ابن تيمية - كتبكتب ابن القيمكتب ابن القيم- شاملة - txt

بدائع الفوائد_الجزء الثاني

بدائع الفوائد_الجزء الثاني

لم يقم” (1)، ولهذا يصح مقابلته بالإيجاب الجزئي، نحو (2): قوله – صلى الله عليه وسلم – وقد سُئل: “أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: – “كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ”، فقال ذو اليدين: بلى، قد كان بعض ذلك” (3).
ومن هذا ما أنشده سيبويه (4):
قَدْ أَصْبَحَتْ أُمُّ الخِيارِ تَدَّعي .. عَلَيَّ ذَنْبًا كُلُهُ لم أَصْنَعِ
أنشده برفع “كل” واستقبَحَه لحذف الضمير العائد من الخبر، وغير سيبويه يمنعه مطلقًا وينشدُ البيت منصوبًا، فيقول كلَّه لم أصنع، والصواب: إنشادُه بالرفع محافظةً على النفي العام الذي أراده الشاعر وتمدَّح به عند أم الخيار، ولو كان منصوبًا لم يحصل له مقصوده من التَّمدُّح بأنه لم يفعل ذلك الذنب ولا شيئًا منه، بل يكون المعنى: لم أفعل كلَّ الذنب بل بعضه، وهذا ينافي غَرَضَه. ويشهد لصحة قول سيبويه: قراءة ابن عامر (5) في سورة الحديد: {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10]، فهذا يدلُّ على أن حذف العائد جائز وأنه غير قبيح.
ومن هذا على أحد القولين: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 50] أجاز الزجاج أن تكون الجملة ابتدائية وقد حذف العائد من {يَسْتَعْجِلُ}، وتقديره: يستعجله منه
__________
(1) كأن الكلام بقية، فلعلَّ هناك سقط.
(2) “الجزئي” سقطت من (ق)، و “نحو” من (ظ ود).
(3) أخرجه البخاري رقم (714)، ومسلم رقم (553/ 99) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) في “الكتاب”: (1/ 44، 69) وهو لأبي النجم العجلي.
(5) (ظ ود): “ابن عباس” والصواب ما في (ق) فابن عامر وحده قرأ برفع “كل”، انظر: “المبسوط في القراءات العشر”: (ص/ 362) للأصبهاني.

(1/374)


المجرمون، وكما يحذف من الصِّلة والصفة والحال إذا دلَّ عليه دليل، ودعوى قُبح حذفه من الخبر مما لا دليل عليها. وللكلام في تقرير هذه المسألة موضع آخر.
والمقصود: أن إنشادَ البيت بالنصب محافظةً على عدم الحذف إخلالٌ (1) شديدٌ بالمعنى. وأما إذا تقدم النفي وقلت: “لم أصنع كله ولم أضرب كلهم”، فكأنك لم تتعرَّض للنفي عن كل فردٍ فردٍ، وإنما نفيت فعل الجميع ولم تنفِ فعل البعض، ألا ترى أن قولك: “لم أصنع الكلَّ” مناقض لقولك: “صنعتُ الكلَّ”، والإيجاب الكلِّي يناقضه السلب الجزئي، ألا ترى إلى قولهم: “لم أُرِد كلَّ هذا” فيما إذا فعل ما يريده وغيره، فتقول: “لم أُرِد كلَّ هذا” ولا يصح أن تقول: “كلُّ هذا لم أرده”، فتأمله، فهذا تقرير هذه المسألة، وقد أغناك عن ذلك التطويل المتعِبْ القليل الفائدة.
فصل (2)
واعلم أن “كلًّا “من ألفاظ الغَيبة، فإذا أضفته إلى المخاطبين، جاز لك أن تُعِيدَ الضَّميرَ عليه بلفظ الغَيبة مراعاةً للفظه، وأن تعيده بلفظ الخطاب مراعاةً لمعناه، فتقول: كلُّكم فعلتم، وكلُّكم (3) فَعَلوا.
فإن قلت: “أنتم كلُّكم فعلتم”، أو “أنتم (4) كلُّكم بينكم درهم”، فإن جعلت “أنتم” مبتدأ، و “كلكم” تأكيدًا، قلت: أنتم كلكم فعلتم
__________
(1) في الأصول: “وإخلال”.
(2) (د): “فائدة”.
(3) “فعلتم، وكلكم” ساقط من (د).
(4) (ظ ود): “أرأيتم”.

(1/375)


وبينكم درهم، لتطابق المبتدإ، وإن جعلت “كلكم” مبتدأ ثانيًا جاز لك وجهان: أحدهما: أن تقول “فعلوا وبينهم درهم”، مراعاة للفظ كُلُّ، وأن تقول: “فعلتم وبينكم درهم”، حَمْلًا على المعنى؛ لأن “كُلًا” في المعنى للمخاطبين.
فائدة (1)
اختلف الكوفيون والبصريون في “كلا” و “كلتا”؛ فذهب البصريون إلى أنها اسم مفرد دال على الاثنين، فيجوز عَوْد الضمير إليه باعتبار لفظه وهو الأكثر، ويجوز عوده باعتبار معناه وهو الأقل، وألفها لام الفعل ليست ألف تثنية عندهم.
ولهم حجج؛ منها: أنها في الأحوال الثلاثة مع الظاهر على صورة واحدة، والمثنَّى ليس كذلك، وأما انقلابها ياء مع المضمر (2) فلا يدل على أنها ألف تثنية كألف “على وإلى ولدى”. هذا قول الخليل وسيبويه (3) واحتجوا -أيضًا- بقولهم: “كِلاهما ذاهب”، دون “ذاهبان”، وسيبويه لم يحتج بهذه الحجة لما تقدم من أنك إذا أضفت (4) لفظ “كل” أفردت خبره، مع كونه دالًا على الجمع حملًا على المعنى؛ لأن قولك: “كُلُّكُم راع” بمنزلة كل واحد منكم راع، فكذا قولك: كلاكما قائم، أي: كلُّ واحد منكما قائم.
فإن قيل: بل أفرد الخبر عن “كُل وكِلا”؛ لأنهما اسمان مفردان.
__________
(1) “نتائج الفكر”: (ص/ 281).
(2) (ظ ود): “الضمير”.
(3) انظر: “الكتاب”: (2/ 104 – 105).
(4) (ق): “أضفت كلًا”.

(1/376)


قيل: هذا يبطل بتوكيد الجمع والتثنية بهما، وكما لا يُنعت الجمع والمثنى بالواحد، فكذلك لا يؤكد به بطريق الأولى؛ لأن التوكيد تَكْرار للمؤكد بعينه، بخلاف النَّعت فإنه غيره (1) بوجه.
والمعول عليه لمن نصر مذهب سيبويه على الحجة الأولى، على ما فيها وعلى معارضتها بتوكيد الاثنين، و”كلا” والمثنى لا يؤكد بالمفرد كما قررناه.
فإن قيل: الجواب عن هذا أن “كلا” اسم للمثنى، فحسن التوكيد به وحصلت المطابقة باعتبار مدلوله، وهو المقصود من الكلام فلا يضر إفراد اللفظ.
قيل: هذا يمكن في الجمع أن يكون لفظه واحدًا ومعناه جمعًا؛ نحو: كل، وأسماء الجموع كرهط وقوم؛ لأن الجموع قد اختلفت صورها أشد اختلاف، فمذكر ومؤنث ومُسَلَّم ومكسر، على اختلاف ضروبه، وما لفظه على لفظ واحِدِه، كما تقدَّم بيانه، فليس ببدع أن يكون صورة اللفظ مفردًا ومعناه جمعًا، وأما التثنية فلم تختلف قط، بل لزمت طريقة واحدة أين وقعت، فبعيد جدًّا بل ممتنع أن يكون منها اسم مفرد معناه مثنى، وليس معكم إلا القياس على الجمع.
وقد وضحَ الفرقُ بينهما، فتعيَّن أن تكون “كلا” لفظًا مثنى ينقلب ألفه ياء مع المضمر دون المظهر؛ لأنك إذا أضفته إلى ظاهر استغنيت عن قلب ألفه ياء بانقلابها في المضاف إليه، لتنزله منزلة الجزئية لدلالة اللفظ على مدلول؛ واحد لأن “كلا” هو نفس ما يضاف إليه، بخلاف قولك: “ثوبا الرجلين، وفرسا الزيدين”، فلو قلت: “مررت
__________
(1) (ظ): “عنه” و “المنيرية”: “عينه”، وسقطن من (د).

(1/377)


بكلي الرجلين”، جمعتَ بين علامتي تثنية فيما هو كالكلمة الواحدة؛ لأنهما لا ينفصلان أبدًا، ولا تنفك “كِلا” هذه عن الإضافة بحال، ألا ترى كيف رفضوا: “ضربت رأسي الزيدين”، وقالوا: رؤوسهما، لمَّا رأوا المضاف والمضاف إليه كاسم واحد، هذا مع أن الرؤوس تنفصل عن الإضافة كثيرًا، وكذلك القلوب من قوله: {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]؛ فإذا كانوا قد رفضوا علامة التثنية هناك مع أن الإضافة عارضة، فما ظنك بهذا الموضع الذي لا تفارقه الإضافة ولا تنفك عنه؛ فهذا الذي حملهم على أن ألزموها الألف في جميع الأحوال (1) وكان هذا أحسن من إلزام طيِّيء وخَثْعَم وبني الحرث وغيرهم المثنى للألفَ في كلِّ حال (2) نحو: الزيدان والعمران، فإذا أضافوه إلى الضمير (3) قلبوا ألفه في النصب والجر؛ لأن المضاف إليه ليس فيه علامة إعراب ولا يثنَّى بالياء، ولكنه أبدًا بالألف، فقد زالت العلة التي رفضوها في الظاهر، وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله كما ترى، وإن كان سيبويه المعظَّم المقدَّم في الصناعة فمأخوذ من قوله ومتروك.
ومما يدل على صحة هذا القول أن “كِلا” يفهم من لفظه ما يفهم من لفظ “كُل”، وهو موافق له في فاء الفعل وعينه، وأما اللام فمحذوفة كما حُذِفت في كثير من الأسماء، فمن ادعى أن “لام” الفعل “واو”، وأنه (4) من غير لفظ “كل” فليس له دليل يعضده، ولا اشتقاق يشهد له.
__________
(1) (ظ ود): “على كل حال”.
(2) (ق): “الأحوال”.
(3) في “النتائج”: “المضمر”.
(4) (ق): “وأدواته” وهو تحريف.

(1/378)


فإن قيل: فلِمَ رجعَ الضمير إليها بلفظ الإفراد إذا كانت مثناة؟.
قيل: لما تقدم من رجوع الضمير على “كل” كذلك، إيذانًا بأن الخبر عن كل واحد واحد، فكأنك قلتَ: كل واحد من الرجلين قام. وفيه نكتة بديعة، وهي: أن عَوْد الضمير بلفظ الإفراد أحسن؛ لأنه يتضمَّن صدور الفعل عن كل واحد، منفردًا به ومشاركًا للآخر.
فإن قيل: فلم كُسِرت الكاف من “كِلا” وهي من “كل” مضمومة؟.
قيل: هذا لا يلزمهم؛ لأنهم لم (1) يقولوا: إنها لفظة “كل” بعينها، ولهم أن يقولوا: كُسِرت تنبيهًا على معنى الاثنين، كما يبتدأ لفظ (2) الاثنين بالكسر، ولهذا كسروا العين من “عِشرين” إشعارًا بتثنية “عشر”. ومما يدل على صحة هذا القول -أيضًا- أن “كِلتا” بمنزلة قولك: “ثِنتا”، ولا خلاف أن ألف “ثنتا” ألف تثنية، فكذلك ألف “كِلتا”. ومن ادعى أد الأصل فيهما “كلواهما” فقد ادعى ما تستبعده العقول، ولا يقوم عليه برهان.
ومما يدل -أيضًا- على صحته: أنك تقول في التوكيد: “مررتُ بإخوتك ثلاثتهم وأربعتهم”، فتؤكد بالعدد، فاقتضى القياس أن تقول -أيضًا- في التثنية كذلك: “مررت بأخويك (3) اثنيهما”، فاستغنوا عنه بكليهما لأنه في معناه، وإذا كان كذلك فهو مثنى مثله.
فإن قيل: فإنك تقول: “كلا أخويك جاء”، ولا تقول: “أثنا أخويك جاء”، فدل على أنه ليس في معناه؟.
__________
(1) سقطت من (ق).
(2) (ق): “يفيد اللفظ”.
(3) من قوله: “ثلاثتهم … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(1/379)


قيل: العدد الذي يؤكد به إنما يكون تأكيدًا مؤخرًا تابعا لما قبله، فأما إذا قُدِّم لم يجز ذلك؛ لأنه في معنى الوصف، والوصف لا يُقدَّم على الموصوف، فلا تقول: “ثلاثة إخوتك جاءوني”، وهذا بخلاف “كل وكِلا وكِلتا”؛ لأن فيها معنى الإحاطة، فصارت كالحرف الداخل لمعنى فيما بعده، فَحَسُن تقديمهما في حال الإخبار عنهما، وتأخيرهما في حال التوكيد، فهذا قوة (1) هذا المذهب كما ترى.
فائدة (2)
لا يؤكَّد بـ “أجمع” الفرد مما يعقل؛ ولا ما حقيقته لا تتبعَّض، وهذا إنما يؤكد به ما يتبعَّض كجماعة من يعقل فجرى مجرى “كل”.
فإن قيل: فقد تقول: رأيت زيدًا أجمع، إذا رأيته بارزًا من طاق ونحوه.
قيل: ليس هذا توكيدًا في الحقيقة لزيد؛ لأنك لا تريد حقيقتَه و”ذاتَه وإنما تريد به ما تُدْرك العينُ منه.
و”أجمع” هذه اسم معرفة بالإضافة، وإن لم يكن مضافًا في اللفظ؛ لأن معنى: قبضتُ المَال أجمع، أي كلَّه، فلما كان مضافًا في المعنى تعرَّف ووكِّد به المعرفة، وإنما استغنوا عن التصريح بلفظ المضاف إليه معه، ولم يستغن عن لفظ المضاف [إليه] مع “كل” إذا قلت: قبضتُ المالَ كلَّه؛ لأن “كلا” تكون توكيدًا وغير توكيد، وتتقدم في أول الكلام، نحو “كلكم ذاهب” فصار بمنزلة “نفسه” و”عينه”؛ لأن كل واحد منهما يكون توكيدًا وغير توكيد، فإذا أكدته
__________
(1) (ظ ود): “في”.
(2) “نتائج الفكر”: (ص/ 286).

(1/380)


لم يكن بُدٌّ من إضافته إلى ضمير المؤكد حتى يُعْلم أنه توكيد، وليس كذلك “أجمع”؛ لأنه لا يجيء إلا تابعًا لما قبله، فاكتفى بالاسم الظاهر المؤكد (1) واستغنى به عن التصريح بضميره، كما فعل بـ “سحر” حين أردته ليوم بعينه، فإنه عُرِّف بمعنى الإضافة، وأستغني عن التصريح بالمضاف إليه اتكالًا على ذكر اليوم قبله.
فإذا قيل: وَلمَ لَمْ تُقَدَّم “أجمع” كما قُدِّم “كل”؟.
فالجواب (2): أن فيه معنى الصفة؛ لأنه مشتق من “جمعت” فلم يقع إلَّا تابعا (3)، بخلاف “كل”.
ومن أحكامه أنه، يُثنَّى و، يُجمع على لفظه؛ أما امتناع تثنيته، فلأنه وضع لتأكيد جملة تتبعض (4)، فلو ثنيته لم يكن في قولك: “أجمعان” توكيد لمعنى التثنية، كما في “كليهما “؛ لأن التوكيد تكرار لمعنى المؤكَّد (5)، إذا قلت: درهمان، أفدت أنهما اثنان، فإذا قلت: كلاهما، كأنك قلت: اثناهما، ولا يستقيم ذلك في: “أجمعان”؛ لأنه بمنزلة من يقول: أَجْمع وأَجْمع، كالزيدان بمنزلة: زيد وزيد، فلم يفدك “أجمعان” تكرار معنى التثنية، وإنما أفادك تثنية واحدة بخلاف “كلاهما”؛ فإنه ليس بمنزلة قولك: كل وكل، وكذلك “اثناهما” المستغنى عنه بكليهما لا يقال فيهما: اثن واثن، فإنما هي تثنية لا تنحلُّ ولا تنفرد، فلم يصلح لتأكيد معنى التثنية غيرها، فلا
__________
(1) من قوله: “حتى يعلم … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) (ظ): “قيل: الجواب”، (د): “ولكل جواب”.
(3) (ظ ود): “فلم يكن يقع تابعًا”!
(4) “النتائج”: “لتوكيد الاسم المفرد الذي يتبعَّض”، وسقطت “يتبعض” من (ظ ود).
(5) (ظ ود): “المعنى المذكور”.

(1/381)


ينبغي أن يؤكد معنى التثنية والجمع إلا بما لا واحد له من لفظه، لئلاَّ يكون بمنزلة الأسماء المفردة المعطوف بعضها على بعض بالواو، وهذه عِلَّة امتناع الجمع فيه؛ لأنك لو جمعته كان جمعًا لواحد من لفظه، ولا يؤكِّد معنى الجمع إلا بجمع لا ينحل إلى الواحد.
فإن قيل: هذا ينتقض بأجمعين وأكتعين، فإن واحِدَه أجمع وأكتع؟
قيل: سيأتي جوابه، وإن شئت قلت: إن أجمع في معنى “كل”، و”كل” لا يُثنى ولا يجمع، إنما يُثَنَّى ويجمع الضمير الذي يضاف إليه “كل”.
وأما قولهم في تأنيثه: جمعاء؛ فلأنه أقرب إلى باب “أحمر” و”حمراء” من باب “أفضل” و”فُضْلى”، فلذلك لم يقولوا في تأنيثه: “جُمْعى (1) ” كـ “كُبْرى”، ودليل ذلك أنه لا يدخله الألف واللام، ولا يُضاف صريحًا، فكان أقرب إلى باب “أفعل” و” فعلاء” وإن خالفه في غير هذا.
وأما “أجمعون وأكتعون” فليس بجمع لـ “أجمع وأكتع”، ولا واحد له من لفظه، وإنما هو لفظ وضع لتأكيد الجمع بوزن: ياسمين، وبمنزلة: “أبَينون” تصغير “الأبناء” فإنه جمع مُسَلّم ولا [واحد] (2) له من لفظه (3). والدليل على ذلك: أنه لو كان واحد “أجمعين” أجمع، لما قالوا في المؤنث جُمَع، لأن “فُعَل” -بفتح العين- لا يكون واحده
__________
(1) من قوله: “فلأنه أقرب … ” إلى هنا ساقطة من (د).
(2) (ق): “حد”، والتصويب من “النتائج”.
(3) من قوله: “وإنما هو لفظ … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(1/382)


فعلاء. و”جمعاء” التي هي مؤنث أجمع لو جُمِعَت لقيل: جمعاوات، أو جُمْع -بوزن حُمْر- وأما فُعَل بوزن كٌبَر فجمع لفُعْلى (1).
وإنما جاء “أجمعون” على بناء “أكرمون وأرذلون”؛ لأن فيه طرفًا من معنى التفضيل كما في: “الأكرمين والأرذلين”، وذلك أن الجموع تختلف مقاديرها، فإن كَثُر العدد احتج إلى كثرة التوكيد، حرصًا على التحقيق ورفعًا للمجاز، فإذا قلت: جاء القوم كلُّهم، وكان العدد كثيرًا، تُوُهِّم أنه قد شذ منهم البعض، فاحتيج إلى توكيد أبلغ من الأول، فقالوا: أجمعون أكتعون، فمن حيث كان أبلغ من التوكيد الذي قبله، دخله معنى التفضيل، ومن حيث دخله معنى التفضيل (2) جُمِع جَمْع السلامة، كما يجمع “أفعل” الذي فيه ذلك المعنى جمع السلامة كأفضلون، ويجمع مؤنثه على “فُعَل” كما يجمع مؤنث ما فيه (3) من التفضيل.
وأما “أجمع” الذي هو توكيد الاسم الواحد فليس فيه من معنى التفضيل شيء، فكان كباب “أَحْمر”، ولذلك استغنى أن يقال: “كلاهما أجمعان”، كما يقال: “كُلُّهم أجمعون “؛ لأن التثنية أدنى من أن يُحْتاج في (4) توكيدها إلى هذا المعنى، فثبت أن “أجمعون” لا واحد له من لفظه؛ لأنه توكيد لجمع من يعقل، وأنت لا تقول فيمن يعقل: جاءني زيد أجمع (5)، فكيف يكون: “جاءني الزيدون
__________
(1) الأصول: “الفعل” والتصويب من “النتائج”.
(2) “ومن حيث دخله معنى التفضيل” ساقط من (ق).
(3) (ظ ود): “كما يجمع ما فيه من التفضيل”.
(4) (ظ ود): “إلى”.
(5) (ظ ود) من قوله: “فثبت أن … ” إلى هنا ساقط من (ق).

(1/383)


أجمعون” جمعًا له، وهو غير مستعمل في الإفراد؟.
وسرُّ هذا ما تقدم وهو: أنهم لا يؤكدون مع الجمع والتثنية إلا بلفظ لا واحد له، ليكون توكيدًا على الحقيقة؛ لأن كلا جمع ينحل (1) لفظه إلى الواحد فهو عارض في معنى الجمع، فكيف يؤكد به معنى الجمع، والتوكيد تحقيق وتثبيت ورفع للبس والإبهام، فوجب أن يكون مما يثبت لفظًا ومعنى.
وأما حذف التنوين من “جُمَع” فكحذفه من “سَحَر”؛ لأنه مضاف في المعنى.
فإن قيل: ونون الجمع محذوفةٌ في الإضافة أيضًا فَهَلَّا حُذِفت من أجمعين؛ لأنه مضاف في المعنى؟.
قيل: الإضافة المعنوية لا تَقْوى على (2) حذف النون المتحركة التي هي كالعِوَض من الحركة والتنوين، ألا ترى أن نون الجمع تثبت مع الألف واللام وفي الوقف، والتنوينُ بخلافِ ذلك فقويت الإضافة المعنوية على حذفه تقوَ على حذف النون إلا الإضافةُ اللفظية.
فإن قيل: ولم كانت الإضافة اللفظية أقوى من المعنوية، والعامل اللفظي أقوى من المعنوي؟
قيل: اللفظي لا يكون إلا متضمِّنًا لمعناه، فإذا اجتمعا معًا كان أقوى من المعنى المفرد عن اللفظ فوجب أن تكون أضعف، وهذا ظاهرٌ لمن عدل وأنصف.
__________
(1) (ق): “على”!
(2) سقطت من (ق).

(1/384)


فائدة بديعة (1)
“العينُ” يُرَاد بها حقيقة الشيء المدرَكة بالعيان، أو ما يقوم مقام العيان، وليست اللفظة على أصول موضوعها؛ لأن أصلها أن تكون مصدرًا وصفةً لمن قامت به، ثم عُبِّر عن حقيقة الشيء بالعين، كما عُبِّر عن الوحش بالصيد، وإنما الصيدُ في أصل موضوعه مصدرٌ من “صاد يصيد”، ومن هاهنا لم يرد في الشريعة عبارة عن نفس الباري -سبحانه وتعالى-؛ لأن نفسه -سبحانه- غير مُدْرَكة بالعيان في حقنا اليوم، وأما عين القِبلة وعين الذهب وعين الميزان، فراجعةٌ إلى هذا المعنى. وأما العين [الجارية] (2) فمشبَّهة بعين الإنسان لموافقتها لها في كثير من صفاتها وأما عين الإنسان فمُسَماة بما أصله أن يكون صفة ومصدرًا؛ لأن العين في أصل الوضع مصدر، كالدَّيْن والزَّيْن والبَيْن والأَيْن وما جاء على بنائه (3).
ألا تراهم يقولون: “رجل عَيُون وعاين” ويقولون: “عِنْته”: أصبته بالعين، و”عاينته”: رأيته بالعين، وفرقوا بين المعنيين، وكأن عاينته من الرؤية أولى من عِنْته؛ لأنه بمنزلة المفاعلة والمقابلة، فقد تقابلتما وتعاينتما، بخلاف “عِنْته” فإنك تنفرد بإصابته العين من حيث لا يشعر.
ومما يدلك على أنها مصدر في الأصل: قوله تعالى: {عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 7] كما قال: {عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 5]__________
(1) “نتائج الفكر”: (ص/ 291).
(2) في النسخ: “الجارحة”، والتصويب من “النتائج”.
(3) “وما جاء على بنائه” ليست في (ظ ود).

(2/393)


و {حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة: 95] فالعلم والحق مصدران مضافان إلى اليقين فكذلك العين، هكذا قال السُّهيليُّ.
وفيه نظر؛ لأن إضافة عين إلى اليقين من باب قولهم: نفسُ الشيءِ وذاته، فعين اليقين نفس اليقين. والعين التي هي عضو سُمِّيت عينًا؛ لأنها آلة ومحل لهذه الصفة التي هل العين، وهذا من باب قولهم: “امرأة ضيفٌ وعدلٌ” تسمية للفاعل باسم المصدر، والعين التي هي حقيقة الشيء ونفسه من باب تسمية المفعول، بالمصدر كصَيْدٍ.
قال السهيلي (1): إذا علمت هذا فاعلم أنَّ العين أضيفت إلى الباري تعالى كقوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] حقيقة لا مجازًا، كما توهم أكثر الناس، لأنه صفة في معنى الرؤية والإدراك، وإنما المجازُ في تسمية العضو بها، وكلُّ شيء يوهم الكفرَ والتجسيمَ فلا يضاف إلى الباري -سبحانه- لا حقيقةً ولا مجازًا. ألا ترى كيف كفر الرومية من النصارى (2) حيث قالوا في عيسى: إنه ولدٌ، على المجاز لا على الحقيقة، فكفروا ولم يدروا (3). ألا ترى كيف لم يضفِ سبحانه إلى نفسه ما هو في معنى عين الإنسان كالمقلة والحَدَقة حقيقة ولا مجازًا، نعم ولا لفظ الإبصار؛ لأنه لا يُعْطي معنى البصر والرؤية مجرَّدًا، ولكنه يقتضي مع معنى البصر معنى التحديق والملاحظة ونحوهما.
قلت: كأنه رحمه الله غفل عن وصفه بالسميع والبصير، وغفل عن قوله – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الصحيح: “لأَحْرَقَتْ سبُحُاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَه
__________
(1) “النتائج”: (ص/292).
(2) “من النصارى” ليست في (ق).
(3) كذا، وفي “النتائج”: “ولم يُعذَروا”.

(2/394)


بَصَرُه مِنْ خَلْقِهِ” (1).
وأما إلزامه التحديق والملاحظة ونحوها، فهو كإلزام المعتزلة نظيره في الرؤية، فهو منقول من هناك حرفًا بحرف.

وجوابه من وجوه:
أحدها: ما تعنى بالتحديق والملاحظة؟ معنى البصر والإدراك، أو قدرًا زائدًا عليهما غير ممتنع وصف الرَّبِّ به؟ أو معنى زائدًا يمتنع وصفه به؛ فإن عنيتَ الأولين؛ منعنا انتفاء اللازم، وإن عنيت الثالث؛ منعنا الملازمة، ولا سبيل إلى إثباتها بحال.
الثاني: أنَّ هذا التحديق والملاحظة إنما تلزم الصفة من جهة إضافتها إلى المخلوق لا تلزمها مضافة إلى الرب تعالى، وهذا كسائر خصائص صفات المخلوقين التي تطرَّقت الجهميةُ بها إلى نفي صفات الرب، وهذا من جهلهم وتلبيسهم، فإن خصائص صفات المخلوقين لا تلزم الصفة مضافةً إلى الربِّ تعالى، كما لا يلزم خصائص وجودهم وذواتهم، وهذا مقرَّر في موضعه. وهذا الأصل الذي فارق به أهل السنة طائفتي الضلال من المشبِّهة والمعطِّلة فعليكَ بمراعاته.
الثالث: قوله: “لا يعطي الإبصار معنى البصر والرؤية مجرَّدًا” كلامٌ لا حاصل تحته ولا تحقيق، فإنه قد تقرر عقلًا (2) ونقلا أن لله تعالى صفة البصر ثابتة له كصفة السمع، فإن كان لفظ الإبصار لا يُعطى الرؤية مجرَّدة، فكذلك لفظ السمع، وإن أعطى السمعُ إدراك المسموعات مجرَّدًا، فكذلك البصر، فالتفريق بينهما تحكُّم مَحْض.
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (179) من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-.
(2) تحرفت في (ظ) إلى: “قولًا”، و (د): “قولًا وعقلًا”.

(2/395)


ثم نعود إلى كلامه قال: “وكذلك لا يُضاف إليه -سبحانه- من آلات الإدراك الأُذن ونحوها؛ لأنها في أصل الوضع عبارة عن الجارحة لا عن الصفة التي هي محلها (1)، فلم ينقل لفظها إلى الصفة، أعني: السمع، مجازًا ولا حقيقةً إلا أشياء وردت على جهة المثل مما يُعْرف بأدنى نظر أنها أمثال مضروبة، نحو: “الحَجَرُ الأَسْوَد يَمِينُ اللهِ في الأَرْضِ” (2). و”مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا وَهُوَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمن” (3) مما عرفت العربُ المرادَ به بأَوَّلِ وَهْلة”.
قال: “وأما اليَدُ فهي عندي في أصل الوضع كالمصدر، عبارة عن صفةٍ لموصوف” قال:
يَدَيتُ عَلى ابنِ حَصْحاص (4) بن عمرو … بأسفل ذِي الجِذَاة يَدَ الكريمِ (5)
فيديتُ: فعل مأخوذ من مصدر لا محالة، والمصدر صفة لموصوف،
__________
(1) (ق): “عليها “، و”النتائج”: “آلة لها”.
(2) أخرجه ابن عدي في “الكامل”: (1/ 342)، والخطيب في “تاريخه”: (6/ 328) من حديث جابر -رضي الله عنه-، وفي سنده إسحاق بِشْر الكاهلي، وهو ممن يضع الحديث.
وأخرجه الأزرقي في “تاريخ مكة “: (1/ 323 – 324)، موقوفًا على ابن عباس بلفظ: “الركن يمين الله في الأرض”، ورجاله ثقات. وانظر: “كشف الخفاء”: (1/ 417 – 418)، و”الضعيفة” رقم (223).
(3) أخرجه الترمذي رقم (2140)، وابن ماجه رقم (3834)، من حديث أنسٍ – رضي الله عنه – وقال الترمذي: “هذا حديث حسن صحيح” (تحفة الأحوذي 6/ 350) وفي نسخة: “حديث حسن” وله شواهد عن جماعة من الصحابة.
(4) كذا بالأصول ومخطوطات “النتائج”، وفي “اللسان”: (15/ 421): “حَسْحاس ابن وهب”.
(5) البيت من مقطوعة في حماسة أبي تمام: (1/ 111)، والنقائض: (2/ 667)، والرواية: “ابن حسحاس بن وهب”. والبيت لمعقل بن عامر الحضرمي.

(2/396)


ولذلك مَدَح سبحانه بالأيدي مقرونة مع الأبصار في قوله تعالى: {أُولِي الأَيْدِي وَالأبْصَارِ} [ص: 45] ولم يمدحهم بالجوارح؛ لأن المدح لا يتعلَّق إلا بالصفات لا بالجواهر”.
قلت: المرادُ بالأيدي والأبصار هنا القوة في أمر الله والبَصَر بدينه، فأراد أنهم من أهل القُوى في أمره والبصائر في دينه، فليست من يَدَيتُ إليه يدًا (1)، فتأمله.
قال (2): وإذا ثبت هذا فصحَّ قول أبي الحسن الأشعري (3): إن اليد من قوله: “خلق آدم بيده” (4)، وقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] صفة ورد بها الشرع، ولم يقل: إنها في معنى القدرة كما قال المتأخرون من أصحابه، ولا في معنى النعمة، ولا قَطَع بشيءٍ من التأويلات تحرُّزًا منه عن مخالفة السلف، وقَطَع بأنها صفةٌ تحرُّزًا عن مذهب المشبِّهةِ.
فإن قيل: وكيف خوطبوا بما لا يَفْهمون ولا يستعملون، إذ اليد بمعنى الصفة لا يفهم معناه؟.
قلنا: ليس الأمر كذلك، بل كان معناها مفهوما عند القوم الذين نزل القرآن بلغتهم، ولذلك لم يستفت واحد من المؤمنين عن معناها، ولا خاف على نفسه تَوَهَّم التشبيه، ولا احتاج إلى شرح وتنبيه.
__________
(1) ليست في (ق).
(2) أي: السهيلي في “النتائج”: (ص/ 293).
(3) في”الإبانة”: (ص/ 106).
(4) قطعة من حديث أخرجه أحمد: (1/ 44 – 45)، وأبو داود رقم (4703)، والترمذي رقم (3075) من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وحسَّنه الترمذي، وليس فيه قوله: “بيده”.

(2/397)


وكذلك الكفار لو كانت [اليد] عندهم لا تُعْقَل إلا في الجارحة لتعلقوا بها في دعوى التناقض، واحتجوا بها على الرسول، ولقالوا: زعمتَ أنَّ الله تعالى ليس كمثله شيء ثم تخبر أن له يدًا كأيدينا، وعينًا كأعينا؟! ولما لم يُنْقل ذلك عن مؤمن ولا كافر عُلِمَ أن الأمر كان فيها عندهم جليًّا لا خفيًّا، وأنها صفة سُمِّيت الجارحة بها مجازًا، ثم استمرَّ المجازُ فيها حتى نُسِيت الحقيقة، ورُبَّ مجاز كَثُر واستُعْمِل حتى نُسِي أصلُه وتُرِكت حقيقته.
والذي يلوح في معنى هذه الصفة أنها قريب من معنى القدرة، إلا أنها أخص منها معنى، والقدرة أعم، كالمحبة مع الإرادة والمشيئة، فكل شيءٍ أحبه الله فقد أراده، وليس كلُّ شيءٍ أراده أحبه، وكذلك كلُّ شيء حادث فهو واقع بالقدرة، وليس كل واقع بالقدرة واقعًا باليد، فاليد أخص من معنى (1) القدرة، ولذلك كان فيها تشريف لآدم.
قلت: أما قوله: “ليس كلُّ شيء أراده فقد أحبه”، فهذا صحيح، وهو آخر قولي أبي الحسن الأشعري (2)، وقول المحققين من أصحابه، وهذا الذي يدل عليه الكتاب والسنة والمعقول كما هو مقرر في موضعه.
وأما قوله: “كلُّ شيءٍ أحبَّه فقد أرادَه”، فإن كان المراد أنه أراده بمعنى رضيه وأراده دينًا فحقٌّ، وإن كان المراد أنه أراده كونًا فغير لازم، فإنه سبحانه يحب طاعةَ عباده كلهم ولم يردها، ويحب التوبة من كل عاص ولم يُرِدْه، ويحب إيمان كل كافر ولم يرد (3) ذلك كله تكوينًا، إذ لو أراده لوقع، فالمحبة والإرادة غير متلازمين، فإنه يريد
__________
(1) في “النتائج”: “أخص معنًى من”.
(2) (ظ ود): “أحد قولي الأشعري”.
(3) “يرده، ويحب إيمان كل كافر، ولم” سقطت من (ظ ود).

(2/398)


كونًا ما لا يحبه، ويحب ويرضى بأشياء لا يريد تكوينها، ولو أرادها لوقعت، وهذا مقرَّر في غير هذا الموضع.
قال (1): ومن فوائد هذه المسألة أن يسئل عن المعنى الذي لأجله قال تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] بحرف “على”، وقال تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] بـ “الباء”، {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37] وما الفرق؟
فالفرق: أنَّ الآية الأولى وردت في إظهار أمر كان خفيًّا وإبداء ما كان مكتومًا؛ فإن الأطفال إذ ذاك كانوا يُغْذَون ويصنعون سرًّا، فلما أراد أن يُصنع موسى ويُغْذَى ويُربَّى على حال أمنٍ وظهور [أمر] (2)، لا تحت خوف واستسرار، دخلت “على” في اللفظ تنبيهًا على المعنى؛ لأنها تعطي معنى (3) الاستعلاء، والاستعلاء ظهور وإبداء، فكأنه يقول سبحانه: “ولتصنع على أمن لا تحت خوف” وذكر العين لتضمنها معنى الرعاية والكلاءة.
وأما قوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (4) [القمر: 14] فإنه إنما يريد: برعاية منا وحفظ، ولا يريد إبداء شيء ولا إظهاره بعد كتم، فلم يحتج في الكلام إلى معنى “على” بخلاف ما تقدم”.
هذا كلامُه، ولم يتعرض -رحمه الله- لوجه الإفراد هناك والجمع هنا، وهو من ألطف معاني الآية؛ والفرق بينهما يظهر من الاختصاص الذي خصَّ به موسى في قوله تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 41]__________
(1) أي: السهيلي في “النتائج”: (ص/ 295).
(2) في النسخ: “أمن” والتصويب من “النتائج”.
(3) ليست في (ظ ود).
(4) في (ظ ود) زيادة الآية: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37].

(2/399)


فاقتضى هذا الاختصاصُ الاختصاصَ الآخر في قوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] فإن هذه الإضافة إضافة تخصيص.
وأما قوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37] فليس فيه من الاختصاص ما في صُنْع موسى على عينه -سبحانه- واصطناعه إياه لنفسه، وما يسنده -سبحانه- إلى نفسه بصيغة ضمير الجمع قد (1) يريد به ملائكته، كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] وقوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} [يوسف: 3] ونظائره فتأمله.
قال: “وأما “النفس” فعلى أصل موضوعها، إنما هي عبارة عن حقيقة الموجود دون معنًى زائد، وقد استُعْمِل -أيضًا- من لفظها: النفاسةُ والشيء النفيس، فصَلُحَت للتعبير عنه -سبحانه- بخلاف ما تقدم من الألفاظ المجازية.
وأما “الذات” فقد استهوى أكثر الناس -ولا سيما المتكلِّمين- القولُ فيها، أنها في معنى النفس والحقيقة. ويقولون: ذات الباري هي نفسه، ويعبرون بها عن وجوده وحقيقته، ويحتجون في إطلاق ذلك بقوله – صلى الله عليه وسلم -: في قصة إبراهيم: “ثَلاثُ كَذَباتٍ كُلُّهُنَّ في ذَاتِ اللهِ” (2) وقول خبيب (3):
__________
(1) ليست في (ق).
(2) أخرجه البخاري رقم (2217 و 3357)، ومسلم رقم (2371) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(3) هو: خُبيب بن عدي الأنصاري -رضي الله عنه- كان ممن أُسِر يوم الرَّجيع، ثم صلبته قريش، فقال قبل ذلك قصيدته المشهورة، ومنها:
وذلك في ذاتِ الإلَهِ وإن يَشَأْ … يُبارِك على أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
انظر ” صحيح البخاري” رقم (3045)، و” السيرة النبوية”: (2/ 176).

(2/400)


* وذلكَ في ذاتِ الإلهِ … *
قال: “وليست هذه اللفظة إذا استقرَيْتَها في اللغة والشريعة كما زعموا، ولو كان كذلك لجاز أن يقال: “عبد ذاتَ الله” و “احْذَر ذات الله” كما قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] وذلك غير مسموع، ولا يقال إلا بحرف “في” الجارَّة، وحرف “في” للوعاء، وهو معنى مستحيل على نفس الباري -تعالى-، إذا قلت: “جاهدت في (1) الله”، و “أحببتك في الله” محال أن يكون هذا اللفظ حقيقة، لما يدل عليه هذا الحرف من معنى الوعاء، وإنما هو على حذف المضاف، أي: في مرضاة الله وطاعته، فيكون الحرف على بابه، كأنك قلتَ: هذا [محسوب] (2) في الأعمال التي فيها مرضاة الله وطاعته (3). وأما أن تَدَع اللفظ على ظاهرة فمحالٌ.
وإذا ثبت هذا فقوله: “في ذات الله” أو: “في ذات الإله”، إنما يريد في الديانة والشريعة التي هي ذات الإله (4)، فذات وصف للديانة، وكذلك هي في الأصل موضوعها نعت لمؤنَّث. ألا ترى أن فيها “تاء” التأنيث، وإذا كان الأمر كذلك فقد صارت عبارة عما تّشّرَّف بالإضافة إلى الله -عز وجل- لا عن نفسه سبحانه، وهذا هو المفهوم من كلام العرب، ألا ترى قول النابغة الذبياني (5):
__________
(1): (ق): “في ذات”.
(2): (ق): “محبوب” والمثبت من “النتائج”.
(3): من قوله: “فيكون الحرف … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(4): (ق): “للإله”، و”النتائج”: “الله”.
(5) “ديوانه”: (ص/ 56)، وعجزه:
* قويمٌ فما يرجون غيرَ العواقب *

(2/401)


* مجَلَّتُهم ذَاتُ الإلهِ ودِيْنُهم *
فقد بان غلطُ من جعل هذه اللفظة عبارة عن نفس ما أضيفت إليه” (1).
وهذا من كلامه من المرَقِّصات، فإنه أحسن فيه ما شاء. وأصل هذه اللفظة هو تأنيث “ذو” بمعنى صاحب، فذات صاحبة كذا في الأصل، ولهذا لا يقال: ذات الشيء، إلا لما له صفاتٌ ونُعوت تُضَاف إليه، فكأنه يقول: صاحبة هذه الصفات والنعوت ولهذا أنكر جماعة من النحاة منهم ابن بَرْهان وغيره (2) على الأصوليين قولهم: الذات، وقالوا: لا مدخل للألف واللام هنا، كما لا يقال: الذو، في “ذو”، وهذا إنكار صحيح، والاعتذار عنهم: أن لفظة الذات في اصطلاحهم قد صارت عبارة عن نفس الشيء وحقيقته وعينه، فلما استعملوها (3) استعمال النفس والحقيقة عرَّفوها باللام وجرَّدوها، ومن هنا غلَّطَهم السهيليُّ، فإن هذا الاستعمال والتجريد أمر اصطلاحي لا لغوي، فإن العرب لا تكاد تقول: ذات (4) الشيء لعينه ونفسه، وإنما يقولون ذلك لما هو منسوب إليه ومن جهته،
__________
(1) هنا انتهى النقل من “النتائج” وحدذ المصنِّف سطرين من آخره؛ لما فيها من عقيدة باطلة، وهذا من تصفية المؤلف لكلام السُّهيلي الذي أشرنا إليه في المقدمة.
(2) “منهم ابن برهان وغيره” ليست في (ظ ود)، وتحرَّفت “ابن برهان” في “المنيرية” إلى: “هان”!.
وابن بَرهان -بفتح الباء- هو: عبد الواحد بن علي أبو القاسم الأسدي العُكبَري النحوي ت (456)، انظر: “بغية الوعاة”: (2/ 120 – 121).
(3) (ق): “فاستعملوها”.
(4) تحرفت في (ظ ود) إلى: “رأيت”.

(2/402)


وهذا كجنب الشيء إذا قالوا: “هذا في جنب الله”، لا يريدون إلا فيما يُنسَب إليه من سبيله ومرضاته وطاعته، لا يريدون غير هذا ألبتَّةَ.
فلما اصطلح المتكلمون على إطلاق الذات على النفس والحقيقة، ظنَّ من ظن أنَّ هذا هو المراد من قوله: “ثَلاثُ كَذَباتٍ في ذاتِ اللِه”. وقوله:
*وذلك في ذات الإله *
فغلط واستحقَّ التغليط، بل الذات هنا كالجنب في قوله تعالى: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] ألا ترى أنه لا يحْسُن أن يقال هاهنا: “فرطت في نفسِ اللهِ وحقيقته”، ويحسن أن يقال: “فرط في ذات الله”، كما يقال: فعل كذا في ذات الله، وقتل في ذات الله (1)، وصبر في ذات الله. فتأمل ذلك فإنه من المباحث العزيزة الغريبة (2)، التي يُثنى على مثلها الخناصر، والله الموفق المعين (3).
فائدة (4)

ما الفائدة في إبدال النكرة من المعرفة وتبيينها بها، فإن كانت الفائدةُ في النكرة فَلِمَ ذُكِرَت المعرفة، وإن كانت في المعرفة فما بال ذكر النكرة؟.
__________
(1) من قوله: “ويحسن أن يقال … ” إلى هنا تكرر في (ظ ود).
(2) ليست في (ظ ود).
(3) وانظر: “مجموع الفتاوي”: (3/ 334 – 335، 6/ 341 – 342)، و “درء التعارض”: (4/ 141 – 142، 5/ 54).
(4) “نتائج الفكر”: (ص/ 298).

(2/403)


قيل: هذا فيه نكتة بديعة، وهي: أن الحكم قد يعلق بالنكرة السابقة فتُذْكر، ويكون الكلام في معرض أمر (1) معين من الجنس مدحًا أو ذمًا، فلو اقتصر على ذكر المعرفة لاختصَّ الحكم به، ولو ذُكِرَت النكرة وحدها لخرج الكلام عن التعرض لذلك المعين، فلما أُرِيد الجنس أتى بالنكرة ووُصِفَت إشعارًا بتعليق الحكم بالوصف، ولما أتي بالمعرفة كان تنبيهًا على دخول ذلك المعيَّن قطعًا. ومثال ذلك قوله تعالى: {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق: 15 – 16] فإن الآية كما قيل: نزلت في أبي جَهْل، ثم تعلق حكمها بكلِّ من اتصفَ به فقال: {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} (2) تعيينًا، {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} تعدية وتعميمًا، ولذلك اشترط في النكرة في هذا الباب أن تكون منعوتة؛ لتحصل الفائدة المذكورة والتبيينُ المراد.
وأما قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً} [النحل: 73] ففيها قولان:
أحدهما: أن “شيئًا” بدل من “رزقًا” و”رزقًا” أبين من “شيئًا”؛ لأنه أخص منه، والأخص أبين من الأعم، وجاز هذا من أجل تقدُّم النفي؛ لأن النكرةَ إنما تفيد بالإخبار عنها بعد النفي، فلما اقتضى النفي العام ذكرَ الاسم العام الذي هو أنكر النكرات، ووقعت الفائدة به من أجل النفي، صَلُحَ أن يكون بدلًا من “رزق”. ألا ترى أنك لو طرحت الاسم الأول واقتصرت على الثاني لم يكن إخلالًا بالكلام.
__________
(1) (ق): “ذكر”، (د): “ليكن في”.
(2) من قوله: “ناصية كاذبة … ” إلى هنا ساقط من (ق ود).

(2/404)


والقول الثاني: أن “شيئًا” هنا مفعول المصدر الذي هو “الرزق” وتقديره: لا يملكون أن يرزقوا شيئًا، وهذا قول الأكثرين؛ إلا أنه يرد عليهم أن الرزق هنا اسم لا مصدر؛ لأنه بوزن الذَّبح والطَّحن للمذبوح والمطحون، ولو أُرِيْد المصدر لجاء بالفتح، نحو قول الشاعر (1) يخاطب عمر بن عبد العزيز:
واْقْصِدْ إلى الخيرِ ولا تَوَقَّهْ … وارْزُقْ عِيالَ المسلمينَ رَزْقَهْ
وقد يجاب عن هذا بأن الرزق من المصادر التي جاءت على “فِعْل” بكسر أوائلها، كالفِسْق ويُطلق على المصدر والاسم بلفظ واحد، كالنِّسخ للمصدر والمنسوخ وبابه وهذا أحسن. والبيت لا نسلِّم أن راءه مفتوحة وإنما هي مكسورة، وهذا اللائق بحال عُمَر بن عبد العزيز والشاعر، فإنه طلبَ منه أن يرزق عيالَ المسلمين رِزْقَ الله الذي هو المال المرزوق، لا أنه يرزقهم كرزق الله الذي هو المصدر، هذا مما لا يخاطب به أحد ولا يقصده عاقل، والله أعلم.
* * *


__________
(1) هو: عويف القوافي. والبيت من قصيدة يذكر بها عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- انظر: “الكامل”: (2/ 659) للمبرد، و”الأغاني”: (19/ 224).

(2/405)


فائدة بديعة (1)
قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6 – 7] فيها عشرون مسألة:
أحدها: ما فائدة البدل في الدعاء، والداعي مخاطب لمن لا يحتاج إلى البيان، والبدلُ يُقْصَد به بيان الاسم الأول؟
الثانية: ما فائدةُ تعريف: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} باللام، وهلَّا أخبر عنه بمجرد اللفظ دونها، كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].
الثالثة: ما معنى {الصِّرَاطَ}؟ ومن أي شيءٍ (2) اشتقاقه؟ ولم جاء على وزن فِعَالٍ؟ ولم ذُكر في أكثر المواضع في القرآن بهذا اللفظ، وفي (3) سورة الأحقاف ذُكِر بلفظ الطريق فقال: {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ}؟ [الأحقاف: 30].
الرابعة: ما الحكمة في إضافته إلى قوله تعالى: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] بهذا اللفظ، ولم يذكرهم بخصوصهم فيقول: “صراط النبيين والصديقين” فَلِمَ عَدَل إلى لفظِ المبهم دون المفسر؟.
__________
(1) المسائل رقم (1 – 5) و (12، 13، 15، 16) من: “نتائج الفكر”: (ص/ 300 – 306) مع إضافات وتعقُّبات مهمة لا يُستغنى عنها.
(2) (ق): “أين”.
(3) (ق): “إلا”.

(2/406)


الخامسة: ما الحكمة في التعبير عنهم بلفظ “الذين” (1) مع صلتها دون أن يقال: المنعم عليهم وهو أخصر (2)، كما قال: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] وما الفرق؟.
السادسة: لم فرَّقَ بين المُنعَم عليهم والمغضوب عليهم، فقال تعالى في أهل النعمة: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}، وفي أهل الغضب: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}، بحذف الفاعل؟
السابعة: لِمَ قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ} فعدّى الفعلَ بنفسه ولم يُعَدِّه بـ “إلى” كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، وقال تعالى: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 87].
الثامنة: أن قوله تعالى: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] يقتضي (3) أن نعمته مختصَّة بالأولين دون المغضوب عليهم والضالين، وهذا حُجَّة لمن ذهب إلى أنه لا نعمة له على كافر، فهل هذا استدلال صحيح أم لا؟.
التاسعة: أن يقال: لِمَ وصفهم بلفظ “غير” وهلا قال تعالى: “لا المغضوب عليهم” كما قال: {وَلَا الضَّالِّينَ}، وهذا كما تقول: مررتُ بزيد لا عَمْرو، وبالعاقل لا الأحمق.
العاشرة: كيف جرت [غير] (4) صفة على الموصوف وهي لا تتعرَّف
__________
(1) (ظ ود): “والذي”.
(2) “وهو أخصر” في ” (ق) في نهاية الفقرة.
(3) سقطت من (ق).
(4) من “المنيرية”.

(2/407)


بالإضافة، وليس المحل محل عطف بيان؛ إذ بابه الإعلام ولا محل لذلك، إذ المقصود في باب البدل هو الثاني، والأوَّلُ توطئة، وفي باب الصفات المقصود الأول، والثاني بيان، وهذا شأن هذا الموضع، فإن المقصود ذكر المُنْعَم عليهم ووصفهم بمغايرتهم نوعَي (1) الغضب والضلال.
الحادية عشرة: إذا ثبت ذلك في البدل، فالصراط المستقيم مقصود الإخبار عنه بذلك وليس في نية الطَّرح، فكيف جاء {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بدلًا منه، وما فائدة البدل هاهنا؟
الثانية عشرة: أنه قد ثبت في الحديث الذي رواه الترمذيُّ والإمامُ أحمد وأبو حاتم، تفسير المغضوب عليهم بأنهم: اليهود، والنصارى بأنهم: الضالون (2)، فما وجه هذا التقسيم والاختصاص، وكل من الطائفتين ضال مغضوب عليه؟.
الثالثة عشرة: لم قدَّم المغضوب عليهم في اللفظ على الضالين؟.
الرابعة عشرة: لِمَ أتى في أهل الغضب بصيغة مفعول المأخوذة
__________
(1) (ظ ود): “معنى”.
(2) أخرجه الترمذي رقم (2954)، وأحمد: (4/ 378 – 379)، وابن حبان “الإحسان”: (16/ 183 – 184) وغيرهم من طرقٍ عن سِماك بن حرب عن عبَّاد بن حُبَيْش عن عدي بن حاتم في حديث طويل.
قال الترمذي: “هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث سماك بن حَرْب” وصححه ابن حبان.
وسماك متكلم فيه، إلا أن الراوي عن شعبة بن الحجاج وهو لا يروي إلا صحيح حديث شيوخه.
وفيه عبَّاد بن حُبيش، مجهول، ذكره ابن حبان في “الثقات”: (5/ 142)، ولا يروي عنه غير سِماك.

(2/408)


من “فَعِل” ولم يأت في أهل الضلال بذلك، فيقال: “المُضلِّين” بل أتى فيهم بصيغة فاعل المأخوذة من “فَعَل”؟.
الخامسة عشرة: ما فائدة العطف بـ “لا” هنا، ولو قيل: “المغضوب عليهم والضالين” لم يختل الكلام وكان أوجز؟.
السادسة عشرة: إذ قد عُطِف بها فبابُ العطف بها مع الواو النفيُ، نحو: ما قام زيد ولا عَمْرو، وكقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} إلى قوله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} [التوبة: 91 – 92] وأما بدون الواو؛ فبابها الإيجاب، نحو: مررت بزيد لا عَمْرو، فهذه ستّ عشرة مسألة في ذلك.
السابعة عشرة: هل الهدايةُ هنا هدايةُ التعريف والبيان، أو هداية التوفيق والإلهام؟.
الثامنة عشرة: كلُّ مؤمن مأمور بهذا الدعاء أمرًا لازمًا لا يقوم غيره مقامه ولابدَّ منه، وهذا إنما نسأله في الصلاة بعد هدايته، فما وجه السؤال لأمر حاصل وكيف يُطْلب تحصيل الحاصل؟.
التاسعة عشرة: ما فائدة الإتيان بضمير الجمع في “اهدنا”، والداعي يسأل ربه لنفسه في الصلاة وخارجها، ولا يليق به ضمير الجمع، ولهذا يقول: “ربِّ اغفر لي وارحمني وتُب عَلَيَّ”؟.
العشرون: ما حقيقةُ الصراط المستقيم الذي يتصورها العبد وقت (1) سؤاله؟
__________
(1) (ق): “عند”.

(2/409)


فهذه أربع مسائل حقُّها أن تُقَدَّم أولًا؛ ولكن جرَّ الكلام إليها بعد ترتيب المسائل الستة عشر.
فالجواب بعون الله وتعليمه، أنه لا علم لأحدٍ من عباده إلا ما علمه، ولا قوة له إلا بإعانته.
أما المسألة الأولى: وهي فائدة البدل في (1) الدعاء: أن الآية وردت في معرض التعليم للعباد والدعاء، وحَقُّ الداعي أن يستشعر عند دعائها ما يجب عليه اعتقاده مما لا يتم الإيمان إلا به؛ إذ “الدعاء مُخُّ العبادة” والمخُّ لا يكون إلا في عظم، والعظم لا يكون إلا في لحم ودم، فإذا وجب إحضار معتقدات الإيمان عند الدعاء، ووجبَ أن يكون الطلب ممزوجًا بالثناء، فمن ثَمَّ جاء لفظ الطلب للهداية، والرغبة فيها مَشُوبًا بالخير تصريحًا من الداعي بمعتقده، وتوسُّلًا منه بذلك الاعتقاد الصحيح إلى ربه، فكأنه متوسل إليه بإيمانه واعتقاده: أن صراطه الحق هو الصراط المستقيم، وأنه صراط الذين اختصَّهم بنعمته وحَبَاهم بكرامته. فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (2)، والمخالفون للحقِّ يزعمون أنهم على الصراط المستقيم أيضًا، والداعي يجب عليه اعتقاد خلافهم وإظهار الحق الذي في نفسه، فلذلك أبدل وبيَّن لهم ليمرِّن اللسان على ما اعتقده الجنان.
ففي ضمن هذا الدعاء المهم الإخبارُ بفائدتين جليلتين؛ إحداهما: فائدة الخبر، والثانية: فائدة لازم الخبر.
فأما فائدة الخبر فهي: الإخبار عنه بالاستقامة وأنه الصراط
__________
(1) (ظ ود): “من”.
(2) من قوله: “وأنه صراط … ” إلى هنا ساقط من (ق).

(2/410)


المستقيم (1) الذي نَصَبه لأهل نعمته وكرامته. وأما فائدة لازم الخبر: فإقرارُ الداعي بذلك وتصديقُه وتوسُّلُه بهذا الإقرار إلى ربه، فهذه أربع فوائد (2): الدعاء بالهداية إليه، والخبرُ عنه بذلك، والإقرارُ والتصديق بشأنه، والتوسلُ إلى المدعو إليه بهذا التصديق؛ وفيه فائدة خامسة وهي: أن الداعي إنما أُمِر بذلك لحاجته إليه، وأن سعادته وفلاحه لا تتم إلا به فهو مأمور بتدبُّر ما يَطلبه وتصور معناه، فذكرَ له من أوصافِهِ ما إذا تصور في خَلَدِه وقام بقلبه كان أشدَّ طلبًا له وأعظمَ رغبة فيه وأحرص على دوام الطلب والسؤال له، فتأمل هذه النكت البديعة!!
فصلٌ (3)
وأما المسألة الثانية: وهي تعريف “الصراط” باللام هنا، فاعلم أن الألف واللام إذا دخلت على اسم موصوفٍ اقتضت أنه أحقُّ بتلك الصفة من غيره، ألا ترى أن قولك: “جالس فقيهًا أو عالمًا”، ليس كقولك: “جالس الفقيه أو العالم”، ولا قولك: “أكلت طيِّبًا”، كقولك: “أكلت الطيِّب”، ألا ترى إلى قوله – صلى الله عليه وسلم -: “أنت الحق، ووعدك الحقُّ، وقولك الحقُّ”، ثم قال: “ولقاؤك حقٌّ، والجنة حقٌّ والنار حقٌّ” (4) فلم يدخل الألف واللام على الأسماء المُحْدَثة وأدخلها على اسم الرب تعالى، ووعده وكلامه.
__________
(1) ليست في (ق).
(2) (ظ ود): “قواعد”.
(3) “فصل” ليست في (د) عند جميع المسائل الآتية.
(4) أخرجه البخاري رقم (1120)، ومسلم رقم (769) من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما -. وفي رواية البخاري: “وقولك حق”.

(2/411)


فإذا عرفتَ هذا؛ فلو قال: “اهدنا صراطًا مستقيمًا” لكان الداعي إنما يطلب الهداية إلى: صراطٍ مَّا مستقيمٍ على الإطلاق، وليس المراد ذلك، بل المراد الهداية إلى الصراط المعيَّن الذي نصَبه الله لأهل نعمته، وجعله طريقًا إلى رضوانه وجنته، وهو دينه الذي لا دين له سواه، فالمطلوب أمرٌ معين في الخارج والذهن، لا شيءٌ مُطْلق مُنَكَّر، واللام هنا للعهد العلمي الذهني، وهو أنه طلب الهداية إلى معهود قد قام في القلوب معرفته، والتصديق به، وتميزه عن سائر طرق الضلال، فلم يكن بُدٌّ من التعريف.
فإن قيل: فلِمَ جاء منكَّرًا في قوله تعالى لنبيه – صلى الله عليه وسلم -: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 2]، وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52]، وقوله تعالى: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)} [الأنعام: 87]، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 161].
فالجواب عن هذه المواضع بجواب واحد وهو: أنها ليست في مقام الدعاء والطلب، وإنما هي في مقام الإخبار من الله -تعالى- عن هدايته إلى صراطٍ مستقيم وهداية رسوله إليه، ولم يكن للمخاطبين عهد به، ولم يكن معروفًا لهم، فلم يجئ معرَّفًا بلام العهد المشيرة إلى معروفٍ في ذهن المخاطَب قائم في خَلَده، ولا تقدَّمه في اللفظ مَعْهود تكون اللام مصروفة إليه، وإنما تأتي لام العهد في أحد هذين الموضعين، أعني: أن يكون لها معهود ذِهنيّ (1) أو ذِكْريّ لفظيّ؛ وإذ لا وأحد منهما في هذه المواضع، فالتنكير هو الأصل، وهذا بخلاف
__________
(1) سقطت من (ظ).

(2/412)


قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)}؛ فإنه لما تقرَّر عند المخاطَبين أن لله صراطًا مستقيمًا هدى إليه أنبياءه ورسلَه، وكان المخاطَبُ -سبحانه- المسؤول منه هدايته عالمًا به، دخلت اللام عليه، فقال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)}.
وقال أبو القاسم السُّهَيلي (1): إن قوله تعالى: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)} [الفتح: 2] نزلت في صُلح الحديبية، وكان المسلمون قد كرهوا ذلك الصلح، ورأوا أن الرأي خلاف، وكان الله ورسوله أعلم، فأنزل الله عليه هذه الآية، فلم يُرِد صراطًا مستقيمًا في الدين، وإنما أراد صراطًا في الرأي والحرب والمكيدة. وقوله -تبارك وتعالى-: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52] أي: تهدي من الكفر والضلال إلى صراط مستقيم، ولو قال في هذا الموطن: “إلى الصراط المستقيم”، لجعل للكفر والضلال حَظًّا من الاستقامة؛ إذ الألف واللام تنبئ أن ما دخلت عليه من الأسماء الموصوفة (2) أحق بدلك المعنى مما تلاه في الذكر، أو ما [قُرِنَ] (3) به في الوهم، ولا يكون أحق به إلا والآخر فيه طَرَف منه.
وغيرُ خافٍ ما في هذين الجوابين من الضعفِ والوهنِ؛ أما قوله: “إن المراد بقوله: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)} في الحرب والمكيدة”؛ فهضم لهذا الفضل العظيم والحظ الجزيل الذي امتنَّ اللهُ به على رسوله، وأخبر النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أن هذه الآية أحب إليه من الدنيا
__________
(1) في “نتائج الفكر”: (ص/ 303).
(2) (ق، ظ): “الموصولة” و (د): “الموصلة”، والمثبت من “النتائج”.
(3) في الأصول: “قرب” والتصويب أفاده محقق “النتائج”.

(2/413)


وما فيها (1)، ومتى سمَّى اللهُ الحربَ والمكيدةَ “صراطا مستقيمًا”؟! وهل فسر هذه الآية أحدٌ من السلف أو الخلف بذلك؟! بل الصراطُ المستقيمُ ما جعله الله عليه من الهدى ودين الحق الذي أمرِه أن يخبر بأن الله هداه إليه في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 161]، ثم فسَّره بقوله تعالى: {دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)} [الأنعام: 161] ونصب “دِيْنًا”. هُنا على البدل من الجار والمجرور، أيْ هداني دِيْنًا قِيَمًا، أَفَتَرَاه يمكنه هاهنا أن يقول: إنه الحرب والمكيدة! فهذا جواب فاسد جدًّا!!.
وتأمل ما جمع الله سبحانه (2) لرسوله في آية الفتح من أنواع (3) العطايا، وذلك خمسة أشياء؛ أحدها: الفتح المبين، والثاني: مغفرة: ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر، والثالث: هدايته الصراط (4) المستقيم، والرابع: إتمامْ نعمته عليه، والخامس: إعطاؤه النصر العزيز. وجَمَع. له سبحانه بين الهدى والنصر؛ لأنَّ هذين الأصلين بهما كمال: السعادة والفلاح، فإنَّ الهدى هو: العلم بالله ودينه والعمل: بمرضاته وطاعته، فهو العلمُ النافعُ والعملُ الصالح، والنصر و [هو]: القدرة التامَّة على تنفيذ دينه؛ بالحجة والبيان، والسيف والسِّنان، فهو النصر بالحجة واليد، قَهْرُ قلوبِ المخالفين له بالحجة، وقَهْرُ أبدانهم باليد.
__________
(1) أخرجه البخاري رقم: (4833) من حديث عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- ولفظه: “لقد أنزل عليّ الليلة سورة لهي أحبُّ إليَّ مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} “.
(2) “الله سبحانه” ليست في (ق).
(3) ليست في (ق).
(4) سقطت من (ظ).

(2/414)


وهو -سبحانه- كثيرًا ما يجمع بين هذين الأصلين إذ بهما تمام الدعوة وظهور دينه على الدين كله، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (1) [التوبة: 33] في موضعين في سورة براءة، وفي سورة الصف، وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]، فهذا الهدى (2)، ثم قال: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25]، فهذا النصر، فذَكَر الكتابَ الهادي والحديدَ الناصر. وقال تعالى: {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران: 1 – 4]، فذكر إنزال الكتابَ الهادي والفرقان وهو النصر الذي يفرق بين الحقِّ والباطل.
وسرُّ اقتران النصر بالهدى: أن كلًّا منهما يحصل به الفرقان بين الحق والباطل، ولهذا سمى تعالى ما ينصر به عباده المؤمنين فرقانًا كما قال تعالي: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41]، فذكَر الأصلين ما أنزله على رسوله يوم الفرقان، وهو يوم بدر، وهو اليوم الذي فرَّق اللهُ فيه بين الحق والباطل بنصر رسوله ودينه وإذلال أعدائه وخزيهم، ومن هذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)} [الأنبياء: 48] فالفرقان: نصره له على فرعون وقومه، والضياء والذِّكر: التوراة، هذا هو معنى الآية، ولم يُصِب من قال: إن الواو زائدة، وأن “ضياءً” منصوب على الحال، كما بيَّنا فسادَه فى “الأمالي المكية”، فتبيَّن أن
__________
(1) هذه الآية ليست في (ظ ود).
(2) (ق): “الذي”.

(2/415)


آيةَ الفتح تضمنت الأصلين (1): الهدى والنصر، وأنه لا يصح فيها غير ذلك ألبتةَ.
وأما جوابه الثاني: عن قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52] بأنه لو عُرِّف لجعلَ للكفر والضلال حظًّا من الاستقامة”، فما أدري من أينَ جاءَ له هذا الفهم، مع ذهنه الثاقب وفهمه البديع -رحمه الله-!!. وما هي إلا كبوة جواد ونَبْوة صارم!! أفترى قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)} [الصافات: 117 – 118] يُفْهَم منه أن لغيره حظًّا من الاستقامة!؟ وما ثَمَّ غيره إلا طرق الضلال، وإنما الصراط المستقيم واحد، وهو ما هدى الله إليه أنبياءه ورسله أجمعين، وهو الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم. وكذلك تعريفه في سورة الفاتحة هل يقال: إنه يفهم منه أن لغيره. حظًّا من الاستقامة!؟ بل يقال تعريفه ينفي أن يكون لغيره حظًّا من الاستقامة، فإن التعريف في قوَّة الحصر، فكأنه قيل: الذي لا صراطَ مستقيم سواه، وفهم هذا الاختصاص من اللفظ أقوى من فهم المشاركة، فتأمله هنا وفي نظائره.
فصل
وأما المسألة الثالثة: وهى اشتقاق الصراط؛ فالمشهور أنه من “صرطتُ الشيءَ أصْرطه” إذا بلعته بلعًا سهلًا، فسمى الطريق: صراطًا؛ لأنه يسترط المارَّة فيه. والصراط ما جمعَ خمسةَ أوصاف: أن يكون طريقًا مستقيمًا، سهلًا، مسلوكًا، واسعًا، موصلًا إلى المقصود، فلا تسمي العربُ الطريقَ المعوج: صراطًا، ولا الصعب المشق، ولا
__________
(1) ليست فى (ظ ود).

(2/416)


المسدود غير الموصل، ومن تأمل موارد الصراط في لسانهم واستعمالهم تبين له ذلك قال [جرير] (1):
أَميرُ المؤمنينَ على صِرَاطٍ … إذا اعْوَجَّ الموارِدُ مُسْتَقِيمِ
وبنوا الصراط على زِنَة “فِعَال”؛ لأنه مشتمل على سالكه اشتمالَ الحَلْق على الشيء المسروط، وهذا الوزن كثير في المشتملات على الأشياء، كاللِّحاف والخِمار والرِّداء والغِطاء والفِراش والكِتاب، إلى سائر الباب، وهذا الوزن (2) يأتي لثلاثة معان (3) أحدها: المصدر، كالقِتال والضِّراب، والثاني: المفعول، نحو: الكِتاب والبِناء والغِراسَ (4)، والثالث: أن يُقْصَد به قصد الآلة التي يحصل بها الفعل ويقع بها، كالخِمار والغِطاء والسِّداد، لما يُخمَّر به ويُغطَّى ويُسدّ به، فهذا آلة محضة، والمفعول هو الشيء المخمَّر والمغطَّى والمسدود، ومن هذا القسم الثالث “إله” بمعنى مألوه.
وأما ذكره له بلفظ الطريق في سورة الأحقاف خاصة، فهذا حكاية الله تعالى لكلام مؤمني الجن أنهم قالوا لقومهم: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)} [الأحقاف: 30] وتعبيرهم عنه هاهنا بالطريق فيه نُكتة بديعة، وهي: أنهم قَدَّموا قبله ذكر موسى، وأن الكتاب الذي سمعوه
__________
(1) من “المنيرية”، انظر “ديوانه”: (ص/ 411)، من قصيدة يمدح بها هشام بن عبد الملك.
(2) من قوله: “كثير في … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(3) (ق): “أمور”.
(4) (ق): “الفراش والبناء”.

(2/417)


مصدقًا لما بين يديه من كتاب موسى وغيره، فكان فيه كالنيابة (1) عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في قوله لقومه: {مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9] أي: لم أكن أولَ رسولٍ بُعث إلى أهل الأرض، بل قد تقدمت قبلي رسل من الله إلى الأمم، وإنما بُعِثت مصدقًا لهم بمثل ما بعثوا به من التوحيد والإيمان، فقال مؤمنوا الجن: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)} [الأحقاف: 30] أي: إلى سبيل مطروقٍ قد مرَّت عليه الرسل قبله، وأنه ليس بِبِدْع كما قال في أول السورة نفسها، فاقتضت البلاغة والإعجاز لَفظ “الطريق”؛ لأنه “فَعِيل” بمعنى “مفعول”، أي: مطروق مَشَت عليه الرسل والأنبياء قبلُ، فحقيق على من صدق رسل الله وآمن بهم أن يؤمن به ويصدقه، فذكر الطريق هاهنا إذًا أولى؛ لأنه أدخل في باب الدعوة والتنبيه على تعين أتباعه، والله أعلم. ثم رأيتُ هذا المعنى بعينه قد ذكره السُّهيلي (2) فوافق فيه الخاطرُ الخاطرَ.
فصل
وأما المسألة الرابعة: وهى إضافته إلى الموصول المبهم: دون أن يقول: صراط النبيين والمرسلين، فقيه ثلاث فوائد:
أحدها: إحضار العلم وإشعار الذهن عند سماع هذا، بأنَّ استحقاقَ كونهم من المنْعَم عليهم هو بهدايتهم إلى هذا الصراط، فبه صاروا من أهل النِّعمة، وهذا كما يُعَلَّق الحكم بالصلة دون الاسم الجامد (3)
__________
(1) (ظ ود): “كالنبأ”.
(2) في “النتائج”: (ص/ 304).
(3) سقطت من (ظ ود).

(2/418)


لما فيه من الإعلام (1) باستحقاق ما عُلِّق عليها من الحكم بها، وهذا كقوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [البقرة: 274] {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)} [الزمر: 33] {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [الأحقاف: 13] وهذا الباب مُطَّرد؛ فالإتيان بالاسم موصولًا أولى على هذا المعنى من ذِكْر الاسم الخاص.
الفائدة الثانية: فيه إشارة إلى (2) نفي التقليد عن القلب واستشعار العلم بأن من هُدِيَ إلى هذا الصراط فقد أنعم عليه، فالسائل مستشعر بسؤاله الهداية إليه، [و] طلب الإنعام من الله عليه، والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الأول يتضمن الإخبار بأن أهل النعمة هم أهل الهداية إليه، والثاني يتضمن (3) الطلب والإرادة أن تكون منهم.
الفائدة الثالثة: أنَّ الآية عامة في جميع طبقات المُنْعَم عليهم، ولو أتى باسم خاص لكان لم يكن فيه سؤال الهداية إلى صراطِ جميع المُنْعَم عليهم، فكان في الإتيان بالاسم العام من الفائدة: أنَّ المسؤولَ الهدى إلى جميع تفاصيل الطريق التي سلكها كلُّ من أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهذا أجلُّ مطلوبٍ وأعظمُ مسؤول، ولو عَرَف الداعي قدرَ هذا السؤال لجعله هِجِّيْرَاه وقَرَنَه بأنفاسه، فإنه لم يدعِ شيئًا من خير الدنيا والآخرة إلا تضمَّنه، ولما كان بهذه المثابة فَرَضه الله على جميع عباده فرضًا متكرِّرًا في اليوم
__________
(1) (ظ ود): “الإنعام”.
(2) (ظ ود): “إلى أن”.
(3) من قوله: “الإخبار … ” ساقط من (ظ ود).

(2/419)


والليلة لا يقوم غيره مقامه، ومن ثَمَّ (1) يعلم تعين الفاتحة في الصلاة، وأنها ليس منها عوض يقوم مقامها (2).
فصل
وأما المسألة الخامسة: وهي أنه قال: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]، ولم يقل: المُنْعَم عليهم، كما قال: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} فجوابها وجواب المسألة السادسة واحد، وفيه فوائد عديدة:
أحدها: أن هذا جاء على الطريقة المعهودة في القرآن، وهي: أن أفعال الإحسان والرحمة والجود تضاف إلى الله سبحانه وتعالى، فيَذْكر فاعلَها منسوبةً إليه ولا يَبْني الفعلَ معها للمفعول، فإذا جاء إلى أفعال العدل والجزاء والعقوبة: حَذَف الفاعل وبَنَى الفعلَ معها للمفعول = أدبًا في الخطاب، وإضافةً إلى الله أشرف قِسْمَي أفعاله، فمنه هذه الآية؛ فإنه لما ذكر النعمةَ فأضافها إليه ولم يحذف فاعلها، ولما ذكر الغضبَ حذفَ الفاعل وبَنَى الفعل للمفعول، فقال: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}، وقال في الإحسان: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}.
ونظيره قول إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)} [الشعراء: 78 – 80] فنسب الخلق والهداية والإحسان بالطعام والسقي إلى الله، ولما جاء إلى ذكر المرض، قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ} ولم يقل: أمرضني، وقال: {فَهُوَ يَشْفِينِ (80)}، ومنه قوله تعالى حكايةً عن مؤمني الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ
__________
(1) (ق): “ومن هنا”.
(2) “يقوم مقامها” ليست في (ق).

(2/420)


رَشَدًا (10)} [الجن: 10] فنسبوا إرادة الرشد إلى الربِّ، وحذفوا فاعِلَ إرادة الشر، وبنوا الفعل للمفعول، ومنه قول الخضر -عليه السلام- في السفينة: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79]، فأضاف العيبَ إلى نفسه. وقال في الغلامين: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف: 82]، ومنه قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]، فحذفَ الفاعلَ وبناه للمفعول، وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، لأن في ذكر الرَّفَث ما يَحْسُن منه أن لا يقترن بالتصريح بالفاعل، ومنه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِير} [المائدة: 3] وقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام: 151] إلى آخرها.
ومنه -وهو ألطف من هذا وأدق معنى- قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى آخرها، ثم قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وتأمل قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] كيف صرَّح بفاعل التحريم في هذا الموضع، وقال في حق المؤمنين: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3].
الفائدة الثانية: أن الإنعام بالهداية يستوجب شكر المُنْعِم بها، وأصل الشكر ذِكْر المْنعِم والعمل بطاعته، وكان من شكره إبراز الضمير المتضمِّن لذكره -تعالى- الذي هو أساس الشكر، وكان في قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} من ذِكْره وإضافة النعمةِ إليه ما ليس في ذكر المنعم عليهم (1) لو قاله، فتضمَّن هذا اللفظ الأصلين، وهما الشكر
__________
(1) ليست في (ظ ود).

(2/421)


والذكر، المذكوران في قوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)} [البقرة: 152].
الفائدة الثالثة: أن النعمة بالهداية إلى الصراطِ للهِ وحده، وهو المنعِم بالهداية دون أن يشركه أحدٌ في نعمته، فاقتضى اختصاصه بها أن تضاف إليه بوصف الإفراد، فيقال: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}، أي: أنت وحدَك المنعِم المحسِن المتفضِّل بهذه النعمة، وأما الغضب؛ فإن الله -سبحانه- غَضِب على من لم يكن من أهل الهداية إلى هذا الصراط، وأمر عباده المؤمنين بمعاداتهم، وذلك يستلزم غضبهم عليهم مِوافقةً لغضبِ ربهمِ عليهم، فموافقته تعالى تقتضي أن يُغْضَب على من غَضِبَ عليه، ويُرْضى عمن رضي عنه، فيُغْضَب لغضبه ويُرْضَى لرضاه، وهذا: حقيقة العبودية، واليهود قد غضبَ اللهُ عليهم، فحقيق بالمؤمنين الغضب عليهم، فحذف فاعل الغضب وقال: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} لما كان للمؤمنين نصيبٌ من غضبهم على من غضبَ اللهُ عليه، بخلاف الإنعام فإنه لله وحدَه، فتأمل هذه النكتة البديعة.
الفائدة الرابعة: أن المغضوب عليهم في مقام الإعراض عنهم وترك الالتفات إليهم، والإشارة إلى نفس الصفة التي لهم والاقتصار عليها، وأما أهل النعمة؛ فهم في مقام الإشارة إليهم وتعيينهم والإشادة بذكرهم، وإذا ثبت هذا فالألف واللام في “المغضوب” -وإن كانت بمعنى “الذين”- فليست مثل “الذين” في التصريح والإشارة إلى تعيين ذات المسَمَّى، فإن قولك: “الذين فعلوا”، معناه: القوم الذين فعلوا، وقولك: “الضاربون والمضروبون”، ليس فيه ما في قولك: الذين ضَربوا أو ضُربوا، فتأمل ذلك. فـ “الذين أنعمتَ عليهم” إشارة إلى تعريفهم بأعيانهم وقَصْد ذَوَاتهم، بخلاف

(2/422)


“المغضوب عليهم”، فالمقصود التحذير من صفتهم والإعراض عنهم وعدم الالتفات إليهم، والمعوَّل عليه من الأجوبة ما تقدَّم.
فصل
وأما المسألة السابعة: وهي تعدية الفعل هنا بنفسه دون حرف “إلى”، فجوابها: أن فِعْل الهداية يتعدَّى بنفسه تارة، وبحرف “إلى” تارةً، وبـ “اللام” تارة، والثلاثة في القرآن، فمن المُعَدَّى بنفسه: هذه الآية، وقوله: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)} [الفتح: 2] ومن المعدى بـ “إلى”، قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52] وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 161] ومن المعدَّى باللام قول أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43]، وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].
والفرق بين هذه (1) المواضع تدقُّ جدًّا عن أفهام العلماء، ولكن نذكر قاعدةً تشير إلى الفرق، وهي: أن الفعل المُعَدَّى بالحروف المتعدِّدة لابد أن يكون له مع كلِّ حَرْف معنًى زائد على معنى الحرف الآخر، وهذا بحسب اختلاف معاني الحروف، فإن ظهر اختلاف الحرفين ظهر الفرق، نحو: رغبتُ فيه ورغبتُ عنه، وعدلتُ إليه وعدلتُ عنه، ومِلْتُ إليه وعنه، وسعيتُ إليه وبه، وإن تقارب (2) معنى الأدوات عَسُرَ الفرق، نحو: قصدت إليه وقصدت له، وهديته إلى كذا وهديته لكذا، وظاهريَّة النحاةِ يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر، وأما فقهاء أهل العربية فلا يرتضون هذه الطريقة، بل
__________
(1) تحرفت في (ظ ود).
(2) (ظ ود): “تفاوت”

(2/423)


يجعلون (1) للفعل معنًى مع الحرف ومعنًى مع غيره، فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعال فيُشْرِبون الفعل المتعدي به معناه، وهذه طريقة إمام الصناعة سيبويه، وطريقة حُذَّاق أصحابه؛ يضمِّنون الفعلَ معنى الفعل لا يقيمون الحرفَ مقام الحرف، وهذه قاعدة شريفة جليلة المقدار تستدعي فِطْنةً ولطافةً في الذهن.
وهذا نحو قوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] فإنهم يُضَمِّنون يشرب معنى يروي فيعدونه بالباء التي تطلبها، فيكون في ذلك دليلٌ على الفعلين؛ أحدهما بالتصريح به والثاني بالتضمُّن، والإشارة إليه بالحرف الذي يقتضيه مع غايةِ الاختصار، وهذا من بديع اللغة ومحاسنها وكمالها. ومنه قوله (2) في السحاب: “شَرِبن بماء البحر … “، أي: رَوِيْن به ثم ترفَّعن وصعدن. وهذا أحسن من أن يُقال: يشرب منها، فإنه لا دلالة فيه على الرِّيِّ، وأن يقال: يروى بها؛ لأنه لا يدل: على الشرب بصريحه بل باللزوم، فإذا قال: يشرب بها، دل على الشرب بصريحه، وعلى الرِّي بِحَرف (3) الباء، فتأمله.
ومن هذا قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ} [الحج: 25] وفعل الإرادة لا يتعدى: بـ “الباء”، ولكن ضمِّن معنى “يَهُم فيه بكذا”،
__________
(1) من قوله: “أحد الحرفين … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(2) البيت لأبي ذؤيب الهذلي، وتمامه:
شربن بماء البحر ثم ترفَّعَت … متى لُجَج خُضر لهنَّ نئيجُ
وهو من شواهد “المغني” رقم (628)، وانظر “الخزانة”: (7/ 97)، وتحرفت العبارة في (ظ ود): شربن ماء البحر حتى روين ثم … “.
(3) (ظ ود): “بخلاف”.

(2/424)


وهو أبلغ من الإرادة، فإن الهم مَبدأ الإرادة، فكان في ذكر “الباء” إشارة إلى استحقاق العذاب بمبدأ الإرادة (1) وإن لم تكن جازمة، وهذا باب واسع لو تتبعناه لطال الكلام فيه، ويكفي المثالان المذكوران.
فإذا عرفت هذا؛ ففعل الهداية متى عُدِّيَ بـ “إلى” تضمن الإيصال إلى الغاية المطلوبة، فأتى بحرف الغاية، ومتى عُدِّيَ بـ “اللام” تضمَّن التخصيص بالشيء المطلوب، فأتى بـ “اللام” الدالة على الاختصاص والتعيين، فإذا قلت: هَدَيْته لكذا، أفهم (2) معنى ذكرته له وجعلته له وهيأته، ونحو هذا، وإذا تعدَّى بنفسه تضمَّن المعنى الجامع لذلك كله، وهو التعريف والبيان والإلهام. فالقائل إذا قال: “اهدنا الصراط المستقيم”، هو طالب من الله أن يعرِّفه إياه ويبيِّنه له ويُلْهمه إياه ويقدِّره عليه، فيجعل في قلبه علمه وإرادته والقدرة عليه، فجرَّد الفعلَ من الحرف، وأتى به مجردًا مُعدًّى بنفسه ليتضمن هذه المراتب كلها، ولو عُدِّيَ بحرف تعيَّن معناه وتخصَّص بحسب معنى الحرف، فتأمَّلْه فإنه من دقائق اللغة وأسرارها.
فصل
وأما المسألة الثامنة، وهي: أنه خص أهل الهداية بالنعمة (3) دون غيرهم، فهذه مسألةٌ اختلفَ الناسُ فيها وطال الحِجَاج من الطرفين، وهى: أنه هل لله على الكافر نعمة أم لا؟ فمن نافٍ يحتج بهذه الآية وبقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ
__________
(1) من قوله: “فإن الهم … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(2) (ق): “أوهم”.
(3) (ظ ود) “: “سعادة الهداية”.

(2/425)


وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} [النساء: 69]، فخصَّ هؤلاء بالإنعام، فدلَّ على أن غيرهم غير مُنْعَم عليهم، وبقوله لعباده المؤمنين: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [البقرة: 150] وبأن الإنعام ينافي الانتقام والعقوبة، فأيُّ نعمةٍ على من خُلِقَ للعذاب الأبدي. ومن مثبت يحتجُّ بقوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]، وبقوله لليهود: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 47]، وهذا خطاب لهم في حالِ كُفْرهم، وبقوله: في سورة النعم وهي سورة النحل التي عَدَّد فيها نِعَمه المشتركة على عباده من أولها إلى قوله: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)} [النحل: 81 – 83] وهذا نصٌّ صريح: لا يحتمل صرفًا.
واحتجوا بأن البَرَّ والفاجر، والمؤمن (1) والكافر كلُّهم يعيش في نعمة الله. وكلُّ أحد مُقِر لله تعالى بأنه إنما يعيش في نعمته، وهذا معلوم بالاضطرار عند جميع أصناف بني آدم إلا من كابَرَ وجَحَد حقَّ الله تعالى وكفر بنعمته (2).
وفَصْل الخطاب في المسألة: أن النعمة المطلقة مختصَّة بأهل الإيمان لا يشركهم فيها (3) سواهم، ومُطْلق النعمة عام للخليقة كلِّهم برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، فالنعمة المطلقة التامة هي: المتصلة بسعادة الأبد وبالنعيم المقيم، فهذه غير مُشْتَركة، ومطلق النعمة: عامٌّ
__________
(1) سقطت من (ظ).
(2) من قوله: “وهذا معلوم … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(3) (ق): “ويشركهم فيما”.

(2/426)


مشترك، فإذا أراد النافي سَلْبَ النعمة المطلقة أصاب، وإن أراد سلب مطلق النعمة أخطأ، وإن أراد المثبِت إثبات النعمة المطلقة للكافر أخطأ، وإن أراد إثبات مطلق النعمةَ أصاب، وبهذا تتفق الأدلة ويزول النزاع، ويتبين أن كلَّ واحد من الفريقين معه خطأ وصواب، والله الموفق.
وأما قوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 47] فإنما يذكرهم بنعمته على آبائهم، ولهذا يعدِّدها عليهم واحدة واحدة؛ بأن أنجاهم من آل فرعون، وبأن فَرَق بهم البحر، وبأن وعد موسى أربعين ليلة فضلُّوا بعده، ثم تاب عليهم وعفا عنهم، وبأن ظلَّل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المنَّ والسلوى، إلى غير ذلك من نِعَمه التي يُعدِّدها عليهم، وإنما كانت لأسلافهم وآبائهم، فأمرهم أن يذكروها لِيَدْعوهم ذكرهم لها إلى طاعته والإيمان برسله (1)، والتحذير من عقوبته بما عاقب به من لم يؤمن برسوله ولم ينقد لدينه وطاعته، فكانت نعمته على آبائهم نعمةً منه عليهم تستدعي منهم شكرًا، فكيف تجعلون مكان الشكر عليها كفركم برسولي، وتكذيبكم له، ومعاداتكم إياه، وهذا لا يدل (2) على أن نعمته المطلقة التامة حاصلة لهم في حال كفرهم، والله أعلم.
فصل
وأما المسألة التاسعة: وهي أنه قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}، ولم يقل: لا المغضوب عليهم، فيقال: لا ريب أن “لا”
__________
(1) (ق ود): “برسوله”.
(2) (ق): “وغير هذا يدل”.

(2/427)


يعطف بها (1) بعد الإيجاب، كما تقول: جاءني زيد لا عَمْرو، وجاءني العالم لا الجاهل، وأما “غير” فهي تابع لما قبلها، وهى صفةٌ ليس إلَّا، كما سيأتي.
وإخراج الكلام هاهنا مخرج الصفة أحسن من إخراجه مخرج العطف، وهذا إنما يُعلم إذا عُرِف فَرْق ما بين العطف في هذا الموضع وبين الوصف، فتقول: لو أخرج الكلام مخرج العطف، وقيل: “صراط الذين أنعمت عليهم لا المغضوب عليهم”، لم يكن في العطف بها أكثر من نفي إضافة الصراط إلى المغضوب عليهم، كما هو (2) مقتضى العطف، فإنك إذا قلتَ: جاءني العالم لا الجاهل، لم يكن في نفي العطف أكثر من نفي المجيء عن الجاهل وإثباته للعالم، وأما الإتيان بلفظ “غير” فهي صفة لما قبلها، فأفاد الكلام معها، وصفهم بشيئين؛ أحدهما: أنهم مُنْعم عليهم، والثاني: أنهم غيرُ مغضوبٍ عليهم، فأفاد ما يفيدُ العطف مع زيادة الثناء عليهم ومدحهم، فإنه يتضمَّن صفتين: صفة ثبوتية وفي: كونهم مُنْعَمًا عليهم (3)، وصفة سلبية وهي: كونهم غير مستحقين لوصف الغضب، وأنهم مغايرون لأهله. ولهذا لما أريد بها هذا المعنى جرت صفة على المُنْعَم عليهم ولم تكن منصوبةً على الاستثناء؛ لأنها يزول منها معنى الوصفية المقصود.
وفيه فائدة أخرى: وهى: أنَّ أهل الكتاب من اليهود والنصارى ادعوا أنهم هم المُنْعَم عليهم دون أهل الإسلام، فكأنه قيل لهم: المُنْعَم عليهم غيركم لا أنتم، وقيل للمسلمين: المغضوب عليهم
__________
(1) (ق): “بعدها”.
(2) سقطت من (ق).
(3) من قوله: “ومدحهم … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(2/428)


غيركم لا أنتم، فالإتيان بلفظة “غير” في هذا السياق أحسنُ وأدلُّ على إثبات المغايرة المطلوبة، فتأمله، وتأمل كيف قال: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}، ولم يقل: اليهود والنصارى (1) مع أنهم هم الموصوفون بذلك، تجريدًا لوصفهم بالغضب والضلال الذي به غايروا المنعم عليهم (2)، ولم يكونوا منهم بسبيل؛ لأن الإنعام المطلق ينافي الغضب والضلال، فلا يثبت لمغضوب عليه ولا ضالٍ، فتباركَ من أودعَ كلامَه من الأسرار ما يشهد بأنه تنزيلٌ من حكيم حميد!.
فصل
وأما المسألة العاشرة: وهى جريان “غير” صفة على المعرفة، وهي لا تتعرَّف بالإضافة، ففيه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن “غيرًا” هنا بدل لا صفة، وبدل النكرة من المعرفة جائز، وهذا فاسد من وجوه ثلاثة: أحدها: أن باب البدل المقصود فيه الثاني، والأول تَوْطِئة له ومِهَاد أمامه، وهو المقصود بالذكر، فقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] المقصود: هو أهل الاستطاعة خاصة، وذِكْر الناس قبلهم توطئة، وقولك: “أعجبني زيدٌ عِلْمُه”، إنما وقع الإعجاب على علمه وذكرتَ صاحبَه توطئةً لذكره، وكذا قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217] المقصود (3): إنما هو السؤال عن القتال في الشهر الحرام لا عن نفس الشهر (4)، وهذا ظاهر جدًّا في بدل
__________
(1) “ولم يقل: اليهود والنصارى” سقطت من (ظ ود).
(2) ليست في (ظ ود).
(3) ليست في (ق).
(4) “لا عن نفس الشهر” ليست في (ظ ود).

(2/429)


البعض وبدل الاشتمال، ويراعى (1) في بدل الكلِّ من الكلِّ، ولهذا سُمِّيَ بدلًا إيذانًا بأنه المقصود، فقوله: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)} [العلق: 15 – 16] المقصود: السَّفع بالناصية الكاذبة الخاطئة، وذكر المبدل منه توطئة لها.
وإذا عُرِف هذا؛ فالمقصود هنا ذِكْر المُنْعَم عليهم وإضافة الصراط إليهم، ومن تمام هذا المقصود وتكميله: الإخبار بمغايرتهم للمغضوب عليهم، فجاء ذكر غير المغضوب عليهم مكمِّلًا لهذا المعنى ومتمِّمًا ومحقِّقًا؛ لأن أصحاب الصراط المسؤول هدايته هم أهل النعمة، فكونهم غير مغضوب عليهم وصف محقَّق، وفائدته فائدة الوصف المبيِّن للموصوف المكمِّل له، وهذا واضح.
الوجه الثاني: أن البدلَ يجري مجرى توكيد المبدل وتكريره وتَبْيينه، ولهذا كان في تقدير تَكْرار الفاعل (2)، وهو المقصود بالذكر كما تقدم، فهو الأول بعينه ذاتًا ووصفًا، وإنما ذكر بوصفٍ آخر مقصودٍ بالذكر، كقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6 – 7] ولهذا يحسن الاقتصار عليه دون الأول ولا يكون مُخِلًّا بالكلام، ألا ترى أنك لو قلتَ في غير القرآن: لله حجُّ البيت على من استطاع إليه السبيل، لكان كلامًا (3) مستقيمًا لا خلل فيه، ولو قلت في دعائك: ربِّ اهدني صراط من أنعمتَ عليه من عبادك، لكان مستقيمًا، وإذا كان كذلك فلو قُدِّر الاقتصار على “غير” وما في حيِّزها هنا؛ لاختلَّ الكلام وذهب معظم المقصود
__________
(1) (ظ ود): “ومما يجيء”.
(2) (ظ ود): “العامِل”.
(3) (ظ ود): “كاملًا” وسقطت “خلل” بعدها.

(2/430)


منه؛ إذ المقصود إضافة الصراط إلى “الذين أنعم الله عليهم”، لا إضافته إلى لفظ “غير المغضوب عليهم”، بل أتى بلفظ “غير” زيادةً في وصفهم والثناء عليهم، فتأمله.
الوجه الثالث: أن “غيرًا” لا يُعْقل ورودها بدلًا، وإنما ترد استثناءً أو صفة أو حالًا. وسر ذلك: أنها لم (1) توضع مستقلة بنفسها بل لا تكون إلا تابعة لغيرها، ولهذا قلما يقال: “جاءني غير زيد، ومررتُ بغير عَمْرو”، والبدل لابد أن يكون مستقلًّا بنفسه كما تبين أنه المقصود، ونكتة الفرق: أنك في باب البدل قاصد إلى الثاني متوجه إليه قد جعلتَ الأولَ سُلَّمًا ومِرْقاةً إليه، فهو موضعُ قصدك ومحطُّ إرادتك، وفي باب الصفة بخلاف ذلك، إنما أنت قاصد إلى الموصوف موضح له بصفته، فاجعل هذه النكتة معيارًا على باب البدل والوصف، ثم زن بها “غير المغضوب عليهم” هل يصح أن يكون بدلًا أو وصفًا؟.
الجواب الثاني: أنَّ “غيرًا” هاهنا صحَّ جريانه صفة على المعرفة؛ لأنها موصولة، والموصول مبهم غير معيَّن، ففيه رائحة من النكرة لإبهامه (2)، فإنه غير دالٍّ على معيَّن، فصلح وصفه بـ “غير” لقُرْبِه من النكرة، وهذا جواب صاحب “الكشَّاف” (3) قال: “فإن قلت: كيف صحَّ أن يقع “غير” صفة للمعرفة وهو لا يتعرَّف وإن أُضيفَ إلى المعارف؟ قلت: “الذين أنعمت عليهم” لا تَوْقيت فيه، فهو كقوله:
__________
(1) (ظ): “لو”، (د): “لا”.
(2) (ق): “لانتهائه”.
(3) (1/ 11).

(2/431)


وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللئيمِ يَسُبُّني … فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ: لا يَعْنِيْني” (1)
ومعنى قوله: “لا تَوْقيت فيه” أي: لا تعيين لواحد من واحد كما تعين المعرفة بل هو مطلق في الجنس، فجرى مجرى النكرة، واستشهاده بالبيت معناه: أنَّ الفعل نكرة وهو “يسبني”، وقد أوقعه صفةً للئيم المعرفة باللام، لكونه غير معين، فهو في قوَّة النكرة، فجاز أن يُنعت بالنكرة، فكأنه قال: على لئيمٍ يسبني، وهذا استدلال ضعيف، فإن قوله: “يسبني” حال منه لا وصف، والعامل فيه فعل المرور، والمعنى: أمرُّ على اللئيم سابًّا لي، أي: أمرُّ عليه في هذه الحال، فأتجاوزه ولا أحتفل بسبه.
الجواب الثالث: -وهو الصحيح- أن “غيرًا” هاهنا قد تعرَّفت بالإضافة، فإن المانع لها من تعريفها شدة إبهامها وعمومها في كلِّ مغايرٍ للمذكور، فلا يحصل بها تعيين، ولهذا تجري صفة على النكرة، فتقول: “رجلٌ غيرُك يقول كذا ويفعل (2) كذا”، فتجري صفةً. للنكرة مع إضافتها إلى المعرفة، ومعلوم أن هذا الإبهام يزول بوقوعها بين متضادَّين يذكر أحدهما ثم تضيفها إلى الثاني، فيتعين بالإضافة، ويزول الإبهام الذي يمنع تعريفها بالإضافة كما قال:
نَحْنُ بَنُو عَمْروِ الهِجَان الأَزْهَرِ … النَّسَبُ المَعْرُوفُ غَيْرُ المُنْكَرِ (3)
__________
(1) قال في “مشاهد الإنصاف”: (4/ 126 – بذيل الكشاف): “لرجلٍ من بني سلول”. وهو من شواهد “الكتاب”، وانظر “الخزانة”: (1/ 357)، و”الكامل”: (2/ 983). ونسبه في “الأصمعيات”: (ص / 126) لشمر بن عمرو الحنفي. وفي (ظ ود): ” … ثم أقول: ما … “.
(2) ليست في (ق).
(3) البيت في “فصل المقال شرح كتاب الأمثال”: (1/ 136) للبكري.

(2/432)


أفلا تراه أجرى “غيرُ المنكرِ” صفة على النسب، كما أجرى عليه “المعروف”؛ لأنهما صفتان معينتان، فلا إبهام في “غير”؛ لأن مقابلها “المعروف” وهو معرفة، وضده “المنكر” متميِّز متعيِّن كتعيُّن المعروف، أعني: تعيين الجنس.
وهكذا قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} فالمنْعَم عليهم هم غير المغضوب عليهم، فإذا كان الأول معرفة كانت “غير” معرفة لإضافتها إلى محصل متميز غير مبهم، فاكتسبت منه التعريف.
وينبغي أن تتفطن هاهنا لنكتة لطيفة في “غير” تكشفُ لك حقيقة أمرها، وأين تكون معرفة وأين تكون (1) نكرة؛ وهي: أن “غيرًا” هي نفس ما تكون تابعة له وضِدّ ما هي مضافة إليه، فهي واقعة على متبوعها وقوع الاسم المرادَف على مرادفه، فإن المعروف هو تفسير “غير المنكر”، والمُنْعَم عليهم هم “غير المغضوب عليهم”، هذا حقيقة اللفظ، فإذا كان متبوعها نكرة لم تكن إلا نكرة، وإن أضيفت كما إذا قلت: “رجل غيرك فعل كذا وكذا”، وإذا كان متبوعها معرفةً لم تكن إلا معرفة، كما إذا قلت: “المحسن غيرُ المسيء محبوب معَظَّم عند الناس”، و”البَرُّ غير الفاجر مهيب”، و”العادل غير الظالم مجاب الدعوة”، فهذا لا تكون فيه “غير” إلا معرفة، ومن ادعى فيها التنكير هنا غَلِط وقال مالا دليلَ عليه؛ إذ لا إبهام فيها بحال، فتأمله.
فإن قلت: عدم تعريفها بالإضافة له سبب آخر، وهي: أنها
__________
(1) “معرفة وأين تكون” سقطت من (ظ ود).

(2/433)


بمعنى مغاير ابسم فاعل من “غَايَر”، كـ “مِثْل” بمعنى مماثل، و”شِبْه” بمعنى مُشَابه، وأسماء الفاعلين لا تتعرَّف بالإضافة وكذا ما نَاب عنها.
قلتُ: اسم الفاعل إنما لا يتعرف بالإضافة (1) إذا أضيف: إلى معموله؛ لأن الإضافة في تقدير الانفصال، نحو: “هذا ضاربٌ زيدًا غدًا”، وليست “غير” بعاملة فيما بعدها عمل اسم الفاعل في: المفعول حتى يقال: الإضافة في تقدير الانفصال، بل إضافتها إضافة محضة كإضافة غيرها من النكرات، ألا ترى أن قولك: “غيرك” بمنزلة قولك: “سِواك”، ولا فرق بينهما، والله أعلم.
فصل
وأما المسألة الحادية عشرة: وهي ما فائدة إخراج الكلام في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} مخرج البدل، مع أن الأول في نِيَّةِ الطَّرْح؟.
فالجواب: أن قولهم: “الأول في البدل في نية الطرح” (2) كلامٌ لا يصح أن يؤخذ على إطلاقه، بل البدل نوعان؛ نوع يكون الأول فيه في نية الطرح، وهو بدل البعض من الكلِّ وبدل الاشتمال؛ لأن المقصود هو الثاني لا الأول، وقد تقدم. ونوعٌ لا يُنْوى فيه طرح الأول، وهو بدل الكل من الكل، بل يكون الثاني فيه بمنزلة التكرير والتوكيد، وتقوية النسبة، مع ما تعطيه النسبة الإسنادية إليه في الفائدة المتجدِّدة الزائدة على الأول، فيكون فائدة البدل التوكيد والإشعار
__________
(1) من قوله: “وكذا ما ناب” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) (ق): “الاطراح”.

(2/434)


بحصول وصف المبدل للمبدل منه، فإنه لما قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)}، فكأنَّ الذهن طلب [معرفة ما إذا كان] (1) هذا الصراط مخِتصًّا بنا أم سلكه غيرنا ممن هداه الله تعالى، فقال: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وهذا كما إذا دللت رجلًا على طريقٍ لا يعرفها، وأردتَ توكيد الدلالة وتحريضه على لزومها وأن لا يفارقها، فأنت تقول له: هذه هي الطريق الموصلة إلى مقصودك، ثم تزيد ذلك عنده توكيدًا وتَقْوِية، فتقول: وهي الطريق التي يسلكها الناسُ والمسافرون وأهلُ النجاة.
أفلا ترى كيف أفاد وصفك لها بأنها طريق السالكين الناجين (2) قدرًا زائدًا على وصفك لها بأنها: طريق مُوْصِلة وقريبة، سهلة مستقيمة، فإن النفوس مجبولة على التأسِّي والمتابعة، فإذا ذُكِرَ لها من تتأسى به في سلوكها أَنِسَت واقتحمتها فتأمله.
فصل
وأما المسألة الثانية عشرة: وهي ما وجه تفسير “المغضوب عليهم” باليهود، و”الضالين” بالنصارى (3) مع تلازم وَصْفي الغضب والضلال؟.
فالجواب أن يقال: هذا ليس بتخصيص يقتضي نفي كل صفة عن أصحاب الصفة الأخرى، فإنَّ كلَّ مغضوبٍ عليه ضالّ وكل ضال مغضوب عليه، لكى ذَكَرَ كلَّ طائفةٍ بأشْهر وصفيها وأحقِّهما به
__________
(1) الزيادة من “المنيرية”.
(2) (ق): “الهادين”.
(3) (ق): “والنصارى بالضالين”.

(2/435)


وألصقه بها، فإن ذلك هو الوصف الغالب عليها، وهذا مُطابق لوصف الله اليهودَ بالغضب في القرآن، والنصارى بالضلال، فهو تفسير للآية بالصفة التي وصفهم بها في ذلك الموضع.
أما: اليهود؛ فقال تعالى في حقهم: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)} [البقرة: 90] وفي تَكْرار هذا الغضب هنا أقوال:
أحدها: أنه غَضَب متكرِّر في مقابلة تكرُّر كفرهم برسول الله – صلى الله عليه وسلم -. والبغي عليه ومحاربته، فاستحقوا بكفرهم غضبًا، وبالبغي والحرب. والصدِّ عنه غضبًا آخر. ونظيره قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} [النحل: 88] فالعذاب الأول بكفرهم، والعذاب الذي زادهم إياه بصدِّهم الناسَ عن (1) سبيله.
القول الثاني: أن الغضب الأول بتحريفهم وتبديلهم وقتلهم الأنبياء، والغضب الثاني بكفرهم بالمسيح (2).
والقول الثالث: أن الغضب الأول بكفرهم بالمسيح، والغضب الثاني بكفرهم بمحمد – صلى الله عليه وسلم -.
والصحيح في الآية: أن التَّكْرار هنا ليس المراد به التثنية التي تَشْفع الواحد، بل المراد غضبٌ بعد غضبٍ، بحسب تكرُّر كفرهم، وإفسادهم، وقتلهم الأنبياء، وكفرهم بالمسيح، وبمحمد – صلى الله عليه وسلم -، ومعاداتهم لرسل الله،
__________
(1) من قوله في الآية: {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ … } إلى هنا ساقط من (ق ود).
(2) القول الثاني سقط من (د).

(2/436)


إلى غير ذلك من الأعمال التي كل عمل منها يقتضي غضبًا على حِدَته. وهذا كما في قوله: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} (1) [الملك: 3 – 4] أي كرَّةً بعد كرَّة، لا مرتين فقط.
وقَصد التعدد في قوله: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة: 90] أظهرِ، ولا ريب أن تعطيلهم ما عطلوه من شرائع التوراة، وتحريفَهمِ وتبديلَهم يستدعي غضبًا، وتكذيْبَهم الأنبياء يستدعي غضبًا آخر، وقتلَهم إياهم يستدعي غضبًا آخر، وتكذيبهم المسيحَ، وطلبَهم قتلَه، ورميهم أُمَّه بالبهتان العظيم يستدعي غضبًا آخر، وتكذيبَهم النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – يستدعي غضبًا، ومحاربتهم له وأذاهم لأتباعه يقتضي غضبًا، وصدَّهم عن أراد الدخول في دينه عنه يقتضي غضبًا، فهم الأمَّةُ الغضبية أعاذنا الله من غضبه، فهي الأمة التي باءت بغضب الله المضاعف المتكرر، فكانوا أحق بهذا الاسم (2) والوصف من النصارى. وقال تعالى في شأنهم: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60] فهذا غضبٌ مشفوع باللعنة والمسخ وهو من أشدَّ ما يكون من الغضب. وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)} [المائدة: 78 – 80].
__________
(1) في الأصول: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ} وأكملنا الآية لدلالة السياق.
(2) ليست في (ق).

(2/437)


وأما وصف النصارى بالضلال؛ ففي (1) قوله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)} [المائدة: 77] فهذا خطاب للنصارى؛ لأنه في سياق خطابه معهم بقوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} إلى قوله: {وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)} [المائدة: 72 – 77] فوصفهم بأنهم قد ضلُّوا أولًا ثم أضلوا كثيرًا، لهم أتباعهم، فهذا قبل مبعث النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – حيث ضلوا في أمر المسيح وأضلُّوا أتباعهم، فلما: بُعِث النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – ازدادوا ضلالًا آخر بتكذيبهم له. وكفرهم به، فتضاعف الضلالُ في حقِّهم، هذا. قولُ طائفةٍ، منهم الزمخشري (2) وغيره، وهو ضعيف!! فإن هذا كله وصف لأسلافهم الذين هم لهم تبع، فوصفهم بثلاث صفات؛ أحدها: أنهم قد ضلُّوا من قبلهم؛ والثاني: أنهم أضلُّوا أتباعهم، والثالث: أفهم ضلوا عن سواء السبيل، فهذه صفات (3) لأسلافهم الذين (4) نهى هؤلاء عن اتباع. أهوائهم، فلا يصح أن يكون وصفًا للموجودين في زمن النبي – صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم هم المنهيُّون أنفسهم لا المنهى عنهم، فتأمله.
وإنما سِرُّ الآية: أنها اقتضت تكرر الضلال في النصارى ضلالًا بعد ضلال لفرط جهلهم بالحقِّ، وهي نظير الآية التي تقدمت في تَكَرر الغضب في حق اليهود، ولهذا كان النصارى أخص بالضلال من
__________
(1) (ق): “وهي”.
(2) في “الكشاف”: (1/ 357).
(3) من قوله: “أحدها … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(4) (ق): “للأسلاف الذي”.

(2/438)


اليهود. ووجه تكرر هذا الضلال: أن الضَّال قد يضل عن نَفس (1) مقصُوْدِه، فيكون ضالًّا (2) فيه، فيقصد ما لا ينبغي أن يُقْصَد، ويعبد من لا ينبغي أن يُعْبَد (3)، وقد يُصيب مقصودًا حقًّا لكن يضل في طريقِ طلبِه والسبيلِ الموصلة إليه، فالأول: ضلال في الغاية. والثاني: ضلالَ في الوسيلة، ثم إذا دَعَا غيرَه إلى ذلك فقد أضلَّه.
وأسلاف النصارى اجتمعت لهم الأنواع الثلاثة:
فضلوا عن مقصودهم حيث لم يصيبوه، وزعموا أن إلههم بَشَر يأكل ويشرب ويبكي، وأنه قُتِل وصُلِب وصُفِع، فهذا ضلال في نفس المقصود حيث لم يظفروا به.
وضلوا عن السبيل الموصلة إليه، فلا اهتدوا إلى المطلوب، ولا إلى الطريق الموصل إليه.
ودعوا أتباعَهم إلى ذلك، فضلوا عن الحق وعن طريقه وأضلوا كثيرًا، فكانوا أدخلَ في الضلالِ من اليهود. فوُصِفُوا بأخصِّ الوصفين.
والذي يحقق ذلك: أن اليهود إنما أُتوا من فساد (4) الإرادة والحسد، وإيثار ما كان لهم على قومهم من السُّحْت والرياسة فخافوا أن يَذْهب بالإسلام، فلم يؤتوا من عدم العلم بالحقِّ، فإنهم كانوا يعرفون أن محمدًا رسول الله كما يعرفون أبناءَهم، ولهذا لم يوبِّخهم الله -تعالى- ويقرِّعهم إلا بإرادتهم الفاسدة من الكِبْر والحسد وإيثار
__________
(1) (ظ ود): “أن الضلال قد نفس”!.
(2) (ق): “ضلال”.
(3) (ق ود): “ويعبد ما لا ينبغي له أن يعبده”. و”له” من (ق) وحدها.
(4) (ق): “نفس”.

(2/439)


السحت والبغي وقتل الأنبياء، ووبَّخَ النصارى بالضلال والجهل الذي هو عدم العلم بالحق، فالشقاءُ والكفر ينشأ من عدمِ معرفةِ الحقِّ تارةً، ومن عدمِ إرادتِهِ والعملِ [به] أُخْرى، ويتركَّبُ منهما، فكفر اليهود نشأ من عدم إرادة الحق والعمل به، وإيثار غيره عليه بعد معرفته، فلم يكن ضلالًا محضًا؛ وكفر النصارى نشأَ من جهلهم بالحقِّ وضلالهم فيه، فإذا تبيَّن لهم وآثروا الباطل عليه أشبهوا الأمةَ الغضبية وبقوا مغضوبًا عليهم ضالين.
ثم لما كان الهدى والفلاح والسعادة لا سبيل إلى نيله إلا بمعرفة الحق وإيثاره على غيره، وكان الجهل يمنع العبد من معرفته بالحق، والبغي يمنعه من إرادته؛ كان العبدُ أحوجَ شيء إلى أن يسأل الله -تعالى- كلَّ وقتٍ أن يهديه الصراط المستقيم: تعريفًا وبيانًا (1)، وإرشادًا وإلهامًا، وتوفيقًا وإعانة، فيعلمه ويعرفه؛ ثم يجعله مريدًا له قاصدًا لاتباعه، فيخرج بذلك عن طريقة “المغضوب عليهم” الذين عَدَلوا عنه على عَمْد وعِلْم، و”الضالين” الذين عدلوا عنه عن جَهْلٍ وضلال.
وكان السلف يقولون (2): “من فسدَ من علمائنا ففيه شَبَه من اليهود، ومن فَسَد من عُبَّادنا ففيه شَبَه من النصارى”، وهذا كما قالوه؛ فإن من فَسَد من العلماء فاستعملَ أخلاق اليهود من تحريف الكَلِم عن مواضعه، وكتمان ما أنزل الله إذا كان فيه فوات غرضه، وحسد من آتاه الله من فضله وطلب قتله، وقتل الذين يأمرون بالقِسْط
__________
(1) (ق): “وثباتًا”.
(2) قاله سفيان بن عُيينة، انظر “البداية والنهاية”: (14/ 821) وذكره ابن تيمية في كتبه كثيرًا معزوًّا إلى ابن عيينة وغيره.

(2/440)


من الناس ويدعونهم إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم، إلى غير ذلك من الأخلاق التي ذم بها اليهود من الكِبْر والليّ والكتمان والتحريف (1) والتحيُّل على محارم الله، وتلبيس الحق بالباطل، فهذا شَبَهُه باليهود ظاهر.
وأما من فَسَد من العُبَّاد فعبد الله بمقتضى هواه لا بما بعث به رسوله، وغلا في الشيوخ فأنزلهم منزلةَ الربوبية، وجاوز ذلك إلى نوعٍ من الحُلول أو الاتحاد فشَبَهُه بالنصارى ظاهر.
فعلى المسلم أن يبعد من هذين الشَّبَهَين غايةَ البعد، ومن تصوَّر الشَّبَهَيْن والوَصْفين وعلم أحوالَ الخلق علم ضرورته وفاقته إلى هذا الدعاء الذي ليس للعبد دعاء أنفع منه ولا أوجب منه عليه، وأن حاجته إليه أعظم من حاجته إلى الحياة والنَّفَس؛ لأن غاية ما يُقَدَّر بفوتهما موته، وهذا يحصل له بفَوْته شقاوة الأبد، فنسأل الله أن يهدينا الصراطَ المستقيم صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين، إِنه قريبٌ مجيبٌ.
فصل
وأما المسألة الثالثة عشرة: وهو تقديم “المغضوب عليهم” على “الضالين”؛ فلوجوه عديدة:
أحدها: أنهم مقدَّمون عليهم بالزمان.
الثاني: أنهم كانوا هم الذين يَلُون النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – من أهل الكتابين، فإنهم كانوا جيرانه في المدينة، والنصارى كانت ديارهم نائية عنه،
__________
(1) ليست في (ق).

(2/441)


ولهذا تجد خطاب اليهود والكلام معهم في القرآن أكثر من خطاب النصارى، كما في سورة البقرة والمائدة وآل عمران وغيرها من السور.
الثالث: أن اليهود أغلظ كفرًا من النصارى، ولهذا كان الغضب أخص بهم واللعنة والعقوبة، فإن كفرهم عن عِناد وبَغْي كما تقدم، فالتحذير من سبيلهم والبعد منها أهم وأحق بالتقديم، وليس عقوبة من جَهِل كعقوبة من عَلِم وعاند.
الرابع: -وهو أحسنها- أنه تقدم ذِكْر المُنْعَم عليهم، والغضبُ ضد الإنعام، والسورة هي السبع المثاني التي يُذكر فيها الشيء ومقابله، فذكر المغضوب عليهم مع المنعم عليهم فيه من الازدواج والمقابلة ما ليس في تقديم “الضالين”، فقولك: “الناس مُنْعَم عليه ومغضوب عليه فكن من المُنْعَم عليهم”، أحسن من قولك: “مُنْعَم عليه وضال”.
فصل
وأما المسألة الرابعة عشرة: وهي أنه أتى في أهل الغضب باسم المفعول وفي (1) الضالين باسم الفاعل، فجوابها ظاهر؛ فإن أهل الغضب من غَضِب الله عليهم وأصابهم غضبه فهم مغضوبٌ عليهم، وأما أهل الضلال؛ فإنهم هم الذين ضلوا وآثروا (2) الضلال واكتسبوه، ولهذا استحقوا العقوبة عليه، ولا يليق أن يقال: ولا المُضَلِّين، مبنيًّا للمفعول، لما في رائحته من إقامة عذرهم، وأنهم لم
__________
(1) (ق): “ودون”.
(2) (ق): “وأبرزوا”.

(2/442)


يكتسبوا الضلالَ من أنفُسِهم (1) بل فُعِلَ فيهم، ولا مُسْتراح في هذا للقدرية، فإنّا نقول: إنهم هم الذين ضلوا، وإن كان الله أضلهم، بل فيه رد على الجبرية الذين لا ينسبون إلى العبد فعلًا إلا على جهَة المجاز لا الحقيقة، فتضمنت الآية الردَّ عليهم كما تضمن قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} الرد على القدرية، ففي الآية إبطال قول الطائفتين، والشهادةُ لأهل الحق أنهم هم المصيبون، وهم المثبتون للقدر توحيدًا وخلقًا، والقدرةِ لإضافة أفعالِ العبادِ إليهم عملًا وكسبًا، وهو مُتَعَلَّق الأمر والنهي (2)، كما أن الأول مُتَعَلَّق الخلق والقدرة (3)، فاقتضت الآيةُ إثبات الشَّرْع والقَدَر والمعاد والنبوَّة، فإن النعمة والغضب هو ثوابه وعقابه، فالمُنْعَم عليهم رسله وأتباعهم ليس إلا، وهداية أتباعهم إنما يكون على أيديهم، فاقتضت إثبات النبوة بأقربِ طريقٍ وأبينها وأدلِّها على عموم الحاجة وشدَّة الضرورة إليها، وأنَه لا سبيل للعبد أن يكون من المُنْعَم عليهم إلا بهداية الله له، ولا تُنال هذه الهداية إلَّا على أيدي الرُّسل، وأن هذه الهداية لها ثمرة، وهي: النعمة التامة المطلقة في دار النعيم، ولخلافها ثمرة، وهي: الغضب المقتضي للشَّقاءِ الأبدي، فتأمل كيف اشتملت هذه الآية -مع وجازتها واختصارها- على أهمِّ مطالب الدين وأجلِّها، والله الهادي إلى سواء السبيل.
فصل
وأما المسألة الخامسة عشرة: وهي ما فائدة زيادة “لا” بين المعطوف
__________
(1) “الضلال” من (ظ ود)، و”أنفسهم” من (ق).
(2) في “المنيرية”: “العمل”.
(3) من قوله: “لإضافة أفعال … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(2/443)


والمعطوف عليه؟ ففي ذلك أربع فوائد:
أحدها: أن ذِكْرها تأكيد للنفي الذي تضمَّنه “غير”، فلولا ما فيها من معنى النفي لما عُطِفَ عليها بـ “لا” مع “الواو” فهو في قوة: “لا المغضوب عليهم ولا الضالين”، أو: “غير المغضوب عليهم وغير الضالين”.
الفائدة الثانية: أن المراد المغايرة الواقعة بين النوعين وبين كلِّ نوع بمفرده، فلو لم يذكر “لا” وقيل: “غير المغضوب عليهم والضَّالين”، أَوْهَمَ أن المراد ما غايَر المجموعَ المركبَ من النوعين لا ما غايَر كلَّ نوع بمفرده، فإذا قيل: “ولا الضالين”، كان صريحًا في أن المراد: صراط غير هؤلاء وغير هؤلاء. وبيان ذلك أنك إذا قلت: ما قام زيدٌ وعَمْرو، فإنما نفيت القيام عنهما ولا يلزم من ذلك نفيه عن كلِّ واحد منهما بمفرده، فإذا قلت: “ما قام زيد ولا عَمْرو”، كان صريحًا في تسليط النفي على كلِّ واحدٍ منهما بمفرده (1).
الفائدة الثالثة (2): رفع توهم أن “الضالين” وصف للمغضوب عليهم، وأنهما صنف واحد وُصِفُوا بالغضب والضلال، ودخل العطف بينهما كما يدخل في عطف الصفات بعضِها على بعض، نحو قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)} [المؤمنون: 1 – 3] إلى آخرها، فإن هذه صفات للمؤمنين، ومثل قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} [الأعلى: 1 – 3] ونظائره،
__________
(1) من قوله: “بمفرده فإذا … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(2) لم يذكر المؤلف الفائدة الرابعة.

(2/444)


فلما دخلت “لا” عُلِم أنهما صنفان متغايران مقصودان بالذكر، وكانت “لا” أولى بهذا المعنى من “غير” لوجوه؛ أحدها: أنها أقل حروفًا، الثاني: التفادي من تَكْرار اللفظ، الثالث: الثقل الحاصل بالنطق بـ “غير” مرتين من غير فَصْل إلا بكلمةٍ مفردة، ولا ريب أنه ثقيل على اللسان، الرابع: أن “لا” إنما يُعْطَف بها بعد النفي، فالإتيان بها مُؤْذِن بنفي الغضب عن أصحاب الصراط المستقيم، كما نُفِيَ عنهم الضلال، و”غيرُ” وإن أفهمت هذا فـ “لا” أدخلُ في النفي منها، وقد عُرِف بهذا جواب المسألة السادسة عشرة، وهي: أن “لا” إنما يُعْطَف بها في النفي.
فصل
وأما المسألة السابعة عشرة: وهى أن الهداية هنا من أي أنواع الهدايات؛ فاعلم أن أنواع الهداية أربعة:
أحدها: الهداية العامة المشتركة بين الخلق، المذكورة في قوله: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} [طه ت 50] أي: أعطى كلَّ شيء صورتَه التي لا يشتبه فيها بغيره، وأعطى كلَّ عضو شكلَه وهيأتَه، وأعطى كل موجود خلقَه المختص به، ثم هداه إلى ما خلقه له من الأعمال، وهذه الهداية تعمُّ هِداية (1) الحيوان المتحرِّك بإرادته إلى جَلْب ما ينفعه ودَفْع ما يضره، وهداية الجماد المسخَّر لما خُلِق له، فله هداية تليق به، كما أن لكلِّ نوع من الحيوان هداية تليق به، وإن اختلفت أنواعها وصورها (2)، وكذلك لكل عضو هدايةٌ تليقُ به،
__________
(1) “تعم هداية” سقطت من (ظ ود).
(2) (ق): “وضروبها”.

(2/445)


فهدى الرِّجْلين للمشي، واليدين للبطش والعمل، واللسان للكلام، والأذن للاستماع، والعين لكشف المرئيَّات، وكلَّ عضو لما خُلِقَ له، وهدى الزوجين من كلِّ حيوان إلى الازدواج والتناسل وتربية الولد، وهدى الولد إلى التقام الثدي عند وضعه وطلبه. ومراتب هدايته -سبحانه- لا يحصيها إلا هو، فتبارك الله رب العالمين.
وهدى النَّحْل أن تتخذ من الجبال بيوتًا ومن الشجر ومن الأبنية، ثم تسلك سبل ربها مذلَّلة لها لا تستعصي عليها، ثم تأوي إلى بيوتها، وهداها إلى طاعة يعسوبها واتباعه والائتمام به أين توجه بها، ثم هداها إلى بناء البيوت العجيبة الصنعة المحكمة (1) البناء.
ومن تأمل بعضَ هدايته المبثوثة في العالم شهد له بأنه الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم، وانتقل من معرفة هذه الهداية إلى إثبات النبوة بأيسرِ نظر، وأوَّلِ وهلة، وأحسنِ طريق وأخصرِها، وأبعدِها من كلِّ شبهة، فإن من لم يُهْمِل هذه الحيوانات سُدًى ولم يتركها مُعَطَّلة، بل هداها (2) إلى هذه الهداية التي تعجز عقول العقلاء عنها، كيف يليق به أن يتركَ النوعَ الإنساني -الذي هو خلاصة الوجود الذي كرَّمه وفضَّله على كثير من خلقه- مهملًا وسُدًى معطَّلًا لا يهديه إلى أقصى كمالاته وأفضل غاياته، بل يتركه معَطَّلًا لا يأمره ولا ينهاه، ولا يُثيبه ولا يعاقبه، وهل هذا إلا منافٍ لحكمته، ونسبةٌ له إلى ما لا يليق بجلاله؟! ولهذا أنكر ذلك على (3) من زعمه ونزَّه نفسه عنه، وبيَّنْ أنه يستحيل نِسْبة ذلك إليه، وأنه يتعالى عنه،
__________
(1) سقطت من (ق).
(2) “بل هداها” سقطت من (د).
(3) (ق): “أنكره على”.

(2/446)


فقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون: 115 – 116] فنزَّه نفسَه عن هذا الحسبان، فدلَّ على أنه مستقر بطلانه في الفِطَر السليمة والعقول المستقيمة، وهذا أحد ما يدل على إثبات المعاد بالعقل، وأنه مما تظاهر عليه العقلُ والشرعُ، كما هو أصحُّ الطريقين في ذلك، ومن فهم هذا فهم سِرَّ (1) اقتران قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} [الأنعام: 38] بقوله: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)} [الأنعام: 37] وكيف جاء ذلك في معرض جوابهم عن هذا السؤال والإشارة به إلى إثبات النبوة، وأن من لم يُهْمل أمرَ كلِّ دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه، بل جعلها أُممًا وهداها إلى غاياتها ومصالحها، كيف لا يهديكم إلى كمالكم ومصالحكم؟! فهذه أحدُ أنواع الهداية وأعمُّها.
النوع الثاني: هداية البيان والدلالة والتعريف لِنَجْدَي الخير والشر، وطريقي النجاة والهلاك، وهذه الهداية لا تستلزم الهدى التام، فإنها سبب وشرط لا موجب، ولهذا ينتفي الهدى معها، كقوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] أي: بيَّنا لهم وأرشدناهم ودللناهم فلم يهتدوا. ومنها قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52].
النوع الثالث: هداية التوفيق والإلهام، وهى الهداية المستلزمة للاهتداء فلا يتخلَّف عنها، وهى المذكورة في قوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ
__________
(1) (ظ ود): “عُسر” وهو خطأ.

(2/447)


وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93] وفي قوله: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37] وفي قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِل فلا هَادِيَ لَه” (1)، وفي قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] فنفى عنه هذه الهداية وأثبتَ له هداية الدعوة والبيان في قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} [الشورى: 52].
النوع الرابع: غاية هذه الهداية، وهى الهداية إلى الجنة والنار إذا سيق أهلهما إليهما، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس: 9] وقال أهل الجنة فيها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43]، وقال تعالى عن أهل النار: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)} [الصافات: 22 – 23].
إذا عُرِفَ هذا؛ فالهداية المسؤولة في قوله: “اهدنا الصراط المستقيم”، إنما تتناول المرتبة الثانية والثالثة (2) خاصة، فهي طلب التعريف والبيان والإرشاد والتوفيق والإلهام.
فإن قيل: كيف يَطْلب التعريف والبيان (3) وهو حاصل له؛ وكذلك الإلهام والتوفيق؟.
قيل: هذه هى المسألة الثامنة عشرة: وقد أجاب عنها من أجاب
__________
(1) قطعة من حديث خطبة الحاجة، وقد جاءت من حديث ستة من الصحابة.
انظر تخريجها في رسالة مفردة للشيخ الألباني – رحمه الله-: (ص/ 12 – 30).
(2) سقطت من (ظ ود).
(3) من قوله: “والإرشاد … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(2/448)


بأن المراد. التثبيتُ ودوامُ الهداية، ولقد أجاب وما أجاب! وذكرَ فرعًا لا قوام له بدون أصله، وثمرةً لا وجود لها بدون حاملها! ونحن نبين بحمد الله أن الأمر فوق ما أجاب به وأعظم من ذلك بحول الله.
فاعلم أن العبد لا يحصل له الهدى التام المطلوب إلا بعد ستة أمور، وهو محتاج إليها حاجة لا غِنَى له عنها.
الأمر الأول: معرفته في جميع ما يأتيه ويذره بكونه محبوبًا للرب تعالى مَرْضِيًّا له فيؤثره، وكونه مبغوضًا (1) له مسخوطًا له فيجتنبه، فإن نَقَضَ هذا العلم والمعرفة شيءٌ نَقَضَ الهداية التامةِ بحسبِه.
الأمر الثاني: أن يكون مريدًا لجميع ما يحب الله منه أن يفعله عازمًا عليه، ومريدًا لترك جميع ما نهى الله عنه، عازمًا على تركه بعد خُطُوره (2) بالبال مفصَّلًا، وعازمًا على تركه من حيث الجملة مجملًا، فإن نَقَص من إرادته لذلك شيء نَقَصَ من الهدى التام بحسب ما نَقَص من الإرادة.
الأمر الثالث: أن يكون قائمًا به فعلًا وتركًا، فإن نَقَص من فعله شيء نَقَص من هداه بحسبه. فهذه ثلاثةٌ هي أصولٌ في الهداية، ويتبعها ثلاثة هي من تمامها وكمالها:
أحدها: أمورٌ هُدِيَ إليها جملةً ولم يَهْتد إلى تفاصيلها، فهو محتاج إلى هداية التفصيل فيها.
الثاني: أمور هُدِيَ إليها من وجه دون وجه، فهو محتاج إلى تمام
__________
(1) في (ظ): “مغضوبًا” ومحرفة في “د”.
(2) (ق): “حضوره”.

(2/449)


الهداية فيها لتكمل له هدايتها (1).
الثالث: الأمور التي هُدِيَ إليها تفصيلًا من جميع وجوهها، فهو محتاج إلى الاستمرار على الهداية والدوام عليها.
فهذه ستة أصول تتعلق بما يُعْزم على فعله وتركه، ويتعلق بالماضي [أمر سابع] (2)، وهو: أمورٌ وقعت منه على غير (3) جهة الاستقامة، فهو محتاج إلى تداركها بالتوبة منها وتبديلها بغيرها، وإذا كان كذلك فإنما يقال: كيف يَسألُ الهدايةَ وهى موجودة له، ثم يُجَاب عن ذلك: بأن المراد التثبيت والدوام عليها. إذا كانت هذه المراتب الست حاصلة له بالفعل، فحينئذ يكون سؤاله الهداية سؤال (4) تثبيت ودوام، فأما إذا كان ما يجهله أضعاف ما يعلمه، ومالا يريده من رشده أكثر مما يريده، ولا سبيلَ له إلى فعله: إلا بأن يخلق الله فاعِليته، فالمسؤول هو أصلُ الهداية على الدوام تعليمًا وتوفيقًا، وخَلْقًا للإرادة فيه، وإقدارًا له وخلقًا لفاعليته وتثبيتًا. له على ذلك، فعُلِمَ أنه ليس أعظم ضرورةً منه إلى سؤال الهداية: أصلها وتفصيلها، علمًا وعملًا، والتثبيت عليها، والدوام إلى الممات.
وسِرُّ ذلك: أن العبدَ مفتَقِرٌ إلى الهداية في كلِّ نَفَسٍ، في جميع ما يأتيه ويذره، أصلًا وتفصيلًا وتثبيتًا، ومفتقر إلى مزيد العلم بالهدى على الدوام، فليس له أنفع ولا هُوَ إلى شيءٍ أحوج من سؤال الهداية، فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم، وأن يثبِّت قلوبَنا على دينه.
__________
(1) “لتكمل له هدايتها” ليست في (ق).
(2) (ق وظ): “أمرًا شائعًا” و (د): “أمرًا سابعًا”.
(3) سقطت من (ق).
(4) ليست في (ق).

(2/450)


فصل
وأما المسألة التاسعة عشرة: وهي الإتيان بالضمير في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ} ضمير جمع؛ فقد قال بعض الناس في جوابه: إن كلَّ عضو من أعضاء العبد، وكلَّ حاسَّةٍ ظاهرة وباطنة مفتقِرَة إلى هداية خاصة به، فأتى بصيغة الجمع تنزيلًا لكلِّ عضو من أعضائه منزلة المسترشد الطالب لهداه.
وعرضتُ هذا الجواب على شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحَه- فاستركَّه واستضْعَفَه جدًّا ولم يرضه (1)، وهو كما قال، فإن الإنسان اسم للجملة لا لكلِّ جزءٍ من أجزائه وعضو من أعضائه، والقائل إذا قال: “اغفر لي وارحمني واجبرني وأصلحني واهدني”، سائلٌ من الله ما يحصل لجملته ظاهِرِه وباطِنِه، فلا يحتاج أن يستشعر لكل عضو مسألةً تخصه يُفْرِد لها لفظة.
فالصواب أن يقال: هذا مطابق لقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} والإتيان بضمير الجمع في الموضعين أحسن وأفخم، فإن المقام مقام عبودية وافتقار إلى الرب -تعالى- وإقرار بالفاقة إلى عبودية واستعانته وهدايته، فأتى فيه بصيغة ضمير الجمع، أي: نحن معاشر عبيدك مُقرون لك بالعبودية، وهذا كما يقول العبد للملك المعظَّم شأنه: “نحن عبيدك ومماليكك وتحت طاعتك ولا نخالف أمرك”، فيكون هذا أحسن وأعظم موقعًا عند الملك من أن يقول: “أنا عبدك ومملوكك”، ولهذا لو قال: “أنا وحدي مملوكك”، استدعى مَقْته، فإذا قال: “أنا وكل من في البلد
__________
(1) من (ق).

(2/451)


مماليكك وعبيدك (1) وجُنْد لك”؛ كان أعظم وأفخم؛ لأن ذلك يتضمن أن عبيدك كثير جدًّا وأنا واحد منهم، فكلُّنا مشتركون في عبوديتك والاستعانة بك وطلب الهداية منك، فقد تضمَّن ذلك من الثناء على الرب بِسَعَة مجده، وكثرة عبيده، وكثرة سائليه. الهداية ما لا يتضمنه لفظَ الإفراد، فتأمله. وإذا تأملت أدعية القرآن رأيت عامتها على هذا النمط نحو: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)} [البقرة: 201] ونحو دعاء آخر البقرة، وآخر آل عمران وأولها، وهو أكثر أدعية القرآن.
فصل
وأما المسألة العشرون: وهي ما هو الصراط المستقيم؟.
فنذكر فيه قولًا وجيزًا، فإن الناس قد تنوَّعت عباراتهم: فيه وترجمتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته، وحقيقتُه شيءٌ واحد، وهو: طريق الله الذي يرتضيه لعباده، موصلًا لهم إليه، ولا طريق إليه سواه، بل الطُّرُق كلها مسدودة على الخلق إلا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله وجعله موصلًا لعباده إليه (2)، وهو: إفراده بالعبودية وإفراد رسوله بالطاعة، فلا يشرك به أحدًا في عبوديته، ولا يشرك برسوله أحدًا في طاعته، فيجرد التوحيد ويجرد متابعة الرسول.
وهذا معنى قول بعض العارفين: “إن السعادة والفلاح كله مجموع في شيئين؛ صِدْق محبته وحُسْن معاملته”، وهذا كله مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فأيُّ شيءٍ فُسِّر به الصراط
__________
(1) (ق وظ): “وعبيد” والمثبت من (د).
(2) العبارة في (ظ ود) فيها سقط واضطراب، والمثبت من (ق) مع بعض الإصلاح.

(2/452)


فهو داخل في هذين الأصلين، ونُكْتَةُ ذلك وعَقْدُه: أن تحبه بقلبك كلِّه وتُرْضيه بجهدك كلِّه، فلا يكون في قلبك موضع إلا معمور بحبه، ولا تكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته، فالأول يحصل بالتحقُّق بشهادة أن لا إله إلا الله، والثاني يحصل بالتحقُّق بشهادة أن محمدًا رسول الله، وهذا هو الهدى ودين الحق، وهو معرفة الحق والعمل به، وهو معرفة ما بعثَ اللهُ به رسلَه والقيام به.
فَقُل ما شئتَ من العبارات التي هذا أحسنها وقُطْب رَحَاها، وهي معنى قول من قال: “علومٌ وأعمال ظاهرة وباطنة مستفادة من مِشْكاة النبوة”، ومعنى قول من قال: “متابعة رسول الله ظاهرًا وباطنًا عِلمًا وعَمَلًا”، ومعنى قول من قال: “الإقرار لله بالوحدانية والاستقامة على أمره” (1).
وأما ما عدا هذا (2) من الأقوال، كقول من قال: “الصلوات الخمس”، وقول من قال: “حب أبي بكر وعمر”، وقول من قال: “هو أركان الإسلام الخمس التي بُنِيَ عليها”، فكل هذه الأقوال تمثيل وتنويع، لا تفسير مُطابق له، بل هى جزء من أجزائه، وحقيقَتُهُ الجامعةُ ما تقدَّم (3)، والله أعلم.
فائدة (4)
في ذكر بدل البعض من الكل، وبدل المصدر من الاسم، وهما
__________
(1) انظر هذه الأقوال وغيرها في “تفسير الطبري”: (1/ 103 – 105)، و”الدر المنثور”: (1/ 40 – 41).
(2) (ق): “عداها”.
(3) وانظر “مجموع الفتاوى”: (13/ 336).
(4) “نتائج الفكر”: (ص / 307).

(2/453)


جميعًا يرجعان في المعنى والتحصيل إلى بدل الشيء من: الشيء، وهما لعين واحدة، إلا أن البدلَ في هذين الموضعين لابُد من إضافته إلى ضمير المبدل منه، بخلاف بدل الشيء من الشيء، وهما لعينٍ واحدة.
أما اتفاقهما (1) في المعنى؛ فإِنك إذا قلتَ: “رأيتُ القومَ أكثرهم أو “نصفهمِ”، فإنما تكلَّمتَ بالعموم وأنت تريدُ الخصوص، وهو كثير شائع، فأردتَ: رأيت بعض القوم، وجعلت “أكثرهم” أو “نصفهم” تبيينًا لذلك البعض وأضفته إلى ضمير القوم، كما كان الاسمُ المبدلُ مضافًا إلى القوم، فقد آل الكلامُ إلى أنك أبدلت شيئًا من شيء وهما لعين واحدة.
وكذلك بدل المصدر من الاسم؛ لأن الاسم من حيث كان جوهرًا لا يتعلَّق به المدح والذم، والإعجاب والحب والبغض، إنما متعلق ذلك ونحوه صفات وأعراض قائمة به، فإذا قلتَ: “نفعني عبد الله” عُلِم أن الذي نفعك منه صفةٌ وفعل من صفاته وأفعاله لا ذاته، ثم بيَّنت ذلك الوصف والفعل، فقلت: “علمه أو إرشاده: أو رُؤيته” فأضفتَ ذلكَ إلى ضميرِ الاسمِ كما كان الاسم المبدلُ منه مضافًا إليه في المعنى، فصار التقدير: “نفعني صفةُ زيد أو خَصْلةٌ من خصاله”، ثم بينتَها بقولك: “علمه أو إحسانه أو لقاؤه”، فآل المعنى إلى بدل الشيءِ من الشيءِ، وهما لعينٍ واحدة.
وإذا تقرر هذا فلا يصحُّ في بدل الاشتمال أن يكون الثاني جوهرًا؛ لأنه لا يبدل جوهر من عَرَض، ولابد من إضافته إلى ضمير
__________
(1) في الأصول: “اتفاقهم”.

(2/454)


الاسم؛ لأنه بيان لما هو مضاف إلى ذلك الاسم في التقدير، والعجب من الفارسيِّ يقول في قوله تعالى: {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5)} [البروج: 5] أنها بدل من (الأخدود) بدل الاشتمال، والنار جوهر قائم بنفسه، ثم ليست مضافة إلى ضمير (الأخدود)، وليس فيها شرط من شرائط الاشتمال! وذَهَل أبو علي عن هذا، وترك ما هو أصح في المعنى وأليق بصناعة النحو، وهو حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، فكأنه قال: “قتل أصحاب الأخدودِ، أخدودِ النار ذات الوقود”، فيكون من بدل الشيء من الشيء، وهما لعين واحدة، كما قال الشاعر (1):
* رَضِيْعَي لِبَانٍ ثَدْىِ أُمٍّ تَحَالَفا *
على رواية الجر في “ثدي أم” أراد: لبان ثدي، فحذف المضاف.
فائدة بديعة (2)
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97].
{حِجُّ الْبَيْتِ} مبتدأ، وخبره في أحد المجرورين قبله، والذي يقتضيه المعنى أن يكون في قوله: {عَلَى النَّاسِ} لأنه وجوب، والوجوب يقتضي “على”، ويجوز أن يكون في قوله: {وَلِلَّهِ} لأنه يتضمن الوجوب والاستحقاق، ويرجح هذا التقدير أن الخبر محط الفائدة وموضعها وتقديمه في هذا الباب في نية التأخير،
__________
(1) هو: الأعشى ميمون قيس، “ديوانه”: (ص/ 225). وعجزه: * بأَسْحَمَ داجٍ عَوْضُ لا نتفرَّق *
(2) “النتائج”: (ص/ 309).

(2/455)


وكان الأحق (1) أن يكون {وَلِلَّهِ}، ويرجح الوجه الأول بأن يقال: قوله: “حج البيت على الناس” أكثر استعمالًا في باب الوجوب من أن يقال: حج البيت لله، إي: حقٌّ واجب لله، فتأمله.
وعلى هذا ففي تقديم المجرور الأول -وليس بخبر- فائدتان:
إحداهما: أنه اسم للمُوْجِب للحج، فكان أحق بالتقديم من ذكر الوجوب، فتضمنت الآية ثلاثةَ أمور مرتبة بحسب الوقائع (2): أحدها: الموجِب لهذا الفرض فبُدئ بذكره. والثاني: مؤدى الواجب وهو المفتَرَض عليه، وهم الناس. والثالث: النسبة والحق المتعلق به إيجابًا وبهم وجوبًا وأداءً وهو الحج.
والفائدة الثانية: أن الاسم المجرور من حيث كان اسمًا لله سبحانه وجب الاهتمام بتقديمه تعظيمًا لحرمةِ هذا الواجب الذي أوجبه وتخويفًا من تضييعه؛ إذ ليس ما أوجبه الله سبحانه بمثابة ما يوجبه غيره.
وأما قوله “من” فهي بدل، وقد استهوى طائفة من الناس القول بأنها فاعل بالمصدر، كأنه قال: “أن يحج البيت من استطاع إليه سبيلًا”، وهذا القول يضعف من وجوهٍ:
منها: أَنَّ الحج فرض عين، ولو كان معنى الآية ما [ذكروه] لأفهم فرض الكفاية؛ لأنه إذا حج المستطيعون برئت ذِممُ غيرهم؛ لأن المعنى يؤول إلى: ولله على الناس أن يحج البيت مستطيعهم،
__________
(1) (ق): “فكان الأحسن”.
(2) (د): “الواقع”.

(2/456)


فإذا أدى المستطيعون الواجب لم يبق واجبًا على غير المستطيعين، وليس الأمر كذلك، بل الحج فرض عَيْن على كلِّ أحدٍ، حجَّ المستطيعون أو قعدوا، ولكن الله -سبحانه- عَذَر غير المستطيع بعجزه عن أداء الواجب، فلا يؤاخذه به ولا يطالبه بأدائه، فإذا حج أسقط الفرض عن نفسه، وليس حجُّ المستطيعين بمُسْقِطٍ للفرض عن العاجزين.
وإن أردت زيادة إيضاح، فإذا قلتَ: “وجبٌ على أهل هذه الناحية أن يجاهد منهم الطائفة المستطيعة للجهاد”، فإذا جاهدَتْ تلك الطائفةُ انقطعَ تعلق الوجوب عن غيرهم.
وإذا قلتَ: “واجبٌ على الناس كلهم أن يجاهد منهم المستطيع”، كان الوجوب متعلقًا بالجميع، وعُذْر العاجز بعجزه، ففي نظم الآية على هذا الوجه دون أن يقال: “ولله حج البيت على المستطيعين”، هذه النكتة البديعة، فتأملها.
الوجه الثاني: أن إضافة المصدر إلى الفاعل -إذا وُجِدَ- أولى من إضافته إلى المفعول، ولا يُعْدل عن هذا الأصل إلا بدلَيل منقول، فلو كان “مَنْ” هو الفاعل لأضيف المصدر إليه، فكان يقال: “ولله على الناس حجُّ من استطاع”، وحَمْله على باب: “يعجبني ضَرْب زيدًا عمرو”، مما يُفْصَل به بين المصدر وفاعله المضاف إليه بالمفعول والظرف حَمْلٌ على المكثور (1) المرجوح، وهي قراءة ابن عامر: {قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} (2) [الأنعام: 137]، فلا يُصَار إليه.
__________
(1) (ق): “المكتوب”.
(2) انظر: “النشر”: (2/ 263 – 265) لابن الجزري.

(2/457)


وإذا ثبت أن “من” بدل بعض من كل، وجبَ أن يكون في الكلام ضمير يعود إلى الناس، كأنه قيل: “من استطاع منهم”، وحَذْف هذا الضمير في أكثر الكلام لا يَحْسُن، وحَسَّنَه هاهنا أمور:
منها: أن “من” واقعة على من يعقل كالاسم المبدل منه، فارتبطت به.
ومنها: أنها موصولة بما هو أخص من الاسم الأول، ولو كانت الصِّلة أعم لقبح حذف الضمير العائد. ومثال ذلك: إذا قلتَ: “رأيت إخوتكَ من ذهب إلى السوق”، تريدُ: من ذهب منهم؛ لكان قبيحًا؛ لأن الذاهب إلى السوق أعم من الإخوة، وكذلك لو قلت: “البس الثيابَ ما حَسُن وجَمُل” (1)، تريد: منها، ولم تذكر الضمير؛ لكان أبعد في الجواز؛ لأن لفظ “ما” أعم من [لفظ] الثياب (2)، و [حق] باب بدل البعض من الكل أن يكون أخص من المبدل منه، فإذا كان أعمَّ وأضفته إلى ضمير، أو قيدته بضمير يعود إلى الأول، ارتفع العموم وبقي الخصوص.
ومما حَسَّنَ حذف الضمير (3) في هذه الآية -أيضًا مع ما تقدم- طولُ الكلام بالصلة والموصول.
وأما المجرور من قوله “إليه” فيحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون في موضع حال من “سبيل”، كأنه نعتُ نكرةٍ قُدِّمَ عليها؛ لأنه لو تأخر لكان في موضع النعت لسبيل.
__________
(1) “النتائج”: “وكمل”.
(2) في الأصول: “لأن لفظ ما أحسن أعم من الثياب” والمثبت من “النتائج”.
(3) (ق): “المضاف”.

(2/458)


والثاني: أن يكون متعلقًا بسبيل.
فإن قيل: كيف يتعلق به وليس فيه معنى الفعل؟.
قيل: “السبيل” لما كان هاهنا عبارة عن الموصِّل إلى البيت من قوة وزاد ونحوهما، كان فيه رائحة الفعل، ولم يقصد به السبيل الذي هو الطريق، فصلح تعلق المجرور به، واقتضى حُسْن النظم وإعجاز اللفظ تقديم المجرور وإن كان موضعه التأخير؛ لأنه ضمير يعود على البيت، والبيت هو المقصود به الاعتناء، وهم يقدِّمون في كلامهم ما هم به أهمُّ، وببيانه أعنى.
هذا تعبير السُّهيلي (1)، وهو بعيدٌ جدًّا! بل الصواب في متعلق الجار والمجرور وجه آخر أحسن من هذين، ولا يليقُ بالآية سواه، وهو الوجوب المفهوم من قوله: {عَلَى النَّاسِ}، أي: يجب لله على الناس الحج، فهو حق وواجب لله. وأما تعليقه بـ “السبيل” أو جعله حالًا منها ففي غايةِ البُعْد، فتأمله، ولا يكاد يخطر بالبال من الآية، وهذا كما يقول: لله عليك الحج ولله عليك الصلاة والزكاة والصيام (2).
ومن فوائد الآية وأسرارها: أنه سبحانه إذا ذكر ما يوجبه ويحرمه يذكره بلفظ الأمر والنهي وهو الأكثر، أو بلفظ الإيجاب والكتابة والتحريم، نحو: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151]، وفي الحج أتى بهذا النظم (3) الدال على
__________
(1) في “نتائج الفكر”: (ص/ 311).
(2) من (ق). وتكررت “الصلاة” في (ظ ود).
(3) (ق): “اللفظ”.

(2/459)


تأكد الوجوب من عشرة أوجه:
أحدها: أنه قدَّم اسمه -تعالى- وأدخل عليه لام الاستحقاق والاختصاص، ثمَّ ذَكَر من أوجبه عليهم بصيغةِ العموم الداخلة عليها حرف “على”، ثم أبدلَ منه أهل الاستطاعة، ثم نكَّر السبيلَ في سياق الشرط إيذانًا بأنه يجب الحجُّ على أيِّ سبيلٍ تيسَّرت من قُوْتٍ أو مال، فعلق الوجوب بحصول ما يسمَّى سبيلًا، ثم أتْبعَ ذلك بأعظم التهديد بالكفر، فقال: {وَمَنْ كَفَرَ}، أي: بعدم التزام هذا الواجب وتركه، ثم عَظَّم الشأنَ وأكَّد الوعيد بإخباره باستغنائه عنه، والله تعالى هو الغنيُّ الحميد، ولا حاجةَ به إلى حجِّ أحد، وإنما في ذِكْر استغنائه عنه هنا من الإعلام بمقتِهِ له، وسخطه عليه، وإعراضه بوجهه عنه ما هو من (1) أعظم التهديد وأبلغه، ثم أكَّد ذلك بذكر اسم “العالمين” عمومًا، ولم يقل: فإن الله غني عنه؛ لأنه إذا كان غنيًّا عن العالمين كلهم فله الغِنَى الكامل التام من كلِّ وجهٍ عن كل أحدٍ بكل اعتبار. فكان أدل على عِظَم مقته لتارك حقه الذي أوجبه عليه. فم أكَّد هذا المعنى بأداة “إن” الدالة على التوكيد.
فهذه عشرة أوجه تقتضي تأكد هذا الفرض العظيم. وتأمَّل سرَّ البدل في الآية المقتضي لذكر الإسناد مرتين. مرَّة بإسناده إلى عموم الناس، ومرةً بإسناده إلى خصوص المستطيعين، وهذا من فوائد البدل تقوية المعنى وتأكيده بتكرر الإسناد، ولهذا كان في نية تَكْرار العامل وإعادته.
ثم تأمل ما في الآية من الإيضاح بعد الإبهام، والتفصيل بعد
__________
(1) ليست في (ق).

(2/460)


الإجمال، وكيف تضمَّن ذلك إيراد الكلام في صورتين وحُلتين اعتناء به وتأكيدًا لشأنه. ثم تأمل كيف افتتح هذا الإيجاب بذِكْر محاسن البيت وعِظَم شأنه بما يدعو النفوسَ إلى قصده وحجِّه، وإن لم يطلب ذلك منها، فقال: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 96 – 97] فوصفه بخمس صفات:
أحدها: أنه أسبق بيوت العالم وَضْعًا في الأرض.
الثاني: أنه مبارك والبركة كثرة الخير ودوامه، وليس في بيوت العالم أبرك منه ولا أكثر خيرًا ولا أدوم ولا أنفع للخلائق.
الثالث: أنه هدى، ووصفه بالمصدر نفسه مبالغة حتى كأنه هو نفس الهدى.
الرابع: ما تضمنه من الآيات البينات التي تزيد على أربعين آية.
الخامس: الأمن الحاصل (1) لداخله.
وفي وصفه بهذه الصفات دون إيجاب قصدِه ما يبعث النفوسَ على حجِّه، وإن شطت بالزائرين الديار وتناءت بهم الأقطار، ثم أَتْبَع ذلك بصريح الوجوب المؤكد بتلك التأكيدات، وهذا يدلك على الاعتناء منه -سبحانه- بهذا البيت العظيم، والتنويه بذكره، والتعظيم لشأنه، والرفعة من قدره، ولو لم يكن له شرف إلا إضافته إياه إلى نفسه بقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج: 26] لكفى بهذه الإضافة فضلًا وشرفًا. وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه وسلبت نفوسَهم حبًّا له وشوقًا إلى رؤيته،
__________
(1) من (ق).

(2/461)


فهو المثابة للمحبين، يثوبون إليه ولا يقضون منه وطراً أبدًا، كلما
أزدادوا له زيارة (ظ/ 81 أ) ازدادوا له حبًّا وإليه اشتياقًا، فلا الوِصَال
يشْفيهم ولا البعاد يسليهم، كما قيل:
أطوفُ به والنفسُ بعد مَشُوقة … إليه وهل بعد الطوافِ داني
وألثمُ منه الركنَ أطلبُ بَرْدَ ما … بقلبيَ من شوقٍ ومن هيمان
فوالله ما أزدادُ إلا صَبَابةً … ولا القلبُ إلا كثرةَ الخفقانِ
فيا جنةَ المأوى ويا غايةَ المنى … ويا مُنْيَتي من دون كلِّ أمان
أبَتْ غَلَباتُ الشوقِ إلا تقرُّبًا … إليك فما لي بالبعاد يدان
وما كان صَدِّي عنك صدّ ملالةٍ … ولي شاهد من مقْلَتي ولساني
دعوتُ اصطباري عنك بعدك والبُكا … فلبَّى البُكا والصبر عنك عصاني
وقد زعموا أَن المحبَّ إذا نأى … سَيَبْلى هواه بعد طوكِ زمانِ
ولو كان هذا الزعم حقًّا لكان ذا … دواء الهوى فى الناس كلّ أوان
بلى إنه يبلى التصبُّر والهوى … على حاله لم يُبْلِه المَلَوان
وهذا محبٌّ قادَهُ الشوقُ والهوى … بغير زمامٍ قائد وعنان
أتاك على بُعْد المزار ولو وَنَت … مطيَّته جاءت به القدَمان
فائدة بديعة (1)
قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217] من
__________
(1) “نتائج الفكر” (ص/ 312).

(2/462)


باب بدل الاشتمال، والسؤال إنما وقع عن القتال فيه، فلِمَ قدِّم الشهر (ق/106 ب) وقد قلتم: إنهم يقدمون ما هم ببيانه أهم وهم به أَعْنَى؟.
قيل: السؤال لم يقع منهم إلا بعد وقوع القتال في الشهر الحرام، وتَشْنيع أعدائهم عليهم بانتهاكه وانتهاك حرمته، فكان اغتمامُهم واهتمامهم بالشهر فوق اهتمامهم بالقتال، فالسؤال إنما وقع من أجل حُرمة الشهر فلذلك قُدِّم في الذِّكر، وكان تقديمه مطابقاً لما ذكرنا من القاعدة.
فإن قيل: فما الفائدة في إعادة ذكر القتال بلفظ الظاهر، وهلاَّ اكتفى بضميره، فقال: “قل: هو كبير”، وأنت إذا قلتَ: سألته عن زيد أهو في الدار؛ كان أوجزَ من أن تقول: “أزيد في الدار”.
قيل: في إعادته بلفظ الظاهر نكْتة بديعة، وهي تعليِق الحكم الخبري باسم القتال فيه عمومًا، ولو أتى بالمضمر فقال: “هو كبير”، لتوهم اختصاص الحكم يذلك القتال المسؤول عنه، وليس الأمر كذلك، وإنما هو عام في كلِّ قتال وقعَ في شهرٍ حَرَام.
ونظير هذه الفائدة: قوله – صلى الله عليه وسلم – وقد سئل عن الوضوء بماء البحر -فقال: “هُوَ الطَّهوْرُ مَاؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ” (1) فأعاد لفظ “الماء” ولم يقتصر على قوله: “نعم توضؤوا به” لئلاَّ يتوهم اختصاص الحكم بالسائلين لضرب من ضروب الاختصاص، فعدل عن قوله: “نعم توضؤوا” (2)
__________
(1) أخرجه أبو داود رقم (83)، والترمذي رقم (69)، والنسائي: (1/ 50)، وابن ماجه رقم (386)، وغيرهم.
والحديث صححه الترمذي وابن خزيمة وغيرهما، وتكلّم فيه غير واحد.
(2) من قوله: “به، لئلا … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(2/463)


إلى جواب عامٍّ يقتضي تعليق الحكم والطهورية بنفس مائة من حيث هو، فأفاد استمرار الحكم على الدوام وتعلقه بعموم الآية، وبطل توهُّم قصره على السبب، فتأمله فإنه بديع.
فكذلك (ظ/ 81 ب) في الآية لما قال: {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}، فجعلَ الخبر بـ”كبير” واقعًا على “قتال فيه” فتعلَّق الحكمُ به على العموم، ولفظ المضمر لا يقتضي ذلك.
وقريب من هذا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)} [الأعراف: 170] ولم يقل: أجرهم، تعليقًا لهذا الحكم بالوصف، وهو كونهم مصلحين، وليس فى الضمير ما يدلُّ على الوصف المذكور.
وقريبٌ منه -وهو ألطف معنى- قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] ولم يقل: “فيه” تعليقًا لحكم الاعتزال بنفس الحيض، وأنه هو سبب الاعتزال. وقال تعالى: {قُلْ هُوَ أَذًى} ولم يقل (1): الحيض أذى، لأنه جاءَ به على الأصل (2)؛ ولأنه لو كرره لثقل اللفظ به لتكرره ثلاث مرات، وكان ذِكْره بلفظ الظاهر في الأمر بالاعتزال أحسن من ذِكْره مضمرًا، ليفيد تعليق الحكم بكونه حيضًا، بخلاف قوله: {قُلْ هُوَ أَذًى}، فإنه إخبارْ بالواقع، والمخاْطَبون يعلمون أن جهةَ كونه أذَى هو نفس كونه حَيْضاً، بخلاف (ق/ 107 أ)، تعليق الحكم به فإنه إنما يُعلم بالشرع فتأمله.
__________
(1) من قوله: “فيه تعليقًا .. ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(2) (ظ ود): “إذ الآية جارية على الأصل”.

(2/464)


فائدة (1)
إنما امتنع الحال من المضاف إليه (2)؛ لأن الحال يشبه الظرف والمفعول فلابد لها من عامل، ومعنى الإضافة أضعف من لامها، ولامها لا تعمل في ظرف ولا مفعول، فمعناها أولى بعدم العمل.
فإن قلت: فاجعل العامل فيها (3) هو العامل في المضاف.
قلت: هو محال لا يجب اتحاد العامل في الحال وصاحبها، فلو كان العامل فيها هو العامل في المضاف (4)؛ لكانت حالاً منه دون المضاف إليه، فتستحيل المسألة، فأما إذا كان المضاف فيه معنى الفعل، نحو قولك: “هذا ضاربُ هند قائمة”، و”أعجبني خروجُها راكبة”، جاز انتصاب الحال من المضاف إليه؛ لأن ما في المضاف من معنى الفعل واقع على المضاف إليه وعامل فيما هو حالٌ منه، وعلى هذا جاء قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا} [الأنعام: 128] وقوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ} [التغابن: 10] فإن ما في “مثوى” و”صاحب” من معنى الفعل يُصَحِّح عمله فى الحال، بخلاف قولك: “رأيت غلامَ هند راكبة”، فإنه ليس في الغلام شيء من رائحة الفعل.
وقد يجوز انتصاب الحال عن المضاف إليه إذا كان المضاف جزءه أو يُنزَّل منزلة جُزئه، نحو: “رأيت وجهَ هند قائمة”؛ لأن
__________
(1) “نتائج الفكر”: (ص/ 315).
(2) (ظ ود): “والمضاف”!.
(3) (ظ): “هنا”، (د): “فاجعل فيها”.
(4) من قوله: “قلت: … ” إلى هنا ساقط من (ق).

(2/465)


البعض يجري عليه حكم الكل في اقتضاء العامل له، فجاز أن يعمل في الحال ما يعمل في بعض صاحبها، لتنزُّله منزلته، وسريانُ حكمِ البعض إلى الكلِّ لا يُنكَر لغةً ولا شرعًا ولا عقلاً، فاللغة: نحو هذا، ونحو قوله: “ذهبت بعض أصابعه”، و”شرقت صدر القناة”، و”تواضَعَتْ سُور المدينة”، وهو كثير. وأما الشرع: فكَسَريان العِتْق في الشقص المشترك، وأما العقل: فإن الارتباط الذي بين الجزء والكل يقتضي أن يثبت لإحدهما ما يثبت للآخر، وعلى هذا جاء قول الشاعر (1):
* كأن حواميه مدبراً *
وقول حبيب (2):
* والعِلمُ في شهُبِ الأرْماحِ لامِعَةً *
فائدة بديعة (3)
إن قيل: كيف يضمرون الناصب في مثل:
* لليسُ عباءةٍ وتقرَّ عيني (4) *
__________
(1) هو النابغة الجعدي: كما في “الخزانة”: (3/ 161)، و”أمالى ابن الشجري”: (1/ 24)، وعجزه: “وإن كان لم يخضب”.
(2) هو: أبو تمام حبيب بن أوس الطائي، “ديوانه”: (1/ 96)، وعجزه:
* بينَ الخميسينِ لا في السبعةِ الشُّهُبِ *
(3) “نتائج الفكر”: (ص/ 317).
(4) من شواهد الكتاب: (ا/ 264)، ونسبه في “الخزانة”: (8/ 503) لميسون بنت بحدل الكلبية، وعجزه:
* أَحبّ إلىَّ من لُبسِ الشُّفوفِ *

(2/466)


وبابه، ولا يجوَّزون إضمار الخافض ولا الجازم، ولا إضمار نواصب الأسماء (1)، وعواملُ الأسماء عندكم أقوى من عوامل الأفعال؟.
قيل: نحن لا نجيز إضمار “أن” الناصبة إلا بإحدى شرائط، إما مع الواو العاطفة (ظ/82 أ) على مصدر، نحو.
* تَقَضِّى لُباناتٍ وَيَسْأمَ سَائِمُ (2) *
و: * للُبْس عباءَةٍ وتقرَّ عيني *
ألا ترى أنك لو جعلتَ مكان “اللبس” و”التَّقضِّي” اسماً غير مصدر، فقلتَ: يعجبني زيد ويذهبَ عمرو، لم يجز؛ وإنما جاز هذا مع المصدر؛ لأن الفعلَ المنصوبَ بـ “أن” مشتق من المصدر ودالٌّ عليه بلفظه، فكأنك عطفتَ مصدرًا على مصدر.
فإن قيل: (ق/ 107 ب) فكان ينبغي أن يُسْتَغنى بمجرد لفظ الفعل عن ذكر المصدر وإضمار “أن”، فيقال: ألبس عباءةً وتقرّ عيني، وأَقضِي لُباناتٍ ويسأمَ سائم؟.
قيل: هذا سؤالٌ حسن يستدعى جوابًا قويًّا، وقد أجيب عنه: بأن الأول لو جُعِل فعلاً مضارعًا لكاد مرفوعًا، فإذا عُطِف عليه الثاني شاركه في إعرابه وعامِلِه، ورافِعُ المضارع ضعيف لا يَقْوى على العمل في الفعلين، فإن العامل في المعطوف والمعطوف عليه واحد.
__________
(1) (ظ ود): “الأفعال”!.
(2) للأعشى، “ديوانه”: (ص/77)، وصدره:
* لقد كان في حولٍ ثواءٍ ثويتُه *

(2/467)


ولا يخفى فساد هذا الجواب، فإنه منتقض بالطَّم والرِّم مما يعطف فيه المضارع على مثله، كقولك: “زيد يذهب ويركب”، و: “إنما يذهب ويخرج زيد”، وأمثال ذلك.
فالجواب الصحيح أن يقال: المراد ما في المصدر من الدَّلالة على ثبوت نفسِ الحدث، وتعليق الحكم به دون تقييده بزمان دون زمان، فلو أتى بالفعل المقيد بالزمان لفات الغرض، ألا ترى أن قولها: “للُبْسُ عباءةٍ وتقرَّ عَيْني”، المراد به حصول نفس اللبس مع كونها (1) تقر عينُها كلَّ وقت شيئاً بعد شيء، فقرةُ العين مطلوبٌ تجدُّدها بحسب تجدد الأوقات، وليس هذا مرادًا في لبس العباءة، وكذا قولك: “أكْلُ الشعير وأكُفَّ وجهي عن الناس أحب إِليَّ منْ أَكل البر وأبذلَ وجهي لهم”، أفلا ترى أنه يُفضل (2) أكل الشعير على أكل البر، ويدوم له كَف وجهه عن الناس، كما أن تِلك فضَّلت لُبْس العباءة على لبس الشُّفوف وتدوم لها قُرة العَين. فعلمت أن المقصود ماهية المصدر وحقيقته لا تقييده بزمان دون زمان.
ولما كانت “أن” والفعل تقع موقع المصدر ويؤوَّلانِ به في الإخبار عنهما كما يخبر عن الاسم، نحو قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] -أي: صيامكم (3) – أُوِّلَ المصدر بـ “أن” والفعل في صِحَّة عَطْف الفعل عليه، وهذا من باب المقابلة والموازنة، وقد جاء عطفُ الفعل على الاسم إذا كان فيه معنى الفعل نحو: {صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: 19]، و {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ} [الحديد: 18]،
__________
(1) (ق): “بكونها”.
(2) (ق ود): “تفضيل نفس”.
(3) “أي: صيامكم “ليست في (ق).

(2/468)


ومنه: {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} [آل عمران: 45 – 46]} لأن الاسم المعطوف عليه لما كان حاملاً للضمير صارَ بمنزلة الفعل، ولو كان مصدرًا لم يجز عطف الفعل عليه إلا بإضمار “أن”؛ لأن المصادر لا تتحمل الضمائر.
فإن قيل: فلم جاز عطفُ الفعل على الاسم الحامل للضمير ولم يعطف الاسم على الفعل، فتقول: مررتُ برجلٍ يقعد وقائم، كما تقول: قائم ويقعد.
قيل: هذا سؤالٌ قوي، ولما رأى بعض النحاة أنه لا فرق بينهما أجاز ذلك وهو الزجاج، فإنه (ق/ 108 أ) أجازه في “معاني القرآن” (1)، والصحيحُ: أنه قبيح. والفرقُ بينهما أنك إذا عطفت الفعل على الاسم المشتق منه رَدَدت الفرع إلى الأصل؛ لأن الاسم أصل الفعل والفعل متفرِّع عنه، فجاز عطف الفعل عليه! لأنه ثان والثواني فروع على الأوائل. وإذا عطفتَ الاسمَ على الفعل كنت قد رددت الأصل فرعاً وجعلته ثانيًا، وهو أحق (ظ/ 82 ب) بأن يكون مقدَّمًا لأصالته.
وسرُّ المسألة؛ أن عَطْف الفعل على الاسم في محل قوله: {صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ}، و: “مررتُ برجل قائم ويقعد”؛ لأن الاسم مُعْتمد على ما قبله، وإذا كان اسم الفاعل معتمدًا عَمِل عَمَل الفعل وجرى مجراه، والاعتماد أن يكون نعتاً أو خبرًا أو حالاً، والذي بعد “الواو” ليس بمعتمد، فلو عكستَ المسألة وقلت: “يصففن وقابضات”، و”يقوم وقاعد”؛ قَبُح، لأن ما بعد “الواو” اسم محض وليس بمعتمد، فيجري مَجْرى الفعل (2).
__________
(1) (1/ 412).
(2) (ق): “وليس بمعتمد فجرى مجرى الفعل” وبقية الكلام ساقط.

(2/469)


فائدة (1)
لما كان الفعل اللازم هو الذي لزم فاعله ولم يجاوزه إلى غيره، جاء مصدره مُثْقَلاً بالحركات؛ إذ الثقل (2) من صفة ما لزم محله ولم ينتقل منه إلى غيره، والخِفَّة من صفة المنتقل من محله إلى غيره، فكان خِفة اللفظ في هذا الباب وثقله موازيًا للمعنى، فما لزم مكانه ومحله فهو الثقيل لفظًا ومعنى، وما جاوزه وتعداه فهو الخفيف: لفظًا ومعنى.
ومن هاهنا يرجح قول سيبويه (3) أن: “دخلت الدار” غير متعدٍّ؛ لأن مصدره دخول، فهو كالخروج والقعود وبابه، إلا أن الفعلَ منه لم يجيء على “فَعُل”؛ لأنه ليس بطبع في الفاعل ولا خصلة ثابتة فيه، فإن كان الفعل عبارة عما هو طبع وخصلة ثابتة ثقَّلوه بضم العين، كظَرُف وكَرُم، فهذا الباب ألزم للفاعل من باب “قَعَد ودَخَل”، فكان أثقلَ منه لفظًا، وباب “قَعَد وخَرَج” ألزم للفاعل من الفعل المتعدي، كـ “ضَرَب” فكان أثقل منه مصدراً، وإن اتفقا في لفظ الفعل.
ولزم مصدر “فَعُل” الذي هو طَبْع وخَصْلة وزن “الفَعَال”؛ كالجَمَال والكَمَال والبَهَاء والسَّناءْ والجَلال والعَلاء، هذا إذا كان المعنى عامًّا مشتملاً على خصال ولا يختص بخَصْلة واحدة، فإن اختصَّ المعنى بخَصْلة واحدة صار كالمحدود ولزمته هاء (4) التأنيث؛ لأنها تدل على نهاية ما دخلت عليه كالضّرْبة من الضرب، وحذفُها
__________
(1) “نتائج الفكر”: (ص/ 321).
(2) في الأصول: “المثقل”وهو تحريف، والتصحيح من محقق “النتائج”.
(3) في “الكتاب”: (1/ 15 – 16).
(4) في الأصول: “تاء”. والمثبت من “النتائج”.

(2/470)


في هذا الباب وفي أكثر الأبواب يدلُّ على انتفاء النهاية، ألا ترى أن الضربَ يقع على القليل والكثير إلى غير نهاية وكذلك التمر والبرُّ (ق / 108 ب)، وإنما استحقت الهاء ذلك؛ لأن مخرجها من منتهى الصوت وغايته فصلحت للغايات (1)، ولذلك قالوا: عَلَّامة ونَسَّابة، أي: غايةٌ في هذا الوصف، فإذا عرفت هذا، فالجَمال والكَمال كالجنس العام من حيث لم يكن فيه “الهاء” المخصوصة بالتحديد والنهاية، وقولك: “مَلُحَ ملاحة، وفَصُح فصاحة”، على وزنه إلا في التاء لأن الفصاحة خصلة من خصال الكمال، وكذلك الملاحة، فحُدِّدت بالتاء؛ لأنها ليست بجنس عام كالكَمال والجَمال، فصارت كباب “الضَّرْبة والتَّمْرة” من “الضَّرْب والتَّمْر” (2).
ألا ترى إلى قول خالد بن صفوان (3) وقد قالت له امرأته (4): “إنك لجميل”، فقال: أتقولين ذلك وليس عندي عمود الجمال ولا رِدَاؤه وبُرْنُسه، ولكن قولي: “إنك لمليح ظريف”، فجعل الملاحة خصلة من خصال الجمال، فبان صحة ما قلناه.
وعلى هذا قالوا: “الحلاوة والأصالة والرجاحة والرزانة والمهابة”، وفي ضد ذلك: “السَّفَاهة والوَضَاعة والحَمَاقة والرَّذَالة”؛ لأنها كلها خصال محدودة بالإضافة إلى السَّفال الذي هو في مقابلة العلاء
__________
(1) من قوله: “وكذلك التمر والبر … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(2) (ق): “والهمزة من … والهمز”.
(3) أحد خطاء العرب وفصحائها، عاش إلى خلافة السفَّاح وكان من جُلسائه، وكلامه مجموع في كتب، انظر: “الأعلام”: (2/ 297).
(4) الخبر في “البيان والتبيُّن”: (1/ 393) للجاحظ، وفي بعض نسخه: “امرأة” ولعله الأصوب، ففد ذكروا أنه كان عَزَبًا.

(2/471)


والكمال، لأنه جنس يجمع الأنواع التي تحته. وهذا هو الأصل في هذا الباب، فمتى شذَّ عنه منه شيء فلمانع وحكمة أخرى كقولهم: “شَرُف الرجل شَرَفًا”، ولم يقولوا: “شَرَافًا”، لأنَّ الشرف رفعة في آبائه وهو شيء خارج عنه، بخلاف كَمُل كَمَالاً، وجَمُل جمالاً، فإن جماله وكماله وصف قائم به، وهذا لأن “شَرُف” مستعار من شرف الأرض (ظ/83 أ) وهو ما ارتفع منها، فاستعير للرجل الرفيع في قومه، كأن آباءه الذين ذُكِر بهم وارتفع بسببهم شَرَفٌ له.
وكذلك قولهم في هذا الباب: “الحَسَب”؛ لأنه من باب “القَبَض والنَّقَض والقَنَص” لا من (1) باب المصادر؛ لأن الحَسَب ما يحسبه الإنسان ويعده لنفسه من الخصال الحميدة والأخلاق الشريفة، واستحق الاسم الشامل في هذا الباب اسم “الفَعَال” بفتح الفاء والعين وبعدهما ألف وهي فتح، ليكون اللفظ بتوالي الفتح (2) فيه موازيًا لانفتاح المعنى واتساعه، وكذلك اطرد في الجمع الكثير نحو: “مَفَاعِل وفعائل” وبابه، واطرد في باب “تفاعل”، نحو: “تقاتل وتخاصم وتمارض وتغافل (3) وتناوم”؛ لأنَّه إظهار للأمر ونشر له (4).
ومن هذا الباب: “حَلُم” فإنه مما يوافقه في وجهٍ ويخالفه في وجه؛ لأنه يدل على ثبات الصفة، فوافقَ “شَرُف وكَرُم” في الضم وخالفه في المصدر (ق/109 أ) لمخالفتهِ له في المعنى؛ لأنه صفة تقتضي كف النفس وجمعها عن الانتقام والمعاقبة ولا يقتضي انفتاحًا
__________
(1) (ق): “لأن”.
(2) العبارة محرفة فى (ظ ود).
(3) من قوله: “وفعائل … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(4) تحرفت في (ق ود).

(2/472)


ولا انتشارًا، فقالوا: “حَلُمَ”؛ لأنه من بناء الخصال والطبائع وقالوا: “حُلَماء”، لأن الصفة صفة جمع النفس وضمها وعدم إرسالها في الانتقام، فتأمله.
ومن هذا الباب: “كَبُر وصَغُر” موافق لما قبله في الفعل مخالف له في المصدر، لأن الكِبَر والصِّغَر عبارة عن اجتماع أجزاء الجسم في قلة أو كثرة، وليس من الصفات والأحداث المنتشرة؛ وهذا تنبيه لطيف على ما هو أضعاف ذلك (1).
فائدة (2)
فِعْل المطَاوَعَة هو: الواقع مسببًا عن (3) سبب اقتضاه، نحو: كسرته فانكسر، فزيدت النون في أوله قبل الحروف الأصلية ساكنة كيلا تتوالى الحركات، ثم وُصِل إليها بهمزة الوصل. وقد تقدم أن الزوائد في الأفعال والأسماء موازية للمعاني الزائدة على معنى الكلمة؛ فإن كان المعنى الزائد مُتَرتِّبًا قبل المعنى الأصلي، كانت الحروف الزائدة قبل الحروف الأصلية كالنون في “انفعل” وكحروف المضارعة في بابها، وإن كان المعنى الزائد في الكلمة آخرًا، كان الحرف الزائد على الحروف الأصلية (4) آخرًا، كعلامة التأنيث وعلامة التثنية والجمع.
ومن هذا الباب: “تَفَعْلَل وتَفَاعَل وتَفَعَّل”. أما “تفعلل” فلا
__________
(1) من قوله: “أو كثرة … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) “نتائج الفكر”: (ص/ 324).
(3) (ق): “في”.
(4) من قوله: “كالنون في انفعل … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(2/473)


يتعدَّى ألبتة؛ لأن “التاء” فيه بمثابة النون في “انفعل”، إلا أنهم خْصُّوا الرُّباعي بالتاء، وخصّوا الثلاثي بالنون فَرْقًا بينهما، ولم تكن، “التاء” هاهنا ساكنة كالنون، لسكون عين الفعل، فلم يلزم فيها من توالي الحركات ما لزم هناك.
وأما “تفاعَل” فقد توجد متعدِّية؛ لأنها لا يراد بها المطاوعة كما أريد بـ “تفعلل”، وإنما هو فِعْل دخلته “التاء” زيادة على فاعل المتعدية، فصار حُكمه -إن كان متعديًا إلى مفعولين قبل دخول “التاء”، أن يتعدَّى بعد دخول “التاء” إلى مفعول، نحو: “نازعتُ زيدًا الحديث”، ثم تقول: “ما (1) تنازعنا الحديث”، وإن كان متعديًا إلى مفعول لم يتعدَّ بعد دخول “التاء” إلى شيءٍ، نحو: “خاصمتُ زيدًا، وتخاصمنا”.
وهذا عكس دخول همزة التعدية على الفعل، فإنها تزيده واحدًا أبدًا وإن كان لازمًا صَيَّرته متعديًا إلى مفعول، وإن كان متعديًا: إلى واحد صيرته متعديًا إلى اثنين.
وأما “احمرَّ واحمارّ” ففعل مشتق من الاسم، كانتعل من النعل، وتمسكَن من الِمسْكين، وتَمدْرع وتَمَنْدل وتَمَنْطق.
وزعم الخطابيُّ (2) أن معنى “احمرَّ” مخالف لمعنى “احمارَّ” وبابه، وذهبَ إلى أن “افعل” يقال فيما لم يخالطه لون آخر، و”افعالّ” يقال لما خالطه لون آخر. وهو ثقة في نقله، والقياس (ق/109 ب) يقتضي ما ذَكَر؛ لأن الألف لم تُزَد في أضعاف حروف
__________
(1) من “النتائج”: وليست في (ذ)، وفي (ظ وق): “لا”.
(2) انظر “غريب الحديث”: (1/ 241 – 242) له.

(2/474)


الكلمة إلا لدخول معنى (1) زائد بين أضعاف معناها. والذي قاله (ظ/83 ب) غيره أحسن من هذا وهو أن “احمرَّ”، يقال لحا أحمرَّ وَهْلة نحو: “احمرَّ الثوبُ” ونحوه.
وأما “احمارَّ” فيقال لما يبدو فيه اللون شيئًا بعد شيء على التدريج، نحو: “احمارَّ البُسْر واصفارَّ”، ويدخل “افعلَّ” في هذا على “افعالَّ”، فيقال: “أحمرَّ البسر” إذا تكامل لون الحمرة فيه، و”احمارَّ” إذا ابتدا صاعدًا إلى كماله.
فائدة (2)
اختلفوا في المتعدي إلى مفعولين من باب “كسا” هل هو قياسي بالهمزة أم سماعي؛ والثاني قول سيبويه (3) وهو الصحيح، فإنك لا تقول: “آكلت زيدًا الخبز”، ولا، “آخذته الدراهم”، ولا “أطلقت زيدًا امرأته”، و”أعتقته عبدَه”، ولكن ينبغي التفطن لضابطٍ حَسَن، وهو أن تنظر إلى كلِّ فِعل حَصَل منه في الفاعل صفةٌ ما فهو الذي يجوز فيه النقل؛ لأنك إذا قلت: أفعلته، فإنما معناه: جعلتَه على هذه الصفة. وقلما ينكسر هذا الأصل في غير المتعدي إذا كان ثلاثيًا، نحو: قعد وأقعدتُه، وطال وأطلتُه.
وأما المتعدي فمنه ما يحصل للفاعِل منه صفة في نفسه (4) ولا يكون اعتماده في الثاني على المفعول فيجوز نقله، مثل: “طَعِم زيد
__________
(1) (ق): “إلا لمعنى”.
(2) “نتائج الفكر”: (ص/ 327).
(3) انظر “الكتاب”: (2/ 233).
(4) “في نفسه”سقطت من (ق).

(2/475)


الخبز وأطعمته”، وكذلك: “جَرِع الماءَ وأجرعته”، وكذلك: بلع وشم وسمع (1)؛ وذلك لأنها كلها يحصل للفاعل منها صفة في نفسه عير خارجة عنه، ولذلك جاءت أو أكثرها على فَعِل -بكسر العين- مشابهة لباب: فَزِع وجَذِر وحَزِن ومَرِض، إلى غير ذلك مما له أثر في باطن الفاعل وغموض معنى [فيه] (2)، ولذلك كانت حركة العين كسرًا، لأن الكسرة خفض للصوت أخفاء له، فَشَاكَل اللفظ المعنى، ومن هذا: “لبس الثوب وألبسته إياه”؛ لأن الفعل -كان كان متعديًا- فحاصل معناه في نفس الفاعل، كأنه لم يفعل بالثوب شيئًا، وإنما فعل بلابسه، ولذلك جاء على فعل مقابلة “عَرِي”، وقالوا: كَسَوْته الثوب، ولم يقولوا: أكسيته إياه، وإن كان اللازم منه: كسِي، ومنه:
* واقعُدْ فإنك أنتَ الطَّاعِمُ الكاسي (3) *
فهذا من “كسِي يكسى” لا من “كسا يكسو”، وسرُّ ذلك: أن الكُسْوة سَتْر للعورة، فجاءً على وزن: “سَتَرته وحَجَبته”، فعدَّوْه بتغيير الحركة لا بزيادة الهمزة.
وأما “أَكَل وأَخَذ وضَرَب” فلا تُنْقَل؛ لأن الفعل واقع بالمفعول، ظاهر أثره فيه غير حاصل في الفاعل منه صفة، فلا تقول: “أضربت زيدًا عَمرًا”، (ق/110 أ) ولا: “أقتلتُه خالدًا”؛ لأنك لم تجعله على صفة في نفسك كما تقدم.
__________
(1) في (د)، زيادة: “وفاق”.
(2) من “النتائج”.
(3) عجز بيت للحُطيئة، “ديوانه”: (ص/ 117)، وصدره:
* دع المكارمَ لا ترحَل لبُغْيَتِها *

(2/476)


وأما “أعطيته” فمنقول من “عطا يعطو” إذا أشار للتناول، وليس معناه الأخذ والتناول؛ ألا تراهم يقولون: “عَاطٍ بغيرِ أنواط” (1)، أي: يشير إلى التناول من غير شيء، فنفوا أن يكون وقع هذا الفعل بشيء، فلذلك نُقل كما نُقِل المتعدي لقربه منه، فقالوا: أعطيته، أي: جعلته عاطيًا.
وأما “أنلت” فمنقول من “نال” المتعدية، وهي بمنزلة “عطا يعطو” لا تنبئ إلا عن وصول إلى المفعول دون تأثير فيه ولا وقوع ظاهر به.
ألا ترى إلى قوله سبحانه: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا} [الحج: 37] ولو كان فعلاً مؤثرًا في مفعوله لم يجز هذا، إنما هو منبئٌ عن الوصول فقط. وأما “آتيتُ المالَ زيدًا”؛ فمنقول من “أتى”؛ لأنها غير مؤثِّرة فى المفعول، وقد حصل منها في الفاعل صفة.
فإن قيل: يلزمك أن تجيز: “آتيت زيدًا عَمرًا أو المدينة”، أي؛ جعلته يأتيهما؟.
قلت: بينهما فرق (2) وهو أن إتيان المال كَسْب وتمليك، فلما اقترن به هذا المعنى صار كقولك: “أكسبته مالاً” أو “ملكته (3) إياه”، وليس كذلك: (ظ/ 84 أ) “آتى زيدٌ عَمرًا”.
وأما “شَرِبَ زيدٌ الماء”، فلم يقولوا فيه: “أشربته الماء”؛ لأنه بمثابة الأكل والأخذ، ومعظم أثره في المفعول، وإن كان قد جاء
__________
(1) مثل، يُضَرب لمن يدعي الشيءَ وهو لا يملكه، انظر: “مجمع الأمثال”: (2/ 354).
(2) (ظ ود): “فرقان”.
(3) في الأصول: “ملكته” والمثبت من “النتائج”.

(2/477)


على “فَعِل” كبَلِع، ولكنه ليس مثله، إلا أن تريد: أن الماء خالط أجزاءَ الشارب له وحصل من الشرب صفة في الشارب، فيجوز حينئذ، نحو قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 93] [البقرة: 93] وعلى هذا يقال: “أشربت الدهنَ الخبزَ”؛ لأن شرب الخبز الدهن ليس كشرب زيد الماء، فتأمله.
وأما “ذَكَرَ زيدٌ عمرًا” فإن كان من ذِكْر اللسان لم ينقل، لأنه بمنزلة: شَتَم ولَطَم، وإن كان من ذِكر القلب نُقِل، فقلت: “أذكرته الحديث”، بمنزلة: أفهمته وأعلمته، أي: جعلتُه على هذه الصفة.
فائدة (1)
“اخترت” أصلُه أن يتعدَّى بحرف الجر وهو “مِنْ”، لأنه يتضمن إحْراجَ شيءٍ من شيء. وجاء محذوفًا في قوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155]، لتضمن الفعل معنى فعل غير متعد، كأنه نَخل قومَه وميَّزَهم وسَبَرَهم، ونحو ذلك، فمن هاهنا -والله أعلم- أسْقِط حرفُ الجر كما سقط من “أمرتك الخير”، أي: ألزمتك وكلفتك؛ لأن الأمر إلزام وتكليف، ومنه: “تمرون الديار”، أي: تقطعونها وتجاوزونها، ومنه: “رحُبَتْك الدار”، أي: وَسِعَتْك.
فائدة (2)
الاختيار تقديم المجرور في باب “اخترت” (3)، وتأخير المفعول المجرد عن حرف الجر، فتقول: “اخترت مِن الرجالِ زيدًا”، ويجوز
__________
(1) نتائج الفكر”: (ص/330).
(2) المصدر نفسه.
(3) إذا لم يسقط حرف الجر.

(2/478)


فيه التأخير، فإذا أسقطت الحرف لم يحسن تأخير ما كان مجرورًا به في الأصل، فيقبح أن تقول: “اخترتُ (ق/ 110 ب) زيدًا الرجال”، و”اخترتُ عشرةَ الرجال”، أي: من الرجال، لما يوهِم من كون المجرور في موضع النعتِ للعشرة، وأنه ليس في موضع المفعول الثاني، -وأيضًا- فإن “الرجال” معرفة فهو أحق بالتقديم للاهتمام به، كلما لزم في تقديم المجرور الذي هو خبر عن النكرة من قولك: “في الدار رجل”، لكون المجرور معرفة، وكأنه المخْبَر عنه، فإذا حذفتَ حرفَ الجر لم يكن بُد من التقديم للاسم الذي كان مجرورًا، نحو: اخترتُ الرجالَ عشرة.
والحكمة في ذلك أن المعنى الذي من أجله حُذفَ حرفُ الجر هو معنى غير لفظ، فلم يقو على حذف حرف الجر (1) إلا مع اتصاله به وقربه منه.
ووجه ثانٍ: وهو أن القليل الذي اختير من الكثير إذا كان مما يتبعَّض ثم ولي الفعل الذي هو “اخترت” توهم أنه مختار منه أيضًا؛ لأن كل ما يتبعَّض يجوز فيه أن يختار منه وأن يختار (2)، فألزموه التأخير وقدَّموا الاسمَ المختار منه، وكان أولى بذلك لما سبق من القول؛ فإن كان مما لا يتبعَّض نحو: زيد وعَمرو، فربما جاز على قِلَّة من الكلام، نحو قوله:
* ومنَّا الذي اخْتِيْرَ الرِّجالَ سَماحَةً (3) *
__________
(1) من قوله: “هو معنى … ” ساقط من (ظ ود).
(2) في الأصول “يختاره” والمثبت من “النتائج”.
(3) للفرزدق، “ديوانه” (2/ 516)، وعجزه:
* وخيرًا إذا هبَّ الرياح الزعازع *

(2/479)


وليس هذا كقولك: “اخترتُ فرسًا الخيلَ”؛ لأن الفرس اسم جنس فقد يتبعَّض مثله ويُخْتار منه، و”زيدٌ” من حيث كان جسمًا يتبعَّض، ومن حيث كان عَلَمًا على شيءٍ بعينه لا يتبعَّض، فتأمل هذا الموضع.

فائدة بديعة (1)
قولهم: “استغفر زيدٌ ربَّه ذنْبَه” فيه ثلاثة أوجه. أحدها: هذا. والثاني: “استغفره من ذنبه”. والثالث: “استغفره لذنبه”، وهذا موضع يحتاج إلى تدقيق نظر، وأنه هل الأصل حرف الجر وسقوطه داخل عليه، أو الأصل سقوطه وتعديه بنفسه وتعديته بالحرف مضمن؛ هذا مما ينبغي تحقيقه؛ فقال السهيلي: “الأصل فيه سقوط حرف الجر، وأن يكون “الذنب” نفسه مفعولاً بـ “استغفر” غير مُتعدٍّ بحرف الجر؛ لأنه من غفرتَ الشيءَ إذا غطيتَه وسترتَه، مع أن الاسم الأول هو فاعل بالحقيقة وهو الغافر”.
ثم أورد على (ظ/84 ب) نفسه سؤالاً فقال: “فإن قيل: فإن كان سقوط [حرف] (2) الجر هو الأصل فيلزمكم أن تكون “مِن” زائدة كما قال الكسائي. وقد قال سيبويه (3) والزجاجي (4): إن الأصل حرف الجر يم حُذِف فنُصِبَ الفعل”.
وأجاب: “بأن سقوط حرف الجر أصل في الفعل المشتق منه
__________
(1) “نتائج الفكر”: (ص/ 332).
(2) من (د).
(3) انظر: “الكتاب”: (1/ 17).
(4) في “الجمل”: (ص/ 40).

(2/480)


نحو: “غفر”. وأما “استغفر” ففي ضمن الكلام ما لا بد [له] من (1) حرف الجر، لأنك لا تطلب غَفْرًا مجردًا من معنى التوبة والخروج من الذنب، (ق/ 111 أ) وإنما تريد بالاستغفار خروجًا من الذنب وتطهيرًا منه، فلزمت “من” في هذا الكلام لهذا المعنى، فهي متعلقة بالمعنى لا بنفس اللفظ، فإن حذفتها تعدى الفعلُ فنصبَ، وكان بمنزلة: “أمرتك الخيرَ”.
فإن قيل: فما قولكم في نحو قوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ} [نوح: 4]، و [{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ}] (2) [الأحقاف: 31]؟.
قلنا: هي متعلقة بمعنى الإنقاذ والإخراج من الذنوب، فدخلت “من” لتُؤذِن بهذا المعنى، ولكن لا يكون ذلك في القرآن إلا حيثُ يُذْكَر الفاعلُ (3) الذي هو المذنب، نحو قوله: {لَكُم}؛ لأنه المُنْقَذ المُخْرَج من الذنوب بالإيمان، ولو قلت: “يغفر من ذنوبكم” دون أن تذكر الاسم المجرور لم يَحْسُن إلا على معنى التبعيض؛ لأن الفعل الذي كان في ضمن (4) الكلام وهو الإنقاذ، قد ذَهَب بِذَهاب الاسم الذي هو واقع عليه.
فإن قلت: فقد قال {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [البقرة: 147] وفي سورة الصف: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الصف: 12] فما
__________
(1) (ق): “ما لابد منه حرف”، و (ظ ود): “ما لابد منه من … ” والمثبت من “النتائج”.
(2) ما بين المعكوفين من “النتائج”، ومكانه في النسخ: “يغفر لكم خطاياكم” ولا دلالة فيها.
(3) في الأصول: “الفاعل والمفعول”! والمثبت من “النتائج”.
(4) (ق): “ضمير”.

(2/481)


الحكمة في سقوطها هنا؟ وما الفرق؟.
قلت: هذا إخبارٌ عن المؤمنين الدين قد سَبق لهم الإنقاذ من ذنوب الكفر بإيمانهم (1) ثم وُعِدُوا على الجهاد بغفران ما اكتسبوا في الإسلام من الذنوب، وهي غير محيطة بهم كإحاطة (2) الكفر المهلك للكافر، فلم يتضمَّن الغفران معنى الاستنقاذ؛ إذ ليس ثَمَّ إحاطةٌ من الذنب بالمذنب، وإنما يتضمَّن معنى الإذهاب والإبطال للذنوب؛ لأن الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات، بخلاف الآيتين المتقدمتين فإنهما خطابٌ للمشركين وأمرٌ لهم بما ينقذهم ويخلصهم مما أحاط بهم من الذنوب، وهو الكفر، ففي ضمن ذلك الإعلام والإشارة بأنهم واقعون في مَهْلَكة قد أحاطت بهم، وأنه لا ينقذهم منها إلا المغفرة المتضمنة للإنقاذ الذي هو أخص من الإبطال والإذهاب، وأما المؤمنون فقد أنقدوا.
وأما قوله تعالى: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة: 271] فهي في موضع “من” التي للتبعيض؛ لأن الآية في سياق ثواب الصدقة، فإنه قال: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة: 271] والصدقة لا تُذْهِب جميع الذنوب.
ومن هذا النحو قوله – صلى الله عليه وسلم -: “فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يمينِهِ وَلْيأْتِ الذي هُوَ خَيْر” (3) فأدخل “عن” في الكلام إيْذانًا بمعنى الخروج عن اليمين،
__________
(1) سقطت من (ق).
(2) في الأصول: محبطة كإحباط، والمثبت من “النتائج”.
(3) أخرجه مسلم برقم (1650) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

(2/482)


لما ذكر الفاعل وهو الخارج، فكأنه قال: فليخرج بالكفارة عن يمينه، ولما لم يذكر الفاعل المكفر في قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] لم يذكر “عن” وأضافَ “الكفارةَ” إلى “الأيمان” إضافةَ المصدر إلى المفعول، وإن كانت “الأيمان” لا تكفر وإنما يكفر الحنث والإثم، ولكن الكفارة (ق / 111 ب) حَلٌّ لعقد اليمين، فمن هنالك أُضيفت إلى اليمين كما يضاف الحل إلى العقد؛ إذ اليمين عقد والكفارة حل له، والله أعلم.
فائدة (1)
قولك: “ألبست زيدًا الثوب”، ليس الثوب منتصبًا بـ “ألبست”، كما هو السابق إلى الأوهام، لما تقدَّم من أنك لا تنقل الفعل عن (ظ/85 أ) الفاعل ويصير الفاعل مفعولاً، حتى يكون الفعل حاصلاً في الفاعل (2)، ولكن المفعول الثانى منتصب بما تضمنه “ألبست” من معنى لبس، فهو منتصب بما كان منتصبًا به قبل دخول الهمزة والنقل، وذلك أنهم اعتقدوا طرحَها حين كانت زائدة، كما فعلوا في تصغير “حُمَيد وزُهَير” (3). ومنه قولهم: “أحببت حبًّا”، فجاؤوا بـ “حبيب” على اعتقاد طرح الهمزة وهي لُغَيَّة. ومنه “أورسَ النبتُ فهو وارسٌ” (4) على تقدير “وَرَسْته”. ومنه: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)} [نوح: 17]} فجاء المصدر على “نبَت”.
ومما يوضح هذا أنهم أعلوا الفعل فقالوا: “أطال الصلاة وأقامها”،
__________
(1) “نتائج الفكر”: (ص / 334).
(2) من قوله: “ويصير الفاعل … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(3) تصغير: “أحمد وأزهر”.
(4) تحرّفت العبارة في الأصول، والتصويب من “النتائج”.

(2/483)


مراعاةً لإعلاله قبل دخول الهمزة، ولهذا حيث نقلوه في التعجب فاعتقدوا إثبات الهمزة لم يُعَدُّوه إلى مفعول ثان، بل قالوا: “ما أضرب زيدًا لعمرو”، باللام؛ لأن التعجب تعظيم لصفة المتعجب [منه] (1)، وإذا كان الفعل صفة في الفاعل لم يُنْقل (2)، ومن ثَمَّ صحَّحوه في التعجب، فقالوا: “ما أقومه وأطوله”! حيث لم يعتقدوا سقوط “الهمزة”، كما صححوا الفعل من “استحوذ”، و”اسْتَنْوَق الجمل” حيث كانت الهمزة والزوائد لازمة غير عارضة، والله أعلم.
فائدة (3)
حذف “الياء” من “أمرتك الخير”، ونحوه إنما يكون بشرطين:
أحدهما: اتصال الفحل بالمجرور، فإن تباعد منه لم يكن بُد من “الياء”، نحو: “أمرت الرجل يوم الجمعة بالخير” (4)؛ لأن المغنى الذي من أجله حُذِفت “الباء” معنًى وليس بلفظ وهو تضمُّنها معني “كلفتك”، فلم يقوَ على الحذف إلا مع القرب من الاسم، كما كان ذلك في “اخترت”. ألا ترى إلى قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 75] كيف أعاد حرف الجر في البدل لما طال بالصِّلة، وكذلك: {يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا (ظ/ 85 ب) تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا} [البقرة: 61] على أحد القولين، أي: يُخرج لنا من بقل الأرض وقثائها. وقوله: {مِمَّا تُنْبِتُ} توطئة وتمهيد. والقول الثاني: أنها متعلقة بقوله: {تُنْبِت} أي مما تنبت
__________
(1) من “النتائج” و”المنيرية”.
(2) “النتائج”: “لم يتعد”.
(3) “نتائج الفكر”: (ص/ 336).
(4) في الأصول: “الخير”.

(2/484)


من هذا الجنس، فـ “مِن” الأولى لابتداء الغاية، والثاني لبيان الجنس، وهذا الثاني أظهر، فإذا أُعيدَ حرف الجر مع البدل لطول الاسم الأول فإثبات الحرف من نحو: “أمرتك الخير” إذا طال الاسم أجدر.
الشرط الثاني: أن (ق/112 أ) يكون المأمور به حَدثًا. فإن قلت: “أمرتك بزيد” لم يحذف، لأن الأمر في الحقيقة ليس به وإنما هو على غيره، كأنك قلتَ: “أمرتك بضربه أو إكرامه”. وأما: “نهيتك عن الشر”، فلا يحذف الحرف منه؛ لأنه ليس في الكلام ما يتضمَّن الفعل الناصب؛ لأن النهي عنه كَفٌّ وزَجْر وإبعاد، وهذه المعاني التي يتضمنها نَهْي تَطْلب من الحرف ما يطلبه نَهَى، بخلاف أَمَر؛ لأن “كَلَّف وأَلْزَم” (1) تطلب “الباء”.

فائدة بديعة (2)
قولهم: “عرفتُ “، كذا أصل وضعها لتمييز الشيء وتعيينه، حتى يظهر للذهن منفرداً عن (3) غيره، وهذه المادة تقتضي العلو والظهور، كعُرْف الشيء لأعلاه، ومنه الأعراف، ومنه (4) عرف الديك.
وأما “علمتُ” فموضوعة للمركبات لا لتمييز المعاني المفردة، ومعنى التركيب فيها: إضافة الصفة إلى المحل، وذلك أنك تعرف زيدًا على حِدَته، وتعرف معنى القيام على حِدَته، ثم تضيف القيام إلى زيد، فإضافة القيام إلى زيد هو التركيب، وهو متعلَّق العلم.
__________
(1) (ق): “وأكرم”.
(2) “نتائج الفكر”: (ص/ 338).
(3) (ق): “مستفرد منه”.
(4) “الأعراف ومنه” سقطت من (ظ ود).

(2/485)


فإذا قلت: “علمتُ” فمطلوبها ثلاثة معان محلُّ، وصفةٌ، وإضافةُ الصحفة إلى المحل؛ وهي ثلاث معلومات متميزة (1)، إذا عرفت هذا؛ فقال بعض المتكلمين: لا يضاف إلى الله -سبحانه- إلا العلم لا المعرفة؛ لأن علمه متعلِّق بالأشياء كلها مركبها ومفردها تعلُّقًا واحدًا، بخلاف علم المُحْدَثين فإن معرفتهم بالشيء المفرد وعلمهم به غير علمهم ومعرفتهم بشيء آخر.
وهذا بناء منه على أن الله تعالى يعلم المعلومات كلها بعلمٍ واحد، وأن علمه بصدق رسوله – صلى الله عليه وسلم – هو عين علمه بكذبِ مسيلمة، والذي عليه محققو النظار خلاف هذا القول، وأن العلومَ متكثَّرة متغايرة بتكثُّر المعلومات وتغايرها، فلكلِّ معلومٍ علمٌ يخصه، ولإبطال قول أولئك وذِكْر الأدلة الراجحة (2) على صحة قول هؤلاء مكان هو أليق به، وعلى هذا فالفرق بين إضافة العلم إليه -سبحانه وتعالى- وعدم إضافة المعرفة لا ترجع إلي الإفراد والتركيب في متَعلَّق العلم، وإنما ترجع إلى نفس المعرفة ومعناها، فإنها في مجاري استعمالها إنما تُسْتَعمل فيما سبق تصوره خفاءٌ من نسيان أو ذهول أو عزوب عن القلب، فإذا تصوره وحَصَل في الذهن قيل: عرفه (3). أو وصف له صمته ولم يره، فإذا رآه بتلك الصفة وتعينت فيه قيل: عرفه، ألا ترى أنك إذا غاب عنك وجه الرجل ثم رأيته بعد زمان فتبينتَ أنه هو، قلتَ: عرفته، وكذلك (4). عرفتُ (ق/ 112 ب) اللفظةَ، وعرفتُ الديار، وعرفتُ المنزل، وعرفتُ الطريق.
__________
(1) من (ق)، وفي “النتائج”: “متلازمة”.
(2) (ق): “الدالة”.
(3) هذه الجملة في (ق) بعد سطر، ومكانها هنا أنسب.
(4) (ق): “قل: عرفه، وقيل: … “.

(2/486)


وسر المسألة: أن المعرفة لتمييز ما اختلط فيه المعروف بغيره فاشتبه، فالمعرفة تمييز له وتعيين، ومن هذا قوله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] فإنهم كان عندهم من صفته قبل أن يروه ما طابق شخصه عند رؤيته، وجاء: “كما يعرفون أبناءهم” من باب ازدواج الكلام وتشبيه أحد اليقينين بالآخر، فتأمله، وقد بسطنا هذا في “كتاب التحفة المكية”، وذُكِر فيها من الأسرار (ظ/86 أ) والفوائد ما لا يكاد يشتمل عليه مصنَّف.
وأما ما زعموا من قولهم: إن “علمت” قد يكون بمعنى “عرفتُ” واستشهادهم بنحو قوله تعالى: {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101] وبقوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] فالذي دعاهم إلى ذلك: أنهم رأوا “علمت” قد تعدت إلى مفعول واحد، وهذا (1) هو حقيقة العرفان (2) = فاستشهاد ظاهر، على أنه قد قال بعض الناس (3): إن تعدِّي فعل العلم في هذه الآيات وأمثالها إلى مفعول واحدٍ، لا يخرجها عن كونها علمًا على الحقيقة، فإنه لا تتعدى إلى مفعول واحد على نحو تعدِّي “عرفت”، ولكن على (4) جهة الحذف والاختصار، فقوله: {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} لا تنفي عنه معرفة أعيانهم وأسمائهم، وإنما تنفي عنه العلم بعدوانهم ونفاقهم، وما تقدَّم من الكلام يدلك على ذلك. وكذلك قوله: {وَآخَرِينَ مِنْ
__________
(1) (ق): “ومن هذا”.
(2) (ق): “الفرقان”.
(3) هو السُّهَيلي في “نتائج الفكر”: (ص/ 339) وسيأتي في النص “قال”، والمقصود هو السهيلي.
(4) من قوله: “أنه قد قال … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(2/487)


دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] فربما كانوا يعرفونهم ولا يعلمون أنهم أعداء لهم، فيتعلَّق العِلم بالصفة المضافة إلى الموصوف، لا بعينه وذاته. قال: هذا، وإنما مثل من يقول: إنّ “علمت” بمعنى “عرفت” من أجل أنها متعدية إلى مفعول واحد في اللفظ، كَمَثَل من يقول: إن “سألت” يتعدى إلى غير العقلاء بقولهم: “سألتُ الحائط وسألتُ الدر”، ويحتج بقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] قال: وإنما هذا جهل بالمجاز والحذف، وكذلك ما تقدم.
وليس ما قاله هؤلاء بقوي، فإن الله -سبحانه- نفى عن رسوله معرفة أعيان أولئك المنافقين، هذا صريحُ اللفظ، وإنما جاء نفي معرفة نفاقهم من جهة اللزوم، فهو – صلى الله عليه وسلم – كان يعلم وجود النفاق في أشخاص معينين، وهو موجود في غيرهم ولا يعرف أعيانهم، وليس المراد أن أشخاصهم كانت معلومة له معروفة عنده وقد انطووا على النفاق وهو لا يعلم ذلك فيهم، فإن اللفظ لم يدل على ذلك بوجه.
والظاهر بل المتعين أنه – صلى الله عليه وسلم – لو عرف أشخاصَهم لعرفهم بسيماهم وفي لَحْن القول، (ق/113 أ)، ولم يكن يخفى عليه نفاق من يظهر له الإسلام ويبطن عداوتَه وعداوةَ الله عز وجل، والذي يزيد هذا وضوحًا الآية الأخرى، فإن قوله تعالى: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ} [الأنفال: 60] فيهم قولان:
أحدهما: أنهم الجن المظاهرون لأعدائهم من الإنس على محاربة الله ورسوله، وعلى هذا: فالآية نص في أن العلم فيها بمعنى المعرفة، ولا يمكن أن يقال (1): إنهم كانوا عارفين بأشخاص أولئك
__________
(1) “أن يقال” سقطت من (ظ ود).

(2/488)


جاهلين عداوتهم كما أمكن مثله في الإنس.
والقول الثاني: أنهم المنافقون، وعلى هذا فقوله: {لَا تَعْلَمُونَهُمُ} إنما ينبغي حمله على معرفة أشخاصِهم لا على معرفة نفاقِهم؛ لأنهم كانوا عالمين بنفاق كثير من المنافقين، يعلمون نفاقَهم ولا يشكون فيه، فلا يجوز أن ينفي عنهم علم ما هم عالمون به، وإنما ينفي عنهم معرفة أشخاص من هذا الضرب، فيكون كقوله تعالى: {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101] فتأمله (1).
ويزيده وضوحًا؛ أن هذه الأفعال لا يجوز فيها الاقتصار على أحد المفعولين، بخلاف باب “أعطى” و”كسا”؛ للعلة المذكورة هناك، وهي تعلُّق هذه الأفعال بالنسبة، فلابد من ذكر النسبتين، بخلاف باب “أعطى” فإنه لم يتعلق بنسبة، فيصح الاقتصار فيه على أحد مفعوليه، وهذا واضح كما تراه، والله أعلم.
وأما تنظيرهم بـ “سألت الحائطَ والدار” فيا بعدما بينهما! فإن هذا سؤال بلسان الحال وهو (2) كثير في كلامهم جدًّا، على أنه لا يمتنع أن يكون سؤالاً بلسان المقال صريحًا، كما يقول الرجل للدار الخَرِبَة: “ليتَ شِعْري ما فعل أهلك”؛ و”ليت شعري ما صَيَّرك إلى هذه الحال”؛ وليس هذا (ظ/86 ب) سؤال استعلام، بل سؤال تعجُّب وتفجُّع وتحزُّن.
وأما قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] فالقرية إن كانت هنا اسمًا للسكان كما هو المراد بها في أكثر القرآن والكلام، فلا مجازَ
__________
(1) (ق): “فتدبره”.
(2) سقطت كلمتان من (ظ ود).

(2/489)


ولا حذفَ، وإن كان المراد بها المسكن؛ فعلى حَذْف المضاف، فأين التسوية والتنظير؟!.

تنبيه (1): قولهم: “علمت” و”ظننتُ” يتعدَّى إلى مفعولين، ليس هنا مفعولان في الحقيقة، وإنما هو المبتدأ والخبر، وهو حديث: إما معلوم وإما مظنون، فكان حق الاسم الأول أن يرتفعَ بالابتداء. والثاني بالخبر، ويُلْغى الفعلُ، لأنه لا تأثير له في الاسم، إنما التأثير لـ “عرفت” الواقعة على الاسم المفرد تعيينًا وتمييزاً، ولكنهم أرادوا تشبُّث “علمت” بالجملة التي هي الحديث، كيلا يتوهَّم الانقطاع بين المبتدأ وبين ما قبله؛ لأن الابتداء عامل في الاسم وقاطع له مما قبله، وهم إنما يريدون إعلام المخاطب بأن هذا الحديثَ معلوم، فكان إعمال “علمت” فيه (ق/113 ب) ونصبُه. له إظهارًا لتشبُّثِها، ولم يكن عملها في أحدِ الاسمين أولى من الآخر، فعملت فيهما معاً (2).
وكذلك “ظننت”، لأنه لا يتحدث بحديث حتى يكون عند المتكلم إما مظنونًا وإما معلومًا، فإن كان مشكوكًا فيه أو مجهولاً عنده، لم يسعه الحدث به (3)، فمن ثَمَّ لم يُعْمِلوا “شككت” ولا “جَهِلت” فيما عملت فيه “ظننت”؛ لأن الشكَّ تردد بين أمرين من غير اعتماد على أحدهما، بخلاف الظن فإنك معتمدٌ على أحد الأمرين، وأما العلم؛ فأنت فيه قاطع بأحدهما، ومن ثَمَّ تعدى الشك بحرف “في” لأنه مستعار من “شككتُ الحائطَ بالمسمار”، وشكُّ الحائط إيلاجٌ فيه من غير ميل إلى أحد الجانبين، كما أن الشكَّ في الحديث تردد فيه في
__________
(1) “نتائج الفكر”: (ص/ 9 33)، وفي (د): “تتمة”.
(2) (ظ ود): “جميعًا”.
(3) “النتائج”: “لم يَسُغ له الحديث”.

(2/490)


غير ترجيح لأحد الجانبين.
ونظير إعمالهم “علمت” وأخواتها في المبتدإ والخبر اللذين هما بمعنى الحديث، إعمالهم “كان” وأخواتها في الجملة، وإنما “كان” أصلها أن ترفع فاعلاً واحدًا، نحو: “كان الأمر”، أي: حدثَ، فلما خلعوا منها معنى الحَدَث ولم يبق فيها إلا معنى الزمان، ثم أرادوا أن يخبروا بها عن الحديث الذي هو “زيد قائم”، أي: زمان هذا الحديث ماضٍ أو مستقبل، أعملوها في الجملة ليظهر تشبُّثها بها، ولئلا يتوهم انقطاعها عنها؛ لأن الجملة قائمة بنفسها، و”كان” كلمة يُوْقَف عليها أو تكون خبرًا عما قبلها، فكان عملها في الجملة دليلًا على تشبُّثِها بها، وأنها خبر عن هذا الحديث، ولم تكن لتنصب الاسمين؛ لأن أصلها أن ترفع ما بعدها، ولم تكن لترفعهما معًا فلا يظهر عملها، فلذلك رفعَتْ أحدهما ونصبْتَ الآخر.
نعم، ومنهم من يقول: “كان زيد قائم”، فيجعل الحديث هو الفاعل بـ “كان” فيكون معمولها معنويًّا لا لفظيًّا، كأنك قلتَ: “كان هذا الحديث”، و [إن] أضمرت الشأنَ والحديث، ودلَّت عليه فى قرينةُ الحال فالمسألة على حالها؛ لأن الجملة حينئذٍ بدل من ذلك المضمر؛ لأنها في معنى الحديث، وذلك الحديث هو الأمر المضمر؛ فهذا بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة.
ونظير هذا المعمول المعنوي الذي هو الحديث، معمول “علمتُ وظننتُ” إذا أُلْغِيَت، نحو: “زيد ظننت قائم”، كأنك قلت: “ظننت هذا الحديث”، فلم تُعْمِلها لفظًا إنما أعملتها معنًى.
ومن هذا الباب إعمالهم “إنَّ” وأخواتها، وإنما دخلت لمعانٍ في

(2/491)


الجملة والحديث، ألا ترى أنها كلماتٌ يصحُّ (1) الوقف عليهنّ؛ لأن حروفهنّ ثلاثة فصاعدًا، كما قال (2):
* …………. فقلت: إنه *
وقال آخر (3):
* ليتَ شِعْري وأينَ مِنِّيَ لَيْتُ *
وقال حَبِيب (4):
* عَسى وطنٌ يَدْنو بِهم ولَعَلَّما *
وإذا (ظ/ 87 أ) كان (ق/14 أ)، هذا حكمها فلو رُفع ما بعدها بالابتداء على الأصل، لم يظهر تشبُّثها بالحديث الذي دخلت لمعنًى فيه، فكان إعمالها في الاسم المبتدإ إظهارًا لتشبُّثها بالجملة كيلا يُتَوهَّم انقطاعها عنها، وكان عملها نصبًا، لأن المعاني التي تضمنتها لو لفظَ بها لنصبت، نحو “أؤكد” و”أترجَّى” و”أتمنَّى”، وليست هذه المعاني مضافةً إلى الاسم المخبر عنه؛ ولكن الحديثَ هو المؤكَّد والمُتَمَنَّى والمُتَرَجَّى، فكان عملها نصبًا بها، وبقي الاسم الآخر
__________
(1) (ظ ود): “أنها كلمة إن يصح … “!.
(2) من شواهد “الكتاب”: (1/ 474 – 475) والبيت:
ويقلنَ: شَيْبٌ قد علا … كَ وقد كبرتَ. فقلتُ: إنَّه
(3) البيت لأبي زبيد الطائي، “ديوانه”: (ص/ 24)، وهو من شواهد “الكتاب”: (2/ 32)، وانظر: “الخزانة”: (7/ 319)، وعجزه:
* إن ليتًا وإن لوًّا عناءُ *
(4) حبيب بن أوس الطائي، “ديوانه”: (2/ 121)، وعجزه:
* وإن تعبت الأيام فيهم فربَّما *

(2/492)


مرفوعًا (1) لم يعمل فيه، حيث لم تكن أفعالاً، كـ “علمت وظننت” فتعمل (2) في الجملة كلها.
وأيضًا أرادوا إظهار تشبُّثها بالجملة فاكتفوا بتأثيرها في الاسم الأول، يدلك على أنها لم تعمل في الاسم الثاني أنه لا يليها؛ لأنه لا يلي العامل ما عمل فيه غيره، فلو عملت فيه لوليها، كما يلي “كان” خبرها، ويلي الفعل مفعوله.
نعم، ومن العرب من أعملها قي الاسمين جميعًا، وهو قَوِيٌّ في القياس؛ لأنها دخلت لمعان في الجملة فليس أحدُ الاسمين أولى بأن تعمل فيه من الآخر، قال (3):
إِنَّ العَجُوز خبَّةَ جَرُوزًا … تأكلُ كُلَّ ليلةٍ قَفِيْزا
وقال (4):
كأنّ أُذْنيه إذا تَشَوَّفا … قادمةً أو قَلَمًا مُحَرَّفا
وليس هذا من باب حَذْف فعل التشبيه كما قال بعضهم، فإن هذا لغة قائمة بنفسها.
واعلم أن معاني هذه الحروف لا تعمل في حالا ولا ظرف، ولا يتعلق بها مجرور، لأنها معانٍ في نفس المتكلم، كالاستفهام والنفي
__________
(1) (ق): “نصبًا”!.
(2) (ق): “فتقول”.
(3) الرجز في “نوادر أبي زيد”: (ص/ 172)، وقائله مجهول، وهو من شواهد “الهمع”، انظر “الدرر اللوامع”: (2/ 167).
(4) هو: محمد بن ذؤيب العماني الراجز، وقيل: لأبي نخيلة، وهو من شواهد “المغني” و”الأشموني”، انظر: “الخزانة”: (10/ 237).

(2/493)


وسائر المعاني التي جعلت الحروف أمارات لها، وليس لها وجود في اللفظ. فإذا قلت. هل زيدٌ قائم؛ فمعناه: أستفهِمُ عن هذا الحديث، وكذلك “لا” معناها: أنْفِي، وكذلك “ليس”، وكذلك لما أرادوا إظهار تشبُّثها بالجملة لم ينصبوا بها الاسم الأول كما نصبوا بإن، حيث لم يكن معناها يقتضي نصبًا إذا لفظ به، كما يقتضي معنى “إنّ” و”لعل”إذا لُفِظ به.
وأما “كأَنَّ” للتشبيه، فمفارِقَةٌ لأخواتها من جهة أنها تدل على التشبيه، وهو معنى في نفس المتكلم واقعٌ على الاسم الذي: بعدها، فكأنك تخبر عن الاسم أنه مُشْبه غيره، فصار معنى التشبيه مسندًا إلى الاسم بعدها، كما أن معاني الأفعال مسندة إلى الأسماء بعدها، فمن ثَمَّ عَمِلت في الحال والظرف، تقول: “كأن زيدًا يوم الجمعة أميرًا”، فيعمل التشبيه في الظرف. ومن ذلك قوله (1):
كأَنَّه خارجًا مِن جَنْبْ صَفحَتِهِ … سَفُّود شَرْبٍ نَسٌوه عند مُفْتأَدِ
ومن ثَمَّ وقعت في موضع الحال والنعت كما تقع الأفعال المخبر بها عن الأسماء، تقول: “مررت برجل كأنه أسد”، و”جاءني رجل كأنه أمير” وليس ذلك في أخواتها، لا تكون في موضع نعت ولا في موضع حال، بل لها صدر الكلام كما لحروفِ الشرط (ق/114 ب) والاستفهام؛ لأنها داخلة لمعان في الجمل فانقطعت مما قبلها، وإنما كانت “كأن” مخالفةً لأخواتها من وجه وموافقة من وجه، من حيث كانت مركبة من “كاف” التشبيه، و”أن” التي للتوكيد، فكان أصلها: “إن زيدًا الأسد”، أي: مثل الأسد، ثم أرادوا أن يبينوا أَنه ليس هو
__________
(1) البيت للنابغة، “ديوانه”: (ص/ 11).

(2/494)


بعينه فأدخلوا الكاف على الحديث المؤكَّد بأن، لتؤذِنَ أن الحديثَ مشبه به. وحُكْم “إن” إذا أدخل عليها عاملٌ أن تفتح الهمزة منها، فصار اللفظ بها: “كأنَّ زيدًا الأسد”.
فلِما في الكلمة من التشبيه المخبر به عن “زيد”، صار “زيد” بمنزلة مَن أُخْبِر عنه بالفعل، فوقع موقع النعت والحال، وعمل ذلك المعنى وتعلقت به المجرورات، ومن حيث كان في الكلمة معنى “إن” دَخَلت في هذا الباب (ظ/87 ب) ووقع في خبرها الفعل نحو قولك: “كأن زيدًا يقوم”، والجملة نحو: “كأن زيدًا أبوه أمير”، [لو] لم يكن إلا مجرد التشبيه لم يَجُز هذا؛ لأن الاسم لا يُشَبَّه بفعل ولا بجملة، ولكنه حديث مؤكَّد بـ “إن” و”الكاف” تدل على أن خبرًا أشبه من خبر، وذلك الخبر المُشَبَّه هو الذي [دلَّ] (1) عليه زيد، فكأنَّ المعنى: “زيد قائم وكأنه قاعد”، و”زيدٌ أبوه وَضيع وكأنَّ أباه أمير”، فشبَّهْت حديثًا بحديث. والذي يؤكِّد الحديث: “إن” والذي يدل على التشبيه: “الكاف”، فلم يكن بُدُّ من اجتماعهما.
فصل (2)
وكلُّ هذه الحروف تمنع ما قبلها أن يعمل فيما بعدها لفظًا أو معنى. أما اللفظ؛ فلأنه لا يجتمع عاملان في اسم واحد، وهذه الحروف عوامل. وأما المعنى، فلا تقول: “سرني زيد قائم”، أي: سرَّني هذا الحديث، ولا: “كرهت زيدٌ قائم”، أي: كرهت هذا
__________
(1) ما بين المعكوفات من “النتائج”.
(2) “نتائج الفكر” (ص/ 345).

(2/495)


الحديث، كما يكون ذلك في “كان” و”ليس”؛ لأنهما ليستا بفعلٍ مَحْض، فجاز أن تقول: “كان زيد قائم”، أي: كان هذا الحديث. ولم يجز في “سرني” ولا “بلغني”، فإن أدخلتَ “ليت” أو “لعل” أو “إن” المكسورة لم يجز أيضًا؛ لأن هذه المعاني ينبغي أن يكون لها صدر الكلام فلا يقع بعدها (1) فعل مُعْمَل (2) ولا مُلْغى، فإن جئت بـ “أن” المفتوحة قلت: “بلغني أن زيدًا منطلق”، فأعملْتَ الفعل في معمول معنويٍّ وهو الحديث؛ لأن الجملةَ الملفوظ بها حديث في المعنى، وإنما جاز هذا لامتناع الفعل أن يعمل فيما عملت فيه “إنَّ” ولابد له من معمول، فتسلط على المعمول المعنوي وهو الحديث، حيث لم يمكن أن يعمل في اللفظي الذي عملت فيه “أن”، وكذلك: “كرهت أن زيدًا منطلق”، المفعول هو الحديث، وهو معنًى لا لفظ.
فإذا قيل: ولم لا جعلوا لـ “أنَّ” المفتوحة (3) صَدْر الكلام كما جعلوا لـ “ليت” و”لعل” (ق/115 أ) ولجميع الحروف الداخلة على الجمل؟.
قيل: ليس في “إن” معنى زائد على الجملة أكثر من التوكيد، وتوكيد الشيء بمثابة تَكْراره لا بمثابة معنًى زائدً فيه، فصحَّ أن يكون الحديث المؤكَّد بها معمولاً لما قبلها، حيث مَنَعَتْ هي من عمل ما قبلها في اللفظ الذي بعدها، فتسلَّط العامل الذي قبلها على الحديث، ولم يكن له مانع [في] (4) صدر الكلام يقطعه عنه، كما
__________
(1) في بعض نسخ النتائج: “قبلها”.
(2) في الأصول: “يعمل”، والمثبت من “النتائج”.
(3) (ق): “المكسورة” وهو خطأ.
(4) من “المنيرية”، وسقط: من (د): “له مانع من”.

(2/496)


كان ذلك في غيرها.
فإن كسرْتَ همزتَها كان الكسر فيها إشعارًا بتجريد المعنى الذي هو التوكيد عن توطئة الجملة للعمل في معناها، فليس بين المكسورة والمفتوحة فرق في المعنى، إلا أنهم إذا أرادوا توطئة الجملة (1) لأَنْ يعمل الفعل الذي قبلها في معناها، وأن يُصَيِّروها في معنى الحديث، فتحوا الهمزة، وإذا أرادوا قطع الجملة مما قبلها وأن يعتمدوا على التوكيد اعتمادهم على الترجِّي والتمنِّي كسروا الهمزة ليؤذنوا بالابتداء والانقطاع مما قبل، وأنهم قد جعلوا التوكيد صدر الكلام، لأنه معنى كسائر المعاني؛ وإن لم يكن في الفائدة مثل غيره. وكان الكَسْر بهذا الموطن أولى لأنه أثقل من الفتح، والثِّقَل أولى أن يُعْتَمد عليه ويُصَدَّر الكلام به، والفتح أولى بما جاء بعد كلام لخفته، وأن المتكلم ليس في عنفوان نشاطه وجَمامه (2)، مع أنّ المفتوحة قد تلي (3) الضم والكسر، كقولك: “لأنك، وبأنك، وعلمتُ أنك”، فلو كُسِرت لَتَوالَى الثِّقَل.
فإن قيل: فما المانع أن تكون هي وما بعدها في موضع المبتدإ، كما كانت في موضع الفاعل والمفعول والمجرور؛ أليس (ظ/88 أ) قد صُيِّرت الجملةُ في معنى (4) الحديث، فهلاَّ تقول: “إنك منطلق معْجب لي؟ “، وما الفرق بينها وبين “أن” التي هي وما بعدها في تأويَل الاسم، نحو: “أن تقوم خير من أن تجلس”، فلم تكون تلك
__________
(1) من قوله: “للعمل في … ” إلى هنا ساقط من (د).
(2) “طه وجمامه” سقطت من (ق).
(3) بالأصول: “تليها”، والتصحيح من محقق النتائج.
(4) (ق): “موضع”.

(2/497)


في موضع المبتدإ، ولا تكون هذه كذلك؟.
قيل: إن المبتدأ يعمل فيه عامل معنوي، والعامل المعنوي لولا أثره في المعمول اللفظي لما عُقِل، وهذه الجملة المؤكَّدة بـ “أن” إنما يصح أن تكون معمولاً لعامل لفظي؛ لأن العامل معنى والمعمول فيه أيضًا (1)، فهذا لا يفهمه المخاطب ولا يصل إلى علمه إلا بوحي، فامتنع أن تكون هذه الجملة المؤكدة فى موضع المبتدإ لأنه لا ظهور للعامل ولا للمعمول، ومن ثَمَّ لم تدخل كليها عوامل الابتداء من “كان” وأخواتها، و”إن” وأخواتها؛ لأنها قد استغنت بظهور عملها في الجملة في حرف يُصَيِّر الجملة معنى الحديث (2) المعمول فيه، فلا تقول: “كان أنك منطلق”، لا حاجة إلى “أن” مع عمل هذه الحروف الجملة.
وجواب آخر، وهو أنهم لو جَعَلوها فى موضع المبتدإ لم يسبق إلى الذهن (ق/: 115 ب) إلا الاعتماد على مُجَرَّد التوكيد دون توطئة الجملة للإخبار عنها، فكانت تُكْسَر همزتها، وقد تقدَّم أنَّ الكسرَ إشعارٌ بالانقطاع عما قبل، واعتماد على المعنى الذي هو التوكيد، فلم يُتَصور فتحُها في الابتداء إلا بتقديم عاملٍ لفظي يدل على المراد بفتحها؛ لأن العامل اللفظي يطلبُ معمولَه، فإن وجدَه لفظًا غير ممنوعٍ منه، وإلا تسلَّط على المعنى، والابتداء بخلاف هذا.
فإن قيل: فلم قالوا “علمت أن زيدًا منطلق” و”ظننت أنه
__________
(1) بالأصول و”النتائج”: “لأن المعمول … “، وأصلحه محققه كما أثبتنا.
(2) (ق): “الحرف”.

(2/498)


ذاهب”، هلَّا اكتفَوا بعمل هذه الأفعال في الأسماء عن تصيير الجملة في معنى الحديث، كما أكتفوا في باب “كان” و”إنَّ”، فقالوا: “كان زيد قائمًا”، ولم يقولوا: “كان إن زيدًا قائمًا”؟.
قيل: الفرق بينهما أن هذه أفعال تدلُّ على الحَدَث والزمان، وليست بمنزلة “كان” و”ليس” (1)، ولا بمنزلة “إن” و”ليت”، فجرت مجرى “كرهت” و”أحببت”، فلذلك قالوا: علمت أنك مُنْطلق، كما قالوا: أحببت أنك مُنْطلق، إلا أنها تخالف كرهت وسائر الأفعال؛ لأنها لا تطلب إلا الحديث خاصة ولا تتعلق إلا به، فمن ثَمَّ قالوا: “علمت زيدًا منطلقًا” و”زيد علمتُ منطلق”، ولم يقولوا: “كرهت زيدًا أخاك”؛ لأنه لا متعلق لكرهت وسائر الأفعال بالحديث، إنما مُتَعلّقها الأسماء، إلا أن تفنعها “أنَّ” (2) من العمل في الأسماء، فتصير متعلقةً بالحديث، فافهمه.
فصل (3)
فإن قيل: فما العامل في هذا الحديث المؤكَّد بـ “أنَّ” من قولك: “لو أنك ذاهب فعلت”، لاسيما و”لو” لا يقع بعدها إلا الفعل، ولا فِعْلَ هاهنا؛ فما (4) موضع “أنَّ” وما بعدها؟.
فالجواب: أنَّ “أنَّ” في معنى التأكيد، وهو تحقيق وتثبيت، فذلك المعنى الذي هو التحقيق اكتفت به “لو”، حتى كأنه فِعْل
__________
(1) ليست في (ق).
(2) سقطت من (ظ ود).
(3) “نتائج الفكر”: (ص/ 348).
(4) (ق): “في”

(2/499)


وَلِيَها، ثم عمل ذلك المعنى في الحديث، كأنك قلت: “لو ثبتَ أنك منطلق”، فصارت “أنَّ” كأنها من جهة اللفظ عاملة في الاسم الذي هو لفظ (1)، ومن جهة المعنى عاملة في المعنى الذي هو الحديث.
فإن قيل: ألم يتقدَّم أنه لا يعمل عامل معنوي في معمول معنوي؟.
قيل: هذا في الابتداء حيث لا لفظ يسدُّ مسدَّ العامل اللفظي، فأما هاهنا فـ “لو” لشدة مقارنتها للفعل وطلبها له، تقوم مقامَ اللفظ بالعامل الذي هو التحقيق والتثبيت الذي دلت عليه “أن” بمعناها، ومن ثَمَّ عَمِلَ حرفُ النفي المركب مع “لو” (ظ/88 ب) من قولك: “لولا زيد”، عَمل الفعل (2)، فصارَ زيد فاعلاً لذلك المعنى، حتى كأنك قلت: “لو عُدِم زيد وفُقد وغاب لكان كذا وكذا”. ولولا مقارنة “لو” لهذا الحرف لما جاز (3) هذا؛ لأن الحروف لا تعمل معانيها في الأسماء أصلاً. فالعامل (ق/116 أ) في هذا الاسم الذي بعد “لولا” كالعامل في هذا الاسم الذي هو الحديث من قولك: “لو أنك ذاهبٌ لفعلت كذا”.
وأما اختصاص “لا” بالتركيب معها في باب: “لولا زيد لزرتك” (4)، فلأن “لا” قد تكون منفردة تغني عن الفعل، إذا قيل لك: هل قام زيد؟ فتقول: لا، فقد: أخبرت عنه بالقعود. وإذا قيل لك: هل قعد؟ قلت: لا، فكأنك مخبر بالقيام، وليس شيءٌ من حروف النفي يُكْتفى به في الجواب حتى يكونَ بمنزلة الإخبار إلا هذا الحرف، فمن ثَمَّ
__________
(1) “في الاسم الذي هو لفظ” سقطت من (ق).
(2) “الأصول”: المصدر، والمثبت من “النتائج”.
(3) (ق): “كان”.
(4) “لزرتك” سقطت من (ق).

(2/500)


صَلُح الاعتماد عليه في هذا الباب، وساغَ تركيِبه مع حرف لا يطلب إلا الفعل، فصارت الكلمةُ بأسرها بمنزلة حرف وفعل، وصار “زيدٌ” بعدها بمنزلة الفاعل. ولذلك قال سيبويه: “إنه مبني على “لولا”، وهذا هو الحق؛ لا ما يَهْذُون به من أنه مبتدأ وخبره محذوف لا يظهر، وخامِلٌ لا يُذكر. هذا الفصل كله كلام السُّهيلي (1) إلى آخره.
فائدة (2)
قول سيبويه (3): “لا يجوز الاقتصار على المفعول الأول من باب: “أعْلَمت”. تأوله أصحابه بمعنى لا يحسن (4) الاقتصار عليه، قالوا: لأنه هو الفاعل في المعنى، فإنه هو الذي علم ما أعلمته به من كون زيد قائمًا. قالوا: والفاعل يجوز الاقتصار عليه لتمام الكلام به، فهكذا ما في معناه، بخلاف المفعول الأول من باب “علمت”، فإنه ليس فاعلاً لفظًا ولا معنى، هذا تقرير قولهم. وقول إمامِ النحويين هو الصواب (5)، ولا حاجة إلى تأويله هذا التأويل البارد.
وممن أنكر هذا التأويل السهيلي، وقال: “عندي أن كلام سيبويه محمول على الظاهر؛ لأنك لا تريد بقولك: “أعلمت زيدًا”، أي: جعلته عالمًا على الإطلاق، هذا محال، إنما تريد: أعلمته بهذا الحديث، فلابد إذا من ذكر الحديث الذي أعلمتَه به.
فإن قيل: فهل يجوز: أظْنَنْتُ زيدًا عَمْرًا قائمًا؟.
__________
(1) في “النتائج” كما تقدم.
(2) “نتائج الفكر”: (ص/ 350).
(3) في “الكتاب”: (1/ 19).
(4) (ق): “لا يجوز” وهو خطأ.
(5) “الصواب” سقطت من (ق).

(2/501)


قيل: الصحيح امتناعه؛ لأن الظن إن (1) كان بعد علمِ ضروري فمحال أن ينقلب ظنًّا وإن كان بعد علمٍ نظري لم يرجع العالم إلى الظن إلا بعد النسيان والذُّهول عن ركن من أركان النظر (2)، وهذا ليس من فعلكَ أنت به، فلا تقول: “أَظْنَنْتُه بعد أن كان عالمًا”. وإن كان قبل الظن شاكَّا أو جاهلًا أو غافلاً لم يتصور أيضًا أن تقول: “أَظْنَنْته”؛ لأن الظن لا يكون (3) عن دليل يوقفه عليه، أو خبر صادق يخبره به، كما يكون العلم؛ لأن الدليل لا يقتضي ظنًّا، ولا يقتضي أيضًا شبهةً كما بَيَّنه الأصوليون، فثبتَ أن الظن لا تفعله أنت به، ولا تفعل شيئًا من أسبابه، فلم يجز: “أَظْنَنْته”، أىِ: جعلته ظانًّا، وكذلك يمتنع (ق / 116 ب): “أشْكَكْته” أي: جعلته شاكًّا، ولكنهم يقولون: شَكَّكْتُه، إذا حدَّثتَه بحديثٍ يصرفه عن حال الظن إلى حال الشك”.
هذا كلام السُّهيلي، وليس الأمر كما قال! ولا فرقَ بين “أَعْلَمته وأَظْنَنْته” إلا من جهة السماع.
وأما الجواب عما ذكره، فيقال: ما المانع أن يكون “أَظْنَنْته” أي: جعلته ظانًّا بعد أن كان جاهلاً أو شاكًّا بما ذكرتُه له من الأمارات والأدلة الظنية، وقولك: “إن الظنَّ لا يكون عن دليل يوقفه عليه أو خبر صادق يخبره (ظ/89 أ) به”، دعوى مجرَّدة بل ظاهرة البطلان، فإن الظن هو الرُّجْحان، فإذا ذكرت له أمارة ظاهرة لا توجب اليقين أفادته الرُّجْحان وهو الظن، وهذا كما إذا أخبرك من يُثير خبرُه لك ظنًّا راجحًا ولا ينتهي إلى قَطْع، كالشاهد وغيره، فدعوى أن الظن: لا
__________
(1) (ق): “إنما”.
(2) (ق): “الظن”.
(3) (ظ ود): “لا يكون إلَّا”.

(2/502)


يكون عن دليل دعوى باطلة، وإن أردت أنه لا يكون عن دليل قاطع لم يفدك شيئًا، فإنه يكون عن أمارة تحصِّل له الظن، ولا يلزم من كون الدليل لا يقتضي الظنَّ ألاَّ تقتضيه الأمارة.
وقوله: “فثبت أن الظنَّ لا تفعله أنتَ ولا تفعلُ شيئًا من أسبابه”.
يقال: وكذلك العلم لم تفعله أنت به ولا شيئًا من أسبابه، إن أردتَ أنك لم تُحْدِثْه فيه، وإن أردت: أنك لم تتسبب إلى حصوله فيه فباطل، فإن ذكر الأمارات والأدلة الظنية سبب إلى حصول الظن له، وهذا أظهر من أن يُحْتاج إلى تقريره، ويدل عليه قولهم: “شَكَّكْته”، فإن معناه: أحدثت له شَكًّا بما ذكرته له من الأمور التي تستلزم شَكَّه.
فائدة (1)
كلُّ فعل يقتضي مفعولاً ويطلبه (2) ولا يصل إليه بنفسه، توصَّلوا إليه بأداة وهي حرف الجر، ثم إنهم قد يحذفون الحرفَ، لتضمُّن الفعل معنى فِعْلٍ متعد بنفسه كما تقدم.
لكنّ هاهنا دقيقة ينبغي التفطُّن لها، وهي: أنه قد يتعدَّى الفعل بنفسه إلى مفعول وإلى آخر بحرف الجر ثم يحذف المفعول الذي وصل إليه بنفسه لعلم السامع به، ويبقى الذي وصل إليه بحرف الجر (3)، كما قالوا “نصحت لزيد”، و”كِلْت له”، و”وزنت له”، و”شكرت له”، المفعول في هذا كله محذوف والفعل واصل إلى
__________
(1) “نتائج الفكر”: (ص/ 352).
(2) سقطت من (ق).
(3) من قوله: “ثم يحذف … ” إلى هنا ساقط من (ق).

(2/503)


الآخر بحرف الجر، ولا يسمع قولهم: “أربعة أفعال تتعدى بنفسها تارة وبحرف الجو أخرى”، ويذكرون هذه، فإنه كلامٌ مجرَّد: عن تحقيق، بل المفعول في الحقيقة محذوف، فإذا قولك: “نصحت”، مأخوذ من: “نصح الخياط الثوب” إذا أصلَحَه وضمَّ بعضَه إلى بعض، ثم استعير في الرأي، فقالوا: “نصحت له”، أي: نصحت له رأيه، أي: أخلصته له وأصلحته.
والتوبةُ النَّصُوح إنما هي من هذا، فإن الذنب يمزق الدين، فالتوبة النصوح بمنزلة نَصْح الخياط (ق 117 أ)، الثوبَ، إذا أصلحه وضمَّ أجزاءَه، ويقولون: “نصحتُ ريدًا” فيسقطون الحرف؛ لأن النصيحة إرشاد، فكأنك قلت: “أرشدته”، وكذلك: “شكرت”، إنما هو تفخيم للفعل وتعظيم له، من “شَكِرَ بطنُه” إذا امتلأ، فالأصل: “شكرتُ لزيدٍ إحسانَه وفعلَه”، ثم تَحْذف المفعول فتقول: “شكرت لزيد”، ثم تحذف الحرف؛ لأن شكرت متضمنة لحَمدت أو مَدَحت.
وأما: “كِلْتُ لزيد، ووزَنْتُ له”، فمفعولهما غير زيد؛ لأن مطلوبهما ما يُكال أو يُوْزَن، فالأصل دخول اللام، ثم قد يُحذَف لزيادة فائدة، لأن كيل الطعام ووزنه يتضمن معنى المبايعة والمعاوضة إلا مع حرف اللام؛ فإن قلت: “كِلْت لزيد”، أخبرت بكيل الطعام خاصة، وإذا قلت: “كِلْت زيدًا”، فقد أخبرت بمعاملته ومبايعته مع الكيل، كأنك قلت: “بايعته بالكيل والوزن”. قال تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ} [المطففين: 3] أي: بايعوهم كيلًا ووزنًا.
وأما قوله: {اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} [المطففين: 2] فإنما دخلت “على” لتؤذِن أنَّ الكيل على البائع للمشتري، ودخلت “التاء” في “اكتالوا”،

(2/504)


لأن افتعل (1) في هذا الباب كله للأخذ؛ لأنها زيادة على الحروف الأصلية تؤذِن بمعنى زائد على معنى الكلمة، لأن الآخذ للشيء كالمبتاع والمكتال والمشتري (ظ/89 ب) ونحو ذلك، يدخل فعله من التناول والاحتراز إلى نفسه، والاحتمال إلى رحله ما لا يدخل فعلي المعْطي والبائع، ولهذا قال سبحانه: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} [يعني: من الحسنات] (2) {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] يعني: من السيئات، لأن الذنوب يُوْصَل إليها بواسطة الشهوة والشيطان والهوى، والحسنة تنال بهبة من الله من غير واسطة شهوة ولا إغواء عدوٍّ، فهذا الفرق بينهما على (3) ما قاله السُّهيلي (4)؟.
وفيه فرقٌ أحسن من هذا، وهو: أن الاكتساب يستدعي (5) التعمُّل والمحاولة والمعاناة، فلم يجعل على العبد إلا ما كان من هذا القبيل الحاصل بسعيه ومعاناته وتعمُّله. وأما الكسب؛ فيحصل بأدنى ملابسة حتى بِالهَمَّ بالحسنة ونحو ذلك، فخصَّ الشرَّ بالاكتساب والخيرَ بأعم منه، ففي هذا مطابقة للحديث الصحيح “إذا هَمَّ عبْدي بحَسَنةٍ فاكْتُبوها وإنْ هَمَّ بسَيئةٍ فلا تكْتُبوها” (6)، وأما حديث الواسَطة (7) وعدمها فضعيف؛ لأن الخير أيضًا بواسطة الرسول والملك والإلهام والتوفيق،
__________
(1) “النتائج”: “الفعل”.
(2) ما بين المعكوفين من “النتائج”.
(3) (ق): “هذا”.
(4) في “النتائج”: (ص/ 352 – 353).
(5) (ق): “يقتضي”.
(6) أخرجه البخاري رقم (7501) ومسلم رقم (128) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(7) يعني ما تقدم من كلام السهيلي من اكتساب السيئات بواسطة الشهوة والشيطان.

(2/505)


فهذا في مقابلة وسائط الشر، فالفرق ما ذكرناه، والله أعلم.
فصل (1)
وأما “سَمِع الله لمن حمده” فقال السّهيلي: مفعول “سَمِع” محذوف؛ لأن السمع متعلِّق بالأقوال والأصوات (ق/ 117 ب) دون غيرها، فاللام على بابها، إلا أنها تُؤذِن بمعنى زائد وهو الاستجابة المقارنة للسمع، فاجتمع في الكلمة الإيجاد والدلالة على المعنى الزائد وهي الاستجابة لمن حمده، وهذا مثل قوله: {عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72] ليست “اللام” لام المفعول كما زعموا، ولا هي زائدة، ولكن “رَدِف” فعل متعدٍّ ومعموله (2) غير هذا الاسم، كما كان مفعول “سمع” غير المجرور، ومعنى “رَدِف” تَبع وجاءَ على الأثر، فلو حَمَلْته على الاسم المجرور، لكان المعنى غير صحيح إذا تأملته، ولكن المعنى: رَدِف لكم استعجالكم وقولكم؛ لأنهم قالوا: {مَتَى هذَا الوَعْدُ} [النمل: 71] ثم حُذف المفعول الذي هو القول والاستعجال اتكالًا على فهم السامع، ودلت “اللام” على الحذف لمنعها الاسم الذي دخلت عليه أن يكون مفعولًا، وآذنت أيضًا بفائدة أخرى وهي معنى: عَجل لكم، فهي متعلقة بهذا المعنى، فصار معنى الكلام: قُل: عسَى أن يكون عَجِل لكم بعض الذي تستعجلون، فرَدِف قولكم واستعجالكم، فدلَّتَ: “رَدِف” على أنهم قالوا واستعجلوا، ودلت “اللام” على المعنى الآخر، فانتظم الكلام أحسن نظام، واجتمع الإيجاز مع (3) التمام.
__________
(1) “نتائج الفكر”: (ص/ 353).
(2) “النتائج”: “مفعولها”.
(3) (ظ): “معنى”.

(2/506)


قلت: فِعْل السمع يُرَاد به أربعة معان: أحدها: سَمْع إدراك ومتعلَّقه الأصوات. الثاني: سمع فَهْم وعَقْل ومتعلَّقه المعاني. الثالث: سمع إجابة وإعطاء ما سئل. الرابع: سَمْع قبول وانقياد (1).
فمن الأول: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] و {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا} [آل عمران: 181]، ومن الثاني قوله: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة: 104] ليس المراد به سمع مجرَّد الكلام (2)، بل سَمْع الفهم والعقل، ومنه: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة: 285]، ومن الثالث: “سمع الله لمن حمده”، وفي الدعاء المأثور: “اللهم اسمع” (3)، أي: أجب وأعط ما سألتك، ومن الرابع قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة: 42] أي: قائلون له منقادون غير منكرين له. ومنه على أصح القولين: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47] أي: قابلون ومنقادون، وقيل: عيون وجواسيس، وليس بشيءٍ، فإن العيون والجواسيس إنما تكون بين الفئتين غير المختلطتين، فيحتاج إلى الجواسيس والعيون، وهذه الآية إنما هي في حَقّ المنافقين (ظ/95 أ)، وهم كانوا مختلطين بالصحابة بينهم، فلم يكونوا محتاجين إلى عيونٍ وجواسيس. وإذا عُرِفَ هذا فسمع الإدراك يتعدَّى بنفسه، وسمع القَبول يتعدَّى باللام تارة وبمن أخرى، وهذا
__________
(1) (ظ ود): “وإيثار”.
(2) سقطت من (ق).
(3) لعل المراد ما أخرجه أبو داود رقم (1508)، والنسائي في “عمل اليوم والليلة” رقم (101)، وأحمد في “المسند”: (4/ 369) في حديث طويل وفيه: ” … ذا الجلال والإكرام اسْمَع وَاسْتَجب … ” من حديث زيد بن أرقم -رضى الله عنه- وفي سنده داود الطُّفَاوي مُتكلَّم فيه.

(2/507)


بحسب المعنى؛ فإذا كان السِّياق يقتضي القبول عُدِّي بـ “من”، وإذا كان (ق/118 أ) يقتضي الانقياد عُدِّي باللام، وأما سَمْع الإجابة فيُعَدَّى باللام، نحو: سمع الله لمن حمده، لتضمُّنه معنى استجابَ له، ولا حَذْف هناك وإنما هو مضمن، وأما سَمْع الفهم فيتعدَّى بنفسه، لأن مضمونَه يتعدَّى بنفسه.
فصل (1)
ومما يتعلق بهذا قولهم: “قرأتُ الكتابَ واللوح” ونحوهما مما يتعدَّى بنفسه، وأما: “قرأتُ بأم القرآن” و”قرأت بسورة كذا”، كقوله [صلى الله عليه وسلم]: “لا صلاةَ لمنْ لَم يَقْرأ بفاتحةِ الكتابِ” (2)، ففيه نكتة بديعة قلَّ من يتفطَّنُ لها، وهي أن الفعل إذا عُدِّي بنفسه فقلت: قرأتُ سورةَ كذا، اقتضى اقتصاركَ عليها لتخصيصها بالذِّكر، وأما إذا عُدِّيَ بـ “الباء”، فمعناه: لا صلاة لمن لم يأت بهذه السورة في قراءته أو في صلاته، أي: في جملة ما يقرأ به، وهذا لا يعطي الاقتصار عليها، بل يُشْعر بقراءة غيرها معها، وتأمَّل قولَه في الحديث: “كان يَقْرأ في الفَجْر بالسِّتين إلى المِئَة” (3) كيف تجد المعنى أنه يقرأُ فيما يَقْرأُ به بعد الفاتحة بهذا العدد، وكذلك قوله: “قرأ بالأعراف” (4)، إنما هي
__________
(1) “نتائج الفكر”: (ص/345).
(2) أخرجه البخاري رقم (756)، ومسلم رقم (394) من حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-.
(3) أخرجه البخاري رقم (541)، ومسلم: (1/ 447 رقم 237) من حديث أبي بَرْزة الأسلمي -رضي الله عنه-.
(4) أخرجه البخاري رقم (764) من حديث زيد بن ثابت قال: “سمعت النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – يقرأ بِطوْلَى الطولَيَيْن” أي: في المغرب. =

(2/508)


بعد الفاتحة، وكذلك قرأ في الفجر بسورة {ق} (1)، ونحو هذا، وتأمل كيف لم يأت بالباءِ في قوله: “قرأ سورةَ النَّجْمِ فسَجَدَ وسَجَدَ معه المسلِمُوْنَ والمشركونَ” (2) فقال: قرأ سورة النجم، ولم يقل: بها؛ لأنه لم يكن في صلاة فقرأها وحدها، وكذلك قوله: قرأَ عَلَى الجنِّ سورةَ الرحمن (3) ولم يقل: بسورة الرحمن، وكذلك: “قرأ على أُبَيٍّ سورةَ: {لَم يَكُنِ} (4) ولم يقل: بسورة {لَم يَكُنِ}، ولم تأت الباء إلا في قراءةٍ في الصلاة كما ذكرتُ لك، وإن شئتَ قلت: هو مضمَّن معنى: صلَّى بسورة كذا وقامَ بسورة كذا، وعلى هذا فيصحُّ هذا الإطلاق وإن أتى بها وحدها، وهذا أحسن من الأول، وعلى هذا فلا يقال: قرأ بسورةِ كذا، إذا قرأها خارجَ الصلاة، وألفاظ الحديث تتنزَّل على هذا، فتدبَّرْها.
فصل (5)
وأما {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)} [النساء: 79] فالباء متعلقة بما تضمنه الخبر من معنى الأمر بالإكتفاء، لأنك إذا قلت: “كفى الله”، أو
__________
= ووقع تفسيرها بـ “الأعراف” في “سنن أبى داود” رقم (812)، والنسائي: (2/ 170) وغيرهما.
(1) أخرجه مسلم رقم (458) من حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنه-.
(2) أخرجه البخاري رقم (1067)، ومسلم رقم (576) من حديث ابن مسعود – رضي الله عنه-.
(3) أخرجه الترمذي رقم (3291) من حديث جابر -رضي الله عنه-. قال الترمذي: “هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد” أهـ ثم ذكر عن الإمام أحمد والبخاري ما يدلّ على نكارة الحديث.
(4) أخرجه مسلم رقم (799) من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-.
(5) “نتائج الفكر”: (ص/ 355).

(2/509)


“كفاك (1) زيد” فإنما تريد أن يكتفي هو به، فصار اللفظ لفظ الخبر والمعنى معنى الأمر، فدخلت الباء لهذا السبب، فليست زائدة في الحقيقة، وإنما هى كقولك: حسبكَ بزيد، ألا ترى أن “حسبك” مبتدأ وله خبر، ومع هذا فقد يجزم الفعل في جوابه فتقول: “حسبك يَنَم الناس”، فينم جُزم على جواب الأمر الذي في ضمن الكلام، حكى هذا سيبويه (2) عن العرب.
فائدة (3)
تعدِّي الفعل إلى المصدر على ثلاثة أنحاء؛ أحدها: أن يكون مفعولاً مطلقًا لبيان النوع. الثانى: أن يكون توكيدًا. الحديث: أن يكون حالاً.
قال (ق/18 ب) سيبويه (4): “وإنما تذكره لتبِّين أي فعل فعلت أو توكيدًا”. وأَما الحال: فنحو: “جاء زيد مشيًا وسعيًا”، تريد: ماشيًا وساعيًا، وفيه قولان؛ أحدهما: هذا. والثاني: أن الحال محذوف، و”مشيًا” معمولها، أي: يمشي مشيًا، وقد تقول: “مشيت مشيًا وقعدت قاعدًا”، تجعلها حالاً مؤكِّدة، وقد تقول: مشيت مشيًا بطيئًا ومسرعًا، فلك فيها وجهان؛ أحدهما: أن يكون المصدر حالاً فيكون من باب قوله تعالى: {لِسَانًا عَرَبِيًّا} (5) [الأحقاف: 12] وهي الحال الموطأة؛ لأن الصفة في وطَّأت الاسم الجامد أن يكون حالًا، فإن اللسان
__________
(1) (ظ ود): “كفاك الله … “.
(2) فى “الكتاب”: (1/ 452 – 465).
(3) “نتائج الفكر”: (ص / 356).
(4) في “الكتاب”: (1/ 117) بنحوه.
(5) من قوله: “وقد تقول … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(2/510)


اسم جامد، فلما وُصِف بالمشتق وطَّأته الصفة أن يكون حالاً، فإن (ظ/90 ب) حَذفتَ الاسم وبقيت الصفة وحدَها لم يكن في الحال إشكال، نحو: “سِرْت شديدًا”.
ويُبَيِّن ما قلناه أن قولك: “سرتُ شديدًا” هي حال من المصدر الذي دل عليه الفعل، فإذا أردت بالمصدر هذا المعنى كان بمنزلة الحال. ويجوز تقديمه وتأخيره إذا كان مفعولاً مطلقًا أو حالاً، ولا يجوز تقديمه على الفعل إذا كان توكيدًا له؛ لأن التوكيد لا يتقدم على المؤكد.
والعامل فيه إذا أردت معنى الحال الفعل نفسه، والعامل فيه إذا كان مفعولاً مطلقًا ليس هو لفظ الفعل بنفسه، وإنما هو ما يتضمَّنه من معنى “فعل” الذي هو فاءٌ وعَينٌ ولامٌ، لأنك إذا قلت: ضربت ضربًا، فالضرب ليس بمضروب، ولكنك حين قلت: “ضربت” تضمن “ضربت” (1) معنى “فعلت”؛ لأن كُلَّ ضرْبٍ فعل، وليس كل فعل ضربًا، فصار هذا بمنزلة تضمُّن الإنسان الحيوانَ، وإذا كان كذلك؛ “فضربًا” منصوب بفعلت المدلول عليها بضربت، حتى كأنك قلت: “فعلت ضربًا”.
ولا يكون المصدر مفعولاً مطلقًا حتى يكون منعوتًا أو في حكم المنعوت، وإنما يكون توكيدًا للفعل؛ لأن الفعل يدلُّ عليه دلالةً مطلقةً ولا يدل عليه محدَّدًا ولا منعوتًا، وقد يكون مفعولاً مطلقًا، وليس ثَمَّ نعتٌ في اللفظ إذا كان في حكم المنعوت، كأنك تريد: “ضربًا مَّا”، فلا يكون حينئذٍ توكيدًا، إذ لا يؤكد الشيء بما فيه معنى
__________
(1) ليست في (ظ).

(2/511)


زائد على معناه، لأن التوكيد تَكْرار محض.
وقد احتج بعضُ أهل السنة (1) على القائلين من المعتزلة بأن تكلم الله -تعالى وتقدَّس- لموسى -عليه السلام- مجاز بقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء: 164] فأكَّد الفعلَ بالمصدر، ولا يصح المجاز مع التوكيد. قال السهيلي (2): فذاكرت بهذا شيخَنا أبا الحسين (3)، فقال: هذا حسن، لولا أن سيبويه أجاز في مثل هذا أن يكون مفعولاً مطلقًا، وإن لم يكن منعوتًا في اللفظ، فيحتمل على (ق / 119 أ)، هذا أن يريد (4): “تكليمًا مّا”، فلا يكون في الآية حجة قاطعة، والحِجَاج عليهم كثيرة.
قلتُ (5): وهذا ليس بشيء والآيةُ صريحة فى أن المرادَ بها تكليمٌ أخص من الإيحاء، فإنه ذَكَر أنه أوحى إلى نوح والنبيين من بعده، وهذا الوحي هو التكليم العام المشترك، ثم خص موسى باسم خاصٍّ وفعل خاص وهو “كلم تكليمًا”، ورفع توهُّم إرادة التكليم العام (6) عن الفعل بتأكيده بالمصدر، وهذا يدل على اختصاص موسى بهذا التكليم، ولو كان المراد “تكليمًا مَّا”، لكان مساويًا لما تقدَّم من
__________
(1) بيَّنه السُّهَيلي في كتابه، وهو: “القُتَبِي” وهو: أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ت (276) سبقت ترجمته.
وكلامه هذا في كتابه: “تأويل مشكل القرآن”: (ص/ 111) إذ قال تعليقا على الآية: “فوكَّد بالمصدر معنى الكلام، ونفى عنه المجاز” اهـ.
(2) “نتائج الفكر”: (ص / 357).
(3) أي: ابن الطراوة، وسبقت ترجمته.
(4) (ق): “يكون”.
(5) الكلام الآن لابن القيم.
(6) من قوله: “المشترك ثم … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(2/512)


الوحي أو دونه، وهو باطل!.
وأيضًا: فإن التأكيد في مثل هذا السِّياق صريحٌ في التعظيم وتثبيت حقيقة الكلام والتكليم فعلاً ومصدرًا، ووصفه بما يُشعِر بالتقليل مضاد للسياق، فتأمله.
وأيضًا: فإن الله -سبحانه- قال لموسى: {اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144] فلو كان التكليم (1) الذي حصل له “تكليمًا مّا” كان مشاركًا لسائر الأنبياء فيه، فلم يكن لتخصيصه بالكلام معنى.
وأيضًا: فإن وَصْف المصدر هاهنا مُؤَذِن بقلَّته وأنَّ “نوعًا ما” من أنواع التكليم حصل له، وهذا محال هاهنا، فإن الإلهام “تكليم مَّا”، ولهذا سماه الله تعالى وحيًا، والوحى “تكليم مَّا” فقال: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7]. {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} [المائدة: 111] ونظائره. وقال عُبَادة بن الصامت: “رؤيا المؤمن كلام يكلِّم به الربُّ عبده في منامِه” (2). فكلُّ هذه الأنواع تسمَّى “تكليمًا ما”. وقد خصَّ -سبحانه وتعالى- موسى واصطفاه على البشر بكلامه له.
وأيضًا: فإن الله سبحانه حيثُ ذكرَ موسى ذكرَ تكليمه له باسم التكليم الخاص دون الاسم العام، كقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ (ط/ 91 أ) لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] بل ذَكَرَ تكليمه له بأخصَّ من ذلك وهو تكليم خاص، كقوله:
__________
(1) سقطت من (ظ ود).
(2) أخرجه الطبراني -كما في “المجمع”: (7/ 174) – والضياء في “المختارة”: (8/ 275) مرفوعًا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -، قال الهيثمي: “في سنده من لم أعرفه” اهـ.

(2/513)


{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)} [مريم: 52] فناداه وناجاه، والنداء والنجاء أخصُّ من التكليم، لأنه تكليمٌ خاص، فالنداءُ تكليم: من البعد يسمعه (1) المنادى، والنِّجاءُ تكليم من القرب.
وأيضًا: فإنه قد اجتمع في هذه الآية ما يمتنع معه حملُها على ما ذكره، وهو أنه ذكر الوحيَ المشتركَ، ثم ذكرَ عموم الأنبياء بعد محمد ونوح، ثم ذكر موسى بعَيْنه بعد ذِكْر النبيين عمومًا، ثم ذكرَ خصوص تكليمه، ثم أَكَّدَه بالمصدر، وكل من له أدنى ذوقٍ في الألفاظ ودلالتها على المعانى (2)، يجزم بأن هذا السياق يقتضي تخصيصَ موسى بتكليم لم يحصل لغيره، وأنه ليس “تكليمًا ما”، فما ذكره أبو (ق / 119 ب) الحسين غيرُ حسنٍ، بل باطل قطعًا!! والذي غرَّه ما اختاره سيبويه من حذف صفة المصدر وإرادتها، وسيبويه لم يذكر هذا في كل مصدرٍ كان هذا شأنه، وإنما ذكر أن هذا مما (3) يسوغُ في الجملة، فإذا كان في الكلام ما يدل على إرادة التأكيد دون الصفة لم يقل سيبويه ولا أحدٌ: إنه موصوف محذوف يدل على تقليله، كما إذا قيل: “صدَّقت الرسول تصديقًا وآمنت به إيمانًا”، أوْ قل: “قاتَلَ فلانٌ مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قتالاً ونصَره نصرًا”، و”بين الرسولُ لأمته تبيينًا وأرشدهم إرشاداً وهداهم هدى”، فهل يقول سيبويه أو أحد: إن هذا يجور أن يكون موصوفًا؟! والمراد: “تصديقًا مَّا وإيمانًا مَّا وتبيينًا: مَا وهدًى مَّا”!؟، فهكذا الآية والله الموفق للصواب.
__________
(1) (ق): “بما يسمعه”.
(2) من (ق).
(3) ليست في (ق).

(2/514)


قال السهيلي (1): “وسألته عن العامل في المصدر إذا كان توكيدًا للفعل، والتوكيد لا يعمل فيه المؤكَّد، إذ هو [هو] (2) في المعنى، فما العامل فيه؟.
فسكتَ قليلاً ثم قال: ما سألني عنه أحدٌ قبلك، وأرى أن العامل فيه ما كان يعمل في الفعل قبله لو كان اسمًا، لأنه لو كان اسمًا لكان منصوبًا بفعلت المتضمَّنة فيه.
ثمَ عرضتُ كلامَه على نفسي وتأملت “الكتاب”، فإذا هو قد ذَهَل عما لوَّح إليه سيبويه في باب المصادر، بل صرَّح، وذلك أنه جعل المصدر المؤكد منصوبا بفعل هو التوكيد على الحقيقة، واخْتُزل ذلك الفعل، وسدَ المصدر الذي هو معموله مسدَّه، كما سدَّت “إياك” و”رُوَيْدًا” مسدَّ العامل فيهما، فصار التقدير: “ضربتُ ضربتُ ضربًا”، فـ “ضربتُ” الثانيةَ هي التوكيدُ على الحقيقة، وقد سدَّ “ضربًا” مسدَّها، وهو معمولها، وإنما يُقَدَّر عملُها فيه على أنه مفعول مطلق لا توكيد، هذا معنى قول صاحب “الكتاب” مع زيادة في الشرح، ومن تأمله هناك وجده كذلك.
والذي أقولُ به الآن قول الشيخ أبي الحسين؛ لأن الفعل المختزل معنى، والمعاني لا يؤكد بها وإنما يؤكَّد بالألفاظ (3)، وقولك: “ضربت، فعل مشتق من المصدر، فهو يدل عليه، فكأنك قلت: “فعلت الضربَ”، فضربت يتضمَّن (المصدر) (4) ولذلك تضمره، فتقول: “من كذبَ فهو شر له”، وتقيده بالحال، نحو: “قمنا سريعًا”، فسريعًا حال من
__________
(1) “نتائج الفكر”: (ص/ 358). والمسؤول ابن الطراوة.
(2) من “المنيرية”.
(3) (ق): “يوكِّدها الألفاظ”.
(4) في “النتائج”: “يتضمَّن الضرب المفعول”.

(2/515)


القيام، فكما جاز أن تقيده بالحال وأن تكني عنه [بهو] جازَ أيضًا أن تؤكده بـ “ضربًا”، كأنك: قلت: “ضربًا ضربا”، ونصب “ضربًا” المتضمن “ضربًا” (1) المصرَّح به، وبه يعمل في الثاني بمعنى “فعلت”، كما كان ذلك في المفعول المطلق إذا قلت: “ضريت ضربًا شديدًا”، أي: فعلت ضربًا شديدًا، (ق/120 أ)، وليس المؤكد كذلك، إنما ينتصب كما ينتصب “زيداً” الثاني في قولك: “ضربت (2) زيذاً زيدًا” مكررًا، انتصبَ من حيث كان هو الأول لا أنك أضمرتَ له فعلاً (ظ/91 ت)، فتأمله”. تم كلامه.
ثم قال (3):

فصلٌ فيما يؤكَّد من الأفعال بالمصادر وما لا يؤكَّد
قد أشرنا إلى أن الفعل (4) قسمان: خاص وعام، فالعام: “فعلت” و”عملت”، و”فعلت” أعمّ؛ لأن “عملت” عبارة عن حركات الجوارح الظاهرة مع دءوب، ولذلك جاء على وزن “فَعِل” كتَعِب ونَصب، ومن ثَمَّ لم تجدها يخبر بها عن الله -سبحانه- إلا أن يَرِدَ بها سمع، فيُحمل على المجاز المحض، ويلتمس له التأويل.
قلت (5): وقد ورد قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ
__________
(1) (ق): “ضربك … “، و (ظ ود) سقط منها: “المتضمن ضربًا”.
(2) من قوله: “ضربًا شديدًا … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(3) “نتائج الفكر”: (ص / 360).
(4) (ق): “الفعل المؤكد”.
(5) التعليق لابن القيم -رحمه الله-.

(2/516)


أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 71] وقد تقدم (1) له كلام أن اليدَ صفة أخصّ من القدرة والنعمة، كما هو مذهب أبي الحسن الأشعري -رحمه الله-، ونصر هو ذلك المذهب وارتضاه، وعلى هذا فلا تأويل في الآية، بل هي على حقيقتها على قوله، وأما الدَّءوب والنصب وإثبات الجارحة فمن خصائص العبد، والله تعالى مُنَزَّه عن ذلك كله متعالٍ عنه. وخصائص المخلوقين لا يجوز إثباتها لرب العالمين، بل الصفة المضافة إليه لا يلحقه فيها شي من خصائصهم، فإثباتها له كذلك لا يحتاج معه إلى تأويل، فإن الله ليسَ كمثله شيءٌ، وقد تقدَّم أن خصائصَ المخلوقين غير داخلة في الاسم العامِّ، فضلاً عن دخولها في الاسم الخاص المضاف إلى الربِّ، وأنها لا يدل اللفظ عليها بوضعه حتى يكون نفيها عن الربِّ تعالى صرفًا للفظ عن حقيقته. ومن اعتقدَ دخولَها في الاسم المضاف إلى الربِّ ثم توسَّل بذلك إلى نفي (2) الصفة عنه، فقد جمعَ بين التشبيه والتعطيل، وأما من لم يُدْخلها في مسمَّى اللفظ الخاص، ولا أثبتها للموصوف فقوله مَحْض التنزيه، وإثبات ما أثبته الله لنفسه، فتأمل هذه النكتة وَلْتكن منك على ذُكْر في باب الأسماء والصفات، فإنها تُزيل عنك الاضطراب والشبهة، والله الموفق للصواب.
عاد كلامُه، قال: “إذا ثبت هذا “ففعلت” وما كان نحوها من الأحداث العامة الشائعة لا تؤكَّد بمصدر؛ لأنها في الأفعال بمنزلة شيءٍ وجسم في الأسماء، فلا يؤكَد؛ لأنه لم يثبت له حقيقة (3) معينة
__________
(1) (2/ 397 – 398).
(2) (ق): “نفي بدل”.
(3) “له حقيقة” سقطت من (د).

(2/517)


عند المخاطب، وإنما يؤكد ما ثبتت حقيقته، والمخاطَب أحوج إلى ذكر المفعول المطلق الذي تقع به الفائدة منه إلى توكيد “فعلت”، فلو قلت له: “فعلتُ فعلتُ”، وأكدته بغاية ما يمكن من التوكيد، (ق/120 ب) ما كان الكلام إلا غير مفيد! وكذلك لو قال: “فعلتُ فِعلاً” على التوكيد؛ لأن المصدر الذي كنتَ تؤكد به -لو أكدت- قياسُه أن يكون مفتوح “الفاء” لأنه ثلاثي، والمصدر الثلاثي قياسه فتح فائه، كما أن فعله كذلك”.
قلتُ (1): هذا ليس على إطلاقه، فإن “فعلت” إذا أُريد بها الفعل العام الذي لم تتحصل حقيقتُه عند المخاطَب امتنعْ تأكيدُها، بل مثل هذا لا يقع في (2) التخاطُب، وأما إذا أُريدَ بها فعل خاص قد تحصَّلت حقيقته وتميزت عندهما، كما إذا قال له: “أنت فعلت هذا”، وأشار إلى فعل معين، فإنه إذا أكد الفعل وقال: “فعلتُ فعلت”، كان الكلام مفيدًا أبلغ فائدة، وهذا إنما جاء من حيث كانت “فعلت” مرادًا بها الحديث الخاص. وأكثر ما يجيء “فعلت”: في الخطاب كذلك، فتأمله.
قال (3): “إذا ثبت: هذا؛ فلا يقع بعد “فعلت” إلا مفعول مطلق، إما من لفظها فيكون عامًّا، نحو: “فعلت فِعلاً حَسَنًا”، ومن ثَمَّ جاء مكسور الفاء لأنه كالطَّحْن والذِّبْح، ليس بمصدر اشْتُق منه الفعل، يل هو مشتق من “فعلت”. وإما أن يكون خاصًا نحو: “فعلت ضربًا”، “فضربًا” أيضًا مفعول مطلق من غير لفظ “فَعل” فصار “فعلت فِعلاً”
__________
(1) الكلام لابن القيم -رحمه الله-.
(2) (ق ود): “ألا في”.
(3) أي: السهيلي -رحمه الله-.

(2/518)


كطحنت (ظ / 92 أ)، طِحْنًا، و”فعلت ضربًا” كطحنتُ دقيقًا.
فإن قيل: ألم يجيزوا في “ضربت ضربًا” و”قتلتُ قتلًا” أن يكون مفعولًا مطلقًا، فلِمَ لم يكن مكسور الأول إذا كان مفعولاً مطلقًا، ومفتوحًا إذا كان مصدراً مؤكَّدَا؟.
قيل: “حدِّث حديثين امرأةً” (1)، ألم يقدم في أول الفصل أنه لا يعمل في “ضربًا” إذا كاد مفعولا مطلقًا إلا معنى “فعلت” لا لفظ “ضربت”، فلو عمل فيه لفظ “ضربت” لقلت: “ضِربًا” بالكسر، كطِحْن، وهو محال، لأن الضرب لا يضرب، ولكنك إذا اشْتَقَقْت له اسما من “فعلت” التي هي عاملة فيه على الحقيقة فقلت: هو فِعْل، وإن اشْتَقَقْتَ له اسمًا من “ضربت” التي لا يعملُ لفظُها فيه، لم يجز أن يجعلها كالطِّحْن والذِّبْح؛ لأن الاسم القابل لصورة الفعل إنما يشتق لفظه من لفظ ما عمل فيه، فثبت من هذا كله أن “فَعَلت” و”عملت” استغنى بمفعولها المطلق عن مصدرها، لأنها لا تتعدَّى إلا إلى حدث، وذلك الحدث يشتق له اسم من لفظها، فيجتمع اللفظ والمعنى، ويكون أقوى عند المخاطَب من (2) المصدر الذي يشتَق منه الفعل، ولذلك لم يقولوا: “صنعت صنْعًا” “بفتح الصاد، ولا: “عَملت عَمْلاً” بسكون الميم، ولا “فَعَلت فَعْلا” بفتح الفاء، استغناء عن المصادر (ق/ 21 أ)، بالمفعولات المطلقة؛ لأن العملَ مثل: القَنَص والنَّفَض، والصُّنع مثل: الدهن والخُبْز، والفِعْل مثل: الطِّحن، وكلها (3) بمعنى المفعول، لا بمعنى المصدر الذي اشتُق منه الفعل.
__________
(1) انظر: “مجمع الأمثال”: (1/ 342).
(2) (ق): “و”.
(3) “النتائج”: “فكأنها”.

(2/519)


وجميع هذه الأفعال العامة لا تتعدَّى إلى الجواهر والأجسام إلا أن يُخْبر بها عن خالقها، وإنما يتعدَّى إلى الجواهر بعض الأفعال الخاصة، نحو: “ضربت زيدًا”، فهو مضروب على الإطلاق، وإن اشتققت له من لفظ “فعلت” مفعول به، أي: فعِلَ به الضرب ولم يفْعَل هو جاز.
وأما: “حَلمت في النوم حُلْمًا” فهو بمنزلة: “فعلت وصنعت” في اليقظة؛ لأن جميع أفعال النوم تشتمل عليها “حَلَمت”، وكأنَّ جميع أفعال اليقظة يشتمل عليها “فعلت”، فمن ثمَّ لم يقلوا: “حَلْمًا” بوزن “ضَرْبًا”؛ لأن “حلمت” مغنية عن المصدر كما كانت “فعلت” مغنية عنه، وإنما مطلوبُ المخاطب معرفةُ المحلوم والمفعول، فلذلك قالوا: “حلْما”، ولذلك جمعوه على: “أحلام وحُلوم”؛ لأن الأسماء هي التي تُجْمع وتثنى، وأما الفعل، أو ما فائدته كفائدة الفعل من المصادر (1) فلا تُجمع ولا تُثنى، وقولهم: إنما جمِعت الحلومُ والأشغال لاختلاف الأنواع، يل يقال لهم: [وهل] (2) اختلفت الأنواع: إلا من حيث كانت بمثابة الأسماء المفعولة؟ ألا ترى أن “الشُّغل” على وزن “فعْل” كالدُّهن، فهو عبارة عما يَشتغل المرء به (3)، فهو اسم مشتقٌّ من الفعل وليس الفعل مشتقًا منه، إنَّما هو مشتق من “الشغَل”، والشَّغْل هو المصدر، كما أن “الجعْل والجُعْل” كذلك. فعلى هذا ليس “الأشغال” و”الأحلام” بجمع المصدر، وإنما هو جمع اسم، والمصدر على الحقيقة لا يجمع؛ لأن المصادر كلها جنس
__________
(1) من قوله: “كما كانت .. ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(2) في الأصول: “ولم” والمثبت من “النتائج”.
(3) الأصول “عنه” والمثبت من “النتائج”.

(2/520)


واحد، من حيث كانت عبارة عن حركة الفاعل، والحركة تماثل الحركة ولا تخالفها بذاتها، ولولا “هاء” التأنيث في الحركة ما ساغ جمعُها، فلو نطقت العربُ بمصدر “حَلَمت” الذي اسْتغني عنه بالحُلْم، وبمصدر “شكرت” الذي استغنى [عنه] (1) بالشكر لما جاز جمعه؛ لأن اختلاف الأنواع ليس راجعًا إليه، وإنما هو راجع إلى المفعول المطلق.
ألا ترى أن الشكر عبارة عما يكافأ به المنْعِم من ثناء أو فعل، وكذلك نقيضه -وهو الكفر- عبارة عما يُقابَل به المنْعِم (2) من جَحْد وقبْح فعل، فهو مفعول مطلق لا مصدر اشتق منه الفعل، إلا أن “الكفر” يتعدَّى بالباء لتضمُّنه معنى التكذيب، و”شكرت” (ق 121/ ب) يتعدَّى باللام، التي هى لام الإضافة؛ لأن المشكورَ في الحقيقة هى النعمة، وهي مضافة إلى المنعم، (ظ/92 ب) وكذلك المكفور في الحقيقة هى النعمة، ولكن كفرها تكذيب وجَحْد، فلذلك قالوا: “كفر بالله” و”كفر نعمتَه” و”شكر له” و”شكر نعمتَه”.
وإذا ثبتَ أن الشكرَ من قولك: “شكرت شُكرًا” مفعول مطلق، وهو مختلف الأنواع؛ لأن مكافأة النعم تختلف، جار أن يُجمع كما جمع “الحُلْم والشُّغل”، فيحْمل قوله -سبحانه- حكاية عن المخلصين من عباده: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)} [الإنسان: 9] أن يكون جمعًا لـ “شكر”، وليس كالقعود والجلوس؛ لأنه متعد، ومصدر المتعدي لا يجيءُ على “الفعول” (3).
__________
(1) سقطت من (ظ ود)، و (ق): “به”.
(2) (ق) “المنعم عليه” وهو خطأ.
(3) (ظ ود): “لا يجيء مصادرها على المفعول”!.

(2/521)


قلت (1): الصحيح أنه مصدر جاءَ على “الفعول”، لأن مقابله وهو الكفر والجَحد والنفار تجيء مصادرها على “الفعول” (2)، نحو: كُفُور وجُحُود ونفُور، ويبعد كلَّ البعد أن يراد بالكفور جمع الكُفْر، والكفر، يُعْهد جمعه في القرآن قطّ ولا في الاستعمال، فلا يعرف في التخاطب: “أكفار وكفور”، وإنما المعروف الكفر، والكُفْران والكفوْرُ، مصادرُ ليس (3) إلا، فحسَّن مجيء الشكور على الفعول حمله على مقابله، وهو كثير في اللغة، وقد تقدَّم الإشارة إليه، وحتى لو كان الشكور سائغًا استعماله جمعًا (4)، واحتمل الجمع والمصدر، لكان الأليق بمعنى الآية المصدر لا الجمع؛ لأن اللهَ تعالى وصفهم بالإخلاص، وأنهم إنما قصدوا بإطعام الطعام وجهه، ولم يريدوا من المطعَمِين جزاء ولا شكورًا، ولا يليق بهذا الموضع أن يقولوا: لا نريد منكم أنواعًا من الشكر وأصنافًا منه، بل الأليق بهم وبإخلاصهم أن يقولوا: لا نريد منكم شُكراً أصلاً، فينفوا إرادة نفس هذه الماهية منهم، وهو أبلغ في قصد الإخلاص من نفي (5) الأنواع، فتأمله فإنه ظاهر، فلا يليق بالآية إلا المصدر، وكذلك قوله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)} [الفرقان: 62] إنما هو مصدر، وليس بالمعهود البيِّن جمع الشُّكر علي الشُّكُور واستعماله كذلك، كما لم يُعْهد ذلك في الكفور.
عاد كلامه (6) قال: “ويزيدُ هذا وضوحًا قولهم: “أحببت حبًّا”،
__________
(1) الكلام لابن القيم -رحمه الله-.
(2) من قوله: “قلت … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(3) سقطت من (ق).
(4) سقطت من (ق).
(5) تحرّفت في (ق).
(6) “النتائج”: (ص / 364).

(2/522)


فالحب ليس بمصدر لأحببت، إنما هو عبارة عن الشغل بالمحبوب، ولذلك جاء على ورنه مضمومَ الأول، ومن ثَمَّ جُمِع كما جُمِع الشغل، قال:
ثلاثةُ أحباب؛ فحبُّ عَلاقةٍ … وحُبُّ تِمِلاَّق، وحبٌّ هو القتل (1)
فقد انكشف لك بقولهم: “أحببتُ حبًّا” ولم (ق/122 أ)، يقولوا: “إحبابًا” استغناءً بالمفعول المطلق الذي هو أَفْيَد عند المخاطب من “الإحباب”، أَنَّ “حلمت حُلْمًا”، و”شكرت شكراً”، و”كفرَ كُفرًا”، و”صَنَع صنعًا”، كلّها واقعة على ما هو اسم للشيء المفعول وناصبة له نَصْب المفعول المطلق. وهو في هذه الأفعال أجدر أن يكون كذلك؛ لأنها أعم من “أحببت”؛ إذ الشكرُ واقعٌ على أشياءَ مختلفة، وكذلك الكفر والشغل والحُلم، وكلما كان الفعل أعم وأشيع لم يكن لذكر مصدره معنى، وكان “فَعَل ويَفْعل” مغْنيًا عن، ولولا كشْف الشاعر لاختلاف أنواع “الحب” ما كِدْنا نعرف ما فيه من العموم، ولكنه لما فيه من العموم، وأنه في معنى “الشغل” صار “أحببت” كشغلت، وصار الحب كالشغل. ولو قال: “إحبابًا” لكان بمنزلة: “شَغَلت شَغلاً” بفتح الشين، ألا ترى أنهم لا يجمعون من المصادر ما كان على وزن الإفعال نحو: الإكرام، وعلى وزن الانفعال، والافتعال، [والتفعيل] (2) ونحوها، إلا أن يكون محدودا كالتَّمْرة من التمر.
وأما جمعه لاختلاف الأنواع فلا اختلاف أنواع فيه، إنما اختلاف
__________
(1) البيت في “اللسان”: (10/ 347) بلا نسبة.
(2) في الأصول: “والفعل”، والمثبت من “النتائج”.

(2/523)


الأنواع فيما كان اسمًا مشتقًّا من الفعل اسْتُغنيَ به عن المصدر لخصوصه وعموم المصدر، وذلك لا تجده في الثلاثي إلا على وزن “فُعْل” أو “فَعَل” (ظ/ 93 أ) أو “فِعْل” ألا ترى أنهم، يجمعون [“الفَرَق” و”الحَذَر”، ولا شيئًا من ذلك الباب] (1) نحو: “الرَّمَد (2) والخَدَر والخَفَش والبَرَص والعَمَى، وبابه”.
قلت (3): فِعْل الحب فيه لغتان “فَعَل وأفْعل” وقد أنشدَ في “الصحاح” (4) بيتين علي اللغتين وهما:
أُحِبُّ أبا مروانَ من أَجلِ تمرهِ … وأعلمُ أن الحبَّ بالمرءِ أرفقُ
ووالله لولا تمرُهُ ما حَبَبْتُه … وكان عِياضٌ منه أدنى ومشرقُ
هكذا أنشده المبرّد (5)، والذي في “الصحاح”:
* ولا كان أَدْنى مِن عبيد ومشرقِ *
بالإقواء (6)، والبيتان لغيلان بن شجاع النهشلي وهو عربيٌّ فصيح، وإذا ثبتَ أنهما لغتان في “أحببته حبًّا فأنا له محِب وهو محبوب” على تداخل اللغتين، فأتوا في المصدر بمصدر الثلاثي كالشُّكر والشُّغل، واستعملوا من الفعلين الرباعي في غالب كلامهم، حتى كأنهم هجروا الثلاثي، وأتوا بمصدره حتى كأنهم هجروا الرباعي، فلما جاؤوا إلى
__________
(1) ما بين المعكوفين من “النتائج”.
(2) (ظ ود): “نحو: الحذر والرمد … “.
(3) الكلام لابن القيم -رحمه الله-، وانظر “روضة المحبين”: (ص/ 18).
(4) (1/ 105).
(5) في “الكامل”: (1/ 438)، وانظر: “الخزانة” ت (9/ 429).
(6) الإقواءة تغير حركة الرَّوِيّ.

(2/524)


اسم الفاعل أتوا بالاسم من الرُّباعي حتى كأنهم لم ينطقوا بالثلاثي، فقالوا: “محب”، ولم يقولوا: “حابٌّ” أصلاً، وجاؤوا إلى المفعول فأتوا به من الفعل الثلاثي في الأكثر، فقالوا: (ق/ 22 أب) “محبوب”، ولم يقولوا: مُحَب إلا نادرًا كما قال (1):
ولقد نزلتِ فلا تظنِّي غيرَه … مِني بمنزلةِ المُحَب المُكْرمِ
فهذا من “أحببت” كما أن المحبوب من “حببت”، ثم استعملوا لفظ الحبيب في المحبوب أكثر من استعمالهم إياه في المُحِب مع أنه يُطلق عليهما، فمن مجيئه بمعنى المفعول قول ابن الدمينة (2):
وإن الكثيبَ الفردَ من جانبِ الحِمَى … إليَّ وإنْ لم آتِهِ لحبيبُ
أى: لمحبوب.
ومن مجيئه للفاعل، قول المُخَبَّل (3):
أَتهجر ليلى للفراقِ حَبِيْبَها … وما كان نَفْسًا بالفراق تطِيْب
فهذا بمعنى: محبها، وربما قالوا للحبيب: حِب، مثل: خِدْن، فخِدْن وخَدِين مثل: حبّ وحَبيب. وإذا ثبت هذا فقوله رحمه الله: “الحب ليس بمصدر لأَحببت إنما هو عبارة عن الشغل بالمحبوب”؛ ليس الأمر كما قال! بل هىِ مصدر للثلاثي أَجْرَوه على الفعل الرباعي
__________
(1) البيت لعنترة في معلقته، “ديوانه”: (ص/ 15).
(2) (ق): “ابن الزبير” وهو خطأ.
والبيت ضمن قصيدة بائية في “حماسة أبى تمام”: (2/ 113).
(3) في المطبوعة: المجنون، والبيت في “الخصائص”: (2/ 384)، و”شرح شواهد الإيضاح” للقيسي (1/ 249)، و”لسان العرب” مادة حبب، و”شرح الكافية” لابن مالك: (2/ 778).

(2/525)


استغناء به عن مصدره، وهذا لكثرة ولوع (1) أنفسهم بالحب وألسنتهم به استعملوا منه أخفَّ المصدرين استغناء به عن أثقلهما.
وأما مجيئه بالضم: دون الفتح، فَلِسِرٍّ في ذلك، وهو قوة هذا المغنى وتمتكُّه من نفس المحِبِّ وقهره وإذلاله إياه، حتى إنه ليذل الشجاع الذي لا يذل لأحد فينقهر لمحبوبه ويستأسر له، كما هو معروف في أشعارهم ونثرهم، وكما يدل عليه الوجود، فلما كان بهذه المثابة أَعْطوه أقوى الحركات وهى الضمة، فإن حركة الحب أقوى الحركات فأعطوا أقوى حركات المتحرك أقوى الحركات اللفظة؛ ليتشاكل اللفظُ والمعنى، فلهذا عَدَلوا عن قياسِ مصدره وهو الحب إلى صَمِّه.
وأيضًا: فإنهم كرهوا أن يجيئوا بمصدره على لفظ “الحب” الذي هو اسم جنس للحبة (2)، ولم يكن بُد من عدولهم إما إلى الضم أو إلى الكسر، وكان الضم أولى لوجهين؛ أحدهما: قوته وقوة الحب. الثاني: أن في الضمة من الجمع ما يوازي ما في معنى الحب من جمع الهِمَّة والإرادة على المحبوب، فكأنهم دلَّوا السامعَ بلفظه وحركته وقوته على معناه.
وتأمل كيف أتوا في هذا المسمى بحرفين:
أحدهما: الحاء التي هى من أقصى الحلق، فهي مَبْدأ الصوت ومخرجها قريبٌ من مخرج الهمزة من أصل الصدر الذي هو (ق/123 أ) معدن الحب وقراره.
__________
(1) (ق): “وقوع”.
(2) (ظ): “للمحبة”، و (ق): “المحبة” والصواب ما أثبته.

(2/526)


ثم قرنوها بـ “الباء” (1) التي هى من الشفَتَين، وهى آخر مخارج الصوت ونهايته، فجمع الحرفان بدايةَ الصوت ونهايته، كما اشتمل معنى الحبِّ على بداية الحركة ونهايتها، فإن بداية حركةِ المحب من جهة محبوبه، ونهايتها الوصول (2) إليه، فاختاروا له حرفين هما بداية الصوتِ ونهايته، فتأمل هذه النكت البديعة تجدها ألطف من النسيم، ولا تَعْلَق إلا في هو يناسبها لطافةً وَرِقَّة.
فقل لكثيفِ الطبعِ وَيْحك ليسَ ذا … بِعشِّكَ فادْرجُ (3) سالمًا غيرَ غانِمِ
واشتقاقه في الأصل من الملازمة والثبات من قولهم: “أحبَّ البعير فهو محب” إذا برك (4) فلم يَثُر، فقال (5):
حُلْتَ عليه بالقَطِيْعِ ضَرْبًا … ضربَ بعير السُّوءِ إِذْ أحَبَّا
فلما كان المُحِب ملازمًا لذكر محبوبه، ثابتَ القلب على حُبه [مقيمًا] (6) عليه، لا يروم عنه انتقالًا ولا يبغي عنه زوالًا، قد اتخذ له في سويداء قلبه وطنًا وجعله له سكنًا:
تزولُ الجبال الراسياتُ وقَلْبُه … على العهدِ لا يلوي ولا يتغيرُ
فلذلك أَعْطَوه هذا الاسم الدال على الثبات واللزوم، ولما جاؤوا
__________
(1) وهو الحرف الثاني.
(2) (ظ ود): “إلى الوصول”.
(3) من أمثال العرب قولهم: “ليس هذا بعشك فادرجى” يُضرب لمن يرفع نفسَه فوق قدره. انظر: “مجمع الأمثال”: (2/ 181).
(4) (ق): “نزل”.
(5) هو: أبو محمد الفقعسي، كما في “اللسان”: (1/ 292) وفيه: “بالقفيل” وهو السوط، والقطيع” السوط -أيضًا-.
(6) في (ظ وق): “متيمًا” والمثبت من (د).

(2/527)


إلى المحبوب أعطوه في غالب استعمالهم لفظ: “فَعِيل” الدال على أن هذا الوصف، وهو كونه متعلق الحب أمر ثابت له لذاته، وإن لم يُحب فهو حبيب، سواء أَحبَّه غيره أم لا، وهذا (1) الوزن موضوع في الأصل لهذا المعنى كـ “شريف” وإن لم يشرفه غيره، وهو من بناء الأوصاف الثابتة اللازمة، كطويل وقصير وكريم وعظيم وحَليم وجميل وبابه، وهذا بخلاف “مفعول”، فإن حقيقته لمن تعلق به الفعل ليس إلا كـ “مضروب” لمن وقع عليه الضرب، “ومَقْتول ومَأكول” وبابه، فهجروا في أكثر كلامهم لفظ “محبوب” لما يُؤْذِن من أنه الذي تعلَّق به الحبُّ فقط، واختاروا له لفظ “حَبيب” الدال على أنه حبيب في نفسه، تعلَّقَ به الحبُّ أم لا، ثم جاؤوا إلى من قام به الحب فأعطوه لفظة “مُحِب” دون “حابٍّ” لوجهين:
أحدهما: أن الأصل هو الرباعي والنطق به أكثر، فجاءَ على الأصل.
الثاني: أن حروفه أكثر من حروف “حابّ”، والمحل محل تكثير لا محل تقليل (2).
فتأمل هذه المعاني التي لا تجدها في كتاب، وإنما هي رَوْضة: أُنُف مَنَحَ العزيزُ الوهاب فَهمَها وله الحمد والمنة، وقد ذكرنا من هذا وأمثاله في كتاب “التحفة المكية” ما لو وجدناه لغيرنا لأعطيناه حقَّه من الاستحسان والحدث، ولله الفضل والمنة.
وأما جَمْع الشاعر له على: “ثلاثة أحباب”؛ فلا يخرجه عن كونه
__________
(1) من قوله: “الوصف، وهو … ” ساقط من (د).
(2) “والمحل محل تكثير لا محل تقليل” ساقط من (ق).

(2/528)


مصدراً؛ لأنه أراد أن الحب ثلاثة أنواع وثلاثة ضُروب، وهذا تقسيم للمصدر نفسه، وهو تقسيم صحيح، فإن للحب بداية وتوسطًا ونهاية، فدو الشاعر الأقسام الثلاثة، فحُبُّ البداية هو: حب العلاقة وسمِّيَ علاقة لتعلّق القلب بالمحبوب، قال الشاعر (1):
أعلاقة أمَّ الوليدِ بعدما … أفنان رأسكِ كالثَّغامِ المُخْلس
والحب المتوسِّط، هو: حُبُّ التملُّق وهو التذلُّل والتواضع للمحبوب، والانكسار له، وتتبع مواقع رضاه، وإيقاعها على ألطف الوجوه، فهذا هو التملُّق، وهو إنما يكون بعد تعلُّق القلب به.
والحب الثالث: هو الذي يأسر (2) القلبَ ويصطلم العقلَ ويُذْهِب اللبَّ ويمنع القرارَ. وهذه المحبة تنقطع دونها العبارة، وتمتنع إليها الإشارة، ولي فيها من أبياتٍ (3):
وما هي إلا الموت أو هو دونَها … وفيها المنايا يَنْقلبن أَمَانيا
فقد بان لك أن الشاعرَ إنما أرادَ جَمْع الحب الذي هو المصدر باعتبار أنواعه وضروبه. ولنقطع الكلامَ في هذه المسألة، فمن لم يَشْبع من هذه الكلمات ففي “كتاب التحفة” أضعاف ذلك، والله الموفق.
عاد كلامه (4) قال: “فإن قيل: فقد قالوا: “سَقَم وأسقام”، والسَّقَم مصدر لسَقِمَ، فهذا جمعٌ لاختلافِ الأنواع؛ ألا، لأنه اسم كما ذكرت.
__________
(1) هو: المرار بن سعيد الفقعسي، والبيت من شواهد “الكتاب”: (1/ 60)، وانظر: “الخزانة”: (10/ 230، 11/ 232).
(2) (ظ): “باشر” وأهملت في (د).
(3) لم أقف على شئ منها في كتبه الأخرى.
(4) أي السهيلي في “نتائج الفكر”: (ص/ 365).

(2/529)


قيل: هذه غفلة! أليس قد قالوا: “سُقْم” بضمِّ السين، فهو عبارة عن الداء الذي به يسقم الإنسان، فصار كالدُّهن والشغل، وهو: في ذاته مختلف الأنواع، فجُمع.
وأمَّا المرض فقد يكون عبارة عن السُّقم والعِلة، فيُجْمع على “أمراض”، وقد يكون مصدرا، كقولك: مرض، فلا يجمع.
فإن قيل: تفريقك بين الأمرين (1) دعوى، فما دليلها؟.
قلنا: قولك: “عَرق يعرق عرقًا” لا يخفى على أحد أنه مصدر عرق، والعَرَق الذي هو جسم سائل مائع سائل من الجسد، لا يخْفى على أحدٍ أنه غير “العَرَق” الذي هو المصدر، وإن كان اللفظ واحدًا، فكذلك “المرض” يكون عبارة عن المصدر وعبارة (2) عن “السقم” والعلَّة، فعلى هذا تقول: “تصبَّب زيدٌ عرقًا” فيكون له إعرابان؛ تمييز -إذا أردت المائع-، ومفعول من أجله أو مصدر مؤكِّد -إذا أردت المصدر- وكذلك: “دميت إصبعي دمًا” إذا (3) أردت المصدر فهو [الدَّمَى] (4) محل العَمَى، وإن أردت الشيء المائع فهو “دم” مثل: “يد”، وقد يُسمَّى المائع بالمصدر، قال (5):
فَلَسْنا على الأعقابِ تَدْمى كُلُوْمُنا … ولكنْ عَلى أقدامنا تَقْطُر الدّما
فهذا (ق/124 أ) مقصور كالعصا، وعليه قول الآخر:
__________
(1) من قوله: “السُّقم والعنة … ” إلي هنا ساقط من (ق).
(2) (ق): “ويكون عبارة”.
(3) “دما” ليست في (ق) وفيها: “إذا”، و (د): “وأما إذا”.
(4) سقطت من الأصول، والاستدراك من “النتائج”.
(5) البَيت لحُصَين بن حمام المرِّي، انظر “حماسة أبى تمام”: (1/ 114)، ووقع فى الأصول: “على أعقابنا .. ” وهو خطأ.

(2/530)


*جَرَى الدمَيان بالخَبَر اليقينِ (1) *
فصل (2)
ومن حيث امتنع أن يؤكَّد الفعل العام بالمصدر لشيوعه -كما يمتنع توكيد النكرة لشيوعها، وأنها لم تَثبت لها عينٌ- لم يَجُز أن يخبر عنه كما لا يخبر عن النكرة، لا تقول: من فعل كان شرَّا له، بخلاف: من كذب كان شرًّا له؛ لأن “كذب” فعل خاصُّ فجاز الإخبار عما تضمَّنه من المصدر، ومن لمَّ لم يقولوا: “فعلت سريعًا” ولا: “عملت طويلاً”، كما قالوا: “سرت سريعا” و”جلست (3) طويلاً” على الحال من المصدر كما يكون الحال من الاسم الخاص ولا يكون من النكرة الشائعة.
فإن قلت: اجعله نعتا للمفعولِ المطلق، كأنك قلت: “فعلت فعلا سريعا”، و”عملت عملاً كثيرًا”.
قيل: لا يجوز إقامة النعت مقام المنعوت إلا على شروط مذكورة في موضعها، فليس قولهم: “سرت سريعا” نعتًا لمصدر نكرة محذوفة، إنما هو حال من مصدر في حكم المعرفة بدلالة الفعل الخاص عليه، فقد استقام الميسم (4) للناظر في فصول هذه المسألة، واستتبَّ القياس فيها من كل وجه.
فإن قيل: فما قولكم في “عَلِمت عِلمًا”، أليس هو مصدرًا لعلمت،
__________
(1) عجز بيتٍ لعلي بن بدال بن سليم، وصدره:
* فلو أنَّا على جُحْرِ ذُبحْنا *
من انظر: “الخزانة”: (7/ 482)، والبيت في “الأغاني”: (24/ 254) بلا نسبة.
(2) “نتائج الفكر”: (ص/ 367).
(3) (ق): “فعلت”، و (د): “حصلت”.
(4) باليا: العلامة. وبالنون -المنسم- أي: الطريق، وأصله خُفّ البعير.

(2/531)


فلِمَ جاء .. مكسور الأول كالطِّحْن والذِّبْح؟.
قيل: العلم يكون عبارةٌ عن المعلوم، كما تقول: “قرأتُ العلم”، وعبارة عن المصدر نفسه الذي اشتُقَّ منه “علمت”، إلا أن ذلك المصدرَ مفعولٌ لعلمت؛ لأنه معلوم بنفس العلم، لأنك إذا عَلِمت الشيءَ فقدْ علمته، وعلمتَ أنك علمته بعلم واحد؛ فقد صار العلم معلوما بنفسه، فلذلك جاء على وزن “الطِّحْن والذبْح”، وليس له نظير في الكلام إلا قليل، لا أعلم فعلا يتناول المفعول ويتناول نفسه إلا العلم والكلام؛ لأنك تقول للمخاطَب: “تكلم” فيقول: “قد تكلمت”، فيكون صادقًا وإن لم ينطق قبل ذلك. ولهذا قال النبي – صلى الله عليه وسلم – للأعرابي لما قال له: يا ابنَ عبد المطلب: “قد أجَبْتك” (1)، فكان “قد أجبتك” جوابا وخبرا عن الجواب، فتناول القول نفسه؛ ولذلك تعبدنا في التلاوة أن نقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1] لأن “قل” أمر يتناول ما بعدَه ويتناول نفسه، فمن ثمَّ جاء مصدر “القول” على “القِيل”، كما جاء مصدر “علمت” على “العلم”. وجاء أيضًا على “القال” وهو على وزن “القَبَض”؛ لأن القولَ قد يكون مقولاً (2) بنفسه، وجاء أيضًا على الأصل مفتوحَ الأول، وأما “العلم” فلم يجئ إلا مكسورًا مصدرا كان أو مفعولاً؛ لأنه لا يكون أبدًا إلا معلومًا بنفسه، و”القول” بخلاف ذلك، قد يتناول نفسه في بعض الكلام، وقد لا يتناول إلا المفعول (3)، وهو الأغلب.
__________
(1) في حديث أخرجه البخاري رقم (63)، ومسلم رقم (12) من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-.
(2) (ق): “مفعولا”!.
(3) في بعض نسخ “النتائج”: “المقول”.

(2/532)


وأما “الفكر” فليس باسمٍ عند سيبويه، ولذلك مَنَع من جمعه، فقال (1): “لا يُجْمع الفكر على أفكار”، حَمَله على المصادر التي لا تجمع. وقد استهوى الخطباءَ والقصاصَ خلافُ هذا، وهو كالعلم لقُرْبه منه في معناه، ومشاركته له في محلِّه، وأما “الذكر” فبمنزلة العلم؛ لأنه نوع (2) منه.

فصل (3)
فيما يحدد من المصادر بالهاء، وفيه بقايا من الفصل الأول.
قد تقدمَ أنَّ الفعلَ لا يدل على مَصدره إلا مطلقًا غير محدود ولا منعوت، وأنك إذا قلت: “ضربته (4) ضربة”، فإنما هي مفعول مُطْلق لا توكيد؛ لأن التوكيد لا يكون في معناه زيادة على المؤكد، ومن ثَمَّ لا تقول: “سِيْر بزيد سريعة حسنة”، تريد: سِيرةً كذلك، ولا “قعدت طويلةً”؛ لأن الفعل لا يدل بلفظه على المَرَّة الواحدة، ومن ثمَّ بطل ما أجاره النحَّاس (5) وغيرُه من قوله: “زيد ظننتها منطلق”، تريد: “الظِّنة”، لأن الفعل لا يدل عليها.
وإذا ثبتَ هذا فالتحديدُ في المصادر ليس يطَّرد في جميعها، ولكن فيما كان مها حركة للجوارح الظاهرة ففيه يقع التحديدُ غالبًا؛
__________
(1) في “الكتاب”: (2/ 200).
(2) (ق): “ممنوع”!.
(3) “نتائج الفكر”: (ص/ 369 – 374)، وفي (د): “فائدة”.
(4) “النتائج”: “ضربت”.
(5) هو: أحمد بن محمد أبو جعفر المصري، العلامة النحوي، صاحب “إعراب القرآن” وغيره، ت (338)، انظر: “إناه الرواة”: (1/ 101)، و “بغية الوعاة”: (1/ 362).

(2/533)


لأنه مضارع للأجناس الظاهرة التي يقع الفرق بين الواحد منه (1) والجنس بـ “هاء التأنيث”، نحو: تمرة وتمر، ونخلة ونخل، وكذلك تقول: ضَرْبة وضَرْب.
وأما ما كان من الأفعال الباطنة نحو: عَلِم وحَذِر وفَرق ووَجِل، أو ما كان طبعًا نحو: ظَرف وشَرُف، لا يقال في شيءٍ من هَذا: فَعلَةٌ، لا يقال: فَهم فهْمة، ولا: ظَرُف ظَرْفة. وكذلك ما كان من الأفعال عبارة عن الكثرة والقِلَّة نحو: طال وقَصر، وكبرَ وصَغْر، وقل وكَثر، لا تقول فيه: فَعْلَة.
وأما قولهم: “الكَبْرَة في الهَرَم”، فعبارة عن الصِّفة وليست بواحدة من الكبر، وكذلك الكثرة ليست كالضربة من الضرب؛ لأنك لا تقول: كَثُر كَثرًا.
وأما: “حمدًا”؛ فما أحسبه يقال في تحديده: حَمْدة، كما يقال: مَدْحة، والفرق بينهما أن “حِمد” يتضمَّن الثناء مع العلم بما يثني به، فإن تجردَ عن العلم كان مدحًا ولم يكن حمدًا، فكلُّ حَمْد فدح دون العكس، ومن حيث كان يتضمَّن العلم بخصال (2) المحمود جاء فعله على “حَمِد” بالكسر موازنَا لـ “علم”، ولم يجئ كذلك “مدح”، فصار المدح في الأفعال الظاهرة كالضرب ونحوه (ظ /195)، ومن ثَمَّ لم نجد في الكتاب ولا في السنة “حَمِد ربنا فلانًا”، وتقول: مدحَ الله فلانًا وأثنى علي فلان، ولا: تقول: حَمِد إلا لنفسه، ولذلك قال سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} بلام الجنس المفيدة للاستغراق، فالحمد كلُّه له إما
__________
(1) “النتائج” و (د): “فيه”
(2) (ق): “بحال”.

(2/534)


مُلْكًا وإما استحقاقًا، فَحَمْده لنفسه استحقاق، وحمدُ العباد له؛ وحمد بعضهم لبعض ملك له؛ فلو حَمِدَ هو غيرَه لم يَسُغ أن يقال في ذلك الحمد: ملك له؛ لأن الحمد كلامه؛ ولم يَسُغ أن يضاف إليه على جهة الاستحقاق وقد تعلَّقَ بغيره.
فإن قيل: أليس ثناؤه ومدحه لأوليائه إنما هو بما عَلِم، فلِمَ لا يجوز أن يُسمى حمدًا؟.
قيل: لا يُسَمى حمدًا على الإطلاق إلا ما يتضمن العلم بالمحاسن على الكمال، وذلك معدوم في غيره سبحانه، فإذا مَدَح فإنما يمدح بخصلة هى ناقصة في حق العبد، وهو أعلمُ بنقصانها، وإذا حَمِد نفسَه حَمِدَ بما عَلِمَ من كمال صفاته.
قلت (1): ليس ما ذكره من الفرق بين الحمد والمدح باعتبار العلم وعدمه صحيحًا، فإن كلَّ واحد منهما يتضمن العلم بما يحمد به غيره ويمدحه، فلا يكون مادحًا ولا حامدًا من لم يعرف صفات المحمود والممدوح، فكيف يصح قوله: “إن تجرد عن العلم لأن مَدْحًا”، بل إن لجرَّد عن العلم كان كلاما بغير علم، فإن طابقَ فصِدْق وإلا فكَذِب.
وقول: “ومن ثَمَّ لم يجئ في الكتاب والسنة: حمد ربنا فلانًا”، يقال: وأين جاء فيهما: “مدح الله فلانًا”، وقد جاء في السنة ما هو أخص من الحمد، وهو الثناء الذي هو تكرار المحامد، كما في قول النبي – صلى الله عليه وسلم – لأهل قباء: “ما هَذا الطهوْر الذي أَثْنى الله عليكمْ بِه ” (2)؟،
__________
(1) التعليق لابن القيم -رحمه الله-.
(2) أخرجه أحمد: (3/ 422)، وابن ماجه رقم (355)، وابن خزيمة رقم (83) =

(2/535)


فإذا كان قد أثنى عليهم، والثناءُ حَمْد متكرِّر، فما يمنع حمده لمن شاء من عباده؟!.
ثم الصحيح في تسمية النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – محمدًا: أنَّه الذي يحمده الله وملائكته وعباده المؤمنون. وأما من قال: الذي يحمده أهلُ السماء و (1) الأرض. فلا ينافي حمد الله تعالى، بل حمد أهل السموات والأرض له بعد حمد الله له، فلما حمده الله حمده أهل السموات وأهل الأرض (2).
وبالجملة؛ لما (3) كان الحمد ثناءً خاصًّا على المحمود، لم يمتنع أن يحمدَ اللهُ من يشاءُ من خَلْقه كما يثني عليه، فالصواب في الفَرْق بين الحمد والمدح أن يقال: الإخبار عن محاسن الغير، إما أن يكون إخبارًا مجردا من حب وإرادة، أو مقرونا بحبه وإرادته، فإن كان الأول؛ فهو المدح، وإن كان الثاني، فهو الحمد، فالحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حُبه وإجلاله وتعظيمه، ولهذا كان خبرا يتضمَّن الإنشاء، بخلاف المدح فإنه خبر مجرَّد، فالقائل إذا قال: “الحمد لله”، أو قال: “ربنا لكَ الحمد” تضمن كلامه الخبر عن كل ما يحمد عليه -تعالى- باسمٍ جامع محيط متضمن لكلِّ فردٍ من أفراد
__________
= والحاكم: (1/ 155)، والدارقطني: (1/ 62) وغيرهم من حديث جماعةِ من الصحابة.
وفي سنده مقال، ويصح بشواهده، وصححه ابن خزيمة والحاكم وحسّنه الزيلعى في “نصب الراية”: (1/ 219).
(1) (ظ ود): “أهل السماوات وأهل … “.
(2) من قوله: “فلا ينافي …. ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(3) (ظ ود): “فإذا”.

(2/536)


الحمد المحققَة والمقدَّرة؛ وذلك يستلزم إثبات كلِّ كمال يُحمد عليه الرب تعالى، ولهذا لا تصلح هذه اللفظة على هذا الوجه، ولا تنبغي إلا لمن هذا شأنه وهو الحميد المجيد.
ولما كان هذا المعنى مقارنا للحمد لا تقوم حقيقتُه إلا به فسره من فسَّره بالرضى والمحبة، وهو تفسير له بجزء مدلوله، بل هو رضاء ومحبة مقارنة للثناء عليه، ولهذا السر -والله أعلم- جاء فعله على بناء الطبائع والغرائز، فقيل: “حَمد” لتضمنه الحب الذي هو بالطبائع والسجايا أولى وأحق من “فَهم وحذر وسقم” ونحوه، بخلاف الأخبار المجرَّد عن ذلك وهو المدح، فإنه جاء على وزن “فَعَل”، فقالوا: مَدَحه، لتجرد معناه من معاني الغرائز والطبائع، فتأمل هذه النكتة البديعة، وتأمل الإنشاء الثابت في قولك: “ربنا لك الحمد”، وقولك: “الحمد لله”، كيف تجده تحت هذه الألفاظ، ولذلك لا يقال موضعها: “المدح لله”، ولا: “ربنا لك المدح” (1)، وسِرّه ما ذكرت لك من الإِخبار بمحاسن المحمود إخبارا مقترنا بحبه وإرادته وإجلاله وتعظيمه.
فإن قلت: فهذا ينقض قولكم: إنه لا يمتنع أن يحمدَ اللهُ تعالى من شاء من خلقه، فإن الله تعالى لا يتعاظمه شيءٌ ولا يستحق التعظيم غيره، فكيف يعَظِّم أحدًا من عباده؟.
قلت المحبة لا تنفك عن تعظيم وإجلال للمحبوب، ولكن يضاف إلى كلِّ ذاتِ بحسب ما تقتضيه خصائص تلك الذات، فمحبة العبد لربه تستلزم إجلاله وتعظيمه، وكذلك محبة الرسول تستلزم
__________
(1) (ق): “الحمد”!.

(2/537)


توقيره وتَعْزيره (1) وإجلاله، وكذلك محبة الوالدين والعلماء وملوك العدل، وأما محبة الرب عبدَه فإنها تستلزم إعزاره لعبده، وإكرامه إياه، والتنويه بذكره، وإلقاء التعظيم والمهابة له في قلوب أوليائه، فهذا المعنى ثابت في محبته وحمدِه لعبدِه، سُمِّي تعظيمًا وإجلالا أو لم يسَمَّ.
ألا ترى أن محبته -سبحانه- لرسله كيف اقتضت أن نوَّه بذكرهم في أهل السماء والأرض، ورفع ذكرَهم على ذِكر غيرهم، وغضب على من لم يحبهم ويوقوهم ويُجلهم، وأحلَّ به أنواعَ العقوبات في الدنيا والآخرة؟! وجعل كرامته في الدنيا والآخرة لمحبيهم وأنصارهم وأتباعهم، أو لا ترى كيف أمر عاده وأولياءه بالصلاة التي هي تعظيم وثناء على خاتمهم وأفضلهم صلوات الله وسلامه عليه؟! أفليس هذا تعظيمًا لهم وإعزازا وإكراما وتكريمًا (2)؟!.
فإِن قيل: فقد ظهر الفرق بين الحمد والمدح، واسْتَبان صبح المعنى وأسفر وجهه، فما الفرق بينه (3) وبين الثناء والمجد؟.
قل: قد تعدينا طَوْرَنا فيما نحن بصدده، ولكن نذر الفرق تكميلا لفائدة، فنذكر تقسيما جامعا لهذه المعاني الأربعة -أعني: الحمد والمدح والثناء والمجد- فنقول:
الإخبار عن محاسن الغير له ثلاثة اعتبارات؛ اعتبار من حيث المُخْبَر به. واعتبار من حيث الإخبار عنه بالخَبَر .. واعتبار من حيث
__________
(1) ليست في (ق)
(2) ليست في (ق)
(3) “بينه و” سقطت من (ق).

(2/538)


حال المُخْبِر. فمن حيث الاعتبار الأول ينشأ التقسيم إلى الحمد والمجد، فإن المخْبَر به إما أن يكون من أوصاف العظمة والجلال والسعة وتوابعها، أو من أوصاف الجمال والإحسان وتوابعها (1)، فإن كان الأول؛ فهو المجد، وإن كان الثاني؛ فهو الحمد، وهذا لأن لفظ “مجد” في لغتهم يدور على معنى الاتساع والكثرة، فمنه قولهم: “أمجد الدابةَ عَلَفًا”، أي: أَوْسعها عَلَفًا، ومنه: مَجُد الرجل فهو ماجد، إذا كَثر خيره وإحسانه إلىَ الناس قال الشاعر (2):
أنتَ تكون ماجدٌ نبيلُ … إذا تهبُّ شمْال بليلُ
ومنه قولهم: “في كلِّ شَجَرِ نارٌ، واسْتَمْجَد المَرْخُ والعَفَارُ” (3)، أي: كثرت النار فيهما.
ومن حيث (4) اعتبار الخبر نفسه ينشأُ التقسيم إلى الثناء والحمد، فإن الخبر عن المحاسن إمَّا مُتكرِّر (5) أَوْ لا، فإن تكرَّر فهو الثناء، وإن لم يتكرر فهو الحمد، فإن الثناءَ مأخوذٌ من الثني وهو العطف، وردُّ الشيءِ بعضه على بعض، ومنه: ثنيتُ الثوبَ، ومنه: التثنية في الاسم، فالمثْنِي مُكرِّر لمحاسن من يُثْني عليه مرةً بعد مرة.
__________
(1) من قوله: “أو من … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) هى: فاطمة بنت أسد، والبيت من شواهد ابن مالك في “شرح الكافية”: (1/ 413) وذكره البغدادي في “الخزانة”: (9/ 225 – 226) ضمن أبيات.
(3) أنظر: “مجمع الأمثال”: (2/ 445 – 446).
والمَرْخ والعَفَار نوع من الشجر يُسْرع الاشتعال، والمثل يضرب في تفضيل بعض الشي على بعض.
(4) (ق): “ومنه”.
(5) (ق): “إما أن يقع شكرًا … “.

(2/539)


ومن جهة اعتبار حال المخبر ينشأُ التقسيم إلى المدح والحمد، فإن المخبر عن محاسن الغير؛ إما أن يقترن بإخباره حُب له وإجلال أَوْ لا، فإن اقترن به الحب فهو الحمد، وإلا فهو المدح، فَحَصِّلْ هذه الأقسام ومَيِّزْها، ثم تأمَّل تنزيل قوله تعالى فيما رواه عنه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين يقول العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمَينَ}، فيقول الله: “حَمِدَني عبدني”، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال: “أثنى عَليَّ عبدي” لأنه كرَّر حمده. فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، قال: “مَجدَني عبدي” (1) فإنه وصَفَه بالمُلْك والعَظَمة والجلال.
فاحْمدِ اللهَ على ما ساقه إليك من هذه الأسرار والفوائد عَفوًا لم تسهر فيها عينُك، ولم يسافر فيها فكرُك عن وطنه، ولم تتجرَّد في تحصيلها عن مألوفاتك، بل هى عرائس معانٍ تُجلى عليك وتُزف إليك، فلك لذة التمتع بها ومهرها على غيرك، لك غُنْمها وعليه غُرْمها.
فصل
فلنرجع إلى كلامه (2) قال: “وكل ما حدِّد من المصادر تجوز تثنيته وجمعُه، وما لم يُحَدد فعلى الأصل الذي تقدَّم لا يثنى ولا يجْمَع، وقولهم: “إلا أن تختلف أنواعه”، لا تختلف أنواعه إلا إذا كان عبارة عن مفعولٍ مطلق اشْتُقَّ من لفظ الفعل لا عن مصدر اشْتُق الفعلُ منه، ولذلك تجده على ورد “فَعِل” بالكسر، وعلى ورد “فُعْل”، نحو: “شُغْل”، وعلى وزن “فَعَل” (3) نحو: “عَمل”، والذي
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (395) من حديث أبى هريرة -رضي الله عنه-.
(2) في “نتائج الفكر”: (ص/ 371).
(3) “نحو “شُغل على وزن فَعَل” ساقط من (ظ ود).

(2/540)


هو مصدر حقيقةً ما تجده على وزن “فَعْل”، نحو: “ضَرْب وقَتْلُ”، وأما “الشَّرب” بالفتح والضم والكسر، فـ “الشَّرْب” بالفتح، هو المصدر، و”الشُّرب” بالضم عبارة عن المشروب أو عن الحَدَث الذي هو مفعول مطلق في الأصل، وربما اتُّسِعَ فيه فأجْريَ مَجْرى المصدر الذي اشْتق الفعل منه، كما قال تعالى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)} [الواقعة: 55] بالضم والفتح”.
قلت (1): هذه كَبْوة من جواد، ونَبْوة من صارم، فإن “الشُّرب” بالضم هو المصدر، وأما المشروب فهو “الشِّرب” بكسر الشين، قال تعالى في الناقة: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)} [الشعراء: 155] فهذا هو المشروب، كما تقول: قِسْم من الماء وحَظ ونصيب تشربه في يومها (2)، ولكم حظ وقسم تستوفونه في يومكم، وهذا هو القياس في الباب كالذّبْح بمعنى المذبوح، والطحن للمطحون، والحِبّ للمحبوب، والحِمل للمحمول، والقِسْم للمقسوم، والعِرْس للزوجة التي قد عرس بها، ونظائره كثيرة جدًّا.
وأما “الشَّرب” بالفتح؛ فقياسه أن يكون جمع شارب، كصاحب وصَحْب، وتاجر وتجْر، وهو يُسْتعمل كذلك، وإطلاق لفظ الجمع عليه جريا على عادتهم، والصواب أنه اسم جَمْع، فإن “فَعْلاً” ليس من صيغ الجموع واستعمل أيضا مصدرًا، وقد قرئت الآية بالوجوه الثلاثة (3)، فمن قرأ بالضم أو الفتح فهو مصدر، ومن قرأ بالكسر فهو بمعنى المشروب، وعلى الأول يقع التشبيه بين الفعلين (4)، وهو
__________
(1) الكلام لابن القيم -رحمه الله-.
(2) (ق): “نوبتها”.
(3) انظر “تفسير القرطبي”: (14/ 88)، و”روح المعاني”: (9/ 114).
(4) (ق): “المفعولين”.

(2/541)


المقصود بالذكر، شَبَّه شربهم من الحميم بشرب الإبل العِطَاش التي قد أصابها الهيام، وهو داء تشرب منه ولا تَروَى، وهو جمع أَهيَم، وأصله “هيْم” بضم الهاء كأحمر وحُمر، ثم قلبوا الضمة كسرة لأجل الياء فقالوا: “هِيْم”. وأما قراءة الكسر فوجْهُها أنه شَبَّه مشروبهم بمشروب الإبل الهِيْم في كثرته وعدم الرِّي به، والله أعلم.
عاد كلامه، قال: “فإن قيل: فإن الفهم والعقل والوهم والظن، مصادر وليست مما ذكرتَ، وقد جُمِعتْ، فقالوا: أفهام وأوهام وعقول؟.
قيل: هذه مصادر في أصل وضعها، ولكنها قد أجريت مَجْرى الأسماء، حيث صارت عبارة عن صِفات لازمة وعن حاسَّة باطنة (1) كالبصر؛ ألا ترى أنك إذا قلت: “عَقَلت البعير عَقْلًا”، لم يَجُز في هذا المصدر الجمع، فإذا أردت به المعنى الذي اسْتُعير له -وهو عقل الإنسان- جاز جمعه؛ إذ صار للإنسان كأنه حاسة [باطنة] (2) كالبصر، ألا ترى أن “البصر” حيثما ورد في القرآن مجموع، والسمع غير مجموع في أجود الكلام، لبقاء السمع على أصله من بناء المصادر الثلاثية، ولكون البصر على وزن “فَعَل” كالأسماء، ولأنه يراد به الحاسة، وقد يجوز في السمع -على ضعف- أن تجمعه إذا أردت به الحاسة دون المصدر، كما تجمع الفهم على أفهام، ولكن لا يكون (3) ذلك إلا بشرط، وهو أن تكون الأفهام أو الأسماع ونحوها مضافة إلى جَمْع، نحو: “أفهام القوم” و”أسماع الزيدين”، ولو كان
__________
(1) (ظ ود): “ناطقة”.
(2) في الأصول: “ناطقة” والمثبت من “النتائج “.
(3) (ق): “يجوز”.

(2/542)


هذا الجمع إنما هو لاختلاف أنواع المصدر، لما جازَ أن تقول: “عرفت أفهامَ القوم في هذه المسألة”، و”عرفت علومهم”؛ لأن الصفة لا تختلف عند اتحاد متعلقها، بل هي متماثلة وإن اختلفت محالها، فعِلْم زيد وعلم عَمرو، إذا تعلَّقا بشيء واحد فهما مثلان، وعلم زيد بشيء واحد وعلمه بشيء آخر مختلفان لاختلاف المعلومَيْن.
والمقصود: أنَّ الأفهام والعقول لم تجمع لاختلاف أنواعها، لأنها قد تجمع حيث لا تختلف وهي (1) عند اتفاق أفهام على مفهوم واحد، وتجيء مفردةً عند اختلافها نحو: فهم زيد بالحساب والنحو، وغيرهما، لا يقال فيه: “عرفت أفهام زيد بالعلوم”، ولكن تقول: [عرفت] فهم زيد، بالإفراد مع اختلاف متعلَّقه، واختلاف متعلَّقه يوجب اختلافه.
وإذا ثبت هذا؛ فلم يجمع “الفَهْم” على “أَفْهام” إلا من حيث كان بمنزلة حاسة باطِنة للإنسان، فإذا أُضِيف إلى أكثرين (2) جُمع، وإذا أضيف إلى واحِدٍ لم يُجْمع؛ لأنه كالحاسة الواحدة، وإن كان في أصله مصدرًا، فربَّ مصدر أخري مجرى الأسماء، كـ “ضَيْف وضيوف” (3)، وعَدْل وعدول، وصَيْد وصيود.
وأما “رؤية العين” فليست الهاء فيها للتحديد، بل [هي] لتأنيث الصفة؛ كالكُدْرة (4) والصّفرة والحُمْرة، وكان الأصل فيها “رأيًا”،
__________
(1) (ق): “وهي هذا”.
(2) (ق): “كثيرين”، و”النتائج”: “أناسي كثيرة”.
(3) (ظ ود): “ضيفان”.
(4) في الأصول ونسخ “النتائج”: “القدرة”! والمثبت هو الصواب.

(2/543)


ولكنهم إنما يستعملون هذا الأصل مضافا إلى العين، نحو قوله تعالى: {رَأْيَ الْعَيْنِ} [آل عمران: 13] فإذا لم تُضَف استُعمل في الرأي المعقول، واستُعملت الرؤية في المعنى الآخر للفرق.
وأما “الظن” فمصدر لا يُثنَّى ولا يُجمع إلا أن تريد به الأمور المظنونة، نحو قوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)} [الأحزاب: 10] أي: تظنون أشياء كاذبة، فالظنون -على هذا- مفعول مطلق، لا عبارة عن الظن الذي هو المصدر في الأصل. والله أعلم.
فائدة (1)
“سحَر” على قسمين:
أحدهما: يُرَاد به سَحَر يوم بعينه معرفةً كان اليومُ أو نكرة، وهو في هذا ظرف غير منوَّن بشرط أن يكون اليوم ظرفا لا فاعلا ولا مفعولا، وفيه وجهان:
أحدهما: أن تعريفه لما فيه من معنى الإضافة، فإنك تريد: سَحَر ذلك اليوم، فحذف التنوين منه كما حذف في “أَجْمَع” و”أَكْتع” لما كان مضافا في المعنى.
والوجه الثاني: وهو اختيار سيبويه أن تعريفه باللام المقدرة، كأنك حين ذكرتَ يوما قبله وجعلته ظرفا، ثم ذكرت “سحر” فكأنك أردت: السَّحَر الذي من ذلك اليوم، فاستغنيت عن “الألف واللام” يذكر اليوم.
وهذا القول أصح للفرق الذي (2) بين “سحر” (ظ/97 أ) وبين
__________
(1) “نتائج الفكر”: (ص/ 375).
(2) ليست في (ق).

(2/544)


“أجمع”، فإن “أجمع” توكيد بمنزلة: “كله” و”نفسه”، فهو مضاف في المعنى إلى ضمير المؤكَّد، واستغنى عن إظهار الضمير بذكر المؤكد؛ لأن “الجمع” لا يكون إلا تابعا له، ولا يكون مخبرا عنه بحال، وليس كذلك “السحر”؛ لأنه بمنزلة “الفرس” و”الجمل” فإن أضفتَه لم يكن بدٌّ من إظهار المضاف إليه، وإنما هو معرف باللام، كما قال سيبويه. وهذا كله لما كان اليوم ظرفا لا مفعولا، فلو قلت: كرهت يوم السبت سحرَهُ، كان بدلا كما تقول: أكلت الشاة رأْسَها.
فإن قيل: فهلا قلتم: إنه يدل إذا كان ما قبله ظرفًا أيضًا؛ لأنه بعض اليوم، فيكون بدل البعض من الكل، كما كان ذلك إذا كان اليوم مفعولاً؟.
قيل: الفرق بينهما أن البدل يعتمد عليه ويكون المبدل منه في حكم الطرح، ويكون الفعلُ مخصوصا بالبدل بعدما كان عمومًا في المبْدَل منه، فإذا قلت: “أكلتُ السمكةَ رأسَها”، لم يتناول الأكل إلا رأسها، وخرج سائرها من أن يكون مأكولا، وليس كذلك: “خرجت يومَ الجمعة سحر”؛ لأن الظرفَ مقدر بـ “في” وجَعْل “سحر” ظرفا لا يخرج اليومَ عن أن يكون ظرفا أيضًا، بل يبقى على حاله؛ لأنه ليس من شرط الظرف أن يملأه ما يوضع فيه، فالكلام معتمد عليه، كما كان قبل ذكر “سحر”. نعم، وما هو أوسع من اليوم في المعنى، نحو: الشهر والعام الذي فيه ذكر اليوم، وما هو أوسع من العام كالزمان، كلّ وأحد من هذه ظرف للفعل الذي وقع في “سحر”. [وتخصيصك سَحَر] (1) بالذكر لا يخرج شيئا منها أن يكون ظرفا
__________
(1) ما بين المعكوفين من “النتائج”.

(2/545)


للفعل، فلذلك اعتمد الكلام على اليوم، واستغنى به عن تجديد آلة التعريف، بخلاف: “كرهت يوم السبت سحره” (1) أو “السحر منه”، لابُدَّ (2) من البدل فيه.
فقد بان الفرق، وبانت عِلَّة ارتفاع التنوين؛ لأنه لا يجامع “الألف واللام” ولا معناها، وإن كان في حكم المضاف -كما زعم بعضهم- فلذلك -أيضًا- امتنع تنوينه.
وأما مانع تصرُّفه وتمكنه، فإنك لما أردته ليوم هو ظرف، فلو تمكن خرج عن أن يكون من (3) ذلك اليوم؛ لأن الظرفية كانت رابطة بينهما ومشعرة بأن السحر من ذلك اليوم، فإذا قلت: “سِيْر بزيد يوم الجمعة سحرُ”، وجعلته مفعولاً على سَعَة الكلام، لم يجز لعدم الرابط بينه وبين اليوم، فإن أردت هذا المعنى فقل: “سِيْر بزيد يوم الجمعة سحر” أو “السحر منه” حتى يرتبط به؛ لأنك لا تقدر “الألف واللام” من غير أن يلفظ بهما إلا إذا كان في الكلام ما يغني عنهما. وأما إذا كان اسما متمكنًا كسائر الأسماء، فلابُدَّ من تعريفه بما تعرف به الأسماء، أو تجعله نكرةَ فلا يكون من ذلك اليوم.
فإن قلت: فقد أجازوا: “سِيْر بزيد يومُ الجمعة سحرَ” برفع “اليوم” ونصب “سحر”، فلم لا يجوز أيضًا: “يومَ الجمعة سحرُ” بنصب “اليوم” ورفع “سحر”؟.
قيل: لأن اليوم -وإن اتّسِعَ فيه- فهو ظرف في معناه، وهو
__________
(1) (ق وظ): “سحرًا”، و (د): “سحر” والمثبت من “النتائج”.
(2) في الأصول: “يدل” والمثبت من “النتائج”.
(3) سقطت من (ق).

(2/546)


يشتمل على “السحر”. ولا يشتمل “السحر” عليه، فلا يجوز إذا أن يتعرف “السحر” تعريفًا معنويًا حتى يكون ظرفا بمنزلةِ اليومِ الذي هو منه، ليكون تقديم اليوم مع كونه ظرفا مُغْنِيًا عن آلة التعريف.
فصل (1)
وأما “ضحوة” و”عشية” و”مساء”، ونحو ذلك، فإنها مفارقة لسحر من حيث كانت منوَّنة، وإن أردتَها ليوم بعينه، وهى موافقة له في عدم التصرف والتمكُن. والفرق بينهما: أن هذه أسماء فيها معنى الوصف؛ لأنها مشتقة مما تُوصَف به الأوقاتُ التي هى ساعات اليوم، فالعشي من العِشَاء، والضحوة من قولك: “فرس أضحى” و”ليلة إِضحيان” تُرِيد البياضَ، والصباح من “الأصبح”، وهو لون بين لونين (2)، فإذا قلت: خرجث اليوم عشيًّا وظلامًا، وضحَى وبصرا -حكاه سيبويه (3) – فإنما تريد: خرجتُ اليومَ في ساعة وصفها كذا، أو خرجت وقتًا مظلما أو مبصرا أو نحو ذلك، فقد بان لك أنها أوصاف لنكرات، وتلك النكرات هى أجزاء اليوم وساعاته؛ ألا ترى أنك إذا قلت: “خرجت اليوم ساعة منه”، أو: “مشيتُ اليوم وقتا منه”، لم يكن إلا منوّنا، إلا أن “ساعة ووقتًا” غير معين، “وضحوة وعشية” قد تخصصا بالصفة، ولكنه لم يتعرَّف، وإن كان ليومٍ بعينه؛ لأنه غير معرف بـ “الألف واللام”، كما كان “سحر”؛ لأن “سحر” اسم جامد يتعرَّف كالأسماء ويُخْبَر عنه، وأما نعته فلا يكون كذلك؛ لأن النعتَ لا يكون فاعلا ولا مفعولاً، ولا يُقَام مقام
__________
(1) “نتائج الفكر”: (ص/ 377).
(2) سقطت من (ق).
(3) “الكتاب”: (1/ 115).

(2/547)


المنعوت إلا على شُروط مخصوصة.
فإن قلت: أليس هذه الأوقات معروفة عند المخاطَب من حيث كانت ليوم بعينه، فلِمَ لا تكون معرفة كما كان “سحر” إذا كان ليوم بعينه؟.
قيل: لم يتعرَّف “سحر” بشيءٍ إلا بمعنى “الألف واللام” لا من حيث كان ليوم بعينه، فقد تعرِّف المخاطَبَ الشيءَ بصفتِهِ كما تعرف بآلة التعريف، فتقول: “رأيت رجلًا من صفته كذا وكذا”، حتي يعرفه المخاطب، فيسري إليه التعريف، وهو مع ذلك نكرة، وكذلك “ضحوة وعشية”، وإنما اسْتغني عن ذكر المنعوت بهذه الصفات لتقدّم ذكر اليوم الذي هو مشتمل: على الأوقات الموصوفة بهذه المعانى، كما استُغْني عن ذكر المنعوت إذا قلت: “زيد قائم”، ولاشك أن المعنى: “زيد رجلٌ قائم”، ولكن ترك ذكر الرجل لأنه “زيد”، وكذلك: “جاءني زيد صالحًا”، أي (1): رجلاً صالحًا، ولكن زيدًا هو الرجل فأغناك عن ذكره، وكذلك ما نحن (2) بسبيله من هذه الأسماء التي هي في نفسها أوصاف لأوقات أَعنى ذكر اليوم -الذي هي له- عن ذكرها لاشتمالها عليه، ولم أيكن ذلك في “سحر”، ومن ثمَّ أيضًا لم تتمكن، فتقول: “سِيْر عليه يوم الجمعة ضحوةً وعشيةً”، لأن تمكنها يخرجها إلى حيز الأسماء ويُبْطِل منها معنى الصفة، فلا ترتبط حينئذ باليوم الذي أردتها له، وينضاف إلى هذه العلة علة أخرى قد تقدَّمت في فصل “سحر”. وكذلك كل ما كان من الظروف نعتًا في الأصل،
__________
(1) من قوله: “قائم، ولاشك .. ” ساقط من (ق).
(2) (ق) وبعض نسخ “النتائج”: “لَحِق”.

(2/548)


نحو: “ذا [صباح] (1) ” و”ذاتَ مَرَّة” و”أقمتُ طويلًا” و”جلست قريبا”، لا يتمكن ولا يخرج عن الظرف.
ويلحق بهذا الفصل: “نهارًا” إذا قلت: “خرجتُ اليومَ نهارًا”؛ لأنَّه مشتقٌّ مِن: “أَنْهِرِ الدَّمَ بما شِئْت” (2) يريد الانتشار والسعة، ومنه: “النهر” من الماء؛ لأنه بالإضافة إلى موضع تفجره كالنهار بالإضافة إلى فجوه؛ لأن [النهار] (3) ما ينتشر (4) ويتسع، فما تفجَّر من الماء والنهر، بمنزلة ما انتشر واتسع من فجر الضياء، واليوم أوسع من النهار في معناه، فصار قولك: “خرجتُ اليوم نهارًا” كقولك: “خرجتُ اليومَ (5) ” ظهرًا وعشيًّا”، معنى الاشتقاق فيها كلها بَيِّن، فجَرَت مجرى الأوصاف النكرات في تنوينها وعدم تمكنها.
قلت: ولما كان النهار أوسع من النهر، خُصَّ بالألف المعطية اتساع النطق وانفتاح الفم دون النهر.
فصل (6)
وأما “غُدْوَة” و”بُكْرة” فهما اسمان عَلَمان، وعدم التنوين فيهما
__________
(1) في الأصول: “حاج”! والمثبت من “النتائج”.
(2) أخرجه أبو داود رقم (2428)، والنسائي (7/ 225)، وابن ماجه رقم (3177) من حديث عدي بن حاتم -رضي الله عنه-.
وفي سنده سِماك بن حرب متكلم فيه، ومرِّي بن قطري، قال الحافظ؛ “مقبول”.
(3) في الأصول: “النهر” والمثبت من “النتائج”.
(4) (ق): “ما يتفجر وينتشر .. “.
(5) “نهارًا كقولك: خرجت اليوم” سقطت من (ق).
(6) “نتائج الفكر”: (ص / 380).

(2/549)


للتعريف والتأنيث، والذي أخرجهما عن باب “ضحوة” و”عشية” -وإن كان فيهما معنى الغدوِّ والبكور- كما كان في أخواتهما معاني الفعل أنهما قد بُنِيا بناءً لا تكون عليه المصادر ولا النعوت وغيرها للعَلَمية، كما غيِّر “عُمَارة” و”عُمَر” (1) وأشباههما، وكما غُيِّر “الدَّبَران” (2)، وفيه معنى الدبور، إيذانا بالعلمية وتحقيقا لمعناها، ألا ترى أن “ضحوة” على ورد “صَعبة” من النعوت، و”ضربة” من المصادر، والمصادر يُنْعتَ بها، و”ضُحًى” على وزن “هُدًى” وعلى وزن “حُطَم” من النعت، وكذلك سائر تلك الأسماء، و”غدوة” و”بكرة” بخلاف ذلك، قد غُيِّرتا عن لفظ الغُدو والبكور تغييرًا بيِّنًا ففارقتا الفصلَ المتقدِّم.
فإن قيل: فلعلَّ امتناع التنوين فيهما بمثابة امتناعه في “سحر” ليومٍ بعينه.
قيل: كلامُ العرب يدل على خلاف ذلك؛ لأنهم لا يكادون يقولون: “خرجت اليوم في الغدوة”، ولا: “الغُدْوة خير من أول الليل”، كما يقال: “السحرُ خير من أول الليل”، فالسحر كسائر الأجناس في تنكيره وتعريفه، و”غدوة” و”بكرة” من اليوم بمنزلة “رَجَب” و”صَفَر” من العام، فقد تبين مخالفتهما لسحر وضحوة وأخواتهما، وأنهما بمنزلة أسماء الشهور (3) الأعلام وأسماء الأيام الأعلام، نحو: السبت والجمعة.
وإذا ثبت هذا فَهُما اسمان متمكِّنان يجوز إقامتهما مقام الفاعل
__________
(1) فى الأصول: “عمرو” وهو خطأ.
(2) من منازل القمر، انظر: “اللسان”: (4/ 271).
(3) (ق): “الأشهر”.

(2/550)


إذا قلت: “سِيْر بزيد يومَ الجمعة غُدْوةُ”، فلا يحتاج إلى إضافة ولا لام تعريف، وتقول “سِيْر به يومُ الجمعة غدوةَ”، على الظرفِ فيهما جميعًا؛ لأنها بعض اليوم، كما تقول: “سِرت العامَ رجَبًا كلَّه”، وتقول: أيضًا: “سير به يومُ الجمعة غدوةُ” برفعهما، كأنها بدل من (1) اليوم، ولا تحتاج أيضًا إلى الضمير كما تحتاج في بدل البعض من الكل؛ لأنها ظرف في المعنى. ولو قلت: “كُرِه يومُ السبت غدوةُ” على البدل، لم يكن بدٌّ من إضافة “غُدوة” إلى ضمير المبدل منه؛ لأن اليوم ليس بظرف، فيكون كقولك: “كرهت يومَ الخميسِ سحَرَه”، إذا أردت البدلَ، لأن المكروه هو السحر دون (ق / 129 ب) سائر اليوم، وإنما يُسْتغنى عن ضمير يعود على اليوم إذا تركته ظرفا على حاله؛ لأن بعض اليوم إذا كان ظرفا لفعل، كان جميع اليوم ظرفا لذلك الفعل.
واعلم أنه ما كان من الظروف له اسم عَلَم، فإن الفعل إذا وقع فيه تناول جميعه، وكان الظرف مفعولاً على سَعَة الكلام، فإذا قلت: “سِرتُ غدوةَ”، فالسير وقع في الوقتِ كله، وكذلك: “سِرت السبتَ والجمعة، وصفر والمحرم”، كله مفعول (2) على سَعَة الكلام لا ظرف للفعل؛ لأن هذه الأسماء لا يطلبها الفعل ولا هي في أصل موضوعها زمان، إنما هي عبارة عن معانٍ أُخَر، فإن أردتَ أن تجعل شيئًا منها ظرفًا، ذكرتَ لفظَ الزمان وأضفتَه إليها، كقولك: “سِرتُ يومَ السبت” و”شهر المحرم”، فالسير واقع في الشهر ولا يتناول جميعَه إلا بدليل، والشهر ظرف وكذلك اليوم.
__________
(1) سقطت من (ق).
(2) سقطت من (ق).

(2/551)


قال سيبويه (1): “ومما لا يكون الفعل إلا واقعا به كله: “سرت المحرم وصفر””، هذا معنى كلامه. وإذا ثبت هذا؛ فرجب ورمضان أسماء أعلام إذا أردتها (ظ/98 ب) لعامٍ بعينه، أو كان في كلامك ما يدل على عام تضيفها إليه، فإن لم يكن ذلك صار الاسم نكرة، تقول: “صمتُ رمضان ورمضانا آخر”، و”صمت الجمعةَ وجمعة أخرى”، إنما أردت جمعةَ أسبوعِك ورمضان عامِك، وإذا كان نكرة لم يكن إلا شهرا واحدا، كما تكون النكرة من قولك: “ضربت رجلا”، إنما تريد واحدا، وإذا كان معرفةً يكون ما (2) يدل على التمادي وتوالي الأعوام، لم يكن حينئذ واحدًا، كقولك: “المؤمن يصوم رمضان”، فهو معرفة لأنك لا تريده لعام (3) بعينهِ؛ إذ المعنى: يصوم رمضان من كل عام على التمادي وذِكْرُ الإيمان قرينةٌ تدل على المراد، ولو لم يكن في الكلام ما يدلُّ على هذا لم يكن محمله إلا على العام الذي أنت فيه (4).
وإذا ثبت هذا؛ فانظر إلى قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] وفي الحديث: “مَنْ صامَ رَمَضان” (5) و”إذا دَخَلَ رمَضان” (6)، بدود لفظ الشهر. ومُحال أن يكون فعل ذلك
__________
(1) “الكتاب”: (1/ 110).
(2) كذا بالأصول، واستظهر محقق “النتائج” أنها: “مقترنة بما”.
(3) (ظ ود): “لعام واحد”.
(4) بعده في “النتائج”: “أو عام تقدم له ذكر”.
(5) أخرجه البخاري رقم (1901)، ومسلم رقم (760) من حديث أبى هريرة -رضي الله عنه-.
(6) أخرجه البخاري رقم (3103)، ومسلم رقم (1079) من حديث أبى هريرة -رضي الله عنه-.

(2/552)


إيجازاً واختصاراً، لأن القرآن أبلغ إيجازًا وأبين إعجازاً، ومُحال أيضا أن يدع – صلى الله عليه وسلم -، لفظ القرآن مع تحرِّيه لألفاظه، وما عُلِم من عادته من الاقتداء به، فيدع ذلك لغير حكمة، بل لفائدة جسيمة ومعان شريفة اقتضت الفرق بين الموضعين.
وقد ارتبك الناسُ في هذا الباب فكرهَتْ طائفة أن يقولوا: “صمتُ رمضانَ”، بل “شهر رمضان”، واستهوى ذلك (ق / 130 أ) الكُتَّاب، واعتلَّ بعضهم في ذلك برواية مَنْحولةٍ إلى ابن عباس: “رمضانُ اسمٌ مِن أسماءِ الله” (1)، قالوا: ولذلك أضيف إليه الشهر، وبعضهم يقول: إن رمضان هن الرَّمْضاء، وهو الحر، وتعلق الكراهية بذلك، وبعضهم يقول: إن هذا استحباب واقتداء بلفظ القرآن.
وقد اعتنى بهذه المسألة أبو عبد الرحمن النسائي لِعِلْمه وحِذْقه، فقال في “السنن” (2): باب جواز أن يُقال: دخل رمضان أو صمت رمضان، وكذلك فعل البخاري (3)، وأوردَ الحديثَ المتقدم: “مَنْ صَامَ رَمَضانَ”.
وإذا أردت معرفة الحكمة والتحقيق في هذه النكتة، فقد تقدَّم أن
__________
(1) أخرجه ابن عدي في “الكامل”: (7/ 53)، والبيهقي في “الكبرى”: (4/ 201) من حديث أبي هريرة مرفوعًا، وضعّفه ابن عدي بأبي مَعشر الراوي عن أبي هريرة، قال الحافظ في “الفتح”: (4/ 135): “وقد رُوي عن أبي معشر عن محمد بن كعب وهو أشبه، وروي عن مجاهد والحسن من طريقين ضعيفين” اهـ. ورجح أبو حاتم في “العلل”: (1/ 249) أنه من قول أبي هريرة، ولم أجده من رواية ابن عباس.
(2) (4/ 130) وفيه: “الرخصة في أن يقال لشهر رمضان: رمضان”.
(3) مع “الفتح”: (4/ 135) وبوَّب: “باب هل يقال: رمضان أو شهر رمضان، ومن رأى كله واسعًا”.

(2/553)


الفعل إذا وقع على هذه الأسماء الأعلام فإنه يتناول جميعَها، ولا يكون ظرفا مقدرًا بـ “في” حتى يذكر لفظ الشهر أو اليوم، الذي أصله أن يكون ظرفا، وأما الاسم العلم فلا أصل له في الظرفية.
وإذا ثبت هذا؛ فقوله سبحانه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] فيه (1) فائدتان أو أكثر:
أحدهما: أنه لو قال: “رمضان الذي أنزل فيه القرآن”، لاقتضي اللفظ وقوع الإنزال على جميعِهِ، كما تقدَّم من قول سيبويه، وهذا خلاف المعنى؛ لأن الإنزال كان في ليلة واحدة منه في ساعة منها، فكيف يتناول جميع الشهر؟، فكان ذكر الشهر (2) الذي هو غير عَلَم موافقا للمعنى، كما تقول: “سِرت في شهر كذا”، فلا يكون السير متناولا لجميع الشهر.
والفائدة الأخرى: أنه لو قال {رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}، لكان حكم المدح والتعظيم مقصورًا على شهرٍ بعينه؛ إذ قد تقدَّم أن هذا الاسم وما هو مثله إذا لم تقترن به قرينة تدلُّ على توالي الأعلام التي هو فيها، لم يكن محمله إلا العام الذي أنت فيه، أو العام المذكور قبلَه. فكان ذكْر الشهر -الذي هو الهلال في الحقيقة- كما قال الشاعر (3):
* والشَّهْر مِثلُ قُلامَةِ الظُّفْرِ *
__________
(1) سقطت من (ق).
(2) “فكان ذكر الشهر” سقطت من (ق).
(3) ذكره الخطابي في “غريب الحديث”: (1/ 130) بلا نسبة، وصدره:
* ابدأْن مِن نَجْدِ عَلَى ثقةٍ *

(2/554)


يريد: الهلال، مقتضيًا لتعليق الحكم الذي هو (ظ/99 أ) التعظيم بالهلال والشهر المسمى بهذا الاسم، متى كان في أيِّ عام كان، مع أن رمضان وما كان مثله لا يكون معرفة في مثل هذا الموطن؛ لأنه لم يرد لعام بعينه؛ ألا ترى أن الآية في سورة البقرة وهي من آخر ما نزل، وقد كان القرآن أنزل قبل ذلك بسنين، ولو قلت: “رمضان حج فيه زيد”، تريد: فيما سلف، لقيل لك (1): أيُّ رمضان كان؟ ولزمك أن تقول: “حجَّ في رمضان من الرمضانات” (2)، حتى تريد عاما بعينه كما سبق.
(ق / 130 ب) وفائدة ثالثة: في ذكر الشهر، وهو التبيين في الأيام المعدودات (3)، لأن الأيام تتبين بالأيام وبالشهر ونحوه، ولا تبين بلفظ “رمضان”، لأنه لفظ مأخوذ من مادة أخرى، وهو أيضًا عَلَم فلا ينبغي أن تبين به الأيام المعدودات، حتى يذكَر الشهر الذي هو في معناها ثم تُضَاف إليه.
وأما قوله [- صلى الله عليه وسلم -]: “من صام رمضان”، ففي حذف الشهر فائدة أيضا وهي تناول الصيام لجميع الشهر، فلو قال: “من صام أو قام شَهر رمضان” لصار ظرفًا مقدراً بـ “في”، ولم يتناول القيام والصيام جميعه، فرمضان في الحديث مفعول على السَّعَة مثل قوله: {قُمِ اللَّيْلَ} [المزمل: 2]؛ لأنه لو كان ظرفًا لم يحتج إلى قوله: {إِلَّا قَلِيلًا (2)}.
__________
(1) (ق): “بعد ذلك”.
(2) لعل المقصود بـ “رمضان) -مجردًا عن لفظة: الشهر- السنة والعام، كما تطلق الجمعة ويراد بها الأسبوع.
(3) سقطت من (ق).

(2/555)


فإن قيل: فينبغي إن يكون قوله: “من صام (1) رمضان” مقصورا على العام الذي هو فيه، لما لَقدَّم من قولكم: إنه إنما يكون معرفة عَلَمًا إذا أردته لعامك أو لعامٍ بعينه.
قيل: قوله: “مَنْ صَام رمضان”، على العموم؛ خطابٌ لكل قرن ولأهل كل عام، فصار بمنزلةِ قولك: “من صام كلَّ عام رمضان”، كما تقول: “إن جئتني كلَّ يوم سحرا أعطيتك”، فقد [اقترنت به] (2) قرينة تدل على التمادي وتنوب مَنَاب ذكر “كلِّ عام”؛ وقد اتضح الفرقُ بين الحديثين والآية. فإذا فهمت فَرْقَ ما بينهما بعد تأمل هذه الفصول وتدبرها، ثم لم تَعْدل عندك هذه الفائدة جميع الدنيا بأسرها فما قدرتها حقَّ قدرها، والله المستعان على واجب شكرها. هذا نص كلام السُّهيلي بحروفه، ثمَّ قال:
“فصل (3)
الفعل، يعمل في الحقيقة إلا فيما يدل عليه لفظُه، كالمصدر والفاعل والمفعول به، أو فيما كان صفة لواحد من هذه نحو: “سرت سريعًا”، و”جاء: زيد ضاحكًا”؛ لأن الحالَ هي صاحبُ الحال في المعنى. وكذلك النعتُ والتوكيدُ والبدل؛ كلُّ واحد من هذه هو الاسم الأول في المعني، فلم يعمل الفعلُ إلا فيما دلَّ عليه لفظه؛ لأنك إذا قلت: “ضرَب” اقتضى هذا اللفظ “ضربًا” و”ضاربًا” و”مضروبًا”، وأقوى دلالته على المصدر؛ لأنه هو الفعل في المعنى،
__________
(1) بالأصول: “قام”، والمثبت من “النتائج” بدليل ما بعده.
(2) معرفة في الأصول، والإصلاح من “النتائج”.
(3) “نتائج الفكر”: (ص/ 387).

(2/556)


ولا فائدة في ذكره مع الفعل إلا أن تريد التوكيد أو تبيين النوع منه، وإلا فلفظ الفعل مُغْنٍ عنه، ثم دلالة الفعل على الفاعل أقوى من دلالته على المفعول به من وجهين:
أحدهما: أنه يدلُّ على الفاعل بعمومه وخصوصه، نحو: “فَعَل زيد”، و”عَمِل عَمْرو”. وأما الخصوص فنحو: “ضربَ زيد عَمْرًا”، ولا تقول: “فعل زيد عَمْرا”، إلا أن يكون الله هو الفاعل سبحانه.
والوجه (ق / 131 أ) الآخر: أن الفعل هو حركة الفاعل، والحركة لا تقوم بنفسها، وإنما هي متصلة بمحلها، فوجبَ أن يكون الفعلُ متصلا بفاعله لا بمفعوله، ومن ثمَّ [قالوا “ضربت”، فجعلوا ضمير الفاعِل كبعض حروف الفعل، ومن ثم] (1) قالوا: “ضرْب زيد لعمرو”، و”ضرْب زيدٍ عَمْرًا”، فأضافوه إلى المفعول باللام تارة وبغير لام أخرى، ولم يضيفوه إلى الفاعل باللام أصلا؛ لأن اللام تؤذن بالانفصال (ظ/99 ب)، ولا يصح انفصال الفعل عن الفاعل لفظًا، كما لا ينفصل عنه معنى”.
قلت (2): وفي صِحَّة قوله: “ضرْب زيد لعَمْرو” نظر، والمعروف الإتيان بهذه اللام إذا ضَعُف الفعل بالتأخير، نحو قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)} [يوسف: 43] أو كان اسمًا نحو: “أنا ضارب لزيد”، أو: “يعجبني ضربُك لزيد”، لضعف العامل (3) في هذه المواضع دُعِّم باللام، ولا يكادون يقولون: “شربت للماء”،
__________
(1) ما بين المعكوفين ساقط من الأصول، والاستدراك من “النتائج”.
(2) الكلام لابن القيم -رحمه الله-.
(3) (ق): “لضعفت العوامل”.

(2/557)


و”أكلت للخبز” (1).
قال: “فإن قيل: فإن الفعل لا يدل على الفاعل معينًا، ولا على المفعول معينا، وإنما يدل عليهما مطلقًا؛ لأنك إذا قلت: “ضرب” لم يدل على “زيد” بعينه، وإنما يدل على “ضارب”، وكذلك “المضروب”. وكان ينبغي أن لا يعمل حتى تقول: “ضرَبَ ضاربٌ مضروبًا”، بهذا اللفظ، لأن لفظ “زيد” لا يدل عليه لفظ الفعل ولا يقتضيه.
قيل: الأمر كما ذكرت، ولكن لا فائدةَ عند المخاطب في الضارب المطلق، ولا في المفعول المطلق؛ لأن لفظ الفعل قد تضمنهما، فوضعَ الاسم المعين مكان الاسم المطلق تبيينا له، فعَملَ فيه الفعل، لأنه هو هو (2) في المعنى، وليس بغيره”.
قلت (3): الواضع لم يضع هذه الألفاظ في أصل الخطاب مقتضية فاعلا مطلقا ومفعولا مطلقًا، وإنما جاء اقتضاءُ المطلقِ من العقل لا من الوَضْع، والواضع إنما وضعها مقتضيات لمعيَّن من فاعل ومفعول طالبة له، فما لم يقترن بها المعيَّن كان اقتضاؤها وطلبها بحاله؛ لأن الإخبار والطلب إنما يقعان على المعيَّنِ.
فإن قيل: فلو كانت قد وُضِعت مقتضيةً لمعيَّن لم يصح إضافتها إلى غيره، فلما صحَّ نسبتها وإضافتها إلى كلِّ معيَّن عُلِم أنها وضعت مقتضية للمطلق.
قيل: الفرقُ بين المعيَّن على سبيل البدل، والمعيَّن على سبيل
__________
(1) (ق): “الماء … الخبز”.
(2) “هو” الثانية ليست في (ظ ود).
(3) الكلام لابن القيم -رحمه الله-.

(2/558)


التعيين بحيث لا يقوم غيره مقامه. والسؤال إنما يلزم أَنْ لو قيل: إنها مقتضية للثاني. أما إذا كانت مقتضية لمعيَّن من المعيَّنات على سبيل البدل لم يلزم ذلك السؤال، والله أعلم.
قال: “وإذا ثبت ما قلناه، فما عدا هذه الأشياء فلا يصل إليه الفعل (ق/ 131 ب) إلا بواسطة حرف، نحو: “المفعول معه” و”الظرف المكاني”، نحو: “قمت في الدار”؛ لأنه لا يدلُّ عليه بلفظه، وأما ظرف (1) الزمان، فكذلك أيضا؛ لأن الفعل لا يدل عليه بلفظه ولا بِبِنْيته، وإنما يدلُّ بِبِنْيته على اختلاف أنواع الحَدَث، وبلفظه على الحدث (2) نفسه، وهكذا قال سيبويه في أول “الكتاب” (3)، وإن تسامحَ في موضعٍ آخر (4).
وأما الزمان؛ فهو حركة الفلك، فلا ارتباط بينه وبين حركة الفاعل إلا من جهة الاتفاق والمصاحبة، إلا أنهم قالوا: “فعلت اليوم”؛ لأن اليومَ ونحوه أسماء وُضعتْ للزمان يَتَورخَّ بها الفعل الواقع فيها، فإذا سمعها المخاطب علم المراد بها، واكتفى بصيغتها عن الحرف الجار. فإن أَضْمَرتها لم يكفِ لفظ الإضمار، ولا أَغْنى عن الحرف، لأن لفظ الإضمار يصلح للزمان ولغيره، فقلت: يومَ الجمعة خرجت فيه، وقد تقول: خرجت في يوم الجمعة، لأنها وإن كانت أسماء موضوعة للتأريخ فقد يُخْبر عنها (5)، كما يُخْبر عن
__________
(1) (ظ ود): “لفظ”.
(2) (ق): “الحديث” في الموضعين.
(3) (1/ 2).
(4) (1/ 15)، كما تقدمت الإشارة إليه في أول هذا الكتاب.
(5) بعده في “النتائج”: “فتقول: ذهب اليوم”.

(2/559)


المكان، إلا أن الإخبار عن المكان المحدود أكثر وأقوى؛ لأن الأمكنة أشخاص كزيد وعَمرو، وظروف الزمان بخلاف ذلك، فمن ثَمَّ قالوا: “سرت اليوم” و”سرت في اليوم”، ولم يقولوا: “جلستُ الدارَ” (1)
فصل (2)
فإن كان الظرف مشتقا من فعل، (ظ/ 100 أ) تعدَّى إليه الفعل (3) بنفسه؛ لأنه في معنى الصفة لا تتمكن ولا يُخْبر عنها، وذلك: كـ “قبل” و”بعدُ” و”قريبا منك”؛ لأن في “قَبْل” معنى المقابلة، وهي من لفظ “قَبَل”، و”بَعْدُ” من لفظ “بَعُدَ”، وهذا المعنى هو من صفة المصدر؛ لأنك إذا قلت: “جلست قبل جلوس زيد”، فما (4) في “قبل” من معنى المقابلة فهو في (5) صفة جلوسك، ولم يمتنع الإخبار عن “قبل” و”بعد” من حيث كان غير محدود، لأن الزمان والدهر قد يُخْبر عنهما وهما غير محدودين. تقول: “قمت في الدهر مرةً”، وإنما امتنع: “قمتُ في قبلك”، للعلة التي ذكرناها.
ومن هذا النحو ما تقدم في فصل “غدْوة” و”عَشيَّة” من امتناع تلك الأسماء من التمكن، لما فيها من معنى الوصف (6)، نحو: “خرجت بَصَرًا وظلامًا” و”عشية وضحى”، وإن كنا قد قدَّمنا أن هذه
__________
(1) “جلست الدار” ليست في (ظ ود). وبعدها في “النتائج”: “بغير حرف الوعاء”.
(2) “نتائج الفكر”: (ص/ 389).
(3) (ق): “المفعول “.
(4) (ق): “فما كان”.
(5) كذا في الأصول، وأصلحها محقق “النتائج” إلى: “من”.
(6) بعدها في “النتائج”: “وما فيها من معنى الوصف راجع إلى الاسم الذي هو: الفاعل”. وانظر ما تقدم (2/ 549).

(2/560)


المعاني أوصاف للأوقات، فليس بمناقض لما قلناه آنفا؛ لأن الأوقات قد توصف بهذه المعاني مجارا، وأما في الحقيقة فالأوقات هي الفَلَك، والحركة لا توصف بصفة معنوية؛ لأن العَرَض لا يكون حاملا لوصف.
ومن هذا الفصل (1): “خرجت ذات يوم” و”ذات مرة”؛ لأن “ذات” (ق/132 أ) في أصل وضعها وصف للخرجة ونحوها، كأنك قلت: “خرجت خرجةً ذات يوم”، أي: لم يكن إلا في يوم واحد، فمن ثَمَ لم يجز فيها إلا النصب، ولم يَجُز دخول الجار عليها، وكذلك: “ذا صباح” و”ذا مساء” في غير لغة خَثْعَم.
فإن قيل: فلِمَ أعربها النحويون ظرفا إذا كانت في الأصل مصدرًا؟.
قيل: لأنك إذا قلت: “ذات يوم”، عُلِم أنك تريد يومًا واحدًا، وقد اخْتُزِل المصدر ولم يبق إلا لفظ اليوم مع الذات، فمن ثَمَّ أعربوه ظرفا، وسر المسألة (2) في اللغة ما تقدم.
وأما “مرة” فإن أردت بها فَعْلَة واحدة من مرور الزمان؛ فهي ظرف زمان، وإن أردت بها فَعْلة واحدة من (3) المصدر، مثل قولك: “لقيته مرة”، أي: لَقْيَة، فهي مصدر، وعبَّرتَ عنها بالمرة، لأنك لما قطعت اللقاء ولم تصله بالدوام صار بمنزلة شيء مررتَ به ولم تُقِم عنده، فإذا جعلتَ المرة ظرفًا، فاللفظ حقيقة؛ لأنها من مرور الزمان، وإذا جعلتها مصدرًا فاللفظ مجاز إلا أن تقول: مررت مرة، فيكون حينئذ حقيقة.
__________
(1) (ق): “الوصف “.
(2) (ظ ود والنتائج): “وسرُّه في اللغة”.
(3) “نتائج الفكر”: (ص/ 391).

(2/561)


فصل (1)
ومن هذا القبيل: جلستُ خلفك وأمامك، وفوقُ وتحت، [وإزاءَ وتِلْقاء وحِذَاء، وكذلك: قربك وعندك؛ لأن] (2) عندك في معنى القرب، لأَنها من لفظ “العَنَد”، قال الواجز (3):
وكلُّ شيءٍ قد يحبُّ ولَدَه … حتَّى الحُبَارَى فتطير عَنَدَه
أي: إلى جنبه، وهذه الألفاظ غير خافٍ أنها مأخوذة في لفظ الفعل، فخلف من “خَلَفت”، وقُدَّام من “تقدمت”، وفَوْق من “فُقْت”، وأمام من “أَمَمْتُ”، أي: قصدت، وكذلك سائرها، إلا أنهم: لم يستعملوا فعلاً من “تَحت”، ولكنها مصدر في الأصل أُمِيْت فعلُه.
وإذا كان الأمر فيها كلها كذلك، فقد صارت كـ “قبلُ” و”بَعْدُ” في الزمان، [وكعشيٍّ] وقريب، وصار فيها كلِّها معنى الوصف، فلذلك عَمِل الفعلُ فيها بنفسه، كما يعمل فيما هو وَصْف للمصدر أو وصف للفاعل أو المفعول به؛ لأن الوصف هو الموصوف في المعنى، فلا يعمل الفعل إلا في هذه الثلاثة أو ما هو في معناها؛ لأنها لا تدل بلفظها إلا عليها، كما تقدم، فقد بان لك أنه لم يمتنع الإخبار عنها، ولا دخول الجار عليها من جهة الإبهام كما قالوه؛ لأنه لا فرقَ بينها وبين غير المبهم في انقطاع دلالة الفعل عنها؛ إذ (ظ/100 ب) لا يدل الفعل بلفظه على مُبْهَمِها ولا على محدودها ولا على حركة فَلَك،
__________
(1) من قوله: “مرور الزمان … ” إلي هنا ساقط من (د).
(2) ما بين المعكوفين من “النتائج”.
(3) انظر: “غريب الحديث”: (1/ 439) للخطابي، و “المستقصى”: (2/ 227) و”اللسان”: (3/ 308).

(2/562)


وإنما يدل بلفظه على مصدره وفاعله إذا كان الفاعل مُطْلَقًا وعلى المفعول (ق/ 132 ب) به كذلك.
فإنَّ قيل: فأين لفظ الفعل في “مِيْل” و”فَرْسخ”؛ وأي معنى للوصف فيه، والفعل قد تعدَّى إليه بغير حرف وعمل فيه بلا واسطة؟.
قيل: المراد بالمِيْل والفرسخ تبيين مقدار المشي، لا تبيين مقدار الأرض، فصار المِيْل عبارةً عن عِدة خطًا، فكأنك قلت: “سِرْت خُطًا عِدَّتها كيت وكيت”، فلم يتعدَّ الفعلُ في الحقيقة إلا إلى المصدر المقدَّر بعدد معلوم، كقولك (1): “ضربت ألف ضربة” و”مشيت ألف خطوة”، ألا ترى أن المِيْل عبارة عن ثلاثة آلاف وخمس مئة خطوة، والفرسخ أَضْعاف ذلك ثلاث مرات، فلم ينكسر ما أصَّلْناه من أن الفعل لا يتعدَّى إلا إلى ما ذكرنا، وإنما سموا هذا المقدار من الخُطَى والأذْرُع “مِيْلاً”؛ لأنهم كانوا ينصبون في رأس ثلث (2) كل فرسخ نصبًا كهيئة المِيل الذي يُكْتَحل به، إلا أنه كبير، ثم يكتبون في رأسه عددَ ما مَشَوه ومقدارَ ما تخطَّوه.
وذكرَ قاسم بن ثابت (3) أن هشام بن عبد الملك مرَّ في بعض أسفاره بميل، فأمر أعرابيًا أن ينظر في المِيْل كم فيه مكتوبًا، وكان الأعرابي أُميًّا، فنظر فيه ثم رجع إليه (4)، فقال: “فيه مِحْجن، وحَلْقة، وثلاثة
__________
(1) (ق): “كأنك قلت”.
(2) سقطت من (ق ود).
(3) هوة قاسم بن ثابت بن حزم السَّرَفسطي أبو محمد، من العلماء بالفقه والحديث واللغة، صاحب “الدلائل” في الغريب، توفي شابًا سنة (302)، انظر: “الديباج المذهب”: (ص/ 223)، و”السير”: (14/ 563).
(4) (ق): “نظر إليه”.

(2/563)


كأطباء (1) الكَلْبة، وهامة كهامة القَطَا”، فضحك هشام وقال: معناه خمسة أميال.
فقد وضح لك أن الأميال مقادير المشي، وهو مصدر، فمن ثَمَّ عمل فيها الفعل، ومن ثَمَّ عمل في المكان، نحو: “جلست مكان زيد”، لأنه مَفْعل من الكَون، فهو في أصل وضعه مصدر عبِّر به عن الموضع، والموضع أيضًا من لفظ الوضع، فلا يعمل الفعل في شيءٍ من هذا القبيل بغير حرف.
والذي قلناه في مكان، أنه من الكَون هو قول الخليل في “كتاب العين” (2) إلا أنهم شبهوا “الميم” بالحرف الأصلي للزومها، فقالوا: في الجمع: “أمكنة”، حتى كأنه على وزن “فَعَال”، وقد فعلوا ذلك في ألفاظ كثيرة، شبَّهوا الزائد بالأصلي، نحو: “تمدرع” و”تمسكن”.
وأما: “جلست يمينك وشمالك”، فليس من هذا الفصل، ولكنه مما حُذِفَ منه الجار لعلم السامع، أرادوا: “عن يمينك وعن شمالك”، أي: الناحيتين (3)، ثم حُذِف الجار فتعدَّى الفعل فنَصَب، فهو من باب: “أمرتك الخيرَ”، وإنما حُذِف الحرف لما تضمنه الفعل من معنى الناصب؛ لأنك إذا قلت: “جلست عن يمينك”، فمعنى الكلام: قابلت يمينك وحاذيته، ونحو ذلك.
فصل (4)
ومن هذا الباب تعدِّي الفعل إلى الحال بنفسه، ونعني بالحال
__________
(1) الطُّبْي: حلمات الضرع، وجمعه: أَطْباء. “القاموس”: (ص/1684).
(2) (5/ 410).
(3) “النتائج”: “الجارحتين”.
(4) “نتائج الفكر”: (ص/ 394).

(2/564)


صفة الفاعل التي فيها ضميره، أو صفة المفعول، أو صفة (ق/133 أ) المصدر الذي عَمِل فيها؛ لأن الصفة هي الموصوف من حيث كان فيها الضمير الذي هو الموصوف؛ وذلك نحو: “سرتُ سريعًا” و”جاء ضاحكًا”، و”ضربته قائمًا”، فلم يعمل الفعل في هذا النحو من حيث كان حالاً؛ لأن الحال غير الاسم الذي يدل عليه الفعل؛ ألا تري أنك إن صرحت بلفظ الحال لم يعمل فيها الفعل إلا بواسطة الحرف، نحو: “جاء زيد في حال ضَحِك”، ولا تقول: “جاء زيد حالَ ضحك”؛ لأن الحال غير “زيد”، ولذلك لا تقول: “جاء زيد ضَحِكًا”؛ لأنه غيره، وغير المجيء، فلا يعمل “جاء” فيه إلا بواسطة؛ فإذا قلت: “ضاحكًا” عمل فيه؛ لأن الضاحك هو (ظ/ 101 أ) زيد. وإذا قلت: “جاء مشيًا”، عمل فيه أيضًا، لا من حيث كان صفة لزيد؛ لأنه لا ضمير فيه يعود على “زيد”، ولكن من حيث كان صفة للمصدر الذي هو “المجيء”، فعمل فيه “جاء” كما يعمل في المصدر.
وأما عمله في المفعول من أجله، فإنه لم يعمل فيه بلفظه عندي؛ ولكنه دلَّ على فعل باطن من أفعال النفس والقلب (1)، أثارَ هذا الفعل الظاهر، وصار ذلك الفعل الباطن عاملاً في المصدر الذي هو المفعول من أجله في الحقيقة، والفعل الظاهر دالٌّ عليه، ولذلك لا يكون المفعول من أجله منصوبًا إلا بثلاثة شرائط:
* أن يكون مصدرًا.
* وأن لا يكون من أفعال الجوارح الظاهرة.
__________
(1) تحرفت في (ظ ود): “ولا قلت”.

(2/565)


* وأن يكون من فعل الفاعل المتقدم ذكره.
لْحو: “جاء زيد خوفًا منك ورغبةً”، ولو قلت: “جاء قراءةً للعلم” و”قتلاً للكافر”؛ لم يجز؛ لأنها أفعال ظاهرة، فقد بانَ لكَ أن المجيءَ إنما يُظْهِر ما كان باطنًا خفيًّا، حتى كأنك قلت: جاء زيدٌ مُظْهرًا بمجيئه الخوف أو الرغبة أو الحرص أو أشباه ذلك، فهذه الأفعال الظاهرة تبدي تلك الأفعال الباطنة، فهي مفعولات في المعنى والظاهرة دالة على ما تتضمنها (1)، فإنَّ جئت بمفعول من أجله من غير هذا القبيل الذي ذكرناه، لم يصل الفعل إليه إلا بحرف، نحو: “جئت لكذا” أو “من أجل كذا”، والله أعلم.
قلت (2): ما أدري أيُّ ضرورة به إلي هذا التعسُّفْ والتكلُّف الظاهر الذي لا يصح لفظًا ولا معنى!! أما اللفظ فإن هذا لو كان معمولاً لعامل مُقدَّر، وهو قولك: يظهر الخوف والمحبة، ونحوه لتلفظوا به ولو مرَّة في كلامهم، فإنه لا دليل عليه من سِياق ولا قرينة، ولا هو مقتضى الكلام فيصح إضماره، فدعوى إضماره ممتنعة.
وأما فساده من جهة المعنى فمن وجوه عديدة:
منها: أَن المتكلِّم لا يخطُر (ق/133 ب) بباله هذا المعنى بحال، فلا يخطر ببال القائل: “زُرْتك محبة لك”: زرتك مُظْهِرًا لمحبتك، ولا بقوله: “تركت هذا خوفًا من الله”: تركته مُظْهِرًا خوفي من الله، وهذا أظهر مِن أن يُحْتاج إلى تقديره.
الثاني: أنه إذا كان التقدير ما ذكر خرَجَ الكلام عن حقيقته ومقصوده؛
__________
(1) “النتائج”: “تنصبها”.
(2) التعليق لابن القيم -رحمه الله-.

(2/566)


إذ لا يبقى فيه دليل على أنه هو علة الفعل الباعثة عليه، فإنه إذا قال: “خرجتُ مُظْهِرًا ابتغاء مرضات الله” مثلًا، لم يدل ذلك على أن الباعثَ له على الخروج ابتغاء مرضات الله؛ لأن قوله: “مظهرًا (1) كذا” حال، أي: خرجتُ في هذه الحال، فأين مسألة الحال من مسألة المفعول لأجله (2)؟!.
الثالث: أن المفعول له هو علة الفعل، وهي إِمَّا علة فاعلية أو غائية، وكلاهما ينتصب على المفعولية، تقول: “فعلت ذلك خَوْفًا، وقعدت (3) عن الحرب جُنبًا، وأمسكَ عن الإنفاق شُحًّا”، فهذه أسبابٌ حاملة على الفعل والترك لا أنها (4) هي الغايات المقصودة منه، وتقول: “ضربته تأديبًا، وزرته إكرامًا، وحبسته صِيَانة”، فهذه غايات مطلوبة من الفعل. إذا ثبت هذا؛ فالمعلِّل إذا ذكر الفعل طلب المخاطَب منه الباعث عليه لما في النفوس من طلب الأسباب والغايات في الأفعال الاختيارية شاهداً وغائبًا، فإذا ذكر الباعث أو الغاية، وهو المراد من الفعل كان مخبرًا بأن هذا هو مقصوده وغايته، والباعث له على الفعل، فكان اقتضاء الفعل اللفظي له كاقتضاء الفعل الذي هو حَدَث له، فصحَّ نصبُه له (5) كما كان واقعًا لأجله، وهذا بحمد (ظ/101 ب) الله واضح، فتأمله (6).
__________
(1) من قوله: “مثلاً لم … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(2) (2): “من أجله”.
(3) (ق): “فعلت ذاك خوفًا وقعد … “.
(4) (ق): “لأنها”.
(5) ليست في (ق).
(6) من (ق).

(2/567)


فصل
قال (1): “إذا كانت الحال صفةً لازمةً للاسم، كان حملها عليه على جهة النعت أولى بها، وإذا كانت مساوية للفعل غير لازمة للاسم إلا في وقت الإخبار عنه بالفعل صلح (2) أن تكون حالاً، لأنها مشتقة من التحول، فلا تكون إلا صفة يتحول عنها، ولذلك (3) لا تكون إلا مشتقة من فعل؛ لأن الفعل حركة غير ثابتة، وقد تجيء غير مشتقة، لكن في معنى المشتق، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: “وأحيانًا يَتَمَثَّلُ لي الملَكُ رَجُلاً” (4)، أي: يتحوَّل عن حاله ويعود متصورًا في صورة الرجل، فقوله: “رجلاً” في قوة: “متصوراً بهذه الصورة”، وأما قولهم: “جاءني زيد رجلاً صالحًا”، فالصفة وطَّأت الاسم للحال، ولولا “صالحًا” ما كان “رجل” حالاً، وكذلك قوله تعالى: {لِسَانًا عَرَبِيًّا} ” [الأحقاف: 12].
قلت (5): وعلى هذا فيكون أقسام الحال أربعة: (ق/ 134 أ)، مقيدة، ومقدَّرة، ومؤكَدة وموطِّئة.
“فإنَّ قيل: وما فائدة ذكر الاسم الجامد في الموطئة؟ وهلا اكتُفي بالمشتق فيها؟.
قيل: في ذكر الاسم موصوفًا بالصفة في هذا الموطن، دليل على لزوم هذه الحال لصاحبها، وأنها مستمرة له، وليس كقولك: “جاءني
__________
(1) أي السهيلي في “نتائج الفكر”: (ص/396).
(2) (ظ ود): “صح”.
(3) (النتائج): “وكذلك”.
(4) قطعة من حديث صفة الوحي، أخرجه البخاري رقم (2)، ومسلم رقم (6) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
(5) التعليق لابن القيم ثم يعود الكلام للسُّهيلي.

(2/568)


زيد صالحًا”، لأن “صالحًا” ليس فيه غير لفظ الفعل، والفعلُ غير دائم. وفي قولك: “رجلاً صالحًا”، لفظ “رجل” وهو دائم، فلذلك ذُكِر.
فإنَّ قيل: كيف يصح في: {لِسَانًا عَرَبِيًّا} أن يكون حالاً وليست وصفا منتقلاً، ولهدا لو قلت: “جاءني زيدُ قرشيًّا أو عربيًّا”، لم يَجُز؟.
قيل: قوله: {لِسَانًا عَرَبِيًّا} حال من الضمير في {مُصَدِّقٌ} لا من {كِتَابٌ}، لأنه نكرة والعامل في الحال ما في {مُصَدِّقٌ} من معنى الفعل، فصار المعنى أنه مصدق لك في هذه الحال، والاسم -الذي هو صاحب الحال- قديم، وقد كان غير موصوفٍ بهذه الصفة حين أنزل معناه لا لفظه على موسى وعيسى ومن خلا من الرسل، وإنما كان عربيًّا حين أُنزِل على محمد -صلى الله عليه وسلم- مصدقًا له ولما بين يديه من الكتاب، فقد أوضحت فيه معنى الحال، وبَرِحَ الإشكال.
قلت (1): كلا، بل زدت الإشكال إشكالاً! وليس معنى الآية ما ذهبت إليه! وإنما: {لِسَانًا عَرَبِيًّا} حال من “كتاب”، وصحَّ انتصاب الحال عنه مع كونه نكرة لكونه قد وُصِف، والنكرة إذا وُصِفت انتصب عنها الحال لتخصصها بالصفة، كما يصح أن يُبْتدأ بها.
وأما قوله: “إن المعنى مصدق لك”، فلا ريبَ أنه مصدق له، ولكن المراد من الآية: أنه مصدق لما تقدَّم من كتب الله -تعالى- كما قال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة: 48]، وقال: {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [آل عمران: 1 – 3]، وقال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ
__________
(1) التعليق الطويل لابن القيم -رحمه الله- وفيه الرد على السُّهيلي إذ اختار قول الكلَّابية.

(2/569)


مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأنعام: 92]، [أفلا ترى كيف اطَّردَ فى القرآن وصف الكتاب بأنه مصدِّق لما بين يديه] (1)، وباتفاق الناس أن المراد: مصدِّق لما تقَدَّمه من الكتب، وبهذه الطريق يكون مصدِّقًا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ويكون أبلغ فى الدليل على صِدْقه من أن يقال: هذا كتاب مصدِّق لك، فإنه إذا طابق الكتبَ المتقدمة وصدَّقها وشَهِد بصحَّة ما فيها مما أنزله الله من غير مواطأةٍ ولا اقتباس منها، دلَّ على أن الذي جاء به رسولٌ (2) (ظ/102 أ) صادقٌ، كما أن الذي جاء بها كذلك، وأن مَخْرَجَها من مشكاة واحدة.
ولهدا قال النَّجاشي حين قُرِئ عليه القرآن: “إنَّ هذا والذي جاءَ به موسى يخرجُ من مِشكَاةٍ واحدة” (3)، يعني: فإذا كان موسى صادقًا وكتابه حق فهذا كذلك؛ إذ من المحال أن يخرج شيئان من مشكاة واحدةٍ ويكون (ق/134 ب) أحدهما (4) باطلًا محضًا والآخر حقًّا محضًا، فإن هذا لا يكون إلا مع غاية التباين والتنافر. فالقرآن صدَّقَ الكتبَ المتقدمة، وهي بشَرت به وبمن جاءَ به، فقام الدليلُ على صدقه من الوجهين معًا، من جهة بشارة من تقدَّمه به، ومن جهة تصديقه لما تقدمه ومطابقته له، فتأمله.
ولهذا كثيراً ما يتكرر هذا المعنى فى القرآن؛ إذ فى ضمنه الاحتجاج على أهل الكتابَيْن بصحة نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- بهذه الطريق،
__________
(1) ما بينهما ساقط من (ق)، وبعده في (ظ ود): “قال” والصواب حذفها.
(2) (ظ ود): “رسول الله”.
(3) أخرجه أحمد في “المسند”: (1/ 201 – 203) في حديث طويل وسنده قوي، وصححه أحمد شاكر في “شرح المسند”: (3/ 180).
(4) سقطت من (ق).

(2/570)


وهي حُجَّة -أيضًا- على غيرهم بطريق اللزوم؛ لأنه إذا جاء بمثل ما جاؤوا به من غير أن يتعلَّم منهم حرفًا واحدًا دلَّ على أنه من عند الله، وحتى لو أنكروا رسالةَ من تقدَّم لكان في مجيئه بمثل [ما] جاؤوا به (1) إثباتٌ لرسالته ورسالة من تقدمه، ودليل على صحة الكتابين وصدق الرسولين؛ لأن الثاني قد جاء بأمر لا يمكن أن يُنَال بالتعليم أصلاً ولا البعض منه، فجاءَ على يدي أمِّيٍّ لم يقرأ كتابًا ولا خطَّه بيمينه، ولا عاشرَ أحدًا من أهل الكتاب، بل نشأ بينكم وأنتم تشاهدون حاله حضرًا وسفرًا وظعنَا وإقامة، فهذا من أكبر الأدلَّة على أن ما جاء به ليس من عند البشر، ولا في قدرتهم. وهذا برهان بيِّن أبين من برهان الشمس، وقد تضمَّن ما جاءَ به تصديق من تقدَّمه، وتضمَّن ما تقدَّمَه البشارة به، فتطابقت حُجَج الله وبيِّناته على صدق أنبيائه ورسله، وانقطعت المعذرة وثبت الحقُ وقامت (2) الحُجَّة، فلم يبق لكافرٍ إلا العناد المحض أو الإعراض والصَّدُّ.
وقوله: “إن الاسم الذي هو صاحب الحال قديم، وكان غير موصوف بهده الصفة حين أُنزل معناه لا لفظه على موسى وعيسى وداود”، هذا بناء منه على الأصل الذي انفردت به الكُلاَّبية عن جميع طوائف أهل (3) الأرض، من أن معاني التوراة والإنجيل والزَّبور والقرآن (4) وسائر كتب الله معنى واحد، فالعين لا اختلافَ فيها ولا تعدُّد، وإنما تتعدد وتتكرَّر العبارات الدالة على ذلك المعنى الواحد،
__________
(1) من قوله: “من غير … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(2) “الحق وقامت” من (ق).
(3) ليست في (ق).
(4) (ق ود): “الفرقان”.

(2/571)


فإن عُبِّر عنه بالعربية كان قرآنًا وهو نفس التوراة، وإن عُبِّر عنه بالعِبْرية كان توراة وهو نفس القرآن، وإن عُبِّر عنه بالسِّريانية كان إنجيلًا، وهو -أيضًا- نفس القرآن ونفس التوراة، وكذلك سائر الكتب!!.
وهذا قول يقوم على بطلانه تسعون (1) برهانًا لا تندفع، ذَكَرها شيخُ الإسلام في “الأجوبة المصرية” (2) وكيف تكون معاني التوراة والإنجيل هي (3) نفس معاني القرآن، وأنت تجدها إذا عُرِّبت لا تدانيه ولا تقاربه فَضْلًا (ق/ 135 أ) عن أن تكون هي إياه، وكيف يقال: إن الله تعالى أَنزلَ هذا القرآنَ على داود وسليمان وعيسى بعينه بغير هذه العبارات؟! أم كيف يقال: إن معاني كتب الله تعالى كلها معنى واحد يختلف التعبير عنها دون المعنى المعبَّر عنه؟! وهل هذا إلا دعوى يشهد الحس ببطلانها! أم كيف يقال: إن التوراة إذا عُبِّر عنها بالعربية صارت قرآنًا، مع تميُّز القرآن عن سائر الكلام بمعانيه (ظ/ 102 ب) وألفاظه تميُّزًا ظاهرًا لا يرتاب فيه أحد. وبالجملة؛ فهذا الجواب منه بناء على ذلك الأصل.
والجواب الصحيح أن يقال: الحال المؤكِّدة لا يشترط فيها الاشتقاق والانتقال، بل التنقُّل مما ينافي مقصودها، فإنما أُتي بها لتأكيد
__________
(1) (ق): “سبعون”.
(2) لعل المقصود كتاب “التسعينية” الشيخ الإسلام، طبع ضمن “الفتاوي الكبري” ثم طبع في ثلاثة مجلدات، رسالة علمية. وإليه أشار ابن القيم في نونيته:
وكذاك تسعينية فيها له … ردٌّ على من قال بالنفساني
تسعونَ وجهًا بيَّنت بطلانَه … أعني كلامَ النفس ذا الوجدن
ولشيخ الإسلام كتاب آخر بعنوان: “جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية” وهو كبير، انظر “الجامع لسيرة ابن تيمية”: (ص/256، 294، 353).
(3) (ظ ود): “على”.

(2/572)


ما تقدمها وتقريره، فلا معنى لوصف الاشتقاق والانتقال (1) فيها أصلاً، وتسميتها “حالاً” تعبير نحوي اصطلاحي، وإلا فالعرب لم تقل: هذه حال، حتى يُقال: كيف سميتموها حالاً وهي وصف لازم، وإنما النحاة سموها: حالاً، فيالله العجب! أتكون تسميتهم الحادثة الاصطلاحية موجبة لاشتراط التنقل والاشتقاق!! فلو سمَّاها مسمٍّ بغير هذا الاسم، وقال: هذه نصب على القطع من المعرفة إذا جاءت بعد معرفة، أكان يلزمه هذا السؤال؟ فقد بانَ لكَ ضعف ما اعتمده من الجواب، وبالله التوفيق.
عاد كلامه، قال (2): “وأما قوله: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [البقرة: 91] فقد حكموا أنها حال مؤكدة، ومعنى الحال المؤكدة أن يكون معناها كمعنى الفعل؛ لأن التوكيد هو المؤكد في المعنى، وذلك نحو: “قم قائمًا”، و”أنا زيد معروفاً”، هذه هي الحال المؤكدة فى الحقيقة. وأما: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [البقرة: 91] فليست بحال مؤكِّدة؛ لأنه قال: {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 91] وتصديقه لما معهم ليس في معنى الحق؛ إذ ليس من شرط الحق [أن يكون مصدقًا] (3) لفلان ولا مكذبًا له، بل الحق في نفسه حق وإن لم يكن مصدقًا لغيره، ولكن {مُصَدِّقًا} هنا حال من الاسم المجرور من قوله تعالى: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} [البقرة: 91] وقوله: {وَهُوَ الْحَقُّ} جملة في معنى الحال أيضًا. والمعنى: كيف تكفرون بما وراءه وهو في هذه الحال؛ أعني: مصدِّقًا لما معكم، كما تقول: “لا تشتم (4) زيدا وهو أمير محسنًا إليك”؛ فالجملة حال،
__________
(1) من قوله: “بل التنفُّل … ” ساقط من (ظ ود).
(2) “النتائج”: (ص/ 397).
(3) من “النتائج”.
(4) كذا في الأصول و”النتائج”، ولو قال: “أتشتم” لَوَافق المعنى في الآية والتمثيل بعدها.

(2/573)


و”محسنًا” حال بعدها، والحكمة في تقديم الجملة التي في موضع الخال على قولك: “محسنا” و (مصدقًا) أنك لو أخَّرتها لتوهم أنها في موضع الحال من الضمير الذي في “محسن” و (مصدق). (ق/135 ب) ألا ترى أنك لو قلت: “أتشتم زيدًا محسنًا إليك وهو أمير”، لدهب الوهم إلى أنك تريد: محسنًا إليك في هذه الحال، فلما قدَّمْتَها اتضح المراد وارتفع اللبس.
ووجه آخر يطَّرد في هذه الآية، وفي الأخرى التي في سورة فاطر: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [فاطر: 31] وهو أن يكون {مُصَدِّقًا} هاهنا حالاً يعمل فيها ما دلت عليه الإشارة المنبئة عنها “الألف واللام”؛ لأن “الألف واللام” قد تُنبئ عما تنبئ عنه أسماء الإشارة، حكى سيبويه (1): “لمن الدارُ مفتوحًا بابُها”، فقولك: “مفتوحًا بابها” (2) حال لا يعمل فيها الاستقرار الذي يتعلق به “لمن”؛ لأن ذلك خلاف المعنى المقصود، وتصحيح المعنى: “لمن هذه الدار مفتوحًا بابها”، فاستغنى بذكر “الألف واللام” وعلم المخاطب أنه مشير وتنبَّه المخاطب بالإشارة إلى النظر، وصار ذلك المعنى [المنبَّه] (3) عليه عاملاً في الحال.
وكذلك قوله: {هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [فاطر: 31] كأنه يقول: “هو ذلك الحق (4) مصدقًا”، لأن الحق قديم ومعروف بالعقول والكتب المتقدمة، فلما أشار: نبَّهت الإشارةُ على العامل في الحال، كما إذا
__________
(1) فى “الكتاب”: (2/ 12 – 16).
(2) “فقولك: مفتوحًا بابها” سقطت من (ق).
(3) تحرفت فى الأصول، والمثبت من “النتائج”
(4) العبارة في (ظ ود): “ذلك هو الحق”، و”ق “: “ذلك الحق هو”، والمثبت من “النتائج”.

(2/574)


قلت: “هذا زيد قائمًا”، نبهت الإشارة (1) المخاطب على النظر، فكأنك قلت: “انظر إلى زيد قائمًا”، لأن الاسم الذي هو “ذا” [ليس] (2) هو العامل، ولكن مشعر ومنبه على المعنى العامل في الحال، وذلك المعنى (ظ/ 103 أ)، هو “انظر”.
ومما أغنت فيه “الألف واللام” عن الإشارة قولهم: “اليومَ قمتُ”، و”الساعةَ جئت”، و”الليلةَ فعلتُ”، و”الآن قعدتُ”، اكتفيت بالألف واللام عن أسماء الإشارة.
قلت (3): ليس المراد بقول النحاة: “حال مؤكدة” ما يريدون بالتأكيد في باب التوابع (4). فالتأكيد المبوَّب له هناك أخص من التأكيد المراد من الحال المؤكدة، وإنما مرادهم بالحال المؤكدة المقررة لمضمون الجملة بذكر الوصف الذي لا يفارق العامل ولا ينفك عنه، وإن لم يكن معنى ذلك الوصف هو معنى الجملة بعينه، وهذا كقولهم: “زيد أبوك عطوفاً”، فإنه كونه عطوفاً ليس معنى كونه أباه، ولكن ذِكْر أبوته تشعر بما يلازمها من العَطْف، وكذلك قوله: {هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [فاطر: 31] فإنَّ ما لين يديه (5) حقٌ، والحق يلازمه تصديق بعضه بعضًا.
وقوله: “ليس من شرط الحق أن يكون مصدِّقًا لفلان”، يقال: ليس هذا بنظير لمسألتنا، بل الحقُّ يلزمه لزومًا لا انفكاك عنه تصديق بعضه بعضًا، فتصديق ما بين يديه من الحق هو من جهة كونه حقًا. فهذا
__________
(1) من قوله: “على العامل … ” إلي هنا ساقط من (د).
(2) زيادة ليستقيم السياق.
(3) التعليق لابن القيم -رحمه الله-.
(4) (ق): “الموانع”.
(5) “فإنَّ ما بين يديه” سقط من (ق).

(2/575)


(ق/136 أ) معنى قولهم: “إنها حال مؤكدة” فافهمه. والمعنى: أنه لا يكون إلا على هذه الصفة، وهي مقررة لمضمون الجملة، فإن كونه مصدقًا للحق المعلوم الثابت، مقرِّرٌ ومؤكِّدٌ ومبينٌ لكونه حقًا في نفسه.
وأما قوله: “إنها حال من المجرور في قوله: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} [البقرة:] والمعنى: يكفرون به مصدقًا لما معهم”، فهذا المعنى وإن كان صحيحًا لكن ليس هو معنى الحال في القرآن حيث وقعت بهذا المعنى، وهب أن هذا يمكن دعواه في هذا الموطن، فكيف يقول في قوله تعالى: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [فاطر: 31] والكلام والنظم واحد!!.
وأيضًا فالمعنى مع جَعْل (1) {مُصَدِّقًا} حالاً من قوله: {هُوَ الْحَقُّ} أبلغ وأكمل منه إذا جُعِل حالاً من المجرور، فإنه إذا جُعِل حالاً من المجرور يكون الإنكار قد توجَّه عليهم في كفرهم به، حالَ كونه مصدقًا لما معهم، وحالَ كونه حقًّا، فيكونان حالًا من المجرور، أي: يكفرون به في هذه الحال وهذه الحال، وإذا جعِل حالاً من مضمون قوله: {هُوَ الْحَقُّ}، كان المعنى: يكفرون به حال كونه حقًّا مصدِّقًا لما معهم، فكفروا به في أعظم أحواله المستلزمة للتصديق والإيمان به، وهو اجتماع كونه حقًا في نفسه وتصديقه لما معهم، فالكفر به عند اجتماع الوصفين فيه يكون أغلظ وأقبح، وهذا المعنى والمبالغة لا تجده فيما إذا قيل: يكفرون به حالَ كونه حقًا، وحالَ كونه مصدقًا لما معهم. فتأمله فإنه بديع جدًّا، فصحَّ قولُ النحاة والمفسرين في الآية، والله أعلم.
__________
(1) (ق): “جعل الحق”.

(2/576)


فائدة (1)
قولهم: “هذا بُسْرًا أطيبُ منه رُطَبًا”، فيها عشرة أسئلة.
أحدها: ما جِهة انتصابِ “بُسرًا ورُطبًا”، أعلى الحال أم على خبر كان؟.
الثاني: إذا كانا حالين، فما هو صاحبهما؟.
الثالث: ما العامل في الحالين، هل هو أفعل التفضيل، أم اسم الإشارة، أو غير ذلك؟.
الرابع: أنكم إذا جعلتم العاملَ أفعل التفضيل، لزمَ تقديم معمول أفعل التفضيل عليه، والاتفاق واقع على امتناع: “زيد منك أحسن”، وإذا لم يتقدم “منك” لم يتقدم الحال.
الخامس: متى يجوز أن يعمل العامل الواحد في حالين، ومتى لا يجوز، وما (ظ/103 ب) ضابط ذلك؟.
السادس: هل يجور التقديم والتأخير في الحالين جميعًا أم لا؟.
السابع: كيف تصورت الحال في غير المشتق؟.
الثامن: إلى أيِّ شيءِ وقعت الإشارة (ق/136 ب) بقولهم: “هذا … “؟.
__________
(1) في “نتائج الفكر” للسهيلي: (ص/399 – 405) سبعة أسئلة، وزاد المصنف هنا ثلاثة أسئلة وأرقامها (1، 4، 10) وزاد أجوبةَ السُّهَيلي -كعادته- تحريرًا وتكميلًا، ومن أجله قال ما قال في آخر هذه الأجوبة.
ثم نقلَ هذه الأسئلة العشرة مع اختصار أجوبتها، ونسْبتها لنفسه -الجلالُ السيوطي في “الأشباه والنظائر النحوية”: (4/ 336 – 342)، وسمَّاها: “تحفة النجبا في قولهم: هذا بُسرًا أطيب منه رطبا”.

(2/577)


التاسع: هلا قلتم: إن بسرًا ورطبًا منصوب على خبر “كان” وتخلَّصتم من هذا كلِّه؟.
العاشر: هل يُشترط في هذه المسألة أن يكون الاسمان المنصوبان اسمين لشيء واحد باعتبار صفتين، أو يجوز أن يقع بين شيئين مختلفين، نحو: هذا بُسرًا أطيبُ منه عِنَبًا؟.
* فالجواب عن هذه المسائل.
أما السؤال الأول: فجهة انتصابه على الحال (1) في أصحَّ القولين، وهو اختيار سيبويه ومحقِّقي أصحابِه، خلافًا لمن زعمَ أنه خبر “كان”، وسيأتي إبطاله فى جواب السؤال التاسع، وإنما جعله سيبويه حالاً؛ لأن المعنى عليه، فإن: المخبر إنما يفضله على نفسه باعتبار حالين (2) من أحواله، ولولا ذلك لما صح تفضيل الشيءِ على نفسِه، فالتفضيل إنما صحَّ باعتبار الحالين فيه، فكان جهة انتصابهما علي الحال لوجود شروط الحال، وسيأتي الكلام على شرط الاشتقاق، فلما كان هذا الباب لا يُذْكر إلا لتفضيل شيءٍ فى زمانٍ أو على حالٍ، على نفسه في زمان أو على خبرٍ على حال أخرى؛ وسائر وجوه النصب متعذرة فيه إلا الحال، أو كونه خبرًا “لكان”، وسيأتي بطلان الثاني = فيتعين أن يكون حالاً.
فإنَّ قلت: فهلا جعلته تمييزاً؟.
قلت: يأبى ذلك أنه ليس من قِسْميَ التمييز، فإنه ليس من المقادير المنتصبة عن تمام الاسم، ولا من التمييز المنتصب عن تمام الجملة،
__________
(1) “على الحال” سقطت من (ق).
(2) (ق): “حالة”.

(2/578)


فلا يصح أن يكون تمييزًا.
فصل (1)
وأما السؤال الثاني: وهو ما هو صاحب الحال هاهنا، فجوابه أنه الاسم المضمر في “أُطْيب” الذي هو راجع إلى المبتدأ من خبره، “فبُسْرًا” حال من ذلك الضمير، و”رُطَبًا” حال من الضمير المجرور بمن، وإن (2) كان المجرور بمن هو المرفوع المستتر في “أَطْيب” من جهة المعنى، ولكنه ينزَّل منزلةَ الأجنبي، ألا ترى أنك لو قلتَ: “زيد قائمًا أخطب من عَمْرو قاعدًا”، لكان “قاعدًا” حال من الاسم المخفوض بمن -وهو عمرو- فكذلك “رطبًا” حال من الاسم المجرور بـ “من”.
هذا قول جماعةٍ من البصريين، وقال أبو علي الفارسي: صاحب الحالين الضمير المستكِنّ في “كان” المقدَّرة التامة، وأصل المسألة: هذا إذا كان، أي وجد بسرًا أطيب منه إذا كان، أي وجد رطبًا، فبسرًا (3) ورطبًا حالان من الضمير المستكِنّ في “كان”.
وهذان القولان مبنيان على المسألة الثالثة: وهو ما هو العامل في هذه الحال؟ وفيه أربعة أقوال:
أحدها: أنه ما في “أطيب” من معنى الفعل؛ لأنك تريد أن طيبه في حال البُسْرية يزيد على طِيْبه في حال الرُّطبية، فالطيب أمر واقع في هذه الحال.
__________
(1) “فصل” في جميع الأسئلة العشرة ليس في (د).
(2) (ق): “وإذا”.
(3) (ق): “بُسرًا ورُطبًا”.

(2/579)


والقول الثاني: أن العامل فيها “كان” التامَّة المقدَّرة، وهذا اختيار أبي علي.
والقول الثالث: (ق/137 أ) أن العاملَ فيها ما في اسم الإشارة من [معنى] (1) الفعل، أي: أُشير إليه بُسْرًا.
والقول الرابع: أنه ما في حرف التنبيه من معنى الفعل.
والمختار القول الأول: أن العامل فيها ما في “أطيب” من معني الفعل (2)، وإنما اخترناه لوجوه:
أحدها: أنهم متفقون (3) على جواز: “زيد قائمًا أحسن منه راكبًا”، و”ثمرة نخلتي (ظ/ 104 أ) بُسرًا أطيب منها رُطَبًا”، والمعنى في هذا كالمعنى في الأول سواء، وهو تفضيل الشيءِ على نفسه باعتبار حالين، فانتفى اسم الإشارة وحرف التنبيه، ودار الأمر بين القولين الباقين: أن يكون العامل “كان” مقدَّرة أو “أطيب”، والقول بإضمار “كان” ضعيفٌ، فإنها لا تُضْمَر إلا حيث كان في الكلام دليل عليها، نحو قولهم: “إنْ خيرًا فخيبر”، وبابه؛ لأن الكلام هناك لا يتم إلا بإضمارها بخلاف هذا. وأيضًا فإن “كان” الزمانية ليس المقصود منها الحدث، وإنما هي عبارة عن الزمانِ، والزمانُ لا يُضْمَر، وإنما يُضْمَر الحدَث إذا كان في الكلام ما يدلُّ عليه، وليس في الكلام ما يدلُّ على الزمانٍ الذي يقيَّد به الحَدَث، إلا أن يلفظ به، فإن لم يلفظ به لم يُعْقل.
__________
(1) من “النتائج” و”الأشباه والنظائر”.
(2) من “أن العامل … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(3) (ق): “يقولون”!.

(2/580)


فإن قلت: فمن هاهنا قالوا: إن “كان” هاهنا تامة غير ناقصة، بل قد خلعوا منها الدلالة على الزمان، وجرَّدوها لنفس الحَدَث.
قلت: هذا كلام من لم يحصِّل معنى “كان” التامة والناقصة كما ينبغي، فإن كان الناقصة والتامة يرجعانِ إلى أصل واحد، ولا يجوز إضمار واحد منهما، وكشف ذلك يطُوْل، لكن نشير إلى بعضه، وهو: أن القائل إذا قال: “كان برد وكان مطر”، فهو بمنزلةِ: “وَقَع وحَدَث” وغيرهما من الأفعال اللازمة والزمان [جزء] (1) مدلول الفعل، فلا يجوز أن يخلعه ويجرّد عنه وإنما الذي خلِع من “كان” التامة اقتضاؤها خبرًا يُقارن زمانَها، وبقيت تقتضيه مرفوعًا يقارن زمانها كما كان يقارنه الخبر فلا فرقَ بينهما أصلاً، فإن الزمان الذي كان الخبر يقترن به هو بعينه الزمان الذي اقترن به مرفوعها، وينزل مرفوعها في تمامها به منزلةَ خيرها إذا كانت ناقصة، فتأمل هذا السر الذي أغفله كثيرٌ من النحاة!.
ويُبْطل هذا المذهب أيضًا شيءٌ آخر، وهو: كثرة الإضمار، فإن القائل به يضمر ثلاثة أشياء: “إذا” والفعل والضمير، وهذا تعدٍّ لطور الإضمار وقول بما لا دليلَ عليه.
الوجه الثاني: من وجوه الترجيح أنَّ العاملَ في الحال لو كان معنى الإشارة؛ لكانت الإشارة إلى الحال لا إلى الجوهر وهذا باطل، فإنه إنما يُشير إلى ذات الجوهر، ولهذا يصح إشارته إليه وإن لم يكن على تلك الحال، كلما إذا أشار إلى تمر يابس، وقال: “هذا بُسرًا أطيبُ منه رطبًا”، فإنه يصح، ولو كان العامل في الحال (ق/137 ب)
__________
(1) في الأصول: “خبر”، والمثبت هو الصواب.

(2/581)


هو الإشارة لم تصح المسألة.
الوجه الثالث: أنه لو كان العامل معنى الإشارة لوجب أن يكون الخبر عن الذات مطلقًا؛ لأن تقييد المشار إليه باعتبار الإشارة إذا كان مبتدأً لا يوجب تقييد (1) خبره إذا أخبرتَ عنه، ولهذا تقول: “هذا ضاحكًا أبي”، فالإخبار عنه بالأبوَّة غير مقيد بحال ضحكه بل التقييد للإشارة فقط، والإخبار بالأبوة وقعَ مطلقًا عن الذات، فاعْتَصِمْ بهذا الموضع، فإنه ينفعك في كثير من المواضع، وإذا عُرِف هذا وجب أن يكون الخبر بـ “أطيب” وقعَ عن المشار إليه مطلقًا.
الوجه الرابع: أن العامل لو لم يكن هو “أطيب” لم تكن الأطيبية مقيدة بالبُسْرية، بل تكون مُطْلقة، وإذا لم تكن مقيَّدة فسد المعني، لأن الغرض تقييد الأطيبية (ظ/ 104 ب) بالبُسرية مفضَّلة على الرُّطَبية، وهذا معنى العامل، وإذا ثبت أن الأطيبية مقيدة بالبسرية وجبَ أن يكون “بُسرًا” معمولاً في “أطيب”.
فإن قلت: فلأجل هذا قدرنا الظرف المقيد حتى يستقيم المعني، وقلنا: تقديره: “هذا إذا كان بسرًا أطيب منه إذا كان رطبًا”، أي: هذا في وقت بُسْريته أطيب منه في وقت رُطَبيته.
قلت: هذا يحتاج إليه إذا لم يكن في اللفظ ما يغني عنه ويقوم مقامه، فأما إذا كان مَعَنا ما يغني عنه، فلا وجهَ لتكلُّف إضماره وتقديره.
فإن قلت: لو كان العامل هو “أطيب” لزم منه المحال، لأنه يستلزم تقييده بحالين مختلفين، وهذا ممتنع.
__________
(1) (ظ ود): “تقديم”.

(2/582)


قلت: الجواب عن هذا: أن العامل في الحالين وصاحبهما متعدِّد ليس متحدًا، أما العامل في الحال الأولى، فهو ما في “أطيب” من معنى الفعل؛ لأنك إذا قلت: “هذا أطيبُ من هذا” تريدُ: أنه طاب وزاد طِيْبُه عليه، والطيبُ أمرٌ ثابت له في حال البُسْرية. قال سيبويه (1): “هذا باب ما يُنْصَب من الأسماء على أنها أحوال وقعت فيها الأمور”.
وأما الحال الثانية وهي “رطبًا” فالعامل فيها معنى الفعل الذي هو متعلَّق الجار في قولك: “منه”، فإنَّ “منه” متعلِّق بمعنى غير الطيب؛ لأن “طاب يطيب” لا يتعدى بمن، ولكن صِيْغة الفعل (2) تقتضي التفضيل بين شيئين مشتركين في صفةٍ واحدة، إلا أن أحدهما متميز من الآخر منفصل منه بزيادة في تلك الصفة، فمعنى التميز والانفصال الذي تضمنه أفعل هو الذي تعلق به حرف الجر، وهو الذي يعمل في الحال الثانية، كما عمل معنى الفعل الذي تعلق به حرف الجر من قولك: “زيد في الدار قائمًا” في الحال التي هي “قائمًا”.
فإنَّ قلت: فهلاَّ أَعْمَلْت فيهما جميعًا ما في “أطيب” من معنى الطيب (3).
قلت: يستلزمه (4) المحال المذكور؛ لأن الفعل الواحد لا (ق/ 138 أ) يقع في حالين كما لا يقع في ظرفين، لا تقول: “زيد قائم يوم الجمعة يوم الخميس”، ولا: “جالس خلفك أمامك”، فإذا قلت:
__________
(1) “الكتاب”: (1/ 199) بنحوه.
(2) كذا في الأصول و”النتائج”، وأصلحها محققه إلى: “أفعل”.
(3) “من معنى الطيب” سقطت من (ظ ود).
(4) (ظ ود): “لاستلزامه”.

(2/583)


“زيد يوم الجمعة أطيب منه يوم الخميس”، جازَ؛ لأن العامل في أحد اليومين غير العامل في اليوم الثاني؛ لأنك فضَّلْتَ حين قلت: “أطيب” أو “أصح” أو “أقوم” صحةً وقيامًا على صِحَّةٍ أُخرى وقيام آخر، وفضلت حالاً من حالٍ بمزية وزيادة، وكذلك حين قلت: “هذَا بُسْرًا أطيب منه رطبًا”، ولا يجوز أن يعمل عامل واحد في حالين ولا ظرفين، إلا أن يتداخلا، ويصح الجمع بينهما، نحو قولك. “زيد مسافر يومَ الخميس ضَحْوةً”، لأن الضحوة داخلة في اليوم، وكذلك: “سِرْت راكبًا مسرعًا” لدخول الإسراع في السير وتضْمُّنِه له، ولو قلت: “سِرْت مسرعًا مبطئًا”، لم يجز؛ لاستحالة الجمع بينهما إلا على تقدير الواو، أي: مسرعًا تارة ومبطئًا أخرى، وكذلك: “بسرًا ورطبًا” يستحيل أن يعمل فيهما عامل واحد، لأنهما غير متداخِلَيْن هذا هو الجواب الصحيح عندي.
وأجاب طائفةٌ بأن قالوا: أفعل التفضيل في قوة فعلين؛ لأن معناه: حَسُن وزاد حُسْنه، وطاب (1) وزادَ طِيْبه، وإذا كان في قوة فعلين، فهو عامل في “بُسرًا” باعتبار حَسُن وطاب، وفي “رطبًا” باعتبار زادَ، حتى لو فككت (2) ذلك لقلت: هذا زادَ بُسْرًا في الطيب على طيبه في حال كونه رطبًا، (ظ/105 أ) فاستقام المعنى المطلوب، وهذا جواب حَسَن، والأول أمتن، فتأملهما.
فصل
وأما السؤال الرابع: وهو تقديم معمول أفعل التفضيل عليه،
__________
(1) “وطاب” ليست في (ق).
(2) (ق): “ملكت”.

(2/584)


فالجواب عنه من وجهين:
أحدهما: لا نسلم امتناع تقديم معموله عليه، وقولكم الاتفاق واقع على امتناع: “زيد منك أحسن”، غير صحيح، لا اتفاق في ذلك، بل قد جَوَّر بعض النحاة ذلك واستدل عليه بقول الشاعر (1):
* جَنَى النحلِ أو ما زوَّدَتْ منه أَطْيبُ *
قال هؤلاء: وأفعل التفضيل لما كان في قوة فعلين جاز تقديم معموله عليه. قالوا: وتقديمه أقوى من قولك: “أنا لك محب”، و”فيك راغب”، و”عندك مقيم”، ولاستقصاء الحجج في هذه المسألة موضع آخر.
الوجه الثاني: سلَّمنا امتناع تقديم معموله عليه، ولا يقال: “زيد منك أحسن”، فهذا الأمر يختص بقولهم: “منك” لا يتعدى إلى الحال والظرف، وذلك لأن “منك” في معنى المضاف إليه، بدليل أن قولهم: “زيد أحسن منك”، بمنزلة: “زيد أحسن الناس” في قيام أحدهما مقام الآخر، وأنهم لا يجمعون بينهما، فلما قام المضاف إليه مقامه، لكونه (ق/ 138 ب) المفضل عليه في المعنى، كرهوا تقديمه على المضاف لأنه خلاف لغتهم، فلا يلزم من امتناع تقديم معمولٍ هو كالمضاف إليه امتناع تقديم معمول ليس كهو، وهذا بين.
وجواب ثالث: وهو أنهم إذا فضلوا الشيءَ على نفسه باعتبار حالين فلا بد من تقدُّم أحدهما على العامل، وإن كان مما لا يسوغ
__________
(1) هو: الفرزدق، “ديوانه”: (ص/ 32)، وصدره:
* وقالت لنا أهلًا وسهلاً وزوَّدت *

(2/585)


تقديمه لو لم يكن كذلك، فإذا فضلوا ذاتين باعتبار حالين، قدَّموا أحمدهما على العامل وأخَّروا الآخر عنه، فقالوا: “زيد قائمًا أحسن منه (1) قاعدًا”، وكذلك في التشبيه أيضًا يقولون: “زيد قائمًا كعَمْرو قاعدًا”، وإذا جاز تقديم هذا المعمول على “الكاف” التي هي أبعد في العمل من باب أحسن، فتقديم (2) معمول “أحسن” أجدر، والغرض هنا بهذا الكلام تفضيل هذه “التمرة” في حال كونها “بُسرًا” عبيها في حال كونها “رطبًا”.
فصل
وأما السؤال الخامس: وهو متى يجوز أن يعمل العامل الواحد في حالين؟ فقد فرغنا من جوابه فيما تقدم، وأن ذلك يجوز إذا كانت إحدى الحالين متضمنة للأخرى، نحو: “جاء زيد راكبًا مسرعًا”، وكذلك يعمل في الظرفين إذا تضمَّن أحدُهما الآخر، نحو: “سِرْتُ يوم الخميس بُكرة”.
فصل
وأما السؤال السادس: وهو هل يجوز التقديم والتأخير في الحالين أم لا؟.
فالجواب عنه: أن الحال الأولى يجوز فيها ذلك، لأن العامل فيها لفظي، وهو ما في “أطيب” من معنى الفعل، فلك أن تقول: “هذا بسْرًا أطيبُ منه رُطَبًا”، وأن تقول: “هذا أطيب بسرًا منه رطبًا”، وهو الأصل.
__________
(1) كذا فى الأصول، ولعله: من عَمرو.
(2) (ق): “فيقول”.

(2/586)


فإن قلت: إذا كان هذا هو الأصل، فلِمَ مثلَّ سيبويه (1) بها مقدمة، وكان ذلك أحسن عنده من أن يؤخرها؟.
قلت: كأنه أراد تأكيد معنى الحال فيها؛ لأنه ترجم عن (2) الحال، فلو أخرها لأشبهت التمييز؛ لأنك إذا قلت: “هذا الرجل أطيب بسرًا من فلان “، فبسرًا -لا محالة- تمييز، وإذا قدمت “بسرًا” على “أطيب من كذا” فبسرًا -لا محالة- حال، ولا يصح أن يُخْبر بهذا الكلام عن رجل ولا عن شيءٍ سوى التمر وما هو في معناه. فإذا قلت: “هذا [أطيب] بسرًا”، احتمل الكلام قيل تمامه وقبل النظر (ظ / 105 ب) في قرائن أحواله أن يكون “بُسرًا” تمييزًا، وأن يكون حالاً، وبينهما في المعنى فرقٌ عظيم، فاقتضى تَحْصِين المعنى والحرص على البيان للمراد تقديم الحال الأولى على عاملها، ولو أخرت لجاز.
وأما الحال الثانية: فلا سبيل إلى تقديمها على عاملها لأنه معنوي، (ق / 139 أ) والعامل المعنوي لا يُتَصور تقديم معموله عليه؛ لأن العامل اللفظي إذا تقدم عليه منصوبه الذي حقه التأخير، قلت فيه: مقدَّم في اللفظ مؤخَّر في المعنى، فقسمت العبارة بين اللفظ والمعنى (3)، فإذا لم يكن للعامل وجود في اللفظ لم (4) يتصور تقديم المعمول عليه؛ لأنه لابد من تأخير المعمول على عامله في المعنى، فلا يوجد إلا بعدَه وعامله متقدِّم عليه، لأنه مَنْويّ غير ملفوظ به، فلا
__________
(1) فى “الكتاب”: (1/ 199).
(2) (ق): “على”.
(3) ليست في (ق).
(4) من قوله: “مؤخر في … ” إلى هنا ساقط من (د).

(2/587)


تذهب النية والوهم إلى غير موضعه، بخلاف اللفظي فإن محل اللفظ اللسان ومحل المعني القلب، فإذا ذهب اللسان باللفظ إلى غير موضعه (1)، لم يذهب القلب بالمعنى إلا إلى موضعه، وهو التقديم.
فصل
وأما السؤال السابع: وهو كيف (2) يتصور الحال في غير المشتق؟.
فاعلم أنه ليس لاشتراط الاشتقاق حجة، ولا يقوم على هذا الشرط دليل، ولهذا كان الحُذَّاق من النحاة على أنه لا يشترط، بل كلُّ ما دلَّ على هيئةٍ صحَّ أن يقع حالاً، فلا يشترط فيها إلا أن تكون دالة على معنى متحول، ولهذا سميت حالاً كما قال:
لَوْ لم تَحُلْ ما سُمِّيَتْ حالا … وكلُّ ما حالَ فَقَد زالا
فإذا كان صاحبُ الحال قد أوقع الفعلَ فى صفةٍ غير لازمةٍ للفعل، فلا تُبال أكانت مشتقة أم غير مشتقة؛ فقد جاء فى الحديث: “يتمثَّلُ لي الملكُ رَجُلاً” (3) فوقع “رجلاً” هنا حالاً؛ لأن صورة الرجليَّة طارئة على الملَك فى حال التمثُّل، وليست لازمة للملَك إلا في وقت وقوع الفعل: منه وهو التمثل، فهي إذًا حال؛ لأنه قد تحول: إليها، ومثله: {يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر: 67] ومثله: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} [الأعراف: 73]، ومثله: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا} [مريم: 17]، ويقولون: “مررتُ بهذا العودِ شَجَرًا ثم مررتُ به رَمَادًا”، و”هذا زيد أسدًا”، وتأويل هذا كلَّه بأنه معمول الحال، والتقدير: يُشْبِه، بعيدٌ
__________
(1) من قوله: “بخلاف اللفظي …. ” إلى هنا ساقط من (د).
(2) (ق): “كيف لم”.
(3) تقدم تخريجه 2/ 568.

(2/588)


جدًّا، وكذا تأويل ذلك كله (1) بمشتقّ تعسُّف ظاهر، والتحقيقُ ما تقدَّم، وأنها كلها أحوال، وإن كانت جامدة؛ لأنها صفات يتحول الفاعل إليها، وليس يلزم في الصفات أن تكون كلها فِعْلية، بل منها نفسيَّة ومعنويَّة وعدمِيَّة، وهي صفة النفي، وإضافية وفعلية، ولا يكون من جميعها حالاً إلا ما كان الفعلُ واقعًا فيه وجاز خُلُوه عنها، فأما ما كان لازمًا للاسم مما لا يجوز خلوه (ق/139 ب) عنه، فلا يكون حالاً منتصبة بالفعل، نحو قولك: قرشي، وعربى، وحبشي، وابن، وبنت، وأخ، وأخت، فكلُّ هذه لا يُتَصوَّر وقوعها أحوالاً؛ لأنها لا تتحوَّل.
فصل
وأما السؤال الثامن: وهو إلى أيِّ شيءٍ وقعت الإشارة بقولك: هذا؟.
فالجواب: أن متعلَّق الإشارة هو الشيء الذي تتعاقب عليه هذه الأحوال، وهو ما تخرجه النخل من أكمامها فيكون بَلَحًا، ثم يكون سَيَابًا، ثم جَدَالاً (2)، ثم بُسرًا إلى أن يكون رُطَبًا، فمتعلَّق الإشارة المحل الحامل لهذه الأوصاف، فالإشارة إلى شيءٍ ثالث غير البسر والرطب، وهو حامل البسريَّة والرطبيَّة (ظ/ 106 أ)، وقد عرفت بهذا أنه لا ينبغي تخصيص الإشارة بقولهم: إنها إلى البلح أو الطلع أو الجَدَال، كلُّ ذلك تمثيل، والتحقيقُ: أن الإشارة إلى الحقيقة الحاملة لهذه الصفات والذي يدلك على هذا أنك تقول: “زيد قائمًا أخطب
__________
(1) ليست في (ق).
(2) (ق): “خلالاً”! وانظر “المخصَّص”: (11/ 120 – 121) لابن سِيْده.

(2/589)


منه قاعدًا”، وقال عبد الله بن سلام لعثمان: “أنا خارجًا أنفع لك مني داخلًا”، فلا إشارةَ ولا مُشَار هنا، وإنما هو إخبار عن الاسم الحامل للصفات التي منها القيام والقعود، ولا يصحُّ أن يكون متعلَّق الإشارة صفة البُسرية ولا الجوهر يقيد تلك الصفة، لأنك لو أشرت إلى البسرية وكان الجوهر يُقيدها، لم يصح تقييده بحال الرُّطبية، فتأمله، فلم يبق إلا أن تكون الإشارة (1) إلى الجوهر الذي تتعاقب عليه الأحوال، وقد تبين لك بطلان قول من زعم أن متعلَّق الإشارة في هذا هو العامل في “بسرًا”، فإن العامل فيها إما ما تضمنه “أطيب” من الفعل، وإما “كان” المقدَّرة، وكلاهما لا يصح تعلُّق الإشارة به.
فصل
وأما السؤال التاسع: وهو قوله: هلا قلتم: إنه منصوب على أنه خبر كان؟.
فجوابه: أن “كان” لو أُضْمِرت لأضمر ثلاثة أشياء: الظرف الذي هو “إذا” وفعل “كان”: ومرفوعها، وهذا لا نظير له إلا حيث يدلُّ عليه الدليل، وقد تقدم ذلك، وقد منع سيبويه من إضمار “كان” فقال (2): “لو قلت: عبدَ الله المقتولَ، تُرِيد: [كن] (3) عبدَ الله المقتول، لم يَجُز”، وقد تقدم ما يدل على (4) امتناع إضمار “كان”، فلا نطوِّل بإعادته، وإذا لم يجز إضمار كان على (5) انفرادها فكيف يجوز إضمار
__________
(1) من قوله: “صفة البُسْرية … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(2) في “الكتاب”: (1/ 133).
(3) في الأصول: كان، والتصويب من “الكتاب”.
(4) “ما يدل على” سقطت: من (ق).
(5) (ق): “في”.

(2/590)


“إذ” و”إذا” معها!! وأنت لو قلت: “آتيك جاء زيد” تريد: إذا جاء زيد، كان خَلْفًا من الكلام بإجماع، وإذا كان كذلك كان الإضمار من هذا الموطن أبعد؛ لأنه لا (ق/ 140 أ) يُدرى هاهنا “إذ” تريد أم “إذا”؟ وفي قولك “سآتيك” لا يحتمل إلا أحدهما، بخلاف قولك: “زيد قائمًا أخطب منه قاعدًا”، وإذا بَعُد كل البعد إضمار الظرف هاهنا فاضماره مع “كان” أبعد، ومن قدَّره (1) من النحاة، فإنما أشارَ إلى شرح المعنى بضرب من التقريب.
فإنَّ قيل: الذي يدلُّ على أنه لابُد من إضمار “كان”: أن هذا الكلام لا يُذكر إلا لتفضيل شيءٍ في زمان من أزمانه على نفسه في زمان آخر، ويجوز أن يكون الزمان المفضَّل فيه ماضيًا وأن يكون مستقبلًا، ولابدَّ من إضمار ما يدل على المراد منهما، فيضمر للماضي “إذ” (2)، وللمستقبل “إذا”، و”إذ” (3) و”إذا” يطلبان الفعل، وأعم الأفعال وأشملها فعل الكَوْن الشامل لكلِّ كائن، ولهذا كثيرًا ما يضمرونه، فلابدَّ من فعل يُضاف إليه الظرف، لاستحالة أن تقول: “هذا إذ بُسرًا أطيب منه إذ رطبًا”، فتعين إضمار “كان” لتصحيح الكلام.
قيل: هذا السؤال إنما يلزم إذا أضمرنا الظرف، وإما إذا لم نُضْمره لم نحتج إلى”كان ويكون”. وأما قولكم: إنه يفضل الشيءَ على نفسِه باعتبار زمانين، و”إذ وإذا” للزمان؛ فجوابه: أن في التصريح بالحالين المفضل أحدهما على الآخر غُنْية عن ذِكْر الزمان وتقدير إضماره.
__________
(1) (ق): “قلده”!.
(2) (ق): “فيضمن إذا”.
(3) ليست في (ق) وكذا التي في آخر الفقرة.

(2/591)


ألا ترى أنك إذا قلت: “هذا في حال بُسريَّته أطيب منه في حال رُطَبيته”، استقام الكلام، ولا “إذ” هنا ولا “إذا” لدلالة الحال على مقصود المتكلم من التفضيل (1) باعتبار الوقتين، وكذلك تقوك: “هذا في حال شبوبيته أعقل منه في حال شيخوخته”، ونظائر ذلك مما يصح فيه التفضيل باعتبار زمانين، من غير ذكر ظرف ولا تقديره، فافهمه.
فصل
وأما (ظ/106 ب) السؤال العاشر: وهو أنه هل يشترط اتحاد المفضَّل والمفضَّل عليه بالحقيقة؟.
فجوابها: أن وضعها كذلك، ولا يجوز أن يقال: “هذا بُسرًا أطيب منه عنبًا”؛ لأن وضع هذا الباب لتفضيل الشيءِ على نفسه باعتبارين وفي زمانين. قال الأخفش: كلُّ ما لا يتحول إلى شيء فهو رفع، نحو: “هذا بُسر أطيب منه عنب”، فـ “أطيب” مبتدأ و”عنب” خبره، وفي هذا التركيب إشكال، وتوجيهه: أن الكلامَ. جملتان إحداهما: قولك: “هذا بسر”. والثانية: قولك: “أطيب منه عنب”، والمعنى: “العنب أطيب منه”، فأفدت خبرين؛ أحدهما: أنه بسر، والثاني: أن العنب أطيب منه، ولو قلت: هذا البسر أطيب منه عنب، لاتضحت المسألة (ق/140 ب) وانكشف معناها، والله أعلم.
فهذا ما في هذه المسألة المشكلة من الأسئلة والمباحث، علَّقتها صيداً لسوانح الخاطر (2) فيها خشيةَ أن لا يعود، فلْيُسامح الناظرُ فيها،
__________
(1) تحرفت في (ظ ود).
(2) (ق): “الخواطر”.

(2/592)


فإنها عُلِّقت على حين بُعْدي من كتبي، وعدم تمكُّني من مراجعتها، وهكذا غالب هذا التعليق إنما هو صيد خاطر، والله المستعان (1).
* * *
__________
(1) “والله المستعان” ليست في (ق)، وانظر التعليق في (2/ 577).

(2/593)


مسألة: “سلام عليكم ورحمة الله” في هذا التسليم ثمانية وعشرون سؤالاً:
السؤال الأول: ما معنى السلام وحقيقته؟.
[السؤال] الثانى: هل هو مصدر أو اسم؟.
السؤال الثالث: هل قول المسلِّم: “سلام عليكم” خير أو إنشاء وطلب؟.
السؤال الرابع: ما معنى السلام (1) المطلوب عند التحيَّة، وإذا كان دعاء وطلبًا، فما الحكمة في طلبه عند التلاقي والمكاتبة دون غيره من المعاني؟.
السؤال الخامس: إذا كان من السلامة، فمعلوم أن الفعل منها لا يتعدَّى بـ “على”، فلا: يقال: سلامة عليك، وسلِمت عليك بكسر اللام، وإنما يقال: سلام لك، كما قال تعالى: {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)} [الواقعة: 91].
السؤال السادس: ما الحكمة في الابتداء بالنكرة في السلام، مع كون الخبر جارًّا ومجرورًا؛ وقياس العربية تقديم الخبر في ذلك نحو: “في الدار رجل”.
السؤال السابع: لمَ أختصَّ المسلِّم بهذا النظم، والرادُّ بتقديم الجار والمجرور علي السلام (2)، وهلا كان رده بتقديم السلام
__________
(1) (ظ ود): “السؤال”.
(2) (ظ ود): “المسلم”.

(2/594)


مطابقًا (1) لابتدائه؟.
السؤال الثامن: ما الحكمة في كون سلام المبتدئ بلفظ النكرة، وسلام الراد عليه بلفظ المعرفة؛ وكذلك ما الحكمة في ابتداء السلام في المكاتبة بالنكرة وقي آخرها بالمعرفة، فيقال أولاً: سلام عليكم، وفي انتهاء المكاتبة: والسلام عليكم، وهل هذا التعريف (2) لأجل العهد وتقدُّم السلام، أو لحكمة سوى ذلك؟.
السؤال التاسع: ما الفائدة في دخول الواو العاطفة في السلام الآخر، فيقول أولاً: سلامٌ عليكم، وفى الانتهاء: والسلامُ عليكم، وعلى أيِّ شيءٍ هذا العطف؟.
السؤال العاشر: ما السرُّ في نصب السلام في تسليم الملائكة ورفعه في تسليم إبراهيم -عليه السلام-، وهل هو كما تقول النحاةُ: إن سلام إبراهيم أكمل لتضمنه جملة اسمية دالة على ثبوت، وتضمُّن سلام الملائكة صيغة جملة فعلية دالة على الحدوث؟ أم (3) لسر غير ذلك؟.
السؤال الحادي عشر: ما السرُّ في نصب السلام من قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} [الفرقان: 63]، ورفعه من قوله: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [القصص: 55]، وما الفرق (ظ/ 107 أ) بين الموضعين؟.
السؤال الثاني عشر: ما الحكمة في تسليم الله على أنبيائه ورسله؟
__________
(1) (ظ ود): “مطلقًا”.
(2) (ظ ود): “التفريق”.
(3) ليست في (ق).

(2/595)


والسلام إنما هو طلب السلامة للمسلَّم عليه، فكيف يتصور هذا المعنى في حقِّ الله تعالى؛ وهذا من أهم الأسئلة وأحسنها.
السؤال الثالث عشر: إذا ظهرت حكمة سلامه تعالى عليهم، فما الحكمة في كونه سلَّم عليهم بلفظ النكرة، وشرعَ لعباده أن يسلموا على رسوله (1) بلفظ: المعرفة، فيقولون: “السلامُ عليكَ أيها النبيُّ ورحمة اللهِ وبركاته”، وكذلك سلامهم على أنفسهم وعلى عباد الله الصالحين.
السؤال الرابع عشر: ما السر في تسليم الله على يحيى بلفظ النكرة في قوله: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ} [مريم: 15]، وتسليم المسيح على نفسه بلفظ المعرفة بقوله: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ} [مريم: 33]، وأيُّ السلامين أتم وأعم.
السؤال الخامس عشر: ما الحكمة في تقييد هذين السلامين بهذه الأيام الثلاثة {يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ … } (2)، الآية [مريم: 33] مع أن السلام مطلوب في جميع الأوقات، فلو أتى به مطلقًا أَمَا كان أعم؟ فإنَّ هذا التقييد خصَّ السلامَ بهذه الأيام خاصة.
السؤال السادس عشر: ما الحكمة في تسليم النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- على من اتَّبَعَ الهدي في كتاب: هِرَقل (3) بلفظ النكرة، وتسليم موسى على من اتبع الهدى بلفظ المعرفة كما جاء في القرآن، وهلاَّ كان سلام النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بلفظ المعرفة ليطابق القرآن، وما الفرق بينهما؟.
السؤال السابع عشر: قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ
__________
(1) (ق): “عليه”.
(2) الآية ليست في (ق ود).
(3) سيأتي تخريجه (2/ 655).

(2/596)


الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] هل هذا سلام من الله تعالى فيكون الكلام قد تضمَّن جملتين طلبيتين، وهي الأمر بقوله (1): {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ}، وخبرية وهي: سلامه تعالى على عباده، وعلى هذا فيكون من باب عطف الخبر على الطلب.
أو هو أمر من الله بالسلام عليهم، وعلى هذا فيكون قد أمر بشيئين؛ أحدهما: قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ}، والثاني: قوله {وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}، ويكون كلاهما معمولاً لفعل القول، وأيُّ المعنيين أليق بالآية؟.
السؤال الثامن عشر: روى أبو داود في “سننه” (2) من حديث أبي جرَيٍّ (3) الهجَيْمي قال: “أتيتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: عليكَ السلام يا رسول الله فقال: “لا تَقُلْ: عَلَيْكَ السَّلامُ، فإنَّ عَلَيْكَ السَلام تَحيّةُ الموْتَى” قال الترمذي (4): “حديث صحيح”، وقد صحَّ عنه -صلى الله عليه وسلم- في السلام على الأموات فعلاً وأمرًا: “السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْم مؤمنِينَ” (5)، فما وجه هذا الحديث؟ وكيف الجمع بينه وبين الأحاديث الصحيحة؟.
السؤال التاسع عشر: ما وجه دخول الواو (ق / 141 ب)، في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إذَا سَلَّمَ عَلَيكُمْ أهلُ الكِتَابِ فَقْوْلُوا: وَعَلَيْكمْ” (6) وقد
__________
(1) (ق): “بقول: الحمد لله”.
(2) رقم (4084).
(3) تحرفت فى (ق)، إلى “جرير”، واسمه: جابر بن سُلَيم.
(4) فى “الجامع” رقم (2722)، وفيه: “حسن صحيح”، وانظر ما سيأتي 2/ 630.
(5) تقدم تخريجه 1/ 84.
(6) أخرجه البخاري رقم (6258)، ومسلم رقم (2163) وغيرهم من حديث أنس -رضي الله عنه-.

(2/597)


استشكل كثيرٌ من الناس أمرَ هذه الواو حتى أنكر بعض الحذَّاق (1) أن تكون ثابتة، قال: لأن: الواو في مثل هذا تقتضي تقريرَ الأول وتصديقه، كما إذا قلت: “زيد كاتب” فقال المخاطَب: وفقيه، فإنه يقتضي إثبات الأول وزيادة وصف “فقيه”، فكيف دخلت في هذا الموضع وما وجهها؟.
السؤال العشرون: ما السر في اقتران الرحمة والبركة بالسلام دون غيرهما من الصفات كالمغفرة والبر والإحسان ونحوها؟.
السؤال الحادي والعشرون: لِمَ كانت نهاية السلام عند قوله (2): “وبركاته” (ظ/107 ب)، ولم تُشْرَع الزيادة عليه؟.
السؤال الثاني والعشرون: ما الحكمة في إضافة الرحمة والبركة إلى الله تعالى، وتجريد السلام عن هذه الإضافة، ولم لا أُضْيفت كلها أو جُرِّدت كلها؟.
السؤال الثالث والعشرون: ما الحكمة في إفراد السلام والرحمة، وجمع البركة، وهلَّا جُمِعت كلها أو أفردت كلها (3)؟.
السؤال الرابع والعشرون (4): ما الحكمة في تأكيد الأمر بالسلام على النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمصدر، دون الصلاة في قوله: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، ولم يقل: صلوا صلاة؟.
السؤال الخامس والعشرون: ما الحكمة في تقديم السلام عليه في
__________
(1) (ظ ود): “بعضهم من الحُذَّاق”.
(2) سقطت من (ق).
(3) “وهلا … ” ليست في (ظ).
(4) من قوله: “ما الحكمة … ” إلى هنا ساقط من (د).

(2/598)


الصلاة على الصلاة عليه؟ وهلا وقعت البداءة بالصلاة عليه أولاً، ثم أُتبِعَت بالسلام لتصح (1) البداءة بما بدأ اللهُ به من تقديمِ الصلاةِ على السلام؟.
السؤال السادس والعشرون: ما الحكمة في كون السلام عليه في الصلاة بصيغة خطاب المواجهة، وأما الصلاة عليه فجاءت بصيغة الغيبة لذكره باسم العلم؟.
السؤال السابع والعشرون: -وهو ما جرَّ إليه طَرْدُ الكلام- ما الحكمةُ في كون الثناء على الله ورد بصيغة الغيبة في قولنا: “التحيات لله”، مع أنه سبحانه هو المناجَى المخاطَب الذي يسمع كلامَنا ويرى مكانَنا، وجاء السلام على النبي -صلى الله عليه وسلم- بصيغة الخطاب مع أن الحال كان يقتضي العكس، فما الحكمةُ في ذلك؟.
السؤال الثامن والعشرون: -وهو خاتمة الأسئلة- ما السرُّ في كون السلام خاتمة الصلاة وهلاَّ كان في ابتدائها، وإذا كان كذلك؛ فما السر في مجيئه معَرَّفًا وهلاَّ جاء منكَّرًا؟.
* * *
أما السؤال الأول: وهو ما حقيقة هذه اللفظة؟.
فحقيقتُها البراءةُ والخلاص والنجاة من الشرِّ والعيوب، وعلى هذا المعنى تدور تصاريفُها، فمن ذلك قولك: “سلَّمك الله”، و”سَلِم فلانٌ من الشر”، ومنه دعاءُ المؤمنين على الصراط: “ربِّ سَلِّم اللهم سَلِّم” (2)،
__________
(1) (ق): “ليقع”.
(2) تقدم تخريجه (1/ 294)، وهو حديث الشفاعة الطويل.

(2/599)


ومنه: “سَلِمَ الشيءُ (ق/142 أ) لفلان”، أي: خَلَص له وحده، فخلص من ضرر الشركة فيه، قال الله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزمر: 29] أي: خالصًا له وحدَه لا يملكه معه غيره. ومنه: السّلْم، ضد الحرب، قال تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] لأن كل واحد من المتحاربين يَخلص ويَسْلم من أذى الآخر، ولهذا يبنى منه على المفاعلة، فيقال: المسالمة، مثل المشاركة. ومنه: القلب السليم، وهو النقي من الغِلّ والدَّغل والعيب (1)، وحقيقته: الذي قد سلِم لله وحده فخَلَص من دغل الشرك وغِلِّتَه، ودغل الذنوب والمخالفات، بل هو المستقيم على صِدق حبه وحسن معاملته، فهذا هو الذي ضَمِن له النجاة من عذابه والفوز بكرامته، ومنه أُخِذ الإسلام، فإنه من هذه المادة؛ لأنه الاستسلام والانقياد لله والتخلص من شوائب الشرك، فسَلِم لربه وخَلَصْ له، كالعبد الذي سلم لمولاه ليس له فيه شركاءُ متشاكسون، ولهذا ضربَ سبحانه هذين المثلين للمسلم المخلص الخالص لربه والمشرك به.
ومنه: السَّلَم للسَّلَفِ (2)، وحقيقته: العِوَض المُسْلَم فيه، لأن من هو في ذمته قد ضمن سلامته لربه، ثم سُمِّي العقد: سَلَمًا، وحقيقته ما ذكرناه.
فإنَّ قيل: فهذا ينتقض بقولهم للديغ (ظ / 108 أ): سليمًا.
قل: ليس هذا بنقضٍ له، بل طرد لما قلناه، فإنهم سموه: سليمًا
__________
(1) “الغل”، من (ظ ود)، و”العيب” من (ق).
(2) (ق): “السلام” ثم كتب في حاشيتها: “السلم ظ” يعني: الظاهر، وهو الصواب، وتحرّفت في (ظ ود) إلى “السلم للكشف”!.

(2/600)


باعتبار ما يهمه ويطلبه ويرجو أن يؤول إليه حالُه من السلامة، فليس عنده أهم من السلامة، ولا هو أشد طلبًا منه لغيرها، فسُمِّيَ سليمًا لذلك، وهذا من جنس تسميتهم المَهْلَكة: مَفَازَة؛ لأنه لا شيء أهم عند سالكها من فوزه منها، أي: نجاته، فسُمِّيت: “مفازة” لأنه يطلب الفوز منها (1)، وهذا أحسن من قولهم: إنما سُمِّيت: مفازة، وسُمِّي اللديغ: سليمًا = تفاؤلاً، وإن كان التفاؤل جزء هذا المعنى الذي ذكرناه وداخل فيه، فهو أعم وأحسن.
فإن قيل: فكيف يمكنكم رد السُّلَّم إلى هذا الأصل؟.
قيل: ذلك ظاهر، فإن الصاعدَ إلى مكان مرتفع لما كان متعرِّضا للهُوِيِّ والسقوط، طالبًا للسلامة راجيًا لها، سُميت الآلة التي يتوصل بها إلى غرضه: سُلَّمًا، لتضمنها سلامته، إذ لو صَعِد بتكلُّف (2) من غير سُلَّم لكان عَطَبه متوقعًا، فصح أن السُّلَّم من هذا المعنى.
ومنه تسمية الجنة: دار السلام، وفي إضافتها إلى السلام ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنها إضافة إلى مالكها السلام سبحانه. الثاني: أنها إضافة إلى تحية أهلها، فإن تحيتهم فيها “سلام”. الثالث: أنها إضافة إلى معنى السلامة، أي: دار السلامة من كل آفة ونقص وشر، والثلاثة متلازمة، وإن كان الثالث أظهرها، فإنه لو كانت الإضافة إلى مالكها، لأُضِيْفت إلى اسم من أسمائه غير السلام، وكان يقال: دار الرحمن، أو: دار (ق/ 142 ب) الله أو دار المَلِك، ونحو ذلك، فإذا
__________
(1) من قوله: “أي نجاته … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) من قوله: “لما كان متعرِّضًا … ” إلى هنا مكانه في (ق) آخر الورقة (143/ أ)، والصواب ما في (ظ ود).

(2/601)


عهدت إضافتها إليه، ثم جاء “دار السلام” حملت على المعهود وأيضًا فإن المعهود في القرآن إضافتها إلى صفتها أو إلى أهلِها.
أما الأول فنحو: دار القرار، دار الخُلْد، جنة المأوى، جنات النعيم، جنات الفردوس. وأما الثاني: فنحو: دار المتقين ولم يُعهَد إضافتها إلى اسم من: أسماء الله في القرآن، فالأوْلَى حمل الإضافة على المعهود في القرآن.
وكذلك إضافتها إلى التحية ضعيف من وجهين، أحدهما: أن التحية بالسلام مشتركة بين دار الدنيا والآخرة، وما يُضاف إلى (1) الجنة يكون إلا مختصًّا بها، كالخُلْد والقرار والبقاء. الثانى: أن غير التحية من أوصافها أكمل، مثل كونها دائمة، وباقية، ودار خلْد، والتحيةُ فيها عارضة عند التلاقي والتزاور (2)، بخلاف السلامة من: كلِّ عيبٍ ونقص وشر، فإنها من أكمل أوصافها المقصودة علي الدوام، التى لا يتم النعيم فيها إلا به، فإضافتها إليه أولى، وهذا ظاهر.
فصل.
وإذا عُرف هذا؛ فإطلاق السلام على الله تعالى اسمًا من أسمائه هو أولى من هذا كله، وأحق بهذا (3) الاسم من كلِّ مسمًّى به، لسلامته -سبحانه- من كل عيب ونقص من كل وجه، فهو السلام الحق بكل اعتبار، والمخلوق سلام بالإضافة، فهو سلام سبحانه في ذاتِهِ عن كلِّ عيب ونقص (4) يتخيله وهم، وسلامٌ في صفاته منْ كلِّ
__________
(1) (ق): “إليه”.
(2) من “الثاني … ” إلى هنا سقط من (ظ).
(3) (ق): “من هذا”.
(4) “من كل وجه … ” إلى هنا سقطت من (ق) وتكررت فى (ظ).

(2/602)


عيب ونقص، وسلام في أفعاله من كل عيب ونقص وشر وظلم وفعل واقع على غير وجه الحكمة، بل هو السلام الحقُّ من كل وجه وبكل اعتبار، فعُلِمَ أن استحقاقه تعالى لهذا الاسم أكمل من استحقاق كل ما يطلق عليه.
وهذا هو حقيقة التنزيه الذي نزَّه به نفسه ونزهه به رسوله، (ظ/108 ب) فهو السلامُ من الصاحبة والولد، والسلام من النظير والكفء، والسَّمِي والمماثل، والسلام من الشريك، وكذلك إذا نظرتَ إلى أفراد صفات كماله، وجدت كل صفة سلامًا مما يضاد كمالها، فحياته سَلام (1) من الموت ومن السِّنَة والنوم، وكذلك قيُّوميته وقدرته سلام من التعب واللغوب، وعلمه سلام من عزوب شئ عنه أو عروض نسيان أو حاجةٍ إلى تذكُّر وتفكُّر، وإرادته سلام من خروجها على الحكمة والمصلحة، وكلماته سلام من الكذب والظلم، بل تمت كلماته صِدْقًا وعدلاً، وغِناه سلام من الحاجة إلى غيره بوجهٍ ما، بل كلُّ ما سواه محتاج إليه، وهو غنيّ عن كل ما سواه، وملكُه سلام من منازع فيه أو مشارك أو معاود مُظَاهِر أو شافع عنده بدود إذنه، وإلاهيته سلام من كل مشارك له (ق/143 أ)، فيها، بل هو الله الذي لا إله إلا هو، وحِلمه وعَفْوه وصَفْحه ومغفرته وتجاوزه سلامٌ من أن تكون عن حاجة منه أو ذُلٍّ أو مُصَانعة كما يكون من غيره، بل هو مَحْض جُوْده وإحسانه وكرمه.
وكذلك عذابه وانتقامه وشدةُ بَطْشه وسرعة عقابه سَلامٌ من أن يكون ظلمًا أو تشفِّيًا أو غِلْظة وقسوة، بل هو مَحْض حكمته وعدله
__________
(1) سقطت من (ق).

(2/603)


ووضعه الأشياءَ مواضعها، وهو مما يستحق عليه الحمدَ والثناءَ كما يستحقه على إحسانه وثوابه ونعمه، بل لو وضع الثواب موضع (1) العقوبة لكان مناقضًا لحكمته ولعزته، فوضعه العقوبة موضعها هو من حمده وحكمته وعزته، فهو سلام مما يتوهم أعداؤه والجاهلون به من خلاف حكمته.
وقضاؤه وقدره سَلام من العبثِ والجَوْر والظلم، ومِنْ تَوَهُّمِ وقوعِهِ على خلاف الحكمة البالغة، وشرعُه ودينُه سلام من التناقض والاختلاف والاضطراب، وخلاف مصلحة العباد ورحمتِهِم والإحسان إليهم وخلاف حكمته، بلَ شرعه كلُّه حكمة ورحمة ومصلحة وعدل.
وكذلك عطاؤه سَلام من كونه معَاوَضة أو لحاجةٍ إلى المعْطَى. ومنعه سلام من البخل وخوف الإملاق، بل عطاؤه (2) إحسان محض لا لمعاوضةٍ ولا لحاجة، ومنعه عدل محض وحكمة لا يشوبه بخل ولا عجز.
واستواؤه وعُلُوُّه على عرشه سَلام من أن يكون محتاجًا إلى ما يحمله أو يستوي عليه، بل العرش محتاج إليه، وحَمَلَته محتاجون إليه، فهو الغنيُّ عن العرش وعن حَمَلَته، وعن كلِّ ما سواه، فهو استواءٌ وعلُوٌّ لا يشوْبه حَصْر ولا حاجة إلى عرش ولا غيره، ولا (3) إحاطة شيء به سبحانه وتعالى، بل كان سبحانه ولا عَرْش ولم يكن به حاجة إليه، وهو الغني الحميد، بل استواؤه على عرشه واستيلاؤه على خلقه من موجات مُلْكه وقَهْره من غير حاجة إلى عرش ولا غيره
__________
(1) (ق): “مكان”.
(2) “سلام من … ” إلى هنا سقط من (ظ ود).
(3) “غيره ولا” سقطت من (ق).

(2/604)


بوجهٍ ما، ونزولُه كل ليلة إلي سماءِ الدنيا سلام مما يضاد علوَه، وسَلام مما يضاد غِناه وكماله، وسَلام من كلِّ ما يتوهَّم معطِّل أو مشبِّه، وسَلام من أن يصير تحت شيءٍ أو محصورًا في شيء -تعالى الله ربنا عن كل ما يضاد كماله وغناه-. وسمعُه وبصرُه سَلامٌ من كلِّ ما يتخيَّله مشبِّه أو يتقوَّله (ق/143 ب)، معطِّل.
وموالاته لأوليائه سلام من أن تكون عن ذُلٍّ كما يوالي المخلوقُ المخلوقَ، بل هي موالاة رحمة وخير وإحسان وبرٍّ، كما قال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء: 111]، فلم (ظ/109 أ) ينفِ أن يكون له ولي مطلقًا، بل نفى أن يكون له وليٌّ من الذُل (1).
وكذلك محبته لمحبيه وأوليائه سَلام من عوارض محبة المخلوق للمخلوق، من كونها محبة حاجة إليه أو تملُّق له، أو انتفاع بقربه، وسلام مما يتموَّله المعطلون فيها، وكذلك ما أضافه إلي نفسه من اليد والوجه (2)، فإنه سَلام عما يتخيله مشبِّه أو يتقوله معطِّل.
فتأمل كيف تضمن اسمه “السلام” كل ما ينزه عنه تبارك وتعالى، وكم ممن يحفظ هذا الاسم ولا يدري ما تضمَّنه من هذه الأسرار والمعاني، والله المستعان (3) المسؤول أن يوفق لتعليقِ على الأسماء الحسنى على هذا النَّمط إنه قريب مجيب، ولنقطع هاهنا الكلام على السؤال الأول.
__________
(1) “فلم ينف … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) (ظ ود) “الرحمة”.
(3) ليست في (ق).

(2/605)


فصل (1)
وأما السؤال الثاني: وهو هل السلام مصدر أو اسم؟.
فالجواب: أن السلامَ الذي هو التحية اسم مصدر من “سلَّم”، ومصدره الجارىِ عليه “تسليم”، كـ “علَّم تعليمًا”، و”فهَّمَ تفهيمًا”، و”كلَّم تكليمًا”، والسلام من “سلَّم”، كالكلام من “كلَّم”.
فإن قيل: وما الفرق بين المصدر والاسم؟.
قلنا: بينهما فرقان، لفظيٌّ ومعنويٌّ.
أما اللفظي: فإن المصدرَ هو الجاري على فعله الذي هو قياسه، كالإفعال من “أفعل” والتفعيل من “فعَّل” والانفعال من “انفعل”، والتفعلل من “تفعْلَل “وبابه. وأما السلام والكلام فليسا بجاريين على فعليهما، ولو جريا عليه لقيل: “تسليم وتكليم”.
وأما الفرق المعنويُّ: فهو أن المصدر دالٌّ على الحَدَث وفاعله، فإذا قلت: تكليم وتسليم وتعليم (2)، ونحو ذلك، دلَّ على الحدث ومن قدَّم به، فيدل التسليم على السلام والمسلم، وكذلك التكليم التعليم وأما اسم المصدر فإنَّما يدلُّ على الحدث وحدَه، فالسلام والكلام لا يدل (3) لفظُه على مُسَلِّم ولا مُكَلِّم، بخلاف التكليم والتسليم.
وسرُّ هذا الفرق أن المصدر فى قولك: “سلَّم تسليمًا” و”كلَّم
__________
(1) كلمة “فصل” من هنا إلى السؤال الثاني عشر ليست في (د)، ثم ثبتت إلى آخر الأسئلة.
(2) ليست في (ق).
(3) (ظ ود): “يدرك”.

(2/606)


تكليمًا” بمنزلة تكرار الفعل، فكأنك قلت: “سلَّم سلَّم” و”تكلَّم تكلَّم”، والفعل لا يخلو عن فاعله أبدًا. وأما اسم المصدر؛ فإنهم جرَّدوه لمجرد الدلالة على الحدث، وهذه النكتة من أسرار العربية، فهذا السلام الذي هو التحيَّة.
وأما “السلام” الذي هو اسم من أسماء الله؛ ففيه قولان:
أحدهما: أنه كذلك اسم مصدر، وإطلاقه عليه كإطلاق “العدل” عليه، والمعنى: أنه (ق/ 144 أ) ذو السلام وذو العدل، على حذف المضاف.
والثاني: أنَّ المصدرَ بمعنى الفاعل هنا، أي: السالم (1) كما سُمِّيت ليلة القدر: “سلامًا”، أىِ: سالمة من كلِّ شرٍّ، بل هي خير لا شرَّ فيها.
وأحسن من القولين وأَقْيَس في العربية: أن يكون نفس السلام من أسمائه تعالى، كالعدل، وهو من باب إطلاق المصدر على الفاعل لكونه غالبًا عليه مكرَّرًا منه، كقولهم: رجل صَوْم وعَدْل وزَوْر، وبابه.
وأما “السلام” الذي هو بمعنى السلامة، فهو مصدر نفسه، وهو مثل الجلال والجلالة، فإذا حذفت “التاء” كان المراد نفس المصدر، وإذا أتيت (2) بالتاء كان فيه إيذان (3) بالتحديد بالمرة من المصدر، كالحبِّ والحبَّة، فالسلام والجمال والجلال كالجنس العام من حيث لم يكن فيه [تاء] (4) التحديد. والسلامةُ والجلالة والملاحةُ والفصاحةُ
__________
(1) (ق): “السلام”!.
(2) (ق): “أُتي”.
(3) في الأصول: “إيذانًا”!.
(4) تحرفت في الأصول.

(2/607)


كلُّها تدلُّ على الخصلة الواحدة.
ألا ترى أن الملاحة خَصْلة من خصال الكمال، والجلالة خَصْلة من خصال الجلال، ولهذا لم يقولوا: كَمَالة، كما قالوا: مَلاحة وفَصَاحة؛ لأن “الكمال” اسم جامع لصفات الشرف والفضل، فلو قالوا: كمالة، لنقضوا الغرض المقصود من اسم “الكمال”، فتأمَّلْه.
وعلى هذا جاء: “الحَلاوة والأصَالة والرَّزانة والرَّجَاحة”؛ لأنها خصلة (1) من مطلق الكمال والجمال محددة، فجاؤوا فيها بـ “التاء” الدالة على التحديد، وعكسه: “الحماقة والرَّقاعة والنَّذالة والسفاهة”، فإنها خصال محددة من مطلق العيب والنقص، فجاؤوا في الجنس الذى يشمل الأنواع بغير “تاء”، وجاؤوا في أنواعه وأفراده بـ “التاء”، وقد تقدَّم تقرير هذا المعنى وإيضاحه (2)، فلا حاجةَ إلى إعادته.
فتأمَّل الآن كيف جاء “السلام” (3) مجرَّدًا عن “التاء” إيذانًا بحصول المسمى التام؛ إذ لا يحصل المقصود إلا به، فإنه لو سلم من آفةٍ ووقعَ في آفة، لم يكن قد حصل له السلام، فوضح أن السلام لم يحرج عن المصدريَّة في جميع وجوهه.
فإن قيل: فما الحكمة في مجيئه اسم مصدر، ولم يجئ على أصل المصدر؟.
قيل: هذا السرُّ بديع، وهو أن المقصود حصول (4) مُسَمَّى السلامة
__________
(1) (ق): “خِصال”.
(2) (ظ ود): “وأيضًا”! وانظر ما تقدم (2/ 470 – 472).
(3) (ق): “الإسلام”.
(4) ليست في (ق).

(2/608)


للمسلَّم عليه على الإطلاق، من غير تقييد بفاعل، فلما كان المراد مطلق السلامة من غير لعرّض لفاعل أتوا باسم المصدر الدال على مجرَّد الفعل، ولم يأتوا بالمصدر الدالِّ على الفعل والفاعل معًا، فتأمله.
فصل
وأما السؤال الثالث: وهو أن قول المسلم: “سلام عليكم” هل هو إنشاء أم خبر (1)؟
فجوابه: أن هذا ونحوه من ألفاظ الدعاء متضمن للإنشاء والإخبار، فجهة الخبرية فيه لا تُناقض جهةَ الإنشائية، وهذا موضعٌ بديع يحتاج إلى كشف وإيضاح، فنقول: الكلام له نسبتان، نسبة إلى المتَكلِّم به نفسِه (2)، ونسبة إلى المتكلَّم فيه إما طلبًا وإما خبرًا، وله نسبة ثالثة إلى المخاطَب، لا يتعلَّقُ بها هذا الغرض، وإنما يتعلق تحقيقه بالنِّسبتين الأوليين، فباعتبار تينك النسبتين ينشأ التقسيم إلى الخبر والإنشاء، ويعلم أين يجتمعان وأين يفترقان، فله بنسبته إلى قَصْد المتكلِّم وإرادته لثبوتِ مضمونِه وصف الإنشاء، وله بنسبته إلى المتكلَّم فيه والإعلام بتحقُّقه في الخارج وصف الإخبار، ثم تجتمع النسبتان في موضع، وتفترقان في موضع، فكلُّ موضع كان المعنى فيه حاصلاً بقصد المتكلِّم وإرادته فقط، فإنه لا يُجامع فيه الخبرُ الإنشاءَ، نحو قوله: بعتك كذا، ووهبتكه، وأعتقت، وطلقت، فإنَّ هذه المعاني لم يثبت لها وجود خارجي إلا بإرادة المتكلِّم وقصدِه، فهي إنشاآت، وخبريتها من جهة أخرى، وهي تضمنها إخبار المتكلِّم
__________
(1) (ق): “أم طلب أم خبر”.
(2) (ق): “التكلم نفسه”.

(2/609)


عن ثبوت هذه النِّسبة في ذهنه؛ لكن ليست هذه هى الخبرية التي وضع لها لفظ الخبر، وكل موضع كان المعنى حاصلاً فيه من غير جهة المتكلِّم، وليس للمتكلّم فيه إلا دعاؤه بحصوله ومحبته، فالخبرُ فيه لا يناقض الإنشاء، وهذا نحو: “سلامٌ عليكم”، فإن السلامة المطلوبة (1) لم تحصل بفعل المسلِّم، وليس للمسلِّم إلا الدعاء بها ومحبتها، فإذا قال: “سلامٌ عليكم”، تضمَّن الإخبار بحصول السلامة والإنشاء للدعاء بها وإرادتها وتمنِّيها، وكذلك: “ويل له” قال سيبويه: هو دعاء وخبر، ولم يفهم كثير من الناس قولَ سيبويه على وجهه، بل حرَّفوه عما أراده به، وإنما أراد سيبويه هذا المعنى أنها تتضمن الإخبار بحصول الويل له مع الدعاء به، فتدبَّر هذه النكتة التي لا تجدها محرَّرةً في غير هذا الموضع هكذا (ظ/110 أ)، بل تجدهم يُطلقون تقسيم الكلام إلى خبير وإنشاء من غير تحرير وبيان لمواضع اجتماعهما وافتراقهما .. وقد عرفت بهذا أن قولهم: “سلام عليكم”، و”ويل له”، وما أشبه هذا، أبلغ من إخراج الكلام في صورة الطلب المجرد نحو: اللهم سلمة.
فصل
وأما السؤال الرابع: وهو ما معنى السلام المطلوب عند التحية؟.
ففيه قولان مشهوران:
أحدهما: أن المعنى: اسم السلام عليكم، و”السلام” هنا هو الله عز وجل ومعنى الكلام: نزلت بركةُ اسمه عليكم، وحلت عليكم، ونحو هذا، واختير في هذا المعنى من أسمائه عز وجل اسم “السلام” دون غيره من الأسماء، لما يأتى في جواب السؤال الذي بعده،
__________
(1) (ظ ود) “السلام المطلق به” وهو تحريف.

(2/610)


واحتجَّ أصحابُ هذا القول بحجج، منها: ما ثبت في “الصحيح” (1) أنهم كانوا يقولون في الصلاة: السلام على الله قبل (2) عباده، السلام على جبريل، السلام على فلان، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “لا تَقولوا: السَّلامُ على اللهِ فإنَّ اللهَ هو السلام، ولكنْ قُولوا: السلامُ عَلَيْك أيُّها النبيّ ورحمة اللهِ وبركاته، السلامُ عَلَيْنا وعلى عِبادِ اللهِ الصَّالحين”، فنهاهم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن يقولوا: “السلام على الله”؛ لأن السلام على المسلَّم عليه دعاء له وطلب أن يَسْلَم، والله تعالى هو المطلوبُ منه لا المطلوبُ له، وهو المدعوّ لا المدعوّ له، فيستحيل أن يُسَلَّم عليه، بل هو المسلِّمُ على عباده كما سلَّم عليهم في كتابه حيث يقول: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)} [الصافات: 180 – 181]، وقوله: {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109)} [الصافات: 109]، {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ} [الصافات: 79] {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)} [الصافات: 130]، وقال في يحيى: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ} [مريم: 15] وقال لنوح: {اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ} [هود: 48] ويسلِّم يوم القيامة على أهل الجنة كما قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) (3) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)} [يس: 57 – 58] فـ “قولاً” منصوب على المصدر، وفعله ما تضمَّنه “سلام” من القول؛ لأن السلام قول.
وفي “مسند الإمام أحمد” (4) و”سنن ابن ماجه” (5) من حديث
__________
(1) البخاري رقم (831)، ومسلم رقم (402) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-.
(2) كذا فى أكثر الروايات، وفي رواية للبخاري “من”، انظر “الفتح”: (2/ 363).
(3) الآية ساقطة من (د).
(4) لم أجده في “المسند”، وقد عزاه المصنف إلى المسند في حاشيته على أبي داود: (7/ 113) أيضًا.
(5) رقم (184).

(2/611)


محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “بَيْنَا أهْلُ الجنَّةِ في نَعيْمهِمْ إذ سَطَعَ لَهم نُوْرٌ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَرَفَعُوا رُؤوسَهُم فَإذَا الجَبَّارُ جَلَّ جَلالُهُ قَدْ أشْرَف عَلَيهِم مِنْ فَوْقِهم وقال: يَا أَهْلَ الجنةِ سَلامٌ عَلَيْكم ثُمَّ قَرَأ قوله: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)} [يس: 58] ثُمَّ يَتَوارَى عنهم فَتَبْقَى رَحْمَتُه وبَرَكَتُه عَلَيْهِمْ في دِيَارِهِمْ” (1).
وفي “سنن ابن ماجة” (2) مرفوعًا: “أوَّل مَنْ يُسلِّم عَلَيه الحقُّ يومَ القَيَامَةِ عُمَر”، وقال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} [الأحزاب: 44] فهذا تحيتهم يوم يلقونه تبارك وتعالى، ومحالٌ أن تكون هذه تحية منهم له فإنهم أعرف به من أن يسلموا عليه وقد نُهوا عن ذلك في الدنيا، وإنما هذا تحية منه لهم والتحية هنا مضافة إلى المفعول، فهي التحية التي يُحَيَّون بها لا التحية التي يحيونه هم بها ولولا قوله تعالى في (ق/145 ب) سورة يس: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)} [يس: 58] لاحتمل أن تكون التحية لهم من الملائكة، كما قال الله: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد: 23، 24]، ولكن هذا سلام الملائكة إذا دخلوا عليهم وهم في منازلهم من الجنة يدخلون مُسَلِّمين عليهم وأما التحية المذكورة في قوله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} [الأحزاب: 44] فتلك تحية لهم [وقت] (3) اللقاء، كما
__________
(1) وأخرجه البزار “الكشف: 3/ 67″، والآجري في الشريعة”: رقم (615)، وغيرهم كما في “الدر المنثور”: (5/ 501).
وفي سنده الفضل بن عيسى الرقاشي، منكر الحديث، وبه ضعفه الهيثمي في “المجمع”: (7/ 98)، والبصيري في مصباح الزجاجة”: (1/ 46).
(2) رقم (104) والحاكم: (3/ 84)، وابن عدي: (7/ 65) عن أُبي بن كعب، وضعفه البوصيري في “الزوائد”: (1/ 46)، وابن القيم في “حاشية علي أبي داود”: (7/ 30).
(3) في الأصول: “وقيل” والمثبت من “المنبرية”.

(2/612)


يُحيى الحبيبُ حبيبَه إذا لقيه، فماذا حرم المحجوبون عن ربهم يومئذ!؟.
يَكْفِي الذي غَابَ عنك غَيْبَتُهُ … فذاك ذَنْبٌ عِقَابهُ فِيْهِ
والمقصود: أنَّ اللهَ تعالى يُطْلَب منه السلام، فلا يمتنع في حقه أن يسلِّم على عباده ولا يُطلب له ذلك، فلذلك لا يُسَلَّم عليه. وقوله – صلى الله عليه وسلم -: “إنَّ اللهَ هو السَّلام” (1) صريحٌ في كون السلام اسمًا من أسمائه.
قالوا: فإذا قال المسلِّم: “سلام عليكم”، كان معناه: اسم السلام عليكم. ومن حُججهم ما رواه أبو داود (2) من حديث ابن عمر أن رجلًا سلَّمَ على النبي – صلى الله عليه وسلم – فلم يَردَّ عليه حتى استقبل الجدار، ثم تيمَّم وردَّ عليه، وقال: “إني كرهتُ أنْ أذكرَ اللهَ إلا على طُهْر”، قالوا: ففي هذا الحديث بيان أن “السلام” ذِكر الله، وإنما يكون ذكرًا له إذا تضمن اسمًا من أسمائه.
ومن حججهم أيضًا: أن الكفار من أهل الكتاب لا يُبْدَؤون بالسلام، فلا يقال لهم: سلامُ عليكم. ومعلوم أنه لا يكره أن يقال لأحدهم: سلَّمَكَ الله، وما ذاك إلا لأن السلام اسم من أسماء الله، فلا يسوغ أن يُطْلَب للكافر حصول بركة ذلك الاسم عليه. فهذه
__________
(1) تقدم 2/ 611.
(2) رقم (330)، والنسائي: (1/ 35 – 36)، والطيالسي رقم (1851) من طريق محمد بن ثابت العبدي عن نافع عن ابن عمر بنحوه، وفي لفظه نكارة، ذكره أبو داود عن الإمام أحمد.
وله شاهد من حديث المهاجر بن قنفذ، أخرجه أبو داود رقم (17)، والنسائي: (1/ 37)، وابن ماجه رقم (350)، والحاكم: (1/ 167)، وابن خزيمة رقم (206)، وانظر “سلسلة الأحاديث الصحيحة” رقم (834).

(2/613)


حججٌ كما ترى قوية ظاهرة.
القول الثاني: أن السَّلام مصدر بمعنى السلامة، وهم المطلوب المدعوّ به عند التحية. ومن حُجَّة أصحاب هذا القول أنه يُنكَّر بلا ألف ولام (1)، بل يقول المسلِّم: “سلام عليكم”، ولو كان اسمًا من أسماء الله لم يستعمل كذلك، بل كان يطلق عليه معرَّفًا، كما يُطلق علي سائر أسمائه الحسنى، فيقال: {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: 23]، فإن التنكير لا يصرف اللفظ إلى مُعيَّن فضلًا عن أن يصرفه إلى الله وحده، بخلاف المعرف فإنه ينصرف إليه تعيينًا إذا ذكرت أسماؤه الحسنى.
ومن حُجَجهم أيضًا: إن عطفَ الرحمة والبركة عليه في قوله: “سلام عليكم ورحمة الله وبركاته”، يدل على أن المراد به المصدر، ولهذا عطف عليه مصدرين مثله.
ومن حُجَجهم أيضًا: أنه لو كان السلام (ق/146 أ) هنا اسمًا من أسماء الله، لم يستقم الكلام إلا بإضمار وتقدير يكون به مُقيدًا، ويكون المعنى بركة اسم السلام عليكم، فإن الاسم نفسه ليس عليهم، ولو قلت: اسم الله عليك، كان معناه: بركة هذا الاسم عليك، ونحو ذلك من التقدير، ومعلوم أن هذا التقدير خلاف الأصل، ولا دليل عليه.
ومن حُجَجهم أيضًا: أنه ليس المقصود من السلام هذا المعنى، وإنما المقصود منه الإيذان (2) بالسلامة خبرًا ودعاءً، كما يأتي في جواب السؤال الذي بعد هذا ولهذا كان السلام أمانًا، لتضمُّنِه معنى
__________
(1) “ولام” ليست في (ق).
(2) (ق): الإيذان منه”.

(2/614)


السلامة، وأَمْن كل واحد من المسلِّم والرَّاد عليه من صاحبه. قالوا: فهذا كله يدل على أن السلام مصدر بمعنى السلامة، وحُذِفت تاؤه؛ لأن المطلوب هذا الجنس لا المرة الواحدة منه، و”التاء” تفيد التحديد كما تقدَّم.
وفَصْلُ الخطاب في هذه المسألة أن يُقال: الحق في مجموع القولين، فكل منهما بعض الحق، والصوابُ في مجموعهما، وإنما يتبيَّن ذلك بقاعدة قد أشرنا إليها مرارًا، وهي: أن مِن دعاءِ الله بأسمائه الحسنى أن يسأل في كل مطلوب، ويتوسل إليه بالاسم المقتضي لذلك المطلوب المناسب لحصوله، حتى إن الداعي متشفع إلى الله (1) متوسل إليه به، فإذا قال: “ربِّ اغفر لي وتُبْ عليَّ إِنك أنت التواب الغفور”، فقد سأله أمرين، وتوسَّل إليه باسمين من أسمائه مقتضيين لحصول مطلوبه، وكذلك قول النبي – صلى الله عليه وسلم – (ظ/ 111 أ) لعائشة -رضي الله عنها- وقد سألته ما تدعو به إن وأفقت ليلة القدر؛ “قولي: اللهم إنَّك عَفُوٌّ تحبُّ العفوَ فاعفُ عني” (2)، وكذلك قوله للصديق -رضي الله عنه- وقد سأله أن يعلِّمه دعاءً يدعو به: “اللهمَّ إني ظلمتُ نفسي ظُلمًا كثيرًا وإنه لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنتَ فاغفرْ لى مغفرةً من عندكَ وارحمني إنَّك أنتَ الغفورُ الرَّحيم” (3)، وهذا كثير جدًّا، فلا نطول بإيراد شواهده.
__________
(1) (ظ ود): “مستشفع إليه … “. وانظر ما تقدم (1/ 281، 289).
(2) أخرجه الترمذي رقم (3513)، وابن ماجه رقم (3850)، والنسائي في “عمل اليوم والليلة” رقم (872)، وأحمد في “المسند”: (6/ 171) وغير موضع، والحاكم في “المستدرك”: (1/ 530).
قال الترمذي: “حسن صحيح”، وصححه الحاكم على شرط الشيخين.
(3) أخرجه البخاري رقم (834)، ومسلم رقم (2705).

(2/615)


وإذا ثبت هذا؛ فالمقام لما كان مقامَ طلب السلامة التي هي أهم ما عند الرجل، أتى في لفظها بصيغة اسم من أسماء الله، وهو السلام الذي يطلب منه السلامة فتضمن لفظ “السلام” معنيين؛ أحدهما: ذكر الله كما في حديث ابن عمر (1) والثاني: طلب السلامة، وهو مقصود المسلِّم، فقد تضمَّن “سلام عليكم” اسمًا من أسماء الله تعالى وطلب السلامة منه فتأمل هذه الفائدة.
(ق/146 ب) وقريب من هذا (2) ما رُوِيَ عن بعض السلف (3) أنه قال في “آمين”: أنه اسم من أسماء الله تعالى، وأنكرَ كثيرٌ من الناس هذا القول، وقالوا: ليس في أسمائه “آمين”، ولم يفهموا معنى كلامه، فإنما أراد أن هذه الكلمة تتضمن اسمه تبارك وتعالى، فإن معناها استجِبْ وأعط ما سألناك (4)، فهي متضمنة لاسمه مع دلالتها على الطلب، وهذا التضمن في “سلام عليكم” أظهر، لأن “السلام” من أسمائه تعالى، فهذا كشف سر المسألة, والله أعلم.
فصل
إذا عُرِفَ هذا؛ فالحكمة في طلبه عند اللقاء دون غيره من الدعاء: أن عادة الناس الجارية بينهم أن يُحَيّي بعضُهم بعضًا عند
__________
(1) المتقدم.
(2) (ق): “منها”.
(3) جاء تفسيره بذلك عن عدد من السلف منهم أبو هريرة ومجاهد وهلال بن يِسَاف وحكيم بن جُبَير.
أخرجه ابن أبي شيبة في “المصنف”: (2/ 188)، وعبد الرزاق: (2/ 99)، وانظر “الدر المنثور”: (1/ 45) و”تفسير ابن كثير”: (1/ 33).
(4) (ق): “سألتك”.

(2/616)


لقائه (1)، وكل طائفة لهم في تحيتهم ألفاظٌ وأمورٌ اصطلحوا عليها، وكانت العرب تقول في تحيتهم بينهم في الجاهلية: “أنعم صباحًا” و”انعموا صباحًا”، فيأتون بلفظة “أنعموا” من النَّعمة -بفتح النون- وهي طِيْب العيش والحياة، ويَصِلُونها بقولهم: “صباحًا”! لأن الصباح أول النهار، فإذا حَصَلت فيه النَّعمة استصحبَ حكمها واستمرت اليوم كلَّه، فخصُّوها بأوله إيذانًا بتعجيلها وعدم تأخيرها إلى أن يَتَعَالَى النهار، وكذلك يقولون: “أنعموا مساءً”، فإن الزمان هو صباح ومساء، فالصباح من أوَّل النهار إلى بعد انتصافه، والمساء من بعد انتصافه إلى الليل، ولهذا لِقول الناس: “صبَّحك الله بخيرٍ ومسَّاك الله بخير”، فهذا هو معنى “أنعم صباحًا ومساء” إلا أن فيه ذكر الله.
وكانت الفرسُ يقولون في تحيتهم: “هزار سال بيمائي” (2) أي: تعيش ألف سنة، وكل أمة لهم تحية من هذا الجنس أو ما أشبهه، ولهم تحية يخصُّون بها ملوكَهم من هيئات خاصَّة عند دخولهم عليهم؛ كالسجود ونحوه، وألفاظ خاصة تتميز بها تحية الملك من تحية السُّوْقة، وكلُّ ذلك مقصودهم به الحياة ونعيمها ودوامها، ولهذا سُمِّيت تحية، وهى “تفعلة” من الحياة كـ “تكرمة” من الكرامة، لكن أُدْغِم المثلان فصار “تحية”، فشرع الملك القدوسُ السلامُ -تبارك وتعالى- لأهل الإسلام تحيتهم بينهم “سلام عليكم”، وكانت أولى من جميع تحيات الأمم التي منها ما هو مُحَال وكذب، نحو قولهم: تعيش ألف سنة، وما هو قاصر المعنى مثل قولهم: “انعم صباحًا”،
__________
(1) (ق): “اللقاء”.
(2) تحرفت في الأصول، ومعنى “هزار سال”: ألف سنه، و”بيمائي”: تقطع أو تعيش، وانظر: “اللسان”: (12/ 217).

(2/617)


ومنها ما لا ينبغي إلا لله، مثل: السجود، فكانت التحية بالسلام أَوْلى من ذلك كلِّه، لتضمنها السلامةَ التي لا حياةَ ولا فلاحَ إلا بها، فهي الأصل المقدَّم على كلِّ شيءٍ.
ومقصود (ق / 147 أ): العبد من الحياة إنما يحصل بشيئين، بسلامته من الشروط (ظ / 111 ب)، وحصول الخير كله، والسلامة من الشر مُقَدَّمة على حصول الخير، وهي الأصل، ولهذا إنما يهتم الإنسان، بل كُلُّ حيوان بسلامته أولًا ثم غنيمته ثانيًا، على أن السلامة المطلقة تتضمن حصول الخير، فإنه لو فاته حَصَل له الهلاك والعَطَب أو النقص والضعف، ففوات الخير يَمْنع حصولَ السلامة المطلقة، فتضمَّنت السلامة نجاتَه من كلِّ شرٍّ (1) ودوره بالخير، فانتظمت الأصلين اللذين لا تتم الحياةُ إلا بهما، مع كونها مشتقة من تسمه “السلام” ومتضمنة له، وحُذِفت “التاء” منها لما ذكرنا من إرادة الجنس لا “السلامة” الواحدة، ولما كانت الجنة دار السلامة من كلِّ عيب وسرٍّ وآفةٍ، بل قد سَلِمت من كلِّ ما ينْغِّص (2) العيشَ والحياة، كانت تحيةُ أهلها فيها “سلام”، والربُّ يحييهم فيها بالسلام، والملائكة يدخلون عليهم من كلِّ بابٍ: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} [الرعد: 24] فهذا سرٌّ التحية بالسلام.
عند اللقاء.
وأما عند المكاتبة؛ فلما كان المتراسلان كل منهما غائبًا عن الآخر، ورسوله إليه وكتابه يقوم مقام خطابه له، استعمل في مكاتبته له من السلام ما يستعمله معه لو خاطبه، لقيام الكتاب مقام الخطاب.
__________
(1) (د): “سوء”.
(2) (ق): “ينقص”.

(2/618)


فصل
وأما السؤال الخامس: وهو تَعْدية هذا المعنى بـ “على”.
فجوابه بذكر مقدمة، وهي: ما معنى قوله: “سلمت”؟ فإذا عُرِف معناها عُرِف أن حرف “على” أليق به، فاعلم أن لفظ “سلمت عليه” و”صليت عليه” و”لعنت فلانًا” موضوعها ألفاظ هي جُمَل طلبية، وليس موضوعها معاني مفردة فقولك: “سلمت” موضوعه: قلت: “السلام عليك” وموضوع “صليت عليه” قلت: “اللهم صل عليه” أو “دعوت له”، وموضوع “لعنته، قلت: “اللهم العنه”.
ونظير هذا “سبحت الله” قلت: “سبحان الله”، ونظيره -وإن كان مشتقًا من لفظ الجملة- “هلَّل” إذا قال “لا إله إلا الله”، و”حَمْدَل” إذا قال: “الحمد لله”، و “حوقل” إذا قال “لا حول ولا قوة إلا بالله”، و”حيعل” إذا قال: “حيَّ على الصلاة”، و”بَسْمل” إذا قال: “بسم الله” قال (1):
وَقَدْ بَسْمَلَتْ لَيلَى غَداةَ لَقِيْتُها … أَلا حَبَّذَا ذَاكَ الحبيبُ المبَسْمِلُ
وإذا ثبت هذا؛ فقولك: “سلَّمت عليه”، أي: ألقيت عليه هذا اللفظ وأوقعته عليه إيذانًا باشتمال معناه عليه. كاشتمال لباسه عليه، وكان حرف “على” أليق الحروف (2) به، فتأمله.
وأما قوله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ (ق/147 ب) الْيَمِينِ (91)} [الواقعة: 90، 91]، فليس هذا بسلام تحية، ولو
__________
(1) البيت لعمر بن أبى ربيعة، “ديوانه”: (ص / 320)، وذكر أنه منسوب إليه.
(2) ليست في (ق).

(2/619)


كان تحية لقال: “فسلام عليه” كما قال: {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109)} [الصافات: 109] {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ} [الصافات: 79]، ولكن الآية تضمنت ذكر مراتب الناس وأقسامهم عند القيامة الصغرى حال القدوم على الله، فذكر أنهم ثلاثة أقسام؛ مقرَّب له الرَّوْح والريحان وجنة النعيم، ومقتصد من أصحاب اليمين له السلامة فوعده بالسلامة، ووعد المقرَّب بالغنيمة والفوز، وإن كان كل واحد منهما سالمًا غانمًا. وظالمٌ بتكذيبه وضلاله فأَوْعَدَه بنُزُلٍ من حميم وتَصلِية جحيم، فلما لم يكن المقام مقام تحية، وإنما هو مقام إخبار عن حاله، ذكرَ ما يحصل له من السلامة.
فإن قيل: فهذا فرق صحيح؛ لكن ما معنى (ظ/112 أ) اللام في قوله: “لك”، ومن هو المخاطَب بهذا الخطاب؛ وما معنى حرف “من” في قوله: مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ؟ فهذه ثلاثة أسئلة في الآية.
قيل: قد وفَّينا -بحمد الله- بذكر الفرق بين هذا السلام في الآية وبين سلام التحية وهو الذي كان المقصود، وهذه الأسئلة وإن كانت متعلقة بالآية فهي خارجة عن مقصودِنا، ولكن نجيب عنها إكمالًا للفائدة بحول الله وقوته وإن كنا لم نرَ أحدًا من المفسِّرين شَفَى في هذا الموضع [الغليل] (1) ولا كشفَ حقيقة المعنى واللفظ، بل منهم من يقول: المعنى فمسلم (2) لك إنك من أصحاب اليمين، ومنهم من يقول غير ذلك، مما هو حَوْم على معناها من غير ورود.
فاعلم أن المدعوّ به من الخير والشر مُضَاف إلى صاحبه بلام
__________
(1) من “المنيرية”.
(2) كذا في (ظ ود والمنيرية) و (ق): “فسلام”.

(2/620)


الإضافة الدالة على حصوله له، ومن ذلك قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} [الرعد: 25]، ولم يقل: “عليهم اللعنة” إيذانًا بحصول معناها وثبوته لهم، وكذلك قوله: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)} [الأنبياء: 18] ويقول في ضِدِّ هذا: لك الرحمة، ولك التحية، ولك السلام، ومنه هذه الآية: {فَسَلَامٌ لَكَ} [الواقعة: 91] أي: ثبتَ لك السلام وحصل لك.
وعلى هذا؛ فالخطاب لكل من هو من هذا الضَّرب، فهو خطاب للجنس، أي: فسلامٌ لك يا مَن هو من أصحاب اليمين، كما تقول: هنيئًا لك يا من هو منهم، ولهذا -والله أعلم- أتى بحرف “من” في قوله: {مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة: 91] والجار والمجرور في موضع حال، أي: سلامٌ لك كائنًا من أصحاب اليمين (1)، كما تقول: هنيئًا لك من اتباع (2) رسول الله وحزبه أي: كائنًا منهم، والجار والمجرور بعد المعرفة ينتصب على الحال، كما تقول: أحببتكَ من أهل الدين والعلم، أي: كائنًا منهم (3)، فهذا معنى هذه الآية، وهو وإن خلت عنه كتب أهل التفسير؛ فقد حامَ عليه منهم من حامَ، وما وردَ ولا كشف المعنى ولا أوضحَه فراجع ما قالوه، والله الموفق المانُّ بفضله.
(ق/148 أ) فصل
وأما السؤال السادس: وهو ما الحكمة في الابتداء بالنكرة هاهنا،
__________
(1) من قوله: “الجار والمجرور .. ” ساقط من (ق).
(2) (ق): “أصحاب”.
(3) من قوله: “الجار والمجرور … ” ساقط من (ق).

(2/621)


مع أن (1) الأصل تقديم الخبر عليها؛ فهذا سؤالٌ قد تضمن سؤالين؛ أحدهما: حكمة الابتداء بالنكرة في هذا الموضع. الثاني: أنه إذ قد ابتدئ بها فهلَّا قدَّمَ الخبرَ على المبتدإ، لأنه قياس الباب، نحو: “في الدار رجل”؟.
والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: إن النحاة قالوا: إذا كان في النكرة معنى الدعاء مثل: “سلام لك (2) وويل له” جاز الابتداء بها؛ لأن الدعاء معنى من معاني الكلام، فقد تخصصت النكرةُ بنوع من التخصيص فجاز الابتداء بها، وهذا كلام لا حقيقةَ تحتَه، فإن الخبر أيضًا نوع من أنواع الكلام، ومع هذا فلا تكون جهة الخبر مسوِّغة للابتداء بالنكرة، فكيف تكون جهة الدعاء مسوغة للابتداء بها؟
وما الفرقُ بين كون الدُّعاء نوعًا، والخبر نوعًا، والطلب نوعًا؛ وهلا يُفيد ذلك تعيين مسمَّى النكرة [حتى] يصلح الإخبار عنها؟ فإن المانع من الإخبار عنها ما فيها من الشّياع والإبهام الذي يمنع من تحصيلها عند المخاطَب في ذهنِه حتى يستفيد نسبة الإسناد الخبري إليها، ولا فرقَ في ذلك بين كون الكلام دعاءً أو خبرًا وقول من قال: إن الابتداء بالنكرة إنما (ظ/112 ب) امتنع حيث لا يفيد، نحو: “رجل في الدنيا” و “رجل مات” ونحو ذلك، فإذا أفادت جازَ الابتداءُ بها من غير تقييد بضابط ولا حصر بعدد = أحسنُ (3) من تقييد ذلك بكون الكلام دعاء أو في قوة الكلام آخر، وغير ذلك [من] الضوابط المذكورة، وهذه طريقةُ إمام النحو سيبويه فإنه في “كتابه” لم يجعل
__________
(1) (ق): “كون”.
(2) (ق): “عليك”.
(3) متعلق بقوله: “وقول من قال”.

(2/622)


للابتداءِ بها ضابطًا ولا حصره بعدد، بل جعل مناط الصحة الفائدة، وهذا هو الحق الذي لا يثبت عند النظر سواه، وكل من تكلَّف ضابطًا، فإنه تَرِدُ عليه ألفاظ خارجة عنه، فإما أن يتمحَّل لردها إلى ذلك الضابط، وإما أن يفردها بضوابط أُخَر، حتى آل الأمر ببعض النحاة إلى أن جعل في الباب ثلاثين ضابطًا، وربما زاد غيره عليها! وكلُّ هذا تكلُّف لا حاجة إليه واسترحتَ من: “شَرٌّ أَهَرَّ ذَا نَاب” (1) وبابه.
فإن قلت: فما عندك من الضابط إذا سلكت طريقتهم؟.
قلت: اسمع الآن قاعدةً جامعة في هذا الباب، لا يكاد يشذ عنها شيء منه: أصل المبتدأ أن يكون معرفةً أو مخصوصًا بضرب من ضروب التخصيص، بوجهٍ تحصل الفائدة من الإخبار عنه، فإن انتفت عنه وجوه التخصيص بأجمعها، فلا يُخْبر عنه إلا أن يكون الخبر (ق/148 ب) مجرورًا مفيدًا معرفة مقدَّمًا عليه بهذه الشروط الأربعة؛ لأنه إذا تقدَّم وكان معرفة صار كأن الحديث عنه، وكأن المبتدأ المؤخر خبر (2) عنه.
ومثال ذلك إذا قلت: “عَلَى زيدٍ دَيْن” فإنك تجد هذا الكلام في قوة قولك: “زيد مديان أو مَدِين”، فمحطُّ الفائدة هو الدين، وهو المستفاد من الإخبار، فلا تنحس في قيود الأوضاع، وتقول: “على زيد” جار ومجرور فكيف يكون مبتدأ؟ فأنت تراه هو المُخْبَر عنه في
__________
(1) من أمال العرب، انظر “مجمع الأمثال”: (2/ 172)، والمعنى: ما أهرَّ ذا نابٍ إلا شرٌّ، وأهرَّ: من الهرير وهو صوت السَّبُع، وذا ناب: هو السبع. والمثل محرف في الأصول.
(2) ليست في (ق).

(2/623)


الحقيقة، وليس المقصود الإخبار عن الدَّين بل عن زيد بأنه مِدْيان، وإن كَثُف ذهنك عن هذا فراجع شروط المبتدأ وشروط الخبر، وإن لم يكن الخبر مفيدًا لم تفد المسألة شيئًا وكان لا فرقَ بين تقديم الخبر وتأخيره، كما إذا قلت: “في الدنيا رجل” كان في عدم الفائدة بمنزلة قولك: “رجل في الدنيا”، فهنا لم تمتنع الفائدة بتقديمٍ ولا تأخير، وإنما امتنعت من كون الخبر غير مفيد، ومثل هذا قولك: “في الدار امرأة”، فإنه كلام مفيد؛ لأنه بمنزلة قولك: “الدار فيها امرأة”، فأخبرتَ عن الدار بحصولِ المرأة فيها في اللفظ والمعنى، فإنك لم تُرِد الإخبار عن المرأة بأنها في الدار، ولو أردت ذلك لحصلت حقيقة المُخْبر عنه أولًا ثم أسندت إليه الخبر، وإنما مقصودك الإخبار عن الدار بأنها مشغولة بامرأة وأنها اشتملت على امرأة، فهذا القدر هي الذي حَسَّن الإخبار عن النكرة هاهنا، فإنها ليس خبرًا عنها في الحقيقة، وإنما هي في الحقيقة خبر عن المعرفة المتقدِّمة، فهذا حقيقةُ الكلام، وأما تقديُره الإعْرابيُّ النحويُّ فهو: أن المجرور خبر مقدَّم والنكرة مرفوعة بالابتداء.
فإن قلت: فمن أين امتنع تقديم هذا المبتدأ في اللفظ فلا تقول: “امرأة في الدار” و”دَيْن على زيد”؟.
قلت: لأن النكرة تطلب الوصف طلبًا حثيثًا، فيسبق (ظ/113 أ) الوهم إلى أن الجار والمجرور وصف لها لا خبرٌ عنها؛ إذ ليس من عادتها الإخبار عنها إلا بعد الوصفِ لها، فيبقى الذهن متطلِّعًا إلى ورود الخبر عليه، وقد سبق إلى سمعه ولكن لم يتيقن أنه الخبر، بل يجوز أن يكون وصفًا فلا تحصل به الفائدة، بل يبقى في أَلَمِ الانتظار للخبر والترقُّب له، فإذا قدَّمت الجارَّ والمجرور عليها استحال أن

(2/624)


يكون وصفًا لها؛ لأنه لا يتقدَّم موصوفَه، فذهب وهمه إلى أن الاسم المجرور المقدَّم هو الخبر، والحديث عن النكرةِ (ق/149 أ)، وهو محط الفائدة.
إذا عرفت هذا؛ فمن التخصصات المسوِّغة للابتداء بها أن تكون موصوفة، نحو: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} [البقرة: 221] أو عامة، نحو: “ما أحدٌ خيرٌ من رسول الله”، و “هل أحدٌ عندك”.
ومن ذلك: أن تقعَ في سِيَاق التفضيل، نحو قول عمر: “تمرةٌ خير من جرادة” (1)، فإن التفضيل (2) نوع من التخصيص بالعموم، إذ ليس المراد واحدة غير معينة من هذا الجنس؛ بل المراد: أن هذا الجنس خير من هذا الجنس، وأتى بالتاء الدالة على الوحدة، إيذانًا بأن هذا التفضيل ثابت لكل فرد فرد من أفراد الجنس، ومنه تأويل سيبويه في قوله تعالى: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد: 21] “فإنه قدَّرَه: طاعة أمثل (3)، وقول معروف أَشْبه وأَجْدر بكم، وهذا أحسن من قول بعضهم: أن المسوِّغ للابتداء بها هاهنا العطف عليها؛ لأن المعطوف عليها موصوف، فيصح الابتداء به، وإنما كان قول سيبويه أحسن؛ لأن تقييد المعطوف بالصفة لا يقتضي تقييد المعطوف عليه بها، ولو قلت: “طاعة أمثل” لساغَ ذلك وإن لم يُعْطف عليها.
ومنه: وقوع النكرة في سياق تفصيلٍ بعد إجمال، كما إذا قلت: “اقْسِم هذه الثياب بين هؤلاء؛ فثوب لزيد، وثوب لعَمْرو، وثوب لبكر”، فإن النكرة هاهنا تخصَّصت وتعيَّنت وزال إبهامها وشياعها في
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق: (4/ 410)، وابن أبي شيبة: (3/ 425).
(2) من قوله: “نحو قول … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(3) “الكتاب”: (1/ 141).

(2/625)


جنس الثياب بل تخصصت بتلك الثياب المعيَّنة؛ فكأنك قلت: ثوب منها لزيد، وثوب منها لعَمرو، وهذا تقييد وتخصيص.
ومنه: الابتداء بالنكرة إذا لم يكن الكلام خبرًا محضًا، بل فيه معنى التزكية والمدح، فمن ذلك قولهم: “أَمْتٌ في الحَجَر لا فيك” (1)، لأنهم لم يقولوا: “أَمْتٌ في الحجر” وسكتوا حتى قرنوه بقولهم: “لا فيك”، فصار معنى الكلام: “نِسْبة الأَمْت إلى الحجر أقرب من نسبته إليك، والأَمْت بالحجر أَلْيَق به منك”؛ لأنهم أرادوا تزكية المخاطَب ونفي العيب عنه، ولم يريدوا الإخبار عن “أمت” بأنه في الحجر، بل هو في حكم النفي عن الحجر وعن المخاطَب معًا، إلا أن نفيه عن المخاطَب أوكد، وإذا دخلَ الحديثُ معنى النفي فلا غَرْوَ أن يبتدأ بالنكرة لما فيه من العموم والفائدة.
ومن هذا قولهم: “شَرٌ أَهَرَّ ذَا نَاب” (2) وفيه تقديران؛ أحدهما: أنه على الوصف، أي شرٌّ عظيم أو شرٌّ مَخُوف أَهَرَّه. والثاني: أنه في معنى كلام آخر وهو: ما أَهَرَ ذا نابٍ إلَّا شرٌّ، أو: إنما أَهَرَّه شَرٌّ. ولا ريبَ في صحة المسألة على وجه الفاعلية، فهكذا إذا كانت على وجه المبتدأ والخبر الذي في معناه.
ومنه (ق/149 ب) قولهم: “شرٌّ ما جاءَ به”؛ لأن معنى الكلام: ما جاء به (3) إلَّا شرٌّ، فأدت “ما” الزائدة هنا معنى (4) شيئين: النفي
__________
(1) انظر: “اللسان”: (5/ 2).
(2) انظر ما تقدم (2/ 623).
(3) “لأن معنى الكلام: ما جاء به” ساقط من (د).
(4) ليست في (ق).

(2/626)


والإيجاب، كما (ظ/113 ب) أدته في قولك: “إنما جاءَ به شرٌّ” وفي قوله تعالى: {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)} [البقرة: 88] أي: ما يؤمنون إلا قليلًا، وقليلًا ما يذكرون.
وقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} [المائدة: 13] أي: ما لعناهم إلا بنقضهم ميثاقهم، ونحو: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] أي: ما لنت لهم إلا برحمة من الله ولا يُسْمع قول من يقول من النحاة: أن “ما” زائدة في هذه المواضع، فإنه صادر عن عدم تأمُّل.
فإن قيل: فمن أين لكم أفادت “ما” هذه المعنيَيْنِ المذكورَيْن؛ النفي والإيجاب، وهي لو كانت على حقيقتها من النفي الصريح لمتُفد إلا معنًى واحدًا وهو النفي، فإذا لم يكن النفي صريحًا فيها، كيف تُفِيد معنيين؟!.
قيل: نحن لم ندَّع أنها أفادت النفي والإيجاب بمجرَّدها، ولكن حصل ذلك منها ومن القرائن المحتفَّة بها في الكلام.
أما قولهم: “شرٌّ ما جاءَ به”، فلما انتظمت مع الاسم النكرة -والنكرةُ لا يُبْتَدأُ بها- فلما قصد إلى تقديمها عُلِم أن فائدة الخبر مخصوصة بها، وأكد ذلك التخصيص بـ “ما” وانتفى الأمر عن غير هذا الاسم المبتدأ، ولم يكن إلَّا له، حتى صار المخاطَب يفهم من هذا ما يفهم من قوله: “ما جاء به إلَّا شر”، واستغنوا هنا (1) بـ “ما” ما هذه عن “ما” النافية، وبالابتداء بالنكرة عن “إلا”.
وأما قولك “إنما زيد قائم” فقد انتظمت بـ” أن” وامتزجت معها وصارتا كلمة واحدة و”أن” تعطى الإيجابَ الذي تعطيه “إلا” وما
__________
(1) (ق): “عنها”.

(2/627)


تعطي النفي، ولذلك جاز: “إنما يقوم أنا”، و “أنا” لا تكون فاعله إلا إذا فُصلت من الفعل بـ “إلَّا”، تقول: “ما يقوم إلا أنا” ولا تقول: “يقوم أنا”، فإذا قلت: “إنما قام أنا” (1)، صرتَ كأنكَ قلت: لفظت بـ”ما” مع “إلا” قال (2):
أُدَافِعُ عَنْ أَعْرَاضِ قَوْمي وإِنَّما … يُدَافِعُ عَنْ أَعْرَاضِهم أَنا أو مِثْلي
فإذا عرفتَ أن زيادتها مع “أن” واتصالها بها اقتضى هذا النفي والإيجاب فانقل هذا المعنى إلى اتصالها بحرف الجرِّ من قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ} [آل عمران: 159] و {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [المائدة: 13]، وتأمَّل كيف تجد الفرقَ بين هذا التركيب وبين أن يقال: “فبرحمة من الله” و”فبنقضهم ميثاقهم” وإنك تفهم من تركيب الآية: ما لنت لهم إلا برحمةٍ من الله، وما لعناهم إلا بنقضهم ميثاقهم، وكذلك قوله: {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88]، دلَّت على النفي بلفظها وعلى الإيجاب بتقديم ما حقّه (ق/150 أ) التأخير من المعمول، وارتباط ما به مع تقديم (3)، كما قُرر في قولهم: “شرٌّ ما (4) جاء به”، وقد بسطنا هذا في “كتاب الفتح المكي”، وبينا هناك أنه ليس في القرآن حرفٌ زائد، وتكلَّمنا على كلِّ ما ذكر في ذلك، وبيَّنا أنَّ كلَّ لفظةٍ لها فائدة متجددة زائدة (5) على أصل التركيب، ولا يُنْكَر
__________
(1) من قوله: “لا تكون فاعلة … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود)، و (ق): “وإنما قمت”، والمثبت من “المنيرية”.
(2) البيت للفرزدق، “ديوانه” (ص/ 546) من قصيدة يهجو بها جريرًا.
(3) (ظ ود): “ما به مع تقديمه” و (د): “من” بدلًا من “مع”.
(4) محرفة في الأصول.
(5) (ق): “مجددة لا زائدة … “!.

(2/628)


جَرَيان القلم إلى هذه الغاية، وإن لم يكن من غرضنا، فإنها أهمّ من بعضِ ما نحن فيه وبصدده (1).
فلنرجع إلى المقصود، فنقول: الذي صحَّحَ الابتداء بالنكرة في “سلام عليكم”: أنَّ المسلِّم لما كان داعيًا، وكان الاسم المبتدأ النكرة هو المطلوب بالدعاء، صارَ هو المقصود المهتمّ به، وتنزَّل منزلةَ قولك: “أَسأل اللهَ سلامًا عليكم”، أو “أطلب من الله سلامًا عليك”، فالسلام نفى مطلوبك ومقصودك، ألا ترى أنك لو قلتَ: “أسأل الله عليك سلامًا” لم يجز، وهذا في قوَّته ومعناه فتأمله، فإنه بديع جدًّا.
فإن قلتَ: فإذا كان في قوَّته، فهَلاَّ كان منصوبًا، مثل: “سقيًا ورعيًا”؛ لأنه في معنى: “سقاك الله”، و”رعاك رعيًا”؟.
قلت: سيأتي جواب هذا في جواب السؤال العاشر في الفرق بين (ظ / 114 أ) سلام إبراهيم وسلام ضيفه إن شاء الله.
وأيضًا فالذي حَسَّن الابتداء بالنكرة هنا: أنها في حكم الموصوفة؛ لأن المسلِّم إذا قال: “سلامٌ عليكم”، فإنما مراده: سلامٌ مني عليك، كما قال تعالى: {اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا} [هود: 48]، ألا ترى أن مقصود المسلِّم إعلام من سلَّمَ عليه بأن التحيةَ والسلامَ منه نفسه، لما في ذلك من حُصُول مقصود السلام من التَّحَابّ والتوادّ والتعاطف، فقد عرفتَ جواب السؤالين: لِمَ ابتُدِئَ بالنكرةِ، ولِمَ قُدِّمت على الخبر، بخلاف الباب في مثل ذلك، والله أعلم.
فصل
وأما السؤال السابع، وهو أنه لِمَ كان في جانب المسلِّم تقديم
__________
(1) (ق): “ما نحن بصدده”.

(2/629)


السلام، وفي جانب الرَّاد تقديم المسلّم عليه؟
فالجواب عنه: أنَّ في ذلك فوائد عديدة:
أحدها: الفرق بين الرد والابتداء، فإنه لو قال له في الرد: السلام عليكم أو سلام عليكم، لم يعرف أهذا ردٌّ لسلامِهِ عليه أم ابتداء تحيةٍ منه، فإذا قال: عليك السلام، عرف أنه قد ردَّ عليه تحيَّتَه، ومطلوبُ المسلِّم من المسلَّم عليه أن يردَّ عليه سلامَه، ليس مقصوده أن يبتدئه بسلام كما ابتدأه به، ولهذا السر -والله أعلم- نهى النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – المسلم عليه بقوله: “عليك السلام” عن ذلك، فقال: “لا تَقُلْ: عليكَ السلام فإن عليْكَ السلام تَحِيَّة المَوْتَى” (1)، وسيأتي الكلام على هذا الحديث ومعناه في موضعه (2). أفلا ترى كيف نهاه النبي – صلى الله عليه وسلم – (3) عن ابتداء السلام بصيغة الردِّ التي لا تكون إلا بعد تقديم سلام، وليس (ق/ 150 ب) في قوله: “فإنَّها تحيةُ الموتى” ما يدل على أن المشروع أن تُحيي الموتى كذلك كما سنذكره إن شاء الله، وإذا كانوا قد اعتمدوا الفرقَ بين سلام المبتدئ وسلام الرّادّ، خصُّوا المبتدئَ بتقديم السلام لأنه هو المقصود، وخصُّوا الرادَّ بتقديم الجارِّ والمجرور.
الفائدة الثانية: وهي أن سلامَ الرادّ يجري مجرى الجواب، ولهذا يُكْتَفى فيه بالكلمة المفردة الدالّة على أختها، فلو قال: “وعليك “
__________
(1) أخرجه أبو داود رقم (4084)، والترمذي رقم (2722)، وأحمد في “المسند”: (5/ 63) من حديث أبي جُرَيّ الهُجَيمي، (قال الترمذي): “حسن صحيح”، وصححه الحافظ ابن حجر في “الفتح”: (11/ 5).
(2) (2/ 660).
(3) من قوله: “المسلّم عليه … ” إلى هنا ساقط من (ظ).

(2/630)


لكان متضمِّنًا للرد كما هو المشروع في الردِّ على أهل الكتاب، مع أنا مأمورون أن نردّ على من حيَّانا بتحية (1) مثل تحيته، وهذا من باب العدل الواجب لكلِّ أحد، فدلَّ على أن قول الرادّ “وعليك” مماثل لقول المسلم: “سلام عليك”، لكن أعتمد في حق المسلم إعادةَ اللفظ الأوَّل بعينه، تحقيقًا للمماثلة، ودفعًا لتوهُّم المسلِّم عدم ردّ تحيته عليه، لاحتمال أن يردّ عليك شيئا آخر.
وأما أهل الكتاب؛ فلمَّا كانوا يحرِّفون السلام، ولا يعْدِلون فيه، وربما سلَّموا سلامًا صحيحًا غير محرَّف، ويشتبه الأمر في ذلك على الراد، نُدِب إلى اللفظ المفرد المتضمِّن لردِّه عليهم نظير ما قالوه، ولم تُشْرع له الجملة التامة، لأنها إما أن تتضمن من التحريف مثل ما قالوا، ولا يليق بالمسلم تحريف السلام الذي هو تحية أهل الإسلام، ولا سيما وهو ذكر الله كما تقدم، لأجلِ تحريفِ الكافرِ له، وإما أن يرد سلامًا صحيحًا غير محرَّف مع كون المُسَلِّم محرِّفًا للسلام، فلا يستحق الردَّ الصحيح، فكان العدول إلى المفرد، وهو “عليك” هو مقتضى العدل والحكمة مع سلامته من تحريف ذكر الله. فتأمل هذه الفائدة البديعة. والمقصود أن الجواب يكفي فيه قولك: (ظ / 114 ب) “وعليك”، وإنما كُمِّل تكميلًا للعدل وقطعًا للتوهُّم.
الفائدة الثالثة: وهي أقوى مما تقدَّم: أن المسلّم لما تضمَّن سلامه الدعاء للمسلَّم عليه بوقوع السلامة عليه وحلولها عليه، وكان الردُّ متضمِّنًا لطلب أن يحل عليه من ذلك مثل ما دعا به، فإنه إذا قال: “وعليك السلام” كان معناه وعليكَ من ذلك مثل ما طلبتَ لي،
__________
(1) (ق): “فنجيبه”.

(2/631)


كما إذا قال: “غفرَ الله لك”، فإنك تقول: “ولك يغفر”، ويكون هذا أحسن من قولك: “وغفر لك”، وكذا إذا قال: “رحمة الله عليك” تقول: “وعليك”، وإذا قال: “عفا الله عنك” تقول: “وعنك”، وكذلك نظائره؛ لأن تجريد القصد إلى مشاركة المدعوّ له للدَّاعي في ذلك الدعاء، لا إلى إنشاء دعاء مثل دعائه، فكأنه قال: ولك أيضًا، وعنك أيضًا، أي: وأنت مشارك لي في ذلك مماثل لي فيه (ق / 151 أ)، لا أنفردُ به عنكَ ولا أختصُّ به دونك. ولا ريبَ أن هذا المعنى يستدعي. تقديم المشارك المساوي فتأمله.
فصلٌ (1)
وأما السؤال الثامن: وهو ما الحكمة في ابتداء السلام بلفظ النكرة وجوابه بلفظ المعرفة؛ فتقول: “سلام عليكم” فيقول الرادُّ: “وعليك السلام “؟.
فهذا سؤال متضمن لمسألتين: إحداهما: هذه. والثانية: اختصاص النكرة بابتداء المكاتبة والمعرفة بآخرها، والجواب عنهما بذكر أصلٍ نُمَهِّده ترجع إليه مواقع التعريف والتنكير في السلام، وهو: أن السلام دعاءٌ وطلب، وهُم في ألفاظ الدعاء والطلب إنما يأتون بالنكرة، إما مرفوعة على الابتداء، أو منصوبة على المصدر، فمن الأول: “ويل له”، ومن الثاني: “خيبة له” و”جدعًا” و”عقرًا” و”تربًا” و” جَنْدلًا”، هذا في الدعاء عليه. وفي الدعاء له: “سقيًا” و”رعيًا” و”كرامة” و”مسرَّة”، فجاءَ “سلام عليكم” بلفظ النكرة كما جاءت سائر ألفاظ الدعاء. وسرُّ ذلك: أن هذه الألفاظ جرت مجرى النطق بالفعل، ألا
__________
(1) النص في هذا الفصل مضطرب في نسخة (ظ ود) إلى “الفائدة الثالثة”.

(2/632)


ترى أن “سقيًا ورعيًا وخيبة” جرى مجرى: “سقاك الله” و”رعاك” و”خيَّبَك”، وكذلك: “سلام عليك” جارٍ مجرى: “سلَّمكَ الله”، والفعل نكرة، فأحبوا أن يجعلوا اللفظ الذي هو جار مجراه وكالبدل منه نكرة مثله.
وأما تعريف السلام في جانب الرادّ؛ فنذكر -أيضًا- أصلًا يُعْرَف (1) به سره وحكمته، وهو: أن “الألف واللام” إذا دخلت على اسم السلام تضمنت أربع فوائد:
أحدها: الإشعار بذكر الله تعالى؛ لأن السلام المعرف من أسمائه كما تقدم تقريره.
الفائدة الثانية: إشعارها بطلب معنى السلامة منه للمسلَّم عليه؛ لأنك متى ذكرت اسمًا من أسمائه، فقد تعرَّضت (2) به وتوسَّلت به إلى تحصيل المعنى الذي اشْتُقَّ منه ذلك الاسم.
الفائدة الثالثة (3): أن “الألف واللام” يلحقها معنى العموم في مضمونها، والشمول فيه في بعض المواضع.
الفائدة الرابعة: أنها تقوم مقام الإشارة إلى المعين، كما تقول: “ناولني الكتابَ” و”اسقني الماءَ” و”أعطني الثوبَ”، لِما هو حاضر بين يديك، فإنك تستغني بها عن قولك: “هذا”، فهي مؤدِّية معنى الإشارة.
وإذا عرفت هذه الفوائد الأربع؛ فقول الراد: و”عليك السلام”،
__________
(1) (ق): “ثم يعرف”.
(2) (ظ ود): “يوسف”.
(3) (ظ ود): “الثانية” وما بعدها “الثالثة” وهو من الاضطراب المشار إليه في قليل.

(2/633)


بالتعريف متضمِّن للدلالة على أن مقصوده من الردِّ مثل ما ابتدئ به: وهو هو بعينه، (ظ/115 أ) فكأنه قال: ذلك السلام الذي طلبته لي مردود عيك وواقع عليك، فلو أتى بالرد منكَّرًا لم يكن فيه إشعارًا بذلك؛ لأن المعرَّف وإن تعدد ذكره (ق / 151 ب) واتحد لفظه، فهو شيءٌ واحد، بخلاف المنكَّر، ومن فَهِم هذا فَهِم معنى قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “لَنْ يَغْلِب عُسْر يُسْرَيْن” (1) فإنه أشارة إلى قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} [الشرح: 5، 6] فالعُسْر وإن تكرر مرتين فتكرَّرَ بلفظ المعرفة فهو واحد، واليُسْر تكرَّر بلفظ النكرة فهو يُسْران، فالعُسْر محفوف بيسْرَين، يُسر قبله ويُسْر بعده، فلن يغلب عُسْر يُسْرَين.
وفائدة ثانية: وهي أن مقامات رد السلام ثلاثة: مقام فَضْل، ومقام عَدْل، ومقام ظُلْم، فالفضل: أن يرد عليه أحسن من تحيَّته، والعدل: أن يردَّ عليه نظيرها، والظلم: أن تبخسه حقَّه وتنقصه منها، فاختير للراد أكمل (2) اللفظتين، وهو المعرَّف بالأداة التي تكون: للاستغراق والعموم كثيرًا ليتمكَّن من الإتيان بمقام الفضل.
__________
(1) أخرجه ابن مردويه من حديث جابر مرفوعًا بسندٍ ضعيف، وأخرجه سعيد بن: منصور، وعبد الرزاق في “تفسيره”: (2/ 380)، وابن جرير: (12/ 628)، من حديث ابن مسعود، وسنده ضعيف أيضًا.
وأخرجه عبد الرزاق في “التفسير”: (2/ 385)، والطبري: (12/ 628)، والحاكم في “المستدرك”: (2/ 528)، عن الحسن مرسلًا، وهو صحيح إلى الحسن.
وقد روي من طرقٍ أخرى موقوفًا ومرسلًا.
انظر: “فتح الباري”: (8/ 582 – 583)، و”تعليق التعليق”: (4/ 372)، و”الدر المنثور”: (6/ 616 – 617)، و”كشف الخفاء”: (2/ 195).
(2) (ق): “أجمل”.

(2/634)


وفائدة ثالثة: وهي أنه قد تقدَّم أن المناسب في حقِّه تقديم المسلَّم عليه على السلام، فلو نكَّره وقال: “عليك سلام” لصار بمنزلة قولك: “عليك دَيْن” و”في الدار رجل”، فخرجه مخرج الخبر المحض، وإِذا صار خبرًا بطل معنى التحية؛ لأن معناها الدعاء والطلب، فليس بمسلم من قال: “عليك سلام”، إنما المسلِّم من قال: “سلام عليك”، فعرّف سلام الراد بـ “اللام” إشعارًا بالدعاء للمخاطَب، وأنه رادٌّ عليه التحيَّة، طالبٌ له السلامةَ من اسم “السلام”، والله أعلم.
فصل
وأما المسألة الثانية: وهي ابتداء السلام في المكاتبة بالنكرة واختتامها بالمعرفة، فابتداؤها بالنكرة كما تقدم في ابتداء السلام النطقي بها سواء، فإن المكاتبة (1) قائمة مقام النطق.
وأما تعريفه في آخر المكاتبة ففيه ثلاث فوائد:
أحدهما: أن السلام الأول قد وقع الأُنْسُ بينهما به، وهو مُؤْذِن بسلامه عليه خصوصًا، فكأنه قال: “سلام مني عليك” كما تقدم، وهذا أيضًا من فوائد تنكير السلام الابتدائي، للإيذان (2) بأنه سلامٌ مخصوص من المسلِّم، فلما استقرَّ ذلك وعلم في صدر الكتاب؛ كان الأحسن أن يسلِّم عليه سلامًا هو أعم من الأول، لئلَّا يبقى تكرارًا محضًا، بل يأتي (3) بلفظٍ يجمع سلامَه وسلامَ غيره، فيكون قد جمع له بين السلامَيْن الخاص منه والعام منه ومن غيره. ولهذه الفائدة
__________
(1) (ق): “الكتابة”.
(2) ساقط من (ق).
(3) (ق): “يبقى”.

(2/635)


استحسنوا أن يكون قول الكاتب: “وفلانٌ يُقرئك السلام وفلان” في آخر المكاتبة بعد “والسلام عليك” لهذا الغرض.
الفائدة الثانية: أنه: قد تقدَّم أن السلام المعرَّف اسم من أسماء الله، وقد افتتح الكاتب رسالَته بذكرِ الله (1)، فناسبَ أن يختمها باسمٍ من أسمائه وهو “السلام” ليكون اسمه تعالى في أوَّل الكتاب وآخره، وهذه فائدة بديعة (2).
الفائدة الثالثة: بديعة جدًّا، وهي جواب السؤال التاسع بعد هذا، وهي: أن دخول الواو العاطفة في قول الكاتب: “والسلام علكهم ورحمة الله” فيها وجهان:
أحدهما قول ابن قتيبة: إنها عطف على السلام المبدوء يه، فكأنه قال: “والسلام المتقدم عليكم”.
والقول الثاني: أنها لعطفِ فصولِ الكتاب بعضه على بعض، فهي عطف لجملة السلام: على ما قبلها من الجمل (3)، كما تدخل الواو في تضاعيف الفصول، وهذا أحسنُ من قولِ ابن قتيبة لوجوه؛ منها: أن الكلام بين السلامَيْن قد طال، فَعَطْفُ آخره -بعد طوله- على أوله قبيح غير مفهوم من السياق. الثاني: أنه إذا حمله على ذلك، كان السلام الثاني هو الأول بعينه، فلم يُفد فائدة متجدِّدة، وفي ذلك شحٌّ بسلام متجدد وإخلال بمقاصد المتكاتبيْن من تَعْدَاد الجمل والفصول؛ واقتضاءِ كلِّ جملة لفائدةٍ غير الفائَدة المتقدِّمة،
__________
(1) (ق): “الكتاب برسالته بذكر اسمه تعالى”.
(2) من قوله: “وهو السلام … ” إلى هنا ساقط من (ق)
(3) “من الجمل” ليست في (ق).

(2/636)


حتى إن قارئ الكتاب كلما جملةً منه تطلَّعت نوازعُ قلبه إلى استفادة ما بعدها، فإذا كررت (1) له فائدة واحدة مرتين سئمتها نفسُه، فكان اللائق بهذا المقصود أن يُجدِّد له سلامًا غير الأول، يسرُّه به كما سرَّه بالأول، وهو السلام العامُّ الشامل.
ولما فرغ الكاتب من فصول كتابه وختمها، أتى بالواو العاطفة مع السلام المعرفة، فقال: “والسلام عليكم”، أي: وبعد هذا كله السلام عليكم، وقد تقدَّم أن السلامَ إذا انبنى على اسم مجرور قبله، وكان سلامَ رَدٍّ لا ابتدَاء، فانه يكون معرَّفا نحو: “وعليك السلام”، ولما كان سلام الكاتب هاهنا ليس سلامَ ردّق، قُدِّمَ السلام على المجرور، فقال: “والسلامُ عليكم”، وأتى بـ “اللام” لتفيد تجديد سلامٍ آخر، والله أعلم.
وهذه فصاحةٌ غريبة (2)، وحكمة سلفية، موروثة عن سلف الأمة وعن الصحابة في مكاتباتهم، وهكذا كانوا يكتبون إلى نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، وقد فرغنا من جواب السؤال التاسع المتعلِّق بواو العطف.
فصل
وأما السؤال العاشر: وهو السرّ في نصب “سلام” ضيف إبراهيم من الملائكة، ورَفْع سلامه.
فالجواب: أنك قد عرفت قول النُّحاة فيه: أن سلامِ الملائكة تضمَّن جملة فعلية؛ لأن نصب “السلام” يدلُّ على “سلّمُنا عليكَ
__________
(1) (ق): “ذكرت”.
(2) كذا في الأصول ولعلها: “عربية”.

(2/637)


سلامًا”، وسلامُ إبراهيم تضمَّن جملة اسمية؛ لأن رفعه يدلُّ على أن المعنى: “سلام عليكم”، والجملة الاسمية تدل على الثبوت والتقرر، والفعلية تدل على الحدوث والتجدد، فكان سلامُه عليهم أكمل من سلامِهِم عليه، وكان، له من مقامات الرَّدِّ ما يليقُ بمنصبه – صلى الله عليه وسلم – وهو مقام الفضل؛ إذ حيَّاهم بأحسن من تحيتهم. هذا تقرير ما قالوه.
وعندي فيه جواب أحسن من هذا، وهو: أنه لم يقصد حكايةَ سلام الملائكة فنصبَ قولَه: “سلامًا” انتصاب مفعول القوال (1) المفرد، كأنه قيل: قالوا قولًا سلامًا، وقالوا: سَدَادًا وصوابًا، ونحو ذلك، فإن القَوْل: إنما تُحْكَى به الجمل، وأما المفرد فلا يكون محكيًّا به، بل منصوب به انتصابَ المفعول به، ومن هذا قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} [الفرقان: 63]، ليس المراد: أنهم قالوا هذا اللفظ المفرد المنصوب، إنما معناه: قالوا قولًا سلامًا، مثل: سَدَادًا وصوابًا، وسُمِّيَ القولُ سلامًا (2)؛ لأنه يؤدِّي معنى السلام ويتضمنه، من رَفْع الوَحْشة وحصول الاستئناس.
وحكي عن إبراهيم لفظ سلامِهِ، فأتى به على لفظه مرفوعًا بالابتداء مَحْكيًّا بالقول، ولولا قصد الحكاية لقال: “سلامًا” بالنَّصب؛ لأن ما بعد القول إذا كان مرفوعا (3) فعلى الحكاية ليس إلا، فحصل من الفرق بين الكلامَيْن في حكايةِ سلامِ إبراهيمَ ورفعِه ونصب ذلك إشارة إلى معنى لطيفٍ جدًّا، وهو: أن قوله: “سلامَ عليكم” من دين
__________
(1) (ظ ود): “الفعل”.
(2) من قوله: “ليس المراد … ” إلى هنا ساقط من (د).
(3) من قوله: “بالابتداء محكيًّا … ” إلى هنا ساقط من (د).

(2/638)


الإسلام المتلقَّى عن إمام الحنفاء وأبي الأنبياء، وأنه من مِلَّة إبراهيم التي أمرنا الله تعالى باتباعها (1)، فحكى لنا قولَه؛ ليحصل لنا الاقتداء به والاتباع [له]، ولم يحكِ قولَ أضيافه، وإنما أخبر به على الجملة دون التفصيل والكيفية، والله أعلم. فزِنْ هذا الجواب والذي قبلَه بميزان غير عائل (2) يظهر لك أقواهما، وبالله التوفيق.
فصل
وأما السؤال الحادي عشر: وهو نَصْب السلام من قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} [الفرقان: 63]، ورفعه في قوله حكايةً عن مؤمني أهلِ الكتاب: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)} [القصص: 55].
فالجواب عنه: أن الله -سبحانه- مدحَ عبادَه الذين ذكرهم في هذه الآيات بأحسن أوصافهم وأعمالهم فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} [الفرقان: 63] فـ “سلامًا” هنا صفة لمصدر محذوف هو القول نفسه، أي: قالوا قولًا سلامًا، أي: سَدَادًا وصوابًا وسليمًا من الفُحْش والخَنَا، ليس مثل قول الجاهلين الذين يخاطبونهم بالجهل، فلو رفع “السلام” هنا لم يكن فيه المدح المذكور، بل كان يتضمَّن أنهم إذا خاطبهم الجاهلون سلَّموا عليهم، وليس هذا معنى الآية ولا مدح فيه، وإنما المدح في الإخبار عنهم بأنهم لا يقابلون الجهلَ بجهل مثلِه، بل يقابلونه بالقول السلام، فهو من باب دفع السيئة بالتي هي أحسن،
__________
(1) (ظ ود): “أمر الله بها وباتاعها”.
(2) في “المنيرية”: “جائر” وكلاهما بمعنى.

(2/639)


التي لا يُلَقَّاها إلا ذو حظٍّ عظيم، وتفسير السلف وألفاظهم صريحة بهذا المعنى.
وتأمل كيفَ جمعت الآيةُ وصفَهم في حركتي الأرجل والألْسُن، بأحسنها وألطفها وأحكمها وأوقرها (1)، فقال: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} أي: سكينة ووقارًا، والهَوْن -بفتح الهاء-: من الشيء الهَيِّن، وهو مصدر “هان هونًا” أي: سَهُل، ومنه قولهم: “يمشي على هِيْنته”، ولا أحسبها إلا مُوَلَّدة: ومع هذا فهي قياس اللفظة، فإنها: على بناءِ الحالة والهيئة، فهي فِعْلَة من الهَوْن، وأصلها: هِوْنته، فقلبت واوها ياءً لانكسار ما قبلها، فاللفظة صحيحة المادة والتصريف.
وأما الهوْن -بالضم- فهو: الهوان، فأعْطَوا حركةَ الضم القوية للمعنى الشديد، وهو “الهوان” وأعطوا حركة الفتح السهلة للمعنى السهل وهو “الهوْن”، فوصف مشيهم بأنه مَشْيُ حلم ووقار وسكينة، لا مشيُ جهلٍ وعُنْف وتبختر، ووصف نُطقهم بأنه سلام، فهو نُطق حِلْم وسكينةٍ ووقارٍ، لا نطقُ جهل وفُحْش وخَنَا وغِلْظة، فلهذا جمع بين المشي والنطق فى الآية، فلا يليق بهذا المعنى الشريف العظيم الخطير أن يكون المراد منه “سلام عليكم”، فتأمله (2).
وأما قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)} [القصص: 55]، فإنها وصفٌ لطائفةٍ من مؤمني أهل الكتاب، قَدِموا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مكةَ فآمنوا
__________
(1) “وأحكمها” ليست في (ق)، وبعدها في (ظ): “وأوفاها” و (د): “وأجلها وأوفاها”.
(2) بعده في (ق) عبد لا مدلول لها، مكررة عما سبق.

(2/640)


به، فعيَّرهم المشركون، وقالوا: قَبُحْتُم من وفدٍ بعثكم قومُكم لتعْلَموا خبرَ الرجل، ففارقتم دينكم وتبعتموه ورغبتم عن دين قومكم (1). فأخبر عنهم -سبحانه- بأنهم خاطبوهم خطابَ متاركةٍ وإعراضٍ وهجرٍ جميل، فقالوا: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)} [القصص: 55]، وكان رفع “السلام” متعيِّنًا؛ لأنه حكاية ما قد وقع، ونصب “السلام” في آية الفرقان متعيِّنًا؛ لأنه تعليم وإرشاد لما هو الأكمل والأوْلَى للمؤمن أن يعتمده إذا خاطبه الجاهل، فتأمل هذه الأسرار التي أدناها يساوي رحلة، والله المحمود وحدَه على ما منَّ به وأنعم.
وهي المواهبُ مِن ربِّ العبادِ فما … يُقال: لولا، ولا: هَلاَّ، ولا: فَلِما
فصل
وأما السؤال الثانى عشر: وهو ما الحكمة في تسليم الله على أنبيائه ورسله، والسلام هو طلب ودعاء، فكيف يُتصوَّر من الله؟.
فهذا سؤال له شأن ينبغي الاعتناء به ولا يهمل أمره، وقلَّ من يُدْرك سره إلا من رزقه الله فهمًا خاصًّا وعناية، وليس هذا من بابَة (2) أبناء الزمان، الذين غاية فاضلهم نقلاً أن يحكي قيلًا وقالًا! وغاية فاضلهم بحثًا أن يبدي احتمالًا أو يُبرر إشكالًا! وأما تحقيق العلم كما ينبغي:
فَلِلْحُرُوبِ أُناسٌ يُعرفون (3) بِها … وَللدَّواوِينِ كُتَابٌ وَحُسَّابُ
__________
(1) ذكره ابن إسحاق في “السيرة”: (1/ 391).
(2) (ظ ود): ” باب”، والمنيرية: “شأن” والمثبت من (ق).
(3) (ظ ود): “قائمون”.

(2/641)


وقد كان الأولى بنا الإمساك، وكف عِنان القلم، وأن نجريَ معهم في ميدانهم ونخاطبهم بما يألفونه، وأن لا نجلوَ عرائس المعاني على ضَرِير، ولا (1) نزف خَوْدَها إلى عِنِّيْن؛ ولكن هذه سلعة وبضاعة لها طُلاَّب، وعروس لها خطَّاب، فستصير إلى أهلها وتُهْدى إلى بعلها، ولا تستطِل الخَطَابة فإنها نَفْثةُ مصدور.
فلنرجع إلى المقصود فنقول: لا ريبَ أن الطلب يتضمن أمورًا ثلاثة؛ طالبًا ومطلوبًا؛ ومطلوبًا منه، ولا تتقوم حقيقته إلا بهذه الأركان الثلاثة، وتغاير هذه ظاهرٌ، إذا كان الطالب يطلب شيئًا من غيره، كما هو الطلب المعروف مثل من يأمر غيرَه وينهاه ويستفهمه (2)، وأما إذا كان طالبًا من نفسه، فهنا يكون الطالب هو المطلوب منه، ولم يكن هنا إلا ركنان طالب ومطلوب، والمطلوب منه هو الطالب نفسه.
فإن قيل: كيف يعقل اتحاد الطالب والمطلوب منه، وهما حقيقتان متغايرتان، فكما يتحد المطلوب والمطلوب منه، ولا المطلوب والطالب، فكذلك لا يتحد الطالب والمطلوب منه، فكيف يعقل طلب الإنسان من نفسه؟.
قيل: هذا هو الذي أوجبَ غموضَ المسألة وإشكالَها، ولابد من كشفه وبيانه، فنقول: الطلب من باب الإرادات، والمريد كما يزيد من غيره أن يفعل شيئًا، فكذلك يريد من نفسه هو أن يفعله، والطلبُ النفسيُّ وإن لم يكن الإرادة فهو أخص منها والإرادة كالجنس له، فكما يعقل أن يكون المريد يريد من نفسه فكذلك يطلب من نفسه،
__________
(1) “لا” ليست في (ق).
(2) من قوله: “كما هو الطلب … ” إلى هنا ساقط من (ق).

(2/642)


وللفرق بين الطلب والإرادة، وما قيل في ذلك مكانٌ عير هذا. والمقصود (1) أن طلب الحيِّ من نفسه أمر معقول يعلمه كل أحدٍ من نفسه. وأيضًا فمن المعلوم أن الإنسان يكون آمرًا لنفسه ناهيًا لنفسه قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]، وقال: {وَأَمَّا مَن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى} [النازعات: 40] وقال الشاعر (2):
لا تنهَ عن خلقٍ وتأتيَ مِثْلَه … عارٌ عليكَ إذا فعلتَ عظيمُ
ابدأ بنفسِكَ فانْهَهَا عن غَيِّها … فإذا انتهتْ عنه فأنتَ حَكِيْمُ
وهذا أكثر من إيراد شواهده، فإذا كان معقولًا أن الإنسانَ يأمرُ نفسَه وينهاها، فالأمر والنهي طلب، مع أنَّ (3) فوقه آمرًا وناهيًا، فكيف يستحيل ممن لا آمرَ فوقَه ولا ناهٍ أن يطلبَ من نفسه فِعْل ما يحبه وتركَ ما يبغضه (4)؟.
وإذا عُرِف هذا؛ عُرِف سرُّ سلامه -تباركَ وتعالى- على أنبيائه ورسله، وأنه طلب من نفسه لهم السلامة، فإن لم يتَّسِع لهذا ذهنك فسأزيدكَ إيضاحًا وبيانًا، وهو: أنه قد أخبر سبحانه في كتابه أنه كتب على نفسِه الرحمةَ، وهذا إيجابٌ منه على نفسِه، فهو الموجِبُ، وهو متعلَّق الإيجاب الذي أوجبه، فأوجبَ بنفسِه على نفسه.
وقد أكَّد النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – هذا المعنى بما يوضحه كلَّ الإيضاح ويكشف حقيقته (5)
__________
(1) (ق): “المطلوب”.
(2) نسبها في (الأغاني): (12/ 88)، و”فصل الخطاب”: (1/ 93) إلى المتوكل الليثي. ونسبت في بعض المصادر إلى غيره.
(3) الأصول: “كون” والمثبت من “المنيرية”.
(4) من قوله: “أن يطلب … ” إلى هنا ليس في (ق).
(5) من قوله: “وقد أكد … “إلى هنا ليس فى (ق).

(2/643)


بقوله في الحديث الصحيح: “لما قَضى اللهُ الخلْقَ كتبَ بيدِهِ على نفسِه في كتابٍ فهو عندَه موضوعٌ فوقَ العَرْشِ: إنَّ رحمتي تَغْلِبُ غَضَبِي”، وفي لفظٍ: “سَبَقَتْ غَضَبِي” (1)، فتأمل كيف أكّدَ هذا الطلب والإيجاب بذكر فعل الكتابة وصفة اليد ومحلِّ الكتابة، وأنه كتاب، وذكر مستقرّ الكتَاب، وأنه عندَه فوقَ العرش، فهذا إيجاب مؤكَّد بأنواع من التأكيد، وهو إيجاب منه على نفسِه، ومنه قوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، فهذا حقٌّ أحقَّه على نفسِه، فهو طلب وإيجاب على نفسه بلفظ “الحق” ولفظ “على” (2).
ومنه قول النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الصحيح لمعاذ: “أَتَدْرِي ما حقُّ اللهِ على عبادِه”؟ قلتُ: اللهُ ورسولُه أعلمُ، قال: “حقُّه عليهِم أنْ يعْبدُوه ولا يُشْرِكُوا به شيئًا. أَتَدْرِي ما حَقُّ العِبادِ عَلَى اللَّهِ إذا فَعَلُوا ذلِكَ”؟ قلت: اللهُ ورسُولُه أَعْلَم، قال: “حقُّهُمْ عَلَيْهِ أنْ لا يُعَذِّبهم بالنارِ” (3)، ومنه قوله – صلى الله عليه وسلم – في غير حديث: “مَنْ فَعَل كذا وكذا كان حقًّا على الله أن يفعل به كذا وكذا” في الوعد والوعيد، فهذا الحقُّ هو الذي أحقَّه على نفسِه. ومنه الحديثُ الذي في “المسند” (4) من حديث أبي سعيد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في قولِ الماشي إلى الصلاة: “أسألكَ بحقِّ ممشايَ هذا وبحق السَّائلينَ عليكَ” (5)، فهذا حقٌّ للسائلين عليه
__________
(1) تقدم تخريجه (1/ 336).
(2) (ظ ود): “لفظه”.
(3) أخرجه البخاري رقم (128)، ومسلم رقم (30).
(4) (3/ 21).
(5) وأخرجه ابن ماجه رقم (778)، وضعَّفه ابن تيمية في “الاقتضاء: 2/ 323″، والبوصيري في “الزوائد”: (1/ 166)، وانظر “الضعيفة” رقم (24).

(2/644)


هو أحقَّه على نفسِه، لا أنهم هم أوجبوه ولا أحقُّوه، بل أحق على نفسه أن يجيبَ من سأله، كما أحقَّ على نفسِه في حديث معاذ أن لا يعذِّب من عبدَه، فحقُّ السائلين عليه أن يجيبَهم، وحق العابدين له أن يثيبهم، والحقَّان هو الذي أحقَّهما وأوجبهما لا السائلون ولا العابدون، فإنه سبحانه:
مَا للعبادِ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجِبٌ … كَلَّا وَلا سَعْي لَدَيْهِ ضَائِعُ
إِنْ عُذِّبوا فَبِعدْلِهِ أَوْ نُعِّموا … فَبِفَضْلِهِ وَهُوَ الكريمُ الوَاسِعُ
ومنه قوله تعالى: {حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ}، فهذا الوعد هو الحق الذي أحقَّه على نفسه وأوجبه. ونظير هذا ما أخبر به سبحانه من قسمه ليفعلنه نحو قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92]، وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} [مريم: 68] وقوله: {لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)} [إبراهيم: 13] وقوله: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)} [ص: 84، 85]، وقوله: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)} [آل عمران: 195]، وقوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)} [الأعراف: 6]، إلى أمثال ذلك مما أخبر أنه يفعله إخبارًا مؤكَّدًا بالقَسَم، والقسمُ في مثل هذا يقتضي الحضَّ والمنعَ بخلاف القَسَم على ما فعله تعالى مثل قوله: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)} [يس: 1 – 3]، والقسم على ثبوت ما ينكره المكذبون، فإنه توكيد للخبر، وهو من باب القسم المتضمن للتصديق، ولهذا تقول الفقهاء: اليمين ما اقتضى حضًّا أو منعًا أو تصديقًا أو تكذيبًا، فالقسم الذي يقتضي الحضَّ

(2/645)


والمنعَ هو من باب الطلب؛ لأن الحضَّ والمنع طلبٌ. ومن هذا ما أخبرَ به أنه لابدَّ أن يفعله لسبق كلماته به؛ كقوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات: 171 – 173]، وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)} [هود: 119]، وقوله: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} [هود: 110]، فهذا إخبار عما يفعله ويتركه أنه لسَبْقِ كلمته به فلا يتغير.
ومن هذا تحريمه سبحانه ما حرَّمه على نفسِه، كقوله تعالى فيما يرويه عنه رسوله: “يا عِبَادي إِنى حرَّمتُ الظلمَ على نَفْسي وجعلتُه بينكُمْ مُحَرَّمًا” (1)، فهذا التحريم نظير ذلك الإيجاب، ولا يُلْتفت إلى ما قيل في ذلك من التأويلات الباطلة، الذي يَجْزم الناظر (2) في سِيَاق هذه المواضع ومقصودها [ببُعْد] المراد منها (3)، كقول بعضهم: إن معنى الإيجاب والكتابة في ذَلك كلِّه هو إخباره به، ومعنى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]، أخبرَ بها عن نفسه، وقوله: “حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسي” أي: أحْبرتُ أنه لا يكون، ونحو ذلك مما يتيقن المرءُ أنه ليس هو المراد بالتحريم، بل الإخبار هاهنا هو الإخبار بتحريمه وإيجابه على نفسه، فمتعلَّق الخبر هو التحريم والإيجاب، ولا يجوز إلغاءُ متعلَّق الخبر، فإنه يتضمَّن إبطال الخبر. ولهذا إذا قال القائل: “أوجبتُ على نفسي صومًا”، فإن متعلَّقه وجوب الصومِ على نفسِه، فإذا قيل: (ق / 155 أ) إن معناه: “أخبرتُ
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (2577) من حديث أبي ذرٍّ -رضي الله عنه-.
(2) (ق): “النظر”.
(3) العبارة محرفة في الأصول، وهي في “المنيرية”: “فإن الناظر في سياق هذه المواضع ومقصودها به ويجزم بِبُعد المراد منها”.

(2/646)


بأني أصوم” كان ذلك إلغاءً إبطالًا لمقصودِ الخبر، فتأمله.
وإذا كان معقولًا من الإنسان أنه يوجب على نفسِه ويحرِّم، ويأمرها وينهاها، مع كونه تحتَ أمرِ غيرِه ونهيه، فالأمر الناهي الذي ليس فوقَه آمر ولا نَاهٍ، كيف يمتنع في حقِّه أن يحرم على نفسه ويكتب على نفسه، وكتابته على نفسه سبحانه تستلزم إرادته لما كتبه ومحبته له ورضاه به، وتحريمه على نفسه يستلزم بُغْضَه لما حرَّمه، وكراهته له، وإرادة أن لا يفعله، فإن محبَّتَه للفعل تقتضىِ وقوعَه منه، وكَرَاهته لأن يفعله تمنع وقوعه منه، وهذا غير ما يحبه -سبحانه- من أفعال عباده ويكرهه، فإن محبَّة ذلك مهم لا تستلزم وقوعَه، وكَرَاهته مهم لا تمنع وقوعه، ففرقٌ بينَ فعله هو سبحانه، وبين فِعْل عبادِه الذي هو مفعوله (1) مع كراهته (2) وبغضه له، ويتخلَّف مع محبته له ورضاه به، بخلاف فعله هو سبحانه، فهذا نوع وذاك نوع، فتدبَّر هذا الموضع الذي هو مَزَلَّة أقدام الأولين والآخرين إلا من عصمه الله وهداه إلى صراط مستقيم (3). وتأمل أين تكون محبته وكراهته موجبة لوجود الفعل ومانعةً من وقوعه، وأين تكون المحبة منه والكراهة لا توجب وجود الفعل ولا تمنع وقوعه.
ونكتة هذه المسألة: هو الفرق بين ما يريد أن يفعله هو سبحانه، وما لا يريد أن يفعله، وبين ما يحبه من (4) عبده أن يفعله العبد أو لا يفعله، ومن حقَّق هذا المقام زالت عنه شُبُهات ارتبَكَت فيها طوائفُ
__________
(1) “هو مفعوله” في المنيرية: “يقع”.
(2) من قوله: “وبين فعل … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(3) (ق): ” … بعصمته وهداه إلى صراطه المستقيم”.
(4) (ق): “ما يحب … “.

(2/647)


من النُّظَّار والمتكلمين، والله الهادي إلى سواء السبيل.
واعلم أن الناس في هذا المقام ثلاث طوائف:
فطائفة: منعت أن يجب عليه شيء أو يحرم عليه شيء بإيجابه ولا تحريمه، وهم كثير من مثبتي القدر الذين ردوا أقوال (1) القدرية النُّفاة، وقابلوهم أعظمَ مقابلةٍ، نفوا لأجلها الحِكَمَ والأسبابَ والتعليل وأن يكون العبد فاعلًا أو مختارًا.
الطائفة الثانية: بإزاء هؤلاء أوجبوا على الربِّ -تعالى- وحرَّموا أشياءَ بعقولهم جعلوها (2) شريعةً له، يجب عليه مراعاتها من غير أن يوجبها هو على نفسه ولا حرمها، وأوجبوا عليه من (ظ/ 118 أ) جنس ما يجب على العباد، وحرَّموا عليه من جنس ما يحرم عليهم، ولذلك كانوا مشبِّهَةَ الأفعال، والمعتزلة منهم جمعوا بين الباطلين: تعطيل صفاته وجَحْد نعوت كماله، والتشبيه له (ق/ 155 ب) بخلقه فيما أوجبوه عليه وحرَّموه، فشبَّهوا في أفعاله وعطلوا في صِفَاتِ كماله، فجحدوا بعض ما وصفَ به نفسَه من صفات الكمال، وسموه “توحيدًا”! وشبَّهوه بخلقه فيما يحسُن منهم ويَقْبُح من الأفعال، وسمَّوا ذلك: “عدلًا”، وقالوا: نحنُ أهلُ العدل والتوحيد، فعَدْلهم: إنكار قدرته ومشيئته العامة الشاملة التي لا يخرج عنها شيء من الموجودات ذواتها وصفاتها وأفعالها، وتوحيدهم: إلحادهم في أسمائه الحسنى، وتحريف معانيها عما هي عليه، فكان توحيدهم في الحقيقة تعطيلًا، وعدلهم شركًا، وهذا مقرَّرٌ في موضعه.
__________
(1) (ق): “قول”، والعبارة محرفة في (ظ).
(2) سقطت من (ق).

(2/648)


والمقصود أن هذه الطائفة مشبِّهة في الأفعال مُعَطّلة في الصفات، وهدى الله الأمةَ الوَسَط لما اختلفوا فيه من الحقِّ بإذنه، فلم يقيسوه بخلقه، ولم يشبهوه بهم في شيءٍ من صفاته ولا أفعاله، ولم ينفوا ما أثبته لنفسه من ذلك، ولم يوجبوا عليه شيئًا، ولم يحرِّموا عليه شيئًا (1)، بل أخبروا عنه بما أخبر به عن نفسه في إيجاب ما أوجبه وأحقَّه على نفسه، وتحريم ما حرمه على نفسه، وشهدت قلوبُهم ما في ضمن ذلك الإيجاب والتحريم من الحِكَم (2) والغايات المحمودة التي يستحق عليها كمال الحمد والثناء، فإن العباد لا يحصون ثناءً عليه أبدًا، بل هو كما أثنى على نفسه. وهذا كله بيِّن بحمدِ الله عند أهل العلم والإيمان، مستمرٌّ في فِطَرهم، ثابت في قلوبهم، يشهدون انحرافَ المنحرفين في الطرفين، وهم لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، بل هم إلى الله ورسوله متحيِّزون، وإلى محض سنته منتسبون، يدينون دين الحق أنى توجَّهت ركائبُه ويستقرون معه حيث استقرت مضاربه، لا تستفزّهم بَدَوات آراء المختلفين، ولا تُزَلزلهم شُبُهات المبطلين، فهم الحُكَّام على أربابِ المقالات، والمميزون لما فيها من الحق والشبهات، يردُّون على كل [قائلٍ] باطِلَه، ويوافقونه فيما معه من الحق، فهم في الحقِّ سِلْمه وفي الباطل حَرْبُه، لا يميلون مع طائفةٍ على طائفة، ولا يجحدون حقَّها لما قالته من باطل سواه، بل هم ممتثلون قولَ الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)} [المائدة: 8].
__________
(1) “ولم يحرموا عليه شيئًا” ساقط من (د).
(2) من قوله: “في إيجاب … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).

(2/649)


فإذا كان قد نهى عبادَه أن يحملهم بغضهم لأعدائهم على أن لا يعدلوا عليهم، مع ظهور عداوتهم ومخالفتهم وتكذيبهم لله ورسوله، فكيفَ يسوغُ لمن يدِّعي الإيمانَ أن يحمله بغضُه لطائفةٍ منتسبةٍ إلى الرسول تصيبُ وتخطئ على أن لا يعدلَ فيهم، بل يجرِّد لهم العداوة (ق/ 156 أ) وأنواع الأذي، ولعله لا يدرى أنهم أولى بالله ورسوله وما جاء به منه علمًا وعملًا ودعوةً إلى الله على بصيرة، وصَبْرًا من قومهم على الأذى في الله، وإقامةً لحجةِ الله، ومعذرةً لمن خالفهم بالجهل (1)، لا كمن نصبَ مقالةً (2) صادرةً عن آراءِ الرجال، فَدَعَا إليها، وعاقَبَ عليها، وعادَى من خالفها بالعصبية وحمية الجاهلية، والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به، وليكن هذا تمام الكلام من هذا السؤال، فقد تعدَّينا به طَوْرَه، وإن لم نقدُرْه قَدْرَه.
فصل
وأما السؤال الثالث عشر: وهو ما السر في كونه سلَّم عليهم بلفظ النكرةِ، وشرَعَ لعباده إن يسلِّموا على رسوله بلفظ المعرفة، وكذلك تسليمهم على نفوسهم وعلى عباده الصالحين؟.
فقد تقدم بيان الحكمة في كون السلام (ظ / 118 ب) ابتداءً بلفظ النكرة، ونزيدُ هنا فائدةً أُخرى، وهي: أنه قد تقدم أن في دخول “اللام” في بالسلام أربع فوائد، وهذا المقام مستغنٍ عنها؛ لأن المتكلم بالسلام هو الله تعالى، فلم يقصد تبرُّكًا بذكر الاسم كما يقصده العبد، فإن التبرك استدعاء البركة واستجلابها، والعبد هو
__________
(1) (ق): “بالجميل”.
(2) (ظ ود والمنيرية): “معالمه”.

(2/650)


الذي يقصد لذلك، ولا قَصَدَ أيضًا تعرُّضًا وطلبًا على ما (1) يقصده العبد. ولا (2) قَصَد العموم، وهو أيضًا غير لائق هنا؛ لأن سلامًا منه سبحانه كافٍ من كل سلام، ومُغْنِ عن كلِّ تحية، ومقرِّب من كلِّ أُمنية، فأدنى سلام منه -ولا أدنى هناك (3) – يستغرق الوصفَ، ويتم النعمةَ، ويدفع البؤسَ، ويطيب الحياةَ، ويقطع موادَ العَطَبِ والهلاك، فلم يكن لذكر “الألف واللام” هناك معنًى. وتأمل قولَه تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] كيف جاءَ بـ “الرضوان” مبتدأ منكرًا مخبرًا عنه بأنه أكبر من كلِّ ما وُعِدُوا به، فأيسر شيءٍ من رضوانه أكبر من الجنات وما فيها من المساكن الطيبة وما حوته، ولهذا لما يتجلى لأوليائه في جنات عَدْن، ويمنيهم: أيّ شيءٍ يريدون؟ “فيقولون: ربّنا وأَيّ شيءٍ نريدُ أفضلَ مما أعطيتنا، فيقول تبارك وتعالى: إنَّ لكم عِنْدي أفضلَ من ذلكَ أُحِلُّ عليكم رِضْواني فلا أسْخَطُ عليكم بَعْدَه أبدًا” (4).
وقد بانَ بهذا الفرق بين سلام الله على رسله وعباده، وبين سلام العباد عليهم، فإن سلام العبادِ لمَّا كان متضمِّنًا لفوائد “الألف واللام” التي تقدَّمت من قَصْد التبرك باسمه السلام، والإشارة إلى طلب السلام وسؤالها (ق / 156 ب) من الله باسمه “السلام”، وقصد عموم
__________
(1) (ق): “على ضد ما”.
(2) غير محررة في النسخ، ولعل صوابها ما أثبتّ، وهو من “المنيرية” وانظر (2/ 633).
(3) (ق): “مثال”.
(4) أخرجه البخاري رقم (6549)، ومسلم رقم (2829) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.

(2/651)


السلام، كان الأحسن في حقِّ المُسَلِّم على الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن يقول: “السلامُ عليكَ أيُّها النبيُّ ورحمةُ الله وبركاته”، وإن كان قد ورد: “سلام عليك”، فالمعرفة أكثر وأَصَحّ وأَتَمّ معنًى، فلا ينبغي العدول عنه، ويُشَحّ في هذا المقام بـ “الألف واللام”، والله أعلم.
فصل
وقد عرفت بهذا جواب السؤال الرابع عشر وهو: ما الحكمة في تسليم الله تعالى على يحيى بلفظ النكرة، وتسليم المسيح على نفسه بلفظ المعرفة؟ لا ما يقوله من لا تحصيلَ له: إنّ سلامَ يحيى جَرى مجرى ابتداء السلام في الرسالة والمكاتبة فَنُكِّر، وسلام المسيح جرى مجرى السلام في آخر: المكاتبة فَعُرِّف، فإن السورةَ كالقصةِ الواحدة، ولا يخفى فساد هذا الفرق، فإنهما سلامان متغايران من مُسَلِّمَين:
أحدهما: سلامُ الله تعالى على عباده.
والثاني: سلامُ العبد على نفسه.
فكيفَ يُبْنى أحدهما على الآخر!؛ وكذلك قول من قال: إن الثاني عُرِّف لتقدم ذكره في اللفظ، فكانت “الألف واللام” فيه للعهد، وهذا أقرب من الأول لإمكان أن يكونَ المسيح أشار إلى السلام الذي سلَّمه الله على يحيى، فأراد: أن لي من السلام في (1) هذه المواطن الثلاثة مثل ما حصل له، والله أعلم.
فصل
وأما السؤال الخامس عشر: وهو ما الحكمة في تقييد السلام في
__________
(1) (ظ ود): “في مثل”.

(2/652)


قصتي يحيى والمسيح صلوات الله عليهما بهذه الأوقات الثلاثة؟.
فسِرُّه -والله أعلم-: أن طلبَ السلامة يتأكد في المواضع التي هي مظانُّ العَطَب (1) ومواطن الوَحْشَة، وكلَّما كان الموضع مظِنَّة ذلك، تأكَّد طلب السلامة وتعلقت بها الهمة، فذُكِرَت هذه المواطنُ الثلاثة؛ لأن السلامةَ فيها آكد، (ظ / 119 أ) وطلبها أهم، والنفسُ عليها أَحْرَص؛ لأن العبدَ فيها قد انتقل من دارٍ كان مستقرًّا فيها مُوَطِّن النفس على صحبتها وسكناها، إلى دار هو فيها معرض للآفات والمِحَن والبلاء، فإن الجنين من حين خرجَ إلى هذه الدار انتصب لبلائها وشدائدها ولأوائها ومحنها وأنكادِها (2)، كما أفصحَ الشاعرُ بهذا المعنى حيث يقول (3):
تأمل بكاءَ الطِّفلِ عندَ خروجِه … إلى هذه الدُّنيا إذا هو يولدُ
تجدْ تحتَهُ سِرًّا عَجِيبًا كأنه … بكلِّ الذي يَلْقاه منها مُهَدَّدُ
وإلا فما يُبْكِيه منها وإِنَّها … لأوسعُ مما كانَ فيه وَأَرْغَدُ
ولهذا من حين خرجَ ابتدرته طَعْنَةُ الشيطانِ في خاصرته فبكى لذلك (4)، ولما (ق/ 157 أ) حصل له من الوَحْشة بفراق وطنه الأول، وهو الذى أدركه الأطباء والطبائعيون، وأما ما أخبر به الرسول – صلى الله عليه وسلم – فليس في صناعتهم ما يدلُّ عليه، كما ليس فيها ما يخفيه، فكان طلب
__________
(1) (ق): “الفضل”! و (ظ ود): “مكان العطب”.
(2) (ظ): “وأفكارها”.
(3) رُويت أبيات نحو هذه لابن الرومي في “ديوانه”: (ص/ 393)، ورويت لغيره أيضًا.
(4) ثبت ذلك في الصحيحين من حديث أبى هريرة -رضي الله عنه- البخاري رقم (3286)، ومسلم رقم (2366).

(2/653)


السلامة في هذه المواطن من آكد الأمور.
الموطن الثاني: خروجه من هذه الدار إلى دار البرزخ عند الموت، ونسبةُ الدنيا إلى تلك الدار كنسبة داره في بطن أمه إلى الدنيا تقريبًا وتمثيلًا، وإلا فالأمر أعظم من ذلك وأكبر، وطلب السلامة -أيضًا- عند انتقاله إلي تلك الدار من أهم الأمور.
الموطن الثالث: موطن يوم القيامة يوم يبعث اللهُ الأحياءَ، ولا نسبةَ لما قبله من الدور إليه، وطلب السلامة فيه آكد من جميع ما قبله، فإن عَطَبه لا يُسْتدرك، وعَثْرته لا تُقَال، وسَقَمه لا يداوى، وفَقْره لا يُسَد، فتأمل كيف خصَّ هذه المواطن الثلاثة بالسلام لشدة الحاجة إلى السلامة فيها، واعْرِف قدرَ القرآن وما تضمَّنه من الأسرار وكنوز العلم والمعارف التي عجزت عقول الخلائق عن إحصاءِ عُشر معشارها، وتأمل ما في السلام مع الزيادة على السلامة من الأُنس وذهاب الوَحْشة، ثم نَزِّل ذلك على الوَحْشة الحاصلة للعبد في هذه المواطن الثلاثة؛ عند خروجه إلى عالم الابتلاء، وعند مُعَاينته هَوْل المطلع إذا قَدِمْ على الله وحيدًا مجرَّدًا عن كلِّ مُؤْنس إلا ما قدَّمه من صالح عمله، وعند موافاته القيامة مع الجمع الأعظم، ليصيرَ إلى إحدى الدارَيْن التي خُلِق لها، واسْتُعْمِل بعمل أهلها، فأيُّ موطن أحق بطلب السلامة من هذه المواطن، فنسأل الله السلامة فيها بمنه وكرمه ولطفه وجوده وإحسانه (1).
فصل
وأما السؤال السادس عشر: وهو ما الحكمة في تسليم النبيِّ – صلى الله عليه وسلم –
__________
(1) “ولطفه وجوده وإحسانه” ليست في (ق).

(2/654)


على من اتبعَ الهدى في كتابه إلى هِرَقل بلفظ النكرة، وتسليم موسى عليهم بلفظ المعرفة؟.
فالجواب عنه: أن تسليم النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – تسليمٌ ابتدائي، ولهذا صَدَّر به الكتاب حيث قال: “مِنْ محمد رسولِ الله إلى هِرَقل عظيم الروم، سلامٌ على من اتَّبَعَ الهدى” (1)، ففي تنكيره ما في تنكير سلامَ الخِطَاب من الحكمة، وقد تقدم (ظ/ 119 ب) بيانها. وأما قول موسى: {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)} [طه: 47]، فليسَ بسلام تحية، فإنه لم يبتدئ به فى فرعون، بل هو خبَرٌ مَحْض، فإن من أتبع الهدى فلهم السلامُ المطلق دون من خالفه، فإنه قال له: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (ق/157 ب) وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)} [طه: 47، 48].
أفلا ترى أن هذا ليس بتحية في ابتداءِ الكلام ولا خاتمته، وإنما وقعَ متوسِّطًا بين الكلامَيْن إخبارًا محضًا عن وقوع السلامة وحلولها على من أتبع الهدى، ففيه استدعاء لفرعون وترغيب له بما جُبلَت النفوسُ على حُبِّه وإيثاره من السلامة، وأنه إن اتبع الهدى الذي جَاء [به] فهو من أهل السلام، والله أعلم.
وتأمَّل حُسْن سياقِ هذه الجُمَل، وترتيب هذا الخطاب، ولُطْف هذا القول اللين الذي يَسْلب القلوب حُسْنه وحلاوتُه مع جلالته وعَظَمته، كيف أبتدأ الخطابَ بقوله: {إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ} [طه: 47]، وفي ضمن ذلك: إنّا لم نأتك لننازعك مُلْكك ولا لنَشْركك فيه، بل نحن عبدان مأموران (2)
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (6260) من حديث أبي سفيان بن حرب -رضي الله عنه-.
(2) ليست فى (ق).

(2/655)


مرسلان من ربك إليك، وفي إضافة اسم الرب إليه هاهنا دون إضافته إليهما استدعاء لسمعه وطاعته وقبوله، كما يقول الرسول للرجل من عند مولاه: أنا رسول مولاك إليك وأستاذك، وإن كان أستاذهما معًا، ولكن ينبهه بإضافته إليه على السَّمعِ والطاعةِ له، ثم إنهما طلبا منه أن يرسل معهما بني إسرائيل، ويخلِّيَ بينهم وبينهما ولا يعَذِّبهم، ومن طلبَ من غيرِه تَرْك العدوان والظلم، وتعذيبَ من لا يستحق العذاب، فلم يطلب منه شَطَطًا، ولم يُرْهقه من أمره عسرًا، بل طلب منه غاية النصف.
ثم أخبره بعد الطلب بثلاث إخبارات؛ أحدها: قوله: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} [طه: 47]، فقد برئنا من عهدة نسبتك لنا إلى التقوُّل والافتراء بما جئناك به من البرهان (1) والدلالة الواضحة، فقد قامت الحجة. ثم بعد ذلك للمرْسَل إليه حالتان، إما أن يسمع ويطيع، فيكون من أهل الهدى، والسلامُ على من اتبع الهدى، وإما أن يكذِّب ويتولَّى، فالعذابُ على من كذَّب وتولى، فجمعت الآيةُ طلبَ الإنصاف، وإقامة الحجة، وبيان ما يستحقه السامع المطيع، وما يستحقه المكذِّب المتولِّي بألطف خطاب، وألْيَن (2) قول، وأبلغ ترغيب وترهيب.
فصل
وأما السؤال السابع عشر وهو: أن قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59]، هل السلام من الله؟ فيكون
__________
(1) (ق): “الإيمان”.
(2) (ظ ود): “وأَلْيّق”.

(2/656)


المأمور به الحمد، والوقفُ التامُّ عليه، أو هو داخل في القول والأمر بهما جميعًا؟.
فالجواب عنه: أن الكلامَ يحتمل الأمرين، ويشهد لكل منهما (ق/ 158 أ) ضَرْب من الترجيح، فيرجَّح كونه داخلًا في جملة القول بأمور:
منها: اتصاله به وعَطْفه عليه من غير فاصل، وهذا يقتضي أن يكون فعل القول واقعًا على كلِّ واحد منهما، هذا هو الأصل ما لم يمنع منه مانع، ولهذا إذا قلت: “قل (1) الحمد لله وسبحان الله”، فإن التسبيح هنا داخل في المقول (2).
ومنها: أنه إذا كان معطوفًا على المقول كان عطف خبيرٍ (3) على خبر وهو الأصل، ولو كان (ظ / 120 أ) منقطعًا عنه كان عطفًا على جملة الطلب، وليس بالحسن عطف الخبر على الطلب.
ومنها: أن قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ} [النمل: 59] ظاهر في أن المسلِّم هو القائل: “الحمد لله”، ولهذا أتى بالضمير بلفظ الغَيبة، ولم يقل: “سلام على عبادي”.
ويشهد لكون السلام من الله تعالى أمور: أحدها: مطابقته لنظائره في القرآن من سلامه تعالى بنفسه على عباده الذين اصطفى، كقوله: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالمِينَ (79)} [الصافات: 79]، {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109)} [الصافات: 109]، {سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120)} [الصافات: 120]،
__________
(1) ليست في (ظ).
(2) (ق): “القول” وكذا ما بعدها.
(3) ليست في (ق).

(2/657)


{سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)} [الصافات: 130].
ومنها: أن عباده الذين اصطفى هم المرسلون، والله سبحانه يقرن (1) بين تسبيحِه لنفسه وسلامِه عليهم، وبين حَمْده لنفسه وسلامِه عليهم.
أما الأول؛ فقال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)} [الصافات: 180، 181] فذكر تنزيهه لنفسه عما لا يليق بجلاله، ثم سلامه (2) على رسله.
وفي اقتران السلام عليهم بتسبيحه لنفسه سِرٌّ عظيم من أسرار القرآن، يتضمَّن الردَّ على كلِّ مُبْطل ومُبْتدع، فإنه نزَّهَ نفسَه تنزيهًا مطلقًا، كما نزَّه نفسَه عما يقول خلقه فيه، ثم سلَّم على المرسلين، وهذا يقتضي سلامتهم من كلِّ ما يقول المكذِّبون لهم المخالفون لهم، وإذا سَلِموا من كلِّ ما رماهم به أعداؤهم، لزم سلامة كلِّ مَا جاؤوا به من الكذب والفسادِ، وأعظمُ ما جاؤوا به التوحيد، ومعرفة الله، ووصفه بما يليق بجلاله مما وصفَ به نفسَه على ألسنتهم. وإذا سَلِم دْلك من الكَذِب والمحال والفساد؛ فهو الحق المَحْض، وما خالفه هو الباطل والكذب المحال (3)، وهذا المغنى بعينه في قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] فإنه يتضمَّن حمده بما له من نُعُوت الكمال، وأوصاف الجلال، والأفعال الحميدة، والأسماء الحسنى، وسلامة رسلِه من كلِّ عيب ونقص وكذب، وذلك يتضمَّن سلامةَ ما جاؤوا به من كلِّ باطلٍ، فتأمل هذا السِّرَّ في اقتران السلام على رسله بحمدِه وتسبيحِه. فهذا
__________
(1) (ق ود): “يفرق”!.
(2) (ظ وق): “سلام”، والمثبت من (د) وهو أصح.
(3) من قوله: “والفساد …. ” إلى هنا ساقط من (ق).

(2/658)


يشهد (1) لكون السلام هنا من الله تعالى، كما هو في آخر (الصافات).
وأما عَطْف الخبر على الطلب فما أكثره! فمنه قوله (ق / 158 ب) تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ} [الأنبياء: 112]، وقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)} [المؤمنون: 118]، وقوله: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)} [الأعراف: 89]، ونظائره كثيرة جدًّا.
وفَصْل الخطاب في ذلك أن يقال: الآيةُ تتضمن الأمرين جميعًا وتنتظمهما انتظامًا واحدًا، فإن الرسول هو المبلِّغ عن الله كلامَه وليس له فيه إلا البلاغ، والكلامُ كلام الربِّ تبارك وتعالى، فهو الذي حمد نفسه، وسلَّم على عباده، وأمر رسولَه بتبليغ ذلك، فإذا قال الرسول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}، كان قد حَمِد اللهَ، وسلَّم على عباده بما حمد به نفسه، وسلم به هو على عباده (2)، فهو سلامٌ من الله ابتداءً، ومن المبلِّغ بلاغًا، ومن العباد اقتداء وطاعة، فنحن نقول كما أمرنا ربنا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59]، ونظيرُ هذا قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1] فهو توحيدٌ (ظ/ 120 ب) منه لنفسه، وأمرٌ للمخاطَب بتوحيده، فإذا قال العبد: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}، كان قد (3) وحَّدَ اللهَ بما وحَّدَ به نفسَه، وأتى بلفظ “قل” تحقيقًا لهذا المعنى، وأنه مبلِّغٌ مَحْض، قائل لما أُمِرَ بقوله، والله أعلم.
__________
(1) سقطت من (ظ ود).
(2) من قوله في الآية: {الَّذِينَ اصْطَفَى … } إلى هنا ساقط من (ق).
(3) “كان قد” سقطت من (ق).

(2/659)


وهذا بخلاف قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)}، فإن هذا أمر محض بإنشاء الاستعاذة لا تبليغ لقوله: “أعوذ برب الناس” (1)، فإن الله لا يستعيذ من أحدٍ وذلك عليه محال، بخلاف قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}، فإنه خبر عن توحيده، وهو -سبحانه- يخبر عن نفسه بأنه الواحد الأحد، فتأمَّل هذه النكتة البديعة، والله المستعان (2).
فصل
وأما السؤال الثامن عشر: وهو نهي النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – من قال له: “عليك السلام” عن ذلك، وقال: “لا تقُلْ عليكَ السلامُ، فإن عليكَ السلامُ تحيةُ المَوْتَى” (3)، فما أكثرَ من ذهبَ عن الصواب في معناه وخَفِيَ عليه مقصودُه وسرُّه، فتعسَّف ضروبًا من التأويلات المستنكرة الباردة، وردَّ بعضُهم الحديثَ، وقال: قد صحَّ عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – أنه قال في تحية الموتى: “السَّلامُ عَلَيْكُم دارَ قومٍ مُؤْمِنِين” (4)، قالوا: وهذا أصحّ من حديث النهي، وقد تضمَّن تقديم ذلك لفظ “السلام” فوجبَ المصير إليه، وتوهَّمت طائفةٌ أن السنةَ في سلام الموتى أن يُقال: “عليكم السلام” فرقًا بين السلام على الأحياء والأموات.
وهؤلاء كلُّهم إنما أُتوا مِن عدم فهمهم لمقصودِ الحديث (5)، فإن قوله – صلى الله عليه وسلم -: “عَلَيكَ السلامُ تحيةُ المَوْتَى”، ليس تشريعًا منه وإخبارًا عن
__________
(1) (ق): {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)}.
(2) ليست في (ق).
(3) تقدم 2/ 630.
(4) تقدم 1/ 84.
(5) انظر “معالم السنن” و”تهذيب السنن” للمصنف: (6/ 48 – 50).

(2/660)


أمرٍ شرعي، وإنما هو إخبار عن الواقع المعتاد الذي جرى على ألسنة الشعراءِ والناس، فإنهم كانوا يقدِّمون اسمَ الميِّت على الدُّعاء، كما قال (ق/ 159 أ) قائلهم (1):
عليكَ سلامُ اللهِ قَيْسُ ينَ عَاصِمٍ … ورحمتُه مَا شاءَ أنْ يَتَرَحَّما
وقول الآخر الذي رثى عُمر بن الخطاب (2):
عَليكَ سلامٌ مِنْ أميرٍ وباركَتْ … يا اللهِ في ذاكَ الأدِيْمِ المُمَزَّق
وهذا أكثر -في أشعارهم- من أن نذكره هاهنا، والإخبار عن الواقع لا يدل على جوازه فضلًا عن كونه سُنَّة، بل نهيه عنه مع إخباره بوقوعه يدلُّ على عدم مشروعيته، وأن السنة في السلام تقديم لفظه على لفظ المسلَّم عليه في السلام على الأحياءِ وعلى الأموات، فكما لا يُقال في السلام على الأحياء: “عليكم السلام”، فكذلك لا يقال في سلام الأموات، كما دلَّت السنة الصحيحة على الأمرين، وكأن الذي تخيَّله القومُ من الفرق أنَّ المسلِّم على غيره لما كان يتوقع الجواب، وأن يقال له: “وعليك السلام”، بدؤوا باسم السلام على المدعوِّ له توقُعًا لقوله: “وعليك السلام”، وأما الميت فلما لم يتوقَّعوا منه ذلك، قدموا المدعوَّ له على الدعاء، فقالوا: “عليك السلام”.
وهذا الفرقُ لو صحَّ كان دليلًا على التسوية بين الأحياء والأموات
__________
(1) هو عَبْدَة بن الطبيب، من أبياتٍ يرثى بها قيس بن عاصم، انظر: “حماسة أبى تمام”: (1/ 387).
(2) البيت للشمَّاخ بن ضرار، “ديوانه”: (ص/ 448)، و”حماسة أبى تمام”: (1/ 540).

(2/661)


في السلام، فإن المسلِّم على أخيه الميت يتوقَّع الجوابَ أيضاً. قال ابن عبد البر (1): ثبتَ عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “ما مِنْ رجل يمرُّ بقبرِ أخِيْه كان يعرفُه في الدنيا فيسلِّم عَلَيه إلا ردَّ الله كل عَلَيه روْحَه حتى (ظ/121 أ) يرد عليه السلام” (2)، وبالجملةِ، فهذا الخيال قد أبطلته السنةُ الصحيحة.
وهنا نكتة بديعة ينبغي التفطن لها، وهي: أن السلام شرع على الأحياء والأموات بتقديم اسمه على المسلَّم عليهم؛ لأنه دعاء بخير، والأحسنُ في دعاء الخير أن يقدم الدعاء به على المدعوِّ له، كقوله تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73]، وقوله: {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109)} [الصافات: 109] {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ} [الصافات: 79]، {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)} [الصافات: 130]، {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 24].
وأما الدّعاء بالشر: فيُقدم فيه المدعو عليه على المدعو به غالبًا، كقوله تعالى لإبليس: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي} [ص: 78]، وقوله: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ} [الحجر: 35]، وقوله: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة: 98]، وقوله: {وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} [الشورى: 16].
__________
(1) أخرجه ابن عبد البر بسنده إلى ابن عباس، ولم أر تصحيحه للحديث، وأنظر التعليق الآتي.
(2) أخرجه الخطيب فى: “تاريخ بغداد”: (6/ 137)، وابن عساكر فى “تاريخ دمشق”: (27/ 65)، وابن الجوزي في “العلل المتناهية”: (2/ 911)، والذهبي في “السير”: (12/ 590) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
وضعفه ابن حبان وابن الجوزي والذهبي.
وأخرجه ابن عبد البر في “الاستذكار”: (1/ 185) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- ونقل المصنفُ والعراقيُّ- كما فى فيض القدير: 5/ 487 – عن ابن عبد البر أنه صححه.

(2/662)


وسرُّ ذلك -والله أعلم-: أن في الدعاء بالخير قدموا اسمَ الدعاء المحبوب الذي تشتهيه النفوس وتطلبه، ويَلَذ للسمع لفظه، فَيَبْدَه السَّمعَ ذِكْر الاسم المحبوب المطلوب، ويبدأ القلبُ بتصوره، فيفتح له القلب والسمعُ، فيبقى السامع كالمنتظر لمن (ق / 159 ب) يحصل هذا، وعلى من يحل، فيأتي باسمه، فيقول: “عليك أو لك” (1)، فيحصل له من السرور والفرح ما يبعث على التحابّ والتوادّ والتراحم، الذي هو المقصود بالسلام.
وأما في الدعاء عليه؛ ففي تقديم المدعو عليه إيذانٌ باختصاصه بدلك الدعاء وأنه عليه وحده، كأنه قيل له: هذا عليك وحدك لا يشركك فيه السامعون، بخلاف الدعاء بالخير فإن المطلوب عمومه، وكلّ ما عمَّ به الدَّاعي كان أفضل.
وسمعت شيخَ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: فضل عموم الدعاء على خصوصه كفضلِ السماءِ على الأرض، وذكَرَ في ذلك حديثاً مرفوعًا عن علي أن النبي – صلى الله عليه وسلم – مر به وهو يدعو فقال: “يا عَلي عُمَّ فإنَّ فَضْلَ العموْمِ على الخصُوصِ كفَضْلِ السماءِ على الأرْضِ” (2).
وفيه فائدة ثانية -أيضًا- وهي: أنه في الدعاء عليه (3) إذا قال له: “عليك” أنفتحَ سمعُه وتشوفْ قلبُه إلى أيِّ شيء يكون عليه، فإذا ذكر له أاسم المدعو به صادفَ قلبه فارغًا متشوِّفًا لمعرفته، فكان أبلغَ فى نِكَايته، ومن فهمَ هذا فهمَ السر في حذف “الواو” في قوله تعالى:
__________
(1) (ظ ود): “لي”.
(2) أخرجه أبو داود في “المراسيل” (ص/ 115)، والبيهقي في “الكبرى”: (3/ 130) من مرسل عَمرو بن شعيب، بنحوه.
(3) ليست في (ق).

(2/663)


{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71]، ففاجأهم وبَغتَهم عذابُها وما أعدَّ اللهُ فيها، فهم بمنزلة من وقفَ على باب لا يدري بما يفتح له من أنواع الشر، إلا أنه متوقع منه شرا عظيمًا، ففُتِح في وجهه وفاجأه ما كان يتوقعه، وهذا كما تجد في الدنيا من يُسَاق إلى السجن، فإنه يُساق إليه وبابه مغلوق، حتى إذا جاءه فتحَ الباب في وجهه، ففاجأته روعته وألمه، بخلاف ما لو فُتِحَ له قبل مجيئه.
وهذا بخلاف أهل الجنة فإنهم لما كانوا مساقين إلى دار الكرامة، وكان من تمام إكرام المدعوِّ الزائر أن يُفتح له بابُ الدار، فيجيء فيلقاه مفتوحًا، فلا يَلْحقه ألم الانتظار، فقال في أهل الجنة: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]، وحُذف الجوابُ تفخيمًا لأمره، وتعظيمًا لشأنه على عادتهم في حذف الجوابات لهذا المقصد. وهذه الطريقة تريحك من دعوى زيادة “الواو”، ومن دعوى كونها واو الثمانية؛ لأن أبواب الجنة ثمانية، فإن هذا لو صحَّ فإنما يكون إذا كانت (ظ / 121 ب) الثمانية سوقة في اللفظ واحدًا بعد واحد، فينتهون إلى السبعة، ثم يستأنفون العددَ من الثمانية بـ”الواو”، وهاهنا لا ذِكْر للفظ الثمانية في الآية ولا عدها، فتأمله. على أن في كون “الواو” تجيء للثمانية كلام آخر (ق/160 أ) قد ذكرناه في “الفتح المكِّي” وبينا المواضعَ التي ادعِى فيها أن “الواو” للثمانية، وأين يمكن دعوى ذلك وأين يستحيل (1)؟.
فإن قيل: فهذا ينتقض عليكم بأن سيِّد الخلائق – صلى الله عليه وسلم – يأتي بابَ
__________
(1) سيأتي في هذا الكتاب: (3/ 915) تفصيل القول في واو الثمانية.

(2/664)


الجنة فيلقاه مغلقًا حتى يستفتحه (1).
قلنا: هذا من تمام إظهار شرفه وفضله على الخلائق، أن الجنة تكون مغلقة فلا تفتح لأهلها إلا على يديه، فلو جاءها وصادفها مفتوحة، فدخلها هو وأهلها، لم يعلم الداخلون أن فتحَها كان على يديه، وأنه هو الذي استفتحها لهم، ألا ترى أن الخلق إذا راموا دخول باب مدينة أو حِصْن وعجزوا ولم يمكنهم فتحه، حتى جاء رجلٌ ففتحه لهم أحوجَ ما كانوا إلى فتحِه، كان في ذلك من ظهور سيادته عليهم، وفضله وشرف ما لو (2) جاء هو وهم فوجدوه مفتوحًا.
وقد خرجنا عن المقصود وما أَبْعَدْنا، ولا تستطِلْ هذه النكت (3)، فإنك لا تكاد تجدها في غير هذا التعليق، والله المانُّ بفضله وكرمه.
فصل
وأما السؤال التاسع عشر وهو: دخول “الواو” في قوله – صلى الله عليه وسلم -: “إذا سَلَّم عليكُمْ أهْلُ الكتاب فقُوْلُوا: وعليكُمْ” (4)، فقد استَشْكَلها كثيرٌ من الناس كما ذُكِر في السؤال، وقالوا: الصواب حذفُها، وأن يقال: “عليكم”. قال الخطَّابي (5): “يرويه عامة المحدثين بـ”الواو” وابنُ عيينة يرويه بحذفها، وهو الصواب، وذلك أنه إذا حذف “الواو” صار
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (197)، من حديث أنس -رضى الله عنه-.
(2) (ق): “ما لم”، ولو قيل: “ما [لم يكن] لو .. ” لكان أجود.
(3) (ق): “هذا الفصل في النكت”، و”كرمه” التي في آخر الفقرة ليست في (ق).
(4) تقدم تخريجه 2/ 597.
(5) في “معالم السنن”: (8/ 75 – بهامش مختصر المنذري). وانظر تعليق ابن القيم هناك، فهو بنحو ما قال هنا.

(2/665)


قولهم الذي قالوا بعينه مردودًا عليهم، وبإدخال “الواو” يقع الاشتراك معهم، والدخول فيما: قالوه، لأن الواو حرف العطف والاجتماع بين الشيئين”.
قلتُ: معنى ما أشار إليه الخطابي: أن “الواو” في مثل هذا تقتضي تقرير الجملة وزيادة الثانية عليها، كما إذا قلت: “زيدٌ كاتب”، فقال المخاطب “وشاعر”، فإنه يقتضي إثبات الكتابة له وزيادة وصف الشعر، وكذلك إذا قلت لرجل: “فلان محب لك”، فقلت: و”مُحْسن إليَّ”.
ومن هنا استنبط السُّهيلي في “الروض” (1) أن عِدَّة أصحاب الكهف سبعة، قال: لأن الله تعالى عطفَ عليهم الكلب بحرف “الواو” فقال: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22]، ولم يذكر “الواو” فيما قبل ذلك من كلامهم، و”الواو” تقتضي تقرير الجملة الأولى، وما استنبطه حسَن؛ غير أن إنما يفيد إذا كان المعطوف بالواو ليس داخلاً في جملة قولهم، بل يكون (ق/160 ب) قد حكى سبحانه أنهم قالوا: “سبعة”، ثم أخبر تعالى أن ثامنهم كلبهم، فحينئذٍ يكون ذلك تقريرًا لما قالوه وإخبارًا بكون الكلب ثامنًا، وأما إذا كان الإخبار عن الكلب من جملةِ قولهم، وأنهم قالوا هذا وهذا، لم يظهر ما قاله ولا تقتضي الواو في ذلك تقريرًا ولا تصديقًا، فتأمَّلْه.
وأما قوله: “المحدثون يروونه بالواو”، فهذا الحديث رواه عبد الله (2) ابن عمر أن النبي – صلى الله عليه وسلم -: قال: “إنَّ اليهودَ إذا سَلَّمَ عَلَيكُم أحدُهم فإنما
__________
(1) “الروض الأنف”: (2/ 56).
(2) “عبد الله” ليست في (ق).

(2/666)


يقول: السَّامُ عليكم، فقولوا: وعليكم، (1)، قال أبو داود (2): “وكذلك رواه مالك عن عبد الله بن دينار. ورواه الثوري عن عبد الله بن دينار، وقال فيه: وعليكم”. انتهى كلامه.
وأخرجه الترمذي (ظ/ 122 أ)، والنسائي كذلك، ورواه مسلم (3) وفي بعض طرقه: “فقل: عليك”، ولم يذكر “الواو”.
وحديث مالك الذي ذكره أبو داود أخرجه البخاري في “صحيحه” (4)، وحديث سفيان الثوري متفق عليه (5)، كلها بالواو.
وأما ما أشار إليه الخطابي من حديث ابن عيينة؛ فرواه النسائي في “سننه” (6) بإسقاط الواو (7). وإذا عُرف هذا؛ فإدخال الواو في الحديث لا تقتضي محذورًا البتة، وذلك لأن التحية التي يحيُّون بها المسلمين غايتها الإخبار بوقوع الموت عليهم وطلبه؛ لأن السَّام معناه: الحوت، فإذا حيوا به المُسْلم فردُّه عليهم كان من باب القصاص والعدل، وكان مضمون ردَّه: أنا لسنا نموت دونكم، بل وأنعم -أيضًا- تموتون، فما تمنيتموه لنا حالٌ بكم واقعٌ عليكم.
__________
(1) أخرجه أبو داود رقم (5206)، والترمذي رقم (1603)، والنسائي في “عمل اليوم والليلة” رقم (378، 380) من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عُمر به.
قال الترمذي: “هذا حديث حسن صحيح”.
(2) “السنن”: (5/ 385).
(3) رقم (2164).
(4) رقم (6257).
(5) أخرجه البخاري رقم (6928)، ومسلم رقم (2164).
(6) في “عمل اليوم والليلة” رقم (381) من حديث عائشة -رضي الله عنها -.
(7) هذا بنحوه من “مختصر المنذري”: (8/ 75 – 76).

(2/667)


وأحسن من هذا أن يقال: ليس في دخول الواو تقرير لمضحون تحيتهم، بل فيه ردها وتقريرها لهم، أي: ونحن أيضًا ندعو عليكم بما دعوتم به علينا، فإن دعاءَهم قد وقع، فإذا رَدَّ عليهم المجيبُ بقوله: “وعليكم”، كان في إدخال الواو سِرّ لطيف، وهو الدلالة على أن هذا الذي طلبتموه لنا ودعوتم به، هو بعينه مردودٌ عليكم لا تحية غيره، فإدخال “الواو” مفيدٌ لهذه الفائدة الجليلة.
وتأمل هذا في مقابلة الدعاء بالخير إذا قال: “غفر الله لك”، فقال له: “ولك”، المعنى: أن هذه الدعوة بعينها مني لك، ولو قلت: “غفر الله لك”: فقال: “لك”؟ لم يكن فيه إشعار بأن الدعاء الثاني هو الأول بعينه، فتأمله فإنه بديع جدًّا. وعلى هذا فيكون الصواب إثبات الواو كما هو ثابت في “الصحيح” و”السنن”.
فهذا ما ظهر لي في هذه اللفظة، فمن وجدَ شيئاً فَلْيلْحِقْه بالهامش (ق/ 161 أ)، يَشكُرِ اللهُ وعبادُه له سَعْيَه، فإن المقصودَ الوصولُ إلى الصواب، فإذا ظهر؛ وضِعَ ما عداه تحت الأرجل، وقد ذكرنا هذه المسألة مستوفاة بما أمكننا (1) في كتاب “تهذيب السنن” (2)، وأدلّه أعلم (3).
فصل
وأما السؤال العشرون وهو: ما الحكمة في اقتران الرحمة والبركة بالسلام؟.
__________
(1) “بما أمكننا” ليست في (ق).
(2) (8/ 75 – 77 – بهامش مختصر المنذري).
(3) زيادة من (ق).

(2/668)


فالجواب عنه أن يقال: لما كان الإنسان لا سبيل له إلى انتفاعه بالحياة إلا بثلاثة أشياء:
أحدها: سلامته من الشر، ومن كل ما يضاد حياته وعيشه.
والثاني: حصولُ الخير له.
والثالث: دوامه وثباته له.
فإن بهذه الثلاثة يكمل انتفاعُه بالحياة، فشُرِعَت التحية متضمنة للثلاثة، فقوله: “سلام عليكم” يتضمن السلامة من الشر، وقوله: “ورَحْمَةُ الله” يتضمن حصول الخير. وقوله: “وبركاته” يتضمن دوامه وثباته كما هو موضوع لفظ البركة، وهو كثرة الخير واستمراره. ومن هاهنا يعلم حكمة اقتران اسمه الغفور -تبارك وتعالى- باسمه الرحيم في عامة القرآن. ولما كانت هذه الثلاثة مطلوبة لكل أحد، بل هي متضمنة لكل مطالبه، وكلّ المطالب دونها وسائل إليها وأسباب لتحصيلها؛ جاءَ لفظ التحية دالاً عليها بالمطابقة تارة، وهو “كمالها”، وتارة دالاً عليها بالتضمن، وتارة دالاً عليها باللزوم، فدلالة اللفظ عليها مطابقة إذا ذُكِرَت بلفظها، ودلالته عليها بالتضمُّن إذا ذُكِر السلام والرحمة فإنهما يتضمنان الثالث، ودلالته عليها باللزوم إذا اقتصر على لفظ السلام وحدَه، فإنه يستلزم حصول الخير وثباته؛ إذ لو عُدِم لم تحصل (ظ / 122 ب) السلامة المطلقة، فالسلامة مستلزمة لحصول الرحمة كما تقدم تقريره.
وقد عوف بهذا فضلُ هذه التحية وكمالُها على سائر تحيات الأمم، ولهذا اختارها الله لعباده وجعلَها تحيتهم بينهم في الدنيا وفي دار السلام. وقد بانَ لك أنها من محاسن الإسلام وكماله، فإذا كان

(2/669)


هذا في فرْع من فروع الإسلام، وهو التحية التي يعرفها الخاصُّ والعام، فما ظَنُّكَ بسائر محاسنِ الإسلام وجلالته وعظمته وبَهْجته التي شهدت بها العقول والفِطَر، حتى إنها من أكبر الشواهد وأظهر البراهين الدالَّة على نبوَّة محمد – صلى الله عليه وسلم -، وكمال دينه وفضله وشرف على جميع الأديان، (ق/ 161 ب) وأن معجزته في نفسِ دعوته، فلو اقتصر عليها كانت آيةً وبرهانا على صِدْقه، وأنه لا يحتاج معها إلى خارق ولا آية منفصلة، بل دينُه وشريعته ودعوتُه وسيرتُه من أعظم معجزاته عند الخاصة من أمته، حتى إن إيمانهم به إنما هو مُسْتند إلى ذلك، والآيات فى حقِّهم مقويات بمنزلة تظاهر الأدلة. ومن فَهِمَ هذا انفتح له باب عظيم من أبواب العلم والإيمان، بل باب من أبواب الجنة العاجلة، يرقص القلب فيه طرباً، ويتمنى أنه له بالدنيا وما فيها.
وعسى الله أن يأتي بالفتح أو أَمْر (1) من عنده، فيساعد على تعليق كتاب يتضمَّن ذكْر بعض محاسن الشريعة، وما فيها من الحِكم البالغة، والأسرار الباهرة، التي هي من أكبر الشواهد على كمال علم الرب -تعالى- وحكمته ورحمته وبره بعباده ولطفه بهم، وما اشتملت عليه من بيان مصالح الدارين والإرشاد إليها، وبيان مفاسد الدارين والنهي عنها، وأنه -سبحانه- لم يرحمهم في الدنيا (2) برحمة ولم يحسن إليهم إحسانَا أعظم من إحسانه إليهم بهذا الدين القَيِّم وهذه الشريعة الكاملة، ولهذا لم يذكر في القرآن لفظ “المنَّة عليهم” إلا في سياق ذكرها؛ كقوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي
__________
(1): “وعون من … “.
(2) “في الدنيا” ليست في (ظ ود).

(2/670)


ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164] وقوله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)} [الحجرات: 17]، فهي مَحْض الإحسان إليهم، والرأفة بهم، وهدايتهم إلى ما به صلاحهم في الدنيا والآخرة، لا أنها محض التكليف والامتحان الخالي عن العواقب الحميدة والغايات التي لا سبيل إليها إلا بهذه الوسيلة، فهي لغاياتها المجربة المطلوبة (1) بمنزلة الأكل للشبع، والشرب للرِّي، والجماع لطلب الولد، وغير ذلك من الأسباب التي رُبطَت بها مسبباتها بمقَتضى الحكمة والعِزَّة، فلذلك نُصبَ هذا الصراطَ المستقيم وسيلة وطريقًا إلى الفوز الأكبر والسعادة، ولا سبيلَ إلى الوصول إليه إلا من هذه الطريق، كما سبيلَ إلى دخول الجَنَّة إلا بالعبور على الصراط، فالشريعةُ هي حياة القلوب، وبَهْجة النفوس، ولذة الأرواح، والمشقة الحاصلة فيها والتكليف وقع بالقصد (ق/ 162 أ) الثاني كوقوعه في الأسباب المفْضية إلى الغايات المطلوبة، لا أنه مقصود لذاته، فضلاً (ظ / 123 أ) عن أن يكون هو المقصود لا سواه. فتأمل هذا الموضع، وأعطه حقه من الفِكْر في مصادرها ومواردها، يَفْتَح لك بابًا واسعًا من العلم والإيمان، فتكون من الراسخين في العلم، من الذين يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون.
وكما أنها آية شاهدة له على ما وصفَ به نفسَه من صفات الكمال؛ فهي آية شاهدةٌ لرسوله بأنه رسولُه حقًّا، وأنه أعرفُ الخلق وأكملهم وأفضلهم وأقربهم إلى الله وسيلة، وأنه لم يُؤْتَ عبدٌ مثل ما أُوْتي، فَوالَهْفاه (2)
__________
(1) (ق): “وهي لغاياتها المطلوبة المحبوبة”.
(2) (ق): “فوا أَسفاه”.

(2/671)


على مساعدٍ على سلوكِ هذه الطريق، واستفتاحِ هذا الباب، والإفضاء إلى ما وراءَه ولو بشَطْر كلمة؛ بل والهفاه على من لا يتصدَّى لقطع الطريق، والصَّدِّ عن هذا المطلب العظيم، ويَدَع المَطِي وَجَادَّتها، ويعطي القَوْسَ باريها، ولكن إذا عَظمَ المطلوب قلَّ المساعد وكَثرُ المعارض والمعاند، وإذا كان الاعتماد على مجرَّد مواهب اللهِ وفضله، ويعينه (1) ما يتحمله المتحمل من أجله، فلا [يَثْنِكَ شَنآنُ] (2) من صدَّ عن السبيل وصَدَف، ولا تنقطع مع من عَجَزَ عن مواصلة السُّرى ووقف، فإنما هى مُهْجة واحدة، فانظر فيما تجعل تَلَفها، وعلى من تحتسب خَلَفها.
أنتَ القتيلُ بكلِّ (3) مَنْ أَحْبَبْتَه … فانظرْ لنفسِكَ في الهوى مَنْ تَصْطَفِي (4)
وأنفق أنفاسك فيما شئتَ، فإن تلك النفقة مردودة بعينها عليك، وصائرة لا سواها إليك، وبين العبد وبين السعادة والفلاح صَبْر ساعةٍ لله، وتحمُّل مَلامة في سبيل الله.
ومَا هِيَ إلا ساعَةٌ ثم تنقضي … ويَذهبُ هذا كُلُّهْ ويزولُ
وقد أطلنا ولكن ما أمللنا، فإن قلبًا فيه أدنى حياة يهتزُّ إذا ذُكِر الله ورسوله، ويود أن لو كان المتكلِّم كلُّه أَلْسِنةً تالية، وأن السامعَ كله آذان واعية، ومن لم يجد قلبه ثَمَّ، فليشتغل بما يُناسِبُه، فكُلٌّ ميسَّر لما خُلِق له، وكل يعمل على شاكِلته.
__________
(1) كذا في الأصول، و”المنيرية”: “يغنيه”، ومعناها غير ظاهر، ولعلها: “وفضله [يهون] ما … “.
(2) غير مُحررة في الأصول، والمثبت من “المنيرية”.
(3) (ق): “بحب”، والرواية في “الديوان”: “بأي”.
(4) البيت لابن الفارض، “ديوانه”: (ص/ 90).

(2/672)


وكلُّ امرئٍ يَهْفو إلى مَنْ يحِبُّه … وكلُّ امرئٍ يَصْبُو إِلى ما ينَاسِبه (1)
فصل
وقد عرفتَ بهذا جواب السؤال الحادي والعشرين، وأن كمال التحيةِ عند ذكر البركات، إذ قد استوعَبَت هذه الألفاظ الثلاث جميع المطالب من دفع الشرِّ، وحصول الخير، وثباته وكثرته ودوامه، فلا معنى للزِّيادة عليها، ولهذا جاءَ في الأثر المعروف: “انتهى السلامُ إلى: وبَرَكاته” (2).
فصل
وأما السؤال الثاني والعشرون، وهو: ما الحكمة في إضافة الرحمة والبركة إلى الله تعالى، وتجريد السلام عن الإضافة؟.
فجوابه: أن السلامَ (ق 162/ ب) لما كان اسمًا من أسماء الله تعالى، استغنى بذكره مطلقًا عن الإضافة إلى المسمى، وأما الرحمة والبركة فلو لم يُضافا إلى الله لم يُعلم رحمة مَنْ ولا بركة مَنْ تطلب. فلو قيل: “عليكم ورحمته وبركته” لم يكن في هذا اللفظ إشعار بالراحم المبارك الذي تطْلَب الرحمة والبركة منه، فقيل: “ورحمة الله وبركاته”، وجواب ثانٍ وهو: أن السلام يُرَاد به قول المسلم: “سلام عليكم”،
__________
(1) ذكره ابن القيم أيضًا في “مدارج السالكين”: (2/ 386) بلا نسبة.
(2) أخرجه مالك في “الموطأ”: (2/ 959) عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- وجاء نحوه عن ابن عمر وعمر عند البيهقي في “الشعب” -كما في “فتح الباري”: (11/ 8) – وقال الحافظ عن الثاني: “رجاله ثقات”.
ورواه الطبراني في “الأوسط”: (1/ 239) من حديث عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -، قال الهيثمي في “المجمع”: (8/ 37): “رجاله رجال الصحيح”.

(2/673)


وهذا في الحقيقة مضاف إليه ويُرَاد به حقيقة السلامة المطلوبة من “السلام” سبحانه وتعالى، وهذا يُضاف إلى الله، فيُضاف هذا المصدر إلى الطالب الذَّاكر تارة وإلى المطلوب منه تارة، فأُطْلِق ولم يضف (1). وأما الرحمة والبركة فلا تُضاف إلا إلى الله وحدَه، ولهذا لا يقال: “رحمتي وبركتي عليكم”، ويقال: “سلامٌ مني عليكم” (2)، “وسلام من فلان على فلان”.
وسرُّ ذلك: أن لفظ السلام اسم للجملة القولية، بخلاف الرحمة والبركة، فإنهما (ظ/123 ب) اسمان لمعنييهما دون لفظيهما فتأمَّله فإنه بديع.
وجواب ثالث: وهو أن الرحمة والبركة أتم من مجرَّد السلامة، فإن السلامة (3) تبعيد عن الشر، وأما الرحمة والبركة فتحصيل للخير وإدامة له وتثبيت وتنمية، وهذا أكمل، فإنه هو المقصود لذاته، والأول وسيلة إليه، ولهذا كان ما يحصل لأهل الجنةِ من النعيم أَكمل (4) من مجرَّد سلامتهم من النار، فأُضيفَ إلى الرب تبارك وتعالى أكمل المعنيين وأتمهما لفظًا، وأُطْلِق الآخر وفهمت (5) إضافته إليه معنًى من العطف وقرينة الحال، فجاءَ اللفظُ على أَتمِّ نظامٍ وأحسنِ سياق.
فصل
وأما السؤال الثالث والعشرون وهو: ما الحكمة في إفراد السلام
__________
(1) (ق).”يلفظ”.
(2) (ق): “على فلان”.
(3) “فإن السلامة” سقطت من (ق).
(4) من قوله: “فانه هو …. ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(5) (ق): “ولو تمت”.

(2/674)


والرحمة وجمع البركة؟.
فجوابه: أن السلامَ إما مصدر مَحْض فهو شيءٌ واحدٌ فلا معنى لجمعه، وإما اسم من أسماء الله فيستحيل أيضًا جمعه، فعلى التقديرين لا سبيل إلى جمعه.
وأما الرحمة؛ فمصدر أيضًا بمعنى التعطُف والحنان فلا تُجْمع أيضًا، والتاء فيها بمنزلتها في “الخلة والمحبة والرأفة والرقة”، ليست للتحديد بمنزلتها في “ضربة وتمرة”، فكما لا يقال: “رقات ولا خلات ولا رأفات”، لا يقال: “رحمات”، وهنا دخول الجمع يُشعر بالتحديد والتقييد بعددٍ، وإفراده يُشْعر بالمسمى مطلقًا من غير تحديد، فالإفراد هنا أكمل وأكثر (1) معنى من الجمع، وهذا بديع جدًا أن يكون مدلول الفرد أكثر من مدلول الجمع، ولهذا كان قوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ} [الأنعام: 149] أعمَّ وأتمَّ معنى من أن يقال: “فلله الحُجَج البوالغ”، وكان قوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] أتمّ معنًى من أن (ق/163 أ)، يقال: وإن تعدُّوا نِعَم الله لا تحصوها. وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة: 201] أتمّ معنًى من أن يقال: “حسنات”. وكذا قوله تعالى: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} [آل عمران: 171]، ونظائره كثيرة جدًّا، وسنذكر سِرَّ هذا فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وأما البركة؛ فإنها لما كان (2) مسماها كثرة الخير واستمراره شيئًا بعد شيء، كلما انقضى منه فرد خَلَفه فردٌ آخر، فهو خير مستمرٌّ
__________
(1) (ق): “أكبر وأكمل”.
(2) (ق ود): “كانت” ثم سقط منهما من قوله: “مسمّاها … ” إلى ” …. الإفراد”.

(2/675)


يتعاقب الأفراد أن على الدوام شيئًا بعد شيءٍ، كان لفظ الجمع أولى بها لدلالته على المعنى المقصود بها، ولهذا جاءت في القرآن كذلك في قوله تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73] فأفردَ الرحمةَ وجمعَ البركةَ، وكذلك في السلام في التشهد: “السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته”.
فصل
واعلم أن الرحمة والبركة المضافتين إلى الله -تبارك وتعالى- نوعان:
أحدهما: مضاف إليه إضافة مفعول إلى فاعله.
والثاني: مضاف إليه إضافة صفة إلى الموصوف بها.
فمن الأول قوله في الحديث الصحيح: “احْتَجَّتِ الجنةُ والنَّارُ” فذكر الحديث، وفيه: “فقال للجنةِ: إنَّما أنْتِ رَحْمتي أرْحم بكِ منْ أشَاءُ” (1)، فهذه رحمة: مخلوقة مضافة إليه إضافة المخلوق بالرحمة إلى الخالق تعالى، وسماها رحمةً؛ لأنها خُلِقت بالرحمة وللرحمة، وخُصَّ بها أهل الرحمة، وإنما يدخلها الرّحماء، ومنه قوله – صلى الله عليه وسلم -: “خلقَ الله الرَّحمةَ يومَ خَلَقها مائةَ رحمة كلُّ رحمة منها طِبَاق ما بينَ السَّماء والأرض” (2) ومنه قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (2846 و 2847)، من حديث أبى هريرة وأبى سعيد -رضي الله عنهما-.
(2) أحرجه مسلم رقم (2753 – وما بعده) من حديث سلمان الفارسي -رضي الله عنه- ولفظه: “إن الله خلَق يوم خَلَق السماوات والأرض مئة رحمة، كل رحمة طِباق ما بين السماء والأرض … ” الحديث.
والحديث بنحوه أخرجه البخارى رقم (6000) ومسلم رقم (2752) من حديث أبى هريرة -رضي الله عنه-.

(2/676)


رَحْمَةً} [هود: 9] ومنه تسميته -تعالى- المطرَ رحمةً بقوله: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57] وعلى هذا فلا يمتنع الدُّعاء المشهور بين الناس قديمًا وحديثاً، وهو قول الداعي: “اللهمَّ اجْمَعْنا في مسْتقَرِّ رَحْمَتِك”، وذكره البخاريّ في كتاب “الأدب المفرد” (1) له عن بعض السلف (2)، وحكى فيه الكراهة قال: لأن مستمرَّ رحمته ذاتُه، وهذا بناء على أن الرحمة هنا صفة، وليس مراد الداعي ذلك؛ بل مرادُه الرحمةُ المخلوقةُ التي هى الجنة.
ولكن الدين كرهوا ذلك لهم نظر دقيق جدًّا (ظ/ 112 أ)، وهو: أنه إذا كان المراد بالرحمة الجنة نفسها، لم يَحْسُن إضافة المستقر إليها، ولهذا لا يَحْسُن أن يُقال: “اجمعنا في مستقرِّ جنتك”، فإن الجنة نفسها هى دارُ القرار وهى المستقر نفسُه، كما قال تعالى: {حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)} [الفرقان: 76]، فكيف يضاف المستقر إليها، والمُسْتَقَر هو المكان الذي يَسْتَقِر فيه الشيء، ولا يصحّ أن يَطْلُب الداعي الجمع في المكان الذي تستقر فيه الجنة فتأمله. ولهذا قال: “مستقر رحمته ذاتُه”، فالصواب أن هذا لا يمتنع، وحتى لو قال صريحاً: “اجمعنا في مستقرِّ جنتك” لم يمتنع، وذلك أن المستقر (ق 163/ ب) أعمّ من أن يكون رحمة أو عذاباً، فإذا أُضيفَ إلى أحدِ أنواعه أُضِيْف إلى ما يُبيّنه ويميزه من غيره، كأنه قيل: في المستقرِّ الذي هو رحمتك، لا في المستقرِّ الآخر.
ونظير هذا أن يقول: “اجلس في مستقر المسجد”، أي: المستقر
__________
(1) (ص/ 236).
(2) هو أبو رجاء العطاردي.

(2/677)


الذي هو (1) المسجد، والإضافة في مثل ذلك غير ممتنعة ولا (2) مستكرهة. وأيضًا فإن الجنة وإن سُمِّيت رحمة، لم يمتنع أن يسمَّى ما فيها من أنواع النعيم رحمة. ولا ريب أن مستقر ذلك النعيم هو الجنة، فالداعي يطلب أن يجمعَه اللهُ ومن يحب فى المكان الذي تستقرُّ فيه تلك الرحمة المخلوقة في الجنة، وهذا ظاهر جدًّا فلا يمتنع الدعاءُ بوجه، والله أعلم (3).
وهذا بخلاف قول الداعي: “يا حَيُّ يا قَيُّوْمُ برَحْمَتِكَ أَسْتَغيثُ” (4)، فإن الرحمةَ هنا صفته تبارك وتعالى، وهي متعلَّق الاستغاثة، فإنه لا يُسْتغاث بمخلوق، ولهذا كان هذا الدعاءُ من أدعيةِ الكرب لما تضمَّنه من التوحيد والاستغاثة برحمة أرحم الراحمين، متوسِّلاً إليه باسمين عليهما مدار الأسماء الحسنى كلها، وإليهما مرجع معانيها جميعها، وهو اسم: الحيّ القيُّوم.
فإن الحياةَ مستلزمةٌ لجميع صفات الكمال، ولا يتخلَّف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة، فإذا كانت حياته تعالى أكملَ حياة وأتمها استلزم إثباتُها إثباتَ كلِّ كمال يضاد نفي كمال الحياة، وبهذا
__________
(1) من قوله: “رحمتك لا .. ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(2) (ق): “أو”.
(3) وهذا اختار شيخ الإسلام ابن تيمية، انظر “الاختيارات”: (ص/ 460)، وانظر ما سيأتي عند المصنف: (4/ 1418)، و”معجم المناهي اللفظية”: (ص/604).
(4) لفظ حديث أخرجه الترمذي رقم (3524)، والحاكم: (1/ 730)، والضياء في “المختارة”: (6/ 300). وغيرهم من حديث أنسٍ -رضي الله عنه- قال الترمذي: “هذا حديث غريب”.
وله شاهد من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أخرجه الحاكم: (1/ 509)، وصحَّحهما الحاكم.

(2/678)


الطريق العقلي أثبت متكلمو أهل الإثبات له تعالى صفةَ السمع والبصر والعلم والإرادة والقدرة (1) والكلام وسائر صفات الكمال.
وأما القيوم؛ فهو متضمن كمالَ غِناه وكمال قدرته، فإنه القائم بنفسه لا يحتاج إلى من يقيمه بوجه من الوجوه، وهذا من كمال غناه بنفسه عما سواه، وهو المقيم لغيره، فلا قيام لغيره إلا بإقامته، وهذا من كمال قدرته وعزته، فانتظمَ هذان الاسمان صفاتِ الكمال والغنى التام والقدرة التامة. فكأن المستغيث بهما مستغيث بكل اسم من أسماء الرب تعالى وبكل صفة من صفاته، فما أولى الاستغاثة بهذين الاسمين أن تكون في مظنة تفريج الكربات وإغاثة اللهفات وإنالة الطلبات.
والمقصود: أن الرحمةَ المستغاث بها هي صفة الرب تعالى لا شيء من مخلوقاته، كنا أن المستعيذ بعزته في قوله: “أعُوذُ بعِزتك” (2) مستعيذ بعزته التي هي صفته، لا بعزته التي خلقها يُعِزَ بها عبادَه المؤمنين. وهذا كله يقرر قولَ أهل السنة أن قولَ النبي – صلى الله عليه وسلم -: “أعود بكَلماتِ اللهِ التَّامَّاتِ” (3) يدل على أن كلماته -تبارك وتعالى- غير مَخلوقة، فإنه لا يسْتعاذ بمخلوق. وأما قوله تعالى حكاية عن ملائكته: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7] فهذه رحمة الصفة التىِ وسعتْ كلَّ شيء، كنا قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (4) [الأعراف: 156]، وسَعَتُها عمومُ تعلقها بكلِّ شئ، كما أن سَعَة علمه
__________
(1) (ظ ود): “القوة”.
(2) سيأتي تخريجه 2/ 709.
(3) سيأتي تخريجه 2/ 709.
(4) الآية ليست في (ق).

(2/679)


تعالى عموم تعلقه بكلِّ معلوم.
فصل
وأما البركة فكذلك: نوعان أيضًا:
أحدهما: بركةٌ هي فعله تبارك وتعالى، والفعل منها “بارك”، ويتعدَّى بنفسه تارة، وبأداةِ “على” تارة، وأداةِ “في” تارة، والمفعول منها “مبارك” وهو ما جُعِل كذلك (ظ/124 ب)، فكان مباركًا يجعله تعالى.
والنوع الثاني: بركة تضاف (1) إليه إضافة الرحمة والعِزَّة، والفعل منها “تبارك”، ولهذا لا يقال لغيره ذلك، ولا يصلح إلا له عز وجل، فهو سبحانه المتبارك، وعبده ورسوله المبارك، كما قال المسيح: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 31] فمن (2) بارك الله فيه وعليه فهو المبارك.
وأما صيغة “تبارك” فمختصَّة به تعالى كما أَطلَقها على نفسه بقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالمِينَ (64)} [غافر: 64]، {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} [الملك: 1]، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)} [الزخرف: 85]، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1]، {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} [الفرقان: 10]، {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ} [الفرقان: 61]__________
(1) (ظ ود): “من اتصاف”!.
(2) (ف): “فما”.

(2/680)


أفلا تراها كيف اطَّردت في القرآن جارية عليه مختصَّةَ به، لا تطلق على غيره، وجاءت على بناءِ السَّعَة والمبالغة، كتعالى وتعاظم ونحوه، فجاء بخاء “تبارك” على بناء “تعالى” الذي هو دال على كمال العلوِّ ونهايته، فكذلك “تبارك” دال على كمال بركته وعظمها وسَعَتها. وهذا معنى قول من قال من السلف: “تبارك: تعاظم”. وقال آخر: معناه أن تجيء البركات من قِبلِه، فالبركة كلُّها منه. وقال غيره: كثرَ خيره وإحسانُه إلى خلقه. وقيل: اتسعت رأفته ورحمته بهم. وقيل: تزايد عن كلّ شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله. ومن هنا قيل: معناه: تعالى وتعاظم، وقيل: تبارك تقدس، والقدس (1) الطهارة. وقيل: تبارك أي: باسمه يُبارَك في كلِّ شيء. وقيل: تبارك ارتفع، والمبارك المرتفع، ذكره البغوي (2). وقيل: تبارك أي البركة تكتَسَب وتنال بذكره. وقال ابن عباس: جاءَ بكلِّ بركة. وقيل: معناه ثبتَ ودامَ بما لم يزل ولا يزال، ذكره البغوي -أيضًا-.
وحقيقةُ اللفظة: أن البركة (ق / 164 ب] كثرة الخير ودوامه، ولا أحد أحق بذلك وصفًا وفعلاً منه تبارك وتعالى، وتفسير السلف يدور على هذين المعنيين، وهما متلازمان، لكن الأليق باللفظة معنى الوصف لا الفعل، فإنه فعل لازم مثل تعالى وتقدَّس وتعاظم.
ومثل هذه الألفاظ ليس (3) معناها أنه جعل غيره عالًا ولا قدوسًا ولا عظيمًا، وهذا مما لا يحتمله اللفظ بوجه، وإنما معناها في نفس من نُسِبت إليه فهو المتعالي المتقدس في نفسه، فكذلك “تبارك” لا
__________
(1) (ق): “والطهر”.
(2) في “معالم التنزيل”: (2/ 165).
(3) سقطت من (ق) فتغير المعنى.

(2/681)


يصح أن يكون معناها بارك في غيره، وأين أحدهما من الآخر لفظًا ومعنى، هذا لازم وهذا متعد، فعلمتَ أن من فسَّر “تبارك” بمعني: ألقى البركةَ وباركَ في غيره لم يُصِب معناها، وإن كان هذا من لوازم كونه تعالى متباركًا، فتبارك من باب مَجُد، والمَجْد: كثرة صفات الجلال والكمال والسَّعه والفضل، وبارك من باب أَعْطى وأنعَمِ، ولما كان المتعدِّي في ذلك يستلزم اللازم من غير عَكْس فَسَّرَ من فسَّرَ من السلف اللفظة بالمتعدي لينتظم المعنيين، فقال: مجيء البركة كلِّها من عنده، أو البركة كلّها من قِبَلِه، وهذا فرع على تباركه في نفسه.
وقد أشبعنا القولَ في هذا في كتاب “الفتح المكي”، وبينا هناك أن البركة كلَّها له تعالى ومنه، فهو المتبارك (1)، ومن ألقى عليه بركته فهو المبارك، ولهذا كان كتابه مباركًا، ورسوله مباركًا، وبيته مباركًا، والأزمنة والأمكنة التي شرفها واختصها عن غيرها مباركة؛ فلَيْلَة القَدْر مباركة، وما حول المسجد الأقصى مبارك، وأرض الشام وصفها بالبركة في أربعة مواضع من كتابه أو خمسة (2)، وتدبر قول النبي – صلى الله عليه وسلم – في حديث ثوبان الذي رواه مسلم في “صحيحه” (3) عند انصرافه من الصلاة: “اللهمَّ (ظ/125 أ) أنتَ السلامُ ومنكَ السلامُ تَبارَك يا ذا الجَلالِ والإكرَام”، فتأمل هذه الألفاظ الكريمة كيف جمعت نَوْعي الثناء، أعني: ثناء التنزيه والتسبيح، وثناءَ الحمد والتمجيد بأبلغ لفظٍ وأوجزه وأتمه معنى، فأخبر أنه السلامُ ومنه السلام، (فالسلام): له وصفاً وملكًا، وقد تقدم بيان هذا في وصفه تعالى بالسلام، وأن
__________
(1) (د): “المبارك”، و (ق) زيادة؛ “المبارك”.
(2) انظر “فضائل الشام”: (ص/ 91 – 93) لابن رجب الحنبلي.
(3) رقم (591).

(2/682)


صفاتِ كماله ونعوتَ جلاله وأفعاله وأسمائه كلها سلام، وكذا (الحمد) كله له وصفًا وملكًا، فهو المحمود في ذاته، وهو الذي يجعل من يشاءُ من عبادِه محمودًا فيهبه حمدًا من عنده، وكذلك (العِزَّة) كلها له وصفًا ومُلْكًا، وهو العزيز الذي لا شيءَ أعز منه، ومن عز من عباده (1) فبإعزازه له. وكذلك (الرحمة) كلها له وصفًا وملكًا. وكذلك (ق / 165 أ) البركة فهو المتبارك في ذاته الذي يبارك فيمن شاءَ من خَلْقه وعليه فيصير بذلك مباركًا: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالمِينَ} [غافر: 64]، {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)} [الزخرف: 85].
وهذا بِسَاط؛ وإنما غاية معارف العلماء الدُّنو من أول (2) حواشيه وأطرافه، وأما ما وراء ذلك فكما قال أعلم الخلق بالله، وأقربهم إلى الله، وأعظمهم عنده جاهًا: “لا أُحْصِي ثناءً عليكَ أنتَ كما أثنيتَ على نَفْسِك” (3)، وقال في حديث الشفاعة الطويل: “فأَخِرُّ ساجِدًا لربي فيفتح عليَّ مِنْ مَحامِدِه بما لا أحْسِنُه الآنَ” (4)، وفي دعاء الهمِّ والغم: “أسألكَ بكلِّ اسم هو لكَ سَمَّيتَ به نفسَكَ أو أنْزَلْته في كتابك أو علَّمْتَه أحدًا من خَلْقِك أو اسْتأثرتَ به في عِلْم الغيبِ عِنْدَك” (5)، فدلَ على أن لله سبحانه وتعالى أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده (6) دون خلقِه، لا يعلمها مَلك مقرَّب ولا نبى مُرْسَل. وحسبنا الإقرار بالعَجْز
__________
(1) من قوله: “وكذلك العزة … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(2) (ق): “أهل”.
(3) تقدم 1/ 294.
(4) تقدم 1/ 294.
(5) تقدم 1/ 293.
(6) (ق): “في غيبه”.

(2/683)


والوقوف عند ما أَذِن لنا فيه من ذلك، فلا نغلو فيه ولا نجفو عنه، وبالله التوفيق.
فصل
وأما السؤال الرابع والعشرون وهو: ما الحكمة في تأكيد الأمر بالسلام على النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – بالمصدر دون الصلاة عليه في قوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)}؟ [الأحزاب: 56].
فجوابه: أن التأكيد واقع على الصلاة والسلام، وإن اختلفت جهة التأكيد، فإنه سبحانه أخبر في أول الآية (1) بصلاته عليه، وصلاة ملائكته عليه مؤكِّدًا لهذا الإخبار بحرف “إن” مخبرًا عن الملائكة بصيغة الجمع المضاف إليه، وهذا يفيد العمومَ والاستغراق. فإذا استشعَرَت النفوس أن شأنه – صلى الله عليه وسلم – عند الله وعند ملائكته هذا الشأن، بادرت إلى الصلاة عليه وإن لما تُؤمَر بها، بل يكفي [تنبيهها] (2) والإشارة إليها بأدنى إشارة، فإذا أمِرت بها لم تحتج إلى تأكيد الأمر، بل إذا جاء مطلق الأمر بادرَتْ وسارعَتْ إلى موافقة الله وملائكته في الصلاة عليه صلوات الله وسلامه عليه، فلم يحتج إلى تأكيد الفعل بالمصدر، ولما خلا السلام عن هذا المعنى، وجاءَ في حيِّز الأمر المجود دون الخبر حَسُن تأكيده بالمصدر، ليدل على تحقيق المعنى وتثبيته، ويقوم تأكيد الفعل مقام تكريره (3)، كما حصل التكرير في الصلاة خبرًا وطلبًا، فكذلك حصل التكرير في السلام فعلاً ومصدرًا،
__________
(1) (ق): “في الأول”.
(2) (ق): “تفسيرها”، و (ظ ود): “تنبيها” والمثبت من “المنيرية”.
(3) (ق): “تقريره”.

(2/684)


فتأمله فإنه بديع جدًا، والله (ق / 165 ب) أعلم.
وقد ذكرنا بعض ما في هذه الآية من الأسرار والحكم العجيبة في كتاب “تعظيم شأن الصلاة والسلام على خير الأنام” (1) وأتينا فيه من الفوائد بما يُساوي أدناها رِحلة مما لا يوجد في غيره، ولله الحمد، فلنقتصر على هذه النكتة الواحدة.
فصل
وأما السؤال الخامس والعشرون وهو: ما الحكمة في تقديم السلام على النبي – صلى الله عليه وسلم – في الصلاة قبل الصلاة عليه؟ وهلا وقعت البداءة بما يدأ الله به في الآية؟.
فهذا سؤال -أيضًا- له شأن، لا ينبغي الإضراب عنه صفحًا وتمشيته، (ظ / 125 ب) والنبيّ – صلى الله عليه وسلم – كان شديد التحري لتقديم ما قدَّمه الله والبداءة بما بدأ به، فلهذا بدأ بالصفا في السعي وقال: “نَبْدَأ بما بَدَأ الله به” (2) وبدأ بالوجه ثم اليدين ثم الرأس في الوضوء، ولم يخل بذلكَ مرَّة واحدة، بل كان هذا وضوءه إلى أن فارقَ الدنيا، لم يقدِّم منه مؤخَّرًا ولم يؤخر منه مقدَّمًا قط، ولا يقدر أحد ينقل عنه خلاف ذلك لا بإسناد صحيح ولا حسن ولا ضعيف (3)، ومع هذا
__________
(1) وهو كتاب “جلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام – صلى الله عليه وسلم -“.
(2) تقدم 1/ 122.
(3) لكن أخرج أحمد في “المنسد”: (4/ 132)، ومن طريقه أبو داود رقم (122) عن المقدام بن معد يكرب في صفة وضوء النبي – صلى الله عليه وسلم -، وفيه تأخير المضمضة والاستنشاق بعد غسل الذراعين.
وإسناده جيد، وقواه غير واحد، انظر “نيل الأوطار”: (1/ 170)، و”تمام المنة”: (ص/ 88). =

(2/685)


فوقع في الصلاة والسلام عليه تقديم السلام وتأخير الصلاة، وذلك لسر من أسرار الصلاة، نشيرُ إليه بحسب الحال إشارة، وهو: أن الصلاة قد اشتملت علي عبودية جميع الجوارح والأعضاء مع عبودية القلب، فلكلِّ عضوٍ منها نصيبُه من العبودية، فجميع أعضاء المصلِّي وجوارحه متحرِّكة في الصلاة عبودية لله وذلًّا له وخضوعًا، فلما أكمل المصلِّي هذه العبودية، وانتهت حركاته، خُتِمَت بالجلوس بين يدي الربِّ -تعالى- جلوس تذلُّلٍ وانكسار وخضوع لعظمته عزَّ وجل، كما يجلس العبدُ الذليلُ بين يدي سيِّدِه، وكان جلوس الصلاة أخشعَ ما يكون من الجلوس وأعظمه خضوعًا وتذللًا، فأذن للعيد في هذه الحال بالثناء على الله تبارك وتعالى بأبلغ أنواع الثناء، وهو “التحيات لله والصلوات والطيبات”، وعادتهم إذا دخلوا على ملوكهم أن يحيوهم بما يليق بهم، وتلك التحية تعظيم لهم وثناء عليهم، والله تعالى أحق بالتعظيم والثناء من كل أحد من خلقه، فجمع العبدُ في قوله: “التحيات والصلوات والطيبات” أنواعَ الثناء (1) على الله، وأخبرَ أن ذلك له وصفا ومُلْكًا، وكذلك “الصلوات” كلها لله، فهو الذي يُصَلَّى له وحده لا لغيره، وكذلك “الطيبات” كلها من الكلمات والأفعال كلها له، فكلماته طيبات وأفعاله كذلك، وهو طيب، يصعد إليه إلا طيب، والكَلِم الطيب إليه يصعد، فكانت الطيبات (2) كلها له ومنه وإليه، له ملكًا ووصفًا، (ق/ 166 أ) ومنه مجيئها وابتداؤها، وإليه مصعدها ومنتهاها، والصلاة مشتملة (3)
__________
= وذكر الحافظ في “الدراية”: (1/ 29) عدة أحاديث فيها عدم الترتيب.
(1) من قوله: “من كل أحد … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) من قوله: “وأفعاله كذلك … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(3) (ق): “تشتمل”.

(2/686)


على عمل صالح وكَلِم طيب، والكَلِم الطَّيب إليه يصعد، وَالعَمَل الصَّالح يَرْفَعُهُ، فناسَبَ ذكر هذا عند انتهاء الصلاة وقتَ رفعها إلى الله تعالي، فلما أتى بهذا الثناء على الرب -تعالى- التفت إلى شأن الرسول الذي حَصَل هذا الخير على يديه، فسلَّم عليه أتمَّ سلام معَرَّف باللام التي للاستغراق، مقرونًا بالرحمة والبركة، هذا هو أصح شيءٍ في السلام عليه، فلا تبخل عليه بالألف واللام في هذا المقام.
ثم انتقلَ إلي السلام على نفسه وعلى سائر عبادِ الله الصالحين، وبدأ بنفسه؛ لأنها أهم والإنسان يبدأ بنفسه، ثم بمن يعول، ثم ختم هذا المقام بعقد الإسلام، وهو التشهد بشهادة الحق التي هى أول الأمر وآخره، وعندها كمل الثناء والتشهد.
ثم انتقل إلى نوع آخر وهو الدعاء والطلب، فالتشهد يجمع نوعي الدعاء؛ دعاء الثناء والخير، ودعاء الطلب والمسألة، والأول أشرف النوعين لأنه حق الرب ووصفه، والثاني حظُّ العبد ومصلحته، وفي الأثر: “مَنْ شَغلَه ذِكْري عن مَسْألتي أعْطَيته أفضلَ ما أعْطِيْ السَّائلِيْن” (1)، لكن لما كانت الصلاة أتم العبادات عبودية وأكملها شرع فيها النوعان، وقدم الأول منهما لفضله، ثم انتقل المصلي إلى النوع الثاني، وهو دعاء الطلب والمسألة، فبدأ بأهمه وأجله وأنفعه
__________
(1) أخرجه الترمذي رقم (2926) وقال: “هذا حديث حسن غريب”، والدارمى: (3/ 533) من حديث أبى سعيد الخدري -رضي الله عنه-، وفيه عطية العوفي ضعيف.
وجاء من حديث عمر -رضي الله عنه- أخرجه البخاري في “خلق أفعال العباد”: (ص/ 161)، وحسَّنه الحافظ ابن حجر، ورد على ابن الجوزي إيراده في “الموضوعات”، انظر “تنزيه الشريعة”: (2/ 323).
وروي من حديث جابر وحذيفة -رضي الله عنهم-.

(2/687)


له، وهو طلب الصلاة من الله على رسوله – صلى الله عليه وسلم -، وهو من أجلِّ أدعية العبد وأنفعها له في دنياه وآخرته، كما ذكرناه في كتاب “تعظيم شأن الصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم -” (1)، وفيه أيضًا أن الداعي جعله مقدمة (ظ/126 أ) بين يدي حاجته وطلبه لنفسه، وقد أشار النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – إلى هذا المعنى في قوله: “ثمَّ ليتخيَّر مِن الدُّعاءِ أعْجَبَه إِلَيْه” (2)، وكذلك في حديث فَضَالة بن عُبيد: “إِذا دَعا أحدُكم فَلْيبدأ بحَمْدِ اللهِ والثناءِ عليه، ثمَّ ليصلِّ على النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – ثمَّ لِيَدْعُ” (3)، فتأمل كيفَ جاء التشهد من أوله إلى آخره مطابقًا لهذا منتظمًا له أحسن انتظام، فحديث فضالةَ هذا هو الذي كشفَ لنا المعنى وأوضحه وبينه، فصلوات الله وسلامه على من أكملَ به لنا دينه، وأتمَّ برسالته علينا نعمته، وجعله رحمةً للعالمين وحسرة على الكافرين.
فصل
وأما السؤال السادس والعشرون وهو: ما الحكمة (ق/ 166 ب) في كون السلام عليه وقع بصيغة الخطاب والصلاة بصيغة الغيبة؟.
فجوابه يظهر مما تقدم: فإن الصلاةَ عليه طلبٌ وسؤال من الله أن يصلي عليه، فلا يمكن فيها إلا لفظ الغيبة؛ إذ لا يقال: “اللهم صل عليك”، وأما السلام عليه فأتى بلفظ الحاضر المخاطَب تنزيلاً له
__________
(1) “جلاء الأفهام”: (ص / 246 – 254).
(2) أخرجه مسلم رقم (402) من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-.
(3) أخرجه أبو داود رقم (1481)، والترمذي رقم (3477)، والنسائي: (3/ 44)، وابن حبان “الإحسان”: (5/ 290)، والحاكم: (1/ 230) بنحوه.
قال الترمذي: “هذا حديث حسن صحيح”، وصححه ابن حبان والحاكم على شرط مسلم.

(2/688)


منزلة المواجه، لحكمةٍ بديعةِ جدًّا، وهي: أنه – صلى الله عليه وسلم – لما كان أحبَّ إلى المؤمن من نفسه التي بين جنبيه، وأولى به منها وأقرب، وكانت حقيقته الذهنية ومثاله العلمي موجودًا في قلبه بحيث لا يغيب عنه إلا (1) شخصه، كما قال القائل:
مِثالُكَ في عَيْني وذِكْرُك في فَمِي … ومَثواكَ في قَلْبي فأينَ تَغِيبُ (2)!
ومن كان بهده الحال فهو الحاضر حقًا، وغيره وإن كان حاضرًا للعيان فهو غائب عن الجَنان، فكان خطابه خطاب المواجهة والحضور بالسلام عليه، أولى من سلام الغيبة، تنزيلاً له منزلةَ المواجِهِ المُعَايِن لقربه من القلب، وحلوله في جميع أجزائه بحيث لا يبقى في القلب جزء إلا ومحبته وذكره فيه، كما قيل لو شُقَّ عن قلبي يُرَى وسطه ذكرك.
والتوحيد في شطر “لا إله إلا الله محمد رسول الله،، ولا تستنكر استيلاء المحبوب على قلب المحب وغلبته عليه حتى كأنه يراه، ولهذا تجدهم في خطابهم لمحبوبهم إنما يعتمدون خطاب الحضور والمشاهدة مع غاية البعد العياني، لكمال القرب الروحي، فلم يمنعهم بُعد الأشباح عن محادثة الأرواح ومخاطبتها، ومن كَثُفَت طباعُه فهو عن هذا كله بمعزل، وأنه ليبلغ الحبُّ ببعضِ أهله أن يرى محبوبَه في القرب إليه (3) بمنزلة روحِه التي لا شيءَ أدنى إليه منها، كما قيل:
__________
(1) سقطت من (ق).
(2) ذكره ابن القيم في “روضة المحبين”: (ص/ 21)، والأبشيهي في “المستطرف”: (1/ 74) بلا نسبة؛ لكن أوله: “خيالك … “.
(3) (ق): “والبعد”.

(2/689)


يا مُقِيمًا مَدى (1) الزَّمان بقلبي … وبعيدًا عن ناظِريْ وعِيَانى
أنتَ رُوْحِي إن كنتُ لستُ أراها … فهي أَدنى إليَّ مِن كلِّ داني (2)
وقال آخر:
يا ثاويًا بينَ الجَوَانِحِ والحَشا … مِنِّي وإن بَعُدَتْ عَلَيَّ دِيَارُه (3)
وإنه ليلطُف شأن المحبة حتى يرَى أنه أدنى إليه وأقرب من روحه.
ولي من أبيات تُلِم بذلك:
وأدنى إلى الصبِّ من نفسِه … وإن كان من عينه نائيا
ومن كان مَعْ حِبه هكذا … فأنى يكون له ساليا
ثم يلطف شأنها ويقهر سلطانها حتى يغيب المُحِب (4) بمحبوبه عن نفسه (ق/167 أ) فلا يشعر إلا بمحبوبه ولا يشعر بنفسه، ومن هاهنا نشأت الشطحات الصوفية التي مصدرها عن قوة الوارِد وضعف التمييز، فحكَّم صاحبها فيها الحالَ على العلم، وجعل الحُكْم له، وعَزَل علمه من البين (5)، وحَكَّمَ المحفوظون فيها حاكمَ العلمِ على سلطانِ الحال (ظ / 126 ب)، وعلموا أنَّ كلَّ حالٍ لا يكون العلم حاكمًا عليه، فإنه لا ينبغي أن يُغتر به ولا يُسْكن إليه، إلا كما يُساكن المغلوب المقهور
__________
(1) (ق): “طول”.
(2) ذكره ابن القيم -أيضًا- في “روضة المحبين”: (ص/ 21) بلا نسبة، لكن أوله: “يا مقيمًا في خاطري وجناني”.
(3) ذكره ابن القيم في “روضة المحبين”: (ص/ 21) بلا نسبة.
(4) (ق): “المحبوب”.
(5) (ق): “التبين”.

(2/690)


لما يرد عليه مما يعجز عن دفعه، وهذه حال الكمَّل من القوم الذين جمعوا بين نور العلم وأحوال المعاملة، فلم تُطْفِئ عواصفُ أحوالهم نور علمهم (1)، ولم يقصر بهم علمهم عن الترقِّي إلى ما وراءه من مقامات الإيمان والإحسان، فهؤلاء حُكام على الطائفتين. ومن عَدَاهُم فمحجوب بعلم لا نفوذَ له فيه أو مغرورٌ بحال لا علمَ له بصحيحِه من فاسِدِه، والله المسؤول من فضله إنه قريب مجيب.
فالكامل من يحَكم العلمَ على الحال فيتصرف في حاله بعلمه، ويجعل العلم بمنزلة النور الذي يميز به الصحيحَ من الفاسد، لا من يقدح في العلم بالحال ويجعل الحال مِعْيارًا عليه وميزانًا، فما وافقَ حالَه من العلم قبلَه، وما خالَفه ردَّه ونفاه، فهذا أضلُّ الضلال في هذا الباب، بل الواجب تحكيم العلمِ والرجوع إلى حُكْمه، وبهذا أوصى العارفون من شيوخ الطريق كلهم، وحرَّضوا على العلم أعظمَ تحريف، لعلمهم بما في الحال المجرد عنه من الغوائل والمهالك، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
فصل
وأما السؤال السابع والعشرون وهو: ما الحكمة في ورود الثناء على الله في التشهد بلفظ الغَيبة مع كون -سبحانه- هو المخاطَب الذي يناجيه العبد، والسلام على النبي – صلى الله عليه وسلم – بلفظ الخطاب مع كونه غائبًا؟.
فجوابه: أن الثناء على الله عامة ما يجيء مضافًا إلى أسمائه الحسنى الظاهرة دون الضمير، إلا أن يتقدم ذكر الاسم (2) الظاهر
__________
(1) (ق): “أعمالهم”.
(2) ليس في (ق).

(2/691)


فيجيء بعده المضمر، وهذا نحو قول المصلِّى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)}، وقوله في الركوع: “سبحان ربى العظيم”، وفي السجود: “سبحان ربى الأعلى”، وفي هذا من السر: أن تعليق الثناء بأسمائه الحسنى هو لما تضمَّنتا معانيها من صفات الكمال ونعوت (ق 167/ ب) الجلال، فأتى بالاسم الظاهر الدال على المعنى الذي يثني به ولأجله عليه -تعالى- ولفظ الضمير لا إشعار له بذلك، ولهذا إذا كان لابدَّ من الثناء عليه بخطاب المواجهة أتى بالاسم الظاهر مقرونًا بميم الجمع الدالة علي جميع الأسماء والصفات، نحو قوله في رفع رأسه من الركوع: “اللهم ربنا لك الحمد”، وربما اقتصر على ذِكر الربِّ تعالى لدلالة لفظه على هذا المعنى، فتأمله فإنه لطيف المَنْزَع جدًّا.
وتأمَّل كيف صدر الدعاء المتضمِّن للثناء والطلب بلفظ “اللهم” كما في سيد (1) الاستغفار: “اللهمَّ أنتَ رَبي لا إله إلا أنتَ خَلَقتني وأنا عبدك … ” (2) الحديث، وجاءَ الدعاءُ المجرد مصدَّرًا بلفظ “الرب” نحو قول المؤمنين: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [آل عمران: 147]، وقول آدم -عليه السلام-: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23]، وقول موسى -عليه السلام -: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16]، وقول نوح -عليه السلام-: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)} [هود: 47]، وكان النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – يقول بين السجدتين: “رب اغفرْ لي ربِّ اغفر لي” (3).
__________
(1) ليست في (ق).
(2) أخرجه البخاري رقم (6306) وغيره عن حديث شداد بن أوس -رضي الله عنه-.
(3) أخرجه أبو داود رقم (874)، والنسائي: (2/ 231)، وابن ماجه رقم (897) =

(2/692)


وسرُّ ذلك: أن (1) الله تعالى يُسأل بربوبيته المتضمِّنة قدرته وإحسانه وتربيته عبدَه وإصلاح أمره، ويُثنى عليه بإلهيته المتضمنة إثبات ما يجب له من الصفات العُلى والأسماء الحسنى. وتدبَّر طريقة القرآن تجدْها كما ذكرتُ لك.
فأما الدعاء فقد ذكرنا منه أمثلة، وهو في القرآن -حيث وقع- لا يكاد يجيء إلا مُصَدَّرًا باسم الرب.
وأما الثناء -فحيث وقع- فمصدَّرٌ بالأسماء الحسنى، وأعظم ما يصَدَّر به اسم الله جل جلاله نحو: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} حيث جاءَ، ونحو: {سُبْحَانَ رَبِّكَ}، وجاء: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ} [الصافات: 180]، ونحوه: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الحشر: 1] حيثُ وقعت، ونحو (ظ/ 127 أ): {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالمِينَ (54)} [الأعراف: 54] {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} [المؤمنون: 14]، و {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1]، ونظائره.
وجاءَ في دعاءِ المسيح: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 114]، فذكَرَ الأمرين ولم يجئ في القرآن سواه، ولا رأيتُ أحدًا تعرَّض لهذا ولا نبَّه عليه. وتحته سِرٌّ عجيبٌ دالٌّ على كمال معرفة المسيح عليه السلام بربه وتعظيمه له، فإن هذا السؤال (2) كان عقيب سؤال قومِه له: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 112] فخوَّفهم بالله وأعلمهم أن (ق / 168 أ)، هذا مما لا يليق أن
__________
= وغيرهم من حديث حذيفة -رضي الله عنه-.
(1) (ق): “إن شاء”.
(2) (ق): “الدعاء”.

(2/693)


يُسأل عنه وأن الإيمان يرده، فلما ألحُّوا عليه في الطلب وخاف المسيح أن يداخلهم الشك إن لم يُجَابوا إلى ما سألوا، بدأ السؤالَ باسم “اللهم” الدال على الثناء على الله بجميع أسمائه وصفاته، ففي ضمن ذلك تصوره بصورة المُثني الحامد الذاكر لأسماء ربه المُثنى عليه بها. وأن المقصود منه بهذا الدعاء وقضاء هذه الحاجة إنما هو أن يُثْني على الربِّ بذلك ويمجده به ويذكر آلاءَه ويظهر شواهدَ قدْرته وربوبيته، ويكون برهانًا على صِدْق رسوله، فيحصل بذلك من زيادة الإيمان والثناء على الله أمر يَحْسُن معه الطلب، ويكون كالعُذْر فيه، فأتى بالاسمين: اسم الله الذي يثنى عليه به، واسم الرب الذي يُدْعَى ويُسئل به لما كان المقامُ مقامَ الأمرين. فتأمل هذا السرَّ العجيب ولا يَنْبُ عنه فهمُك، فإنه من الفهم الذي يؤتيه اللهُ من يشاء في كتابه، وله الحمد.
وأما السلام على النبي – صلى الله عليه وسلم – بلفظ الخطاب؛ فقد ذكرنا سِرَّه في الوجه الذي قبل هذا، فالعهد به قريب.
فصل
وأما السؤال الثامن والعشرون فقد تضمن سؤالين؛ أحدهما: ما السر في كون السلام في آخر الصلاة؟ والثانى: لِمَ كان مُعَرَّفًا؟.
والجواب: أما اختتام الصلاة به؛ فإنه قد جعل الله لكل عبادةٍ تحليلاً منها، فالتحلُّل (1) من الحجِّ بالرمي وما بعدَه، وكذلك التحلُّل من الصوم بالفطر بعد الغروب، فجَعَل السلامَ تحليلاً من الصلاة كما
__________
(1) “منها فالتحلل” سقطت من (ظ).

(2/694)


قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “تحرِيْمها التكبير وتحلِيْلها التسْلِيم” (1) تحريمها هنا هو: بابها الذي يُدْخل منه إليها، وتحليلها: بابها الذي يُخْرج به منها، فجعل التكبير باب الدخول، والتسليم (2) باب الخروج، لحكمة بديعة (3) بالغة، يفهمها من عَقَل عن الله وألزمَ نفسَه بتأمُّل محاسن هذا الدين العظيم، وسافر فكره في استخراجِ حكمِه وأسراره وبدائعه، وتعرَّبَ عن عالم العادة والإلْف، فلم يَقْنع بمجرَّد الأشباح حتَّى يعلم ما يقوم به من الأرواح، فإن الله تعالى لم يشرع شيئًا سدى ولا خِلوًا من حكمة بالغة، بل في طوايا ما شرعه وأمر به من الحِكَم والأسرار التي تبهر العقول ما يستدل به الناظر فيه على ما وراءَه، فيسجد القلب خضوعًا وإذعانًا.
فنقول وبالله التوفيق: لما كان المصلي قد تخلَّى عن الشواغل، (ق / 168 ب) وقطعَ جميع العلائق، وتطهر وأخذ زينته، وتهيَّأ للدخول على الله -عز وجل- ومناجاته، شُرع له أن يدخل عليه دخولَ العبيد على الملوك، فيدخل بالتعظيم والإجلال، فشُرع له أبلغ لفظ يدل على هذا المعنى، وهو قول: “الله أكبر”، فإن في هذا اللفظ من التعظيم والتخصيص والإطلاق في جانب المحذوف المجرور بـ “من” ما لا يوجد في غيره، ولهذا كان الصوابُ أن غير هذا اللفظ لا يقوم مقامه، ولا يؤدي معناه ولا تنعَقِد الصلاة إلا به، كما هو مذهب أهل
__________
(1) أخرجه أبو داود رقم (61)، والترمذي رقم (3)، وابن ماجه رقم (275)، وغيرهم من حديث عليٍّ -رضي الله عنه-.
والحديث قوَّاه الترمذي وابن السكن والحاكم وغيرهم.
(2) من قوله: “تحريمها هنا … ” إلى هنا ساقط من (د).
(3) ليست في (ق).

(2/695)


المدينة وأهل الحديث. فجَعَل هذا اللفظَ، واستشعارَ معناه، والمقصودَ به: بابَ الصلاة الذي يَدخل العبد على ربه منه، فإنه إذا استشعرَ بقلبه أن الله أكبر من كل ما يخطر بالبال استحيا منه أن يشغَل قلبه في الصلاة بغيره، فلا يكون موفَيًا (ظ/127 ب)، لمعنى “الله أكبر” ولا مؤدِّيًا لحقِّ هذا اللفظ، ولا أتى البيت من بابه، بل الباب عنه مسدود. وهذا بإجماع السلف: أنه لا يثاب العبد من صلاته إلا ما عَقَل منها وحَضره بقلبه.
وما أحسن ما قال أبو الفرج ابن الجوزي في بعض وَعْظه (1): “حضورُ القلب أول منزل من منازل الصلاة، فإذا نزلته انتقلْتَ إلى بادية المعنى (2)، فإذا رَحَلت عنها أنَخْت بباب المناجاة، فكان أولُ قِرَى ضيفِ اليقظةِ كَشْفَ الحجاب لعين القلب، فكيف يطمع في دخول مكة (3) من لا خرج إلى البادية، بعد تَبعث قلبك في كل وادٍ، فربما تفجأك الصلاةُ في ليس قلبك (4) عندك، فتبْعَث الرسول وراءه فلا يصادفه، فتدخل في الصلاة بغير قلب”-
والمقصود أنه قبِيح بالعبد أن يقول بلسانه: “الله أكبر” وقد امتلأَ قلبه بغير الله، فهو قِبْلة قَلْبِه (5) فى الصلاة، ولعله لا يحضر بين يدي ربه في شيء منها. فلو قضى حق: “الله أكبر” وأتى البيتَ من بابه، لدخل وانصرف بأنواع: التحف والخيرات، فهذا الباب الذي يدخل منه
__________
(1) في كتاب “المدهش”: (ص/ 454).
(2) كذا فى الأصول، وفى “المدهش”: “العمل”.
(3) إلى هنا الكلام متوافق مع ما في “المدهش” وبقية الكلام ليس فيه.
(4) ليست في (ق).
(5) أي: غير الله مستولٍ على قلبه، وفي (ق): “فهو وقلبه”.

(2/696)


المصلي وهو التحريم.
وأما الباب الذي يخرج منه، فهو باب السلام المتضمن أحد الأسماء الحسنى، فيكون مفْتَتِحًا لصلاته باسمه تبارك وتعالى ومختتمًا لها باسمه، فيكون ذاكرًا لاسم ربه أول الصلاة وآخرها، فأولها باسمه وآخرها باسمه (1)، فدخل فيها باسمه وخرج منها باسمه، مع ما في اسم “السلام” من الخاصية والحكمة (ق/169 أ)، المناسبة لانصراف المصلِّي من بين يدي الله، فإن المصلِّي ما دام في صلاته بين يدي ربه، فهو في حِماه الذي لا يستطيع أحد أن يخفره، بل هو في حِمى من جميع الآفات والشرور، فإذا انصرف من بين يديه -تبارك وتعالى- ابتدرته الآفات والبلايا والمحن، وتعرضت له من كلِّ جانب، وجاءه الشيطان بمصايده وجنده، فهو متعرِّض لأنواع البلاء والمِحَن، فإذا انصرفَ من بين يدي الله مصحوبًا بالسلام لم يزل عليه حافظ من الله إلى وقتِ الصلاةِ الأخرى. وكان من تمام النعمةِ عليه أن يكون انصرافه من بين يدي ربه بسلام يستصحبه ويدوم له ويبقى معه.
فتدبَّر هذا السرَّ الذي لو لم يكن في هذا التعليق غيره لكان كافيًا، فكيف وفيه من الأسرار والفوائد ما لا يوجد عند أبناءِ الزمان؟!، والحمد في ذلك لله وحده. فكما أن المنعم به هو الله وحده، فالمحمود عليه هو الله وحده. وقد عُرف بهذا جواب السؤال الثاني، وهو مجيء السلام هنا مُعَرَّفًا ليكون دالاً على اسمه “السلام”.
وليكن هذا آخر الكلام في مسألة “سلام عليكم”، فلولا قَصْد الاختصار لجاءت مجلَّدَاً ضخمًا. هذا ولم نتعرض فيها إلى المسائل
__________
(1) “فأولها باسمه وآخرها باسمه” سقطت من (ق).

(2/697)


المسطورة في الكتب من فروع السلام ومسائله، فإنها مملوءة منها، فمن أرادها فليأخذها من هناك، والحمد لله رب العالمين (1).

(2/698)


[تفسيرُ المُعَوِّذتيْن]روى مسلم في “صحيحه” (1) من حديث قيس بن أبي حازم، عن عُقْبة بن عامر، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ألم تَرَ آيات أنزِلتِ الليلةَ لَم يُرَ مِثلُهُنَّ قَطُّ: {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، {أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} “”.
وفي لفظ آخر (2) من رواية محمد بن إبراهيم التيمي، عن عُقْبة (3) أن رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قال له: “ألا أخْبِركَ بأَفْضَلِ ما تَعَوذ به المتعوِّذُوْن”؟ قلت: بلى، قال: ” {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} “.
(ظ/128 أ)، وفي الترمذي (4): حدثنا قُتيبة، نا ابن لَهِيعة، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن علي بن رَبَاح، عن عُقْبة بن عامر، قال: “أمرني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أَنْ أقرأ بالمعوّذَتين في دُبُر كلِّ صلاةِ” قال: “هذا حديث غريب” (5).
وفي الترمذي والنسائي و”سنن أبي داود” عن عبد الله بن حبيب، قال: خَرجْنا في ليلةِ مَطَرِ وظلْمَة نطلبُ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – ليصلي لنا، فأدركناه، فقال: “قل”، فلم أقل شيئًا، ثم قال: “قل”، فلم أقل شيئًا، ثم قال:
__________
(1) رقم (814).
(2) أخرجه أحمد: (3/ 417، 4/ 144)، والنسائي: (8/ 251) وفي سنده من لا يُعرف، لكنه يصح بشواهده الكثيرة، وانظر “السلسلة الصحيحة” رقم (1104).
(3) كذا هنا ومثله في الموضع الأول في “المسند”! والحديث معروف من رواية التيمي عن القاسم أبي عبد الرحمن أو أبي عبد الله عن عقبة.
(4) رقم (2903)، وأخرجه -أيضًا- أبو داود رقم (1522)، والنسائي: (3/ 68) من غير طريق ابن لهيعة.
(5) وكذا في “تحفة الأشراف”: (7/ 312)، وفي المطبوعة: “حديث حسن غريب”.

(2/699)


“قُلْ”، قلت يا رسول الله ما أقول؟ قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} (ق / 169 ب) المعَوِّذتين حِيْنَ تُمسِي وحِيْنَ تُصْيح ثلاثَ مراتٍ تكفيكَ مِنْ كلِّ شيءٍ” (1).
قال الترمذي: “حديث حسن صحيح (2).
وفي الترمذي (3) أيضًا من حديث الجُرَيْري عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: “كان رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – يَتَعَوَّذ من الجان وعَيْنِ الإنسان حتَّى نَزلتِ المعوِّذَتان، فلما نزلتا أخَذ بهما وتركَ ما سِواهما” (4).
ثم قال: “وفي الباب عن أنس، وهذا حديث حسن غريب” (5).
وفي “الصحيحين” (6) عن عائشة رضي الله عنها: “أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – كان إذا أَوى إلى فراشه نفثَ في كفيه بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين جميعًا، ثم يمسح بهما وجْهَه وما بلغت يداه من جسده. قالت عائشة: فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعلَ ذلكَ به”.
قلت: هكذا رواه يونس، عن الزهري، عن عروة (7)، عن عائشة رضي الله عنها، ذكره البخاري.
ورواه مالكٌ، عن الزهري، عن عروة عنها: “أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – كان
__________
(1) أخرجه أبو داود رقم (5082)، والترمذي رقم (3575)، والنسائي: (8/ 250).
(2) لفظه: “هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه” اهـ.
(3) رقم (2058).
(4) وأخرجه -أيضًا- النسائي: (8/ 271)، وابن ماجه رقم (3511) ْ.
(5) في (ظ ود) و”المنيرية”: “حديث غريب”، والمثبت من (ق) والترمذي و “تحفة الأشراف”: (3/ 459).
(6) البخاري رقم (5748)، ومسلم: (4/ 1723 رقم 51).
(7) “عن عروة” سقطت من (ق).

(2/700)


إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات ويَنْفُث، فلما اشتدَّ وجَعه كنت أقرأ عليه وأمسح عليه بيده رجاء بركتها” (1).
وكذلك قال مَعْمر، عن الزهري، عن عروة، عنها: “أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – كان ينفُثُ على نفسه في مرضه الذي قُبِض فيه بالمعوِّذات، فلما ثَقلَ كنتُ أنا أنفثُ عليه بهنَّ وأمسحُ بيده نفسه لبركتها” فسألتُ ابنَ شهاب كيف كان ينفُث؟ قال: ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه. ذكره البخاري (2) أيضًا.
وهذا هو الصواب: أن عائشةَ كانت تفعل ذلك، والنبيُّ – صلى الله عليه وسلم – لم يأمرها ولم يمنعها من ذلك، وأما أن يكون استرقى وطلب منها أن ترقيه = فلا، ولعل بعض الرواة رواه بالمعنى، فظنَّ أنها لما فعلت ذلك وأقرها النبي (3) – صلى الله عليه وسلم – أنه كان يأمرها، وفرْقٌ بين الأمرين، ولا يلزم من كون النبي – صلى الله عليه وسلم – قد أقرها على رقيته أن يكون مسترقيًا، فليس أحدهما بمعنى الآخر، ولعلَّ الذي كان يأمرها به إنما هو المسح على نفسه بيده، فيكون هو الراقي لنفسه، ويدُه لما ضَعُفت عن التنفُل على سائر بدنه أمرها أن تنقلها على بدنه، ويكون هذا غير (4) قراءتها هي عليه ومسحها على بدنه، فكانت تفعل هذا وهذا، والذي أمرها به إنما هو بِنَقْل يده لا رقيته، والله أعلم.
والمقصودُ الكلام على هاتين السورتين، وبيان عظيم منفعتهما، وشدَّة الحاجة بل الضرورة إليهما، وأنه لا يستغني عنهما أحدٌ قط،
__________
(1) رواه البخاري رقم (5016)، ومسلم: (4/ 1723).
(2) رقم (5735 و 5751)، ومسلم: (4/ 1723).
(3) من هنا إلى “وأقرها” الثانية ساقط من (ظ ود).
(4) (ق): “عين” وهو خطأ.

(2/701)


وأن لهما تأثيرَاً خاصَّا في دفع السحر والعين وسائر الشرور، وأن حاجةَ العبدِ إلى الاستعاذة بهاتين (ق/ 170 أ) السورتين أعظمُ من حاجته إلى النفَس والطعام والشراب واللباس.
فنقول -والله المستعان-: قد اشتملت السورتان على ثلاثةِ أصول، وهي أصول الاستعاذة (1):
أحدها: نفس الاستعاذة.
والثاني: المستعاذ به.
والثالث: المستعاذ منه.
فبمعرفة ذلك تُعْرَف شدة الحاجة والضرورة إلى هاتين السورتين، فلنعقد لهما ثلاثة فصول؛ الفصل الأول: في الاستعاذة، والثاني: في المستعاذ به، والثالث: في المستعاذ منه.
__________
(1) “وهي أصول الاستعاذة” ساقطة من (ق).

(2/702)


الفصل الأول
اعلم أن لفظ “عاذ” وما تصرف منها تدل على التحرُّز (ظ / 128 ب) والتحصّن والالتجاء (1)، وحقيقة معناها: الهروب من شيءٍ تخافه إلى من يعصمك منه، ولهذا يسمى المستعاذ به: “مَعَاذًا”، كما يسمى “ملجأ ووَزَرًا”.
وفي الحديث: أن ابنةَ الجَوْن لما أدخِلت على النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – فوضع يده عليها، قالت: أعوذُ باللهِ منكَ، فقال لها: “لقد عذْتِ بِمَعَاذٍ الحَقِي بأهْلِكِ” (2). فمعنى “أَعوذُ”: ألتجئ وأعتصِم وأتحرز، وفي أصله قولان؛ أحدهما: أنه مأخوذ من الستر. والثاني: أنه مأخوذ من لزوم المجاورة.
فأما من قال: إنه مأخوذ من الستر، قال: العرب تقول للنبت الذي في أصل الشجرة التي قد استتر بها: “عُوَّذ” بضم العين وتشديد الواو وفتحها، فكأنه لما عاذ بالشجرة واستتر بأصلها وظِلها سموه “عُوَّذا”، فكذلك العائذ قد استتر من عدوه بمن استعاذ به منه، واستجنَّ به منه.
ومن قال: هو من (3) لزوم المجاورة، قال: العرب تقول للحْمِ إذا لَصِق بالعظم فلم يتخلص منه “عُوذ”؛ لأنه اعتصم به واستمسك به، فكذلك العائد قد استمسك بالمعَاذ (4)، واعتصم به ولزمه.
__________
(1) (ظ): “والنجاة”، (د): “التخلص والنجاة”.
(2) أخرجه البخاري رقم (5255) من حديث أبي أُسيد الساعدي -رضي الله عنه-.
(3) من (ق).
(4) كذا في الأصول: “المعاذ”، وفي “المنيرية”: “المستعاذ به”.

(2/703)


والقولان حق، والاستعاذة تنتظمهما معًا، فإن المستعيذ مستتر بمعَاذه متمسِّك به معتصم به، قد استمسك قلبه به ولزمه، كما يلزم الولد أباه إذا شَهَر عدوه (1) سيفًا [(2) وقصده به، فهربَ منه فعرضَ له أبوه في طريق هربه، فإنه يُلقي نفسَه عليه ويستمسك به أعظم استمساك، فكذلك العائد قد هرب من عدوه الذي يبغي هلاكَه إلى ربِّه ومالكه، وفرَّ إليه وألقى نفسه بين يديه واعتصم به واستجار به والتجأ إليه.
وبعد؛ فمعنى الاستعاذة القائم بقلبه وراء هذه العبارات، وإنما هي تمثيل وإشارة وتفهيم، وإلا فما يقوم بالقلب حينئذٍ من الالتجاء والاعتصام والانطراح بين يدي الرب، والافتقار إليه والتذلل بين يديه، أمر لا تحيط به العبارة.
ونظير هذا التعبير عن معنى محبته وخشيته وإجلاله ومهابته، فإن العبارة تَقْصُر عن وصف ذلك، ولا تُدرك إلا بالاتصاف بذلك، لا بمجرد الصفة والخبر، كما أنك إذا وصفتَ لذَّة الوقاع لِعِنينٍ لم تُخلَق له شهوةٌ أصلاً، فلو قربتها وشبَّهتها بما عساك أن تشبهها به لم تحصل حقيقة معرفتها في قلبه، فإذا وصفتها لمن خُلِقَت فيه وركبت فيه عرفها بالوجود والذوق.
وأصل هذا الفعل: “أَعْوُذ” بتسكين العين وضم الواو، ثم أُعِلَّ بنقل حركة الواو إلى العين وتسكين الواو، فقالوا: “أَعُوْذ” على أصل هذا الباب، ثم طَرَدوا إعلالَه فقالوا في اسم الفاعل: “عائذ”، وأصله: “عاوذ”، فوقعت الواو بعد ألف فاعل فقلبوها همزة، كما
__________
(1) (ظ ود): “عنده”، و”المنيرية”: “أشهر عليه عدوه”.
(2) من هنا إلى قوله ص/ 707: “أنشأه” ساقط من (ق).

(2/704)


قالوا: “قائم وخائف”، وقالوا في المصدر “عياذًا بالله”، وأصله “عِواذًا” كـ “لِواذ”، فقلبوا الواو ياء للكسرة قبلها، ولم تحصنها حركتها؛ لأنها قد ضعفت بإعلالها في الفعل، وقالوا “مستعيذ”، وأصله: “مستعوِذ” كـ “مستخْرِج”، فنقلوا كسرة الواو إلى العين قبلَها، قلبت الواو قبلها كسرة فقلبت ياء على أصل الباب (1).
فإن قلت: فلم دخلت السين والتاء في الأمر من هذا الفعل كقوله: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98] ولم تدخل في الماضي والمضارع، يل الأكثر أن يقال: “أعوذ بالله”، و”عذْت بالله”، دون “أستعيد” و”استعذت”؟.
قلت: السين والتاء دالة على الطلب، فقوله: “أَسْتَعيذ بالله”، أي: أطلب العياذَ به، كما إذا قلت: “أَسْتَخير الله”، أي: أطلبُ خِيرتَه، و”أَسْتَغفره” أي: أطلب مغفرته، و”أَسْتَقِيله” أي: أطلب إقالته، فدخلت في الفعل إيذانًا لطلب هذا المعنى من المعاذ، فإذا قال المأمور: “أعوذ بالله”، فقد امتثل ما طُلِب منه؛ لأنه طَلَب منه الالتجاء والاعتصام، وفَرْق بين نفس الالتجاء والاعتصام، وبين طلب ذلك. فلما كان المستعيذ (ظ/129 أ) هاربًا ملتجئًا معتصمًا بالله أتى بالفعل الدال على ذلك دون الفعل الدال على طلب ذلك، فتأمله.
وهذا بخلاف ما إذا قيل: “اسْتَغْفِرِ الله”، فقال: “أَستَغْفر الله”، فإنه طلب منه أن يطلب المغفرةَ من الله، فإذا قال: “أسْتَغْفِر الله” كان ممتثلاً؛ لأن المعنى أطلب من الله أن يغفر لي. وحيث أراد هذا المعنى في الاستعاذة فلا ضير أن يأتي بالسين، فيقول: “أَسْتَعيد بالله”، أي: أطلب منه أن يعيذني، ولكن هذا معنى غير نفس الاعتصام
__________
(1) كذا العبارة وفيها اضطراب، ولعلها: “ثم قلبت الواو ياءً للكسرة قبلها”.

(2/705)


والالتجاء والهرب إليه فالأول: مخبر عن حالِه وعِياذِه بربه، وخبرُه يتضمن سؤاله وطلبه أن يعيذه. والثاني: طالب سائل من ربه أن يعيذه، كأنه يقول: أطلب منك أن تعيذني، فحال الأول أكمل.
ولهذا جاء عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في امتثال هذا الأمر: “أعوذ باللهِ من الشيطان الرجيم”، و”أعُوذ بكَلِمَات اللهِ التَّامات” (1) – و”أعُوْذُ بعِزَّةِ اللهِ وَقدْرَتهِ” (2) دون “أسْتَعيذ”، بل الذي علمه الله إياه أن يقول: {أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ} {أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} “أَسْتَعيذ”، فتأمل هذه الحكمة البديعة.
فإن قلت: فكيف جاء امتثال هذا الأمر بلفظ الأمر والمأمور به، فقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} ومعلوم أنه إذا قيل: “قل الحمد لله”، و”قل سبحان الله”، فإن امتثاله أن يقول: “الحمد لله، وسبحان الله، ولا يقول: “قل سبحان الله”؟.
قلت: هذا هو السؤال الذي أورده أُبَيُّ بن كعب على النبي – صلى الله عليه وسلم – بعينه وأجابه عنه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. قال البخاري في “صحيحه” (3): حدثنا قتيبة، ثنا سفيان، عن عاصم وعَبْدَة، عن زرٍّ، قال: “سألت أُبيَّ بن كعب عن المعوذتين، فقال: سألت رسولَ اللُّه – صلى الله عليه وسلم -، فقال: “قِيْلَ لي فقلت”، فنحن نقول كما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
ثم قال (4): حدثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، ثنا عَبْدة بن أبي لُبَابة،
__________
(1) أحرجه مسلم رقم (2708) من حديث خولة بت حكيم السلمية – رضي الله عنها -.
(2) أخرجه مسلم رقم (2202) من حديث عثمان بن أبي العاص -رضي الله عنه- بلفظ: “أعوذ بقدرة الله”، وأخرجه أحمد (29/ 435 رقم 17907)، وأبو داود رقم (3891)، والترمذي رقم (2080) بلفظ المؤلف.
(3) رقم (4976).
(4) أي: البخاري رقم (4977).

(2/706)


عن زِرِّ بن حُبَيش، وحدثنا عاصم عن زِرٍّ، قال: “سألت أُبى ابن كعب، قلت: أبا المنذر إن أخاك ابنَ مسعود يقول كذا وكذا، فقال: إني سألت رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم -، فقال: “قِيْلَ لي، فقلتُ: قُل” (1) فنحن نقول كما قال رسول الله”.
قلت: مفعول القول محذوف، وتقديره: “قيل لي: قل”، أو: قيل لي هذا اللفظ، فقلت كما قيل لي.
وتحت هذا من السر أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – ليس له في القرآن إلا بلاغه، لا أنه هو أنشأه] من قِبل نفسِه، بل هو المبلَغ له عن الله. وقد قال الله له: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} فكان مقْتضَى البلاغ التام أن يقول: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} كما قال الله. وهذا هو المعنى الذي أشار إليه – صلى الله عليه وسلم – (2) بقوله: “قيل لي فقلت” أي: فلستُ مبتدئًا بل أنا مبلِّغ أقولُ كما يقال لي، وأبلّغ كلامَ ربى كما أنزله إليَّ.
فصلوات الله وسلامه عليه، لقد بلَّغ الرسالةَ وأدى الأمانةَ، وقال كما قيل له، فكفانا وشفانا من المعتزلة والجهمية وإخوانهم ممن يقول: هذا القول العزيز (3) وهذا النظمُ كلامُه ابتدأَ هم به! ففي هذا الحديث أَبْيَن الرد لهذا القول، وأنه – صلى الله عليه وسلم – بلغ القولَ الذي أُمِر (ق/ 170 ب) بتبليغِه على وجهِه ولفظِه، حتى إنه لما قيل له: “قل” قال هو: “قل”؛ لأنه مبلغ محض، وما على الرسول إلا البلاغ.
__________
(1) كذا في (ق وظ)، وفي (د) والرواية التي شرح عليها الحافظ: “قيل لي: قل، فقلت”. وكلام المؤلف يقضي بأن النص ليس فيه “قل”.
(2) (ظ ود): “أشار النبي – صلى الله عليه وسلم – … “.
(3) (ظ ود): “القرآن العربي”.

(2/707)


الفصل الثاني
في المستعاذ به، وهو اللهُ وحده، رب الفلق، ورب الناس، ملك الناس، إله الناس، الذي لا ينبغي الاستعاذة إلا به، ولا يستعاذ بأحد من خلقه، بل هو الذي يعيذ المُستعِيذينَ، ويعصِمُهم ويمنعُهُم من شرِّ ما استعاذوا من شَرِّه.
وقد (ظ 129/ ب) أخبر اللهُ تعالى في كتابه عمن استعاذَ بخلقه، أن استعاذَتَهُ زادته طغيانًا ورهقًا، فقال حكاية عن مؤمني الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)} [الجن: 6]، جاء في التفسير (1): أنه كان الرجلُ من العرب في الجاهلية إذا سافر فأمسى في أرض قَفْر، قال: أعوذ بسَيِّدِ هذا الوادي من شرِّ سفهاء قومه، فيبيت في أمنٍ وجوار منهم حتى يصبح، أيْ: فزاد الإنسَ الجنُّ باستعاذتهم بسادتهم رَهَقًا، أي: طغيانًا (2) وإثمًا وشرًّا، يقولون: سُدْنا الإنسَ والجنَّ.
والرَّهَقُ في كلام العرب: الإثم وغِشْيان المحارم (3)، فزادهم بهذه الاستعاذة غشيانًا لما كان محظوراً من الكِبْر والتعاظم، فظنوا أنهم سادوا الإنسَ والجنَّ.
واحتج أهل السُّنَة على المعتزلة في أن كلمات الله غيرُ مخلوقة
__________
(1) جاء ذلك عن جماعة من السلف، انظر تفسير الطبري”: (12/ 263).
(2) بعدها في (ق): “وغيًّا وإثمًا .. ).
(3) انظر “القاموس”: (ص/1148).

(2/708)


بأن النبي – صلى الله عليه وسلم – استعاذ بها (1) بقوله: “أعُوذُ بكَلِمَاتِ الله التَّامَّاتِ” (2) وهو – صلى الله عليه وسلم – لا يستعيذ بمخلوق أبدًا (3).
ونظير ذلك قوله: “أعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبتَكَ” (4)، فدل على أن رضاه وعفوه من صفاته وأنه غير مخلوق. وكذلك قوله: “أعُوذُ بعِزَّةِ اللهِ وَقُدْرتهِ” (5)، وقوله: “أعُوذُ بِنوُرِ وَجْهِكَ الَّذِي أشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ” (6)، وما استعاذَ به النبي – صلى الله عليه وسلم – غير مخلوق، فإنه لا يستعيذُ إلا بالله أو بصفةٍ من صفاته.
وجاءت الاستعاذةُ في هاتين السورتين باسم الرَّبِّ والملك والإله، وجاءت الربوبية فيها مضافة إلى الفلق وإلى الناس، ولابد من أن يكونَ ما وصف به نفسَه -سبحانه- في هاتينِ السورتينِ يناسبُ (7) الاستعاذة المطلوبة، ويقتضي دفعَ الشَّرِّ المستعاذ منه أعظم مناسبة وأبينها، وقد قررنا في مواضع متعددة أن الله -سبحانه- يُدْعى بأسمائه الحسنى، فيُسألُ لكل مطلوب باسم يناسبه ويقتضيه (8).
وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – في هاتين السورتين: إنه “مما تعَوَّذَ المتَعَوِّذُونَ
__________
(1) من (ق).
(2) تقدم ص/706.
(3) ليس في (ق).
(4) تقدم 1/ 294.
(5) تقدم ص/706.
(6) قطعة من دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم – عند عودته من الطائف أخرجه ابن إسحاق “سيرة ابن هشام”: (2/ 419) عن محمد بن كعب القرظي مرسلاً، والضياء في “المختارة”: (9/ 181) وغيره، عن عبد الله بن جعفر الطيار مرسلاً -أيضًا-.
(7) سقطت من (ظ ود).
(8) انظر ما تقدم في هذا الكتاب: (1/ 281، 289، وغِيرها)، و “المدارج”: (1/ 482).

(2/709)


بِمِثْلِهِما” (1)، فلابد أن يكون الاسم المستعاذ به مقتضيًا للمطلوب، وهو دفع الشر المستعاذ منه أو رفعه، وإنما يتقرر هذا بالكلام في الفصل الثالث، وهو الشيء المستعاذ منه، فتتبين المناسبة المذكورة فنقول:

الفصل الثالث فى أنواع الشرور (ق/ 171 أ) المستعاذ منها فى هاتين السورتينِ
الشَّرّ الذي يُصيبُ: العبدَ، لا يخلو من قسمين: إما ذنوبٌ منه يعاقَب عليها، فيكون وقوعُ ذلك بفعله وقصده وسعيه، ويكون هذا الشرُّ هو الذنوبَ وموجباتها، وهو أعظمُ الشَّرَّيْنِ وأدْوَمُهما وأشدهما اتصالاً بصاحبه، وإما شرٌّ واقع به من غيره، وذلك الغير إما مكلَّفٌ أو غير مكلف، والمكلف إما نظيرُه وهو الإنسان، أو ليس نظيرَهُ وهو الجِنِّيُّ، وغيرُ المكلف مثل الهوَامِّ وذوات الحُمى (2) وغيرها.
فتضمنَت هاتان السورتان الاستعاذةَ من هذه الشرور كلِّها، بأوجز لفظ وأجمعِهِ وأَدَلِّهِ على المراد وأعمَّه استعاذةً، بحيث لم يبقَ شرٌّ من الشُّرور إلا دخلَ تحتَ الشَّر المستعاذ منه فيهما.
فإنَّ سورة الفلق تضمَّنت الاستعاذةَ من أمور أربعة: أحدها: شرُّ المخلوقات التي لها شرّ عمومًا. الثاني: شرُّ الغاسق إذا وَقَبَ. الثالث: شَرّ النَّفَّاثَات في العُقَد. الرابع: شرُّ الحاسد إذا حَسَدَ. فنتكلَّمُ على هذه الشُّرور الأربعة، ومواقعها، واتصالها بالعبد، والتحرُّز منها قبل
__________
(1) تقدم ص/ 699.
(2) الحُمَّة: سُمُّ كل شيء يلدغ أو يلسع، ويجمع على: حمات وحُمَى. “اللسان”: (14/ 201).

(2/710)


وقوعها، وبماذا تُدفع بعد وقوعها.
وقبل الكلام في ذلك لابد من بيان الشَرِّ ما هو وما حقيقته؟ (1) فنقول:
الشَّرُّ يقالُ على شيئين: على الألم وعلى ما يُفضي إليه، وليس له مسمى سوى ذلك، فالشرورُ هي (ظ/ 130 أ) الآلام وأسبابُها، فالمعاصي وِالكفرُ والشِّركُ وأنواع الظلم هى شرور، وإن كان لصاحبها فيها نوع غرض ولَذة لكنها شرورٌ، لأنها أسبابُ الآلام ومفضيَةٌ إليها كإفضاء سائر الأسباب إلى مسبَّباتِها، فترتُّب الألم عليها كترتّب الموتِ على تناولُ السُّموم القاتلة، وترتبه على الذبح والإحراق بالنار والخنق بالحبل، وغير ذلك من الأسباب التي نصِبَت (2) مفضيةً إلى مسبَّباتها ولابُدَّ، ما لم يمنعْ السببيةَ مانع، أو يعارضْ السببَ ما هو أقوى منه، وأشد اقتضاء لضدِّه، كما يعارض سببَ المعاصي قُوة الإيمان وعَظَمة الحسنات الماحيةِ وكثرَتها، فيزيد في كمِّيتها وكيفيتها على أسباب العذاب فيدفعُ الأقوى الأضعفَ، وهذا شأن جميع الأسباب المتضادَّة كأسباب الصِّحة والمرض، وأسباب الضعف والقوة.
والمقصود أن هذه الأسباب التي فيها لَذَّة مَّا، هى شرٌّ، وإن نالت بها النفس مَسَرَّة عاجلة، وهى بمنزلة طعام لذيد شهيٍّ لكنه مسمومٌ، إذا تناوله الآكل لَذَّ له أكله (3) وطاب له مَسَاغُهُ، وبعد قليل يفعلُ به ما يفعل، (ف/ 171 ب) فهكذا المعاصي والذنوب ولابدَّ، حتى لو لم
__________
(1) “وما حقيقته” ليست في (ق).
(2) (ظ ود): “تصيبه”.
(3) (ظ ود): “لذَّ أكله”.

(2/711)


يخبر الشارعُ بذلك لكان الواقعُ والتجربةُ الخاصَّةُ والعامةُ من أكبر شهوده.
وهل زالت عن أحدٍ قطُّ نعمةٌ إلا بشؤم معصيته, فإنَّ الله إذا أنعم على عبد بنعمة حفظها عليه, ولا يغيِّرُها عنه حتى يكونَ هو السَّاعيَ في تغييرها عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)} [الرعد: 11].
ومن تأمَّل ما قصَّ الله -تعالى- في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمَه عنهم, وجد سبب ذلك جميعَه إنما هو مخالفةُ أمره وعصيانُ رسله, وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره, وما أزال الله عنهم من نعمه, وجد ذلك كلَّه من سوء عواقب الذنوب كما قيل:
إذا كنتَ في نِعْمَةٍ فَارْعَها … فإنَّ المعاصِي تُزِيلُ النِّعَمْ (1)
فما حُفِظت نعمةُ الله بشيء قط مثل طاعته, ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شكره, ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربه, فإنها نارُ النعم التي تعملُ فيها كما تعمل النار في الحَطَبِ اليابس.
ومن سافر بفكره في أحوال العالم استغنى عن تعريف غيره له, والمقصود أن هذه الأسباب شرورٌ ولا بُدَّ. وأما كون مسبباتها شرورًا؛ فلأنها آلامٌ نفسية وبدنية فيجتمعُ على صاحبها مع شدَّة الألم الحسي ألَمُ الرُّوح بالهموم والغموم, والأحزان والحسرات.
ولو تفطَّنَ العاقلُ اللّبيبُ لهذا حقَّ التَّفَطُّن لأعطاه حقَّه من الحذر والجدِّ في الهرب ولكن قد ضَرَبَ على قلبه حجابَ الغفلة ليقضيَ
__________
(1) ذكره في “نفح الطيب”: (2/ 174).

(2/712)


الله أمرًا كان مفعولاً. فلو تَيَقَّظَ حقَّ التَّيَقُّظِ لتقطَّعَتْ نفسُه في الدنيا حسرات على ما فاته من حظِّه العاجل والآجل من الله, وإنما يظهرُ له هذا حقيقة الظهور عند مفارقة هذا العالم, والإشراف والاطِّلاع على عالم البقاء فحينئذ يقول: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)} [الفجر: 24] و {يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56].
ولما كان الشرُّ هو الآلامَ وأسبابها, كانت استعاذاتُ النبي – صلى الله عليه وسلم – جميعُها مدارها على هذين الأصلين, فكل ما استعاذَ منه أو أمر بالاستعاذة منه فهو: إما مؤلمٌ وإما سبَبٌ إليه. فكان يتعوَّذُ في آخر الصلاة من أربع, وأَمَر بالاستعاذة منهن, وهي: “عذاب القبر, وعذاب النار”, فهذان أعظم المؤلمات, و”فتنة المحيا والممات, وفتنة المسيح الدجال” (1). وهذان سبب العذاب المؤلم, فالفتنةُ سبب العذاب, وذَكَر الفتنةَ خصوصًا وعمومًا, وذكر نوعي الفتنة, فإن الفتنة إما في الحياة وإما بعد الموت, ففتنةُ الحياة قد يَتَراخى عنها العذاب مدَّة, وأما فتنة الموت فَيَتَّصلُ بها العذابُ من غير تراخٍ, فعادت الاستعاذةُ إلى الألم والعذاب وأسبابهما, وهذا من آكَدِ أدعية الصلاة حتى أوجب بعضُ السَّلف والخَلَف الإعادةَ على من لم يَدْعُ به في التَّشَهُّد الأخير, وأوجبه ابنُ حزم في كل تشهد فإن لم يأتِ به بَطَلَتْ صَلَاتُهُ (2).
ومن ذلك قوله: “اللَّهُمَّ إني أعوذُ بكَ من الهَمِّ والحَزَنِ والعَجْزِ
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (1377) , ومسلم رقم (588) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(2) انظر “المحلى”: (3/ 271).

(2/713)


والكَسَل والجُبْنِ والبُخْلِ وضَلَعِ الدَّيْنِ وغَلَبَةِ الرِّجَالِ” (1)، فاستعاذ من ثمانية أَشياء كل اثنين منها قرينان، فالهم والحزن قرينان، [وهما] من آلام الرُّوح ومعذباتها، والفرق بينهما أن الهمَّ تَوَقُّعُ الشر في المستقبل، والحزن التَّألُّم على حصول المكروه فِي الماضي أو فوات المحبوب، وكلاهما تألُّمٌ وعذابْ يَرِدُ على الروح، فإنْ تَعَلَّقَ بالماضي سُمِّي حزنًا، وإن تعَلَّق بالمستقبل سُمِّي همًّا.
والعجز والكسل قرينان، وهما منْ أسباب الألم؛ لأنهما يستلزمان فوات المحبوب، فالعجز يستلزم عدمَ القدرة، والكسلُ يستلزمُ عدم إرادته، فتتألمُ الرُّوح لفواته بحسب تعلُّقها به، والتذاذها بإدراكه لو حصل.
والجبنُ والبخل قرينانِ؛ لأنهما عدمُ النفع بالمال والبَدَن، وهما من أسباب الألم، لأن الجبان تفوتُهُ محبوبات ومفرحات وملذوذات عظيمة لا تُنال إلَّا [بالبَذْل والشجاعة] (2) فالبخل يحولُ بينه وبينها أيضًا، فهذان الخُلُقان من أعظم أسباب الآلام.
وضَلَع الدَّيْن وقَهْر الرجال قرينان، وهما مؤلمان للنفس معذبان لها؛ أحدُهما قهر بحق وهو ضَلَع الدَّيْن. والثاني قهر بباطل هُو غَلَبَةُ الرجال، وأيضًا فضَلَعُ: الديْن قهرٌ بسبب من العبد في الغالب، وغلبة الرجال قهر (3) بغير اختياره.
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (2893) ومسلم رقم (2706) من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-.
(2) (ق): “بالشجاعة والإقدام” مع تكرار، و (ظ ود): “بالبذل والسخاء”.
(3) (ق): “فهي”.

(2/714)


ومن ذلك تعوُّذُه – صلى الله عليه وسلم -: “مِنَ المَأثَمِ وَالمَغْرَمِ” (1) فإنهما يسببان الألم العاجل والآجل (2) , ومن ذلك قوله: “أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ, وبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ” (3) , فالسخط سبب الألمِ, والعقوبة هي الألم, فاستعاذ من أعظم الآلام وأقوى أسبابها.
فصل
والشرُّ المستعاذُ منه نوعان:
أحدهُما: موجود يُطلب رفعه.
والثاني معدومٌ يطلبُ بقاؤه على العدم وأن لا يوجد.
كما أن الخير المطلق نوعان:
أحدهما موجودٌ فيطلب دوامه وثباته وأن لا يسلبه.
والثاني معدومٌ فيطلب وجوده وحصوله.
فهذه أربعةُ هي أمهات مطالب السَّائلين من ربِّ العالمَين, وعليها مدارُ طَلَبَاتِهِم, وقد جاءت هذه المطالبُ الأربعةُ في قوله تعالى حكايةً (4) عن دعاء عباده في آخر آل عمران في قولهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} [آل عمران: 193] فهذا الطلب لدفع الشر الموجود فإن
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (832) , ومسلم رقم (589) من حديث عائشة – رضي الله عنها -.
(2) من (ق).
(3) تقدم 1/ 294.
(4) (ق): “في الآية”.

(2/715)


الذنوب والسيئات شر كما تقدم بيانه.
ثم قال: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَار (193)} , فهذا طلبٌ لدوام الخير الموجود وهو الإيمان, حتى يتوفاهم عليه, فهذانِ قسمان.
ثم قال: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} [آل عمران: 194] فهذا طلب للخير المعدوم أن يؤتيهم إياه.
ثم قال: {وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فهذا طلبٌ أن لا يقعَ (1) بهم الشَّرُّ المعدومُ, وهو خزيُ يوم القيامة, فانتظمت الآيتان للمطالب الأربعة أحسنَ انتظام, مرتبةً أحسن ترتيبٍ, قُدِّمَ فيها النوعان اللذان في الدنيا وهما المغفرة, ودوامُ الإسلام إلى الموت, ثم أُتبعا بالنوعين اللذين في الآخرة وهما: أن يُعطوا ما وُعِدُوه على ألسنة رسله, وأن لا يُخْزِيَهُم يوم القيامة.
إذا عُرِف هذا؛ فقوله – صلى الله عليه وسلم – في تشهُّد الخطبة: “وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنا, ومِنْ سيئاتِ أَعْمَالِنَا” (2) , يتناوَلُ الاستعاذةَ من شرِّ النفس الذي هو معدومٌ لكنه فيها بالقوَّة, فيسأل دفعه وأن لا يوجد.
وأما قوله: “مِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا”؛ ففيه قولان:
أحدهما: أنه استعاذةٌ من الأعمال السيئة التي قد وُجِدتْ, فيكون الحديثُ قد تناولَ نوعَي الاستعاذة من الشَّرِّ المعدوم الذي لم يوجدْ, ومن الشر الموجود فطلب دَفْع الأول ورَفْع الثاني.
__________
(1) كذا في الأصول, وفي “المنيرية”: “يوقع”.
(2) تقدم 2/ 448.

(2/716)


والقول الثاني: إن سيئاتِ الأعمال هي: عقوباتُها وموجباتُها السيئة التي تسوءُ صاحبَها، وعلى هذا يكونُ مِن استعاذةِ الدفع أيضًا لكنه (1) دفعُ المسبب، والأول دفع السبب، فيكون قد استعاذ من حصول الألم وأسبابه، وعلى الأوّل يكون إضافةُ السيئات إلى الأعمال من باب إضافة النوع إلى جنسه، فإن الأعمال جنسٌ وسببُها (2) نوعٌ منها. وعلى الثاني يكون من باب إضافة المسبَّب إلى سَبَبِهِ، والمعلول إلى علته, كأنه قال: من عقوبة عملي، والقَولانِ محتملانِ، فتأمل أيَّهُمَا ألْيَقُ بالحديث وأولى به، فإنّ مع كلِّ واحد منهما نوعًا من الترجيح.
فيترجَّحُ الأولُ: بأن منشأ الأعمال السيئة من شرِّ النفس، فشرُّ النفس يولِّدُ الأعمالَ السَّيِّئَةَ فاستعاذ من صفة النفس، ومن الأعمال التي تحدث عن تلك الصفة, وهذان جِمَاعُ الشَّرِّ وأسباب كلِّ ألم، فمتى عوفي منها عُوفِيَ من الشَّرِّ بحذافيره (3).
ويترجَّحُ الثاني: بأن سيئاتِ الأعمال هي العقوباتُ التي تسوءُ العامل، وأسبابها شرُّ النفس، فاستعاذ من العقوبات والآلام وأسبابها، والقولانِ في الحقيقة متلازمان، والاستعاذة من أحدهما تستلزمُ الاستعاذةَ من الآخر.
فصل
ولما كان الشَّرُّ له سببٌ هو مصدرُه, وموردٌ هو منتهاه، وكان
__________
(1) من (ق).
(2) “المنيرية”: “وسيئاتها”.
(3) من قوله: “التي تحدث … ” إلى هنا ساقط من (ق).

(2/717)


السببُ إما من ذات العبد. وإما من خارج، ومورده ومنتهاه، إما نفسه وإما غيره = كان هنا أربعة أمور: شرٌّ مصدره من نفسه ويعود على نفسه تارة وعلى غيره أخرى، وشرٌّ مصدره من غيره وهو السبب فيه، ويعودُ على نفسه تارة في على غيره أخرى.
جمع النَّبيّ – صلى الله عليه وسلم – هذه المقامات الأربعة في الدعاء الذي علمه الصِّدِّيقَ أن يقولَه إذا أصبح وإذا أمسى، وإذا أخذ مضجعه: “اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمواتِ والأَرْضِ، عَالِمَ الغَيْب والشَّهَادَةِ، رَبَّ كُلِّ شَيءٍ ومَلِيكَهُ، أَشْهَدُ أَنَّ لا إِلَهَ إلاّ أَنْتَ، أَعُوذُ بكَ مِن شَرِّ نَفْسي، وَشَرِّ الشَّيْطانِ وَشِرْكِهِ، وأَنْ أقْترِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إِلى مُسْلِمٍ” (1) فذكر مصدَرَي الشَّرِّ وهما النفسُ والشيطانُ، وذكر مَوْرِدَيْهِ ونهايتيه، وهما: عودُه على النفس أو على أخيه المسلم، فجمع الحديثُ مصادرَ الشَّرِّ ومواردَهُ في أوجز لفظٍ وأخصرِه وأجمعِه وأبينِه.
فصل
فإذا عُرِفَ هذا فلْنَتَكَلَّمْ على الشُّرور المستعاذ منها في هاتين السورتين:
الشَّرُّ الأوَّل: العامِ في قوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} و (ما)، هاهُنا موصولة ليس إلَّا، والشَّرُّ مسند في الآية إلى المخلوق المفعول، لا إلى خَلْق الرَّبِّ تعالى الذي هو فعلُه وتكوينُه، فإنه لا شرَّ فيه بوجهٍ ما، فإن الشَّرَّ لا يدخل في شيءٍ من صفاته ولا في أفعاله، كما لا
__________
(1) أخرجه أبو داود رقم (5067)، والترمذي رقم (3392)، وابن حبان. “الإحسان”: (3/ 242)، والحاكم: (1/ 513) وغيرهم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
قال الترمذي: “حسن صحيح” وصححه ابن حبان والحاكم والذهبى.

(2/718)


يلحقُ ذاتَهُ تبارك وتعالى، فإن ذاتَهُ لها الكمالُ المطلقُ الذي لا نقصَ فيه بوجه من الوجوه، وأوصافه كذلك لها الكمالُ المطلَقُ والجلالُ التَّامُّ ولا عيبَ فيها ولا نقصَ بوجهٍ ما.
وكذلك أفعالُه كلُّها خيراتٌ محضة لا شرَّ فيها أصلاً، ولو فعل الشر سبحانه لاشْتُقَّ له منه اسم ولم تكن أسماؤه كلُّها حسنى، ولعاد إليه منه حكم، تعالى وتقدَّس عن ذلك، وما يفعلُه من العدل بعباده وعقوبة من يستحقُّ العقوبةَ منهم هو خيرٌ محض، إذ هو محضُ العدل والحكمة، وإنما يكون شرًّا بالنسبة إليهم، فالشَّرُّ وقع في تعلُّقه بهم وقيامه بهم (1)، لا في فعله القائم به تعالى، ونحنُ لا نُنكرُ أن الشَّرَّ يكونُ في مفعولاته المنفصلة، فإنه خالقُ الخيرِ والشَّرِّ.
ولكن هنا أمرانِ ينبغي أن يكونا منك على بالٍ.
أحدهما: أن ما هو شرٌّ أو متضمِّنٌ للشر فإنه لا يكونُ إلَّا مفعولاً منفصلًا، لا يكونُ وصفًا له، ولا فعلًا من أفعاله.
الثاني: أن كونه شرًّا هو أمر نسبيٌّ إضافيٌّ، فهو خيرٌ من جهة تعلُّق فعل الرَّبِّ وتكوينه به، وشرٌّ من جهة نسبته إلى من هو شر في حقه، فله وجهان، هو من أحدهما خيرٌ، وهو الوجه الذي نُسِبَ منه إلى الخالق -سبحانه وتعالى- خلقًا وتكوينًا ومشيئة، لما فيه من الحكمة البالغة التي استأثر بعلمها، وأطْلَعَ من شاء من خلقه على ما شاء منها، وأكثرُ الناس تضيقُ عقولُهم عن مبادئ معرفتها، فضلاً عن حقيقتها، فيكفيهم الإيمان المجمل بأن الله -سبحانه- هو الغنيُّ
__________
(1) (ق): “وقيامهم به”.

(2/719)


الحميدُ, وفاعل الشر لا يفعله إلَّا لحاجته المنافية لغناه أو لنقصه وعيبه المنافي لحمده، فيستحيلُ صدورُ الشَّرِّ من الغني الحميد فعلًا، وإن كان هو الخالقَ للخير والشَّرِّ، فقد عرفتَ أن كونه شرًّا هو أمرٌ إضافيٌّ، وهو في نفسه خير من جهة نسبته إلى خالقه ومبدعه.
فلا تغفلْ عن هذا الموضع، فإنه يفتحُ لك بابًا عظيمًا من معرفة الرَّبِّ ومحبته، ويزيل عنك شُبُهَات حارتْ فيها عقولُ أكثر الفضلاء. وقد بسطت هذا في كتاب “التحفة المكية”، وكتاب “الفتح القدسي” (1). وغيرهما.
وإذا أشكل عليك هذا فأنا أُوضِّحه لك بأمثلة:
أحدُها: أن السَّارقَ إذا قُطِعَتْ يَدُهُ فَقَطْعُها شرٌّ بالنسبة إليه، وخيرٌ محض بالنسبة إلى عموم الناس، لما فيه من حفظ أموالهم ودفع الضَّرر عنهم، وخيرٌ بالنسبة إلى مُتَوَلِّي القطع أمرًا وحكمًا؛ لما في ذلك من الإحسان إلى عبيده عمومًا بإتلاف هذا العضو المؤذي لهم المضرِّ بهم، فهُو محمودٌ على حكمه بذلك، وأمرِه به، مشكورٌ عليه، يستحقُّ عليه الحمدَ من عباده والثَّناء عليه والمحبَّة.
وكذلك الحكم يقتل من يصولُ عليهم في دمائهم وحُرُماتهم، وجَلْد من يصولُ عليهم في أعراضهم، فإذا كان هذا عقوبةَ من يصولُ عليهم في دنياهم فكيف عقوبةُ من يصولُ عليهم في (2) أديانهم ويحولُ بينهم وبين الهدى الذي بعث الله به [(3) رسلَهُ، وجعل
__________
(1) تقدم الكلام عليهما.
(2) (ظ ود): “على أديانهم”.
(3) سقطت (الورقة 174) من (ق) وهي من قوله: “رسله … ” إلى قوله: “فما أحوج القلوب” ص/ 724.