بدائع الفوائد_الجزء الاول
بدائع الفوائد_الجزء الاول
http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة |
الكتاب: بدائع الفوائد [آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (1)]المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 – 751 هـ) المحقق: علي بن محمّد العمران راجعه: سليمان بن عبد الله العمير (جـ 1 – 5)، محمد أجمل الإصلاحي (جـ 1 – 2)، جديع بن محمد الجديع (جـ 1 – 5) الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت) الطبعة: الخامسة، 1440 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم) عدد الأجزاء: 5 (4 في ترقيم واحد متسلسل، والأخير فهارس) قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] |
– أ –
مقدمة المشرف على مشروع «آثار الإمام ابن قيم الجوزيَّة وما لحقها من أعمال»
فضيلة الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد عضو هيئة كبار العلماء، ورئيس مجمع الفقه الإسلامي بجدة
الحمد لله على ما أولانا ووفقنا وهدانا إلى الاستنجاد بعدد من المحققين لِوَصْل جُهود المصلحين في إخراج «آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال». وقد تم بحمد الله تعالي طباعة جملة منها مع مقدمة لها في أحد عشر مجلدا، ويتبعها آثار أخرى إن شاء الله تعالي (1).
والآن نبدأ على هذا المنوال – مستعينين بالله عز شأنه – بأثر من وجهٍ آخر من آثار هذا العالم المجدد في مدرسته التجديدية الإصلاحية، وهو «آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال». فإن هذا الإمام الحافظ أبا عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية الزُّرعي ثم الدمشقي، المولود سنة 691 والمتوفى سنة 751 – رحمه الله تعالي – هو من أخص تلاميذ شيخ الإسلام به، بل هو أخصهم به، وأسبقهم مرتبة في نشر علمه وفضله، ومن أكثرهم تآليف، أسبغ اللهُ عليه فيها من النضارة وجمال العبارة ما بهر عقول العلماء.
__________
(1) منها: «تنبيه الرجل العاقل … » في مجلدين، وترجمة شيخ الإسلام لابن عبد الهادي المطبوع باسم «العقود الدرية»، والمجموعة السادسة وما بعدها من جامع المسائل»، وغيرها.
(التقديم/1)
– ب –
ولأن دأبه فيها: استقصاء أصول المسائل وآثارها، وإجراء مطية فكره في أنجادها وأغوارها، وإبراز مقاصد الشريعة وحِكَمها وأسرارها = صارَ لها من القبول والانتشار ما لا يبلغه الوصف؛ حتى اشتهر وعُرف بمؤلفاته، ولحِقَه الوصفُ بها على نَصِيبَة قبره. فإني لما دخلت دمشق الشام عام 1412 زُرت مقبرة الباب الصغير بالجابية، ووجدت قبره – رحمه الله تعالى – على يسار الداخل، مکتوبا على نَصِيبَة قبره – على عادة عامة أهل الشام المنكرة شرعا – ما نصُّه: «هذا قبر الإمام الحافظ صاحب التصانيف المفيدة ابن قيم الجوزية المتوفي سنة 751 رحمه الله تعالى».
وقد تنافس في نسخها واقتنائها أهلُ العلم من شتى المذاهب، وانتشرت مخطوطات الكثير منها في مكتبات العالمين على الرغم من عدوان المعتدين، وكانت محل الرضا والقبول والتسليم من المنصفين، وما هو بالمعصوم.
وبعد ظهور المطابع في العالم الإسلامي تزاحم المصلحون على طباعتها ونشرها، وكان السابقون في ذلك أهل الحديث في شبه القارة الهندية منذ عام 1298 مثل «زاد المعاد» و «إعلام الموقعين» و «النونية». وغيرها، وعنها صدرت بعض الطبعات المصرية القديمة مثل: البولاقية، والأميرية، والسلفية. . .؛ ولهذا لم يَرِد ذِكْرٌ للمخطوط فيها.
ثم تتابع طبع ما شاء الله من آثار هذا الإمام في الشرق الإسلامي، وفي عصرنا توارد الطابعون، لكن شابَ هذه الأعمال ما انتشر في سوق
(التقديم/2)
– جـ –
الكُتْبيين مما امتدت إليه أيدي بعض المرتزقة باسم التحقيق حينًا، والاختصار حينا آخر، واستلال بحث من أيٍّ منها وإيهام القارئين بأنه تأليف مستقل لابن القيم، وعامة هؤلاء من أصحاب الصنائع والحِرَف الذين لا عهد لهم بتلقي العلم الشرعي عن أهله، وإنما قعدت بهم حظوظهم، وضاقت بهم سُبل المعاش، ولو شئنا لسميناهم بذنوبهم، ولكن نصرف النظر حينًا عسى أن يكون لهم توبة من هذه الحوبة.
ومن العناء أن العلم الشرعي مستباح الحِمى فتسوروه، وعرفوا مطلب السوق الرائجة فأخذوا في العمل على طبعها ونشرها في واحد من هذه الطرق وغيرها بما نشير إلى بعض منه في الآتي:
1 – سرقة ما ناله قلم التحقيق، ولهم في ذلك عدة طرق منها:
أ- تجريده من الحواشي.
ب – التحوير فيها.
ج – القدح بالطبعة السابقة بتلمس الأخطاء فيها وأن طبعته هذه قابلها على نسخة كذا التي وجدها حين زار المحل الفلاني، فمدّ يده إلى رَفٍّ فإذا بمخطوطة نفيسة، فعاد بها غنيمة باردة، وهكذا من الكرامات؟!.
د – أنه بعد أن أمضى مدة غير قصيرة في التحقيق وأتمه اطلع عليه
محققا مطبوعا، أو في رفوف الرسائل الجامعية، ثم يأخذ في ثلبها.
ه- وإن حَسُنَت من بعضهم الحال – وما هو بالحسن – اتخذ فريقَ عمل من المُمْلِقِين – (وَرْشَة) كما يقوله بعضُ مَنْ كَرِهَ حالَهم -. ولهذا تراه في العام الواحد يخرج ما لم يخرجه عميد المحققين مدة
(التقديم/3)
– د –
حياته في التحقيق: عبد السلام هارون – رحمه الله –
وهذه وأضعافها داء قديم للمتأكِّلين، ومن نظر في كتاب «نموذج من الأعمال الخيرية» للشيخ محمد منير آغا الدمشقي – رحمه الله تعالي – رأى أضعاف ذلك.
2 – الاختصار، الغرض الذي يقصد منه حذف ما يخالف مشربه
الفاسد.
3 – تنتيف الكتاب الواحد إلى عدة كتب موهمًا أنه تأليف مستقل
دون الإشارة على الغلاف بما يفيد الاستلال.
4 – التعليق على الكتاب بما ينقض مقصده في مهمات مسائله.
هذه بعض أفاعيل العابثين بكتب هذا الإمام؛ ولمرارة هذا العملِ، وقذف المطابع به في المكتبات التجارية، وخطره على العِلم والعَالمين ألَّفْتُ رسالة باسم «الرِّقابة على التراث» عسى أن تحمل الفاعلين على توبة نصوح، وتحمل المصلحين على إجراء ضمانات الحماية التراث.
ونحن نرجو أن يكون العمل في هذا المشروع المبارك – إن شاء الله تعالى – على الأُسس التي رُسِمَت له، والامتيازات التي تحلى بها؛ من توفير أفضل النسخ الخطية من مكتبات العالم، والسير على طريقة سوية مقتصدة في التعليق والتحقيق، وخدمة كل كتاب بمقدمة موعبة، وفهارس مفصَّلة كاشفة، وذلك كله بواسطة عددٍ من طلبة العلم المحققين، بعد إخضاع العمل للمراجعة والتحكيم = فنحن نرجو أن يكون في ذلك كله إخراجٌ لمؤلفات هذا الإمام الحافظ القدوة بما يليق
(التقديم/4)
– هـ –
بها، وحصانة تحول دون هذه الغثائيات. وأن تكون طبعاته أساسًا لما يَرِدُ من ملاحظات لتصَحَّح في طبعة لاحقة بإذن الله تعالي.
وفي خاتمة هذا التقديم أشير إلى الأمور الآتية:
الأول: في الجلسة الختامية للدورة الحادية عشرة لمجمع الفقه الإسلامي المنعقدة في البحرين عام 1420 تم إعلان تبنِّي «المَجْمع» لطبع ونشر کتب ابن القيم – رحمه الله تعالى – لما فيها من فقه الدليل وصفاء التوحيد، وهذه من أهداف «المجمع» التي أُسِّسَ من أجلها.
الثاني: من حسنات الشيخ سليمان بن عبد العزيز الراجحي موافقته على تمويل هذا المشروع بواسطة مؤسَّسته الخيرية. أجزل الله له الأجرَ والثوابَ.
الثالث: جري عمل ثَبَتٌ بمخطوطات ومطبوعات مؤلفات ابن القيم (1) – رحمه الله تعالى – فلم يحصل فيها حتى التاريخ إضافة للمطبوع (2)، وإنما حصل بعض النسخ الصحاح التي فيها زيادة على المطبوع، وأنَّ بعض الكتب التي كان يشار إليها بأنها من تأليفه مثل «طب القلوب» الذي ذكره أحمد عبيد – رحمه الله تعالى – في مقدمة «روضة المحبين» نقلا عن معلوف، تبين بعد إحضار مصورته عن نسخة برلين أنه فصل من «زاد المعاد»، وكتاب «سر الصلاة» فصل من «زاد المعاد» و «مسألة السماع»، وكتاب «معاني الأدوات والحروف»
__________
(1) وستكون ضمن «المداخل إلى آثار الإمام ابن القيم وما لحقها من أعمال».
(2) إلا رسالة «رفع اليدين في الصلاة»، وقطعة من رسالة «حكم صوم يوم الغيم.
(التقديم/5)
– و –
الموجود في بعض المكتبات العراقية ليس له. . .
الرابع: يوجد عدد من مؤلفات ابن القيم حقق في رسائل جامعية، منها ما طبع ومنها ما لم يطبع، وهذه نكتفي بضم ما يصلح منها إلى المشروع باسم محققيها بعد التنسيق معهم.
الخامس: سبق أن أَلَّفْتُ كتابا باسم: «ابن قيم الجوزية/ حياته، آثاره، موارده» وقد اقتضى النظر تأخير ضمه إلى المشروع مطبوعًا؛ للإضافة والتصحيح.
السادس: جُمِعَت ترجمةُ ابن القيم من كتب التراجم العامة على نحو ما تمَّ في كتاب «الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون»، وسيكون ضمن مقدمة المشروع المطوّلة: «المداخل إلى آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال». .
السابع: ابن القيم – رحمه الله تعالى – ليس له مؤلَّف على طريقة الماتنين في التأليف؛ ولهذا لم أقف على أيِّ شرح لأيٍّ من كتبه، وإنما تناولها العلماء بواحد من الأعمال الآتية:
1 – الاختصار: مثل «مختصر الصواعق المرسلة» للموصلي. ومختصرات لزاد المعاد»، ومختصر کتاب «الروح» للبقاعي باسم «سر الروح»، ومختصر «مدارج السالكين»، ومختصرات لـ «بدائع الفوائد» لغير واحد، ذُكِرَت في مقدمة التحقيق. وغيرها.
2 – النظم: وقفت على نظم واحد لـ «زاد المعاد» لأحد علماء
اليمن. وسَيُذكر ذلك بالتفصيل في «المداخل .. » المشار إليها آنفًا.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وصحبه وسلم
(التقديم/6)
مقدمة المحقِّق
الحمد لله واهب الحمد ومُسْديه، وصلاةً وسلامًا على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد؛ فإن أغراض التأليف وألوانه لا تقف عند حدّ (1)، وهمم العلماء في ذلك لا تنقطع إلا بانقطاع العلم؛ وذلك لكثرة المطالب الباعثة عليه، وسعة المباغي الداعية إليه.
ومن جملة تلك المطالب التي ألِفَ العلماءُ الكتابةَ فيها: تقييدُ بها يمرُّ بهم من الفوائد، والشوارد، والبدائع؛ من نصٍّ عزيز، أو نقلٍ غريب، أو استدلالٍ محرَّر، أو ترتيبٍ مُبتكر، أو استنباطٍ دقيق، أو إشارةٍ لطيفة = يُقيِّدون تلك الفوائد وقتَ ارتياضهم في خزائن العلم ودواوين الإسلام، أو مما سمعوه من أفواه الشيوخ أو عند مناظرة الأقران، أو بما تُمليه خواطرهم وينقدح في الأذهان.
يجمعون تلك المقيَّدات في دواوين، لهم في تسميتها مسالك، فتُسَمَّى بـ “الفوائد” أو “التذكرة” أو “الزنبيل” أو “الكنَّاش” أو “المخلاة”
__________
(1) نعم، وإن حصرها بعض العلماء في أربعة أغراض كابن فارس في “الصاحبي” وأرسطو كما في “كشف الظنون”، أو بثمانية كما ذكر ابن حزم في “نقط العروس” ونقله عنه صاحب “الكشف” وأبو الطيب ابن الشركي في “إضاءة الراموس” وغيرهم، إلا أن هذا الحصر الجُمْلي يدخل تحته من التفاصيل والفروع ما لا يُحْصَى، والناظر في مدوّنات أسماء الكتب كـ “الكشف” ونظائره يعلم هذا حق العلم.
(المقدمة/5)
أو “الفنون” أو “السفينة” أو “الكشكول” (1) وغيرها.
وهم في تلك الضمائم والمقيَّدات يتفاوتون في جَوْدة الاختيار، وطرافة الترتيب، وعُمْق الفكرة = تفاوتَ علومهم وقرائحهم، وفهومهم ومشاربهم، فاختيار المرء -كما قيل وما أصدق ما قيل! – قطعةٌ من عقله، ويدلُّ على المرء حسنُ اختياره ونقله.
إلا أن تلك الكتب تجمعها -في الجملة- أمور مشتركة؛ كغلبة النقل، وعزة الفوائد، وعدم الترتيب، وتنوُّع المعارف.
ومن أحسن الكتب المؤلَّفة في هذا المضمار كتاب “بدائع الفوائد” (2) للإمام العلامة شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر، المعروف بابن قيِّم الجوزية، المتوفى: سنة (751) رحمة الله عليه. وهو كتابٌ مشحونٌ بالفوائد النادرة، والقواعد الضابطة، والتحقيقات المحرَّرة،: والنقول العزيزة، والنِّكات الطريفة المُعْجبَة؛ في التفسير، والحديث، والأصلين، والفقه، وعلوم العربية. إضافة إلى أنواع من المعارف؛ من المناظرات، والفروق، والمواعظ والرِّقاق وغيرها، مقًلِّدًا أعناق هذه المعارف سِمطًا من لآلئ تعليقاته المبتكرة.
__________
(1) انظر “معجم الموضوعات المطروقة”: (2/ 948 – 949). وفي ضبط (الكناش).
انظر “تاج العروس”: (9/ 188 – 189)، و”قصد السبيل”: (2/ 404)، و”كناشة النوادر”: (ص/9 – 11).
(2) وقد رأيت الشيخ الفقيه محمد العثيمين – رحمه الله – قد قال: “وأحسن ما رأيتُ في مثل هذا -أي: في تقييد الفوائد المهمة والشوارد العلمية- كتاب “بدائع الفوائد” للعلامة ابن القيم، ففيه [من] بدائع العلوم مالا تكاد تجده في كتاب آخر، فهو جامع في كل فن، كلما طرأ على باله مسألة أو سمع فائدة قيَّد ذلك، ولهذا تجد فيه من علم الحقائد والفقه والحديث والتفسير والنحو والبلاغة .. ” اهـ من كتاب “العلم”: (ص/ 231).
(المقدمة/6)
ومع ما وصفنا من كثرة فوائد الكتاب، إلا أنه لم يَنَل من الشهرة والذُّيُوع -في عصرنا هذا على الأقل (1) – ما نالَ صنوه “الفوائد”! وهل يكون “الفوائد” إلا قطرةً في بحرٍ لُجِّيٍّ من فوائد “البدائع”؟! وسبب ذلك -عندي- أن فوائد الكتاب عالية الرتبة، تَوَلَّجَ المؤلفُ فيها إلى دقائق الفنون، خاصة العربية، وهذه الدقائق والمباحث لا يفهمها المبتدئ والمقلِّد، كما يقول المؤلِّف في كتابه هذا (3/ 889). فبقي الكتاب لا يستفيد منه إلا الخاصةُ وخاصتُهم.
وقد اتَّجَه العزمُ إلى تحقيق هذا الكتاب من بضع سنوات خلت، إلا أن العمل فيه كان متقطِّعًا، إلى أن صمدت له أخيراً ليكون باكورة هذا المشروع المبارك -إن شاء الله تعالى- “آثار الإمام الحافظ ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال” تحتَ رعايةِ ونظر شيخنا العلامة أبي عبد الله بكر بن عبد الله أبو زيد، ناشرِ علومِ الإمام ابن القيم وفقهِهِ وتراثِهِ -أحسنَ الله إليه وبارك في عمره-.
وقد مهَّدْت بين يدي الكتاب بمباحث متعددة هي:
* اسم الكتاب.
* تاريخ تأليفه.
* إثبات نسبته للمؤلف.
* التعريف بالكتاب، فيه:.
أهميته، وميزاته، ومنزلته بين كتب المصنِّف.
__________
(1) ومن الغرائب أن نسخ “البدائع” كثيرة جدًّا، أما كتاب “الفوائد” فلم نعثر له إلا على نسخة فريدة -هي التي طبع عنها الكتاب أول ما طبع- فهل كان “البدائع” أكثر شهرة وتداولاً من “الفوائد”؟!.
(المقدمة/7)
• العلوم التي حواها، ومُجْمَل ترتيبه.
• علاقته بكتاب “الفوائد”.
• سماتُ الكتاب ومعالم منهجه.
* إفادة العلماء منه ونقولهم عنه، وثناؤهم عليه.
* موارده فيه.
* بَيْن ابن القيم في (البدائع) والسُّهيلي في (النتائج).
* مختصراته والمباحث المستلَّة منه.
* طبعاته.
* نسخه الخطيَّة.
* منهج العمل فيه.
* نماذج من النسخ الخطيَّة.
وأنا أرجو -بعملي هذا- أن أكون قد أسهَمْتُ في توسيع دائرة الإفادة من الكتاب، بما أقمتُ من نصِّه؛ وبما أظهرتُ من مكنونات علومه وفوائده؛ وبما كشفتُ من خبايا زواياه؛ وبما قدَّمْتُ بين يدي الكتاب من مباحث بسطتُ القولَ فيها بما يُلاقىِ مكانةَ الكتاب ومكانةَ مؤلِّفِه، مع اعترافي قبل: ذلك وبعده بالعجز والتقصير، والله المستعان.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد.
وكتب
علي بن محمد العمران
9/ ربيع الأول/ 1424
في مكة المكرمة حرسها الله تعالى
(المقدمة/8)
* اسم الكتاب
لا يختلف الذين ذكروا هذا الكتاب أن اسمه: “بدائع الفوائد”، سواء الذين ترجموا للمؤلف؛ كالصفدي في “أعيان العصر”: (4/ 370)، و”الوافي بالوفيات”: (2/ 271)، وتلميذه ابن رجب في “الذيل على طبقات الحنابلة”: (2/ 450)، والحافظ ابن حجر في “الدرر الكامنة”: (3/ 402)، والسيوطي في “بغية الوعاة”: (1/ 63) وغيرهم.
= وسواء الذين نقلوا عن الكتاب واقتبسوا منه؛ كابن مفلح في “الفروع” والمرداوي في “الإنصاف”، والمناوي في “الفيض”، والشوكاني والقِنّوجي وغيرهم (كما سيأتي مشروحًا).
ثم وجدنا هذا الاسم “بدائع الفوائد” هو الثابت على النُّسَخ الخطية التي وقفنا عليها، أو الموصوفة في الفهارس.
فثبت أن هذا هو اسمه.
ولا يُعَكِّر على ذلك ما وقع في “كشف الظنون” -وتابعه عليه صاحبُ “هدية العارفين”- من الاختلاف.
فقد وقع فيهما على وجهين:
1 – وقع باسم (بدائع الفرائد) -بالراء- (الكشف: 1/ 230، وهدية العارفين: 6/ 158).
وهذا لا يعدو أن يكون أحد التحريفات الكثيرة في الكتابين.
2 – ووقع -أيضًا- باسم (بديع الفوائد) (في الكشف: 1/ 235 وحده).
(المقدمة/9)
وكان يمكن أن نعتبر هذا الوجه في التسمية أحد التحريفات، لكن يُعَكّر عليه أن الحاج خليفة قد ساقه بين كتبٍ كلُّها تُسمَّى بـ “بديع كذا وكذا. .
“، فلعلَّه وقف على نسخة بهذا الاسم وهو احتمال ضعيف، أو تصَحَّف عليه الاسم، أو غير ذلك.
ويبقى أن بعض العلماء قد يختصر اسمه عند النقل منه، فيسمِّيه “البدائع” كما وقع لجماعةٍ منهم.
ومما يُلاحظ هنا أن المصنِّف -رحمه الله- لم يُسَمِّ كتابَه في أوله ولا في أثنائه، ولا في كتبه الأُخرى، ولا نقل عه أحدٌ أنه سمَّاه بهذا الاسم، ومن عادة ابن القيم الاعتناءُ بتسمية كتبه، واختيار العناوين المناسبة المسجوعة لها، فمن أين جِيء بهذا الاسم؟.
يُمكن القول: إن المؤلف إما أن يكون قد سمَّاه بذلك في صفحة العنوان من النسخة التي بخطه، فنُقِلت التسمية من هناك، كما نراه فى النسخ الفرعية التي وقفنا عليها أو وُصِفت. وهذا الموضع -أعني صفحة العنوان- من أَلْيَق المواضع بتسمية الكتاب ومعرفة عنوانه. فكم هي تلك الكتب التي إنَّما عُرِفت أسماؤها من صفحات عنواناتها، ولا أثر لتسميه الكتاب في مقدمته! -وهذا هو الأرجح-.
وإما أن يكون -الاسم- مأخوذًا من تسمية من بعده من التلاميذ أو النُّسَّاخ، مستلْهِمِين ذلك من عَنْوَنة المؤلف لكثير من فوائد الكتاب بقوله: “فائدة بديعة” (تبدأ هذه العنونة من: 1/ 160 فما بعدها).
ومع أن هذه العنونة ليست هي الغالبة، بل الغالب هو قوله “فائدة” فقط، إلا أن المؤلف رأى تخصيص هذا الكتاب بهذا الاسم (لفائدة بديعة) = ليَمِيْز بينه وبين كتابه الآخر “الفوائد”، ولعلّه من
(المقدمة/10)
أجل ذلك تعمَّد هناك ألا يعنون بـ”فائدة بديعة” -مع اشتراكهما في بعض الفوائد- ليَسْلم لهذا الأخير اختصاصُه بهذه الفوائد البدائع، والله أعلم.
* * *
(المقدمة/11)
* تاريخ تأليفه
لما كانت طبيعة الكتاب وموضوعه جمع الفوائد والشوارد والنِّكات وما شابهها، مما يُوْقَف على أكثره بالمطالعة، أو ينقدح بعد التأمل والتفكّر في الذهن = فإن تحديد وقت لبدء تأليف الكتاب ونهايته يُعد أمرًا عسيرًا ما لم يصرِّح به جامعه، أو تدلُّ عليه إشاراته وإيماءاته في تضاعيف كلامه وشأنُ هذه الكتب أن تُجْمع مع طول الأيام.
إذا تقرر ذلك، فلا بأس إذًا من تلمُّس إشارات في ثنايا الكتاب: ترشد إلى تاريخ تأليف الكتاب جملةً، أو تاريخ كتابة تلك الفائدة -التي وُجدت فيها تلك الإشارة- على الأقل، إذ قد يكون بين كل فائدة وأخرى زمنٌ ليس بالقليل، لما وصفناه سابقًا.
فمن تلك الإشارات: إحالاته على كتبه الأخرى لاستيفاء مبحث أو نحوه، فهذا دليل في الغالب -وإن كان يحتمل غير ذلك- على أن كتابنا أُلِّف بعد ذلك الكتاب المحال إليه.
وقد أحال ابن القيم على عددٍ من كتبه (انظر فهرس الكتب) كـ “التحفة المكية”، و”جِلاء الأفهام”، وكتبٍ أخرى لا نعرف عنها إلا أسمها، أما “الجِلاء” فَلم نعرف تاريخ تأليفه. وكتبه الأخرى لم نقف عليها.
لكن الإشارة التي نستفيد منها هي إحالته على كتاب “تهذيب سنن أبي داود”، فقد ذكره في: (2/ 668)، وقال: “وقد ذكرنا هذه المسألة مستوفاة بما أمكننا في كتاب “تهذيب السنن” اهـ وهذا
(المقدمة/12)
الموضع موجود فيه: (8/ 75 – 77).
وقد وقع في آخر “تهذيب السنن” التنضيص على سنة تأليفه وأنها سنة (732) بمكة المكرمة -حرسها الله-.
وعلى هذا فكتاب (بدائع الفوائد) قد أُلِّف بعد سنة (732).
ومما يؤيّد هذا -أيضًا-: كثرة نقل المؤلف عن شيخ الإسلام ابن تيميّة -رحمه الله-، وذكره لاختياراته، وجوابه على سؤالاته، وذكر بعض أحواله -مع الدعاء له بالرحمة- وذلك وإن لم يكن صريحًا في النقل عنه بعد وفاته (أي بعد سنة 728)؛ إذ يحتمل أن يكون الدعاء له من النُّساخ = فإنه قد ذكر في موضعٍ ما يقطعُ بأن تاريخ كتابة تلك الفائدة -على الأقل- إنما كان بعد وفاة شيخ الإسلام، ففي: (3/ 1113) ذكر ابن القيم محاورة بينه وبين شيخه، ثم ذكر إيرادًا وقال عقبه: “ولم أسأله عن ذلك، وكان يمنع ذلك، ويختار … ” اهـ. فلو كان حيًّا لسأله.
وهذا ظاهر فيما أشرنا إليه. والله أعلم.
* * *
(المقدمة/13)
* إثباتُ نسبة الكتاب إلى مؤلٌفه
دلائل صحة نسبة كتاب “بدائع الفوائد” إلى مؤلِّفه كثيرة، نذكُرُ هنا أهمها:
1 – ذَكَر عامَّةُ من ترجم للمؤلف أن له كتابًا بهذا الاسم، ووصفه بعضُهم بما يُطابق محتواه، من كونه كثير الفوائد، فيه كثير من المسائل النحوية (1)، وأنه كالتذكرة له (2).
2 – جاءت نسبة الكتاب إلى مؤلِّفه في جميع النسخ الخطية التي وقفنا عليها أو وُصِفت في الفهارس.
3 – إحالات المؤلف على كتبه (انظر فهارس الكتب)، فقد أحال على “تهذيب سنن أبي داود” ووجدنا النقل فيه (انظر ما تقدم ص/12)، وأحال على “جلاء الأفهام” في موضعين: (2/ 685 و 688).
4 – نقول العلماء عن الكتاب باسمه الخاص، مع وجود تلك النقول في أماكنها في الكتاب، من مثل ابن مفلح في “الفروع”، والمرداوي في “الإنصاف”، والسيوطى في “الإتقان”، والزركشي في “البرهان”، والشوكاني في “النيل” وغيرهم (كما سيأتيِ مفضَّلاً في بابه).
5 – كثرة نقول المؤلِّف عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، فقد نقل عنه في أكثر من أربعين موضعًا (انظر فهرس الأعلام) على
__________
(1) انظر: “بغية الوعاة”: (1/ 63) للسيوطي.
(2) انظر: “نظم الدرر”: (1/ 73) للبقاعي.
(المقدمة/14)
طريقته المعهودة في النقل عنه؛ كقوله: “قال شيخ الإسلام. . . “، أو “سمعت شيخ الإسلام. . . “، أو “وأختار شيخنا”، و”قال لي” ونحوها.
6 – كثيرًا ما نجد توافقًا بين مباحث الكتاب ومباحث ابن القيم في كتبه الأخرى، سواء في التقرير أو النقول أو الاختيارات، وذلك بالتوافق التام حينًا، وبالمعنى حينًا آخر، وبالاختصار تارةٌ، والتوسع والبسط تارةً أخرى، كما بيّنا بعضه في حواشي الكتاب.
7 – طريقة المؤلف وأسلوبه المعروف ظاهر في الكتاب، لا يخفى على من أَلِفَ أُسلوبَه واعتادَ طريقته.
وهذه الدلائل كافية لإثبات نِسبة الكتاب إلى مُؤلِّفه.
* * *
(المقدمة/15)
* التعريف بالكتاب
وفيه مباحث:
• الأول: أهميَّته، وميزاته، ومنزلته بين كتب المصنِّف.
تتجلى أهمية الكتاب في نقاط عدة، نذكر هنا أهمها، وسيأتي ذكر بعضها عَرضًا في مباحث المقدمة، تظهر بالتأمل.
1) أنه أكبر آثار المصنِّف -وُجِد- فيما يتعلَّقُ بالعربية وعلومها.
ومباحثها، نعم للمؤلف عدة كتب في علوم العربية، مثل “معاني: الأدوات والحروف”، و”مسائل الخلاف بين الكوفيين والبصريين” وغيرها، وله مباحث متفرقة في ثنايا كتبه، لكن كتبه المفردة لم يصلنا منها شيء، ومباحثه المضمَّنة قليلة مقارنة بمسائل هذا الكتاب. ونظرة إلى “فهرس مسائل النحو والصرف والبلاغة” تُفصح عما وصفناه.
2) كما تظهر أهميته في أن المؤلف -رحمه الله- لم يكن فيما يورده من مباحث العربية ناقلاً فحسب، بل كان ناقلاً ناقدًا. ولم يكن يستكثر من مشهور مسائل الفن، بل يغوص في أعماقه ويستجلي أسراره، ويُنقِّب عن كنوزه ومكنوناته، فأتى فيه بكل عجيبة مستحسنة، وكل بديعة مُستملحة. وما فتئ المؤلف يستحسن هذه المباحث ويُشيد بها، ويبين عِزَّتها، ولطفها، ودقتها. ولنضرب أمثلة:
قال في موضع: “فتأمل هذا النحو ما ألطفه وأغربه وأعزه في
(المقدمة/16)
الكتب والألسنة” (1).
وقال في موضع آخر: “فليُنزِّه الفَطِنُ بصيرته في هذه الرياضِ المونقة المعْجِبة، التي ترقص القلوب لها فرحًا، ويغتذي بها عن الطعام والشرابَ” (2).
وقال أيضًا: “فهدا من أسرار الكلام وبديع الخطاب الذي لا يُدركه إلا فحول البلاغة وفرسانها” (3).
وقال في موضع: “ولا تستطل هذا الفصل، فإنه يحقق لك فصولاً لا تكاد تسمعها في خلال المذاكرات، ويُحصِّل لك قواعد وأصولاً لا تجدها في عامة المصنّفات” (4).
وقال في مواضع عدة: إن هذا من لطيف العربية ودقيقها (5).
وقال في مواضع: إن هذا البحث من فقه النحو (6).
وفي موضع: من بديع النحو (7).
(3) اشتماله على تفسير كثير من الآيات الكريمة (وقد صنعنا لها فهرسًا خاصًا) وهو في تفسيره لتلك الآيات يغوص إلى ما تضمنه القرآن من الأسرار والحكم والعجائب والإعجاز.
__________
(1) (1/ 197).
(2) (1/ 208).
(3) (1/ 246).
(4) (1/ 268)، ومثله: (2/ 540، 610، 4/ 1603).
(5) (1/ 333)، ومثله: (1/ 355، 2/ 607).
(6) (1/ 355) و (1/ 358).
(7) (1/ 327).
(المقدمة/17)
والمؤلف يلفت نظر القارئ في أحيانٍ كثيرة إلى تلك المباحث، فتراه يقول في موضع: “واعرف قدر القرآن وما تضمنه من الأسرار وكنوز العلم والمعارف التي عجزت عقول الخلائق عن إحصاء عُشر معشارها” (1).
وقال في موضع آخر: “فتأمل هذا الشرّ العجيب ولا يَنْبُ عنه فهمك، فإنه من الفهم الذي يؤتيه الله من يشاء في كتابه” (2).
كما أنه قد فسَّر سورًا بكاملها بما لم يُسْبَق إليه، مثل سورة الكافرون: (1/ 234 – 249)، والمعوِّذتين: (2/ 699 – 825)، كما فسّر آيات تفسيراً واسعًا يصلح أن يكون جزءاً مفردًا مثل قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)}: (2/ 406 – 453) فذكر فيها عشرين مسألة. وقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً … إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)} [الأعراف: 55]: (3/ 835 – 889).
ومما تغرَّد به هذا الكتاب: “جزء في تفسير آيات من القرآن” عن الإمام أحمد رواية المرُّوْذي، نقله المصنف من خط القاضي أبي يعلى: (3/ 1015 – 1034) (3).
(4) ومن ميزات هذا الكتاب التي لا توجد مجتمعة في غيره، تلك التأصيلات والتحريرات والقواعد في مسائل الأسماء والصفات: (1/ 280 – 300) مما جعلها عمدة لكل كاتب في هذه المسائل ممن
__________
(1) (2/ 654).
(2) (2/ 694).
(3) كما بث المؤلف كثيرًا من القواعد فى التفسير وعلوم القرآن (صنعنا لها فهرسًا)، وأفردْتُ قواعده التفسيرية في بحث لي مستقلّ.
(المقدمة/18)
أتى بعد المؤلف. وقد صنعنا لهذه القواعد فهرسًا ضمن فهرس مسائل العقيدة في آخر الكتاب.
(5) ومن ميزاته كثرة نقول المؤلف -رحمه الله- عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية (انظر فهرس الأعلام)، وبعض هذه النقول لا توجد في غيره من الكتب مما يُكْسبه أهمية أخرى، وذلك مما جعل الشيخ عبد الرحمن بن قاسم -رحمه الله- يستلُّ منه بعض هذه النقول والفتاوى ويدرجها في “مجموع الفتاوى” كما في: (4/ 393 – 394) و (25/ 286 – 287، 288 – 289) (1).
(6) واشتمل الكتاب -أيضًا- على كثير من التحريرات والقواعد والضوابط الفقهية والأصولية، فضلاً عن اشتماله على كثير من مسائل الفقه والأصول.
(7) كما اشتمل على كثير من مسائل الإمام أحمد -رحمه الله- التي هي الآن في عداد المفقود، فصار مرجعًا مهمًّا لتوثيق كثير من الروايات المنقولة في الكتب. ولا يُخلي المصنف تلك الروايات من الشرح والتوجيه والجمع بين ما تعارض منها (وقد صنعنا فهرسًا لتلك الروايات في موارد المصنف وفي الفهارس).
(8) وفي الكتاب كثير من المباحث التي تصلح أن تُفْرد بكتاب أو رسالة مستقلة -وقد كاد- كما سيأتى بيانُ بعضًها في مبحث الكتب المستلّة منه.
(9) كما حفظ لنا نصوصًا كثيرة من كتب هي في عداد المفقود
__________
(1) وهذه النقول في “البدائع”: (3/ 1102 – 1106).
(المقدمة/19)
اليوم، يتبين ذلك بالنظر في (موارد المصنف).
<رمز>• المبحث الثاني: العلوم التى حواها، ومُجْمَل ترتيبه.</رمز>
كتاب “بدائع الفوائد” كتابٌ جامع كما ذكر جلال الدين السيوطي في “الإتقان” (1)، وهو الشأن في عامة الكتب المؤلفة على هذه الطريقة وذكر في كتابه الآخر “بغية الوعاة” (2): أن أكثره مسائل نحوية.
وهذه الأكثرية التي ذكرها السيوطي تكون صحيحة إما باعتبار تتابع مباحث العربية بلا فاصل من فنون أخرى، كما هو شأن أكثر المجلد الأول. أو باعتبار تناسبها مع مادة الفنون الأخرى، فهي بالمقارنة مع كل فن على حدة تبدو الأكثر ظهوراً في الكتاب. لكن لو قورنت مباحثُ العربية ببقية الفنون لكانت تكُوْن نحو ثلث الكتاب، أي أكثر من خمسمئة صحيفة منه، ومن هاتين الجهتين يصدق كلام السيوطي: أما مسائل الكتاب من حيث كثرة العدد، فإن الفقه هو أكثرها، يليه العربية وعلومها، ثم التفسير، ثم العقيدة، فبقيَّة الفنون (انظر الفهارس الموضوعية).
هذا من جهة الأكثرية، أما العلوم التي تضمَّنها الكتاب فهي غالب العلوم الإسلامية، من التفسير وعلومه، والقرآن وعلومه، والحديث وشرحه والاستنباط منه، والفقه وأصوله وقواعدهما، والتاريخ والتراجم، والعربية وعلومها من: نحو وصرف وبلاغة،
__________
(1) (1/ 24).
(2) (1/ 63).
(المقدمة/20)
والعقيدة وتقريرها والرد على المخالفين. كما اشتمل على ضروب من العلم، كالمناظرات، والفروق، والقواعد، والضوابط، والمواعظ، والحكم، والأشعار، واللطائف، والفوائد.
أما ترتيب الكتاب؛ فلم يكن للمؤلف نَهْج مُتَّبع يسير عليه -كما هو حال هذه الكتب- إلا ما كان من تسلسل مباحث النحو والعربية في أول الكتاب بعد استفتاحه بطائفة من مسائل الفقه، ثم صار ينتقل من فن إلى فنٍّ، ومن دوحةٍ إلى أخرى.
ولا بأس من عرضٍ موجزٍ لأهم أبحاث الكتاب وموضوعاته، التي تمثل وحدات موضوعية، أو مباحث متسلسلة، بحسب وضع الكتاب.
(1) المجلد الأول:
– بحوث فقهية: 1/ 3 – 13
– مباحث نحوية (أكثرها من النتائج): 1/ 13 – 233
– تفسير سورة الكافرون: 1/ 234 – 249
– مباحث نحوية: 1/ 250 – 280
– مباحث جليلة في الأسماء والصفات: 1/ 280 – 300
– مباحث نحوية: 1/ 301 – 384
(2) المجلد الثاني:
– عشرون مسألة في قوله تعالى:
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)}: 2/ 406 – 453
(المقدمة/21)
– مسائل نحوية ولغوية: 2/ 452 – 576
– عشر مسائل في قولهم (هذا بسرًا أطيب منه رطبًا): 2/ 577 – 593
– ثمانية وعشرون سؤالاً في (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته): 2/ 594 – 698
– تفسير المعوٍّذتين: 2/ 699 – 825
(3) المجلد الثالث:
– فصل في قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً … إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)}: 3/ 835 – 889
– مسائل نحوية: 3/ 989 – 915
– واو الثمانية و (لولا): 3/ 915 – 922
– مباحث في الاستثناء: 3/ 922 – 954
– فوائد من خط القاضي أبي يعلى: 3/ 955 – 993
– منتقيات من خط القاضي أبي يعلى: 3/ 994 – 1015
– جزء في التفسير للإمام أحمد: 3/ 1015 – 1034
– فوائد في كلام ابن عقيل وفتاويه: 3/ 1035 – 1176
– مواعظ من “المدهش” لابن الجوزي: 3/ 1176 – 1233
(المقدمة/22)
– فوائد من “الفروق” للقوافي مع التعليق عليها 3/ 1236 – 1252
– ثلاث قواعد في الشك والاشتباه: 3/ 1253 – 1283
– فقهيات ومنتقيات: 3/ 1283 – 1291
(4) المجلد الرابع:
– مباحث أُصولية وفقهية: 4/ 1305 – 1351 –
– من فتاوى أبي الخطاب وابن عقيل وابن الزاغوني: 4/ 1353 – 1377
– مباحث فقهية أصولية: 4/ 1378 – 1387
– منتقيات من روايات الإمام أحمد: 4/ 1387 – 1448
– منتقيات لبعض كتب الحنابلة من خط القاضي أبي يعلى: 4/ 1448 – 1526
– فصول عظيمة في إرشاد القرآن والسنة إلى طرق المناظرة وتصحيحها: 4/ 1533 – 1610
– مباحث أصولية: 4/ 1611 – 1629
– مباحث نحوية ولغوية: 4/ 1630 – 1656
– مباحث أصولية: 4/ 1656 – 1662
– فوائد متفرقة: 4/ 1664 – 1667
(المقدمة/23)
وهذا العرض -على طوله- مفيد في إعطاء صورة شاملة سريعة لمحتوى الكتاب وطريقة ترتيبه، وتوزع الفنون فيه، وكم تستوعب من حجم الكتاب في الجملة، ولا يخفى أن هناك الكثير من الفوائد والمباحث والنِّكات لم نُشِر إليها؛ لأن الغرض هو الوصف الجُمْلي للكتاب حَسْب.
• المبحث الثالث: علاقته بكتاب “الفوائد”.
قد يظن الظانُّ -لأول وهلة- أن كتاب “الفوائد” مختصر أو منتقى من كتاب “بدائع الفوائد” بالنظر إلى حجم الكتابين، واتحاد موضوعهما، مع ما توحيه تسمية الكتابين من خلاف هذا الظن، إذ المظنون أن يكون “الفوائد” هو الأوسع، ثم تُنتقى بدائعها في كتاب مستقلّ.
لكن كل ذلك لم يكن، فليس “الفوائد” منتقًى منه، بل هو كتاب مستقلّ برأسه، ولنعقد بعض المقارنات بينهما، تظهر من خلالها سمات كل كتاب:
1 – “الفوائد” يكون في ربع حجم “البدائع”.
2 – لم يتبين أيهما المتقدم على الآخر في زمن التأليف.
3 – يغلب على “البدائع” المسائل العلمية من عقيدة وفقه. . . مع تحقيق وإطالة نفس، بينما يغلب على “الفوائد” الوعظ والترقيق، والاختصار في العرض، مع سهولة عبارته وقرب مأْخَذِه.
4 – “البدائع” يَكْثُر فيه النقل عن العلماء ومصنفاتهم مع تعليق المؤلف عليها، بينما “الفوائد” أكثره خواطرُ وتأملات، وفِكر وتجلِّيات،
(المقدمة/24)
ويقل فيه النقل جدًّا.
5 – وَقَع اتفاق بين الكتابين في النقل عن “المدهش” لابن الجوزي بدون عزوٍ، “الفوائد”: (ص/ 145 – 151، 357 – 405)، و”البدائع”: (3/ 1176 – 1233). وهو الموضع الوحيد الذي يتفق فيه الكتابان. وقد نقل المؤلف في “الفوائد” عن “المدهش” في مواضع أخرى كثيرة.
هذا أهم ما يمكن إبرازه في المقارنة بين الكتابين. وبالجملة فكتاب “البدائع” كتاب علم وتحقيق مع شيءٍ من المواعظ واللطائف، وكتاب “الفوائد” كتاب مواعظ وترقيق مع شيءٍ من العلم والتحقيق.
• المبحث الرابع: سمات الكتاب ومعالم منهجه.
هذه بعض السمات والمعالم التي تبدَّت لنا في الكتاب، وهي تكفي للخروج بتصور واضح جليٍّ عن الكتاب وطريقة مؤلفه فيه، وسنذكرها في النقاط الآتية:
(1) أن كثيرًا من فوائد الكتاب نقول عن مصادر أخرى، يُصرِّح المؤلف بها حينًا ويُغفلها أخرى، وقد يصرِّح بمؤلفيها وقد يُغفل الجميع (انظر مبحث موارد المصنف)، وهذا عائد إلى طبيعة الكتاب، فهو كالتذكرة.
(2) لم يكن المؤلف متخيِّرًا فحسب، بل كانت له تعليقات ضافية، وإضافات سابغة على كثير من النصوص المنتخبة، وهذه التعليقات إما أن تكون تصحيحًا لوهم أو خطأ، أو تكميلاً لنقص، أو إضافة في البحث، أو تبيينًّا لمجمل، أو تنبيهًا على فائدة بديعة، ونكتة لطيفة.
(المقدمة/25)
ومن العلماء الذين ناقشهم في الكتاب: (السهيلي -وأكثر من ذلك- والقرافي وأبو يعلى، وابن عقيل، وشيخه ابن تيمية، وابن العربي، وسيبويه، وابن قدامة والعز بن عبد السلام وابن جني، وابن الطراوة، والزمخشري).
وكان في ذلك كله متأدّبًا بأدب العلماء؛ من أمانة النقل، والثناء على العلماء بما أحسنوا فيه، والانقياد للحجة والبرهان، وأدب المناظرة والاحتياج للخصم بكل دليل يصلح له (1). . . مع ما قد يعتريه -أحيانًا- من الشدة في الرد، كقوله: (1/ 347): “وفي هذا من التعسُّف والبعد عن اللغة والمعنى ما لا يخفى”، ومثله (2/ 566). وقوله: (2/ 414): “فهذا جواب فاسد جدًّا”. وقوله: (2/ 514): “والذي ذكره أبو الحسين -أي ابن الطراوة- غير حَسَن، بل باطل قطعًا”.
وهو بعد هذا كله يعلن تواضعه وحسن قصده فيقول: (2/ 668): “فهذا ما ظهر في. . . فمن وجد شيئًا فليلحقه بالهامش، يَشكر الله وعبادُه له سعيَه، فإن المقصود الوصول إلى الصواب، فإذا ظهر وُضِعَ ما عداه تحت الأَرْجُل” اهـ.
(3) الأمانة العلمية، فإنه قد صرَّح بالنقل عن غالب من نقل عنهم، وهذا المنهج هو الذي ارتضاه المصنف لنفسه -ويرتضيه كل منُصف- وقد صرّح المؤلف بهذا المعنى أتم تصريح إذ قال: (1/ 249) -بعد تفسير سورة الكافرون-: “فهذا ما فتح الله العظيم. . . من غير استعانة بتفسير، ولا تتبّع لهذه الكلمات من مظان توجد فيه. . . واللهُ
__________
(1) انظر (3/ 1139).
(المقدمة/26)
يعلمُ أني لو وجدتها في كتاب لأضفتها إلى قائلها ولبالغت في استحسانها .. ” اهـ.
وقال في موضع آخر (1/ 361): “فهذا ما في هذه المسألة، وكان قد وقع لي هذا بعينه أيام المقام بمكة، وكان يجول في نفسي فأضرب عنه صفحًا؛ لأني لم أره في مباحث القوم، ثم رأيته بعدُ لفاضلين من النحاة؛ أحدهما: حام حوله وما ورَدَ، ولا أعرف اسمه. والثاني: أبو القاسم السُّهيلي -رحمه الله- فإنه كشفه وصرَّح به. . . ” اهـ.
وقال بعد أن قرر بعض المسائل: (2/ 418): “ثم رأيتُ هذا المعنى بعينه قد ذكره السهيلي، فوافق فيه الخاطرُ الخاطرَ” اهـ.
وقال في: (2/ 528): “فتأمل هذه المعاني. . . وقد ذكرنا من هذا وأمثاله. . . ما لو وجدناه لغيرنا لأعطيناه حقه من الاستحسان المدح. . . ” اهـ.
(4) أن غالب هذه الفوائد قد كتبها المؤلف من الخاطر، دون مراجعة كتاب، مع بُعْده عن كتبه وعدم تمكنه من مراجعتها، فقال في (1/ 249): “فهذا ما فتح الله العظيم به من هذه الكلمات اليسيرة النزرة. . . من غير استعانة بتفسير، ولا تتبع لهذه الكلمات من مظانَّ توجد فيه، بل هي استملاء مما علمه الله وألهمه بفضله وكرمه. . . ” اهـ وتقدم نقل باقيه قبل قليل.
وقال في موضع آخر: (2/ 592): “فهذا ما في هذه المسألة المشكلة من الأسئلة والمباحث علّقتها صيدًا لسوائح الخاطر فيها خشية ألا يعود، فليسامح الناظر فيها، فإنها عُلِّقت على حين بُعدي
(المقدمة/27)
عن كتبي، وعدم تمكني من مراجعتها، وهكذا غالب هذا التعليق إنما هو صيد خاطر، والله: المستعان” اهـ.
فقوله: “هذا التعليق” يُفهم منه أن التعليقات والإضافات التي يضيفها على الفوائد المنقولة = إنما هي من رأس القلم دوَن مراجعة كتاب، أو حالَ السفر مع بعده عن كتبه، وهذا قريب. ويُفهم أيضًا أنَّه أراد جُملة الكتاب: بنقوله وتعليقاته، وهو ظاهر كلامه، وليس ذلك ببعيد، مع ما آتاه الله من قوَّة الحفظ وسَعَة الاطلاع والتبحُّر في العلم، ولا يبعد -أيضًا- وقد ألّف بعض كتبه في حال السفر وبعده عن الكتب، مثل “زاد المعاد” و”تهذيب السنن” و”مفتاح دار السعادة”: و”روضة المحبين” و”الفروسية” (1) مع ما فيها من التوسّع والتحقيق والنقول!.
(5) أما فوائده التي يسوقها، فكان يُصَدِّرها بعناوين مختلفة، فأكثر تلك الألفاظ استخدامًا هو لفظ (فائدة) مجردة، ثم لفظ (فصل)، ثم (فائدة بديعة) وقد ابتدأ هذا العنوان من: (1/ 160)، ثم تليها عبارات استخدمها المرة بعد المرة مثل (مسألة، وفوائد شتى، وفصول، وقاعدة).
(6) الاستطراد (2).
ونُدوِّن هنا بعض الملحوظات على استطرادات المؤلِّف.
(أ) يستطرد المؤلف في أحيانٍ كثيرة، ثم يطلب من القارئ عدم
__________
(1) “أبو قيِّم الجوزية: حياته، آثاره، موارده”: (ص / 60).
(2) انظر “المصدر السابق”: (ص / 103 – 109)، وهو مهم.
(المقدمة/28)
استطالته؛ لأنه -أي الاستطراد- يكون أحيانًا أهم مما سِيق الكلام من أجله (1)، وذلك في المواضع الآتية: (1/ 128، 268 و 2/ 629، 665، 724 و 4/ 1598).
(ب) يستطرد في أحيانٍ قليلة، ثم يعتذر بأنه من باب تكميل الفائدة، كما في: (2/ 538، 620).
(جـ) قد يكون مجال الاستطراد فسيحًا، إلا أن المؤلف يُحْجم عنه؛ لأن هذا ليس موضعه، كما في: (1/ 343، 375 و 2/ 585، 643).
بل يقول: إنه لو استطرد لاحتاج إلى سِفْرين، كما في: (1/ 290 و 2/ 697، 774).
لأجل هذا تراه كثيرًا ما يحيل على كتبه الأخرى لاستيفاء مبحثٍ ما، خاصة “التحفة المكية”، وربما وعد بتأليف كتاب أو رسالة مستقلة في المسألة أو الآية التي يشرحها، كما في: (3/ 877 – 878 و 4/ 1591 و 1/ 300 و 2/ 605) وغيرها.
(7) التكرار (2).
__________
(1) وقد ذكر المصنِّف -رحمه الله- في “مدارج السالكين”: (2/ 306) عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه (كان إذا سُئل عن مسألة حُكمية، ذكر فى جوابها مذاهب الأئمة الأربعة إذا قَدِر، ومأخْذ الخلاف، وترجيح القول الراجح، وذكر متعلقات المسألة التي ربما تكون أنفع للسائل من مسألته. فيكون فرحه بتلك المتعلقات واللوازم أعظم من فرحه بمسألته) اهـ وذكر أن هذا من الجود بالعلم، وذكر أمثلة من أجوبة النبي – صلى الله عليه وسلم – على هذه الطريقة.
(2) انظر توجيه هذه الظاهرة فى كتاب “ابن قيم الجوزية”: (ص/ 122 – 128) وإن كان التكرار الذي نعنيه هنا أخص؛ لأنه في كتاب واحد، لا عدة كتب.
(المقدمة/29)
وقع للمؤلف -رحمه الله- تكرار بعض المباحث في الكتاب، فيعيد البحث في المسألة الواحدة في موضعين دون الإشارة إلى أنه قد تقدم بحثها أو سيأتي البحث فيها، لكن يلاحظ في هذه المواضع: أن كلاًّ منها يقدم جديداً إلى المسألة المطروقة من زيادة استدلال وتحقيق، أو بسط وتوسع، إلا في مواضع يسيرة حصل للمؤلف نقل بعض الروايات عن الإمام أحمد، ثم أعادها مرة أخرى! فهدا يدلّ أن المؤلف كان يكتب هذه الفوائد والتعاليق على فترات متباعدة، وإلا لضم النظير إلى نظيره (1) أو تكلَّم عنها في موضع واحد، أو أشار إلى تقدم البحث فيها. وهذا بيان المسائل التي أعاد المؤلِّف البحثَ فيها:
• التفضيل بين السمع والبصر: (1/ 123 – 130 و 3/ 1106 – 1108).
• دخول الشرط على الشرط في الطلاق: (1/ 101 – 106 و 3/ 1237 – 1241).
• العمل بالقرائن والفراسة: (3/ 1037، 1089 – 1096 و 4/ 1319 – 1322).
• مسائل في الشكِّ: (3/ 1276 – 1283 و 4/ 1338 – 1339).
• مسائل الفضل بن زياد القطان: (3/ 986، 991، 1002 و 4/ 1406، 1411).
__________
(1) قد يُحيل في موضع على كتابٍ آخر له، ثم هو يستوفي الكلام عليه في موضعٍ آخر من الكتاب -أعني البدائع- كما وقع له في: (2/ 664)، وقد استوفاه في (3/ 915) وهذا يدل على تفاوت وقت تدوين الفائدتين.
(المقدمة/30)
• مسائل الميموني: (3/ 963، 991، 993 و 4/ 1406).
• البحث في قولهم (في مستقر رحمتك): (2/ 677 – 678 و 4/ 1418 – 1419).
• بيع المغيَّبات في الأرض: (3/ 1323 و 4/ 1423 – 1424).
• إذا زوج السيدُ عبدَه: (4/ 1481 – 1483 و 4/ 1519 – 1520).
• طريقةُ القرآن في إضافة الخير إلى الله والشر إلى غيره: (2/ 420 – 421 و 2/ 724 – 725).
• قول السيد لعبده: أنت حر. . .: (4/ 1372 و 1399).
(8) من الظواهر البارزة في كتب المصنف -رحمه الله- كثرةُ ثنائه على مباحثها، وما تفردت به من البحوث العزيزة والتحقيقات النادرة، كما في “مفتاح دار السعادة” و”إعلام الموقعين” و”حادي الأرواح”، و”تحفة المودود” و”جلاء الأفهام”، وهي أظهر وأجلى في كتابنا هذا، وله في بيان ذلك والدلالة عليه طرائق: منها: قوله إن فيه ما لا يوجد في الكتب: (1/ 197، 242، 268 و 2/ 610 و 4/ 1603).
ومنها: أن يحمد الله -تعالى- على ما فتح عليه من العلم والنعم: (1/ 336 و 2/ 540، 694، 697).
وتارة: بالإشارة إلى ما تضمنته الفائدة من أسرار العلم: (1/ 353، 358 و 2/ 420، 469، 476، 561، 608، 674 وغيرها).
(المقدمة/31)
وتارة: بأن هذا البحث من النِّكات البديعة والمباحث العزيزة: (2/ 403، 411، 457، 463، 527، 576، 607 و 4/ 1603).
وتارةً: بأن هذه الفائدة تساوي رحلة، أو حصلت بعد سَهَر وتَعَب وفِكْر: (1/ 34 و 2/ 540، 641).
وتارة: بأن هذا البحث لا يفهمه إلا من آتاه الله فهمًا، أو أنه يحتاج إلى تدقيق نظر، أو لا يفهمه إلا العلماء، أو أنه لا يفهمه إلا ذهن يناسبه لطافةً ورِقة: (2/ 423، 527، 694، 480، 641 و 4/ 1568).
وتارة: بالشكوى من أهل الزمان وقلة المساعد منهم والمعاون، وأن أكثرهم نَقَلَه: (2/ 641، 642، 672، 697).
وهذا كله -في تقديري- خارج مخرج النصيحة لطالب العلم والشفقة عليه من أن تفوته هذه الفوائد والتقريرات والتحريرات دون أن يلتفتَ إليها، ويُنْعِمَ النظرَ فيها، ويُعطيَها بها يليق بها من الحفظ والإجلال (1). فكم من فائدةٍ ربما مرّ عليها الطالبُ دون شعور بقيمتها العلمية إلا بتنبيه أستاذ: أو إرشاد معلِّم، فابن القيّم هو ذلك المعلِّمُ الحَدِبُ الشفيقُ على تلميذه، فلا تمر فائدة عزيزة تستحق -الدلالة والإرشاد إليها إلا سارع إلى ذلك بأحدى هاتيك العبارات، نصيحة وإرشادًا.
والمصنِّف -رحمه الله- إنما يخاطب بهذا الكلام طبقةً عالية من أهل العلم وطلابه، يَقْدُرون هذه الفوائد قدرَها، وينزلونها منزلتها، ويشكرون من يرشدهم وينبِّههم إلى مثلها، ولا يقفون عند رسم عبارةٍ
__________
(1) انظر (4/ 1623).
(المقدمة/32)
لم يكن الغرض من سياقها أكثر من الدلالة على الأمر المدلول عليه. أما المبتدئ والمقلِّد -كما يقول ابن القيم: (3/ 889) – فإنه لا يفهم كثيرًا من هذه الدقائق والمباحث.
وابن القيم -رحمه الله- إمام من أئمة الدين والورع والزهد والعبادة، فلا يُظَنُّ به -إن شاء الله- إلا ما وصفتُه لك. وهو بعد ذلك إمامٌ متبحِّر في العلم، واسعُ الاطلاع، حافظ ضابط، فإذا أخبر عن عِزِّةِ بحث أو ندرة فائدة = فاركن إلى ذلك فعلى الخبير سقطت. واعتبرْ ذلك تجِدْه كذلك إن شاء الله (1).
(9) قد يكتب المؤلف بعض الفوائد ليكشف عنها ويعلِّق عليها، فقد دوّن عدة أحاديث مما انتقاه القاضي أبو يعلى، ثم قال: “وليت القاضي ذكر أسانيد هذه الأحاديث، وكتبتُها لأكشف عن حالها” (2).
(10) عنايته الظاهرة بالتفسير وعلومه (انظر ما سبق في أهمية الكتاب).
(11) عنايته الظاهرة -أيضًا- بتدوين المسائل والروايات عن الإمام أحمد، إذ نقل عن أكثر من أثنين وثلاثين من كتب الرواية عن الإمام (وانظر ما سبق، وما سيأتي في الموارد).
(12) كما ظهر جليًّا عنايته بالنقل عن أفرادٍ من العلماء، وهم:
– الإمام أحمد بن حنبل (241)، فنقل عن كثير من رواياته.
– أبو حفص العُكْبَري (387)، وكثير من النقول عنه بواسطة أبي يعلى.
__________
(1) وانظر: “ابن قيم الجوزية”: (ص / 120 – 122).
(2) (3/ 1006 – 1009).
(المقدمة/33)
– القاضي أبو يعلى بن الفراء (458)، أكثر النقول عنه من تعاليق له وفتاوي ومنتقيات.
– أبو الوفاء بن عقيل (510)، من “الفنون” وغيره.
– شيخ الإسلام: ابن تيميَّة (728)، من فتاويه وكتبه. وذَكَر بعض أحواله.
– أبو القاسم السُّهيلي (581)، أكثرها من “النتائج”، ومواضع من “الروض الأنف”.
– سيبويه (180)، من “الكتاب” وكثير منها بواسطة السُّهيلي.
– القرافي (684)، من “الفروق”.
* * *
(المقدمة/34)
* إفادة العلماء منه ونقولهم عنه، وثناؤهم عليه
عرف العلماء الذين وقفوا على الكتاب قيمتَه العلمية وما حواه من الفوائد والتحقيقات -فأثنوا عليه واقتبسوا منه واقتنوا نسخَه الخطيّة.
فأول من أثني عليه وأبدى محاسنه وأظهرها هو مؤلِّف الكتاب، وقد تقدم تفصيل ذلك بما يُغني عن إعادته (1).
ونقل منه البقاعي واستحسن مباحثه، وذكر بعض الأسرار التي حواها في كتابه “نظم الدرر في تناسب الآيات والسور”.
وقال السيوطي في “بغية الوعاة” (2): “بدائع الفوائد، مجلدان، وهو كثير الفوائد، أكثره مسائل نحوية” اهـ.
وقد كُتِب على طرة نسخة (ق) فوق عنوانه ما يلي: “هذا الكتاب جمع علومًا شتى، أصولاً وفروعًا ونحوًا وبديعًا، فليعرف الواقف عليه حقه ولا يجهل قدره” اهـ.
وهذه النسخة قد تملّكها جماعة من العلماء وأثبتوا ذلك على غلافها، فمنهم: علي القاري الهروى الحنفي سنة (989) (ت 1014)، وابن علاّن الصديقي الشافعي ولمٌ يظهر تاريخ تملُّكِه (ت 1057)،
__________
(1) انظر ص/ 31 – 33.
(2) (1/ 63).
(المقدمة/35)
والأمير المتوكل على الله إسماعيل ين المنصور بالله (ت 1087)، وعبد القادر بن محمد الحسيني الطبري إمام المقام الشريف سنة (1019)، ومحمد بن علي العَمْراني سنة (1228)، ومحمد بن عبد الله بن حميد الحنبلي صاحب “السحب الوابلة” سنة (1265) وغيرهم (1). وهذا يدل على مزيد عنايتهم بالكتاب ومعرفتهم لقدره.
وهذا بيان ما وقفت عليه من نقول العلماء من الكتاب -لا على سبيل الاستقصاء- مرتبة على وفياتهم:
1 – ابن مفلح (763)، وهو من أقرائه، نقل منه في “الفروع” (4/ 513) (2) روايةً من روايات الإمام أحمد. و (6/ 247) في مسألة إثبات “الواو” في (وعليكم).
2 – الزركشي (794)، نقل منه في “البرهان في علوم القرآن”: (2/ 6 – 12) في الكلام على أصول الفقه، و (3/ 56) في أمثال القرآن، و (4/ 16) في أسرار القرآن في المفرد والمثنى والجمع و (2/ 369، 85 – 87).
3 – المرداوي (885)، نقل منه في “الإنصاف”: (1/ 427) في (مقامًا محمودًا)، و (4/ 233) في إثبات “الواو” في (وعليكم)، و (7/ 223) رواية عن أحمد، و (8/ 185) في تزويج السيد لعبده من أمته (3)، و (8/ 464) في حادثة الطلاق التي وقعت في عهد ابن جرير، و (8/ 478) في قولهم: (الله قد طلقك)، و (9/ 47). في بيت
__________
(1) انظر بقية التملكات في الكلام على وصف نسخة (ق)، ص / 73.
(2) وحدَّد موضع النقل بقوله: “قبل آخره بقريب من كراسة”.
(3) ولم يصرِّح بالنقل عنه هنا.
(المقدمة/36)
شعر فيه ثمانية أوجه (1)، و (11/ 284) في أن غالب الناس على عدم العدالة (2). ونقل عنه في “التحبير شرح التحرير”: (1/ 75 و 2/ 602 – 605).
4 – البقاعي (885)، نقل منه في “نظم الدرر في تناسب الآيات والسور”: (1/ 37)، نقل منه سر ابتداء القرآن بقوله (الم).
5 – ابن المَبْرَد (909)، نقل منه في “شرح غاية السول إلى علم الأصول”: (ص/75).
6 – السيوطي (911)، كان من مصادره الأساسية التي اعتمد عليها في بناء كتابه “الإتقان” فذكره في المقدمة: (1/ 24) في الكتب الجامعة، ونقل عنه في “الأشباه والنظائر”: (1/ 320) في الوصلات في كلام العرب، و (1/ 61) في العامل في نصب المصادر، و (4/ 241) المسألة المشهورة وهي قولهم: (هذا بسرًا أطيب منه رطبًا)، وفي هذا الموضع الأخير نسب الكلام لنفسه وسمَّى هذا البحث “تحفة النجبا في قولهم: هذا بسرًا أطيب منه رطبًا”!.
7 – المناوي (1033)، نقل منه في “فيض القدير”: (4/ 309) في انقطاع عذاب القبر، و (6/ 426) في التعدية بالباء.
8 – البهوتي (1051)، نقل منه في “كشَّاف القِناع”: (5/ 247، 283).
9 – المنقور (1125) نقل عنه عدة نصوص في كتابه “الفواكه
__________
(1) وحدد مكان النقل بقوله: “في آخره بقريب من كراسين”.
(2) وحدد مكان النقل بقوله: “في أواخر بدائع الفوائد”.
(المقدمة/37)
العديدة” ينظر الفهرس (ص / 418 – فهرس الكتب).
10 – الشوكاني (1250)، نقل منه في “نيل الأوطار”: (5/ 254) في باب نهي المشتري عن بيع ما اشتراه.
11 – القِنّوجي (1307)، نقل منه في “أبجد العلوم”: (2/ 587) في فائدة ما من يوم إلا وليلته قبله.
12 – ابن عيسى: (1329)، نقل منه في “شرح النونية” في مواضع كثيرة (1/ 11، 12، 13، 15، 20، 68، 130، 308، 413 و 2/ 36، 216، 249، 252، 450).
13 – القاسمي: (1332)، نقل عنه في تفسيره “محاسن التأويل”: (2/ 303 و 17/ 6097، 6311).
14 – الكتاني (1382)، نقل منه في “التراتيب الإدارية”: (1/ 388، 460 و 2/ 92).
هذا ما وصل إليه علمي الآن، ومزيد البحث والتنقيب كفيل بكشف مصادر أخرى لم أقف عليها (1).
__________
(1) وقد أفادني الشيخ سليمان العمير بعدد آخر من العلماء أفادوا من “البدائع” مثل: ابن البخاري في “معونة أولي النهى”، وابن البهاء البغدادي في “فتح الملك العزيز”، والسفاريني في “لوائح الأنوار السنية”: (1/ 161).
(المقدمة/38)
* موارده
يمكن تقسيم الموارد التي اعتمد عليها المصنِّف من حيث تصويحُه بها وعدمُه إلى أقسام ثلاثة:
الأول: مصادر صرَّح بأسمائها.
الثاني: مصادر صرَّح بأسماء مؤلِّفيها.
الثالث: مصادر لم يصرح لا بأسمائها ولا بأسماء مؤلِّفيها، عُرِفت بتطابق المادة العلمية.
* القسم الأول، فنرتبها على حروف المعجم.
– الأجوبة المصرية، لشيخ الإسلام ابن تيمية: (2/ 572). أقول: لعله “التسعينية”.
– الأدب المفرد، للبخاري: (2/ 677 و 4/ 1419).
– إصلاح الغلط، لابن قتيبة: (1/ 261).
– الأصول، لابن السرَّاج: (1/ 79 وغيرها).
– أعلام الحديث، للخطّابي: (4/ 1666).
– ترغيب القاصد، للفخر ابن تيمية: (4/ 1371).
– تعاليق للقاضي أبي يعلى: (3/ 1011).
– التنبيه، للشيرازي: (4/ 1331، 1332).
(المقدمة/39)
– التفسير، لابن أبي حاتم: (1/ 296).
– الثقات، لابن حبان: (3/ 1153).
– سنن الترمذي: (2/ 699، 700، 755 و 3/ 812، 813 و 4/ 1667 ومواضع أخرى).
– الجامع لذكر أئمة الأمصار المزكين لرواة الأخبار، للحاكم: (3/ 1150).
– جزء فيه تفسير آيات من القرَآن عن الإمام أحمد: (3/ 1015).
– الجواهر، لابن شاس: (1/ 104 و 3/ 1239).
– الروض الأُنف، للسُّهيلي: (2/ 666 و 4/ 1598 (1)).
– زاد المسافر، لغلام الخلال: (4/ 1482).
-سنن أبي داود: (2/ 597، 699، 727 و 3/ 853).
– السنن الكبير، للنسائي: (4/ 1479).
– سنن النسائي (الصغرى): (2/ 553، 667، 699 و 4/ 1486)
– سنن ابن ماجه: (2/ 611، 612 و 3/ 1259).
– السيرة النبوية، لابن إسحاق: (3/ 1329).
– شرح أبي داود، للخطابي: (2/ 665 و 4/ 1666).
– شرح الطحاوي، للإسبيجابي: (3/ 1059).
__________
(1) في هذا الموضع لم يُسم الكتاب.
(المقدمة/40)
– شرح كتاب سيبويه، للسيرافي: (3/ 896، 929).
– شرح المفصَّل، للأندلسي: (1/ 91، 104).
– الصحاح، للجوهري: (2/ 524 و 4/ 1643)، (3/ 1156، 1160 و 4/ 1645) (1).
– صحيح الإمام البخاري: (2/ 706، 797 و 3/ 1057، 1060، 1265 و 4/ 1486، 1665).
– صحيح ابن خُزَيمة: (4/ 1486).
– صحيح الإمام مسلم (2): (2/ 682، 699 و 3/ 951).
-العلل، لابن أبي حاتم: (3/ 1155).
– فتاوى ابن عقيل وأبي الخطَّاب وابن الزاغوني: (3/ 1035 وغيرها).
– الفصول، لابن عقيل: (4/ 1473، 1474، 1479، 1480).
– الفنون، لابن عقيل: (4/ 1384، 1385 وغيرها).
– الكتاب، لسيبويه: (1/ 307، 425 و 2/ 515، 559، 622) (3).
– العين، للخليل: (2/ 564).
– الكشاف، للزمخشري: (2/ 431، 744 و 3/ 905).
__________
(1) في المواضع الثلاثة الأخيرة لم يصرِّح باسم الكتاب.
(2) يعزو المؤلف إلى “الصحيحين” جميعًا في مواضع: (2/ 700، 794، 813 و 3/ 951، 1046، 1155 و 4/ 1575).
(3) ومواضع أخرى كثيرة، وكثير منها بواسطة السُّهيلي.
(المقدمة/41)
– المبْهِج، لأبي الفرج المقدسي: (3/ 1112).
– المحرَّر، للمجد ابن تيميَّة: (4/ 1416، 1479).
– المحكم، لابن سِيْدَه: (3/ 888).
– مختصر الخِرَقي: (3/ 1261، 1271، 1272).
– المدوَّنة: (3/ 973).
– مراتب الإجماع، لابن حزم: (1/ 12).
– مسائل أحمد بن أصرم (للإمام أحمد) (1): (4/ 1418).
– مسائل أحمد بن محمد البراثي: (4/ 1446).
– مسائل أحمد بن محمد بن صدقة: (4/ 1439).
– مسائل إسحاق بن منصور الكوسج: (3/ 1288 – 1291 وغيرها).
– مسائل البُرْزاطي: (4/ 1394).
– مسائل بكر بن أحمد البراثي: (4/ 1405).
– مسائل أبي جعفر الجرجرائي: (4/ 1388).
– مسائل أبى جعفر الورَّاق (4/ 1401).
– مسائل حرب الكرماني (2): (4/ 1475).
__________
(1) جميع المسائل الآتية للإمام أحمد.
(2) وهي من أجل المسائل عن الإمام وأكبرها، حُقِّقت قطعة منها في جامعة أم القرى، وعند الشيخ زهير الشاويش قطعة أخرى، ذكر لي أنه صوَّرها أكثر من مرة لمن طلبها منه، وله نسخة جليلة كاملة رأيتُ بعضَها مصوراً -نحو سبعين =
(المقدمة/42)
– مسائل الحسن بن ثواب: (4/ 1437 وغيرها).
– مسائل حنبل بن إسحاق: (3/ 959 وغيرها).
– مسائل أبي داود: (4/ 1475 وغيرها).
– مسائل زياد الطوسي: (4/ 1404).
– مسائل صالح بن أحمد: (3/ 968، 975، وغيرها).
– مسائل أبي طالب: (3/ 998).
– مسائل أبي العباس البرتي: (4/ 1404).
– مسائل عبد الملك الميموني: (4/ 1406، 1474 وغيرها).
– مسائل الفضل بن زياد القطَّان: (4/ 1406، 1411، 1421 وغيرها).
– مسائل أبي القاسم البغوي: (4/ 1391).
– مسائل مثنَّى بن جامع الأنباري (1): (4/ 1392).
– مسائل محمد بن الحسن بن بدينا: (4/ 1436).
– مسائل المرُّوْذي: (4/ 1454 وغيرها).
__________
= ورقة- عند بعض الفضلاء. وقد جمع الشيخ عبد الباري الثبيتي في رسالته الدكتوراه من الكتب الناقلة المسائلَ الفقهية منها ولم يلتزم الاستيعاب، ونوقشت قريبًا.
(1) وقع في جميع المطبوعات وبعض النسخ: “فوائد من مسائل شتَّى من جامع الأنباري”! وهو تحريف صوابه. “فوائد من مسائل مثنى بن جامع الأنباري”، وبسبب هذا التحريف جُعِل “جامع الأنباري” من مصادر ابن القيم! وهو كتابٌ لا وجود له في الخارج!.
(المقدمة/43)
– مسائل ابن هانئ: (4/ 1430 وغيرها).
– مسند الإمام أحمد: (2/ 611، 644، 817 و 3/ 952، 1046، 1078، 1132، 10266).
– معالم السنن = شرح سنن أبي داود.
– معاني القرآن، للزجاج: (2/ 469).
– المغني، لابن: قدامة: (3/ 1261، 1444، 1472، 1482، 1485 وغيرها).
– المقالات، للأشعري: (3/ 1013).
– المقنع، لابن قدامة: (4/ 1474، 1483).
– منتحب الفنون، لابن الجوزي: (4/ 1385).
– منتقى من شرح العكبَري؛ لأبي يعلى: (4/ 1490 – 1516).
– منتقى من شرح مسائل الكوسج، لأبي يعلى: (4/ 1448، 1468).
– منتقى من كتاب حكم الوالدين في مال ولدهما، له: (3/ 994).
– منتقى من كتاب الصيام، له: (3/ 993).
– المهذب، للشيرازي: (1/ 104 و 3/ 1239 و 4/ 1331).
– الموطأ، لمالك: (8/ 758 و 3/ 1155 و 4/ 1476).
– نهاية المطلب، للجويني: (3/ 1239).
(المقدمة/44)
ونُسجِّل هنا بعض الملحوظات على هذه القائمة:
(1) أغلب هذه المصادر: نقل عنها المؤلف دون واسطة، وبقي في بعضها تردُّد، فذكرناه هنا على الاحتمال.
(2) سيجد المتصفِّح للكتاب بعض الكتب التي صرّح المؤلف بأسمائها (انظر فهرس الكتب) ولم نذكرها هنا في القائمة، وذلك لأحد أمرين: إما أن المؤلّف لم ينقل عنها مباشرة، أو حاء ذكرها عَرَضًا ضمن نصٍّ منقول أو نحوه.
(3) بعض هذه الكتب التي نقل عنها المؤلف بواسطة لا يعني أنه لم يطَّلِع عليها أصلاً، بل المقصود أنها ليست من مصادره في هذا الكتاب فحسب، إذ هو المخصوص بالدراسة هنا.
* أما القسم الثاني: وهي المصادر التي صرّح بالنقل عن مؤلِّفيها، فنذكرهم مرتبين على المعجم.
– أحمد بن عبد الحليم ابن تيميَّة (728).
نقل عنه كثيرًا من أقواله وفتاويه وأحواله، ولم يصرِّح من أيِّ الكتب ينقل، وأغلب نقوله فتاوي واختيارات وليست نصوصًا من كتاب معيَّن إلا في مواضع قليلة.
فقد نقل عن كتابه “قاعدة في الاستحسان” في: (4/ 1527 – 1532)، وعن “رسالة في معنى القياس” في: (4/ 1526).
ونقل جملةً من مسائل التفضيل في: (3/ 1101 – 1108) ولم أقف عليها في شيءٍ من كتبه المطبوعة، والموضع الذي في “الفتاوى”: (4/ 393 وما بعدها) منقول من هنا.
(المقدمة/45)
– أحمد بن مروان الدينوري (333)
نقل من كتابه “المجالسة وجواهر العلم” في: (3/ 1149 – 1150).
– الأخفش (215)
نقل من كتابيه “معاني القرآن” و “إعراب القرآن” في: (1/ 325، 326 و 2/ 592 و 3/ 893).
– ابن الأنبارى (328)
نقل عن كتابه “الزاهر في معاني كلمات الناس” في: (1/ 283). ومن كتاب آخر لعله “المشكل في الرد على أبي حاتم وابن قتيبة” في: (3/ 1106).
– البغوي (516)
نقل من تفسيره: “معالم التنزيل” في: (2/ 681، 741). وانظر ما سيأتي.
– أبو بكر بن أبي شيبة (235)
نقل من كتابه “المصنَّف” في مواضع: (2/ 740 و 3/ 862، 1045، 1047).
– البيهقي (458).
نقل عنه في موضع واحد من “السنن الكبرى” في (3/ 1155).
– ابن جرير الطبري (310).
(المقدمة/46)
نقل من تفسيره “جامع البيان” في عدة مواضع: (2/ 743 و 3/ 1129، 1130 وغيرها).
– ابن ِجِنَّي (392).
نقل من كتبه “الخصائص” و”المنصف” في: (1/ 166، 302 و 3/ 894 و 4/ 1620، 1651).
– ابن الجوزي (597)
نقل عنه مصرِّحًا باسمه في موضع واحد: (2/ 696) من كتابه “المدهش”، ونقل عنه مرارًا -كما سيأتي- دون تصريح.
– الجويني إمام الحرمين (476)
من “البرهان” في: (1/ 15، 124).
– أبو حاتم الرازي (277)
نقل من كتاب ابنه “الجرح والتعديل” في: (4/ 1486).
– حرب الكرماني (280)
نقل عنه في مواضع بلغت أربعًا وعشرين، وذلك من “مسائله للإمام أحمد”، (انظر ص/42 حاشية 2).
– ابن حزم (454)
نقل عنه في موضعين اختيارين فقهيين: (2/ 713 و 3/ 1258) من كتابه “المحلَّى”.
– الحسن بن محمد الأنماطي (؟)
(المقدمة/47)
نقل من مسائله عن الإمام أحمد في مواضع: (3/ 971، 980).
– أبو حفص البرمكي (العكبري) (387)
ذكره المؤلف كثيرًا -أغلب أقواله إن لم يكن كلها- بواسطة منتقيات للقاضي أبي يعلى انتقاها من كتبه “شرح المبسوط” و”شرح مسائل الكوسج” و”كتاب الصيام” و”حكم الوالدين في مال ولدهما”.
– حنبل بن إسحاق الشيباني (273)
نقل من “مسائله للإمام أحمد” في مواضع: (3/ 959، 962، 968 وغيرها).
– أبو الخطاب الكلوذاني (510)
نقل من “فتاويه” مرات: (3/ 951، 953 وغيرها).
– الخطابي (388)
من “غريب المحديث” في: (2/ 474).
– الخلّال (307)
من كتابه “الجامع” مرات عديدة: (3/ 989 و 4/ 1384، 1396 وغيرها).
– الخليل بن أحمد (175)
من كتاب “العين” وغيره في: (1/ 165، 273 و 2/ 564 و 3/ 897 و 4/ 1616).
– الدارقطني (385)
(المقدمة/48)
من كتابه “السنن” في: (3/ 1046، 1259).
-ابن دُرَيْد (321)
من “المقصورة” في: (3/ 1240).
– ابن الزاغوني (527)
نقل من “فتاويه” مرات في: (4/ 1353، 1355 وغيرها).
– الزمخشري (537)
من “الكشاف” و” المفصَّل” في: (1/ 91 و 2/ 438 و 3/ 840، 932 وغيرها).
– ابن السِّكِّيت (244)
لعله نقل من “إصلاح المنطق” -ولم أجد النص فيه-: (1/ 297).
– السُّهَيْلي = عبد الرحمن بن عبد الله
– ابن سِندي (؟)
من “مسائله لأحمد” في: (3/ 965 و 4/ 1442).
– صالح بن أحمد (266) من “مسائله لوالده” (انظر فهرس الأعلام).
– أبو طالب المشكاني (244) من “مسائله للإمام أحمد” في: (3/ 957، 958، 961، 963 وغيرها).
(المقدمة/49)
-الطحاوي (321)
من “شرح معاني الآثار” في: (3/ 1048).
– ابن عبد البر (463)
من “التمهيد” و”الاستذكار” في: (2/ 662 و 4/ 1666).
– عبد الرحمن بن عبد الله أبو القاسم السُّهيلي (583)
نقل عنه المؤلف كثيرًا من كتابه “نتائج الفكر” دون أن يُسمِّيه، ووقعت تسمية الكتاب في موضع واحد: (3/ 913) إلا أنها ليست من ابن القيم، وإنما هي من كلام السُّهَيلي نفسه، لذا لم نعتبره من المصادر التي صرَّح بتسميتها. وسنفرد الحديث عن هذا المصدر فيما سيأتي.
ونقل من كتابه الآخر “الروض الأُنُف” مرَّة باسمه، ومرَّة باسم مؤلفه (انظر ما سبق).
– عبد الرزاق الصنعاني (211)
من كتابه “المصنَّف” في: (2/ 754 و 4/ 1412).
– العز بن عبد السلام (660)
من كتابه “الإمام في أدلة الأحكام” في: (4/ 1312، 1328، 1331، 1333، 1334).
– عبد الله بن الإمام أحمد (292)
من “مسائله لوالده” (انظر فهرس الأعلام).
– أبو عبد الله بن مالك النحوي (676)
(المقدمة/50)
لعله من “شرح التسهيل” أو “شرح الخلاصة”، ورسالةٍ له في {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} فى: (1/ 185 و 3/ 886، 930 و 4/ 1630).
– أبو عبيد القاسم بن سلام (224)
من كتابيه “غريب الحديث” و”الغريب المصنَّف” في: (1/ 261 و 3/ 1192 و 4/ 1380).
– أبو عبيدة مَعْمر بن المثنَّى (207)
من “مجاز القرآن” في: (2/ 736 و 4/ 1518).
– أبو عثمان المازني (249)
من “تصريف المازني” في: (4/ 1619).
– العُقيلي (321) من “الضعفاء” في: (3/ 1259).
– علي بن سعيد النَّسَوي (257)
من “مسائله لأحمد” في: (3/ 963، 1001 وغيرها).
– عياض بن موسى اليحصُبي (544)
من “إكمال المعلم ” في: (3/ 1160).
-الفرَّاء (207)
من كتابه “معاني القرآن” وغيره في: (2/ 803 و 3/ 868، 923 و 4/ 1625 وغيرها).
(المقدمة/51)
-ابن قتيبة (276)
من “تأويل مشكل القرآن” في: (1/ 124 و 2/ 753 و 3/ 1106).
– القرافى (684)
من “الفروق”: (1/ 93 و 4/ 1316) ونقل عنه في مواضع أخرى ولم يصرِّح باسمه.
– المبرَّد (286)
لعلها من “المقتضب” أو غيره من كتبه في: (2/ 524 و 3/ 893، 920 و 4/ 1625 وغيرها).
– محمد بن إدريس الشافعي (204)
من “الرسالة” و”الأم”.
– محمد بن الحكم (223)
من “مسائله لأحمد” في: (3/ 955، 957 و 4/ 1494، 1505 وغيرها).
– محمد بن موسى بن مُشَيْش (؟)
من “مسائله لأحمد” في: (3/ 976، 987 و 4/ 1435).
– مهنّأ بن يحيى الشامي (؟)
من “مسألة لأحمد” (انظر فهرس الأعلام).
– يعقوب بن بختاِن (؟).
(المقدمة/52)
من “مسائله لأحمد” في: (3/ 956 و 4/ 1482، 1510، 1515، 1524).
– أبو يعلى بن الفرّاء الحنبلي (458)
نقله عنه كثيرًا (انظر فهرس الأعلام).
ويُقال في هدا القِسم من ملحوظات ما قيل في الذي قبله.
* القسم الثالث: مصادر لم يُصرِّح بأسمائها ولا بأسماء مؤلِّفيها.
وهذا القسم إنما يُعْرف من تتبُّع المظانّ، وتصفُّح الكتب، ومعرفة أساليب المؤلِّفين. وهذا النوع قليل، فالذي وقفنا عليه من ذلك خمسة كتب هي:
1 – المدهش، لابن الجوزي (597).
فقد نقل عنه وأكثر في: (3/ 1176 – 1232) أي ما يزيد على خمسين صحيفة، وقد لاحظتُ في نقله عن هذا الكتاب أمورًا:
أ- لم ينقل نقلاً مجرَّدًا متتابعًا، بل تصرَّف في النص كثيرًا فغيَّر وبدَّل، وانتقى من كل الكتاب؛ أوله وأوسطه وآخره.
ب – من (3/ 1176 – 1203) كانت طريقة الانتفاء غير منتظمة ولا مرتبة، ثم من (3/ 1203 – 1232) غيَّر هذه الطريقة، فكان نقله مرتَّبًا، لكن من آخر الكتاب -أعني المدهش- إلى أوله من (531 – 387).
جـ- هناك بعض النصوص لم أجدها في “المدهش”، وهي لا تخرج في سبكها عن طريقة ابن الجوزي في كتبه الوعظية. فهل هي
(المقدمة/53)
من إنشاء المؤلِّف (1) -وهو خبير بهذه الطريقة- أو سقطت من طبعة “المدهش”، أو في كتابٍ آخر لابن الجوري؟.
2 – أدب المفتي والمستفتي، لتقي الدين أبي عَمْرو بن الصلاح (643).
(3/ 1283 – 1287) انتقى منه شيئًا من حالِ السلف في الفتيا، وتحذيرهم من الإفتاء بغير علم، وقولهم: “لا أدري”.
3 – مختصر سنن أبي داود، للمنذري (656).
نقل عنه في موضع واحد: (2/ 667).
4 – الفروق، للقرافي (684)
نقل في موضع: (1/ 8، 12 – 13، 15، 78 و 3/ 1126، 1234 – 1252)، (وانظر: ص/ 52).
5 – فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميَّة (728)
(3/ 835 – 862) نقل تفسير قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً … إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 55 – 56] مع إضافات يسيرة.
تنبيه:
هناك موضع آخر في “البدائع”: (2/ 462 – 464) عنوانه: بديعة في تفسير قوله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ … } [البقرة / 217]، وهو موجود بنصه في “مجموع الفتاوى -التفسير”:
__________
(1) وقد أعاد هذه النقول في كتابه “الفوائد” وأشرنا إلى ذلك في الهوامش.
(المقدمة/54)
(14/ 88 – 90)، فهل هو مما نقله المؤلف من شيخه دون إشارة؟ أو هو مما أُقْحِم في “الفتاوى” وليس منها بل هو لابن القيّم؟.
الجواب: أن هذا الموضع ليس لابن تيميّة ولا لابن القيّم، بل حو للسُّهيلي في “نتائج الفكر”: (ص/312) استفاده المؤلف منه، فلتحذف من “المجموع” إذن.
* * *
(المقدمة/55)
* بين ابن القيم في (البدائع) والسُّهيلي في (النتائج)
من أهم المصادر التي بنى المصنِّف كتابه عليها فيما يتعلق بمسائل اللغة والنحو هو كتاب “نتائج الفكر” لأبي القاسم عبد الرحمن ابن عبد الله السُّهيلي العلامة المتفنِّن المتوفى سنة (581).
ولأجل الغموض الذي اكتنفَ النقلَ عن هذا الكتاب؛ إذ نقل كثيرًا من نصوصه دون تصريح باسمه، بل يذكُرُ مُؤَلِّفَه -السُّهيلي-، ويُثني على بحوثه، ويرد عليه، ويتعقبه، ويزيد عليه، لكن من أيِّ كُتُب السُّهيليِّ ينقل؟ هذا ما لم يفصح عنه ابن القيم في شيء من الكتاب، وإن وقعت تسميته في موضع واحد: (3/ 913) لكن هذه التسمية ليست من ابن القيم بل من السهيلي نفسه (انظر ما سبق ص 50). وهذا الغموض هو ما كشف عنه الدكتور محمد إبراهيم البنَّا عندما أصدر كتاب السهيلي “نتائج الفكر”، فطابَقَ بين نقولِ ابن القيم وبين هذا الكتاب، فوجدَ الضالةَ وبان الأمرُ.
إلا أن نَشْوَته بهذه الفائدة جعلته يتجاوز الحد فى وصف صنيع المؤلف هتا بأنه: (ادعى نحوَ السُّهيلى لنفسه)، وأنه: (إنما حذف مقدمته وقدَّم وأخَّر، وزاد قليلاً واختصر، حتى ليظن القارئُ أن النحو الذي يسوقه اين القيم في كتابه من بدائعه، قال: والحق أنه ليس له فيه نصيب من قريب أو بعيد، وأن البدائع المسطورة في كتابه هي “نتائج الفكر” الني نقدمها الآن) (1) اهـ.
__________
(1) مقدمة “النتائج”: (ص/ 7).
(المقدمة/56)
ولم يقف عند هذا الحد المتجاوز، فتعدَّاه إلي القول بـ “أنه ينبغي إعادة النظر في هذا الرجل، إذ نُسبَ إليه من الآراء ما أدخله في عداد النحاة!! ” = لأجل ذلك كلِّه رَأينا أن نفرد الكلام في هذه القضيّة، ليتجلّى وجه الحق فيها، دون وكَسْ أو شطط في الانتصار أو الاعتذار، وإن كان قُرْبي من (ابن القيم)، وتجاوز (البنَّا) في حقه قد يحدوني إلي الانتصار له، لما تُمليه وشائج القربى ويدفع إليه تجاوز (البنَّا)، لكني سأدفع ذلك قدر المستطاع؛ لأن المقصود هو الحق وما عداه فيوضع تحت الأرجل -كما قال ابن القيم-.
وهنا نؤصِّل أصلاً -في عزو الفوائد إلي أهلها- لا ينبغي أن يُخْتَلَف فيه، تواردت علية كلماتُ الأئمة السابقين ومن بعدهم -والمؤلف منهم-.
قال أبو عبيد (224): (من شُكر العلم أن تقعد مع كل قوم، فيذكرون شيئًا لا تُحسنه فتتعلّم منهم، ثم تقعد بعد ذلك في موضع آخر فيذكرون ذلك الشيءَ الذي تعلّمته فتقول: والله ما كان عندي شيء حتى سمعتُ فلانًا يقول كذا وكذا، فتعلّمته، فإذا فعلتَ ذلك فقد شكرتَ العلم) (1).
وقال النووي (676): (ومن النصيحة: أن تُضاف الفائدة التي تُسْتغرب إلي قائلها، فمن فعل ذلك بورك له في علمه وحاله … ولم يزل أهل العلم والفضل على إضافة الفوائد إلى قائلها … ) (2).
وكلماتهم في هذا الشأن مشهورة، لا نطيل بإيرادها.
__________
(1) “المزهر”: (2/ 319) للسيوطي، و”طبقات المفسرين”: (2/ 41) للداوودي.
(2) “بستان العارفين”: (ص/ 29).
(المقدمة/57)
أما المؤلف فقد قال في كتابه هذا: (1/ 249) “فهذا ما فتح الله العظيم … من غير استعانة بتفسير، ولا تتبُّع لهذه الكلمات. من مظانّ توجد فيه … والله يعلمُ أني لو وجدتها في كتاب لأضفتها إلى قائلها، ولبالغتُ في استحسانها … ” اهـ.
وقال في موضع آخر: (2/ 528): “فتأمل هذه المعاني. . . . وقد ذكرنا من هذا وأمثاله. . . مالو وجدناه لغيرنا لأعطيناه حقَّه من الاستحسان والمدح. . . ” اهـ، وانظر: (1/ 361 و 2/ 418) (1).
فهو إذن أصل متفق عليه:
إذا تقرَّر هذا؛ فلننظر الطريقة التي سلكها ابن القيم في النقل من كتاب السُّهيلي، لنعلم صِدْق ما دْهب إليه الأستاذ (البنَّا) من عدمه، فنقول: قد تقدَّم لنا عَرْضٌ جُمْلِيّ لموضوعات الكتاب (ص/ 21 – 23)، فقد استفتح المؤلف كتابه بطائفة من الفوائد الفقهيّة، ثم بدأ المسائل والفوائد النحوية واللغوية من (ص/27) نقلاً عن السهيلي دون تصريح، وهي أول فائدة في كتاب “النتائج” (ص/ 37).
ثم صرح باسمه في الفائدة الثانية المنقولة من “النتائج” (ص/ 37)، فبعد أن ذكر ابن القيم أصلَ المسألة وزادَ وتوسَّع وصفَّى كلام السهيلي مما يُنْتقد عليه في المعتقد، ونقل عن شيخه ابن تيمية فوائد = ذكر إشكالاً وقال: “وأجاب السُّهيلي … ” وحكاه بلفظه، ثم قال ختامه: “وهذا الجواب من أحد أعاجيبه وبدائعه رحمه الله” (ص/ 39).
__________
(1) انظر ما تقدم ص/ 31 – 32.
(المقدمة/58)
فأنت الآن ترى المؤلِّف في ثاني فائدة في الكتاب ينسب الكلامَ للسهيلي ويستحْسِنُه غايةَ الاستحسان. فهل يكون هذا صنيع من أراد انتحال كلام شخص وادعاءه وإخفاءه ونسبته إلى نفسه؟! كلا.
– وقد صرَّح ابنُ القيم بالنقل عن السُّهيلي صراحةً لا مزيد عليها، وكان له في ذلك طرائق:
منها: أن يذكر رأس المسألة دون نسبة، وفي أثناء الأجوبة والمناقشات يُورد كلامَ السهيلي وتعليقاته، كما في (1/ 37).
ومنها: أن يذكر كلامه بنصِّه (قال السهيلي)، وفي آخره (تم كلامُه) كما في (1/ 41).
– وتارة يقول من أوَّل المسألة: (رأيتُ للسهيلى فصلاً حسنًا هذا لفظه) (1/ 45، 47 و 2/ 506).
– تارة ينقل الفائدة، وفي آخرها يقول: (هذا لفظ السُّهيلي)، كما في (1/ 59، 332 و 2/ 501، 505، 556).
– وأحيانا يقول: (وهذا ما أشار إليه السُّهيلي فقال) ويسوقُ نصَّه، كما في (1/ 63 و 2/ 516).
– وقال في موضع: (وقال بعض الناس) وهو السهيلي (2/ 487).
– وقال في موضع: (فائدة من كلام السهيلي: (1/ 308).
– وقال فى آخر: (هذا تقرير طائفة من النحاة منهم السُّهيلي) (1/ 254).
– نقل كلامه في موضع (2/ 418) ثم قال: “ثم رأيت هذا
(المقدمة/59)
المعنى بعينه قد ذكره السهيلي، فوافق فيه الخاطرُ الخاطرَ”.
ونقل عنه في موضع (1/ 361) وقال: إن هذا المعنى وقع له أثناء إقامته بمكة، وكان يجول في نفسه فيضرب عنه صفحًا، لأنه لم يره في مباحث القوم، ثم رآه بَعْدُ لاثنين من النحاة، أحدهما لا يعرفه .. والآخر السهيلي، فإنه كشفه وصرّح به.
وعلى هذه الوتيرة سارَ المصنّف في النقل عن السهيلي من الإشارة إليه ونقل كلامِه بنصِّه، إما في أول الفائدة أو في آخرها، أو في درج الكلام ناسبًا إليه أكثر تحقيقاته وبدائعه، مع الثناء البالغ والاعتراف له بالفضل: والتقدّم.
فمن الثناء عليه قوله (1/ 38): “وهذا الجواب من أحد أعاجيبه وبدائعه رحمه الله” وقوله (1/ 51): “وهذا الفصل من أعجب كلامه، ولم أعرف أحدًا من النحويين سبقه إليه”، وقوله (2/ 402): “وهذا من كلامه من المرقِّصَات، فإنه أحسن فيه ما شاء” وقوله: (1/ 116): “وقد تولَّج -رحمه الله- مضايق تضايق عنها أن تولجها الإبر، وأتى بأشياء حسنة. . . “. واعترف له بالسبق والفضل والتقدُّم في (1/ 142). فقال: “فهذا تمام الكلام على ما ذكره من الأمثلة وله -رحمه الله- مزيد السبق وفضل التقدم.
وابن اللبون إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ … لم يستطع صولةَ البُزْلِ القناعيسِ”
وأثنى على قوَّته فقال (1/ 326): “هذا كلام الفاضل، في هو كما، ترى كأنه سيل ينحط من صبب”، وأثنى على ذهنه الثاقب وفهمه البديع (2/ 416).
فهذا كما ترى جلاءً ووضوحًا في الاعترافِ للسهيلي، وعدم
(المقدمة/60)
جحده حقه، والمبالغة في الثناء عليه ومدحه، فهل هذا شأنُ من يريد نسبة فوائده إلى نفسه أو هضم حقه؟! كلا.
فهذا يدفع القول بأن ابن القيم ادعى نحو السهيلي لنفسه، كيف وهو لا يفتئ يذكره، ويُثْني عليه، ويعترفُ له؟!!.
وبعد؛ فلم يكن المؤلف مجرَّد ناقل ومقرَّر لكلام السهيلي -على علو كعبه وجودة مباحثه- بل جاراه في المضمار، ووقف معه موقف القِرْن والنِّدِّ، بل أربي عليه في بعض الأحيان، وناقشه ورد عليه. . .
فقد رد عليه في مواضع كثيرة جدًّا كما في (1/ 39)، وفي (1/ 326) أثنى عليه وأن كلامه: سيل ينحط من صبَب، ثم ردَّ عليه. وساق كلامه في موضع (1/ 334) ثم قال: “وهو كما ترى غير كافٍ ولا شاف. . . وأنه زاد السؤال سؤالاً”. كما رد عليه وغلَّطه في معنى حديث (1/ 342). وفي مسألة أخرى. (1/ 347). وفي تفسير آية (2/ 488). وذكر جوابَه مرة ثم قال: “ولا يخفى ما فيه من الضعف والوهن” (2/ 413). كما أشار إلى اضطرابه في (2/ 517)، وبين غَلَطَه وأنه كبوة من جواد ونبوة من صارم في (2/ 541)، وفي موضع تعجَّب من فهمه الخاطئ مع ذهنه الثاقب وفهمه البديع (2/ 416).
كما أنه ينقل كلامَه كاملاً، ويثني عليه، ثم يكرّ عليه جُملةً جُملةً بالتعليق والمناقشة كما في (1/ 116 – 142، 261 – 270 و 2/ 516 – 533، 556 – 560).
وقد يشتدّ أحيانًا في الرد، مثل قوله (1/ 347): “وفي هذا من التعسُّف والبعد عن اللغة والمعنى ما لا يخفى”، ونحوه (2/ 566)، وقوله (2/ 414) “فهذا جواب فاسد جدًّا” (وانظر ما سبق ص/ 25 – 26).
(المقدمة/61)
كما أن المؤلف -رحمه الله- كان كثيرًا ما يردّ على السهيلي -رحمه الله- في مسائل العقيدة، ويناقشه ويبين خطأه (1)، فبين (2/ 571) موافقتَه للكُلاَّبية ورد عليه. ونافَشَه في: (2/ 394 – 395، 398). وقد يكتفي أحيانًا بتهذيب كلامه من الأخطاء العقدية كما في (1/ 31 – 32، 316، 402).
ولم يكتف ابن القيم بالرد على السهيلي ومناقشته في مباحثه، بل كان يستظهر معاني أخرى: (1/ 61 – 62)، ويُفصِّل أشياء لم يتعرّض لها كما في (2/ 399، 507). بل ويأْتي بأحسن مما جاء به السهيلي، كما في مواضع كثيرة: (1/ 221، 229، 251، 254، 261 – 270، 332، 372 و 2/ 412، 459، 488، 505).
وبعد هذا العَرْض المطوَّل؛ هل لمنصفٍ أن يقول: إن المؤلف ادَّعى نحوَ السهيليِّ لنفسه؟ وأنه إنما قدَّم وأخَّر واختصر؟ وأن الظان ليظن أن النحو الذي يسوقه من بدائعه؟ حاشا المُنْصف أن يُطلق هذا الحكم.
أما الذين أدخلوا ابن القيم في عداد النحاة، فليس نتيجةً لما في “بدائع الفوائد” من بجوث وتحقيقات، وليس لأجل ما في كتبه المفردة في العربية أو كتبه الأخرى من مسائل النحو والعربية، وليس لأجل ما فيها من تحرير وتدقيق بالِغَيْن، ليس لأجل ذلك فقط، بل لأن تلاميذه وأصحابه الذين خبروه عن قرب -وهم أهل للحكم- وصفوه بدلك بل بأكثر منه، قال تلميذه: الصفدي (764) في “أعيان العصر” (2): “قد تبحَّر
__________
(1) وقد فاته موضع، علقنا عليه في الحاشية (1/ 46).
(2) (4/ 367).
(المقدمة/62)
في العربيَّة وأتقنها، وحرَّر قواعدها ومكَّنها … ” اهـ وقال: “اجتمعتُ به غير مرة، وأخذت من فوائده، خصوصًا في العربية والأصول” (1) اهـ.
وقال تلميذه ابن رجب (795) في “الذيل على طبقات الحنابلة” (2): “وتفنَّن في علوم الإسلام، وكان عارفاً بالتفسير .. ، وبالفقه وأصوله، وبالعربية وله فيها اليد الطولى، وبعلم الكلام والنحو … ” اهـ. ولذا أدخله السيوطى في “طبقات اللغويين والنحاة”.
فكيف لو ضُمَّ إلى ذلك كلِّه هذه التحقيقات التي نثرها في “البدائع” وأربى في كثير منها على السهيلي (كما سبق)؟! وأتى بما أغفله كثير من النحاة ولم ينبهوا عليه، انظر (1/ 344).
وبعد، فإنَّ المصنِّف -رحمه الله تعالى- لو صرَّح بأته ينقل هذه الفوائد من كتاب السهيلي “نتائج الفكر” -لكان أسلم عن الاعتراض وأنفى للاعتذار، هذا في المواضع التي سمَّى فيها السهيلي، أما ما أغفله ولم يُسَمِّه فيتوجَّه اللوم عليه أكثر، وإن كان يُعْتذر له بأن طبيعة الكتاب وموضوعه تساعد على مثل هذا الصنيع إذ هو كالتذكرة له، والتذكرة يتجوَّز فيها ما لا يتجوَّز في غيرها من الكتب، ويُعْتذر له أيضًا بأنه قد ذكر السهيلي وأكثر من ذِكره في أول النقول ووسطها وآخرها، فأغنى ذلك عن ذكره في كل موضعٍ ما دام النقلُ متتابعًا أو شبه متتابع.
وهذه اعتذارات سائغة وجيهة خاصةً إذا علمنا أن المَوَاطن التي لم يصرِّح فيها باسمه أقل بكثير مما صرَّح به فيها، ولكن يُعكِّر عليها
__________
(1) المصدر نفسه: (4/ 369).
(2) (2/ 448).
(المقدمة/63)
موضع واحد في: (2/ 577 – 593) فصل في قولهم: “هذا بسرًا أطيبْ منه رطبًا”، وهذا الفصل موجود في “النتائج”: (ص/ 399 – 405) ذكر فيه السُّهيلي سبعة أسئلة في هذه الجملة، وذكر أبي القيم عشرة أسئلة، السبعة التي عند السُّهيلي وزاد ثلاثة، مع زيادة أجوية السهيلي تحريرات وفوائد. لكنه في هذا الفصل برمّته لم يصرح باسم السُّهيلي، وقال في آخره: “فهذا ما في هذه المسألة المشكلة من الأسئلة والمباحث، علّقتها صيدًا لسوائح الخاطر فيها، خشيةَ أن لا يعود، فليُسامح الناظر فيها، فإنها عُلّقت على حين بُعْدي عن كتبي، وعدم تمكُّني من مراجعتها … ” اهـ.
فهذا الشكل موضع في الكتاب، إلا أن يقال فيه ما قاله المؤلف في موضع آخر (2/ 418) إذ ساق فصلاً، ثم قال في آخره: “ثم رأيتُ هذا المعنى بعينه قد ذكره السُّهيلي، فوافق فيه الخاطرُ الخاطرَ”. وكذلك ما قاله في موضع قبله (1/ 361) بعد أن ساق فصلاً للسهيلي: “وكان قد وقع لي هذًا بعينه أيام المقام بمكة، وكان يجول في نفسي فأضرب عنه صفحًا؛ لأني لم أره في مباحث القوم، ثم رأيتُه بغدُ لفاضلين من النحاة، أحدهما: حام حوله وما وَرَد، ولا اعرف اسمه. والثاني: أبو القاسم السُّهيلي -رحمه الله- فإنه كشفه وصرّح به … “. اهـ.
وبهذا البَسْط والتفصيل تظهر علاقة “البدائع” بـ “النتائج”، ويَبِيْن وجه الحق في المسألة، ويتجلّى غاية الجلاء، والحمد لله.
ويؤخذ على الأستاذ (البنّا) أمران:
الأول: فاته كثيرٌ من التصحيحات التي هي في “البدائع” على
(المقدمة/64)
الصواب، وفي نسخ “النتائج” على الخطأ.
الثاني -وهو أشدهما-: أنه أهمل تعقبات ومناقشات وردود وإضافات ابن القيم على السهيلي.
فلم ينقل شيئًا منها، بل لم يُشر إليها مجرد إشارة! وهذا فيه حَيْفٌ بالكتاب المحقّق، وقلة نَصَفة لابن القيم، ولعله أغفل ذلك كله لتَسْلَم له نتيجتُه التي تهاوت أمام الحجة والبرهان.
* * *
(المقدمة/65)
* مختصراته، والكتب المستلّة منه
اختصر الكتاب جماعةٌ من أهل العلم، وانتقى آخرون منه مواضع متفرقة، واستلّ جماعةٌ بعضَ مباحثه، فنشروها مفردة، أو ضموا إليها ما يشبهها من مباحث، وهذا بيان بما وقفت على ذكره من ذلك.
* أما مختصراته فهي:
1 – مختصر بدائع الفوائد، لعبد الله بن عثمان بن جامع ت (1256) (1) -رحمه الله-.
2 – مختصر بدائع الفوائد، لعبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين ت (1282) -رحمه الله- طبع (2).
3 – مختصر بدائع الفوائد، لعبد الله الدويش ت (1408) -رحمه الله-، وهو مطبوع مع: مجموعة مؤلفاته في المجلد الرابع في (383 صفحه) (3)، قال في أوله: “اختصرته لما رأيتُ أهل الزمان غلب عليهم الملل وأخلدوا إلى الكسل، وقلَّت رغبتهم في المطوَّلات لقلّة رغبتهم في العلم وكثرة الشواغل التي تصدّهم عنه … ” ثم ذكر أنه لم يزد شيئًا من عنده، إلا تصحيح بعض الأخطاء المطبعية.
4 – المنتقى من: بدائع الفوائد، للشيخ محمد بن صالح العثيمين
__________
(1) ذكره مؤلفا “إمارة الزبير”: (3/ 68).
(2) انظر: “روضة الناظرين” (1/ 339).
(3) من مطبوعات دار العليان بالقصيم 1411 هـ.
(المقدمة/66)
ت (1421) -رحمه الله- (1).
* أما ما انتقاه النُّسَّاخ أو طُبع مستلاَّ منه:
1 – قطعة منه، اختارها الأمير الصنعاني، منها نسخة في مكتبة الجامع الكبير بصنعاء رقم (240) (ق 20 – 88).
2 – قطعة أُخرى في الظاهرية رقم (3874 عام، مجاميع 139) كُتِبَت سنة 833، كتبها إبراهيم بن محمد بن التقي المقدسي (ق 115 – 117).
3 – وفي ليدن رقم (3003 شرقيات) مختارات منه في 134 صفحة بخط حديث.
4 – تفسير المعوِّذتين.
أفردَه محمد منير الدمشقي قديمًا (انظر ص/69). وطُبع عن طبعته في الهند سنة 1375 بتحقيق عبد الرحمن شرف الدين، ثم في مكتبة الصديق بالطائف.
5 – تفسير سورة الكافرون والمعوّذتين، أفرده الشيخ محمد حامد الفقي.
6 – ذم الحسد وأهله.
7 – إرشاد القرآن والسنة إلى طريق المناظرة وتصحيحها وبيان العلل المؤثِّرة، أفرد هذا الفصل من “البدائع” وحققه الدكتور أيمن الشوَّا، وطبع عن دار الفكر بدمشق.
__________
(1) ذكره صاحب كتاب “الجامع لحياة الشيخ محمد العثيمين”: (ص/153)، وللشيخ “المنتقى من فرائد الفوائد” على نمط كتاب ابن القيم، وهو مطبوع، فلعلَّه اشتبه عليه، فظنه منتقى من “البدائع”.
(المقدمة/67)
* طبعات الكتاب
طبع الكتاب أكثر من مرة، وأول طبعة له هي الطبعة المنيرية، وما بعدها إما صورة عنها، أو بالاعتماد عليها دون الرجوع للأصول الخطية للكتاب، وغنيٌّ عن القول ما في ذلك من القصور، مهما اجتهد المصحِّحُ تصحيحه! فالأصول الخطية أصل أصيل وركن. ركين يرُجع إليها للخروج بنصٍّ أقرب إلى الصحة، وأسلم عن الخطأ.
وهذا بيان بطبعات الكتاب التي وقفت عليها:
1 – الطبعة المنيرية، بإدارة الطباعة المنيرية، لصاحبها الشيخ محمد منير آغا الدمشقي الأزهري ت (1367)، بدون تاريخ، في مجلدين، في كل مجلد جزاءن، عدد صفحاتهما نحو (1000 صحيفة).
وقد كُتِب على كل جزءٍ من أجزائها الأربعة هذه العبارة “عُني بتصحيجه والتعليق عليه ومقابلة أصوله للمرة الأولى محمد منير الدمشقي”. وقال في آخر الكتاب: (4/ 218): “الحمد لله .. يقول محمد منير … صاحب إدارة الطباعة المنيرية: قد تم -والحمد لله- كتاب بدائع الفوائد للإمام … ، وقد بذلت جهدي بتصحيحه ومراجعة أصوله على غير نسخة بعد عرضِها على جماعة من أهل العلم والفهم والذكاء، فجاءت بحول الله وقوّته غاية في الصحة … ” اهـ.
(المقدمة/68)
وقد استلَّ من “البدائع” تفسير المعوِّذتين وطبعه مفرداً في (80 صفحة)، كما ذكر في كتابه “نموذج من الأعمال الخيرية”: (ص/ 399 – 400)، ولم يُشر هناك إلى كون هذا الجزء من “بداع الفوائد”!.
وقد تبيّن لي أنه اعتمد على نسختين، اعتمد إحداهما أصلاً، والأخرى للنظر فيما يُشكل، وأثبتَ ذلك في مواطن معدودة في الكتاب، إلا أنه لم يذكر لنا تفاصيل عن النسخ التي اعتمدها، فلا نستطيع الجزم بأنها إحدى النسخ التي بين أيدينا، وإن كنت أميل إلى أن نسخة الظاهرية التي رمزنا لها بـ (ظ) هي الأصل الذي اعتمده، بسبب الزيادة التي في آخر النسخة، وبسبب التوافق في ترتيب الكتاب (1) والله أعلم.
2 – طبعة دار المعالي بالأردن، سنة 1420، مجلدان في أربعة أجزاء، تحقيق محمد بن إبراهيم الزّغلي.
3 – طبعة دار الخير ببيروت، سنة 1414، مجلدان في أربعة أجزاء، كُتِب عليها: تحقيق معروف مصطفى زريق، ومحمد وهبي سليمان، وعلي عبد الحميد بلطه جي، وقدَّم لها الدكتور محمد الزُّحيلي.
4 – طبعة مكتبة دار البيان بدمشق، سنة 1415 في مجلدين تحقيق محمد بشير عيون، ذكر في المقدمة أنه اعتمد على نسختي الظاهرية، ولم يظهر أثر ذلك في الكتاب!.
5 – طبعة دار الكتب العلمية بيروت، بدون تاريخ، في مجلَّدين،
__________
(1) انظر ص/ 72 – 73 من المقدمة.
(المقدمة/69)
تحقيق أحمد عبد السلام.
6 – طبعة مكتبة نزار مصطفى الباز بمكة المكرمة، سنة 1419، في أربع مجلدات، تحقيق مركز البحوث في الدار.
7 – طبعة دار الحديث بالقاهرة، سنة 1423، في مجلدين، تحقيق سيد عمران، وعامر صلاح.
8 – طبعة دار الكتاب العربي، تحقيق الدكتور محمد الاسكندراني وعدنان درويش، ط الأولى، 1422، في مجلد واحد.
9 – طبعة المكتبة العصرية، سنة 1422 هـ في أربعة مجلدات تحقيق، محمد عبد القادر الفاضلي، والدكتور أحمد عوض أبو الشباب.
* * *
(المقدمة/70)
* نسخه الخطية
للكتاب نسخ كثيرة، وقفت على ذكر أريع عشرة نسخة منها، ثلاث منها تامة، وبقيتها قطع من الكتاب متفاوتة الحجم، وبعضها أشبه بالمنتقى، نُعرِّف أولاً بالكاملة، ثم الناقصة، مع الإشارة إلى ما اعتمدناه منها بوضع إشارة (*) قبلها.
أ- النسخ الكاملة:
* 1 – نسخة المكتبة الظاهرية (ظ)
نسخة محفوظة بالمكتبة الظاهرية بدمشق -سابقًا- رقمها (10536) تقع في مجلدين عدد أوراقهما (272 (1) ورقة = 544 صفحة)، ليس عليها تاريخ النسخ ولا اسم الناسخ، وهي -تقديراً- من منسوخات القرن العاشر، وعليها تملُّكات وقراءات، حاولنا استظهار بعض ما لم يُطْمَس منها، فأحد التملُّكات كان بتاريخ (1039)، وهناك قراءة بتاريخ (1037)، وقد شُطِب على اسم القارئ.
تبدأ النسخة بورقة عليها خاتم دار الكتب الظاهرية، وعليها تملك بتاريخ (1300) لمحمد علي بن السيد محمد عطية الله الأنصاري، وكتب تحته:
هذا كتابٌ لو يُباعُ بوزنه … ذهبًا لكان البائعُ المغبونا
__________
(1) في ترقيم النسخة عدة أخطاء، وهذا العدد بحسب ترقيمنا لها.
(المقدمة/71)
ثم في الصفحة التي تليها فهرسة لموضوعات الكتاب، اشتمل على ثلاث مئة وسبعة وأربعين عنوانًا.
وفي الورقة التالية كتب عنوان الكتاب بخط كبير: (كتاب بدائع الفوائد) ثم بخط أصغر (الجزء الأول والثاني)، أسفل منه: (للعلامة الإمام الحبر البحر الهمام شيخ الإسلام علم العلماء الأعلام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيَّم الجوزية -قدس الله روحه-) وعلى جانبي: العنوان عدد من التملكات والقراءات، أشرنا إلي بعضها، وفي منتصف الصفحة ترجمة مختصرة للمؤلف في أحد عشر سطرًا.
وهي بحالة جيده، تحتوي كل صفحة على سبعة وعشرين سطرًا، والسطر فيه أكثر من عشرين كلمة، وهي بخط ناسخ واحد، وإن كان يبدو تغير الخط أحيانًا، إلا أن ذلك يعود -في تقديري- إلى قَلَم الناسخ ونشاطه، وعلى هوامشها بعض التعليقات والعناوين للمباحث.
وقد جعل الناسخُ كلَّ عشر صفحات جزءًا، يشير إلى ذلك في الركن العلوي للورقة.
وتعتبر هذه النسخة أتمّ النسخ، فهي تزيد على النسخ الأخرى بعشر فوائد في آخرها لا توجد في غيرها، وهي في (4/ 1658 – 1663). وقال في آخرها: “فرغت الفوائد بحمد الله”، ثم كتب بعده: “والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، اللهم اغفر لمن دعا بالمغفرة آمين”.
ومما تتميز به -أيضًا-: أن في آخرها منتحْبَيْن؛ الأول: بعنوان
(المقدمة/72)
“منتخب أيضًا” وهو في صفحة واحدة، وقد ألحقناه بالكتاب؛ لأن فيه ما يدلُّ على أنه للمؤلف، ففيه النقل عن شيخ الإسلام، إذ قال: “وقال لي شيخنا … “، وقرائن أخرى.
أما المنتخب الثاني؛ فَعَنْونه الناسخُ بقوله: “الحمد لله وحده، منتخب من “الفوائد المنتقية من الرقوم الشرقية” (1)، وهذا المنتقى لم نر ما يشهد بصحة نسبته للمؤلف، وفيه أيضًا ما لم يُعْهَد عن المؤلف في كتبه الأخرى من نقول وتقريرات؛ لأجل ذلك لم نثبِتْه.
والنسخةُ في ترتيبها تحاكي المطبوعة سواء بسواء، بخلاف بعض النسخ الأخرى، مما يدل على أنها إحدى النسخ التي اعتمد عليها من طبع الكتاب لأول مرة.
وبعدُ، فالنسخة جيدة، سقطها قليل، وأغلبُه من انتقال النظر، ولا تخلو من أخطاء وتصحيفات، وقد اعتمدناها ورمزنا لها بحرف (ظ).
وقد حصلنا على صورة منها ومن النسخة الآتية برقم (4) من مركز جمعة الماجد للتراث بدبي، أحسن الله إليهم.
* 2 – نسخة القصيم (ق)
نسخة مخطوطة في مكتبة الشيخ سليمان بن صالح البسام بعنيزة، منها صورة فلمية بجامعة الإمام رقم (105/ ف).
تقع النسخة في مجلد واحد فيه (392 ق = 784 صفحة)،
__________
(1) لم يتبين لي شيءٌ عن هذا الكتاب (الرقوم الشرقية)!.
(المقدمة/73)
كُتبت بتاريخ أربع وسبعين وثمان مئة، في شهر رجب، يوم الأربعاء منه، وناسخها هو: محمد بن سالم النحريري (1).
وهده النسخة كَثُر تنقّلها بين البلدان واختلفت عليها أيدي العلماء، إذ عليها تملُّكات عديدة، لعدد من مشاهير العلماء في مكة واليمن ونجد من مذاهب شتى، الحنفية، والشافعية، والزيدية، والحنابلة، وعددها اثنا عشر تملُّكًا، منها: لعلي القاري الهروي سنة (989)، ولابن علاَّن الصديقي الشافعي (ولم يتبين التاريخ)، وللأمير المتوكل على الله إسماعيل بن المنصور بالله، ولعبد القادر بن محمد الحسيني الطبري إمام المقام الشريف سنة (1019)، ولمحمد بن المؤيد بالله سنة (1113)، وللمهدي لدين الله العباس سنة (1173)، ولأحمد بن إسماعيل بن المهدي (ولم يتبين التاريخ)، ولمحمد بن علي العَمْراني سنة (1228)، ولابنه حسين بن محمد العَمْراني، ولمحمد بن عبد الله بن حُميد النجدي الحنبلي سنة (1265)، ثم باعها ابن حُميد أخيراً على عبد الله بن حمد آل بسّام، وأوقفه على طلبة العلم من الحنابلة في عنيزة، والوقفية مكتوبة بخط ابن حميد، وأشهد عليها اثنين من آل بسام، سنة (1275) كما هو مثبت على الورقة الأولى من الكتاب بعد ورقة العنوان.
ثم آلت أخيراً إلى مكتبة الشيخ سليمان بن صالح بن حمد ابن بسّام، ابن أخي الواقف.
هذا جملة ما على النسخة من تملكات.
__________
(1) كذا قرأتها، وبعدها كلمة لم أتبينها، ولم أجد له ترجمة، ولم أقف على هذه النِّسبة إلا أن يكون فيها تحريف.
(المقدمة/74)
كُتب عنوان النسخة بخط كبير واضح: (كتاب بدائع الفوائد، لابن قيم الجوزية تلميذ ابن تيمية … ” وكتب فوق العنوان: “هذا الكتاب جمع علومًا شتى؛ أصولاً وفروعًا ونحوًا وبديعًا، فليعرف الواقفُ عليه حقَّه ولا يجهل قدره”.
والنسخة حالتها ممتازة، في كل صفحة منها سبعة وعشرون سطرًا، يتفاوت عدد الكلمات في كل سطر، مكتوبة بخط واضح جميل، وفي النسخة جملة من التصحيحات والزيادات المهمة الساقطة من بقية النسخ، كما في (2/ 729، 731، 745، 763 و 3/ 1059 – 1060 ثمانية أسطر).
ومع دلك فقد وقع فيها جملة من الأخطاء، وسقطان هما في المطبوعة: (2/ 704 – 707) و (2/ 720 – 724) والأخير يمثل الورقة (174)، فلا أدري هل سقطت من الأصل أو من مصورتي؟.
وعلى جانبي النسخة عدد من التعليقات والحواشي والتصويبات، أثبتنا غالبها، وتنتهي النسخة في المطبوعة: (4/ 1652)، وتزيد عنها نسخة (ع وظ) ببعض الفوائد في آخرها وقد اعتمدناها ورمزنا لها بحرف (ق).
* 3 – نسخة خاصة (د)
نسخة من إحدى المكتبات الخاصة بنجد، تقع في مئتي ورقة (200 ق = 400 صفحة)، في كل صفحة اثنان وثلاثون سطرًا، في كل سطر نحو 20 كلمة، وهي ناقصة من آخرها نحو اثنتي عشرة ورقة، تنتهي عند قوله: “يتناول مبدأ الخروج وغايته له وللأمة” (4/ 1603)، لذلك لم يُعرف ناسخها ولا تاريخ نسخها. وهي
(المقدمة/75)
-تقديرًا- نُسخت بعد (1200).
كُتب على ورقة الغلاف “كتاب بدائع الفوائد، تصنيف الشيخ العلامة ابن قيم الجوزية تغمده الله برحمته”.
وفي أعلى الصفحة كتب: “وقف عبد الرحمن بن محمد: بن عتيق ابن بسَّام” وتكرر ذلك عدة مرات، وعلى الغلاف أيضًا: “عارية للشيخ عبد الرحمن بن حسن”.
ومع قرب عهد النسخة إلا أنها قد تأثرت بالرطوبة فتآكلت أكثر ورقة العنوان والأطراف: السفلية للورقات الأولى.
وعلى جوانب النسخة الكثير من التعليقات والحواشي، أكثرها تلخيص وعناوين لمباحث الكتاب، وفيها بعض التصحيحات وعلامات المقابلة، والإلحاق ونحوها، وهي قريبة الشبه بنسخة (ظ)، الآنفة الذكر، فلعلها منسوخة منها، أو أن أصلهما واحد، وقد رمزنا لها بحرف (د)، وقد تفضَّل بتصوير النسخة الشيخ الوليد بن عبد الرحمن الفريان الأستاذ بجامعة الإمام بالرياض، جزاه الله خيرًا.
هذه هي النسخ الكاملة التي عرفناها، أما:
ب – النسخ الناقصة:
* 4 – نسخة الظاهرية الثانية (ع)
نسخة محفوظة في دار الكتب الظاهرية، ضمن مجموعة المكتبة العمرية برقم (2273)، وهي الجزء الثاني من الكتاب فقط.
عدد صفحاته (157 ق = 314 صفحة) في كل صفحة سبعة وعشرون سطرًا إلا في الصفحات العشر الأولى فإنَّ فيها واحدًا
(المقدمة/76)
وعشرين سطرًا، كُتِبَت بتاريخ 28 ربيع الأول، سنة ثلاث وتسعين وسبع مئة، على يد العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن علي بن موسى بن يحيى الحِمْصي (1) مولدًا الحنبلي مذهبًا -كما جاء في ختامها-.
فهي على هذا أقدم نسخة للكتاب وُجِدَت.
وهي -أيضًا- أجود نسخ الكتاب صحة، قليلة التحريف والسقط، وهي أصل يُرْكَنُ إليه ويُعَوَّل عليه في إثبات النص، فلو وُجدت كاملة؛ لاكتمل بها عَقْد التحقيق.
تبدأ النسخة بورقة العنوان، وقد كُتِب عليها “الجزء الثاني من بدائع الفوائد، تأليف ابن القيم -رحمه الله-“.
وكتب تحته: “وقف الشيخ شمس الدين ابن طولون، وجعل مقره بمدرسة أبي عمر بالصالحية”، وعلى الجانب الأيمن إثبات مطالعه لهذا الجزء سنة (جمع) أي: (933) بحساب الجُمَّل، من رجب بن سري الدين الأعلم المجاور بمدرسة أبي عمر، وتحته: مِن كُتب أبي الفضل محمد بن أحمد بن محمد بن. . . (2)، وتحته: الحمد لله، من كتب علي بن صالح الحنبلي لُطِف به.
والنسخة عليها تصحيحات، وبعض التعليقات المفيدة -على قلَّتها-، وقد اصطلح الناسخ على جَعْل كل عشر ورقاتٍ في جزء يُشير إليه في أركان الصفحات، فكانت ستة عشر جزءًا، والنسخة بحالة جيِّدة.
__________
(1) لم أجد من ترجمه.
(2) لم أتبينها.
(المقدمة/77)
وهي تبدأ بقوله “بسم الله الرحمن الرحيم، وبه الإعانة، فصل: ويندف شرّ الحاسد عن المحسود بعشرة أسباب … ” وهي في طبعتنا في: (2/ 764)، وتنتهي في (4/ 1658).
وقد اشتركت هى ونسخة القصيم (ق) باختلاف في ترتيب الفوائد عن نسخة (ظ) بدأ من (4/ 1327) استمر عدة صفحات ثم اتفقت النسخ، ثم عاد الاضطراب من (3/ 1430) واستمر أيضًا صفحات عديدة، ثم عادت النسخ إلى ترتيب واحد إلى آخر الكتاب.
وقد اعتمدناها ورمزنا لها بحرف (ع).
5 – نسخة في تركيا باستانبول، اسميخان سلطان 15، كتبت سنة 892 (1).
6 – نسخة بجامعة أم القرى رقم (1473)، في (291 ورقة)، وهي ناقصة الآخر، وفيها خروم في أثنائها، فلم يُعرف ناسخها ولا تاريخ نسخها، لكن: عليها وقفية بتاريخ (1212)، فلعلها من مخطوطات القرن الثاني عشر. وخطها واضح حسن.
7 – نسخة بجامعة أم القوى -أيضًا- برقم (1478)، في (233 ورقة،، ناقصة الآخر -أيضًا- تمثل أكثر من نصف الكتاب بقليل مجهولة التاريخ والناسخ، وعليها وقفية عبد العزيز العريفي، على طلبة العلم بتاريخ 10، صفر: سنة 1300.
8 – في دار الكتب المصرية نسخة رقم [2 م معارف عامة] في (207 ورقة)، وهي ناقصة. انظر “الفهرس الثانى”: (6/ 181).
__________
(1) انظر: “الفهرس الشامل – الفقه وأصوله “: (2/ 67).
(المقدمة/78)
9 – جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض رقم (976 ق) في (280 ورقة).
10 – وفي مكتبة الأوقاف بالموصل رقم (3/ 18 – موضوعات مختلفة) في (234 ورقة) كما في “الفهرس”: (2/ 80).
11 – وفي مكتبة الأوقاف ببغداد رقم (1/ 5674 مجاميع) في (191 ورقة) كتبت سنة (1303) بخط محمد بن علي النجفي، كما في “الفهرس”: (4/ 361).
12 – مكتبة الأوقاف ببغداد رقم (7148)، في (210 ورقة)، دون تاريخ وهي تمثل الجزء الثاني من الكتاب من قوله: “فصل، ويندفع شر الحاسد بعشرة أسباب … “. انظر “الفهرس”: (2/ 320).
13 – وفي المكتبة القادرية ببغداد رقم (516) نسخة بخط محمد بن علي بن الملاّ أحمد تاريخها سنة 1308، في (309 ورقة)، انظر “فهرس المكتبة”: (2/ 341).
14 – نسخة في القصيم -بريدة، بخط سليمان بن صالح بن دخيل كتبها سنة (1314)، فى (411 صفحة)، وعليها ختم بتملُّك فوزان السابق. اطلعتُ عليها في مكتبة الملك فهد بالرياض (مخطوطات القصيم – بريدة – 8 ب).
وهناك قطع من الكتاب، هي أقرب إلى الانتقاء والانتخاب، ذكرناها عند الكلام على مختصرات الكتاب.
(المقدمة/79)
* منهج العمل في الكتاب
لا ريبَ أن العمل في كتاب ذي وحدة موضوعية في علمٍ ما، كالفقه أو الحديث أو غيرها أسهل للباحث من تحقيق كتاب يجمع فنونًا شتَّى، بأقلام مختلفة -شأن هذا الكتاب- كما سَبَق شرحُه.
ولاشك أن ركن التحقيق الرَّكيْن للخروج بنصٍّ صحيح هو وجود النُّسَخ القَلَميَّة الصحيحة الموثوق بها، وذلك ما لم يتحقق في نصفِ الكتاب الأول -على الأقل- وهو الموضع الذي كُنَّا بأمسِّ الحاجة فيه إلى نُسَخٍ كالتي وصفنا، لكن من حسن الحظِّ أن: هذا الخلل قد استدركنا كًثيرًا منه بواسطة الكتاب الذي نقل منه المؤلِّف واعتمدَه فى أكثر الفوائد المتعلقة بالعربية في المجلَّد الأول وبعض الثاني من “البدائع”، وهو كتاب “نتائج الفِكْر” للعلامة أبي القاسم السُّهيلي (581). (وانظر ما سبق ص/ 56 وما بعدها).
فقابلنا جميع النصوص المنقولة منه بكتابنا، واتخذناه نسخةً أُخرى معتمدة في التصحيح وإقامة النصِّ، فاستفدنا منه في مواضع كثيرة تربو على الثلاثين (1)، واستدركنا في بعض المواضع عبارةً كاملة أو سطرًا بتمامه (2).
__________
(1) انظر (1/ 144، 158، 160، 164، 169، 217، 230 … و 2/ 401، 412، 481 – 484، 495، 505 وغيرها).
(2) كما في (2/ 524، 557).
(المقدمة/80)
وهذا الأمر لم يَصْفُ لنا كما أردناه أن يكون فبقيت بعض المواضع لا تخلو من إشكال أشرنا إليها في الحواشي؛ إذ نُسَخُ كتاب “نتائج الفكر” كانت هي الأخرى مشحونة بالأخطاء والسقط، لكن اجتهاد محققه الأستاذ محمد إبراهيم البنَّا في تصحيحه أقام كثيرًا من أَوَدِه، واستفدنا في عملنا كثيرًا من تصحيحاته وتعليقاته، وصرّحنا بذلك مرارًا، واستفاد هو في التصحيح من كتاب “البدائع” كما يلاحظ في كثيرٍ من تعليقاته -وإن فاتته مواضع أخرى-.
كما استفدنا -أيضًا- في تصحيح الكتاب من المصادر الأخرى التي نقل عنها المؤلف، خاصة تلك التي نقل منها نصوصًا مطوّلة، كرسائل شيخه ابن تيمية، وكتاب “المدهش” لابن الجوزي، ومسائل الإمام أحمد، و”الفروق” للقرافي.
أما النسخ الخطية، فقد اعتمدنا منها النسخ ذوات الرموز (ظ، ق، ع، د)، أما (ظ وق) فكاملتان، و (د) مع كونها شبه كاملة إلا أننا لم نقابلها إلا بالنصف الأول من الكتاب؛ لأنا استغنينا عنها بنسخة (ع) إذ هي تمثل نصف الكتاب الثاني (1)، وهي أجود النسخ وأقدمها كما مرّ.
وقد استفدنا من مصادر الكتاب ومن هذه النسخ جميعًا لإثبات النصّ، وإن كُنَّا قد عوَّلنا في نصفه الأخير كثيرًا على نسخة (ع)، وأثبتنا الفروق المهمة في هوامش الكتاب، وقيَّدنا طائفة من التصحيفات والأخطاء للدلالة على ما لم نثبته من جنسها.
__________
(1) تبدأ من (2/ 764) وهو أول الجزء الثاني من النسخة.
(المقدمة/81)
أما ترتيب الكتاب، فإنه يسير على نَسَق وأحد في جميع النسخ حتى (4/ 1327) إذ: يبدأ اختلاف في ترتيب (ق وع) ويستمر عدة صفحات، ثم يبدأ اختلاف آخر من (4/ 1430) ويستمر صفحات أخر. وقد اعتمدنا ترتيب نسخة (ظ) الموافق للمطبوعات إلا في موضع أو اثنين اقتضاهما السياق وتسلسل النص، وتركنا الكتاب كما كان -أوَّلَ ما طُبع -في أربعة أجزاء، كل جزء في مجلد مستقل، ختمنا كلَّ جزءٍ بفهرس موضوعي.
وقد بيَّنَّا عند الكلام على النسخ أن نسخة (ق) تنتهي في (4/ 1652)، ونسخة (ع) في (4/ 1658)، أما (ظ) فإنها أتم النسخ وتنتهي في (4/ 11663) وقال ختامها: “فرغت الفوائد”، ثم يبدأ منتخب جديد أثبتناه، وآخر لم نثبته (1).
كما استفدنا من الطبعة المنيرية في تصحيح النص في مواضع، انظر: (1/ 352 و 2/ 417، 435، 484، 496، 515، – 612، 620، 672، 730 و 3/ 883).
هذا مجمل ما قمنا به لخدمة نص هذا الكتاب، إضافة إلى ما تَسْتَتْبِعُه مهمة التحقيق؛ من عزو النصوص وتوثيقها، وتخريج الأحاديث، وضبط النص وتقسيمه، وصنع الفهارس الكاشفة، وغير ذلك مما شرحناه غير: مرة في غير ما كتاب.
والحمد لله حقَّ حمده.
__________
(1) انظر شرح ذلك (ص/ 72 – 73).
(المقدمة/82)
صفحة العنوان من نسخة الظاهرية (ظ) ويظهر عليها بعض التملكات
(المقدمة/83)
الورقة الأولى من نسخة (ظ) ويظهر فيها تعليق طويل
(المقدمة/84)
الورقة الأخيرة من نسخة (ظ)
(المقدمة/85)
المنتخب الذي تفرّدت به نسخة (ظ)
(المقدمة/86)
صفحة العنوان من نسخة التصميم (ق) ويظهر عليها كثير من التملكات
(المقدمة/87)
الورقة الأولى من نسخة (ق)
(المقدمة/88)
الورقة قبل الأخيرة من نسخة (ق)
(المقدمة/89)
الورقة الأخيرة من نسخة (ق)
(المقدمة/90)
صفحة العنوان من نسخة الظاهرية (ع)
(المقدمة/91)
الورقة الأولى من نسخة (ع)
(المقدمة/92)
الورقة قبل الأخيرة من نسخة (ع)
(المقدمة/93)
الورقة الأخيرة من نسخة (ع)
(المقدمة/94)
صفحة العنوان من النسخة النجدية (د)
(المقدمة/95)
الورقة الأولى من نسخة (د)
(المقدمة/96)
الورقة قبل الأخيرة من الموجود من نسخة (د)
(المقدمة/97)
آخر الموجود من نسخة (د)
(المقدمة/98)
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم (1)
قال الشيخ الإمام العالم العلامة الأوحد البارع، أوحد الفضلاء، وقدوة العلماء، وارث الأنبياء، شيخ الإسلام، مفتي الأنام، المجتهد المفسِّر ترجمان القرآن، ذو الفوائد الحِسان، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر، المعروف بابن قيّم الجوزية تغمّده ألله برحمته (2).
الحمد لله، ولا قوة إلا بالله (3)، هذه فوائد مختلفة الأنواع.
فائدة حقوق المالك شيء، وحقوق الملك شيء آخر (4)؛ فحقوق المالك تجب لمن له على أخيه حق، وحقوق الملك تتبع الملك، ولا يُراعَى بها المالك، وعلى هذا حق الشفعة للذمَى على المسلم؛ من أوجبه جعله من حقوق الأملاك، ومن أسقطه جعله من حقوق المالكين.
والنظر الثاني أظهر وأصحُّ؛ لأن الشارع لم يجعل للذمِّى حقًّا في
__________
(1) التصلية من (ق)، وفىِ (د) بعد البسملة: “ربّ يسِّر ولا تعسِّر يا كريم آمين”.
(2) من “قال الشيخ. . . ” إلى هنا ليست في (ق)، وآخر العبارة في (ظ): “رحمه الله وأدخله الجنة آمين”.
(3) ليست في (ق).
(4) “آخر” سقطت من (ق).
(1/3)
الطريق المشترك عند المزاحمة فقال: “إذَا لَقِيتُمُوهُمْ في طَرِيقٍ فَاضْطَرَّوهُمْ إِلى أَضْيَقِهِ” (1) فكيف يجعل له حقًّا في انتزاع الملك المختصِّ به (2) عند التزاحم؟! وهذه حجة الإمام أحمد نفسه.
وأما حديث “لَا شُفْعَةَ لِنَصْرَانيٍّ” (3) فاحتجَّ به بعض أصحابه، وهو أعلم من أَنْ يحتج به، فإنه من كلام بعض التابعين.
فائدة (4)
تمليك المنفعة شيء، ومليك الانتفاع شيء آخر (5)، فالأول
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (2167) وغيره، من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – وللحديث قصة عند أبي داود: (5/ 384).
(2) “به” سقطت من (ق).
(3) أخرجه الطبراني في “الصغير”: (1/ 206)، وابن عدي في “الكامل”: (7/ 56)، والبيهقي في “الكبري”: (6/ 108) وغيرهم.
من طريق نائل الحَنَفي عن الثوري عن حُميد عن أنسٍ – رضي الله عنه -. قال ابنُ عدي: “وأحاديثه -أي نائل- مُظلمة جدًّا، وخاصًّة إذا روى عن الثوري” اهـ.
(4) قارن بـ “الفروق”: (1/ 187) للقرافي.
(5) في هامش (ظ) تعليق مطول نثبتُ ما اتضحَ منه: “قد يقال: إن هذا الكلام غير ظاهر، وما ذاك إلا لأنَّ الانتفاع مصدر، وهو عبارة عن ملابَسَة المتعيّن بالانتفاع بها، وإذا كان كذلك؛ فما فائدة ملكه له بعل وجوده وصدوره منه؟
لا يقال: فائدته أنَّه لا يأثم إن قلنا بملكه له وإلا أَثِم، لأنا نقول: هذا يقتضي أن القدوم على الانتفاع حرام؛ لأنَّه لم يملك إلا الانتفاع، وهو لم يوجد، فقد أدَّى تمليكه له إلى المنع من حصوله، وليس هذا في تمليك المنفعة، على أن تمليك المنفعة فيها بقي له، ثم أيضًا: فما الملجئ إلى هذا الكلام.
الثاني: أن الانتفاع فعل للمنتفع، وصاحب العلم لم يملكهـ حتى يملّكهـ إيَّاه.
الثالث: أن هذا لا يُنجي من القول بجواز إجارة العين المعارة، لجواز أن يملك ما ملكه من غيره لغيره. فإن قلتم: المالك لم يرض بهذا. قلنا: قولوا: =
(1/4)
يملك به الانتفاعَ والمعاوضةَ، والثاني يملك به الانتفاعَ دون المعاوضة، وعليها إجارة (1) ما استأجره، لأنَّه ملك المنفعة بخلاف المعارضة على البُضْع، فإنه لم يَمْلِكْه، وإنما ملك أن ينتفع به.
وكذلك إجارة ما ملك أن ينتفع به من الحقوق؛ كالجلوس بالرِّحاب، وبيوت المدارس والرُّبط ونحو ذلك (2) لا يملكها؛ لأنَّه لم يملك المنفعة وإنما ملكَ الانتفاعَ، وعلى هذا الخلاف تَخَرَّج إجارة المستعار، فمن منعها كالشافعي وأحمد ومن تبعهما قال لم يملك المنفعة، وإنما ملك الانتفاع ومَن جوَّزها كمالك ومن تَبِعه قال هو قد ملك المنفعة ولهذا يلزم عنده بالتوقيت، ولو أطلقها لزمت في مدة ينتفع بمثلها عرفًا فليس له الرجوع قبلها.
فائدة
قولهم: “إذا كان للحكم سببان، جاز تقديمه على أحدهما”؛ ليس بجيد، وفي العبارة تسامح، والحكمُ لا يتقدم سببَه، بل الأَوْلَى أن يقال: إذا كان للحكم سبب وشرط، جاز تقديمه على شرطه دون سببه، وأما تقديمه عليهما أو على سببه فممتنع، ولعل النزاعَ لفظيٌّ، فإن شرط الحكم من جملة أسبابه المعتبرة في ثبوته، فلو قدمت
__________
= المالك ملك المنفعة ولم يستحق بهذا الملك أن يعطيها لغيره، ولا بُعد في هذا، كالهبة في القبض، يملكلها الموهوب له، ولا يملك إجارتها لغيره. وكالمكيل والموزون قبل قبضه. بخلاف المؤجرة فإنه لما ملك المؤجّر العِوض كأنه أذن في [ … ] كالمنفعة لأي أحد كان بشرطه.
الرابع أنهم قالوا: إن الموقوف عليه يملك الوقف، ولم يقولوا الانتفاع.
(1) في (د): “وعليها إجارة إيجار”.
(2) “ونحو ذلك” ليست في (ق).
(1/5)
الظهر -مثلًا- على الزوال، والجَلْدَ على الشرب والزنا، لم يجز (1) اتفاقًا.
وأما إذا كان له سبب وشرط؛ فله ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يتقدم عليهما؛ فلغو.
والثاني: أن يتأخر عنهما، فمعتبر صحيح.
الثالث: أن يتوسَّط بينهما؛ وهو مثار الخلاف.
وله صور:
أحدها: كفَّارة اليمين سببها الحلف، وشرطها الحنث، فمن جوز توسطها؛ راعَى التأخُّر عن السبب، ومن منعه؛ رأى أنَّ الشرط جزء من السبب.
الثانية: وجوب الزكاة سببه النصاب وشرطه الحول، ومأخَذُ الجواز وعدمه ما ذكرناه.
الثالثة: لو كفَّر قبل الجرح؛ كان لغوًا، وبعد القتل معتبر، وبينهما مختلف فيه.
الرابعة: لو عفا عن القصاص قبل الجرح؛ فلغو، وبعد الموت؛ عفو الوارث معتبر، وبينهما ينفد أيضًا.
الخامسة: إذا أخرج زكاة الحَبِّ قبل خروجه؛ لا يجزئ، وبعد يُبْسه؛ يعتبر، وبين نُضْجه ويُبسه كذلك.
السادسة: إذا أَذِن الورثةُ في التصرف فيما زاد على الثلث قبل
__________
(1) (ق): “يصح”.
(1/6)
المرِض، فلغو، وإجارتهم بعد الموت معتبرة، وإذنُهم بعد المرض مختلَف فيه، فأحمد لا يعتبره ” لأنَّه إجازةٌ من غير مالك، ومالكٌ يعتبره، وقوله أظهر.
السابعة: إذا أسقطا الخيار قبل التبايع؛ ففيه خلاف، فمن منعه نظر إلى تَقَدُّمه على السبب، ومن أجازه -وهو الصحيح- قال: الفرق بينهما أنَّهما قد عقدا العقدَ على هذا الوجه، فلم يتقدم هنا الحكم على سببه أصلًا فإنه لم يثبت، وسقط بعد ثبوته، وقبل سببه، بل تبايعا على عدم ثبوته، وكأنَّه حق لهما رضيا بإسقاطه وعدم انعقاده، وتجردَ السببُ عن اقتضائه. فمن جعل هذه المسألة من هذه القاعدة، فقد فاته الصواب.
ونظيرها سواء: إسقاط الشفعة قبل البيع، فمن لم يرَ سقوطَها، قال: هو تقديمٌ للحكم على سببه، وليس بصحيح، بل هو إسقاط لحقٍ كان بمعرض (1) الثبوت، فلو أن الشفعة ثبتت، ثم سقطت قبل البيع، لزم ما ذكرتم، ولكن صاحبها رضي بإسقاطها، وأن لا يكون البيع سببًا لأخذه بها، فالحقّ له، وقد أسقطه.
وقد دل النصُّ على سقوط الخيار والشُّفعة قبل البيع، وصار (2) هذا كما لو أذن له في إتلاف ماله، وأسقط الضمان عنه قبل الإتلاف، فإنه لا يضمنه اتفاقًا، فهذا مُوْجَب النصِّ والقياس، وأما إذا أسقطت المرأةُ حقَّها من النفقة، والقَسْم؛ فلها الرجوع فيه، ولا يسقط؛ لأنَّ الطِّباع لا تصبر على ذلك، ولا تستمر عليه، لتجدد اقتضائها له كل
__________
(1) (د): “إسقاط الحق كان يعرض”.
(2) (ق): “وقد صار”.
(1/7)
وقت، بخلاف إسقاط الحقوق الثابتة دفعة؛ كالشفعة، والخيار، ونحوهما، فإنها قد توطن النفس على إسقاطها، وأسبابُها (1) تتجدد، فافهمه.
فائدة (2)
الفرق بين الشهادة: والرواية: أنَّ الرواية يعم حكمها الراوي وغيره على ممر الأزمان، والشهادة تخص المشهود عليه وله، ولا يتعداهما إلَّا بطريق التبعيّة المحضة.
فإلزام المعين يتوقع منه: العداوة، وحق (3) المنفعة، والتهمة الموجبة للرد، فاحْتِيط لها بالعدد والذكورية. ورُدَّت بالقرابة، والعداوة، وتطرق التهم. ولم يفعل (4) مثل هذا في الرواية التي يعمُّ حكمها ولا يَخُصُّ، فلم يُشترط فيها عدد ولا ذكورية، بل اشترط فيها ما يكون مغلبًا على الظن صدق المخبر، وهو العدالة المانعة من الكذب، واليقظة المانعة من غلبة السّهو (5) والتخليط.
ولما كان النساء ناقصات عقلٍ ودين لم يكنَّ من أهل الشهادة، فإذا دعت الحاجة إلى ذلك، قُوِّيَت (6) المرأة بمثلها، لأنَّه حينئذ أبعد من سهوها وغلطها لتذكير صاحبتها لها (7).
__________
(1) (ظ ود): “وأشباهها”!.
(2) انظر: “الفروق”: (1/ 4 – 15).
(3) (ق): “وجد”!.
(4) (ق) “ويبعد”، و (د): “ويفعل” وهو سهو.
(5) (د) و (ظ): “الشهوة” والمثبت من (ق).
(6) (ق): “قُرِنت”.
(7) انظر في شهادة النساء: “التقريب لعلوم ابن القيم”: (ص/ 402).
(1/8)
وأما اشتراط الحرية ففي غاية البعد، ولا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع (1)، وقد حكى أحمد عن أنس بن مالك، أنَّه قال: “ما علمتُ أحدًا رد شهادة العبد” (2)، والله تعالى يقبل شهادته على الأمم يوم القيامة، فكيف لا يقبل شهادته على نظيره من المكلفين! ويقبل شهادته على الرسول – صلى الله عليه وسلم – في الرواية، فكيف لا يقبل شهادته (3) على رجل في درهم! ولا ينتقض هذا بالمرأة، لأنَّها تقبل (4) شهادتها مع مثلها لما ذكرناه، والمانع من قبول شهادتها وحدها منتفٍ في العبد.
وعلى هذه القاعدة مسائل:
أحدها: الإخبار عن رؤية هلال رمضان، من اكتفى فيه بالواحد؛ جعله روايةً لعمومه للمكلفين، فهو كالأذان، ومن اشترط فيه العدد ألحقه بالشهادة، لأنَّه لا يعمّ الأعصار ولا الأمصار، بل يخص تلك السنة وذلك المصر في أحد القولين، وهذا ينتقض بالأذان نقضًا لا محيص منه.
وثانيهما: الإخبار بالنسب بالقافة (5)، فمن حيث إنَّه خبر جزئي عن شخص جزئي، يخص (6) ولا يعم، جري مجري الشهادة، ومن
__________
(1) انظر “التقريب”: (ص 403).
(2) ذكره المصنّف في “الطرق الحكمية”: (ص / 166)، وابن قدامه في “المغني”: (14/ 185)، وأسند ابن أبي شيبه في “المصنف”: (4/ 292) إلي أنسٍ جواز شهادة العبد. ثم ساق أقوال المانعين.
(3) من (ق).
(4) (5): (مثل).
(5) (ق): “في القيافة”، و (د): “بالقافية”!.
(6) “جزئي يخص” سقطت من (ق).
(1/9)
جعله كالرواية غَلِط، فلا مدخل لها هنا، بل الصواب أن يقال: من حيث: هو منتصب للناس انتصابًا عامًّا، يستند قوله إلى أمرٍ يختص به دونهم من الأدلة والعلامات؛ جرى مجرى الحاكم، فقوله حُكم لا رواية (1).
ومن هذا الجرح للمحدِّث والشاهد؛ هل يُكتفى فيه بواحد، إجراءً له مجرى الحكم، أو لابد فيه (2) من اثنين، إجراءً له مجرى الشهادة؟ على الخلاف، وأما أن يجري مجرى الرواية؛ فغير صحيح، وما للروايةِ والجرحِ! وإنَّما هو (3) يجرحُه باجتهادِه لا بما يرويه عن غيره.
ومنها: الترجمة للفتوى والخط والشهادة وغيرها (4)، هل يشترط فيها التعدد؟ مبنيٌّ علي هذا، ولكن بناؤه علي الرواية والشهادة صحيح، ولا مَدْخَل للحكم هنا.
ومنها: التقويم للسِّلَع، من اشترط فيه (5) العدد رآه شهادة، ومن لم يشترطه؛ أجراه مجرى الحكم لا الرواية.
ومنها: القاسم، هل يُشترط تعدّده على هذه القاعدة؟ والصحيح الاكتفاء بالواحد؛ لقصة عبد الله بن روّاحة (6).
__________
(1) انظر “التقريب لعلوم ابن القيم”: (ص/ 396).
(2) من (ق).
(3) العبارة في (ق): “وأما الرواية وللجرح وهو إما أن”!. و (د): “وأما الرواية والجرح” والمثبت من (ظ).
(4) “وغيرها” ليست في (د).
(5) من (ق).
(6) يعنى لما كان خارصًا بين اليهود والمسلمين بخيبر، انظر “السيرة النبوية”: (2/ 354) لابن هشام، “والطبقات الكبرى”: (3/ 526) مرسلًا، وللقصة سياقات مختلفة انظر “سير النبلاء”: (1/ 237).
(1/10)
ومنها: تسبيح المصلّي بالإمام هل يُشترط أن يكون المسبِّح اثنين؟ فيه قولان مبنيان على هذه القاعدة.
ومنها: الخبر عن نجاسة الماء، هل يُشترط تعدده؟ فيه قولان.
ومنها: الخارص، والصحيح في هذ كلِّه الاكتفاء بالواحد، كالمؤذن وكالمخبر بالقبلة.
وأما تسبيح المأموم بإمامه؛ ففيه نظر.
ومنها: المفتي يقبل واحد (1) اتفاقًا.
ومنها: الإخبار عن قدم العيب وحدوثه عند التنازع، والصحيح الاكتفاء فيه بالواحد، كالتقويم والقائف. وقالت المالكية: لابد من اثنين، ثم تناقضوا فقالوا: إذا لم يوجد مسلم قُبل من أهل الذمة.
فائدة
إذا كان المؤذن يُقبل قوله وحده، مع أن لكل قوم فجرًا وزوالًا وعروبًا يخصهم؛ فأن (2) يقبل قول الواحد في هلال رمضان أولى وأحرى.
فائدة
يُقبل قول الصبي والكافر والمرأة في الهدية والاستئذان، وعليه عمل الأمة قديمًا وحديثًا، وذلك لِمَا احتفَّ بأخبارهم من القرائن التي تكاد تصل إلى حد القطع في كثير من الصور، مع عموم
__________
(1) (د) و (ق): “وحدًا”.
(2) (ظ): “فلأن”.
(1/11)
البلوى بذلك، وعموم الحاجة إليه. فلو أن الرجل لا يدخل بيت الرجل، ولا يقبل هديته إلا بشاهدين عدلين يشهدان بذلك، حَرِجت الأمةُ، وهذا تقرير صحيح، لكن ينبغي طَرْدُه وإلا وقع التناقض، كما إذا اختلفا في متاع البيت؛ فإن القرائن التي تكاد تبلغ القطع، تشهد بصحة دعوى الرجل لما هو من شأنه، والمرأة لما يليق بها، ولهذا قبله الأكثرون، وعليه تُخَرَّج حكومة سليمان بين المرأتين في الولد (1)، وهي محض الفقه.
وقد حكى ابنُ حزم في “مراتب الإجماع” (2): إجماعَ الأمة على قبول قول المرأة الواحدة في إهداء الزوجة لزوجها ليلة العوس، وهو كما ذَكَر، وقد اجتمع في هذه الصورة من قرائن الأحوال؛ من اجتماع الأهل والقرابات، ونُدْرة التدليس والغلط في ذلك، مع شهرته وعدم المسامحة فيه، ودعوى ضرورات الناس إلى ذلك، ما أوجب قبول قولها.
فائدة (3)
قبول قول القَصَّاب (4) في الذكاة ليس من هذا الباب بشيءٍ، بل هو من قاعدة أخرى، وهي أن الإنسان مؤتمن على ما بيده، وعلى ما يخبر به عنه (5).
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (3427)، ومسلم رقم (1720) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(2) (ص / 65).
(3) انظر لهذه الفائدة والتى بعدها: “الفروق”: (1/ 15، 17).
(4) هو: الجزَّار.
(5) انظر “التقريب”: (ص/ 403).
(1/12)
فإذا قال الكافر: هذه ابنتي، جاز للمسلم أن يتزوجها، وكذا إذا قال: هذا مالي، جاز شراؤه وأكله. فإذا قال: هذا ذكَّيته جازَ أكله.
فكل أَحدٍ مؤتمن على ما يخبر به مما هو في يده، فلا يُشترط هنا عدالة ولا عدد.
فائدة
الخبر إن كان عن حكم عام يتعلق بالأُمة؛ فإما أن يكون مستنده السماع؛ فهو الرواية، وإن كان مستنده الفهم من المسموع، فهو الفتوى، وإن كان خبرًا جزئيًا يتعلَّق بمعيَّن (1)، مستندُه المشاهدة أو العلم؛ فهو الشهادة، وإن كان خبرًا عن حقٍّ يتعلق بالمخبِر عنه، والمخبَرُ به هو مستمعه (2) أو نائبه؛ فهو الدعوى؛ وإن كان خبرًا عن تصديق هذا الخبر؛ فهو الإقرار، وإن كان خبرًا عن كذبه؛ فهو الإنكار، وإن كان خبرًا نشأ عن دليل؛ فهو النتيجة، وتسمى قبل أن يحصل عليها (3) الدليل: مطلوبًا، وإن كان خبرًا عن شيءٍ يقصد منه نتيجته؛ فهو دليل، وجزؤه مقدِّمة.
فائدة (4)
“شهد” في لسانهم لها معانٍ:
أحدها: الحضور ومنه قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة 185] وفيه قولان: أحدهما: من شهد المصر في الشهر.
__________
(1) (ظ ود): “بمعنى”.
(2) (ق): “هو المستحق له”.
(3) (ق): “عليه”.
(4) انظر: “الفروق”: (1/ 17).
(1/13)
والثانى: من شهد الشهر في المصر، وهما متلازمان:
والثاني: الخبر، ومنه: “شهد عندي رجال مَرْضيُّون، وأرضاهم عندي عمر: “أَنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – نهى عن الصلاةِ بَعْد العصرِ وبَعْد الصُّبْح”” (1).
والثالث: الاطلاع على الشيء. ومنه: {وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيْدٌ} [المجادلة: 6].
وإذا كان كل خبرٍ شهادة، فليس مع من اشترط لفظ الشهادة فيها دليل على كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح (2).
وعن أحمد فيها ثلاث روايات: إحداهن: اشتراط لفظ الشهادة، والثانية: الاكتفاء بمجرد الإخبار، اختارها شيخنا (3) -والثالثة: الفرق بين الشهادة على الأقوال وبين الشهادة على الأفعال.
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (581)، ومسلم رقم (826) من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما -.
وهنا في حاشية (ظ) تعليق نصُّه: “يتبيّن بهذا أن الشهادة أهم من الخبر مطلقًا؛ إذ كل خبر شهادة ولا عكس إذ يقال فيه: شهادة، والحضور يقال فيه شهد، ولا يقال فيهما خبر. ومن الفائدة [] أن الخبر أعم من الشهادة مطلقًا؛ لأن النتيجة والفتوى والدعوى والرواية يقال لها: إنها أخبار لا شهادات.
ثم ظاهر كلام الشيخ أن قول الخارص والمخبر بنجاسة الماء والقاسم و .. ، والمخبر عن قدم العيب وحدوثه والقائف والجارح للمحدّث، بل والمؤذن والمسبح بالإمام شهادة اصطلاحًا، فتأمله، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(2) انظر “التقريب”: (ص / 397).
(3) أي: شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – وهو المراد إذا أطلقه المؤلف: وستأتي هذه المسألة عند المؤلف بأبسط مما هنا، وهناك الإشارة إلى كلام شيخ الإسلام فيها. (4/ 1370 – 1372).
(1/14)
فالشهادة على الأقوال لا يُشترط فيها لفظ الشهادة، وعلى الأفعال يُشترط؛ لأنَّه إذا قال: سمعته يقول، فهو بمنزلة الشاهد على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيما يخبر عنه.
فائدة (1)
اختلف أبو المعالي (2) وابن الباقلاني (3) في قولهم في حدِّ الخبر: إنه الَّذي يحتمل التصديق والتكذيب.
فقال أبو المعالي: يتعين أن يقال: يحتمل الصدق أو الكذب لأنهما ضدان، فلا يقبل إلا أحدهما.
وقال القاضي: بل يقال: يحتمل الصدق والكذب (4)، وقوله أرجح، إذ التنافي إنما هو بين المقبولين، لا بين القبولين، ولا يلزم من تنافي المقبولات تنافي القبولات (5).
__________
(1) انظر: “الفروق”: (1/ 19 – 20).
(2) هو: عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني، إمام الحرمين ت (478). “السير”: (18/ 468).
(3) هو: محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر، أبو بكر البصري (403). “السير”: (17/ 190). والباقلاني في ضبطها وجهان، بتشديد اللام وتخفيفها.
(4) الظاهر أن المؤلِّف قد وهم في نسبة الأقوال -تبعًا للقرافي-، فالذي أختاره القاضي الباقلاني هو ما نسبَه لأبي المعالي الجويني.
انظر: “البرهان”: (1/ 565) للجويني، و”شرح اللمع”: (2/ 567) للشيرازي، و”البحر المحيط”: (4/ 217).
(5) في حاشية: (ظ) هنا تعليق نصُّه:
“قد يقال: وبين المقبولين أيضًا في [] وأنه يلزم من تنافي المقبولات
تنافي القبولات. ولا يرد الممكن؛ لأنَّه في زمن فيه الوجود لا يقبل العدم وإلا لاجتمع الوجود والعدم في زمن واحد وهو محال، وإنما ساغ أن يقال فيه: إنه =
(1/15)
ولهذا يقال: الممكن يقبل الوجود والعدم، وهما متناقضان، والقبولان يجب اجتماعهما له لذاته؛ لأنَّه لو وُجد أحد القبولين دون الآخر لم يكن ممكنًا، فإنه لو لم يقبل الوجود كان مستحيلًا، ولو لم يقبل العدم كان واجبًا، فلا يتصور الإمكان إلا باجتماع القبولين، وإن تنافى المقبولان، وكذلك نقول: الجسم يقبل الأضداد، فقبولاتها مجتمعة، والمقبولات متنافية.
فائدة
اختلف في الإنشاءات التي صِيَغها أخبار: كـ “بِعْتُ وأَعْتَقت”، فقالت الحنفية: هي أخبار، وقالت الحنابلة والشافعية: هي إنشاءات لا أخبار لوجوه:
أحدها: لو كانت خبرًا لكانت كذبًا؛ لأنَّه لم يتقدم منه مخبره من البيع والعتق، وليست خبرًا عن مستقبل، وفي هذا الدليل شيء؛ لأنَّ
__________
= يقبل الوجود والعدم باعتبار أنَّه يجوز أن يطرأ عليه العدم إذا كان موجودًا، كما يجوز أن يطرأ عليه الوجود إذا كان معدومًا، وليس هذا في الخبر؛ لأنَّه إذا اتصف بالصدق لا يقبل بعده الكذب، وإذا اتصف بالكذب لا يقبل بعده الصدق، فظهر أن بين قبوله للصدق، والكذب تنافٍ، إلا أنَّه لا يجوز أن يجتمعا فيه أصلًا بخلاف الوجود والعدم، فإنهما يجتمعان في شيءٍ واحد باعتبار الزمان.
فظهر أن قبول الخبر للصدق والكذب إنما هو بطريق البدلية، وما هو كذلك يتعيّن فيه “أو”، والله سبحانه وتعالى أعلم”.
ثم كتب بعده بخط مغاير تعليقًا عليه: “والحق أن العبارتين صحيحتان علي سواء؛ لأنَّ الخبر لا يجتمع فيه الصدق والكذب في معناه ويجتمعان في لفظه في قبوله لأنَّ تستعمل صداقًا ولأن تستعمل كذبًا، وقد استعملوا مثل هاتين العبارتين في الكلمة، فتارة يقولون: “اسم أو فعل أو حرف” وتارة يقولون: “اسم وفعل وحرف” والوجه في صحة ذلك ما ذُكر.
(1/16)
لهم أن يقولوا: إنها إخبارات عن الحال، فخبرها مقارن للتكلم بها.
الثاني: لو كانت خبرًا فإما صدقًا وإما كذبًا، وكلاهما ممتنع، أما الثاني؛ فظاهر، وأما الأول؛ فلأنّ صدقها متوقّف على تقدم أحكامها، فأحكامها إما أن تتوقف عليها، فيلزم (1) الدور، أو لا يتوقف، وذلك محال؛ لأنَّه لا توجد أحكامها بدونها.
ولقائل أن يقول: هو دور مَعِيَّةٍ لا تَقَدُّم، فليس بممتنع.
وثالثها: أَنَّها لو كانت إخبارات؛ فإما عن الماضي أو الحال، ويمتنع مع ذلك تعليقها بالشرط؛ لأنَّه لا يعمل إلا في مستقبل.
وإما عن مستقبل، وهي محال؛ لأنَّه يلزم تجردها عن أحكامها في الحال، كما لو صرح بذلك، وقال: ستصيرين طالقًا.
ولقائل أن يقول: ما المانع أن يكون خبرًا عن الحال قولكم: يمتنعُ تعليقها بالشرط؟
قلنا: إذا عُلِّقت بالشرط لم (2) تبق إخبارًا عن الحال، بل إخبارًا عن المستقبل، فالخبر عن الحال الإنشاء المطلق، وأما المعلق فلا.
ورابعها: أنَّه لو قال لمطلقةٍ رجعيَّة: أنت طالق، لزمه طلقة أخرى؛ مع أن خبره صدق. فلما لزمه أخرى دل على أنهما إنشاء.
ولقائل أن يقول: لما قلنا: هي خبر عن الحال، بَطل هذا الإلزام.
وخامسها: أنّ امتثال قوله تعالى {فَطَلَقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]__________
(1) (ظ ود): “فلزم”.
(2) (د): “فلم”.
(1/17)
أن يقول: “أنت طالق”، وليس هذا تحريمًا، فإنّ التحريم والتحليل ليس إلى المكلف، وإنَّما إليه أسبابهما، وليس المراد بالأمر: أخبروا عن طلاقهنَّ، وإنما المراد إنشاء أمر يترتب عليه تحريمهن، ولا نعني بالإنشاء إلا ذلك.
ولقائل أن يقول: المأمور به هو السبب الَّذي يترتب عليه الطلاق.
فهنا ثلاثة أمور: الأمر بالتطليق، وفعل المأمور به وهو: التطليق. والطلاق وهو: التحريم الناشئ عن السبب. فإذا أتى بالخبر عما في نفسه من التطليق فقد وفَّى الأمرَ حقه وطلقت.
وسادسها: أنَّ الإنشاء هو المتبادر إلى الفهم عرفًا. وهو دليل الحقيقة، ولهذا لا يحسن أن يقال فيه: صدقى أو كذب، ولو كان خبرًا لحسن (1) فيه أحدهما.
وقد أجيب عن هذه الأدلة بأجوبة أُخَر:
فأجيب عن الأول: بأنَّ الشرع قدَّر تقدم مدلولات هذه الأخبار قبل التكلم بها بالزمن الفرد، ضرورة الصدق (2)، والتقديرُ أولى من النقل.
وعن الثاني: أن الدور غير لازم، فإنّ هنا ثلاثة أمور مترتبة (3): فالنطق باللفظ لا يتوقف علي شيء، وبَعْده تقدير تقدم المدلول على اللفظ، وهو غير متوقف عليه في التقدير، وإن توقف عليه في الوجود،
__________
(1) (د): “يحسن”.
(2) كذا في (ظ وق)، وفي (د): “بالزمن بالفرد بضرورة”.
(3) (ق ود): “مرتبة”.
(1/18)
وبَعْده لزوم الحكم، ولا يتوقف اللفظ عليه، وإن توقَّف هو على اللفظ.
وعن الثالث: أنا نلتزم (1) أنها إخبارات عن الماضى، ولا يتعذر التعليق؛ فإنّ الماضي نوعان: ماضٍ تقدم مدلوله عليه قبل النطق به من غير تقدير، فهذا يتعذر تعليقه. والثانى: ماض بالتقدير لا التحقيق، فهذا يصح تعليقه.
وبيانُه: أنَّه (2) إذا قال: “أنت طالق إن دخلتِ الدار”، فقد أخبر عن طلاق امرأته بدخول الدار، فقدرنا هذا الارتباط قبل نطقه بالزمن (3) الفرد ضرورة الصدق، وإذا قُدر الارتباط قبل النطق، صار الخبر عن الارتباط ماضيًّا. إذ حقيقة الماضي هو الَّذي تقدم مُخبَرُه خَبَرَه؛ إما تحقيقًا وإما تقديرًا، وعلى هذا فقد اجتمع المضِيّ والتعليق ولم يتنافيا.
وعن الرابع: أن المطلقة الرجعيَّة إن أراد بقوله لها: “أنت طالق”؛ الخبر عن طلقةٍ ماضية؛ لم يلزمه ثانية، وإن أراد الخبر عن طلقة ثانية؛ فهو كذب، لعدم وقوع الخبر (4)، فيحتاج إلى التقدير ضرورة التصديق، فيقدر تقدم طلقة قبل طلاقه بالزمن الفرد، يصح معها الكلام فيلزمه.
وعن الخامس: أنّ الأمر متعلق بإيجاد خبر يقدر الشارع قبله الطلاق، فيلزم به، لا أنَّه متعلق بإنشاء الطلاق حتَّى يكون اللفظ سببًا كما ذكرتموه، بل هو علامة ودليل علي الوقوع، وإنّما ينتفي الطلاق
__________
(1) (ظ ود): “إما يلزم”.
(2) سقطت من (ق).
(3) (ظ ود): “قبل تطلقها لزمان”.
(4) (ق): “المخبر”.
(1/19)
عند انتفائه، كانتفاع المدلول لانتفاء دليله وعلاماته، ولا يقال: لا يلزم من نفي الدليل نفي المدلول، فإنّ هذا لازم في الشرعيات، لأنَّها إنّما ثبتت بأدلتها، فأدلتها أسباب ثبوتها.
وأما السادس: فهو أقواها، وقد قيل: إنه لا يمكن الجواب عنه إلا بالمكابرة، فإنا نعلم بالضرورة أن من قال لامرأته: “أنت طالق”، لا يحسن أن يقال له: صدقت ولا كذبت، فهذه نهاية أقدام الطائفتين في هذا المقام.
وفصل الخطاب في ذلك: أنّ لهذه الصِّيَغ [نسبتين] (1)؛ نسبة إلى متعلقاتها الخارجية، فهي من هذه الجهة إنشاءات محضة كما قالت الحنابلة والشافعية، ونسبة إلى قصد المتكلم وإرادته، وهي من هذه الجهة خبر عما قصد إنشاءه كما قالت الحنفية، فهي إخبارات بالنظر إلى معانيها الذهنية، إنشاءات بالنظر إلى متعلقاتها الخارجية، وعلى هذا فإنّما لم يحسن أن يقال (2) بالتصديق والتكذيب، -وإن كانت أخبارًا-؛ لأنّ متعلِّق التصديق والتكذيب النفي والإثبات، ومعناهما مطابقة الخبر لمخْبَره، أو عدم مطابقته، وهنا المخبر حصل بالخبر حصول المسبب بسببه، فلا يتصور فيه تصديق ولا تكذيب، وإنّما يتصور التصديق والتكذيب في خبر لم يحصل مخْبَره ولم يقع به كقولك: “قام زيد”، فتأمَّلْه.
فإن قيل: فما تقولون في قول المظاهر: “أنتِ عَلَيَّ كظَهْر أُمي”، هل هو إنشاء أو إخبار؟
__________
(1) في النسخ: “نسبتان”.
(2) (ق): “يقابل”.
(1/20)
فإن قلتم: إنشاء، كان باطلًا من وجوه:
أحدها: أنّ الإنشاء لا يقبل التصديق والتكذيب، والله سبحانه قد كذَّبهم هنا في ثلاثة مواضع:
أحدها: في قوله تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] فنفى ما أثبتوه، وهذا حقيقة التكذيب، ومن طلق امرأته لا يحسن أن يقال: ما هى مطلقة.
الثاني: قوله تعالى: {وَإِنِّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] والإنشاء لا يكون منكرًا، وإنما يكون المنكر هو الخبر.
والثالث: أنَّه سماه زورًا، والزور هو الكذب، وإذا كذبهم الله تعالى دل على أن الظهار إخبار لا إنشاء.
الثاني: أَنَّ الظِّهَار محرَّم، وليس جهة تحريمه إلَّا كونه كذبًا.
والدليل على تحريمه خمسة أشياء:
أحدها: وصفه (1) بالمنكر.
والثاني: وصفه (2) بالزور.
والثالث: أنَّه شرع فيه الكفارة، ولو كان مباحًا لم يكن فيه كفارة.
والرَّابع: أن الله قال: {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} [المجادلة: 3]، والوعظ إنّما يكون في غير المباحات.
والخامس: قوله: {وَإِنَّ اللهَ لعَفْوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة: 3]، والعفو
__________
(1) (ظ ود): “ما وصفه”.
(2) سقطت من (ق).
(1/21)
والمغفرة إنّما يكونان عن الذنب.
وإن قلتم: هو إخبار؛ فهو باطل من وجوه:
أحدها: أنّ الظهار كان طلاقًا في الجاهلية، فجعله الله في الإسلام تحريمًا تُزيله الكفارة، وهذا متفق عليه بين أهل العلم، ولو كان خبرًا لم يوجب التحريم، فإنه إن كان صدقًا؛ فظاهر، وإن كان كذبًا؛ فأبعد له من أن (1) يترتب عليه التحريم.
والثاني: أنَّه لفظ يوجب حكمه الشرعي بنفسه، وهو التحريم، وهذا حقيقة الإنشاء، بخلاف الخبر، فإنه لا يوجب حكمه بنفسه؛ فَسَلْب كونه إنشاءً مع ثبوت حقيقة الإنشاء فيه؛ جمعٌ بين النقيضين.
وثالثها: أَنَّ إفادة قوله: “أنت عَلَيَّ كظهر أمي” للتحريم، كإفادة قوله: أنت حرة”، “وأنت طالق”، و”بعتك”، و”وهبتك”، و”تزوجتك” (2)، ونحوها لأحكامها، فكيف يقولون هذه إنشاءات دون الظهار؟ وما الفرق؟.
قيل: أما الفقهاء فيقولون: الظهار إنشاء، ونازعهم بعض المتأخرين في ذلك، وقال: الصواب أنَّه إخبار، وأجاب عما احتجوا به من كونه إنشاء.
قال: أما قولهم: كان طلاقًا في الجاهلية (3)؛ فهذا لا يقتضى أنهم كانوا يثبتون به الطلاق، بل يقتضي أنهم كانوا يزيلون به العصمة عند النطق به، فجاز أن يكون زوالها لكونه إنشاء كما زعمتم، أو لكونه
__________
(1) من قوله: “تزيله الكفارة … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) (ظ ود): وتزوجت”.
(3) “في الجاهلية” ليس في (د).
(1/22)
كذبًا، وجرت عادتهم أن من أخبر بهذا الكذب زالت عصمة نكاحه، وهذا كما التزموا تحريم الناقة إذا جاءت بعشرة من الولد ونحو ذلك.
قال: وأما قولكم: إنه يوجب التحريم المؤقت وهذا حقيقة الإنشاء لا الإخبار، فلا نسلِّم أنَّ ثَمَّ تحريمًا ألبتة، والذي دل عليه القرآن: وجوب تقديم الكفارة على الوطء، كتقديم الطهارة على الصلاة، فإذا قال الشارع: لا تصلِّ حتَّى تتطهر، لا يدل ذلك على تحريم الصلاة عليه، بل ذلك نوع ترتيب. سلَّمنا أن الظهار ترتَّب عليه تحريم، لكن التحريم عقب الشيء قد يكون لاقتضاء اللفظ له، ودلالته عليه، وهذا هو الإنشاء. وقد يكون عقوبة مَحْضة، كترتيب حرمان الإرث على القتل، وليس القتل إنشاء للتحريم، وكترتيب التعزير على الكذب وإسقاط العدالة به، فهذا ترتيب بالوضع الشرعي لا بدلالة اللفظ.
وحقيقة الإنشاء: أن يكون ذلك اللفظ وُضِع لذلك الحكم، ويدل عليه، كصِيَغ العقود، فسببية القول أعم من كونه سببًا بالإنشاء أو بغيره. فكل إنشاء سبب، وليس كل سبب إنشاء. فالسببيَّة أعم، فلا يُستدل بمطلقها على الإنشاء، فإن الأعمّ لا يستلزم الأخص، فظهر الفرق بين تَرَتُّب التحريم على الطلاق، وترتُّبه على الظهار.
قال: وأما قولكم: إنه كالتكلُّم بالطلاق والعِتَاق والبيع ونحوها؛ فقياس في الأسباب. فلا نقبله ولو سلمناه، فخصُّ القرآن يدفعه.
وهذه الاعتراضات عليهم باطلة:
أَمَّا قوله: “إن كونه طلاقًا في الجاهلية، لا يقتضي أنهم كانوا يثبتون به الطلاق” إلى أَخره؛ فكلامٌ باطل قطعًا؛ فإنهم لم يكونوا
(1/23)
يقصدون الإخبار الكذب، ليترتب عليه التحريم، بل كانوا إذا أرادوا الطلاق أتوا بلفظ الظهار إرادةً للطلاق؛ ولم يكونوا عند أنفسهم كاذبين في ذلك (1)، ولا مخبرين، وإنّما كانوا منشئين للطلاق به.
ولهذا كان هذا (2) ثابتًا في أول الإسلام حتَّى نسخه الله بالكفارة في قصة خولة (3) بنت ثعلبة، كانت تحت عُبادة بن الصامت (4)، فقال لها: “أنت عليَّ كظهر أُمي”، فأتت رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم -، فسألته عن ذلك؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “حَرُمُت عَلَيْهِ”، فقالت: يا رسول الله، والذي أنزل عليك الكتاب، ما ذكر الطلاقَ، وإنه أبو ولدي، وأحب الناس إليَّ فقال: “حَرُمْتِ عَلَيْهِ”، فقالت: أشكو إلى الله فاقتى وَوَحْدتي، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “مَا أُرَاكِ إلِّا قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ، وَلَمْ أُؤْمَرُ فِي شَأْنِكِ بِشَيءٍ”، فجَعَلَتْ تراجعُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: وإذا قال لها: حَرُمْتِ عَلَيْهِ” هتفت وقالت: أشكو إلى الله فاقتي وشدة حالي، وأن لي صِبْيَة صغارًا إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليَّ جاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول: اللهم إنِّي أشكو إليك، وكان هذا أول ظهار في الإسلام، فنزل الوحي على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلما قُضي الوحي قال: “ادْعِي زَوْجَكِ” فتلا عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – {قَدْ سَمِعَ اللهُ} [المجادلة: 1] الآيات (5).
__________
(1) من (ق).
(2) ليست في (ق).
(3) على خلافٍ في اسمها واسم أبيها، انظر “الإصابة”: (4/ 289).
(4) كذا في الأصول، وجاء كذلك في بعض الروايات، وهو وهم، والصواب: أنها كانت تحت أوس بن الصامت أخي عبادة، انظر: “الإصابة”: (4/ 291)، و”الاستيعاب” بهامشها.
(5) أخرجه أبو داود رقم (2214)، وعلقه البخاري في الصحيح “الفتح”: (13/ 384)، =
(1/24)
فهذا يدل على أن الظهار كان إنشاء للتحريم الحاصل بالطلاق في أول الإسلام؛ ثم نسخ ذلك بالكفارة.
وبهذا يبطل ما نظر به من تحريم الناقة عند وِلادِها عشرةَ أبطن، ونحوه، فإنه ليس هناك لفظ إنشاء يقتضي التحريم، بل هو شارع منهم لهذا التحريم، عند هذا السبب.
وأما قوله: “إنا لا نسلِّم أنَّه يوجب تحريمًا”؛ فكلام باطل، فإنه لا نزاع بين الفقهاء: أَنَّ الظِّهار يقتضي تحريمًا تزيله الكفارة، فلو وطئها قبل التكفير (1)؛ أَثِمَ بالإجماع المعلوم (2) من الدين، والتحريم المؤقت هنا كالتحريم بالإحرام وبالصيام وبالحيض.
وأمَّا تنظيره بالصلاة مع الطهر؛ ففاسد، فإن الله أوجب عليه صلاة بطهر، فإذا لم يأت بالطهر فقد (3) ترك ما أوجب الله عليه، فاستحقَّ الإثم، وأما المظاهر فإنه حرم على نفسه امرأته، وشبَّهها بمن تحرُم عليه، فمنعه الله من قربانها، حتَّى يُكفِّر، فهنا تحريم مُستند إلى ظِهَارِه، وفي الصلاة لا تُجزئ منه بغير طُهر؛ لأنَّها غير مشروعة أصلًا.
قوله: “التحريم عَقِب الشيء قد يكون لاقتضاء اللفظ له، وقد يكون عقوبة … “، إلى آخره، جوابه أنهما غير متنافيين في الظِّهار، فإنه حرام وتحرم به تحريمًا مؤقتًا حتَّى يكفِّر، وهذا لا يمنع كون اللفظ إنشاء كجمع الثلاث عند من يوقعها، والطلاق في الحيض فإنه
__________
= وأحمد في “المسند”: (6/ 410).
وما في “المسند” أصح ما ورد في قصة المجادلة، قاله الحافظ في “الفتح”.
(1) (ق): “الكفارة”.
(2) (ظ ود): “المعروف”.
(3) من (ق).
(1/25)
محرَّم، ويتعقبه التحريم، وقد قلتم: إن طلاق السكران يصح عقوبةً له، مع أنَّه لو لم يأت بإنشاء السبب لم تَطْلُق امرأته اتفاقًا، فكون التحريم عقوبةً، لا ينفي أن يستند إلى أسبابها التي تكون إنشاءات لها.
قوله: “السببية أعمُّ من الإنشاء …. ” إلى آخره؛ جوابه: أنّ السبب نوعان: فعل وقول، فمتى كان قولًا لم يكن إلّا إنشاء، فإن أردتم بالعموم: أنّ سببية القول أعم من كونها إنشاء وإخبارًا؛ فممنوع، وإن أردتم أن مطلق السببية أعم من كونها سببية بالفعل والقول: فمُسَلَّم، ولا يفيدكم شيئًا.
وفَصْل الخطاب: أن قوله: “أنتِ عليَّ كظهر أمي”، يتضمن إنشاءً وإخبارًا، فهو إنشاءٌ من حيث قصد التحريم بهذا اللفظ، وإخبار من حيث تشبيهها (1) بظهر أمه، ولهذا جعله الله منكرًا وزورًا، فهو منكر باعتبار الإنشاء، زوّر باعتبار الإخبار.
وأما قوله: “إن المنكر هو الخبر الكاذب”؛ فالخبر الكاذب من المنكر، والمنكر أعم منه، فالإنكار في الإنشاء والإخبار، فإنه ضد المعروف، فما لم يُؤذَن فيه من الإنشاء؛ فهو منكر، وما لم يكن صداقًا من الإخبار؛ فهو زور.
فائدة
المجاز والتأويل لا يدخل في المنصوص، وإنما يدخل في (2) الظاهر المحتمل له، وهنا نُكْتة ينبغي التفطن لها، وهي: أن كون اللفظ نصًّا يُعْرف بشيئين:
__________
(1) (ظ ود): “شبهها”.
(2) ليست في (ق).
(1/26)
أحدهما: بعدم احتماله (1) لغير معناه وضعًا، كالعشرة.
والثاني: ما اطرد استعماله علي طريقة واحدة في جميع موارده؛ فإنه نصٌّ في معناه، لا يقبل تأويلًا ولا مجازًا، وإن قُدِّر تطرُّق ذلك إلى بعض أفراده، وصار هذا بمنزلة خبر التواتر، لا يتطرَّق احتمال الكذب إليه، وإن تطرَّق إلى كل واحد من أفراده بمفرده وهذه عصمة (2) نافعة، تدلك على خطأ كثير من التأويلات في السمعيات التي اطرد استعمالها في ظاهرها، وتأويلُها والحالة هذه غلط، فإن التأويل إنّما يكون لظاهر قد ورد شاذًّا مخالفًا لغيره من (3) السمعيات، فيحتاج إلى تأويله ليوافقها، فأما إذا اطردت كلها على وتيرة واحدة؛ صارت بمنزلة النص وأقوى، فتأويلها ممتنع، فتأمل هذا.
فائدة (4)
أضافوا الموصوف إلى الصفة وإن اتّحدا؛ لأنَّ الصفة تضمنت معنى ليس في الموصوف، فصحَّت الإضافة للمغايرة (5).
وهنا نكتة لطيفة، وهي: أن العرب إنّما تفعل ذلك في الوصف المغرفة اللازم للموصوف لزوم اللقب للأعلام؛ كما قالوا: “زيد بطَّة” أي: صاحب هذا اللقب.
وأما الوصف الَّذي لا يثبت كالقائم والقاعد ونحوه؛ فلا يضاف
__________
(1) (ظ ود): “تقدم إكماله” ثم صوِّبت في الهامش.
(2) (ق): “عظيمة”!.
(3) (ظ ود): “ومن”!.
(4) انظر “نتائج الفكر”: (ص/ 37 – 38) لأبي القاسم السُّهيلي.
(5) (ظ ود): “للمغاير”.
(1/27)
الموصوف إليه، لعدم الفائدة [المخصِّصة] (1) التي لأجلها أضيف الاسم إلى اللقب، فإنه لما تخصص به، كأنك قلتَ: صاحب هذا اللقب، وهكذا في “مسجد الجامع” و”صلاة الأُولى”. فإنه لما تخصص الجامع بالمسجد ولزمه، كأنك قلتَ: صاحب هذا الوصف، فلو قلت: “زيد الضاحك”، و”عمرو القائم”، لم يجز، وكذا إن كان لازمًا غير معرفة فلا (2) تقول: “مسجد جامع” و”صلاة أولى”.
فائدة (3)
اللفظ المؤلف من “الزاي والياء والدال” -مثلًا- له حقيقة متميزة متحصِّلة، فاستحق أن يوضع له لفظ يدل عليه؛ لأنَّه شيء موجود في اللسان، مسموع بالآذان فاللفظ المؤلف من (همزة الوصل والسين والميم) عبارة عن اللفظ المؤلف من (الزاي والياء والدال) مثلًا، واللفظ المؤلف من (الزاي والياء والدال) عبارة عن الشخص الموجود في الأعيان والأذهان، وهو المسمى والمعنى، واللفظ الدال عليه الَّذي هو (الزاي والياء والدال) هو الاسم، وهذا اللفظ أيضًا قد صار مسمًّي، من حيث كان لفظ (الهمزة والسين والميم) عبارة عنه، فقد بان لك أنّ الاسم في أصل الوضع ليس هو المسمى، ولهذا تقول: سميت
__________
(1) في الأصول: “المصححة” والمثبت هو الصواب.
(2) سقطت من (ظ ود).
(3) انظر: “نتائج الفِكْر”: (ص/ 39 – 41) للسُّهيلي، والمؤلف نقل أكثر فوائد هذا الكتاب بنصها حينًا وبمعناها حينًا آخر، مع تهذيب عبارته وتصفيتها من الشوائب العقدية، مع تعليقات واستدراكات ونقد وإضافة، واستجادة لمباحث السُّهيلي في كتابه هذا، ناسبًا أكثر تلك النقول إلى صاحبها. وانظر المقدمة.
(1/28)
هذا الشخص بهذا الاسم، كما تقول: حليته بهذه الحلية، والحلية غير المحلَّى، فكذلك الاسم غير المسمى.
وقد صرح بدلك سيبويه، وأخطأَ من نَسَبَ إليه غير هذا، وادَّعى أن مذهبه (1) اتحادهما، والذي غرَّ من ادعى ذلك قوله: “الأفعال أمثلة أُخذت من لفظِ أَحداث الأسماء” (2)، وهذا لا يعارض نصه قبل هذا بسطر (3)، فإنه نصَّ على أنّ الاسم غير المسمَّى، فقال: “الكلم اسم وفعل وحرف” (4)، فقد صرح بأنّ الاسم كلمة؛ فكيف تكون الكلمة هي المسمى، والمسمى [إنّما هو] شخص؟.
ثم قال بعد هذا: “تقول: سميت زيدًا بهذا الاسم، كما تقول: علمته بهذه العلامة”. وفي كتابه قريب من ألف موضع؛ أنَّ الاسم هو اللفظ الدال على المسمّى، ومتى ذكر الخفض أو النصب أو التنوين أو اللام أو جميع ما يلحق الاسم من زيادة ونقصان وتصغير وتكسير ذلك بالمسمى أصلًا، وما قال نحويٌّ قط ولا عربيّ: إن الاسم هو المسمَّى ويقولون: أَجَل مسمًّى، ولا يقولون: أَجَل اسم، ويقولون: مسمًّى هذا الاسم كذا، ولا يقول أحد: اسم هذا الاسم كذا، ويقولون: هذا الرجل مسمًّى بزيد، ولا يقولون: هذا الرجل اسم زيد، ويقولون: “بسم الله”، ولا يقولون: بمسمًّى الله.
__________
(1) (د): “وأدعى أن هذا مذهبه”.
(2) “الكتاب”: (1/ 12) لسيبويه، وعبارته: “وأمّا الفعل فأمثلة … “.
(3) من (ق) و”النتائج”.
(4) “الكتاب”: (1/ 12).
(1/29)
وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “لي خَمُسَةُ أَسْمَاءٍ” (1) ولا يصح أن يقال: لي خمس مسميات، و”تَسَمّوا باسْمي (2) ولا يصح أن يقال: تسموا بمسمياتي، و”للهِ تسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا” (3) ولا يصح أن يقال: تسعة. وتسعون مسمًّي.
وإذا ظهر الفرق بين الاسم والمسمَّى، فبقي هاهنا “التسمية”، وهي التي اعتبرها من قال باتحاد الاسم والمسمى، و”التسمية “: عبارة عن فعل المسمِّي، ووضعه الاسم للمسمَّى، كما أنَّ “التحلية” عبارة عن فعلي المحَلِّي، ووضعه الحلية على المحلَّى، فهنا ثلاث حقائق: اسم ومسمى وتسمية، كحِلْية ومحلَّي وتحلية، وعلامة ومُعلِّم وتعليم، ولا سبيل إلى جعل لفظين منها مترادفين علي معنًي واحد؛ لتباين حقائقها، وإذا جعلت الاسم هو المسمى بطل واحد من هذه الحقائق الثلاثة ولابُد.
فإن قيل: فحُلُّوا لنا شُبَه من قال باتحادهما ليتم الدليل، فإنكم أقمتم الدليل؛ فعليكم الجواب عن المعارِض.
فمنها: أن الله وحده هو الخالق، وما سواه مخلوق، فلو كانت أسماؤه غيره لكانت مخلوقة، وللزم أن لا يكون له اسم في الأزل ولا صفة، لأنَّ أسماءه صفات، وهذا هو السؤال الأعظم الَّذي
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (3532)، ومسلم رقم (2354) من حديث جُبير بن مُطعم – رضي الله عنه -.
(2) أخرجه البخاري رقم: (1110)، ومسلم رقم (2134) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(3) أخرجه البخاري رقم (3736)، ومسلم رقم (2677) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(1/30)
قاد متكلِّمي الإثبات إلى أن يقولوا: الاسم هو المسمَّى، فما عندكم في دفعه؟.
والجواب (1): أن منشأ الغلط في هذا الباب من إطلاق ألفاظ مجملة، محتملة لمعنيين حق (2) وباطل، فلا ينفصل النزاع إلا بتفصيل تلك المعاني، وتنزيل ألفاظها عليها، ولا ريبَ أن الله -تبارك وتعالى- لم يزل ولا يزال موصوفًا بصفات الكمال المشتقة أسماؤه منها. فلم يزل بأسمائه وصفاته وهو إله واحد له الأسماء الحسنى والصفات العُلى، وأسماؤه وصفاته داخلة في مسمَّى اسمه، وإن كان لا يُطلق على الصفة أنها الله يخلق ويرزق، فليست صفاته وأسماؤه غيره، وليست هي نفس الإله.
وبَلاءُ القومِ من لفظة “الغير”، فإنها يُراد بها معنيان:
أحدهما: المغاير لتلك الذات المسماة “بالله”، وكل ما غاير “الله” مغايرةً مَحْضَة بهذا الاعتبار، فلا يكون إلا مخلوقًا.
ويُراد به: مغايرة الصِّفة للذات، إذا جُرِّدَت (3) عنها. فإذا قيل: عِلْمُ الله وكلامُ الله غيرُه، بمعنى: أنَّه غير الذات المجردة عن العلم والكلام؛ كان المعنى صحيحًا، ولكن الإطلاق باطل، وإذا أُريد أن العلم والكلام مُغاير لحقيقته المختصَّة التي امتاز بها عن غيره؛ كان باطلًا لفظ ومعنًي.
__________
(1) انظر: “نتائج الفكر”: (ص / 42) بتصرف؛ إذ صفّي كلام السهيلي من عبارات الأشاعرة.
(2) (ظ): “صحيح”، وسقطت من (د).
(3) (ظ ود): “خرجت”.
(1/31)
وبهذا أجاب أهلُ السنة المعتزلةَ القائلين بخلق القرآن، وقالوا: كلامه تعالى داخل في مسمَّى اسمه. فالله تعالى اسم للذات (1) الموصوفة بصفات الكمال، ومن تلك الصفات: صفة الكلام، كما أن علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره غير مخلوقة.
وإذا كان القرآنُ كلامه، وهو صفة من صفاته؛ فهو متضمن لأسمائه الحسنى، فإذا كان القرآن غير مخلوق (2)، ولا يقال: إنه غير الله، فكيف يقال: إن بعض ما تضمنه، وهو أسماؤه: مخلوقة، وهي غيره؟! فقد حَصْحَصَ الحق بحمد الله، وانحسم الإشكال، وأن أسماءه الحسني التي في القرآن من كلامها، وكلامه غير مخلوق، ولا يقال: هو غيره، ولا هو هو، وهذا المذهب مخالف لمذهب المعتزلة الذين يقولون: أسماؤه تعالى غيره، وهي مخلوقة. ولمذهب من ردِّ عليهم ممن يقول: اسمه نفس ذاته لا غيره. وبالتفصيل تزول الشُّبَه، ويتبين الصواب، والحمد لله.
حجة ثانية لهم (3)، قالوا: قال تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن: 78]، {وَاذكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} [المزمل: 8]، {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ} [الأعلى: 1].
وهذه الحجة عليهم في الحقيقة؛ لأنّ النبي – صلى الله عليه وسلم – امتثل هذا (4) الأمر، وقال: “سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي العظيم”، ولو كان “الأمر كما زعموا؛ لقال: “سبحان اسم ربي العظيم”
__________
(1) (ظ ود): “الذات”.
(2) من قوله: “وإذا كان … ” إلى هنا ساقطة من (ق) وهو انتقال نظر.
(3) انظر: “نتائج الفكر”: (ص/ 43).
(4) ليست في (ق).
(1/32)
ثم إن الأمة كلهم لا يجوِّز أحد منهم أن يقول: “عبدت اسم ربي”، ولا “سجدت لاسم ربي”، ولا “ركعت لاسم ربي”، ولا “باسم ربي ارحمني”، وهذا يدل على أن هذه (1) الأشياء متعلقة بالمسمَّى لا بالاسم.
وأما الجواب عن تعلق الذكرِ والتسبيحِ المأمور به بالاسم، فقد قيل فيه: إن التعظيم والتنزيه إذا وجب للمعظم، فقد تُعَظم ما هو من سببه (2) ومتعلق به، كما يقال: “سلامُ على الحضرة العالية، والباب السَّامي والمجلس الكريم” ونحوه.
وهذا جواب غير مَرْضيٍّ (3) لوجهين:
أحدهما: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم يفهم هذا المعنى، وإنّما قال: “سبحان ربي”، فلم يعرِّج على ما ذكرتموه.
الثاني: أنَّه (4) يلزمه أن يطلق على الاسم التكبير والتحميد والتهليل، وسائر ما يطلق على المسمَّى، فيقال: “الحمد لاسم الله، ولا إله إلا اسم الله”، ونحوه، وهذا مما لم يقله (5) أحد.
بل الجواب الصحيح: أنَّ الذكر الحقيقي محلُّه القلب، لأنَّه ضد النسيان، والتسبيح نوع من الذكر، فلو أطلق الذكر والتسبيح، لما فُهِم منه إلا ذلك، دون اللفظ باللسان، والله تعالى أراد من عباده
__________
(1) من (ق).
(2) في (ظ): “شبيه”! والتصويب من (ق ود) و”النتائج”.
(3) هذا الجواب لأبي حامد الغزالي في كتابه: “المقصد الأسني”: (ص / 38).
(4) (ظ ود): “أن”.
(5) (د): “يقل به”.
(1/33)
الأمرين جميعًا، ولم يقبل الإيمان وعقد الإسلام إلا باقترانهما واجتماعهما، فصار معني الاثنين: سبِّح ربك بقلبك ولسانك، واذكر ربك بقلبك ولسانك، فأقحم الاسمَ تنبيهًا على هذا المعنى، حتَّى لا يخلو الذكر والتسبيح من اللفظ بالألسان؛ لأن ذكر القلب متعلَّقه اللفظ مع مدلوله، لأنَّ اللفظ لا يُراد لنفسه، فلا يتوهم أحد أن اللفظ هو المسبَّح دون ما يدل عليه من المعنى.
وعبَّر لي شيخُنا أبو العباس ابن تيمية -قدّس الله روحه- عن هذا المعنى بعبارة لطيفة وجيزة، فقال: المعنى: سبِّح ناطقًا باسم ربك متكلِّمًا به، وكذا سبح اسم ربك، المعني: سبِّح ربَّك ذاكرًا اسمه، وهذه الفائدة تساوي رحلة، لكن لمن يعرف قدرها. فالحمد لله المنان بفضله، ونسأله تمام نعمته.
حجة ثالثة لهم (1)، قالوا: قال تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} [يوسف: 40] وإنّما عبدوا مُسمَّياتها.
والجواب: أنَّه كما قلتم: إنّما عبدوا المسميات، ولكن من أجل أنهم نحلوها أسماء باطلة، كاللات والعزى، وهي مجرد أسماء كاذبة باطلة، لا مسمَّى لها: في الحقيقة. فإنهم سموها: آلهة، وعبدوها لاعتقادهم حقيقة الإلهية لها، وليس لها من الإلهية إلا مجرد الأسماء؛ لا حقيقة المسمى، فما عبدوا إلا أسماء لا حقائق لمسمياتها، وهذا كمن سمي قشور البصل: لحمًا، وأكلَها، فيقال: ما أكلت من اللحم إلَّا اسمه لا مسماه، وكمن سمّى التراب: خبزًا، وأكله، فيقال:
__________
(1) انظر: نتائج الفكر”: (ص / 45 – 46).
(1/34)
ما أكلت إلا اسم الخبز، بل هذا النفي أبلغ في آلهتهم؛ فإنه لا حقيقةَ لإلهيتها بوجهٍ، وما الحكمة (1) ثَمَّ إلا مجرد الاسم، فتأمَّل هذه الفائدة الشريفة في كلامه تعالى.
فإن قيل (2): فما الفائدة (3) في دخول الباء في قوله: {فَسَبِّحْ بِاْسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} [الواقعة: 74]، ولم تدخل في قوله: {سَبِّحْ اسْمِ رَبِّكَ الْأَعَلَى (1)} [الأعلى: 1].
قيل: التسبيح يراد به التنزيه والذكر المجرد دون معنى آخر، ويراد به ذلك مع الصلاة، وهو ذكر وتنزيه مع عمل، ولهذا تسمَّي الصلاة: تسبيحًا، فإذا أُريد التسبيح المجرد (4)؛ فلا معنى للباء؛ لأنَّه لا يتعدى بحرف جر، لا تقول: سبحت بالله، وإذا أردت المقرون بالفعل، وهو الصلاة، أدخلت الباء تنبيهًا على ذلك المراد، كأنك قلت: سبح مفتتحًا باسم ربك، أو ناطقًا باسم ربك، كما تقول: صل مفتتحًا أو ناطقًا باسمه، ولهذا السر -والله أعلم- دخلت اللام في قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلِّهِ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 1] والمراد التسبيح الَّذي هو السجود، والخضوع، والطاعة، ولم يقل في موضع: سبح الله ما في السموات والأرض (5)، كما قال: {وَلِلِّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السِّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الرعد: 15]، وتأمل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)} [الأعراف: 206] فكيف
__________
(1) سقطت من (ق).
(2) انظر: “نتائج الفكر”: (ص/ 46).
(3) (ق): (الحكمة).
(4) سقطت من (ق).
(5) (ق): “يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض”.
(1/35)
قال: {وَيُسَبِّحُونَهُ} لما ذكر السجود باسمه الخاص، فصار التسبيح ذكرهم له، وتنزيههم إيّاه.
شبهة رابعة (1)، قالوا: قد قال الشاعر:
إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلام عَلَيْكُما … وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرْ (2)
وكذلك قول الأعشى (3):
* دَاعٍ يُنَادِيْه بِاسْمِ الماءِ مَبْغُوْمِ *
هذه حجة عليهم لا لهم، وأما قوله: “ثم اسم السلام عليكما”، فالسلام: هو الله تعالى، والسلام أيضًا: التحية، فإن أراد الأول؛ فلا إشكال، فكأنه قال: ثم اسم الله (4) عليكما، أي: بركة اسمه، وإن أراد التحية؛ فيكون المراد بالسلام المعنى المدلول، وباسمه لفظه الدال عليه، والمعنى: ثمّ اسم هذا المسمى عليكما، فيراد بالأول: اللفظ، وبالثاني: المعني، كما تقول: “زيد بطة”، ونحوه مما يراد بأحدهما اللفظ وبالآخر المدلول فيه (5)، وفيه نُكتة حسنة، كأنه أراد: ثم هذا اللفظ باقٍ عليكما، جارٍ لا ينقطع منِّي، بل أنا مراعيه دائمًا.
__________
(1) انظر: “نتائج الفكر”: (ص/ 47 – 50).
(2) البيت اللبيد بن ربيعة -رضي الله عنه- في “ديوانه”: (ص / 79).
(3) كذا في الأصول!. ولعله خطأ ممن النسَّاخ، والصواب -كما قال المؤلف فيما سيأتي- أن البيت لذي الرُّامَّة، في “ديوانه: (ص / 474)، وصدره:
*لا ينعشُ الطرف إلا ما تخوَّنَه*
وتحرّف في (ق) إلى: “متعوم”.
(4) (ظ ود): “السلام” والمثبت من (ق).
(5) ليست في (ق).
(1/36)
وقد أجاب السُّهيلى (1) عن البيت بجواب آخر، وهذا حكاية لفظه، فقال: “لبيدٌ لم يُرِدْ إيقاع التسليم عليهم لحينه، وإنّما أراد بعد الحول، ولو قال: “السلام عليكم”؛ كان مسلِّمًا لوقته الَّذي نطق فيه بالبيت، فلذلك ذكر الاسم الَّذي هو عبارة عن اللفظ، أي: إنّما اللفظ بالتسليم بعد الحول، وذلك أن السلام دعاء، فلا يتقيَّد بالزمان المستقبل، وإنّما هو لحينه، ألا ترى أنَّه لا يقال: “بعد الجمعة اللهم ارحم زيدًا”، ولا: “بعد الموت اللهم اغفر لي”، إنّما يقال: “اللهم اغفر لي بعد الموت”، فيكون “بعد” ظرفًا للمغفرة، والدعاء واقع لحينه، فإن أردت أن تجعل الوقت ظرفًا للدعاء صرَّحت بلفظ الفعل، فقلت: “بعد الجمعة أدعو بكذا، أو أسلم، أو أَلْفِظ بكذا”؛ لأنَّ الظروف إنّما تُقيد (2) بها الأحداث الواقعة فيها خبرًا، أو أمرًا، أو نهيًا. وأما غيرها من المعانى، كالطلاق، واليمين، والدعاء، والتمني، والاستفهام، وغيرها من المعاني، فإنّما هي واقعة لحين النطق بها، ولذلك (3) يقع الطلاق ممن قال: “بعد يوم الجمعة. أنت طالق”، وهو مُطلق لحينه، ولو قال: “بعد الحول. والله لأخرجنَّ”، انعقدت اليمين في الحال، ولا ينفعه أن يقول: أردت أن لا أوقع اليمين، إلّا بعد الحول؛ فإنه لو أراد ذلك، لقال: “بعد الحول
__________
(1) هو: عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن أصبغ الخثعمي المالقي الضرير، أبو زيد وأبو القاسم السُّهيلي، من علماء اللغة، وهو صاحب الروض الأُنُف” وغيره، وكلامه هذا في كتابه “نتائج الفكر” وقد تقدمت الإشارة إليه. ت (581).
انظر: “وفيات الأعيان”: (3/ 143)، و “إنباه الرواة”: (2/ 162)، و”نكت الهِمْيان”: (ص / 187).
(2) (د): “يريد”.
(3) (ظ): “وكذلك”.
(1/37)
أحلف”، أو “بعد الجمعة أطلقك”.
فأما الأمر، والنهى، والخبر، فإنّما تقيَّدت بالظروف؛ لأنَّ الظروف في الحقيقة إنّما يقع فيها الفعل المأمور به، والمخْبَر به، دون الأمر والخبر، فإنهما واقعان لحين النطق بهما. فإذا قلت: “أضرب زيدًا يوم الجمعة”، فالضرب هو المقيد بيوم الجمعة، وأما الأمر، فأنت في الحال آمرُ به، وكذلك إذا قلت: “سافر زيد يوم الجمعة”، فالمتقيِّد باليوم المخبر به لا الخبر، كما أن في قوله: “اضربه يوم الجمعة”، المقيد بالظرف المأمور به، لا أمرك أنت، فلا تعلق للظروف إلا بالأحداث، فقد رجع البابُ كلُّه بابًا واحدًا، فلو أن لبيدًا قال: “إلى الحول ثم السلام عليكما”؛ لكان مسلِّمًا لحينه، ولكنه أراد أن لا يوقع اللفظ بالتسليم والوداع إلا بعد الحول، ولذلك ذكر الاسم الَّذي هو بمعنى اللفظ بالتسليم؛ ليكون ما بعد الحول ظَرْفًا له”.
وهذا الجواب من أحد أعاجيبه وبدائعه -رحمه الله-.
وأما قوله: “باسم الماء” والماء المعروف هنا هو الحقيقة المشروبة، ولهذا عرَّفه تعريف الحقيقة الذهنية، والبيت لذي الرُّمَّة (1)، وصدره:
* لا يَنْعَشُ الطَّرْفَ إِلَّا ما تَخَوَّنَهُ *
ثم قال: “دَاعٍ يُنَادِيْه باسْمِ الماء … “، فظن الغالط أنَّه أراد حكاية صوت الظبية، وأنها دعت ولدها بهذا الصوت، وهو “مِآمِآ”، وليس هذا مراده؛ وإنّما الشاعر أَلْغَزَ لما وقع الاشتراك بين لفظ “الماء” المشروب، وصوتها به، فصار صوتها كأنه هو اللفظ المعبِّر
__________
(1) تقدم قبل قليل نسبته إلى الأعشى، وبيان ما فيه.
(1/38)
عن الماء المشروب، فكأنها تُصوِّت باسم هذا الماء المشروب، وهذا لأنَّ صوتها “مِآمِآ”، وهذا في غاية الوضوح، والحمد لله (1).
فائدة
زعم السهيلي (2) وشيخه أبو بكر بن العربي (3): أنّ اسم الله غير مشتق؛ لأنّ الاشتقاق يستلزم مادةً يُشْتقَّ منها، واسمه -تعالى- قديم، والقديم لا مادة له، فيستحيل الاشتقاق. ولا ريب أنَّه إن أُريد بالاشتقاق هذا المعنى، وأنه مستمدٌّ من أصل آخر، فهو باطل.
ولكن الذين قالوا بالاشتقاق، لم يريدوا هذا المعنى، ولا أَلَمَّ بقلوبهم، وإنّما أرادوا: أنَّه دال على صفةٍ له -تعالى-، وهي الإلهية، كسائر أسمائه الحسنى، كالعليم (4) والقدير، والغفور والرحيم، والسميع والبصير. فإن هذه الأسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب، وهي قديمة، والقديم لا مادة له. فما كان جوابكم عن هذه الأسماء؛ فهو جواب القائلين باشتقاق اسمه: “الله”.
ثم الجواب عن الجميع: أنَّا لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى، لا أنها متولدة منها تولُّد الفرع من أصله. وتسمية النحاة للمصدر والمشتق منه: “أصلًا وفرعًا” ليس معناه أن أحدهما تولد من الآخر، وإنّما هو باعتبار أن أحدهما
__________
(1) من (ق) وحدها.
(2) في “نتائج الفِكْر”: (ص/ 51).
(3) هو: محمد بن عبد الله بن العربي الأندلسي المالكي الفقيه، صاحب التصانيف، ت (543).
انظر: “الصلة”: (2/ 558)، و”السير”: (20/ 197).
(4) (ق): “كالعظيم”.
(1/39)
يتضمن الآخر وزيادة.
وقول سيبويه: “إن الفعل أمثلة أُخِذَت من لفظ أحداث الأسماء” (1)؛ هو بهذا الاعتبار، لا أنّ العرب تكلموا بالأسماء أولًا، ثم اشتقوا منها الأفعال، فإن التخاطب بالأفعال ضروري، كالتخاطب بالأسماء، لا فرق بينهما، فالاشتقاق هنا ليس هو اشتقاق مادي (2)، وإنّما هو اشتقاق تلازم، سُمِّي المتضمِّن (3) -بالكسر-: مشتقًا، والمتضمّن. -بالفتح-: مشتقًّا منه، ولا محذور في اشتقاق أسماء الله -تعالى- بهذا المعني.
فائدة (4)
استبعد قوم أن يكون الرحمن، نعتًا لله، من قولنا: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)} [الفاتحة: 1]، وقالوا: “الرحمن، عَلَم، والأعلام لا ينعت بها، ثم قالوا: هو بدل من اسم الله. قالوا: ويدل على هذا أن “الرحمن” علم مختص بالله لا يشاركه فيه غيره، فليس هي” كالصفات التي هي: العليم والقدير، والسميع والبصير، ولهذا تجري على غيره تعالى. قالوا: ويدل عليه -أيضًا- وروده في القرآن. غير تابع لما قبله، كقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]، {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)} [الرحمن 1 – 2]، {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} [الملك: 20]، وهذا شأن الأسماء
__________
(1): “الكتاب” (1/ 12).
(2) (ق): “فالاستعارة هنا ليس هو اشتقاق بادي”! وهو تحريف.
(3) (ق ود): “المتضمن فيه”.
(4) انظر: “نتائج الفكر”: (ص/ 35).
(5) ليست في (ق).
(1/40)
المحْضَة؛ لأنَّ الصفات لا يقتصر على ذكرها دون الموصوف.
قال السُّهيلي: “والبدل عندي فيه ممتنع، وكذلك عطف البيان؛ لأنَّ الاسم الأول لا يفتقر إلى تبيين، فإنه أعرف المعارف كلها، وأبينها (1)، ولهذا قالوا: {وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60] ولم يقولوا: وما الله؟ ولكنه -وإن جرى مجرى الأعلام- فهو وصف، يُراد به الثناء، وكذلك “الرحيم”، إلَّا أنّ “الرحمن” من أبنية المبالغة كغضبان ونحوه، وإنّما دخله معنى المبالغة من حيث كان في آخره ألف ونون كالتثنية، فإن التثنية في الحقيقة تضعيف؛ وكذلك هذه الصفة، فكأن “غضبان” و”سكران” حامل (2) لِضِعْفَين من الغضب والسُّكْر، فكان اللفظ مضارعًا للفظ التثنية؛ لأنّ التثنية ضعفان في الحقيقة، ألا ترى أنهم -أيضًا- قد شبهوا التثنية بهذا البناء، إذا كانت لشيئين متلازمين فقالوا: الحَكَمان والعَلَمان، وأعربوا “النون” كأنه اسم لشيءٍ واحد، فقد (3) اشترك باب “فَعْلان” وباب التثنية، ومنه قول فاطمة: “يا حَسَنانُ يا حُسَينانُ” برفع النون لابْنَيها، ولمضارعة التثنية امتنع جمعُه، فلا يقال: غضابين، وامتنع تأنيثه، فلا يقال: غضبانة، وامتنع تنوينه كمالا ينون نون المثنى (4)، فجرت عليه كثير من أحكام التثنية لمضارعته إياها لفظًا ومعنى.
وفائدة الجمع بين الصفتين؛ “الرحمن والرحيم”: الإنباء عن رحمةٍ عاجلةٍ وآجلةٍ، أو (5) خاصة وعامة” تمَّ كلامه.
__________
(1) (ق): “وأثبتها”.
(2) (ظ ود): “كامل”! لكن صُححت في (د) بخط مغاير.
(3) (ظ ود): “فقالوا” والتصويب من (ق) و”النتائج”.
(4) من قوله: “لابنيها … ” إلى هنا ساقط من (د).
(5) (ظ): “و”.
(1/41)
قلت: أسماء الرب -تعالى- هي أسماء ونعوت، فإنها دالة على صفات كماله، فلا تَنافيَ فيها بين العلمية والوصفية، فالرحمن اسمه -تعالى- ووصفه، لا تُنافي اسميتُه وصفيته، فمن حيث هو صفة؛ جرى تابعًا علي اسم: الله -تعالى-، ومن حيث هو أسم: ورد في القرآن غير تابع، بل ورودَ الاسم العَلَم.
ولما كان هذا الاسم مختصًا به -تعالى-، حَسُن مجيئه مفردًا غير تابع، كمجيء اسمه “الله” كذلك، وهذا لا ينافي دلالته على صفة “الرحمة” كاسمه “الله” فإنه دالٌّ على صفة الألوهية، ولم يجئ قط تابعًا لغيره، بل متبوعًا، وهذا بخلاف العليم والقدير، والسميع والبصير، ونحوها، ولهذا لا تجيء هذه مفردة، بل تابعة (1).
فتأمل هذه النكتةَ البديعةَ؛ يظهرْ لك بها أنّ “الرحمن” اسمٌ وصِفَة، لا ينافي أحدهما الآخر، وجاء استعمال القرآن بالأمرين جميعًا.
وأما الجمع بين “الرحمن الرحيم”؛ ففيه معنى هو أحسن من المعنيين اللذين ذكرهما، وهو: أنّ الرحمن دالُّ على الصفة القائمة به -سبحانه-، والرحيم دالة على تعلقها بالمرحوم، فكان الأول للوصف، والثانى للفعل، فالأول دال على أنّ الرحمة صفته، والثانى دال على أنَّه يرحم خلقه برحمته، وإذا أردت فَهْمَ هذا؛ فتأمل قوله {وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43] {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيْمٌ (117)} [التوبة: 117]. ولم يجيء قط: “رحمن بهم” فَعُلِم أن “رحمن” هو الموصوف بالرحمة، و”رحيم” هو الراحم برحمته، وهذه نكتة لا تكاد تجدها في كتاب، وإن تنفست عندها مرآةُ قلبك، لم تنجل لك صورتها.
__________
(1) “بل تابعه” ليست في (ق).
(1/42)
فائدة (1)
لحذف العامل في “بسم الله” فوائد عديدة.
منها: أنَّه موطن لا ينبغي أن يتقدم فيه سوى ذكر الله (2)، فلو ذكرت الفعل، وهو لا يستغني عن فاعله؛ كان ذلك مناقضًا للمقصود، وكان في حذفه مشاكلة اللفظ للمعني، ليكون المبدوع به اسم الله، كما تقول في الصلاة: “الله أكبر”، ومعناه: من كل شيءٍ، ولكن لا تقول هذا المقَدَّر، ليكون اللفظ في اللسان (3) مطابقًا لمقصود الجنان، وهو: أن لا يكون في القلب ذِكْر إلا الله وحده، فكما تجرَّد ذكره في قلب المصلِّي، تجرَّدَ ذكره في لسانه.
ومنها: أن الفعل إذا حُذف صح الابتداء بالتسمية (4) في كل عمل وقول وحركة، وليس فِعْل أولى بها من فِعْل؛ فكان الحذف أعم من الذِّكر، فإنّ أي فعل ذكرته؛ كان المحذوف أعم منه.
ومنها: أنَّ الحذف أبلغ؛ لأنَّ المتكلم بهذه الكلمة كأنه يدّعي الاستغناء بالمشاهدة عن النطق بالفعل، فكأنه لا حاجة إلى النطق به، لأنّ المشاهدة والحال دالة على أن هذا الفعل وكُلُّ فعل فإنّما هو باسمه -تبارك وتعالى-، والحَوَالة على شاهد الحال أبلغ من الحَوَالة على شاهد النطق، كما قيل:
ومن عَجِبٍ قول العَوَاذِل مَنْ بِهِ … وهَلْ غيرْ مَنْ أهْوي يُحبُّ ويُعْشَقُ
__________
(1) انظر: “نتائج الفكر”: (ص/ 55).
(2) (ق): “اسم الله”.
(3) “في اللسان” من (ق) وحدها.
(4) سقطت من (ق).
(1/43)
فائدة (1)
استشكل طائفةٌ قول المصنفين: “بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد وآله”، وقالوا: الفعل بعد الواو دعاء بالصلاة، والتسمية قبله خبر، والدعاء لا يحسن عطفه على الخبر، لو قلت: “مررت بزيد، وغفر الله لك”؛ لكان غثًا من الكلام، والتسمية في معنى الخبر؛ لأنَّ المعنى: أفعل كذا باسم الله.
وحجة من أثبتها: الاقتداء بالسلف، والجواب عما قاله هؤلاء: أنّ الواو لم تَعْطِف دعاءً على خبر؛ وإنّما عطفت الجملة على كلامٍ مَحْكِيٍّ، كأنك تقول: قلت (2): بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد”، أو “أقول هذا وهذا”، أو “أكتب هذا وهذا”.
فائدة (3)
قولهم: “الصلاة من الله بمعنى الرحمة”، باطل من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الله تعالى غايَرَ بينهما في قوله: {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157].
الثاني: أن سؤال الرحمة يُشْرع لكلِّ مسلم، والصلاة تختص النبيَّ – صلى الله عليه وسلم- وآله (4)، وهي حق له ولآله، ولهذا منع كثير من العلماء من الصلاة على مُعَيَّنٍ غيره، ولم يمنع أحد من الترحُّم على مُعيِّن.
__________
(1) انظر: “نتائج الفكر”: (ص/ 56).
(2) “قلت” من (ق).
(3) انظر: “نتائج الفكر”: (ص/ 57 – فما بعدها).
(4) سقطت من (ظ).
(1/44)
الثالث: أنّ رحمة الله عامة وسِعَت كلَّ شيء، وصلاته خاصة بخواص عباده.
وقولهم: “الصلاةُ من العباد بمعنى الدعاء”، مُشْكِل من وجوه:
أحدها: أنّ الدعاء يكون بالخير والشر، والصلاة لا تكون إلَّا في الخير.
الثاني: أنّ “دعوت” تعدّى باللام، و”صلّيت” لا تعدّي إِلَّا بعلي، و”دعاء” المعدّى بعلى ليس بمعنى صلّى، وهذا يدل على أنّ الصلاة ليست بمعني الدعاء.
الثالث: أنّ فِعْل (1) الدعاء يقتضى مدعوا ومدعوًّا له، تقول: دعوت الله لك بخير، وفِعْل الصلاة لا يقتضي ذلك، لا تقول: صليت الله عليك، ولا لك، فدل على أنَّه ليس بمعناه، فأيُّ تباين أظهر من هذا، ولكن التقليد يُعْمي عن إدراك الحقائق، فإياك والإخلاد إلى أرضه.
ورأيت لأبي القاسم السهيلي كلامًا حسنًا في اشتقاق الصلاة، وهذا لفظه، قال: “معنى (2) اللفظة حيث تصرَّفت ترجع إلى الحُنُو والعَطْف، إلا أنّ (3) الحنو والعطف يكون محسوسًا ومعقولًا، فيُضاف إلى الله منه ما يليق بجلاله، ويُنفى عنه ما يتقدَّس عنه، كما أن العلو محسوس ومعقول، فالمحسوس منه صفات الأجسام، والمعقول منه صفة ذي الجلال والإكرام وهذا المعنى كثير موجود في الصفات،
__________
(1) سقطت من (ق).
(2) (ظ ود): “معني الصلاة … “.
(3) (ق): “لا لأنَّ”.
(1/45)
و”الكبير” (1) يكون صفة للمحسوسات، وصفة للمعقولات، وهو من أسماء الرب -تعالى-، وقد تقدس عن مشابهة الأجسام، ومضاهاة الأنام، فالمضاف (2) إليه من هذه المعاني معقولة غير محسوسة.
وإذا ثبت هذا فالصلاة -كما قلناه-، حنوّ وعطف، من قولك: “صليت” أي: حنيت [صَلَاك] (3): وعطفته، فأخلِق بأن تكون الرحمة صلاة، كما (4) تُسمَّى عطفًا وحنوًّا، تقول: “اللهم اعطف علينا”، أي: ارحمنا، قال الشاعر (5):
وَمَا زِلْتُ في لِيْني لَهُ وَتَعَطُّفي … عَلَيه كما تَحْنُو على الوَلَدِ الأُمُّ
ورحمة العباد: رقة في القلب، إذا وجدها الراحم من نفسه انعطفَ على المرحوم وانثنى عليه، ورحمة الله للعباد جود وفضل، فإذا صلى عليه فقد أفْضَل عليه وأنعَم.
وهذه الأفعال إذا كانت من الله، أو من العبد؛ فهي متعدية بعلى، مخصوصة بالخير، لا تخرج عنه إلى غيره، فقد رجعت كلها إلى معنى واحد، إلّا أنها في معنى الدعاء والرحمة صلاة معقولة، أي: انحناء معقول غير محسوس، ثمرته من العبد الدعاء؛ لأنَّه لا يقدر على أكثر منه، وثمرته من الله الإحسان والإنعام، فلم تختلف الصلاة
__________
(1) في الأصول: “الكثير”، والمثبت من “النتائج”.
(2) (ق ود): “فما يضاف”، وما ذكره السهيلي هنا فيه نظر؛ لأنَّ كون الصفة محسوسة أو غير محسوسة من الألفاظ المجملة التي لم ترد عن السلف، مثل لفظ (الجسم والحيز والجهة) فلابد من التفصيل فيها، فإن أُريد به المعنى الصحيح قُبِل وإن أُريد به المعني الباطل رُدَّ، انظر “منهاج السنة” (2/ 34 – 35).
(3) (ق): “صلاتك” وهو خطأ، والمثبت من “النتائج”.
(4) من قوله: “قلناه حنو وعطف …. ” إلى هنا سقط من (ظ ود) وهو انتقال نظر، والاستدراك من (ق) و”النتائج”.
(5) البيت لمعن بن أوس من قصيدة له، انظر: “زهر الآداب”: (3/ 246) للحُصْري.
(1/46)
في معناها، إنّما اختلفت ثمرتها الصادرة عنها.
والصلاة التي هي الركوع والسجود انحناءٌ محسوس، فلم يختلف المعنى فيها إلّا من جهة المعقول والمحسوس، وليس ذلك باختلاف في الحقيقة، ولذلك تعدَّت كلُّها بعلى، واتفقت في اللفظ المشتق من الصلاة، ولم يَجُز “صلَّيتُ على العدوّ”، أي: دعوت عليه؛ فقد صار معنى الصلاة أرق (1) وأبلغ من معنى الرحمة، وإن كان راجعًا إليه، إذ ليس كل راحم ينحني على المرحوم، ولا ينعطف عليه من شدة الرحمة (2).
فائدة (3)
رأيت للسهيلي فصلًا حسنًا في اشتقاق الفعل من المصدر هذا لفظه، قال: “فائدة اشتقاقِ الفعل من المصدر؛ أنّ المصدر أسم كسائر الأسماء، يخبر عنه كما يخبر عتها، كقولك: “أعجبني خروج زيد”، فإذا ذكر المصدر وأخبر عنه كان الاسم الذي هو فاعل (4) له مجرورًا بالإضافة، والمضاف إليه تابع للمضاف.
فإذا أرادوا أن يخبروا عن الاسم الفاعل للمصدر، لم يكن الإخبار عنه وهو مخفوض تابع في اللفظ لغيره، وحق المخْبَر عنه أن يكون مرفوعًا مبدوءًا به، فلم يبق إلا أن يدخلوا عليه حرفًا يدل على أنَّه مُخبر عنه، كما تدل الحروف على معانٍ في الأسماء، وهذا لو فعلوه
__________
(1) (ق): “أدق”.
(2) “من شدة الرحمة” من (ق) و”النتائج”.
(3) “نتائج الفكر”: (ص/ 67).
(4) (ظ ود): “الفاعل”. و (ق): “الَّذي فاعل” والمثبت من “النتائج”.
(1/47)
لكان الحرف حاجرًا بينه وبين الحديث في اللفظ، والحَدّث يستحيل انفصاله عن فاعله، كما يستحيل انفصال الحركة عن محلها، فوجب أن يكون اللفظ غير منفصل؛ لأنَّه تابع للمعنى، فلم يبق إلا أن يُشتقَّ من لفظ الحديث لفظ يكون كالحرف في النيابة عنه، دالًّا على معنًى في غيره، ويكون متصلًا اتصال المضاف بالمضاف إليه، وهو الفعل المشتق من لفظ الحَدَث، فإنه يدل على الحديث بالتضمُّن، ويدل على [أنَّ] (1) الاسم مُخْبَر عنه لا مضاف إليه، إذ يستحيل إضافة لفظ الفعل إلى الاسم، كاستحالة إضافة الحرف؛ لأنّ المضاف هو الشيء بعينه، والفعل ليس هو الشيء بعينه، ولا يدل على معنًى في نفسه، وإنّما يدل على معنًى في الفاعل، وهو كونه مخبرًا عنه.
فإن قلت: كيف لا يدل (2) على معنى في نفسه، وهو يدل على الحدث؟.
قلنا: إنّما يدل على الحديث بالتضمُّن، والدال عليه بالمطابقة هو “الضَّرْب” و”القَتْل”، لا “ضَرَبَ” و”قَتَلَ”، ومن ثمَّ وجب أن لا يضاف، ولا يعرَّف بشيء من آلات التعريف؛ إذ التعريف يتعلق بالشيء بعينه، لا بلفظ يدل على معنى في غيره، ومن ثَمَّ وجب أن لا يثنَّى ولا يُجمع كالحرف، ومن ثَمَّ وجب أن يُبنى كالحرف، ومن ثَمَّ وجب أن يكون عاملًا في الاسم كالحرف، كما أنّ الحرف لما دل على معنًى في غيره؛ وجب أن يكون له آثر في لفظ ذلك الغير، كماله آثر في معناه، وإنّما أعرب المستقبل ذو الزوائد؛ لأنَّه تضمن معنى الاسم إذ “الهمزة” تدل على المتكلم، و”التاء” على المخاطب، و”الياء”
__________
(1) زيادة من “النتائج”.
(2) (ق): “كيف لا يكون دالًّا”.
(1/48)
على الغائب، فلما تضمن بها معنى الاسم، ضارعه فأُعْرِب، كما أن الاسم إذا تضمَّن معنى الحرف بُني.
“وأما الماضى والأمر” فإنهما -وإن تضمنا معنى الحديث وهو اسم- فما شاركا فيه الحرف من الدلالة على معنى في غيره، وهي حقيقة الحرف، أوجب بناءهما، حتَّى إذا ضارع الفعل الاسم من وجه آخر، غير التضمن للحدث، خرج عن مضارعة الحرف، وكان أقرب شبهًا بالأسماء كما تقدم.
ولما قدمناه من دلالة الفعل على معنًى في الاسم -وهو كون الاسم مخبرًا عنه- وجب أن لا يخلو عن ذلك الاسم مضمرًّا أو مظهرًا بخلاف الحديث. فإنّك تذكره ولا تذكر الفاعل مضمرًا ولا مظهرًا نحو قوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15)} [البلد: 14، 15] وقوله: {وَإِقَامَ الصَّلَاةِ} [الأنبياء: 73] والفعل لابد من ذكر الفاعل بعده، كما لابد بعد الحرف من الاسم.
فإذا ثبت المعنى في اشتقاق الفعل من المصدر، وهو كونه دالًّا على معنى في الاسم؛ فلا يحتاج من الأفعال الثلاثة إلا إلى صيغة واحدة، وتلك الصيغة هي لفظ الماضي؛ لأنَّه أخف وأشبه بلفظ الحديث، إلا أن تقوم الدلالة على اختلاف أحوال المحدث (1)، فتختلف صيغة الفعل.
ألا ترى كيف لم (2) تختلف صيغته بعد “ما” الظرفية من قولهم: “لا أفعله ما لاح برق، وما طار طائر”؛ لأنهم يريدون الحديث مخبرًا
__________
(1) في “النتائج”: (ص / 69): “الحدث”.
(2) سقطت من (ظ ود).
(1/49)
عنه (1) على الإطلاق، من غير تعرُّضٍ لزمن ولا حال من أحوال الحديث، فاقتصروا على صيغة واحدة، وهي أخف أبنية الفعل.
وكذلك فعلوا بعد التسوية نحو قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرَهُمْ} [البقرة: 6] وقوله: {أَدْعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)} [الأعراف: 193]؛ لأنَّه أراد التسوية بين الدعاء والصمت على الإطلاق، من غير تقييد بوقت ولا حال، فلذلك لم يحتج إلّا إلى صيغة واحدة وهي صيغة الماضي، كما سبق.
فالحَدّث إذا على ثلاثة أَضْرُب:
* ضرب يحتاج إلى الإخبار (2) عن فاعله، وإلى اختلاف أحوال الحديث، فَيُشْتَقُّ منه الفعل، دلالةً على كون الفاعل مخبرًا عنه، وتختلف أبنية دلالته (3) على اختلاف أحوال الحدث.
* وضرب يحتاج إلى (4) الإخبار عن فاعله على الإطلاق، من غير تقييد بوقت ولا حال، فَيُشْتَقُّ منه الفعل، ولا تختلف أبنيته نحو ما ذكرناه من الفعل الواقع بعد التسوية، وبعد “ما” الظرفية.
* وضرب لا يحتاج إلى الإخبار عن فاعله، بل يحتاج إلى ذكره خاصة على الإطلاق، مضافًا إلى ما بعده، نحو: “سبحان الله”.
و”سبحان” (5) اسمٌ ينبئ عن العظمة والتنزيه، فوقع القصد إلى ذكره مجردًا من التقييدات بالزمان، أو بالأحوال، ولذلك وجب
__________
(1) في “النتائج: “به”.
(2) (ق): “الخبر”.
(3) (د): “استدلالته”!.
(4) (ق): “وضرب ما يحتاج إلا … “.
(5) (ق): “فإن سبحان الله”، و”النتائج”: “فإن سبحان”.
(1/50)
نصبه كما يجب نصب كلّ مقصودٍ إليه بالذكر، نحو: إياك، وويلَه (1)، وويحَه، وهما مصدران لم يُشتق منهما فعل، حيث لم يحتج إلى الإخبار عن فاعلهما، ولا احتيج إلى تخصيصهما بزمن، فحكمهما حكم “سبحان”، ونصبهما كنصبه؛ لأنَّه مقصود إليه.
ومما انتصب لأنَّه مقصودٌ إليه بالذكر: “زيدًا ضربته”، في قول شيخنا أبي [الحسين] (2) وغيره من النحويين، وكذلك “زيدًا ضربہت”، بلا ضمير، لا نجعله مفعولًا مقدَّمًا؛ لأنَّ المعمول لا يتقدم على عامله، وهو مذهب قوي. ولكن لا يبعد عندي قول النحويين: إنه مفعول مقدّم، وإن كان المعمول لا يتقدَّم على العامل، والفعل كالحرف؛ لأنَّه عامل في الاسم، ودالٌّ (3) على معنى فيه، فلا ينبغي للاسم أن يتقدَّم على الفعل، كما لا يتقدم على الحرف، ولكن الفعل في قولك: “زيدًا ضربت” قد أخذ معمولَه، وهو الفاعل، فمعتمده عليه ومن أجله صِيْغ، وأما المفعول؛ فلم يبالوا به، إذ ليس اعتماد الفعل عليه كاعتماده على الفاعل، ألا ترى أنَّه يُحْذف والفاعل لا يُحذف؟ فليس تقديمه على الفعل العامل فيه بأبعد من حذفه، وأما “زيدًا ضربته”؛ فينتصب بالقصد إليه كما قال الشيخ.
وهذا الفصل مران أعجب كلامه، ولم أعرف أحدًا من النحويين سبقه إليه.
__________
(1) سقطت من (د).
(2) في الأصول: الحسن”! والتصويب من “النتائج” ومصادر الترجمة.
وهو: أبو الحسين سليمان بن محمد بن عبد الله المعروف بابن الطراوة. ت (528)، وكان من النحاة المعدودين.
انظر: “إنباه الرواة”: (4/ 107)، و”إشارة التعيين”: (ص/ 135).
(3) (ظ ود): “وذاك”!.
(1/51)
فائدة (1)
قولهم للضرب ونجوه: مصدر؛ إن أريد بحروف (مصدر)، مصدر: صَدَر يَصْدر مَصَدرًا (2)؛ فهو يقوِّي قول الكوفيين: إن المصدر صادر عن الفعل مشتقٌّ منه، والفعل أصله، وأصله على هذا: “صادر”، ولكن توسَّعوا فيه كـ “صوم وزَوْر” وعلل في صائم وبابه.
وقال السُّهيلي: هو علي جهة المكان استعارة، كأنه الموضع الَّذي صدرت عنه الأفعال، والأصل الَّذي نشأت منه (3).
قلتُ: وكأنه يعني مصدور (4) عنه لا صادر عن غيره.
قال: ولابد من المجاز على القولين؛ فالكوفي يحتاج أن يقول: الأصل صادر، فإذا قيل: “مصدر” قدر فيه حذف، أي ذو مصدر كما يقدر في “صوم” وبابه، ونحن نسميه مصدرًا استعارة من المصدر الَّذي هو المكان.
فائدة (5)
أصل الحروف أن تكون عاملة؛ لأنَّها ليس لها معانٍ في أنفسها، وإنّما معانيها في غيرها، وأما الَّذي معناه في نفسه (6)، وهو الاسم، فأصله أن لا يعمل في غيره، وإنّما وجب أن يعمل الحرف في كلِّ
__________
(1) انظر: “نتائج الفكر”: (ص / 72 – 73).
(2) (ق): “مصدر يصدر صدرًا”!.
(3) “النتائج”: (عنه).
(4) (د): “مصدر”، (ق): “مصدرًا عنه لا صادرًا”.
(5) “نتائج الفكر”: (ص / 74).
(6) (ظ ود): “غيره” وهو خطأ، ثم صوَّبت في (د).
(1/52)
ما دل على معنى فيه؛ لأنَّه اقتضاه معنى، فيقتضيه عملًا؛ لأنَّ الألفاظ تابعة للمعاني، فكما تشبَّث الحرف بما (1) داخلي عليه معنًي وجب أن يتشبث به لفظًا، وذلك هو العمل.
فأصل الحرف أن يكون عاملًا، فنسأل عن غير العامل، فنذكر الحروف التي لم تعمل، وسبب سلبها العمل.
فمنها: “هل”، فإنها تدخل على جملة قد عمل بعضها في بعض، وسبق إليها عمل الابتداء أو الفاعلية، فدخلت المعنى في الجملة، لا لمعنى في اسم مفرد، فاكتفى بالعامل (2) السابق قبل هذا الحرف، وهو الابتداءُ ونحوه.
وكذلك “الهمزة” نحو: “أعمرو خارج” فإن الحرف دخل لمعنًى في الجملة، ولا يمكن الوقوف عليه، ولا يتوهم انقطاع الجملة عنه؛ لأنَّه حرف مفرد لا يوقَفُ عليه، ولو تُوُهِّم ذلك فيه، لعمل في الجملة، ليؤكدوا بظهور أثرِه فيها تعلُّقَه بها ودخوله عليها واقتضاءَه لها، كما فعلوا في “إنّ” وأخواتها، حيث كانت كلمات من ثلاثة أحرف فصاعدًا، يجوز الوقف عليها، كـ “إنه وليته ولعله”، فأعملوها في الجملة إظهارًا لارتباطها وشدة تعلقها بالحديث الواقع بعدها، وربما أرادوا توكيد تعلق الحرف بالجملة، إذا (3) كان مؤلَّفًا من حرفين، نحو: “هل”، فربما توهم (4) الوقف عليه، أو خيف ذهول السامع عنه، فأُدْخل في الجملة حرفٌ زائد ينبه السامع عليه، وقام ذلك الحرف
__________
(1) (ظ ود): “عما”، والمثبت من (ق).
(2) (ظ ود): “بالعمل” والمثبت من (ق) و”النتائج”.
(3) (ظ ود): “إذ”.
(4) (ق): “وهم”.
(1/53)
مقام العمل، نحو: “هل زيد بذاهب”، و”ما زيد بقائم”، فإذا سمع المخاطب “الباء” وهي لا تدخل في الثبوت، تأكد عنده ذكر النفي والاستفهام، وأنَّ الجملة غير منفصلة [عنه] (1)، ولذلك أعمل أهل الحجاز “ما” النافية [لتشبُّثِها] (2) بالجملة.
ومن العرب من اكتفى في ذلك التعلق وتأكيده بإدخال “الباء” في الخبر؛ ورآها نائبة (3) في التأثير عن العمل، الذي هو النصب.
وإنما اختلفوا في “ما”، ولم يختلفوا في “هل”؛ لمشاركة “ما” لـ “ليس” في النفي، فحين أرادوا أن يكون لها أثر في الجملة، يؤكَد [تشبئها] (4) بها، جعلوا ذلك الأثر كأثر “ليس”، وهو النصب، والعمل في باب “ليس” أقوى؛ لأنها كلمة، كـ “ليت” و”لعل” و”كأنّ”، والوهم إلى انفصال الجملة عنها أسرع منه إلى توهُّم انفصال الجملة عن “ما” و”هل”. فلم يكن بدّ من إعمال “ليس” وإبطال معنى الابتداء السابق. ولذلك إذا قلت: “ما أريد إلا قائم”، لم يعملها أحد منهم؛ لأنه لا يتوهم انقطاع “زيد” على “ما”؛ لأن “إلا” لا تكون إيجابًا إلا بعد نفي، فلم يتوهم انفصال الجملة عن “ما”، ولذلك لم يُعْمِلوها عند تقديم الخبر، نحو: “ما قائم زيد”، إذ ليس من رقبة النكرة أن يكون مبدوءًا بها مخبرًا عنها إلا مع الاعتماد على ما قبلها، فلم يتوهم المخاطب انقطاع الجملة عن “ما” قبلها, لهذا السبب فلم يحتج إلى إعمالها وإظهارها، وبقي الحديث كما كان قبل دخولها، مستغنيًا عن تأثيرها فيه.
__________
(1) في الأصول: “عنده”، والتصويب من “النتائج”.
(2) في الأصول: “لشبهها” والتصويب من “النتائج”.
(3) (ظ ود): “ثابتة” و (ق) محتملة، والمثبت من “النتائج”.
(4) تحرفت في (ق وظ): والمثبت من (د) و”النتائج”.
(1/54)
وأما حرف “لا”؛ فإن كان عاطفًا فحكمه حكم حروف العطف، ولا شيء منها عامل، وإن لم تكن عاطفة نحو: “لا زيد قائم ولا عَمرو”، فلا حاجة إلى إعمالها في الجملة؛ لأنه لا يتوهم انفصال الجملة بقوله: “ولا عمرو”؛ لأن الواو مع “لا” الثانية تشعر بالأولى لا محالة، وتربط الكلام بها؛ فلم يحتج إلى إعمالها، وبقيت الجملة عاملًا فيها الابتداء، كما كانت قبل دخول “لا”.
فإن (ق 12/ ب)، قلت: فلو لم تعطف، وقلتَ: “لا زيد قائم”؟.
قلتُ: هذا لا يجوز؛ لأن “لا” يُنفى بها في أكثر الكلام ما قبلها، تقول: “هل قام زيد”؟ فيقال: لا. وقال سبحانه: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)} [القيامة: 1] وليست نفيًا لما بعدها هنا، بخلاف ما (1) لو قيل: “ما أقسم” فإنّ “ما” لا (2) تكون أبدًا إن نفيًا لما بعدها، فلذلك قالوا: “ما زيد قائم”، ولم يخشوا (3) توهم انقطاع الجملة عنها, ولو قالوا؟ “لا زيد قائم”، لخيف أن يتوهم أن الجملة موجبة، وأن “لا” كـ “هي” أني (لا أقسم)؛ إلا أن تعطف فتقول: “لا زيد في الدار ولا عَمرو” وكذلك] في النكرات، نحو: {لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} [الطور: 23] إن أنهم في النكرات قد أدخلوها على المبتدإ والخبر تشبيها لها بـ “ليس”؛ لأنّ النكرة أبعد في باب (4) الابتداء من المعرفة، والمعرفة أشد استبدادًا بأول الكلام.
وأما التي للتبرِئَة؛ فللنحويين فيها اختلاف، أهي عاملة أم لا؟ فإن كانت عاملة فكما أعملوا “إِن” حرصًا على إظهار تشبُّثها بالحديث.
__________
(1) سقطت من (ق).
(2) سقطت من (ق).
(3) (ق): “يجتنبوا”.
(4) من (ق) وما بين المعكوفات قبلها من “النتائج”.
(1/55)
وإن كانت غير عاملة -كما ذهب إليه سيبويه (1) -، والاسم بعدها مركب معها مبني على الفتح، فليس الكلام فيه.
وأما حرف النداء؛ فعامل في المنادى عند بعضهم، قال (2): “والذي يظهر لي الآن أن النداء (3) تصويت بالمنادى نحو “ها” ونحو “يا” (4)، وأن المنادى منصوب بالقصد إليه وإلى ذكره، كما تقدم من قولنا في كل مقصود إلى ذكره مجردًا عن الإخبار عنه: إنه منصوب. ويدلك على أن حرف النداء ليس بعامل وجود العمل في الاسم دونه، نحو: “صاحب زيد أقبل”، و {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف: 29] وإن كان مبنيًّا عندهم فإنه بناء كالعمل. ألا تراه ينعت على اللفظ كما ينعت المعرب؟ ولو كان حرف النداء عاملًا لما جاز حذفه وإبقاء عمله.
فإن قلت: فلِمَ عملت النواصب والجوازم في المضارع؟ والفعلُ بعدها جملة قد عمل بعضه في بعض، ثم إن المضارع قبل دخول العامل عليه كان مرفوعًا، ورفعه بعامِل، وهو وقوعه موقع الاسم, فهلاَّ مَنع هذا العامل هذه الحروف من العمل، كما منع الابتداء الحروف الداخلةَ على الجملة من العمل؛ إِلَّا أن يُخشى انقطاع الجملة، كما خِيف في “إِن” وأخواتها.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أَن العامل في المبتدأ (5) -وإن كان معنويًا-
__________
(1) انظر: “الكتاب” (1/ 145). والكلام في مختلف عما هنا، فإن “لا” تعمل عنْدَه.
(2) القائل هو: السُّهيلي فيِ “نتائج الفكر”: (ص/ 77).
(3) في “النتائج”: “أن يا”.
(4) (د): “ونحوها”.
(5) (ق): “الابتداء”.
(1/56)
كما أَنَّ الرَّافع للفعل المضارع معنوي، ولكنه أقوى منه؛ لأنَّ حقَّ كلِّ مُخبر عنه أن يكون مرفوعًا لفظًا وحسًّا، كما أنه مرفوع معنى وعقلًا، ولذلك استحق الفاعلُ الرفعَ دون المفعول؛ لأنّه المحْدَث عنه الفعل (1)، فهو أرفع رتبة في المعنى، فوجب أن يكون [في] (2) اللفظ كذلك، لأنه تابع للمعنى. وأما رفع الفعل المضارع فلوقوعه موقع الاسم المخبر عنه (3) والاسم التابع له، فلم يَقْوَ قوَّته في استحقاق الرفع، فلم يمنع شيئًا من الحروف اللفظية عن العمل؛ إذ اللفظي أقوى من المعنوي، وامتنع ذلك في بعض الأسماء المبتدأة لضعف الحروف وقوة (4) العامل السابق للمبتدأ.
الجواب الثاني: أن هذه الحروف لم تدخل لمعنى في الجملة، إنّما دخلت لمعنى (5) في الفعل المتضمِّن للحديث من نفى أو إمكان (6) أو نهي أو جزاءٍ أو غيره، وذلك كله يتعلق بالفعل خاصة لا بالجملة، فوجب عملها فيها كما وجب عمل حروف الجر في الأسماء، من حيث دلت على معنى فيها, ولم تكن داخلة على جملة قد سبق إليها عامل معنوي ولا لفظي.
ومما ينبغي أن يُعْلَمْ أن النواصب والجوازم لا تدخل على الفعل الواقع موقع الاسم، لحصوله في موضع الأسماء، فلا سبيل
__________
(1) في الأصول: “بالفعل”، والتصويب من “النتائج”.
(2) زيادة من “النتائج”.
(3) كذا في الأصول و”النتائج”! والصواب: “به”.
(4) (ظ ود): “وقلّة”!.
(5) “الجملة، إنما دخلت لمعنى في” سقطت من (د).
(6) (ظ ود): “إنكار”.
(1/57)
لنواصب الأفعال وجوازمها أن تدخل على الأسماء ولا على (1) ما هو واقع موقعها. فهي إذا دخلت على الفعل؛ خلَّصته للاستقبال، ونفت عنه معني الحال، وهذ: معنًى يختصُّ بالفعل لا بالجملة.
وأما “إلا” في الاستثناء؛ فقد زعم بعضهم أنها عاملة، ونقض ذلك عليه (2) بقولهم: “ما قام أحد إلا زيد”، و”ما جاءني إلا عَمرو”، والصحيح أنها موصلة الفعل إلى العمل في الاسم بعدها، كتوصيل واو المفعول معه الفعلَ إلى العمل فيما بعدها, وليس هذا يكسر الأصلَ الذي قدمناه، وهو: استحقاق جميع الحروف العمل فيما دخلت عليه من الأسماء المفردة والأفعال! لأنها إذَا كانت موصلة للفعل، والفعل عامل، فكأنها هي العاملة. فإذا قلت: “ما قام إلا زيد”، وقد أعملت الفعل على معنى الإيجاب، كما لو قلت: “قام زيد لا عَمرو”، وقامت “لا” مقام نفي الفعل عن عَمرو، فكذلك (3) قامت “إلا” مقام إيجاب الفعل لزيد، إذا قلت: “ما جاءني إلا زيد”، فكأنها هي العاملة، فاستغنوا عن إعمالها عملًا آخر.
وكذلك حروف العطف، وإن لم تكن عوامل، فإنما جاءت “الواو” الجامعة منها لتجمع بين الاسمين في الإخبار عنهما بالفعل. فقد أوصلت الفعل إلى العمل في الثاني، وسائر حروف العطف يتقدَّرْ بعدها العامل، فتكون: في حكم الحروف الداخلةَ على الجمل. وإذا قلت: “قام زيد وعَمرو”، فكأنك قلت: “قام زيد (4) وقام عَمرو”،
__________
(1) من (ق).
(2) من (ق).
(3) (ظ ود): “فلذلك “.
(4) “وعمرو، فكأنك قلت: قام زيد” سقطت من (ق).
(1/58)
فصارت هذه الحروف كالداخلة على الجمل، فقد تقدَّم في الحروف الداخلة على الجمل، أنها لا تستحق من العمل فيها ما تستحق الحروف الداخلة على الأسماء المفردة والأفعال.
ونقيس على ما تقدم “لامَ” التوكيد وتركَهم إعمالَها في الجملة، مع أنها لا تدخل لمعنى في الجملة فقط، بل لتربط ما قبلها من القَسَم بما بعدها. هذا هو الأصل فيها، حتى إنهم ليذكرونها دون القسم، فتشعر عند المخاطب باليمين (1) كقوله:
إني لأمْنحُكِ الصدودَ وإنني … قَسَمًا إليكِ مع الصُّدودِ لأمْيَلُ (2)
لأنه حين قال: “لأمنحك”، علم أنه قد أَقسم، فلذلك قال: “قسمًا”.
وهذا الأصل محيط بجميع أصول إعمال الحروف وغيرها من العوامل، وكاشف عن أسرار العمل للأفعال وغيرها من الحروف في الأسماء، ومَنْبَهَةٌ على سر امتناع الأسماء، أن تكون عاملة في غيرها” هذا لفظ السهيلي، والله أعلم.
فائدة (3)
اختص الإعراب بالأواخر؛ لأنه دليل على المعاني اللاحقة للمعْرَب، وتلك المعاني لا تلحقه إلا بعد تحصيله وحصول العلم بحقيقته، فوجب أن يترتَّب (ق/ 13 ب) الإعراب بعده كما ترتب مدلوله
__________
(1) (ظ ود): “بالنهي” وهو خطأ.
(2) وقع في النسخ بعض التحريف في البيت.
وهو للأحوص بن محمَّد الأنصاري من قصيدة له، وهو من شواهد في “الكتاب” (1/ 190) وانظر “الخزانة”: (2/ 48).
(3) “نتائج الفِكْر”: (ص/ 82).
(1/59)
الذي هو الوصف في المعْرَب.
فائدة (1)
قولهم: “حرف متحرك” و”تحركت الواو”، ونحو ذلك؛ تساهل منهم، فإن الحركة عبارة عن انتقال الجسم من حيِّز إلى حيِّز، والحرف جزء من الصوت، ومحالٌ أن تقوم الحركة بالحرف؛ لأنه عَرض، والحركة لا (ظ/ 11 أ)، تقوم بالعرض، وإنما المتحرك في الحقيقة هو العضو من الشفتين، أو اللسان، أو الحَنك الذي يخرج منه الحرف.
فالضمة عبارة عن: تحريك الشفتين بالضمِّ عند النطق. فيحدث مع ذلك صُوَيت خفيّ مقارن للحرف، إن امتد كان “واوًا”، وإن قصر كان “ضمة”.
وكذلك الفتحة عبارة عن فتح الشفتين عند النطق بالحرف، وحدوث الصوت الخفي، الذي يسمى: فتحة أو نصبة، وإن مدت كانت ألفًا، وإن قصرت: فهي فتحة، وكذلك القول في الكسرة.
والسكون عبارة عن: خلوِّ العضو من الحركات عند النطق بالحرف، فلا يحدث بعد الحرف صوت فيجزم عند ذلك، أي: ينقطع، فلذلك سُمي: جزمًا؛ اعتبارًا بانجزام الصوت، وهو انقطاعه. وسكونًا؛ اعتبارًا بالعضو الساكن.
فقولهم: “فتح، وضم، وكسر”، هو من صفة العضو، وإذا سميت ذلك: “رفعًا ونصبًا وجزمًا وجرًا” فهي من صفة الصوت؛ لأنه يرتفع عند ضمّ الشفتين، وينتصب عند فتحهما، وينخفض عند كسرهما،
__________
(1) المصدر نفسه: (ص/ 83).
(1/60)
وينجزم عند سكونهما.
ولهذا عبروا عنه: بـ “الرفع والنصب والجر” عن حركات الإعراب، إذ الإعراب (1) لا يكون إلا بعامل وسبب، كما أن هذه الصفات التي تضاف إلى الصوت، مِنْ رفع ونصب وخفض إنما تكون بسبب، وهو حركة العضو، واقتضت الحكمة [اللطيفة] (2) أن يُعبّر بما يكون عن سبب عما يكون [لسبب] (3)، وهو الإعراب، وأن يعبر: “بالفتح والضم والكسر والسكون” عن أحوال البناء، فإن البناء لا يكون بسبب، وأعني بالسبب: العامل. فاقتضت الحكمة أن يعبَّر عن تلك الأحوال بما يكون وجوده بغير آلة (4)؛ إذ الحركات الموجودة في العضو لا تكون إلا (5) بآلة، كما تكون الصفات المضافة إلى الصوت (6).
وعندي (7) أن هذا ليس باستدراك على النحاة، فإن الحرفَ وإن كان عَرضًا فقد يوصف بالحركة، تبعًا لحركة محلِّه، فإن الأعراض وإن لم تتحرك بأنفسها؛ فهي تتحرك بحركة محالّها، وعلى هذا فقد اندفع الإشكال جملة.
__________
(1) “إذ الإعراب” سقطت من (د).
(2) في الأصول: “اللفظة”، والمثبت من “النتائج”.
(3) في الأصول: “عن سبب” والمثبت من “النتائج”.
(4) (ظ): “بما كون وجوده لغير آلة”.
(5) كذا في جميع النسخ و”النتائج”. واستظهر محققه أن المعنى لا يستقيم إلا بحذف “إلا”.
(6) (ظ ود): “الموصوف”!.
(7) الكلام لابن القُيم -رحمه الله-.
(1/61)
وأما المناسبة التي ذكرها في اختصاص الألقاب؛ فحَسَنة، غير أن كثيرًا من النحاة يطلقون كلًّا منها على الآخر، ولهذا يقولون في “قام زيد”: مرفوع علامة رفعه ضمة آخره، ولا يقولون: رفعة آخره، فدل على إطلاق كل منهما على الآخر.
فائدة (1)
تقول: “نوَّنت الكلمة” ألحقتُ بها نونًا، و”سيَّنْتُها” ألحقت بها سينًا، و”كَوَّفتها” ألحقت بها كافًا، فإن ألحقت بها زايًا قلت: “زوَّيْتُها”؛ لأنَّ ألف الزاي منقلبة عن واو؛ لأن باب “طويت” أكثر من (2) باب “حوة وقوة”. وقال بعضهم: “زيَّيتها” وليس بشيء.
فائدة (3)
التنوين فائدته التفرقة بين فصل الكلمة ووصلها، فلا يدخل في الاسم إلا علامة على انفصاله (ق/ 14 أ)، عما بعده. ولهذا كَثُر في النكرات؛ لِفَرْط احتياجها إلى التخصيص بالإضافة، فإذا لم تضَف احتاجت إلى التنوين تنبيهًا على أنها غير مضافة، ولا تكاد المعارف تحتاج إلى ذلك، إلا فيما قلّ من الكلام؛ لاستغنائها في الأكثر عن زيادة تخصيصها. وما لا يتصوّر فيه الإضافة بحال، كالمضمر والمبهم لا ينون بحال، وكذلك المعرف باللام، وهذه علة عدم التنوين وقفًا، إن الموقوف عليه لا يضاف.
واختصت النون الساكنة بالدلالة على هذا المعنى؛ لأنَّ الأصل
__________
(1) “نتائج الفكر”: (ص/ 86). وانظر “الخصائص”: (3/ 278).
(2) (د): “و”!.
(3) “نتائج الفكر”. (ص/ 87).
(1/62)
في الدلالة على المعاني الطارئة على الأسماء أن تكون بحروف المد واللين وأبعاضها، وهي الحركات الثلاث، فمتى قدر عليها؛ فهي الأصل، فإن تعذرت (1) فأقرب شبهًا بها، وآخر الأسماء المعربة قد لحقتها حركات الإعراب، فلم يبقَ لدخول حركة أخرى عليها سبيل، ولا لحروف المدّ واللِّين؛ لأنّها مُشْبَعة (2) من تلك الحركات؛ ولأنها عرضة الإعلال (3) والتغير. فأشبه شيء بها: النون الساكنة؛ لخفائها وسكونها، وأنها من حروف الزيادة، وأنها من علامات الإعراب. ولهذه العلة لا يُنوّن الفعل؛ لاتصاله بفاعله، واحتياجه إلى ما بعده.
فائدة (4)
جُعِلت علامة التصغير: ضم أوله وفتح ثانيه وياء ثالثة (5).
وحكمةُ ذلك -والله أعلم- ما أشار إليه السُّهيلي: فقال: “التصغير: تقليل أجزاء المصغَّر، والجمع: مقابله، وقد زِيْد في الجمع ألفٌ ثالثة كـ “فعالل”، فزيد في مقابلته ياء ثالثة، ولم تكن آخرًا كعلامة التأنيث، لأن الزيادة في اللفظ على حسب الزيادة في المعنى، والصفة التي هي صغر الجسم لا تختص بجزء (ظ/ 11 ب) منه دون جزء، بخلاف صفة التأنيث؛ فإنها مختصة في جميع الحيوانات بطرف يقع به الفرق بين الذكر والأنثى، فكانت العلامة في اللفظ المنبئة عن معنى المناسبة طرفًا في اللفظ، بخلاف الياء في التصغير، فإنها منبئة عن صفة واقعة
__________
(1) (ظ ود): “تعددت”!.
(2) (ق): “مشتقة”!.
(3) (ق): “الإعمال”!.
(4) “نتائج الفكر”: (ص/ 89).
(5) “وياء ثالثة” ليست في (ظ ود).
(1/63)
على جملة المصغر، وكانت “ياء” لا “ألفًا”؛ لأن الألف قد اختصت بجمع [التكثير] (1)، وكانت به أولى، كما كانت الفتحة التي هي أُختها بذلك أولى؛ لأن الفتح يُنبئ عن الكثرة، ويُشار به إلى السَّعَة، كما تجد الأخرس والأعجم -بطبعه- إذا أخبر عن شيءٍ كثير، فتح شفتيه، وباعَدَ ما بين يديه، وإذا كان الفتح يُنبئ عن الكثرة والسعة (2)، والضم الذي هو ضده (3) يُنبئ عن القلة والحقارة، كما تجد المقلِّل للشيء يُشير إليه بضم فم أو يد، كما فعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين ذكر ساعةَ الجمعة، وأشار بيده يقللها (4)، فإنه جمع أصابِعَه وضمَّها ولم يفتحها (5).
وأما الواو، فلا معنى لها في التصغير لوجهين:
أحدهما: دخولها في ضَرْبٍ من الجموع، نحو “الفعول” (6)، فلم يكونوا يجعلونها علامة في التصغير، فيلتبس التقليل بالتكثير.
والثاني: أنّه لابد من كسر ما بعد علامة التصغير، إذا لم يكن حرف إعراب كما كسر ما بعد علامة [التكثير] (7) في “مَفَاعِل”، ليتقابل اللفظان، (ق/ 14 ب) وإن تضادَّا، كما قابلوا “عَلِم” بـ “جَهِل”، أو “رَوِي” بـ “عَطِش”، و”وَضيع”: فهو “وضيع” بـ “شَرُف” فهو “شريف”، فلم
__________
(1) في الأصول: “التذكير” والمثبت من “النتائج”.
(2) (ظ ود): “على السعة”.
(3) (ظ ود): “صدره”!.
(4) أخرجه البخاري رقم (935) ومسلم رقم (852) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(5) جاءت صفة التقليل في “البخاري” رقم (5294) من طريق سلمة بن علقمة، وفيه: “وقال بيده، ووضع أنملته على بطن الوسطى والخِنصر. قلنا: يُزَهِّدها” اهـ.
(6) (ظ ود): “المجموع نحو المفعول”.
(7) في الأصول: “التكسير” والمثبت من “النتائج”.
(1/64)
يمكن إدخال الواو لئلا يخرجوا منها إلى كسره، وامتنعت (1) “الألف” لأجل أصل الجمع لها، تعيّنت الياء وفتح ما قبلها لأجل ضم أول الكلمة، لئلّا يخرج من ضمٍّ إلى كسر.
فائدة (2)
الأفعال: واجب وممكن ومنتف أو في حكمه، فالرفع للواجب، والنصب للممكن، والجزم -الذي هو عدم الحركة- للمنفي، أو ما في حكمه، هذا هو الأصل. وقد يخالف، وإن شئت قلت: الأفعال ثلاثة أقسام: وأقع موقع الاسم؛ فله الرفع نحو: “هل تضرب”، واقعٌ موقع “ضارب”. وفعل في تأويل الاسم، فله النصب نحو: “أريد أن تقوم”، أي: “قيامك”. وفعلٌ لا واقع موقع اسم ولا في تأويله، فله الجزم، نحو: “لم يقم”.
فائدة (3)
إنما أضيفت ظروف الزمان، إلى الأحداث الواقعة فيها، نحو “يوم يقوم زيد”؛ لأنها أوقات لها وواقعة فيها، فهي لاختصاصها بها أُضيفت (4) إليها، وهذا بخلاف ظروف المكان؛ لأنها لا تختص بتلك الأحداث. فإن اختصت غالبًا حَسُنَت الإضافة، نحو: “هذا مكان يجلس القاضي”، ويكون بمنزلة: “يوم يجلس القاضي” سواء. وربما أضيفت (أسماء الزمان) إلى أحداثٍ لا تقع فيها لاتصالها بها، كقوله
__________
(1) تحرفت في (ظ ود).
(2) “نتائج الفكر”: (ص/ 91).
(3) “المصدر نفسه” ت (ص/ 93 – 97).
(4) (ظ ود): “أضيف”.
(1/65)
تعالى: {لَيْلَةَ الصِّيَامِ} [البقرة: 187] فالليلة من ظروف الزمان، وقد أضيفت إلى الصيام، وليس بواقع فيها، فلما جاز في بعض الكلام أن يضاف الظرف إلى الاسم الذي هو الحدث -وإن لم يكن واقعًا فيه- أضافوه إلى الفعل لفظًا، وهو مضاف إلى الحدث معنًى، وأقحم لفظ الفعل إحرازًا (1) للمعنى، وتخصيصًا (2) للغرض، ورفعًا لشوائب الاحتمال، حتى إذا سمع المخاطب قولك: “يوم قام زيد”، علم أنك تريد: اليوم الذي قام فيه زيد، ولو قلت مكان قولك: “ليلةَ الصيام”: “ليلةَ صيام زيد” ما كان له معنًى إلاّ وقوع الصيام في الليل, فهذا (3) الذي حملهم على إقحام لفظ الفعل عند إرادتهم إضافة الظروف إلى الأحداث، وقِسْ على ذلك المبتدأ والخبر.
وأما “ريث” فبمنزلة الظرف وقد صارت في معناه، وكذلك: “حيث” و”ذي تَسْلم” لأن (4) المعنى في قول بعضهم: “اذهب بوقت ذي تَسْلم” (5)، أي: سلامتك، فلمَّا حذفت المنعوتَ، وأقمت النعت مقامه، أضفته أبي ما كنت تضيف إليه المنعوت وهو الوقت.
قال السُّهيلي: وهو عندي على الحكاية حكوا قول الداعي “تسلم” (6) كما تقول (7): “تعيش وتبقى”، فقولهم: “اذهب بذي
__________
(1) (ظ ود): “إقرارًا”.!
(2) كذا في الأصول، وفي: “النتائج”: “وتحصينًا”.
(3) (ظ ود): “فهو”!.
(4) (ظ ف د): “أن”!.
(5) (ق): “اذهب بذي تَسْلم” و (ظ ود): “اذهب لوقت … “.
(6) تكررت في (د) وهو: متَّجِه.
(7) من (ق) و”النتائج”.
(1/66)
تسلم”، أي: اذهب بهذا القول مني، ولم يقولوا: اذهب بتسلم؛ لئلا يكون اقتصارًا على دعوة واحدة، ولكن قالوا: بذي تسلم، أي: يقول يقال فيه: “تسلم”، يريدون هذا المعنى، وحذفوا القول المنعوت بذي؛ اكتفاءً بدلالة الحال عليه.
وأما قوله:
* بآيةِ ما يحبُّون الطَّعَاما (1) *
فالآية هي: العلامة، وهي ها هنا بمعنى الوقت؛ لأن الوقت علامة للمؤقت.
والذي يجوز إضافته من ظروف الزَّمان إلى الفعل؛ ما كان منها منفردًا متمكِّنًا، جاز إضافته إليها، وما كان مثنى كـ “يومين” ونحوه لم يضف إليها؛ لأنَّ الحدث إنَّما يقع مضافًا لظرفه الذي هو وقت له؛ فلا معنى لِذكر وقتٍ آخر.
وأيضًا: فالجملة المضاف إليها نعت للظرف في المعنى، فقولك “يوم قام زيد”، كقولك: “يوم قام زيدٌ فيه” في المعنى، والفعل لا يدخله التثنية؛ فلا يصح أن يضاف إليه الاثنان, كما لا يصح أن يُنعت الاثنان بالواحد.
ووجه ثالث: وهو أن قولك: “قام زيدٌ يومَ قام عَمْرو” (2)، لم
__________
(1) عجز بيت ليزيد بن عَمرو الكِلابي، وصدره:
* ألا من مُبْلغ عني تميمًا *
انظر “الكتاب”: (1/ 460) , و”الخزانة”: (6/ 518).
(2) بالأصول: ” … يومًا … ” واختلفت نسخ “النتائج” في العبارة، واستظهر المحقق ما هو مثبت.
(1/67)
يصح، إلا أن يكون جوابًا. لـ “متى”، واليومان جواب لـ “كم”، وما هو جواب لـ “كم” لا يكون جوابًا لـ “متى” أصلًا، فإن أضفتَ اليومين إلى الفعل، صرتَ مناقضًا لجمعك بين الكمية وبين ما لا يكون إلا لـ “متى”.
وأما “الأيام”، فربما جاء (1) إضافتها مجموعة إلى الفعل؛ لأنها قد يُراد بها معنى الفرد (2) كالشهر، والأسبوع، والحول، وغيره، وكذلك غير المتمكن، كـ “قبل وبعد”, لا يضاف إلى الفعل، لأنك لو أضفتها إليه لاقتضت إضافتها إليه ما يقتضيه قولك: “يوم قام زيد”؛ أي: اليوم الذي قام فيه، وذلك محال في “قبل وبعدُ”؛ لأنه يؤول (3) إلى إبطال معنى القبليَّة والبعدية.
وأما “سحر” يوم بعينه فَيَمنع (4) إضافته إلى الفعل ما فيه من معنى اللام، فقِس على هذا.
[فائدة]وقال السُّهيلي (5): قياس الأسماء الخمسة أن تكون مقصورة؛ لأن أصلها: “أبو أخو”، والواو إذا تحرَّكت وانفتح ما قبلها تُقْلَب ألفًا، فتكون مقصورة -كما هو إحدى لغاتها- ولكن هذه الأسماء حُذفت أواخرها في حال الإفراد والانفصال عن الإضافة.
وقال لي بعض أشياخنا في تعليل الحذف (6): إن التنوين لما أوجب حذف الألف المنقلبة لالتقاء الساكنين؛ حذفوها رأسًا، كما قيل:
__________
(1) في “النتائج”: “جاز”.
(2) في “النتائج”: “المفرد”.
(3) (د): “يؤدي”.
(4) (ظ ود): “فيمتنع”.
(5) في “نتائج الفكر”: (ص/ 98 – 106).
(6) (ظ): “في بعلبك”، وعليه عامة الطبعات، وهو تحريف غريب!.
(1/68)
رأى الأمرَ يُفْضي إلى آخِرٍ … فصَيَّرَ آخرَ أوَّلا (1)
فإذا أضفت وزالت [عِلَّة] (2) التنوين، رجعت الحروف المحذوفة، وكان الإعراب فيها مقدَّرًا كما هو مقدر في الأسماء المقصورة، وقال بهذا بعض النحاة.
قال: والأمر فيها عندي أنها علامات إعراب، وليست حروف إعراب، والمحذوف منها لا يعود إليها في الإضافة، كما (3) لا يعود المحذوف من “يد” و”دم”. وبُرهان ذلك أنك تقول: أخي وأبي، إذَا أضفت إلى نفسك، كما تقول: يدي ودمي؛ لأنَّ حركات الإعراب لا تجتمع مع ياء المتكلم، كما تجتمع (4) معها واو الجمع، فلو كانت الواو في “أخوك” حرف إعراب لقلت في الإضافة إلى نفسك: هذا أخيَّ، كما تقول: هؤلاء مسلميّ، فتدغم الواو في “الياء” لأنها حرف إعراب عند سيبويه (5)، وهي عند غيره علامات إعراب (6) , فإذا كانت واو الجمع تَثبتُ مع ياء المتكلم, وهي (7) زائدة، وهي عند غيره علامة إعراب، فكيف يحذف “لام” الفعل وهي (8) أحقّ بالثبات منها!؟ فقد وضح لك أنها ليست الحروف المحذوفة الأصلية.
__________
(1) البيت غير منسوب في “الخزانة”: (8/ 109)، و”العقد الفريد”: (2/ 253).
(2) (ظ ود): “وزالت عند”، و (ق): “وزال عنه”، والمثبت من “النتائج”.
(3) ليست في (ظ ود).
(4) في (ق، وبعض نسخ “النتائج”): “كما لا تجتمع”.
(5) انظر “الكتاب”: (1/ 4).
(6) وهم الكوفيون، انظر “الإنصاف”: (1/ 258) للأنباري.
(7) (ظ ود): “وهي غير”.
(8) من (ق).
(1/69)
فإن قيل: فلِمَ أعرْبت بالحروف؟ ولِمَ أُعِلَّت بالحذف دون القلب، خلافًا لنظائرها مما علّته كعلَّتها، وهي الأسماء المقصورة؟.
قلنا: في ذلك جوانب لطيف، وهو: أن اللفظ جَسَد، والمعنى رُوح, فهو تَبَع له في صحته واعتلاله، والزيادة فيه والنقصان منه، كما أن الجسد مع الروح كذلك؛ فجميع ما يعتري اللفظ من زيادة أو حذف، فإنما يكون (1) بحسب ما يكون في المعنى، اللهم إلا أن يكثر استعمال كلمة، فيحذف منها تخفيفًا على اللسان، لكثرة دورها فيه, ولعلم المخاطب بمعناها، كقولهم: “أَيْشٍ” في “أي شيء”, و”لم أُبَلْ” (2).
وهذه الأسماء الخمسة مضافة في (3) المعنى، فإذا قُطِعَتْ عن الإضافة وأُفْرِدت نقص المعنى، فنقصى اللفظ تبعًا له، مع أنّ أواخرها حروف علّة، فلابدّ من تغييرها إما بقلب وإما بحذف, وكان الحذفُ فيها أولى، كما قدمنا وكان ينبغي على هذا أن يتمَّ لفظها في حال الإضافة كما تمَّ معناها، إلا أَنهم كرهوا أن يُخلوا “الخاء” من أخ، و”الباء” من أب من الإعراب الحاصل فيها؛ إذ ليس في الكلام ما يكون حرف إعراب في حال الإفراد دون الإضافة؛ فجمعوا بين الغرضين، ولم يبطلوا أحدَ القياسين، فمكنوا الحركات التي هي علامات الإعراب في الإفراد؛ فصارت حروف مدٍّ ولينٍ في الإضافة، وقد تقدَّم أن الحركة بعض الحرف، فالضمَّة: التي في قولك: “أخٌ”، هي بعينها علامة الرفع (4)
__________
(1) في “النتائج”: “هو”.
(2) (د). “لم أبالِ”.
(3) (ظ ود): “إلى”.
(4) سقطت من (ق).
(1/70)
في “أخوك” إلا أن الصوت (1) بها يمد، ليتمِّموا اللفظ كما تَمموا المعنى بالإضافة إلى ما بعد الاسم، ولم يحتاجوا مع تطويل حركات الإعراب إلى إعادة ما حُذِف من الكلمة رأسًا؛ كما لا يُعَاد محذوف “يد ودم”.
وأما التثنية؛ فإنهم صحَّحوا اللفظ فيها بإعادة المحلوف تنبيهًا على الأصل، وهو الانقلاب إلى ألف، فقالوا: “أخوان” و”أَبوان”، كما قالوا: عصوان [ورجَوَان] (2)؛ لأن قياسه في الأصل كقياسه بخلاف “يد” و”دم “، فإن أصلهما: “يَدْيٌ ودَمْيٌ” (3)، فلم يكن بابها كباب “عَصَى” و”رجا”, فاستمر الحذف فيهما في التثنية والإفراد.
فإن قيل: فلم لا يعود المحذوف (4) في “ابن” في تثنيةٍ ولا إضافة؟.
قيل: لأنهم عوَّضوا من المحذوف ألف الوصل في “ابن واسم”، فَلَمْ يجمعوا بين العِوَض والمعوَّض، بخلاف “أخ وأب”، ومَنَعهم أن يعوضوا من المحذوف في “أخ وأب” الهمزة التي في أولهما فِرارًا (5) من اجتماع همزتين.
وأما “حم” فأصله حَمَأٌ بالهمزة، فلم يكونوا ليعوضوا من الهمزة همزة أخرى، فجعلوه كأخٍ وأبٍ.
__________
(1) (ظ ود): “المصوّت”.
(2) (ظ ود): “عضوان وبطوان” و (ق): “ومطوان” ولعل الصواب ما أثبت بدليل ما بعدها، والرجوان مثنى: رجا، وهو ناحية البئر.
(3) أجمعوا على سكون الدال من “يَدْي” واختلفوا في الميم بن (دَمَْي)، فقيل: بالفتح وقيل: بالسكون.
(4) سقطت من (ظ ود).
(5) (ظ ود): “أولها فروا”.
(1/71)
فإن قيل: (ق/ 16 أ): فلم قالوا في جمْعِه: “بنون” دون “ابْنون”؟.
قيل: الجمع قد يلحقه التغيير بالكسر وغيره، بخلاف التثنية فإنها لا يتغير فيها لفظ الواحد بحال، مع إنهم رأوا أن جمع السَّلامة لا بد فيه من “واو” في الرفع، و”ياء” مكسور ما قبلها في النصب والخفض، فأشبهت حالُه حالَ ما لم يحذف منه شيء (1).
وليست هذه العلة في التثنية، ولم يقولوا: “ابنات” كما قالوا: “ابنتان”، فإنهم حملوا جمع المؤنث على جمع المذكر؛ لئلا يختلف.
وأما “أخت” و”بنت”؛ فتاء “أخت” مبدلة من “واو”، كـ “تاء” “تراث” و”تُخَمَة”، وإنما حملهم على ذلك ها هنا أنهم رأوا المذكر قد حذفت لامه في الإفراد، فقالوا: “أخ” وكان القياس أن يقولوا في المؤنث: “أخَةٌ” كـ “سَنَة” , ولو فعلوا ذلك لكانت تلك التاء حرف إعراب في الإضافة والإفراد، ولم يمكنهم أن يعيدوا المحذوف في الإضافة إلى اللفظ، فيخالف لفظه لفظ المذكر، ولا أمكنهم من تطويل الصوت بالحركات ما أمكنهم في التذكير، لأن ما قبل تاء التأنيث ليس بحرف إعراب، ولا أمكنهم نقصان اللفظ في الموطن الذي تم فيه المعنى؛ فجمعوا بين الأغراض بإبدالها تاء، لتكون في حال الإفراد علمًا للتأنيث، وفي حال الإضافة من تمام الاسم كالحرف الأصلي، إذ هو موطن تتميم، كما تقدم، وسكَّنوا ما قبلها، لتكون بمنزلة الحرف الأصلي، وضمُّوا أول الكلمة إشعارًا بالواو، وكسروها في “بِنْت” إشعارًا بالياء؛ لأنها من “بَنيْتُ”.
__________
(1) بعده في “النتائج”: “إذ المحذوف منه “ياء” أو “واو” ففتحوا أوله كما كانوا يفعلون لو لم يُحذف منه شيءٌ … “.
(1/72)
وقالوا في تأنيث “ابن”: “ابنة وبنت”، ولم يقولوا في تأنيث: “أخ” إلا “أخت”، والعلَّة في ذلك مُستقرَأَة مما تقدَّم.
وأما قولهم: “فوك” و”فاك” و”فيك”؛ فحروف المسند فيها حروف إعراب بخلاف ما تقدم في “أخيك” و”أبيك” و”حميك”، والفرق: أن الفاء لم تكن قط حرف إعراب (1)؛ لانفرادها، فلم يلزم فيها ما لزم في “الخاء” و”الباء”، ألا تراهم يقولون: “هذا فيَّ”، و”جعلته في فيَّ”، كما يقولون؛ “مسلمي”، فيثبتونها مع ياء المتكلم.
وهذا يدلك على أنها حرف إعراب، بخلاف أخواتها، ألا تراهم في حال الإفراد كيف أبدلوا من الواو ميمًا ليتعاقب عليها حركات الإعراب، ويدخلها التنوين، إذ لو لم يبدلوها ميمًا لأذهبها التنوين في الإفراد، وبقيت الكلمة على حرف واحد، فإذا أضيفت زالت العلة، حيث [أمِنوا] (2) التنوين، فلم يحتاجوا إلى قلبها ميمًا.
فإن قلت: أين علامات الإعراب في حال الإضافة (3)؟.
قلت: مقدر فيها، وإن شئتَ قلتَ: تغَيُّر صيغِها في الأحوال الثلاثة هو الإعراب، والمتغير هو حرف الإعراب.
فإن قلت: فلِمَ لم تثبُت الألف في حال النصب إذَا أضيفت إلى ضمير المتكلِّم، فتقول: “فأي” كـ “عصاي”؟.
قلتُ: الفرق: أن ألف “عصا” ثابتة في جميع الأحوال، وهذه لا
__________
(1) من قوله: “بخلاف ما تقدم … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود) , والاستدراك من (ق والنتائج).
(2) في النسخ: “أثبتوا”، والتصويب من “النتائج”.
(3) (ظ): “الأصالة”!.
(1/73)
تكون إلا في حال النصب، وقد قُلِبت تلك “ياء” في لغة طَيء، فهذه أحرى بالقلب.
وأما “ذو مال”؛ فكان الأظهر فيه أن يكون حرف العلة حرف إعراب، وأن يكون الاسم على حرفين، كما هو في بعض الأسماء المبهمة كذلك، يدلُّك على ذلك قولهم في الجمع “ذوو مال” و”ذوات مال”، إلا أنه قد جاء في القرآن: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48)} [الرحمن: 48] و: {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ} [سبأ: 16] وهذا ينبئ أن الاسم ثلاثي ولامه “ياء” انقلبت ألفًا في تثنية المؤنث خاصة.
وقولهم في التثنية: “ذواتَي”، وفي الجمع: “ذوات”، والجمع كان أحق بالرد من التثنية؛ لأن التثنية أقرب إلى لفظ الواحد، ولأنها أقرب إلى معناه، ألا تراهم يقولون: “أخت وأختان وأخوات”، و”ابنة وابنتان”، ولا يقولون (1) في الجمع: ابنات (2)، فلذلك كان القياس (3) -حين قالوا: “ذوات” فلم يردّوا لام الكلمة [ألا يردُّوا في التثنية].
والعلة فيه أن “ألف ذات” (ظ/ 13 أ) وإن كانت منقلبة عن واو، فإن انقلابها ليس بلازم، وإنما هو عارض بدخول التأنيث، ولولا التأنيث لكانت “واوًا” في حال الرفع غير منقلبة، و”ياء” في حال الخفض، والتثنية أقرب إلى الواحد لفظًا ومعنى، فلذلك حين ثنوها (4).جعلوها “واوًا”، كما هي في الواحد، إذا كان مرفوعًا ومثنى ومجموعًا، وكان حكم “الواو” أغلب عليها من حكم “الياء” و”الألف”، ثم ردوا لامَ
__________
(1) (ظ ود): “تقول”.
(2) الأصول: “ابنتات” والمثبت من “النتائج”.
(3) (ق): “القياس في الجمع”.
(4) (ظ ود): “ثبوتها”!.
(1/74)
الفعل؛ لأنهم لو لم يردوها, لقالوا: “ذَوَتا مال” في حال الرفع، فيلتبس بالفعل، نحو: “رمَتا” و”قَضَتا”، إذا أخبرت عن امرأتين، و”ذوتا” من “الذوِي”؛ فكان في ردّ اللام رفع لهذا اللبس.
وفَرق بين ما يصح عينه في المذكر نحو: “ذات” (1) و”ذو”، وبين ما لا يصح عينه في مذكر، ولا في جمع، نحو: “شاة”؛ فإنك تقول في تثنيته: “شاتان”، كقياس “ذات”، وليس في جمع “ذات” ما يوجب ردّ لامها كما في تثنيتها، كما تقدم.
وأما “سنتان” أو “شفتان”؛ فلا يلزم فيهما من الالتباس بالفعل ما لزم في “ذوتا”، لو قيل؛ لأن “نون” الاثنين لا تحذف منهما حذفًا لازمًا؛ لأنهما غير مضافين في أكثر الكلام، بخلاف “ذواتا”، فإن “النون” لا توجد فيها ألبتة؛ للزومها الإضافة.
* * *
__________
(1) (ق). “ذوات”.
(1/75)
فوائدُ تتعلق بالحروف الرَّوابط بين الجملتين، وأحكام الشروط (1)
وفيها مباحث وقواعد (2) عزيزة نافعة، تحرَّرت بعد فكر طويل بحمدِ الله.
فائدة
الروابط بين جملتين هي الأدوات التي تجعل بينهما تلازمًا لم يُفهَم قبل دخولها؛ وفي أربعة أقسام:
أحدها: ما يوجب تلازمًا مطلقا بين الجملتين، إما بين ثبوت وثبوت، أو بين نَفْي ونفْي، أو بين نَفي وثبوت، وعكسه في المستقبل خاصّة، وهو حرف الشرط البسيط كـ “إن” فإنها تلازم بين هذه الصّور كلها، تقول: “إن اتقيت الله أفلحت”، و”إن لم تتق الله لم تفلح”، و”إن أطعت الله لم تخب”، و”إن لم تطع الله خسرتَ”، ولهذا كانت أمَّ الباب وأعمَّ أدواته تصرفًا.
القسم الثاني: أداة تلازم بين هذه الأقسام الأربعة، تكون (3) في
__________
(1) اقتبس المصنف -رحمه الله- بعض هذه الفوائد -مع زيادة تحرير- من كتاب “أنوار البروق في أنواء الفروق” لشهاب الدين القرافي -رحمه الله-، وأشرنا إلى ذلك في مواضعه.
(2) (ق): “وأحكام”.
(3) (ق): “لكن”.
(1/76)
الماضي خاصَة، وهي: “لما” تقول: “لما قام أكرمته”، وكثير من النحاة يجعلها ظرف زمان، ويقول: إذا دخلت على الفعل الماضي فهي (1) اسم، وإن دخلت على المستقبل فهي حرف، ونص سيبويه على خلاف ذلك، وجعلها من أقسام الحروف التي تربط بين الجملتين، ومثال الأقسام الأربعة: “لما قام أكرمته”، و”لما لم يقم لم أكرمه”، و”لما لم يقم أكرمته”، و”لما قام لم أكرمه”.
القسم الثالث (2): أداة تلازم بين امتناع الشيء لامتناع غيره وهي: “لو” نحو: “لو أسلمَ الكافرُ نجا من عذابِ الله”.
القسم الرابع: أداة تلازم بين امتناع الشيءِ ووجودِ غيره وهي: “لولا” نحو: “لولا أن هدانا الله لضللنا”.
وتفصيل هذا الباب برَسْم عشرة مسائل (3):
المسألة الأولى: المشهور أن الشرط والجزاء لا يتعلقان إلا بالمستقبل. فإن كان ماضي اللفظ، كان مستقبل المعنى، كقولك: “إن مِتّ على الإِسلام دخلت الجنة”، ثم للنحاة فيه تقديران:
أحدهما: أنّ الفعل ذو تغيّر في اللفظ، وكان الأصل: “إن تَمُتْ مسلمًا تدخل الجنة”، فغير لفظ المضارع إلى الماضي تنزيلًا له منزلة المحَقَّق. والثانى: أنه ذو تغير في المعنى، وأنَّ حرف الشرط لما دخل
__________
(1) (ظ ود): “فهم”!.
(2) في النسخ “الثاني” والذي يليه “الثالث “، وهو سبق قلم، وصوّبت في هامش (ق ود).
(3) انظر بعضها في: “الفروق”: (1/ 86) , ولم يذكر المصنف العاشرة.
(1/77)
عليه قلب معناه إلى الاستقبال، وبقي لفظه علي حاله، والتقدير الأول أفقه في العربية, لموافقته تصرف العرب في إقامتها الماضي مقام المستقبل، وتنزيلها المنتظر منزلة الواقع المتيقَّن، نحو: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الكهف: 99] ونظائره، فإذا تقرر ذلك في الفعل المجرد فليفهم مثله في (1) المقارن لأداة الشرط، وأيضًا فإن تغيير الألفاظ أسهل عليهم من تغيير المعاني؛ لأنهم يتلاعبون بالألفاظ مع محافظتهم على المعنى، وأيضًا فإنهم: إذَا اعتزموا (2) الشرط أتوا بأداته، ثم أتبعوها فعله يتلوه الجزاء. فإذا أتوا بالأداة جاءوا بعدها بالفعل، وكان حقه أن يكون مستقبلا لفظا ومعنى، فعدلوا عن لفظ المستقبل إلى لفظِ (3) الماضي لما ذكرنا، فعَدَلوا من صيغة إلى صيغة، وعلى التقدير الثّاني؛ كأنهم وضعوا فعل الشرط والجزاء أولًا ماضيين، ثمَّ أدخلوا عليهما الأداة فانقلبا مستقبلَين، والترتيب والقصد يأبى ذلك، فتأمَّله.
المسألة الثانية (4): قال تعالى حكاية (5) عن عيسى -عليه الصلاة والسلام-: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116] فهذا شرط دخل على ماضي اللفظ، وهو ماضي المعنى قطعًا؛ لأنَّ المسيحَ إما أن يكون صَدَر هذا الكلام منه بعد رفعه إلى السماء، أو يكون حكاية ما يقوله يوم القيامة، وعلى التقديرين، فإنما تعلق الشرط وجزاؤه بالماضي.
__________
(1) سقطت من (ظ ود).
(2) من (ظ ود) , و (ق): “اعترضوا” وفي المطبوعة: “أعربوا”.
(3) من (ق).
(4) انظر: “الفروق”: (1/ 86).
(5) من (ق).
(1/78)
وغَلِط على الله من قال: إن هذا القول وقع منه في الدنيا قبل رفعه، والتقدير: إن أكن أقول هذا فإنك تعلمه، وهذا تحريف للآية؛ لأنَّ هذا جوابٌ, إنما صَدَر منه بعد سؤال الله له على ذلك، والله لم يسأله وهو بين أظهر قومه، ولا اتخذوه وأمه إلهين إلا بعد رفعه بمئين من السنين. فلا يجوز تحريف كلام الله انتصارًا لقاعدة نحوية، هَدْم مئةٍ أمثالها أسهل من تحريف معنى الآية.
وقال ابن السراج (1) في “أصوله” (2): “يجب تأويلهما بفعلَين مستقبلَين تقديرهما: إن يثْبُت (3) في المستقبل أني قلته في الماضي يثبت أنك علمته، وكلّ شيءٍ تقرَّر في الماضي كان ثبوته في المستقبل [معلومًا] فيحسن التعليق عليه”.
وهذا الجواب أيضًا ضعيف جدًا، ولا يُنبئ عنه اللفظ، وليت شعري ما يصنعون بقول النبي – صلى الله عليه وسلم – لعائشة (4): “إِنْ كُنْتِ ألمَمْتِ بذنْب فَاسْتَغفِري الله وَتُوبي إلَيْهِ” (5)، هل يقول عاقل: إن الشرطَ هنا مستقبل؟!.
أما التأويل الأول؛ فمنتفٍ هنا قطعًا، وأما الثاني! فلا يخفى وجه
__________
(1) هو: محمَّد بن السري البغداديّ أبو بكر بن السرَّاج النحوي ت (316).
انظر: “معجم الأدباء”: (18/ 197) و”إنباه الرواة”: (3/ 145) , و”بغية الوعاة”: (1/ 109).
(2) (2/ 190) , والعبارة بالمعنى، وما بين الحاصرتين من “الفروق”.
(3) من (ق).
(4) من (ق).
(5) أخرجه البخاري رقم (2661) , ومسلم رقم (2770) من حديث عائشة -رضي الله عنها – في حديث الإفك الطويل.
(1/79)
التعسف فيه، وأنه لم يقصد: إن (1) يَثْبُت في المستقبل أنَّكِ أذنبت في الماضي فتوبي، ولا قصد هذا المعنى، وإنما المقصود المراد ما دل على الكلام: إن كان صدر منكِ ذنبٌ فيما مضى فاستقبليه بالتوبة, لم يُرِد إلَّا هذا الكلام.
وإذا ظهر فساد. الجوابين، فالصواب أن يُقال: جملة الشرط والجزاء تارة تكون تعليقًا محضًا (2)، غير متضمن جوابًا لسائل: هل كان كذا؟ ولا مُتضمِّن لنفي قول من قال: قد كان كذا؟ فهذا يقتضي الاستقبال، وتارة يكون مقصوده ومضمنه جواب سائل: هل وقع كذا؟ أوْ رَدّ قوله: قد وقع كذا، فإذا علق الجواب ها هنا على شرط؛ لم يلزم أن يكون مستقبلًا لا لفظًا ولا معنًى، بل لا يصح فيه الاستقبال بحالٍ، كمن يقول لرجل: هل أَعْتقت عبدك (3)؟ فيقول: إن كنت قد أعتقته فقد أعتقته لله فما للاستقبال هنا معنًى قط، وكذلك إذا قلتَ لمن قال: صحبتُ فلانًا، فتقول: إن كنت صحبته فقد أصبتَ بصحبته خيرًا. وكذلك إذا قلت له؟ هل أذنبتَ؟ فيقول: إن كنتُ قد أذنبتُ فإني قد تبت إلى الله واستغفرته. وكذلك إذا قال: هل قلت لفلان كذا؟ وهو يعلم أنه علم بقوله له، فيقول: إن كنت قلته فقد علمته، فقد عرفت أن هذه المواضع كلَّها مواضع ماضٍ لفظًا ومعنًى ليطابق السؤالُ الجوابَ، ويصبح التعليق الخبري لا الوعدي. فالتعليق الوعدي يستلزم الاستقبال، وأمّا التعليق الخبري (4) فلا يستلزمه.
__________
(1) (ق): “أنه” وكذا في نسخة كما في هامش (د).
(2) عن قوله: “إلا هذا الكلام … ” أبي هنا ساقط من (ق).
(3) (ظ): “عدل”!.
(4) من قوله: “لا الوعدي … ” إلى هنا سقط من (د).
(1/80)
ومن هذا الباب قوله تعالى: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)} [يوسف: 26، 27]، وتقول: إن كانت البيِّنة شهدت بكذا وكذا فقد صدقت، وهذه دقيقة خَلَت عنها كتب النحاة والفضلاء، وهي كما ترى وضوحًا وبرهانًا ولله الحمد.
المسألة الثالثة (1): المشهور عند النحاة والأصوليين والفقهاء أن أداة “إن” لا يعلَّق عليها إلا محتمل الوجود والعدم، كقولك: “إن تأتني أكْرِمْك”، ولا يعلق عليها محقَّق الوجود، فلا تقول: “إن طلعت الشمس أتيتك”، بل تقول: “إذا طلعت الشمس أتيتك”، و”إذا” يعلق عليها النوعان.
واستشكل هذا بعض الأصوليين، فقال: قد وردت “إن” في القرآن في معلوم الوقوع قطعًا كقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] وهو سبحانه يعلم أن الكفار في ريب منه. وقوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ} [البقرة: 24] ومعلوم قطعًا انتفاء فعلهم.
وأجاب عن هذا بأن قال: إن الخصائص الإلهية لا تدخل في الأوضاع العربية، بل الأوضاع العربية (2) مبنية على خصائص الخلق، والله تعالى أنزل القرآن بلغة العرب، وعلى منوالهم، فكل ما كان في عادة العرب حَسَنًا؛ أنزل القرآن على ذلك الوجه، أو قبيحًا لم ينزل
__________
(1) انظر: “الفروق”: (1/ 92 – 93) للقرافي، وهو الذي أشار إليه المصنف بإيراد الإشكال وجوابه.
(2) “بل الأوضاع العربية” ساقط من (د).
(1/81)
في القرآن، فكل ما كان شأنه أن يكون في العادة مشكوكًا فيه بين (1) الناس حَسُنَ تعليقُه بـ “إن” من قبل الله ومن قبل غيره، سواء كان معلومًا للمتكلم أو للسامع أم لا.
ولذلك يحسن في الواحد منا أن يقول: “إن كان زيد في الدار فأكرمه”، مع علمه بأنه في الدار؛ لأنَّ حصول زيد في الدار شأنه أن يكون في العادة مشكوكًا فيه، فهذا هو الضابط لما يعلق على “إن”، فاندفع الإشكال.
قلتُ: هذا السؤال لا يرد، فإن الذي قاله القوم: إن الواقع ولابد بد لا يعلّق بـ “إن”، وأما ما يجوز أن يقع ويجوز أن لا يقع؛ فهو الذي يعلق بها، وإن كان بعد وقوعه متعين الوقوع, وإذا عرفت هذا فتدبر قوله تعالى: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)} [الشورى: 48] كيف أتى في تعليق الرحمة المحققة إصابتها من الله تعالى بـ “إذا”، وأتى في إصابة السيئة بـ “إن”، فإن ما يعفو الله عنه أكثر، وأتى في الرحمة بالفعل الماضي الدال على تحقيق الوقوع، وفي حصول السيئة بالمستقبل الدال على أنه غير محقق ولابدّ، وكيف أتى في وصول الرحمة بفعل الإذاقة الدال على مباشرة الرَّحمة لهم، وأنها (2) مذوقة لهم، والذوق هو أخصّ أنواع (3) الملابسة وأشدها، وكيف أتى في وصول السيئة بمطلق الإصابة دون الذوق، وكيف أتى في (4) الرحمة بحرف ابتداء
__________
(1) (ظ): “من”.
(2) (ق): “وإنهم”.
(3) من (ظ).
(4) من قوله: “وصول السيئة … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(1/82)
الغابة مضافة إليه، فقال: {مِنَّا رَحْمَةً}، وأتى في السيئة بباء السببية مضافة إلى كسب أيديهم، وكيف أكَّد الجملة الأولى التي تضمنت إذاقة الرحمة بحرف “إن” دون الجملة الثانية؛ وأسرار القرآن أكثر وأعظم من أن يحيط بها عقول البشر.
وتأمل قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67] كيف أتى بـ “إذَا” ها هنا لما كان مسّ الضر لهم في البحر محقّقًا، بخلاف قوله: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49)} (1) [فصلت: 49] فإنه لم يقيد مَسّ الشر هنا، بل أطلقه، ولما قيده بالبحر الذي هو (2) يتحقَّق فيه ذلك أتى بأداة “إذا”.
وتأمل قوله تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)} [الإسراء: 83] كيف أتى هنا بـ “إذا” المشعرة بتحقيق الوقوع المستلزم لليأس، فإن اليأس إنما حصل عند تحقق مس الشر له، فكان الإتيان بـ “إذا” كانا أدلَّ على المعنى المقصود من “إن”, بخلاف قوله: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)} [فصلت: 51] فإنه لقلة صبره وضَعْف احتماله، متى توقع الشر أعرض وأطال في الدعاء. فإذا تحقق وقوعه كان يؤوسًا. ومثل هذه الأسرار في القرآن لا يرقى إليها إلا بموهبة من الله وفهم يؤتيه عبدًا في كتابه.
فإن قلت: فما تصنع بقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ
__________
(1) في جميع النسخ: “لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسَّه الشر فذو دعاءٍ عريض”! وهذا تلفيق بين آيتي فُضَلت رقم (49، 51) فالأولى: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49)}، والثانية: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)}.
(2) ليست في (ق).
(1/83)
أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] والهلاك محقق.
قلتُ: التعليق ليس على مطلق الهلاك، بل على هلاك مخصوص، وهو هلاك لا عن ولد.
فإن قلت: فما تصنع بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} [البقرة: 172] وقوله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)} [الأنعام: 118] وتقول العرب: إن كنت ابني فأطعني. وفي الحديث في السلام على الموتى: “وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بكُمْ لَاحِقُوْن” (1) واللّحاق محقَّق، وفي قول الموصِي: إن متُّ فثلث مالي صدقة؟.
قلت: أما قوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)}؛ الذي حسَّن مجيء “إن” ها هنا الاحتجاج والإلزام. فإن المعنى: إنَّ عبادتكم لله تستلزم شكركم له، بل هي الشكر نفسه، فإن كنتم ملتزمين (2) لعبادته داخلين في جملتها؛ فكلوا من رزقه واشكروه على نعمه، وهذا كثيرا ما يُوْرَد في الحِجَاج كما تقول للرجل: إِن كان الله ربك وخالقك فلا تعصه، وإن كان لقاء الله حقًا فتأهَّب له، وإن كانت الجنة حقًّا فتزوَّد لها، وهذا أحسن من جواب من أجاب: بأنَّ “إن” هنا قامت مقام “إذا”، وكذا قوله: {إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)}، وكذا قولهم: “إن كنت ابني فأطعني”، ونظائر ذلك.
وأما قوله: “وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاحِقُوْنَ”؛ فالتعليق
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (974, 975) من حديث عائشة وبريدة بن الحصيب – رضي الله عنهما-.
(2) (د): “مستلزمين”.
(1/84)
هنا ليس لمطلق الموت، وإنما هو للحاقُهم بالمؤمنين، ومصيرهم إلى حيث صاروا.
وأمَّا قول الموصِي: إن متُّ فثلث مالي صدقة؛ فلأنّ الموت وإن كان محققًا، لكن لما لم يُعرف تعيُّن وقته، وطال الأمد (1)، وانفرجت (2) مسافة أمنية الحياة، نزلَ منزلة المشكوك فيه (3)، كما هو الواقع الذي تدلُّ عليه أحوال العباد، فإن عاقلاً لا يتيقّن الموت، ويرضى بإقامته على حالٍ لا يحب الموتَ عليها أبدًا، كما قال بعض السلف: ما رأيت يقينًا لا شك فيه أشبهَ بشك لا يقينَ فيه من الموت (4)، وعلى هذا حمل بعض أهل المعاني قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)} [المؤمنون: 15، 16] فأكَّدَ الموتَ باللام، وأتى فيه باسم الفاعل الدال على الثبوت، وأتى في البعث بالفعل، ولم يؤكده.
المسألة الرابعة: قد يُعلقُ الشرط بفعل محال ممتنع الوجود، فيلزمه محال آخر، وتصدق الشرطية دون مفرديها. أما صدقها؛ فلاسْتِلْزام (5) المحالِ المحالَ. وأما كذب مفرديها؛ فلاستحالتهما، وعليه: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)} [الزخرف: 81] ومنه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] ومنه: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)} [الإسراء: 42] ونظائره كثيرة.
__________
(1) (ق): “الأمل”.
(2) (ظ ود): “وانفردت”.
(3) من (ق).
(4) قاله أبو حازم المدني، انظر “الحلية”: (3/ 232).
(5) (ظ ود): “فلا يستلزم”.
(1/85)
وفائدة الربط بالشرط في مثل هذا أمران؛ أحدهما: بيان استلزام إحدى القضيتين للأخرى. والثاني: أَنَّ اللازم منتف، فالملزوم كذلك، فقد تبين من هذا أن الشرطَ يعلَّقُ به المحقق الثبوت، والممتنع الثبوت، والممكن الثبوت.
المسألة الخامسة: اختلف سيبويه ويونس (1) في الاستفهام الداخل على الشرط، فقال سيبويه: يعتمد على الشرط وجوابه، فيقدَّم أولًا، ويكون بمنزلة القَسَم، نحو قوله: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34] وقوله: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144].
وقال يونس: يعتمد على الجزاء فتقول: إن مت أفأنت خالد؟ والقرآن مع سيبويه, والقياس أيضًا، كما يتقدم القسم ليكون جملة الشرط والجزاء مقسمًا: عليها ومستفهمًا عنها, ولو كان كما قال يونس، لقال: فإن من أَفهم الخالدون.
المسألة السادسة: اختلف الكوفيون والبصريون فيما إذا تقدم أداة الشرط جملة تصلح أن تكون جزاء، ثم ذكر فعل الشرط، ولم يذكر له جزاء، نحو: أقوم إن قمت؛ فقال ابن السرَّاج (2): الذي عندي أن الجوابَ محذوف، يغني (3) منه الفعل المتقدم. قال: وإنما يُستعمل هذا على وجهين، إما أن يضطر إليه شاعر، وإما أن يكون المتكلّم به محقِّقًا بغير شرط ولا نية، فقال: أجيئك، ثم يبدو له أَن لا يجيئه إِلّا
__________
(1) هو: يونس بن حبيب: الضبِّي مولاهم البصرىِ أبو عبد الرحمن النحويين، سمع من العرب وأخذ عنه سيبويه ت (182).
انظر: “إنباه الرواة”: (4/ 74) و”بغية الوعاة”: (2/ 365).
(2) في “الأصول”: (2/ 187).
(3) (ق ود): “كفى”.
(1/86)
بسبب, فيقول: إن جئتني، فيشبه الاستثناء ويغني عن الجواب ما تقدم، وهذا قول البصريين.
وخالفهم أهل الكوفة، وقالوا: المتقدم هو الجزاء، والكلام مرتبط به، وقولهم في ذلك هو الصواب، وهو اختيار الجرجاني (1)، قال: “الدليل على أنك إذا قلت: آتيك إن أتيتني، كان الشرط متصلًا بآتيك، وأن الذي يجري في كلامهم: لابدّ من إضمار الجزاء، ليس على ظاهره، وأما إن علمنا على ظاهر يُوْقِفُنا (2) أن الشرط متقدم في النفس على الجزاء، صار من ذلك شيئان؛ ابتداءُ كلام ثان، ثم اعتقاد ذلك يؤدي إلى إبطال ما اتفق عليه العقلاء في الأَيمان، من افتراق الحكم بين أن يصل الشرط في نطقه، وبين أن يقف، ثم يأتي بالشرط، وأنّه إذا قال لعبده: “أنت حرٌّ إن شاء الله”، فوَصل لم يعتق، ولو وقف، ثم قال: “إن شاء الله”، فإنه يعتق.
فإذا سمعت ما قلنا عرفت خلاف المسألة، فالمشهور من مذهب البصريين امتناع تقديم الجزاء على الشرط” هذا كلامه.
قلت: ولم يكن به حاجة في تقرير الدليل إلى الوقف بين الجملة الأولى وجملة الشرط، فالدلالة قائمة ولو وصل، فإنه إذا قال: “أنت حر”، فهذه جملة خبرية، ترتب عليها حكمها، عند تمامها (3) ,
__________
(1) هو: عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني أبو بكر العلاّمة؛ شيخ العربية صاحب “الدلائل” والأسرار” ت (471).
انظر: “إنباه الرواة: (2/ 188) , و”طبقات الشافعية”: (5/ 149)، و”السير”: (18/ 432).
(2) العبارة غير مكررة في الأصول، والمثبت من (ق).
(3) من قوله: “فالدلالة قائمة … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(1/87)
وقوله: “إن شاء الله” ليس تعليقًا لها عندكم، فإن التعليق إنما يعمل في الجزاء، وهذه ليست بجزاء، وإنما هي خبر محض، والجزاء عندكم محذوف، فلما قالوا: إنه لا يعتق، دل على أن المتقدم نفسه جزاء معلق، هذا تقرير الدلالة، ولكن ليس هذا باتفاق، وقد ذهبت طائفة من السلف والخلف إلى أن الشرط إنما يعمل في تعليق الحكم، إذا تقدم على الطلاق (1)، فتقول: “إن شاء الله فأنت طالق”، فأما إن تقدَّم: الطلاق، ثم عقبه بالتعليق، فقال: “أنت طالق إن شاء الله”؛ طلقت, ولا ينفع التعليق، وعلى هذا فلا يبقى فيما ذكر حُجة، ولكن هذا المذاهب شاذ، والأكثرون على خلافه، وهو الصواب؛ لأنه إما جزاءٌ لفظًا ومعنًى قد اقتضاه التعليق على قول الكوفيين، وإما أن يكون جزاء في المعنى، وهو [نائب] (2) عن (3) الجزاء المحذوف ودال عليه. فالحكم تَعلَّقَ به على التقديرين، والمتكلِّم إنما بنى كلامه عليه.
وأما قول ابن السرَّاج: “إنه قصد الخبر جزمًا، ثم عقبه (4) بالجزاء”؛ فليس كذلك، بل بنى كلامه على الشرط، كما لو قال له: علَيَّ عشرة إلاّ درهمًا، فإنه لم يُقر بالعشرة ثم أنكر منها (5) درهمًا، ولو كان. كذلك لم ينفعه الاستثناء. ومن هنا قال بعض الفقهاء: إن الاستثناء لا ينفع في الطلاق،
__________
(1) (ق): “الإطلاق”.
(2) في الأصول: “ثابت” والمثبت هو الصواب.
(3) من (ق).
(4) (ق): “علقه”.
(5) من (ق).
(1/88)
لأنه إذا قال: “أنت طالق ثلاثًا إلا واحدة”؛ وقد أوقع الثلاثة، ثم رفع منها واحدة، وهذا مذهب باطل!! فإن الكلام مبني على آخره، مرتبط أجزاؤه بعضها ببعض، كارتباط التوابع من الصفات وغيرها بمتبوعاتها، والاستثناء لا يستقلّ بنفسه، فلا يقبل إلا بارتباطه بحسب قبله، فجرى مجرى الصفة والعطف.
ويلزم أصحاب هذا المذهب أن لا ينفع الاستثناء في الإقُرار؛ لأن المقَرَّ به لا يرتفع بعد (1) ثبوته، وفي إجماعهم على صِحَّته دليلٌ على إبطال هذا المذهب، وإنما احتاج الجُرجاني إلى ذكر الفرق بين أن يقف أو يصل؛ لأنه إذا وقف عَتَقَ العبد، ولم ينفعه الاستثناء، وإذا وصل لم يعتق، فدل على أن الفرق بين وقوع العتق وعدمه هو السكوت. والوصل هو المؤثر في الحكم لا تقدم الجزاء وتأخُّره، فإنه تأثير له بحال. وما ذكر ابن السرَّاج، أنه إنّما يأتي في الضرورة؛ ليس كما قال، فقد جاء في أفصح الكلام، وهو كثير جدًا، كقوله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172] وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 118] , وقوله تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)} [آل عمران: 118] وهو كثير.
فالصواب: هو (2) المذهب الكوفي، والتقدير إنما يُصَار إليه عند الضرورة، بحيث لا يتم الكلام إلا به، فإذا كان الكلام تامًّا بدونه، فأيُّ حاجة بنا إلى التقدير، وأيضًا فتقديم الجزاء ليس بدون تقديم الخبر والمفعول والحال ونظائرها.
__________
(1) (ظ ود): “لا يرفع”.
(2) من (ق).
(1/89)
فإن قيل: الشرط له التصدير وضعًا (1) , فتقديم الجزاء عليه يخلُّ: بتصديره.
قلنا: هذه هي (2) الشُّبهة التي منعت القائلين بعدم تقديمه، وجوابُها: أنكم إن عَنيتم بالتصدير؛ أنه لا يتقدم معموله عليه، والجزاء معمول له؛ فيمتنع تقديمه، فهو نفس المتنازع فيه، فلا يجوز إثبات الشيء بنفسه، وإن عَنيتم به أمرًا آخر؛ لم يلزم منه امتناع التقديم.
ثم نقول: الشرط والجزاء جملتان، قد صارتا بأداة الشرط جملة واحدة، وصارت الجملتان بالأداة كأنهما مفردان، فأشبها المفردين في باب المبتدإ والخبر، فكلما لا يمتنع تقديم الخبر على المبتدأ فكذلك تقديم الجزاء، وأيضًا فالجزاء هو المقصود والشرط قيدٌ فيه، وتابعٌ، فهو من هذا الوجه رتبته التقديم طبعًا, ولهذا كثيرًا ما يجيء الشرط متأخرًا على المشروط؛ لأنَّ المشروط هو المقصود, وهو الغاية، والشرط سببٌ ووسيلة، فتقديم المشروط هو تقديم الغايات على وسائلها، ورتبتها التقديم ذهنًا، وإن تقدمت الوسيلة وجودًا، فكل منهما له المتقدم بوجه، وتقدم الغاية أقوى، فإذا وقعت في مرتبتها، فأيّ حاجةٍ إلى أن نقدرها متأخِّرة، وإذا انكشف الصوابُ، فالصوابُ أن تدور معه حيثما دار.
المسألة السابعة: “لو” يُؤتَى بها للرَّبط، لتعلق ماضٍ بماض، كقولك: “لو زرتني: لأكرمتك”، ولهذا لم تجزم إدأ دخلت على مضارع؛ لأنَّ الوضع للماضي لفظًا ومعنى، كقولك: “لو يزورني زيد
__________
(1) (ظ ود): “وصفًا”.
(2) من (ق).
(1/90)
لأكرمته”، فهي في الشرط نظير “إن” في الرَّبط بين الجملتين، لا في العمل، ولا في الاستقبال، وكان بعض فضلاء المتأخرين، وهو: تاج الدين الكِنْدي (1)، يُنكر أن تكون “لو” حرف شرط، وغلَّط الزَّمخشريَّ (2) في عَدِّها في أدوات الشرط (3)، قال الأندلسي في “شرح المفصل (4): فحكيت ذلك لشيخنا أبي البقاء (5) فقال: غَلِط تاج الدين في هذا التغليط، فإن “لو” تربط شيئًا بشيء، كما تفعل “إن”.
قلت: ولعلَّ النزاع لفظيّ؛ فإن أُريد بالشرط: الربط المعنوي الحُكمي، فالصواب ما قاله أبو البقاء، والزمخشري، وإن أريد بالشرط: ما يعمل في الجزأين، فليست من أدوات الشرط.
المسألة الثامنة (6): المشهور أن “لو” إذا دخلت على ثبوتين نَفَتْهما، أو نفيين أثبتتهما، أو نفي وثبوت؛ أثبتت المنفيّ، ونفت المثبت،
__________
(1) هو: زيد بن الحسن بن زيد أبو اليُمن تاج الدين الكندي، العلامة ذو الفنون ت (613).
انظر “معجم الأدباء”: (11/ 171) و”السير”: (22/ 34).
(2) هو: محمود بن عمر بن محمد أبو القاسم جار الله الزمخشري الحنفي المعتزلي، صاحب التصانيف، ت (538).
انظر: “إنباه الرواة”: (3/ 265) و”السير” (20/ 151).
(3) انظر “شرح المفصَّل”: (8/ 155) لابن يعيش.
(4) هو: القاسم بن أحمد بن الموفّق اللورقي الأندلسيّ، علم الدين النحوي ت (661) , له شرح كبير على “المفصل”. قال القِفطي: “استوفى فيه القول، لا يقصر أن يكون في مقدار كتاب أبي سعيد السيرافي في شرح سيبويه” اهـ.
انظر: “معجم الأدباء”: (16/ 234)، و”إنباه الرواة”: (4/ 167) , وانظر أيضًا ص/154 من هذا الجزء.
(5) هو أبو البقاء العكبري النحوي الحنبلي (ت 616).”ذيل الطبقات”: 2/ 115.
(6) انظر: “الفروق”: (1/ 89 – 92).
(1/91)
وذلك لأنها تدلُّ على امتناع الشيء لامتناع غيره. وإذا امتنع النفي صار إثباتًا، فجاءت الأقسام الأربعة، وأُوْرِدَ على هذا أمور:
أحدها: قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27] ومقتضى ما ذكرتم أن تكون كلمات الله تعالى قد نفدَت، وهو محال؛ لأنَّ الأول ثبوت، وهو كون أشجار الأرض أقلامًا والبحار مدادًا لكلماته، وهذا منتفٍ. والثاني وهو قوله: {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ}، فيلزم أن يكون ثبوتًا.
الثاني: قول عمر: “نعمَ العبد صهيبٌ لو لم يَخَف الله لَمْ يَعْصِه” (1). فعلى ما ذكرتم يكون لخوف ثابتًا لأنّه منفيّ, والمعصية كذلك, لأنَّها منفية أيضًا، وقد اختلفت أجوبةُ الناس عن ذلك.
فقال أبو الحسن بن عُصْفور (2): “لو” في الحديث بمعنى “إن” لمطلق الربط فلا يكون أنفيها إثباتًا ولا إثباتها نفيًا, فاندفع الإشكال.
وفي هذا الجواب ضَعْف بيِّن، فإنه لم يقصد في الحديث مطلق الربط كما قال، وإنما قصد ارتباط مُتَضمِّن لنفي الجزاء ولا سيق
__________
(1) اشتهر هذا الأثر على ألسنة الأصوليين وأهل العربية عن عمر -رضي الله عنه -، ولم يوقف له على إسنادٍ بعد الفحص والتتبع.
انظر: “المقاصد الحسنة”: (ص/ 449)، و”كشف الخفاء”: (2/ 428).
ولشيخ الإِسلام ابن تيمية رسالة في شرح هذا الأثر، ساقها السيوطي برمتها في “الأشباه والنظائر النحوية”: (4/ 65).
(2) هو: علي بن مؤمن بن محمد أبو الحسن بن عصفور الحضرمي الإشبيلي النحوي ت (663) وقِيل غير ذلك.
انظر: “إشارة التعيين”: (ص/ 236) و”بغية الوعاة”: (2/ 210).
(1/92)
الكلام إلا لهذا، ففي هذا (1) الجواب إبطال خاصية “لو” التي فارقت بها سائر أدوات الشرط.
وقال غيره: “لو” في أصل (2) اللغة لمطلق الربط، وإنما اشتهرت في العرف في انقلاب ثبوتها نفيا وبالعكس، والحديث إنما ورد بمعنى اللفظ في اللغة.
حَكَى هذا الجواب القَرَافي (3) عن الخُسْرُوشَاهِي (4)، وهو أفسد من الذي قبله بكثير!! فإن اقتضاء “لو” لنفي الثابت بعدها وإثبات المنفي، متلقى من أصلِ وَضْعها لا من العرْف (5) الحادِث، كما أن معاني (6) سائر الحروف؛ من نفي أو تأكيد أو تخصيص، أو بيان أو ابتداءٍ أو انتهاء؛ إنما هو متلقًى من الوضع لا من العرف، فما قاله ظاهر البُطْلان.
الجواب الثالث: جواب الشيخ أبي محمَّد ابن عبد السلام (7) وغيره، وهو: أنَّ الشيء الواحد قد يكون له سبب واحد، فينتفي عند انتفائه، وقد يكون له سببان، فلا يلزم من عدم أحدهما عدمه؛ لأنَّ
__________
(1) من (ق).
(2) من (ق).
(3) هو: أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن أبو العباس القرافي المالكي الأصولي الفقيه ت (684) , صاحب التصانيف، ومنها: “الفروق” الذي ينقل منه المؤلف.
انظر: “الديباج المذهب”: (ص/ 62)، و”شجرة النور”: (ص/ 188).
(4) هو: عبد الحميد بن عيسى بن عمويه بن يونس أبو محمد الخُسْرُوشاهي ت (652).
انظر: “شذرات الذهب”: (5/ 255)، و”الأعلام”: (3/ 288).
(5) (ظ ود): “الحرف”!.
(6) سقطت من (ق).
(7) هو: عبد العزيز بن عبد السلام، سلطان العلماء، ت (660).
(1/93)
السبب الثاني يَخْلُف السبب الأول، كقولنا في زوج هو ابن عم: “لو لم يكن زوجًا لوَرِث”، أي بالتعصيب، فإنهما سببان لا يلزم من عدم أحدهما عدم الآخر، وكذلك الناس ها هنا في الغالب، إنما لم يعصوا لأجل الخوف، فإذا ذهب الخوف عنهم عصوا، لاتحاد السبب في حقهم، فأخبر عمرُ أن صهيبًا اجتمع له سببان يمنعانه المعصية: الخوف والإجلال، فلو انتفى الخوف في حقه، لانتفى العصيان للسبب الآخر وهو الإجلال، وهذا مدح عظيم له.
قلت: وبهذا الجواب بعينه يجاب عن قوله – صلى الله عليه وسلم – في ابنة حمزة (1)، “إِنَّها لَوْ لَم تكنْ رَبيْبتِي في حَجْرِي لَما حَلَّتْ لي إنَّها ابْنَةُ أخِى مِنَ الرَّضَاعَةِ” أي: فيها سببان يقتضيان التحريم، فلو قُدِّر انتفاء أحدهما لم ينتف التحريم للسبب الثاني.
وهذا جوابٌ حَسَنٌ جدًّا.
الجواب الرَّابع: ذكره بعضهم بأن قال: جواب “لو” محذوف وتقديره: “لو لم يخف الله لعصمه فلم يعصه بإجلاله له (2) ومحبته إِيَّاه”، فإن الله يعصم: عبدَه بالخوف تارة، و [المحبة] (3) والإجلال
__________
(1) كذا في الأصول، وهو وهم، فإن الذي قال فيها النبي – صلى الله عليه وسلم – ذلك هي: بنت أبي سلمة؛ لأن أباها أبو سلمة أخو النبي من الرضاعة، وأمها أم سلمة زوج النبي، فهي ربيبته.
والحديث أخرجه البخاري رقم (5101) ومسلم رقم (1449) من حديث أم حبيبة بنت أبي سفيان – رضي الله عنهما – أما حديث بنت حمزة، فقال فيها النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إنها ابنة أخي من الرضاعة” أخرجه البخاري رقم (2645) , ومسلم رقم (1447).
(2) من (ق).
(3) في الأصول: “والخوف”، والمثبت هو الصواب، بدليل ما بعده.
(1/94)
تارة، وعِصْمة الإجلال والمحبة أعظم من عِصمة الخوف، لأنَّ الخوف يتعلَّق بعقابه، والمحبة (1) والإجلال يتعلَّقان بذاته وما يستحقه تبارك وتعالى، فأين أحدهما من الآخر؟! ولهذا كان دين الحبِّ أثبت وأرسخ من دين الخوف وأَمكن وأعظم تأثيرًا، وشاهده ما نراه من طاعة المحب لمحبوبه وطاعة الخائف لمن يخافه، كما قال بعض الصحابة: “إنه ليستخرج حبه منِّي من الطاعة ما لا يستخرجه الخوف”، وليس هذا موضع بسط هذا الشأن العظيم القدر، وقد بسطته في: “كتاب الفتوحات القدسية” (2).
الجواب الخامس (3): أن “لو” أصلها أن تستعمل للرَّبط بين شيئين كما تقدَّم، ثم إنها قد تستعمل لقطع الرَّبط، فتكون جوابًا لسؤالٍ محقَّق أو متوهَّم وقع فيه ربط، فتقطعه أنت لاعتقادك بطلان ذلك الربط، كما لو قال القائل: “إن لم يكن زيدٌ زوجًا لم يرث”، فتقول أنت: “لو لم يكن زوجًا لورث”، تريد (4): أنَّ ما ذكره من الربط بين عدم الزوجية وعدم الإرث ليس بحق، فمقصودك قطع ربط كلامه لا ربطه، وتقول: “لو لم يكن زيد عالمًا لأُكرِم”، أي: لشجاعته، جوابًا لسؤال سائل يتوهَّم أنه لو لم يكن عالمًا لما أُكرِم، فيربط بين عدم العلم والإكرام، فتقطع أنت ذلك الربط، وليس مقصودك أن تربط بين عدم العلم والإكرام؛ لأنَّ ذلك ليس بمناسِب ولا من أغراض العقلاء، ولا يتجه كلامك إلا على عدم الرَّبط.
__________
(1) من قوله: “والإجلال تارة … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) لم يُعثر على شيءٍ من نسخه الخطية، انظر: “ابن القيم حياته وآثاره”: (ص / 278).
(3) هذا الجواب للقرافي في كتابه “الفروق” ت (1/ 90).
(4) ليست في (ظ).
(1/95)
كذلك الحديث، لما كان الغالب على النَّاس أن يرتبط عصيانُهم بعدمِ خوفهم، وأَنَّ ذلك في الأوهام؛ قَطَعَ عُمَرُ هذا الربط، وقال: “لو لم يخف الله لم يعصه”.
وكذلك لما كان الغالبُ على الأوهام أَنَّ الأشجار كلَّها إذا صارت (1) أقلامًا، والبحار المذكورة كلها تُكْتَب بها الكلمات الإلهية، فلعلَّ الوهم يقول: ما يُكتب بهذا شيء إلا نفِدَ كائنًا ما كان، فقطع الله تعالى هذا الربط، ونفى هذا الوهم، وقال: {مَا نَفِدَتْ} (2).
قلت: ونظير هذا: في الحديث: أن زوجته لما توهَّمتْ أن ابنة عمه حمزة (3) تحلّ له؛ لكونها بنت عمه, فقطع هذا الربط بقوله: “إنها لا تحل”، وذكر للتحريم سببين: الرَّضَاعة، وكونها ربيبة له، وهذا جواب القَرَافي، قال: “وهو أصْلح من الأجوبة المتقدِّمة من وجهين؛ أَحدهما: شموله للحديث والآية، وبعض الأجوبة لا تنطبق على الآية. والثاني: أَنَّ ورود “لو” بمعنى “إن” خلاف الظاهر، وما ذكرته (4) لا يتضمن خلاف الظاهر”.
قلت: وهذا الجواب فيه ما فيه، فإنه إِن ادَّعى أَنّ “لو” وُضِعت أو جيء بها لِقَطْع الرَّبط فغلط، فإنها حرف من حروف الشرط التي مضمونها ربط السبب بمسببه والملزوم بلازمه، ولم يُؤْتَ بها لقطع هذا الارتباط ولا وُضعت له أصلًا، فلا يفسر الحرف بضد موضوعه.
ونظير هذا قول من يقول: إن “إلا” قد تكون بمعنى “الواو”،
__________
(1) سقطت من (ق).
(2) “وقال: ما نفدت” سقطت من (د).
(3) (ق): “بنت حمزة”، وانظر ما تقدم (ص/94 حاشية 1) من التعليق والتصحيح.
(4) (ظ ود): “ذكره”.
(1/96)
وهذا فاسد، فإن “الواو” للتَّشْريك والجمع، و”إلا” للإِخراج وقطع التشريك، ونظائر ذلك.
وإن أراد: أَنَّ قَطْع الربط المتوهَّم مقصودٌ للمتكلم من أدلة؛ فهذا حق، ولكن لم ينشأ هذا من حرف “لو”, وإِنَّما جاء من خصوصية ما صحبها من الكلام المتضمِّن لنفي ما توهَّمه القائل أو ادَّعاه، ولم يأت من قِبَل “لو”.
فهذا كلام هؤلاء الفضلاء في هذه المسألة، وإنما جاء الإشكال سؤالًا وجوابًا من عدم الإحاطة بمعنى هذا الحرف ومقتضاه وحقيقته، وأنا أذكر حقيقة هذا الحرف ليتبين سر المسألة بعون الله:
فاعلم أن “لو” حرف وُضِع للملازمة بين أمرين, يدل على أَنّ الجزء (1) الأول منهما ملزوم والثاني لازم، هذا وَضْعُ هذا الحرف وطبيعته، وموارده في هذه الملازمة أربعة؛ فإنه إِما أنْ يلازم بين ثبوتين أو نفيين، أو بين ملزوم مثبت ولازم منفي، أو عكسه، ونعتي بالثبوت والنفي هنا: الصوري اللفظي لا المعنوي (2).
فمثال الأول: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ} [الإسراء: 100] , {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)} [النساء: 64] , {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)} [النساء: 66] ونظائره. ومثال الثاني: “لَوْ لَمْ تكنْ رَبِيْبَتِي في حَجْرِي لَما حَلَّتْ لي”،
__________
(1) (ق): “الجزءين”.
(2) العبارة في (ق): “ونعني بالثبوت هنا وبالنفي الصوري اللفظي لا المعنوي”!.
(1/97)
و”لَوْ لَمْ يَخَفِ اللهَ لَمْ يَعْصِهِ” (1).
ومثال الثالث: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27].
وقال الرابع: “لَو لَمْ تُذْنِبوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ وَلَجاءَ بقَوْمٍ يُذنِبُونَ فَيَسْتغْفروْنَ فيَغفر لَهُمْ” (2). فهذه صور ورودها على النفي وَالإثبات.
وأما حكم ذلك فأمران:
أحدهما: نفي الأول لنفي الثاني، لأنَّ الأول ملزوم والثاني لازم، والملزوم عدم عند عدم لازمه.
والثاني: تحقُق الثاني لتحقق الأول؛ لأنَّ تحقق الملزوم يستلزم تحقق لازمه.
فإذا عرفت هذا فليس في طبيعة “لو” ولا وضعها ما يؤذن بنفي واحد من الجزءين ولا إثباته، وإنما طبيعتها وحقيقتها الدَّلالة على التلازم المذكور؛ لكن إنما يُؤتى بها للتلازم المتضمن نفي اللازم أو الملزوم أو تحققهما, ومن هنا نشأَت الشُّبهة، فلم يؤتَ بها لمجرد التلازم مع قطع النظر عن ثبوت الجزءين أو نفيهما، فإذا دخلت على جزءين متلازمين قد انتفى اللازم منهما، اسْتُفيد نفي الملزوم من قضية اللزوم، لا من نفس الحرف.
وبيانُ ذلك: أنَّ قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] لم يستفد نفي الفساد من حرف “لو”، بل الحرف دخل
__________
(1) تقدما (ص/92، 94).
(2) أخرجه مسلم رقم (2749) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، وجاء بنحوه من حديث أبي أيوب الأنصاري عند مسلم أيضًا.
(1/98)
على أمرين قد عُلِم انتفاء أحدهما حسًّا فلازمت لينه وليس ما (1) يريد نفيه من تعدد الآلهة، وقضية الملازمة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه، فإذا كان اللازم منتفيًا قطعًا وحسًّا انتفى ملزومه لانتفائه، لا من حيث الحرف، فهنا أمران:
أحدهما: الملازمة التي فهمت من الحرف.
والثاني: انتفاء اللازم المعلوم بالحس. فعلى هذا الوجه ينبغي أن يفهم انتفاء اللازم والملزوم بـ “لو”، فمن هنا قالوا: إن دخلت على مثْبَتَين صارا منتفيين، بمعنى أن الثاني منهما قد عُلِم انتفاؤه من خارج، فينتفي الأول لانتفائه، وإذا دخلت على منفيين أثبتهما كذلك أيضًا؛ لأنها تدخل على ملزوم محقَّق الثبوت من خارج، فيتحقق ثبوت لازمه كما في قوله: “لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا” فهذا الملزوم وهو صدور الذنب متحقق (2) في الخارج من البشر، فتحقق لازِمُه وهو: بقاء النوع الإنساني وعدم الذهاب به؛ لأنَّ الملازمة وقعت بين عدم الذنب وعدم البقاء، لكن عدم الذنب منتف قطعًا فانتفى لازمه، وهو عدم الذهاب بنا فثبت الذنب وثبت البقاء. وكذلك بقية الأقسام الأربعة تُفْهَم على هذا الوجه.
وإذا عُرِف هذا؛ فاللازم الواحد قد يلزم ملزومات متعددة؛ كالحيوانية اللازمة للإنسان والفرس وغيرهما، فيقصد المتكلِّم إثبات الملازمة بين بعض تلك الملزومات واللازم على تقدير انتفاء البعض الآخر، فيكون مقصوده: أنَّ الملازمة حاصلة على تقدير انتفاء ذلك
__________
(1) من (ق).
(2) (ق): “يتحقق”.
(1/99)
الملزوم الآخر، فلا يتوهَّم المتوهِّم انتفاء اللازم عند نفي ملزوم معيَّن، فإن الملازمة حاصلة بدونه، وعلى هذا يُخرَّج: “لَوْ لَمْ يَخَفِ اللهَ لَمْ يَعْصِهِ”، وَ”لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبيْبتَي لَما حَلَّتْ لَي”، فإن عدم المعصية له ملزومات وهي (1) الخشية والمحبة والإجلال، فلو انتفى بعضها وهو الخوف مثلًا، لم يبطل اللازم؛ لأنَّ له ملزومات أُخر غيره، وكذلك لو انتفى كون البنت ربيبته لما انتفى التحريم, لحصول الملازمة بينه وبين وصف آخر، وهو الرَّضاع، وذلك الوصف ثابت، وهذا القسم (2) إنَّما يأتي في لازم له ملزومات متعددة، فيقصد المتكلم تحقق الملازمة على تقدير نفي ما نفاه منها.
وأما قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: 27] فإن الآية سِيْقت لبيان أن أشجار الأرض لو كانت أقلامًا، والبحار: مِدَادًا، فكتِبت بها كلماتُ الله؛ لنفدت البحارُ والأقلام، ولم تنفد كلمات الله، فالآية سِيْقت لبيان الملازمة بين عدم نفاد كلماته، وبين كون الأشجار أقلامًا، والبحار مدادًا يكتب بها، فإذا كانت الملازمة ثابتة على هذا التقدير الذي هو أبلغ تقديرٍ يكون في نفاد المكتوب؛ فثبوتها على غيره من التقادير أولى.
ونوضِّح هذا بضرب مثل يُرْتقى منه إلى فهم مقصود الآية: إذا قلت لرجل لا يعطي أَحدًا شيئًا: “لو أَنَّ لك الدنيا بأسرها ما أعطيت أحدًا منها شيئًا”، فإنك إنما (3) قصدت أن عدم إعطائه ثابت على أعظم التقادير التي تقتضي الإعطاء، فلازَمْتَ بين عدم إعطائه وبين
__________
(1) (ظ ود): “ملزومان وهي”.
(2) ليست في (ق).
(3) (ظ ود): “إذا”.
(1/100)
أعظم أسباب الإعطاء، وهو كثرة ما يملكه، فدلَّ هذا على أن عدم إعطائه ثابت على ما هو دون هذا التقدير، وأن عدم الإعطاء لازم لكل تقدير، فافهم نظير هذا المعنى في الآية، وهو عدم نفاد كلمات الله تعالى، على تقدير أن الأشجارَ أقلام، والبحارَ مداد يُكْتَب بها، فإذا لم تنفد على هذا التقدير، كان عدم نفادها لازمًا له؛ فكيف بحسب دونه من التقديرات!! فافهم هذه النكتة التي لا يسمح بمثلها كل وقتٍ ولا تكاد تجدها في الكتب، وإنما هي من فتح الله وفضله، فله الحمد والمنة، ونسأله المزيد من فضله.
فانظر كيف اتفقت القاعدة العقلية مع القاعدة النحوية، وجاءت الخصوص بمقتضاهما معًا من غير خروج عن مُوْجب عقلٍ ولا لغةٍ ولا تحريفٍ لنصٍّ، ولو لم يكن في هذا التَّعليق إلا هذه الفائدة لساوت رحلة، فكيف وقد تضمن من غرر الفوائد مالًا يَنفُق إلا على تجَّارِه، وأما من ليس هناك فإنه يظن الجوهرة زجاجة، والزجاجة المستديرة المثقوبة جوهرة، ويزري على الجوهري ويزعم أنه لا يفرق بينهما!! والله المعين.
المسألة التاسعة (1): في دخول الشرط على الشرط، ونذكر فيه ضابطًا مزيلًا للإشكال إن شاء الله، فنقول: الشرط الثاني تارة يكون معطوفًا على الأول وتارة لا يكون، والمعطوف تارة يكون معطوفًا على فعل الشرط وحده، (2) وتارة يُعْطف على الفعل مع الأداة، فمثال غير المعطوف: “إن قمتِ إن قعدتِ فأنت طالق”.
__________
(1) قارن بـ “الفروق”: (1/ 81 – 85) للقرافي, ولم يذكر المصنف العاشرة.
(2) (ق/22 ب) من النسخة (ق) ساقط من مصوَّرتي وينتهي السقط إلى قوله: “وممن نص … ” ص/104.
(1/101)
ومثال المعطوف على فعل الشرط وحده: “إن قمتِ وقعدتِ”. ومثال المعطوف على الفعل مع الأداة: “إن قمتِ وإن قعدتِ”، فهذه الأقسام الثلاثة أصول الباب وهي عشر صور:
أحدها: “إن خرجتِ ولبستِ”، فلا يقع المشروط إلا بهما كيفما اجتمعا.
الثانية “إن لبست فخرجت”، لم يقع المشروط إلا بالخروج بعد اللبس، فلو خَرَجَت ثم لبست لم يحنث.
الثالثة: “إن لبست ثم خرجت”، فهذا مثل الأول، وإن كان “ثم” للتراخى فإنه لا يُعتبر هنا إلا حيث يظهر قصده.
الرابعة: “إنْ خرجت لا إنْ لبست”، فيحتمل هذا التعليق أمرين؛ أحدهما: جعل الخروج شرطًا؛ ونفي اللبس أن يكون شرطًا. الثاني: أن يجعل الشرط هو الخروج المجرد عن اللبس، والمعنى: إن خرجت لا لابسة، أي غير لابسة، ويكون المعنى إن كان منك خروج لا مع اللبس، فعلى هذا التقدير الأول يحنث بالخروج وحده، وعلى الثاني: لا يحنث إلا بخروج لا لبس معه.
الخامسة: “إن خرجت بل إن لبست”، ويحتمل هذا التعليق أمرين؛ أحدهما: أن يكون الشرط هو اللبس دون الخروج فيختص الحنث به لأجل الإضراب، والثاني: أن يكون كل منهما شرطًا فيحنث بأيهما وجد، ويكون الإضراب عن الاقتصار، فيكون إضراب اقتصار لا إضراب (1) إلغاء، كما تقول: “أعطه درهما بل درهمًا آخر”.
__________
(1) من قوله: “الاقُتصار … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(1/102)
السادسة: “إن خرجت أو إن لبست” فالشرط أحدهما أيهما كان.
السابعة: “إن لبست لكن إن خرجت”، فالشرط الثاني [إن] وقع لغا الأول لأجل الاستدراك بـ “لكن”.
الثامنة: أن يدخل الشرطُ على الشرط، ويكون الثاني معطوفًا بالواو، نحو: “إن لبست وإن خرجت”، فهذا يحنث بأحدهما.
فإن قيل: فكيف لم يحنِّثوه في صورة العطف على الفعل وحده إلا بهما، وحنثتموه ها هنا بأيهما كان؟.
قيل: لأنه هناك جعل الشرط مجموعهما، وهنا جعل كل واحد منهما شرطا برأسه، وجعل لهما جوابًا واحدًا، وفيه رأيان؛ أحدهما: أن الجواب لهما جميعًا وهو الصحيح، والثاني: أن جواب أحدهما، حُذِفَ لدلالة المذكور عليه، وهي أخت مسألة الخبر عن المبتدأ بجزءين.
التاسعة: أن يعطف الشرط الثاني بالفاء، نحو قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} (1) [البقرة: 38]. فالجواب المذكور جواب الشرط الثاني، وهو وجوابه جواب الأول، فإذا قال: “إن خرجت فإن كلمت أحدًا فأنت طالق”، لم تَطْلق حتى تخرج وتكلم أحدًا.
العاشرة (2): وهي أن المسألة التي تكلم فيها الفقهاء دخول الشرط على الشرط بلا عطف، نحو: “إن خرجتِ إن لبستِ”، اختلف أقوالهم فيها، فحن قائل: إن المؤخر في اللفظ مقدم في المعنى، وأنه لا يحنث حتى يتقدم اللبس على الخروج، ومن قائل بل المقدَّم لفظًا هو المقدِّم معنًى، وذكر كلٌّ منهم حُجَجًا لقوله.
__________
(1) بقية الآية: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ … } والكلام عليه.
(2) انظر “الفروق”: (1/ 81)، وسيعيد المؤلف هذا البحث فيما سيأتي: (3/ 1237).
(1/103)
(ق/23 أ) وممن نص على المسألة [لبن] الموفَّق (1) الأندلسي في شرحه (2)، فقال: إذا دخل الشرط على الشرط، وأُعيد حرف الشرط، توقّف وقوع الجزاء على وجود الشرط الثاني قبل الأول، كقولك: “إن أكلتِ إن شربتِ فأنت طالق”، فلا تطلق حتى يوجد الشرب منها قبل الأكل؛ لأنه معلق (3) على أكلٍّ معلَّقٍ على شربٍ، وهذا الذي ذكره أبو إسحاق في “المهذب” (4)، وحكى ابن شاس في “الجواهر” (5). عن أصحاب مالك عكسه، والوجهان لأصحاب الشافعي.
ولابد في المسألة من تفصيل وهو: أَنَّ الشرط الثاني إن كان متأخراً في الوجود عن الأول؛ كان مقدراً بالفاء، وتكون الفاء جواب الأول، والجواب المذكور جواب الثاني، (ظ/ 17 ب) مثاله: “إن دخلت: المسجد إن صليت فيه فلك أجر”، تقديره: فإن صليت فيه، وحذفت الفاء لدلالة الكلام عليها، وإن كان الثاني متقدماً في الوجود على الأول؛ فهو في نية التقدم، وما قبله جوابه، والفاء مقدرة فيه، ومثله قوله عز وجل: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34]، تقديره: إن أراد الله أن يغويكم (6)، فإن
__________
(1) تحرفت في (ق) إلى: “الفرضي”.
(2) أي: شرحه للمفصّل للزمخشري، وتقدم نقل المؤلف عنه ص/ 91، وترجمته والتعريف بكتابه.
(3) (ظ ود) “تعلق”.
(4) (10/ 215 – مع شرحه للعمراني”.
(5) (2/ 207) واسم الكتاب “عِقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة”، ومؤلّفه هو: عبد الله بن نجم بن شاس الجذامي السعدي أبو محمد ت (616).
انظر: “وفيات الأعيان”: (3/ 61)، و”السير”: (22/ 99).
(6) “تقديره: إن أراد الله أن يغويكم” سقطت من (ظ ود).
(1/104)
أردت أن أنصحَ لكم لا ينفعكم نُصْحِي، وتقول: “إن دخلت المسجدَ (1) إن توضأتَ فصل ركعتين”، تقديره: إن توضأت، فإن دخلت المسجد فصلِّ ركعتين، فالشرط الثاني هنا متقدِّم.
وإذ لم يكن أحدهما متقدماً في الوجود على الآخر، بل كان محتملاً للتقدم والتأخر؛ لم (2) يحكم على أحدهما بتقدم ولا تأخر، بل يكون الحكم راجعاً إلى تقدير المتكلِّم ونيته، فأيهما قدره شرطاً كان الآخر جواباً له، وكان مقدراً بالفاء تقدم في اللفظ أو تأخر، وإن لم يظهر نِيَّة ولا تقدير احتمل الأمرين، فمما ظهر فيه تقديم المتأخر، قول الشاعر:
إن تَسْتغيثوا بِنا إنْ تُذْعَرُوا تَجِدوا … مِنَّا مَعَاقِلَ عِزٍّ زَانها الكَرَمُ (3)
لأنَّ الاستغاثة لا تكون إلا بعد الذُّعر، ومنه قول ابن دُرَيد (4):
فإنْ عَثَرتُ بَعْدها إنْ وألَتْ … نَفْسي مِن هَاتَا فقولا لا لَعَا
ومعلوم أن العثور مرة ثانية (5) إنما يكون بعد الذُّعر، ومن المحتمل قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]، يحتمل أن تكون الهبة شرطاً ويكون فعل الإرادة جواباً له، ويكون التقدير: إن وهبت نفسها للنبي فإن أراد النبي أن يستنكحها فخالصة له، ويحتمل أن تكون
__________
(1) (ق): “الدار”.
(2) (ق): “للتقديم والتأخير ولم”.
(3) البيت في “الخزانة”: (11/ 358) ولا يُعرف قائله.
(4) ضمن المقصورة، وانظر “المقصورة”: (ص/ 20 – مع شرح التبريزي).
(5) (ق): “العبور الثاني”.
(1/105)
الإرادة شرطاً والهبة جواباً له، والتقدير: إن أراد النبيُّ أن يستنكحها، فإن وهبت نفسها فهي خالصة له، يحتمل الأمرين، فهذا ما ظهر لي من التفصيل في هذه المسألة وتحقيقها، والله أعلم.
فائدة عظيمة المنفعة (1)
قال سيبويه (2): “الواو لا تدل على الترتيب ولا التعقيب، تقول: صمتُ رمضانَ وشعبانَ، وإن شئتَ: شعبان ورمضان، بخلاف “الفاء” و”ثم” إلا أنهم يقدمون في كلامهم ما هم به أَهَمُّ، وهُمْ ببيانِهِ أَعْنَى، وإن كانا جميعاً يهمانهم ويَعْنيانهم”، هذا لفظُه.
قال السُّهيلي: وهو كلام مجمل يحتاج (ق/23 ب) إلى بسطٍ وتبيين، فيقال: متى يكون أحدُ الشيئين أحقَّ بالتقديم (3)، ويكون المتكلم ببيانه أعنى.
قال: والجوابُ: أن هذا الأصل يجب الاعتناء به، لِعِظم منفعته في كتاب الله، وحديث رسوله؛ إذ لابدَّ من الوقوف على الحكمة في تقديم ما قدم وتأخير (4) ما أخر، كنحو السَّمْع والبصر (5)، والظلمات والنور، والليل والنهار، والجن والإنس في الأكثر، وفي بعضها: الإنس والجن، وتقديم السماء على الأرض في الذِّكر (6)، وتقديم الأرض عليها في بعض الآي، ونحو: “سميع عليم”، ولم يجئ:
__________
(1) “نتائج الفكر”: (ص/266).
(2) في “الكتاب”: (1/ 218).
(3) (ظ ود): “بالمتقدم”.
(4) (ق): “ما قدم في القرآن أو … “.
(5) (ظ ود): “السميع والبصير”، والمثبت من (ق) و”النتائج”.
(6) ليست في (ق).
(1/106)
“عليم سميع”، وكذلك: “عزيز حكيم” و”غفور رحيم”، وفي موضع واحد: “رحيم غفور” إلى غير ذلك مما لا يكاد ينحصر. وليس شيء من ذلك يخلو عن فائدة وحكمة، لأنه كلام الحكيم الخبير. وسنقدِّم بين يدي الخوض في هذا الغرض أَصْلاً يقف بك على الطريق الأوضح.
فنقول: ما تقدم من الكلم فتقديمه في اللسان على حسب تقدُّم المعاني في الجَنَان، والمعاني تتقدم بأحد خمسة أشياء: إما بالزمان، وإما بالطبع، وإما بالرتبة، وإما بالسبب، وإما بالفضل والكمال، فإذا سبق معنى من المعاني إِلى الخَلَد والفِكْر (1) بأحد هذه الأسباب الخمسة، أو بأكثرها، سبق اللفظ الدال على ذلك المعنى السابق، وكاد ترتُّب الألفاظ بحسب ذلك، نعم وربما كان ترتُّب الألفاظ بحسب الخفة والثقل، لا بحسب المعنى، كقولهم: “ربيعة ومُضَر”، وكان تقديم “مضر” أولى من جهة الفضل، ولكن آثروا الخفة؛ لأنك لو قدمت “مضر” في اللفظ، كثرت الحركات وتوالت، فلما أخرت وُقِف (2) عليها بالسكون.
قلت: ومن هذا النحو: “الجن والإنس”، فإن لفظ الإنس أخفّ، لمكان النون الخفيفة والسين المهموسة، فكان الأثقل أولى بأول الكلام من الأخف لنشاط المتكلم وجِمَامه. وأما في القرآن فلحكمة أخرى سوى هذه قدم الجن على الإنس في الأكثر والأغلب، وسنشير إليها في آخر الفصل (ظ/18 أ) إن شاء الله تعالى.
أما ما تقدم بتقدُّم الزمان فكـ “عاد وثمود” و”الظلمات والنور”،
__________
(1) (ظ ود): “الخفة والثقل” ولا معنى له.
(2) في الأصول ونسختَي النتائج: “ووقف” وأصلحه محققه كما أثبتْ.
(1/107)
فإن الظلمة سابقة للنور في المحسوس والمعقول، وتقدمهما في المحسوس معلوم (1) بالخبر المنقول، وتقدم الظلمة المعقولة معلوم بضرورة العقل، قال سبحانه: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} [النحل: 78] فالجهل (2) ظلمة معقولة، وهي متقدمة بالزمان على نور العلم (3) ولذلك قال تعالى: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} [الزمر: 6]، فهذه ثلاث محسوسات: ظلمة الرَّحِم، وظلمة البطن، وظلمة المشيمة، وثلاث معقولات وهي: عدم الإدراكات الثلاثة المذكورة في الآية المتقدمة؛ إذ (4): “لكلِّ آية ظهر وبطن، ولكل حرف حدٌّ، ولكل حدٍّ (5) مطلع” (6)، وفي الحديث: “إِنَّ اللهَ خَلَقَ عِبَادَهُ في (ق/24 أ) ظُلْمَةٍ ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمْ من نُوْرِه” (7).
ومن المتقدِّم بالطبع نحو: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] ونحو:
__________
(1) (ق): “معقول”.
(2) في “النتائج”: “وانتفاء العلم”.
(3) (ق): “العلوم”، و”النتائج”: “الإدراك”.
(4) ليست في (ق).
(5) “ولكل حد” سقط من (د).
(6) جاء هذا القول عن بعض السلف، وروي عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، انظر ذلك مع شرحه في “الإتقان”: (2/ 486)، و”البرهان”: (2/ 169).
(7) أخرجه أحمد: (2/ 176، 197)، والترمذي رقم (2642)، وحسَّنه، وابن حبان في “الإحسان”: (14/ 43)، والحاكم في “المستدرك”: (1/ 30) وصححه، وابن أبي عاصم في “السنة”: (ص/ 108)، واللالكائي: (4/ 603)، والآجري في “الشريعة”: (2/ 757).
كلهم من طريق عبد الله ابن الدَّيْلمي عن عبد الله بن عَمرو به، وسنده صحيح، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي والألباني في “السلسلة” رقم (1076).
(1/108)
{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} الآية [المجادلة: 7].
وما يتقدم من الأعداد بعضها على بعض إنما يتقدَّم بالطبع، كتقدم الحيوان على الإنسان، والجسم على الحيوان. ومن هذا الباب تقدم “العزيز” على “الحكيم”؛ لأنه عزَّ فلما عزَّ حَكَمَ، وربما كان هذا من تقدُّم السبب على المسبب، ومثله كثير في القرآن، نحو: {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]؛ لأنَّ التوبة سبب الطهارة، وكذلك: {كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 222]؛ لأنَّ الإفك سبب الإثم، وكذلك: {كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [المطففين: 12].
وأما تقدُّم {هَمَّازٍ} على {مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 11] فبالرتبة؛ لأنَّ المشي مرتب على القعود في المكان (1). والهماز هو: العيَّاب، وذلك لا يفتقر إلى حركة وانتقال من موضعه، بخلاف النميمة.
وأما تقدُّم {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} على: {مُعْتَدٍ} [القلم: 12] فبالرتبة أيضاً؛ لأن المناع يمنع من (2) نفسه، والمعتدي يعتدي على غيره، ونفسه [في الرتبة] (3) قبل غيره.
ومن المقدَّم بالرتبة قوله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27]؛ لأنَّ الذي يأتي راجلاً يأتي من المكان القريب، والذي يأتي على الضامر يأتي من المكان البعيد، على أنَّه قد رُوِي عن ابن عباس أنَّه قال: “وددت أني حججت راجلاً، لأنَّ الله قدم الرجالة على الركبان في القرآن ” (4)، فجعله ابن عباس من باب تقدُّم
__________
(1) (ق): “الكلام”.
(2) “النتائج”: “خير”.
(3) من “النتائج”.
(4) قال السيوطي في “الدر المنثور”: (4/ 639): “وأخرج ابن أبي شيبة، وابن سعد، =
(1/109)
الفاضل على المفضول، والمعنيان موجودان. وربما قُدِّم الشيء لثلاثة معانٍ وأربعة وخمسة، وربما قدم لمعنًى واحد من الخمسة.
ومما (1) قدم للفضل والشرف: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6]، وقوله: {النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء: 69]، ومنه تقديم “السمع” على “البصر” (2)، و”سميع” على “بصير”، ومنه تقديم “الجن” على “الإنس” في أكثر المواضع؛ لأن الجنّ تشتمل على الملائكة وغيرهم مما اجْتَنَّ عن الأبصار قال تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158] وقال الأعشى (3):
وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الملائِكِ سَبْعَةً (4) … قِيَاماً لَدَيْهِ يَعْمَلُوْنَ بِلا أَجْرِ
وأما قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 74] وقوله: {لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 39] وقوله: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الجن: 5] فإن لفظ الجن هاهنا لا يتناول الملائكة بحال؛ لنزاهتهم عن العيوب، وأنهم لا يُتَوهم عليهم الكذب، ولا سائر الذنوب؛ فلما لم يتناولهم عموم لفظ الجنِّ (5)
__________
= وعَبْد بن حُميد، وابن جرير: (9/ 135 – 136)، وابن المنذر، وابن أبي حاتم: (8/ 2488)، والبيهقي: (4/ 331)، عن ابن عباسٍ – رضي الله عنهما – قال: “ما آسى على شيءٍ فاتني إلا أني لم أحج ماشيّا حتى أدركني الكِبَر، أسمع الله تعالى يقول: “يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر” فبدأ بالرجال قبل الركبان”.
(1) (ق ود): “ربما”.
(2) (ظ ود): “السميع علي البصير”.
(3) ليس في “ديوانه”، وذكره ابن منظور في “اللسان”: (13/ 98).
(4) في الأصول: “شِيعةً”، وفي “اللسان”: “تسعة”.
(5) من (ق).
(1/110)
لهذه القرينة بدأ بلفظ الإنس لفضلهم وكمالهم.
وأما تقديم “السماء” على “الأرض”؛ فبالرتبة -أيضاً- وبالفضل والشرف.
وأما تقديم “الأرض” في قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [يونس: 61]؛ فبالرتبة -أيضاً- لأنها منتظمة بذكر ما هي أقرب إليه، وهم المخاطبون بقوله: {وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} [يونس: 61]؛ فاقتضى حُسْن النظم تقديمها مَرْتبةً في الذكر مع المخاطبين الذين هم أهلها، بخلاف الآية التي في “سبأ”، فإنها منتظمة بقوله: {عَالِمِ الْغَيْبِ} [سبأ: 3].
وأمَّا تقديم “المال” على “الولد” في كثير من الآي؛ فلأن الولدَ بعد وجودِ المالِ نعمةٌ ومسرَّةٌ، وعند الفقر (ق/ 24 ب) وسوء الحال همٌّ ومضرَّة، فهذا من باب تقديم السبب على المسبب؛ لأنَّ المال سبب تمام النعمة بالولد.
وأما قوله: {حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران: 14] فتقديم النساء على البنين بالسبب، وتقديم [البنين] على [الأموال] بالرتبة (1).
ومما تقدَّم بالرتبة ذكر “السمع والعلم” حيث وقع، فإنَّه خبر يتضمَّن التخويف والتهديد، فبدأ بالسمع لتعلُّقه بما قرب كالأصوات (ظ/18 ب) وهمس الحركات؛ فإن من سمع حِسَّك وخَفيَّ صوتك أقربُ إليك – في العادة – ممن يقال لك: إنه يعلم، وإن كان علمه
__________
(1) في الأصول: “وتقديم الأموال على البنين بالرتبة”، والتصويب من “النتائج”.
(1/111)
تعالى متعلقاً بما ظهر وبطن، وواقعاً على ما قَرُب وشَطَن، ولكن ذكر السميع أوقع في باب التخويف من ذكر العليم؛ فهو أولى بالتقديم.
وأما تقديم “الغفور” على “الرحيم”؛ فهو أولى بالطبع (1)؛ لأنَّ المغفرة سلامة والرحمة غنيمة، والسلامة تُطْلب قبل الغنيمة. وفي الحديث أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لعَمْرو بن العاص: “أَبْعَثُكَ وَجْهاً يُسَلِّمُكَ اللهُ فِيْهِ وَيُغَنِّمُكَ وَأَزْعَبُ لَكَ زَعْبَةً مِنَ المَالِ” (2)، فهذا من الترتيب البديع، بدأ بالسلامة قبل الغنيمة، وبالغنيمة قبل الكسب.
وأما قوله: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ: 2] في سبأ فالرحمة هناك متقدمة على المغفرة، فإِمَّا بالفضل والكمال، وإما بالطبع؛ لأنها منتظمة بذكر أصناف (3) الخلق من المكلّفين وغيرهم من الحيوان، فالرحمة تشملهم والمغفرة تخصُّهم، والعموم بالطبع قبل الخصوص، كقوله: {فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] وكقوله: {وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98].
__________
(1) (ق): “بالتقديم بالطبع”.
(2) أخرجه أحمد (4/ 197 و 202)، والبخاري في “الأدب المفرد”: (ص/97)، وابن حبّان “الإحسان”: (8/ 7)، والحاكم: (2/ 236) وغيرهم.
كلهم من طرقٍ عن موسى بن عُلَيّ بن رباح عن أبيه عن عَمْرو بن العاص به.
والحديث صححه الحاكم وابن حبان، والذهبي والألباني في “صحيح الأدب المفرد” رقم 229.
ووقع في الأصول، وبعض مطبوعات كتب السنة: “أرغب لك رغبة” بالراء والغين، والصواب: “أزْعب لك زَعْبة” بالزاي والعين. والمعنى: أعطيك دفعة من المال. وأصل الزَّعب: الدَّفع والقَسْم، انظر: “النهاية” (2/ 302) لابن الأثير.
(3) “النتائج”: “أوصاف”.
(1/112)
ومما قدم بالفضل قوله: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43]؛ لأنَّ السجودَ أفضل، و”أَقْرَبُ مَا يَكُوْنُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ” (1).
فإن قيل: فالركوع قبله بالطبع والزمان والعادة؛ لأنه انتقال من علوٍّ إلى انخفاض، والعلوُّ بالطبع قبل الانخفاض، فهلَّا قُدِّم الركوع؟
فالجواب: أن يقال: انتبه لمعنى الآية من قوله: {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} ولم يقل: اسجدي مع الساجدين، فإنما عبَّر بالسجود عن الصلاة، وأراد صلاتها في بيتها؛ لأنَّ صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها مع قومها، ثمَّ قال لها: {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}، أي: صَلِّي مع المصلين في بيت المقدس.
ولم يُرِد -أيضاً- الركوع وحده دون سائر (2) أجزاء الصلاة، ولكنه عبَّر بالركوع عن الصلاة كلِّها (3)، كما تقول: “ركعت ركعتين، وأربع ركعات”، تريدُ الصلاةَ لا الركوعَ بمجرده، فصارت الآية متضمنةً لصلاتين: صلاتها وحدها عبَّر عنها بالسجود؛ لأنَّ السجودَ أفضل حالات العبد، وكذلك صلاةُ المرأة في بيتها أفضل لها. ثمَّ صلاتها في المسجد عبَّر عنها بالركوع؛ لأنه في الفضل دون السجود، وكذلك صلاتها مع المصلين دون صلاتها وحدها في بيتها ومحرابها، وهذا نَظْم بديع، وفقه دقيق، وهذه نُبَذٌ تشير لك إلى ما وراء، أَو تنبذك وأنت صحيحٌ بالعَرَاء (4).
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (482)، وأبو داود رقم (875)، والنسائي: (2/ 226) وغيرهم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(2) من (ق) و”النتائج”.
(3) من (ق) و”النتائج”.
(4) تحرفت هذه الجملة في (ظ) و”النتائج”.
(1/113)
قالوا (1): ومما يليق (2) ذكره بهذا الباب قوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] بدأ بالطائفين للرتبةِ والقربِ من البيت المأمور بتطهيره من أجل الطوَّافين، وجمعهم جَمْعَ السلامة؛ لأنَّ جمع السلامة أدلُّ على لفظ الفعل الذي هو علة يُعلَّق بها حكم التطهير، ولو كان مكان (لِلطَّائِفِينَ): الطُّوَّاف؛ لم يكن في هذا اللفظ من بيان قَصْد (3) الفعل ما في قوله (لِلطَّائِفِينَ)، ألا ترى أنك تقول: “يَطوفون”، كما تقول: “طائفون”، فاللفظان متشابهان.
فإن قيل: فهلَّا أُتيَ بلفظ الفعل بعينه فيكون أبين، فيقول: “وطهر بيتي للذين يطوفون”؟.
قيل: إن الحكم مُعَلَّل بالفعل لا بذوات الأشخاص، ولفظ “الذين” يُنْبئ عن الشخص والذات، ولفظ “الطُّوَّاف” يُخْفِي معنى الفعل ولا يبينه، فكان لفظ [الطائفين] (4) أولى بهذا الموطن.
ثمَّ يليه في الترتيب (وَالْقَائِمِينَ)؛ لأنه في معنى (العاكفين)، وهو في معنى قوله تعالى: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75]، أي: مُثابراً ملازماً، وهو كالطائفين في تعلُّق حكم التطهير به، ثمَّ يليه بالرتبة لفظ [الرُّكَّع] (5)؛ لأن المستقبلين البيت بالركوع لا يختصُّون بما قَرُب منه كالطائفين والعاكفين، ولذلك لم يتعلَّق حكم التطهير
__________
(1) ليست في (ق). وانظر “النتائج”: (ص/273).
(2) من (ق) و”النتائج”.
(3) (ق): “فضل”، و”النتائج”: “قول”!.
(4) (ظ وق): “الظاهر” والمثبت من “النتائج”.
(5) (ظ وق): “الراكع” والمثبت من “النتائج”.
(1/114)
بهذا الفعل الذي هو الركوع، وأنه (1) لا يلزم أن يكون في البيت ولا عنده، فلذلك لم يجئ بلفظ الجمع المسلَّم؛ إِذ لا يحتاج فيه إلى بيان لفظ الفعل، كما احتيج فيما قبله.
ثمَّ وصَفَ {الرُّكَّعِ} بالسجود، ولم يُعْطَف بالواو كما عطف ما قبله؛ لأنَّ {الرُّكَّعِ} هم {السُّجُودِ}، والشيءُ لا يُعْطَف بالواوِ على نفسه؛ ولفائدةٍ أُخرى: وهو أن السجود أغلب ما يجيء عبارة عن المصدر، والمراد به هاهنا الجمع، فلو عطف بالواو لتُوُهِّم أنَّه يريد السجودَ الذي هو المصدر دود الاسم الذي هو النعت؛ وفائدةٍ ثالثة: أن الراكع إن لم يسجد فليس براكع في حكم الشريعة (ظ/19 أ)؛ فلو عطفت هاهنا بالواو لتُوُهِّمَ أن الركوعَ حكم يجري على حِيَالِه.
فإن قيل: فلم قال: “السجود” على وزد “فُعُول”، ولم يقل السُّجَّد كالرُّكَّع، وفي آية أخرى: {رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح: 29]، وَلمَ جُمِع “ساجد” على “سجود”، ولم يُجْمع “راكع” على “ركوع”.
فالجواب: أن السجود في الأصل مصدرٌ كالخشوع والخضوع، وهو يتناول السجود الظاهر والباطن، ولو قال: “السُّجَّد” في جمع “ساجد” لم يتناول إلا المعنى الظاهر. وكذلك “الرُّكَّع” ألا تراه يقول: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح: 29] وهذه رؤية العين، وهي لا تتعلق إلا بالظاهر، والمقصود هنا الركوع الظاهر لعطفه على ما قيله مما يُراد به قصد (2) البيت، والبيت لا يُتَوجه إليه إلا بالعمل الظاهر.
وأما الخشوع والخضوع الذي يتناوله لفظ “الركوع” دون لفظ
__________
(1) (ق): “لهذا”.
(2) (ق): “فضل”.
(1/115)
“الرُّكَّع” فليس مشروطاً بالتوجه إلى البيت.
وأما السجود فمن حيث أنبأ عن المعنى الباطن، جُعِل وصفاً “للركع” ومتمماً لمعناه؛ إذ لا يصح الركوع الظاهر إلا بالسجود الباطن، ومن حيث تناول (ق/25 ب) لفظه أيضاً السجود الظاهر الذي يُشترط فيه التوجه إلى البيت، حَسُن انتظامه -أيضاً- بما قبله مما هو معطوف على الطائفين الذين ذكرهم بذكر البيت، فمن لَحَظَ هذه المعاني بقلبه، وتدبَّر هذا النظمَ البديع بِلُبِّه؛ ارتفع في معرفة الإعجاز عن التقليد، وأبصرَ بعينِ اليقين أنَّه تنزيلٌ من حكيم حميد” تم كلامه – رحمه الله -.
قلت (1): وقد تولَّج – رحمه الله – مضايق تضايق عنها أَن تولجها الإِبَر، وأتى بأشياءَ حسنة، وبأشياء غيرُها أحسن منها.
فأما تعليلُه تقديمَ ربيعة على مضر؛ ففي غاية الحُسْن، وهذان الاسمان لتلازمهما في الغالب صارا كاسم واحد، فحَسُنَ فيهما ما ذكره.
وأما (2) ما ذكره في تقديم الجنِّ على الإنس من شَرَف الجن؛ فمُسْتَدْرَك عليه، فإن الإنس أشرف من الجن من وجوه عديدة قد ذكرناها في غير هذا الموضع.
وأما قوله: إن الملائكة منهم و (3) هم أشرف، فالمقدمتان ممنوعتان.
أَما الأولى: فلأن أصل الملائكة ومادتهم التي خُلِقوا منها هي:
__________
(1) ليست في (ق)، والكلام لابن القيم تعليقاً على كلام السهيلي.
(2) من قوله: “ففي غاية … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(3) (ظ): “أو”.
(1/116)
النور، كما ثبت ذلك مرفوعاً عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في “صحيح مسلم” (1)، وأما الجانُّ فمادتهم النار بنص القرآن، ولا يصح التفريق بين الجن والجان لغة ولا شرعاً ولا عقلاً.
وأما المقدمة الثانية: وهي كون الملائكة خيراً وأشرف من الإنس؛ فهي المسألة المشهورة وهي تفضيل الملائكة أو البشر (2)، والجمهور على تفضيل البشر، والذين فضَّلوا الملائكة هم المعتزلة والفلاسفة وطائفة ممن عداهم، بل الذي ينبغي أن يقال في التقديم هنا: إنه تقديمٌ بالزمان لقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: 26 – 27].
وأما تقديم الإنس على الجنِّ في قوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 74]؛ فلِحِكْمة أخرى سوى ما ذكره، وهو: أن النفي تابع لما تعقله القلوب من الإثبات فيَرِد النفي عليه، وعلم النفوس بطَمْث الإنس ونُفرتها ممن طمثها الرجال هو المعروف، فجاء النفي على مقتضى ذلك، وكان تقديم الإنس في هذا النفي أهمّ.
وأما قوله تعالى: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الجن: 5] فهذا يُعرَف سره من السياق، فإن هذا حكايةُ كلام مؤمني الجن حين سماع القرآن، كما قال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ … } [الجن: 1 – 15].
__________
(1) رقم (2996) من حديث عائشة – رضي الله عنها-.
(2) انظر: “طريق الهجرتين”: (ص/ 411)، وهذا الكتاب: (3/ 1104)، و”مجموع الفتاوى”: (4/ 35)، و”فتح الباري”: (13/ 386)، وانظر كتاب: “مباحث. المفاضلة في العقيدة”: (ص/ 354).
(1/117)
وكان القرآن أول (1) ما خُوطِب به الإنس، ونزل على نبيهم، وهم أول من بدأ بالتصديق والتكذيب قبل الجن، فجاء قول مؤمني الجن: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الجن: 5] بتقديم الإنس لتقدُّمهم في الخطاب بالقرآن، وتقدّمهم بالتصديق والتكذيب.
وفائدة ثالثة (2): وهي أن هذا حكاية كلام مؤمني الجن لقومهم (3) بعد أن رجعوا إليهم، فأخبروهم بما سمعوا من القرآن وعَظَمته وهدايته إلى الرشد، ثمَّ اعتذروا عما كانوا يعتقدونه أولاً بخلاف (ق/26 أ) ما سمعوه من الرشد، بأنهم لم يكونوا يظنون أن الإنس والجن لم يقولوا (4) على الله كذباً، فَذِكْرهم (ظ/19 ب) الإنس هنا في التقديم، أحسن في الدعوة وأبلغ في عدم التُّهمة، فإنهم خالفوا ما كانوا يسمعونه من الإنس والجن لما تبيَّن لهم كذبهم (5)، فبداءتُهم بذكر الإنس أبلغ في نفي الغَرَض والتهمة، وأنه لا يَظُن بهم قومهم أنهم ظاهروا الإنسَ عليهم، فإنهم أول ما أقرُّوا بتقوُّلهم الكذبَ على الله. وهذا من ألطف المعاني وأدقها، ومن تأمل مواقعه في الخطاب عرف صحَّتَه.
وأما تقديم عاد على ثمود حيثُ وقَعَ في القرآن؛ فما ذكره من تقدمهم بالزمان؛ فصحيح، وكذلك الظلمات والنور، وكذلك مَثْنى وبابه.
__________
(1) (ق): “أولى”.
(2) (ق): “ثانية”.
(3) ليست في (ق).
(4) (ظ): “يقولون”.
(5) (ق): “كذبه”.
(1/118)
وأما تقديم “العزيز” على “الحكيم” فإن كان من الحكم وهو الفصل والأمر؛ فما ذكره من المعنى صحيح، وإن كان من الحِكْمة، وهي كمال العلم والإرادة المتضمِّنَيْنِ اتساقَ صُنعه وجَرَيانه على أحسنِ الوجوه وأكملها، ووضعه الأشياء مواضعها، وهو الظاهر من هذا الاسم، فيكون وجه التقديم: أن العزَّة كمال القدرة، والحكمة كمال العلم، وهو سبحانه الموصوف من كل صفةِ كمالٍ بأكملها وأعظمها وغايتها، فقدَّم وصفَ القدرة؛ لأنَّ متعلَّقه أقرب إلى مشاهدة الخلق وهو مفعولاته تعالى وآياته. وأما الحكمة فمتعلّقها يُعْلم (1) بالنظر والفكر والاعتبار غالباً وكانت متأخرة عن متعلق القدرة.
ووجهٌ ثان: أن (2) النظر في الحكمة بعد النظر في المفعول والعلم به، فينتقل منه إلى النظر فيما أودعه (3) من الحكم والمعاني.
ووجهٌ ثالث: أن الحكمة (4) غاية الفعل، فهي متأخرة عنه تأَخُّر الغايات عن وسائلها، فالقدرة تتعلق بإيجاده، والحكمة تتعلّق بغايته، فقدَّم الوسيلة على الغاية؛ لأنها أسبق في الترتيب الخارجي.
وأما قوله تعالى: {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] ففيه معنى آخر سوى ما ذكره، وهو أنَّ الطُّهر طُهْران: طُهر بالماء من الأحداث والنجاسات، وطُهر بالتوبة من الشرك والمعاصي، وهذا الطهور أصل لطهور الماء، وطهور الماء لا ينفع بدونه، بل هو مُكمِّل له معد مُهَيِّئ بحصوله، فكان أولى بالتقديم؛ لأنَّ العبد أول ما يدخل
__________
(1) ليست في (ظ).
(2) (ق): “ووجه بأن”.
(3) (ق): “ادعاه”.
(4) (ظ): “الكلمة”.
(1/119)
في الإِسلام فقد تطهَّر بالتوبة من الشرك، ثمَّ يتطهر بالماء من الحدث.
وأما قوله: {كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 222]؛ فالإفك هو: الكذب وهو في القول، والإثم هو: الفجور وهو في الفعل. والكذب يدعو إلى الفجور كما في الحديث الصحيح: “إِنَّ الكَذِبَ يَدْعُو إِلى الفُجُوْرِ وَإِنَّ الفُجُوْرَ يَدْعُو إِلى النَّارِ” (1)؛ فالذي قاله صحيح.
وأَمَّا {مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [القلم: 12] ففيه معنىً ثان غير ما ذكره، وهو: أَنَّ العدوان مجاوزة الحد الذي حُدَّ للعبد، فهو ظلم في القدر والوصف، وأما الإثم فهو: محرَّم الجنس، ومن تعاطَى تعدِّي الحدود تخطى إلى الجنس الآخر، وهو الإثم.
ومعنىً ثالث: وهو أن المعتدي الظالم لعباد الله عدواناً عليهم، والأثيم الظالم لنفسه بالفجور، فكان تقديمه هنا على الأثيم (2) أولى؛ لأنه في سياق ذَمِّه (ق/26 ب) والنهي عن طاعته، فمن كان معتدياً على العباد ظالماً لهم؛ فهو أحرى بأن لا تطيعه وتوافقه.
وفيه معنىً رابع: وهو أنَّه قدَّمه على الأثيم ليقترن بما قبله، وهو وصف المنع للخير، فوصفه بأنه لا خير فيه للناس، وأنه مع ذلك معتدٍ عليهم، فهو متأخِّر عن المنَّاع؛ لأنه يمنع خيره أوَّلاً ثمَّ يعتدي عليهم ثانياً، ولهذا يحمد الناسُ من يُوجِد لهم الراحة ويكف عنهم الأذى، وهذا هو حقيقة التصوف (3)، وهذا لا راحة يُوجِدها ولا أذى يكفُّه.
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (6094)، ومسلم رقم (2607) من حديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -.
(2) (ق): “الاسم”!.
(3) انظر “مدارج السالكين”: (1/ 464 – 465).
(1/120)
وأما تقديم {هَمَّازٍ} على {مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ}؛ ففيه معنىً آخر غير ما ذكره، وهو أن همزه عَيْب للمهموزِ، وإِزراء به (1)، وإظهارٌ لفسادِ حاله في نفسه، وهذه قالة (2) تختص المهموز لا تتعدَّاه إلى غيره، والمشي بالنميمة يتعدَّاه إلى من ينم عنده، فهو ضرر متعدٍّ، والهمز ضررهُ لازم للمهموز إذا شعر به؛ فانتقل (3) من الأذى اللازم إلى الأذى المتعدِّي المنتشر.
وأما تقديم الرجال على الرُّكبان؛ ففيه فائدة جليلة، وهي: أَنَّ الله تعالى شَرَط في الحج الاستطاعة، ولابدَّ من السفر إليه لغالب الناس، فذكر نوعَي الحُجَّاج لقطع توهُّم من يظن أنَّه لا يجب إلا على راكب، وقدَّم الرجال اهتماماً بهذا المعنى وتأكيداً، ومن الناس من يقول: قدَّمهم جبراً لهم؛ لأن نفوسَ الركبان تزدَرِيهم وتوبِّخهم (4)، وتقول: إن الله (ظ/ 20 أ) لم يكتبه عليكم ولم يُرِدْه منكم، وربما توهَّموا أنَّه غير نافع لهم، فبدأ بهم جبراً لهم ورحمة.
وأما تقديم غسل الوجه، ثمَّ اليد، ثمَّ مسح الرأس، ثمَّ الرجلين في الوضوء؛ فمن يقول: إن هذا الترتيب واجب وهو: الشافعي وأحمد ومن وافقهما، فالآية عندهم اقتضت التقديم وجوباً لقرائن عديدة:
أحدها: أنَّه أدخل ممسوحاً بين مغسولين، وقطع النظير عن نظيره، ولو أُرِيد الجمع المطلق لكان المناسب أن يذكر المغسولات مُتَّسِقة في النظم، والممسوح بعدها، فلما عدل إلى ذلك؛ دلّ على وجوب ترتيبها على الوجه الذي ذكره الله تعالى.
__________
(1) في (ق) زيادة مقحمة لا وجه لها، هي: “فهو ضرر متعدّ”.
(2) (ق): “وهذه حالة”.
(3) (ظ): “ما ينقل”.
(4) كذا رسمها في (ظ)، وفي (ق): “وتومهم”.
(1/121)
الثاني: أن هذه الأفعال هي أجزاء فعل واحد مأمور به وهو الوضوء، فدخلت الواو عاطفة لأجزائه بعضها على بعض، والفعل الواحد لابدَّ (1) من ارتباط أجزائه بعضها ببعض، فدخلت الواو بين الأجزاء للربط، فأفادت الترتيبَ، إذ هو الربط المذكور في الآية، ولا يلزم من كونها لا تفيد الترتيب بين أفعال لا ارتباط بينها، نحو: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} أن لا تفيده بين أجزاءِ فعلٍ مرتبطة بعضها ببعض. فتأمل هذا الموضع ولطفه، وهذا أحد الأقوال الثلاثة في إفادة الواو للترتيب، وأكثر الأصوليين لا يعرفونه ولا يحكونه، وهو قول ابن أبي موسى (2) من أصحاب أحمد، ولعله أرجح الأقوال.
الثالث: أن لبداءة الرَّب تعالى بالوجه دون سائر الأعضاء (3) خاصة؛ فيجبُ مراعاتها، وأَن لا تُلغى وتُهدر (ق/ 27 أ) فيُهْدَر ما اعتبره الله ويُؤخَّر ما قدَّمه الله، وقد أشار النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – إلى أن ما قدَّمه الله؛ فإنَّه ينبغي تقديمه ولا يؤخَّر، بل يُقدم ما قدم الله ويؤخر ما أخر (4)، فلما طاف بين الصفا والمروة بدأ بالصفا، وقال: “نَبْدَأُ بمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ” (5)، وفي رواية للنسائي: “ابْدَؤوا بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ” (6) على الأمر، فتأمل
__________
(1) ساقطة من (ظ)، وفي المطبوعة: “يحصل”.
(2) هو: محمد بن أحمد بن أبي موسى، أبو علي الهاشمي القاضي الحنبلي، ت (428)، له تصانيف. انظر: “طبقات الحنابلة”: (3/ 335).
(3) “دون سائر الأعضاء”: ساقط من (ق).
(4) العبارة في (ظ): “بل يقدم ما قدمه الله ويؤخر، فلما”!.
(5) أخرجه مسلم رقم (1218) من حديث جابر – رضي الله عنه – في حجة الوداع.
(6) “السنن”: (5/ 236)، وأخرجه -أيضاً- الإمام أحمد في “المسند”: (3/ 394)، والدارقطني: (2/ 254)، والبيهقيُّ في “الكبرى”: (1/ 85)، من حديث جابر -أيضاً- وصححه ابن حزم والنووي.
(1/122)
بَدَاءته بالصفا معلِّلاً ذلك بكون الله بدأ به، فلا ينبغي تأخيره، وهكذا يقول المرتبون للوضوء سواء: نحنُ نبدأ بما بدأَ اللهُ به، ولا يجوز تأخير ما قدَّمه الله، ويتعين البداءة بما بدأ الله به، وهذا هو الصَّواب لمواظبة المبيِّن عن اللهِ مراده – صلى الله عليه وسلم – على الوضوء المرتَّب، فاتفق جميعُ من نقل عنه وضوءَه كلُّهم على إيقاعه مرتباً، ولم يَنقل عنه أحدٌ قطُّ أنَّه أخلّ بالترتيب مرة واحدة، فلو كان الوضوء المنكوس مشروعاً لفعله، ولو في عمره مرَّة واحدة ليبيِّن جوازَه لأمَّته، وهذا بحمد الله واضح.
وأما تقديم النبيين على الصِّديقين؛ فلِمَا ذكره، ولكون الصِّديق تابعاً للنبي، فإنما استحقَّ اسم الصديق بكمال تصديقه للنبي، فهو تابع مَحْض، وتأمَّل تقديم الصديقين على الشهداء؛ لفضل الصديقين عليهم، وتقديم الشهداء على الصالحين؛ لفضلهم عليهم.
وأما تقديم السمع على البصر (1)؛ فهو متقدم عليه حيثُ وقعَ في القرآن مصدراً أو فعلاً أو اسماً.
فالأول: كقوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].
والثاني: كقوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46].
والثالث: كقوله تعالى: {سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 61]، {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 56]، {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134] فاحتجَّ بهذا من يقول: إن السمعَ أشرفُ من البصر، وهذا قول
__________
(1) انظر للمسألة: ما سيأتي من الكتاب: (3/ 1106)، و”مدارج السالكين”: (2/ 424 وما بعدها)، و”مفتاح دار السعادة”: (1/ 354 – 358)، و”الصواعق”: (3/ 873 – 874).
(1/123)
الأكثرين، وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي، وحكوا هم وغيرهم عن أصحاب أبي حنيفة أنهم قالوا: البصر أفضل، ونصبوا معهم الخلافَ، وذكروا الحِجَاج من الطرفين، ولا أدري ما يترتَّب على هذه المسألة من الأحكام حتى تُذكر في كتب الفقه!! وكذلك القولان للمتكلمين والمفسرين.
وحكى أبو المعالي عن ابن قتيبة (1) تفضيل البصر، وردَّ عليه، واحتج مفضِّلو السمع بأن الله تعالى يقدِّمه في القرآن حيثُ وقع، وبأن بالسَّمع تُنال سعادة الدنيا والآخرة، فإن السعادة بأجمعها في طاعة الرسل والإيمان (2) بما جاءوا به، وهذا إنما يُدْرَك بالسمع، ولهذا في الحديث الذي رواه أحمد وغيره من حديث الأسود بن سريع: ” [أَرْبَعَةٌ] (3) كُلُّهُمْ يُدْلي عَلَى اللهِ بِحُجَّتِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ”، فذكر منهم رجلاً أصم يقول: “يَا رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الإِسْلامُ وَأَنا لا أَسْمَعُ شَيْئاً” (4).
واحتجُّوا: بأن العلوم الحاصلة من السمع أضعاف أضعاف العلوم الحاصلة (ظ/ 20 ب) من البصر، فإنَّ البصر لا يُدرِك إلا بعضَ الموجودات
__________
(1) أبو المعالي هو الجويني، تقدم وابن قتيبة هو: عبد الله بن مسلم الدينوري الأديب صاحب التصانيف، ت (276).انظر: “وفيات الأعيان”: (3/ 42)، و”السير”: (13/ 296). وكلامه في “تأويل مشكل القرآن”: (ص/ 7).
(2) سقط من (ق).
(3) في الأصول: “ثلاثة” والتصويب من مصادر الحديث.
(4) أخرجه أحمد: (4/ 24)، والطبراني في “الكبير”: (1/ 287)، وابن حبَّان “الإحسان”: (16/ 356)، والبيهقيُّ في “الاعتقاد”: (ص/ 92).
من طريق قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع به، والحديث صححه ابن حبان والبيهقي والهيثمي في “المجمع”: (7/ 219)، والألباني في “السلسلة الصحيحة” رقم (1434).
(1/124)
المشاهدة بالبصر القريبة، والسمع يُدرِك الموجودات والمعدومات، والحاضر والغائب، والقريب والبعيد، والواجب والممكن والممتنع (1)، فلا نسبة لإدراك (ق/ 27 ب) البصر إلى إدراكه.
واحتجوا: بأن فَقْدَ السمع يوجب بَكَم القلب واللسان، ولهذا كان الأطرش خِلْقةً لا يَنْطق في الغالب، وأما فقد البصر؛ فربما كان مُعِيْناً على قوة إدراك البصيرة وشدَّةِ ذكائها، فإنَّ نور البصر ينعكس إلى البصيرة باطناً فيقْوَى إدراكُها ويعظُم، ولهذا تجد كثيراً من العميان أو أكثرهم عندهم من الذكاء الوقَّاد، والفطنة وضياء الحس الباطن، مالاً تكاد تجده عند البصير (2)، ولا ريب أن سَفَر البصر في الجهات والأقطار، ومباشرته للمُبْصَرات على اختلافها، يوجِبُ تفرُّق القلب وتشتيته؛ ولهذا كان الليل أجمع للقلب، والخلوة أعون على إصابة الفكرة.
قالوا: فليس نقص فاقد السمع كنقص فاقد البصر، ولهذا كثير في العلماء والفضلاء وأئمة الإِسلام من هو أعمى (3)، ولم يُعرف فيهم واحد أطرش، بل لا يعرف في الصحابة أطرش، فهذا ونحوه من احتجاجهم على تفضيل السمع.
قال مُنَازعوهم: يفصل بيننا وبينكم أمران:
أحدهما: أن مَدْرَك البصر هو النظر إلى وجه الله تعالى في الدار الآخرة، وهو أفضل نعيم أهل الجنة وأحبه إليهم، ولا شيءَ أكمل من
__________
(1) ليست في (ق).
(2) انظر “نكْت الهميان في أخبار العميان”: (ص/ 83 – 86) للصفدي.
(3) جمعهم الصفدي في كتابه المتقدم.
(1/125)
المنظور إليه سبحانه، فلا حاسَّة في العبد أكمل من حاسَّةٍ تَرَاه بها.
الثاني: أن هذا النعيم وهذا العطاء إنما نالوه بواسطة السمع؛ فكان السمع كالوسيلة لهذا المطلوب الأعظم، ففضِيلته (1) عليه كفضِيْلةِ الغايات على وسائلها.
وأما ما ذكرتم من سَعَة إدراكاته وعمومها؛ فيعارضه كثرة الخيانة (2) فيها ووقوع الغلط، فإن الصواب فيما يدركه السمع، بالإضافة إلى كَثْرة المسموعات؛ قليل في كثير، ويقابل كثير مُدْرَكاته صحة مُدْرَكات البصر، وعدم الخيانة، وأن ما يراه ويشاهده لا يعرض فيه من الكذب ما يعرض فيه فيما يسمعه، وإذا تقابلت المرتبتان؛ بقيَ الترجيح بما ذكرناه.
قال شيخ الإِسلام تقي الدين ابن تيمية (3) -قدَّس اللهُ روحَه ونور ضريحه-: “وفَصْل الخطاب: أن إدراك السمع أعم وأشمل، وإدراك البصر أتم وأكمل، فهذا له التمام والكمال، وذاك له العموم والشمول، فقد ترجح كل منهما على الآخر بما اختصَّ به” تمَّ كلامُه.
وقد ورد في الحديث المشهور أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال لأبي بكر وعمر: “هَذَانِ السَّمْعُ والبَصَرُ” (4)، وهذا يحتمل أربعة أوجه:
أحدها: أن يكون المراد أنهما منِّي بمنزلة السمع والبصر.
__________
(1) (ظ): “فتفضيله”.
(2) تحرفت هذه وما بعدها في (ق) إلى “الجناية”.
(3) انظر: “الدرء”: (7/ 325)، و”الرد على المنطقيين”: (ص/ 96).
(4) أخرجه الترمذي (3671)، والحاكم: (3/ 69).
والحديث أشار الترمذي إلى ضعفه، وصححه الحاكم والألباني، وحسنه الذهبي. انظر “السلسلة الصحيحة” رقم (814).
(1/126)
والثاني: أَنْ يريد أنهما من دين الإِسلام بمنزلة السمع والبصر من الإنسان، فيكون الرسول – صلى الله عليه وسلم – بمنزلة القلب والروح، وهما بمنزلة السمع والبصر من الدين (1)، وعلى هذا فيَحْتَمِلُ وجهين:
أحدهما: التوزيع؛ فيكون أحدهما بمنزلة السمع والآخر بمنزلة البصر.
والثاني: الشركة؛ فيكون هذا التنزيل والتشبيه بالحاسَّتين ثابتاً لكلِّ واحد منهما، فكلٌّ منهما بمنزلة السمع والبصر، فعلى احتمال (ق/ 28 أ) التوزيع والتقسيم (2) تكلَّم الناسُ أيهما هو السمع، وأيهما هو البصر، وبَنَوا ذلك على أيُّ الصفتين أفضل؛ فهي صفة الصدِّيق.
والتحقيقُ: أنَّ صفة البصر للصديق، وصفة السمع للفاروق، ويظهرُ لك هذا من كون عُمر محدَّثاً كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “قَدْ كَانَ في الأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ، فإِنْ يَكُنْ في هَذِهِ الأُمَّةِ أَحَدٌ؛ فَعُمَرُ” (3)، والتحديث المذكور هو ما يُلْقَى في القلب من الصوابِ والحقّ، وهذا طريقُه السمع الباطن، وهو بمنزلة التحديث والإخبار للأُذن.
وأما الصِّدِّيق: فهو الذي كمَّل مقام الصديقية لكمال بصيرته، حتى كأنَّه قد باشر بصرُه مما (4) أخبرَ به الرَّسولُ – صلى الله عليه وسلم – ما باشرَ قلبُه، فلم يبقَ بينه وبين إدراك البصر إلا حجاب الغيب، فهو كأنه ينظر إلى
__________
(1) ويؤيده لفظ الحديث من رواية جابر أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “أبو بكر وعمر من هذا الدين كمنزلة السمع والبصر من الرأس” أخرجه الخطيب في “تاريخه”: (8/ 459)، وفيه كلام من جهة الإسناد، إلا أنَّه صالح للاستشهاد.
(2) ليست في (ق).
(3) أخرجه مسلم رقم (2398) من حديث عائشة – رضي الله عنها -.
(4) (ق): “ما”.
(1/127)
ما أَخبر به من الغيب من وراء ستوره، وهذا لكمال البصيرة، وهذا أفضل مواهب العبد وأعظم كراماته التي يُكْرَم بها، وليس بعد درجة النبوَّة إلا هي، ولهذا جعلها سبحانه بعدها فقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69] وهذا هو السِّر الذي سَبَقَ به (1) الصديقُ، لا بكثرةِ صومٍ ولا بكثرةِ صلاة، وصاحب هذا هو الذي (2):
يمشي رُوَيداً ويجي في الأوَّل (3)
(ظ/ 21 أ) ولقد تعنَّى من لم يكن سَيْره على هذه الطريق وتَشْميره إلى هذا العلم، وقد سبق من شمَّر إليه وإن كان يزحف زحفاً ويحبو حبواً، ولا تستَطِل هذا الفصل، فإنَّه أهم من ما قُصِدَ بالكلام، فليعد إليه.
فقيل: تقديم السَّمع على البصر له سببان:
أحدهما: أن يكون السِّياق يقتضيه بحيث يكون ذِكْر هاتين: الصِّفتين متضمِّناً للتهديد والوعيد، كما جرت عادةُ القرآن بتهديد المخاطَبين، وتحذيرهم بما يذكره من صفاته التي تقتضي الحذر والاستقامة كقوله تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 209] وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134]__________
(1) (ظ): “وهذا هو سبق”!.
(2) “هو الذي” ليست في (ظ).
(3) تمام البيت:
من لي بمثل سَيْرك المدلل … تمشي رويداً وتجي في الأوّل
(1/128)
والقرآن مملوء من هذا، وعلى هذا فيكون في ضمن ذلك أني أسمعُ ما يردون به عليك وما يقابلون به رسالاتي، وأُبْصِرُ ما يفعلون.
ولا ريب أنَّ المخاطَبين بالرسالة بالنِّسبة إلى الإجابة والطاعة نوعان:
أحدهما: قابلوها بقولهم: صَدَقْتَ، ثمَّ عملوا بموجبها.
والثاني: قابلوها بالتكذيب، ثمَّ عملوا بخلافها، فكانت مرتبة المسموع منهم قبل مرتبة البصر، فقدّم ما يتعلَّق (1) به على ما يتعلّق بالمبصَر، وتأمَّل هذا المعنى في قوله تعالى لموسى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] هو يسمع ما يجيبهم به ويرى ما يصنعه، وهذا لا يعم سائر المواضع، بل يختصَّ منها بما هذا شأْنُه.
والسبب الثاني: أَنَّ إنكار الأوهام الفاسدة لسمع الكلام، مع غاية البعد بين السامع والمسموع، أشدّ من إنكارها لرؤيته مع بُعْدِه.
(ق/ 28 ب) وفي “الصحيحين” (2) عن ابن مسعود قال: اجتمع عند البيت ثلاثةُ نَفَرٍ؛ ثقفيان وقرشي، أو قرشيان وثقفي، فقال أحدهم: أترون الله يسمعُ ما نقول؟ فقال الآخر: يسمع إن جَهَرْنا ولا يسمع إن أخفَيْنا، فقال الثالث: إن كان يسمع إذا جهرنا؛ فهو يسمع إذا أخفينا (3).
ولم يقولوا: أترون الله يرانا؟ فكان تقديم السَّمع أهم، والحاجة إلى العلم به أمسّ.
__________
(1) من قوله: “بموجبها … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) البخاري رقم (4816)، ومسلم رقم (2775).
(3) العبارة معكوسة اللفظ في (ق).
(1/129)
وسببٌ ثالث: وهو أنَّ حركة اللسان بالكلام أعظم حركات الجوارح، وأشدها تأثيراً في الخير والشر، والصلاح والفساد، بل عامَّة ما يترتَّب في الوجود من الأفعال، إنما ينشأ بعد حركة اللسان؛ فكان تقديم الصفة المتعلِّقة به أهم وأولى، وبهذا يُعْلَم تقديمه على العليم حيث وقع.
* وأَمَّا تقديم السماء على الأرض؛ ففيه معنىً آخر غير ما ذَكَره، وهو أن غالب ما تُذكر السَّموات والأرض في سياق آيات الرَّبِّ الدالة على وحدانيته وربوبيته، ومعلومٌ أنَّ الآيات في السموات أعظم منها في الأرض؛ لسَعَتها وعِظَمها، وما فيها من كواكبها وشمسها وقمرها وبروجها وعُلُوِّها، واستغنائها عن عَمَد تُقِلّها، أو علاقة ترفعها، إلى غير ذلك من عجائبها التي الأرضُ وما فيها كقطرةٍ في سَعَتها، ولهذا أمر -سبحانه- بأن يرجع الناظرُ البصرَ فيها كرَّةً بعد كرَّة، ويتأمَّل استواءَها واتساقَها وبراءَتها من الخلل والفُطُور، فالآية فيها أعظم من الأرض.
وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ -سبحانه وبحمده-.
وأَمَّا تقديم الأرض عليها في قوله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [يونس: 61] وتأخيرها (1) عنها في (سبأ) فتأمَّل كيف وقع هذا الترتيب في (سبأ) في (2) ضمن قول: الكفار: {لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [سبأ: 3] كيف قدَّم السموات هنا؛
__________
(1) (ق): “وتأخرها”.
(2) (ق): “في سياق … “.
(1/130)
لأنَّ الساعة إنَّما تأتي من قبلها وهي غيب فيها، ومن جهتها تبتدئ وتنشأ، ولهذا قدَّم صَعْق أهل السموات على أهل الأرض عندها، فقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الزمر: 68].
وأما تقديم الأرض على السماء في سورة يونُس (1)؛ فإنَّه لما كان السِّياقُ سِياقَ تحذيرٍ وتهديدٍ للبشر، وإعلامهم أنَّه سبحانه عالم بأعمالهم دقيقِهَا وجليلها، وأنه لا يغيب عنه منها شيءٌ؛ اقتضى ذلك ذكر محلهم وهو الأرض قبل ذكر السماء.
فتبارك من أودع كلامَه من الحكم والأسرار والعلوم ما يشهد أنَّه كلام الله! وأن مخلوقاً لا يمكن أن يصدر منه مثل هذا الكلام أبداً!!.
* وأمَّا تقديم المال على الولد؛ فلم يَطَّرد في القرآن، بل قد جاء مقدَّماً كذلك في قوله: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ} [سبأ: 37] وقوله تعالى: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 28] وقوله تعالى: {لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ (ق/ 29 أ) وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون: 9] وجاء ذكر البنين (ظ/ 21 ب) مقدَّماً كما في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} [التوبة: 24]، وقوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران: 14].
فأمَّا تقديم الأموال في تلك المواضع الثلاثة؛ فلأنَّها ينتظمها معنىً واحد، وهو التحذير من الاشتغال بها، والحرص على تحصيلها حتَّى
__________
(1) (ظ): “يس”! والآية في سورة يونس رقم (61): {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}.
(1/131)
يفوته حظُّه من الله والدَّار الآخرة، فنهى في موضعٍ عن الالتهاء بها، وأخبر في موضعٍ أَنَّها فتنة، وأخبر في موضع آخر أَنّ الذي يقرِّب عباده إليه إيمانهم وعملهم الصالح، لا أموالهم ولا أولادهم، ففي ضِمْن هذا النَّهْي عن الاشتغال بها عما يُقرِّب إليه، ومعلومٌ أَنَّ اشتغال الناس بأموالهم، والتباهي (1) بها أعظم من اشتغالهم بأولادهم، وهذا هو الواقع، حتَّى إنَّ الرجلَ ليستغرقه اشتغاله بماله؛ عن مصلحةِ ولده وعن معاشرتِهِ وقربِهِ.
وأما تقديمهم على الأموال في تَيْنك الآيتين؛ فلحكمةٍ باهرة وهي: أَنَّ آية (2) براءة متضمِّنة لوعيد من كانت تلك الأشياء المذكورة فيها أحب إليه من الجهاد في سبيل الله، ومعلوم أنَّ تصوُّر المجاهد فراقه أهله، وأولاده، وآبائه، وإخوانه، وعشيرته، يمنعه من الخروج عنهم أكثر مما يمنعه مفارقة ماله، فإن تصوَّر مع هذا أن يُقتل فيفارقهم فراقَ الدَّهر، نفرت نفسُه عن هذه (3) أكثرَ وأكثرَ، ولا يكاد عند هذا التصوُّر يخطر له مفارقة ماله، بل يغيب بمفارقة الأحباب عن مفارقة المال! فكان تقديم هذا الجنس أولى من تقديم المال.
وتأمُّل هذا الترتيبِ البديع في تقديم ما قدَّم وتأخير ما أخَّر؛ يُطلعك على عظمةِ هذا الكلام وجلالته.
فبدأ أولاً بذكر أصول العبد، وهم آباؤه المتقدِّمون طبعاً وشرفاً ورتبة، وكان فخرُ القوم بآبائهم ومحاماتهم عنهم أكثر من محاماتهم
__________
(1) (ق): “والتهاؤهم”.
(2) ليست في (ظ).
(3) (ق): “هذه الفرقة”.
(1/132)
عن أنفسهم وأموالهم، وحتَّى عن أبنائهم، ولهذا حملتهم محاماتهم عن آبائهم ومناضلتهم عنهم إلى أن احْتَملوا القتل وسَبْيَ الذُّرِّية، ولا يشهدون على آبائهم بالكفر والنقيصة، ويرغبون عن دينهم لما في ذلك من إزرائهم بهم.
ثمَّ ذَكَر الفروع؛ وهم الأبناء لأنَّهم يَلُونهم في الرُّتبة وهم أقرب أقاربهم إليهم، وأعلق بقلوبهم (1)، وألصق بأكبادهم من الإخوان والعشيرة.
ثمَّ ذكر الإخوان، وهم الكلالة وحواشي النَّسب.
فَذَكَر الأصول أولاً، ثمَّ الفروع ثانياً، ثم النُّظراء ثالثاً، ثمَّ الأزواج رابعاً؛ لأنَّ الزوجة أجنبية عنده، ويمكن أن يتعوَّض عنها بغيرها، وهي إنما تُرَادُ للشَّهوة، وأما الأقارب؛ من (2) الآباء والأبناء والإخوان فلا عوض عنهم ويُرادون للنُّصْرة والدفاع، وذلك مقدَّم على مجرَّد الشهوة.
ثمَّ ذَكَر القرابة البعيدة خامساً، وهي العشيرة وبنو العم، فإن عشائرهم (ق/29 ب) كانوا بني عمِّهم غالباً، وإن كانوا أجانب فأولى بالتأخير.
ثمَّ انتقل إلى ذكر الأموال بعد الأقارب سادساً، ووصفها يكونها مُقْترفة، أي: مُكْتَسَبَة؛ لأنَّ القلوبَ إلى ما اكتسبته من المال أمْيَل، وله أحَب، وبقدره أعْرَف لما حصل له فيه من التَّعب والمشقة، بخلاف مالٍ جاءه عَفْواً بلا كسبٍ (3)؛ من ميراثٍ أو هبة أو وصية،
__________
(1) “وأعلق بقلوبهم” ساقطة من (ق).
(2) (ق): “و”.
(3) (ق): “مشقة كسب”.
(1/133)
فإنَّ حِفْظه للأوَّل، ومراعاته له، وحرصه على بقائه أعظم من الثاني، والحسُّ شاهد بهذا وحسبك به.
ثمَّ ذكر التجارة سابعاً؛ لأنّ محبةَ العبد للمال أعظم من محبته للتجارة التي يحصله بها، فالتجارة عنده وسيلة إلى المال المقْتَرَف، فقدَّم المال على التجارة تقديم الغايات على وسائلها، ثمَّ وصف التجارة بكونها مما يُخشى كَسَادُها، وهذا يدلُّ على شرفها وخطرها، وأَنه قد بلغ قدرها إلى أَنها مَخُوْفة الكساد.
ثمَّ ذكر الأوطان ثامناً آخر المراتب؛ لأنَّ تعلُّق القلب بها دون تعلُّقه بسائر ما تقدَّم، فإن الأوطان [تتشابه] (1)، وقد يقوم الوطن الثاني مقام الأوَّل من كل وجه، ويكون خيراً منه، فمنها عِوَض.
وأمَّا الآباء والأبناء والأقارب والعشائر [والأموال] (2)، فلا يتعوَّض منها بغيرها، فالقلب وإن كان يحن إلى وطنه الأوّل؛ فحنينه إلى آبائه وأبنائه وزوجاته أعظم، فمحبة الوطن آخر المراتب، وهذا هو الواقع إلا لعارض (3) يترجَّح عنده إيثار البعيد على القريب، فذلك جزئي لا كلِّي، فلا تناقض به. وأما عند عدم العوارض فهذا هو الترتيب المناسب والواقع.
وأما آية (آل عمران)؛ فإنَّها لما كانت في سياق الإخبار بما زُيِّن للناس من الشَّهوات التي آثروها على ما عند الله واستغنوا بها، قدَّم ما تَعَلُّق الشهوة به أقوى، والنفس إليه أشدّ سُعراً (4) (ظ/22 أ) وهو
__________
(1) (ق وظ): “متشابه” والصواب ما أثبت.
(2) من (ق).
(3) (ق): “لمعارض”.
(4) (ق): “والنفس أشد إليه سفراً”.
(1/134)
النساء، التي فتنتهن أعظم فتن الدنيا، وهن القيود التي حالت بين العباد وبين سيرهم إلى الله.
ثمَّ ذكر البنين المتولِّدين منهنَّ، فالإنسان يشتهي المرأة للذة والولد، وكلاهما مقصود له لذاته.
ثم ذكر شهوة الأموال؛ لأنها تُقْصَد لغيرها، فشهوتها شهوة الوسائل، وقدَّم أشرف أنواعها وهو الذهب، ثمَّ الفضة بعده.
ثمَّ ذكر الشهوة المتعلِّقة بالحيوان الذي لا يُعَاشَر عشرة النساء والأولاد، فالشهوة المتعلقة به دون الشهوة المتعلقة بهما، وقدَّم أشرف هذا النوع وهو (الخيل) فإنها حصون القوم ومعاقلهم، وعِزُّهم وشرفهم، فقدمها على الأنعام التي هى الإبل والبقر والغنم.
ثمَّ ذكر الأنعام وقدَّمها على الحرث؛ لأنَّ الجمالَ بها والانتفاعَ أظهرُ وأكثرُ من الحرث، كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6] والانتفاع بها أكثر من الحرث، فإنها يُنتفع بها؛ ركوباً وأكلاً وشرباً ولباساً وأمتعة (ق/30 أ) وأسلحة ودواء وقُنْية، إلى غير ذلك من وجوه الانتفاع. وأيضاً فصاحبها أعزّ من صاحب الحرث وأشرف، وهذا هو الواقع، فإن صاحب الحرث لابدَّ له من نوع مَذَلَّة، ولهذا قال بعض السلف وقد رأى سِكَّة: ما دخل هذا دارَ قومٍ إلا دخلهم الذُّلُّ، فجَعَلَ الحرثَ في آخر المراتب، وضعاً له في موضعه.
ويتعلَّقُ بهذا نوع آخر من التقديم لم يَذْكُرْه، وهو تقديم الأموال على الأنفس في الجهاد حيث وقع في القرآن، إلا في موضع واحد، وهو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
(1/135)
بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 111].
وأمَّا سائر المواضع فَقَدَّم فيها المال، نحو قوله تعالى: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [الصف: 11]، وقوله تعالى: {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} [التوبة: 20] وهو كثير. فما الحكمة في تقديم المال على النفس؟ وما الحكمة في تأخيره في هذا الموضع وحده؟.
وهذا لم يتعرض له السُّهيلي – رحمه الله -، فيقال:
أولاً: هذا دليل على وجوب الجهاد بالمال، كما يجب بالنفس، فإذا دَهَمَ العدوُّ؛ وجبَ على القادر الخروج بنفسه، فإن كان عاجزاً؛ وجبَ عليه أن يغزي (1) بماله، وهذا إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، والأدلَّة عليها أكثر من أَنْ تُذْكَر هنا.
ومن تأمَّل أحوالَ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – وسيرته في أصحابه وأمرهم بإخراج أموالهم في الجهاد؛ قَطَعَ بصحَّة هذا القول.
والمقصود تقديم المال في الذكر، وأن ذلك مشعر بإنكارِ وَهْم من يتوهَّم أن العاجز بنفسه إذا كان قادراً على أن يغزي بماله لا يجب عليه شيء، فحيث ذكر الجهاد قدم ذكر المال، فكيف يقال: لا يجب به!.
ولو قيل: إن وجوبه بالمال أعظم وأقوى من وجوبه بالنفس؛ لكان هذا القول أصح من قول من قال: لا يجب بالمال، وهذا بَيِّن، وعلى هذا فتظهر الفائدة في تقديمه في الذِّكْر.
وفائدة ثانية: -على تقدير عدم الوجوب- وهي: أَنَّ المال محبوب النفس ومعشوقها التي تبذل ذاتها في تحصيله، وترتكب الأخطار،
__________
(1) (ظ ود): “يكتري”.
(1/136)
وتتعرَّض للموت في طلبه، وهذا يدل على أنَّه هو (1) محبوبها ومعشوقها، فندب الله تعالى محبِّيه المجاهدين في سبيله إلى بَذْل معشوقهم ومحبوبهم في مرضاته، فإنَّ المقصود أن يكون الله هو أحبّ شيءٍ إليهم، ولا يكون في الوجود شيء أحبّ إليهم منه، فإذا بذلوا محبوبَهم في حبه؛ نقلهم إلى مرتبة أخرى أكمل منها وهي: بَذْل نفوسهم له، فهذا غاية الحبّ، فإنّ الإنسان لا شيءَ أحبّ إليه من نفسه، فإذا أحبّ شيئاً بذل له محبوبَه من نفعِه ومالِه، فإذا آل الأمر إلى بذل نفسه ضَنَّ بنفسه وآثرها على محبوبه، هذا هو الغالب، وهو مقتضى الطبيعة الحيوانية والإنسانية. ولهذا يدافع الرجل عن ماله وأهله وولده (2)، فإذا أحسَّ بالمغلوبية والوصول إلى مهجته ونفسه (ق/30 ب) فرَّ وتركهم، فلم يرضَ اللهُ من مُحبِّيه بهذا، بل أمرهم أن يبذلوا له نفوسهم بعد أن بذلوا له محبوباتها.
وأيضاً فبذل النفس آخر المراتب، فإنَّ العبدَ يبذل ماله أولاً يقي به نفسَه، فإذا لم يبق له مال بذل نفسه، فكان تقديم المال على النفس في الجهاد مطابقاً للواقع.
وأما قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: 111]؛ فكان تقديم الأنفس (ظ/ 22 ب) هو الأولى؛ لأنها هي المشتراة بالحقيقة، وهي مورد العقد، وهي السلعة التي استامها ربها وطلب شراءها لنفسه، وجعل ثمن هذا العقد رضاه وجنَّتَه، فكانت هي المقصود بعَقْد الشراء، والأموال تبعٌ لها، فإذا مَلَكها مشتريها مَلَك مالَها، فإن العبد وما يملكه لسيده ليس له فيه
__________
(1) ليست في (ق).
(2) (ق): “عن نفسه وماله وولده”.
(1/137)
شيءٌ، فالمالك الحقُّ إذا مَلَك النفس مَلَك أموالَها ومتعلَّقاتها، فَحَسُنَ تقديم النفس على المال في هذه الآية حُسْناً لا مزيدَ عليه.
* فلنرجع إلى كلام السهيلي (1) -رحمه الله-: وأما ما ذكره من تقديم “الغفور” على “الرحيم”؛ فحسنٌ جدّاً، وأما تقديم “الرحيم” على “الغفور” في موضع واحد، وهو أول (سبأ)؛ ففيه معنىً غير ما ذكره يظهر لمن (2) تأمَّل سياقَ أوصافه العُلى وأسمائه الحسنى في أول السورة إلى قوله تعالى: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ: 2]، فإنَّه ابتدأ -سبحانه- السورةَ يحمده الذي هو أَعمُّ المعارف وأوسع العلوم، وهو متضمِّن لجميع صفات كماله ونعوت جلاله مُسْتلزم لها، كما هو متضمن لحكمته في جميع أفعاله وأوامره، فهو المحمود على كلِّ حالة، وعلى كلِّ ما خلقه وشرعه، ثمَّ عقَّب هذا الحمد بملكه الواسع المديد فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [سبأ: 1]، ثمَّ عقَّبه بأنّ هذا الحمد ثابت له في الآخرة غير منقطع أبداً، فإنَّه حَمْد يستحقّه لذاته وكمال أوصافه، وما يستحقه لذاته؛ دائم بدوامه لا يزول أبداً، وقرن بين الملك والحمد على عادته -تعالى- في كلامه، فإن اقتران أحدهما بالآخر له كمال زائد على الكمال بكلِّ واحدٍ منهما، فله كمال من ملكه، وكمال من حمده، وكمال من اقتران أحدهما بالآخر، فإن الملك بلا حَمْد يستلزمُ نقصاً، والحمدُ بلا ملكٍ يستلزم عجزاً، والحمد مع الملك غاية الكمال.
ونظير هذا العِزَّة والرحمة، والعَفْو والقدرة، والغِنى والكرم، فوسَّط الملك بين الجملتين، فجعله محفوفاً بحمدٍ قبله وحمدٍ بعده،
__________
(1) يعني: إلى نقده والتعليق عليه.
(2) (ق): “مِن”.
(1/138)
ثمَّ عقَّب هذا الحمد والملك باسمَي (1) (الحكيم الخبير) الدَّالَّين على كمال الإرادة، وأنها لا تتعلّق بمرادٍ (2) إلا لحكمة بالغة، وعلى كمال العلم، وأنه (3) كما يتعلَّق بظواهر المعلومات؛ فهو متعلّق ببواطنها التي لا تُدرَك إلا بخبرَةٍ، فنسبةُ الحكمةِ إلى الإرادة كنسبة الخبرةِ إلى العلم، فالمراد ظاهر، والحكمة باطنة، والعلم ظاهر، والخبرة باطنة، فكمال الإرادة: أن تكون واقعة على وجه الحكمة، وكمال العلم: أن يكون كاشفاً عن الخبرة، فالخبرة: باطن العلم وكماله، والحِكْمة: باطن الإرادة وكمالها. فتضمَّنت الآية إثبات حمده وملكه، وحِكمته وعلمه، على أكمل الوجوه.
ثمَّ ذكر (ق/31 أ) تفاصيل علمه بما ظهر وما بطن في العالم العُلْوي والسُّفْلي، فقال تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سبأ: 2].
ثمَّ ختم الآية بصفتين تقتضيان غايةَ الإحسان إلى خَلْقه، وهما: الرحمة والمغفرة، فيجلب لهم الإحسان والنفع على أتمِّ الوجوه برحمته، ويعفو عن زلتهم (4) ويهب لهم ذنوبَهم ولا يؤاخذهم بها بمغفرته، فقال: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ: 2] فتضمَّنت هذه الآية سَعَة علمه ورحمته وحِلْمه ومغفرته.
وهو سبحانه يَقْرن (5) بين سَعَة العلم والرحمة، كما يَقْرن بين
__________
(1) (ظ): “باسم”.
(2) ليست في (ق).
(3) (د): “ذاته”.
(4) (ق): “زللهم”.
(5) (ق): “يفرق” في الموضعين، وهو تحريف.
(1/139)
العلم والحلم (1)، فمن الأوّل: قوله تعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]، ومن الثاني: قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء: 12] فما قُرِن شيءٌ إلى شيء أحسن من حلم إلى علم، ومن رحمة إلى علم.
وحَمَلة العرش أربعة (2)؛ اثنان يقولان: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك، واثنان يقولان: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك.
فاقتران العفو بالقدرة كاقتران الحلم والرحمة بالعلم؛ لأن العفو إنما يحسن عند القدرة، وكذلك الحلم والرحمة إنما يحسُن مع العلم.
وقدَّم “الرحيم” في هذا الموضع لتقدُّم صفة العلم، فحَسُن ذكر “الرحيم” بعده ليقترن به فيطابق قوله تعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7].
ثمَّ ختم الآيةَ بذكر صفة المغفرة لتضمُّنها دفع الشر وتضمّن ما قبلها جلب الخير، ولما كان دفع الشر مقدَّماً على جلب الخير، قدم اسم “الغفور” على “الرحيم” حيثُ وقع. ولما كان في هذا الموضع معارض يقتضي تقديم اسمه “الرحيم” لأجل ما قبله؛ قُدِّم على “الغفور”.
* وأما قوله تعالى: {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43]؛ فقد أبعد النُّجْعَة فيما تعسَّفه من فائدة التقديم، وأتى بما ينبو اللفظُ عنه.
__________
(1) (ق): “الحكم” في كل المواضع بعدها حتى الآية، وما في (ظ ود) أصح.
(2) كذا في الأصول، وفي عدد من كتب المؤلف؛ لكن الذي أخرجه أبو الشيخ في “العظمة” (3/ 954)، والذهبي في “العلو” (1/ 571) عن بعض السلف: أن حملةَ العرش ثمانية؛ أربعة يقولون كذا … وأربعة يقولون كذا …
(1/140)
وقال غيره: السجود كان في دينهم قبل الركوع (ظ/33 أ) وهذا قائل ما لا علم له به!!.
والذي يظهر في الآية -والله أعلم بمراده من كلامه-: أنها اشتملت على مُطلق العبادة وتفصيلها، فذكر الأَعَمّ، ثمَّ ما هو أخص منه، ثم ما هو أخص من الأخص، فذكر القنوت (1) أولاً، وهو الطاعة الدائمة، فيدخل فيه القيام والذكر والدعاء وأنواع الطاعة، ثمَّ ذَكَر ما هو أخص منه، وهو السجود الذي يُشْرَع وحده؛ كسجود الشكر والتلاوة، ويُشْرَع في الصلاة؛ فهو أخص من مطلق القنوت، ثم ذكر الركوع الذي لا يُشْرَع إلا في الصلاة، فلا يُسَن الإتيان به منفرداً (2)، فهو أخص مما قبله.
ففائدة الترتيب: النزول من الأعم، إلى الأخص، إلى (3) أخص منه، وهما طريقتان معروفتان في الكلام: النزول من الأعم إلى الأخص، وعكسها وهو الترقِّي من الأخص، إلى ما هو أعم منه، إلى ما هو أعم (4).
ونظيرها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77]، فذكرَ أربعةَ أشياء؛ أخصها الركوع، ثمَّ السجود أعم منه، ثمَّ العبادة أعم من السجود، ثم فعل الخير العام المتضمن لذلك كله.
__________
(1) من قوله: “أنها اشتملت … ” إلى هنا سقطت من (ق).
(2) (ق): “متفرقاً”.
(3) “الأخص، إلى” ساقط من (ق).
(4) “إلى ما هو أعم” ساقط من (ق).
(1/141)
والذي يزيد هذا وضوحاً: الكلامُ على ما ذكره بعد هذه الآية من قوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ (ق/31 ب) وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]، فإنَّه ذكر أخصَّ هذه الثلاثة، وهو الطواف الذي لا يُشْرَع إلا بالبيت خاصَّة، ثمَّ انتقل منه إلى الاعتكاف، وهو القيام المذكور في الحج (1)، وهو أعم من الطواف؛ لأنه يكون في كلِّ مسجدٍ، ويختصّ بالمساجد لا يتعدَّاها، ثمَّ ذكر الصلاة التي تعم سائر بقاع الأرض، سوى ما منع منه مانع أو اسْتُثْني شرعاً.
وإِن شئتَ قلتَ: ذكر الطواف الذي هو أقرب العبادات بالبيت، ثمَّ الاعتكاف الذي يكون في سائر المساجد، ثمَّ الصلاة التي تكون في البلد كلِّه، بل في كلِّ بُقعة، فهذا تمام الكلام على ما ذكره من الأمثلة، وله -رحمه الله- مزيد السَّبْق وفَضْل التقدُّم.
وابنُ اللَّبُوْنِ إِذَا مَا لُزَّ في قَرَنٍ … لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القَنَاعِيْسِ (2)
* * *
__________
(1) آية: 26.
(2) البيت لجرير، “ديوانه”: (ص/ 250).
(1/142)
[مسائل في المثنى والجمع] (1)
الواو والألف في “يفعلون ويفعلان” أصل للواو والألف في “الزيدون والزيدان”، فإنما جعلنا ما هو في (2) الأفعال أصلاً لما هو في الأسماء؛ لأنها إذا كانت في الأفعال كانت اسماً وعلامة جمع، وإذا كانت في الأسماء كانت علامة محضة لا أسماء (3)، وما يكون اسماً وعلامة في حال هو الأصل لما يكون حرفاً في موضع آخر، إذا كان اللفظ واحداً، نحو كاف الضمير وكاف المخاطبة في ذلك، وهذا أولى بِنَا من أن نجعل الحرف أصلاً والاسم فرعاً له، يدلُّك على هذا: أَنهم لم يجمعوا بالواو والنون من الأسماء إلا ما كان فيه معنى الفعل كـ “المسلمون” و”الصالحون”، دون “رجلون” و”خيلون”.
فإن قيل: فالأعلام ليس فيها معنى الفعل، وقد جمعوها كذلك؟.
قيل: الأسماء الأعلام لا تجمع هذا الجمع إلا وفيها الألف واللام، فلا يقال: جاءني زيدون و (4) عمرون، فدلَّ على أنهم أرادوا معنى الفعل، أي: الملقبون بهذا الاسم، والمعرفون بهذه العلامة، فعاد الأمر إلى ما ذكرنا.
وأما التثنية؛ فمن حيث قالوا في الفعل: “فَعَلا” و”صَنَعا” لمن
__________
(1) انظر “نتائج الفكر”: (ص/107 – 111).
(2) (ظ ود): “من”.
(3) “النتائج”: “كانت حرفاً علامة جمع”.
(4) (ق): “ولا”.
(1/143)
يعقل وغيره، ولم يقولوا “صنعوا” إلا لمن يعقل، لم يجعلوا الواو علامةً للجمع في الأسماء إلا فيما يعقل؛ إذ كان فيه معنى الفعل، ومن حيث اتفق معنى التثنية ولم يختلف، اتفقَ لفظُها كذلك في جميع أحوالها ولم يختلف، واستوى فيها العاقل وغيره.
ومن حيث اختلفت (1) معاني الجموع بالكثرة والقلة اختلفت ألفاظها، ولما كان الإخبار عن جمع مالاً يعقل يجري مجرى [الجُمَّة] (2) والأمة والثُّلة، لا يقصد به في الغالب إلا الأعيان المجتمعة على التخصيص، لا كل منهما على التعيين، كان الإخبار عنها بالفعل كالإخبار عن الأسماء المؤنثة؛ إذ الجُمَّة والأمة وما هو في ذلك المعنى أسماء مؤنثة. ولذلك قالوا: “الجِمال ذَهَبت” و”الثياب بِيْعَت”؛ إذ لا يتعين في قصد الضمير كلّ واحد منها (3) في غالب الكلام والتفاهم بين الأنام.
ولما كان الإخبار عن جمع ما يعقل (4) بخلاف ذلك، وكان كلُّ واحد من الجمع يتعين غالباً في القصد إليه والإشارة، وكان اجتماعهم في الغالب عن مَلإٍ منهم (5) وتدبير وأغراض (ظ/23 ب) عقلية، جُعِلَت لهم علامة تختص بهم تنبئ عن الجمع المعنوي، كما هي في ” (ق/32 أ) ذاتها جمع لفظي، وهي “الواو”؛ لأنها ضامَّة بين الشفتين
__________
(1) في الأصول: “اختلف” والمثبت من “النتائج”، والموضع الآخر كذلك في (ظ ود).
(2) في الأصول ومخطوطات النتائج: “الجملة” والصواب ما هو مثبت، نبّه عليه د/ البنا محقق “النتائج”. والجُمَّة هي: الجماعة. وهذا التصويب يجري على الموضع الذي بعد هذا أيضاً.
(3) (ظ ود): “منهما”.
(4) (ق): “ما لا يعقل”، وهو خطأ.
(5) (ظ ود): “ملازمتهم”!.
(1/144)
وجامعة لهما، وكل محسوس يعبر [به] عن معقول، فينبغي أن يكون مُشاكِلاً له، فما خلق الله الأجساد في صفاتها المحسوسة إلا مطابقةً للأرواح في صفاتها المعقولة، ولا وضع الألفاظ في لسان آدم وذُرِّيته إلا موازنةً للمعاني التي هي أرواحها، وعلى نحو ذلك خُصَّت “الواو” بالعطف؛ لأنه جمع في معناه، وبالقَسَم؛ لأنَّ واوه في معنى واو العطف.
وأما اختصاص “الألف” بالتثنية، فلقرب التثنية (1) من الواحد في المعنى، فوجب أن يَقْرُب لفظُها من لفظِه. وكذلك لا يتغيَّر بناء الواحد فيها كما لا يتغير في أكثر الجموع، وفعلُ الواحد مبني على الفتح، فوجبَ أن يكون فعل الاثنين كذلك، وذلك لا يمكن مع غير “الألف”. فلما ثبت أن الألف بهذه العلة ضمير الاثنين كانت علامةً للاثنين في الأسماء، كما فعلوا في “الواو” حين كانت ضمير الجماعة في الفعل جُعِلَت علامةً للجمع في الأسماء.
وأما إلحاق “النون” بعد حرف المد في هذه الأفعال الخمسة، فحُمِلت على الأسماء التي في معناها المجموعة جمع السلامة والمثنَّاة، نحو “مسلمون” ومسلمان (2)، وهي في تثنية الأسماء وجمعها عِوَض مِن التنوين كما ذكروا، ثمَّ شبَّهوا بها هذه الأمثلة الخمسة وألحقوا النون فيها في حال الرفع؛ لأنّها إذا كانت مرفوعةً كانت واقعةً موقعَ الاسم، فاجتمعَ فيها وقوعُها موقعَ الاسم (3) ومضارعتُها له في اللفظ؛ لأن آخرها حرف مدٍّ ولِين، ومشاركتها له
__________
(1) “فلقرب التثنية” سقطت من (ق).
(2) (ظ ود): “مسلمات”!.
(3) “فاجتمع … ” سقط من (ق).
(1/145)
في المعنى، فألحق فيها النون عِوَضاً مِن حركة الإعراب حَمْلاً على الأسماء، كما حُمِلت الأسماءُ عليها، فجُمِعت بالواو والياء.
فالنون في تثنية الأسماء وجمعها أصل للنون في تثنية الأفعال وجمعها -أعني علامة الإعراب (1) – هي أصلٌ لحروفِ المدِّ (2) في تثنية الأسماء وجمعها، التي هى علامات إعراب، وحروف إعراب كما تقدم.
فإن قيل: فهلا أثبتوا هذه النون في حال النصب والجزم من الأمثلة الخمسة؟.
قلنا (3): لعدم العلة المتقدمة، وهي وقوعها موقع الاسم، وأنت إذا أدخلت النواصب والجوازم لم تقع موقع الأسماء؛ لأنَّ الأسماء لا تكون بعد عوامل الأفعال، فبعدت عن الأسماء، ولم يبق فيها إلا مضارعتها لها في اتصال حروف المدِّ بها، مع الاشتراك في معنى الفعل.
فإن قيل: فأين الإعراب فيها في حال النصب والجزم؟.
قلنا: مقدَّر، كما هو في كل اسم وفعل آخره حرف مدّ ولِيْن، سواءٌ (4) كان حرف المد زائداً أو أصلياً، ضميراً أو حرفاً، كـ: يرمي والقاضي، وعصا ورَحَى وسَكْرى وغُلامي، إلا أنَّه مع هذه الياء مقدَّر قبلها -أعني الإعراب-، وهو في: يرمي ويخشى ونحوه مقدَّر في
__________
(1) في إحدى نسخ “النتائج”: “الإضمار”.
(2) (ظ ود): “الحروف والمد”.
(3) سقطت من (ظ).
(4) (ظ ود): “سواء. وسواءٌ”.
(1/146)
نفس الحرف لا قبله؛ لأنه لا يتقدَّر إعراب اسم في غيره.
وإذا ثبت ذلك فقولك: “لن تفعلوا” و”لن تفعلي”، إعرابه مقدر قبل الضمير في لام الفعل، كما هو كذلك في غلامي، وليس زوال النون وحذفها هو الإعراب، لأنه يستحيل (1) أن يَحُوْل (ق/ 32 ب) بين حرف الإعراب وبين إعرابه اسمٌ فاعلٌ أو غيرُ فاعلٍ، مع أن العدم ليس بشيءٍ، فيكون إعراباً وعلامة لشيءٍ في أصل الكلام ومعقوله (2).
وأما فِعْل جماعة النساء؛ فكذلك -أيضاً- إعرابه مقدَّر قبل علامة الإضمار، كما هو مقدَّر قبل الياء من غلامي، فعلامة الإضمار (3) منعت من ظهوره لاتصالها بالفعل، وأنها كبعض حروفه، فلا يمكن تعاقب الحركات على لام الفعل معها، كما لم يُمكن ذلك مع ضمائر الفاعلين المذكورين، ولا مع الياء في (4) غلامي.
ولا يمكن أيضاً أن يكون (5) الإعراب في نفس النون؛ لأنها ضمير الفاعل فهي غير الفعل، ولا يكون إعرابُ شيءٍ في غيره، ولا يمكن -؟ أيضاً- أن يكون بعدها؛ فإِنه مستحيل في الحركات، وبعيد كلَّ البعد في غير الحركات أن يكون إعراباً، وبينه وبين حرف الإعراب اسم أو (6) فعل، فثبت أنَّه مقدَّر كما هو في جميع الأسماء والأفعال المعربة التي لا يقدر على ظهور الإعراب فيها لمانع كما تقدم.
__________
(1) (ق): “لا يستحيل”.
(2) (ظ ود): “ومفعوله”.
(3) (ق): “الإعراب”.
(4) (ظ ود): “مع”.
(5) (ق): “أن يكون بعدها … “.
(6) (ق): “و”.
(1/147)
فإن قيل: فقد أثبتم أن فعل جماعة المؤنث معرب، وهذا خلاف لسيبويه ومن وافقه من النحويين، فإنهم زعموا أنَّه مبني، وإن اختلفوا في علة بنائه؟
قلنا: بل هو وِفاق لهم؛ لأنهم علَّمونا وأصَّلوا لنا أصلاً صحيحاً، فلا ينبغي لنا أن ننقضه ونكسره عليهم، وهو وجود (ظ/24 أ) المضارَعَة الموجبةِ للإعراب، وهي موجودة في “يَفْعَلْنَ” و”تَفْعَلْنَ”، فمتى وُجِدت الزوائدُ الأربع وُجِدت المضارعة، وإذا وُجدت المضارعة وُجد الإعراب.
فإن قيل: فهلَّا عوَّضوا من حركة الإعراب في حال رفعه نوناً (1) كما فعلوا في “يفعلون”؛ لأنه -أيضاً- واقع موقع الاسم؟.
قلنا: قد تقدم ما في “يفعلون” و”يفعلان” من وجوه الشَّبه بينه وبين جمع السلامة في الأسماء، فمنها: الوقوع موقع الاسم، ومنها: المضارَعَة في اللفظ من جهة حروف المدِّ واللِّين، وهذا الشبه معدوم في “يَفْعَلْنَ” من جهة اللفظ؛ لأنه ليس مثل لفظ “فاعلين” ولا “فاعلات”، وإن كان واقعاً موقعه في حال الرفع.
فائدة (2)
لما كانت الأيام متماثلة لا يتميز يوم من يوم بصفة نفسية ولا معنوية؛ لم يبقَ تمييزها إلا بالأعداد، ولذلك جعلوا أسماء أيام الأسبوع مأخوذة من العدد، نحو: الاثنين والثلاثاء والأربعاء، أو بالأحداث الواقعة فيها؛ كيوم بُعَاث ويوم بدر ويوم الفتح، ومنه: يوم الجمعة، وفيه قولان:
__________
(1) سقطت من (ظ ود).
(2) بنحوه في “نتائج الفِكْر”: (ص/113).
(1/148)
أحدهما: لاجتماع الناس فيه للصلاة.
والثاني: -وهو الصحيح- لأنَّه اليوم الذي جمع فيه الخلق وكمل، وهو اليوم الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين لفصل القضاء.
وأما يوم السبت: فمن القطع كما تُشْعِر به هذه المادة، ومنه (1) السُّبَات لانقطاع الحيوان فيه عن التحرُّك والمعاش. والنِّعال السبتية التي قُطِع عنها الشعر، وعِلَّة السُّبات التي تقطع العليل عن الحركة والنطق، ولم يكن يوماً من أيام تخليق العالم، بل ابتداء أيام التخليق (ق/ 33 أ) الأحد، وخاتمتها الجمعة، وهذا أصحّ القولين، وعليه يدل القرآن وإجماعُ الأمةِ على أن أيامَ تخليقِ العالم (2) ستة، فلو كان أولها السبت لكانت سبعة.
وأما حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم في “صحيحه” (3): “خَلَقَ اللهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ”؛ فقد ذكرَ البخاريُّ في “تاريخه” (4): أنَّه حديث مَعْلول، وأن الصحيح أنَّه قول كعب، وهو كما ذكر؛ لأنه يتضمَّن أن أيام التخليق سبعة، والقرآن يرده (5).
واعلم أنّ معرفة أيام الأسبوع لا يعرف بحسٍّ ولا عقل ولا وضع يتميز به الأسبوع عن غيره، وإنما يُعلم بالشرع، ولهذا لا يَعْرف أيامَ الأسبوع إلا أهل الشرائع، ومن تلقَّى ذلك عنهم وجاورهم، وأما
__________
(1) (ق): “ومن اليوم … “.
(2) من قوله: “بل ابتداء … ” إلى هنا ساقط من (د).
(3) رقم (2789).
(4) “التاريخ الكبير”: (1/ 413 – 414) وكعب هو: كعب الأحبار.
(5) وانظر في الكلام على الحديث: “منهاج السنة”: (7/ 215)، و”الأنوار الكاشفة”: (ص/ 188 – 193) للمعلمي، و”السلسلة الصحيحة” رقم (1833).
(1/149)
الأمم التي لا تدين بشريعة ولا كتاب؛ فلا يتميز الأسبوع عندهم من غيره، ولا أيامه بعضها من بعض، وهذا بخلاف معرفة الشهر والعام، فإنَّه بأمرٍ محسوس.
فائدة (1)
في “اليوم” و”أمس” و”غد”، وسبب اختصاص كل لفظ بمعناه.
اعلم أن أقرب الأيام إليك يومك الذي أنت فيه، فيقال: “فعلت اليوم”، فذكر الاسم العام ثمَّ عُرِف بأداة العهد، ولا شيءَ أعرفَ من يومك الحاضر، فانصرفَ إليه، ونظيره “الآن” من آن، و”الساعة” من ساعة، وأما “أمس” و”غد”؛ فلما كان كل واحد منهما متصلاً بيومك اشتُقَّ له اسم من أقرب ساعةٍ إليه، فاشْتُق لليوم الماضي أمس الملاقي للمساء، وهو أقرب إلى يومك من صاحبه، أعني: صباحَ غدٍ، فقالوا: أمس، وكذلك قالوا: “غد” اشْتُق له اسم (2) من الغدوِّ، وهو أقرب إلى يومك من مسائه، أعني: مساءَ غدٍ.
وتأمل كيف بنوا “أمس” وأعربوا “غداً”؛ لأن “أمس” صِيْغ من فعل ماض وهو أمسى، وذلك مبنيّ، فوضعوا أمس على وزن الأمر من (3) أمسى يُمسي، وأما “الغد” فإنَّه لم يؤخذ من مبنيّ إذ لا يمكن أن يقال: هو مأخوذ من “غدا”، كما (4) يمكن أن يقال “أمس” من “أَمسى”، بل أقصى ما يمكن فيه أن يكون من “الغدوِّ” و”العُدْوة”،
__________
(1) أصله في “النتائج”: (ص/113 – 116) مع تصرُّف كبير وإضافة.
(2) (ظ): “وكذلك غد اشتق الاسم … “.
(3) من قوله: “وكذلك قالوا … ” إلى هنا ساقط من (د).
(4) (ق): “كما لا”.
(1/150)
وليسا بمبنيين، وهذه العلة أحسن من علة النحاة أن “أمس” بُنِيَ لتضمنه معنى اللام، وأصله الأمس.
قالوا: لأنهم يقولون: “أمسِ الدابر” فيصفونه بذي اللام، فدلّ على أنَّه معرفة، ولا يمكن أن يكون معرفة إلا بتقدير اللام، وهذا أولاً منقوض بقولهم: “غداً الآتي”، فيلزم على طرد علتهم أن يبنوا “غداً”.
وأيضاً: فإن “أمس” جرى مجرى الأَعلام، وهو -والله أعلم- بمنزلة: “إصْمِت” “وأطْرِقا” (1) مما جاء منها بلفظ الأمر اسم علم لمكان، يقول الرجل لصاحبه فيه: “اصمت” إذا [جاوره]، فـ”اصمت” في المكان كـ”أمس” في الزمان، ولعله (2) أُخِذَ من قولهم (ظ/24 ب): “أمس بخير” و”أمس معنا” ونحوه، ولا يقال: كيف يدعى فيه العلمية مع شِياعه (3) لأنا نقول: علميته ليست كعلمية “زيد” و”عمرو” بل كعلمية “أسامة” و”ذؤالة”، و”برة” و”فجار” (ق/33 ب) وبابه مما جعل الجنس فيه بمنزلة الشخص في العلم الشخصي.
فإن قيل: فما الفرق بينه وبين (4) اسم الجنس إذاً؟.
قيل: هذا مما أعضلَ على كثيرٍ من النُّحاة حتى جعلوا الفرق بينهما لفظيّاً فقط، وقالوا: يظهر تأثيره في منع (5) الصرف، ووصفه بالمعرفة، وانتصاب الحال عنه، ونحو ذلك، ولم يهتدوا لسرِّ الفرق
__________
(1) اسما علم لمواضع، انظر “معجم البلدان”: (1/ 212، 218).
(2) (ق): “وأصله”.
(3) كذا بالأصول.
(4) (ظ): “وهو” و (د) ساقطة.
(5) (ق): “معنى”.
(1/151)
بين أنَّ موضعَ اللفظ لواحدٍ منهم منكر شائع في الجنس، ولمسمَّى الجنس المطلق، فهنا ثلاثة أمور تَتبعها ثلاثةُ أوضاع:
أحدها: واحد (1) معرف معين من الجنس له العلم الشخصي كـ “زيد”.
والثاني: واحد منهم شائع في الجنس، غير معرف فله الاسم النكرة كـ “أسد” من الأسد.
الثالث: الجنس المتصوَّر في الذِّهن، المنطبق على كلِّ فردٍ من أفراده، وله عَلَم الجنس كـ”أُسامة”، فنظير هذا “أمس” في الزمان، ولهذا وُصِف بالمعرفة، فاعْلَق بهذه الفائدة التي لا تجدها في شيءٍ من كتب القوم، والحمد لله الواهب (2) المانّ بفضله.
فائدة (3)
المشهور (4) عند النحاة أن حذف لام “يد” و”دم” و”غد”، وبابه حذف اعتباطي لا سبب له؛ لأنهم لم يروه جارياً على قياس الحذف، وقد يظهر فيه معنى لطيف وهو: أن الألفاظ جُعِلت قوالب للمعاني و [مكاسي] (5) لها، تزيد بزيادتها، وتنقص بنقصانها، وهذه الألفاظ (6) أصلها المصادر الدالة على الأحداث، فأصل “غد” مصدر غَدَا
__________
(1) ليست في (ظ ود).
(2) (ظ): “الوهاب”، و (د): “الوهاب المنان”.
(3) بنحوه في “النتائج”: (ص/ 115).
(4) ليست في (د).
(5) (ق): “مكاسل” ولعل الصواب ما أثبت، وانظر ما سيأتي ص/ 189 السطر الثاني.
(6) من قوله: “جُعِلت قوالب … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(1/152)
يغدو غَدْواً، بوزن رَمَى، وأصل “م” دَمِيَ، بوزن فَرِحَ مصدر دَمِيَ يَدْمَى كبَقِيَ يَبْقَى. وأصل “يد” كذلك “يَدِي” من يَدَيْتُ إليه يَدْياً ثمَّ حذفوا، فقالوا: يداً، وكذلك “سم” أصله: “سمو” من: سما يَسْمو سموّاً، كعلم يعلم علماً، فلما زُحْزِحت عن أصل موضوعاتها وبقي فيها من المعنى الأوّل ما يُعلم أنها مشتقة منه؛ حُذِفت منها لاماتها بإزاء ما نقص من معانيها، ليكون النقص في اللفظ موازياً للنقص في المعنى، فلا يستوفي حروف الكلمة بأسرها إلا عند حصول المعنى بأَسْرِه.
فائدة (1)
دخول الزوائد على الحروف الأصلية مُنْبِئة [عن] معانٍ زائدة (2) على معنى الكلمة التي وضعت الحروف الأصلية عبارة عنه، فإن كان المعنى الزائد آخراً كانت الزيادة آخراً، كنحو “التاء” في “فعلت”؛ لأنها تُنبئ عما رُتْبته بعد الفعل، وإن كان المعنى الزائد أولاً، كانت الزيادة الدالة عليه سابقة على حروف الكلمة، كالزوائد الأربع، فإنها تُنبئ أن الفعل لم يحصل بَعْدُ لفاعله، وأن بينه وبين تحصيله جزءاً من الزمان، وكان الحرف الزائد السابق لِلَّفظ مشيراً (3) في اللسان إلى [ذلك] الجزء من الزمان، مُرتَّباً في البيان على حسب ترتب المعنى في الجَنَان، وكذلك حكم جميع ما يَرِد عليك في كلامهم.
فإن قيل: فهلَّا كانت الياء مكان “التاء” و”الهمزة”.
__________
(1) “نتائج الفكر”: (ص/ 117).
(2) (ق): “مبنية معنى زائد”.
(3) (ق): “متيسراً” و (د): “ميسر”!.
(1/153)
قيل: أصل هذه الزوائد “الياء”؛ بدليل كونها في الموضع الذي لا يحتاج فيه إلى الفرق بين مذكَّر ومؤنَّث، وهو فعل جماعة النساء، فإنك إذا قلت: النسوة يقمن، (ق/ 34 أ) فالفرق حاصل بالنون.
وأيضا: فأصل الزيادة لحروف المدِّ واللين، والواو لا تزاد أولًا لئلا يشتبه بـ “واو” العطف، والألف يتعذَّر أولًا لسكونها، فلم يبق إلا “الياء” هي الأصل، فلما أريد الفرق كانت الهمزة للمتكلم أولى؛ لإشعارها بالضمير المستتر في الفعل؛ إذ هي أول حروف ذلك الضمير إذا برز، فلتكن مشيرة إليه إذا خَفِيَ. وكانت النون لفعل المتكلم أولى لوجودها في أول لفظ الضمير الكامن في الفعل إذا ظهر، فلتكن دالة عليه إذا خفي واستتر، وكانت “التاء” من “تفعل” للمخاطب لكونها في الضمير المستتر فيه، وإن لم تكن في أول اللفظ -أعني “أنت”- ولكنها في آخره، ولم يخصّوا بالدلالة (1) عليه ما هو في أول لفظه -أعني الهمزة- لمشاركته للمتكلم فيها وفي “النون”، فلم يبق من لفظ الضمير إلا “التاء” فجعلوها في أول الفعل عَلَمًا عليه وإيماءً إليه (2).
فإن قيل: فكان يلزم على هذا أن تكون الزيادة في فعل الغائب هاء، لوجودها في لفظ ضمير الغائب إذا برز؟.
قيل: لا ضمير في الغائب (3) في أصل الكلام وأكثر موضوعه؛ لأن الاسم الظاهر يُغني عنه، ولا يستتر ضمير الغائب حتى يتقدَّمه
__________
(1) (ق): “في الدلالة”.
(2) ليست في (ق).
(3) من قوله: “هاء، لوجودها … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(1/154)
مذكور يعود عليه، وليس كذلك فعل المتكلم والمخاطب والمخبرين عن أنفسهم، فإنه لا يخلو أبدًا عن ضمير؛ ولا يجيء بعده اسم ظاهر يكون فاعلًا به (1) ولا مضمرًا أيضًا، إلا أن يكون توكيدًا للمضمر المنطوي عليه الفعل.
ومن هاهنا (ظ/25 أ) ضارعت الأسماء حتى أُعْرِبت؛ وَجَرت مجراها فى دخول (2) لام التوكيد وغير ذلك؛ لأنها ضُمِّنت معنى الأسماء بالحروف التى في أوائلها، فهي من حيث دلَّت على الحدث والزمان فعلٌ محض، ومن حيثُ دلَّت بأوائلها على المتكلم والمخاطب وغير ذلك متضمِّنة معنى الاسم، فاستحقت الإعراب الذي هو من خواصِّ الاسم، كما استحق الاسم المتضمِّن معنى الحرفِ البناءَ.
فائدة (3)
فعل الحال لا يكون مستقبلًا وإن حَسُن فيه “غَدٌ” كما لا يكون المستقبل حالًا أبدًا ولا الحال ماضيًا، وأما “جاءني زيد يسافر غدًا”، فعلى تقدير الحكاية له إذا وقع، وهي حال مقدرة. ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا} [الأنعام: 30]، والوقوف مستقبل لا محالة، ولكن جاء بلفظ الماضي حكاية لحال يوم الحساب فيه؛ لأنه (4) يترتب على وقوف قد ثبت، وكذلك (5): {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [القصص: 63] {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ} [غافر: 49] وهو كثير، الوقت مستقبل والفعل
__________
(1) (ظ ود): “علامة”.
(2) سقطت من (ق).
(3) “نتائج الفِكْر”: (ص / 120).
(4) (ظ ود): “لا”.
(5) (ق): “ولذلك قال تعالى”.
(1/155)
بلفظ الماضي، ونحوه: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ} [القصص: 15] وهذا (1) حكاية للحال: فكذلك: “يقوم زيد غدًا”، هو على التقدير والتصوير لهيئته إذا ووقع، وهذا لأنَّ الأصل أن لا يُحكم للفظين متغايرَيْن بمعنى واحد إلا بدليل، ولا للفظ واحد بمعنيين إلا بدليل.
فائدة (2)
حروف المضارعة -وإن كانت زوائد- فقد صارت كأنها من أنفس الكلم، وليست كذلك “السين” و”سوف”، وإن كانوا قد شبهوهما بحروف المضارعة والحروف (ق/ 34 ب) الملحقة بالأصول، ولذلك تقول: “غدا يقوم زيد”، فتقدم الظرف على الفعل، كما تفعل ذلك في الماضي الذي لا زيادة فيه، نحو: “أمس قام زيد”، ولا يستقيم هذا في المقرون بـ “السين”، و”سوف”، لا تقول: “غدًا سيقوم (3) زيد”؛ لوجوه:
منها: أن “السين”: تُنْبِئ عن معنى الاستئناف والاستقبال للفعل، وإنما يكون مستقبلًا بالإضافة إلى ما قبله، فإن كان (4) قبله ظرف أخرجته “السين” عن الوقوع في الظرف، فبقي الظرف لا عامل فيه، فبطل الكلام. فإذا قلتَ: “سيقوم غدًا”، دلَّت السينُ على أن الفعل مستقبل بالإضافة إلى ما قبله، وليس قبله إلا حالة المتكلم، ودلّ لفظ “غدًا” على استقبال اليوم فتطابقا، وصارًا ظرفًا له.
__________
(1) ليست في (ظ ود).
(2) “نتائج الفكر”: (ص / 121).
(3) (ق): “سيقدم”.
(4) سقطت من (ظ ود).
(1/156)
الثاني: أن “السين” و”سوف” من حروف المعاني الداخلة على الجمل، ومعناها في نفس المتكلم وإليه يسند لا إلى الاسم المخبَرِ عنه، فوجب أن يكود له صدر الكلام، كحروف الاستفهام والنفي والنهي (1) وغير ذلك، ولذلك قَبُح: “زيدًا سأضرب” و”ريدٌ سيقوم”، مع أنَّ الخبرَ عن زيد إنما هو بالفعل لا بالمعنى الذي دلت عليه “السين”؛ فإن ذلك (2) المعنى مستند إلى المتكلم لا إلى زيد؛ فلا يجور أن يخلط بالخبر عن زيد، فتقول: زيد سيفعل.
فإن أدخلت (3) “إن” على الاسم المبتدأ جاز دخول “السين” في الخبر لاعتماد الاسم على “إن” ومضارعتها للفعل، فصارت في اللفظ مع اسمها كالجملة التامة، فصلح دخول “السين” فيما بعدها، وأما مع عدم “إن” فيقْبُح ذلك، وهذا مذهب أبي [الحسين] (4) شيخ السهيلي.
قال السهيلي (5): فقلتُ له: أليس قد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ} [النساء: 57 و 122] فقال لي: اقوأ ما قبل الآية، فقرأت: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية، فضحكَ وقال: قد كنت أفزعتني، أليست هذه “إن” في الجملة المتقدمة، وهذه الأخرى معطوفة بالواو عليها، والواو تنوب مناب تكرار (6) العامل
__________
(1) “النتائج”: “والتمنى”.
(2) (ق): “فإن كان ذلك”.
(3) (ظ ود): “فإذا دخلت”.
(4) في الأصول: “أبي الحسن” والتصويب من “النتائج” ومصادر الترجمة، وقد تقدمت ترجمته ص/ 51.
(5) “نتائج الفكر”: (ص/ 122).
(6) (ظ ود): “نياب تكرار” و (ق): “تكرير”.
(1/157)
فسلَّمتُ له وسكتُّ (1).
قال: ونظير هذه المسألة مسألة “اللام” في “إن”، تقول: “إِن زيدًا لقائم”، ولا تقول: “زيد لقائم”، والمصحِّح لتقديم الظرف على الفعل الماضي: أن معنى المُضِيِّ مستفاد من لفظه، لا من حرف زائدٍ على الجملة منفصل عن الفعل كـ “السين”، و”قد”، وأما فِعْل الحال فزوائده ملحقة بالأصل، فإن أدخلت (2) على الماضي “قد” التي للتوقع؛ كانت بمنزلة “السين” التي للاستئناف، وقَبُحَ حِينئذ: “أمس قد قام زيد”، كما قَبُح: “غدًا [سيقوم] (3) زيد”، والعلة كالعِلَّة حَذْو النعل بالنعل (4).
فائدة (5).
“السين” تشبه حروف المضارعة ونقرِّر قيل ذلك مقدمة، وهي لمَ لَمْ تعمل في الفعل وقد اختصَّت به؟.
والجواب؛ أنها فاضِلَة لهذا الفعل عن فعل الحال، كما فَصَلت الزوائد الأربع فعلَ الخال عن الماضي فاشبهتها، (ق/35 أ) وإن لم تكن مثلها في اتصالها ولحوقها بالأصل، كما أشبهت لام التعريف العَلَمية في اتصالها وتعرُّف الاسم بها، وإن لم تكن مُلْحقة بحروف
__________
(1) انظر كتاب: “دراسات لأساليب القرآن”: (2/ 191 – 192) لعبد الخالق عضيمة، فقد تعقَّب هذا الموضع بأن اقتران جملة الخبر بعلامة الاستقبال دود أن تسبقها إن وقع كثيرًا في القرآن.
(2) (ظ): “فإذا دخلت”.
(3) في الأصول: “يقوم”، وكذا في مخطوطات “النتائج”، وصوَّبها المحقق؛ لأنه قد تقدم جواز “غدًا يقوم زيد”.
(4) تحرفت العبارة في (ظ ود).
(5) “نتائج الفكر”: (ص/ 123).
(1/158)
الأصل، فلمَّا لم تعمل تلك (ظ/25 ب) اللام في الأسماء مع اختصاصها بها، لم تعمل هذه في الأفعال مع استبدادها بها، هذا تعليل الفارسي (1) في بعض كتبه، وابن السرَّاج والسُّهيلي، وهو يحتاج إلى بيان وإيضاح.
وتقريرُه: أن الحرف إذا نُزِّل منزلةَ الجزء من الكلمة لم يعمل فيها؛ لأن أجزاء الكلمة لا يعمل بعضُها في بعضٍ، ولام التعريف مع المعرفة بمنزلة اسم علم فنزِّلت منزلة جُزئِه.
و”قد” مع الماضي بمنزلة فعل الحال؛ فنزِّلت منزلة جزْئِه، وأما الزوائد الأربع؛ فهي فاصلة لفعل الحال عن الماضي، فصارت مع الفعل بمنزلة كلمة واحدة دالة على فعل الحال.
وكذلك “السين” مع الفعل فاصلة للمستقبل عن الحال، فصارت مع الفعل بمنزلة كلمة واحدة (2)، دالة على (3) فعل الاستقبال، وهذا المعنى موجود في “سوف” أيضًا، فاختصاص الحرف شرط عمله، ونزوله منزلةَ الجزءِ مانعٌ من العمل.
فإن قيل: فهذا ينتقض عليكم بـ “أن” المصدرية فإنها مُنَزَّلة منزلة الجزء (4) من الكلمة، ولهذا يصيرُ الفعلُ بها في تأويل كلمةٍ مفردة، ومع هذا فهي عاملة.
قيل: هذا لا ينقض ما أصَّلناه؛ لأن هذا الحرف لم يُنزَّل منزلةَ
__________
(1) هو: أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار بن سليمان النحوي ت (377).
انظر: “إنباه الرواة”: (1/ 308)، و”بغية الوعاة”: (1/ 496).
(2) ليست فى (ق).
(3) من قوله: “الحال. وكذلك … ” ساقط من (د).
(4) من قوله: “مانع من العمل … ” ساقط من (ق).
(1/159)
الجزء من الفعل، وإنما صار به الفعل في تأويل الاسم، فلم ينتقض ما ذكرناه.
وعلَّل السهيلي (1) بطلان عمل “سوف” بعلة أخرى، فقال: وإما “سوف” فحرف، ولكنه على لفظ السَّوف الذي هو الشَّمُّ لرائحة ما ليس بحاضر، وقد وُجِدت رائحته، كما أن “سوف” هذه تدلُّ على أن ما بعدها ليس بحَاضر، وقد علم وقوعه وانْتُظِر [إِبَّانُه] (2)، ولا غَرْو أن يتقارب معنى الحرف من معني الاسم المشتق المتمكن في الكلام.
فهذه “ثم” حرف عطف، ولفظها كلفظ “الثم” وهو: رمُّ الشيء بعضه إلى بعض، كما قال: “كنا أهل ثُمِّه ورُمِّه” (3)، وأصله من: ثممتُ البيتَ إذا كانت فيه فرج فسُدد بالثُّمام، والمعنى الذي في “ثم” العاطفة قريب من هذا؛ لأنه ضمُّ شيء إلى شيء بينهما مهلة، كما أن ثَمَّ البيت: ضمٌّ بين شيئين بينهما (4) فرجة، ومن تأمل هذا المعنى فى الحروف والأسماء المضارعة لها، ألفاه كثيرًا.
فائدة بديعة (5)
في دخول “أن” على الفعل دون الاكتفاء بالمصدر ثلاث فوائد:
أحدها: أن المصدر قد يكون فيما مضى، وفيما هو آتٍ، وليس
__________
(1) في “نتائج الفكر”: (ص/ 124).
(2) في الأصول: “إيابه”، والتصويب من “النتائج”.
(3) هو من قول أخوال أُحَيْحة بن الجُلاح فيه … في حديث عروة، أخرجه مالك في “الموطأ”: (2/ 868) في، وانظر “النهاية”: (1/ 223)، وأهل الحديث يروونها بالضم، وصحح أبو عبيد الفتح “ثَمِّه ورَمِّه”.
(4) من قوله: “مهله، كما … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(5) “نتائج” الفكر”: (ص/ 126).
(1/160)
في صيغته ما يدل عليه، فجاءوا يلفظ الفعل المشتق منه مع “أن” ليجتمع لهم الإخبار عن الحدث مع الدلالة على الزمان.
الثانية: أنَّ “أَنْ” تدلُّ على إمكان الفعل، دون الوجوب والاستحالة.
الثالثة: أنها تدل على مجرَّد معنى الحدث، دون احتمال معنىً زائد عليه، ففيها تحصين للمعنى (1) (ق/35 ب) من الإشكال، وتخليص له من شوائب الاحتمال (2).
بيانُه: أنك إذا قلت: “كرهتُ خروجك” أو “أعجبني قدومك”، احتمل الكلام معاني:
منها: أن يكون نفس القدوم هو المعجب لك، دون صفة من صفاته وهيآته، وإن كان لا يوصف في الحقيقة بصفات، ولكنها عبارة عن الكيفيات.
واحتمل -أيضًا- أنك تريد أنه أعجبك سرعته أو بطؤه أو حالة من حالاته، فإذا قلتَ؛ “أعجبني أن قدمت”، كانت “أن” على الفعل بمنزلة الطابع والعنوان (3) من عوارض الاحتمالات المتصورة في الأذهان، ولذلك (4) زادوا “أن” بعد “لما” في قولهم: “لما أن جاء زيد أكرمتك”، ولم يزيدوها بعد (5) ظرف سوى “لما”، وذلك أن “لما” ليست في الحقيقة ظرف زمان، ولكنه حرف يدل على ارتباط
__________
(1) “للمعنى” سقطت من (ظ ود).
(2) (ظ ود): “الإجمال” والموضع بعده: “الإجمالات”.
(3) (ظ ود): “الطبائع والصواب”!.
(4) (ظ ود): “وكذلك”.
(5) (ظ ود): “بغير”.
(1/161)
الفعل الثاني بالأول، في أن أحدهما كالعلة للآخر، بخلاف الظرف إذا قلت: “حين قام زيد قام عَمْرو”، فجعلت أحدهما وقتًا للآخر على اتفاقٍ لا على ارتباط، فلذلك زادوا “أنْ” بعدها صيانةً لهذا المعنى، وتخليصًا له من الاحتمال العارض في الظرف؛ إذ ليس الظرف من الزمان بحرف، فيكون قد جاء لمعنى كما جاءت “لما”.
وقد زعم الفارسي أنها مركبة من “لم” و”ما”. قال السُّهيلي (1): ولا أدري ما وجه قوله، وهي عندي من الحروف التي في لفظها شَبَه من الاشتقاق، وإشارة إلى مادة هي مأخوذة منها، نحو ما تقدم في “سوف” و”ثم”؛ لأنكْ تقول: “لممتُ الشيءَ لمًّا (2) “. إذا ضممتَ بعضَه إلى بعض، وهذا نحوٌ من هذا المعنى الذي سيقت إليه؛ لأنه ربط فعل بفعل على جهة التسبيب أو التعقيب، فإذا كان التسبيب حَسُن إدخال “أن” بعدها زائدة (ظ/26 أ) إشعارًا بمعنى المفعول من أجلة، وإن لم يكن مفعولًا من أجله, نحو قوله: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا} [العنكبوت: 33] , و {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} [يوسف: 96] ونحوه.
وإذا كاد التعقيب مجردًا من التسبيب، لم يحسن زيادة “أن” بعد “لما” (3) وتأمَّلْه في القرآن.
وأما “أن” التي للتفسير؛ فليست مع ما بعدها بتأويل المصدر، ولكنها تشارك “أن” التي: تقدَّم ذكرُها بعض معانيها؛ لأنها تحصينٌ (4) لما بعدها من الاحتمالات, وتفسير لما قبلها من الصادر المجْمَلات،
__________
(1) “نتائج الفكر”: (ص/ 127).
(2) سقطت من (ق).
(3) (ظ ود): “بعدها”.
(4) سقطت من (ق).
(1/162)
التي في معنى المقالات والإشارات، فلا يكون تفسيرًا إلا لفعل في معنى التراجم الخمس الكاشفة عن كلام النفس؛ لأنَّ الكلام القائم في النفس والغائب عن الحواس في الأفئدة يكشفه للمخاطبين خمسةُ أشياء: اللفظ، والخط، والإشارة، والعقد (1)، والنصبة (2)، وهي لسان الحال، وهي أصدق من لسان المقال، فلا تكون “أن” المفسرة إلا تفسيرًا لما أُجمل من هده الأشياء، كقولك: “كتبت إليه أن اخرج”، و”أشرت إليه أن اذهب” و {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} [النمل: 8] و “أوصيته أن اشكر”. و”عقدتُ في يدي أن قد أخذت خمسين”. و”زربت (3) على حائطي أن لا يدخلوه”، ومنه قول الله عزَّ وجل (ق/ 36 أ): {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8)} [الرحمن: 7، 8] هي هاهنا لتفسير النصبة التي هي لسان الحال.
وإذا كان الأمر فيها كذلك، فهي بعينها التي تقدم ذكرها؛ لأنها إذا كانت تفسيرًا فإنما تفسر (4) الكلام، والكلام مصدر، فهي إذًا في تأويل مصدر، إلا أنك أوقعت بعدها الفعل بلفظ الأمر والنهي، وذلك مزيد فائدة، ومزيد الفائدة لا تُخْرج الفعلَ عن كونه فعلًا، فلذلك لا تخرج عن كونها مصدرية، كما لا (5) يخرجها عن ذلك صيغة المُضِيّ والاستقبال بعدها، إذا قلت: “يعجبني أن تقوم” و”أن قمت”، فكأنهم إنما قصدوا إلى ماهية الحدث مُخْبَرًا [به] عن الفاعل لا
__________
(1) هو: الحِساب بعقد الأصابع.
(2) في “النتائج”: “النصب”، والنصب هو العَلَم.
(3) الزرب: البناء.
(4) (ق): “فإنها تفسير”.
(5) سقطت من (ق).
(1/163)
الحدث مطلقًا، ولذلك ألا تكون مبتدأة وخبرها في (1) ظرف أو مجرور؛ لأن المجرور لا يتعلق بالمعنى الذي تدل عليه “أن”، ولا الذي من أجله صِيْغ الفعل واشْتُق من المصدر، وإنما يتعلق المجرور بالمصدر نفسه مجردًا من هذا المعنى، كما تقدَّم، فلا يكون خبرًا عن “أن” المتقدمة، وإن كانت في تأويل اسم، وكذلك -أيضًا- لا يخبر عنها بشيءٍ مما هو صفة للمصدر، كقولك: ” [قيامك] (2) سريع أو بطيء” ونحوه، لا يكون مثل هذا خبرًا عن المصدر.
فإن قلت: “حَسَن أن تقوم” و”قبيحٌ أن تفعل”، جاز ذلك؛ لأنك تريد بها معنى المفعول، كأنك تقول: “أستحسن هذا أو أستقبحه”، وكذلك إذا قلت: “لأن تقوم خير من أن تقعد”، جاز؛ لأنه ترجيح وتفضيل، فكأنك تأمره بأن يفعل ولست بمخبر عن الحدث، بدليل امتناع ذلك في المضيِّ، فإنك لا تقول فيه (3): “أن قمتَ خير من أن قعدت”، ولا: “أَن قام زيدٌ خير من أن قعد”، وامتناع هذا دليل على ما قدمناه من أن الحدث هو الذي يخبر عنه.
وأما “أن” وما بعدها فإنها -وإن كانت في تأويل المصدر- فإن لها معنىً زائدًا لا يجوز الإخبار عنه، ولكنه يراد ويلزم (4) ويُؤمر به، فإن وجدتها مبتدأة ولها خبر، فليس الكلام على ظاهره، لما تقدم.
__________
(1) كذا بالأصول والنتائج، والأولى حذف “في”.
(2) تحرّفت في الأصول، والمثبت من “النتائج”.
(3) من (ق).
(4) (ق): “ويكره”.
(1/164)
وأما “لن” (1) فهي عند الخليل مركبة من “لا” و”أن” (2)، ولا يلزم ما اعترض عليه سيبويه من تقديم المفعول عليها، لأنه يجوز في المركبات مالا يجوز في البسائط. واحتج الخليلُ بقول جابر [الطائي] (3)، وهو من شعراء الجاهلية:
فإن أُمْسِك فإنَّ العيشَ حُلْوٌ … إليَّ كأنَّه عَسَلٌ مَشُوْبُ
يُرجِّي المرءُ ما لا أن يُلاقي … وتعرضُ دونَ أَبعدِهِ خُطُوبُ (4)
فإذا ثبت ذلك فمعناها نفي الإمكان بـ “أن” كما تقدم.
وكان ينبغي أن تكون جازمة كـ “لم”؛ لأنها حرف نفي مختص بالفعل، فوجب أن يكون عمله الجزم الذي هو نفي الحركة وانقطاع الصوت ليتطابق اللفظ والمعنى، وقد فعل ذلك بعض العرب، فجزم بها حين لحَظَ هذا الأسلوب، ولكن أكثرهم ينصب (ق/36 ب)، بها مراعاة لـ “أن” المركبة فيها مع “لا”؛ إذ هي من جهة الفعل وأقرب إلى لفظه، فهي أحق بالمراعاة من معنى النفي، فرب نفي لا يجزم الأفعال، وذلك إذا لم يختص بها دون الأسماء، والنفي في هذا الحرف إنما جاءه من قبل “لا”، وهي (ظ/26 ب) غير عاملة لعدم اختصاصها، فلذلك كان النصب بها أولى من الجزم. على أنها قد ضارعت “لم” لتقارب المعنى واللفظ، حتى قُدِّم عليها معمول فعلها،
__________
(1) (ظ): “أن”.
(2) (ق): “لن”.
(3) في الأصول: “الأنصاري”، والتصويب من المصادر.
(4) وقع في البيتين تحريف ونقص في الأصول، والتصويب من المصادر، وهما لجابر بن رألان الطائي، وفي رواية الثاني منهما اختلاف. انظر “النوادر”: (ص / 264 – الشروق)، لأبي زيد، و”خزانة الأدب”: (8/ 440) للبغدادي.
(1/165)
فقالوا: “زيدًا لن أضرب”، كما قالوا: “زيدًا لم أضرب”.
ومن خواصِّها تخليصها الفعل للاستقبال، بعد أن كان محتملًا للحال، فأغنت عن “السين” و”سوف”، وجُلُّ هذه النواصب تخلِّص الفعل للاستقبال (1).
ومن خواصِّها: أنها تنفي ما قرب ولا يمتد معنى النفي فيها كامتداد معنى النفي في حرف “لا” إذا قلت: “لا يقوم زيد أبدًا”، وقد قدمنا أن الألفاظ مشاكلة (2) للمعاني التي هي (3) أرواحها, يتفرَّس الفطن فيها حقيقة المعنى، بطبعه وحسه، كما يتعرَّف الصادق الفراسةِ صفاتَ الأرواح في الأجساد من قوالبها بفطنته.
وقلت يومًا لشيخنا أبي العباس ابن تيمية -قدس الله روحه-: قال ابن جنِّي (4): مكثت بُرْهةً إذا ورد علىَّ لفظ آخذ معناه من نفس حروفه وصفاتها وجَرْسه وكيفية تركيبه، ثم أكشفه، فإذا هو كما ظننته أو قريبًا منه، فقال لي رحمه الله: “وهذا كثيرًا ما يقع لي”.
وتأمل حرف “لا” كيف تجدها: لامًا بعدها ألف، يمتدُّ بها الصوت ما لم يقطعه ضيق النفس، فآذن امتداد لفظها بامتداد معناها، و”لن” بعكس ذلك، فتأمله، فإنه معنىً بديع.
__________
(1) من قوله “بعد أن كان … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) (ق): “مشاركة”. وانظر (ص/ 70) فيما تقدم.
(3) سقطت من (ظ ود).
(4) هو: أبو الفتح عثمان بن جِنِّي الموصلي النحوي، من أئمة العربية خاصة التصريف ت (392). انظر: “إنباه الرواة”: (2/ 335)، و”وفيات الأعيان”: (3/ 246). وقد ذكر المؤلف نحو هذا عن شيخه في “جلاء الأفهام” (ص/ 147).
(1/166)
وانظر كيف جاء في أفصح الكلام كلام الله: {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} [الجمعة: 7] بحرف “لا” في الموضع الذي اقترن به حرف الشرط بالفعل، فصار من صيغ العموم، فانسحب (1) على جميع الأزمنة، وهو قوله عز وجل: {إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} [الجمعة: 6] كأنه يقول: متى زعموا ذلك لوقتٍ من الأوقات أو زمنٍ من الأزمان، وقيل لهم: “تمنوا الموت”، فلا يتمنونه أبدًا. وحرف الشرط دلَّ على هذا المعنى، وحرف “لا” في الجواب بإزاء صيغة العموم، لاتِّساع معنى النفي فيها.
وقال في سورة البقرة: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْنَهُ} فقصَّر (2) من سَعَة النفي وقرَّب، لأن قبله: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ}؛ لأن “إن” و”كان” هنا ليست من صِيَغ العموم؛ لأن “كان” ليست بدالَّةٍ على حدث، وإنما هي داخلة على المبتدأ، والخبر عبارة عن مُضِيِّ الزمان الذي كان فيه ذلك الحدث، فكأنه يقول عز وجل: إن كان قد وجبت لكم الدار الآخرة، وثبتت لكم في علم الله؛ فتمنوا الموت الآن، ثم قال في الجواب: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْنَهُ} (ق/ 13 أ)، فانتظم معنى الجواب بمعنى الخطاب في الآيتين جميعًا.
وليس في قوله: {أَبَدَا} ما يناقض ما قلناه، فقد تكون “أبدًا” بعد فعل الحال؛ تقول: “زيد يقوم أبدًا”.
ومن أجلِ ما تقدم من قصور معنى النفي في “لن”، وطوله في “لا” يعلمُ الموفقُ قصور المعتزلة في فهم كلام الله حيث جعلوا “لن”
__________
(1) (ق): “ما انسحب”.
(2) (ق): “فقضى”.
(1/167)
تدل على النفي على الدوام. واحتجوا بقوله: {لَن تَرَانِي} [الأعراف: 143] وعلمت بهذا أن بدعتهم الخبيثة حالت بينهم وبين فهم كلام الله كما ينبغي، وهكذا كلُّ صاحب بدعة تجده محجوبًا عن فهم القرآن!.
وتأمل قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] كيف نفى فعل الإدراك بـ “لا” الدالة على طول النفي ودوامه، فإنه لا يُدْرَكْ أبدًا، وإن رآه المؤمنون فأبصارُهم (1) لا تدركه، تعالى عن أن يحيط به مخلوق؛ وكيف نفي الرؤية بـ “لن” فقال: {لَن تَرَانِي}، لأن النفي بها لا يتأبَّد. وقد أكذبهم الله في قولهم بتأبيد النفي بـ “لن” صريحًا بقوله: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] فهذا تمنٍّ للموت، فلو اقتضت “لن” دوام: النفي تناقض الكلام كيف وهي مقرونةٌ بالتأبيد بقوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة: 95]، ولكن ذلك لا ينافي تمنيه في النار؛ لأن التأبيد قد يُرَاد به التأبيد المقيد والتأبيد المطلق، فالمقيد كالتأبيد بمدة الحياة (2)، كقولك: “والله لا أكلمه أبدًا”، والمطلق كقولك: “والله لا أكفر بربي أبدًا”. وإذا كان كذلك فالآية إنما اقتضت نفي تمنِّي الموت أبدَ الحياة الدنيا، ولم يتعرض للآخرةِ أصلًا، وذلك لأنهم لحبهم الحياة وكراهتهم للجزاء لا يتمنون الموت، وهذا منتفٍ في الآخرة.
فهكذا ينبغي أن يُفهَم كلام الله لا كفَهْمِ المحرِّفين له عن مواضعه.
قال أبو القاسم السُّهيلي (3): على أني أقول: إن العرب إنما تنفي بـ “لن” ما كان مُمكنًا عند المخاطب مظنونًا أنْ سيكون؛ فتقول له:
__________
(1) (ق): “بأبصارهم”.
(2) (ق) زيادة: “مقيد”.
(3) في “نتائج الفكر”: (ص/133).
(1/168)
“لن (1) يكون”، لما (ظ/27 أ) ظُنَّ أن يكون؛ لأن “لن” فيها معنى “أن” (2)، وإذا كان الأمن عندهم على الشك لا على الظن، كأنه يقول: أيكون أم لا؟ قلت في النفي: [لا] (3) يكون، وهذا كله مقوٍّ لتركيبها من “لا” و”أن”، وتبييَّن لك وجه اختصاصها في القرآن بالمواضعِ إلى وقعت فيها دون “لا”.
فائدة (4)
قولهم: “إذن أُكرمك”، قال السهيلي: هي عندي “إذا” الظرفية الشرطية، خُلِع منها معنى الاسمية كما فعلوا ذلك بـ “إذْ”، وبـ “كاف” الخطاب وبالضمائر المنفصلة، وكذلك فعلوا بـ “إذا” إلا أنهم زادوا فيها التنوين، فذهبت الألف، والقياس إذا وقفتَ عليها أن ترجع الألف لزوال العلَّة، وإنما نوَّنوها لما فصلوها عن الإضافة؛ إذ التنوين علامةُ الانفصال، كما فعلوا بـ “إذ” حين (5) فصلوها عن الإضافة إلى الجملة فقالوا: يومئذٍ (6)، فصار التنوين مُعَاقبًا للجملة. إلا أن “إذ” في ذلك الموضع لم تخرج عن الاسمية [بدليل إضافة “يوم” و”حين” إليها، وإنما أخرجوها عن الاسميَّة] (7) في نحو قوله تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)} [الزخرف: 39] جعلها سيبويه هاهنا حرفًا بمنزلة “أن”.
__________
(1) في الأصول: “أن لن” والمثبت من “النتائج”.
(2) سقطت من (ق).
(3) في الأصول: “لن”، والتصويب من “النتائج”.
(4) “نتائج الفِكْر”: (ص/134).
(5) “فعلوا بـ “إذ” حين” بياض في (ظ) وساقطة من (د).
(6) كان “فقالوا: يومئذٍ” في (ظ ود): “فيه”.
(7) ما بين المعكوفين مستدرك من “النتائج” ساقط من الأصول.
(1/169)
فإن قيل: ليس شيءٌ عن هذه الأشياء التي صُيِّرت حروفًا بعد أن كانت أسماء إلَّا وقد بقي فيها معنىً عن (ق/37 ب) معانيها، كما بقي في “كاف” الخطاب معنى الخطاب، وفي “على” معني الاستعلاء فما بقي في “إذ” و”إذن” من معانيهما (1) في حال الاسمية؟.
فالجواب: أنك إذا قلتَ: “سأفعل كدا إذا خرج زيد”، ففعلك مرتبط بالخروج مشروط به، وكذلك إذا قال لك القائل: “قد أكرمتُك” فقلت: “إذن أُحْسِن إليك”، ربطتَ إحسانَكَ بإكرامه وجعلتَه جزاءً له؛ فقد بقي فيها طرفٌ عن معنى الجزاء و (2) هي حرف، كما كان فيها معنى الجزاء وهي (3) اسم.
وأما “إذ” من قوله تعالى: {إِذْ ظَلَمْتُمْ} ففيها معنى الاقتران بين الفعلين، كما كان فيها ذلك في حال الظرفية؛ تقول: “لأضربن زيدًا إذ شتمني”، فهي -وإن لم تكن ظرفًا- ففيها معنى الظرف، كأنك تُنَبِّهُهُ على أنك تجازيه على ما كان منه وقت الشتم، فإن لم يكن الضرب واقعًا في حاك الشتم، فله ردّ إليه وتنبيه عليه، فقد لاحَ لكَ قربُ ما بينها وبين “أنْ” التي هي للمفعول من أجله، ولذلك شبهها سيبويه بها في سَوَادِ كتابه (4).
وعجبًا للفارسي حيث (5) كاب ذلك عنه وجعلها ظرفًا! ثم تحيَّل
__________
(1) العبارة في الأصول: “في إذا إذًا من معانيها” والمثبت من “النتائج”.
(2) (ق): “أو”.
(3) (ظ ود): “وهو”.
(4) ذكر محقق “النتائج” إنه لم يعثر على هذا القول في “كتاب سيبويه”. وقد نسبه السهيليُّ لسيبويه -أيضًا- في كتابه “الروض الأُنف”: (1/ 286).
(5) (ق): “كيف”.
(1/170)
في إيقاع الفعل الذي هو النفع فيها وسوف إليها.
وأما “إذ”؛ فإذا كانت منوَّنة فإنها لا تكون إلا مضافًا إليها ما قبلها، لتعتمد على الظرف المضاف إليها، فلا يزول عنها معنى الظرفية، كما زال عن أختها حين نوَّنوها وفصلوها عن الفعل الذي كانت تضاف إليه.
والأصل في هذا: أن “إذ” و”إذا” في غاية من الإبهام والبعد عن شبه الأسماء، والقرب من الحروف؛ لعدم الاشتقاق، وقِلَّة حروف اللفظ، وعدم التمكن؛ وغير ذلك، فلولا إضافتهما (1) إلى الفعل الذي يبنى للزمان ويفتقر إلى الظروف، لما عُرِف فيهما معنى الاسم أبدًا؛ إذ لا تدلُّ واحدةٌ منهما على معنًى في نفسها، إنما جاءت لمعنى في غيرها، فإذا قطعت عن ذلك المعنى تمحَّض معنى الحرف فيها، إلا أن “إذ” (2) لما ذكرنا من إضافة ما قبلها من الظرف إليها، لم يفارقها معنى الاسم، وليست الإضافة إليها في الحقيقة، ولكن إلى الجملة التي عاقبها التنوين.
وأما “إذن” فلما لم يكن فيها بعد فصلها عن الإضافة ما يعضد معنى الاسمية فيها؛ صارت حرفًا لقربها من حروف الشرط في المعنى، ولما صارت حرفًا مختصًّا بالفعل مخلصًا له للاستقبال كسائر النواصب للأفعال، نَصَبُوا الفعل بعده؛ إذ ليس واقعًا موقع الاسم فيستحق الرفع، ولا هو (3) غير واجب فيستحق الجزم، فلم يبق إلا النصب، ولما لم يكن العمل فيها أصليًّا لم تقوَ قوَّةَ أخواتها، فأُلغيت تارةً وأُعْمِلَت أخرى، وضَعُفَت عن عوامل الأفعال.
__________
(1) (ق): “إضافتها”.
(2) (ق): “إذا” وهو خطأ.
(3) سقطت من (ظ ود).
(1/171)
فإن قيل: فهلا فعلوا بها ما فعلوا بـ “إذ” (1) حين نوَّنوها، وحذفوا الجملة بعدها، فيضيفوا إليها ظروف الزمان كما يضيفونها إلى “إذ” في نحو: “يومئذٍ” لأن الإضافة في المعنى إلى الجملة التي عاقبها التنوين؟.
فالجواب: أن “إذ” قد اسْتُعمِلت مضافةً إلى الفعل [المستقبل] (2) في المعنى على وجهِ الحكاية للحال، كما قال (ق/ 38 أ) تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} [البقرة: 165] ولم يستعملوا “إذا” مضافة إلى الماضي بوجهٍ ولا على حال، فلذلك استغنوا بإضافة الظروف إلى “إذ” وهم يريدون الجملة بعدها عن إضافتها إلى “إذا”، مع أن “إذ” في الأصل حرفان، و”إذا” ثلاثة أحرف، فكان ما هو أقل حروفًا في اللفظ أولى بالزيادة فيه، وإضافة الأوقات إليه زيادة فيه؛ لأن المضاف والمضاف إليه بمنزلة اسم واحد. وأقوى من هذا أن “إذن” فيها معنى الجزاء، وليس في “إذ” منه رائحة، فامتنع إضافة ظرف الزمان إلى “إذن”؛ لأن ذلك يُبْطِل ما فيها من معنى الجزاء؛ لأن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد، فلو أُضِيْفَ “اليوم” (3) و”الحين” إليها لغلب عليهما حكمه لضعفها (4) عن درجة حرف الجزاء، فتأمله.
فائدة بديعة (5)
” لام كي والجحود” حرفان ناصِبان بإضمار “أن”، إلا أن “لام
__________
(1) (ق): “إن”.
(2) من “النتائج”.
(3) (ظ ود): “إليه”.
(4) في الأصول بضمير المثنَّى في الجميع، والتصحيح من النتائج”.
(5) “نتائج الفِكْر”: (ص/ 138).
(1/172)
كي” هي لام العلة, فلا يقع قبلها (1) إلا فعل يكون علة لما بعدها, فإن كان ذلك الفعل منفيًّا لم يخرجها عن أن تكون “لام كي”، كما ذهب إليه الصَّيْمَرِي (2)؛ لأن معنى العلة فيها باقٍ، وإنما الفرق بين “لام الجحود” و”لام كي” وذلك من ستة أوجه:
أحدها: أن لام الجحود يكون قبلها كَوْنٌ منفيٌّ بشرط المضي؛ إما “ما كان” أو “لم يكن”، لا مستقبلًا، فلا تقول: “ما أكون لأزورك” (3)، وتكون زمانية ناقصة لا تامة، ولا يقع بعد اسمها ظرف ولا مجرور، لا تقول: “ما كان زيد عندك ليذهب” ولا: ” … أمس ليخرج”. فهذه أربعة فروق.
والذي يكشف لك قناع المعنى ويهجم بك على الغرض: أن “كان” الزمانية عبارة عن زمانٍ ماضٍ، فلا تكون عِلّةً لحادث (4)، ولا تتعدَّى إلى المفعول من أجله، ولا إلى الحال وظروف المكان, وفي تعدِّيها إلى ظروف الزمان نظرًا فهدا الذي منعها أن تقع قبلها لام العلة، أو يقع بعدها المجرور أو الظرف.
وأما الفرق الخامس بين اللامين فهو: أنَّ الفعل بعد “لام الجحود” لا يكون فاعله إلا عائدًا على اسم “كان”؛ لأن الفعل بعدها في موضع الخبر، فلا تقول: “ما كان زيدٌ ليذهب عَمْرو”، كما
__________
(1) (ظ ود): “فيها”.
(2) هو: عبد الله بن علي بن إسحاق الضَّيْمري النحوي، له كتاب “التبصرة” اعتنى به أهل المغرب، وترجمته في المصادر مقتضبة جدًّا، ولم يعرف له تاريخ وفاة.
انظر: “إنباه الرواة”: (2/ 123)، و”إشارة التعيين”: (ص / 168).
(3) (ق): “لأزيدك”.
(4) (ق): “لما حدث”.
(1/173)
تقول: “يا” (1) زيد ليذهب عَمْرو أو لتذهب أنت”، ولكن تقول: “ما كان ليذهب” و”ما كنت لأفعل”.
والفرق السادس: جواز إظهار “أن” بعد “لام كي”، ولا يجوز إظهارها بعد لام الجحود؛ لأنها جَرَت في كلامهم نفيًا للفعل المستقبل بـ “السين” أو “سوف”، فصارت لام الجحود بإزائهما: فلم يظهر بعدها ما لا يكون بعدهما (2).
وفي هذه النكتة مَطْلع على فوائد من كتاب الله، ومرقاة إلى تدبُّره، كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] فجاء بلام الجحد حيث كان نفيًا لأمر متوقع، وسبب مخوف في المستقبل، ثم قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} [الأنفال: 33] فجاء باسم الفاعل الذي لا يختص بزمان حيث أراد نفي وقوع العذاب بالمستغفرين على العموم في الأحوال (3) لا يخص مُضِيًّا من استقبال. (ق/ 38 ب) ومثله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى} [هود: 117] ثم قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى} [القصص: 59] فالحظ هذه الآية من مطلع الأخرى تجدها كذلك.
وأما “لام العاقبة” ويسمونها: “لام الصيرورة” في نحو: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا} [القصص: 8]، فهي في الحقيقة “لام كي”، ولكنها لم تتعلق بالخبر لقصد المخبر عنه وإرادته، ولكنها تعلقت بإرادة فاعل الفعل على الحقيقة، وهو الله سبحانه، أي: فعل الله ذلك ليكون كذا
__________
(1) كذا فى الأصول، وفي “النتائج”: “جاء”.
(2) في الأصول بضمير المفرد، والمثبت من “النتائج”.
(3) (ظ ود): “الأقوال”.
(1/174)
وكذا. وكذلك قولهم: “أَعْنق ليموت” (1)، لم يُعْنق لقصد الموت, ولم يتعلق اللام بالفعل، وإنما المعنى: قَدَّر اللهُ أنه يُعْنق ليموت, فهي متعلقة بالقدر (2) وفِعْل الله. ونظيره: “إنِّي أَنْسَى لأَسُنَّ” (3)، ومن رواه: “أُنَسَّى” بالتشديد فقد كشف قناع المعنى.
وسمعتُ شيخَنا أبا العباس ابن تيمية يقول: يستحيل دخول “لام العاقبة” في فعل الله، فإنها حيث وردت في الكلام؛ فهي لجهل الفاعل بعاقبة فعله، كالتقاط آلِ فى عود لموسى، فإنهم لم يعلموا عاقبته، أو لعجز الفاعل عن دفع العاقبة (ظ/ 28 أ) نحو: “لِدُوا للمَوتِ وابْنُوا لِلْخَرَابِ” (4).
فأمَّا في فعل من لا يَعْزُبُ عنه مثقال ذرة, ومن هو على كل شيءٍ قدير؛ فلا يكون قط إلا “لام كي” وهى لام التعليل.
ولمثل هذه الفوائدِ التي لا تكادُ توجدُ في الكتب يُحْتَاج إلى مجالسةِ الشيوخ والعلماء!!.
__________
(1) قاله النبي – صلى الله عليه وسلم – للمنذر بن عمرو، كما في “طبقات ابن سعد”: 3/ 567، و “الإصابة”: 6/ 217.
(2) (ظ ود): “بالمقدور”.
(3) رواه مالك في “الموطأ”: (1/ 100) بلاغًا.
(4) قطعة من حديث أخرجه البيهقي في “شعب الإيمان”، من حديث مؤمّل بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة, عن عبد الرحمن بن أبي عَمْرة، عن أبي هريرة، رَفَعَه .. الحديث، وفيه: “وإن مَلَكًا ببابٍ آخر ينادي: يا بني آدم لِدُوا للصوت وابنوا للخرابِ”.
قال السخاوى في “المقاصد الحسنة”: (ص / 332): “وهو عند أحمد والنسائي في “الكبري” بدون الشاهد منه، وصححه ابنُ حِبان، ثم شيخُنا” اهـ.
ثم ذكر له شواهد ضِعَافًا، وأخذه الشعراء فنظموا منه أبياتًا، ولأبي العتاهية قصيدة في “ديوانه”: (ص/ 42 – 43) مطلعها:
لِدوا للموتِ وابنوا للخرابِ … فكُلُّكمُ يصِيْرُ إلى ذَهابِ
(1/175)
فائدة (1)
كما أن “لن” لنفي المستقبل كان الأصل أن يكون “لا” لنفي الماضي، وقد اسْتعْمِلت فيه نحو: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)} [البلد: 11] ونحوه:
وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لا أَلَمَّا (2).
ولكن عدلوا في الأكثر إلى نفي الماضي بـ “لم” لوجوه:
منها: أنهم قد خصُّوا المستقبل بلن (3)، فأرادوا أن يخصوا الماضي بحرف، و”لا” لا تخص ماضيًا من مستقبل، ولا فعلًا: من اسم؛ فخصُّوا نفيَ الماضي بـ “لم”.
ومنها: أن “لا” يتوهم انفصالها مما بعدها، إذ قد تكون نافية لما قبلها، ويكون ما بعدها في حكم الوجوب، مثل: {لَا أُقْسِمُ} [البلد: 1]، حتى لقد قيل في قول عمر: (لا، نقضي ما تجانفنا لإثم) (4). إن “لا”:
__________
(1) “نَتائج الفكر”: (ص/ 141).
(2) اختلف في قائله؛ فقيل: لأبى حِراش الهذلي، وقيل: لأمية بن أبى الصلت، وتمامه:
إنْ تعْفرِ اللهمَّ تَغْفِرْ جمًّا … وأيُّ عبدٍ لكَ لا ألمَّاِ
انظر: “المغني” شاهد رقم (403)، و”اللسان”: (12/ 553).
(3) (ق): “بأن”.
(4) أخرجه عبد الرزاق فى “المصنّف”: (4/ 179)، وابن أبي شيبة: (2/ 287)، والبيهقي فى “الكبري”: (4/ 217).
كلهم من طرقٍ عن الأعمش، عن زيد بن وهب … فى قصةٍ وفيها قول عمر: “والله لا نقضيه، وما تجانفنا لإثمٍ”.
وأشار البيهقي إلي أن هذه الرواية مما نُقِم على زيد بن وهب، وأنه قد أخطأ فيها، وأن المحفوظ من قول عمر هو القضاء. =
(1/176)
ردعٌ لما قبلها، و”نقضي” واجب لا منفي.
وقال بعض الناس في قوله – صلى الله عليه وسلم -: “لا، تَرَآي نَارَاهما” (1): إن “لا” ردعٌ وما بعدها واجب، وهذا خطأ في الأمرين وتلبيس لا يجور حمل النصوص عليه. وكذلك {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)} [القيامة: 1] أيضًا، بل القولُ فيها أحد قولين: إما أن يقال: نفي للقسم وهو ضعيف، وإما أن يقال: أُقْحِمت أول القسم إيذانًا بنفي المقسم عليه وتوكيدًا لنفيه، كقول الصِّدِّيق -رضي الله عنه-: “لاهَا اللهِ، لا يَعْمِدُ إلى أَسَدٍ مِن أُسْدِ اللهِ” (2) الحديث.
ومما يدل على حرصهم على إيصال حرف النفي بما بعده؛ قطعًا لهذا التوهُّم: أنهم قلبوا لفظ الفعل الماضي بعد “لم” إلى لفظ المضارع؛ حِرْصًا على الاتصال (3)، وصرفًا للوهم عن ملاحظة الانفصال.
فإن قيل: وأي شيءٍ في لفظ (ق/39 أ) المضارع مما يؤكد هذا
__________
= وقوّى شيخ الإسلام في “الفتاوى”: (20/ 572)، ثبوت قول عمر، ورجَّحه على الأمر بالقضاء. والتأويل المذكور فيه بُعد، ولم أجد في مصادر الأثر اللفظ المذكور.
(1) أخرجه أبو داود رقم (2645)، والترمذي رقم (1604) وغيرهم من طريق أبي معاوية، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- مرفوعًا.
وأخرجه النسائي: (8/ 36) وغيره عن خالد الواسطي ومَعْمر وهُشَيم، عن إسماعيل، عن قيسٍ مرسلًا لم يذكر جريرًا.
وصحح الطريقَ المرسلةَ البخارىُّ -فيما نقله عنه الترمذي- وأبو حاتم -كما في “العلل” 1/ 315 – والترمذيُّ.
(2) أخرجه البخاري رقم (4321)، ومسلم رقم (1751)، من حديث أبي قتادة -رضي الله عنه- في قصة غزوة حُنين.
(3) (ق) زيادة: “وحرصًا على النهي” وليست في (ظ ود والنتائج).
(1/177)
المعني؟ أَوَ ليسا سواء هو والماضي؟.
قلنا: لا سواء، فاعلم أن الأفعالَ مضارعة للحروف، من حيثُ كانت عوامل في الأسماء كـ “هي”، ومن هناك استحقت البناء, وحقُّ العامل أن لا يكون مُهَيئًا لدخول عامل آخر عليه، قطعًا للتسلسل الباطل (1)، والفعل الماضي بهذه الصورة وهو على أصله من البناء ومضارعة الحروف العوامل في الأسماء، فليس يذهب الوهمُ عند النطقِ به، إلا إلى انقطاعه عما قبله، إلا بدليل يربطه، وقرينة تجمعه إليه، ولا يكون في موضع الحال ألبتَّةَ إلا مصاحبًا لقيد، ليجعلَ هذا الفعل فى موضع (2) الحال.
فإن قلت: فقد يكون في موضع الصفة من (3) النكرة نحو: “مررت برجل ذهبَ”؟.
قيل: افتقارُ النكرة إلى الوصف، وفَرط احتياجها إلى التخصيص تكملة لفائدة الخبر، هو الرابط بين الفعل وبينها، بخلاف الحال فإنها تجيء بعد استغناء الكلام وتمامه. وأما كونه خبرًا للمبتدأ؛ فلشدة احتياج المبتدأ إلى خبره، جاز ذلك، حتى إنك إذا أدخلت “إن” على المبتدأ بطل أن يكون الماضي في موضع الخبر، إذا (4) كان في خبرها اللام, لما في اللام من معنى الابتداء والاستئناف لما بعدها (5)،
__________
(1) (ظ ود) ت: “الباطن”! وفي “النتائج”: “التسلسل المستحيل عقلًا وأصلًا”. وهو بمعنى الباطل.
(2) (ق): “بمنزلة”.
(3) (ظ ود): “الصفتين”.
(4) (ظ ود): “إذ قد كان”، و”ق”: “إذ” والمثبت من “النتائج”.
(5) (ق): “قبلها”.
(1/178)
فاجتمع ذلك مع صيغة المضي، وتعاونا على منع الفعل الماضي من أن يكون خبرًا لما قبلها، وليس ذلك في المضارع.
وليس المضارع كالماضي؛ لأن مضارعته للاسم هيَّأته لدخول العوامل عليه، والتصرف بوجوه الإعراب كالاسم، وأخرجته عن شبه العوامل التي لها صدر الكلام، وصيَّرته كالأسماء المعمول فيها، فوقع موقع الحال والوصف وموقع خبر المبتدأ و”إنَّ” [و] لم يقطعه دخول “اللام” عن أن يكون خبرًا في باب “إنَّ”، كما قطع الماضي؛ من حيث كانت صيغة الماضي لها صدر الكلام، كما تقدم.
فإن قيل: فما وجه مضارعة الفعل المستقبل والحال؟.
قيل: (ظ/ 28 ب) دخول الزوائد عليه (1) ملحقة بالحروف الأصلية متضمنة لمعاني الأسماء كالمتكلم والمخاطب؛ فما تضمن معنى الاسم أعرب، كما بني من الأسماء ما تضمن معنى الحرف. ومع هذا فإن الأصل في دخول الزوائد شبه (2) الأسماء، وصلح فيها من الوجوه مالا يصلح في الماضي.
فائدة بديعة (3)
” لام” الأمر، و”لا” في النهي، وحروف المجازاة: داخلة على المستقبل، فحقُّا أن لا يقع بعدها لفظ الماضي، ثم قد (4) يوجد ذلك لحكمة، أما حرف النهي فلا يكون فيه ذلك؛ كيلا يلتبس بالنفي
__________
(1) من (ق).
(2) في “النتائج”: “أشبه”.
(3) “نتائج الفكر”: (ص/ 145).
(4) (ظ ود): “لم” وهو خطأ.
(1/179)
لعدم الجزم، ولكن إذا كانت “لا” في معنى الدعاء؛ جاز وقوع الفعل يعدها بلفظ الماضي، ثم قد يوجد بعد ذلك لوجوهٍ:
منها: أنهم أرادوا أن يجمعوا التفاؤل (ق/39 ب) مع الدعاء في لفظ وأحد، فجاءوا بلفظ الفعل الحاصل في مَعْرِض الدعاء تفاؤلًا بالإجابة، فقالوا: “لا خَيَّبك الله”.
وأيضًا: فالداعي قد يُضَمِّن دعاءَه القصد إلى إعلام السامع وإخبار المخاطب بأنه داعٍ، فجاءوا بلفظ الخبر، إشعارًا بما تضمنه من معني الإخبار، نحو: “أعزَّك اللهُ وأكرمك”، و”لا رحم فلانًا”، جمعتَ بين الدعاء والإخبار بأنك (1) داعٍ.
ويوضح ذلك أنك لا تقول ذلك في حال مناجاتك الله ودعائك لنفسك، لا تقول: “رحمتني ربِّ” و”رزقتني” و”غفرت لي”، كما: تقول للمخاطَب: “رحمكَ اللهُ ورزقكَ وغفرَ لك”، إذ لا أحد في حال مناجاتك يَقصد إخباره وإعلامه، وإنما أنت داعٍ وسائل محض.
فإن قيل: وكيف لم يخافوا اللبس كما خافوه في النهي؟.
قلنا: للدعاء هيئة ترفع الالتباس، وذِكْر الله مع الفعل ليس بمنزلة ذكر الناس، فتأَمَّله فإنه بديعٌ في النظر والقياس، فقد جاءت أشياء بلفظ الخبر وهي في معني الأمر والنهي. منها قول عمر -رضي الله عنه-: “صلي رجل في كذا وكذا من اللباس” (2)، وقولهم: “أنْجَزَ حُرٌّ مَا وَعَد” (3).
__________
(1) (ظ ود): “فإنك”.
(2) أخرجه البخاري رقم (365).
(3) يقال: أول من قالها: الحارثُ بن عَمْرو آكل المرار، ولها قصة.
انظر: “مجمع الأمثال”: (3/ 371).
(1/180)
وقولهم: “اتقَى اللهَ أمرؤٌ” (1). وهو كثيرًا, فجاء بلفظ الخبر الحاصل تحقيقًا لثبوته، وأنه مما ينبغي أن يكون واقعًا ولابد، فلا يطلب من المخاطب إيجاده، بل يخبر عنه (2) لتحقّقه خبرًا صِرْفًا، كالإخبار عن سائر الموجودات.
وفيه طريقة أخرى وهي أفقه معنًى من هذه، وهو: أَنَّ هذا إخبار محض عن وجوب ذلك واستقرار حسنه في العقل والشريعة والفطرة، وكأنهم يريدون بقولهمِ: “أنجزَ حُرٌّ ما وَعَد”، أي: ثبتَ ذلك في المروءة واستقرَّ في الفِطر. وقول عمر -رضي الله عنه- “صلَّى رجلٌ في إزاء ورداء … ” الحديث (3)، أي: هذا مما وجب في الديانة وظهر وتحقَّق من الشريعة، فالإشارة إلى هذه المعاني حَسَّنت صرفَه إلى صورة الخبر، وإن كان أمرًا، وهذا (4) لا يكاد يجيء الاسم بعده إلا نكرة، لعمومِ هذا الحكم وشيوع النكرة في جنسها، فلو جعلت مكان النكرة في هذه الأفعال أسماء مُعَرَّفة تمحَّضَ فيها معنى الخير وزال معنى الأمر، فقلت: “اتقى اللهَ زيدٌ” و”أنجزَ عَمْرو ما وعد”، فصار خبرًا لا أمرًا.
وهذا موضع المسألة المشهورة وهي: مجيء الخبر بمعنى الأمر في القرآن في نحو قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [البقرة: 233]، و {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] ونظائره، فمن سلك المسلكَ
__________
(1) قاله الحارث بن هشام المخزومي. انظر: “الاستيعاب -بهامش الإصابة”: (1/ 311).
(2) (ظ ود): “عنه به”.
(3) تقدم.
(4) (ظ ود): “زائدًا”.
(1/181)
الأول؛ جعلَه خبرًا بمعنى الأمر، ومن سلك المسلك الثاني؛ قال: بل هو خبر حقيقة غير مصروف عن جهة الخبرية، ولكن هو خبر عن حُكْم الله وشرعه ودينه ليس خبرًا عن الواقع، ليلزم ما ذكروه من الإشكال، وهو احتمال عدم وقوع مخبره، فإن هذا إنما (ق/ 40 أ)، يلزم من الخبر عن الواقع، وأما الخبر عن الحكم والشرع فهو حقٌّ (ظ/29 ب)، مطابق لخبره لا يقع خلافه أصلًا.
وضد هذا مجيء الأمر بمعنى الخبر نحو قوله: “إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنع مَا شِئْتَ” (1)، فإن هذا صورته صورة الأمر، ومعناه معنى الخبر المحض، أي: من كان لا يستحي فإنه يصنع ما يشتهي، ولكنه صرف عن جهة الخبرية إلى: صورة الأمر لفائدة بديعة، وهي: أن العبد له من حيائه آمر يأمره بالحَسَن وزاجر يزجره عن القبيح، ومن لم يكن له (2) من نفسه هذا الآمر لم تنفعه الأوامر، وهذا هو واعظ اللهِ في قلب العبد المؤمن الذي أشار إليه النبي (3) – صلى الله عليه وسلم -، ولا تنفع المواعظ الخارجة إن لم تصادف هذا الواعظ الباطن، فمن لم يكن له من نفسه
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (3483)، وغيره من حديث أبي مسعود البدري -رضي الله عنه-.
(2) من (ق).
(3) وذلك في حديث النواس بن سمعان -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال “ضرِب الله مثلًا صراطًا مستقيمًا … ” وفيه: “وداعٍ يدعو من جوف الصراط … ” وفَسَّر هذا الداعي بأنه: “واعظ اللهِ في قلبِ كلِّ مَسلم”.
أخرجه أحمد: (4/ 182 – 183)، والترمذي رقم (2859)، والنسائي في “الكبري”: (6/ 361) وغيرهم.
وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم على شرط مسلم في “المستدرك”: (1/ 73)، وابنُ كثير في “التفسير”: (1/ 9 – 30). وللحافظ ابن رجب رسالة مطبوعة في شرح هذا الحديث.
(1/182)
واعظ لم تنفعه المواعظ، فإذا فقد هذا الآمر الناهى بفقد الحياء، فهو مطيع لا محالةَ لداعى الغيِّ والشهوة طاعةً لا انفكاك له منها، فنُزِّل منزلة المأمور، وكأنه يقول: إذا لم تأتمر لأمر الحياء؛ فأنت مؤتمر لأمر الغي والسَّفَهِ، وأنت مطيعه لا محالة، وصانع ما شئت لا محالة، فأتى بصيغة الأمر تنبيهًا على هذا المعنى، ولو أنه عدل عنها إلى صيغة الخبر المحض، فقيل: “إذا لم تَسْتح صنعتَ ما شئتَ”، لم يفهم منها هذا المعنى اللطيف، فتأمَّله وإياك والوقوف مع كثافة الذهن وغلظ الطباع، فإنها تدعوك إلى إنكار هذه اللطائف وأمثالها فلا تأتمر لها.
وأما وقوع الفعل المستقبل بلفظ الأمر في باب الشرط، نحو “قم أُكرمك”، أي: إن تقم أكرمك، فقيل: حكمته أن صيغة الأمر تدل على الاستقبال، فعَدَلوا إليها إيثارًا للخِفَّة، وليست هذه العلة مطَّرِدة؛ فإن الأفعال المختصة بالمستقبل لا يحسن إقامة لفظ الأمر مقامَ أكثرِها، نحو: “سيقوم، وسوف يقوم، ولن يقوم، ولا تقوم (1)، وأريد أن يقوم”، ولكن أحسن مما ذكروه أن يقال في قوله: “قم أكرمك” فائدتان ومطلوبان (2)، أحدهما: جعل القيام سببًا للإكرام ومقتضيًا له اقتضاءَ الأسباب لمسبباتها، والثاني: كونه مطلوبًا (3) للآمر مرادًا له، وهذه الفائدة لا يدل عليها الفعل المستقبل، فعدلَ عنه إلى لفظ الأمر تحقيقًا له، وهذا واضح جدًّا.
وأَما وقوع المستقبل بعد حرف الجزاء بلفظ الماضي، مع أنَّ
__________
(1) من (ق).
(2) (ظ ود): “ومطلوبًا فى”.
(3) (ظ ود): “مطلق لها”.
(1/183)
الموضع للمستقبل؛ فقد عُلِّل بنْحو هذه العلة، وأن الأَداة تدل (1) على الاستقبال فعدلوا إلى الماضي؛ لأنه أخفُّ، وهي -أيضًا- غير مُطَّردة ولا مستقلَّة، ولو لم ينقض عليهم إلا بسائر الأدوات التي لا يكون الفعل بعدها إلا مستقبلًا، ومع ذلك لا يقع (2) بلفظ الماضي.
وأحسن مما ذكروه أن يقال: عَدَل عن المستقبل هنا إلي صيغة الماضي، إشارة إلى (ق/ 40 ب)، نكتة بديعة، وهي: تنزيل الشرط بالنسبة إلى الجزاء منزلةَ الفعل الماضي، فإن الشرط لا يكون إلَّا (3) سابقًا للجزاء متقدِّمًا عليه، فهو ماضٍ بالإضافة إليه.
ألا ترى أنك إذا قلت: “إن اتقيتَ اللهَ أدخلكَ جنته”، فلا تكون إلا سابقة على دخول الجنة، فهو ماض بالإضافة (4) إلى الجزاء، فأتوا للفظ الماضي تأكيدًا للجزاء وتحقيقًا؛ لأن الثاني لا يقع إلا بعد تحقق الأول ودخوله في الوجود، وأنه لا يُكتفى فيه بمجرد العزم وتوطين النفس عليه الذي يكون (5) في المستقيل، بل لا سبيلَ إلى نيلِ الجزاء إلا بتقدُّم الشوط عليه وسَبْقِه له، فأتى بالماضي لهذه النكتة البديعة مع أَمْنهم اللبسَ بتحصين أداة الشرط لمعنى الاستقبال فيهما.
يبقى أن يُقَال: فهذا تقرير حَسَن في فعل (6) الشرط، فما الذي حَسَّن وقوعَ الجزاء المستقبل من كلِّ وجهٍ بلفظ الماضي إذا قلت:
__________
(1) (ظ ود): “وأن الإرادة … ” و (ظ ود): “ولا تدل”.
(2) بعده في (ق): “إلا”.
(3) من (ق).
(4) (ق): “فهي ماضٍ بالنسبة”.
(5) من (ق).
(6) (ق): “معنى”!.
(1/184)
“إن قمتَ قمتُ”؟.
قيل: هذا سؤالٌ حسن (ظ/29 ب)، وجوابه: أنهم لما أبرموا (1) تلك الفائدة في فعل الشرط؛ قصدوا معها تحسين اللفظ، ومشاكلة أوله لآخره وازدواجِه واعتدال أجزائه، فأتوا بالجزاء ماضيًا لهذه الحكمة، فإن لفظتي الشَّرط والجزاء كالأخوين الشقيقين، وأنت تراهم يغيرون اللفظ عن جهته وما يستحقه لأجل المعادلة والمشاكلة، فيقولون: “أتيته بالغَدَايا والعَشَايا”؛ و”مأزورات غير مأجورات” (2)، ونظائره، ألا ترى كيف حَسُن: “إن تَزُرْني أَزُرْك”، و”إن زُرْتني زُرْتُك”، وقَبُحَ: “إن تَزُرْني زُرْتُك”، وتوسط: “إن (3) زُرتَني أَزُرْك”، فَحَسُنَ الأوَّلان للمشاكلة، وقَبُح الثالث للمنافرة، حتى منع منه (4) أكثرُ النحاة وأجازه جماعة، منهم: أبو عبد الله بن مالك وغيره, وهو الصواب، لكثرة شواهده وصِحَّة قياسه على الصورة الواقعة، وادَّعى أنه أولى بالجواز منها، قال: لأن المستقبل في هذا الباب هو الأصل والماضي فرع عليه، فإذا أجزتم أن يكون الماضي أولًا والمستقبل بعده فجواز الإتيان بالمستقبل الذي هو الأصل أولى والماضي بعده أَوْلى.
والتقرير الذي قدمناه من كون الشرط سابقًا على الجزاء فهو ماض بالنسبة إليه يدل على ترجيح قولهم: “وإن زرتني أَزُرْك”، أولى
__________
(1) (ق): “أعربوا”.
(2) جاء في حديث أخرجه ابن ماجه رقم (1578)، والبيهقي في “الكبرى”: (4/ 77)، وغيرهم من حديث علي -رضي الله عنه- في نساء تبعن جنازة، وفي سنده ضعف، وانظر “مصباح الزجاجة”: (1/ 180)، و”كشف الخفاء”: (1/ 117).
(3) سقطت من (ظ ود).
(4) سقطت من (ق).
(1/185)
بالجواز من: “إن تَزُرْني زُرْتُك”، والتقرير الذي قرره من كون (1) المستقبل هو الأصل: في هذا الباب والماضي دخيل عليه، فإذا قُدِّم الأصل كان أولى بالجوار يرجّح ما ذكره، فالترجيحان حق، ولا فرق بين الصورتين وكلاهما جائز، هذا هو الإنصاف في المسألة، والله أعلم.
ولكن هنا دقيقة تشير إلى ترجيح قول الجماعة، وهي: أن الفعل الواقع بعد حرف الشرط تارة يكون القصد إليه والاعتماد عليه، فيكون هو مطلوب المعلق، وجعل الجزاء باعثًا ووسيلة إلى تحصيله، وفي هذا الموضع يتأكد أو يتعين الإتيان فيه (ق/ 41 أ) بلفظ المضارع الدال على أن المقصود منه أن يأتي به فيوقعه، وظهور القصد المعنوي إليه أوجَبَ تأثير العمل اللفظي فيه، ليطابق المعنى اللفظ، فيجتمع التأثيران (2)؛ اللفظي والمعنوي. والذي يدلُّ على هذا: أنهم قلبوا لفظ الفعل الماضي إلى المستقبل في الشرط لهذا المعنى، حتى يظهر تأثير الشرط فيه واقتضاؤه له.
وإذا كان الكلام معتمدًا على الجزاء والقصد إليه، والشرط جُعِل تابعًا ووسيلة إليه؛ كان الإتيان فيه بلفظ الماضي حسًنا أو أحسن من المستقبل، فزِنْ بهده القاعدة ما يَرِدُ عليك من هذا الباب.
فمنه: قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] فانظر كيف جعل فعل الشرط ماضيًا والجزاء مستقبلًا؛ لأن القصد كان إلى دخولهم المسجد الحرام، وعنايتهم كلها مصروفة إليه (3)،
__________
(1) (ظ): “جوّز” و (د): “جواز”!.
(2) (ق): “التأثيرات فيه”.
(3) (ظ ود): “إليهم” وصوّبت فى هامش (د).
(1/186)
وهممهم معلقة به، دون وقوع الأفعال بمشيئة الله، فإنهم لم يكونوا يشكُّون في ذلك ولا يرتابون.
وأكد هذا المعنى تقديم الجزاء على الشرط، وهو إما نفس الجزاء على أصح القولين دليلًا -كما تقدم تقريره- وإما دال على الجزاء، وهو محذوف مقدَّر تأخيره، وعلى القولين فتقديم الجزاء أو تقديم ما يدل عليه اعتناء بأمره وتجريدًا للقصد إليه.
ويدل عليه -أيضًا-: تأكيده باللام المؤدية بالقسم المُضْمَر، كأنه قيل: “والله لتدخلن المسجد الحرام”, فهذا كله يدلك على أنه هو المقصود المعني به، ومثل هذا قوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] ونحوه: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86] ومثله: {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] وهذا أصل غير مُنْخَرِم، وفيه نكتة حسنة وهي: اعتماد الكلام في هذا النوع على القَسَم كما رأيت، فحَسُنَ الإتيان بلفظ الماضي, إذ القسم أولى به لتحققه، ولا يكون الإلغاء مُسْتشنَعًا فيه؛ لأنه مبني.
ولما كان الفعل بعد حرف الجزاء يقع (1) بلفظ الماضى لِمَا ذكرناه من الفائدة؛ حَسُن وقوع المستقبل المنفي بـ “لم” بعدها نحو: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا} [المائدة: 73] وهما جازمتانِ ولا يجتمع جازمان كما لا يجتمع في شيء من الكلام عاملان من جنس واحد، ولكن لما كان الفعل بعدها ماضيًا في المعنى، وكانت متصلةً به حتى كأن صيغتَه صيغةُ الماضي، لقوَّة الدلالة عليه بـ “لم” جار وقوعه بعد “إن” وكان
__________
(1) العبارة في (ق): “ولما كان الجزاء تبع … “.
(1/187)
العمل والجزم بحرف “لم”؛ لأنها أقرب إلى الفعل وألصق به، وكان المعنى في الاستقبال لحرف “إن”؛ لأنها أولى وأسبق، فكان اعتبارها في المعنى واعتبار “لم” في الجزم، ولا ينكر [إلغاء] (1) “إن” هنا؛ لأن ما بعدها في حكم صيغة الفعل الماضي، كما لا ينكر إلغاؤها قبله.
وقد أجازوا في “إن” النافية من وقوع المستقبل بعدها بلفظ الماضي ما أجازوا في “إن” التي (ق/ 41 ب) للشرط، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 41] ولو جعلت مكان “إن” هاهنا غيرها من حروف النفي؛ لم يحسن فيه مثل هذا؛ لأن الشرطية أصل للنافية, كأن (2) المجتهد في النفي إذا أراد توكيده يقول: “إن كان كذا وكذا فعَلَيَّ كذا، أو: فأنا كذا”، ثم كَثُر هذا في كلامهم حتى حُذِف الجواب وفُهِم المقصد فدخلت “إن” في باب النفي، والأصل ما ذكرناه، والله أعلم.
فائدة بديعة
في ذكر المفرد والجمع, وأسباب اختلاف العلامات الدالة على الجمع، واختصاص كلِّ محل بعلامته، ووقوع المفرد موقع الجمع (3) وعكسه، وأين يحسن مراعاة الأصل وأين يحسن العدول عنه؟ وهذا فصلٌ نافعٌ جدًّا يُطلعك على سرِّ هذه اللغة العظيمة القدر, المفضَّلة على سائر لغات الأمم.
__________
(1) في الأصول: “الإلغاء” والمثبت من “النتائج”.
(2) (ق): “فإن”.
(3) (ظ ود): “الجملة”.
(1/188)
اعلم أن الأصل هو المعنى المفرد، وأن يكون اللفظ الدال عليه مفردًا؛ لأَنَّ اللفظ قالب المعنى ولباسه يحتدي حذوه، والمناسبة الحقيقية ثابتة (1) بين اللفظ والمعنى طولًا وقصرًا، وخِفَّة وثقلًا، وكثرةً وقِلَّة، وحركة وسكونًا، وشدَّةً ولينًا، فإن كان المعنى مفردًا أفردوا لفظه، وإن كان مركبًا ركبوا اللفظ، وإن كان طويلًا طوَّلوه، كـ “العنطنط” و”العشنَّق” للطويل، فانظر إلى طول هذا اللفظ لطول معناه، وانظر إلى لفظ “بُحْتُر” وما فيه من الضم والاجتماع لما كان مسماه القصير المجتمع الخلق، وكذلك لفظة “الحديد” و”الحجر” و”الشدة” و”القوة” ونحوها تجد في ألفاظها ما يناسب مسمياتها، وكذلك لفظا “الحركة” و”السكون” مناسبتهما لمُسَمَّيَيْهِما معلومة بالحس، وكذلك لفظ “الدوران” و”النزوان” و”الغليان” وبابه في لفظها من تتابع الحركة ما يدل على تتابع حركة مسماها؛ وكذلك “الدجال” و”الجرَّاح” و”الضرَّاب” و”الأفَّاك” في تكرر الحرف المضاعَف منها ما يدل على تكرر المعنى. وكذلك “الغضبان” و”الظمآن” و”الحيران” وبابه، صِيْغ على هذا البناء الذي (2) يتسع النطق به ويمتلئ الفم بلفظه لامتلاء حامله من هذه المعاني، فكان الغضبان هو الممتلئ غضبًا، الذي قد أتسع غضبُه حتى ملأ قلبَه وجوارحَه، (ظ/ 30 ب) وكذلك بقيتها.
ولا يتسع المقام لبسط هذا فإنه يطول ويَدِق جدًّا حتى تَكِعّ (3) عنه أكثر الأفهام وتنبو عنه للطافته، فإنه ينشأ من جوهر الحرف تارةً،
__________
(1) في هامش (ظ): “معتبرة”.
(2) سقطت من (ق).
(3) أي: تضعف وتجبن، وانظر ص / 325 السطر التاسع.
(1/189)
ومن صنفته، ومن اقترانه بما يناسبه، ومن تكرُّره، ومن حركته وسكونه، ومن تقديمه وتأخيره، ومن إثباته وحذفه، ومن قلبه وإعلاله، إلى غير ذلك من الموازنة بين الحركات، وتعديل الحروف، وتوخي المشاكَلَة والمخالفة، والخفة والثقل، والفصل والوصل، وهذا باب يقوم من تتبعه سِفْرٌ ضَخْم، وعسى الله أن يساعد على إبرازه بحوله وقوَّته.
ورأيت لشيخنا أبي العباس ابن تيمية فيه فهمًا عجيبًا، كان إذا انبعث فيه (ق/42 أ) أتى بكلِّ غريبة، ولكن كان (1) حاله فيه كما كان كثيرًا يتمثَّل:
تأَلَّقَ البَرْقُ نَجْدِيًّا فقلتُ لَهُ … يَا أَيُّها البَرْقُ إنِّي عَنْكَ مَشْغُوْلُ (2)
ولنذكر من هذا الباب مسألة واحدة وهي: حال اللفظ في إفراده وتغييره عند زيادة معناه بالتثنية والجمع دون سائر تغيراته.
فنقول: لما كان المفرد هو الأصل، والتثنية والجمع تابعان له، جعل لهما في الاسم علامة تدل عليهما، وجعلت آخره قضاءً لحق الأصالة فيه والتبعية فيهما والفرعية، فالتزموا هذا في التثنية ولم ينخرم عليهم.
وأما الجمع فإنهم ذهبوا به كلَّ مذهب وصرفوه كل مصرف، فمرة جعلوه على حدِّ التثنية وهو قياس الباب، كالتثنية والنسب والتأنيث وغيرها, وتارة (3) اجتلبوا له علامةً في وسطه كالألف في “جَعَافر”، والياء في “عَبِيد”، والواو في “فُلُوس”؛ وتارة جعلوا اختصار بعض حروف وإسقاطها علامة عليه، نحو: “عنكبوت وعَنَاكِب”,
__________
(1) ليست في (ق).
(2) لم أعرف قائله، وقد ذكره المؤلف أيضًا في “مدارج السالكين”: (2/ 805).
(3) من (ظ).
(1/190)
فإنه لما ثَقُل عليهم المفرد، وطالت حروفه، وازداد ثقلًا بالجمع خفَّفوه بحذف (1) بعض حروفه، لئلا يجمعوا بين ثقلين، ولا يناقض هذا ما أصَّلوه من طول اللفظ لطول المعنى وقصره لقصره، فإن هذا بابٌ آخر من المعادلة والموازنة عارَضَ ذلك الأَصل، ومنع من طَرْدِه.
ومنه (2) جمعهم “فعيل وفعول وفَعَال” على “فُعُل” كـ “رَغِيْف وعَمُوْد وقَذَال” على “رُغُف وعُمُد وقُذُل” لثقل المفرد بالمدة؛ فإن كان في واحِدِه تاء التأنيث فإنها تحذف في الجمع، فكرهوا أن يحذفوا المَدَّة فيجمعوا عليه بين نَقْصَين (3) فقلبوا المَدَّةَ ولم يحذفوها، كـ “رسالة ورسائل” و”صحيفة وصحائف”، فجبروا النقص بالفرق لا أنهم تناقضوا.
وتارة يقتصرون على تغيير (4) بعض حركاته فيجعلونها علامة لجمعه، كـ “فَلَك وفُلْك” و”عَبْد وعُبُد”, وتارة يجتلبون له لفظًا مستقلًّا من غير لفظ واحِدِه، كـ “خيل” و”أنام” و”قوم” و”رهط” ونحوه؛ وتارة يجعلون العلامة في التقدير والنية لا في اللفظ، كـ “فلك” للواحد والجمع، فإن ضمة الواحد في النية كضمة “قفل” (5) وضمة الجمع كضمة “رسل”؛ وكذلك: “هِجَان ودِلاصى وأسْمال وأعْشَار” مع أن غالب هذا الباب إنما يأتي في الصفات (6) لحصول التمييز والعلامة بموصوفاتها، فلا يقع ليس، ولا يكاد يجيء في غير
__________
(1) (ق): “فحذفوا”.
(2) (ظ ود): “ومنهم”.
(3) (ظ ود): “نقيضين”.
(4) ليست في (ق).
(5) (ق ود): “فعل”.
(6) (ظ ود): “في الباب”.
(1/191)
الصفات إلا نادرًا جدًّا, ومع هذا فلابد أن يكون لمفرده (1) لفظ يُغَاير جمعه، ويكون فيه لغتان؛ لأنهم علموا أنه يثقل عليهم، أما في الجر والنصب؛ فلتوالي الكَسَرات، وأما في الرفع؛ فَلِثِقَل (2) الخروج من الكسرة إلى الضمَّة، فعدلوا إلى جمع تكسيره، ولا يرد هذا عليهم في “راحمين وراحمون” لفصل الألف الساكنة ومنعها من توالي الحركات، فهو كـ “مسلمين وقائمين”، وكذلك عَدَلوا عن جمع فعل المضاعف (ق/ 42 ب) من صفات العقلاء كـ “فظّ” و”برّ”، فلم يجمعوه جمع سلامة, ويقولوا: “برون” و”فظون”؛ لئلا يشتبه بـ “كلُّوب” و”سفُود”؛ لأنه بزِنَتهْ فكسروه وقالوا: “أبرار”، فلما جاؤوا إلى غير المضاعف كـ “صَعْب” جمعوه جمع تصحيح ولم يخافوا (ظ/ 31 أ) التباسًا؛ إذ ليس في الكلام “فَعْلول”، و”صعْفوق” نادِر. فتأمل هذا التفريق وهذا التصور الدال على أن أذهانهم قد فاقت أذهانَ الأمم، كما فاقت لغتهم لغاتِهِم.
وتأمل كيف لم يجمعوا “شاعرًا” جَمْع سلامة مع استيفائه شروطه بل كسروه، فقالوا: “شعراء” إيذانًا منهم بأن واحِدَه على زِنَةِ “فَعِيل”، فجمعوه جَمْعَه كـ “رحيم ورُحَماء” لما كان مقصودهم المبالغة في وصفهم بالشعور (3).
ثم انظر كيف لم ينطقوا بهذا الوجه (4) المقدَّر كراهية منهم لمجيئه بلفظ “شعير” وهو الحبُّ المعروف، فأتوا “بفاعل” (5)، ولما لم يكن
__________
(1) (ق): “لمفرده جمع”.
(2) (ظ ود): “فينتقل”!
(3) (ق): “بالشعر”.
(4) (ق): “الواحد”.
(5) (ق): “بلفظ فاعل”.
(1/192)
هذا المانع في الجمع قالوا: “شعراء”.
فأما التثنية (1) فإنهم ألزموها حالًا واحدًا، فالتزموا فيها لفظ المفرد، ثم زادوا عليه علامة التثنية، وقد قدَّمنا أن ألف التثنية في الأسماء أصلها ألف الاثنين في “فعلا”، وذكرنا الدليل على ذلك، فجاءت الألف في التثنية في الأسماء كما كانت في “فعلا” علامة الاثنين، وكذلك الواو في جمع المذكر السالم علامة الجمع نظير “واو” فعلوا، وتقدم أنك لا تجد “الواو” علامةً للرفع في جميع الأسماء إلا في الأسماء المشتقة من الأفعال، أو ما هو في حكمها. ولما كانت الألف علامة الاثنين في ضمير مَنْ يعقل وغيره كانت علامة التثنية في العاقل وغيره، وكانت الألف أولى بضمير الاثنين لقرب التثنية من الواحد، وأرادوا أن لا يغيروا الفعل عن البناء على الفتح في الاثنين، كما كان ذلك في الواحد؛ للقرب المذكور.
ولما كانت “الواو” ضمير العاقلين خاصة في “فعلوا” خصوها بجمع العقلاء في نحو: “هم مسلمون” و”قائمون” (2)، ولما كان في الواو من الضم والجمع ما ليس في غيرها؛ خصُّوها بالدَّلالة على الجمع دون الألف.
وسرُّ المسألة؛ أَنك إذا جمعت وكان القصد إلى تعيين آحاد المجموع، وأنت معتمد الإخبار عن كل واحد منهم، سلم لفظ باء الواحد في الجمع كما سلم معناه في القصد إليه، فقلت: “فعلوا” و”هم فاعلون”، وأكثر ما يكون هذا فيمن يعقل؛ لأن جميع ما لا
__________
(1) انظر: “نتائج الفِكْر”: (ص/ 152 – فما بعدها) بتصرف، وما تقدم (ص/ 145).
(2) (ق) “ونائمون”.
(1/193)
يعقل من الأجناس يجري مجرى الأسماء المؤنثة المفردة، كالثُّلَّة والأُمَّة و [الجُمَّة] (1)، فلذلك تقول: “الثياب بيعت”، ولا تقول: “بيعوا”. و”الجمال ذهبت”، ولا تقول: “ذهبوا” (2)؛ لأنك تشير إلى الجملة من غير تعيين آحادها. هذا هو الغالب فيما لا يعقل إلا ما أُجْري منه (3) مجرى العاقل.
وجاءت جموع التكسير مُغيَّرًا (4) فيها بناء الواحد، جارية (ق/ 43 أ) في الإعراب مجراه حيث ضعفَ الاعتماد على كل واحد بعينه، وصار الخبر كأنه عن الجنس الكثير الجاري في لفظه مَجْرى الواحد؛ ولذلك جمعوا ما قلَّ عدده من المؤنَّث جمع السلامة، وإن كان مما لا (5) يعقل نحو: “الثمرات والسمرات”؛ إلا أنهم لم يجمعوا المذكر منه -وإن قل عدده- إلا جمع تكسير؛ لأنهم في المؤنث لم يزيدوا غير “ألف” فرقًا بينه وبين الواحد، وأما “التاء” فقد كانت موجودة (6) في الواحدة وفي وصفها، وإن كثر جَمَعُوه جمع تكسير كالمذكر فإذا كانوا في الجمع القليل يسلمون لفظ الواحد من أجل الاعتماد في إسناد الخبر على أفراده، فما ظنك به في الاثنين إذا ساغ لهم ذلك في الجمع الذي هو علي حدها، لقربه منها، فلهذا لا تجد التثنية في
__________
(1) في الأصول: “الجملة” والتصويب من “النتائج”، وقد تقدم نحو هذا التحريف وتصويبه (ص/ 144). والجمة: الجماعة.
(2) العبارة في (ظ ود): “الثياب بيعت وذهبت” ولا تقول: “بيعوا وذهبوا” “.
(3) من (ق).
(4) (ظ ود): “معتبرًا”.
(5) (ظ ود): “مالا”.
(6) ليست فى (ق).
(1/194)
العاقل وغيره إلا على حدٍّ واحد، وكذلك ضمير الاثنين في الفعل.
وإذا عُلِم هذا؛ فحق العلامة في تثنية الأسماء أن تكون على حدها في علامة الإضمار، وأن تكون ألفًا في كلِّ الأحوال.
وكذلك فعلت طوائفُ من العرب، وهم: خَثْعم وطي وبنو الحارث بن كعب، وعليه جاء في قول مُحَققي النحاة: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: 63]، وأما أكثر العرب فإنهم كرهوا أن يجعلوه كالاسم المبني والمقصور من حيث كان الإعراب قد ثبت في الواحد، والتثنية طارئة على الإفراد، وكرهوا زوال الألف؛ لاستحقاق التثنية لها، فتمسَّكوا بالأمرين، فجعلوا “الياء” علامة الجر وشركوا النصب معه لما علمت من تعليل النحاة، فكان الرفع أجدر بالألف، لا سيما وهي في (ظ/ 31 ب) الأصل علامة إضمار الفاعل، وهي في تثنية الأسماء علامة رفع الفاعل أو ما ضارعه وقام مقامه.
وأما “الواو” فقد فهمت اختصاصها بالجمع واستحقاق الرفع لها مما (1) قررناه في “الألف”؛ ولكنهم حولوها إلى “الياء” في الجر؛ لما ذكرنا في ألف التثنية. ومتى انقلبت الواو ياء، أو [الياء واوًا]، فكأنها هي (2)؛ إذ لم يفارقها المد واللين، فكأنهما حرف واحد، والانقلاب فيهما تغير (3) حال لا تبديل، ولهذا تجدهم يعبرون عن هذا المعنى بالقلب لا بالإبدال، ويقولون في “تاء” تُراث وتُخمة وتُجاه: إنها بدل من “الواو”.
__________
(1) (ظ ود): “ما”.
(2) العبارة في (ظ ود): “ومتى انقلبت الواو ياء فكأنها إذ … “، وتكررت في (ق): “أو الواو ياء” والصواب ما أثبت.
(3) (ظ): “تعتبر”، و “النتائج”: “تغيير”.
(1/195)
فإن قيل: فإذا كان بعض العرب قد جعل التثنية بالألف في كل حال، فهلَّا جعلوا الجمع بالواو فى جميع أحواله؟.
قِل: إِن الألف منفردة فى كثير من أحكامها عن الواو والياء، والياءُ (1) والواو أختان، فكأنهم لما قلبوها ياءً في النصب لم يبعدوا عن الواو، بخلاف الألف فإنهم إذا قلبوها ياءً بَعُدوا عنها.
فإن قيل: فما بال “سنين” و”مئين” وبابها جُمع على حدِّ التثنية، وليس من صفات العاقلين ولا أسمائهم؟.
قيل: إِن هذا (ق/: 43 ب) الجمع لا يوجد إلا فيما كَمُلتْ فيه أربعة شروط.
أحدها: أن يكون: معتل اللام.
الثاني: أن لا يكون المحذوف منه غير حرف مد ولين.
الثالث: أن يكون مؤنثًا.
الرابع: أن لا يكون له مذكر.
فخرج من هذا الضابط: “شَفَة” لأن محذوفها “هاء”، وكذا “شاة وعضة”، وخرج منه: “أَمة”؛ لأن لها مذكرًا (2) -وإن لم يكن على لفظها- فقالوا: في جمعها: “إِمْوَان” ولم يجمعوه جمع سِنِين؛ كيلا يظن أنه جمع المذكر إذ كان له مذكر، فجمعوا هذا الباب جمع سلامة من أجل أنه مؤنث، والمؤنث يجمع جمع سلامة وإن لم يكن على هذا اللفظ، فلما حصل فيه جمع السلامة بالقياس الصحيح
__________
(1) ليست في (ق).
(2) في جميع الأصول: “مذكر”.
(1/196)
-وكانت عادَتُهم ردَّ اللام المحذوفة في (1) الجموع، وكانت اللام المحذوفة واوًا أو ياءً- أُظْهِرَ في الجمع السالم لها ياء أو واو لم يكن (2) في الواحد، وساق القياس إليها سَوْقًا لطيفًا حتى حَصَلت له بعد أخذها منه، فما أشبه حال هذا الاسم بحال من أخذ اللهُ منه شيئًا وعوَّضه خيرًا منه، وأين الواو والياء الدالة على جمع أُولي العلم من ياءٍ أو واوٍ لا تدل على معنًى ألبتةَ؟!.
فتأمل هذا النحو ما ألطفه وأغربه وأعزه في الكتب والألسنة!!.
ثم انظر كيف كسروا السين من “سِنين”؛ لئلا يلتبس بما هو على وزن “فعول” من أوزان المبالغة، فلو قالوا: “سَنون” -بفتح السين- لالتبس بفعول من سَنَّ يسنُّ، فكان كسر السين تحقيقًا للجمع؛ إذ ليس في الكلام اسم مفرد على وزن “فِعِيْل” و”فِعُول” (3) -بكسر الفاء-.
فإن قيل: فما أنت صانع في الأرَضين؟.
قيل: ليست الأرض في الأصل كأسماء الأجناس، مثل: “ماء” و”حجر” و”تمر”، ولكنها لفظة جارية مجرى المصدر، فهي بمنزلة السُّفل والتَّحت، وبمنزلة ما يقابلها كالفوق والعُلو، ولكنها وُصِفَ بها هذا المكان المحسوس فجرت مجري (4): “امرأة زَوْر وضيف”. ويدل على هذا قول الراجز:
__________
(1) (ق): “على”.
(2) العبارة في (ق): “أو واوًا أو لم يكن”، وفي (د): ” … ولم … “.
(3) (ق): “فعيل”.
(4) من قوله: “مجري” إلى هنا مكرر في (ظ).
(1/197)
* ولم يُقَلِّب أَرْضَهَا البَيْطَارُ (1) *
يصف قوائم الفرس، فأفرد اللفظ وإن كان يريد ما هو جمع في المعنى.
فإذا كانت بهذه (2) المنزلة؛ فلا معنى لجمعها، كما لا يجمع “الفوق والتحت والعُلو والسُّفل”، فإن قَصَد المخبر إلى جزء من هذه الأرض الموطوءة وعَيَّن قطعة محدودة منها، خرجت عن معنى “السُّفل” الذي هو في مقابلة “العُلو” حيث عين جزءًا محسوسًا منها، فجاز على هذا أن يُثَنى إذا ضممت إليه جزءًا آخر، فتقول: “رأيت أَرَضين”، ولا تقول للواحدة: “أَرْضَة”، كما تقول في واحد التَّمْر: “تَمْرة”؛ لأن الأرض ليسَ باسم جنسٍ كما تقدم.
ولا يقال أيضًا: (ق/ 44 أ) أرضة من حيث قلت: ضَرْبة وخَرْجة، لأنها في (3) الأصل تجري مجرى السُّفل والتحت، ولا يتصور في العقول أن يقال: سفلة وتحتة، كما يتصور ذلك في بعض المصادر، فلما لم يمكنهم أن يجمعوا: أرضًا على أرضات، من حيث رفضوا: أَرْضَة، ولا أمكنهم أن يقولوا: آرُض، ولا: آراض من حيث لم يكن مثل أسماء الأجناس، كـ “صخر وكلب”، وكانوا قد عينوا جزءًا (4) محدودًا، فقالوا فيه: أرض، وفي تثنيته: أرضان، لم يُنكروا إذا أضافوا
__________
(1) ذكره ابن السكيت في “إصلاح المنطق”: (ص / 73) لحُمَيد الأرقط، وابن قتيبة في “أدب الكاتب”: (ص/ 51) بلا نسبة وانظر حاشية المحقق. وتمامه: * ولا لِحَبْلَيْه بِها حَبَارُ *.
(2) (ق): “عنده”.
(3) (ق): “هي”.
(4) (ظ ود): “مجزوءًا”.
(1/198)
إلى الجزءين ثالثًا (1) (ظ/32 أ) ورابعًا أن يجمعوه على حدِّ التثنية، فقد تقدم السر في الجمع الذي على حدِّ التثنية، وأنه مقصود إلى آحاده على التعيين، فإن أرادوا الكثرة والجمع الذي لا يتعين آحاده؛ كأسماء الأجناس لم يحتاجوا إلى الجمع، فإن لفظ: “أرض” يأتي على ذلك كلِّه؛ لأنها كلها بالإضافة إلى “السماء” تحت وسفل، فعبر عنها بهذا اللفظ الجاري مجرى المصدر لفظًا ومعنى، وكأنه وصف لذاتها، لا عبارة عن عينها وحقيقتها؛ إذ يصلح أن يُعَبر به عن كلِّ ماله فوق، وهو بالإضافة إلى ما يقابله سُفل كما تقدم، فسماءُ كلِّ شيءٍ أعلاه، وأرضه أسفله، وتأمل كيف جاءت مجموعةً في قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “طُوِّقَهُ مِنْ سَبعْ أَرَضِيْن” (2) لما اعتمد الكلام على ذات الأرضين وأنفسها على التفصيل والتعيين لآحادها، دون الوصف لها بتحت أو سُفل في مقابلة: “فوق وعُلوّ” فتأمله.
فإن قلت: فلمَ جمعوا السماء فقالوا: سموات، وهلَّا راعَوا فيها ما راعَوا في الأرض فإنها مقابلتها (3)؟ فما الفرق بينهما؟.
قيل: بينهما فرقان؛ فرقٌ لفظي وفرقٌ معنوي.
أما اللفظي: فإن “الأرض” على وزن ألفاظ المصادر الثلاثية (4)، وهو فَعْل كضَرْب، وأما “السماء” وإن كان نظيرُها في المصادر العلاء والجلاء فهي بأبنية الأسماء أَشْبه، وإنما الذي يماثل “الأرضَ” في
__________
(1) (ظ): “بالياء”!.
(2) أخرجه البخاري رقم (2452)، ومسلم رقم (1610) من حديث سعيد بن زيد -رضي الله عنه-.
(3) (ظ): “مقابلة”.
(4) (ظ ود): “الثلاثة”.
(1/199)
معناها ووزنها السُّفل والتَّحْت، وهما لا يثنَّيان ولا يُجْمَعان، وفي مقابلتهما: الفَوْق والعلُو، وهما كذلك لا يجمعان، على أنه قد قيل: إن السموات ليس جمع سماء، وإنما هي جمع سماوة، وسماوةُ كلِّ شيء أعلاه، وأما جمع سماء فقياسُه: أَسْمِيَة، كأكْسِيَة وأَغْطِيَة، أو [سَماءَات في المسلَّم] (1).
وليس هذا بشيء, فإن السماوة (2) هي: أعلى الشيء خاصة، ليست باسمٍ لشيءٍ عالٍ، وإنما هي اسم لجزئه العالي، وأما السماء: فاسم لهذا الشقف الرفيع بجملته، فالسموات جمعه لا جمع أجزاءٍ عالية منه، على أنه كله (3) عال.
وأحسن من هذا الفرق أن يُقال: لو جمعوا أرضًا على قياس جموع التكسير، لقالوا: “آرُض” كـ “أَفْلُس”، أو آرَاصْ كأجْمال، أو أُرُوْض كفُلُوس، فاستثقلوا (ق /44 ب) هذا اللفظ؛ إذ ليس فيه من الفصاحة (4) والحُسْن والعذوبة ما في لفظ السماوات، وأنت تجد السمع يَنْبو عنه بقدر ما يستحسن لفظ السموات، ولفظ السموات يَلِج في السمع بغير استئذان لنصاعته وعذوبته. ولفظ الأراضي لا يأذن له السمع إلا على كره، ولهدا تفادوا من جمعه إذا أرادوه بثلاثةِ ألفاظ تدلُّ على التعدد كما قال تعالى: {خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] كلُّ هذا تفاديًا من أن يُقَال: أَرَاضٍ وآرُض.
وأما الفرق المعنوي: فإن الكلام متى اعتمد به على السماء
__________
(1) (ظ ود): “سماوات” والمثبتَ من “النتائج”.
(2) (ق): “السماء”.
(3) (ظ ود): “كل”.
(4) (ق): “الصناعة”.
(1/200)
المحسوسة إلى هي السقف، وقصد به إلى ذاتها دون معنى الوصف، صحَّ جمعُها جمع السلامة؛ لأنَّ العدد قليل، وجمع السلامة بالقليل أولى؛ لما تقدَّم من قربه من التثنية القريبة من الواحد، ومتى اعتمد الكلام على الوصف ومعنى العلاء والرفعة، جرى اللفظ مجرى المصدر الموصوف به في قولك: “قوم عَدْل (1) وزَوْر”.
وأما الأرض فأكثر ما تجيء مقصودًا بها معنى التحت والسفل، دون أن يقصد ذواتها وأعدادها، وحيث جاءت مقصودًا بها الذات والعدد أتي بلفظ يدل على التعدد (2)، كقوله تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12].
وفرق ثانٍ: وهو أن الأرض لا نسبة لها إلى السموات وسعتها, بل هي بالنسبة إليها كحصاة في صحراء، فهي وإن تعددت وتكررت (3) فهي بالنسبة إلى السماء كالواحد القليل، فاختير لها اسم الجنس.
وفرق ثالث: أن الأرض هي دار الدنيا إلى التي بالإضافة إلى الآخرة، كما يُدخِل الإنسان إصبعه في اليمِّ، فما تعلق بها هو مثال الدنيا من الآخرة، والله -سبحانه- لم يذكر الدنيا إلا مقللًا لها محقِّرًا لشأنها.
وأما السماوات فليست من الدنيا، هذا على أحد القولين في الدنيا فإنها اسم للمكان، فإن السموات مقر ملائكة الرب تعالى، ومحل دار جزائه، ومهبط ملائكته ووحيه، فإذا اعتمد التعبير عنها، عبر عنها بلفظ الجمع؛ إذ المقصود ذواتها لا مجرد العلو والفوق،
__________
(1) (ظ ود): “عدول”.
(2) (ظ ود): “البعد”!.
(3) (ظ ود): “وتكبرت”.
(1/201)
وأما إذا أُريد الوصف الشامل للسموات (ظ/32 ب)، وهو معنى العلو والفوق أُفْرِد ذلك بحسب ما يتصل به من الكلام والسياق، فتأَمل قولَه تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك: 16، 17] كيف أُفْرِدت هنا لما كان المراد الوصف الشامل والفوق المطلق، ولم يُرِد سماءً معينةً مخصوصة، ولما لم تفهم الجهميةُ هذا المعنى أخذوا في تحريف الآية عن مواضعنا.
وكذا قوله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [يونس: 61] بخلاف قوله في سبأ: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [سبأ: 3] فإن قبلها ذكر سبحانه سعة ملكه وأن له ما في السموات وما في الأرض، فاقتضى السياق أن يذكر معه علمه وتعلّقه بمعلومات مُلكه (1) ومحله، وهو السموات كلها والأرض (2)، ولما لم يكن في سورة يونس ما يقتضي ذلك أفردها إِرادةً للجنس.
وتأمل كيف أتت مجموعةً في قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام: 3] فإنها أتت مجموعةً هنا لحكمةٍ ظاهرة، وهي: تعلُّق الظرف بما في اسمه تبارك وتعالى من معنى إلاهيته، فالمعنى: وهو: الإله وهو المعبود في كل واحدةٍ واحدةٍ من السموات، ففي كل واحدة من هذا الجنس هو المألوه المعبود، فَذِكْر الجمع هنا أبلغ وأحسن من الاقتصار على لفظ الجنس الواحد.
ولما عزب هذا المعنى عن فهم بعض المتسنِّنَة فسَّر الآيةَ بما
__________
(1) من قوله: “وأن له … “، إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(2) ليست في (ق).
(1/202)
لا يليق بها (1)، فقال: الوَقْف التام على {السَّمَاوَتِ}، ثم يبتدئ بقوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ}، وغلِطَ في فَهْم الآية، وإنما معناها ما أخبرتُكَ به، وهو قول محقِّقي أهل التفسير (2).
وتأمل كيف جاءت مفردة في قوله: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)} [الذاريات: 23] إرادة لهذين الجنسين، أي: رب كل ما علا وكل ما سَفل، فلما كان المراد عموم ربوبيته أتى بالاسم العام (3) الشامل لكلِّ ما يسمى سماءً، وكل ما يسمى أرضًا، وهو أمر حقيقيٌّ لا يتبدَّل ولا يتغير، وإن تبدلت عين (4) السماء والأرض، فانظر كيف جاءت مجموعةً في قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 1] في جميع السور، لمَّا كان المراد الإخبار عن تسبيح سُكَّانها على كثرتهم وتباين مراتبهم لم (5) يكن بُدٌّ من جمع محلهم.
ونظير هذا جمعها في قوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)} [الأنبياء: 19] وكذلك جاءت في قوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ} [الإسراء: 44]، مجموعةً إخبارًا بأنها تسبِّح له بذواتها وأنفُسِها على اختلاف عددها، وأكَّد هذا المعنى بوصفها بالعدد، ولم يقتصر على السماوات فقط، بل قال: السبع.
__________
(1) هذا اختيار ابن جرير في تفسيره (5/ 148)، وانظر ابن كثير (3/ 1284).
(2) انظر: “الجامع لأحكام القرآن”: (6/ 251)، و”مجموع الفتاوى”: (2/ 404)، و”أضواء البيان”: (2/ 162 – 163).
(3) ليست في (ظ ود).
(4) (ق): “بين”.
(5) (ق): “إن لم”.
(1/203)
وانظر كيف جاءت مفردة في قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] فالرزق: المطر، وما وعدنا به: الجنة، وكلاهما في هذه الجهة، لا أنهما في كل واحدة واحدة من السموات، فكان لفظ الإفراد أَلْيَق بها.
ثم تأمل كيف جاءت مجموعة في قوله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65] لمَّا كان المكان المراد نفي علم الغيب عن كلِّ من (1) هو في واحدة واحدة من السموات، أتى بها مجموعة.
وتأمل كيف لم يجيء في سياق الإخبار بنزول الماء منها (ق/ 45 ب) إلا مفردة حيث وقعت، لما لم يكن المراد نزوله من ذات السماء بنفسها بل المراد الوصف.
وهذا باب قد فتحه اللهُ لي ولك؛ فَلِجْهُ، وانظر إلى أسرار الكتاب وعجائبه وموارد ألفاظه: جمعًا وإفرادا، وتقديمًا وتأخيرًا، إلى غير ذلك من أسراره، فلله الحمد والمنة لا يحصي أحد من خلقه ثناءً عليه.
فإن قيل: فهل يظهر فرق بين قوله تعالى في سورة يونس: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} [يونس: 31] وبين قوله في سورة (2) سبأ: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} [سبأ: 24].
قيل: هذا من أدق هذه المواضع، وأغمضها (3)، وألطفها فرقًا،
__________
(1) (ق): “شيء”.
(2) من قوله: سورة يونس … ” إلى هنا ساقط من (د).
(3) (ق): “وأغمضها سورة”.
(1/204)
فتدبر السياق تجده مقتضيًا (1) لما وقع، فإن الآيات التي في سورة يونس سيقت مساقَ الاحتجاج عليهم بما أقرُّوا به (ظ/133 أ) ولم يمكنهم إنكار (2)؛ من كون الرَّب -تعالى- هو رازقهم ومالك أسماعهم وأبصارهم، ومدبِّر أُمورهم وغيرها، ومخرج الحيِّ من الميت ومخرج الميتِ من الحي، فلما كانوا مقرين بهذا كلِّه حَسُن الاحتجاج به عليهم: إِنَّ فاعل هذا (3) هو الله الذي لا إله غيره، فكيف يعبدون معه غيره ويجعلون له (4) شركاء لا يملكون شيئًا من هذا، ولا يستطيعون فِعْلَ شيءٍ منه؟! ولهذا قال -بعد أن ذكر ذلك من شأنه تعالى-: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ}، أي: لابدَّ أنهم يقرون بذلك ولا يجحدونه، فلابدَّ أن يكون المذكور مما يقرون به.
والمخاطَبُون المحتجُّ عليهم بهذه الآية إنما كانوا مقرين بنزول الرزق من قِبَل هذه السماء التي يشاهدونها بالحس، ولم يكونوا مقرين ولا عالمين بنزول الرزق من (5) سماءٍ إلى سماءٍ حتى تنتهي إليهم، ولم يَصِل علمهم إلى هذا؛ فأُفْرِدَت لفظ السماء هنا، فإنهم لا يمكنهم إنكار مجيء الرزقِ منها، لا سيما والرزق هاهنا إن كان هو المطر؛ فمجيئه من السماء الحي هي السحاب، فإنه يُسَمَّى سماءً لعلوِّه.
وقد أخبر سبحانه أنه يبسط السحابَ في السحاءِ بقوله: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} [الروم: 48]، والسحاب
__________
(1) (ظ ود): “نقيضًا”.
(2) سقطت من (ق).
(3) (د): “ذلك”.
(4) سقطت من (ظ ود).
(5) من قوله: “قبل هذه … ” إلى هنا ساقط من (د).
(1/205)
إنما هو مبسوط في جهة العلوِّ لا في نفس الفلك، وهذا معلوم بالحس فلا يُلتفت إلى غيره، فلما انتظم هذا السياق (1) بذكر الاحتجاج عليهم؛ لم يصلح فيه إلا إفراد السماء؛ لأنهم لا يقرون بما ينزل من فوق ذلك من الأرزاق العظيمة للقلوب والأرواح والأبدان (2)، من الوحي الذي به (3) الحياة الحقيقية الأبدية، وهو أولى باسم الرزق من المطر الذي به الحياة الفانية المنقضية، فما ينزل من فوق ذلك من الوحي والرحمة والألطاف (ق/146) والموارد الزبانية والتنزلات الإلهية، وما به قوام العالم العلوي والسفلي من أعظم أنواع الرِّزق، ولكن القوم لم يكونوا مقرِّين به، فخُوطِبوا بما هو أقرب الأشياء إليهم بحيث يمكنهم إنكاره.
وأما الآية التي في سبأ؛ فإنه لم ينتظم بها ذكر إقرارهم بما يذكر من السموات؛ ولهذا أمرَ رسولَه بأن يتولَّى الجوابَ فيها، ولم يذكر عنهم أنهم هم المجيبون المقرون، فقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} [سبأ: 24] ولم يقل سيقولون الله، فأمر تعالى لنبيه – صلى الله عليه وسلم – بأن يجيب: بأن ذلك هو الله وحده الذي ينزل رزقه، على اختلاف أنواعِه ومنافعه من السموات السبع، وأما الأرض؛ فلم يدع السياق إلى جمعها في واحدة من الآيتين، إذ يقر به كلُّ أحدِ؛ مؤمن وكافر، وبر وفاجر.
ومن هذا الباب ذكر الرياح في القرآن جمعًا ومفردة؛ فحيث كانت في سياق الرحمة أتت (4) مجموعةً، وحيث وقعت في سياق
__________
(1) ليست فى (ظ ود).
(2) (ظ ود): “ولابُدّ”!.
(3) (ق): “فيه”.
(4) (ق): “جاءت”.
(1/206)
العذاب أتت مفردةً، سرُّ ذلك: أنَّ رياح الرحمة (1) مختلفة الصِّفات والمهابِّ والمنافع، وإذا هاجت منها ريحٌ أنشأ لها ما يقابلها ما يكسر سَوْرتها ويصدم حِدَّتها، فينشأ من بينهما ريحٌ لطيفة تنفع الحيوان والنبات، فكل ريح منها في مقابلها ما يعدلها ويردّ سَوْرتها، فكانت في الرحمة رياحًا (2). وأما في العذاب: فإنها تأتى من وجهٍ واحد وصِمام (3) واحد، لا يقوم لها شيء ولا يعارضها غيرُها، حتى تنتهي إلى حيث أُمِرَت (ظ/33 ب)، لا يرد سَوْرتها ولا يكسر سرَّتها، فتمتثل ما أُمِرَت به وتصيب ما أُرسلت إليه. ولهذا وصف -سبحانه- الريحَ التي أرسلها على عادٍ بأنها عقيم، فقال تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41]، وهي التي (4) لا تُلْقح ولا خير فيها، والتي تُعْقِم ما مَرَّت عليه.
ثم تأمل كيف اطرد هذا إلا قي قوله تعالى في سورة يونس: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} [يونس: 22] فذكر ريح الرحمة الطيبة بلفظ الإفراد؛ لأن تمام الرحمة هناك إنما تحصل بوحدة الريح لا باختلافها، فإن السفينة لا تسير إلا يريحٍ واحدة من وجه واحد تسيرها، فإذا اختلفت عليها الرياح وتصادمت وتقابلت؛ فهو سبب الهلاك، فالمطلوب هناك ريح واحدة لا رياح، وأكَّدَ هذا المعنى بوصفها بالطِّيْب دفعًا لتوهُّمِ أن تكون ريحًا عاصفة، بل هي مما يُفرح بها لِطِيْبها، فلَينزِّه الفَطنُ بصيرَتَه في هذه الرياض المونقة المعجبة
__________
(1) سقطت من (ق)، ومن قوله: “أتت مجموعة … ” إلى هنا ساقط من (د).
(2) (ظ): “ريحًا”.
(3) (ظ ود): “حمام”!.
(4) ليست في (ق).
(1/207)
التي ترقص القلوب (ق/46 ب) لها فرحًا، ويغتِذي بها عن الطعام والشراب، فالحمد لله الفتَّاح العليم. فمثل هذا الفصل يُعَض عليه بالنواجذ. وتُثْنى عليه الخناصر، فإنه يشرف بك على أسرار -وعجائب تجتنيها من كلام الله، في الله الموفق للصواب.
ومما يدخل في هذا الباب: جمع الظلمات وإفراد النور، وجمع سُبُل الباطل وإفراد سبيل الحقّ، وجمع الشمائل وإفراد اليمين.
أما الأول: فكقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1].
وأما الثاني: فكقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].
وأما الثالث: فكقوله تعالى: {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا} [النحل: 48].
والجواب عنها يخرج من مشكاة واحدة، وسرُّ ذلك -والله أعلم-: أن طريق الحق واحد، وهو على الواحد الأحد كما قال تعالى: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)} [الحجر: 41]، قال مجاهد: الحق طريقه على الله ويرجع إليه (1)، كما يقال: طريقك عليَّ، ونظيره قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9] القصد (2) في أصح القولين، أي: السبيلُ القَصْدُ الذي (3) يوصل إلى الله، وهي طريقٌ عليه، قال الشاعر:
__________
(1) أخرجه ابن جرير: (7/ 517)، وابن أبي حاتم: (7/ 2264)، وابن المنذر: -كما فى “الدر المنثور”: (4/ 184) -.
(2) سقطت من (ظ ود).
(3) سقطت من (ق).
(1/208)
فهنَّ المنَايَا أيُّ وادٍ سَلَكنَهُ … عَلَيْها طَرِيْقي أو عَلَيَّ طَرِيْقُهَا (1)
وقد قررتُ هذا المعنى وبينتُ شواهدَه من القرآن، وسرَّ كون الصراط المستقيم (2) على الله، وكونه تعالى على الصراط المستقيم كما في قول هود: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 56] في كتاب: “التحفة المكية” (3).
والمقصود أن طريقَ الحق واحد إذ مرَدُّه إلى الله الملك الحق، وطرق الباطل متشعِّبة متعددة (4)، فإنها لا ترجع إلى شيءٍ موجود ولا غايةَ لها توصل إليها، بل هي بمنزلة بُنَيَّات الطريق، وطريق الحق بمنزلة الطريق الموْصِل إلى المقصود، فهي وإن تنوَّعت؛ فأصلها طريق واحد.
ولما كانت الظلمة بمنزلة طرق (5) الباطل، والنور بمنزلة طريق الحق، بل هما هما؛ أُفرد النورُ وجُمعت الظلماتُ، وعلى هذا جاء قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257] (ظ/134) فوحَّد وليَّ الذين آمنوا وهو الله الواحد الأحد، وجَمع أولياء (6) الذين كفروا
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) ليست في (ق).
(3) أشار المؤلف إلى كتابه هذا في عدة مواضع من هذا الكتاب، وفي كتاب “طريق الهجرتين”: (ص/ 378)، وانظر: “ابن القيم حياته وآثاره”: (ص/ 228)، ولا يُعلم من خبره شيء، لكن يبدو من إحالات المؤلف عليه أنه كتاب كبير كثير الفوائد.
(4) (ق): “متعددة متسعة”.
(5) (ق): “الطريق”.
(6) سقطت من (ظ ود).
(1/209)
لتعددهم وكثرتهم. وجمع الظلمات وهي طوق الضلال والغي لكثرتها واختلافها، ووحَّد النورَ وهو دينه الحق وطريقه المستقيم الذي لا طريق إليه سواه.
ولما كانت اليمين جهة الخير والفلاح وأهلها هم الناجون؛ أُفردت، ولما كانت الشمال (ق/ 47 أ) جهة أهل الباطل -وهم أصحاب الشمال- جمعت في قوله تعالى: {الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا} [النحل: 48].
فإن قيل: فهلَّا جاءت (1) كذلك في قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41)} [الواقعة: 41]، وما بالها جاءت مفردة (2)؟.
قيل: جاءت مفردة؛ لأن المراد أهل هذه الجهة، ومصيرهم ومآلهم إلى جهة واحدة وهي: جهَة الشِّمال مستقرُّ أهل النار، والنار من (3) جهة الشِّمال، فلا يحسن مَجيئها مجموعةً؛ لأن الطرق الباطلة -وإن تعددت- فغايتها المردُّ إلى طريق الجحيم وهي جهة الشمال، وكذلك مجيئها مفردة في قوله تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17)}، لما كان المراد: أن لكلِّ عبد قعيدين، قعيدًا عن يمينه وقعيدًا عن شماله، يحصيان عليه الخيرَ والشرَّ، فلكل عد من يختص بيمينه وشماله من الحَفَظَة، فلا معنى للجمع هاهنا، وهذا بخلاف قوله تعالى حكاية عن إبليس: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 17] فإن الجمعَ هنا في مقابلة كثرة من يريد إعْواءَهم، فكأنه أقسم أن يأتي كلَّ واحد واحد من بين يديه ومن
__________
(1) سقطت من (ظ ود).
(2) سقطت من (ق).
(3) (ق): “هي”.
(1/210)
خلفه وعن يمينه وعن شماله، ولا يحسُنُ هنا: “وعن يمينهم وعن شمالهم” بل الجمع هاهنا من (1) مقابلة الجملة بالجملة المقتضي توزيع الأفراد على الأفراد (2)، ونظيره: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6].
وقد قال بعض الناس: إن الشمائل إنما جُمعت في الظِّلال، وأُفرد اليمين؛ لأن الظل حين ينشأ أول النهار يكون في غاية الطول، ثم يبدو كذلك ظِلاًّ واحدًا من جهة اليمين، ثم يأخذ في النقصان، وأما إذا أخذ في جهة الشمال فإنه يتزايد شيئًا فشيئًا، والثاني منه غير الأول، فكلما (3) زاد منه شيءٌ فهو غير ما كان قبله، فصار كلُّ جزءٍ مه كأنه ظلٌّ، فحَسُن جمع الشمائل في مقابلة تعدُّد الظلال، وهذا معنًى حسن.
ومن هذا المعنى (4) مجيء المشرق والمغرب في القرآن تارةً مجموعَيْن، وتارة منثنَّيين، وتارة مفردين؛ لاختصاصِ كلِّ محلٍّ بما يقتضيه من ذلك، فالأول: كقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج: 40] والثاني: كقوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18)} [الرحمن: 17 – 18] والثالث: كقوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)} [المزمل: 9]، فتأمّلُ هده الحكمةِ البالغة في تغاير هده المواضع في الإفراد والجمع والتثنية بحسب مواردها يُطْلِعُك على عظمة القرآن وجلالته، وأنه تنزيلٌ من حكيم حميد.
__________
(1) (ق): “في الجمع هاهنا في … “، وفي (د): “في”.
(2) “على الإفراد” سقطت من (ظ ود).
(3) (ظ ود): “فلما زاد منه شيئًا”.
(4) (ق): “الباب”.
(1/211)
فحيث جُمِعَت؛ كان المراد بها مشارق الشمس ومغاربها (ق/47 ب) في أيَّام السنة، وهي متعددة، وحيث أُفْرِدا؛ كان المراد أفقي المشرق والمغرب، وحيث ثُنيا؛ كان المراد مشرقَي صعودها وهبوطها ومغربَيْهما (1)، فإنها تبتدئ صاعدةً حتى تنتهي إلى غايةِ أَوْجها وارتفاعها، فهذا مشرق صعودها وارتفاعها (2)، وينشأ منه فصلا الربيع والصيف، ثم: ترجع هابطة حتى ترجع إلى غاية خضيضها وانخفاضها، وهذا غاية هبوطها، وينشأ منه فصلا (3) الخريف والشتاء، فجعل مشرق صعودها بجملته مشرقًا واحدًا، ومشرق هبوطها بجملته مشرقًا (ظ/ 34 ب) واحدًا، ويقابلها مغرباها. فهذا وجه اختلاف هذه الألفاظ (4) في الإفراد والتثنية والجمع.
وأما وَجْه اختصاص كلِّ موضع بما وقع فيه؛ فلم أرَ أحدًا تعرض له ولا فتح بابه، وهو بحمد الله بَيِّن من السياق، فتأمل وروده مثنًّى في سورة الرحمن، لما كان مَسَاق السورة مَسَاق المثاني المزدوجات، فذكر أولاً نوعَى الإيجاد وهما: الخلق والتعليم (5)، ثم ذكر سِرَاجَي العالم ومظهر نوره، وهما: الشمس والقمر، ثم ذكر نوعَي النبات؛ ما قام منه على ساق، وما انبسط منه على وجه الأرض، وهما: النجم والشجر، ثم ذكر نوعَي السماء المرفوعة والأرض [الموضوعة] (6)،
__________
(1) (د): “ومغربها”.
(2) من (ق).
(3) من قوله: “الربيع والصيف … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(4) من (ق).
(5) (ظ ود): “التعظيم”!.
(6) (ق): “نوعَي السماء: والأرض”، و”الموضوعة” ليست في (ظ ود) واستدركناها من “المنيرية”.
(1/212)
وأخبر أنه رفع هذه ووضع هذه، ووسَّط بينهما ذكر الميزان، ثم ذكر العدلَ والظلمَ في الميزان، فأمر بالعدل ونهى عن الظلم، ثم ذكر نوعي الخارج من الأرض وهما: الحبوب والثمار، ثم ذكر خلق نوعَي المكلفين وهما: نوع الإنسان ونوع الجانّ، ثم ذكر نوعَي المشرقَيْن ونوعَي المغربَيْن، ثم ذكر بعد ذلك البحرين الملح والعذب.
فتأمل حُسْن تثنية المشرق والمغرب في هذه السورة وجلالة وروده كذلك، وقدِّر موضعهما اللفظَ مفردًا ومجموعًا تجدِ السمعَ ينبو عنه ويشهد العقل بمنافرته للنظم.
ثم تأمل ورودهما مفردين في سورة المزمن لما تقدمهما ذكر الليل والنهار، فأمر رسوله – صلى الله عليه وسلم – بقيام الليل، ثم أخبره أن له في النهار سَبْحًا طويلاً، فلما تقدم ذِكْر الليل وما أمِرَ به فيه، وذِكْر النهار وما يكون منه فيه، عَقَّب ذلك بذكر المشرق والمغرب اللَّذَين هما مظهر الليل والنهار، فكان ورودهما مفرَدَيْن في هذا السياق أحسن من التثنية والجمع؛ لأن ظهور الليل والنهار بهما واحد، فالنهار أبدًا يظهر من المشرق، والليل أبدًا يظهر من المغرب، ثم تأمل مجيئهما مجموعَيْن في سورة المعارج في قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)} [المعارج: 40 – 41]، لما كان هذا القَسَم في سياق سَعَة ربوبيته وإحاطة قدرته، والقسم (ق/148) عليه هو: إذهاب (1) هؤلاء والإتيان بخير منهم: ذَكَر المشارقَ والمغاربَ لتضمنهما انتقال الشمس التي هي أحد آياته العظيمة الكبيرة، ونقله سبحانه لها وتصريفها كل يوم في مشرق ومغرب، فمن فعل هذا كيف
__________
(1) (ظ ود) “أرباب”!.
(1/213)
يُعْجِزه أن يبدِّل هؤلاء، وينقل إلى أمكنتهم خيرًا منهم؟!.
وأيضًا: فإن تأثير مشارق الشمس ومغاربها في اختلاف أحوال النبات والحيوان أمر فشهود، وقد جعل الله -تعالى- ذلك بحكمته سببًا لتبذُّل أجسام النبات وأحوالِ الحيوانات، وانتقالها من حالٍ إلى غيره، وتبدُّل الحَر بالبرد والبرد بالحر، والصيف بالشتاء والشتاء بالصيف، إلى سائر تبدلُّ أحوال الحيوان والنيات (1) والرياح والأمطار والثلوج، وغير ذلك من التبدلات والتغيرات الواقعة في العالم بسبب اختلاف مشارق الشمس ومغاربها، كل (2) ذلك تقدير العزيز العليم، فكيف لا يقدر -مع ما يشهدونه من ذلك- على أن يبدل خيرًا منهم!! وأكد هذا المعنى (3) بقوله تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)} [المعارج: 41]. فلا يليق بهذا الموضع: سوى لفظ (4) الجمع.
ثم تأمل كيف جاءت -أيضًا- في سورة الصافات مجموعةً في قوله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)} [الصافات: 5] لما جاءت (ظ/ 35 أ) مع جملة المربوبات المتعددة، وهي السموات والأرض وما بينهما؛ كان الأحسن مجيئها مجموعةً لينتظم مع ما تقدَّم من الجمع والتعدد. ثم تأمل كيف اقتصر على المشارق دون المغارب لاقتضاء الحال لذلك، فإن المشارق مظهر الأنوار، وأسباب انتشار الحيوان وحياته وتصرفه (5) ومعاشه وانبساطه، فهو.
__________
(1) (ق): “من النيات”.
(2) (ظ ود): “كان”.
(3) ليست في (ق).
(4) (ظ ود): “لفظته”.
(5) (ق): “في”.
(1/214)
إنشاء مشهود فقدمه بين يدي الرد على منكري البعث. ثم ذكر تعجُّبَ نبيه من تكذيبهم واستبعادهم البعثَ بعد الموت، ثم قرَّر البعث (1) وحالهم فيه، فكان الاقتصار على ذكر المشارق هاهنا في غاية المناسبة للغرض المطلوب، والله أعلم.
فائدة (2)
إنما ظهرت علامة التثنية والجمع في الفعل دون علامة الواحد؛ لأن الفعلَ يدل على فاعل مطلق، ولا يدل على تثنيةٍ ولا جمعٍ؛ لأنهما طارئان على الإفراد وهو الأصل، ففعل الواحد مستغنٍ عن علامة الإضمار لعلم السامع أن له فاعلاً، ولا كذلك في التثنية والجمع؛ لأن السامع لا يعلم أن الفاعل مثنًى ولا مجموع (3).
فإن قيل: فما معنى استتار الضمير في الفعل وهو حروف مركبة من حركات اللسان، فكيف يستتر فيها شيء أو يظهر؟.
قيل: أكثر ألفاظ النحاة محمول على الاستعارة والتشبيه والتسامح؛ إذ مقصودهم (ق/48 ب) التقريب على المتعلمين.
والتحقيق: أن الفاعل مضمر في نفس المتكلم، ولفظ الفعل متضمِّن له دالٌّ عليه، واستغنى عن إظهاره لتقدم ذكره، وعُبَّر عنه بلفظٍ مضمر ولم يُعبَّر عنه بمحذوف؛ لأن المضمر هو المستتر (4)، فهو مضمر في النية مُخْفًى في الخَلَد، والإضمار هو الإخفاء.
__________
(1) (ظ ود): “قدر الموت”، والمثبت من (ق) وهو الأصح.
(2) انظر: “نتائج الفِكر”: (ص/ 164).
(3) في “النتائج” زيادة: “إلا بدليل”.
(4) تحرفت فى (ظ ود) إلى “المستمر”.
(1/215)
فإن قيل: فهلا سموا ما حذفوه لفظًا وأرادوه نيَّةً: مضمرًا، مثل العائد في قولك: “الذي رأيت زيدٌ”، وما الفرق بينهما وبين: “زيد قام”؟.
قيل: الضميرُ في: “زيد قام” لم ينطق به ثم حُذِف، ولكنه مضمر في الإرادة، ولا كذلك الضمير المحذوف للعلم به، لأنه قد لُفِظ به في النطق ثم حُذِف تخفيفًا، فلما كان قد لفظ به ثم قطع من اللفظ تخفيفًا عبر عنه بالحذف، والحذف هو: القطع من الشيء. فهذا هو الفرق بينهما.
فائدة بديعة (1)
لحاق علامة التثنية (2) والجمع للفعل مُقَدمًا، جاء في لغة قومٍ من العرب حرصًا على البيان وتوكيدًا للمعنى؛ إذ كانوا يسمون بالتثنية والجمع نحو: فلسطين وقِنَّسْرين، وحمدان وسلمان، مما يُشبه لفظه لفظ المثنى والجمع، فهذا ونحوه دعاهم إلى تقديم العلامة في قولهم: “أكلونى البراغيث”، وقد ورد فى الحديث: “يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ” (3)، وكما أن هذه العلامة ليست للفعل إنما هي للفاعلين، وكذلك التاء في: “قامت هِند” ليست للفعل. [إذ الفعل] إنما هو حَدَث مذكَّر (4) لا يلحقه تأنيث إلا في نحو: “ضرْبَة وقَتْلَة”، والفعل لم يشتق من
__________
(1) انظر: “نتائج الفِكْر”: (ص/ 166).
(2) تصحفت في (ق) إلى “التأنيث”.
(3) أخرجه البخاري رقم، (555)، ومسلم رقم (632) عن حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
وانظر المسألة في “البحر المحيط”: (3/ 34)، و”فتح الباري”: (2/ 42).
(4) (ظ ود): “إذ هو حيث يذكر”!.
(1/216)
المصدر [محدودًا] (1) وإنما يدل عليه مطلقًا، فالتاء إذا بمنزلة علامة التثنية والجمع، إلا أنها أَلْزم للفعل منها.
وقد ذكر النحاة في ذلك فروقًا وعللاً مشهورة فراجعها، ولكن ينبغي أن تتنبه لأمور تجب مراعاتها.
منها: أنهم قالوا: إن الاسم المؤنث إذا كان تأنيثه حقيقيًّا؛ فلابد من لحوق تاء التأنيث في الفعل، وإن كان مجازيًا كنتَ بالخيار، وزعموا أن التاء في: {*قَالَتِ الْأًعْرَابُ} [الحجرات: 14] (ظ/35 ب) ونحوه؛ لتأنيثِ الجماعة وهو غير حقيقي، وقد كان على هذا لحوق التاء في: {*وَقَالَ نِسْوَةٌ} [يوسف: 35] أولى؛ لأن تأنيثهن حقيقي. واتفقوا أن الفعلَ إذا تأخر عن فاعله المؤنث، فلابدَّ من إثبات التاء، وإن لم يكن التأنيثُ حقيقيًّا، ولم يذكروا فرقًا بين تقدُّم الفعل وتأخُّره.
ومما يقال لهم: إذا (2) لحقت التاء لتأنيث الجماعة، فلِمَ، يجوز في جمع السلامة المذكر كما جازت في جمع التكسير؟.
ومما يُقال لهم أيضًا: إذا كان لفظ الجماعة مؤنثًا، فلفظ الجمع مذكر، فلِمَ روعي لفظ التأنيث دون لفظ التذكير؟.
فإن قلتم: أنت مخيَّر، فإن راعيتَ لفظ التأنيث أنَّثتَ، وإن راعيت لفظ (ق/ 49 أ) التذكرِ ذكَرتَ.
قيل لهم: هذا باطل، فإن أحدًا من العرب لم يقل: الهنداتُ ذهبَ، [ولا: الجِمالُ انطلقَ، ولا: الأعراب تكلَّم] (3)، مراعاةً للفظ
__________
(1) (ظ ود وق): “محددًا” المثبت من “النتائج”.
(2) (ظ ود): “إذا”.
(3) (ق وظ ود): “ولا الأعراب انطلق”، وكذا في المنيرية، والمثبت من “النتائج”.
(1/217)
الجمع، فبطلت العلة.
فهذه عللهم قد انتقضت كما ترى فاسمع الآن سرَّ المسألة وكَشْفَ قناعها: الأصل في هذا الباب أن الفعل متى اتصل: بفاعلة، ولم يحجز (1) بينهما حاجز، لحقت العلامة، ولا نبالي أكان التأنيث حقيقيًّا أم مجازيًّا، فتقول: “طابت الثمرة” و”جاءت هند”، إلا أن يكون الاسم المؤنث في معنى اسمٍ آخر مذكَّر، كالحوادث والحدثان، والأرض والمكان (2)، فلذلك جاء:
* فإنَّ الحوادثَ أَودى بها (3) *
فإن الحوادث في معنى الحدثان، وجاء:
*ولا أَرض أَبْقَل إبقالها (4) *
فإنه في معنى: ولا مكان أَبْقَل إبقالها.
وإذا فصلت الفعلَ عن فاعله، فكلما بَعُد عنه قَوِيَ حذف العلامة، وكلما قَرُبَ قَوِيَ إثباتها، وإن توسَّط توسط، فـ “حضرَ القاضيَ اليومَ امرأةٌ” أحسنُ مِن “حَضَرَت”. وفي القرآن: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 67].
__________
(1) (ظ ود): “يَجْر”.
(2) (ظ ود): “الملكان”.
(3) عجز بيت للأعشى. “ديوانه”: (ص/ 221)، والرواية فيه:
فإن تعهديني ولي لمة … فإن الحوادث ألوى بها
(4) عجز بيت لعاصر الطائي، انظر: “الخصائص”: (2/ 411) وغيره،
وصدره:
*فلا مُزنة ودقت وَدْقها*
ووقع في (ظ): “والأرض”!.
(1/218)
ومن هنا كان إذا تأخر الفعلُ عن الفاعل وجبَ ثبوت “التاء” طال الكلام أم قَصُر؛ لأن الفعل إذا تأخر كان فاعله مضمرًا متصلاً به اتصال الجزءِ بالكلِّ، فلم يكن بُدٌّ من ثبوت التاء لِفَرْط الاتصال، وإذا تقدَّم الفعلُ متصلاً بفاعله الظاهر، فليس مؤخر الاتصال كـ “هو” مع المضمر؛ لأن الفاعل الظاهر كلمة، والفعل كلمة أخرى، والفاعل المضمر والفعل كلمة واحدة؛ فكان (1) حذف “التاء” في “قامت (2) هند” و”طابت الثمرة” أقرب إلى الجواز منه في قولك: “الثمرة (3) طابت”.
فإن حَجَز بين الفعل وفاعله حاجز، كان حذف “التاء” حسنًا، وكلما كثرت الحواجز كان (4) حذفها أحسن.
فإن كان الفاعل جمعًا مكسَّرًا دخلت التاء لتأنيث الجماعة (5)، وحُذِفت لتذكير اللفظ؛ لأنه بمنزلة الواحد في أن إعرابه كإعرابه، ومجراه في (6) كثير من الكلام مجرى اسم الجنس.
فإن كان الجمع مسلمًا فلابد من التذكير لسلامة لفظ الواحد، فلا تقول: قالت الكافرون، كما لا تقول: قالت الكافر (7)؛ لأن اللفظ بحاله لم يتغير بطروء الجمع عليه.
__________
(1) من قوله: “والفاعل المضمر … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(2) تحرفت في (ظ) إلى: “تأنيث”، وفي (د): “كان حذف التاء في تأنيث”.
(3) سقطت من (ق).
(4) (ق): “ولما كثرت الحواجز فإن … “.
(5) سقطت من (ظ ود).
(6) (ق): “في مجرى كثير”.
(7) “كما لا تقول: قالت الكافر” ساقط من (د).
(1/219)
فإن قيل: فلم [لا] (1) تقول: “الأعراب قال”، كما تقوله مقدَّمًا؟.
قيل: ثبوت “التاء” إنَّما كان مراعاة لمعنى الجماعة؛ فإذا أردت: ذلك المعنى أَثْبَت “التاء”، وإن تأخر الفعل لم يجز حذفه لاتصال الضمير، وإن لم تُرِدْ معنى الجماعة حَذفتَ “التاء” إذا تقدم الفعل، واحتيج (2) إليها إذا تأخر؛ لأن ضمير الفاعلين لجماعة في المعنى وليسوا جمعًا؛ لأن الجمع مصدر جمعتُ أَجْمع، فمن قال: إن التذكير في: “ذهبَ الرجال” و”قامَ الهنداتُ” مراعاة لمعنى الجمع فقد أخطأ.
وأما حذف التاء (3) من: {وَقَالَ نِسْوَهٌ}؛ فلأنه اسم جمع كرَهْط وقَوْم، ولولا أن فيه تاء (ظ/36 أ) التأنيث لقَبُحَت (4) التاء في فعله. ولكنه قد يجوز أن تقول: “قالت نِسوة” كما تقول: قالت فِتْيَة وصِبْيَة (5).
فإن قلت: “النسوة” باللام كان دخول “التاء” في الفعل أحسن، كما كان ذلك في: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ}؛ لأن اللام للعهد، فكأنَّ الاسم قد تقدم ذكره، فأشبهت حال الفعل حاله إذا كان فيه ضمير يعود إلى مذكور، من أجل الألف واللام، فإنَّها ترد (ق/ 49 ب) على (6) معهود.
فإن قلت: فإذا استوى ذكر “التاء” وتركها في الفعل المتقدم، وفاعله مؤنث غير حقيقي، فما الحكمة في اختصاصها في قصة
__________
(1) مستدرك من “النتائج”.
(2) في الأصول و”النتائج”: “ولم يحتج” واستفدنا التصحيح من محقق النتائج.
(3) من قوله: “إذا تقدم الفعل .. ” إلى هنا ساقط من (ق).
(4) قي الأصول و”النتائج” و”لفتحت” والتصحيح من محقق النتائج.
(5) تحرفت في (ظ ود) إلى: “قبيلة ونسوة”.
(6) (ظ ود): “إلى”.
(1/220)
شعيب (1) بالفعل، وحَذْفها في قصة صالح من قوله تعالى: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 67].
قلت: الصيحة في قصة صالح في معنى العذاب والخزي؛ إذ كانت منتظمةً بقوله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)} [هود: 66] فصارت الصيحة عبارة عن ذلك الخزي وعن (2) العذاب المذكور في الآية، فقوِيَ التذكير، بخلاف قصة شعيب؛ فإنه لم يذكر فيها ذلك، هذا جواب السُّهيلي (3).
وعندي فيه جواب أحسن من هذا إن شاء الله، وهو: أنَّ الصيحة يراد بها المصدر، بمعنى: الصِّياح، فيحسُن فيها التذكير، ويُراد بها الواحدة من المصدر، فيكون التأنيث أحسن.
وقد أخبر تعالى عن العذاب الذي أصاب به قوم شعيب بثلاثة أمور كلها مؤنثة اللفظ.
أحدها: الرجفة فى قوله فى الأعراف: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)} [الأعراف: 78].
الثاني: الظلة بقوله: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} [الشعراء: 189].
الثالث: الصيحة في قوله تعالى: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 94]، وجمع لهم بين الثلاثة، فإن الرَّجفةَ بدأت بهم، فأصْحَروا إلى الفضاء خوفًا من سقوط الأبنية عليهم، فصهرتهم (4) الشمسُ بِحرِّها
__________
(1) في قوله تعالى: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 94].
(2) (ق): “وذلك”.
(3) في “نتائج الفكر”: (ص / 170).
(4) (ق): “فضربتهم”.
(1/221)
ورفعت لهم الظُّلَّة، فأُهْرِعُوا إليها يستظلون بها من الشمس، فنزل عليهم منها العذاب، وفيه الصيحة فكان ذِكْر الصيحة مع الرجفة والظلة أحسن من ذكر الصِّياح، وكان ذكر التاء أحسن (1)، والله أعلم.
فإن قيل (2): فلم قلتم: إن “التاء” حرف ولم تجعلوها بمنزلة الواو والألف في: “قاما وقاموا”؟.
قيل: لإجماع العرب على قولها: “الهندان قامتا” بالتاء والضمير، ولا يجور أن يكون للفعْل ضميران فاعلان.
فإن قيل: فما الفرق بين قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36] وبين قوله تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 30].
قيل: الفرق من وجهين: لفظيّ ومعنويّ، أما اللفظي فهو: أن الحروف الحواجز بين الفعل والفاعل قي قوله تعالى في {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} أكثر منها في قوله تعالى: {حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ}، وقد تقدَّم أن الحذف مع كثرة الحواجز أحسن.
وأما المعنوي: فإِن “مَن” (3) في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} واقعة على الأمة والجماعة، وهي مؤنثة لفظًا ألا تراه يقول: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} [النحل: 36] ثم قال: {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36] أي من تلك الأمم أمم (4) حقَّت
__________
(1) سقطت من (ظ ود).
(2) “النتائج”: (ص/ 171).
(3) سقطت من (ق).
(4) سقطت من (ق).
(1/222)
عليه الضلالة، ولو قال بدل ذلك (ق/ 50 أ): ضلت، لتعينت “التاء”، و [معنى] (1) الكلامين واحد، وإذا كان معنى الكلامين واحدًا كان إثبات “التاء” أحسن من تركها؛ لأنها ثابتة فيما هو في (2) معنى الكلام الآخر.
وأما: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 30] فالفريق مذكَّر، ولو قال: فريقًا ضلوا، لكان بغير تاء. وقوله تعالى: {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} في معناه فجاء (ظ/36 ب) بغير تاء، وهذا أسلوب لطيف من أساليب العربية، تدع العربُ حكم اللفظ (3) الواجب له في قياس لغتها، إذا كان في معنى كلمة لا يجب لها ذلك الحكم، ألا (4) تراهم يقولون: “هو أحسن الفتيان وأجمله”؛ لأنه في معنى: هو أحسن فتًى وأجمله (5).
ونظيره تصحيحهم: حول وعور؛ لأنه في معنى: أحول وأعور، ونظائره كثرة جدًّا. فإذا حَسُنَ الحمل على المعنى فيما كان القياس أن لا يجوز (6)؛ فما ظنك به حيث يجوِّزه القياس والاستعمال!!.
وأحسن من هذا أن تقول: إنهم أرادوا: “أحسن شيءٍ وأجمله”، فجعلوا مكان “شيء” قولهم: “الفتيان” تنبيهًا على أنه أحسن شيء من هذا الجنس، فلو اقتصروا على ذكر “شيءٍ”، لم يدل على الجنس المفضل عليه، ومن هذا قوله – صلى الله عليه وسلم -: “أَحْناهُ على ولد في صِغَره وأرعاه
__________
(1) زيادة يستقيم بها الكلام.
(2) (ق): “من”.
(3) سقطت من (ق).
(4) ليست في (ظ ود).
(5) “لأنه في معنى: هو أحسن فتى وأجمله، سقطت من (ق).
(6) (ظ): “لا يجوّزه”.
(1/223)
في ذاتِ يَدِه” (1)، فهذا يدل على أن التقدير هناك: “أحسن شيءٍ وأجمله”، لا أنه: “أحسن فتى”؛ إذ لو كان التقدير: “أحسن فتى” لكان نظيره هنا: “أحنى امرأة على ولد”، فكان يقال: “أحناها وأرعاها”، فلما عَدَل إلى التذكير؛ دل على أنهم أرادوا (2): أحْنا شيءٍ من هذا الجنس وأَرْعاه.
فائدة بديعة (3)
قولك: “ضرب القوم بعضهم بعضًا”، هذه المسألة مما لم يدخل تحت ضبط النحاة ما يجب تقديمه من الفاعلين، فإن كليهما ظاهر إعرابه وتقديم الفاعل متعيِّن. وسرُّ ذلك مكان (4) الضمير المحذوف، فإن الأصل أن يقال: “ضرب القوم بعضهم بعضهم”؛ لأن حق البعض أن يضاف إلى الكل ظاهرًا أو مقدَّرًا، فلما حذفوه من المفعول استغناء بذكره في الفاعل لم يجوزوا تأخير الفاعل، فيقولوا: “ضرب بعضًا بعضُهم”؛ لأن اهتمامهم بالفاعل قد قَوِيَ وتضاعف لاتصاله بالضمير الذي لابُدَّ منه؛ فبعد أن كانت الحاجة إلى الفاعل مرة، صارت الحاجةُ إليه مرَّتين.
فإن قلت: فما المانع من إضافة “بعض” المفعول إلى الضمير فتقول: “ضرب القوم بعضهم بعضٌ”، أو: “ضربَ القوم بعض بعضَهم”؟
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (3434)، ومسلم رقم (2527) من حديث أبى هريرة -رضي الله عنه-.
(2) (ق): “عليه أنه أراد”.
(3) “نتائج الفِكر”: (ص/174).
(4) في “المنيرية”: “وهو”.
(1/224)
قلتُ: الأصل أن يُذْكر الضمير فيهما (1) جميعًا، فلما أرادوا حذفه هن أحدهما تخفيفاً، كان حذفه مع المفعول -الذي هو كالفَضْلَة في الكلام- أولى من حذفه مع الفاعل الذي لابدَّ منه ولا غِنَى عنه، وليتصل بما يعود إليه ويقرب منه، نعم قد يُضاف إليه “بعض” وهو مفعول، إذا كان (ق/ 50 ب) البعض الآخر مجرورًا (2)، كقولك: خلطت القومَ بعضهم ببعض؛ لأن رتبة المفعول هاهنا التقديم على المجرور، كما كانت رتبة الفاعل التقديم على المفعول، فحق (3) الضمير العائد على الكل أن يتصل بما هو أهم بالتقديم.
فائدة (4)
إذا قلت: “إنما يأكلُ زيدٌ الخبزَ”، حَقَّقت ما يتصل ومَحَّقْت ما ينفصل، هذه عبارة بعض النحاة، وهي عبارة أهل سمرقند يقولون في “إنما”: وُضِعت لتحقيق المتصل وتمحيق (5) المنفصل، وتلخيص هذا الكلام: أنها نفي وإثبات، فأثبتَّ لزيدٍ أكْلَ الخبز المتصل به في الذكر ونفيت ما عداه، فمعناه: ما يأكل زيدٌ إلا الخبز، فإن قدَّمت المفعول فقلت: “إنما يأكل الخبزَ زيدٌ” انعكس المعنى والقصد.
فائدة بديعة
الوصلات في كلامهم التي وضعوها للتوصل بها إلى غيرها خمسة أقسام:
__________
(1) (ظ ود): “منهما”.
(2) من قوله: “وليتصل بما يعود … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(3) تحرفت في (ق) إلى “نحو”.
(4) “نتائج الفكر”: (ص/ 175).
(5) (ظ ود): “وتحقيق” وهو خطأ.
(1/225)
أحدها: حروف الجرِّ التي وضعوها ليتوصلوا بالأفعال إلى المجرور بها، ولولاها (ظ/ 37 أ)، لما نفذ الفعل إليها ولا باشرها.
الثاني: حرف “ها” التي للتنبيه، وضِعَت ليتوصل بها إلى نداء ذي الألف واللام.
الثالث: “ذو” وضعوه وصلة إلى وصلة النكرات بأسماء الأجناس غير المشتقة، كـ “رجل ذي مال”.
الرابع: “الذي” وضعوه وَصْلة إلى وصف المعارف بالجمل ولولاها لما جرت صفاتها عليها.
الخامس: “الضمير” الذي جُعِل وَصْلة إلى ارتباط الجمل بالمفردات خبرًا وصفة وصلة وحالاً، فأتوا بالضمير (1) وصلة إلى جريان الجمل على هذه المفردات أجوالاً وأخبارًا، وصفاتٍ وصِلات. ولم يصفوا المعرفة بالجملة مع وجود هذه الوصلة المصححة، كما وصفوا بها النكرة لوجهين (2).
أحدهما: أنَّ النكرة مفتقِرَة إلى الوصف والتبيين، فعُلِم أن الجملة بعدها تبيينٌ لها وتكملة: لفائدتها.
الوجه الثاني: أَنَّ الجملة تتنزل منزلة النكرة؛ لأنها خبر، ولا يخبر المخاطب إلا بما يجهله لا بما يعرفه، فصلح أن يوصف بها النكرة، بخلاف المعرفة، فإنك لو قلتَ: “جاءني زيد قائم أبوه” (3)، على جهة الوصف، لَمَا ارتبط الكلام بعضه ببعض؛ لاستقلال كل
__________
(1) (ق): “الضمة”!.
(2) “نتائج الفكر”: (ص/ 177).
(3) “النتائج”: “أبو قائم”. وبعده فى (ظ): “على وجه … “.
(1/226)
واحد منهما بنفسه، فجاءوا بالوصلة التي توصلوا بها إلى وصف النكرة باسم الجنس وهي: “ذو”، فقالوا: “جاءني زيد ذو قام أبوه”، وهذه لغة طيء وهي الأصل.
ثم إن أكثر العرب لما رأوها اسمًا قد وصف بها المعرفة، أرادوا تعريفه ليتفق الوصف والموصوف في التعريف، فأدخلوا الألف واللام عليه، ثم ضاعفوا اللام، كيلا يَذْهب لفظها بالإدغام ويذهب ألف الوصل في الدَّرْج، فلا يظهر التعريف، فجاء منه هذا اللفظ تقديرًا: “الذو” فلما رأوا الاسم قد انفصل عن الإضافة حيث صار معرفة قلبوا “الواو” منه “ياءً”، إذ ليس في كلامهم “وأو” متطرِّفة مضموم ما قبلها إلا وتنقلب “ياء” كـ “أدلي وأحق”، فصار “الذي”.
وإنما صحَّت الواو في قولهم: “ذو”؛ لأنها كانت في حكم التوسط؛ إذ المضاف مع المضاف إليه كالشيء الواحد.
وفي معنى “ذو” بمعنى (1) “الذي” طرف من معنى “ذا” التي للإشارة، لأن كلًّا منهما يَبِيْن بأسماء الأجناس، كقولك: “هذا الغلام وهذا الرجل”، فيتصل بها على وجه البيان، كما يتصل بها “ذو” على جهة الإضافة، ولذلك قالوا في المؤنث من الذي: “التي”، بالتاء، كما قالوا في المؤنث من “هذا”: هاتا وهاتين (2).
فإن قيل: فلِمَ أُعْرب “الذي” في حال التثنية؟.
قيل: لأن الألف التي فيه هي بعينها (3) علامة الرفع في الأسماء المعربة، فدار الأمرُ بين ثلاثة أمور:
__________
(1) (ظ ود): “وبمعنى”.
(2) كذا ولعلها: هاتي.
(3) (ظ ود): “بعضها”.
(1/227)
أحدها: أن يبنوه وفيه علامة الإعراب، وهو مُسْتَشنع وصار بمنزلة من تعطل عن التصرف وفيه آلته.
الثاني: أن يسقطوها منه ليعطوه حظه من البناء فيبطل معني التثنية، فرأوا الثالث أسهل شيء عليهم، وهو إعرابه، فكان ترك مراعاة علة البناء أهون عليهم من إيطال معنى التثنية، ولهذه العِلَّة (1) بعينها أعربوا: «اثني عشره و”هذين» (2) ، وطَرْدُ هذا أن يكون «ياء» هذين مُعْربًا وهو الصحيح، وممن نص عليه السُّهَيْلي (3) وأَحْسَنَ ما شاء، فإن الألف لا يكون علامة بناء بخلاف الضمة فإنها تكون للبناء، كحيث ومنذ، فتأمَّل هذا الموضع.
فإن قلت: هذا ينتقض عليك بالجمع فإنهم (4) بنوه – أعني : الذين – وهو على حدِّ التثنية (ظ / 37 ب) وفيه علامة الإعراب؟.
قلت : الفرق بين الجمع والتثنية من وجهين:
أحدهما: أن الجمع قد يكون إعرابه كإعراب الواحد بالحركات ؛ نعم، وقد يكون الجمع اسماً واحدًا في اللفظ كقومٍ ورَهْط.
الثاني : أن الجمع في حال (5) نصبه وخفضه يُضَارع لفظه لفظ الواحد، من حيث كان آخره ياء مكسورًا ما قبلها، فحملوا (6) الرفع الذي هو أقلُّ حالاته على النصب والخفض، وغلَّبوا عليه البناء،
__________
(1) ليست في (ظ ود).
(2) سقطت من (ق).
(3) “نتائج الفكر”: (ص/ 179).
(4) في الأصلين: «فإنه”.
(5) في حال، سقطت من (ظ ود).
(6) (ظ و د): فجعلواه.
(1/228)
حيث كان لفظه في الإعراب في أغلب أحواله كلفظه في البناء. وليس كذلك التثنية، لأن ياءَها مفتوح ما قبلها (1)، فلا يضارع لفظها في شيء من أحوالها لفظ الواحد.
وأما “النون” في “الذين” فلا اعتبار بها؛ لأنها ليست في الجمع ركنًا من أركان صيغته، لسقوطها في الإضافة وفي (2) الشعر، كما قال:
* وإِنَّ الذي حَانَتْ بِفَلجٍ دِمَاؤهم (3) *
هذا تعليل السُّهيلي (4).
وعندي فيه علة ثانية وهي: أَن التثنية في “اللذين” خاصة من خواص الاسم، قاومت شَبَه الحرف، فتقابل المقتضيان فرجع إلى أصله (ق/ 51 ب) فأعرِب، بخلاف “الذين”، فإن الجمع وإن كان من خواص الأسماء؛ لكن هذه الخاصة ضعيفة في هذا الاسم؛ لنقصان دلالته مجموعًا عما يدل عليه مفردًا، فإن “الذي” يصلح للعاقل وغيره، و”الذين” لا يستعمل إلا للعقلاء خاصَّة، فنقصت دلالته فضعفت خاصية الجمع فيه فبقي موجب بنائه على قوَّته، وهذا بخلاف المثنَّى، فإنه يقال على العاقلين وغيرهما، فإنك تقول: “الرجلان اللذان لقيتهما” و”الثوبان اللذان لبستهما”، ولا تقول: “الثياب الذين لبستهم”، وعلى هذا التعليل فلا حاجة بنا إلى ركوب ما تعسَّفه -رحمه الله- من
__________
(1) (ظ ود): “التثنية، تاءها مفتوحة”!.
(2) (ظ ود): “من”، و”النتائج”: “وفي ضرورة الشعر” ..
(3) البيت لأشهب بن رميلة، وعجزه:
* هم القومُ كلُّ القوم يا أمَّ خالدٍ *
وهو من شواهد “الكتاب”، انظر: “الخزَانة”: (6/ 25).
(4) في “نتائج الفكر”: (ص/179 – 180).
(1/229)
مضارعة الجمع للواحد وشَبَهه به، وتكلُّف الجواب عن تلك الإشكالات، والله أعلم.
فائدة بديعة (1)
قول النحاة: “إن “ما” الموصولة بمعنى “الذي””، إن أرادوا بها أنها بمعناها من كل وجهٍ فليس بحق، وإن أرادوا أنها بمعناها من بعض الوجوه فحق، والفرقُ بينهما: أن “ما” اسم مبهم في غاية الإبهام، حتى إنها تقع على كلِّ شيء، وتقع على ما ليس بشيء، ألا تراك تقول: “إن الله يعلم ما كان وما لم يكن”، ولفَرْط إبهامها لم يجز الإخبار عنها حتى تُوْصَل بما يوضحها، وكل ما وُصِلَتْ يه يجوز أن يكون صلةٌ لـ “الذي”، فهو يوافق “الذي” في هذا الحكم، وتخالفها [في] أنها لا تكون (2) نعتًا لما قبلها ولا منعوتة؛ لأن صلتها تغنيها عن (3) النعت، -وأيضًا- فلو نُعِتت بنعتٍ زائد على الصلة لارتفع إبهامُها، وفي ارتفاع الإبهام منها جملة بطلانُ حقيقتها، وإخراجها عن أصل موضوعها.
وتفارق “الذي” -أيضًا- في امتناعها من التثنية والجمع، وذلك -أيضًا- لفرط إبهامها، فإذا ثبت الفرق بينهما؛ فاعلم أنه لا يجوز أن توجد إلا موصولة؛ لإبهامها، أو موصوفة، ولا يجوز أن توجد إلا واقعة على جنس تتنوع منه أنواع؛ لأنها لا تخلو من الإبهام أبدًا، ولذلك كان في لفظها ألف آخرة، لِمَا في الألف من المدِّ والاتساع
__________
(1) “نتائج الفكر”: (ص/180).
(2) (ظ ود): “في إبهامها لا تكون”! والمثبت من (ق) و”النتائج” وما بين المعكوفين من الأخير.
(3) (ظ ود): “بعينها غير”.
(1/230)
في هواء (1) الفم، مشاكلة لاتساع معناها في الأجناس. فإذا أوقعوها على نوعٍ بعينه، وخصوا به من يعقل وقصروها عليه، أبدلوا الألف نونًا ساكنة، فذهب امتداد الصوت، فصار قصرًا للَّفظِ موازنًا لقصر (2) المعنى.
وإذا وكان أمرها كذلك [ووقعت على جنْسٍ من الأجناس] (3)، وجب أن يكون ضميرُها العائد عليها من الصلةَ التي لابد للصلة (ظ/ 38 أ) منه، ولولا هو لم ترتبط بموصول حتى تكون صلة له، فيجب أن يكون ذلك الضمير بمنزلة ما يعود عليه في الإعراب والمعنى. فإذا وقعَتْ على ما هو فاعل في المعنى، كان ضميرها فاعلاً في المعنى واللفظ، (ق/ 52 أ)، نحو: “كرهت ما أصابك”. فـ “ما” مفعولة لكرهت في اللفظ، وهي فاعلة لـ “أصاب” في المعنى، فالضمير الذي في “أصاب” فاعل في اللفظ والمعنى.
وإذا وقعت على مفعول كان ضميرها مفعولاً لفظًا ومعنى، نحو: “سرني ما أكلته، وأعجبني ما لبسته”. فهي في المعنى مفعولة؛ لأنها عبارة عن الملبوس، فضميرها مفعول في اللفظ والمعنى، وكذلك إذا وقعت على المصدر (4)؛ كان ضميرها مفعولاً مطلقًا؛ لأن المصدر كذلك، وإن وقعت على الظرف؛ كان ضميرُها (5) مجرورًا بـ “في”؛ لأن الظرف كذلك في المعنى، إلا أنها لا تقع [من] (6) المصادر إلا
__________
(1) (ظ): “هذا”!.
(2) (ظ ود): “قصير اللفظ موازنًا لقصير”.
(3) ما بين المعكوفين من “النتائج”: (ص/ 181).
(4) (ظ ود): “اللفظ”.
(5) من قوله: “مفعولاً … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(6) (ظ ود): “على” و (ق): “إلا على” والمثبت من “النتائج”.
(1/231)
على ما تختلف أنواعه للإبهام الذي فيها.
فإن قيل: فكيف وقعت على من يعقل، كقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]. {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5)} [الشمس: 5]. {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)} [الكافرون: 3]، وأمثال ذلك؟.
قيل: هي في هذا كُلِّه على أصلها من الإبهام والوقوع على الجنس العام، لم يُرَد بها ما يُراد بمَنْ مِن التعيين لما يعقل والاختصاص دون الشياع، ومن فَهِم حقيقةَ الكلام وكان له ذوق؛ عرفَ هذا واستبانَ له.
أما قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] فهذا كلام وَرَد في معرض التوبيخ والتبكيت للَّعِين على امتناعه من السجود، ولم يستحق هذا التبكيت والتوبيخ حيث كان السجودُ لما يعقل، ولكن للمعصية والتكبر على ما لم يخلقه؛ إذ لا ينبغي التكبر لمخلوق على مخلوقٍ (1) مثله، إنما التكبر للخالق وحده، فكأنه يقول -سبحانه-: لمَ عصيتني وتكبَّرْت على ما لم تخلُقه وخلفَتُه أنا، وشرَّفتُه وأمرتُكَ بالسجودِ له؟! فهذا موضع “ما”؛ لأن معناها أبلغ ولفظها أعمُّ. وهو في الحجة أوقع، وللعذر والشبهة أقطع، فلو قال: ما منعك أن تسجدَ لمن خلقت؟ لكان استفهامًا مجوَّدًا من توبيخ وتبكيت، ولتُوُهِّم أنه وجب السجود له من حيث كان يعقل، أو لعلَّة موجودة في ذاته وعينه، وليس المراد كذلك، وإنما المراد: توبيخه وتبكيته على ترك سجوده لما خلق الله وأمره بالسجود له، ولهذا عَدَل عن اسم “آدم” العَلَم مع كونه أخص، وأتى بالاسم الموصول الدَّال على أن (2) جهة
__________
(1) ليست في (ظ ود).
(2) (ظ): “على جهة”.
(1/232)
التشريف المقتضية لإسجاده له كونه (1) خلقه بيديه، وأنت لو وضعتَ مكان “ما” (2) لفظة “من” لما رأيت هذا المعنى باديًا على صفحاتها، لتعينها وتخصيصها، بخلاف ما في لفظة “ما” في الإبهام الدال على أن المراد المعنى (3) المذكور في الصلة، وأن “ما” جيء بها وَصْلة إلى ذكر الصّلة فتأمَّل ذلك، فلا معنى إذًا للتعيين بالذكر؛ إذ لو أُريْد التعيين لكان بالاسم العَلَم أولى وأحرى.
وكذلك قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5)} [الشمس: 5]؛ لأن (ق/52 ب) القَسَم تعظيم للمُقْسَم يه، واستحقاقه للتعظيم من حيث بنى وأظهر هذا الخلقَ العظيمَ الذي هو السماء، ومن حيث سواها بقدرته، وزينها بحكمته. فاستحق التعظيم وثبتت قدرته، فلو قال: “ومن بناها”، لم يكن في اللفظ دليل على استحقاقه للقسم به (4)، من حيث اقتدر على بنائها، ولكان المعنى مقصورًا على ذاته ونفسه دون الإيحاء إلى أفعاله الدالة على عظمته، المنبئة عن حكمته، المفصِحَة باستحقاقه للتعظيم من خليقته.
وكذلك قولهم: “سبحان ما يسبحُ الرعد بحمده”؛ لأن الرعد صوت عظيم من جرم عظيم، والمسبح به لا محالة أعظم، فاستحقاقه للتسبيح من حيث [سبَّحته] (5) العظيمات من خلقه، لا من (ظ/38 ب) حيث كان يعلم، ولا تقل: “يعقل” في هذا الموضع.
__________
(1) من قوله: “وأمره بالسجود … ” ساقط من د.
(2) سقطت من (ق).
(3) من قوله: “باديًا على … ” ساقط من (ظ ود).
(4) من (ق).
(5) في الأصول “يستحقّه”، والمثبت من “النتائج”.
(1/233)
فإذا تأملت ما ذكرناه، استبان لك قصور من قال: إن “ما” مع الفعل في هذا كلِّه سوى الأول في (1) تأويل المصدر، وأَنه لم يَقْدر المعنى حق قدره، فلا لصناعةِ النحو وُفِّق، ولا لفهم التفسير رُزِق، وأنه تابع الحَزَّ وأخطأَ المَفصِل، وحامَ ولكن ما وَرَدَ المنهل.
وأما قوله عز وجل: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)} [الكافرون: 2 – 3] فـ “ما” على بابها، لأنها واقعة على معبوده – صلى الله عليه وسلم – على الإطلاق؛ لأن امتناعهم من عبادة الله ليس لذاته، بل كانوا يظنون أنهم يعبدون الله، ولكنهم كانوا جاهلين به؛ فقوله: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)} [الكافرون: 5] أي: أنتم لا (2) تعبدون معبودي، ومعبوده هو – صلى الله عليه وسلم – كان غارفًا به دونهم، وهم جاهلون به. هذا جواب بعضهم.
وقال آخرون: إنها هنا مصدرية لا موصولة، أي: لا تعبدون عبادتي، ويلزم من تبريتهم عن عبادته تبريهم (3) من المعبود؛ لأن العبادة متعلِّقة به، وليس هذا بشيء! إذ المقصود براءته من معبوديهم، وإعلامه أنهم بريئون من معبوده -تعالى- فالمقصود المعبود لا العبادة.
وقيل: إنهم كانوا يقصدون مخالفته – صلى الله عليه وسلم – حسدًا له، وأَنَفَةً من اتباعه، فهم لا يعبدون معبودة، لا كراهية لذات المعبود؛ ولكن كراهية لاتباعه – صلى الله عليه وسلم -، وحرصًا على مخالفته في العبادة، وعلى هذا فلا يصح في النظم البديع والمغنى الرفيع إلا لفظ “ما”؛ لإبهامها ومطابقتها الغرض الذي تضمنته الآية.
__________
(1) (ظ ود): “فمن”.
(2) (ظ): “لا أنتم”.
(3) (ظ): “تبريهم عن عبادته تنزيههم”.
(1/234)
وقيل في ذلك وجه رابع، وهو: قَصْد ازدواج الكلام [أصلٌ] (1) في البلاغة والفصاحة، مثل قوله تعالى: {نسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194]، فكذلك: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)} [الكافرون: 2] ومعبودهم لا يعقل، ثم ازدَوَجَ مع هذا الكلام قوله تعالى: (ق/53 أ) {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)} [الكافرون: 5]، فاستوى اللفظان وإن اختلف المعنيان، ولهذا لا يجيء في (2) الإفراد مثل هذا، بل لا يجيء إلا “من” كقوله تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ}، {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ} [يونس: 31]، {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ} [يونس: 31] {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [النمل: 63]، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62]، {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} [النمل: 64] إلى أمثال ذلك.
وعندي فيه وجه خامس أقرب من هذا كله، وهو: أن المقصود هنا ذِكْر المعبود الموصوف بكونه أهلاً للعبادة مستحقًّا لها، فأتى بـ “ما” الدالة على هذا المعنى كأنه قيل: ولا أنتم عابدون معبودي الموصوف بأنه المعبود الحق، ولو أتى بلفظة “من”؛ لكانت إنما تدل على الذات فقط، ويكون ذِكْر الصِّلة تعريفًا لا أنه هو جِهَة العبادة، ففَرْقٌ بين أن (3) كونه -تعالى- أهلاً لأن يعبد تعريفٌ محض، أو وصف مقتضٍ لعبادته، فتأمله فإنه بديع جدًّا.
وهذا معنى قول محققي النحاة: إن “ما” تأتي لصفات من يعلم، ونظيره: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] لما كان المراد
__________
(1) من “النتائج”.
(2) ليست في (ظ ود).
(3) (ظ ود) زيادة: “يكون”.
(1/235)
الوصف وأنه هو السبب الداعي إلى الأمر بالنكاح وقصده وهو الطيب، فتنكح المرأة الموصوفة به، أتى بـ “ما” دون “من “، وهذا باب لا ينخرم، وهو من ألطف مسالك العربية.
وإذ قد أفضى الكلام بنا إلى هنا فلنذكر فائدة ثانية زائدة (1) على ذلك وهي: تكرير الأفعال فى هذه السورة.
ثم فائدة ثالثة وهي: (ظ/39 أ) كونه كرر الفعل في حق نفسه بلفظ المستقبل في الموضعين وأتى في حقهم بالماضي.
ثم فائدة رابعة وهي: أنه جاء في نفي عبادة (2) معبودهم عنه بلفظ الفعل (3) المستقبل، ونجاء في نفي عبادتهم معبوده باسم الفاعل.
ثم فائدة خامسة وهي: كون أداة النفي هنا “لا” دون “لن”.
ثم فائدة سادسة وهي: أن طريقة القرآن في مثل هذا: أن يقرن النفي بالإثبات، فينفي عبادة ما سوى الله ويثبت عبادته، وهذا هو حقيقة التوحيد، والنفي المحض ليس بتوحيد، وكذلك الإثبات بدون النفي، فلا يكون التوحيد إلا متضمنًا للخفي والإثبات، وهذا حقيقة “لا إله إلا الله”، فلِمَ جاءت هذه السورة بالنفي المحض وما سرُّ ذلك؟ ..
وفائدة سابعة وهي: ما حِكْمة تقديم نفي (4) عبادته عن معبودهم ثم نفي عبادتهم عن معبوده؟.
__________
(1) من (ق).
(2) (ق): “عبادة نفي” وكذا في السطر الآتي.
(3) سقطت من (ق).
(4) (ق): “أما حكم نفي”.
(1/236)
وفائدة ثامنة وهي: أن طريقة القرآن إذا خاطب الكفار أن يخاطهم بالذين كفروا، والذين هادوا، كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} [التحريم: 7] {قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ} [الجمعة: 6] ولم يجئ: {يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} إلا في هذا الموضع، فما وجه هذا الاختصاص؟.
وفائدة تاسعة وهي: هل في (ق/53 ب) قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} [الكافرون: 6] معنى زائد على النفي المتقدم؟ فإنه يدلّ على اختصاص كلٍّ بدينه ومعبوده، وقد فُهِم هذا من النفي فما أفاد التقسيم المذكور؟.
وفائدة عاشرة وهي: تقديم ذكرهم ومعبودهم في هذا التقسيم (1) والاختصاص. وتقديم ذكر شأنه وفعله في أول السورة.
وفائدة حادية عشرة وهي: أَنَّ هذه السورة قد اشتملت على جنسين من الإخبار:
أحدهما: براءته من معبودهم وبراءتهم من معبوده، وهذا لازم أبدًا.
الثاني: إخباره بأن له دينه ولهم دينهم، فهل هذا مُتَارَكَة وسكوت عنهم، فيدخله النسخ بالسيف أو التخصيص ببعض الكفار؟ أم الآية باقة على عمومها وحكمها غير منسوخة ولا مخصوصة؟.
فهذه عشر مسائل فى هذه السورة قد ذكرنا منها مسألة واحدة، وهى وقوع “ما” فيها بدلاً عن “من ” (2) فنذكر المسائل التسع مُسْتمدين
__________
(1) (ق): “التقديم”.
(2) (ظ ود): “بلا عن”!.
(1/237)
من فضل الله، مستعينين بحوله وقوته، متبرئين إليه من الخطأ فما كان من (1) صوابٍ فمنه وحده لا شريك له، وما كان من خطأ فمنا ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه.
فأما المسألة الثانية: وهي فائدة تَكْرَار الأفعال، فقيل فيه وجوه؛ أحدها: أن قوله تعالى: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)}، نفي للحال والمستقبل، وقوله تعالى: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)}، مقابله أي: لا تفعلون ذلك، وقوله تعالى: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)}، أي: لم يكن مني ذلك قط قبل نزول الوحي، ولهذا أتى في عبادتهم بلفظ الماضي، فقال: {مَا عَبَدْتُمْ (4)}، فكأنه قال: لم أعبد قط ما عبدتم. وقوله تعالى: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)}، مقابله، أي: لم تعبدوا قط في الماضي ما أعبده أنا دائمًا.
وعلى هذا فلا تَكْرَار أصلًا، وقد استوفت الآياتُ أقسام النفي ماضيًا وحالاً ومستقبلاً، عن عيادته وعبادتهم، بأوجز لفظ وأخصَرِه وأبيَنِهِ، وهذا إن شاء الله أحسن ما قيل فيها، فلنقتصر عليه ولا (2) نتعداه إلى غيره، فإن الوجوه التي (3) قيلت في مواضعها، فعليك بها.
وأما المسألة الثالثة وهي: تكرير الفعل (4) بلفظ المستقبل حين أخبر عن نفسه (ظ/39 ب)، وبلفظ الماضي حين أخبر عنهم.
ففي ذلك سرٌّ وهو: الإشارة والإيماء إلى عِصمة الله له عن الزيغ
__________
(1) “كان من” سقطت من (ق).
(2) سقطت من (ظ ود).
(3) ليست في (ق).
(4) سقطت من (ظ ود).
(1/238)
والانحراف عن عبادة معبوده والاستبدال به غيره، وأن معبوده واحد في الحال والمآل على الدوام، لا يرضى به بدلاً ولا يبغي عنه حِوَلاً، بخلاف الكافرين، فإنهم يعبدون أهواءَهم، ويتبعون شهواتهم في الدين وأغراضهم، فهم بصَدَد أن يعبدوا اليوم معبودًا وغدًا غيره، فقال: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}، يعني: الآن، {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)} أنا الآن -أيضًا- ثم قال: (ق/ 54 أ) {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)} يعني: ولا أنا فيما يُسْتَقبل يصدر مني عبادة لما عبدتم أيها الكافرون. وأشبهت “ما” هنا رائحةُ الشرط، فلذلك وقع بعدها الفعل بلفظ الماضي، وهو مستقبل في المعنى، كما يجيء ذلك بعد حرف الشرط، كأنه يقول: “مهما عبدتم من شيءٍ فلا أعبده أنا”.
فإن قيل: وكيف يكون فيها الشرط وقد عمل فيها الفعل، ولا جواب لها، وهى موصولة فما أبعد الشرط منها؟!.
قلنا: لم نقل أنها شرط نفسُها، ولكن فيها رائحة منه وطرف من معناه؟ لوقوعها على غير معَيَّن وإبهامها في المعبودات وعمومها، وأنت إذا ذقت معنى هذا الكلام وجدت معنى الشرط باديًا على صفحاته. فإذا قلت لرجلٍ ما -تخالفه في كل ما يفعل-: أنا لا أفعل ما تفعل، ألستَ ترى معنى الشرط قائمًا قي كلامِكَ وقصدك؟ وأن روح هذا الكلام: مهما فعلتَ من شيءٍ فإني لا أفعله. وتأمل ذلك في “مَنْ”، مثل قوله تعالى: {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)} [مريم: 29] كيف تجد معنى الشرطية فيه حتى (1) وقع الفعل بعد “مَنْ” بلفظ الماضي، والمراد به المستقبل، وأن المعنى: مَنْ كان في المهد
__________
(1) (ق) “معنى الشرط فيه حين”.
(1/239)
صبيًا فكيف نكلمه؟ في هذا هو المعنى الذي حامَ حوله من قال من المفسرين والمعربين: إن “كان” هنا (1) بمعنى يكون، لكنهم لم يأتوا إله من بابه، بل ألقوه عُطْلاً من تقدير وتنزيل، وعزب عن (2) فهم غيرهم هذا للُطْفه ودقَّته، فقالوا: “كان” زائدة، والوجه ما أخبرتك به، فخده عَفْوًا، لك غُنمه (3) وعلى سِوَاك غرمه، هذا مع أن “مَن” (4) في الآية قد عمل فيها الفعل، وليس لها جواب، ومعنى الشرطية قائم فيها، فكذلك في قوله: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)}، وهذا كلُّه مفهومٌ من كلام فحول النحاة، كالزَّجَّاج (5) وغيره.
فإذا ثبت هذا، فقد وضَحَت (6) الحكمة التي من أجلها جاء الفعل بلفظ الماضى من قوله: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)}، بخلاف قوله: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)}، لبعد “ما” فيها عن معنى الشرط؛ تنبيهًا من الله على عصمة نبيه أن يكون له معبود سواه، وأن يتنقل في المعبودات تنقل الكافرين.
وأما المسألة الرابعة وهي: أنه لم يأتِ النفي في حقهم إلا باسم الفاعل، وفي جهته جاء بالفعل المستقبل تارةً وباسم الفاعل أُخرى، فذلك -والله أعلم- لحكمة بديعة، وهى: أن المقصود الأعظم براءته من معبوديهم بكل وجه وفي كل وقت، فأتى أولاً بصيغة الفعل الدالة
__________
(1) (ظ ود): “أنه كان نبيًّا”.
(2) من (ق).
(3) (ظ): “عزمه”.
(4) (ظ): “هل على من”!.
(5) هو: إبراهيم بن السَّريّ بن سهل، أبو إسحاق الزجَّاج النحوي ت (311).
انظر: “معجم الأدباء”: (1/ 130)، و”إنباه الرواة”: (1/ 194).
(6) (ظ ود): “صحت”.
(1/240)
على الحدوث والتجدد، ثم أتى في هذا النفي بعينه بصيغة اسم الفاعل الدالة على الوصف والثبوت، فأفاد في النفي الأول: أن هذا لا يقع مني، وأفاد في الثاني: أن هذا ليس وصفي ولا شأني، فكأنه قال: عبادة غيرِ اللهِ (ق/54 ب) لا تكون فعلًا لي ولا وصفًا، فأتى بنفيين لحنفيَّين مقصودَيْن (ظ/ 40 أ) بالنفي.
وأما في حقهم؛ فإنما أتى بالاسم الدال على الوصف والثبوت دون الفعل، أي: إن الوصف الثابت اللازم للعابد (1) لله منتف عنكم، فليس هذا الوصف ثابتًا لكم وإنما يثبت لمن خص اللهَ وحدَه بالعبادة لم يشرك معه فيها أحدًا، وأنتم لما عبدتم غيره فلستم من عابديه، وإن عبدوه في بعض الأحيان، فإن المشرك يعبد الله ويعبد معه غيره، كما قال أهل الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [الكهف: 16] أي: اعتزلتم معبودهم إلا الله فإنكم لم تعتزلوه، وكذا قال المشركون عن معبودهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، فهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه غيره، فلم ينتف عنهم الفعل لوقوعه منهم، ونُفِيَ الوصفُ؛ لأن من عبدَ غيرَ اللهِ، لم يكن ثابتاً على عبادة الله موصوفًا بها.
فتأمل هذه النكتة البديعة، كيف تجد في طيها أنه لا يوصف بأنه: عابدُ الله وعبدُه والمستقيم على عبادته، إلا من انقطع إليه بكلِّيته وتبتَّل إليه تبتيلًا لم يلتفت إلى غيره ولم يشرك به أحدًا في عبادته، وأنه وإن عبده وأشرك به غيره؛ فليس عابدًا لله ولا عَبْدًا له، وهذا من أسرار هذه السورة العظيمة الجليلة، التي هي إحدى سورتي الإخلاص،
__________
(1) (ظ): “العائد”.
(1/241)
التي تعدل ربع القرآن كما جاء في بعض السنن (1)، وهذا لا يفهمه كلُّ أحد، ولا يدركه إلا من منحه الله فهما من عنده، فله الحمد والمنة.
وأما المسألة الخامسة وهي: أن النفي في هذه السورة أتى بأداة “لا” دون “لن” (2)، فلِمَا تقدم تحقيقُه عن قربٍ: أن النفي بـ “لا” أبلغ منه بـ “لن”، وأنها أدل على دوام النفي وطوله من “لن”، وأنها للطول: والمد الذي في لفظها طال النفي بها وامتد (3)، وأن هذا ضد ما فهمته الجهمية والمعتزلة، وأن “لن” إنما تنفي المستقبل ولا تنفي الحال المستمر النفي في الاستقبال، وقد تقدَّم تقرير ذلك بما لا تكاد تجده في غير هذا التعليق (4)، فالإتيان بـ “لا” مُتَعين هنا؟ والله أعلم.
وأما المسألة السادسة وهي: اشتمال هذه السورة على النفي المحض؛ فهذا هو خاصَّة هذه السورة العظيمة، فإنها سورة براءةٍ من
__________
(1) أخرجه الترمذي رقم (2895)، وأحمد: (3/ 147)، وابن عدي في “الكامل”: (3/ 333)، والبيهقي: في “الشُّعَب”: (5/ 453) من طريق سلمة بن وَرْدان، عن أنس، وفيه: أن “قل يا أيها الكافرون” تعدل ربع القرآن”.
وسلمة ضعيف الحديث، وهذا الحديث عن مناكيره، لكن حسنه الترمذي.
وأخرجه الترمذي رقم (2893)، والبيهقي في “الشعب”: (5/ 454) من طريق الحسن بن سَلْم العجلي، عن ثابت، عن أنس.
قال الترمذي: “هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث هذا الشيخ” ومثله قال أبو أحمد الحاكم كما في “التهذيب”: (2/ 280).
وله شاهد من حديث ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- وفيه ضعف. انظر: “لمحات الأنوار”: (3/ 1048) وما بعدها، و 1069 – 1079، للغافقي. “وتخريج الكشاف”: (4/ 307) للزيلعي.
(2) (ظ): “أن” في جميع المواضع وهو خطأ.
(3) (ظ ود): “في نفيها طال النفي بها وأشد”!.
(4) انظر ما تقدم: (ص/ 166 – 169).
(1/242)
الشرك، كما جاء في وصفها: “أنها بَرَاءةٌ مِنَ الشِّرْك” (1)، فمقصودُها الأعظم هو البراءة المطلقة بين الموحدين والمشركين، ولهذا أتى بالنفي في الجانبين تحقيقًا للبراءة المطلوبة، هذا مع أنها متضمنة للإثبات صريحًا فقوله: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)} براءة محضة، {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)} إثبات أن له معبودًا يعبده وأنهم (2) بريئون من عبادته، فتضمنت النفي والإثبات وطابقت قولَ إمام الحنفاء: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف: 26 – 27]، وطابقت قول الفِتْية (3) الموحدين: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [الكهف: 16] فانتظمت حقيقةَ لا إله إلا الله، ولهذا (ق/55 أ) كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يقرأ بها وبـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} في سنة الفجر وسنة المغرب (4)، فإن هاتين السورتين سورتا الإخلاص، وقد اشتملتا على نوعَي التوحيد (5)، الذي لا نجاة للعبد ولا فلاح إلا بهما، وهما توحيد العلم والاعتقاد
__________
(1) أخرجه أبو داود رقم (5055)، والترمذي (3403)، والنسائي في “عمل اليوم والليلة” رقم (801)، وابن حبان “الإحسان”: (3/ 69 – 70)، والحاكم: (2/ 538) وغيرهم من حديث نوفلٍ الأشجعي -والحديث صححه الحاكم وابن حبان، وله شواهد عن غير واحد من الصحابة. انظر: “لمحات الأنوار”: (3/ 1071 – 1079).
(2) (ظ ود): “وأنتم”.
(3) (ظ ود): “الفئة”.
(4) أما قراءتهما في سنة الفجر؛ فعند مسلم رقم (726) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وكذا عن جماعة من الصحابة في السنن وغيرها، انظر: “فتح الباري”: (3/ 57).
أما قراءتهما في سنة المغرب؛ فعند الترمذي (431)، وقال: غريب، وابن ماجه (1166) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- وسنده فيه ضَعْف.
(5) سقطت من (ظ).
(1/243)
المتضمِّن تنزيه الله عما لا يليق به مِن الشرك والكفر والولد والوالد، وأنه إله أَحَدٌ صَمَد، لم يلد فيكون له فرع، ولم يولد فيكون له أصل، ولم يكن له كفوًا أحد فيكون له نظير، ومع هذا فهو الصمد (ظ/ 40 ب) الذي اجتمعت له صفات الكمال كلها، فتضمنت السورةُ إثبات ما يليق بجلالة من صفات الكمال ونفي ما لا يليقُ به من الشريك أصلًا وفرعًا في نظيرًا، فهذا توحيد العِلْم والاعتقاد.
والثاني: توحيد القصد والإرادة، وهو أن لا يعبد إلا إياه، فلا يشرك به في عبادته عباده، بل يكون وحده هو المعبود، وسورة {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} مشتملة على هذا التوحيد، فانتظمت السورتان نَوْعَي التوحيد وأخلصتا له، فكان – صلى الله عليه وسلم – يفتتح بهما النَّهار. في سُنة الفجر ويختم بهما في سنة المغرب (1). وفي “السنن” (2) أنه. كان يوتر بهما، فيكونا خاتمة عمل الليل كما كانا خاتمة عمل النهار (3)، ومن هنا تخريجُ جواب: المسألةِ السابعةِ وهي: تقديم براءته من معبودهم، ثم أتْبعها ببراءَتهم من معبوده فتأمله فإنه واضح (4).
وأما المسألة الثامنة وهي: إثباته هنا بلفظ: “يا أيها الكافرون” دون: “يا أيها الذين كفروا”؛ فسرُّه -والله أعلم-: إرادة الدلالة على أن من كان الكفر وصفًا ثابتًا له لازمًا لا يفارقه؛ فهو حقيقٌ أن يتبرأَ اللهُ.
__________
(1) انظر ما تقدم قريبًا.
(2) أخرجه أبو داود رقم: (1424)، والترمذي رقم (463) وابن ماجه رقم (1173). من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
قال الترمذي: حسن غريب، وقوَّاه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي.
(3) انظر: “زاد المعاد”: (1/ 316) نقَلَه فيه عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وانظر “مجموع الفتاوى”: (17/ 107 – 108) بنحوه.
(4) “فإنه واضح” ليست في (ظ ود).
(1/244)
منه، ويكون هو -أيضًا- بريئًا من الله، فحقيق بالموحِّد البراءة منه، فكان ذكره (1) في معرض البراءة التي هي غاية البعد (2) والمجانية بحقيقةِ حاله التي هي غاية الكفر، وهو الكفر الثابت اللازم في غاية المناسبة، فكأنه يقول: كما أن الكفر لازمٌ لكم ثابتٌ لا تنتقلون عنه؛ فمجانبتكم والبراء (3) منكم ثابت دائم أبدًا، ولهذا أتى فيها بالنفي الدَّال على الاستمرار مقابلة الكفر الثابت المستمر، وهذا واضح.
وأما المسألة التاسعة وهي: ما هي الفائدة في قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} وهل أفاد هذا معنًى زائدًا على ما تقدَّم؟.
فيقال: في ذلك من الحكمة -والله أعلم- أنَّ النفيَ الأول أفاد البراءة، وأنه لا يُتصور منه ولا ينبغي له أن يعبد معبوديهم، وهم -أيضًا- لا يكونون عابدين لمعبوده، وأفادَ آخرُ السورة إثبات ما تضمنه ذلك الخفي مِنْ توحيده له، وأنه حظه ونصيبه وقسمه، فإن ما تضمنه الخفي من (4) جهتهم من الشرك والكفر هو حظهم وقسْمهم ونصيبهم، فجرى ذلك مجرى من اقتسم (ق/55 ب) هو وغيره أرضًا فقال له: “لا تدخل في حَدِّي ولا أدخل في حَدك، لك أرضك ولي أرضي”، فتضمنت الآية أن هذه البراءة اقتضت أنّا اقتسمنا حِصَّتنا (5) بيننا فأصابنا التوحيد والإيمان؛ فهو نصيبُنا وقَسْمنا الذي نختص به لا تشركونا فيه، وأصابكم الشرك بالله والكفر به، فهو نصيبكم وقَسْمكم
__________
(1) ليست في (ظ ود).
(2) (ظ ود): “العبد”!.
(3) (ظ ود): “البراءة”.
(4) من قوله: “توحيده له، .. ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(5) (ظ ود): “خِطتنا”.
(1/245)
الذي تختصون به لا نشرككم فيه.
فتبارك من أحيا قلوب من شاء من عباده بفهم كلامه. وهذه المعاني ونحوها إذا تجلَّت للقلوب رافِلَةً قي حُللها فإنها تَسْبي القلوبَ وتأخذ بمجامِعِها، ومن لم يصادف من (1) قلبه حياة؛ فهي:
* خَوْدٌ (2) تُرَفُّ إلى ضَرِيرٍ مُقعدِ *
فالحمد لله على مواهبه التي لا منتهى لها، ونسأله تمام نِعْمته.
وأما المسألة العاشرة وهي: تقديم قِسْمهم ونصيبهم على قَسْمه ونصيبه، وفي أول السورة قدم ما يختص به على ما يختص بهم، فهذا من أسرار الكلام وبديع الخطاب الذي لا يُدركه إلا فحولُ البلاغة وفرسائها، فإن السورةَ لما اقتضت البراءة واقتسام ديني التوحيد والشرك بينه وبينهم، ورضيَ كلٌّ بقسمه، وكان المحِقُّ هو صاحب القسمة، وقد برز النصيبين وميَّز القسمين، وعلم أنهم راضون بقسمهم الدون الذي لا أَرْدَأ منه، وأنه هو قد استولى على القسم (ظ/ 41 أ) الأشرف (3) والحظ الأعظم، بمنزلة من اقتسم هو وغيره سُمًّا وشِفاء، فرضيَ مُقاسِمة بالسمِّ، فإنَّه يقول له: لا تشاركني في قسمي ولا أشاركك في قسمك، لك قسمك ولي قسمي.
فتقديم ذكر قسمة هاهنا أحسن وأبلغ، كأنه يقول: “هذا هو قسمك الذي آثرته بالتقديم وزعمت أنه أشرف القسمين وأحقهما بالتقديم”، فكان في تقديم ذِكر قسْمِه من التهكُّم به والنداء على سوء
__________
(1) ليست في (ق).
(2) الخَود: الشابة الحسناء.
(3) ليست في (ظ).
(1/246)
اختاره وقُبْح ما رضيه لنفسه من الحُسْن والبيان ما لا تجده في ذكر تقديم قسم نفسه. والحاكم في هذا هو الذوقُ، والفَطِنُ يكتفي بأدنى إشارة، وأما غليظ الفهم فلا ينجعُ فيه كثرةُ البيان.
ووجهٌ ثانٍ وهو: أن مقصود السورة براءته – صلى الله عليه وسلم – من دينهم ومعبودهم، هذا هو لبّها ومَغْزاها، وجاء ذكر براءتهم من دينه ومعبوده بالقصد الثاني مكملًا لبراءته ومحققًا لها (1)، فلما كان المقصود براءته من دينهم بدأ به في أولِ السورة، ثم جاء قوله تعالى {لَكُمْ دِينُكُمْ} مطابقًا لهذا المعنى، أي: لا أُشارككم في دينكم ولا أوافقكم عليه، بل هو دينٌ تختصون أنتم به لا أشرككم فيه أبدًا، فطابقَ آخرُ السورةِ أوَّلَها، فتأمَّلْهُ.
وأما المسألة الحادية عشرة وهي: أن هذا الإخبار (ق/56 أ) بأنَّ لهم دينَهم وله دينه، هل هو إقرار فيكون منسوخًا أو مخصوصًا؟ أو لا (2) نسخ في الآية ولا تخصيص؟.
فهذه مسألة شريفة من أهم المسائل المذكورة، وقد غلط في السورة خلائق وظنوا أنها منسوخة بآية السيف (3)؛ لاعتقادهم أن هذه الآية اقتضت التقرير لهم على دينهم، وظن آخرون أنها مخصوصة بمن يُقرُّون على دينهم وهم أهل الكتاب، وكلا القولين غلط مَحْض، فلا نسخ في السورة ولا تخصيص، بل هي محكمة عمومها نصٌّ محفوظ، وهي من السور التي يستحيل دخول النسخ في مضمونها،
__________
(1) (ق): “لذاته وتحقيقًا”.
(2) (ظ ود): “لولا”.
(3) وهي قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5].
(1/247)
فإن أحكام التوحيد التي اتفقت عليه دعوة الرسل يستحيل دخول النسخ (1) فيه.
وهذه السورة أخلصت التوحيد، ولهذا تسمى سورة الإخلاص كما تقدَّم، ومنشأُ الغلطِ: ظنُّهم أن الآية اقتضت إقرارهم على دينهم، ثم رأوا أن هذا الإقرار زال بالسيف، فقالوا: منسوخ.
وقالت طائفة: زال عن بعض الكفار وهم من لا كتابَ لهم، فقالوا: هذا مخصوص، ومعاذَ الله أن تكون الآية اقتضت تقريرًا لهم، أو إقرارًا على دينهم أبدًا، بل لم يزل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في أول الأمر وأشده عليه وعلى أصحابه، أشد على الإنكارِ عليهم وعيب دينهم وتقبيحِه والنهي عنه والتهديد لهم (2) والوعيد كل وقت وفي كل ناد. وقد سألوه أن يكفَّ عن ذكر آلهتهم، وعَيْب دينهم، ويتركونه وشأْنَه؛ فأبى إلا مُضِيًّا على الإنكار عليهم وعيب دينهم، فكيف يقال: إن الآية اقتضت تقريره لهم؟! معاذ الله من هذا الزعم الباطل، وإنما الآية اقتضت البراءة المحضة كما تقدَّم، وأن ما هم عليه من الدين لا أوافقكم عليه أبدًا، فإنه دينٌ باطل، فهو مختص بكم لا نشرككم فيه ولا أنتم تشركوننا في ديننا الحق، فهذا غاية البراءة والتنصُّل من موافقتهم في دينهم، فأين الإقرار حتى يُدَّعى النسخ أو التخصيص؟ أفتَرَى إذا جُوهِدُوا بالسيف كما جوهدوا بالحجة، لا يصح أن يقال لهم (3): لكم دينكم ولي دين. بل هذه آية قائمة محكمة ثابتة بين المؤمنين (ظ/ 401 ب) والكافرين إلى أن يطهِّر الله منهم عبادَه وبلاده.
__________
(1) من قوله: “في مضمونها … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) من (ق).
(3) من (ق).
(1/248)
وكذلك حكمٌ هذه البراءة بين أتباع الرسول – صلى الله عليه وسلم – أهل سنته، وبين أهل البدع المخالفين لما جاءَ به، الداعين إلى غير سنته، إذا قال لهم خلفاء الرسول وورثته (1): لكم دينكم ولنا ديننا، لا يقتضي هذا إقرارهم على بدعتهم، بل يقولون لهم هذا براءة منها، وهم مع هذا منتصبون للرد عليهم ولجهادهم بحسب الإمكان.
فهذا ما فتح الله العظيم (2) به من هذه الكلمات اليسيرة النزرة، المشيرة إلى عظمة هذه السورة وجلالتها ومقصودها وبديع نظمها، من غير استعانة (ق/56 ب) بتفسير، ولا تتبع لهذه الكلمات من مظانٍّ توجد فيه، بل هي استملاء مما علَّمه الله وأَلهمه بفضله وكرمه، والله يعلم أني لو وجدتها في كتاب لأضفتها إلى قائلها ولبالغت في استحسانها، وعسى اللهُ المانّ بفضله الواسع العطاء، الذي عطاؤه على غير قياس المخلوقين أن يعين (3) على تعليق تفسير على (4) هذا النمط، وهذا الأسلوب، وقد كتبتُ على مواضعَ متفرقة من القرآن بحسب ما يسنح من هذا النمط وقت مقامي بمكة وبالبيت المقدَّس، والله المرجو إتمام نعمته.
* * *
ولنذكر تمامَ الكلامِ على أقسام “ما” ومواقعها، فقد ذكرنا منها الموصولة. ومن أقسامها المصدرية (5)، ومعنى وقوعها عليه: أنها إذا
__________
(1) (ق): “وذريته”.
(2) (ق): “الكريم”.
(3) “أن يعين” ليست في (ظ ود).
(4) سقطت من (ظ ود).
(5) “نتائج الفكر”: (ص/ 185 – 186).
(1/249)
دخلت على الفعل كان معها في تأويل المصدر، هكذا أطلق النحاة، وهنا أمور يجب التنبيه: عليها والتنبه لها:
أحدها: الفرق بين المصدر الصريح والمصدر (1) المقدر مع “ما” والفرق بينهما أنك إذا قلت: “يعجبني صنعك”، فالإعجاب هنا واقع على نفس الحدث بقطع النظر عن زمانه ومكانه، وإذا قلت: “يعجبني ما صنعتَ”، فالإعجاب واقع على صنع ماضي، وكذلك “ما تصنع” واقع على مستقبل فلم تتحد دلالة “ما” والفعل والمصدر.
الثانى: أنها لا تقع مع كلِّ فعلٍ في تأويل المصدر، وإن وقع المصدر في ذلك الموضع، فإنك إذا قلت: “يعجبني قيامك”، كان حسنًا، فلو قلت: “يعجبني ما تقوم”، لم يكن كلامًا حسنًا، وكذلك: “يعجبني ما تجلس”، أي: قيامُك وجلوسُك، ولو أتيت بالمصدر كان حسنًا، وكذلك إذا قلت: “يعجبني ما تذهب”، لم يكن في الجواز والاستعمال مثل “يعجبني ذهابُك”.
فقال أبو القاسم السهيلي -رحمه الله (2) -: “الأصل في هذا: أن “ما” لما كانت اسمًا مبهمًا، لم يصح وقوعها إلا على جنسٍ تختلف أنواعُه؛ فإن كان (3) المصدر مختلف الأنواع، جار أن تقع عليه ويُعَبَّر بها عنه، كقولك: “يعجبني ما صنعتَ، وما عملتَ، وما حكمتَ”؛ لاختلاف أنواع الصنع والفعل والحكم (4).
__________
(1) من قوله: “هكذا أطلق … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) في “نتائج الفكر”: (ص/ 186) بتصرُّف.
(3) ليست في (ق).
(4) (ظ ود): الاختلاف: الصنعة والعلم والحكم”، و”النتائج”: وكذلك الصنع والفعل والعمل”.
(1/250)
فإن قلت: “يعجيني ما جلستَ، وما انطلقَ زيد”، كان غثًّا من الكلام؛ لخروج “ما” عن الإبهام، ووقوعها على ما لا يتنوَّع من المعاني؛ لأنه يكون التقدير حينئذٍ: “يُعجبني الجلوسُ الذي جلستَ، والقعود الذي قعدتَ”، فيكون آخر الكلام مُفسِّرًا لأوله رافعًا للإبهام، فلا معنى حينئذٍ لـ “ما”.
فأما قوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا} [البقرة: 61]، فلأن المعصية تختلف أنواعُها.
وقوله تعالى: {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)} [التوبة: 77]؛ فهو كقولك (1): لأعاقبنك بما ضربتَ زيدًا، وبما شَتَمْت عَمْرًا، أَوْقَعْتَها على الذنب، والذنب مختلف الأنواع، ودلَّ ذِكْر المعاقبة والمجازاة على ذلك، فكأنك قلتَ: لأجزينك بالذنب (2) الذي هو (ق/ 57 أ)، ضَرْب زيدٍ أو شَتْم عَمْروٍ، فما على بابها (ظ/42 أ) غير خارجة عن إبهامها” (3).
هذا كلامه، وليس كما زعم -رحمه الله-، فإنه لا يُشْتَرط في كونها مصدرية ما ذكر من الإبهام، بل تقع على المصدر الذي لا تختلف أنواعه، بل هو نوع واحد، فإن إخلافهم ما وعدَ الله كان نوعًا واحدً مُسْتمرًّا (4) معلومًا، وكذلك كذبهم.
وأصرح من هذا كلِّه قولُه تعالى (5): {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ
__________
(1) (ق وظ ود): “كقوله” والمثبت من “النتائج”.
(2) (ق): “لأخبرتك بالذي”.
(3) (ظ ود): “عن بابها”.
(4) (ق): “متميزًا”.
(5) “كله قوله تعالى” ليست في (ق).
(1/251)
الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)} [آل عمران: 79] فهذا مصدر معين خاص لا إبهامَ فيه بوجهٍ، وهو علم الكتاب ودَرْسه، وهو فَرْد من أفراد العمل والصنع، فهو كما منعه من الجلوس (1) والانطلاق، ولا فرق بينهما في إبهام ولا تعيين إذ كلاهما (2) مُعيَّن متميِّز غير مبهم، ونظيره: {بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93] فاستكبارهم وقولهم على الله غيرَ الحقِّ مصدران مُعَيَّنان غير مبهمين، واختلاف أفرادهما كاختلاف أفراد الجلوس والانطلاق، ولو أنك قلتَ في الموضع الذي منعه: “هذا بما جلست”، “وهذا بما انطلقت” كان حسنًا غير غثٍّ ولا مستكره وهو المصدر بعينه، فلم يكن الكلام غثًّا لخصوص المصدر، وإنما هو لخصوص التركيب، فإن كل (3) ما يُقدَّر امتناعُه واستكراهُه إذا صُغْته (4) في تركيبٍ: آخر زالت الكراهيةُ والغثاثةُ عنه، كما رأيتَ.
والتحقيق أن قوله: “يعجبني ما تجلس وما ينطلق زيد”، إنما استكره وكان غثًّا؛ لأن “ما” المصدرية والموصولة يتعاقبان غالبًا، ويصلح أحدُهما في الموضع الذي يصلُح فيه الآخر، وربما احتملهما الكلام احتمالاً واحدًا لا يميز (5) بينهما فيه إلا ينظر وتأمل. فإذا قلت: “يعجبني ما صنعت”؛ فهي صالحة لأن تكون مصدرية أو موصولة، وكذلك {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)} [النور: 41]، {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)} [البقرة: 96] فتأمله تجده كذلك.
__________
(1) في “المنيرية” زيادة: “والقعود”.
(2) (ق): “كلًّا منهما”.
(3) (ظ ود): “كان”.
(4) (ظ ود): “إذ” و (ق): “صنعته”.
(5) (ظ ود): “احتملها الكلام واحدًا يميز”.
(1/252)
ولدخول إحداهما على الأخرى ظنَّ كثيرٌ من الناس أن قولَه تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96] أنها مصدرية. واحتجوا بها على خلق الأعمال، وليست مصدرية وإنما هي موصولة، والمعنى: والله خلقكم وخلقَ الذي تعملونه وتنحتونه من الأصنام، فكيف تعبدونه وهو مخلوق لله؟! ولو كانت مصدرية لكان الكلام آل (1) إلى أن يكون حجة لهم أقرب من أن يكون حجةً عليهم؛ إذ (2) يكون المعنى: أتعبدون ما تنحتون والله خلق عبادتكم لها؟! فأي معنى في هذا وأي حجة عليهم؟!.
والمقصود: أنه كثيرًا ما تدخل إحداهما على الأخرى، ويحتملهما الكلام سواء.
وأنت لو قلت: أيعجبني الذي يجلس”؛ لكان غثًّا من المقال، إلا أن تأتي بموصوف يجرى هذا صفة له، فتقول: “يعجبني الجلوسُ الذي تَجْلس”، وكذلك إذا قلت: فيعجبني الذي ينطلق (ق/ 57 ب) زيد”، كان غثًّا، فإذا قلت: “يعجبني الانطلاق الذي ينطلق زيد”؛ كان حسنًا، فمن هنا اسْتُغِثَّ: “يعجبني ما يَنْطَلِق وما تَجْلِس” إذا أردت به المصدر (3).
وأنت لو قلت: “آكل ما يأكل”؛ كانت موصولة، وكان الكلام حسنًا، فلو أردت بها المصدرية والمعنى: آكل أكلك؛ كان غثًّا حتى تأتي بضمِيْمَةٍ تدل على المصدر، فتقول: آكل كما يأكل، فعرفت أنه
__________
(1) من (ق).
(2) (ق): “أو”.
(3) (ق): “المصدرية”.
(1/253)
لم يكن الاستكراه الذي أشار إليه من جهة الإبهام والتعيين؛ فتأمَّلْه.
وأما: “طالما يقوم زيد، وقلَّما يأتي عَمْرو”، فـ “ما” هنا واقعة على الزمان، والفعلُ بعدها متعدٍّ إلى ضميره بحرف الجر، والتقدير: طالَ زمان يقوم فيه زيد، وقلَّ زمان يأتينا فيه عَمْرو، ثم (ظ/42 ب) حُذِف الضميرُ فسقط الحرفُ، هذا تقدير طائفة من النحاة، منهم السُّهَيلي (1) وغيره.
ويحتمل عندي تقديرين آخرين هما أحسنُ من هذا:
أحدهما: أن تكون مصدرية وقتية، والتقدير: “طالَ قيامُ زيد، وقلَّ إتيان عَمْرو”. وإنما كان هذا أحسن، لأن حذفَ العائد من الصفة (2) قبيح، بخلاف حذفه إذا لم يكن عائدًا على شيءٍ فإنه أسهل، وإذا جُعِلَت مصدرية؛ كان حذف الضمير حذف فضلة غير عائد على موصوف.
والتقدير الثالث: -وهو أحسنها- أن “ما” هاهنا مُهَيئة لدخول الفعل على الفعل ليست مصدرية ولا نكرة، وإنما أُتي بها لتكون مُهَيِّئة لدخول “طال ” على الفعل، فإنك لو قلتَ: “طال يقوم زيد، وقلّ يجيء عَمْرو” لم يجز، فإذا أدخلت “ما” استقام الكلام، وهذا كما دخلت على “رُبَّ” مُهَيئة لدخولها على الفعل، نحو قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)} [الحجر: 2]، وكما دخلت على “إن” مُهَيئة لدخولها على الفعل نحو: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، فإذا عرفتَ هذا؛ فقول النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: “صَلُّوا كَمَاْ
__________
(1) في “نتائج الفكر”: (ص/ 187).
(2) (ق): “الصلة”!.
(1/254)
رَأيْتُمُوْني أُصَلِّي” (1) هو من هذا الباب، ودخلَتْ “ما” بين كاف التشبيه وبين الفعل مُهَيئة لدخولها عليه، فهي كافة للخافض ومُهَيئة له أن تقع بعد الفعل، وهذا قد خَفِي على أكثر (2) النحاة حتى ظن كثير منهم أن “ما” هاهنا مصدرية، وليس كما ظن؛ فإنه لم يقع التشبيه هنا بالرؤية، وأنت لو صرحت بالمصدر هنا؛ لم يكن كلامًا صحيحًا، فإنه لو قيل: صلوا كرؤيتكم صلاتي، لم يكن مطابقًا للمعنى المقصود، فلو قيل: إنها موصولة والعائد محذوف، والتقدير: صلوا كالتي رأيتموني أصلي، أي؛ كالصلوات التي رأيتموني أصليها؛ كان أقربَ من المصدرية على كراهته، فالصواب ما ذكرتُه لك.
ونظير هذه المسألة قوله – صلى الله عليه وسلم – (ق/ 58 أ)، للصدِّيق: “كما أنت” (3)، فأنت مبتدأ والخبر محذوف، فلا مصدر هنا إذ لا فعل، فمن قال: إنها مصدرية فقط غَلِط، وإنما هى مُهَيئة لدخول الكاف على ضمير الرفع، والمعنى: كما أنت صانع أو كما أنت مُصَلٍّ، فَدُم على حالتك.
ونظير ذلك -أيضًا- وقوعها بين “بعد” والفعل، نحو قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} [التوبة: 117]، ليست مصدرية كما زعم أكثر النحاة، بل هى مهيئة لدخول “بعد” على فعل “كاد”؛ إذ لا يُصَاغ من “كاد” و”ما” مصدر إلا أن يتجشم له فعلٌ بمعناه يُسْبَك منها، ومن ذلك الفعل مصدر، وعلى ما قررناه لا
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (631) من حديث مالك بن الحويرث -رضي الله عنه- وأصله في مسلم رقم (674).
(2) (ق): “على كثير من”.
(3) أخرجه البخاري رقم (683)، ومسلم: (1/ 314 رقم 97) من حديث عائشة – رضي الله عنها -.
(1/255)
يحتاج (1) إلى ذلك، ويؤيد هذا قول الشاعر (2):
أعَلاقَةً أمَّ الوُلَيِّدِ بَعْدَما … أَفْنانُ رَأْسِك كالثَّغَامِ المُخْلِسِ
أفلا تراها هاهنا حيث لا فعل ولا مصدر أصلًا (3)، فهي كقوله: “كما أنت” مهيئة لدخول “بعد” على الجملة الابتدائية؛ ولكن الخبر في البيت مذكور، وهو قي قوله: “كما أنت” محذوف.
فإن قلت: فما بالهم لم يدخلوه في “قبل” كافة لها مهيئة لدخولها على الفعل: والجملة، فيقولون: “قبلما يقومُ زيد، وقبلما زيدٌ قائم”.
قلت: لا تكون “ما” كافة لأسماء الإضافة، وإنما تكون كافة للحروف وما ضارعها (4)، و”بعد” أَشدُّ مضارعة للحروف من “قبل”؛ لأن “قبل” كالمصدر في لفظها ومعناها، كما (5) تقول: “جئتُ قبل الجمعة”، تريد: الوقتَ الذي تستقبل في الجمعة (6)، فالجمعة بالإضافة إلى ذلك الوقت قابلة، كما قال الشاعر:
* نَحُجُّ مَعًا قالت: أَعامًا وقابِله (7) *
__________
(1) “لا يحتاج” سقطت من (ظ ود).
(2) هو: المرار بن سعيد الفقعسي. والبيت من شواهد “الكتاب”، و”مغني اللبيب” رقم (515).
(3) ليست في (ق).
(4) من (ق).
(5) من (ق).
(6) “الجمعة” سقطت من (ظ ود)، و (ق): “فيه الجمعة”.
(7) صدره: * فقلت: امكثي حتى يسار لعلنا *.
والبيت من شواهد: “الكتاب”: (2/ 39) غير معروف القائل.
(1/256)
فإذا كان العامُ الذي بعد عامك يُسَمَّى: قابلًا، فعامك الذي أنت فيه (1) (ظ/43 أ) قبل، ولفظه من لفظى قابل، فقد بان لك من جهةِ اللفظ والمعنى أن “قل” مصدر في الأصل، والمصدرُ كسائر الأسماء لا يكَفُّ به، ولا يُهَيأ لدخول الجمل بعده، وإنما ذلك في بعض الحروف العوامل، لا في شيءٍ من الأسماء. وأما “بعدُ”؛ فهي أبعد عن شبه المصدر، وإن كانت تقرب من لفظ [البُعد] ومن معناه، فليس قربها من لفظ المصدر كقرب “قبل”، ألا ترى أنهم لم يستعملوا من لفظها اسمَ فاعل، فيقولون للعام الماضي: الباعد، كما قالوا للمستقبل: القابل.
فإن قلت (2): فما تقول في قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ} [البقرة: 151] وقوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198] وقوله تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ} [القصص: 77]؛ فإنها لا يمتنع فيها تقدير المصدر في هذه المواضع كلِّها، فهل هي كافة (3) مُهَيئة أو مصدرية؟.
قلت: التحقيق أنها كافة لحرف التشبيه عن عمله، مُهَيئة لدخوله على الفعل، ومع هذا فالمصدر ملحوظ فيها وإن لم تكن مصدريةً مَحْضة، ويدل على أن “ما” لا تقع مصدرية على حَدِّ “أنْ”: أنك تجدها لا تصلح في موضع تصلح فيه “أنْ”، فإذا قلتَ: “أريد أن تقوم” كان مستقيمًا، فلو قلتَ: “أريدُ ما تقوم” (ق/58 ب) لم يستقِمْ، وكذلك: “أحب أن تأتيني”، لا تقول في (4) موضعه: “أحب ما تأتيني “.
__________
(1) سقطت من (ق).
(2) “فإن قلت “سقطت من (د).
(3) سقطت من (ظ ود).
(4) من (ق).
(1/257)
وسرُّ المسألة: أن المصدرية ملحوظٌ فيها معنى الذي، كما تقدَّم بخلاف “أن”.
فإن قلت فما تقول في: “كلما قمت أكرمتك” أمصدريَّة هنا، أو كافَّهٌ، أم نكرة؟.
قلتُ: هي هاهنا نكرة، وهي ظرف زمان في المعنى، والتقدير: كلَّ وقتٍ تقوم فيه أُكرِمْك.
فإن قلت: فهلَّا جعلتها كافة (1) لإضافة “كلٍّ” إلى الفعل، مُهَيئة لدخولها عليه؟.
قلت: ما أحراها بذلك لولا ظهور الظرف (2) والوقت وقصده من الكلام، فلا يُمكن إلغاؤه مع كونه هو المقصود، ألا ترى أنك تقول: “كل وقت يَفْعل كذا أفعل كذا”، فإذا قلت: “كلما فعلْت فعلْتُ”، وجدت معنى الكلامين واحدًا، وهذا قول أئمة العربية وهو الحق.
فصل (3)
قال أبو القاسم السهيلي (4): “اعلم أن “ما” إذا كانت موصولة بالفعل الذي لفظه: “عَمل أو صَنَع فعل”، وذلك الفعل مضاف إلى فاعل غير الباري -سبحانه- فلا يصح وقوعُها إلا على مصدر؛ لإجماع العقلاء من الأنام، في الجاهلية والإسلام، على أن أفعال الآدميين لا تتعلق بالجواهر والأجسام، لا تقول: “عملت جملًا، ولا
__________
(1) سقطت من (ظ ود).
(2) سقطت من (ق).
(3) (د): “فائدة”.
(4) في “نتائج الفِكْر”: (ص/ 189 – 192).
(1/258)
صنعت جبلًا، ولا حديدًا ولا حجرًا ولا ترابًا”، فإذا قلت: “أعجبني ما عملت، وما فعل زيد”، فإنما تعني الحَدَثَ، فعلى هذا لا يصح في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96] إلا قول أهل السنة: إن المعنى: والله خلقكم وأعمالَكُم، ولا يصح قول المعتزلة من جهة المنقول ولا من جهة المعقول؛ لأنهم زعموا: أن “ما” واقعة على الحجارة التي كانوا ينحتونها أصنامًا، وقالوا: تقدير الكلام: خلقكم والأصنام التي تعملون، إنكارًا منهم أن تكون أعمالنا مخلوقة لله سبحانه. واحتجوا بأن نظم الكلام يقتضي ما قالوا؛ لأنه تقدم قوله تعالى: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95] فـ “ما” واقعة على الحجارة المنحوتة، ولا يصح غير هذا من جهة النحو ولا من جهة المعنى؛ أما النحو؛ فقد تقدَّم أن “ما” لا تكون مع الفعل الخاص (1) مصدرًا. وأما المعنى؛ فإنهم لم يكونوا يعبدون النحت، وإِنما كانوا يعبدون المنحوت. فلما ثبتَ هذا وجب أن تكون الآية -التي هي ردّ عليهم وتفنيد لهم (2) – واقعة على الحجارة المنحوتة والأصنام المعبودة، فيكون التقدير: أتعبدون (ظ/43 ب) حجارة منحوتة، والله خلقكم وتلك الحجارة التي تعملون؟!.
هذا كله معنى قول المعتزلة، وشرح ما شبَّهوا به، والنظمُ على تأويلِ أهلِ الحقِّ أبدعُ، والحجةُ أَقْطَع (3). والذي ذهبوا إليه فاسد لا يصح بحال؛ لأنهم مجمعون معنا على أن أفعال العبادِ لا تقع (ق/59 أ) على الجواهر والأجسام.
__________
(1) (ق): “الحاضر”!.
(2) في “النتائج” زيادة: “كذلك “ما” فيها”.
(3) في “النتائج” زيادة: “والمعنى لا يصح غيره”.
(1/259)
فإن قيل: فقد تقول: عملتُ الصحفةَ (1)، وصنعتُ الجَفْنة، وكذلك الأصنام (2) معمولة على هذا؟.
قلنا (3): لا يتعلق الفعل فيما ذكرتم إلا بالصورة التي هي التأليف والتركيب، وهي نفس: العمل. وأما الجوهر المؤلَّف المركَّب فليس بمعمولٍ لنا، فقد رجعَ العملُ والفعل إلى الأحداث دون الجواهر. هذا إجماع مِنَّا ومنهم، فلا يصح (4) حملهم على غير ذلك.
وأما ما زعموا من حُسْن النظم وإعجاز الكلام؛ فهو ظاهر، وتأويلنا معدوم في تأويلهم؛ لأن الآية وردت في بيان استحقاق الخالق للعبادة؛ لانفراده بالخلق، وإقامة الحجة على من يعبد ما لا يَخْلق وهم يُخْلَقون، فقال: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95] أي: من لا يخلق شيئًا وهم يُخْلقون، وتَدَعُون عبادةَ من خلقَكُم وأعمالَكُم التي تعملون، ولو لم يُضِفْ خلقَ الأعمال إليه في الآية، وقد نسبها بالمجاز إليهم لما قامت له حُجة [عليهم] من نفس الكلام، لأنه كان يجعلهم خالقين لأعمالهم، وهو خالق لأجناس أُخَر، فيشركهم معه في الخلق -تعالى الله عن قول الزائغين- ولا لعًا (5) لعثرات المبطلين، فما أدحضَ حجَّتَهم! وما أوهى قواعد مذهبهم! وما أبين الحق لمن اتبعه! جعلنا الله من أتباعه وحزبه.
__________
(1) (ق و”النتائج”): “الصفحة”، وانظر ما سيأتي على الصواب (ص / 266).
(2) (ظ ود): “الأجسام”.
(3) (ق): “قلت”.
(4) (ظ ود): “يصلح”.
(5) لعًا: كلمة يدعى بها للعاثر، قال أبو عبيد: من دعائهم: لا لعًا لفلان، أي: لا أقامه الله. انظر: “اللسان”: (15/ 250).
(1/260)
وهذا الذي ذكرناه هو الذي قاله أبو عبيد (1) في قول حذيفة: “إن الله يخلق صانع الخَزَم وصنعته” واستشهد بالآية، وخالفه القُتَبِي (2) في “إصلاح الغلط” (3)؛ فغلط أشدَّ الغلط ووافق المعتزلةَ في تأويلها، وإن لم يقل بِقِيلها” هذا آخر كلام أبي القاسم السهيلي -رحمه الله-.
ولقد بالغ في رد مالا تحتمل الآية سواه، أو ما هو أولى بحملها وأَلْيقُه بها، ونحنُ وكلُّ محق مساعدوه على أن اللهَ خالق العباد وأعمالهم، وأن كلَّ حركة في الكون فالله خالقها، وعلى صِحَّة هذا المذهب أكثر من ألفِ دليلٍ من القرآن والسنة والمعقول والفطر (4)؛ ولكن لا ينبغي أن تحمل الآية على غير معناها اللائق بها، حِرْصًا على جعلها حجة عليهم، ففي سائر الأدلة غنية عن ذلك، على أنها حجة عليهم من وجه آخر، مع كون “ما” بمعنى الذي سنبينه إن شاء الله تعالى.
والكلام -إن شاء الله- في الآية في مقامين:
أحدهما: في سَلْب دلالتها على مذهب القدرية. والثاني: في إثبات دلالتها على مذهبِ أهلِ الحق خلاف قولهم. فهاهنا مقامان (5)؛ مقام إثبات ومقام سلب.
فأما مقام السَّلْب: فزعمت القدرية أن الآية حجة لهم في كونهم خالقين لأعمالهم، قالوا: لأن الله -سبحانه- أضاف الأعمالَ إليهم،
__________
(1) في “غريب الحديث”: (4/ 126 – 127). والخَزَم: شيءٌ شبيه بالخوص.
(2) ابن قتيبة تقدمت ترجمته ص/ 123.
(3) (ص/126 – 127).
(4) (ق): “النظر”.
(5) في الأصول: “مقامين”.
(1/261)
وهذا يدل على أنهم هم المحْدِثون لها، وليس المراد هاهنا نفس الأعمال، بل الأصْنامَ المعمولة، فأخبر سبحانه أنه (ق/ 59 ب) خالقهم وخالق تلك الأصنام التي عملوها، والمراد مادتها، وهي التي وقع الخلقُ عليها.
وأما صورتها وهي التي صارت بها أصنامًا، فإنها بأعمالهم، وقد أضافها إليهم، فتكون بإحداثهم وخَلْقهم، فهذا وَجْهُ احتجاجهم بالآية.
وقابلهم بعض المثبتين للقدر، وأن اللهَ هو خالق أفعال العباد، فقالوا: الآية صريحة في كون أعمالهم مخلوقة لله، فإن “ما” هاهنا مصدرية، والمعنى والله خلقَهُم وخلقَ أعمالهم، وقرروه (ظ/ 44 أ) بما ذكره أبو القاسم السهيلي وغيره، ولما أورد عليهم القدريةُ: كيف تكون “ما” مصدرية هنا؛ وأيُّ وجهٍ يبقى الاحتجاجُ عليهم إذا كان المعنى: والله خلقكُم وخلقَ عبادتكم، وهل هذا إلا تلقين لهم الاحتجاجَ بأن يقولوا: فإذا كان اللهُ قد خلقَ عبادتنا للأصنام، فهي مرادة ٌله فكيف ينهانا عنها؟! وإذا كانت مخلوقة له مرادة فكيف يمكننا تركها؟! فهل (1) يسوغ أن يحتج على إنكار عبادتهم للأصنام بأن الله خالق عبادتهم (2)؟.
أجابهم المثبتون: بأن قالوا: لو تدبرتم سياق الآية ومقصودها لعرفتم صحةَ الاحتجاج، فإن اللهَ -سبحانه- أنكر عليهم عبادة من لا يخلق شيئًا أصلًا، وترك عبادة من هو خالقٌ لذواتهم وأعمالهم، فإذا كان الله خالقكم وخالق أعمالكم، فكيف تَدَعُون عبادته وتعبدون
__________
(1) (ق): “فكيف”.
(2) من قوله: “للأصنام … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(1/262)
من لا يخلق شيئًا! لا ذواتكم ولا أعمالكم؟! وهذا من أحسن الاحتجاج.
وقد تكرَّر في القرآن الإنكار عليهم أن يعبدوا ما لا يخلق شيئًا ويسووا (1) بينه وبين الخالق كقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)} [النحل: 17]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)} [النحل: 20]، وقوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان: 11]، إلى أمثال ذلك، فصحَّ الاحتجاج وقامت الحجةُ بخلق الأعمال مع خَلْق الذوات، فهذا منتهى أقدام الطائفتين في الآية كما ترى.
والصواب: أنها موصولة، وأنها لا تدلُّ على صحة مذهب القدرية، بل هي حجةٌ عليهم مع كونها موصولة، وهذا يتبين بمقدمة نذكرها قبل الخوض في التقرير، وهي: أن طريقةَ الحِجَاج والخطاب: أن يُجَرَّد القصد والعناية بحالِ ما يُحتج له وعليه، فإذا كان المستدل محتجًّا (2) على بطلان ما قد أدُّعي في شيءٍ وهو يخالف ذلك، فإنه يجرِّد العنايةَ إلى بيانِ بطلان تلك الدعوى، وأن ما ادُّعي له ذلك الوصف هو متصف بضدِّه لا متصف (3) به، فأما أن يُمْسك عنه ويَذْكر وصفَ غيره فلا.
وإذا تقرَّر هذا؛ فالله -سبحانه- أنكر عليهم عبادتهم الأصنام، وبيَّن أنها لا تستحقُّ العبادةَ ولم يكن سياق الكلام (ق/ 60 أ) في معرض
__________
(1) (ظ ود): “وسوى”.
(2) (ق): “المحتج مستدلًّا”.
(3) الأصول: “متصفًا”.
(1/263)
الإنكار عليهم تَرْكَ عبادته، وإنَّما هو في معرض الإنكار عبادةَ من لا يستحق العبادة، فلو أنه قال: ألا (1) تعبدون الله وقد خلقكم وما تعملون؛ لتعينت المصدريةُ قطعًا، ولم يحسن أن يكون بمعنى الذي؛ إذ يكون المعنى: كيف لا تعبدونه وهو الذي أوجدَكم وأوجدَ أعمالكم، فهو المنعم عليكم بنوعي الإيجاد والخلق، فهذا وِزَان ما قرروه من كونها مصدرية، فأما سِيَاق الآية؛ فإنه في معرض إنكاره عليهم عبادة من لا يستحق العبادة، فلابد أن يتبيَّن فيه معنًى ينافي كونه معبودًا، فبين هذا المعنى بكونه مخلوقًا له، ومن كان مخلوقًا من بعض مخلوقاته فإنه لا ينبغي له أن يُعْبَد ولا تليقُ به العبادة.
وتأمل مطابقةَ هذا المعنى لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)} [النحل: 20]، كيف أنكر عليهم عبادةَ آلهة مخلوقة له -سبحانه- وهي غير خالقة. فهذا يبين المراد من قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96]، ونظيره قوله تعالى في سورة الأعراف: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194] أي: هم عباد مخلوقون، كما أنتم كذلك، فكيف تعبدون المخلوق!؟.
وتأمل طريقة القرآن -لو أراد المعنى الذي ذكروه- من (ظ/ 44 ب): حُسن تذكُّر (2) صفاته وانفراده بالحق، كقول صاحب يس: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22]، فهنا لما كان المقصود إخبارهم بحسن عبادته واستحقاقه لها، ذكَر الموجب لذلك، وهي: كونه خالقًا لعابده فاطرًا له، وهذا إنعامٌ منه عليه فكيف يترك عبادته؟! ولو كان هذا هو
__________
(1) (ظ): “لا”!.
(2) من (ق).
(1/264)
المراد من قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)}؛ كان يقتضي أن يُقال: ألا يعبدون الله وهو خالقهم وخالق أعمالهم، فتأمله فإنه واضح.
وقول أبي القاسم -رحمه الله- في تقرير حجة المعتزلة من الآية: إنه لا يصح أن تكون مصدرية وهو باطل من جهة النحو؛ ليس كذلك.
أما قوله: إن “ما” لا تكون مع الفعل الخاص مصدرًا! فقد تقدَّم بطلانُه وأن (1) مصدريتها تقع مع الفعل الخاص المبهم، كقوله تعالى: {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)} [التوبة: 77] وقوله تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} (2) [آل عمران: 79] وقوله تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75] إلى أضعاف ذلك، فإن هذه كلها أفعال خاصة، وهي أخص من مطلق العمل، فإذا جاءت مصدرية مع هذه الأفعال؛ فمجيئها مصدرية مع العمل أولى.
قولهم: إنهم لم يكونوا يعبدون النحتَ وإنما عبدوا المنحوت، حجة فاسدة؛ فإن الكلام في “ما” المصاحبة للفعل (3)، دون المصاحبة لفعل النحت، فإنها لا تحتمل غير الموصولة، ولا يلزم من كون الثانية مصدرية كون الأولى كذلك، فهذا تقريرٌ فاسد. وأما (ق 60/ ب) تقريره كونها مصدرية- أيضًا- بما ذكره فلا حجة له فيه.
أما قوله: “أفعال العباد لا تقع على الجواهر والأجسام”، فيُقَال: ما معنى عدم وقوعها على الجواهر والأجسام؛ أتعني به: أن أفعالهم
__________
(1) (ظ ود): “إذ”.
(2) في “الأصول”: “بما كنتم تتلون الكتاب”! والآية كما أثبت.
(3) (ق): “للعمل”.
(1/265)
لا تتعلق بإيجادها؟ أم تعني به: أنها لا تتعلق بتغييرها وتصويرها؟ أم تعني به أعم من ذلك، وهو المشترك بين القسمين؟
فإن عنيتَ الأول، فمسلَّم، لكن لا يفيدك شيئًا، فإن كونها موصولة لا يستلزم ذلك، فإن كون الأصنام معمولة لهم لا يقتضي أن تكون مادتها معمولة لهم، بل هو على حدِّ قولهم. “عملتُ بيتًا، وعملت بابًا، وعملت حائطًا، وعملت ثوبًا”، وهذا إطلاق حقيقي ثابت عقلًا ولغةً وشرعًا وعرفًا لا يتطرق إليه ردٌّ، فهذا ككون الأصنام معمولة سواء.
وإن عنيتَ: أن أفعالهم لا تتعلق بتصويرها؛ فباطل قطعًا. وإن عنيتَ القدرَ المشتركَ؟ فباطل -أيضًا- فإنه مشتملٌ على نفي حقٍّ وباطل، فنفي الباطلِ صحيح، ونفي الحقِّ باطل.
ثم يقال -أيضًا-: إيقاع العمل منهم على الجواهر والأجسام يجور أن يطلق فيه العمل الخاص، وشاهده في الآية: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95)} [الصافات: 95] فـ “ما” هاهنا موصولة فقد أوقع (1) فعلهم، وهو النحت على الجسم، وحينئذٍ فأي فرق بين إيقاع أفعالهم الخاصة على الجوهر والجسم، وبين إيقاع أفعالهم العامة عليه، لا بمعنى أنَّ ذاته مفعولة له، بل بمعنى (2) أن فعلهم هو الذي صار به صنمًا، واستحقَّ أن يُطلق عليه اسمه، كما أنه بفعلهم صار منحوتًا واستحق هذا الاسم، وهذا بَيِّن.
وأما قوله بجواب النقض بـ: “عملتُ الصَّحْفةَ وصنعتُ الجفنةَ”: أن الفعل متعلق بالصورة التي هي التأليف والتركيب وهي نفس
__________
(1) (ق): “وهذا وقع”.
(2) (ق وظ) “معنى”، والمثبت من (د).
(1/266)
العمل؛ فكذلك هي -أيضًا- معلق بالتصوير الذي صار الحَجَر به صنمًا منحوتًا سواء.
[وأما] قوله: الآية في بيان استحقاق الخالق للعبادة لانفراده بالخلق؛ فقد (ظ/45 أ) تقدَّم جوابُه وأن الآية (1) وردت لبيان عدمِ استحقاقِ معبوديهم للعبادة؛ لأنها مخلوقة لله، وذكرنا شواهده من القرآن.
فإن قيل: كان يكفي في (2) هذا أن يُقال: أتعبدون ما تنحتون والله خالقه، فلما عَدَل إلى قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96]؛ عُلم أنه أراد الاحتجاجَ عليهم في ترك عبادته -سبحانه- وهو خالقهم وخالق أفعالهم.
قيل: في ذكر خلقه -سبحانه- لآلهتهم ولعابديها من بيانِ تقبيح حالهم، وفساد رأيهم وعقولهم في عبادتها دونه تعالى، ما ليس في الاقتصار على ذكر خلق الآلهة فقط، فإنه إذا كان الله -تعالى- هو الذي خلقكم وخلقَ معبوديكم فهي مخلوقة أمثالكم، فكيف يعبدُ العاقلُ من هو مثله ويتألهه ويفرده بغاية التعظيم والإجلال والمحبة!؟ (ق/ 61 أ) وهل هذا إلا أقبح الظلم في حق أنفسكم وفي حق ربكم!.
وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194]، ومن حق المعبود أن لا يكون مثل العابد، فإنه إذا كان مثله كان عبدًا مخلوقًا، والمعبود ينبغي أن يكون ربًّا خالقًا، فهذا من أحسن الاحتجاجِ وأبينه، فقد أسفر لك من
__________
(1) من قوله: “في بيان … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) من (ق).
(1/267)
المعنى المقصود بالسياق (1) صُبْحُه، ووضح لك شرحُه، وانجلى بحمد الله الإشكال، وزال عن المعنى غطاءُ الإجمال، وبان أن ابنَ قتيبةَ في تفسير الآية وُفِّق للسداد، كما وُفِّق لموافقة أهل السنة في خلق أعمال العباد، ولا تستطِلْ هذا الفصل، فإنه يُحقق لك فصولًا لا تكاد تسمعها في خلال المذاكرات، ويُحصِّل لك قواعدَ وأصولًا لا تجدها فى عامة المصنفات.
فإن قيل: فأين ما وعدتم به من الاستدلال بالآية على خلق الله لأعمال العباد على تقدير كون “ما” موصولة؟.
قيل: نعم قد سبقَ الوعدُ بذلك، وقد حان (2) إنجازُه وآن إبرازُه. ووجه الاستدلال بها أعلى هذا التقدير أن (3) الله سبحانه أخبر: أنه خالقهم وخالق الأصنام التي عملوها، وهي إنما صارت أصنامًا بأعمالهم، فلا يقع عليها ذلك الاسم إلا بعد عملهم، فإذا كان سبحانه هو الخالق اقتضى صحة هذا الإطلاق أن يكون خالقها بجملتها، أعني: مادَّتَها وصورَتَها، فإذا كانت صورتها مخلوقة لله كما أن مادتها كذلك؟ لزم أن يكون خالقًا لنفس عملهم الذي حصلت به الصورة، لأنه متولِّد عن نفس حركاتهم. فإذا كان الله خالقهم كانت أعمالهم التي تولَّد عنها ما هو مخلوق لله مخلوقة له، وهذا أحسن استدلالًا وألطف من جعل “ما” مصدرية.
ونظيره من الاستدلال سواء قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ
__________
(1) سقطت من (ق).
(2) (ق): “سبق بذلك وعد حان … “!.
(3) سقطت من (ظ).
(1/268)
فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42)} [يس: 41، 42] وأصحُّ القولين (1) أن المثلَ المخلوقَ هنا هو السفن، وقد أخبر أنها مخلوقة له (2)، وهي إنما صارت سُفنًا بأعمال العباد. وأَبْعَدَ من قال: إن المثلَ هاهنا هو سفن البرِّ، وهي الإبل لوجهين:
أحدهما: أنها لا تُسَمَّى مثلًا للسفن؛ لا لغةً ولا حقيقةً، فإن المَثَلَين: ما سدَّ أحدُهما مسدَّ الآخر، وحقيقة المماثلة: أن يكون بين فُلْك وفُلْك لا بين جَمَل وفُلْك.
الثاني: أَنَّ قوله تعالى: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ} [يس: 43] عَقِب ذلك دليلٌ على أن المراد الفلك التي إذا (3) ركبوها قَدَرنا على إغراقهم، فذَكَّوهم بنِعَمِه عليهم من (4) وجهين. أحدهما: ركوبهم إياها، والثاني: أن يُسَلِّمهم عند (ظ/ 45 ب) ركوبها من الغرق.
ونظير هذا الاستدلال -أيضًا- قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ (ق/61 ب) ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل: 81] والسرابيل هي: الثياب التي يلبسونها، وهي مصنوعة لهم، وقد أخبر بأنه سبحانه هو جاعلها، وإنما صارت سرابيل بعملهم، ونظيره قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا} [النحل: 80] والبيوت التي من جلود الأنعامِ هي: الخيام، وإنما صارت بيوتًا بعملهم.
__________
(1) من (ق).
(2) من (ق).
(3) سقطت من (ق).
(4) (ق): “نعمته عليهم بها … “!
(1/269)
فإن قلت: المراد من هذا كلِّه المادة لا الصورة.
قلت: المادة لا تستحق هذه الأسماء التي أطلق الخلق عليها، وإنما تستحق هذه الأسماء بعد عملها وقيام صورها بها، وقد أخبر أنها مخلوقة له في هذه الحال، والله أعلم.
فائدة (1)
الذي يدلُّ على أن الضمير من: “يكرمني” ونحوه “الياء” دون “النون” (2) معها وجوه:
أحدها: القياس على ضمير المخاطب والغائب في: أكرمك وأكرمه.
الثانى: أنَّ الضمير في قولك: “أني” وأخواته هو الياء وحدها؛ لسقوط النون اختيارًا في بعضها، وجوازًا في أكثرها، وسماعًا في بعضها، ولو كان الضمير هو الحرفين لم يسقطوا أحدهما.
الثالث: إدخالهم هذه النون في بعض حروف الجر وهي: “مِن” و”عَن”، ولو كانت جزءًا من الضمير لا طردت في “إليّ” و”فيَّ” وسائر حروف الجر (3).
فإن قلتَ: فما وجه اختصاصها ببعض الحروف والأسماء؟
والجواب: أنهم أرادوا فصل الفعل والحروف المضارعة له من توهم الإضافة إلى “الياء”، فألحقوها علامة الانفصال، وهى في أكثر الكلام نون ساكنة، وهو التنوين، فإنه لا يوجد في الكلام إلا علامةً
__________
(1) “نتائج الفكر”: (ص/ 194).
(2) ليست في (ظ ود)، وفي “المنيرية”: “ما”.
(3) (ق): “سائر الحروف الجارّة”.
(1/270)
لانفصال الاسم، ولذلك ألحقوها في القوافي المعرفة باللام إيذانًا بتمام البيت وانفصاله مما بعده، نحو: العِتَابَنْ (1) والذُّرَّفَنْ (2)، ولذلك زادوها قبل علامة الإنكار حين أرادوا فصل الاسم من العلامة كقولهم: أزيدٌ إنيه! وقول الأنصارية: أجُلَيْبيْبٌ إِنيْه (3). ووجه هذا: أنه أراد فصل الاسم عن العلامة (4) كي، يتوهم أنها من (5) تمام الاسم أو علامة جَمْع، ففصل بين الاسم وبينها بنون زائدة، وأدخل عليها ألفَ الوصل لسكونها، ثم حَرَّكها بالكسر لالتقاء الساكنين، فلما كان من أصلهم تخصيصُ النون بعلامةِ الانفصال (6)، وأرادوا فصلَ الفعل وما ضارَعَه عن الإضافة إلى “الياء” جاءوا بهذه النون الساكنة، ولولا سكونُ الياء لكانت ساكنة كالتنوين، ولكنهم كسروها لالتقاء الساكنين.
فائدة (7)
السرُّ في حذف الألف من “ما” الاستفهامية عند حرف الجر:
__________
(1) فى قول جرير “ديوانه”: (ص/ 58):
أقلِّي اللومَ عاذِلَ والعِتابَنْ … وقولي إنْ أصَبْتُ: لقد أَصابَنْ
(2) في رجز العجاج، وتمامه:
* يا صَاح ما هَاجَ الدُّموعَ الذُّرَّفَنْ *
انظر: “الكتاب”: (2/ 299)، و”شرح المفصَّل”: (9/ 33) لابن يعيش.
(3) أخرجه أحمد: (4/ 422) من حديث أبي بَزرة الأسلمي -رضي الله عنه- وسنده صحيح.
(4) من قوله: “كقولهم: أزيدٌ … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود) و “المنيرية”.
(5) من (ق).
(6) بعدها في (ظ) كلمة لم أتبيَّنها، وفي المطبوعة: “واجبًا” وليست في (ق) ولا ” النتائج”، وفي (د): “واديا”.
(7) “نتائج الفكر”: (ص / 197).
(1/271)
أنهم أرادوا مشاكَلَة اللفظ للمعنى، فحذفوا الألف؛ لأن معنى قولهم: “فيم ترغب”؟ في أي شيء، و”إلام تذهب”؟ إلى أيّ شيء، و”حتَّام لا ترجع”؟ حتى أيِّ غايةٍ تستمر، ونحوه، فحذفوا الألف مع الجار (ق/ 62 أ) ولم يحذفوها: في حال النصب والرفع (1) كيلا تبقى الكلمة على حرفٍ واحد، فإذا اتصل بها حرف الجر أو اسم مضاف اعتمدَتْ عليه؛ لأن الخافضَ والمخفوضَ بمنزلة كلمةٍ واحدة.
وربما حذفوا الألف في غير موضع الخفض، ولكن إذا حذفوا الخبر فيقولون: مه يا زيد؟ أي: ما الخبر؟ وما الأمر؟ فلما كثر الحذف في المعنى كثر في اللفظ، ولكن لابد من هاء السكت لتقف عليها.
ومنه قولهم: “مَهْيَم” كان الأصل: ما هذا يا امرؤ؟ فاقتصروا من كلِّ كلمة على حرف، وهذا غاية الاختصار والحذف. والذي (ظ/146) شجعهم على ذلك: أَمْنهم من اللَّبْس لدلالة حال المسؤول والمسؤول عنه على المحذوف، فيفهم (2) المخاطب من قوله: “مَهْيَم”. ما يفهم من تلك الكلمات الأربع. ونظير هذا قولهم: “أَيْشٍ”، في “أيِّ شيءٍ”، و”م الله” في و “أيمن الله”.
فائدة بديعة (3)
قوله عز وجل: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)} [مريم: 69] الشيعة (4): الفرقة التي شايعَ بعضها بعضًا، أي تابعه، ومنه
__________
(1) (ق): “والجر” وهو خطأ.
(2) (ظ ود): “فهم”.
(3) “نتائج الفكر”: (ص/198).
(4) سقطت من (ظ ود).
(1/272)
الأشياع، أي: الأتباع، فالفرق بين الشِّيْعَة والأشْياع: أن الأشياع هم التَّبَع، والشيعة القوم الذين تشايعوا، أي: تَبعَ بعضُهم بعضًا وغالب ما يُسْتَعمل في الذمّ، ولعله لم يرد في القرآن إلا كذلك، كهذه الآية وكقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الأنعام: 159] وقوله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} [سبأ: 54]. وذلك -والله أعلم- لما في لفظ “الشِّيْعة” من الشِّياع والإشاعة التي هي ضد الائتلاف والاجتماع؛ ولهذا لا يُطلق لفظ “الشِّيَع” إلا على فِرَق الضلال؛ لتفرقهم واختلافهم، والمعنى: لننزِعَنَّ من كلِّ فرقةٍ أشدهم عُتوًّا على الله وأعظمهم فسادًا فنلقيهم في النار، وفيه إشارة إلى أن العذاب يتوجه إلى السادات أولًا (1)، ثم تكون الأتباعُ تبعًا لهم فيه، كما كانوا تبعًا لهم في الدنيا.
و {أَيُّهُمْ أَشَدُّ} للنحاة فيه أقوال:
أحدها: قول الخليل: إنه مبتدأ، وأشد خبره ولم يعمل “لننزعن” فيه؛ لأنه محكي، والتقدير: الذي يقال فيه: أيهم أشدُّ على الرحمن عِتيًّا، وعلى هذا فأيّ استفهامية.
الثانى: قول يونس: إنه رُفِعَ على جهة التعليق للفعل السابق، كما لو قلتَ: علمت أَيّهم أخوك، فعلَّق الفعلَ عن الفعل كما تعلق أفعال القلوب.
الثالث: قول سيبويه: إن “أي” هنا موصولة مبنية على الضم، والمسوِّغِّ لبنائها حذفُ صَدْر صِلَتها، وعنده أصل الكلام: أَيّهم هو أشد، فلما حذف صدر الصلة بُنِيَت على الضَّم تشبيهًا لها بالغايات
__________
(1) ليست في (ق).
(1/273)
التي قد حذفت (1) مضافاته كـ “قبل” و”بعد”، وعلى كلِّ واحد من الأقوال إشكالات نذكرها ثم (ق/62 ب) نبين الصحيحَ إن شاءَ الله.
فأما قول الخليل: فقيل يلزمه ستة أمور:
أحدها: حَذْف الموصول.
الثاني: حَذف الصلة.
الثالث: حَذْف العائد؛ لأن تقديره: الذين يقال لهم: أيّهم (2) أشد، وهذا لا عهد لنا فيه باللغة. وأما ما يحذف من القول فإنه إنما يكون قولًا مجردًا عن كونه صلة لموصول نحو قوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} [الأنعام: 93] أي: يقولون أو قائلين. ومثله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3].
الرابع: أنه إدْا قُدِّر المحذوفُ هكذا لم يستقِم الكلام، فإنه يصير: {لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} الذين يقال فيهم: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ}، وهذا فاسد، فإن ذلك المنزوع لا يقال فيه: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ}، بل هو نفسه أشدّ أو مِن أَشدِّ الشيعة على الرحمن، فلا يقع عليه الاستفهام بعد نزعه، فتأمَّلْه.
الخامس: أن الاستفهامَ لا يقعُ إلا بعد أفعال العلم والقول على الحكاية، ولا يقع بعد: غيره من الأفعال، تقول: “علمتُ أزيد عندك أم عَمْرو”، ولو قلت: “ضربتُ أزيد أم عَمْرو”، لم يجز، و”ننزِعَنَّ” ليس من أفعال العلم.
__________
(1) (ق): “صدقت”.
(2) (ق): “يقال: أيهم”.
(1/274)
فإذا قلت: “ضربتُ أيهم قام”، لم تكن إلا موصولة ولا يصح أن يقال: “ضربت الذي يقال فيه: أيهم قام”، وإنما توهم مثل ذلك لكون اللفظ صالحًا لجهة أخرى مستقيمة، فيتوهم مُتَوهِّم أن حَمْله على الجهة الأخرى (ظ/46 ب) يستقيم. والذي يدل عليه: أنه لو قَدَّرت موضعه استفهامًا صريحًا ليس له جهةٌ أخرى لم يَجُز.
فلو قلت: “ضربت أزيد عندك أم عَمْرو”، لم يجز، بخلاف: “ضربت أيهم عندك”، فلو كان “أيهم” استفهامًا” لجاز الكلام مع الاستفهام الذىِ بمعناهما، وإنما لم يقع الاستفهام إلا بعد أفعال العلم والقول؛ أما القول؛ فلأنه يُحْكى به كلُّ جملةٍ خبرية كانت أو إنشائية، وأما أفعال العلم! فإنما وقع بعدها الاستفهام لكون الاستفهام مُسْتَعْلَمًا به، فكأنك إذا قلتَ: “أريد عندك أم عمرو”، كان معناه: أَعْلِمْني.
وإذا قلت: “علمتُ أريد عندك أم عَمْرو”، كان معناه: أعْلِمْني ما تطلب استعلامه، فلهذا صحَّ وقوع الاستفهام بعد العلم! لأنه استعلام، ثم حمل الحسبان (1) والظن عليهما لكونهما من بابه. ووجه آخر وهو: كثرة استعمال أفعال العلم، فجُعِل لها شأن ليس لغيرها.
السادس: أن هل الحذف الذي قَدَّره في الآية، حَذْف لا يدل عليه سياق، فهو مجهول الوضع، وكلُّ حذف كان بهذه المنزلة كان تقديره من باب عِلْم الغيب.
وأما قول (ق/ 63 أ) يونس، فإشكاله ظاهر، فإن التعليق إنما يكون في أفعال القلوب، نحو العلم والظن والحسبان (2) دون غيرها. ولا
__________
(1) (ظ): “الحساب”.
(2) (ظ): “الحساب”.
(1/275)
يجوز أن تقول: “ضربتُ أيهم قام”، على أن تكون “أيهم” استفهامًا، وقد عُلِّق الفعل عن العمل فيه.
وأما قول سيبويه، فإشكاله أنه بناء خارجٌ عن النظائر، ولم يوجد في اللغة شاهد له.
قال السهيلي (1): ما ذكره سيبويه لو استشهد عليه بشاهدٍ من نظمٍ أو نثر، أو وجدنا بعده في كلام فصيح شاهدًا له لم نعدل به قولًا، ولا رأينا لغيره عليه طَولًا؛ ولكنا لم نجدْ ما بُنيَ لمخالفته (2) غيره، لاسيما مثل هذه المخالفة؛ فإنا لا نسلم أنه حُذِف من الكلام شيءٌ.
وإن قال: إنه حذف ولا بُد، والتقدير: أيهم هو أخوك؟.
فيقال: لِمَ (3) لَمْ يبنوا في النكرة، فيقولوا: “مررتُ برجلُ أخوك، أو: رأيت رجلُ أبوك”، أي هو أخوك وأبوك، ولم خصوا “أيًّا” بهذا دون سائر الأسماء أن يحذف من صلته ثم يبني للحذف؟ ومتى وجدنا شيئًا من الجملة يُحْذف ثم يَبْنى الموصوف بالجملة من أجل ذلك الحذف؟ وذلك الحذف لا يجعله متضمنًا لمعنى الحرف ولا مضارعًا: له. وهذه علة البناء وقد عدمت في “أي”.
قال: والمختار قول الخليل، لكنه يحتاج إلى شرح، وذلك أنه لم يرد بالحكاية ما يسبق إلى الوهم (4) من تقدير معنى القول؛ ولكنه
__________
(1) “نتائج الفكر”: (ص/ 198).
(2) العبارة محرفة فى (ظ).
(3) (ق): “له”.
(4) (ظ ود): “الفهم”.
(1/276)
أراد حكاية لفظ الاستفهام الذي هو أصل في “أي” كما تحكيه بعد العلم إذا قلت: “قد علمتُ من أخوك”؟ و: “أقامَ زيد أم قَعَد”؟ فقد تركت الكلام على حاله قبل دخول الفعل، لبقاء معنى الاختصاص والتعيين في “أي” الذي كان موجودًا فيها وهي استفهام؛ لأن ذلك المعنى هو الذي وُضِعَت له استفهامًا كانت أو خبرًا، كما حكوا لفظ النداء في قولهم: “اللهم اغفر لي أيها الرجل” و”أرحمنا أيتها العصابة”، فنحكي لفظ هذا إشعارًا بالتعيين والاختصاص الموجود في حال النداء. وكذلك هذا، حكيت حاله في الاستفهام وإن ذهب الاستفهام، كما حكيتَ حاله في النداء وإن ذهبَ النداء (1)، لوجود معنى الاختصاص والتعيين فيه.
قال: وقول يونس: “إن الفعل ملغًى” حق، وإن لم يكن من أفعال القلب، وعِلَّة إلغائه ما قدمناه من حكاية لفظ الاستفهام للاختصاص.
فإذا أتممت لفظ الصِّلة (2) وقلت: “ضربت أيهم هو (3) أخوك”، زالت مضارعة الاستفهام، وغلبَ فيه معنى الخبر (ظ/ 47 أ) لوجود الصِّلة التامة بعده.
قال: وأما قوله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] وإجماعهم على أنها منصوبة بـ “ينقلبون” لا بـ “سيعلم”. وقد كان يتصوَّر فيها أن تكون منصوبة بـ “سيعلم” (ق/63 ب) على جهة الاستفهام، ولكن تكون موصولة، والجملة صِلَتها، والعائد محذوف.
__________
(1) من قوله: “وكذلك هذا .. ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(2) (ظ ود): “العلة”.
(3) من (ق).
(1/277)
ولكن مَنَعَ من هذا أصلٌ أصَّلْناه، ودليل أقمناه على أن الاسم الموصول إذا عُنِي به المصدر، ووصل بفعل مشتق من ذلك المصدر، لم يجز؛ لعدم الفائدة المطلوبة من الصلة، وهي: إيضاح الموصول وتبيينه، والمصدر لا يوضح فعله (1) المشتق من لفظه؛ لأنه كأنه هو لفظًا ومعنًى، إلا في المختلف الأنواع كما تقدم.
قال: ووجه آخر أقوى من هذا، وهو: أن “أيًّا” لا تكون بمعنى “الذي” حتى تُضَاف إلى معرفة، فتقول: “لقيت أيهم في الدار”، إذ من المحال أن يكون بمعنى “الذي” وهو نكرة، و”الذي” لا يُنكَّر، وهذا أصل يُبْنَى عليه في “أَي”.
فائدة: فصلٌ في تحقيق معنى “أَي” (2):
وهو أن لفظ “ألف” و”ياء” مكرَّرة راجع في جميع الكلام إلى معنى التعيين والتمييز للشيء من غيره، فمنه: “إياة الشمس”، لضوئها؛ لأنه يبينها ويميزها من غيرها، ومنه: الآية: العلامة، ومنه: خرج القوم بآيتهم، أي: بجماعتهم التي يتميَّزون بها عن غيرهم، ومنه: تأيَّيتَ بالمكان، أي: تَلَبَّثْتَ لتتبيَّنَ شيئًا أو تُميِّزه. ومنه قول امرئِ القيس:
قِفْ بالدِّيَارِ وُقُوْفَ حَابِسْ … وَتَأيَّ إِنَّكَ غَيْرُ يَائسْ (3)
__________
(1) كذا في الأصول و”النتائج” والأولى: “بفعلها” كما أثبت محققه.
(2) “نتائج الفكر”: (ص 200 – 202).
(3) البيت لامرئ القيس بن عابس الكندي، صحابى، انظره في “الشعر والشعراء”: (ص/ 290)، و”الاستيعاب”: (1/ 106 – بهامش الإصابة)، و”الإصابة” (1/ 64). وفيها: “غير آيِسْ”.
(1/278)
وقال الكُمَيْت:
* وتأيَّ إِنَّكَ غَيْرُ صَاغِرْ (1) *
ومنه “إياكَ” في المضمرات، لأنه في أكثر الكلام مفعول مقدم، والمفعول إنما يتقدم على فعله قصدًا إلى تعيينه، وحرصًا على تمييزه (2) من غيره، وصرفًا للذِّهن عن الذهاب إلى غيره، ولذلك تقدم في: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}؛ إذ الكلام وارد في معرض الإخلاص وتحقيق الوحدانية ونفي عوارض الأوهام عن التعلق بغيره، ولهذا اختصت “أي” بنداء ما فيه “الألف واللام” تمييزًا له وتعيينًا، وكذلك (3): أَي زيد، ومنه: إياك المراءَ والأسدَ (4)، أي: مَيِّز نفسك وأَخْلصها عنه، ومنه: وقوع “أي” تفسيرًا، كقولك: “عندي عِهن”، أي: صُوْف.
وأما وقوعها نعتًا لما قبلها، نحو: “مررت برجلٍ أَيُّ رجل”، فإنما تدرَّجْتَ إلى الصفةِ من (5) الاستفهام، كأن الأصل: أيُّ رجل هو؟ على الاستفهام الذي يراد به التفخيم والتهويل، وإنما دخله التفخيم؛ لأنهم يريدون إظهار العجز والإحاطة لوصفه، فكأنه مما
__________
(1) وصدره كما في “ديوانه”: (1/ 225):
* قِفْ بالدِّيارِ وُقُوفَ زَائِرْ *
وانظر: “الشعر والشعراء”: (ص/ 290)، وقال: إنه كان يسرق الشعر، وهذا البيت مما سوقه من امرئ القيس وغيَّر القافية.
(2) (ق): “تميزه” و “النتائج”: “تبيينه”.
(3) العبارة في “النتائج”: “ولذلك صُيّر بعض لفظها حرفًا من حروف النداء في قولك: … “.
(4) (ق): “المراد الأسد” ولعل ابن القيم أراد الشاهد: فإياك إياك المراء فإنه … ، وقوله: والأسد، أي: وإياك الأسدَ.
(5) (ق): “من الصفة إلى”.
(1/279)
يُسْتَفهم عنه إذ (1) يُجْهَلُ كُنْهُه. فأدخلوه في باب الاستفهام الذي هو موضوعٌ لما يجْهَل. لذلك جاء: {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2)} [القارعة: 1 – 2] و {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2)} [الحاقة: 1 – 2] أي: إنها لا يُحَاطُ بوصفها، فلما ثبتَ هذا اللفظ في باب التفخيم والتعظيم للشيء قَرُبَ من الوصف، حتى أَدْخلوه في باب النعت، وأَجْرَوه في باب الإعراب عن ما (ق/64 أ) قبله. ومنه:
* جَاءُوا بِمَذقٍ هَلْ رَأيْتَ الذِّئْبَ قَطْ * (2)
أي: فإنه في لون الذئب، إن كنتَ رأيتَ الذئب.
ومنه: “مررت بفارس هل رأيتَ الأسد”، وهذا التقدير أحسن من قول بعض النحويين: إنه معمول وصف مقدر، وهو قول محذوف أي: مقول (3) فيه: هل رأيتَ كذا، وما ذكرتُه لكَ أحسن وأَبْلَغ فتأمله.
فائدة جليلة
ما يجرى صفةً أو: خبرًا على الربِّ -تبارك وتعالى- أقسامٌ:
أحدها: ما يرجع: إلى نفسِ الذات، كقولك: ذاتٌ، وموجودٌ، وشيءٌ.
__________
(1) سقطت من (ط ود).
(2) صدره:
* حتَّى إذا جَنَّ الظَّلامُ واخْتَلَطْ *
واختلف في نِسبته، انظر “الإنصاف” شاهد رقم (66)، و “اللسان”: (10/ 340). و”الكامل”: (2/ 1054).
والمَذْق: اللبن الممزوج بالحاء.
(3) (ق): “مفعول”.
(1/280)
الثاني: ما يرجع إلى صفات معنوية؛ كالعليم، والقدير، والسميع.
الثالث: ما يرجع (ظ/ 47 ب) إلى أفعاله، نحو: الخالق والرزاق (1).
الرابع: ما يرجع إلى التنزيه المحض، ولابد من تضمنه ثبوتًا؛ إذ لا كمال في العَدَم المحض؛ كالقدوس السلام.
الخامس: ولم يذكره أكثر الناس، وهو: الاسم الدالُّ على جملة أوصافٍ عديدة لا تختص بصفة معينة، بل هو (2) دال على مَعَانٍ لا على معنًى مفرد، نحو: المجيد، العظيم، الصمد، فإنَّ المجيد: من اتصف بصفات متعددة من صفات الكمال، ولفظه يدلُّ على هذا، فإنه موضوع للسَّعَة والكثرة والزيادة، فمنه: “اسْتَمْجَدَ المَرْخُ والعَفَارُ” (3)، وأمجد الناقة علفًا. ومنه: رب العَرْشِ المَجِيدِ، صفة للعرش لِسَعَته وعِظَمه وشَرَفِه.
وتأمل كيف جاء هذا الاسم مقترنًا بطلب الصَّلاة من الله على رسوله كما علمناه – صلى الله عليه وسلم – لأنه في مقام طلب المزيد والتعرُّض لسَعَة العطاء وكثرته ودوامِهِ، فأتى في هذا المطلوب باسم يقتضيه، كما تقول: “اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم”، ولا يحسن: “إنك أنت السميع البصير”، فهو راجع إلى المتَوَسَّل إليه بأسمائه وصفاته، وهو من أقرب الوسائل وأحبها إليه.
__________
(1) (د): “الرازق”.
(2) ليست في (ق).
(3) المَرخ والعفار: نوع من الشجر، سريع الوَرْي، ويقال في المثل: “لكلُ شجر نارٌ، واسْتَمْجَد المرخُ والعَفَار”.
انظر: “القاموس”: (ص/ 332، 568).
(1/281)
ومنه الحديث الذي في “المسند” (1) والترمذي (2): “أَلِظُّوا بيَاذَا الجَلالِ والإكْرَامِ” (3) ومنه: “اللهم إِني أسْأَلُكَ بأنَّ لَكَ الحمد لا إِله إِلا أَنْتَ المنَّانُ بَدِيْعُ السَّمواتِ والأَرْضِ يَاذَا الجَلالِ والإِكرَامِ” (4)، فهذا سؤالٌ له وتوسُّل إليه بحمده (5) وأنه الذي (6) لا إله إلا هو المنَّان، فهو توسُّل إليه بأسمائه وصفاته، وما أحق ذلك بالإجابة وأعظمه موقعًا عند المسؤول، وهذا بابٌ عظيم من أبواب التوحيد أشرنا إليه إشارة، وقد فتح لمن بَصَّرَهُ الله.
ولنرجع إلى المقصود، وهو وصفه -تعالى- بالاسم المتضمِّن لصفات عديدة؛ فالعظيم من اتصف بصفات كثيرة من صفات الكمال. وكذلك الصمد، قال ابن عباس (7): هو السيِّد الذي كَمُل في سؤدده. وقال أبو وائل: هو (ق/ 64 ب) السيد الذي انتهى سؤدده. وقال عكرمة: الذي ليس فوقه أحد، وكذلك قال الزجاج: الذي ينتهي إليه السُّؤدد فقد صَمَد له كلُّ شيءٍ.
__________
(1) (4/ 177) من حديث ربيعة بن عامر -رضي الله عنه-.
(2) رقم (3525) من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-.
(3) وجاء الحديث من رواية أبي هريرة وابن عمر، والحديث يصحّ بمجموع طرقه، وانظر: “تخريج أحاديث الكشاف”: (3/ 395 – 396)، و “الكاف الشاف”: (4/ 162 – مع الكشاف).
(4) أخرجه أبو داود رقم (1495)، والنسائي: (3/ 52)، وأحمد: (158/ 3) وغيرهم، من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-.
والحديث صححه: ابن حبان رقم (893)، والضياء في “المختارة”: رقم (1885).
(5) (ظ ود): “وبحمده”.
(6) ليست في (ق).
(7) انظر: “تفسير الطبري” – (12/ 743 – 744)، و”الدر المنثور”: (6/ 713).
(1/282)
وقال ابن الأنباري (1): “لا خلاف بين أهل اللغة، أن الصَّمد السيد الذي ليس فوقه أحد، الذي يَصْمُد إليه الناس في حوائجهم وأمورهم”. واشتقاقه يدلُّ على هذا، فإنه من الجمع والقصد فهو الذي اجتمع القصد نحوه، واجتمعت فيه صفاتُ السؤدد، وهذا أصله في اللغة (2) كما قال:
ألا بَكَّرَ النَّاعِي بِخَيْرَي بَني أَسَدْ … بعَمْروِ بنِ يَرْبوعٍ وبالسَّيِّدِ الصَّمَدْ (3)
والعرب تسمِّي أشرافَها: بالصمد؛ لاجتماع قَصْد القاصدين إليه، واجتماع صفات السِّيادة فيه.
السادس: صفهَ تحصل من اقتران (4) أحد الاسمين والوصفين بالآخر، وذلك قدرٌ زائد على مفرديهما نحو: الغني الحميد، العفو (5) القدير، الحميد المجيد، وهكذا عامة الصفات المقترنة والأسماء المزدوجة في القرآن، فإن الغنيَّ صفة كمالٍ، والحمد كذلك، واجتماع الغِنَى مع الحَمْد كمالٌ آخر، فله ثناءٌ من غِناه، وثناءٌ من حَمْده، وثناءٌ من اجتماعهما. وكذلك: العفو القدير، والحميد المجيد (6)، والعزيز الحكيم؛ فتأمله فإنه من أشرف المعارف.
وأما صفات السَّلْب المَحْض؛ فلا تدخل في أوصافه -تعالى- إلا أن تكون متضمِّنة لثبوتٍ؟؛ كـ “الأحد” المتضمن لانفراده بالرُّبوبية
__________
(1) في كتابه “الزاهر في معاني كلمات الناس”: (1/ 83).
(2) “في اللغة” ليست في (ق).
(3) نُسِب لغير واحد وانظر هامش “الزاهر” رقم (46).
(4) (ق ود): “صفة في اقتران … “.
(5) (ق): “الغفور”.
(6) من قوله: “وهكذا عامة الصفات … ” إلى هنا ساقط من (د).
(1/283)
والآلهية، و”السلام” المتضمن (ظ/ 48 أ) لبراءته من كلِّ نقصٍ يُضاد كماله، وكذلك الإخبار عنه بالسُّلُوب؛ هو لتضمُّنها ثبوتًا كقوله تعالى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255] فإنه متضمِّن لكمال حياته وقيُّوميَّته، وكذلك قوله تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] متضمن لكمال قدرته. وكذلك قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [يونس: 61] متضمِّن لكمال علمه، وكذلك قوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)} [الإخلاص: 3] متضمِّن لكمال صَمَدِيته وغِناه، وكذلك قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 4] متضمن (1) لتفرده بكماله وأَنه لا نظيرَ له، وكذلك قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] متضمن لعظمته، وأنه جلَّ عن أن ُيُدْرَك بحيثُ يُحاط به، وهذا مُطَّرِد في كل ما وَصَفَ به نفسَه من السُّلُوب.
ويجب أن يُعْلَم هنا أمور:
أحدهما: أنَّ ما يدخل في باب الإخبار عنه -تعالى- أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته، كالشيء، والموجود، والقائم بنفسه، فإن هذا (2) يُخْبر به عنه، ولا يَدْخل في أسمائه الحسنى وصفاته العُلى.
الثاني: أنَّ الصِّفة إذا كانت منقسمة إلى كمال ونقص؛ لم تدخل بمطلقها في أسمائه، بل يُطْلَقُ عليه منها كمالها، وهذا كالمريد، والفاعل، والصانع، (ق / 65 أ) فإن هذه الألفاظ لا تدخل في أسمائه، ولهذا غَلِطَ من سمَّاه بالصانع عند الإطلاق، بل هو الفعَّالُ لما يريدُ،
__________
(1) (ظ ود): “متضمن علمه لتفرده”.
(2) من (ق).
(1/284)
فإن الإرادة والفعل والصُّنْع منقسمة، ولهذا إنما أطلقَ على نفسِه من ذلك أَكْمَلَه فِعْلًا وخَبَرًا.
الثالث: أَنَّه لا يلزم من الإخبار عنه بالفعل مقيدًا أن يُشْتَق له منه اسم مطلق، كما غَلِط فيه بعضُ المتأخرين، فجعل من أسمائه الحسنى: المُضِل الفاتن الماكر -تعالى الله عن قوله- فإن هذه الأسماء لم يطلق عليه -سبحانه- منها إلا أفعال مخصوصة معينة، فلا يجوز أن يسمى بأسمائها المطلقة، والله أعلم.
الرابع: أنَّ أسماءه الحسنى هى أعلام وأوصاف، والوصف بها لا ينافي العَلَمية، بخلاف أوصاف العباد فإنها تنافي عَلَميتهم؛ لأن أوصافهم مشتركة فَنَافَتْها العَلَمية المختصة، بخلاف أوصافه -تعالى-.
الخامس: أَنَّ الاسم من أسمائه له دلالات؛ دلالة على الذات والصفة بالمطابقة؛ ودلالة على أحدهما بالتضمُّن، ودلالة على الصفة الأخرى باللزوم.
السَّادس: أَنَّ أسماءه الحسنى لها اعتباران: اعتبارٌ (1) من حيث الذات (2)، واعتبارٌ من حيث الصفات، فهي بالاعتبار الأول مترادفة وبالاعتبار الثاني متباينة.
السابع: أنَّ ما يُطْلَق عليه في باب الأسماء والصفات توقيفيٌّ، وما يُطلق عليه من الإخبار لا يجب أن يكون توقيفيًا، كالقديم، والشيء، والموجود، والقائم بنفسه. فهذا فَصْل الخطاب في مسألة
__________
(1) سقطت من (ظ).
(2) (ق): “الصفات” ثم كتب فوقها: “الظاهرة الأسماء”.
(1/285)
أسمائه؛ هل هي توقيفية أو يجوز أن يطلق عليه منها بعض (1) ما لم يرد به السمع.
الثامن: أنَّ الاسم أذا أُطلِق عليه؛ جاز أن يُشْتق منه المصدر والفعل، فيُخْبر به عنه فعلًا ومصدرًا، نحو: السميع البصير القدير، يطلق عليه منه اسم (2) السمع والبصر والقدرة، ويُخْبر عنه بالأفعال، من ذلك نحو: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} [المجادلة: 1]. {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)} [المرسلات: 23] هذا إن كان الفعلُ متعديًا، فإن كان لازمًا لم يُخْبر عنه به، نحو: الحي، بل يُطْلق عليه الاسم والمصدر دون الفعل (3)، فلا يقال: حيي.
التاسع: أنَّ أفعال الربِّ -تعالى- صادرة عن أسمائه وصفاته، وأسماء المخلوقين صادرة: عن أفعالهم، فالربُّ -تعالى- فِعَاله عن كماله. والمخلوق كمالُه عن فِعَاله، فاشْتُقَّت له الأسماء بعد (ظ/48 ب) أن كَملَ بالفعل. فالربُّ -تعالى- لم يزل كاملًا، فحصلت أفعالُه عن كماله؛ لأنه كاملٌ بذاته وصفاته، فأفعاله صادرة عن كمالِهِ كَمُل فَفَعَل، والمخلوق فَعَل فكَمُلَ الكمال اللائق به.
العاشر: إحصاء الأسماء الحسنى والعلم بها أصل للعلم بكلِّ معلوم، فإن المعلومات سواه: إما أن تكون خلقا له -تعالى- أو أمرًا، إما عِلْم بما كوَّنه، أو عِلْم بما شَرَعَه، ومصدرُ (ق/65 ب) الخلقِ والأمر عن أسمائه الحسنى، وهما مرتبطان بها ارتباط المقتضى
__________
(1) ليست في (ق).
(2) من (ق).
(3) “دون الفعل” ليست في (ق ود).
(1/286)
بمقتضيه، فالأمر كلُّه مصدره عن أسمائه الحسنى، وهذا كله حَسَن (1)، لا يخرج عن مصالح العباد والرأفة والرحمة بهم والإحسان إليهم بتكميلهم بما أمرهم به ونهاهم عنه، فأمره كلُّه مصلحَة وحِكْمة ورحمة ولطفٌ وإحسان، إذ مصدره أسماؤه الحسنى، وفعله كله لا يخرج عن العَدْل والحكمة، والمصلحة والرحمة، إذ مصدره أسماؤه الحسنى، فلا تفاوت في خَلْقِه ولا عَبَث، ولم يخلق خلْقَه باطلًا ولا سدًى ولا عَبَثًا، وكما أن كل موجود سواه فبإيجاده، فوجود من سِواه تابعٌ لوجوده تبع المفعول المخلوق لخالقه، فكذلك العلم به -تعالى- أصل للعلم بكلِّ ما سواه، فالعلم بأسمائه وإحصاؤها أصل لسائر العلوم، فمن أحصى أسماءَه كما ينبغي للمخلوق أحْصَى جميعَ العلوم؛ إذ إحصاءُ أسمائه أصل لإحصاء كلِّ معلوم؛ لأن المعلومات هي من مقتضاها ومرتبطة بها، وتأمل صدور الخلق والأمر عن علمه وحكمته تعالى؛ ولهذا لا تجد فيها خللًا ولا تفاوتًا، لأن الخللَ الواقع فيما يأمر به العبدُ أو يفعله: إما أن يكون لجهله به أو لعدم حكمته. وأما الرب -تعالى- فهو العليم الحكيم فلا يلحق فعله ولا أمره خللٌ ولا تفاوت ولا تناقض.
الحادي عشر: أن أسماءه كلَّها حُسْنى ليس فيها اسم غير ذلك أصلًا، وقد تقدَّم أن من أسمائه ما يطلق عليه باعتبار الفعل، نحو: الخالق والرزَّاق والمحيي والمميت، وهذا يدلُّ على أن أفعاله كلَّها خيرات محضة لا شرَّ فيها، لأنه لو فعل الشر لا شْتُق له منه اسمٌ، ولم تكن أسماؤه كلُّها حسنى، وهذا باطل، فالشرُّ ليس إليه، فكما لا
__________
(1) (د): “مصدر حسن”.
(1/287)
يدخل في صفاته ولا يلحق ذاته = لا يدخل في أفعاله، فالشرُّ ليس إليه، لا يُضَاف إليه فعلًا ولا وصفًا وإنما يدخل في مفعولاته. وفرقٌ بين الفعل والمفعول، فالشر قائم بمفعوله المباين له، لا بفعله الذي هو فعله، فتأمل هذا فإنه خفيَ (1) على كثير من المتكلِّمين، وزلَّت فيه أقدام، وضَلَّت فيه أفهام، وهدى الله أهلَ الحق لما اختلفوا فيه بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الثانى عشر: في بيان (2) مراتب إحصاء أسمائه -تبارك وتعالى- التي من أحصاها دخل الجنة، وهذا هو قُطْب السعادة (3) ومدار النجاة والفلاح.
المرتبة الأولى: إحصاء ألفاظها وعددها.
المرتبة الثانية: فهم معانيها ومدلولها (4).
المرتبة الثالثة: دعاؤه بها، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (ق/66 أ) [الأعراف: 180].
وهو مرتبتان: أحدهما: دعاء ثناء وعبادة.
والثاني: دعاء طلبٍ ومسألة.
فلا يُثْنى عليه إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العُلَى، ولذلك لا يُسئل إلا بها، فلا يقال: يا موجود، أو يا شيء، أو يا ذات اغفر لي
__________
(1) سقطت من (ظ ود)، وانظر في هذا البحث ما سيأتي: (2/ 719 – 721).
(2) من (ظ).
(3) “وهذا هو قطب السعادة” ساقط من (د)، و”هذا” ساقط من (ق).
(4) (ق): “ومداركها”.
(1/288)
وارحمني!! بل يُسئل في كلِّ مطلوب باسم يكون مقتضيًا لذلك المطلوب، فيكون السائل متوسِّلًا إليه بذلك الاسم. ومن تأمل أدعية (ظ/49 أ) الرُّسُل، ولا سيما خاتمهم وإمامهم -صلوات الله وسلامه عليهم- وجدَها مطابقةً لهذا.
وهذه العبارة أولى من عبارة من قال: يتخلق (1) بأسماء الله؟؛ فإنها ليست بعبارة سديدة، وهي مُنْتَزعة من قول الفلاسفة بالتشبُّه بالإله (2) على قَدْر الطاقة. وأحسنُ منها عبارة أبى الحكم بن بَرَّجان، وهي: التعبد (3)، وأحسن منها: العبارةُ المطابقة للقرآن، وهي الدعاء المتضمن للتعبد والسؤال. فمراتبها أربعة: أشدها إنكارًا عبارة الفلاسفة، وهي: التشبُّه. وأحسن منها عبارة من قال: التخلُّق، وأحسن منها عبارة من قال: التعبُّد، وأحسن من الجميع: الدعاء، وهي لفظ القرآن.
الثالث عشر: اختلف النظار في الأسماء التي تُطْلق على الله وعلى العباد، كالحي والسميع والبصير والعليم والقدير (4) والملك ونحوها.
__________
(1) (ق): “يتملّق”!.
(2) (ظ ود): “الفلاسفة بالإله”، و (ق): “الفلاسفة الفلسفة التشبه … ” والصواب المثبت من “المنيرية”.
(3) العبارة في (ق) معرفة إلى: “لأن الحكم برزخان وهي البعيد”! وتحرفت “برجان” في (ظ ود) إلى “برهان”!.
وابن بَرَّجان هو: أبو الحكم عبد السلام بن عبد الرحمن بن محمد اللخمي الإشبيلي، أحد المتصوّفة ت (536). ترجمته في: “لسان الميزان”: (4/ 13)، و “الأعلام”: (4/ 6).
(4) (ق): “والعزيز”.
(1/289)
فقالت طائفة من المتكلمين: هي حقيقة في العبد، مَجاز في الرب، وهذا قول غُلاة الجهمية وهو أخبث الأقوال وأشدها فسادًا.
الثاني مقابله وهو: أنها حقيقة في الرب مجاز في العبد، وهذا قول أبي العباس النَّاشِئ (1).
الثالث: أنها حقيقة فيهما.
وهذا قول الأكثرين (2)، وهو الصواب. واختلاف الحقيقتين فيهما لا يخرجها عن كونها حقيقة فيهما. وللرَّب تعالى منها ما يليق بجلاله، وللعبد منها ما يليق يه. وليس هذا موضع التعرض لمأخذ هذه الأقوال، وإبطال باطلها وتصحيح صحيحها، فإن الغرض الإشارة: إلى أمور ينبغي معرفتها فى هذا الباب، ولو كان المقصود بسطها لاستدعت سِفْرين أو أكثر.
الرابع عشر: أنَّ الاسم والصفة من هذا النوع له ثلاثة اعتبارات: اعتبار من حيث هو، مع قَطْع النظر عن تقييده بالرَّبِّ أو العبد.
الاعتبار الثاني: اعتباره مضافًا إلى الرب مختصًّا به.
الثالث: اعتباره مضافًا إلى العبد مُقَيدًا به، فما لزم الاسم لذاته وحقيقته، كان ثابتًا للرب والعبد، وللربِّ منه ما يليق بكماله، وللعبد منه ما يليق به.
__________
(1) هو: أبو العباس عبد الله بن محمد بن شِرْشِيْر الأنباري، من كبار المتكلمين ت (293).
انظر: “تاريخ بغداد”: (10/ 92)، و”السير”: (14/ 40).
(2) من (ق)، وفي “المنيرية”: “أهل السنة”، وفى (د) بياض ثم كتب بخط حديث مغاير “أهل السنة”.
(1/290)
وهذا كاسم السميع الذي يلزمه إدراك المسموعات، والبصير (ق/ 66 ب) الذي يلزمه رؤية المُبْصَرات، والعليم والقدير وسائر الأسماء، فإن شرط صحة إطلاقها: حصول معانيها وحقائقها للموصوف بها.
فما لزم هذه الأسماء لِذَاتها، فإثباته للرب -تعالى- لا محذورَ فيه بوجهٍ، بل تثبتُ له على وجه لا يماثل (1) فيه خلقَه ولا يشابههم، فمن نفاه عنه لإطلاقه على المخلوق أَلْحد في أسمائه وجَحَدَ صفات كماله. ومن أثبته له على وجهٍ يماثل فيه خلْقَه فقد شبَّهَه بخلقه، ومن شبَّه اللهَ بخلقه فقد كفر، ومن أثبته له على وجهٍ لا يماثل فيه خلقه، بل كما يليقُ بجلاله وعظمته؛ فقد بَرِئ من فَرْث التشبيه ودَمِ التعطيل (2)، وهذا طريق أهل السنة.
وما لزم الصفةَ لإضافتها إلى العبدِ وجبَ نفيه عن الله، كما يلزم حياة العبد من النوم والسِّنَةِ والحاجة إلى الغذاء ونحو ذلك. وكذلك ما يلزم إرادته من حركةِ نفسه في جلبِ ما ينتفع به ودفع ما يتضرَّر به. وكذلك ما يلزم علوه من احتياجه إلى مَا هو عال عليه، وكونه محمولًا به مفتقرًا إليه محاطًا به، كلُّ هذا يجب نفيه عن القدوس السلام -تبارك وتعالى-.
وما لزم الصفة من جهة اختصاصه -تعالى- بها، فإنه لا يثبت للمخلوق بوجهٍ، كعلمه الذي يلزمه القدم والوجوب (ظ/ 49 ب) والإحاطة بكل معلوم، وقدرته وإرادته وسائر صفاته، فإن ما يختص به منها (3) لا
__________
(1) (ظ ود): “يماثله”.
(2) في هامش (د) حاشية: هي: “يعني أن عقيدة أهل السنة تخرج لبنًا خالصًا من بين الدم والفرث، أي: من بين التعطيل والتشبيه. ذكر معناه مؤلفه في غير هذا”.
(3) (ق): “بنفيها”.
(1/291)
يمكن إثباته للمخلوق، فإذا أحطت بهذه القاعدة خُبْرًا وعَقَلْتَها كما ينبغي خَلَصت من الآفتين اللتين هما أصل بلاء المتكلمين: آفة التعطيل، وآفة التشبيه، فإنك إذا وَفَّيت هذا المقام حقَّه من التصور أثبتَّ لله الأسماء الحسنى والصفات العُلَى حقيقة، فخلصت من التعطيل، ونفيتَ عنها خصائصَ المخلوقين ومشابهتهم، فخلصت من التشبيه، فتدبَّر هذا الموضع واجعله جُنَّتك التي ترجع إليها في هذا الباب، والله الموفق للصواب.
الخامس عشر: أنَّ الصفة متى قامت بموصوفٍ لزمها أمور أربعة: أمران لفظيان وأمران معنويان.
فاللفظيان: ثُبُوتي وسَلْبي، فالثبوتي: أن يُشتق للموصوف منها اسم، والسَّلْبي: أن يمتنع لاشتقاق لغيره.
والمعنويان: ثبوتي وسلبي، فالثبوتي: أن يعود حكمها إلى الموصوف ويخبر بها عنه (1)، والسلبي: أنه لا يعود حكمُها إلى غيره، ولا يكون خَبَرًا عنه.
وهذه قاعدة عظيمة في معرفة الأسماء والصفات، فلنذكر من ذلك مثالًا واحدًا وهى: صفة الكلام، فإنها إذا قامت بمحلٍّ كان هو المتكلِّم دون من لم تقم به، وأخبر عنه بها، وعاد حكمها إليه دون غيره، (ق/ 67 أ) فيقال: قال وأمر ونهى ونادى وناجى وأخير وخاطب وتكلم وكلَّم، ونحو ذلك، وامتنعت هذه الأحكام لغيره، فيستدل بهذه الأحكام والأسماء على قيام الصفة به وسلبها عن غيره وعلى عدم قيامِها به، وهذا هو أصل السنة الذي ردُّوا به على المعتزلة والجهميةَ، وهو
__________
(1) (ظ ود): “أنه يعود حكمها ويخبر … “.
(1/292)
من أصح الأصول طَرْدًا وعَكْسًا.
السادس عشر: أنَّ الأسماء الحسنى لا تدخل تحت حصر ولا تُحَد بعدد (1)، فإن لله -تعالى- أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده، لا يعلمها مَلَكٌ مقرَّب ولا نبيٌّ مرسل، كما في الحديث الصحيح: “أسْألُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ به نَفْسَكَ، أو أَنزَلْتَه في كتَابِكَ، أو أسْتأْثَرْتَ بهِ في عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ” (2) فجعل أسماءَه ثلاثة أقسَام:
قِسْم: سَمَّى به نفسَه، فأظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم، ولم ينزل به كتابه.
وقسم: أنزل به كتابه فتعرَّفَ به إلى عباده.
وقسم: استأثرَ به في علمِ غيبه، فلم يُطْلِع عليه أحدًا من خلقه، ولهدا قال: “استأثرْتَ بهِ” أي: انفردت بعلمه، وليس المراد انفراده بالتسمِّي به؛ لأن هذا الانفراد ثابت في الأسماء التي أنزل بها كتابه.
__________
(1) (ق) “ولا تعدد”.
(2) أخرجه أحمد: (1/ 391)، وابن حبان: “الإحسان”: (3/ 253) والحاكم: (1/ 509)، وأبو يعلى رقم (5297)، والطبراني في “الكبير”: (10/ 210).
من طريق أبي سلمة الجُهني، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن مسعود- رضي الله عنه، به.
وأبو سلمة ذكره الحافظ في “التعجيل”: (ص/ 490)، ونقل عن الأئمة أنه مجهول، واستظهر الشيخان: أحمد شاكر في “شرح المسند”: (5/ 267) والألباني في “الصحيحة” رقم (198) أنه: موسى بن عبد الله الجهني، وهو ثقة، وتعقبهما المعلقون على “المسند – طبعة الرسالة”: (6/ 247 – 248).
والحديث ضعفه الدارقطني في “العلل” (5/ 201)، وصححه ابن حبان والحاكم.
(1/293)
ومن هذا قول النبي – صلى الله عليه وسلم – في حديث الشفاعة: “فيفتحُ عليَّ من مَحامِدِه بما لا أُحْسِنُه الآن” (1) وتلك المحامد هي (2) بأسمائه وصفاته – تبارك وتعالى-. ومنه قوله – صلى الله عليه وسلم -: “لا أُحْصِي ثناءً عليكَ أنتَ كما أثْنيْتَ على نَفْسِك” (3). وأما قوله – صلى الله عليه وسلم -: “إنَّ لله تسعةً وتسعينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاها دَخَلَ الجنةَ” (4) فالكلامُ جملة واحدة. وقوله: “مَن أَحْصَاها دَخَلَ الجنْةَ” صفةٌ لا خبر مستقبل.
والمعنى: له أسماء متعددة، مِن شأنها أن من أحصاها دخل الجنة. وهذا لا ينفي أن يكون له تعالى أسماء غيرها. وهذا كما تقول: لفلان مئة مملوكٍ. قد أعدهم للجهاد، فلا ينفي هذا أن يكون له مماليك سواهم معدون الغير الجهاد، وهذا لا خلاف بين العلماء فيه.
السَّابع عشر: أن أسماءه -تعالى- منها ما يُطلق عليه مفردًا ومقترنًا بغيره وهو غالب الأسماء، كالقدير والسميع والبصير والعزيز والحكيم، وهذا يسوغ (ظ/ 50 أ) أن يدعى به مفردًا ومقترنًا بغيره، فتقول: يا عزيز يا حكيم، يا غفور يا رحيم، وأن يفرد كلُّ اسم، وكذلك في الثناء عليه والخبر عنه به (5) يسوغ لك الإفراد والجمع.
ومنها ما لا يطلق عليه بمفرده، بل مقرونًا بمقابله؛ كالمانع والضار والمنتقم، فلا يجوز أن يُفرد هذا عن مقابله، فإنه مقرونٌ بالمعطي
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (44 – ومواضع أخرى)، ومسلم رقم (193) من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-. ولفظه: “فأحمده بمجاهد لا أقدر عليها الآن”.
(2) تحتمل قراءتها في (ظ): “تفي”.
(3) أخرجه مسلم رقم (486) وغيره من حديث عائشة- رضي الله عنها -.
(4) أخرجه البخاري رقم (2736)، ومسلم رقم (2677) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(5) (ظ ود): “وبه”.
(1/294)
والنافع (1) والعفوِّ، فهو المعطي المانع، الضار النافع، العفوُّ المنتقم، المعزُّ المذلُّ؛ لأن (ق/ 67 ب) الكمال في اقتران كلِّ اسم من هذه بما يُقابله؛ لأنه يُرَاد به: أنه المنفرد بالربوبية وتدبير الخلق والتصرف فيهم: عطاء ومنعًا، ونفعًا وضرًّا، وعَفْوًا وانتقامًا. وأما [أن] يُثْنى عليه بمجرَّد المنع والانتقام والإضرار؛ فلا يسوغ. فهذه الأسماء المزدوجة تجري الاسمان (2) منها مجرى الاسم الواحد الذي يمتنع فَصْل بعض (3) حروفه عن بعض، فهي وإن تعددت جارية مجرى الاسم الواحد، ولذلك لم تجيء مفردة ولم تطلق عليه إلا مقترنة فاعلمه.
فلو قلت: يا مُذِل يا ضار يا مانع، أو أخبرتَ بذلك؛ لم تكن مُثنيًا عليه ولا حامدًا حتى تذكر مقابله.
الثَّامن عشر: أن الصفات ثلاثة أنواع: صفات كمال، وصفات نقص، وصفات لا تقتضي كمالًا ولا نقصًا، وإن كانت [القِسْمة] (4) التقديرية تقتضي قسمًا رابعًا وهو: ما يكون كمالًا ونقصًا باعتبارين. والربُّ -تعالى- مُنزَّه عن الأقسام الثلاثة وموصوف بالقسم الأول، فصفاته كلها صفات كمالٍ مَحْض، فهو موصوف من الصفات بأكملها وله من الكمال أكمله. وهكذا أسماؤه الدالة: على صفاته هي أحسن الأسماء وأكملها، فليس في الأسماء أحسن منها، ولا يقوم غيرها مقامها ولا يؤدِّي معناها، وتفسير الاسم منها بغيره ليس تفسيرًا
__________
(1) (ظ): “المانع” خطأ، وكذا في الفقرة الثانية: “يا مانع”.
(2) (ظ ود): “الأسماء”.
(3) ليست في (ق)،.
(4) في الأصول: “التسمية” والصواب ما أثبتُّ.
(1/295)
بمرادفٍ مَحْض بل هو على سبيل التقريب والتفهيم.
وإذا عرفت هذا؛ فله سبحانه من كلِّ صفةِ كمالٍ أحسنُ اسمٍ وأكمله وأتمه معنًى، في أبعده وأنزهه عن شائبة عيبٍ أو نقص، فله من صفة الإدراكات: الحليم الخبير، دون: العاقل الفقيه. والسميع البصير، دون: السامع والباصر والناظر.
ومن صفات الإحسان: البَرُّ الرحيم الودود، دون: الرقيق والشفوق (1) ونحوهما. وكذلك: العَلِي العظيم، دون: الرفيع الشريف. وكذلك: الكريم، دون: السخى، والخالق البارئ المصوِّر، دون: الفاعل: الصانع المُشَكِّل، والغفور العفوُّ (2)، دون: الصفوح الساتر. وكذلك سائر أسمائه تعالى يجري على نفسه منها أكملها وأحسنها وما لا يقوم. غيرُه مقامَه، فتأمل ذلك، فأسماؤه أحسن الأسماء، كما أن صفاته أكمل الصفات، فلا تعدل عما سمَّى به نفسَه إلى غيره، كما لا تتجاوز. ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله – صلى الله عليه وسلم -، إلى ما وصفه به المبطلون والمعطِّلون.
التاسع عشر: أن من أسمائه الحسنى ما (3) يكون دالًّا على عِدَّة صفات، ويكون ذلك الاسم متناولًا لجميعها تناولَ الاسم الدال على الصفة الواحدة لها كما تقدم بيانه، كاسْمِه: العظيم والمجيد والصمد، كما قال ابن عباس -فيما رواه عنه ابنُ أبي حاتم في “تفسيره” (4) -: “الصمد: السيد الذي (ق/ 68 أ) قد كَمُل في سؤدده، والشريف الذي قد
__________
(1) تحرفت في (ق): “المعشوق”، وفي أكثر النسخ “الرفيق” بالفاء.
(2) (ق): “العفوّ الرءوف”.
(3) (ق): “مالا” وهو خطأ.
(4) (10/ 3474).
(1/296)
كَمُل في شرفه، والعظيم الذي قد كَمُل في عَظَمْته، (ظ/ 50 ب) والحليم الذي قد كَمُل في حلمه، والعليم الذي قد كَمُل في عِلْمه، والحكيم الذي قد كَمُل في حِكْمته، وهو الذي قد كَمُل في أنواع شرفه وسؤدده، وهو الله سبحانه وتعالى. هذه صفته لا تنبغي إلا له، ليس له كفوًا أحد، وليس كمثله شيء، سبحان الله الواحد القهار” هذا لفظه.
وهذا مما خَفِيَ على كثير ممن تعاطى الكلام في تفسير الأسماء الحُسْنى، ففسَّر الاسم بدون معناه، ونقصه من حيث لا يعلم، فمن لم يُحِط بهذا علمًا بخَسَ الاسمَ الأعظم حقَّه وهضمَه معناه، فتدبَّرْهُ.
العشرون: وهي الجامعة لما تقدَّم من الوجوه، وهو معرفة الإلحاد قي أسمائه حتى يقع فيه. قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} [الأعراف: 180] والإلحاد في أسمائه هو: العدولُ بها وبحقائقه (1) ومعانيها عن الحقِّ الثابتِ لها، وهو مأخوذ من الميل كما يدلُّ عليه مادته (ل ح د). فمنه: اللَّحْد، وهو الشَّقُّ في جانب القبر الذي قد مال عن الوسط. ومنه: المُلْحِد في الدين المائل عن الحق إلى الباطل.
قال ابن السِّكِّيْت (2): الملحد المائل عن الحق المُدْخِل فيه ما ليس منه. ومنه الملتَحَد، وهو مفتعل من ذلك. وقوله تعالى: {وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف: 27] أي: مَن تَعْدِل إليه وتهرب إليه وتلتجئ إليه وتميل (3) إليه عن غيره. تقول العرب: التحد فلان إلى فلان إذا عَدَلَ إليه.
__________
(1) (ق): “بجهاتها”.
(2) لم أجد كلامه في “إصلاح المنطق”، وانظره في “اللسان “: (3/ 388).
(3) (ق): “وتبتهل”.
(1/297)
إذا عُرِف هذا؛ فالإلحاد في أسمائه -تبارك وتعالى- أنواع:
أحدها (1): أن يسمى الأصنام بها كتسميتهمِ اللات من الإِلهية، والعُزَّى من العزيز. وتسميتهم الصنمَ إلهًا، وهذا إلحاد حقيقةً فإنهم عَدَلوا بأسمائه إلى أوثانهم وآلهتهم الباطلة.
الثاني: تسميته بما لا يليق بجلاله كتسمية النصارى له: أبًا، وتسمية الفلاسفة له: موجبًا بذاته، أو عِلَّة فاعلةً بالطبع، ونحو ذلك.
وثالثها: وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائض، كقول أخبث اليهود: إنه فقير.
وقولهم: إنه استراح بعد أن خلق خلقه.
وقولهم: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]، وأمثال ذلك مما هو إلحاد في أسمائه وصفاته …
ورابعها: تعطيل الأسماء عن معانيها وجحد حقائقها، كقول من يقول من الجهمية. وأتباعهم: إنها ألفاظ مجردة (2) لا تتضمَّن صفات ولا معاني، فيطلقون عليه اسم: السميع والبصير والحي والرحيم والمتكلم والمريد (3)، ويقولون: لا حياةَ له ولا سمع ولا بصر ولا كلام ولا إرادة تقوم به، وهذا من أعظم الإلحاد فيها (ق/68 ب) عقلًا وشرعًا ولغة وفِطْرَة، وهو يقابل إلحاد المشركين، فإن أولئك أعطوا أسماءه وصفاته لآلهتهم، وهؤلاء سلبوه صفات كماله (4) وجحدوها وعطلوها، فكلاهما مُلْحِد في أسمائه.
__________
(1) ليست في (ق).
(2) (ق): ” محدودة “.
(3) سقطت من (ظ ود).
(4) (ظ ود): “سلبوا كمالَه”.
(1/298)
ثم الجهميةُ وفروخُهم متفاوتون في هذا الإلحاد؛ فمنهم الغالي والمتوسط والمنكوب. وكل من جحد شيئًا مما وصف اللهُ به نفسَه أو وصفَه به رسولُه – صلى الله عليه وسلم -؛ فقد أَلحد في ذلك، فليستقلّ أو ليستكثر.
وخامسها: تشبيه صفاته بصفات خلقه، تعالى الله عما يقول المشبهون علوًّا كبيرًا. فهذا الإلحاد في مقابلة إلحاد المعطِّلة، فإن أولئك نفوا صفة كماله وجحدوها، وهؤلاء شبَّهوها بصفات خلقه، فجَمَعَهم الإلحادُ وتفرَّقت بهم طرقُه، وبرَّأ اللهُ أتباعَ رسوله – صلى الله عليه وسلم – وورثته القائمين بسنته عن ذلك كلِّه، فلم يصفوه إلا بما وصفَ به نفسَه، ولم يجحدوا صفاته ولم يشبهوها بصفات خلقه، ولم يعدلوا بها عما أُنزلت (ظ/ 51 أ) عليه لفظًا ولا معنى، بل أثبتوا له الأسماء والصفات ونفوا عنه مشابهة المخلوقات؛ فكان إثباتهم بريئًا من التشبيه (1)، وتنزيههم خليًّا من التعطيل، لا كمن شبَّه حتى كأنه يعبدُ صنمًا، أو عطل حتى كأنه لا يعبد إلا عَدَمًا.
وأهلُ السنة وسطٌ في النِّحَل، كما أن أهل الإسلام وسط في المِلَل، تُوْقَد مصابيحُ معارفهم من: {شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 35]، فتسأل الله -تعالى- أن يهدينا لنوره ويسَهِّل لنا السبيل إلى الوصول إلى (2) مرضاته ومتابعة رسوله، إنه قريب مجيب.
فهذه عشرون فائدة مضافة إلى القاعدة التي بدأنا بها في أقسام ما يوصف به [الرب] (3) تبارك وتعالى، فعليكَ بمعرفتها ومراعاتها،
__________
(1) “من التشبيه” ليست في (ق).
(2) “الوصول إلى” سقطت من (ق).
(3) من “المنيرية”.
(1/299)
ثمَّ اشرح الأسماء الحسنى إن وجدت قلبًا عاقلًا ولسانًا قائلًا ومحلًّا قابلًا؛ وإلَّا فالسكوت أولى بك، فجنابُ الربوبية أجلُّ وأعزُّ مما يخطر بالبال أو يعبِّر عنه المقال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] حتى ينتهي العلم إلى من أحاط بكلِّ شيءٍ علمًا. وعسى الله أن يُعين بفضله على تعليق “شرح الأسماء الحسنى”، مراعيًا فيه أحكام هذه القواعد بريئًا من الإلحاد في أسمائه وتعطيل صفاته، فهو المانُ بفضله، والله ذو الفضل العظيم (1).
__________
(1) من قوله: “فهذه عشرون فائدة … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(1/300)
فائدة (1)
المعنى المفرد لا يكون نعتًا، ونعني بالمفرد ما دَلَّ لفظُه على معنى واحد، نحو: عِلْم وقُدْرَة؛ لأنه لا (2) رابط بينه وبين المنعوت؛ لأنه اسم جنس على حاله. فإذا قلت: “ذو علم، وذو قدرة” كان الرابط: ذو.
فإذا قلت: “عالم وقادر” كان الرابط: الضمير (3)، فكل نعت وإن كان مفردًا في لفظه فهو دال على مَعْلوْمَين (4): حاملٍ ومحمولٍ، فالحامل هو: الاسم المضمر، والمحمول هو: الصفة.
وإنما أضْمِر في الصفة ولم يُضْمَر في المصدر وهو الصفة في الحقيقة؛ لأن هذا الوصف مشتق من الفعل، والفعل هو الذي يُضْمَر فيه دون المصدر؛ لأنه إنما صِيغْ من المصدر، ليُخْبَر به عن فاعل، فلابد له مما صِيغْ لأجله إما ظاهرًا وإما مضمرًا، ولا كذلك المصدر؛ لأنه اسم جنس فحكمه حكم سائر الأجناس، ولذلك يُنعت الاسم بالفعل لتحمله الضمير.
فإن قلت: فأيهما هو الأصل في باب النعت؟.
قلت: الاسم أصل للفعل في باب النعت، والفعل أصل لذلك الاسم في غير باب النعت. وإنما قلنا ذلك؛ لأن حكم النعت (ق/69 أ) أن
__________
(1) “نتائج الفكر”: (ص/ 207).
(2) سقطت من (ظ ود).
(3) في “النتائج”: “الضمير المستتر فيه العائد على ما قبله”.
(4) (ق): “معنيين”.
(1/301)
يكون جاريًا على المنعوت في إعرابه؛ لأنه هو مع زيادة معنى، ولأن الفعل أصله أن يكون له صدر الكلام؛ لعمله في الاسم، وحقُّ العامل التقدُّم لاسيما إن قلنا: إن العامل في النعت هو العامل في المنعوت. وعلى هذا؛ لا يُتَصوَّر أن يكون الفعل أصلًا باب النعت (1)؛ لأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال.
فعلى هذا؛ لا ينبغي أن يُنْعت النعت، فتقول: “مررتُ برجل عاقل كريم”، على أن يكون “كريم” صفة لعاقل بل لرجل؛ لأن النعت يُنبئ عن الاسم المضمر وعن الصفة، والمضمر: لا يُنعَت، ولأنه قد صار بمنزلة الجملة من حيث دلَّ على الفعل والفاعل، والجملة لا تُنعَت، ولأنه يجري مجرى الفعل في رفعه الأسماء، والفعل لا يُنْعت. قاله ابنُ جني.
وبَعْدُ! فلا يمتنع أن يُنْعت النعت إذا جَرَى النعت الأول مجرى الاسم الجامد، ولم يُرد له ما هو جارٍ على الفعل.
(ظ/51 ب) فصل (2)
ولمَا عُلِم من افتقاره إلى الضمير [فإنه] (3) لا يجوز إقامة النعت مقام (4) المنعوت لوجهين:
أحدهما: احتماله الضمير؛ فإذا حذفت المنعوت لم يبق للضمير ما يعود عليه.
__________
(1) من قوله: “هو العامل … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) “نتائج الفكر”: (ص/ 208).
(3) من “النتائج”.
(4) (ظ ود): “من”.
(1/302)
الثاني: عموم الصفة، فلا بد من بيان الموصوف بها ما هو؟.
فإن أجريتَ الصفة مجرى الاسم مثل: “جاءني الفقيه، و: جالست العالم “، خرج عن الأصل الممتنع وصار كسائر الأسماء. وإن جئت بفعل يختص بنوع من الأسماء وأعملته في نوعٍ يختص بذلك النوع، كان حذفُ المنعوت حسنًا، كقولك: “أكلت طيِّبًا، ولبست ليِّنًا، وركبتُ فارهًا”، ونحوه: “أقمتُ طويلًا، وسِرت سريعًا”؛ لأن الفعل لدل على المصدر والزمان (1)، فجاز حذف المنعوت هاهنا لدلالة الفعل عليه.
وقريبٌ منه قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 113] لدلالة الذرية على الموصوف بالصفة.
وإن كان في كلامك حكمٌ منوطٌ بصفة [اعتمدَ] (2) الكلامُ على تلك واستغنى عن ذكر (3) الموصوف، كقولك: مؤمن خير من كافر، و: غني أحْظَى من فقير، و: المؤمن لا يفعل كذا، و: {لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 44]، “والمؤمنُ يَأكُلُ في مِعًى وَاحِدٍ والكَافِرُ يَأكُلُ في سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ” (4)، وقولهم:
وَأَبْيَضَ كالمِخْرَاق …. البيت (5).
__________
(1) “النتائج”: “وكثرة الزمان”.
(2) (ق): “احتمل” والمثبت من “النتائج”.
(3) من قوله: “الموصوف بالصفة … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(4) أخرجه البخاري رقم (5393)، ومسلم رقم (2060) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(5) وتمامه: * وأبيض كالمِخْراق بلَّيت حدَّه *.
انظر: “لسان العرب”: (10/ 76).
(1/303)
وقول الآخر: وأسْمَرَ خَطِّيٍّ … (1).
لأن الفخر والمدح إنما يتعلق بالصفة دون الموصوف، فمضمون هذا الفصل ينقسم خمسة أقسام:
* نعتٌ لا يجوز حذف منعوته، كقولك: لقيت سريعًا (2)، و: ركبت خفيفًا.
* ونعت يجوز حذف منعوته (3) على قُبْحٍ، نحو: لقيتُ ضاحكًا، و: رأيتُ جاهلاً، فجوازه لاختصاص الصفة بنوع واحد من الأسماء.
* وقسم يستوي فيه الأمران، نحو: أكلتُ طيبًا، و: ركبت فارهًا، و: لبست ليِّنًا، و: شربت عذبًا؛ لاختصاصِ الفعلِ بنوع من المفعولات.
* وقسم يقبح فيه ذكر (ق/69 ب) الموصوف؛ لكونه حشوًا في الكلام، نحو: أكرم الشيخ، ووقِّر العالم، وأرفق بالضعيف، وارحم المسكين، وأعط الفقير، وأكرم البر، وجانب الفاجر، ونظائره؛ لتعليق الأحكام بالصفات واعتمادها عليها بالذكر.
* وقسم لا يجوز فيه ألبتة ذكر الموصوف، كقولك: “دابة، وأبطح: وأجرع، وأبرق -للمكان- وأسود -للحية- وأدهم -للقيد- وأخيل. -للطائر-“. فهذه في الأصول نعوتٌ، ولكنهم لا يجرونها (4) نعتًا على
__________
(1) وتمامه:
وأسمر خطِّيٍّ كأنّ سِنَانَه … شِهابُ غضًى شيَّعته فَتَلَهَّبا
انظر: “الأصمعيات”: (ص/ 266) ونَسَبه إلى ربيعة بن مقروم الضبِّي.
(2) (ق): “شريفًا”.
(3) من قوله: “كقولك: … ” إلى هنا ساقط من (د).
(4) (ظ ود): “يجوزونها”.
(1/304)
منعوت، فَنَقِفُ عندما وقفوا، ونترك القياسَ إذا تركوا.
فائدة بديعة (1)
إذا نُعِتَ الاسم بصفة هي لسببه (2)، ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: -وهو الأصل- أن تقول: “مررتُ برجلِ حسنٌ أبوه” بالرفع (3)؛ لأن الحُسْن ليس صفة له فيجري عليه، وإنما ذُكِرَت الجملة ليُمَيَّز بها بين الرجل وبين من ليس عنده أبٌ كأبيه، فلما تميز بالجملة من غيره صارت في موضع النعت. وتدرَّجوا من ذلك إلى أن قالوا: “حسنٍ أبوه”، بالجر (4)، وأجْرَوه نعتًا على الأول، وإن كان للأب (5)، من حيثُ تميز به وتخصص كما يتخصص بصفة نفسه.
والوجه الثالث: “مررت برجل حسنِ الأب”، فيصير نعتًا للأول، ويضمر فيه ما يعود عليه، حتى كأن الحُسْنَ له، وإنما فعلوا ذلك مبالغة وتقريبًا للسبب، وحذفًا للمضاف وهو الأب، وإقامة المضاف إليه مُقامه وهو الهاء، فلما قام الضمير مَقامَ الاسم المرفوع صار ضميرًا مرفوعًا، فاستتر في الفعل، فقلت: “برجل حسن”، ثم أضفته إلى السبب (ظ/ 52 أ) الذي من أجله صار (6) حسنًا وهو الأب، ودخول الألف واللام على السبب إنما هي لبيان الجِنس.
__________
(1) “نتائج الفِكر”: (ص/ 210).
(2) (ق ود): “كسبية”، و (ظ): “كسببه” والتصويب من “النتائج”.
(3) ليست في (ق).
(4) هذا الوجه الثاني.
(5) (ق ود): “الأب”.
(6) (ظ ود): “كان”.
(1/305)
وهذا الوجه لا يجوز إلا في الموضع الذي يجوز (1) فيه حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وذلك غير مُطَّرد الجواز، وإنما يجوزُ حيث يقصدون المبالغة وتفخيم الأمر، وإن بَعُد السبب كان الجواز أبعدَ، كقولك: “نابح [كلب الجار] (2)، وصاهل فرس العبد”.
وما امتنع في هذا الفصل، فإنه يجوز في الفصل الذي قبله، من حيث لم يقيموا فيه مضافًا مقام المضاف إليه (3).
وإنما حكمنا باختلاف المعاني في هذه الوجوه الثلاثة، من حيثُ اختلفَ اللفظ فيها؛ لأن الأصل أن يختلف لفظان إلا لاختلاف معنًى، ولا يُحْكَم باتحادِ المعنى مع اختلاف اللفظ إلا بدليل. فمعنى الوجه الأول: تمييز الاسم من غيره بالجملة التي بعده. ومعنى الوجه الثاني: تمييز الاسم من غيره مع انجرار الوصف إليه بمدح أو ذم. ومعنى الوجه الثالث: نقل الصفة (ق/ 70 أ) كلِّها إلى الأول على حذف المضاف مع تبيين السبب الذي صيره كذلك.
وأكثر ما يكون هذا الوجه فيما قرب سببُه جدًّا، نحو: “عظيم القَدْر، وشريف الأب”؛ لأن شَرَف الأب شرفٌ له، وكذلك القَدْر والوجه، وهاهنا يَحْسُن حذفُ المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه.
فائدة (4)
إن قيل: لِمَ اكتسبَ المضاف التعريفَ من المضاف إليه، ولم
__________
(1) (ق): “لا يجوز” تحريف.
(2) في النسخ: “الكلب”. والمثبت من “النتائج”.
(3) كذا في النسخ و”النتائج” وأصلحه محققه إلى: ” … فيه مضافًا إليه مُقام المضاف”.
(4) “نتائج الفكر”: (ص/ 216).
(1/306)
يكتسب المضافُ إليه التنكيرَ من المضاف؟ وهو مقدَّم عليه في اللفظ، لاسيما والتنكير أصل في الأسماء، والتعريف فرعٌ عليه؟.
قِيل: الجواب من وجهين:
أحدهما: أنهم قد غَلَّبوا حكم المعرفة على النكرة في غير هذا الموطن (1)، نحو: “هذا زيدٌ ورجلٌ ضاحِكَيْن”، على الحال. ولا يجوز: ضاحكان، على النعت، تغليبًا لحكم المعرفة؛ لأنهم رأوا الاسم المعرفة يدل على معنيين: الرجل وتعيينه، والشيء وتخصيصه من غيره، والنكرة لا تدل إلا على معنًى مفرد، فكان ما يدل على معنيين (2) أقوى مما يدل على معنًى واحد. وهذا أصل نافع (3) فَحَصِّلْهُ.
الثاني: أن المضاف إليه بمنزلة آلة التعريف، فصار كالألف واللام. ألا ترى أنك إذا قلتَ: غلام زيد، فهو بمنزلة قولك: الغلام، لمن تعرفه بذلك. وكذلك إذا قلتَ: كتاب سيبويه، فهو بمنزلة قولك: الكتاب، وكذلك إذا قلتَ: سلطان المسلمين، بمنزلة قولك: السلطان، فتعريفه باللام في أَوَّله، وتعريفه بالإضافة من آخره.
فإن قيل: فإذا اكتسب التعريفَ من المضاف إليه، فكان ينبغي أن يُعْطَى حكمه.
قيل: وإن استفاد منه التعريف، لم يستفد منه خصوصية تعريفه، وإنما اكتسب منه تحريفًا آخر كما اكتسب من لام التعريف. ألا ترى أنه إذا أُضِيْف إلى المُضْمَر لم يكتسب منه الإضمار، وإذا أُضِيْف إلى
__________
(1) (ظ ود): “الموضع”.
(2) من قوله: “الرجل وتعيينه … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(3) (ق): “واحد”!.
(1/307)
المبهم لم يكتسب منه الإبهام، فلا الأولُ اقتبسَ من الثاني خصوصية تعريفه، ولا الثاني اقتبسَ من الأول تنكيْرَه، والمضاف إليه في ذلك كالآلة الدَّاخلة على الاسم.
فائدة
من كلام السهيلي (1) -رحمه الله-: “الكلام هو تعبير عما في نفس المتكلِّم من المعاني، فإذا أَضمر ذلك المعنى في نفسه -أي: أخفاه- ودل (ظ/52 ب) المخاطبَ عليه بلفظ خاص، سُمِّي ذلك اللفظ: ضميرًا، تسمية له باسم مدلوله. ولا يقال: فكان ينبغي أن يسمَّى كل لفظ ضميرًا على ما ذكرتم؛ لأن هنا مراتب ثلاثة:
أحدها: المعنى المضمر، وهو (2) حقيقة الرجل مثلاً.
والثاني: اللفظ المميز له عن غيره، وهو زيد وعَمْرو.
والثالث: اللفظ المعبِّر عن هذا الاسم الذي إذا أُطْلِق كان المراد به ذلك الاسم، بخلاف قولك: زيد وعَمْرو (3)، فإنه ليس ثَمَّ إلا لفظ ومعنى، فخصُّوا (ق/ 70 ب) اسم الضمير (4) بما ذكرناه. والمضمرات في كلامهم نحو ستين ضميرًا وأحوالها معلومة، لكن ننبه على أسرارها من أحكام المضمرات.
أعلم أن المتكلم لما استغنى عن اسمه الظاهر في حال الإخبار، لدلالة المشاهدة عليه، جعل مكانه لفظًا يومئ به إليه، وذلك اللفظ
__________
(1) في “نتائج الفكر”: (ص/218).
(2) سقطت من (ظ ود).
(3) من قوله: “والثالث: …. ” إلى هنا ساقط من (د).
(4) (ظ ود): “المصدر”.
(1/308)
مؤلف من “همزة ونون”؟ أما الهمزة؛ فلأن مخرجها من الصدر، وهو أقرب مواضع الصوت إلى المتكلِّم، إذ المتكلم في الحقيقة محله وراء حبل الوريد. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)} (1) [ق: 16]، ألا تراه يقول: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق: 18] يعني: ما يلفظ المتكلِّم، فدل على أن المتكلم أقرب شيءٍ إلى حبل الوريد، فإذا كان المتكلم على الحقيقة محله هناك، وأردت من الحروف ما يكون عبارة عنه، فأولاها بدلك ما كان مَخْرَجه من جهته، وأقرب المواضع إلى مَحَلِّه، وليس إلا “الهمزة أو الهاء”، والهمزة (2) أحق بالمتكلم لقوَّتها بالجهر والشدة وضعف الهاء بالخفاء، فكان ما هو أجهر وأَقْوى أَوْلى بالتعبير عن اسم المتكلِّم الذي الكلام صفة له، وهو أحقُّ بالاتصاف به.
وأما تآلفها مع النون؛ فلما كانت الهمزة بانفرادها لا تكون اسمًا منفصلاً، كان أولى ما وصلت به “النون” أو حروف المد واللين، إذ هي أمهات الزوائد، ولم تكن حروف المد مع “الهمزة” لذهابها عند التقاء الساكنين، نحو: أنا الرجل، فلو حُذِف الحرف الثاني لبقيت “الهمزة” في أكثر الكلام منفردة مع لام التعريف، فتلتبس بالألف التي هي أخت اللام، فيختل أكثرُ الكلام، فكان أولى ما قرن به “النون”؛ لقربها من حروف المد واللين، ثم بيَّنوا النون -لخفائها- بالألف في حال السكت، أو بـ “ها” في لغة من قال: إنه.
ثم لما كان المخاطب مشاركًا للمتكلم في معنى (3) الكلام؛ إذ
__________
(1) سقطت الآية من (ظ ود).
(2) سقطت من (ظ ود).
(3) (ظ ود): “حال معنى”.
(1/309)
الكلام مبدؤه من المتكلم ومنتهاه عند المخاطَب، ولولا المخاطَب ما كان كلام المتكلم لفظًا مسموعًا، ولا احتاج إلى التعبير عنه، فلما اشتركا في المقصود بالكلام وفائدته، اشتركا في اللفظ الدالِّ على الاسم الظاهر، وهو الألف والنون، وفُرِّقَ بينهما بالتاء خاصة. وخُصَّت “التاء” بالمخاطب لثبوتها علامة لضميره في: “قمت”، إلا أنها هنا اسم، وفي “أنت” حرف.
فإن قلت: فهي علامةٌ لضمير المتكلم في “قمت” (1)، فلِمَ كان المخاطَب أَوْلى بها؟.
قلت: الأصل في التاء للمخاطب، وإنما المتكلم دخيل عليه، ولما كان دخيلاً عليه خَصُّوه (2) بالضم؛ لأن فيه من الجمع والإشارة (ق/ 71 أ) إلى نفسه ما ليس في الفتحة، وخَصُّوا المخاطَب بالفتح؛ لأن في الفتحة من الإشارة إليه ما ليس في الضمة، وهذا معلوم في الحسِّ.
وأما ضمير المتكلم المخفوض فإنما كان “ياءً”؛ لأن الاسم: الظاهر لما تُرِكَ لفظُه استغناءً، ولم يكن بُدٌّ من علامةٍ دالَّة عليه، كان أولى الحروف بذلك حرفًا من حروف الاسم المضمر (3)، وذلك: لا يمكن لاختلاف أسماءِ المتكلِّمين، وإنما أرادوا علامة تختص بكلِّ متكلِّم (ظ/53 أ) في حال الخفض، والأسماء مختلفة الألفاظ متفقة: في حال الإضافة إليها (4) في الكسرة التي هي علامة الخفض، إلا أن الكسرة لا تستقل بنفسها حتى تُمَكَّن فتكون “ياء”، فجعلوا “الياء”.
__________
(1) من قوله: “إلا أنها … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(2) (ق): “خصوها” و (ظ): “خصوصًا”، والمثبت من (النتائج ود).
(3) كذا في النسخ و”النتائج” واستظهر محققه أن صوابها: “المُظْهَر”.
(4) الأصول: “إلى الياء”.
(1/310)
علامة لكل متكلِّم مخفوض، ثم شركوا النصب مع الخَفْض في علامة الإضمار، لاستوائهما في المعنى، إلا أنهم زادوا نونًا في ضمير المنصوب، وقاية للفعل من الكسر.
وأما ضمير المتكلم المتصل، فعلامتُه “التاء” المضمومة، وأما المتكلمون فعلامتهم “نا” في الأحوال كلِّها.
وسِرُّه: أنهم لما تركوا الاسم الظاهر وأرادوا من الحروف ما يكون علامة [للمخاطَب] (1) عليه أخذوا من الاسم الظاهر ما يشترك جميع المتكلمين فيه في حال الجمع والتثنية، وهي “النون” التي في آخر اللفظ، وهي موجودة في التثنية والجمع رفعًا ونصبًا وجرًّا، فجعلوها علامة للمتكلمين جمعًا كانوا أو اثنين، وزادوا بعدها ألفًا كيلا تشبه التنوين أو النون الخفيفة، ولحكمة أخرى وهي القرب من لفظ “أنا”؛ لأنها ضمير (2) المتكلمين، “وأنا” ضمير متكلمٍ، فلم يسقط (3) من لفظ “أنا” إلا الهمزة التي هي أصل في المتكلِّم الواحد، وأما جمع المتكلِّم وتثنيته ففرع طارئ على الأصل، فلم تمكن (4) فيه الهمزة التي تقدم اختصاصها بالمتكلم، حتى خُصَّت به في “أفعل”، وخص المخاطب بالتاء في “تفعل”، لما ذكرناه.
وأما ضمير المرفوع المتصل؛ فإنما خص بـ “التاء”؛ لأنهم حين
__________
(1) من “النتائج”.
(2) (ظ ود): “من ضمير”.
(3) “فلم يسقط” ليست في (ظ ود).
(4) “النتائج ود”: “تكن”.
(1/311)
أرادوا حرفًا يكون علامة على الاسم الظاهر المستغنى عن ذكره، كان أولى الحروف بذلك: حرفًا من الاسم، وهو يختلف كما تقدم، فأخذوا من الاسم ما لا تختلف الأسماء فيه في حال الرفع، وهى الضمة، وهي لا تستقلُّ بنفسها ما لم تكن واوًا، ثم رأوا الواو لا يمكن تَعَاقُب الحركات عليها؛ لثقلها وهم يحتاجون إلى الحركات في هذا الضمير، فرقًا بين المتكلِّم، والمخاطَب المؤنث، والمخاطَب المذكر، فجعلوا “التاء” مكان “الواو”؛ لقربها من مخرجها، ولأنها قد تبدل منها في كثير من الكلام؛ كـ “تُرَاث وتُخَمة”. فاشترك ضمير المتكلم والمخاطب في “التاء”، كما اشتركا فى “الألف والنون” من “أنا” و”أنت”؛ لأنهما شريكان في الكلام، لأن الكلام من حيث: كان للمخاطَب (ق/ 71 ب) كان لفظًا، ومن حيث كان للمتكلِّم كان معنًى. ثم وقع الفرق بين ضميريهما بالحركة دون الحروف، لما تقدم.
وأما ضمير المخاطَب نصبًا وجرًّا؛ فكان “كافًا” دون “الياء”؛ لأن الياء قد اختص بها المتكلِّم نصبًا وخفضًا، فلو أمكنت فيه الحركات أو وُجد ما يقوم مقامها في البدل كما كانت التاء مع الواو، لاشترك المخاطَب مع المتكلم في حال الخفض، كما اشترك معه في التاء في حال الرفع، فلما لم يكن ذلك ولم يكن بُدٌّ من حرف يكون علامةً إضمار كانت الكاف أحق بهذا الموطن؛ لأن المخاطبين وإن اختلفت أسماؤهم الظاهرة فكل واحدٍ منهم مُكَلَّم ومقصود بالكلام الذي هو اللفظ، ومن أجله احتيج إلى التعبير بالألفاظ عما في النفس، فجعلت الكاف (1) المبدوء بها في لفظ الكلام علامة إضمار المخاطب، ألا تراها لا تقع علامة إضمار له إلا بعد كلام كالفعل والفاعل، نحو:
__________
(1) (ظ ود): “فجعل الكلام”.
(1/312)
أكرمتك؛ لأنها كلام، والفعل وحده ليس كلامًا، فلذلك لم تكن علامة المضمر “كافًا” إلا بعد كلام من فعل وفاعل، أو مبتدأ وخبر.
فإن قيل: (ظ/53 ب) فالمتكلم أيضًا هو صاحب الكلام، فهو أحق بأن تكون الكاف المأخوذة من لفظ الكلام علامة لاسمه (1)؟.
قيل: “الكاف” لفظ فهي أحق بالمخاطب؛ لأن الكلام إنما لُفِظَ به من أَجْلِه.
وأما ضمير الغائب المنفصِل (2) فـ “هاء” بعدها “واو”؛ لأن الغائب لما كان مذكورًا بالقلب، واستغنى عن اسمه الظاهِر بتقدمه، كانت الهاء التي مخرَجُها من الصَّدْر قريبًا من مَحلِّ الذكر، أولى بأن تكون عبارةً على مذكور بالقلب (3)، ولم تكن “الهمزة”؛ لأنها مجهورة شديدة، فكانت أولى بالمتكلم الذي هو أظهر، والهاء -لخفائها- أولى بالغائب الذي هو أخْفَى وأبطن. ثم وُصِلَت بالواو؛ لأنه لفظ يُرْمَز به إلى المخاطَب، ليُعْلَم ما في النفس من مذكور، والرمز بالشفتين، والواو مخرجها من هناك، فخُصَّت بذلك.
ثم طردوا أصلهم في ضمير الغائب المنفرد فجعلوه في جميع أحواله “هاءً”؛ إلا في الرفع، وإنما فعلوا ذلك لأنهم رأوا الفرقَ بين الحالات واقعًا باختلاف حال الضمير؛ لأنه إذا دخل عليها حرف الجر كسرت “الهاء” وانقلبت واوه ياءً، وإذا لم يدخل عليه بقيَ مضمومًا على أصله، وإذا كان في حال الرفع لم يكن له علامة في
__________
(1) (ظ ود): “مأخوذة من اسمه”.
(2) (ظ ود): “المتصل”.
(3) من قوله: “واستغنى عن اسمه … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(1/313)
اللفظ؛ لأن الاسم الظاهر قبل الفعل عَلَم ظاهر يغني المخاطَب عن علامة إضمار في الفعل، بخلاف المتكلم والمخاطب؛ لأنك تقول في الغائب: زيدٌ قائم، فتجد الاسم الذي يعود عليه الضمير موجودًا ظاهرًا في اللفظ، ولا تقول في المتكلم: زيدٌ قمتُ، ولا في المخاطب: زيد (ق/ 72 أ) قمتَ، فلما اختلفت أحوال الضمير الغائب لسقوط علامته في الرفع، وتغير الهاء بدخول حروف الخفض، قام ذلك عندهم مقامَ علامات الإعراب في الظاهر، أو ما هو بمنزلتها في المضمر، كالتاء المبدلة من الواو، والياء [المنْبِئَة عن] (1) الكسرة، والكاف المختصة بالمفعول والمجرور الواقعين بعد الكلام التام، ولا يقع بعد: الكلام إلا منصوب أو مجرور، فكانت الكاف المأخوذة من لفظ الكلام علامة على المنصوب والمجرور إذا كان مخاطبًا.
وأما “نحن” فضمير منفصل للمتكلمين تثنيةً وجمعًا، وخصَّت بذلك لما لم يمكنهم التثنية والجمع في المتكلم المضمر؛ لأن حقيقةً التثنية ضمُّ شيءٍ إلى مثله في اللفظ، والجمع ضم شيء إلى أكثر منه مما يماثله في اللفظ؛ فإذا قلت: زيدان، فمعناه. زيد وزيد، و”أنتم”، معناه: أنت وأنت وأنت، والمتكلم لا يمكنه أن يأتى باسم مثنى أو مجموع في معناه؛ لأنه لا يمكنه أن يقول: “أنا أنا (2) ” فيضم إلى نفسه مثله في اللفظ، فلما عدم ذلك، ولم يكن بُدٌّ من لفظ يشير إلى ذلك المعنى، وإن لم يكنه في الحقيقة، جاءوا بكلمة تقع على الاثنين والجَمْع [لاشتراك التثنية والجمع] في هذا الموطن. ثم كانت.
__________
(1) (ق): “المثبتة و”! والمثبت من “النتائج”.
(2) “أنا” الثانية سقطت: من (ق)، والاستدراك من “النتائج” وكذا ما سيأتي بين المعقوفات في هذه الفقرة.
(1/314)
الكلمة آخرها نونًا وفي أولها، إشارةً إلى الأصل المتقدم الذي لم يمكنهم الإتيان به، وهو تثنية “أنا”، التي