عطاءات العلمكتب ابن القيمكتب ابن القيم- شاملة - txt

الطرق الحكمية في السياسة الشرعية_2

الطرق الحكمية في السياسة الشرعية_2

http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
  الكتاب: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية [مشروع آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (9)]المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 – 751)
المحقق: نايف بن أحمد الحمد
راجعه: سليمان بن عبد الله العمير – إبراهيم بن على العبيد
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الرابعة، 1440 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الأجزاء: 2 (في ترقيم واحد متسلسل)
قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

ومنها: دعوى الرجل على المرأة النكاح (1)، ودعواها عليه الطلاق (2)، ودعوى كل منهما (3) الرجعة، ودعوى الأمة أن سيدها أولدها، ودعوى المرأة أن زوجها آلى منها، ودعوى الرق والولاء والقود وحد القذف.
وعن أحمد (4): أنه يستحلف في الطلاق والإيلاء والقود والقذف.
وعنه (5): أنه يستحلف (6) إلا فيما لا (7) يقضى فيه (8) بالنكول.
قال في رواية ابن القاسم (9): لا أرى اليمين في النكاح، ولا في
__________
(1) انظر: شرح الزركشي (7/ 398)، الهداية (2/ 137).
(2) انظر: سنن البيهقي (10/ 306)، الأحكام للمالقي (474)، الذخيرة (11/ 50)، القوانين الشرعية (233)، بلغة السالك (1/ 431)، تنبيه الحكام (241)، قواعد الأحكام (2/ 22)، إعلام الموقعين (1/ 141)، زاد المعاد (5/ 282)، المبدع (10/ 283)، الفروق (4/ 91)، الاستذكار (22/ 63)، المدونة (5/ 178)، الأم (7/ 3)، المعونة (3/ 1545)، مسعفة الحكام (2/ 571)، الكافي (480)، سنن سعيد بن منصور (1/ 356).
(3) في “أ” و”و”: “كل واحدٍ منهما”.
(4) انظر: المغني (12/ 409)، المحرر (2/ 226).
(5) انظر: المحرر (2/ 226).
(6) “في الطلاق والإيلاء والقود والقذف وعنه أنَّه يستحلف” ساقط من “ب”.
(7) “لا” ساقط من “د”.
(8) في “د”: “عليه”.
(9) أحمد بن القاسم حدَّث عن أبي عبيد وعن الإمام أحمد كان من أهل العلمِ والفضل. انظر: طبقات الحنابلة (1/ 135)، تاريخ بغداد (5/ 110).

(1/296)


الطلاق، ولا في الحدود، لأنه إن نكل لم أقتله (1)، ولم أحده، ولم أدفع المرأة إليه (2).
وظاهر ما نقله الخرقي: أنه يستحلف فيما عدا القود والنكاح، وعنه ما يدل على أنه يستحلف (3) في الكل، وإذا امتنع عن اليمين – حيث قلنا يستحلف – قضينا بالنكول في الجميع، إلا في القود في النفس خاصة. وعنه: لا يقضى بالنكول إلا في الأموال خاصة (4).
وكل ناكل لا يقضى عليه فهل يخلى أو يحبس حتى يقر، أو يحلف؟ على وجهين (5). ولا يستحلف في العبادات ولا في الحدود.
فإذا قلنا: لا يستحلف (6) في هذه الأشياء لم يقض فيها بالنكول على ظاهر كلام أحمد وتعليله، وإذا استحلفناه فأبى (7) قضينا عليه بالنكول في كل موضع؛ لتكون لليمين فائدة، حتى في قود الأطراف. ولا يقضى بقود النفس (8)، وإن استحلفناه؛ لأن النكول وإن جرى
__________
(1) في “جـ”: “أقبله”.
(2) انظر: المحرر (2/ 227).
(3) “فيما عدا القود والنكاح وعنه ما يدل على أنه يستحلف” ساقطة من “جـ”.
(4) “وعنه لا يقضى بالنكول إلَّا فى الأموال خاصَّة” ساقطة من “د”.
انظر: الهداية (2/ 137)، شرح الزركشي (7/ 399).
(5) انظر: الفروع (6/ 478)، المغني (14/ 234)، المحلَّى (9/ 375).
(6) “لا” ساقطة من “أ”.
(7) وفي “ب” و”جـ” و”د”: “وإذا استحلف له فإن”.
(8) في “ب”: “في قود”.

(1/297)


مجرى الإقرار فليس بإقرار صحيح (1) صريح فلا يراق به الدم بمجرده، ولا مع يمين المدعي إلا في القسامة للَّوث.

وإذا قلنا: يستحلف ولا يقضى بالنكول في غير الأموال، كان فائدة الاستحلاف حبسه إذا أبى الحلف في أحد الوجهين. وفي الآخر: يخلى سبيله؛ لأنه لا يقضى عليه بالنكول، ولم يثبت عليه ما (2) يعاقب عليه (3) بالضرب والحبس حتى يفعله، فإنه يحتمل أن يكون المدعي محقًّا، وأن يكون مبطلًا، فكيف يعاقب المدعى عليه بمجرد دعواه وطلب يمينه؟ وتكون فائدة اليمين (4) على هذا انقطاع الخصومة والمطالبة.
فصل

وقد استثني من عدم التحليف في الحدود صورتان:
إحداهما: إذا قذفه فطلب حد القذف، فقال القاذف: حلفوه أنه لم يزن. فذكر أصحاب الشافعي فيه وجهين (5)، قال في “الروضة” (6):
__________
(1) صحيح، ساقطة من “أ”.
(2) “يثبت عليه ما” ساقطة من “ب” و”و”.
(3) “عليه” ساقطة من جميع النسخ عدا “ب”.
(4) “اليمين” ساقطة من “د”.
(5) انظر: أدب القاضي لابن القاص (1/ 242)، روضة الطالبين (8/ 316)، طبقات الشافعية للسبكي (3/ 61).
(6) روضة الطالبين (8/ 316)، تحفة المحتاج (8/ 121)، روض الطالب مع أسنى المطالب (3/ 375)، نهاية المحتاج (7/ 110)، مغني المحتاج =

(1/298)


والأصح أنه يحلف.

والصورة الثانية: أن يكون المقذوف ميتًا، وأراد القاذف تحليف الوارث (1) أنه لا يعلم زنا مورثه، فله ذلك. وحكي عن الشافعي (2) – رحمه الله تعالى -.
والصحيح قول الجمهور (3): أنه لا يحلف، بل القول بتحليفه في غاية السقوط، فإن الحد يجب بقذف المستور الذي لم يظهر زناه، وليس من شرطه ألا يكون قد زنى في نفس الأمر، ولهذا لا يسأله الحاكم عن ذلك، ولا يجوز له سؤاله، ولا يجب عليه الجواب. وفي تحليفه تعريضه للكذب واليمين الغموس إن كان قد ارتكب ذلك، أو تعريضه لفضيحة نفسه وإقراره بما يوجب عليه الجلد، أو فضيحته بالنكول الجاري مجرى الإقرار، وانتهاك عرضه للقاذفين (4) الممزقين لأعراض المسلمين، والشريعة لا تأتي بشيء من ذلك، ولذلك لم يقل أحد من الصحابة ولا التابعين ولا الأئمة بتحليف المقذوف أنه لم يزن، ولم يجعلوا ذلك شرطا في إقامة الحد.
__________
= (3/ 372)، فتوحات الوهاب (4/ 427)، التجريد (4/ 66)، إعانة الطالبين (4/ 151).
(1) “الوارث” ساقطة من “أ”.
(2) انظر: أدب القاضي لابن القاص (1/ 242) روضة الطالبين (8/ 316)، طبقات الشافعية للسبكي (3/ 61).
(3) انظر: الروض المربع (727)، المغني (12/ 409)، المدونة (6/ 214)، المنثور للزركشي (3/ 283).
(4) في جميع النسخ عدا “أ”: “القادحين”.

(1/299)


فالقول بالتحليف في غاية البطلان، وهو مستلزم لما ذكرناه من المحاذير، ولا سيما إن كان قد فعل شيئًا من ذلك ثم تاب منه، ففي إلزامه التحليف تعريضه لهتيكة نفسه، أو إهدار عرضه. ولهذا كان الصواب قول أبي حنيفة (1): إن البكر إذا زالت بكارتها بالزنا فإذنها الصمات؛ لأنا لو (2) اشترطنا نطقها لكنا قد ألزمناها بفضيحة نفسها وهتك عرضها، بل إذا اكتفي من البكر بالصمات لحيائها فلأن يكتفى من هذه بالصمات بطريق الأولى؛ لأن حياءها من الاطلاع على زناها أعظم بكثير من حيائها (3) من كلمة “نعم” التي (4) لا تذم بها ولا تعاب، ولا سيما إن كانت قد أكرهت على الزنا، بل الاكتفاء من هذه بالصمات أولى من الاكتفاء به من البكر؛ فهذا من محاسن الشريعة وكمالها.
وقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إِذْنُ البِكْر الصمَاتُ، وإِذن الثَّيِّبِ الكَلَامُ” (5).
المراد به: الثيب التي قد علم أَهلها والنَّاس أنَّها ثيب، فَلا تستحيي من ذلك، ولهذا لو زالت بكارتها (6) بإصبع أو وثبة لم تدخل في لفظِ
__________
(1) انظر: تبيين الحقائق (2/ 102)، الفتاوى الكبرى (3/ 142).
(2) في “ب”: “لا بل لو”.
(3) “من الاطلاع على زناها أعظم بكثير من حيائها” ساقط من “ب”.
(4) وفي “أ”: “إلى من”.
(5) رواه البخاري (9/ 98) رقم (5136) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: “لا تنكح الأيم حتَّى تستأمر ولا تنكح البكر حتَّى تستأذن”، قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها، قال: “أن تسكت”. ولم أجد اللفظ الَّذي ذكره المؤلِّف ورواه البيهقي (7/ 199) بلفظ: “الثيب تعرب عن نفسها، والبكر رضاها صمتها”.
(6) وفي “ب” و”جـ”: “ثيوبتها”.

(1/300)


الحديث، ولم تتغير بذلك صفة إذنها، مع كونها ثيبًا (1)، فالَّذي أخرج هذه الصورة من العموم أولى أن يخرج الأُخرى، والله أعلم.

فصل

ممَّا لا يحلف (2) فيه: إذا ادعى البلوغ بالاحتلام في وقت الإمكان، صُدِّق بلا يمين، وكذلك لو ادعي عليه البلوغ (3)، فقال: أنا صبي بعد (4)، وهو محتمل (5)، لم يحلف.
ولو ادَّعى عامل الزكاة على رجلٍ أنَّ له نصابًا، وطلب زكاته، لم يحلف على نفي ذلك، ولو أقرَّ فادَّعى العامل أنَّهُ لم يخرج زكاته، لم يحلف على نفي (6) ذلك، قال الإمام أحمد: لا يستحلف النَّاس على صدقاتهم (7).
__________
(1) انظر: المغني (9/ 411)، الفتاوى الكبرى (3/ 88)، وذكر الشيخ أنَّها كالبكر عند الأئمة الأربعة. والمقنع والشرح الكبير والإنصاف (20/ 150).
(2) في “ب”: “لا حلف”.
(3) “البلوغ” ساقطة من جميع النسخ عدا “أ”.
(4) “بعد” ساقطة من “أ”.
(5) في “ب”: “يحتلم”.
(6) “نفى ذلك ولو أقرَّ فادَّعى العامل أنَّه لم يخرج زكاته لم يحلف على نفي” ساقطة من “ب” و”د” و”و”.
(7) انظر: المستوعب (3/ 332)، التذكرة (78)، المغني (4/ 79 و 171)، الفروع (2/ 546)، الشرح الكبير (7/ 149)، الإنصاف (7/ 149).

(1/301)


فصل
ولليمين فوائد (1):
منها: تخويف المدعى عليه سوء عاقبة الحلف الكاذب (2)، فيحمله ذلك على الإقرار بالحقَّ.
ومنها: القضاء عليه بنكوله عنها، على ما تقدم (3).
ومنها: انقطاع الخصومة والمطالبة في الحال، وتخليص كل من الخصمين من ملازمة الآخر، ولكنَّها لا تسقط الحق، ولا تبرئُ الذمة باطنًا ولا ظاهرًا، فلو أقام المدعي بينة بعد حلف المدعى عليه، سمعت وقضي بها، وكذا لو ردت اليمين على المدعي فنكل، ثمَّ أقام المدعي بينة (4)، سمعت وحكم به.
ومنها: إثبات الحق بها إذا ردت على المدعي، أو أقام شاهدًا واحدًا.
ومنها: تعجيل عقوبة الكاذب المنكر لما عليه من الحقَّ، فإنَّ اليمين الغموس تدع الدَّيار بلاقع، فيشتفي بذلك المظلوم عوض ما ظلمه بإضاعة حقه، والله أعلم.
__________
(1) انظر: روضة الطالبين (8/ 318)، أسنى المطالب (4/ 304).
(2) في “أ”: “الكاذبة”.
(3) وكما سيذكره المؤلف مفصلًا.
(4) “المدعي” ساقطة من “أ”.

(1/302)


فصل
ومنها: أن تشهد قرائن الحال بكذب المدعي، فمذهب مالك: أنَّه لا يُلتفت إلى دعواهُ، ولا يحلف له (1)، وهذا اختيار الإصطخري (2) من الشافعية (3)، ويخرج على المذهب مثله (4)، وذلك مثل أن يدعي الدنيء استئجار الأمير أو ذي الهيئة والقدر لعلف دوابه، وكنس بابه، ونحو ذلك.
وسمعت شيخنا العلامة (5) – قدَّس الله روحه – يقول: كُنَّا عند نائب السلطنة، وأنا إلى جانبه، فادعى بعض الحاضرين أنَّ له قبلي وديعة، وسأل إجلاسي معه وإحلافي، فقلت لقاضي المالكية وكان حاضرًا: أتسوغ هذه الدعوى وتسمع؟ فقال: لا، فقلت: فما مذهبك في مثل (6) ذلك؟ قال: تعزير المدعي، قلت: فاحكم بمذهبك. فأقيم المدعي، وأخرج.
__________
(1) انظر: المدونة (5/ 192)، القوانين (309)، المعونة (3/ 1582)، الذخيرة (11/ 45)، تنبيه الحكام (225).
(2) هو الحسن بن أحمد بن يزيد الإصطخري الشافعي، أبو سعيد، توفي سنة 328 هـ رحمه الله تعالى. انظر: سير أعلام النبلاء (15/ 250)، طبقات الشافعية للأسنوي (1/ 34)، طبقات الشافعية لابن كثير (1/ 247).
(3) انظر: قواعد الأحكام (2/ 106)، الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (10/ 55)، فتح الباري (5/ 234)، الأشباه والنظائر للسيوطي (1/ 21)، البهجة الوردية (5/ 236).
(4) انظر: جامع العلوم والحكم (2/ 237).
(5) “العلَّامة” ساقطة من “أ”.
(6) “مثل” مثبتة من “أ”.

(1/303)


فصل

الطريق الثالث: أن يحكم باليد مع يمين صاحبها.
كما إذا ادعى عليه عينًا في يده، فأنكر، فسأل إحلافه، فإنه يحلف، وتترك في يده، لترجح جانب صاحب اليد (1)؛ ولهذا شرعت اليمين في جهته، فإن اليمين (2) تشرع في جنبة (3) أقوى المتداعيين (4)، هذا إذا لم تكذب اليد القرائن الظاهرة، فإن كذبتها لم يلتفت إليها، وعلم أنها يد مبطلة.
وذلك كما لو رأى إنسانًا يعدو وبيده عمامة، وعلى رأسه عمامة، وآخر خلفه حاسر الرأس، ممن ليس شأنه أن يمشي حاسر الرأس، فإنا (5) نقطع أن العمامة التي بيده للآخر، ولا يلتفت إلى تلك اليد (6).
ويجب العمل قطعًا بهذه القرائن، فإن العلم المستفاد منها أقوى بكثير من الظن المستفاد من مجرد اليد، بل اليد ههنا لا تفيد ظنًّا ألبتة،
__________
(1) “صاحب” ساقطة من “أ”.
(2) “فإنَّ اليمين” ساقطة من “ب”.
(3) في “و”: “جانب”.
(4) انظر: مجموع الفتاوى (34/ 81)، المغني (7/ 330)، تهذيب السنن (6/ 325)، إعلام الموقعين (1/ 101)، جامع العلوم والحكم (2/ 234)، التعيين في شرح الأربعين (286).
(5) في “د”: “فإنَّه”.
(6) انظر: إغاثة اللهفان (2/ 70)، إعلام الموقعين (1/ 132)، زاد المعاد (3/ 147)، الفروع (6/ 481).

(1/304)


فكيف تقدم على ما هو (1) مقطوع به، أو (2) كالمقطوع به؟.
وكذلك إذا رأينا رجلًا يقود فرسًا بسرجه ولجامه وآلة ركوبه، وليست من مراكبه في العادة، ووراءه أمير ماش، أو من ليس من عادته المشي، فإنا نقطع بأن يده يد مبطلة.

وكذلك المتهم بالسرقة إذا شوهدت العملة (3) معه، وليس من أهلها، كما إذا رئي معه القماش والجواهر ونحوها مما (4) ليس من شأنه، فادعى أنه ملكه وفي يده: لم يلتفت إلى تلك اليد.
وكذلك كل يد تدل القرائن الظاهرة التي توجب القطع أو تكاد أنها يد مبطلة، لا حكم لها، ولا يقضى بها.
فإذا قضينا باليد، فإنما (5) نقضي بها إذا لم يعارضها ما هو أقوى منها، وإذا كانت اليد ترفع بالنكول، وبالشاهد الواحد مع اليمين (6)، وباليمين المردودة، فلأن ترفع بما هو أقوى من ذلك بكثير بطريق الأولى.
فهذا مما لا يرتاب فيه أنه من أحكام العدل الذي بعث الله به
__________
(1) في “ب”: “من هو”.
(2) “أو” ساقطة من “أ” وفي “د”: “أو هو”.
(3) وفي “هـ”: “العمامة” ولعله الصواب.
(4) وفي “أ” و”ب” و”د” و”هـ”: “ما”.
(5) في “أ”: “فإنَّا”.
(6) “مع اليمين” ساقطة من “جـ”.

(1/305)


رسله (1)، وأنزل به كتبه، ووضعه بين عباده.

فالأيدي ثلاثة:
يد يعلم أنها مبطلة ظالمة، فلا يلتفت إليها.

الثانية: يد يعلم أنها محقة عادلة، فلا تسمع الدعوى عليها، كمن تشاهد في يده دار يتصرف فيها بأنواع (2) التصرف (3) من عمارة وخراب وتغيير (4) وإجارة وإعارة مدة طويلة من غير منازع ولا مطالب، مع عدم سطوته وشوكته، فجاء من ادعى أنه غصبها منه، واستولى عليها بغير حق – وهو يشاهده في هذه المدة الطويلة ويمكنه طلب خلاصها منه، ولا يفعل ذلك – فهذا مما يعلم فيه كذب المدعي، وأن يد المدعى عليه محقة.
هذا مذهب أهل المدينة مالك وأصحابه (5)، وهو الصواب (6).
قالوا (7): إذا رأينا رجلًا حائزًا لدار متصرفًا فيها مدة سنين طويلة (8) بالهدم والبناء، والإجارة والعمارة (9)، وهو ينسبها إلى نفسه، ويضيفها
__________
(1) وفي “ب” و”جـ” و”د”: “ورسوله”.
(2) في “أ”: “أنواع”.
(3) في “د” و”هـ”: “التصرفات”.
(4) “وتغيير” ساقطة من جميع النسخ عدا “أ”.
(5) انظر: المدونة (5/ 192)، الذخيرة (11/ 12)، المعونة (3/ 1582)، تبصرة الحكام (2/ 125)، القوانين الشرعية (309).
(6) انظر: الاختيارات (341)، مختصر الفتاوى المصرية (569).
(7) انظر: المدونة (5/ 192)، المعونة (3/ 1582)، القوانين (309).
(8) في “أ”: “السنين الطويلة”.
(9) “والعمارة”: ساقطة من “و”.

(1/306)


إلى ملكه، وإنسان حاضر يراه، ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة، وهو مع ذلك لا يعارضه فيها، ولا يذكر أن له فيها حقًّا، ولا مانع يمنعه من مطالبته: من خوف سلطان، أو نحوه من الضرر المانع من المطالبة بالحقوق، وليس بينه وبين المتصرف في الدار قرابة، ولا شركة في ميراث وما أشبه ذلك، مما تتسامح به القرابات والصهر بينهم في إضافة أحدهم أموال الشركة إلى نفسه، بل كان عريًّا عن ذلك أجمع، ثم جاء بعد طول هذه المدة يدعيها لنفسه، ويريد أن يقيم بينة على ذلك (1)، فدعواه غير مسموعة أصلًا، فضلًا عن بينته (2)، وتبقى الدار بيد حائزها؛ لأن كل دعوى ينفيها العرف وتكذبها العادة فإنها مرفوضة غير مسموعة.
قال الله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199]، وأوجبت الشريعة الرجوع إلى العرف عند الاختلاف في الدعاوى كالنقد وغيره (3)، فكذلك هذا في هذا الموضع، وليس ذلك خلاف العادات فإن الناس لا يسكتون على ما يجري هذا المجرى من غير عذر.
قالوا: وإذا اعتبرنا طول المدة فقد حدها ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم (4) وأصبغ بعشر سنين (5).
__________
(1) في “أ”: “بذلك”، وفي “ب” و”هـ”: “في ذلك”.
(2) وفي “أ”: “يمينه”.
(3) “وغيره” ساقطة من “أ”.
(4) هو عبد الله بن عبد الحكم بن أعين المصري المالكي أبو محمد، توفي سنة 214 هـ، رحمه الله تعالى. انظر: سير أعلام النبلاء (10/ 220)، الديباج المذهب (1/ 419)، شجرة النور الزكية (1/ 59).
(5) انظر: البيان والتحصيل (11/ 145)، القوانين (314)، منتخب الأحكام =

(1/307)


وربما احتج لهم بحديث يذكر عن سعيد بن المسيب (1)، وزيد بن أسلم (2): أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “من حاز شيئًا عشر سنين فهو له” (3) وهذا لا يثبت (4).
وأمَّا مالك – رحمه الله – فلم يوقت في ذلك حدًّا، ورأى ذلك على قدر ما يرى ويجتهد فيه الإمام (5).

الثالثة (6): يد يحتمل أن تكون محقة، وأنْ تكون مبطلة، فهذه هي التي تسمع الدعوى عليها، ويحكم بها عند عدم ما هو أقوى منها، فالشارع لا يعتبر (7) يدًا شهد العرف والحس بكونها مبطلة، ولا يهدر يدًا شهد العرف بكونها محقة، واليد المحتملة: يحكم فيها بأقرب الأشياء إلى الصواب، وهو الأقوى فالأقوى، والله أعلم.
فالشَّارعُ لا يعين مبطلًا، ولا يعين على
__________
= (1/ 176)، تنبيه الحكام (212).
(1) رواه عنه أبو داود في المراسيل (286) رقم (394) مرسلًا.
(2) رواه عنه سحنون بسنده في المدونة (5/ 192) مرسلًا. وانظر: تنبيه الحاكم (212).
(3) رواه أبو داود في المراسيل (286) رقم (394)، وسحنون في المدونة (5/ 92) مرسلًا.
(4) قال الكيكي المالكي: “لا أصلَ له” ا. هـ. مواهب ذي الجلال في نوازل البلاد السائبة والجبال (55).
(5) المدونة (5/ 192)، منتخب الأحكام (1/ 176).
(6) وفي “أ”: “الثالث”.
(7) في “أ” و”ب”: “يغير”، وفي “و”: “لا يعين”.

(1/308)


محق (1)، ويحكم في المتشابهات بأقرب الطرق إلى الصواب وأقواها.
_________
(1) في “د”: “حق”.

(1/309)


فصل

الطريق الرَّابع والخامس: الحكم بالنكول (1) وحده، أو به مع رد اليمين.
قال الإمام أحمد (2): قدم عبد الله (3) بن عمر إلى عثمان – رضي اللهُ عنهم – في عبد له فقال له عثمان (4): احلف أنَّك ما بعته وبه عيب علمته، فأبى ابن عمر أن يحلف، فرد عليه العبد (5).
فيقول له الحاكم: إن لم (6) تحلف وإلَّا قضيت عليك – ثلاثًا -، فإن لم يحلف قضى عليه، وهذا اختيار أصحاب أحمد (7)، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه (8).
وقال الأوزاعي وشريح وابن سيرين والنخعي: إذا نكل ردت
__________
(1) تقدم بيانه.
(2) انظر: مسائل عبد الله (276)، ومسائل صالح (2/ 39).
(3) “عبد الله” ساقط من “جـ” و”د” و”هـ” و”و”.
(4) “له عثمان” ساقطة من جميع النسخ عدا “ب”.
(5) تقدم تخريجه.
(6) “لم” ساقطة من “هـ”.
(7) انظر: الهداية (2/ 146)، المغني (14/ 223)، الشرح الكبير (30/ 138)، جامع العلوم والحكم (2/ 234)، الروض المربع (711)، كشاف القناع (4/ 287).
(8) انظر: المبسوط (17/ 34)، بدائع الصنائع (6/ 230)، رؤوس المسائل (537)، مختصر اختلاف العلماء (3/ 383)، فتح القدير (8/ 172)، الهداية (5/ 143).

(1/310)


اليمين على المدعي فإن حلف قضي له (1)، وهذا مذهب الشافعي (2) ومالك (3) وقد صوبه الإمام أحمد (4)، واختاره أبو الخطاب (5) وشيخنا (6) – رحمهما الله تعالى – في صورة الحكم بمجرد النكول في صورة، كما سنذكره.
وهذا قول علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – (7).
وقد روى الدارقطني من حديث نافع عن ابن عمر: “أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رد اليمين على طالب الحق” (8).
__________
(1) انظر: المغني (14/ 223)، المحلَّى (9/ 377).
(2) انظر: الرِّسالة (483 و 600)، الأم (7/ 75)، الحاوي (16/ 316)، روضة الطالبين (8/ 322)، أدب القاضي للماوردي (2/ 355)، أدب القاضي لابن أبي الدم (221).
(3) انظر: المدونة (5/ 174)، الموطأ (722)، الاستذكار (22/ 57). التمهيد (23/ 222)، الفروق (4/ 93)، الذخيرة (11/ 77)، المعونة (3/ 1549)، القوانين (311)، تبصرة الحكام (1/ 225).
(4) انظر: المغني (14/ 233)، الفروع (6/ 477)، الإنصاف (28/ 433)، الهداية (2/ 127).
(5) الهداية (2/ 127 – 146)، وانظر: التسهيل (199)، جامع العلوم والحكم (2/ 334)، التعيين في شرح الأربعين (286)، الإنصاف (28/ 433).
(6) الاختيارات (343).
(7) رواه البيهقي (10/ 311)، وانظر: المحلَّى (9/ 377).
(8) رواه الدَّارقطني (4/ 213)، والحاكم (4/ 100)، والبيهقي (10/ 310)، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 389)، وصححه الحاكم وتعقبه الذهبي بقوله: “لا أعرف محمدًا – يعني ابن مسروق – وأخشى أن يكون الحديث باطلًا” ا. هـ. تلخيص المستدرك (4/ 100)، وقال الحافظ ابن حجر: “فيه محمد بن مسروق =

(1/311)


واحتج لهذا القول بأن الشارع شرع اليمين مع الشاهد الواحد كما سيأتي، فلم يكتف في جانب المدعي بالشاهد وحده (1)، حتى يأتي باليمين تقوية لشاهده.
قالوا: ونكول (2) المدعى عليه أضعف من شاهد المدعي، فهو أولى أن يقوى بيمين الطالب، فإن النكول ليس ببينة ولا إقرار، وهو حجة ضعيفة، فلم يقو على الاستقلال بالحكم، فإذا حلف معها المدعي قوي جانبه، فاجتمع النكول من المدعى عليه واليمين من المدعي، فقاما مقام الشاهدين أو الشاهد واليمين.
قالوا: ولهذا لم يحكم على المرأة في اللعان بمجرد نكولها دون يمين الزوج، فإذا حلف الزوج، ونكلت عن اليمين، حكم عليها: إما بالحبس حتى تقر أو تلاعن كما يقول أحمد (3) وأبو حنيفة (4)، وإما
__________
= لا يعرف” ا. هـ. التلخيص الحبير (4/ 384)، وقال ابن الجوزي: “فيه جماعة مجاهيل” ا. هـ. التحقيق (2/ 389)، وضعفه الصنعاني في سبل السلام (4/ 136)، والألباني في الإرواء (8/ 268).
(1) في “أ” و”ب”: “الواحد”.
(2) في “أ”: “ويكون”.
(3) انظر: الهداية (2/ 56)، المغني (11/ 189)، المحرر (2/ 99)، الكافي (4/ 599)، رؤوس المسائل الخلافية (4/ 590)، الفروع (5/ 515)، المبدع (8/ 89)، حاشية المنتهى لابن قائد (4/ 369)، زاد المسير (6/ 14)، جامع العلوم والحكم (2/ 235).
(4) انظر: مختصر اختلاف العلماء (2/ 509)، بدائع الصنائع (3/ 238)، المبسوط (7/ 40)، الهداية مع فتح القدير (4/ 282)، كنز الدقائق (4/ 193) مع البحر الرَّائق، البناية (5/ 369)، تحفة الفقهاء (1/ 223)، (4/ 193) =

(1/312)


بالحد كما يقول الشافعي (1) ومالك (2) – رضي الله عنهما -، وهو الراجح (3)؛ لأن الله – سبحانه وتعالى – إنما درأ عنها العذاب بشهادتها أربع شهادات. والعذاب المدروء عنها بالتعانها هو العذاب المذكور في قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] وهو عذاب الحد (4). ولهذا ذكره – سبحانه وتعالى – معرفًا بلام العهد، فعلم أن العذاب هو العذاب (5) المعهود ذكره أولًا. ولهذا بدئ أولًا بأيمان الزوج لقوة جانبه، ومكنت المرأة من (6) أن تعارض (7) أيمانه بأيمانها،
__________
= مع البحر الرَّائق. البناية (5/ 369)، تحفة الفقهاء (1/ 223)، المختار للفتوى (195).
(1) انظر: الأم (5/ 417)، مختصر المزني (9/ 266)، التهذيب (6/ 189)، الحاوي (11/ 7)، التنبيه (90)، نهاية المحتاج (7/ 121)، مغني المحتاج (3/ 380)، تفسير البغوي (3/ 327)، أحكام القرآن، للكيا (4/ 307).
(2) انظر: المدونة (3/ 112)، الرسالة لابن أبي زيد (204)، التفريع (2/ 99)، القوانين (247)، الذخيرة (4/ 306)، أحكام القرآن لابن العربي (3/ 356)، المقدمات والممهدات (1/ 629)، بداية المجتهد (7/ 140)، الكافي (287)، أضواء البيان (6/ 132).
(3) انظر: زاد المعاد (5/ 362)، تهذيب السنن (6/ 325)، عدة الصابرين (271)، الروح (1/ 200)، مجموع الفتاوى (20/ 390)، الاختيارات (276)، الجواب الصحيح (6/ 468)، جامع العلوم والحكم (2/ 225)، الفروع (5/ 515).
(4) في “أ”: “الحدود”.
(5) “هو العذاب” ساقط من “ب” و”د” و”هـ” و”و”.
(6) “من” ساقطة من “د” و”هـ” و”و”.
(7) في جميع النسخ عدا “و”: “تعارضه”.

(1/313)


فإذا نكلت لم يكن لأيمانه ما يعارضها، فعملت عملها، وقواها نكول المرأة، فحكم عليها بأيمانه ونكولها.
فإن قيل: فكان من الممكن أن يبدأ بأيمانها، فإن نكلت حلف الزوج وحُدَّت، كما إذا ادعي عليه حقًّا، فنكل عن اليمين، فإنها ترد على المدعي، ويقضي له، فهلا شرع اللعان كذلك والمرأة هي المدعى عليها؟ بل شرعت اليمين في جانب المدعي أولا، وهذا لا نظير له في الدعاوى.
قيل: لما كان الزوج قاذفًا لها كان موجب قذفه أن يحد لها، فمكن أن يدفع الحد عن نفسه بالتعانه، ثم طولبت هي بعد ذلك بأن تقر أو تلاعن. فإن أقرت حدت، وإن أنكرت والتعنت درأت عنها الحد بلعانها، كما له أن يدرأ الحد عن نفسه بلعانه.
وكانت البداءة به أولى؛ لأنه مدع، وأيمانه قائمة مقام البينة. ولكن لما كانت دون الشهود الأربعة (1) في القوة مكنت من دفعها بأيمانها. فإذا أبت أن تدفعها ترجح جانبه، فوجب عليها الحد، فلم تحد بمجرد التعانه (2)، ولا بمجرد نكولها، بل بمجموع الأمرين. وأكدت أيمانهما (3) بكونها أربعًا، كما أكدت أيمان المدعين في القسامة بكونها خمسين، ولتقوم الأيمان مقام الشهود.
__________
(1) في جميع النسخ عدا “أ” “الأربعة”.
(2) في “د”: “التعانه فوجب”.
(3) في “أ”: “أيمانه”. وفي “د” و”هـ” و”و”: “أيمانها”.

(1/314)


وفي المسألة قول ثالث، وهو أنه (1) لا يقضى بالنكول، ولا بالرد، ولكن يحبس المدعى عليه حتى يجيب بإقرار أو إنكار يحلف معه. وهذا قول في مذهب (2) أحمد (3)، وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي (4)، وهذا قول (5) ابن أبي ليلى، فإنه قال: لا أدعه حتى يقر أو يحلف (6).
واحتج لهذا القول بأن المدعى عليه قد أوجب عليه أحد الأمرين: إما الإقرار، وإما الإنكار، فإذا امتنع من أداء الواجب عليه عوقب بالحبس ونحوه حتى يؤديه (7).
قالوا: وكل من عليه حق، فامتنع من أدائه، فهذا سبيله.
والآخرون فرقوا بين الموضعين، وقالوا: لو ترك ونكوله لأفضى إلى ضياع حقوق الناس بالصبر على الحبس. فإذا نكل عن اليمين
__________
(1) “أنه” ساقط من النسخ عدا “أ” و”د”.
(2) “في مذهب” ساقطة من “ب”.
(3) انظر: المغني (14/ 234)، الفروع (6/ 478).
(4) انظر: المغني (14/ 234)، روضة الطالبين (12/ 49)، مغني المحتاج (4/ 479).
(5) قوله “في مذهب أحمد وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وهذا قول” ساقط من “و”.
(6) ذكر ابن حزم لابن أبي ليلى قولين هذا أحدهما. المحلى (9/ 377). وانظر: الفروق (4/ 92)، المغني (14/ 234).
(7) انظر: المحلى (9/ 375).

(1/315)


ضعف جانب البراءة (1) الأصلية فيه، وقوي جانب المدعي فقوي باليمين، وهذا كأنه لما قوي جانب المدعين للدم باللوث بدئ بأيمانهم، وأكدت بالعدد.
والمقصود: أن الناس اختلفوا في الحكم بالنكول على أقوال:
أحدها: أنه من طرق الحكم. وهذا قول عثمان بن عفان (2) – رضي الله عنه -، وقضى به شريح (3).
قال أبو عبيد: حدثنا يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سالم بن عبد الله: أن أباه – عبد الله بن عمر – باع عبدًا له بثمانمائة درهم بالبراءة، ثم إن صاحب العبد خاصم فيه ابن عمر إلى عثمان بن عفان (4)، فقال عثمان لابن عمر: احلف بالله لقد بعته وما به من داء علمته، فأبى ابن عمر أن يحلف، فرد عليه العبد (5). وقال ابن أبي شيبة، عن شريك، عن مغيرة (6)، عن الحارث (7)، قال: “نكل رجل عند شريح عن اليمين، فقضى عليه، فقال: أنا أحلف، فقال
__________
(1) في “أ”: “ضعف للبراءة”.
(2) تقدم تخريجه. وسيذكره المؤلف قريبًا.
(3) سيأتي تخريج الأثر قريبًا.
(4) “بن عفان” ساقطة من “أ”.
(5) تقدم تخريجه.
(6) مغيرة بن مِقْسم أبو هشام الضبي. قال ابن معين: ثقة مأمون. توفي سنة 133 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: تهذيب الكمال (28/ 397) سير أعلام النبلاء (6/ 10).
(7) هو الحارث العكلي.

(1/316)


شريح (1): قد قضي قضاؤك (2) ” (3). وهذا قول الإمام أحمد في إحدى الروايتين (4)، وقول أبي حنيفة (5).

والقول الثاني: أنه لا يقضى بالنكول، بل ترد اليمين على المدعي، فإن حلف قضى له، وإلا صرفهما. وهذا مروي عن عمر (6)، وعلي (7)، والمقداد بن الأسود (8)، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت – رضي الله عنهم -.
فروى البيهقي وغيره من حديث مسلمة بن علقمة، عن داود، عن الشعبي: “أن المقداد استقرض من عثمان سبعة آلاف درهم، فلما تقاضاه، قال (9): إنما هي أربعة آلاف درهم، فخاصمه إلى عمر. فقال
__________
(1) قوله: “عن اليمين فقضى عليه فقال أنا أحلف فقال شريح” ساقطة من “جـ”.
(2) صوابه والله أعلم “قد مضى قضائي” ا. هـ. كما في مصنف ابن أبي شيبة (4/ 433)، المحلَّى (9/ 373)، نصب الراية (5/ 151)، الدراية (2/ 176).
(3) مصنف ابن أبي شيبة (4/ 433)، رقم (21790)، وانظر: المراجع السابقة.
(4) انظر: مسائل أحمد رواية صالح (2/ 39)، ورواية عبد الله (276)، الهداية (2/ 146)، المغني (14/ 233)، الشرح الكبير (30/ 138)، جامع العلوم والحكم (2/ 234)، الروض المربع (711)، كشاف القناع (4/ 286).
(5) انظر: المبسوط (17/ 34)، بدائع الصنائع (6/ 230)، رؤوس المسائل (537)، مختصر اختلاف العلماء (3/ 383)، فتح القدير (8/ 172)، الهداية (5/ 143)، شرح أدب القاضي للصدر (2/ 11)، شرح أدب القاضي للحسام الشهيد (174).
(6) تقدم تخريجه.
(7) رواه البيهقي (10/ 311).
(8) تقدم تخريجه.
(9) “قال” ساقطة من “أ”.

(1/317)


المقداد: احلف أنها سبعة آلاف، فقال عمر – رضي الله عنه -: أنصفك. فأبى أن يحلف، فقال عمر: خذ ما أعطاك” (1). ورواه أبو عبيد (2) عن عفان (3) بن مسلم عن سلمة (4).
ورواه البيهقي (5) من حديث حسين بن عبد الله بن ضميرة (6)، عن أبيه (7)، عن جده (8)، عن علي – رضي الله عنه -، قال: “اليمين مع الشاهد، وإن لم تكن له بينة فاليمين على المدعى عليه، إذا كان قد خالطه، فإن نكل حلف المدعي”.
وذكر البيهقي (9) أيضًا من حديث سليمان بن
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) ذكره بإسناد أبي عبيد ابن حزم في المحلَّى (9/ 377).
(3) في “و”: “عثمان”.
(4) قال الحافظ ابن حجر: “سلمة بن علقمة عن داود بن هند صوابه مسلمة” ا. هـ. تقريب التهذيب (248)، وقد ذكر ابن القيم في إسناد البيهقي أنَّه مسلمة بن علقمة، وكذا ذكره ابن حزم في المحلَّى (9/ 377) بإسناد أبي عبيد “مسلمة بن علقمة”.
(5) السنن الكبرى (10/ 311).
(6) هو حسين بن عبد الله بن ضميرة الحميري، قال الإمام أحمد متروك الحديث. وقال ابن حبان: روى عن أبيه عن جده نسخة موضوعة. انظر: المجروحين (1/ 244)، الكامل (3/ 225)، تعجيل المنفعة (115).
(7) لم أجد له ترجمة. وانظر: السلسلة الضعيفة (4/ 382)، قال ابن حزم: “متروك”. المحلَّى (9/ 381).
(8) هو ضمرة بن الحميري، وقيل: ضميرة بن أبي ضميرة، له صحبة اختار الله ورسوله لما خيره النبي – صلى الله عليه وسلم -. انظر: الإصابة (2/ 206)، الاستيعاب (2/ 206).
(9) في السنن الكبرى (10/ 310)، وقد تقدم تخريجه مفصلًا.

(1/318)


عبد الرحمن (1)، حدثنا محمد بن مسروق (2)، عن إسحاق بن الفرات، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر: “أن النبي – صلى الله عليه وسلم -: رد اليمين على طالب الحق” رواه الحاكم في “المستدرك” (3).
قلت: ومحمد بن مسروق – هذا – ينظر من هو (4)؟
وقال عبد الملك بن حبيب: حدثنا أصبغ بن الفرج، عن ابن وهب، عن حيوة بن شريح أن سالم بن غيلان التجيبي أخبره: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “من كانت له طلبة عند أحد: فعليه البينة، والمطلوب أولى باليمين، فإن نكل حلف الطالب وأخذ” وهذا مرسل (5).
واحتج لرد اليمين بحديث القسامة (6) وفي الاستدلال به ما فيه، فإنه عرض اليمين على المدعين أولًا، واليمين المردودة هي التي
__________
(1) هو سلمان بن عبد الرحمن بن عيسى التميمي أبو أيوب الدمشقي. توفي سنة 233 هـ. انظر: تهذيب الكمال (12/ 26)، سير أعلام النبلاء (11/ 136).
(2) سيأتي بيان حاله قريبًا.
(3) (4/ 100)، وقد تقدم تخريجه مفصلًا.
(4) قال ابن القطان: “لا تعرف له حال” ا. هـ. بيان الوهم (3/ 219)، وقال الذهبي: “لا أعرف محمدًا” ا. هـ. تلخيص المستدرك (4/ 100)، وقال الحافظ ابن حجر: “لا يعرف” ا. هـ. التلخيص الحبير (4/ 384).
(5) رواه عبد الملك بن حبيب في الواضحة. كما في التلخيص الحبير (4/ 386)، وقال: “هذا مرسل” ا. هـ. قال ابن حزم: “هذا مرسل”. المحلَّى (9/ 380).
(6) تقدم تخريجه.

(1/319)


تطلب من المدعي، بعد نكول المدعى عليه عنها.
لكن يقال: وجه الاستدلال: أنها جعلت من جانب المدعي لقوة جانبه باللوث، فإذا تقوى جانبه بالنكول شرعت في حقه.

القول الثالث: أنه يجبر على اليمين – شاء أم أبى – بالضرب والحبس، ولا يقضى عليه (1) بنكول، ولا برد يمين (2).
قال أصحاب هذا القول: ولا ترد اليمين إلَّا في ثلاثة مواضع لا رابع لها:
أحدها: القسامة.
والثاني: الوصية في السفر إذا لم يشهد فيها إلَّا الكفار.
والثالث: إذا أقامَ شاهدًا واحدًا حلف معه، وهذا قول ابن حزم ومن وافقه من أهل الظاهر (3).
قالوا: لم يأت قرآن ولا سنَّة ولا إجماع على القضاء بالنكول ولا باليمين المردودة.
وجاء نص القرآن برد اليمين في مسألة الوصية (4)، ونص السنَّة
__________
(1) “عليه” ساقطة من “و”.
(2) انظر: المغني (14/ 234)، الفروع (6/ 478).
(3) انظر: المحلَّى (9/ 373).
(4) كما في الآيات (105 و 106) من سورة المائدة، وسيأتي بيان ذلك مفصلًا في كلام المصنف.

(1/320)


بردها في مسألة القسامة (1)، والشاهد واليمين (2)، فاقتصرنا على ما جاء به كتاب الله وسنَّة رسوله – صلى الله عليه وسلم -، ولم نعد ذلك إلى غيره، وليس قول أحدٍ حجة سوى المعصوم – صلى الله عليه وسلم – وكل من سواه مأخوذٌ من قوله ومتروك.
وأمَّا قول مالك في “الموطأ” (3) في باب اليمين مع الشاهد في كتاب الأقضية: أرأيت رجلًا ادَّعى على رجلٍ مالًا أليس يحلف المطلوب ما ذلك (4) الحقُّ (5) عليه، فإن حلفَ بطل ذلك عنه، وإن أبى أن يحلف ونكل عن اليمين، حلف طالب الحقِّ: إنَّ حقَّه لحقٌّ، وثبت حقه على صاحبه؟ فهذا ممَّا (6) لا اختلاف فيه عند أحدٍ من النَّاسِ، ولا في بلدٍ من البلدان، فبأي شيءٍ أخذ هذا؟ أم في أي كتابٍ وجده؟ فإذا أقرَّ بهذا فليقر باليمين مع الشاهد، وإن لم يكن ذلك في كتاب الله تعالى” هذا لفظه.
قال أبو محمد ابن حزم (7): إن كان خفي عليه قضاء أهل العراق بالنكول، فإنَّه لعجب (8)، ثمَّ قوله: “إذا أقرَّ بردَّ اليمين وإن لم يكن في كتاب الله، فليقرَّ باليمين مع الشاهد، وإن لم يكن في كتاب
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.
(3) (2/ 722)، والاستذكار (22/ 56).
(4) “ما ذلك” ساقط من “ب”.
(5) “الحق” ساقط من “و”.
(6) في “أ” و”د”: “ما”.
(7) المحلَّى (9/ 380).
(8) في “ب” و”د” و”و”: “لعجيب”.

(1/321)


الله (1) ” فعجبٌ آخر؛ لأنَّ اليمين مع الشاهد ثابتٌ عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فهو في كتاب الله، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
قلت: ليس في واحدٍ من الأمرين عجب.
أمَّا حكايته الإجماع فإنَّه لم يقل: لا خلاف أنَّه لا يحكم بالنكول، بل إذا نكلَ وردَّ اليمين، حُكِمَ له بالاتفاق، فإنَّ فقهاء الأمصارِ على قولين (2): منهم من يقول: يقضى بالنكول، ومنهم من يقول: إذا نكل رُدَّت اليمين على المدعي فإن حلفَ حكم له، فهذا الَّذي أراد مالك (3) – رحمه الله -: أنَّه إذا رد اليمين مع نكول المدعى عليه لم يبقَ فيه اختلاف في بلدٍ من البلدان، وإن كان فيه اختلاف شاذ.
وأمَّا تعجبه من قوله: “إنَّ الشاهد واليمين ليس في كتاب الله” فتعجبه هو المتعجب منه، فإنَّ المانعين من الحكم بالشاهد واليمين يقولون: ليس هو في كتاب الله تعالى، بل في كتاب الله (4) خلافه، وهو اعتبار الشاهدين (5)، فقال مالك – رحمه الله تعالى -: إذا كنتم تقضون
__________
(1) قوله “فليقر باليمين مع الشاهد وإن لم يكن في كتاب الله” ساقط من “د” و”هـ”.
(2) سبق تفصيله قريبًا، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله ثلاثة أقوال وسيذكر قولين آخرين آخر الفصل.
(3) انظر: الاستذكار (22/ 57).
(4) “بل في كتاب الله” ساقط من “ب”.
(5) في قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282].

(1/322)


بالنكول، ويقضي النَّاس كلهم بالردِّ مع النكول، وليس في كتاب الله، فهكذا الشاهد مع اليمين يجب أن يقضى به وإن لم يكن في كتاب الله تعالى، كما دلَّت عليه السنة. فهذا إلزام (1) لا محيد عنه، والله أعلم.
قال ابن حزم (2): وأمَّا رد اليمين على الطالب إذا نكل المطلوب، فما كان في كتاب الله تعالى، ولا في سنة رسوله – صلى الله عليه وسلم -، فبين الأمرين فرقٌ كما بين السماء والأرض.
فيقال: بل أرشد إليه كتاب الله وسنة رسوله.
أمَّا الكتاب: فإنَّه سبحانه شرع الأيمان في جانب المدعي إذا احتاج إلى ذلك، وتعذر عليه إقامة البينة، وشهدت القرائن بصدقه، كما في اللعان (3)، وشرع عذاب المرأة بالحدَّ بنكولها مع يمينه، فإذا كان هذا شرعه في الحدود التي تدرأ بالشبهات، وقد أمرنا بدرئها ما استطعنا، فلأن يشرع الحكم بها بيمين المدعي مع نكول المدعى عليه في درهم وثوب ونحو ذلك أولى وأحرى.
لكنْ أبو محمد وأصحابه سدُّوا على نفوسهم باب اعتبار المعاني والحِكَم التي علق بها الشارع الحُكْم (4)، ففاتهم بذلك حظٌّ عظيمٌ من العلمِ، كما أنَّ الَّذين فتحوا على نفوسهم باب الأقيسة والعلل – التي لم
__________
(1) في “ب”: “الإلزام”.
(2) المحلَّى (9/ 380).
(3) الآيات (6 – 9) من سورة النور.
(4) انظر: الإحكام لابن حزم (7/ 368)، النبذ في أصول الفقه (120)، البداية والنهاية (15/ 795).

(1/323)


يشهد لها الشارع بالقبول – دخلوا في باطل كثير، وفاتهم حقٌّ كثير، فالطائفتان (1) في جانب إفراط وتفريط.
وأمَّا إرشاد السنَّة إلى ذلك: فالنبي – صلى الله عليه وسلم – جعل اليمين في جانب المدعي إذا أقام شاهدًا واحدًا (2)، لقوَّة جانبه بالشاهد، ومكنه من اليمين بغير بذل خصمه (3) ورضاهُ، وحكم له بها مع شاهده، فلأن يحكم به باليمين التي يبذلها (4) خصمه مع قوَّة جانبه بنكول خصمه أولى وأحرى، وهذا ممَّا لا يشك فيه من له خوض في حكم الشريعة وعللها ومقاصدها، ولهذا شرعت الأيمان في القسامة في جانب المدعي، لقوَّة جانبه باللوث، وهذه هي المواضع الثلاثة التي استثناها منكرو القياس (5).
ولما كانت أفهام الصحابة – رضي الله عنهم – فوق أفهام جميع الأمة، وعلمهم بمقاصد نبيهم – صلى الله عليه وسلم – وقواعد دينه وشرعه أتم من علم كل من جاء بعدهم: عدلوا عن (6) ذلك إلى غير هذه المواضع الثلاثة وحكموا بالردَّ مع النكول في موضع (7)، وبالنكول وحده في
__________
(1) في “د” و”هـ: “فالطائفتين”.
(2) تقدم ذكر ألفاظه وتخريجها.
(3) في “ب”: “صاحبه”.
(4) في “هـ”: “بذلها له”.
(5) انظر: المحلى (9/ 373).
(6) في “ب” و”د” و”هـ” و”و”: “عدوا”.
(7) “وبالنكول وحده في موضع” ساقطة من “هـ”.
كما في حكم عثمان على ابن عمر – رضي الله عنهما -، وقد تقدم =

(1/324)


موضع (1)، وهذا من كمال فهمهم وعلمهم بالجامع والفارق والحكم والمناسبات، ولم يرتضوا (2) لأنفسهم عبارات (3) المتأخرين واصطلاحاتهم وتكلفاتهم، فهم كانوا أعمق الأمة علمًا، وأقلهم تكلفًا، والمتأخرون عكسهم في الأمرين.
فعثمان بن عفان قال لابن عمر: “احلف بالله لقد بعت العبد وما به داء علمته” (4)، فأبى، فحكم عليه بالنكول، ولم يرد اليمين في هذه الصورة على المدعي، ويقول له: احلف أنت أنَّه كان عالمًا بالعيب؛ لأنَّ هذا ممَّا لا يمكن أن يعلمه المدعي، ويمكن المدعى عليه معرفته، فإذا لم يحلف المدعى عليه لم يكلف المدعي اليمين، فإنَّ ابن عمر – رضي الله عنهما – كان قد باعه بالبراءة من العيوب، وهو إنَّما يبرأ إذا لم يعلم بالعيب، فقال له: “احلف أنك بعته وما به عيب تعلمه”، وهذا ممَّا يمكن (5) أن يحلف عليه دون المدعي، فإنَّه قد تتعذر عليه اليمين أنَّه كان عالمًا بالعيب، وأنَّه كتمه مع علمه به.
وأما أثر عمر بن الخطاب – وقول المقداد: “احلف أنها سبعة آلاف”، فأبى أن يحلف، فلم يحكم له بنكول عثمان (6) – فوجهه: أن
__________
= تخريجه.
(1) كما في قصة المقداد مع عثمان – رضي الله عنهما -، وقد تقدم تخريجها.
(2) في “و”: “يرضوا”.
(3) في “د” و”هـ” و”و”: “بعبارات”.
(4) تقدم تخريجه.
(5) في “د” و”هـ”: “يمكنه”.
(6) تقدم تخريجه.

(1/325)


المقرض إن كان عالمًا بصدق نفسه وصحة دعواه حلف وأخذه، وإن لم يعلم ذلك لم تحل له الدعوى بما لا (1) يعلم صحته، فإذا نكل عن اليمين لم يقض له بمجرد نكول خصمه؛ إذ خصمه قد لا يكون عالمًا بصحة دعواه، فإذا قال للمدعي: إن كنت عالمًا بصحة دعواك فاحلف وخذ، فقد أنصفه جد الإنصاف.
فلا أحسن مما قضى به الصحابة – رضي الله عنهم -، وهذا التفصيل في المسألة هو الحق، وهو اختيار شيخنا (2) – قدس الله روحه – والله أعلم (3).
قال أبو محمد ابن حزم (4)، محتجًا لمذهبه: ونحن نقول: إن نكول الناكل عن اليمين في كل موضع وجب (5) عليه، يوجب (6) أيضًا عليه حكمًا، وهو الأدب الذي أمر به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على كل من أتى منكرًا يوجب تغييره باليد (7).
فيقال له: قد يكون معذورًا في نكوله، غير آثم به، بأن يدعي أنه
__________
(1) في “د”: “لم”.
(2) انظر: الاختيارات (343).
(3) “والله أعلم” ساقط من “أ”.
(4) المحلَّى (9/ 383).
(5) “وجب” ساقطة من “أ” و”ب”.
(6) في “د” و”و”: “موجب”.
(7) كقوله – صلى الله عليه وسلم -: “من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان” رواه مسلم رقم (78) (2/ 380).

(1/326)


أقرضه ويكون قد وفاه، ولا يرضى منه إلا بالجواب على وفق الدعوى. وقد يتحرج من الحلف، مخافة موافقة قضاء وقدر، كما روي عن جماعة من السلف (1)، فلا يجوز أن يحبس حتى يحلف.
وقولهم: “إن هذا منكر يجب تغييره باليد” (2) كلام باطل، فإن تورعه عن اليمين ليس بمنكر، بل قد يكون واجبًا أو مستحبًّا أو جائزًا، وقد يكون معصية.
وقولهم: “إن الحلف حق قد وجب عليه، فإذا أبى أن يقوم به ضرب حتى يؤديه” (3). فيقال: إن في اليمين حقًّا له وحقًّا عليه، فإن الشارع مكنه من التخلص من الدعوى باليمين، وهي واجبة عليه للمدعي، فإذا امتنع من اليمين فقد امتنع من الحق الذي وجب عليه لغيره، وامتنع من تخليص نفسه من خصمه باليمين، فقيل: يحبس أو يضرب حتى يقر أو يحلف. وقيل: يقضى عليه بنكوله، ويصير كأنه مقر بالمدعى (4). وقيل: ترد اليمين على المدعي. والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد (5). وقول رابع بالتفصيل كما تقدم، وهو اختيار
__________
(1) تقدم ذكر بعضهم.
(2) المحلَّى (9/ 383).
(3) المحلَّى (9/ 383).
(4) في “د”: بياض قدر خمس كلمات.
(5) انظر: مسائل أحمد رواية صالح (2/ 39)، ورواية عبد الله (276)، الهداية (2/ 146)، المغني (14/ 233)، الشرح الكبير (30/ 138)، جامع العلوم والحكم (2/ 234)، الفروع (6/ 478)، كشاف القناع (4/ 286).

(1/327)


شيخنا (1).
وفي المسألة قولٌ خامس: وهو أنَّه إذا كان المدعي متهمًا ردت عليه، وإن لم يكن متهمًا قُضِيَ له (2) بنكول خصمه.
وهذا القولُ يحكى عن ابن أبي ليلى (3)، وله حظٌّ من الفقه، فإنَّه إذا لم يكن متهمًا غلب على الظن صدقه، فإذا نكلَ خصمه قوي ظن (4) صدقه، فلم يحتج إلى اليمين، وأمَّا إذا كان متهمًا لم يبقَ معنا إلَّا مجرَّد النكول، فقويناه برد اليمين عليه، وهذا نوعٌ من الاستحسان (5).

فصل

إذا رُدَّت اليمين على المدعي، فهل تكون يمينه كالبينة، أم كإقرار المدعى عليه؟
فيه قولان للشافعي – رحمه الله – أظهرهما عند أصحابه أنَّها كالإقرار (6).
__________
(1) انظر: الاختيارات (343).
(2) في جميع النسخ عدا “د”: “عليه”.
(3) انظر: المحلَّى (9/ 377)، الاستذكار (22/ 58).
(4) “ظن” ساقطة من “أ”.
(5) الاستحسان: هو العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليلٍ شرعي. شرح الكوكب المنير (4/ 431)، وانظر: أصول السرخسي (2/ 204)، المستصفى (1/ 274)، المحصول لابن العربي (131)، البلبل في أصول الفقه (186)، وبه يقول الجمهور عدا الشافعية.
(6) انظر: روضة الطالبين (8/ 323)، نهاية المحتاج (8/ 347)، الديباج =

(1/328)


فعلى هذا لو أقام المدعى عليه بينة بالأداء والإبراء بعد ما حلفَ المدعي، فإن قيل: يمينه كالبينة سمعت بينة المدعى عليه (1)، وإن قيل: هي كالإقرار لم تسمع، لكونه مكذبًا (2) للبينة بالإقرار.

وإذا قُضِيَ بالنكول فهل يكون كالإقرار أو كالبذل؟ فيه وجهان (3)، ينبني عليهما ما إذا ادعى نكاح امرأة واستحلفناها فنكلت، فهل يقضى عليها بالنكول وتجعل زوجته؟ فإن قلنا: النكولُ إقرار حكم له بكونها زوجته (4)، وإن قلنا: بَذْل، لم يحكم بذلك؛ لأنَّ الزوجية لا تباح بالبذل.
وكذلك لو ادعى رق مجهول النسب، وقلنا: يستحلف، فنكلَ عن اليمين.
وكذلك لو ادعى قذفه واستحلفناه فنكل، فهل يحد للقذف؟ ينبني (5) على ذلك.
وكذلك الخلاف في مذهب أبي حنيفة، فالنكول بَذْلٌ عنده وإقرارٌ عند صاحبيه (6).
__________
= المذهب (2/ 351)، شرح عماد الرضا (1/ 188).
(1) “بينة” ساقطة من “د” و”هـ” و”و”.
(2) في “ب”: “مكذبة”.
(3) انظر: المراجع السابقة، والإنصاف (28/ 434).
(4) “فإن قلنا النكول إقرار حكم له بكونها زوجته” ساقطة من “ب” و”د” و”هـ”.
(5) في “أ” “مبني”.
(6) انظر: بدائع الصنائع (4/ 227)، العناية شرح الهداية (8/ 183)، فتح القدير (8/ 184).

(1/329)


قال أصحابه: فلا يستحلف في النكاح والرجعة والفيئة (1) والإيلاء والرق والاستيلاد والنسب والولاء والحدود؛ لأنَّ النكول عند أبي حنيفة بذل وهو لا يجري في هذه الأشياء، وعندهما يستحلف؛ لأنَّه يجري مجرى الإقرار، وهو مقبول بها (2).
واحتج من جعله كالإقرار بأنَّ الناكل كالممتنع من (3) اليمين الكاذبة ظاهرًا، فيصير معترفًا بالمدعى؛ لأنَّه لما نكل مع إمكان تخلصه (4) باليمين، دلَّ ذلك على أنَّه لو حلفَ لكان كاذبًا، وذلك دليلٌ على (5) اعترافه، إلَّا أنَّه لما كان دون الإقرار الصريح لم يعمل عمله في الحدود والقود (6).
واحتجَّ من جعله كالبذل، بأنَّا لو اعتبرناه إقرارًا منه (7) يكون كاذبًا في إنكاره، والكذب حرام، فيفسق بالنكول بعد الإنكار، وهذا باطل، فجعلناه بذلًا وإباحة صيانة له (8) عمَّا يقدح في عدالته، ويجعله كاذبًا.
والصحيح: أنَّ النكول يقوم مقام الشاهد والبينة، لا مقام الإقرار
__________
(1) “الفيئة” ساقطة من جميع النسخ عدا “أ”.
(2) “بها” ساقطة من “د”.
انظر: المبسوط (16/ 117)، الجوهرة النيرة (2/ 8).
(3) في “د” و”هـ” و”و”: “أن الناكل ممتنع عن”.
(4) في “ب”: “تحليفه”.
(5) “على” ساقطة من جميع النسخ عدا “أ”.
(6) في جميع النسخ عدا “هـ”: “والقيود”.
(7) في “د” و”هـ” بياض قدر أربع كلمات.
(8) “له” ساقطة من “ب” و”د”.

(1/330)


ولا البذل؛ لأنَّ النَّاكل قد صرَّح بالإنكار، وأنَّه لا يستحق المدعى به، وهو مُصِرّ على ذلك، متورع عن اليمين، فكيف يُقال: إنَّه مقرٌّ، مع إصراره على الإنكار، ويُجعل مُكذِّبًا لنفسه؟ (1).
وأيضًا لو كان مقرًّا لم تسمع منه بينة نكوله بالإبراء والأداء، فإنَّه يكون مكذبًا لنفسه، وأيضًا فإنَّ الإقرار إخبارٌ وشهادة المرء (2) على نفسه، فكيف يجعل مقرًّا شاهدًا على نفسه بسكوته، والبذل إباحة وتبرع، وهو لم يقصد ذلك، ولم يخطر على قلبه، وقد يكون المدعى عليه مريضًا مرض الموت، فلو كان النكول بذلًا وإباحة اعتبر خروج المدعى من الثلث (3).
فتبين أنه لا إقرار ولا إباحة، وإنَّما هو جارٍ مجرى الشاهد والبينة، فإنَّ “البينة” اسمٌ لما يبين الحق، ونكوله – مع تمكنه من اليمين الصادقة التي يبرأ بها من المدعى عليه ويتخلص بها (4) من خصمه – دليلٌ ظاهرٌ على صحة دعوى خصمه وبيان أنَّها حق، فقام مقام شاهد القرائن.
فإن قيل: فالنبي – صلى الله عليه وسلم – أجرى السكوت مجرى الإقرار والبذل في حق البكر إذا استؤذنت؟ (5).
__________
(1) انظر: الفروع (6/ 478)، الإنصاف (28/ 435).
(2) “المرء” ساقطة من “ب”.
(3) انظر: الإنصاف (28/ 435)، شرح منتهى الإرادات (3/ 525)، مطالب أولي النهى (6/ 520).
(4) “بها” ساقطة من جميع النسخ عدا “أ”.
(5) تقدم تخريجه.

(1/331)


قيل: ليس (1) ذلك نكولًا، وإنَّما هو دليل على الرضا بما استؤذنت فيه؛ لأنَّها تستحي من الكلام ويلحقها العار بكلامها الدَّال على طلبها، فنزل سكوتها منزلة رضاها للضرورة، وها هنا المدعى عليه لا يستحي من الكلام ولا عار عليه (2) فيه فلا يشبه البكر، والله – سبحانه وتعالى – أعلم.

فصل

إذا قلنا برد اليمين، فهل ترد بمجرد (3) نكول المدعى عليه أم لا ترد حتَّى يأذن في ذلك؟ ظاهرُ كلام الإمام أحمد أنَّه لا يشترط إذن الناكل (4)؛ لأنَّه لما رغب عن اليمين انتقلت إلى المدعي، ولأنَّه برغبته ونكوله عنها – مع تمكنه من الحلف – صار راضيًا بيمين المدعي فجرى ذلك مجرى إذنه، كما أنَّه بنكوله (5) نزل منزلة الباذل (6) أو المقر.
وقال أبو الخطاب: لا ترد اليمين إلَّا إذا أذن فيها النَّاكل؛ لأنَّها من جهته وهو أحقُّ بها من المدعي، ولا تنتقل عنه إلى المدعي إلَّا بإذنه (7).
__________
(1) “ليس” ساقطة من “ب”.
(2) “عليه” ساقطة من “د”.
(3) “بمجرد” ساقطة من جميع النسخ عدا “أ”.
(4) الإنصاف (28/ 434)، الهداية (2/ 146)، المغني (14/ 433)، الفروع (6/ 478)، كشاف القناع (4/ 286).
(5) في “ب”: “أن نكوله”.
(6) في “ب”: “الناكل”.
(7) الهداية (2/ 146)، والإنصاف (28/ 434).

(1/332)


فصل

الطريق السادس: الحكم بالشاهد الواحد بلا يمين.
وذلك في صور:

منها: إذا شهدَ برؤية هلال رمضان شاهدٌ واحد في ظاهر مذهب الإمام أحمد (1)، لحديث ابن عمر – رضي اللهُ عنهما – قال: “تراءى النَّاسُ الهلال، فَأخْبَرْتُ رسُول الله – صلى الله عليه وسلم – أَنِّي رأيْتُهُ فَصَامَ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ” رواه أبو داود (2).
فعلى هذا هل يكتفى بشهادة (3) المرأة الواحدة في ذلك؟ فيه وجهان (4) مبنيان على أنَّ ثبوته بقول الواحد هل هو (5) من باب
__________
(1) انظر: المغني (4/ 416)، المحرر (1/ 228)، الفروع (3/ 14)، قواعد ابن رجب (3/ 163)، شرح منتهى الإرادات (1/ 472)، كشاف القناع (2/ 304)، مطالب أولي النهى (2/ 173).
(2) رواه أبو داود رقم (2342)، والدارمي (2/ 9) رقم (1691)، والدارقطني (2/ 156)، والبيهقي (4/ 357)، وابن حبان (8/ 231) رقم (3447)، والحاكم (1/ 423) وقال: “صحيح على شرط مسلم”، وقال الدارقطني: “تفرد به مروان بن محمد عن ابن وهب وهو ثقة” ا. هـ، وصححه ابن حزم المحلى (6/ 236)، وقال الحافظ بعد ذكره كلام الدارقطني: “وفيه نظر لأن الحاكم أخرجه في المستدرك من طريق هارون بن سعيد عن ابن وهب به”. ا. هـ النكت الظراف (6/ 255)، وانظر: إتحاف المهرة (9/ 384).
(3) في جميع النسخ عدا “أ”: “تكفي شهادة”.
(4) انظر: المغني (4/ 419)، زاد المعاد (2/ 38)، بدائع الفوائد (1/ 5)، قواعد ابن رجب (3/ 163)، كشاف القناع (2/ 304)، مطالب أولي النهى (2/ 173).
(5) “هو” ساقطة من “د”.

(1/333)


الإخبار، أو من باب الشهادات؟
وروى أبو داود أيضًا عن ابن عباس قال: “جَاءَ أَعْرَابِي إِلى النَّبيَّ – صلى الله عليه وسلم – فقالَ: إنِّي رأَيْتُ الهلالَ، فقالَ: “أتشْهَدُ أنْ لَا إِلهَ إِلا الله: قالَ: نَعم، قال: أَتَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُوْلُ اللهِ؟ قال: نعم، قال: يَا بِلَالُ، أَذَّنْ في النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا” (1).
وعنه رواية أُخرى: لا يجب إلَّا بشهادة اثنين (2).
وحجة هذا القول ما رواه النسائي وأحمد وغيرهما عن عبد الرحمن ابن زيد بن الخطاب عن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنَّه قال: “صُوْمُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيتهِ، وَانْسِكُوا (3)، فِإن غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَتِمُوا ثَلاَثِيْنَ، فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ ذوَا عَدْلٍ فصُوْمُوا وَأَفْطِرُوا” (4).
وهذا لا حجة فيه من طريق المنطوق، والمفهوم (5) فيه تفصيل: وهو أنَّه إن كان المشهود فيه هلال شوال، فيشترط شاهدان بهذا النص، وإن كان هلال رمضان كفى واحد بالنصين الآخرين، ولا يقوى ما يتوهم
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) انظر: المغني (4/ 417)، المحرر (1/ 228).
(3) في “ب” و”د” و”و”: “وأمسكوا”.
(4) رواه أحمد (4/ 321)، والنسائي (4/ 132) رقم (2116)، وفي الكبرى (2/ 69) رقم (2426)، والدارقطني (2/ 167)، والحارث في مسنده (1/ 408) رقم (416) “بغية الباحث”، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 79)، وصححه الألباني – رحمه الله تعالى -. الإرواء (4/ 16) رقم (909).
(5) في طبعة ابن قاسم رحمه الله تعالى: “ومن طريق المفهوم”.

(1/334)


من عموم المفهوم على معارضة هذين الخبرين. وأصول الشرع تشهد للاكتفاء بقول الواحد (1)، كالإخبارِ (2) عن دخول وقت الصلاة بالأذان، ولا فرق بينهما.
وقال أبو بكر عبد العزيز (3): إن كان الرَّائي في جماعة لم تقبل إلَّا شهادة اثنين؛ لأنَّه يبعد انفراد الواحد من بين النَّاسِ بالرؤية، فإذا شهد معه آخر: غلب على الظن صدقهما، وإن كان في سفرٍ فقدم (4)، قبل قوله وحده، لظاهر الحديث؛ ولأنَّه قد يكون في السفر هو (5) وحده، أو يتشاغل رفقته عن رؤيته، فيراه هو (6).
وقال أبو حنيفة (7): إن كان في السَّماءِ علَّة أو غيم أو غبار أو نحو ذلك، ممَّا يمنع الرؤية قبل (8) شهادة الواحد العدل، والحر والعبد والذكر والأنثى في ذلك سواء، وتقبل فيه شهادة المحدود في القذف إذا تابَ، ولا يشترط فيه (9) لفظ الشهادة.
__________
(1) “الواحد” ساقطة من “هـ”.
(2) “كالإخبار” ساقطة من “ب”.
(3) هو عبد العزيز بن جعفر بن أحمد البغدادي أبو بكر المعروف بغلام الخلال. توفي سنة 363 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: سير أعلام النبلاء (16/ 143) طبقات الحنابلة (3/ 213)، المنتظم (14/ 230).
(4) “فقدم” ساقطة من “ب” و”د” و”هـ” و”و”.
(5) “هو” ساقطة من “ب”.
(6) انظر: المغني (4/ 417)، الفروع (3/ 14).
(7) انظر: الأصل لمحمد بن الحسن (2/ 263 و 280)، المبسوط (3/ 139).
(8) وفي “ب”: “قبلت”.
(9) “يشترط فيه” ساقطة من “ب”، و”فيه” ساقطة من “ب” و”د” و”هـ” و”و”.

(1/335)


قال: وإن لم تكن في السَّماءِ علَّة لم تقبل إلَّا شهادة جمع (1) يقع العلم بخبرهم، وهو مفوض إلى رأي الإمام من غير تقدير؛ لأنَّ المطالع متحدة، والموانع مرتفعة، والأبصار صحيحة، والدواعي على طلب الرؤية متوفرة، فلا يجوز أن يختص بالرؤية النفر القليل.
وعن أبي حنيفة رواية أُخرى: أنَّه تكفي (2) شهادة الاثنين (3).
قالوا: ولو جاء رجل من خارج المصر وشهد به قُبِل، وكذا إذا كان على مرتفع في البلد كالمنارة ونحوها؛ لأنَّ (4) الرؤية تختلف باختلافِ صفاء الجو وكدره، وباختلاف ارتفاع المكان وهبوطه.
والصحيح قبول شهادة الواحد مطلقًا، كما دلَّ عليه حديثا (5) ابن عمر (6) وابن عباس (7) – رضي اللهُ عنهما -.
ولا ريبَ أنَّ الرؤية كما تختلف بأسباب خارجة عن الرَّائي، فإنَّها تختلف بأسباب من الرَّائين، كحدة البصر وكلاله، وقد شاهد النَّاس الجمع العظيم (8) يتراءون الهلال، فيراه الآحاد منهم، وأكثرهم لا
__________
(1) وفي “ب”: “لم تقبل الشهادة إلا من جمع”، وفي “د” و”هـ” و”و”: “لم تقبل إلا بشهادة جمع”.
(2) في “أ”: “يكفي فيه”.
(3) انظر: المبسوط (3/ 140).
(4) في “ب”: “إذ”.
(5) وفي “أ”: و”ب” و”هـ” و”و”: “حديث”.
(6) تقدم تخريجه أول الفصل.
(7) تقدم تخريجه أول الفصل.
(8) في “أ”: “جدًّا”.

(1/336)


يرونه، ولا يبعد (1) انفراد الواحد بالرؤية من بين النَّاس، وقد كان الصحابة في طريق الحج، فتراءوا هلال ذي الحجة، فرآه ابن عباس ولم يره عمر، فجعل يقول “ألا (2) تراه يا أمير المؤمنين، فقال: سأراه وأنا مستلق على فراشي” (3).

فصل

ومنها: ما يختص بمعرفته أهل الخبرة والطب، كالموضحة وشبهها، وداء الحيوان الَّذي لا يعرفه إلَّا البيطار، فتقبل في ذلك شهادة طبيب واحد وبيطار واحد إذا لم يوجد غيره، نص عليه أحمد (4).
وإن أمكن شهادة اثنين، فقال أصحابنا (5): لا يكتفى فيه بدونهما، أخذًا من مفهوم كلامه، ويتخرج قبول الواحد، كما يقبل قول القاسم (6) والقائف وحده.
__________
(1) وفي “ب” و”و”: “فلا يعد في”.
(2) وفي “أ”: “أما”.
(3) رواه مسلم رقم (2873).
(4) انظر: المغني (14/ 273)، المقنع لابن البنا (4/ 1319)، المحرر (2/ 324)، الرعاية الصغرى (2/ 399)، شرح الزركشي (7/ 396)، معونة أولي النهى (9/ 424)، غاية المنتهى (3/ 507)، شرح منتهى الإرادات (3/ 601)، هداية الراغب (565)، دليل الطالب (286)، كشف المخدرات (2/ 262)، منار السبيل (2/ 496)، الإرشاد (506).
(5) انظر المراجع السابقة.
(6) القاسم: هو الذي يفرق المال بين الشركاء ويعين أنصباءهم. أنيس الفقهاء (152 و 272).

(1/337)


فصل
ومنها: ما لا يطلع عليه الرجال غالبًا من الولادة والرضاع والعيوب تحت الثياب، والحيض والعدة، فتقبل فيه شهادة امرأة واحدة مع العدالة (1).
والأصل فيه: حديث عقبة بن عامر (2) قال: “تزوجت امرأة، فجاءت أمة سوداء، فقالت: فقد أرضعتكما، فسألت النبي – صلى الله عليه وسلم – عن ذلك؟ فقال: دَعْهَا عَنْكَ” (3).
وفي هذا الحديث من الأحكام: قبول شهادة العبد، وقبول شهادة المرأة وحدها، وقبول شهادة الرجل على فعل (4) نفسه، كالقاسم والخارص (5)، والحاكم على حكمه (6) بعد عزله (7).
__________
(1) انظر: المغني (14/ 134)، المحرر (2/ 327)، شرح الزركشي (7/ 314)، الفروع (6/ 593)، التسهيل (202)، العدة (702)، رؤوس المسائل الخلافية (6/ 994 و 996)، قواعد ابن رجب (3/ 15)، معونة أولي النهى (9/ 425)، الممتع شرح المقنع (6/ 365)، المبدع (10/ 260)، الإنصاف (30/ 31)، الشرح الكبير (30/ 31)، شرح منتهى الإرادات (3/ 602)، الروض المربع (724).
(2) في “و”: “عامر”، ومصححه إلى “الحارث”.
(3) تقدم تخريجه.
(4) “فعل” ساقطة من “ب”.
(5) خرص النخلة: حزر أي قدَّر ما عليها من التمر. القاموس المحيط (795)، طلبة الطلبة (273)، أنيس الفقهاء (212).
(6) “على حكمه” ساقطة من “ب”.
(7) انظر: معالم السنن (5/ 220)، النكت والفوائد (2/ 269).

(1/338)


وعن أحمد رواية أُخرى: لا تقبل فيه إلَّا شهادة امرأتين؛ لأنَّ الله سبحانه أقامهما في الشهادة مقام شاهدٍ واحد، وهو أقل نصاب في الشهادة (1).
وقال الشافعي (2) ومالك (3): لا يقبل أقل (4) من أربع نسوة؛ لأنَّهنَّ كرجلين، والله تعالى أمرَ باستشهادِ رجلين، فإن لم يكونا رجلين (5) فرجلٌ وامرأتان، فعلم أنَّ المرأتين مقام الشاهد الواحد.

وقد احتج الإمام (6) أحمد: أنَّ عليًّا – رضي الله عنه – أجاز شهادة القابلة في الاستهلال (7).
__________
(1) انظر: المراجع المذكورة سابقًا.
(2) انظر: الأم (7/ 88)، الحاوي (17/ 21)، روضة الطالبين (8/ 227)، معرفة السنن والآثار (14/ 260)، اختلاف العلماء للمروزي (287)، المسائل الفقهية لابن كثير (205)، حلية العلماء (8/ 278)، التهذيب (6/ 313)، المهذب (1/ 180)، جواهو العقود (2/ 164).
(3) نسبة هذا القول للإمام مالك رحمه الله فيها نظر، فمذهبه اكتفاء بامرأتين. انظر: المدونة (5/ 158)، التفريع (2/ 238)، الذخيرة (10/ 248)، الكافي (469)، المنتقى (5/ 220)، منتخب الأحكام (1/ 154)، البيان والتحصيل (10/ 125)، وقد سبق أنَّ نصَّ ابن القيم على المذهب الصحيح للإمام مالك وسيذكره كذلك فيما يأتي.
(4) وفي “ب” و”د”: “إلَّا”.
(5) “رجلين” ساقطة من “أ”.
(6) في “أ”: “للإمام”.
(7) تقدم تخريجه.

(1/339)


قال الشافعي: لو ثبتَ عن علي صرنا إليه (1)، وقال إسحاق بن راهويه: لو صحت شهادتها لقلنا به (2).
ولا يعرف اشتراط الأربعة عن أحدٍ قبل عطاء (3)، فإنَّ ابن جريج روى عنه: “لا يجوز في الاستهلال إلَّا أربع نسوة” ذكره البيهقي (4).
وقد روي مرفوعًا من حديث حذيفة، رواه الدَّارقطني من حديث محمد بن عبد الملك الواسطي (5) عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة: “أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – أجاز شهادة القابلة” (6). قال الدَّارقطني (7): محمد بن عبد الملك الواسطي لم يسمعه من الأعمش، بينهما رجلٌ مجهول وهو أبو (8) عبد الرحمن المدائني (9).
__________
(1) الأم (6/ 350)، سنن البيهقي (10/ 255)، معرفة السنن (14/ 261)، تاريخ ابن عساكر (51/ 287).
(2) انظر: سنن البيهقي (10/ 255)، معرفة السنن (14/ 262).
(3) في “د”: “الشافعي”.
(4) في السنن (10/ 254)، والشافعي في الأم (7/ 88)، وسحنون في المدونة (5/ 158)، وعبد الرزاق (7/ 483).
(5) محمد بن عبد الملك الواسطي الكبير أبو إسماعيل ذكره ابن حبان في الثقات. وقال: يعتبر بحديثه إذا بين السماع في روايته فإنَّه كان مدلسًا يخطئُ. وقال الحافظ ابن حجر: مقبول. انظر: الثقات (9/ 49)، تهذيب الكمال (26/ 26)، تقريب التهذيب (494).
(6) تقدم تخريجه.
(7) السنن (4/ 232)، وكذا قال البيهقي. السنن (10/ 154).
(8) في “هـ”: “ابن”.
(9) تقدم الكلام عنه.

(1/340)


قال ابن الجوزي (1): وقد روى أصحابنا من حديث ابن عمر – رضي اللهُ عنهما -: أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “يجزئُ في الرضاع شهادة امرأة” (2).

قلت: وهذا لا يعرف إسناده، وقد أجاز النبي- صلى الله عليه وسلم – شهادة خزيمة بن ثابت وحده، وجعلها بشهادتين (3)، وقد احتج به أبو داود على قبول شهادة الرجل وحده، إذا علم الحاكم صدقه (4)، كما سنذكره.
قال البخاري في صحيحه (5): حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام بن يوسف أنَّ ابن جريج أخبرهم قال: أخبرني عبد الله بن عبيد الله (6)
__________
(1) التحقيق (2/ 390).
(2) رواه عبد الرزاق (7/ 484) عن شيخ من أهل نجران بسنده عن ابن عمر، ورواه أحمد (8/ 139 – طبعة شاكر) رقم (5875) ورقم (4911) ورقم (4912)، والبيهقي (7/ 764)، وقال: “هذا إسنادٌ ضعيف، لا تقوم بمثله حجة محمد بن عثيم يرمى بالكذب وابن البيلماني ضعيف، وقد اختلف عليه بمتنه فقيل: هكذا، وقيل: رجل وامرأة، وقيل: رجل وامرأتان، والله أعلم” ا. هـ. والَّذي أبهمه عبد الرزاق بقوله “عن شيخ من نجران” هو محمد بن عثيم كما أفاده الحافظ ابن حجر في تعجيل المنفعة (419)، وضعف الحديث ابن عبد الهادي في التنقيح (3/ 547).
(3) تقدم تخريجه.
(4) سنن أبي داود (10/ 25) “مع عون المعبود”.
(5) في كتاب الهبة باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته (4/ 280) رقم (2624).
(6) في “أ” و”ب”: “عبد الله”.

(1/341)


ابن أبي مليكة: “أنَّ بني (1) صهيب (2) مولى ابن جدعان ادعوا بيتين وحجرة أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أعطى ذلك صهيبًا، فقال مروان: من يشهد لكما على ذلك؟ قالوا: ابن عمر، فدعاهُ فشهد لأعطى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – صهيبًا بيتين وحجرة، فقضى مروان بشهادته”. وهذا غير مختص به، فالَّذي شهد به خزيمة يشهد به كل مؤمنٍ بأنَّه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وإنّما بيَّنه خزيمة دون الصحابة؛ لدخول هذا الفردِ من أخباره – صلى الله عليه وسلم – في جملة أخباره، وأنَّه يجب تصديقه فيه، والشهادة بأنَّه كما أخبر به، كما يجب تصديقه في سائر أخبارهِ (3).
وقد أجاز رسول الله – صلى الله عليه وسلم – شهادة الشاهد الواحد من غير يمين، كما جاء (4) في الصحيحين (5) من حديث أبي قتادة، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم حنين (6): “مَنْ قَتَلَ قَتِيْلًا لَهُ عَلَيْهِ بَينَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ، فَقُمْتُ، فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمَّ جَلَسْتُ (7) ثُمَّ قُلتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ فقالَ: مَا لَكَ يَا أَبَا
__________
(1) في “هـ”: “ابني”.
(2) لصهيب رضي الله عنه من الولد ممَّن روى عنه حمزة وسعد وصالح وصيفي وعباد وعثمان ومحمد وحبيب، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “يحمل أنَّ المتولي للدعوى بذلك منهم كانا اثنين ورضي الباقون بذلك فنسب إليهم تارة بصيغة الجمع وتارة بصيغة التثنية” ا. هـ. فتح الباري (4/ 281).
(3) “سائر أخباره” ساقطة من “ب”.
(4) “جاء” ساقطة من “د” و”هـ”.
(5) تقدم تخريجه.
(6) في “د” و”هـ”: “خيبر” وهو خطأ.
(7) “ثمَّ جلست” ساقطة من “أ”.

(1/342)


قَتَادَة؟ فَذَكَرْتُ أَمْرَ القَتِيْلِ لِرَسُوْلِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: صَدَقَ يَا رَسُوْلَ اللهِ، سَلَبُهُ عِنْدِي، فَأَرْضِهِ منه، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: لاها الله لَا يُعْطِيْهِ أضيبع (1) قُرَيشٍ، ويَدَعُ أَسَدًا مِنْ أُسْدِ اللهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللهِ وَرَسُولهِ، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: صَدَقَ، أعْطِهِ إِيَّاهُ، فَأدَّاهُ إِليَّ”.
وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال في المذهب (2):
أحدها: أنَّه (3) لا بُدَّ من شاهدين (4).
والثاني: يكفي شاهدٌ (5) ويمين (6).
والثالث (7): يكفي شاهد واحد، وهو الأصح في الدليل (8)، لهذا الحديث الصحيح الَّذي لا معارض له ولا (9) وجه للعدول عنه.
__________
(1) في “أ”: “أصيبغ”. انظر: فتح الباري (7/ 637).
(2) انظر: المحرر (2/ 319)، النكت والفوائد (2/ 320)، زاد المعاد (3/ 492)، إعلام الموقعين (1/ 143).
(3) “أنَّه” ساقطة من “ب”.
(4) قال ابن القيم: “وهو منصوص الإمام أحمد لأنَّها دعوى قتل فلا تقبل إلَّا بشاهدين” ا. هـ. زاد المعاد (3/ 492).
(5) في “د” و”و”: “شاهد واحد”.
(6) قال ابن القيم: “كإحدى الروايتين عن أحمد” ا. هـ. زاد المعاد (3/ 492).
(7) “يكفي شاهد ويمين والثالث” ساقط من “ب”.
(8) قال ابن القيم: “وهو وجه في مذهب أحمد” ا. هـ. زاد المعاد (3/ 492). ونسبه ابن عطية لأكثر الفقهاء. المحرر الوجيز (2/ 499). وانظر: تفسير القرطبي (8/ 8)، شرح العمدة لابن الملقن (10/ 316)، فتح الباري (6/ 287).
(9) في “د” و”هـ”: “فلا”.

(1/343)


وقال أبو داود في سننه (1): “باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم به” ثمَّ ذكر حديث خزيمة بن ثابت (2).
قال الشافعي (3): وذكر عمران بن حدير عن أبي مجلز قال: “قضى زرارة بن أوفى (4) – رحمه الله – بشهادتي وحدي” (5).
وقال (6) شعبة عن (7) أبي قيس (8) وعن أبي إسحاق (9): “أنَّ شريحًا أجاز شهادة كل واحد منهما وحده” (10).
وقال الأعمش عن أبي إسحاق: “أجاز شريح شهادتي وحدي” (11).
__________
(1) (10/ 25) مع عون المعبود.
(2) تقدم تخريجه.
(3) الأم (6/ 357)، وانظر: سنن البيهقي (10/ 393)، معرفة السنن والآثار (14/ 295).
(4) في “هـ”: “زرارة بن أبي أوفى”.
(5) رواه عبد الرزاق (8/ 337)، وابن أبي شيبة (4/ 539).
(6) الأم (6/ 357)، معرفة السنن (14/ 295).
(7) في “و”: “شعبة بن أبي قيس”.
(8) هو عبد الرحمن بن ثروان أبو قيس الأودي الكوفي وثَّقه ابن معين والعجلي ولينه أبو حاتم توفي سنة 120 هـ رحمه الله تعالى. انظر: تهذيب الكمال (17/ 20)، الجرح والتعديل (2/ 218)، ميزان الاعتدال (7/ 266).
(9) السبيعي.
(10) رواه الشافعي في الأم (6/ 357)، والبيهقي (10/ 293)، وفي المعرفة (14/ 295).
(11) رواه أبي شيبة (4/ 539)، وعبد الرزاق (8/ 337)، ووكيع في أخبار =

(1/344)


وقال أبو قيس: “شهدتُ عند شريح على مصحف (1)، فأجاز شهادتي وحدي” (2).

فصل
ومنها: قبول شهادة الشاهد الواحد بغير يمين، في الترجمة، والتعريف، والرسالة، والجرح والتعديل. نص عليه أحمد في إحدى الروايتين (3)، وترجم عليه البخاري في صحيحه (4) فقال: “باب ترجمة الحكام، وهل يجوز ترجمان واحد؟ ” قال خارجة بن زيد عن زيد بن ثابت: “أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – أمرهُ أن يتعلم كتابة اليهود، حتَّى كتبت للنَّبي – صلى الله عليه وسلم – كتبه وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه” (5)، وقال عمر – وعنده علي وعثمان
__________
= القضاة (2/ 271 و 275)، والبيهقي (10/ 293).
(1) في “أ”: “مضجعة”.
(2) “قال أبو قيس شهدت عند شريح على مصحف فأجاز شهادتي وحدي” ساقطة من “د” و”و”. وفي “ب”: “وقال شعبة” هكذا! والأثر رواه البيهقي في السنن (10/ 294).
(3) انظر: المغني (14/ 47 و 85)، وإعلام الموقعين (1/ 143)، بدائع الفوائد (1/ 6)، الهداية (2/ 130).
(4) (13/ 197).
(5) وصله مطوَّلًا البخاري في كتاب التاريخ الكبير (3/ 380) وأحمد (5/ 186)، وأبو داود (523) رقم (3645)، والترمذي (4/ 439) رقم (2715)، والطحاوي في شرح المشكل (2039)، والطبراني في الكبير (5/ 133) (4856)، والحاكم (1/ 75)، قال الترمذي: “حسن صحيح”، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وقد أفاض الحافظ ابن حجر في تخريجه. انظر: تغليق التعليق (5/ 306).

(1/345)


وعبد الرحمن بن عوف (1) – “ماذا تقول هذه؟ فقال عبد الرحمن بن حاطب: تخبرك بصاحبها الَّذي صنع بها” (2).
وقال أبو جمرة (3): “كنتُ أترجم بين يدي ابن عباس وبين النَّاس” (4)
فقال بعض النَّاس: “لا بُدَّ للحاكم من مترجمين” (5).
قلت: هذا قول مالك (6) والشافعي (7)، واختيار الخرقي (8)، والاكتفاء بواحد قول أبي حنيفة (9)، وهو الصحيح لما تقدم، وهو اختيار أبي بكر (10).
__________
(1) “بن عوف” ساقطة من “ب” و”د” و”هـ” و”و”.
(2) وصله عبد الرزاق وسعيد بن منصور كما في فتح الباري (13/ 199)، ولم أجده في المطبوع.
(3) وفي باقي النسخ عدا “ب”: “أبو حمزة”، والصواب ما جاء في “ب”: “أبو جمرة”، وهو نصر بن عمران بن نوح الضُبعي البصري أحد الأئمة الثقات، وثَّقه ابن سعد توفي سنة 127 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: طبقات ابن سعد (7/ 176)، سير أعلام النبلاء (5/ 243).
(4) وصله البخاري رقم (87) (1/ 221).
(5) انتهى كلام البخاري رحمه الله تعالى.
(6) انظر: المنتقى (5/ 213)، تبصرة الحكام (1/ 357).
(7) انظر: الحاوي (16/ 176)، فتح الباري (13/ 198).
(8) مختصر الخرقي مع المغني (14/ 84).
(9) انظر: شرح أدب القاضي للصدر الشهيد (3/ 88).
(10) أبو بكر عبد العزيز. انظر: المغني (14/ 84).

(1/346)


فصل

الطريق السَّابع: الحكم بالشَّاهد واليمين.
وهو مذهب فقهاء الحديث كلهم، ومذهب فقهاء الأمصار (1)، ما خلا أبا حنيفة (2) وأصحابه (3). وقد روى مسلم في صحيحه (4) من حديث عمرو بن دينار، عن ابن عباس – رضي اللهُ عنهما -: “أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِيْنٍ”، قال عمرو: في الأموال (5)، وقال الشافعي: حديث ابن عباس ثابتٌ (6) ومعه ما يشده (7).
__________
(1) انظر: المنتقى (5/ 208)، التمهيد (2/ 138)، تفسير القرطبي (3/ 394)، الفروق (4/ 87)، الذخيرة (11/ 51)، تبصرة الحكام (1/ 325)، الأم (7/ 7) و (6/ 355)، شرح السنة (10/ 104)، التهذيب (8/ 231)، الحاوي (17/ 68)، مغني المحتاج (4/ 443)، فتح الباري (5/ 332)، الهداية (2/ 153)، المغني (14/ 130)، رؤوس المسائل الخلافية (6/ 115)، المبدع (10/ 277)، الفروع (6/ 600)، الشرح الكبير (30/ 84)، الجامع الصغير (371)، المحرر (2/ 351)، تهذيب السنن (5/ 225)، المحلَّى (9/ 403)، نيل الأوطار (8/ 325).
(2) في “ب”: “ما خلا مذهب أبي حنيفة”.
(3) انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 623)، مختصر اختلاف العلماء (3/ 342)، رؤوس المسائل (535)، عقود الجواهر المنيفة (2/ 69)، بدائع الصنائع (6/ 225).
(4) في الأقضية: باب القضاء بالشاهد واليمين (1712) (11/ 244). و”في صحيحه” ساقطة من “أ”.
(5) رواه البيهقي (10/ 281) رقم (10635)، وابن عبد البر في التمهيد (2/ 139).
(6) “ثابت” ساقطة من “ب” و”هـ” و”و”.
(7) انظر: سنن البيهقي (10/ 281)، التلخيص الحبير (4/ 377).

(1/347)


قال ابن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: قال لي محمد بن الحسن: لو علمت أنَّ سيف بن سليمان يروي حديث اليمين مع الشَّاهد لأفسدته، فقلت: يا أبا عبد الله، وإذا أفسدته فسد؟ قال علي بن المديني: سألت يحيى بن سعيد عن سيف بن سليمان؟ فقال (1): هو عندنا ممَّن يصدق ويحفظ، كان ثبتًا (2).
قُلت: هو رواه (3) عن قيس بن سعد (4) عن عمرو بن دينار، وقد رواه أبو داود من حديث عبد الرزاق أخبرنا محمد بن مسلم عن عمرو (5).
وقال الشافعي (6): أخبرنا إبراهيم بن محمد (7)، عن ربيعة بن عثمان، عن معاذ بن عبد الرحمن، عن ابن عباس (8)، وآخر له صحبة:
__________
(1) “فقال” ساقطة من “أ” و”ب” و”د” و”هـ”.
(2) وفي “ب”: “تقيًّا”.
انظر: السنن للبيهقي (10/ 282)، وابن الجارود (1006)، التمهيد (2/ 138)، تهذيب السنن (5/ 227)، معرفة السنن والآثار (14/ 286)، حلية الأولياء (9/ 108)، إرشاد الفقيه (2/ 421)، الكامل لابن عدي (4/ 509).
(3) في “أ” و”ب” و”د” و”هـ”: “رواية”.
(4) في “ب” و”هـ”: “سعيد”.
(5) رواه أبو داود رقم (3609) ص (519)، والبيهقي (10/ 283).
(6) الأم (6/ 355) و (7/ 143)، مسند الشافعي (149)، اختلاف الحديث (280)، وحديث ابن عباس سبق تخريجه وأنَّه في مسلم.
(7) إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي أبو إسحاق، قال النسائي: متروك، وقال الذهبي: لا يرتاب في ضعفه. توفي سنة 184 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: سير أعلام النبلاء (8/ 450)، تهذيب الكمال (2/ 184).
(8) “ابن عباس” ساقطة من “ب” و”د” و”هـ” و”و”.

(1/348)


“أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قَضَى بِاليَمِين مَعَ الشَّاهِدِ” (1).
وعن أبي هريرة – رضي اللهُ عنه -: “أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – قَضَى بِاليمين مَعَ الشَّاهِدِ” (2). رواه الترمذي وابن ماجه وأبو داود والشافعي، وقال الترمذي: حسنٌ غريب.
وقد روي القضاء بالشاهد مع اليمين من رواية عمر بن الخطاب (3) وعلي بن أبي طالب (4)، وعبد الله بن عمر (5)، وعبد الله بن عباس (6)، وسعد بن عبادة (7)، والمغيرة بن شعبة (8)، وجابر بن عبد الله (9)، والزبيب (10) بن ثعلبة (11)، وجماعةٌ من الصحابة – رضي الله عنهم -.
قال أبو بكر الخطيب في مصنف أفرده لهذه المسألة (12): روى
__________
(1) تقدم تخريجه ص (169).
(2) تقدم تخريجه ص (169).
(3) تقدم تخريجه ص (172).
(4) تقدم تخريجه ص (171).
(5) تقدم تخريجه ص (172).
(6) تقدم تخريجه ص (172).
(7) تقدم تخريجه ص (173).
(8) تقدم تخريجه ص (173).
(9) تقدم تخريجه ص (170).
(10) وفي “د” و”هـ” و”و”: “زيد”، وهي ساقطة من “ب”. والصواب: “الزبيب”.
(11) تقدم تخريجه ص (175).
(12) ذكره الذهبي باسم “جزء اليمين مع الشاهد” سير أعلام النبلاء (18/ 291)، وفي تاريخ الإسلام (31/ 98) “صحة العمل باليمين مع الشاهد”. وذكره =

(1/349)


عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: “أنَّه قضى بشاهدٍ ويمين” ابن عباس، وجابر بن عبد الله (1)، وعمارة بن حزم (2)، وسعد بن عبادة (3)، وعلي بن أبي طالب (4)، وأبو هريرة، وسُرَّق (5)، وزيد بن
__________
= ياقوت في معجم الأدباء (4/ 19) باسم “الدلائل والشواهد على صحة العملِ باليمين مع الشاهد” وكذا في كشف الظنون (5/ 67).
(1) تقدم تخريجه ص (. . .).
(2) رواه أبو عوانة (4/ 58) رقم (6024)، والبخاري في التاريخ (3/ 498)، وابن عبد البر (2/ 147)، وابن قانع في معجم الصحابة (2/ 249)، ونسبه لأحمد المجد ابن تيمية في المنتقى (8/ 324) رقم (3912)، وابن القيم في تهذيب السنن (5/ 225)، والشامي في سبل الهدى والرشاد (9/ 217)، وابن حجر في الإصابة (2/ 507)، قال الهيثمي والشامي: “أحمد وجادة والطبراني في الكبير ورجاله ثقات” ا. هـ. مجمع الزوائد (4/ 205)، سبل الهدى والرشاد (9/ 217)، نيل الأوطار (8/ 326)، الإصابة (2/ 507).
(3) تقدم تخريجه ص (173).
(4) تقدم تخريجه ص (171). وحديث أبي هريرة تقدم ص (169).
(5) رواه عنه ابن أبي شيبة (4/ 545) و (6/ 16)، وأبو عوانة (4/ 58)، وابن ماجه (4/ 64) رقم (2371)، والبيهقي (10/ 290)، والطبراني في الكبير (7/ 166) رقم (6717)، وابن عدي (8/ 268)، والبيهقي (10/ 290)، والمزي في تهذيب الكمال (10/ 216) بأسانيدهم من طريق رجل من أهل مصر عن سُرَّق رضي الله عنه. قال الشوكاني: “ورجال إسناده رجال الصحيح لولا هذا المجهول” ا. هـ. نيل الأوطار (8/ 326)، وقال ابن القيم: “حديث سُرَّق رواه ابن ماجه وتفرد به وله علَّة: هي رواية ابن البيلماني عنه” ا. هـ. تهذيب السنن (5/ 230).
سُرَّق – بضم أوله وتشديد الراء – يقال اسم أبيه أسد صحابي جليل نزل مصر وهو جهني ويقال دئلي، ومات بخلافة عثمان – رضي الله عنهما – انظر: الإصابة (2/ 19)، الاستيعاب (2/ 131).

(1/350)


ثابت (1)، وعمر بن الخطاب (2)، وعبد الله بن عمر بن الخطاب (3) , وعبد الله بن عمرو (4)، وأبو سعيد الخدري (5)، وزيد (6) بن ثعلبة (7) , وعامر بن ربيعة (8)، وسهل بن سعد (9) الساعدي، وعمرو بن
__________
(1) رواه أبو عوانة (4/ 57)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 144)، والطبراني في الكبير (5/ 150) رقم (4909)، والبيهقي (10/ 290)، وابن عدي في الكامل (8/ 326)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 326)، وابن عبد البر في التمهيد (2/ 144)، وصححه أبو زرعة وأبو حاتم. العلل لابن أبي حاتم (1/ 469)، تهذيب السنن (5/ 230)، نيل الأوطار (8/ 326) وقال الشامي: “الطبراني بسند جيد عن زيد بن ثابت” ا. هـ. سبل الهدى والرشاد (9/ 217).
(2) “عمر بن الخطاب” ساقطة من “ب”. والأثر تقدم تخريجه ص (175).
(3) “بن الخطاب” ساقطة من “أ” و”هـ” و”و”. والأثر سبق تخريجه ص (172).
(4) “عبد الله بن عمرو” ساقطة من “ب”. والأثر تقدم تخريجه ص (173).
(5) حديث أبي سعيد رواه الطبراني في الأوسط (5/ 393) رقم (4779)، وفي المعجم الصغير (2/ 9) رقم (684)، وقال: “لا يروى عن أبي سعيد إلَّا بهذا الإسناد تفرد به جعفر” ا. هـ. وجعفر هذا هو جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، قال الدارقطني: يضع الحديث. الضعفاء والمتروكون (170).
(6) في جميع النسخ “زيد بن ثعلبة”، والصواب “الزبيب بن ثعلبة”.
(7) تقدم تخريجه ص (175).
(8) رواه الخطيب البغدادي في كتابه “الدلائل والشواهد على صحة العمل باليمين مع الشاهد “. انظر: التحقيق لابن الجوزي (2/ 392)، ونيل الأوطار (8/ 327).
(9) رواه الخطيب في الدلائل والشواهد. قال ابن القيم: “حديث سهل بن سعد رواه أبو بكر بن أبي شيبة، وهو ضعيف عن أبي حازم عن سهل” ا. هـ. تهذيب السنن (5/ 230). وانظر: التحقيق لابن الجوزي (2/ 392)، نيل الأوطار (8/ 327).

(1/351)


حزم (1)، والمغيرة بن شعبة، وبلال بن الحارث (2)، وتميم الدَّاري (3)، ومسلمة (4) بن قيس (5)، وأنس بن مالك (6) – رضي اللهُ
__________
(1) تقدم تخريجه ص (175). وحديث المغيرة تقدم ص (174).
(2) حديث بلال رواه الحاكم (3/ 517)، والطبراني في الكبير (1/ 357) رقم (1139)، وسكت عنه الحاكم والذهبي، وقال الهيثمي والشامي عن إسناد الطبراني: “رجاله ثقات” ا. هـ. مجمع الزوائد (4/ 205)، سبل الهدى والرشاد (9/ 217). وانظر: التحقيق في أحاديث الخلاف (2/ 392)، ونيل الأوطار (8/ 327).
(3) رواه الخطيب في الدلائل والشواهد. كما رواه السهمي في تاريخ جرجان (204) رقم (301)، من طريق محمد بن السائب الكلبي، قال أبو حاتم: “النَّاس مجتمعون على تركه”. انظر: الجرح والتعديل (7/ 271)، وقال ابن معين: “ليس بشيء”. التاريخ (2/ 517).
(4) في “أ” و”ب” و”و”: “سلمة”، وفي “د” و”هـ”: “مسلمة” وهو الصواب.
وهو مسلمة بن قيس الأنصاري، ذكره ابن منده وقال: “عداده في أهل المدينة”. الإصابة (3/ 398).
(5) حديث مسلمة رواه الخطيب في الدلائل والشواهد كما رواه ابن منده من طريق حبيب بن أبي حبيب عن إبراهيم بن الحصين عن أبيه عن جده عن مسلمة بن قيس أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “استشرت جبريل في اليمين مع الشاهد” ا. هـ. الحديث ذكره الحافظ في الإصابة (3/ 398). وانظر: المرقبة العليا (71). وحبيب بن أبي حبيب أبو محمد المصري قال عنه أبو داود: “كان من أكذب النَّاس”. وقال أبو حاتم والنسائي وغيرهما: “متروك الحديث”. الجرح والتعديل (3/ 100)، الضعفاء للنسائي (90).
(6) حديث أنس رواه الخطيب في الدلائل والشواهد. وانظر: التحقيق لابن الجوزي (2/ 392)، نيل الأوطار (8/ 327).
تنبيه: عدَّ جمعٌ من أهلِ العلمِ أحاديث الشاهد واليمين من الأحاديث المتواترة. منهم أبو عبيد كما نقله المؤلف، والسيوطي في الأزهار المتناثرة =

(1/352)


عنهم -، ثمَّ ذكر أحاديثهم بإسناده.
وفي مراسيل مالك (1): عن جعفر بن محمد عن أبيه: “أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قَضَى باليَمِين مَعَ الشَّاهِدِ الوَاحِدِ”. وقضى به علي – رضي اللهُ عنه – بالعراق (2).
قال الشافعي (3) لبعض من يناظره: فقد روى الثقفي عبد الوهاب عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر: “أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – قَضَى بِاليَمِيْنِ مَعَ الشَّاهِدِ الوَاحِدِ” (4).
وكذلك رواه ابن المديني وإسحاق وغيرهما (5) عن الثقفي عن جعفر عن أبيه عن جابر.
ورواه القاضي إسماعيل (6): حدثنا إسماعيل بن أبي أوس (7)،
__________
= (64)، وابن عبد البر في التمهيد (2/ 138)، والاستذكار (22/ 48)، نصب الرَّاية (5/ 145).
(1) سبق تخريجه.
(2) وفي “أ”: “وقضى به على أهل العراق”.
(3) انظر: الأم (1/ 438). ورواه عنه ابن عبد البر في التمهيد (2/ 136)، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 392).
(4) تقدم تخريجه مفصَّلًا ص (170).
(5) البيهقي في المعرفة (14/ 292)، وفي السنن (10/ 286).
(6) هو إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل الأزدي المالكي أبو إسحاق، توفي 282 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 339)، المنتظم (12/ 346)، الديباج المذهب (1/ 282).
(7) هكذا في جميع النسخ: “أوس”، والصواب: “أويس”. وهو إسماعيل بن أبي أويس عبد الله بن عبد الله الأصبحي المدني أبو عبد الله. توفي سنة 226 هـ =

(1/353)


حدثنا سليمان بن بلال، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدِّهِ: “أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قَضَى بِاليَمِيْن مَعَ الشَاهِدِ”. وتابعه عبد العزيز بن سلمة، عن جعفر به، إسنادًا ومتنًا (1).
وقال الشافعي (2): أخبرنا عبد العزيز بن محمد (3) عن ربيعة (4) عن سعيد بن عمرو بن شرحبيل بن (5) سعيد بن سعد بن عبادة عن أبيه عن جدِّه قال: وجدنا في كتاب سعد: “أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قَضَى بِاليَمينِ مَعَ الشَّاهِد” (6).
وقال ابن وهب: أخبرني ابن لهيعة ونافع بن يزيد (7) عن عمارة بن غزية (8) عن سعيد بن عمرو بن شرحبيل أنَّه وجد في كتاب آبائه: “هذا
__________
= – رحمه الله تعالى -. انظر: سير أعلام النبلاء (10/ 391)، الجرح والتعديل (2/ 180)، الديباج المذهب (1/ 281).
(1) تقدم تخريجه ص (170) ضمن حديث جابر – رضي الله عنه -. ورواهما البيهقي (10/ 286)، وابن عبد البر في التمهيد (2/ 232).
(2) الأم (6/ 355).
(3) عبد العزيز بن محمد بن عبيد الجُهني مولاهم الدراوردي أبو محمد، قال الذهبي إنَّ حديثه لا ينحط عن مرتبة الحسن، توفي سنة 187 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: طبقات ابن سعد (5/ 492)، تهذيب الكمال (18/ 187)، سير أعلام النبلاء (8/ 366).
(4) ربيعة الرَّأي.
(5) في “ب”: “عن”.
(6) تقدم تخريجه مفصلًا ص (173).
(7) في جميع النسخ عدا “جـ”: “زيد”. والصواب ما أثبتناه.
(8) “بن غزية” ساقطة من جميع النسخ عدا “أ”.

(1/354)


ما ذكره عمرو بن حزم والمغيرة بن شعبة قالا: “بينا نحن عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دخل رجلان يختصمان مع أحدهما شاهدٌ له على حقِّه، فجعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يمين صاحب الحق مع شاهده، فاقتطع (1) بذلك حقه” (2).
وقال الشافعي (3): أخبرنا إبراهيم بن محمد عن عمرو بن أبي عمرو (4) عن ابن المسيب: “أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قَضَى باليَمينِ مَعَ الشَّاهِدِ”.
قال (5): وأخبرنا الزنجي (6) عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (7) أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – قال في الشهادة: “فإن جاء بشاهدٍ حلف
__________
(1) في “ب”: “فقطع”.
(2) تقدم تخريجه ص (174).
(3) الأم (6/ 355)، مسند الشافعي (149)، ومن طريقه رواه البيهقي (10/ 289)، وفي المعرفة (14/ 293).
(4) في “د”: “عمر”.
(5) أي الشافعي في مسنده (150)، بإسنادهِ عن عمرو بن شعيب عن أبيه وليس فيه عن جده. ورواه الشافعي في الأم (6/ 356)، والبيهقي (10/ 289) من طريق الشافعي عن مسلم بن خالد عن عمرو بن شعيب أنَّ النَّبي – صلى الله عليه وسلم -، والطبراني في الأوسط (1063)، ورواه الدَّارقطني بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (4/ 213). قال ابن القيم: “وحديث عمرو بن شعيب رواه مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج عن عمرو أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قضى باليمين مع الشاهد منقطعًا وهو الصحيح” ا. هـ. تهذيب السنن (5/ 230).
(6) هو مسلم بن خالد بن قرقرة المخزومي القرشي أبو خالد. قال ابن معين وابن عدي: ليس به بأس. وقال البخاري: منكر الحديث. توفي سنة 180 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: تهذيب الكمال (27/ 508)، سير أعلام النبلاء (8/ 176).
(7) “عن أبيه عن جده” ساقطة من جميع النسخ عدا “ب”.

(1/355)


مع شاهده”.
ورواه مطرف بن مازن – ضعيف – حدثنا ابنِ جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (1): “أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – قَضى بِشَاهِدٍ ويَمِين في الحُقوق” (2).
وقال ابن وهب: حدثنا عثمان بن الحكم (3) حدثني زهير (4) بن محمد (5) عن (6) سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن زيد بن ثابت: “أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – قَضى بِشَاهِدٍ ويَمِيْنٍ” (7).
__________
(1) من قوله “عن أبيه عن جده أنَّ النَّبي – صلى الله عليه وسلم -” إلى قوله “حدثنا ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدَّه” ساقط من “هـ”.
(2) تقدم تخريجه مفصَّلًا ص (173) “حديث عبد الله بن عمرو”.
(3) عثمان بن الحكم الجذامي المصري أوَّل من قدم مصر بمسائل مالك بن أنس. توفي سنة 163 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: الجرح والتعديل (6/ 148)، تهذيب الكمال (19/ 352)، الكاشف (2/ 248).
(4) في “و”: “إبراهيم بن محمد”.
(5) هو زهير بن محمد التميمي الخرقي أبو المنذر الحافظ المحدث. وثَّقه أحمد وابن معين في أحد أقوالهم. قال الذهبي: “ما هو بالقوي ولا بالمتقن مع أنَّ أرباب الكتب الستة خرجوا له” ا. هـ. توفي سنة 162 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: الجرح والتعديل (3/ 589)، تهذيب الكمال (9/ 414)، سير أعلام النبلاء (8/ 187).
(6) في “د” و”هـ” و”و”: “بن سهيل”.
(7) كذا في “ب”. وفي “أ” و”د” و”هـ” و”و”: “يمين وشاهد”.
والحديث تقدم تخريجه ص (352)، قال ابن عبد البر: “رواه زهير بن محمد عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن زيد بن ثابت وهو خطأ. والصوابُ عن أبيه عن أبي هريرة”. التمهيد (2/ 144). وقال: “زهير بن =

(1/356)


وروى جويرية بن أسماء عن عبد الله بن يزيد (1) مولى المنبعث عن رجل عن سُرَّق (2) قال: “قضى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بيمين وشاهدٍ”. رواه البيهقي (3).
وروى البيهقي أيضًا من حديث جعفر بن محمد (4) عن أبيه عن علي – رضي الله عنه -: “أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ (5) وعثمان رضي الله عنهم، كَانُوا يَقْضُونَ بِشَهَادَةِ الشَّاهِد الوَاحِدِ (6)، ويَمِينِ المُدَّعي”. قال جعفر: والقضاة يقضون بذلك عندنا اليوم (7).
__________
= محمد عندهم سيء الحفظ كثير الغلط لا يحتج به، وعثمان بن الحكم ليس بالقوي، والصوابُ في حديث سهيل: عن أبيه عن أبي هريرة”. التمهيد (2/ 145)، أمَّا أبو زرعة وأبو حاتم فقد صحَّحا رواية زيد بن ثابت. العلل (1/ 469).
(1) وفي “ب” و”د” و”هـ”: “عبد الله بن زيد”. والصواب ما أثبتناه. انظر: التمهيد (2/ 152) سنن البيهقي (10/ 290).
(2) “مولى المنبعث عن رجل عن سُرَّق” ساقط من “ب” وفيها: “عن ثابت أن النبي – صلى الله عليه وسلم -“.
(3) تقدم تخريجه ص (351).
(4) “محمد” ساقطة من “هـ”.
(5) “وعمر” مثبتة من “هـ” و”و”.
(6) في “ب” و”د” و”هـ”: “يقضون بالشاهد الواحد”.
(7) رواه البيهقي (10/ 291)، والدارقطني (4/ 215). قال في التعليق المغني (4/ 215): “إسناده منقطع”. وذكر ابن عبد البر في التمهيد (2/ 153) أن الأسانيد عن الصحابة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ضعيفة. وضعف الرواية عن أبي بكر وعمر وعثمان البيهقي (10/ 291) أما الرواية عن علي رضي الله عنه فذكر أنها مشهورة.

(1/357)


وذكر أبو الزناد (1) عن عبد الله بن عامر (2): “حضرت أبا بكر وعمر وعثمان يقضون بشهادة الشاهد واليمين” (3).
وقال الزنجي: حدثنا جعفر بن محمد قال: سمعتُ الحكم بن عتيبة (4) يسأل أبي – وقد وضع يده على جدار القبر ليقوم (5) – أقضى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – باليمين مع الشَّاهد؟ قال: “نعم، وقضى به علي بين أظهركم” (6).
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله بالكوفة: “اقض بالشَّاهد مع
__________
(1) عبد الله بن ذكوان القرشي أبو عبد الرحمن أبو الزناد توفي سنة 131 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: الجرح والتعديل (5/ 49) تهذيب الكمال (14/ 476).
(2) عبد الله بن عامر بن ربيعة العنزي أبو محمد ولد في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – عام الحديبية. ذكره الترمذي في الصحابة وقال: رأى النَّبي – صلى الله عليه وسلم – وما سمع منه حرفًا. توفي سنة 85 هـ – رضي الله عنه وأرضاه -. انظر: تهذيب الكمال (15/ 140)، سير أعلام النبلاء (3/ 521)، الإصابة (2/ 321).
(3) رواه البيهقي (10/ 291)، والدارقطني (4/ 215). قال البيهقي: “الرواية فيه عن أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ضعيفة” ا. هـ. قال في التعليق المغني (4/ 215): “في إسناده أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة القرشي العامري رماه أحمد وابن عدي بالوضع” ا. هـ.
(4) في “أ”: “عيينة”، والصواب ما أثبتناه: “الحكم بن عتيبة”. انظر: سنن البيهقي (10/ 291)، التمهيد (2/ 135)، الاستذكار (22/ 47)، المطالب العالية (2/ 418)، تقريب التهذيب (175)، وقد ورد الخطأ في مسند الشافعي (150).
(5) “القبر ليقوم” ساقطة من “ب”.
(6) رواه الشافعي في الأم (6/ 356)، وفي مسنده (150)، والبيهقي (10/ 291)، وفي معرفة السنن (14/ 292).

(1/358)


اليمين فإنَّها السنة” رواه الشَّافعي (1).
قال الشَّافعي (2): واليمين مع الشَّاهد لا تخالف من ظاهر القرآن شيئًا؛ لأنَّا نحكم بشاهدين، وشاهد وامرأتين، فإذا كان شاهد حكمنا بشاهدٍ ويمين، وليس ذا يخالف القرآن (3)؛ لأنَّه لم يحرم أن يجوز أقل (4) ممَّا نصَّ عليه في كتابه، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – أعلم بما (5) أراد الله، وقد أمرنا الله أن نأخذ ما آتانا (6).
قلت: وليس في القرآن ما يقتضي أنَّه لا يحكم إلَّا بشاهدين، أو شاهدٍ وامرأتين؛ فإنَّ الله سبحانه إنَّما أمر بذلك أصحاب الحقوق أن يحفظوا حقوقهم بهذا النصاب، ولم يأمر بذلك الحكام أن يحكموا به، فضلًا عن أن يكون قد أمرهم ألَّا يقضوا إلَّا بذلك، ولهذا يحكم الحاكم بالنكول واليمين المردودة، والمرأة الواحدة، والنساء المنفردات لا رجل معهنَّ، وبمعاقد القمط (7)، ووجوه
__________
(1) في الأم (6/ 356)، ورواه مالك (22/ 55) مع الاستذكار، وابن أبي شيبة (7/ 305) و (4/ 545)، والنسائي في الكبرى (3/ 490)، والبيهقي (10/ 292)، وفي المعرفة (14/ 293).
(2) الأم (7/ 39). وانظر: سنن البيهقي (10/ 295).
(3) انتهى كلام الشافعي من الأم (7/ 39).
(4) في “ب”: “أولى”.
(5) هكذا في “و”، وفي النسخ: “بمعنى ما”.
(6) انتهى كلام الشافعي كما نقله البيهقي في السنن (10/ 295)، والزيلعي في نصب الراية (5/ 145) مع الهداية.
(7) تقدم بيانه ص (5).

(1/359)


الآجر (1)، وغير ذلك من طرق الحكم التي لم تذكر في القرآن (2)، فإن كان الحكم بالشَّاهد واليمين مخالفًا لكتاب الله، فهذه أشد مخالفة لكتاب الله منه، وإن لم تكن هذه الأشياء مخالفة (3) للقرآن، فالحكمُ بالشاهد واليمين أولى ألَّا يكون مخالفًا للقرآن، فطرق الحكم شيء، وطرق حفظ الحقوق شيءٌ آخر (4)، وليس بينهما تلازم، فتحفظ الحقوق بما لا يحكم به الحاكم ممَّا يعلم صاحب الحق أنَّه يُحفظ به، ويحكم الحاكم بما لا يحفظ به صاحب الحق حقه، ولا خطر على باله من نكول ورد يمين وغير ذلك، والقضاء بالشاهد واليمين، ممَّا أراه الله تعالى لنبيه – صلى الله عليه وسلم -؛ فإنَّه سبحانه قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]، وقد حكم بالشاهد واليمين وهو ممَّا أراه الله إيَّاهُ قطعًا.
ومن العجائب: ردُّ الشاهد واليمين، والحكم بمجرد النكول الَّذي
__________
(1) تقدم بيانه، وانظر: المطلع (404)، المبدع (10/ 149)، الشرح الكبير (29/ 133)، الإنصاف (29/ 131)، الفروق (4/ 103)، تبصرة الحكام (2/ 123)، الرسالة لأبي زيد القيرواني (248)، تهذيب الفروق (4/ 167)، فصول الأحكام (324)، تاريخ دمشق (51/ 292)، المبسوط (17/ 90)، بدائع الصنائع (6/ 258).
(2) انظر: الأم (7/ 143)، التمهيد (2/ 156)، شرح الزرقاني (3/ 492)، تفسير القرطبي (3/ 392)، اختلاف الحديث (1/ 58)، إعلام الموقعين (1/ 137 و 147).
(3) “لكتاب الله منه وإن لم تكن هذه الأشياء مخالفة” ساقطة من “أ”.
(4) “وطرق حفظ الحقوق شيء آخر” ساقطة من “ب”، و”آخر” ساقطة من “هـ” و”و”.

(1/360)


هو سكوت، ولا ينسب إلى ساكتٍ قول (1)، والحكم لمدعي الحائط إذا كانت إليه الدواخل والخوارج وهو الصحاح من الآجر، أو إليه معاقد القمط في الخص، كما يقوله أبو يوسف (2): فأين هذا من الشاهد (3) العدل المبرز في العدالة، الَّذي يكاد يحصل العلم بشهادته، إذا انضاف إليها يمين المدعي؟ وأين الحكم بلحوق النسب بمجرد العقد، وإن علمنا قطعًا أن الرجل لم يصل إلى المرأة، من الحكم بالشاهد واليمين؟ وأين الحكم بشهادة مجهولين لا يعرف حالهما، من الحكم بشهادة العدل المبرز (4) الثقة، مع يمين الطالب؟ وأين الحكم لمدعي الحائط بينه وبين جاره، تكون عليه ثلاثة جذوع فصاعدًا له (5) من الحكم بالشاهد واليمين؟ ومعلومٌ أنَّ الشاهد العدل (6) واليمين أقوى في الدلالة والبينة من ثلاثة (7) جذوع على الحائط الَّذي ادعاه، فإذا أقام جاره شاهدًا، وحلف معه كان ذلك أقوى من شهادة الجذوع.
وهذا شأن كل من خالف سنَّةً صحيحة لا معارض لها، لا بُدَّ أن
__________
(1) انظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم (154)، وللسيوطي (97).
(2) انظر: المبسوط (17/ 90)، بدائع الصنائع (6/ 258)، الفتاوى الهندية (4/ 99)، معين الحكام (129).
(3) في “د”: “الشاهد الواحد”.
(4) من قوله “في العدالة الذي يكاد يحصل” إلى نهاية قوله “من الحكم بشهادة العدل المبرز” ساقط من “و”.
(5) “فصاعدًا له” ساقطة من “هـ”.
(6) “العدل” مثبتة من “هـ” و”و”.
(7) من قوله “ثلاثة جذوع فصاعدًا” إلى قوله “ثلاثة جذوع” ساقط من “ب”.

(1/361)


يقول أقوالًا يعلم أنَّ القول بتلك السنَّة أقوى منها بكثير.
وقد نُسِبَ إلى البخاري إنكارُ الحكم بشاهدٍ ويمين، فإنَّه قال في “باب يمين المدعى عليه” (1) من كتاب الشهادات: “قال قتيبة (2): حدثنا سفيان (3) عن ابن شبرمة (4) قال: كلمني أبو الزناد في شهادة الشَّاهدِ ويمين المدعي، فقلت: قال الله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282].
قلت: إذا كان يكتفى بشهادة شاهدٍ ويمين المدعي فما يحتاج أن تذكر إحداهما الأُخرى (5)، ما كان يصنع بذكر هذه الأخرى؟ “. فترجمة الباب بأنَّ اليمين من جهة المدعى عليه، وذكر هذه المناظرة، وعدم رواية حديث أو أثر في الشَّاهدِ واليمين، ظاهرٌ في أنَّه لا يذهب إليه، وهذا ليس بصريح أنَّه مذهبه، ولو صرح به فالحجة فيما يرويه لا فيما يراه.
__________
(1) صحيح البخاري (5/ 331) مع شرحه فتح الباري.
(2) قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف الثقفي شيخ الإسلام. توفي سنة 240 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: تهذيب الكمال (23/ 523)، سير أعلام النبلاء (11/ 13).
(3) هو سفيان بن عيينة.
(4) هو عبد الله بن شبرمة. أبو شبرمة توفي سنة 144 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: سير أعلام النبلاء (6/ 347)، تقريب التهذيب (307).
(5) “قلت إذا كان” إلى “إحداهما الأخرى” ساقط من “ب” و”د” و”هـ” و”و”.

(1/362)


قال الإسماعيلي – عند ذكر هذه الحكاية -: ليس فيما ذكره ابن شبرمة معنى، فإنَّ الحاجة إلى إذكار إحداهما الأخرى إذا شهدتا، فإن لم يكونا قامَ مقامَهما يمين الطالب ببيان السنَّة الثابتة (1)، وكما حلَّت يمين المدعى عليه محل البينة في الأداء والإبراء، حلت ها هنا محل الشاهد ومحل المرأتين في الاستحقاق، بانضمامها إلى الشاهد الواحد، ولو وجب إسقاط السنَّة الثابتة في الشاهد واليمين – كما ذكر ابن شبرمة – لسقط الشاهد والمرأتان، لقوله – صلى الله عليه وسلم -: “شاهداك أو يمينه” (2). فنقله عن الشاهدين إلى يمين خصمه بلا ذكر رجل وامرأتين.
قلت: مراده أنَّ قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] لو كان مانعًا من الحكم بالشاهد واليمين، ومعارضًا له، لكان قوله – صلى الله عليه وسلم -: “شاهداك أو يمينه” مانعًا من الحكم بالشَّاهد والمرأتين، ومعارضًا له، وليس الأمر كذلك، فلا تعارض بين كتاب الله وسنَّة رسوله، ولا اختلاف ولا تناقض بوجه من الوجوه، بل الكل من عند الله {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82] (3).
__________
(1) “بيان السنة الثابتة” ساقط من جميع النسخ عدا “جـ”.
(2) تقدم تخريجه.
انتهى كلام الإسماعيلي – رحمه الله تعالى -. انظر: فتح الباري (5/ 332 – 333)، نيل الأوطار (8/ 327).
(3) انظر: اختلاف الحديث للشافعي (1/ 284)، تاريخ دمشق (51/ 289).

(1/363)


فإن قيل: أصح حديث في الباب: حديث ابن عباس – رضي اللهُ عنهما – وقد قال عباس الدوري (1): قال يحيى: حديث ابن عباس: “أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – قضى بشاهدٍ ويمين” ليس هذا محفوظًا (2).
قيل: هذا ليس بشيء، قال أبو عبد الله الحاكم: شيخنا أبو زكريا لم يطلق هذا القول على حديث سيف بن سليمان عن قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ابن عباس وإنَّما أراد الحديث الخطأ الَّذي روي عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس (3)، أو الحديث الَّذي تفرَّد (4) به إبراهيم بن محمد عن ابن أبي ذئب (5)، وأمَّا حديث سيف بن سليمان فليس في إسناده من جرح، ولا نعلم له علَّة يعلل بها، وأبو زكريا
__________
(1) عباس بن محمد بن حاتم الدوري أبو الفضل. توفي سنة 291 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: تهذيب الكمال (14/ 245)، سير أعلام النبلاء (12/ 522)، طبقات الحنابلة (2/ 156).
(2) في “أ” و”د” و”هـ” و”و”: “ليس هذا بمحفوظ”.
انظر: تاريخ ابن معين رواية الدوري (1/ 271). وانظر: مختصر الخلافيات للبيهقي (4/ 334)، جامع التحصيل (243)، تفسير القرطبي (3/ 393)، التلخيص الحبير (4/ 377)، عقود الجواهر المنيفة (2/ 70)، نيل الأوطار (8/ 325).
(3) “وإنما أراد الحديث الخطأ الذي روي عن أبي مليكة عن ابن عباس” مثبت من “أ” و”ب”.
(4) في “ب”: “يرويه”.
(5) محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب القرشي. وثقه أحمد وابن معين وغيرهم. توفي سنة 158 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: تهذيب الكمال (25/ 630)، سير أعلام النبلاء (7/ 139).

(1/364)


أعلم (1) بهذا الشأن من أن يظن به توهين (2) حديث يرويه الثقات الأثبات (3).
قال علي بن المديني: سألت يحيى بن سعيد القطان عن سيف بن سليمان؟ فقال: كان عندنا ثبت ممن يحفظ عنه (4) ويصدق (5).
وقال أبو بكر (6) في “الشافي (7) “: “باب قضاء القاضي بالشاهد واليمين”: حدثنا عبد الله بن سليمان حدثنا إسماعيل بن أسد حدثنا شبابة حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي – رضي الله عنه -: “أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قضى بشهادة رجل واحد مع يمين صاحب الحق”. وقضى به علي بالعراق.
ثم ذكر من رواية حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول – في الشاهد واليمين -: جائز الحكم به. فقيل لأبي عبد الله: إيش معنى اليمين؟ قال: قضى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بشاهد ويمين (8). قال أبو عبد الله: وهم
__________
(1) وفي “أ”: “أعرف”.
(2) كذا في “هـ”، أما باقي النسخ ففيها: “تهوين”.
(3) انظر: مختصر الخلافيات للبيهقي (4/ 334).
(4) “عنه” ساقطة من “أ” و”ب” و”جـ”.
(5) انظر: المنتقى لابن الجارود (3/ 261)، سنن البيهقي (10/ 282)، التمهيد (2/ 138)، الاستذكار (22/ 48)، حلية الأولياء (9/ 108)، معرفة السنن والآثار (14/ 286)، إرشاد الفقيه (2/ 421).
(6) أبو بكر عبد العزيز بن جعفر. والحديث تقدم تخريجه ص (171).
(7) ذكر الخطيب أنه في نحو ثمانين جزءًا. تاريخ بغداد (10/ 458).
(8) في “أ” و”ب”: “بشهادة أو يمين”. انظر: النكت على المحرر (2/ 313).

(1/365)


لعلهم يقضون في مواضع بغير شهادة شاهد، في مثل رجل اكترى من رجل دارًا، فوجد صاحب الدار في الدار شيئًا، فقال: هذا لي، وقال الساكن: هو لي. ومثل رجل اكترى من رجل دارًا فوجد فيها دفونًا، فقال الساكن: هي لي، وقال صاحب الدار: هي لي. فقيل: لمن تكون؟ فقال هذا كله لصاحب الدار (1).
وقال أبو طالب: سئل أبو عبد الله عن شهادة الرجل ويمين صاحب الحق، فقال: هم يقولون: لا تجوز شهادة رجل واحد ويمين، وهم يجيزون (2) شهادة المرأة الواحدة، ويجيزون الحكم بغير شهادة. قلت: مثل أيش؟ قال: مثل الخص إذا ادعاه رجلان يعطونه للذي القمط مما يليه. فمن قضى بهذا؟ وفي الحائط إذا ادعاه رجلان نظروا إلى اللبنة وإلى من هي، فقضوا به لأحدهما بلا بينة (3). والزبل إذا كان في الدار، وقال صاحب الدار: أكريتك (4) الدار، وليس فيها زبل، وقال الساكن: كان فيها، لزمه أخذها (5) بلا بينة. والقابلة تقبل شهادتها في استهلال الصبي (6). فهذا يدخل عليهم.
__________
(1) انظر: المغني (8/ 321) و (4/ 235)، النكت على المحرر (2/ 313)، الفروع (2/ 495)، تصحيح الفروع (2/ 495).
(2) وفي “أ” و”ب”: “يجوزون”.
(3) انظر: المبسوط (17/ 90)، بدائع الصنائع (6/ 258)، الفتاوى الهندية (4/ 99)، معين الحكام (129).
(4) “اكتريتك” ساقطة من “ب”.
(5) في “أ” و”ب” و”هـ” و”و”: “أحدهما”.
(6) انظر: المبسوط (6/ 49)، نوادر الفقهاء (312)، روضة القضاة (1/ 209)، =

(1/366)


فصل

وإذا قضى بالشاهد واليمين، فالحكم بالشاهد وحده، واليمين تقوية وتأكيدًا. هذا منصوص أحمد (1). فلو رجع الشاهد، كان الضمان كله عليه.
قال الخلال في “الجامع”: باب إذا قضى باليمين مع الشاهد، فرجع الشاهد، ثم ذكر من رواية ابن مشيش (2) قال: سئل أحمد عن الشاهد واليمين: تقول به؟ قال: إي لعمري. قيل له: فإن رجع الشاهد (3)؟ قال: تكون الألف (4) على الشاهد وحده. قيل: كيف لا تكون على الطالب؛ لأنه قد استحق بيمينه، ويكون بمنزلة الشاهدين؟ قال: لا، إنما هو السنة – يعني اليمين -.
__________
= ملتقى الأبحر (2/ 84) “الرسالة”، الاختيار (2/ 140).
(1) انظر: الهداية (2/ 153)، المغني (14/ 255)، الفروع (6/ 600)، المحرر (2/ 351)، النكت والفوائد (2/ 351)، المبدع (10/ 277)، رؤوس المسائل الخلافية (6/ 1015)، المنح الشافيات (2/ 687)، الفتح الرباني للدمنهوري (250)، الجامع الصغير (371)، الشرح الكبير (30/ 84).
(2) محمد بن موسى بن مشيش البغدادي من كبار أصحاب الإمام أحمد. انظر: طبقات الحنابلة (2/ 265)، تاريخ بغداد (4/ 3).
(3) “الشاهد” ساقطة من “ب”.
(4) في المطبوع: “المتالف”، ولم أجده في المخطوطات التي اعتمدتها.

(1/367)


وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله سئل عن رجل قضي عليه بشهادة شاهدين، فرجع أحد الشاهدين؟ قال: يلزمه (1)، ويرد (2) الحكم. قيل له: فإن قضى بالشاهد ويمين المدعي، ثم رجع الشاهد؟ قال: إن أتلف الشيء كان على الشاهد؛ لأنه إنما ثبت ها هنا بشهادته، ليست اليمين من الشهادة في شيء (3).
وقال أبو الحارث: قلت لأحمد: فإن رجع الشاهد عن شهادته بعد؟ قال: يضمن المال كله، به كان الحكم (4).
وقال ابن مشيش: سألت أبا عبد الله، فقلت: إذا استحق الرجل المال بشهادة شاهد مع يمينه، ثم رجع الشاهد؟ فقال: إذا كانا شاهدين، ثم رجع شاهد: غرم نصف المال، فإن كانت شهادة شاهد مع يمين الطالب، ثم رجع الشاهد: غرم المال كله.
قلت: المال كله؟ قال: نعم (5).
__________
(1) في “أ”: “يلزم”.
(2) في “ب”: “يكون رد”، وقال العلامة ابن باز رحمه الله: “يلزمه ولا يرد”. وما ذكره العلامة هو الصحيح ليستقيم المعنى وهو الموافق لما سيذكره المؤلف من روايات عن الإمام أحمد.
(3) انظر: المحرر (2/ 351)، النكت على المحرر (2/ 351)، كشاف القناع (6/ 444)، الروض المربع (3/ 435) “مع حاشية العنقري”.
(4) انظر: المحرر (2/ 351)، النكت على المحرر (2/ 351)، كشاف القناع (6/ 444)، الروض المربع (3/ 435) “مع حاشية العنقري”.
(5) انظر: المحرر (2/ 351)، النكت على المحرر (2/ 351)، كشاف القناع =

(1/368)


وقال يعقوب بن بختان (1): سئل أحمد عن الرجل إذا استحق المال بشهادة شاهد مع يمينه، ثم رجع الشاهد؟ فقال: يرد المال (2). قلت: إيش معنى اليمين؟ فقال: قضاء النبي – صلى الله عليه وسلم -.
وقال أحمد بن القاسم: قلت لأبي عبد الله: فإن رجع الشاهد عن الشهادة كم يغرم (3)؟ قال: المال كله؛ لأنه شاهد وحده قضي بشهادته (4)، ثم قال: كيف قول مالك فيها؟ قلت: لا أحفظه. قلت له – بعد هذا المجلس – إن مالكًا كان يقول: إن رجع الشاهد فعليه نصف الحق (5)؛ لأني إنما حكمت بمقتضى شهادته (6)، ويمين الطالب، فلم أره رجع عن قوله. ا. هـ.
وقال الشافعي (7) كقول مالك، وخرَّجه أبو
__________
= (6/ 444)، الروض المربع (3/ 435) “مع حاشية العنقري”.
(1) يعقوب بن إسحاق بن بُختان أبو يوسف. قال الخطيب: “كان أحد الصالحين الثقات”. انظر: تاريخ بغداد (14/ 281)، طبقات الحنابلة (2/ 554).
(2) انظر: المحرر (2/ 351)، النكت على المحرر (2/ 351)، كشاف القناع (6/ 444)، الروض المربع (3/ 435) “مع حاشية العنقري”.
(3) في “ب”: “يلزم”.
(4) انظر: المحرر (2/ 351)، النكت على المحرر (2/ 351)، كشاف القناع (6/ 444)، الروض المربع (3/ 435) “حاشية العنقري”.
(5) انظر: تبصرة الحكام (1/ 328)، الفروق (4/ 89)، الذخيرة (11/ 50)، حاشية العدوي (7/ 201).
(6) كذا في “أ”، أما باقي النسخ ففيها: “لأني إنما حكمت بشيئين بشهادة”.
(7) انظر: التهذيب (8/ 239)، روضة الطالبين (8/ 252)، الديباج (2/ 510)، أدب القضاء لابن أبي الدم (429)، بجيرمي (4/ 369)، مغني المحتاج =

(1/369)


الخطاب (1) بناءً على أن اليمين قامت مقام الشاهد، فوقع الحكم بهما، وأحمد أنكر ذلك، ويؤيده وجوه:
منها: أن الشاهد حجة الدعوى، فكان منفردًا بالضمان.
ومنها: أن اليمين قول الخصم، وقوله ليس بحجة على خصمه، وإنما هو شرط للحكم، فجرى مجرى مطالبته للحاكم به (2).
ومنها: أنا لو جعلناها حجة (3) لكنا إنما جعلناها حجة بشهادة الشاهد.
ومنها: أنها (4) لو كانت كالشاهد لجاز تقديمها على شهادته كالشاهد الآخر، مع أن في ذلك وجهين لنا وللشافعية (5).
قال القاضي (6) في “التعليق”: واحتج – يعني: المنازع في القضاء بالشاهد واليمين – بأنه لو كانت يمين المدعي كشاهد آخر لجاز له أن
__________
= (4/ 443).
(1) “وخرجه أبو الخطاب” ساقط من جميع النسخ عدا “أ”. انظر: الهداية (2/ 53)، حاشية العنقري على الروض (3/ 453).
(2) وفي “ب” و”د”: “مطالبة الحاكم”.
(3) “حجة” ساقطة من “هـ”.
(4) “أنها” ساقطة من “أ”.
(5) انظر: النكت على المحرر (2/ 315)، روضة الطالبين (8/ 252)، الديباج المذهب (2/ 513).
(6) محمد بن الحسين بن محمد البغدادي الحنبلي ابن الفراء أبو يعلى. توفي سنة 458 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: طبقات الحنابلة (3/ 361)، سير أعلام النبلاء (18/ 89)، المنتظم (16/ 98).

(1/370)


يقدمها على الشاهد الذي عنده، كما لو كان عنده شاهدان جاز أن يقدم أيهما شاء (1).
قال: والجواب (2): أنا لا نقول (3) إنها (4) بمنزلة شاهد آخر، ولهذا يتعلق الضمان بالشاهد وإنما اعتبرناها احتياطًا.
قال: فإن قيل: ما ذهبتم إليه يؤدي إلى أن يثبت الحق بشاهد واحد.
قيل: هذا غير ممتنع، كما قاله المخالف في الهلال في الغيم (5)، وفي القابلة (6)، وهو ضرورة أيضًا؛ لأن المعاملات تكثر وتتكرر، فلا يتفق في كل وقت شاهدان (7)، وقياسها على احتياط الحنفية بالحبس مع الشاهد للإعسار (8) ويمين المدعي مع البينة على الغائب (9).
__________
(1) انظر: النكت على المحرر (2/ 315).
(2) “والجواب” ساقطة من “جـ” و”د” و”هـ” و”و”.
(3) في “هـ”: “لأنا نقول”.
(4) في “هـ”: “إنهما”.
(5) انظر: الأصل لمحمد بن الحسن (2/ 263 و 280)، المبسوط (3/ 139)، بدائع الصنائع (2/ 81)، تبيين الحقائق (1/ 319)، معين الحكام (94)، فتح القدير (2/ 325).
(6) انظر: المبسوط (6/ 49)، نوادر الفقهاء (312)، روضة القضاة (1/ 209)، ملتقى الأبحر (2/ 84) “الرسالة”، الاختيار (2/ 140).
(7) “شاهدان” ساقطة من “أ”.
(8) في “أ”: “للاعتبار”.
انظر: معين الحكام (198 و 200)، الفتاوى الهندية (3/ 417).
(9) انظر: المبسوط (16/ 118)، روضة القضاة (1/ 191)، حاشية ابن عابدين =

(1/371)


قال: وأما جواز تقديم اليمين على الشاهد، فقال: لا نعرف الرواية بمنع الجواز.
قال: ويحتمل أن نقول بجواز أن يحلف أولًا، ثم تسمع الشهادة، وهو قول ابن أبي هريرة (1)، ويحتمل أنه لا يجوز تقدمة اليمين على الشاهد، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية أبي الحارث (2)، قال: إذا ثبت له شاهد واحد حلف وأعطي، فأثبت اليمين بعد ثبوت الشاهد؛ لأن اليمين تكون في جنبة أقوى المتداعيين، وإنما تقوى حينئذٍ بالشاهد، ولأن اليمين يجوز أن تترتب على ما لا تترتب عليه الشهادة، فيكون من شرط اليمين: تقدم شهادة الشاهد، ولا يعتبر هذا المعنى في الشاهدين.
__________
= (5/ 450)، المدونة (5/ 196)، الذخيرة (11/ 16)، المعيار المعرب (10/ 264)، تبصرة الحكام (1/ 332)، الحاوي الكبير (16/ 236)، روضة الطالبين (8/ 160)، أدب القضاء لابن أبي الدم (261)، مغني المحتاج (4/ 407)، نهاية المحتاج (8/ 270)، المحرر (2/ 210)، المغني (14/ 95)، الفروع (6/ 485)، المبدع (10/ 90)، كشاف القناع (6/ 485)، النكت على المحرر (2/ 315).
(1) الحسن بن الحسين بن أبي هريرة البغدادي أبو علي الإمام شيخ الشافعية. توفي سنة 345 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: سير أعلام النبلاء (15/ 430)، طبقات الشافعية (3/ 256)، طبقات الشافعية للأسنوي (2/ 291).
وانظر قوله في: روضة الطالبين (8/ 252)، الديباج المذهب (2/ 513).
(2) في النسخ عدا “أ”: “ابن الحارث”.

(1/372)


فصل

والمواضع التي يحكم فيها بالشاهد واليمين: المال، وما يقصد به (1)، كالبيع والشراء، وتوابعها من الخيار وتأجيل الثمن والرهن (2) واشتراط صفة في المبيع، أو نقد غير نقد البلد، والإجارة، والجعالة (3)، والمساقاة (4)، والمزارعة (5)، والمضاربة (6)، والشركة (7)،
__________
(1) انظر: المنتقى (5/ 214)، الفروق (4/ 90)، الذخيرة (7/ 177) و (11/ 51 و 59) التفريع (2/ 238)، أدب القضاء لابن أبي الدم (426)، مغني المحتاج (4/ 443)، نهاية المحتاج (8/ 313)، التسهيل (201)، الروض المربع (724)، معين الحكام (2/ 664)، المغني (14/ 128)، رؤوس المسائل (6/ 1015)
(2) قوله “الخيار وتأجيل الثمن والرهن” ساقط من جميع النسخ عدا “أ”.
(3) الجعالة – بفتح الجيم وكسرها وضمها – وهي: التزام مال معلوم في مقابلة عمل معلوم لا على وجه الإجارة. انظر: التوقيف (246)، المطلع (281)، أنيس الفقهاء (169)، طلبة الطلبة (169).
(4) المساقاة: أن يدفع الرجل شجره إلى آخر ليقوم بسقيه وعمل سائر ما يحتاج إليه بجزء معلوم من ثمره. المغني (7/ 527)، التوضيح (2/ 726)، التوقيف (653)، أنيس الفقهاء (274)، التعريفات (271).
(5) المزارعة: دفع الأرض إلى من يزرعها ويعمل عليها والزرع بينهما. المغني (7/ 555)، التوضيح (2/ 726).
(6) المضاربة: هي دفع مال وما في معناه معين معلوم قدره إلى من يتجر فيه بجزء معلوم من ربحه. التوضيح في الجمع بين المقنع والتنقيح (2/ 717). وانظر: شرح الزركشي (4/ 126)، التوقيف (660)، التعريفات (278).
(7) الشركة: هي الاجتماع في استحقاق أو تصرف. المغني (7/ 109)، التوضيح (2/ 711)، شرح الزركشي (4/ 124)، أنيس الفقهاء (193).

(1/373)


والهبة (1).
قال في “المحرر” (2): والوصية (3) لمعين، أو الوقف (4) عليه.
وهذا يدل على أن الوصية والوقف إذا كانتا (5) لجهة عامة، كالفقراء والمساكين، أنه لا يكتفى فيهما بشاهد ويمين، لإمكان اليمين من المدعى عليه إذا كان معينًا.
وأما (6) الجهة المطلقة: فلا يمكن اليمين فيها (7)، وإن حلف واحد منهم لم يسر حكم يمينه (8) إلى غيره، وكذلك لو ادّعى جماعة أنهم ورثوا دينًا على رجل، وشهد بذلك شاهد واحد لم يستحقوا ذلك، حتى يحلفوا جميعهم، وإن حلف بعضهم استحق حقه، ولا يشاركه فيه غيره من الورثة، ومن لم يحلف لا يستحق شيئًا، فلو أمكن حلف
__________
(1) الهبة: هي تمليك العين بلا عوض. أنيس الفقهاء (255)، التوقيف (738)، التعريفات (319).
(2) (2/ 312).
(3) الوصية: هي تمليك مضاف إلى ما بعد الموت. أنيس الفقهاء (297)، التوقيف (727)، التعريفات (326).
(4) الوقف: هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة. شرح الزركشي (4/ 268)، التعريفات (328)، التوقيف (731).
(5) وفي “أ” و”هـ”: “كانا”.
(6) “معينًا وأما” ساقطة من “ب”، و”معينًا” ساقطة من جميع النسخ عدا “أ”.
(7) انظر: روضة الطالبين (8/ 257).
(8) في “أ”: “لم يحكم بيمينه إلى غيره”، وفي “ب”: “لم يسر حكمه ويمينه إلى غيره”.

(1/374)


الجميع في الوصية والوقف – بأن يوصي أو يقف على فقراء محلة معينة يمكن حصرهم – ثبت الوقف والوصية بشاهد وأيمانهم، ولو انتقل الوقف من بعدهم: لم يمنع ذلك ثبوته (1) بشهادة المعينين أولًا، كما لو وقف على زيد وحده ثمَّ على الفقراء والمساكين بعده، ثبت الوقف بشهادته، وانتقل إلى من بعده بحكم الثبوت الأوَّل ضمنًا وتبعًا، وقد يثبت (2) في الأحكام التبعية، ويغتفر فيها ما لا يغتفر في الأصل المقصود، وشواهده معروفة.

وممَّا يثبت بالشاهد واليمين: الغصوب، والعواري، والوديعة، والصلح (3) والإقرار (4) بالمال، أو ما يوجب المال، والحوالة (5)، والإبراء (6)، والمطالبة بالشفعة (7)، وإسقاطها، والقرض (8)،
__________
(1) في “ب”: “ثبوتهم ثم”.
(2) وفي “ب” و”و”: “ثبت”.
(3) الصلح: معاقدة يتوصل بها إلى الإصلاح بين المختلفين. المطلع (250).
وقيل: عقد يدفع النزاع. التوقيف (460)، التعريفات (176).
(4) الإقرار: إخبار بحق لآخر عليه. التوقيف (83)، التعريفات (50).
(5) الحوالة شرعًا: نقل الدين وتحويله من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه. التعريفات (126)، المطلع (249).
(6) الإبراء: هو إسقاط الشخص حقًّا له في ذمة آخر أو قبله. الموسوعة الفقهية الكويتية (1/ 142).
(7) الشفعة: هي استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه من يد مشتريها. المقنع (151)، الكافي (3/ 527). وانظر: التعريفات (168)، التوقيف (432).
(8) القرض: دفع جائز التصرف من ماله قدرًا معلومًا يصح تسلُّمه لمثله بصيغة لينتفع به ويرد بدله. التوقيف (580)، الكليات (444).

(1/375)


والصداق (1)، وعوض الخلع، ودعوى رق مجهول النسب، وتسمية المهر.

فصل
وفي الجنايات الموجبة للمالِ كالخطأ (2)، وما لا قصاص فيه (3) من جنايات العمد، كالهاشمة، والمنقلة (4)، والمأمومة، والجائفة (5)، وقتل المسلم الكافر، والحر العبدَ، والصبي، والمجنون، والعتق، والوكالة (6) في المال، والإيصاء (7) إليه، ودعوى قتل الكافر لاستحقاق سَلَبه، ودعوى الأسير إسلامًا سابقًا يمنع (8) رقه، روايتان (9):
إحداهما: أنَّه يثبت بشاهدٍ ويمين، ورجل وامرأتين.
والثانية: لا يثبت إلَّا برجلين.
__________
(1) الصداق: هو العوض المسمَّى في عقد النكاح. المطلع (326).
(2) انظر: الإنصاف (30/ 29).
(3) وفي “أ”: “وما لا يجب فيه قصاص”.
(4) “والمنقلة” مثبتة من “أ”.
(5) الجائفة: الطعنة التي تبلغ الجوف. المطلع (367)، أنيس الفقهاء (294).
(6) الوكالة: استنابة جائز التصرف مثله فيما له عليه تسلط أو ولاية ليتصرف فيه. التوقيف (733).
(7) في “ب”: “والإفضاء”.
(8) وفي “أ”: “لمنع”.
(9) انظر: المغني (14/ 128)، الإنصاف (30/ 29).

(1/376)


ولا يشترط كون الحالف مسلمًا، بل تقبل يمينه مع كفره (1)، كما لو كان المدعى عليه، قال أبو الحارث: سُئِل أحمد عن الفاسق أو العبد إذا أقام شاهدًا واحدًا؟ قال: أحلفه وأعطيه (2) دعواه، قلت له: فإن كان الشاهد عدلًا والمدعي (3) غير عدل؟ قال: وإن كان (4) المدعي غير عدل (5)، أو كانت امرأة، أو يهوديًّا، أو نصرانيًّا، أو مجوسيًّا، إذا ثبتَ له شاهد واحد حلف، وأعطي ما ادعى (6).

وهل يشترط أن يحلف المدعي (7) على صدق شاهده، فيقول مع يمينه: وإن شاهدي صادق؟ الصحيح المشهور: أنَّه لا يشترط؛ لعدم الدليل الموجب لاشتراطه؛ ولأنَّ يمينه على الاستحقاق كافيةٌ عن يمينه على صدق شاهده، وشرطه بعض أصحاب أحمد (8)
__________
(1) انظر: الكافي (471)، الذخيرة (11/ 56)، تبصرة الحكام (1/ 328)، الأم (7/ 15 و 143)، المغني (14/ 132)، المبدع (10/ 258)، شرح الزركشي (7/ 313)، النكت على المحرر (2/ 314).
(2) في “و”: “وأعطه”.
(3) وفي “ب” و”جـ” و”د” و”هـ” و”و”: “والمدعى عليه”. وهو خطأ ظاهر وقد طمس العلامة ابن باز رحمه الله كلمة “عليه” من نسخته.
(4) “كان” ساقطة من “و”.
(5) “قال: وإن كان المدعي غير عدل” ساقطة من “هـ”.
(6) انظر: الجامع للخلال (1/ 336)، مختصر الخرقي مع المقنع (4/ 1314)، المغني (14/ 260)، شرح الزركشي (7/ 387)، المحرر (2/ 317)، النكت والفوائد (2/ 217)، المبدع (10/ 256)، الفتح الرَّباني للدمنهوري (250).
(7) في “ب”: “المدعى عليه”.
(8) “أحمد” ساقطة من “د”.

(1/377)


والشافعي (1)؛ لأنَّ البينة بينةٌ ضعيفة، ولهذا قويت بيمين المدعي، فيجب أن تقوى بحلفه على صدق الشاهد، وهذا القول يقوى في موضع ويضعف في موضع، فيقوى إذا ارتاب الحاكم، أو لم يكن الشاهد مبرزًا، ويضعف إذا لم يكن الأمرُ كذلك.

فصل

وقد حكى أبو محمد ابن حزم (2) القول بتحليف الشهود (3) عن ابن وضاح (4)، وقاضي الجماعة بقرطبة – وهو محمد بن بشر (5) – أنَّه
__________
= انظر: المحرر (2/ 316)، الشرح الكبير (30/ 31)، النكت والفوائد (2/ 316)، الإنصاف (30/ 28)، المبدع (10/ 258)، شرح الزركشي (7/ 313)، شرح منتهى الإرادات (3/ 601).
(1) انظر: الأم (6/ 359)، روضة الطالبين (8/ 252)، مغني المحتاج (4/ 443)، تحفة المحتاج (10/ 253)، أسنى المطالب (4/ 374).
(2) المحلَّى (9/ 379).
(3) انظر: السياسة الشرعية لابن نجيم (38)، السياسة الشرعية لدده أفندي (111)، تفسير القرطبي (6/ 355)، تفسير ابن كثير (3/ 212)، طبقات الشافعية للسبكي (7/ 107)، الأحكام السلطانية للماوردي (112)، فتح الباري (35/ 412)، الفتاوى (35/ 412)، جامع العلوم والحكم (2/ 237)، النكت والفوائد (2/ 281).
(4) محمد بن وضاح بن بزيع المرواني أبو عبد الله، توفي سنة 287 هـ – رحمه الله تعالى -. سير أعلام النبلاء (13/ 445)، الديباج المذهب (2/ 179).
(5) الصواب “بشير” كما في تبصرة الحكام (2/ 149). وهو محمد بن سعيد بن بشير بن شراحيل المعافري. توفي سنة 198 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا للنباهي (68)، نفح الطيب =

(1/378)


حلف شهودًا في تركة بالله أن ما شهدوا به لحق (1)، قال: ورويَ عن ابن وضاح أنَّه قال: أرى لفساد النَّاس أن يحلف الحاكم الشهود (2).
وهذا ليس ببعيد، وقد شرِع الله – سبحانه وتعالى – تحليف الشاهدين إذا كانا من غير أهل الملَّة على الوصية في السفر (3)، وكذلك قال ابن عباس بتحليف المرأة إذا شهدت في الرضاع (4)، وهو إحدى الروايتين عن أحمد (5)، قال القاضي (6): لا يحلف الشاهد على أصلنا إلَّا في موضعين، وذكر هذين الموضعين (7).
قال شيخنا – قدَّس الله روحه -: هذان الموضعان (8) قبل فيهما
__________
= (2/ 358).
(1) انظر: تبصرة الحكام (2/ 149).
(2) من قوله: “بالله أن ما شهدوا” إلى “الحاكم الشهود” ساقط من “أ”.
وانظر: المحلَّى (9/ 379)، معين الحكام (175)، السياسة الشرعية لابن نجيم (38). وممَّن كان يحلف الشهود إذا ارتاب فيهم شريح، رواه عنه وكيع في أخبار القضاة (2/ 377)، وكذا ابن أبي ليلى. السياسة الشرعية لابن نجيم (38)، والسياسة الشرعية لدده أفندي (112)، أحكام القرآن لابن العربي (2/ 244).
(3) كما في الآية (106) من سورة المائدة، وسيأتي تفصيل ذلك.
(4) رواه عبد الرزاق (7/ 482) و (8/ 336).
(5) انظر: جامع العلوم والحكم (2/ 237).
(6) أبو يعلى.
(7) “وذكر هذين الموضعين” ساقطة من “د” و”و”.
انظر: النكت والفوائد على المحرر (2/ 281).
(8) في “و”: “هذين الموضعين”.

(1/379)


الكافر والمرأة وحدها للضرورة، فقياسه: أنَّ كل من قبلت شهادته للضرورة استحلف (1).
قلت: وإذا كان للحاكم أن يُفرِّق الشهود إذا ارتاب بهم، فأولى أن يحلفهم إذا ارتاب بهم.

فصل

والتحليف (2) ثلاثة أقسام:
تحليف المدعي (3)، وتحليف المدعى عليه، وتحليف الشاهد.
فأمَّا تحليف المدعي ففي صور:
أحدها (4): القسامة، وهي نوعان: قسامة في الدماء، وقد دلَّت عليها السنَّة الصحيحة الصريحة (5)، وأنَّه يبدأ فيها بأيمان المدعين، ويحكم فيها بالقصاص، كمذهب مالك (6)، وأحمد في إحدى الروايتين (7)، والنزاع فيها مشهورٌ قديمًا وحديثًا.
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (35/ 412 – 15/ 299)، ذكر استحلاف المرضعة.
وانظر: تفسير ابن جرير (5/ 115)، وتفسير ابن عطية (2/ 252).
(2) في “ب”: “وللتحليف”.
(3) “المدعي” ساقطة من “د”.
(4) وفي “أ”: “إحداهما”.
(5) تقدم تخريجه.
(6) انظر: الموطأ (879)، الاستذكار (25/ 314)، الكافي (602)، تفسير القرطبي (1/ 457)، تبصرة الحكام (1/ 392)، القوانين (385)، التفريع (2/ 207).
(7) انظر: الإرشاد (445)، التذكرة (294)، رؤوس المسائل (5/ 547)، المغني =

(1/380)


والثانية: القسامة مع اللوث في الأموال، وقد دلَّ عليها (1) القرآن، كما سنذكره (2).
وقد قال أصحاب مالك (3): إذا أغار (4) قومٌ على بيت رجلٍ وأخذوا ما فيه، والنَّاسُ ينظرون إليهم، ولم يشهدوا على معاينة ما أخذوا، ولكنَّهم (5) علموا أنَّهم أغاروا وانتهبوا؛ فقال ابن القاسم وابن الماجشون: القولُ قول المنتهب (6) مع يمينه؛ لأنَّ مالكًا قال (7) في منتهب الصرة يختلفان في عددها: القولُ قول المنتهب (8) مع يمينه (9). وقال مطرف (10) وابن كنانة (11) وابن
__________
= (12/ 204)، المحرر (2/ 151)، المذهب الأحمد (182)، الفروع (6/ 48)، الكافي (5/ 284)، كشاف القناع (6/ 76)، معونة أولي النهى (8/ 341).
(1) في جميع النسخ عدا “د”: “عليه”.
(2) ص (384). وسيتكلم عنه المصنف مفصَّلًا في الطريق السابع عشر.
(3) انظر: تبصرة الحكام (2/ 98 – 168)، الذخيرة (8/ 265).
(4) في “أ” و”ب”: “غار”.
(5) في “ب” و”د”: “ولكن”.
(6) في “د” و”و”: “المنتهب منه”.
(7) المدونة (4/ 176).
(8) في “هـ” و”و”: “المنتهب منه”.
(9) انظر: الذخيرة (8/ 265)، منح الجليل (7/ 131)، التاج والإكليل (7/ 332).
(10) مطرف بن عبد الله بن مطرف الهلالي أبو مصعب، توفي سنة 220 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: تهذيب الكمال (28/ 70)، الديباج المذهب (2/ 340)، شجرة النور (1/ 57).
(11) هو عثمان بن عيسى بن كنانة أبو عمرو، توفي سنة 186 هـ – رحمه الله =

(1/381)


حبيب (1): القولُ قول المنتهب منه (2) مع يمينه فيما يشبه (3) ويحمل (4) على الظالم (5).
قال مطرف: ومن أخذ من المغيرين ضمن ما أخذه رفاقه؛ لأنَّ بعضهم عون لبعض كالسرَّاق والمحاربين، ولو أخذوا جميعًا وهم أملياء، ضمن كل واحدٍ ما ينوبه، وقاله ابن الماجشون وأصبغ في الضمان (6).
قالوا: والمغيرون كالمحاربين إذا شهروا (7) السلاح على وجه المكابرة (8)، كان ذلك على تأمرة (9) بينهم، أو على وجه الفساد، وكذلك والي البلد يغير على بعض أهل ولايته وينتهب ظلمًا مثل ذلك
__________
= تعالى -. انظر: ترتيب المدارك (3/ 21)، تاريخ الإسلام (12/ 293).
(1) عبد الملك بن حبيب بن سليمان من أحفاد الصحابي الجليل عامر بن مرداس السلمي رضي الله عنه، أبو مروان، توفي سنة 238 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: سير أعلام النبلاء (12/ 102)، الديباج المذهب (2/ 8)، شجرة النور الزكية (1/ 74).
(2) “منه” ساقطة من “ب”.
(3) في “أ” و”هـ”: “يشبه”، وفي باقي النسخ: “يشتبه”.
(4) في “أ”: “ويحمل”، وفي باقي النسخ: “ويحتمل”.
(5) انظر: الذخيرة (8/ 265)، تبصرة الحكام (2/ 98 و 168)، منح الجليل (7/ 131)، التاج والإكليل (7/ 332).
(6) انظر: الذخيرة (8/ 265).
(7) في “د” و”هـ”: “أشهروا”.
(8) في “ب”: “المحاربة”.
(9) في “أ” و”ب” و”و”: “تأثره”.

(1/382)


في المغيرين.
وقال ابن القاسم: ولو ثبت أنَّ رجلين غصبا عبدًا فمات، يلزم (1) أخذ قيمته من المليء، ويتبع المليء ذمة رفيقه المعدم بما ينوبه (2).
وأمَّا دلالة القرآن على ذلك فقال شيخنا – رحمه الله (3) -: لمَّا ادعى ورثة السهمي (4) الجام (5) المفضض المخوص (6)، وأنكر الوصيان الشاهدان أنَّه كان هناك جام، فلمَّا ظهر الجام المدعى، وذكر مشتريه (7) أنَّه اشتراهُ من الوصيين: صار هذا لوثًا يقوي دعوى المدعين، فإذا حلف الأوليان بأن الجام كان لصاحبهم: صدقا في ذلك.
وهذا لوث في الأموال، نظير اللوث في الدماء، لكن هناك ردت اليمين على المدعي، بعد أن حلف المدعى عليه، فصارت يمين المطلوب وجودها كعدمها، كما أنه في الدم لا يستحلف ابتداءً، وفي كلا الموضعين (8) يعطى المدعي بدعواه مع يمينه، وإن كان المطلوب حالفًا، أو باذلًا للحلف.
__________
(1) في “أ”: “فلزمه”، وفي “د” و”هـ” و”و”: “فلزم”.
(2) انظر: الذخيرة (8/ 265).
(3) انظر: مجموع الفتاوى (14/ 486).
(4) وهو بريل، وقيل: بديل بن أبي معاوية. فتح الباري (5/ 481).
(5) الجام: الإناء، فتح الباري (5/ 482).
(6) في “د”: “المخصوص”.
(7) في باقي النسخ عدا “أ”: “المشتري”.
(8) في “أ” و”ب” و”و”: “الموضوعين”.

(1/383)


وفي استحلاف الله للأوليين (1) دليل على مثل ذلك في الدم، حتى تصير يمين الأوليين مقابلة ليمين المطلوبين، وفي حديث ابن عباس: “حلفا أن الجام لصاحبهم” (2). وفي حديث عكرمة (3): “ادعيا أنهما اشترياه منه، فحلف الأوليان أنهما ما كتما وغيبا” (4)، فكان في هذه الرواية أنه لما ظهر كذبهما بأنه لم يكن له جام ردت الأيمان على المدعين في جميع ما ادعوه (5).
فجنس هذا الباب: أن المطلوب إذا حلف، ثم ظهر كذبه: هل يقضى للمدعي بيمينه فيما يدعيه؛ لأن اليمين المشروعة في جانب الأقوى، فإذا ظهر صدق المدعي في البعض وكذب المطلوب: قوي جانب المدعي، فحلف كما يحلف (6) مع (7) الشاهد الواحد، وكما يحلف صاحب اليد العرفية مقدمًا (8) على اليد الحسية؟ انتهى.
__________
(1) في “و”: “للأولين”.
(2) رواه البخاري رقم (2780) (5/ 480).
(3) عكرمة البربري أبو عبد الله المدني الهاشمي، مولى ابن عباس رضي الله عنه الإمام الحبر العلامة الحافظ المفسر. توفي سنة 105 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: طبقات علماء الحديث (1/ 167)، سير أعلام النبلاء (5/ 12)، طبقات الحفاظ (43)، المنتظم (7/ 102).
(4) رواه ابن جرير (5/ 116).
(5) في “و”: “ادعوه”.
(6) في “ب”: “حلف”.
(7) “مع” ساقطة من “ب” و”هـ”.
(8) وفي “ب”: “فقدم”.

(1/384)


والحكم باللوث في الأموال أقوى منه في الدماء، فإن طرق ثبوتها أوسع من طرق ثبوت الدماء؛ فإنها تثبت بالشاهد واليمين (1)، والرجل والمرأتين، والنكول مع الرد، وبدونه، وغير ذلك من الطرق، وإذا حكمنا بالعمامة لمن هو مكشوف الرأس وأمامه رجل عليه عمامة وبيده أخرى وهو هارب، فإنما ذلك باللوث الظاهر القائم مقام الشاهدين، وأقوى منهما بكثير.
واللوث علامة ظاهرة لصدق المدعي، وقد اعتبرها الشارع في اللقطة (2)، وفي النسب (3)، وفي استحقاق السلب إذا ادعى اثنان قتل الكافر، وكان أثر الدم في سيف أحدهما أدل منه في سيف الآخر (4)، كما تقدم.
وعلى هذا: إذا (5) ادعى عليه سرقة ماله، فأنكر وحلف له، ثم ظهر معه المسروق: حلف المدعي، وكانت يمينه أولى من يمين المدعى عليه (6)، وكان حكمه حكم دعوى استحقاق الدم في القسامة.
__________
(1) “واليمين” ساقطة من “و”.
(2) تقدم تخريجه.
(3) انظر: المغني (8/ 379)، الإنصاف (16/ 307)، قواعد ابن رجب (2/ 387)، معونة أولي النهى (5/ 698)، المقنع (160)، الفروع (4/ 578)، بدائع الصنائع (6/ 253)، البحر الرَّائق (5/ 245)، مختصر القدوري (134)، تبيين الحقائق (3/ 299).
(4) تقدم تخريجه.
(5) في “أ”: “فإذا” وهي ساقطة من “هـ”.
(6) “سرقة ماله فأنكر وحلف له” إلى قوله “أولى من يمين المدعى عليه” ساقطة =

(1/385)


وعلى هذا، فلو طلب من الوالي أن يضربه ليحضر باقي المسروق فله ذلك (1)، كما عاقب النبي – صلى الله عليه وسلم – حيي بن أخطب (2)، حتى أحضر كنز ابن أبي الحقيق (3) كما تقدم.
والثانية: إذا ردت اليمين عليه (4).

والثالثة: إذا شهد له شاهد واحد حلف معه واستحق، كما تقدم.
والرابعة: في مسألة تداعي الزوجين. والصانعين، فيحكم لكل واحد (5) منهما بما يصلح له مع يمينه.

والخامسة: تحليفه مع شاهديه.
وقد اختلف السلف في ذلك، فقال سريج بن يونس (6) في “كتاب
__________
= من “أ”.
(1) انظر: السياسة الشرعية لابن نجيم (48)، والسياسة الشرعية لدده أفندي (124)، معين الحكام (178).
(2) هكذا في جميع النسخ، والصواب: “عم حيي بن أخطب”. وقد سبق تخريجه مفصلًا ص (16).
(3) في “و”: “كما عاقب النَّبي – صلى الله عليه وسلم – ابن أبي الحقيق حتى أحضر كنز حيي”.
(4) “عليه” ساقطة من “ب”.
(5) “واحد” ساقطة من “أ”.
(6) سريج بن يونس بن إبراهيم المروزي البغدادي أبو الحارث، توفي سنة 235 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: التاريخ الكبير (4/ 205)، الجرح والتعديل (4/ 305)، سير أعلام النبلاء (11/ 146).

(1/386)


القضاء” (1) له: حدثنا هشيم (2) عن الشيباني (3) عن الشعبي قال: كان شريح يستحلف الرجل مع بينته (4).
حدثنا هشيم عن مغيرة (5) عن إبراهيم مثل ذلك (6).
حدثنا هشيم عن أشعث (7) عن عون بن عبد الله (8): أنه استحلف رجلًا مع بينته، فكأنه أبى أن يحلف، فقال: ما كنت لأقضي لك بما لا
__________
(1) طبع الجزء الثاني منه فقط – دار البشائر – تحقيق د. عامر حسن صبري. والجزء الأوَّل مفقود.
(2) هشيم بن بشير بن أبي حازم السلمي أبو معاوية. توفي سنة 183 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: الجرح والتعديل (9/ 115)، التاريخ الكبير (8/ 242)، سير أعلام النبلاء (8/ 287).
(3) سليمان بن أبي سليمان فيروز أبو إسحاق مولى بني شيبان، قال ابن معين: ثقة حجة. توفي سنة 139 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: الجرح والتعديل (4/ 122)، تهذيب الكمال (11/ 444)، سير أعلام النبلاء (6/ 193).
(4) رواه ابن أبي شيبة (4/ 552)، ووكيع في أخبار القضاة (2/ 416)، والشافعي في الأم (7/ 282). وانظر: مختصر اختلاف العلماء (3/ 333)، المحلَّى (9/ 371)، شرح السنة (10/ 104).
(5) مغيرة بن مقسم، تقدمت ترجمته.
(6) “حدثنا هشيم عن الشيباني” إلى قوله “عن مغيرة عن إبراهيم مثل ذلك” ساقط من “هـ”.
(7) أشعث بن سوَّار الكندي الكوفي، وثقه ابن معين مرة وضعفه أخرى. توفي سنة 136 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: الجرح والتعديل (2/ 271)، الكامل (2/ 340)، تاريخ ابن معين (2/ 40)، سير أعلام النبلاء (6/ 275).
(8) عند البيهقي (10/ 442): “عن أبيه”.

(1/387)


تحلف عليه (1).
وحكاه ابن المنذر عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة (2) والشعبي (3).
قال أبو عبيد: إنما نرى شريحًا أوجب اليمين على الطالب مع بينته، حين رأى الناس مدخولين في معاملتهم، فاحتاط بذلك. حدثنا عبد الرحمن (4) عن سفيان (5) عن أبي هاشم (6) عن أبي البختري (7) قال: قيل لشريح: ما هذا الذي أحدثت في القضاء؟ قال: رأيت الناس أحدثوا فأحدثت (8).
وقال الأوزاعي والحسن بن حي: يستحلف الرجل مع بينته (9).
__________
(1) رواه البيهقي (10/ 442)، وسريج بن يونس في “كتاب القضاء” كما ذكر المؤلف – رحمه الله تعالى -. وانظر: المغني (14/ 281).
(2) رواه ابن أبي شيبة (4/ 552) رقم (23054) وعنده عبد الله بن عتبة.
(3) رواه ابن أبي شيبة (4/ 552) رقم (23052).
(4) عبد الرحمن بن مهدي.
(5) “الثوري”.
(6) هو يحيى بن دينار، وقيل: بن الأسود أبو هاشم الرّماني الواسطي كان فقيهًا وثقه أحمد وابن معين. توفي سنة 132 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: الجرح والتعديل (9/ 140)، تهذيب الكمال (34/ 362)، سير أعلام النبلاء (6/ 152).
(7) سعيد بن فيروز الطائي أبو البختري وثقه ابن معين وأبو حاتم. قتل سنة 82 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: الجرح والتعديل (4/ 54)، تهذيب الكمال (11/ 32)، سير أعلام النبلاء (4/ 279)، الحلية (4/ 379).
(8) رواه ابن سعد في الطبقات (6/ 183)، وابن أبي شيبة (4/ 552) و (7/ 270)، ووكيع في أخبار القضاء (2/ 318).
(9) انظر: مختصر اختلاف العلماء (3/ 333)، المحلَّى (9/ 379).

(1/388)


وقال الطحاوي (1): وروى ابن أبي ليلى عن الحكم (2) عن حنش (3) “أن عليًّا استحلف عبيد الله بن الحسن (4) مع بينته” (5).
وأنه استحلف رجلًا مع بينته، فأبى أن يحلف، فقال: “لا أقضي لك بما لا تحلف عليه” (6).
وهذا القول ليس ببعيد من قواعد الشرع، ولا سيما مع احتمال التهمة (7).
__________
(1) في اختلاف العلماء “المختصر” (3/ 333).
(2) الحكم بن عتيبة.
(3) في “أ”: “حسن”، وفي “ب”: “الحسن”، وفي نسخة: “حبيش”، وفي “و”: “حنش” وهو الصواب. وهو حنش بن المعتمر. انظر: مختصر اختلاف العلماء (3/ 333)، والبيهقي (10/ 441).
هو حنش بن المعتمر، ويقال: ابن ربيعة الكناني الكوفي وثَّقه أبو داود، وقال ابن حبان: لا يحتج به، يتفرد عن علي بأشياء، لا يشبه حديثه الثقات. انظر: تهذيب الكمال (7/ 432)، ميزان الاعتدال (2/ 395)، تهذيب التهذيب (3/ 53).
(4) عند الطحاوي (3/ 333)، وابن أبي شيبة (4/ 552): “عبيد الله بن الحر” وهو الصواب. وهو عبيد الله بن الحر الجعفي من أهل الكوفة له إدراك كان شاعرًا شهد القادسية، ذكره ابن حبان في الثقات. انظر: الثقات (5/ 66)، الجرح والتعديل (5/ 311)، الإصابة (5/ 114)، وسيذكره المؤلف قريبًا على الوجه الصحيح “عبيد الله بن الحر”.
(5) رواه ابن أبي شيبة (4/ 552)، والطحاوي في اختلاف العلماء “المختصر” (3/ 333)، والبيهقي (10/ 261)، والخلال كما سيذكره المؤلِّف قريبًا.
(6) الشافعي في الأم (7/ 282)، البيهقي (10/ 261)، وانظر: المراجع السابقة.
(7) انظر: جامع العلوم والحكم (2/ 237).

(1/389)


ويخرج في مذهب أحمد وجهان (1): فإن أحمد سئل عنه فقال: قد فعله علي والصحابة – رضي الله عنهم – أجمعين، وفيما إذا سئل عن مسألة فقال: قال فيها بعض الصحابة كذا: وجهان ذكرهما ابن حامد (2).
قال الخلال في “الجامع”: حدثنا محمد بن علي (3) حدثنا مهنا قال: سألت أبا عبد الله عن الرجل يقيم الشهود، أيستقيم للحاكم أن يقول لصاحب الشهود: احلف؟ فقال: قد فعل ذلك علي. قلت: من ذكره؟ قال: حدثنا حفص (4) بن غياث حدثنا ابن أبي ليلى عن الحكم (5) عن حنش (6) قال: استحلف عليٌّ عبيدَ الله بن
__________
(1) انظر: مسائل الكوسج (2/ 390)، الهداية (2/ 138)، المغني (14/ 281)، الشرح الكبير (28/ 451)، الإنصاف (28/ 521)، كشاف القناع (6/ 354).
(2) الحسن بن حامد بن علي بن مروان أبو عبد الله البغدادي إمام الحنابلة في وقته، توفي سنة 403 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: طبقات الحنابلة (3/ 309)، سير أعلام النبلاء (17/ 203).
وانظر: جامع العلوم والحكم (2/ 337). قال المرداوي عن الإمام أحمد: “وما أجاب فيه بكتاب أو سنة أو إجماع أو قول بعض الصحابة فهو مذهبه لأنَّ قول أحد الصحابة عنده حجة على أصح الروايتين” ا. هـ. الإنصاف (30/ 376).
(3) محمد بن علي بن شعيب السمسار أبو بكر، توفي سنة 290 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: تاريخ بغداد (3/ 279)، طبقات الحنابلة (2/ 333).
(4) في “ب”: “جعفر”.
(5) الحكم بن عتيبة.
(6) كذا في “و”: “حنش”. وهو الصواب الموافق لما عند الطحاوي في مختصر اختلاف العلماء (3/ 333)، والبيهقي (10/ 441)، وتقدمت ترجمته قريبًا وفي باقي النسخ: “حبيش”.

(1/390)


الحر (1) مع الشهود (2). فقلت: يستقيم هذا؟ قال: قد فعله علي – رضي الله عنه -.
وهذا القول يقوى مع وجود التهمة، وأما بدون التهمة فلا وجه له، وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – للمدعي: “شاهداك أو يمينه”، فقال: يا رسول الله، إنه فاجر لا يبالي ما حلف عليه، فقال: “ليس لك إلا ذلك” (3).

فصل
وأما تحليف المدعى عليه فقد تقدم (4)، وقد قال أبو حنيفة: إن اليمين لا تكون إلا من جانبه، وبنوا على ذلك إنكار الحكم بالشاهد واليمين (5)، وإنكار القول برد اليمين (6)، وأنه يبدأ في (7) القسامة
__________
(1) وفي “أ”: “الحسن”. والصواب ما أثبتناه وهو الموافق لما عند الطحاوي (3/ 333)، وابن أبي شيبة (4/ 552) “عبيد الله بن الحر”.
(2) تقدم تخريجه قريبًا.
(3) تقدم تخريجه.
(4) في الطريق الرابع والخامس.
(5) انظر: مختصر اختلاف العلماء (3/ 342)، أحكام القرآن للجصاص (1/ 623)، رؤوس المسائل (535)، عقود الجواهر المنيفة (2/ 69)، بدائع الصنائع (6/ 225).
(6) انظر: مختصر القدوري (214)، المبسوط (17/ 34)، بدائع الصنائع (6/ 230)، فتح القدير (8/ 172)، رؤوس المسائل (537)، طريقة الخلاف (418)، شرح أدب القاضي للحسام الشهيد (174).
(7) وفي “د” و”هـ” و”و”: “وأنَّه يبدأ بهما في القسامة”.

(1/391)


بأيمان المدعى عليه (1).

فصل
وأما تحليف الشاهد فقد تقدم (2).
ومما يلتحق به: أنه لو ادعى عليه شهادة فأنكرها، فهل يحلف، وتصح الدعوى بذلك؟ فقال شيخنا (3): لو قيل إنه تصح الدعوى بالشهادة لتوجه؛ لأن الشهادة سبب موجب للحق (4)، فإذا ادعى على رجل أنه شاهد له بحقه، وسأل يمينه: كان له ذلك، فإذا نكل عن اليمين لزمه ما ادعى بشهادته، إن قيل: إن كتمان الشهادة موجب للضمان لما تلف، وما هو ببعيد، كما قلنا: يجب الضمان على من ترك الإطعام (5) الواجب، فإن ترك الواجب إذا كان موجبًا للتلف، أوجب الضمان كفعل المحرم، إلا أنه يعارض هذا: أن هذا (6) تهمة للشاهد، وهو يقدح في عدالته فلا يحصل المقصود، فكأنه يقول: لي
__________
(1) انظر: مختصر القدوري (192)، مختصر اختلاف العلماء (5/ 177)، كتاب الأصل (4/ 426)، بدائع الصنائع (7/ 286)، العناية (10/ 373)، تكملة البحر الرَّائق (9/ 189)، البناية (12/ 409)، اللباب (2/ 64).
(2) ص (379).
(3) انظر: الفتاوى الكبرى (4/ 640)، الفروع (6/ 459)، كشاف القناع (6/ 330).
(4) في “أ”: “الحق”.
(5) في باقي النسخ عدا “أ”: “الطعام”.
(6) “أنَّ هذا” ساقطة من “ب” و”و”.

(1/392)


شاهد فاسق بكتمانه، إلا (1) أن هذا لا ينفي الضمان في نفس الأمر.
وقد ذكر القاضي أبو يعلى في ضمن مسألة الشهادة على الشهادة في الحدود التي لله تعالى وللآدمي: أن الشهادة ليست حقًّا على الشاهد، بدلالة أن رجلًا لو قال: لي على فلان شهادة فجحدها فلان، أن الحاكم لا يعدى (2) عليه ولا يحضره، ولو كانت حقًّا عليه لأحضره، كما يحضره في سائر الحقوق، وسلم القاضي ذلك، وقال: ليس إذا لم يجز الاستعداء والإغراء (3)، أو لم (4) تسمع الدعوى، لم تسمع الشهادة به، (5) وكذلك أعاد ذكرها في مسألة شاهد الفرع على شاهد الأصل، وأن الشهادة ليست حقًّا على أحد، بدليل عدم الإعداء والإحضار (6) إذا ادعى أن له قبل فلان شهادة (7).
وهذا الكلام ليس على إطلاقه، فإن الشهادة المتعينة حق على الشاهد، يجب عليه القيام بها، ويأثم بتركه، قال الله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283]. وقال تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وهل المراد به: إذا ما
__________
(1) “إلَّا” ساقطة من “د”.
(2) في “أ”: “يغري”.
(3) في “د” و”و”: “الاستواء والاستعداء”، وفي “جـ”: “الاستقراء والأعداء”.
(4) في “أ”: “إذا لم”.
(5) في “أ” جملة: “لا لها وأكثره لا يسمع الاستعداء والإغراء فيه وتسمع الشهادة به” وهذه الجملة ساقطة من جميع النسخ إلَّا “أ” ومعناها غير واضح.
(6) في جميع النسخ عدا “أ”: “والقضاء”.
(7) الفروع (6/ 459)، كشاف القناع (6/ 330).

(1/393)


دعوا للتحمل، أو للأداء؟ على قولين للسلف (1)، وهما روايتان عن أحمد (2)، والصحيح: أن الآية تعمهما، فهي حق له، يأثم بتركه ويتعرض للفسق والوعيد، ولكن ليست حقًّا تصح الدعوى به والتحليف عليه؛ لأن ذلك يعود على مقصودها بالإبطال، فإنه مستلزم لاتهامه (3) والقدح فيه بالكتمان.
وقياس المذهب: أن الشاهد إذا كتم شهادته بالحق ضمنه؛ لأنه أمكنه تخليص حق صاحبه فلم يفعل، فلزمه الضمان، كما لو أمكنه تخليصه من هلكة فلم يفعل.
وطرد هذا الحاكم إذا تبين له الحق فلم يحكم لصاحبه به، فإنه يضمنه؛ لأنه أتلفه عليه بترك الحكم الواجب عليه.
فإن قيل: هذا ينتقض عليكم بمن رأى متاع غيره يحترق أو يغرق أو يسرق ويمكنه دفع أسباب تلفه، أو رأى شاته تموت ويمكنه ذبحها، فإنه لا يضمن في ذلك كله (4).
قيل: المنصوص عن عمر – رضي الله عنه – وغيره: إنما هو فيمن
__________
(1) انظر: تفسير ابن جرير (3/ 126)، تفسير ابن أبي حاتم (2/ 562)، تفسير عبد الرزاق (1/ 374)، تفسير ابن كثير (1/ 498)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 338).
(2) انظر: المغني (14/ 137)، الشرح الكبير (29/ 249)، الإنصاف (29/ 249).
(3) في “أ”: “يستلزم اتهامه”.
(4) في “د”: “فإنَّه لا يضمن ذلك”.

(1/394)


استسقى قومًا فلم يسقوه حتى مات، فألزمهم ديته (1)، وقاس عليه أصحابنا كل من أمكنه إنجاء إنسان من هلكة فلم يفعل (2).
وأما هذه الصورة التي نقضتم بها فلا ترد.
والفرق بينها وبين الشاهد والحاكم: أنهما سببان للإتلاف (3) بترك ما وجب عليهما من الشهادة والحكم، ومن تسبب إلى إتلاف مال غيره (4) وجب عليه ضمانه، وفي هذه الصورة لم يكن من الممسك عن التخليص سبب يقتضي الإتلاف، والله – سبحانه وتعالى – أعلم.
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة (5/ 450) رقم (27890). وانظر: المحلَّى (10/ 522)، المنتقى للمجد (7/ 90)، الأحكام السلطانية لأبي يعلى (219)، المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد (37)، الفتح الرباني للدمنهوري (211).
(2) انظر: المغني (12/ 102)، الشرح الكبير (25/ 352)، الأحكام السلطانية (219)، الفتاوى الكبرى (5/ 413)، الفروع (6/ 13).
(3) وفي “أ”: “متسببان إلى الإتلاف”.
(4) في “أ”: “مال محترم”.

(1/395)


فصل
الطريق الثامن من طرق الحكم: الحكم بالرَّجل الواحد والمرأتين.
قال اللهُ تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282].
فإن قيل: فظاهر القرآن يدلُّ على أنَّ الشاهد والمرأتين بدل عن الشاهدين، وأنَّه لا يقضى بهما إلَّا عند عدم الشاهدين.
قيل (1): القرآن لا يدلُّ على ذلك، فإنَّ هذا (2) أمرٌ لأصحاب الحقوق بما يحفظون به حقوقهم، فهو سبحانه أرشدهم إلى أقوى الطرق، فإن لم يقدروا على أقواها انتقلوا إلى ما دونها، فإنَّ شهادة الرجل الواحد أقوى (3) من شهادة (4) المرأتين؛ لأنَّ النَّساء يتعذَّرُ غالبًا حضورهنَّ مجالس الحكام، وحفظهنَّ وضبطهنَّ دون حفظ الرَّجال وضبطهم، ولم يقل سبحانه: احكموا بشهادة رجلين، فإن لم يكونا رجلين (5) فرجلٌ وامرأتان، وقد جعل – سبحانه وتعالى – المرأة على النصف من الرجل في عدة أحكام: أحدها: هذا، والثاني: في
__________
(1) انظر: إعلام الموقعين (1/ 137 و 147)، الأم (7/ 143)، التمهيد (2/ 156)، تفسير القرطبي (3/ 292).
(2) “فإنَّ هذا” ساقطة من “و”.
(3) “الواحد” ساقطة من “أ”.
(4) “شهادة” ساقطة من “ب”.
(5) “رجلين” ساقطة من جميع النسخ عدا “د”.

(1/396)


الميراث (1)، والثالث: في الدِّية (2)، والرَّابع: في العقيقة (3)، والخامس: في العتق، كما في الصحيح عنه – صلى الله عليه وسلم – أنَّه قال: “مَنْ أَعْتَقَ امْرءًا مُسْلِمًا أَعْتَقَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّار” (4) و”وَمَنْ أَعْتَقَ امْرَأتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ أَعْتَقَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُمَا عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ” (5).
__________
(1) في قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11](2) لحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه مرفوعًا: “دية المرأة على النصف من دية الرجل” رواه البيهقي (8/ 95) وقال: ورُوي ذلك من وجه آخر عن عبادة بن نسي وفيه ضعف. وحكاه ابن المنذر إجماعًا. “الإجماع” (166).
(3) هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم سابعه. المطلع (207) وانظر: تحفة المودود بأحكام المولود (34).
لحديث أم كرز – رضي الله عنها – أنَّها سألت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن العقيقة فقال: “عن الغلام شاتان وعن الأنثى واحدة” رواه أحمد (6/ 422)، وأبو داود (2835)، والترمذي (1516)، والنسائي (7/ 164)، وابن ماجه (3162) وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. وصححه ابن القيم في تحفة المودود (44).
(4) رواه البخاري رقم (6715) (11/ 607)، ومسلم رقم (1509) (10/ 405) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) رواه الترمذي رقم (1547) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه وقال: “هذا حديث حسن صحيح غريب” ا. هـ. ورواه أبو داود (3967)، والنسائي في الكبرى (3/ 170) رقم (4883)، وابن ماجه رقم (2522)، وابن أبي شيبة (3/ 116)، وأحمد (4/ 235)، والطيالسي (1198)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3/ 89) رقم (1408)، والطبراني في الكبير (20/ 318) (755)، وعبد الله بن المبارك في مسنده رقم (213) من حديث كعب بن مرَّة رضي الله عنه. وصحح إسناد النسائي الحافظ ابن حجر رحمه الله. فتح =

(1/397)


وقوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]، فيه دليلٌ على أنَّ الشاهد إذا نسِيَ شهادته فذكره بها غيره لم يرجِعِ إلى قوله حتى يذكرها وليس له أن يقلده، فإنَّه سبحانه قال: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} ولم يقل: فتخبرها، وفيها قراءتان (1): التثقيل والتخفيف (2)، والصحيح: أنَّهما بمعنى واحد من “الذِّكْرِ” وأبعد من قال: فيجعلها ذَكَرًا، لفظًا ومعنى (3)، فإنَّه سبحانه جعل ذلك علَّة للضلال (4) الَّذي هو ضد الذِّكر، فإذا ضلت أو نسيت ذكرتها الأخرى فذكرت، وقوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ} تقديره عند الكوفيين: لئلا تضل إحداهما، ويطردون ذلك في كلِّ ما جاء من هذا، كقوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] ونحوه.
ويرد عليهم نصب قوله: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] إذ يكون تقديره: لئلا تضل، ولئلا تذكر، وقدَّره البصريون بمصدر
__________
= الباري (5/ 175)، وقال أبو داود: “سالم – يعني ابن أبي الجعد – لم يسمع من شرحبيل – ابن السمط -” ا. هـ. السنن (562).
(1) في “ب”: “قولان”.
(2) انظر: كتاب الإقناع في القراءات السبع (2/ 616)، البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة (55)، المبسوط في القراءات العشر (137)، الكشف عن وجوه القراءات السبع (1/ 320)، الغاية في القراءات العشر (207)، قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف وشدَّد الباقون.
(3) وممَّن قال بذلك سفيان بن عيينة رحمه الله. رواه عنه ابن جرير في التفسير (3/ 124).
(4) وفي “د” و”هـ”: “عليه الضلال”.

(1/398)


محذوف، وهو الإرادة والكراهة والحذار ونحوها، فقالوا: يبين الله لكم أن تضلوا (1)، أي حذار أن تضلوا، وكراهة أن تضلوا، ونحوه.
ويشكل عليهم هذا التقدير في قوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} فإنَّهم إن قدروه كراهة أن تضل إحداهما كان حكم المعطوف عليه – وهو فتذكر – حكمه، فيكون مكروهًا، وإن قدروها إرادة أن تضل إحداهما كان الضلال مرادًا.
والجواب عن هذا: أنَّه كلام محمول على معناه، والتقدير: أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت، وهذا مرادٌ قطعًا (2)، والله أعلم.

فصل (3)
قال شيخنا ابن تيمية – رحمه الله تعالى – (4): قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]، فيه دليلٌ على أنَّ استشهاد امرأتين مكان رجل إنَّما هو لإذكار إحداهما الأخرى إذا ضلت، وهذا إنَّما يكون فيما يكون فيه الضلال في العادة، وهو النسيان وعدم
__________
(1) من قوله “ونحوه ويرد عليهم” إلى قوله “يبين الله لكم أن تضلوا” ساقطة من “ب”.
(2) انظر: تفسير ابن جرير (3/ 124)، مشكل إعراب القرآن (1/ 118)، الدر المصون (2/ 658)، الكتاب لسيبويه (1/ 430 و 476)، تفسير ابن عطية (1/ 381).
(3) “فصل” ساقطة من “د” و”هـ” و”و”.
(4) “ابن تيمية – رحمه الله تعالى -” ساقطة من “أ”.

(1/399)


الضبط، وإلى هذا المعنى أشار النبي – صلى الله عليه وسلم – حيث قال: “وأَمَّا نُقْصَانُ عَقْلِهِنَّ: فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ بشَهَادَةِ رَجُلٍ” (1)، فبين أنَّ شطر شهادتهنَّ إنَّما هو لضعف العقل لا لضعف الدِّين، فعلم بذلك أنَّ عدلَ النساء بمنزلة عدلِ الرِّجال، وإنَّما عقلها ينقص عنه، فما كان من الشهادات لا يخاف فيه الضلال في العادة، لم تكن فيه على نصف رجل، وما يقبل فيه شهادتهنَّ منفردات إنَّما هو أشياء تراها (2) بعينها، أو تلمسه بيدها، أو تسمعه بأذنها من غير (3) توقف على عقل، كالولادة والاستهلال، والارتضاع، والحيض، والعيوب تحت الثياب، فإنَّ مثل هذا لا يُنسى في العادة ولا تحتاج معرفته إلى كمال عقل، كمعاني الأقوال التي تسمعها من الإقرار بالدِّين وغيره، فإنَّ هذه معانٍ معقولة، ويطول العهد بها في الجملة.
__________
(1) رواه البخاري رقم (304) (1/ 483)، ومسلم رقم (132) (2/ 425) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. ورواه مسلم (2/ 429) من حديث أبي هريرة وابن عمر – رضي الله عنهما -.
(2) في “ب”: “لا تراها”.
(3) “غير” ساقطة من “و”.

(1/400)


فصل
إذا تقرَّر هذا، فتقبل شهادة الرجل والمرأتين في كلِّ موضع تقبل فيه شهادة الرجل ويمين الطالب (1).
وقال عطاء وحماد بن أبي سليمان: تقبل شهادة رجل وامرأتين في الحدود والقصاص (2).
ويقضى بها عندنا في النكاح والعتاق على إحدى الروايتين (3).
ورُويَ ذلك عن جابر بن زيد (4)، وإياس بن معاوية (5)، والشعبي (6)، والثوري (7)، وأصحاب الرَّأي (8)، وكذلك في الجنايات
__________
(1) انظر: الذخيرة (10/ 247)، الكافي (417)، البيان والتحصيل (10/ 115)، الأم (7/ 143)، حلية العلماء (8/ 280)، روضة الطالبين (8/ 252)، مغني المحتاج (4/ 443)، نهاية المحتاج (8/ 313)، المغني (14/ 127)، كتاب الروايتين والوجهين للقاضي أبي يعلى (3/ 87).
(2) رواه عبد الرزاق (8/ 331). وانظر: المحلى (9/ 398).
(3) انظر: المغني (14/ 127).
(4) جابر بن زيد الأزدي اليحمدي أبو الشعثاء، توفي سنة 93 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: طبقات ابن سعد (7/ 133)، سير أعلام النبلاء (4/ 481)، حلية الأولياء (3/ 85).
انظر: المحلى (9/ 397).
(5) انظر: المحلى (9/ 397).
(6) ابن أبي شيبة (4/ 517)، المحلى (9/ 397).
(7) رواه عبد الرزاق (10/ 218).
(8) انظر: مختصر القدوري (219)، المبسوط (16/ 142)، مختصر اختلاف =

(1/401)


الموجبة (1) للمال على إحدى الروايتين (2).
قال في “المحرر” (3): من أتى برجل وامرأتين، أو شاهد ويمين فيما يوجب القَوَد: لم يثبت به قود ولا مال، وعنه يثبت المال إذا كان المجني عليه عبدًا. نقلها ابن منصور، ومن أتى بذلك في سرقة ثبت له المال دون القطع. ا. هـ.
وقال أبو بكر (4): لا يثبت مطلقًا (5).
ويقضى بالشاهد والمرأتين في الخلع (6) إذا ادعاه الرجل، فإن ادعته المرأة لم يقبل فيه إلا رجلان، والفرق بينهما: أنه إذا كان المدعي هو الزوج فهو مدع للمال، وهو يثبت بشاهد وامرأتين، وإذا كانت هي المدعية، فهي مدعية لفسخ النكاح وتحريمها عليه، ولا يثبت إلا بشاهدين، ونص أحمد في رواية الجماعة على أنه لا تجوز شهادة النساء في النكاح والطلاق (7)، وقال في الوكالة: إن كانت مطالبة بدين قبل فيها شهادة رجل وامرأتين وأما غير ذلك
__________
= العلماء (3/ 345)، المختار للفتوى (131)، روضة القضاة (1/ 209).
(1) في “ب”: “الواجبة”.
(2) انظر: المحرر (2/ 325)، النكت على المحرر (2/ 325).
(3) (2/ 325).
(4) أبو بكر عبد العزيز.
(5) انظر: مسائل أبي بكر عبد العزيز التي خالف فيها الخرقي (129)، كتاب الروايتين والوجهين لأبي يعلى (3/ 88).
(6) انظر: المحرر (2/ 326).
(7) انظر: المغني (14/ 127)، المقنع (350)، الإرشاد إلى سبيل الرشاد (506).

(1/402)


فلا (1)، وأجاز زفر قبول الرجل والمرأتين في النكاح والطلاق والعتق (2).

فصل

وشهادة النساء نوعان:
نوع يقبل فيه النساء منفردات، ونوع لا يقبلن فيه إلا مع الرجال، وقد اختلف السلف في ذلك في مواضع:
فروى ابن أبي شيبة عن مكحول: لا تجوز شهادة النساء إلا في الدين (3). وروى أيضًا عن الشعبي قال: من الشهادات ما لا يجوز فيه إلا شهادة النساء (4). وعن الزهري قال: مضت السنة أن تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن (5).
وقال ابن عمر: لا تجوز شهادة النساء وحدهن، إلا فيما لا يطلع عليه غيرهن (6) من عورات النساء وحملهن وحيضهن (7).
__________
(1) انظر: المغني (14/ 127)، المقنع (350)، كتاب الروايتين والوجهين “قسم الفقة” (3/ 87).
(2) انظر: تفسير الألوسي (3/ 58)، وتفسير الخازن (1/ 215)، تفسير أبي السعود (1/ 270).
(3) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (4/ 517).
(4) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (4/ 335).
(5) رواه ابن أبي شيبة (4/ 334)، وعبد الرزاق (8/ 333). وانظر: المحلى (9/ 396).
(6) “وقال ابن عمر” إلى “عليه غيرهن” ساقطة من “و”.
(7) رواه أبو عبيد كما ذكره المصنف، وعبد الرزاق (8/ 333) رقم (15425)، المحلى (9/ 396).

(1/403)


وقال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: “لا تجوز شهادة النساء بحتًا (1)، حتى يكون معهن رجل” رواه إبراهيم بن أبي يحيى (2) عن أبي ضمرة (3) عن أبيه (4) عن جده (5) عن علي (6).
وصح ذلك عن عطاء (7)، وعمر بن عبد العزيز.
وقال سعيد بن المسيب، وعبد الله بن عتبة (8): لا تقبل شهادة (9) النساء إلا فيما لا يطلع عليه غيرهن (10).
وقال عمر (11) وعلي (12) – رضي الله عنهما -: “لا تجوز شهادة
__________
(1) “بحتًا” ساقطة من “ب”.
(2) إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى.
(3) الذي يظهر لي أنه أبو ضميرة، وهو الحسين بن عبد الله بن ضميرة بن أبي ضميرة الحميري. قال ابن حبان: كان رجلًا صالحًا أقلب عليه نسخة أبيه عن جده فحدث بها ولم يعلم. وقال: روى عن أبيه عن جده نسخة موضوعة. وقال ابن معين: ليس بثقة ولا مأمون. وكذبه الإمام مالك. وقال ابن حزم: متروك ابن متروك. انظر: الكامل (3/ 225)، المجروحين (1/ 244)، ميزان الاعتدال (2/ 293)، تعجيل المنفعة (115)، المحلى (9/ 381).
(4) تقدم ذكره.
(5) تقدمت ترجمته.
(6) رواه عبد الرزاق (8/ 332). وانظر: المحلى (9/ 396).
(7) رواه عبد الرزاق (8/ 331).
(8) عند عبد الرزاق (8/ 333): “عبيد الله بن عبد الله بن عتبة”.
(9) “شهادة” ساقطة من “أ”.
(10) رواه عنهما عبد الرزاق (8/ 333). وانظر: المحلَّى (9/ 396).
(11) رواه عبد الرزاق (8/ 330). وانظر: المحلَّى (9/ 397).
(12) رواه عبد الرزاق (8/ 329). وانظر: المحلَّى (9/ 397).

(1/404)


النساء في الطلاق ولا النكاح ولا الدماء ولا الحدود”.
وقال الزهري: “مضت السنة من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والخليفتين بعده: أنه لا تجوز شهادة النساء في الحدود والنكاح والطلاق” (1).
وصح عن شريح أنه أجاز في عتاقةٍ شهادةَ (2) رجل وامرأتين (3).
وصح عن الشعبي قبول شهادة رجل وامرأتين في الطلاق وجراح الخطأ (4).
وصح عن جابر بن زيد: قبول شهادة (5) الرجل والمرأتين في الطلاق والنكاح (6).
وصح عن إياس بن معاوية: قبول امرأتين في الطلاق (7).
وصح عن شريح: أنه أجاز أربع نسوة على رجل في صداق
__________
(1) رواه سحنون في المدونة (5/ 162) تامًّا، ورواه مختصرًا أبو يوسف في الخراج (178)، وابن أبي شيبة (5/ 528)، وعبد الرزاق (8/ 329)، وضعفه ابن حزم في المحلَّى (9/ 403). انظر: التلخيص الحبير (4/ 380)، الإرواء (8/ 295).
(2) “شهادة” ساقطة من “د” و”هـ” و”و”.
(3) رواه عبد الرزاق (8/ 332)، وابن أبي شيبة (4/ 517). وصححه ابن حزم في المحلَّى (9/ 397).
(4) رواه ابن أبي شيبة (4/ 517). وانظر: المحلَّى (9/ 397) وصححه.
(5) “شهادة” مثبتة من “د”.
(6) وفي “ب” بدل النكاح: “والجراح”.
والأثر صححه ابن حزم في المحلَّى (9/ 397).
(7) صححه ابن حزم في المحلَّى (9/ 397).

(1/405)


امرأة (1).
وذكر عبد الرزاق (2) عن ابن (3) جريج عن هشام بن حجيرة (4) عمن يرضى – كأنه يريد طاووسًا – قال: تجوز شهادة النساء في كل شيء مع الرجال إلا الزنا؛ من أجل أنه لا ينبغي أن ينظرن إلى ذلك.
وقال أبو عبيد: حدثنا يزيد بن هارون، عن جرير (5) بن أبي (6) حازم، عن الزبير بن الحارث (7)، عن أبي لبيد (8): أن سكرانًا طلق امرأته ثلاثًا، فشهد عليه أربع نسوة فرفع إلى عمر بن الخطاب – رضي اللهُ عنه – فأجاز شهادة النسوة، وفرَّق بينهما (9).
وقال عبد الرحمن بن مهدي: عن حراش بن مالك (10) حدثنا
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة (4/ 187). وانظر: المحلَّى (9/ 397).
(2) في المصنف (7/ 332) و (8/ 331).
(3) في “أ” و”ب”: “أبي”.
(4) هكذا، وفي “أ” و”ب” و”د” و”هـ”: “حجرة”. والصواب: “حجير” كما هو مثبتٌ في مصنف عبد الرزاق ومصادر ترجمته.
وهو هشام بن حجير المكي، قال العجلي: ثقة صاحب سنة. الثقات (7/ 567)، تهذيب الكمال (30/ 81)، الكاشف (3/ 221).
(5) من قوله “عمَّن يرضى كأنَّه يريد” إلى “هارون عن جرير” ساقطة من “ب”.
(6) “أبي” ساقطة من “و”.
(7) الصواب “الزبير بن الخريت” كما في المحلَّى (9/ 397)، وتقدمت ترجمته.
(8) في “ب”: “أبي أسيد”.
(9) رواه أبو عبيد كما ذكره المؤلِّف، وكذا ابن حزم في المحلَّى (9/ 397). ونحوه عند ابن أبي شيبة (4/ 78)، والبخاري في التاريخ (3/ 133).
(10) حراش بن مالك المراغي الجهضمي، وثَّقه ابن معين وأثنى عليه عبد الصمد =

(1/406)


يحيى بن عبيد (1) عن أبيه (2): أنَّ رجلًا من عمان ثَمِلَ من الشراب، فطلق امرأته ثلاثًا، فشهد عليه نسوة، فكُتِبَ في ذلك إلى عمر بن الخطاب – رضي اللهُ عنه -، فأجاز شهادة النسوة، وأثبت (3) عليه الطلاق (4).
وذكر سفيان بن عيينة: أنَّ امرأة أوطأت (5) صبيًّا فقتلته (6)، فشهد عليها أربع نسوة، فأجاز علي بن أبي طالب شهادتهن (7).
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا حفص بن غياث (8) عن أبي
__________
= خيرًا. التاريخ الكبير (3/ 133)، وذكره ابن حبان في الثقات (8/ 219).
وقال أبو حاتم: مجهول، وقال الذهبي وابن حجر: “مجهول يروي عن يحيى بن عبيد” ا. هـ. ميزان الاعتدال (2/ 209)، لسان الميزان (2/ 221).
(1) يحيى بن عبيد المكي مولى السائب بن أبي السائب المخزومي، وثَّقه النسائي وابن حبان. انظر: الثقات (5/ 529)، تهذيب الكمال (31/ 455).
(2) هو عبيد مولى السائب المخزومي، وثَّقه ابن حبان، وذكره ابن قانع وابن منده في الصحابة وسموا أباهُ رحيبًا، والله أعلم. انظر: ثقات ابن حبان (5/ 139)، تهذيب الكمال (19/ 253)، تهذيب التهذيب (7/ 72).
(3) في “أ” و”د”: “وأبت”.
(4) رواه أبو عبيد كما ذكره المؤلِّف، وابن حزم في المحلَّى (9/ 397) وعنده: “وأبت عليه الطلاق”.
(5) صححها ابن باز رحمه الله تعالى إلى “وطئت”، وهو موافق للرواية التالية.
(6) “فقتلته” ساقطة من جميع النسخ عدا “أ”.
(7) رواه أبو عبيد كما في المحلَّى (9/ 397 – 398).
(8) هو حفص بن غياث بن طلق النخعي أبو عمر الكوفي، توفي سنة 194 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: تهذيب الكمال (7/ 56)، تقريب التهذيب =

(1/407)


طلق (1) عن أخته هند بنت طلق (2) قالت: “كنت في نسوة وصبي منحنٍ، فقامت امرأة فمرَّت، فوطئت الصبي فقتلته والله، فشهد عند علي – رضي اللهُ عنه – عشر نسوة – أنا عاشرتهنَّ (3) – فقضى عليها علي – رضي الله عنه – بالدِّية، وأعانها بألفين” (4).
وقال محمد بن المثنى: حدثنا أبو معاوية الضرير (5) عن أبيه (6) عن عطاء بن أبي رباح قال: لو شهد عندي ثمان نسوة على امرأة بالزنا لرجمتها (7).
وقال عبد الرزاق: حدثنا ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح قال (8):
__________
= (173).
(1) أظنه عم حفص بن غياث وهو غنام بن طلق بن معاوية النخعي، روى عنه ابنه طلق وحفص بن غياث. انظر: تهذيب الكمال (13/ 457)، ولم أجد من ترجم له.
(2) هند بنت طلق بن معاوية النخعي، لم أجد لها ترجمة.
(3) “أنا عاشرتهنَّ” ساقطة من “و”.
(4) رواه ابن أبي شيبة (5/ 464) رقم (28020). وانظر: المحلَّى (9/ 398).
(5) محمد بن خازم التميمي السعدي، أبو معاوية، وثَّقة العجلي، ولد سنة 113 هـ، وتوفي سنة 194 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: الثقات (7/ 441)، تهذيب الكمال (25/ 123)، سير أعلام النبلاء (9/ 73).
(6) هو خازم بن الحسين أبو إسحاق البصري، قال ابن معين: ليس بشيءٍ، وقال أبو حاتم: شيخٌ يكتب حديثه ولا يحتج به. انظر: تاريخ ابن معين (2/ 142)، تهذيب الكمال (8/ 24).
(7) رواه أبو عبيد كما في المحلَّى (9/ 398).
(8) “لو شهد عندي ثمان نسوة” إلى قوله “عن عطاء بن أبي رباح قال” ساقط =

(1/408)


تجوز شهادة النِّساء مع الرِّجال في كلِّ شيءٍ، ويجوز على الزِّنا امرأتان وثلاثة رجال (1).
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا إسماعيل بن عُلَية، عن عبد الله (2) بن عون، عن محمد بن سيرين أنَّ رجلًا ادَّعى متاع البيت، فجاء أربع نسوة فشهدن، فقلن: دفعت إليه الصداق، فجهزها به، فقضى شريح عليه بالمتاع” (3)، وهذا في غاية الصحة (4).
وقال سفيان الثوري: تقبل المرأتان مع الرجل في القصاص، وفي الطلاق، والنكاح، وفي كلِّ شيءٍ، حاشا الحدود (5)، ويقبلن منفردات فيما لا يطلع عليه إلَّا النِّساء (6).
وقال أبو حنيفة (7) – رحمه الله -: تقبل شهادة رجل وامرأتين في جمع الأحكام إلَّا القصاص والحدود، ويقبلن (8) في الطلاق والنكاح
__________
= من “ب”.
(1) رواه عبد الرزاق في المصنف (8/ 331). وانظر: المحلَّى (9/ 398).
(2) في “جـ”: “عبيد الله”.
(3) رواه ابن أبي شيبة (4/ 187).
(4) قاله ابن حزم. المحلَّى (9/ 398).
(5) رواه عبد الرزاق (10/ 218).
(6) انظر: المحلَّى (9/ 398).
(7) انظر: المبسوط (16/ 142)، مختصر اختلاف العلماء (3/ 345 و 346)، روضة القضاة (1/ 209)، مختصر القدوري (219)، المختار الفتوي (131)، رؤوس المسائل (529)، الغرة المنيفة (188).
(8) وفي “ب” و”هـ” و”و”: “ويقبل”.

(1/409)


والرجعة مع رجل، ولا يقبلن منفردات، لا في الرضاع ولا في انقضاء العدة بالولادة، ولا في الاستهلال، لكن مع رجل، ويقبلن في الولادة المطلقة وعيوب النِّساء منفردات.
وقال أبو يوسف ومحمد: يقبلن منفردات في انقضاء العدة بالولادة وفي الاستهلال (1).
وقال مالك (2) – رضي الله عنه -: لا يقبل النساء مع رجلٍ ولا بدونه في قصاص، ولا حدًّ، ولا نكاح، ولا طلاق (3)، ولا رجعة، ولا عتق، ولا نسب، ولا ولاء، ولا إحصان، وتجوز شهادتهنَّ مع رجلٍ في الديون والأموال والوكالة والوصية التي لا عتق فيها، ويقبلن منفردات في عيوب النساء والولادة والرضاع والاستهلال، وحيث يقبل شاهد ويمين الطالب، فإنَّه يقضى فيه بشهادة امرأتين ويمين الطالب وشهادة رجل وامرأتين.
وقال الشافعي (4): تقبل شهادة امرأتين (5) مع رجلٍ في الأموال
__________
(1) انظر: أدب القضاة للسروجي (355)، والمراجع السابقة.
(2) انظر: المدونة (3/ 44) و (5/ 160)، التفريع (2/ 237)، الكافي (469)، فصول الأحكام (238)، الفروق (4/ 94)، المنتقى (5/ 202)، المعونة (3/ 1552)، منتخب الأحكام (1/ 155)، المفيد للحكام (1/ 399)، تبصرة الحكام (1/ 359)، بداية المجتهد (8/ 647)، الذخيرة (10/ 248).
(3) “ولا طلاق” ساقطة من “د” و”و”.
(4) انظر: الأُم (6/ 242)، المهذب (2/ 333)، روضة الطالبين (8/ 227)، شرح السنة (10/ 104).
(5) “ويمين الطالب وشهادة رجل وامرأتين. وقال الشافعي تقبل شهادة امرأتين” =

(1/410)


كلها، وفي العتق؛ لأنَّه مال، وفي قتل الخطأ، وفي الوصية لإنسانٍ بمالٍ، ولا يقبلن في أصل الوصية، لا مع رجلٍ ولا بدونه.

فصل
وحيث قبلت شهادة النساء منفردات، فقد اختلف في نصاب هذه البينة، فقال الشعبي (1) والنخعي (2) – في رواية عنهما – وقتادة (3) وعطاء وابن شبرمة (4) والشافعي (5) وداود (6): لا يقبل أقل من أربع نسوة، واستثنى داود الرضاع، فأجاز فيه شهادة امرأة واحدة.
وقال عثمان البتي: لا يقبل فيما يقبل فيه النساء منفردات إلَّا ثلاث نسوة، لا أقل من ذلك (7)، وقالت طائفة: تقبل امرأتان في كلِّ ما يقبل فيه النساء منفردات، وهو قول الزهري (8)، إلَّا في الاستهلال خاصَّة،
__________
= مثبت من “أ”. وساقط من باقي النسخ.
(1) رواه عنه عبد الرزاق (7/ 484) و (8/ 332)، وأسلم بن سهل في تاريخ واسط (1/ 114).
(2) انظر: المحلَّى (9/ 399).
(3) رواه عبد الرزاق (7/ 483) و (8/ 332).
(4) انظر: المحلَّى (9/ 399).
(5) انظر: الأم (7/ 88)، الحاوي (17/ 21)، روضة الطالبين (8/ 227)، التهذيب (6/ 313)، المهذب (2/ 334)، اختلاف العلماء (1/ 287)، المسائل الفقهية لابن كثير (205)، حلية العلماء (8/ 279)، رحمة الأمة (336)، فتح الباري (5/ 316)، معرفة السنن (14/ 160).
(6) انظر: المحلَّى (9/ 399).
(7) انظر: المحلَّى (9/ 399)، المغني (14/ 136)، الحاوي (17/ 21).
(8) انظر: المحلَّى (9/ 399)، المغني (14/ 136)، الجامع للخلال (1/ 227).

(1/411)


فإنَّه تقبل فيه القابلة وحدها.
وقال الحكم بن عتيبة: لا يقبل في ذلك كله إلَّا امرأتان (1)، وهو قول ابن أبي (2) ليلى ومالك (3) وأبي عبيد (4)، وأجاز علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – شهادة القابلة (5) وحدها كما تقدم.
قال ابن حزم (6): وروينا ذلك عن أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – في الاستهلال (7)، وورث عمر به، وهو قول الزهري (8)، والنخعي (9) والشعبي (10) – في أحد قوليهما -، وهو قول الحسن
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة (4/ 334).
(2) رواه عبد الرزاق (8/ 334).
(3) انظر: المدونة (3/ 45) و (5/ 158)، المنتقى (5/ 220)، التفريع (2/ 238)، الكافي (469)، الذخيرة (10/ 248)، التاج والإكليل (6/ 182)، الفروق (4/ 96)، البيان والتحصيل (10/ 24)، منتخب الأحكام (1/ 154)، تبصرة الحكام (1/ 358).
(4) انظر: المحلَّى (9/ 399).
(5) رواه عنه عبد الرزاق (7/ 485)، وابن أبي شيبة (4/ 335)، والدارقطني (4/ 233)، والبيهقي (10/ 254) وقال: “هذا لا يصح، جابر الجعفي متروك، وعبد الله بن نجي فيه نظر” ا. هـ. وضعفه الزيلعي في نصب الرَّاية (4/ 80).
(6) المحلَّى (9/ 399).
(7) رواه عبد الرزاق (8/ 334). وانظر: نصب الرَّاية (4/ 81)، الدراية (2/ 171).
(8) رواه عبد الرزاق (8/ 333).
(9) رواه عبد الرزاق (8/ 334)، وابن أبي شيبة (4/ 335).
(10) رواه عبد الرزاق (8/ 333)، وابن أبي شيبة (4/ 335).

(1/412)


البصري (1)، وشريح (2)، وأبي الزناد (3)، ويحيى الأنصاري (4)، وربيعة (5)، وحماد بن أبي سليمان (6)، قال: وإن كانت يهودية، كل ذلك في الاستهلال.
وقال الشعبي وحماد: ذلك في كلَّ ما لا يطلع عليه إلَّا النِّساء (7)، وهو قول الليث بن سعد (8).
وقال الثوري: يقبل في عيوب النِّساء وما لا يطلع عليه إلَّا النِّساء امرأة واحدة (9)، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه (10)، وصحَّ عن ابن عباس (11)، وروي عن عثمان (12)، وعلي (13)، وابن
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة (4/ 335)، وعبد الرزاق (7/ 484) و (8/ 333).
(2) رواه عبد الرزاق (8/ 334)، وابن أبي شيبة (4/ 335)، والبيهقي (10/ 253).
(3) رواه عبد الرزاق (7/ 485). وانظر: المحلَّى (9/ 399).
(4) رواه عبد الرزاق (7/ 485). وانظر: المحلَّى (9/ 399).
(5) انظر: المحلَّى (9/ 399).
(6) رواه عبد الرزاق (7/ 484) و (8/ 333)، وابن أبي شيبة (4/ 335).
(7) مصنف عبد الرزاق (8/ 332).
(8) انظر: المحلَّى (9/ 399).
(9) انظر: فتح الباري (5/ 316).
(10) انظر: المبسوط (16/ 142) و (6/ 49)، مختصر القدوري (219)، الهداية (8/ 130) و (5/ 464)، حاشية ابن التركماني على البيهقي (10/ 255)، روضة القضاة (1/ 209)، الاختيار (2/ 140)، نوادر الفقهاء (312).
(11) رواه عبد الرزاق (8/ 336).
(12) رواه عبد الرزاق (7/ 482).
(13) تقدم تخريجه قريبًا.

(1/413)


عمر (1)، والحسن البصري (2)، والزهري (3)، وروي عن ربيعة (4)، ويحيى بن سعيد (5)، وأبي الزناد (6)، والنخعي (7)، وشريح (8)، وطاووس (9)، والشعبي (10) الحكم في الرضاع بشهادة امرأة واحدة، وأنَّ عثمان – رضي الله عنه – فرَّق بشهادتها بين الرِّجال ونسائهم (11)، وذكر الزهري أنَّ النَّاس على ذلك (12)، وذكر الشعبي ذلك عن القضاة جملة (13)، وروي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنَّها تستحلف مع ذلك (14).
__________
(1) رواه عبد الرزاق (8/ 333).
(2) رواه سعيد بن منصور (1/ 246) وعبد الرزاق (7/ 483) و (8/ 334).
(3) رواه عبد الرزاق (8/ 334).
(4) انظر: المحلى (9/ 399).
(5) رواه عبد الرزاق (8/ 338)، المحلى (9/ 339).
(6) رواه عبد الرزاق (7/ 485).
(7) رواه عبد الرزاق (7/ 485).
(8) انظر: المحلى (9/ 399).
(9) رواه سعيد بن منصور (1/ 245)، وعبد الرزاق (7/ 483).
(10) رواه عبد الرزاق (7/ 484).
(11) رواه عبد الرزاق (7/ 482) و (8/ 334)، وابن أبي شيبة (3/ 488).
(12) انظر: المحلى (9/ 403)، تحفة الأحوذي (4/ 262)، فتح الباري (5/ 318). وبه يقول الزهري. رواه ابن أبي شيبة (3/ 488).
(13) رواه عبد الرزاق (7/ 484) و (8/ 336)، وابن أبي شيبة (3/ 488).
(14) رواه عبد الرزاق (7/ 482) و (8/ 336)، وابن أبي شيبة (3/ 487). وانظر: مسائل الإمام أحمد رواية الكوسج (1/ 385)، النكت على المحرر (2/ 281)، المغني (8/ 153).

(1/414)


وصحَّ عن معاوية: أنَّه قضى في دار بشهادة أم سلمة أم المؤمنين، ولم يشهد بذلك غيرها (1).
قال أبو محمد ابن حزم (2): وروينا عن عمر (3) وعلي (4) والمغيرة بن شعبة (5) وابن عباس (6) – رضي الله عنهم – أنَّهم لم يفرِّقوا بشهادة امرأة واحدة في الرضاع، وهو قول أبي عبيد قال: لا أفتي (7) في ذلك بالفرقة، ولا أقضي بها.
وروينا عن عمر – رضي الله عنه – أنَّه قال: “لو فتحنا هذا الباب لم تشأ امرأة (8) أن تفرق بين رجل وامرأته إلَّا فعلت” (9).
__________
(1) رواه عبد الرزاق (8/ 336).
(2) المحلى (9/ 400).
(3) رواه سعيد بن منصور (1/ 245)، وعبد الرزاق (8/ 332)، وابن أبي شيبة (3/ 487)، والبيهقي (7/ 764). وانظر: المدونة (5/ 158).
(4) رواه ابن القاسم في المدونة (5/ 158)، وابن أبي شيبة (3/ 488).
(5) انظر: فتح الباري (5/ 318)، تحفة الأحوذي (4/ 262) ذكر أنه رواه أبو عبيد.
(6) رواه ابن القاسم في المدونة (5/ 158)، وابن أبي شيبة (3/ 488). وانظر: فتح الباري (5/ 318)، تحفة الأحوذي (4/ 262).
(7) في “ب”: “لا يقضي”. وفي “د” و”هـ” و”و”: “أقضي”. والصواب: “أفتي في ذلك بالفرقة ولا أقضي بها” كما في المحلى (9/ 400). وانظر: فتح الباري (5/ 318)، تحفة الأحوذي (4/ 262).
(8) “امرأة” ساقطة من “و”.
(9) رواه أبو عبيد كما في فتح الباري (5/ 318)، والمحلى (9/ 400)، وذكر ابن حزم أن في سنده الحارث الغنوي وهو مجهول. المحلى (9/ 403).

(1/415)


وقال الأوزاعي: أقضي بشهادة امرأة واحدة قبل النكاح، وأمنع من (1) النكاح ولا أفرق بشهادتها بعد النكاح (2).
وقال عبد الرزاق (3): حدثنا ابن جريج قال: قال ابن شهاب: جاءت امرأة سوداء إلى أهل ثلاثة أبيات تناكحوا، فقالت: هم بَنِيَّ وبَنَاتي، ففرَّق عثمان – رضي الله عنه – بينهم.
قال (4): وروينا عن الزهري أنَّه قال: فالنَّاسُ يأخذون اليوم بذلك من قول عثمان في المرضعات إذا لم يُتَّهَمْنَ (5).
وقال ابن حزم (6): ولا يجوز أن يقبل في الزنا أقل من أربعة رجال عدولٍ مسلمين (7)، أو مكان كل واحد امرأتان مسلمتان عدلتان، فيكون ذلك ثلاثة رجال وامرأتين، أو رجلين وأربع نسوة، أو رجلًا واحدًا (8) وست نسوة، أو ثمان نسوة فقط، ولا يقبل في سائر الحقوق كلها من الحدود والزنا، وما فيه القصاص، والنكاح والطلاق والأموال إلَّا رجلان مسلمان عدلان، أو رجل وامرأتان كذلك، أو أربع نسوة
__________
(1) “من” ساقطة من “و”.
(2) انظر: المحلَّى (9/ 400)، فتح الباري (5/ 318)، تحفة الأحوذي (4/ 262).
(3) في المصنف (7/ 482). وانظر: المحلَّى (9/ 403).
(4) “قال” ساقطة من جميع النسخ عدا “أ” والقائل هو ابن حزم.
(5) المحلَّى (9/ 403)، فتح الباري (5/ 318)، تحفة الأحوذي (4/ 262).
(6) انظر: المحلَّى (9/ 395).
(7) “مسلمين” ساقطة من “ب”.
(8) “واحدًا” ساقطة من “و”.

(1/416)


كذلك، ويقبل في كلِّ ذلك – حاشا الحدود – رجل واحد عدل، أو امرأتان كذلك مع يمين الطالب، ويقبل في الرضاع وحده امرأة عدلة، أو رجل واحد عدل (1).
__________
(1) انتهى كلام ابن حزم – رحمه الله تعالى -.

(1/417)


فصل (1)

الطريق التاسع: الحكم بالنكول مع الشاهد الواحد، لا بالنكول المجرَّد.
ذكر ابن وضاح عن أبي مريم (2) عن عمرو (3) بن أبي سلمة (4) عن زهير بن محمد عن ابن جريج عن (5) عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “إِذَا ادَّعَتِ المَرْأَةُ طَلَاقَ زَوْجِهَا، فَجَاءَتْ عَلَى ذلِكَ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ عَدْلٍ اسْتُحْلِفَ زَوْجُها، فَإِنْ حَلَفَ بَطَلَتْ عَنْهُ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ، وإن نَكَلَ فَنكُوْلُهُ بِمَنْزِلَةِ شَاهِدٍ آخَرَ، وَجَازَ طَلَاقُهُ” (6).
__________
(1) “فصل” ساقطة من جميع النسخ عدا “هـ”.
(2) الصواب ابن أبي مريم، كما في الأحكام للمالقي (474). وهو: عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم سمع جده وعمرو بن أبي سلمة. قال ابن عدي: “مصري يحدث عن الفريابي وغيره بالبواطيل”. توفي سنة 281 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: الكامل (5/ 419)، وتاريخ الإسلام (21/ 205).
(3) في “هـ”: “عمر”.
(4) هو عمرو بن أبي سلمة التِّنيسي أبو حفص، وثَّقه جماعةٌ وضعفه ابن معين. توفي سنة 214 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: الجرح والتعديل (6/ 235)، تهذيب الكمال (22/ 51)، سير أعلام النبلاء (10/ 213)، ميزان الاعتدال (5/ 318).
(5) “عمرو بن أبي سلمة عن زهير بن محمد عن ابن جريح عن” ساقطة من “ب”.
(6) رواه ابن ماجه (2038)، والدارقطني (4/ 64 و 166)، والخطيب في تاريخ بغداد (2/ 43) بإسنادهم عن عمرو بن أبي سلمة .. به. ورواه المالقي بإسناده من طريق ابن وضاح. الأحكام (474). سأل ابن أبي حاتم أباه عن هذا الحديث فقال: “حديث منكر” ا. هـ. العلل (1/ 432)، وذكر البخاري =

(1/418)


فتضمن هذا الحكم (1) ثلاثة أمور:
أحدها: أنَّه لا يكتفى بشهادة الشاهد (2) الواحد في الطلاق، ولا مع يمين المرأة. قال الإمام أحمد (3): الشاهد واليمين إنَّما يكون في الأموال خاصة، لا يقع في حد ولا قصاص (4)، ولا في طلاق ولا نكاح ولا عتاقة ولا سرقة ولا قتل.
وقد نصَّ في رواية أخرى (5) على أنَّ العبد إذا ادَّعى أنَّ سيده أعتقه وأتى بشاهدٍ حلف مع شاهده وصار حرًّا، واختاره الخرقي (6).
__________
= أنَّ ابن جريج لم يسمع من عمرو بن شعيب. علل الترمذي (108)، وتكلم في إسنادهِ عبد الحق في الأحكام الوسطى (3/ 356) فقال: “في إسنادهِ زهير بن محمد ليس بحافظ ولا يحتج به” ا. هـ. أمَّا ابن القيم فذكر – كما سيأتي قريبًا – أنَّه ثقة محتجٌّ به في الصحيحين ا. هـ. وزهير وثَّقه أحمد وابن معين في أحد قوليه. انظر: تهذيب الكمال (9/ 414)، قال البوصيري: “هذا إسنادٌ حسن رجاله ثقات” ا. هـ. مصباح الزجاجة (2/ 128) رقم (719).
(1) انظر: سنن البيهقي (10/ 306)، الذخيرة (11/ 50)، القوانين الشرعية (233)، بلغة السالك (1/ 431)، قواعد الأحكام (2/ 22)، الأحكام للمالقي (474)، تنبيه الحكام (241)، إعلام الموقعين (1/ 141)، زاد المعاد (5/ 282).
(2) “الشاهد” ساقطة من جميع النسخ عدا “أ”.
(3) انظر: المغني (14/ 128)، النكت على المحرر (2/ 314).
(4) “ولا قصاص” ساقطة من “د” و”هـ”.
(5) في “أ”: “آخرين”.
وانظر: المقنع لابن البنا (4/ 1314)، شرح الزركشي (7/ 387)، المغني (14/ 128).
(6) مختصر الخرقي “مع شرح الزركشي” (7/ 387).

(1/419)


ونصَّ في شريكين في عبدٍ ادعى كل واحد منهما أنَّ شريكه أعتقَ حقه منه، وكانا معسرين عدلين فللعبد أن يحلف مع كل واحدٍ منهما ويصير حرًّا، ويحلف مع أحدهما ويصير نصفه حرًّا (1).
ولكن لا يعرف عنه أن الطلاق يثبت بشاهدٍ ويمين، وقد دلَّ حديث عمرو بن شعيب هذا على أنَّه يثبت بشاهدٍ ونكول الزوج.
وعمرو بن شعيب قد احتج به الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة الحديث، كالبخاري (2)، وحكاه عن (3) علي بن المديني وأحمد بن حنبل والحميدي، وقال: فمن النَّاس بعدهم؟ وزهير بن محمد – الرَّاوي عن ابن جريج – ثقة محتجٌّ به في “الصحيحين” (4)، وعمرو بن أبي سلمة من رجال “الصحيحين” أيضًا، فمن احتجَّ بحديث عمرو بن شعيب فهذا من أصح حديثه.
الثاني: أنَّ الزوج يستحلف في دعوى الطلاق إذا لم تقم المرأة به بينة، لكن إنَّما استحلفه لأنَّ شهادة الشاهد الواحد أورثت ظنًّا ما
__________
(1) انظر: المغني (14/ 128)، المبدع (6/ 305)، الفروع (5/ 65)، كشاف القناع (4/ 519)، الإنصاف (7/ 411) “إحياء التراث”.
(2) التاريخ الكبير (6/ 342)، سنن الدارقطني (3/ 51)، تهذيب الكمال (22/ 69)، إرشاد طلاب الحقائق (2/ 636)، المجموع (1/ 65)، سير أعلام النبلاء (5/ 165)، تدريب الرَّاوي (2/ 370)، نصب الرَّاية (1/ 59)، التعليق المغني (3/ 51)، إعلام الموقعين (1/ 141).
(3) “عن” ساقطة من “د”.
(4) تقدم بيان حاله قريبا.

(1/420)


بصدق المرأة، فعورض هذا باستحلافه، وكان جانب الزوج أقوى بوجود النكاح الثابت، فشرعت اليمين في جانبه؛ لأنَّه مدَّعى عليه، والمرأة مدعية (1).
فإن قيل: فهلا حلفت مع شاهدها وفرق بينهما؟
فالجواب: أنَّ اليمين مع الشاهد لا تقوم مقام شاهدٍ آخر، لما تقدم من الأدلة على ذلك، واليمين مجرد قول المرأة، ولا يقبل في الطلاق أقل من شاهدين، كما أنَّ ثبوت النكاح لا يكتفى فيه إلَّا بشاهدين، أو بشاهد وامرأتين على رواية (2)، فكان رفعه كإثباته، فإنَّ الرفع أقوى من الثبوت، ولهذا لا يرفع بشهادة فاسقين، ولا مستوري الحال، ولا رجل وامرأتين.
الثالث: أنَّه يحكم في الطلاق بشاهدٍ ونكول المدعى عليه، وأحمد في إحدى الروايتين عنه يحكم بوقوعه بمجرد النكول من غير شاهد، فإذا ادَّعت المرأة على زوجها الطلاق، وأحلفناه لها – على إحدى الروايتين – فنكلَ: قضى عليه (3). فإذا أقامت المرأة (4) شاهدًا واحدًا، ولم يحلف الزوج على عدم دعواها: فالمقضي (5) عليه بالنكول في
__________
(1) انظر: الأم (7/ 3)، المدونة (5/ 178)، الاستذكار (22/ 63)، المعونة (3/ 1545)، مسعفة الحكام (2/ 571)، المقدمات والممهدات (2/ 293)، تبصرة الحكام (2/ 199)، المنتقى (5/ 216).
(2) في “أ”: “روايتين”. انظر: كتاب الروايتين والوجهين (3/ 87).
(3) في “أ”: “قضى له”. انظر: المحرر (2/ 226).
(4) “المرأة” ساقطة من جميع النسخ عدا “هـ”.
(5) هكذا: “فالمقضي”. ولعل الصواب “فليقض”.

(1/421)


هذه الصورة أولى (1).
وظاهر الحديث: أنَّه لا يحكم على الزوج بالنكول إلَّا إذا أقامت المرأة شاهدًا، كما هو إحدى الروايتين عن مالك (2)، وأنَّه لا يحكم عليه بمجرد دعواها مع نكوله، لكن من يقضي عليه به يقول: النكول إمَّا إقرار وإمَّا بينة، وكلاهما يحكم به، ولكن ينتقض هذا عليه بالنكول في دعوى القصاص.
وقد يُجاب عنه بأنَّ النكول بذل استغنى به فيما يباح بالبذل، وهو الأموال وحقوقها، بخلاف النكاح وتوابعه.

الرَّابع: أنَّ النكول بمنزلة البينة، فلمَّا أقامت شاهدًا واحدًا – وهو شطر البينة – كان النكول قائمًا مقام تمامها.
ونحن نذكر مذاهب النَّاسِ في القول بهذا الحديث.
فقال ابن الجلاب (3) في تفريعه (4): إذا ادَّعت المرأة الطلاق على
__________
(1) أما المذهب فذكر ابن قدامة رحمه الله أن النكاح وحقوقه لا يثبت بشاهد ويمين قولًا واحدًا. المغني (10/ 157).
(2) انظر: الاستذكار (22/ 63)، المدونة (5/ 178)، التفريع (1/ 106)، الأحكام للمالقي (474).
(3) عبيد الله بن الحسين بن الحسن وسماه القاضي عياض: محمد بن الحسين أبو القاسم بن الجلاب شيخ المالكية. توفي سنة 378 هـ – رحمه الله تعالى -.
انظر: الديباج المذهب (1/ 461)، ترتيب المدارك (4/ 605)، سير أعلام النبلاء (16/ 383).
(4) التفريع (2/ 106).

(1/422)


زوجها لم يحلف بدعواها، فإذا أقامت على ذلك شاهدًا واحدًا لم تحلف مع شاهدها، ولم يثبت الطلاق على زوجها.
وهذا الَّذي قاله لا يعلم فيه نزاعٌ بين الأئمة الأربعة (1)، قال: ولكن يحلف لها زوجها، فإن حلف برئ من دعواها (2).
قلت: هذا فيه قولان للفقهاء، وهما روايتان عن أحمد، إحداهما: أنَّه يحلف لدعواها (3)، وهو مذهب الشافعي (4) ومالك (5) وأبي حنيفة (6). والثانية: لا يحلف (7).
فإن قلنا: لا يحلف فلا إشكال، وإن قلنا: يحلف فنكل عن اليمين، فهل يقضى عليه بطلاق زوجته بالنكول؟ فيه روايتان عن مالك (8).
__________
(1) انظر: المدونة (5/ 179)، الذخيرة (11/ 58)، الأم (7/ 3 و 88)، مختصر اختلاف العلماء (3/ 378)، المبسوط (16/ 117)، بدائع الصنائع (6/ 227)، المغني (10/ 157)، النكت على المحرر (2/ 314).
(2) “قال: ولكن يحلف لها زوجها، فإن حلف برئ من دعواها” ساقطة من “د”.
(3) وبه قال الحسن وإبراهيم. رواه عنهما سعيد بن منصور (1/ 356).
(4) الأم (7/ 3 و 88).
(5) المدونة (5/ 136)، المقدمات (2/ 293)، المنتقى (5/ 216).
(6) المبسوط (16/ 117)، مختصر اختلاف العلماء (3/ 378)، بدائع الصنائع (6/ 227).
(7) المحرر (2/ 226).
(8) انظر: المدونة (5/ 178)، والاستذكار (22/ 64).

(1/423)


إحداهما: أنَّها تطلق (1) عليه بالشاهد والنكول، عملًا بهذا الحديث، وهذا اختيار أشهب (2)، وهذا في غاية القوَّة (3)؛ لأنَّ الشاهد والنكول سببان من جهتين مختلفتين، فقويَ (4) جانب المدعي بهما (5)، فحكم له، فهذا مقتضى الأثر والقياس.
والرواية الثانية عنه (6): أنَّ الزوج إذا نكلَ عن اليمين حبس، فإن طال حبسه ترك (7).
واختلفت الرواية عن الإمام أحمد (8): هل يقضى بالنكول في دعوى المرأة الطلاق (9)؟ على روايتين (10)، ولا أثر عنده لإقامة
__________
(1) “أنها تطلق” كذا في “و”، وفي باقي النسخ: “أنه يطلق”، وفي “د”: “أنها يطلق”.
(2) انظر: الأحكام للمالقي (475).
(3) وقال المصنف في زاد المعاد (5/ 283): “وهو الصواب إن شاء الله تعالى” ا. هـ.
(4) في “أ”: “يقوى”.
(5) في “هـ”: “جانب الدعوى”.
(6) أي عن مالك رحمه الله. قال القرافي: “وهي الرواية الأخيرة” ا. هـ. الذخيرة (11/ 50).
(7) انتهى كلام ابن الجلاب مع تصرف يسير من المؤلف – رحمه الله تعالى -.
انظر: المدونة (5/ 178)، الذخيرة (11/ 50)، الكافي (480)، المعونة (3/ 1580).
(8) في “د”: “رضي الله عنه”.
(9) في “د” و”و”: “في الطلاق”.
(10) انظر: المحرر (2/ 226).

(1/424)


الشاهد الواحد.
واختلف عن مالك في مدة حبسه، فقال مرَّة: يحبس حتَّى يطول أمره، وحدَّ ذلك بسنة، ثمَّ يطلق، ومرَّة قال: يسجن أبدًا حتَّى يحلف (1).
__________
(1) انظر: المدونة (5/ 136)، المنتقى (5/ 216)، الاستذكار (22/ 65)، القوانين (310)، تبصرة الحكام (2/ 199 و 321)، تنبيه الحكام (242)، الكافي (480)، الشرح الكبير (16/ 116)، منتخب الأحكام (1/ 161)، الذخيرة (11/ 50).

(1/425)


فصل (1)

الطريق العاشر: الحكم بشهادة امرأتين ويمين المدعي في الأموال وحقوقها.
وهذا مذهب مالك (2)، وأحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد (3)، حكاه شيخنا (4) واختاره، وظاهر القرآن والسنَّة يدلُّ على صحة هذا القول، فإنَّ الله سبحانه أقام المرأتين مقام الرجل، والنبي – صلى الله عليه وسلم – قال في الحديث الصحيح: “أَلَيْسَ شَهَادَةُ المَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟ قُلْنَ: بَلى” (5)، فهذا يدلُّ بمنطوقه على أنَّ شهادتها وحدها على النِّصف، وبمفهومه على أنَّ شهادتها مع مثلها كشهادة الرجل، وليس في القرآن ولا في السنة ولا في الإجماع ما يمنع من ذلك، بل القياس الصحيح يقتضيه، فإنَّ المرأتين إذا قامتا مقام الرجل إذا
__________
(1) “فصل” ساقطة من “د” و”و”.
(2) انظر: المدونة (5/ 165)، الاستذكار (22/ 62)، الكافي (470)، التمهيد (2/ 157)، المنتقى (5/ 214)، الذخيرة (11/ 55 و 247)، الفروق (4/ 91)، المعونة (3/ 1548)، أحكام القرآن لابن العربي (1/ 334)، القوانين (310 و 319)، تبصرة الحكام (1/ 329)، التفريع (2/ 238).
(3) انظر: الهداية (2/ 151)، الإرشاد (490)، الشرح الكبير (30/ 30)، المحرر (2/ 316)، شرح الزركشي (7/ 313)، النكت على المحرر (2/ 316)، المبدع (10/ 258)، الإنصاف (30/ 25)، إعلام الموقعين (1/ 136)، المقنع مع الإنصاف (30/ 112).
(4) مجموع الفتاوى (31/ 294)، الفتاوى الكبرى (3/ 197).
(5) تقدم تخريجه.

(1/426)


كانتا (1) معه قامتا مقامه وإن لم تكونا معه، فإنَّ قبول شهادتهما لم يكن (2) لمعنى (3) للرجل (4)، بل لمعنى فيهما، وهو العدالة، وهذا موجودٌ فيما إذا انفردتا، وإنَّما يخشى من سوء ضبط المرأة وحدها وحفظها، فقويت بامرأة (5) أُخرى.
فإن قيل: البينة على المال إذا خلت من رجلٍ لم تقبل، كما لو شهد أربع نسوة، وما ذكرتموه ينتقض بهذه الصورة، فإنَّ المرأتين لو أقيمتا مقام الرجل من كلِّ وجهٍ لكفى أربع نسوة مقام رجلين، ولقبل في غير الأموال شهادة رجل وامرأتين (6).
وأيضًا؛ فشهادة المرأتين ضعيفة، فقويت بالرجل، واليمين ضعيفة، فيضم (7) ضعيفٌ إلى ضعيف فلا يقبل (8).
__________
(1) في “أ”: “كانا”.
(2) “لم يكن” ساقطة من “أ”.
(3) “لمعنى” ساقطة من “هـ”.
(4) في “ب”: “الرجل”.
(5) في “ب”: “مع امرأة”.
(6) انظر: الفروق (4/ 91)، الذخيرة (11/ 55)، رؤوس المسائل الخلافية (6/ 1014)، المغني (14/ 132).
(7) في “أ”: “فينضم”.
(8) “فلا يقبل” ساقطة من “هـ”.
وانظر: الفروق (4/ 91)، الذخيرة (11/ 55)، المقنع لابن البنا (4/ 1297)، شرح الزركشي (7/ 314)، رؤوس المسائل الخلافية (6/ 1014)، نهاية المحتاج (8/ 313)، المغني (14/ 132).

(1/427)


وأيضًا؛ فإنَّ الله سبحانه قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]، فلو حكمَ بامرأتين ويمين لكان هذا قسمًا ثالثًا.
والجواب: أمَّا قولكم: “إنَّ البينة إذا خلت عن الرجل لم تقبل”، فهذا هو (1) المُدعى، وهو محل النزاع، فكيف يُحْتَج به؟
وقولكم: “كما لو شهد أربع نسوة” فهذا فيه نزاع، وإن ظنه طائفةٌ إجماعًا كالقاضي (2) وغيره (3).
قال الإمام أحمد في الرجل يوصي ولا يحضره إلَّا النساء قال: أجيز شهادة النساء (4)، فظاهر هذا أنَّه أثبت الوصية بشهادة النساء على الانفراد، إذا لم يحضره الرِّجال.
وذكر الخلال عن أحمد: أنَّه سُئِلَ عن الرجل يوصي بأشياء لأقاربه ويعتق، ولا يحضره إلَّا النساء، هل (5) تجوز شهادتهنَّ؟ قال: نعم، تجوز شهادتهنَّ في الحقوق (6).
__________
(1) “هو” ساقطة من جميع النسخ عدا “أ”.
(2) أبو يعلى.
(3) انظر: المغني (14/ 132).
(4) انظر: المغني (14/ 128)، الاختيارات (359)، المبدع (10/ 259)، كتاب الروايتين والوجهين (3/ 87).
(5) “هل” ساقطة من “أ”.
(6) انظر: المبدع (10/ 259)، كتاب الروايتين والوجهين (3/ 87).

(1/428)


وقد تقدم (1) ذكر المواضع التي قبلت (2) فيها البينات من النساء، وأنَّ “البينة” اسمٌ لما يبين الحق، وهو أعمُّ من أن يكون برجال أو نساء أو نكول أو يمين أو أمارات ظاهرة، والنبي – صلى الله عليه وسلم – قد قبل شهادة المرأة في الرضاع (3)، وقبلها الصحابة في مواضع قد ذكرناها، وقبلها التابعون (4).
وقولكم: “وتقبل في غير الأموال شهادة (5) رجل وامرأتين” (6).
قُلنا: نعم، وذلك موجودٌ في عدة مواضع، كالنكاح، والرجعة، والطلاق، والنسب، والولاء، والإيصاء، والوكالة في النكاح وغيره على إحدى الروايتين (7).
قولكم: “شهادة المرأتين ضعيفة، فقويت بالرجل، واليمين ضعيفة، فيضم ضعيف إلى ضعيف، فلا يقبل”.
جوابه: أنَّا (8) لا نُسلِّم ضعف شهادة المرأتين إذا اجتمعتا، ولهذا
__________
(1) ص (426، 431).
(2) في “أ”: “خلت”.
(3) تقدم تخريجه.
(4) تقدم تخريج هذه الآثار.
(5) وفي “د” و”هـ” و”و”: “بشهادة”.
(6) انظر: المغني (14/ 132)، رؤوس المسائل (6/ 1014).
(7) انظر: المحرر (2/ 226).
(8) “أنا” ساقطة من “د” و”هـ” و”و”.

(1/429)


نحكم (1) بشهادتهما إذا اجتمعتا (2) مع الرجل وإن أمكنه أن يأتى برجلين (3)، فالرجلُ والمرأتان أصلٌ لا بدل، والمرأة العدل كالرجل في الصدق والأمانة والدِّيانة، إلَّا أنَّها لما خيف عليها السهو والنسيان قُوِّيت (4) بمثلها، وذلك قد يجعلها أقوى من الرجل الواحد أو مثله، ولا ريبَ أنَّ الظنَّ المستفاد من شهادة أم الدرداء وأم عطية أقوى من الظن المستفاد من (5) رجلٍ واحدٍ دونهما ودون أمثالهما.
وأمَّا قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] ولم يذكر المرأتين دون الرجل (6).
فيقال: ولم يذكر الشاهد واليمين، ولا النكول، ولا الرد، ولا شهادة المرأة الواحدة، ولا المرأتين، ولا الأربع نسوة، وهو سبحانه لم يذكر ما يحكم به الحاكم، وإنَّما أرشدَ إلى ما يحفظ به الحق، وطرق الحكم أوسع من الطرق التي تحفظ بها الحقوق (7).
__________
(1) في “ب”: “حكم”، وفي “د” و”هـ”: “يحكم”.
(2) “إذا اجتمعتا” ساقطة من “هـ” و”و”.
(3) في “د”: “برجل”.
(4) “قويت” ساقطة من “ب”.
(5) “شهادة أم الدرداء وأم عطية أقوى من الظن المستفاد من” ساقطة من جميع النسخ عدا “أ”.
(6) في “ب” و”جـ” و”د” و”هـ”: “المرأتين والرجل” وهو خطأ؛ لأنَّ الآية ذكرت الرجل والمرأتين وإنَّما لم تذكر المرأتين دون الرجل.
(7) انظر: إعلام الموقعين (1/ 138 و 147).

(1/430)


فصل

الطريق الحادي عشر: الحكمُ بشهادة امرأتين فقط من غير يمين.
وذلك – على إحدى الروايتين عن أحمد (1) – في كلِّ ما لا يطلع عليه الرجال، كعيوب النساء تحت الثياب، والبكارة، والثيوبة، والولادة، والحيض، والرضاع، ونحوه، فإنَّه تقبل فيه امرأتان، نصَّ عليه أحمد في إحدى الروايتين، والثانية – وهي أشهر – أنَّه يثبت بشهادة امرأة واحدةٍ، والرجل فيه كالمرأة ولم يذكر ها هنا يمينًا (2).
وظاهر (3) نص أحمد: أنَّه لا يفتقر إلى اليمين، وإنَّما ذكروا (4) الروايتين في الرضاع إذا قبلنا فيه شهادة المرأة الواحدة (5).
__________
(1) انظر: مسائل أحمد رواية صالح (2/ 286)، ورواية ابن هانئ (2/ 36)، الهداية (2/ 149)، الجامع الصغير (371)، رؤوس المسائل الخلافية (6/ 994)، الجامع للخلال “قسم الملل” (1/ 227)، المحرر (2/ 327)، المقنع لابن البناء (4/ 1297)، المغني (14/ 134)، الشرح الكبير (30/ 31)، شرح الزركشي (7/ 314)، قواعد ابن رجب (3/ 15)، المبدع (10/ 260)، التسهيل (202)، الفروع (6/ 593)، النكت والفوائد (2/ 328)، العدة (702)، الإنصاف (30/ 31)، كشاف القناع (6/ 436)، شرح منتهى الإرادات (3/ 602).
(2) انظر: المراجع السابقة.
(3) في “ب”: “فظاهر”.
(4) في “د” و”و”: “ذكر”.
(5) انظر: النكت على المحرر (2/ 281).

(1/431)


والفرق بين هذا الباب وباب الشاهد واليمين – حيث اعتبرت (1) اليمين هناك – أنَّ المغلَّب (2) في هذا الباب هو الإخبار عن الأمور الغائبة (3) التي لا يطلع عليها الرجال، فاكتفى فيها (4) بشهادة النساء، وفي باب الشاهد واليمين: الشهادة على أمورٍ ظاهرة يطلع (5) عليها الرجال في الغالب، فإذا انفرد بها الشاهد الواحد احتيج إلى تقويته باليمين.
__________
(1) في “و”: “اعتبرنا”.
(2) في “ب”: “الغالب”.
(3) “الغائبة” ساقطة من “ب”.
(4) “فيها” مثبتة من “أ” و”ب”.
(5) “يطلع” ساقطة من “و”.

(1/432)


فصل

الطريق الثاني عشر: الحكم بثلاثة رجال.
وذلك فيما إذا ادَّعى الفقر من عُرِفَ غناه، فإنَّه لا يقبل منه إلَّا ثلاثة شهود، وهذا منصوص الإمام أحمد (1).
وقال بعض أصحابنا: يكفي فيه شاهدان (2).
واحتج الإمام أحمد بحديث قبيصة بن مخارق قال: تحملت حمالة فأتيتُ النبي – صلى الله عليه وسلم – أسأله، فقال: “يَا قَبيصَةُ أَقِمْ عندنا حَتَّى تَأْتِيْنَا الصَّدَقَةُ، فَنَأْمُر لَكَ بِهَا. ثمَّ قالَ: يَا قَبيصَةُ إنَّ المَسْأَلَةَ لاَ تَحِلُّ إِلَّا لأَحَدِ ثَلَاثَةِ: رَجُلٌ تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَحَلَّت لَهُ المَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ، حَتَّى يَشْهَدَ لَهُ ثَلاَثَةٌ مِنْ ذَوِي الحِجَى مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّت لَهُ المَسْأَلَةُ، حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ – أَوْ قَالَ – (3): سِدَدًا مِنْ عَيْشٍ” وذكر الحديث، رواه مسلم (4).
واختلف أصحابنا في نصِّ أحمد: هل هو عامٌ أو خاصٌّ؟ فقال
__________
(1) انظر: المغني (14/ 128)، المحرر (1/ 223)، الاختيارات (363)، شرح الزركشي (7/ 303)، شرح منتهى الإرادات (1/ 461)، كشاف القناع (2/ 286)، الفواكه العديدة (2/ 192). وقال ابن القيم: “وهو الصوابُ الَّذي يتعين القول به”.
(2) انظر: المغني (14/ 128)، المحرر (1/ 223). وانظر: المراجع السابقة.
(3) “قوامًا من عيش أو قال” ساقطة من “و”.
(4) تقدم تخريجه.

(1/433)


القاضي (1): إنَّما هذا في حِلِّ المسألة، كما دلَّ عليه الحديث، وأمَّا الإعسارُ، فيكفي فيه شاهدان (2).
وقال الشيخ أبو محمد (3): وقد نُقل عن أحمد في الإعسار ما يدل على أنه لا يثبت إلا بثلاثة (4).
قلت: إذا كان في باب أخذ الزكاة وحل المسألة يعتبر العدد المذكور، ففي باب دعوى الإعسار المسقط لأداء الديون، ونفقة الأقارب والزوجات: أولى وأحرى؛ لتعلق حق العبد بماله، وفي باب المسألة وأخذ الصدقة: المقصود ألا يأخذ ما لا يحل له، فهناك اعتبرت البينة لئلا يمتنع (5) من أداء الواجب، وهنا لئلا يأخذ المحرم، والله أعلم (6).
__________
(1) أبو يعلى.
(2) انظر: المغني (14/ 128)، شرح الزركشي (7/ 303).
(3) موفق الدِّين ابن قدامة.
(4) المغني (14/ 128).
(5) في “ب” و”جـ” و”هـ” و”و”: “يمنع”.
(6) “والله أعلم” مثبتة من “د”.

(1/434)


فصل
الطريق الثالث عشر: الحكم بأربعة رجال أحرار.
وذلك في حد (1) الزنا واللواط، أما الزنا: فبالنص (2) والإجماع (3)، وأما اللواط: فقالت طائفة: هو مقيس عليه في نصاب الشهادة، كما هو مقيس عليه (4) في الحد.
وقالت طائفة: بل هو داخل في مسمى الزنا؛ لأنه وطء فرج محرم، وهذا لا تعرفه العرب، فقال هؤلاء: هو داخل في مسمى الزنا شرعًا.
وقالوا: والأسماء الشرعية قد تكون أعم من اللغوية وتكون أخص (5).
وقالت طائفة: بل هو أولى بالحد من الزنا، فإنه وطء فرج لا يستباح بحال (6)، والداعي إليه قوي، فهو أولى بوجوب الحد، فيكون نصابه نصاب حد الزنا.
__________
(1) “حد” ساقطة من “ب”.
(2) قال تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)} [النور: 13].
(3) الإجماع لابن المنذر (70)، مراتب الإجماع لابن حزم (130)، المعونة (3/ 1385).
(4) “في نصاب الشهادة كما هو مقيس عليه” ساقطة من “و”.
(5) وفي “د” و”هـ” و”و”: “والاسم قد يكون اسمًا في اللغة ويكون أخص”.
(6) انظر: الفواكه الدواني (2/ 209).

(1/435)


وقياس قول من لا يرى فيه الحد – بل التعزيز – أن يكتفى فيه بشاهدين، كسائر المعاصي التي لا حد فيها، وصرحت به الحنفية (1) وهو مذهب أبي محمد ابن حزم (2).
وقياس قول من جعل حده القتل بكل حال – محصنًا كان أو بكرًا – أن (3) يكتفى فيه بشاهدين، كالردة والمحاربة، وهو إحدى الروايتين عن أحمد (4)، وأحد قولي الشافعي (5)، ومذهب (6) مالك (7) – رضي الله عنهم -، لكن صرحوا بأن حد اللواط لا يقبل فيه أقل من أربعة.
ووجه ذلك: أن عقوبته عقوبة الزاني المحصن، وهو الرجم بكل حال.
__________
(1) انظر: فتح القدير (5/ 343)، معين الحكام (90)، الهداية مع البناية (8/ 126 و 255)، الجوهرة النيرة (2/ 225).
(2) المحلى (11/ 390)، مراتب الإجماع (131).
(3) “أن” ساقطة من “د” و”هـ” و”و”.
(4) “عن أحمد” ساقطة من “ب”. وانظر: مختصر الخرقي (124)، المحرر (2/ 153)، الكافي (4/ 198)، المغني (9/ 57)، المبدع (9/ 66).
(5) انظر: الأم (7/ 101)، حلية العلماء (8/ 270)، أبي القاضي لابن أبي الدم (424)، نهاية المحتاج (8/ 311)، الإقناع للخطيب (4/ 371)، مغني المحتاج (4/ 441).
(6) “ومذهب” ساقطة من “و”.
(7) انظر: الاستذكار (24/ 79)، الكافي (574)، المعونة (3/ 1399)، المدخل لابن الحاج (3/ 115)، تبصرة الحكام (2/ 257)، التفريع (2/ 225)، مواهب الجليل (6/ 178)، الفواكه الدواني (2/ 209).

(1/436)


وقد يحتج (1) على (2) اشتراط نصاب الزنا في حد اللواط بقوله تعالى لقوم لوط: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)} [النمل: 54] وقال في الزنا: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15].
وبالجملة: فلا خلاف بين من أوجب عليه حد الزنا (3) أو الرجم بكل حال أنه لا بد فيه من أربعة شهود أو إقرار (4).
وأما أبو حنيفة (5) وابن حزم (6): فاكتفيا فيه بشاهدين (7)، بناءً على أصلهما.
وأما الحكم بالإقرار بهما (8)، فهل يكتفى فيه بشاهدين أو لا بد من أربعة: فيه قولان في مذهب مالك (9) والشافعي (10)، وروايتان عن
__________
(1) وفي “ب”: “احتج”.
(2) “على” ساقطة من “أ”.
(3) في “و”: “الزاني”.
(4) انظر: تفسير ابن كثير (6/ 11).
(5) انظر: فتح القدير (5/ 343)، معين الحكام (90)، الهداية مع البناية (8/ 126 و 255)، الجوهرة النيرة (2/ 225).
(6) المحلَّى (11/ 390).
(7) في “ب”: “فيكفي فيه شاهدان”.
(8) في “ب”: “الحكم بإقرارهما”.
(9) انظر: بلغة السالك (4/ 265)، الشرح الكبير (4/ 316)، الفواكه الدواني (2/ 223).
(10) انظر: حلية العلماء (8/ 283)، أدب القاضي لابن أبي الدم (424)، المنهاج =

(1/437)


أحمد (1)، فمن لم يشترط الأربعة (2) قال: إقامة الحد إنما مستنده (3) إلى الإقرار.
فالشهادة عليه والإقرار يثبت بشاهدين، ومن اشترط الأربعة قال: الإقرار (4) كالفعل، فكما أننا لا نكتفي في الشهادة على الفعل إلا بأربعة، فكذلك الشهادة على القول.
يوضحه: أن كل واحد من الفعل والقول موجب للحد، فإذا كان الفعل الموجب لا يثبت إلا بأربعة، فالقول الموجب كذلك.
قال أصحاب القول الآخر (5): الفعل موجب بنفسه، والقول دال على الفعل الموجب، فبينهما مرتبة.
قال أصحاب القول الآخر: لا تأثير لذلك (6)، وإذا كنا لا نحده إلا بإقرار أربع مرات، فلا نحده إلا بشهادة أربعة (7) على الإقرار.
__________
= (4/ 441) مع مغني المحتاج، نهاية المحتاج (8/ 311).
(1) انظر: المحرر (2/ 312)، شرح الزركشي (7/ 301)، الروض المربع (723)، كشاف القناع (6/ 433).
(2) في “د” و”هـ” و”و”: “الأربع”.
(3) في باقي النسخ عدا “أ”: “إنَّما هي مستندة”.
(4) “قال الإقرار” ساقطة من “ب”.
(5) في “أ”: “الأخير”.
(6) في “ب”: “إنَّما هو كذلك”.
(7) في “أ” و”ب” و”د” و”هـ”: “أربع”.

(1/438)


فصل
وأما إتيان البهيمة (1): فإن قلنا يوجب الحد، لم يثبت إلا بأربعة (2).
وإن قلنا: يوجب (3) التعزيز – كقول أبي حنيفة (4) والشافعي (5) ومالك (6) – ففيه وجهان:
أحدهما: لا يقبل فيه إلا أربعة؛ لأنه فاحشة، وإيلاج فرج في فرج
__________
(1) انظر: الجواب الكافي (274)، زاد المعاد (5/ 41).
(2) انظر: حلية العلماء (8/ 272)، الأم (7/ 101)، روضة الطالبين (7/ 311)، بجيرمي (4/ 371)، الإقناع (4/ 371)، التهذيب (7/ 337)، المغني (2/ 376)، المحرر (2/ 312)، شرح الزركشي (7/ 301)، الروض (724).
(3) “الحد لم يثبت إلَّا بأربعة وإن قلنا يوجب” ساقطة من “ب”.
(4) انظر: بدائع الصنائع (7/ 34)، المبسوط (9/ 102)، روضة القضاة (2/ 1303)، النتف في الفتاوى (1/ 270)، الهداية (6/ 259) مع “البناية”، فتح القدير (5/ 265)، البحر الرَّائق (5/ 29)، الفتاوى الهندية (2/ 150).
(5) انظر: الأم (7/ 101)، التهذيب (7/ 337)، معرفة السنن والآثار (12/ 315)، روضة الطالبين (7/ 311) و (8/ 255)، بجيرمي (4/ 371)، الإقناع (4/ 371)، مغني المحتاج (4/ 441)، نهاية المحتاج (8/ 310)، حلية العلماء (8/ 272).
(6) انظر: المدونة (6/ 214)، التفريع (2/ 225)، المعونة (3/ 1400)، تبصرة الحكام (2/ 254)، تفسير القرطبي (7/ 244)، المعيار المعرب (2/ 419)، الكافي (274)، التاج والإكليل (8/ 392).

(1/439)


محرم، فأشبه الزنا، وهذا اختيار القاضي (1).
والثاني: يقبل فيه شاهدان؛ لأنه لا يوجب الحد، فيثبت بشاهدين كسائر الحقوق.
قال الشيخ في “المغني” (2): وعلى قياس هذا: كل زنا لا يوجب الحد، كوطء الأمة المشتركة وأمته المزوجة، وأشباه هذا.

وأما الوطء المحرم لعارض (3) – كوطء امرأته في الصيام، والإحرام والحيض – فإنه لا يوجب الحد، ويكفي فيه شاهدان، وكذلك وطؤها في دبرها.
فصل
وألحق الحسن البصري بالزنا – في اعتبار أربعة شهود – كل ما يوجب القتل (4). وحُكي ذلك رواية عن أحمد (5)، وهذا إن كان في القتل حدًّا فله وجه على ضعفه، وإن كان في القتل حدًّا أو قصاصًا فهو فاسد، وقياسه على الزنا ممتنع؛ لأن الله – سبحانه وتعالى – غلظ أمر البينة والإقرار في باب الفاحشة؛ سترًا لعباده، وشرع عقوبة من قذف
__________
(1) أبو يعلى. انظر: المغني (12/ 376).
(2) المغني (12/ 376).
(3) “لعارض” ساقطة من “أ”.
(4) رواه ابن أبي شيبة (5/ 443). وانظر: المغني (14/ 127)، حلية العلماء (8/ 272).
(5) انظر: المغني (14/ 127)، شرح الزركشي (7/ 303).

(1/440)


قذف غيره بها دون سائر ما يوجب الحد، وشرع فيها القتل على أغلظ الوجوه وأكرهها للنفوس، فلا يصح إلحاق غيرها بها. والله أعلم.

(1/441)


فصل

الطريق الرابع عشر: الحكم بشهادة العبد والأمة في كل ما تقبل فيه شهادة الحر والحرة.
هذا هو (1) الصحيح من (2) مذهب أحمد (3)، وعنه: تقبل في كل شيء إلا في الحدود والقصاص (4)؛ لاختلاف العلماء في قبول شهادته (5)، فلا ينتهض سببًا لإقامة الحدود التي مبناها على الاحتياط، والصحيح: الأول، وقد حُكي إجماعًا قديمًا، حكاه الإمام أحمد عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أنه قال: “ما علمت أحدًا ردَّ شهادة العبد” (6)، وهذا يدل على أن ردها إنما حدث بعد عصر الصحابة، واشتهر هذا القول لما ذهب إليه مالك (7)
__________
(1) “هو” مثبتة من “أ”.
(2) في “ب”: “في”.
(3) انظر: مسائل أحمد رواية الكوسج (2/ 388)، الجامع الصغير (372)، العدة (626)، المحرر (2/ 305)، الفروع (6/ 580)، الهداية (2/ 149)، المبدع (10/ 236)، شرح الزركشي (7/ 351)، بدائع الفوائد (1/ 5)، الفنون لابن عقيل (1/ 159 و 165)، المغني (14/ 185)، إعلام الموقعين (1/ 140) و (2/ 70)، الصواعق المرسلة (2/ 583)، النبوات (1/ 479)، الفتاوى (20/ 248).
(4) انظر: الهداية (2/ 149)، الجامع الصغير (372)، المحرر (2/ 306).
وانظر: المراجع السابقة.
(5) سيأتي قريبًا ذكر الخلاف مفصلًا.
(6) رواه البخاري تعليقًا (5/ 316)، والبيهقي (10/ 272)، وفي المعرفة (14/ 277)، وابن أبي شيبة (4/ 298). وصححه ابن حزم في المحلَّى (9/ 414).
(7) انظر: المدونة (5/ 154)، التفريع (2/ 235)، تفسير القرطبي (5/ 414)، =

(1/442)


والشافعي (1) وأبو حنيفة (2)، وصار لهم أتباع يفتون ويقضون بأقوالهم، فصار هذا القول عند الناس هو المعروف، ولما كان مشهورًا بالمدينة في زمن مالك، قال: “ما علمت أحدًا قبل شهادة العبد” (3)، وأنس بن مالك يقول ضد ذلك.
وقبول شهادة العبد هو موجب الكتاب والسنَّة، وأقوال الصحابة، وصريح القياس، وأصول الشرع، وليس مع من ردَّها كتاب ولا سنَّة (4) ولا إجماع ولا قياس، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] والوسط: العدلُ الخيار (5)، ولا ريب في دخول العبد في هذا الخطاب (6)، فهو
__________
= المعونة (3/ 1524)، الذخيرة (10/ 226)، القوانين (317).
(1) انظر: الأم (7/ 87)، التهذيب (8/ 258)، الحاوي (17/ 213)، روضة الطالبين (8/ 199)، الوجيز (2/ 249)، التنبيه (269)، اختلاف العلماء (283)، أدب القاضي لابن القاص (1/ 306)، حلية العلماء (8/ 246)، فتح الباري (5/ 316)، الإقناع لابن المنذر (2/ 527).
(2) انظر: بدائع الصنائع (6/ 266)، مختصر اختلاف العلماء (3/ 335)، فتح القدير (7/ 399)، أبي القاضي للسروجي (307)، مسعفة الحكام (370)، الاختيار (2/ 141)، طريقة الخلاف (402)، المختار للفتوى (131)، الأشباه والنظائر (311).
(3) لم أجد قول مالك. وذكره الزركشي في البحر المحيط (4/ 529) عن الشافعي.
(4) “وصريح القياس وأصول الشرع، وليس مع من ردها كتاب ولا سنة” ساقطة من “و”.
(5) انظر: تفسير الطبري (2/ 8)، تفسير عبد الرزاق (1/ 295)، تفسير البغوي (1/ 122)، تفسير ابن كثير (1/ 275)، زاد المسير (1/ 154).
(6) في “هـ”: “في هذا الخيار الخطاب”.

(1/443)


عدلٌ بنصِّ القرآن، فدخل تحت قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2].
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135]، وهو من الَّذين آمنوا قطعًا، فيكون من الشهداء كذلك.
وقال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، ولا ريبَ أنَّ العبدَ من رجالنا.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)} [البينة: 7]، فالعبدُ المؤمن الصالح من خير البرية (1)، فكيفَ ترد شهادته؟
وقد عدَّله الله ورسوله، كما في الحديث المعروف (2) المرفوع: “يَحْمِلُ هَذَا العِلْم مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُوْلُهُ، يَنْفُوْنَ عَنْهُ تَحْرِيْفَ الغَالِيْنَ، وانْتِحَالَ المُبْطِلِيْنَ، وَتَأْوِيْلَ الجَاهِلِيْنَ” (3)، والعبد يكون من حملة
__________
(1) “والعبد المؤمن الصالح من خير البرية” ساقطة من “ب”.
(2) “المعروف” ساقطة من “ب”.
(3) رواه الطبراني في مسند الشاميين (1/ 344) رقم (599)، والخطيب في الجامع لأخلاق الرواي (1/ 128)، والهروي في ذم الكلام (3/ 326) رقم (705)، وابن عساكر (43/ 236) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ومن حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه، أخرجه الخطيب في شرف أصحاب الحديث (48)، وابن عساكر (7/ 39)، والعلائي في بغية الملتمس (34) وقال العلائي: “هذا حديث حسن غريب صحيح” ا. هـ.
ومن حديث إبراهيم بن عبد الرحمن العُذري مرسلًا، رواه الآجري في =

(1/444)


العلم، فهو عدلٌ بنصِّ الكتاب والسنَّة.
وأجمع النَّاسُ على أنَّه مقبول الشهادة على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا روى عنه الحديث (1)، فكيف تقبل شهادته على رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ولا تقبل شهادته على واحدٍ من النَّاسِ؟
ولا يقال: باب الرواية أوسعُ من باب الشهادة، فيحتاط لها ما لا يحتاط للرواية (2)، فهذا كلامٌ جرى على ألسن كثير من النَّاس، وهو عارٍ عن التحقيق والصواب، فإنَّ أولى ما ضُبِط (3) واحتيط له الشهادةُ
__________
= الشريعة (1/ 271)، وابن عدي (2/ 273)، وابن وضاح في البدع رقم (1)، والعقيلي (4/ 256)، وابن أبي حاتم في مقدمة الجرح والتعديل (2/ 17)، وابن بطة في الإبانة (1/ 198) رقم (33)، وابن عبد البر في التمهيد (1/ 58)، وابن عساكر (7/ 38).
والحديث صححه الإمام أحمد وابن عبد البر وابن الوزير. انظر: مفتاح دار السعادة (1/ 398)، والآداب الشرعية (2/ 57)، العواصم والقواصم (1/ 312)، وضعفه الحافظان ابن حجر وابن كثير. انظر: الإصابة (1/ 124)، البداية والنهاية (14/ 411).
(1) انظر: المختصر في أصول الحديث للجرجاني (57)، ألفية السيوطي في علم الحديث (89). قال الآمدي: “لم يختلف في قبول رواية العبدِ” ا. هـ. الإحكام (2/ 305)، النبذ في أصول الفقه (61).
(2) انظر: الحاوي (17/ 59)، قواعد الأحكام (2/ 40)، الفروق (1/ 4)، نصب الراية (1/ 125) “مع الهداية”، أسنى المطالب (4/ 365)، الغرر البهية (5/ 253)، فتاوى الرملي (4/ 160)، الفتاوى الفقهية الكبرى للهيثمي (4/ 330)، تحفة المحتاج (10/ 150).
(3) “ضبط” ساقطة من “أ”.

(1/445)


على الرسول – صلى الله عليه وسلم – والرواية عنه، فإنَّ الكذب عليه ليس كالكذب على غيره، وإنَّما رُدَّت الشهادة بالعداوة والقرابة والأنوثة (1) دون الرواية لتطرق التهمة إلى شهادة العدو وشهادة الولد، وخشية عدم ضبط المرأة وحفظها، وأمَّا العبدُ فما يتطرقُ إليه من ذلك يتطرق إلى الحرِّ سواء، ولا فرق بينه وبينه في ذلك ألبتة، فالمعنى الَّذي قبلت به روايته هو المعنى الَّذي تقبل به شهادته، وأمَّا المعنى الَّذي رُدَّت به شهادة العدو والقرابة والمرأة فليس موجودًا في العبد (2).

وأيضًا؛ فإنَّ المقتضي لقبول شهادة المسلم عدالته، وغلبة الظن بصدقه، وعدم تطرق التهمة إليه، وهذا بعينه موجود في العبد، فالمقتضي موجود والمانع مفقود، فإنَّ الرِّقَّ لا يصلح أن يكون مانعًا، فإنَّه لا يزيل مقتضى العدالة، ولا تطرق تهمة، كيف والعبد الَّذي يؤدي حقَّ الله وحقَّ سيده له أجران حيث يكون للحرِّ أجرٌ واحد (3)، وهو أحد الثلاثة الَّذين هم أوَّل من يدخل الجنَّة (4)، ولهذا قبل شهادته أصحاب
__________
(1) “والأنوثة” ساقطة من جميع النسخ عدا “أ”.
(2) انظر: بدائع الفوائد (1/ 5).
(3) كما رواه البخاري رقم (2549)، ومسلم رقم (1664) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: “إنَّ العبدَ إذا نصح لسيده وأحسن عبادة ربه كان له أجره مرَّتين”.
(4) لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: “عُرِضَ عليَّ أوَّل ثلاثة يدخلون الجنَّة – وذكرهم – وعبدٌ مملوكٌ أحسن عبادة ربه ونصح لسيده” رواه أحمد (2/ 425)، والترمذي (1642)، وابن أبي شيبة (7/ 267)، والطيالسي (334) رقم (2567)، وابن المبارك في الجهاد (1/ 51) رقم (46)، =

(1/446)


رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهم القدوة.
قال أبو بكر بن أبي شيبة (1): حدثنا حفص بن غياث عن أشعث عن الشعبي قال: قال شريح: “لا نجيز شهادة العبد”، فقال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: “لكنَّا نجيزها”، فكان شريح بعد ذلك يجيزها (2) إلَّا لسيده. وبه عن المختار بن فلفل قال: سألتُ أنس بن مالك عن شهادة العبد؟ فقال: “جائزة” (3).
وقال الثوري عن عمَّار الدهني (4) قال: “شهدت شريحًا شهد عنده عبد على دار، فأجاز شهادته، فقيل: إنَّه عبد، فقال شريح: كلنا عبيد وإماء” (5).
__________
= والبيهقي (4/ 138)، وصححه ابن حبان (16/ 233) رقم (7248)، وابن خزيمة (4/ 8) رقم (2249)، وحسنه الترمذي. وانظر: علل الدارقطني (9/ 269)، ونصب الراية (4/ 410).
(1) المصنف (4/ 298) رقم (20278)، كنز العمال (17790).
(2) “فكان شريح بعد ذلك يجيزها” ساقطة من “ب”.
(3) مصنف ابن أبي شيبة (4/ 298) رقم (20275)، ورواه البخاري معلقًا (5/ 316)، وتقدم زيادة تخريج له ص (443).
(4) عمَّار بن معاوية بن أسلم البجلي الدهني، أبو معاوية، توفي سنة 133 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: تهذيب الكمال (21/ 209)، سير أعلام النبلاء (6/ 138).
في “د” و”هـ”: “الذهبي”.
(5) رواه ابن أبي شيبة (4/ 298)، وعبد الرزاق (8/ 325)، وسعيد بن منصور كما في الفتح (5/ 317). وروى عجزه البخاري تعليقًا (5/ 316). وانظر: المحلَّى (9/ 413)، وتغليق التعليق (3/ 389).

(1/447)


وروى أحمد عن ابن سيرين (1): أنَّه كان لا يرى بشهادة العبد بأسًا إذا كان عدلًا (2).
وقال عطاء: شهادة العبد والمرأة جائزة في النكاح والطلاق (3).
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة قال: سئل إياس بن معاوية عن شهادة العبد؟ فقال: أنا أرد شهادة عبد العزيز بن صهيب (4)؟ يعني إنكارًا لردها (5).
وذكر الإمام أحمد عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أنَّه قال: “ما علمت أحدًا ردَّ شهادة العبد” (6).
وقد اختلف النَّاس في ذلك، فردتها (7) طائفة مطلقًا، وهذا قول مالك (8)
__________
(1) في “و”: “ابن شبرمة”.
(2) قال الحافظ ابن حجر: “وصله عبد الله بن أحمد بن حنبل في المسائل من طريق يحيى بن عتيق” ا. هـ. فتح الباري (5/ 317)، ولم أجده في المطبوع من المسائل. وانظر: تغليق التعليق (3/ 389)، المحلَّى (9/ 413).
(3) انظر: المحلَّى (9/ 413).
(4) عبد العزيز بن صهيب البُناني مولاهم البصري، قال عنه أحمد: ثقة ثقة. توفي سنة 130 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: تهذيب الكمال (18/ 147)، الجرح والتعديل (5/ 384)، سير أعلام النبلاء (6/ 103).
(5) انظر: المحلَّى (9/ 413)، عمدة القاري (1/ 142)، ثقات ابن حبان (5/ 123).
(6) تقدم تخريجه أول الفصل.
(7) في “د” و”و”: “فردها”.
(8) انظر: المدونة (5/ 154)، التفريع (2/ 235)، تفسير القرطبي (5/ 414)، =

(1/448)


والشَّافعي (1) وأبي حنيفة (2)، وقبلتها طائفة مطلقًا حتَّى لسيده وهو قول أبي محمد ابن حزم (3)، وقبلتها (4) طائفة مطلقًا إلَّا لسيده (5).
قال سفيان الثوري عن إبراهيم النخعي عن الشعبي – في العبدِ – قال: “لا تجوز شهادته لسيده، وتجوز لغيره” (6)، وهذا مذهب الإمام أحمد (7).
__________
= المعونة (3/ 1524)، الذخيرة (10/ 226)، القوانين (317).
(1) انظر: الأم (7/ 87)، التهذيب (8/ 258)، الحاوي (17/ 213)، روضة الطالبين (8/ 199)، الوجيز (2/ 249)، التنبيه (269)، اختلاف العلماء (283)، أدب القاضي لابن القاص (1/ 306)، حلية العلماء (8/ 256)، الإقناع لابن المنذر (2/ 527).
(2) انظر: مختصر اختلاف العلماء (3/ 335)، بدائع الصنائع (6/ 216)، فتح القدير (7/ 399)، أبي القاضي للسروجي (307)، مسعفة الحكام (370)، الاختيار (2/ 141)، طريقة الخلاف (402)، المختار للفتوى (131)، الأشباه والنظائر (311).
(3) انظر: المحلَّى (9/ 412).
(4) في “و”: “وقبلها”.
(5) كشريح وإبراهيم النخعي. رواه عنهما عبد الرزاق (8/ 324)، وابن أبي شيبة (4/ 532).
(6) انظر: مصنَّف عبد الرزاق (8/ 324)، وابن أبي شيبة (4/ 532)، الحاوي (17/ 58)، المحلَّى (9/ 413).
(7) “أحمد” ساقطة من “ب”.
انظر: الفروع (6/ 580)، شرح الزركشي (7/ 351)، الجامع الصغير (372)، العدة (626)، المحرر (2/ 305)، الهداية (6/ 580)، المبدع (10/ 236)، بدائع الفوائد (1/ 5)، الفنون (1/ 159 و 165)، المغني (14/ 185)، إعلام الموقعين (2/ 70).

(1/449)


وأجازتها طائفة في الشيء اليسير دون الكثير، وهذا قول إبراهيم النخعي (1)، وإحدى الروايتين عن شريح (2) والشعبي (3).
والَّذين ردُّوها بكلِّ حالٍ منهم من قاس (4) العبد على الكافر؛ لأنَّه منقوص بالرق (5)، وذاك (6) بالكفرِ، وهذا من أفسد القياس (7) في العالم، وفساده معلوم بالضرورة من الدِّين.
ومنهم من احتجَّ بقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] والشهادة شيء، فهو غير قادر عليها (8).
قال أبو محمد ابن حزم (9) في جواب ذلك: تحريف كلام الله عن مواضعه مهلك في الدنيا والآخرة، ولم يقل تعالى: إنَّ كلَّ عبدٍ لا يقدر على شيء، إنَّما ضربَ الله تعالى المثل بعبدٍ من عبيده هذه صفته، وقد توجد هذه الصفة في كثيرٍ من الأحرار، وبالمشاهدة نعرف كثيرًا من العبيد أقدر على الأشياء من كثيرٍ من الأحرار.
__________
(1) رواه عبد الرزاق (8/ 324)، وابن أبي شيبة (4/ 532)، والبخاري تعليقًا (5/ 316). وانظر: تغليق التعليق (3/ 389)، فتح الباري (5/ 317).
(2) انظر: المحلَّى (17/ 58)، الحاوي (9/ 413)، فتح الباري (5/ 316).
(3) انظر: المراجع السابقة. وفي “أ”: “عن شريح عن الشعبي”.
(4) في “د”: “قال”.
(5) انظر: النكت على المحرر (2/ 307).
(6) في النسخ عدا “أ”: “ذلك”.
(7) في “أ”: “قياس”.
(8) انظر: بدائع الصنائع (6/ 267).
(9) المحلَّى (9/ 414).

(1/450)


ونقول لهم: هل يلزم العبيد الصلاة والصيام والطهارة، ويحرم عليهم من المآكل والمشارب والفروج ما يحرم على الأحرار، أم لا يلزمهم ذلك؛ لكونهم لا يقدرون عندكم على شيءٍ ألبتة؟ (1)، قال: ومن نسب هذا إلى الله فقد كذب عليه جهارًا (2).
واحتج بعضهم (3) بقوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]، فنهى الشهداء عن التخلف والإباء، ومنافع العبد لسيده، فله أن يتخلف ويأبى إلَّا خدمته.
وهذا لا يدلُّ على عدم قبولها إذا أذن له سيده في تحملها وأدائها إذا لم يكن في ذلك تعطيل خدمة السيد.
فأبعد النجعة من فهم رد شهادة العبيد العدول بذلك، فإن كان هذا مقتضى الآية كان مقتضى ذلك أيضًا ردَّ روايتهم.
واحتج بعضهم بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} [المعارج: 33]، والعبدُ ليس من أهلِ القيام على غيره، وهذا من جنس احتجاج بعضهم (4) أنَّ الشهادة ولاية، والعبد ليس من أهل الولاية على غيره.
وهذا في غاية الضعف؛ فإنَّه يقال لهم: ما تعنون بالولاية؟ أتريدون بها الشهادة، وكونه مقبول القول على المشهود عليه، أم كونه
__________
(1) “ألبتة” ساقطة من “ب”.
(2) انتهى كلام ابن حزم.
(3) انظر: فتح الباري (5/ 317).
(4) “بقوله تعالى: {والَّذين .. } ” إلى قوله ” .. احتجاج بعضهم” ساقط من “و”.

(1/451)


حاكمًا عليه منفذًا فيه الحكم؟ فإن أردتم الأوَّل كان التقدير: إنَّ الشهادة شهادة والعبد ليس من أهل الشهادة، وهذا حاصل دليلكم، وإن أردتم الثاني (1) فمعلوم البطلان قطعًا، والشهادة لا تستلزمه.
واحتج بعضهم (2) بأنَّ الرِّق أثر من آثار الكفر، فمنع قبول الشهادة، كالفسق.
وهذا في غاية البطلان، فإنَّ هذا لو صحَّ لمنع قبول روايته، وفتواه، والصلاة خلفه، وحصول الأجرين له.
واحتجَّ بأنَّه يستغرق الزمان بخدمة سيده، فليس له وقت يملك فيه أداء الشهادة، ولا يملك عليه.
وهذا أضعف ممَّا قبله؛ لأنَّه ينتقض بقبول روايته وفتواهُ، وينتقض بالحرَّة المزوجة، وينتقض بما لو أذن له سيده (3)، وينتقض بالأجير الَّذي استغرقت ساعات يومه وليلته بعقد الإجارة، ويبطل بأنَّ أداء الشهادة (4) لا يبطل حق السيد من (5) خدمته (6).
واحتج بأنَّ العبد سلعةٌ من السلع، فكيف تشهد
__________
(1) في “ب”: “الباقي”.
(2) انظر: الفنون (1/ 160)، المبسوط (16/ 120).
(3) “وينتقض بالحرة المزوجة، وينتقض بما لو أذن له سيده” ساقطة من “د”.
(4) في “جـ” و”هـ” و”و”: “بأنَّ أداءه للشهادة”.
(5) في “أ” و”جـ”: “في”.
(6) انظر: المحلَّى (9/ 414).

(1/452)


السلع؟ (1).
وهذا في غاية الغثاثة والسماجة، فإنَّه تقبل شهادة هذه السلعة، كما تقبل روايتها وفتواها، وتصح إمامتها، وتلزمها الصلاة والصوم والطهارة.
واحتجَّ بأنَّه دنيء، والشهادة منصب عَليٌّ، فليس من أهلها.
وهذا من ذلك (2) الطراز، فإنَّه إن أريدَ بدناءته ما يقدح في دينه وعدالته، فليس كلامنا فيمن هو كذلك، ونافع وعكرمة أفضل (3) وأجل وأشرف من أكثر الأحرار عند الله وعند النَّاس، وإن أريد بدناءته أنَّه مبتلى برق الغير فهذه البلوى لا تمنع قبول الشهادة، بل هي ممَّا يرفع الله بها درجة (4) العبد، ويضاعف له بها الأجر.
فهذه الحجج كما تراها من الضعف والوهن، وإذا قابلت بينها وبين حجج القائلين بشهادته (5) لم يخف عليك الصواب، والله أعلم.
__________
(1) انظر: المحلَّى (9/ 414).
(2) “ذلك” ساقطة من “و”.
(3) “أفضل” مثبتة من “و”.
(4) “درجة” ساقطة من “ب”.
(5) وفي “أ”: “القابلين لشهادته”.

(1/453)


فصل

الطريق الخامس عشر: الحكم بشهادة الصبيان المميزين.
وهذا موضع اختلف فيه النَّاس، فردتها طائفة مطلقًا، وهذا قول الشافعي (1)، وأبي حنيفة. (2)، وأحمد (3) في إحدى الروايات (4) عنه، وعنه رواية ثانية (5): أنَّ شهادة الصبي المميز مقبولة إذا وجدت فيه بقية الشروط، وعنه رواية ثالثة (6): أنَّها تقبل في جراح بعضهم بعضًا، إذا أدوها قبل تفرقهم، وهذا قول مالك (7).
__________
(1) انظر: الأم (7/ 89)، الحاوي (17/ 213)، التنبيه (269)، الوجيز (2/ 449)، روضة الطالبين (199)، رحمة الأمة (336).
(2) انظر: مختصر اختلاف العلماء (3/ 337)، روضة القضاة (1/ 201)، حاشية ابن عابدين (5/ 506).
(3) انظر: مسائل ابن هانئ (2/ 36)، رؤوس المسائل الخلافية (6/ 1006)، الجامع الصغير (372)، الهداية (2/ 149)، المغني (14/ 146)، الفروع (6/ 576)، المبدع (10/ 213)، شرح الزركشي (7/ 328)، كشاف القناع (6/ 416)، بدائع الفوائد (4/ 105).
(4) وفي باقي النسخ عدا “أ”: “الروايتين”.
(5) انظر: المراجع السابقة.
(6) انظر: المراجع السابقة.
(7) انظر: المدونة (5/ 163)، المقدمات (2/ 283)، الاستذكار (22/ 77)، الكافي (470)، البيان والتحصيل (10/ 181)، المنتقى (5/ 230)، الذخيرة (11/ 209)، المعونة (3/ 1521)، القوانين (317)، منتخب الأحكام (2/ 125)، تبصرة الحكام (2/ 24).

(1/454)


قال ابن حزم (1): صحَّ عن ابن الزبير أنَّه قال: “إذا حيز بهم عند المصيبة جازت شهادتهم”، قال ابن أبي مليكة: فأخذ القضاة بقول ابن الزبير (2).
وقال قتادة عن الحسن قال: قال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: “شهادة الصبي على الصبي جائزة، وشهادة العبد على العبد جائزة” (3).
قال الحسن (4): وقال معاوية: “شهادة الصبيان على الصبيان جائزة، ما لم يدخلوا البيوت فيعلموا” (5). وعن علي مثله أيضًا (6).
وقال ابن أبي شيبة (7): حدثنا وكيع، حدثنا عبد الله بن حبيب بن
__________
(1) المحلَّى (9/ 420). وفيه: “إذا جيء بهم”.
(2) رواه ابن أبي شيبة (4/ 364)، ومالك (2/ 726)، والبيهقي (10/ 273)، والحاكم (2/ 286) وصححه، وعبد الرزاق (8/ 349)، ووكيع في أخبار القضاة. انظر: المنتقى (5/ 229)، الاستذكار (22/ 78)، والمدونة (5/ 163).
(3) رواه مختصرًا ابن أبي شيبة (4/ 365)، وذكره في مختصر إتحاف المهرة وقال: “رواه مسدد” (7/ 151). قال ابن عبد البر: “الطرق عنه ضعيفة” ا. هـ. الاستذكار (22/ 79). وانظر: المحلَّى (9/ 420)، مصنف عبد الرزاق (8/ 350).
(4) “قال الحسن” ساقطة من “أ”.
(5) عبد الرزاق مختصرًا (1/ 380). وانظر: المحلَّى (9/ 420)، وكنز العمَّال (17791).
(6) رواه مختصرًا ابن أبي شيبة (4/ 365)، وعبد الرزاق (8/ 350).
(7) في المصنف (5/ 447) رقم (27864). ورواه عبد الله بن أحمد في المسائل (436). وانظر: المحلَّى (9/ 420)، مختصر اختلاف العلماء (3/ 337)، =

(1/455)


أبي ثابت، عن الشعبي، عن مسروق: “أنَّ ستة غلمان ذهبوا يسبحون، فغرق أحدهم، فشهد ثلاثة على اثنين أنَّهما غرَّقاه، وشهد اثنان على ثلاثة أنَّهم غرَّقوه، فقضى علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – على الثلاثة بخمسي الدية، وعلى الاثنين بثلاثة أخماسها”.
وقال الثوري: عن فراس (1) عن الشعبي عن مسروق: “أنَّ ثلاثة غلمان شهدوا على أربعة، وشهد الأربعة على الثلاثة، فجعل مسروق على الأربعة ثلاثة أسباع الدية، وعلى الثلاثة أربعة (2) أسباع الدية” (3).
قال أبو الزناد: “السنَّة أن يؤخذ في شهادة الصبيان بقولهم في الجراح مع أيمان المدعين” (4).
وأجاز عمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه – شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الجراح المقاربة (5)، فإذا بلغت النفوس قضى بشهادتهم مع أيمان الطالبين (6).
__________
= مسند زيد (4/ 150).
(1) فراس بن يحيى الهمذاني الخارفي أبو يحيى الكوفي، وثَّقه ابن معين والنسائي. توفي سنة 129 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: تاريخ الدارمي (56)، تهذيب الكمال (23/ 152).
(2) في “أ”: “أربع”.
(3) رواه ابن أبي شيبة (5/ 447). وانظر: المحلَّى (9/ 420).
(4) انظر: المحلَّى (9/ 420).
(5) قوله “مع أيمان المدعين” إلى قوله: “الجراح المقاربة” ساقط من “ب”، وكلمة “المقاربة” ساقطة من “د” و”هـ” و”و”.
(6) انظر: المدونة (5/ 163)، المحلَّى (9/ 421).

(1/456)


وقال ربيعة (1): تقبل شهادة بعضهم على بعض ما لم يتفرقوا (2).
وقال شريح: تقبل شهادتهم إذا اتفقوا، ولا تقبل إذا اختلفوا (3). وكذلك قال أبو بكر بن حزم (4)، وسعيد بن المسيب (5)، والزهري (6).
وقال وكيع عن ابن جريج عن ابن (7) أبي مليكة: سألت ابن عباس وابن الزبير عن شهادة الصبيان؟ فقال ابن عباس: إنَّما قال الله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وليسوا ممَّن نرضى (8). وقال ابن الزبير: “هم أحرى إذا سئلوا عمَّا رأوا أن يشهدوا”. قال ابن أبي مليكة: ما رأيت القضاة أخذوا إلَّا بقول ابن الزبير (9).
قالت المالكية (10): قد ندب الشرع إلى تعليم الصبيان الرمي
__________
(1) في “ب”: “معاوية”. وهو ربيعة الرَّأي، تقدمت ترجمته.
(2) انظر: المدونة (5/ 163)، والمحلَّى (9/ 421).
(3) رواه وكيع في أخبار القضاة (2/ 308 و 377)، وعبد الرزاق (8/ 349 و 350)، وانظر: المحلَّى (9/ 421).
(4) انظر: المحلَّى (9/ 421).
(5) رواه عبد الرزاق (8/ 351). وانظر: المحلَّى (9/ 420)، الاستذكار (22/ 79).
(6) رواه عبد الرزاق (8/ 351). وانظر: المحلَّى (9/ 420)، الاستذكار (22/ 79).
(7) “ابن” ساقطة من “أ”.
(8) رواه الشافعي في الأم (7/ 89)، وابن أبي شيبة (4/ 364) و (5/ 447)، وعبد الرزاق (8/ 348).
(9) تقدم تخريجه أوَّل الفصل.
(10) انظر: الفروق (4/ 98)، الذخيرة (11/ 210)، المعونة (3/ 1522)، عدة =

(1/457)


والثقاف (1) والصراع وسائر ما يدربهم على حمل السلاح والضرب، والكر والفر، وتصليب (2) أعضائهم وتقوية أقدامهم، وتعليمهم البطش، والحمية والأنفة من العار والفرار، ومعلوم أنَّهم في غالب أحوالهم يخلون بأنفسهم في ذلك، وقد يجني بعضهم على بعض، فلو لم نقبل قول بعضهم على بعض لأهدرت دماؤهم.
وقد احتاط الشارع بحقن الدماء، حتَّى قبل فيها اللوث واليمين، وإن كان لم يقبل ذلك في درهم واحد، وعلى قبول شهادتهم تواطأت مذاهب السلف الصالح، فقال به علي بن أبي طالب (3)، ومعاوية بن أبي سفيان (4)، وعبد الله بن الزبير (5)، ومن التابعين: سعيد بن المسيب (6)، وعروة بن الزبير (7)، وعمر بن عبد العزيز (8)، والشعبي (9)،
__________
= البروق (502)، الإحكام للآمدي (2/ 305)، الخرشي على خليل (7/ 196).
(1) الثقاف: ما تسوى به الرماح. مختار الصحاح (85).
(2) في باقي النسخ عدا “أ”: “وتصلبة”.
(3) رواه ابن أبي شيبة (4/ 365) و (5/ 447)، وعبد الرزاق (8/ 350)، ومسدد كما في مختصر إتحاف المهرة (7/ 151)، وعبد الله بن أحمد في المسائل (436).
(4) رواه عبد الرزاق (8/ 350).
(5) رواه مالك (2/ 726)، وابن أبي شيبة (4/ 364)، وعبد الرزاق (8/ 348)، والبيهقي (10/ 273).
(6) رواه عبد الرزاق (8/ 351). وانظر: الاستذكار (22/ 79).
(7) رواه عبد الرزاق (8/ 350). وانظر: الاستذكار (22/ 79).
(8) انظر: المحلَّى (9/ 420)، المدونة (5/ 164).
(9) رواه عبد الرزاق (8/ 349). وانظر: الاستذكار (22/ 79).

(1/458)


والنخعي (1)، وشريح (2)، وابن أبي ليلى (3)، وابن شهاب (4)، وابن أبي مليكة (5) – رضي الله عنهم – وقال: “ما أدركت القضاة إلَّا وهم يحكمون (6) بقول ابن الزبير”، وأبو الزناد وقال: هي السنة (7).
قالوا (8): وشرط قبول شهادتهم في ذلك كونهم يعقلون الشهادة، وأن يكونوا ذكورًا أحرارًا، محكومًا لهم بحكم الإسلام، اثنين فصاعدًا، متفقين غير مختلفين، ويكون ذلك قبل تفرقهم وتخبيرهم (9)، ويكون ذلك لبعضهم على بعض، ويكون في القتل والجراح خاصَّة، ولا تقبل شهادتهم على كبير أنَّه قتل صغيرًا، ولا على صغير أنَّه قتل كبيرًا.
قالوا: ولو شهدوا، ثمَّ رجعوا عن شهادتهم أخذ بالشهادة الأولى،
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة (4/ 364). وانظر: الاستذكار (22/ 79).
(2) رواه وكيع في أخبار القضاة (2/ 308 و 313 و 377)، وعبد الرزاق (8/ 349 و 350)، وابن أبي شيبة (4/ 365).
(3) انظر: مختصر اختلاف العلماء (3/ 337)، المبسوط (30/ 153)، والمحلَّى (5/ 164)، الاستذكار (22/ 79).
(4) رواه عبد الرزاق (8/ 351). وانظر: الاستذكار (22/ 79).
(5) رواه ابن أبي شيبة (4/ 364)، وعبد الرزاق (8/ 349)، ومالك (2/ 726)، والبيهقي (10/ 273)، والحاكم (2/ 286).
(6) في “د”: “يقضون”.
(7) انظر: المحلى 9/ 420 وفي جميع النسخ عدا (ج): وأبي الزناد.
(8) انظر: المنتقى (5/ 229)، الفروق (4/ 97)، الذخيرة (11/ 209)، المعونة (3/ 1521)، التفريع (2/ 237).
(9) في “ب” و”جـ” و”د” و”و”: “وتخبيهم”.

(1/459)


ولم يلتفت إلى ما رجعوا إليه (1).
قالوا: ولا خلاف عندنا أنَّه لا يعتبر فيهم تعديل ولا تجريح (2).
قالوا: واختلف أصحابنا في العداوة والقرابة: هل تقدح (3) في شهادتهم؟ على قولين (4)، واختلفوا في جريان هذا الحكم في إناثهم، أم هو مختص بالذكور فلا تقبل فيه شهادة الإناث على قولين (5).
__________
(1) انظر: الذخيرة (11/ 212)، حاشية العدوي (2/ 454).
(2) انظر: حاشية العدوي (2/ 454).
(3) في “ب”: “تندرج”.
(4) انظر: أنوار البروق (4/ 163)، بلغة السالك (4/ 261).
(5) انظر: الفروق (4/ 97)، أنوار البروق (4/ 163)، بلغة السالك (4/ 261).

(1/460)


فصل

الطريق السادس عشر: الحكم بشهادة الفساق (1).
وذلك في صور:
إحداها: الفاسق باعتقاده، إذا كان متحفظًا في دينه، فإنَّ شهادته مقبولة وإن حكمنا بفسقه، كأهل البدع والأهواء الَّذين لا نكفرهم، كالرَّافضة والخوارج والمعتزلة ونحوهم، هذا منصوص الأئمة (2).
قال الشَّافعي: أقبل شهادة أهل الأهواء بعضهم على بعض، إلَّا الخطابية فإنَّهم يتدينون بالشهادة لموافقيهم على مخالفيهم (3).
__________
(1) في “ب”: “الصبيان”.
انظر: الأم (6/ 290)، السياسية الشرعية لابن نجيم (25)، مختصر اختلاف العلماء (3/ 343)، فتح القدير (7/ 415)، معين الحكام (178)، تبصرة الحكام (2/ 8)، التمهيد لأبي الخطاب (3/ 112)، المغني (14/ 147)، الاختيارات (357)، الهداية (2/ 150)، شرح الزركشي (7/ 331)، الكفاية للخطيب (194)، إرشاد طلاب الحقائق (1/ 300)، الروض المربع (722)، مدارج السالكين (1/ 361)، العواصم لابن الوزير (3/ 156)، المحرر (2/ 248)، البناية (8/ 180)، الأشباه والنظائر للسيوطي (294)، المستصفى (1/ 160)، البحر المحيط للزركشي (4/ 269).
(2) انظر: المحرر (2/ 248)، البناية (8/ 180)، جواب المنذري عن أسئلة في الجرح والتعديل (67).
(3) انظر: الكفاية للخطيب (194)، إرشاد طلاب الحقائق (1/ 302)، الأشباه للسيوطي (294)، الموقظة للذهبي (87)، المستصفى (1/ 160)، روض الطالب (1/ 221) مع أسنى المطالب، مقدمة ابن الصلاح (54)، البحر المحيط للزركشي (4/ 270).

(1/461)


ولا ريبَ أنَّ شهادة من يُكَفِّر بالذنب ويعُدُّ (1) الكذب ذنبًا (2) أولى بالقبول ممَّن ليس كذلك، ولم يزل السلف والخلف على قبول شهادة هؤلاء وروايتهم (3).
وإنَّما منع الأئمة – كأحمد بن حنبل (4) وأمثاله – قبول رواية الدَّاعي المعلن ببدعته، وشهادته، والصلاة خلفه، هجرًا له وزجرًا، لينكف ضرر بدعته عن المسلمين، ففي قبول شهادته وروايته (5) والصلاة خلفه واستقضائه وتنفيذ أحكامه رضى ببدعته وإقرار له عليها، وتعريض لقبولها منه.
قال حرب: قال أحمد (6): لا تجوز شهادة القدرية والرافضة وكل من دعا إلى بدعته وتخاصم (7) عليها (8). وكذلك كلُّ بدعةٍ.
__________
(1) وفي “جـ” و”و”: “ويتعمد”، وفي “د” و”هـ”: “ويعتمد”، وفي “ب”: “ويشهد”.
(2) “ذنبًا” مثبتة من “أ”.
(3) انظر: جواب المنذري عن أسئلة في الجرح والتعديل (67)، سير أعلام النبلاء (7/ 154)، الموقظة (87)، الجرح والتعديل للقاسمي (13)، حاشية المطيعي على نهاية السول (3/ 128).
(4) انظر: مسائل أحمد رواية الكوسج (2/ 391)، التمهيد لأبي الخطاب (3/ 121)، الكفاية للخطيب (195)، ميزان الاعتدال (5/ 332)، تبصرة الحكام (2/ 8).
(5) “وروايته” ساقطة من “ب”.
(6) في “أ”: “قلت لأحمد”.
(7) انظر كلام الإمام أحمد في القدرية: السنة للخلال (3/ 529). وفي الرافضة: السنة للخلال (3/ 489). وانظر: المغني (14/ 149)، المبدع (10/ 222)، المحرر (2/ 248).
(8) “عليها” ساقطة من “جـ” و”د” و”هـ”.

(1/462)


وقال الميموني (1): قال أبو عبد الله في الرَّافضة (2): لا تقبل شهادتهم ولا كرامة لهم (3)
وقال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد: كان ابن أبي ليلى (4) يجيز شهادة كل صاحب بدعة إذا كان فيهم (5) عدلًا لا يستحل شهادة الزور، قال أحمد: ما تعجبني شهادة الجهمية والرَّافضة والقدرية والمعلنة (6).
وقال الميموني: سمعت أبا عبد الله يقول: من أخاف عليه الكفر – مثل الروافض والجهمية – لا تقبل شهادتهم ولا كرامة لهم (7)، أنا أستتيبهم (8).
__________
(1) أبو الحسن عبد الملك بن عبد الحميد بن مهران الميموني. توفي 274 هـ.
انظر: تذكرة الحفاظ (2/ 603)، سير أعلام النبلاء (13/ 90)، المقصد الأرشد (2/ 142).
(2) في “ب” و”د” و”هـ” و”و”: “الروافض”.
(3) انظر: السنة للخلال (3/ 489)، المحرر (2/ 248)، المغني (14/ 149)، المبدع (10/ 222).
(4) انظر: البحر المحيط للزركشي (4/ 270).
(5) في “هـ”: “بينهم”.
(6) مسائل أحمد رواية إسحاق بن منصور (2/ 391). وانظر: المحرر (2/ 248)، والجامع الصغير (373)، المغني (14/ 149)، المبدع (10/ 222).
(7) انظر: المحرر (2/ 248)، الجامع الصغير (373)، المغني (14/ 149)، المبدع (10/ 222).
(8) “أنا أستتيبهم” مثبتة من “أ”.

(1/463)


وقال في رواية يعقوب بن بختان: إذا كان القاضي جهميًّا لا نشهد عنده (1).
وقال أحمد بن الحسن الترمذي (2): قدمت على أبي عبد الله، فقال: ما حال قاضيكم؟ لقد مُدَّ له (3) في عمره، فقلت له: إنَّ للنَّاس عندي شهادات، فإذا صرت إلى البلاد لا آمن إن شهدت (4) عنده أن يفضحني، قال: لا تشهد عنده، قلتُ: يسألني من له عندي شهادة، قال: لك ألَّا تشهد عنده.
قلتُ: من كفر بمذهبه – كمن ينكر حدوث العالم، وحشر الأجساد، وعلم الرب تعالى بجميع الكائنات، وأنَّه فاعل بمشيئته وإرادته – فلا تقبل شهادته؛ لأنَّه على غير الإسلام، فأمَّا أهل البدع الموافقون (5) على أصل (6) الإسلام، ولكنَّهم مختلفون (7) في بعض الأصول – كالرَّافضة والقدرية والجهمية وغلاة المرجئة ونحوهم – فهؤلاء أقسام (8):
__________
(1) انظر: الفروع (6/ 549)، الإنصاف (29/ 253).
(2) في “ب”: “الزهري”.
(3) “له” ساقطة من “و”.
(4) في جميع النسخ عدا “أ”: “أن أشهد”.
(5) في “د” و”هـ” و”و”: “الموافقين”، وفي “ب”: “الوافدين”.
(6) في “جـ” و”د” و”هـ” و”و”: “الموافقين أهل”، وفي “ب”: “على أهل”.
(7) في “د”: “يختلفون”، وفي “جـ”: “مخالفون”.
(8) انظر: تبصرة الحكام (2/ 8)، والنونية (2/ 403) “شرح ابن عيسى”، النكت على المحرر (2/ 262)، قواعد الأحكام (2/ 31).

(1/464)


أحدها: الجاهل المقلِّد الَّذي لا بصيرة له، فهذا لا يكفر ولا يفسق، ولا ترد شهادته، إذا لم يكن قادرًا على تعلم الهدى، وحكمه حكم المستضعفين من الرَّجال والنساء والولدان الَّذين لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلًا، فأولئك عسى الله أن يعفوَ عنهم، وكان الله عفوًّا غفورًا.
القسم الثاني: متمكن من السؤال وطلب الهداية، ومعرفة الحق، ولكن يترك ذلك اشتغالًا بدنياه ورياسته، ولذته ومعاشه وغير 4 ذلك، فهذا مفرط مستحق للوعيد، آثمٌ بترك ما وجبَ عليه من تقوى الله بحسب استطاعته، فهذا حكمه حكم أمثاله من تاركي بعض الواجبات، فإن غلبَ ما فيه من البدعة والهوى على ما فيه من السنة والهدى ردت شهادته، وإن غلبَ ما فيه من السنَّة والهدى قبلت شهادته (1).
القسم الثالث: أن يسأل ويطلب (2)، ويتبين له الهدى، ويتركه تقليدًا وتعصبًا، أو بغضًا أو معاداة لأصحابه، فهذا أقل درجاته أن يكون فاسقًا، وتكفيره محل اجتهاد وتفصيل، فإن كان معلنًا داعية ردت شهادته وفتاويه وأحكامه، مع القدرة على ذلك، ولم تقبل له شهادة ولا فتوى ولا حكم إلَّا عند الضرورة، كحال غلبة هؤلاء واستيلائهم وكون القضاة والمفتين والشهود منهم، ففي ردِّ شهادتهم وأحكامهم إذ ذاك فسادٌ كثير، ولا يمكن ذلك، فتقبل للضرورة.
وقد نصَّ مالك – رحمه الله – على أنَّ شهادة أهل البدع – كالقدرية
__________
(1) “شهادته” ساقطة من “أ” و”ب”.
(2) “ويطلب” ساقطة من “هـ”.

(1/465)


والرَّافضة ونحوهم – لا تقبل، وإن صلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا (1).
قال اللخمي (2): وذلك لفسقهم، قال: ولو كان ذلك عن تأويل غلطوا فيه.
فإن كان هذا (3) ردهم لشهادة القدرية – وغلطهم إنَّما هو من تأويل القرآن، كالخوارج – فما الظن بالجهمية الَّذين أخرجهم كثير من السلف من الثنتين والسبعين فرقة؟ (4).
وعلى هذا، فإذا كان النَّاسُ فسَّاقًا كلهم إلَّا القليل النَّادر قبلت شهادة بعضهم على بعض، ويحكم بشهادة الأمثل من الفساق (5) فالأمثل، هذا هو الصواب الَّذي عليه العمل (6)، وإن أنكره كثيرٌ من الفقهاء بألسنتهم.
__________
(1) انظر: تبصرة الحكام (2/ 7)، والتاج والإكليل (6/ 150).
(2) هو علي بن محمد الربعي المعروف باللخمي القيرواني أبو الحسن الإمام الحافظ. توفي سنة 478 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: شجرة النور الزكية (1/ 117)، ترتيب المدارك (4/ 797)، تاريخ الإسلام (32/ 242).
(3) “هذا” ساقطة من “و”.
(4) انظر: السنة للخلال (5/ 83)، السنة لعبد الله بن الإمام أحمد (1/ 106)، الكتاب اللطيف لابن شاهين (86)، السنة للّالكائي (2/ 256).
(5) “من الفساق” ساقطة من “ب” و”د” و”هـ” و”و”.
(6) انظر: مختصر الفتاوى المصرية (772)، بدائع الفوائد (3/ 232)، معين الحكام (178)، السياسة الشرعية لابن نجيم (25)، والسياسة الشرعية لدده أفندي (86 و 120)، بهجة قلوب الأبرار للسعدي (116) “مع المجموعة الكاملة”.

(1/466)


كما أنَّ العملَ على صحة ولاية الفاسق، ونفوذ أحكامه، وإن أنكروه بألسنتهم.
وكذلك العمل على صحة (1) كون الفاسق وليًّا في النكاح ووصيًّا في المال (2). والعجبُ ممَّن يسلبه (3) ذلك ويرد الولاية إلى فاسقٍ مثله، أو أفسق منه؛ فإنَّ العدلَ الَّذي تنتقل إليه الولاية قد تعذر (4) وجوده، وامتاز الفاسق القريب بشفقة القرابة، والوصيُّ باختيار الموصى له وإيثاره على غيره، ففاسقٌ عيَّنه الموصي أو امتاز بالقرابة أولى من فاسق ليس كذلك.

على أنَّه إذا غلب على الظن صدق الفاسق قبلت شهادته وحكم بها، والله – سبحانه وتعالى – لم يأمر بردِّ خبر الفاسق، فلا يجوز رده مطلقًا، بل يتثبت فيه حتَّى يتبين، هل هو صادقٌ أو كاذب؟ فإن (5) كان صادقًا قبل قوله وعمل به، وفسقه عليه، وإن كان كاذبًا رُدَّ خبره ولم يلتفت إليه.
وخبر الفاسق وشهادته لرده مأخذان (6):
__________
(1) “صحة ولاية الفاسق” إلى قوله “العمل على صحة” ساقطة من “د”.
(2) انظر: تاريخ قضاة الأندلس للنباهي (99)، ونفح الطيب (2/ 238).
(3) في “جـ”: “سبيله”، وفي “د”: “سلبه”.
(4) في “و”: “يتعذر”.
(5) في “د” و”هـ”: “فإذا”.
(6) انظر: تبصرة الحكام (2/ 9).

(1/467)


أحدهما: عدم الوثوق به، إذ (1) تحمله قلَّة مبالاته بدينه، ونقصان وقار الله في قلبه على تعمد الكذب.
الثاني: هجره على إعلانه بفسقه ومجاهرته به (2)، فقبول شهادته إبطالٌ لهذا الغرضِ المطلوب شرعًا.
فإذا علم صدق لهجة الفاسق، وأنَّه من أصدق النَّاس – وإن كان فسقه بغير الكذب – فلا وجه لردِّ شهادته (3)، وقد استأجر النبي – صلى الله عليه وسلم – هاديًا يدلُّه على طريق المدينة، وهو مشركٌ على دين قومه، ولكن لما وثق بقوله أمنه (4)، ودفع إليه راحلته، وقبل دلالته (5).
وقد قال أصبغ بن الفرج: إذا شهد الفاسق عند الحاكم وجب عليه التوقف في القضية (6)، وقد يحتج له بقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]وحرف المسألة: أنَّ مدارَ قبول الشهادة، وردها على غلبة ظن الصدق وعدمه.
__________
(1) في “أ” و”ب” و”د” و”و”: “أو”.
(2) انظر: الفروع (2/ 146)، المبدع (7/ 108)، مجموع الفتاوى (28/ 206).
(3) انظر: الاختيارات (357).
(4) “المدينة وهو مشرك على دين قومه ولكن لما وثق بقوله أمنه” ساقطة من “و”.
(5) رواه البخاري (2263، 3905) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(6) انظر: تبصرة الحكام (2/ 9).

(1/468)


والصواب المقطوع به أنَّ العدالة تتبعض، فيكون الرجل عدلًا في شيءٍ، فاسقًا في شيء، فإذا تبينَ للحاكم أنَّه عدلٌ فيما شهد به قبل شهادته ولم يضره فسقه في غيره (1)، ومن عرف شروط العدالة، وعرف ما عليه النَّاس تبين له الصواب (2) في هذه المسألة، والله أعلم.
__________
(1) وهذا ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى -. الاختيارات (357)، النكت على المحرر (2/ 304).
(2) “وعرف ما عليه النَّاس تبين له الصواب” ساقطة من “ب”.

(1/469)


فصل

الطريق السابع عشر: الحكم بشهادة الكافر.
وهذه المسألة لها صورتان:

إحداهما: شهادة الكفار بعضهم على بعض.
والثانية: شهادتهم على المسلمين.
فأمَّا المسألة الأولى فقد اختلف فيها النَّاس قديمًا وحديثًا، فقال حنبل: حدثنا قبيصة (1) حدثنا سفيان عن أبي حصين (2) عن الشعبي قال: تجوز شهادة اليهودي على النصراني (3).
قال حنبل: وسمعت أبا عبد الله قال: تجوز شهادة بعضهم على بعض (4)، فأمَّا على المسلمين فلا تجوز، وتجوز شهادة المسلم
__________
(1) قبيصة بن عقبة بن محمد بن سفيان السوائي الكوفي أبو عامر الحافظ. توفي سنة 215 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: تهذيب الكمال (23/ 481)، سير أعلام النبلاء (10/ 130).
(2) عثمان بن عاصم بن حصين بن كثير الأسدي، أبو حصين الإمام الحافظ. توفي سنة 128 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: الجرح والتعديل (6/ 160)، تهذيب الكمال (19/ 401)، سير أعلام النبلاء (5/ 412).
(3) رواه الخلال في الجامع “قسم الملل” (1/ 207) رقم (360). ونحوه عند ابن أبي شيبة (4/ 533)، والطحاوي في المشكل (11/ 452)، وعبد الرزاق (8/ 358).
(4) “اليهودي على النصراني” إلى قوله “بعضهم على بعض” ساقطة من “و”، وقوله “على بعض” ساقطة من “أ” و”هـ”.

(1/470)


عليهم (1).
وقال في رواية أبي داود (2) والمروذي (3)، وحرب (4)، والميموني (5)، وأبي الحارث (6)، وجعفر بن محمد (7)، ويعقوب بن بختان (8)، وأبي طالب (9) – واحتج في روايته بقوله تعالى: {فَأَغْرَيْنَا
__________
(1) رواه الخلال في الجامع “قسم الملل” (1/ 270) رقم (360). وانظر: المغني (14/ 173)، وشرح الزركشي (7/ 325)، المسائل الفقهية من كتاب الروايتين (3/ 92).
(2) رواه الخلال في الجامع (1/ 207) رقم (263). وهي في مسائله ص: 210.
(3) أحمد بن محمد بن الحجاج المروذي أبو بكر الإمام الفقيه. توفي سنة 275 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: طبقات الحنابلة (1/ 137)، تاريخ بغداد (5/ 188)، سير أعلام النبلاء (13/ 173).
والأثر رواه الخلال في الجامع (1/ 208) رقم (364).
(4) رواه الخلال في الجامع “قسم الملل” (1/ 208) رقم (365). وانظر: المغني (14/ 173)، شرح الزركشي (7/ 325)، النكت (2/ 281).
(5) رواه الخلال في الجامع (1/ 207). وانظر: المغني (14/ 173)، شرح الزركشي (7/ 325)، النكت (2/ 281).
(6) رواه الخلال في الجامع (1/ 208) رقم (366). وانظر: المغني (14/ 173)، شرح الزركشي (7/ 325)، النكت (2/ 281).
(7) رواه الخلال (1/ 209) رقم (368). وانظر: المغني (14/ 173)، شرح الزركشي (7/ 325)، النكت (2/ 281).
(8) رواه الخلال في الجامع (1/ 209) رقم (369). وانظر: المغني (14/ 173)، شرح الزركشي (7/ 325)، النكت (2/ 281).
(9) رواه الخلال في الجامع “قسم الملل” (1/ 209) رقم (370). وانظر: المغني (14/ 173)، شرح الزركشي (7/ 325)، النكت (2/ 281).

(1/471)


بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة: 14] – (1) وصالح (2) ابنه، وأبي حامد (3) الخفاف (4)، وإسماعيل بن سعيد الشالنجي (5)، وإسحاق بن منصور (6)، ومهنا (7) بن يحيى (8)، فقال له مهنا: أرأيت أن عُدِّلُوا؟ قال: فمن يعدلهم؟ العلج منهم؟ وأفضلهم يشرب الخمر ويأكل الخنزير، فكيف يعدل؟
فنص (9) في رواية هؤلاء أنَّه لا تجوز شهادة بعضهم على بعض، ولا على غيرهم ألبتة؛ لأنَّ الله – سبحانه وتعالى – قال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وليسوا ممَّن نرضاه.
قال الخلال (10): فقد روى هؤلاء النفر – وهم قريبٌ من عشرين
__________
(1) الآية التي استدلَّ بها الإمام أحمد في رواية أبي طالب: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 64](2) رواه الخلال (1/ 210) رقم (371)، مسائل صالح (2/ 218 و 274).
(3) في “د”: “وأبي صالح”.
(4) أحمد بن نصر أبو حامد الخفاف، كان عنده جزء فيه مسائل حسان عن الإمام أحمد أغرب فيها. انظر: طبقات الحنابلة (1/ 204)، المنهج الأحمد (2/ 366).
والأثر رواه الخلال في الجامع (1/ 210) رقم (372).
(5) رواه الخلال في الجامع (1/ 210) رقم (373).
(6) رواه الخلال في الجامع (1/ 211) رقم (374). وهي في مسائله رقم 2898.
(7) رواه الخلال في الجامع (1/ 211) رقم (375).
(8) لم يذكر قول الإمام أحمد رحمه الله في رواية هؤلاء ولعلَّ فيه سقطًا، وهو: “لا تجوز”، كما سيأتي ذكره قريبًا.
(9) “فنص” ساقطة من “ب”.
(10) في الجامع (1/ 212). وانظر: الشرح الكبير (29/ 328)، الإنصاف =

(1/472)


نفسًا – كلهم عن أبي عبد الله خلاف ما قال حنبل.
قال (1): نظرت في أصل حنبل: أخبرني عبد الله عن أبيه بمثل ما أخبرني عصمة (2) عن حنبل، ولا شكَّ أنَّ حنبلًا توهم ذلك، لعله أراد أنَّ أبا عبد الله قال: لا تجوز، فغلط فقال: تجوز، وقد أخبرنا عبد الله عن أبيه بهذا الحديث، وقال عبد الله: قال أبي: لا تجوز، وقال أبي: حدثنا وكيع عن سفيان عن حصين (3) عن الشعبي قال: تجوز (4) شهادة بعضهم على بعض (5)، قال عبد الله: قال أبي (6): لا تجوز؛ لأنَّ الله تعالى قال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]، وليسوا هم ممَّن نرضى، فصحَّ الخطأ ها هنا من حنبل.
وقد اختلفوا على الشعبي (7) أيضًا، وعلى سفيان (8)، وعلى
__________
= (29/ 331).
(1) الخلال.
(2) عصمة بن عصام بن الحكم بن عيسى الشيباني العكبري. انظر: تاريخ بغداد (12/ 284)، طبقات الحنابلة (2/ 176)، المنهج الأحمد (1/ 436).
(3) في الجامع (1/ 212): “عن أبي حصين” وهو الصواب. وتقدمت ترجمته.
(4) في “و”: “لا تجوز”.
(5) روى نحوه ابن أبي شيبة (4/ 533)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (11/ 452)، والخلال في الجامع (1/ 207)، وعبد الرزاق (8/ 358).
(6) “أبي” ساقطة من “ب”.
(7) انظر: مصنف عبد الرزاق (8/ 358)، وابن أبي شيبة (4/ 534)، المدونة (3/ 44) و (5/ 157)، فتح الباري (5/ 345)، الجامع للخلال (1/ 213)، أخبار القضاة (2/ 256).
(8) انظر: مصنف عبد الرزاق (8/ 358)، الجامع للخلال (1/ 212).

(1/473)


وكيع (1)، في رواية هذا الحديث. وما قال أبو عبد الله فما اختُلِف عنه ألبتة إلَّا ما غلط حنبل بلا شك؛ لأنَّ أبا عبد الله مذهبه في (2) أهل الكتاب لا يجيزها ألبتة، ويحتج بقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وأنَّهم ليسوا بعدول، وقد قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، واحتج بأنَّه تكون بينهم أحكامٌ وأموال، فكيف يحكم بشهادة غير عدل؟ واحتج بقوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة: 64].
وبالغ الخلال (3) في إنكار رواية حنبل (4)، ولم يثبتها رواية، وأثبتها غيره من أصحابنا (5)، وجعلوا المسألة على روايتين.
قالوا: وعلى رواية الجواز، فهل يعتبر اتحاد الملة (6)؟ فيه
__________
(1) انظر: مصنف ابن أبي شيبة (4/ 533).
(2) في “أ” و”ب” و”و”: “من”.
(3) الجامع “قسم الملل” (1/ 214). وانظر: المسائل الفقهية من كتاب الروايتين (3/ 92).
(4) في “ب”: “رواية أحمد”.
(5) كابن حامد. انظر: المغني (14/ 173)، شرح الزركشي (7/ 326)، الجامع الصغير (372)، المحرر (2/ 281)، المسائل الفقهية من كتاب الروايتين (3/ 92)، الهداية (2/ 149)، رؤوس المسائل (6/ 1010)، النكت على المحرر (2/ 281).
(6) في “ب” و”هـ”: “المسألة”. والصواب: “الملة”. انظر: المحرر (2/ 283)، الفروع (6/ 579)، شرح الزركشي (7/ 326)، النكت على المحرر (2/ 283)، تصحيح الفروع (6/ 579).

(1/474)


وجهان، ونصروا كلهم عدم الجواز إلَّا شيخنا، فإنَّه اختار الجواز (1).
قال ابن حزم (2): وصحَّ عن عمر بن عبد العزيز أنَّه أجازَ شهادة نصراني على مجوسي، أو مجوسي على نصراني (3).
وصحَّ عن حمَّاد بن أبي سليمان أنَّه قال: تجوز شهادة النصراني على اليهودي، وعلى النصراني، كلهم أهل شرك (4).
وصحَّ هذا أيضًا عن الشعبي (5) وشريح (6) وإبراهيم النخعي (7).
وذكر ابن أبي شيبة (8) من طريق إبراهيم الصائغ (9)، قال: سألت نافعًا – مولى ابن عمر – عن شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض؟
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (30/ 396)، الاختيارات (357 و 359)، الإنصاف (29/ 333)، النكت على المحرر (2/ 282)، شرح الزركشي (7/ 326).
(2) المحلَّى (9/ 410).
(3) رواه عبد الرزاق (8/ 358)، وابن أبي شيبة (4/ 533)، والطحاوي في شرح المشكل (11/ 452).
(4) روى نحوه ابن أبي شيبة (4/ 533)، وعبد الرزاق (8/ 357).
(5) تقدم تخريجه أوَّل الفصل.
(6) “وشريح” ساقطة من “و”.
رواه ابن أبي شيبة (4/ 533)، وعبد الرزاق (8/ 358)، والطحاوي في شرح المشكل (11/ 451).
(7) رواه ابن أبي شيبة (4/ 534). وانظر: المحلَّى (9/ 410).
(8) في المصنف (4/ 533).
(9) إبراهيم بن ميمون الصائغ أبو إسحاق المروزي. قتله أبو مسلم الخراساني سنة 131 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: تهذيب الكمال (2/ 223).

(1/475)


فقال: تجوز. وقال عبد الرزاق (1) عن معمر: سألت الزهري عن شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض؟ فقال: تجوز (2). وهو قول سفيان الثوري (3) ووكيع (4) وأبي حنيفة وأصحابه (5).
وذكر أبو عبيد (6) عن قتادة عن علي بن أبي طالب قال: تجوز شهادة النصراني على النصراني.
وذكر أيضًا عن الزهري: تجوز شهادة النصراني على النصراني (7) , واليهودي على اليهودي، ولا تجوز شهادة أحدهما على الآخر (8).
__________
(1) مصنف عبد الرزاق (8/ 357).
(2) وللزهري قولٌ آخر: أنَّها لا تجوز. رواه عنه الخلال (1/ 222)، وابن أبي شيبة (4/ 534).
(3) رواه ابن أبي شيبة (4/ 533)، والخلال في الجامع “قسم الملل” (1/ 213).
(4) رواه ابن أبي شيبة (4/ 533).
(5) انظر: المبسوط (16/ 140)، البحر الرَّائق (7/ 158)، منحة الخالق (7/ 158)، شرح أدب القاضي للحسام الشهيد (614)، رؤوس المسائل للزمخشري (529)، فتح القدير (7/ 416).
(6) بسنده. انظر: المحلَّى (9/ 410). وقال ابن حزم: “لا يصح عن علي أصلًا؛ لأنَّه عن ابن لهيعة ثمَّ هو أيضًا منقطع” ا. هـ. المحلَّى (9/ 411).
(7) “وذكر أيضًا عن الزهري تجوز شهادة النصراني على النصراني” ساقطة من “أ” و”ب”.
(8) رواه ابن حزم في المحلَّى (9/ 410)، ورواه أيضًا الطحاوي في شرح مشكل الآثار (11/ 454)، وعبد الرزاق (8/ 357).

(1/476)


وروى ابن أبي شيبة (1) عن ابن عيينة (2) عن يونس (3) عن الحسن قال: إذا اختلفت الملل لم تجز شهادة بعضهم على بعض.
وكذلك قال عطاء: لا تجوز شهادة ملَّة على غير ملتها (4) إلَّا المسلمين (5).
وهذه إحدى (6) الروايات (7) عن الشعبي (8)، والثانية: الجواز (9)، والثالثة: المنع (10).
__________
(1) المصنف (4/ 533). وانظر: المحلَّى (9/ 410)، والمدونة (3/ 44) و (5/ 157).
(2) في جميع النسخ: “ابن عيينة”، والصواب: “ابن علية” كما هو في مصنف ابن أبي شيبة (4/ 533)، والمحلَّى (9/ 410).
(3) يونس بن عبيد بن دينار العبدي أبو عبد الله الإمام القدوة، وثَّقه أحمد وابن معين وغيرهما. توفي سنة 140 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: حلية الأولياء (3/ 15)، تهذيب الكمال (32/ 517)، سير أعلام النبلاء (6/ 288).
(4) في “و”: “على أهل ملة أخرى”.
(5) رواه ابن أبي شيبة (4/ 533). وانظر: المحلَّى (9/ 410)، المدونة (3/ 44) و (5/ 157).
(6) في “أ”: “أحد”.
(7) في “ب”: “الروايتين”.
(8) في “و”: “الشافعي”.
وانظر: عبد الرزاق (8/ 357)، وابن أبي شيبة (4/ 534)، والخلال في الجامع (1/ 213)، المدونة (5/ 157).
(9) ابن أبي شيبة (4/ 533)، الخلال في الجامع “الملل” (1/ 213)، مختصر اختلاف العلماء (3/ 341).
(10) ابن أبي شيبة (4/ 533)، المحلَّى (9/ 411).

(1/477)


وكذلك قال النخعي: لا تجوز شهادة ملَّة إلَّا (1) على ملتها، اليهودي على اليهودي، والنصراني على النصراني (2).
وقال مالك: تجوز شهادة الطبيب الكافر حتَّى على المسلم للحاجة (3).
قال القابلون لشهادتهم (4): قال الله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75]، فأخبر أنَّ منهم الأمين على مثل هذا القدر من المال، ولا ريبَ أن يكون مثل هذا أمينًا على قرابته ذوي مذهبه أولى.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] , فأثبت لهم الولاية على بعضهم بعضًا، وهي أعلى رتبة من الشهادة، وغاية الشهادة أن تشبه بها، وإذا كان له أن يزوج ابنته وأخته، ويلي مال ولده، فقبول شهادته عليه أولى وأحرى (5).
قالوا: وقد حكمَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بشهادتهم في الحدود.
__________
(1) “إلَّا” ساقطة من “هـ”.
(2) ابن أبي شيبة (4/ 534). انظر: المحلَّى (9/ 411).
(3) انظر: المنتقى (5/ 213)، الذخيرة (10/ 240)، تبصرة الحكام (1/ 347) و (2/ 12)، التاج والإكليل. (6/ 116).
(4) وفي “هـ”: “القائلون بشهادتهم”.
(5) انظر: المبسوط (16/ 140)، رؤوس المسائل (529)، شرح مشكل الآثار (11/ 456)، فتح القدير (7/ 416).

(1/478)


قال أبو خيثمة (1): حدثنا حفص بن غياث عن مجالد بن سعيد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنَّ اليهود جاءوا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – برجلٍ منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ائتوني بأربعة منكم يشهدون” (2).
قالوا: ويكفي الحديث الَّذي في الصحيح (3): مرَّ على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بيهودي قد حمم (4)، فقال: “ما شأن هذا؟ ” فقالوا: زنى، فقال: “ما تجدون في كتابكم؟ ” وذكر الحديث، فأقام الحد بقولهم، ولم يسأل اليهودي واليهودية، ولا طلب (5) اعترافهما وإقرارهما، وذلك ظاهر في سياق القصة بجميع طرقها، ليس في شيءٍ منها ألبتة أنَّه
__________
(1) زهير بن حرب بن شداد النسائي، أبو خيثمة الحافظ الحجة. توفي سنة 234 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: الجرح والتعديل (3/ 591)، تهذيب الكمال (9/ 402)، سير أعلام النبلاء (11/ 489).
(2) رواه أبو داود رقم (4428) مع شرحه عون المعبود، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (11/ 450) رقم (4545)، وفي شرح المعاني (4/ 142) واللفظ له، والبيهقي (8/ 402) من طريق مجالد بن سعيد وفي حديثه لين. قال ابن عبد الهادي: “وقد روي من غير هذا ولكن فيها ضعف” ا. هـ. التنقيح (3/ 551)، وصحح الألباني رواية أبي داود. انظر: صحيح أبي داود رقم (3740).
(3) البخاري رقم (6819) (12/ 131)، ومسلم رقم (1699) (11/ 220) من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما -.
(4) أي صب عليه ماء حار مخلوط بالرماد، والمراد تسخيم الوجه بالحميم وهو الفحم. فتح الباري (12/ 131)، النهاية في غريب الحديث (1/ 444).
(5) “طلب” ساقطة من “أ”.

(1/479)


رجمهما بإقرارهما، ولما أقرَّ ماعز بن مالك (1) والغامدية (2) اتفقت جميع طرق الحديثين على ذكر الإقرار.
قالوا: وروى نافع عن ابن عمر في هذه القصة: أنَّه مرَّ على النبي – صلى الله عليه وسلم – بيهودي محمم، فقال: “ما باله؟ ” قالوا: زنى، قال: “ائتوني بأربعة منكم يشهدون عليه” (3).
قالوا: وقد أجازَ الله سبحانه شهادة الكفار على المسلمين في السفرِ في الوصية، للحاجة (4)، ومعلوم أنَّ حاجتهم إلى قبول شهادة بعضهم على بعض أعظم بكثير من حاجة المسلمين إلى قبول شهادتهم عليهم، فإنَّ الكفار يتعاملون فيما بينهم بأنواع المعاملات من المداينات وعقود (5) المعاوضات وغيرها، وتقع بينهم الجنايات وعدوان بعضهم على بعض، لا يحضرهم في الغالب مسلم، ويتحاكمون إلينا، فلو لم تقبل شهادة بعضهم على بعض لأدى ذلك إلى تظالمهم، وضياع حقوقهم، وفي ذلك فسادٌ كثير، فأين (6) الحاجة إلى قبول شهادتهم
__________
(1) “بن مالك” ساقطة من “أ”. والحديث تقدم تخريجه.
(2) لم أجد من ذكر اسمها. والحديث تقدم تخريجه.
(3) لم أجد هذه الرواية من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما -. وقد جاءت من حديث جابر رضي الله عنه، وقد سبق تخريجها قريبًا. وانظر: فتح الباري (12/ 176).
(4) المائدة الآية (6)، وسيأتي تفصيل ذلك في الفصل التالي.
(5) “وعقود” ساقطة من “أ”.
(6) في “أ” و”و”: فإن.

(1/480)


على المسلمين في السفر من الحاجة إلى قبول شهادة بعضهم على بعض (1) في السفر والحضر؟.
قالوا: والكافر قد يكون عدلًا في دينه بين قومه، صادق اللهجة عندهم، فلا يمنعه كفره من قبول شهادته عليهم إذا ارتضوهُ، وقد رأينا كثيرًا من الكفار يصدق في حديثه، ويؤدي أمانته، بحيث يشار إليه في ذلك ويشتهر به بين قومه وبين المسلمين بحيث يسكن القلب إلى صدقه، وقبول خبره وشهادته ما لا يسكن (2) إلى كثيرٍ من المنتسبين إلى الإسلام، وقد أباحَ الله سبحانه معاملتهم، وأكل طعامهم، وحل نسائهم (3)، وذلك يستلزم (4) الرجوع إلى أخبارهم قطعًا، فإذا جاز لنا الاعتماد على خبرهم فيما يتعلق بنا من الأعيان التي تحل وتحرم، فلأن (5) نرجع إلى أخبارهم بالنسبة لما يتعلق بهم من ذلك أولى وأحرى.
فإن قلتم: هذا للحاجة، قيل: وذلك أشد حاجة.
قالوا (6): وقد أمر الله – سبحانه وتعالى – بالحكم بينهم إما إيجابًا
__________
(1) “لأدى ذلك إلى تظالمهم” إلى قوله “قبول شهادة بعضهم على بعض” ساقطة من “ب”. وفي “أ” و”و”: في السفر أولى من الحاجة.
(2) “صدقه وقبول خبره وشهادته ما لا يسكن” ساقطة من “ب”.
(3) قال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5](4) وفي “ب” و”د” و”و”: “مستلزم”.
(5) في “أ” و”ب” و”د” و”و”: “فأن”.
(6) في “أ”: “قال”.

(1/481)


وإما تخييرًا (1)، والحكم إمَّا بالإقرار وإمَّا بالبينة، ومعلومٌ أنَّه مع الإقرار لا يرتفعون (2) إلينا، ولا يحتاجون إلى (3) الحكم غالبًا، وإنَّما يحتاجون إلى الحكم (4) عند التجاحد وإقامة البينة، وهم في الغالب لا تحضرهم البينة من المسلمين، ومعلومٌ أنَّ الحكم بينهم مقصوده العدل، وإيصال كل ذي حقٍّ منهم إلى حقِّه، فإذا غلب على الظن صدق مدعيهم بما يحضره من الشهود الَّذين يرتضونهم فيما بينهم، ولا سيما إذا كثروا (5)، فالحكم بشهادتهم أقوى من الحكم بمجرد نكول ناكلهم أو يمينه، وهذا ظاهر جدًّا.
قالوا (6): وأمَّا قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وقوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، فهذا إنَّما هو في الحكم بين المسلمين، فإنَّ السياق كله في ذلك، فإنَّ الله – سبحانه وتعالى – قال:
__________
(1) قال تعالى: {فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ … } [المائدة: 42]. وانظر: تفسير ابن جرير (4/ 582)، تفسير ابن كثير (3/ 109)، زاد المسير (2/ 361)، تفسير الماوردي (2/ 41)، أحكام القرآن لابن العربي (2/ 123)، تفسير ابن أبي حاتم (4/ 1135).
(2) وفي “د” و”و”: “لا يرفعون”.
(3) “ولا يحتاجون إلى” ساقطة من “و”.
(4) “غالبًا وإنَّما يحتاجون إلى الحكم” ساقطة من “ب”.
(5) في “ب”: “ذكروا”.
(6) انظر: أحكام القرآن للجصاص (4/ 161) تفسير القرطبي (6/ 350)، المبسوط (30/ 152)، السيل الجرار (4/ 195).

(1/482)


{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15]، وقال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} إلى قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 1 – 2]، وكذلك قال في آية المداينة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} إلى قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، فلا تعرُّض في شيءٍ من ذلك لحكم أهل الكتاب ألبتة.
وأمَّا (1) قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 64] فهذا إمَّا أن (2) يراد به العداوة التي بين اليهود والنصارى، أو يراد به العداوة التي بين (3) فرقهم وإن كانوا ملة واحدة (4)، وهذا لا يمنع قبول شهادة بعضهم على بعض، فإنَّها عداوة دينية، فهي كالعداوة التي بين فرق هذه الأمة، وإلباسهم شيعًا، وإذاقة بعضهم بأس بعض.
واحتجَّ الشافعي (5) بأنَّ من كذب على الله فهو إلى أن يكذب على مثله أقرب، فيقال: وجميع أهل البدع قد كذبوا على الله ورسوله،
__________
(1) في “ب”: “ولنا”.
(2) “أن” ساقطة من “ب”.
(3) “اليهود والنصارى أو يراد به العداوة التي بين” ساقطة من “د”.
(4) انظر: تفسير ابن جرير (4/ 642)، تفسير ابن كثير (3/ 139)، تفسير البغوي (2/ 50)، تفسير الماوردي (2/ 52)، زاد المسير (2/ 394)، تفسير الشوكاني (2/ 85).
(5) انظر: الأم (7/ 24).

(1/483)


والخوارج من أصدق النَّاس لهجة، وقد كذبوا على اللهِ ورسوله، وكذلك القدرية والمعتزلة، وهم يظنون أنَّهم صادقون غير كاذبين، فهم متدينون بهذا الكذب، ويظنونه من أصدق الصدق.
واحتجَّ المانعون أيضًا بأنَّ في قبول شهادتهم إكرامًا لهم، ورفعًا لمنزلتهم وقدرهم، ورذيلة الكفر تنفي ذلك.
قال الآخرون: رذيلة الكفر لم تمنع قبول قولهم على المسلمين للحاجة بنص القرآن (1)، ولم تمنع ولاية بعضهم على بعض، وعرافة بعضهم على بعض، وكون بعضهم حاكمًا وقاضيًا عليهم، فلا نمنع أن يكون بعضهم شاهدًا على بعض، وليس في هذا تكريمٌ لهم، ولا رفع لأقدارهم، وإنَّما هو دفعُ شر (2) بعضهم (3) عن بعض، وإيصال حقوق أهل الحقوق منهم بقول من يرضونه (4)، وهذا من تمام مصالحهم التي لا غنى لهم عنها.
وممَّا يوضح ذلك، أنَّهم إذا رضوا بأن نحكم بينهم، ورضوا بقبول
__________
(1) الآية (106) وما بعدها من سورة المائدة. قال عنها مكي بن أبي طالب رحمه الله في كتابه المسمَّى بالكشف (1/ 420): “هذه الآية في قراءتها وإعرابها وتفسيرها ومعانيها وأحكامها من أصعب آي القرآن وأشكلها” حاشية الجمل على الجلالين (1/ 307)، الدر المصون للسمين الحلبي (4/ 453)، تفسير الرَّازي (12/ 101)، فتح الباري (5/ 480)، تفسير القرطبي (6/ 346)، تفسير الشوكاني (2/ 125).
(2) في “د” و”هـ”: “شرهم”.
(3) “بعضهم” ساقطة من “هـ”.
(4) في “أ”: “يرتضونه”.

(1/484)


قول بعضهم على بعض (1)، فألزمناهم بما رضوا به، لم يكن ذلك مخالفًا لحكم الله ورسوله، فإنَّه لا بُدَّ أن يكون الشاهد بينهم ممَّن يثقون (2) به، فلو كان معروفًا بالكذب وشهادة الزور لم نقبله، ولم نلزمهم بشهادته.

فصل
فهذا حكم المسألة الأولى.
وأمَّا المسألة الثانية – وهي قبول شهادتهم على المسلمين في السفر – فقد دلَّ عليه صريح القرآن (3)، وعمل بها (4) الصحابة (5)، وذهب إليه فقهاء الحديث (6).
__________
(1) “وعرافة بعضهم على بعض” إلى قوله “ورضوا بقبول قول بعضهم على بعض” ساقط من “و”.
(2) في “هـ”: “يوثق”، وفي “و”: “يرضون”.
(3) الآية (106) وما بعدها من سورة المائدة.
(4) في “د” و”هـ” و”و”: “به”.
(5) سيأتي قريبًا ذكر الآثار عنهم وتخريجها.
(6) انظر: تفسير ابن جرير (5/ 154)، مصنف عبد الرزاق (2/ 33)، مصنف ابن أبي شيبة (4/ 495)، الجامع للخلال “قسم الملل” (1/ 219)، سنن سعيد بن منصور (4/ 1667)، تفسير ابن كثير (3/ 251)، فتح الباري (5/ 483)، تفسير ابن أبي حاتم (4/ 1231)، صحيح البخاري (2780)، جامع الترمذي (3060)، سنن أبي داود (3660)، جامع العلوم والحكم (2/ 239).

(1/485)


قال صالح بن أحمد: قال أبي: لا تجوز شهادة أهل الذمة إلَّا في موضع في السفر الَّذي قال الله تعالى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 106] فأجازها أبو موسى الأشعري (1)، وقد روي عن ابن عباس – رضي الله عنهما -: “أو آخران من غيركم من أهل الكتاب” (2)، وهذا موضع ضرورة؛ لأنَّه في سفر، ولا يجد من يشهد من المسلمين، وإنَّما جاءت في هذا المعنى (3). ا. هـ.
وقال إسماعيل بن سعيد (4) الشالنجي: سألت أحمد – فذكر هذا المعنى – قلتُ: فإن كان ذلك على وصية المسلمين هل تجوز شهادتهم؟ قال: نعم، إذا كان على الضرورة، قلتُ: أليس يقال: هذه الآية منسوخة؟ قال: من يقول (5)؟ وأنكر ذلك، وقال: وهل يقول هذا إلَّا إبراهيم (6)؟
__________
(1) سيأتي قريبًا تخريجه.
(2) رواه ابن أبي حاتم في التفسير (4/ 1229) رقم (6934)، وابن جرير في التفسير (5/ 106 و 114). وانظر: معاني القرآن لابن النحاس (2/ 376).
(3) انظر: مسائل الإمام أحمد رواية صالح (2/ 218)، ورواية ابن هانئ (2/ 37)، ورواية إسحاق بن منصور (2/ 394)، والجامع للخلال (1/ 216) رقم (216).
(4) “إسماعيل بن سعيد” ساقطة من “أ”.
(5) في “أ”: “من يقول وهل أحد”.
(6) رواه الخلال في الجامع “قسم الملل” (1/ 217) رقم (386).
وأثر إبراهيم النخعي رواه الخلال في الجامع (1/ 217)، وابن جرير في تفسيره (5/ 124). وانظر: فتح الباري (5/ 483).

(1/486)


وقال في رواية ابنه عبد الله وحنبل: تجوز شهادة النصراني واليهودي في الميراث، على ما أجازَ أبو موسى (1) في السفر، وأحلفه (2).
وقال في رواية أبي الحارث: لا تجوز شهادة اليهودي والنصراني في شيءٍ إلَّا في الوصية في السفر، إذا لم يكن يوجد غيرهم، قال الله تعالى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106]، فلا تجوز شهادتهم الَّا في هذا الموضع (3).
وهذا مذهب قاضي العلم والعدل: شريح (4)، وقول سعيد بن المسيب (5)، وحكاه أحمد (6) عن ابن عباس (7)، وأبي موسى الأشعري (8) – رضي الله عنهم -.
__________
(1) سيأتي ذكر الأثر قريبًا.
(2) رواه الخلال في الجامع “قسم الملل” (1/ 217) رقم (386)، مسائل عبد الله (435).
(3) رواه الخلال في الجامع “قسم الملل” (1/ 318).
(4) رواه ابن أبي شيبة (4/ 495)، وابن جرير في التفسير (5/ 105)، والخلال في الجامع (1/ 219)، وابن أبي حاتم (4/ 1229).
(5) رواه ابن أبي شيبة (4/ 495)، وعبد الرزاق في التفسير (2/ 33)، وابن جرير (5/ 104)، والخلال (1/ 219 و 221 و 223)، وسعيد بن منصور رقم (852) و (859).
(6) مسائل صالح (2/ 218)، ومسائل ابن هانئ (2/ 37)، الجامع للخلال (1/ 216 و 219).
(7) تقدم تخريجه قريبًا.
(8) رواه ابن أبي شيبة (4/ 495)، وعبد الرزاق (8/ 360)، وأحمد في مسائل =

(1/487)


قال المروذي: حدثنا ابن نمير (1) قال: حدثني يعلى بن الحارث عن أبيه عن غيلان بن جامع عن (2) إسماعيل بن أبي خالد (3) عن عامر قال: شهد رجلان من أهل دقوقا (4) على وصية مسلم، فاستحلفهما أبو موسى بعد العصر بالله (5): ما اشترينا به ثمنًا قليلًا، ولا كتمنا شهادة الله إنَّا إذًا لمن الآثمين، ثمَّ قال: إنَّ هذه القضية ما قضي بها منذ (6) مات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى اليوم (7).
__________
= عبد الله (436)، وأبو عبيد في النَّاسخ والمنسوخ (157)، وابن جرير في تفسيره (5/ 106 و 110)، وسعيد بن منصور (4/ 1667)، وأبو داود رقم (3605)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (11/ 462)، والبيهقي (3/ 278)، والحاكم (2/ 314)، والخلال في الجامع “قسم الملل” (1/ 219) قال الحاكم: “صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه” ووافقه الذهبي، وقال الحافظ ابن حجر عن إسناد أبي داود: “رجاله ثقات” ا. هـ. فتح الباري (5/ 483)، وصحح ابن كثير إسناد ابن جرير. تفسير ابن كثير (3/ 215).
(1) محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني الخارفي أبو عبد الرحمن الحافظ. توفي سنة 234 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: الجرح والتعديل (1/ 320)، تهذيب الكمال (25/ 566)، سير أعلام النبلاء (11/ 455).
(2) “ابن نمير قال: حدثني يعلى بن الحارث عن أبيه عن غيلان بن جامع عن” ساقطة من “أ”.
(3) في “ب” و”جـ”: “إسماعيل بن خالد”.
(4) دَقُوقا: مدينة بين إربل وبغداد. انظر: معجم البلدان (2/ 523).
(5) “بالله” مثبتة من “أ”.
(6) وفي “د”: “مذ”.
(7) تقدم تخريجه قريبًا.

(1/488)


وذكر محمد بن إسحاق عن أبي النضر (1) عن زاذان (2) – مولى أم هانئ – عن ابن عباس عن تميم الدَّاري في قوله – عزَّ وجل -: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المائدة: 106] قال: برئ (3) النَّاسُ منها غيري وغير عدي بن بدَّاء (4) – وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام – فأتيا الشام، وقدم بريل (5) بن أبي مريم (6) – مولى بني سهم (7) – ومعه جام (8) من فضة، هو أعظم تجارته، فمرض
__________
(1) محمد بن السائب بن بشر الكلبي أبو النضر الأخباري المفسر كان رأسًا في الأنساب إلَّا أنَّه متروك الحديث. توفي سنة 146 هـ. انظر: الجرح والتعديل (7/ 207)، المجروحين (2/ 253)، تهذيب الكمال (25/ 246)، سير أعلام النبلاء (6/ 248).
(2) وفي “و”: “باذان” وهو باذام، ويقال: باذان، ويقال: “زاذان” أبو صالح مولى أم هانئ بنت أبي طالب، قال ابن معين: “ليس به بأس وإذا روى عنه الكلبي فليس بشيء”. انظر: الجرح والتعديل (1/ 431)، تهذيب الكمال (4/ 6)، تقريب التهذيب (120).
(3) “برئ” ساقطة من “د” و”هـ” و”و”.
(4) عدي بن بداء، قال ابن حبان: له صحبة. وقال أبو نعيم: لا يعرف له إسلام.
وقال ابن عطية: لا يصح لعدي عندي صحبة. واختاره الحافظ ابن حجر. انظر: الإصابة (2/ 460).
(5) في “د” و”هـ” و”و”: “زيد”.
(6) بديل، ويقال: بريل وغير ذلك ابن أبي مريم السهمي مولى عمرو بن العاص.
ذكر ابن بزيزة في تفسيره: أن لا خلاف بين المفسرين أنَّه كان مسلمًا من المهاجرين. انظر: الإصابة (1/ 145).
(7) في “ب”: “بني تميم”.
(8) الجام: الإناء. فتح الباري (5/ 482).

(1/489)


فأوصى إليهما، قال تميم: فلمَّا مات أخذنا الجام، فبعناه بألف درهم (1)، ثمَّ اقتسمناه أنا وعدي بن بداء، فلمَّا قدمنا دفعنا ماله إلى أهله، فسألوا عن الجام؟ فقلنا: ما دفع إلينا غير هذا، فلمَّا أسلمت تأثمت من ذلك، فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر، وأديت إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أنَّ عند صاحبي مثلها، فأتوا به النبي – صلى الله عليه وسلم – فسألهم البينة فلم يجيبوا، فأحلفهم بما يعظم به على أهل دينهم، فأنزل الله – عزَّ وجل -: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المائدة: 106] الآية، فحلف عمرو بن العاص وأخو سهم (2)، فنزعت الخمسمائة درهم من عدي بن بداء” (3).
وروى يحيى بن أبي زائدة عن محمد بن القاسم (4) عن
__________
(1) “درهم” ساقطة من “أ”.
(2) “وأخو سهم” ساقطة من “ب”. وهو المطلب بن أبي وداعة. فتح الباري (5/ 482).
(3) رواه الترمذي رقم (3059)، وابن أبي حاتم في التفسير (4/ 1231)، والبيهقي (10/ 278)، وابن جرير (5/ 116)، وابن النحاس في الناسخ والمنسوخ (2/ 308). وقال الترمذي: “هذا حديث غريب وليس إسناده بصحيح، وأبو النضر الَّذي روى عنه محمد بن إسحاق هذا الحديث هو عندي محمد بن السائب الكلبي يُكنى أبا النضر، وقد تركه أهل الحديث، وهو صاحب التفسير .. ” ا. هـ.
(4) عند الترمذي (3060)، وابن جرير (5/ 115)، وابن كثير (3/ 214): “محمد بن أبي القاسم” وهو الصواب. وهو: محمد بن أبي القاسم الطويل، وثَّقه ابن معين وابن حبان. انظر: تهذيب الكمال (26/ 305)، تهذيب التهذيب (9/ 352).

(1/490)


عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس قال: “كان تميم الدَّاري وعدي بن بداء يختلفان إلى مكة بالتجارة، فخرج معهم رجلٌ من بني سهم (1)، فتوفي بأرض ليس فيها مسلم فأوصى إليهما، فدفعا تركته إلى أهله، وحبسا جامًا من فضة مُخوَّصًا (2) بالذهب، ففقده أولياؤه، فأتوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فحلفهما: ما كتمنا ولا أضعنا، ثمَّ عرف الجام بمكة، فقالوا: اشتريناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله: إن هذا لجام السهمي، ولشهادتنا أحقُّ من شهادتهما وما اعتدينا إنَّا إذًا لمن الظالمين، فأخذ الجام، وفيهما نزلت هذه الآية (3).
والقول بهذه الآية هو قول جمهور السلف (4).
قالت عائشة – رضي الله عنها -: “سورة المائدة آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها حلالًا فحللوه، وما وجدتم فيها (5) حرامًا فحرِّموه” (6).
__________
(1) في “ب”: “تميم”.
(2) أي منقوشًا فيه صفة الخوص. فتح الباري (5/ 482).
(3) أخرجه البخاري مختصرًا معلقًا رقم (2780) (5/ 480)، والترمذي رقم (3060)، وأبو داود رقم (3606)، وابن النحاس في الناسخ والمنسوخ (2/ 308)، وابن أبي حاتم في التفسير (4/ 1231)، وابن جرير (5/ 116)، وأبو يعلى (4/ 338) رقم (4546)، ومن طريقه الواحدي في أسباب النزول (212).
(4) في “أ”: “الجمهور والسلف”. وانظر: المحلَّى (9/ 407)، تفسير الرَّازي (12/ 95)، مختصر الفتاوى المصرية (772)، تفسير ابن كثير (3/ 210).
(5) “حلالًا فحللوه وما وجدتم فيها” ساقطة من “د” و”و”.
(6) رواه أحمد (6/ 188)، وأبو عبيد في الناسخ والمنسوخ رقم (301)، وابن النحاس في الناسخ والمنسوخ (2/ 232) رقم (398)، والبيهقي (7/ 278)، =

(1/491)


وصحَّ عن ابن عباس – رضي الله عنه – أنَّه قال في هذه الآية: “هذا لمن مات وعنده المسلمون، فأمرَ اللهُ أن يشهد في وصيته عدلين من المسلمين، ثمَّ قال تعالى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 106] فهذا لمن ماتَ وليس عنده أحد من المسلمين، فأمرَ اللهُ – عزَّ وجلَّ – أن يشهد رجلين من غير المسلمين، فإن ارتيب بشهادتهما استحلفا بعد الصلاة بالله: لا نشتري بشهادتنا ثمنًا” (1)، وقد تقدم أنَّ أبا موسى حكم بذلك (2).
وقال سفيان الثوري: عن أبي إسحاق السَّبيعي عن عمرو بن شرحبيل قال: “لم ينسخ من سورة المائدة شيء” (3).
وقال وكيع عن شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب: ” {مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ} قال: من أهل الكتاب” (4)، وفي رواية صحيحة عنه: “من غير
__________
= والحاكم (2/ 311) وصححه ووافقه الذهبي، كما صححه الحافظ ابن حجر في الفتح (5/ 483).
(1) في “ب”: “إثمًا”. والأثر رواه ابن جرير في تفسيره (5/ 110)، وابن النحاس في الناسخ (2/ 302) رقم (459)، قال الحافظ ابن حجر عن إسناد الطبري: “رجاله ثقات” ا. هـ. فتح الباري (5/ 483).
(2) ص (488).
(3) رواه أبو عبيد في الناسخ رقم (250)، وابن النحاس في الناسخ (2/ 232)، وابن الجوزي في ناسخ القرآن ومنسوخه (359). وصححه الحافظ ابن حجر. فتح الباري (5/ 483).
(4) رواه عبد الرزاق (6/ 360)، وأبو عبيد في الناسخ (159)، والخلال في الجامع “قسم الملل” (1/ 221 و 223)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (11/ 464)، والطبري في التفسير (5/ 104).

(1/492)


أهل ملتكم (1) “.
وصحَّ عن عبيدة السلماني: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] قال: “من غير أهل الملَّة” (2).
وصحَّ عن شريح قال: “لا تجوز شهادة المشركين على المسلمين إلَّا في الوصية، ولا تجوز في وصية إلَّا أن يكون مسافرًا” (3).
وصح عن إبراهيم النخعي: {مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] “من غير أهل ملتكم” (4).
وصح عن سعيد بن (5) جبير: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} قال: “إذا كان في أرض الشرك، فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب، فإنهما يحلفان بعد العصر، فإن اطلع بعد حلفهما أنهما خانا، حلف أولياء الميت، أنه كان كذا وكذا، واستحقوا (6) “.
__________
(1) رواه الطبري (5/ 104)، وسعيد بن منصور (4/ 1662 و 1671)، وابن أبي شيبة (4/ 495).
(2) قول عبيدة السلماني ساقط من جميع النسخ عدا “أ”. والأثر رواه ابن جرير (5/ 105) وعبد الرزاق (8/ 360).
(3) رواه ابن أبي شيبة (4/ 495)، وابن جرير الطبري (5/ 105)، وسعيد بن منصور (4/ 1661)، وعبد الرزاق (6/ 360) و (8/ 360)، وأبو عبيد في الناسخ والمنسوخ (158)، ووكيع في أخبار القضاة (2/ 281)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (11/ 463).
(4) رواه ابن أبي شيبة (4/ 495)، وابن النحاس في النَّاسخ (2/ 376)، وابن أبي حاتم (4/ 1229). وانظر: المحلَّى (9/ 408)، الفتح (5/ 483).
(5) “سعيد بن” ساقطة من “و”.
(6) في “د”: “واستحلفوا”.

(1/493)


وصح عن الشعبي: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} قال: “من اليهود والنصارى” (1).
وصح ذلك عن مجاهد قال: “من غير أهل الملة” (2).
وصح عن يحيى بن يعمر (3) مثله (4).
وصح عن ابن سيرين ذلك (5).
فهؤلاء أئمة المؤمنين: أبو موسى الأشعري، وابن عباس. وروي نحو ذلك عن علي – رضي الله عنه – (6)، ذكر ذلك أبو محمد ابن حزم (7)، وذكره أبو يعلى (8) عن ابن مسعود (9)، ولا مخالف لهم من الصحابة.
ومن التابعين: عمرو بن شرحبيل، وشريح، وعبيدة (10)،
__________
= والأثر رواه ابن جرير (5/ 110 و 113)، وأبو عبيد في النَّاسخ رقم (299). وانظر: المحلَّى (9/ 408).
(1) رواه ابن أبي حاتم (4/ 1229)، وأبو عبيد في الناسخ (160) رقم (297).
(2) رواه ابن جرير (5/ 106). وانظر: شرح مشكل الآثار (11/ 465)، والمحلَّى (9/ 108).
(3) “بن يعمر” ساقطة من “جـ” و”د” و”و”.
(4) رواه ابن جرير (5/ 104). وانظر: المحلَّى (9/ 408).
(5) رواه ابن أبي شيبة (4/ 495)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (11/ 467).
(6) انظر: المحلَّى (9/ 408).
(7) المحلَّى (9/ 407 – 408).
(8) انظر: جامع العلوم والحكم (2/ 239)، النكت على المحرر (2/ 277).
(9) رواه أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ (156) رقم (289).
(10) رواه ابن جرير (5/ 105)، وسعيد بن منصور (4/ 1665)، وعبد الرزاق =

(1/494)


والنخعي، والشعبي، والسعيدان (1)، وأبو مجلز (2)، وابن سيرين، ويحيى بن يعمر، وتابعي التابعين: كسفيان الثوري (3)، ويحيى بن حمزة (4)، والأوزاعي (5).
وبعد هؤلاء: كأبي عبيد (6)، وأحمد بن حنبل (7)، وجمهور فقهاء أهل (8) الحديث (9)، وهو قول جميع أهل
__________
= (8/ 360)، والخلال (1/ 221)، وابن أبي حاتم (4/ 1229)، والطحاوي في شرح المشكل (11/ 465).
(1) سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير.
(2) رواه ابن جرير (5/ 104). وانظر: تفسير ابن أبي حاتم (4/ 1229)، النَّاسخ لابن النحاس (2/ 376)، فتح الباري (5/ 483)، المحلَّى (9/ 408).
(3) انظر: شرح مشكل الآثار (11/ 468)، المحلَّى (9/ 408)، فتح الباري (5/ 483).
(4) انظر: المحلَّى (9/ 408).
(5) رواه الطحاوي في شرح المشكل (11/ 467). وانظر: المحلَّى (9/ 408)، فتح الباري (5/ 483)، أحكام القرآن للكيا (3/ 118).
(6) “الثوري ويحيى بن حمزة والأوزاعي وبعد هؤلاء كأبي عبيد” ساقطة من “و”.
وانظر: الناسخ والمنسوخ (160 و 164).
(7) انظر: الجامع للخلال “قسم الملل” (1/ 218)، مسائل أحمد رواية صالح (2/ 218)، ورواية ابن هانئ (2/ 37)، ورواية عبد الله (435)، الهداية (2/ 149)، الجامع الصغير (372)، المحرر (2/ 317)، المغني (14/ 170)، شرح الزركشي (7/ 378)، الفروع (6/ 578)، الاختيارات (359).
(8) “أهل” ساقطة من “أ”.
(9) انظر: تفسير الطبري (5/ 108)، مصنف عبد الرزاق (2/ 33)، مصنف ابن أبي شيبة (4/ 495)، سنن سعيد بن منصور (4/ 1667)، مشكل الآثار =

(1/495)


الظاهر (1).
وخالفهم آخرون (2).
ثم اختلفوا في تخريج الآية على ثلاث طرق (3):
أحدها: أن المراد بقوله: {غَيْرِكُمْ} أي من غير قبيلتكم (4)، وروي ذلك عن الحسن (5)، وروي عن الزهري (6) أيضًا.
__________
= (11/ 462)، فتح الباري (5/ 483)، جامع العلوم والحكم (2/ 239).
(1) انظر: المحلى (9/ 409).
(2) انظر: المدونة (5/ 156)، الذخيرة (10/ 224)، تفسير ابن أبي حاتم (4/ 1230)، الناسخ لابن النحاس (2/ 304)، تفسير ابن كثير (3/ 211)، تفسير ابن جرير (5/ 107)، الناسخ لابن الجوزي (384)، شرح مشكل الآثار (11/ 470)، فتح الباري (5/ 483).
(3) ذكر ابن القيم في تهذيب السنن (5/ 222) “مع المعالم” خمس طرق ومما لم يذكره هنا:
1 – أن الشهادة هنا بمعنى الحضور لا الإخبار. وهذا إخراج للكلام عن الفائدة، وحمل له على غير مراده، والسياق يبطل هذا التأويل المستنكر.
2 – أن هذه الآية ترك العمل بها إجماعًا. وهذه مجازفة وقول بلا علم، فالخلاف فيها أشهر من أن يخفى، وهي مذهب كثير من السلف، وحكم بها أبو موسى الأشعري، وذهب إليه الإمام أحمد ا. هـ. بتصرف.
(4) في “ب”: “ملتكم”.
انظر: تفسير ابن جرير (5/ 106)، زاد المسير (2/ 446)، تفسير القرطبي (6/ 351)، أحكام القرآن للشافعي (2/ 145).
(5) رواه ابن أبي حاتم (4/ 1230)، وابن النحاس في الناسخ (2/ 304)، وابن جرير (5/ 106)، وسعيد بن منصور (4/ 1670)، والطحاوي في شرح المشكل (11/ 469).
(6) رواه ابن أبي حاتم في التفسير (4/ 1229)، وأبو عبيد في الناسخ (163).

(1/496)


والثاني: أن الآية منسوخة، وهذا مروي عن زيد بن أسلم (1) وغيره (2).
والثالث: أن المراد بالشهادة فيها: أيمان الوصي بالله تعالى للورثة، لا الشهادة (3) المعروفة (4).
قال القائلون (5) بها: أما دعوى النسخ فباطلة (6)، فإنه يتضمن أن حكمها باطل، لا يحل العمل به، وأنه ليس من الدين، وهذا ليس
__________
(1) رواه الطحاوي في شرح المشكل (11/ 471).
(2) “وغيره” ساقطة من “ب”.
كابن عباس – رضي الله عنهما -، رواه عنه ابن جرير (5/ 124)، والبيهقي (10/ 276). والنخعي، رواه عنه ابن جرير (5/ 124)، والخلال في الجامع (1/ 215).
(3) “فيها أيمان الوصي بالله تعالى للورثة لا الشهادة” ساقطة من “ب”.
(4) انظر: أحكام القرآن للشافعي (2/ 152)، سنن البيهقي (10/ 276)، أحكام القرآن لابن العربي (2/ 251)، تفسير الماوردي (2/ 75)، زاد المسير (5/ 445)، فتح الباري (5/ 484)، تفسير أبي السعود (3/ 91)، تفسير الألوسي (7/ 51)، حاشية الصاوي على الجلالين (2/ 245).
(5) وفي “ب” و”د” و”و”: “العاملون”.
(6) فى”أ” و”ب” و”د” و”و”: “فباطل”.
أنكر الإمام أحمد نسخ الآية. الجامع للخلال (1/ 215). وقال ابن جرير: “الصوابُ من القول في ذلك أن حكم الآية غير منسوخ” ا. هـ. التفسير (5/ 124). وقال مكي بن أبي طالب: “وأكثر النَّاس على أنَّ هذا محكم غير منسوخ” ا. هـ. الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه (275). وقال ابن النحاس: “وصح من هذا كله أنَّ الآية غير منسوخة، ودلَّ الحديث على ذلك” ا. هـ. النَّاسخ والمنسوخ (2/ 213).

(1/497)


بمقبول إلا بحجة صحيحة لا معارض لها، ولا يمكن أحد قط أن يأتي بنص صحيح صريح متأخر عن هذه الآية مخالف لها لا يمكن الجمع بينه وبينها، فإن وجد إلى ذلك سبيلًا صح النسخ، وإلا فما معه إلا مجرد الدعوى الباطلة، ثم قد قالت أعلم نساء (1) الصحابة بالقرآن (2): إنه لا منسوخ في المائدة (3)، وقاله غيرها أيضًا من السلف (4)، وعمل بها أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعده (5)، ولو جاز قبول دعوى النسخ بلا حجة لكان كل من احتج عليه بنص يقول: هو منسوخ، وكأن القائل لذلك لم يعلم أن معنى كون النص منسوخًا أن الله سبحانه حرم العمل به، وأبطل (6) كونه من الدين والشرع، ودون هذا مفاوز تنقطع فيها الأعناق.
قالوا (7): وأما قول من قال: المراد بقوله: {مِنْ غَيْرِكُمْ} أي من غير قبيلتكم، فلا يخفى بطلانه وفساده، فإنه ليس في أول الآية خطاب
__________
(1) “نساء” ساقطة من “أ”.
(2) أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها -.
(3) تقدم تخريجه ص (492).
(4) قال الحافظ ابن حجر: “صحَّ عن ابن عباس وعائشة وعمرو بن شرحبيل وجمع من السلفِ أنَّ سورة المائدة محكمة” ا. هـ. فتح الباري (5/ 483)، وانظر: النَّاسخ والمنسوخ لابن النحاس (2/ 232)، والنَّاسخ لأبي عبيد رقم (250)، وناسخ القرآن ومنسوخه لابن الجوزي (2/ 232).
(5) كأبي موسى الأشعري، وقد تقدم تخريجه ص (488).
(6) في “أ”: “فأبطل”.
(7) انظر: الشرح الكبير (29/ 334)، وشرح الزركشي (7/ 340)، إعلام الموقعين (1/ 133).

(1/498)


لقبيلة دون قبيلة، بل هو خطاب عام لجميع المؤمنين، فلا يكون غير المؤمنين إلا من الكفار، هذا مما لا شك فيه، والذي قال من غير قبيلتكم (1): زلة عالم، غفل عن تدبر الآية (2).
وأما قول من قال: “إن المراد بالشهادة: أيمان الأوصياء للورثة” فباطل من وجوه (3):
أحدها: أنه سبحانه قال: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} ولم يقل: أيمان بينكم.
الثاني: أنه قال: {اَثْنَانِ} واليمين لا تختص بالاثنين.
الثالث: أنه قال: {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} واليمين لا يشترط فيها ذلك.
الرابع: أنه قال: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] واليمين لا يشترط فيها (4) شيء من ذلك.
الخامس: أنه قيد ذلك بالضرب في الأرض، وليس ذلك شرطًا في اليمين.
السادس: أنه قال: {وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ} [المائدة: 106] وهذا لا يقال في اليمين (5) في هذه
__________
(1) “فلا يخفى بطلانه” إلى قوله “والَّذي قال من غير قبيلتكم” ساقطة من “و”.
(2) المحلَّى (9/ 409).
(3) انظر: الشرح الكبير مع الإنصاف (29/ 334).
(4) “ذلك. الرَّابع: أنَّه قال: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} واليمين لا يشترط فيها” ساقطة من “ب”.
(5) “وهذا لا يقال في اليمين” ساقطة من “ب” و”د”.

(1/499)


الأفعال (1)، بل هو نظير قوله: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]السابع: أنه قال: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} [المائدة: 108] ولم يقل: بالأيمان.
الثامن: أنه قال: {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة: 108] فجعل الأيمان قسيمًا للشهادة، وهذا صريح في أنها غيرها.
التاسع: أنه قال: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} [المائدة: 107] فذكر اليمين والشهادة، ولو كانت اليمين على المدعى عليه لما احتاجا إلى ذلك، ولكفاهما القسم: أنهما ما خانا (2).
العاشر: أن الشاهدين يحلفان بالله {وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} [المائدة: 106] ولو كان المراد بها اليمين، لكان المعنى: يحلفان بالله لا نكتم اليمين، وهذا لا معنى له ألبتة، فإن اليمين لا تكتم، فكيف يقال: احلف أنك لا تكتم حلفك؟
الحادي عشر: أن المتعارف من لفظ “الشهادة” في القرآن والسنة: إنما هو الشهادة المعروفة، كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2]، وقوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] , وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، ونظائره.
__________
(1) “في هذه الأفعال” ساقطة من “أ” و”و”.
(2) في “أ”: “أنهما تكافيا” هكذا.

(1/500)


فإن قيل: فقد سمَّى الله – عزَّ وجلَّ – أيمان اللعان شهادة (1) في قوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6]، وقال: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} (2) [النور: 8].
قيل: إنَّما سمى أيمان الزوج شهادة؛ لأنَّها قائمةٌ مقام البينة، ولذلك ترجم المرأة إذا نكلت (3)، وسمَّى أيمانها شهادة؛ لأنَّها في مقابلة شهادة الزوج.
وأيضًا، فإنَّ هذه اليمين خُصَّت من بين الأيمان بلفظِ “الشهادة بالله” تأكيدًا لشأنها (4)، وتعظيمًا لخطرها.
الثاني عشر: أنَّه قال: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المائدة: 106]، ومن المعلوم أنَّه لا يصح أن يكون أيمان بينكم إذا حضر أحدكم الموت (5)، فإنَّ الموصي إنَّما يحتاج إلى الشاهدين، لا إلى اليمين.
الثالث عشر: أنَّ حكم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الَّذي حكم به (6) – وحكم به الصحابة بعده (7) – هو تفسير الآية قطعًا، وما عداه باطل، فيجب أن
__________
(1) انظر: تفسير الطبري (5/ 118)، فتح الباري (5/ 484)، حاشية الجمل على الجلالين (1/ 311).
(2) الآية ساقطة من “و”.
(3) انظر: (23).
(4) في “ب”: “لشهادتهما”.
(5) “ومن المعلوم” إلى قوله “أحدكم الموت” ساقطة من “جـ”.
(6) كما في حديث تميم الداري المتقدم ص (492).
(7) كأبي موسى الأشعري رضي الله عنه. وقد تقدم ص (488).

(1/501)


يرغب عنه (1).
وأمَّا ما ذكره بعض النَّاس: أنَّ ذلك مخالفٌ للأصول والقياس من وجوه (2):
أحدها: أنَّ ذلك يتضمن شهادة الكافر، ولا شهادة له (3).
الثاني: أنَّه يتضمن حبس الشاهدين، والشاهد لا يحبس.
الثالث: أنَّه يتضمن تحليفهما، والشاهد لا يحلف (4).
الرَّابع: أنَّه يتضمن تحليف إحدى البينتين: أنَّ شهادتهما أحق من شهادة البينة الأُخرى.
الخامس: أنَّه يتضمن شهادة المدعين لأنفسهم واستحقاقهم بمجرد أيمانهم.
السَّادس: أنَّ أيمان هؤلاء المستحقين التي قدمت على شهادة الشاهدين لما ظهرت خيانتهما، إن كانت شهادة فكيف يشهدان لأنفسهما؟ وإن كانت أيمانًا فكيف يقضى بيمين المدعي بلا شاهد ولا رد؟
__________
(1) من قوله “الحادي عشر” إلى “فيجب أن يرغب عنه” ساقطة من “أ”.
(2) انظر: فتح الباري (5/ 484).
(3) انظر: الناسخ والمنسوخ لابن النحاس (2/ 301).
(4) انظر: تفسير الطبري (5/ 115)، أحكام القرآن لابن العربي (2/ 244)، زاد المسير (2/ 445)، البحر المحيط (2/ 392)، تفسير ابن كثير (3/ 212)، تفسير الشوكاني (2/ 125).

(1/502)


السَّابع: أنَّ هذا يتضمن القسامة في الأموال، والحكم بأيمان المدعين، ولا يعرف بهذا قائل.
فهذا – وأمثاله – من الاعتراضات التي نعوذ بالله منها، ونسأله العافية، فإنَّها اعتراضات (1) على حكم الله وشرعه وكتابه.
فالجواب عنها: بيان أنَّها مخالفة لنص الآية، معارضةٌ لها، فهي من الرَّأي الباطل الَّذي حذَّر منه سلف الأُمَّة (2)، وقالوا: إنَّه يتضمن تحليل ما حرَّم الله، وتحريم ما أحلَّ اللهُ، وإسقاط ما فرض الله، ولهذا اتفقت أقوال السلف على ذمِّ هذا النوعِ من الرَّأي (3)، وأنَّه لا يحل الأخذ به في دين اللهِ، ولا يلزم الجواب عن هذه الاعتراضات وأمثالها، ولكن نذكر الجواب بيانًا للحكمة، وأن الَّذي تضمنته الآية هو المصلحة، وهو أعدل ما يحكم به، وخير من كلِّ حكمٍ سواه {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 50].
وهذا المسلكُ الباطل يسلكه من يخالف حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أيضًا، فإذا جاءهم حديث خلاف قولهم، قالوا: هذا يخالف الأصول فلا يقبل.
والمحكمون لكتاب الله وسنَّة رسوله (4) يرون هذه الآراء وأمثالها
__________
(1) “التي نعوذ بالله منها ونسأله العافية فإنها اعتراضات” ساقطة من “ب”.
(2) في “و”: “السلف الأئمة”.
(3) انظر: ذم الكلام وأهله (2/ 185)، الفقيه والمتفقه (1/ 390)، جامع بيان العلم وفضله (2/ 1037).
(4) “فلا يقبل والمحكمون لكتاب الله وسنة رسوله” ساقطة من “ب”.

(1/503)


من أبطل الباطل؛ لمخالفتها للأصول التي هي من كتاب الله وسنَّة رسوله – صلى الله عليه وسلم -، فهذه الآراء هي المخالفة للأصول حتمًا (1)، فهي باطلة قطعًا، على أنَّ هذا الحكم أصلٌ بنفسه، مستغن عن نظير يلحق به.
ونحن نجيبكم عن هذه الوجوه أجوبة مفصلة:
أمَّا قولكم: إنَّها تتضمن شهادة الكافر، ولا شهادة له.
قلنا (2): كيف يقول هذا أصحاب أبي حنيفة، وهم يجيزون شهادة الكفار في كلِّ شيء بعضهم على بعض؟ (3).
أم كيف يقوله أصحاب مالك، وهم يجيزون شهادة (4) طبيبين كافرين حيث لا يوجد طبيبٌ مسلم (5)، وليس ذلك في القرآن، فهلَّا أجازوا شهادة (6) كافرين في الوصية في السَّفر، حيث لا يوجد (7) مسلم، وهو في القرآن (8)، وقد حكمَ به رسول الله
__________
(1) في “أ” “حقًّا”.
(2) انظر: المحلى (9/ 409).
(3) انظر: مختصر اختلاف العلماء (3/ 340)، المبسوط (16/ 140)، البحر الرائق (7/ 158)، منحة الخالق (7/ 158)، رؤوس المسائل (529)، فتح القدير (7/ 416)، شرح أدب القاضي للحسام الشهيد (614).
(4) شهادة” ساقطة من “و”.
(5) انظر: المنتقى (5/ 213)، الذخيرة (10/ 240)، تبصرة الحكام (1/ 247) و (2/ 12)، معين الحكام (2/ 616).
(6) “شهادة” ساقطة من “د”.
(7) “يوجد” ساقطة من “أ”.
(8) الآية (106) المائدة.

(1/504)


– صلى الله عليه وسلم – (1) وأصحابه من بعده (2)؟
أم كيف يقوله أصحاب الشافعي، وهم يرون (3) نص الشافعي صريحًا: “إذا صحَّ الحديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فخذوا به، ودعوا قولي” (4)، وفي لفظٍ له: “فأنا أذهب إليه”، وفي لفظٍ: “فاضربوا بقولي الحائط” (5).
وقد صحَّ الحديث بذلك عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وجاء به نص كتاب الله، وعمل به الصحابة (6).
قولكم: “الشاهدان لا يحبسان” كلام من لم يفهم كتاب الله (7)، فليس المراد هنا (8): السجن الَّذي يعاقب به أهل الجرائم، وإنَّما المراد
__________
(1) تقدم تخريجه ص (492).
(2) تقدم تخريجها ص (488).
(3) في “و”: “يروون”.
(4) انظر: الفقيه والمتفقه (1/ 389)، مختصر كتاب المؤمل لأبي شامة (3/ 31) “مطبوع ضمن الرسائل المنيرية”، رسالة السبكي “معنى قول المطلبي إذا صح الحديث فهو مذهبي” (3/ 98) “ضمن الرسائل المنيرية”، مفتاح الجنة للسيوطي (35)، مناقب الشافعي لابن كثير (125 و 178).
(5) انظر: ميزان الاعتدال (6/ 220)، حاشية الشرواني (5/ 66)، عون المعبود (2/ 57)، تحفة الأحوذي (1/ 456) و (4/ 450)، نيل الأوطار (6/ 83).
(6) انظر: الشرح الكبير (29/ 335)، الإنصاف (29/ 327). وقد سبق ذكر الكلام مفصلًا ص (488).
(7) “كلام من لم يفهم كتاب الله” ساقطة من “جـ” و”د” و”هـ” و”و”.
(8) في “أ” و”ب”: “فليس الحبس ها هنا”.

(1/505)


به إمساكهما لليمين بعد الصلاة (1)، كما يقال: فلان (2) يُصبَرُ لليمين، أي يمسك لها، وفي الحديث: “ولا تُصْبَرْ يمينُه حَيْثُ تُصْبَرُ الأيمان” (3).
قولكم: يتضمن تحليف الشاهدين، والشاهد لا يحلف.
فمن أين لكم أن مثل هذا الشاهد الَّذي شهادته بدل عن شهادة المسلم للضرورة لا يحلف؟ فأي كتاب، أم أية (4) سنَّة جاءت بذلك؟ وقد حلَّف ابن عباس المرأة التي شهدت بالرضاع (5)، وذهب إليه الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه (6)، وقد تقدم الكلام في تحليف الشهود المسلمين إذا ارتاب بهم الحاكم، ومن ذهب إليه من السلف وقضاة العدل (7).
وقولكم: “فيه شهادة المدعين لأنفسهم، والحكم لهم بمجرد دعواهم” ليس بصحيح؛ فإنَّ الله سبحانه جعل (8) الأيمان لهم (9) عند
__________
(1) انظر: فتح الباري (5/ 484).
(2) “فلان” ساقطة من “و”.
(3) رواه البخاري موقوفًا على ابن عباس – رضي الله عنهما – (7/ 190) رقم (3845). وانظر معناه: فتح الباري (7/ 193)، حاشية السيوطي على النسائي (8/ 4).
(4) في “د” و”هـ” و”و”: “أي” وهي ساقطة من “أ”.
(5) رواه عبد الرزاق (7/ 482) و (8/ 336)، وابن أبي شيبة (3/ 487).
(6) انظر: النكت على المحرر (2/ 281).
(7) انظر: ص (378).
(8) في “أ” و”ب”: “نقل”.
(9) في “أ”: “إليهم”.

(1/506)


ظهور اللوث بخيانة الوصيين، فشرع لهما أن يحلفا ويستحقا، كما شرع لمدعي الدم في القسامة أن يحلفوا ويستحقوا دم وليهم؛ لظهور اللوث، فكانت اليمين في جنبتهم (1) لقوتها بظهور اللوث في الموضعين، وليس هذا من باب (2) شهادة المدعي لنفسه، بل من باب الحكم له بيمينه القائمة مقام الشهادة (3)، لقوة جانبه، كما حكمَ – صلى الله عليه وسلم – للمدعي بيمينه (4) لما قوي جانبه بالشاهد الواحد، فقوَّة (5) جانب هؤلاءِ بظهور خيانة الوصيين كقوة جانب المدعي بالشَّاهد، وقوة جانبه بنكول خصمه، وقوة جانبه باللوث (6)، وقوة جانبه بشهادة العرف في تداعي الزوجين المتاع، وغير ذلك.
فهذا محضُ العدل، ومقتضى أصول الشرع، وموجب القياس الصحيح.
وقولكم: إنَّ هذا يتضمن القسامة في الأموال.
قلنا (7): نعم لعمر الله، وهي أولى بالقبول من القسامة في الدماء، ولا سيما مع ظهور اللوث، وأي فرقٍ بين ظهور اللوث في صحة
__________
(1) “في جنبتهم” ساقطة من جميع النسخ عدا “أ”.
(2) “باب” ساقطة من “أ”.
(3) في “و”: “الشاهد”.
(4) “بيمينه” ساقطة من “ب”. والحديث تقدم تخريجه.
(5) في “و”: “فقوي”.
(6) “وقوة جانبه باللوث” ساقطة من “ب”.
(7) انظر: تفسير ابن كثير (3/ 213)، فتح الباري (5/ 484).

(1/507)


الدعوى بالدم، وظهوره في صحة الدعوى بالمال؟ وهل في القياس أصح من هذا؟ وقد ذكر أصحاب مالك القسامة في الأموال (1)، وذلك فيما إذا أغار (2) قومٌ على بيت رجلٍ وأخذوا ما فيه، والناس ينظرون إليهم، ولم يشهدوا على معاينة ما أخذوه، ولكن علم أنَّهم أغاروا وانتهبوا، فقال ابن القاسم وابن الماجشون: القول قول المنتهب مع يمينه (3)، وقال مطرف وابن كنانة وابن حبيب: القولُ قول المنهوب منه مع يمينه فيما يشبه (4)، وقد تقدم ذلك (5)، وذكرنا أنَّه اختيار شيخ الإسلام، وحكينا كلامه – رحمه الله -.

ولا يستريب عالمٌ أنَّ اعتبار اللوث في الأموال التي تباحُ بالبدل أولى منه في الدماء التي لا تباح به.
فإن قيل: فالدماء يحتاط لها.
قيل: نعم، وهذا الاحتياط لم يمنع القول بالقسامة فيها، وإن استحق بها دم المقسم عليه.
ثمَّ إنَّ الموجبين للدية في القسامة (6) حقيقة قولهم: إنَّ القسامة
__________
(1) انظر: الذخيرة (8/ 265)، تبصرة الحكام (2/ 98 و 168).
(2) في “أ”: “غار”.
(3) انظر: الذخيرة (8/ 265)، منح الجليل (7/ 131)، التاج والإكليل (7/ 332).
(4) في “د” و”هـ”: “يشتبه”.
انظر: الذخيرة (8/ 265)، تبصرة الحكام (2/ 98 و 168)، التاج والإكليل (7/ 332)، منح الجليل (7/ 131).
(5) ص (381).
(6) انظر: مختصر المزني “مع الأم” (9/ 268)، معالم السنن (6/ 316)، =

(1/508)


على المالِ والقتلِ طريق لوجوبه، فهكذا القسامة ها هنا على مال (1)، كالدية سواء، فهذا من أصح القياس في الدنيا (2) وأبينه.
فظهرَ أنَّ القولَ بموجب هذه الآية هو الحق الذي لا مَعْدلَ (3) عنه نصًّا وقياسًا ومصلحة، وبالله التوفيق.

فصل
قال شيخنا – رحمه الله (4): وقول الإمام أحمد في قبول شهادتهم في هذا الموضع: “هو ضرورة” (5) يقتضي هذا التعليل قبولها في كلِّ ضرورة حضرًا وسفرًا (6).
وعلى هذا، فشهادة بعضهم على بعضٍ مقبولة للضرورة (7).
__________
= التهذيب (7/ 225)، الحاوي (13/ 14)، الإشراف لابن المنذر (3/ 147)، الأم (6/ 118)، مغني المحتاج (116)، إحكام الإحكام (4/ 480)، مختصر القدوري (192)، مختصر اختلاف العلماء (5/ 177)، كتاب الأصل (4/ 426)، بدائع الصنائع (7/ 286)، العناية (10/ 383)، تكملة البحر الرائق (9/ 189)، البناية (12/ 409)، اللباب في شرح الكتاب (2/ 64).
(1) في “و”: “كل مال”.
(2) في “أ” و”ب”: “الدماء”.
(3) في “ب”: “يعدل”.
(4) انظر: الاختيارات (359).
(5) كما رواه عنه الخلال في الجامع (1/ 216).
(6) انظر: الناسخ والمنسوخ لابن الجوزي (385)، النكت على المحرر (2/ 277).
(7) “فشهادة بعضهم على بعض مقبولة للضرورة” مثبتة من “أ”.

(1/509)


فلو قيل: يحلفون في (1) شهادة بعضهم على بعض، كما يحلفون في شهادتهم على المسلمين في وصية السفر، لكان متوجهًا، ولو قيل: تقبل شهادتهم مع أيمانهم في كلَّ شيءٍ عدم فيه المسلمون؛ لكان له وجه، وتكون (2) بدلًا مطلقًا (3).
قال الشيخ (4): ويؤيد هذا ما ذكره القاضي (5) وغيره – محتجًّا به – وهو في النَّاسخ والمنسوخ لأبي عبيد (6): أنَّ رجلًا من المسلمين خرجَ، فمرَّ بقرية فمرض، ومعه رجلان من المسلمين، فدفع إليهما ماله، ثمَّ قال: ادعوا لي من أشهده على ما قبضتماه، فلم يجدوا من المسلمين في تلك القرية، فدعوا ناسًا من اليهود والنصارى، فأشهدهم على ما دفع إليهما – وذكر القصَّة – فانطلقوا إلى ابن مسعود، فأمر اليهود والنصارى أن يحلفوا بالله: لقد تركَ من المالِ كذا وكذا (7) ولشهادتنا أحق من شهادة هذين المسلمين، ثمَّ أمر أهل المتوفى أن يحلفوا أنَّ شهادة اليهودِ والنصارى حق، فحلفوا، فأمرهم ابن مسعود أن يأخذوا من المسلمين ما شهد به اليهود
__________
(1) “لو قيل يحلفون في” مثبتة من “ب”.
(2) في “أ”: “وتكون شهادتهم”.
(3) انظر: النكت على المحرر (2/ 277).
(4) ابن تيمية رحمه الله. انظر: النكت على المحرر (2/ 277).
(5) انظر: كلام القاضي في النكت على المحرر (2/ 277)، جامع العلوم والحكم (2/ 239).
(6) الناسخ والمنسوخ (156) رقم (289).
(7) “كذا وكذا” ساقطة من “ب”.

(1/510)


والنصارى (1)، وذلك في خلافة عثمان – رضي الله عنه – (2).
فهذه شهادة للميت على وصيته، وقد قضى بها ابن مسعود مع يمين الورثة؛ لأنَّهم المدعون، والشهادة على الميت لا تفتقر إلى يمين الورثة.
ولعلَّ ابن مسعود أخذ هذا (3) من جهة أنَّ الورثة يستحقون (4) بأيمانهم على الشاهدين إذا استحقا إثمًا، فكذلك يستحقون (5) على الوصيين مع شهادة الذميين بطريق الأولى (6).
وقد ذكر القاضي (7) هذا في مسألة دعوى الأسير إسلامًا، فقال: وقد قال الإمام أحمد في السبي: إذا ادعوا نسبًا، وأقاموا بينة من الكفار قبلت شهادتهم، نصَّ عليه أحمد في رواية حنبل، وصالح، وإسحاق بن إبراهيم؛ لأنَّه قد تتعذَّر البينة العادلة، ولم يجز ذلك في رواية عبد الله وأبي طالب.
__________
(1) في “أ” و”ب”: “اليهودي والنصراني”.
(2) انتهى الأثر.
(3) في “ب”: “أخذها من”.
(4) في “ب” و”جـ” و”د” و”هـ” و”و”: “مستحقون”.
(5) “بأيمانهم على الشاهدين إذا استحقا إثمًا فكذلك يستحقون” مثبت من “أ” وساقط من باقي النسخ.
(6) انظر: النكت على المحرر (2/ 277).
(7) أبو يعلي. انظر: النكت على المحرر (2/ 275)، شرح الزركشي (7/ 326)، التمام لابن أبي يعلى (2/ 222).

(1/511)


قال شيخنا: فعلى هذا كل موضع ضرورة غير المنصوص: فيه روايتان، لكن التحليف ها هنا لم يتعرضوا له، فيمكن أن يقال: لأنَّه إنَّما يحلف حيث تكون شهادتهم بدلًا، كما في مسألة الوصية، بخلاف ما إذا كانوا أصولًا (1)، والله سبحانه أعلم.

فصل
قال شيخنا – رحمه الله -: وهل تعتبر عدالة الكافرين في الشهادة بالوصية في دينهما؟ عموم كلام الأصحاب يقتضي أنَّها لا تعتبر، وإن كُنَّا إذا قبلنا شهادة بعضهم على بعض اعتبرنا عدالتهم في دينهم (2).
وصرَّح القاضي: بأنَّ العدالة غير معتبرة في هذه الحال، والقرآن يدلُّ عليه (3).
وصرَّح القاضي: أنَّه لا تقبل شهادة فُسَّاق المسلمين في هذا الحال، وجعله محل وفاق، واعتذرَ منه (4).
وفي اشتراط كونهم من أهل الكتاب روايتان (5)، وظاهر القرآن أنَّه لا يشترط، وهو الصحيح؛ لأنَّه سبحانه قال للمؤمنين: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] وغير المؤمنين: هم الكفار كلهم، ولأنَّه موضع
__________
(1) انظر: الاختيارات (359)، النكت على المحرر (2/ 276).
(2) انظر: الاختيارات (358)، النكت على المحرر (2/ 272).
(3) في “أ” زيادة: “وكذلك الأيمان المرفوعة والموقوفة”.
(4) انظر: المراجع السابقة، والفروع (6/ 578)، وتصحيح الفروع (6/ 578).
(5) انظر: المراجع السابقة.

(1/512)


ضرورة، وقد لا يحضر الموصي إلَّا كفَّارٌ من غير أهل الكتاب، ولأن تقييده بأهل الكتاب لا دليل عليه؛ ولأنَّ ذلك يستلزم تضييق (1) محل الرخصة، مع قيام المقتضي لعمومه.
فإن قيل: فهل يجوز (2) في هذه الصورة (3) أن يحكم بشهادة كافر وكافرتين؟
قيل (4): لا نعرف عن أحمد في هذا شيئًا، ويحتمل أن يقال بجواز ذلك، وهو القياس، فإنَّ الأموال يقبل فيها رجلٌ وامرأتان (5)، وهذا قول أبي محمد ابن حزم (6)، وهو يحتج بعموم قوله – صلى الله عليه وسلم -: “أَلَيْسَتْ شَهَادَةُ المَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟ ” (7)، وبهذا العموم جوَّز الحكم أيضًا في هذه الصورة بأربع نسوة كوافر، وليس ببعيد عند الضرورة، إذا لم يحضره إلَّا النساء، بل هو محض الفقه.

فإن قيل: فهل ينقض حكم من حكم بغير حكم هذه الآية؟
قيل: أصول المذهب تقتضي نقض حكمه، لمخالفته نصَّ
__________
(1) “تضييق” ساقطة من جميع النسخ عدا “أ” وفيها: “وإن تقييده”.
(2) “هل يجوز” ساقطة من “و”.
(3) في “ب”: “الضرورة”.
(4) انظر: النكت على المحرر (2/ 273).
(5) في “أ” زيادة: “وهذا الموضع يدل قبل الضرورة، وهو حكم في الأموال فيقبل فيه رجل وامرأتان”.
(6) انظر: المحلى (9/ 406).
(7) تقدم تخريجه.

(1/513)


الكتاب (1).
قال شيخنا – رضي الله عنه – في تعليقه على “المحرر”: ويتوجه أن ينقض حكم الحاكم إذا حكمَ بخلاف هذه الآية، فإنَّه خالفَ نصَّ الكتاب العزيز بدلالاتٍ (2) ضعيفة (3).
__________
(1) “الكتاب” ساقطة من “ب”.
وانظر: النكت على المحرر (2/ 274).
(2) في “أ”: “بتأويلات ضعيفة”.
(3) انظر: الاختيارات (358)، النكت على المحرر (2/ 274).

(1/514)


آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (9)

الطرق الحكمية في السياسة الشرعية

تأليف
الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 هـ – 751 هـ)

تحقيق
نايف بن أحمد الحمد

إشراف
بكر بن عبد الله أبو زيد

[الجزء الثاني]

(2/)


فصل

الطريق الثامن عشر: الحكم بالإقرار.
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 8]، وفي الآية الأُخرى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135]، ولا خلافَ أنَّه لا يعتبر في صحة الإقرار أن يكون بمجلس الحاكم (1)، إلَّا شيئًا حكاه محمد بن الحسن الجوهري في كتاب “النوادر” (2) له فقال: قال ابن أبي ليلى: لا أجيز إقرارًا في حقٍّ أنكره الخصم عندي إلَّا إقرارًا بحضرتي (3)، ولعله ذهب في ذلك إلى أنَّ الإقرار لما كان شهادة المرء على نفسه اعتبر له مجلس الحكم، كالحكم بالبينة، والفرقُ ظاهرٌ لا خفاء به.

فصل
ويحكم بإقرار الخصم في مجلسه إذا سمعه معه شاهدان بغير خلاف (4)، فإن لم يسمعه معه غيره فنص أحمد على أنه يحكم
__________
(1) انظر: مطالب أولي النهى (6/ 546)، تخريج الفروع على الأصول (1/ 374).
(2) نوادر الفقهاء له مخطوطة في الجامعة الإسلامية في المدينة النبوية برقم (4545)، وقد طبع في دار القلم – دمشق.
(3) نوادر الفقهاء (304). وانظر: مختصر اختلاف العلماء (3/ 375).
(4) انظر: المحرر (2/ 206)، المغني (14/ 33)، المقنع والشرح الكبير والإنصاف (28/ 423)، كشاف القناع (6/ 335)، التنقيح المشبع (408)، مغني ذوي الأفهام (230)، الفروق (4/ 47)، تهذيب الفروق (4/ 86)، =

(2/515)


به (1)، وإن لم نقل يحكم بعلمه، فإن مجلس الحاكم مجلس فصل الخصومات، وقد جلس لذلك، وقد أقر الخصم في مجلسه، فوجب عليه الحكم به، كما لو قامت بذلك البينة عنده، وليس عنده أحد غيره يسمع معه شهادتهما، فإنَّ هذا محل وفاق.
وقال القاضي (2): لا يحكم بالإقرار في مجلسه حتى يسمعه معه شاهدان؛ دفعًا للتهمة عنه (3)، إلا أن نقول: يقضي بعلمه، فإنه يجوز له الحكم حينئذٍ.
والتحقيق أن هذا يشبه مسألة الحكم بعلمه من وجه، ويفارقها من وجه. فشبه ذلك بمسألة حكمه بعلمه أنه ليس هناك بينة، وهو في موضع تهمة.
ووجه الفرق بينهما: أن الإقرار بينة قامت في مجلسه؛ فإن البينة اسم لما يبين به الحق، فعلم الحق في مجلس القضاء الذي انتصب فيه للحكم به، وليس من شرط صحة الحكم أن يكون بمحضر شاهدين، فكذلك لا يعتبر في طريقه أن يكون بمحضر شاهدين، وليس هذا بمنزلة ما رآه أو سمعه في غير مجلسه.
__________
= مسعفة الحكام (2/ 699).
(1) انظر: المغني (14/ 33)، المقنع والشرح الكبير والإنصاف (28/ 423).
(2) أبو يعلى.
(3) انظر: المغني (14/ 33)، المقنع والشرح الكبير والإنصاف (28/ 423).

(2/516)


فصل
الطريق التاسع عشر: الحكم بعلمه.
وقد اختلف في ذلك قديمًا وحديثًا، وفي مذهب الإمام أحمد ثلاث روايات (1).
إحداها: – وهي الرواية المشهورة عنه، المنصورة عند أصحابه – أنه لا يحكم بعلمه لأجل التهمة (2). والثانية: يجوز له ذلك مطلقًا في الحدود وغيرها. والثالثة: يجوز إلا في الحدود.
ولا خلاف عنه أنه يبني على علمه، في عدالة الشهود وجرحهم، ولا يجب عليه أن يسأل غيره عما علمه من ذلك (3).
ولأصحاب الشافعي طريقان (4):
__________
(1) انظر: الهداية (2/ 127)، المحرر (2/ 206)، المغني (14/ 31)، شرح الزركشي (7/ 253)، الفروع (6/ 469)، المبدع (10/ 60)، المقنع مع الشرح الكبير (28/ 424)، الإنصاف (28/ 424)، رؤوس المسائل الخلافية (6/ 982)، المقنع لابن البنا (4/ 1289)، الروض المربع (710).
(2) انظر: المراجع السابقة.
(3) انظر: المغني (14/ 33)، فتح الباري (13/ 172).
(4) انظر: الرسالة للشافعي (600)، الأم (6/ 216)، الإشراف لابن المنذر (3/ 15)، أدب القاضي للماوردي (2/ 368)، حلية العلماء (8/ 142)، التنبيه (255)، الديباج المذهب (1/ 204)، الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (10/ 30)، نهاية المحتاج (8/ 256)، مغني المحتاج (4/ 398)، المسائل الفقهية التي انفرد بها الشافعي (203)، فتح الباري (13/ 172)، الإرشاد =

(2/517)


أحدهما: يقضي بعلمه قطعًا.
والثاني: أن المسألة على قولين أظهرهما عند أكثر الصحابة (1) يقضي به.
قالوا: لأنه يقضي بشاهدين، وذلك يفيد ظنًّا، فالعلم أولى بالجواز. وأجابوا عما احتج به المانعون من ذلك من التهمة؛ أن القاضي لو قال: ثبت عندي وصح كذا وكذا لزم (2) قبوله بلا خلاف، ولم يبحث عما ثبت به (3) وصح والتهمة قائمة.
ووجه هذا أنه لما ملك الإنشاء، ملك الإخبار.
ثم بنوا على القولين ما علمه في زمن ولايته ومكانها، وما علمه (4) في غيرهما.
قالوا: فإن قلنا: لا يقضي بعلمه فذلك (5) إذا كان مستنده مجرد العلم، أما إذا شهد رجلان يعرف عدالتهما، فله أن يقضي، ويغنيه علمه بهما عن تزكيتهما. وفيه وجه ضعيف: لا يغنيه ذلك عن تزكيتهما
__________
= (2/ 404).
(1) هكذا ولعلَّ الصواب: “أصحابه”.
(2) من قول المؤلِّف في الطريق الثامن عشر: “قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 8] ” إلى قوله: “إنَّ القاضي لو قال ثبت عندي وصحَّ كذا وكذا”” ساقطة من جميع النسخ عدا “أ”.
(3) وفي “أ”: “فيه”.
(4) “في زمن ولايته ومكانها وما علمه” ساقطة من “ب”.
(5) في “د” و”و”: “بذلك”.

(2/518)


للتهمة.
قالوا: ولو أقر بالمدعى به (1) فى مجلس قضائه قضى، وذلك قضاء بالإقرار لا بعلمه، وإن أقر عنده سرًّا فعلى القولين، وقيل: يقضي قطعًا (2).
ولو شهد عنده واحد، فهل يغنيه علمه عن الشاهد الآخر؟ على قول المنع، فيه وجهان.
هذا تحصيل مذهب الشافعي وأصحابه (3).
وأما مذهب مالك (4): فإنه لا يقضي بعلمه في المدعى به بحال، سواء علمه قبل التولية أو بعدها، في مجلس قضائه أو غيره، قبل الشروع في المحاكمة أو بعد الشروع، فهو (5) أشد المذاهب في ذلك.
__________
(1) “به” مثبتة من “أ” و”ب”.
(2) انظر: الديباج المذهب (1/ 203).
(3) الرسالة (600)، الإشراف لابن المنذر (3/ 15)، أدب القاضي للماوردي (2/ 368)، حلية العلماء (8/ 142)، نهاية المحتاج (8/ 256)، مغني المحتاج (4/ 398)، فتح الباري (13/ 172).
(4) انظر: المدونة (5/ 148)، المنتقى (5/ 186)، الكافي (500)، التمهيد (22/ 219)، التلقين (2/ 531)، التفريع (2/ 245)، المعونة (3/ 1502)، الفروق (4/ 45)، تنبيه الحكام (198)، تبصرة الحكام (1/ 196) و (2/ 39)، التاج والإكليل (8/ 138)، مواهب الجليل (6/ 118)، منح الجليل (8/ 344)، عقد الجواهر الثمينة (3/ 1018).
(5) في “أ” و”ب”: “فهذا”.

(2/519)


وقال عبد الملك وسحنون: يحكم بعلمه فيما علمه بعد الشروع في المحاكمة (1).
قالوا: فإن حكم بعلمه – حيث قلنا لا يحكم – فقال أبو الحسن اللخمي: لا ينقض عند بعض (2) أصحابنا، وعندي أنه ينقض (3).
قالوا (4): ولا خلاف أن ما رآه القاضي، أو سمعه في غير مجلس قضائه أنه لا يحكم به، وأنه ينقض إن حكم به، وينقضه هو وغيره، وإنما الخلاف فيما يتقارر به الخصمان في مجلسه، فإن حكم به نقضه هو، ولا ينقضه غيره.
قال اللخمي: وقد اختلف إذا أقر بعد أن جلسا للخصومة، ثم أنكر، فقال مالك (5) وابن القاسم: لا يحكم بعلمه (6). وقال عبد الملك وسحنون: يحكم؛ لأن الخصمين إذا جلسا للمحاكمة فقد
__________
(1) انظر: المنتقى (5/ 186)، تبصرة الحكام (1/ 196)، مواهب الجليل (6/ 118)، البهجة (1/ 42).
(2) “بعض” ساقطة من “هـ”.
(3) في المنتقى (5/ 186): “وإذا قلنا لا يحكم بعلمه فحكم بعلمه وسجل فقد قال القاضي أبو الحسن: لا ينقض حكمه عند بعض أصحابنا، قال القاضي أبو الوليد: وعندي أنَّه ينقض حكمه” ا. هـ. وما ذكره ابن القيم مثبت في عقد الجواهر (3/ 1018).
(4) القائل أبو إسحاق التونسي، كما في عقد الجواهر الثمينة (3/ 1018).
(5) المدونة (5/ 148).
(6) انظر: تبصرة الحكام (1/ 196) و (2/ 39)، التاج والإكليل (8/ 138)، مواهب الجليل (6/ 118)، منح الجليل (8/ 344)، البهجة (1/ 43).

(2/520)


رضيا أن يحكم بينهما بما يقولانه، ولذلك قصدا (1).
هذا تحصيل مذهب مالك.

وأما مذهب أبي حنيفة (2)، فقالوا: إذا علم (3) الحاكم بشيء من حقوق العباد في زمن ولايته ومحلها جاز له أن يقضي به؛ لأن علمه كشهادة الشاهدين، بل أولى؛ لأن اليقين حاصل بما علمه بالمعاينة أو السماع، والحاصل بالشهادة غلبة الظن، وأما ما علمه قبل ولايته، أو في غير محل ولايته، فلا يقضي به عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد (4): يقضي به، كما في حال ولايته (5) ومحلها (6).
قال المنتصرون لقول أبي حنيفة: هو في غير مصره وغير ولايته شاهد لا حاكم، وشهادة الفرد لا تقبل، وصار كما إذا (7) علم ذلك
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (8/ 138)، مواهب الجليل (6/ 118)، منح الجليل (8/ 344)، عقد الجواهر الثمينة (3/ 1018). ويظهر أنَّ ابن القيم قد حرَّر مذهب المالكية منه.
(2) انظر: مختصر اختلاف العلماء (3/ 368)، بدائع الصنائع (6/ 232)، المبسوط (16/ 104)، مسعفة الحكام (2/ 699)، حاشية ابن عابدين (5/ 365)، فتاوى السغدى “النتف” (2/ 637 و 781).
(3) في “أ”: “لم يعلم”.
(4) و”محمد” ساقطة من “أ”.
(5) “فلا يقضي عند أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد يقضي به كما في حال ولايته” ساقطة من “و”.
(6) انظر: المراجع السابقة.
(7) “إذا” ساقطة من “ب” و”د” و”هـ”، أمَّا “و” ففيها: “كما لو”، وصوبه العلامة =

(2/521)


بالبينة العادلة، ثم ولي القضاء، فإنه لا يعمل بها.
قالوا (1): وأما الحدود، فلا يقضي بعلمه فيها؛ لأنه خصم فيها؛ لأنها حق لله تعالى، وهو نائبه، إلا في حد القذف، فإنه يعمل بعلمه، لما فيه من حق العبد، وإلا في السكر، إذا وجد سكرانًا، أو من به أمارات السكر، فإنه يعزره.
هذا تحصيل مذهب أبي حنيفة.
وأما أهل الظاهر، فقال أبو محمد ابن حزم (2): وفرض على الحاكم أن يحكم بعلمه في الدماء، والأموال، والقصاص، والفروج، والحدود، سواء علم ذلك قبل ولايته أو بعد ولايته. قال (3): وأقوى ما حكم بعلمه، ثم بالإقرار، ثم بالبينة.

فصل
وأما الآثار عن الصحابة – رضي الله عنهم -، فصح عن أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – أنه قال: “لو رأيت رجلًا على حد من حدود الله تعالى لم أحده حتى يكون معي شاهد غيري” (4).
__________
= ابن باز – رحمه الله تعالى – في تعليقه على الطرق.
(1) “قالوا” ساقطة من “و”. وانظر: المراجع السابقة.
(2) المحلَّى (9/ 426)، مراتب الإجماع (51).
(3) “قال” ساقطة من “أ”.
(4) في جميع النسخ عدا “ب” جاء الأثر هكذا: “لو رأيت رجلًا على حدٍّ لم أدع له غيري” وسيذكر المؤلف الأثر كما أثبتناه آخر الفصل.
رواه ابن عدي (5/ 99)، والبيهقي (10/ 242). قال ابن كثير: “رواه =

(2/522)


وعن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه قال لعبد الرحمن بن عوف: “أرأيتَ لو رأيتُ رجلًا قتل، أو شرب (1)، أو زنى؟ قال: شهادتك شهادة رجل من المسلمين (2)، فقال له عمر: صدقت” (3). وروي نحو هذا عن معاوية، وابن عباس (4).
ومن طريق الضحاك: أن عمر اختصم إليه في شيء يعرفه (5)، فقال للطالب: “إن شئت شهدت ولم أقض، وإن شئت قضيت ولم أشهد” (6).
وأما الآثار عن التابعين، فصح عن شريح أنه اختصم إليه اثنان،
__________
= أحمد عن أبي بكر وإسناده صحيح” ا. هـ. الإرشاد (2/ 404)، وقال الحافظ ابن حجر: “أحمد بسندٍ صحيح إلَّا أنَّ فيه انقطاعًا” ا. هـ. التلخيص الحبير (4/ 360)، ونسبه لأحمد جمع من أهل العلمِ منهم ابن الملقن. انظر: خلاصة البدر المنير (2/ 436)، والزركشي في شرح مختصر الخرقي (7/ 256) وغيرهم، ولم أجده في المسند، وقد قال المجد ابن تيمية: “حكاه أحمد” ا. هـ. المنتقى مع نيل الأوطار (8/ 330).
(1) في “و”: “أو سرق”.
(2) “من المسلمين” ساقطة من “جـ” و”د” و”هـ” و”و”.
(3) رواه عبد الرزاق (8/ 340)، والبيهقي (10/ 243)، وابن أبي شيبة (5/ 545)، ورواه البخاري معلقًا (13/ 168) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “وهذا الإسناد منقطع بين عكرمة ومن ذكره عنه لأنَّه لم يدرك عبد الرحمن فضلًا عن عمر” ا. هـ. انظر: فتح الباري (13/ 170)، تغليق التعليق (5/ 199)، المحلَّى (9/ 425).
(4) المحلَّى (9/ 428).
(5) في “ب” و”و”: “اختصمَ إليه مَنْ يعرفه”، وفي “د”: “في شيءٍ مَنْ يعرفه”.
(6) رواه ابن أبي شيبة (4/ 445).

(2/523)


فأتاه أحدهما بشاهد. وقال لشريح: وأنت شاهدي أيضًا، فقضى له شريح مع شاهده بيمينه (1). وهذا محتمل.
وصح عن الشعبي أنه قال: لا أكون شاهدًا وقاضيًا (2).
واحتج من قال: “يحكم بعلمه” بما في “الصحيحين” (3) من قصة هند لما اشتكت أبا سفيان إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فحكم عليه بأن تأخذ كفايتها وكفاية بنيها، ولم يسألها البينة، ولا أحضر الزوج.
وهذا الاستدلال ضعيف جدًّا، فإن هذا إنما هو فتيا من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا حكم (4)، ولهذا لم يحضر الزوج، ولم يكن غائبًا عن البلد، والحكم على الغائب عن مجلس الحكم (5)، الحاضر في البلد، غير الممتنع (6)، وهو يقدر على الحضور، ولم يوكل (7) وكيلًا = لا يجوز اتفاقًا.
وأيضًا؛ فإنَّها لم تسأله الحكم، وإنما سألته: “هل يجوز لها أن تأخذ ما يكفيها ويكفي بنيها (8)؟ ” وهذا استفتاء محض، فالاستدلال به
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة (4/ 445). وصححه ابن حزم في المحلَّى (9/ 427).
(2) انظر: المحلَّى (9/ 427) وصححه.
(3) البخاري رقم (2211) (4/ 473)، ومسلم رقم (1714) (11/ 248) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4) انظر: المغني (14/ 33 و 94)، وشرح الأبي لمسلم (6/ 231)، ومكمل إكمال الإكمال (6/ 231) “مع الأبي”.
(5) في “أ” و”د” و”هـ” و”و”: “الحاكم”.
(6) وفي “د” و”هـ” و”و”: “ممتنع”.
(7) “ولم يوكل” ساقطة من “ب”.
(8) وفي “د”: “ولدها”.

(2/524)


على الحكم سهو.
واحتج بما رواه ابن ماجه والبيهقي من حديث حماد بن سلمة، حدثني عبد الملك أبو جعفر (1)، عن أبي نضرة (2)، عن سعد بن الأطول (3) “أن أخاه (4) مات وترك ثلاثمائة درهم، وترك عيالًا، قال: فأردت أن أنفقها على عياله، فقال لي النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إن أخاك محبوس بدينه، فاقض عنه، قلت: يا رسول الله قد قضيت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة (5)، وليست (6) لها بينة قال: “أعطها، فإنها محقة”، وفي لفظ: “فإنها صادقة” (7)، وهذا أصرح في الدلالة مما قبله.
__________
(1) في “ب”: “أبو حفص”. وهو عبد الملك أبو جعفر، بصري ويقال: مدني، ذكره ابن حبان فى كتاب الثقات. وقال الحافظ ابن حجر: “مقبول”. انظر: الثقات (7/ 100)، تهذيب الكمال (18/ 437)، ميزان الاعتدال (4/ 418)، تهذيب التهذيب (6/ 376)، تقريب التهذيب (629).
(2) المنذر بن مالك بن قُطعة العبدي أبو نضرة الإمام المحدث، وثَّقه ابن معين وابن سعد وغيرهما. توفي سنة 108 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: تهذيب الكمال (28/ 508)، سير أعلام النبلاء (4/ 529).
(3) في “د” و”هـ” و”و”: “سعد”، وفي الباقي: “سعيد”. والصواب سعد. وهو سعد بن الأطول بن عبد الله بن خالد الجهني، أبو مظفر، وفي تاريخ البخاري التصريح بسماعه من النَّبي – صلى الله عليه وسلم -. انظر: التاريخ الكبير (4/ 45)، الإصابة (2/ 21).
(4) واسمه يسار. انظر: الإصابة (3/ 627).
(5) في “د” و”هـ”: “امرأته”.
(6) في “أ”: “وليس”.
(7) رواه أحمد (5/ 7)، وابن ماجه (4/ 84) رقم (2433)، وعبد بن حميد (1/ 272) رقم (305)، وابن قانع في معجم الصحابة (1/ 255)، وابن =

(2/525)


وقال حمَّاد عن الجريري (1) عن أبي نضرة عن رجل من الصحابة بمثله (2)، ولكن لم يسم: كم ترك؟
وبعد، فلا يدلُّ أيضًا، فإنَّ المنع من حكم الحاكم بعلمه إنَّما هو لأجل التهمة، وهي معلومة الانتفاء عن سيد الحكام – صلى الله عليه وسلم -.
واحتجَّ بما في “الصحيحين” (3) من حديث عقيل (4) عن ابن شهاب
__________
= عبد البر في التمهيد (23/ 236)، وأبو يعلى (3/ 80) رقم (1510)، والطبراني في المعجم الكبير (6/ 46) رقم (5466)، وابن سعد في الطبقات (7/ 40)، وابن حبان في الثقات (3/ 152)، والبيهقي (10/ 240)، قال البوصيري رحمه الله: “إسناد حديثه صحيح، عبد الملك أبو جعفر ذكره ابن حبان في الثقات، وباقي رجال الإسناد على شرط الشيخين” ا. هـ. مصباح الزجاجة (2/ 254) رقم (856).
(1) سعيد بن إياس الجُريري أبو مسعود البصري، وثقه ابن معين. توفي سنة 144 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: الجرح والتعديل (4/ 1)، تهذيب الكمال (10/ 338)، سير أعلام النبلاء (6/ 153).
(2) رواه البخاري في التاريخ (4/ 45)، وأحمد (5/ 7)، وأبو يعلى (3/ 82)، والبيهقي (10/ 240). قال الألباني – رحمه الله تعالى -: “أخرجه أحمد والبيهقي وأحد إسناديه صحيح والآخر مثل إسناد ابن ماجه” ا. هـ. أحكام الجنائز (26).
(3) البخاري رقم (3711) (3712) (7/ 97)، ومسلم رقم (1759) (12/ 320).
(4) عقيل بن خالد بن عقيل الأبلي أبو خالد، وثَّقه أحمد والنسائي. توفي سنة 142 هـ، وقيل: 144 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: تهذيب الكمال (20/ 242)، سير أعلام النبلاء (6/ 301).

(2/526)


عن عمرة (1) عن عائشة: أنَّ فاطمة – رضي الله عنها – أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو بكر: إنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “لا نُوْرَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ إنَّما يَأْكُلُ آل مُحَمَّد في هَذَا المَالِ”، وإنَّي والله لا أغير شيئًا من صدقة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن حالها التي كانت عليه في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (2)، ولأعملن فيها بما عمل رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. وأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئًا – وذكر الحديث -. والاستدلال به سهو أيضًا؛ فإنَّ أبا بكر – رضي الله عنه – علم من دين الرسول أنَّ هذه الدعوى باطلة لا يسوغ الحكم بموجبها، بل دعواها بمنزلة دعوى استحقاق ما علم وتحقق دفعه بالضرورة، بل بمنزلة ما يعلم بطلانه قطعًا من الدعاوى، وسيدة نساء العالمين – رضي الله عنها – خفي عليها حكم هذه الدعوى، وعلمه الخلفاء الراشدون ومن معهم (3) من الصحابة، فالصديق معه الحجة من رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فلم يسمع هذه الدعوى (4)، ولم يحكم بموجبها، للحجة الظاهرة التي علمها معه عمر بن الخطاب والصحابة – رضي الله عنهم – أجمعين، فأين هذا من حكم الحاكم بعلمه الَّذي لم يقم به حجة على الخصم؟
__________
(1) في جميع النسخ: “عمرة”، والصواب: “عروة” كما هو عند البخاري (3711)، ومسلم (1759). وهو عروة بن الزبير بن العوام أبو عبد الله. توفي سنة 94 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: طبقات ابن سعد (5/ 136)، سير أعلام النبلاء (4/ 421)، طبقات علماء الحديث (1/ 153).
(2) “عن حالها التي كانت عليه في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -” مثبتة من “أ”.
(3) في “أ”: “تبعهم”، وفي “ب”: “بعدهم”.
(4) في “ب”: “فلم يسمع هذه الحجة الدعوى”.

(2/527)


واحتجَّ أبو محمد ابن حزم (1) لهذا القول بقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “بينتك أو يمينه” (2)، قال: ومن البينة التي لا بينة (3) أبين منها: علم الحاكم بالمحق من المبطل.
وهذا إلى أن يكون حجة عليهم أقرب من أن يكون حجة لهم؛ فإنَّه قال: “بينتك” و”البينة” اسمٌ لما يبين الحق، بحيث يظهر المحق من المبطل (4)، ويبين ذلك للنَّاس، وعلم الحاكم ليس ببينة.
واحتجوا (5) أيضًا بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء: 135]، وليس في القسط أن يعلم الحاكم أنَّ أحد الخصمين مظلوم والآخر ظالم، ويترك كلًّا (6) منهما على حاله.
قال الآخرون: ليس في هذا محذور، حيث لم يأتِ المظلوم بحجة يحكم له بها، فالحاكم معذور، إذ لا حجَّة معه يوصل بها صاحب الحق إلى حقِّه، وقد قال سيد الحكام صلوات الله وسلامه عليه: “إنَّكُمْ تَخْتَصِمُوْنَ إِليَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكَم أن يكون أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسبُ أَنَّهُ صَادِقٌ، فَأَقْضِيَ لَهُ (7)، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيءٍ مِنْ حَقَّ أَخِيْهِ
__________
(1) المحلَّى (9/ 428).
(2) رواه البخاري رقم (6677) (11/ 566).
(3) “بينة” ساقطة من “د” و”و”.
(4) قوله “وهذا إلى أن يكون” إلى قوله “يظهر المحق من المبطل” ساقطة من “جـ”.
(5) انظر: المحلَّى (9/ 429).
(6) وفي “د”: “كل واحد”.
(7) “فأحسب أنَّه صادق فأقضي له” ساقطة من “أ”.

(2/528)


فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَع لَهُ قِطعَةً مِنَ النَّارِ” (1).
واحتجوا (2) بقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “من رأى منكم مُنْكَرًا؛ فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبقَلْبِهِ” (3)، وإذا رأى الحاكم وحده عدوان رجل على رجل وغصبه ماله، وسمع طلاقه لامرأته، وعتقه لعبده، ثُمَّ رأى الرجلَ مستمرًا في إمساك الزوجة، أو بيع من صرح بعتقه، فقد أقرَّ على المنكر الَّذي أمر بتغييره (4).
قال الآخرون: هو مأمور بتغيير ما يعلم (5) النَّاس أنَّه منكر، بحيث (6) لا تتطرق إليه تهمة في تغييره، وأمَّا إذا عمد إلى رجل مع زوجته وأمته لم يشهد أحد أنَّه طلقها ولا أعتقها ألبتة، ولا سمع بذلك أحدٌ قطُّ، ففرق بينهما، وزعمَ أنَّه سمعه (7) طلق وأعتق: فإنَّه ينسب ظاهرًا إلى تغيير المعروف بالمنكر، وتطرق النَّاس إلى اتهامه والوقوع في عرضه، وهل يسوغ للحاكم أن يأتي إلى رجلٍ مستور بين النَّاس، غير مشهور بفاحشة، ولم يقم (8) عليه شاهد واحد بها، فيرجمه،
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) انظر: المحلَّى (9/ 429).
(3) رواه مسلم رقم (49) (2/ 380) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(4) في “ب”: “الَّذي لم يغير” هكذا.
(5) في “و”: “علم”.
(6) “بحيث” ساقطة من “و”.
(7) “سمعه” ساقطة من جميع النسخ عدا “أ”.
(8) في “د” و”هـ” و”و”: “ولم يشهد”.

(2/529)


ويقول: رأيته يزني؟ أو يقتله، ويقول: سمعته يسب؟ أو يفرِّق بين الزوجين، ويقول: سمعته يطلق؟ وهل هذا إلَّا محض التهمة؟
ولو فتح هذا الباب – ولا سيما لقضاة الزمان – لوجد كل قاضٍ له عدوٌّ السبيل (1) إلى قتل عدوه، ورجمه، وتفسيقه، والتفريق بينه وبين امرأته، ولا سيما إذا كانت العداوة خفية، لا يمكن عدوه إثباتها، وحتَّى لو كان الحق هو حكم الحاكم بعلمه لوجب منع قضاة الزمان من ذلك (2)، وهذا إذا قيل في شريح، وكعب بن سور، وإياس بن معاوية، والحسن البصري، وعمران الطلحي (3)، وحفص بن غياث وأضرابهم كان فيه ما فيه.
وقد ثبت عن أبي بكر (4) وعمر (5) وعبد الرحمن بن عوف (6) وابن عباس (7) ومعاوية (8) – رضي الله عنهم – المنع من ذلك، ولا يعرف لهم في الصحابة مخالف.
فذكر البيهقي وغيره عن أبي بكر الصديق أنَّه قال: “لو وجدت
__________
(1) وفي “ب”: “سبيلًا”.
(2) انظر: حاشية ابن عابدين (5/ 465)، تبصرة الحكام (2/ 39)، البهجة (1/ 42).
(3) في “ب”: “البلخي”.
(4) تقدم تخريجه ص (523).
(5) تقدم تخريجه ص (524).
(6) تقدم تخريجه ص (524).
(7) انظر: المحلَّى (9/ 428).
(8) انظر: المحلَّى (9/ 428).

(2/530)


رجلًا على حد من حدود الله لم أحده حتَّى يكون معي غيري” (1).
وعن عمر أنَّه قال لعبد الرحمن بن عوف: “أرأيت لو رأيت رجلًا يقتل أو يسرق أو يزني؟ قال: أرى شهادتك شهادة رجل من المسلمين، قال: أصبت” (2). وعن علي نحوه (3).

وهذا من كمال فقه (4) الصحابة – رضي الله عنهم – فإنَّهم أفقه الأُمَّة (5) وأعلمهم بمقاصد الشرع وحكمه، فإنَّ التهمة مؤثِّرةٌ (6) في باب الشهادات والأقضية والإقرار وطلاق المريض وغير ذلك، فلا تقبل شهادة السيد لعبده، ولا العبد لسيده، ولا شهادة الوالد لولده، وبالعكس، ولا شهادة العدو على عدوه، ولا يقبل حكم الحاكم لنفسه، ولا ينفذ حكمه على عدوه، ولا يصح إقرار المريض مرض الموت لوارثه ولا لأجنبي عند مالك (7) إذا قامت شواهد التهمة، ولا تمنع المرأة الميراث بطلاقه لها لأجل مظنة (8) التهمة، ولا يقبل قول المرأة على ضرتها أنَّها أرضعتها، إلى أضعاف ذلك ممَّا يرد ولا يقبل
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.
(3) انظر: سنن البيهقي (10/ 243).
(4) في “أ”: “تفسير”.
(5) في “و”: “الصحابة”.
(6) “مؤثرة”: ساقطة من “هـ”.
(7) انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 454)، حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب (2/ 372 – 373)، منح الجليل (6/ 429).
(8) “مظنة” مثبتة من “أ” و”ب”.

(2/531)


للتهمة.
ولذلك منعنا في مسألة الظفر أن يأخذ المظلوم من مال ظالمه نظير ما خانه فيه لأجلِ التهمة، وإن كان إنَّما يستوفي حقَّه (1).
ولقد كان سيد الحكام – صلى الله عليه وسلم – يعلم من المنافقين ما يبيح دماءهم وأموالهم، ويتحقق ذلك، ولا يحكم فيهم بعلمه، مع براءته عند الله وملائكته وعباده من كلِّ تهمة، لئلا يقول النَّاس: إنَّ محمدًا يقتل أصحابه (2)، ولمَّا رآه بعض أصحابه مع زوجته صفية بنت حيي (3) قال: “رُوَيْدَكُمَا، إنَّهَا صَفِيَّةُ بنتُ حُيَي” (4) لئلا تقع في نفوسهما تهمة له.
ومن تدبَّر الشريعة وما اشتملت عليه من المصالح وسدِّ الذرائع تبين له الصواب في هذه المسألة، وبالله التوفيق.
__________
(1) ذكر ابن القيم رحمه الله أقوال العلماء في إغاثة اللهفان (2/ 298). وانظر: إعلام الموقعين (4/ 36 و 437)، الاختيارات (348)، الفتاوى الكبرى (5/ 565)، الهداية (2/ 139)، الفروق (1/ 208)، الإحكام للقرافي (112)، تهذيب الفروق (1/ 207)، شرح العمدة لابن الملقن (10/ 17)، عون المعبود (9/ 326)، فيض القدير (3/ 146)، روضة الطالبين (10/ 119)، بدائع الصنائع (7/ 71)، فتح القدير لابن الهمام (5/ 377)، المقنع وشرحه المبدع (10/ 97)، التمهيد (20/ 159).
(2) رواه البخاري رقم (4905) (8/ 516)، ومسلم رقم (2584) (15/ 374).
(3) “بنت حيي” مثبتة من “ب”.
(4) “قال رويدكما إنَّها صفية بنت حيي” ساقطة من “ب”.
والحديث رواه البخاري رقم (2038) (4/ 330)، ومسلم رقم (2175) (14/ 406) من حديث علي بن حسين عن صفية رضي الله عنها.

(2/532)


فصل
الطريق العثسرون: الحكم بالتواتر.
وإن لم يكن المخبرون عدولًا ولا (1) مسلمين، وهذا من أظهر البينات (2)، فإذا تواتر الشيء عنده، وتضافرت (3) به الأخبار، بحيث اشترك في العلم به هو وغيره، حكم بموجب ما تواتر عنده (4)، كما إذا تواتر عنده فسق رجل، أو صلاحه ودينه، أو عداوته لغيره، أو فقر رجل وحاجته، أو موته، أو سفره، ونحو ذلك، حكم بموجبه، ولم يحتج إلى شاهدين عدلين، بل بينة التواتر أقوى من الشاهدين بكثير (5)؛ فإنَّه يفيد العلم، والشاهدان غايتهما أن يفيدا ظنًّا غالبًا.
وقد ذكر أصحابنا – كالقاضي (6)، وأبي الخطاب (7)، وابن عقيل (8) وغيرهم (9) – ما يدلُّ على ذلك، فإنَّهم قالوا في الودِّ على من زعمَ أنَّ التواتر يحصل بأربعة: لو حصل العلم بخبر أربعة نفر لما احتاج
__________
(1) “ولا” ساقطة من “د”.
(2) انظر: الذخيرة (10/ 97).
(3) في “ب”: “وتظاهرت”.
(4) “عنده” ساقطة من “ب”.
(5) “بكثير” ساقطة من “هـ”.
(6) في العدة (3/ 856). وانظر: شرح مختصر الروضة (2/ 89)، والمسودة (212).
(7) في التمهيد في أصول الفقه (3/ 29).
(8) الواضح في أصول الفقه (4/ 357).
(9) انظر: المسودة (212)، شرح مختصر الروضة (2/ 89)، وبذل النظر (391).

(2/533)


القاضي إذا شهد عنده أربعة بالزنا أن يسأل عن عدالتهم وتزكيتهم.
قال شيخنا: وهذا يقتضي أنَّ القاضي إذا حصل له العلم بشهادة الشهود لم يحتج إلى تزكية، والتواتر يحصل بخبر الكفار والفساق والصبيان (1).
وإذا كان يقضي بشاهدٍ واحدٍ مع اليمين، وبدونها، وبالنكول، وبشهادة المرأة الواحدة – حيث يحكم بذلك – فالقضاء بالتواتر أولى وأحرى، وبيان الحق به أعظم من بيانه بنصاب الشهادة.
فإن قيل: فلو تواتر عنده زنا رجل أو امرأة، فهل له أن يحدهما بذلك؟
قيل (2): لا بُدَّ في إقامة الحدِّ بالزنا من معاينة ومشاهدة له، ولا تكفي فيه القرائن واستفاضته في النَّاس، ولا يمكن في العادة التواتر بمعاينة ذلك ومشاهدته للاختفاء به وستره عن العيون، فيستحيل في العادة أن يتواتر الخبر عن معاينته.
نعم، لو قُدِّرَ ذلك – بأن أتى ذلك بين النَّاسِ عيانًا، وشاهده (3) عددٌ كثير يقع العلم الضروري بخبرهم – حُدّ بذلك قطعًا (4)، ولا يليق بالشريعة غير ذلك، ولا تحتمل سواه.
__________
(1) انظر: المسودة (213)، المستصفى (1/ 140)، شرح الكوكب المنير (2/ 339).
(2) انظر: أصول السرخسي (1/ 290).
(3) في “د” و”هـ” و”و”: “وشهادة”.
(4) “قطعًا” ساقطة من “د”.

(2/534)


فصل

الطريق الحادي والعشرون: الحكم بالاستفاضة (1).
وهي درجة بين التواتر والآحاد، فالاستفاضة: هي الاشتهار الَّذي يُحدَّث به النَّاس، وفاض بينهم.
وقد قسم الحنفية (2) الأخبار إلى ثلاثة أقسام: آحاد، وتواتر، واستفاضة (3)، وجعلوا المستفيض مرتبة بين المرتبتين، وخصوا به عموم القرآن، وقالوا: هو بمنزلة التواتر، ومنهم (4) من جعله قسمًا من أقسام التواتر.
وهذا النوع من الأخبار يجوز استناد الشهادة إليه، ويجوز أن يعتمد الزوج عليه في قذف امرأته ولعانها، إذا استفاض في النَّاس زناها، ويجوز اعتماد الحاكم عليه.
__________
(1) انظر: الهداية مع البناية (8/ 153)، القوانين (322)، روضة الطالبين (8/ 239)، أدب القضاء للغزي (190)، فتح الباري (5/ 301)، المغني (14/ 141)، المحرر (2/ 245)، الإنصاف (29/ 270)، الفواكه العديدة (2/ 301).
(2) انظر: المغني في أصول الفقه (193)، أصول السرخسي (1/ 291)، إرشاد الفحول (94).
(3) وسماه بعضهم “مشهورًا”. المغني في أصول الفقه (192)، أصول السرخسي (1/ 291)، أصول الشاشي (269).
(4) كالجصاص. انظر: المغني في أصول الفقه للبخاري (193)، وأصول السرخسي (1/ 291)، إرشاد الفحول (94).

(2/535)


قال شيخنا في الذمي: إذا زنى بالمسلمة (1) قتل، ولا يرفع عنه القتل الإسلام، ولا يشترط فيه أداء الشهادة على الوجه المعتبر في المسلم، بل يكفي استفاضة ذلك واشتهاره، هذا نص كلامه (2).
وهذا هو الصواب (3)؛ لأنَّ الاستفاضة من أظهر البينات، فلا يتطرق إلى الحاكم تهمة إذا استند إليها؛ فحكمه بها حكم بحجة لا بمجرد علمه الَّذي لا (4) يشاركه فيه غيره، ولذلك له أن يقبل شهادة الشاهد إذا استفاض في النَّاس صدقه وعدالته، من غير اعتبار لفظ شهادة (5) على العدالة (6)، ويرد شهادته ويحكم بفسقه باستفاضة فجوره (7) وكذبه، وهذا ممَّا لا يعلم فيه نزاع بين العلماء (8)، وكذلك
__________
(1) في “أ”: “بمسلمة”.
(2) انظر: الصارم المسلول (2/ 20 و 489)، الاختيارات (295). وانظر: الفروع (6/ 285)، المغني (13/ 238)، كشاف القناع (6/ 91)، التلخيص الحبير (4/ 235)، المحرر (2/ 188)، الجامع للخلال “قسم الملل” (2/ 347)، أحكام أهل الذمة (2/ 790)، بلغة السالك (2/ 317)، تبصرة الحكام (2/ 253)، بدائع الصنائع (7/ 113)، فتح القدير (6/ 62)، أسنى المطالب (4/ 223)، الغرر البهية (5/ 147).
(3) انظر: كشاف القناع (6/ 335)، مطالب أولي النهى (6/ 510)، فتاوى السبكي (2/ 473).
(4) “لا” ساقطة من “و”.
(5) صوب العلامة ابن باز رحمه الله “الشهادة”.
(6) في “أ”: “عدالته”.
(7) في “و”: “فسقه”.
(8) “نزاع بين العلماء” ساقطة من “أ” و”ب”.

(2/536)


الجارح والمعدل يجرح الشاهد بالاستفاضة، صرَّح بذلك أصحاب الشافعي (1) وأحمد (2)، ويعدله بالاستفاضة (3)، ولا ريبَ أنَّا نشهد بعدالة عمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه – وفسق الحجاج.
والمقصود: أنَّ الاستفاضة طريقٌ من طرق العلم التي تنفي التهمة عن الشاهد والحاكم، وهي أقوى من شهادة اثنين مقبولين.
__________
(1) انظر: فتح الباري (5/ 301)، أسنى المطالب (4/ 368)، الغرر البهية (5/ 251).
(2) انظر: المغني (14/ 64)، الفتاوى الكبرى (5/ 562)، المقنع مع الشرح الكبير (28/ 495)، الإنصاف (28/ 496)، مجموع الفتاوى (35/ 412).
(3) “صرح بذلك أصحاب الشافعي وأحمد ويعدله بالاستفاضة” مثبتة من “أ” و”ب”.

(2/537)


فصل

الطريق الثاني والعشرون: الأخبار آحادًا.
وهو أن يخبره عدلٌ يثق بخبره ويسكن إليه بأمر، فيغلب على ظنه صدقه فيه، أو يقطع به لقرينة احتفت (1) به، فيجعل ذلك مستندًا لحكمه، وهذا يصلح (2) للترجيح والاستظهار بلا ريب، ولكن هل يكفي وحده في الحكم؟ هذا موضع تفصيل.

فيقال: إمَّا أن يقترن بخبره ما يفيد معه اليقين أم لا، فإن اقترن بخبره ما يفيد معه اليقين جاز (3) أن يحكم به، وينزل (4) منزلة الشهادة، بل هو شهادة محضة في أصح الأقوال، وهو قول الجمهور (5)، فإنَّه لا يشترط في صحة الشهادة ذكر لفظة “أشهد” بل متى قال الشاهد: رأيت كيت وكيت، أو سمعت، أو نحو ذلك، كانت شهادة منه، وليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – موضع واحد يدلُّ على اشتراط لفظ “الشهادة”، ولا عن رجل واحد من الصحابة، ولا قياس، ولا استنباط
__________
(1) “احتفت” مثبتة من “أ”.
(2) “يصلح” ساقطة من “هـ”.
(3) “أم لا فإن اقترن بخبره ما يفيد معه اليقين جاز” ساقطة من “ب”.
(4) في “أ”: “ونزل”.
(5) انظر: تبصرة الحكام (1/ 317)، حاشية الدسوقي (6/ 60)، مجموع الفتاوى (14/ 150)، النكت على المحرر (2/ 312)، كشاف القناع (6/ 179)، الأشباه والنظائر للسيوطي (275)، بدائع الفوائد (1/ 8)، المحلَّى (9/ 434).

(2/538)


يقتضيه، بل الأدلة المتضافرة من الكتاب والسنَّة وأقوال الصحابة ولغة العرب تنفي ذلك.
وهذا مذهب مالك (1) وأبي حنيفة (2) وظاهر كلام أحمد (3) وحكي ذلك عنه نصًّا (4).
قال تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [الأنعام: 150]، ومعلومٌ قطعًا أنَّه ليس المراد التلفظ بلفظة “أشهد” (5) في هذا، بل مجرَّد الإخبار بتحريمه.
وقال تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166]، ولا تتوقف صحة هذه الشهادة على أن (6) يقول – سبحانه
__________
(1) انظر: شرح حدود ابن عرفة (2/ 599)، تبصرة الحكام (1/ 317)، حاشية الدسوقي (6/ 60)، إدرار الشروق (4/ 57) “حاشية على الفروق”.
(2) مذهب الحنفية أنَّ ركن الشهادة قول الشاهد “أشهد”. انظر: بدائع الصنائع (6/ 266)، فتح القدير (7/ 375)، البحر الرَّائق (7/ 93)، أدب القضاء للسروجي (332)، المبسوط (16/ 130)، تبيين الحقائق (4/ 218). أمَّا مشايخ العراق فلم يشترطوا لفظ الشهادة. انظر: معين الحكام (95)، فتح القدير (7/ 376)، الاختيار (2/ 140).
(3) انظر: الفتاوى (14/ 170)، النكت على المحرر (2/ 312)، بدائع الفوائد (1/ 8)، التمهيد لأبي الخطاب (3/ 164)، مدارج السالكين (3/ 452)، الاختيارات (361)، الفروع (6/ 594)، كشاف القناع (6/ 447).
(4) في “أ”: “أيضًا”، وفي “ب”: “أيضًا” ومصححة إلى “نصًّا”.
انظر: السنة للخلال (2/ 356 و 362)، الفروع (6/ 594)، الإنصاف (30/ 100)، زاد المعاد (3/ 492)، مدارج السالكين (3/ 452).
(5) في “و”: “الشهادة”.
(6) وفي غير “و”: “أنَّه”.

(2/539)


وتعالى – “أشهد بكذا”.
وقال تعالى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} [الزخرف: 86] أي أخبر به، وتكلَّم به عن علم، والمراد به التوحيد.
ولا تفتقر صحة الإسلام إلى أن يقول الداخل فيه: “أشهد أن لا إله إلَّا الله” بل لو قال: “لا إله إلَّا الله محمد رسول الله” كان مسلمًا بالاتفاق، وقد قال – صلى الله عليه وسلم -: “أُمِرْت أن أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أن لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ” (1) فَإِذَا تَكَلَّمُوا بقول: “لَا إِلهَ إِلَّا الله” حصلت لهم العصمة، وإن لم يأتوا بلفظ “أشهد”.
وقال تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 30، 31].
وصحَّ عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنَّه قال: “عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الإِشْرَاكَ بِالله” (2).
__________
(1) البخاري رقم (25) (1/ 95)، ومسلم رقم (22) (1/ 325) من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما -.
(2) رواه أحمد (4/ 321)، وابن أبي شيبة في المصنف (4/ 550)، وفي المسند (2/ 254)، وأبو داود رقم (3599)، وابن ماجه رقم (2372) (4/ 47)، والطبراني في الكبير (4/ 209) رقم (4162)، والبيهقي في (10/ 207)، وفي الشعب (4861)، وابن قانع في معجم الصحابة (1/ 53) رقم (48)، والعقيلي (3/ 434)، والطبري في تفسيره (9/ 144) من حديث خريم بن فاتك رضي الله عنه. قال الحافظ ابن حجر: “إسناده مجهول” ا. هـ. =

(2/540)


وقال: “ألَا أُنْبِئُكُم بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟ الشِّرْكُ بِاللهِ (1)، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتيِ حَرَّمَ اللهُ وَقَوْلُ الزُّوْرِ” (2).
وفي لفظ: “ألا، وَشَهَادَةُ الزُّوْرِ” (3) فسمَّى قول الزور شهادة، وإن لم يكن معه لفظ “أشهد”.
وقال ابن عباس – رضي الله عنه -: شهد عندي رجالٌ مرضيون – وأرضاهم عندي عمر – “أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بعْدَ العَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَعَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ” (4).
__________
= التلخيص الحبير (4/ 349)، وقال ابن الملقن: “رواه أبو داود وابن ماجه من رواية خريم بن فاتك الأسدي بإسنادٍ ضعيف” ا. هـ. خلاصة البدر المنير (2/ 431)، وقال ابن القطان: “لا يصح” ا. هـ. بيان الوهم (4/ 548). وانظر: تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي (2/ 383).
ورواه أحمد (4/ 178)، والترمذي رقم (2300)، والطبري في تفسيره (6/ 144) من حديث أيمن بن خُريم. قال الترمذي: “ولا نعرف لأيمن بن خريم سماعًا من النَّبي – صلى الله عليه وسلم -” ا. هـ. وذكر ابن الملقن أنَّ في إسنادهِ مقالًا. خلاصة البدر المنير (2/ 431)، وضعفه الألباني. ضعيف الترمذي رقم (399).
وقال العقيلي: “هذا يروى عن خريم بن فاتك بإسنادٍ صالح من غير هذا الوجه” ا. هـ. الضعفاء الكبير (3/ 434).
(1) “وقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الشرك بالله” ساقطة من “ب”.
(2) رواه البخاري رقم (2654) (5/ 309)، ومسلم رقم (87) (1/ 441) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
(3) رواه البخاري رقم (2653) (5/ 309)، ومسلم رقم (87) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
(4) رواه البخاري رقم (581) (2/ 69).

(2/541)


ومعلوم أنَّ عمر لم يقل لابن عباس “أشهد عندك أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نهى عن ذلك”، ولكن أخبر به، فسماه شهادة.
وقد تناظرَ الإمام أحمد وعلي بن المديني في العشرة (1) – رضوان الله عليهم – فقال علي: أقول: “هُمْ في الجنَّة، وَلَا أَشْهَدُ بِذلِكَ” بناءً على أنَّ الخبرَ في ذلك خبر آحاد، فلا يفيد العلم، والشهادة إنَّما تكون على العلم، فقال له الإمام أحمد: “متى قلت: هم في الجنَّة، فقد شهدت” حكاه القاضي أبو يعلى (2)، وذكره شيخنا (3) ابن تيمية – رحمه الله -.
فكل من أخبر بشيءٍ فقد شهد به، وإن لم يتلفظ بلفظ “أشهد” (4).
ومن العجب: أنَّهم احتجوا على قبول الإقرار بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] (5).
__________
(1) وهم من ذكرهم النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله: “عشرة في الجنَّة، أبو بكر في الجنَّة، وعمر في الجنَّة، وعثمان في الجنَّة، وعلي في الجنَّة، وطلحة في الجنَّة، والزبير في الجنَّة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنَّة، وسعد في الجنَّة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنَّة” رواه أحمد (1/ 193)، وأبو يعلى (835)، والترمذي (3747). وصححه ابن حبان (7002) من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
(2) انظر: مسائل الإمام أحمد لابنه عبد الله (440)، السنة للخلال (2/ 362)، الفروع (6/ 594).
(3) انظر: الاختيارات (361)، النكت على المحرر (2/ 313).
(4) في “و”: “الشهادة”.
(5) في “أ” و”د” و”هـ”: ذكر آية المائدة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ =

(2/542)


قالوا: هذا يدلُّ على قبول إقرار المرء على نفسه، ولم يقل أحدٌ: إنَّه لا يقبل (1) الإقرار حتَّى يقول المقر “أشهد على نفسي”، وقد سمَّاه الله تعالى شهادة.
قال شيخنا (2) – رحمه الله تعالى -: فاشتراط لفظ “الشهادة” لا أصلَ له في كتاب الله، ولا سنَّة رسوله، ولا قول أحدٍ من الصحابة، ولا يتوقف إطلاق لفظُ “الشهادة” لغة على ذلك، وبالله التوفيق.
وعلى هذا فليس الإخبار (3) طريقًا آخر غير طريق الشهادة (4).
__________
= شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا} [المائدة: 8].
(1) “إقرار المرء على نفسه ولم يقل أحد إنَّه لا يقبل” ساقطة من “ب”.
(2) انظر: الاختيارات (362)، الإنصاف (30/ 100).
(3) “الإخبار” ساقطة من “و”.
(4) “وعلى هذا فليس الإخبار طريقًا آخر غير طريق الشهادة” ساقطة من “ب”.

(2/543)


فصل

الطريق الثالث والعشرون: الحكم بالخط المجرد.
وله صور ثلاث (1):
الصورة الأولى: أن يرى القاضي حجة فيها حكمه لإنسان، فيطلب منه إمضاءه والعمل به، فقد اختلف في ذلك (2)، فعن أحمد ثلاث روايات (3)، إحداهنَّ: أنَّه إذا تيقن أنَّه خطه نفذه، وإن لم يذكره. والثانية: أنَّه لا ينفذه حتَّى يذكره. والثالثة: أنَّه إذا كان في حرزه وحفظه كمنظره ونحوه (4) نفذه، وإلَّا فلا.
قال أبو البركات (5): وكذلك (6) الرواية في شهادة الشاهد: بناءً على خطه إذا لم يذكره (7).
والمشهور من مذهب الشافعي: أنَّه لا يعتمد على الخط، لا في
__________
(1) في “هـ” و”و”: “ثلاثة”.
(2) “والعمل به فقد اختلف في ذلك” مثبتة من “أ” و”ب”.
(3) انظر: المغني (8/ 471)، المحرر (2/ 211)، الفروع (6/ 488)، مسألة العمل بالخطوط لعلاء الدين ابن مفلح (20).
(4) “كمنظره” مثبتة من “أ”.
(5) عبد السلام بن عبد الله بن الخضر بن محمد الحرَّاني أبو البركات، مجد الدِّين ابن تيمية. توفي سنة 653 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: مختصر طبقات الحنابلة (56)، سير أعلام النبلاء (23/ 291)، شذرات الذهب (7/ 443).
(6) “وكذلك” مثبتة من “أ” و”و”.
(7) المحرر (2/ 211)، وانظر: الشرح الكبير (29/ 265).

(2/544)


الحكم ولا في الشهادة، وفي (1) مذهبه وجهٌ آخر: أنَّه يجوز الاعتماد عليه إذا كان محفوظًا عندهما (2)، كالرواية الثالثة.
وأمَّا مذهب أبي حنيفة: فقال الخصاف (3): قال أبو حنيفة: إذا وجد القاضي في ديوانه شيئًا لا يحفظه – كإقرار الرجل بحقًّ من الحقوق أو شهادة شهود شهدوا عنده لرجلٍ على رجل بحق من الحقوق (4) – وهو لا يذكر ذلك ولا يحفظه، فإنَّه لا يحكم بذلك، ولا ينفذه حتَّى يذكره (5).
وقال أبو يوسف ومحمد: ما وجده القاضي في ديوانه – من شهادة شهود شهدوا عنده لرجل على رجل بحق، أو إقرار رجل لرجل بحق،
__________
(1) في “ب”: “ولا في”.
(2) انظر: التنبيه (257)، الديباج المذهب (1/ 213)، فتح الباري (13/ 155)، مغني المحتاج (4/ 339)، نهاية المحتاج (8/ 260)، أدب القاضي للماوردي (2/ 79).
(3) وفي “ب” و”جـ” و”د”: “الخفاف”. وهو أحمد بن عمر، وقيل: عمرو بن فُهير الشيباني، أبو بكر الخصاف العلامة شيخ الحنفية. توفي سنة 261 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: تاج التراجم (18)، الطبقات السنية (1/ 418)، سير أعلام النبلاء (13/ 123).
(4) “أو شهادة شهود شهدوا عنده لرجل على رجل بحق من الحقوق” ساقطة من جميع النسخ عدا “أ”.
(5) انظر: شرح أدب القاضي للخصاف (3/ 97)، مختصر اختلاف العلماء (3/ 350)، المبسوط (16/ 92)، كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (3/ 51)، حاشية ابن عابدين (5/ 498)، أدب القاضي للسروجي (323)، غمز عيون البصائر (2/ 306)، الهداية مع البناية (8/ 149).

(2/545)


والقاضي لا يحفظ ذلك ولا يذكره – فإنَّه ينفذ ذلك، ويقضي به، إذا كان تحت خاتمه محفوظًا، ليس كل ما في ديوان القاضي يحفظه (1).
وأمَّا مذهب مالك: فقال في “الجواهر” (2): لا يعتمد على الخط إذا لم يَذْكر (3)، لإمكان التزوير عليه (4).
قال القاضي أبو محمد (5): إذا وجد في ديوانه حكمًا بخطه، ولم يذكر أنَّه حكم به لم يجز له أن يحكم به، إلَّا أن يشهد عنده شاهدان (6).
قال (7): وإذا نسيَ القاضي حكمًا حكم به، فشهد عنده شاهدان (8) أنَّه قضى به: نفذ الحكم (9) بشهادتهما، وإن لم يذكره (10)، وعن
__________
(1) انظر: المراجع السابقة.
(2) عقد الجواهر الثمينة (3/ 1019). ومؤلفه جلال الدِّين عبد الله بن نجم بن شاس. توفي 616 هـ – رحمه الله تعالى -.
(3) في “أ”: “يتذكر”، وفي “هـ”: “إذا لم يمكنه تذكره”.
(4) انظر: تنبيه الحكام لابن المناصف (158)، البيان والتحصيل (9/ 440)، عدة البروق (510).
(5) القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي.
(6) المعونة (3/ 1506)، تنبيه الحكام (163)، القوانين (322)، المدونة (5/ 145)، المنتقى (5/ 199).
(7) القائل ابن شاس في عقد الجواهر (3/ 1019). وانظر: المعونة (3/ 1505)، الكافي (500)، التفريع (2/ 246).
(8) “قال وإذا نسي القاضي حكمًا حكمَ به، فشهد عنده شاهدان” ساقطة من “و”.
(9) “نفذ الحكم” ساقطة من “ب”.
(10) في “أ”: “يتذكر”.

(2/546)


مالك (1) رواية أخرى أنَّه لا يلتفت إلى البينة بذلك ولا يحكم بها (2).
وجمهور أهل العلم على خلافها (3)، بل إجماع أهل الحديث قاطبة على اعتماد الراوي على الخط المحفوظ عنده، وجواز التحديث به، إلَّا خلافًا شاذًّا لا يعتدُّ به (4)، ولو لم يعتمد على ذلك لضاع الإسلام اليوم، وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فليس بأيدي النَّاس – بعد كتاب الله – إلَّا هذه النسخ الموجودة من السنن، وكذلك كتب الفقه الاعتماد فيها على النسخ، وقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يبعث كتبه إلى الملوك وغيرهم (5)، وتقومُ بها حجته، ولم يكن يشافه رسولًا بكتابه بمضمونه قط (6)، ولا جرى هذا في مدَّة حياته – صلى الله عليه وسلم – بل يدفع إليه (7) الكتاب مختومًا، ويأمره بدفعه إلى المكتوب إليه، وهذا معلومٌ بالضرورة لأهل العلم بسيرته وأيامه.
__________
(1) في “ب”: “عن علي”.
(2) انظر: الكافي (500)، عقد الجواهر الثمينة (3/ 1019).
(3) “خلافها” ساقطة من “أ”.
(4) في “هـ”: “لا يعتمدونه”.
انظر: الكفاية للخطيب (340)، الرسالة (382)، فتح المغيث (1/ 329)، العناية في شرح الهداية (1/ 163)، اختصار علوم الحديث (2/ 398).
(5) كما رواه البخاري رقم (2938) و (2940) (6/ 127) و (13/ 150) مع “فتح الباري”.
(6) “قط “مثبتة من “أ” و”ب”.
(7) “إليه” مثبتة من “أ”.

(2/547)


وفي “الصحيح” عنه – صلى الله عليه وسلم – أنَّه قال: “مَا حَقُّ امْرئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيءٌ يُوصِي فِيْهِ يَبيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ” (1)، ولو لم يجز الاعتماد على الخط لم تكن لكتابة وصيته فائدة.
قال إسحاق بن إبراهيم: قلت لأحمد: الرجل يموت، وتوجد له وصية تحت رأسه من غير أن يكون أشهد عليها، أو أعلم بها أحدًا، هل يجوز إنفاذ ما فيها؟ قال: إن كان قد عرف خطه، وكان مشهور الخط، فإنَّه ينفذ ما فيها (2).
وقد نصَّ في الشهادة أنَّه إذا لم يذكرها ورأى خطه لا يشهد حتَّى يذكرها (3).
ونصَّ فيمن كتب وصيته وقال: اشهدوا علي بما فيها أنَّهم لا يشهدون إلَّا أن يسمعوها منه، أو تقرأ عليه فيقر بها (4).
فاختلف أصحابنا (5)، فمنهم من خرج في كلَّ مسألة حكم
__________
(1) رواه البخاري رقم (2738) (5/ 419)، ومسلم رقم (1627) (11/ 83) من حديث عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما -.
(2) انظر: المغني (8/ 470)، الشرح الكبير (17/ 204)، العمل بالخطوط (31)، كشاف القناع (4/ 337)، مطالب أولي النهى (4/ 445).
(3) انظر: المغني (8/ 471)، الفروع (6/ 488)، مسألة العمل بالخطوط (23).
(4) مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود (287)، ورواية إسحاق بن منصور (2/ 397)، المغني (8/ 471)، الشرح الكبير (17/ 205).
(5) انظر: المغني (8/ 471)، الشرح الكبير (17/ 205)، المحرر (1/ 376)، الإنصاف (17/ 205)، مسألة العمل بالخطوط (24).

(2/548)


الأخرى، وجعل فيها وجهين بالنقل والتخريج.
ومنهم مَن منع (1) التخريج، وأقر النصين، وفرق بينهما.
واختار شيخنا التفريق، قال: والفرق (2) أنَّه إذا كتب وصيته، وقال: اشهدوا علي بما فيها، فإنَّهم لا يشهدون، لجواز أن يزيد في الوصية وينقص ويغير، وأمَّا إذا كتب وصيته ثمَّ مات، وعرف أنَّه خطه، فإنَّه يشهد به لزوال هذا المحذور (3).
والحديث المتقدم (4) كالنص في جواز الاعتماد على خط الموصي، وكتبه (5) – صلى الله عليه وسلم – إلى عماله (6) وإلى الملوك (7) وغيرهم تدل على ذلك؛ ولأنَّ الكتابة تدل على المقصود، فهي كالَّلفظ، ولهذا يقع بها الطلاق.
قال القاضي (8): وثبوت الخط في الوصية يتوقف على معاينة البينة أو الحاكم لفعل الكتابة؛ لأنَّها عمل، والشهادة على العمل طريقها
__________
(1) وفي “أ” و”ب”: “امتنع”.
(2) “قال والفرق” ساقطة من “ب”.
(3) انظر: الاختيارات (190)، مجموع الفتاوى (31/ 326)، مسألة العمل بالخطوط (24). وصححه المرداوي في الإنصاف (17/ 205).
(4) يعني حديث: “ما حق إمرئ مسلم له شيء يوصي به” وتقدم تخريجه قريبًا.
(5) “الموصي وكتبه” ساقطة من “ب”.
(6) “إلى عماله” ساقطة من “هـ”.
(7) تقدم تخريجه قريبًا.
(8) أبو يعلى. انظر: كشاف القناع (4/ 337).

(2/549)


الرؤية.
وقول الإمام أحمد: “إن كان قد عرف خطه وكان مشهور الخط، ينفذ ما فيها (1) ” يرد ما قال القاضي، فإنَّ أحمد علَّق الحكم (2) بالمعرفة والشهرة، من غير اعتبار لمعاينة الفعل، وهذا هو الصحيح، فإنَّ القصدَ حصول العلم بنسبة الخط إلى كاتبه، فإذا عرف ذلك وتيقن كان كالعلم بنسبة اللفظ (3) إليه، فإنَّ الخطَّ دالٌّ على الَّلفظ، والَّلفظ دالٌّ على القصد والإرادة، وغاية ما يقدر اشتباه الخطوط، وذلك كما يُفرض من اشتباه الصور والأصوات، وقد جعل الله سبحانه في خط كل كاتب ما يتميز به (4) عن خط غيره كتميز صورته عن صورته وصوته عن صوته (5)، والنَّاسُ يشهدون شهادة لا يستريبون على أنَّ هذا خط فلان، وإن جازت محاكاته ومشابهته فلا بد من فرق، وهذا أمر يختص بالخط العربي، ووقوع الاشتباه والمحاكاة لو كان مانعًا لمنع في الشهادة على الخط عند معاينته إذا غاب عنه، لجواز المحاكاة.
وقد دلَّت الأدلة المتضافرة – التي تقرب من القطع – على قبول
__________
(1) انظر: المغني (8/ 470)، الشرح الكبير (17/ 204)، مسألة العمل بالخطوط (31)، المحرر (2/ 211)، الفروع (6/ 488)، القواعد الكلية لابن عبد الهادي (103)، مطالب أولي النهى (4/ 445)، كشاف القناع (4/ 337).
(2) “علق الحكم” ساقطة من “ب”.
(3) في “ب”: “بنسبة الخط”.
(4) في “ب”: “ما يغيره”.
(5) “صورته عن صورته وصوته عن صوته” ساقطة من “ب”.

(2/550)


شهادة الأعمى فيما طريقه السمع إذا عرف الصوت (1)، مع أنَّ تشابه الأصوات – إن لم يكن أعظم من تشابه الخطوط – فليس دونه (2).
وقد صرَّح أصحاب أحمد (3) والشافعي (4) بأنَّ الوارث إذا وجد في دفتر مورثه: أنَّ لي عند فلان كذا، جازَ له أن يحلف على استحقاقه. وأظنه منصوصًا عنهما (5). وكذلك لو وجد في دفتره: أنِّي أديت إلى فلان ما عليّ، جاز له أن يحلف على ذلك (6) إذا وثق بخط مورثه وأمانته (7).
ولم يزل الخلفاء والقضاة والأمراء والعمال يعتمدون على كتب بعضهم إلى (8) بعض، ولا يشهدون متحملها على ما فيها، ولا
__________
(1) انظر: المغني (14/ 178)، المحرر (2/ 288)، الاختيارات (360)، حاشية ابن عابدين (5/ 504)، الشرح الكبير والإنصاف (29/ 401)، مصنف ابن أبي شيبة (4/ 357)، مصنف عبد الرزاق (8/ 323)، أخبار القضاة (2/ 251)، الذخيرة (10/ 164)، المعونة (3/ 1557).
(2) في “د” و”هـ” و”و”: “بدونه”.
(3) انظر: المغني (14/ 132)، الشرح الكبير (30/ 28)، الفروع (4/ 486)، تصحيح الفروع (4/ 488)، المبدع (10/ 263)، القواعد الكلية لابن عبد الهادي (104)، مسألة العمل بالخطوط (28)، مطالب أولي النهى (4/ 445).
(4) انظر: روضة الطالبين (8/ 244)، المنثور في القواعد (3/ 286)، الغاية في شرح الهداية (1/ 166).
(5) انظر: مسألة العمل بالخطوط (27)، القواعد الكلية لابن عبد الهادي (104).
(6) في “ب” و”و”: “أن يحلف على استحقاقه”.
(7) انظر: المغني (14/ 132)، مسألة العمل بالخطوط (28).
(8) وفي “ب” و”د” و”هـ” و”و”: “على”.

(2/551)


يقرءونها عليه، هذا عمل النَّاس من زمن نبيهم (1) إلى الآن.
قال البخاري في صحيحه (2): “باب الشهادة على الخط، وما يجوز من ذلك وما يضيق منه، وكتاب الحاكم إلى عماله، والقاضي إلى القاضي، وقال بعض النَّاس: كتاب الحاكم جائز إلَّا في الحدود، قال: وإن كان القتل خطأ فهو جائز؛ لأنَّ هذا مال يزعمه، وإنَّما صارَ مالًا بعد أن ثبت القتل، فالخطأ والعمد (3) واحد، وقد كتبَ عمر إلى عُمَّاله في الحدود (4)، وكتب عمر بن عبد العزيز في سن كسرت (5)، وقال إبراهيم: كتاب القاضي إلى القاضي جائز إذا عرف الكتاب والخاتم (6)، وكان الشعبي يجيز الكتاب المختوم بما فيه من القاضي (7)، ويُروى عن ابن عمر نحوه (8)، وقال معاوية بن عبد الكريم
__________
(1) في “ب”: “من زمن متقدم”.
(2) (13/ 150) مع “فتح الباري”.
(3) في “ب”: “والتهمة”.
(4) “وقد كتب عمر إلى عماله في الحدود” ساقطة من “ب”.
والأثر وصله عبد الرزاق (9/ 240). قال الحافظ: “وسندها صحيح” ا. هـ. فتح الباري (13/ 151).
(5) رواه الخلال في كتاب القصاص، وذكر سند الخلال الحافظ في تغليق التعليق (4/ 289)، والعيني في عمدة القاري (20/ 125).
(6) وصله ابن أبي شيبة (4/ 558)، والحافظ ابن حجر بسنده في تغليق التعليق (4/ 289).
(7) وصله ابن أبي شيبة (4/ 558).
(8) قال الحافظ ابن حجر: “لم يقع لي هذا الأثر عن ابن عمر” ا. هـ. فتح الباري (13/ 151)، وقال العيني: “لم يصح هذا، فلذلك ذكره بصيغة =

(2/552)


الثقفي (1): شهدت عبد الملك بن يعلى – قاضي البصرة -، وإياس بن معاوية، والحسن، وثمامة بن عبد الله بن أنس، وبلال بن أبي بردة، وعبد الله بن بريدة (2)، وعامر بن عبيدة (3)، وعباد بن منصور: يجيزون كتب القضاة بغير محضر من الشهود، فإن قال الَّذي جيء عليه بالكتاب: إنَّهُ زور، قيل له: اذهب فالتمس المخرج من ذلك. وأوَّل من سأل على كتاب القاضي البينة: ابن أبي ليلى، وسوار بن عبد الله (4). وقال لنا أبو نعيم (5): حدثنا عبد الله بن محرز (6) قال: جئت بكتاب من موسى بن أنس (7) قاضي البصرة، وأقمت عليه البينة: أنَّ لي عند فلان كذا وكذا – وهو بالكوفة – فجئت به القاسم بن عبد الرحمن (8)
__________
= التمريض” ا. هـ. عمدة القاري (20/ 126).
(1) قال الحافظ: “وصل أثره وكيع في مصنفه” ا. هـ. فتح الباري (13/ 151)، تغليق التعليق (4/ 290). وانظر: عمدة القاري (20/ 126).
(2) “عبد الله بن بريدة” ساقطة من “و”، وفي “ب”: “عبد الله بن أبي بريدة”.
(3) في جميع النسخ: “عبيدة”، وعند البخاري: “عبدة”. وهو عامر بن عبدة البجلي أبو إياس الكوفي، وثقه ابن معين وغيره. انظر: الجرح والتعديل (6/ 327)، تهذيب الكمال (14/ 68)، فتح الباري (13/ 152).
(4) انظر: الأوائل للعسكري.
(5) “أبو” ساقطة من “أ”.
(6) هكذا عبد الله. والصواب: “عبيد الله” كما هو عند البخاري (11/ 150)، وتهذيب الكمال (19/ 147).
(7) موسى بن أنس بن مالك الأنصاري، وثقه ابن معين، مات بعد أخيه النضر – رحمه الله تعالى -. انظر: الجرح والتعديل (8/ 133)، تهذيب الكمال (29/ 30)، تهذيب التهذيب (7/ 299).
(8) القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الهذلي أبو عبد الرحمن، ثقة كثير =

(2/553)


فأجازه، وكره الحسن (1) وأبو قلابة (2) أن يشهد على وصية حتَّى يعلم ما فيها؛ لأنَّه لا يدري، لعلَّ فيها جورًا، وقد كتب النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى أهل خيبر: “إِمَّا أن تَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمَّا أن تؤْذَنُوا بِحَرْبٍ” (3) ا. هـ. كلامه.
وأجاز مالك (4) الشهادة على الخطوط، فروى عنه ابن وهب – في الرجل يقوم يذكر حقًّا قد ماتَ (5) شهوده، ويأتي بشاهدين عدلين على خط كاتب الخط – قال: تجوز شهادتهما على كتاب الكاتب إذا كان عدلًا، مع يمين الطالب. وهو قول ابن القاسم (6).
__________
= الحديث. توفي سنة 120 هـ رحمه الله تعالى -. انظر: الثقات (55/ 303)، تهذيب الكمال (23/ 379).
(1) رواه عنه الدارمي (2/ 514)، ومن طريقه رواه الحافظ ابن حجر في تغليق التعليق (4/ 290).
(2) عبد الله بن زيد بن عمرو أو عامر الجَرْمي أبو قلابة البصري الإمام. توفي سنة 104 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: حلية الأولياء (2/ 282)، طبقات علماء الحديث (1/ 164)، سير أعلام النبلاء (4/ 468).
والأثر رواه ابن أبي شيبة (6/ 221) رقم (30836).
(3) رواه البخاري رقم (7192) (31/ 196) من حديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه.
(4) انظر: الذخيرة (10/ 157)، التفريع (2/ 246)، البيان والتحصيل (9/ 439)، تبصرة الحكام (1/ 446)، تنبيه الحكام (162).
(5) في “ب”: “غاب”.
(6) انظر: فصول الأحكام (223)، الأحكام للمالقي (181)، المنتقى (5/ 202)، منتخب الأحكام (1/ 144)، المفيد للحكام (1/ 282)، البيان والتحصيل (9/ 438)، الذخيرة (10/ 156). وقد ذكر الباجي أنَّ لمالك وأصحابه في الشهادة على الخطوط دون معرفة الشهادة خمسة أقوال. انظر: فصول الأحكام (220)، وذكره القرافي. الذخيرة (10/ 159).

(2/554)


وذكر ابن شعبان (1) عن ابن وهب أنَّه قال: لا آخذ بقول مالك في الشهادة على الخط (2)، وقال الطحاوي: خالف مالك جميع الفقهاء في ذلك (3)، وعدّ قوله شذوذًا (4).
قال ابن الحارث (5): الشهادة على الخط خطأ (6)، ولقد قال مالك في رجل قال: سمعتُ فلانًا يقول: رأيت فلانًا قتل، أو قال: سمعت فلانًا طلَّق امرأته أو قذفها أنَّه لا يشهد على شهادته إلَّا أن يشهده، فالخط أبعد من هذا وأضعف (7).
قال: ولقد قلت لبعض القضاة: أتجوز شهادة الموتى؟ فقال: ما هذا الَّذي تقول؟ فقلت: إنَّكم تجيزون شهادة الرجل بعد موته إذا
__________
(1) محمد بن القاسم بن شعبان بن محمد العَمَّاري المصري، ويُعرف بابن القُرطي أبو إسحاق. توفي سنة 355 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: الديباج المذهب (2/ 194)، ترتيب المدارك (3/ 293)، سير أعلام النبلاء (16/ 78).
(2) انظر: فتح الباري (13/ 155).
(3) “وقال الطحاوي خالف مالك جميع الفقهاء في ذلك” ساقطة من جميع النسخ، وأثبتها من طبعة الشيخ ابن قاسم للكتاب، وقد اعتمد فيه على مخطوطة. وقول الطحاوي لا بُدَّ من إثباته ليستقيم المعنى. وقوله مع زيادة “وعد قوله شذوذًا” موجود في مختصر اختلاف العلماء (3/ 361).
(4) انظر: مختصر اختلاف العلماء للطحاوي (3/ 361).
(5) محمد بن الحارث بن أسد الخشني فقيه مؤرِّخ. توفي سنة 361 هـ – رحمه الله -. انظر: تاريخ رواة العلم: (1400)، شجرة النور الزكية (1/ 94).
(6) “الشهادة على الخط خطأ” ساقطة من جميع النسخ، وأثبتها من طبعة ابن قاسم. وانظر: فتح الباري (13/ 155).
(7) المدونة (5/ 132 و 169).

(2/555)


وجدتم خطه في وثيقة، فسكت (1).
وقال محمد بن عبد الحكم (2): لا يقضى في دهرنا (3) بالشهادة على الخط؛ لأنَّ النَّاس قد أحدثوا ضروبًا من الفجور (4)، وقد قال مالك في النَّاس: تحدث لهم أقضية على نحو ما أحدثوا من الفجور (5)، وقد روى لي نافع (6) عن مالك قال: كان من أمر النَّاس القديم: إجازة
__________
(1) انظر: الذخيرة (10/ 157)، فصول الأحكام (223) حيث نقل عن بعض علماء المالكية أن الشهادة على خطوط الموتى جائزة وبه مضى العمل. ا. هـ. وذكر ابن تيمية رحمه الله قولًا في مذهب الحنابلة أنه يحكم بخط شاهد ميت، وقال: الخط كاللفظ إذا عرف أنه خطه، وقال إنه مذهب جمهور العلماء. ا. هـ. الإنصاف (29/ 23)، المبدع (10/ 109)، مجموع الفتاوى (31/ 326)، الفتاوى الكبرى (4/ 43).
(2) في “أ”: “محمد بن عبد الكريم”، وفي “د” و”و”: “محمد بن الحكم”.
(3) في “أ”: “دارنا”.
(4) انظر: المنتقى (5/ 202)، ومنتخب الأحكام (1/ 145)، الذخيرة (10/ 157)، تنبيه الحكام (162).
(5) نسبه لمالك الهيتمي في الفتاوى الفقهية الكبرى (1/ 200)، وذكر الدسوقي أنَّ مالكًا استحسنه. الشرح الكبير (4/ 174)، والحافظ ابن حجر في الفتح (13/ 155). وأوَّل من قال ذلك فيما أعلم شريح، رواه عنه وكيع (2/ 318)، وابن سعد (6/ 183)، وابن أبي شيبة (4/ 552). ونسبه جملة من العلماء لعمر بن عبد العزيز رحمه الله، كالقرافي في الفروق (4/ 179)، والباجي في المنتقى (6/ 140)، والزركشي في البحر المحيط (1/ 166)، وابن فرحون في التبصرة (2/ 153)، والطرابلسي في معين الحكام (177).
(6) كذا في جميع النسخ. والصواب: “عبد الله بن نافع”. انظر: تنبيه الحكام (165)، تبصرة الحكام (2/ 26). وهو عبد الله بن نافع بن ثابت بن عبد الله بن =

(2/556)


الخواتم، حتَّى إنَّ القاضي ليكتب للرجل الكتاب فما يزيد على ختمه، فيعمل به (1)، حتَّى اتهم النَّاس، فصار لا يقبل إلَّا بشاهدين (2). ا. هـ.

واختلف الفقهاء فيما إذا أشهد القاضي شاهدين على كتابه، ولم يقرأه عليهما ولا عرفهما بما فيه.
فقال مالك (3): يجوز ذلك، ويلزم القاضي المكتوب إليه قبوله، ويقول الشاهدان: إنَّ هذا كتابه دفعه إلينا مختومًا، وهذه إحدى الروايتين عن الإمام أحمد (4).
وقال أبو حنيفة (5) والشافعي (6)
__________
= الزبير القرشي أبو بكر الفقيه، صاحب الإمام مالك. توفي سنة 216 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: الديباج المذهب (1/ 411)، سير أعلام النبلاء (10/ 374)، شجرة النور (1/ 56).
(1) “حتَّى إنَّ القاضي ليكتب للرجل الكتاب فما يزيد على ختمه فيعمل به” ساقطة من “ب”.
(2) انظر: الذخيرة (10/ 157)، تنبيه الحكام (162)، البيان والتحصيل (9/ 439)، تبصرة الحكام (2/ 26)، المنتقى (5/ 202)، منتخب الأحكام (1/ 145).
(3) انظر: تنبيه الحكام (154)، تبصرة الحكام (2/ 25)، الذخيرة (10/ 104 و 107)، الكافي (500)، المعونة (3/ 1555)، القوانين (322).
(4) انظر: المحرر (2/ 212)، المغني (14/ 79)، الفروع (6/ 500)، شرح الزركشي (7/ 281 – 282).
(5) انظر: المبسوط (16/ 95)، بدائع الصنائع (7/ 7)، مختصر القدوري (226)، روضة القضاة (1/ 332 و 339)، شرح أدب القاضي للصدر الشهيد (3/ 286)، عمدة القاري (20/ 127).
(6) انظر: مختصر المزني “مع الأم” (9/ 317)، التنبيه (256)، أدب القضاء =

(2/557)


وأبو ثور (1): إذا لم يقرأه عليهما القاضي لم يعمل القاضي المكتوب إليه بما فيه. وهو إحدى الروايتين عن مالك (2).
وحجتهم أنَّه لا يجوز أن يشهد الشاهد (3) إلَّا بما يعلم.
وأجاب الآخرون بأنَّهما لم يشهدا بما تضمنه، وإنَّما شهدا بأنَّه كتاب القاضي، وذلك معلومٌ لهما (4)، والسنة الصريحة تدل على صحة ذلك (5)، وتغيُّر أحوال (6) النَّاس وفسادها يقتضي العمل بالقول الآخر، وقد يثبت عند القاضي من أمور النَّاس ما لا يحسن أن يطلع عليه كل أحد، مثل الوصايا التي يتخوف (7) النَّاس فيها، ولهذا يجوز عند مالك (8) وأحمد (9) – في إحدى الروايتين – أن يشهدا على الوصية
__________
= لابن أبي الدم (460 – 467 – 470)، فتح الباري (13/ 155).
(1) انظر: المغني (14/ 79)، عمدة القاري (20/ 127)، أدب القضاء لابن أبي الدم (460).
(2) انظر: الكافي (499)، المعونة (3/ 1555)، التفريع (2/ 246)، القوانين (322)، تبصرة الحكام (2/ 25)، تنبيه الحكام (154).
(3) “الشاهد” مثبتة من “أ”.
(4) انظر: بدائع الصنائع (7/ 7).
(5) حيث كتب عليه الصلاة والسلام لكسرى وقيصر، ولم يقرأ الكتاب على الرسول. وقد تقدم تخريج ذلك ص (548).
(6) “أحوال” ساقطة من “أ”.
(7) وفي “جـ”: “يتخون”.
(8) انظر: المدونة (6/ 13)، البيان والتحصيل (13/ 18 و 74).
(9) انظر: المحرر (1/ 376)، المقنع (334)، المبدع (10/ 108)، الشرح الكبير (29/ 21)، الإنصاف (29/ 18).

(2/558)


المختومة، ويجوز عند مالك (1) أن يشهدا على الكتاب المدرج، ويقولا للحاكم: نشهد على إقراره بما في هذا الكتاب، وإن لم يعلما بما أقر، والجمهور (2) لا يجيزون الحكم بذلك.
وقال المانعون من العمل بالخطوط: الخطوط قابلة للمشابهة والمحاكاة، وهل كانت قصَّة (3) عثمان ومقتله إلَّا بسبب الخط؟ (4) فإنَّهم صنعوا مثل خاتمه، وكتبوا مثل كتابه، حتَّى جرى ما جرى، ولذلك قال الشعبي: لا تشهد أبدًا إلَّا على شيء تذكره، فإنَّه من شاء انتقش خاتمًا، ومن شاء كتب كتابًا (5).
قالوا: وأمَّا ما ذكرتم من الآثار فنعم، وها هنا أمثالها، ولكن كان
__________
(1) انظر: البيان والتحصيل (13/ 74)، فصول الأحكام (220)، الكافي (500)، الذخيرة (10/ 104)، المعونة (3/ 1555)، القوانين (322)، تبصرة الحكام (25)، تنبيه الحكام (154).
(2) انظر: المبسوط (16/ 95)، بدائع الصنائع (7/ 7)، مختصر القدوري (226)، روضة القضاة (1/ 332)، شرح أدب القاضي للصدر الشهيد (3/ 286)، مختصر المزني (9/ 317)، التنبيه (256)، أدب القضاء لابن أبي الدم (460)، فتح الباري (13/ 155)، المغني (14/ 79)، المحرر (2/ 212)، الفروع (6/ 500)، الشرح الكبير (29/ 21)، الإنصاف (29/ 18).
(3) في “و”: “قضية”.
(4) انظر: التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان (133)، الإصابة (2/ 459)، المنتظم (5/ 57).
(5) انظر: فتح الباري (13/ 154).

(2/559)


ذاك إذ النَّاس ناس، وأمَّا الآن فكلا ولما (1)، وإذا كان الأمر قد تغير في زمن مالك وابن أبي ليلى، حتَّى قال مالك: كان من أمرِ النَّاس القديم إجازة الخواتم، حتَّى إنَّ القاضي ليكتب للرجل الكتاب، فما يزيد (2) على ختمه، حتَّى اتهم النَّاس، فصار لا يقبل إلَّا بشاهدين (3).
وقال محمد بن عبد الحكم (4): لا يقضى في دهرنا هذا بالشهادة على الخط؛ لأنَّ النَّاسَ قد أحدثوا ضروبًا من الفجور، وقد كان النَّاسُ فيما مضى يجيزون الشهادة على خاتم كتاب القاضي (5)
فإن قيل: فما تقولون في الدَّابة يوجد على فخذها “صدقة” أو “وقف” أو “حبس” هل للحاكم أن يحكم بذلك؟
قيل: نعم، له أن يحكم به، وصرَّح به أصحاب مالك (6)، فإنَّ هذه أمارة ظاهرة، ولعلها أقوى من شهادة الشاهد (7)، وقد ثبتَ في
__________
(1) في “و”: “فكلا ولا”.
(2) في “ب” و”جـ” و”د” و”هـ” و”و”: “فلم يزد”.
(3) في جميع النسخ عدا “أ”: “إلَّا شاهدان”.
انظر: المنتقى (5/ 202)، تنبيه الحكام (162)، تبصرة الحكام (2/ 165)، الذخيرة (10/ 100).
(4) في “ب”: “عبد الحكيم”.
(5) انظر: تنبيه الحكام (162)، المنتقى (5/ 202)، فتح الباري (13/ 155).
(6) انظر: البيان والتحصيل (2/ 597)، والذخيرة (10/ 161)، فصول الأحكام (223)، تبصرة الحكام (2/ 127 و 131)، وانظر من كتب الحنابلة: الروض المربع (3/ 432)، منتهى الإرادات مع حاشية النجدي (5/ 376)، التنقيح المشبع (431).
(7) في “أ”: “الشاهدين”.

(2/560)


“الصحيحين” (1) من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: “غَدَوْتُ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – بعَبْدِ اللهِ بن أَبِي طَلْحَةَ لِيُحَنَّكَهُ (2)، فوافيته في يَدِهِ المِيْسَمُ (3) يَسِمُ إِبِلَ الصَّدَقَةِ”، وللإمام أحمد (4) عنه: “دخلتُ على النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو يَسِمُ غَنَمًا في آذانها”.
وروى مالكٌ في “الموطأ” (5) عن زيد بن أسلم عن أبيه أنَّه قال لعمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: “إنَّ في الظهر ناقة عمياء، فقال عمر: ادفعها إلى أهل بيت ينتفعون بها، قال: فقلت: هي عمياء، فقال عمر (6): يقطرونها بالإبل (7)، قال: فقلت: كيف تأكل من الأرض؟ قال: فقال عمر: أَمِنْ نَعَمِ الجزية هي أَمِ مِنْ نعم الصدقة؟ فقلت: مِنْ
__________
(1) البخاري في الزكاة باب وسم الإمام إبل الصدقة بيده رقم (1502) (3/ 429)، ومسلم في اللباس والزينة باب جواز وسم الحيوان رقم (2119) (14/ 346).
(2) التحنيك: مضغ الشيء ووضعه في فم الصبي ودلك حنكه به. فتح الباري (9/ 501).
(3) الميسم بوزن مفعل مكسور الأوَّل وهي الحديدة التي يوسم بها أي يعلم وهو نظير الخاتم. فتح الباري (3/ 429).
(4) المسند (3/ 169)، وقد أخرجه مسلم رقم (2119) مكرر (14/ 345) ونحوه عند البخاري رقم (5542) (5/ 588) من حديث أنس رضي الله عنه.
(5) الموطأ (1/ 279)، ومن طريقه رواه الشافعي في الأم (2/ 105)، والبيهقي (7/ 55).
(6) قوله: “ادفعها إلى أهل بيت” إلى قوله “تأكل من الأرض قال فقال عمر” ساقطة من “أ”.
(7) وهو أن تشد الإبل على نسق واحدًا خلف واحد. النهاية (4/ 80).

(2/561)


نَعَمِ الجزية، فقال عمر: أردتم والله (1) أكلها؛ قلت: إنَّ عليها وسم الجزية”، ولولا أنَّ الوسم يميز الصدقة من غيرها، ويشهد لما هو وسم عليه؛ لم تكن فيه فائدة بل لا فائدة للوسم إلَّا ذلك؛ ومن لم يعتبر الوسم فلا فائدة فيه عنده (2).
فإن قيل: فما تقولون في الدَّارِ يوجد على بابها أو حائطها الحجر مكتوب فيه “إنَّها وقف” أو “مسجد” هل يحكم بذلك؟
قيل: نعم؛ يقضى به، ويصير وقفًا؛ صرَّح به بعض أصحابنا (3)؛ وممَّن ذكره الحارثي (4) في “شرحه” (5)
فإن قيل: يجوز أن ينقل الحجر إلى ذلك الموضع؟
قيل: جواز ذلك كجواز كذب الشاهدين؛ بل هذا أقرب؛ لأنَّ الحجرَ يشاهد جزءًا من الحائط داخلًا فيه، ليس عليه شيء من أمارات النقل؛ بل يقطع غالبًا بأنَّه بني مع الدَّار، ولا سيما حجر عظيم، وضع
__________
(1) “والله” مثبتة من “جـ”.
(2) “بل لا فائدة للوسم إلَّا ذلك ومن لم يعتبر الوسم فلا فائدة فيه عنده” ساقطة من “أ”.
(3) انظر: كشاف القناع (6/ 437)، مطالب أولي النهى (6/ 635)، حاشية اللبدي على نيل المآرب (475).
(4) مسعود بن أحمد بن مسعود الحارثي أبو محمد، شرح قطعة من سنن أبي داود وقطعة من كتاب المقنع، توفي سنة 711 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: البداية والنهاية (18/ 119)، شذرات الذهب (8/ 53)، الدرر الكامنة (5/ 116).
(5) أي شرح المقنع ولم أره مطبوعًا.

(2/562)


عليه الحائط، بحيث يتعذَّر وضعه بعد البناء، فهذا أقوى من شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين.
فإن قيل: فما تقولون في كتب العلم يوجد على ظهرها (1) وهوامشها (2) كتابة الوقف، هل للحاكم أن يحكم بكونها وقفًا بذلك؟
قيل (3): هذا يختلف باختلاف قرائن الأحوال، فإذا رأينا كتبًا مودعة في خزانة (4)، وعليها كتابة “الوقف” وهي كذلك مدَّة متطاولة، وقد اشتهرت بذلك لم نسترب في كونها وقفًا (5)؛ وحكمها حكم المدرسة التي عهدت لذلك؛ وانقطعت كتب وقفها أو فقدت، ولكن يعلم النَّاس على تطاول المدة كونها وقفًا، فتكفي في ذلك الاستفاضة، فإنَّ الوقف يثبت بالاستفاضة، وكذلك مصرفه، وأمَّا إذا رأينا كتابًا لا نعلم مقره ولا عرف من كتب عليه الوقف (6)، فهذا يوجب التوقف في أمره، حتَّى يتبين حاله.
والمعول (7) في ذلك على القرائن، فإن قويت حكم بموجبها، وإن
__________
(1) في “د” و”هـ” و”و”: “ظهورها”.
(2) في “أ”: “وحواشيها”.
(3) انظر: التنقيح المشبع (431)، كشاف القناع (6/ 438)، منتهى الإرادات مع حاشية النجدي (5/ 376)، مطالب أولي النهى (6/ 636)، حاشية العنقري على الروض (3/ 433)، تبصرة الحكام (2/ 130)، معين الحكام (167).
(4) في “ب” و”جـ”: “جراب”.
(5) “لم نسترب في كونها وقفًا” ساقطة من “ب”.
(6) في “أ”: “الوقفية”.
(7) في “ب”: “القول”.

(2/563)


ضعفت لم يلتفت إليها، وإن توسطت طلب الاستظهار، وسلك طريق الاحتياط، وبالله التوفيق.
وقد قال أصحاب مالك (1) – في الرجلين يتنازعان في حائط – فينظر إلى عقده، أو من له عليه خشب أو سقف، وما أشبه ذلك ممَّا يرى بالعين يقضى به لصاحبه، ولا يكلف الطالب البينة، وكذلك القنوات التي تشق الدور والبيوت إلى مستقرها إذا سدَّها الَّذي تشق داره، وأنكر أن يكون عليها مجرى لأحدٍ، فإذا نظروا إلى القناة التي تشق داره، وشهدوا بذلك عند القاضي، ولم يكن عنده في شهادة الشهود الَّذين وجههم لذلك مدفع (2): ألزمه (3) مرور القناة على داره، ونهي عن سدها، ومنع منه.
قالوا (4): فإذا نظروا في القناة تشق داره إلى مستقرها – وهي قناة قديمة، والبنيان فيها ظاهر، حتَّى تصب في مستقره – فللحاكم أن يلزمه مرور القناة، كما وجدت في داره.
قال ابن القاسم فيما رواه ابن عبد الحكم عنه: إذا اختلفَ الرجلان في جدار بين داريهما – كلٌّ يدعيه – فإن كان عقد بنائه إليهما فهو بينهما، وإن كان معقودًا إلى أحدهما ومنقطعًا عن الآخر فهو إلى من
__________
(1) انظر: الرسالة (248)، الفروق (4/ 103)، تبصرة الحكام (2/ 123)، تهذيب الفروق (4/ 167).
(2) “مدفع” ساقطة من “هـ”.
(3) وفي جميع النسخ عدا “أ”: “ألزموه”.
(4) “قالوا”: ساقطة من “أ”.

(2/564)


إليه العقد، وإن كان منقطعًا منهما (1) جميعًا فهو بينهما، وإن كان لأحدهما فيه كُوىً، ولا شيء للآخر فيه، وليس بمنعقد إلى واحد منهما، فهو إلى من إليه (2) مرافقه، وإن كانت فيه كوى لكليهما فهو بينهما، وإن كانت لأحدهما عليه خُشُب، ولا عقد فيه لواحدٍ منهما، فهو لمن له عليه الحمل فإن كان عليه حمل لهما جميعًا فهو بينهما (3).
والمقصود: أنَّ الكتابة على الحجارة والحيوان وكتب العلم أقوى من هذه الأمارات بكثير، فهي أولى أن يثبت بها حكم تلك الكتابة، ولا سيما عند عدم المعارض، وأمَّا إذا عارضَ ذلك بينةٌ لا تتهم، ولا تستند إلى مجرَّد التبديل فذكر سبب الملك واستمراره (4)، فإنَّها تقدم على هذه الأمارات.
وأمَّا إن عارضها (5) مجرد اليد: لم يلتفت إليها، فإنَّ هذه الأمارات بمنزلة البينة والشاهد، واليد ترفع بذلك.

فصل
ومما يلحق بهذا الباب: شهادة الرهن بقدر الدين، إذا اختلف
__________
(1) في “ب”: “إليها”، وفي “هـ”: “بينهما”.
(2) من قوله “وإن كان منقطعًا” إلى قوله “فهو إلى من إليه” ساقطة من “و”.
(3) انظر: تبصرة الحكام (2/ 133 – 134) الإتقان والإحكام في شرح تحفة الأحكام “شرح ميارة” (2/ 249).
(4) وفي “ب” و”د” و”و”: “التبديل بسبب الملك والاستزادة”، وفي “هـ”: “ولا يستند إلى مجرد اليد بل يثبت الملك والاستزادة”. ولعل الصواب: فذكرت.
(5) في “أ” و”ب” و”و”: “إذا عارضتها”.

(2/565)


الراهن والمرتهن في قدره؛ فالقول قول المرتهن مع يمينه، ما لم يدع أكثر من قيمة الرهن، عند مالك وأهل المدينة (1)، وخالفه الأكثرون (2). ومذهبه أرجح، واختاره شيخنا (3) – رحمه الله -.
وحجته: أن الله – سبحانه وتعالى – جعل الرهن بدلًا من الكتاب والشهود يحفظ به الحق، فلو لم يقبل قول المرتهن، وكان القول قول الرَّاهن، لم تكن في الرهن فائدة، وكان وجوده كعدمه إلَّا في موضعٍ واحد، وهو تقديم المرتهن بدينه على الغرماء الَّذين ديونهم بغير رهن، ومعلومٌ أنَّ الرَّهن لم يشرع لمجرد هذه الفائدة وإنَّما ذكره (4) الله سبحانه في القرآن العظيم قائمًا مقام الكتاب والشهود، فهو شاهد بقدر الحق، وليس في العرف أن يرهن الرجل ما يساوي ألف دينار على درهم، ومن
__________
(1) انظر: الموطأ (732)، المدونة (5/ 323)، الاستذكار (22/ 110)، المنتقى (5/ 260)، التفريع (2/ 264)، التلقين (419)، القوانين (335)، تبصرة الحكام (2/ 88)، تفسير القرطبي (3/ 388).
(2) انظر: المبسوط (21/ 86)، روضة القضاة (1/ 423)، مختصر اختلاف العلماء (4/ 307)، بدائع الصنائع (6/ 174)، مختصر المزني (9/ 108)، روضة الطالبين (3/ 349)، فتح الباري (5/ 173)، المقنع والشرح الكبير والإنصاف (12/ 477)، الهداية (1/ 152)، المغني (6/ 525)، الكافي (2/ 162)، الفروع (4/ 227)، شرح منتهى الإرادات (2/ 118)، مطالب أولي النهى (2/ 118)، كشاف القناع (3/ 352)، حلية العلماء (4/ 465)، الحاوي الكبير (6/ 192).
(3) انظر: الفتاوى الكبرى (4/ 478)، الاختيارات (133)، إغاثة اللهفان (2/ 470).
(4) في “و”: “جعله”.

(2/566)


يقول: “القول قول الرَّاهن” يقبل قوله: إنَّه رهنه على ثمن درهم أو أقل، وهذا ممَّا يشهد العرف ببطلانه.
والَّذين جعلوا القول قول الرَّاهن (1) ألزموا منازعيهم بأنَّهما لو اختلفا في أصل الرهن لكان القولُ قول المالك، فكذلك في قدر الدَّين.
وفرَّق الآخرون بين المسألتين بأنَّه قد ثبت تعلق الحق به في مسألة النزاع، والرهن شاهد المرتهن، فمعه ما يصدقه، بخلاف مسألة (2) الإلزام (3).
__________
(1) من قوله “يقبل قوله إنَّه رهنه” إلى قوله “والَّذين جعلوا القول قول الرَّاهن” ساقطة من “و”.
(2) “مسألة” ساقطة من “هـ”.
(3) انظر: المنتقى (5/ 260).

(2/567)


فصل

الطريق الرَّابع والعشرون: العلامات (1) الظاهرة.
وقد تقدمت في أوَّل الكتاب، ونزيد ها هنا: أنَّ (2) أصحابنا (3) وغيرهم (4) فرَّقوا بين الركاز واللقطة بالعلامات.
فقالوا: الركاز ما دفنته الجاهلية، ويعتبر ذلك برؤية (5) علاماتهم عليه، كأسماء ملوكهم وصورهم وصلبهم، فأمَّا ما عليه علامات المسلمين – كأسمائهم (6) أو القرآن ونحوه – فهو لقطة؛ لأنَّه ملك مسلم لم يعلم زواله عنه، وكذلك إن كان على بعضه علامة الإسلام، وعلى بعضه علامات (7) الكفار؛ لأنَّ الظاهر أنَّه صار لمسلم فدفنه، وما لا
__________
(1) في “و”: “العلامة”.
(2) “وقد تقدمت في أوَّل الكتاب ونزيد ها هنا أن” ساقطة من “و”.
(3) انظر: المغني (4/ 232)، الكافي (1/ 314)، المحرر (1/ 222)، شرح منتهى الإرادات (1/ 426)، كشاف القناع (2/ 288)، المبدع (2/ 363)، مطالب أولي النهى (2/ 82).
(4) انظر: بدائع الصنائع (2/ 65)، فتح القدير (2/ 237) (185) تبيين الحقائق (1/ 290)، حاشية ابن عابدين (2/ 322)، معين الحكام (166)، الذخيرة (3/ 69)، تبصرة الحكام (2/ 122)، المجموع (6/ 65)، قواعد الأحكام (2/ 114)، حلية العلماء (3/ 99)، تهذيب الفروق (4/ 167)، الفروع (2/ 372).
(5) “برؤية” ساقطة من “ب”.
(6) في “أ”: “كأسماء ملوكهم”.
(7) في “هـ” و”و”: “علامة”.

(2/568)


علامة عليه فهو لقطة، تغليبًا لحكم الإسلام.
ومنها: أنَّ اللقيط لو ادعاه اثنان، ووصف أحدهما علامة مستورة في جسده: قدم بذلك، وحكم له، وهذا مذهب أحمد (1) وأبي حنيفة (2).
وقال الشافعي (3): لا يحكم بذلك، كما لو ادعيا عينًا سواه، ووصف أحدهما فيها علامات خفية.
والمرجحون له بذلك فرَّقوا بينهما بأنَّ ذلك نوع التقاط، فقدم بالصفة، كلقطة المال، وقد دلَّ عليها النص الصحيح الصريح (4)، وقياس اللقيط على لقطة المال أولى من قياسه على دعوى غيره من الأعيان، على أنَّ في دعوى العين إذا وصفها أحدهما بما يدلُّ ظاهرًا على صدقه نظرًا.
وقياس المذهب في مسألة تداعي الزوجين ترجيح الواصف إذًا (5)
__________
(1) انظر: المغني (8/ 379)، قواعد ابن رجب (2/ 386)، إعلام الموقعين (2/ 366)، الشرح الكبير (16/ 307)، الفروع (4/ 578)، المقنع (160)، معونة أولي النهى (5/ 698)، الإنصاف (16/ 307).
(2) مختصر القدوري (134)، بدائع الصنائع (6/ 253)، البحر الرائق (5/ 245)، أحكام القرآن للجصاص (3/ 221)، المبسوط (17/ 129)، تبيين الحقائق (3/ 299).
(3) انظر: روضة الطالبين (4/ 508)، أسنى المطالب (4/ 432).
(4) سيأتي تخريجه قريبًا.
(5) “إذًا” ساقطة من “أ”.
انظر: الهداية (2/ 141)، التذكرة (366)، الجامع الصغير (379)، =

(2/569)


وقد جرى لنا نظير هذه المسألة سواء، وهو أنَّ رجلين تداعيا صرَّة فيها دراهم، فسأل ولي الأمر أحدهما (1) عن صفتها، فوصفها بصفاتٍ خفية، فسأل الآخر، فوصفها بصفات أخرى، فلما اختبرت (2) طابقت صفات الأوَّل لها، وظهر كذب الآخر، فعلم ولي الأمر والحاضرون (3) صدقه في دعواه وكذب صاحبه، فدفعها إلى الصادق.
وهذا قد يقوى بحيث يفيد القطع، وقد يضعف، وقد يتوسط.

ومنها: وجوب دفع اللقطة إلى واصفها، قال أحمد – في رواية حرب -: إذا جاء صاحبها فعرف الوكاء والعفاص فإنَّها ترد عليه (4) بلا بينة (5)، ولا نذهب إلى قول الشافعي: ولا ترد عليه إلَّا ببينة (6).
__________
= المحرر (2/ 220)، المغني (14/ 333)، مجموع الفتاوى (34/ 81)، زاد المعاد (3/ 147)، بدائع الفوائد (1/ 17)، الفروع (6/ 518)، المبدع (10/ 153)، قواعد ابن رجب (3/ 109).
(1) في “أ”: “تحليف أحدهما”.
(2) وفي “ب” و”و”: “اعتبرت”.
(3) في “ب”: “الآخرون”.
(4) انظر: مسائل الإمام أحمد رواية صالح (1/ 293)، الهداية (1/ 203)، إعلام الموقعين (2/ 366)، قواعد ابن رجب (2/ 386)، جامع العلوم والحكم (2/ 241)، رؤوس المسائل (3/ 1086)، مطالب أولي النهى (4/ 234)، شرح منتهى الإرادات (2/ 384)، كشاف القناع (4/ 222)، العدة (355).
(5) “بلا بينة” ساقطة من جميع النسخ عدا “ب”.
(6) “ولا نذهب إلى قول الشافعي: ولا ترد عليه إلَّا ببينة” ساقطة من “ب”.
انظر: مختصر المزني (9/ 148)، التنبيه (132)، التهذيب (4/ 554)، روضة الطالبين (4/ 477)، الوجيز (644).

(2/570)


وقال ابن مشيش: إن جاء رجل فادعى اللقطة وأعطاه علامتها، تدفع إليه؟ قال: نعم، وقال: إذا جاء بعلامة عفاصها ووكائها وعددها فليس في قلبي منه شيء.

ونصَّ أيضًا على المتكاريين يختلفان في دفين في الدَّار، كل واحد منهما يدعيه فمن أصاب الوصف كان له (1)، وبذلك قال مالك (2) وإسحاق (3) وأبو عبيد.
وقال أبو حنيفة (4) والشافعي (5): إن غلب على ظن الملتقط صدقه جاز الدفع، ولم يجب، وإن لم يغلب لم يجز؛ لأنَّه مدع، وعليه البينة.
والصحيح: الأوَّل، لما روى مسلم في صحيحه (6) من حديث أُبيًّ – فذكر الحديث – وفيه: “فَإِنْ جَاءَكَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بعَدَدِهَا وَوِعَائِهَا وَوِكَائِهَا فَأعْطِهَا إيَّاهُ”، وفي حديث زيد بن خالد: “فإن جاءَ صَاحِبُهَا
__________
(1) انظر: المغني (8/ 321)، قواعد ابن رجب (2/ 387).
(2) انظر: شرح مختصر خليل للخرشي (2/ 211)، حاشية الدسوقي (2/ 99).
(3) “وإسحاق” ساقطة من “ب”.
(4) انظر: مختصر القدوري (136)، المختار للفتوى (157)، مختصر اختلاف العلماء (4/ 343)، الهداية شرح بداية المبتدي (6/ 129)، فتح القدير (6/ 129)، شرح العناية على الهداية (6/ 129).
(5) انظر: مختصر المزني (9/ 148)، التنبيه (132)، التهذيب (4/ 554)، روضة الطالبين (4/ 477)، الوجيز (644).
(6) كتاب اللقطة رقم (1723) (12/ 267 و 270)، ونحوه عند البخاري (2438) =

(2/571)


فَعَرَّفَ عِفَاصَهَا وَعَدَدهَا وَوِكَاءَهَا فَأعطِهَا إِيَّاهُ” (1)، والأمر للوجوب، والوصف بينة ظاهرة، فإنَّها من البيان، وهو الكشف والإيضاح، والمراد بها وضوح حجة الدعوى وانكشافها، وهو موجود في الوصف.
__________
= (5/ 112).
(1) البخاري رقم (2438) (5/ 112)، ومسلم رقم (1722) (12/ 266) مكرر رقم (6).

(2/572)


فصل

الطريق الخامس والعشرون: الحكم بالقرعة.
وقد تقدَّم الكلام عليها مستوفى، والحجة في إثباتها (1)، وأنَّها أقوى من كثير من الطرق التي يحكم بها من أبطلها، كمعاقد القمط في الخص، ووجوه الآجر ونحو ذلك، وأقوى من الحكم بكون الزوجة فراشًا بمجرد العقد، وإن علم قطعًا عدم اجتماعهما، وأقوى من الحكم بالنكول المجرد (2).

فصل

الطريق السادس والعشرون: الحكم بالقافة.
وقد دلَّ عليها سنَّة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (3)، وعمل خلفائه الرَّاشدين والصحابة من بعدهم، منهم عمر بن الخطاب (4)، وعلي بن أبي
__________
(1) “وقد تقدم الكلام عليها مستوفى والحجة في إثباتها” ساقطة من “و”. ولعل إسقاطها هو الصواب، لأنه لم يتقدم للمصنف كلام على القرعة وإنما سيأتي في آخر الكتاب.
(2) سيأتي مزيد تفصيل لأحكام القرعة ص (740).
(3) سيذكر المؤلَّف لفظ الحديث قريبًا.
(4) رواه مالك (2/ 740)، وعبد الرزاق (7/ 360 و 361)، والشافعي في الأم (6/ 346)، والبيهقي (10/ 444) وفي المعرفة (14/ 370)، والطحاوي في شرح المعاني (4/ 162).

(2/573)


طالب (1)، وأبي موسى الأشعري (2)، وابن عباس (3)، وأنس بن مالك (4) – رضي الله عنهم – ولا مخالف لهم في الصحابة، وقال بها من التابعين: سعيد بن المسيب (5)، وعطاء بن أبي رباح (6)، والزهري (7)، وإياس بن معاوية (8)، وقتادة (9)، وكعب بن سور (10)، ومن تابعي التابعين: الليث بن سعد (11)، ومالك بن أنس وأصحابه (12)، ومِمَّن بعدهم: الشافعي وأصحابه (13)، وأحمد
__________
(1) رواه عبد الرزاق (7/ 360)، والبيهقي (10/ 452).
(2) رواه عبد الرزاق (7/ 361)، والبيهقي (10/ 477).
(3) رواه عبد الرزاق (7/ 448)، وابن حزم بسنده. المحلَّى (10/ 149).
(4) رواه ابن أبي شيبة (4/ 33)، والشافعي في الأم (6/ 346)، والبيهقي (10/ 447).
(5) رواه عبد الرزاق (7/ 355 و 356).
(6) رواه عبد الرزاق (7/ 131)، وانظر: المغني (8/ 371)، الشرح الكبير (16/ 336).
(7) رواه عبد الرزاق (7/ 219 و 356 و 361).
(8) رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (10/ 32)، ووكيع في أخبار القضاة (1/ 362)، وانظر: تهذيب الكمال (3/ 328)، البداية والنهاية (13/ 125).
(9) رواه عبد الرزاق (7/ 356).
(10) رواه عبد الرزاق (7/ 362)، ووكيع في أخبار القضاة (1/ 280).
(11) انظر: المغني (8/ 371)، الشرح الكبير (16/ 336).
(12) انظر: المدونة (3/ 146 و 339)، تفسير القرطبي (10/ 259)، الفروق (3/ 125) و (4/ 99)، شرح مسلم للأبي (5/ 150)، الكافي (484)، بلغة السالك (4/ 570)، تبصرة الحكام (2/ 114)، المنتقى (6/ 12).
(13) انظر: الأم (6/ 344)، مغني المحتاج (4/ 488)، ونهاية المحتاج (8/ 375)، =

(2/574)


وأصحابه (1)، وإسحاق، وأبو ثور (2)، وأهل الظاهر كلهم (3).
وبالجملة: فهذا قول جمهور الأُمَّة.
وخالفهم في ذلك أبو حنيفة وأصحابه (4)، وقالوا: العمل بها تعويل على مجرد الشبه، وقد يقع بين الأجانب، وينتفي بين الأقارب.
وقد دلت على اعتبارها سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، قالت عائشة – رضي الله عنها -: “دخل علي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو مسرور تبرق أسارير وجهه (5)، فقال: أي عائشة ألم تري أن مجززًا المدلجي دخل، فرأى
__________
= روضة الطالبين (8/ 375)، طرح التثريب (7/ 127)، الأشباه والنظائر للسيوطي (42)، حاشيتا قليوبي وعميرة (4/ 350)، وتحفة المحتاج (10/ 348).
(1) انظر: مسائل صالح (1/ 289)، المحرر (2/ 110)، المغني (8/ 371)، الشرح الكبير (16/ 336)، الفروع (5/ 519 و 521)، إعلام الموقعين (2/ 355)، تصحيح الفروع (5/ 523)، شرح منتهى الإرادات (2/ 394)، كشاف القناع (4/ 236) و (5/ 405).
(2) انظر: المغني (8/ 371)، الشرح الكبير (16/ 336).
(3) انظر: المحلَّى (9/ 435).
(4) انظر: المبسوط (17/ 70)، بدائع الصنائع (6/ 244)، رؤوس المسائل (537)، الحجة (3/ 430)، لسان الحكام (1/ 345)، شرح معاني الآثار (4/ 160)، العناية (5/ 50)، فتح القدير (5/ 51)، مجمع الأنهر (1/ 537).
(5) الأسارير: الخطوط التي تكون بالجبهة. شرح الأبي لصحيح مسلم (5/ 148)، ومكمل إكمال الإكمال (5/ 148)، شرح النووي لمسلم (10/ 593).

(2/575)


أسامة وزيدًا وعليهما قطيفة، قد غطيا رؤوسهما (1)، وبدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض” (2). وفي لفظ: دخل قائف والنبي – صلى الله عليه وسلم – ساجد (3)، وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة مضطجعان، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فسر بذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – وأخبر به عائشة” (4) متفق عليهما، وذلك يدل على أن إلحاق القافة يفيد النسب، لسرور النبي – صلى الله عليه وسلم – به، وهو لا يسر بباطل (5)
فإن قيل: النسب كان ثابتًا بالفراش، فسر النبي – صلى الله عليه وسلم – بموافقة قول القائف للفراش (6)، لا أنه أثبت النسب بقوله (7).
قيل: نعم، النسب كان ثابتًا بالفراش (8)، وكان الناس يقدحون في نسبه، لكونه أسود وأبوه أبيض (9)، فلما شهد القائف بأن تلك الأقدام
__________
(1) في “ب”: “علت على رؤوسهما”.
(2) البخاري رقم (6771) (12/ 57)، ومسلم رقم (1459) مكرر (10/ 294) من حديث عائشة – رضي الله عنها -.
(3) هكذا “ساجد”. والصواب “شاهد”، انظر: صحيح مسلم (10/ 294).
(4) سبق تخريجه قريبًا واللفظ لمسلم رقم (1459) مكرر.
(5) انظر: المحلَّى (9/ 435)، عارضة الأحوذي (8/ 291)، شرح الأبي لمسلم (5/ 150)، فتح الباري (12/ 58)، تهذيب الفروق (4/ 165)، حاشية السندي على النسائي (6/ 185).
(6) في “ب”: “للقرائن”.
(7) انظر: المبسوط (17/ 70)، عمدة القاري (19/ 242)، شرح الأبي لمسلم (5/ 150).
(8) في “ب”: “للقرائن”.
(9) انظر: المنتقى للمجد ابن تيمية (6/ 335) مع “نيل الأوطار”، مختصر سنن =

(2/576)


بعضها من بعض سر النبي – صلى الله عليه وسلم – بتلك الشهادة التي أزالت التهمة. حتى برقت أسارير وجهه من السرور.
ومن لا يعتبر القافة يقول: هي من أحكام الجاهلية (1)، ولم يكن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليسر بها، بل كانت أكره شيء إليه (2)، ولو كانت باطلة لم يقل: “ألم تري أن مجززًا المدلجي قال كذا وكذا؟ ” فإن هذا إقرار منه، ورضا بقوله، ولو كانت القافة باطلة: لم يقر عليها، ولم يرض بها (3).

وقد ثبت في قصة العرنيين “أن النبي – صلى الله عليه وسلم – بعث في طلبهم قافة، فأتى (4) بهم” رواه أبو داود بإسناد صحيح (5)، فدل على اعتبار القافة والاعتماد عليها في الجملة (6)، فاستدل بأثر الأقدام على المطلوبين،
__________
= أبي داود مع معالم السنن (3/ 176)، فتح الباري (12/ 58)، حاشية السندي على النسائي (6/ 185).
(1) في “أ”: “أهل الجاهلية”.
(2) انظر: عارضة الأحوذي (8/ 291).
(3) انظر: الذخيرة (10/ 241)، الفروق (4/ 101)، زاد المعاد (5/ 418)، مغني المحتاج (4/ 488)، نهاية المحتاج (8/ 375).
(4) في “ب”: “فجيء”.
(5) تقدم تخريج الحديث، وبيان أنَّه متفق عليه ولكن اللفظ الَّذي ذكره المؤلِّف رواه أحمد (3/ 198)، وأبو داود رقم (4366)، والنسائي في الكبرى رقم (11143) (6/ 334)، وأبو عوانة (4/ 80) رقم (6099)، وابن حبان (10/ 319) رقم (4467)، والطبري في تفسيره (4/ 548) من حديث أنس رضي الله عنه.
(6) في “ب”: “بالجملة”.

(2/577)


وذلك دليل حسي، وكذلك شبه الأقدام بعضها ببعض دليل حسي على اتحاد الأصل والفرع، فإن الله – سبحانه وتعالى – أجرى العادة بكون الولد نسخة أبيه.
وقد ذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: أخبرني عروة: “أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – دعا القافة في رجلين اشتركا في الوقوع على امرأة في طهر واحد، وادعيا ولدها فألحقته القافة (1) بأحدهما” (2).
قال الزهري: أخذ عمر بن الخطاب (3) ومن بعده بنظر القافة في مثل هذا (4). وإسناده صحيح متصل، فقد لقي عروة عمر، واعتمر (5) معه.
وروى شعبة عن توبة العنبري عن الشعبي (6) عن ابن عمر، قال: اشترك رجلان في طهر امرأة، فولدت، فدعا عمر القافة، فقالوا: قد أخذ الشبه منهما جميعًا. فجعله عمر بينهما (7). وهذا صحيح
__________
(1) “القافة” ساقطة من “أ”.
(2) رواهُ عبد الرزاق (7/ 360)، والشافعي في الأم (6/ 346).
(3) من قوله “دعا القافة في رجلين” إلى “أخذ عمر بن الخطاب” ساقطة من “ب”.
(4) رواه عبد الرزاق (7/ 361)، وانظر: المحلَّى (10/ 149).
(5) انظر: المحلَّى (10/ 151)، وقال الحافظ ابن حجر: “بسند صحيح إلى عروة وعروة عن عمر منقطع” ا. هـ. التلخيص الحبير (4/ 387).
(6) “عن الشعبي” ساقطة من “ب”.
(7) رواه الطحاوي في شرح المعاني (4/ 162).

(2/578)


أيضًا. (1)
وروى يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه قال: “كنت جالسًا عند عمر بن الخطاب، فجاءه رجلان يختصمان في غلام، كلاهما يدعي أنه ابنه، فقال عمر: ادعوا لي أخا بني المصطلق، فجاء، وأنا جالس، فقال: انظر، ابن أيهما تراه؟ فقال: قد اشتركا فيه جميعًا، فقال عمر: لقد ذهب بك بصرك المذاهب، وقام فضربه بالدرة، ثم دعا أم الغلام – والرجلان جالسان، والمصطلقي جالس – فقال لها عمر: ابن أيهما هو؟ قالت: كنت لهذا، فكان يطؤني، ثم يمسكني حتى يستمر بي حملي، ثم أرسلني حتى ولدت منه أولادًا، ثم أرسلني مرة، فأهرقت الدماء، حتى ظننت أنه لم يبق شيء، ثم أصابني هذا، فاستمريت حاملًا، قال: فتدرين من أيهما هو؟ قالت: ما أدري من أيهما هو؟ قال: فعجب عمر للمصطلقي وقال للغلام: خذ بيد أيهما شئت، فأخذ بيد أحدهما واتبعه” (2).
__________
(1) وقال في زاد المعاد (5/ 422): “في غاية الصحة” ا. هـ. أمَّا ابن حزم فقال عَقِبَ ذِكْرِهِ: “توبة العنبري ضعيف متفق على ضعفه” ا. هـ. المحلَّى (10/ 446)، وهذه مجازفة من ابن حزم وإلَّا فتوبة قد وثَّقه ابن معين وأبو حاتم. انظر: الجرح والتعديل (2/ 446)، والنسائي انظر: تهذيب الكمال (4/ 338)، التعديل والتجريح للباجي (1/ 443)، تهذيب الكمال (1/ 475)، وذكره ابن حبان في الثقات (4/ 88)، ووثَّقه الذهبي في الكاشف (1/ 169)، قال الحافظ ابن حجر: “وشذَّ أبو الفتوح الأزدي فقال: منكر الحديث” ا. هـ. هدي الساري (413).
(2) رواه مالك (2/ 740)، وعبد الرزاق (7/ 360)، والطحاوي في شرح المعاني (4/ 162)، والشافعي في الأم (6/ 346)، والبيهقي (10/ 444)، وفي =

(2/579)


وروى قتادة عن سعيد بن المسيب – في رجلين اشتركا في طهر امرأة، فحملت غلامًا يشبههما – “فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فدعا القافة، فقال لهم: انظروا، فنظروا، فقالوا: نراه يشبههما، فألحقه بهما، وجعله يرثهما ويرثانه، وجعله بينهما”، قال قتادة: فقلت لسعيد بن المسيب: لمن عصبته؟ قال: للباقي (1) منهما (2).
وروى قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن علي – رضي الله عنه -: “أن رجلين وقعا على امرأة في طهر واحد، فجاءت بولد، فدعا له علي – رضي الله عنه – القافة، وجعله ابنهما جميعًا يرثهما ويرثانه” (3).
__________
= المعرفة (14/ 370)، وقال البيهقي في السنن (10/ 447)، ورواية يحيى بن عبد الرحمن عن أبيه موصولة. ا. هـ.
(1) في “أ”: “للثاني”.
(2) رواه عبد الرزاق (7/ 360)، والبيهقي (10/ 445)، والزبير بن بكار في الموفقيات (363)، والطحاوي في شرح المعاني (4/ 163)، والأثرم كما في تحفة الأحوذي (6/ 275). وانظر: أخبار القضاة (2/ 192)، والقضاء لسريج بن يونس رقم (34)، ومعرفة السنن والآثار (14/ 368).
(3) رواه عبد الرزاق (7/ 360)، وابن معين في التاريخ (2/ 119)، والبيهقي (10/ 452)، وفي المعرفة (14/ 453)، والطحاوي في شرح المعاني (4/ 164)، قال البيهقي: “في ثبوته عن علي نظر” ا. هـ. السنن (10/ 452)، وقال في المعرفة (14/ 371): “قابوس غير محتج به عن أبي ظبيان عن علي” ا. هـ. قلت: قد وثَّقه ابن معين في أحد قوليه. تاريخ ابن معين رواية الدوري (2/ 479)، ويعقوب بن سفيان. انظر: المعرفة والتاريخ (3/ 145)، وقال المنذري: “وثق وصحح له الترمذي وابن خزيمة والحاكم وغيرهم” ا. هـ. الترغيب والترهيب (1/ 203)، وانظر: نصب الرَّاية (3/ 291)، تأويل مختلف =

(2/580)


وروى عبد الرزاق (1) عن معمر عن أيوب (2) عن ابن سيرين، قال: “اختصم إلى أبي موسى الأشعري في ولد ادعاه دهقان ورجل من العرب، فدعا القافة، فنظروا إليه، فقالوا للعربي: أنت أحب إلينا من هذا العلج، ولكن ليس بابنك، فخل عنه، فإنه ابنه”.
وروى زياد بن أبي زياد، قال: “انتفى ابن عباس من ولد له، فدعا له ابن كلدة (3) القائف، فقال: أما إنه ولده، فادعاه ابن عباس” (4).
وصح عن قتادة (5) عن النضر بن أنس: “أن أنسًا وطئ جارية له، فولدت جارية، فلما حضر قال: ادعوا لها القافة، فإن كانت منكم فألحقوها بكم” (6).
وصح عن حميد (7): “أن أنسًا شك في ولد له، فدعا له
__________
= الحديث لابن قتيبة (1/ 161).
(1) في المصنف (7/ 361)، ورواه البيهقي مختصرًا (10/ 447)، وانظر: المحلَّى (10/ 149).
(2) أيوب السختياني أبو بكر بن أبي تميمة كيسان العنزي البصري الإمام الحافظ، توفي سنة 130 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: حلية الأولياء (3/ 2)، طبقات ابن سعد (7/ 183)، سير أعلام النبلاء (6/ 15).
(3) لم أجد له ترجمة.
(4) رواه ابن حزم بسنده. المحلَّى (10/ 149)، ونحوه عند عبد الرزاق (7/ 448)، والبيهقي (10/ 447)، وفي المعرفة (14/ 368).
(5) “عن قتادة” ساقطة من “ب” و”هـ” و”و”.
(6) رواه البيهقي (10/ 447)، وفي المعرفة (14/ 368)، وذكر المزني أنَّه دعا إياس بن معاوية. تهذيب الكمال (3/ 42).
(7) حميد الطويل.

(2/581)


القافة” (1).
وهذه قضايا في مظنة الشهرة، فيكون إجماعًا.
قال حنبل: سمعت أبا عبد الله قيل له: تحكم بالقافة؟ قال: نعم، لم يزل الناس على ذلك (2).

فصل
والقياس وأصول الشريعة (3) تشهد للقافة؛ لأن القول بها حكم يستند إلى درك أمور خفية وظاهرة، توجب سكونًا للنَّفس، فوجب اعتباره كنقد النَّاقد، وتقويم المقوِّم.
وقد حكى أبو محمد ابن قتيبة: أنَّ قائفًا كان يعرف أثر الأنثى من أثر الذكر (4).
وأمَّا قولهم: “إنَّه يعتمد الشبه” (5) فنعم، وهو حق، قالت أم سلمة: “يا رسول الله: أَوَ تَحْتَلِمُ المَرْأَةُ؟ فقالَ: تَرِبَتْ يَدَاكِ (6)، فَبِمَا
__________
(1) رواهُ ابن أبي شيبة (4/ 33)، والشافعي في الأم (6/ 346)، والروياني في مسنده كما ذكره الحافظ في التهذيب (1/ 355)، والبيهقي (10/ 447).
(2) انظر: مسائل صالح (1/ 289)، المحرر (2/ 110)، المغني (8/ 371)، الفروع (5/ 519).
(3) في “أ”: “الشرع”.
(4) انظر: المستقصي في أمثال العرب (1/ 338)، المستطرف (2/ 183)، وجمهرة الأمثال (2/ 96)، ومجمع الأمثال (2/ 76) فقد ذكروا من يعرف أثر الرجال.
(5) انظر: المبسوط (17/ 70)، عارضة الأحوذي (8/ 291).
(6) أي افتقرت وصارت على التراب، وهي من الألفاظ التي تطلق عند الزجر ولا =

(2/582)


يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا؟ ” (1) متفق عليه، ولمسلم (2) من حديث أنس بن مالك عن أم سليم قالت: “وهل يكون هذا – يعني الماء -؟ فقال نبي الله – صلى الله عليه وسلم -: “نعم، فَمِنْ أَيْنَ يَكونُ الشَّبَهُ؟ إِنَّ مَاءَ الرَّجُلِ غَلِيظٌ أَبْيَضٌ، ومَاءُ المَرْأَةِ رقِيْقٌ أَصْفَرٌ، فَمِنْ أَيهمَا عَلَا – أَوْ سَبَقَ – يكُوْنُ الشَّبَهُ مِنْهُ”.
وعن عائشة – رضي الله عنها – أنَّ امرأة قالت لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “هَلْ تَغْتَسِلُ المَرْأَةُ إِذَا احْتَلَمَتْ، وَأَبْصَرَتْ المَاءَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَتْ لهَا عَائِشَةُ: تَرِبَتْ يَدَاكِ، فَقَالَ لَهَا رَسُوْلُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – دَعِيْهَا، وَهَلْ يكُوْنُ الشَّبَهُ إِلَّا مِنْ قِبَلِ ذَاكَ” رواه مسلم (3).
وله أيضًا من حديث أبي أسماء الرحبي (4) عن ثوبان قال: “كُنْتُ قَائِمًا عِنْدَ رَسوْلِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – فَجَاءَ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ
__________
= يراد ظاهرها. فتح الباري (1/ 277).
(1) البخاري رقم (130) (1/ 276)، ومسلم رقم (313) (3/ 227) من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
(2) في كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها رقم (311) (3/ 325).
(3) في كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها رقم (314) (3/ 229).
(4) عمرو بن مرثد الرحبي الشامي الدمشقي أبو أسماء، وثَّقه أحمد والعجلي وغيرهما، توفي في خلافة الوليد بن عبد الملك- رحمه الله تعالى-. انظر: تهذيب الكمال (22/ 223)، سير أعلام النبلاء (4/ 491)، تهذيب التهذيب (8/ 82).
“أسماء الرحبي” ساقطة من “ب”، وبياض في “جـ” وجاء في “و”: “أبي سلمة”.

(2/583)


اليَهُودِ (1) فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ: جئْتُ أَسْأَلُكَ عَنِ الوَلَدِ؟ فَقَالَ: مَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ، وَمَاءُ المَرْأَةِ أَصْفَرُ، فَإِذَا اجْتَمَعَا، فَعَلا مَنِيُّ الرَّجُلِ مَنِيَّ المَرْأَةِ، أَذْكَرا بِإِذْنِ اللهِ، وَإِذَا عَلاَ مَنِيُّ المَرْأَةِ منيَّ الرَّجُلِ آنَثَا بإِذْنِ اللهِ” (2).
وسمعتُ شيخنا – رحمه الله – يقول: في صحة هذا اللفظ نظر (3).
قلت: لأنَّ (4) المعروف المحفوظ في ذلك إنَّما هو تأثير سبق الماء في الشبه، وهو الَّذي ذكره البخاري من حديث أنس: “أنَّ عبد الله بن سلام بلغه مقدم النبي – صلى الله عليه وسلم – المدينة، فأتاه، فسأله عن أشياء، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “وَأَمَّا الوَلدُ فَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُل مَاءَ المَرْأَةِ نَزَعَ الوَلَدَ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ المَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ نَزَعَتْ الوَلَدَ” (5).
فهذا السؤال الَّذي سأل عنه عبد الله بن سلام والجواب الَّذي أجابه به النبي – صلى الله عليه وسلم – هو نظير (6) السؤال الَّذي سأل عنه الحبر، والجواب واحد، ولا سيما إن كانت القصة واحدة، والحبر هو عبد الله بن سلام، فإنَّه
__________
(1) قيل: هو عبد الله بن سلام رضي الله عنه، كما سيذكر ذلك المؤلِّف قريبًا.
(2) رواه مسلم رقم (315) (3/ 230).
(3) انظر: تحفة المودود (167)، التبيان (214)، إعلام الموقعين (4/ 334)، زاد المعاد (5/ 419).
(4) “لأنَّ” ساقطة من “أ”.
(5) البخاري رقم (3938) (7/ 319).
(6) في “ب”: “بغير”، وفي “هـ”: “لعين”، وصحح العلامة ابن باز – رحمه الله تعالى – “بعينه”.

(2/584)


سأله وهو على دين اليهود، فأنس عيَّن اسمه، وثوبان قال: “جاء حبر من اليهود” وإن كانتا قصتين والسؤال واحد فلا بُدَّ أن يكون الجواب كذلك.
وهذا يدلُّ على أنَّهم إنَّما سألوا عن الشبه، ولهذا وقع الجواب به وقامت به الحجة، وزالت به الشبهة.
وأمَّا الإذكار والإيناث فليس بسبب (1) طبيعي، وإنَّما سببه (2) الفاعل المختار الَّذي يأمر الملك به، مع تقدير الشقاوة والسعادة، والرزق، والأجل، ولذلك جمع بين هذه الأربع في الحديث: “فَيَقُولُ المَلَكُ: يَا رَبِّ، ذَكَرٌ؟ يَا ربِّ، أُنْثَى؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا يَشَاءُ، ويَكْتُبُ المَلَكُ” (3).
وقد ردَّ سبحانه ذلك إلى محض مشيئته في قوله تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)} [الشورى: 49 – 50].
والتعليق بالمشيئة وإن كان لا ينافي ثبوت السبب (4) فذلك إذا علم كون الشيء سببًا، ودلَّ على سببيته العقل والنص، والإذكار والإيناث
__________
(1) في “أ”: “فليس له سبب”، وفي “هـ”: “فليس بسبب”.
(2) انظر: التبيان لابن القيم (213)، تحفة المودود (166).
(3) البخاري رقم (3332)، ومسلم رقم (2645) (16/ 431) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، واللفظ لمسلم.
(4) في “أ”: “ثبوت المسبب”.

(2/585)


[لا] يعلم له سببٌ طبيعي يعلمِ بالعقل وبالنص (1)، وقد قال – صلى الله عليه وسلم – في حديث أم سليم: “مَاءُ الرَّجُلِ غلِيْظٌ أَبْيَضُ، ومَاءُ المَرْأَةِ رَقِيْقٌ أَصْفَرُ، فَمِنْ أيهما عَلَا (2) – أَوْ سَبَقَ – يَكُوْنُ الشَّبَهُ” (3)، فجعل للشبه سببين: علو الماء، وسبقه.
وبالجملة، فعامة الأحاديث إنَّما هي في تأثير سبق الماء وعلوه في الشبه، وإنَّما جاء تأثير ذلك في الإذكار والإيناث في حديث ثوبان وحده (4)، وهو فرد بإسناده، فيحتمل أنَّه اشتبه على الرَّاوي فيه الشبه بالإذكار والإيناث، وإن كان قد قاله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فهو الحقُّ الَّذي لا شكَّ فيه، ولا ينافي سائر الأحاديث، فإنَّ الشبه من السبق، والإذكار والإيناث من العلو، وبينهما فرق، وتعليقه على المشيئة (5) لا ينافي تعليقه على السبب، كما أنَّ الشقاوة والسعادة والرزق معلقات (6) بالمشيئة، وحاصلة (7) بالسبب، والله أعلم.
__________
(1) “والإذكار والإيناث يعلم له سببٌ طبيعي يعلم بالعقل وبالنَّص” ساقطة من جميع النسخ عدا “أ”. ولعلَّ عدم إثباته هو الصواب لكونه يتعارض مع ما ذكره ابن القيم أعلاه بقوله: “وأمَّا الإذكار والايناث: فليس بسبب طبيعي” ا. هـ. والله أعلم.
(2) في “أ”: “علق”.
(3) تقدم تخريجه.
(4) تقدم لفظه وتخريجه.
(5) في “هـ” و”و”: “الشبه”.
(6) في “أ”: “تعلقًا”، وفي “هـ”: “معلقًا”، وفي “و”: “متعلقات”.
(7) في “أ” و”ب” و”هـ”: “وحاصل”.

(2/586)


والمقصود أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – اعتبر الشبه في لحوق النسب، وهذا معتمد القائف، لا معتمد له سواه (1)، وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – في قصة المتلاعنين: “إن جَاءَتْ بهِ أَكْحَلَ العَيْنَين، سَابِغَ (2) الإِلْيَتَيْنِ، خَدَلَّجَ (3) السَّاقَيْنِ، فَهُوَ لِشَرِيك ابن سَحْمَاءَ” فجاءت به كذلك، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللهِ، لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ” رواه البخاري (4)، فاعتبر النبي – صلى الله عليه وسلم – الشبه وجعله لِمُشْبِهِهِ.
فإن قيل: فهذا حجة عليكم؛ لأنَّه – مع صريح الشبه – لم يلحقه بِمُشْبهه في الحكم (5)، قيل: إنَّما منع إعمال الشبه لقيام مانع اللعان، ولهذا قال – صلى الله عليه وسلم -: “لَوْلَا الأيمانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شأْنٌ” (6)، فاللعان سبب
__________
(1) انظر: الفروق (4/ 100)، تهذيب الفروق (4/ 166)، زاد المعاد (5/ 418).
(2) أي تامهما وعظيمهما. انظر: النهاية (2/ 318)، المجموع المغيث (1/ 56).
(3) أي عظيمهما. انظر: النهاية (2/ 15)، المجموع المغيث (1/ 556).
(4) في التفسير، باب “ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنَّهُ لمن الكاذبين” رقم (4747) (8/ 303) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(5) انظر: المبسوط (17/ 70).
(6) رواه أحمد (1/ 238)، وأبو داود رقم (2256)، والطيالسي رقم (2667)، وأبو يعلى (5/ 124) رقم (2740)، والبيهقي (7/ 648) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. ورواه الدَّارقطني (3/ 275) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. ورواه الروياني رقم (1079) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه. قال ابن كثير رحمه الله: “ولهذا الحديث شواهد كثيرة في الصحاح وغيرها من وجوه كثيرة” ا. هـ. التفسير (6/ 14)، والحديث رواه البخاري رقم (4747) بلفظ: “لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها =

(2/587)


أقوى من الشبه، قاطع للنسب، وحيث اعتبرنا الشبه في لحوق النسب فإنَّما ذاكَ إذا لم يقاومه سبب أقوى منه، ولهذا لا يعتبر مع الفراش، بل يحكم بالولد للفراش، وإن كان الشبه لغير صاحبه، كما حكم النبي – صلى الله عليه وسلم – في قصَّة عبد بن زمعة بالولد المتنازع فيه لصاحب الفراش (1)، ولم يعتبر الشبه المخالف له، فأعمل النبي – صلى الله عليه وسلم – الشبه في حجب سودة، حيث انتفى المانع من إعماله في هذا الحكم بالشبه (2) إليها، ولم يعمله في النسب لوجود الفراش.
وأصول الشرع وقواعده والقياس الصحيح تقتضي اعتبار الشبه في لحوق النسب (3)، والشَّارع متشوف إلى اتصال الأنساب وعدم انقطاعها.
ولهذا اكتفى في ثبوتها بأدنى الأسباب من شهادة المرأة الواحدة على الولادة (4)، والدعوى المجردة مع الإمكان، وظاهر الفراش، فلا يستبعد أن يكون الشبه الخالي عن سبب مقاوم له كافيًا في ثبوته، ولا نسبة بين قوَّة اللحاق بالشبه وبين ضعف اللحاق لمجرد (5) العقد، مع
__________
= شأن” ا. هـ.
(1) البخاري رقم (2053) (4/ 342)، ومسلم رقم (1457) (9/ 290) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) في جميع النسخ عدا “أ”: “بالنسبة”.
(3) “وقواعده والقياس الصحيح يقتضي اعتبار الشبه في كون النسب” ساقطة من “ب”.
(4) تقدم الحديث عنه.
(5) في “أ”: “بمجرد”.

(2/588)


القطع بعدم الاجتماع في مسألة المشرقية والمغربي (1)، ومن طلَّق عقيب العقد من غير مهلة ثمَّ جاءت بولد (2).
فإن قيل: فقد ألغى النبي – صلى الله عليه وسلم – الشبه في لحوق النسب (3)، كما في “الصحيح” (4): أن رجلًا (5) قال له: “إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، فقال: “هَلْ لَكَ مِنْ إِبلٍ”؟ قال: نعم، قال: “فَمَا أَلْوَانُهَا”؟ قال: حُمْرٌ، قال: “فَهَلْ فيها من أوْرَق (6) “؟ قال: نعم، إنَّ فيها لَوُرْقًا، قال: “فَأَنَّى لَها ذلكَ”؟ قال: عسى أن يكون نزعه عِرْقٌ، قال: “وهَذَا عَسَى أن يكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ”.
قيل: إنَّمَا [لَمْ] (7) يعتبر الشبه ها هنا لوجود الفراش الَّذي هو أقوى منه، كما في حديث ابن أمة زمعة (8)، ولا يدلّ ذلك على أنَّهُ
__________
(1) انظر: المبسوط (17/ 70)، إعلام الموقعين (2/ 355)، زاد المعاد (5/ 421).
(2) انظر: البحر الرَّائق (4/ 262)، فتح القدير (4/ 348)، الدر المختار (3/ 578)، البناية (5/ 453).
(3) انظر: الفروق (4/ 101).
(4) البخاري رقم (7314) (13/ 309) رقم (1500) (10/ 386) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) اسمه ضمضم بن قتادة. فتح الباري (9/ 352)، كما رواه ابن بشكوال في الغوامض (1/ 312).
(6) الأورق: الَّذي فيه سواد ليس بحالك بل يميل إلى الغبرة ومنه قيل للحمامة ورقاء. فتح الباري (9/ 352).
(7) “لم” ساقطة من جميع النسخ ولا يستقيم المعنى إلَّا بها، وقد أثبتها العلامة ابن باز – رحمه الله تعالى – في تعليقه على الطرق الحكمية.
(8) تقدم تخريجه.

(2/589)


لا (1) يعتبر مطلقًا، بل في الحديث ما يدلُّ على اعتبار الشبه، فإنَّه – صلى الله عليه وسلم – أحَال على نوعٍ آخر من الشبه، وهو نزع العرق، وهذا الشبه أولى لقوته بالفراش، والله أعلم.
قالت الحنفية (2): إذا لم ينازع مدعي الولد فيه (3) غيره فهو له، وإن نازعه غيره، فإن كان أحدهما صاحب فراش قدم على الآخر، فإنَّ الولد للفراش، وإن استويا في عدم الفراش، فإن ذكر أحدهما علامة بجسده ووصفه بصفة فهو له (4)، وإن لم يصفه واحد منهما، فإن كانا رجلين أو رجلًا وامرأة ألحق بهما، وإن كانا امرأتين فقال أبو حنيفة: يلحق بهما حكمًا، مع العلم بأنَّه لم يخرج إلَّا من إحداهما، ولكن ألحقه بهما في الحكم، كما لو كان المدعى مالًا، فأجرى الإنسان مجرى الأموال والحقوق (5)، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يلحق بهما (6)، كما قال الجمهور (7)، للقطع بأنَّه يستحيل أن يولد منهما،
__________
(1) “لا” ساقطة من “هـ” و”و”.
(2) انظر: بدائع الصنائع (6/ 253)، الفروق (4/ 102)، المبسوط (7/ 178).
(3) “فيه” ساقطة من “أ”.
(4) انظر: بدائع الصنائع (6/ 253)، البحر الرَّائق (5/ 245)، مختصر القدوري (134)، تبيين الحقائق (3/ 299)، أحكام القرآن للجصاص (3/ 221)، المبسوط (17/ 129)، فتح القدير (6/ 112).
(5) انظر: المبسوط (17/ 71)، بدائع الصنائع (6/ 244)، البحر الرَّائق (4/ 244)، فتح القدير (5/ 54).
(6) انظر: المبسوط (17/ 71)، بدائع الصنائع (6/ 244)، البحر الرَّائق (4/ 244).
(7) انظر: مختصر المزني مع الأم (9/ 334)، المغني (8/ 381)، سنن البيهقي =

(2/590)


بخلاف الرجلين، فإنَّه يمكن تخليقه من مائهما، كما يخلق من ماء الرجل والمرأة.
قالوا (1): وقد دلَّ على اعتبار العلامات قصة شاهد يوسف (2)، وقول النبي – صلى الله عليه وسلم – للملتقط: “اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا وَوِعَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَعَرَّفَهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ” (3).
قالوا (4): ولو أثرت القافة والشبه في نتاج الآدمي لأثر ذلك في نتاج الحيوان، فكُنَّا نحكم بالشبه في ذلك، كما نحكم به بين الآدميين، ولا نعلم بذلك قائلًا.
قالوا (5): ولأنَّ الشبه أمر مشهود مدرك بحاسة البصر، فإمَّا أن يحصل لنا ذلك بالمشاهدة أو لا يحصل، فإن حصل لم تكن في القائف فائدة، ولا حاجة إليه، وإن لم يحصل لنا بالمشاهدة لم نصدق القائف، فإنَّه يدعي أمرًا حسيًّا لا يدرك بالحس.
__________
= (10/ 452)، الجامع الصغير (380)، تهذيب الفروق (4/ 166)، الحاوي الكبير (17/ 381)، المحرر (2/ 102).
(1) انظر: بدائع الصنائع (6/ 253).
(2) في قوله تعالى: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)} [يوسف: 26, 27].
(3) تقدم تخريجه ص (572).
(4) انظر: الحاوي الكبير (17/ 381).
(5) انظر: الحاوي الكبير (17/ 382).

(2/591)


قالوا (1): وقد دلَّ الحس على وقوع التشابه بين الأجانب الَّذين لا نسب بينهم، ووقوع التخالف والتباين بين ذوي النسب الواحد، وهذا أمرٌ معلومٌ بالمشاهدة لا يمكن جحده، فكيف يكون دليلًا على النسب، ويثبت به التوارث والحرمة والمحرمية (2) وسائر أحكام النسب؟
قالوا: والاستلحاق موجبٌ للحوق النسب، وقد وجد في (3) المتداعيين وتساويا فيه، فيجب أن يتساويا في حكمه، فإنَّه يمكن كونه منهما، وقد استلحقه كل واحد منهما، والاستلحاق أقوى من الشبه، ولهذا لو استلحقه مستلحق ووجدنا شبهًا بينا بغيره ألحقناه بمن استلحقه، ولم نلتفت إلى الشبه.
قالوا: ولأنَّ القائف إمَّا شاهدٌ وإمَّا حاكم، فإن كان شاهدًا فمستند شهادته الرؤية، وهو وغيره فيها سواء، فجرى تفرده في الشهادة مجرى شهادة واحد من بين الجمع العظيم بأمر لو وقع لشاركوه في العلم به، ومثل هذا لا يقبل.
وإن كان حاكمًا فالحاكم لا بُدَّ له من طريق يحكم بها، ولا طريق ها هنا إلَّا الرؤية والشبه، وقد عرف أنَّه لا يصلح طريقًا.
قالوا: ولو كانت القافة طريقًا شرعيًّا لما عدل عنها داود وسليمان – صلوات الله وسلامه عليهما – في قصة الولد الَّذي ادعته المرأتان، بل حكم به داود للكبرى، وحكم به سليمان للصغرى بالقرينة التي استدل
__________
(1) انظر: زاد المعاد (5/ 420).
(2) “والمحرمية” مثبتة من “أ”.
(3) في “أ” “من”.

(2/592)


بها من شفقتها وإيثارها حياته (1) بإقرارها به للكبرى (2)، ولم يعتبر (3) قافة ولا شبهًا.
قالوا (4): وقد روى زيد بن أرقم قال: “أُتِي عليٌّ رضي الله عنه – وهو باليمن – بثَلَاثَة (5) وَقَعُوا على امرَأةٍ طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلَ اثْنَيْنِ أَتُقِرَّان لِهَذَا بالولد؟ قالا: لا، حَتَّى سَأَلهُم جميعًا، فَجَعَلَ كُلَّمَا سَأَلَ اثْنَيْنِ قَالَا: لَا، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُم، فَأَلْحَقَ الوَلَدَ بالَّذِي صَارَتْ إِلَيْهِ القُرْعَةُ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ ثُلُثَي الدَّيَة، قال: فَذَكَرْتُ ذلِكَ لِلنَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – فَضَحِكَ، حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ” وَفِي لَفظٍ: “فَمَنْ قَرَعَ فَلَهُ الوَلَدُ، وَعَلْيهِ لِصَاحِبَيْهِ ثُلُثا الدِّيَة” وفي لفظ: “فذكر ذلك للنَّبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: لَا أَعْلَمُ إِلَّا مَا قَالَ علي” أخرجه الإمام أحمد في “المسند” وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم في صحيحه (6).
قال أبو محمد ابن حزم: هذا خبرٌ مستقيم السند، نقلته كلهم ثقات (7). ا. هـ.
__________
(1) “وإيثارها حياته” مثبت من “أ”.
(2) تقدم تخريجه.
(3) وفي “ب” و”و” “يختر”.
(4) انظر: فتح القدير (5/ 53).
(5) “بثلاثة” ساقطة من “جـ”، و”هـ”.
(6) أحمد (4/ 374)، وأبو داود (2253) (6/ 361) مع عون المعبود، والنسائي (6/ 182)، وابن ماجه (4/ 30) رقم (2348)، والحاكم (4/ 96) وسيذكر المؤلف طرقه.
(7) “المحلى” (9/ 339) ونقل تصحيح ابن حزم للحديث عبد الحق في الأحكام =

(2/593)


وهذا حديثٌ مداره على الشعبي، وقد رواه جماعة واختلف عليه، فرواهُ يحيى بن سعيد القطان (1)، وخالد بن عبد الله الواسطي (2)، وعبد الله ابن نمير، ومالك بن إسماعيل النهدي (3)، وقيس بن الربيع (4)، عن الأجلح يحيى بن عبد الله بن حجية الكندي عن الشعبي عن عبد الله بن خليل الحضرمي الكوفي عن زيد بن أرقم، ومن هذا الوجه أورده الحاكم (5)
وكذلِكَ رواه سفيان بن عيينة (6)، وعلي بن مسهر عن
__________
= الوسطى (3/ 220)، وقال ابن القطان: “وهو صحيح كما ذكر”. بيان الوهم (5/ 433)، وانظر: تهذيب السنن لابن القيم (6/ 362) مع عون المعبود. إعلام الموقعين (2/ 28)، وزاد المعاد (5/ 429)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (1901)، وسيأتي كلام المؤلف في الفصل التالي في بيان اضطراب هذا الحديث.
(1) رواه أبو داود (2252) (6/ 359) مع العون والنسائي في المجتبى (6/ 183) رقم (3490)، والطبراني في الكبير (5/ 174)، والحاكم (2/ 207) وصححه.
(2) رواه العقيلي في الضعفاء الكبير (1/ 123) و (2/ 245)، والطبراني في الكبير (5/ 173)، وانظر: التاريخ الكبير للبخاري (5/ 79).
(3) في “هـ”: “الزيدي”. رواه الحاكم (4/ 96).
(4) رواه الطيالسي (26) رقم (187) بسنده لم يذكر الأرقم. منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داود (2/ 181)، ورواه الخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 481) رقم (526)، والطبراني في الكبير (5/ 173).
(5) (4/ 96) و (2/ 207).
(6) رواه الحميدي (2/ 39) رقم (803)، والحاكم (3/ 136) من طريق الحميدي وقال: “صحيح الإسناد ولم يخرجاه”. والعقيلي (2/ 245)، =

(2/594)


الأجلح (1) وقالا: عبد الله بن أبي الخليل.
ورواه شعبة عن سلمة بن كهيل عن الشعبي عن أبي الخليل (2) أو ابن أبي (3) الخليل (4): “أنَّ ثلاثة نفرٍ اشتركوا” ولم يذكر زيدًا، ولم يرفعه.
ورواه عبد الرزاق (5) عن الثوري عن صالح بن صالح الهمداني عن
__________
= والطبراني في الكبير (5/ 173) رقم (4990) من طريق الحميدي كذلك، والقطيعي في زياداته على فضائل الصحابة (2/ 645) رقم (1095).
(1) من قوله “يحيى بن عبد الله” إلى قوله “وعلي بن مسهر عن الأجلح” ساقطة من “و”.
والحديث رواه النسائي في المجتبى (6/ 182) رقم (3489)، والكبرى (3/ 496) رقم (6038)، والطبراني في الكبير (5/ 173)، وابن أبي شيبة (6/ 289) رقم (31461).
(2) “ورواه شعبة عن سلمة بن كهيل عن الشعبي عن أبي الخليل” ساقطة من “و”.
(3) “أبي” ساقطة من “ب” و”هـ”.
(4) رواه أبو داود (2254) (6/ 362) مع العون، والنسائي في المجتبى (6/ 184) رقم (3492) وقال: “هذا صواب”. والبيهقي (10/ 451) رقم (21284) وقال: “أصح ما روي في هذا الباب”، ثم ذكره بإسناده من طريق شعبة عن سلمة .. ثم قال: “وهذا موقوف وابن الخليل ينفرد به والله أعلم”. ا. هـ. وقال أبو حاتم بعد أن ذكر طرق الحديث: “وأتقنهم سلمة بن كهيل” ا. هـ. العلل لابن أبي حاتم (2/ 273) وقال كذلك رحمه الله: “اختلفوا في هذا الحديث فاضطربوا والصحيح حديث سلمة بن كهيل” (1/ 402)، وانظر: العلل للدارقطني (3/ 119).
(5) عبد الرزاق (7/ 359) رقم (13472)، ومن طريقه رواه أبو داود (2253) (6/ 361) مع العون، والنسائي في المجتبى (6/ 182) رقم (3488)، وفي الكبرى رقم (6036) (3/ 496)، وابن ماجه (4/ 30) رقم (2348)، والبيهقي =

(2/595)


الشعبي عن عبد خير الحضرمي.
ورواه ابن عيينة (1) وجرير بن عبد الحميد (2) وعبد الرحيم بن سليمان (3) عن محمد بن سالم (4) عن الشعبي عن علي بن
__________
= في الكبرى (10/ 450) وقال: “هذا الحديث مما يعد في أفراد عبد الرزاق عن سفيان الثوري” ا. هـ. ورواه وكيع من طريق عبد الرزاق كذلك قال: أخبرنا سفيان الثوري عن أجلح عن الشعبي عن عبد خير الحضرمي عن زيد بن أرقم – ثم ذكره – قال: “وهذا أيضًا خالف الناس ولم يقل عبد خير غير عبد الرزاق عن الثوري” ا. هـ. أخبار القضاة (1/ 92 – 93)، وانظر: ضعفاء العقيلي (2/ 245) قال “الحديث مضطرب الإسناد متقارب في الضعف” ا. هـ. قال الدارقطني رحمه الله: “واختلف عن الثوري، فقال ابن عسكر وأبو الأزهر عن عبد الرزاق عن الثوري عن صالح الهمداني، وقال غيرهما عن الثوري عن أجلح عن الشعبي”. العلل (3/ 118)، ورواه أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا سفيان عن أجلح. (4/ 373)، وكذا رواه وكيع عن سفيان عن أجلح .. أخبار القضاة (1/ 92)، والطبراني في الكبير (5/ 172) رقم (4987) من طريق عبد الرزاق عن الثوري عن صالح عن الشعبي ورواه برقم (4988) من طريق عبد الرزاق عن سفيان عن الأجلح عن الشعبي. وقال المنذري: “أما حديث عبد خير فرجال إسناده ثقات غير أن الصواب فيه الإرسال”. مختصر سنن أبي داود (3/ 178)، انظر: تحفة الأشراف (3/ 196).
(1) رواه أحمد (4/ 374)، والعقيلي (2/ 245)، والطبراني في الكبير (5/ 174) رقم (3992)، والحميدي (2/ 41) رقم (804).
(2) رواه العقيلي (1/ 123) و (2/ 245)، والطبراني في الكبير (5/ 174).
(3) رواه الطبراني في الكبير (5/ 174) رقم (4991).
(4) رواه وكيع من طريق آخر: حدثنا محمد بن عبد الملك الدقيقي قال: حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا محمد بن سالم عن الشعبي عن علي بن ذري الحضرمي =

(2/596)


ذريح (1) – ويقال: ذري الحضرمي (2) – عن زيد.
ورواه خالد بن عبد الله الواسطي عن أبي إسحاق الشيباني (3) – سليمان (4) بن فيروز – عن الشعبي عن رجل من حضرموت (5) عن زيد.
وبالجملة، فيكفي أنَّ في هذا الحديث أمير المؤمنين في الحديث شعبة (6)، وإذا كان شعبة (7) في حديث لم يكن باطلًا، وكان
__________
= عن زيد بن أرقم .. ثم قال: “محمد بن سالم في حديثه لين شديد”. أخبار القضاة (1/ 94)، وقال: “وما قاله محمد بن سالم عن الشعبي عن علي ابن ذري الحضرمي فغلط”. ا. هـ. أخبار القضاة (1/ 95)، وللحديث طرق أخرى رواها وكيع في أخبار القضاة (1/ 91 و 92 و 93)، والحاكم (3/ 135)، وأحمد (4/ 374)، وأطال وكيع في نقد الحديث.
(1) في “هـ”: “ذريد”.
(2) انظر: المؤتلف للدارقطني (2/ 997).
(3) رواه النسائي في الكبرى (3/ 496) رقم (6037)، وفي المجتبى (6/ 183) رقم (3491)، وانظر: العلل للدارقطني (3/ 118)، والعلل لابن أبي حاتم (2/ 273) ونقل عن أبيه: “الشيباني قوي” ا. هـ. ورواه الطبراني في الكبير (5/ 172) رقم (4989).
ورواه وكيع بسنده إلى الشيباني عن الشعبي عن أبي الخليل عن زيد بن أرقم. أخبار القضاة (1/ 93)، العلل للدارقطني (3/ 118).
(4) في “أ” و”ب”: “سلمان”.
(5) قال المزي – رحمه الله تعالى -: “هو عبد الله بن الخليل الحضرمي” ا. هـ. تهذيب الكمال (35/ 82).
(6) “شعبة” ساقطة من “و”.
(7) “شعبة” ساقطة من “و”.

(2/597)


محفوظًا (1)، وقد عمل به أهل الظاهر (2)، وهو وجه للشافعية (3) عند تعارض البينة، وهو ظاهر – بل صريح – في عدم اعتبار القافة، فإنَّها لو كانت معتبرة لم يعدل عنها إلى القرعة.
قالوا (4): وأصح ما معكم: حديث أُسامة بن زيد، ولا حجة فيه؛ لأنَّ النسب (5) هناك ثابت بالفراش، فوافقه قول القائف فَسُرَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – بموافقة قول القائف (6) لشرعه الَّذي جاء به من أنَّ الولد للفراش، وهذا لا خفاء به، فمن أين يصلح ذلك لإثبات كون القيافة طريقًا مستقلًّا بإثبات النسب؟
قال أصحاب الحديث (7): نحن إنما نحتاج إلى القافة عند التنازع في الولد، نفيًا وإثباتًا، كما إذا ادعاه رجلان أو امرأتان، أو اعترف الرجلان بأنَّهما وطئا المرأة بشبهة، وأنَّ الولدَ من أحدهما، وكل منهما ينفيه عن نفسه، وحينئذٍ فإمَّا أن نُرَجِّحَ أحدهما بلا مرجح (8)، ولا سبيل
__________
(1) انظر: سير أعلام النبلاء (7/ 222).
(2) انظر: المحلى (10/ 150).
(3) نص الشافعي على اعتبار القافة. انظر: الأم (7/ 178).
(4) انظر: المبسوط (17/ 70)، زاد المعاد (5/ 420)، بدائع الصنائع (6/ 244)، فتح القدير (5/ 35).
(5) في “أ” و”ب”: “السبب”.
(6) “فسر النبي – صلى الله عليه وسلم – بموافقة قول القائف” ساقطة من “أ”.
(7) “الحديث” ساقطة من “و”. وانظر: تحفة المودود (168).
(8) من قول المؤلف في الفصل الذي ذكره قبل الطريق الرابع والعشرين “إذا =

(2/598)


إليه (1)، وإمَّا أن نلغي دعواهما فلا يلحق بواحدٍ منهما، وهو باطلٌ أيضًا، فإنَّهما معترفان بسبب اللحوق، وليس هنا سبب غيرهما، وإمَّا أن يلحق بهما مع ظهور الشبه البين بأحدهما، وهو أيضًا باطل شرعًا وعرفًا وقياسًا كما تقدم، وإمَّا أن يقدم أحدهما بوصفه لعلامات في الولد، كما يقدم واصف اللقطة، وهذا – أيضًا – لا اعتبار به ها هنا، بخلاف اللقطة، والفرق بينهما ظاهر؛ فإنَّ اطلاع غير الأب على بدن الطفل وعلاماته غير مستبعد بل هو واقعٌ كثيرًا، فإنَّ الطفل بارز ظاهر لوالديه وغيرهما.
وأما اطلاع غير مالك اللقطة على عددها وعفاصها ووعائها ووكائها فأمر في غاية الندرة، فإنَّ العادة جارية بإخفائها وكتمانها، فإلحاق إحدى الصورتين بالأُخرى ممتنع.
وأمَّا الإلحاق بأُمَّين (2) فمقطوعٌ ببطلانه واستحالته، عقلًا وحسًّا، فهو كإلحاق ابن ستين سنة بابن عشرين سنة (3).
وكيف ينكر القافة التي مدارها على الشبه الَّذي وضعه الله سبحانه
__________
= اختلف الراهن والمرتهن في قدره فالقول قول المرتهن مع يمينه” إلى قوله هنا “فإما أن نرجح أحدهما بلا مرجح” ساقط من “د”.
(1) في “هـ” و”و”: “سبيل له”.
(2) في “جـ”: “بأبوين”، وفي “د” و”و”: “باثنين”.
(3) “سنة” مثبتة من “أ”. وانظر: سنن البيهقي (10/ 452)، المغني (8/ 381)، الجامع الصغير لأبي يعلى (380)، مختصر المزني (9/ 334)، زاد المعاد (5/ 423)، إعلام الموقعين (1/ 355)، الحاوي الكبير (17/ 384).

(2/599)


بين الوالدين والولد من يلحق الولد بأُمَّين (1)؟ فأين أحد هذين الحكمين من الآخر، في العقل والشرع والعرف والقياس؟ (2)
وما أثبت الله ورسوله قط حكمًا من الأحكام يقطع ببطلان سببه حسًّا أو عقلًا، فحاشا أحكامه سبحانه من ذلك، فإنَّه لا أحسن حكمًا منه – سبحانه وتعالى – ولا أعدل، ولا يحكم حكمًا يقول العقل: ليته حكم بخلافه، بل أحكامه كلها ممَّا تشهد العقول والفطرة بحسنها، ووقوعها على أتم الوجوه وأحسنها، وأنَّه لا يصلح في موضعها سواها.
وأنت إذا عرضت على العقول كون الولد ابن أُمَّين (3) لم تجد قبولها له كقبولها لكون الولد لمن أشبهه (4) الشبه البين، فإنَّ هذا موافق لعادة الله وسنته في خلقه، وذلك مخالف لعادته وسنته.
وقولهم: “إنَّهما (5) استويا في سبب الإلحاق – وهو الدعوى – فيستويان في الحكم، وهو لحوق النسب”.
__________
(1) في “و”: “باثنين”. والإلحاق بأُمَّين حكمًا قول الإمام أبي حنيفة وخالفه صاحباه والجمهور. انظر: المبسوط (17/ 71)، بدائع الصنائع (6/ 244)، البحر الرائق (4/ 244)، مختصر المزني “مع الأم” (9/ 334)، سنن البيهقي (10/ 452)، الحاوي الكبير (17/ 381)، المحرر (2/ 102)، الجامع الصغير (380) تهذيب الفروق (4/ 166).
(2) انظر: تهذيب الفروق (4/ 666).
(3) في “ب” و”جـ” و”و”: “ابن اثنين”.
(4) في “أ” و”ب” و”د” و”و”: “من شبهه”.
(5) في “أ”: “إنهم قد”.

(2/600)


فيقال: القاعدة أنَّ صحة الدعوى يُطلب بيانها من غير جهة المدعي مهما أمكن، وقد أمكن ها هنا بيانها (1) بالشبه الَّذي يطلع عليه القائف، فكان اعتبار صحتها بذلك أولى من اعتبار صحتها بمجرد الدعوى، فإذا انتفى السبب الَّذي يبين صحتها من غير جهة المدعي – كالفراش والقافة – بغير (2) إعمال الدعوى، فإذا استويا فيها (3) استويا في حكمها، فهذا محض الفقه، ومقتضى قواعد الشرع، وأمَّا أن تعمل الدعوى المجردة مع ظهور ما يخالفها من الشبه البين الَّذي نصبه الله – سبحانه وتعالى – علامة لثبوت النسب شرعًا وقدرًا، فهذا مخالف للقياس ولأصول الشرع.
وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “البَيِّنَةُ على المدَّعِي” (4)، و”البينة” اسمٌ لما يبين صحة الدعوى، والشبه مُبَيِّن صحة الدعوى، فإذا كان من جانب أحد المتداعيين (5) كان النسب له، وإن (6) كان من جهتهما كان النسب لهما.
وقولهم (7): “لو أثَّر الشبه والقافة في نتاج الآدمي لأثر في نتاج
__________
(1) “بيانها” ساقطة من “ب”.
(2) قال العلامة ابن باز رحمه الله في تعليقه على الكتاب: لعله: “بقي”.
(3) “استويا فيها” ساقطة من “ب”.
(4) تقدم تخريجه.
(5) وفي “د” و”هـ”: “المتلاعنين”.
(6) في “أ” و”د” و”هـ”: “فإذا”.
(7) انظر: المبسوط (17/ 71).

(2/601)


الحيوان”.
جوابه من وجوه:
أحدها: منع الملازمة، إذ لم يذكروا عليها دليلًا سوى مجرَّد الدعوى، فأين التلازم شرعًا وعقلًا بين النَّاس والحيوان (1)؟
الثاني: أنَّ الشارع متشوف إلى ثبوت الأنساب مهما أمكن، ولا يحكم بانقطاع النسب إلَّا حيث يتعذَّر إثباته، ولهذا ثبته بالفراش وبالدعوى وبالأسباب التي بمثلها لا يثبت نتاج الحيوان (2).
الثالث: أن إثبات النسب فيه حق لله وحق للولد وحق للأب، ويترتب عليه من أحكام الوصل بين العباد ما به قوام مصالحهم وتمامها (3)، فأثبته الشرع بأنواع الطرق التي لا يثبت بمثلها نتاج الحيوان.
الرَّابع: أنَّ سببه الوطء، وهو إنَّما يقع غالبًا في غاية التستر، ويكتم عن العيون وعن اطلاع القريب والبعيد عليه، فلو كلف البينة على سببه لضاعت أنساب بني آدم، وفسدت أحكام الصلات التي بينهم، ولهذا ثبت بأيسر شيء من فراش ودعوى وشبه، حتَّى أثبته أبو حنيفة بمجرد العقد، مع القطع بعدم وصول أحدهما إلى الآخر (4)، وأثبته
__________
(1) “والحيوان” مثبتة من “جـ”، وصححها العلامة ابن باز – رحمه الله تعالى -.
(2) انظر: روضة الطالبين (8/ 378)، الحاوي الكبير (17/ 385).
(3) “وتمامها” مثبتة من “أ”.
(4) انظر: البحر الرَّائق (4/ 262)، فتح القدير (4/ 348)، الدر المختار (3/ 578)، البناية (5/ 453).

(2/602)


لأُمَّين (1) مع القطع بعدم خروجه منهما احتياطًا للنسب، ومعلوم أنَّ الشبه أولى وأقوى من ذلك بكثير.
الخامس: أنَّ المقصود من نتاج الحيوان إنَّما هو المال المجرَّد، فدعواه دعوى مال محض، بخلاف دعوى النسب، فأين دعوى المال من دعوى النسب (2)؟ وأين أسباب ثبوت أحدهما من أسباب ثبوت الآخر؟
السادس: أنَّ المالَ يباح بالبذل، ويُعاوَضُ عليه، ويقبل النقل، وتجوز الرغبة عنه، والنسب بخلاف ذلك.
السَّابع: أنَّ الله سبحانه جعل بين أشخاص الآدميين من الفرق في صورهم وأصواتهم وحلاهم ما يتميز به بعضهم من بعض، ولا يقع الاشتباه بينهم، بحيث يتساوى الشخصان من كلِّ وجهٍ إلَّا في غاية الندرة، مع أنَّه لا بُدَّ من الفرق، وهذا القدر لا يوجد مثله بين أشخاص الحيوان، بل التشابه فيه أكثر والتماثل أغلب، فلا يكاد الحس يميز بين نتاج الحيوان ونتاج غيره برد كل منهما إلى أُمِّه وأبيه، وإن كان قد يقع ذلك، لكن وقوعه قليل بالنسبة إلى أشخاص الآدمي، فإلحاق أحدهما بالآخر ممتنع.
قولهم (3): “إنَّ الاعتماد في القافة على الشبه، وهو أمر
__________
(1) وفي “ب” و”د” و”و”: “لاثنين”.
وانظر: المبسوط (17/ 71)، بدائع الصنائع (6/ 244)، البحر الرَّائق (4/ 244).
(2) “فأين دعوى المال من دعوى النسب” ساقطة من “ب” و”و”.
وانظر: الحاوي الكبير (17/ 385).
(3) في النسخ عدا “أ” و”جـ” “الثامن”. وهو خطأ لكون الأجوبة السبعة السابقة =

(2/603)


مدرك (1) بالحس، فإن حصل بالمشاهدة فلا حاجة إلى القائف، وإن لم يحصل لم يقبل قول القائف”.

جوابه أن يقال: الأمور المدركة بالحس نوعان:
نوع يشترك فيه الخاص والعام، كالطول والقصر، والبياض والسواد، ونحو ذلك، فهذا لا يقبل فيه تفرد المخبر والشاهد بما لا يدركه النَّاس معه.
والثاني: ما لا يلزم فيه الاشتراك، كرؤية الهلال، ومعرفة الأوقات، وأخذ كل من الليل والنهار (2) في الزيادة والنقصان، ونحو ذلك ممَّا يختص بمعرفته أهل الخبرة، من تعديل القسمة، وكبر الحيوان وصغره، والخرص، ونحو ذلك، فهذا وأمثاله ممَّا مستنده (3) الحس ولا يجب الاشتراك فيه، فيقبل فيه قول الواحد والاثنين.
ومن هذا: التشابه والتماثل بين الآدميين، فإنَّ التشابه بين (4) الولد والوالد يظهر في صورة الطفل وشكله، وهيئة أعضائه، ظهورًا خفيًّا، يختص بمعرفته القائف دون غيره، ولهذا كانت العرب تعرف ذلك لبني
__________
= جوابًا لقولهم: “لو أثر الشبه والقافة في نتاج الآدمي لأثر في نتاج الحيوان”. وهنا ذكر المؤلِّف تعليلًا آخر لهم وليس جوابًا.
(1) في “أ”: “يدرك”.
(2) “والنَّهار” ساقطة من “د” و”هـ”.
(3) في “د” و”هـ”: “يسنده”.
(4) “الآدميين فإنَّ التشابه بين” ساقطة من “هـ”.

(2/604)


مدلج، وتقر لهم به، مع أنَّه لا يختص بهم (1)، ولا يشترط في القائف كونه منهم.
قال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عن القائف هل يقضى بقوله؟ قال: يقضى بقوله إذا علم، وأهل الحجاز يعرفون ذلك (2).
وشرط بعض الشافعية كونه مدلجيًّا (3)، وهذا ضعيف جدًّا لا يلتفت إليه.
قال عبد الرحمن بن حاطب: “كُنت جالسًا عند عمر – رضي الله عنه -، فجاءه رجلان في غلام، كلاهما يدعي أنَّه ابنه، فقال عمر – رضي الله عنه -: ادعوا لي أخا بني المصطلق، فجاء فقال: انظر ابن أيهما تراه؟ فقال: قد اشتركا فيه” (4) وذكر بقية الخبر، وبنو المصطلق بطن من خزاعة لا نسب لهم في بني مدلج.
وكذلك إياس بن معاوية (5) كان غاية في القيافة وهو من مزينة، وشريح بن الحارث القاضي كان قائفًا، وهو من كندة، وقد قال أحمد: أهل الحجاز يعرفون ذلك، ولم يخصه ببني مدلج.
والمقصود: أنَّ أهل القيافة كأهل الخبرة وأهل الخرص والقاسمين
__________
(1) انظر: فتح الباري (12/ 57)، مغني المحتاج (4/ 489)، تحفة الأحوذي (6/ 273)، منهاج الطالبين (1/ 157).
(2) تقدم.
(3) انظر: المهذب (1/ 437).
(4) تقدم تخريجه ص (580).
(5) انظر: الشرح الكبير (16/ 354)، كشاف القناع (4/ 236).

(2/605)


وغيرهم، ممَّن اعتمادهم على الأمور المشاهدة المرئية لهم، ولهم فيها علامات يختصون بمعرفتها من التماثل والاختلاف والقدر والمساحة، وأبلغ من ذلك النَّاس يجتمعون لرؤية الهلال، فيراه من بينهم الواحد والاثنان، فيحكم بقوله أو قولهما دون بقية الجمع.
قولهم: “إنَّا ندرك التشابه بين الأجانب والاختلاف بين المشتركين في النسب”.
قلنا (1): نعم، لكن الظاهر الأكثر خلاف ذلك، وهو الَّذي أجرى الله – سبحانه وتعالى – به العادة، وجواز التخلف عن الدليل والعلامة الظاهرة في النَّادر لا يخرجه عن أن يكون دليلًا عند عدم معارضة ما يقاومه، ألا ترى أنَّ الفراش دليل على النسب والولادة، وأنَّه ابنه؟ ويجوز – بل يقع كثيرًا – تخلف دلالته، وتخليق الولد من غير ماء صاحب الفراش، ولا يبطل ذلك كون الفراش دليلًا، وكذلك أمارات الخرص والقسمة والتقويم وغيرها قد تتخلف عنها أحكامها ومدلولاتها، ولا يمنع ذلك اعتبارها، وكذلك شهادة الشاهدين وغيرهما، وكذلك دلالة الأقراء والقرء (2) الواحد على براءة الرحم، إنَّما هو دليل ظاهر مع جواز تخلف دلالته، ووقوع ذلك وأمثال ذلك كثير.
__________
(1) انظر: زاد المعاد (5/ 421).
(2) القرء بفتح القاف: الحيض أو الطهر وهو من الأضداد. انظر: المطلع (334).

(2/606)


قولهم: “إنَّ الاستلحاق موجب للحوق النسب، وقد اشتركا فيه، فيشتركان في موجبه”.
قلنا: هذا صحيح، إذا لم يتميز أحدهما بأمرٍ خارج عن الدعوى، فأمَّا إذا تميز بأمرٍ آخر، كالفراش والشبه، كان اللحاق به، كما لو تميز بالبينة، بل الشبه نفسه بينة من أقوى البينات، فإنَّها اسمٌ لما يبين الحق ويظهره، وظهور الحق ها هنا بالشبه أقوى من ظهوره بشهادة من يجوز عليه الوهم والغلط والكذب، وأقوى بكثير من فراش يقطع بعدم اجتماع الزوجين فيه.
قولهم: “القائف إمَّا شاهد وإما حاكم … ” إلخ.
قلنا: هذا فيه قولان لمن يقول بالقافة، هما روايتان عن أحمد (1)، ووجهان لأصحاب الشافعي (2)، مبنيان على أنَّ القائف هل هو حاكم أو شاهد؟ عند طائفة من أصحابنا وعند آخرين ليسا مبنيين على ذلك، بل الخلاف جار، سواء قلنا: القائف حاكم أو شاهد كما نعتبر حاكمين في جزاء الصيد (3).
__________
(1) انظر: القواعد والفوائد الأصولية (301)، الإنصاف (16/ 357).
(2) انظر: الأم (6/ 345)، الإقناع للماوردي (1/ 204)، التهذيب (17/ 386 و 392).
وروايتان عن الإمام مالك رحمه الله تعالى. انظر: الاستذكار (22/ 186)، الفروق (1/ 8)، المنتقى (5/ 213).
(3) انظر: القواعد والفوائد الأصولية (301)، الإنصاف (16/ 357)، بدائع الفوائد (1/ 6).

(2/607)


وكذلك إذا قبلنا قوله وحده: جاز ذلك، وإن جعلناه شاهدًا، كما نقبل قول القاسم والخارص والمقوم والطبيب ونحوهم وحده.
ومنهم من يبني الخلاف على كونه شاهدًا أو مخبرًا، فإن جعلناه مخبرًا اكتفي بخبره وحده، كالخبر عن الأمور الدينية، وإن جعلناه شاهدًا لم نكتف بشهادته وحده (1)، وهذا أيضًا ضعيف، فإنَّ الشاهد مخبر، والمخبر شاهد، وكل من شهد بشيء فقد أخبر به، والشريعة لم تفرق بين ذلك أصلًا، وإنَّما هذا على أصل من اشترط في قبول الشهادة لفظ “الشهادة” دون مجرد الإخبار، وقد تقدم بيان ضعف ذلك (2)، وأنَّه لا دليل عليه، بل الأدلة كثيرة – من الكتاب والسنة – تدلُّ على خلافه.
والقضايا التي رويت في القافة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – والصحابة بعده ليس في قضية واحدة منها أنَّهم قالوا للقائف: تلفظ بلفظة “أشهد أنَّه ابنه” ولا تلفظ بذلك القائف أصلًا، وإنَّما وقع الاعتماد على مجرد خبره، وهو شهادة منه، وهذا بيِّن لمن تأمله، ونصوص أحمد لا تشعر بهذا البناء الَّذي ذكروه بوجه، وإنَّما المتأخرون يتصرفون في نصوص الأئمة ويبنونها على ما لم يخطر لأصحابها ببال، ولا جرى لهم في مقال،
__________
(1) انظر: الأم (6/ 345)، مغني المحتاج (4/ 389)، نهاية المحتاج (8/ 375)، المنتقى (5/ 533)، البيان والتحصيل (10/ 126)، المغني (8/ 376)، الفروع (5/ 533)، تفسير القرطبي (5/ 213)، الإنصاف (16/ 355).
(2) ص (539).

(2/608)


ويتناقله (1) بعضهم عن بعض، ثمَّ يلزمهم من طرده لوازم لا يقول بها الأئمة، فمنهم من يطردها ويلتزم (2) القول بها، ويضيف ذلك إلى الأئمة، وهم لا يقولون به، فيروج بين النَّاس بجاه (3) الأئمة، ويفتى ويحكم به والإمام لم يقله قط، بل يكون قد نصَّ على خلافه.
ونحن نذكر نصوص الإمام أحمد في هذه المسألة:
قال جعفر بن محمد النسائي: سمعت أبا عبد الله يسأل عن الولد يدعيه الرجلان؟ قال: يُدعى له رجلان من القافة، فإن ألحقاه بأحدهما، فهو له (4).
وقال محمد بن داود المصيصي: سئل أبو عبد الله عن جارية بين رجلين وقعا عليها؟ قال: إن ألحقوه بأحدهما فهو له، قيل له: إن قال أحد القافة: هو لهذا، وقال الآخر: هو لهذا؟ قال: لا يقبل قول واحد حتَّى يجتمع اثنان، فيكونا (5) كشاهدين (6).
وقال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: إن قال أحد القافة هو لهذا، وقال الآخر: هو لهذا؟ قال: لا يقبل قول واحد حتَّى يجتمع اثنان، فيكونا
__________
(1) في “أ”: “يتناوله”.
(2) وفي “أ” و”و”: “ويلزم”.
(3) في “ب”: “تجاه”.
(4) انظر: الإنصاف (16/ 356).
(5) في “أ” و”د”: “ليكونا”.
(6) انظر: الإنصاف (16/ 358)، الشرح الكبير (16/ 355).

(2/609)


كشاهدين (1)، وإذا شهد اثنان من القافة أنَّه لهذا فهو له (2).
واحتجَّ من رجَّح هذا القول بأنَّه حكم بالشبه، فيعتبر فيه العدد، كالحكم بالمثل في جزاء الصيد.
قالوا: بل هو (3) أولى؛ لأنَّ درك المثلية في الصيد أظهر بكثيرٍ من دركها ها هنا؛ فإذا تابع القائف غيره سكنت النفس واطمأنت إلى قوله.
وقال أحمد – في رواية أبي طالب – في الولد يكون بين الرجلين: يُدعى القائف، فإذا قال: هو منهما فهو منهما (4)، انظر (5) إلى ما يقول القائف، وإن جعله لواحد فهو لواحد (6).
وقال في رواية إسماعيل بن سعيد: وسئل عن القائف هل يقضى بقوله؟ فقال: يقضى بذلك إذا علم.
ومن حجة هذا القول – وهو اختيار القاضي (7) وصاحب (8)
__________
(1) في “أ” و”ب” و”د”: “شاهدين”.
(2) انظر: الإنصاف (16/ 358)، الشرح الكبير (16/ 355).
(3) “هو” مثبتة من “جـ”.
(4) “فهو منهما” ساقطة من “د”.
(5) في “جـ”: “نظرًا”.
(6) انظر: الإنصاف (16/ 355 – 356)، مسائل صالح (1/ 355).
(7) أبي يعلى.
(8) انظر: الشرح الكبير (16/ 356)، الإنصاف (16/ 356).

(2/610)


“المستوعب” (1)، والصحيح من مذهب الشافعي (2)، وقول أهل الظاهر (3): أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – سرّ بقول مجزز المدلجي (4) وحده (5)، وصحَّ عن عمر – رضي الله عنه – أنَّه استقاف المصطلقي وحده، كما تقدم (6)، واستقاف ابن عباس ابن كلدة وحده، واستلحق بقوله (7).
وقد نص أحمد (8) على أنه يكتفى بالطبيب والبيطار الواحد إذا لم يوجد سواه والقائف مثله، فتخرج له رواية ثالثة كذلك، والله
__________
(1) محمد بن عبد الله بن محمد بن الحسن السامري، توفي سنة 616 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: الذيل على طبقات الحنابلة (2/ 121)، شذرات الذهب (7/ 126)، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد (429).
قال عنه ابن بدران “بكسر العين المهملة .. وهو كتاب مختصر الألفاظ كثير الفوائد والمعاني .. وبالجملة فهو كتاب أحسن متن صنف في مذهب الإمام أحمد وأجمعه .. ” ا. هـ. المدخل (429 – 430).
(2) انظر: مغني المحتاج (4/ 389)، نهاية المحتاج (8/ 375)، التهذيب (8/ 347)، الحاوي الكبير (17/ 380).
(3) انظر: المحلَّى (9/ 435).
(4) “المدلجي” مثبتة من “جـ”.
(5) تقدم تخريجه.
(6) ص (580).
(7) تقدم تخريجه.
(8) انظر: المحرر (2/ 324)، المغني (14/ 273)، شرح الزركشي (7/ 396)، المقنع لابن البنا (4/ 1319)، معونة أولي النهى (9/ 424)، غاية المنتهى (3/ 507)، الرعاية الصغرى (2/ 399)، شرح منتهى الإرادات (3/ 601)، كشف المخدرات (2/ 262)، دليل الطالب (286)، هداية الراغب (565)، منار السبيل (2/ 496).

(2/611)


أعلم، بل هذا أولى من الطبيب والبيطار؛ لأنهما أكثر وجودًا منه، فإذا اكتفي بالواحد منهما – مع عدم غيره – فالقائف أولى.
وأما قولكم: “إن داود وسليمان لم يحكما بالقافة في قصة الولد الذي ادعته المرأتان”.
فيقال: قد اختلف القائلون بالقافة: هل يعتبر في تداعي المرأتين كما يعتبر في تداعي الرجلين؟ وفي ذلك وجهان لأصحاب الشافعي (1):
أحدهما: لا يعتبر ها هنا، وإن اعتبر في تداعي (2) الرجلين.
قالوا: والفرق بينهما أنا يمكننا التوصل إلى معرفة الأم يقينًا (3)، بخلاف الأب، فإنا لا سبيل لنا فيه إلى ذلك، فاحتجنا إلى القافة، وعلى هذا فلا إشكال.
والوجه الآخر – وهو الصحيح -: أن القافة تجري ها هنا كما تجري بين الرجلين، قال أحمد – في رواية ابن (4) الحكم (5) في يهودية ومسلمة ولدتا، فادعت اليهودية ولد المسلمة – قيل له: يكون في هذا
__________
(1) انظر: روضة الطالبين (4/ 507)، التهذيب (8/ 347)، الحاوي الكبير (17/ 396).
(2) في “ب” و”د”: “دعوى”.
(3) “يقينًا” مثبتة من “أ”.
(4) في “أ”: “أبي”.
(5) محمد بن الحكم أبو بكر الأحول، توفي سنة 223 هـ – رحمه الله تعالى -.
انظر: طبقات الحنابلة (2/ 295).

(2/612)


القافة؟ قال: ما أحسنه (1).
والأحاديث المتقدمة (2) التي دلت على أن الولد يأخذ الشبه من الأم تارة، ومن الأب تارة، تدل على صحة هذا القول.
فإن الحكم بالقافة إنما هو حكم (3) بالشبه، وقد تقدم في ذلك حديث عائشة، وأم سلمة (4)، وأنس بن مالك (5)، وثوبان (6)، وعبد الله بن سلام (7)، وكون الأم يمكن معرفتها يقينًا – بخلاف الأب – لا يدل على أن القافة لا تعتبر في حق المرأتين؛ لأنا إنما نستعملها عند عدم معرفة الأم، ولا يلزم من عدم استعمالها عند تيقن معرفة الأم عدم استعمالها عند الجهل بها، كما أنا إنما نستعملها في حق الرجلين عند عدم تيقن الفراش، لا عند تيقنه.
وأما كون داود وسليمان لم يعتبراها؛ فإما ألا يكون ذلك (8) شريعة لهما، وهو الظاهر، إذ لو كان ذلك شرعًا لدعيا القافة للولد.
وإما أن تكون القافة مشروعة في تلك الشريعة، لكن في حق
__________
(1) انظر: المغني (8/ 381)، الشرح الكبير (16/ 343).
(2) من قول المؤلِّف “لمن يقول بالقافة هما روايتان عن أحمد ووجهان لأصحاب الشافعي مبنيان … ” إلى قوله هنا “الأحاديث المتقدمة” ساقطة من “هـ”.
(3) في “أ”: “إنَّما يتوهم بالشبه”.
(4) تقدم تخريجه ص (583). وحديث عائشة تقدم ص (584).
(5) تقدم تخريجه ص (585).
(6) تقدم تخريجه ص (584).
(7) تقدم تخريجه ص (585).
(8) في “و”: “لأن كون”.

(2/613)


الرجلين، كما هو أحد القولين في شريعتنا (1)، وحينئذٍ فلا كلام.
وإما أن تكون مشروعة مطلقًا، ولكن أشكل على نبي الله أمر الشبه بحيث لم يظهر له، وأن القائف لا يعلم الحال في كل صورة، بل قد يشتبه عليه كثيرًا.
وعلى كل تقدير، فلا حجة في القصة على إبطال حكم القافة في شريعتنا، والله أعلم.
بل قصة (2) داود وسليمان صريحة في إبطال إلحاق الولد بأُمَّين، فإنه لم يحكم به نبي من النبيين الكريمين – صلوات الله عليهما وسلامه – بل اتفقا على إلغاء هذا الحكم، فالذي دلت عليه قصتهما لا يقولون به، والذي يقولون به غير ما دلت عليه القصة.

فصل
وأما حديث زيد بن أرقم في قصة علي في الولد الذي ادعاه الثلاثة والإقراع بينهما، فهو حديث مضطرب جدًّا (3)، كما تقدم ذكره (4).
__________
(1) انظر: روضة الطالبين (4/ 507)، الحاوي الكبير (17/ 396)، المغني (8/ 381)، الشرح الكبير (16/ 343)، المبسوط (17/ 71)، بدائع الصنائع (6/ 244)، البحر الرَّائق (4/ 244).
(2) في “و”: “قضية”.
(3) سيذكر المؤلِّف قريبًا من تكلَّم في الحديث. وممَّن قال باضطراب الحديث: أبو حاتم كما ذكره ابنه عنه في العلل (1/ 402)، والعقيلي في الضعفاء (2/ 245)، وذكر ابن رجب – رحمه الله تعالى – أنَّه أفرد هذا الحديث في جزء. انظر: القواعد (3/ 236).
(4) ص (594).

(2/614)


وقد قال علي بن سعيد (1): سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث؟ فقال: هذا حديث منكر، لا أدري ما هذا ولا أعرفه صحيحًا (2).
وقال له إسحاق بن منصور: حديث زيد بن أرقم “أن ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد”؟ قال: حديث عمر في القافة أعجب إلي (3).
وذكر البخاري في “تاريخه” (4): أن عبد الله بن الخليل لا يتابع على هذا الحديث (5).
وهذا يوافق قول أحمد: إنه حديث منكر.
ويدل عليه أيضًا (6): ما رواه قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن علي – رضي الله عنه – “أن رجلين وقعا على امرأة في طهر واحد، فجاءت بولد، فدعا له علي (7) القافة، وجعله ابنهما جميعًا، يرثهما
__________
(1) هو علي بن سعيد بن جرير النسوي أبو الحسن، توفي سنة 257 هـ رحمه الله تعالى. انظر: طبقات الحنابلة (2/ 126)، الثقات لابن حبان (8/ 474)، تهذيب الكمال (20/ 447).
(2) انظر: المحرر في الحديث (382)، قواعد ابن رجب (3/ 2232)، إعلام الموقعين (2/ 82)، تهذيب السنن (3/ 177).
(3) مسائل الكوسج (1/ 410). وانظر: زاد المعاد (5/ 430)، إعلام الموقعين (2/ 28)، تهذيب السنن (3/ 178)، قواعد ابن رجب (3/ 233).
(4) التاريخ الكبير (5/ 79).
(5) وانظر: الكامل (5/ 289)، سنن البيهقي (10/ 451)، الضعفاء الكبير للعقيلي (2/ 245)، ميزان الاعتدال (4/ 90).
(6) انظر: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة (1/ 161).
(7) “علي” ساقطة من “جـ” و”هـ” و”و”.

(2/615)


ويرثانه” (1)، وهذا يدل على أن مذهب علي – رضي الله عنه – الأخذ بالقافة دون القرعة.
وأيضًا؛ فالمعهود من استعمال القرعة إنما هو إذا لم يكن هناك مرجح سواها، ومعلوم أن القافة مرجحة: إما شهادة، وإما حكمًا، وإما فتيا (2)؛ فلا يصار إلى القرعة مع وجودها.
وأيضًا؛ فنفاة القافة لا يأخذون بحديث علي في القرعة (3)، ولا بحديثه وحديث عمر في القافة (4)، فلا يقولون (5) بهذا ولا بهذا (6).
فنقول: حديث علي – رضي الله عنه -: إما أن يكون ثابتًا أو لا يثبت، فإن لم يثبت فلا إشكال، وإن كان ثابتًا فهو واقعة عينٍ تحتمل وجوهًا:
أحدها: أن لا يكون قد وجد في ذلك المكان وفي ذلك الوقت قائف، أو يكون قد أشكل على القائف ولم يتبين له، أو يكون لعدم كون القيافة طريقًا شرعيًّا، وإذا احتملت القصة هذا وهذا وهذا لم يجزم
__________
(1) تقدم تخريجه ص (581).
(2) “فتيا” ساقطة من “ب”، وفيها “وإمَّا ظنًّا”.
(3) المتقدم ص (594).
(4) المتقدم ص (579).
(5) “بحديث علي في القرعة ولا بحديثه وحديث عمر في القافة فلا يقولون” ساقطة من “و”.
(6) في “ب” و”د” و”هـ”: “هذا ولا هذا”.

(2/616)


بوقوع أحد الاحتمالات إلا بدليل، وقد تضمنت القصة أمرين مشكلين:
أحدهما (1): ثبوت النسب بالقرعة.
والثاني: إلزام من خرجت له القرعة بثلثي الدية للآخرين.
فمن صحح الحديث ونفى الحِكَم والتعليل – كبعض أهل الظاهر – قال به ولم يلتفت إلى معنى ولا علة ولا حكمة، وقال: ليس هنا إلا التسليم والانقياد.
وأما من سلك طريق التعليل والحكمة، فقد يقول: إنه إذا تعذرت القافة أو أشكل الأمر عليها كان المصير إلى القرعة أولى من ضياع نسب الولد، وتركه هملًا (2) لا نسب له، وهو ينظر إلى ناكح أمه وواطئها، فالقرعة ها هنا أقرب الطرق إلى إثبات النسب، فإنها طريق شرعي، وقد سدت (3) الطرق سواها (4)، وإذا كانت صالحة لتعيين الأملاك المطلقة، وتعيين الرقيق من الحر، وتعيين الزوجة من الأجنبية، فكيف لا تصلح لتعيين صاحب النسب (5) من غيره؟.
والمعلوم أن طرق حفظ الأنساب أوسع من طرق حفظ الأموال،
__________
(1) انظر: زاد المعاد (5/ 430)، فتح القدير لابن الهمام (5/ 53).
(2) في “أ”: “مهملًا”.
(3) في “جـ” و”د” و”هـ” و”و”: “استدت”.
(4) في “و”: “إلَّا سواها”.
(5) في “د”: “صاحب الفراش”.

(2/617)


والشارع إلى ذلك أعظم تشوفًا (1)، فالقرعة شرعت لإخراج المستحق تازة، ولتعيينه تارة، وها هنا أحد المتداعيين هو أبوه حقيقة، فعملت القرعة في تعيينه، كما عملت في تعيين الزوجة (2) عند اشتباهها بالأجنبية، فالقرعة تخرج المستحق شرعًا، كما تخرجه قدرًا.
وقد تقدم في تقرير صحتها واعتبارها ما فيه شفاء، فلا استبعاد في الإلحاق بها عند تعينها طريقًا، بل خلاف ذلك هو المستبعد.
الأمر الثاني: إلزام من خرجت له القرعة بثلثي الدية لصاحبيه، وهذا أيضًا له وجه (3)، فإن وطء كل واحد من الآخرين كان صالحًا لحصول الولد له، ويحتمل أن يكون الولد له في نفس الأمر، فلما خرجت القرعة لأحدهم أبطلت ما كان كل من الواطئين يرجوه (4) من حصول الولد له، فقد بذر كل منهم بذرًا يرجو أن يكون الزرع له، فقد
__________
(1) انظر: زاد المعاد (5/ 431).
(2) في “د” و”هـ” و”و”: “أمه”.
(3) وقال ابن القيم رحمه الله: “وسألت عنه شيخنا فقال: له وجه ولم يزد”، وقال عقبه: “ولكن قد رواه الحميدي في مسنده بلفظ آخر يدفع الإشكال جملة قال: “وأغرمه ثلثي قيمة الجارية لصاحبيه” وهذا لأنَّ الولد لما لحق به صارت أم ولد وله فيها ثلثها فغرمه قيمة ثلثيها الَّلذين أفسدهما على الشريكين بالاستيلاء، فلعلَّ هذا هو المحفوظ، وذِكْر ثلثي دية الولد وهم أو يكون عبَّر عن قيمة الجارية بالدِّية لأنَّها هي التي يودى بها فلا يكون بينهما تناقض، والله أعلم” ا. هـ، تهذيب السنن (3/ 178)، وانظر: زاد المعاد (5/ 431)، إعلام الموقعين (2/ 29)، مسند الحميدي (802).
(4) “يرجوه” مثبتة من “أ”.

(2/618)


اشتركوا في البذر، فإذا فاز أحدهم بالزرع كان من العدل أن يضمن لصاحبيه ثلثي القيمة، والدية قيمة الولد شرعًا، فلزمه ضمان ثلثيها لصاحبيه، إذ الثلثان عوض ثلثي الولد الذي استبد به دونهما، مع اشتراكهما في سبب حصوله.
وهذا أصح من كثير من الأحكام التي يثبتونها بآرائهم وأقيستهم، والمعنى فيه أظهر.
وقد اعتبر الصحابة – رضي الله عنهم – مثل ذلك في ولد المغرور، حيث حكموا بحريته، وألزموا الواطئ فداءه بمثله لما فوت رقه على سيد الأمة (1)، هذا مع أنه لم يوجد من سيدها هناك وطء يكون منه ولد، بل الزوج وحده هو الواطئ، ولكن لما كان الولد تابعًا لأمه في الرق كان بصدد أن يكون رقيقًا لسيدها، فلما فاته ذلك – بانعقاد الولد حرا من أمته – ألزموا الواطئ بأن يغرم له نظيره، ولم يلزموه بالدية؛ لأنه إنما فوت عليه رقيقًا، ولم يفوت عليه حرًّا، وفي قصة علي (2) – رضي الله عنه – كان الذي فوته الواطئ القارع حرًّا، فلزمه حصة صاحبيه من الدية ولو كان واحدًا لزمه نصف الدية.
فهذا أحسن وجوه الحديث، فإن كان صحيحًا عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة (4/ 366)، عن عمر وعثمان – رضي الله عنهما – كما رواه أيضًا (4/ 320) عن علي رضي الله عنه. وانظر: المدونة (2/ 211)، ونصب الراية (4/ 110)، الدراية (2/ 179)، زاد المعاد (5/ 431)، إعلام الموقعين (2/ 29).
(2) المتقدم ذكرها ص (594).

(2/619)


فالقول الصحيح هو القول بموجبه، ولا قول سواه، وبالله التوفيق.

فصل
هذا كلَّه في الحكم بين النَّاس في الدعاوى (1).
وأما الحكم بينهم فيما لا يتوقف على الدعوى فهو المسمَّى بالحسبة (2)، والمتولي له: والي الحسبة، وقد جرت العادة بإفراد هذا النوع بولاية خاصة، كما أفردت ولاية المظالم بولاية خاصَّة، والمتولي لها يسمى والي المظالم، وولاية المال قبضًا وصرفًا بولاية خاصة، والمتولي لذلك يسمى وزيرًا، وناظر البلد، والمتولي لإحصاء المال ووجوهه وضبطه تسمَّى ولايته: ولاية استيفاء، والمتولي لاستخراجه وتحصيله ممن هو عليه تسمى ولايته: ولاية السر، والمتولي لفصل الخصومات، وإثبات الحقوق، والحكم في الفروج (3) والأنكحة والطلاق والنفقات، وصحة العقود وبطلانها هو المخصوص باسم الحاكم والقاضي، وإن كان هذا الاسم يتناول كل حاكم بين اثنين وقاض بينهما، فيدخل أصحاب هذه الولايات جميعهم تحت قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ
__________
(1) في “أ”: “الدعوى”.
(2) الحسبة بكسر الحاء وهي شرعًا: أمر بالمعروف إذا ظهر تركه ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله. انظر: الأحكام السلطانية للماوردي (315)، الأحكام السلطانية لأبي يعلى (284)، ونصاب الاحتساب (82).
(3) في “أ”: “التزوج”.

(2/620)


بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] وتحت قوله تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} [المائدة: 44]، وقوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] وقوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] وتحت قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] وقوله – صلى الله عليه وسلم -: “القُضَاةُ ثَلَاثَةٌ” (1)، وقوله: “مَنْ وَلِيَ القَضَاءَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ” (2)، وقوله – صلى الله عليه وسلم -: “المُقْسِطون عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُوْرٍ عَنْ يَمين الرَّحْمَنِ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذين يَعْدِلُوْنَ فِي حُكْمِهِم وَأَهْلِيهِمْ
__________
(1) رواه أبو داود رقم (3573) والترمذي رقم (1322) (3/ 5)، والنسائي في الكبرى رقم (5922) (3/ 461)، وابن ماجه رقم (2315) (4/ 10)، والحاكم (4/ 90)، والبيهقي (10/ 199)، والطبراني في معجم الأوسط (4/ 377)، رقم (3641) و (7/ 388) رقم (6753) وفي المعجم الكبير (2/ 20) رقم (1154) و (1156) من حديث بريدة رضي الله عنه. قال الحاكم: “هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وله شاهد بإسناد صحيح على شرط مسلم” ا. هـ. وقال الذهبي: “ابن بكير الغنوي منكر الحديث”. قال: “وله شاهد صحيح” ا. هـ. تلخيص المستدرك (4/ 90)، وقال ابن عبد الهادي: “إسناده جيد” انظر: المحرر في الحديث رقم (1189) وكذلك قال ابن كثير. الإرشاد (391) وحسنه الحافظ ابن حجر في هداية الرواة (3/ 478).
(2) رواه ابن أبي شيبة (4/ 543)، وأحمد (2/ 230 و 365)، وأبو داود رقم (3571)، والترمذي رقم (1325)، والنسائي في الكبرى (5923)، وابن ماجه رقم (2308) (4/ 5)، والدَّارقطني (4/ 204)، والحاكم (4/ 91)، والبيهقي (10/ 164)، وفي المعرفة (14/ 221)، وابن حبان في الثقات (6/ 286) و (7/ 204)، وأبو يعلى (10/ 261) و (11/ 491)، ووكيع في أخبار القضاة (1/ 9) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: “حسنٌ غريب”، =

(2/621)


وَمَا وَلُوا” (1).
والمقصود: أنَّ الحكم بين النَّاس في النوع الَّذي لا يتوقف على الدعوى هو المعروف بولاية الحسبة.
وقاعدته وأصله: هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الَّذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، ووصف به هذه الأمة، وفضّلها لأجله على سائر الأمم التي أخرجت للنَّاس (2)، وهذا واجبٌ على كلِّ مسلم قادر، وهو فرض كفاية، ويصير فرض عين على القادر الَّذي لم يقم به غيره من ذوي الولاية والسلطان (3)، فعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم، فإنَّ مناط الوجوب هو القدرة، فيجب على القادر ما لا يجب على العاجز، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ” (4).
__________
= وقال الحاكم: “هذا حديثٌ صحيح الإسناد ولم يخرجاه” ووافقه الذهبي، وحسنه الحافظ ابن حجر في هداية الرواة (3/ 477)، وانظر: العلل لابن المديني (157)، كما حسَّنهُ البغوي في شرح السنَّة (10/ 92)، وصححه السيوطي في الجامع الصغير (2/ 169).
(1) رواه مسلم رقم (1827) (12/ 453) من حديث عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما -.
(2) في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
(3) انظر: الأحكام السلطانية للماوردي (315)، والأحكام السلطانية لأبي يعلى (284)، معالم القربة (22)، الفروق (4/ 257).
(4) رواه البخاري رقم (7288) (13/ 264)، ومسلم رقم (1337) (9/ 108) =

(2/622)


وجميع الولايات الإسلامية مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن من المتولين من يكون بمنزلة الشاهد المؤتمن، والمطلوب منه الصدق، مثل صاحب الديوان الَّذي وظيفته أن يكتب المستخرج والمصروف، والنقيب والعريف الَّذي وظيفته إخبار ولي الأمر بالأحوال (1)، ومنهم من يكون بمنزلة الآمر المطاع، والمطلوب منه العدل، مثل الأمير والحاكم والمحتسب.

ومدار الولايات كلها على الصدق في الإخبار، والعدل في الإنشاء، وهما قرينان (2) في كتاب الله تعالى وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلً} [الأنعام: 115]، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم – لما ذكر الأمراء الظلمة: “مَنْ صَدَّقَهُمْ بكَذِبِهم، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسَ مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُ، وَلَا يَرِدُ عَلَيَّ الحَوْضَ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَهُوَ مِنِّي وِأَنَا مِنْهُ وَسَيَردُ عَلَيَّ الحَوْضَ” (3)، وقال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى
__________
= من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1) في “أ”: “بالأقوال”.
(2) في “أ”: “قرينتان”.
(3) “ومن لم يصدقهم بكذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم، فهو منِّي، وأنا منه وسيرد علي الحوض” ساقطة من “ب”.
والحديث رواه عبد الرزاق (11/ 346)، وأحمد (3/ 321)، وعبد بن حميد رقم (1138)، وابن حبان (2/ 372) رقم (4514)، والحاكم (4/ 422)، والطحاوي في شرح المشكل (3/ 374) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. =

(2/623)


كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221, 222] فالأفَّاك: الكاذب، والأثيم: الظالم الفاجر (1)، وقال تعالى: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق: 15، 16].
__________
= وقال الحاكم: “هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه” ووافقه الذهبي.
ومن حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه رواه أحمد (4/ 243)، وعبد بن حميد (370)، والطيالسي (1064)، والترمذي رقم (614) (1/ 600)، والنسائي رقم (4207) و (4208) (7/ 160)، وفي الكبرى (4/ 434) رقم (7830) و (7831)، والبيهقي (8/ 286)، وابن أبي عاصم في السنة (2/ 339) رقم (758).
ومن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه رواه أحمد (3/ 24 و 92)، وأبو يعلى (1187)، والطيالسي (2223)، وابن حبان (1/ 529) رقم (286).
ومن حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – رواه أحمد (2/ 95)، والطرسوسي في مسند ابن عمر (1/ 40) رقم (70). ومن حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه رواه أحمد (5/ 111)، والشاشي في مسنده (2/ 401).
ومن حديث حذيفة رضي الله عنه رواه أحمد (5/ 384)، وابن أبي عاصم في السنة (2/ 339) رقم (759)، والبزار (7/ 253) رقم (2832)، والطبراني في المعجم الكبير (3/ 185) رقم (3019)، قال الهيثمي: “رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط وأحد أسانيد البزار رجاله رجال الصحيح ورجال أحمد كذلك” ا. هـ. مجمع الزوائد (5/ 251)، وقال الألباني عن إسناد ابن أبي عاصم: “إسناده جيد ورجاله ثقات” ا. هـ. تعليق الألباني على السنة (2/ 339)، وله طرق أخرى.
(1) انظر: تفسير الطبري (9/ 487)، زاد المسير (6/ 149)، تفسير البغوي (3/ 402)، تفسير الرَّازي المسمَّى “أنموذج جليل” (375).

(2/624)


وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “عَلَيْكُمْ بالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ، وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلى الجنَّةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُوْرِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ” (1).
ولهذا يجب على كلِّ ولي أمر أن يستعين في ولايته بأهل الصدق والعدل، والأمثل فالأمثل، وإن كان فيه كذب وفجور “فإنَّ اللهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بالرَّجُلِ الفَاجِرِ” (2) و”بِأَقْوَامٍ لَا خَلاقَ لَهُمْ” (3).
قال عمر – رضي الله عنه -: “مَن قلَّد رجلًا على عصابة، وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله وجماعة المؤمنين” (4).
__________
(1) رواه البخاري رقم (6094) (10/ 523)، ومسلم رقم (2607) (16/ 396) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2) رواه البخاري رقم (3062) (6/ 207)، ومسلم رقم (111) (2/ 482) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) رواه من حديث أنس رضي الله عنه النسائي في الكبرى (5/ 279) رقم (8885)، وابن حبان (10/ 376) رقم (4517)، والإسماعيلي في معجم الشيوخ (1/ 406) رقم (70)، والطبراني في الأوسط (2/ 565) رقم (1969) و (3/ 355) رقم (2758)، وفي المعجم الصغير (132)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 262)، والبزار (1/ 709) رقم (1311) (1312)، والضياء في المختارة (5/ 231) و (6/ 234)، وابن حزم في المحلَّى (11/ 113). قال العراقي: “رواه النسائي عن أنس بسندٍ صحيح” ا. هـ. انظر: تخريج أحاديث الإحياء (5/ 1990)، وقال الهيثمي: “رواه البزار والطبراني في الأوسط وأحد أسانيد البزار ثقات رجاله” ا. هـ. مجمع الزوائد (5/ 305).
(4) رواه مرفوعًا ابن أبي عاصم في السنة (2/ 612) رقم (1462)، والحاكم =

(2/625)


والغالب أنَّهُ لا يوجد الكامل في ذلك، فيجب تحري خير الخيرين، ودفع شر الشرين، وقد كان الصحابة – رضي الله عنهم – يفرحون بانتصار الروم النصارى على المجوس عُبَّاد النَّار (1)؛ لأنَّ النصارى أقرب إليهم من أولئك، وكان يوسف الصديق عليه السلام نائبًا لفرعون مصر (2)، وهو وقومه مشركون، وفعل من الخير والعدل ما قدر عليه، ودعاهم إلى الإيمان بحسب الإمكان.

فصل
إذا عرف هذا فعموم الولايات وخصوصها (3) وما يستفيده المتولي بالولاية يتلقى من الألفاظ والأحوال والعرف، وليس لذلك حدٌّ في الشرع، فقد يدخل في ولاية القضاء في بعض الأزمنة والأمكنة ما
__________
= (4/ 92) وقال: “هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه”، وابن عدي (3/ 219)، والعقيلي في الضعفاء الكبير (1/ 248)، والبيهقي (10/ 210)، قال الحافظ ابن حجر “ابن عدي والعقيلي والحاكم من حديث ابن عباس .. وفي إسناده حسين بن قيس الرحبي وهو واهٍ، وله شاهد من طريق إبراهيم بن زياد أحد المجهولين عن خصف عن عكرمة .. ” ا. هـ. الدراية (2/ 165)، وانظر: نصب الراية (4/ 62)، والترغيب والترهيب (3/ 135)، وقال العقيلي: “يروى من كلام عمر بن الخطاب” ا. هـ. كما ذكر المؤلِّف، وانظر: الدراية (2/ 165)، ونصب الرَّاية (4/ 62).
(1) كما عند أحمد (1/ 176 – 304)، والترمذي (3193)، والنسائي في الكبرى (13389)، والحاكم (2/ 410).
(2) كما ذكرهُ الله تعالى في سورة يوسف الآيات (54) وما بعدها.
(3) انظر: الحسبة (47) معين الحكام (11 و 173 و 179)، والسياسة الشرعية لدده أفندي ص (105)، والسياسة الشرعية لابن نجيم (34).

(2/626)


يدخل في ولاية الحرب في زمان ومكان آخر، وبالعكس، وكذلك الحسبة، وولاية المال، وجميع هذه الولايات في الأصلِ ولايات دينية، ومناصب شرعية، فمن عدل في ولاية من هذه الولايات، وساسها بعلم وعدل، وأطاع الله ورسوله بحسب الإمكان، فهو من الأبرار العادلين، ومن حكمَ فيها بجهلٍ وظلم، فهو من الظالمين المعتدين، و {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار: 13، 14].
فولاية الحرب في هذه الأزمنة، وهذه البلاد الشامية والمصرية وما جاورها، تختص بإقامة الحدود من القتل والقطع والجلد، ويدخل فيها الحكم في دعاوى التهم التي ليس فيها شهود ولا إقرار، كما تختص ولاية القضاء بما فيه كتاب وشهود وإقرار، من الدعاوى التي تتضمن إثبات الحقوق والحكم بإيصالها إلى أربابها، والنظر في الأبضاع والأموال التي ليس لها ولي معيَّن، والنظر في حال نظار الوقوف (1)، وأوصياء اليتامى، وغير ذلك.
وفي بلادٍ أخرى – كبلاد الغرب – ليس لوالي الحرب مع القاضي حكم في شيء، إنَّما هو منفذ لما يأمر به متولي القضاء.
وأمَّا ولاية الحسبة فخاصتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما ليس من خصائص الولاة والقضاة وأهل الديوان ونحوهم، فعلى متولي الحسبة أن يأمر العامة بالصلوات الخمس في مواقيتها، ويعاقب
__________
(1) في “ب”: “الوقف”.

(2/627)


من لم يصل بالضرب والحبس، وأمَّا القتل فإلى غيره، ويتعاهد الأئمة والمؤذنين، فمن فرَّط منهم فيما يجب عليه من حقوق الأمة وخرج عن المشروع ألزمه به، واستعان فيما يعجز عنه بوالي الحرب والقاضي (1).
واعتناء ولاة الأمور بإلزام الرعية بإقامة الصلاة أهم من كلِّ شيء، فإنَّها عماد الدَّين، وأساسه وقاعدته، وكان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يكتب إلى عماله: “إنَّ أهم أمركم عندي الصلاة ومن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها من عمله أشدَّ إضاعة” (2).
ويأمر بالجمعة والجماعة، وأداء الأمانة والصدق، والنصح في الأقوال والأعمال، وينهى عن الخيانة، وتطفيف المكيال والميزان، والغش (3) في الصناعات والبياعات، ويتفقد أحوال المكاييل والموازين، وأحوال الصناع الَّذين يصنعون الأطعمة والملابس والآلات، فيمنعهم من صناعة المحرم على الإطلاق، كآلات الملاهي، وثياب الحرير للرجال، ويمنع من اتخاذ أنواع المسكرات، ويمنع (4) صاحب كل صناعة من الغش في صناعته، ويمنع من إفساد نقد النَّاس
__________
(1) انظر: الحسبة (48).
(2) رواه مالك (1/ 6)، وفي المدونة (1/ 56)، والبيهقي (1/ 654)، والطحاوي في شرح المعاني (1/ 193)، والأثر جاء في الموطأ بإسنادٍ منقطع؛ لأن نافعًا لم يلقَ عمر، ولكن جاء في المدونة: عن نافع عن ابن عمر فيكون الإسناد متصلًا والحمد لله، وانظر: الاستذكار (1/ 235)، تنوير الحوالك (1/ 24).
(3) في “د”: “والغبن”.
(4) في “ب”: “ويمنع المحرم”.

(2/628)


وتغييرها، ويمنع من جعل النقود متجرًا (1)، فإنَّه بذلك يدخل على النَّاس من الفساد ما لا يعلمه إلَّا الله، بل الواجب أن تكون النقود رءوس أموال يتجر بها ولا يتجر فيها، وإذا حرم السلطان سكة أو نقدًا منع من اختلاطه بما أذن في المعاملة به (2).
ومعظم ولايته وقاعدتها الإنكارُ على هؤلاء الزغلية، وأرباب الغش في المطاعم والمشارب والملابس وغيرها، فإنَّ هؤلاء يفسدون مصالح الأُمَّة، والضرر بهم عامٌّ لا يمكن الاحتراز منه، فعليه ألَّا يهمل أمرهم، وأن ينكل بهم أمثالهم، ولا يرفع عنهم عقوبته، فإنَّ البلية بهم عظيمة، والمضرة بهم شاملة ولا سيما هؤلاء الكيماويين الَّذين يغشون النقود والجواهر والعطر والطيب وغيرها، يضاهئون بزغلهم وغشهم خلق الله، والله تعالى لم يخلق شيئًا فيقدر العباد أن يخلقوا كخلقه، قال تعالى – فيما حكى (3) عنه رسوله – صلى الله عليه وسلم -: “وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً فَلْيَخْلُقُوا شَعِيْرَةً” (4).
ولهذا كانت المصنوعات – كالطبائخ والملابس والمساكن – غير مخلوقة إلَّا بتوسط النَّاس، قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42)} [يس: 41, 42]، وقال
__________
(1) “متجرًا” ساقطة من “هـ”، أمَّا “د” و”و”: فمحلها بياض مقدار كلمة.
(2) انظر: الحسبة (50)، الأحكام السلطانية للماوردي (320)، الأحكام السلطانية لأبي يعلى (288).
(3) في “هـ” و”و”: “يحكي”.
(4) رواه البخاري رقم (5953) (10/ 398)، ومسلم رقم (2111) (14/ 339) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2/629)


تعالى: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95 – 96]، وكانت المخلوقات من المعادن والنبات (1) والدواب غير مقدورة لبني آدم أن يصنعوها، لكن يشبهون بها (2) على سبيل الغش، وهذا حقيقة الكيمياء، فإنَّها ذهب مشبه.
ويدخل في المنكرات ما نهى الله عنه ورسوله من العقود المحرمة، مثل عقود الربا، صريحًا واحتيالًا (3)، وعقود الميسر (4)، كبيوع الغرر (5)، كحبل الحبلة (6)، والملامسة (7)،
__________
(1) في “ب”: “الثياب”.
(2) “بها” مثبتة من “جـ”.
(3) لقوله صلى الله عليه وسلم “لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل” رواه أبو عبد الله ابن بطة بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه. إبطال الحيل (47) وجوّد إسناده ابن تيمية وابن القيم وابن كثير رحمهم الله تعالى. انظر: مجموع الفتاوى (29/ 29)، إغاثة اللهفان (1/ 379)، تفسير ابن كثير سورة الأعراف آية (163)، وصححه شيخنا العلامة عبد العزيز بن باز – رحمه الله تعالى -. مجلة البحوث (18/ 131).
(4) الميسر: القمار. انظر: زاد الميسر (1/ 241)، القاموس المحيط (643) تفسير الماوردي (1/ 276).
(5) الغرر – بالفتح – الخطر وهو ما يكون مجهول العاقبة لا يُدرى أيكون أم لا. التعريفات (208) التوقيف (536).
وحديث النهي عن بيع الغرر رواه مسلم رقم (1513) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) روى البخاري عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة “وكان بيعًا يتبايعه أهل الجاهلية كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج النَّاقة ثمَّ تنتج التي في بطنها” صحيح البخاري رقم (2143) (4/ 418).
(7) الملامسة: لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنَّهار ولا يقلبه ويجب البيع =

(2/630)


والمنابذة (1)، والنجش، وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها، وتصرية (2) الدَّابة اللبون، وسائر أنواع التدليس (3)، وكذلك سائر الحيل المحرمة على أكل الربا، وهي ثلاثة أقسام:
أحدها: ما يكون من واحد، كما إذا باعه سلعة بنسيئة، ثمَّ اشتراها منه بأقل من ثمنها نقدًا، حيلة على الربا (4).
ومنها: ما تكون ثنائية. وهي أن تكون من اثنين: مثل أن يجمع إلى القرض بيعًا أو إجارة أو مساقاة أو مزارعة (5)، ونحو ذلك، وقد ثبت
__________
= بذلك. انظر: فتح الباري (4/ 421)، النظم المستعذب (1/ 239)، المغني في غريب المهذب (1/ 317)، وحديث النهي عن بيع الملامسة رواه البخاري رقم (2207) (4/ 472) من حديث أنس رضي الله عنه.
(1) المنابذة: أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه وينبذ الآخر بثوبه، ويكون بيعهما عن غير نظرٍ ولا تراضٍ، فتح الباري (4/ 421)، المغني في غريب المهذب (1/ 317)، النظم المستعذب (1/ 239). وحديث النهي عن بيع المنابذة رواه البخاري رقم (2146) (4/ 420) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) التصرية: هو ترك حلب النَّاقة أو الشاة حتى يجتمع لبنها فيكثر فيظن المشتري أنَّ ذلك عادتها فيزيد في ثمنها. انظر: فتح الباري (4/ 424)، المطلع (236)، المغني في غريب المهذب (1/ 331). وحديث النهي عن التصرية رواه البخاري رقم (2148) (4/ 422) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) التدليس في البيع: كتمان عيب السلعة عن المشتري. انظر: المطلع (236)، المغني في غريب المهذب (1/ 333)، النظم المستعذب (1/ 250).
(4) وهي مسألة العينة. انظر: تفصيل ابن القيم في حكمها في تهذيب السنن (5/ 99).
(5) تقدم بيان معنى المساقاة والمزارعة (373).

(2/631)


عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنَّه قال: “لَا يَحِل سَلَفٌ وَبَيعٌ، وَلَا شَرْطَانِ في بَيْعٍ، وَلَا رِبْحٌ مَا لَمْ يُضْمَن، ولاَ تَبِع مَا ليْسَ عِنْدَك” (1). قال الترمذي: حديثٌ صحيح (2).
وفي سنن أبي داود عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنَّه قال: “مَنْ بَاع بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوْ الرِّبَا” (3).
ومنها: ما تكون ثلاثية، وهي أن يدخلا بينهما محللًا للربا، فيشتري السلعة منه آكل الربا، ثمَّ يبيعها لمعطي الربا إلى أجل، ثمَّ يعيدها إلى صاحبها بنقص دراهم يستعيدها المحلل.
__________
(1) رواه عبد الرزاق (8/ 39)، وأحمد (2/ 178)، والدارمي (2/ 329) رقم (2560)، وأبو داود رقم (3504)، والترمذي رقم (1234)، والنسائي رقم (4611)، وفي الكبرى (4/ 39) رقم (6204)، وابن ماجه “مختصرًا” رقم (2188) (3/ 540)، والطيالسي رقم (2257)، وابن الجارود رقم (601)، والدَّارقطني (3/ 75)، والحاكم (2/ 17) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما -. قال الترمذي: “هذا حديث حسن صحيح”، وقال الحاكم: “هذا الحديث على شرط جملة من أئمة المسلمين صحيح” ووافقه الذهبي، وقد شرح الحديث ابن القيم في تهذيب السنن (5/ 144).
(2) في المطبوع (2/ 516): “حسن صحيح”.
(3) رواه أبو داود رقم (3461)، وابن حبان (11/ 347) رقم (4974)، والحاكم (2/ 45)، والبيهقي (5/ 561)، وابن عبد البر فى التمهيد (24/ 389) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال الحاكم: “صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه” ووافقه الذهبي، وصححه ابن حزم. المحلَّى (9/ 16)، وانظر كلام المؤلِّف في بيان معناه في تهذيب السنن (5/ 106 و 148)، وإعلام الموقعين (3/ 197).

(2/632)


وهذه المعاملات منها ما هو (1) حرامٌ بالاتفاق، مثل التي يباع فيها المبيع قبل القبض الشرعي (2)، أو بغير الشرط (3) الشرعي، أو يقلب فيها الدين على المعسر، فإنَّ المعسر يجب إنظاره، ولا تجوز الزيادة عليه بمعاملة ولا غيرها، ومتى استحل المرابي قلب الدين، وقال للمدين: إمَّا أن تقضي وإمَّا أن تزيد في الدَّين والمدة، فهو كافر (4)، يجب أن يُستتاب، فإن تابَ وإلَّا قُتِلَ وأُخِذَ ماله فيئًا لبيت المال.
فعلى والي الحسبة إنكار ذلك جميعه، والنهي عنه، وعقوبة فاعله، ولا يتوقف ذلك على دعوى ومدعى عليه، فإنَّ ذلك من المنكرات التي يجب على ولي الأمر النهي عنها.
__________
(1) في “ب”: “ما يكون هو”.
(2) انظر: شرح السنة (8/ 107)، الإقناع لابن المنذر (1/ 254)، روضة الطالبين (3/ 166)، الاختيارات (126)، تهذيب السنن (5/ 130)، بدائع الفوائد (3/ 250)، المحلَّى (8/ 518).
(3) “الشرط” ساقطة من “ب”.
(4) “وقال للمدين: إمَّا أن تقضي، وإمَّا أن تزيد في الدَّين والمدَّة فهو كافر” ساقطة من “ب”.

(2/633)


فصل

ومن المنكرات (1): تلقي السلع قبل أن تجيء إلى السوق، فإنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – نهى عن ذلك (2)، لما فيه من تغرير البائع، فإنَّه لا يعرف السعر، فيشتري منه المشتري بدون القيمة، ولذلك أثبت له النبي – صلى الله عليه وسلم – الخيار إذا دخل السوق (3)، ولا نزاع في ثبوت الخيار له مع الغبن.
وأمَّا ثبوته بلا غبن: ففيه عن أحمد روايتان (4):
إحداهما: يثبت، وهو قول الشافعي (5)، لظاهر الحديث.
والثانية: لا يثبت؛ لعدم الغبن، وكذلك يثبت الخيار للمشتري المسترسل إذا غبن (6)، وفي الحديث: “غُبْنُ المُسْتَرْسِلِ ربَا” (7)، وفي
__________
(1) انظر: الحسبة (64).
(2) رواه البخاري رقم (2164) (4/ 437)، ومسلم رقم (1519) (10/ 419) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(3) رواه مسلم رقم (1519) (10/ 419) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) انظر: الإنصاف (11/ 338)، المغني (6/ 313).
(5) انظر: التنبيه (96)، روضة الطالبين (3/ 86)، شرح النووي لمسلم (10/ 419).
(6) في “ب” و”و”: “إذا غش”.
(7) رواه البيهقي (5/ 571)، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 184) من حديث جابر رضي الله عنه، وقال ابن الجوزي: “يعيش – ابن هشام القرقساني – ضعيف مجهول” ا. هـ. ورواه أبو نعيم في الحلية (5/ 187)، وابن عدي (8/ 55) من حديث أبي أُمامة رضي الله عنه بلفظ: “أيما مؤمن استرسل إلى مؤمن فغبنه كان غبنه ذلك ربا”، وقال ابن عدي: “متنه منكر” ا. هـ. وفي =

(2/634)


تفسيره قولان: أحدهما: أنَّه الَّذي لا يعرف قيمة السلعة، والثاني – وهو المنصوص عن أحمد – أنَّه الَّذي لا يماكس، بل يسترسل إلى البائع، ويقول: أعطني هذا (1).
وليس لأهل السوق أن يبيعوا المماكس بسعر، ويبيعوا المسترسل بغيره، وهذا ممَّا يجب على والي الحسبة إنكاره، وهذا بمنزلة تلقي السلع، فإنَّ القادم جاهلٌ بالسَّعر.

ومن هذا تلقي أسواق الحجيج الجلب من الطريق، وسبقهم إلى المنازل يشترون الطعام والعلف، ثمَّ يبيعونه كما يريدون، فيمنعهم والي الحسبة من التقدم لذلك، حتَّى يقدم الركب، لما في ذلك من مصلحة الركب ومصلحة الجالب، ومتى اشتروا شيئًا من ذلك منعهم من بيعه بالغبن الفاحش.
ومن ذلك: “نهي النبي – صلى الله عليه وسلم – أنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِلْبَادِي” وقال: “دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ” (2).
__________
= سنده موسى بن عمير القرشي، قال أبو حاتم: “ذاهب الحديث كذَّاب” ا. هـ. ميزان الاعتدال (6/ 554)، ورواه الطبراني في الكبير (8/ 127) رقم (7576)، وأبو نعيم (5/ 187) من حديث أبي أمامة بلفظ: “غبن المسترسل حرام”، وفي إسنادهما موسى بن عمير سبق بيان حاله قريبًا. وانظر: السلسلة الضعيفة رقم (668).
(1) انظر: المغني (6/ 36)، الإنصاف (11/ 342)، المطلع (235)، والنهاية (2/ 223)، المجموع المغيث (1/ 761).
(2) رواه مسلم رقم (1522) (10/ 420) من حديث جابر رضي الله عنه.

(2/635)


قيل لابن عباس: ما معنى قوله: “لا يبع حاضرٌ لبادٍ”؟ قال: “لا يكون له سِمْسَارًا” (1).
وهذا النهي لما فيه من ضرر المشتري، فإنَّ المقيم إذا وكله القادم (2) في بيع سلعة يحتاج النَّاس إليها، والقادم لا يعرف السعر، أضرَّ ذلك بالمشتري (3)، كما أنَّ النَّهي عن تلقي الجلب لما فيه من الإضرار بالبائعين.
ومن ذلك الاحتكار (4) لما يحتاج النَّاس إليه، وقد روى مسلم في صحيحه (5) عن معمر (6) بن عبد الله: أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ”، فإنَّ المحتكر الَّذي يعمدُ إلى شراء ما يحتاج إليه النَّاس من الطعام فيحبسه عنهم ويريد إغلاءه عليهم هو ظالمٌ لعموم النَّاس، ولهذا كان لولي الأمر أن يكره المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل، عند ضرورة النَّاس إليه، مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه، والنَّاسُ في مخمصة، أو سلاح لا يحتاج إليه، والنَّاسُ يحتاجون إليه للجهاد، أو
__________
(1) رواه البخاري رقم (2158) (4/ 233)، ومسلم (1521) (10/ 420).
السمسار: هو متولي البيع والشراء لغيره. فتح الباري (4/ 434).
(2) في “أ” و”جـ”: “إذا توكل للقادم”.
(3) في “أ”: “بالمشترين”.
(4) الاحتكار عند الجمهور: حبس الطعام للغلاء. التعريفات (26)، وانظر: المبدع (4/ 47)، الدر المنتقى للحصكفي بهامش مجمع الأنهر (2/ 547)، المنتقى (5/ 15)، شرح مسلم للنووي (11/ 46)، مغني المحتاج (2/ 83).
(5) في المساقاة باب تحريم الاحتكار في الأقوات رقم (1605) (11/ 46).
(6) في “أ” و”جـ” و”د”: “يعمر”.

(2/636)


غير ذلك، فإن (1) من اضطر إلى طعام غيره (2) أخذه منه بغير اختياره بقيمة المثل، ولو امتنع من بيعه إلَّا بأكثر من سعره فأخذه منه بما طلب (3) لم تجب عليه إلَّا قيمة مثله (4).
وكذلك من اضطر إلى الاستدانة من الغير، فأبى أن يعطيه إلَّا بربا أو معاملة ربوية، فأخذ منه بذلك، لم يستحق عليه إلَّا مقدار رأس ماله (5).
وكذلك إذا اضطرَّ إلى منافع ماله، كالحيوان والقدر والفأس ونحوها وجب عليه بذلها له مجانًا، في أحد الوجهين، وهو الأصح، وبأجرة المثل في الآخر (6).

ولو اضطرَّ إلى طعامه وشرابه فحبسه عنه حتَّى ماتَ جوعًا وعطشًا ضمنه بالدِّية عند الإمام أحمد، واحتجَّ بفعل عمر بن الخطاب (7) –
__________
(1) في “د” و”هـ” و”و”: “فإنَّه”.
(2) في “أ”: “الغير”.
(3) في “أ”: “يطلب”.
(4) انظر: الحسبة (66).
(5) قال شيخنا العلَّامة ابن عثيمين – رحمه الله -: “قلت: وهذا قول قوي فيما إذا كان ذلك من قلب الدَّين على المعسر، أمَّا إذا كانت الاستدانة ابتداءً فينبغي أن يؤخذ الربا ممن التزم به، ولا يعطى لطالبه بل يصرف إلى بيت المال” ا. هـ. مختارات من الطرق الحكمية (53).
(6) انظر: الإنصاف (27/ 249)، الحسبة (100)، تفسير الطبري (12/ 710)، زاد المسير (9/ 245)، مجموع الفتاوى (28/ 76).
(7) رواه ابن أبي شيبة (5/ 450) رقم (27890).

(2/637)


رضي الله عنه -، وقيل له: تذهب إليه؟ فقال: إي والله (1).

فصل
وأمَّا التسعير (2) فمنه ما هو ظلمٌ محرَّم، ومنه ما هو عدلٌ جائز (3).
فإذا تضمن ظلم النَّاس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم ممَّا أباحه (4) الله لهم، فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين النَّاس، مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم ممَّا يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل، فهو جائز، بل واجب.

فأمَّا القسم الأوَّل، فمثل ما روى أنس قال: غلا السعر على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: يا رسول الله، لو سعَّرت لنا؟ فقال: “إنَّ اللهَ القَابِضُ الرَّازِقُ، البَاسِطُ المُسَعِّرُ، وَإِنِّي لأرجو أن ألقى اللهَ وَلاَ يَطْلُبُنِي أَحَدٌ بِمَظْلَمةٍ ظَلمتُها إِيَّاهُ في دَمٍ وَلَا مَالٍ” رواه أبو داود والترمذي وصححه (5).
__________
(1) المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد (37) رقم (16).
(2) التسعير: “تقدير السلطان أو نائبه للناس سعرًا، ويجبرهم على التبايع به”. مطالب أولي النُّهى (3/ 62). وانظر: شرح منتهى الإرادات (2/ 26).
(3) انظر: الحسبة (76)، تكملة المجموع الثانية (13/ 29).
(4) في “جـ” و”و”: “أباح”.
(5) رواه أحمد (3/ 156 و 286)، وأبو داود رقم (3451)، والترمذي رقم (1314) (2/ 582)، وابن ماجه رقم (2200) (3/ 548)، وأبو يعلى رقم (2861) (5/ 245)، وابن حبان (11/ 307) رقم (4935)، والدارمي (2/ 324)، والبيهقي (6/ 48)، وفي الأسماء والصفات (1/ 169)، والضياء =

(2/638)


فإذا كان النَّاسُ يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر – إمَّا لقلَّة الشيء (1)، وإمَّا لكثرة الخلق – فهذا إلى الله، فإلزام النَّاس أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراهٌ بغير حق (2).
وأمَّا الثاني، فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها، مع ضرورة النَّاس إليها إلَّا بزيادة على القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلَّا إلزامهم بقيمة المثل، فالتسعير ها هنا إلزام بالعدل الَّذي ألزمهم الله به (3).
__________
= في المختارة (5/ 27) رقم (1630)، وابن عبد البر في الاستذكار (20/ 79)، وابن الجوزي في التحقيق (2/ 197) من حديث أنس رضي الله عنه قال الترمذي: “هذا حديث حسن صحيح” ا. هـ. وصححه ابن عبد البر في الاستذكار (20/ 78)، وقال الحافظان ابن كثير وابن حجر: “إسناده على شرط مسلم” ا. هـ. انظر: إرشاد الفقيه (2/ 33)، والتلخيص الحبير (3/ 31). وللحديث طرق أخرى.
(1) انظر: البداية والنهاية سنة 81 هـ و 260 هـ و 308 هـ وما حدث فيها من غلاء الأسعار.
(2) انظر: المبدع (4/ 47)، الفروع (4/ 37)، كشاف القناع (3/ 187)، مجموع الفتاوى (28/ 95)، روضة الطالبين (3/ 411)، النتف في الفتاوى (2/ 810)، التاج والإكليل (4/ 380)، الكافي لابن عبد البر (360)، الدراري المضية (2/ 302)، تحفة الأحوذي (4/ 452)، جواهر العقود (1/ 62)، التحقيق في أحاديث الخلاف (2/ 197).
(3) انظر: الحسبة (67)، مجموع الفتاوى (28/ 95)، عارضة الأحوذي (6/ 54)، تكملة المجموع الثانية (13/ 29).

(2/639)


فصل
ومن أقبح الظلم إيجار الحانوت على الطريق أو في القرية بأجرةٍ معيَّنة على ألَّا يبيع أحد غيره، فهذا ظلمٌ حرام على المؤجر والمستأجر، وهو نوع من أخذ أموال النَّاس قهرًا وأكلها بالباطل، وفاعله قد تحجر واسعًا، فيخاف عليه أن يحجر الله عنه رحمته، كما حجر على النَّاس فضله ورزقه (1).

فصل
ومن ذلك (2): أن يلزم النَّاس ألَّا يبيع الطعام أو غيره (3) من الأصناف (4) إلَّا ناس معروفون، فلا تباع تلك السلع إلَّا لهم، ثمَّ يبيعونها هم بما يريدون، فلو باع غيرهم ذلك منع وعوقب، فهذا من البغي في الأرضِ والفساد، والظلم الَّذي يحبس (5) به قطر السَّماء، وهؤلاء يجب التسعير عليهم، وألَّا يبيعوا إلَّا بقيمة المثل، ولا يشتروا إلَّا بقيمة المثل، بلا تردد في ذلك عند أحدٍ من العلماء (6)؛ لأنَّه إذا
__________
(1) انظر: الفروع (4/ 54).
(2) انظر: الحسبة (68)، تكملة المجموع الثانية (13/ 30).
(3) في “د”: “ولا غيره”.
(4) “من الأصناف” ساقطة من “هـ”.
(5) في “د”: “لا يحبس”.
(6) الحسبة (68).

(2/640)


منع (1) غيرهم أن (2) يبيع ذلك النوع أو يشتريه، فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما شاءوا أو يشتروا بما شاءوا كان ذلك ظلمًا للنَّاس ظلمًا (3) للبائعين الَّذين يريدون بيع تلك السلع، وظلمًا للمشترين منهم.
فالتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع، وحقيقته إلزامهم بالعدلِ، ومنعهم من الظلم، وهذا كما أنَّه لا يجوز الإكراه على البيع بغير حقٍّ، فيجوز أو يجب الإكراهُ عليه بحق، مثل بيع المال لقضاء الدين الواجب، والنفقة الواجبة، ومثل البيع للمضطر إلى طعام أو لباس، ومثل الغراس والبناء في ملك الغير، فإنَّ لرب الأرضِ أن يأخذه بقيمة المثل (4)، ومثل الأخذ بالشفعة، فإنَّ للشفيع أن يتملك الشقص (5) بثمنه قهرًا، وكذلك السراية (6) في العتق، فإنَّها تخرج الشقص من ملك الشريك قهرًا، وتوجب على المعتق المعاوضة عليها قهرًا، وكل من وجب عليه شيءٌ من الطعام واللباس والرقيق والمركوب – لحجًّ (7) أو
__________
(1) هكذا في النسخ. ولعلَّ الصواب “لأنَّه منع” ليستقيم المعنى.
(2) “أنَّ” مثبتة من “أ” و”جـ”.
(3) “ظلمًا” ساقطة من “أ”.
(4) انظر: الأموال لأبي عبيد (299) الأموال لابن زنجويه (2/ 639 و 643)، الخراج ليحيى بن آدم (95)، التفريع (2/ 282)، القواعد لابن رجب (149)، مجموع الفتاوى (29/ 124)، تهذيب السنن (5/ 64)، مختارات من الفتاوى للسعدي (360).
(5) الشِّقْص بكسر السين: الطائفة من الشيء. التوقيف (343)، المطلع (278)، طلبة الطلبة (86)، النظم المستعذب (2/ 29).
(6) السراية: التعدي. المطلع (360).
(7) في “ب” و”جـ” و”د” و”هـ”: “بحج”.

(2/641)


كفارة أو نفقة – فمتى وجده بثمن المثل وجب عليه شراؤه، وأجبر على ذلك، ولم يكن له أن يمتنع حتَّى يبذل له مجانًا، أو بدون ثمن المثل.

فصل
ومن ها هنا: منع غير واحدٍ من العلماء – كأبي حنيفة وأصحابه (1) – القسامين (2) – الَّذين يقسمون العقار وغيره بالأجرة – أن يشتركوا، فإنَّهم إذا اشتركوا – والنَّاس يحتاجون إليهم – أغلوا عليهم الأجرة.
قلت: وكذلك ينبغي لوالي الحسبة أن يمنع مغسلي الموتى والحمالين لهم من الاشتراك، لما في ذلك من إغلاء الأجرة عليهم، وكذلك اشتراك كل طائفة يحتاج النَّاس إلى منافعهم، كالشهود والدلالين وغيرهم؛ على أنَّ في شركة الشهود مبطلًا آخر، فإنَّ عمل كل واحد منهم متميزٌ عن عمل الآخر، لا يمكن الاشتراك فيه (3)؛ فإنَّ الكتابة (4) متميزة، والتحمل متميز (5)، والأداء متميز، لا يقع في ذلك اشتراك ولا تعاون، فبأي وجهٍ يستحق أحدهما أجرة عمل صاحبه؟
__________
(1) انظر: المبسوط (16/ 103)، بدائع الصنائع (7/ 19)، بداية المبتدي (1/ 211)، حاشية ابن عابدين (6/ 273) مختصر القدوري (227)، البحر الرَّائق (8/ 169) الاختيار (2/ 74).
(2) في “ب” و”د”: “القاسمين”.
القُسَّام بالضم والتشديد جمع قاسم. حاشية ابن عابدين (6/ 273)، الخرشي على خليل (6/ 189) وسيأتي حالًا تعريف ابن القيم لها.
(3) “فيه” ساقطة من “د”.
(4) في “ب”: “الكفاية”.
(5) “والتحمل متميز” ساقطة من “هـ”.

(2/642)


وهذا بخلاف الاشتراك في سائر الصنائع، فإنَّه يمكن أحد الشريكين أن يعمل بعض العمل والآخر بعضه، ولهذا إذا اختلفت (1) الصنائع لم تصح الشركة على أحد الوجهين (2)، لتعذر اشتراكهما في العمل، ومن صححها نظر إلى أنَّهما يشتركان فيما تتم به صناعة كل واحد منهما من الحفظ والنظر إذا خرج لحاجة، فيقع الاشتراك فيما يتم به عمل كل واحد منهما، وإن لم يقع في عين العمل (3).
وأمَّا شركة الدلالين، ففيها أمرٌ آخر، وهو أنَّ الدلال وكيل صاحب السلعة في بيعها، فإذا شارك غيره في بيعها كان توكيلًا له فيما وكل فيه، فإن قلنا: ليس للوكيل أن يوكل لم تصح الشركة، وإن قلنا: له أن يوكِّل؛ صحَّت (4).
فعلى والي الحسبة أن يعرف هذه الأمور، ويراعيها، ويراعي مصالح النَّاس، وهيهات هيهات، ذهب ما هنالك.
والمقصود أنَّه إذا منع (5) القسامون (6) ونحوهم من الشركة لما
__________
(1) في “و”: “لو اختلفت”.
(2) انظر: المغني (7/ 112)، الكافي (2/ 263)، المبدع (5/ 40)، الإنصاف (5/ 460).
(3) انظر: المراجع السابقة. والروض المربع (405)، كشاف القناع (3/ 527)، مطالب أولي النهى (3/ 548).
(4) انظر: الفروع (4/ 303)، المبدع (5/ 41)، الإنصاف (5/ 462) كشاف القناع (3/ 530)، مجموع الفتاوى (30/ 98).
(5) في “و”: “امتنع”.
(6) في “هـ”: “القاسمون”.

(2/643)


فيها (1) من التواطؤ على إغلاء الأجرة، فمنع البائعين الَّذين تواطئوا على ألَّا يبيعوا إلَّا بثمن قدروه (2) أولى وأحرى.
وكذلك يمنع المشترين من الاشتراك في شيء لا يشتريه غيرهم، لما في ذلك من ظلم البائع.
وأيضًا (3)؛ فإذا كانت الطائفة التي تشتري نوعًا من السلع أو تبيعها قد تواطئوا على أن يهضموا (4) ما يشترونه، فيشترونه بدون ثمن المثل، ويبيعوا (5) ما يبيعونه بأكثر من ثمن المثل، ويقتسموا ما يشتركون فيه من الزيادة = كان إقرارهم على ذلك معاونة لهم على الظلم والعدوان، وقد قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة: 2]، ولا ريب أن هذا أعظم إثمًا وعدوانًا من تلقي السلع، وبيع الحاضر للبادي، ومن النجش.

فصل
ومن ذلك: أن يحتاج الناس إلى صناعة طائفة – كالفلاحة والنساجة والبناء وغير ذلك – فلولي الأمر أن يلزمهم بذلك بأجرة مثلهم، فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بذلك (6).
__________
(1) في “د” و”و”: “فيه”، وفي “هـ”: “فيهم”.
(2) في “د” و”هـ” و”و”: “قدره”، وفي “جـ”: “مقدر”.
(3) انظر: الحسبة (70)، تكملة المجموع الثانية (13/ 31).
(4) في “أ”: “يضموا”، وفي “ب”: “يهتضموا”.
(5) في “هـ” و”و”: “ويبيعون”.
(6) انظر: الحسبة (71)، الفروع (4/ 52)، الفتاوى (287/ 86).

(2/644)


ولهذا قالت طائفة من أصحاب أحمد (1) والشافعي (2): إن تعلم هذه الصناعات فرض على الكفاية، لحاجة الناس إليها، وكذلك تجهيز الموتى ودفنهم، وكذلك أنواع الولايات العامة والخاصة التي لا تقوم مصلحة الأمة إلا بها.
وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يتولى أمر ما يليه بنفسه (3)، ويولي فيما بعد عنه، كما ولَّى على مكة: عتاب بن أسيد (4)، وعلى الطائف: عثمان بن أبي العاص الثقفي (5)، وعلى قرى عرينة: خالد بن سعيد بن العاص (6)، وبعث عليًّا (7) ومعاذ بن جبل (8) وأبا موسى الأشعري إلى اليمن (9)، وكذلك كان يؤمر على السرايا، ويبعث السعاة على الأموال الزكوية (10)،
__________
(1) انظر: الحسبة (71)، مجموع الفتاوى (29/ 194)، الآداب الشرعية (3/ 525).
(2) انظر: روضة الطالبين (10/ 223)، مغني المحتاج (4/ 213)، نهاية المحتاج (8/ 50)، قواعد الأحكام (2/ 59)، تكملة المجموع الثانية (13/ 32).
(3) “بنفسه” ساقطة من “أ”.
(4) في “أ”: “بن أبي أسيد”. وانظر: سيرة ابن هشام (4/ 69).
(5) انظر: سيرة ابن هشام (4/ 69)، الإصابة (2/ 453).
(6) انظر: طبقات ابن سعد (4/ 72)، سير أعلام النبلاء (1/ 260).
(7) رواه البخاري (7/ 663) رقم (4349) من حديث البراء رضي الله عنه.
(8) رواه البخاري رقم (4344)، ومسلم (13/ 181) رقم (1733) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
(9) رواه البخاري (7/ 660)، رقم (4344)، ومسلم (13/ 181) رقم (1733) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
(10) رواه البخاري رقم (1500)، ومسلم (1832) (12/ 460) من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه. وانظر: سيرة ابن هشام (4/ 197)، الإصابة (2/ 453).

(2/645)


فيأخذونها (1) ممن هي عليه، ويدفعونها إلى مستحقيها، فيرجع الساعي إلى المدينة وليس معه إلا سوطه، ولا يأتي بشيء من الأموال إذا وجد لها موضعًا يضعها فيه.

فصل
وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يستوفي الحساب على عماله، يحاسبهم على المستخرج والمصروف، كما في “الصحيحين” (2) عن أبي حميد الساعدي “أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – اسْتَعْمَلَ رَجُلًا من الأَزْدِ، يُقال له: ابن اللُّتبيَّةِ (3) على الصدقات، فلمَّا رجع حاسبه، فقال: هذا لكم، وهذا أُهْدِيَ إليَّ (4)، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “مَا بَالُ الرَّجُلِ نَسْتَعْمِلُهُ عَلَى العَمَلِ مِمَّا وَلَّانَا الله، فيقولُ: هَذَا لَكُمْ، وهذَا أُهْدِيَ إِليَّ، أَفَلَا قَعَدَ فِي بيتِ أَبيهِ وَأُمِّهِ، فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى إِليهِ أَم لا؟ والَّذي نَفْسِي بيدِهِ، لا نَسْتَعْمِلُ رَجُلًا عَلَى العَمَلِ مِمَّا وَلَّانَا اللهُ فَيَغِل (5) منهُ شيئًا إلَّا جَاءَ يَوْمَ القِيَامَة يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إن كانَ بَعِيْرًا لَهُ رُغَاءٌ (6)، وإِنْ كَانَ بَقَرَةً لَهَا خُوَار (7)، وإِنْ كانَتْ
__________
(1) في باقي النسخ عدا “أ” و”جـ”: “فيأخذونه”.
(2) البخاري رقم (7174) (13/ 175)، ومسلم رقم (1832) (12/ 460).
(3) عبد الله بن اللتبية بن ثعلبة الأزدي. انظر: الإصابة (2/ 355)، واللتبية أمه. فتح الباري (13/ 176).
(4) في “أ”: “وهذا لي”.
(5) كل من خان في شيء خفية فقد غلَّ. النهاية (3/ 380).
(6) الرغاء: بضم الرَّاء صوت البعير. فتح الباري (13/ 177).
(7) الخوار: بضم الخاء صوت البقر. فتح الباري (13/ 178)، النهاية (2/ 87).

(2/646)


شَاةً تَيْعَرُ (1)، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، وقَالَ: الَّلهُمَ هَلْ بلَّغْتُ (2)؟ قَالَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا”.
والمقصود أنَّ هذه الأعمال متى لم يقم بها إلَّا شخصٌ واحد (3) صارت فرضًا مُعينًا عليه، فإذا كان النَّاسُ محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صارت هذه الأعمال مستحقة عليهم، يُجبرهم ولي الأمرِ عليها بعوض المثل، ولا يُمكِّنهم من مطالبة النَّاس بزيادة على عوض المثل (4)، ولا يمكَّن النَّاس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقهم، كما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم ألزم من صناعته الفلاحة أن يقوم بها، وألزمَ الجندَ بألَّا يظلموا الفلاح، كما يلزم الفلاح بأن يفلح (5).
ولو اعتمد (6) الجند والأُمراء مع الفلاحين ما شرعه الله ورسوله وجاءت به السنة وفعله الخلفاء الرَّاشدون؛ لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض، وكان الَّذي يحصل لهم من المغل أضعاف ما يحصلونه بالظلم والعدوان،
__________
(1) تَيْعَر: بفتح التاء وسكون الياء وكسر العين أو فتحها، وهو صوت الشاة الشديد. فتح الباري (13/ 177)، شرح النووي لمسلم (12/ 461)، النهاية (5/ 297).
(2) تكررت في “هـ”: مرَّتين، وفي “و”: ثلاث مرَّات.
(3) “واحد” مثبتة من “أ”.
(4) “ولا يمكنهم من مطالبة النَّاس بزيادة على عوض المثل” ساقطة من “أ”.
(5) انظر: الحسبة (74)، تكملة المجموع الثانية: (13/ 32).
(6) في “ب” و”د”: “اعتمل”.

(2/647)


ولكن يأبى (1) جهلهم وظلمهم إلَّا أن يرتكبوا (2) الظلم والإثم، فيمنعوا البركة وسعة الرزق، فيجتمع لهم عقوبة الآخرة، ونزع البركة في الدنيا.
فإِن قِيل: وما الَّذي شرعه الله ورسوله، وفعله الصحابة، حتَّى يفعله من وفَّقه الله؟ قيل: المزارعة العادلة، التي يكون المقطع والفلاح فيها على حدًّ سواء من العدل، لا يختص أحدهما عن الآخر بشيءٍ من هذه الرسوم التي ما أنزل اللهُ بها من سلطان (3)، وهي التي أخربت البلاد وأفسدت العباد، ومنعت الغيث، وأزالت البركات، وعرضت أكثر الجند والأمراء لأكل الحرام، وإذا نبتَ الجسد على الحرام فالنَّارُ أولى به (4).
وهذه المزارعة العادلة هي عمل المسلمين على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – وعهد خلفائه الراشدين، وهي عمل آل أبي بكر (5)، وآل عمر (6)، وآل
__________
(1) في “أ”: “يأبى لهم”.
(2) في باقي النسخ عدا “أ”: “يركبوا”.
(3) انظر: القواعد النورانية (111)، تهذيب السنن (5/ 57)، الفتاوى (29/ 91)، إعلام الموقعين (1/ 473)، تكملة المجموع الثانية (13/ 32).
(4) لحديث كعب بن عجرة رضي الله عنه مرفوعًا: “لا يدخل الجنَّة من نبت لحمه من سُحت النَّار أولى به” رواه أحمد (3/ 399)، والحارث بن أسامة (2/ 644) رقم (618)، والحاكم (4/ 422) وصححه ووافقه الذهبي.
(5) رواه البخاري معلقًا (5/ 13)، ووصله ابن أبي شيبة (4/ 382)، وعبد الرزاق (8/ 100).
(6) رواه البخاري معلقًا (5/ 13)، ووصله ابن أبي شيبة (4/ 382)، وعبد الرزاق (8/ 100).

(2/648)


عثمان (1)، وآل علي (2)، وغيرهم من بيوت المهاجرين (3)، وهي قول أكابر الصحابة، كابن مسعود (4)، وأُبيِّ بن كعب، وزيد بن ثابت (5)، وغيرهم (6)، وهي مذهب فقهاء الحديث، كأحمد بن حنبل (7)، وإسحاق بن راهويه (8)، ومحمد بن إسماعيل البخاري (9)، وداود بن علي (10)، ومحمد بن إسحاق بن
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة (4/ 282).
(2) رواه البخاري معلقًا (5/ 13)، ووصله ابن أبي شيبة (4/ 382)، وعبد الرزاق (8/ 100).
(3) رواه البخاري معلقًا (5/ 13)، ووصله ابن أبي شيبة (4/ 382)، وعبد الرزاق (8/ 100)، وانظر: المحلَّى (8/ 216).
(4) رواه البخاري معلقًا (5/ 13)، ووصله ابن أبي شيبة (4/ 382)، وعبد الرزاق (8/ 100)، وأبو يوسف في الخراج (97).
(5) رواه ابن أبي شيبة (4/ 383)، وعبد الرزاق (8/ 97)، وأبو داود (3249) مع معالم السنن، والبيهقي (6/ 222)، وانظر: التمهيد (3/ 37).
(6) كمعاذ بن جبل وابن عباس رضي الله عنهم. رواه عنهما ابن ماجه (2/ 823)، قال البوصيري عن إسناد حديث معاذ: “هذا إسناد صحيح رجاله ثقات” مصباح الزجاجة (3/ 79).
(7) انظر: مسائل أحمد لابنه عبد الله (403)، ومسائل أحمد رواية صالح (2/ 150)، ومسائل أحمد رواية ابن هانئ (2/ 24)، المغني (7/ 555)، الرعاية الصغرى (2/ 392)، رؤوس المسائل الخلافية (3/ 124)، الفروع (4/ 411)، شرح منتهى الإرادات (2/ 344)، الجامع الصغير (196)، المبدع (5/ 56)، المقنع (136)، الكافي (3/ 375)، المحرر (1/ 354).
(8) انظر: المحلَّى (8/ 217)، الحاوي الكبير (6/ 451).
(9) صحيح البخاري (5/ 13).
(10) انظر: المحلَّى (8/ 217).

(2/649)


خزيمة (1)، وأبي بكر بن المنذر (2)، ومحمد بن نصر المروزي، وهي مذهب عامة أئمة الإسلام (3)، كالَّليث ابن سعد (4)، وابن أبي ليلى (5)، وأبي يوسف (6)، ومحمد بن الحسن (7) وغيرهم.
وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – قد عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع حتَّى مات (8)، ولم تزل تلك المعاملة حتَّى أجلاهم عمر عن خيبر (9)، وكان قد شارطهم أن يعمروها من أموالهم، وكان البذر
__________
(1) انظر: سنن البيهقي (6/ 223)، معالم السنن (5/ 54)، روضة الطالبين (4/ 243)، فتح الباري (5/ 16).
(2) انظر: الإشراف (2/ 71)، وروضة الطالبين (4/ 243)، فتح الباري (5/ 16).
(3) كعمر بن عبد العزيز رواه عنه يحيى بن آدم في الخراج (63)، وابن أبي شيبة (4/ 384). وسعد بن أبي وقاص والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير والباقر وابن سيرين وعبد الرحمن بن الأسود وغيرهم. انظر: مصنف ابن أبي شيبة (4/ 382)، وفتح الباري (5/ 15)، الإشراف (2/ 72)، وذكر أنَّه قول أكثر أهل العلم.
(4) انظر: المحلَّى (8/ 217)، الاستذكار (21/ 220 و 234)، سير أعلام النبلاء (10/ 522).
(5) رواه عنه ابن أبي شيبة (4/ 384)، وانظر: الخراج (96)، الإشراف (2/ 72)، المحلَّى (216).
(6) انظر: سنن البيهقي (6/ 223)، الخراج (96)، بدائع الصنائع (6/ 175)، المبسوط (23/ 17)، الإشراف (2/ 72).
(7) انظر: الحجة لمحمد بن الحسن (4/ 138)، المبسوط (23/ 17)، بدائع الصنائع (6/ 175)، تكملة البحر الرَّائق (8/ 289)، سنن البيهقي (6/ 223)، الإشراف (2/ 72).
(8) رواه البخاري رقم (2285) (4/ 540)، ومسلم رقم (1551) (10/ 467) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(9) البخاري رقم (2286) (4/ 450)، ومسلم رقم (1551) مكرر رقم “6” من =

(2/650)


منهم، لا من النبي – صلى الله عليه وسلم -.
ولهذا كان الصحيح من أقوال العلماء (1) أنَّ البذر يجوز أن يكون من العامل كما مضت به السنة، بل قد قال طائفة من الصحابة: لا يكون البذر إلَّا من العامل (2)؛ لفعل النبي – صلى الله عليه وسلم -؛ ولأنهم أجروا البذر مجرى النفع والماء.
والصحيح (3) أنه يجوز أن يكون من ربِّ الأرضِ وأن يكون من العامل، وأن يكون منهما، وقد ذكر البخاري كما في “صحيحه” (4): “أنَّ عمرَ بن الخطاب – رضي الله عنه – عامل النَّاس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشَّطْر، وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا” (5).
والَّذين منعوا المزارعة (6) منهم من احتجَّ بـ “أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – نَهَى عَنِ
__________
= حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(1) زاد المعاد (3/ 145)، الاختيارات (150)، الإنصاف (14/ 241)، رحمة الأمة (183).
(2) انظر: الإشراف لابن المنذر (2/ 73)، ونسبه لسعد بن مالك وابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهم.
(3) زاد المعاد (3/ 145)، الاختيارات (150)، الإنصاف (14/ 241)، رحمة الأمة (183).
(4) معلقًا (5/ 14) ووصله ابن أبي شيبة (7/ 427) عن أبي خالد الأحمر عن يحيى ابن سعيد أنَّ عمر وهذا الإسناد مرسل. انظر: فتح الباري (5/ 15).
(5) “عامل النَّاس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر، وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا” مثبتة من “أ”.
(6) انظر: المبسوط (23/ 17)، بدائع الصنائع (6/ 175)، مختصر القدوري (143)، شرح العناية على الهداية (9/ 462)، الاستذكار (21/ 209)، =

(2/651)


المُخَابَرَةِ” (1)، ولكن الَّذي نهى عنه هو الظلم؛ فإنَّهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة بعينها، ويشترطون ما على الماذيانات (2) وأقبال الجداول (3)، وشيئًا من التبن يختص به صاحب الأرض، ويقتسمان الباقي (4).
وهذا الشرط باطل بالنص (5) والإجماع (6)، فإنَّ المعاملة مبناها
__________
= القبس (3/ 861)، تنوير الحوالك (2/ 188)، بداية المجتهد (7/ 516)، القوانين (285)، الأم (7/ 179)، الحاوي الكبير (7/ 451)، روضة الطالبين (4/ 243)، حلية العلماء (5/ 378)، مغني المحتاج (2/ 323).
(1) رواه البخاري رقم (2381) (5/ 60)، ومسلم رقم (1536) (10/ 450) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
المخابرة والمزارعة متقاربتان، وهما: المعاملة على الأرضِ ببعض ما يخرج منها من الزرع، ولكن في المزارعة يكون البذر من مالك الأرضِ. وفي المخابرة يكون البذر من العامل. شرح مسلم النووي (10/ 450).
(2) الماذيانات: الأنهار. المعلم (2/ 182)، معالم السنن (5/ 56)، وقيل: هي مسايل المياه أو ما ينبت على حافتي مسيل الماء، وقيل: ما ينبت حول الساقي. وهي لفظة معربة. شرح النووي لمسلم (10/ 457).
(3) جمع جدول وهو النهر الصغير. شرح مسلم للنووي (10/ 457).
(4) كما رواه مسلم في صحيحه (10/ 456) رقم (96) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(5) لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. قال: كُنَّا في زمان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نأخذ الأرض بالثلث أو الربع بالماذيانات فقام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في ذلك فقال: “من كانت له أرض فليزرعها فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه فإن لم يمنحها أخاه فليمسكها” رواه مسلم في البيوع (10/ 456) رقم (96).
(6) انظر: شرح صحيح مسلم للنووي (10/ 457)، وإعلام الموقعين =

(2/652)


على العدلِ من الجانبين، وهذه المعاملات من جنس المشاركات، لا من باب المعاوضات، والمشاركة العادلة هي أن يكون لكل واحد من الشريكين جزء شائع، فإذا جعل لأحدهما شيء مقدر كان ظلمًا (1).
فهذا هو الَّذي نهى عنه النبي – صلى الله عليه وسلم -، كما قال الليث بن سعد: الَّذي نهى عنه النبي – صلى الله عليه وسلم – من ذلك أمرٌ إذا نظر ذو البصيرة بالحلال والحرام فيه علم أنَّه لا يجوز، وأمَّا ما فعله – صلى الله عليه وسلم – وفعله خلفاؤه الراشدون والصحابة فهو العدل المحض الذي لا ريب في جوازه (2).

فصل

وقد ظنَّ طائفةٌ من النَّاس (3) أنَّ هذه المشاركات من باب الإجارة بعوض مجهول، فقالوا: القياس يقتضي تحريمها.
ثمَّ منهم من حرم المساقاة والمزارعة، وأباح المضاربة (4) استحسانًا للحاجة؛ لأنَّ الدراهم لا تؤجر، كما يقوله أبو حنيفة (5).
__________
= (1/ 473).
(1) في “ب” و”هـ” و”و”: “ظالمًا”.
(2) رواه البخاري (5/ 31) “مع الفتح”.
(3) انظر: بدائع الصنائع (6/ 175)، الذخيرة (6/ 94)، الحسبة (76)، القواعد النورانية (314)، تبيين الحقائق (5/ 278 و 284).
(4) تقدم تعريف المساقاة والمزارعة والمضاربة.
(5) انظر: الخراج (96)، الحجة (4/ 138)، المبسوط (23/ 17)، بدائع الصنائع (6/ 175)، تكملة البحر الرَّائق (8/ 598)، لسان الحكام (1/ 408)، تبيين الحقائق (5/ 278).

(2/653)


ومنهم من أباح المساقاة إمَّا مطلقًا، كقول مالك (1) والشافعي في القديم (2)، أو على النخل والعنب خاصَّة، كالجديد له (3)؛ لأنَّ الشجر لا تمكن إجارته، بخلاف الأرض، وأباحوا ما يحتاج إليه من المزارعة تبعًا للمساقاة.
ثُمَّ منهم من قدَّر ذلك بالثلث، كقول مالك (4).
ومنهم من اعتبر كون الأرض أغلب، كقول الشافعي (5).
وأمَّا جمهور السلف والفقهاء (6)، فقالوا: ليس ذلك من باب الإجارة في شيء، بل من باب المشاركات، التي مقصود كل منهما مثل مقصود صاحبه، بخلاف الإجارة، فإنَّ هذا مقصوده العمل، وهذا
__________
(1) انظر: القبس (3/ 861)، الاستذكار (21/ 209)، القوانين (284) الذخيرة (6/ 94)، مختصر خليل (270)، التفريع (2/ 201)، المعونة (2/ 1131)، الكافي (381)، الموطأ (703)، التلقين (401).
(2) انظر: روضة الطالبين (4/ 227)، التهذيب (4/ 403)، التنبيه (121)، الحاوي (7/ 364)، حلية العلماء (5/ 365) رحمة الأمة (183).
(3) الأم (7/ 179)، التهذيب (4/ 403)، التنبيه (121)، الحاوي (7/ 364)، الوجيز (591)، حلية العلماء (5/ 364)، الإشراف (2/ 81)، مغني المحتاج (2/ 323)، روضة الطالبين (4/ 227)، رحمة الأمة (183).
(4) أي إن كان مع الشجر أرضٌ بيضاء فإن كان البياض أكثر من الثلث لم يجز أن يدخل مع المساقاة وإن كان الثلث أو أقل جاز. انظر: القوانين (285)، المعونة (2/ 1134)، التفريع (2/ 202)، الذخيرة (6/ 107).
(5) انظر: المنهاج مع شرحه مغني المحتاج (2/ 324)، رحمة الأمة (183).
(6) انظر: تهذيب السنن (5/ 65)، الحسبة (76).

(2/654)


مقصوده الأجرة، ولهذا كان الصحيح أنَّ هذه المشاركات إذا فسدت وجب فيها نصيب المثل، لا أجرة المثل، فيجب من الربح والنماء في فاسدها نظير ما يجب في صحيحها، لا أجرة مقدرة، فإن لم يكن ربح ولا نماء لم يجب شيء، فإنَّ أجرة المثل قد تستغرق رأس المال وأضعافه، وهذا ممتنع، فإنَّ قاعدة الشرع أنَّه يجب في الفاسد من العقود نظير ما يجب في الصحيح منها، كما يجب في النكاح الفاسد مهر المثل، وهو نظير ما يجب في الصحيح (1)، وفي البيع الفاسد إذا فات ثمن المثل، وفي الإجارة الفاسدة أجرة المثل، فكذلك يجب في المضاربة الفاسدة ربح المثل، وفي المساقاة والمزارعة الفاسدة نصيب المثل، فإنَّ الواجب في صحيحها ليس هو أجرة مسماة فتجب (2) في فاسدها أجرة المثل، بل هو جزء شائع من الربح، فيجب في الفاسد نظيره.
قال شيخ الإسلام وغيره من الفقهاء (3): والمزارعة أحل (4) من المؤاجرة، وأقرب إلى العدل، فإنَّهما يشتركان في المغرم والمغنم، بخلاف المؤاجرة، فإنَّ صاحب الأرض تسلم له الأجرة، والمستأجر قد يحصل له زرع، وقد لا يحصل.
والعلماء مختلفون في جواز هذا وهذا (5)، والصحيح: جوازهما،
__________
(1) “منها كما يجب في النكاح الفاسد مهر المثل، وهو نظير ما يجب في الصحيح” ساقطة من “ب”.
(2) في “أ”: “فيوجب”.
(3) الحسبة (77).
(4) في الحسبة “آصل”، والصحيح المثبت في المتن.
(5) انظر: حاشية ابن عابدين (6/ 99)، الذخيرة (6/ 135)، فتاوى الهيتمي =

(2/655)


سواء كانت الأرض إقطاعًا أو غيره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (1): وما علمت أحدًا من علماء الإسلام – الأئمة الأربعة (2) ولا غيرهم – قال: إجارة الإقطاع لا تجوز، وما زال المسلمون يؤجرون إقطاعاتهم (3) قرنًا بعد قرن، من الصحابة إلى زمننا هذا، حتَّى أحدث بعض أهل زماننا فابتدع القول ببطلان إجارة الإقطاع (4)، وشبهته أنَّ المقطَع لا يملك المنفعة (5)، فيصير كالمستعير، لا يجوز أن يكري الأرض المعارة.
وهذا القياس خطأ من وجهين:
أحدهما: أنَّ المستعير لم تكن المنفعة حقًّا له، وإنَّما تبرع المعير بها، وأمَّا أراضي المسلمين فمنفعتها حق للمسلمين، وولي الأمر قاسم
__________
= الفقهية (3/ 189)، الإنصاف (16/ 127)، مجموع الفتاوى (30/ 244)، الفروع (4/ 444)، القواعد لابن رجب (2/ 291)، الاختيارات (152)، أسنى المطالب (2/ 414).
(1) “ابن تيمية” ساقطة من “أ” و”ب” و”و”. وانظر الحسبة (78)، الاختيارات (152)، مجموع الفتاوى (30/ 244) و (28/ 85).
(2) انظر: حاشية ابن عابدين (6/ 99)، غمز عيون البصائر (3/ 478)، تحفة المحتاج (6/ 173)، فتاوى الهيتمي الفقهية (3/ 189)، الإنصاف (16/ 127)، الفروع (4/ 444)، قواعد ابن رجب (2/ 291)، أسنى المطالب (2/ 414)، مطالب أولي النهى (3/ 620)، كشاف القناع (3/ 568).
(3) وفي “د” و”هـ” و”و”: “قطاعهم”.
(4) الفتاوى الفقهية للهيتمي (3/ 189).
(5) المرجع السابق (3/ 190)، وتحفة المحتاج (6/ 205).

(2/656)


بينهم حقوقهم، ليس متبرعًا لهم كالمعير. والمقطَع مستوفي (1) المنفعة بحكم الاستحقاق، كما يستوفي الموقوف عليه منافع الوقف وأولى، وإذا جاز للموقوف عليه أن يؤجر الوقف – وإن أمكن أن يموت فتنفسخ الإجارة بموته على الصحيح (2) – فلأن يجوز للمقطَع أن يؤجر الإقطاع وإن انفسخت الإجارة بموته أولى (3).
الثاني: أنَّ المعيرَ لو أذنَ في الإجارة جازت الإجارة، وولي الأمر يأذن للمقطَع في الإجارة، فإنَّه إنَّما أقطعهم لينتفعوا بها إمَّا بالمزارعة (4)، وإمَّا بالإجارة، ومن منع الانتفاع بها بالإجارة والمزارعة فقد أفسدَ على المسلمين دينهم ودنياهم، وألزم الجند والأمراء أن يكونوا هم الفلاحين، وفي ذلك من الفساد ما فيه.
وأيضًا؛ فإن الإقطاع قد يكون دورًا وحوانيت، لا ينتفع بها المقطَع إلا بالإجارة، فإذا لم تصح إجارة الإقطاع عطلت منافع ذلك بالكلية، وكون الإقطاع معرضًا لرجوع الإمام فيه مثل كون الموهوب للولد معرضًا لرجوع الوالد فيه، وكون الصداق قبل الدخول معرضًا لرجوع
__________
(1) في “أ” و”ب”: “فالمقطع يستوفي”.
(2) انظر: الإنصاف (14/ 345)، شرح منتهى الإرادات (2/ 253)، الشرح الكبير (14/ 346) مع الإنصاف، بلغة السالك (4/ 54)، العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية (2/ 97).
(3) “على الصحيح فلأن يجوز للمقطع أن يؤجر الإقطاع وإن انفسخت الإجارة بموته” ساقطة من “أ” و”هـ”.
(4) في “د” و”هـ” و”و”: “بالزراعة”.

(2/657)


نصفه أو كله إلى الزوج، وذلك لا يمنع صحة الإجارة بالاتفاق، فليس مع المبطِل نص ولا قياس، ولا مصلحة ولا نظر.
وإذا أبطلوا المزارعة والإجارة لم يبق بيد (1) الجند إلا أن يستأجروا من أموالهم من يزرع الأرض ويقوم عليها، وهذا لا يكاد يفعله إلا قليل من الناس؛ لأنه قد يخسر ماله، ولا يحصل له شيء، بخلاف المشاركة، فإنهما يشتركان في المغنم والمغرم، فهي أقرب إلى العدل.
وهذه المسألة ذكرت طردًا، وإلا فالمقصود أن الناس إذا احتاجوا إلى أرباب الصناعات – كالفلاحين وغيرهم – أجبروا على ذلك بأجرة المثل. وهذا من التسعير الواجب، فهذا تسعير في الأعمال.

وأما التسعير في الأموال فإذا احتاج الناس (2) إلى سلاح للجهاد وآلات، فعلى أربابه أن يبيعوه بعوض المثل، ولا يمكنوا من حبسه إلا بما يريدونه من الثمن، والله تعالى قد أوجب الجهاد بالنفس والمال، فكيف لا يجب على أرباب السلاح بذله بقيمته؟ ومن أوجب على العاجز ببدنه أن يخرج من ماله ما يحج به الغير عنه ولم يوجب على المستطيع بماله أن يخرج ما يجاهد به الغير: فقوله ظاهر التناقض، وهذا إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وهو الصواب (3).
__________
(1) في “ب” و”د” و”هـ” و”و”: “لم يبق مع”.
(2) “النَّاس” ساقطة من “أ”.
(3) “وهو الصواب” ساقطة من “د”.
الحسبة (81 – 82). وانظر: الفروع (4/ 54)، الإنصاف (11/ 201)، =

(2/658)


فصل
وإنما لم يقع التسعير في زمن النبي – صلى الله عليه وسلم – بالمدينة؛ لأنهم لم يكن عندهم من يطحن ويخبز بكراء، ولا من يبيع طحينًا وخبزًا، بل كانوا يشترون الحب ويطحنونه ويخبزونه في بيوتهم، وكان من قدم بالحب لا يتلقاه أحد، بل يشتريه الناس من الجلابين؛ ولهذا جاء في الحديث: “الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون” (1).
وكذلك لم يكن في المدينة حائك، بل كان يقدم عليهم بالثياب من الشام واليمن وغيرهما، فيشترونها ويلبسونها (2).
__________
= شرح منتهى الإرادات (2/ 27)، معونة أولي النهى (4/ 71).
(1) رواه ابن ماجه رقم (2153)، وعبد بن حميد رقم (33)، والدارمي (2544) (2/ 324)، والبيهقي (6/ 50)، وفي الشعب (525)، والعقيلي (3/ 232)، وابن عدي (6/ 348)، والفاكهي في أخبار مكة (3/ 50)، وروى الحاكم عجزه (2/ 11) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه من طريق علي بن سالم عن علي بن زيد بن جدعان وهما ضعيفان والحديث ضعفه جمعٌ من أهل العلم كابن الملقن. خلاصة البدر المنير (2/ 59)، والحافظ ابن حجر. التلخيص الحبير (2/ 29)، فتح الباري (4/ 408)، والعجلوني في كشف الخفا (1/ 393)، والبوصيري. مصباح الزجاجة (2/ 163).
(2) انظر: تكملة المجموع الثانية (13/ 33).

(2/659)


فصل في التسعير

وقد تنازع العلماء في التسعير في مسألتين:
إحداهما: إذا كان للناس سعر غالب، فأراد بعضهم أن يبيع بأغلى من ذلك، فإنه يمنع من ذلك عند مالك (1).
وهل يمنع من النقصان؟ على قولين لهم (2).
واحتج مالك – رحمه الله – بما رواه في موطئه عن يونس بن سيف (3) عن سعيد بن المسيب: “أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – مر بحاطب بن أبي بلتعة، وهو يبيع زبيبًا له بالسوق، فقال له عمر: إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا” (4).
__________
(1) “عند مالك” ساقطة من “ب”.
انظر: الموطأ (2/ 651)، البيان والتحصيل (9/ 313)، تنبيه الحكام (348)، الاستذكار (20/ 73)، المعونة (2/ 1035)، المنتقى (5/ 17)، الكافي (360)، المعيار المعرب (6/ 409).
(2) انظر: المراجع السابقة.
(3) كذا في المخطوطات “يونس بن سيف”، والصواب يونس بن يوسف كما في الموطأ (2/ 651) وهو يونس بن يوسف بن حماس بن عمرو الليثي المدني من عباد أهل المدينة، روى له مسلم والنسائي وابن ماجه، وثَّقه النسائي وابن حبان. انظر: الثقات (7/ 633 و 648)، وتهذيب الكمال (32/ 560)، تهذيب التهذيب (11/ 395)، والكاشف (3/ 306).
(4) رواه مالك (2/ 651)، وعبد الرزاق (8/ 207)، والبيهقي (6/ 48)، وابن =

(2/660)


قال مالك (1): لو أن رجلًا أراد فساد السوق فحط عن سعر الناس لرأيت أن يقال له: إما لحقت بسعر الناس، وإما رفعت، وأما أن يقول للناس كلهم يعني (2): لا تبيعوا إلا بسعر كذا، فليس ذلك بالصواب، وذكر حديث عمر بن عبد العزيز في أهل الأيلة (3)، حين حط سعرهم لمنع البحر، فكتب: “خل بينهم وبين ذلك، فإنما السعر بيد الله”.
قال ابن رشد في كتاب البيان (4): “أما الجلابون فلا خلاف في أنه لا يسعر عليهم شيء مما جلبوه، وإنما يقال لمن شذ منهم، فباع بأغلى مما يبيع به العامة: إما أن تبيع بما تبيع به العامة، وإما أن ترفع من السوق، كما فعل عمر بن الخطاب بحاطب بن أبي بلتعة، إذ مر به وهو يبيع زبيبًا له في السوق فقال له: “إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا” (5)؛ لأنه كان يبيع بالدرهم الواحد أقل (6) مما كان يبيع به
__________
= شبة في أخبار المدينة (1/ 398).
(1) انظر: البيان والتحصيل (9/ 313).
(2) “يعني” ساقطة من “أ”.
(3) في أكثر النسخ: “الأبلة”، وفي النسخة “د”: “الأيلة” وهو الصواب. انظر: البيان والتحصيل (9/ 313)، وأيلة مدينة على ساحل بحر القلزم ممَّا يلي الشام، وقيل: هي آخر الحجاز وأوَّل الشام. انظر: معجم البلدان (1/ 347). واسمها الآن إيلات بالقرب من العقبة.
(4) البيان والتحصيل (9/ 313)، وانظر: التاج والإكليل (4/ 380)، الكافي (360)، القوانين (258)، المعيار المعرب (5/ 84).
(5) تقدم تخريجه قريبًا.
(6) في “ب” و”جـ” و”هـ” و”و”: “أغلا”. ولعلَّ الصواب: “أكثر”، وما أثبته موافقٌ لما في البيان والتحصيل (9/ 414).

(2/661)


أهل السوق.
وأمَّا أهل الحوانيت والأسواق، الَّذين يشترون من الجلابين وغيرهم جملة، ويبيعون ذلك على أيديهم مقطعًا، مثل اللحم والأدم والفواكه، فقيل: إنهم كالجلابين، لا يسعر لهم شيء من بياعاتهم، وإنَّما يقال لمن شذ منهم وخرج عن الجمهور: إمَّا أن تبيع كما يبيع النَّاس، وإمَّا أن ترفع من السوق، وهو قول مالك في هذه الرواية (1).
وممَّن روي عنه ذلك من السلف: عبد الله بن عمر (2) والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله (3).
وقيل: إنَّهم في هذا بخلاف الجلابين، لا يتركون على البيع باختيارهم إذا أغلوا على النَّاس، ولم يقتنعوا (4) من الربح بما يشبه.
وعلى صاحب السوق الموكل بمصلحته أن يعرف ما يشترون به، فيجعل لهم من الربح ما يشبه، وينهاهم أن يزيدوا على ذلك، ويتفقد السوق أبدًا، فيمنعهم من الزيادة على الربح الَّذي جعل لهم، فمن
_________
(1) انظر: المنتقى (5/ 17)، الاستذكار (20/ 73).
(2) انظر: المنتقى (5/ 18)، تكملة المجموع الثانية (13/ 34).
(3) انظر: المنتقى (5/ 18)، المعيار المعرب (5/ 85)، تكملة المجموع الثانية (13/ 34).
“والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله” لم يذكرهما ابن رشد في المطبوع من البيان والتحصيل.
(4) في “أ” و”هـ”: “يقنعوا”.

(2/662)


خالف أمره عاقبه وأخرجه من السوق.
وهذا قول مالك (1) في رواية أشهب (2)، وإليه ذهب ابن حبيب (3)، وقال به ابن المسيب ويحيى بن سعيد والليث وربيعة (4).
ولا يجوز عند أحدٍ من العلماء أن يقول لهم: لا تبيعوا إلَّا بكذا وكذا، ربحتم أو خسرتم، من غير أن ينظر إلى ما يشترون به، ولا أن يقول لهم فيما قد اشتروه: لا تبيعوه إلَّا بكذا وكذا، ممَّا هو مثل الثمن أو أقل.
وإذا ضرب لهم الربح على قدر ما يشترون لم يتركهم أن يغلوا في الشراء، وإن لم يزيدوا في الربح على القدر الَّذي حدَّ لهم، فإنهم قد يتساهلون في الشراء إذا علموا أنَّ الربح لا يفوتهم (5).
وأمَّا الشافعي (6)، فإنَّه عارض ذلك بما رواه عن الدراوردي (7) عن داود بن صالح التمار عن القاسم بن محمد عن عمر – رضي الله عنه -: “أنَّه مر بحاطب بن أبي بلتعة بسوق المصلى، وبين يديه
__________
(1) ولا يزال الكلام لابن رشد – رحمه الله تعالى -.
(2) انظر: المعيار المعرب (5/ 85).
(3) انظر: المعيار المعرب (5/ 85).
(4) انظر: الاستذكار (20/ 76)، تكملة المجموع الثانية (13/ 35).
(5) انتهى كلام ابن رشد رحمه الله تعالى.
(6) مختصر المزني (9/ 102)، وانظر: الاستذكار (20/ 75)، وسنن البيهقي (6/ 48)، الحاوي الكبير (5/ 409).
(7) عبد العزيز بن محمد بن عبيد الدراوردي.

(2/663)


غرارتان (1) فيهما زبيب، فسأله عن سعرهما؛ فقال له (2): مدَّين لكل درهم، فقال له عمر: قد حُدِّثت بعير من الطائف تحمل زبيبًا، وهم يغترون (3) بسعرك، فإمَّا أن ترفع في السعر، وإمَّا أن تدخل زبيبك البيت، فتبيعه (4) كيف شئت، فلمَّا رجع عمر حاسب نفسه، ثمَّ أتى حاطبًا في داره، فقال: إنَّ الَّذي قلت لك ليس عزمة مني، ولا قضاء، إنَّما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت فبع، وكيف شئت فبع” (5).
قال الشافعي (6): وهذا الحديث مستقصى (7)، وليس بخلاف لما رواه مالك (8)، ولكنَّه روى بعض الحديث، أو رواه عنه من رواه (9)،
__________
(1) في “ب”: “غرابان”.
الغرارة: الجوالق الكبير. فقه اللغة (285)، والجوالق هي الوعاء. مختار الصحاح (106).
(2) عند البيهقي: “فسعر له”.
(3) في “أ” و”ب”: “يعتبرون”.
(4) “فتبيعه” ساقطة من “هـ”.
(5) رواه الشافعي، مختصر المزني (9/ 102)، والبيهقي (6/ 48)، وسعيد بن منصور كما أفاده ابن قدامة في المغني (6/ 312). وانظر: كنز العمال (4/ 183).
(6) مختصر المزني (9/ 102).
(7) في “أ”: “مستفيض”.
(8) يعني أثر حاطب الذي تقدم نصه أوَّل الفصل.
(9) في مختصر المزني (9/ 102)، والحاوي (5/ 409) “أو رواه من روى عنه” وبه يستقيم المعنى.

(2/664)


وهذا أتى بأوَّل الحديث وآخره، وبه أقول؛ لأنَّ النَّاس مسلطون على أموالهم، ليس لأحدٍ أن يأخذها أو شيئًا منها بغير طيب أنفسهم إلَّا في المواضع التي يلزمهم الأخذ فيها (1)، وهذا ليس منها (2).
وعلى قول مالك فقال أبو الوليد الباجي: الَّذي يؤمر به من حط عنه أن يلحق به هو السعر الذي عليه جمهور النَّاس، فإذا انفرد منهم الواحد والعدد اليسير بحط السعر أمروا باللحاق بسعر النَّاس، أو ترك البيع، فإن زاد في السعر واحد أو عدد يسير لم يؤمر الجمهور باللحاق بسعره؛ لأنَّ المراعى حال الجمهور (3)، وبه تقوم المبيعات.
وهل يقام من زاد في السوق – أي في قدر المبيع بالدراهم – كما يقام من نقص منه؟
قال ابن القصار المالكي (4): اختلف أصحابنا في قول مالك: “ولكن من حط سعرًا”، فقال البغداديون (5): أراد من باع خمسة بدرهم، والنَّاس يبيعون ثمانية.
__________
(1) “الأخذ فيها” مثبتة من “أ”.
(2) انتهى كلام الشافعي – رحمه الله تعالى -.
(3) انتهى كلام الباجي. المنتقى (5/ 17)، وانظر: الاستذكار (20/ 73)، والكافي (360)، والتفريع (2/ 168)، المعيار (6/ 409).
(4) علي بن عمر بن أحمد البغدادي أبو الحسن المعروف بابن القصار القاضي شيخ المالكية، توفي سنة 397 هـ – رحمه الله تعالى -. انظر: تاريخ بغداد (12/ 40)، الديباج المذهب (2/ 100)، سير أعلام النبلاء (17/ 108).
(5) انظر: المعونة (2/ 1035).

(2/665)


وقال قوم من البصريين (1): أراد من باع ثمانية، والنَّاس يبيعون خمسة، فيفسد على أهل السوق بيعهم، وربما أدَّى إلى الشغب والخصومة.
قال: وعندي أنَّ الأمرين جميعًا ممنوعان؛ لأنَّ من باع ثمانية – والنَّاس يبيعون خمسة – أفسد على أهل السوق بيعهم، وربما أدَّى إلى الشغب والخصومة، فمنع الجميع مصلحة.
قال أبو الوليد (2): ولا خلاف أنَّ ذلك حكم أهل السوق.
وأمَّا الجالب ففي كتاب محمد (3): لا يمنع الجالب أن يبيع في السوق دون بيع النَّاس، وقال ابن حبيب: ما عدا القمح والشعير بسعر النَّاس وإلَّا رفعوا، وأمَّا جالب القمح والشعير فيبيع كيف شاء، إلَّا أنَّ لهم في أنفسهم حكم أهل السوق، إن أرخص بعضهم (4) تركوا، وإن أرخص أكثرهم قيل لمن بقي: إمَّا أن تبيعوا كبيعهم، وإمَّا أن ترفعوا (5).
قال ابن حبيب: وهذا (6) في المكيل والموزون، مأكولًا كان أو
__________
(1) في الحسبة (91): “المصريين”.
(2) الباجي. المنتقى (5/ 17).
(3) محمد بن سحنون بن سعيد بن حبيب التنوخي أبو عبد الله من كبار علماء المالكية، توفي سنة 255 هـ – رحمه الله – تعالى. انظر: ترتيب المدارك (3/ 104)، وشجرة النور (60).
(4) “بعضهم” ساقطة من “ب”.
(5) المنتقى (5/ 18)، وانظر: التاج والإكليل (4/ 380).
(6) “هذا” مثبتة من طبعة ابن قاسم رحمه الله، وأثبتها ليستقيم المعنى.

(2/666)


غيره، دون ما لا يكال (1) ولا يوزن؛ لأنَّه لا يمكن تسعيره؛ لعدم التماثل فيه.
قال أبو الوليد (2): هذا إذا كان المكيل والموزون متساويين (3)، فإذا اختلفا (4)، لم يؤمر صاحب الجيد أن يبيعه بسعر الدون (5).

فصل
وأمَّا المسألة الثانية – التي تنازعوا فيها من التسعير – فهي أن يحد لأهل السوق حدًّا لا يتجاوزونه، مع قيامهم بالواجب.
فهذا منع منه الجمهور (6)، حتَّى مالك نفسه في المشهور عنه (7)،
__________
(1) في “أ” و”ب”: “دون ما يكال”.
(2) الباجي.
(3) في “أ”: “متساويا”.
(4) في “أ” و”و”: “اختلفت”.
(5) المنتقى (5/ 18).
(6) انظر: الهداية مع نصب الرَّاية (6/ 164)، بدائع الصنائع (5/ 129)، العناية (10/ 59)، فتح القدير (10/ 59)، المنتقى (5/ 17)، الاستذكار (20/ 73)، والكافي (360)، القوانين (258)، مختصر المزني (9/ 102)، حلية العلماء (4/ 316)، الحاوي الكبير (5/ 409)، سنن البيهقي (6/ 48)، أسنى المطالب (2/ 38)، المهذب “مع المجموع” (13/ 29)، شرح منتهى الإرادات (2/ 26)، كشاف القناع (3/ 187)، مطالب أولي النهى (3/ 62)، المغني (6/ 311)، الحسبة (88)، رؤوس المسائل الخلافية (2/ 757)، الفروع (4/ 51)، الإنصاف (11/ 197).
(7) انظر: كتب المالكية في الحاشية السابقة.

(2/667)


ونقل المنع أيضًا عن ابن عمر (1)، وسالم (2)، والقاسم بن محمد (3)، وروى أشهب عن مالك في صاحب السوق يسعر على الجزارين لحم الضأن بكذا، ولحم الإبل بكذا، وإلَّا أخرجوا من السوق؛ قال: إذا سعر عليهم قدر ما يرى من شرائهم، فلا بأس به، ولكن أخاف أن (4) يقوموا من السوق.
واحتجَّ أصحاب هذا القول بأنَّ في هذا مصلحة للناس بالمنع من إغلاء السعر عليهم، ولا يجبر النَّاس على البيع، وإنَّما يمنعون من البيع بغير السعر الَّذي يحده ولي الأمر، على حسب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمشتري (5).
وأمَّا الجمهور فاحتجوا بما رواه أبو داود (6) وغيره من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: جاءَ رَجُلٌ إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله، سَعِّر لنا، فقال: “بل أَدْعُو اللهَ” ثمَّ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، سعِّر لنا، فقال: “بلْ اللهُ يَرْفَعُ
__________
(1) في “ب”: “عمر”.
وانظر: المنتقى (5/ 18) تكملة المجموع الثانية (13/ 36)، الحسبة (92).
(2) انظر: المنتقى (5/ 18) تكملة المجموع الثانية (13/ 36)، الحسبة (92).
(3) انظر: المنتقى (5/ 18) تكملة المجموعة الثانية (13/ 36)، الحسبة (92).
(4) في “جـ”: “ولكن لا يأمرهم أن”، وفي “ب” و”د” و”هـ” و”و”: “ولكن يقوموا من السوق”.
(5) المراجع السابقة.
(6) في البيوع باب في التسعير رقم (3450)، وقد تقدم تخريجه مفصلًا.

(2/668)


وَيَخْفِضُ، وَإِنَّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ، وَلَيْسَتْ لأَحَدٍ عِنْدِي مَظْلَمَةٌ”.
قالوا (1): ولأن إجبار النَّاس على ذلك ظلمٌ لهم.

فصل
وأمَّا صفة ذلك عند من جوَّزه (2)، فقال ابن حبيب (3): ينبغي للإمام أن يجمع وجوه أهل سوق ذلك الشيء، ويحضر غيرهم، استظهارًا على صدقهم، فيسألهم: كيفَ يشترون؟ وكيف يبيعون؟ فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سداد، حتَّى يرضوا به، ولا يجبرهم (4) على التسعير، ولكن عن رضى.
قال أبو الوليد (5): ووجه هذا: أن به يتوصل إلى معرفة مصالح البائعين والمشترين، ويجعل للباعة في ذلك من الربح ما يقوم بهم، ولا يكون فيه إجحافٌ بالنَّاس، وإذا سعَّر عليهم من غير رضا، بما لا ربح لهم فيه، أدَّى ذلك إلى فساد الأسعار، وإخفاء الأقوات، وإتلاف أموال النَّاس.
__________
(1) المنتقى (5/ 18)، الحسبة (92)، تكملة المجموع الثانية (13/ 36).
(2) انظر: المنتقى (5/ 19)، الحسبة (93)، تكملة المجموع الثانية (13/ 37)، التاج والإكليل (6/ 254)، الاختيار لتعليل المختار (4/ 161)، تبيين الحقائق (6/ 28)، درر الحكام (1/ 322)، الفتاوى الهندية (3/ 214)، مجمع الأنهر (2/ 548)، غمز عيون البصائر (1/ 282).
(3) انظر: المراجع السابقة.
(4) في “أ”: “ولا يجبرون”.
(5) الباجي. ذكره في المنتقى (5/ 19).

(2/669)


قال شيخنا (1): فهذا الَّذي تنازعوا فيه، وأمَّا إذا امتنع النَّاسُ من بيع ما يجب عليهم بيعه فهنا يؤمرون بالواجب، ويعاقبون على تركه، وكذلك كل من وجبَ عليه أن يبيع بثمن المثل فامتنع.
ومن احتجَّ على منع التسعير مطلقًا بقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إنَّ اللهَ هُوَ المُسَعَّرُ القَابِضُ البَاسِط، وَإِنَّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ تعَالَى وَلَيْسَ أَحَدٌ يَطْلُبُني بمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ” (2) قيل له: هذه قضيةٌ معينة، ليست لفظًا عامًّا، وليس فيها أنَّ أحدًا امتنع من بيع ما النَّاس يحتاجون إليه، ومعلومٌ أنَّ (3) الشيء إذا قلَّ رغب النَّاسُ في المزايدة فيه، فإذا بذله صاحبه كما جرت به العادة، ولكنَّ النَّاس تزايدوا فيه فهنا لا يسعر عليهم.
وقد ثبتَ في “الصحيحين” (4): أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – منع من الزيادة على ثمن المثل في عتق الحصة من العبد المشترك، فقال – صلى الله عليه وسلم -: “مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عبْدٍ – وَكَانَ لَهُ مِنَ المَالِ (5) مَا يَبْلُغُ ثَمَنَ العَبْدِ – قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيْمَةَ عَدْلٍ، لا وَكْس (6) ولاَ شَطَط” (7)، فأعطى شركاءه حصصهم،
__________
(1) الحسبة (93).
(2) تقدم تخريجه ص (639).
(3) “فيها أن أحدًا امتنع من بيع ما النَّاس يحتاجون إليه، ومعلوم أنَّ” ساقطة من “ب”.
(4) البخاري رقم (2522) (5/ 179)، ومسلم رقم (1501) (10/ 389) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(5) “من المال” ساقطة من “د” و”و”.
(6) الوكس: بفتح الواو وسكون الكاف: النقص، فتح الباري (5/ 182)، النهاية (5/ 219)، المجموع المغيث (3/ 445).
(7) الشطط: الجور. الفتح (5/ 182)، النهاية (2/ 475)، المجموع المغيث =

(2/670)


وعتق عليه العبد، فلم يمكن المالك أن يساوم المعتِق بالَّذي يريد، فإنَّه لما وجب عليه أن يُمَلَّك شريكه المعتِق نصيبه الَّذي لم يعتقه لتكميل الحرية في العبد قُدِّر عوضه بأن يُقوَّم جميع العبد قيمة عدل، ويعطيه قسطه من القيمة، فإنَّ حقَّ الشريك في نصف القيمة، لا في قيمة النصف عند الجمهور (1).
وصار هذا الحديث أصلًا في أنَّ ما لا يمكن قسمة عينه، فإنَّه يباع ويقسم ثمنه، إذا طلبَ أحد الشركاء ذلك، ويجبر الممتنع على البيع، وحكى بعض المالكية ذلك إجماعًا (2).
وصار أصلًا في أنَّ من وجبت عليه المعاوضة أجبر على أن يعاوض بثمن المثل، لا بما يريد من الثمن (3)، وأصلًا في جواز إخراج الشيء من ملك (4) صاحبه قهرًا بثمنه، للمصلحة الرَّاجحة، كما في الشفعة، وأصلًا في وجوب تكميل العتق بالسراية مهما أمكن.
والمقصود أنَّه إذا كان الشارع يوجب إخراج الشيء عن ملك مالكه
__________
= (3/ 445).
(1) انظر: الاستذكار (23/ 115)، المغني (14/ 351)، فتح الباري (5/ 182)، عمدة القاري (10/ 410)، شرح معاني الآثار (3/ 105)، وفي الحسبة (98): “كمالك وأبي حنيفة وأحمد”.
(2) تكملة المجموع الثانية (3/ 38)، وانظر: الكافي (449)، وذكر ابن عبد البر الخلاف في الاستذكار (23/ 115).
(3) في جميع النسخ عدا “جـ”: “لا بما يزيد عن الثمن”.
(4) “ملك” ساقطة من “و”.

(2/671)


بعوض المثل، لمصلحة تكميل العتق، ولم يُمَكِّن المالك من المطالبة بالزيادة على القيمة، فكيف إذا كانت الحاجة بالنَّاس إلى التملك أعظم، وهم إليها أضر؟ مثل حاجة المضطر إلى الطعام والشراب واللباس وغيره.
وهذا الَّذي أمر به النبي – صلى الله عليه وسلم – من تقويم الجميع قيمة المثل هو حقيقة التسعير، وكذلك سلط (1) الشريك على انتزاع الشقص المشفوع من يد المشتري بثمنه الَّذي ابتاعه به لا بزيادة عليه، لأجل مصلحة التكميل لواحد، فكيف بما هو أعظم من ذلك؟ فإذا جوز له انتزاعه منه بالثمن الَّذي وقع عليه العقد، لا بما شاء المشتري من الثمن، لأجل هذه المصلحة الجزئية، فكيف إذا اضطر إلى ما عنده من طعام وشراب ولباس وآلة حرب؟ وكذلك إذا اضطر الحاج إلى ما عند النَّاس من آلات السفر وغيرها، فعلى ولي الأمر أن يجبرهم على ذلك بثمن المثل، لا بما يريدونه من الثمن، وحديث العتق أصلٌ في ذلك كله (2).

فصل
فإذا قُدِّرَ أنَّ قومًا اضطروا إلى السكنى (3) في بيت إنسان، لا يجدون سواه، أو النزول في خان مملوك، أو استعارة ثياب يستدفئون بها، أو رحى للطحن، أو دلو لنزع الماء، أو قدر، أو فأس، أو غير ذلك،
__________
(1) في “و”: “تسليط”.
(2) الحسبة (93 – 99) بتصرف. وتقدم تخريج حديث العتق ص (672).
(3) في “أ”: “السكن”.

(2/672)


وجب على صاحبه بذله بلا نزاع، لكن هل له أن يأخذ عليه أجرًا؟ فيه قولان للعلماء، وهما وجهان لأصحاب أحمد (1).
ومن جوَّز له أخذ الأجرة حرم عليه أن يطلب زيادة على أجرة المثل.
قال شيخنا (2) – رضي الله عنه -: والصحيح أنَّه يجب عليه بذل ذلك مجانًا، كما دلَّ عليه الكتاب والسنَّة، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} [الماعون: 4 – 7] قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما من الصحابة: “هو إعارة القدر والدلو والفأس ونحوهم” (3).
__________
(1) الحسبة (99)، الإنصاف (27/ 249)، إعلام الموقعين (3/ 16)، قواعد ابن رجب (2/ 390)، الاختيارات (159)، تحفة المحتاج (9/ 395)، فتوحات الوهاب (5/ 277)، المبدع (9/ 209)، دليل الطالب (1/ 320) مجموع الفتاوى (29/ 186)، روضة الطالبين (3/ 286)، المجموع (9/ 41).
(2) الحسبة (99)، الاختيارات (159)، وانظر: الإنصاف (27/ 249)، قواعد ابن رجب (2/ 391).
(3) رواه عن ابن مسعود رضي الله عنه النسائي في الكبرى (6/ 522)، وأبو داود (1657)، والبيهقي (6/ 145)، وابن أبي شيبة (2/ 420)، والطبراني في المعجم الكبير (9/ 207)، والشاشي في مسنده (2/ 60)، ولم يرد ذكر الفأس إلَّا في رواية الطبراني، قال الحافظ ابن حجر: “أخرجه أبو داود والنسائي عن ابن مسعود وإسناده صحيح”. فتح الباري (8/ 603)، أمَّا أثر ابن عباس رضي الله عنه فلم أجده باللفظ الَّذي ذكره المؤلَّف، بل رواه ابن جرير (12/ 710)، والبيهقي (9/ 145)، وابن أبي شيبة (2/ 420) بلفظ: “هو متاع البيت”.

(2/673)


وفي “الصحيحين” (1) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وذكر الخيل – قال: “هِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجِلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّذي هِيَ لَهُ أَجْر فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبيِل الله، وأَمَّا الَّذي هِي لَهُ ستر فرجل رَبَطَهَا تَغَنَّيا وَتَعَفُّفا، ولَمْ يَنْس حَقَّ الله فِي رِقَابِهَا، وَلَا ظُهُوْرِهَا”.
وفي “الصحيحين” (2) عنه أيضًا: “مِنْ حَقَّ الإبِلِ إِعَارَةُ دَلْوهَا، وَإِطْرَاقُ فَحْلِهَا (3) “.
وفي “الصحيح” (4) عنه: “أنَّهُ نَهَى عَنْ عَسْبِ (5) الفَحْلِ” أي عن أخذ الأجرة عليه، والنَّاسُ يحتاجون إليه، فأوجب بذله مجانًا، ومنع من أخذ الأجرة عليه (6).
__________
(1) البخاري رقم (3646) (6/ 732)، ومسلم رقم (987) (7/ 69) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) رواه مسلم رقم (988) من حديث جابر رضي الله عنه، ولم أجده في المطبوع من صحيح البخاري.
(3) إطراق فحلها أي إعارته للضراب. النهاية (3/ 122).
(4) في “أ”: “الصحيحين”. البخاري رقم (2284) (4/ 539) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، ورواه مسلم (1565)، من حديث جابر بلفظ: “نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن بيع ضراب الجمل” ا. هـ.
(5) في “ب” و”هـ”: “عسيب”. العسب بفتح العين وإسكان السين ماء الفحل. النهاية (3/ 234)، المجموع المغيث (2/ 444).
(6) انظر: فتح الباري (4/ 539)، شرح النووي لمسلم (10/ 489)، شرح الأبي لمسلم (5/ 442)، ومكمل الإكمال (5/ 442) مصنف ابن أبي شيبة (4/ 513)، بدائع الصنائع (4/ 175)، تبيين الحقائق (5/ 124)، الهداية مع نصب الرَّاية (5/ 920)، العناية (9/ 97)، أسنى المطالب (2/ 30)، الزواجر =

(2/674)


وفي “الصحيحين” (1) عنه أنَّه قال: “لَا يَمْنَعَنَّ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ”.

ولو احتاجَ إلى إجراء مائه في أرض غيره، من غير ضرر لصاحب (2) الأرض، فهل يجبر على ذلك؟ على روايتين عن أحمد (3)، والإجبار قول عمر بن الخطاب (4) وغيره من الصحابة – رضي الله عنهم -.
وقد قال جماعة من الصحابة والتابعين (5): “إنَّ زكاة الحلي عاريته، فإذا لم يُعِرْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ زَكَاتِهِ”، وهذا وجه في مذهب أحمد (6).
__________
= عن اقتراف الكبائر (1/ 523)، تحفة المحتاج (4/ 292)، شرح منتهى الإرادات (2/ 249)، كشاف القناع (3/ 166)، مطالب أولي النهى (3/ 606).
(1) البخاري رقم (2463) (5/ 131)، ومسلم رقم (1609) (12/ 50) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) في “أ”: “بصاحب”.
(3) انظر: الكافي (2/ 209)، المبدع (4/ 292)، الإنصاف (13/ 169)، شرح منتهى الإرادات (2/ 146)، مطالب أولي النهى (3/ 347).
(4) رواه مالك (2/ 746)، ومن طريقه رواه الشافعي في مسنده (224)، والبيهقي (6/ 259)، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “بسندٍ صحيح” ا. هـ. فتح الباري (5/ 133).
(5) انظر: مصنف ابن أبي شيبة (2/ 383)، ومصنف عبد الرزاق (4/ 81)، الأموال لأبي عبيد (447)، الأموال لابن زنجوية (2/ 983)، سنن البيهقي (4/ 236)، كشف الخفا (1/ 530)، التلخيص الحبير (2/ 344).
(6) انظر: مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود (114)، ورواية عبد الله (164)، ورواية صالح (2/ 272)، المغني (4/ 221)، الانتصار (3/ 140)، الفروع =

(2/675)


قلت: وهو الراجح، وأنَّه لا يخلو الحلي من زكاة أو عارية (1).

والمنافع التي يجب بذلها نوعان (2): منها ما هو حق المال، كما ذكرنا في الخيل والإبل والحلي، ومنها ما يجب لحاجة النَّاس.
وأيضًا؛ فإنَّ بذل منافع البدن تجب عند الحاجة، كتعليم العلم، وإفتاء النَّاس، والحكم بينهم، وأداء الشهادة، والجهاد، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وغير ذلك من منافع الأبدان.
وكذلك من أمكنه إنجاء إنسان من مهلكة وجب عليه أن يخلصه، فإن ترك ذلك – مع قدرته عليه – أثم وضمنه (3).
فلا يمتنع وجوب بذل منافع الأموال للمحتاج، وقد قال تعالى: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ}، وقال تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282].
وللفقهاء في أخذ الجعل على الشهادة أربعة أقوال (4)، وهي أربعة
__________
= (2/ 462)، المستوعب (3/ 290)، الإرشاد (230)، شرح منتهى الإرادات (1/ 431)، كشاف القناع (2/ 234)، التنقيح المشبع (115).
(1) انظر: إعلام الموقعين (2/ 110)، بدائع الفوائد (3/ 143)، مجموع الفتاوى (25/ 16)، الكبائر للذهبي الكبيرة الخامسة.
(2) الحسبة (103).
(3) انظر: الفتاوى الكبرى (5/ 413)، الفروع (6/ 13)، تصحيح الفروع (6/ 13)، المغني (12/ 102)، الشرح الكبير (25/ 352)، الأحكام السلطانية (219).
(4) انظر: أدب القضاء لابن أبي الدم (356)، تبصرة الحكام (1/ 248)، فتح =

(2/676)


أوجه في مذهب أحمد (1)، أحدها: أنَّه لا يجوز مطلقًا (2)، والثاني: أنَّه يجوز عند الحاجة، والثالث: أنَّه لا يجوز (3) إلَّا أن يتعين عليه، والرَّابع: أنَّه يجوز، فإن أخذه عند التحمل لم يأخذه عند الأداء.

والمقصود أنَّ ما قدره النبي – صلى الله عليه وسلم – من الثمن في سراية العتق هو لأجل تكميل الحرية، وهو حق الله تعالى، وما احتاج إليه النَّاس حاجة عامة، فالحق فيه لله، وذلك في الحقوق والحدود.
فأمَّا الحقوق، فمثل حقوق المساجد، ومال الفيء، والوقف على أهل الحاجات، وأموال الصدقات، والمنافع العامة.
وأمَّا الحدود، فمثل حد المحاربة والسرقة والزنا وشرب الخمر المسكر.
وحاجة المسلمين إلى الطعام واللباس وغير ذلك مصلحة عامة، ليس الحق فيها لواحدٍ بعينه، فتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع أولى من تقديره لتكميل الحرية، لكن تكميل الحرية
__________
= القدير (7/ 366)، المغني (14/ 138)، حاشية الدسوقي (6/ 115)، الإنصاف (29/ 254)، المحرر (2/ 243)، روضة الطالبين (8/ 248)، الاختيارات (354)، الفروع (6/ 550)، المنتقى (5/ 201)، المنثور في القواعد (3/ 32).
(1) انظر: المغني (14/ 138)، الشرح الكبير (29/ 254)، الإنصاف (29/ 254)، المبدع (10/ 192)، المحرر (2/ 243)، الحسبة (103).
(2) في “أ”: “قطعًا”.
(3) وفي “هـ”: “أنَّه لا يجوز”.

(2/677)


وجب على الشريك المعتِق، ولو لم يقدر فيها (1) الثمن لتضرر بطلب الشريك الآخر، فإنَّه يطلب ما شاء، وهنا عموم النَّاس يشترون الطعام (2) والثياب لأنفسهم وغيرهم، فلو مكن من عنده سلع يحتاج النَّاس إليها أن يبيع بما شاء كان ضرر النَّاس أعظم، ولهذا قال الفقهاء: اذا اضطر الإنسان إلى طعام الغير، وجب عليه بذله له (3) بثمن المثل (4).
وأبعد الأئمة عن إيجاب المعاوضة وتقديرها هو الشافعي (5)، ومع هذا فإنه يوجب على من اضطر الإنسان إلى طعامه أن يبذله له (6) بثمن المثل، وتنازع أصحابه في جواز تسعير الطعام، إذا كان بالنَّاس إليه حاجة، ولهم فيه وجهان (7).
وقال أصحاب أبي حنيفة (8): لا ينبغي للسلطان أن يسعر على
__________
(1) “فتقدير الثمن فيها بثمن المثل” إلى قوله “ولو لم يقدر فيها” ساقطة من “و”.
(2) “الطعام” ساقطة من “ب”.
(3) وفي “أ” و”و”: “أن يبذله”.
(4) انظر: المغني (13/ 339)، الإنصاف (27/ 247)، الفروق (4/ 196)، مغني المحتاج (4/ 309).
(5) انظر: الحاوي الكبير (5/ 171)، المجموع شرح المهذب (9/ 57)، مغني المحتاج (4/ 309).
(6) “له” مثبتة من “د” و”هـ”.
(7) انظر: مختصر المزني (9/ 102)، حلية العلماء (4/ 316)، الحاوي الكبير (5/ 409)، سنن البيهقي (6/ 48)، أسنى المطالب (2/ 38)، المهذب مع المجموع (13/ 29)، روضة الطالبين (3/ 75).
(8) انظر: بدائع الصنائع (5/ 129)، الهداية مع نصب الرَّاية (6/ 164)، العناية (10/ 59)، فتح القدير (10/ 59)، مجمع الأنهر (2/ 548)، حاشية ابن =

(2/678)


النَّاس، إلَّا إذا تعلق به حق ضرر العامة، فإذا رفع إلى القاضي أمر المحتكر ببيع ما فضل من قوته وقوت أهله، على اعتبار السعر في ذلك، ونهاه عن الاحتكار، فإن أبى حبسه وعزره على مقتضى رأيه، زجرًا له، ودفعًا للضرر عن النَّاس.
قالوا: فإن تعدى أرباب الطعام، وتجاوزوا القيمة تعديًا فاحشًا، وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلَّا بالتسعير سعَّره حينئذٍ بمشورة أهل الرَّأي والبصيرة (1).
وهذا على أصل أبي حنيفة ظاهر، حيث لا يرى الحجر على الحر (2)، ومن باعَ منهم بما قدره الإمام صح؛ لأنَّه غير مكره عليه.
قالوا: وهل يبيع القاضي على المحتكر طعامه من غير رضاه (3)؟ فعلى الخلاف المعروف في بيع مال المديون.
وقيل: يبيع ها هنا بالاتفاق؛ لأنَّ أبا حنيفة يرى الحجر لدفع الضرر العام (4)، والسعر لما غلا على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – وطلبوا منه التسعير
__________
= عابدين (6/ 424).
(1) انظر: فتح القدير (10/ 59)، الاختيار لتعليل المختار (4/ 161)، تبيين الحقائق (6/ 28)، الفتاوى الهندية (3/ 214)، غمز عيون البصائر (1/ 282)، درر الحكام (1/ 322)، حاشية ابن عابدين (6/ 423).
(2) انظر: فتح القدير (10/ 59)، الاختيار (2/ 96)، مختصر القدوري (95).
(3) انظر: فتح القدير (10/ 59)، الاختيار (2/ 96)، مختصر القدوري (95)، تبيين الحقائق (6/ 28)، والمراجع السابقة في الحاشية قبل السابقة.
(4) انظر: فتح القدير (10/ 59)، بدائع الصنائع (5/ 129)، الهداية شرح البداية =

(2/679)


فامتنع، لم يذكر أنَّه كان هناك من عنده طعام امتنع من بيعه، بل عامة من كان يبيع الطعام إنما هم جالبون يبيعونه إذا هبطوا السوق، ولكن “نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يبيع حاضرٌ لبَادٍ” أي أن يكون له سمسارًا، وقال: “دَعُوا النَّاس يَرْزُقُ الله بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ” (1)، فنهى الحاضر العالم بالسعر أن يتوكل للبادي الجالب للسلعة؛ لأنَّه إذا توكل له – مع خبرته بحاجة النَّاس – أغلى الثمن على المشتري، فنهاه عن التوكل له، مع أنَّ جنس الوكالة مباح، لما في ذلك من زيادة السعر على النَّاس، ونهى عن تلقي الجلب، وجعل للبائع إذا هبط السوق الخيار.
ولهذا كان أكثر الفقهاء على أنَّه نهى عن ذلك لما فيه من ضرر البائع هنا (2)، فإذا لم يكن قد عرف السعر، وتلقاه المتلقي قبل إتيانه إلى السوق، اشتراه المشتري بدون ثمن المثل فغبنه، فأثبت النبي – صلى الله عليه وسلم – لهذا البائع الخيار.
ثمَّ فيه عن أحمد روايتان (3) كما تقدم، إحداهما: أنَّ الخيار يثبت له مطلقًا، سواء غبن أم لم يغبن، وهو ظاهر مذهب الشافعي (4).
__________
= (4/ 93).
(1) تقدم تخريجه.
(2) انظر: المغني (6/ 314)، معاني الآثار (4/ 9).
(3) انظر: الإنصاف (11/ 338)، شرح منتهى الإرادات (2/ 24)، كشاف القناع (3/ 184)، مطالب أولي النهى (3/ 56)، المغني (6/ 313).
(4) انظر: التنبيه (96)، روضة الطالبين (3/ 76)، مختصر المزني (9/ 98)، أسنى المطالب (2/ 38)، الغرر البهية (2/ 437)، شرح النووي لصحيح مسلم (10/ 419).

(2/680)


والثانية: أنَّه إنَّما يثبت له عند الغبن، وهي ظاهر المذهب (1).
وقالت طائفة (2): بل نهى عن ذلك لما فيه من ضرر المشتري إذا تلقَّاهُ المتلقي، فاشترى منه، ثمَّ باعه (3).
وفي الجملة، فقد نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – عن البيع والشراء الَّذي جنسه حلال، حتَّى يعلم البائع بالسعر، وهو ثمن المثل، ويعلم المشتري بالسلعة.
وصاحب القياس الفاسد يقول: للمشتري أن يشتري حيث شاء، وقد اشترى من البائع، كما يقول: فله أن يتوكل للبائع الحاضر وغير الحاضر. ولكن الشارع راعى المصلحة العامة، فإن الجالب إذا لم يعرف السعر كان جاهلًا بثمن المثل، فيكون المشتري غارًّا له.
وألحق مالك (4) وأحمد (5) – رضي الله عنهما – بذلك كل مسترسل، فإنَّه بمنزلة الجالب الجاهل بالسعر.
فتبين أنه يجب على الإنسان ألَّا يبيع مثل هؤلاء إلَّا بالسعر المعروف، وهو ثمن المثل، وإن لم يكونوا محتاجين إلى الابتياع منه،
__________
(1) انظر: المغني (6/ 313)، الانصاف (11/ 338)، الكشاف (3/ 184)، مطالب أولي النهى (3/ 56).
(2) انظر: المعونة (2/ 1033).
(3) في “د” و”هـ” و”و”: “فاشترى به باعه” هكذا.
(4) انظر: المعونة (2/ 1049)، البيان والتحصيل (11/ 13).
(5) انظر: المغني (6/ 36)، الشرح الكبير (11/ 342)، الإنصاف (11/ 342).

(2/681)


لكن لكونهم جاهلين بالقيمة أو غير مماكسين، والبيع يعتبر فيه الرضا، والرضا يتبع العلم، ومن لم يعلم أنَّه غبن فقد يرضى، وقد لا يرضى، فإذا علم أنَّه غبن ورضي فلا بأس بذلك.
وفي “السنن”: “أنَّ رَجُلًا كَانَتْ لَهُ شَجَرَةٌ فِي أرْضِ غَيْرِهِ، وَكَانَ صَاحِبُ الأرْضِ يَتَضَرَّرُ بدُخُوْلِ صَاحِب الشَّجَرَةِ، فَشَكَا ذلِكَ إِلَى النبي – صلى الله عليه وسلم – فَأمَرَهُ أَنْ يَقْبَلَ بَدَلَهَا، أَوْ يَتبَرَّعَ لَه بِهَا، فَلَمْ يَفْعَل، فَأَذِنَ لِصَاحِبِ الأَرْضِ أَنْ يَقْلَعَهَا، وَقَالَ لِصَاحِبِ الشَّجَرَةِ: إنَّما أَنْتَ مُضَار” (1).
وصاحب القياس الفاسد يقول: لا يجب عليه أن يبيع شجرته، ولا يتبرع بها، ولا يجوز لصاحب الأرضِ أن يقلعها؛ لأنَّه تصرف في ملك الغير بغير إذنه، وإجبار على المعاوضة عليه، وصاحب الشرع أوجب عليه إذا لم يتبرع بها أن يبيعها (2)، لما في ذلك من مصلحة صاحب الأرضِ بخلاصه من تأذيه بدخول صاحب الشجرة، ومصلحة صاحب الشجرة بأخذ القيمة، وإن كان عليه في ذلك ضررٌ يسير، فضرر صاحب الأرض ببقائها في بستانه أعظم، فإنَّ الشارع الحكيم يدفع (3)
__________
(1) رواه أبو داود رقم (3636)، والبيهقي (6/ 157) من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه. قال ابن حزم: “هذا منقطع؛ لأنَّ محمد بن علي لا سماع له من سمرة” ا. هـ. المحلَّى (9/ 29)، الجوهر النقي (6/ 260)، وقال المنذري: “في سماع الباقر من سمرة بن جندب نظر” ا. هـ. مختصر سنن أبي داود (5/ 240).
(2) في “جـ”: “أن يقلعها”.
(3) “يدفع” ساقطة من “أ”.

(2/682)


أعظم الضررين بأيسرهما، فهذا هو الفقه والقياس والمصلحة، وإن أباه من أباه.
والمقصود: أنَّ هذا دليلٌ على وجوب البيع لحاجة المشتري، وأين هذا من حاجة عموم النَّاس إلى الطعام وغيره؟
والحكم في المعاوضة على المنافع إذا احتاج النَّاس (1) إليها – كمنافع الدور والطحن والخبز وغير ذلك – حكم المعاوضة على الأعيان.
وجماع الأمر: أنَّ مصلحة النَّاس إذا لم تتم إلَّا بالتسعير سعَّر عليهم تسعير عدل، لا وكس ولا شطط، وإذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل (2)، وبالله التوفيق.

فصل
والمقصود: أن هذه أحكام شرعية، لها طرق شرعية، لا تتم مصلحة الأمة (3) إلا بها، ولا تتوقف على مدع ومدعى عليه، بل لو توقفت على ذلك فسدت مصالح الأمة، واختل النظام، بل يحكم فيها متولي ذلك بالأمارات (4) والعلامات الظاهرة والقرائن البينة.
ولما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتم إلا بالعقوبات
__________
(1) “النَّاس” ساقطة من “ب”.
(2) انظر: الحسبة (109).
(3) “الأمة” ساقطة من “ب”.
(4) في “ب”: “بالأمانات”.

(2/683)


الشرعية، فإن “الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن” (1)، وإقامة الحدود واجب على ولاة الأمور، والعقوبة تكون على فعل محرم، أو ترك واجب.
والعقوبات – كما تقدم (2) – منها مقدر، وغير مقدر، وتختلف مقاديرها وأجناسها وصفاتها باختلاف أحوال الجرائم، وكبرها، وصغرها، وبحسب حال المذنب في نفسه.
والتعزيز: منه ما يكون بالتوبيخ وبالزجر وبالكلام، ومنه ما يكون بالحبس، ومنهُ ما يكون بالنَّفي عن الوطن (3)، ومنه ما يكون بالضرب (4).
وإذا كان على ترك واجب – كأداء الديون والأمانات والصلاة والزكاة – فإنَّه يضرب مرَّة بعد مرَّة، ويفرق الضرب عليه يومًا بعد يوم، حتَّى يؤدي الواجب، وإن كان ذلك على جرم ماض فعل منه مقدار
__________
(1) رواه ابن عبد البر في التمهيد (1/ 118) بسنده عن مالك أنَّ عثمان .. بنحوه. ورواه الخطيب في التاريخ (4/ 329) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال ابن الأثير في بيان معناه: “أي من يكف عن ارتكاب العظائم مخافة السلطان أكثر ممن يكفه مخافة القرآن” ا. هـ. النهاية (5/ 180). وانظر: أدب الكاتب لابن قتيبة (346)، والجد الحثيث في بيان ما ليس بحديث (53)، إتقان ما يحسن من الأخبار الدَّائرة على الألسن (1/ 381).
(2) ص (279).
(3) “عن الوطن” ساقطة من “أ”.
(4) انظر: الذخيرة (12/ 118)، تبصرة الحكام (2/ 291)، الحسبة (113)، التاج والإكليل (8/ 437)، منح الجليل (9/ 357).

(2/684)