2/ 296، 310) وهو أحد ألفاظ الحديث السابق.
(6) {وَيَوْمَ} ليس في «ب».
(1/176)
نَادَيْنَا} [القصص: 46]، و {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ اِلْمُقَدَّسِ} (1) [النازعات: 16] ونظائرها، ولم يجئ في موضعٍ واحدٍ: «أمرْنا مَن يناديه» ولا «ناداه مَلَكُنا»، فتأويله بذلك عينُ المُحالِ والباطل.
ونظير ذلك اطِّراد قوله: «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ … » (2) في نحو ثلاثين حديثًا كلها مصرِّحةٌ بإضافة النزول إلى الربِّ، ولم يجئ موضعٌ واحدٌ بقوله: «ينزل مَلَكُ ربنا»، حتى يُحمَلَ ما خرج عن نظائره عليه.
وإذا تأملتَ نصوص الصِّفات التي لا تسمح الجهمية بأن يُسمُّوها نصوصًا، فإذا احترموها قالوا: ظواهر سمعية، وقد عارضها القواطع العقلية = وجدتَها كلها من هذا الباب.
وممَّا يُقضى منه العجبُ أن كلام شيوخهم ومصنِّفيهم عندهم نصٌّ في مراده لا يحتمل التأويل، وكلام الموافقين (3) عندهم نصٌّ لا يجوز تأويله، حتى إذا جاؤوا إلى كلام الله ورسوله وقَفُوه على التأويل ووقفوا التأويل عليه، فقُلْ (4) ما شئتَ وحرِّف ما شئت. أفترى بيانَ هؤلاء لمرادهم أتمَّ من بيان الله ورسوله، أم كانوا مستولين على بيان الحقائق التي [ق 20 أ] سكت اللهُ ورسوله عن بيانها؟! بل (5) أولئك هم الجاهلون المتهوِّكون (6).
_________
(1) {بِالْوَادِ اِلْمُقَدَّسِ} ليس في «ح».
(2) أخرجه البخاري (1145) ومسلم (758) عن أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(3) «ب»: «الواقفين».
(4) «ب»: «قل».
(5) «بل» ليس في «ح».
(6) «ح»: «المهتوكون». وقد تقدم (ص 10) بيان معناه.
(1/177)
فصل
القسم الثالث: الخطاب المُجمَل الذي أُحيل بيانه على خطابٍ آخر. فهذا أيضًا لا يجوز تأويله إلَّا بالخطاب الذي بيَّنه (1)، وقد يكون بيانه معه، وقد يكون منفصلًا عنه.
والمقصود أن الكلام الذي هو عرضة التأويل أن يكون له عدة معانٍ، وليس معه ما يبيِّن مراد المتكلم، فهذا للتأويل فيه مجالٌ واسعٌ، وليس في كلام الله ورسوله من هذا النوع شيءٌ من الجُمَل المركبة، وإنْ وقَعَ في الحروف المفتتَح بها (2) السورُ. بل إذا تأمل مَن بصَّره اللهُ طريقةَ القرآن والسُّنَّة وجدها متضمِّنة لرفع ما يُوهِمه الكلام من خلاف ظاهره، وهذا موضع لطيف جدًّا في فهم القرآن نشير إلى بعضه:
فمن ذلك قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اَللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 163]. رفَعَ سبحانه توهُّم المجاز في تكليمه (3) لكليمه بالمصدر المؤكِّد الذي لا يشكُّ عربي القلب واللسان أن المراد به إثبات تلك الحقيقة، كما تقول العرب: مات موتًا، ونزل نزولًا. ونظيره التأكيد بالنفس والعين وكل وأجمع، والتأكيد بقوله «حقًّا» ونظائره.
ومن ذلك قوله تعالى: {قَد سَّمِعَ اَللَّهُ قَوْلَ اَلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اَللَّهِ وَاَللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1]_________
(1) «ب»: «يبينه».
(2) «بها» ليس في «ح».
(3) «ح»: «تكلمه».
(1/178)
فلا يشك صحيح الفهم البتةَ في هذا الخطاب أنه نصٌّ صريحٌ لا يحتمل التأويل بوجهٍ في إثبات صفة السمع للرب تعالى حقيقة، وأنه بنفسه سَمِعَ.
ومن ذلك قوله: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا اُلصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ اُلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 41]. فرَفَعَ توهُّمَ السامع أن المكلَّف به عَمِلَ جميع الصالحات المقدورة والمعجوز عنها، كما يجوِّزه أصحاب تكليف ما لا يُطاق= رَفَعَ هذا التوهم بجملة اعتُرض (1) بها بين المبتدأ وخبره تزيلُ (2) الإشكال. ونظيره قوله تعالى: {وَأَوْفُوا اُلْكَيْلَ وَاَلْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام: 153].
ومن ذلك قوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اِللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ اِلْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 83]. فلمَّا أمَرَه بالقتال أخبره أنه لا يُكلَّف بغيره، بل إنما كُلِّف نفسه، ثم أتبع ذلك بقوله: {وَحَرِّضِ اِلْمُؤْمِنِينَ} لئلَّا يتوهم سامعٌ أنه وإن لم يُكلَّف بهم فإنه يهملهم ويتركهم.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ اُمْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 19]. فتأمل كم في هذا الكلام مِن رفعِ إيهامٍ وإزالة ما عسى أن يعرض للمخاطب من لبسٍ:
فمنها: قوله: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِم بِإِيمَانٍ}، لئلا يُتوهَّم أن الإتباع في نسب أو تربية أو حرية أو رِقٍّ أوغير ذلك.
_________
(1) «ب»: «اعتراض».
(2) في النسختين: «يزيل». والمثبت من «م».
(1/179)
ومنها: قوله: {وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} لرفع الوهم لمتوهمٍ أنه يحط الآباء إلى درجة الأبناء ليحصل الإلحاق والتبعية، فأزال هذا الوهم بقوله: {وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم} (1) أي: ما نقصنا الآباءَ بهذا الإتباع شيئًا مِن عملهم، بل رفعنا الذرية إليهم قرةً لعيونهم، وإن لم يكن لهم أعمالٌ يستحقون بها تلك الدرجة.
ومنها: قوله: {كُلُّ اُمْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}، فلا يتوهم متوهم أن هذا الإتباع حاصلٌ في أهل الجنة وأهل النار، بل (2) هو للمؤمنين دون الكفار، فإن الله سبحانه لا يعذِّب أحدًا إلَّا بكسبه، وقد يُثِيبه من غير كسبٍ منه.
ومنها: قوله تعالى: {يَانِسَاءَ اَلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ اَلنِّسَا إِنِ اِتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ اَلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} [الأحزاب: 32]. فلمَّا أمرهن بالتقوى التي من شأنها التواضع ولِينُ الكلام نهاهن (3) عن الخضوع بالقول؛ لئلَّا يطمع فيهن ذو المرض، ثم أمرهن بعد ذلك بالقول المعروف رفعًا لتوهُّمِ الإذن في الكلام المنكر لمَّا نُهِينَ عن الخضوع بالقول.
ومن ذلك قوله: {وَكُلُوا وَاَشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اُلْخَيْطُ اُلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اِلْأَسْوَدِ مِنَ اَلْفَجْرِ} [البقرة: 186]، فرفعَ توهُّمَ فَهْم الخيطينِ من الخيوط بقوله: {مِنَ اَلْفَجْرِ} (4).
_________
(1) {مِّنْ عَمَلِهِم} ليس في «ب».
(2) «النار بل» في «ح»: «التأويل».
(3) «ح»: «نهى».
(4) أخرج البخاري (1917) ومسلم (1091) عن سهل بن سعد – رضي الله عنه – قال: «أُنزلت {وَكُلُوا وَاَشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اُلْخَيْطُ اُلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اِلْأَسْوَدِ} ولم ينزل {مِنَ اَلْفَجْرِ}. فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رِجْله الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولم يزل يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد {مِنَ اَلْفَجْرِ} فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار».
(1/180)
ومن ذلك قوله تعالى: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28]، فأثبت لهم مشيئةً، فلعل (1) متوهِّمًا يتوهَّم استقلاله (2) بها، وأنه إن شاء أتى بها (3) وإن شاء لم يأتِ بها (4)، فأزال سبحانه ذلك بقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اَللَّهُ} [التكوير: 29]. ثم لعل متوهمًا يتوهم أنه يشاء (5) الشيء بلا حكمةٍ ولا علمٍ بمواقع مشيئته وحيث تصلح، فأزال ذلك بقوله: {إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:30] (6). ونظير ذلك قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ (7) (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اَللَّهُ هُوَ أَهْلُ اُلتَّقْوى وَأَهْلُ اُلْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 54 – 56].
ومن ذلك قوله تعالى: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي اِلتَّوْراةِ وَاَلْإِنجِيلِ وَاَلْقُرْآنِ} [التوبة: 112]، فلعل (8) متوهمًا يتوهم أن الله سبحانه يجوز عليه تركُ الوفاء بما
_________
(1) «ح»: «فعل».
(2) «ح»: «استقلالا».
(3) «ح»: «به».
(4) «بها» ليس في «ح».
(5) «ب»: «شاء».
(6) يُلاحظ أن الكلام انتقل من الكلام على آيات من سورة التكوير، إلى الكلام على آية من سورة الإنسان، فربما يكون في النسختين سقط.
(7) من «قوله تعالى» إلى هنا ليس في «ح».
(8) «ح»: «فعل».
(1/181)
وعد به، فأزال ذلك بقوله: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اَللَّهِ} [التوبة: 112].
ومن ذلك قوله تعالى: {* هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ اُلْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 159]، فلمَّا ذَكَر إتيانه سبحانه ربما توهَّمَ متوهمٌ أن المراد إتيان بعض آياته أزال هذا الوهمَ ورفع الإشكالَ بقوله: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} فصار الكلام مع هذا التقسيم والتنويع نصًّا صريحًا في معناه لا يحتمل غيره.
وإذا تأملتَ أحاديث الصِّفات رأيت هذا لائحًا [ق 20 ب] على صفحاتها، باديًا على ألفاظها، كقوله – صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا كَمَا تُرَى الشَّمْسُ فِي (1) الظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ، وَكَمَا يُرَى الْقَمَرُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ» (2). وقوله: «مَا مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ (3) لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ، وَلَا حَاجِبٌ يَحْجُبُهُ» (4). فلمَّا كان تكليم (5) الملوك قد يقع بواسطة الترجمان ومن وراء الحجاب أزال هذا الوهم من الأفهام.
وكذلك الحديث الآخر (6): «أَنَّهُ – صلى الله عليه وسلم – قَرَأَ {وَكَانَ اَللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}
_________
(1) «في» ليس في «ب».
(2) متفق عليه، وقد تقدم تخريجه (ص 32).
(3) «ربه» ليس في «ب».
(4) رواه البخاري، وقد تقدم تخريجه (ص 38).
(5) «ح»: «تكلم».
(6) أخرجه أبو داود (4728) وابن خزيمة في «التوحيد» (46، 47، 49، 50) وابن حبان (265) والحاكم في «المستدرك» (1/ 24) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (688) عن أبي هريرة – رضي الله عنه -، وقال الحاكم: «حديث صحيح ولم يخرجاه». وقال اللالكائي: «وهو إسناد صحيح على شرط مسلم يلزمه إخراجه». ونقل القاضي أبو يعلى في «إبطال التأويلات» (318) عن أبي محمد الخلال قوله: «هذا حديث إسناده شرط مسلم يلزمه إخراجه في «الصحيح»، وهو حديث ليس فيه علة». وقال ابن حجر في «فتح الباري» (13/ 373): «أخرجه أبو داود بسند قوي على شرط مسلم».
(1/182)
ووَضَعَ إِبْهَامَيْهِ عَلَى أُذُنِهِ وعَيْنَيْهِ (1)» رفعًا لتوهم متوهمٍ أن المراد بالسمع والبصر غير الصفتين المعلومتين.
وأمثال هذا كثيرٌ في القرآن والسُّنَّة، كما في الحديث الصحيح أنه – صلى الله عليه وسلم – قال: «يَقْبِضُ اللَّهُ سَمَاوَاتِهِ بِيَدِهِ وَالْأَرْضَ بِاليَدِ الْأُخْرَى. ثم جعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يَقْبِضُ يدَه ويَبسُطُها» (2) تحقيقًا لإثبات اليد وإثبات صفة القبض.
ومن هذا إشارتُه بإصبعه إلى السماء حين استشهد ربَّه تبارك وتعالى على الصحابة أنه قد بَلَّغَهم (3) تحقيقًا لإثبات صفة (4) العلوِّ، وأن الربَّ الذي استشهده فوق العالم مستوٍ على عرشه.
فهذه أمثلة يسيرة ذكرناها، يعرف الفَهِمُ المنصفُ القاصد للهدى والنجاة منها ما يقبل التأويل وما لا يقبله، ولا عِبرةَ بغيره. والله المستعان.
* * * * *
_________
(1) «ب»: «ووضع إبهاميه على أذنيه». وفي «م»: «ووضع إبهاميه على أذنه وعينه». والذي في «سنن أبي داود» وغيره من مصادر التخريج: «يضع إبهامه على أذنه، والتي تليها على عينه».
(2) تقدم تخريجه.
(3) أخرجه مسلم (1218) عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما -.
(4) «ب»: «صفات».
(1/183)
الفصل السابع (1) عشر
في أن التأويل يُفسِد العلوم كلها إنْ سُلِّط (2) عليها ويرفع الثقة بالكلام ولا يمكن أُمةً من الأمم أن تعيش عليه
معلومٌ أن العلوم إنما قصد بها مصنِّفوها بيانَها وإيضاحها للمتعلمين، وتفهيمهم إياها بأقربِ ما يَقْدِرون عليه من الطرق. فإن سُلِّط التأويل على ألفاظهم، وحملها على غير ظواهرها (3)، لم يُنتفَع بها وفسدت، وعاد ذلك على موضوعها ومقصودها بالإبطال.
فإذا حُمل كلام الأطباء على غير عُرفهم المعروف من خطابهم، وتأوَّلَ المخاطَبُ كلامَهم على غير ظاهره، لم يصل إلى فهم مرادهم البتةَ، بل أفسد عليهم عِلمهم وصناعتهم.
وهكذا أصحاب علم الحساب والنحو وجميع أرباب العلوم إذا سُلِّط التأويل على كلامهم لم يُوصِل إلى شيءٍ من تلك العلوم، مع أنه يجوز عليهم الخطأ والتناقض والتلبيس في بعض المواضع والتعمية، ومع قصورهم في البيان وجودة التعبير، ومع نقصان إدراكهم للحقائق وعلومهم ومعارفهم.
فكيف يُسلَّط التأويلُ على كلام مَن لا يجوز عليه الخطأ والغلط والتناقض وضد البيان والإرشاد؟! هذا مع كمال علمه، وكمال قدرته على
_________
(1) «ح»: «السادس».
(2) «ح»: «يسلط».
(3) «ب»: «ظاهرها».
(1/184)
أعلى أنواع البيان، وكمال نُصحِه وهُداه وإحسانه، وقصده الإفهامَ والبيانَ لا التعميةَ والإلغاز.
ولهذا لما سلَّط المحرِّفون التأويلات الباطلة على نصوص الشرع فسد الدِّينُ فسادًا، لولا أن الله سبحانه تكفَّل بحفظه، وأقام له حرسًا وَكَلَهم بحمايته (1) من تأويل الجاهلين وانتحال المبطِلين (2)، لجرى عليه ما جرى على الأديان السالفة. ولكن الله برحمته وعنايته بهذه الأُمة يبعث لها عند دروس السُّنَّة وظهور البدعة مَن يُجدِّد لها دينها، ولا يزال يغرس في دِينه غرسًا يستعملهم فيه علمًا وعملًا.
وكما أن التأويل إن سُلِّط على علوم الخلائق أفسدها، فكذلك إذا استعمل في مخاطباتهم أفسدَ الإفهام والفهم، ولم يمكن لأُمة أن تعيش عليه أبدًا؛ فإنه ضد البيان الذي علَّمه اللهُ الإنسانَ لقيام مصالحه في مَعاشه ومَعاده. وقد تقدَّم تقرير ذلك بما فيه كفاية (3)، وبالله التوفيق.
* * * * *
_________
(1): «به وحمايته».
(2) «من تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين» ليس في «ب».
(3) في الفصل الرابع عشر.
(1/185)
فصل (1)
في بيان أنه إنْ سُلِّط على آيات التوحيد القولي العلمي وأخباره لزم تسليطُه على آيات التوحيد العملي وأخباره وفسد التوحيد معرفةً وقصدًا
هذا فصلٌ عظيم النفع جليل القدر، إنما ينتفع به مَن عرف نوعَيِ التوحيد: القولي العلمي الخبري، والتوحيد القصدي الإرادي العملي، كما دلَّ على الأول سورة: {قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ}، وعلى الثاني سورة: {قُلْ يَاأَيُّهَا اَلْكَافِرُونَ}. وكذلك دلَّ على الأول قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} الآية [البقرة: 135]، وعلى الثاني قوله تعالى: {* قُلْ يَاأَهْلَ اَلْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ … } الآية [آل عمران: 63]. ولهذا كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يقرأ بهاتين السورتين في سُنة الفجر (2)، وسُنة المغرب (3)،
ويقرأ بهما (4) في ركعتَيِ الطواف (5). ويقرأ بالآيتين في سُنة الفجر (6) لتضمُّنهما التوحيدَ
_________
(1) «ح»: «الفصل السابع عشر». «ب»: «الفصل الثامن عشر». والصواب أن هذا الفصل تابع للفصل السابق، فلم يُعد فصلًا منفصلًا في الفهرس الوارد في مقدمة الكتاب، وسيأتي الفصل الثامن عشر في النسختين موافقًا للفهرس المتقدم.
(2) أخرجه مسلم (726) عن أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(3) أخرجه الترمذي (431) وابن ماجه (1166) عن ابن مسعود – رضي الله عنه -، وقال الترمذي: حديث غريب.
وفي الباب عن علي وابن عمر – رضي الله عنهم -، ينظر: «نتائج الأفكار» لابن حجر (1/ 489 – 492).
(4) «ب»: «ويقرأهما».
(5) أخرجه مسلم (1218) عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما -.
(6) أخرجه مسلم (727) عن ابن عباس – رضي الله عنهما -.
(1/186)
العلمي والعملي. والتوحيدُ العلمي أساسُه إثبات صفات الكمال للربِّ تعالى ومباينته لخَلْقه، وتنزيهه عن العيوب والنقائص والتمثيل. والتوحيدُ العملي أساسُه تجريد القصد بالحب والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والاستعانة والاستغاثة والعبودية بالقلب واللسان والجوارح لله وحده لا شريك له (1). فمدار ما بعث الله به رسله وأنزل به كُتبه على هذين التوحيدين، وأقرب الخلق إلى الله أقومُهم بهما علمًا وعملًا. ولهذا كانت الرُّسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ [ق 21 أ] أقربَ الخلق إلى الله، وأقربُهم إليه وسيلةً أولو العزم، وأقربُهم الخليلانِ، وخاتَمُهم سيِّد ولد آدم وأكرمُهم على الله بكمال توحيده وعبوديته لله.
فهذان الأصلان هما قُطب رحى القرآن، وعليهما مداره، وبيانهما من أهم الأمور. والله سبحانه بيَّنَهما غايةَ البيان بالطرق الفطرية والعقلية والنظرية والأمثال المضروبة، ونوَّع سبحانه الطرق في إثباتهما أكمل التنويع، بحيث صارت معرفة القلوب الصحيحة والفِطَر السليمة لهما بمنزلة رؤية الأعين المبصرة التي لا آفة بها (2) للشمس والقمر والنجوم والأرض والسماء، فذاك للبصيرة بمنزلة هذا (3) للبصر.
فإنْ سُلِّط التأويل على التوحيد الخبري العلمي كان تسليطه على التوحيد العملي القصدي أسهلَ، وانمحت رسوم التوحيد، وقامت معالم التعطيل والشرك. ولهذا كان الشرك والتعطيل متلازمينِ، لا ينفك أحدهما
_________
(1) «لا شريك له» ليس في «ب».
(2) «ح»: «لها».
(3) «ح»: «هذه».
(1/187)
عن صاحبه. وإمام المعطِّلين المشركين فرعون، فهو إمام كل معطِّلٍ ومشركٍ إلى يوم القيامة، كما أن إمام الموحدين إبراهيم ومحمد ـ صلوات الله وسلامه عليهما ـ إلى يوم القيامة. قال الله تعالى لإمام المعطِّلين وأتباعه: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئمَّةً يَدْعُونَ إِلَى اَلنّارِ} [القصص: 41]، وقال لإمام الحنفاء {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 123] وقال لأتباعه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].
فلا (1) يأتي المعطِّل للتوحيد الخبري بتأويلٍ إلَّا أمكن المشرك المعطِّل للتوحيد العملي أن يأتي بتأويلٍ من جنسه، وقد اعترف بذلك حُذَّاق الفلاسفة وفضلاؤهم، فقال أبو الوليد ابن رشد في كتاب «الكشف عن مناهج الأدلة» (2):
«القول في الجهة: وأمَّا هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة يُثبِتونها لله سبحانه حتى نفتها المعتزلةُ، ثم تَبِعهم على نفيها متأخرو الأشعرية كأبي المعالي ومَنِ اقتدى بقوله. وظواهر الشرع كلها تقتضي إثبات (3) الجهة، مثل قوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4]، ومثل قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ} [البقرة: 253]، ومثل قوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 16]، ومثل قوله: {يُدَبِّرُ اُلْأَمْرَ مِنَ اَلسَّمَا إِلَى اَلْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ممَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 4]، ومثل قوله تعالى: {تَعْرُجُ اُلْمَلَائِكَةُ وَاَلرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]، ومثل قوله: {* آامِنتُم
_________
(1) «ح»: «ولا».
(2) «مناهج الأدلة» (ص 176 – 182).
(3) «ح»: «إثباتها».
(1/188)
مَّن فِي اِلسَّمَاءِ اَن يَخْسِفَ بِكُمُ اُلْأَرْضَ} [الملك: 17]، إلى غير ذلك من الآيات التي إنْ سُلِّط التأويل عليها عاد الشرعُ كله مؤولًا (1). وإن قيل فيها: إنها من المتشابهات عاد الشرع كله متشابهًا؛ لأن الشرائع كلها مبنيةٌ على أن الله في السماء، وأن (2) منه تنزل الملائكةُ بالوحي إلى النبيين، وأن مِن السماء نزلت الكتبُ، وإليها كان الإسراء بالنبي – صلى الله عليه وسلم – حتى قُرِّب من سدرة المنتهى. وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء، كما اتفقت (3) جميع الشرائع على ذلك.
والشبهة التي قادت نُفاةَ الجهة إلى نفيها هي أنهم اعتقدوا أن إثباتَ الجهة يوجب إثباتَ المكان، وإثباتَ المكان يوجب إثباتَ الجسمية.
ونحن نقول: إن إثبات هذا كله غير لازمٍ؛ فإن الجهة غير المكان، وذلك أن الجهة هي إمَّا سُطوح الجسم نفسه المحيطة به وهي ستة. وبهذا تقول: إن للحيوان فوق وأسفل ويمينًا وشمالًا وأمامَ وخلفَ. وإمَّا سُطوح جسمٍ آخر يحيط بالجسم ذي الجهات الست، فأمَّا الجهات التي هي سطوح الجسم نفسه فليست بمكان للجسم نفسه أصلًا، وأمَّا سطوح الأجسام المحيطة به (4) فهي له مكان، مثل سطوح الهواء المحيط بالإنسان، وسطوح الفلك المحيط بسطوح الهواء هي أيضًا مكان (5) للهواء، وهكذا الأفلاك بعضها
_________
(1) «ح»: «متأولا».
(2) «أن» ليس في «ح».
(3) «ح»: «ارتفعت». وهو تحريف ظاهر.
(4) «به» ليس في «ح».
(5) «ح»: «فكان».
(1/189)
محيطةٌ ببعض ومكان له. وأمَّا سطح الفلك الخارج (1) فقد تبرهن (2) أنه ليس خارجه جسمٌ؛ لأنه لو كان ذلك (3) كذلك لوجب أن يكون خارجَ ذلك الجسم جسمٌ آخر، ويمر (4) الأمر إلى غير نهاية. فإذًا سطحُ آخر أجسام العالم ليس مكانًا أصلًا؛ إذ ليس يمكن أن يوجد فيه جسمٌ؛ لأن كل ما هو مكان يمكن أن يوجد فيه جسمٌ. فإذًا إنْ قام البرهانُ على وجود موجود في هذه الجهة فواجبٌ أن يكون غير جسمٍ، فالذي يمتنع (5) وجوده هناك هو عكس ما ظنه القوم وهو موجود هو جسم، لا موجود ليس بجسم.
وليس لهم أن يقولوا: إن خارج العالم خلاء. وذلك أن الخلاء قد تبيَّن في العلوم النظرية امتناعُه؛ لأن ما يدل عليه اسم الخلاء ليس هو شيئًا أكثرَ من أبعادٍ ليس فيها جسمٌ، أعني: طُولًا وعرضًا وعمقًا؛ لأنه إنْ رُفِعت الأبعادُ (6) عنه عاد عَدَمًا، وإن أُنزِلَ الخلاء موجودًا لزم أن يكون أعراضٌ موجودة في غير جسمٍ؛ وذلك أن الأبعاد هي أعراض من باب الكمية ولا بد. ولكنه قيل في الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة: إن ذلك الموضع هو مسكن الرُّوحانيين، يريدون الله والملائكة، وذلك أن ذلك الموضع ليس هو بمكان (7) ولا يحويه زمانٌ. وكذلك إن كان كل ما يحويه الزمان والمكان
_________
(1) «مناهج الأدلة»: «الخارجي».
(2) «ح»: «برهن».
(3) «ذلك» ليس في «ح».
(4) «ح»: «وممر».
(5) «ح»: «والذي يمنع».
(6) «ب»: «الأبصار».
(7) «ب»: «مكان».
(1/190)
فاسدًا فقد يلزم أن يكون ما هنالك غيرَ فاسدٍ ولا كائنٍ [ق 21 ب]. وقد تبيَّن هذا المعنى ممَّا (1) أقوله، وذلك أنه لمَّا (2) لم يكن ها هنا شيءٌ، إلَّا هذا الموجود المحسوس أو العدم (3)، وكان من المعروف بنفسه (4) أن الموجود إنما يُنسَب إلى الوجود، أعني أنه (5) يقال إنه موجودٌ ـ أي: في الوجود ـ إذ لا يمكن أن يقال إنه موجودٌ في العدم. فإن كان ها هنا موجودًا هو أشرفُ الموجودات فواجبٌ أن يُنسَب من الموجود المحسوس إلى الجزء (6) الأشرف وهي السماوات. ولشرفِ هذا الجزء (7) قال تعالى: {لَخَلْقُ اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ اِلنَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57]، وهذا كله يظهر على التمام للعلماء الراسخين في العلم.
فقد ظهر لك من هذا أن (8) إثبات الجهة واجبٌ بالشرع والعقل، وأنه الذي جاء به الشرع وانبنى عليه، وأن إبطال هذه القاعدة إبطالٌ للشرائع (9)، وأن وجه العُسر في تفهيم (10) هذا المعنى مع نفي الجسمية (11) هو أنه ليس
_________
(1) «ح»: «ما».
(2) «لما» ليس في «ح».
(3) «ح»: «المعدوم».
(4) بعده في «ح»: «به».
(5) «ح»: «أن».
(6) «ح»: «الحيز».
(7) «ح»: «التحيز».
(8) «أن» ليس في «ح».
(9) «ح»: «الشرائع».
(10) «ح»: «العرفي يفهم».
(11) «ح»: «الجهمية».
(1/191)
في الشاهد مثالٌ له، فهو بعينه السبب في أنه لم يصرِّح الشرع بنفي الجسم عن (1) الخالق سبحانه؛ لأن الجمهور إنما يقع لهم (2) التصديقُ بحكم الغائب متى كان ذلك معلومَ الوجود في الشاهد، مثل العلم بالصانع، فإنه لما كان في الشاهد شرطًا في وجوده كان شرطًا في وجود الصانع الغائب. وأمَّا متى كان الحكم الذي في الغائب غير معلوم الوجود في الشاهد عند الأكثر، ولا يعلمه إلَّا العلماء (3) الراسخون، فإن الشرع يَزجُر عن طلب معرفته إن لم يكن بالجمهور حاجة إلى معرفته، مثل العلم بالنفس، أو يضرب له مثالًا من الشاهد إن كان بالجمهور حاجة إلى معرفته في سعادتهم (4).
والشبهة الواقعة في نفي الجهة ـ عند الذين نفَوْها ـ ليس يتفطن الجمهور إليها، لا سيما إذا لم يصرِّح لهم بأنه (5) ليس بجسمٍ، فيجب أن يمتثل في هذا كله فِعل الشرع، وأن لا يتأول ما لم يُصرِّح الشرع (6) بتأويله.
والناس في هذه الأشياء في الشرع على ثلاث مراتب:
صِنفٌ لا يشعرون بالشكوك العارضة (7) في هذا المعنى، وخاصة متى
_________
(1) «ح»: «على».
(2) «ب»: «على».
(3) «العلماء» ليس في «ب».
(4) من قوله: «إن كان بالجمهور» إلى هنا ليس في «ب». وفي «ح» تحرف لفظ «سعادتهم» إلى «معادتهم». وصوبته من «م» و «مناهج الأدلة» لابن رشد.
(5) من قوله: «ليس يتفطن» إلى هنا ليس في «ب».
(6) من قوله: «وأن لا يتأول» إلى هنا ليس في «ب».
(7) «ح»: «للمعارضة».
(1/192)
تُركت هذه الأشياء على ظاهرها في الشرع، وهؤلاء هم الأكثر، وهم الجمهور.
وصِنفٌ عرفوا حقيقة هذه الأشياء، وهم العلماء الراسخون في العلم، وهؤلاء هم الأقل من الناس.
وصِنفٌ عرضت لهم في هذه الأشياء شكوكٌ ولم يقدروا على حلها، وهؤلاء هم فوق العامة ودون العلماء، وهذا الصِّنف هم الذين يُوجد في حقهم التشابهُ في الشرع، وهم الذين ذمَّهم الله. وأمَّا عند العلماء والجمهور فليس في الشرع تشابهٌ، فعلى هذا المعنى ينبغي أن يُفهم التشابه. ومثال ما عرض لهذا الصِّنف مع الشرع مثالُ ما يعرض في خبز البُرِّ مثلًا ـ الذي هو الغذاء النافع لأكثر الأبدان ـ أن يكون لأقل الأبدان ضارًّا، وهو نافعٌ للأكثر، وكذلك التعليم الشرعي هو نافع للأكثر، وربما ضرَّ الأقل، ولهذا (1) الإشارة بقوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا اَلْفَاسِقِينَ} [البقرة: 25]لكن هذا إنما يعرض في آيات الكتاب العزيز في (2) الأقل منها والأقل من الناس، وأكثرُ ذلك هي الآيات التي تتضمَّن الإعلام عن أشياء في الغائب ليس لها مثال في الشاهد، فيُعبَّر (3) عنها بالشاهد الذي هو أقرب الموجودات (4) إليها، وأكثرها شبهًا (5) بها، فيعرض لبعض الناس أن يأخذ
_________
(1) في النسختين: «وبهذا». وفي «م»: «وإلى هذا». والمثبت من «مناهج الأدلة».
(2) «في» ليس في «ب».
(3) «ح»: «فيصير».
(4) «ب»: «الوجودات».
(5) «ح»: «تشبيهًا».
(1/193)
الممثَّل به هو المثال نفسه (1)، فيلزمه الحيرة والشك، وهو الذي يُسمَّى متشابهاً في الشرع. وهذا ليس يعرض للعلماء ولا للجمهور، وهم صِنفَا الناس في الحقيقة؛ لأن هؤلاء هم الأصِحَّاء، والغذاء الملائم إنما يُوافق أبدان الأصحاء (2). وأمَّا أولئك فمرضى، والمرضى هم الأقل، ولذلك قال الله تعالى: {فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7]، وهؤلاء أهل الجدل (3) والكلام.
وأشدُّ ما عرض على الشريعة من هذا الصنف أنهم تأولوا كثيرًا ممَّا ظنوه ليس على ظاهره، وقالوا: إن هذا التأويل هو المقصود به، وإنما أتى اللهُ به في صورة المتشابه ابتلاءً لعباده واختبارًا لهم. ونعوذ بالله من هذا الظن بالله، بل نقول: إن كتاب الله العزيز إنما جاء معجِزًا من جهة الوضوح والبيان. فإذًا ما أبعدَ مِن مقصد الشرع مَن قال فيما ليس بمتشابه إنه متشابه. ثم أوَّلَ ذلك المتشابِهَ بزعمه، وقال لجميع (4) الناس: إن فرضكم هو اعتقاد هذا التأويل، مثل ما قالوه في آيات الاستواء على العرش، وغير ذلك ممَّا قالوا إن ظاهره متشابِهٌ.
وبالجملة فأكثرُ التأويلات التي زعم القائلون بها أنها المقصود من الشرع إذا تُؤمِّلَت وُجدتْ ليس يقوم عليها برهانٌ، ولا تفعل فِعل الظاهر في قبول الجمهور لها وعملهم (5) عنها. فإن المقصود الأول بالعلم في حق
_________
(1) «ب»: «يقيسه».
(2) «والغذاء الملائم إنما يوافق أبدان الأصحاء». في «ح»: «عن».
(3) «الجدل» ليس في «ح».
(4) «ح»: «فجميع».
(5) «ب»: «وعلمهم».
(1/194)
الجمهور إنما هو العمل، فما كان أنفعَ في العمل فهو أجدرُ. وأما المقصود بالعلم في حق العلماء فهو الأمران جميعًا، أعني العلم والعمل.
ومثال مَن أوَّلَ شيئًا من الشرع، وزعم أن ما أوَّلَه هو الذي قصده الشرع، وصرح بذلك التأويل للجمهور: مثال مَن أتى إلى دواءٍ قد ركَّبه طبيبٌ ماهرٌ ليحفظ صحةَ جميع الناس أو الأكثر، فجاء رجلٌ فلم يلائمه ذلك [ق 22 أ] الدواء المركَّب الأعظم لرداءة مزاجٍ كان به ليس يعرض إلَّا للأقل من الناس، فزعَمَ أن بعض الأدوية الذي (1) صرَّح باسمه الطبيبُ الأول في ذلك الدواء العام المنفعة المركَّب لم يُرِدْ به ذلك الدواءَ التي جرت العادة في اللسان أن يدل بذلك الاسم عليه، وإنما أراد به دواءً آخَرَ ممَّا يمكن أن يدل عليه بذلك باستعارة بعيدة، فأزال ذلك الدواء الأول من ذلك المركب الأعظم، وجعلَ فيه بدلَه الدواء الذي ظن أنه الذي قصده الطبيبُ، وقال للناس: هذا هو الذي قصده الطبيبُ الأول. فاستعمل الناسُ ذلك الدواء المركَّب على الوجه الذي تأوَّله عليه ذلك المتأوِّل (2)، ففسدت به أمزجةُ كثيرٍ من الناس. فجاء آخرون فشعروا بفساد أمزجة الناس عن ذلك الدواء المركَّب، فراموا إصلاحه بأن أبدلوا بعض أدويته بدواءٍ آخرَ غير الدواء الأول، فعرض من ذلك للناس نوعٌ من المرض غير النوع (3) الأول. فجاء ثالثٌ فتأوَّل في أدوية ذلك المركَّب غيرالتأويل الأول والثاني، فعرض من ذلك للناس (4) نوعٌ ثالثٌ من المرض
_________
(1) «ب»: «التي».
(2) في النسختين: «المثال». والمثبت من «م» و «مناهج الأدلة».
(3) «النوع ليس في «ح».
(4) «للناس» ليس في «ب».
(1/195)
غير النوعين المتقدمين. فجاء متأوِّلٌ رابع فتأول دواءً آخر غير الأدوية المتقدمة. فعرض منه للناس نوعٌ رابعٌ من المرض (1) غير الأمراض المتقدمة، فلمَّا طال الزمان بهذا الدواء المركَّب الأعظم، وسلط الناس التأويل على أدويته وغيَّروها وبدَّلوها، عرض منه للناس أمراضٌ شتى، حتى فسدت المنفعة المقصودة بذلك الدواء المركَّب في حق أكثر الناس.
وهذه هي حال هذه الفِرَق الحادثة في الشريعة. مع الشريعة، وذلك أن كل (2) فرقةٍ منهم تأوَّلت في الشريعة تأويلًا غير التأويل الذي تأوَّلته الفرقةُ الأخرى، وزعمت أنه الذي قصده صاحب الشرع، حتى تمزَّقَ الشرعُ كلَّ مُمزَّقٍ، وبَعُدَ جدًّا عن موضوعه الأول. ولمَّا علم (3) صاحب الشرع – صلى الله عليه وسلم – أن مثل هذا يعرض، ولا بد، في شريعته، قال: «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً» (4). يعني بالواحدة: التي سلكت ظاهرَ الشرع
_________
(1) «ح»: «الأمراض».
(2) «كل» سقط من «ح».
(3) «ح»: «علمه».
(4) أخرجه الإمام أحمد (17211) وأبو داود (4597) والحاكم في «المستدرك» (1/ 128) عن معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنهما -. وقال الحاكم: «هذه أسانيد تقام بها الحُجة في تصحيح هذا الحديث». وقال ابن كثير في «البداية والنهاية» (19/ 38): «تفرد به أبو داود، وإسناده حسن».
وأخرجه أحمد (12815) وابن ماجه (3993) والضياء في «المختارة» (7/ 89) عن أنس بن مالك – رضي الله عنه -، وقال البوصيري في «مصباح الزجاجة» (1412): «إسناد صحيح رجاله ثقات».
قلنا: وفي الباب عن جماعة من الصحابة – رضي الله عنهم -، ينظر: «تخريج أحاديث الكشاف» للزيلعي (1/ 447 – 451) و «الأجوبة المرضية» للسخاوي (147). وقال شيخ الإسلام في «مجموع الفتاوى» (3/ 345): «الحديث صحيح مشهور في السنن والمساند».
(1/196)
ولم تؤوِّله.
وأنت إذا تأملتَ ما (1) عرض في هذه الشريعة في هذا الوقت من الفساد العارض (2) فيها من قِبَل التأويل (3) تبيَّنتَ أن هذا المثال صحيح، وأولُ مَن غيَّر هذا الدواء الأعظم هم الخوارجُ، ثم المعتزلة بعدهم، ثم الأشعرية، ثم الصوفية، ثم جاء أبو حامد فَطَمَّ الوادي على القَرِيِّ (4)».
وذكر كلامًا بعد ذلك يتعلق (5) بكُتب أبي حامد (6) ليس لنا غرضٌ في حكايته.
* * * * *
_________
(1) «ب»: «في».
(2) «ح»: «المعارض».
(3) «التأويل» ليس في «ح».
(4) يقال: «جرى الوادي فطمَّ على القَرِيِّ». أي: جرى سيل الوادي فطمَّ أي: دفن، يقال: طمَّ السيلُ الركيةَ. أي: دفنها، والقريِّ: مجرى الماء في الروضة، والجمع أقرية وقريان، و «على» من صلة المعنى: أي أتى على القري، يعني: أهلكه بأن دفنه، يُضرب عند تجاوز الشر حده». قاله الميداني في «مجمع الأمثال» (1/ 159).
(5) «ح»: «متعلق».
(6) «أبي حامد» ليس في «ح».
(1/197)
الفصل الثامن عشر
في انقسام الناس في نصوص الوحي إلى أصحاب تأويلٍ وأصحاب تخييلٍ وأصحاب تجهيلٍ وأصحاب تمثيلٍ (1) وأصحاب سواء السبيل
هذه خمسة أصناف انقسم الناس إليها في هذا الباب بحسب اعتقادهم ما أُريدَ بالنصوص:
الصنف الأول: أصحاب التأويل، وهم أشد الأصناف (2) اضطرابًا، إذ لم يثبت لهم قدمٌ في الفرق بين ما يُتأول وما لا يُتأول، ولا ضابط مطَّرِد منعكس يجب مراعاته ويمنع مخالفته؛ بخلاف سائر الفرق، فإنهم جَرَوْا على ضابطٍ واحدٍ، وإن كان فيهم من هو أشد خطأً من أصحاب التأويل كما سنذكره.
الصنف الثاني: أصحاب التخييل، وهم الذين اعتقدوا أن الرُّسل لم تُفصِحْ للخلق بالحقائق؛ إذ ليس في قُواهم إدراكها، وإنما خَيَّلَت (3) لهم، وأبرزت المعقولَ في صورة المحسوس. قالوا: ولو دعتِ الرُّسلُ أُمَمَهم إلى الإقرار بربٍّ لا داخلَ العالم ولا خارجَه ولا مُحايِثًا له ولا مُبايِنًا له (4)، ولا متصلًا به ولا منفصلًا عنه، ولا فوقه ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره. لنفرت عقولُهم من ذلك، ولم تصدِّق بإمكان وجود هذا الموجود فضلًا عن وجوب وجوده. وكذلك لو أخبروهم بحقيقة كلامه، وأنه فيضٌ
_________
(1) قدَّم في «ب» قوله «وأصحاب تمثيل» على قوله «وأصحاب تجهيل».
(2) «ح»: «الناس».
(3) «ح»: «حلت».
(4) «ح»: «به».
(1/198)
فاضَ من (1) المبدأ الأول على العقل الفعَّال، ثم فاضَ من ذلك العقل على النفس الناطقة الزكية المستعدة؛ لم يفهموا ذلك. ولو أخبروهم عن المعاد الرُّوحاني بما هو عليه لم يفهموه، فقرَّبوا لهم الحقائقَ المعقولة في إبرازها في الصور المحسوسة، وضربوا لهم الأمثال بقيام الأجساد من القبور في يوم العرض والنشور، ومصيرها إلى جنةٍ فيها أكلٌ وشربٌ ولحمٌ وخمرٌ وجوارٍ حِسانٌ، أو نارٍ فيها أنواع العذاب، تفهيمًا للذة الرُّوحانية بهذه الصورة، والألم الرُّوحاني بهذه الصورة (2).
وهكذا فعلوا في وجود الربِّ وصفاته وأفعاله، ضربوا لهم الأمثال بموجودٍ (3) عظيمٍ جدًّا أكبر من كل موجودٍ، وله سريرٌ عظيمٌ وهو مستوٍ فوق سريره، يسمع ويبصر ويتكلم، ويأمر وينهى، ويرضى ويغضب، ويأتي ويجيء وينزل، وله يدانِ ووجهٌ، ويفعل بمشيئته وإرادته، وإذا تكلم العبادُ سمع (4) كلامَهم، وإذا تحركوا رأى حركاتِهم، وإذا هجسَ في قلب أحدٍ منهم هاجسٌ عَلِمَه، وأنه ينزل كل ليلة إليهم (5) إلى سمائهم هذه فيقول: «مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، وَمَنْ (6) يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ» (7). إلى غير ذلك ممَّا نطقت به الكتبُ الإلهية.
_________
(1) «من» ليس في النسختين، وأثبته من «م».
(2) «والألم الروحاني بهذه الصورة» ليس في «ب».
(3) «ح»: «بوجود».
(4) «ب»: «يسمع».
(5) «ح»: «لهم».
(6) «ب»: «من».
(7) أخرجه البخاري (1145) ومسلم (758) عن أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(1/199)
قالوا: ولا يحلُّ لأحدٍ أن يتأول ذلك على خلاف ظاهره للجمهور؛ لأنه يُفسِد ما وُضِعت له [ق 22 ب] الشرائع والكتب الإلهية. وأمَّا الخاصة فهم يعلمون أن هذه أمثالٌ مضروبةٌ لأمور عقلية تَعجِزُ عن إدراكها عقولُ الجمهور، فتأويلها جناية على الشريعة والحكمة، وإقرارها (1) إقرارٌ للشريعة والحكمة. قالوا: وعقول الجمهور بالنسبة إلى هذه الحقائق (2) أضعفُ من عقول الصبيان بالنسبة إلى ما يدركه عقلاءُ الرجال وأهل الحِكمة منهم. والحكيم إذا أراد أن يخوِّف الصغير أو يبسط أملَه خوَّفه ورجَّاه بما يناسب فَهمَه وطبعَه.
وحقيقة الأمر عند هذه الطائفة: أن الذي أخبرت به الرُّسلُ عن الله وصفاته وأفعاله وعن اليوم الآخر لا حقيقةَ له تُطابِق ما أخبروا به، ولكنه أمثالٌ وتخييلٌ وتفهيمٌ بضرب الأمثال. وقد ساعدهم أربابُ التأويل على هذا المقصد في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته، وصرَّحوا في ذلك بمعنى (3) ما صرَّح به هؤلاء في باب المَعاد وحشْر الأجساد، بل نقلوا كلماتهم بعينها إلى نصوص الاستواء والفَوْقية ونصوص الصِّفات الخبرية. لكن هؤلاء أوجبوا أو سوَّغوا تأويلها بما يُخرِجها عن حقائقها وظواهرها، وظنوا أن الرُّسل قصدت ذلك من المخاطَبين تعريضًا لهم إلى الثواب الجزيل ببذل الجهد (4) في تأويلها واستخراج معانٍ تليق بها وحملها عليها؛ وأولئك حرَّموا التأويل،
_________
(1) «ح»: «والإقرار».
(2) من قوله: «إقرار للشريعة» إلى هنا ليس في «ح».
(3) «ح»: «معنى».
(4) «ح»: «تبدل الجهة».
(1/200)
ورأوه عائدًا على ما قصدته الأنبياءُ بالإبطال. والطائفتان متفقتان على انتفاء حقائقها المفهومة منها في نفس الأمر.
والصنف الثالث: أصحاب التجهيل، الذين قالوا: نصوص الصِّفات ألفاظٌ لا يُعقَل معانيها، ولا يُدرى ما أراد اللهُ ورسوله منها، ولكن نقرؤُها (1) ألفاظًا لا معانِيَ لها، ونعلم أن لها تأويلًا لا يعلمه إلَّا الله، وهي عندنا بمنزلة: {كهيعص} [مريم: 1] و {حم عسق} [الشورى: 1] و {المص} [الأعراف: 1]. فلو ورد علينا منها ما ورد لم نعتقد فيه تمثيلًا ولا تشبيهًا، ولم نعرف معناه، ونُنكِر على مَن تأوَّله، ونَكِل علمه إلى الله.
وظن هؤلاء أن هذه طريقةُ السلف، وأنهم لم يكونوا يعرفون حقائق الأسماء والصفات، ولا يفهمون معنى قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 74] وقوله: {وَاَلْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ} [الزمر: 64]، وقوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4]، وأمثال ذلك من نصوص الصفات. وبنَوْا هذا المذهب على أصلين:
أحدهما: أن هذه النصوص من المتشابِه.
والثاني: أن للمتشابه تأويلًا لا يعلمه إلَّا الله.
فنتج مِن هذين الأصلين استجهالُ السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأنهم كانوا يقرؤون: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] و {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 66]،
_________
(1) «ح»: «يقروها».
(1/201)
ويَرْوُون (1): «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا» (2)، ولا يعرفون معنى ذلك ولا ما أُريدَ به؛ ولازمُ قولهم أن الرسول كان يتكلم بذلك ولا يعلم معناه، ثم تناقضوا أقبحَ تناقُضٍ، فقالوا: تُجرَى على ظواهرها، وتأويلُها بما (3) يخالف الظواهر باطلٌ، ومع ذلك فلها تأويلٌ لا يعلمه إلَّا الله. فكيف يُثبِتون (4) لها تأويلًا، ويقولون: تجرى على ظواهرها، ويقولون (5): الظاهر منها غير (6) مرادٍ، والربُّ منفرد بعلم تأويلها. وهل في التناقض أقبحُ من هذا؟!
وهؤلاء غلطوا (7) في المتشابه، وفي جعل هذه النصوص من المتشابه، وفي كَوْن المتشابه لا يعلم معناه إلَّا الله، فأخطؤوا في المقدِّمات الثلاث. واضطرهم إلى هذا التخلصُ من تأويلات المبطِلين وتحريفات المعطِّلين، وسدُّوا على نفوسهم الباب، وقالوا: لا نرضى بالخطأ، ولا وصولَ لنا إلى الصواب.
فهؤلاء تركوا التدبُّر المأمور به والتذكر والعقل لمعاني النصوص، الذي هو أساس الإيمان وعمود اليقين، وأعرضوا عنه بقلوبهم، وتعبَّدوا بالألفاظ المجردة التي أُنزلت في ذلك، وظنوا أنها أُنزلت للتلاوة والتعبُّد بها دون تعقُّل
_________
(1) «ح»: «ويرون».
(2) متفق عليه، وقد تقدم تخريجه.
(3) «ح»: «مما».
(4) «ح»: «ينسبون».
(5) «ح»: «ظواهر أو يقولون».
(6) «غير» ليس في «ح».
(7) في النسختين: «عطلوا». والمثبت من «م».
(1/202)
معانيها وتدبُّرها والتفكر فيها. فأولئك جعلوها عُرضة للتأويل والتحريف، كما جعلها أصحاب التخييل أمثالًا لا حقيقة لها.
وقابلهم الصنف الرابع، وهم أصحاب التشبيه والتمثيل، ففهموا منها مثل (1) ما للمخلوقين، وظنوا أنْ لا حقيقةَ لها سوى ذلك، وقالوا: مُحال أن يخاطبنا اللهُ سبحانه بما لا نعقله، ثم يقول: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 72] {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 217] {لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 28]، ونظائر ذلك. وهؤلاء هم المشبِّهة (2).
فهذه الفِرَق لا تزال تُبدِّع بعضُهم بعضًا وتضلِّله وتجهِّله، وقد تصادمت كما ترى، فَهُمْ كزُمرة من العميان تلاقوا فتصادموا، كما قال أعمى البصر والبصيرة (3) منهم (4):
وَنَظِيرِي فِي الْعِلْمِ مِثْلِيَ أَعْمَى … فَتَرَانَا فِي حِنْدِسٍ نَتَصَادَمْ
وهدى الله أصحابَ سواء السبيل للطريقة المُثلى، فلم يتلوثوا بشيءٍ من أوضار (5) هذه الفرق وأدناسها (6)، وأثبتوا لله حقائق الأسماء والصفات، ونفَوْا عنها مماثلة المخلوقات، فكان (7) مذهبهم [ق 23 أ] مذهبًا بين مذهبين
_________
(1) «مثل» ليس في «ح».
(2) «ح»: «المثبتة».
(3) «ح»: «البصيرة والبصر».
(4) يعني: أبا العلاء المعري، وقد تقدم البيت (ص 145).
(5) «ح»: «أوصاف».
(6) «ح»: «أديانها».
(7) «ح»: «وكان».
(1/203)
وهُدًى بين ضلالتين، خرج من بين مذاهب المعطِّلين والمخيِّلين والمجهِّلين والمشبِّهين، كما خرج اللبن من بين فرثٍ ودمٍ لبنًا خالصًا (1) سائغًا للشاربين.
وقالوا: نَصِفُ اللهَ بما وصف به نفسَه وبما وصفه به رسولُه، من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تشبيهٍ ولا تمثيلٍ، بل طريقتنا إثباتُ حقائق الأسماء والصفات، ونفْيُ مشابهة المخلوقات، فلا نعطِّل ولا نؤوِّل ولا نمثِّل ولا نجهِّل، ولا نقول: ليس لله يدانِ ولا وجهٌ ولا سمعٌ ولا بصر ولا حياة ولا قدرة ولا استواءٌ على عرشه. ولا نقول: له يدانِ كأيدي المخلوقين (2)، ووجه كوجوههم، وسمعٌ وبصر وحياة وقدرة واستواء كأسماعهم وأبصارهم وقدرتهم واستوائهم. بل نقول: له ذاتٌ حقيقةً ليست كالذوات، وله صفاتٌ حقيقةً لا مجازًا ليست كصفات المخلوقين. وكذلك قولنا في وجهه تبارك وتعالى ويديه وسمعِه وبصرِه وكلامه واستوائه، ولا يمنعنا ذلك أن نفهم المراد من تلك الصِّفات وحقائقها، كما لم يمنع ذلك مَن أثبت لله شيئًا من صفات الكمال مِن فَهْمِ معنى الصفة وحقيقتها (3)، فإن مَن أثبتَ له سبحانه السمع والبصر أثبتهما حقيقةً وفَهِمَ معناهما، فهكذا سائر صفاته المقدسة (4) يجب أن تجري هذا المجرى، وإن كان لا سبيلَ لنا (5) إلى
_________
(1) «خالصًا» ليس في «ح».
(2) «ح»: «المخلوق».
(3) «ح»: «وتحقيقها».
(4) «ح»: «المتقدمة».
(5) «ح»: «له».
(1/204)
معرفة كُنْهها وكيفيتها؛ فإن الله سبحانه لم يكلِّف عباده بذلك، ولا أراده منهم، ولم يجعل لهم إليه سبيلًا. بل كثيرٌ من مخلوقاته أو أكثرها لم يجعل لهم سبيلًا إلى معرفة كنهه وكيفيته، وهذه أرواحهم ـ التي هي أدنى إليهم من كل دانٍ (1) ـ قد حجَبَ عنهم معرفة كنهها وكيفيتها، و [ما] (2) جعَلَ لهم السبيل إلى معرفتها والتمييز (3) بينها وبين أرواح البهائم.
وقد أخبرنا سبحانه عن تفاصيل يوم القيامة وما في الجنة والنار، فقامت حقائقُ ذلك في قلوب أهل الإيمان، وشاهدته عقولُهم، ولم يعرفوا كيفيته وكُنْهه. فلا يشك المسلمون أن في الجنة أنهارًا من خمرٍ، وأنهارًا من عسلٍ، وأنهارًا من لبنٍ، ولكن لا يعرفون كُنْهَ ذلك ومادته وكيفيته؛ إذ كانوا لا يعرفون في الدنيا الخمر إلَّا ما اعتُصِرَ من الأعناب، والعسل إلَّا ما قذفت به النحلُ في بيوتها، واللبن إلَّا ما خرج من الضروع، والحرير إلَّا ما خرج من فم دود القزِّ، وقد فهموا معانيَ ذلك في الجنة من غير أن يكون مماثِلًا لما في الدنيا، كما قال ابن عباسٍ: «ليس في الدنيا ممَّا في الآخرةِ إلَّا الأسماءُ» (4).
ولم يمنعهم عدم النظير في الدُّنيا مِن فَهْمِ ما أُخبروا به من ذلك، فهكذا
_________
(1) «ح»: «ذات».
(2) سقط من النسختين، وأثبته ليستقيم السياق.
(3) «ب»: «وبالتمييز».
(4) أخرجه هناد في «الزهد» (3) والطبري في «تفسيره» (1/ 416) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 66) وأبو نعيم في «صفة الجنة» (124) والبيهقي في «البعث والنشور» (1/ 210) والضياء في «الأحاديث المختارة» (10/ 16) ولفظه «الجنة» بدل «الآخرة». وجوَّد المنذري في «الترغيب والترهيب» (4/ 316) إسناده، وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (2188).
(1/205)
الأسماء والصفات لم يمنعهم انتفاء نظيرها في الدنيا ومثالها مِن فَهْم حقائقها ومعانيها، بل قام بقلوبهم معرفة حقائقها وانتفاء التمثيل والتشبيه عنها. وهذا هو المثل الأعلى الذي أثبته سبحانه لنفسه في ثلاثة مواضع من القرآن:
أحدها: قوله: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ اُلسَّوْءِ وَلِلَّهِ اِلْمَثَلُ اُلْأَعْلَى وَهْوَ اَلْعَزِيزُ اُلْحَكِيمُ} [النحل: 60].
الثاني: قوله: {وَهْوَ اَلَّذِي يَبْدَأُ اُلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهْوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ اُلْمَثَلُ اُلْأَعْلَى فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ وَهْوَ اَلْعَزِيزُ اُلْحَكِيمُ} [الروم: 26].
الثالث: قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهْوَ اَلسَّمِيعُ اُلْبَصِيرُ} [الشورى: 9].
فنفى سبحانه المماثلةَ عن هذا المثل الأعلى، وهو ما في قلوب أهل سماواته وأرضه من معرفته والإقرار بربوبيته وأسمائه وصفاته وذاته. فهذا المثل الأعلى هو الذي آمَنَ (1) به المؤمنون، وأَنِسَ به العارفون، وقامت شواهدُه في قلوبهم بالتعريفات الفطرية المكملة بالكتب الإلهية، المقبولة بالبراهين العقلية، فاتفق على الشهادة بثبوته العقلُ والسمعُ والفطرة. فإذا قال المثبت: يا الله، قام بقلبه ربًّا قيُّومًا قائمًا (2) بنفسه، مستويًا على عرشه، مُكلَّمًا مُتكلِّمًا سامعًا رائيًا (3) قديرًا مريدًا فعَّالًا لما يشاء، يسمع دعاء الداعين، ويقضي حوائجَ السائلين، ويُفرِّج عن (4) المكروبين، تُرضيه الطاعات،
_________
(1) «ب»: «أنس».
(2) «قائما» ليس في «ح».
(3) «رائيا» ليس في «ح».
(4) «ب»: «عند». وهو تحريف.
(1/206)
وتُغضبه المعاصي، تَعرُجُ الملائكةُ بالأمر إليه، وتنزل بالأمر من عنده.
وإذا شئتَ زيادةَ تعريفٍ بهذا المثل الأعلى فقدِّر (1) قُوى جميع المخلوقات اجتمعت لواحدٍ منهم، ثم كان جميعهم على قوة ذلك الواحد، فإذا نسبتَ قوته إلى قوة الربِّ تبارك وتعالى لم تجد لها نسبة وإيَّاها البتةَ، كما لا تجد نسبة بين قوة البعوضة وقوة الأسد. فإذا قدرتَ علوم الخلائق اجتمعت لرجلٍ واحدٍ، ثم قدرتَ جميعهم بهذه المثابة كانت علومهم بالنسبة إلى عِلمه تعالى كنقرة عصفورٍ من بحرٍ. وإذا قدرتَ حِكمة جميع المخلوقين على هذا التقدير لم يكن لها نسبة إلى حِكمته. وكذلك إذا قدَّرتَ كل جمالٍ في الوجود اجتمع لشخصٍ [ق 23 ب] واحدٍ، ثم كان الخَلْق كلهم بذلك الجمال كان نسبته إلى جمال الربِّ تعالى وجلاله دون نسبة السِّراج الضعيف إلى (2) جرم الشمس.
وقد نبَّهنا الله سبحانه على هذا المعنى بقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي اِلْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَاَلْبَحْرَ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اُللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 26]. فقدِّرِ البحر المحيط بالعالَم مِدادًا ووراءه سبعة أبحر تحيط به كلها مِدادٌ تُكتب (3) به كلماتُ الله، نفدت البحارُ، وفنيت الأقلامُ ـ التي لو قدرت جميع أشجار الأرض من حين خُلِقت إلى آخِر الدنيا ـ ولم تنفد كلمات الله.
وقد أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم -: «أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ فِي الْكُرْسِيِّ كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ
_________
(1) «ح»: «فعد».
(2) «ح»: «في».
(3) «ح»: «يكتب».
(1/207)
بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، وَالْكُرْسِيَّ فِي (1) الْعَرْشِ كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ فِي أَرْضٍ (2) فَلَاةٍ، وَالْعَرْشُ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ فَوْقَ عَرْشِهِ يَرَى مَا عِبَادُهُ عَلَيْهِ» (3).
فهذا هو الذي قام بقلوب المؤمنين المصدِّقين العارفين به سبحانه من المثل الأعلى، فعرفوه به، وعبدوه به، وسألوه به (4) فأحبوه وخافوه ورجَوْه، وتوكلوا عليه، وأنابوا إليه، واطمأنوا بذِكره، وأَنِسُوا بحبه بواسطة هذا التعريف. فلم يصعب عليهم بعد ذلك فَهمُ (5) استوائه على عرشه، وسائرِ ما وصف به نفسَه من صفات كماله (6)؛ إذ قد أحاط علمهم بأنه لا نظيرَ لذلك ولا مثلَ له، ولم يخطر بقلوبهم مماثلتُه لشيءٍ من المخلوقات.
وقد أعلمهم سبحانه على لسان رسوله «أَنَّهُ يَقْبِضُ سَمَاوَاتِهِ بِيَدِهِ
_________
(1) «ب»: «و».
(2) «ب»: «بأرض».
(3) أخرجه محمد بن عثمان بن أبي شيبة في «العرش» (58) والطبري في «التفسير» (4/ 539) وابن حبان (361) وأبو الشيخ في «العظمة» (206) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (861، 862) عن أبي ذر – رضي الله عنه – دون قوله: «والعرش لا يَقدر قَدْره إلا الله … » الحديث، وقال الذهبي في «العلو» (307): «الخبر منكر». وقال ابن حجر في «الفتح» (13/ 411): «وله شاهد عن مجاهد أخرجه سعيد بن منصور في «التفسير» بسند صحيح». وقد روي معناه موقوفًا من عدة طرق، ينظر: «الدر المنثور» للسيوطي (3/ 193، 7/ 617).
(4) «به» ليس في «ح».
(5) «فهم» ليس في «ح».
(6) «ب»: «جماله».
(1/208)
وَالْأَرْضَ بِالْيَدِ الْأُخْرَى، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ» (1). «وَأَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ فِي كَفِّهِ تَعَالَى كَخَرْدَلَةٍ فِي كَفِّ أَحَدِكُمْ (2)» (3). «وَأَنَّهُ يَضَعُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ» (4). فأيُّ أيدٍ للخلق وأي إصبع تُشبه (5) هذه اليدَ وهذه الإصبعَ حتى يكون إثباتها تشبيهًا وتمثيلًا.
فقاتَلَ اللهُ أصحابَ التحريف والتأويل، وأصحابَ التخييل، وأصحاب التجهيل (6)، وأصحاب التشبيه والتمثيل. ماذا حُرِمُوه من الحقائق الإيمانية والمعارف الإلهية، وماذا تعوضوا به من زُبالة الأذهان ونُخالة الأفكار! فما أشبَهَهم بمن كان غذاؤهم المَنَّ والسَّلْوى بلا تعبٍ ولا كُلْفةٍ، فآثَروا عليه الفُومَ (7) والعدس والبصل، وقد جرت عادةُ الله سبحانه أن يُذِلَّ مَن آثَرَ الأدنى على الأعلى، ويجعله عبرةً للعقلاء.
فأوَّلُ هذا الصنف إبليسُ ترَكَ السجود لآدم كِبرًا؛ فابتلاه الله بالقيادة
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) «ب»: «أحدنا».
(3) لم نقف عليه مرفوعًا، وهو أثر مشهور موقوف على ابن عباس – رضي الله عنه -، وقد تقدم تخريجه.
(4) أخرجه البخاري (7414) ومسلم (2786) عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -.
(5) «ب»: «يشبه».
(6) «وأصحاب التجهيل» ليس في «ح».
(7) «ح»: «الثوم». والفوم: الثُّوم، وفي قراءة عبد الله: «وثُومِها». ويقال: هو الحِنْطة. «الصحاح» (5/ 2004).
(1/209)
لفُسَّاق ذريته. وعُبَّادُ الأصنام لم يُقروا بنبيٍّ من البشر، ورَضُوا بآلهةٍ (1) من الحجر. والجهميةُ نزَّهوا الله عن عرشه لئلَّا يحويه مكانٌ، ثم جعلوه في الآبار والأنجاس وفي كل مكانٍ. وهكذا طوائف الباطل لم يَرضَوْا بنصوص الوحي، فابتُلوا بزُبالة أذهان المتحيرين وورثة الصابئين وأفراخ الفلاسفة الملحدين، و {مَن يَهْدِ اِللَّهُ فَهْوَ اَلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} [الكهف: 17].
* * * * *
_________
(1) «ح»: «بإله».
(1/210)
الفصل التاسع عشر
في الأسباب التي تسهل على النفوس الجاهلة قبول التأويل مع مخالفته للبيان (1) الذي علَّمه الله الإنسان وفَطَره على قبوله
التأويل يجري مَجرى مخالفة (2) الطبيعة الإنسانية والفطرة التي فَطَر عليها العبد، فإنه ردُّ الفهم من جريانه مع الأمر المعتاد المألوف إلى الأمر الذي لم يُعهَد ولم يُؤلف. وما كان هذا سبيلَه فإن الطباع السليمة لا تتقاضاه بل تنفر منه وتأباه، فلذلك وضع له أربابُه أصولًا ومهَّدوا له أسبابًا تدعو إلى قبوله، وهي أنواع (3):
السبب الأول: أن يأتي به صاحبه مموَّهًا مُزخرَف الألفاظ مُلفَّق المعاني، مكسوًّا حُلَّةَ الفصاحة والعبارة الرشيقة، فتسرع العقولُ الضعيفة إلى قبوله واستحسانه، وتبادر إلى اعتقاده وتقليده. ويكون حاله في ذلك حال من يعرض سلعةً مموَّهةً مغشوشةً على من لا بصيرةَ له بباطنها وحقيقتها، فيُحسِّنها في عينه، ويُحبِّبها إلى نفسه. وهذا الذي يعتمده (4) كلُّ مَن أراد ترويج باطلٍ؛ فإنه لا يتم له ذلك إلَّا بتمويهه وزخرفته وإلقائه إلى جاهلٍ بحقيقته.
قال الله (5) تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ اَلْإِنسِ وَاَلْجِنِّ
_________
(1) «للبيان» ليس في «ح».
(2) «ب»: «مخالفته».
(3) «أنواع» ليس في «ح».
(4) «ح»: «يعتمد».
(5) لفظ الجلالة ليس في «ب».
(1/211)
يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ اَلْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 113]، فذكر سبحانه أنهم يستعينون على مخالفة أمر الأنبياء بما يُزخرفه بعضُهم لبعضٍ من القول، فيغترُّ به الأَغْمارُ (1) وضعفاء العقول، فذكر السببَ الفاعل والقابل. ثم ذكر سبحانه انفعال هذه النفوس الجاهلة عنه بصَغْوِها وميلها إليه (2) ورضاها به؛ لِمَا كُسِيَ من الزُّخرف الذي يغرُّ السامعَ. فلمَّا أصغت إليه ورَضِيَتْه اقترفت ما تدعو إليه من الباطل قولًا وعملًا. فتأمَّلْ هذه الآيات وما تحتها من هذا المعنى العظيم القدْر الذي فيه بيان أصول الباطل، والتنبيه [ق 24 أ] على مواقع الحذر منها وعدم الاغترار بها.
وإذا تأملتَ مقالات أهل الباطل رأيتَهم قد كسَوْها من العبارات المُستحسنة، وتخيروا لها من الألفاظ الرائقة ما يُسرِع إلى قَبوله كل مَن ليس له بصيرةٌ نافذةٌ، وأكثر الخلق كذلك، حتى إن (3) الفُجَّار (4) ليُسمُّون أعظم أنواع الفجور بأسماء لا ينبو عنها السمع، ويميل إليها الطبع، فيُسمُّون أم الخبائث: أم الأفراح، ويُسمون اللقمة الملعونة (5): لُقيمة الذِّكر والفكر التي تُثير (6) العزم الساكن إلى أشرف الأماكن، ويُسمُّون مجالس الفجور
_________
(1) الأغمار: جمع غُمْر بالضم، وهو الجاهل الغِرُّ الذي لم يجرب الأمور. «النهاية في غريب الحديث والأثر» (3/ 385).
(2) «إليه» ليس في «ب».
(3) «ح»: «جيران».
(4) «الفجار» ليس في «ح».
(5) «ح»: «الكفرية». وهذه اللقمة الملعونة هي الحشيشة، كما في «مجموع الفتاوى» (34/ 210).
(6) «ح»: «الذي يثير».
(1/212)
والفسوق: مجالس الطيبة. حتى إن بعضهم لمَّا عُذل عن شيءٍ من ذلك قال لعاذله: «ترك المعاصي والتخوف منها إساءةُ ظنٍّ برحمة الله، وجُرأة على سعة عفوه ومغفرته». فانظر ماذا تفعل هذه الكلمة في قلبٍ ممتلئٍ بالشهوات ضعيف العلم والبصيرة.
فصل
السبب الثاني: أن يخرج المعنى الذي يريد إبطاله بالتأويل في صورةٍ مستهجَنةٍ، تنفر عنها القلوب، وتنبو عنها الأسماع، فيتخير له من الألفاظ أكرهَها وأبعدها وصولًا إلى القلوب، وأشدَّها نفرةً عنها، فيتوهم السامع أن معناها هو الذي دلت عليه تلك الألفاظ. فيُسمِّي التديُّن: ثَقَالةً، وعدمَ الانبساط إلى السفهاء والفساق والبطالين: سُوءَ خُلق، والأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر والغضب لله والحمية لدينه: فتنةً وشرًّا وفضولًا.
وكذلك (1) أهل البدع والضلال من جميع الطوائف تُعظِّم ما يُنفِّرون به عن الحق ويدعون به إلى الباطل، فيُسمُّون إثبات صفات الكمال لله: تجسيمًا وتشبيهًا وتمثيلًا، ويُسمون إثبات الوجه واليدين له: تركيبًا، ويسمون إثبات استوائه على عرشه وعلوِّه على خَلْقه فوق سماواته: تحيُّزًا وتجسيمًا، ويسمون العرش: حيزًا وجِهةً، ويُسمُّون الصِّفات: أعْراضًا، والأفعال: حوادثَ، والوجه واليدين: أبعاضًا، والحِكَم والغايات التي يفعل لأجلها: أغراضًا. فلمَّا وضعوا لهذه المعاني الصحيحة الثابتة تلك الألفاظ المستنكَرة الشنيعة تمَّ لهم مِن نفيها وتعطيلها ما أرادوه، فقالوا للأغمار والأغفال:
_________
(1) «ح»: «فكذلك».
(1/213)
اعلموا أن ربكم منزَّهٌ عن الأعراض والأغراض والأبعاض والجهات والتركيب والتجسيم والتشبيه. فلم يشكَّ أحدٌ ـ لله في قلبه وقارٌ وعظمةٌ ـ في تنزيه الربِّ تعالى عن ذلك.
وقد اصطلحوا على تسمية سَمْعه وبصره وعِلمه وقدرته وإرادته وحياته: أعراضًا، وعلى تسمية وجهه الكريم ويديه المبسوطتين: أبعاضًا، وعلى تسمية استوائه على عرشه وعلوه على خَلقه وأنه فوق عباده: تحيزًا، وعلى تسمية نزوله إلى سماء الدنيا وتكلُّمه بقدرته ومشيئتِه إذا شاءَ وغضبِه بعد رضاه ورضاه بعد غضبه: حوادث، وعلى تسمية الغاية التي يفعل ويتكلَّم لأجلها: غرضًا. واستقر ذلك في قلوب المتلقِّين (1) عنهم، فلمَّا صرحوا لهم بنفي ذلك بقي السامع متحيرًا أعظمَ حيرةٍ بين نفي هذه الحقائق ـ التي أثبتها الله لنفسه وأثبتها له جميع رسله وسلف الأمة بعدهم ـ وبين إثباتها، وقد قام معه شاهد نفيها بما تلقاه عنهم.
فمن الناس مَن فرَّ إلى التخييل، ومنهم من فرَّ إلى التعطيل، ومنهم من فرَّ إلى التجهيل، ومنهم من فرَّ إلى التمثيل. ومنهم مَن فرَّ إلى الله ورسوله، وكشَفَ زيف هذه الألفاظ وبيَّنَ زخرفها وزَغَلها (2)، وأنها ألفاظٌ مُموَّهةٌ بمنزلة طعام طيب الرائحة في إناء حسن اللون والشكل، ولكن الطعام مسمومٌ، فقالوا ما قاله إمامُ السُّنَّة باتفاق أهل السُّنَّة أحمد بن حنبل (3):
_________
(1) «ح»: «المبلغين».
(2) الزَّغَل محركة: الغش. «تاج العروس» (14/ 308).
(3) في رواية ابن عمه حنبل ابن إسحاق عنه، كما نقل القاضي أبو يعلى في «إبطال التأويلات» (6).
(1/214)
«لا نُزيل (1) عن الله صفةً من صفاته لأجل شناعة المشنِّعين».
ولمَّا أراد المتأولون المعطِّلون تمام هذا الغرض اخترعوا لأهل السُّنَّة الألقاب القبيحة، فسموهم: حَشْوية، ونوابت، ونواصب، ومُجبِرة، ومجسِّمة، ومشبِّهة، ونحو ذلك (2).
فتولَّد (3) مِن بين (4) تسميتهم لصفات الربِّ تعالى وأفعاله ووجهه ويديه وحكمته بتلك الأسماء، وتلقيب من أثبتها له بهذه الألقاب: لعنةُ أهل الإثبات والسُّنَّة وتبديعهم وتضليلهم وتكفيرهم وعقوبتهم، ولَقُوا منهم ما لقي الأنبياء وأتباعهم من أعدائهم. وهذا الأمر لا يزال في الأرض إلى أن يرثها الله ومَن عليها.
فصل
السبب الثالث: أن يعزو المتأوِّل تأويله وبدعته إلى جليل القدْر نبيه الذِّكر من العقلاء، أو مِن آل البيت النَّبويِّ، أو مَن حلَّ (5) له في الأُمة ثناءٌ جميلٌ ولسان صدقٍ؛ ليُحليه بذلك في قلوب الأغمار والجُهَّال. فإنه من شأن الناس تعظيم كلام مَن يَعظُم قدْرُه في نفوسهم، وأن يتلقوه بالقبول والميل إليه، وكلما كان ذلك القائل أعظمَ في نفوسهم كان قبولهم لكلامه أتمَّ، حتى
_________
(1) «ح»: «يزال».
(2) أفرد المصنِّف في «النونية» (2/ 573 – 581، 610 – 611) فصلين في الرد على من سمَّى أهل السنة بهذه الأسماء القبيحة وبيَّن أنهم أحق بها.
(3) «ح»: «فيتولد».
(4) «بين» ليس في «ح».
(5) «م»: «حصل».
(1/215)
إنهم لَيقدمونه على كلام الله ورسوله، ويقولون: هو أعلم بالله ورسوله منَّا.
[ق 24 ب] وبهذه الطريق توصَّل الرافضة والباطنية والإسماعيلية والنُّصَيْرية (1) إلى تنفيق باطلهم وتأويلاتهم، حتى أضافوها إلى أهل بيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ـ لمَّا علموا أن المسلمين متفقون على محبتهم وتعظيمهم وموالاتهم وإجلالهم ـ فانتموا إليهم (2) وأظهروا من محبتهم وموالاتهم، واللَّهَج بذِكرهم وذِكر مناقبهم، ما خيَّل إلى السامع أنهم أولياؤهم وأَوْلى الناس بهم، ثم (3) نفَّقوا باطلهم وإفكَهم بنسبته إليهم.
فلا إله إلَّا الله، كم مِن زندقةٍ وإلحادٍ وبدعةٍ وضلالةٍ قد نَفَقَت في الوجود بنسبتها إليهم، وهم بَرَاء منها براءة الأنبياء من التجهم والتعطيل، وبراءةَ المسيح من عبادة الصليب والتثليث، وبراءةَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من البدع والضلالات.
وإذا تأملتَ هذا السبب رأيتَه هو الغالبَ على أكثر النفوس، وليس معهم سوى إحسان الظن بالقائل، بلا برهانٍ من الله، ولا حُجةٍ قادتهم (4) إلى ذلك. وهذا ميراث بالتعصيب من الذين عارضوا دِين الرُّسل بما كان عليه الآباء
_________
(1) «ب»: «البصرية». وهو تصحيف، والنُّصيرية: بضم النون وفتح الصاد المهملة وسكون الياء المنقوطة باثنتين بعدها راء مهملة، طائفة من غلاة الشيعة، كانوا يزعمون أن علي بن أبي طالب هو الله، وهؤلاء شر الشيعة. «الأنساب» للسمعاني (13/ 121).
(2) «ح»: «لهم».
(3) «ثم» ليس في «ح».
(4) «ح»: «قادهم».
(1/216)
والأسلاف، فإنهم لحُسن ظنهم بهم وتعظيمهم لهم آثروا ما (1) كانوا عليه على ما جاءتهم به الرُّسل، وكانوا أعظمَ في صدورهم من أن يخالفوهم ويشهدوا عليهم بالكفر والضلال، وأنهم كانوا على الباطل. وهذا شأن كل مقلِّدٍ لمن يعظِّمه فيما خالف فيه الحقَّ إلى يوم القيامة.
فصل
السبب الرابع: أن يكون ذلك (2) التأويل قد قَبِله ورضيه مُبرِّزٌ في صناعةٍ من الصناعات أو علمٍ من العلوم الدقيقة أو الجليلة، فيعلو له بما برز به ذِكرٌ في الناس، ويشتهر له به صيتٌ. فإذا سمع الغُمْرُ الجاهلُ بقبوله لذلك التأويل وتلك البدعة واختياره له أحسنَ الظنَّ به وارتضاه مذهبًا لنفسه، ورضي مَن قَبِله إمامًا له، وقال: إنه لم يكن ليختار ـ مع جودة قريحته وذكائه وصحة ذهنه ومهارته بصناعته وتبريزه فيها على بني جنسه ـ إلَّا الأصوب والأفضل من الاعتقادات، والأرشد والأمثل من التأويلات، وأين يقع اختياري مِن اختياره (3)، فرضيت لنفسي ما رَضِيَه لنفسه، فإن عقله وذهنه وقريحته إنما تدله (4) على الصواب، كما دلته على ما خَفِيَ عن غيره من صناعته وعلمه.
وهذه الآفة قد هلك (5) بها أُممٌ لا يحصيهم إلَّا الله، رأوا الفلاسفة قد برَّزوا في العلوم الرياضية والطبية، واستنبطوا بعقولهم وجودة قرائحهم
_________
(1) «ح»: «بما».
(2) «ذلك» ليس في «ب».
(3) «من اختياره» ليس في «ب».
(4) «ب»: «يدل».
(5) «ح»: «تملك». وهو تحريف.
(1/217)
وصحة أفكارهم ما عجز أكثر الناس عن تعلمه، فضلًا عن استنباطه، فقالوا: للعلوم الإلهية والمعارف الرَّبانية أسوة بذلك، فحالُهم فيها مع الناس كحالهم في هذه العلوم سواء.
فلا إله إلَّا الله، كم أهلكت هذه البليَّة من أُمةٍ، وكم خرَّبت من دارٍ، وكم أزالت من نعمةٍ، وجلبت من نقمةٍ، وجرَّأت كثيرًا من النفوس على تكذيب الرُّسل واستجهالهم! وما عرف أصحابُ هذه الشُّبهة أن الله سبحانه قد يعطي أجهلَ الناس به وبأسمائه وصفاته وشرعه من الحِذْق في العلوم الرياضية والصنايع العجيبة ما يعجِزُ عنه عقول أعلم الناس ومعارفهم، وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِدُنْيَاكُمْ» (1).
وصدَقَ صلوات الله وسلامه عليه؛ فإن (2) العلوم الرياضية والهندسية وعلم الأرتماطيقي والموسيقى والجغرافيا وإيرن (3) ـ وهو علم جر (4) الأثقال ووزن المياه وحفر الأنهار وعمارة الحصون ـ وعلم الفلاحة، وعلم الحُمَّيات وأجناسها ومعرفة الأبوال وألوانها وصفائها وكَدَرِها وما يدل عليه، وعلم الشِّعر وبُحوره وعِلله وزِحافه، وعلم الفنيطة (5)، ونحو ذلك من العلوم، هم أعلم بها، وأحذق فيها.
وأمَّا العلم بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر وتفاصيل ذلك فإلى
_________
(1) أخرجه مسلم (2363) عن أم المؤمنين عائشة وأنس بن مالك – رضي الله عنهما -.
(2) «ب»: «وإن».
(3) كذا في «ب». وفي «ح»: «وأيون». ولم أتبين المراد منها.
(4) «جر» ليس في «ح».
(5) كذا في «ب». ورسمها في «ح»: «العسطة». ولم أتبين المراد منها.
(1/218)
الرُّسل، قال الله (1) تعالى: {وَعْدَ اَللَّهِ لَا يُخْلِفُ اُللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (5) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ اَلْحَيَاةِ اِلدُّنْيا وَهُمْ عَنِ اِلْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 5 – 6]. قال بعض السلف: «يبلغ مِن علم أحدهم بالدنيا أنه ينقر الدرهم بظُفُره فيعلم وزنَه، ولا علم له بشيءٍ من دينه» (2). وقال تعالى في علوم هؤلاء واغترارهم (3) بها: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسْلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ اَلْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} [غافر: 82].
وقد فاوَتَ الله سبحانه بين عباده فيما تناله عقولهم وأذهانهم أعظمَ تفاوُت، والعقل يُعطي صاحبه فائدته في النوع الذي يلزمه به ويشغله به ويَقصُره عليه ما لا يعطيه في غيره، وإن كان غيره أسهلَ منه بكثيرٍ، كما يعطيه هِمَّته وقريحته في الصناعة التي هو معنيٌّ بها ومقصور العناية عليها ما لا يعطيه في صناعةٍ غيرها. وكثيرًا ما تجد الرجل قد برَّز في اللطيف من أبواب العلم والنظر، وتخلَّف في (4) الجليل منهما، وأصاب الأغمض الأدق منها، وأخطأ الأجل الأوضح. هذا أمرٌ واقع تحت العيان، فكيف [ق 25 أ] وعلوم الأنبياء ومعارفهم من وراء طَوْر العقل. والعقلُ وإن لم يستقلَّ بإدراكها فإنه لا يحيلها، بل إذا وردت عليه أقرَّ (5) بصحتها، وبادَرَ إلى قبولها، وأذعنَ
_________
(1) لفظ الجلالة ليس في «ب».
(2) أخرجه المحاسبي في «ماهية العقل» (ص 214) وأبو حاتم في «الزهد» (66) عن الحسن البصري – رحمه الله – بمعناه، وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 484) إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(3) «ح»: «واعتراهم».
(4) «ح»: «عن».
(5) «أقر» ليس في «ح».
(1/219)
بالانقياد إليها، وعلم أن نسبة العلوم التي نالها الناس بأفكارهم إليها (1) دون نسبة علوم الصبيان ومعارفهم إلى علوم هؤلاء بما لا يُدرك.
فصل
السبب الخامس: الإغراب على النفوس بما لم تكن عارفةً به من المعاني الغريبة (2) التي إذا ظفر الذِّهن بإدراكها نالَه لذةٌ من جنس لذة الظفَر بالصيد الوحشي الذي لم يكن يطمع فيه. وهذا شأن النفوس، فإنها مُوكَلة بكل غريبٍ تستحسنه وتُؤثِره وتنافس فيه، حتى إذا كثر ورخص وناله المثري (3) والمقلُّ زهدت فيه وأعرضت عنه (4)، مع كونه أنفعَ لها وخيرًا لها، ولكن لرخصه وكثرة الشركاء فيه تَزْهد (5) فيه وتطلب ما تتميز به عن غيرها للَّذة التفرد والاختصاص.
ثم اختاروا لتلك المعاني الغريبة ألفاظًا أغرب منها وألقَوْها في مسامع الناس، وقالوا: إن المعارف العقلية والعلوم اليقينية تحتها؛ فتحركت النفوس لطلب فَهْم تلك الألفاظ الغريبة وإدراك تلك المعاني. واتفقَ أن صادفت قلوبًا خالية من حقائق الإيمان وما بعث اللهُ به رسولَه، فتمكَّنت منها، فعزَّ على أطباء الأديان استنقاذها منها وقد تحكمت فيها، كما قيل (6):
_________
(1) «وعلم أن نسبة العلوم التي نالها الناس بأفكارهم إليها». سقط من «ب».
(2) من قوله: «الإغراب». إلى هنا ليس في «ح».
(3) المثري: كثير المال.
(4) «وأعرضت عنه» ليس في «ح».
(5) «ح»: «يزهد».
(6) البيت من قصيدة لظافر الحداد في «ديوانه» (ص 127)، ورواية «الديوان»:
تاللهِ ما علقتْ محاسنُكَ امرءًا … إلَّا وَعَزَّ على الورى استنقاذُهُ
وأنشده له ياقوت الحموي في «معجم الأدباء» (4/ 1464) وغيره، وأنشده المصنف في «إغاثة اللهفان» (2/ 879):
تاللهِ ما أسرتْ لواحظُك امرءًا … إلَّا وَعَزَّ على الورى استنقاذُهُ
(1/220)
تَاللهِ مَا أَسَرَ الْهَوَى مِنْ وَامِقٍ (1) … إِلَّا وَعَزَّ عَلَى الْوَرَى اسْتِنْقَاذُهُ
وبمكان (2) الاستغراب وقبول النفس لكل غريبٍ لهَجَ الناسُ بالأخبار الغريبة وعجائب المخلوقات والألغاز والأحاجي والصور الغريبة (3)، وإن كانت المألوفةُ أعجبَ منها وأحسن وأتمَّ خِلقةً.
فصل
السبب السادس: تقديم مقدمات قبل التأويل تكون (4) كالأطناب والأوتاد لفسطاطه:
فمنها: ذمُّ أصحاب الظواهر وعيبهم والإزراء بهم، وأنهم قومٌ جُهالٌ لا عقول (5) لهم، وإنما هم أصحاب ظواهر سمعية، وينقلون من مثالبهم وبَلَهِهم ما بعضه صدقٌ (6) وأكثره كذبٌ، كما يُحكى أن بعضهم سُئل عن قوله: {اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى} [طه: 4] هل هو حقيقة أو مجاز؟ قال:
_________
(1) «ب»: «واثق». والوامق: المحب. «الصحاح» (4/ 1568).
(2) «ب»: «ولما كان».
(3) «والصور الغريبة» ليس في «ح».
(4) «ب»: «يكون».
(5) «ب»: «معقول».
(6) «صدق». سقط من «ح».
(1/221)
لا حقيقة ولا مجاز. فقال له: جزاك الله عن ظاهريتك خيرًا. وأمثال هذا. ويحكون عنهم إنكار أدلة العقول (1)، والبحث والنظر وجدال أهل الباطل، والنفوس طالبة للنظر والبحث والتعقل.
ومنها: قولهم: إن الخطاب بالمجاز والاستعارة أعذبُ وأوفق وألطف. وقد قال بعض أئمة النحاة (2): أكثر اللغة مجاز. فإذا كان أكثر اللغة (3) مجازًا سهل على النفوس أنواع التأويلات، فقُلْ ما شئتَ، وأوِّلْ ما شئتَ وانزِلْ عن الحقيقة، ولا يضرك أي مجازٍ ركبتَه.
ومنها: قولهم: إن أدلة القرآن والسُّنَّة أدلةٌ لفظيةٌ، وهي لا تفيد علمًا ولا يقينًا، والعلم إنما يستفاد من أدلة المعقول (4) وقواعد المنطق.
ومنها: قولهم: إذا تعارَضَ العقلُ والنقل قدِّم العقل على النقل.
فهذه المقدمات ونحوها هي أساس التأويل، فإذا انضمت هذه الأسباب بعضها إلى بعضٍ وتقارَنَت (5)، فيا محنة القرآن والسُّنَّة، وقد (6) سلكا في قلوبٍ قد تمكنت منها هذه الأسباب، فهنالك التأويل والتحريف والتبديل والإضمار والإجمال.
_________
(1) «ب»: «المعقول».
(2) بيَّنه المصنف بقوله: «وقد صرح ابن جني أن أكثر اللغة مجاز» كما في «مختصر الصواعق» (2/ 771). وكلام ابن جني في «الخصائص» (2/ 447).
(3) «مجاز فإذا كان أكثر اللغة». سقط من «ح».
(4) «ح»: «العقول».
(5) «ح»: «تقاربت».
(6) «قد» ليس في «ح».
(1/222)
الفصل العشرون
في بيان أن أهل التأويل
لا يمكنهم إقامة الدليل السمعي على مبطل أبدًا
هذا من أعظم آفات التأويل وجنايته على الإسلام، أنه يُبطِل حُجج الله على المبطِلين على ألسنة المتأوِّلين، وإلَّا فلا تبطل حُجج الله (1) وبيِّناته أبدًا.
من المعلوم أن كل مبطلٍ أنكر على خصمه شيئًا من الباطل قد شاركه في بعضه أو في نظيره، فإنه لا يتمكن مِن دحْضِ حُجته وكسرِ باطله؛ لأن خصمه تسلَّط (2) عليه بمثل ما تسلط (3) هو به عليه. وهذا شأن أهل الأهواء مع بعضهم بعضًا (4)، ولهذا كان غايةَ ما يأتون به إبداءُ تناقض بعضهم بعضًا، وكسرُ أقوال بعضهم ببعضٍ. وفي هذا منفعةٌ جليلةٌ لطالب الحقِّ؛ فإنه يكتفي بإبطال كل فرقةٍ لقول الفرقة الأخرى. فيقول: إذا احتج المتأوِّل بحُجةٍ سمعيةٍ على مبطلٍ أمكن خصمَه أن يقول له: أنا أتأوَّل هذه الحُجة كما تأوَّلتَ أنت كَيْتَ وكيت.
مثاله: أن يحتجَّ مَن يتأول الصِّفات الخبرية وآيات الفوقية والعلو على مَن ينكر ثبوت صفة السمع والبصر والعلم بالآيات والأحاديث الدالة على ثبوتها، فيقول له خصمُه: هذه عندي مؤوَّلة، كما أوَّلتَ أنت نصوص الاستواء
_________
(1) من قوله: «على المبطلين». إلى هنا سقط من «ح».
(2) «ح»: «يسلط».
(3) «ح»: «سلط».
(4) كذا، وهو أسلوب عامي، والعربية: «بعضهم مع بعضٍ». وسيأتي نظيره (ص 234).
(1/223)
والفوقية والوجه واليدين والنزول والضحك والفرح والغضب والرضا ونحوها، فما الذي جعلك أولى بالصواب في تأويلك منِّي. فلا يذكر سببًا (1) حمَلَه (2) على التأويل إلَّا أتاه خَصمه بسببٍ مِن جنسه أو أقوى منه أو دونه يحمله على التأويل.
وإذا استدل المتأوِّل على مُنكري المَعاد وحشر الأجساد بنصوص الوحي أبدَوْا لها تأويلات تخالف ظاهرها وحقائقها، وقالوا لمن استدل بها عليهم: تأويلنا لهذه الظواهر كتأويلك لنصوص الصِّفات، ولا سيما أنها أكثر (3) وأصرح؛ فإذا تطرَّق التأويل إليها فهو إلى [ق 25 ب] ما دونها أقرب تطرقًا.
وإذا استدل على الرافضة بالنصوص الدالة على فضل الشيخين وسائر الصحابة تأولوها بما هو مِن جِنس تأويل الجهمي لآيات الصِّفات، وقد تكون تأويلاتهم في كثيرٍ من المواضع أقوى من تأويلات الجهمي (4) كما تكون مثلها ودونها.
وإذا احتجَّ الجهمي على الخارجي بالنصوص الدالة على إيمان مرتكب الكبائر، وأنه لا يَكفُر ولا يَخلُد في النار، واحتج بها على الوعيدية القائلين بنفوذ الوعيد والتخليد، قالوا: هذه متأوَّلةٌ، وتأويله أقرب من تأويل نصوص الصفات.
وإذا احتجَّ على المرجئة بالنصوص الدالة على أن الإيمان قولٌ وعملٌ ونيةٌ، يزيد وينقص. قالوا: هذه النصوص قابلة للتأويل، كما قبلته نصوص
_________
(1) «ح»: «شيئًا».
(2) «حمله» ليس في «ح».
(3) «ح»: «أكبر».
(4) من قوله: «لآيات الصِّفات» إلى هنا سقط من «ح».
(1/224)
الاستواء والفوقية والصفات الخبرية، فنعمل فيها ما عملتم أنتم في تلك النصوص، والقواعد التي حملتكم على تأويلها، عندنا قواعد حملتنا على تأويل هذه الظواهر.
وإذا احتج أهل الجبر على أهل القدر بالنصوص الدالة على أن أعمال (1) العباد مخلوقةٌ لله، واقعةٌ بقدرته ومشيئته، تأولوها بنظير ما تأول به خصومهم النصوص الدالة على أنها أفعال للعباد حقيقة، وأنها واقعة بقدرتهم ومشيئتهم، وكذلك خصومهم معهم بهذه المثابة.
وإذا احتجَّ مَن أثبت الرؤية في الآخرة من أهل التأويل على من نفاها قال له: أنا (2) أتأول هذه الظواهر بما تأوَّلتَ به أنت آيات الصِّفات الخبرية وأحاديثها.
وإذا احتجَّ مَن أثبت العلم بجميع المعلومات جزئياتها وكلياتها لله من أهل التأويلات (3) بالنصوص الدالة على ذلك، قال له المنكر: ليست هذه النصوص بأكثرَ من نصوص الفوقية والعلو واستواء الربِّ على عرشه ونزول الأمر من عنده وعروج الملائكة إليه، فإذا كانت تلك مؤولة عندك ـ على كثرتها وتضافرها ـ فهذه أولى بقبول التأويل.
فقد بان أنه لا (4) يمكن أهل التأويل أن يُقِيموا على مبطلٍ حُجةً من
_________
(1) «أعمال» سقط من «ح».
(2) «أنا» ليس في «ح».
(3) «ب»: «التأويل».
(4) «لا» سقط من «ب».
(1/225)
كتابٍ ولا سُنةٍ، فحينئذٍ فيترك (1) الاستدلال بالكتاب والسُّنَّة على كل مبطِلٍ، ولم يبقَ إلَّا تصادم الآراء ونتائج الأفكار، لا سيما وقد أعطى الجهمي من نفسه أن أكثر اللغة مجازٌ، وأن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين، وأن العقل إذا (2) عارَضَ السمعَ وجب تقديم العقل والإعراض عن السمع وإهداره. ثم إما أن يشتغل بتأويله وهي طريقة الخلف العالمين، أو يفوضه ولا يحتج به، وهي طريقة السلف السالمين، فكيف يقوم بعد هذا حُجةٌ من كتابٍ أو سُنةٍ على مبطلٍ من العالمين.
ولهذا كان فتْحُ باب التأويل على النصوص يتضمن عيبها والطعن فيها وعزْلها عن سلطانها، وولاية الآراء الباطلة والشُّبَه الفاسدة.
بل نقول: إنه لا يمكن أرباب التأويل أن يُقِيموا على مبطلٍ حجةً عقليةً أبدًا، وهذا أعجب من الأول. وبيانه: أن الحُجج السمعية مطابقة للمعقول، والسمع الصحيح لا ينفك عن العقل الصريح، بل هما أخوانِ نصيران، وصل الله بينهما، وقرن أحدَهما بصاحبه؛ فقال تعالى (3): {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اِللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} [الأحقاف: 25]، فذكر ما ينال به العلوم وهي السمع والبصر والفؤاد الذي هو محل العقل.
_________
(1) «ب»: «فترك».
(2) «ب»: «إذ».
(3) من قوله: «فيه وجعلنا لهم سمعا» إلى قوله: «ما ذكرنا من تصرف». في الصفحة بعد التالية سقط من «ح».
(1/226)
وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ اِلسَّعِيرِ} [الملك: 11] فأخبروا أنهم خرجوا عن موجب السمع والعقل.
وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَأيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [يونس: 67] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَأيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4]، وقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 25] فدعاهم إلى استماعه بأسماعهم وتدبُّرِه بعقولهم. ومثله قوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا اُلْقَوْلَ} [المؤمنون: 69]. وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى اَلسَّمْعَ وَهْوَ شَهِيدٌ} [ق: 37].
فجمع سبحانه بين السمع والعقل، وأقام بهما حُجته على عباده، فلا ينفك أحدهما عن صاحبه أصلًا، فالكتاب المنزل والعقل المدرِك حُجة الله على خَلْقه. وكتابه هو الحجة العظمى، فهو الذي عرفنا ما لم يكن لعقولنا سبيلٌ إلى استقلالها بإدراكه أبدًا، فليس لأحدٍ عنه مذهبٌ، ولا إلى غيره مفزعٌ في مجهولٍ يعلمه، ومشكلٍ يستبينه، وملتبسٍ يوضحه. فمن ذهب عنه فإليه يرجع، ومَن دفع حكمه فبه يُحاجُّ خصيمه، إذ كان بالحقيقة هو المرشد إلى الطرق العقلية والمعارف اليقينية التي بالعباد إليها أعظم حاجة. فمَن ردَّ من مدَّعِي البحث والنظر حكومته ودفع قضيته فقد كابَرَ وعاند، ولم يكن لأحدٍ سبيل إلى إفهامه ولا محاجته ولا تقرير الصواب عنده. وليس لأحدٍ أن يقول إني غير راضٍ بحكمه بل بحكم العقل، فإنه متى ردَّ حُكمه فقد ردَّ حكم العقل الصريح، وعانَدَ الكتاب والعقل.
والذين زعموا من قاصري العقل والسمع أن العقل يجب تقديمه على السمع عند تعارضهما؛ إنما أُتوا مِن جهلهم بحكم العقل ومقتضى السمع، فظنوا ما ليس بمعقولٍ معقولًا، وهو في الحقيقة شبهات توهَّم أنه عقلٌ
(1/227)
صريحٌ، وليست كذلك؛ أو مِن جهلهم بالسمع، إمَّا نسبتهم إلى الرسول ما لم يقله أو نسبتهم إليه ما لم (1) يرده بقوله، وإمَّا لعدم تفريقهم بين ما لا يُدرك بالعقول وبين ما لا يُدرك استحالته بالعقول. فهذه أربعة أمور أوجبت لهم ظنَّ التعارض بين السمع والعقل:
أحدها: كون القضية ليست من قضايا العقول.
الثاني: كون ذلك السمع ليس من السمع الصحيح المقبول.
الثالث: عدم فَهم مراد المتكلم به.
الرابع: عدم التمييز بين ما يحيله (2) العقل وما لا يدركه.
والله سبحانه حاجَّ عباده على أَلسُن رسله وأنبيائه فيما أراد تقريرهم به وإلزامهم إيَّاه بأقربِ الطرق إلى العقل، وأسهلِها تناولًا، وأقلها تكلفًا، وأعظمها غَناءً ونفعًا، وأجلِّها ثمرةً وفائدةً. فحُجَجه سبحانه العقلية التي بيَّنها في كتابه جمعت بين كونها عقليةً سمعيةً ظاهرةً واضحةً، قليلةَ المقدمات، سهلة الفهم، قريبة التناول، قاطعة الشكوك والشُّبه، مُلزِمة للمعاند والجاحد. ولهذا كانت المعارف التي استنبطت منها في القلوب أرسخ، ولعموم الخلق أنفع.
وإذا تتبَّع المتتبِّع ما في كتاب الله ممَّا حاجَّ به عباده في إقامة التوحيد وإثبات الصِّفات وإثبات الرسالة والنبوة، وإثبات المعاد وحشر الأجساد، وطرق إثبات علمه بكل خفيٍّ وظاهرٍ، وعموم قدرته ومشيئته، وتفرده بالملك والتدبير، وأنه لا يستحق العبادة سواه = وجد الأمر في ذلك على ما
_________
(1) «يقله أو نسبتهم إليه ما لم» سقط من «ب». وأثبته من «م».
(2) «ب»: «تخيله». والمثبت هو الصواب.
(1/228)
ذكرناه مِن تصرُّف (1) المخاطبة منه سبحانه في ذلك على أجلِّ وجوه الحِجَاج، وأسبقها إلى القلوب، وأعظمها ملاءمةً للعقول، وأبعدها من الشكوك والشُّبه، في أوجز لفظٍ وأبينِه، وأعذبه وأحسنه، وأرشقِه (2) وأدله على المراد.
وذلك مثل قوله تعالى فيما حاجَّ به عباده من إقامة التوحيد وبطلان الشرك، وقطع أسبابه، وحسم مواده كلها: {قُلُ اُدْعُوا اُلَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اِللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَلَا فِي اِلْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنفَعُ اُلشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أُذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا اُلْحَقَّ وَهْوَ اَلْعَلِيُّ اُلْكَبِيرُ} [سبأ: 22 – 23].
فتأمل كيف أخذتْ هذه الآية على المشركين مَجامع (3) الطُّرق التي دخلوا منها إلى الشرك، وسدتها عليهم أحكم سدٍّ وأبلغه! فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجو مِن نفعه، وإلَّا فلو لم يرجُ منه منفعةً لم يتعلق قلبه به (4)، وحينئذٍ فلا بد أن يكون المعبود مالكًا للأسباب التي ينفع بها عابده أو شريكًا لمالكها، أو ظهيرًا ووزيرًا ومعاونًا (5) له، أو وجيهًا ذا حُرمةٍ وقدرٍ يشفع عنده. فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجهٍ وبطلت انتفت أسباب الشرك وانقطعت موادُّه.
_________
(1) هنا انتهى السقط من «ح».
(2) «ح»: «وأرسنه».
(3) «ب»: «بمجامع».
(4) «به» ليس في «ح».
(5) «ح»: «أو وزيرا أو معاونا».
(1/229)
فنفى سبحانه عن آلهتهم أن تملك مثقالَ ذرةٍ في السماوات والأرض. فقد يقول المشرك: هي شريكةٌ لمالك (1) الحق، فنفى شركتها له. فيقول المشرك: قد تكون ظهيرًا ووزيرًا ومعاونين (2)، فقال: {وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ} فلم يبق إلَّا الشفاعة، فنفاها عن آلهتهم، وأخبر أنه لا يشفع عنده أحدٌ إلَّا بإذنه فهو الذي يأذن للشافع. فإن (3) لم يأذن له لم يتقدم بالشفاعة بين يديه، كما يكون في حق (4) المخلوقين، فإن المشفوع عنده يحتاج إلى الشافع ومعاونته له، فيقبل شفاعته، وإن لم يأذن له فيها. وأمَّا مَن كلُّ ما سواه فقيرٌ إليه بذاته، وهو الغني بذاته عن كل ما سواه، فكيف يشفع عنده [ق 26 أ] أحدٌ بدون إذنه.
وكذلك قوله سبحانه مقرِّرًا لبرهان التوحيد أحسن تقرير وأوجزه وأبلغه: {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا تَقُولُونَ إِذًا لَّاَبْتَغَوْا إِلَى ذِي اِلْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42]. فإن الآلهة التي كانوا يثبتونها معه سبحانه كانوا يعترفون بأنها عبيده ومماليكه ومحتاجةٌ إليه، فلو كانوا آلهةً كما يقولون لعبدوه وتقربوا إليه وحده دون غيره، فكيف يعبدونهم من دونه.
وقد أفصحَ سبحانه بهذا بعينه في قوله: {أُوْلَئِكَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمِ اِلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] أي: هؤلاء الذين يعبدونهم مِن دوني هم عبيدي ـ كما أنتم عبيدي ـ يرجون
_________
(1) «ب»: «المالك».
(2) كذا في النسختين، والذي في «م»: «ومعاونًا».
(3) «ح»: «وإن».
(4) «ح»: «بأحق».
(1/230)
رحمتي، ويخافون عذابي، كما ترجون أنتم رحمتي، وتخافون عذابي، فلماذا تعبدونهم من دوني؟
وقال تعالى: {مَا اَتَّخَذَ اَللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اَللَّهِ عمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 92]. فتأمَّلْ هذا البرهان الباهر بهذا اللفظ الوجيز البيِّن (1)، فإن الإله الحق لا بد أن يكون خالقًا فاعلًا، يُوصِل إلى عابده النفعَ، ويدفع عنه الضرَّ، فلو كان معه سبحانه إلهٌ لكان له خلقٌ وفعلٌ، وحينئذٍ فلا يرضى بشركة الإله الآخر (2) معه، بل إنْ قَدَر على قهره وتفرُّده بالإلهية دونه فعَلَ (3)، وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخَلْقه وذهب به، كما ينفرد ملوك الدنيا عن بعضهم بعضًا بممالكهم (4)؛ إذا لم يقدر المنفرد على قهر الآخر والعلو عليه، فلا بد من أحد أمورٍ ثلاثة:
إمَّا أن يذهب كل إلهٍ بخَلْقه وسلطانه.
وإمَّا أن يعلو بعضهم على بعضٍ.
وإمَّا أن يكون كلهم تحت (5) قهر إلهٍ واحدٍ وملكٍ واحدٍ، يتصرف فيهم ولا يتصرفون فيه، ويمتنع مِن حُكمهم عليه (6)، ولا يمتنعون مِن حُكمه
_________
(1) «البين» ليس في «ح».
(2) «ح»: «الآمر».
(3) «ح»: «فعلي».
(4) «ح»: «بمماليكهم».
(5) «تحت» ليس في «ح».
(6) «عليه» ليس في «ح».
(1/231)
عليهم، فيكون وحده هو الإله الحق، وهم العبيد المربوبون المقهورون.
وانتظامُ أمر العالم العلوي والسفلي، وارتباطُ بعضه ببعضٍ، وجريانُه على نظامٍ محكمٍ لا يختلف ولا يفسد = من أدلِّ دليلٍ على أن مدبره واحدٌ لا إله غيره، كما دلَّ (1) دليل التمانع على أن خالقه واحدٌ لا ربَّ له غيره، فذاك تمانع في الفعل والإيجاد، وهذا تمانع في الغاية والإلهية، فكما يستحيل أن يكون للعالم ربَّانِ (2) خالقينِ متكافئينِ (3)، يستحيل أن يكون له إلهان معبودان.
ومن ذلك قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اُللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ اَلَّذِينَ مِن دُونِهِ} [لقمان: 10]. فلله ما أحلى هذا اللفظَ وأوجزَه وأدلَّه على بطلان الشرك، فإنهم إن زعموا أن آلهتهم خَلقت شيئًا مع الله طُولبوا بأن يُروه إيَّاه، وإن اعترفوا بأنها أعجز وأضعف وأقل من ذلك كانت إلاهيَّتها باطلًا ومحالًا.
ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ أَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اِللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ اَلْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي اِلسَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 3]، فطالبهم بالدليل العقلي والسمعي.
وقال تعالى: {قُلْ مَن رَّبُّ اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ قُلِ اِللَّهُ قُلْ أَفَاَتَّخَذتُّم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اِلْأَعْمَى وَاَلْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي اِلظُّلُمَاتُ وَاَلنُّورُ (17) أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ اَلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اِللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهْوَ اَلْوَاحِدُ اُلْقَهَّارُ} [الرعد: 17 – 18]. فاحتجَّ على
_________
(1) «ب»: «يدل».
(2) «ح»: «ربين».
(3) كذا في النسخ.
(1/232)
تفرده بالإلهية بتفرده بالخلق، وعلى بطلان إلاهية ما سواه بعجزهم عن الخَلْق، وعلى أنه واحدٌ بأنه قهار، والقهر التام يستلزم الوحدة، فإن الشركة تنافي تمام القهر.
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا اَلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاَسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اِللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ اُلذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ اَلطَّالِبُ وَاَلْمَطْلُوبُ (71 ) مَا قَدَرُوا اُللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اَللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 71 – 72]. فتأمَّلْ هذا المثل ـ الذي أمر الناس كلهم باستماعه، فمن لم يستمعه (1) فقد عصى أمره ـ كيف تضمن إبطال الشرك وأسبابه بأصحِّ برهانٍ في أوجز عبارةٍ وأحسنها وأحلاها، وأَسْجَلَ (2) على جميع آلهة المشركين أنهم لو اجتمعوا كلهم في صعيدٍ واحدٍ، وساعد بعضهم بعضًا وعاونه بأبلغ المعاونة، لَعجزوا عن خَلْق ذبابٍ واحدٍ. ثم بيَّن (3) ضعفهم وعجزهم عنِ استنقاذ ما يسلبهم الذباب إيَّاه حين يسقط عليهم. فأي شيءٍ (4) أضعف من هذا الإله المطلوب، ومِن عابدِه الطالبِ نفعَه وخيرَه (5)! فهل قدَّر القويَّ العزيزَ حقَّ قدره من أشرك معه آلهةً هذا شأنها!
فأقام سبحانه حُجة التوحيد، وبيَّن إفك أهل الشرك والإلحاد بأعذب ألفاظ وأحسنها، لم يستكرهها غموضٌ، ولم يُشِنْها تطويلٌ، ولم يعبها
_________
(1) «ح»: «يسمعه».
(2) أسجلَ لهم الأمرَ: أطلقه لهم. «تاج العروس» (14/ 334).
(3) «ح»: «تبين».
(4) «ح»: «إله من».
(5) «ح»: «وحده».
(1/233)
تقصيرٌ (1)، ولم يُزْرِ (2) بها زيادةٌ ولا نقصٌ، بل بلغت في الحسن والفصاحة والبيان والإيجاز ما لا يتوهم متوهمٌ ولا يظن ظانٌّ أن يكون أبلغَ في معناها منها. وتحتها من المعنى الجليل القدر العظيم الشرف البالغ في النفع ما هو أجلُّ من الألفاظ.
ومن ذلك احتجاجه سبحانه على نبوة رسوله، وصحة [ق 26 ب] ما جاء به من الكتاب، وأنه من عنده وكلامه الذي تكلَّم (3) به، وأنه ليس من صنعة البشر ولا من كلامهم = بقوله: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَاَدْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اِللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 22]. فأمر مَن ارتاب في هذا القرآن الذي نزَّله على (4) عبده وأنه كلامه أن يأتي بسورةٍ واحدةٍ مثله، وهذا يتناول أقصر سورة من سوره. ثم فسحَ له إن عجزَ عن ذلك أن يستعين بمن أمكنه الاستعانةُ (5) به من المخلوقين، وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ اَفْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَاَدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اِللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38]، وقال: {أَمْ يَقُولُونَ اَفْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَاَدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اِللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13]، وقال: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ (31 ) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 31 – 32].
_________
(1) «ح»: «تعقيد».
(2) «ح»: «تزر».
(3) «ح»: «يتكلم».
(4) «على» سقط من «ح».
(5) «ح»: «لاستعماله».
(1/234)
ثم أَسجَلَ سبحانه عليهم إسجالًا عامًّا في كل (1) زمانٍ ومكانٍ بعجزهم عن ذلك، ولو تظاهر عليه الثقلان، فقال: {قُل لَّئِنِ اِجْتَمَعَتِ اِلْإِنسُ وَاَلْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا اَلْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]. فانظر أي موقعٍ يقع من الأسماع والقلوب هذا الحِجَاج القاطع الجليل الواضح، الذي لا يجد طالبُ الحقِّ ومُؤثِره ومريده (2) عنه مَحيدًا، ولا فوقه مزيدًا، ولا وراءه غاية، ولا أظهر منه آية، ولا أصحَّ منه (3) برهانًا، ولا أبلغ منه بيانًا.
وقال في إثبات نبوة رسوله باعتبار التأمل لأحواله وتأمُّل دعوته وما جاء به: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا اُلْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ اُلْأَوَّلِينَ ( 69 ) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (70) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون: 69 – 71]. فدعاهم سبحانه إلى تدبر القول وتأمُّل حال القائل، فإن كون القول (4) كذبًا وزورًا يُعلم من نفس القول تارةً، وتناقُضه واضطرابه، وظهور شواهد الكذب عليه، فالكذب بادٍ على صفحاته، وبادٍ (5) على ظاهره وباطنه. ويُعرف من حال القائل تارةً؛ فإن المعروف بالكذب والفجور والمكر والخداع لا تكون أقواله إلَّا مناسبة لأفعاله، ولا يتأتى منه من القول والفعل ما يتأتى من البارِّ الصادق، المبرَّأ من
_________
(1) «كل» سقط من «ح».
(2) «ب»: «ويريده وليس».
(3) «منه» ليس في «ح».
(4) بعده في «ح»: «للشيء».
(5) «ح»: «مباد». ومن قوله «وظهور شواهد» إلى هنا سقط من «ب».
(1/235)
كل فاحشةٍ وغدرٍ وكذبٍ وفجورٍ، بل قلب (1) هذا وقصده وقوله وعمله يشبه بعضه بعضًا، وقلب ذلك وقوله وعمله وقصده يشبه (2) بعضُه بعضًا. فدعاهم سبحانه إلى تدبُّر القول، وتأمُّل سيرة القائل وأحواله، وحينئذٍ يتبين لهم حقيقة الأمر، وأن ما جاء به في (3) أعلى مراتب الصدق.
وقال تعالى: {قُل لَّوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْراكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثتُّ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [يونس: 16]. فتأمَّلْ هاتين الحُجتين القاطعتين تحت هذا اللفظ الوجيز:
إحداهما: أن هذا من الله لا مِن قِبَلي، ولا هو مقدور لي، ولا من جنس مقدور البشر، وأن الله سبحانه وتعالى لو شاء لأمسك عنه قلبي ولساني وأسماعكم وأفهامكم، فلم أتمكن من تلاوته عليكم، ولم تتمكنوا من درايته وفَهْمه.
الحُجة الثانية: أني قد لبثتُ فيكم عُمُري إلى حين أتيتكم به، وأنتم تشاهدوني وتعرفون حالي، وتصحبوني (4) حضرًا وسفرًا، وتعرفون دقيق أمري وجليله، وتتحققون سيرتي، هل كانت سيرة مَن هو مِن أكذب الخلق وأفجرهم وأظلمهم؟ فإنه لا أكذبَ ولا أظلم ولا أقبح سيرةً ممَّن جاهَرَ ربَّه وخالقه بالكذب والفِرية عليه، وطلب إفساد العالم، وظلم النفوس، والبغي في الأرض بغير الحق. هذا وأنتم تعلمون أني لم أكن أقرأ كتابًا ولا أخطُّه
_________
(1) «ح»: «قلت».
(2) «ح»: «نسبة».
(3) «ح»: «من».
(4) قوله: «تشاهدوني»، «وتصحبوني» كذا في النسختين بحذف نون الرفع.
(1/236)
بيميني، ولا صاحبت من أتعلم منه، بل صحبتكم أنتم في أسفاركم لمن تتعلمون منه وتسألونه عن أخبار الأمم والملوك وغيرها ما (1) لم أشارككم فيه بوجهٍ، ثم جئتكم بهذا النبأ العظيم الذي فيه علمُ الأولين والآخرين وعلمُ ما كان وما (2) سيكون على التفصيل. فأي برهانٍ أوضح من هذا، وأي عبارةٍ أفصح (3) وأوجز من هذه العبارة المتضمنة له؟
وقال تعالى: {* قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46]. ولمَّا كان للإنسان (4) ـ الذي يطلب معرفة الحق والصواب ـ حالتان (5):
إحداهما (6): أن يكون ناظرًا مع نفسه.
والثانية: أن يكون مناظرًا لغيره (7).
أمَرَهم بخَصلةٍ واحدةٍ، وهي أن يقوموا لله اثنين اثنين، فيتناظران ويتساءلان بينهما، وواحدًا واحدًا، يقوم كل واحدٍ مع نفسه، فيتفكر في أمر هذا الداعي وما يدعو إليه، ويستدعي أدلةَ الصدق والكذب، ويعرض ما جاء
_________
(1) «ح»: «مما».
(2) «ما» ليس في «ح».
(3) «ح»: «أنصح».
(4) «ح»: «الإنسان».
(5) النسختين: «حالتين». والمثبت من «م»: «حالتان». وهو الصواب.
(6) «ح»: «أحدهما».
(7) «ح»: «لمعرفة».
(1/237)
به عليها ليتبين (1) له حقيقة الحال، فهذا هو الحِجاج الجليل والإنصاف البيِّن والنصح التام.
وقال سبحانه في تثبيت أمر البعث [ق 27 أ]: {* وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِ اِلْعِظَامَ وَهْيَ رَمِيمٌ (77) قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهْوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 77 – 78] إلى آخر السورة. فلو رام أعلم البشر وأفصحهم وأقدرهم على البيان أن يأتي بأحسن من هذه الحُجة أو بمثلها، في ألفاظ تشابه (2) هذه الألفاظ في الإيجاز والاختصار ووضوح الدلالة وصحة البرهان، لَألفى نفسه ظاهر العجز منقطعَ الطمع مستحكم اليأس (3) من ذلك.
فإنه سبحانه افتتح هذه الحُجة بسؤال أورده الملحد اقتضى جوابًا، فكان في قوله سبحانه: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} ما وفَّى بالجواب، وأقام الحُجة، وأزال الشُّبهة، لولا ما أراد سبحانه من تأكيد (4) حُجته وزيادة تقريرها، وذلك أنه سبحانه أخبر أن هذا الملحد السائل عن هذه المسألة لو لم ينسَ خَلْق نفسه وبدْء كونه (5) وذِكْر خَلْقه لكانت فكرته فيه كافية في جوابه، مُسكِتة له عن هذا السؤال.
ثم أوضح سبحانه ما تضمنه قوله: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ}، وصرَّح به جوابًا له عن مسألته، فقال: {قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 78]. فاحتج بالإبداء على الإعادة، وبالنشأة الأولى على النشأة الأخرى، إذ كل عاقلٍ يعلم
_________
(1) «ح»: «لتبين».
(2) «ح»: «مشابه».
(3) في النسختين: «يستحكم الناس». والمثبت هو الصواب إن شاء الله.
(4) «ح»: «تأكيده».
(5) «ح»: «وتذاكر به».
(1/238)
علمًا ضروريًّا أن مَن قدر على هذه قدر على هذه، وأنه (1) لو كان عاجزًا عن الثانية لكان عن الأولى أعجز وأعجز.
ولما كان الخَلْق يستلزم قدرة الخالق على مخلوقه وعلمه بتفاصيل خلقه أتبع ذلك بقوله: {وَهْوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78]، فهو عليم بالخلق الأول وتفاصيله وجزئياته ومواده وصورته وعلله الأربع، وكذلك هو عليم بالخلق الثاني وتفاصيله ومواده وكيفية إنشائه. فإذا كان تامَّ العلم كاملَ القدرة، فكيف (2) يتعذر عليه أن يُحْيي العظام وهي رميمٌ.
ثم أكَّد الأمر بحُجةٍ قاهرةٍ وبرهانٍ ظاهرٍ يتضمن جوابًا عن سؤال ملحدٍ آخر يقول: العظام إذا صارت رميمًا عادت طبيعتها باردةً يابسة، والحياة لا بد أن تكون مادتها وحاملها طبيعةً حارة رطبة لتقبل صورة الحياة. فتولَّى سبحانه جواب هذا السؤال (3) بما يدل على أمر البعث؛ ففيه الدليل والجواب معًا، فقال: {اِلَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ اَلشَّجَرِ اِلْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: 79]، فأخبر سبحانه بإخراج هذا العنصر الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة من الشجر الأخضر الممتلئ بالرطوبة والبرودة. فالذي يخرج الشيء من ضدِّه، وتنقاد (4) له مواد المخلوقات وعناصرها، ولا تستعصي (5) عليه، هو الذي يفعل ما أنكره الملحد ودفعه مِن إحياء
_________
(1) «وأنه» سقط من «ح».
(2) «ح»: «كيف».
(3) من قوله: «رطبة لتقبل» إلى هنا سقط من «ح».
(4) «ح»: «ينقاد».
(5) «ح»: «يستعصي».
(1/239)
العظام وهي رميم.
ثم (1) أكَّد هذا بأخذ الدلالة من الشيء الأجلِّ (2) الأعظم على الأيسر الأصغر، وأن كل عاقلٍ يعلم أن مَن قدَرَ على العظيم الجليل فهو على ما دونه بكثيرٍ أقدرُ وأقدر (3)، فمن قدر على حمل قنطار فهو على حمل أوقية أشد اقتدارًا، فقال: {أَوَلَيْسَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} [يس: 80]. فأخبر سبحانه أن الذي أبدع السماواتِ والأرضَ (4) على جلالتهما، وعِظَم شأنهما، وكبر أجسامهما وسعتهما، وعجيب خلقتهما = أقدرُ على أن يحيي عظامًا قد صارت رميمًا، فيردها إلى حالتها الأولى، كما قال في موضع آخر: {لَخَلْقُ اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ اِلنَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57]، وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللَّهَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ اَلْمَوْتَى} (5) [الأحقاف: 32].
ثم أكَّد (6) سبحانه ذلك وبيَّنه ببيانٍ آخر يتضمَّن مع إقامة الحُجة دفْعَ شبهةِ كل ملحدٍ وجاحدٍ، وهو أنه ليس في فعله بمنزلة غيره الذي يفعل بالآلات والكُلْفة والتعب والمشقة، ولا يمكنه الاستقلال بالفعل، بل لا بد معه من آلةٍ
_________
(1) «ثم» ليس في «ح».
(2) «ح»: «الأصلي».
(3) «وأقدر» ليس في «ح».
(4) من قوله: {بِقَادِرٍ عَلَى} إلى هنا سقط من «ح».
(5) النسختين: «أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يحيي الموتى». وقد أدخل آيتين بعضهما في بعض.
(6) «ح»: «أخذ».
(1/240)
ومشاركٍ ومعينٍ، بل (1) يكفي في خَلْقه لما يريد أن يخلقه ويكونه نفسُ إرادته، وقوله للمكوَّن: كن، فإذا هو كائنٌ كما شاءه وأراده. فأخبر عن نفاذ مشيئته وإرادته، وسرعة تكوينه وانقياد المكوَّن له، وعدم استعصائه عليه.
ثم ختم هذه الحُجة بإخباره أن ملكوت كل شيءٍ بيده، فيتصرف فيه بفعله، وهو (2) قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 82].
فتبارك الذي تكلَّم (3) بهذا الكلام الذي جمع في نفسه بوَجَازته وبيانه وفصاحته وصحة برهانه كل ما تلزم الحاجة إليه من تقرير الدليل وجواب الشبهة، ودحْض حُجة الملحد، وإسكات المعاند، بألفاظٍ لا أعذب منها عند السمع، ولا أحلى منها (4) ومن (5) معانيها للقلب، ولا أنفع من ثمرتها للعبد.
ومن هذا قوله سبحانه: {وَقَالُوا أَاذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَانَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا ممَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ اِلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثتُّمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 49 – 52].
فتأمَّلْ ما أُجيبوا به عن كل سؤال سؤال (6) على التفصيل، فإنهم قالوا
_________
(1) «ب»: «ما».
(2) «ح»: «و».
(3) «ح»: «يعلم».
(4) «ب»: «أعلى من».
(5) «ح»: «من».
(6) «سؤال» ليس في «ح».
(1/241)
أولًا: {أَاذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَانَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا}، فقيل لهم في جواب هذا السؤال: إن كنتم تزعمون أنه لا خالقَ لكم ولا ربَّ فهلا كنتم خَلْقًا لا يفنيه الموت كالحجارة والحديد، أو (1) ما هو أكبر في صدوركم من ذلك. فإن قلتم: لنا ربٌّ خالقٌ خلقنا على هذه الصفة، وأنشأنا هذه النشأة التي لا تقبل البقاء، ولم يجعلنا حجارة [ق 27 ب] ولا حديدًا = فقد قامت عليكم الحُجة بإقراركم، فما الذي يحول بين خالقكم ومُنشِئكم وبين إعادتكم خلقًا جديدًا.
وللحُجة تقرير آخر وهو: أنكم لو كنتم من حجارةٍ أو حديدٍ أو خلقٍ أكبر منهما لكان قادرًا على أن يُفنِيكم، ويُحِيل ذواتكم وينقلها من حالٍ إلى حالٍ. ومَن قَدَر على التصرف في هذه الأجسام مع شدتها وصلابتها بالإفناء والإحالة ونقْلِها من حالٍ إلى حالٍ، فما يُعجِزه عن التصرف فيما هو دونها بإفنائه وإحالته ونقله من حالٍ إلى حالٍ؟
فأخبر سبحانه أنهم يسألون سؤالًا آخر بقولهم: من يعيدنا إذا استحالت أجسامنا وفَنِيَت؟ فأجابهم بقوله: {قُلِ اِلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 51]. وهذا الجواب نظير جواب قول السائل: {مَن يُحْيِ اِلْعِظَامَ وَهْيَ رَمِيمٌ} [يس: 77]. فلمَّا أخذتهم الحُجة، ولزمهم حُكمُها، ولم يجدوا عنها معدلًا = انتقلوا إلى سؤالٍ آخر يتعللون به كما يتعلل المقطوع بالحِجاج بمثل ذلك، وهو قولهم: {مَتَى هُوَ}.فأجيبوا بقوله: {عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثتُّمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 51 – 52].
_________
(1) «ح»: «و».
(1/242)
ومن هذا قوله سبحانه: {أَيَحْسِبُ اُلْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (35) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ تُمْنَى (36) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى (37) فَجَعَلَ مِنْهُ اُلزَّوْجَيْنِ اِلذَّكَرَ وَاَلْأُنثى (38) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ اَلْمَوْتى} [القيامة: 35 – 39]. فاحتج سبحانه على أنه لا يترك الإنسانَ مهملًا معطلًا عن الأمر والنهي والثواب والعقاب، وأن حِكمته وقدرته تأبى ذلك. فإن مَن نقَلَه من نطفة منيٍّ إلى العَلَقة، ثم إلى المُضْغة، ثم خَلَقه وشقَّ سمعَه وبصرَه، وركَّب فيه الحواسَّ والقُوى والعظام والمنافع، والأعصاب والرباطات التي هي أَسْرُه (1)، وأتقن خلقَه وأحكمه غاية الإحكام، وأخرجه على هذا الشكل والصورة التي هي أتمُّ الصور وأحسن الأشكال، كيف يَعجِز عن إعادته وإنشائه مرةً ثانيةً؟! أم كيف تقتضي حكمته وعنايته به أن يتركه سُدًى؟! فلا يليق ذلك بحكمته، ولا تعجز عنه قدرته.
فانظر إلى هذا الحِجاج العجيب بالقول الوجيز الذي لا يكون أوجزُ منه، والبيان الجليل الذي لا يُتوهم أوضح منه، ومأخذه القريب (2) الذي لا تقع الظنون على أقرب منه.
وكذلك ما احتجَّ به سبحانه على النصارى مُبطِلًا لدعوى إلهية المسيح كقوله: {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاَتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 17]، فأخبر أن هذا الذي أضافه مَن نسَبَ الولدَ إلى الله من مشركي العرب والنصارى غير سائغٍ في العقول إذا تأمله المتأمل. ولو أراد الله أن يفعل هذا
_________
(1) الأَسْر الشد بالإسار، والعصب كالإسار، وقد أَسَرْتُه أسرًا وإسارًا، والأسر في كلام العرب: شدة الخلق. «تاج العروس» (10/ 48).
(2) «ح»: «أقرب».
(1/243)
لكان يصطفي لنفسه، ويجعل هذا الولد المتخذ من الجوهر الأعلى السماوي الموصوف بالخلوص والنقاء من عوارض البشر، المجبول على الثبات والبقاء، لا من جوهر هذا العالَم الفاني الداثر (1) الكثير الأوساخ والأدناس والأقذار.
ولمَّا كان هذا الحِجاج كما ترى في هذه القوة والجلالة أتبعه بقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18]. ونظير هذا قوله: {لَّوْ أَرَادَ اَللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاَصْطَفَى ممَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الزمر: 5]وقال سبحانه: {مَّا اَلْمَسِيحُ اُبْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ اِلرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ اِلطَّعَامَ اَنظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ اُلْأيَاتِ ثُمَّ اَنظُرْ أَنّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: 77] وقد تضمنت هذه الحُجة دليلين يبطلان إلهيَّة المسيح وأمه:
أحدهما: حاجتهما إلى الطعام والشراب، وضعف بِنْيتهما عن القيام بنفسهما، بل هي محتاجة فيما يُقِيمها إلى الغذاء والشراب، والمحتاج إلى غيره لا يكون إلهًا؛ إذ من لوازم الإله أن يكون غنيًّا.
الثاني: أن الذي يأكل الطعام يكون منه ما يكون من الإنسان من الفضلات القذرة التي يستحي الإنسان من نفسه وغيره حال انفصالها عنه، بل يستحي من التصريح بذكرها. ولهذا ـ والله أعلم ـ كنَّى سبحانه عنها بلازمها من أكل الطعام الذي ينتقل الذهن منه إلى ما يلزمه من هذه الفضلة،
_________
(1) في النسختين: «الدائر». ولعل الصواب ما أثبته. والداثر: الدارس، يقال: دثَرَ الرسمُ وتداثر واندثر: قَدُمَ ودرَسَ وعفا. «تاج العروس» (11/ 270 – 271).
(1/244)
فكيف يليق بالربِّ سبحانه أن يتخذ صاحبة وولدًا من هذا الجنس؟! ولو كان يليق به ذلك أو يمكن لكان الأَوْلى به أن يكون من جنسٍ لا يأكل ولا يشرب، ولا يكون منه الفضلات المستقذَرة التي يُستحى منها ويُرغب عن ذكرها.
فانظر ما تضمنه هذا الكلام الوجيز البليغ المشتمل على هذا المعنى العظيم الجليل الذي لا يجد سامعه مَغْمزًا له، ولا مَطْعنًا فيه، ولا تشكيكًا ولا سؤالًا يُورِده عليه، بل يأخذ بقلبه وسمعه.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهْوَ كَظِيمٌ 16 أَوَمَن يَنشَؤُا فِي اِلْحِلْيَةِ وَهْوَ فِي اِلْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 16 – 17]. احتجَّ سبحانه على هؤلاء الذين جعلوا له البنات بأن أحدهم لا يرضى بالبنات، وإذا بُشِّر بالأنثى حصل له من الحزن والكآبة ما ظهر منه السوادُ على وجهه، فإذا كان أحدكم لا يرضى بالإناث بناتًا (1)؛ فكيف تجعلونها لي؟! كما قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النحل: 62].
ثم ذكر سبحانه ضَعْف هذا الجنس الذي جعلوه له، وأنه أنقصُ الجنسين، ولهذا يحتاج في كماله إلى الحلية [ق 28 أ] وأضعفهما بيانًا، فقال تعالى: {أَوَمَن يَنشَؤُا فِي اِلْحِلْيَةِ وَهْوَ فِي اِلْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 17]، فأشار بنشأتهن في الحلية إلى أنهن (2) ناقصات، فيحتجن إلى حلية يَكمُلن بها، وأنهن عَيِيَّات فلا يُبِنَّ عن حُجتهن وقت الخصومة.
_________
(1) كذا منصوبًا بالفتحة، قال السيوطي في «همع الهوامع» (1/ 67): «ما جُمع بألف وتاء فينصب بالكسرة، وأجاز الكوفية الفتح».
(2) في النسختين: «أنها». والمثبت من «م».
(1/245)
مع أن في قوله: {أَوَمَن يَنشَؤُا فِي اِلْحِلْيَةِ} تعريضًا بما وُضِعَت له الحليةُ من التزين (1) لمن يستفرشهن ويطؤهن، وتعريضًا بأنهن لا ينشأن في الحرب والطِّعَان والشجاعة، فذكر الحلية التي هي علامة الضعف والعجز والوهَن.
ومن هذا ما حكاه سبحانه في (2) محاجَّة إبراهيم قومه بقوله: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اِللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (81 ) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزِلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ اُلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (82 ) اَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اُلْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 81 – 83].
فهذا الكلام لم يخرج في ظاهره مخرجَ كلام البشر الذي يتكلَّفه أهل النظر والجدال والمقايسة والمعارضة، بل خرج في صورة كلامٍ خبريٍّ يشتمل (3) على مبادئ الحِجاج ومقاطعه (4)، مشيرًا إلى مقدمات الدليل ونتائجه (5) بأوضح عبارةٍ وأفصحها وأقربها تناولًا.
والغرض منه أن إبراهيم قال لقومه متعجبًا ممَّا دعوه إليه من الشرك: أتحاجُّوني في الله، وتطمعون أن تستنزلوني عن توحيده بعد أن هداني، وتأكدت بصيرتي، واستحكمت معرفتي بتوحيده بالهداية التي رَزَقَنيها، وقد
_________
(1) «التزين». في «ح»، «م»: «القرين». وفي «ب»: «الزين». ولعل المثبت هو الصواب.
(2) «ب»: «من».
(3) «ب»: «مشتمل».
(4) «ومقاطعه» ليس في «ح».
(5) «ب»: «وتناسخه».
(1/246)
علمتم أن من كانت هذه حاله في اعتقاده أمرًا من الأمور عن بصيرةٍ لا يعارضه فيها ريبٌ ولا يتخالجه فيها شكٌّ؛ فلا سبيل إلى استنزاله عنها (1).
وأيضًا فإن المُحاجَّة والمجادلة بعد وضوح الشيء وظهوره نوعٌ من العبث، بمنزلة المُحاجة (2) في طلوع الشمس وقد رآها مَن تحاجُّونه بعينه، فكيف يؤثر حجاجكم له أنها لم (3) تطلع بعد؟!
ثم قال: ولا أخاف ما أشركتم إلَّا أن يشاء ربي شيئًا. فكأنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يذكر أنهم خوَّفوه آلهتهم أن يناله منها معرَّةٌ، كما قاله قوم هود له: {إِن نَّقُولُ إِلَّا اَعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54] فقال إبراهيم: إن أصابني مكروهٌ، فليس ذلك من قبل هذه الأصنام التي عبدتموها من دون الله، وهي أقلُّ من ذلك، فإنها ليست ممَّا يُرجى ويُخاف، بل يكون ذلك الذي أصابني من قبل الحي الفعَّال الذي يفعل ما يشاء، الذي بيده الضر والنفع، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
ثم ذكر سَعة علمه سبحانه في هذا المقام منبهًا على موقع احترازٍ لطيفٍ، وهو أن لله سبحانه علمًا فيَّ وفيكم وفي هذه الآلهة لا يصل إليه علمي. فإذا شاء أمرًا من الأمور فهو أعلم بما يشاء (4)، فإنه وسع كل شيءٍ علمًا، فإن أراد أن يصيبني بمكروهٍ لا علم لي من أي جهةٍ أتاني؛ فعلمه محيطٌ بما لم أعلمه. وهذا غاية التفويض والتبرِّي من الحول والقوة وأسباب النجاة، وأنها بيد الله لا بيدي.
_________
(1) «ح»: «فيها».
(2) «ح»: «الحاجة».
(3) «لم» سقط من «ح».
(4) «ب»: «يشاؤه».
(1/247)
وهكذا قال شعيب لقومه: {قَدِ اِفْتَرَيْنَا عَلَى اَللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اَللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاءَ اَللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اَللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [الأعراف: 88]، فردَّت الرُّسل العلم بما يفعله الله إليه، وأنه إذا شاء شيئًا فهو أعلم بما يشاؤه، ولا علم لنا بامتناعه وعدم كونه.
ثم رجع الخليل إليهم مُقرِّرًا للحُجة فقال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزِلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ اُلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 82].
يقول لقومه: كيف يسوغ في عقلٍ أو عند ذي لبٍّ أن أخاف ما جعلتموه لله شريكًا في الإلهية، وهي ليست بموضع نفعٍ ولا ضرٍّ، وأنتم لا تخافون أنكم أشركتم بالله في إلهيته أشياء لم ينزل بها حُجة عليكم، ولا شرعها لكم. فالذي أشرك بخالقه وفاطره وبارئه ـ الذي يُقرُّ بأنه خالق السماوات والأرض، وربُّ كل شيءٍ ومليكه، ومالك الضر والنفع= آلهةً لا تخلق شيئًا وهي مخلوقةٌ، ولا تملك لأنفسها ولا لعابديها ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا؛ وجعلها ندًّا له (1)، ومثلًا في الإلهية تُعبَد ويُسجَد لها ويُخضَع لها ويُتقرَّب إليها= أحقُّ بالخوف ممَّن لم يجعل مع الله إلهًا آخر، بل وحَّده وأفرَده بالإلهية والربوبية والعظمة والسلطان والحب والخوف والرجاء. فأي الفريقين أحقُّ بالأمن إن كنتم تعلمون؟!
فحكَمَ الله سبحانه بينهما بأحسن حكمٍ خضعت له القلوب، وأقرت به
_________
(1) «له» ليس في «ب».
(1/248)
الفِطَر، وانقادت له العقول؛ فقال: {اَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اُلْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 83].
فتأمل هذا الكلام وعجيبَ موقعه في قطع الخصوم، وإحاطته بكل ما وجب في العقل أن يردَّ به ما دعوه إليه وأرادوا حمْله عليه، وأخذه بمجامع الحُجة التي لم تُبقِ لطاعنٍ مطعنًا ولا سؤالًا. ولمَّا كانت بهذه المثابة أشاد (1) سبحانه بذكرها، وعظَّمها بالإشارة إليها، وأضافها إلى نفسه تعظيمًا لشأنها؛ فقال: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَن نَّشَاءُ} [الأنعام: 84] [ق 28 ب]، فعلم السامع بإضافته إيَّاها إلى نفسه أنه هو الذي فهَّمها خليلَه ولقَّاه (2) إيَّاها، وعنه سبحانه أخذها الخليل. وكفى بحُجةٍ يكون الله عز وجل ملقِّيها (3) لخليله وحبيبه أن تكون قاطعةً لمواد العِناد، قامعةً لأهل الشرك والإلحاد.
وشبيهٌ (4) بهذا الاحتجاج القصة الثانية (5) لإبراهيم في محاجة المشرك الذي أخبر الله سبحانه عمَّا جرى بينه وبينه في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اُللَّهُ اُلْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ اَلَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِ وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اَللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ اَلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ اَلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ اَلَّذِي كَفَرَ وَاَللَّهُ لَا يَهْدِي اِلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ} [البقرة: 257]، فإن
_________
(1) في النسختين: «أشار». وهو تصحيف ما أثبت.
(2) «ح»: «ولقاها».
(3) «ب»: «ملقنها».
(4) «وشبيه» سقط من «ح».
(5) «ح»: «الثابتة».
(1/249)
مَن تأمَّلَ موقع الحِجاج وقطع المجادِل فيما تضمنته هذه الآية وقَفَ على أعظم برهانٍ بأوجز عبارةٍ. فإن إبراهيم لمَّا أجاب المُحاجَّ له في الله بأنه الذي يحيي ويُميت أخَذَ عدوُّ الله في (1) معارضته بضربٍ من المغالطة، وهو أنه يقتل مَن يريد ويستبقي مَن يريد، فقد أحيا هذا وأمات هذا. فألزمه إبراهيم على طرد هذه المعارضة أن يتصرف في حركة الشمس من غير الجهة التي يأتي الله بها منها، إذا كان (2) بزعمه قد ساوى (3) الله في الإحياء والإماتة، فإن كان صادقًا فليتصرف في الشمس تصرفًا تصحُّ به دعواه. وليس هذا انتقالًا من حُجة إلى حُجة أوضح منها ـ كما زعم بعض النُّظار ـ وإنما هو إلزام للمدَّعي بطرد حُجته إن كانت صحيحةً.
ومن ذلك احتجاجه سبحانه على إثبات علمه بالجزئيات كلها بأحسن دليلٍ وأوضحه وأصحه، حيث يقول: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اِجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ اِلصُّدُورِ} [الملك: 14]، ثم قرَّر علمَه بذلك بقوله: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهْوَ اَللَّطِيفُ اُلْخَبِيرُ} [الملك: 15]. وهذا من أبلغ التقرير، فإن الخالق لا بد أن يعلم مخلوقه، والصانع يعلم مصنوعه، وإذا كنتم مقرِّين بأنه خالقكم وخالق صدوركم (4) وما تضمنته، فكيف يخفى عليه وهي خَلْقُه؟! وهذا التقرير ممَّا يصعب على القدرية فهمُه، فإنه لم يخلق عندهم ما في الصدور، فلم يكن في الآية على أصولهم دليلٌ على علمه بها، ولهذا طرد غلاة القوم
_________
(1) «في» سقط من النسختين، وأثبته من «م».
(2) «إذا كان» سقط من «ح».
(3) «ح»: «تساوى».
(4) «ح»: «صوركم».
(1/250)
ذلك ونفوا علمه؛ فأكفرهم السلف قاطبةً.
وهذا التقرير من الآية صحيحٌ على التقديرين، أعني: تقدير أن تكون «مَن» في محل رفع على الفاعلية، وفي محل نصب على المفعولية، فعلى التقدير الأول: ألا يعلم الخالق الذي شأنه الخلق. وعلى التقدير الثاني (1): ألا يعلم الربُّ مخلوقَه ومصنوعه (2).
ثم ختم الحُجة باسمَيْنِ مقتضيين لثبوتها، وهما:
{اَللَّطِيفُ}: الذي لَطُفَ صُنْعُه وحكمته ودقَّ حتى عجزت عنه الأفهام.
و {اُلْخَبِيرُ} الذي انتهى علمه إلى الإحاطة ببواطن الأشياء وخفاياها، كما أحاط بظواهرها.
فكيف يخفى على اللطيف الخبير ما تحويه الضمائر وتخفيه الصدور؟!
ومن هذا احتجاجه سبحانه على المشركين بالدليل المقسم الحاصر (3) الذي لا يجد سامعه إلى ردِّه ولا معارضته سبيلًا، حيث يقول تبارك وتعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ اُلْخَالِقُونَ (33 ) أَمْ خَلَقُوا اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ} [الطور: 33 – 34]. فتأمل هذا الترديد والحصر المتضمن لإقامة الحُجة بأقرب طريقٍ وأفصح عبارةٍ. يقول تعالى: هؤلاء مخلوقون بعد أن لم يكونوا، فهل خُلقوا من غير خالقٍ خلقهم، فهذا من المحال الممتنع عند كل
_________
(1) من قوله: «ألا يعلم الخالق» إلى هنا سقط من «ح».
(2) ذكَرَ القولين الواحديُّ في «التفسير البسيط» (22/ 51 – 52) والبغوي في «معالم التنزيل» (8/ 178).
(3) «ح»: «الخاص».
(1/251)
مَن له فهمٌ وعقلٌ أن يكون مصنوعٌ من غير صانعٍ، ومخلوقٌ من غير خالقٍ. ولو مرَّ رجلٌ بأرضٍ قفرٍ لا بناءَ فيها، ثم مرَّ بها فرأى فيها بنيانًا وقصورًا وعمارات مُحكَمة، لم يتخالجه شكٌّ ولا ريب أن صانعًا صنعها وبانيًا بناها.
ثم قال: {أَمْ هُمُ اُلْخَالِقُونَ}، وهذا أيضًا من المستحيل أن يكون العبد موجِدًا خالقًا لنفسه، فإن من لا يقدر أن يزيد في حياته بعد وجوده وتعاطيه أسباب الحياة ساعةً واحدةً، ولا إصبعًا ولا ظفرًا ولا شعرة، كيف يكون خالقًا لنفسه في حال عدمه؟
وإذا بطل القسمان تعيَّن أن لهم خالقًا خلقهم، وفاطرًا فطرهم، فهو الإله الحق الذي يستحق عليهم العبادة والشكر، فكيف يشركون به إلهًا غيره، وهو وحده الخالق لهم؟
فإن قيل فما موقع قوله: {أَمْ خَلَقُوا اُلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ} [الطور: 34] من هذه الحجة؟
قيل: أحسن موقعٍ، فإنه بيَّن بالقسمين الأولين أن لهم خالقًا وفاطرًا وأنهم مخلوقون، وبيَّن بالقسم الثالث أنهم بعد أن وُجدوا وخُلقوا فهم عاجزون غير خالقين، وإنهم لم (1) يخلقوا نفوسهم ولم يخلقوا السماوات والأرض، وأن الواحد القهار الذي لا إله غيره ولا ربَّ سواه هو الذي خلقهم وخلق السماوات والأرض، فهو المتفرِّد بخلق المسكن والساكن، بخلق العالم العلوي والسفلي وما فيه.
ومِن هذا ما حكاه الله سبحانه عن محاجة صاحب يس لقومه بقوله: {قَالَ
_________
(1) «ح»: «فإنهم لا».
(1/252)
يَاقَوْمِ اِتَّبِعُوا اُلْمُرْسَلِينَ (19 ) اَتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْئَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ} [يس: 19 – 20]. فنبَّه على موجِب الاتباع، وهو كون المتبوع رسولًا لمن لا ينبغي أن يُخالف ولا يُعصى، وأنه على هداية، ونبَّه على انتفاء (1) المانع، وهو عدم سؤال الأجر، فلا يريد منكم دنيًا [ق 29 أ] ولا رياسة، فموجِب الاتباع كونه مهتديًا، والمانع منه منتفٍ، وهو طلب العلو في الأرض والفساد وطلب الأجر.
ثم (2) قال: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ اُلَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 21] أخرج الحجة عليهم في معرض المخاطبة لنفسه تأليفًا لهم، ونبَّه على أن عبادة العبد لمن فطره أمرٌ واجبٌ في العقول، مستهجنٌ تركها، قبيحٌ الإخلال بها، فإن خلقه لعبده أصل إنعامه عليه، ونعمه كلها بعد (3) تابعةٌ لإيجاده وخلقه، وقد جبل الله العقول والفطر على شكر المنعم ومحبة المحسن ـ ولا يلتفت إلى ما يقوله نفاة التحسين والتقبيح في ذلك؛ فإنه من أفسد الأقوال وأبطلها في العقول والفطر والشرائع ـ ثم أقبل (4) عليهم مخوِّفًا لهم تخويف الناصح فقال: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 21]ثم أخبر عن الآلهة التي تُعبَد من دونه أنها باطلةٌ، وأن عبادتها باطلةٌ، فقال: {آاتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ (5) اِلرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَّا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ
_________
(1) «ح»: «انتقال».
(2) «ثم» ليس في «ح».
(3) «بعد» ليس في «ح».
(4) «ح»: «اجعل».
(5) في «النسختين»: «يردني» بإثبات الياء، وهي قراءة، قال ابن الجزري في «النشر في القراءات العشر» (2/ 188 – 189): «وأما {إن يردن} فأثبت الياء فيها مفتوحة في الوصل أبو جعفر وأثبتها ساكنة في الوقف أبو جعفر أيضًا … وتقدم مذهب يعقوب في الوقف عليها بالياء من باب الوقف، وحذفها الباقون في الحالين».
(1/253)
شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِ} [يس:22] فإن العابد يريد من معبوده أن ينفعه وقتَ حاجته إليه، وإنما إذا أرادنِيَ الرحمنُ الذي فطرني بضرٍّ لم يكن لهذه الآلهة من القدرة ما ينقذوني بها من ذلك الضرِّ، ولا من الجاه والمكانة عنده ما يشفع لي إليه، لأتخلص من ذلك الضرِّ؛ فبأي وجهٍ يستحق العبادة؟ {إِنِّيَ إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [يس: 23] إنْ عبدتُ من دون الله ما هذا شأنه.
وهذا الذي ذكرناه من حِجاج القرآن يسيرٌ من كثيرٍ، وإنما نبَّهنا على ما لم نذكر منه. والمقصود أنه متضمِّنٌ للأدلة (1) العقلية والبراهين القطعية التي لا مطمعَ في التشكيك والأَسْوِلة عليها إلَّا لمعاندٍ مكابرٍ.
والمتأول لا يمكنه أن يقيم على مبطلٍ حُجةً نقليةً ولا عقليةً. أمَّا النقل فلأنه عنده قابلُ التأويل وهو لا يُفيد اليقين، وأمَّا العقل فلأنه قد خرج عن صريحه وموجبه بالقواعد التي قادته إلى تأويل النصوص وإخراجها عن ظواهرها وحقائقها، فصارت تلك القواعد الباطلة حجابًا بينه وبين العقل والسمع، فإذا احتجَّ على خصمه بحُجةٍ عقليةٍ نازعه خصمه في مقدماتها بما سَلِمَ له من القواعد التي يخالفها، فإن المعقول الصريح هو ما دلت عليه النصوص، فإذا أبطله (2) بالتأويل لم يبقَ معه معقولٌ صحيحٌ يحتجُّ به على خَصْمه، كما لم يبقَ معه منقولٌ صريحٌ؛ فإنه قد عرض المنقول للتأويل، والمعقول الصريح خرج عنه بالذي ظن أنه معقول.
_________
(1) «ح»: «يتضمن الأدلة».
(2) «ح»: «بطل».
(1/254)
ومثال هذا أن العقل الصريح الذي لا يكذب ولا يغلط قد حكم حُكمًا لا يقبل الغلط، أن كل ذاتين قائمتين بأنفسهما؛ إمَّا أن يكون كل منهما مُبايِنة للأخرى أو مُحايِثة لها، وأنه يمتنع أن تكون هذه الذات قائمة (1) بنفسها وهذه قائمة بنفسها، وإحداهما ليست فوق الأخرى ولا تحتها، ولا عن يمينها ولا عن يسارها، ولا خلفها ولا أمامها، ولا متصلة بها (2) ولا منفصلة عنها، ولا مُجاوِرة لها ولا مُحايِثة، ولا داخلة فيها ولا خارجة عنها.
فإذا خُولِفَ (3) مقتضى هذا المعقول الصريح ودُفِعَ موجبُه، فأي دليلٍ عقليٍّ احتجَّ به المخالفُ بعد هذا على مبطلٍ أمكنه دفعه بما دفع هو به حُكم هذا العقل؟! فإذا قال الجهمي: هذا من حُكم الوَهْم لا من حكم العقل، قال له خصمه فيما احتج به عليه من قضايا العقل: هذا أيضًا مِن حُكم الوهم.
فإنك لو قلتَ (4): إن في النفس حاكمينِ: الوهم والعقل، فإذا ادعيتَ فيما تشهد به العقول والفِطَر أنه من حكم الوهم، كان ادعاء ذلك فيما هو دون هذه القضية بكثيرٍ أقرب وأقرب. وأمثلة ذلك لا يتسع لها هذا الموضع.
وإذا تأمَّلتَ القواعد الحاملة لأرباب التأويل عليه وجدتَها مخالفةً لصريح العقل (5)، ومَن خالفَ صريحَ العقل لم تقم له حُجةٌ عقليةٌ ولا سمعيةٌ، وبالله التوفيق.
* * * * *
_________
(1) «ح»: «فإنه».
(2) «بها» ليس في «ح».
(3) «ب»: «خلف».
(4) «ب»: «أعطيت».
(5) «ح»: «تخالفه تصريح».
(1/255)
الفصل الحادي والعشرون
في الأسباب الجالبة (1) للتأويل
وهي أربعة أسباب: اثنان من المتكلم، واثنان من السامع. فالسببان اللذان من المتكلم: إمَّا نقصان بيانه، وإمَّا سوء قَصْده. واللذان من السامع: إمَّا سوء فهمه، وإمَّا سوءُ قَصْده. فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة انتفى التأويل الباطل، وإذا وُجدت أو بعضها وقَعَ التأويل.
فنقول وبالله التوفيق: لمَّا كان المقصودُ من التخاطب التقاءَ قصْدِ المتكلم وفَهْم المخاطب على محزٍّ (2) واحدٍ، كان أصحَّ الأفهام وأسعد الناس بالخطاب ما التقى فيه فهْمُ السامع ومرادُ المتكلم. وهذا هو حقيقة الفقه الذي أثنى اللهُ ورسوله به على أهله وذمَّ مَن فقَدَه، فقال تعالى: {وَلَكِنَّ اَلْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 7]، وقال: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ اِلْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 77]. وقال في الثناء على أهله: {قَدْ فَصَّلْنَا اَلْأيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 99]. وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» (3). وقال لزياد بن لبيد: «إِنْ كُنْتُ لَأعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ المَدِينَةِ» (4).
_________
(1) «الجالبة» سقط من «ح».
(2) المحز: موضع الحز، أي: القطع. «تاج العروس» (15/ 110).
(3) أخرج البخاري (71) ومسلم (1037) عن معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنهما -.
(4) أخرجه الترمذي في «الجامع» (2653) والحاكم في «المستدرك» (1/ 99) عن أبي الدرداء – رضي الله عنه -، وقال الترمذي: «حديث حسن غريب». وقال الحاكم: «هذا إسناد صحيح من حديث البصريين».
(1/256)
فالفقه فهمُ مقصود المتكلم من كلامه، وهذا أمرٌ (1) زائدٌ على مجرد الفهم.
فإذا كان المتكلم قد وفَّى البيانَ حقَّه وقصَدَ إفهامَ المخاطَب وإيضاحَ المعنى له وإحضارَه في ذهنه [ق 29 ب]، فوافَقَ مِن المخاطب معرفةً بلغة المتكلم وعُرفه المطَّرِد في خطابه، وعَلِمَ مِن كمال نصحِه أنه لا يقصد بخطابه التعميةَ والإلغاز، لم يخفَ عليه معنى كلامه، ولم يقع في قلبه شكٌّ في معرفة مراده.
وإن كان المتكلمُ قد قصَّر في بيانه، وخاطَبَ السامع بألفاظ مجمَلة تحتمل عدةَ معانٍ، ولم يبيِّن له ما أراده منها؛ فإن كان عاجزًا عن ذلك أُتي السامعُ مِن عجزِه لا مِن قصده، وإن كان قادرًا عليه ولم يفعله حيث ينبغي فِعله أُتي السامعُ مِن سُوء قصده.
وقد يحسن ذلك من المتكلم إذا كان في التعمية على المخاطب مصلحةٌ راجحةٌ، فيتكلم بالمجمل لِيجعلَ (2) لنفسه سبيلًا إلى تفسيره بما يتخلص به، أو ليُوهِم السامع أنه أراد ما لا (3) يخاف إفهامَه إياه، أو لغير ذلك من الأسباب التي يحسن معها التعريضُ والكناية والخطاب بضدِّ البيان، وهذا من خاصة العقل. وقد قال تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ اِلنِّسَاءِ} [البقرة: 233]. وفي الحديث: «إِنَّ فِي المَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنِ الكَذِبِ» (4).
وقد عرَّضَ
_________
(1) «ح»: «الأمر».
(2) «ح»: «لتعجل».
(3) «لا»: ليس في «ح».
(4) أخرجه ابن الأعرابي في «المعجم» (993) وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (327) وأبو الشيخ في «الأمثال» (230) والبيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 199) عن عمران بن حصين – رضي الله عنه – مرفوعًا.
وأخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (857) والطبراني في «المعجم الكبير» (18/ 106) والبيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 199) عن عمران بن حصين – رضي الله عنه – موقوفًا، وقال البيهقي: «هذا هو الصحيح موقوف».
وفي الباب عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب – رضي الله عنهما – مرفوعًا وموقوفًا، يُنظر: «المقاصد الحسنة» للسخاوي (227).
(1/257)
إبراهيم الخليل للجبار بقوله عن امرأته: «هَذِهِ أُخْتِي» (1). وعرَّض النبي – صلى الله عليه وسلم – للرجل الذي سأله في طريقه ممَّن أنتم؟ فقال: «نَحْنُ مِنْ مَاءٍ» (2). وعرَّضَ الصدِّيق لمن جعل يسأله في طريق الهجرة: مَن هذا معك؟ فقال: «هادٍ يَهديني السبيلَ» (3).
فهذه المواضع ونحوها يحسُن فيها تركُ (4) البيان، إمَّا بكنايةٍ عن المقصود، أو تعريضٍ عنه. والفرق بينهما (5) أنه في الكناية قاصدٌ لإفهام المخاطب مرادَه بلفظ أخفى لا يفهمه كلُّ أحدٍ، فيكني عن المعنى الذي
_________
(1) أخرجه البخاري (3358) ومسلم (2371) عن أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(2) أخرجه ابن إسحاق في «السيرة» ـ كما في «تهذيب السيرة» لابن هشام (1/ 616) ـ ومن طريقه ابن جرير في «تاريخه» (2/ 435 – 436) عن محمد بن يحيى بن حبان مرسلًا.
(3) أخرجه البخاري (3911) عن أنس بن مالك – رضي الله عنه -.
(4) «ترك» ليس في «ب».
(5) يُنظر للزيادة في بيان الفرق بين الكناية والتعريض: «المثل السائر» لضياء الدين ابن الأثير (3/ 49 – 57) و «الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور» له (ص 156 – 157).
(1/258)
يريده بلفظ أخفى من لفظه الصريح، كما كنَّى الله سبحانه عن الجماع بالدخول وبالمَسِّ واللمس والإفضاء، وكما يُكنى عن الفرج بالهَنِ، ونحو ذلك.
وأمَّا التعريض فإيهام (1) السامع معنًى ومرادُه (2) خلافه، كالتعريض بالقذف مثلًا. فإذا قال: ما أنا بزانٍ أوهَمَ (3) السامع نفي الزِّنا عن نفسه، ومراده إثباته للسامع، قال الحماسي (4):
لَكِنَّ قَوْمِي وَإِنْ كَانُوا ذَوِي عَدَدٍ … لَيْسُوا مِنَ الشَّرِّ فِي شَيْءٍ وَإِنْ هَانَا
كَأَنَّ رَبَّكَ لَمْ يَخْلُقْ لِخَشْيَتِهِ … سِوَاهُمُ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ إِنْسَانَا
فإنه أوهم السامع تنزيههم عن الشرور ووصفهم بخشية الله، ومرادُه وصفُهم بالعجز والجبن.
ومثله قول الآخر (5):
قُبَيِّلَةٌ لَا يَغْدِرُونَ بِذِمَّةٍ … وَلَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ
وَلَا يَرِدُونَ الْمَاءَ إِلَّا عَشِيَّةً … إِذا صَدَرَ الْوُرَّادُ عَنْ كُلِّ مَنْهَل
_________
(1) «ح»: «فإفهام».
(2) «ح»: «ويراد».
(3) «ح»: «أفهم».
(4) البيتان لقُرَيط بن أُنَيف أحد بني العنبر، يُنظر «ديوان الحماسة» لأبي تمام (1/ 57 – 58).
(5) البيتان للنجاشي الحارثي، ينظر «الوحشيات» لأبي تمام (ص 215 – 216)، و «جمهرة الأمثال» للعسكري (1/ 81).
(1/259)
فصل
وأمَّا السببان اللذان من السامع، فأحدهما: سوءُ الفهم (1).
فإن درجات الفهم متفاوتة في الناس أعظم تفاوتٍ، فإنَّ قُوى الأذهان كقوى الأبدان، والناس متفاوتون في هذا وهذا تفاوُتًا لا ينضبط.
وقد سُئل علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: هل خصَّكم رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – بشيءٍ دون الناس فقال: «لا، والذي فلَقَ الحبَّةَ وبرَأَ النسَمَةَ إلَّا (2) فَهْمًا يؤتيه اللهُ عبدًا في كتابِه، وما في هذه الصحيفةِ. وكان فيها العقل ـ أي: الدِّيَات ـ وفَكاكُ الأسيرِ» (3).
وكان أبو بكر الصدِّيق أفهمَ الأُمة لكلام الله ورسوله. ولهذا لما أشكَل على عمر ـ مع قوة فَهْمه ـ قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرَامَ إِن شَاءَ اَللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27]، وقول النبي – صلى الله عليه وسلم – للصحابة: «إِنَّكُمْ تَأْتُونَهُ وَتَتَطَوَّفُونَ بِهِ (4)»، فأورده عليه عامَ الحديبية، فقال له الصدِّيق: أقال لك إنك تأتيه العامَ؟ قال: لا، قال: فإنك آتِيهِ ومُطوِّفٌ (5) به. فأجابه بجواب النبي – صلى الله عليه وسلم – (6).
_________
(1) لم يُفرِد المصنِّف – رحمه الله – الكلام على السبب الثاني، وهو سوء القصد، إنما أشار إليه إشارة.
(2) «إلا» سقط من «ح».
(3) أخرجه البخاري (3047) ومسلم (78).
(4) «ح»: «وتطوفونه».
(5) «ح»: «تأتيه وتطوف».
(6) أخرجه البخاري في «الصحيح» (2731) عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم في حديث صلح الحديبية الطويل.
(1/260)
وأشكَل عليه قتال الصدِّيق لمانعي الزكاة، وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إَلَّا اللهُ. فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ». فقال: ألم يقل «إلَّا بِحَقِّهَا»؟ فإن (1) الزكاة من حقها (2).
ولمَّا أخبرهم النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللهِ» بكى أبو بكر، وقال: «نَفْدِيك بآبائنا وأُمَّهاتنا» (3). فكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هو المخيَّرَ، وكان أبو بكر هو (4) أعلمَ الأُمة به.
وكذلك فَهِم عمرُ بن الخطاب وعبد الله بن عباس من سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اُللَّهِ وَاَلْفَتْحُ} أنها إعلامٌ لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – بحضور أجله (5).
وكذلك كان الصحابة أعلمَ الأُمة على الإطلاق، وبينهم وبين مَن بعدهم في العلم واليقين كما بينهم وبينهم في الفضل والدِّين. ولهذا كان ما فَهِمه الصحابةُ من القرآن أَوْلى أن يُصار إليه ممَّا فهمه مَن بعدهم.
فانضاف حُسنُ قصدِهم إلى حُسن فَهْمهم، فلم يختلفوا في التأويل في باب معرفة الله وصفاته وأسمائه وأفعاله واليوم الآخر، ولا يُحفَظ عنهم في ذلك خلافٌ لا مشهورٌ ولا شاذٌّ.
_________
(1) «ب»: «فإيتاء».
(2) أخرجه الشافعي في «مسنده» (678، 679) عن أبي هريرة – رضي الله عنه -، وأصله في البخاري (1399) ومسلم (20).
(3) أخرجه البخاري (3904) ومسلم (2382) عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه -.
(4) «هو» ليس في «ب».
(5) أخرجه البخاري (3627) عن عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما -.
(1/261)
فلمَّا حدث بعد انقضاء عصرهم مَنْ ساء فهمُه وساء قصدُه (1) وقعوا في أنواع من (2) التأويل بحسب سوء الفهم وفساد القصد [ق 30 أ]. وقد يجتمعان وقد ينفردان، وإذا (3) اجتمعا تولَّد من بينهما جهلٌ بالحق ومعاداة لأهله واستحلال ما حرَّم الله منهم.
وإذا تأملتَ أصول المذاهب الفاسدة رأيتَ أربابها قد اشتقوها من بين هذين الأصلينِ، وحملهم عليها منافسةٌ في (4) رياسةٍ أو مالٍ أو توصُّلٍ إلى عَرَض من أعراض (5) الدُّنيا، تخطبه الآمالُ، وتتبعه الهممُ، وتشرئبُّ إليه النفوسُ، فيتفق للعبد شبهةٌ وشهوةٌ، وهما أصل كل فسادٍ، ومنشأ كل تأويلٍ باطلٍ.
وقد ذمَّ الله سبحانه مَن اتبع الظنّ وما تهوى الأنفس، فالظن: الشبهات وما تهوى الأنفس (6): الشهوات، وهما اللذان ذكرهما في سورة براءة في قوله تعالى: {كَاَلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاَسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاَسْتَمْتَعْتُم بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اَسْتَمْتَعَ اَلَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَاَلَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69].
فذكر الاستمتاعَ بالخَلاقِ، وهو التمتع بالشهوات، وهو نصيبهم الذي
_________
(1) وسوء القصد هو السبب الثاني الذي من السامع.
(2) «من» ليس في «ب».
(3) «ب»: «فإذا».
(4) «في» ليس في «ح».
(5) «ب»: «غرض من أغراض».
(6) «فالظن الشبهات، وما تهوى الأنفس». سقط من «ح».
(1/262)
آثَروه في الدنيا على حظِّهم من الآخرة؛ والخوضَ الذي اتبعوا فيه الشُّبهاتِ. فاستمتعوا بالشهوات، وخاضوا بالشبهات، فنشأ عنهما التفرقُ المذموم الذي ذمَّ اللهُ أهله في كتابه، ونهى عبادَه المؤمنين عن التشبه بهم، فقال: {وَلَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاَخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ اُلْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 105 – 106]. قال ابن عباس: «تبيضُّ وجوهُ أهل السُّنَّة والائتلاف، وتسودُّ وجوهُ أهل الفرقة والاختلاف» (1).
وأخبر سبحانه أن الحامل لهم على التفرق بعد البيان إنما هو البغي، فقال تعالى: {* كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اُلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ اُلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اَخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اَخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اُلْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اَللَّهُ اُلَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اَخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ اَلْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاَللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة: 211]. فأخبر سبحانه أن الذين آمنوا هُدوا (2) لِمَا اختلف (3) فيه أهلُ التأويل الباطل الذي أوقعهم في الاختلاف والتفرق.
وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ اُلْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ اَلَّذِينَ أُورِثُوا اُلْكِتَابَ
_________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (3950) والآجري في «الشريعة» (2074) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (74) والخطيب في «تاريخ بغداد» (8/ 375) وسندُه واهٍ جدًّا، يُنظر «تكميل النفع» للشيخ محمد عمرو عبد اللطيف (ص 55).
(2) «ح»: «وهدوا».
(3) «ح»: «اختلفوا».
(1/263)
مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى: 12].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَاءِيلَ اَلْكِتَابَ وَاَلْحُكْمَ وَاَلنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ اَلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى اَلْعَالَمِينَ (15 ) وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ اَلْأَمْرِ فَمَا اَخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ اُلْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية: 15 – 16].
فأخبر سبحانه أن المختلفين بالتأويل لم يختلفوا لخفاء العلم الذي جاءت به الرُّسل عليهم، وإنما اختلفوا بعد مجيء العلم. وهذا كثير في القرآن، كقوله: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَاءِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ اَلطَّيِّبَاتِ فَمَا اَخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ اُلْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس: 93]. وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اُلْبَيِّنَةُ (1)} [البينة: 4]. فهؤلاء المختلفون بالتأويل بعد مجيء الكتاب كلهم مذمومون، والحامل لهم على التفرق والاختلاف: البغي وسوء القصد.
* * * * *
_________
(1) «ب»: «البينات».
(1/264)
الفصل الثاني والعشرون
في أنواع الاختلاف الناشئة عن التأويل
وانقسام الاختلاف إلى محمود ومذموم
الاختلاف في كتاب الله نوعان (1):
أحدهما: أن يكون المختلفون كلهم مذمومين. وهم الذين اختلفوا بالتأويل، وهم الذين نهانا اللهُ سبحانه عن التشبه بهم في قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105]، وهم الذين تسودُّ وجوهُهم يوم القيامة، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 175]، فجعل المختلفين فيه كلهم في شقاقٍ بعيدٍ (2). وهذا النوع هو الذي وصف اللهُ أهله بالبغي، وهو الذي يُوجب الفرقةَ والاختلاف وفسادَ ذات البين، ويُوقع التحزب والتباين.
والنوع الثاني: اختلاف ينقسم أهله إلى محمودٍ ومذمومٍ، فمن أصاب الحقَّ فهو محمودٌ، ومَن أخطأه مع اجتهاده في الوصول إليه فاسم الذمِّ موضوعٌ عنه، وهو محمودٌ في (3) اجتهاده معفوٌّ عن خطئه؛ وإن أخطأه مع تفريطه وعدوانه فهو مذمومٌ.
_________
(1) ينظر «اقتضاء الصراط المستقيم» لشيخ الإسلام (1/ 130 – 148).
(2) «فجعل المختلفين فيه كلهم في شقاق بعيد». سقط من «ح».
(3) «ب»: «على».
(1/265)
ومن هذا النوع المنقسم قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا اَقْتَتَلَ اَلَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اُلْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اِخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ} [البقرة: 251]. وقال تعالى: {وَمَا اَخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اَللَّهِ} [الشورى: 8].
والاختلاف المذموم كثيرًا ما يكون مع كل فِرقةٍ من أهله بعضُ الحقِّ، فلا يقرُّ له خَصمه به، بل يجحده إيَّاه بغيًا ومنافسةً، فيحمله ذلك على تسليط التأويل الباطل على النصوص التي مع خصمه. وهذا شأن جميع المختلفين، بخلاف أهل الحق؛ فإنهم يعلمون الحقَّ مِن كل [ق 30 ب] مَن جاء به، فيأخذون حقَّ جميع الطوائف، ويردون باطلهم، فهؤلاء الذين قال الله فيهم: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 211]. فأخبر سبحانه أنه هدى عباده لِمَا اختلف فيه المختلفون.
وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول في دعائه: «اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيْكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيْهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِكَ؛ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» (1).
فمَن هداه الله سبحانه إلى الأخذ بالحقِّ حيث كان ومع مَن كان، ولو كان مع مَن يُبْغِضُه ويُعاديه، وردِّ الباطل مع من كان ولو كان مع مَن يحبه ويُوالِيه؛ فهو ممَّن هُدي لما اختلف فيه من الحقِّ، فهذا أعلم الناس،
_________
(1) أخرجه مسلم (770) عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها -.
(1/266)
وأهداهم سبيلًا، وأقومهم قِيلًا.
وأهلُ هذا المسلك إذا اختلفوا فاختلافهم اختلاف رحمةٍ وهدًى، يقرُّ بعضهم بعضًا عليه ويواليه ويناصره، وهو داخل في باب التعاون والتناصر الذي لا يستغني عنه الناس في أمور دينهم ودنياهم بالتناظر والتشاور، وإعمالهم الرأي، وإجالتهم الفِكرَ في الأسباب المُوصِلة إلى دَرَك الصواب، فيأتي كلٌّ منهم بما قَدَحَه زِنادُ فِكره، وأدركَه قوةُ بصيرته. فإذا قُوبل بين الآراء المختلفة والأقاويل المتباينة، وعُرضت على الحاكم الذي لا يجور، وهو كتاب الله وسُنة رسوله، وتجرَّد الناظر عن التعصب والحمية، واستفرغ وسعه، وقصد طاعة الله ورسوله، فقلَّ (1) أن يخفى عليه الصوابُ من تلك الأقوال، وما هو أقرب إليه، والخطأ وما هو أقرب إليه (2)؛ فإن الأقوال المختلفة لا تخرج عن الصواب (3) وما هو أقرب إليه، والخطأ (4) وما (5) هو أقرب إليه، ومراتب القرب والبعد متفاوتة.
وهذا النوع من الاختلاف لا يُوجِب معاداةً ولا افتراقًا في الكلمة، ولا تبديدًا للشمل؛ فإن الصحابة – رضي الله عنهم – اختلفوا في مسائلَ كثيرةٍ من مسائل الفروع، كالجَدِّ مع الإخوة، وعِتق أُم الولد بموت سيدها، ووقوع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، وفي الخليَّة والبريَّة والبتَّة، وفي بعض مسائل
_________
(1) «ح»: «قول».
(2) «والخطأ وما هو أقرب إليه». سقط من «ح».
(3) «ب»: «صواب».
(4) «ح»: «وخطأ».
(5) «ح»: «ما».
(1/267)
الربا، وفي بعض نواقص الوضوء، ومُوجِبات الغسل، وبعض مسائل الفرائض وغيرها، فلم ينصبْ بعضُهم (1) لبعضٍ عداوةً، ولا قطع بينه وبينه عصمةً، بل كانوا كلٌّ منهم يجتهد في نصر قولِه بأقصى ما يقدر عليه، ثم يرجعون بعد المناظرة إلى الأُلفة والمحبة والمصافاة والموالاة، من غير أن يُضمِر بعضُهم لبعضٍ ضغنًا، ولا ينطوي له على مَعتبةٍ ولا ذمٍّ، بل يدلُّ المستفتيَ عليه مع مخالفته له (2)، ويشهد له بأنه خيرٌ منه وأعلم منه. فهذا الاختلاف أصحابُه بين الأجرين والأجر، وكلٌّ منهم مطيعٌ لله (3) بحسب نِيته واجتهاده وتحريه الحق.
وهنا نوع آخر من الاختلاف ـ وهو وِفاقٌ في الحقيقة ـ وهو اختلاف في الاختيار والأَوْلى بعد (4) الاتفاق على جواز الجميع، كالاختلاف في أنواع الأذان والإقامة، وصفات التشهد والاستفتاح، وأنواع النُّسُك الذي يُحرِم به قاصدُ الحج والعمرة، وأنواع صلاة الخوف، والأفضل من القنوت أو تركه، ومن الجهر بالبسملة أو إخفائها، ونحو ذلك، فهذا وإن كان صورتُه صورةَ اختلاف فهو اتفاق في الحقيقة.
_________
(1) «بعضهم» سقط من «ح».
(2) «له» ليس في «ب».
(3) «ح»: «يطيع ذلك».
(4) هذا الحرف لم يظهر لي في «ح».
(1/268)
فصل
ووقوع الاختلاف بين الناس أمرٌ ضروريٌّ لا بد منه (1)؛ لِتفاوُتِ إراداتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم، ولكن المذموم بَغْيُ بعضهم على بعضٍ وعدوانه، وإلَّا فإذا كان الاختلافُ على وجهٍ لا يُؤدي إلى التباين والتحزب، وكلٌّ من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله، لم يضر ذلك الاختلاف، فإنه أمرٌ لا بد منه في النشأة الإنسانية.
ولكن إذا كان الأصل واحدًا والغاية المطلوبة واحدةً، والطريق المسلوكة واحدةً، لم يكد يقعُ اختلافٌ، وإن وقع كان اختلافًا لا يضر، كما تقدم من اختلاف الصحابة؛ فإن الأصلَ الذي بنوا عليه واحدٌ، وهو كتاب الله وسُنة رسوله، والقصدَ واحدٌ، وهو طاعة الله ورسوله، والطريقَ واحدٌ، وهو النظرُ في أدلة القرآن والسُّنَّة وتقديمها على كل قولٍ ورأيٍ وقياسٍ وذوقٍ وسياسةٍ.
* * * * *
_________
(1) «منه» ليس في «ح».
(1/269)
الفصل الثالث والعشرون
في أسباب الخلاف الواقع بين الأئمة بعد اتفاقهم على أصلٍ واحدٍ وتحاكمهم إليه وهو كتاب الله وسُنَّة رسوله
ذكر الحميدي في هذا فصلًا من كلام أبي محمد بن حزم ـ وهو من أحسن كلامه ـ فرأينا سياقَه بلفظه، قال الحميدي (1):
«قال لنا الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد اليزيدي الفارسي في بيان أصل الاختلاف الشرعي وأسبابه:
تَطَلَّعَتِ النفسُ بعد تيقُّنها أن الأصل المتفَق عليه (2) المرجوع إليه أصلٌ واحدٌ لا يَختلِف ـ وهو ما جاء عن صاحب الشرع؛ إمَّا في القرآن، وإمَّا من فِعْله أو قوله الذي لا ينطق عن الهوى فيه ـ لمَّا رأتْ (3) وشاهدتْ من اختلاف علماء الأُمة فيما سبيله [ق 31 أ] واحدٌ وأصله غير مختلف، فبحثتْ عن السبب الموجِب للاختلاف، ولِتَرْكِ مَن ترك كثيرًا ممَّا صحَّ من السُّنن، فوضح لها بعد التفتيش والبحث أن كل واحدٍ من العلماء بشرٌ ينسى كما ينسى البشر، وقد يحفظ الرجل الحديث ولا يحضره ذكره، فيُفتي بخلافه. وقد يَعرض هذا في آي القرآن، ألا ترى أن عمر – رضي الله عنه – أَمَرَ على المنبر ألَّا يُزاد مهور النساء على عَدَدٍ ذَكَرَه ميلًا إلى أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يَزِدْ على ذلك العدد
_________
(1) «الجمع بين الصحيحين» (4/ 323 – 328). وأصله في «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (2/ 124 – 130).
(2) «عليه» سقط من «ح».
(3) في النسختين: «رأيت». والمثبت من «الجمع بين الصحيحين».
(1/270)
في مهور نسائه، حتى ذكَّرته امرأةٌ من جانب المسجد بقول الله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنطَارًا} [النساء: 20] فترك قولَه، وقال: «كلُّ أحدٍ (1) أعلم منك حتى النساء» (2)
ـ وفي رواية أخرى: «امرأةٌ أصابت، ورجلٌ أخطأ» (3) ـ علمًا منه – رضي الله عنه – بأن النبي – صلى الله عليه وسلم – وإن كان لم يَزِدْ في مهور النساء على عددٍ ما؛ فإنه لم يمنع ممَّا (4) سواه، والآية أعمُّ.
_________
(1) «ح»: «واحد».
(2) أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (598) والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 233) من طريق مجالد عن الشعبي بنحوه، وقال البيهقي: هذا منقطع. ورواه أبو يعلى ـ كما في «مسند الفاروق» (809) و «المطالب العالية» (1566) ـ من طريق مجالد عن الشعبي عن مسروق، وجوَّد إسناده ابن كثير في «مسند الفاروق» والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 293). وقال الهيثمي في «المجمع» (7502): «رواه أبو يعلى في «الكبير» وفيه مجالد بن سعيد، وفيه ضعف، وقد وثق». وقد رُويت القصة عن عمر – رضي الله عنه – من وجوهٍ كثيرةٍ، ينظر: «تخريج الكشاف» للزيلعي (1/ 294 – 297) و «المقاصد الحسنة» للسخاوي (814) و «الدر المنثور» للسيوطي (4/ 293 – 294) .. وقد رُوي نهي عمر – رضي الله عنه – عن المغالاة في المهور دون مراجعة من أحد عن أبي العجفاء السلمي عنه، رواه أحمد (291) وأبو داود (2106) والترمذي (1114) وابن ماجه (1887) وابن حبان (4620) والحاكم (2/ 175). وقال الدارقطني في «العلل» (1/ 246): «ولا يصح هذا الحديث إلا عن أبي العجفاء». وينظر: «إرواء الغليل» (1927).
(3) أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (864) عن عبد الله بن مصعب عن عمر – رضي الله عنه -، قال الحافظ ابن كثير في «التفسير» (2/ 244) وفي «مسند الفاروق» (2/ 505): «فيها انقطاع».
(4) «ح»: «ما».
(1/271)
وكذلك «أمر – رضي الله عنه – برَجْم امرأةٍ وَلَدَتْ لستة أشهُرٍ، فذكَّره (1) علي – رضي الله عنه – بقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 14] مع قوله تعالى: {وَاَلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 231] فرجع عن الأمر برَجْمها» (2).
وهمَّ أن يسطو (3) بعُيينة بن حصن (4) إذ جفا عليه حتى ذكَّره الحُرُّ بن قيس بقول الله عز وجل: {وَأَعْرِضْ عَنِ اِلْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، فأمسك عمر (5).
وقال – رضي الله عنه – يوم مات رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «والله ما مات رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ولا يموت حتى يكون آخرنا. حتى قُرئ عليه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر: 29] فرجع عن ذلك» (6)، وقد كان عَلِمَ الآية، ولكنه نَسِيَها؛ لعِظَم الخَطْب الوارد عليه.
وقد يَذكُر العالم الآية والسُّنَّة ولكن يتأوَّل فيهما تأويلًا من خصوصٍ أو نسخٍ أو معنًى (7) ما، وإن كان كل ذلك يحتاج إلى دليل.
_________
(1) «ح»: «فذكر».
(2) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (13444)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 727).
(3) سطا به: وثب عليه وبطش به. «أساس البلاغة» (1/ 454).
(4) «ح»: «محصن». «ب»: «حصين». والمثبت من «الجمع بين الصحيحين». وعيينة بن حصن الفزاري له صحبة، وكان من المؤلَّفة، ترجمته في «الإصابة» (7/ 598).
(5) أخرجه البخاري (4642) عن عبد الله بن عباس – رضي الله عنه -.
(6) أخرجه البخاري (3667، 7219) عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها -.
(7) «ح»: «تعيين».
(1/272)
ولا شك أن الصحابة – رضي الله عنهم – كانوا بالمدينة حوله صلوات الله وسلامه عليه مجتمعين، وكانوا ذوي معايش يطلبونها، وفي ضنكٍ من القوت، فمن محترفٍ في الأسواق، ومن قائمٍ على نَخْله، ويَحضُره (1) – صلى الله عليه وسلم – في كل وقتٍ منهم طائفةٌ إذا وجدوا أدنى فراغ ممَّا هم بسبيله. وقد نصَّ على ذلك أبو هريرة فقال: «إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصَّفْق بالأسواق (2)، وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على نخلهم (3)، وكنت امرأً مسكينًا أَصحَبُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على مِلْء بطني» (4).
وقد قال عمر – رضي الله عنه -: «ألهاني الصفق بالأسواق» في حديث استئذان أبي موسى (5).
وكان – صلى الله عليه وسلم – يُسأل عن المسألة ويحكم بالحكم، ويأمر بالشيء ويفعل الشيء، فيحفظه (6) من حضره، ويغيب عمَّن غاب عنه.
فلمَّا مات صلوات الله وسلامه عليه ووليَ أبو بكر كان إذا جاءته القضية ليس عنده فيها نصٌّ سأل من بحضرته من الصحابة عنها، فإن وَجد عندهم (7) نصًّا رجع إليه، وإلَّا اجتهد في الحكم فيها. وكان اجتهاده واجتهاد
_________
(1) «ح»: «وبحضرته».
(2) الصفق بالأسواق: التصرف في التجارة. «مشارق الأنوار» (2/ 50).
(3) «ح»: «عملهم».
(4) أخرجه البخاري (118) ومسلم (2492).
(5) أخرجه البخاري (2062) ومسلم (2153).
(6) في النسختين: «فيحضره». والمثبت من «الجمع بين الصحيحين».
(7) في النسختين: «عنهم». والمثبت من «الجمع بين الصحيحين».
(1/273)
غيره منهم – رضي الله عنهم – رجوعهم إلى نصٍّ عامٍّ، أو إلى أصل إباحة متقدِّمة، أو إلى نوعٍ من هذا يرجع إلى أصل. ولا يجوز أن يظن أحدٌ أن اجتهاد أحدٍ منهم هو أن يُشَرِّع شريعة باجتهادٍ ما، أو يَختَرِع حُكمًا لا أصل له، حاشاهم من ذلك.
فلمَّا وليَ عمر – رضي الله عنه – فُتحت الأمصار، وتفرَّقت الصحابة في الأقطار، فكانت الحكومة تنزل بمكة أو بغيرها من البلاد، فإن كان عند الصحابة الحاضرين لها نصٌّ حُكِمَ به، وإلَّا اجتهدوا في ذلك، وقد يكون في تلك القضية نصٌّ موجودٌ عند صاحبٍ آخر في بلدٍ آخر.
وقد حضر المدني ما لم يحضر المصري، وحضر المصري ما لم يحضر الشامي، وحضر الشامي ما لم يحضر البصري، والبصري ما لم يحضر الكوفي، والكوفي ما لم يحضر البصري، والمدني ما لم يحضر الكوفي والبصري، كل هذا موجودٌ في الآثار، وتقتضيه الحالة التي ذَكَرْنا من مَغِيب بعضهم عن مجلسه (1) في بعض الأوقات، وحضور غيره، ثم مغيب (2) الذي حضر وحضور الذي غاب، فيدري كل واحدٍ منهم ما حضره، ويفوته ما غاب عنه، هذا أمرٌ مُشاهَدٌ.
وقد كان عِلْمُ التيمم عند عمار وغيره، وغاب عن عمر وابن مسعود حتى قالا: «لا يتيمم الجُنُب، ولو لم يجد الماء شهرين» (3).
_________
(1) «ح»: «محله».
(2) في النسختين: «يغيب». والمثبت من «الجمع بين الصحيحين».
(3) أخرجه البخاري (347) ومسلم (368). وذِكْرُ الشهرين ورد في رواية أحمد (19395) وأبي داود (322) والنسائي (316) وابن حبان (1305).
(1/274)
وكان حكم المسح على الخفين عند علي (1) وحذيفة (2)، ولم تَعلَمْه عائشة (3) ولا عمر (4) ولا أبو هريرة (5)، على أنهم مدنيون.
وكان توريث بنت الابن مع البنت عند ابن مسعود، وغاب ذلك عن أبي موسى (6).
_________
(1) أخرجه مسلم (276) عن عائشة – رضي الله عنها – وفيه أنها أحالت مَنْ سألها عن المسح على الخف إلى علي – رضي الله عنه -.
(2) أخرجه مسلم (273).
(3) روى أبو عبيد في «الطهور» (394) وابن أبي شيبة في «المصنف» (1956، 1965) عن عائشة قالت: «لأن أحزهما بالسكاكين أحب إلي أن أمسح عليهما». وصححه الدارقطني في «العلل» (3582). وقال أبو عبيد: «على أن بعض أصحاب الحديث كان يتأوله في المسح على القدمين، ويُصدِّق ذلك حديثها عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: «ويل للأعقاب من النار». فهل يكون هذا إلا على الأقدام، وهي كانت أعلم بمعنى حديثها».
وقد تقدم أنها أحالت في المسح على الخفين على علي – رضي الله عنه -. وينظر: «السنن الكبرى للبيهقي» (1/ 272).
(4) أخرجه البخاري (202).
(5) روى ابن أبي شيبة في «المصنف» (1964) عن أبي رزين عنه – رضي الله عنه – قال: «ما أبالي على ظهر خُفِّي مسحت أو على ظهر حمار». وصححه مسلم في «التمييز» (ص 209) وروى عن أبي زرعة عنه معناه، وصحَّحه أيضًا.
وقد روى ابن ماجه (555) وابن حبان (1334) عنه جوازَ المسح على الخفين مرفوعًا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -، وقال الإمام أحمد: «هذا حديث منكَر، وكلها باطلة، ولا يصح عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في المسح». «علل الدارقطني» (8/ 276) وكذا ضعفها البخاري ومسلم والدارقطني. ينظر: «التمييز» (ص 208 – 209) و «علل الترمذي» (61) و «علل الدارقطني» (1563).
(6) أخرجه البخاري (6736).
(1/275)
وكان حكم الاستئذان عند أبي موسى وأبي سعيد الخدري وأُبي (1)، وغاب عن عمر (2).
وكان حكم الإذن للحائض في أن تنفر قبل أن تطوف عند ابن عباس (3) وأم سليم (4)، ولم يعلمه ابن (5) عمر (6) وزيد بن ثابت (7).
وكان حكم المتعة والحُمُر الأهلية عند عليٍّ (8) وغيره، ولم يعلمه (9) ابن عباس (10).
وكان حكم الصَّرف (11) عند عمر (12) وأبي سعيد (13) وغيرهما، وغاب ذلك عن طلحة (14) وابن عباس وابن عمر (15).
_________
(1) «وأبي» ليس في «ح».
(2) متفق عليه، وقد تقدم تخريجه.
(3) أخرجه البخاري (1760) ومسلم (1328).
(4) أخرجه البخاري (1758).
(5) «ابن» ليس في «ب».
(6) أخرجه البخاري (1761) وفيه: «أنه بلغه بعدُ أنه رُخِّصَ لهن».
(7) أخرجه مسلم (1328) وفيه: «أنه رجع بعدُ لقول ابن عباس – رضي الله عنهما -».
(8) أخرجه البخاري (5115) ومسلم (1407).
(9) «ح»: «يقله».
(10) أخرجه البخاري (1761) ومسلم (1939).
(11) الصرف: بيع الدراهم بالذهب أو عكسه.
(12) أخرجه البخاري (2174) ومسلم (1586).
(13) أخرجه مسلم (1594) وأصله في البخاري (2312).
(14) كان طلحة – رضي الله عنه – هو صاحب القصة في حديث عمر – رضي الله عنه – المتقدم تخريجه.
(15) وهو في حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه -، وقد تقدم تخريجه.
(1/276)
وكذلك حكم إجلاء أهل الذمة من بلاد العرب كان عند ابن عباس (1) وعمر (2)، فنسيه عمر سنين (3)، فتركهم، حتى ذُكِّر بذلك فذكره (4)؛ فأجلاهم (5).
ومثل هذا كثيرٌ.
فمضى الصحابة على هذا، ثم خَلَفَ [ق 31 ب] بعدهم التابعون الآخذون عنهم، وكل طبقةٍ من التابعين في البلاد التي ذكرنا فإنما تفقَّهوا بمن كان عندهم من الصحابة، وكانوا (6) لا يَتَعَدَّوْن فتاويهم، لا تقليدًا لهم؛ ولكن لأنهم أخذوا ورووا عنهم، إلَّا اليسير ممَّا بلغهم عن غير من كان في بلادهم من الصحابة – رضي الله عنهم -، كاتِّباع أهل المدينة في الأكثر فتاوى ابن عمر، واتباع أهل مكة في الأكثر فتاوى ابن عباس، واتباع أهل الكوفة في الأكثر (7) فتاوى ابن مسعود.
ثم أتى من بعد التابعين فقهاءُ الأمصار كأبي حنيفة وسفيان وابن أبي ليلى بالكوفة، وابن جُريج بمكة، ومالك وابن المَاجِشُون بالمدينة، وعثمان
_________
(1) أخرجه البخاري (3168) ومسلم (1637).
(2) أخرجه مسلم (1767).
(3) في النسختين: «سنتين». والمثبت من «الجمع بين الصحيحين».
(4) «ح»: «فذكرهم».
(5) أخرجه البخاري (2730) وفيه: «أظننت أني نسيت».
(6) «ب»: «فكانوا».
(7) من قوله «فتاوى ابن عباس» إلى هنا سقط من «ح».
(1/277)
البَتِّيِّ وسَوَّار (1) بالبصرة، والأوزاعي بالشام، والليث بمصر، فجَرَوْا على تلك الطريقة من أَخْذ كل واحدٍ منهم عن التابعين من أهل بلده وتابعيهم (2) عن الصحابة فيما كان عندهم، وفي اجتهادهم فيما ليس عندهم، وهو موجود عند غيرهم، ولا يُكلِّف الله نفسًا إلَّا وسعها.
وكل من ذكرنا مأجورٌ على ما أصاب فيه أجرين، ومأجورٌ فيما خفي عنه ولم يبلغه أجرًا واحدًا، قال تعالى: {لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 20].
وقد يَبلُغ الرجلَ ممَّن ذكرنا نصَّان ظاهرهما التعارض، فيميل إلى أحدهما بضربٍ من الترجيحات، ويميل غيره إلى النصِّ الآخر ـ الذي تركه ـ بضربٍ آخر من الترجيحات، كما روى (3) عثمان بن عفان في الجمع بين الأختين: «أحلتهما آية، وحرمتهما آية» (4). وكما مال ابن عمر إلى تحريم نساء أهل الكتاب جملةً بقوله تعالى: {وَلَا تَنكِحُوا اُلْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 219] وقال: «لا أعلم شركًا أعظم من قول المرأة: إن عيسى ربها» (5). وغلَّبَ ذلك على الإباحة المنصوصة في الآية الأخرى. ومثل هذا كثير.
_________
(1) هو سوار بن عبد الله بن قدامة بن عنزة التميمي العنبري أبو عبد الله البصري القاضي، توفي سنة ست وخمسين ومائة. ترجمته في «تهذيب التهذيب» (4/ 296).
(2) في النسختين: «وتابعوهم». والمثبت من «الجمع بين الصحيحين».
(3) «ب»: «روي عن».
(4) أخرجه مالك في «الموطأ» (1520) والشافعي في «الأم» (5/ 3) وعبد الرزاق في «المصنف» (12732) وابن أبي شيبة في «المصنف» (16512) والدارقطني في «السنن» (3/ 281) وهو في الجمع بين الأختين في ملك اليمين.
(5) أخرجه البخاري (5285).
(1/278)
فعلى هذه الوجوه تَرَكَ بعض العلماء ما تركوا (1) من الحديث ومن الآيات، وعلى هذه الوجوه خالفهم نظراؤهم، فأخذ هؤلاء ما ترك أولئك، وأخذ أولئك ما ترك هؤلاء، لا (2) قصدًا إلى خلاف النصوص، ولا تركًا لطاعتها؛ ولكن لأحد الأعذار التي ذَكَرْنا، إمَّا من نسيان، وإمَّا أنها لم تبلغهم، وإمَّا لتأويلٍ (3) ما، وإمَّا لأخذٍ (4) بخبرٍ ضعيفٍ لم يَعلَم الآخذُ به ضَعْفَ رواته، وعَلِمَه غيره، فأخذ بخبرٍ آخر أصحَّ منه، أو بظاهر آية. وقد يتنبَّه بعضهم في النصوص الواردة إلى معنًى ويَلُوح منه حُكْمٌ بدليل ما، ويغيب عن غيره.
وقد كَثُرت الرِّحَل إلى الآفاق، وتداخل الناس، وانتدب أقوام لجَمْع حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – وضمِّه وتقييده، ووصل من البلاد البعيدة إلى من لم يكن عنده، وقامت الحجة على من بلغه شيءٌ منه، وجُمعت الأحاديث المبيِّنة (5) لصحة أحد (6) التأويلات المتأوَّلة في الحديث، وعُرف الصحيح من السقيم، وزُيف (7) الاجتهاد المؤدِّي إلى خلاف كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإلى ترك عمله، وسقط العذر عمَّن خالف ما بلغه من السُّنن ببلوغها إليه وقيام الحجة بها
_________
(1) «ما تركوا» ليس في «ح».
(2) «لا» سقط من «ح».
(3) «ح»: «التأويل».
(4) «ح»: «الأخذ».
(5) في النسختين: «المثبتة». والمثبت من «الجمع بين الصحيحين».
(6) في النسختين: «أخذ». والمثبت من «الجمع بين الصحيحين».
(7) «ب»: «وزاف». «ح»: «راق». وفي «الجمع بين الصحيحين»: «وزلف». والمثبت من «الإحكام».
(1/279)
عليه، ولم يبق إلَّا العناد والتقليد.
وعلى هذه الطريقة كان الصحابة – رضي الله عنهم – وكثيرٌ من التابعين يرحلون في طلب الحديث الأيام الكثيرة طلبًا للسُّنن، والتزامًا لها.
وقد رحل أبو أيوب من المدينة إلى مصر في حديثٍ واحدٍ إلى عقبة بن عامر (1)، ورحل علقمة والأسود إلى عائشة وابن (2) عمر (3)، ورحل علقمة إلى أبي الدرداء بالشام (4)، وكتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة (5): اكتب إليَّ بما (6) سمعته من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (7). ومثل هذا كثير». انتهى كلامه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (8): جماع الأعذار في ترك من ترك من الأئمة حديثًا ثلاثة أصناف:
أحدها: عدم اعتقاده أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قاله.
الثاني: عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول.
الثالث: اعتقاده (9) أن ذلك الحكم منسوخ.
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (17855) وعبد الرزاق في «المصنف» (18936) والحميدي في «المسند» (388).
(2) «ابن» ليس في «ب».
(3) لم نقف عليه.
(4) أخرجه البخاري (3742) ومسلم (824).
(5) «بن شعبة» ليس في «ح».
(6) «ح»: «مما».
(7) أخرجه البخاري (1477) ومسلم (593).
(8) «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» (ص 9) وما بعدها.
(9) «ب»: «عدم اعتقاده».
(1/280)
وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة:
السبب الأول: ألَّا يكون الحديث قد بلغه، ومن لم يبلغه الحديث لم يُكلَّف أن يكون عالمًا بموجَبه، فإذا لم يبلغه وقد قال في تلك النازلة بموجب ظاهر آية أو حديث آخر، أو بموجب قياس أو استصحاب، فقد يوافق الحديث المتروك تارةً، ويخالفه أخرى. وهذا السبب هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفًا لبعض الأحاديث، فإن الإحاطة بحديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم تكن لأحدٍ من الأئمة. واعتبر ذلك بالخلفاء الراشدين الذين (1) هم أعلم الأمة بأمور رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وسُننه وأحواله، خصوصًا (2) الصدِّيق الذي لم يكن يفارقه حَضَرًا ولا سفرًا (3)، وكان عنده غالب الأوقات حتى كان يَسمُر عنده بالليل، وكان – صلى الله عليه وسلم – كثيرًا ما يقول: «دَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَذَهَبْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ (4)» (5).
ثم مع ذلك الاختصاص خفي عن أبي بكر ميراث الجدة، وكان عِلْمُه عند المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة (6) وعمران بن حصين (7)، وليس
_________
(1) «الذين» ليس في «ح».
(2) «ب»: «وخصوصا».
(3) «ح»: «لا سفرًا ولا حضرًا».
(4) «وعمر» سقط من «ب».
(5) أخرجه البخاري (3685) ومسلم (2389) عن علي – رضي الله عنه -.
(6) أخرجه أحمد (18465) وأبو داود (2894) والترمذي (2100، 2101) وابن ماجه (2724) وابن حبان (6031) والحاكم (4/ 376). وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح».
(7) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (31952) والدارمي في «السنن» (2980) والبيهقي في «السنن الكبرى» (6/ 226) عن عمران أنه كان يورث الجدة وابنها حي. وصححها البيهقي عنه.
(1/281)
هؤلاء الثلاثة مثل أبي بكر، ولا قريبًا منه في العلم.
وخفي على عمر سُنة الاستئذان (1)، وتوريث المرأة من دِيَة زوجها، حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي ـ أميرٌ لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – على بعض البوادي ـ «أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وَرَّث امرأة أشيم الضبابي [ق 32 أ] من دِيَة زوجها» (2). فترك رأيه لذلك، وقال: لو لم نسمع (3) هذا لقضينا بخلافه.
وخفي عليه حكم المجوس حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» (4).
_________
(1) متفق عليه، وقد تقدم تخريجه.
(2) أخرجه أحمد (16158) وأبو داود (2927) والترمذي (1415، 2110) وابن ماجه (2642) والضياء في «المختارة» (8/ 85) عن سعيد بن المسيب عن عمر – رضي الله عنه -، وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح». وقال ابن عبد البر في «التمهيد» (12/ 116): «وهو صحيح عن سعيد بن المسيب، ورواية سعيد عن عمر تجري مجرى المتصل، وجائز الاحتجاج بها عندهم، وهذا الحديث عند جماعة أهل العلم صحيح معمول به، غير مختلف فيه».
(3) «ح»: «أسمع».
(4) أخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 278) والشافعي في «المسند» (1773) وعبد الرزاق في «المصنف» (10025) وابن أبي شيبة في «المصنف» (10870) والبزار في «المسند» (3/ 264) عن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه. وقال البزار: «والحديث مرسل، ولا نعلم أحدًا قال: عن جعفر عن أبيه عن جده إلا أبو علي الحنفي عن مالك». وقال ابن عبد البر في «التمهيد» (2/ 116): وهو مع هذا كله منقطع، ولكن معناه متصل من وجوه حسان». وينظر: «فتح الباري» لابن حجر (6/ 261).
ومن شواهده ما رواه البخاري (3156) عن بجالة «أن عمر لم يكن أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عنده عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أخذها من مجوس هجر».
(1/282)
وخفي عليه أمر (1) الطاعون حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «إِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ، وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ» (2).
وتذاكر هو وابن عباس أمر الذي شكَّ في صلاته، فلم يكن قد بَلَغَتْه السُّنَّة في ذلك حتى حدَّثه عبد الرحمن بن عوف عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه يطرح الشكَّ، ويبني على ما استيقن (3).
وكان مرةً في السفر فهاجت ريحٌ، فجعل يقول: من يحدثنا عن الريح؟ قال أبو هريرة: فبلغني ذلك وأنا في أُخريات الناس، فحثثت راحلتي حتى أدركته، فحدثته بما أمر به النبي – صلى الله عليه وسلم – عند هبوب الريح (4).
فهذه مواضع لم يكن يعلمها حتى بلَّغه إياها مَنْ عُمَر أعلمُ منه بكثيرٍ.
_________
(1) من قوله: «المجوس حتى» إلى هنا سقط من «ح».
(2) أخرجه البخاري (5729) ومسلم (2219) عن عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما -.
(3) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (3476) وأحمد في «المسند» (1678) والدارقطني في «السنن» (2/ 213) والحديث دون القصة أخرجه البخاري (401) ومسلم (571) عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه -.
(4) أخرجه أحمد في «المسند» (7846، 9537، 10999) وأبو يعلى في «المسند» (6142) والحاكم (4/ 285). والحديث عند أبي داود (5097) دون ذكر قصة عمر مع أبي هريرة.
(1/283)
ومواضع أُخر لم يَبلُغه ما فيها من السُّنَّة؛ فقضى (1) وأفتى بغيرها، كما قضى في دية الأصابع أنها مختلفة بحسب منافعها (2)، وقد كان عند أبي موسى (3) وابن عباس (4) ـ وهما دونه في العلم ـ أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ». فبلغت هذه السُّنَّة معاويةَ في إمارته، فقضى بها، ولم يجد المسلمون بُدًّا من اتِّباع ذلك (5).
وكان عمر ينهى المُحْرم عن التَّطيُّب قبل الإحرام وقبل الإفاضة إلى مكة بعد رمي الجمرة (6)، هو وابنه عبد الله (7) وغيرهما من أهل العلم، ولم
_________
(1) «فقضى» ليس في «ح».
(2) أخرجه الشافعي في «مسنده» (1661) وعبد الرزاق في «المصنف» (17698) وابن أبي شيبة في «المصنف» (27552) عن سعيد بن المسيب عن عمر – رضي الله عنه -. وحسنه ابن حجر في «موافقة الخبر الخبر» (1/ 451).
(3) أخرجه أحمد في «المسند» (20077، 20084) وابن ماجه (2654) وأبو داود (4556) والنسائي (4844) وابن حبان (6013).
(4) أخرجه البخاري (6895).
(5) لم نقف على اختلاف معاوية وعمر – رضي الله عنهما – في الأصابع، والمشهور هو خلافهما في الأضراس، روى مالك في «الموطأ» (2/ 861) وعبد الرزاق في «المصنف» (17507) وابن أبي شيبة في «المصنف» (27532) عن ابن المسيب «أن عمر قضى في الأضراس ببعير بعير، ولما كان معاوية وسقطت أضراسه قضى فيه خمس فرائض». وقال الخطابي في «معالم السنن» (4/ 28): «واتفق عامة أهل العلم على ترك التفضيل، وأن في كل سن خمسة أبعرة، وفي كل إصبع عشرًا من الإبل».
(6) أخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 329) وابن أبي شيبة في «المصنف» (13674) عن أسلم مولى عمر عنه.
ورواه الإمام أحمد في «المسند» (24516) عن سليمان بن يسار عنه.
(7) أخرجه البخاري (270) ومسلم (1192).
(1/284)
يبلغهم حديثُ عائشة – رضي الله عنها -: «طَيَّبْتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لحُرْمه قبل أن يحرم، ولحِلِّه قبل أن يطوف بالبيت» (1).
وكان أمر (2) لابس الخُفِّ أن يمسح عليه إلى أن يخلعه من غير توقيت (3)، واتَّبعه على ذلك طائفة من السَّلف، ولم يبلغهم أحاديث التوقيت التي صَحَّتْ عند مَنْ عُمَر أعلمُ منه.
وكذلك عثمان لم يكن عنده علمٌ بأن المتوفى (4) عنها زوجها (5) تعتدُّ في منزل الموت حتى حدَّثته الفريعة بنت مالك ـ أخت أبي سعيد الخدريِّ ـ بقصتها لمَّا تُوفي زوجها، وأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لها: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ». فأخذ به عثمان، وترك فتواه (6).
وأُهدي له مرَّةً صيدٌ ـ صِيدَ لأجله ـ وهو محرمٌ، فهَمَّ بأكله حتى أخبره علي – رضي الله عنه – بأن النبي – صلى الله عليه وسلم – ردَّ لحمًا أُهدي له وهو محرمٌ (7).
_________
(1) أخرجه البخاري (1754) ومسلم (1189).
(2) «ح»: «يأمر».
(3) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (763) وأحمد (242). وينظر «الإمام» لابن دقيق العيد (2/ 172 – 196) و «نصب الراية» (1/ 177 – 180).
(4) من قوله: «أعلم منه» إلى هنا سقط من «ح».
(5) «زوجها» ليس في «ب».
(6) أخرجه أحمد (27846) وأبو داود (2300) والترمذي (1204) والنسائي (3532) وابن حبان (4292) والحاكم (2/ 208) وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح». وصححه ابن القيم في «زاد المعاد» (5/ 604).
(7) رواه أحمد (794) والبزار (914) وأبو يعلى (365) عن عبد الله بن الحارث بن نوفل. وقال الهيثمي في «المجمع» (3/ 229): «وفيه علي بن زيد، وفيه كلام كثير، وقد وثق».
ورواه أبو داود (1849) والبيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 194) عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث عن أبيه مختصرًا، وليس في إسنادهما علي بن زيد، وقد صحح إسناده الألباني في «صحيح أبي داود» (1621).
وأثر علي هذا ليس فيه أن عليًا قد جوَّز لحم الصيد للمحرم إذا لم يصد لأجله، وقال البيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 194): «وأما علي وابن عباس – رضي الله عنهما – فإنهما ذهبا إلى تحريم أكله على المحرم مطلقًا». وينظر: «معالم السنن» للخطابي (2/ 186) و «نصب الراية» للزيلعي (3/ 139).
(1/285)
وأفتى علي (1) وابن عباس (2) وغيرهما أن المتوفى عنها إذا كانت حاملًا تعتدُّ أقصى الأجلين، ولم يكن قد بلغتهم (3) سُنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في سُبيعة الأسلمية أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أفتاها حين وضعت حملها بأنها قد حلَّت للأزواج (4).
وأفتى هو (5) وزيد بن ثابت (6) وابن عمر وغيرهم بأن المفوِّضة إذا
_________
(1) أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (1516) وابن أبي شيبة في المصنف (17385، 17386) والطبري في «التفسير» (23/ 56) والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 430).
(2) أخرجه البخاري (4909) ومسلم (1485) عن سليمان بن يسار.
(3) «ح»: «بلغهم».
(4) أخرجه البخاري (3991) ومسلم (1484).
(5) أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (922، 924) وابن أبي شيبة في «المصنف» (17404، 17406) والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 247) عن علي – رضي الله عنه -.
(6) أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (925) وابن أبي شيبة في «المصنف» (17403) والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 246) عن زيد بن ثابت وابن عمر – رضي الله عنهما -.
(1/286)
مات عنها زوجها فلا مهر لها، ولم يكن بلغتهم سُنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في بَرْوَعَ بنت واشق (1).
وهذا بابٌ واسعٌ. وأمَّا المنقول فيه عمَّن بعد الصحابة والتابعين فأكثر من أن يُحصى.
فإذا خفي على أَعْلَمِ الأُمَّة وأفقهها بعضُ السُّنَّة؛ فما الظنُّ بمَن بعدهم، فمن اعتقد أن كل حديثٍ صحيحٍ قد بلغ كلَّ فردٍ فردٍ من الأئمة أو إمامًا معيَّنًا فقد أخطأ خطأً فاحشًا.
قال أبو عمر: «وليس أحدٌ بعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلَّا وقد خفيت عليه بعض سُنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الصحابة فمَن بعدهم» (2).
وصدق أبو عمر – رضي الله عنه -؛ فإن (3) مجموع سُنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من أقواله وأفعاله وإقراره لا يُوجد عند رجلٍ واحدٍ أبدًا، ولو كان أَعلَمَ أهل الأرض.
فإن قيل: فالسُّنَّة قد دُونت وجُمعت وضُبطت، وصار ما تفرَّق منها عند الفئة الكثيرة مجموعًا عند واحدٍ.
قيل: هذه الدَّواوين المشهورة في السُّنن إنما جُمعت بعد انقراض عصر الأئمة المتبوعين، ومع هذا فلا يجوز أن يُدَّعى انحصار سُنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
_________
(1) أخرجه أحمد (4180، 4181) وأبو داود (2114) والترمذي (1145) والنسائي (3355) وابن ماجه (1891) وابن حبان (4098) والحاكم (2/ 180) عن معقل بن سنان – رضي الله عنه -، وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح».
(2) لم نقف عليه بهذا اللفظ في كتب ابن عبد البر.
(3) «ح»: «إن».
(1/287)
في دواوين معينة. ثم لو فُرض انحصار السُّنَّة في هذه الدَّواوين فليس كل ما فيها يعلمه العالم، ولا يكاد يحصل ذلك لأحدٍ أبدًا، بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة وهو لا يحيط علمًا بما فيها. بل الذين كانوا قبل جمع هذه الدواوين كانوا أعلم بالسُّنَّة من المتأخرين بكثيرٍ؛ لأن كثيرًا ممَّا بلغهم وصحَّ عندهم قد لا يبلغنا إلَّا عن مجهولٍ، أو بإسنادٍ منقطعٍ، أو لا يبلغنا بالكلية، وكانت دواوينهم صدورهم التي تحوي أضعاف ما في الدواوين.
فصل (1)
السبب الثاني: أن يكون الحديث قد بلغه لكنه (2) لم يثبت عنده؛ إمَّا لأن محدِّثه أو من فوقه مجهول عنده، أو سيئ الحفظ، أو مُتَّهَمٌ، أو لم يبلغه مسندًا بل منقطعًا، أو لم يضبط له لفظ الحديث، ويكون ذلك الحديث بعينه قد رواه الثقات لغيره بإسنادٍ صحيحٍ متصلٍ بأن يعلم غيره عدالة ذلك المجهول، أو يرويه له ثقةٌ غيره، ويتصل له من غير تلك الجهة المنقطعة، ويضبطه له من لم يضبطه للآخر، أو يقع له من الشواهد والمتابعات ما لم يقع لغيره، فيكون الحديث حجةً على من بلغه من هذا الوجه، وليس بحجة (3) على من بلغه من الوجه الأول. ولهذا علَّق كثيرٌ من الأئمة القول بموجَب الحديث على صحته فيقول: قولي فيها [ق 32 ب] كَيْتَ وكيت، وقد روي فيها حديثٌ بخلافه، فإن صحَّ فهو قولي. وأمثلة هذا كثيرة جدًّا.
_________
(1) «فصل» ليس في «ح».
(2) «لكنه» ليس في «ح».
(3) «ب»: «حجة».
(1/288)
فصل
السبب الثالث: اعتقاد ضعف الحديث باجتهادٍ قد خالفه فيه غيره، فقد يعتقد أحد المجتهدين ضَعْفَ رجلٍ، ويعتقد الآخَرُ ثقتَه وقُوَّتَه، وقد يكون الصواب مع المضعِّف (1) لاطلاعه على سببٍ خَفِيَ على الموثِّق. وقد يكون الصواب (2) مع الآخر؛ لعلمه بأن ذلك السبب غير قادحٍ في روايته وعدالته؛ إمَّا لأن جنسه غير قادح، وإمَّا لأن له فيه عذرًا وتأويلًا يمنع الجرح.
وقد لا يعتقد الذي بلغه الحديث أن راويه سمعه (3) من غيره لأسباب معروفة عنده خَفِيَت على غيره (4).
وقد يكون للمحدِّث حالان: حال استقامة، وحال اضطراب، فلا (5) يدري الرجل أن حديثه المعيَّن حدَّث به في حال الاستقامة أو في حال الاضطراب، فيتوقف فيه؛ ويعلم غيره أنه حدَّث به في حال الاستقامة فيقبله.
وقد يكون المحدِّث قد نسي الحديث الذي قد (6) حدَّث به فينكره، فيبلغ المجتهد إنكاره له، فلا يعمل به؛ ويرى غيره أن نسيانه له لا يقدح في صحة الحديث ووجوب العمل به.
_________
(1) «ح»: «الضعف». تحريف، وفي «رفع الملام»: «من يعتقد ضعفه».
(2) من قوله: «وقد يكون الصواب» إلى هنا سقط من «ب».
(3) في النسختين: «معه». والمثبت هو الصواب؛ ففي «رفع الملام»: «سمع الحديث».
(4) هذه العبارة غير بينة المعنى، والذي في «رفع الملام»: «ألَّا يعتقد أن المحدث سمع الحديث ممن حدث عنه، وغيره يعتقد أنه سمعه لأسباب تُوجِب ذلك معروفة».
(5) «ح»: «ولا».
(6) «قد» ليس في «ب».
(1/289)
وأيضًا فكثيرٌ من (1) الحجازيين لا يحتجُّ بحديث عراقيٍّ ولا شاميٍّ إن لم يكن له أصل بالحجاز، حتى قال بعض من يذهب هذا المذهب: «نزِّلوا أحاديث أهل العراق منزلة أحاديث أهل الكتاب، لا تصدقوهم، ولا تكذبوهم» (2).
وقيل لبعض من كان يذهب إلى هذا المذهب: سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله حجة؟ قال: إن لم يكن له أصلٌ بالحجاز فلا (3).
وكان الشافعي يرى هذا المذهب أولًا، ثم رجع عنه، وقال للإمام أحمد: «يا أبا عبد الله إذا صح الحديث فأَعْلِمْني حتى أذهب إليه، شاميًّا كان أو عراقيًّا» (4). ولم يقل: أو حجازيًّا؛ لأنه لم يكن يشك هو ولا غيره في أحاديث (5) أهل الحجاز.
_________
(1) «من» سقط من «ح».
(2) أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (2165، 2166) عن الإمام مالك – رحمه الله -. وينظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (8/ 68) و «إكمال تهذيب الكمال» لمغلطاي (4/ 356).
(3) عزا هذا الكلامَ للإمام الشافعي شيخُ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (4/ 449) والزركشي في «النكت على مقدمة ابن الصلاح» (1/ 152). وأخرج ابن أبي حاتم في «آداب الشافعي ومناقبه» (ص 153) عنه: «إذا جاوز الحديث الحرمين، فقد ضعف نخاعه». وينظر «تدريب الراوي» (1/ 89).
(4) أخرجه ابن أبي حاتم في «آداب الشافعي ومناقبه» (ص 70) وأبو نعيم في «الحلية» (9/ 170).
(5) «أحاديث» ليس في «ح».
(1/290)
وأكثر أهل العلم على خلاف هذا المذهب، وأن الحديث إذا صحَّ وجب العمل به من أي مِصْرٍ من الأمصار كان مَخرَجُه، وعلى هذا إجماع أهل الحديث قاطبة.
فصل
السبب الرابع: اشتراط بعضهم في خبر الواحد العدل شروطًا يخالفه فيها غيره، كاشتراط بعضهم أن يكون الراوي فقيهًا إذا خالف ما رواه القياس، واشتراط بعضهم انتشار الحديث وظهوره إذا كان ممَّا تعُمُّ به البلوى، واشتراط بعضهم ألَّا يكون الحديث قد تضمن زيادة على نصِّ القرآن؛ لئلَّا يلزم منه (1) نسخ القرآن به. وهذه مسائل معروفة.
فصل
السبب الخامس: أن ينسى الحديث أو الآية كما نسي عمر قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر: 29]، ونسي قوله: {وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنطَارًا} [النساء: 20]، ونسي فتوى النبي – صلى الله عليه وسلم – له ولعمار بالتيمم للجنابة في السفر (2).
وكذلك ما رُوي أن عليًّا ذَكَّرَ الزبيرَ يوم الجمل شيئًا عَهِدَه إليهما
رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فذَكَّرَه فانصرف عن القتال (3).
_________
(1) «ح»: «فيه».
(2) أخرجه البخاري (347) ومسلم (368).
(3) روى عبد الرزاق في «المصنف» (20430) وابن أبي شيبة في «المصنف» (38982) والحاكم في «المستدرك» (3/ 366) «أن عليًّا ذكَّر الزبير بقول النبي – صلى الله عليه وسلم – له: «لتقاتلنه وأنت ظالم له». وصححه الحاكم، وقال العقيلي في «الضعفاء الكبير» (3/ 548): «ولا يُروى هذا المتن من وجه يثبت».
(1/291)
قلت (1): فيكون الناسي معذورًا بفتواه بخلاف النص، فما عُذْر الذاكر للنص إذا قلَّد الناسي، وخالف الذاكرَ والذِّكْرَ؟!
فصل
السبب السادس: عدم معرفته بدلالة الحديث؛ إمَّا لكون لفظ الحديث غريبًا عنده، مثل لفظ: المزابنة (2)، والمحاقلة (3)، والمخابرة (4)، والملامسة (5)، والمنابذة (6)، …………………………………….
_________
(1) القائل هو الإمام ابن القيم، يعقب على قول شيخه ابن تيمية.
(2) المزابنة: بيع الرُّطب في رؤس النخل بالتمر، وأصله من الزبن وهو الدفع، كأن كل واحد من المتبايعين يزبن صاحبه عن حقه بما يزداد منه. «النهاية في غريب الحديث» (2/ 294).
(3) المحاقلة: قيل: هي اكتراء الأرض بالحنطة. وقيل: هي المزارعة على نصيب معلوم كالثلث والربع ونحوهما. وقيل: هي بيع الطعام في سنبله بالبر. وقيل: بيع الزرع قبل إدراكه. «النهاية في غريب الحديث» (1/ 416).
(4) المخابرة: قيل: هي المزارعة على نصيب معين، كالثلث والربع وغيرهما. والخبرة: النصيب. وقيل: هي من الخبار: الأرض اللينة. وقيل: أصل المخابرة من خيبر، لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – أقرها في أيدي أهلها على النصف من محصولها، فقيل خابرهم: أي عاملهم في خيبر. «النهاية في غريب الحديث» (2/ 7).
(5) الملامسة: أن يقول: إذا لمست ثوبي أو لمست ثوبك فقد وجب البيع. وقيل: هو أن يلمس المتاع من وراء ثوب ولا ينظر إليه ثم يوقع البيع عليه. «النهاية في غريب الحديث» (4/ 269 – 270).
(6) المنابذة: أن يقول الرجل لصاحبه: انبذ إلي الثوب أو أنبذه إليك ليجب البيع. وقيل: هو أن يقول: إذا نبذت إليك الحصاة فقد وجب البيع، فيكون البيع معاطاة من غير عقد. «النهاية في غريب الحديث» (5/ 6).
(1/292)
والحَصاة (1)، والغَرَر (2)،
ونحوها من الكلمات الغريبة التي يختلف العلماء في تأويلها.
ومثل قوله: «لَا طَلَاقَ وَلَا عِتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ» (3)، فإنهم فسَّروا الإغلاق بالإكراه.
قلت: هذا تفسير كثير من الحجازيين، ومنهم من فسَّره بالغضب، وهو تفسير العراقيين، ونصَّ عليه أحمد (4) وأبو عبيد (5) وأبو داود (6).
ومنهم من فسَّره بجمع الثلاث في كلمةٍ واحدةٍ، فإنه (7) مأخوذ من غلق
_________
(1) بيع الحصاة: هو أن يقول البائع أو المشتري: إذا نبذت إليك الحصاة فقد وجب البيع. وقيل: هو أن يقول: بعتك من السلع ما تقع عليه حصاتك إذا رميت بها، أو بعتك من الأرض إلى حيث تنتهي حصاتك. «النهاية في غريب الحديث» (1/ 398).
(2) الغرر: ما كان له ظاهرٌ يغر المشتري وباطن مجهول .. وقال الأزهري: بيع الغرر: ما كان على غير عهدة ولا ثقة، وتدخل فيه البيوع التي لا يحيط بكنهها المتبايعان، من كل مجهول. «النهاية في غريب الحديث» (3/ 355).
(3) أخرجه أحمد (27002) وأبو داود (2193) وابن ماجه (2046) والحاكم (2/ 198) عن عائشة – رضي الله عنها -، وقال الحاكم: «حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه». وتعقبه الذهبي، وينظر «تنقيح التحقيق» (4/ 407) و «البدر المنير» (8/ 84) و «إرواء الغليل» (2047).
(4) قال في «الفروع» (9/ 11): «قال في رواية حنبل: يريد الغضب».
(5) نقله ابن بطال في «شرح البخاري» (7/ 411).
(6) قال في «السنن» (2193): «الغلاق أظنه في الغضب».
(7) «ب»: «كأنه».
(1/293)
الباب، أي: أُغلِق عليه باب الطلاق جملةً (1). وصحَّح بعضهم هذا التفسير، وجعله أولى التفاسير (2).
وممَّن حكى الأقوالَ الثلاثة صاحبُ «مطالع الأنوار» (3)، وصاحبُ «مشارق الأنوار» (4).
وهذا الباب يعرض منه اختلافٌ كثيرٌ، سببه أن يكون لذلك اللفظ في لغته وعُرْفه معنًى غير معناه في لغة الرسول – صلى الله عليه وسلم -، أو أعم منه أو أخص. فتَفَطَّنْ لهذا الموضع فإنه مَنشأ لغلطٍ كثيرٍ على صاحب الشرع.
والصواب في لفظ الإغلاق أنه الذي يُغلِق على صاحبه باب تصوُّره أو قصده، كالجنون والسُّكر والإكراه والغضب، كأنه لم (5) ينفتح قلبُه لقصده، ولا وَطَرَ له فيه (6).
ومن هذا لفظ الخمر، فإنه في لغة الشارع اسم لكل مُسكِرٍ لا يختص بنوعٍ من أنواعه. وهذا المعنى مطابق (7) لاشتقاقه، فتخصيصه ببعض الأنواع المسكرة دون بعض اصطلاحٌ حادثٌ [ق 33 أ] حصل بحَمْل كلام الشارع
_________
(1) حكاه أبو عبيد الهروي في «الغريبين» (4/ 1384) ولم يُسم قائله.
(2) لم أقف على تسمية هذا المصحح.
(3) ابن قرقول في «المطالع» (5/ 150).
(4) القاضي عياض في «المشارق» (2/ 134).
(5) «ح»: «ألم».
(6) ينظر: «زاد المعاد» (5/ 215) و «أعلام الموقعين» (4/ 50) و «تهذيب السنن» (1/ 524).
(7) «ح»: «يطابق».
(1/294)
عليه تخصيص لِمَا قَصَدَ الشارعُ تعميمَه. ولهذا لم يختلف المخاطَبون بالقرآن أولًا ـ وهم الصحابة ـ في تحريم ذلك كله (1).
فصل
ومن هذا الخلاف العارض من جهة كون اللفظ مشتركًا أو مجملًا أو مترددًا بين حمله على معناه عند الإطلاق ـ وهو المسمَّى بالحقيقة ـ أو على معناه عند التقييد ـ وهو المسمَّى بالمجاز ـ كاختلافهم في المراد من القُرْء هل هو الحيض أو الأطهار، ففَهِمَتْ طائفةٌ منه الحيضَ، وأخرى الطُّهْرَ (2).
وكما فهمت طائفةٌ من الخيط الأبيض والأسود الخيطين المعروفين، وفَهِمَ غيرهم بياضَ النهار وسوادَ الليل (3).
وكما فهمت طائفةٌ من قوله في التيمم: {فَاَمْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم
_________
(1) «كله» ليس في «ب».
(2) اختلف العلماء في الأقراء، فقال أهل الكوفة: هي الحيض. وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وأبي موسى ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة والسدي. وقال أهل الحجاز: هي الأطهار. وهو قول عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت والزهري وأبان بن عثمان والشافعي. ينظر: «تفسير الطبري» (4/ 87 – 105) و «التفسير البسيط» للواحدي (4/ 209 – 216) و «تفسير القرطبي» (3/ 113 – 117).
(3) أخرج البخاري (1917) ومسلم (1091) عن سهل بن سعد – رضي الله عنه – قال: «أُنزلت: {وَكُلُوا وَاَشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اُلْخَيْطُ اُلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اِلْأَسْوَدِ} ولم ينزل: {مِنَ اَلْفَجْرِ}. فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولم يزل يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد: {مِنَ اَلْفَجْرِ}، فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار».
(1/295)
مِّنْهُ} [المائدة: 7] المسحَ (1) إلى الآباط، ففعلوه، وفَهِمَ آخرون المسح إلى المرافق، ففعلوه (2). وأسعد الناس بفَهْمِ الآية مَن فَهِمَ منها المسحَ إلى الكوع (3). وهذا هو الذي فهمه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الآية (4)، وهو نظير فهمه صلوات الله وسلامه عليه القطعَ من الكوع من آية السرقة (5).
وكما فهمت طائفةٌ من قوله: {وَاَمْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} البعضَ مُقَدَّرًا أو غير مُقَدَّرٍ، وفَهِمَ آخرون مسحَ الجميع (6). وفهمُهم مؤيدٌ بفِعْل الرسول (7).
وكما فهم بعضهم من قوله تعالى: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ اِلسُّدُسُ} [النساء: 11] الثلاثة فصاعدًا؛ اعتمادًا على الحقيقة، وفهم الآخرون الاثنين فصاعدًا؛ اعتمادًا على فهم الجنس الزائد على الواحد (8). وهؤلاء أسعدُ
_________
(1) «المسح» ليس في «ب».
(2) ينظر: «تفسير الطبري» (7/ 83 – 91) و «تفسير القرطبي» (5/ 238 – 240).
(3) من قوله: «المرافق ففعلوه» إلى هنا ليس في «ب».
(4) كما في حديث عمار – رضي الله عنه -، أخرجه البخاري (338) ومسلم (368).
(5) أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (8/ 270 – 271) عن جابر بن عبد الله وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر بن الخطاب وغيرهم – رضي الله عنهم -، وينظر «التلخيص الحبير» (5/ 2650 – 2651) و «موافقة الخُبر الخبر» (1/ 85 – 86).
(6) ينظر: «تفسير الطبري» (8/ 185 – 188) و «التفسير البسيط» للواحدي (7/ 281) و «تفسير القرطبي» (6/ 87 – 88).
(7) أخرج البخاري (185) ومسلم (235) عن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري – رضي الله عنه – في صفة وضوء النبي – صلى الله عليه وسلم -: «ثم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه».
(8) ينظر: «تفسير الطبري» (6/ 464 – 468) و «التفسير البسيط» للواحدي (6/ 361 – 363) و «تفسير القرطبي» (5/ 72 – 73).
(1/296)
بفَهْمِ الآية.
وكما فهم الصدِّيق ومَن معه من الكلالة ـ التي يرث (1) معها الإخوة والأخوات للأب ـ عدمَ الولد وإن سَفَلَ والأبِ وإن علا (2). وفهم آخرون منها عدمَ الأب دون مَن فوقه. والصدِّيق أسعدُ بفهم الآية، كما اتفق المسلمون على أن الكلالة في قوله: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ اِمْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا اَلسُّدُسُ} [النساء: 12] أنها عدم الولد وإن سَفَلَ، والأبِ وإن علا (3).
وكما فَهِمَ مَن فهم من السلف والخلف من قوله تعالى: {اِلطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 227] أنه مرة بعد مرة، مثل قوله: {سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ} [التوبة: 102] وقوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] وقوله في الحديث: «فلمَّا أقرَّ أربع مرات رَجَمَه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -» (4). وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَئْذِنكُمُ اُلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا اُلْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 56]. وجميع ما ذُكر فيه تعدُّد المرة فهذا سبيله، فالثلاث المجموعة بكلمةٍ واحدةٍ مرة واحدة (5). وفهم آخرون منها
_________
(1) «ب»: «ترث».
(2) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (19190، 19191) وابن أبي شيبة في «المصنف» (32255) وسعيد بن منصور في «التفسير» (591) والبيهقي في «السنن الكبرى» (6/ 368) من طريق الشعبي عن أبي بكر الصديق، والشعبي لم يسمع من أبي بكر.
(3) بعده في «ح»: «وكما فهم الصديق». وينظر: «تفسير الطبري» (6/ 475 – 479) و «التفسير البسيط» للواحدي (6/ 367 – 371) و «تفسير القرطبي» (5/ 76 – 77).
(4) أخرجه البخاري (6825) ومسلم (1691) عن أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(5) ينظر: «زاد المعاد» للمصنف (5/ 323) و «إغاثة اللهفان» له (1/ 501).
(1/297)
الجمع والإفراد، ولا يخفى أي الفهمين أولى.
وكما فَهِمَ من أباح نكاح التحليل ذلك من قوله: {حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 228] وفهم المُحرِّمون المُبطِلون له بطلانه من نفس الآية من عدة أوجه:
منها: قوله: {حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} ونكاح التحليل (1) لا يدخل في النكاح المُطلَق، كما لم يدخل فيه نكاح الشغار والمتعة، ونكاح المعتدة، ونكاح المحرمة، فإن الذي أخرج هذه الأنواع من النكاح المُطلَق المأذون فيه هو الذي أخرج نكاح التحليل منه بنصوص أكثر وأصرح من تلك النصوص.
ومنها: تسميته سبحانه لهذا الثاني زوجًا. وأحكام الزوج عرفًا وشرعًا منتفية عن المحلِّل، وانتفاء الأحكام مستلزم لانتفاء الاسم شرعًا وعرفًا، وكذلك هو، فإن أهل العُرْف لا يُسمُّونه زوجًا، والشارع إنما سمَّاه «تيسًا مستعارًا» (2). فلا يجوز تسميته زوجًا إلَّا على وجه التقييد، بأن يقال: زوج ملعون، أو زوج في نكاح تحليل، أو في نكاح باطل.
_________
(1) «ب»: «المحلل».
(2) أخرجه ابن ماجه (1936) والطبراني في «المعجم الكبير» (17/ 299) والدارقطني في «السنن» (3/ 251) والحاكم في «المستدرك» (2/ 198) عن عقبة بن عامر – رضي الله عنه -. وحسَّن إسناده عبدُ الحق الإشبيلي في «الأحكام الوسطى» (3/ 156) وقد رد المصنف في «أعلام الموقعين» (4/ 417 – 419) على من ضعَّفه، وينظر: «بيان الوهم» لابن القطان (3/ 5040) و «نصب الراية» للزيلعي (3/ 239).
(1/298)
ومنها: أنه جعل الزوج الثاني وطلاقه بمنزلة الزوج الأول وطلاقه، فالمفهوم منها واحد (1).
وغير ذلك من الوجوه التي أَفهَمَتْ منها الآية بطلانَ نكاح المحلِّل، وهي عشرة، قد ذكرناها في موضع آخر (2)، ولا ريب أن فَهْمَ هؤلاء أولى بالصواب.
ومن هذا فَهْم بعضهم إباحة العِينَة من قوله تعالى: {إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةٌ حَاضِرَةٌ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 281] وفَهِمَ آخرون منها تحريمها وبطلانها؛ فإن لفظ التجارة: البيع المقصود الذي يَقصِد به كلُّ واحدٍ من المتعاقدينِ الربحَ أو (3) الانتفاع، ولا يَعرِف أهل اللغة والعُرْفِ من لفظ التجارة إلَّا ذلك، ولا يَعُدُّ أحدٌ منهم قط الحيلة على الربا تجارةً، وإن كان المرابي يَعُدُّ ذلك تجارةً، كما (4) يَعُدُّ بيع الدرهم بالدرهمين، فالعِينَة لا تُعَدُّ تجارةً لغة ولا شرعًا ولا عُرْفًا (5).
وكما فَهِمَ مَن فهم من قوله تعالى: {اَلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3] أنه العقد (6)، ……………………………………………..
_________
(1) «واحد» سقط من «ح».
(2) «ب»: «مواضع أخر». وينظر عن نكاح التحليل «زاد المعاد» للمصنف (5/ 154 – 157) و «إغاثة اللهفان» للمصنف (1/ 473 – 495).
(3) «ح»: «و».
(4) «ح»: «وكما».
(5) توسع المصنِّف في الكلام على بيع العينة في: «تهذيب سنن أبي داود» (2/ 457 – 479) و «أعلام الموقعين» (4/ 53 – 62) و «إغاثة اللهفان» (1/ 602 – 604).
(6) «ح»: «العقدة».
(1/299)
وفَهِمَ آخرون أنه نفس الوطء (1) وفَهْمُ الأوَّلين (2) أصوب لِخُلُوِّ الآية عن الفائدة إذا حُمل على الوطء (3).
وكما فَهِمَ أهل الحجاز من قوله تعالى: {أَوْ يُنفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ} [المائدة: 35] طَرْدَه من الأرض (4) من موضعٍ إلى موضعٍ، وفَهِمَ أهل العراق منه الحبس (5).
وبالجملة فهذا الفصل مُعتَرَك النزاع.
فصل
السبب السابع: أن يكون عارفًا بدلالة اللفظ وموضوعه ولكن لا يَتفطَّن لدخول هذا الفرد المعيَّن تحت اللفظ؛ [ق 33 ب] إمَّا لعدم إحاطته بحقيقة ذلك الفرد، وأنه مماثل لغيره من الأفراد الداخلة تحته، وإمَّا لعدم حضور ذلك الفرد بباله، وإمَّا لاعتقاده اختصاصَه بخصيصة تُخرِجه من اللفظ العام، وإمَّا لاعتقاده (6) العموم فيما ليس بعامٍّ، أو الإطلاق فيما هو مقيدٌ، فيَذهَل عن المقيِّد (7)، …………………………………………………….
_________
(1) ينظر: «تفسير الطبري» (17/ 149 – 160) و «التفسير البسيط» للواحدي (16/ 101 – 117) و «تفسير القرطبي» (12/ 167 – 170).
(2) «ح»: «الأولون».
(3) وينظر: «إغاثة اللهفان» للمصنف (1/ 108 – 110).
(4) «من الأرض» ليس في «ح».
(5) ينظر: «تفسير الطبري» (8/ 372 – 390) و «التفسير البسيط» (7/ 357 – 359) و «تفسير القرطبي» (6/ 152 – 153).
(6) من قوله «اختصاصه» إلى هنا سقط من «ح».
(7) «ح»: «التقييد».
(1/300)
كما يَذهَل عن (1) المخصِّص.
فصل
السبب الثامن: اعتقاده أنْ لا دلالة في ذلك اللفظ على الحكم المتنازَع فيه، فها هنا أربعة أمور:
أحدها: ألَّا يَعرِف مدلول اللفظ في عُرْف الشارع، فيحمله على خلاف مدلوله.
الثاني: أن يكون له في عُرْف الشارع معنيان فيحمله على أحدهما، ويحمله غيره على المعنى الآخر.
الثالث: أن يَفهم من العامِّ خاصًّا أو من الخاصِّ عامًّا، أو من المطلق مقيَّدًا، أو من المقيَّد مطلقًا.
الرابع: أن ينفي دلالة اللفظ، وتارةً يكون مُصيبًا في نفي (2) الدلالة (3)، وتارةً يكون مخطئًا، فمَن نفى دلالة قوله: {وَكُلُوا وَاَشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اُلْخَيْطُ اُلْأَبْيَضُ} [البقرة: 186] على حلِّ (4) أكل ذي الناب والمِخْلَب أصاب.
ومَن نفى دلالة قوله: {وَأَنكِحُوا اُلْأَيَامَى مِنكُمْ} [النور: 32] على جواز نكاح الزانية أصاب.
_________
(1) «ح»: «في».
(2) «ب»: «نفس». والمثبت هو الصواب.
(3) «في نفي الدلالة» ليس في «ح».
(4) «حل» ليس في «ح».
(1/301)
ومَن نفى دلالة قوله: {قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 146] على الإذن في أكل ما عدا المذكور في الآية أصاب (1).
ومَن نفى دلالة العام على ما عدا مَحَلِّ التخصيص غَلِطَ.
ومَن نفى دلالته على ما عدا مَحَلِّ (2) السبب غَلِطَ.
ومَن نفى دلالة الأمر على الوجوب (3) والنهي على التحريم غَلِطَ.
ومِن هذا ما يعرض من الاختلاف في الأفعال المنفية بعد وجود صورتها، كقوله: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» (4). و «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ» (5) ………………………………………..
_________
(1) من قوله: «ومن نفى دلالة قوله: {قُل لَّا أَجِدُ} إلى هنا ليس في «ب».
(2) «محل» ليس في «ح».
(3) «على الوجوب» سقط من «ح».
(4) أخرجه البخاري (756) ومسلم (394) عن عبادة بن الصامت – رضي الله عنه -.
(5) أخرجه أحمد (27814) وأبو داود (2454) والترمذي (730) والنسائي (2332) وابن ماجه (1700) وابن خزيمة (1933) عن أم المؤمنين حفصة – رضي الله عنها -، واختلف في رفعه ووقفه، فرجح وَقْفَه الإمام أحمد والبخاري وأبو حاتم الرازي والترمذي والنسائي والدارقطني، وصحح رَفْعَه الخطابي والبيهقي وابن حزم وابن تيمية. ينظر: «العلل الكبير» للترمذي (202) و «العلل» لابن أبي حاتم (654) و «العلل» للدارقطني (3939) و «معالم السنن» للخطابي (2/ 134) و «السنن الكبرى» للبيهقي (4/ 202) و «المحلى» (4/ 288) و «شرح العمدة» لابن تيمية (128 الصيام) و «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (3/ 177 – 183) و «البدر المنير» لابن الملقن (5/ 651 – 655).
(1/302)
«وَلَا صَلَاةَ لِفَذٍّ (1) خَلْفَ الصَّفِ» (2) ونحو ذلك.
فطائفة (3) لم تفهم المراد منه، فجعلته مُجْمَلًا، يتوقف العمل به على البيان.
وطائفةٌ فهمت منه نَفْيَ الكمال المستحبِّ، وهذا ضعيف جدًّا؛ فإن النفي المطلق بعيدٌ منه.
وطائفةٌ فهمت نفي الإجزاء والصحة. وفَهْم هؤلاء أقرب إلى اللغة والعُرْف والشرع.
وطائفةٌ فهمت (4) نفي المسمَّى الشرعي. وهؤلاء أَسْعَدُ الناس بفَهْم المراد.
فصل
هذا كله قبل الوصول إلى:
السبب التاسع: وهو اعتقاده أن تلك الدلالة قد عارَضَها ما هو مساوٍ لها
_________
(1) الفذ: الفرد. «الصحاح» (2/ 568).
(2) أخرجه الإمام أحمد (1735) وابن ماجه (1003) وابن خزيمة (1569) وابن حبان (2202) عن علي بن شيبان – رضي الله عنه -، وحسَّنه الإمام أحمد والنووي، وقوَّاه جماعة، كابن عبد الهادي والذهبي، وفي الباب عن جماعة من الصحابة – رضي الله عنهم -. وينظر: «جامع الترمذي» (230) و «خلاصة الأحكام» للنووي (2517) و «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (2/ 497) و «التنقيح» للذهبي (1/ 263).
(3) «ح»: «وطائفة».
(4) «ح»: «وفهمت طائفة».
(1/303)
فيجب التوقف، أو ما هو (1) أقوى منها فيجب تقديمه (2). وهذه المعارضة نوعان: معارضة في الدليل، ومعارضة في مقدمة من مقدماته.
فالمعارضة في الدليل أن يعتقد أنه قد عارضه ما هو أرجح منه (3)، فيجب عليه العمل بالراجح، وقد يكون مصيبًا في ذلك، وقد (4) لا يكون مصيبًا. فالمصيب من اعتقد المعارضة بناسخٍ يصح فيه دلالته ومقاومته وتأخُّره (5)، فإن انتفى بعضها كان واهمًا في اعتقاد المعارضة وإبطال النصِّ بها.
وأمَّا المعارضة في المقدمة فأن يقوم عنده (6) معارضٌ لجرِّ (7) الدليل، مثاله: أن يعتقد تحريم المَيْسِر بالنصِّ الدالِّ على تحريمه، ويدل عنده دليل على دخول الشِّطْرَنج فيه، ثم يقوم عنده دليلٌ معارِضٌ لهذا الدليل يدل على أن الشِّطْرَنج ليس من المَيْسِر. فهاهنا أربعة أمور:
أحدها: ألَّا يعتقد دلالة اللفظ على المعنى.
الثاني: أن يعتقد دلالته ولكن يقوم عنده معارِضٌ للدليل.
الثالث: أن يقوم عنده معارِض لمقدمة من مقدماته.
الرابع: أن يتعارض عنده الدلالتان.
_________
(1) «هو» ليس في «ح».
(2) «ب»: «تقويمها». «ح»: «تقديمها». والمثبت أصوب.
(3) «منه» ليس في «ب».
(4) «قد» سقط من «ح».
(5) من قوله «فالمصيب من اعتقد» إلى هنا تكرر في «ح».
(6) «ح»: «عنه».
(7) «ح»: «كجر».
(1/304)
والتعارُض قد يقع في الدليلين، وقد يقع في الدلالتين (1). والفرق بينهما أن تَعارُض الدليلين يكون مع اعتقاد دلالة كل واحدٍ منهما على مطلوبه، وتَعارُض الدلالتين يقع في الدليل الواحد فيكون له وجهان، ثم قد يعتقد رجحان المعارض، فيصير إلى الراجح، وقد لا يتبين له الرجحان، فيتوقف.
وقد يَترك الحديث لظنِّه انعقاد الإجماع على خلافه؛ إذ (2) لم يبلغه الخلاف، ويكون إنما معه عدم العلم بالمخالف، لا العلم بوجود (3) المخالف. وهذا العذر لم يكن أحدٌ من الأئمة والسلف يصير إليه، وإنما لَهِجَ به المتأخرون. وقد أنكره أشدَّ الإنكار الشافعي والإمام أحمد، وقال الشافعي: «ما لا يُعلم فيه خلاف لا يقال له إجماع» (4)، هذا لفظه (5). وأمَّا الإمام أحمد فقال: «مَن ادَّعى الإجماع فقد كَذَبَ، وما يدريه لعل الناس اختلفوا» (6). وقد كتبتُ نصوصه ونصوص الشافعي في غير هذا الموضع (7).
ولا خلاف بين الأئمة أنه إذا صحَّ الحديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم (8) يكن
_________
(1) «ح»: «الرابع أن يتعارض عنده الدليلين».
(2) «ب»: «إذا».
(3) «ح»: «فوجود». والعبارة مشكلة، تبدو لي مقلوبة، وصوابها فيما أظن: «ويكون ما معه عدم العلم بالمخالف لا العلم بعدم المخالف».
(4) ينظر «الأم» (8/ 552، 9/ 30).
(5) «هذا لفظه» ليس في «ب».
(6) «مسائل عبد الله بن أحمد» (1587).
(7) ينظر «أعلام الموقعين» (1/ 61 – 62).
(8) «لم». سقط من «ح».
(1/305)
عدم العلم بالقائل به مسوِّغًا لمخالفته، فإنه دليل (1) مُوجِب للاتباع (2)، وعدم العلم بالمخالف لا يصلح أن يكون معارضًا، فلا (3) يجوز ترك الدليل له.
وإذا تأمَّلْت هذا الموضع وجدت كثيرًا من أعيان العلماء قد صاروا إلى أقوال متمسَّكُهم فيها عدمُ العلم بالمخالف، مع قيام الأدلة الظاهرة على خلاف تلك الأقوال. وعُذْرُهم – رضي الله عنهم – أنهم لم يمكن أحدًا منهم أن يبتدئ قولًا لم يَعلم به قائلًا، مع علمه بأن الناس قد قالوا [ق 34 أ] خلافه، فيتركَّب من هذا العلم وعدم ذلك العلم الإمساك عن اتباع ذلك الدليل.
وها هنا انقسم العلماء (4) ثلاثة أقسام:
فقسمٌ أخذوا بما بلغهم من أقوال أهل العلم، وقالوا: لا يجوز لنا أن نخالفهم ونقول قولًا لم نُسبَق إليه. وهؤلاء معذورون قبل وصول الخلاف إليهم. فأمَّا مَن وصل إليه الخلاف وعَلِمَ بذلك القول قائلًا فما أدري ما عذره عند الله في مخالفته صريح الدليل (5)؟!
وقسمٌ توقفوا وعلَّقوا القول، فقالوا: إن كان في المسألة إجماعٌ فهو أحق ما اتُّبِعَ، وإلا فالقول فيها كَيْتَ وكَيْتَ، وهو موجَب الدليل. ولو عَلِمَ هؤلاء قائلًا به لصرحوا بموافقته. فإذا عُلم به قائلٌ فالذي ينبغي ـ ولا يجوز غيره ـ أن يُضاف ذلك القول إليهم؛ لأنهم إنما تركوه لظنهم أنه لا قائل به، وأنه لو كان
_________
(1) «دليل» ليس في «ح».
(2) «ح»: «الاتباع».
(3) «ح»: «ولا».
(4) «العلماء» سقط من «ح».
(5) «ب»: «مخالفة صريح الدليل منه».
(1/306)
به قائل لصاروا إليه. فإذا ظهر به قائل لم يَجُزْ أن يُضاف إليهم غيره إلَّا على الوجه المذكور، وهذه الطريقة أسلم.
وقسمٌ ثالثٌ: اتبعوا موجَب الدليل، وصاروا إليه، ولم يُقدِّموا عليه قول مَن ليس قوله حجة، ثم انقسم هؤلاء قسمين:
فطائفةٌ علمت أنه يستحيل أن تُجمِع الأُمة على خلاف هذا الدليل، وعلمت أنه لا بد أن يكون في الأُمة مَن قال بموجَبه (1)، وإن لم يبلغهم قوله، فما كل ما قاله كل واحدٍ من أهل العلم وصل إلى كل واحدٍ واحدٍ من المجتهدين، وهذا لا يدَّعيه عاقلٌ، ولا يُدَّعى في أحدٍ. وقد نصَّ الشافعي على مثل ذلك، فذكر البيهقي عنه في «المدخل» (2) أنه قال له بعض مَن ناظره: فهل تجد لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – سُنة ثابتة متصلة خالفها الكل؟ قلت: لا (3)، لم أجدها قط كما وجدت المُرْسَل.
وطائفةٌ قالت: يجوز ألَّا يتقدم به قائلٌ، ولكن لا يلزم انعقاد الإجماع على خلافه؛ إذ لعل تلك النازلة تكون قد نزلت فأفتى فيها بعض العلماء أو كثيرٌ منهم أو أكثرهم بذلك القول، ولم يُسْتَفْتَ فيها الباقون، ولم تبلغهم، فحُفِظَ فيها قول طائفة من أهل العلم، ولم يُحفَظ لغيرهم فيها قول، والذين حُفِظَ قولُهم فيها ليسوا كلَّ الأُمة، فيَحْرُم مخالفتهم.
قالوا: فنحن (4) في مخالفتنا لمَن ليس قوله حجةً أعذرُ منكم في
_________
(1) «بموجبه». سقط من «ح».
(2) «المدخل إلى علم السنن» (1/ 400).
(3) «لا» ليس في «ب».
(4) «ح»: «نحن».
(1/307)
مخالفتكم لمَن قوله حجة. فإن كنتم معذورين في مخالفة الدليل لقول مَن بلغتكم أقوالهم ـ مع أنهم ليسوا كلَّ الأُمة ـ فنحن في مخالفتهم لقيام الدليل أعذر عند الله ورسوله منكم. وهذا كما تراه لا يمكن دَفْعُه إلَّا بمكابرة أو إجماعٍ متيقَّنٍ معلومٍ لا شك فيه، وبالله التوفيق.
وممَّا يوضِّح هذا أن كل مَن ترك موجَب الدليل لِظَنِّ الإجماع فإنه قد تبيَّن لغيره أنه لا إجماع في تلك المسألة، والخلاف فيها قائمٌ، ونحن نَذكُرُ من ذلك طَرَفًا يسيرًا يَستدِلُّ به العالم على ما وراءه.
فمن ذلك: قول مالك: «لا أعلم أحدًا أجاز شهادة العبد» (1). وصدق – رضي الله عنه -، فلم يَعلم أحدًا أجازها، وعَلِمَه غيره. فأجازها علي بن أبي طالب (2) وأنس بن مالك (3) وشريح القاضي (4)، حكاه الإمام أحمد وغيره، وروى أحمد (5) عن أنس قال: «لا أعلم أحدًا ردَّ شهادة العبد».
_________
(1) لم نقف عليه عن الإمام مالك بهذا اللفظ، والذي في «المدونة» (4/ 541): «قال مالك: لا تجوز شهادة العبد في شيء من الأشياء». انتهى. وهو في «رفع الملام» (ص 32) غير معزوٍّ لمالك، وعزا شيخ الإسلام في «النبوات» (1/ 479) نحوه إلى الشافعي.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (20656).
(3) علقه البخاري في «صحيحه» (3/ 173) ووصله ابن أبي شيبة في «المصنف» (20652).
(4) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (20653).
(5) أخرجه الخلال من طريق المروذي عن أحمد كما في «النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر» لابن مفلح (2/ 305).
(1/308)
وقال: «لا أعلم أحدًا أَوْجَبَ الصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم – في الصلاة (1)» (2). ووجوبها محفوظٌ عن أبي جعفر الباقر (3).
وقال الشافعي: «أجمعوا على أن المعتَق بعضُه لا (4) يرث» (5). وقد صحَّ توريثه عن عليٍّ وابن مسعودٍ (6).
وقال الشافعي (7) وقد قيل له: فهل من مرسلٍ ما قال به أحدٌ؟ قال: نعم، أخبرنا ابن عُيينة، عن محمد بن المنكدر أن رجلًا جاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، إن لي مالًا وعيالًا، وإن لأبي مالًا وعيالًا، يريد أن يأخذ مالي فيُطعِم عياله. فقال: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» (8).
_________
(1) «في الصلاة» ليس في «ب».
(2) لم نقف عليه، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في «رفع الملام» (ص 32) دون تسمية قائله، وينظر «الأوسط» لابن المنذر (3/ 212 – 213).
(3) عزاه له شيخ الإسلام ابن تيمية في «رفع الملام» (ص 32) وينظر «جلاء الأفهام» لابن القيم (ص 331).
(4) «لا» سقط من «ب».
(5) نقله ابن المنذر في «الإشراف» (8/ 110) عن الشافعي، ولم نجد في كتب الشافعية حكاية الإجماع على ذلك؛ بل ذكروا الخلاف، ينظر «الحاوي» للماوردي (8/ 83) و «الروضة» للنووي (6/ 30). وهذا القول في «رفع الملام» (ص 32) غير معزوٍّ لأحد.
(6) ينظر «الإشراف على مذاهب العلماء» لابن المنذر (4/ 371 – 372).
(7) «الرسالة» (ص 467).
(8) أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 789) من طريق الشافعي وقال: «هذا منقطع، وقد روي موصولًا من أوجُه أُخر، ولا يثبت مثلها». وسيأتي الإشارة إلى من وصله قريبًا.
(1/309)
قال الشافعي (1): فقال محمد بن الحسن: أما نحن فلا نأخذ بهذا (2)، ولكن هل من أصحابك مَن يأخذ به؟ قلت: لا (3)؛ لأن من أخذ بهذا جعل للأب المُوسِر أن يأخذ من مال ابنه (4). قال: أَجَلْ، ما يقول بهذا أحدٌ، فلِمَ يخالفه الناس؟ قلت: لأنه لم يَثبُت؛ فإن (5) الله لمَّا فرض للأب ميراثه من ابنه فجعله كوارثِ غيرِه، وقد يكون أنقص حظًّا من كثيرٍ من (6) الورثة، دلَّ ذلك على أن (7) ابنه مالكٌ للمال دونه.
وقد قال بهذا الحديث جماعةٌ من السلف (8)، منهم شيخ الشافعي سفيان بن عيينة (9)، وصاحبه الإمام أحمد وغيرهما (10)، ولم يَعلم به …….
_________
(1) «الرسالة» (ص 467).
(2) «ح»: «بها».
(3) «لا» سقط من «ح».
(4) «ب»: «أبيه». وهو تصحيف.
(5) «ح»: «وأن».
(6) «من» سقط من «ح».
(7) «أن» سقط من «ح».
(8) قد أفرد الحافظ ابن عبد الهادي هذه المسألة في جزءٍ لطيفٍ، طُبع في مجموع باسم «رِيُّ الفسائل في مجموع الرسائل» (ص 283 – 298)، قال فيه (ص 287): «وقد قال به عائشة ومسروق وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والشعبي والحسن البصري وغيرهم من الأئمة – رضي الله عنهم -». ثم ذكر آثارهم في ذلك.
(9) قال الحافظ ابن عبد الهادي في «مجموعه» المشار إليه سابقًا (ص 288 – 289): «وقال سفيان بن عيينة: ذكر الله بيوت سائر القرابات إلا الأولاد لم يذكرهم؛ لأنهم دخلوا في قوله: {بُيُوتِكُمْ} [النور: 59] فلما كان بيوت أولادهم كبيوتهم لم يَذكُر بيوت أولادهم».
(10) ينظر «المغني» لابن قدامة (8/ 272 – 274) و «مجموع ابن عبد الهادي» (ص 285 – 286).
(1/310)
الشافعي قائلًا، واعتذر عن (1) مخالفته بأنه مُرسَلٌ لم يثبت، ولم يعتذر عن مخالفته بالإجماع، وقد صحَّ اتصاله (2).
وقال الثوري فيما إذا طَلَّقَ المدخول بها ثم راجعها ثم طلقها قبل دخول ثانٍ (3) بعد الرجعة، فإن أكثر العلماء على أنها تستأنف العدة، قال سفيان: أجمع الفقهاء على هذا.
_________
(1) «ح»: «وأعذر من».
(2) أخرجه ابن ماجه (2291) والطبراني في «المعجم الصغير» (947) وفي «المعجم الأوسط» (6570، 6728) عن محمد بن المنكدر عن جابر – رضي الله عنه – موصولًا. وقد أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 789) من طريق الشافعي مرسلًا، ثم قال: «قد روي موصولا من أوجُه أُخَر، ولا يثبت مثلها». وصحح إسناده ابن القطان في «بيان الوهم» (5/ 103) وابن الملقن في «البدر المنير» (7/ 665) والبوصيري في «مصباح الزجاجة» (811) وقال المنذري في «مختصر السنن» (5/ 183): إسناده ثقات. ورجَّح إرساله أبو حاتم كما في «العلل» لابنه (1399) وقال الحافظ ابن عبد الهادي: «المشهور فيه الإرسال كما ذكره الشافعي».
وأخرجه ابن حبان (410) عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها -. قال ابن الملقن في «خلاصة الإبريز» (2/ 304): «وهو أصحُّ طُرُقِه الثمانية».
وأخرجه أحمد (6902) وأبو داود (3530) وابن ماجه (2292) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده – رضي الله عنه -.
وفي الباب عن سمرة بن جندب وعمر بن الخطاب وابن عمر وابن مسعود – رضي الله عنهم -. ينظر: «تنقيح التحقيق» (4/ 230 – 231) و «نصب الراية» (3/ 337 – 339) و «البدر المنير» (7/ 665 – 671).
(3) «ح»: «بها».
(1/311)
وسفيان من كبار (1) أئمة الإسلام، وقد حكى الإجماع على هذا. والنزاع في ذلك موجود قبله وبعده (2)، فإن مذهب عطاء أنها تبني على ما مضى، كما لو طَلَّقها قبل الرجعة، وهو أحد قولَي الشافعي، وأحد الروايتين عن أحمد. وحُكي عن مالك قولٌ ثالث: إنه إن قصد الإضرار بها بنت، وإلَّا استأنفت. وحُكي عن داود قولٌ رابع: إنه لا عِدَّة عليها بحال. جعلها مطلقة قبل الدخول، فلا عدة عليها بالطلاق الثاني، والأول انقطعت عدته [ق 34 ب] بالرجعة. والأكثرون يقولون: هي زوجةٌ مدخولٌ بها (3).
ومن ذلك: أن الليث بن سعد حكى الإجماع على (4) أن المسافر لا يَقصُر الصلاة في أقل من يومين. هذا مع سَعة عِلْمه وفقهه وجلالة قدره، والنزاع في مسافة القصر عن الصحابة والتابعين أَشهَرُ من أن يُذكَر.
ومن ذلك: ما ذكره مالك في «موطَّئه» (5) فقال: «فمن الحجة على من قال ذلك القول ـ أي إنه لا يقضى بشاهدٍ ويمينٍ؛ لأنه ليس في القرآن ـ فيقال: أرأيت لو أن واحدًا ادعى على رجلٍ مالًا أليس يُحلَّف المطلوب ما ذلك الحق عليه، وإن حلف بَطَلَ ذلك الحق عنه، وإن نَكَلَ عن اليمين (6) حُلِّف صاحب الحق إن حقه لَحَقٌّ، وثبت حقُّه على صاحبه». قال: «فهذا ممَّا
_________
(1) «من كبار» «ح»: «كان من».
(2) «وبعده» ليس في «ب».
(3) ينظر: «الاستذكار» (18/ 105) و «المغني» (10/ 571).
(4) «على» ليس في «ب».
(5) «الموطأ» (2/ 724).
(6) أي: امتنع عنه.
(1/312)
لا خلاف (1) فيه عند أحدٍ من الناس، ولا ببلدٍ من البلاد».
والخلاف في القضاء بالنكول وَحْدَه دون اشتراط ردِّ اليمين أشهرُ من أن يُذكَر. وإبراهيم النخَعي لا يقول بالردِّ بحالٍ، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه لا يرون لزوم تحليف المدَّعي بحالٍ، بل يَقضُون بالنكول. وأبو ثور ذكر في المسألة قولًا ثالثًا: أنه إذا امتنع أن يحلف وسأل حَبْسَ المَدِين حبسه له.
وأحمد وإن كان يُحَلِّف المدَّعي في بعض الصور كالقَسامة والقضاء بشاهدٍ ويمينٍ، فإن المشهور عنه أنه يقضي بالنكول دون الردِّ. وفي مذهب أحمد قول آخر: أنه يقضي بالرد، وهو اختيار أبي الخطاب (2) وأبي محمد المقدسي في «العمدة» (3). وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أنه من قضى بالنكول نُقِضَ (4) حكمه (5).
ومع هذا فأبو عُبيد يحكي الإجماع على خلاف هذا، فإنه قال في كتاب «القضاء» لمَّا ذكر أحاديث القضاء: إن اليمين على المدعَى عليه. قال: وفي ذلك سُنة يُستدَلُّ عليها بالتأويل، وذلك أنه لما قضى أنه لا براءةَ للمطلوب
_________
(1) «ب»: «اختلاف». وكذا في «الموطأ».
(2) ينظر «الهداية» لأبي الخطاب الكَلْوَذاني (ص 582) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 285).
(3) «العمدة» (ص 147).
(4) من قوله: «بالرد وهو اختيار أبي الخطاب» إلى هنا سقط من «ح».
(5) ينظر: «مختصر اختلاف العلماء» للجصاص (3/ 384) و «الحاوي» للماوردي (16/ 316) و «المحلى» (9/ 372 – 380) و «الاستذكار» (22/ 57) و «المغني» (14/ 233).
(1/313)
إلَّا باليمين إلى الطالب، كان فيه دليل على أن ترك أدائها إيجابٌ للدعوى (1) عليه، وتصديق لِمَا يُدَّعى. قال: وقد زعم بعض من يدَّعي النظر في الفقه أن إباء اليمين لا يُوجِب عليه حقًّا، ولكنه ـ زعم ـ يُحبَس حتى يُقِرَّ أو يَحلِف، وهذا خلاف التأويل والأخبار وإجماع العلماء.
ومن ذلك: ما (2) قاله مالك في «موطَّئه» (3): «الأمر المجمع عليه عندنا والذي سَمِعتُ ممَّن أرضى به في القَسامة (4)، والذي اجتمعت عليه الأُمة في القديم والحديث، أن يبدأ بيمين المدَّعين في القسامة، وأن القسامة لا تجب إلَّا بأحد أمرين: إمَّا أن يقول المقتول: دمي عند فلان، أو يأتي وُلاة الدم بلَوْثٍ (5)، فهذا يوجب القسامة للمدَّعين للدم على مَنِ ادَّعوه عليه. قال مالك: ولا تجب القسامة إلَّا بأحد هذين الوجهين. قال مالك: وتلك السُّنَّة التي لا اختلاف فيها عندنا، والذي لم يَزَلْ عليه الناس أن المُبَدَّئين بالقسامة
_________
(1) «ح»: «الدعوى».
(2) «ما». سقط من «ب».
(3) «الموطأ» (2/ 787).
(4) القسامة: اليمين، كالقسم، وحقيقتها أن يقسم من أولياء الدم خمسون نفرًا على استحقاقهم دم صاحبهم، إذا وجدوه قتيلًا بين قومٍ ولم يعرف قاتله، فإن لم يكونوا خمسين أقسم الموجودون خمسين يمينًا، ولا يكون فيهم صبي ولا امرأة ولا مجنون ولا عبد، أو يقسم بها المتهمون على نفي القتل عنهم، فإن حلف المدعون استحقوا الدية، وإن حلف المتهمون لم تلزمهم الدية. «النهاية في غريب الحديث» (4/ 62).
(5) اللوث: أن يشهد شاهدٌ واحدٌ على إقرار المقتول قبل أن يموت أن فلانًا قتلني، أو يشهد شاهدان على عداوة بينهما، أو تهديد منه له، أو نحو ذلك، وهو من التلوث: التلطخ. يقال: لاثه في التراب ولوثه. «النهاية في غريب الحديث» (4/ 275).
(1/314)
أهلُ الدم الذين (1) يَدَّعونه في العمد والخطأ».
قال ابن عبد البر (2): «وقد أنكر العلماء على مالك قولَه: إن القسامة لا تجب إلَّا بقول المقتول: دمي عند فلان. أو يأتي بلَوْثٍ يَشهَدون به؛ لأن المقتول بخيبر لم يَدَّعِ على أحدٍ، ولا قال: دمي عند أحدٍ، ولا قال النبي – صلى الله عليه وسلم – للأنصار: تأتون بلَوْثٍ. قالوا: وقد جعل مالكٌ سُنَّةً ما ليس له مدخل في السُّنة».
وكذلك أنكروا عليه أيضًا في هذا الباب قولَه: «الأمر المُجمَع عليه عندنا أن يبدأ المدَّعون بالأيمان في القسامة». قالوا: فكيف اجتمعت الأئمة في الفقه والحديث، وابن شهاب يروي عن سليمان بن يسار وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن رجلٍ من الأنصار «أن النبي – صلى الله عليه وسلم – بدأ اليهود في الأيمان»؟!
قال: وهذا الحديث وإن لم يكن من روايته عن ابن شهاب، فمن روايته عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار وعراك بن مالك أن عمر بن الخطاب قال للجهني الذي ادَّعى دية وَلِيِّه على رجلٍ من بني سعد بن ليث ـ وكان أجرى فرسه فوَطِئَ على إصبع الجهني فنُزِي (3) منها الدمُ فمات، فقال عمر للذي ادَّعى عليهم ـ: أتحلفون بالله خمسين يمينًا ما مات منها؟ فأَبَوْا وتَحرَّجوا، وقال للمدَّعين: احلفوا. فأَبَوْا، فقضى [بشَطْر الدية] (4) على السعديينَ (5). قالوا: فأيُّ
_________
(1) في النسختين: «الذي». والمثبت من «الموطأ» و «الاستذكار».
(2) «الاستذكار» (25/ 324 – 325).
(3) أي: جرى ولم ينقطع. «النهاية في غريب الحديث» (5/ 43).
(4) في النسختين: «بالدية». والمثبت من «الموطأ» وغيره.
(5) أخرجه مالك في «الموطأ» (طبعة الأعظمي) (3150) وعنه الشافعي في «الأم» (8/ 648) وعبد الرزاق في «المصنف» (18297) وابن أبي شيبة في «المصنف» (28202) وقال الإمام مالك: «ليس العمل على هذا». قال ابن عبد البر: «لأن فيه تبدئة المدَّعى عليه بالدم بالأيمان، وذلك خلاف السُّنَّة التي رواها وذكرها في كتابه «الموطأ» في الحادثين من الأنصار المدَّعين على يهود خيبر قَتْلَ وليِّهم». انتهى. وقال ابن كثير في «مسند الفاروق» (2/ 449): «هذا إسناد صحيح، والأثر غريب جدًّا».
(1/315)
أُمةٍ اجتمعت (1) على هذا».
ومن ذلك: قال الشافعي في «مختصر المُزَنيِّ» (2) في مسألة اليمين الغموس: «ودلَّ إجماعهم على أن مَن حَلَقَ في الإحرام عمدًا أو خطأً أو قَتَلَ صيدًا عمدًا أو خطأ في الكفارة سواءٌ، وعلى أن الحالف بالله وقاتِلَ المؤمنِ عمدًا أو خطأً في الكفارة سواءٌ (3)».
فقد ذكر الإجماع على التسوية بين العامد والمخطئ في قَتْل الصيد وحَلْق الشعر، ومعلومٌ ثبوتُ النزاع في ذلك قديمًا وحديثًا. فمذهب جماعةٍ من السلف أن قاتل الصيد خطأً لا جزاء عليه، ويُروى ذلك عن ابن عباس وطاوس وسعيد بن جبير، ويُروى ذلك عن القاسم وسالم وعطاء ومجاهد، وهو قول ابن (4) المنذر وداود وأصحابه، وقول إسحاق في الشَّعر. وهو رواية عن أحمد في الصيد، وخرَّج أصحابُه في مذهبه في الحلق والتقليم قولًا مثله. وكذلك ذكره (5) ابن أبي هريرة (6) قولًا للشافعي في الصيد، وذكر أبو
_________
(1) «ب»: «أجمعت».
(2) «مختصر المزني» (ص 397).
(3) من قوله: «وعلى أن الحالف» إلى هنا سقط من «ب».
(4) «ابن» سقط من «ب». وقول ابن المنذر في كتابه «الإشراف» (3/ 229).
(5) «ذكره» ليس في «ح».
(6) «ب»: «هبيرة». وأبو علي بن أبي هريرة هو الإمام الجليل القاضي الحسن بن الحسين، ترجمته في «طبقات الشافعية الكبرى» للسبكي (3/ 256) وقال عنه: «أحد عظماء الأصحاب ورفعائهم، المشهور اسمه، الطائر في الآفاق ذكره».
(1/316)
إسحاق وغيره أن له قولًا مُخرَّجًا في الحلق والتقليم في الخطأ: أنه لا كفارةَ فيه كالطِّيب واللباس. فصار في المسألة ثلاثة أقوال: الكفارة فيهما (1)، وعدم الكفارة فيهما، والكفارة [ق 35 أ] في الصيد دون الحلق والتقليم (2).
ومن ذلك: (3) ما حكاه ابن المنذر (4) قال: «أجمع كل مَن يُحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثًا إن دخلتِ الدار. فطلَّقها (5) ثلاثًا ثم تزوجت بعد ما انقضت عدتها، ثم نكحها الحالف الأول، ثم دخلت الدار أنه لا يقع عليها الطلاق؛ لأن طلاق المِلْك قد (6) انقضى».
والنزاع في هذه المسألة معروفٌ، فإن هذه المسألة لها صورتان:
إحداهما: ألَّا توجد (7) الصفة، فإن الصفة تعود في المشهور في مذهب أحمد، حتى إن من أصحابه مَن يقول: بعود (8) الصفة هنا روايةً واحدةً. وهذا
_________
(1) «فيهما» ليس في «ب».
(2) ينظر: «الإشراف» لابن المنذر (3/ 229) و «الاستذكار» (13/ 382) و «مختصر اختلاف العلماء» (2/ 218) و «الحاوي» (4/ 282) و «المغني» لابن قدامة (5/ 391، 396).
(3) تأخر هذا المثل برُمَّته في «ب» فجاء بعد المثل التالي.
(4) «الأوسط» (9/ 287) و «الإشراف» (5/ 245).
(5) «ح»: «وطلقها».
(6) «قد» ليس في «ب».
(7) «ح»: «يوجد».
(8) «ح»: «تعود».
(1/317)
أحد أقوال الشافعي، بل هو الصحيح عند العراقيين من أصحابه، كما ذكره أبو إسحاق وغيره. وهو قولُ حماد بن أبي (1) سليمان وزُفَرَ، وكذلك ذكره الطحاوي (2) عن الأوزاعي وعثمان البَّتِّي وابن المَاجِشُون: إذا طلَّق ثم تزوج تعود اليمين. قال الطحاوي: ولم يذكروا بعد الثلاث.
والقول الثاني: لا تعود الصفة بحال، وهو قول أبي ثور والمزني، وقد حكى ابن حامد روايةً فيمن قال لعبده: إن دخلتَ الدار فأنت حُرٌّ. ثم باعه قبل الدخول، ثم اشتراه، لم يُعتق عليه بحالٍ. فذكر عنه في العتق أن الصفة لا تعود، وفي الطلاق أولى، كما صرَّح أصحابه بمثل ذلك القول.
الثالث (3): أنه إن أبانها بالثلاث لم ترجع الصفة، وبدونها ترجع. وهو مذهب أبي حنيفة وقول الشافعي (4).
ومن ذلك: ما حكاه ابن المنذر (5) قال (6): «أجمع كل من يُحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثًا (7) إن شئتِ.
_________
(1) «أبي» ليس في «ب». وحماد بن أبي سليمان مسلم الكوفي فقيه العراق ترجمته في «سير أعلام النبلاء» (5/ 231).
(2) في كتابه «اختلاف العلماء»، وعنه الرازي في «مختصر اختلاف العلماء» (2/ 445).
(3) «الثالث» سقط من «ح».
(4) ينظر: «التجريد» للقدوري (9/ 4801) و «الحاوي» للماوردي (10/ 20) و «المغني» لابن قدامة (10/ 320).
(5) «الأوسط» (9/ 295) و «الإشراف» (5/ 248).
(6) «قال» ليس في «ح».
(7) «ثلاثًا» ليس في «ح».
(1/318)
فقالت: قد شئتُ إن شاء فلان. أنها قد رَدَّتِ الأمر، ولا يلزمه الطلاق إن شاء فلان. كذلك قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الشافعي (1)».
ولأصحاب الشافعي في هذه المسألة وجهان، حكاهما الماوردي (2) وغيره.
ومن ذلك: قال ابن المنذر (3): «أجمع كل مَن يُحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثًا إلَّا اثنتين. أنها تُطَلَّق واحدةً، وإن قال: أنت طالق ثلاثًا إلَّا واحدة. أنها تُطَلَّق ثنتين، فإن قال: أنت طالق ثلاثًا إلَّا ثلاثًا. طُلِّقَت ثلاثًا، وممَّن حُفِظ هذا (4) عنه الثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي».
والخلاف في المسألة مشهور؛ فمذهب أحمد المنصوص عنه: إذا قال: أنت طالق ثلاثًا إلَّا ثنتين. وقعتِ الثلاث؛ لأن استثناء الأكثر عنده باطل، وإذا قال: ثلاثًا إلَّا واحدة. صحَّ الاستثناء في المشهور من مذهبه. وقال أبو بكر عبد العزيز: لا يصح الاستثناء في الطلاق. وهو نظير أَشهَر الروايتين عن شريح فيما إذا قال: أنت طالق إن دخلتِ الدار. أنها تُطلَّق، ولا يتعلَّق بالشرط المؤخَّر. وهي رواية ثابتة (5) عن أحمد، وأكثر أجوبته كقول الجمهور (6).
_________
(1) في «الأوسط» و «الإشراف»: «وأصحاب الرأي».
(2) «الحاوي» للماوردي (10/ 145).
(3) «الأوسط» (9/ 288) و «الإشراف» (5/ 243).
(4) «هذا» ليس في «ح».
(5) «ب»: «ثانية».
(6) ينظر «المغني» (10/ 404 – 405).
(1/319)
ومن ذلك (1): أن ابن عبد البر نقل الإجماع على أن الاعتكاف يلزم بالشروع، فقال (2): «وقال مالك: يلزمه بالنية مع الدخول، وإن قَطَعَه لَزِمَه قضاؤه». قال ابن عبد البر (3): «لا يختلف في ذلك الفقهاء». ويلزمه القضاء عند جمهور (4) العلماء.
والخلاف في ذلك أشهر شيءٍ، فمذهب الشافعي وأحمد في مشهور قوله: أنه لا يلزم. وقال الشافعي: كل عملٍ لك ألَّا تَدخُل فيه، فإذا دخلت فيه فليس عليك أن تقضي إلَّا الحج والعمرة (5).
ومن ذلك: ما حكاه صالح بن أحمد عن أبيه أنه قال: لا اختلاف أنه لا يَرِثُ المسلمُ الكافرَ، ولا الكافرُ المسلمَ (6). والخلاف في ذلك مشهور عن الصحابة والتابعين.
ومن ذلك: ما ذكره أبو عمر بن عبد البر (7) في «الاستذكار» (8) قال: «وأمَّا القراءة في الركوع والسجود فجميع العلماء على أن ذلك لا يجوز».
وليس ذلك بإجماعٍ، فقد سُئل عطاء عن ذلك، فقال: رأيت عُبيد بن
_________
(1) بعده في «ب»: «ما حكاه» وعليه حاشية: «أي: ابن حامد».
(2) ينظر «الاستذكار» (10/ 305 – 306).
(3) «الاستذكار» (10/ 306).
(4) «ح»: «جميع».
(5) ينظر «الأم» (3/ 260) و «المغني» (3/ 457).
(6) «مسائل صالح بن أحمد بن حنبل» (1496).
(7) «بن عبد البر» ليس في «ح».
(8) «الاستذكار» (4/ 154).
(1/320)
عمير يقرأ وهو راكع (1). وحُكي عن سلمان (2) بن ربيعة: أنه كان يقرأ وهو ساجد (3). وقال مغيرة عن إبراهيم في الرجل يقرأ فيترك الآية فيَذْكُرها وهو راكع قال: يقرأها وهو راكع (4). وقال مغيرة: كانوا يقرءون في الركوع الآية والآيتين إذا بقي على الرَّجل من قراءته (5).
ومن ذلك: ما حكاه إبراهيم بن مسلم الخُوارِزمي في كتاب «الطهور» (6) وقد ذكر من كان يتوضأ مِن مسِّ الذكر ثم قال: «وهذا منسوخٌ؛ لأن أهل العلم اجتمعوا على خلاف هذا».
ومن ذلك: ما ذكره أبو عمر بن عبد البر فقال: «وأما الشهادة على رؤية الهلال فأجمع الفقهاء على أنه لا يُقبل في شهادة شوال في الفطر إلَّا شهادة رجلين عدلين» (7).
والخلاف في ذلك مشهورٌ، وقد حكى ابن المنذر (8) عن أبي ثور
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (2841) وابن أبي شيبة في «المصنف» (8150).
(2) «ح»: «سليمان». وهو سلمان بن ربيعة الباهلي، ترجمته في «تهذيب الكمال» (11/ 240 (.
(3) قال ابن بطال في «شرح البخاري» (2/ 416): «روى أبو إسحاق عن عمرو بن ميمون قال: سمعت أخي سليمان بن ربيعة وهو ساجد وهو يقول: بسم الله الرحمن الرحيم. ما لو شاء رجل يذهب إلى أهله فيتوضأ ثم يجيء وهو ساجد لَفعل».
(4) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (8151).
(5) نقله عنه ابن رجب في «فتح الباري» (7/ 189).
(6) لم نقف على كتاب «الطهور» للخوارزمي.
(7) «التمهيد» (14/ 354).
(8) «الإشراف على مذاهب العلماء» لابن المنذر (3/ 113).
(1/321)
وطائفة من أهل الحديث القول بقبول الواحد في الصوم والفطر.
ومن ذلك: ما قاله أبو ثور: لا يختلفون أن أقل الطُّهر خمسة عشر يومًا.
والخلاف في ذلك مشهورٌ، وقد قال إسحاق: توقيت هؤلاء بخمسةَ عشرَ باطلٌ. وقال أحمد في إحدى (1) الروايتين عنه: أَقَلُّه ثلاثة عشر يومًا (2).
ومن ذلك: ما حكاه غير واحدٍ من العلماء: أن الحالف بالطلاق والعتاق إذا حَنِثَ في يمينه أنه يُطلق عليه زوجته، ويُعتق عليه عبده أو جاريته.
حكى ذلك بضعة عشر من أهل العلم [ق 35 ب]، وعذرهم أنهم قالوا بموجَب عِلْمِهم، وإلَّا فالخلاف في ذلك ثابت عن السلف والخلف من وجوهٍ:
الوجه الأول: ما رواه الأنصاري: حدثنا أشعث (3)، ثنا بكر، عن أبي رافع «أن مولاته أرادت أن تُفرِّق بينه وبين امرأته، فقالت: هي يومًا يهودية ويومًا نصرانية، وكل مملوكٍ لها حرٌّ، وكل مالٍ لها في سبيل الله، وعليها المشي إلى بيت الله، إن لم تفرِّق (4) بينهما. فسألت عائشةَ وابن عمر وابن عباس وحفصة وأم سلمة، فكلهم قال لها: أتريدين أن تكوني مثل هاروت وماروت؟ وأمروها أن تُكفِّر يمينها، وتُخلِّي بينهما» (5).
_________
(1) في النسختين: «أحد».
(2) ينظر: «التمهيد» (16/ 73 – 74) و «المغني» (1/ 390).
(3) في النسختين: «أشعب». وهو تصحيف، والتصويب من مصادر التخريج، وهو أشعث بن عبد الملك الحمراني البصري، ترجمته في «تهذيب الكمال» (3/ 277).
(4) «ب»: «يفرق».
(5) أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (8914) والدارقطني في «السنن» (5/ 288 – 289) والبيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 65) وابن حزم في «المحلى» (8/ 8) من طريق الأنصاري به. وصححه ابن القيم في «أعلام الموقعين» (3/ 518). وقد أخرج هذه القصة عبد الرزاق في «المصنف» (16000، 16013) والبخاري في «التاريخ الكبير» (5/ 281) والأثرم كما في «مجموع الفتاوى» (33/ 188).
(1/322)
وقال يحيى بن سعيد القطان: عن سليمان التيمي، حدثنا بكر بن عبد الله، عن أبي رافع فذكره عن زينب (1).
ورواه الأوزاعي: حدثني جَسْر (2) بن الحسن، حدثني بكر بن عبد الله المزني، حدثني رفيع (3) فذكره، وذكر فيه العتق (4).
فهذه ثلاث طرقٍ، فقد بَرِئَ سليمان التيمي من عُهدة التفرُّد بذِكْر العتق بمتابعة أشعث (5) وجَسر (6) بن الحسن له، حتى ولو تَفرَّد بها التيمي فهو
_________
(1) «عن زينب» ليس في «ب». والأثر أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (8913) والبيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 66) والذهبي في «تذكرة الحفاظ» (3/ 1087).
(2) في «ح»: «حسن». وهو تصحيف. وهو أبو عثمان جسر بن الحسن اليمامي ويقال: الكوفي ويقال: البصري، الجمهور على تضعيفه. ترجمته في «تهذيب الكمال» (4/ 556) و «ميزان الاعتدال» (1/ 398).
(3) كذا وقع في هذه الرواية، وفي الروايتين السابقتين: «أبو رافع». وأبو رافع هو نفيع ـ بالنون ـ الصائغ المدني، نزيل البصرة، مولى ابنة عمر بن الخطاب، وقيل: مولى ليلى بنت العجماء. أدرك الجاهلية، ولم يَرَ النبي – صلى الله عليه وسلم -. ترجمته في «تهذيب الكمال» (30/ 14).
(4) أخرجه إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في «المترجم» ـ كما في «العقود» لابن تيمية (ص 260) و «أعلام الموقعين» للمصنف (3/ 50) ـ وأبو العباس الأصم في «الثاني من حديثه» (18).
(5) «ب»: «أشعب». وهو تصحيف تقدم التنبيه عليه.
(6) «ح»: «وحسن». وهو تصحيف، تقدم التنبيه عليه أيضًا.
(1/323)
أَجَلُّ مِنْ أن يُرَدَّ ما تفرَّد به، وهو أَجَلُّ مِنَ الذين لم يذكروا الزيادة. فصحَّ ذِكْرُ العتق في هذا الأثر وزال الارتياب.
فهؤلاء ستة من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يُعلم لهم مخالفٌ أفتَوْا من قالت: كل مملوكٍ لها حرٌّ إن لم يفرق بين مملوكها وبين امرأته، أن تُكفِّر يمينها، وتُخلِّي بين الرجل وامرأته. وهُم ابن عباس في سَعة علمه، وابن عمر في شِدَّة وَرَعه وتحرِّيه، وأبو هريرة مع كثرة حِفْظه، وعائشة وحفصة وأم سلمة، وهؤلاء من أفقه نساء الصحابة، أو أَفْقَهُهن على الإطلاق.
فإن كان التقليد (1) فمَن جعل هؤلاء بينه وبين الله أَعْذَرَ عند الله ممَّن جعل بينه وبينه مَن لا يدانيهم، وإن كان الدليل (2) والحجة فهاتوا دليلًا واحدًا لا مَطْعَنَ (3) فيه من كتاب الله أو سُنة رسوله أو قياسٍ يستوي فيه حكم الأصل والفرع على وقوع الطلاق المحلوف به. وأكثركم لم يعوِّل في ذلك إلَّا (4) على ما ظنه من الإجماع، وهو معذورٌ قبل الاطلاع على النزاع، فما عذره بعد الاطلاع على أن المسألة مسألة خلافٍ بين الأئمة إذا استحل عقوبة من يُفتي بها وجاهَرَ بالكذب والبَهت أنه خالفَ إجماع الأُمة، أَفَتَرى هؤلاء الذين هم من سادات الأُمة وعلمائها يُفتُون بالكفارة في العتق وبلزوم الطلاق، وهل يمكن بشرًا على وجه الأرض أن يُفرِّق بين قول الحالف: إن فعلتُ كذا فعبدي حرٌّ. وبين قوله: إن فعلتُ كذا وكذا (5) فامرأتي طالق. بفرقٍ
_________
(1) «ب»: «للتقليد».
(2) «ب»: «للدليل».
(3) «ح»: «يطعن».
(4) «إلا» سقط من «ح».
(5) «وكذا» ليس في «ب».
(1/324)
تَلُوح منه رائحة الفقه.
الوجه الثاني من الوجوه المبينة (1) أن المسألة مسألة نزاعٍ، لا مسألة إجماعٍ: ما رواه عبد الرزاق في «جامعه» (2): حدثنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه: «أنه كان لا يرى الحلف بالطلاق شيئًا. قلت: أكان يراه يمينًا؟ قال: لا أدري».
الوجه الثالث: ما رواه سُنيد (3) بن داود في «تفسيره» (4) حدثنا عباد بن عباد المهلَّبي، عن عاصم الأحول، عن عكرمة في رجلٍ قال لغلامه: «إن لم أَجلِدْك مائة سوطٍ فامرأتي طالق. قال: لا يَجلِد غلامَه، ولا يُطلِّق امرأتَه، هذا من خُطوات الشيطان».
الوجه الرابع: أن في الطلاق المعلَّق بالشرط قولين للعلماء:
أحدهما: يقع عند وقوع شرطه.
والثاني: لا يقع بحالٍ، ولا يتعلق الطلاق بالشرط، كما لا يتعلق النكاح به. وهذا اختيار أَجَلِّ أصحاب الشافعي الذي أخذ عنه وكان يلازمه: أبو عبد الرحمن (5)، ولا ينزل اختياره عن درجة من له وجهٌ من المتأخرين، بل
_________
(1) «ح»: «المثبتة».
(2) «المصنف» (11401) لكن شيخ عبد الرزاق فيه ابن جريج، لا معمر.
(3) «ح»: «سيد». وهو تصحيف، وسنيد هو الحسين بن داود المصيصي أبو علي المحتسب، وسنيد لقب غلب عليه، ترجمته في «تهذيب الكمال» (12/ 161).
(4) عزاه إليه المصنف في «إغاثة اللهفان» (2/ 791) … وابن كثير في «تفسيره» (1/ 479).
(5) سمَّاه المصنِّف في «أعلام الموقعين» (5/ 553) وزاد مقامه تعريفًا؛ فقال: «هذا اختيار أبي عبد الرحمن أحمد بن يحيى بن عبد العزيز الشافعي أحد أصحاب الشافعي الأجلة أو أجلهم، وكان الشافعي يُجِلُّه ويكرمه ويكنيه ويعظِّمه … وذكره أبو إسحاق الشيرازي في «طبقات أصحاب الشافعي»، ومحل الرجل من العلم والتضلُّع منه لا يُدفَع، وهو في العلم بمنزلة أبي ثور وتلك الطبقة، وكان رفيق أبي ثور، وهو أجلُّ من جميع أصحاب الوجوه من المنتسبين إلى الشافعي، فإذا نزل بطبقته إلى طبقة أصحاب الوجوه كان قوله وجهًا، وهو أقل درجاته».
(1/325)
هو أجلُّ من أصحاب الوجوه. وهو مذهب داود بن علي الأصبهاني وابن حزم وأصحابهما.
قال أبو محمد بن حزم (1): «واليمين بالطلاق لا يلزم، سواء برَّ أو حَنِثَ لا يقع به طلاق. ولا طلاق إلَّا كما أمره الله عز وجل، ولا يمين إلَّا كما أمر الله على لسان رسوله. والطلاق بالصفة عندنا (2) كما هو اليمين لا يجوز. وكل ذلك لا يلزم، ولا يكون طلاقًا إلَّا كما أمر الله عز وجل به وعلمه، وهو القصد إلى الطلاق، وأمَّا ما عدا ذلك فباطل. وممَّن قال بقولنا في أن اليمين بالطلاق ليس شيئًا، ولا يُقضى به على من حلف به: علي بن أبي طالب وشريح وطاوس، ولا يُعرف لعليٍّ مخالفٌ من الصحابة».
الوجه الخامس: أن أبا الحسين القدوري ذكر في «شرحه» (3) أنه إذا قال: طلاقُكِ عليَّ واجبٌ أو لازمٌ أو فرضٌ أو ثابتٌ، أو إن فعلتِ كذا فطلاقُكِ عليَّ واجبٌ أو لازمٌ أو ثابتٌ (4)؛ ففعلتْ، قال: فعلى قول أبي حنيفة لا يقع
_________
(1) «المحلى» (9/ 476 – 478).
(2) «ح»: «عند».
(3) «شرح مختصر الكرخي»، ولم يُطبع بعد، وله نسخ متفرقة في مكتبات العالم، ينظر «الفهرس الشامل للتراث العربي الإسلامي المخطوط الفقه وأصوله» (5/ 462 – 463).
(4) «أو إن فعلت كذا فطلاقك علي واجب أو لازم أو ثابت» ليس في «ب».
(1/326)
الطلاق في الكل، وعند أبي يوسف إن نوى الطلاق يقع في الكل، وعن محمد يقع في قوله لازم، ولا يقع في قوله واجب. قال صاحب «الذخيرة» (1): وكان (2) الشيخ ظهير الدِّين (3) المرغيناني يُفتي بعدم (4) الوقوع في الكل (5).
الوجه السادس (6): أن القَفَّال أفتى في قوله: الطلاق يلزمني؛ أنه لا يقع به الطلاق، نواه أو لم يَنوِه. قال (7) أبو القاسم عبد الرحمن بن يونس (8) في «شرح التنبيه» في قول المصنِّف: وإن قال: الطلاق والعتاق لازمٌ لي ونواه
_________
(1) «ذخيرة الفتاوى» المشهورة بـ «الذخيرة البرهانية»، للإمام برهان الدِّين محمود بن أحمد بن عبد العزيز بن عمر بن مازه البخاري المتوفى سنة 616، اختصرها من كتابه «المحيط البرهاني». «كشف الظنون» (1/ 823). والنقل في «المحيط البرهاني» (3/ 209).
(2) «ح»: «وكا».
(3) «ب»: «ابن». والمرغيناني هو الإمام ظهير الدِّين أبو الحسن علي بن عبد العزيز المرغيناني المتوفى سنة ست وخمسمائة، ترجمته في «الجواهر المضية» (1/ 364).
(4) «ح»: «بعد».
(5) ينظر: «المبسوط» للسرخسي (9/ 34).
(6) في النسختين: «الخامس». فتكرر فيهما الخامس مرتين، ومشيا على هذا الخطأ إلى آخر الأوجه الأحد عشر، وقد صوبناها، واكتفينا بالتنبيه عليها هنا.
(7) «قال» تكرر في «ح».
(8) لم أعرفه، ولمعرفة شروح «التنبيه» ينظر «كشف الظنون» (1/ 489 – 492) والمشهور من شراح «التنبيه» بابن يونس هو الإمام شرف الدِّين أبو الفضل أحمد بن موسى بن يونس الإربلي الشافعي، المتوفى سنة 622 هـ، قال الذهبي: «شرح كتاب «التنبيه» فأجاد». ترجمته في «تاريخ الإسلام» للذهبي (13/ 696) و «طبقات الشافعية الكبرى» للسبكي (8/ 36).
(1/327)
لزمه؛ لأنهما يقعان بالكناية مع النية، وهذا اللفظ محتمل (1) [ق 36 أ] فجُعِل كناية. وقال الروياني: الطلاق لازم لي صريح. وعدَّ ذلك في صرايح (2) الطلاق. ولعل وجهه غلبة (3) استعماله لإرادة الطلاق. وقال القَفَّال في «فتاويه»: ليس بصريحٍ ولا كنايةٍ حتى لا يقع به الطلاق، وإن نواه (4).
الوجه السابع: أن أشهب بن عبد العزيز ـ وهو من أَجَلِّ أصحاب مالك ـ أفتى فيمن قال لامرأته: إن فعلتِ كذا وكذا فأنت طالق، ففَعَلَتْه تَقصِد وقوعَ الطلاق به، أنها لا تُطلَّق، مقابلةً لها بنقيض قَصْدِها (5)؛ كما لو قتل الوارث مَوْرُوثَه (6) أو المدبَّر سيِّدَه أو الموصى له الموصي (7) ونظائر ذلك ممَّا يُقابَل به الرجل بنقيض قَصْدِه. ذكر ذلك عنه ابن رشد في «مقدماته» (8) وهذا محض الفقه لو كان الحالف يقع به الطلاق (9).
الوجه الثامن: أن أصحاب مالكٍ من أشد الناس في هذا الباب، فلا يَعذِرون الحالف بجهلٍ ولا نسيان، و (10) يُوقِعون الطلاق على من حلف
_________
(1) «ح»: «يحتمل».
(2) «ح»: «صراح».
(3) في النسختين: «عليه». وهو تصحيف.
(4) ينظر «كفاية النبيه» لابن الرفعة (14/ 431).
(5) من قوله «ففعلته» إلى هنا تكرر في «ح».
(6) أي: من يرثه.
(7) «الموصي» سقط من «ح».
(8) «المقدمات الممهدات» (1/ 576) ووصفه ابن رشد بقوله: «وهو شذوذ».
(9) ينظر «مواهب الجليل» للحطاب (4/ 46).
(10) «نسيان و». سقط من «ح».
(1/328)
على ما لا يعلم فبان كما حلف عليه، ومع هذا فقد حكوا (1) عدم الوقوع بالحلف بالطلاق عن علي بن أبي طالب وشريح وطاوس، ونحن نذكر ألفاظهم. قال أبو القاسم عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد بن بَزِيزَة في كتاب «مطامح الأفهام في شرح كتاب الأحكام»: «الباب الثالث في حكم اليمين بالطلاق: فقد (2) قدَّمْنا في كتاب الأيمان اختلافَ العلماء في اليمين بالطلاق والعتق والمشي وغير ذلك، هل يلزم أم لا؟ فقال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – وشريح وطاوس: لا يلزم من (3) ذلك شيءٌ، ولا يُقضى بالطلاق على مَن حلف به فحَنِثَ (4). ولا يُعرف لعليٍّ في ذلك مخالِفٌ من الصحابة». هذا لَفْظُه مع اعتقاده وقوعَ الطلاق على من حلف به فحَنِثَ (5)، ولم يطعن في هذا النقل، ولم يَعتَرِضْه باعتراضٍ.
الوجه التاسع: أن فقهاء الإمامية مِن أوَّلهم إلى آخرهم يَنقُلون عن أهل البيت أنه لا يقع الطلاق المحلوف به، وهذا متواترٌ عندهم عن جعفر بن محمد وغيره من أهل البيت.
وهَبْ أن مكابرًا كذَّبهم كلَّهم، وقال: قد تواطؤوا على الكذب عن أهل البيت. ففي القوم فقهاءُ وأصحاب علمٍ ونظرٍ في اجتهاد، وإن كانوا مخطئين مبتدعين في أمر الصحابة، فلا يُوجِب ذلك الحكمَ عليهم كلِّهم بالكذب
_________
(1) «ح»: «حكموا».
(2) «ب»: «قد».
(3) «ب»: «عن».
(4) قول علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – ومَن ذُكر معه هو في يمين الطلاق قبل الزواج.
(5) من قوله: «ولا يعرف لعلي في ذلك» إلى هنا ليس في «ب».
(1/329)
والجهل. وقد روى أصحاب الصحيح عن جماعة من الشيعة، وحملوا حديثهم، واحتج به المسلمون، ولم يزل الفقهاء يَنقُلون خلافهم ويبحثون معهم. والقوم وإن أخطؤوا في بعض المواضع لم يلزم من ذلك أن يكون جميع ما قالوه خطأً حتى يُردَّ عليهم. هذا لو انفردوا بذلك عن الأُمة، فكيف وقد وافقوا في قولهم من قد حكينا قولهم وغيره ممَّن لم نقف على قوله!
الوجه العاشر: أنه لم يَزَلْ أئمَّة الإسلام يُفتُون بما يظهر لهم من الدليل وإن لم يتقدمهم إليه أحدٌ. وإذا شئت أن تقف على ذلك فانظر إلى كثيرٍ من فتاوى الأئمة التي لا تُحفَظ عن أحدٍ من أهل العلم قبلهم.
قال إسحاق بن منصور الكَوْسَجُ: سألت إسحاق عن مسألةٍ، فذكر قوله فيها، فقلت: إن أخاك أحمد بن حنبل أجاب فيها بمثل جوابك. فقال: ما ظننت أن أحدًا يوافقني عليها (1).
وقال ابن المنذر (2) ـ وهو من أعلم الناس بالإجماع والاختلاف ـ: «لم
_________
(1) نقله ابن حزم في «المحلى» (7/ 224) بنحو هذا اللفظ. والذي في «مسائل أحمد وإسحاق» للكوسج (5/ 2074 – 2075): «قلت لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل: العمرة واجبة؟ قال: هي واجبة. قلت: ويقضي منها المتعة؟ قال: نعم. قال إسحاق: كما قال، وأجاد، ظننت أنَّ أحدًا لا يتابعني عليه». وهذا اللفظ لا يصلح للاستدلال به هنا، لأن المصنِّف وضعه تحت عنوان: «أنه لم يَزَلْ أئمَّة الإسلام يُفتُون بما يظهر لهم من الدليل وإن لم يتقدمهم إليه أحدٌ». ولا ينطبق هذا على مسألة وجوب العمرة وأنه يقضي منها المتعة.
(2) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وووجدت ابن المنذر يقول في كتاب «الإجماع» (ص 35): «أجمعوا أن الصلاة في مرابض الغنم جائزة. وانفرد الشافعي فقال: إذا كان سليمًا من أبوالها». بل وجدت ابن المنذر يقول في «الأوسط» (2/ 322): «وقال أبو ثور كقول الشافعي في الأبوال والأرواث أنها كلها نجسة رطبًا كان أو يابسًا. وقال الحسن: البول كله يُغسل. وكان يكره أبوال البهائم كلها، يقول: اغسل ما أصابك منها. وقال حماد في بول الشاة: اغسله». ووجدت الماوردي يقول في «الحاوي الكبير» (2/ 249): «مذهب الشافعي أن أبوال جميعها وأرواثها نجسة بكل حال، وبه قال من الصحابة ابن عمر، ومن التابعين الحسن، ومن الفقهاء أبو ثور».
(1/330)
يَسبِقِ الشافعيَّ إلى نجاسة الأبوال أحدٌ». يريد بول ما يُؤكل لحمُه.
وقال شيخنا (1): «لم يَسبِق أحمدَ بن حنبل (2) إلى الحكم بإسلام أولاد أهل (3) الذمة الصغار بموت آبائهم أحدٌ (4). ولم يسبقه إلى إقعاد المرأة أوَّلَ ما ترى الدم يومًا وليلةً ثم تُصلِّي وهي ترى الدم أحدٌ (5).
وأمَّا غيره فمَن له أدنى اطلاع على أقوال السلف والخلف لا يخفى عليه
_________
(1) لم أقف عليه بهذا اللفظ، ووجدت ابن تيمية يقول في «درء تعارض العقل والنقل» (8/ 433 – 434): «فعن أحمد رواية أنه يحكم بإسلامه، لقوله: «فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه». فإذا مات أبواه بقى على الفطرة. والرواية الأخرى كقول الجمهور: إنه لا يحكم بإسلامه. وهذا القول هو الصواب، بل هو إجماع قديم من السلف والخلف، بل هو ثابت بالسُّنة التي لا ريب فيها».
(2) «بن حنبل» ليس في «ح».
(3) «أهل». سقط من «ح».
(4) قال المصنِّف في «أحكام أهل الذمة» (2/ 896): «وهذا قولٌ في مذهب أحمد، اختاره بعض أصحابه، وهو معلوم الفساد».
(5) قال المرداوي في «الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف» (1/ 360): «هذا المذهب بلا ريب، نصَّ عليه في رواية عبد الله وصالح والمروذي». ثم قال: «وجلوسها يومًا وليلةً قبل انقطاعه من مفردات المذهب». وينظر «شرح العمدة» لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 558 – 561).
(1/331)
ذلك، ولكثرته تركنا ذِكْرَه.
الوجه الحادي عشر: أنَّا لو لم نعلم النزاع في هذه المسألة لم يكن لنا عِلْمٌ بالإجماع المعلوم الذي تكون مخالفته كفرًا أو فسقًا عليها بل ولا ظَنٌّ به، فإنا قد رأينا أكثر هؤلاء الذين يحكون الإجماع إنما يحكونه على حَسَب اطلاعهم، ومعناه عدم العلم بالمخالف، وقد رأيتَ مِن نَقْضِ إجماعاتهم التي حكوها ما هو قليلٌ من كثيرٍ.
فغاية هذه الإجماعات أن تفيدنا عدم علم ناقلها بالخلاف، وهذا بمجرده لا يكون عذرًا للمجتهد في ترك موجَب الدليل، والله أعلم.
فصل
ومن ذلك: نقل من نقل الإجماع على أن المتكلم بالطلاق الثلاث في مرةٍ واحدةٍ يقع به الثلاث، وقال بموجَب عِلْمِه وما بلغه، وإلَّا فالخلاف في هذه المسألة ثابتٌ من وجوهٍ (1):
الوجه الأول: أنه على عهد الصديق إنما كان يُفتى بأنها واحدة، كما روى مسلم في «صحيحه» (2) أن أبا الصهباء قال لعبد الله بن عباسٍ (3): ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر مَن طَلَّقَ ثلاثًا جُعلت واحدة؟! قال: نعم … » وذكر الحديث. ومَن تتبع ألفاظه
_________
(1) في حاشية «ب» تعليق طويل لبيان هذه المسألة، يظهر أنه نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية بتصرُّف يسير، وهو في «جامع المسائل» (1/ 357).
(2) «صحيح مسلم» (1472).
(3) «ح»: «عامر».
(1/332)
وطُرُقه جزم ببطلان تلك التأويلات التي غايتها أن يَتطرَّق إلى بعض ألفاظه، وسياق طُرُقه (1) وألفاظه صريحٌ في المراد. فلو قال القائل: إن هذا مذهب أبي بكر الصديق وجميع الصحابة في عهده، أصاب وصدق، حاش مَن لم يُصَرِّح منهم بأنها ثلاثٌ [ق 37 ب] وهم جَمْعٌ من الصحابة صحَّ ذلك عنهم بلا ريب. فأقلُّ أحوال المسألة أن تكون مسألة نزاع بين الصحابة.
الوجه الثاني: أنه صحَّ عن ابن عباس بإسنادٍ صحيحٍ أنه أفتى بأنها واحدة، ذكر ذلك أبو داود (2) وغيره.
الوجه الثالث: أن هذا مذهب الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف، حكاه عنهما ابن وضاح (3) وابن مغيث في «وثائقه» (4) وغيرهما.
الوجه الرابع: أنه إحدى الروايتين عن علي وابن مسعود وابن عباس (5) ..
الوجه الخامس: أنه مذهب طاوس وخِلَاس بن عمرو ومحمد بن إسحاق وداود وجمهور أصحابه (6).
الوجه السادس: أنه مذهب إسحاق بن راهويه في غير المدخول بها،
_________
(1) من قوله: «جزم ببطلان» إلى هنا سقط من «ح».
(2) «سنن أبي داود» (2197) وذكر أنه روي عن عكرمة.
(3) ينظر «مجموع الفتاوى» (33/ 83).
(4) «المقنع في علم الشروط» (ص 80).
(5) ينظر «أحكام القرآن» للقرطبي (3/ 132).
(6) ينظر «مجموع الفتاوى» (33/ 8).
(1/333)
صرَّح به في كتاب «اختلاف العلماء» له، وهو مذهب بعض فقهاء التابعين (1).
الوجه السابع: أنه أحد القولين في مذهب مالك، حكاه التلمساني في «شرح التفريع». قال ابن الجلاب: ومَن طَلَّقَ امرأته ثلاثًا في كلمةٍ واحدةٍ (2) حَرُمَتْ عليه. قال الشارح: إذا كان ذلك في كلمات فلا خلاف في حُرمَتِها؛ لقوله تعالى: {اِلطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 227] إلى قوله: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 228] وإن كان في كلمة ففيه خلاف، هل يَرجِع إلى الواحدة؟ والمشهور من المذهب أنها ثلاث. ثم قال الشارح في موضع آخر في قوله: مَن طلَّق امرأته ثلاثًا في كلمة. قال: هذا تنبيه على الخلاف، وهو أن الثلاث في كلمة تَرجِع إلى الواحدة، وهو قول شاذٌّ في المذهب، ووجهه ما رُوي أن الثلاث على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كانت واحدة.
الوجه الثامن: أنه أحد القولين في مذهب أبي حنيفة، اختاره محمد بن (3) مقاتل الرازي، حكاه عنه الطحاوي (4).
_________
(1) السياق في «ح»: «وهو مذهب بعض فقهاء التابعين في غير المدخول بها صرح به في كتاب اختلاف العلماء». قلنا: قد رواه عبد الرزاق في «المصنف» (11080) عن طاوس وعطاء وأبي الشعثاء.
(2) «واحدة» ليس في «ب».
(3) «ب»: «و». ومحمد بن مقاتل الرازي من أصحاب محمد بن الحسن الشيباني، ترجمته في «تاريخ الإسلام» (5/ 1247) و «الجواهر المضية» (2/ 134).
(4) لم أجده في كتب الطحاوي، وقال المصنف في «إغاثة اللهفان» (1/ 563): «حكاه عنه المازري في كتابه «المعلم بفوائد مسلم». والذي وقفت عليه في «المعلم» (2/ 191) قوله: «طلاق الثلاث في مرة واحدة واقع لازم عند كافة الفقهاء، وقد شذ الحجاج بن أرطاة وابن مقاتل فقالا: لا يقع». فلم يقيد ابن مقاتل، ووجدت في «المفهم» (4/ 237): «وهو مذهب مقاتل». فالله أعلم.
وقال المصنِّف في «أعلام الموقعين» (3/ 479): «حكاه أبو بكر الرازي عن محمد بن مقاتل». ولم أجده فيما وقفت عليه من كتب أبي بكر الرازي حيث ذكر المسألة، وهي «أحكام القرآن» (2/ 83 – 89) و «مختصر اختلاف العلماء» (2/ 411) و «شرح مختصر الطحاوي» (5/ 33 – 46).
(1/334)
الوجه التاسع: أنه أحد القولين في مذهب أحمد، حكاه شيخنا واختاره وأفتى به (1)، وأقلُّ درجات اختياراته أن يكون وجهًا في المذهب. ومن الممتنع أن يكون اختيار ابن عقيل وأبي الخطاب (2) والشيخ أبي محمد (3) وجوهًا يُفتى بها، واختيارات شيخ الإسلام لا تصل إلى هذه المرتبة. فالذي يُجزَم به أن دخول الكفارة في الحلف بالطلاق وكون الثلاث في كلمةٍ واحدةٍ واحدة (4) أحد الوجهين في مذهب أحمد، وهو مخرَّج على أصوله أصحَّ تخريج. والغرض نقض قول مَن ادعى الإجماع في ذلك، ولتقرير هذه المسألة موضع آخر (5).
_________
(1) هذه إحدى المسائل الكبار التي اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وأكثر من التصنيف في نصرتها، حتى أصبح يُعرف بها، وله فيها أجوبة كثيرة، مختصرة ومطولة، وينظر المجلد الثالث والثلاثون من «مجموع الفتاوى»، وقد أُوذي بسببها وحُبس رحمه الله تعالى.
(2) أبو الخطاب محفوظ بن أحمد بن الحسن الكَلْوَذاني أحد أعيان المذهب الحنبلي، توفي سنة عشر وخمسمائة. ترجمته في «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 270 – 290).
(3) شيخ الإسلام موفق الدِّين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، صاحب «المغني» وغيره من الكتب السائرة، توفي سنة عشرين وستمائة. ترجمته في «ذيل طبقات الحنابلة» (3/ 281 – 298).
(4) «واحدة» سقط من «ح».
(5) ينظر: «زاد المعاد» (5/ 344 – 383) و «إغاثة اللهفان» (1/ 499 – 569) و «بدائع الفوائد» (3/ 31 – 38). ولقد نصر الإمام ابن القيم هذه المسألة وأُوذي بسببها كذلك. قال ابن كثير في «البداية والنهاية» (18/ 523): «وقد كان مُتصدِّيًا للإفتاء بمسألة الطَّلاق الَّتي اختارها الشَّيخ تقيُّ الدِّين ابن تيمية – رحمه الله – وجرت له بسببها فصولٌ يطول بَسطُها مع قاضي القضاة تقيِّ الدِّين السُّبكيِّ وغيره».
(1/335)
الوجه العاشر: أنه من المحال أن تُجمِع الأُمة على لزوم الثلاث وفيها حديثان صحيحان صريحان عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا معارض لهما ولا ناسخ، وحديث آخر ظاهر في عدم الوقوع.
الحديث الأول: حديث أبي الصهباء عن ابن عباسٍ، وقد رواه مسلم في «صحيحه» (1).
الحديث (2) الثاني: قال الإمام أحمد في «مسنده» (3): حدثنا سعد بن إبراهيم حدثنا أبي حدثنا محمد بن إسحاق حدثني داود بن الحصين عن عكرمة ـ مولى ابن عباس ـ عن ابن عباس قال: «طَلَّقَ رُكانة بن عبد يزيد ـ أخو المطلب ـ امرأتَه ثلاثًا في مجلسٍ واحدٍ، فحزن عليها حزنًا شديدًا، فسأله رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: كَيْفَ طَلَّقَهَا؟ قال: طلقتُها ثلاثًا. قال: فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ؟ قال: نعم. قال: فَإِنَّمَا تِلْكَ وَاحِدَةٌ فَارْجِعْهَا إِنْ شِئْتَ. قال فرَجَعَها، قال: وكان
_________
(1) «صحيح مسلم» (1472).
(2) «الحديث» ليس في «ح».
(3) «المسند» (2429). والحديث رواه أبو يعلى في «المسند» (2500) والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 339) والضياء في «المختارة» (11/ 362 – 363) ونقل ابن حجر في «الفتح» (9/ 362) تصحيحه عن أبي يعلى، وقد ضعفه البيهقي وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/ 640). وينظر «البدر المنير» لابن الملقن (8/ 102 – 107) و «إرواء الغليل» (7/ 144).
(1/336)
ابن عباس يرى أن الطلاق عند كل طُهْر».
ورواه محمد بن عبد الواحد المقدسي في «مختارته» (1) التي هي أصح من صحيح الحاكم.
فهذا من رواية عكرمة عن ابن عباس، والأول من رواية طاوس (2)، وكان طاوس (3) وعكرمة (4) يقولان: هي واحدة.
قال إسماعيل بن إبراهيم: ثنا أيوب عن عكرمة: إذا قال أنتِ طالق ثلاثًا بفَمٍ واحدٍ فهي واحدة (5).
قال أبو داود (6): وروى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس: إذا قال أنتِ طالق ثلاثًا بفَمٍ واحد فهي واحدة.
فهؤلاء رواة الحديث عن ابن عباس قد أفتَوْا به، ومنهم محمد بن إسحاق كان يفتي بأن مَن قال: أنتِ طالق ثلاثًا، فهي واحدة، وكان يقول: «مَن جَهِلَ السُّنَّة يُرَدُّ (7) إليها» (8).
_________
(1) «الأحاديث المختارة» (11/ 363).
(2) يعني حديث أبي الصهباء عن ابن عباس المتقدِّم، وهو في «صحيح مسلم» (1472) فإنه من رواية طاوس عن ابن عباس – رضي الله عنهما -.
(3) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (11080) وابن أبي شيبة في «المصنف» (18179).
(4) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (11081).
(5) «سنن أبي داود» (11081).
(6) «السنن» (2/ 260).
(7) «ح»: «فيرد».
(8) حكى قولَ ابن إسحاق الإمامُ أحمد عنه