http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة |
الكتاب: بدائع الفوائد [آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (1)]المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 – 751 هـ) المحقق: علي بن محمّد العمران راجعه: سليمان بن عبد الله العمير (جـ 1 – 5)، محمد أجمل الإصلاحي (جـ 1 – 2)، جديع بن محمد الجديع (جـ 1 – 5) الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت) الطبعة: الخامسة، 1440 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم) عدد الأجزاء: 5 (4 في ترقيم واحد متسلسل، والأخير فهارس) قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] |
وأحسن من هذا أن يقال: ليس في دخول الواو تقرير لمضحون تحيتهم، بل فيه ردها وتقريرها لهم، أي: ونحن أيضًا ندعو عليكم بما دعوتم به علينا، فإن دعاءَهم قد وقع، فإذا رَدَّ عليهم المجيبُ بقوله: “وعليكم”، كان في إدخال الواو سِرّ لطيف، وهو الدلالة على أن هذا الذي طلبتموه لنا ودعوتم به، هو بعينه مردودٌ عليكم لا تحية غيره، فإدخال “الواو” مفيدٌ لهذه الفائدة الجليلة.
وتأمل هذا في مقابلة الدعاء بالخير إذا قال: “غفر الله لك”، فقال له: “ولك”، المعنى: أن هذه الدعوة بعينها مني لك، ولو قلت: “غفر الله لك”: فقال: “لك”؟ لم يكن فيه إشعار بأن الدعاء الثاني هو الأول بعينه، فتأمله فإنه بديع جدًّا. وعلى هذا فيكون الصواب إثبات الواو كما هو ثابت في “الصحيح” و”السنن”.
فهذا ما ظهر لي في هذه اللفظة، فمن وجدَ شيئاً فَلْيلْحِقْه بالهامش (ق/ 161 أ)، يَشكُرِ اللهُ وعبادُه له سَعْيَه، فإن المقصودَ الوصولُ إلى الصواب، فإذا ظهر؛ وضِعَ ما عداه تحت الأرجل، وقد ذكرنا هذه المسألة مستوفاة بما أمكننا (1) في كتاب “تهذيب السنن” (2)، وأدلّه أعلم (3).
فصل
وأما السؤال العشرون وهو: ما الحكمة في اقتران الرحمة والبركة بالسلام؟.
__________
(1) “بما أمكننا” ليست في (ق).
(2) (8/ 75 – 77 – بهامش مختصر المنذري).
(3) زيادة من (ق).
(2/668)
فالجواب عنه أن يقال: لما كان الإنسان لا سبيل له إلى انتفاعه بالحياة إلا بثلاثة أشياء:
أحدها: سلامته من الشر، ومن كل ما يضاد حياته وعيشه.
والثاني: حصولُ الخير له.
والثالث: دوامه وثباته له.
فإن بهذه الثلاثة يكمل انتفاعُه بالحياة، فشُرِعَت التحية متضمنة للثلاثة، فقوله: “سلام عليكم” يتضمن السلامة من الشر، وقوله: “ورَحْمَةُ الله” يتضمن حصول الخير. وقوله: “وبركاته” يتضمن دوامه وثباته كما هو موضوع لفظ البركة، وهو كثرة الخير واستمراره. ومن هاهنا يعلم حكمة اقتران اسمه الغفور -تبارك وتعالى- باسمه الرحيم في عامة القرآن. ولما كانت هذه الثلاثة مطلوبة لكل أحد، بل هي متضمنة لكل مطالبه، وكلّ المطالب دونها وسائل إليها وأسباب لتحصيلها؛ جاءَ لفظ التحية دالاً عليها بالمطابقة تارة، وهو “كمالها”، وتارة دالاً عليها بالتضمن، وتارة دالاً عليها باللزوم، فدلالة اللفظ عليها مطابقة إذا ذُكِرَت بلفظها، ودلالته عليها بالتضمُّن إذا ذُكِر السلام والرحمة فإنهما يتضمنان الثالث، ودلالته عليها باللزوم إذا اقتصر على لفظ السلام وحدَه، فإنه يستلزم حصول الخير وثباته؛ إذ لو عُدِم لم تحصل (ظ / 122 ب) السلامة المطلقة، فالسلامة مستلزمة لحصول الرحمة كما تقدم تقريره.
وقد عوف بهذا فضلُ هذه التحية وكمالُها على سائر تحيات الأمم، ولهذا اختارها الله لعباده وجعلَها تحيتهم بينهم في الدنيا وفي دار السلام. وقد بانَ لك أنها من محاسن الإسلام وكماله، فإذا كان
(2/669)
هذا في فرْع من فروع الإسلام، وهو التحية التي يعرفها الخاصُّ والعام، فما ظَنُّكَ بسائر محاسنِ الإسلام وجلالته وعظمته وبَهْجته التي شهدت بها العقول والفِطَر، حتى إنها من أكبر الشواهد وأظهر البراهين الدالَّة على نبوَّة محمد – صلى الله عليه وسلم -، وكمال دينه وفضله وشرف على جميع الأديان، (ق/ 161 ب) وأن معجزته في نفسِ دعوته، فلو اقتصر عليها كانت آيةً وبرهانا على صِدْقه، وأنه لا يحتاج معها إلى خارق ولا آية منفصلة، بل دينُه وشريعته ودعوتُه وسيرتُه من أعظم معجزاته عند الخاصة من أمته، حتى إن إيمانهم به إنما هو مُسْتند إلى ذلك، والآيات فى حقِّهم مقويات بمنزلة تظاهر الأدلة. ومن فَهِمَ هذا انفتح له باب عظيم من أبواب العلم والإيمان، بل باب من أبواب الجنة العاجلة، يرقص القلب فيه طرباً، ويتمنى أنه له بالدنيا وما فيها.
وعسى الله أن يأتي بالفتح أو أَمْر (1) من عنده، فيساعد على تعليق كتاب يتضمَّن ذكْر بعض محاسن الشريعة، وما فيها من الحِكم البالغة، والأسرار الباهرة، التي هي من أكبر الشواهد على كمال علم الرب -تعالى- وحكمته ورحمته وبره بعباده ولطفه بهم، وما اشتملت عليه من بيان مصالح الدارين والإرشاد إليها، وبيان مفاسد الدارين والنهي عنها، وأنه -سبحانه- لم يرحمهم في الدنيا (2) برحمة ولم يحسن إليهم إحسانَا أعظم من إحسانه إليهم بهذا الدين القَيِّم وهذه الشريعة الكاملة، ولهذا لم يذكر في القرآن لفظ “المنَّة عليهم” إلا في سياق ذكرها؛ كقوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي
__________
(1): “وعون من … “.
(2) “في الدنيا” ليست في (ظ ود).
(2/670)
ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران: 164] وقوله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)} [الحجرات: 17]، فهي مَحْض الإحسان إليهم، والرأفة بهم، وهدايتهم إلى ما به صلاحهم في الدنيا والآخرة، لا أنها محض التكليف والامتحان الخالي عن العواقب الحميدة والغايات التي لا سبيل إليها إلا بهذه الوسيلة، فهي لغاياتها المجربة المطلوبة (1) بمنزلة الأكل للشبع، والشرب للرِّي، والجماع لطلب الولد، وغير ذلك من الأسباب التي رُبطَت بها مسبباتها بمقَتضى الحكمة والعِزَّة، فلذلك نُصبَ هذا الصراطَ المستقيم وسيلة وطريقًا إلى الفوز الأكبر والسعادة، ولا سبيلَ إلى الوصول إليه إلا من هذه الطريق، كما سبيلَ إلى دخول الجَنَّة إلا بالعبور على الصراط، فالشريعةُ هي حياة القلوب، وبَهْجة النفوس، ولذة الأرواح، والمشقة الحاصلة فيها والتكليف وقع بالقصد (ق/ 162 أ) الثاني كوقوعه في الأسباب المفْضية إلى الغايات المطلوبة، لا أنه مقصود لذاته، فضلاً (ظ / 123 أ) عن أن يكون هو المقصود لا سواه. فتأمل هذا الموضع، وأعطه حقه من الفِكْر في مصادرها ومواردها، يَفْتَح لك بابًا واسعًا من العلم والإيمان، فتكون من الراسخين في العلم، من الذين يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون.
وكما أنها آية شاهدة له على ما وصفَ به نفسَه من صفات الكمال؛ فهي آية شاهدةٌ لرسوله بأنه رسولُه حقًّا، وأنه أعرفُ الخلق وأكملهم وأفضلهم وأقربهم إلى الله وسيلة، وأنه لم يُؤْتَ عبدٌ مثل ما أُوْتي، فَوالَهْفاه (2)
__________
(1) (ق): “وهي لغاياتها المطلوبة المحبوبة”.
(2) (ق): “فوا أَسفاه”.
(2/671)
على مساعدٍ على سلوكِ هذه الطريق، واستفتاحِ هذا الباب، والإفضاء إلى ما وراءَه ولو بشَطْر كلمة؛ بل والهفاه على من لا يتصدَّى لقطع الطريق، والصَّدِّ عن هذا المطلب العظيم، ويَدَع المَطِي وَجَادَّتها، ويعطي القَوْسَ باريها، ولكن إذا عَظمَ المطلوب قلَّ المساعد وكَثرُ المعارض والمعاند، وإذا كان الاعتماد على مجرَّد مواهب اللهِ وفضله، ويعينه (1) ما يتحمله المتحمل من أجله، فلا [يَثْنِكَ شَنآنُ] (2) من صدَّ عن السبيل وصَدَف، ولا تنقطع مع من عَجَزَ عن مواصلة السُّرى ووقف، فإنما هى مُهْجة واحدة، فانظر فيما تجعل تَلَفها، وعلى من تحتسب خَلَفها.
أنتَ القتيلُ بكلِّ (3) مَنْ أَحْبَبْتَه … فانظرْ لنفسِكَ في الهوى مَنْ تَصْطَفِي (4)
وأنفق أنفاسك فيما شئتَ، فإن تلك النفقة مردودة بعينها عليك، وصائرة لا سواها إليك، وبين العبد وبين السعادة والفلاح صَبْر ساعةٍ لله، وتحمُّل مَلامة في سبيل الله.
ومَا هِيَ إلا ساعَةٌ ثم تنقضي … ويَذهبُ هذا كُلُّهْ ويزولُ
وقد أطلنا ولكن ما أمللنا، فإن قلبًا فيه أدنى حياة يهتزُّ إذا ذُكِر الله ورسوله، ويود أن لو كان المتكلِّم كلُّه أَلْسِنةً تالية، وأن السامعَ كله آذان واعية، ومن لم يجد قلبه ثَمَّ، فليشتغل بما يُناسِبُه، فكُلٌّ ميسَّر لما خُلِق له، وكل يعمل على شاكِلته.
__________
(1) كذا في الأصول، و”المنيرية”: “يغنيه”، ومعناها غير ظاهر، ولعلها: “وفضله [يهون] ما … “.
(2) غير مُحررة في الأصول، والمثبت من “المنيرية”.
(3) (ق): “بحب”، والرواية في “الديوان”: “بأي”.
(4) البيت لابن الفارض، “ديوانه”: (ص/ 90).
(2/672)
وكلُّ امرئٍ يَهْفو إلى مَنْ يحِبُّه … وكلُّ امرئٍ يَصْبُو إِلى ما ينَاسِبه (1)
فصل
وقد عرفتَ بهذا جواب السؤال الحادي والعشرين، وأن كمال التحيةِ عند ذكر البركات، إذ قد استوعَبَت هذه الألفاظ الثلاث جميع المطالب من دفع الشرِّ، وحصول الخير، وثباته وكثرته ودوامه، فلا معنى للزِّيادة عليها، ولهذا جاءَ في الأثر المعروف: “انتهى السلامُ إلى: وبَرَكاته” (2).
فصل
وأما السؤال الثاني والعشرون، وهو: ما الحكمة في إضافة الرحمة والبركة إلى الله تعالى، وتجريد السلام عن الإضافة؟.
فجوابه: أن السلامَ (ق 162/ ب) لما كان اسمًا من أسماء الله تعالى، استغنى بذكره مطلقًا عن الإضافة إلى المسمى، وأما الرحمة والبركة فلو لم يُضافا إلى الله لم يُعلم رحمة مَنْ ولا بركة مَنْ تطلب. فلو قيل: “عليكم ورحمته وبركته” لم يكن في هذا اللفظ إشعار بالراحم المبارك الذي تطْلَب الرحمة والبركة منه، فقيل: “ورحمة الله وبركاته”، وجواب ثانٍ وهو: أن السلام يُرَاد به قول المسلم: “سلام عليكم”،
__________
(1) ذكره ابن القيم أيضًا في “مدارج السالكين”: (2/ 386) بلا نسبة.
(2) أخرجه مالك في “الموطأ”: (2/ 959) عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- وجاء نحوه عن ابن عمر وعمر عند البيهقي في “الشعب” -كما في “فتح الباري”: (11/ 8) – وقال الحافظ عن الثاني: “رجاله ثقات”.
ورواه الطبراني في “الأوسط”: (1/ 239) من حديث عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -، قال الهيثمي في “المجمع”: (8/ 37): “رجاله رجال الصحيح”.
(2/673)
وهذا في الحقيقة مضاف إليه ويُرَاد به حقيقة السلامة المطلوبة من “السلام” سبحانه وتعالى، وهذا يُضاف إلى الله، فيُضاف هذا المصدر إلى الطالب الذَّاكر تارة وإلى المطلوب منه تارة، فأُطْلِق ولم يضف (1). وأما الرحمة والبركة فلا تُضاف إلا إلى الله وحدَه، ولهذا لا يقال: “رحمتي وبركتي عليكم”، ويقال: “سلامٌ مني عليكم” (2)، “وسلام من فلان على فلان”.
وسرُّ ذلك: أن لفظ السلام اسم للجملة القولية، بخلاف الرحمة والبركة، فإنهما (ظ/123 ب) اسمان لمعنييهما دون لفظيهما فتأمَّله فإنه بديع.
وجواب ثالث: وهو أن الرحمة والبركة أتم من مجرَّد السلامة، فإن السلامة (3) تبعيد عن الشر، وأما الرحمة والبركة فتحصيل للخير وإدامة له وتثبيت وتنمية، وهذا أكمل، فإنه هو المقصود لذاته، والأول وسيلة إليه، ولهذا كان ما يحصل لأهل الجنةِ من النعيم أَكمل (4) من مجرَّد سلامتهم من النار، فأُضيفَ إلى الرب تبارك وتعالى أكمل المعنيين وأتمهما لفظًا، وأُطْلِق الآخر وفهمت (5) إضافته إليه معنًى من العطف وقرينة الحال، فجاءَ اللفظُ على أَتمِّ نظامٍ وأحسنِ سياق.
فصل
وأما السؤال الثالث والعشرون وهو: ما الحكمة في إفراد السلام
__________
(1) (ق).”يلفظ”.
(2) (ق): “على فلان”.
(3) “فإن السلامة” سقطت من (ق).
(4) من قوله: “فانه هو …. ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(5) (ق): “ولو تمت”.
(2/674)
والرحمة وجمع البركة؟.
فجوابه: أن السلامَ إما مصدر مَحْض فهو شيءٌ واحدٌ فلا معنى لجمعه، وإما اسم من أسماء الله فيستحيل أيضًا جمعه، فعلى التقديرين لا سبيل إلى جمعه.
وأما الرحمة؛ فمصدر أيضًا بمعنى التعطُف والحنان فلا تُجْمع أيضًا، والتاء فيها بمنزلتها في “الخلة والمحبة والرأفة والرقة”، ليست للتحديد بمنزلتها في “ضربة وتمرة”، فكما لا يقال: “رقات ولا خلات ولا رأفات”، لا يقال: “رحمات”، وهنا دخول الجمع يُشعر بالتحديد والتقييد بعددٍ، وإفراده يُشْعر بالمسمى مطلقًا من غير تحديد، فالإفراد هنا أكمل وأكثر (1) معنى من الجمع، وهذا بديع جدًا أن يكون مدلول الفرد أكثر من مدلول الجمع، ولهذا كان قوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ} [الأنعام: 149] أعمَّ وأتمَّ معنى من أن يقال: “فلله الحُجَج البوالغ”، وكان قوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] أتمّ معنًى من أن (ق/163 أ)، يقال: وإن تعدُّوا نِعَم الله لا تحصوها. وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة: 201] أتمّ معنًى من أن يقال: “حسنات”. وكذا قوله تعالى: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} [آل عمران: 171]، ونظائره كثيرة جدًّا، وسنذكر سِرَّ هذا فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وأما البركة؛ فإنها لما كان (2) مسماها كثرة الخير واستمراره شيئًا بعد شيء، كلما انقضى منه فرد خَلَفه فردٌ آخر، فهو خير مستمرٌّ
__________
(1) (ق): “أكبر وأكمل”.
(2) (ق ود): “كانت” ثم سقط منهما من قوله: “مسمّاها … ” إلى ” …. الإفراد”.
(2/675)
يتعاقب الأفراد أن على الدوام شيئًا بعد شيءٍ، كان لفظ الجمع أولى بها لدلالته على المعنى المقصود بها، ولهذا جاءت في القرآن كذلك في قوله تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73] فأفردَ الرحمةَ وجمعَ البركةَ، وكذلك في السلام في التشهد: “السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته”.
فصل
واعلم أن الرحمة والبركة المضافتين إلى الله -تبارك وتعالى- نوعان:
أحدهما: مضاف إليه إضافة مفعول إلى فاعله.
والثاني: مضاف إليه إضافة صفة إلى الموصوف بها.
فمن الأول قوله في الحديث الصحيح: “احْتَجَّتِ الجنةُ والنَّارُ” فذكر الحديث، وفيه: “فقال للجنةِ: إنَّما أنْتِ رَحْمتي أرْحم بكِ منْ أشَاءُ” (1)، فهذه رحمة: مخلوقة مضافة إليه إضافة المخلوق بالرحمة إلى الخالق تعالى، وسماها رحمةً؛ لأنها خُلِقت بالرحمة وللرحمة، وخُصَّ بها أهل الرحمة، وإنما يدخلها الرّحماء، ومنه قوله – صلى الله عليه وسلم -: “خلقَ الله الرَّحمةَ يومَ خَلَقها مائةَ رحمة كلُّ رحمة منها طِبَاق ما بينَ السَّماء والأرض” (2) ومنه قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (2846 و 2847)، من حديث أبى هريرة وأبى سعيد -رضي الله عنهما-.
(2) أحرجه مسلم رقم (2753 – وما بعده) من حديث سلمان الفارسي -رضي الله عنه- ولفظه: “إن الله خلَق يوم خَلَق السماوات والأرض مئة رحمة، كل رحمة طِباق ما بين السماء والأرض … ” الحديث.
والحديث بنحوه أخرجه البخارى رقم (6000) ومسلم رقم (2752) من حديث أبى هريرة -رضي الله عنه-.
(2/676)
رَحْمَةً} [هود: 9] ومنه تسميته -تعالى- المطرَ رحمةً بقوله: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57] وعلى هذا فلا يمتنع الدُّعاء المشهور بين الناس قديمًا وحديثاً، وهو قول الداعي: “اللهمَّ اجْمَعْنا في مسْتقَرِّ رَحْمَتِك”، وذكره البخاريّ في كتاب “الأدب المفرد” (1) له عن بعض السلف (2)، وحكى فيه الكراهة قال: لأن مستمرَّ رحمته ذاتُه، وهذا بناء على أن الرحمة هنا صفة، وليس مراد الداعي ذلك؛ بل مرادُه الرحمةُ المخلوقةُ التي هى الجنة.
ولكن الدين كرهوا ذلك لهم نظر دقيق جدًّا (ظ/ 112 أ)، وهو: أنه إذا كان المراد بالرحمة الجنة نفسها، لم يَحْسُن إضافة المستقر إليها، ولهذا لا يَحْسُن أن يُقال: “اجمعنا في مستقرِّ جنتك”، فإن الجنة نفسها هى دارُ القرار وهى المستقر نفسُه، كما قال تعالى: {حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)} [الفرقان: 76]، فكيف يضاف المستقر إليها، والمُسْتَقَر هو المكان الذي يَسْتَقِر فيه الشيء، ولا يصحّ أن يَطْلُب الداعي الجمع في المكان الذي تستقر فيه الجنة فتأمله. ولهذا قال: “مستقر رحمته ذاتُه”، فالصواب أن هذا لا يمتنع، وحتى لو قال صريحاً: “اجمعنا في مستقرِّ جنتك” لم يمتنع، وذلك أن المستقر (ق 163/ ب) أعمّ من أن يكون رحمة أو عذاباً، فإذا أُضيفَ إلى أحدِ أنواعه أُضِيْف إلى ما يُبيّنه ويميزه من غيره، كأنه قيل: في المستقرِّ الذي هو رحمتك، لا في المستقرِّ الآخر.
ونظير هذا أن يقول: “اجلس في مستقر المسجد”، أي: المستقر
__________
(1) (ص/ 236).
(2) هو أبو رجاء العطاردي.
(2/677)
الذي هو (1) المسجد، والإضافة في مثل ذلك غير ممتنعة ولا (2) مستكرهة. وأيضًا فإن الجنة وإن سُمِّيت رحمة، لم يمتنع أن يسمَّى ما فيها من أنواع النعيم رحمة. ولا ريب أن مستقر ذلك النعيم هو الجنة، فالداعي يطلب أن يجمعَه اللهُ ومن يحب فى المكان الذي تستقرُّ فيه تلك الرحمة المخلوقة في الجنة، وهذا ظاهر جدًّا فلا يمتنع الدعاءُ بوجه، والله أعلم (3).
وهذا بخلاف قول الداعي: “يا حَيُّ يا قَيُّوْمُ برَحْمَتِكَ أَسْتَغيثُ” (4)، فإن الرحمةَ هنا صفته تبارك وتعالى، وهي متعلَّق الاستغاثة، فإنه لا يُسْتغاث بمخلوق، ولهذا كان هذا الدعاءُ من أدعيةِ الكرب لما تضمَّنه من التوحيد والاستغاثة برحمة أرحم الراحمين، متوسِّلاً إليه باسمين عليهما مدار الأسماء الحسنى كلها، وإليهما مرجع معانيها جميعها، وهو اسم: الحيّ القيُّوم.
فإن الحياةَ مستلزمةٌ لجميع صفات الكمال، ولا يتخلَّف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة، فإذا كانت حياته تعالى أكملَ حياة وأتمها استلزم إثباتُها إثباتَ كلِّ كمال يضاد نفي كمال الحياة، وبهذا
__________
(1) من قوله: “رحمتك لا .. ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(2) (ق): “أو”.
(3) وهذا اختار شيخ الإسلام ابن تيمية، انظر “الاختيارات”: (ص/ 460)، وانظر ما سيأتي عند المصنف: (4/ 1418)، و”معجم المناهي اللفظية”: (ص/604).
(4) لفظ حديث أخرجه الترمذي رقم (3524)، والحاكم: (1/ 730)، والضياء في “المختارة”: (6/ 300). وغيرهم من حديث أنسٍ -رضي الله عنه- قال الترمذي: “هذا حديث غريب”.
وله شاهد من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أخرجه الحاكم: (1/ 509)، وصحَّحهما الحاكم.
(2/678)
الطريق العقلي أثبت متكلمو أهل الإثبات له تعالى صفةَ السمع والبصر والعلم والإرادة والقدرة (1) والكلام وسائر صفات الكمال.
وأما القيوم؛ فهو متضمن كمالَ غِناه وكمال قدرته، فإنه القائم بنفسه لا يحتاج إلى من يقيمه بوجه من الوجوه، وهذا من كمال غناه بنفسه عما سواه، وهو المقيم لغيره، فلا قيام لغيره إلا بإقامته، وهذا من كمال قدرته وعزته، فانتظمَ هذان الاسمان صفاتِ الكمال والغنى التام والقدرة التامة. فكأن المستغيث بهما مستغيث بكل اسم من أسماء الرب تعالى وبكل صفة من صفاته، فما أولى الاستغاثة بهذين الاسمين أن تكون في مظنة تفريج الكربات وإغاثة اللهفات وإنالة الطلبات.
والمقصود: أن الرحمةَ المستغاث بها هي صفة الرب تعالى لا شيء من مخلوقاته، كنا أن المستعيذ بعزته في قوله: “أعُوذُ بعِزتك” (2) مستعيذ بعزته التي هي صفته، لا بعزته التي خلقها يُعِزَ بها عبادَه المؤمنين. وهذا كله يقرر قولَ أهل السنة أن قولَ النبي – صلى الله عليه وسلم -: “أعود بكَلماتِ اللهِ التَّامَّاتِ” (3) يدل على أن كلماته -تبارك وتعالى- غير مَخلوقة، فإنه لا يسْتعاذ بمخلوق. وأما قوله تعالى حكاية عن ملائكته: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7] فهذه رحمة الصفة التىِ وسعتْ كلَّ شيء، كنا قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (4) [الأعراف: 156]، وسَعَتُها عمومُ تعلقها بكلِّ شئ، كما أن سَعَة علمه
__________
(1) (ظ ود): “القوة”.
(2) سيأتي تخريجه 2/ 709.
(3) سيأتي تخريجه 2/ 709.
(4) الآية ليست في (ق).
(2/679)
تعالى عموم تعلقه بكلِّ معلوم.
فصل
وأما البركة فكذلك: نوعان أيضًا:
أحدهما: بركةٌ هي فعله تبارك وتعالى، والفعل منها “بارك”، ويتعدَّى بنفسه تارة، وبأداةِ “على” تارة، وأداةِ “في” تارة، والمفعول منها “مبارك” وهو ما جُعِل كذلك (ظ/124 ب)، فكان مباركًا يجعله تعالى.
والنوع الثاني: بركة تضاف (1) إليه إضافة الرحمة والعِزَّة، والفعل منها “تبارك”، ولهذا لا يقال لغيره ذلك، ولا يصلح إلا له عز وجل، فهو سبحانه المتبارك، وعبده ورسوله المبارك، كما قال المسيح: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 31] فمن (2) بارك الله فيه وعليه فهو المبارك.
وأما صيغة “تبارك” فمختصَّة به تعالى كما أَطلَقها على نفسه بقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالمِينَ (64)} [غافر: 64]، {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} [الملك: 1]، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)} [الزخرف: 85]، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1]، {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} [الفرقان: 10]، {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ} [الفرقان: 61]__________
(1) (ظ ود): “من اتصاف”!.
(2) (ف): “فما”.
(2/680)
أفلا تراها كيف اطَّردت في القرآن جارية عليه مختصَّةَ به، لا تطلق على غيره، وجاءت على بناءِ السَّعَة والمبالغة، كتعالى وتعاظم ونحوه، فجاء بخاء “تبارك” على بناء “تعالى” الذي هو دال على كمال العلوِّ ونهايته، فكذلك “تبارك” دال على كمال بركته وعظمها وسَعَتها. وهذا معنى قول من قال من السلف: “تبارك: تعاظم”. وقال آخر: معناه أن تجيء البركات من قِبلِه، فالبركة كلُّها منه. وقال غيره: كثرَ خيره وإحسانُه إلى خلقه. وقيل: اتسعت رأفته ورحمته بهم. وقيل: تزايد عن كلّ شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله. ومن هنا قيل: معناه: تعالى وتعاظم، وقيل: تبارك تقدس، والقدس (1) الطهارة. وقيل: تبارك أي: باسمه يُبارَك في كلِّ شيء. وقيل: تبارك ارتفع، والمبارك المرتفع، ذكره البغوي (2). وقيل: تبارك أي البركة تكتَسَب وتنال بذكره. وقال ابن عباس: جاءَ بكلِّ بركة. وقيل: معناه ثبتَ ودامَ بما لم يزل ولا يزال، ذكره البغوي -أيضًا-.
وحقيقةُ اللفظة: أن البركة (ق / 164 ب] كثرة الخير ودوامه، ولا أحد أحق بذلك وصفًا وفعلاً منه تبارك وتعالى، وتفسير السلف يدور على هذين المعنيين، وهما متلازمان، لكن الأليق باللفظة معنى الوصف لا الفعل، فإنه فعل لازم مثل تعالى وتقدَّس وتعاظم.
ومثل هذه الألفاظ ليس (3) معناها أنه جعل غيره عالًا ولا قدوسًا ولا عظيمًا، وهذا مما لا يحتمله اللفظ بوجه، وإنما معناها في نفس من نُسِبت إليه فهو المتعالي المتقدس في نفسه، فكذلك “تبارك” لا
__________
(1) (ق): “والطهر”.
(2) في “معالم التنزيل”: (2/ 165).
(3) سقطت من (ق) فتغير المعنى.
(2/681)
يصح أن يكون معناها بارك في غيره، وأين أحدهما من الآخر لفظًا ومعنى، هذا لازم وهذا متعد، فعلمتَ أن من فسَّر “تبارك” بمعني: ألقى البركةَ وباركَ في غيره لم يُصِب معناها، وإن كان هذا من لوازم كونه تعالى متباركًا، فتبارك من باب مَجُد، والمَجْد: كثرة صفات الجلال والكمال والسَّعه والفضل، وبارك من باب أَعْطى وأنعَمِ، ولما كان المتعدِّي في ذلك يستلزم اللازم من غير عَكْس فَسَّرَ من فسَّرَ من السلف اللفظة بالمتعدي لينتظم المعنيين، فقال: مجيء البركة كلِّها من عنده، أو البركة كلّها من قِبَلِه، وهذا فرع على تباركه في نفسه.
وقد أشبعنا القولَ في هذا في كتاب “الفتح المكي”، وبينا هناك أن البركة كلَّها له تعالى ومنه، فهو المتبارك (1)، ومن ألقى عليه بركته فهو المبارك، ولهذا كان كتابه مباركًا، ورسوله مباركًا، وبيته مباركًا، والأزمنة والأمكنة التي شرفها واختصها عن غيرها مباركة؛ فلَيْلَة القَدْر مباركة، وما حول المسجد الأقصى مبارك، وأرض الشام وصفها بالبركة في أربعة مواضع من كتابه أو خمسة (2)، وتدبر قول النبي – صلى الله عليه وسلم – في حديث ثوبان الذي رواه مسلم في “صحيحه” (3) عند انصرافه من الصلاة: “اللهمَّ (ظ/125 أ) أنتَ السلامُ ومنكَ السلامُ تَبارَك يا ذا الجَلالِ والإكرَام”، فتأمل هذه الألفاظ الكريمة كيف جمعت نَوْعي الثناء، أعني: ثناء التنزيه والتسبيح، وثناءَ الحمد والتمجيد بأبلغ لفظٍ وأوجزه وأتمه معنى، فأخبر أنه السلامُ ومنه السلام، (فالسلام): له وصفاً وملكًا، وقد تقدم بيان هذا في وصفه تعالى بالسلام، وأن
__________
(1) (د): “المبارك”، و (ق) زيادة؛ “المبارك”.
(2) انظر “فضائل الشام”: (ص/ 91 – 93) لابن رجب الحنبلي.
(3) رقم (591).
(2/682)
صفاتِ كماله ونعوتَ جلاله وأفعاله وأسمائه كلها سلام، وكذا (الحمد) كله له وصفًا وملكًا، فهو المحمود في ذاته، وهو الذي يجعل من يشاءُ من عبادِه محمودًا فيهبه حمدًا من عنده، وكذلك (العِزَّة) كلها له وصفًا ومُلْكًا، وهو العزيز الذي لا شيءَ أعز منه، ومن عز من عباده (1) فبإعزازه له. وكذلك (الرحمة) كلها له وصفًا وملكًا. وكذلك (ق / 165 أ) البركة فهو المتبارك في ذاته الذي يبارك فيمن شاءَ من خَلْقه وعليه فيصير بذلك مباركًا: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالمِينَ} [غافر: 64]، {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)} [الزخرف: 85].
وهذا بِسَاط؛ وإنما غاية معارف العلماء الدُّنو من أول (2) حواشيه وأطرافه، وأما ما وراء ذلك فكما قال أعلم الخلق بالله، وأقربهم إلى الله، وأعظمهم عنده جاهًا: “لا أُحْصِي ثناءً عليكَ أنتَ كما أثنيتَ على نَفْسِك” (3)، وقال في حديث الشفاعة الطويل: “فأَخِرُّ ساجِدًا لربي فيفتح عليَّ مِنْ مَحامِدِه بما لا أحْسِنُه الآنَ” (4)، وفي دعاء الهمِّ والغم: “أسألكَ بكلِّ اسم هو لكَ سَمَّيتَ به نفسَكَ أو أنْزَلْته في كتابك أو علَّمْتَه أحدًا من خَلْقِك أو اسْتأثرتَ به في عِلْم الغيبِ عِنْدَك” (5)، فدلَ على أن لله سبحانه وتعالى أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده (6) دون خلقِه، لا يعلمها مَلك مقرَّب ولا نبى مُرْسَل. وحسبنا الإقرار بالعَجْز
__________
(1) من قوله: “وكذلك العزة … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(2) (ق): “أهل”.
(3) تقدم 1/ 294.
(4) تقدم 1/ 294.
(5) تقدم 1/ 293.
(6) (ق): “في غيبه”.
(2/683)
والوقوف عند ما أَذِن لنا فيه من ذلك، فلا نغلو فيه ولا نجفو عنه، وبالله التوفيق.
فصل
وأما السؤال الرابع والعشرون وهو: ما الحكمة في تأكيد الأمر بالسلام على النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – بالمصدر دون الصلاة عليه في قوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)}؟ [الأحزاب: 56].
فجوابه: أن التأكيد واقع على الصلاة والسلام، وإن اختلفت جهة التأكيد، فإنه سبحانه أخبر في أول الآية (1) بصلاته عليه، وصلاة ملائكته عليه مؤكِّدًا لهذا الإخبار بحرف “إن” مخبرًا عن الملائكة بصيغة الجمع المضاف إليه، وهذا يفيد العمومَ والاستغراق. فإذا استشعَرَت النفوس أن شأنه – صلى الله عليه وسلم – عند الله وعند ملائكته هذا الشأن، بادرت إلى الصلاة عليه وإن لما تُؤمَر بها، بل يكفي [تنبيهها] (2) والإشارة إليها بأدنى إشارة، فإذا أمِرت بها لم تحتج إلى تأكيد الأمر، بل إذا جاء مطلق الأمر بادرَتْ وسارعَتْ إلى موافقة الله وملائكته في الصلاة عليه صلوات الله وسلامه عليه، فلم يحتج إلى تأكيد الفعل بالمصدر، ولما خلا السلام عن هذا المعنى، وجاءَ في حيِّز الأمر المجود دون الخبر حَسُن تأكيده بالمصدر، ليدل على تحقيق المعنى وتثبيته، ويقوم تأكيد الفعل مقام تكريره (3)، كما حصل التكرير في الصلاة خبرًا وطلبًا، فكذلك حصل التكرير في السلام فعلاً ومصدرًا،
__________
(1) (ق): “في الأول”.
(2) (ق): “تفسيرها”، و (ظ ود): “تنبيها” والمثبت من “المنيرية”.
(3) (ق): “تقريره”.
(2/684)
فتأمله فإنه بديع جدًا، والله (ق / 165 ب) أعلم.
وقد ذكرنا بعض ما في هذه الآية من الأسرار والحكم العجيبة في كتاب “تعظيم شأن الصلاة والسلام على خير الأنام” (1) وأتينا فيه من الفوائد بما يُساوي أدناها رِحلة مما لا يوجد في غيره، ولله الحمد، فلنقتصر على هذه النكتة الواحدة.
فصل
وأما السؤال الخامس والعشرون وهو: ما الحكمة في تقديم السلام على النبي – صلى الله عليه وسلم – في الصلاة قبل الصلاة عليه؟ وهلا وقعت البداءة بما يدأ الله به في الآية؟.
فهذا سؤال -أيضًا- له شأن، لا ينبغي الإضراب عنه صفحًا وتمشيته، (ظ / 125 ب) والنبيّ – صلى الله عليه وسلم – كان شديد التحري لتقديم ما قدَّمه الله والبداءة بما بدأ به، فلهذا بدأ بالصفا في السعي وقال: “نَبْدَأ بما بَدَأ الله به” (2) وبدأ بالوجه ثم اليدين ثم الرأس في الوضوء، ولم يخل بذلكَ مرَّة واحدة، بل كان هذا وضوءه إلى أن فارقَ الدنيا، لم يقدِّم منه مؤخَّرًا ولم يؤخر منه مقدَّمًا قط، ولا يقدر أحد ينقل عنه خلاف ذلك لا بإسناد صحيح ولا حسن ولا ضعيف (3)، ومع هذا
__________
(1) وهو كتاب “جلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام – صلى الله عليه وسلم -“.
(2) تقدم 1/ 122.
(3) لكن أخرج أحمد في “المنسد”: (4/ 132)، ومن طريقه أبو داود رقم (122) عن المقدام بن معد يكرب في صفة وضوء النبي – صلى الله عليه وسلم -، وفيه تأخير المضمضة والاستنشاق بعد غسل الذراعين.
وإسناده جيد، وقواه غير واحد، انظر “نيل الأوطار”: (1/ 170)، و”تمام المنة”: (ص/ 88). =
(2/685)
فوقع في الصلاة والسلام عليه تقديم السلام وتأخير الصلاة، وذلك لسر من أسرار الصلاة، نشيرُ إليه بحسب الحال إشارة، وهو: أن الصلاة قد اشتملت علي عبودية جميع الجوارح والأعضاء مع عبودية القلب، فلكلِّ عضوٍ منها نصيبُه من العبودية، فجميع أعضاء المصلِّي وجوارحه متحرِّكة في الصلاة عبودية لله وذلًّا له وخضوعًا، فلما أكمل المصلِّي هذه العبودية، وانتهت حركاته، خُتِمَت بالجلوس بين يدي الربِّ -تعالى- جلوس تذلُّلٍ وانكسار وخضوع لعظمته عزَّ وجل، كما يجلس العبدُ الذليلُ بين يدي سيِّدِه، وكان جلوس الصلاة أخشعَ ما يكون من الجلوس وأعظمه خضوعًا وتذللًا، فأذن للعيد في هذه الحال بالثناء على الله تبارك وتعالى بأبلغ أنواع الثناء، وهو “التحيات لله والصلوات والطيبات”، وعادتهم إذا دخلوا على ملوكهم أن يحيوهم بما يليق بهم، وتلك التحية تعظيم لهم وثناء عليهم، والله تعالى أحق بالتعظيم والثناء من كل أحد من خلقه، فجمع العبدُ في قوله: “التحيات والصلوات والطيبات” أنواعَ الثناء (1) على الله، وأخبرَ أن ذلك له وصفا ومُلْكًا، وكذلك “الصلوات” كلها لله، فهو الذي يُصَلَّى له وحده لا لغيره، وكذلك “الطيبات” كلها من الكلمات والأفعال كلها له، فكلماته طيبات وأفعاله كذلك، وهو طيب، يصعد إليه إلا طيب، والكَلِم الطيب إليه يصعد، فكانت الطيبات (2) كلها له ومنه وإليه، له ملكًا ووصفًا، (ق/ 166 أ) ومنه مجيئها وابتداؤها، وإليه مصعدها ومنتهاها، والصلاة مشتملة (3)
__________
= وذكر الحافظ في “الدراية”: (1/ 29) عدة أحاديث فيها عدم الترتيب.
(1) من قوله: “من كل أحد … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) من قوله: “وأفعاله كذلك … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(3) (ق): “تشتمل”.
(2/686)
على عمل صالح وكَلِم طيب، والكَلِم الطَّيب إليه يصعد، وَالعَمَل الصَّالح يَرْفَعُهُ، فناسَبَ ذكر هذا عند انتهاء الصلاة وقتَ رفعها إلى الله تعالي، فلما أتى بهذا الثناء على الرب -تعالى- التفت إلى شأن الرسول الذي حَصَل هذا الخير على يديه، فسلَّم عليه أتمَّ سلام معَرَّف باللام التي للاستغراق، مقرونًا بالرحمة والبركة، هذا هو أصح شيءٍ في السلام عليه، فلا تبخل عليه بالألف واللام في هذا المقام.
ثم انتقلَ إلي السلام على نفسه وعلى سائر عبادِ الله الصالحين، وبدأ بنفسه؛ لأنها أهم والإنسان يبدأ بنفسه، ثم بمن يعول، ثم ختم هذا المقام بعقد الإسلام، وهو التشهد بشهادة الحق التي هى أول الأمر وآخره، وعندها كمل الثناء والتشهد.
ثم انتقل إلى نوع آخر وهو الدعاء والطلب، فالتشهد يجمع نوعي الدعاء؛ دعاء الثناء والخير، ودعاء الطلب والمسألة، والأول أشرف النوعين لأنه حق الرب ووصفه، والثاني حظُّ العبد ومصلحته، وفي الأثر: “مَنْ شَغلَه ذِكْري عن مَسْألتي أعْطَيته أفضلَ ما أعْطِيْ السَّائلِيْن” (1)، لكن لما كانت الصلاة أتم العبادات عبودية وأكملها شرع فيها النوعان، وقدم الأول منهما لفضله، ثم انتقل المصلي إلى النوع الثاني، وهو دعاء الطلب والمسألة، فبدأ بأهمه وأجله وأنفعه
__________
(1) أخرجه الترمذي رقم (2926) وقال: “هذا حديث حسن غريب”، والدارمى: (3/ 533) من حديث أبى سعيد الخدري -رضي الله عنه-، وفيه عطية العوفي ضعيف.
وجاء من حديث عمر -رضي الله عنه- أخرجه البخاري في “خلق أفعال العباد”: (ص/ 161)، وحسَّنه الحافظ ابن حجر، ورد على ابن الجوزي إيراده في “الموضوعات”، انظر “تنزيه الشريعة”: (2/ 323).
وروي من حديث جابر وحذيفة -رضي الله عنهم-.
(2/687)
له، وهو طلب الصلاة من الله على رسوله – صلى الله عليه وسلم -، وهو من أجلِّ أدعية العبد وأنفعها له في دنياه وآخرته، كما ذكرناه في كتاب “تعظيم شأن الصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم -” (1)، وفيه أيضًا أن الداعي جعله مقدمة (ظ/126 أ) بين يدي حاجته وطلبه لنفسه، وقد أشار النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – إلى هذا المعنى في قوله: “ثمَّ ليتخيَّر مِن الدُّعاءِ أعْجَبَه إِلَيْه” (2)، وكذلك في حديث فَضَالة بن عُبيد: “إِذا دَعا أحدُكم فَلْيبدأ بحَمْدِ اللهِ والثناءِ عليه، ثمَّ ليصلِّ على النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – ثمَّ لِيَدْعُ” (3)، فتأمل كيفَ جاء التشهد من أوله إلى آخره مطابقًا لهذا منتظمًا له أحسن انتظام، فحديث فضالةَ هذا هو الذي كشفَ لنا المعنى وأوضحه وبينه، فصلوات الله وسلامه على من أكملَ به لنا دينه، وأتمَّ برسالته علينا نعمته، وجعله رحمةً للعالمين وحسرة على الكافرين.
فصل
وأما السؤال السادس والعشرون وهو: ما الحكمة (ق/ 166 ب) في كون السلام عليه وقع بصيغة الخطاب والصلاة بصيغة الغيبة؟.
فجوابه يظهر مما تقدم: فإن الصلاةَ عليه طلبٌ وسؤال من الله أن يصلي عليه، فلا يمكن فيها إلا لفظ الغيبة؛ إذ لا يقال: “اللهم صل عليك”، وأما السلام عليه فأتى بلفظ الحاضر المخاطَب تنزيلاً له
__________
(1) “جلاء الأفهام”: (ص / 246 – 254).
(2) أخرجه مسلم رقم (402) من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-.
(3) أخرجه أبو داود رقم (1481)، والترمذي رقم (3477)، والنسائي: (3/ 44)، وابن حبان “الإحسان”: (5/ 290)، والحاكم: (1/ 230) بنحوه.
قال الترمذي: “هذا حديث حسن صحيح”، وصححه ابن حبان والحاكم على شرط مسلم.
(2/688)
منزلة المواجه، لحكمةٍ بديعةِ جدًّا، وهي: أنه – صلى الله عليه وسلم – لما كان أحبَّ إلى المؤمن من نفسه التي بين جنبيه، وأولى به منها وأقرب، وكانت حقيقته الذهنية ومثاله العلمي موجودًا في قلبه بحيث لا يغيب عنه إلا (1) شخصه، كما قال القائل:
مِثالُكَ في عَيْني وذِكْرُك في فَمِي … ومَثواكَ في قَلْبي فأينَ تَغِيبُ (2)!
ومن كان بهده الحال فهو الحاضر حقًا، وغيره وإن كان حاضرًا للعيان فهو غائب عن الجَنان، فكان خطابه خطاب المواجهة والحضور بالسلام عليه، أولى من سلام الغيبة، تنزيلاً له منزلةَ المواجِهِ المُعَايِن لقربه من القلب، وحلوله في جميع أجزائه بحيث لا يبقى في القلب جزء إلا ومحبته وذكره فيه، كما قيل لو شُقَّ عن قلبي يُرَى وسطه ذكرك.
والتوحيد في شطر “لا إله إلا الله محمد رسول الله،، ولا تستنكر استيلاء المحبوب على قلب المحب وغلبته عليه حتى كأنه يراه، ولهذا تجدهم في خطابهم لمحبوبهم إنما يعتمدون خطاب الحضور والمشاهدة مع غاية البعد العياني، لكمال القرب الروحي، فلم يمنعهم بُعد الأشباح عن محادثة الأرواح ومخاطبتها، ومن كَثُفَت طباعُه فهو عن هذا كله بمعزل، وأنه ليبلغ الحبُّ ببعضِ أهله أن يرى محبوبَه في القرب إليه (3) بمنزلة روحِه التي لا شيءَ أدنى إليه منها، كما قيل:
__________
(1) سقطت من (ق).
(2) ذكره ابن القيم في “روضة المحبين”: (ص/ 21)، والأبشيهي في “المستطرف”: (1/ 74) بلا نسبة؛ لكن أوله: “خيالك … “.
(3) (ق): “والبعد”.
(2/689)
يا مُقِيمًا مَدى (1) الزَّمان بقلبي … وبعيدًا عن ناظِريْ وعِيَانى
أنتَ رُوْحِي إن كنتُ لستُ أراها … فهي أَدنى إليَّ مِن كلِّ داني (2)
وقال آخر:
يا ثاويًا بينَ الجَوَانِحِ والحَشا … مِنِّي وإن بَعُدَتْ عَلَيَّ دِيَارُه (3)
وإنه ليلطُف شأن المحبة حتى يرَى أنه أدنى إليه وأقرب من روحه.
ولي من أبيات تُلِم بذلك:
وأدنى إلى الصبِّ من نفسِه … وإن كان من عينه نائيا
ومن كان مَعْ حِبه هكذا … فأنى يكون له ساليا
ثم يلطف شأنها ويقهر سلطانها حتى يغيب المُحِب (4) بمحبوبه عن نفسه (ق/167 أ) فلا يشعر إلا بمحبوبه ولا يشعر بنفسه، ومن هاهنا نشأت الشطحات الصوفية التي مصدرها عن قوة الوارِد وضعف التمييز، فحكَّم صاحبها فيها الحالَ على العلم، وجعل الحُكْم له، وعَزَل علمه من البين (5)، وحَكَّمَ المحفوظون فيها حاكمَ العلمِ على سلطانِ الحال (ظ / 126 ب)، وعلموا أنَّ كلَّ حالٍ لا يكون العلم حاكمًا عليه، فإنه لا ينبغي أن يُغتر به ولا يُسْكن إليه، إلا كما يُساكن المغلوب المقهور
__________
(1) (ق): “طول”.
(2) ذكره ابن القيم -أيضًا- في “روضة المحبين”: (ص/ 21) بلا نسبة، لكن أوله: “يا مقيمًا في خاطري وجناني”.
(3) ذكره ابن القيم في “روضة المحبين”: (ص/ 21) بلا نسبة.
(4) (ق): “المحبوب”.
(5) (ق): “التبين”.
(2/690)
لما يرد عليه مما يعجز عن دفعه، وهذه حال الكمَّل من القوم الذين جمعوا بين نور العلم وأحوال المعاملة، فلم تُطْفِئ عواصفُ أحوالهم نور علمهم (1)، ولم يقصر بهم علمهم عن الترقِّي إلى ما وراءه من مقامات الإيمان والإحسان، فهؤلاء حُكام على الطائفتين. ومن عَدَاهُم فمحجوب بعلم لا نفوذَ له فيه أو مغرورٌ بحال لا علمَ له بصحيحِه من فاسِدِه، والله المسؤول من فضله إنه قريب مجيب.
فالكامل من يحَكم العلمَ على الحال فيتصرف في حاله بعلمه، ويجعل العلم بمنزلة النور الذي يميز به الصحيحَ من الفاسد، لا من يقدح في العلم بالحال ويجعل الحال مِعْيارًا عليه وميزانًا، فما وافقَ حالَه من العلم قبلَه، وما خالَفه ردَّه ونفاه، فهذا أضلُّ الضلال في هذا الباب، بل الواجب تحكيم العلمِ والرجوع إلى حُكْمه، وبهذا أوصى العارفون من شيوخ الطريق كلهم، وحرَّضوا على العلم أعظمَ تحريف، لعلمهم بما في الحال المجرد عنه من الغوائل والمهالك، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
فصل
وأما السؤال السابع والعشرون وهو: ما الحكمة في ورود الثناء على الله في التشهد بلفظ الغَيبة مع كون -سبحانه- هو المخاطَب الذي يناجيه العبد، والسلام على النبي – صلى الله عليه وسلم – بلفظ الخطاب مع كونه غائبًا؟.
فجوابه: أن الثناء على الله عامة ما يجيء مضافًا إلى أسمائه الحسنى الظاهرة دون الضمير، إلا أن يتقدم ذكر الاسم (2) الظاهر
__________
(1) (ق): “أعمالهم”.
(2) ليس في (ق).
(2/691)
فيجيء بعده المضمر، وهذا نحو قول المصلِّى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)}، وقوله في الركوع: “سبحان ربى العظيم”، وفي السجود: “سبحان ربى الأعلى”، وفي هذا من السر: أن تعليق الثناء بأسمائه الحسنى هو لما تضمَّنتا معانيها من صفات الكمال ونعوت (ق 167/ ب) الجلال، فأتى بالاسم الظاهر الدال على المعنى الذي يثني به ولأجله عليه -تعالى- ولفظ الضمير لا إشعار له بذلك، ولهذا إذا كان لابدَّ من الثناء عليه بخطاب المواجهة أتى بالاسم الظاهر مقرونًا بميم الجمع الدالة علي جميع الأسماء والصفات، نحو قوله في رفع رأسه من الركوع: “اللهم ربنا لك الحمد”، وربما اقتصر على ذِكر الربِّ تعالى لدلالة لفظه على هذا المعنى، فتأمله فإنه لطيف المَنْزَع جدًّا.
وتأمَّل كيف صدر الدعاء المتضمِّن للثناء والطلب بلفظ “اللهم” كما في سيد (1) الاستغفار: “اللهمَّ أنتَ رَبي لا إله إلا أنتَ خَلَقتني وأنا عبدك … ” (2) الحديث، وجاءَ الدعاءُ المجرد مصدَّرًا بلفظ “الرب” نحو قول المؤمنين: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [آل عمران: 147]، وقول آدم -عليه السلام-: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23]، وقول موسى -عليه السلام -: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16]، وقول نوح -عليه السلام-: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)} [هود: 47]، وكان النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – يقول بين السجدتين: “رب اغفرْ لي ربِّ اغفر لي” (3).
__________
(1) ليست في (ق).
(2) أخرجه البخاري رقم (6306) وغيره عن حديث شداد بن أوس -رضي الله عنه-.
(3) أخرجه أبو داود رقم (874)، والنسائي: (2/ 231)، وابن ماجه رقم (897) =
(2/692)
وسرُّ ذلك: أن (1) الله تعالى يُسأل بربوبيته المتضمِّنة قدرته وإحسانه وتربيته عبدَه وإصلاح أمره، ويُثنى عليه بإلهيته المتضمنة إثبات ما يجب له من الصفات العُلى والأسماء الحسنى. وتدبَّر طريقة القرآن تجدْها كما ذكرتُ لك.
فأما الدعاء فقد ذكرنا منه أمثلة، وهو في القرآن -حيث وقع- لا يكاد يجيء إلا مُصَدَّرًا باسم الرب.
وأما الثناء -فحيث وقع- فمصدَّرٌ بالأسماء الحسنى، وأعظم ما يصَدَّر به اسم الله جل جلاله نحو: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} حيث جاءَ، ونحو: {سُبْحَانَ رَبِّكَ}، وجاء: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ} [الصافات: 180]، ونحوه: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الحشر: 1] حيثُ وقعت، ونحو (ظ/ 127 أ): {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالمِينَ (54)} [الأعراف: 54] {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} [المؤمنون: 14]، و {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1]، ونظائره.
وجاءَ في دعاءِ المسيح: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 114]، فذكَرَ الأمرين ولم يجئ في القرآن سواه، ولا رأيتُ أحدًا تعرَّض لهذا ولا نبَّه عليه. وتحته سِرٌّ عجيبٌ دالٌّ على كمال معرفة المسيح عليه السلام بربه وتعظيمه له، فإن هذا السؤال (2) كان عقيب سؤال قومِه له: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 112] فخوَّفهم بالله وأعلمهم أن (ق / 168 أ)، هذا مما لا يليق أن
__________
= وغيرهم من حديث حذيفة -رضي الله عنه-.
(1) (ق): “إن شاء”.
(2) (ق): “الدعاء”.
(2/693)
يُسأل عنه وأن الإيمان يرده، فلما ألحُّوا عليه في الطلب وخاف المسيح أن يداخلهم الشك إن لم يُجَابوا إلى ما سألوا، بدأ السؤالَ باسم “اللهم” الدال على الثناء على الله بجميع أسمائه وصفاته، ففي ضمن ذلك تصوره بصورة المُثني الحامد الذاكر لأسماء ربه المُثنى عليه بها. وأن المقصود منه بهذا الدعاء وقضاء هذه الحاجة إنما هو أن يُثْني على الربِّ بذلك ويمجده به ويذكر آلاءَه ويظهر شواهدَ قدْرته وربوبيته، ويكون برهانًا على صِدْق رسوله، فيحصل بذلك من زيادة الإيمان والثناء على الله أمر يَحْسُن معه الطلب، ويكون كالعُذْر فيه، فأتى بالاسمين: اسم الله الذي يثنى عليه به، واسم الرب الذي يُدْعَى ويُسئل به لما كان المقامُ مقامَ الأمرين. فتأمل هذا السرَّ العجيب ولا يَنْبُ عنه فهمُك، فإنه من الفهم الذي يؤتيه اللهُ من يشاء في كتابه، وله الحمد.
وأما السلام على النبي – صلى الله عليه وسلم – بلفظ الخطاب؛ فقد ذكرنا سِرَّه في الوجه الذي قبل هذا، فالعهد به قريب.
فصل
وأما السؤال الثامن والعشرون فقد تضمن سؤالين؛ أحدهما: ما السر في كون السلام في آخر الصلاة؟ والثانى: لِمَ كان مُعَرَّفًا؟.
والجواب: أما اختتام الصلاة به؛ فإنه قد جعل الله لكل عبادةٍ تحليلاً منها، فالتحلُّل (1) من الحجِّ بالرمي وما بعدَه، وكذلك التحلُّل من الصوم بالفطر بعد الغروب، فجَعَل السلامَ تحليلاً من الصلاة كما
__________
(1) “منها فالتحلل” سقطت من (ظ).
(2/694)
قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “تحرِيْمها التكبير وتحلِيْلها التسْلِيم” (1) تحريمها هنا هو: بابها الذي يُدْخل منه إليها، وتحليلها: بابها الذي يُخْرج به منها، فجعل التكبير باب الدخول، والتسليم (2) باب الخروج، لحكمة بديعة (3) بالغة، يفهمها من عَقَل عن الله وألزمَ نفسَه بتأمُّل محاسن هذا الدين العظيم، وسافر فكره في استخراجِ حكمِه وأسراره وبدائعه، وتعرَّبَ عن عالم العادة والإلْف، فلم يَقْنع بمجرَّد الأشباح حتَّى يعلم ما يقوم به من الأرواح، فإن الله تعالى لم يشرع شيئًا سدى ولا خِلوًا من حكمة بالغة، بل في طوايا ما شرعه وأمر به من الحِكَم والأسرار التي تبهر العقول ما يستدل به الناظر فيه على ما وراءَه، فيسجد القلب خضوعًا وإذعانًا.
فنقول وبالله التوفيق: لما كان المصلي قد تخلَّى عن الشواغل، (ق / 168 ب) وقطعَ جميع العلائق، وتطهر وأخذ زينته، وتهيَّأ للدخول على الله -عز وجل- ومناجاته، شُرع له أن يدخل عليه دخولَ العبيد على الملوك، فيدخل بالتعظيم والإجلال، فشُرع له أبلغ لفظ يدل على هذا المعنى، وهو قول: “الله أكبر”، فإن في هذا اللفظ من التعظيم والتخصيص والإطلاق في جانب المحذوف المجرور بـ “من” ما لا يوجد في غيره، ولهذا كان الصوابُ أن غير هذا اللفظ لا يقوم مقامه، ولا يؤدي معناه ولا تنعَقِد الصلاة إلا به، كما هو مذهب أهل
__________
(1) أخرجه أبو داود رقم (61)، والترمذي رقم (3)، وابن ماجه رقم (275)، وغيرهم من حديث عليٍّ -رضي الله عنه-.
والحديث قوَّاه الترمذي وابن السكن والحاكم وغيرهم.
(2) من قوله: “تحريمها هنا … ” إلى هنا ساقط من (د).
(3) ليست في (ق).
(2/695)
المدينة وأهل الحديث. فجَعَل هذا اللفظَ، واستشعارَ معناه، والمقصودَ به: بابَ الصلاة الذي يَدخل العبد على ربه منه، فإنه إذا استشعرَ بقلبه أن الله أكبر من كل ما يخطر بالبال استحيا منه أن يشغَل قلبه في الصلاة بغيره، فلا يكون موفَيًا (ظ/127 ب)، لمعنى “الله أكبر” ولا مؤدِّيًا لحقِّ هذا اللفظ، ولا أتى البيت من بابه، بل الباب عنه مسدود. وهذا بإجماع السلف: أنه لا يثاب العبد من صلاته إلا ما عَقَل منها وحَضره بقلبه.
وما أحسن ما قال أبو الفرج ابن الجوزي في بعض وَعْظه (1): “حضورُ القلب أول منزل من منازل الصلاة، فإذا نزلته انتقلْتَ إلى بادية المعنى (2)، فإذا رَحَلت عنها أنَخْت بباب المناجاة، فكان أولُ قِرَى ضيفِ اليقظةِ كَشْفَ الحجاب لعين القلب، فكيف يطمع في دخول مكة (3) من لا خرج إلى البادية، بعد تَبعث قلبك في كل وادٍ، فربما تفجأك الصلاةُ في ليس قلبك (4) عندك، فتبْعَث الرسول وراءه فلا يصادفه، فتدخل في الصلاة بغير قلب”-
والمقصود أنه قبِيح بالعبد أن يقول بلسانه: “الله أكبر” وقد امتلأَ قلبه بغير الله، فهو قِبْلة قَلْبِه (5) فى الصلاة، ولعله لا يحضر بين يدي ربه في شيء منها. فلو قضى حق: “الله أكبر” وأتى البيتَ من بابه، لدخل وانصرف بأنواع: التحف والخيرات، فهذا الباب الذي يدخل منه
__________
(1) في كتاب “المدهش”: (ص/ 454).
(2) كذا فى الأصول، وفى “المدهش”: “العمل”.
(3) إلى هنا الكلام متوافق مع ما في “المدهش” وبقية الكلام ليس فيه.
(4) ليست في (ق).
(5) أي: غير الله مستولٍ على قلبه، وفي (ق): “فهو وقلبه”.
(2/696)
المصلي وهو التحريم.
وأما الباب الذي يخرج منه، فهو باب السلام المتضمن أحد الأسماء الحسنى، فيكون مفْتَتِحًا لصلاته باسمه تبارك وتعالى ومختتمًا لها باسمه، فيكون ذاكرًا لاسم ربه أول الصلاة وآخرها، فأولها باسمه وآخرها باسمه (1)، فدخل فيها باسمه وخرج منها باسمه، مع ما في اسم “السلام” من الخاصية والحكمة (ق/169 أ)، المناسبة لانصراف المصلِّي من بين يدي الله، فإن المصلِّي ما دام في صلاته بين يدي ربه، فهو في حِماه الذي لا يستطيع أحد أن يخفره، بل هو في حِمى من جميع الآفات والشرور، فإذا انصرف من بين يديه -تبارك وتعالى- ابتدرته الآفات والبلايا والمحن، وتعرضت له من كلِّ جانب، وجاءه الشيطان بمصايده وجنده، فهو متعرِّض لأنواع البلاء والمِحَن، فإذا انصرفَ من بين يدي الله مصحوبًا بالسلام لم يزل عليه حافظ من الله إلى وقتِ الصلاةِ الأخرى. وكان من تمام النعمةِ عليه أن يكون انصرافه من بين يدي ربه بسلام يستصحبه ويدوم له ويبقى معه.
فتدبَّر هذا السرَّ الذي لو لم يكن في هذا التعليق غيره لكان كافيًا، فكيف وفيه من الأسرار والفوائد ما لا يوجد عند أبناءِ الزمان؟!، والحمد في ذلك لله وحده. فكما أن المنعم به هو الله وحده، فالمحمود عليه هو الله وحده. وقد عُرف بهذا جواب السؤال الثاني، وهو مجيء السلام هنا مُعَرَّفًا ليكون دالاً على اسمه “السلام”.
وليكن هذا آخر الكلام في مسألة “سلام عليكم”، فلولا قَصْد الاختصار لجاءت مجلَّدَاً ضخمًا. هذا ولم نتعرض فيها إلى المسائل
__________
(1) “فأولها باسمه وآخرها باسمه” سقطت من (ق).
(2/697)
المسطورة في الكتب من فروع السلام ومسائله، فإنها مملوءة منها، فمن أرادها فليأخذها من هناك، والحمد لله رب العالمين (1).
(2/698)
[تفسيرُ المُعَوِّذتيْن]روى مسلم في “صحيحه” (1) من حديث قيس بن أبي حازم، عن عُقْبة بن عامر، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ألم تَرَ آيات أنزِلتِ الليلةَ لَم يُرَ مِثلُهُنَّ قَطُّ: {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، {أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} “”.
وفي لفظ آخر (2) من رواية محمد بن إبراهيم التيمي، عن عُقْبة (3) أن رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قال له: “ألا أخْبِركَ بأَفْضَلِ ما تَعَوذ به المتعوِّذُوْن”؟ قلت: بلى، قال: ” {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} “.
(ظ/128 أ)، وفي الترمذي (4): حدثنا قُتيبة، نا ابن لَهِيعة، عن يزيد ابن أبي حبيب، عن علي بن رَبَاح، عن عُقْبة بن عامر، قال: “أمرني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أَنْ أقرأ بالمعوّذَتين في دُبُر كلِّ صلاةِ” قال: “هذا حديث غريب” (5).
وفي الترمذي والنسائي و”سنن أبي داود” عن عبد الله بن حبيب، قال: خَرجْنا في ليلةِ مَطَرِ وظلْمَة نطلبُ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – ليصلي لنا، فأدركناه، فقال: “قل”، فلم أقل شيئًا، ثم قال: “قل”، فلم أقل شيئًا، ثم قال:
__________
(1) رقم (814).
(2) أخرجه أحمد: (3/ 417، 4/ 144)، والنسائي: (8/ 251) وفي سنده من لا يُعرف، لكنه يصح بشواهده الكثيرة، وانظر “السلسلة الصحيحة” رقم (1104).
(3) كذا هنا ومثله في الموضع الأول في “المسند”! والحديث معروف من رواية التيمي عن القاسم أبي عبد الرحمن أو أبي عبد الله عن عقبة.
(4) رقم (2903)، وأخرجه -أيضًا- أبو داود رقم (1522)، والنسائي: (3/ 68) من غير طريق ابن لهيعة.
(5) وكذا في “تحفة الأشراف”: (7/ 312)، وفي المطبوعة: “حديث حسن غريب”.
(2/699)
“قُلْ”، قلت يا رسول الله ما أقول؟ قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} (ق / 169 ب) المعَوِّذتين حِيْنَ تُمسِي وحِيْنَ تُصْيح ثلاثَ مراتٍ تكفيكَ مِنْ كلِّ شيءٍ” (1).
قال الترمذي: “حديث حسن صحيح (2).
وفي الترمذي (3) أيضًا من حديث الجُرَيْري عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: “كان رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – يَتَعَوَّذ من الجان وعَيْنِ الإنسان حتَّى نَزلتِ المعوِّذَتان، فلما نزلتا أخَذ بهما وتركَ ما سِواهما” (4).
ثم قال: “وفي الباب عن أنس، وهذا حديث حسن غريب” (5).
وفي “الصحيحين” (6) عن عائشة رضي الله عنها: “أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – كان إذا أَوى إلى فراشه نفثَ في كفيه بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين جميعًا، ثم يمسح بهما وجْهَه وما بلغت يداه من جسده. قالت عائشة: فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعلَ ذلكَ به”.
قلت: هكذا رواه يونس، عن الزهري، عن عروة (7)، عن عائشة رضي الله عنها، ذكره البخاري.
ورواه مالكٌ، عن الزهري، عن عروة عنها: “أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – كان
__________
(1) أخرجه أبو داود رقم (5082)، والترمذي رقم (3575)، والنسائي: (8/ 250).
(2) لفظه: “هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه” اهـ.
(3) رقم (2058).
(4) وأخرجه -أيضًا- النسائي: (8/ 271)، وابن ماجه رقم (3511) ْ.
(5) في (ظ ود) و”المنيرية”: “حديث غريب”، والمثبت من (ق) والترمذي و “تحفة الأشراف”: (3/ 459).
(6) البخاري رقم (5748)، ومسلم: (4/ 1723 رقم 51).
(7) “عن عروة” سقطت من (ق).
(2/700)
إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات ويَنْفُث، فلما اشتدَّ وجَعه كنت أقرأ عليه وأمسح عليه بيده رجاء بركتها” (1).
وكذلك قال مَعْمر، عن الزهري، عن عروة، عنها: “أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – كان ينفُثُ على نفسه في مرضه الذي قُبِض فيه بالمعوِّذات، فلما ثَقلَ كنتُ أنا أنفثُ عليه بهنَّ وأمسحُ بيده نفسه لبركتها” فسألتُ ابنَ شهاب كيف كان ينفُث؟ قال: ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه. ذكره البخاري (2) أيضًا.
وهذا هو الصواب: أن عائشةَ كانت تفعل ذلك، والنبيُّ – صلى الله عليه وسلم – لم يأمرها ولم يمنعها من ذلك، وأما أن يكون استرقى وطلب منها أن ترقيه = فلا، ولعل بعض الرواة رواه بالمعنى، فظنَّ أنها لما فعلت ذلك وأقرها النبي (3) – صلى الله عليه وسلم – أنه كان يأمرها، وفرْقٌ بين الأمرين، ولا يلزم من كون النبي – صلى الله عليه وسلم – قد أقرها على رقيته أن يكون مسترقيًا، فليس أحدهما بمعنى الآخر، ولعلَّ الذي كان يأمرها به إنما هو المسح على نفسه بيده، فيكون هو الراقي لنفسه، ويدُه لما ضَعُفت عن التنفُل على سائر بدنه أمرها أن تنقلها على بدنه، ويكون هذا غير (4) قراءتها هي عليه ومسحها على بدنه، فكانت تفعل هذا وهذا، والذي أمرها به إنما هو بِنَقْل يده لا رقيته، والله أعلم.
والمقصودُ الكلام على هاتين السورتين، وبيان عظيم منفعتهما، وشدَّة الحاجة بل الضرورة إليهما، وأنه لا يستغني عنهما أحدٌ قط،
__________
(1) رواه البخاري رقم (5016)، ومسلم: (4/ 1723).
(2) رقم (5735 و 5751)، ومسلم: (4/ 1723).
(3) من هنا إلى “وأقرها” الثانية ساقط من (ظ ود).
(4) (ق): “عين” وهو خطأ.
(2/701)
وأن لهما تأثيرَاً خاصَّا في دفع السحر والعين وسائر الشرور، وأن حاجةَ العبدِ إلى الاستعاذة بهاتين (ق/ 170 أ) السورتين أعظمُ من حاجته إلى النفَس والطعام والشراب واللباس.
فنقول -والله المستعان-: قد اشتملت السورتان على ثلاثةِ أصول، وهي أصول الاستعاذة (1):
أحدها: نفس الاستعاذة.
والثاني: المستعاذ به.
والثالث: المستعاذ منه.
فبمعرفة ذلك تُعْرَف شدة الحاجة والضرورة إلى هاتين السورتين، فلنعقد لهما ثلاثة فصول؛ الفصل الأول: في الاستعاذة، والثاني: في المستعاذ به، والثالث: في المستعاذ منه.
__________
(1) “وهي أصول الاستعاذة” ساقطة من (ق).
(2/702)
الفصل الأول
اعلم أن لفظ “عاذ” وما تصرف منها تدل على التحرُّز (ظ / 128 ب) والتحصّن والالتجاء (1)، وحقيقة معناها: الهروب من شيءٍ تخافه إلى من يعصمك منه، ولهذا يسمى المستعاذ به: “مَعَاذًا”، كما يسمى “ملجأ ووَزَرًا”.
وفي الحديث: أن ابنةَ الجَوْن لما أدخِلت على النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – فوضع يده عليها، قالت: أعوذُ باللهِ منكَ، فقال لها: “لقد عذْتِ بِمَعَاذٍ الحَقِي بأهْلِكِ” (2). فمعنى “أَعوذُ”: ألتجئ وأعتصِم وأتحرز، وفي أصله قولان؛ أحدهما: أنه مأخوذ من الستر. والثاني: أنه مأخوذ من لزوم المجاورة.
فأما من قال: إنه مأخوذ من الستر، قال: العرب تقول للنبت الذي في أصل الشجرة التي قد استتر بها: “عُوَّذ” بضم العين وتشديد الواو وفتحها، فكأنه لما عاذ بالشجرة واستتر بأصلها وظِلها سموه “عُوَّذا”، فكذلك العائذ قد استتر من عدوه بمن استعاذ به منه، واستجنَّ به منه.
ومن قال: هو من (3) لزوم المجاورة، قال: العرب تقول للحْمِ إذا لَصِق بالعظم فلم يتخلص منه “عُوذ”؛ لأنه اعتصم به واستمسك به، فكذلك العائد قد استمسك بالمعَاذ (4)، واعتصم به ولزمه.
__________
(1) (ظ): “والنجاة”، (د): “التخلص والنجاة”.
(2) أخرجه البخاري رقم (5255) من حديث أبي أُسيد الساعدي -رضي الله عنه-.
(3) من (ق).
(4) كذا في الأصول: “المعاذ”، وفي “المنيرية”: “المستعاذ به”.
(2/703)
والقولان حق، والاستعاذة تنتظمهما معًا، فإن المستعيذ مستتر بمعَاذه متمسِّك به معتصم به، قد استمسك قلبه به ولزمه، كما يلزم الولد أباه إذا شَهَر عدوه (1) سيفًا [(2) وقصده به، فهربَ منه فعرضَ له أبوه في طريق هربه، فإنه يُلقي نفسَه عليه ويستمسك به أعظم استمساك، فكذلك العائد قد هرب من عدوه الذي يبغي هلاكَه إلى ربِّه ومالكه، وفرَّ إليه وألقى نفسه بين يديه واعتصم به واستجار به والتجأ إليه.
وبعد؛ فمعنى الاستعاذة القائم بقلبه وراء هذه العبارات، وإنما هي تمثيل وإشارة وتفهيم، وإلا فما يقوم بالقلب حينئذٍ من الالتجاء والاعتصام والانطراح بين يدي الرب، والافتقار إليه والتذلل بين يديه، أمر لا تحيط به العبارة.
ونظير هذا التعبير عن معنى محبته وخشيته وإجلاله ومهابته، فإن العبارة تَقْصُر عن وصف ذلك، ولا تُدرك إلا بالاتصاف بذلك، لا بمجرد الصفة والخبر، كما أنك إذا وصفتَ لذَّة الوقاع لِعِنينٍ لم تُخلَق له شهوةٌ أصلاً، فلو قربتها وشبَّهتها بما عساك أن تشبهها به لم تحصل حقيقة معرفتها في قلبه، فإذا وصفتها لمن خُلِقَت فيه وركبت فيه عرفها بالوجود والذوق.
وأصل هذا الفعل: “أَعْوُذ” بتسكين العين وضم الواو، ثم أُعِلَّ بنقل حركة الواو إلى العين وتسكين الواو، فقالوا: “أَعُوْذ” على أصل هذا الباب، ثم طَرَدوا إعلالَه فقالوا في اسم الفاعل: “عائذ”، وأصله: “عاوذ”، فوقعت الواو بعد ألف فاعل فقلبوها همزة، كما
__________
(1) (ظ ود): “عنده”، و”المنيرية”: “أشهر عليه عدوه”.
(2) من هنا إلى قوله ص/ 707: “أنشأه” ساقط من (ق).
(2/704)
قالوا: “قائم وخائف”، وقالوا في المصدر “عياذًا بالله”، وأصله “عِواذًا” كـ “لِواذ”، فقلبوا الواو ياء للكسرة قبلها، ولم تحصنها حركتها؛ لأنها قد ضعفت بإعلالها في الفعل، وقالوا “مستعيذ”، وأصله: “مستعوِذ” كـ “مستخْرِج”، فنقلوا كسرة الواو إلى العين قبلَها، قلبت الواو قبلها كسرة فقلبت ياء على أصل الباب (1).
فإن قلت: فلم دخلت السين والتاء في الأمر من هذا الفعل كقوله: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98] ولم تدخل في الماضي والمضارع، يل الأكثر أن يقال: “أعوذ بالله”، و”عذْت بالله”، دون “أستعيد” و”استعذت”؟.
قلت: السين والتاء دالة على الطلب، فقوله: “أَسْتَعيذ بالله”، أي: أطلب العياذَ به، كما إذا قلت: “أَسْتَخير الله”، أي: أطلبُ خِيرتَه، و”أَسْتَغفره” أي: أطلب مغفرته، و”أَسْتَقِيله” أي: أطلب إقالته، فدخلت في الفعل إيذانًا لطلب هذا المعنى من المعاذ، فإذا قال المأمور: “أعوذ بالله”، فقد امتثل ما طُلِب منه؛ لأنه طَلَب منه الالتجاء والاعتصام، وفَرْق بين نفس الالتجاء والاعتصام، وبين طلب ذلك. فلما كان المستعيذ (ظ/129 أ) هاربًا ملتجئًا معتصمًا بالله أتى بالفعل الدال على ذلك دون الفعل الدال على طلب ذلك، فتأمله.
وهذا بخلاف ما إذا قيل: “اسْتَغْفِرِ الله”، فقال: “أَستَغْفر الله”، فإنه طلب منه أن يطلب المغفرةَ من الله، فإذا قال: “أسْتَغْفِر الله” كان ممتثلاً؛ لأن المعنى أطلب من الله أن يغفر لي. وحيث أراد هذا المعنى في الاستعاذة فلا ضير أن يأتي بالسين، فيقول: “أَسْتَعيد بالله”، أي: أطلب منه أن يعيذني، ولكن هذا معنى غير نفس الاعتصام
__________
(1) كذا العبارة وفيها اضطراب، ولعلها: “ثم قلبت الواو ياءً للكسرة قبلها”.
(2/705)
والالتجاء والهرب إليه فالأول: مخبر عن حالِه وعِياذِه بربه، وخبرُه يتضمن سؤاله وطلبه أن يعيذه. والثاني: طالب سائل من ربه أن يعيذه، كأنه يقول: أطلب منك أن تعيذني، فحال الأول أكمل.
ولهذا جاء عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في امتثال هذا الأمر: “أعوذ باللهِ من الشيطان الرجيم”، و”أعُوذ بكَلِمَات اللهِ التَّامات” (1) – و”أعُوْذُ بعِزَّةِ اللهِ وَقدْرَتهِ” (2) دون “أسْتَعيذ”، بل الذي علمه الله إياه أن يقول: {أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ} {أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} “أَسْتَعيذ”، فتأمل هذه الحكمة البديعة.
فإن قلت: فكيف جاء امتثال هذا الأمر بلفظ الأمر والمأمور به، فقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} ومعلوم أنه إذا قيل: “قل الحمد لله”، و”قل سبحان الله”، فإن امتثاله أن يقول: “الحمد لله، وسبحان الله، ولا يقول: “قل سبحان الله”؟.
قلت: هذا هو السؤال الذي أورده أُبَيُّ بن كعب على النبي – صلى الله عليه وسلم – بعينه وأجابه عنه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. قال البخاري في “صحيحه” (3): حدثنا قتيبة، ثنا سفيان، عن عاصم وعَبْدَة، عن زرٍّ، قال: “سألت أُبيَّ بن كعب عن المعوذتين، فقال: سألت رسولَ اللُّه – صلى الله عليه وسلم -، فقال: “قِيْلَ لي فقلت”، فنحن نقول كما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
ثم قال (4): حدثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، ثنا عَبْدة بن أبي لُبَابة،
__________
(1) أحرجه مسلم رقم (2708) من حديث خولة بت حكيم السلمية – رضي الله عنها -.
(2) أخرجه مسلم رقم (2202) من حديث عثمان بن أبي العاص -رضي الله عنه- بلفظ: “أعوذ بقدرة الله”، وأخرجه أحمد (29/ 435 رقم 17907)، وأبو داود رقم (3891)، والترمذي رقم (2080) بلفظ المؤلف.
(3) رقم (4976).
(4) أي: البخاري رقم (4977).
(2/706)
عن زِرِّ بن حُبَيش، وحدثنا عاصم عن زِرٍّ، قال: “سألت أُبى ابن كعب، قلت: أبا المنذر إن أخاك ابنَ مسعود يقول كذا وكذا، فقال: إني سألت رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم -، فقال: “قِيْلَ لي، فقلتُ: قُل” (1) فنحن نقول كما قال رسول الله”.
قلت: مفعول القول محذوف، وتقديره: “قيل لي: قل”، أو: قيل لي هذا اللفظ، فقلت كما قيل لي.
وتحت هذا من السر أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – ليس له في القرآن إلا بلاغه، لا أنه هو أنشأه] من قِبل نفسِه، بل هو المبلَغ له عن الله. وقد قال الله له: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} فكان مقْتضَى البلاغ التام أن يقول: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} كما قال الله. وهذا هو المعنى الذي أشار إليه – صلى الله عليه وسلم – (2) بقوله: “قيل لي فقلت” أي: فلستُ مبتدئًا بل أنا مبلِّغ أقولُ كما يقال لي، وأبلّغ كلامَ ربى كما أنزله إليَّ.
فصلوات الله وسلامه عليه، لقد بلَّغ الرسالةَ وأدى الأمانةَ، وقال كما قيل له، فكفانا وشفانا من المعتزلة والجهمية وإخوانهم ممن يقول: هذا القول العزيز (3) وهذا النظمُ كلامُه ابتدأَ هم به! ففي هذا الحديث أَبْيَن الرد لهذا القول، وأنه – صلى الله عليه وسلم – بلغ القولَ الذي أُمِر (ق/ 170 ب) بتبليغِه على وجهِه ولفظِه، حتى إنه لما قيل له: “قل” قال هو: “قل”؛ لأنه مبلغ محض، وما على الرسول إلا البلاغ.
__________
(1) كذا في (ق وظ)، وفي (د) والرواية التي شرح عليها الحافظ: “قيل لي: قل، فقلت”. وكلام المؤلف يقضي بأن النص ليس فيه “قل”.
(2) (ظ ود): “أشار النبي – صلى الله عليه وسلم – … “.
(3) (ظ ود): “القرآن العربي”.
(2/707)
الفصل الثاني
في المستعاذ به، وهو اللهُ وحده، رب الفلق، ورب الناس، ملك الناس، إله الناس، الذي لا ينبغي الاستعاذة إلا به، ولا يستعاذ بأحد من خلقه، بل هو الذي يعيذ المُستعِيذينَ، ويعصِمُهم ويمنعُهُم من شرِّ ما استعاذوا من شَرِّه.
وقد (ظ 129/ ب) أخبر اللهُ تعالى في كتابه عمن استعاذَ بخلقه، أن استعاذَتَهُ زادته طغيانًا ورهقًا، فقال حكاية عن مؤمني الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)} [الجن: 6]، جاء في التفسير (1): أنه كان الرجلُ من العرب في الجاهلية إذا سافر فأمسى في أرض قَفْر، قال: أعوذ بسَيِّدِ هذا الوادي من شرِّ سفهاء قومه، فيبيت في أمنٍ وجوار منهم حتى يصبح، أيْ: فزاد الإنسَ الجنُّ باستعاذتهم بسادتهم رَهَقًا، أي: طغيانًا (2) وإثمًا وشرًّا، يقولون: سُدْنا الإنسَ والجنَّ.
والرَّهَقُ في كلام العرب: الإثم وغِشْيان المحارم (3)، فزادهم بهذه الاستعاذة غشيانًا لما كان محظوراً من الكِبْر والتعاظم، فظنوا أنهم سادوا الإنسَ والجنَّ.
واحتج أهل السُّنَة على المعتزلة في أن كلمات الله غيرُ مخلوقة
__________
(1) جاء ذلك عن جماعة من السلف، انظر تفسير الطبري”: (12/ 263).
(2) بعدها في (ق): “وغيًّا وإثمًا .. ).
(3) انظر “القاموس”: (ص/1148).
(2/708)
بأن النبي – صلى الله عليه وسلم – استعاذ بها (1) بقوله: “أعُوذُ بكَلِمَاتِ الله التَّامَّاتِ” (2) وهو – صلى الله عليه وسلم – لا يستعيذ بمخلوق أبدًا (3).
ونظير ذلك قوله: “أعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبتَكَ” (4)، فدل على أن رضاه وعفوه من صفاته وأنه غير مخلوق. وكذلك قوله: “أعُوذُ بعِزَّةِ اللهِ وَقُدْرتهِ” (5)، وقوله: “أعُوذُ بِنوُرِ وَجْهِكَ الَّذِي أشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ” (6)، وما استعاذَ به النبي – صلى الله عليه وسلم – غير مخلوق، فإنه لا يستعيذُ إلا بالله أو بصفةٍ من صفاته.
وجاءت الاستعاذةُ في هاتين السورتين باسم الرَّبِّ والملك والإله، وجاءت الربوبية فيها مضافة إلى الفلق وإلى الناس، ولابد من أن يكونَ ما وصف به نفسَه -سبحانه- في هاتينِ السورتينِ يناسبُ (7) الاستعاذة المطلوبة، ويقتضي دفعَ الشَّرِّ المستعاذ منه أعظم مناسبة وأبينها، وقد قررنا في مواضع متعددة أن الله -سبحانه- يُدْعى بأسمائه الحسنى، فيُسألُ لكل مطلوب باسم يناسبه ويقتضيه (8).
وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – في هاتين السورتين: إنه “مما تعَوَّذَ المتَعَوِّذُونَ
__________
(1) من (ق).
(2) تقدم ص/706.
(3) ليس في (ق).
(4) تقدم 1/ 294.
(5) تقدم ص/706.
(6) قطعة من دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم – عند عودته من الطائف أخرجه ابن إسحاق “سيرة ابن هشام”: (2/ 419) عن محمد بن كعب القرظي مرسلاً، والضياء في “المختارة”: (9/ 181) وغيره، عن عبد الله بن جعفر الطيار مرسلاً -أيضًا-.
(7) سقطت من (ظ ود).
(8) انظر ما تقدم في هذا الكتاب: (1/ 281، 289، وغِيرها)، و “المدارج”: (1/ 482).
(2/709)
بِمِثْلِهِما” (1)، فلابد أن يكون الاسم المستعاذ به مقتضيًا للمطلوب، وهو دفع الشر المستعاذ منه أو رفعه، وإنما يتقرر هذا بالكلام في الفصل الثالث، وهو الشيء المستعاذ منه، فتتبين المناسبة المذكورة فنقول:
الفصل الثالث فى أنواع الشرور (ق/ 171 أ) المستعاذ منها فى هاتين السورتينِ
الشَّرّ الذي يُصيبُ: العبدَ، لا يخلو من قسمين: إما ذنوبٌ منه يعاقَب عليها، فيكون وقوعُ ذلك بفعله وقصده وسعيه، ويكون هذا الشرُّ هو الذنوبَ وموجباتها، وهو أعظمُ الشَّرَّيْنِ وأدْوَمُهما وأشدهما اتصالاً بصاحبه، وإما شرٌّ واقع به من غيره، وذلك الغير إما مكلَّفٌ أو غير مكلف، والمكلف إما نظيرُه وهو الإنسان، أو ليس نظيرَهُ وهو الجِنِّيُّ، وغيرُ المكلف مثل الهوَامِّ وذوات الحُمى (2) وغيرها.
فتضمنَت هاتان السورتان الاستعاذةَ من هذه الشرور كلِّها، بأوجز لفظ وأجمعِهِ وأَدَلِّهِ على المراد وأعمَّه استعاذةً، بحيث لم يبقَ شرٌّ من الشُّرور إلا دخلَ تحتَ الشَّر المستعاذ منه فيهما.
فإنَّ سورة الفلق تضمَّنت الاستعاذةَ من أمور أربعة: أحدها: شرُّ المخلوقات التي لها شرّ عمومًا. الثاني: شرُّ الغاسق إذا وَقَبَ. الثالث: شَرّ النَّفَّاثَات في العُقَد. الرابع: شرُّ الحاسد إذا حَسَدَ. فنتكلَّمُ على هذه الشُّرور الأربعة، ومواقعها، واتصالها بالعبد، والتحرُّز منها قبل
__________
(1) تقدم ص/ 699.
(2) الحُمَّة: سُمُّ كل شيء يلدغ أو يلسع، ويجمع على: حمات وحُمَى. “اللسان”: (14/ 201).
(2/710)
وقوعها، وبماذا تُدفع بعد وقوعها.
وقبل الكلام في ذلك لابد من بيان الشَرِّ ما هو وما حقيقته؟ (1) فنقول:
الشَّرُّ يقالُ على شيئين: على الألم وعلى ما يُفضي إليه، وليس له مسمى سوى ذلك، فالشرورُ هي (ظ/ 130 أ) الآلام وأسبابُها، فالمعاصي وِالكفرُ والشِّركُ وأنواع الظلم هى شرور، وإن كان لصاحبها فيها نوع غرض ولَذة لكنها شرورٌ، لأنها أسبابُ الآلام ومفضيَةٌ إليها كإفضاء سائر الأسباب إلى مسبَّباتِها، فترتُّب الألم عليها كترتّب الموتِ على تناولُ السُّموم القاتلة، وترتبه على الذبح والإحراق بالنار والخنق بالحبل، وغير ذلك من الأسباب التي نصِبَت (2) مفضيةً إلى مسبَّباتها ولابُدَّ، ما لم يمنعْ السببيةَ مانع، أو يعارضْ السببَ ما هو أقوى منه، وأشد اقتضاء لضدِّه، كما يعارض سببَ المعاصي قُوة الإيمان وعَظَمة الحسنات الماحيةِ وكثرَتها، فيزيد في كمِّيتها وكيفيتها على أسباب العذاب فيدفعُ الأقوى الأضعفَ، وهذا شأن جميع الأسباب المتضادَّة كأسباب الصِّحة والمرض، وأسباب الضعف والقوة.
والمقصود أن هذه الأسباب التي فيها لَذَّة مَّا، هى شرٌّ، وإن نالت بها النفس مَسَرَّة عاجلة، وهى بمنزلة طعام لذيد شهيٍّ لكنه مسمومٌ، إذا تناوله الآكل لَذَّ له أكله (3) وطاب له مَسَاغُهُ، وبعد قليل يفعلُ به ما يفعل، (ف/ 171 ب) فهكذا المعاصي والذنوب ولابدَّ، حتى لو لم
__________
(1) “وما حقيقته” ليست في (ق).
(2) (ظ ود): “تصيبه”.
(3) (ظ ود): “لذَّ أكله”.
(2/711)
يخبر الشارعُ بذلك لكان الواقعُ والتجربةُ الخاصَّةُ والعامةُ من أكبر شهوده.
وهل زالت عن أحدٍ قطُّ نعمةٌ إلا بشؤم معصيته, فإنَّ الله إذا أنعم على عبد بنعمة حفظها عليه, ولا يغيِّرُها عنه حتى يكونَ هو السَّاعيَ في تغييرها عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)} [الرعد: 11].
ومن تأمَّل ما قصَّ الله -تعالى- في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمَه عنهم, وجد سبب ذلك جميعَه إنما هو مخالفةُ أمره وعصيانُ رسله, وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره, وما أزال الله عنهم من نعمه, وجد ذلك كلَّه من سوء عواقب الذنوب كما قيل:
إذا كنتَ في نِعْمَةٍ فَارْعَها … فإنَّ المعاصِي تُزِيلُ النِّعَمْ (1)
فما حُفِظت نعمةُ الله بشيء قط مثل طاعته, ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شكره, ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربه, فإنها نارُ النعم التي تعملُ فيها كما تعمل النار في الحَطَبِ اليابس.
ومن سافر بفكره في أحوال العالم استغنى عن تعريف غيره له, والمقصود أن هذه الأسباب شرورٌ ولا بُدَّ. وأما كون مسبباتها شرورًا؛ فلأنها آلامٌ نفسية وبدنية فيجتمعُ على صاحبها مع شدَّة الألم الحسي ألَمُ الرُّوح بالهموم والغموم, والأحزان والحسرات.
ولو تفطَّنَ العاقلُ اللّبيبُ لهذا حقَّ التَّفَطُّن لأعطاه حقَّه من الحذر والجدِّ في الهرب ولكن قد ضَرَبَ على قلبه حجابَ الغفلة ليقضيَ
__________
(1) ذكره في “نفح الطيب”: (2/ 174).
(2/712)
الله أمرًا كان مفعولاً. فلو تَيَقَّظَ حقَّ التَّيَقُّظِ لتقطَّعَتْ نفسُه في الدنيا حسرات على ما فاته من حظِّه العاجل والآجل من الله, وإنما يظهرُ له هذا حقيقة الظهور عند مفارقة هذا العالم, والإشراف والاطِّلاع على عالم البقاء فحينئذ يقول: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)} [الفجر: 24] و {يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56].
ولما كان الشرُّ هو الآلامَ وأسبابها, كانت استعاذاتُ النبي – صلى الله عليه وسلم – جميعُها مدارها على هذين الأصلين, فكل ما استعاذَ منه أو أمر بالاستعاذة منه فهو: إما مؤلمٌ وإما سبَبٌ إليه. فكان يتعوَّذُ في آخر الصلاة من أربع, وأَمَر بالاستعاذة منهن, وهي: “عذاب القبر, وعذاب النار”, فهذان أعظم المؤلمات, و”فتنة المحيا والممات, وفتنة المسيح الدجال” (1). وهذان سبب العذاب المؤلم, فالفتنةُ سبب العذاب, وذَكَر الفتنةَ خصوصًا وعمومًا, وذكر نوعي الفتنة, فإن الفتنة إما في الحياة وإما بعد الموت, ففتنةُ الحياة قد يَتَراخى عنها العذاب مدَّة, وأما فتنة الموت فَيَتَّصلُ بها العذابُ من غير تراخٍ, فعادت الاستعاذةُ إلى الألم والعذاب وأسبابهما, وهذا من آكَدِ أدعية الصلاة حتى أوجب بعضُ السَّلف والخَلَف الإعادةَ على من لم يَدْعُ به في التَّشَهُّد الأخير, وأوجبه ابنُ حزم في كل تشهد فإن لم يأتِ به بَطَلَتْ صَلَاتُهُ (2).
ومن ذلك قوله: “اللَّهُمَّ إني أعوذُ بكَ من الهَمِّ والحَزَنِ والعَجْزِ
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (1377) , ومسلم رقم (588) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(2) انظر “المحلى”: (3/ 271).
(2/713)
والكَسَل والجُبْنِ والبُخْلِ وضَلَعِ الدَّيْنِ وغَلَبَةِ الرِّجَالِ” (1)، فاستعاذ من ثمانية أَشياء كل اثنين منها قرينان، فالهم والحزن قرينان، [وهما] من آلام الرُّوح ومعذباتها، والفرق بينهما أن الهمَّ تَوَقُّعُ الشر في المستقبل، والحزن التَّألُّم على حصول المكروه فِي الماضي أو فوات المحبوب، وكلاهما تألُّمٌ وعذابْ يَرِدُ على الروح، فإنْ تَعَلَّقَ بالماضي سُمِّي حزنًا، وإن تعَلَّق بالمستقبل سُمِّي همًّا.
والعجز والكسل قرينان، وهما منْ أسباب الألم؛ لأنهما يستلزمان فوات المحبوب، فالعجز يستلزم عدمَ القدرة، والكسلُ يستلزمُ عدم إرادته، فتتألمُ الرُّوح لفواته بحسب تعلُّقها به، والتذاذها بإدراكه لو حصل.
والجبنُ والبخل قرينانِ؛ لأنهما عدمُ النفع بالمال والبَدَن، وهما من أسباب الألم، لأن الجبان تفوتُهُ محبوبات ومفرحات وملذوذات عظيمة لا تُنال إلَّا [بالبَذْل والشجاعة] (2) فالبخل يحولُ بينه وبينها أيضًا، فهذان الخُلُقان من أعظم أسباب الآلام.
وضَلَع الدَّيْن وقَهْر الرجال قرينان، وهما مؤلمان للنفس معذبان لها؛ أحدُهما قهر بحق وهو ضَلَع الدَّيْن. والثاني قهر بباطل هُو غَلَبَةُ الرجال، وأيضًا فضَلَعُ: الديْن قهرٌ بسبب من العبد في الغالب، وغلبة الرجال قهر (3) بغير اختياره.
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (2893) ومسلم رقم (2706) من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-.
(2) (ق): “بالشجاعة والإقدام” مع تكرار، و (ظ ود): “بالبذل والسخاء”.
(3) (ق): “فهي”.
(2/714)
ومن ذلك تعوُّذُه – صلى الله عليه وسلم -: “مِنَ المَأثَمِ وَالمَغْرَمِ” (1) فإنهما يسببان الألم العاجل والآجل (2) , ومن ذلك قوله: “أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ, وبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ” (3) , فالسخط سبب الألمِ, والعقوبة هي الألم, فاستعاذ من أعظم الآلام وأقوى أسبابها.
فصل
والشرُّ المستعاذُ منه نوعان:
أحدهُما: موجود يُطلب رفعه.
والثاني معدومٌ يطلبُ بقاؤه على العدم وأن لا يوجد.
كما أن الخير المطلق نوعان:
أحدهما موجودٌ فيطلب دوامه وثباته وأن لا يسلبه.
والثاني معدومٌ فيطلب وجوده وحصوله.
فهذه أربعةُ هي أمهات مطالب السَّائلين من ربِّ العالمَين, وعليها مدارُ طَلَبَاتِهِم, وقد جاءت هذه المطالبُ الأربعةُ في قوله تعالى حكايةً (4) عن دعاء عباده في آخر آل عمران في قولهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} [آل عمران: 193] فهذا الطلب لدفع الشر الموجود فإن
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (832) , ومسلم رقم (589) من حديث عائشة – رضي الله عنها -.
(2) من (ق).
(3) تقدم 1/ 294.
(4) (ق): “في الآية”.
(2/715)
الذنوب والسيئات شر كما تقدم بيانه.
ثم قال: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَار (193)} , فهذا طلبٌ لدوام الخير الموجود وهو الإيمان, حتى يتوفاهم عليه, فهذانِ قسمان.
ثم قال: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} [آل عمران: 194] فهذا طلب للخير المعدوم أن يؤتيهم إياه.
ثم قال: {وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فهذا طلبٌ أن لا يقعَ (1) بهم الشَّرُّ المعدومُ, وهو خزيُ يوم القيامة, فانتظمت الآيتان للمطالب الأربعة أحسنَ انتظام, مرتبةً أحسن ترتيبٍ, قُدِّمَ فيها النوعان اللذان في الدنيا وهما المغفرة, ودوامُ الإسلام إلى الموت, ثم أُتبعا بالنوعين اللذين في الآخرة وهما: أن يُعطوا ما وُعِدُوه على ألسنة رسله, وأن لا يُخْزِيَهُم يوم القيامة.
إذا عُرِف هذا؛ فقوله – صلى الله عليه وسلم – في تشهُّد الخطبة: “وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنا, ومِنْ سيئاتِ أَعْمَالِنَا” (2) , يتناوَلُ الاستعاذةَ من شرِّ النفس الذي هو معدومٌ لكنه فيها بالقوَّة, فيسأل دفعه وأن لا يوجد.
وأما قوله: “مِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا”؛ ففيه قولان:
أحدهما: أنه استعاذةٌ من الأعمال السيئة التي قد وُجِدتْ, فيكون الحديثُ قد تناولَ نوعَي الاستعاذة من الشَّرِّ المعدوم الذي لم يوجدْ, ومن الشر الموجود فطلب دَفْع الأول ورَفْع الثاني.
__________
(1) كذا في الأصول, وفي “المنيرية”: “يوقع”.
(2) تقدم 2/ 448.
(2/716)
والقول الثاني: إن سيئاتِ الأعمال هي: عقوباتُها وموجباتُها السيئة التي تسوءُ صاحبَها، وعلى هذا يكونُ مِن استعاذةِ الدفع أيضًا لكنه (1) دفعُ المسبب، والأول دفع السبب، فيكون قد استعاذ من حصول الألم وأسبابه، وعلى الأوّل يكون إضافةُ السيئات إلى الأعمال من باب إضافة النوع إلى جنسه، فإن الأعمال جنسٌ وسببُها (2) نوعٌ منها. وعلى الثاني يكون من باب إضافة المسبَّب إلى سَبَبِهِ، والمعلول إلى علته, كأنه قال: من عقوبة عملي، والقَولانِ محتملانِ، فتأمل أيَّهُمَا ألْيَقُ بالحديث وأولى به، فإنّ مع كلِّ واحد منهما نوعًا من الترجيح.
فيترجَّحُ الأولُ: بأن منشأ الأعمال السيئة من شرِّ النفس، فشرُّ النفس يولِّدُ الأعمالَ السَّيِّئَةَ فاستعاذ من صفة النفس، ومن الأعمال التي تحدث عن تلك الصفة, وهذان جِمَاعُ الشَّرِّ وأسباب كلِّ ألم، فمتى عوفي منها عُوفِيَ من الشَّرِّ بحذافيره (3).
ويترجَّحُ الثاني: بأن سيئاتِ الأعمال هي العقوباتُ التي تسوءُ العامل، وأسبابها شرُّ النفس، فاستعاذ من العقوبات والآلام وأسبابها، والقولانِ في الحقيقة متلازمان، والاستعاذة من أحدهما تستلزمُ الاستعاذةَ من الآخر.
فصل
ولما كان الشَّرُّ له سببٌ هو مصدرُه, وموردٌ هو منتهاه، وكان
__________
(1) من (ق).
(2) “المنيرية”: “وسيئاتها”.
(3) من قوله: “التي تحدث … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2/717)
السببُ إما من ذات العبد. وإما من خارج، ومورده ومنتهاه، إما نفسه وإما غيره = كان هنا أربعة أمور: شرٌّ مصدره من نفسه ويعود على نفسه تارة وعلى غيره أخرى، وشرٌّ مصدره من غيره وهو السبب فيه، ويعودُ على نفسه تارة في على غيره أخرى.
جمع النَّبيّ – صلى الله عليه وسلم – هذه المقامات الأربعة في الدعاء الذي علمه الصِّدِّيقَ أن يقولَه إذا أصبح وإذا أمسى، وإذا أخذ مضجعه: “اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمواتِ والأَرْضِ، عَالِمَ الغَيْب والشَّهَادَةِ، رَبَّ كُلِّ شَيءٍ ومَلِيكَهُ، أَشْهَدُ أَنَّ لا إِلَهَ إلاّ أَنْتَ، أَعُوذُ بكَ مِن شَرِّ نَفْسي، وَشَرِّ الشَّيْطانِ وَشِرْكِهِ، وأَنْ أقْترِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إِلى مُسْلِمٍ” (1) فذكر مصدَرَي الشَّرِّ وهما النفسُ والشيطانُ، وذكر مَوْرِدَيْهِ ونهايتيه، وهما: عودُه على النفس أو على أخيه المسلم، فجمع الحديثُ مصادرَ الشَّرِّ ومواردَهُ في أوجز لفظٍ وأخصرِه وأجمعِه وأبينِه.
فصل
فإذا عُرِفَ هذا فلْنَتَكَلَّمْ على الشُّرور المستعاذ منها في هاتين السورتين:
الشَّرُّ الأوَّل: العامِ في قوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} و (ما)، هاهُنا موصولة ليس إلَّا، والشَّرُّ مسند في الآية إلى المخلوق المفعول، لا إلى خَلْق الرَّبِّ تعالى الذي هو فعلُه وتكوينُه، فإنه لا شرَّ فيه بوجهٍ ما، فإن الشَّرَّ لا يدخل في شيءٍ من صفاته ولا في أفعاله، كما لا
__________
(1) أخرجه أبو داود رقم (5067)، والترمذي رقم (3392)، وابن حبان. “الإحسان”: (3/ 242)، والحاكم: (1/ 513) وغيرهم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
قال الترمذي: “حسن صحيح” وصححه ابن حبان والحاكم والذهبى.
(2/718)
يلحقُ ذاتَهُ تبارك وتعالى، فإن ذاتَهُ لها الكمالُ المطلقُ الذي لا نقصَ فيه بوجه من الوجوه، وأوصافه كذلك لها الكمالُ المطلَقُ والجلالُ التَّامُّ ولا عيبَ فيها ولا نقصَ بوجهٍ ما.
وكذلك أفعالُه كلُّها خيراتٌ محضة لا شرَّ فيها أصلاً، ولو فعل الشر سبحانه لاشْتُقَّ له منه اسم ولم تكن أسماؤه كلُّها حسنى، ولعاد إليه منه حكم، تعالى وتقدَّس عن ذلك، وما يفعلُه من العدل بعباده وعقوبة من يستحقُّ العقوبةَ منهم هو خيرٌ محض، إذ هو محضُ العدل والحكمة، وإنما يكون شرًّا بالنسبة إليهم، فالشَّرُّ وقع في تعلُّقه بهم وقيامه بهم (1)، لا في فعله القائم به تعالى، ونحنُ لا نُنكرُ أن الشَّرَّ يكونُ في مفعولاته المنفصلة، فإنه خالقُ الخيرِ والشَّرِّ.
ولكن هنا أمرانِ ينبغي أن يكونا منك على بالٍ.
أحدهما: أن ما هو شرٌّ أو متضمِّنٌ للشر فإنه لا يكونُ إلَّا مفعولاً منفصلًا، لا يكونُ وصفًا له، ولا فعلًا من أفعاله.
الثاني: أن كونه شرًّا هو أمر نسبيٌّ إضافيٌّ، فهو خيرٌ من جهة تعلُّق فعل الرَّبِّ وتكوينه به، وشرٌّ من جهة نسبته إلى من هو شر في حقه، فله وجهان، هو من أحدهما خيرٌ، وهو الوجه الذي نُسِبَ منه إلى الخالق -سبحانه وتعالى- خلقًا وتكوينًا ومشيئة، لما فيه من الحكمة البالغة التي استأثر بعلمها، وأطْلَعَ من شاء من خلقه على ما شاء منها، وأكثرُ الناس تضيقُ عقولُهم عن مبادئ معرفتها، فضلاً عن حقيقتها، فيكفيهم الإيمان المجمل بأن الله -سبحانه- هو الغنيُّ
__________
(1) (ق): “وقيامهم به”.
(2/719)
الحميدُ, وفاعل الشر لا يفعله إلَّا لحاجته المنافية لغناه أو لنقصه وعيبه المنافي لحمده، فيستحيلُ صدورُ الشَّرِّ من الغني الحميد فعلًا، وإن كان هو الخالقَ للخير والشَّرِّ، فقد عرفتَ أن كونه شرًّا هو أمرٌ إضافيٌّ، وهو في نفسه خير من جهة نسبته إلى خالقه ومبدعه.
فلا تغفلْ عن هذا الموضع، فإنه يفتحُ لك بابًا عظيمًا من معرفة الرَّبِّ ومحبته، ويزيل عنك شُبُهَات حارتْ فيها عقولُ أكثر الفضلاء. وقد بسطت هذا في كتاب “التحفة المكية”، وكتاب “الفتح القدسي” (1). وغيرهما.
وإذا أشكل عليك هذا فأنا أُوضِّحه لك بأمثلة:
أحدُها: أن السَّارقَ إذا قُطِعَتْ يَدُهُ فَقَطْعُها شرٌّ بالنسبة إليه، وخيرٌ محض بالنسبة إلى عموم الناس، لما فيه من حفظ أموالهم ودفع الضَّرر عنهم، وخيرٌ بالنسبة إلى مُتَوَلِّي القطع أمرًا وحكمًا؛ لما في ذلك من الإحسان إلى عبيده عمومًا بإتلاف هذا العضو المؤذي لهم المضرِّ بهم، فهُو محمودٌ على حكمه بذلك، وأمرِه به، مشكورٌ عليه، يستحقُّ عليه الحمدَ من عباده والثَّناء عليه والمحبَّة.
وكذلك الحكم يقتل من يصولُ عليهم في دمائهم وحُرُماتهم، وجَلْد من يصولُ عليهم في أعراضهم، فإذا كان هذا عقوبةَ من يصولُ عليهم في دنياهم فكيف عقوبةُ من يصولُ عليهم في (2) أديانهم ويحولُ بينهم وبين الهدى الذي بعث الله به [(3) رسلَهُ، وجعل
__________
(1) تقدم الكلام عليهما.
(2) (ظ ود): “على أديانهم”.
(3) سقطت (الورقة 174) من (ق) وهي من قوله: “رسله … ” إلى قوله: “فما أحوج القلوب” ص/ 724.
(2/720)
سعادةَ العباد في معاشهم ومعادهم منوطةً به؟!.
أفليس في عقوبة هذا الصَّائل خيرٌ محضٌ وحكمةٌ وعدلٌ وإحسان إلى العبيد؟! وهي شرٌّ بالنسبة إلى الصائل الباغي، فالشرُّ ما قام به من تلك العقوبة، وأما ما نُسِبَ إلى الربِّ منها من المشيئة والإرادة والفعل فهو عينُ الخير والحكمة، فلا يغْلُظْ حجابُك عن فهم هذا النبأ العظيم، والسِّرّ الذي يُطْلعكَ على مسألة القَدَر، ويفتحُ لك الطريقَ إلى الله ومعرفة حكمته ورحمته وإحسانه إلى خلقه، وأنه سبحانه كما أنه البَرُّ الرحيم الودودُ المحسنُ، فهو الحكيم الملك العدل، فلا تناقض حكمتُهُ رحمتَهُ، بل يضعُ رحمتَهُ وبِرَّهُ وإحسانَهُ موضِعَهُ، ويضعُ عقوبَتَهُ وعدلَه وانتقامَه وبأسَهُ موضعَه، وكلاهما مقتضى عِزَّتِهِ وحكمته وهو العزيز الحكيم، فلا يليق بحكمته أن يضعَ رضاه ورحمته موضعَ العقوبة والغضب، ولا يضعُ غضبَه وعقوبتَه موضع رضاه ورحمته، ولا يلتفتُ إلى قول من غَلُظ حجابُه عن الله تعالى: إن الأمرين بالنسبة إليه على حدٍّ سواء، ولا فرْقَ أصلًا، وإنما هو محض المشيئة بلا سبب ولا حكمة.
وتأمل القرآن من أوله إلى آخره، كيف تجدُه كفيلاً بالرَّدِّ على هذه المقالة، وإنكارها أشدَّ الإنكار، وتنزيه نفسه عنها، كقوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} [القلم: 35 – 36] وقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)} [الجاثية: 21] وقوله: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} [ص: 28] فأنكر سبحانه على من
(2/721)
ظن هذا الظن ونزَّه نفسه عنه، فدل على أنه مستقرٌّ فِي الفِطَر والعقول السليمة: أن هذا لا يكون ولا يليق بحكمته وعِزَّته وإلاهيته، لا إله إلَّا هو، تعالى عما يقولُ الجاهلون علوًّا كبيرًا.
وقد فطرَ اللهُ عقولَ عباده على استقباح وضع العقوبة والانتقام في موضعِ الرحمة والإحسان، ومكافأة الصُّنع الجميل بمثله وزيادة، فإذا وضعَ العقوبة موضعَ ذلك استنكرته فِطَرُهُمْ وعقولُهم أشدَّ الاستنكار، واستهجنته أعظم الاستهجان، وكذلك وضع الإحسان والرحمة والإكرام في موضع العقوبة والانتقام، كما إذا جاء إلى من يسيءُ إلى العالمَ بأنواع الإساءة في كلِّ شيءٍ من أموالهم وحريمهم ودمائهم، فأكرمَه غايَةَ الإكرام ورفعه وكرَّمه، فإن الفِطَر والعقول تأبى استحسان هذا، وتشهدُ على سَفَه من فعله.
هذه فطرةُ الله التي فَطَر الناسَ عليها، فما للعقول والفِطَر لا تشهدُ حكمتَه البالغة وعزته وعدله في وضع عقوبته في أَوْلى المحالّ بها: وأحقِّها بالعقوبة؛ وأنها لو أوليت النِّعَمَ لم تحسنْ بها ولم تَلِقْ, ولظهرت مناقضةُ الحكمة، كما قال الشاعر:
نِعْمَةُ اللهِ لا تُعَابُ ولَكِنْ … ربَّما استُقْبِحَتْ علي أَقْوامِ
فهكذا نعمُ الله لا تليقُ ولا تَحْسُنُ ولا تجمُلُ بأعدائه الصَّادِّين عن سبيله، السَّاعين في خلاف مرضاته، الذين يَرْضَوْنَ إذا غضب، ويغضبُون إذا رَضِيَ، ويعطِّلون ما حكم به، ويَسْعَوْن في أن تكون الدعوةُ لغيره، والحكمُ لغيره، والطاعةُ لغيره، فهم مضادُّون في كلِّ ما يُريدُ، يحبُّون ما يُبغِضُه ويدعون إليه، ويُبغضون ما يُحِبُّه وينفرون عنه، ويوالون أعداءَهُ وأبغضَ الخلق إليه، ويظاهرونهم عليه وعلى
(2/722)
رسوله، كلما قال تعالى: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)} [الفرقان: 55] وقال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف: 55].
فتأمل ما تحتَ هذا الخطابِ الذي يسلبُ الأرواحَ حلاوةً وعقابًا (1) وجلالة وتهديدًا، كيف صدّره بإخبارنا أنه أمر إبليسَ بالسجود لأبينا، فأبى ذلك، فطرده ولعنه وعاداه من أجل إبائه عن السجود لأبينا، ثم أنتم توالونه من دوني وقد لعنتُه وطردتُه؛ إذ (2) لم يسجدْ لأبيكم، وجعلته عدوًّا لكم ولأبيكم فواليتموه وتركتموني، أفَلَيْس هذا من أعظم الغَبْن وأشدِّ الحسرة عليكم؟ ويوم القيامة يقول تعالى: أليس عدلاً مني أن أوَلِّيَ كلَّ رجل منكم ما كان يَتَوَلَّى في دار الدنيا، فليعْلمَنَّ أولياءُ الشيطان كيف حالهم يوم القيامة إذا ذهبوا مع أوليائِهم وبقي أولياءُ الرحمن لم يذهبوا مع أحد فيتجلَّى لهم، ويقول: “أَلا تَذْهَبُونَ حَيْثُ ذَهَبَ النَّاسُ؛ فَيَقُولونَ: فَارَقْنَا النَّاسَ أَحْوَجَ ما كُنَّا إِلَيْهِمْ، وإِنَّما نَنْتَظِرُ رَبَّنَا الّذِي كُنّا نَتَوَلاَّهُ وَنَعْبُدُهُ فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ عَلامَةٌ تَعْرِفُونَهُ بِها؟ فَيَقُولُونَ: نَعَم إِنَّهُ لا مِثْلَ لَهُ، فَيَتَجلَّى لَهُمْ وَيَكْشِفُ عَنْ سَاقٍ فَيَخِرُّون لَهُ سُجَّدًا” (3).
فيا قرَّةَ عيون أوليائه بتلك الموالاة، ويا فَرَحَهُمْ إذا ذهب الناس مع أوليائهم وبقُوا مع مولاهم الحق، فسيعلمُ المشركون به الصَّادُّون عن سبيله أنهم ما كانوا أولياءَهُ، إنْ أولياءُهُ إلَّا المُتَّقُون، ولكن أكثرهم لا يعلمون.
__________
(1) كذا، ولعلها: عتابًا.
(2) (ظ ود): “إن”.
(3) قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري رقم (7439)، ومسلم رقم (183) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- بنحوه.
(2/723)
ولا تستطِلْ هذا البَسْطَ، فما أحوجَ القلوب] إلى معرفته وتعقُّله، ونزولها منه منازلَها في الدنيا لتنزل في جوار ربها في الآخرة مع الذين أنعم الله تعالى عليهم من النَّبييِّن والصِّدِّيقين، والشهداء والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقًا.
فصل
إذا عُرِفَ هذا عُرِف معنى قوله – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الصحيح: “لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ والخَيْرُ في يدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِليْكَ” (1)، وأنَّ معناه أجلُّ وأعظم من قول من قال: “والشَرُّ لا يُتَقرَّبُ به إليك”، وقول من قال: “والشرُّ لا يصعَدُ إليكَ” وأن هذا الذي قالوه إنما يتضمَّن تنزيهَه: عن صعود الشرِّ إليه والتقرب به إليه، لا يتضمَّن تنزيهَهُ في ذاته وصفاته وأفعاله عن الشَّرِّ، بخلاف لفظ المعصوم الصادق المصدَّق (2)، فإنه يتضمَّنُ تنزيهَه في ذاته تبارك وتعالى عن نسبة الشَّرِّ إليه بوجهٍ ما، لا في صفاتِه، ولا في أفعالِه، ولا في أسمائه، وإن دخل في مخلوقاته، كقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} [الفلق: 1 – 2].
وتأملْ طريقَة القرآن في إضافة الشَّرِّ تارة إلى سببه ومن قام به، كقوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)} [البقرة: 254] وقوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)} [المائدة: 108]، وقوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} [النساء: 160]، وقوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام: 146] وقوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)} [الزخرف: 76]، وهو فِي القرآن أكثر من أن يذكر هاهنا عشر معشارِه، وإنما المقصودُ التمثيلُ.
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (771) من حديث علي -رضي الله عنه-.
(2) (ق): “المصدوق”.
(2/724)
وتارة بحَذْف فاعله كقوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)} [الجن: 10] فحذفوا فاعل الشر ومريده وصرَّحوا بمريد الرشد.
ونظيره في الفاتحة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 7] , فذكر النعمة مضافة إليه سبحانه, والضلال منسوبًا إلى من قام به, والغضب محذوفًا فاعله. ومثله قول الخَضر في السفينة: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79] وفي الغلامين: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82].
ومثله قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7] فنسب هذا التَّزيينَ المحبوبَ إليه, وقال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران: 14] فحذف الفاعلَ المُزَيِّن.
ومثله قول الخليل – صلى الله عليه وسلم – {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)} [الشعراء: 78 – 82] فنسب إلى ربِّه كل كمال من هذه الأفعال, ونسبَ إلى نفسه النقصَ منها وهو المرضُ والخطيئةُ.
وهذا كثير في القرآن الكريم, ذكرنا منه أمثلةً كثيرةً في كتاب “الفوائد المكية” وبيّنا هناك السِّرَّ في مجيء: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [البقرة: 121] {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة: 101] والفرق بين الموضعين, وأنه حيث ذكر الفاعل كان من آتاه الكتاب واقعًا في سياق المدح,
(2/725)
وحيثُ حذَفَه كان من أوتيه واقعًا في سياق الذَّمِّ أو منقسمًا, وذلك من أسرار القرآن الكريم.
ومثله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] , وقال: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)} [الشورى: 14] وقوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} [الأعراف: 169] فهذا خلف سوءٍ (1) , وبالجملة فالذي يضافُ إلى الله تعالى كلُّه خيرٌ وحكمة ومصلحة وعدل, والشرُّ ليس إليه.
فصل
وقد دخل في قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} الاستعاذة من كل شر في أي مخلوق قام به الشر من حيوان أو غيره, إنسيًّا كان أو جنيًّا, أو هامَّةً أو دابَّةً, أو ريحًا أو صاعقةً, أو أيَّ نوع كان من أنواع البلاء.
فإن قلت فهل في (ما) هاهنا عموم؟
قلت فيها عمومٌ تقييديٌ وصفيٌ لا عمومٌ إطلاقيٌ, والمعنى: من شرِّ كلِّ مخلوق فيه شرٌّ, فعمومها من هذا الوجه, وليس المرادُ الاستعاذة من شرِّ كلِّ ما خلقه الله تعالى, فإن الجنةَ وما فيها ليس فيها شرٌّ, وكذلك الملائكةُ والأنبياءُ فإنهم خيرٌ محضٌ, والخير كلُّه حصل على أيديهم, فالاستعاذة من {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} تعمُّ شرَّ كلِ مخلوق فيه شرٌّ, وكل شرٍّ في الدنيا والآخرة, وشر شياطين الإنس والجن وشر السباع والهوامِّ, وشر النار والهواء, وغير ذلك.
__________
(1) “فهذا خلف سوءٍ” من (ق).
(2/726)
وفي “الصحيح” عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “مَنْ نَزَلَ مَنْزلاً فَقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ لم يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ” رواه مسلم (1).
روى أبو داود في “سننه” (2) عن عبد الله بن عمر قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا سافر فأقبل الليل قال: “يا أَرْضُ رَبِّي وَرَبُّكِ اللهُ, أَعُوذُ باللهِ مِنْ شَرِّكِ وَشَرِّ ما فِيكِ وَشَرِّ ما خُلِقَ فِيكِ وَشَرِّ ما يَدِبُّ عَلَيْكِ، أَعُوذُ باللهِ مِنْ أَسَدٍ وأَسْوَد، ومنْ الحَيَّةِ والعَقْرَبِ، ومن سَاكِنِ البلَدِ، ومِنْ وَالِدٍ وَمَا وَلَدَ” (3).
وفي الحديث الآخر: “أعُوذُ بكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ الّتِى لا يُجَاوِزُهُا بَرٌّ ولا فَاجِرٌ، مِنْ شَرِّ ما خَلَق وذَرَأَ وبَرَأَ، وَمنْ شَرِّ ما يَنَزِلُ مِنَ السَّماءِ وَمَا يَعْرُجُ فيها، ومنْ شَرِّ مَا ذَرَأ في الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنهْا، وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَمنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إلاَّ طارقًا يَطْرُق بخيرٍ يا رَحْمنُ” (4).
فصل
الشر الثاني: شر الغاسق إذا وقب فهذا خاصٌّ بعد
__________
(1) رقم (2708) من حديث خولة بنت حكيم السُّلَميّة – رضي الله عنها -.
(2) رقم (2603).
(3) وأخرجه أحمد: (10/ 301 رقم 6161)، والنسائي في “عمل اليوم والليلة” رقم (563)، وابن خزيمة رقم (2572)، والحاكم: (2/ 100) وغيرهم.
والحديث صححه ابن خزيمة والحاكم؛ لكن فيه الزبير بن الولد لم يوثقه معتبر، وقد تفرَّد بهذا الحديث.
(4) أخرجه أحمد: (24/ 200 رقم 15460)، وأبو يعلى رقم (6844) وغيرهم من طرقٍ عن جعفر بن سليمان الضبعي عن أبي التيَّاح عن عبد الرحمن بن خنبش التميمي بنحوه. وقد تفرّد به جعفر، وهو ممن ينفرد بالمناكير.
(2/727)
عام، وقد قال أكثرُ المفسرين: إنه الليل. قال عبد الله بن عباس: الليلُ إذا أقبلَ بظلمته من الشَّرق، ودخل في كلِّ شيء وأظلمَ (1)، والغَسَقُ: الظُّلْمَةُ. يقال: غَسَقَ اللَّيْلُ، وأغْسَقَ: إذا أظلم، ومنه قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78].
وكذلك قال الحسنُ ومجاهد: الغاسق إذا وقب: الليل إذا أقبل ودخل، والوُقوب: الدخولُ، وهو دخولُ اللَّيل بغروب الشمس، وقال مقاتل: يعني ظُلْمَةَ اللَّيل إذا دخل سوادُه في ضوء النهار. وفي تسمية الليل غاسِقًا قولٌ آخرُ: إنه من البَرْد، والليل أبردُ من النهار، والغَسَق: البَرْدُ، وعليه حَمَل ابن عباسٍ قوله تعالى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57)} [ص: 57] وقوله: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)} [النبأ: 24 – 25] قال: هو الزمهريرُ يحرقُهم ببرده كما تحرقهم النار بحرها. وكذلك قال مجاهد ومقاتل: هو الذي انتهى برْدُهُ (2).
ولا تنافيَ بين القولين: فإن الليلَ باردٌ مظلم، فمن ذكر بردَهُ فقط أو ظلمته فقط، اقتصر على أحد وصفيه، والظلمةُ فِي الآية أنسبُ لمكان الاستعاذة، فإن: الشَّرَّ الذي ينشأ بسبب (3) الظلمةَ أوْلى بالاستعاذة من البَرْد الذي في الليل، ولهذا استعاذ بربِّ الفلق الذي هو الصبْحُ والنور، من شرِّ الغاسق الذي هو الظُّلمة، فناسبَ الوصفُ المستعاذ به للمعنى المطلوب بالاستعاذة، كما سنزيدُه تقريرًا عن قريب إن شاء الله.
__________
(1) انظر: “تفسير الطبري”: (12/ 748 – 749).
(2) انظر “تفسير الطبري”: (10/ 599)، و”الدر المنثور”: (5/ 594) آية (ص)، و”الطبري”: (12/ 407)، و”الدر”: (6/ 503) آية (النبأ).
(3) (ظ ود). “يناسب”.
(2/728)
فإن قيل: فما تقولونَ فيما رواه التِّرمذي (1) من حديث ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن أبي سَلَمَةَ، عن عائشة قالت: “أخذَ النبي – صلى الله عليه وسلم – بيدي فنظر إلى القمر فقال: “يا عَائِشَةُ اسْتَعِيذِي باللهِ منْ شَرِّ هَذا، فَإِنَّ هَذا هُوَ الغَاسِقُ إِذَا وَقَبَ” (2). قال التِّرْمِذِيُّ: “هَذا حديث حسن صحيح”، وهذا أولى من كلِّ تفسير فيتعيَّنُ المصرُ إليه؟.
قيل: هذا التفسيرُ حقٌّ، ولا يناقضُ التفسيرَ الأوَّلَ بل يوافقُهُ ويشهدُ بصحَّتِهِ، فإنَّ الله تعالى قال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] فالقمر هو آيةُ الليلِ وسلطانُه، فهو أيضًا: غاسقٌ إذا وَقَبَ، كما أن اللَّيلَ غاسِقٌ إذا وقب، والنبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أخبر عن القمر بأنه غاسق إذا وقب، وهذا خبر صدق، وهو أصدقُ الخبر، ولم ينفِ عن اللَّيل اسمَ الغاسق إذا وَقَبَ، وتخصيص النبي – صلى الله عليه وسلم – له بالذِّكر لا ينفي شمولَ الاسم لغيره.
ونظير هذا قوله في المسجد الذي أُسِّس على التَّقْوى، وقد سُئِل عنه فقال: “هُوَ مَسْجِدِي هذا” (3) ومعلومٌ أن هذا لا ينفي كونَ مسجدِ قُباءٍ مؤسَّسًا على التقوى، [بل ثبت أن مسجده أحق بالدخول في هذا الاسم، وأنه أحق بأن يكون مؤسسًا على التقوى] (4) من ذاك.
__________
(1) (ق): “في جامعه”.
(2) أخرجه الترمذي رقم (3366)، والنسائي في “عمل اليوم والليلة” رقم (305)، وأحمد (6/ 61 ومواضع أخرى)، والحاكم (2/ 540) من حديث عائشة – رضي الله عنها -.
والحديث قال فيه الترمذي “حسن صحيح”، وصححه الحاكم، وحسنه الحافظ في “الفتح”: (8/ 613).
(3) أخرجه مسلم رقم (1398) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
(4) ما بين المعكوفين من (ق).
(2/729)
ونظيره أيضًا: قوله في عَلِيٍّ وفاطمة والحسن والحسين – رضي الله عنهم أجمعين -: “اللَّهُمَّ هؤلاءِ أَهْلُ بَيْتي” (1)، فإن هذا لا ينفي: دخول غيرهم من أهل: بيته فِي لفظ أهل البيت، ولكن هؤلاء أحق من دخل فِي لفظ أهل بيته.
ونظير هذا قوله: “لَيْسَ المِسْكِينُ بِهذا الطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ واللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ والتَّمْرَتَانِ، وَلكِنَّ المِسْكِينَ الّذِي لا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا، وَلا يُفْطَنُ لهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ” (2) وهذا لا ينفي اسم المسْكَنة عن الطوَّاف، بل يحفي اختصاصَ الاسم به، ويبيِّن أن تناولَ المسكين لغير السَّائل أولى من تناوله له.
ونظيرُ هذا قوله: “لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، وَلَكِنّ الشَّدِيدَ الّذِيْ يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَب” (3) فإنه لا يقتضي نفي الاسم عن الذي يصرعُ الرجالَ، ولكن يقتَضي أن ثبوتَه للذي يملكُ نفسَه عند الغضب أولى، ونظيره [الغَسَقُ] (4) والوُقُوبُ وأمثالُ ذلك، فكذلك قوله فِي
__________
(1) أخرجه أحمد: (28/ 195 رقم 16988)، وابن حبان “الإحسان”: (15/ 432) , والحاكم: (2/ 416)، والبيهقي: (2/ 152)، وغيرهم من حديث واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه-.
والحديث صححه ابن حبان والبيهقي، وصححه الحاكم على شرط مسلم. وللحديث شاهد من حديث أم سلمة أخرجه أحمد: (6/ 292)، والحاكم: (2/ 416).
(2) أخرجه البخاري رقم (1476)، ومسلم رقم (1039) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(3) أخرجه البخاري رقم (6114)، ومسلم رقم (2609) من حديث أبي هريرة – رضى الله عنه -.
(4) في الأصول: “المغلس” والمثبت من “المنيرية”.
(2/730)
القمر: “هَذا هُوَ الغَاسِق إذا وَقَبَ”, لا ينفي أن يكون الليلُ غاسقًا، بل كلاهما غَاسِقٌ، [والنبي – صلى الله عليه وسلم – أشار إلى آية الليل وسلطانه والمفسرون ذكروا الليلَ نفسَه، والله أعلم] (1).
فإن قيل: فما تقولون في القول الذي ذهب إليه بعضُهم أن المرادَ به القمرُ إذا خَسَف واسوَدَّ؟ وقوله: “وقب” أي: دَخَل في الخُسوف أو غاب خاسفًا؟ (2).
قيل: هذا القولُ ضعيفٌ، ولا نعلمُ به سَلَفًا، والنَّبيُّ – صلى الله عليه وسلم – لمَّا أشار إلى القمر وقال: “هذا الغاسِقُ إذا وَقَب” لم يكن خاسفًا إذ ذاك، وإنما كان وهو مستنيرٌ، ولو كان خاسفًا لذكرته عائشة، وإنما قالت: نظر إلى القمر وقال: “هذا هو الغاسِقُ ” (3)، ولو كان خاسفًا لم يصِحَّ أن يحذفَ ذلك الوصف منه، فإنَّ ما أُطْلِق عليه اسم الغاسق باعتبار صفةٍ لا يجوزُ أن يطلقَ عليه بدونها لما فيه من التلبيس.
وأيضًا: فإن اللغة لا تساعد على هذا، فلا نعلمُ أحدًا قال: الغاسقُ هو القمرُ في حال خسوفه. وأيضًا: فإنى الوُقُوب لا يقولُ أحدٌ من أهل اللغة: إنه الخسوفُ، وإنما هو الدُّخول من قولهم: “وَقَبَتِ العَيْنُ” إذا غارت. و”رَكِيَّةٌ وَقْبَاءُ”: غارَ ماؤها فدخل في أعماق التُّراب.
ومنه الوَقْبُ: للثُّقْب الذي يدخل فيه المِحْوَرُ، وتقول العربُ: وَقَبَ يَقِبُ وقوبًا: إذا دَخَلَ.
فإن قيل: فما تقولون في القول الذي ذهبَ إليه بعضُهم: أن
__________
(1) الزيادة بين المعكوفات من (ق).
(2) (ق) زيادة: “مظلمًا”.
(3) تقدم قريبًا.
(2/731)
الغاسق هو الثُرَيَّا إذا سقطت، فإن الأسقامَ تكثُرُ عند سقوطها وغروبها وترتفِعُ عند طلوعها؟.
قيل: إن أراد صاحبُ هذا القول اختصاصَ الغاسق بالنجم إذا غَرَبَ فباطلٌ، وإن أراد أن اسم الغاسق يتناول ذلك بوجهٍ ما، فهذا يحتملُ أن يدلَّ اللفظُ عليه بفحواه ومقصوده وتنبيهه، وأما أن يختصَّ اللفظُ به فباطل.
فصل
والسبب الذي لأجله أمر الله بالاستعاذة من شر الليل، وشر القمر إذا وقب هو: أن الليل إذا أقبلَ فهو محلُّ سلطان الأرواح الشِّرِّيرة الخبيثة وفيه تنتشر الشياطين، وفى “الصحيح” أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أخبر أن الشمس إذا غربت انتشرت الشياطين ولهذا قال: “فَاكْفِتُوا صِبْيَانَكُمْ واحْبِسُوا مَوَاشِيَكُمْ حَتّى تَذْهَب فَحْمَةُ العِشَاءِ” (1).
وفى حديث آخر: “فَإِنَّ اللهَ يَبُثُّ مِنْ خَلْقِهِ مَا يَشَاءُ” (2)، والليلُ هو محلُّ الظلام، وفيه تتسلَّطُ شياطينُ الإنس والجن ما لا تتسلَّطُ بالنهار، فإن النهار نورٌ, والشياطين إنما سلطانهم في الظلمات والمواضع المظلمة والمظالم وعلى أهل الظلمة.
وروي أن سائلاً سأل مُسَيْلَمَةَ: كيف يأتيك الذي يأتيكَ؟ فقال: في
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (3280 و 3316 وغيرها)، ومسلم رقم (2012 و 2013) من حديث جابر -رضي الله عنه- بنحوه.
وقوله في الحديث: “فاكفتوا” قال الحافظ: “بهمزةِ وصلٍ وكسر الفاء ويجوز ضمها، بعدها مثناة، أي: ضمُّوهم إليكم” اهـ من “فتح الباري”: (6/ 410).
(2) أخرجه أحمد: (22/ 188 رقم 14283)، وأبو داود رقم (5104) وغيرهما من حديث جابرٍ أيضًا.
(2/732)
ظلماءَ حِنْدِس، وسأل النبي – صلى الله عليه وسلم -: كيف يأتيك؟ فقال “في مثْلِ ضوْءِ النَّهارِ” (1) , فاستدلَّ بهذا على نُبُوَّته, وأنَّ الذي يأتيه مَلَكٌ من عند الله, وأن الذي يأتي مُسَيْلَمَةَ شيطانٌ, ولهذا كان سلطانُ السحر وعِظَم تأثيره إنما هو باللَّيل دون النهار, فالسِّحْرُ اللَّيْلِيُّ عندَهم هو السِّحْرُ القويُّ التأثيرُ, ولهذا كانت القلوبُ المظلمةُ هي محالَّ الشياطين وبيوتَهم ومأواهم, والشياطينُ تجولُ فيها وتتحكَّمُ كما يتحكَّمُ ساكنُ البيت فيه, وكلما كان القلبُ أظلم كان للشيطانِ أطوَعَ, وهو فيه أثبَتُ وأمكنُ.
فصل
ومن هاهنا تعلم السِّرَّ في الاستعاذة بربِّ الفلق في هذا الموضعِ, فإن الفلقَ الصُّبْحُ الذي هو مبدأُ ظهور النور, وهو الذي يطردُ جيش الظلام وعَسْكر المفسدين في الليل, فيأوي كلُّ خبيث وكلُّ مفسدٍ وكلُّ لصٍّ وكلُّ قاطع طريق إلى سَرَبٍ أو كِنٍّ أو غارٍ, وتأوي الهوامُّ إلى جِحَرتها (2) , والشياطين التي انتشرت بالليل إلى أمكنَتِها ومحالِّها.
فأمر الله تعالى عباده أن يستعيذوا برَبِّ النور الذي يقهَرُ الظُّلْمَة ويُزيلها ويقهرُ عسكرَها وجيشَها, ولهذا يخبر سبحانه في
__________
(1) لم أجده، لكن أخرج أحمد: (1/ 312)، والطبراي بنحوه -كما في المجمع: 8/ 258 – عن ابن عباس، وابن سعد في “الطبقات”: (1/ 195) عن عروة مرسلاً بسندٍ صحيح في حديث بدء الوحي أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لخديجة: “إني أرى ضوءًا وأسمع صوتًا … “.
قال الهيثمي عن سند أحمد: “ورجاله رجال الصحيح”.
(2) (ظ ود): “أجحرتها”، والمثبت من (ق) وهو جمع “جُحْر” ويجمع على: “جِحَرة وأجحار” في انظر “اللسان”: (4/ 117).
(2/733)
كلِّ كتاب (1) أنه يخرجُ عبادَهُ من الظُّلُماتِ إلى النُّور, ويدَعُ الكفارَ في ظلمات كفرهم قال تعالى الله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257] , وقال تعالى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122] وقال في أعمار الكفار: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)} [النور: 40].
وقد قال قبل ذلك في صفات أهل الإيمان ونورهم: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 35].
فالإيمان كلُّه نور, ومآله إلى نور, ومستقرُّه في القلب المضيء المستنير, والمقترن بأهله الأرواح المستنيرة المضيئة المشرقة, والكفر والشرك كله ظلمة, ومآله إلى الظلمات, ومستقره في القلوب المظلمة والمقترن بها الأرواح المظلمة.
فتأملْ الاستعاذة بربِّ الفلق من شرِّ الظُّلْمة ومن شرِّ ما يحدثُ فيها وَنَزِّولْ هذا المعنى على الواقع يشهدْ به: أن القرآن بل هاتانِ السورتان من أعظم أعلام النبوة وبراهين صِدْق رسالة محمد – صلى الله عليه وسلم – ومضادَّةِ لما جاء به الشَّياطينُ من كل وجه, وأن ما جاء به ما تنزلت به الشياطين, وما ينبغي لهم, وما يستطيعون فما فعلوه, ولا يليقُ
__________
(1) “فى كل كتاب” ليست في (ق).
(2/734)
بهم، ولا يتأتَّى منهم، ولا يقدرونَ عليه.
وفي هذا أبْيَنُ جواب وأشفاه لما يوردهُ أعداءُ الرسول عليه من الأسئلة الباطلة, التي قصَّرَ المُتَكَلِّمون غايةَ التقصير في دفعها, وما شَفَوا في جوابها, وإنما اللهُ سبحانه هو الذي شَفَى وكفى في جوابها فلم يُحْوِجْنا إلى متكلِّمٍ ولا إلى أصوليٍّ ولا نَظَّار, فله الحمد والمنة لا نحصي ثناءً عليه.
فصل
واعلم أن الخَلْقَ كُلَّهُ فَلَقٌ, وذلك أن “فَلَقًا” فَعَلٌ بمعنى: مفعول, كَقبَض وسَلَب وقَنَص, بمعنى: مَقْبُوض ومُسْتَلَب ومُقْتَنَص (1) , واللهُ عز وجل فالقُ الإصباح, وفالقُ الحب والنوى, وفالق الأرض عن النبات والجبال عن العيون, والسَّحاب عن المطر, والأرحام عن الأجِنَّة, والظلام عن الإصباح, ويسمى الصبحُ المتصدِّعُ عن الظلمة: فَلَقًا وفَرَقًا, يقال: أبينُ (2) من فَرَقِ الصُّبح وفَلَقِهِ.
وكما أن في خَلْقه فَلَقًا وفَرَقًا, فكذلك أمره كلُّه فرقانٌ, يفرِّقُ به بين الحقِّ والباطل, فيفرق ظلام الباطل بالحق, كما يفرق ظلامَ الليل بالإصباح, ولهذا سمى كتابه: “الفرقان”, ونصرَه: “فرقانًا” لتضمُّنه الفرق بين أوليائه وأعدائه ومنه فَلْقُه البحرَ لموسى وسماه: فلقًا وفرقًا (3).
فظهرت حكمةُ الاستعاذة بربِّ الفلق في هذه المواضع وظهر
__________
(1) في “المنيرية”: “ومسلوب ومقنوص”.
(2) (ظ ود): “هو أبيض”.
(3) من (ق).
(2/735)
بهذا إعجازُ القرآن وعَظَمَتُه وجلالته، وأن العِبَاد لا يَقْدُرون قَدْره, وأنه: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: 42]
فصل
الشرُّ الثالث: شر النفاثات في العقد, وهذا الشَّرُّ هو شر السحر, فإن النَّفَّاثات في العُقَد هن: السواحِرُ اللاتي يعقدْنَ الخيوطَ, وينفثْنَ على كلِّ عقدة, حتى ينعقدَ ما يُرِدنَ من السِّحر, والنفث هو: النفخ مع رِيقٍ, وهو دونَ التَّفْل, وهو مرتبةٌ بينهما, والنفثُ: فعلُ الساحر, فإذا تكيَّفَتْ نفسُه بالخبث والشر الذي يريدهُ بالمسحور ويستعينُ عليه بالأرواح الخبيثة نفخَ (1) في تلك العُقَد نفخًا معه ريقٌ فيخرج من نَفْسِه الخبيثة نَفَسٌ ممازجٌ للشر والأذى, مقترنٌ بالرِّيق الممازج لذلك, وقد تَسَاعَدَ هو والرُّوح الشيطانية على أذى المسحور, فيقع فيه السِّحْرُ بإذن الله الكونيّ القَدَري لا الأمريّ الشرعي.
فإن قيل: فالسحرُ يكونُ من الذكور والإناث, فَلِمَ خصَّ الاستعاذةَ من الإناث دونَ الذكور؟
قيل في جوابه: إن هذا خَرَج على السَّبب الواقع, وهو أن بنات لَبِيد بن الأعصم سَحَرْنَ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم -. هذا جوابُ أبي عبيدة وغيره (2)، وليس هذا بسديد فإن الذي سَحَرَ النبي – صلى الله عليه وسلم – هو لبِيدُ بنُ أعصَمَ كما جاء في “الصحيح”.
والجوابُ المحقَّقُ: أنَّ النَّفَّاثات هنا هنَّ الأرواحُ والأنفس النفَّاثات لا النساءُ النَّفَّاثَاتُ, لأن تأثير السحر إنما هو من جهة الأنفس الخبيثة
__________
(1) (ظ ود): “نفث”.
(2) انظر: “زاد المسير”: (9/ 275)، و”فتح القدير”: (5/ 521).
(2/736)
والأرواح الشريرة، وسلطانُه إنما يظهرُ منها، فلهذا ذكرت النَّفَّاثَات هنا بلفظ التأنيث دون التذكير، والله أعلم.
ففي “الصحيح” (1) عن هشام بن عُرْوَةَ، عن أبيه، عن عائشة: “أن النبي – صلى الله عليه وسلم – طُبَّ، حتى إنه لَيُخَيَّلُ إليه أنه صَنَع شيئًا وما صنعه، وأنه دعا ربَّه، ثم قال: “أشَعَرتِ أنَّ الله قَدْ أفْتَانِي فيما اسْتَفْتَيتُهُ فِيهِ”، فقالت عائشة: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: “جَاءَنِى رَجُلانِ فَجَلَسَ أَحَدُهُما عِنْدَ رَأْسِي وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيّ، فَقَالَ أَحَدُهُما لِصَاحِبهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قالَ الآخَرُ: مَطبُوبٌ، قالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ قال: لَبيدُ بنُ الأَعْصَم. قالَ لَهُ: فَبمَاذا؟ قَال: في مُشْطٍ ومُشاطَةٍ وجُفِّ طَلْعة ذَكرٍ، قال: فأيْنَ هُوَ؟ قال: في ذَرْوَانَ بئرٍ في بَنِي زُرَيقٍ”. قالت عائشة رضي الله عنها: فأتاها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثم رجع إلى عائشة رضي الله عنها فقال: “واللهِ لكأَنَّ مَاءَها نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ، ولَكَأَنَّ نَخْلَها رُؤُوسُ الشيَّاطِينِ”، قال: فقلت له: يا رسول الله هلا أخرجته؟ قال: “أمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِى اللهُ وَكَرِهْتُ أَنْ أُثيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا” فأمَرَ بها فدُفِنَتْ.
قال البخاري: وقال الليث وسفيان بن عيينة، عن هشام: في مشط ومُشَاقة، ويقال: إن المُشاطة ما يخرجُ من الشعر إذا مُشِطَ، والمشاقة من مشاقة الكَتّان.
قلت: هكذا في هذه الرواية إنه لم يُخرجه اكتفاء بمعافاة الله له وشفائه إياه، وقد روى البخاري (2) من حديث سفيانَ بن عُيَيْنَةَ قال:
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (3268 و 5763 وغيرها) ومسلم رقم (2189) من حديث عائشة – رضي الله عنها -.
(2) رقم (5765).
(2/737)
أول من حدثنا به ابنُ جُريْج يقول: حدثني آل عُرْوَة، عن عُرْوة فسألت هشامًا عنه، فحدثنا عن أبيه، عن عائشة: “كان رسول الله سُحِرَ حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهنَّ، قال سفيان: وهذا أشدُّ ما يكونُ من السِّحر إذا كان كذا، فقال: “يَا عَائِشَةُ أَعَلِمْتِ أَنَّ اللهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيما اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ، أَتَانِي رَجلانِ فَقَعَدَ أحَدُهُما عِنْدَ رَأْسِي وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَال الّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلآخَرِ: مَا بَالُ الرَّجُل؟ قَالَ: مَطبُوبٌ قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَال: لَبِيدُ بنُ الأَعْصَمِ رَجُلٌ مِنْ بنِي زُرَيْقٍ حَليفٌ لِيَهُودَ وَكَانَ مُنَافِقًا، قَالَ: وَفِيمَ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ ومُشَاطةٍ قَالَ: وَأَينَ؟ قَال: في جُفِّ طَلْعة ذَكَرٍ تَحْتَ رَعُوفةٍ بِئْرِ ذَرْوَانَ”، قال: فأتى البئر حتى استخرَجَهُ، فقال: “هَذهِ البئْرُ الّتي أُرِيتُها، وَكَأَنَّ مَاءَها نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ وَكَأَنَّ نَخْلَها رُؤُوسُ الشَّياطِينَ، قَالَ: فاسْتُخْرِجَ، قَالَتْ: فَقُلْت: أَفَلا؟ أَيْ: تَنَشَّرْت، فقال: أمَّا اللهُ فَقَدْ شَفَانِي وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ شَرًّا”.
ففي هذا الحديث أنه استخرجه، وترجم البخاريُّ عليه: “بابٌ هل يُسْتخرج السحرُ؟ “.
وقال قتادة: قلت لسعيد بن المُسَيَّب: رجل به طِبٌّ ويؤخذُ عن امرأته، أيحلُّ عنه وينشرُ؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاحَ، فأما ما ينفعُ النَّاسَ فلم يُنْهَ عنه (1).
فهذان الحديثانِ قد يُظَنُّ في الظاهر تعارُضُهُما, فإن حديث
__________
(1) علّقه البخاري فِي “الصحيح – الفتح”: (10/ 243) مجزومًا به, وقال الحافظ: “وصله أبو بكر الأثرم في “كتاب السنن، من طريق أبان العطار عن قتادة”، قال الحافظ في “تغليق التعليق”: (5/ 49) “وإسناده صحيح”.
(2/738)
عيسى، عن هشام, عن أبيه الأوَّل فيه أنه لم يستخرجْه، وحديث ابن جُرَيْج، عن هشام فيه أنه استخرجه، ولا تَنَافِيَ بينهما، فإنه استخرجه من البئرِ حتى رآه وعلمه، ثم دفنه بعد أن شُفِيَ.
وقول عائشة رضي الله عنها: هلا استخرجْتَهُ؟ أي: هلاَّ أخرجْتَهُ للناس حتى يَرَوْهُ ويعاينوه, فأخبرها بالمانع له من ذلك, وهو أنَّ المسلمين لم يكونوا لِيَسكتوا عن ذلك, فيقعُ الإنكارُ ويغضَبُ للساحر قومُهُ, فيحدث الشَّرُّ, وقد حصل المقصودُ بالشفاء والمعافاة فأمر بها فَدُفِنَتْ, ولم يستخرجها للناس, فالاستخراج الواقع غير الذي سألتْ عنه عائشة, والذي يدلُّ عليه أنه – صلى الله عليه وسلم – إنما جاء إلى البئر ليستخرجَها منه ولم يجيء إليه لينظرَ إليها ثم ينصرف, إذ لا غرض له في ذلك, والله أعلم (1).
وهذا الحديث ثابت عند أهل العلم بالحديث, متلقًى بالقبول بينهم, لا يختلفونَ في صحته, وقد اعْتاصَ على كثير من أهل الكلام وغيرهم, وأنكروه أشدَّ الإنكار, وقابلوه بالتكذيب, وصنّف بعضهم فيه مصنّفًا مفردًا حَمَل فيه على هشام, وكان غاية ما أحسن القول فيه, أن قال: “غَلِط واشتبه عليه الأمرُ, ولم يكنْ من هذا شيء”, قال: “لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يجوزُ أن يُسْحَرَ فإن يكونه مسحورًا تصديقا لقول (2) الكفار: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)} [الإسراء: 47] قالوا: وهذا كما قال فرعون لموسى – عليه السلام -: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا (101)} [الإسراء: 101]. وقال قوم صالح له: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ
__________
(1) انظر الجمع بين الروايتين في “شرح ابن بطال”: (9/ 444 – 445)، و”فتح الباري”: (10/ 245 – 246).
(2) (ظ ود): “لأمر”.
(2/739)
الْمُسَحَّرِينَ (153)} [الشعراء: 153]، وقال قوم شعيب له: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)}، قالوا: فالأنبياء لا يجوزُ عليهم أن يُسْحَرُوا، فإن ذلك ينادي حمايةَ الله لهم وعصمتهم من الشياطين”.
وهذا الذي قاله هؤلاء مودودٌ عند أهل العلم، فإن هشامًا من أوثقِ النَّاس وأعلمهم, ولم يقدحْ فيه أحدٌ من الأئمة بما يوجبُ رَدَّ حديثه, فما لِلْمُتَكَلِّمِينَ وما لهذا الشأن؟! وقد رواه غيرُ هشام عن عائشة – رضي الله عنها -.
وقد اتفق أصحابُ “الصحيحين” على تصحيح هذا الحديث, ولم يتكلَّمْ فيه أحدٌ من أهل الحديث بكلمة واحدة, والقصةُ مشهورةُ عند أهل التفسير والسنن والحديث والتاريخ والفقهاء, وهؤلاء أعلمُ بأحوال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأيامه من المتكلِّمين.
قال أبو بكر بن أبي شَيْبَةَ (1): “حدثنا أبو معاويةَ, عن الأعمش, عن يزيد بن حيَّان, عن زَيْدِ ابن الأرقم, قال: سحر النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – رجلٌ من اليهود, فاشتكى لذلك أيامًا, قال فأتاه جبريلُ, فقال: إن رجلًا من اليهود سَحَرَكَ, وعقد لذلك (2) عُقَدًا, فأرسل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عَلِيًّا فاستخرجها, فجاء بها, فجعل كلما حلَّ عقدةً وجد لذلك خِفَّةً, فقام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كأنما أُنشِطَ من عِقالٍ, فما ذكر ذلك لليهوديِّ ولا رآه في وجهه قطُّ” (3).
__________
(1) في “المصنَّف”: (5/ 40 – 41).
(2) (ق ود): “لك”.
(3) وأخرجه أحمد في “مسنده”: (4/ 367)، والنسائي: (7/ 112) , وعَبْد بن حُميد “المنتخب” رقم (271)، والطبراني في “الكبير”: (5/ 180) كلهم من طريق أبي معاوية به. =
(2/740)
وقال ابن عباس وعائشة: كان غلامٌ من اليهود يخدُمُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فدنت إليه اليهود, فلم يزالوا حتى أخذ مُشَاطةَ رأس النبي – صلى الله عليه وسلم -, وعِدَّةَ أسنان من مُشْطه, فأعطاها اليهودَ فسحروه فيها, وتولى ذلك لَبِيد بن الأعصم رجلٌ من اليهود فنزلت هاتانِ السورتان فيه (1).
قال البغويُّ (2): وقيل كانت مغروزةً بالإبرة, فأنزل الله عز وجل هاتينِ السورتينِ وهما إحْدى عشرة آيةً: سورة الفلق خمس آيات وسورة الناس ست آيات, فكلما قرأ آية انحلَّت عقدةٌ, حتى انحلت العُقَدُ كلُّها, فقام النبي – صلى الله عليه وسلم – كأنما أُنْشِطَ من عِقَالٍ (3).
قال: وروى أنه لَبِثَ فيه ستة أشهر واشتد عليه ثلاثة أيام,
__________
= ورواه الحاكم: (4/ 360) من حديث زيد بإسنادٍ آخر وصححه على شرط الشيخين، وانظر: “الفتح”: (10/ 239)، وقال الهيثمي في “المجمع”: (6/ 284): “رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدهما رجال الصحيح”.
(1) ذكره البغوي في “تفسيره”: (4/ 546) بلا إسناد، أخذًا من الثعلبي؛ إذ تفسيره مختصر منه، وعزاه للثعلبي ابن كثير في “تفسيره”: (8/ 3910 – 3911) مطوَّلًا، وقال عقبه: “هكذا أورده بلا إسناد، وفيه غرابة، وفي بعضه نكارة شديدة، ولبعضه شواهد مما تقدم” اهـ.
(2) في “تفسيره”: (4/ 546 – 547).
(3) قال الحافظ في “الفتح”: (10/ 236): “وقد وقع في حديث ابن عباسٍ فيما أخرجه البيهقي في “الدلائل” بسندٍ ضعيف في آخر قصه السحر الذي سُحِر به النبي – صلى الله عليه وسلم – أنهم وجدوا وترًا فيه إحدى عشرة عقدة وأنزلت سورة الفلق والناس، وجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، وأخرج ابن سعد (الطبقات 2/ 199) بسندٍ آخر منقطع عن ابن عباس: أن عليًّا وعمارًا لما بعثهما النبي – صلى الله عليه وسلم – لاستخراج السحر وجدا طلعة فيها إحدى عشرة عقدة” اهـ. وانظر: “التلخيص الحبير”: (4/ 40). وكذا جاء ذكر هذه العقد في رواية عَمْرة عن عائشة، لكنها أيضًا ضعيفة انظر “الفتح”: (10/ 241، 246).
(2/741)
فنزلت المعوذتان (1).
قالوا: والسِّحر الذي أصابه – صلى الله عليه وسلم – كان مرضًا من الأمراض عارضًا شفاه الله منه, ولا نقصَ في ذلك ولا عيب بوجهٍ ما, فإن المرضَ يجوزُ على الأنبياء, وكذلك الإغماءُ فقد أُغْمِيَ عليه – صلى الله عليه وسلم – في مرضه (2) , ووقع حين انفكتْ قدمُه (3) , وجُحِشَ شِقُّهُ (4) , وهذا من البلاء الذي يزيدهُ اللهُ به رفعةً في درجاته ونيل كرامته, وأشدُّ الناس بلاءً الأنبياءُ, فابتلوا من أممهم بما ابْتُلوا به من القتل والضرب والشتم والحبس, فليس بِبدْعٍ أن يُبْتَلَى النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – من بعض أعدائه بنوع من السحر كما ابتلى بالذي رماه فشجَّه, وابتليَ بالذي ألقى على ظهره السَّلَى وهو ساجد, وغير ذلك, فلا نقصَ عليهم ولا عارَ في ذلك, بل هذا من كمالهم وعُلوٌّ درجاتهم عند الله.
قالوا: وقد ثبت في “الصحيح” عن أبي سعيد الخُدْري أن جبريل أتى النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – فقال: “يا مُحَمَّدُ اشْتَكَيْتَ؟ ” فقال: “نَعَمْ”, فقال: “بِاسمِ الله أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيءٍ يُؤْذِيكَ, مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ, اللهُ يَشْفِيكَ, بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ” (5) فعوّذه جبريلُ من شرِّ
__________
(1) قال الحافظ في “الفتح”: (10/ 237): “وقع في رواية أبي ضمرة عند الإسماعيلي: “فأقام أربعين ليلة” وفي رواية وهيب (كذا! وصوابه: معمر، أما رواية وهيب 6/ 96 فليس فيها تحديد المدة) عن هشام عند أحمد (6/ 63): “ستة أشهر”، ويمكن الجمع بأن تكون الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه، والأربعين يومًا من استحكامه … ” اهـ.
(2) أخرجه البخاري رقم (198)، ومسلم رقم (418) من حديث عائشة – رضي الله عنها -.
(3) أخرجه البخاري رقم (1911) من حديث أنسٍ بن مالك -رضي الله عنه-.
(4) أخرجه البخاري رقم (378)، ومسلم رقم (411) من حديث أنسٍ -أيضًا-.
(5) أخرجه مسلم رقم (2186) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
(2/742)
كل نفس وعين حاسد لمَّا اشتكى، فدَلَّ على أن هذا التعويذَ مُزِيلٌ لِشكَايته – صلى الله عليه وسلم -, وإلا فلا يُعَوِّذُه من شيء وشِكَايته من غيره.
قالوا: وأما الآيات التي استدللتم بها فلا حجةَ لكم فيها, أما قوله تعالي عن الكفار أنهم قالوا: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسراء: 47] وقوله قوم صالح له: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)} [الشعراء: 153] فقيل: المراد به من له سَحَرٌ, وهي الرِّئَةُ, أي: أنه بَشَرٌ مثلُهم يأكلُ ويشربُ, ليس بِمَلَكٍ, ليس المرادُ به السِّحْرَ, وهذا جواب غير مَرْضيٍّ, وهو في غاية البعد فإن الكفار لك يكونوا يعبرون عن البشر بأنه مسحور, ولا يُعْرف هذا في لغة من اللغات (1) , وحيث أرادوا هذا المعنى أتَوْا بصريح لفظ البشر فقالوا: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} , {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} , {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)}.
وأما المسحور, فلم يريدوا به: ذا السَّحْر وهي: الرئة وأيُّ مناسبةٍ لذكر الرئة في هذا الموضع؟! ثم كيف يقول فرعون لموسى: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا (101)} [الإسراء: 101] أَفَتُراه ما علم أنَّ له سَحْرًا وأنه بشرٌ, ثم كيف يجيبُهُ موسى بقوله {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)} [الإسراء: 102] ولو أراد بالمسحور أنه بشر لصدَّقه موسى وقال نعم أنا بشرٌ أرسلني اللهُ إليك, كما قالت الرسلُ لقومهم لما قالوا لهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} فقالوا: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} ولم ينكروا ذلك, فهذا الجوابُ في غاية الضَّعف.
وأجابت طائفةٌ منهم ابنُ جرير (2) وغيره, بأن المسحور هنا هو
__________
(1) (ق): “من لغات الأمم”.
(2) كما في “تفسيره”: (8/ 158) قال: “وقد يجوز أن يكون مرادًا به: إني لأظنك =
(2/743)
مُعَلَّمُ السِّحر الذي قد علَّمه إيَّاه غيرُهُ، فالمسحور عنده بمعنى ساحر أي: عَلِم بالسحر (1) , وهذا جيِّد إن ساعدت عليه اللغة, وهو: أن من عَلِم السحر, يقال له: مسحور, ولا يكاد هذا يُعرف في الاستعمال, ولا في اللغة, وإنما المسحور من سحره غيرُه كالمطبوب والمضروب والمقتول وبابه, وأما من عَلِمَ السحر فإنما (2) يقال له: ساحر, بمعنى: أنه عالمٌ بالسحر, وإن لم يَسْحَرْه غيره, كما قال قوم فرعون لموسى: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34)} [الشعراء: 34] ففرعون قذفه بكونه مسحورًا, وقومه قذفوه بكونه ساحرًا.
فالصَّواب هو الجوابُ الثالث, وهو جواب صاحب “الكشاف” (3) وغيره: أن المسحور على بابه, وهوَ مَنْ سُحِرَ حتى جُنَّ, فقالوا: مسحورٌ, مثل مجنون زائل العقل لا يعقلُ ما يقولُ, فإنَّ المسحورَ الذي لا يُتَّبَعُ: هو الذي فسد عقلُه بحيث لا يدري ما يقولُ فهو كالمجنون, ولهذا قالوا فيه {مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)} فأمّا من أُصِيب في بَدَنه بمرض من الأمراض يُصابُ به الناسُ فإنه لا يمنع ذلك من اتباعه وأعداء الرسل لم يقذفوهم بأمراض الأبدان, وإنما قذفوهم بما يحذرون به سفهاءَهم من اتِّبَاعهم, وهو أنهم قد سُحِروا حتى صاروا لا يعلمونَ ما يقولون بمنزلة المجانين, ولهذا قال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)} [الإسراء: 48]__________
= يا موسى ساحرًا، فوضع مفعول موضع فاعل، كما قيل: إنك مشئوم علينا وميمون، وإنما هو شائم ويامن … والعرب قد تخرج فاعلًا بلفظ مفعول كثيرًا” اهـ.
(1) في “المنيرية”: “عالم بالسحر”.
(2) (ظ): “فإنه”.
(3) (2/ 377).
(2/744)
مثَّلوك بالشاعر مرة، والساحر أخرى، والمجنون مرة، والمسحور أخرى، فضلُّوا في جميع ذلك ضلالَ من يطلبُ في تِيْهه وتحيُّره (1) طريقًا يسلكه فلا يقدر عليه, فإنه أي طريق أخذَها فهي طريقُ ضلال وحيرة, فهو متحيِّر في أمره لا يهتدي سبيلًا, ولا يقدرُ على سلوكها فهذا (2) حالُ أعداءِ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – معه حتى ضربوا له أمثالًا بَرَّأَهُ الله منها, وهو أبعدُ خَلْقِ الله منها, وقد علم كلُّ عاقلٍ أنها كَذِبٌ وافتراءٌ وبهتانٌ.
وأما قولكم: “إن سحر الأنبياء يُنافي حمايةَ الله لهم وصيانته لهم [أن يُسْحَروا”, فجوابه: أن ما يصيبهم من أذى أعدائهم لهم, وأذاهم إياهم لا ينافي حماية الله وصيانة لهم] (3)؛ فإنه سبحانه كما يَحْميهم ويصونُهم ويحفظُهم ويتولاَّهُم فيبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم ليستوجبوا كمال كرامته, وليتسلَّى بهم من بعدهم من أُمَمِهم وخُلفائِهم إذا أُوذوا من النَّاس, فرأوا ما جرى على الرُّسُل والأنبياء, صبروا ورَضُوا وتأسَّوْا بهم, ولِتمتلِيءَ صاعُ الكفار فيستوجبون ما أُعِدَّ لهم من النكال العاجل والعقوبة الآجلة, فيمحقهم بسبب بَغْيهم وعداوتهم (4) , فيعَجِّل تطهيرَ الأرض منهم, فهذا من بعض حكمته تعالى في ابتلاء أنبيائِه ورسله بأذى قومهم, وله الحكمةُ البالغةُ والنعمةُ السابغةُ, لا إلهَ غيرهُ, ولا رَبَّ سواه.
فصل
وقد دلَّ قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)} ,
__________
(1) (ق): “في تيهٍ وغيره”.
(2) (ظ): “فكهذا”.
(3) ما بين المعكوفين ساقط من (ظ ود) والمطبوعات, ومستدرك من (ق).
(4) (ق): “وعدوانهم”.
(2/745)
وحديثُ عائشة – رضي الله عنها – المذكور على تأثير السحر وأن له حقيقة، وقد أنكر ذلك طائفةٌ من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم، وقالوا: إنه لا تأثيرَ للسحر ألبَتَّةَ لا في مرض ولا قتل ولا حَلٍّ ولا عقد قالوا: وإنما ذلك تخيلُ لأعين الناظرين, لا حقيقةَ له سوى ذلك.
وهذا خلافُ ما تواترت به الآثارُ (1) عن الصحابة والسَّلَف, واتفق عليه الفقهاءُ وأهل التفسير والحديث, وأربابُ القلوب من أهل التَّصَوُّف, وما يعرفُهُ عامَّةُ العقلاء.
والسحرُ الذي يؤثر مرضّا وثقلًا, وحلًّا وعقدًا, وحبًّا وبغضًا ونزيفًا, وغير ذلك من الآثار موجودٌ تعرِفُهُ عامة الناس, وكثير منهم قد علمه ذوقًا بما أصيبَ به منه.
وقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)} دليل على أن هذا النفث يضرُّ المسحور في حال غيبته عنه, ولو كان الضررُ لا يحصُلُ إلا بمباشرة البَدَن ظاهرًا -كما يقولُه هؤلاء- لم يكنْ للنَّفثِ ولا للنفَّاثات شرٌّ يستعاذ منه.
وأيضًا: فإذا جاز على الساحر أن يَسْحَرَ جميعَ أعينِ النَّاظرين -مع كثرتهم- حتى يَرَوا الشيءَ بخلاف ما هو به -مع أن هذا تَغَيُّرٌ في إحساسهم (2) – فما الذي يحيلُ تأثيره في تغيير بعض أعراضهم وقُواهم وطِباعهم؟! وما الفرقُ بين التَّغيير الواقع في الرُّؤية والتَّغيير في صفة أخرى من صفات النفس والبَدَن؟!.
__________
(1) (ق): “الأخبار”.
(2) (ق): “أجسامهم”.
(2/746)
فإذا غيَّرَ إحساسَه حتى صار يرى السَّاكِنَ مُتَحَرِّكًا, والمُتَّصِلَ منفصلًا, والميِّتَ حَيًّا, فما المُحِيلُ لأن يغيرَ صفات نفسِهِ حتى يجعلَ المحبوبَ إليه بغيضًا والبغيض محبوبًا وغير ذلك من التأثيرات؟.
وقد قال تعالى عن سحرة فرعون إنهم: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)} [الأعراف: 116] فبيَّن سبحانه أن أعينهم سُحِرَتْ, وذلك إما أن يكونَ لتغيير حصل في المرئي, وهو الحبال والعِصِي, مثل أن يكون السَّحَرَةُ استعانت بأرواح حَرَّكَتْها, وهي الشياطينُ, فظنُّوا أنها تحرَّكت بأنفسها, وهذا كما إذا جرَّ من لا يراه حصيرًا أو بساطًا فترى الحصير والبساط ينجرُّ, ولا ترى الجارَّ له, مع أنه هو الذي يجرُّه, فهكذا حالُ الحِبالُ والعِصِيّ التبستها الشياطينُ فقَلَّبتها كتقلُّب الحَيَّة فظنَّ الرائي أنها تقلَّبَتْ بأنفسِها, والشياطينُ هم الذين يقلِّبونها. وإما أن يكونَ التغيُّرُ حَدَثَ في الرائي حتى رأي الحبال والعِصِيَّ تَتَحَرَّكُ وهي ساكنةٌ في أنفسها, ولا ريبَ أن الساحر يفعلُ هذا وهذا, فتارة يتصرَّفُ في نفس الرَّائي وإحساسه حتى يُرِىه الشيءَ بخلاف ما هو به, وتارة يتصرَّف في المرئي باستعانته بالأرواح الشيطانية حتى يتصرَّف فيها (1).
وأما ما يقوله المنكرون من أنهم فعلوا في الحِبال والعِصِيِّ ما أوجب حركتَهَا ومشْيَها مثل الزئبق وغيره حتى سَعَتْ, فهذا باطلٌ من وجوه كثيرة, فإنه لو كان كذلك لم يكنْ هذا خيالًا بل حركة حقيقية, ولم يكنْ ذلك سَحْرًا لأعينِ النَّاسِ, ولا يسمَّى ذلك سِحْرًا, بل صناعة من الصناعات المشتركة, وقد قال تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ
__________
(1) (ق): “يؤثر فيه”.
(2/747)
وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)} [طه: 66] ولو كانت تحركت بنوع حيلة -كما يقوله المنكرون- لم يكن هذا من السحر في شيء, ومثل هذا لا يخفى, وأيضًا: لو كان ذلك بحيلة -كما قال هؤلاء- لكان طريق إبطالها إخراج ما فيها من الزِّئبق وبيان ذلك المحال, ولم يحتجْ إلى إلقاء العصا لابتلاعها, وأيضًا: فمثل هذه الحيلة لا يحتاج فيها إلى الاستعانة بالسحرة, بل يكفي فيها حُذَّاق الصُّنَّاع, ولا يحتاج في ذلك إلى تعظيم فرعون للسحرة وخضوعه لهم ووعدهم بالتقريب والأجر (1) , وأيضًا: فإنه لا يقالُ في ذلك: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} , فإن الصناعات يشتركُ الناس في تعلُّمها وتعليمها, وبالجملة فبطلانُ هذا أظهرُ من أن يتكلف رده فلنرجعْ إلى المقصود.
فصل
الشرُّ الرابع: شرُّ الحاسد إذا حسد, وقد دلَّ القرآنُ والسُّنَّةُ على أن نفسَ حسد الحاسد يؤذي المحسود, فنفس حسده شرٌّ يَتَّصِلُ بالمحسود من نفسه وعينه, وإن لم يؤذِهِ بيده ولا لسانه, فإن الله تعالى قال: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} , فحقَّق الشرَّ منه عند صدور الحسد.
والقرآنُ ليس فيه لفظة مهملة, ومعلوم أن الحاسد لا يسمَّى حاسدًا إلا إذا قام به الحسد, كالضارب والشاتم والقاتل ونحو ذلك, ولكن قد يكون الرَّجُلُ في طبيعته الحسد, وهو غافل عن المحسود لاهٍ عنه, فإن خطر على ذكره وقلبه انبعثت نارُ الحسد من قلبه إليه, ووجهتْ إليه سهام الحسد من قَلْبه (2) , فيتأذَّى المحسودُ بمجرد
__________
(1) (ظ ود): “والإجزاء”.
(2) (ظ): “قِبَله” ولها وجه.
(2/748)
ذلك، فإن لم يستعذْ باللهِ ويتحصَّنْ به, ويكون له أورادٌ من الأذكار والدَّعوات والتَّوَجُّه إلى الله والإقبال عليه, بحيثُ يدفعُ عنه من شرِّه بمقدار توجهه وإقباله على الله, وإلا ناله شر الحاسد ولابدَّ, فقوله تعالى: {إِذَا حَسَدَ (5)} بيان؛ لأن شرَّهُ إنما يتحقَّقُ إذا حصل منه الحسدُ بالفعل.
وقد تقدم في حديث أبي سعيد الخُدْرِيِّ الصحيح رُقْيَةُ جبريلَ – عليه السلام – النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – وفيها: “بسم الله أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شيءٍ يُؤْذِيكَ, مِنْ شَرِّ كلِّ نَفْسٍ أو عَيْنِ حَاسِدٍ, الله يَشْفِيكَ” (1) , فهذا فيه الاستعاذة من شر عين الحاسد, ومعلوم أن عينه لا تؤثر بمجردها؛ إذ لو نظر إليه نظرَ لاهٍ ساهٍ عنه, كما ينظرُ إلى الأرض والجبل وغيره لم يؤثِّرْ فيه شيئًا؛ وإنما إذا نظر إليه نَظَرَ من قد تكيَّفَتْ نفسُه الخبيثةُ, واتسمَّت واحْتَدَّتْ, فصارت نفسًا غضبيةً خبيثةً حاسدة أثَّرت بها (2) تلك النظرةُ, فأثَّرت في المحسود تأثيرًا بحسب صفة ضعفه وقوَّة نفس الحاسد, فربَّما أَعْطَبَهُ وأهلكَه, بمنزلةِ من فوَّق سهمًا نحو رَجُلٍ عُرْيَان فأصاب منه مقتلًا, وربما صرعه وأمرضَهُ, والتَّجارِبُ عند الخاصَّةِ والعامَّةِ بهذا أكثرُ من أن تُذْكَرَ.
وهذه العينُ إنما تأثيرها بواسطة النفس الخبيثة, وهي في ذلك بمنزلة الحية التي إنما يؤثر سمها إذا غضِبَت (3) واحتدَّت, فإنها تتكيَّفُ بكيفيَّة الغضب والخبث فتُحْدِثُ فيها تلك الكيفيةُ السُّمَّ فتؤثر في الملسوع, وربما قَوِيَتْ تلك الكيفيةُ واشتدَّتْ في نوعٍ منها حتى
__________
(1) تقدم ص / 742.
(2) (ق): “فاقترفت بها”.
(3) (ظ ود) والمطبوعات: “عضَّت”، وما في (ق) أصحّ معنًى.
(2/749)
تُؤَثِّرَ بمجرد نظرة فتطمسُ البصر وتسقطُ الحَبَلَ, كما ذكره النبي – صلى الله عليه وسلم – في الأبتر وذي الطُّفْيَتَيْن منها, وقال: “اقْتُلُوهُمُا, فإنَّهُما يَطْمِسَانِ (1) البَصَرَ ويُسْقِطَانِ الحَبَلَ” (2).
فإذا كان هذا في الحيَّات, فما الظَّنُّ في النفوس الشِّريرة الغَضَبِيَّة الحاسدة إذا تكيَّفت بكيفيَّتِها الغضبيّة واتسمَّت وتوجَّهت إلى المحسود بكيفيَّتها؟! فللهِ كم من قتيل, وكم من سَلِيب, وكم من معافيً عاد مضنيً على فراشه يقول طبيبُه: لا أعلمُ داءَه ما هو = فصدقَ!! ليس هذا الدَّاءُ من علم الطبائع, هذا من علم الأرواح وصفاتها وكيفياتها ومعرفة تأثيراتها في الأجسام والطبائع وانفعال الأجسام عنها.
وهذا علمٌ لا يعرفُهُ إلاَّ خواصُّ النَّاسِ, والمحجوبونَ مُنكرونَ له, ولا يعلمُ تأثيرَ ذلك وارتباطه بالطبيعة وانفعالها عنه إلّا من له نصيبٌ من ذوق, وهل الأجسام إلا كالخشب الملقى؟ وهل الإنفعالُ والتأثُرُ وحدوث ما يحدثُ عنها من الأفعال العجيبة والآثار الغريبة إلاَّ للأرواحِ, والأجسامُ آلتُها, بمنزلة آلة الصانع, فالصنعةُ في الحقيقة له, والآلاتُ وسائطُ في وصول أثره إلى الصنع.
ومن له أدنى فِطْنة, وتأمَّلَ أحوالَ العالم ولطُفَتْ رُوْحُه, وشاهدتْ أحوالَ الأرواح وتأثيراتها, وتحريكها الأجسام وانفعالها عنها, كلُّ ذلك بتقدير العزيز العليم, خالق الأسبابِ والمسببات = رأى (3)
__________
(1) (ظ): “يلتمسان” وهو موافق لرواية مسلم: “يلتمس البصر”.
(2) أخرجه البخاري رقم (3297)، ومسلم رقم (2233) من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – بنحوه، وفي “الصحيحين”: “يستسقطان الحَبَل”.
وذو الطُّفْيَتين والأبتر: جِنْس من الحيَّاتْ الخبيثة.
(3) تعلق بقوله: “ومن له أدنى فطنة … “.
(2/750)
عجائبَ في الكون، وآياتِ دالَّةً على وحدانِيَّةِ الله وعظمته وربوبيَّتِهِ, وأَنَّ ثَمَّ عالمًا آخَرَ تجري عليه أحكامٌ أُخَرُ تُشْهَدُ آثارُها, وأسبابُها غُيَّبٌ عن الأبصار, فتبارك الله ربُّ العالمين وأحسنُ الخالقين الذي أتقنَ ما صنع, وأحسنَ كلَّ شيء خَلَقَهُ!! ولا نسبة لعالم الأجسام إلى عالم الأرواح, بل هو أعظمُ وأوسعُ وعجائبه أبهرُ وآياتُه أعجبُ!!.
وتأمل هذا الهيكلَ الإنسانيَّ إذا فارقَتْهُ الرُّوحُ كيف يصيرُ بمنزلة الخَشَبة أو القطعة من اللحم, فأين ذهبت تلك العلوم (1) والمعارف والعقل, وتلك الصنائعُ الغريبة وتلك الأفعالُ العجيبة وتلك الأفكار والتدبيرات؟ كيف ذهبت كلُّها مع الرُّوح وبقي الهيكل سواء هو والتُّراب؟ وهل يخاطبُكَ من الإنسان أو يراك أو يحبك, أو يواليك أو يعاديك, ويخِفُّ عليك ويَثْقُلُ ويؤنِسُكَ ويوحِشُكَ, إلا ذلك الأمرُ الذي وراء الهيكل المشاهَدِ بالبَصَر.
فربَّ رجلٍ عظيم الهَيُولَي (2) كبيرِ الجثة, خفيفٌ على قلبك حُلْوٌ عندك, وآخرُ لطيفُ الخِلْقة صغير الجثة, أثقلُ على قلبك من جَبَل, وما ذاك إلا للطافة رُوح ذاك وخِفَّتها وحلاوتها, وكثافة هذا وغلظ روحه ومرارتها, وبالجملة فالعُلَقُ والوُصَلُ التي بين الأشخاص والمنافرات والبُعد إنما هي للأرواح أصلًا, والأشباح تبعًا.
فصل
والعائنُ والحاسد يشتركان في شيء, ويفترقان في شيء, فيشترِكانِ
__________
(1) (ق) زيادة: “والأرواح”.
(2) الهيوْلَى، لفظ يوناني، بمعنى الأصل والمادة، انظر: “التوقيف على مهمات التعاريف”: (ص/ 745).
(2/751)
في أن كلَّ واحد منهما تتكيَّفُ نفسُه وتتوجَّهُ نحو من يريدُ أذاه، فالعائنُ تتكيَّفُ (1) نفسُه عند مقابلة المَعِينِ ومُعَايَنَتِهِ. والحاسد يحصلُ له ذلك عند غيبة المحسود وحضوره أيضا.
ويفترقان في أن العائن قد يُصيبُ من لا يحسدهُ من جماد أو حيوان أو زرع أو مال، وإن كان لا يكادُ يَنْفَكُّ من حسد صاحبه. وربما أصابتْ عينُهُ نفسَه، فإن رؤيته للشيء رؤيةَ تعجُّبٍ وتحديقٍ، مع تكيُّف نفسِه بتلك الكيفية تؤثرُ في المَعِين (2).
وقد قال غير واحد من المفسرين (3) في قوله تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} [القلم: 51] إنه الإصابةُ بالعَيْن، فأرادوا أن يُصِيبوا بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فنظر إليه قوم من العائنين وقالوا: ما رأينا مِثْلَهُ ولا مِثْلَ حُجَّته (4). وكان طائفةٌ منهم تمرُّ به الناقةُ والبقرةُ السمينةُ فَيَعينُها، ثم يقول لخادمه: خُذِ المِكْتَلَ والدِّرهم وَآتِنا بشيء من لحمها، فما تبرحُ حتى تقعَ فتُنْحَرَ.
وقال الكلبيُّ (5): كان رجل من العرب يمكثُ يَوْمين أو ثلاثة لا يأكلُ، ثم يرفعُ جانب خِبَائِهِ فتمرُّ به الإبلُ فيقول: لم أرَ كاليوم إبلاً ولا غَنَمًا أحسنَ من هذه، فما تذهبُ إلا قليلًا حتى يسقطَ منها طائفة، فسأل الكفارُ هذا الرجلَ أن يُصيبَ رسول الله بالعين ويفعل به كفعله في غيره، فعصم الله تعالى رسولَه وحفظَه، وأنزل
__________
(1) هذه وما قبلها في (ق): «تتكشّف».
(2) وانظر: «زاد المعاد»: (4/ 164 – فما بعدها).
(3) انظر «تفسير الطبري»: (12/ 203 – 204) عن ابن عباس وغيره.
(4) (ق): «حُججه» وكذا في «تفسير البغوي».
(5) نقله عنه البغوي في «تفسيره»: (4/ 384).
(2/752)
عليه: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} [القلم: 51] هذا قول طائفة.
وقالت طائفة أخرى -منهم ابن قتيبة (1) -: ليس المرادُ أنهم يُصِيبونك بالعين كما يُصيبُ العَائِنُ بعينه ما يعجِبُهُ, وإنما أرادَ أنهم ينظرونَ إليك إذا قرأتَ القرآنَ الكريم نظرًا شديدًا بالعداوة والبغضاء يكادُ يسقِطُكَ.
قال الزَّجَّاجُ (2): يعني من شِدَّة العداوة يكادون بنظرهم نظرَ البُغَضَاء أن يصرعوك, وهذا مستعملٌ في الكلام, يقول القائل: نظر إليَّ نظرةً قد كان يصرعُني منها.
قال: ويدلُّ على صحَّة هذا المعنى أنه قَرَن هذا النَّظَرَ بسماع القرآن الكريم, وهم كانوا يكرهون ذلك أشدَّ الكراهة, فيُحِدُّون إليه النَّظَرَ بالبغضاء.
قلت: النظرُ الذي يُؤَثِّرُ في المنظور قد يكون سبَبُهُ شِدَّةَ العداوة والحسد, فيؤثر نظره في كما تؤثر نفسه بالحسد, ويقوى تأثيرُ النفس عند المقابلة, فإن العدوَّ إذا غاب عن عدوه قد يشغل نفسُه عنه, فإذا عاينَه قُبلًا اجتمعت الهِمَّةُ عليه, وتوجَّهتِ النفسُ بكُلِّيَّتِها إليه, فيتأثَّرُ بنظره, حتى إن من النَّاسِ من يَسْقُطُ, ومنهم من يُحَمُّ, ومنهم من يُحْمَلُ إلى بيته, وقد شاهدَ الناسُ من ذلك كثيرًا.
وقد يكون سبَبَهُ الإعجابُ, وهو الذي يسمُّونه بإصابة العين, وهو أن الناظرَ يرى الشيءَ رؤيةَ إعجابٍ به أو استعظامٍ, فتتكيَّفُ
__________
(1) في “تأويل مشكل القرآن”: (ص/ 170)، والمؤلف ينقل من “تفسير البغوي”: (4/ 384).
(2) نقله في “اللسان”: (10/ 145).
(2/753)
رُوْحُهُ بكيفيَّة خاصَّة تؤثِّرُ في المَعِين، وهذا هو الذي يعرفُه الناسُ من رؤيةِ المعين, فإنهم يستحسنونَ الشيءَ, ويعجبونَ منه فيصابُ بذلك.
قال عبد الرزاق: بن مَعْمر, عن همَّام بن مُنَبِّه (1) قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة, قال قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “العَيْنُ حَقٌّ” ونهى عن الوَشْم (2).
وروى سفيان, عن عَمْرو بن دينار, عن عُرْوَة عن عامر, عن عُبَيْدِ بنِ رِفَاعَة, أن أسماءَ بنتَ عُمَيْس قالت: يا رسول الله إن ابني جعفرٍ تصيبُهمِ العينُ, أفَنَسْتَرْقِي لهُم؟ قال: “نَعَمْ, فَلَوْ كَانَ شَيءٌ يَسْبِقُ القَضَاءَ لَسَبَقَتْهُ العَيْنُ” (3).
فالكفار كانوا ينظرون إليه نظرَ حاسد شديد العدواة, فهو نظرٌ يكادُ يُزْلقُهُ لولا حفظُ الله وعصمته, فهذا أشدُّ من نظر العائن, بل هو جنسٌ من نظر العائن, فمن قال: إنه من الإصابة بالعَيْنِ, أراد هذا المعنى, ومن قال: ليسَ به (4) , أراد أن نَظَرَهُم لم يكن نَظَرَ استحسان وإعجاب, فالقولان (5) حق.
__________
(1) تحرفت في (ظ ود): والمطبوعات إلى: “هشام بن قتيبة”!.
(2) أخرجه همام في “صحيفته” رقم (131)، وعبد الرزاق في “المصنف”: (11/ 18) , والبخاري رقم (5740)، ومسلم رقم (2187).
(3) أخرجه أحمد: (6/ 438)، والترمذي رقم (2059)، وابن ماجه رقم (3510)، والنسائي في “الكبرى”: (4/ 365) وغيرهم من حديث أسماء. بنت عميس – رضي الله عنها -.
قال الترمذي: “هذا حديث حسن صحيح”، وله شواهد.
(4) (ق): “منهم”، و (ظ ود): “فيه” والمثبت أصح.
(5) (ظ ود) والمطبوعات: “فالقرآن” والتصويب من (ق).
(2/754)
وقد روى التِّرْمِذِيُّ من حديث أبي سعيد: “أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يَتَعَوَّذُ من عَيْنِ الإنسانِ” (1) فلولا أن للعينِ شَرًّا يتعوَّذْ منها.
وفي التِّرْمِذي من حديث عليِّ بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، حدثني حَيَّة بن حابس (2) التميمي, حدثني أبي أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “لا شَيْءَ فَي الهَامِ, والعَيْنُ حَقٌّ” (3).
وفيه أيضًا: من حديث وُهَيْب، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “لَوْ كَانَ شَيءٌ سَابِقَ القَدَرِ لَسَبَقَتْة العَيْنُ، وإذا اسْتُغْسِلْتُم فاغْسِلُوا” (4)، قال: وفي الباب عن عبد الله بن عَمْرو، وهذا حديث صحيح (5).
والمقصود أن العائن حاسد خاصٌّ، وهو أضرُّ من الحاسد، ولهذا -والله أعلم- إنما جاء في السورة ذكر الحاسد دود العائن؛
__________
(1) أخرجه الترمذي رقم (2058)، والنسائي: (8/ 271) وفي “الكبرى”: (4/ 441)، وابن ماجه رقم (3511)، والضياء في “المختارة”.
قال الترمذي: “هذا حديث حسن غريب”، وصحَّحه الضياء.
(2) تحرفت في (ق) إلى: “جبير في حابس” و (ظ ود): “حابس بن حبة”! والتصويب من المصادر، واختلف في ضبط “حية” فقيل بالياء -آخر الحروف- وقيل بالموحَّدة ذكره ابن أبي عاصم، وخطؤوه فيه وصوّبوا الأول انظر “توضيح المشتبه”: (3/ 78)، و”الإصابة”: (2/ 201).
(3) أخرجه أحمد: (27/ 181 رقم 16627)، والترمذي رقم (2061)، والبخاري في “الأدب المفرد”: (ص/ 269) وغيرهم.
قال الترمذي: “حديث غريب” يُشير بذلك إلى ضعفه، لكن للحديث شواهد صحيحة يتقوّى بها من حديث جماعة من الصحابة – رضي الله عنهم -.
(4) أخرجه مسلم رقم (2188)، والترمذي رقم (2062).
(5) هذا كلام الترمذي عقب الحديث المتقدم، وحديث ابن عَمْرو أخرجه أحمد: (11/ 641 رقم 7070) وفي سنده ضعف.
(2/755)
لأنه أعمُّ، فكلُّ عائنٍ حاسدٌ ولابُدَّ, وليس كلُّ حاسدٍ عائْنًا, فإذا استعاذ من شرِّ الحسد دخل فيه العين, وهذا من شمول القرآن الكريم وإعجازه وبلاغته.
وأصل الحَسَدِ هو بُغضُ نعمةِ الله على المحسود وتمنِّي زوالها, فالحاسدُ عدوُّ النعم, وهذا الشَّرُّ هو من نفس الحاسد وطبعها, ليس هو شيئًا اكتسبه من غيرها, بل هو من خُبثها وشرِّها, بخلاف السحر, فإنه إنما يكونُ باكتساب أمور أخرى, واستعانة بالأرواحِ الشَّيطانية, فلهذا -والله أعلم- قَرَن في السُّورة بين شَرِّ الحاسد وشرِّ الساحر؛ لأن الاستعاذة من شرِّ هذين تَعُمُّ كُلَّ شَرٍّ يأتي من شياطين الإنس والجن, فالحَسَدُ من شياطين الإنس والجن, والسحرُ من النوعين.
وبقي قِسْمٌ ينفردُ به شياطينُ الجن, وهو الوسوسةُ في القلب, فذكره في السورة الأخرى كما سيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى, فالحاسدُ والساحرُ يؤذيان المحسودَ والمسحورَ بلا عملٍ منه, بل هو أذىً من أمرٍ خارجٍ عنه, ففرَّق بينهما في الذكر في سورة الفلق.
والوسواسُ إنما يؤذي العبدَ من داخله بواسطةِ مساكنته له, وقبوله منه, ولهذا يعاقَبُ العبدُ على الشر الذي يؤذيه به الشَّيْطان من الوساوس التي (1) تقترنُ بها الأفعالُ والعزمُ الجازم؛ لأن ذلك سعيه وإرادته, بخلاف شرِّ الحاسد والساحر فإنه لا يُعَاقَبُ عليه؛ إذ لا يضافُ إلى كسبه ولا إرادته, فلهذا أفرد شرّ الشيطان في سورة, وقرن
__________
(1) (ق): “الوسواس الذي”.
(2/756)
بين شرِّ الساحر والحاسد في سورة، وكثيرًا ما يجتمعُ الشران شر الحسد والسحر في النفوس الخبيثة (1) للمناسبة.
ولهذا اليهودُ أسحر الناس وأحسدُهُمْ، فإنهم لشِدَّة خُبْئِهِمْ فيهم من السِّحر والحسد ما ليس في غيرهم، وقد وصفهم الله تعالى في كتابه بهذا وهذا، فقال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)} [البقرة: 102].
وللكلامِ على أسرار هذه الآية وأحكامها، وما تضمَّنَتْه من القواعد، والرَّدِّ على من أنكر السحر، وما تضمنته من الفرقان بين السحر وبين المعجزات، الذي أنكر من أنكرَ السحرَ خشية الالتباس، وقد تضمنت الآية أعظم الفرقان بينهما = موضعٌ غير هذا؟ إذ المقصودُ الكلامُ على أسرار هاتين السورتين، وشدَّة حاجة الخلق إليهما، وأنه لا يقومُ غيرُهما مقامَهُما.
وأما وصفُهم (2) بالحسد؛ فكثير في القرآن، كقوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54] وفي قوله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ
__________
(1) (ظ ود): “وكثيرًا ما يجتمع القرآن الحسد والسحر للمناسبة”! والمثبت من (ق).
(2) أي اليهود.
(2/757)
أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109].
والشيطان يقارنُ الساحر والحاسد ويحادثهما ويصاحبهما، ولكنَّ الحاسدَ تُعِينُهُ الشياطينُ بلا استدعاء منه للشيطان؛ لأن الحاسد شبيهٌ بإبليس وهو في الحقيقة من أتباعه؛ لأنه يطلبُ ما يحبه الشيطان من فساد الناس وزوال نعم الله عنهم, كما أن إبليس حسد آدم لشَرَفَه وفضله, وأبى أن يسجدَ له حَسَدًا, فالحاسد من جند إبليس, وأما الساحرُ فهو يطلبُ من الشيطان أن يُعِينَهُ ويستعينه (1) , وربما يعبدُهُ من دون الله تعالى حتى يقضيَ له حاجَتَهُ, وربما يسجد له.
وفي كتب السحر و”السِّرِّ المكتوم” (2) من هذا عجائب, ولهذا كلما كان الساحرُ أكفرَ وأخبثَ وأشدَّ معاداةً لله ولرسوله ولعباده المؤمنين؛ كان سحرُه أقوى وأنْفَذَ, ولهذا كان سِحْرُ عُبَّاد الأصنام أقوى من سِحْر أهل الكتاب, وسحر اليهود أقوى من سِحْر المُنْتَسِبين إلى الإسلام, وهم الذين سحروا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
وفي “الموطأ” (3) عن كعب قال: “كلماتٌ أحفظُهُنٌ من التَّوراة لولاها لجعلتْني يهودُ حمارًا: أعوذُ بوجه اللهِ العظيمِ الذي لا شيءَ أعظمُ منه, وبكلمات الله التَّامَّاتِ التي لا يُجاوِزهُنَّ بَرٌّ ولا فاجرٌ,
__________
(1) (ق): “ويستعين به”.
(2) “السر المكتوم في مخاطبة النجوم” لأبي بكر الرازي المتكلم (606) , والكتاب في عبادة الكواكب في الأصنام وعمل السحر، وقيل: إنه منسوب إليه. انظر: “مجموع الفتاوى”: (13/ 180)، و”بيان تلبيس الجهمية”: (1/ 447)، و”كشف الظنون”: (ص/ 989)، و”طبقات الشافعية الكبرى”: (8/ 87).
(3) (2/ 951 – 952).
(2/758)
وبأسماء الله الحُسنى، ما عَلِمْتُ منها وما لم أعْلَمْ، منْ شَرِّ ما خَلَقَ وذَرَأَ وبَرَأَ”.
والمقصودُ أنَّ السَّاحرَ والحاسد كل منهما قصده الشَّرُّ, لكن الحاسد بطبعه ونفْسِه وبغضه للمحسود, والشيطان يقترنُ به ويُعينه ويزيِّنُ له حَسَدَهُ ويأمرُه بموجبه, والساحرُ بعلمه (1) وكسبه وشِرْكه واستعانته بالشياطين.
فصل
وقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} يعمُّ الحاسدَ من الجنِّ والإنس, فإن الشيطانَ وحزبَهُ يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله تعالى من فضله, كما حسد إبليس أبانا آدم وهو عدو لذريته, كما قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6].
ولكنَّ الوسواس أخصُّ بشياطين الجن, والحسدُ أخصُّ بشياطين الإنس, والوَسْواس يعمُّهما كما سيأتي بيانهما, والحسدُ يعمُّهما أيضًا, فكلا الشيطانين حاسدٌ مُوَسْوِسٌ, فالاستعاذةُ من شرِّ الحاسد تتناولُهما جميعًا.
فقد اشتملت السورةُ على الاستعاذة من كلِّ شَرٍّ في العالم, وتضمَّنت شرورًا أربعة يستعاذً منها: شرًّا عامًّا وهو شرُّ ما خَلَق, وشرُّ الغاسق إذا وقب, فهذا نوعان.
ثم ذكر شرَّ الساحر والحاسد, وهي نوعان أيضًا؛ لأنهما من شرِّ النفس الشريرة, وأحدهما يستعينُ بالشيطان ويعبدُه وهو السَّاحرُ,
__________
(1) (ق): “بعمله”.
(2/759)
وقلَّما يتأتَّىْ السحرُ بدون نوع (1) عبادة للشيطان، وتقرُّبٍ إليه؛ إما بذبح باسمه، أو بذبح يُقْصَدُ به هو، فيكون ذبحًا لغير الله، وبغير ذلك من من أنواع الشرك والفسوق.
والساحرُ وإن لم يُسَمِّ هذا عبادة للشيطان فهو عبادةٌ له, وإن سمَّاه بما سمَّاه به, فإن الشرك والكفر هو شركٌ وكفر لحقيقته ومعناه لا لاسمه ولفظه, فمن سجد لمخلوق وقال: ليس هذا بسجود له هذا خضوعٌ وتقبيل الأرض بالجبهة كما أُقَبِّلها بالنِّعم, أو هذا إكرامٌ, لم يخرجْ بهذه الألفاظ عن كونه سجودًا لغير الله فَلْيُسَمِّهِ بما شاء.
وكذلك من ذبح للشيطان ودعاه, واستعاذ (2) به وتقرَّب إليه بما يحبُّ فقد عَبَدَهُ, وإن لم يُسَمِّ ذلك عبادةً بل يُسَمِّيه استخدامًا ما, وصَدَق هو استخدام (3) من الشيطان له, فيصيرُ من خَدَم الشيطان وعابديه, وبذلك يخدمُهُ الشيطان, لكن خدمة الشيطان له ليست خدمةَ عبادة, فإن الشيطان لا يخضعُ له ويعبدُهُ كما يفعلُ هو به.
والمقصودُ أن هذا عبادة منه للشيطان وإنما سمَّاه استخدامًا, قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)} [يس: 60] وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)} [سبأ: 40 – 41] فهؤلاء وأشباهُهم عبَّاد الجنِّ والشياطين, وهم أولياؤُهم في الدنيا
__________
(1) (ق): “بنوع” وهو خطأ.
(2) (ق): “واستعان”.
(3) “ما, وصدق هو استخدام” سقطت من (ق).
(2/760)
والآخرة، ولبئس المولى ولبئس العشيرُ، فهذا أحدُ النوعين.
والنوع الثاني: من يُعِينُهُ الشيطانُ وإن لم يستعِنْ به، وهو الحاسدُ؛ لأنه نائبُهُ وخليفتُهُ؛ لأنَّ كِلَيْهما عدوُّ نِعَمِ الله تعالى ومنغِّصُها (1) على عباده.
فصل
وتأمل تقييدَهُ -سبحانه- شرَّ الحاسد بقوله: {إِذَا حَسَدَ (5)}؛ لأن الرجل قد يكون عندَهُ حَسَدُ ولكن يُخفيه ولا يُرَتِّبُ عليه أذىً (2) بوجهٍ ما, لا بقلبه ولا بلسانه ولا بيده, بل يجدُ في قلبه شيئًا من ذلك, ولا يعامِلُ (3) أخاه إلا بما يُحِبُّ اللهُ, فهذا لا يكاد يخلو منه أحدٌ, إلا مَنْ عَصمَهُ اللهُ.
وقيل للحسن البصري: أيحسد المؤمن؟ قال: ما أنساكَ إخوةَ يوسُفَ (4). لكن الفرقَ بين القوة التي في قلبه من ذلك وهو لا يطيعُها ولا يأتمرُ بها, بل يعصِيها طاعةً لله وخوفًا وحياءً منه وإجلالًا له أن يكرَهَ نِعَمَه على عباده, فيرى ذلك مخالفةً لله وبغضًا لما يُحِبُّ اللهُ ومحبةً لما يبغضُه, فهو يجاهدُ نفسَه على دفع ذلك, ويُلْزِمُها بالدُّعاء للمحسود, وتمنِّي زيادةِ الخير له, بخلاف ما إذا حقق ذلك وحَسَد, ورتَّب على حسده مقتضاه من الأذى بالقلب واللسان والجوارح, فهذا الحسدُ المذمومُ هو كلُّه حسد تمنِّي الزوال.
__________
(1) (د): “ومبغضها”.
(2) (ق): “ولا يرتّب عليه أذى أخيه … “.
(3) (ظ ود): “يعاجل”.
(4) أخرجه هناد بن السَّري في “الزهد”: (2/ 642).
(2/761)
وللحسد ثلاثُ مراتبَ:
إحداها: هذه.
الثانية: تمنِّي استصحاب عدم النِّعمة، فهو يكرهُ أن يُحْدِثَ اللهُ لعبده نعمةً، بل يُحبُّ أن يبقى على حاله؛ من جهله أو فقره أو ضعفه أو شَتات قلبه عن الله أو قِلَّة دينه، فهو يتمنَّى دوامَ ما هو فيه من نقص وعيب، فهذا حسدٌ على شيء مقدَّرٍ، والأول حسَدٌ على شيء محقَّق؛ وكلاهما حاسدٌ عدوُّ نعمة الله وعدوُّ عبادِه، وممقوتٌ عند الله تعالى وعند الناس، ولا يسودُ أبدًا ولا يَرْأَس، فإن الناس لا يُسَوِّدُون عليهم إلا من يريدُ الإحسان إليهم.
فأما عدو نعمة الله عليهم فلا يُسَوِّدُونهم باختيارهم أبدًا إلا قهرًا، يَعُدُّونه من البلاء والمصائب التي ابتلاهم اللهُ بها، فهم يُبغضونه وهو يُبْغِضُهم.
والحسد الثالث: حسد الغبطة، وهو تمنِّي أن يكونَ له مثلُ حال المحسود من غير أن تزولَ النعمةُ عنه، فهذا لا بأس به ولا يُعَابُ صاحبُه، بل هذا قريبٌ من المنافسة، وقد قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [المطففين: 26].
وفي الصحيحِ عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “لا حَسَدَ إلا في اثْنتَيْن: رَجُلٌ آتاهُ اللهُ مالًا وَسَلَّطهُ علي هَلَكَتِهِ في الحَق، ورَجُلٌ آتاه اللهُ الحِكْمَةَ فهو يعصي بِهَا، ويعَلِّمها النَّاسَ” (1)، فهذا حَسَد غِبْطة، الحاملُ لصاحبه عليه كِبَر نفسه، وحُبُّ خصال الخير، والتشبه بأهلها، والدخول فى
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (73)، ومسلم رقم (816) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-.
(2/762)
جملتهم، وأن يكونَ عن سُبَّاقِهِم وعِلْيَتِهم ومُصَلِّيهم لا عن فَسَاكِلِهِم (1)، فتحدث له من هذه الهمة المنافسة والمسابقة والمسارعة مع محبته لمن يضبطه، وتمني دوام نعمة الله عليه، فهذا لا يدخلُ في الآية بوجهٍ ما.
فهذه السورةُ من أكبر أدوية المحسود، فإنها تتضمَّنُ التَّوكُّلَ على الله والالتجاءَ إليه والاستعاذةَ به من شرِّ حاسد النعمة، فهو مستعيذٌ بولى النعم وموليها [من شرِّ لِصِّها وعدوها] (2) كأنه يقول: يا منْ أولاني نعمتَه وأسْداها إليَّ، أنا عائذٌ بك من شرِّ من يريدُ أن يستلبَها مني، ويُزيلها عني [فلا يعيذني منه سواك، فهو مستجير بمن أنعم عليه من عدوِّ نعمته، والله تعالى يُجير ولا يجار عليه] (3) وهو حسْبُ من توَكَّلَ عليه، وكافي من لجأ إليه، وهو الذي يؤمِّنُ خوفَ الخائف، ويجيرُ المستجير، وهو نِعْمَ المولى ونعم النصير، فمن تولَّاه واستنصر به وتوكل عليه وانقطع بكليته إليه = تولَّاه وحفظه وحرسه وصانه، ومن خافه وأتَّقاهُ آمَنَهُ من كل ما (4) يخافُ ويحذرُ، وجلب إليه كلَّ ما يحتاج إليه من المنافع: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 – 3] فلا تستبطئ نصره ورزقه وعافيته، فإن الله تعالى بالغ أمره، وقد جعل اللهُ لكلِّ شيء قدْرًا لا يتقدَّمُ عنه ولا يتأخَّرُ، ومن لم يَخَفْهُ أخافه من كل شيء، وما خاف أحدٌ غيْرَ الله إلا
__________
(1) المُصَلِّي ما يسبق من الفرس، وتأتي بعد المجلّي، أما الفساكل فجمع فُسْكُل، وهو: ما يجيء آخر الحلية من الخيل. انظر: “القاموس”: (ص/ 1681,1346).
(2) من (ق).
(3) الزيادة من (ق).
(4) (ظ ود): “مما”.
(2/763)
لنقص خوف من الله، قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} [النحل: 98 – 100] وقال: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} [آل عمران: 175]، أي: يخوفكم بأوليائه، ويعظِّمهم في صدوركم، فلا تخافوهم، وأفرِدوني بالمخافة أكْفِكمْ إيَّاهم.
فصل (1)
ويندفع شرُّ الحاسد عن المحسود بعشرة أسباب:
أحدها: التَّعَوُّذ بالله تعالى من شرِّه، والتَّحصُّن به، واللَّجَأ إليه، وهو المقصود بهذه السورة، والله تعالى سميع لاستعاذته (2)، عليمٌ بما يبستعيذُ منه، والسمعُ هنا المرادُ به سمع (3) الإجابة لا السمع العام، فهو مثل قوله: “سَمِعَ اللهُ لمنْ حَمِدَهُ”. وقول الخليل – صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}. ومرَّةً يقرنُهُ بالعلم، ومَرَّةً بالبصر، لاقتضاء حال المستعيذ ذلك، فإنه يستعيذ بربه (4) من عدوٍّ يعلم أن الله تعالى يراهُ، ويعلم كيدَهُ وشرَّهُ، فأخبر. الله تعالى هذا المستعيذ أنه سميع لاستعاذته، أي: مجيب عليمٌ بكيد عدُوِّه يراه ويُبصِرُه لينبسطَ أملُ المستعيد ويُقْبِلَ قلبه (5) على الدعاء.
__________
(1) من هنا يبدأ الجؤء الموجود من النسخة العمرية وكُتِب عليه: “الجزء الثاني من بدائع الفوائد” ورمزنا له بـ “ع”. وفي أوله: “بسم الله الرحمن الرحيم، وبه الإعانة”.
وكتب في هامش (ظ) في هذا الموضع: “أول الجزء الثاني من البدائع”.
(2) ليست في (ق).
(3) ليست فِي (ع)، و (ظ ود): “سموع”.
(4) (ظ ود): “به”.
(5): “بقلبه”.
(2/764)
وتأملْ حكمة القرآن الكريم كيف جاء في الاستعاذة من الشيطان الذي نعلمُ وجوده ولا نراه بلفظ: (السميع العليم) في (الأعراف) و (حم السجدة)، وجاءت الاستعاذةُ من شرِّ الإنس الذين يؤنَسُون ويُرَوْن بالأبصار بلفظ: (السميع البصير) في سورة (حم المؤمن) فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)} [غافر: 56]؛ لأن أفعال هؤلاء أفعال مُعَايَنة تُرَى بالبصر.
وأما نزْغُ الشَّيطان؛ فوساوسُ وخَطَراتٌ يُلقيها في القلب، يتعلَّقُ بها العلم، فأمَر بالاستعاذة بالسميع العليم فيها، وأمر بالاستعاذة بالسَّميع البصير في باب ما يُرى بالبصر ويُدركُ بالرُّؤية، والله أعلم.
السبب الثاني: تقوى الله وحفظه عند أمرِه ونفِيه، فمن أتقى الله تولى الله حفظه، ولم يَكِلْه إلى غيره (1)، قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120] وقال النبى – صلى الله عليه وسلم – لعبد الله بن عباس: “احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تجاهَكَ” (2)، فمن حفظ الله حفظه الله ووجده أمامَه أينما توجَّه، ومن
__________
(1) في هامش (ق) حاشية بخط العلامة ابن علان الصديقي نصُّها: “لكاتبه الفقير الحقير محمد على ابن علان البكري الصديقي الشافعي: … اتق اللهَ لا تخف من فلانٍ … ما فلانٌ -مع التُّقى- بفلانِ وأدْرِ أن المقضِيَّ حَتْم وما لم … يقضِهِ الله لا يكن بزمانِ
(2) أخرجه الترمذي رقم (2516)، وأحمد: (4/ 410 رقم 2669) وغيرهم من طرقٍ كثيرة عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-. قال الترمذي: “حديث حسن صحيح”. وقال الحافظ ابن رجب في “نور الاقتباس”: (ص/ 31): “وأجود أسانيده من رواية حَنَش عن ابن عباس، وهو إسناد حسن لا بأس به” اهـ. ونحوه في “جامع العلوم والحكم”: (1/ 460 – 461).
(2/765)
كان الله حافِظَهُ وأمامَهُ فممن يخافُ ومَنْ يحذرُ؟.
السبب الثالث: الصَّبْر على عدوه، وأن لا يقابلَهُ ولا يشكوه، ولا يحدِّثُ نفسَه بأذاه أصلًا، فما نُصِرَ على حَاسده وعدوه بمثل الصبر عليه والتَّوَكّل على الله، ولا يَسْتَطِلْ تأخيرَهُ وبغيَهُ، فإنه كلما بغى عليه كان بغيُهُ جندًا وقوَّةً للمبغي عليه (1) المحسودِ، يقاتلُ به الباغي نفسه وهو لا يشعرُ، فبغيه سهامٌ يرميها من نفسه إلى نفسه، ولو رأى المبغيُّ عليه ذلك لسَرَّه بغيُهُ عليه، ولكن لضعفِ بصيرته لا يرى إلا صورةَ البغي دون آخره ومآله، وقد قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج: 60] فإذا كان اللهُ قد ضمن له النصر مع أنه قد استوفى حقَّهُ أولًا، فكيف بمن لم يستوفِ شيئًا من حقِّه؟ بل بُغِيَ عليه وهو صابر!؟ وما من الذنوب ذنبٌ أسرعُ عقوبةً من البغي وقطيعة الرَّحِم، وقد سبقت سُنَّةُ الله: أنه لو بَغَى جبلٌ على جبل جَعَلَ الباغِيَ منهما دَكًّا (2).
السبب الرابع: التوكل على الله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، والتوكل من (3) أقوى الأسباب التي يدفعُ بها العبد ما لا يُطيقُ من أذى الخلق وظلمهم وعدْوانهم، وهو من (4) أقوى الأسباب في ذلك، فإن الله حسبُهُ، أي: كافيه، ومن كان اللهُ كافِيَهُ وواقِيَهُ، فلا.
__________
(1) ليست فِي (ع).
(2) في هامش (ق)، ما نصه: “كما قال:
فلو بغى جبلٌ يومًا على جبلٍ … لاندك منه أعاليه وأسفَلُه” اهـ
أقول: انظر البيت في “الإيضاح لعلوم البلاغة”: (ص/ 387) للقزويني.
(3) من الآية إلى هنا ليست فى (ق)، وبدلًا منها: “وهو”.
(4) ليست في (ع).
(2/766)
مطمعَ فيه لعدوه (1)، ولا يضرُّه إلا أذىً لا بدَّ منه؛ كالحر والبرد والجوع والعطش، وأما أن يَضُرَّهُ بما يبلغُ منه مرادَه؛ فلا يكون أبدًا، وفَرْق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاءٌ له وهو في الحقيقة إحسان إليه وإضرار بنفسه، وبين الضرر الذي يُتَشَّفى به منه.
قال بعض السلف: جعل اللهُ -تعالى- لكل عمل جزاءً من جنسه (2)، وجعل جزاءَ التَّوَكُّل عليه نفس كفايته لعبده، فقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ولم يقل: نُؤتِهِ كذا وكذا من الأجْرِ، كما قال في الأعمال، بل جعل نفسَه سبحانه كافِيَ عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه، فلو توكَلَ العبدُ على الله تعالى حقَّ توكُّلِهِ، وكادَتْه السموات والأرض ومن فيهن، لجعل له مخرجًا من ذلك، وكفاه ونصره (3).
وقد ذكرنا حقيقةَ التَّوَكُّل وفوائده وعِظَمَ منفعته وشدَّةَ حاجة العبد إليه في كتاب: “الفتح القدسي”، وذكرنا هناك فسادَ من جعله من المقامات المعلولة، وأنه من مقامات العوامِّ، وأَبْطَلنا قولَه من وجوهٍ كثيرة، وبيّنا أنه من أجلِّ (4) مقامات العارفين، وأنه كلَّما علا مقامُ العبد كانت حاجته إلى التَّوَكُّل أعظمَ وأشدَّ، وأنه على قَدْر إيمان العبد يكون توكُّلُهُ، وإنما المقصود هنا ذكرُ الأسباب التي يندفع بها شرُّ الحاسد والعائن، والسَّاحر والباغي.
السبب الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به والفكر فيه، وأن
__________
(1) (ق) زيادة: ” أبدًا”.
(2) (ظ ود): “نفسه”.
(3) انظر: “مدارج السالكين: (2/ 133).
(4) من قوله: “فساد من … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(2/767)
يقصدَ أِن يمحوَهُ (1) في باله كما خطر [له] (2) فلا يَلْتفت إليه ولا يخافه ولا يملأ قلبه بالفكر فيه، وهذا من أنفع الأدوية، وأقوى الأسباب المعينة على اندفاع شرِّه، فإن هذا بمنزلة من يطلبُهُ عدوُّه ليُمْسِكَهُ ويؤذيه، فإذا لم يتعرَّضْ له ولا تماسك هو وإيَّاه، بل انعزل عنه لم يقدر عليه، فإذا تماسكا وتعلَّقَ كل منهما بصاحبه حصل الشَّرُّ.
وهكذا الأرواحُ سواءٌ، فإذا علّق روحَه به وشبَّثها به، وروح الحاسد الباغي متعلِّقةٌ به يقَظَةً ومنامًا لا يَفتُرُ عنه، وهو: يتمنَّى أن يتماسكَ الرُّوحان ويتشبَّثا، فإذا تعلَّقتْ كلُّ روح منهما بالأخرى عُدِمَ القرار ودام الشرُّ حتى: يهلِكَ أحدُهما.
فإذا جَبَذَ روحَه عنه، وصانها عن الفكر فيه والتَّعَلُّق به، وأن يُخْطِره بباله، فإذا خطر بباله بادر إلى محو ذلك الخاطر، والاشتغال بما هو أنفعُ له وأولى يه، بقي الحاسد الباغي يأكلُ بعضُه بعضًا، فإن الحسد كالنار، فإذا لم تجدْ ما تأكلُهُ أكَلَ (3) بعضُها بعضًا.
وهذا باب عظيم النفع، لا يلقاه إلا أصحابُ النفوس الشريفة والهمم العَلِيَّة، وبين الكَيِّس الفَطِن وبينه حتى يذوقَ حلاوتَهُ وطيبَهُ ونعيمَهُ، كأنه (4) يرى من أعظم عذاب القلب والرُّوح اشتغاله بعدوه وتعلق روحه به، ولا يرى شيئًا آلَمَ لروحه من ذلك، ولا يصدِّق بهذا إلا النفوسُ المطمئنة: الوادعة اللَّيِّنة (5) التي رضيتْ بوكالة الله لها،
__________
(1) (ع): “محوه”.
(2) (ظ ود): “إليه”، وسقطت من (ق وع).
(3) (ق وظ ود): “أكلت”.
(4) (ع): “فإنه”.
(5) “الوادعة اللينة” ليست فى (ع).
(2/768)
وعلمتْ أن نصرَه لها خيرٌ من انتصارها هي لنفسها، فوثِقتْ بالله وسكَنَتْ إليه واطمأنَّتْ به، وعلِمَتْ أن ضمانَه حقٌّ ووعده صدقٌ، وأنه لا أوفى بعهده من الله، ولا أصدق منه قيلًا، فعلمت أن نصرَه لها أقوى وأثبتُ وأدومُ وأعظمُ فائدة من نصرها هي لنفسها، أو نصرِ مخلوقٍ مثلها لها، ولا يقوى على هذا إلا بـ:
السبب السادس: وهو الإقبالُ على الله والإخلاصُ له وجعلُ محبَّته وتَرَضِّيه والإنابة إليه في محلِّ خواطر نفسه وأمانيها، تدبُّ فيها دبيبَ تلك الخواطر شيئًا فشيئًا حتى يقهرَها ويغمرَها ويُذْهِبَها بالكلية، فتبقى خواطرُه وهواجسُه وأمانِيُّهُ كلُّها في محابِّ الرَّبِّ والتقرُّب إليه، وتملُّقه وتَرَضِّيه واستعطافه وذكره، كما يذكر المحبُّ التَّامُّ المحبة (1) لمحبوبه المحسن إليه الذي قد امتلأتْ جوانحُهُ من حبه، فلا يستطيعُ قلبُه انصرافًا عن ذكره، ولا روحُه انصرافًا عن محبَّتِهِ، فإذا صار كذلك فكيف يرضى لنفسه أن يجعل بيتَ أفكاره وقلبه معمورًا بالفكر في حاسده والباغي عليه، والطريقِ إلى الانتقام منه والتدبير عليه؟ هذا ما لا يتَّسَعُ له إلا قلبٌ خرابٌ لم تسكنْ فيه محبَّة الله وإجلالُه وطلبُ مرضاته؛ بل إذا مسَّه طيفٌ من ذلك واجتاز ببابه (2) من خارج ناداه حرس قلبه: إيَّاك وحِمى المَلِك، اذهب إلى بيوت الخانات التي كل من جاء حَلَّ فيها ونزل بها، مالَك ولبيت السلطان الذي أقام عليه اليَزَكَ (3) وأدار عليه الحرس وأحاطه بالسور.
__________
(1) “التام المحبة” ليست في (ظ ود).
(2) (ق): “بذاته”.
(3) كلمة فارسية، معناها: طليعة الجيش. انظر: “معجم المصطلحات والألقاب التاريخية”: (ص / 446).
(2/769)
قال تعالى حكاية عن عدوه إبليس أنه قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [ص: 82 – 83] قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، وقال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} [النحل: 99 – 100]، وقال في حق الصديق يوسف – صلى الله عليه وسلم -: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} [يوسف: 24].
فما أعظمَ سعادةَ مَنْ دخل هذا الحِصْنَ وصار داخلَ اليَزَك، لقد أوى إلى حصْن لا خوفَ على مَن تحصَّن به، ولا ضيْعَةَ على من أوَي إليه، ولا مَطْمعَ للعدو في الدُّنُوِّ منه (1) و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4].
السبب السابع: تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سَلَّطت عليه أعداءَه، فإن الله: تعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، وقال لخير الخلق -وهم أصحاب نبيه- دونه – صلى الله عليه وسلم -: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] فما سُلِّط على العبد مَنْ يؤذيه إلا بذنب يعلمُه أو لا يعلمُه، وما لا يعلمُهُ العبدُ من ذنوبه أضعافُ ما يعلمه منها، وما ينساهُ مما عمله وعلمه أضعاف ما يذكره.
وفي الدعاء المشهور: “اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ أَنْ أُشْرِكَ بكَ وَأَنا أعْلَمُ، ْ وَأسْتَغْفِرُك لِمَا لا أعْلَمُ” (2)، فما يحتاج العبدُ إلى الاستغَفار منه
__________
(1) (ظ ود): “إليه”.
(2) أخرجه البخاري في “الأدب المفرد”: (ص / 214)، وأبو يعلى: (1/ 60 – 61)، =
(2/770)
مما لا يعلمُهُ أضعافُ أضعافِ ما يعلَمُهُ، فما سُلِّطَ عليه مُؤْذٍ إلّا بذنبٍ.
ولقي بعضَ السَّلَفِ رجلٌ فأغلظ له ونال منه، فقال له: قِفْ حتى أدخلَ البيت ثم أخرج إليك، فدخل فسجد لله وتضرَّع إليه، وتابَ وأنابَ إلى ربِّه، ثم خرج إليه فقال له: ما صنعتَ؟ فقال: تبتُ إلى الله من الذنبِ الذي سَلَّطَكَ به عَلَيَّ.
وسنذكر إن شاء الله تعالى أنه ليس في الوجود شرٌّ من الذنوبُ ومُوجباتُها، فإذا عُوفي من الذنوب عوفِيَ من مُوجباتها، فليس للعبد إذا بُغِيَ عليه وأُوذي، وتسلَّطَ عليه خصومُهُ شيءٌ أنفع له من التوبة النصوح، وعلامة سعادته: أن يعكسَ فِكْره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه، فيشتغل بها وبإصلاحها وبالتوبة منها، فلا يبقى فيه فراغٌ لتدبُّر ما نزل به، بل يتولَّى هو التوبة وإصلاح عيوبه، والله يتولَّى نُصْرَتَهُ وحفظه والدفع عنه ولا بُدَّ، فما أسعدَه من عبدٍ، وما أبْركَها من نازلة نزلتْ به، وما أحسنَ أثرَها عليه ولكن التوفيق والرشد بيد الله لا مانع لما أعطى ولا مُعطيَ لما مَنَعَ، فما كلُّ أحدٍ يُوَفَّقُ لهذا، لا معرفةَ به، ولا إرادةً له، ولا قُدْرَةً عليه، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله.
السبب الثامن: الصدقة والإحسان ما أمكنه، فإنَّ لذلك تأثيرًا عجيبًا في دَفْع البلاء، ودفع العين، وشرِّ الحاسد، ولو لم يكنْ في هذا إلا تجاربُ الأُمم قديمًا وحديثًا لكفى به، فما يكادُ العينُ والحسد والأذى يتسلَّطُ على محسنٍ متصدِّقِ، وإن أصابه في شيءٌ ذلك كان
__________
= والضياء في “المختارة”: (1/ 150) من حديث أبي بكر -رضي الله عنه-. قال الضياء: “وسنده ضعيف”.
(2/771)
معاملًا فِيه باللُّطفِ والمعونة والتأييد، وكانت له فِيه العاقبةُ الحميدةُ.
فالمحسنُ المُتَصَدِّقُ في خَفَارة إحسانه وصَدَقته، عليه من الله جُنَّةٌ واقيةٌ وحِصنٌ حصينٌ، وبالجملة؛ فالشكرُ حارس النعمة من كلِّ ما يكونُ سببًا لزوالها.
ومن أقوى الأسباب حَسَد الحاسد والعائن، فإنه لا يفْتُرُ ولا يَنِي ولا يبردُ قلبهُ حتى تزولَ النعمةُ عن المحسود، فحينئذ يبردُ أنينُه وتنطفئُ نارُهُ -لا أطفأها اللهُ- فما حرس العيدُ نعمة الله تعالى عليه بمثل شكرها، ولا عَرَّضها للزَّوال بمثل العمل فيها بمعاصي الله وهو كُفرانُ النعمة، وهو باب إلى كُفران المنعم.
فالمحسنُ المُتَصَدِّقُ يستخدمُ جندًا وعسكرًا يقاتلون عنه وهو نائم على فراشه، فمن لم يكن له جندٌ ولا عسكرٌ وله عدوٌّ فإنه يوشِكُ أن يَظْفَرَ به عدُوُّهُ، وإن تأخرت مدَّةُ الظَّفَرِ، والله المستعان.
السبب التاسع: -وهو من أصعب الأسباب على النفس، وأشَقِّها عليها، ولا يوفَّقُ له إلا من عَظُمَ حظُّه من الله- وهو: إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه، فكلما ازداد أذىً وشرًّا وبغيًا وحسدًا ازددتَ إليه إحسانًا وله نَصِيحةً وعليه شفقة، وما أظنُّك تصدِّق بأن هذا يكون: فضلًا عن أن تتعاطاه، فاسمع الآن قولَه عز وجل: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} (1) [فصلت: 34 – 36]، وقال: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا
__________
(1) هذه الآية ليست في (ع)، وكذا سقطت ونصف التي بعدها من (ق).
(2/772)
صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)} [القصص: 54].
وتأمَّلْ حال النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – الذي حكى عنه نبينا – صلى الله عليه وسلم – (1) أنه ضربه قومُه حتى أَدْمَوْه، فجعل يسلُتُ الدَّمَ عنه، ويقول: “اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فإنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ” (2) كيف جمع في هذه الكلمات أربَعَ مقاماتٍ من الإحسان، قابَلَ بها إساءَتهم العظيمةَ إليه:
أحدها: عفوه عنهم.
والثاني: استغفاره لهم.
الثالث: اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون.
الرابع: استعطافه لهم بإضافتهم إليه، فقال: “اغفرْ لِقَوْمِي”، كما يقولُ الرجلُ لمن يشفعُ عندَهُ فيمن يَتَّصِلُ به: هذا ولدي، هذا غلامي، هذا صاحبي فَهَبْهُ لي.
واسمع الآن ما الذي يسهِّل هذا على النفس ويطيِّبُه لها وينعِّمها به: اعلمْ أن لك ذنوبًا بينك وبين الله تخافُ عَوَاقِبَها وترجوه أن يعفوَ عنها ويغفرَها لك ويَهَبَها لك، ومع هذا لا يقتصرُ على مجرَّد العفو والمسامحة حتى ينعمَ عليك ويكرمَكَ ويجلبَ إليك من المنافع والإحسان فوقَ ما تُؤَمِّلُه، فإذا كنت ترجو هذا من ربِّك أن يقابلَ به إساءَتك، فما أولاك وأجدرَكَ أن تعاملَ به خَلْقَهُ وتقابلَ به (3) إساءَتَهم، ليعامِلَكَ اللهُ هذه المعاملة، فإن الجزاءَ من جنس العمل،
__________
(1) “الذي حكى عنه نبينا – صلى الله عليه وسلم -” سقطت من (ق)، وفي (ع) بدلًا من “نبينا”: “النبي”.
(2) أخرجه البخاري رقم (3477)، ومسلم رقم (1792) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-.
(3) (ع): “بهم”.
(2/773)
فكما تعملُ مع الناس في إساءتهم في حقِّك يفعلُ اللهُ معك في ذنوبك وإساءتك جزاءً وفاقًا، فانتقم بعد ذلك أو اعْفُ، وأَحْسِنْ أو اترُكْ، فكما تَدِين تُدانُ، وكما تفعل مع عباده يُفْعَلُ معك.
فمن تصوَّرَ هذا المعنى وشَغَلَ به فكرَهُ، وإن عليه الإحسان إلى من أساء إليه، هذا مع ما يحصل له بذلك من نصر الله ومعونته ومعِيَّته الخاصَّة، كما قال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – للذي شكى إليه قرابَتَهُ وأنه يحْسِن إليهم وهم يسيئونَ إليه، فقال: “لا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ مَا دُمْت عَلَى ذلِكَ” (1)، هذا مع ما يتعجَّلُّهُ من ثناء الناس عليه، ويصيرون كلُّهم معه علي خصمه، فإنَّ كل من سمع أنه يحسنُ إلى ذلك الغير وهو مُسِيءٌ إليه، وَجَدَ قلبَه ودعاءَه وهمَّتَه مع المحسن على المسيء، وذلك أمرٌ فطريٌّ فطر اللهُ عليه عباده، فهو بهذا الإحسان قد استخدم عسكرًا لا يعرفُهم ولا يعرفونه، وألا يريدون منه إقطاعًا ولا خبزًا، هذا مع أنه لا بُدَّ له مع عدوه وحاسده من إحدى حالتين: إما أن يملِكَهُ بإحسانه فيستعبده وينقاد له ويَدل له ويَبْقى من أحب الناس إليه، وإما أن يُفَتِّتَ كَبدَهُ ويقطعَ دابرهُ إن أقام على إساءته إليه، فإنه يُذيقه (2) بإحسانهَ أضعافَ ما ينالُ منه بانتقامه، ومن جرَّب هذا عَرَفَهُ حَق المعرفة، والله هو الموفقُ المعين، بيده الخير كلُّه، لا إله غيره (3)، وهو المسؤولُ أن يستعمِلَنا وإخواننا في ذلك بمَنِّه وكرمه.
وفي الجملة؛ ففي: هذا المقام من الفوائد ما يزيدُ على مئة منفعةٍ للعبد عاجلة وآجلة، سنذكرها فِي موضع آخرَ إن شاء الله تعالى.
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (2558) من حديث أبى هريرة -رضي الله عنه-.
(2) كذا في (ظ ود)، وفى (ع وق): “يذبحه”.
(3) (ق): “إلا هو”.
(2/774)
السبب العاشر: -وهو الجامعُ لذلك كُلِّه وعليه مدارُ هذه الأسباب- وهو: تجريدُ التوحيد والتَّرَحُّل بالفكر في الأسباب إلى المسبِّب العزيز الحكيم.
والعلم بأن هذه آلاتٌ بمنزلة حركات الرياح، وهي بيد محرِّكها وفاطرها وبارئها، ولا تضرُّ ولا تنفعُ إلا بإذنه، فهو الذي يمسّ (1) عبدَه بها، وهو الذي يصرفُها عنه وحدَه لا أحد سواه، قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ (107)} [يونس: 107].
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم – لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: “واعلمْ أنَّ الأمَّةَ لو اجتمعوا على أنْ يَنْفَعُوك (2) لم يَنْفَعُوك إلا بشيءٍ كَتَبهُ اللهُ لك، ولو اجْتَمَعُوا على أن يَضرُّوكَ لمْ يَضُرُّوكَ إلا بشيءٍ كَتَبه اللهُ عَلَيْكَ” (3)، فإذا جرَّدَ العبدُ التوحيدَ فقد خرج من قلبه خوفُ ما سواه، وكان عدوُّهُ أهونَ عليه عن أن يخافَه مع الله تعالى، بل يفردُ اللهَ بالمخافة، وقد أمَّنه منه، وخرج عن قلبه (4) اهتمامُه به واشتغالُه به وفكره فيه، وتجرَّدَ لله محبَّةً وخشيةً وإنابةً وتوِكُّلًا واشتغالَهُ به عن غيره، فيرى أنَّ إعمالَهُ فكْرَهُ في أمر عدوِّهِ وخوفهُ منه واشتغالَهُ به من نقص توحيده، وإلا فلو جرَّدَ توحيدَه لكان له فيه شغلٌ شاغلٌ، والله يتولَّى حفظَه والدفعَ عنه، فإن اللهَ يدفعُ (5) عن الذين آمنوا، فإن كان
__________
(1) كذا في (ق وع)، و (ظ ود): “يحيى” وكتب في هامش (د): “لعله يمتحن”.
(2) (ع) زيادة: “بشيء”.
(3) تقدم تخريجه ص / 765.
(4) من قوله: “خوف ما سواه … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(5) كذا في جميع النسخ.
(2/775)
مؤمنًا فاللهُ يدفعُ عنه ولا بُدَّ، وبحسب إيمانه يكون دفاعُ الله عنه، فإن كَمُلَ إيمانُهُ كان دفعُ الله عنه أتَمَّ دَفْعٍ، وإنْ مَزَجَ مُزِج له، وإن كان مرَّة ومرَّة فالله له مرَّة ومرَّة، كما قال بعضُ السلف: من أقبل على الله بكُلِّيَّته أقبل اللهُ عليه جملةً، ومن أعرض عن الله بكلِّيته أعرض الله عنه جملةً، ومن كان مرةَ ومرةً فاللهُ له مرةً ومرةً.
فالتوحيد حِصنُ إليه الأعظم الذي من دخله كان من الآمنينَ، قال بعض السلف (1): من خاف الله خاف كلُّ شيء، ومن لم يَخَفِ اللهَ أخافه من كلِّ شيء.
فهذه عشرةُ أسباب يندفعُ بها شرُّ الحاسد والعائن والساحر، وليس له أنفعُ من التَّوَجُّه إلى الله وإقبالِهِ عليه وتَوَكُّلِهِ عليه وثقته به وأن لا يخاف معه غيرَه، بل يكون خوْفه منه وحدَه ولا يرجو سواه، بل يرجوه وحدَه (2) فلا يعلقُ قلبَه بغيره، ولا يستغيثُ بسواه، ولا يرجو إلا إيَّاه ومتى علَّق قلبَه بغيره ورجاه وخافه وُكِلَ إليه وخُذِلَ من جهته، فمن: خاف شيئًا غير الله سُلِّط عليه، ومن رجا شيئًا سوى الله خُذِل من جهتِه (3) وحُرِمَ خَيْرَهُ، هذه سُنَّةُ الله فِي خلقة: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)} [الأحزاب: 62].
فصل
فقد عرفتَ بعص ما اشتملت عليه هذه السُّورةُ من القواعد النَّافعة المهمَّة، التي لا غِنى للعبد عنها في دينه ودنياه، ودلَّت على أن
__________
(1) هو يوسف بن أسباط، انظر “الحلية”: (8/ 240).
(2) من قوله: “وثقته به .. ” إلى هنا ساقط من (ق).
(3) من قوله: “فمن خاف … ” إلى هنا ساقط من (ع).
(2/776)
نفوسَ الحاسدين وأعيُنَهم لها تأثيرٌ، وعلى أن الأرواحَ الشيطانيَّةَ لها تأثيرٌ بواسطة السحر والنفثِ في العقد، وقد افترق العالمُ في هذا المقام أربَعَ فِرَقٍ:
ففرقة: أنكرت تأثيرَ هذا وهذا (1)، وهم فرقتان: فرقةٌ اعترفت بوجود النفوس الناطقة والجِنِّ، وأنكرت تأثيرهما أَلْبتةَ، وهذا قلُ طائفة من المتكلمين ممن أنكر الأسباب والقُوى والتأثيرات، وفرقة أنكرت وجودَهما بالكلية، وقالت: لا وجودَ لنفس الآدمِيِّ سوى هذا الهيكل المحسوس وصفاته وأعراضه فقط، ولا وجود للجِنِّ والشياطين سوى أعراض قائمة به، وهذا قول كثير من ملاحدة الطبائَعيين وغيرهم من الملاحدة المُنتسبين إلى الإسلام، وهو قولُ شذوذٍ من أهل الكلام الذين ذمَّهم السَّلَفُ وشهدوا عليهم بالبدعة والضَّلالة.
الفرقة الثانية: أنكرتْ وجودَ النفس الإنسانية المفارقة للبَدَن، وأقرَّت بوجود الجنِّ والشياطين، وهذا قولُ كثير من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم.
الفرقة الثالثة: بالعكس أقرَّت بوجود النَّفس النَّاطقة المفارقة للبَدَن، وأنكرت وجودَ الجن والشياطين، وزعمتْ أنها غير خارجة عن قُوى النفس وصِفَاتها، وهذا قولُ كثير من الفلاسفة الإسلاميين وغيرهم.
وهؤلاء يقولون: إن ما يوجدُ في العالم من التأثيرات الغريبة والحوادث الخارقة، فهي من تأثيرات النفس، ويجعلون السِّحر والكهَانة كلَّهُ من تأثير النَّفس وحدها بغير واسطة شيطانٍ منفصل، وابنُ سينا وأتباعه على هذا القول، حتى إنهم يجعلونَ معجزاتِ الرسل من هذا
__________
(1) “هذا” الآية سقطت من (ع).
(2/777)
الباب، ويقولون (1): إنما هي من تأثيرات النَّفْس في هَيُولَى العالم، وهؤلاء كفَّارٌ بإجماع أهل المِلَل، ليسوا من اتباع الرُّسُل جملةً.
الفرقة الرابعة: وهم أتباعُ الرسل وأهل الحق أقَرُّوا بوجود النفس الناطقة المفارقة للبدن، وأقرُّو بوجود الجن والشياطين، وأثبتوا ما أثبتَهُ اللهُ تعالى من صفاتهما وشرهما، واستعاذوا بالله تعالى منه، وعلموا أنه لا يُعيذُهم منه ولا يُجيرُهم إلا الله تعالى، فهؤلاء أهلُ الحق، ومن عداهم مفْرِطٌ فِي الباطَل أو معه باطلٌ وحقُّ، والله تعالى يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. فهذا ما يَسَّرَ اللهُ تعالى من الكلام على سورة (الفلق).
* * *
__________
(1) من (ع) فقط.
(2/778)
وأما سورة (الناس)؛ فقد تضمَّنَتْ -أيضًا- استعاذة ومستعاذًا به ومستعاذًا (1) منه، فالاستعاذةُ قد (2) تقدَّمت. وأما المستعاذُ به فهو الله تعالى: {بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3)}، فذكر ربوبيَّته للنَّاس، وملكَه إياهم، وإلاهيتَه لهم، ولا بُدَّ من مناسبة في ذكر ذلك في الاستعاذة من الشيطان، كما تقدم، فنذكر أولًا معنى هذه الإضافات الثلاث، ثم وجه مناسبتها لهذه الاستعاذة.
الإضافة الأولى: إضافة الربوبية المتضمِّنة لخلفهم وتدبيرهم، وتربيتهم وإصلاحهم، وجلب مصالحهم وما يحتاجون إليه، ودفع الشَّرِّ عنهم وحفظهم مما يفسدُهم، هذا معنى ربوبيته لهم، وذلك يتضمَّن قدْرتَهُ التامَّة ورحمته الواسعة، وإحسانه وعلمه بتفاصيل أحوالهم وإجابة دعواتهم وكشف كُرباتهم.
الإضافة الثانية: إضافة الملك فهو مَلِكُهم المُتَصَرِّفُ فيهم، وهم عبيدُه ومماليكه، وهو المتصرف لهم المدبِّرُ لهم كما يشاءُ، النافذُ القدرة فيهم، الذي له السلطانُ التَّامُّ (3) عليهم، فهو مَلِكُهم الحق الذي إليه مَفْزَعُهُم عند الشَّدائد والنَّوائب، وهو مُسْتَغَاثُهم ومَعَاذُهم ومَلْجَؤُهم، فلا صلاحَ لهم ولا قيامَ إلا به وبتدبيره، فليس لهم مَلِكٌ غيره يهربون إليه إذا دهمهم العدوُّ، ويستنصرون (4) به إذا نزل العدوُّ بساحتهم.
__________
(1) “به ومستعاذًا” سقطت من (ظ ود)، و”به” وحدها سقطت من (ق).
(2) من (ع).
(3) ليست في (ظ ود).
(4) (ظ): “ويستصرخون”.
(2/779)
الإضافة الثالثة: إضافة الإلهية فهو إلههُم الحقُّ، ومعبودُهم الذي لا إله لهم سواه، ولا معبودَ لهم غيره. فكما أنه وحدَه هو ربُّهم ومليكهُم لم يشركْه في ربوبيَّته ولا فِي ملكه لهم (1) أحد، فكذلك هو وحده إلههم ومعبودُهم، فلا ينبغي أن يجعلوا معه شريكًا في إلهيّته، كما لا شريكَ معه فى ربوبيته ومُلْكِه.
وهذه طريقةُ القرآن الكريم يحتجُّ عليهم بإقرارهم بهذا التَّوحيد على ما أنكروه من توحيد الإلهية والعبادة، وإذا كان وحدَه هو ربنا وملكنا وإلهنا فلا مَفْزَعَ لنا فى الشَّدائد سواه، ولا ملجأ لنا منه إلا إليه، ولا معبودَ لنا غيره، فلا ينبغي أن يُدعى ولا يُخافَ ولا يزجى ولا يُحَبَّ سواه، وفي يُذَلَّ لغيره، ولا يُخْضَعَ لسواه، ولا يُتَوَكَّلَ إلا عليه؛ لأن من ترجوه ونخافُهُ وتدعوه وتتوكَّل عليه إما أن يكون مُربِّيَكَ: والقَيِّمَ بأمورِك ومتوليَ شأنِك، وهو ربُّك فلا ربَّ لك سواه، أو تكونَ مملوكه وعبدَه الحقَّ، فهو ملكُ الناس حقًّا، وكلُّهم عبيدُه ومماليكُه.
أو يكون معبودَك وإلهَك الذي لا تستغني عنه طَرْفةَ عينٍ، بل حاجتُكَ إليه أعظمُ من حاجتك إلى حياتك وروحك، وهو الإلهُ الحقُّ، إله الناس الذي لا إله لهم سواه، فمن كان ربهم وملكهم وإلههم فهم جديرون أن لا يستعيذوا بغيره، ولا يستنصروا بسواه، ولا يلجأوا إلى غير حماه، فهو كافيهم وحسبهم وناصرهم، ووليُّهم ومتولِّي أمورهم جميعًا بربوبيته وملكه وإلاهيته لهم، فكيف لا يلتجئ العبدُ عند النوازل (2) ونزول عدوه به إلى ربه ومالكه وإلهه؟! فظهرت.
__________
(1) من (ع وق).
(2) (ق): “إلى ربه”.
(2/780)
مناسبة هذه الإضافات الثلاث للاستعاذة من أعدى الأعداء وأعظمهم عداوةً وأشدهم ضررًا وأبلغهم كيدًا.
ثم إنه سبحانه كرَّر الاسمَ الظَّاهرَ ولم يوقع المُضْمَرَ موقعَهُ، فيقولُ: ربُّ الناس وملكهم وإلههم، تحقيقًا لهذَا المعنى وتقويةً له، فأعاد ذكرَهم عند كلِّ اسم من أسمائه، ولم يعطفْ بالواو لما فيها من الإيذان بالمغايرة.
والمقصود الاستعاذةُ بمجموع هذه الصِّفات حتى كأنها صفةٌ واحدةٌ، وقدم الربوبيَّةَ لعمومها وشمولها لكلِّ مربوب، وأخَّرَ الإلهيَّةَ لخصوصها؛ لأنه سبحانه إنما هو إلهُ مَنْ عَبَدَهُ ووحَّده، واتخذه دونَ غيره إلهًا، فمن لم يعبدْه ويوحِّده فليس بإلهه، وإن كان في الحقيقة لا إله له سواه، ولكن تَرَكَ إلهه الحق واتخذ إلهًا غيره، ووسَّط صفةَ الملك بين الربوبية والإلهية؛ لأن الملك هو المتصرِّف بقوله وأمره، فهو المطاعُ إذا أمر، وملكه لهم تابع لخلقه إياهم، فملكه من كمال ربوبيته، وكونه إلاهَهُم الحق من كمال ملكه، فى بربوبيَّتهُ تستلزمُ ملكَه وتقتضيه، وملكُهُ يستلزمُ إلهيته ويقتضيها، فهو الرَّبُّ الحق، الملك الحق، الإله الحقُّ، خلقهم بربوبيته، وقهرهم بملكه، استعبدهم بإلاهيته، فتأمَّل هذه الجلالة وهذه العظمة التي تضمَّنَتْها هذه الألفاظ الثلاثة على أبدع نظام وأحسن سياق: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3)}، وقد اشتملت هذه الإضافاتُ الثلاثُ على جميع قواعد الإيمان، وتضمَّنَتْ معاني أسمائه الحسنى.
أما تضمُّنها لمعاني أسمائه الحسنى؛ فإن الرَّبَّ هو: القادرُ الخالقُ البارئ المصوِّر الحيُّ القَيُّومُ العليمُ السميعُ البصيرُ المحسِنُ المُنعِمُ الجَوَادُ المُعطي المانعُ الضَّارُّ النافعُ المُقَدِّم المُؤَخِّر،
(2/781)
الذي يُضِلُّ من يشاءُ ويهدي من يشاءُ، ويُسعد من يشاءُ ويُشقِي من يشاء ويعرُّ من يشاء ويُذِلُّ من يشاء إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحقُّه من الأسماء الحسنى.
وأما الملك؛ فهو الآمر الناهي المعزُّ المذِلُّ الذي يصرف أمورَ عباده كما يحِبُّ، ويقلبهم كما يشاءُ، وله من معنى الملك ما يستحقُّه من الأسماء الحسنى؛ كالعزيز الجبار المتكبِّر الحَكَم العَدْل الخافض الرافع المُعِز المُذِل العظيم الجَلِيل الكبير الحَسِيب المجيد الوالي (1) المُتَعالي مالك الملك المقسِط الجامع، إلى غير ذلك من الأسماء: العائدة إلى الملك.
وأما الإله؛ فهو الجامعُ لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال، فِيدخلُ فِي هذا الاسم جميعُ الأسماء الحسنى، ولهذا كان القولُ الصحيح أن “الله” أصلُه “الإله” كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذَّ منهم (2)، وأن اسم الله تبارك وتعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصِّفات العُلى، فقد تضمَّنت (3) هذه الأسماءُ الثلاثةُ جميعَ معاني أسمائه الحسنى، فكان المستعيذ بها جديرًا بأن يُعَاذَ ويُحْفَظ ويُمْنَعَ من الوسواس الخنَّاس ولا يُسَلَّطَ عليه.
وأسرارُ كلام الله أجلُّ وأعظمُ من أن تدركهَا عقولُ البشر، وإنما غايةُ أولي العلمَ الاستدلال بما ظهر منها على ما وراءه، وإن بادِيَه إلى الخافي اليسير.
__________
(1) (ع): “الولى”
(2) انظر ما تقدم من هذا الكتاب (1/ 39 – 40).
(3) (ق): “شملت”.
(2/782)
فصل
وهذه السورة مشتملةٌ على الاستعاذة من الشر الذي هو سببُ الذنوب والمعاصي كلها، وهو الشرُّ الداخل في الإنسان الذي هو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة، فسورة (الفلق) تضمّنت الاستعاذة من الشَّرِّ الذي هو ظلمُ الغير له بالسحر والحسد، وهو شرٌّ من خارج، وسورة (الناس) تضمَّنت الاستعاذة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه، وهو شرٌّ من داخل.
فالشر الأول: لا يدخلُ تحت التكليف، ولا يُطْلب منه الكف عنه؛ لأنه ليس من كسبه، والشر الثاني في سورة (الناس): يدخل تحتَ التكليف، ويتعلَّق به النهيُ، فهذا شرُّ المعايب، والأول شرُّ المصائب، والشر كله يرجعُ إلى العيوب والمصائب، ولا ثالث لهما، فسورة (الفلق) تتضمَّنُ الاستعاذة من شر المصيبات (1)، وسورة (الناس) تتضمَّنُ الاستعاذةَ من شرِّ العيوب التي أصلُها كلها الوسوسةُ.
فصل
إذا عُرِف هذا فالوَسْواس: فَعْلالٌ (2)، من وَسْوَسَ، وأصل الوَسْوَسَةِ: الحَرَكَةُ، أو الصَّوتُ الخَفِيُّ الذي لا يُحَسُّ فيُحْتَرَزَ منه، فالوَسْوَاسُ: الإلقاءُ الخَفِيُّ في النفس، إما بصوتِ خفِىٍّ لا يسمعُه إلا من ألقِيَ إليه، وإما بغير صوت كما يُوَسْوِسُ الشيطانُ إلى العبد، ومن هذا “وَسْوَسَةُ الحَلْي”، وهو حركتُهُ الخَفِيَّةُ في الأذن، والظاهر -واللهُ أعلم- أنها سُمِّيَتْ: “وسوسةَ الحَلْي” (3) لقربها، وشدَّة مجاورتها
__________
(1) (ظ ود): “المصايب”.
(2) (ق وظ ود): “فعلان”.
(3) “الحلي” من (ع) فقط.
(2/783)
لمحل الوسوسة من شياطين الإنس وهو الأذن، فقيل “وَسْوَسة الحَلْي”؛ لأنه صوت مجاورٌ للأذن، كوسوسة الكلام الذي يُلقِيه الشيطانُ في أذن مَنْ يوسْوِسُ له.
ولما كانت الوسوسةُ كلامًا يكرِّرُه الموسوِسُ ويؤكِّدُه عند من يُلقيه إليه كرَّروا لفظها: بإزاء تكرير معناها، فقالوا: وَسوَسَ وَسْوَسَةً، فراعوا تكرير اللفظ ليفهم منه تكرير مسماه.
ونظير هذا ما تقدَّم (1) من متابعتهم حركة اللفظ بإزاء متابعة حركة معناه كالدَّوَران والغَلَيَان والنَّزَوَان، وبابه، ونظير ذلك: “زلْزَلَ ودَكْدَكَ وقَلْقَلَ وكَبْكَبَ الشَّيءَ”؛ لأن الزَّلْزَلة: حركةٌ متكرِّرةٌ، وكذلك: “الدَّكْدَكة والقَلْقَلة”، وكذلك كبْكَبَ الشيءَ: إذا كبَّه في مكانٍ بعيد، فهو يكبُّ فيه كبًّا بعد كبٍّ، كقوله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94)} [الشعراء: 94] ومثلُه رَضرَضَهُ: إذا كرَّر رَضَّهُ مرَّةً بعد مرة، ومثله ذَرْذَرَهُ: إذا ذرَّه شيئًا بعد شيء، ومثله: صَرْصَرَ البابُ: إذا تكرَّرَ صريرهُ، ومثله: مطْمَطَ الكلامَ: إذا مطَّهُ شيئًا بعد شيء، ومثله: كَفْكَفَ الشيءَ: إذا كرَّر كَفَّه، وهو كثير.
وقد عُلِمَ بهذا أن من جعل هذا الرباعي بمعنى الثلاثي المضاعف لم يصب؛ لأن الثلاثي لا يدل على تكرار، بخلاف الرُّباعي المكرر، فإذا قلت: (ذرَّ الشيء، وصَرَّ البابُ، وكَفَّ الثوبَ، ورضَّ الحبَّ) لم يَدُلَّ على تكرار الفعل بخلاف ذَرْذَرَه وصَرْصَرَ ورَضْرَضَ، ونحوه، فتأمله فإنه مطابق لقاعدة العربية فِي الحذو بالألفاظ حذوَ المعاني (2)،
__________
(1) (1/ 189) من هذا الكتاب.
(2) (ع): “لحذف بالألفاظ: حذف … “.
(2/784)
وقد تقدم التنبيه على ذلك فلا وجه لإعادته.
وكذلك قولهم: عَجَّ العِجْلُ (1): إذا صَوَّتَ، فإن تابع صوتَه قالوا: عَجعَجَ، وكذلك: ثَجَّ الماء: إذا ضُبَّ، فإن تكرر ذلك قيل: ثَجْثَجَ، والمقصود أن المُوَسْوِسَ لما كان يكرِّر وَسْوَسَتَهُ ويتابعها قيل: وَسْوَسَ.
فصل
إذا عُرِفَ هذا فاختلف النُّحاةُ في لفظ (الوَسْوَاس) هل هو وصفٌ أو مصدرٌ؟ على قولين، ونحن نذكر حُجَّةَ (2) كُلَّ قول ثم نُبَيِّنُ الصحبحَ من القولينِ بعون الله تعالى وفضله:
فأما من ذهبَ إلى أنه مصدر، فاحتجَّ بأن الفعل منه: فَعْلَلَ، والوصف من: فَعْلَلَ إنما هو: “ففَعْلِلٌ” كمُدَحْرِج ومُسَرْهِف ومُبَيْطِر ومُسَيْطِر، وكذلك هو من: فَعَلَ بوزن: “مَفْعِّل” كَمَقْطِّع ومَخْرِّج، وبابه، فلو كان الوَسْوَاسُ صِفَةً لقيل: موَسْوِس، ألا ترى أن اسم الفاعل من زَلْزَلَ: مُزَلْزِلٌ، لا زَلْزَال، وكذلك من دَكْدَكَ: مُدَكْدِكٌ، وهو مطَّرِد، فَدَلَّ على أن الوَسْوَاس مصدرٌ وُصِفَ به على وجه المبالغة، أو يكون على حذف مضاف تقديرُه: ذو الوَسْوَاس. قالوا: والدليل عليه أيضًا قول الشاعر (3):
* تَسْمَعُ للحَلْيِ بها وَسْوَاسًا *
__________
(1) (ق): “الفحل”.
(2) (ع): “حجةً على … “.
(3) هو الأعشى، من معلقته، والبيت:
تسمع للحَلْي وسواسًا إذا انصرفتْ … كما اسْتَعانَ بِرِبحٍ عِشرِقٌ زَجِلُ
“ديوانه”: (ص/ 300).
(2/785)
فإذا مصدر بمعنى الوسوسة سواء.
قال أصحاب القول الآخر (1): الدليلُ على أنه وصف أن “فَعْلَلَ” ضَرْبَانِ: أحدهما: صحيح لا تكرارَ فيه؛ كَدَحْرَجَ وسَرْهَفَ (2) وبَيْطَرَ (3)، وقياس مصدر هذه: “الفَعْلَلَة”، كالَدَحْرَجَة والسَّرْهَفَة والبَيْطَرَة، و”الفِعْلال” -بكسر الفاء- كالسِّرهاف والدِّحْراج، والوصف منه “مفَعْلِلٌ” كمدَحْرِج ومبيْطِر.
والثاني: “فَعْلَل” الثنائي المكرر؛ كزَلْزَلَ ودَكْدَكَ ووَسْوَس، وهذا فرعٌ على “فَعْلَلَ” المجرد عن التَّكرار؛ لأن الأصل السلامةُ من التَّكرار، ومصدر هذا النوع والوصف منه مساوٍ لمصدر الأول ووصفه، فمصدره يأتي على “الفعللة”؛ كالوَسْوَسَةِ وَالزَّلْزَلَةِ، و”الفِعْلال” كالزِّلْزَال، وأَقْيَس المصدرين وأولاهما بنوعي فَعْلَلَ: “الفِعْلال” لأمرين:
أحدهما: أن “فَعْلَلَ” مشاكل لـ “أفْعَلَ” في عدد الحروف، وفتح الأول والثالث والرابعِ وسكون الثاني، فجُعِل “إفعال” مصدرْ “أفعل”، و”فِعْلال” مصدر “فَعْلك”، ليتشاكل المصدران، كما يتشاكل الفِعْلان، فكان “الفِعْلالُ” أولى بهذا الوزن من “الفعللة”.
الثاني: أن أصل المصدر أن يخالفَ وزنه وزن فعله، ومخالفة “فِعْلال” لـ “فَعْلَلَ” أشدُّ من مخالفة “فَعْلَلَة” له، فكان “فِعْلال” أحقَّ بالمصدرية من “فَعْلَلَة”، أو تساويا في الاطِّراد مع أن “فَعْلَلَة” أرجحُ في الاستعمال وأكثرُ، هذا هو الأصل.
__________
(1) النص من هنا إلى ص/789 من كلام ابن مالك، نقله السيوطي في “الأشباه والنظائر”: (4/ 51 – 54).
(2) السَّرْهفة: نعمة الغذاء. انظر “اللسان”: (9/ 151).
(3) أصل البَطْر: الشق، ومنه أخذ البَيْطار وهو: معالج الدواب. انظر: “اللسان”: (4/ 69).
(2/786)
وقد جاءوا بمصدر هذا الوزن المكرر مفتوح الفاء، فقالوا: “وَسْوَسِ الشيطان وَسْوَاسًا”، و”وَعْوعَ الكلبُ وَعْوَاعًا” إذا عوى، و”عَظْعَظ السَّهْمُ (1) عَظْعَاظًا”، والجاري على القياس: “فِعْلالٌ” بكسر الفاء، أو “فَعْلَلَة”، وهذا المفتوح نادر؛ لأن الرُّباعي الصحيحَ أصلٌ للمتكرِّر، ولم يأتِ مصدر الصحيح مع كونه أصلًا إلاّ على “فَعْلَلَة وفِعْلال” بالكسر، فلم يحسُن بالرباعي المكرّر لفرعيته أن يكونَ مصدَرُه إلا كذلك، لأن الفرعِ لا يخالف أصلَه، بل يحتذي فيه حذوَه، وهذا يقتضي أن لا يكونَ مصدرُه على “فَعْلال” بالفتح، فإن شذَّ حُفِظ ولم يُزَدْ عليه.
قالوا: وأيضًا فإن “فَعْلالًا” المفتوح الفاء قد كثر وقوعُه صفةً مصوغةً من “فَعْلَلَ” المكرر ليكون فيه نظير “فَعَّال” من الثلاثي لأنهما متشاركان وزنًا، فاقتضى ذلك أن لا يكون لـ “فَعْلال” من المصدرية نصيبٌ، كما لم يكن لـ “فَعال” فيها نصيبٌ، فلذلك اسْتندروا وقوع: (وَسْوَاس ووَعْوَاع وعَظْعَاظ) مصادر، وإنما حقُّها أن تكون صفاتٍ دالَّةً على المبالغة في مصادر هذه الأفعال.
قالوا: وإذا ثبت هذا فحقُّ ما وقع منها محتملًا للمصدرية والوصفية أن يُحمل على الوصفية، حَمْلًا على الأكثر الغالب وتجنبًا للشَّاذِّ، فمن زعم أن (الوَسْوَاس) مصدر مضاف إليه (ذو، تقديرًا، فقوله خارج عن القياس والاستعمال الغالب، ويدلُّ على فساد ما ذهب إليه أمران:
__________
(1) المعظعظ من السهام هو الذي يضطرب ويلتوي، “اللسان”: (7/ 447).
وذكر في “اللسان” أن عَظْعَاظًا -بفتح العين- محكية عن كراع وهي نادرة، والأشهر: عِظْعاظًا.
(2/787)
أحدهما: أن كلَّ مصدر أضيف إليه (ذو) تقديرًا فتجرُّدُهُ للمصدرية أكثرُ من الوصف به، كَرِضى وَصَوْم وفِطْر، و”فَعْلال” المفتوح لم يثبُتْ تجرُّدُه للمصدرية إلا فِي ثلاثة ألفاظ فقط (وَسْوَاسْ ووَعْوَاع وعَظْعَاظ)، على أن منع المصدرية في هذا ممكنٌ؛ لأن غاية ما يمكنُ أن يُستدَلَّ به على المصدرية قولهم: وَسْوَس إليه الشيطان وَسْواسًا، وهذا لا: يتعيَّنُ للمصدرية؛ لاحتمال أن يُرَادَ به الوصفية وينتصب: “وَسْواسًا” على الحال، ويكون حالًا مؤكِّدة، فإن الحال قد يؤكَّدُ بها عاملُها الموافق لها لفظًا ومعنًى، كقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} [النساء: 79] {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ}، نعم إنما تتعيَّن مصدرية (الوَسْوَاس) إذا سُمِع: “أعوذ بالله من وَسْوَاس الشيطان”، ونحو ذلك مما يكون الوَسْوَاس فيه مضافًا إلى فاعله، كما سُمع ذلك في (الوَسْوَسَة) ولكن أين لكم ذلك؟ فهاتوا شاهده؟! فبذلك يتعيّن أن يكون (الوَسْوَاس) مصدرًا لا بانتصابِه (1) بعد الفعل.
الوجه الثاني: -من دلِيل فساد من زعم أن وسواسًا مصدرٌ مضافٌ إليه (ذو) تقديرًا-: أنَّ المصدر المضاف إليه (ذو) تقديرًا لا يؤنَّثُ ولا يُثنَّى ولا يُجمعُ، بل يلزمُ طريقةً واحدةً، ليعلمَ أصالته في المصدرية وأنه عارض: الوصفية، فيقال: امرأة صَوْمٌ، وامرأتان صَوْمٌ، ونساءٌ صَوْم، لأن المعنى: ذاتُ صَوْم، وذواتا صَوْم، وذوات صَوْمِ، و”فَعْلال” الموصوف به ليس كذلك، بل يثنَّى ويُجْمَعُ ويؤَنَّثُ فتقول: رجل ثَرْثار، وامرأة ثَرْثَارة، ورجالٌ ثَرْثارنَ.
__________
(1) من (د) و (ظ وق): “لانتصابه”.
(2/788)
وفي الحديث: “أبْغَضُكُمْ إلىَّ الثَّرْثَارُونَ المُتَفَيْهِقُون” (1) وقالوا: ريحٌ زَفْزَافةٌ، أي: تُحَرِّكُ الأشجار، وريح سَفْسَافة، أي: تنخِّلُ التُّرابَ، ودِرْعٌ فَضْفاضَةٌ، أىِ: مُتَّسِعَة. والفعل من ذلك كله: “فَعْلَلَ”، والمصدر: “فَعْللَةٌ وفِعْلال” بالكسر، ولم ينقلْ في شيء من ذلك: “فَعْلالٌ” بالفتح.
وكذلك قالوا: تَمْتَامٌ، وفَأْفَاءٌ، ولَضْلاضٌ، أي: ماهرٌ فى الدِّلالة، وفَجْفَاجٌ: كثيرُ الكلام، وهَزهارٌ، أي: ضَحَّاكٌ، وكَهْكاهٌ ووطْواطٌ، أي: ضعيفٌ، وحَشحَاشٌ وعَسْعاسٌ، أي: خفيف (2)، وهو كثير ومصدره كله “الفَعْلَلَة” والوصف “فَعْلال” بالفتح.
ومثله: هَفْهَافٌ أي: خَمِيصٌ، ومثله: دَحْدَاحٌ أي: قَصير، ومثله: بَجْبَاج أي: جَسِيم، وتَخْتَاخٌ أي: ألْكَن، وسَمْسَامٌ أي: سريع، وشيءٌ خَشْخَاش أي: مُصَوِّتٌ، وقَعْقَاعٌ مثله، وأسد قَضْقَاضٌ أي: كاسِر، وحيَّةٌ نَضْنَاضٌ: تُحَرِّكُ لسانها. فقد رأيت “فَعْلالًا” في هذا كله وصفًا لا مصدرًا، فما بال الوَسْوَاس أُخْرِج عن نظائره وقياس بابه؛ فثبت أن وَسْوَاسًا وصفٌ لا مصدر؛ كَثَرْثَار وتَمْتَام ودَحْدَاح، وبابه.
ويدلُّ عليه وجهٌ آخر وهو: أنه وصَفَه بما يستحيلُ أن يكون مصدرًا، بل هو متعيِّنُ الوصفيَّة وهو الخَنَّاس، فالوسواس والخَنَّاس
__________
(1) أخرجه الترمذي رقم (2018) من حديث جابر -رضي الله عنه- قال الترمذي: “هذا حديث حسن غريب”.
وله شاهد من حديث أبي ثعلبة الخشني أخرجه أحمد: (29/ 267 رقم 17732)، وابن حبان “الإحسان “: (2/ 231)، وغيرهم، ورجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعًا. وله شواهد أخرى يتقوَّى بها من حديث عبد الله بن عَمْرو وابن مسعود -رضي الله عنهم-.
(2) “وعَسْعاس، أي: خفيف” سقطت من (ظ ود).
(2/789)
وصفانِ لموصوف (1) محذوف وهو الشيطانُ، وحَسَّنَ حذفَ الموصوف هاهنا غلبةُ الوصف حتي صار كالعَلَم عليه، والموصوف إنما يَقْبُحُ حذفُهُ إذا كان الوصفُ مشتركًا فيقعُ اللَّبْسُ؛ كالطَّويل والقبيح والحَسَن، ونحوه، فيتعيَّن ذكرُ الموصوف ليعلم أن الصِّفة له لا لغيره، فأما إذا غلب الوصفُ واختصَّ ولم يعرضْ فيه اشتراك، فإنه يجري مجرى الاسم، ويحسُنُ حذف الموصوف؛ كالمسلم والكافى والبَرِّ والفاجر والقاصي والداني (2) والشاهد والوالي والأمير (3) ونحو ذلك، فحَذْف الموصوف هنا أحسن من ذكره، وهذا التفصيلُ أولى من إطلاق مَنْ منَعَ حذْفَ الموصوفِ ولم يفَصِّلْ.
ومما يدلُّ على أن الوسواس وصفٌ لا مصدرٌ: أن الوصفيَّة أغلبُ على “فَعْلال” من المصدرية كما تقدَّم، فلو أريد المصدرُ لأتي بـ: (ذو) المضافة إليه، ليزولَ اللَّبْسُ وتَتَعَيَّنَ المصدريَّةُ، فإن اللَّفظ إذا احتمل الأمرين على السواء، فلا بدَّ من قرينةٍ تدُلُّ على تعيينِ أحدهما، فكيف والوصفيةُ أغلبُ عليه من المصدرية!؟.
وهذا بخلاف صَوْم وفِطْر وبابهما، فإنها مصادرُ لا تلتبسُ يالأوصاف، فإذا جرت أوصافًا عُلِم أنها على حذف مضافٍ أو تنزيلًا للمصدر منزلةَ الوصف مبالغةً على الطريقتين في ذلك، فتعيَّنَ أن الوَسْواسَ هو الشَّيطَانُ نفسه، وأنَّه ذاتٌ لا مصدرٌ، والله أعلم.
__________
(1) (ق): “المصدر”.
(2) (ع): “العاصي”، و”الداني” من (ظ ود).
(3) ليست في (ظ ود).
(2/790)
فصل
وأما الخنَّاسُ: فهو “فَعَّال” من: خنَسَ يَخْنِسُ: إذا تَوَارى واخْتَفَى. ومنه قول أبي هريرة: “لَقِيَني النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – في بعض طرق المدينة وأنا جُنُبٌ فانخَنَسْتُ منه” (1). وحقيقة اللَّفظ اختفاءٌ بعد ظهور، فليست لمجرد الاختفاء؛ ولهذا وُصِفت بها الكواكبُ في قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)} [التكوير: 15]، قال قتادة: هي النجوم تبدو باللَّيل وتخنِسُ بالنَّهار فتختفي ولا تُرَى. وكذلك قال عليٌّ رضي الله عنه: هي الكواكبُ تخنس بالنهار فلا (2) تُرى. وقالت طائفة: الخُنَّسُ: هي الرَّاجعةُ، التي ترجِعُ كلَّ ليلة إلى جهة المشرق، وهي السبعةُ السَّيَّارة، قالوا: وأصل الخُنُوس: الرُّجُوعُ إلى وراء (3).
والخَنَّاسُ هو مأخوذ من هذين المعنيين، فهو من الاختفاء والرجوع والتأخُّر، فإن العبدَ إذا غَفَلَ عن ذكر الله جَثَمَ على قلبه الشيطانُ، وانبسط عليه، وَبَذَرَ فيه أنواعَ الوساوس التي هي أصلُ الذنوب كلها، فإذا ذكر العبدُ ربَّهُ واستعاذ به انخنَسَ وانقبض كما ينخِنسُ الشيءُ يَتَوَارَى، وذلك الانخناسُ والانقباضُ هو -أيضًا- تَجَمُّعٌ ورجوع وتَأَخُّرٌ عن القلب إلى خارج، فهو تأخُّر ورجوعٌ معه اختفاءٌ.
وخَنَسَ وانْخَنَسَ يدُلُّ على الأمرين معًا. قال قتادة: الخَنَّاسُ له
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (283) ومسلم رقم (371).
(2) (ظ ود): “تخنس فلا … “.
(3) انظر أقوال السلف في “تفسير الطبري”: (12/ 467 – 469)، و”الدر المنثور”: (6/ 529).
(2/791)
خُرْطُوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان، فإذا ذكر العبدُ ربَّه خَنَسَ (1).
ويقالُ: رأسُه كرأس الحيَّة وهو واضعٌ رأسَهُ على ثَمَرَة القلب يُمَنِّيه ويحدِّثُهُ، فإذا ذكر الله تعالى خَنَسَ، وإذا لم يَذْكرْه عادَ ووضَعَ رأسَهُ يوسوِسُ إليه ويُمَنِّيهِ (2).
وجيء من هذا الفعل بوزن: “فعَّال” الذي للمبالغة دون الخَانِس والمُنْخَنِس إيذانًا بشدة هروبه ورجوعه وعِظَم نفوره عندَ ذكر الله، وأن ذلك دأبُهُ ودَيْدَنُهُ، لا أنه يعرِضُ له عند ذكر الله أحيانًا، بل إذا ذُكِرَ اللهُ -عز وجل- هَرَبَ وانخنسَ وتأخَّرَ، فإنَّ ذِكْرَ اللهِ هو مِقْمَعَتُهُ التي يُقمعُ بها، كما يُقمعُ المفسدُ والشِّرِّيرُ بالمقامع التي تَرْدَعُهُ؛ من سِياطٍ وحديدٍ وعِصِيٍّ، ونحوها.
فذِكْر اللهِ تعالى يقمعُ الشيطانَ ويؤلمُهُ ويؤذيه، كالسِّياط والمقامع التي تؤذي من يُضْرَبُ بها. ولهذا يكون شيطان المؤمن هزيلًا ضئيلًا مضنًى مما يعذبهُ المؤمنُ ويقمعُه به من ذكر الله وطاعته.
وفِي أثرٍ عن بعض السلف: “إن المؤمن يُنْضِي شيطانَه، كما
__________
(1) ذكره البغوي في “تفسيره”: (4/ 548) بدون إسناد، وهو بنحوه مروي: عن معاوية أخرجه ابن أبي داود في “ذم الوسوسة” -كما في “الدر: 6/ 721″، ورُوِيَ مرفوعًا من حديث أنسٍ -رضي الله عنه- أخرجه أبو يعلى وابنُ شاهين والبيهقي في “الشعب”- كما في “الدر: 6/ 721″، قال الحافظ في “الفتح”: (8/ 614): “وإسناده ضعيف”، وروي عن ابن عباسِ وغيره نحوه.
(2) نقله المؤلف من “تفسير البغوي”: (4/ 548)، وأخرجه سعيد بن منصور وابن أبي الدنيا وابنُ المنذر عن عروة بن رُويم أن عيسى بن مريم دعا ربَّه أنْ يريه موضع الشيطان من ابن آدم فجلَّى له ذلك … فذكره، انظر: “فتح الباري”: (8/ 614)، و”الدر المنثور”: (6/ 722).
(2/792)
يُنْضِي الرَّجلُ بعيرَهُ في السَّفَر” (1)؛ لأنه كلما اعترضه صبَّ عليه سياطَ الذِّكر والتَّوجُّه والاستغفار والطاعة، فشيطانُه معه في عذاب شديد، ليس بمنزلة شيطان الفاجر الذي هو معه في راحةٍ ودَعَة، ولهذا يكون قويًّا (2) عاتيًا شديدًا.
فمن لم يعذبْ شيطانَه في هذه الدار بذكر الله تعالى وتوحيدِه واستغفارِه وطاعته، عذبه شيطانُه في الآخرة بعذاب النار، فلا بُدَّ لكل أحدٍ أن يُعَذِّبَ شيطانَه أو يُعَذِّبُه شيطانُه.
وتأمل كيف جاء بناءُ الوسواس مكرَّرًا لتكريره الوسوسة الواحدة مرارًا، حتى يعزمَ عليها العبد، وجاء بناء “الخناس” على وزن “الفَعَّال” الذي يتكرَّر منه نوع الفعل؛ لأنه كلَّما ذكر الله انخنسَ، ثم إذا غفل العبدُ عاوده بالوسوسة، فجاء بناءُ اللفظين مطابقًا لمعنييها.
فصل
وقوله: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)} [الناس: 5] صفةٌ ثالثة للشيطان، فذكر وسوستَه أولًا، ثم ذكر محلَّها ثانيًا، وأنها في صدور الناس، وقد جعل اللهُ للشّيطان دخولًا في جوف العبد، ونفوذًا إلى قلبه وصدره، فهو يجري منه مجرى الدَّمِ، وقد وُكِلَ بالعبد فلا يفارقُه إلى الممات.
__________
(1) جاء هذا في حديث مرفوع إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – من حديث أبى هريرة، أخرجه أحمد: (14/ 504 رقم 8940)، وابن أبى الدنيا في “مكايد الشيطان” والحكيم الترمذي -كما في “الجامع الصغير- مع الفيض”: 2/ 385 – وفي سنده ابن لهيعة وهو ضعيف.
(2) ليست في (ع).
(2/793)
وفي “الصحيحين” (1) من حديث الزُّهْري، عن علي بن حسين، عن صَفِيَّة بنت حُيَيّ، قالت: “كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – معتكفًا فأتيتُه أزوره ليلًا، فحدَّثتُه، ثم قمت فانقلبتُ، فقام معي ليقلِبَني -وكان مسكنُها في دار أُسامة بن زيد- فمرَّ رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي – صلى الله عليه وسلم – أسرعا، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “عَلَى رِسْلِكُما إنَّها صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ”، فقالا: سبحانَ اللهِ يا رسول: الله! فقال: “إنَّ الشَّيطانَ يجري من الإنسانِ مَجْرَى الدَّمِ، وإني خَشِيْتُ أن يَقْذَفَ في قلوبِكُما سواءً” -أو قال: “شيئًا”-.
وفي “الصحيح” أيضًا عن أبى سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال: “قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إذا نُوْدِيَ بالصَّلاةِ أدْبرَ الشَّيْطَان وله ضُرَاطٌ، فإذا قُضِي أقْبَلَ، فإذا ثُوِّبَ بها أَدْبَرَ، فإذا قُضِيَ أقْبَل حتى يَخْطرَ بين الإنسانِ وقلبه، فيقول: اذْكُرْ كذا اذْكُرْ كذا، حتَّى لا يَدْرِي أثَلاثا صَلَّى أم أربعًا، فَإذا لم يَدْر أثلاثا صَلَّى أم أرْبَعًا سَجَدَ سَجْدَتى السَّهْوِ” (2).
ومن وسوسته: ما ثبت في “الصحيح” عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “يأتي الشَّيْطانُ أحَدَكمْ فيقولُ مَنْ خَلَقَ كذا؟ مَنْ خَلَقَ كذا؟ حتى يقولَ: مَنْ خَلَقَ الله؟ فَمَنْ وَجَدَ ذَلكَ فَلْيَسْتَعِذْ باللهِ ولْيَنْتَهِ” (3).
وفي “الصحيح” (4) أن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قالوا: يا رسول الله إن أحَدَنا ليجدُ فى نفسه ما لأَنْ يَخِرَّ من السماء إلى الأرض أحَبُّ إليه من أن
__________
(1) أخرجه البخاري رقم: (2035)، ومسلم رقم (2175).
(2) أخرجه البخاري رقم: (608)، ومسلم رقم (389).
(3) أخرجه البخاري رقم (3276)، ومسلم رقم (134).
(4) ليس هو فى الصحيحين ولا أحدهما، وسنده على شرطهما.
(2/794)
يَتكَلَّمَ به، قال: “الحمْدُ للهِ الذي رَدَّ كَيْدَهُ إلى الوَسْوَسَةِ” (1).
ومن وسوسته أيضًا: أن يَشغل (2) القلب بحديثه حتى يُنسِيَهُ ما يريدُ أن يفعلَه، ولهذا يضافُ النسيانُ إليه إضافتَه إلى سَبَبه، قال تعالى حكاية عن صاحب موسى إنه قال: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63].
وتأمَّلْ حكمةَ القرآن الكريم وجلالَتَهُ كيف أوْقَعَ الاستعاذةَ من شَرِّ الشيطان الموصوف بأنه الوسواس الخنَّاس، الذي يوسوسُ في صدور الناس، ولم يقلْ: من شرِّ وسوسته؛ لتعمَّ الاستعاذةُ شرَّه جميعَه، فإن قوله: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4)} [الناس: 4]، يعم كلَّ شره، ووصفه بأعظم صفاته وأشدِّها شرًّا، وأقواها تأثيرًا، وأعمِّها فسادًا، وهى الوسوسة التي هى مبادئُ الإرادة، فإن القلبَ يكونُ فارغًا من الشر والمعصية، فيوسوسُ إليه، ويُخْطِرُ الذنبَ بباله، فيصوِّرُهُ لنفسه ويُمَنِّيه، ويُشَهِّيه فيصير شهوة، ويُزَيِّنُها له ويُحَسِّنُها ويُخَيِّلُها له في خيالٍ تميلُ نفسه إليه، فيصيرُ إرادة ثم لا يزالُ يُمَثِّلُ ويُخَيِّلُ، ويُمَنِّي ويُشَهِّي، ويُنَسِّي علمه بضررها، ويَطْوي عنه سُوءَ عاقبتها، فيحُوْلُ بينه وبين مطالعته، فلا يرى إلا صورةَ المعصية والتذاذَه بها فقط وينسى ما وراء ذلك، فتصير الإرادةُ عزيمةً جازمةً، فيشتدُّ الحرصُ عليها من القلب، فيبعثُ الجنودَ في الطَّلَب، فيبعثُ الشيطانُ معهم مَدَدًا لهم وعونًا، فإن فَتَروا حرَّكهم، وإن وَنَوْا (3) أزعجهم، كما قال تعالى:
__________
(1) أخرجه أحمد: (4/ 10 رقم 2097)، وأبو داود رقم (5112)، وابن حبان “الإحسان”: (1/ 360) وغيرهم من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.
(2) (ع): “يشتغل”.
(3) أي: ضعفوا.
(2/795)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)} [مريم: 83] أي: تُزْعِجهم إلى المعاصي: إزعاجًا، كلَّما فتروا أو وَنَوْا أزعجتهم الشياطينُ، وأَزَّتْهُم وأثارتهم، فلا تزال بالعبد تقودُه إلى الذنب وتنظمُ شمل الاجتماع بألطف حيلة، وأتمِّ مَكِيدة. قد رضي لنفسه بالقيادة لفَجَرة بني آدم، وهو الذي استكبر وأبى أن يَسْجُدَ لأبيهم. فلا بتلك النَّخوة والكبر (1)، ولا برضاه أن يصيرَ قوَّادًا لكل من عصى الله! كما قال بعضُهم (2):
عجبتُ من إبليسَ فِي تِيهِهِ … وقبحِ ما أظهَرَ مِنْ نَخْوَتِهْ
تَاهَ على آدَمَ في سجْدَةٍ … وصارَ قوَّادًا لِذرِّيَّتهْ
فأصل كل معصية وبلاء إنما هو الوسوسة، فلهذا وصَفَه بها لتكون الاستعاذةُ من شرها أهمَّ من كل مستعاذ منه، وإلا فشرُّه بغير الوسوسة حاصل أيضًا.
فمن شرِّه: أنه لصٌّ سارقٌ لأموال الناس، فكل طعام أو شراب لم يذكرِ اسمُ الله تعالى عليه، فله فيه حظٌّ بالسَّرقة والخَطْف، وكذلك يبيتُ في البيت إذا لم يذكر فيه اسم الله تعالى، فيأكلُ طعامَ الإنس بغير إذنهم، ويبيتُ في بيوتهم بغير أمرهم، فيدخل سارقًا ويخرج مغِيْرًا. ويدلُّ على عوراتهم، فيأمر العبدَ بالمعصية، ثم يلقي فِي قلوب الناس (3) يَقظَةً ومنامًا: أنه فعل كذا وكذا.
ومن هذا: أن العبدَ يفعل الذنبَ لا يطَّلِع عليه أحدٌ من الناس،
__________
(1) “والكبر” ليست في (ظ ود).
(2) أنشدهما الجاحظ في “البيان والتبيُّن”: (3/ 152) بلا نسبةٍ، مع اختلاف يسير.
(3) (ظ ود): “أعدائه”.
(2/796)
فيصبحُ والناسُ يتحدثون به، وما ذاك إلا أن الشيطانَ زيَّنَة له، وألقاه في قلبه، ثم وسوس إلى الناس بما فعل، وألقاه إليهم، فأوقعه في الذنب، ثم فضحه به، فالرَّبُّ تعالى يسترُه، والشيطانُ (1) يَجْهَدُ في كشف ستره وفضيحته (2)، فيغترُّ العبدُ ويقول: هذا ذنبٌ لم يَرَهُ إلا اللهُ تعالى، ولم يشعرْ بأنَّ عدُوَّهُ ساعٍ في إذاعته وفضيحته، وَقلَّ من يتفطَّنُ (3) من الناس لهذه الدقيقة.
ومن شره: أنه إذا نام العبدُ عقد على رأسه عُقَدًا تمْنَعهُ من اليَقَظَة، كما في “صحيح البخاري” (4) عن سعيد بن المُسَيِّب، عن أبي هريرة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيةِ رَأسِ أحَدِكُمْ إذَا هُوَ نَامَ ثَلاثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ عَلَى كلِّ عُقْدَه مَكَانَها عَلَيْكَ لَيْلٌ طَويلٌ فَارْقُدْ، فَإِن اسْتَيْقَظَ فَذَكرَ اللهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّهَا فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيبَ النَّفْسِ، وَإلَّا أصْبَحَ خَبِيثَ النَفْسِ كَسْلانَ”.
ومن شره: أنه يبولُ في أُذن العبد حتى ينام إلى الصباح، كما ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه ذُكِر عنده رجل نام ليلة حتى أصبحَ، قال: “ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَان فِي أُذُنَيْهِ، أَوْ قَالَ: فِي أُذُنِهِ” رواه البخاري (5).
ومن شره: أنه قد قعد لابن آدم بطرق الخير كلِّها، فما من طريق من طرق الخير إلا والشَّيْطَانُ مُرْصِدٌ عليه، يمنعُه بجَهْدِه أن يسلُكَهُ،
__________
(1) من قوله: “زينه له … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(2) ليست في (ع).
(3) (ع): “ينظر”.
(4) رقم (1142)، وكذلك أخرجه مسلم رقم (776).
(5) رقم (1144)، وكذلك أخرجه مسلم رقم (774).
(2/797)
فإن خالفَه وسلكَه ثَبَّطَهُ فيه وعوَّقَهُ، وشوَّشَ عليه بالمُعارضات والقواطع، فإن عَمِله وفرغ منه، قيَّضَ له ما يُبْطِلُ أثَرَه وَيَرُدُّهُ على حافِرَته.
ويكفي من شرِّه: أنه أقسمَ بالله ليقعُدَنَّ لبني آدم صراطه المستقيم، وأقسم لَيَأتِيَّنهُمْ من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أَيْمانهم وعن شمائلهم، ولقد بلغ شرَّه أن أعملَ المكيدة، وبالغ فى الحِيلة، حتى أخرجَ آدَمَ من الجنة، ثم لم يَكْفِهِ ذلك حتى استقطعَ من أولاده شرطة للنَّار من كلِّ ألف تسع مئة وتسعة وتسعين (1)، ثم: لم يكفِهِ ذلك حتى أعملَ الحيلةَ في إبطال دعوة الله من الأرض، وقصد أن تكون الدعوةُ له، وأن: يُعْبَدَ من دون الله فهو ساعٍ بأقصى جَهْده على إطفاء نور الله وإبطال دعوته، وإقامة دعوة الكفر والشرك، ومحو التوحيد وأعلامه من الأرض.
ويكفي من شَرِّه: أنه تصدى لإبراهيم خليل الرحمن حتى رماه قومُهُ بالمَنْجَنِيق فى النَّار، فردَّ اللهُ تعالى كيدَهُ عليه، وجعل النارَ على خليله بَرْدًا وسلامًا، وتصدَّى للمسيح – صلى الله عليه وسلم – حتى أراد اليهود قتلَه وصلبَه، فرد الله كَيْدَهُ، وصان المسيحَ ورفعه إليه، وتصدَّى لزكريا ويحيى حتى قُتِلا، واستثار (2) فرعون حتى زَيَّنَ له الفسادَ العظيم في الأرض ودعوى أنه ربُّهم الأعلى، وتصدَّى للنبي – صلى الله عليه وسلم – وظاهر الكفار على قتلة بجَهْده، والله تعالى يكبتُهُ ويَرُدُّهُ خاسئًا، وتفلَّتَ على النبي – صلى الله عليه وسلم – بشهاب من نار يُريد أن يَرمِيَهُ به وهو فى الصلاة، فجعل النبي – صلى الله عليه وسلم –
__________
(1) في جميع الأصول: “تسعون”.
والحديث في هذا المعنى أخرجه البخاري رقم (3348)، ومسلم رقم (222).
(2) (ع): “واستتاب”، و (ق): “واستبان”، ولعل الصواب ما أثبت.
(2/798)
يقول: “ألْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللهِ” (1)، وأعان اليهودَ على سحرهم للنبي – صلى الله عليه وسلم-.
فإذا كان هذا شأنَهُ وهِمَّتَهُ في الشَّرِّ، فكيف الخلاصُ منه إلا بمعونة الله وتأييده وإعاذته! ولا يمكن حصرُ أجناس شَرِّه فضلًا عن آحادِها، إذ كلُّ شرٍّ في العالم فهو السبَبُ فيه، ولكن ينحصرُ شرُّهُ في ستة أجناس، لا يزالُ بابن آدم حتى ينالَ منه واحدًا منها أو أكثر:
* الشر الأول: شرُّ الكفر والشرك ومعاداة الله ورسوله، فإذا ظفر بذلك من ابن آدم بَرَد أنينُهُ، واستراح من تعبه معه، وهو أوَّلُ ما يُريده من العبد، فلا يزالُ به حتى ينالَهُ منه، فإذا نال ذلك منه صَيَّرَهُ من جنده وعسكره، واستنابه على أمثاله وأشكاله، فصار من دعاة إبليسَ ونوَّابه.
* فإن يَئِسَ منه من ذلك، وكان ممن سبق له الإسلامُ في بطن أُمه، نقله إلى المرتبة الثانية من الشر، وهي البدعة، وهي أحبُّ إليه من الفسوق والمعاصي؛ لأن ضرَرَها في نفس الدين وهو ضرر متعدَّ، وهىِ ذنبٌ لا يتابُ منه، وهي مخالفةٌ لدعوة الرُّسُل، ودعاء إلى خلاف ما جاءوا به، وهي باب الكفر والشرك، فإذا نال منه البدعة وجعله من أهلها بقيَ أيضًا نائِبَهُ وداعيًا من دعاتِهِ.
* فإن أعجزه من هذه المرتبة، وكان العبدُ ممن سَبَقَتْ له من الله موهبةُ السُنَّة ومعاداة أهل البدَع والضلال، نقله إلى المرتبة الثالثة من الشَّرِّ، وهي الكبائرُ على اختَلاف أنواعها، فهو أشدُّ (2) حرصًا على أن يوقعَه فيها، ولا سيِّما إن كان عالمًا متبوعًا، فهو حريصٌ على ذلك لينفِّرَ الناس عنه، ثم يشيعُ من ذنوبه ومعاصيه في الناس ويستَنِيبُ
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (542) من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه-.
(2) (ع وق): “أشد شيءٍ … “.
(2/799)
منهم من يشيعُها ويذيعُها تديُّنًا وتقرُّبًا بزعمه إلى الله تعالى، وهو نائب إبليسَ ولا يشعرُ، فإن الذين يُحِبُّون أن تشيعَ الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم، هذا إذا أحبُّوا إشاعَتَها وإذاعَتَها (1)، فكيف إذا تولَّوْا هم إشاعَتَها وإذاعَتَها [لا] نصيحة (2) منهم، ولكن طاعةً (3) لإبليس ونيابةً عنه؟! كل ذلك لينفِّرَ الناسَ عنه، وعن الانتفاع به، وذنوب هذا ولو بلغت عَنان السَّماء أهونُ عند الله من ذنوب هؤلاء، فإنها ظلمٌ منه لنفسه، إذا استغفرَ اللهَ وتابَ إليه قبل اللهُ وتوبَتَهُ، وبدَّلَ سيئاتِهِ حسنات، وأما ذنوبُ أولئك فظلم للمؤمنين وتَتَبُّعٌ لعورتهم وقصدٌ لفضيحتهم، والله -سبحانه- بالمرصاد لا تخفى عليه كمائنُ الصدور ودسائسُ النفوس.
* فإنْ أعْجَزَ الشيطانَ عن هذه المرتبة، نقله إلى المرتبة الرابعة وهي: الصَّغائر التي إذا اجتمعت فربما أهلكت صاحبها، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إيَّاكُمْ ومُحَقَّرَاتِ الذُّنُوب، فإنَّ مَثَلَ ذلك مَثَلُ قَوْمٍ نزلوا بفَلاةٍ من الأرض … ” (4)، وذكر حديثًا معناه: أن كل واحد منهم جاء بعُود
__________
(1) من (ع) فقط.
(2) زيادة يستقيم بها النص.
(3) ملحقة في هامش (ق).
(4) أخرجه أحمد: (5/ 331) وغيره من حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه- ولفظه: “إيَّاكم ومُحَقَّرَات الذنوب، كقوم نزلوا في بطن وادٍ فجاء ذا بعودٍ وجاء ذا بعود حتى انضجوا خبزتهم، وإن محقَّرات الذنوب متى يُؤخَذ بها صاحبها تُهْلِكه”.
قال الحافظ فى “الفتح”: (11/ 337): “إسناده حسن”.
وله شاهد من حديث ابن مسعود، أخرجه أحمد: (6/ 367 رقم 3818). وفى سنده ضعف، ولفظه أقرب إلى ما ذكره المؤلِّف.
(2/800)
حَطَب حتى أوقدوا نارًا عظيمة فطبخوا واشْتَوَوْا، ولا يزال يُسَهِّلُ عليه أمرَ الصغائر حتى يستهينَ بها، فيكون صاحبُ الكبيرة الخائفُ منها أحسنَ حالًا منه.
* فإن أعجزه العبدُ من هذه المرتبة، نقله إلى المرتبة الخامسة، وهي إشغالُه بالمُبَاحات التي لا ثوابَ فيها ولا عِقَابَ، بل عقابها فَواتُ (1) الثواب الذي ضاع عليه باشتغاله بها.
* فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة وكان حافظًا لوقته شحيحًا به، يعلم مقدارَ أنفاسِهِ وانقطاعها وما يقابلُها من النعيم والعذاب، نقلَه إلى المرتبة السادسة، وهو: أن يشغَلَهُ بالعمل المفضول عما هو أفضل مه، ليزيحَ عنه الفضيلة (2) ويفوّته ثواب العمل الفاضل، فيأمرُهُ بفعل الخير المفضول، ويحضُّه عليه، ويحسّنه له، إذا تضمَّن ترك ما هو أفضل وأعلى منه، وقلَّ من يَتنْبَّهُ لهذا من الناس، فإنه إذا رأى فيه داعيًا قويًّا ومحرِّكًا إلى نوع من الطاعة لا يشك أنه طاعة وقربة، فإنه لا يكادُ يقول: إن هذا الداعي من الشيطان، فإن الشيطان لا يأمرُ بخير، ويرى أن هذا خيرٌ، فيقول: هذا الداعي من الله، وهو معذورٌ، ولم يصلْ علمُه إلى أن الشيطان يأمره بسبعين بابًا من أبواب الخير، إما لِيَتَوَصَّلَ بها إلى باب واحد من الشَّرِّ، وإما ليُفَوِّتَ بها خيرًا أعظمَ من تلك السبعين بابًا وأجلَّ وأفضلَ.
وهذا لا يتوصلُ إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفهُ في قلب العبد يكون سببه تجريد متابعة الرسول – صلى الله عليه وسلم – وشدَّة عنايته بمراتب الأعمال
__________
(1) (ظ ود): “عاقبتها فوت”.
(2) (ع وق): “عليه” وتحتمل في قراءة “ليزيح”. “ليربح”.
(2/801)
عند الله وأحبها إليه وأرضاها له، وأنفعها للعبد، وأعمها نصيحةً لله تعالى ولرسوله ولكتابه ولعباده المؤمنين خاصَّتهم وعامَّتهم، ولا يعرفُ هذا إلا مَن كان من ورثة الرسول – صلى الله عليه وسلم – ونوابه في الأمة وخلفائه في الأرض، وأكثر الخلق محجوبون عن ذلك فلا يخطر بقلوبهم، والله تعالى يمن بفضله على من يشاء من عباده.
* فإذا أعجزه العبدُ من هذه المراتب السِّتِّ وأعيا عليه سَلَّطَ عليه حزبَهُ من الإنس والجن بأنواع الأذى والتكفير له والتضليل والتبديع والتحذير منه، وقصد إخماله وإطفائه ليُشَوِّشَ عليه قلبَهُ ويشغل بحربه فكره، وليمنعَ الناسَ من الانتفاع به، فِيبقى سعْيُهُ في تسليط المُبْطِلبنَ من شياطين الإنس والجن عليه، لا يَفْتُرُ ولا بَنِي، فحينئذٍ يلبَسُ المؤمن لأُمَةَ الحرب ولا يضعُها عنه إلى الموت، ومتى وضعها أُسِرَ أو أصيب، فلا يزال في جهاد حتى يلقى الله.
فتأمَّل هذا الفصلَ وتدبَّرْ موقِعَهُ (1) وعظيمَ منفعته، واجعلْه ميزانًا لك تَزِنُ به الناسَ وتَزِنُ به الأعمال، فإنه يُطْلِعكَ على حقائق الوجود ومراتب الخلق، واللهُ المستعان، وعليه التُّكْلان، ولو لم يكنْ في هذا التعليق إلا هذا الفصلُ لكان نافعًا لمن تدبَّرَهُ ووعاه.
فصل
وتأمل السر في قوله تعالى: {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)}، ولم يقل: في قلوبهم، والصدر هو ساحة القلب (2) وبيته، فمنه تدخل الواردات إليه، فتجتمعُ فِي الصدر ثم تَلجُ في القلب، فهو بمنزلة
__________
(1) (ظ ود): “موضعه”.
(2) زيادة في (ظ ود): “فهو بمنزلة الدهليز”.
(2/802)
الدِّهْليز له، ومن القلب تخرجُ الأوامرُ والإرادات إلى الصدر ثم تتفرَّقُ على الجنود.
ومن فهم هذا فهم قولَه تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: 154] فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيتِه، فيُلْقي ما يريدُ إلقاءه في القلب، فهو موسوِسٌ في الصدر، ووسوسته (1) واصلةٌ إلى القلب، ولهذا قال تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} [طه: 120]، ولم يقل: فيه؛ لأن المعنى: أنه ألقى إليه ذلك وأوصلَهُ إليه، فدخل في قلبه.
فصل
وقوله تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} اختلف المُفَسِّرونَ في هذا الجارِّ والمجرور: بمَ يتعلَّقُ؟.
فقال الفَرَّاءُ (2) وجماعة: هو بيانٌ للناسِ المُوَسْوَس في صدورهم، والمعنى: يوَسوِسُ في صدور الناس الذين هم من الجَن والإنس، أي المُوَسوَس في صدورهم قسمان: إنس وجن.
فالوسواسُ يُوَسوِسُ للجنِّيِّ كما يوسوسُ للإنسي، وعلى هذا القول فيكون “منَ الجنة والناس”: نصبًا على الحال؛ لأنه مجرورٌ بعد معرفة على قول البصريين، وعلى قول الكوفيين نصبًا بالخروج من المعرفة، هذه عبارتهم، ومعناها: أنه لما لم يصلحُ أن يكون نعتًا للمعرفة انقطع عنها، فكان موضعُهُ نصبًا، والبصريون
__________
(1) (ظ ود): “في الصدور وسوسةً”.
(2) في “معاني القرآن”: (3/ 302).
(2/803)
يقدِّرونه حالًا، أي: كائِنِيْنَ من الجِنَّة والنَّاس، وهذا القولُ ضعيفٌ جدًّا لوجوه:
أحدها: أنَّه لم يَقمْ دليلٌ على أن الجِنِّيَّ يوسوسُ في صدور الجنِّ، ويدخلُ فيه كما يدخل في الإنسي، ويجري منه مجراه من الإَنسي، فأيُّ دليل يدُلُّ على هذا حتى يصِحَّ حملُ الآية عليه؟.
الثاني: أنه فاسدٌ من جهة اللفظ أيضًا، فإنه قال: (الذي يوسوسُ في صدور الناس)، فكيف يبينُ الناس بالناس؟ فإن معنى الكلام على قوله: يوسوِسُ في صدور الناس (1) الذين هم -أو كائنين- من الجنة والناس، أفيجوزُ أن يقالَ: في صدور الناس الذين هم من الناس وغيرهم؟ هذا ما لا يجوزُ، ولا هو استعمالٌ فصَيحٌ!.
الثالث: أن يكونَ قد قسم الناسَ إلى قسمين: جِنَّة وناس، وهذا غيرُ صحيح، فإن الشيء لا يكون قَسِيمَ نفسِهِ.
الرابع: أن الجنَّةَ لا يطلقُ عليهم اسمُ الناس بوجه، لا أصلًا ولا اشتقاقًا ولا استعمالًا، ولفظهما يأبى ذلك، فإن الجنَّ إنما سمُّوا جنًّا من الاجتنان، وهو الاستتارُ، فهم مستترون عن أعين البشر، فَسمُّوا جنًّا لذلك، من قولهم: جَنَّهُ الليلُ وأجنَّه: إذا سَتَرَهُ، وأجَنَّ المَيِّتَ: إذَا سَتَرَهُ في الأرض. قال:
ولا تَبْكِ مَيْتًا بعد مَيْتٍ أَجَنَّهُ … عَلِيٌّ وعباسٌ وآلُ أبي بَكْرٍ
يريد النبيَّ – صلى الله عليه وسلم -.
ومنه: الجَنِينُ لاستتاره في بطنِ أُمِّهِ، قال تعالى: {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي
__________
(1) من قوله: “فكيف يبين … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2/804)
بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم: 32] ومنه: المِجَنُّ لاستتار المُحَارِبِ به من سلاح خصمِهِ، ومنه: الجَنَّةُ لاستتار داخلها بالأشجار، ومنه: الجُنَّةُ بالضمِّ: لِمَا يَقِي الإنسانَ من السِّهام والسِّلاح، ومنه: المجنون لاستتار عقلِه.
وأما “الناسُ” فبينهُ وبينَ الإنس مناسبةٌ فى اللفظ والمعنى، وبينهما اشتقاق أوسط، وهو: عَقْد (1) تقاليب الكلمة على معنى واحد (2)، والإنس والإنسان مشتقٌ من الإيناس وهو الرؤية والإحساس، ومنه قوله: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص: 29] أي: رآها، ومنه: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] أي: أحسستموه ورأيتموه، فالإنسان سمِّيَ إنسانًا لأنه يُؤْنَسُ أي: يُرَى بالعين.
والناس فيه قولان:
أحدهما: أنه مقلوب من أنس وهو بعيد، والأصل عدم القلب.
والثاني: -وهو الصحيح- أنه من النَّوْس وهو الحَرَكة المتتابعة، فسُمِّيَ النَّاسُ ناسًا للحركة الظاهرة والباطنة، كما يسمَّى الرجلُ: حارثًا وهمَّامًا، وهما أصدقُ الأسماء كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – (3)؛ لأن كل أحدٍ له همٌّ وإرادةٌ هي مَبْدأ، وحرثٌ وعملٌ هو مُنتهى، فكلُّ أحدٍ حارثٌ وهَمَّام، والحَرْثُ والهّمُّ، حركتا الظاهر والباطن، وهو حقيقة
__________
(1) (ظ ود): “عند”.
(2) ويسميه ابن جنِّي الاشتقاق الأكبر، انظر “الخصائص”: (2/ 134 – 139).
(3) فيما أخرجه أحمد: (31/ 377 رقم 19032)، وأبو داود رقم (4950)، والبخاري في “الأدب المفرد”: (ص/ 243)، والنسائي: (6/ 218 – 219) وغيرهم من حديث أبي وهب الجُشمي -رضي الله عنه- وضعَّفه أبو حاتم في “العلل”: (2/ 312 – 313).
(2/805)
النَّوْس، وأصل نَاسَ: (نوَسَ) تحركت الواو وقبلها فتحة فصارت ألفًا، هذان هما القولان المشهوران في اشتقاق “الناس”.
وأما قول بعضهم: إنه من النِّسيان، وسُمِّي الإنسانُ إنسانًا لنسيانه، وكذلك الناس سُمُّوا ناسًا لنسيانهم؛ فليس هذا القولُ بشيءٍ! وأين النسيانُ الذي مادَّته (ن س ي) إلى الناس الذي مادَّتُهُ (ن وس)؟ وكذلك أين هو من الأُنس الذي مادته (أن س)؟ وأما إنسانٌ فهو “فِعْلان” من (أن س)؟ والألف والنون في آخره زائدتان، لا يجوزُ فيه غيرُ هذا ألبتَّةَ، إذ ليس في كلامهم أَنْسَنَ (1) حتى يكونَ إنْسَانٌ إفعالًا منه، ولا يجوزُ أن يكون الألفُ والنونُ في أوَّله زائدتينِ، إذ ليس في كلامهم “انْفَعْلٌ” فيتعيَّن أنه “فِعْلانٌ” من الإنس، ولو كان مشتقًّا من (نَسِيَ) لكان نِسْيانًا لا إنسانًا.
فإن قلت: فهلاَّ جعلته “إفْعِلالًا”، وأصله: إِنْسِيَان كـ “ليلة إِضْحِيَان”، ثم حذفتَ الياء تخفيفًا فصار إنسانًا؟
قلت: يأبى ذلك: عدمُ “إفْعِلال” فى كلامهم، وحذفُ الياء بغير سبب، ودعوى ما لا نظير له، وذلك كلُّه فاسد، على أن (الناس) قد قيلَ: إن أصله (الأُنَاسُ) فحُذفت الهمزة، فقيل: (النَّاسُ)، واستدل يقول الشاعر (2):
إنَّ المَنَايا يَطَّلِعْـ … نَ على الأُنَاسِ الغَافِلينا
ولا ريب أن (أُناسًا) فُعَالٌ، ولا يجوزُ فيه غير ذلك ألبَتَّةَ، فإن
__________
(1) (ق وظ ود): “أنس”.
(2) هو: ذو جدن الحميري، انظر: “الخزانة”: (2/ 280)، و”الخصائص”: (3/ 151) وفيها: “الآمنينا”.
(2/806)
كان أصلُ ناس أُناسًا (1)، فهو أقوى الأدلة على أنه من (أن س) ويكون الناسُ كالإنسان سواء في الاشتقاق، ويكون وزن ناس على هذا القول: (عال)؛ لأن المحذوفَ فاؤهُ، وعلى القول الأول يكونُ وزنه: “فَعْلٌ”؛ لأنه من النَّوْس، وعلى القول الضعيف يكون وزنه “فَلْع”، لأنه من (نَسِي)، فقلبت لامُه إلى موضع العين فصار ناسًا ووزنه “فَلْعًا”.
والمقصودُ أن الناسَ اسم لبني آدم، فلا يدخلُ الجنُ في مسمَّاهم، فلا يِصحُّ أن يكونَ {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} بيانًا لقوله: {فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)} هذا واضحٌ لا خفاءَ به.
فإن قيل: لا محذورَ فى ذلك، فقد أُطْلِق على الجن اسم الرجال، كما في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 6] فإذا أطلق عليهم اسم الرجال، لم يمتنع أن يُطْلَق عليهم اسم الناس.
قلت؛ هذا هو الذي غَرَّ من قال: إن الناس اسم للجن والإنس في هذه الآية. وجواب ذلك: أن اسم الرجال إنما وقع عليهم وقوعًا مقيَّدًا في مقابلة ذكر الرجال من الإنس، ولا يلزمُ من هذا أن يقعَ اسمُ الناس والرجال عليهم مطلقًا، وأنت إذا قلت: “إنسانٌ من حجارة”، أو “رجلٌ من خشب”، ونحو ذلك، لم يلزمْ من ذلك وقوع اسم الرجل والإنسان عند الإطلاق على الحجر والخشب.
وأيضًا: فلا يلزمُ من إطلاق اسم الرجل على الجنِّي أن يُطلقَ عليه اسم الناس، وذلك لأن الناسَ والجِنَّةَ متقابلان، وكذلك الإنس
__________
(1) (ع وظ ود): “إنسانا”.
(2/807)
والجن، فالله تعالى يقابلُ بين اللفظين، كقوله: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الرحمن: 33] وهو كثير في القرآن، وكذلك قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} (1) [الناس: 6] يقتضي أنهما متقابلان، فلا يدخلُ أحدُهما في الآخر، بخلاف الرجال والجنِّ فإنهما لم يستعملا متقابلينِ، فلا: يقال: الجنُّ والرجال، كما يقال: الجن والإنس، وحينئذٍ فالآية أبْيَنُ حُجَّةٍ عليهَم في أن الجنِّ لا يدخلون في لفظ الناس؛ لأنه قَابَلَ بين الجنة والناس، فعُلِم أن أحدَهما لا يدخلُ فِي الآخر، فالصَّواب القولُ الثاني، وهو أن قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} بيان للذي يوسوسُ، وأنهما نوعان: إنسٌ وجنٌّ، فالجِنِّيُّ يوسْوِسُ في صدور الإنس، والإنسي أيضًا يوسوسُ إلى الإنسي.
فالموسوِسُ نوعان: إنسٌ وجنٌّ، فإن الوسوسة هي الإلقاءُ الخفيُّ في القلب، وهذا مشترك بين الجن والإنس، وإن كان إلقاءُ الإنسي ووسوسته إنما هي بواسطة الأُذُن، والجِنِّيُّ لا يحتاج إلى تلك الواسطة؛ لأنه يدخل فِي ابن آدمْ ويجري منه مجرى الدم.
على أن الجنيَّ قد يتمثَّلُ له ويوسوسُ إليه في أذنه كالإنسيِّ، كما: في “البخاري” عن عُرْوَةَ، عن عائشة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “إِنَّ المَلائِكةَ تُحَدِّثُ فِي العَنَانِ، -والعَنَانُ: الغَمَامُ- بالأمْرِ يَكُونُ فِي الأرْضِ، فَتَسْتَمعُ الشَّيَاطينُ الكَلِمَةَ فَتَقُرُّها فِي أُذُنِ الكَاهِنِ كَمَا تَقُرُّ القَارُورَةُ فَيَريدُونَ مَعَها مِائَةَ كَذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أنْفُسِهِمْ” (2) فهذه وسوسة وإلقاء من الشيطان بواسطة الأذن.
__________
(1) من قوله: “وهو كثير … ” إلى هنا ساقط من (ع).
(2) أخرجه البخارى رقم (3210 و 3288)، ومسلم رقم (2228). وقوله: “من عند أنفسهم” ليست في (ق وع).
(2/808)
ونظير اشتراكهما في هذه الوسوسة اشتراكُهما في الوحي الشيطاني قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112] فالشيطانُ يوحي إلى الإنسي باطلَه، ويوحيه الإنسيُّ إلى إِنسي مثلِه، فشياطين الإنس والجن (1) تشترك في الوحي الشيطاني وتشترك فى الوسوسة، وعلى هذا فتزولُ تلك الإشكالات والتعسفات التي ارتكبها أصحابُ القول الأول.
وتدلُّ الآيةُ على الاستعاذة من شرِّ نوعي الشياطين: شياطين الإنس والجن. وعلى القول الأول (2) إنما تكون الاستعاذةُ من شرِّ شياطين الجن فقط، فتأمله فإنه بديعٌ جدًّا.
فهذا ما منَّ الله به من الكلام على بعض أسرار هاتين السورتين، وله الحمد والمنّة، وعسى أن يساعد بتفسير على هذا النَّمَط، فما ذلك على الله بعزيز، والحمد لله رب العالمين، ونختم الكلام على السورتين بذكر:
قاعدةٍ نافعةٍ
فيما يعتصمُ به العبدُ من الشيطان ويستدفعُ به شره ويحترز به منه
وذلك في عشرة أسباب:
أحدها: الاستعاذة بالله من الشيطان، قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} [فصلت: 36]،
__________
(1) من قوله: “يوحي بعضهم … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(2) قوله: “وتدل الآية … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(2/809)
وفي موضع آخر: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)} (1) [الأعراف: 200]، وقد تقدم أن السمع المراد به هاهنا سمع الإجابة لا مجرد السمع العام.
وتأمل سرَّ القرآن الكريم كيف أكَّدَ الوصفَ بالسميع العليم بذكر صيغة “هو”: الدَّالِّ على تأكيد النسبة واختصاصها، وعرَّفْ الوصف بالألف واللام في سورة (حم) لاقتضاء المقام لهذا التأكيد، وتركَه في سورة (الأعراف) لاستغناء المقام عنه، فإن الأمر بالاستعاذة في سورة (حم) وقع بعد الأمر بأشقِّ الأشياءِ على النفس، وهو مقابلةُ إساءة المسيءِ بالإحسان إليه، وهذا أمرٌ لا يقدرُ عليه إلا الصابرونَ، ولا يُلَقَّاه إلا ذو حَظٍّ عظيم، كما قال الله تعالى.
والشيطانُ لا يدعُ العبدَ يفعل هذا، بل يُرِيه أن هذا ذُلٌّ وعَجْزٌ، ويسلِّطُ عليه عَدُوَّهُ، فيدعوه إلى الانتقام ويُزَيِّنُه له، فإن عَجَزَ عنه دعاه إلى الإعراض عنه، وأن لا يسيءَ إليه ولا يُحْسِنَ، فلا يُؤثِر الإحسانَ إلى المسيء إلا من خالفَه وآثَر الله تعالى وما عندَهُ على حظِّه العاجل، فكان المقام مَقام تأكيد وتحريض، فقال فِيه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)}.
وأما في سورة (الأعراف) فإنه أمره أن يُعْرِضَ عن الجاهلين، وليسَ فيها الأمر بمقابلة إساءتهم بالإحسان بل بالإعراض، وهذا سهلٌ على النُّفوس غير مُسْتعصٍ (2) عليها، فليس حرصُ الشيطان وسعيُه في دفع هذا كحرصه على دفع المقابلة بالإحسان، فقال: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ
__________
(1) في (ق) تقدمت هذه الآية على التي قبلها.
(2) (ق): “مستصعبٍ”.
(2/810)
الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)}، وقد تقدَّم (1) ذكرُ الفرق بين هذين الموضعين، وبين قوله في (حم) المؤمن: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)} [غافر: 56].
وفي “صحيح البخاري” عن عَدِيِّ بن ثابت، عن سليمان بن صُرَد قال: كنت جالسًا مع النبي – صلى الله عليه وسلم – ورجلان يَسْتَبَّان، فأحدُهما احمرَّ وجهُه وانتفخت أوداجُهُ، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “أني لأعْلَمُ كَلِمَةً لو قَالَها ذَهَبَ عنهُ ما يَجِدُ، لو قَالَ أعوذ باللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ذَهَبَ عنهُ ما يَجِدُ” (2).
الحرز الثاني: قراءةُ هاتين السورتين، فإن لهما تأثيرًا عجيبًا في الاستعاذة بالله تعالى من شره ودفعه والتحصن منه، ولهذا قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “أما تَعَوَّذَ المُتَعَوَّذُونَ بمِثْلِهِمَا” (3)، وقد تقدم أنه كان يتعوَّذ بهما كلَّ ليلة عند النوم (4)، وأمرَ عقبة أن يقرأ بهما دبر كل صلاة (5).
وتقدم قوله – صلى الله عليه وسلم -: “إنَّ مَنْ قَرَأَهُما مَعَ سُورَةِ الإخْلاصِ ثَلاثًا حِينَ يُمْسِي وثَلاثًا حِينَ يُصْبحُ كَفَتْهُ مِنْ كُلِّ شَيءٍ” (6).
الحرز الثالث: قراءةُ آية الكرسي: ففي “الصحيح” من حديث محمد بن سِيرين، عن أبى هريرة قال: وَكَّلَني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بحفظ زكاة رمضان، فأتى آتٍ فجعلَ يحثُو من الطَّعام فأخذتُهُ
__________
(1) 2/ 765.
(2) أخرجه البخاري رقم (3282)، ومسلم رقم (2610) من حديث سليمان بن صُرَد -رضي الله عنه-. وقوله: “الرجيم” من (ق) فقط.
(3) تقدم 2/ 699.
(4) تقدم 2/ 700.
(5) تقدم 2/ 699.
(6) تقدم ص/ 700. ووقع في (ع): “من كل سوء”.
(2/811)
فقلت: لأرْفَعَنَّكَ إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فذكر الحديث … ففال: إذا أويتَ إلى فراشِكَ فاقرأْ آيةَ الكرسي، فإنه (1) لن يزالَ عليكَ مِنَ اللهِ حافظٌ، ولا يَقْرَبُكَ شيطانٌ حتى تُصْبِحَ، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “صَدَقَكَ، وَهو كَذُوبٌ، ذَاكَ الشَّيْطَانُ” (2).
وسنذكر -إن شاء الله تعالى- السرَّ الذي لأجله كان لهذه الآية العظيمة هذا التأثير العظيم في التحرز من الشيطان واعتصام قارئها بها في كلام مفرد عليها وعلى أسرارها وكنوزها بعون الله تعالى وتأييده.
الحرز الرابع: قراءةُ سورة البقرة، ففي الصحيح من حديث سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “لا تَجْعَلُوا: بُيُوتَكُم قُبُورًا، وإنَّ البَيْتَ الذي تُقْرَأُ فيه البَقَرَةُ لا يَدْخلُهُ الشّيْطَانُ” (3).
الحرز الخامس: خاتمة سورة البقرة، فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي مسعود (4) الأنصاري قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “مَنْ قرَأ الآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ في لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ” (5).
وفي الترمذي عن النُّعمان بن بَشير عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “إنَّ الله كتَبَ كتَابًا قبل أن يَخْلُقَ الخَلْقَ بألفي عام، أنْزَلَ منه آيتَيْن خَتَمَ بهما سُورَةَ البقَرَةِ، فَلا يقْرَآنِ في دارٍ ثَلاثَ ليَالٍ فيقْرَبَهَا شَيْطَانٌ” (6).
__________
(1) من (ق).
(2) أخرجه البخاري رقم (2311) معلقًا مجزومًا به.
(3) أخرجه مسلم رقم (780) بنحوه. ووقع في (ظ ود): “من حديث سهل عن عبد الله عن … “.
(4) (ظ ود): “أبي موسى” وهو خطأ.
(5) أخرجه البخاري رقم (4008)، ومسلم رقم (807 و 808).
(6) أخرجه أحمد: (30/ 363 رقم 18414)، والترمذي رقم (2882)، والنسائي =
(2/812)
الحرز السادس: أول سورة (حم) المؤمن إلى قوله تعالى: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)} مع آية الكرسي: ففي الترمذي من حديث عبد الرحمن ابن أبي بكر ابن أبي مُلَيْكَةَ (1)، عن زُرَارةَ بن مُصْعَب، عن أبي سَلَمَةَ، عن أبي هريرة قال: “قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “مَنْ قَرَأَ حم المُؤمنَ إلى: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)} وآيَةَ الكُرْسِيّ حِينَ يصْبحُ حُفِظَ بهما حَتَّى يُمْسِيَ، وَمَنْ قَرَأهُما حِينَ يُمْسِي حُفظَ بِهِمَا حَتَّى يُصْبحَ” (2). وعبد الرحمن المُليْكيُّ وإن كان قدْ تكُلِّمَ فيه من قبل حفظه، فالحديث له شواهد في قراءة آية الكرسي، وهو محتمل على غرابته.
الحرز السابع: “لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير” مائةَ مرَّة، ففي “الصحيحين” (3) من حديث سُمَيٍّ مولى أبي بكر، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “مَنْ قَالَ لا إلهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مائةَ مَرَّةٍ كانَتْ لَهُ عِدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وكُتِبَتْ لَهُ مِئة حَسَنةٍ، وَمحِيَتْ عَنْهُ مِئَةُ سَيِّئَةٍ، وكانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيطانِ يَوْمَهُ ذلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ
__________
= في “عمل اليوم والليلة” رقم (967)، والحاكم: (1/ 562) وغيرهم.
والحديث صحَّحه ابن حبان والحاكم، وقال الترمذي: “حسن غريب”.
(1) (ظ ود): “ابن أبي ليلى”! وهو خطأ.
(2) أخرجه الترمذي رقم (2879) وقال: “حديث غريب، وقد تكلم بعض أهل العلم في عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي من قِبَل حفظه … “.
ورواه الدارقطني في غرائب مالك -كما في “اللسان”: (1/ 44) – من حديث ابن عمر، وقال: هو باطل.
(3) أخرجه البخاري رقم (3293)، ومسلم رقم (2691).
(2/813)
إلاّ رَجُلٌ (1) عَمِلَ أكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ”. فهذا حِرْز عظيم: النفع، جليل الفائدة، يسير سَهْل على من يسره الله تعالى عليه.
الحرز الثامن: -وهو من أنفع الحُروز من الشيطان- كثرةُ ذكر الله عز وجلّ، ففي التِّرمذي من حديث الحارث الأشعري أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “إنَّ اللهَ أمَرَ يَحْيَى بنَ زَكَريّا بخَمْسِ كلِمَاتٍ أنْ يَعْمَلَ بِها وَيأْمُرَ بنَي إِسْرَائِيلَ أنْ يَعْمَلُوا بِها، وَإنَّهُ كادَ يُبْطِئَ بِها، فَقَالَ عِيسَى: إنَّ اللهَ أمَرَكَ بِخَمْسِ كلمَاتٍ لِتَعْمَلَ بِها وتَأْمُرَ بنِي إِسْرائيلَ أن يَعْمَلُوا بِهَا، فإمَّا أنْ يأْمرَهُمْ وَإِمّا أَنْ آمرَهُمْ.
فَقَالَ يَحْيَى: أخْشَى إِنْ سَبقَتَني بِهَاْ أنْ يخْسَفَ بي، أوْ أُعَذَّبَ، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي بيْتِ المَقْدِسِ فامْتَلأ وَقَعَدُوا عَلَى الشُّرَفِ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ أمَرَنِي بخمْسِ كَلِمَاتٍ أنْ أعْمَلَ بِهِنَّ وَأمَرَكُمْ أن تَعَمَلُوا بِهِنَّ: أوَّلُهنَّ أنْ تَعبدوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بهِ شَيْئًا وَإِنَّ مَثَلَ مَنْ أشْرَكَ بِالله, كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بذْهَبٍ أوْ وَرِقٍ فَقَالَ: هَذِهِ دَارِي، وَهَذا عَمَلِي وَأدِّ إِليّ، فَكَانَ يَعْمَل ويُؤَدِّي إِلى غَيْرِ سَيِّدِهِ، فَأَيُّكُمْ يَرْضَى أنْ يكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِك؟.
وَإِنَّ اللهَ أمَرَكُمْ بالصَّلاةِ، فَإذَا صَلَّيتُمْ فَلا تَلْتَفِتُوا فَإنَّ اللهَ يَنْصُبُ وجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلاتِهِ مَا لمْ يَلْتَفِتْ.
وَأمَرَكمْ بالصِّيَام، فَإِنَّ مَثَلَ ذلِكَ كمَثلِ رَجُلٍ فِي عِصَابةٍ مَعَهُ صُرَّةٌ فِيهَا مِسْكٌ، فَكُلُّهُمَ يَعْجَبُ أو يُعْجِبُه رِيحُهَا، وَإنَّ رِيحَ الصَّائِم أطْيبُ عِنْ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ.
__________
(1) (ع وق): “أحد”.
(2/814)
وَأمَرَكُمْ بِالصَّدَقَةِ، فَإنَّ مثَلَ ذَلِكَ كَمَثل رَجُلٍ أسَرَهُ العَدُوُّ فَأَوْثَقُوا يَدَهُ إلَى عُنُقِهِ وَقَدَّمُوهُ لِيَضْرِبوا عُنُقَه فَقَالَ: أنَا أفْدِيهِ مِنكُمْ بالقَلِيل وَالكَثِيرِ فَفَدَى نَفْسَهُ مِنهمْ.
وأمَرَكُمْ أنْ تَذْكُرُوا اللهَ، فإن مَثلَ ذلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ العَدُوُّ في أثَرِهِ سِرَاعًا، حَتّى أتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفسَهُ مِنهمْ كَذَلِكَ العَبْدُ لا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إلاّ بِذِكرِ الله”.
قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “وَأنَا آمُرُكُمْ بخَمْسٍ اللهُ أمَرَنِي بِهِنَّ، السَّمْعِ، والطَّاعَةِ، والجِهَادِ, والهِجْرَةِ، والجَمَاعَةِ، فإنَّ مَنْ فارَقَ الجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فقد خَلَعَ رِبْقَةَ الإسلام مِنْ عُنُقِهِ إلاّ أنْ يُراجِعَ، وَمَنِ ادَّعَى دَعْوَى الجَاهِليَّة فَإنَّهُ مِنْ جُثَى جَهَنمَ”، فقالَ رجل: يا رسول الله: وإنْ صَلَّى وَصَامَ؟ قال: “وَإنْ صَلَّى وَصَامَ، فَادْعُوا بدَعْوَى اللهِ الَّذِي سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ المؤمنِينَ عِبادَ اللهِ” (1).
قال الترمذي: “هذا حديثٌ حسن غريب صحيح”. وقال البخاري: الحارثُ الأشْعَرِيُّ له صحبة وله غير هذا الحديث.
فقد أخبر النَّبيُّ – صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث أن العبدَ لا يحرزُ نفسَه من الشيطان إلا بذكر الله، وهذا بعينه هو الذي دلَّت عليه سورةُ
__________
(1) أخرجه أحمد: (28/ 404 رقم 17170)، والترمذي رقم (2863)، وابن خزيمة رقم (1895)، وابن حبان “الإحسان”: (14/ 124)، والحاكم: (1/ 421)، وغيرهم.
قال الترمذي: “هذا حديث حسن صحيح غريب” ثم ذكر كلام البخاري الذي نقله المصنف. وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم.
ووقع في (ع،: “رِبَق” على الجمع، والجُثا: جمع جُثوة بضم الجيم وهو الشيء المجموع. انظر “النهاية فى غريب الحديث”: (1/ 239).
(2/815)
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)}، فإنه وصف الشيطانَ فيها بأنه الخناس، والخَنَّاسُ (1) الذي إذا ذكر العبدُ اللهَ انخنسَ وتجمَّعَ وانقَبَضَ، وإذا غَفَل عن ذكر الله التقم القلب، وألقى إليه الوساوسَ التي هي مبادئ الشَّرِّ كُلِّه، فما أحرزَ العبدُ نفسَهُ من الشَّيطان بمثل ذكر الله عز وجل.
الحرز التاسع: الوضوء والصلاة: وهذا من أعظم ما يتحرَّز به منه, ولا سيَّما عند ثَوَران (2) قوَّة الغضب والشهوة، فإنها نارٌ تغلي في قلب ابن آدم، كما في الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “أَلا وإنَّ الغَضَبَ جَمْرَةٌ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، أَمَا رَأيْتُمْ إلَى حُمْرَةِ عَيْنيهِ وانْتِفَاخِ أوْداجِهِ، فَمَنْ أحَسَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَلْصَقْ بِالأرْضِ” (3).
وفي أثر آخر: “إنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنْ نَارٍ، وإنَّمَا تُطْفَأْ النَّارُ بالمَاءِ” (4)، فما أطفأْ (5) العبدُ جمرةَ الغضب والشهوة بمثل الوضوء والصلاةَ، فإنها نارٌ والوضوء يُطفِئُها، والصَّلاةُ إذا وقعت بخشوعها والإقبال فيها على الله أذهبت أثَرَ ذلك كُلِّه، وهذا أمرٌ تجرِبته تُغْني عن إقامة الدليل عليه.
الحرز العاشر: إمساكُ فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة
__________
(1) (ظ ود): “الخانس”.
(2) (ظ ود): “توارد”.
(3) أخرجه أحمد: (18/ 132 رقم 11587)، والترمذي رقم (2191)، وغيرهم قال الترمذي: “حسن” -كما في “تحفة الأشراف” (3/ 468) – لكن فيه: علي ابن زيد بن جدعان فيه ضَعْف.
(4) أخرجه أحمد: (29/ 505 رقم 17985)، وأبو داود رقم (4784) وغيرهم من حديث عطية السعدي -رضي الله عنه-.
وفي سنده ضعف.
(5) (ق وظ ود): “طغى”.
(2/816)
الناس، فإنَّ الشيطانَ إنما يتسلَّطُ على ابن آدَمَ وينالُ منه غَرَضهُ من هذه الأبواب الأربعة، فإن فضولَ النظر يدعوه إلى الاستحسانِ، ووقوع صورةِ المنظور إليه في القلب، والاشتغالِ به، والفكرةِ في الظَّفَرِ به، فمبدأُ الفتنة من فضول النظر، كما في “المسند” عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “النَّظْرَةُ سَهْمٌ مَسْمُوٌم مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ، فَمَنْ غَضَّ بَصَرَهُ للهِ أوْرَثَهُ اللهُ حَلاوَةً يَجِدُها في قَلْبهِ إلى يَوْمِ يَلْقَاهُ” (1)، أو كما قال – صلى الله عليه وسلم -. فالحوادث العِظَام إنما كلُّها من (2) فضول النظر، فكم نظرة أعقبت حَسَرات لا حَسْرة، كما قال الشاعر (3):
كلُّ الحوادثِ مَبْدَاها من النَّظَرِ … ومُعْظمُ النَّار من مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ
كم نظرةٍ فَتَكَتْ في قلب صاحِبها … فَتْكَ السِّهام بلا قَوْس ولا وَتَرِ
وقال الآخر (4):
وكنتَ متى أرسلتَ طَرْفَكَ رائدًا … لقلبِكَ يومًا أتعبتْكَ المناظرُ
__________
(1) أخرجه الحاكم: (4/ 313)، والقضاعي في “مسند الشهاب”: (1/ 195) من حديث حذيفة -رضي الله عنه-. ولم أجده في “المسند” بهذا اللفظ، ولكن فيه (5/ 264) من حديث أبي أمامة بإسناد ضعيف ما يوافق شطره الأخير.
وصححه الحاكم، وتعقبه المنذري في “الترغيب: 3/ 23” بأن فيه عبد الرحمن ابن إسحاق الواسطي واهٍ.
وأخرجه الطبراني في “الكبير”: (10/ 173) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- وضعفه الهيثمي في “المجمع”: (8/ 66).
(2) “إنما كلها من” ليست في (ظ ود) ووقع في (ع): “جعلها” بدلًا من “كلها”.
(3) ذكره المؤلف في “روضة المحبين”: (ص / 97)، و”الداء والدواء”: (ص / 224) بلا نسبة مع زيادة بيتين.
وقد وقع في ترتيب الأبيات وقائليها اضطراب في نسخة (ع).
(4) البيتان بلا نسبة في “حماسة أبي تمام”: (2/ 15)، وذكرها المؤلف في “روضة المحبين”: (ص/97) على لسان جارية في حكاية للأصمعي.
(2/817)
رأيتَ الذي لا كلُّه أنت قادرٌ … عليه ولا عن بعضِهِ أنتَ صابِرُ
وقال المتنبي (1):
وأنا الذي اجْتَلَبَ المَنِيَّةَ طَرْفُةُ … فمَنِ المُطَالبُ والقَتِيلُ القَاتِلُ
ولي من أبيات (2):
يا راميًا بسِهام اللَّحظ مجتهدًا … أنت القتيلُ بما تَرْمي فلا تُصِبِ
وباعثَ الطَّرْف يرتادُ الشِّفَاءَ له … توَفِّه إنَّه يَرْتَدُّ بالعَطَبِ
ترجو الشفاءَ بأحداقٍ بها مَرَضٌ … فهل سمعت ببُرْءٍ جاءَ من عَطَبِ
ومُفْنِيًا نفسَه في إثْرِ أقبحِهِمْ … وصفًا للطخ جمال فيه مستلبِ
وواهبًا عُمْرَه في مثل ذا سفهًا … لو كنتَ تعرفُ قدْر العمر لم تَهَبِ (3)
وبائعًا طيبَ عيشٍ ما له خَطَرٌ … بطيْف عيش من الآلام منتهبِ
غُبِنْتَ واللهِ غُبْنًا فاحشًا فلو اسـ … ـتَرْجَعْتَ ذا العقدَ لم تُغْبَنْ ولم تَخبِ
وواردًا صفوَ عيش كلُّه كَدَرٌ .. أمامَكُ الوِرْدُ صفوًا ليس بالكذب
وحاطبَ اللَّيلِ في الظَّلماء منتصبًا … لكلِّ داهيةٍ تُدْني من العَطَب
شاب الصِّبا والتَّصابي بَعْدُ لم يَشِبِ … وضاعَ وقتُك بين اللَّهوِ واللَّعِبِ
وشمسُ عمرك قد حان الغروبُ لها … والفيء في الأفق الشرقيِّ لم يغبِ
وفاز بالوصلِ من قد فازَ وانْقشعَتْ … عن أفقه ظُلُماتُ اللَّيلِ والسُّحُب
__________
(1) “ديوانه -مع الشرح المنسوب للعكبري”: (3/ 250).
(2) ذكرها المؤلف في “الفوائد”: (ص/ 145 – 146) دون الأول، مع اختلاف في بعضها، وذكر منها بيتين في “الروضة”: (ص/ 97) معزوَّة إليه.
(3) هذا البيت وما قبله متأخران في (ق) على قوله: “وبائعًا طيب … “.
(2/818)
كم ذا التخلف والدنيا قد ارتحلتْ … ورسْلُ ربِّك قد وافتْكَ في الطَّلَبِ
ما في الديار وقد سارتْ ركائِبُ مَنْ … تهواه للصَّبِّ من سكنى ولا أَرَبِ
فأَفْرِش الخدَّ ذيَّاك التُّرَابَ وقل … ما قاله صاحبُ الأشواق في الحِقَبِ
ما رَبْعُ مَيَّةَ محفوفًا يطيف به … غَيْلان أشهى له من رَبْعِكَ الخرِب
ولا الخدودُ وإن أُدْمِينَ من ضَرَج … أشهى إلى ناظرِي من خدِّكَ التَّرِبِ (1)
منازلًا كان يهواها ويألفُها … أيامَ كان منالُ (2) الوصل عن كَثَبِ
وكلما جليت تلك الرُّبوعُ له … يهوي إليها هُوِيَّ الماءِ في صَبَبِ
أحيا له الشَّوْقُ تَذْكارَ العهودِ بها … فلو دعا القلبُ للسُّلْوانِ لم يُجِبِ
هذا وكم منزلٍ في الأرض يألفُهُ … وما له في سواها الدَّهْرَ مِنْ رَغَبِ
ما في الخيام أخو وجدٍ يريحُك إن … بَثَثْتَهُ بعضَ شأن الحبِّ فاغتربِ
وأَسْرِ في غَمَرَات الليلِ مهتديًا … بنفحةِ الطِّيب لا بالنَّار والحَطَبِ
وعادِ كلَّ أخي جُبْن ومَعْجَزَةٍ … وحارب النفسَ لا تُلْقِيكَ في الحَرَبِ
وخذ لنفسِكَ نورًا تستضيءُ به … يوم اقتسام الورى الأنوارَ بالرُّتَبِ
فالجسرُ ذو ظلماتٍ ليسَ تقطعُهُ … إلا بنور يُنَجِّي العبدَ في الكُرَبِ
والمقصود أن فضول النظر أصل البلاء (3).
وأما فضول الكلام؛ فإنها تفتحُ للعبدِ أبوابًا من الشر، كلها مداخل
__________
(1) هذا والذي قبله لأبي تمام “ديوانه”: (1/ 99) ضمَّنهما المؤلف.
(2) (ظ ود): “مناك”.
(3) (ق): “كل بلاء”.
(2/819)
للشيطان، فإمساك فضول الكلام يسُدُّ عنه تلك الأبوابَ كلَّها، وكم منْ حرب جرَّتها كلمةٌ واحدة، وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لمعاذ: “وَهَلْ يكُبُّ النّاسَ عَلَي مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ إلَّا حَصَائِدُ ألْسِنتَهِمْ” (1). وفي التِّرمذي أن رجلًا من الأنصار توفي فقال بعض الصحابة: طوبى له، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “فَمَا يُدْرِيكَ فَلَعَلَّهُ تَكَلَّمَ بِمَا لا يَعْنِيهِ، أَوْ بَخلَ بِمَا لا يَنْقُصُهُ” (2).
وأكثر المعاصي إنما تولدها من فضول الكلام والنظر، وهما أوسعُ مداخل الشيطان، فإن جارحتيهما لا يَمَلَّانِ ولا يسأمان، بخلاف شَهْوة البطن، فإنه إذا امتلأ لم يَبْقَ فيه إرادةٌ للطعام، وأما العين واللِّسان فلو تُرِكا لم يفتُرا من النظر والكلام، فجنايتُهما مُتَّسِعَةُ الأطراف، كثيرةُ الشُّعَبِ، عظيمةُ الآفات، وكان السلف يحذِّرون من فضول النظر، كما يحَذِّرون من فضول الكلام (3)، وكانوا يقولون: “ما شيءٌ أحوجَ إلى طول السَّجن من اللِّسانٍ” (4).
وأما فضولُ الطعام، فهو داعٍ إلى أنواع كثيرة من الشَرِّ، فإنه يحَرِّكُ الجوارحَ إلى المعاصي، ويثقلُها عن الطاعات، وحسبُك بهذين شرًّا! فكم مِنْ مَعصيةٍ جلبها الشبعُ وفضولُ الطعام، وكم من طاعة حال
__________
(1) أخرجه أحمد: (5/ 231)، والترمذي رقم (2616)، وابن ماجه رقم (3973)، والحاكم: (2/ 413) وغيرهم.
قال الترمذي: “هذا حديث حسن صحيح”، وصححه الحاكم.
(2) أخرجه الترمذي رقم: (2316)، وأبو نعيم في “الحلية”: (5/ 56) من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-، وقال الترمذي: “غريب” مشيرًا إلى ضعفه.
(3) “كما يحذرون عن فضول الكلام” ليست في (ظ ود).
(4) جاء هذا عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أخرجه هنَّاد في “الزهد”: (2/ 532)، والطبراني في “الكبير”: (9/ 149)، وأبو نعيم في “الحلية”: (1/ 134).
(2/820)
دونها، فمن وقِيَ شرَّ بطْنِهِ فقد وُقِيَ شرًّا عظيمًا، والشيطانُ أعظمُ ما يتحكَّم من الإنسان إذا مَلأَ بطنَه من الطعام، ولهذا جاء في بعض الآثار: “ضَيِّقوا مجارِيَ الشيطان بالصَّوْم”، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ” (1)، ولو لم يكَنْ في التملِّي من الطَّعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله عز وجل، وإذا غَفَل القلبُ عن الذكر ساعةً واحدةً جثم عليه الشيطانُ ووعدَهُ ومنَّاه وشهَّاه، وهام به في كل وادٍ، فإن النفسَ إذا شبعتْ تَحَرَّكَتْ وجالت وطافت على أبواب الشَّهَوَاتِ، وإذا جاعت سكنت وخشعت وذلت.
وأما فضولُ المخالطةِ؛ فهي الدّاء العُضَالُ الجالبُ لكلِّ شرٍّ، وكم سلبت المخالطةُ والمعاشرةُ من نعمة، وكم زرعتْ من عداوة، وكم غرستْ في القلب من حَزَازات، تزولُ الجبالُ الراسيات وهي في القلوب لا تزول، ففضول المخالطة فيه خسارة الدنيا والآخرة، وإنما ينبغي للعبد أن يأخذَ من المخالطة (2) بمقدار الحاجة، ويجعلَ الناسَ فيها أربعةَ أقسام، متى خلط أحدَ الأقسام بالآخر، ولم يميِّزْ بينهما دخل عليه الشر:
أحدهما: مَنْ مخالَطَتُهُ كالغذاء لا يُستغنى عنه في اليوم واللَّيلةِ، فإذا أخذ حاجَتَهُ منه ترك الخلطة (3)، ثم إذا احتاجَ إليه خالطه
__________
(1) أخرجه أحمد: (28/ 424 رقم 17187)، والترمذي رقم (2380)، وابن ماجه رقم (3349)، والحاكم: (4/ 331)، وابن حبان “الإحسان”: (12/ 41) وغيرهم من حديث المقدام بن معدي كَرِب، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم، وحسَّنه الحافظ في “الفتح”: (9/ 438).
(2) من قوله: “فيه خسارة … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(3) (ع): “المخالطة”.
(2/821)
هكذا على الدّوام، وهذا الضَّرْبُ أعزُّ من الكبريت الأحمر، وهم العلماء بالله وأمره ومكايد عدوه، وأمراض القلوب وأدويتها، الناصحون لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولخلقه، فهذا الضَّرْبُ في مخالطتهم الربحُ كلُّه.
القسم الثاني: مَنْ مخالطتهُ كالدَّواء يُحْتَاجُ إليهْ عندَ المرضِ، فما دمتَ صحيحًا فلا حاجةَ لك في خلطته، وهم مَنْ لا يُسْتغنى عن مخالطتهم في مصلحة المعاش، وقيام ما أنت محتاج إليه من أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة والعلاج للأدواء ونحوها، فإذا قضيتَ حاجَتك من مخالطة هذا الضَّرْب بقيَتْ مخالَطَتُهم من:
القسم الثالث: وهم مَنْ مخالطته كالدَّاء على اختلاف مراتبه وأنواعه، وقوته وضعفه، فمنهم من مخالطته كالدَّاء العُضَال، والمرض المزمن، وهو من لا تربحُ عليه في دين ولا دنيا، ومع ذلك فلا بدَّ من أن تخسرَ عليه الدِّين والدنيا أو أحدهما، فهذا إذا تمكَّنَت مخالطتُه واتصلت فهي مرض الموت المَخوْف.
ومنهم: مَنْ مخالطته كوجع الضرس يشتدَّ ضَرَبانه عليك، فإذا فارقَكَ سكن الألمُ.
ومنهم: مَنْ مخالطته حُمَّى الرُّوح وهو الثَّقيلُ البغيضُ العَثِل (1)، الذي لا يُحْسِنُ أن يتكلَّمَ فيفيدَك، ولا يُحسِنُ أن يُنصِتَ فيستفيدَ منك، ولا يعرف نفسَهُ فَيَضَعَها في منزلتها، بل إن تكلم فكلامه كالعِصِيِّ
__________
(1) (ظ ود وق): “العقل”، والمثبت من (ع) والعَثل والعَئِل الكثير من كل شيءٍ، وقد عَثِل عَثَلًا، والعِثْوَلُ من الرجال: الجافي الغليظ، ورجل عِثْول أي: عَيي فدْم ثقيل مُسترخٍ. انظر “اللسان”: (11/ 424).
(2/822)
تنزلُ على قلوب السامعين، مع إعجابه بكلامه، وفرحه به، فهو يُحْدِثُ من فيه كلما تحدَّث, ويظنُّ أنه مِسْكٌ يطيبُ به المجلس، وإن سكت فأثقل من نصف الرَّحَى العظيمة التي لا يُطاق حملُها ولا جَرُّها على الأرض.
ويُذْكر عن الشافعي -رحمه الله- أنه قال: ما جَلَسَ إلى جانبي ثقيلٌ إلا وجدتُ الجانبَ الذي هو فيه أنزلَ من الجانبَ الآخر.
ورأيت يومًا عند شيخنا (1) -قدَّس اللهُ رُوحَه- رجلاً من هذا الضَّرب، والشيخ يحتملُهُ (2)، وقد ضعُفَتِ القوى عن حمله، فالتفتَ إليَّ وقال: مُجالسة الثقيل حمَّى الرِّبْع, ثم قال: لكن قد أدْمَنَتْ أرواحُنا على الحُمَّى, فصارت لها عادةً أو كما قال. وبالجملة؛ فمخالطة كلِّ مخالف حمَّى للرُّوح فعَرَضِيَّه ولازمة.
ومن نكد الدنيا على العبد أن يُبتلى بواحد من هذا الضرب، وليس له بُدُّ من معاشرته ومخالطته، فليعاشرْه بالمعروف حتى يجعلَ الله له فرجًا ومخرجًا.
القسم الرابع: من مخالطته الهُلْكُ كُلُّه، ومخالطته (3) بمنزلة أكل السُّم، فإن اتَّفقَ لآكله ترياقٌ، وإلا فأحسنَ اللهُ فيه العزاءَ, وما أكثرَ هذا الضَّرْبَ في الناس -لا كثَّرهم اللهُ- وهم أهلُ البدع والضلالة، والصَّادُّون عن سُنَّة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، الدّاعون إلى خلافها، الذين يَصُدُّون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا, فيجعلون البدعةَ سُنَّةً،
__________
(1) أي: ابن تيمية.
(2) (ظ ود): “يحمله”.
(3) من قوله: “فليعاشره … ” إلى هنا سقط من (ق).
(2/823)
والسُّنَّةَ بِدْعَةً، والمعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، إن جرَّدت التوحيدَ بينهم قالوا: تنقَّصْتَ جنَابَ الأولياء والصالحين، وإن جَرَّدْتَ المتابعةَ لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – قالوا: أهدرتَ الأئمةَ المتبوعينَ.
وإن وصفت الله بما وصفَ به نفسَه، وبما وصفه به رسولُهْ من غير غُلُوٍّ ولا تقصيرٍ قالوا: أنت من المُشَبِّهين, وإن أَمَرتَ بما أَمَرَ اللهُ به ورسولُه من المعروف ونهيتَ عما نهى الله عنه ورسوله من المنكر، قالوا: أنت من المُفَتِّنِينَ. وإن اتبعتَ السُّنَّة وتركتَ ما خالفها قالوا: أنتَ من أهل البدَع المُضِلِّين. وإن انقطعتَ إلى الله تعالى وخَلَّيْتَ بينهم وبين جيفة الدنيا قالوا: أنتَ من المُلَبِّسِين، وإن تركتَ ما أنتَ عليه، واتبعتَ أهواءَهم فأنت عند الله تعالى من الخاسرينَ، وعندهم من المنافقين.
فالحزمُ كلُّ الحزمِ التماسُ مرضاة الله تعالى ورسوله بإغضابهم، وأن لا تشتغلَ بإعتابهم ولا باستعتابهم، ولا تبالِ بذَمِّهم ولا بُغضهم، فإنه عينُ كَمَالِكَ، كما قال المتنبي (1):.
وإذا أتتكَ مَذَمَّتِي مِنْ ناقصٍ … فهي الشَّهَادَةُ لي بأنيَ كاملُ
وقال آخر (2):
وقد زادني حُبًّا لنفسيَ أنَّني … بغيضٌ إلى كلِّ امْرِئٍ غيرِ طائلِ
فمن كان بوَّابَ قلبه وحارسَه من هذه المداخل الأربعة التي هي
__________
(1) “ديوانه -مع شرحه المنسوب للعكبري”: (3/ 260) – ولم تقع تسمية الشاعر إلا في (ق).
(2) هو: الطِّرِمَّاح الطائي، انظر “حماسة أبي تمام”: (1/ 130).
(2/824)
أصلُ بلاء العالم، وهي فضول النظر والكلام والطعام والمخالطة، واستعملَ ما ذكرناه من الأسباب التسعة التي تحرِّزه من الشيطان؛ فقد أخذ بنصيبه من التوفيق، وسَدَّ على نفسه أبوابَ جهنَّم، وفتح عليها أبواب الرحمة، وانعمر ظاهره وباطنه، ويوشكُ أن يحمَدَ (1) عند الممات عاقبةَ هذا الدواء، فعند الممات يحمَدُ القومُ التُّقى و (في الصباح يحْمَدُ القومُ السُّرَى)، والله الموفق لا ربَّ غيرُهُ، ولا إلهَ سواه.
* * *
__________
(1) (ع): “يجد”.
(2/825)
فصل (1)
قوله عز وجل: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف: 55 – 56].
هاتان الآيتان مشتملتانِ على آداب نوعي الدُّعاء: دعاءِ (2) العبادة ودعاءِ المسألة، فإنَّ الدعاءَ في القرآن يُرادُ به هذا تارة وهذا تارةً، ويرادُ به مجموعهما، وهما متلازمان، فإن دعاءَ المسألة هو طلب ما ينفع الدَّاعيَ، وطلب كشف ما يضرُّه أو دَفْعه (3). وكُلُّ من يملكُ الضُّرَّ والنفع حقًّا (4) فإنه هو المعبودُ حقًّا، والمعبودُ لا بُدَّ وأن يكونَ مالكًا للنفع والضُّرِّ.
ولهذا أنكر اللهُ تعالى على من عَبَدَ من دونِه ما لا يملكُ (5) ضرًّا ولا نفعًا، وذلك كثيرٌ في القرآن، كقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} [يونس: 18]، وقوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} [يونس: 156]، وقوله تعالى: {أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)} [المائدة: 76]، وقوله تعالى: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا
__________
(1) من (ع)، و (ق): “فوائد قوله … “. وهذا الفصل في تفسير الآيتين إلى آخره، منقول من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، مع إضافات يسيرة من المؤلف، انظر “مجموع الفتاوى”: (15/ 10 – 28).
(2) “الدعاء: دعاء” سقط من (ق).
(3) (ع): “يدفعه”.
(4) ليست في (ظ).
(5) (ع): “لا يملك” و (ق): “لا يملك له”.
(3/835)
يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 66 – 67]، وقوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)} [الشعراء: 69 – 73]، وقوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)} [الفرقان: 3]، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)} [الفرقان: 55]، فنفى -سبحانه- عن هؤلاء المعبودين من دونه النفعَ والضرَّ، القاصر والمتعدي، فلا يملكونه لأنفسهم ولا لعابديهم.
وهذا في القرآن كثيرٌ بَيِّن = أن المعبودَ لا بُدَّ أن يكون مالكًا للنَّفع والضُّرِّ، فهو يُدْعَى للنفع والضر دعاءَ المسألة، ويُدعى خوفًا ورجاءً دعاءَ العبادة، فعُلِم أن النوعين متلازمانِ، فكلُّ دعاء عبادة مستلزمٌ لدعاء المسألة، وكلُّ دعاءِ مسألة متضمن لدعاء العبادة، وعلى هذا فقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] يتناول نوعَي الدعاء، وبكلٍّ منهما فُسِّرتْ الآية، قيل: أُعْطِيه إذا سألني، وقيل: أُثِيبه إذا عبدني، والقولان متلازمانِ، وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما، أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، بل هذا استعمالٌ له في حقيقته الواحدة المتضمِّنة للأمرين جميعًا، فتأمَّلْه فإنه موضعٌ عظيم النفع، قَلَّ مَنْ يفطَنُ له.
وأكثر ألفاظ القرآن الدّالَّة على معنيين فصاعدًا هي من هذا القبيل، ومثال ذلك قوله: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78]
(3/836)
فُسِّر الدلوك بالزوال، وفُسِّرَ بالغروب، وحُكيت قولان في كتب التفسير (1)، وليسا بقولين، بل اللفظ يتناولُهُما معًا، فإن الدُّلوكِ هو المَيْل، ودلوكُ الشمس مَيْلُها، ولهذا الميل مَبْدأ ومُنْتَهى، فمبدَؤه الزَّوال ومنتهاه الغُروب، فاللَّفظ متناولٌ لهما بهذا الاعتبار، لا بتناولِ المشتركِ لمعنييه، ولا اللفظ لحقيقته ومجازه.
ومثالُه -أيضًا- ما تقدَّم (2) من تفسير (الغاسق) باللَّيل والقمر، وأن ذلك ليس باختلاف، بل يتناولُهما لتلازمهما، فإنَّ القمرَ آيةُ الليل، ونظائرهُ كثيرةٌ.
ومن ذلك: قوله عز وجل: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرفان: 77]، قيل: لولا دعاؤُكم إياه، وقيل: دعاؤُه (3) إيَّاكم إلى عبادته، فيكون المصدر مضافًا إلى المفعول، وعلى (4) الأول مضافًا إلى الفاعل، وهو الأرجحُ من القولينِ، وعلى هذا فالمُرادُ به نوعا الدعاء، وهو في دعاء العبادة أظهرُ، أي: ما يعبأُ بكم لولا أنكم تعبدونه، وعبادتُهُ تستلزمُ مسألَتَهُ، فالنوعانِ داخلان فيه.
ومن ذلك: قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] فالدعاءُ هاهنا يتضمَّنُ النوعين، وهو في دعاء العبادة أظهرُ، ولهذا عقَّبه بقوله (5): {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)}، وفُسِّر الدعاء في الآية بهذا وبهذا،
__________
(1) انظر “تفسير الطبري”: (8/ 122 – 125).
(2) (2/ 729).
(3) العبارة مضطربة في النسخ، والمثبت من (ع).
(4) (ق وظ ود): “ومحل”.
(5) من قوله: “فالدعاء … ” إلى هنا ساقط من (ع).
(3/837)
وقد روى سفيان، عن منصور، عن ذر، عن يُسَيْع الكِنْدي، عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول على المنبر: “إنَّ الدُّعَاءَ هُوَ العِبادةُ”، ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60] رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وأما قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73]، وقوله: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} [النساء: 117] , وقوله: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ} [فصلت: 48] وكلُّ موضعٍ ذُكِرَ فيه دُعاء المشركين لأصنامِهم وآلهتِهم، فالمُرادُ به دعاءُ العبادةَ المتضمِّن دعاءَ المسألة، فهو في دعاء العبادة أظهرُ لوجوه ثلاثة:
أحدها: أنهم قالوا: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، فاعترفوا بأن دعاءهم إيَّاهم هو عبادتهم لهم.
الثاني: أن الله تعالى فَسَّر هذا الدُّعاء في مواضعَ أُخَرَ بأنه العبادةُ، كقوله: {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)} [الشعراء: 92 – 93]، وقوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]، وقوله: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)} [الكافرون: 1 – 2]، وهو كثير في القرآن، فدعاؤُهم لآلهتهم هو عبادتُهم لها.
__________
(1) أخرجه أبو داود رقم (1479)، والترمذي رقم (2969)، وابن ماجه رقم (3828)، وابن حبان “الإحسان”: (3/ 172)، والحاكم: (1/ 491)، وغيرهم.
قال الترمذي: “حديث حسن صحيح”. وصححه ابن حبان والحاكم، وقال الحافظ في “الفتح”: (1/ 64): “سنده جيِّد”.
(3/838)
الثالث: أنهم إنما كانوا يعبُدُونها ويتقرَّبون بها إلى الله، فإذا جاءتهم الحاجاتُ والكُرباتُ والشدائدُ دَعَوُا اللهَ وحدَه وتركوها، ومع هذا فكانوا يسألونها بعضَ حوائجهم، ويطلبون منها، فكان دعاؤُهم لها دعاءَ عبادةٍ ودعاءَ مسألة.
وقوله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14] هو دعاءُ العبادة، والمعنى: اعبدوه وحدَه وأخلصوا عبادَتَهُ، لا تعبُدوا معه غيرَهُ.
وأما قول إبراهيمَ الخليل – صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)} [إبراهيم: 39] فالمرادُ بالسمع هنا السمع الخاص، وهو سمعُ الإجابة والقبول (1) لا السَّمع العام، لأنه سميعٌ لكلِّ مسموع، وإذا كان كذلك فالدّعاء هنا يتناولُ دعاءَ الثنَّاء (2) ودعاءَ الطَّلَب، وسَمْع الرَّب تبارك وتعالى له إثابته على الثناء، وإجابته للطلب، فهو سميعٌ لهذا ولهذا.
وأما قول زكريا: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)} [مريم: 4] فقد قيل: إنه دعاءُ المسألة، والمعنى: أنك عَوَّدتني إجابتكَ وإسعافَك، ولم تُشْقِني بالرَّدِّ والحِرْمان، فهو توسُّلٌ إليه تعالى بما سلف من إجابته له وإحسانه إليه، كما حُكي أن رجلًا سأل رجلًا وقال: أنا الذي أحسنتَ إليَّ وقْتَ كذا وكذا، فقال: مرحبًا بمَنْ تَوَسَّلَ إلينا بنا، وقضى حاجَتَه (3). وهذا ظاهر هاهنا، ويدلُّ عليه: أنه قدَّم ذلك أمام طلبه الولدَ وجعله وسيلةً إلى ربه، فطلب منه أن يُجْرِيَه على عادته التى عوَّده؛ من قضاء حوائجه وإجابته إلى ما سأله.
__________
(1) ليست في (ق).
(2) (ظ ود): “العبادة”.
(3) ذكر نحوًا منها ابن خلكان في “وفيات الأعيان”: (2/ 122)، والأبْشيهي في “المستطرف”: (2/ 109) على الحسن بن سهل.
(3/839)
أما قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110] فهذا الدعاء المشهور أنه (1) دعاء المسألة، وهو سبب النزول، قالوا: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يدعو ربَّه فيقول مرة: “يا الله” ومرة: “يا رحمنُ”، فظن الجاهلون من المشركينَ أنه يدعوْ إلهين، فأنزل الله تعالى هذه الآيةَ.
قال ابن عباس: سمع المشركون النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – يدعو في سجوده: “يا رَحْمنُ يا رَحِيمُ”، فقالوا: هذا يزعم أنه يدعو واحدًا وهو يدعو مثنى مثنى، فأنزل الله هذه الآية: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} (2).
وقيل: إن الدعاء هاهنا بمعنى التَّسمية كقولهم: “دعَوْتُ ولدي سَعِيدًا وادْعُهُ بعَبْدِ الله” ونحوه، والمعنى: سمُّوا الله أو سمُّوا الرحمن، فالدعاء هاهنا بمعنى التسمية، وهذا قول الزمخشريِّ (3).
والذي حمله على هذا قوله: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، فإنَّ المرادَ بتعدُّدِ معنى “أيِّ” وعمومِها هاهنا تعدُّدُ الأسماء ليس إلا، والمعنى: أيُّ اسم سمَّيتموه به من أسماء الله تعالى، إما الله وإما الرحمن، فله الأسماءُ الحسنى، أي: فللمُسمَّى سبحانه الأسماءُ الحسنى، والضمير في “فله” يعودُ إلى المُسمَّى. فهذا الذي أوجبَ له
__________
(1) من (ع)، و (ق): “بأنه”، و (ظ ود): “وأنه”.
(2) أخرجه الطبري: (8/ 165)، وابن مردويه -كما في “الفتح”: (13/ 372) – عنه. قال الحافظ: بسندٍ ضعيف.
وأخرجه البخاري في “خلق أفعال العباد”: (ص / 100) وابن مردويه -كما في الفتح: 13/ 372 – عن عائشة -رضي الله عنها- نحوه.
وأخرجه الطبرى: (8/ 165) عن مكحول مرسلًا.
(3) في “الكشاف”: (2/ 378).
(3/840)
أن يحمل الدعاء في هذه الآية على التَّسمية، وهذا الذي قاله هو من لوازم المعنى المُراد بالدّعاء في الآية، وليس هو عينَ المراد، بل المُرادُ بالدعاء معناه المعهود المُطَّرِد في القرآن، وهو دعاءُ السؤال ودعاء الثَّناء، ولكنه متضمِّنٌ معنى التَّسمية، فليس المُرادُ مجرَّدَ التسمية الخالية عن العبادة والطَّلَب، بل التَّسمية الواقعة في دعاء الثناء والطلب، فعلى هذا المعنى يصح أن يكون في (تَدْعو) معنى (تُسَمُّوا)، فتأمَّلْه.
والمعنى: أيًّا ما تُسَمُّوا في ثنائكم ودعائكم (1) وسؤالكم، والله أعلم.
وأما قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)} [الطور: 28] فهذا دعاء العبادة المتضمِّن للسؤال رغبةً ورهبةً، والمعنى: إنا كنا من قبل نخلِصُ له العبادةَ، وبهذا استحقوا أن وقاهم عذابَ السَّمُوم، لا بمجرَّد السُّؤال المشترك بين الناجي وغيره، فإن الله سبحانَهُ يسأله من في السَّموات ومن في الأرض. والفوز والنجاةُ إنما هي بإخلاص العيادة لا بمجرَّد السُّؤال والطَّلَب.
وكذلك قولُ الفِتْية أصحابِ الكهف: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا} [الكهف: 14] أي: لن نعبدَ غيرَه، وكذلك قوله تعالى: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)} [الصافات: 125].
وأما قوله تعالى: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64)} [القصص: 64] فهذا من دعاء المسألة، يُبَكِّتُهم الله عز وجل، ويُخزيهم يوم القيامة بإراءتهم أن شركاءَهم لا
__________
(1) من (ظ ود).
(3/841)
يستجيبون لدعوتهم (1)، وليس المُرادُ: اعبدوهم، وهو نظير قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} [الكهف: 52].
وهذا التقريرُ نافعٌ في مسألة الصلاة، وأنها هل نُقِلت عن مسمَّاها في اللّغة فصارت حقيقةً شرعيةً منقولةً، أو استُعْمِلت في هذه العبادة مجازًا، للعلاقة بينها وبين المسمَّى اللُّغوي، أو هي باقية على الوضع اللُّغوي وضُمَّ إليها أركانٌ وشرائطُ، وعلى ما قررناه لا حاجةَ إلى شيءٍ من ذلك، فإن المُصلِّي من أول صلاته إلى آخرها لا ينفكُّ عن دعاء عبادةٍ وثناء، أو دعاءِ طلب ومسألة، وهو في الحالين داعٍ، فما خرجتِ الصلاةُ عن حقيقة الدُّعاء، فتأمَّلْه.
إذا عُرِفَ هذا فقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] يتناول نوعَي الدعاء، لكنه ظاهر في دعاء المسألة متضمِّنٌ لدعاء العبادة، ولهذا أَمَر بإخفائه وإسراره، قال الحسن: “بين دعوة السِّرِّ ودعوة العلانيةِ سبعون ضعفًا، ولقد كان المسلمونَ يجتهدونَ في الدُّعاء، وما يُسمعُ لهم صوتٌ، إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، وأن الله تعالى ذَكَر عبدًا صالحًا ورضي بفعلِهِ فقال: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)} ” (2) [مريم: 3].
وفي إخفاء الدُّعاء فوائدُ عديدة:
أحدها: أنه أعظمُ إيمانًا؛ لأن صاحبه يعلم أن الله تعالى يسمعُ
__________
(1) (ظ ود): “لهم دعوتهم”.
(2) أخرجه ابن المبارك في “الزهد”: (ص/45)، والطبري: (5/ 514). وسنده حسن.
(3/842)
دعاءَه الخَفِيَّ، وليس كالذي قال: “إن الله يسمَعُ إن جَهَرْنا، ولا يسمعُ إن أخفينا” (1).
وثانيها: أنه أعظمُ في الأدب والتعظيم، ولهذا لا تُخاطبُ الملوِكُ ولا تُسألُ برفع الأصوات، وإنما تُخفضُ عندَهم الأصواتُ, ويُخْفى عندَهم الكلامُ بمقدار ما يسمعوه، ومن رفع صوته لديهم مَقَتُوهُ، ولله المثلُ الأعلى، فإذا كان يسمعُ الدّعاء الخَفِيَّ فلا يليقُ بالأدب بين يديه إلاّ خفض الصوت به.
وثالثها: أنه أبلغُ في التَّضَرُّع والخُشوع الذي هو رُوحُ الدعاء وَلُبُّهُ ومقصودُهُ، فإن الخاشع الذليل الضارع إنما يسألُ مسألةَ مسكين ذليل، قد انكسر قلبه، وذلَّت جوارحُه، وخشع صوتُه، حتى إنه ليكاد تبلغ به ذلته ومسكنته، وكسرته (2) وضراعته، إلى أن ينكسر لسانُه، فلا يُطاوعه بالنطق, فقلبُه سائل طالب مبتهل (3)، ولسانُه لشدة ذله وضراعته ومسكنته ساكت، وهذه الحال لا يتأتَّى معها رفع (4) الصوت بالدُّعاء أصلًا.
ورابعها: أنه أبلغُ في الإخلاص.
وخامسها: أنه أبلغُ في جمعِيَّة القلب على الله تعالى في الدعاء، فإن رَفْع الصوت يُفَرِّقه ويشتِّته، فكلما خفضَ صوتَه كان أبلغ في صمده وتجريد همته وقصده للمدعوِّ سبحانه وتعالى.
__________
(1) في حديث الثلاثة الذين اجتمعوا عند البيت، أخرجه البخاري رقم (4817) , ومسلم رقم (2775) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-.
(2) (ظ ود): “كسره”. ويمكن أن تقرأ: “يبلغ به ذله ومسكنته، وكسره وضراعته”.
(3) (ظ ود): “وقلبه يسأل طالبًا مبتهلًا”. و”طالبًا” ليست في (ع).
(4) (ظ ود): “وهذه الحالة لا تأتي مع رفع .. “.
(3/843)
وسادسها -وهو من النكت السرِيَّة البديعة جدًّا-: أنه دال على قرب صاحبه من الله، وأنه لاقترابه منه وشدة حضوره يسأل مسألةَ: أقربَ شيءٍ إليه، فيسأله مسألةَ مناجاة القريب للقريب، لا مسألة نداء البعيد للبعيد.
ولهذا أثنى الله سبحانه على عبده زكريا بقوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)}، فكلما استحضرَ القلبُ قربَ الله تعالى منه، وأنه أقربُ إليه من كلِّ قريبٍ، وتصوَّر ذلك = أخفى دعاءَه ما أمكنه، ولم يَتَأَتَّ له رفعُ الصوتِ به، بل يراه غيرَ مستحسن، كما أن من خاطبَ جليسًا له يسمع خَفِيَّ كلامه، فبالغ في رفع الصوتِ استهجن ذلك منه -ولله المثل الأعلى سبحانه (1) – وقد أشار النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى هذا المعنى بعينه بقوله في الحديث الصحيح، لما رفِع الصحابةُ أصواتَهم بالتكبير وهم معه في السفر، فقال: “ارْبعوا عَلى أنْفُسِكُمْ، إنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائبًا، إنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، أَقْرَبَ إلىَ أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُق راحِلتِهِ” (2)، وقد قال: تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}.
وقد جاء أن سببَ نزولها أن الصحابة قالوا: يا رسول الله رَبُّنا قريبٌ فَنُنَاجِيَهُ، أم بعيدٌ فنُنَادِيَهُ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (3) [البقرة: 186].
__________
(1) من قوله: “ولم يتأت …. ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(2) أخرجه البخاري رقم (2992)، ومسلم رقم (2704) من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-.
(3) أخرجه عبد الله بن أحمد في “السنة”: (1/ 277)، وسفيان بن عيينة في “تفسيره” – كما في الدر المنثور: 1/ 352 – عن أُبي، بسندٍ منقطع. =
(3/844)
وهذا يدلُّ على إرشادهم للمناجاة في الدعاء لا للنداء الذي هو رفع الصوت، فإنهم عن هذا سألوا، فأُجيبوا بأنَّ ربَّهم تبارك وتعالى قريبٌ لا يحتاجُ في دعائه وسؤاله إلى النداء، وإنما يُسْأَلُ مسألةَ القريب المُنَاجَى لا مسألةَ البعيد المنَادَى، وهذا القربُ من الدَّاعي هو قربٌ خاصٌ ليس قُرْبًا عامًّا من كلِّ أحدٍ، فهو قريبٌ من داعيه وقريبٌ من عابده، وأقرب ما يكون العبدُ من رَبِّه وهو ساجِدٌ (1)، وهو أخصُّ من قربِ الإنابة وقرب الإجابة، الذي لم يُثْبِتْ أكثرُ المتكلمينَ سواه، بل هو قُرْبٌ خاصٌّ من الدَّاعى والعابد، كمَا قال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – راويًا عن ربِّه تبارك وتعالى: “مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا” (2)، فهذا قربُهُ من عابدِه.
وأما قربُهُ من داعيه وسائلِهِ، فكما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، وقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، فيه الإشارةُ (3) والإعلامُ بهذا القُرْب.
وأما قربُهُ -تبارك وتعالى- من مُحِبِّهِ فنوعٌ آخَرُ، وبناءٌ آخر (4)، وشأنٌ آخر، كما قد ذكرناه في كتاب “التحفة المكية”، على أن العبارةَ تَنْبو عنه، ولا تحصلُ في القلب حقيقةُ معناه أبدًا، لكن بحسب قوَّة المحبَّةِ وضعفِها يكونُ تصديق العبد بهذا القرب، وإيَّاكَ
__________
= وأخرجه ابن جرير: (2/ 164)، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ -كما في الدر: 1/ 352 – من طريق الصلت بن حكيم عن أبيه عن جده قال: جاء رجل إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال … الحديث. والصلتُ ضعيف.
(1) أخرجه مسلم رقم (482) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(2) أخرجه مسلم رقم (2687) من حديث أبي ذر -رضي الله عنه-.
(3) (ظ ود): “الإرشاد”.
(4) “وبناء آخر” ليست في (ظ ود).
(3/845)
ثم إيَّاكَ أن تعبِّرَ عنه بغير العبارة النبوِية، أوْ يَقَعَ في قلبِك غيرُ معناها ومرادها، فَتَزِلَّ قَدَمٌ بعد ثبُوتِها. وقد ضعُفَ تمييزُ خلائِقَ في هذا المقام، وساء تعبيرُهم، فوقعوا في أنواع من الطَّامَّاتِ والشطح، وقابلهم من غَلُظ حجابُه فأنكر محبَّةَ العبدِ لربِّه جملةً، وقربَهُ منه، وأعاد ذلك إلى مجرد الثواب المخلوق، فهو عنده المحبوب القريب ليس إلاّ (1).
وقد ذكرنا من طرق الرد على هؤلاء وهؤلاء في كتاب “التحفة” أكثر من مائة طريق (2)، والمقصود هاهنا الكلام على هذه الآية.
وسابعها: أنَّه أَدْعَى إلى دوام الطلب والسؤال، فإنَّ اللِّسان لا يَمَلُّ والجوارحُ لا تتعبُ، بخلاف ما إذا رفع صوتَهُ به، فإنه قد يَكِلُّ لسانُه وتضعفُ بعضُ قواه، وهذا نظيرُ من يقرأُ ويُكَرِّر رافعًا صوتَهُ، فإنه (3) لا يطولُ له ذلك بخلاف من يخفضُ صوتَه.
وثامنها: أن إخفاءَ الدُّعاء أبعد له من القواطع والمشَوِّشاتِ والمُضعِّفَاتِ، فإن الدَّاعِيَ إدْا أخفى دعاءَهُ لم يَدْرِ به أحدٌ، فلا يحصلُ هناك تشويشٌ ولا غيرُه، وإذا جَهَرَ به تفطَّنتْ له الأرواحُ الشِّرِّيرةُ (4) والباطوليَّةُ (5) والخبيثة من الجِنِّ والإنس، فشوَّشت عليه ولا بُدَّ، ومانَعَتْهُ وعارضتْه، ولو لم يكن إلا أن تعلُّقَها به يفَرِّقُ عليه
__________
(1) وانظر: “مدارج السالكين”: (2/ 107).
(2) وانظر: “مدارج السالكين”: (3/ 20)، و”روضة المحبين” مفرد في المحبّة.
(3) من قوله: “فإنه قد … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(4) (ظ ود): “البشرية”.
(5) المنسوبة إلى الباطل، وهي نسبة غريبة استعملها ابن القيم في مواضع من كتبة، انظر: “مفتاح دار السعادة”: (1/ 197، 547) و”تهذيب السنن”: (1/ 416 – بهامش المختصر).
(3/846)
هِمَّتَه فيضعفُ أثرَ الدعاءِ، ومن له تجرِبَةٌ يعرفُ هذا، فإذا أَسَرَّ الدعاءَ وأخفاه أَمِنَ هذه المفسدةَ.
وتاسعها: أن أعظمَ النِّعَمِ: الإقبالُ على الله، والتَّعَبُّد له، والانقطاعُ إليه، والتَّبتُّل إليه، ولكلِّ نعمةٍ حاسدٌ على قَدْرِها دقَّتْ أو جَلَّتْ، ولا نعمةَ أعظمُ من هذه النعمة، فأَنفُسُ الحاسدينَ المنقطعينَ متعلِّقَةٌ بها، وليس للمحسودِ أسلمُ من إخفاء نعمتِهِ عن الحاسد، وأن لا يقصدَ إظهارَها له.
وقد قال يعقوب ليوسف: {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)} [يوسف: 5] وكم من صاحب قلب وجمعية وحال معِ الله قد تحدَّثَ بها وأخبر بها، فسلبه إيَّاها الأغيارُ، فأصبح يقلِّبُ كفَّيه، ولهذا يوصي العارفون والشيوخُ بحفظ السِّرِّ مع الله، وأن لا يُطْلِعوا عليه أحدًا، ويتكتَّمون به غايةَ التَّكَتُّم، كما أنشد بعضُهم في ذلك:
من سَارَرُوه فأبدى (1) السِّرَّ مجتهدًا … لم يأمَنْوه على الأسرارِ ما عاشا
وأبعدوه فلم يظفرْ بِقُرْبِهمُ … وأبدلوه مكانَ الأُنْسِ إيحَاشا
لا يأمنونَ مُذِيعًا بَعْضَ سِرِّهِمُ … حاشا وِدادِهِمُ من ذلكمْ حاشا
والقومُ أعظمُ شيءٍ كِتمانًا لأحوالهم مع الله، وما وهب الله لهم من محبَّته، والأنس به، وجمعيَّة القلبِ عليه، ولا سيَّما للمبتدئ والسالك، فإذا تمكَّن أحدُهم وقوِيَ وثبتَتْ أصولُ تلك الشجرة الطيِّبة، التي أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماء في قلبه، بحيث لا يُخشى
__________
(1) (ظ): “فأفشى”.
(3/847)
عليه من العواصف، فإنه إذا أبدى حالَه وشأنه مع الله لِيُقْتَدَى به ويُؤْتَمَّ به لم يُبَالِ. وهذا بابٌ عظيمُ النفع إنما يعرفُهُ أهله.
وإذا كان الدُّعاء المأمورُ بإخفائه يتضمَّن دعاءَ الطلب والثناء والمحبة والإقبال على الله، فهو عن أعظم الكنوز التي هي أحقُّ بالإخفاء والسِّتْر عن أعين الحاسدين، وهذه فائدةٌ شريفة نافعة.
وعاشرها: أن الدعاء هو ذكرٌ للمدعوِّ سبحانه، متضمِّنٌ للطَّلَب منه والثناء عليه بأسمائه وأوصافه، فهو ذِكْر وزيادة، كما أن الذكر يسمَّى دعاءً لتضمُّنه الطَّلَبَ، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “أَفْضَلُ الدُّعَاءِ الحَمدُ للهِ” (1) فسمَّى “الحمدُ لله” دعاءً، وهو ثناء محضٌ؛ لأن الحمد يتضمَّنُ الحبَّ والثناء، والحبُّ أعلى أنواع الطلب للمحبوب، فالحامدُ طالب لمحبوبه، فهو أحقُّ أن يسمَّى داعيًا من السائل الطالب من ربِّه حاجةً ما، فتأمَّلْ هذا الموضعَ ولا تحتاج إلى ما قيل: إن الذاكرَ متعرِّضٌ للنوال، وإن لم يكن مصرِّحًا بالسؤال، فهو داعٍ بما تضمَّنَهُ ثناؤُه من التَّعَرُّض، كما قال أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت (2):
أَأَذْكُرُ حاجَتِي أمْ قدْ كَفَانِي … حَيَاؤُكَ إنَّ شِيْمَتَكَ الحَيَاءُ
إذا أَثْنَى عَلَيْكَ المَرْءُ يَوْمًا (3) … كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّناءُ
__________
(1) أخرجه الترمذي رقم (3383)، والنسائي في “عمل اليوم والليلة” رقم (837)، وابن ماجه رقم (3800)، وابن حبان “الإحسان”: (3/ 126)، والحاكم: (1/ 498) وغيرهم من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-.
قال الترمذي: “حسن غريب” كما في “التحفة”: (2/ 190)، وصححه ابن حبان والحاكم، وأقره الذهبي.
(2) البيتان في “حماسة أبي تمام”: (2/ 395).
(3) في “الحماسة”: (2/ 396): “خيرًا”.
(3/848)
وعلى هذه الطريقة التي ذكرناها فنفسُ الحمد والثناء متضمِّنٌ لأعظم الطَّلَب، وهو طلب المحب، فهو دعاءٌ حقيقة، بل أحقُّ أن يسمَّى دعاءً من غيره من أنواع الطَّلَب الذي هو دونه، والمقصود أنَّ كلَّ واحد من الدُّعاء والذكر يتضمَّنُ الآخرَ ويدخلُ فيه، وقد قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [الأعراف: 205] فأمر تعالى نَبيَّهُ أن يذكَرَهُ في نفسه.
قال مجاهد وابن جريج: أمر أن يذكروه في الصدور بالتضرع والاستكانة دون رفع الصوت والصياح (1). وقد تقدم (2) حديث أبي موسى: كنا مع النبي – صلى الله عليه وسلم – في سفر، فارتفعت أصواتنا بالتكبير، فقال: “يا أيّها النَّاسُ ارْبَعُوا على أنفُسِكُمْ، فإنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أصَمَّ ولا غَائِبًا، إنما تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، أقْرَبَ إلى أحدِكُمْ من عُنُق راحلتِهِ”. وتأمل كيف قال في آية الذكر: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً}، وفي آية الدعاء: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، فذكر التَّضَرُّعَ فيهما معًا وهو التَّذَلُل والتَّمَسْكُن والانكسار، وهو روح الذِّكر والدُّعاء.
وخصَّ الدُّعاءَ بالخِفْية لِمَا ذكرنا من الحكم وغيرها (3)، وخصَّ
__________
(1) أسنده عنهما ابن جرير: (6/ 165).
(2) (3/ 844).
(3) في هامش (ع) حاشية طويلة نصُّها: “قال الشيخ تقي الدين فى “المقترح”: أخبرنا بسنده روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: “أفضل الذكر الخفيّ” قال جماعة من أهل الحديث: هذا إشارة إلى ذكر الله تعالى سِرًّا. قال أرباب التصوّف: ذلك خفيّ بالنسبة إلى السامع لا بالنسبة إلى الذاكر، فشرطه أن يتمكن الذكر من القلب حتى يتمكن إلى حالة يستغرق عن الذكر، فيكون خفيًا بالنسبة إليه. وفيه اشكال، ويحتمل احتمالًا آخر وهو: الفكر والاستدلال بعجائب المصنوعات على مبدعها، والله أعلم بالمراد”. =
(3/849)
الذكر بالخِيفة لحاجة الذاكر (1) إلى الخوف، فإن الذكرَ يستلزمُ المحبَّة ويثمرُها ولا بُدَّ، فمن أكثرَ من ذكر الله تعالى أثمرَ له ذلك محبته، والمحبَّةُ ما لم تَقْترن بالخوف فإنها لا تنفعُ صاحِبها بل قد تضرُّه؛ لأنها توجبُ الإدلالَ والانبساط، وربما آلت بكثير من الجهَّال المغرورين إلى أنهم استغنوا بها عن الواجبات، وقالوا: المقصود من العبادات إنما هو عبادةُ القلب وإقبالُه على الله ومحبَّته له، وتألُّهُه له (2)، فإذا حصلَ المقصودُ فالاشتغالُ بالوسيلة باطلٌ.
ولقد حدثني رجلٌ: إنه أنكر على رجلٍ من هؤلاء في خَلْوَةٍ (3) له ترك فيها حضور الجُمُعَةِ، فقال له الشيخُ: أليس الفقهاءُ يقولون: إذا
__________
= ثم كتب بعدها: “قال رحمه الله: مقصودنا الآن: أن ذكر الله باللسان دون الجَنان أصوات وأجراس، والكثرة فيه وسواس، بل اللسان خادم، أجرى اللَه عادته أن يرق القلب ويصلح عند مداومة العارف الذكر به فأمرنا به، ولكن لا ينبغي أن يكون القلب غافلًا غير عارف، والمعرفة لا تحصل إلا بالذكر، ولهذا قرنه بذكر الآيات، فقال تعالى: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)}، وهذا يدل ظاهرًا على أن كل ذكر يحصل من غير فكر في الآيات سلوك المضيعة والمتاهات” انتهى.
أقول: لعل الشيخ تقي الدين صاحب شرح المقترح هو: مظفّر بن عبد الله بن علي تقي الدين المصري المعروف بالمقترح لحفظه إياه ت (612). انظر: “طبقات الشافعية”: (8/ 372)، و”المقترح في المصطلح” كتاب في الجدل كثر اشتغال الفقهاء به للبروي، وشرحه الشيخ تقي الدين. انظر: “وفيات الأعيان”: (4/ 225)، و”كشف الظنون”: (ص/1793).
والحديث الذي ذكره أخرجه أحمد وابن حبان وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-.
(1) (ع): “الراكب”.
(2) و”تألهه له” ليست في (ق).
(3) (ظ ود): “أنكر على هؤلاء خلوة”.
(3/850)
خافَ على شيءٍ من مالهِ فإن الجُمُعَةَ تسقطُ عنه؟ فقال له: بلى، فقال له: فقلبُ المُريدِ أعزُّ عليه من ضَيَاعِ عشرة دراهِمَ -أو كما قال- وهو إذا خرج ضاع قلبُه، فحِفْظُه لقلبِه عذرٌ مُسْقِطٌ للجمعة في حقِّه، فقال له: هذا غُرورٌ، بل الواجبُ عليه الخروجُ إلى أمر الله وحفظ قلبه مع الله، فالشيخُ المُرَبِّي العارف يأمر المُريدَ بأن يخرجَ إلى الأمر ويُراعي حفظَ قلبه، أو كما قال.
فتأمَّل هذا الغرور العظيم كيف آل بهؤلاء إلى الانسلاخ عن الإسلام جملةً، فإنَّ من سلك هذا المسلكَ انسلخَ عن الإسلام العام، كانسلاخ الحَيَّة من قِشْرها، وهو يظنُّ أنه من خاصَّة الخاصَّة.
وسبب هذا عَدَمُ اقتران الخوف من الله تعالى بحبه وإرادته (1)، ولهذا قال بعضُ السَّلَف: “مَنْ عَبَدَ اللهَ تعالى بالحُبِّ وحدَه فهو زنديقٌ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حَرُوري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مُرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمنٌ (2).
وقد جمع الله تعالى هذه المقامات الثلاث بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] فابتغاءُ الوسيلة هو محبَّتُه الدَّاعيةُ إلى التَّقَرُّب إليه، ثم ذكر بعدَها الرجاء والخوف، فهذه طريقةُ عباده وأوليائه، وربما آل الأمرُ بمن عَبَدَهُ بالحب المجرد إلى استحلال المحرَّمات، ويقول: المُحِبُّ لا يَضُرُّه ذنبٌ.
__________
(1) من قوله: “وهو يظن …. ” إلى هنا سقط من (ق).
(2) نسبه ابن تيمية إلى بعض السلف -أيضًا- كما في “مجموع الفتاوى”: (10/ 81، 207 وغيرها) وكذا ابن أبي العز في “شرح الطحاوية”: (ص/ 458)، وابن رجب في “التخويف من النار”: (ص/ 17).
(3/851)
وصنَّف بعضُهم في ذلك مصنفًا، وذكر فيه أثرًا مكذوبًا: “إذا أحَبَّ اللهُ العبدَ لم تَضْرَّهُ الذُّنوبُ” (1) , وهذا كذِبٌ قطعًا مُنَافٍ للإسلام، فالذنوبُ تضُرُّ بالذَّات لكل أحدٍ كضَرَرِ السُّمِّ للبَدَن.
ولو قدر أنّ هذا الكلامَ صحَّ عن بعض الشيوخ -وأما عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فمعاذَ الله من ذلك- فله مَحْمَلٌ، وهو أنه إذا أحبَّه لم يدعْه حبُّه إياه إلى (2) أن يُصِرَّ على ذنب؛ لأن الإصرارَ على الذنب مُنَافٍ لكونه محبًّا (3) لله، وإذا لم يُصِرَّ على الذنب بل بادر إلى التَّوبةَ النَّصوح منه، فإنه يمحو أثَرَهُ ولا يَضرُّهُ الذنبُ، وكلما أذنب وتاب إلى الله زالَ عنه أثرُ الذنب وضررُه، فهذا المعنى صحيحٌ، والمقصودُ أن تجريدَ الحُبِّ والذكر عن الخوف يوقعُ في هذه المعاطب.
فإذا اقترن بالخوف جَمَعه على الطريق، وردَّهُ إليها كلما شَرَدَ، كأن (4) الخوفَ سوطٌ يضربُ به مَطِيَّتَهُ لئلا تخرج عن الدَّرْب، والرجاءُ حادٍ يحدوها يُطِيْبُ لها السيرَ، والحبُّ قائدُها وزِمامُها الذي يسوقها، فإذا لم يكن للمَطِيَّةِ سوطٌ ولا عصا يردُّها إذا حادتْ (5) عن الطريق وتُرِكَت تركبُ التعاسيفَ، خرجتْ (6) عن الطريق وضلَّتْ عنها، فما حُفِظَتْ حدودُ الله ومحارمُه، ووصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه
__________
(1) لم أجده، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في “الفتاوى” (11/ 256) ولم يعزه حديثًا ولا أثرًا، لكن نسبه لقائل مجهول، وذكر تخريج العبارة الذي ذكره ابن القيم هنا.
(2) من (ق).
(3) (ق وع): “محبوبًا”.
(4) (ع): “فإن”.
(5) (ع): “جارت”.
(6) (ق): “حردت” أي: مالت وخرجت.
(3/852)
ومحبته، فمتى خلا القلبُ عن هذه الثلاثة فسد فسادًا لا يُرجى صلاحُه أبدًا، ومتى ضعُفَ فيه شيءٌ من هذه ضعُفَ إيمانُه بحسبه.
فتأملْ أسرارَ القرآن وحكمَتَهُ في اقتران الخِيفة بالذِّكر والخُفْية بالدُّعاء، مع دِلالته على اقتران الخِيفة بالدُّعاء والخُفْية بالذكر أيضًا، فإنه قال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} [الأعراف: 205]، فلم يحتجْ بعدها أن يقول: خُفية، وقال في الدعاء: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 56]، فلم يحتج أن يقول في الأول: ادعوا ربكم تضرُّعًا وخيفة، فانتظمتْ كلُّ واحدة من الآيتين للخِيفة والخُفْية والتَّضَرُّع أحسنَ انتظام، ودلَّتْ على ذلك أكملَ دلالةٍ.
وذَكَر الطمعَ الذي هو الرَّجاءُ في آية الدُّعاء؛ لأن الدعاءَ مبنيٌّ عليه، فإن الداعيَ ما لم يطمعْ في سؤاله ومطلوبه لِم تتحرك نفسُه لطلبه، إذ طلبُ ما لا يُطْمَعُ فيه ممتنع، وذكَر الخوفَ في آية الذكر؛ لشدَّة حاجةِ الخائفِ إليه كما تقدَّمَ، فذكر في كلِّ آية ما هو اللائقُ (1) بها والأوْلَى بها من الخوف والطمع، فتبارك من أنزلَ كلامَهُ شفاء لما في الصدور وهدىً ورحمة للمؤمنين.
فصل
وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)} [الأعراف: 55] قيل: المراد أنه لا يحبُّ المعتدينَ (2) في الدَّعاء، كالذي يسأل ما لا يليق به من منازل الأنبياء وغير ذلك، وقد روى أبو داود في “سننه” (3) من
__________
(1) (ع): “الأليق”.
(2) “قيل: المراد أنه لا يحب المعتدين” سقطت من (ق).
(3) رقم (96).
(3/853)
حديث حماد بنَ سَلَمة، عن سعيد الجُرَيْري، عن أبي نَعَامَة، أن عبدَ الله بن مغَفَّلٍ سمع ابنَه يقولْ اللَّهُمَّ إني أسألُك القصرَ الأبيضَ عن يمين الجنة إذا دخلتُها، فقال: يا بُني سلِ اللهَ الجنةَ وتعوَّذ به من النار، فإني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “إنَّهُ سَيَكُونُ في هذهِ الأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ في الطُّهورِ والدُّعَاءِ” (1).
وعلى هذا فالاعتداءُ في الدُّعاء تارةً بأن يسألَ ما لا يجوزُ له سؤاله من الإعانة على المُحَرَّمات، وتارةً بأن يسألَ ما لا يفعلُه الله، مثلَ أن يسألَهُ تخليدَه إلى يوم القيامة، أو يسألَه أن يرفعَ عنه لوازم البشريَّة من الحاجة إلى الطعام والشَّراب، أو يسألَه أن يُطْلِعَهُ على غيبه، أو يسألَهُ أن يجعلَهُ من المعصومينَ، أو يسأله أن يَهَبَ له ولدًا من غير زوجةٍ ولا أَمةٍ، ونحو ذلك مما سؤالُه اعتداءٌ، فكلُّ سؤالٍ يُناقضُ حكمةَ الله أو يتضمَّنُ مناقضةَ شرعِهِ وأمرِهِ، أو يتضمَّنُ خلافَ ما أخبرَ به، فهو اعتداءٌ لا يحبُّه الله ولا يحبُّ سائِلَهُ، وفُسِّرَ الاعتداءُ برفع الصوت أيضًا في الدعاء، قال ابن جُرَيج: من الاعتداء رفعُ الصوت والنداء بالدُّعاء والصياح (2).
وبعدُ؛ فالآية أعمُّ من ذلك كلِّه، وإن كان الاعتداءُ في الدُّعاء مرادًا بها، فهو من جملة المُراد، والله لا يحب المعتدين في كلِّ شيء، دعاءً كان أو غيرَه، كما قال تعالى {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ
__________
(1) وأخرجه أحمد: (27/ 351 رقم 16796) وابن ماجه رقم (3864)، وابن حبان “الإحسان”: (15/ 166)، والحاكم: (1/ 162)، وغيرهم.
وصححه ابن حبان والحاكم، وقال ابن كثير في “التفسير”: (3/ 1440): “إسناد حسن لا بأس به”.
(2) أسنده عنه ابن جرير: (6/ 165).
(3/854)
لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} [البقرة: 190]، وعلى هذا فيكون قد أمرَ بدعائه وعبادته وأخبرَ أنه لا يحِبُّ أهلَ العُدوان، وهم الذين يدعونَ معه غيرَه، فهؤلاء أعظمُ المعتدينَ عُدوانًا، فإن أعظمَ العُدوان الشِّرْك, وهو وضعُ العبادة في غير موضعها، فهذا العُدوان لا بُدَّ أن يكونَ داخلًا في قوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)} [الأعراف: 55].
ومن العُدوان أن يدعوَهُ غيرَ مُتَضَرِّع، بل دعاءَ مدِلٍّ، كالمستغني بما عندَهُ، المُدِلِّ على ربِّه به، وهذا من أعظم الاعتداء المُنافي لدعاء الضَّارع الذليل الفقير المِسكين مِنْ كُلِّ جهة في مجموع حالاته، فما لم يسألْ مسألةَ مسكينٍ متضرِّعٍ خائفٍ فهو معتدٍ.
ومن الاعتداء أن تعبدَهُ بما لم يشرعْهُ، وتُثني عليه بما لم يُثْنِ به على نفسه ولا أَذِنَ فيه، فإن هذا اعتداءٌ في دعاء الثّنَاء والعبادة، وهو نظيرُ الاعتداء في دعاء المسألة والطَّلَب، وعلى هذا فتكون الآية دالَّةً على شيئين:
أحدهما: محبوبٌ للرَّبِّ تعالى، مُرْضٍ له، وهو الدُّعاء تَضَرُّعًا وخُفية.
والثاني: مكروهٌ له مبغوض مسخوطٌ وهو الاعتداء، فأمر بما يحِبُّهُ وندبَ إليه، وحذَّر مما يُبْغِضُه وزَجَر عنه بما هو من (1) أبلغ طرق الزجر والتحذير، وهو أنه لا يحبُّ فَاعلَه، ومن لم يحبَّهُ الله فأيّ خير يناله، وفي قوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)} عقب قوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]، دليل على أن من لم يدعُهُ تضرُّعًا وخُفْيَةً فهو من المُعتدينَ الذين لا يُحِبُّهم، فقسمتِ الآيةُ الناسَ إلى
__________
(1) من (ع).
(3/855)
قسمين: داعٍ لله تَضَرُّعًا وخُفْية، ومُعْتدٍّ (1) بترك ذلك.
فصل
وقوله تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56]، قال أكثرُ المفسرين: لا تُفسدوا فيها بالمعاصي والدُّعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إيَّاها ببعث الرُّسُل وبيان الشريعة والدُّعاء إلى طاعة الله، فإن عبادةَ غير الله، والدَّعوة إلى غيره، والشِّرك به هو أعظمُ (2) فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشِّرك به ومخالفة أمره، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي} [الروم: 41] وقال عطيّة: في الآية: “ولا تعصُوا في الأرض، فيُمْسِكَ الله المطر، ويُهْلِكَ الحرثَ بمعاصيكم” (3)، وقال غيرُ واحد من السَّلَف: “إذا قحط المطر فإن الدَّوابَّ تلعِنُ عُصاةَ بني آدم وتقول: اللَّهُمَّ العنْهم فبسببهم أجدبتِ الأرضُ، وقحط المطرُ” (4).
وبالجملة فالشِّرْكْ والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره ومطاع متبع غير رسوله = هو أعظمُ الفساد في الأرض ولا صلاحَ لها ولا لأهلها إلاّ بأن يكون: الله وحدَه هو المعبودَ، والدَّعوة له لا لغيره، والطاعةُ والاتِّباع لرسوله ليس إلا، وغيره إنما تجبُ طاعته إذا أمر بطاعة الرسول، فإذا أمر بمعصيته وخلاف شرعِه فلا سَمْعَ له ولا طاعةَ, فالله تعالى أصلحَ الأرضَ برسوله ودينه وبالأمر بتوحيده،
__________
(1) (ظ): “متعد”.
(2) من قوله: “طاعة الله ….. ” إلى هنا ساقط من (ق).
(3) ذكره البغوي في “تفسيره”: (2/ 166).
(4) أخرجه الطبري: (2/ 59) عن مجاهد بنحوه، وذكره البغوي في “تفسيره”: (1/ 134).
(3/856)
ونهى عبادَه عن إفسادها بالشِّرك به وبمخالفة رسوله.
ومن تدَّبَر أحوال العالم وجدَ كلَّ صلاحٍ في الأرض فسببُهُ توحيد الله وعبادتُهُ وطاعة رسوله، وكل شرٍّ في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدُوٍّ وغير ذلك، فسببهُ (1) مخالفةُ رسوله والدَّعوة إلى غير الله ورسوله.
ومن تدبَّرَ حقَّ التَّدَبُّرِ، وتأمَّلَ أحوالَ العالم منذ قامَ إلى الآنَ، وإلى أن يَرِثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها = وجَدَ هذا الأمرَ كذلك في خاصَّة نفسه، وفي حقِّ غيره عمومًا وخصوصًا، ولا قوَّة إلا بالله.
فصل
وقوله تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 56]، إنما كرر الأمر (2) بالدعاء لما ذكره معه من الخوف والطمع، فأمر أولًا بدعائه تضرعًا وخفية، ثم أمر بأن يكونَ الدُّعاءُ أيضًا خوفًا وطمعًا، وفصَل بين الجملتين بجملتين:
أحدهما: خبرية ومتضمِّنة للنَّهْي، وهي قوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)} [الأعراف: 55].
والثانية: طلبية، وهي قوله: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}، والجملتانِ مقرِّرتانِ مُقويتان (3) للجملة الأولى مُؤَكِّدتانِ لمضمونِها.
ثم لما تمَّ تقريرها وبيان ما يضادّها ويناقضها أمر بدعائه خوفًا
__________
(1) سقطت من (ع).
(2) (ظ ود): “ذكر”.
(3) (ظ ود): “مقرونتان” بدلًا من “مقررتان مقويتان”.
(3/857)
وطمعًا، ثم قرَّرَ ذلك، وأكد مضمونه بجملة خبرية، وهي قوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف: 56]، فتعَلُّق هذه: الجملة (1) بقوله: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} كتعلق قوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)} بقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}.
ولما كان قوله تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} مشتملًا على جميع مقامات الإيمان والإحسان, وهي: الحب والخوف والرجاء عقَّبها بقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف: 56]، أي: إنما ينال من دعاه خوفًا وطمعًا، فهو المحسِنُ والرحمة قريبٌ منه؛ لأن مدارَ الإحسان على هذه الأصول الثلاثة.
ولما كان دعاءُ التَّضَرُّع والخُفية يقابلُه الاعتداء بعدم التَّضَرُّع (2) والخُفية، عَقَّب ذلك بقوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)}.
وانتصابُ قوله: {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} و {خَوْفًا وَطَمَعًا}، قيل: هو على الحال، أي: ادعوه متَضَرِّعِنَ مُخْتَفِين خائفينَ طامعينَ، وهذا هو الذي يُرَجِّحه السُّهَيْلِيُّ وغيره (3). وقيل: هو نصبٌ على المفعول به، وهذا قولُ كثير من النُّحاة، وقيل: هو نصبٌ على المصدر، وفيه على هذا تقديران؛ أحدهُما: أنهْ منصوبٌ بفعل مقدَّر من لفظ المصدر، والمعنى: تَضَرَّعوا إليه تَضَرُّعًا واخفوا خُفْيَةً، والثاني: أنه منصوبٌ بالفعلِ المذكور نفسه؛ لأنه في معنى المصدر، فإن الدَّاعي متَضرِّعٌ طامعٌ في حصول مطلوبه خائفٌ من فواتِهِ، فكأنه قال: تَضَرَّعوا تضرُّعًا.
__________
(1) من قوله: “بجملة خبرية … ” إلى هنا ساقط من (ظ ود).
(2) “يقابله الاعتداء بعدم التضرع” سقطت من (ع).
(3) انظر: “مشكل إعراب القرآن”: (ص/ 279)، و”الكشاف”: (2/ 65).
(3/858)
والصحيحُ في هذا: أنه منصوبٌ على الحال، والمعنى عليه، فإن المعنى: ادعوا ربَّكُمْ متضرِّعين إليه خائفينَ طامعينَ (1). ويكونُ وقوعُ المصدر موقعَ الاسم على حد قوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة: 177]، وقولهم: رجل عَدْل، ورجل صَوْمٌ، قال الشاعر (2):
* فإنَّما هي إقبالٌ وإدبارُ *
وهو أحسن من أن يقال: ادعوه مُتَضَرِّعينَ خائفينَ وأَبْلَغُ، والذي حسَّنه أن المأمور به هنا شيئان: الدعاء الموصوف المقيَّد بصفة معيَّنة، وهي صفة التَّضَرُّع والخوف والطمع، فالمقصودُ تقييد المأمور به بتلك الصفة، وتقييد الموصوف الذي هو صاحِبُها بها، فأتى بالحالِ على لفظ المصدر لصلاحِيَّتِهِ لأن يكون صفةً للفاعل وصفةً للفعل المأمور به.
فتأمَّل هذه النكتةَ، فإنك إذا قلت: اذكر ربَّك تَضَرُّعًا، فإنك تريد: اذكره متَضَرِّعًا إليه، واذكره ذكر تضرُّع، فأنت مريدٌ للأمرين معًا، ولذلك إذا قلتْ ادْعُهُ طَمعًا، أي: ادعُهُ دعاءَ طمع (3)، وادعُهُ طامعًا في فضله، وكذلك إذا قلت: ادعُهُ رغْبَةً ورهْبَةً، كقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90] كان المرادُ: ادعُهُ راغبًا وراهبًا، وادعُه دعاءَ رغبة ورهبة.
فتأمَّلْ هذا الباب تجدْه كذلك، فأتى فيه بالمصدر الدَّالِّ على وصف المأمور به بتلك الصفة، وعلى تقييد الفاعل بها تقييدَ صاحب
__________
(1) (ظ ود): “مطيعين”.
(2) عجز بيت للخنساء من قصيدة ترثيِ أخاها صخرًا “الديوان”: (ص/ 383).
وصدره:
* ترتَعُ ما رَتَعت حتى إذا ادَّكَرَتْ *
(3) من قوله: “إليه واذكره … ” ساقط من (ظ ود).
(3/859)
الحال بالحال، ومما يدُلُّك على هذا أنك تجدُ مثلِ هذا صالحًا وقوعُه جوابًا لـ (كيف)، فإذا قيل: كيفَ أدعوه؟ قيل: تَضرُّعًا وخُفْيةً، وتجد اقتضاءَ (كيف) لهذا أشدَّ من اقتضاء: (لِمَ) (1)، ولو كان مفعولًا له لكان جوابًا لـ: (لِمَ)، ولا تحسنُ هنا، ألا ترى أن المعنى ليس عليه، فإنه لا يصِحُّ أن يقال: لمَ أدعوه؟ فيقول: تضرُّعًا وخُفية، وهذا واضحٌ، ولا هو انتصابٌ على المصدر المبيِّن للنَّوع الذي لا يتقيَّدُ به الفاعلُ لما ذكرنا من صلاحيَّته، جوابًا لـ (كيف).
وبالجملة؛ فالمصدريَّة في هذا الباب لا تُنافي الحالَ، بل الإتيانُ بالحال هاهنا بلفظ المصدر يُفيد ما يُفيده المصدرُ مع زيادة فائدة الحال، فهو أتمُّ معنىً ولا تنَافِيَ بينهما، والله أعلم.
فصل
وقوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، فيه تنبيهٌ ظاهرٌ على أن فعلَ هذا المأمور به هو الإحسانُ المطلوبُ منكم، ومطلوبُكم أنتم من الله هو رحمته (2)، ورحمتُه قريبٌ من المحسنين، الذين فعلوا ما أُمِروا به من دعائه خوفًا وطمعًا، فقربُ (3) مطلوبكم منكم وهو الرَّحمةُ، بحسب أدائكم لمطلوبه منكم وهو الإحسان، الذي هو في الحقيقة إحسانٌ إلى أنفسكم، فإن الله تعالى هو الغني الحميد، وإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم.
وقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، له دلالة ٌبمنطوقه،
__________
(1) وقع في (ع) في جميع المواضع: “كم” وفي الموضع: الثاني وحده وقع “كم” فى (ق وع وظ) وهو خطأ.
(2) هذه الجملة سقطت من (ق).
(3) (ق وظ ود): “يقرب”.
(3/860)
ودلالةٌ بإيمائه وتعليله، ودلالة بمفهومه؛ فدلالتُه بمنطوقه (1) على قرب الرحمة من أهل الإحسان، ودلالته بتعليله وإيمائه على أن هذا القربَ مستحقٌّ بالإحسان، فهو السببُ في قربِ الرحمة منهم، ودلالته بمفهومه على بعد الرحمة من غير المحسنين، فهذه ثلاثُ دلالات لهذه الجملة.
وإنما اختصَّ أهلُ الإحسان بقرب الرحمة منهم؛ لأنها إحسانٌ من الله أرحم الراحمين، وإحسانه تعالى إنما يكون لأهل الإحسان؛ لأن الجزاءَ من جنس العمل، فكما أحسنوا بأعمالهم أحْسَنَ إليهم برحمته.
وأما من لم يكنْ من أهل الإحسان فإنه لما بَعدَ عن الإحسان بعدَتْ عنه الرحمةُ بُعدًا ببعدٍ، وقُربًا بقرب، فمن تقرَّب بالإحسان تقرَّب اللهُ إليه برحمته، ومن تباعَدَ عن الإحسان، تباعَدَ اللهُ عنه برحمته، واللهُ سبحانه يحبُّ المحسنينَ، ويبْغِضُ من ليس من المُحسنينَ، ومن أحبَّه الله فرحمته أقربُ شيءٍ منه، ومن أبغضَهُ فرحمته أبعدُ شيءٍ منه.
والإحسان هاهنا هو فعل المأمور به، سواء كان إحسانًا إلى الناس أو إلى نفسه، فأعظمُ الإحسان الإيمان والتوحيدُ (2) والإنابة إلى الله والإقبال عليه والتَّوَكُّل عليه، وأن يعبدَ اللهَ كأنه يراهُ إجلالًا ومهابةً وحياءً ومحبةً وخشيةً، فهذا هو مقامُ الإحسان، كما قال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – وقد سأله جبريل عن الإحسان فقال: “أنْ تَعْبُدَ اللهَ كأنَّكَ تَرَاهُ” (3)، وإذا كان هذا هو الإحسانَ فرحمةُ الله قريبٌ من صاحبه، فإن الله إنما يرحمُ أهل توحيده المؤمنين به.
__________
(1) من قوله: “ودلالة بإيمائه … ” إلى هنا سقط من (ع).
(2) “الإيمان” سقطت من (ق)، و”التوحيد” مقدمة في (ع).
(3) أخرجه البخاري رقم (50)، ومسلم رقم (9) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- ومسلم رقم (8) من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.
(3/861)
وإنما كتب رحْمَتَهُ للذين يَتَّقون ويؤتونَ الزَّكاةَ، والذين هم بآياته مؤمنونَ (1)، والذين يَتَّبِعون رسولَهُ، فهؤلاء هم أهلُ الرحمةِ، كما أنهم هم المُحسنونَ.
وكما أحسنوا جُوزوا بالإحسان، و {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60] يعني: هل جزاءُ من أحسن عبادَةَ ربِّه إلّا أن يُحْسِنَ ربُّه إليه؟.
قال ابن عباس: هل جزاء من قال لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمدٌ – صلى الله عليه وسلم – إلا الجنَّةُ (2).
وقد ذكر ابنُ أبي شيبة وغيرُه من حديث الزُّبير بن عَدِي، عن أنس بن مالك قال: قرأ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] ثم قال: “هَلْ تَدْرُونَ مَا قَالَ رَبُّكُمْ”؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: “يَقولُ هَلْ جَزَاءُ مَنْ أنْعَمْتُ عَلَيْهِ بِالتَّوْحِيدِ إلاّ الجَنَةُ” (3).
فصل (4)
وأما الإخبار عن الرَّحمة وهي مؤنثة بالتاء بقوله: (قريبٌ) وهو
__________
(1) (ظ وع): “بآياتنا يؤمنون”.
(2) ذكره البغوي في “تفسيره”: (4/ 276).
(3) أخرجه الحكيم الترمذي في “نوادر الأصول”: (2/ 266)، والبغوي في “تفسيره”: (2/ 276)، والديلمي في “مسند الفردوس”: (4/ 337) وابن النجار في “تاريخه” كما في “الدر المنثور”: (6/ 207). وفي سنده بشر بن الحسين الأصبهاني الراوي عن الزبير بن عدي متهم بالكذب، بل اتهمه أبو حاتم بالكذب على الزبير. انظر “الميزان”: (2/ 26) وغيره.
(4) انظر للمسألة: “الإنصاف في مسائل الخلاف”: (2/ 758 – 782) لابن الأنباري، وساق السيوطي في “الأشباه والنظائر”: (3/ 173 – 187) ملخَّص مناظرة بين ابن مالك ومجد الدين الروذراوي في هذه الآية. وساق بعدها (3/ 187 – 195) رسالة لابن هشام في هذه الآية.
(3/862)
مذكَّر، ففيه اثنا عَشَرَ مسلكًا نذكرها، ونبيِّنُ ما فيها من صحيح وسقيم ومقارب:
المسلك الأول: أن فَعِيلًا على ضَرْبين:
أحدهما: يأتي بمعنى فاعل، كقَدِير وسَمِيع وعليم.
والثاني: يأتي بمعنى مفعول، كقَتِيل وجَرِيح، وكفٍّ خَضِيب، وطَرْف كَحِيل، وشعر دَهِين، كله بمعنى مفعول.
فإذا أتى بمعنى فاعل فقياسه أن يجري مجراه في إلحاق التاء به مع المؤنث دون المذكر كجميل وجميلة، وشَرِيف وشَرِيفة، وصَبِيح وصَبِيحة، ووضيء ووضيئة (1)، ومَلِيح ومَلِيحة، وطويل وطويلة، ونحوه.
وإذا أتى بمعنى مفعول فلا يخلو إما أن (2) يصحب الموصوف، كرجل قَتِيل وامرأة قَتِيل، أو يفرد عنه، فإن صحبَ الموصوف استوى فيه المذكَّرُ والمؤنَّثُ، كـ”رجُلٍ قَتِيلٍ وامرَأَةٍ قَتِيلٍ” وإن لم يصحبِ الموصوفَ، فإنه يؤنَّثُ إذا جرى على المؤنَّث نحو “قَتِيلَةُ بني فُلانٍ”، ومنه قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ … } إلى قوله: {وَالنَّطِيحَةُ} [المائدة: 3]، هذا حكم فعيل. وفعولٌ قريب منه لفظًا ومعنى، فإنهما مشتبهان في الوزن والدّلالة على المبالغة وورودهما بمعنى فاعل ومفعول.
ولما كان (فعِيلٌ) أخفَّ استُغْنِيَ به عن (فاعل) في المضاعَف، كـ “جَلِيل وعَزِيز وذَلِيل”، كراهِيَةً منهم لثقل التضعيف إذا قالوا:
__________
(1) (ظ): “وصَبي وصَبيَّة”.
(2) (ظ) زيادة: “يكون”.
(3/863)
“جالِل وعازِز وذالِل”، فأتوا بفَعِيل مفصولًا فيه بين المِثْلَين بالياء الساكنة، ولمْ يأتوا في هذا بفعول؛ لأن فعيلًا أخف منه، ولِخفَّتِهِ أيضًا اطَّرد بناؤُه من “فَعُلَ” كشريف وظريف، وجميل ونَبِيل، وليس لـ “فعوِل” بناءٌ يطَّرِدُ منْه، ولخفَّته أيضًا كان في أسماء اللهَ تعالى أكْثَرُ من “فَعُول” فإن الرحيم والقَدير والحَسيب والجَليل والرَّقيب ونظائره أكثر من ألفاظ الرَّؤوف والغَفور والشَّكور والصَّبور والوَدود والعَفُوُّ، ولا يُعرفُ إلا هذه الألفاظ الستة.
وإذا ثبتَ التشابُهُ بين “فَعِيل وفَعُول” فيما ذكرنا، وكانوا قد خَصُّوا “فعولًا” الذي بمعنى فاعل بتجريده من التاء الفارقة بين المذكر والمؤنث، وشرَّكوا بينهما في لفظ المذكر، فقالوا: “رجل صبورٌ وشَكور”، و”امرأة صَبُورٌ وشكور” ونظائرهما، وأما “عدوٌّ وعدوَّةٌ” فشاذٌّ.
فإن قصد بالتاء المبالغة لحقت المذكر والمؤنث كـ: “رَجُلٍ مَلُولَةٍ وفَروقَةٍ” وامرأة كذلك: وإن كان فعول في معنى مفعول لحقته التاء في المؤنث كـ: “حَلُوبة ورَكُوبة”.
فإذا تقرَّر ذلك فـ “قريب” في الآية هو فعيل بمعنى فاعل، وليس المرادُ أنه بمعنى قارب، بل بمعنى اسم الفاعل العام، فكان حقَّه أن يكون بالتاء، ولكنهم أجْرَوْه مجرى: فَعِيل بمعنى مفعول، فلم يُلحقوه التاء، كما جرى فعيل بمعنى مفعول مجرى فعيل بمعنى فاعل في إلحاقه التاء، كما قالوا: “خَصْلَةٌ حَمِيدَةٌ وفَعْلَة ذَمِيمَةٌ”، بمعنى: محمُودة ومَذْمُومة، فحملًا على: “جَمِيِلة وشَرِيفة” في لحاق التاء فحملوا “قريبًا” على: “امرأة قتِيلٍ وكفٍّ خَضِيب وعين كَحِيل” في عدم لحاق التاء، حمْلًا لكل من البابينِ على الآخر.
ونظيره قوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)} [يس: 78]
(3/864)
فحمل رَمِيمًا وهي بمعنى فاعل على “امرأة قتيلٍ” وبابه، فهذا المسلكُ هو من أقوى مسالك النُّحاة، وعليه يعتمدونَ، وقد اعترضَ عليه بثلاثة اعتراضات:
أحدها: أن ذلك يستلزمُ التَّسْوِيَةَ بين اللاَّزم والمتعدِّىِ، فإن “فَعيلًا” بمعنى مفعول بابه الفعل المتعدي، و”فَعِيلًا” بمعنى فاعل بابه الفعل اللازم؛ لأنه غالبُ ما يأتي من “فَعُل” المضموم العين, فلو جرى على أحدهما حكم الآخر، لكان ذلك تسوية بين اللازم والمتعدِّي وهو ممتنعٌ.
الاعتراض الثاني: أنّ هذا إنِ ادُّعِيَ على وجه العموم فباطل، وإن ادُّعِيَ على سبيل الخُصوص فما الضابطُ وما الفرقُ بين ما يسوغُ فيه هذا الاستعمالُ وما لا يسوغُ؟.
الاعتراض الثالث: أن العربَ قد نَطَقَتْ في “فَعِيل” بالتاء وهو بمعنى مفعول، وجرَّدَتْهُ من التاء وهو بمعنى فاعل، قال جرير (1) يرثي خالدة (2):
نِعْمَ القَرِينُ وكنتِ عِلْقَ مَضِنَّةٍ … وأرى بِنَعْفِ بُلَيَّةَ الأحجارُ
فجرَّدَ “القرين” من التاء وهو بمعنى فاعل، وقال (3): فسَقَاكِ حيثُ حَلَلْتِ غيْرَ فَقِيْدةٍ … هَزِجُ الرَّوَاحِ ودِيمَةٌ لا تُقْلِعُ فقرن “فقيدة” بالتاء، وهو فعيل، بمعنى مفعول أي: غير مفقودة.
__________
(1) “ديوانه”: (ص/ 154).
(2) (ع): “خالته” و (ق): “والده” والمثبت من (ظ) وهو الصواب، وهي زوجته وأم ابنه حَزْرة.
والنعف: أعلى الوادي، وبُلَيَّة: اسم موضع.
(3) أي: جرير, “ديوانه”: (ص/ 268).
(3/865)
وقال الفرزدق (1):
فَدَاوَيْتُهُ عَامَيْنِ وهي قَريبةٌ … أَرَاها وتَدْنو لي مِرارًا وأَرْشُفُ
ويقولون: “امرأَةٌ فَتِينٌ وسَرِيحٌ وهَرِيتٌ” (2)، فجرَّدوه من التاء وهو بمعنى فاعل، وقالوا: “امْرَأَةٌ فَروكٌ، وهَلُوكٌ، ورَشُوفٌ، وأَنُوفٌ، وَرَصوفٌ” (3)، فجردوه وهو بمعنى فاعل كصبور، وقالوا: “امْرأَةٌ عَرُوبٌ” (4)، فجردوه أيضًا، ثم قالوا: “امرَأَةٌ مَلُولَةٌ وفُرُوقَةٌ”، فقرنوه بالتاء وهو بمعنى فاعل أيضًا، ودعوى أن التاء هاهنا للمبالغة لا دليل عليها، فقد رأيتَ اشتراكَ فَعُول وفَعِيل في الاقتران بالتاء والتجرُّد منها، فدعوى أصالةِ المجرَّد منهما، وشذوذ المقرون مقابلة بمثلها، ومع مقابِلِها قياسُ اللغة في اقتران المؤنَّث وتجريد المذكَّر.
وأما ما استشهدتم به من قوله تعالى: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)}، فهو على وَفْق قياس العربية، فإن العظامَ جمع عَظْم، وهو مذكَّر، ولكن جمعه جمع تكسير، وجمع التكسير يجوز أن يُرَاعَى فيه تأنيثُ الجماعة، وباعتباره قال: (وهي)، ولم يقلْ: (وهو)، ويُرَاعى فيه معنى الواحد، وباعتباره قال: “رَمِيم”، كما يقال: “عظمٌ رَمِيم”، مع أن رَمِيمًا يطلقُ على (5) المذكر مفردًا
__________
(1) “ديوانه”: (ص/ 432).
(2) فَتِين من الفتنة، والسريح: المطلقة التي لا زوج لها، والهريت: المرأة المفضاة. انظر “القاموس”.
(3) الفروك: المبغضة لزوجها، والهلوك: الفاجرة أو الحسنة التبعُّل، من الأضداد، والرشوف: طيبة الفم، والأنوف: طيبة رائحة الأنف، ورصوف: ضيِّقة المكان.
(4) العروب: المتحببة إلى زوجها.
(5) (ق وظ) زيادة: “جمع”.
(3/866)
وجمعًا، قال جرير (1):
آلُ المُهَلَّبِ جَذَّ اللهُ دابِرَهُمْ … أَمْسَوا رَمِيمًا فلا أَصْلٌ ولا طَرَفُ
فهذا الاعتراضُ على هذا المسلكِ.
فصل
المسلك الثاني: أن “قريبًا” في الآية من باب تأويل المؤنث بمذكر موافق له في المعنى كقول الشاعر (2):
أرى رجلاً منهم أَسِيفًا كأنَّما … يَضُمُّ إلى كَشْحَيْهِ كَفًا مُخَضَّبا
فكفٌّ مؤنَّثٌ، ولكن تأوَّلَه بمعنى عُضْو وطَرَف، فذكر صفتَه، فكذلك تُتأوَّلُ الرحمة وهى مؤنثة بالإحسان، فيذكر خبرها. قالوا: وتأويلُ الرحمة بالإحسان أولى من تأويل الكفِّ بعضوٍ لوجهين:
أحدهما: أن الرحمةَ معنًى قائمٌ بالرَّاحم، والإحسان هو بِرُّ المرحوم، ومعنى القُرْب في البر من المحسنين أظهرُ منه في الرحمة.
الثاني: أن ملاحظة الإحسان في الرَّحمة الموصوفة بالقُرْب من المحسنين، هو مقابل الإحسان (3) الذي صدر منهم، وباعتبار المقابلة ازداد المعنى قُوَّةً، واللفظُ جزالةً، حتى كأنه قال: إن إحسان الله قريبٌ من أهل الإحسان، كما قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60] فذكر “قريبًا” ليفهم منه أنه صفةٌ
__________
(1) “ديوانه”: (ص / 308)، وفيه: “أمسو رمادًا”.
(2) هو: الأعشى “ديوانه”: (ص/ 60).
(3) من قوله.”في الرحمة الموصوفة … ” إلى هنا سقط من (ظ)، وفي (ع): “بالرحمة … هو مقابلة للإحسان”.
(3/867)
لمذكَّر، وهو الإحسانُ، فيفهم المقابلة المطلوبة. قالوا: ومن تأويل المؤنث بمذكَّر ما أنشده الفَرَّاء (1):
وَقَائِعُ في مُضَرٍ تِسْعَةٌ … وفي وائِلٍ كانَتِ العاشِرَهْ
فتأوَّلَ الوقائعَ وهي مؤنَّثَةٌ بأيام الحرب المذكَّرة، فأَنَّث العَدَدَ الجاري عليها، فقال: تسعة، ولولا هذا التأويل لقال: تِسْعٌ؛ لأن الوقائع مؤنثة، قالوا: وإذا جاز تأويل المذكر بمؤنث في قول من قال: “جاءَتْهُ كِتابي”، أي: صَحِيفتي، وفي قول الشاعر (2):
يا أيُّها الرَّاكِبُ المُزْجِي مَطِيَّتَهُ … سَائِلْ بني أسَدٍ ما هذهِ الصَّوْتُ
أي: ما هذه (3) الصيحَة؟ مع أنه حَمْل أصلٍ على فرع، فَلأَنْ يجوزَ تأويل مؤنث بمذكر، لكونه حَمْل فرع على أصل أولى وأحرى، وهذا وجهٌ جيد، وقد اعترض عليه باعتراضين فاسدين غير لازمين:
أحدهما: أنه لو جاز تأويل المؤنث بمذكر يوافقه وعكسه، لجاز أن يقال: “كَلَّمَتْنِي زَيدٌ، وَأَكْرَمَتْنِي عَمْرٌو، وكَلَّمَنِي هِنْدٌ، وأكْرَمَنِي زَيْنَبُ” تأويلًا لزيْدٍ وعمْرٍو بالنفس والجثة، وتأويلاً لهندٍ وزينبَ بالشخص والشَّبَح، وهذا باطلٌ (4).
وهذا الاعتراضُ غيرُ لازم، فإنهم لم يدَّعواْ اطّرادَ ذلك، وإنما ادَّعوا أنه مما يَسُوغ أن يستعملَ، وفَرْق، بين ما يَسُوغُ في بعض الأحيان
__________
(1) أنشده ابن الأنباري في “الإنصاف”: (2/ 769) بلا نسبةٍ.
(2) هو: رُوَيشد بن كثير الطائي، كما في “حماسة أبي تمام”: (1/ 102).
(3) “ما هذه” من (ع) فقط.
(4) من قوله: “زينب، تأويلًا … ” سقط من (ق) وبياض في (ظ).
(3/868)
وبين ما يَطَّرِد كرفع الفاعل ونصب المفعول، وهم لم يدَّعوا أنه من القسم الثاني.
ثم إن هذا الاعتراضَ مردودٌ بكلِّ ما يسوغُ استعمالُه بمُسَوِّغٍ وهو غير مُطَّرِد، وهو أكثرُ من أن يذكر هاهنا، ولا ينكرُه نحْوِيٌّ أصلًا، وهل هذا إلا اعتراضٌ (1) على قواعد العربية بالتشكيكات والمناقضات؟! وأهلُ العربية لا يلتفتون إلى شيء من ذلك، فلو أنهم قالوا: يجوزُ تأويلُ كلِّ مؤنَّث بمذكَّر يوافقه وبالعكس لصحَّ النقض، وإنما قالوا: يسُوغ أحيانًا تأويل أحدهما بالآخر لفائدة يتضمَّنُها (2) التأويل، كالفائدة التي ذكرناها من تأويل الرَّحمة بالإحسان.
الاعتراض الثاني: أن حَمْل الرحمة على الإحسان؛ إما أن يكونَ حملًا على حقيقته أو مجازه، وهما ممتنعان، فإن الرحمة والإحسان مُتَغَايرَانِ، لا يلزمُ من أحدهما وجود الآخر؛ لأن الرحمة قد توجدُ وافرةً في حقِّ من لا يتمكَّنُ من الإحسان كالوالدة العاجزة ونحوها (3)، وقد يوجدُ الإحسان ممَّن لا رحمةَ في طباعه كالمَلِك القاسي، فإنه قد يُحسِنُ إلى بعض أعدائِهِ وغيرهم لمصلحة مُلْكِهِ مع أنه لا رحمةَ عندَهُ، وإذا تبَيَّنَ انفكاكُ أحدهما عن الآخر لم يَجُزْ إطلاقُه عليه لا حقيقةً ولا مجازًا.
أما الحقيقةُ فظاهرٌ، وأما المجازُ فإن شرطهُ خطورُ (4) المعنى المجاري بالبال ليَصِحَّ انتقالُ الذهن إليه، فإذا كان منفكًّا عن الحقيقة
__________
(1) (ق وظ): “الاعتراض”!.
(2) (ق وع): “يتضمنه”.
(3) (ظ): “كالوالد العاجز ونحوه” و (ق): “كالوالدة العاجز”.
(4) (ع): “حضور”.
(3/869)
لم يخطرْ بالبال (1)، وهذا الاعتراضُ أفسدُ من الذي قبلَه، وهو من باب التَّعَنُّت والمناكدة.
وأين هذا من قول أكثر المتكلمين -ولعل هذا المعترض منهم-: إنه لا معنى للرحمة غالبًا إلا الإحسانُ المحضُ، وأما الرِّقَّةُ والحِنَّة (2) التي في الشاهد فلا يوصفُ الله تعالى بها، وإنما رحمتُه مجرَّدُ إحسانه، ومع أنَّا لا نرتضي هذا القولَ، بل نثبتُ لله تعالى الرحمةَ حقيقةً، كما أثبتها لنفسه منزَّهَةً مبرَّأَةً عن خواصِّ صفاتِ المخلوقين، كما نقوله في سائر صفاته، من إرادتِهِ وسمعِهِ وبصرِهِ وعلمِهِ وحياتِهِ وسائرِ صفات كماله، فلم نذكره إلا لِنُبَيَّنَ فسادَ اعتراض هذا المعترض على قول أئمته ومن قال بقوله من المُتَكَلِّمينَ.
ثم نقول: الرحمةُ لا تنفكُّ عن إرادة الإحسان، فهي مستلزمةٌ للإحسان أو إرادته استلزامَ الخاصِّ للعام، فكما يستحيلُ وجودُ الخاص بدون العام، فكذلك الرحمة بدون الإحسانِ أو إرادتِه يستحيلُ وجودُها.
وأما قضيّةُ الأم العاجزة فإنها وإن لم (3) تقدِر على الإحسان بالفعل فهي محسِنةٌ بالإرادة، فرحمتها لا تنفكُّ عن إرادتها التامَّة للإحسان، التي يقترنُ بها مقدورها إمَّا بدُعاء وإمَّا بإيثار بما تقدر عليه، ونحو ذلك، فتخلُّف بعض الإحسان التي لا تقدرُ عليه عن رحمتها لا يخرجُ رحمتَها عن استلزامها للإحسان المقدور، وهذا واضحٌ.
وأما المَلِكُ القاسي إذا أحسَنَ فإن إحسانه لا يكون رحمةً، فهذا
__________
(1) (ظ): “بالذهن”.
(2) الحِنَّة: هي رقة القلب. “اللسان”: (13/ 129).
(3) (ظ): “وإن لم تكن … “.
(3/870)
لأن الإحسانَ أعمُّ من الرحمة، والأعمُّ لا يستلزمُ الأخصَّ، وهم لم يدَّعوا ذلك فلا يلزمهم، وأيضًا فإن الإحسان قد يقالُ: إنه يستلزمُ الرحمةَ، وما فعلى المَلِكُ المذكور فليس بإحسان في الحقيقة، وإن كانت صورتُهُ صورةَ الإحسان، وبالجملة؛ فالعنتُ والمناكدةُ على هذا الاعتراض أَبْيَنُ من أن (ق/ 213 ب) يتُكَلَّفَ معه رَدّهُ وإبْطَالُه.
فصل
المسلك الثالث: أن (قريبًا) في الآية من باب حذف المُضَاف وإقامة المُضَاف إليه مقامَه، مع الالتفات إلى المحذوف، فكأنه قال: “إنَّ مكانَ رحمة الله (1) قريبٌ من المُحسنينَ”، ثم حذفَ المكان وأعطى الرحمة إعرابَهُ وتذكيرَهُ. ومن ذلك قولٌ الشاعر -حسَّان (2) -.
يَسْقُون من وَرَدَ البَرِيصَ عليهمُ … برَدَىَ يُصَفَّقُ بالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ
فقال: يُصَفَّقُ بالياء، وبَرَدَى: مؤنَث؛ لأنه أراد ماءَ بردى، ومنه قول النبي – صلى الله عليه وسلم – وقد أخذ بيديه ذهبًا وحريرًا فقال-: “هذان حَرَامٌ على ذكورِ أمتِي” (3)، فقال: “حَرَامٌ” بالإفراد والمخبَرُ عنه مثنَّى، كأنه قال: “استعمالُ هذينِ حَرَامٌ”، وهذا المسلك ضعيفٌ جدًّا؛ لأن حذفَ المُضاف وإقامة المضاف إليه مقامَه، يُسوغُ ادِّعاؤه مطلقًا، وإلا لالتبسَ الخطاب وفَسَد التَّفاهم وتعطَّلَتِ الأدلَّةُ، إذ ما من لفظِ
__________
(1) ظ: “الرحمة”.
(2) “ديوانه”: (1/ 74).
(3) أخرجه أحمد: (2/ 164 رقم 750)، وأبو داود رقم (4057)، والنسائي: (8/ 160)، وابن ماجه رقم (3595) من حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وهو صحيح بشواهده الكثيرة.
(3/871)
أمرٍ أو نهي أو خبرٍ يتضمِّن مأمورًا به (1) ومنهيًّا عنه ومخبَرًا، إلا ويمكنُ على هذا أن يُقَدَّر له لفظ (2) مضاف يُخرجه عن تعلُّق الأمر والنهي والخبرية.
فيقول الملحدُ في قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] أ، أي: معرفة حج البيت، و {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] أي: معرفة الصيام، وإذا فُتِحَ هذا الباب فسَدَ التَّخَاطُبُ وتعطَّلَتِ الأدلَّةُ، وإنما يضمَرُ المضافُ حيث يتعيَّنُ ولا يصِحُّ الكلامُ إلا بتقديره للضرورة، كما إذا قيل: “أكَلْتُ الشَّاةَ” فإن المفهوم من ذلك: “أكَلْت لَحْمَها”، فحَذف المضاف لا يُلْبس، وكذلك إذا قلت: “أكَلَ فُلانٌ كَبدَ فُلانٍ”: إذا أكل مالَهُ، فإِن المفهوم: أكل ثَمَرَةَ كَبدِه، فحَذْف المضاف هنا لا يُلْبس (3)، ونظائره كثيرة.
وليس منه: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] وإن كان أكثر الأصوليين يمثِّلون به، فإن القوية اسمٌ للسكان في مسكن مجتمع، فإنما تطلقُ القريةُ باعتبار الأمرين، كالكأسِ: لمأ فيه الشَّراب. والذَّنُوب: للدَّلْوِ الملآنِ ماءً، والنهرِ (4). والخِوان: للمائدةِ إذا كان عليها طعامٌ ونظائره.
ثم إنهم لكثرة استعمالهم هذه اللَّفظةَ ودورانِها في كلامهم أطلقوها على السُّكَّان تارَةً، وعلى المسكن تارة، بحسب سياق الكلام وبساطه (5)، وإنما يفعلونَ هذا حيث لا لَبْسَ فيه (6)، فلا إضمارَ (ظ /561 ب) في
__________
(1) من (ع).
(2) (ق وع): “لفظه”.
(3) من قوله: “وكذلك إذا … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(4) “النهر” ليست في (ق).
(5) معناها هو مضى السياق، واستعملها ابن القيم في “البدائع”: (3/ 1130) أيضًا.
(6) من (ع).
(3/872)
ذلك ولا حَذْف، فتأمَّلْ هذا الموضعَ الذي خَفِيَ على القومِ مع وضوحه.
وإذا عُرِف هذا فقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] ليس في اللَّفظ ما يدُلُّ على إرادة (ق /214 أ)، موضع ولا مكانٍ أصلًا، فلا يجوزُ دعوى إضماره، بل دعوى إضماره خطأ قطعًا؛ لأنه يتضمَّنُ الإخبارَ بأن المتكلِّم أرَاد المحذوفَ ولم ينصبْ على إرادته دليلًا لا صريحًا ولا لزومًا، فدعوى المُدَّعي أنه أراده (1) دعوى باطلةٌ.
وأما قوله: “بَرَدَى يُصَفَّقُ” فليس أيضًا من باب حذف المُضاف، بل أراد “ببَرَدَى” النهر وهو مُذَكَّرٌ، فوصفه بصفة المذكَّر فقال: يُصَفَّقُ (2)، فلم يُذَكَّرَ بناء على حذف مضاف، وإنما ذُكَر بناءً على أن بَرَدَى المُرادُ به النهرُ.
فإن قلتَ: فلابُدَّ من حذف مضاف؛ لأنهم إنما يَسقُونَ ماءَ بَرَدَى لا نفسَ النهر.
قلتُ: هذا وإن كان مرادَ الشاعر فلم يلزمْ منه صحَّةُ ما ادَّعاه من أنه ذكر “يُصَفَّقُ” باعتبار الماء المحذوف، فإن تذكيره إنما يكونُ باعتبار إرادة النهر وهو مذكَّرٌ، فلا يدلُّ على ما ادَّعَوْه.
وأما قولة – صلى الله عليه وسلم -: “هذانِ حَرامٌ”؛ ففي إفراد الخبر سِرٌ بديعٌ جدًّا، وهو التنبيهُ والإشارةُ على أن كلَّ واحدٍ منهما بمفرده موصوفٌ بأنه حرامٌ، فلو ثَنَّى الخبر لم يكن فيه تنبيهٌ على هذا المعنى، فلهذا أفْرَدَ الخبر، فكأنه قال: “كلُّ واحدٍ من هذين حرامٌ”، فدلَّ إفرادُ الخبر على إرادة الإخبار عن كل واحدٍ واحدٍ بمفرده، فتأمَّلْه فإنه من بديع
__________
(1) من قوله: “إرادته … ” إلى هنا سقط من (ع).
(2) من قوله: “فليس أيضًا … ” إلى هنا سقط من (ق).
(3/873)
اللُّغة، وقد تقدَّم بيانهُ في هذا التعليق في مسألة (كِلا وكِلْتا) (1)، وإن قولهم: “كلاهما قائمٌ” بالإفراد لا يدُلُّ على أن (كلا) مفردٌ كما ذهب إليه البصريون، بل هو مثنّى حقيقة، وإنما أفردوا الخبرَ للدلالة على أن الإخبار عن كلِّ واحد منهما بالقيام، وقد قرَّرنا ذلك هناك بما فيه كفاية.
فصل
المسلك الرابع: أنه من باب حذف الموصوف وإقامة الصِّفَة مقامَهُ، كأنه قال: “إن رحمةَ الله شيءٌ قريبٌ من المحسنين”، أو “لطفٌ قريبٌ”، أو “بِرٌّ قريبٌ”، ونحو ذلك، وحَذْف الموصوف كثير، فمنه قول الشاعر (2):
فامت تُبَكِّيْه على قَبْرِهِ … مَنْ لِيَ مِنْ بَعْدِكَ يا عامرُ
تَرَكْتَنِي في الدَّار ذا عُرْبَةٍ … قَدْ ذلَّ من ليس له ناصِرُ
المعنى: تَرَكتَنِي شَخْصًا أو إنسانًا ذا غُرْبَةٍ، ولولا ذلك لقالت: تَرَكْتَنِي ذَاتَ غُرْبَةٍ. ومنه قول الآخر (3):
فلو أَنْكِ في يَوْمِ الرَّخَاءِ سَأَلْتِنِي … فِرَاقَكِ لم أبخَلْ وأنتِ صَدِيقُ
أراد: وأنت شخصٌ أو إنسان صديقٌ، وعلى هذا المسلك حَمَل سيبويه قولَهم للمرأة: حَائِضٌ وطَامِث وطَالِقٌ، فقال: “كأنهم قالوا:
__________
(1) انظر: (1/ 376).
(2) أنشده ابن الأنباري في “الإنصاف”: (2/ 507) وابن منظور في “اللسان”: (4/ 608) بلا نسبة.
(3) أنشده الفراء كما ذكر ابن منظور في “اللسان”: (13/ 30) بلا نسبةٍ، وهو من شواهد الزمخشري في “المفصل”: (ص/ 395)، وابن هشام في “المغني” رقم (38)، وابن عقيل رقم (105).
(3/874)
شيء حائِضٌ وشيء طامِثٌ” (1) وهذا المسلك -أيضًا- ضعيف لثلاثة أوجه:
أحدها: أن حذفَ الموصوف وإقامةَ الصِّفة مقامَهُ إنما يحسُنُ بشرطين: أن تكونَ الصِّفَةُ خاصَّةً يُعْلَمُ ثبوتها لذلك الموصوف بعينه لا لغيره. الثاني: أن تكونَ الصِّفَةُ قد غلب استعمالها مفردةً على الموصوف (2)، كالبَرِّ والفاجر والعالم والجاهل والمتِّقي والرسول والنبي، ونحو ذلك مما غلب استعمالُ الصِّفَة فيه مجرَّدَةً عن الموصوف، فلا يكاد يجيءُ ذكر الموصوف معها، كقوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار: 13، 14] وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)} [الحجر: 45] وقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 35] وقوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)} [البقرة: 254] وهو كثير جدًّا في القرآن وكلام العرب وبدون ذلك لا يحسُنُ الاقتصار على الصِّفَة، فلا يحسُنُ أن تقول: “جاءَني طَويلٌ ورأيْتُ جميلًا أو قَبيحًا” وأنت تريد: “جَاءَنِي رجُلٌ طَويلٌ، وَرأيْتُ رَجُلًا جَمِيلًا أو قبيحًا” ولا تقول: “سَكَنْتُ في قَرِيبٍ” تريد: “في مكانٍ قريبٍ” مع دلالة السكنى على المكان.
الثاني: أن الشيءَ أعمُّ المعلومات، فإنه يشملُ الواجب والممكنَ، فليس في تقديره ولا في اللفظ به زيادة فائدة يكون الكلامُ بها فصيحًا بليغًا، فضلًا عن أن يكونَ بها في أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة، فأيُّ فَصَاحةٍ وبَلَاغةٍ في قول القائل في “حائِضٌ وطامِثٌ وطالِقٌ”:
__________
(1) “الكتاب”: (3/ 383).
(2) من قوله: “بعينه لا … ” إلى هنا سقط من (ظ).
(3/875)
“شيءٌ حائِضٌ وشيءٌ طامث وشيءٌ طالقٌ”، وهو لو صرَّح (ظ / 157 أ)، بهذا لاستهجَنَهُ السامعُ، فكيف يقدر في الكلام مع أنه لا يتضمَّنُ فائدةً أصلًا؟! إذ كونه شيئًا أمرٌ معلومٌ عامٌّ لا يدُلُّ على مَدْح ولا ذمٍّ، ولا كمال ولا نقصان.
وينبغي أن يُتَفَطَّنَ هاهنا لأمر لابُدَّ منه، وهو أنه لا يجوزُ أن يُحْمَلَ كلام الله عز وجل ويُفَسر بمجرد الاحتمال النَّحْوي الإعرابي الذي يحتملُه تركيبُ الكلام (1)، ويكونُ به الكلام له معنًى ما، فإنَّ هذا مقامٌ (2) غَلِطَ فيه أكثرُ المعربين للقرآن، فإنهم يفسِّرون الآية ويعربونها بما يحتملُهِ تركيب تلك الجملة، ويُفْهَم من ذلك الترِكيبِ أي معنًى اتَّفَقَ، وهذا غلطٌ عظيمٌ يقطع السامعُ بأن مرادَ القرآن غيْرُهُ، وإن احتملَ ذلكَ التركيبُ هذا المعنى في سياقٍ آخر وكلام آخر، فإنه لا يلزمُ أن يحتملَهُ القرآن.
مثل قول (ق/215 أ) بعضهم في قراءة من قرأ: {وَالْأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] بالجرِّ (3): إنه قَسَمٌ (4).
ومثل قول بعضهم في قوله تعالى: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217]: إن المسجدَ مجرور بالعطف على الضمير المجرور في (به) (5).
__________
(1) وانظر “مجموع الفتاوى”: (15/ 94)، و”قواعد التفسير”: (1/ 235) للسبت.
(2) (ق): “مقام عظيم”.
(3) وهي قراءة حمزة.
(4) ذكره القُشَيري عن بعضهم وقال: “وهذا تكلُّف”، وأجاب القرطبي بأنه، لا تكلف فيه. انظر “الجامع لأحكام القرآن”: (5/ 5).
(5) انظر “الجامع لأحكام القرآن”: (3/ 31 – 32)، و”البحر المحيط”: (2/ 155 – 156) لأبي حيان.
(3/876)
ومثلُ قول بعضهم في قوله تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُم وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} [النساء: 162]: إن (المقيمين) مجرور بواو القسم (1).
ونظائر ذلك أضعافُ أضعافِ ما ذكرناه، وأَوْهَى بكثير، بل للقرآنِ عرفٌ خاصٌ ومَعَانٍ معهودةٌ لا يناسبُهُ تفسيره بغيرها، ولا يجوزُ تفسيره بغير عُرْفه والمعهودِ من معانيه، فإنَّ نسبةَ معانيه إلى المعاني كنسبة ألفاظه إلى الألفاظ، بل أعظم، فكما أن ألفاظَهُ ملوكُ الألفاظ وأجلُّها وأفصحُها، ولها من الفصاحة أعلى مراتبها التي تعجَزُ عنها قدر العالمين، فكذلك معانيه أجلُّ المعاني (2) وأعظمُها وأفخمُها، فلا يجوزُ تفسيرُه بغيرها من المعاني التي لا تَلِيقُ به، بل غيرُها أعظمُ منها وأجلُّ وأفخمُ، فلا يجوز حملهُ على المعاني القاصرة، بمجرَّدِ الاحتمال النَّحْوي الإعرابي، فتدبَّرْ هذه القاعدةَ، ولْتَكُنْ منك على بال، فإنك تنتفعُ بها في معرفة ضعف كثير من أقوال المفسرين وزَيْفها، وتقطعُ أنها ليست مُرَادَ المتكلم تعالى بكلامه، وسنزيد هذا إن شاء الله بيانًا وبسطًا في الكلام على أصول التفسير، فهذا أصلٌ من أصوله بل من (3) أهمِّ أصولِهِ.
الوجه الثالث: أن “طالِقًا وحائضًا وطامِثًا” إنما حُذِفَتْ تاؤُه لعدم الحاجة إليها، فإن التاء إنما دخلت للفرق بين المذكَّر والمؤنث في محل اللَّبْس، فإذا كانت الصِّفَة خاصَّة بالمؤنَّث فلا لَبْس، فلا حاجة إلى التاء، هذا هو الصَّوَابُ في ذلك، وهو المذهبُ الكوفيُّ.
فإن قلت: هذا خلافُ مذهب سيبويه.
__________
(1) لم أر من ذكر هذا القول.
(2) من قوله “وأفصحها … ” إلى هنا سقط من (ظ).
(3) من (ع).
(3/877)
قلت: فكان ماذا؟ وهل يرتضي محصِّل بردِّ موجب الدليل الصحيح لكونه خلافَ قول عالم معيَّن، هذه طريقةُ الخفافيش، فأما أهلُ: البصائر فإنهم لا يردُّون الدليلَ وموجبه يقول مُعَيَّنٍ أبدًا، وقليلٌ ما هم.
ولا ريْبَ أن أبا بشر (1) -رحمه الله- ضَرَبَ في هذا العلمِ بالقِدْح المُعَلَّى، وأَحْرَزَ من قَصَبَات سَبْقِهِ، واستولى من أمدِهِ (2) على ما لم يَسْتَوْلِ عليه غيرُهُ، فهو المُصَلِّي في هذا المضمار، ولكن لا يوجبُ ذلك أن يُعْتَقَدَ أنه أحاطَ بجميع كلامِ العرب، وأنه لا حقَّ إلا ما قالَهُ، وكم (ق/215 ب) لسيبويه من نَصٍّ قد خالفه جمهورُ أصحابه فيه، والمُبَرِّزونَ منهم، ولو ذهبنا نذكرُ ذلك لطال الكلام به.
ولا تنسَ قولَه في باب الصِّفة المُشَبَّهَةِ (3): “مَرَرْتُ برَجُلٍ حَسَنٍ وَجْهُهُ” بإضافة حسن إلى الوجه، والوجه إلى الضمير، ومخالفة جميع البصريين والكوفيين في ذلك، فسيبويه رحمه اللهُ ممن يُؤْخَذُ من قوله ويترك، وأما أن نعتقدَ صحَّة قوله في كلِّ شيءٍ فكلاَّ، وسنفردُ إن شاء الله كتابًا للحكومة بين البصريين والكوفيين فيما اختلفوا فيه، وبيان الراجح من ذلك، وباللهِ التوفيق والتَّأْييد.
فإن قلت: يكفي في رد ما اخترتموه في “حَائِض وطامِث وطَالِق” من المذهب الكوفي قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج: 2] فهذا وصف يختصُّ به الإناث، وقد جاء بالتاء.
__________
(1) يعني: سيبويه.
(2) (ع): “أصله”، والأمد: الغاية.
(3) “الكتاب”: (1/ 194 – 195).
(3/878)
قلت: ليس في هذا -ولله الحمد- ردٌّ لهذا المذهب ولا إبطال له، فإن دخولَ (ظ / 157 ب) التاء هاهنا يتضمَّنُ فائدةً لا تحصلُ بدونها فتعيَّنَ الإتيانُ بها، وهي: أن المراد بالمرضعة فاعِلَةُ الرَّضَاع، فالمرادُ الفعل لا مجرد الوصف، ولو أُرِيْدَ الوصفُ المجرَّد بكونها من أهل الإرضاع لقيل: “مُرْضِعٌ” كحَائِض وطَامِث.
ألا ترى إلى قوله – صلى الله عليه وسلم -: “لا يَقْبلُ الله صَلاةَ حَائِضٍ إلاّ بِخِمَارٍ” (1) فإن المرادَ به الموصوفة بكونها من أهل الحَيْض لا من يجري دمُها، فالحائضُ والمُرْضِعُ وَصْف عامّ، يقالُ (2) على من لها ذلك وصفًا، وإن لم يكنْ قائِمٌا بها، ويقال على مَنْ قام بها الفعلُ، فأُدْخِلت التاءُ هاهنا إيذانًا بأن المُرَادَ: مَنْ تفعل الرَّضَاع، فإنها تذهلُ عمَّا تُرْضِعُهُ لشدَّة قوله زلزلة الساعة، وأكَّدَ هذا المعنى بقوله: {عَمَّا أَرْضَعَتْ} فعُلِم أن المُرادَ: المُرضِعَةُ التي تُرْضِعُ بالفعل لا بالقوَّة والتَّهَيُّؤ، وترجيح هذا المذهب له موضع غير هذا.
فصل
المسلك الخامس: أن هذا من باب اكتساب المضاف حكم المضاف إليه، إذا كان صالحًا للحذف والاستغناء عنه بالثاني، كقول الشاعر (3):
لمَّا أتى خَبَر الزُّبَيْرِ تواضَعَتْ … سُورُ المَدِينَةِ والجَبِالُ الخُشَّعُ
__________
(1) أخرجه أحمد: (6/ 150)، وأبو داود رقم (641)، والترمذي رقم (377)، وابن ماجه رقم (655)، وابن حبان “الإحسان”: (4/ 612)، والحاكم: (1/ 251).
والحديث حسَّنه الترمذي، وصححه ابن خزيمة وابن حبان، والحاكم على شرط مسلم. وأعله الدارقطني بالوقف. انظر: “نصب الراية”: (1/ 295).
(2) (ق وظ): “فقال”.
(3) البيت لجرير “ديوانه” (ص / 270).
(3/879)
وقال الآخر (1):
مَشَيْنَ كما اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ … أَعَالِيَها مَرُّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ
وقال الآخر:
بَغْيُ النُّفُوسِ مُعِيدَةٌ نَعْمَاءَهَا … نِقَمًا، وإنْ عَمِهَتْ، وطالَ غُرُورُها
فأنَّثَ الأوَّلُ: “السُّورَ” المضاف إلى المدينة، والثاني: “المَرَّ” المُضَافَ إلى الرِّياح، (ق/216 أ) والثالثُ: “البَغْيَ” المُضاف إلى النفوس، لتأنيث المُضاف إليه مع أن التذكير أصلٌ والتأنيث فرع، فحُمِل الأصل على الفرع، فَلأَنْ يجوزَ تذكيرُ المؤنث لإضافته إلى غير مؤنث أولى؛ لأنه حَمْل للفرعِ (2) على الأصل.
ومنْ الأول أيضًا قول الشاعر (3):
وتَشْرَقُ بالأَمْرِ الذي قد أَذَعْتَهُ … كما شَرِقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ منَ الدَّمِ
فأنث “الصَّدْرَ” لإضافته إلى القناة.
وأنشدني بعضُ أصحابنا لأبي محمد بن حزم، في هذا المعنى بإسناد لا يحضرُني:
تجنَّب صديقًا مثل ما، واحذرِ لذي … تراه كعَمْرو بين عُرْبِ وأعجمِ
فإن صديقَ السَّوْءِ يُرْدِي وشاهدي … كما شَرِقَتْ صدْرُ القناةِ من الدَّمِ
__________
(1) البيت لذي الرمة “ديوانه”: (2/ 754)، والرواية فيه:
*رويدًا كما اهتزت ….. *
(2) (ع وظ): “حَمَل الفرعَ”.
(3) البيت للأعشى “ديوانه”: (ص/183).
(3/880)
ومنه قول النابغة الذبياني (1):
حتى اسْتَغَاثَتْ بأهلِ المِلْحِ ضَاحِيَةً … يَرْكُضْنَ قد قَلِقَتْ عقد الأطانيبِ
ومنه قول لبيد (2):
فمضى وقَدَّمَها وكانَتْ عادَةً … منهُ إذا هي عَرَّدَتْ إقدامُهَا
وهذا المسلكُ وإن كان قد ارتضاه غيرُ واحد من الفضلاء فليس بقَويٍّ؛ لأنه إنما يُعْرَفُ مجيئهُ في الشعر، ولا يُعرفُ في الكلام الفصيح منه إلا النَّادر، كقولهم: “ذَهبَتْ بعضُ أَصابِعِهِ” والذي قوَّاه هاهنا شدَّةُ اتِّصال المُضاف بالمضاف إليه، وكونُه جزؤُه حقيقة، فكأنه قال: “ذَهبَتْ إصْبَعٌ أو إصْبَعَانِ مِنْ أصَابعِهِ”، وحَمْل القرآن على المكثور الذي خلافُهُ أفصحُ منه ليس بسهل.
فصل
المسلك السادس: إن هذا من باب الاستغناء بأحد المذكورين عن الآخر؛ لكونه تَبعًا له ومعنًى من معانيه، فإذا ذُكر أغنى عن ذكره؛ لأنه يُفهم منه.
ومنه في أحد الوجوه قوله تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)} [الشعراء: 4] فاستغنى عن خبر الأعناق بالخبر عن أصحابها، ومنه في أحدِ الوجوه قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرضُوهُ} [التوبة: 62]، المعنى: واللهُ أحقُّ أن يُرضوه
__________
(1) “ديوانه”: (ص/ 50) لكن الرواية فيه:
حتى استغاثت بأهل الملح ما طَعِمَت … في منزلٍ طَعْم نومِ غيرَ تأويبِ
(2) من معلقته انظر “شرح المعلقات”: (ص/ 550) لابن الأنباري.
(3/881)
ورسولهُ كذلك، فاستغنى بإعادة الضمير إلى الله، إذ إرضاؤُه هو أرضاءُ رسولِهِ، فلم يحتجْ أن يقول: يرضوهما، فعلى هذا يكون الأصل في الآية: “إنَّ الله قَرِيبٌ من المُحْسِنينَ، وإن رحمةَ اللهِ قريبةٌ من المُحْسِنين”، فاستغنى بخبرِ المحذوف عن خبر الموجود، وسَوَّغَ ذلك ظهورُ المعنى، وهذا المسلكُ مسلكٌ حَسَنٌ إذا كُسِي تعبيرًا أحسنَ من هذا، وهو مسلكٌ لطيفٌ المَنْزِع دقيقٌ على الأفهام، وهو من أسرار القرآن.
والذي ينبغي أن يعَبَّرَ عنه به: أن الرحمة صِفَةٌ من صِفَات الرب تبارك وتعالى، والصِّفَةُ قائمة بالموصوف (ظ / 158 أ) لا تفارِقُهُ؛ لأن الصفة لا تفارقُ موصوفَها، فإذا كانت قريبةً من المُحسنين (ق / 216 ب) فالموصوف تبارك وتعالى أولى بالقرب منه، بل قربُ رحمته منه تَبَعٌ لقُرْبه هو تبارك وتعالى من المُحسنينَ.
وقد تقدَّم في أوَّل الآية أن الله تبارك وتعالى قريبٌ من أهل الإحسان بإثابته، ومن أهل سؤاله بإجابته، وذكرنا شواهدَ ذلك، وأن الإحسانَ يقتضي قربَ الرَّبِّ من عبده، كما أن العبدَ قرُبَ من ربِّه بالإحسان، وأن من تَقَرَّبَ منه شِبرًا تقرَّب اللهُ منه ذراعًا، ومن تَقَرَّبَ منه ذراعًا تَقَرَّبَ منه باعًا، فالربُّ تبارك وتعالى قريبٌ من المحسنين، ورحمتُه قريبةٌ منهم، وقربُهُ يستلزمُ قربَ رحمته، ففي حذف التاء هاهنا تنبيهٌ على هذه الفائدة العظيمة الجليلة، وأن الله تعالى قريبٌ من المحسنين، وذلك يستلزمُ القُربين: قربَه وقربَ رحمته، ولو قال: “إن رحمةَ الله قريبةٌ من المحسنين”، لم يدُلَّ على قربه تعالى منهم؛ لأن قربَهُ تعالى أخصُّ من قرب رحمته، والأعمُّ لا يستلزمُ الأخصَّ، بخلاف قربه، فإنه لما أكان أخصَّ استلزمَ الأعمَّ، وهو قرب رحمته،
(3/882)
فلا تستهِنْ بهذا المسلك، فإنَّ له شأنًا، وهو متضمِّنٌ لسِرٍّ بديع من أسرار الكتاب، وما أظنُّ صاحبَ هذا المسلكِ قَصَدَ هذا المعنىَ ولا أَلَمَّ به، وإنما أراد أن الإخبار عن قُرْبِه تعالى من المحسنين كافٍ عن الإخبار عن (1) قُرْب رحمته منهم.
فهو مسلك سابع في الآية، وهو المختار، وهو من أَلْيَقِ ما قيلَ فيها، وإن شئتَ قلت: فُرْبُهُ تبارك وتعالى من المحسنين، وقُرْب رحمته منهم متلازمانِ، لا ينفكُّ أحدُهما عن الآخر، فإذا كانت رحمتُه قريبةً منهم فهو أيضًا قريبٌ منهم، وإذا كان المعنيانِ متلازمينِ صحَّ إرادةُ كلِّ واحد منهما (2)، فكان في بيان قُرْبه سبحانه من المُحسنينَ من التَّحريض على الإحسان، واستدعائه من النفوس، وترغيبها فيه [غايةُ] (3) حظٍّ لها وأشرفُه وأجلُّه على الإطلاق، وهو أفضلُ عطاءٍ أُعْطِيَهُ العبدُ، وهو قربه تبارك وتعالى من عبده الذي هو غايةُ الأماني، ونهاية الآمال، وقرَّة العيون، وحياة القلوب، وسعادة العبد كلها، فكان في العدولِ عن “قريبة” إلى “قريب” من استدعاء الإحسان وترغيب النفوس فيه ما لا يتخلَّفُ بعده إلا من غَلَبَتْ عليه شقاوَتُهُ، ولا قُوَّة إلا بالله تعالى.
فصل
المسلك الثامن: أن الرحمة مصدرٌ، (ق/217 أ) والمصادر كما لا تثنَّى ولا تجمع، فحقها أن لا تؤنث، وهذا المسلك ضعيف جدًّا،
__________
(1) (ع وظ): “من”.
(2) من قوله: “فهو أيضًا … ” إلى هنا ساقط من (ع).
(3) في النسخ: “بعامة” وغير بينّة في (ع) والمثبت من “المنيرية”.
(3/883)
فإنَّ الله سبحانه حيث ذكر الرحمة أجرى عليها التأنيث كقوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156] وقوله فيما حكى عنه رسوله – صلى الله عليه وسلم -: “إنّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ، أَوْ سَبَقَتْ غَضَبِي” (1)، ولو كان حذفُ “التاء” من الرحمة لكونها مصدرًا، والمصادرُ لا حظَّ للتأنيث فيها، لم يَعُدْ عليها الضمير إلا مذكَّرًا، وكذلك ما كان من المصادر بالتاء، كالقدرة والإرادة والحكمة والهمة ونظائرها، وفي بطلان ذلك دليلٌ على بطلان هذا المسلك.
فصل
المسلك التاسع: أن “القريب” يراد به شيئان:
أحدهما: النَّسَب في القرابة، فهذا بالتاء، تقول: “فُلانَةٌ قَريبةٌ لي”.
والثاني: قرب المكان وهذا بلا “تاء”، تقول: “جَلَسَتْ (2) فُلانَةٌ قَرِيبًا منِّي”، ولا تقول: “قَريبةً مني” وهذا مسلك الفَرَّاء وجماعة، وهو أيضًا ضعيفٌ، فإن هذا إنما هو إذا كان لفظُ القريب ظرفًا فإنه يذكَّر كما قال، تقول: “جَلَسَتِ المَرْأَةُ مني قَرِيبًا” فأما إذا كان اسمًا محضًا فلا.
فصل (3)
المسلك العاشر: أن تأنيثَ الرحمة لما كان غيرَ حقيقيٍّ سَاغَ فيه حذف “التاء”، كما تقول “طَلَعَ الشَّمْسُ وَطَلَعتْ”، وهذا المسلكُ.
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (3694)، ومسلم رقم (2751) من حديث أبى هريرة – رضى الله عنه -.
(2) من (ظ).
(3) سقط من (ق وظ).
(3/884)
أيضًا فاسدُ، فإن هذا إنما يكون إذا أُسْنِد الفعل (ظ / 158 ب) إلى ظاهر المؤنث.
فأما إذا أُسْنِد إلى (1) ضميره فلابُدَّ من التاء كقولك: “الشَّمْسُ طَلَعَتْ”، وتقول: “الشَّمْسُ طَالِعةٌ” ولا تقول: “طالع”؛ لأن في الصفة ضميرها، فهي بمعنى الفعل في ذلك سواء.
فصل (2)
المسلك الحادي عشر: أن “قريبًا” مصدرٌ لا وصفٌ، وهو بمنزلة النقيض، فجُرِّد من “التاء”؛ لأنك إذا أخبرتَ عن المؤنث بالمصدر لم تَلْحَقْهُ “التاءُ”، ولهذا تقول: “امْرَأَةٌ عَدْلٌ” ولا تقول: “عَدْلَةٌ” و”امرأةٌ صَوْمٌ، وصَلاةٌ، وصِدْقٌ، وبِرٌّ” ونظائره، وهذا المسلكُ من أفسد ما قيل عن “القريب”، فإن “القريب” (3) لا يُعْرَفُ استعمالُه مصدرًا أبدًا، وإنما هو وصف، والمصدرُ هو القُرْب لا القريب.
[فصل]
المسلك الثاني عشر: أن “فَعِيلًا وفَعُولًا” مطلقًا يستوي فيهما المذكَّرُ والمؤنث، حقيقيًّا كان أو غير حقيقي، كما قال امرؤُ القيسِ (4):
بَرَهْرَهَةٌ رُؤْدَةٌ رَخْصَةٌ … كَخُرْعُوبَةِ البَانَةِ المُنْفَطِرْ
__________
(1) (ع): “إليه”.
(2) سقط من (ق وظ)
(3) “فإن القريب” من (ع).
(4) “ديوانه”: (ص/ 157).
البَرَهْرَهة: الرقيقة الجلد، والرؤدة والرَّخصة: الناعمة اللينة، وخرعوبة البانة: القضيب الغض الطري.
(3/885)
فَتُوْرُ القيام قطيعُ الكلام … تَفْتَرُّ عن ذي غُروبٍ خَصرْ
وقال أيضًا (1):
له الوَيْلُ إن أمسى ولا أمُّ هاشمٍ … قريبٌ ولا البَسْبَاسَةُ ابنةُ يَشْكُرا
وقال جرير (2):
أَتَنْفَعُكَ الحَيَاةُ وأُمُّ عمرٍو … قَرِيبٌ لا تَزُورُ ولا تُزَارُ
وقال جرير أيضًا (3):
كأْن لم نُحَارِبْ يا بُثَيْنُ لو انَّهَا … تَكَشَّفُ غُمَّاهَا، وأَنْتِ صَدِيقُ
وقال أيضًا (4).
دَعَوْنَ الهَوَى ثم ارْتَهَنَّ قُلوبَنَا … بِأَسهمِ أَعْدَاءٍ وَهُنَّ صديقُ
قالوا: وشواهدُ ذلك كثيرةٌ، وفي هذا المسلك غُنْيَةٌ عن تلك التَّعَسُّفات والتَّأويلات.
وهذا المسلكُ ضعيفٌ أيضًا، وممَّن ردَّه أبو عبد الله بن مالك فقال (5): هذا القولُ ضعيف؛ لأن قائِلَهُ إما أن يُريدَ أن “فَعِيلًا” في هذا الموضع وغيره يستحِقُّ ما يستحِقُّه “فَعُولٌ” من الجَرْي على المذكَّر والمؤنَّث بلفظٍ واحد، وإما أن يريدَ أن “فَعِيلًا” في هذا
__________
(1) “ديوانه”: (ص/68).
(2) “ديوانه”: (ص/ 182).
(3) كذا في الأصول، والصواب أن البيت لجميل بن معمر، انظر “ديوانه”: (ص/144).
(4) “ديوان جرير”: (ص/ 315)، والرواية فيه:
دعونَ الهوى ثمَّ ارتمينَ قلوبنا ………….
(5) في رسالته في تذكير (قريب) من هذه الآية، منشورة في (مجلة الإكليل، السنة السابعة 1409) تحقيق الحموز.
(3/886)
الموضع خاصَّةً محمول على “فَعُول”.
فالأوَّلُ مردودٌ؛ لإجماع أهل العربية على التزام التاء في “ظريفة وشريفة” وأشباههما وَزْنًا ودلالة، ولذلك احتاج علماؤُهم أن يقولوا في قوله تعالى: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28]، وقوله: {وَلَم أَكُ بَغِيًّا} [مريم: 20]: أن أصل “بَغُوي” على فَعول، فلذلك لم تلحقه التاءُ، ثم أُعِلَّ بإبدال الواو ياء، والضمة كسرة، فصار لفظُه كلفظ “فَعِيل”، ولو كان فَعِيلًا أصلًا للحقته التاءُ، فقيل: “لم أكُ بغيَّةً”.
والثانى أيضًا مردودٌ؛ لأن لـ “فَعِيل” على “فَعُول” من المزايا ما لا يليقُ به أن يكون تَبَعًا له، بل العكس أولى أن يكونَ “فعولٌ” تبعًا لـ”فَعِيل”؛ ولأنه يتضمَّن حَمْل “فَعِيل” على “فَعُول” وهما مختلفان لفظًا ومعنى، أما اللفظ فظاهر، وأما المعنى فلأنَّ “قريبًا” لا مُبَالغةَ فيه، لأنه يوصفُ به كلُّ ذي قُرْب وإن قلَّ، و”فَعُول” لابدّ فيه من المبالغة.
وأيضًا فإن الدَّالَّ على المبالغة لابُدَّ أن يكونَ له بِنَيَةٌ لا مبالغَةَ فيها، ثم يُقْصدُ به المبالغةَ، فتُغيَّر بنيته كـ “ضَارِب وضَرُوب، وعَالِم وعَلِيم”، و”قريبٌ” ليس كذلك، فلا مبالغةَ فيه.
وأما بيت امرئ القيس فلا حجَّة فيه لوجوه:
أحدها: أنه نادرٌ فلا حكمَ له، فلا كَثُرَتْ صُوَرُهُ، ولا جاءَ على الأصل، كـ “اسْتَحْوَذَ، واسْتَنْوق البعيرُ، وأغْيَمَتِ السَّمَاءُ، واعْوَرَّ واحْوَلَّ” وما كان كذلك فلا حكمَ له.
الثاني: أن يكونَ أراد قطيعةَ القيام، ثم حذف التاء للإضافة، فإنها تجوزُ بحذفها عند الفراء وغيره، وعليه حمل قوله تعالى:
(3/887)
{وَإِقَامَ الصَّلَاةِ} [الأنبياء: 73] أي: إقامتها؛ لأن المعروف في ذلك إنما هو لفظُ الإقامة، ولا يقال: “إقام” دون إضافة، كما لا يقال: (ق/218 أ) “إرادُ” في إرَادَة، ولا: “إقَالُ” في إقالة؛ لأنهم جعلوا هذه التاء عِوَضًا عن ألف “إفعال” أو عينه؛ لأن أصل: “إقَامَة: إقْوَام” فنقلت حركة العين إلى “الفاء فانقلبت ألفًا، فالتقتْ ألِفان، فحُذِفت إحداهما، فجاءوا بالتاء عوضًا، فلزمتْ إلاّ مع الإضافة، فإن حذفها جائزٌ عند قوم قياسًا، وعند آخرين سماعًا، ومثلها في اللَّزوم تاء: “عِدَة وزِنَة” وأصلهما “وَعَدَ ووَزَنَ”، فحُذِفت الواو، وجُعِلَتِ التاء عِوَضًا منها فلزمتْ. وقد تُحْذَفُ للإضافة (ظ / 159 أ) كقول الشاعر (1):
إنَّ الخَلِيطَ أَجَدُّوا البَيْنَ وانْجَرَدُوا … وأَخْلَفُوكَ عِدَا الأَمْرِ الذي وَعَدوا
أي: أخلفوك عِدَة الأمر، فحذف التاء، وعلى هذه اللغة قرأ بعض القراء (2): {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46] بالهاء أي: عُدَّتَهُ فحذف التاء (3).
الثالث: أن يكونَ “فَعيل” في قوله: “قَطِيع القيامٍ” بمعنى مفعول؛ لأن صاحبَ “المحكم” (4) حكى أنه يقالَ: قَطْعَهُ وأقْطَعَهُ: إذا بَكَّتَهُ، وقُطِعَ هو فهو قَطِيع القول، فقَطِيع على هذا بمعنى مَقْطُوع، أي: مُبَكَّتٌ، فحَذْف التاء على هذا التَّوجيه ليس مخالفًا للقِياس، وإن
__________
(1) هو: العباس بن الفضل، ذكره الجوهري في “الصحاح”: (2/ 551)، منسوبًا لزهير وهو من شواهد ابن عقيل: (4/ 285) في شرحه.
(2) قال ابن جني: سُمع محمد بن عبد الملك يقرأ بها، انظر: “المحتسب”: (1/ 293)، و”روح المعاني”: (10/ 111).
(3) من قوله: “وعلى هذه … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(4) (1/ 90).
(3/888)
جعل قَطِيعًا مبنيًّا على: قَطُع، كسريع من سَرُع، فحقُّه على ذلك أن يلحقَهُ التاءُ عند جَرْيه على المؤنَّث، إلا أنه شُبِّهَ بفعيل الذي بمعنى مفعول، فأُجْريَ مجراه.
فهذا تمامُ اثني عشر مسلكًا في هذه الآية، أصحُّها المسلكُ المركَّبُ من السادس والسابع، وباقيها (1) ضعيفٌ وواهٍ ومحتمل.
والمبتدئُ والمقلِّدُ لا يدركُ هذه الدقائق، والفاضل المنصف لا يخفى عليه قَوِتُّها من ضعيفها، وَلْيكنْ هذا آخِرَ الكلام على الآية، والله أعلم.
فائدة (2)
خبرُ المبتدإ إما مفرد وإما جملة، فإن كان جملةً؛ فإما أن تكونَ هي نفس المبتدإ أو غيره، فإن كانت نفس المبتدإ لم تحْتَجْ إلى رابط يربطُها به، إذ لا رابطَ أقوى من اتحادهما نحو قولي (3): “الحمد لله”.
وإن كانت غيرَ المبتدإ (4)؛ فلابدَّ فيها من رابط يربطُها بالمبتدإ لئلا يُتَوَهَّمَ استقلالُها وانقطاعُها عن المبتدإ؛ لأن الجملة كلامٌ قائمٌ تامٌّ بنفسه، وذلك الرابط لا يتعيَّنُ أن يكونَ ضميرًا، بل يجوزُ أن يكونَ ضميرًا، وهو الأكثرُ، واسم إشارة كقوله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ}
__________
(1) (ق): “وباقيها فيها”، و (ظ): “وباقيها فيه”.
(2) (ق): “فصل”، وليست في (ع) والمثبت من (ظ)، وهذه الفائدة بنحوها في “نتائج الفكر”: (ص/418 – 420) للسهيلي.
(3) (ق وظ): “قولك”.
(4) “وإن كانت غير المبتدأ” سقطت من (ق).
(3/889)
أَصحَابُ الْجَحِيمِ} [المائدة: 10] .. ونظائره كثيرة.
أو اسمًا ظاهرًا قائمًا مقامَ المُضْمَر، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصلِحِينَ (170)} [الأعراف: 170].
وقد يُستغنى عن الضمير إذا عُلم الرابطُ (1) وعدم الاستقلال بالسياق، وباب هذا التفصيل بعد الجملة، ففيه يقعُ الاستغناءُ عن الضمير (2) كثيرًا كقولك: “المَالُ لِهؤُلاءِ: لِزَيْدٍ درْهَمٌ، ولِعَمْرٍو دِرْهْمَانِ، ولخَالدٍ (ق/ 218 ب) ثَلاثَةٌ”، ومثله: “النَّاسُ واحِدٌ في الجَنَّةِ، ووَاحِدٌ في النَّارِ”، ولا حاجة بنا إلى تقدير ضمير رابط محذوف تقديره: “لِزَيْدٍ منه درْهَمٌ، وواحِدٌ منهم في الجَنَّةِ”، فإنَّ تفصيل المبتدإ بالجملة بعدَه رابطٌ أغنى عن الضمير فتأمَّلْهُ. ومثلُه: “السَّمْنُ مَنَوَان بدِرْهَمٍ”، وهذا (3) بخلاف قولك: “زَيْدٌ عَمْروٌ مُسَافِرٌ” فإنه لا رابطَ بينهما بوجه، فلذلك يحتاجُ أن يقولَ: “في حاجته” ونحو ذلك ليفيدَ الإخبار. هذا حكمُ الجملة.
وأمَّا المفرد؛ فقد اشتهر على ألسنة النُّحاة: أنه إنْ كان مشتقًّا فلابُدَّ من ضمير يربطُه بالمبتدإ، وإن كان جامدًا لم يَحَتَجْ إلى ضمير، وبعضُهم يَتكَلَّفُ تأويلَه بالمشتقِّ.
وهذا موضع لابُدَّ من تحريره، فنقول: الخبر المفرد لما كان نفسَ المبتدإ كان اتِّحَادُهما أعظمَ رابطٍ يمكنُ، فلا وجهَ لاشتراط الرَّابط بعد هذا أصلًا، فإن المخاطَب يعرفُ أن الخبرَ مسندٌ إلى المبتدإ -وأنه هو نفسُه، ومن هنا يُعْلمُ غلط المنطقيِّين في قولهم: “إنه لابُدَّ من الرَّابط،
__________
(1) (ع): “الربط”.
(2) من قوله: “إذا علم … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(3) من قوله: “منهم في الجنة … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(3/890)
إما مضمَرًا وإما مظهَرًا” وهذا كلامُ مَنْ هو بعيد من تصوُّر المعاني وارتباطها بالألفاظ، ولا تَسْتنكِرْ (1) هذه العبارةَ في حقِّ المنطقيينَ فإنهم من أفسدِ الناس تَصَوُّرًا، ولا يُصَدِّقُ بهذا إلا مَنْ عَرَف قوانينَ القوم، وعَرَفَ ما فيها من التَّخبيط والفساد.
وأما إن كان الخبرُ اسمًا مشتقًّا مفردًا فلابُدَّ فيه من الضمير، ولكن ليس الجالب لذلك الضمير ربطه بالمبتدإ بل الجالبُ له أن المشتقَّ كالفعل في المعنى، فلابُدَّ له من فاعل ظاهر أو مضمر.
فإن قيل: وما الذي يدُلُّ على أن في الفعل ضميرًا حتى يكونَ في ثانيه ضمير؟. فإذا قلت: “زَيْدٌ قَائم” فإن هذا اللَّفظ (ظ / 159 ب) لا ضميرَ فيه يُسمع، فدعوى تحمُّله للضمير دعوى محضة.
قيل: الذي يدلُّ على أن فيه الضمير: تأكيدُهم له وعطفُهم عليه وإبدالُهم منه، كقولك في التأكيد: “إنَّ زَيْدًا سَيَقُومُ نَفْسُهُ” برفع “نفس”، وفي العطف كقوله تعالى: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ} [المسد: 3، 4] فـ “امرأتُه” رُفِعَ عطفًا على الضمير في “سَيَصْلى”، وفي البدل قولك: “إنَّ زَيْدًا يُعْجِبُنِي عِلْمُهُ”، على أن يكونَ “علمُه” بَدَلَ اشتمال لا فاعل، فإذا كان المشتَقُّ مفرَدًا كان الضميرُ الذي فيه اسمًا، فعلًا كان أو اسمًا، نحو: “زَيْدٌ ذَهبَ (2) وزيْدٌ ذَاهِبٌ”.
وأما في التثنية والجمع؛ فلا يكونُ ضميرًا إلا في الأفعال، نحو: “يَذْهَبَانِ ويَذْهَبُونَ” وأما في الأسماء؛ فإنه لا يكون فيها إذا ظهر، إلا علامةً لا ضميرًا، نحو: “ذاهبانِ (ق/219 أ) وذَاهِبُونَ” فهما في الاسم
__________
(1) (ق): “تستكثر”.
(2) (ق): “يذهب”.
(3/891)
حرفان، وفي الفعل اسمان، برهانُ ذلكْ انقلابُهما في الاسم “ياء” في التثنية والجمع، كما ينقلبان فيما لا يتحمل ضميرًا كالـ “زَّيْدَيْنِ والزَّيْدِينَ” ولو كانا ضميرًا كـ “هما” في الفعل لبقِيا على لفظ واحد، كما تقول في الفعل: “هؤُلاءِ رِجَالٌ يَذْهَبُونَ”، و”مَرَرْتُ بِرِجَالٍ يَذْهَبُون”، و”رَأَيْتُ رِجَالًا يَذْهَبُونَ”، وكذلك في التثنية سواء، فلا يتغيَّر لفظ “الواو”؛ لأنها فاعلٌ، وليست علامةَ إعراب الفعل، فثبتَ بهذا صحَّةُ دعوى النُّحاة على العرب: أن الضميرَ المستتر في الاسم المشتقِّ لا يظهرُ في تثنيةٍ ولا جمع، وأن الضميرَ المستترَ في الفعل يظهرُ في التَّثنية والجمع.
ولولا الدليلُ الذي ذكرناه لما عُرِفَ هذا أبدًا؛ لأن العرب لم تُشَافِهْنا بهذا مشافهةً، ولا أفصحتْ عن هذا القَدْر في هذا ونحوه، إلا باستقراء كلامها والتَّتَبُّع لأنحائها ومقاصدها المُوصل إلى غرائب هذه اللُّغة وأسرارها وحِكَمِها.
فإن قيل: فقد عَرَفنا صِحَّةَ ذلك، فما هي الحكمةُ التي من أجلها فرَّقوا بين المَوْطِنَيْنِ فجعلوها ضمائرَ في الأفعال، وحروفًا في الأسماء؟.
قيل: في ذلك حكمةٌ بديعةٌ، وهي: أن الأسماءَ لما كان أصلها الإعراب كانت أحوجَ إلى علامة إعراب منها إلى علامة إضمار. والأفعال أصلُها البناءُ، ولم يكنْ لها بُدٌّ من الفاعل ضَرورة، فكانت أحوجَ إلى علامة إضمار الفاعلين منها إلى علامة إعراب، مع أن هذهِ العلامةَ في الأسماء علامةُ تثنية وجَمْع، وحَرْف إعراب أيضًا، والأفعالُ لا تُثَّنى ولا تُجمع إذ هي مشتَقَّةٌ من المصدر، وهو لا يُثَّنْى ولا يُجمعُ؛ لأنه يدُلُّ على القليل والكثير يلفظ واحد، هذه عِلَّةُ النُّحاة.
(3/892)
وفيه علَّةٌ أخرى أصَحُّ من هذه وألطفُ وأدَقُّ، قد تَقَدَّمَتْ في أول هذا التعليق (1).
وإذ ثبت أن الأفعال لا تُثَّنى ولا تُجمع، وعلامة التَّثْنِيَةِ والجمع حروفُ إعراب، فلا يكونُ “الواو والألف” إلا علامةَ إضمار، ولا يكونُ في الأسماء -وإن احتملتِ الضمائرَ- إلا علامةُ تثنية وجمع و (2) حروف إعراب على قول سيبويه (3)، أي: محل الإعراب، أو هى الإعراب نفسها على قول قُطْرُب وغيره، بمنزلة الحَرَكات في المفرد، أو دليل إعراب على قول (4) الأخفش وأبي العباس المُبَرِّد (5).
فصل (6)
هذا حكم الخبر إذا كان مفردًا أو جملة، فأما إذا (ق/219 ب) كان واقعًا موقعَ الخبر، وليس هو نفسُهُ خبرًا، كالظَّرْف والمجرور، فإنه وأقعٌ موقِعَ مُشْتَقٍّ متَحَمِّلٍ للضَّمير، وهو إما مفردٌ وإما جملة.
وأكثر النُّحاة يقدَّرُونه بمفرد مشتَقٍّ، نظرًا إلى أن الأصل في الخبر أن يكون مفردًا، فتقديرُه كذلك موافقٌ للأصل، وأيضًا فإنما قُدِّرَ لضَرورة صِحَّة الكلام، فإن الظرفَ والمجرورَ ليس هو نفس المبتدأ، وما قُدِّرَ للضَّرُورة لا يُتَعَدَّى به ما تقتضيه الضَّرورةُ، وهي تزولُ بالمفرد، فتقديرُ الجملة مستغنى عنه مع أنه خلافُ الأصلِ.
__________
(1) (1/ 47 – 51). وانظر المسألة العاشرة في “نتائج الفكر”.
(2) “النتائج”: “أو”.
(3) “الكتاب” (1/ 13).
(4) سقطت من (ع).
(5) انظر: “المقتضب”: (2/ 153).
(6) انظر أصل المسألة في “نتائج الفكر”: (ص/ 421 – 425).
(3/893)
وأيضًا: فإنه قُدِّر للتَّعلُّق، وهذا التَّعلُّق يكفي فيه المفردُ، وأيضًا فإنه يقعُ في موضع لا يصحُّ فيه تقدير الجملة، كقولك: “أمَّا عِنْدَكَ فَزَيْدٌ، وأمَّا في الدَّار فعَمْرٌو” فإن “أمَّا” لا يليها إلا اسمٌ مفرد، فإذا تعيَّنَ المفردُ هاهنا، يرجحُ في (ظ/ 160 أ) الباقي، ليجريَ البابُ على سَنَن واحد، ولا ينتقض هذا بوقوعه في صِلَةِ الموصول، كقولك: “جَاءَنِي الَّذي في الدَّارِ”، إذ يتعيَّنُ تقديرُ الجملة؛ لأن كلامنا في التقدير في باب الخبر، لا في التقدير في سائر الأبواب، كالصِّلَة والصِّفَة والحال، ولا يلزمُ من تعين الجملة في التَّقدير في الصِّلَة تعيُّنُها ولا ترجيحها في باب المبتدإ.
وسأل أبو الفتح ابن جِنِّي أبا عليٍّ (1) عن هذه المسألة، فلم يراجعه بجواب شافٍ أكثرَ من أن قال له: تقدير الاسم هاهنا أولي؛ لأن خبرَ المبتدأ في أغلبِ أحواله اسم.
وكَشْفُ الغطاء عن هذه المسألة أن يقالَ: الجار هنا لا يُتَصَوَّر تعلُّقه بفعل محض؛ إذ الفعل المحضُ ما دَلَّ على حَدَث وزمان، ودلالته على الزمان بِبِنْيته، فإذا لم يكن له وجود في اللَّفظ، لم يكن له بنيَةٌ تَدُلُّ على الزَّمَان، مع أن الجارَّ لا تعلُّقَ له بالزَّمانِ، ولا يَدُلُّ عليَه، إنما هو في أصل وضعِهِ لتقييد الحَدَث وجرِّه إلى الاسم على وجهٍ مَّا من الإضافة، فلا تعلُّقَ له إلا بالحَدَث، والحدث الذي هو المصدرُ لا يمكن تقديرُه هاهنا لأنه خبرُ المبتدإ، والمبتدأُ ليس هو الحَدَثَ، فَبَطَلَ أن يكون التقدير: “زَيْدٌ اسْتِقْرارُ (2) في الدَّارِ”، وبطَلَ -أيضًا بما تقدَّم- أن يكون التقدير: “زَيْدٌ اسْتَقَرَّ في الدَّارِ”، ألا ترى
__________
(1) أي: الفارسي شيخه.
(2) (ق): “استقر”!.
(3/894)
أنه يقبُحُ أن يقال: “زَيْدٌ في الدَّارِ أمْسِ، أو: أوَّلَ مِنْ أَمْسِ”.
وإذا بطل القسمان -أعني إضمار المصدر والفعل- لم يبق إلا القسم الثالث وهو: إضمار اسم الفاعل فتصِحّ (1) الفائدتانِ:
إحداهما: (ق / 220 أ)، أن يكون خبرًا عن المبتدإ، ويُضمرُ فيه ما يعودُ عليه، إذ لا يمكنُ ذلك في المصدر.
والثانية: أن يصِحَّ تَعَلُّق الجارِّ به، إذ مطلوبه الحَدَث، واسم الفاعل متضمِّنٌ للحَدَث لا للزمان.
إذا (2) عُرِف هذا فلا يَصِحُّ ارتفاع الاسم بعد الظرف والمجرور بالاستقرار على أنه فاعل، وإن كان في موضعِ خبر أو نعت (3)، وإنما يرتفعُ بالابتداء كما يرتفعُ في قولك: “قَائِم زَيْدٌ” بالابتداء لا بـ “قائم” خلافًا للأخفش، فإذا قلت: “في الدَّارِ زيْدٌ”، فارتفاع “زَيْد” بالابتداء لا بالاستقرار (4).
فإن قلت: أليس إذا قلت: “زَيْدٌ قَائِمٌ أَبُوهُ” و”رَأَيْتُ رَجُلًا قَائِمًا أَبُوه” و”مَرَرْتُ بِرَجُلٍ قَائِمٍ أَبُوهُ” فيرتفع الاسمَ بـ “قائم” إذا كان معتمدًا على مبتدإ أو مَنعوت أو ذي حال، وكذلك إذا كان قبله استفهام أو نفي، نحو: “أَقَائِمٌ زيْدٌ” و”مَا قَائِمٌ زَيْدٌ”.
قيل: اسم الفاعل مشتقٌّ، وفيه لفظ الفعل ومعناه، فإذا اقترن به ألف الاستفهام أو قرينة من القرائن التي ذكرتَ، التي يَقْوَى بها معنى
__________
(1) (ظ): “فتتضح”.
(2) هنا في “النتائج”: (ص/422) بداية فصلٍ جديد.
(3) (ع): “ارتفعت”.
(4) انظر “شرح المفصَّل”: (6/ 79) لابن يعيش.
(3/895)
الفعل، عَمِلَ عَمَلَ الفعل، بخلاف: “قَائِمٌ زيْدٌ” فإنه لا قرينةَ معه تقتضي أن يعملَ عَملَ الفعل، فحُمِل على أصلِهِ من الابتداء والخبر.
فإن قبل: فهلاَّ قلت: إن الظرفَ والمجرورَ إذا اعتُمِدَ كما يُعْتَمدُ اسم الفاعل، أنه يرفع: الاسم كما هو مَعْزِيٌّ إلى سيبويه، فإذا قلتَ: “زَيْدٌ في الدَّارِ أَبُوه” كان “أبوه” مرفوعًا بالظرف، كما إذا قلت: “زَيْدٌ قَائِمٌ أَبُوهُ”.
قلتُ: قد توهَّم قوم أن هذا مذهبُ سيبويهْ، وأنَّكَ إذا قلت: “مَرَرْتُ بِرَجُلٍ معه صَقْرٌ” أنَّ “صقرًا” مرفوعٌ بالظرف لاعتماده على الموصوف، وكنا نظنُّ: ذلك زمانًا حتى تَبَيَّنَ أن هذا ليس بمذهبه، وأنه غَلَطٌ عليه، وقد بيَّن أبو سعيد السِّيرافي مرادَ سيبويه من كلامه، وشَرَح وجْهَ الغلط عليه بما فيه كفاية فراجعْه في كتابه (1).
والفرقُ بين الظرف وبين اسم الفاعل ما تقدَّم: أن اسم الفاعل: مشتقٌّ وفيه لفظ الفعل: ومعناه، فإذا اعتُمِد أو اقترنَتْ به قرينةٌ، قَوِيَ جانب الفعليَّة فيه فعَمِلَ عَمَلَ الفعل، وأما الظرفُ فلا لفظَ للفعل فيه، إنما هو معنًى يتعلَّقُ به الفعلُ وبدُلُّ عليه، ولم يكنْ في قوَّة القرينة التي يعتمدُ عليها أن تجعلَه كالفعل، كما لم يكنْ في قُوَّته إذا كان ملفوظًا به دون قرينة أن يكونَ كالفعل، فإذا اجتمعَ (ظ / 160 ب) الاعتمادُ المُقَوِّي لمعنى الفعل مع اللَّفظ المشتقِّ من الفعل عَمِلَ الاسمُ حينئذٍ عَمَلَ الفعلِ.
ووجه آخر (ق / 220 ب)، من الفرقِ بين المسألتينِ: أنك إذا قلت: “مَرَرْتُ بِرَجُلٍ قَائِمٍ أَبُوهُ” فالقيامُ -لا مَحَالَةَ- مسنَدٌ إلى الأب في
__________
(1) شرح السيرافى على كتاب سيبويه طبع جزء منه ولم يطبع كاملًا.
(3/896)
المعنى، وهو في اللَّفظ جار (1) على “رجل”، والكلامُ له لفظ ومعنى، فـ “قائمٌ” في اللفظ جارٍ على ما قبلَهُ وفي المعنى مسنَدٌ إلى ما بعدَهُ، وأما الظرف والمجرور فليس كذلك، إنما هو معنى يتعلَّقُ به الجار، وذلك المعنى مسنَدٌ إلى الاسم المرفوع وخبَرٌ عنه، فصحَّ أنه مبتدأ والمجرور خبر عنه، والجملةُ في موضع نعتٍ أو خبر.
فإن قيل: فيلزمكم إذا قدَّمتم الظرفَ في موضع الخبر، وقدَّرتم فيه ضميرًا يعودُ على المبتدإ، أن تُجيزوا: “في الدَّارِ نَفْسُهُ زَيْدٌ”، و”فيها أَجْمَعُونَ إِخْوَتُكَ”، وهذا لا يُجَوِّزُهُ أحدٌ، وفي هذا حُجَّةٌ للأخفش، ولمن قال بقوله في أن رفع الاسم بالظرف.
قيل: إنما قَبُحَ توكيد المضمَر إذا كان الظرفُ خبرًا مقدَّمًا؛ لأن الظرفَ في الحقيقة ليس هو الحاملَ للضمير، إنما هو متعلِّقٌ بالاسم الحامل للضمير، وذلك الاسم غيرُ موجود في اللَّفظ حتى يقالَ: إنه مقدَّمٌ في اللفظ مؤخَّرٌ في المعنى، وإذا لم يكن ملفوظًا به فهو في المعنى والرُّتبة بعد المبتدإ، والمجرورُ المقدَّمُ قبل المبتدإ دالٌّ عليه، والدالُّ (2) على الشيء غيرُ الشيء، فلذلك قَبُحَ: “فيها أجْمَعُونَ الزَّيْدُونَ” (1)؛ لأن التوكيد لا يتقدَّم على المؤكد، ولذلك صحَّ تقديمُ خبرِ “إن” على اسمها إذا كان ظرفُا، لأن الظرف ليس هو الخيرَ في الحقيقة، إنما هو متعلِّقٌ بالخبر، والخبر منوِيٌّ في موضعه مقدَّرٌ في مكانه؛ ولذلك لم ينكسرْ أصلُ الخليل في منعه تقديمَ خبر المبتدإ مع كثرة هذا النحو في الكلام، أعني: “في الدَّارِ زَيْدٌ” ولذلك عَدَل
__________
(1) (ق): “جار ومجرور”! ثم سقط من هنا إلى قوله: “ما بعده”.
(2) “عليه، والدال” سقطت من (ق).
(3/897)
سيبويه في قولهم: “فيها قَائِمًا رَجُلٌ”، و: “لِمَيَّة مُوحِشًا طَلَلُ” (1) إلى أن جَعَل الحالَ من النكرة، ولم يجعلْها حالًا من الضمير الذي في الخبر؛ لأن الخبر مؤخَّر في النية، وهو العامل فى الحال وهو منوِيٌّ (2)، والحال لا يتقدَّمُ على العامل المَنْوِيِّ، فهذا كلُّه مما يبيِّنُ أن الظرفَ والمجرور ليس هو الخبرَ في الحقيقة، ولا الحاملَ للضمير، ولا العاملَ في شيءٍ من الأشياء، لا في حال ولا في ظرف ولا في فاعل.
ومن جهة المفعول أن “الدَّار” إذا انفردت بلفظها، لم يَصِحَّ أن تكون خَبَرًا عن “زيْد”، ولا عاملة ولا حاملة للضمير، وكذلك “في” و”من” وسائر حروف الجر لو انفردت لم يكن فيها شيءٌ من ذلك، فقد وضَحَ أن الخبرَ غيرُها، وأنها واقعةٌ موقِعَه، والله أعلم.
فإن قيل: فما تقول فيما حكاه الزَّجَّاجي (3) عن بعض النُّحاة أنك إذا قلت: “قَائِم زيْدٌ” أن “قائمًا” مبتدأ و”زيد” فاعل به سدَّ مسَدَّ الخبر؟.
قيل: هذا وإن كان قد جَوَّزَهُ بعضُ (ق/221 أ) النُّحاة فهو فاسدٌ في القياس؛ لأن أسمَ الفاعل اسمٌ محضٌ، واشتقاقُه من الفعل لا يوجبُ له عمل الفعل كـ “مَسْجِد ومَرْقَد ومِرْوَحَة ومِغْرَفة”، ولكن إنما يعَملُ
__________
(1) صدر بيت منسوب لكُثَيِّر عزَّة “ديوانه”: (2/ 210)، وهو من شواهد سيبويه في “الكتاب”: (2/ 123).
وعجزه: *يلوح كأنه خلل*
(2) (ق) و”النتائج”: “معنوي” وكذا ما بعدها.
(3) في “الجمل”: (ص 49 – 50)، وهو: عبد الرحمن بن إسحاق أبو القاسم الزجاجي النحوي صاحب “الجمل” وغيره ت (339).
والزجاجي: نسبةً إلى شيخه الذي تخرج به: أبو إسحاق إبراهيم بن السَّري الزجاج ت (321). انظر: “بغية الوعاة”: (2/ 77)، (1/ 411 – 413).
(3/898)
إذا تقدَّم ما يطلبُ الفعل، أو كان في موضع لا تدخلُ عليه العواملُ اللَّفظيةُ نحو: النعت والخبر والحال، فيقْوَى حينئذٍ معنى الفعل فيه، ويعضدُ هذا من السماع أنهم لم يحكوا: “قَائِمٌ الزَّيْدَانِ”، و”ذَاهِبٌ إخْوَتُكَ” عن العرب، إلاّ على الشرط الذي ذكرنا، ولو وَجَد الأخفشُ ومن قال بقوله سماعًا لاحتجُّوا به على الخليل وسيبويه، فإذا لم يكنْ مسموعًا وكان بالقياس مدفوعًا؛ فأَحْرِ به أن يكونَ باطلًا ممنوعًا!!.
فإن قلت: فما تصنعُ في قول الشاعر (1):
خَبِيرٌ بَنُو لِهْبٍ فلا تَكُ مُلْغِيًا … مَقَالَةَ لِهْبِيٍّ إذا الطَّيْرُ مَرَّتِ
فهذا صريح في أن “خبير” مبتدأ، و”بنو لهب” فاعل به. وفي قول الآخر (2):
فَخَيْرٌ نحنُ عندَ النَّاسِ مِنْكُم … إذا الدَّاعِي المُثَوِّبُ قَالَ: يَالا
قلت: أما البيتُ الأوَّلُ فعلى شذوذه ونُدْرته لا يُعْرَفُ قائلُه، ولم يُعْرَفْ أن متقدِّمي النُّحاة وأئمَّتَهم استشهدوا به، وما كان كذلك فإنه لا يُحتجُّ به باتفاق، على أنه لو صَحَّ أن قائله حُجَّةٌ عند العرب، لاحتملَ أن يكون المبتدأُ محذوفًا مضافًا إلى بني لِهْب، وأصلُه: “كُلُّ بَني لِهْبٍ خَبِيرٌ” و”كلُّ” يخبَرُ عنها بالمفرد كما تقدم في أول التعليق (3)، ثم
__________
(1) هذا الشاهد منسوب لرجلٍ من طيء ولم يُعيَّن كما ذكر المؤلف، وقد أنشده ابن هشام في عدد من كتبه، وابن عقيل في شرحه: رقم (42).
(2) هو: زهير بن مسعود الضبي.
انظر: “نوادر أبي زيد”: (ص / 21)، و”الخصائص”: (1/ 276 و 2/ 375) وأنشده ابن عقيل في شرحه: (1/ 194).
(3) (1/ 376).
(3/899)
حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامَه فاستحقَّ إعرابَه.
ويدلُّ على إرادة العموم عجزُ البيت وهو قوله:
… فلا تَكُ مُلغَيا … مقالةَ لِهْبِيٍّ …
أفلا ترى كيف يُعطي هذا الكلامُ أن كلَّ واحدٍ من بني لِهْبٍ خَبِيرٌ فلا تَلْغِ مَقَالَةَ لِهْبِيٍّ (1).
وكذلك البيت الثاني فلا متعلّق فيه أصلًا؛ لأن أفعلَ التفضيل إذا وقع خَبَرًا عن غيرِه، وكان مقترِنًا بمن كان مفردًا على كلِّ حال، نحو: “الزَّيْدُونَ خَيْرٌ مِنَ العَمْرِينَ” (2).
فصل (3)
إذا ثبت هذا؛ فيجوزُ في اسم الفاعل إذا اعْتُمِد على ما قبلَه، أو: كان معه قرينةٌ مقتضيةٌ للفعل وبعده اسم مرفوع وجهانِ:
أحدها: أن يكون خَبَرًا مقدَّمًا، والاسمُ بعدَهُ مبتدأٌ، وأن يكونَ مبتدأً والمرفوعُ بعدَه فاعلٌ به (4). نحو: “أَقَائِمٌ زيدٌ”، و”ما قَائِمٌ عَمْروٌ” ونحوه، إلا أن يمنعَ مانعٌ من ذلك، وذلك في ثلاث مسائل:
أحدها: قولك: “زَيْدٌ قَائِمٌ أَخوَاهُ” فإنَّ هذا يتعيَّنُ فيه أن يكونَ
__________
(1) وأجاب ابن هشام في “شرح القطر”: (ص / 273) بأنّا نحمله على التقديم والتأخير، فـ “بنو لهب” مبتدأ، و”خبير” خبره؛ لأن فعيلًا قد يستعمل للجماعة، كقوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ بَعدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4].
(2) وانظر ما أجاب به في “مغني اللبيب”: (1/ 219).
(3) ليست في (ق)، وانظر “نتائج الفكر”: (ص/425 – 426) مع زيادات هنا مهمة.
(4) من (ق).
(3/900)
“أَخَوَاهُ” فاعلًا بِـ “قَائِم”، ولا يجوزُ أن يكون “أخواه” مبتدأً و”قائم” الخبر؛ لعدم المطابقة.
الثانية: قولُك: “زَيْدٌ قَائِمَانِ أَخَوَاهُ”، فإنَّ هذا يتعتَّنُ فيه على الأفصح أن يكون مبتدأً وخبرًا، ولو كان من باب الفعل والفاعل لقلت: “قَائِم أَخَوَاهُ” كما تقول: “قَامَ أَخوَاهُ”.
الثالثة: قولك: “زَيْدٌ قَائِمٌ أنْتَ إليه”، و”زَيْدٌ قَائِمٌ هُوَ” إذا كان الفاعلُ ضميرًا منفصلًا، فإنَّ هذا لا يكون إلا مبتدأ وخبرًا؛ لأن الضميرَ المنفصلَ لا يكونُ فاعلًا مع اتِّصاله بعامله، إنما يكون فاعلًا إذا لم يمكن اتِّصاله نحو: “ما قَائِمٌ (1) إلا أنْتَ” ونحو: “الضَّارِبُهُ هو”.
فإذا عرفتَ هذا؛ فقوله – صلى الله عليه وسلم – في حديث المبعث: “أَوَ مُخْرجِيَّ هُم” (2)؛ “مُخْرِجِيَّ” يتعينُ أن يكون خبرًا مقدَّمًا، و”هم” مبتدأ (3)؛ لأنَّ الرواية اتَّفَقَتْ على تشديد “مُخْرِجِيَّ” (4) وكان أصلَه: “مُخْرِجُونَ لِي” فحذف اللام وأُضيف “مُخْرِجُونَ” إلى الياء، فسقطت نون الجمع؛ لأنها تسقط للإضافة فصار: “مُخْرِجُوْي” (5)، فاجتمعت الواو والياء، والسابق منهما ساكنٌ، فقُلِبَت الواو ياءً فصار (6) مِثْلان، فأُدْغِم أحدهما في الآخر فجاء: “مُخْرِجِيَّ”.
ومثله: “ضَارِبيَّ ومُكْرِميَّ”، ولو أن الصِّفَةُ هاهنا رافعةٌ للضمير
__________
(1) (ع وق): “قام”.
(2) أخرجه البخاري رقم (3)، ومسلم رقم (160) من حديث عائشة – رضي الله عنها-.
(3) وانظر “فتح الباري”: (1/ 36).
(4) من قوله: “هم، مخرجيّ … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(5) (ع): “مخرجون لي” و (ق): “مخرجوني” وكلاهما تحريف.
(6) (ق): “فصارا”.
(3/901)
لكانت مفردةً، وكان يُقَالُ: “أو مُخْرِجيْ هُم”؟ بالتخفيف، كما تقول: “أَضَاربِي إِخْوَتُكَ”؟ ولو جعلتَه مبتدأً وخَبرًا لقلت: “أَضَارِبيَّ” بالتشديد، والله أعلم.
فإن قلت: “ما هُم بمُخْرِجيَّ” تعيَّن التشديد ليس إلا؛ لأن الفاعل لا يتقدَّمُ، فلو خفَّفْتَ لكانت المسألة في باب الفعل والفاعل. والفاعلُ لا يتقدَّمُ عاملَه، كان أخَّرْتَ الضميرَ جاز لك الوجهانِ كما تقدم.
فصل (1)
قولهم: “ظروفُ الزمان لا تكون أخبارًا عن الجثث” (2) ليس على إطلاقه، بل فيه تفصيل يُعْرَف من العلة في منع ذلك، والعلَّةُ: أن الزمان لما كان عبارة عن أوقات الحوادث، وكانوا محتاجينَ إلى تقييد حوادثهم وتأريخها بأزمنة تقارنُها معلومة عند المتكلِّم والمخاطب، كما يقدرونها بالأماكن التي تقعُ فيها، جعل (3) اللهُ سبحانه وتعالى حَرَكات الشَّمس والقمر، وما يحدثُ بسببهما من الليل والنَّهار والشهور والأعوام، معيارًا يَعْلَم به العِبَادُ مقاديرَ حوادثِ أفعالها وتأريخها ومعيارها، لشدَّة حاجتهم إلى ذلك في الآجال، كالعِدَد والإجارات والسَّلَم والديون المؤجَّلة، ومعرفة مواقيت الحجِّ والصِّيام وغيرها، فصارت حركةُ الشمس والقمر تأريخًا وتقييدًا ومعيارًا للأفعال والحياة والموت والمولد، وغير ذلك.
فالزمانُ إذًا عبارةٌ عن مقارنة حادثٍ لحادث، مقارنة الحادث
__________
(1) ليست في (ظ)، و (ق): “فائدة”. وانظر: “نتائج الفكر”: (ص/426 – 428).
(2) انظر “الجمل”: (ص/ 50)، و”اللمع”: (1/ 28)، و”الإنصاف”: (1/ 61).
(3) (ظ وع): “جعله”.
(3/902)
(ق/222 أ) من الحركة العُلْوية (1) للحادث من حركات العباد ومعيارًا له (2)، ولهذا سمَّاه النُّحاة ظرفًا؛ لأنه مكيالٌ ومِعْيَارٌ يعلم به مقدار الحركة (3) والفعل وتقدُّمه وتأخره، وقربه وبعده، وطوله وقصره، وانقطاعه ودوامه.
فإذا أخبرتَ أن فعلَكَ قارَنَ ذلك الحادثَ المعلومَ من حركة الشمس والقمر، يُوَقَّتُ له ويُقَيَّدُ به فسمِّي وقتًا، وهو في الأصل مصدرُ: وقَّتُّ الشَّيءَ أُوَقِّتُهُ (4): إذا حدَّدته وقَدَّرْته، حتى لو أمكن أن يقيَّدَ ويؤرَّخ بما يقارنُ الفعل من (ظ / 161 ب)، الحوادث غير الزمان استَغْنى عن الزمان، نحو: “قُمْتُ عِنْدَ خُرُوجِ الأَمِيرِ”، و”عِنْدَ قُدُوْمِ الحَاجِّ”، و”عنْدَ مَوْتِ فُلانٍ”، لكن ذلك لا يشتركُ علمه ومعرفته كالاشتراك في معرفة يوم الجمعة وشهر رمضانَ ونحوه، ولا يطَّرد مع أنه أيضًا توقيتٌ وتاريخ بالزمان في الحقيقة، فإن قولك: “عِنْدَ خُرُوج الأَمِيرِ وقُدُومِ الحَاجِّ” إنما تريدُ يه هذه الأوقاتَ والأزمنةَ، ولكن المعلوم عند جميع المخاطبين (5) إنما هى أجزاءُ الزمان كالشهر والسنة واليوم وأبعاض ذلك.
وإذا عُرِف هذا فلا معنى لقولك: “زَيْدٌ اليَوْمَ وعَمْروٌ غَدًا”؛ لأن
__________
(1) (ق): “المعلومة”!.
(2) وانظر في تعريفه: “بيان تلبيس الجهمية”: (1/ 562)، و”مدارج السالكين”: (3/ 133).
(3) من قوله: “العلوية للحادث … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(4) يقال: وقَّتَ الشيءَ يُوَقِّته، ووَقَتَه تَقِتُه، من باب وعَدَ يَعِد، انظر: “اللسان”: (2/ 107).
(5) (ع): “المتخاطبين”.
(3/903)
الجُثَثَ ليست بأحداث فتحتاجَ إلى تقييدها بما يقارنُها وإلى تأريخها بما يحدث معها، فما ليس بَحَدَث فلا معنى لتقييده بالحَدَث الذي هو الزمان.
وعلى هذا فإذا أردتَ حدوثَ الجثة ووجودها، فهو أيضًا حادثٌ، فيجوزُ أن يخبرَ عنه بالزمان إذا كان الزمانُ يَسَعُ مُدَّتَها، تقول: “نحن في المائة الثامنة”، و”كان الأَوْزاعي في المائة الثانية”، و”الإمام أحمد في المائة الثالثة”، ونحو هذا.
وعلى هذا فإذا قلت: “اللَّيْلَةَ الهِلالُ” صَحَّ، ولا حاجة بك إلى تكلُّف إضمار “الليلة طلوع الهلال”، فإن المرادَ حدوثُ هلال ذلك الشهر، فَجَرى مَجْرى الأحداث، وكذلك تقول: “الوَرْدُ في أَيَّارَ” وتقول: “الرُّطَبُ في شَهْرِ كَذَا وكَذَا” ومنه قول الشاعر (1):
أَكُلَّ عَامٍ نَعَمٌ تَخوُونَهُ … يُلْقِحُه قَوْمُ وتَنْتِجُونَهُ
ومثله قولك: “البَدْرُ لَيْلَةُ أرْبَعَ عَشْرَةَ” ولا حاجةَ إلى تكلُّف: “طلوع البدر”، بل لا يصِحُّ هذا التقدير؛ لأن السائل إذا سألك: “أَيُّ وَقْتٍ البَدْرُ” فإنه لم يسألْك عن الطُّلوع، إذ هو لا يجهلُه، وإنما يسألُك عن ذات البدر ونفسه، فقولك: “هو لَيْلَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ” تريد به، أن ليلة أربع عشرة هي ليلة كونه بدرًا لا ليلةَ طلوعه، فتأمَّلْه.
وعلى هذا فلا يسوغُ هذا الاستعمالُ حتى يكونَ الزَّمانُ يسَعُ ما قيَّدْتَهُ به من الحَدَث (ق/222 ب) والجثة التي في معناه، فلو كان الزَّمانُ أضيقَ من ذلك لم يَجُزِ التقييدُ به؛ لأن الوقت لا يكون أقلَّ من
__________
(1) نسبه البغدادي في “الخزانة”: (1/ 407) لقيس بن حُصين الحارثي، وهو من شواهد سيبويه: (1/ 65)، وأنشده ابن الأنباري في “الإنصاف”: (1/ 62).
(3/904)
المؤقَّت، فلا تقول: “نَحْنُ في يَوْم السَّبْتِ” وإن صحَّ أن تقول: “نحن في المِائَةِ الثَّامِنَةِ” ولا تقول: “الَحجَّاجُ في يوم الخَمِيسِ” وتقول: “الحجَّاجُ في زَمَنِ بَنِي أُمَيَّةَ” والله أعلم.
فصلٌ (1)
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)} [البقرة: 6]، وقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [المنافقون: 6]، وقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)} [الأعراف: 193] مما أشكل إعرابُه على فحول العربية، واختلفت أقوالهم في ذلك.
فقال صاحب “الكشاف” (2): “سواء اسم بمعنى الاستواء، وُصِف به كما يوصفُ بالمصادر، ومنه قوله تعالى: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكم} [آل عمران: 64]، وقوله تعالى: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)} [فصلت: 10] بمعنى: مُسْتَوِيَةٌ، وارتفاعُه على أنه خبرٌ لـ “إِنَّ” و”أَنْذَرْتَهُمْ أم لم تُنْذِرْهُم” في موضع رفع (3) على الفاعلية، كأنَّه قيل: “إنَّ الذين كفروا مُسْتَوٍ عليهم إنذارُك وعَدَمُهُ”، كما تقول: “إنَّ زيْدًا مُخْتَصِمٌ أخُوهُ وابنُ عَمِّهِ”، أو (4) يكون: “أنْذَرْتَهم أم لم تُنْذِرْهم” في موضع الابتداء، و”سواءٌ” خبرًا مقدَّمًا، بمعنى: “سواء عليهم إنذارك وعدمه”، والجملةُ خبر لـ”إنَّ”.
__________
(1) ليست في (ظ)، و (ق): “فائدة” بدلًا من “قوله عز وجل”، وانظر: “نتائج الفكر”: (ص/ 428 – وما بعدها).
(2) (1/ 25 – 26).
(3) في “الكشاف”: “المرتفع به”.
(4) في الأصول: “و” والمثبت من “الكشاف”.
(3/905)
قال: “فإن قلتَ: الفعلُ أبدًا خبرٌ لا مخبَرٌ عنه، فكيف صحَّ الإخبارُ عنه في هذا الكلام؟.
قلتُ: هو من جنس الكلامِ المهجورِ فيه جانبُ اللفظ إلى جانب المعنى، وقد وجدنا العرب يميلَونَ في مواضع من كلامهم مع المعاني ميلًا بيِّنًا، من ذلك قولهم: “لا تَأْكُلِ السَّمَكَ وتَشْرَبَ اللَّبَنَ” معناه: لا يكنْ منكَ أكلُ السمكِ وشربُ اللَبن، وإن كان ظاهرُ اللفظ على ما لا يَصحُّ من عَطْفِ الاسم على الفعل، و”الهمزة وأَمْ” مجردتان بمعنى (1) الاستواء، وقد انسلخ عنهما معنى الاستفهام رأسًا.
قال سيبويه: جرى هذا على حرف الاستفهام، كما جرى على حرف النِّداء في قولك: “اللَّهُمَّ اغْفِرْ لنا أَيَّتُها العِصَابَة”، يعني: أن هذا جرى على صُورة الاستفهام ولا استفهام، كما أن ذاك جرى على سورة النِّداء ولا نداء، ومعنى الاستواء: استواؤهما في علم المُستفهم عنهما؛ لأنه قد عَلِمَ أن أحد (ظ / 162 أ) الأمرين كائنٌ؛ إما الإنذارُ وإما عدمُهُ، ولكن لا بعينه، وكلاهما معلومٌ بعلم غير معيَّن.
قلت: هذا قولُه وقولُ طائفة من النحاة، وقد اعْتُرِض على ما ذكره بأنه يلزمُ القائل به أن يجيز: “سَوَاءٌ أَقُمْتَ أم قَعَدْتَ” دون أن تقول: “عَلَيَّ أو عَلَيْكَ”، وأنه يجيزُ: “سِيَّانِ أَذَهَبَ زَيْدٌ أمْ جَلَسَ” و”متفقان أقَامَ زَيْدٌ أم (ق/223 أ)، قَعَدَ”، وما كان نَحْوَ هذا مما لا يجوزُ في الكلام ولا روي عن أحد؛ لأن التقدير الذي قدَّروه منطبقٌ على هذا.
وقالت طائفةٌ أخرى (2): “سَوَاءٌ” هاهنا مبتدأ، والجملة الاستفهامية
__________
(1) “الكشاف”: “لمعنى”.
(2) انظر: “الحجة”: (1/ 200) لأبي علي الفارسي.
(3/906)
في موضع الخبر، وإنما قالوا هذا، وإن كان “سواء” نَكِرةً؛ لأن الجُمَل لا تكون في موضع المبتدإ أبدًا، ولا في موضع الفاعلِ، وأُوْرِد عليهم: أن الجملةَ إذا وقعتْ خبرًا فلابُدَّ فيها من ضَمير يعودُ على المبتدأ، فأين الضمير العائد على “سواء” هاهنا؟ فأجابوا عن هذا: بأنَّ “سَوَاءٌ” وإن كان مبتدأً في اللّفظِ فهو في المعنى خبرٌ؛ لأن المعنى: “سَوَاءٌ عَلَيْهم الإنْذَار وتركُهُ”، قالوا: ولا يلزمُ أن يعودَ من المبتدأ ضميرٌ على الخبر، فلما كان “سواءٌ” خبرًا في المعنى دون اللفظ رُوْعي المعنى.
ونظير هذا قولهم: “ضَرْبي زَيْدًا قائِمًا”، فإنه لم يعُدْ على “ضربي” ضميرٌ من الحال التي سدَّت مَسَدَّ الخبر؛ لأنّ معناه: “أَضْرِبُ زَيْدًا أو ضَرَبْتُ زَيْدًا” والفعلُ لا يعودُ عليه ضميرٌ، فكذلك ما هو في معناه وقوَّته.
ونظيره أيضًا: “أقائم أَخُوكَ”؛ لأن: “أخوك” وإن سدَّ مسَدَّ الخبر، فإنه فاعلٌ في المعنى، و”قائِمٌ” معناه معنى الفعل الرافع للفاعل (1)، فرُوْعيت هذه المعانى في هذه المواضع وهُجِر فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى، وبقي حكم الابتداء مقتضيًا للرَّفع لفظًا، والمبتدأ متضمِّنٌ لمعنى يخالف معنى الابتداء، فحُكم لذلك المعنى فلم يعُدْ على اللفظ ضمير، وحُكِم للفظ المبتدأ بحكم الابتداء فارتفع.
فهذا قول هذه الطائفة الأخرى، واعترض عليه -بعد الاعتراف بحُسْنه وقوَّته-: بأن العرب لم تَنْطِقْ بمثل هذا في “سواء” حتى قَرَنَتْهُ بالضمير المجرور بـ “على” نحو: “سَوَاءٌ علَيْهم وسَوَاءٌ عليكم وسواء
__________
(1) (ع وق): “للفعل”.
(3/907)
عَلَيَّ” فإن طَرَدوا ما أصَّلوه في “سَوَاء”، سواء (1) قُرِن بـ “على” أم لم يُقْرَن فليس كذلك، وإن خصُّوه بالمقرون بـ “على” فلم يُبَيِّنُوا سِرَّ اختصاصه بذلك.
وقالت طائفةٌ ثالثةٌ -منهم السُّهَيْليُّ (2) وهذا لفظُه-: “لما كانتِ العربُ لا تقول: “سِيَّانِ أَقُمْتَ أمْ قَعَدْتَ” ولا: “مِثْلانِ” ولا “شِبْهَان”، ولا يقولون ذلك إلا في “سواء” مع المجرور بـ”عَلَى” وجبَ البحثُ عن السِّرِّ في ذلك وعن مقصد القوم في هذا الكلام، وعن المُساواة بَيْنَ أيِّ شيءٍ هي؟ وفي أيِّ الصِّفات هي من الاسمين الموصوفين بالتَّساوي؟ فوجدنا معنى الكلام ومقصودَهُ إنما هو تَسَاوٍ في عدم المبالاة بقيامٍ أو قعود إو إنذار أو ترك إنذار، ولو أرادوا المساواةَ في صِفَة موجودةً في الذات لقالوا: “سَوَاءٌ الإقَامَة والشُّخُوصُ” كما يقولون: “سَوَاءٌ زَيْدٌ وعَمْرٌو”، و”سِيَّانِ” و”مِثْلانِ” يعني (ق/223 ب) استهواءَهما في صفة لذاتهما، فإذا أردتَ أن تسوِّيَ بين أمرين في عدم المبالاة وترك الالتفات لهما، وأنهما قد هانا عليك، وخفَّا عليك (3)، قلت: “سَوَاءٌ عَلَيَّ أَفَعَلَ أمْ لم يَفْعَلْ”، كما تقول: “لا أُبَالِي أَفَعَلَ أمْ لم يَفْعَلْ”؛ لأن المبالاة فعل من أفعال القلب، وأفعال القلب تُلْغَى إذا وقعتْ بعدها الجملُ المستفْهَم عنها أو المؤكَّدة باللام، تقول: “لا أَدْرِي أَقَامَ زَيْدٌ أمْ قَعَد”، و”قَدْ عَلِمْتُ لَيَقُومَنَّ زيْدٌ”، ولكن لا تُلْغى هذه الأفعال القلبية حتى يُذْكَر فاعلها في اللفظ أو في المعنى، فتكون حينئذٍ في موضع المفعول بالعلم.
__________
(1) من (ظ).
(2) في “نتائج الفكر” كما تقدم.
(3) “وخفا عليك” سقطت من (ق).
(3/908)
ثم قال:
فصل (1)
فإذا ثَبَتَ هذا فـ “سواء” مبتدأ في اللفظ، و”عَلَيَّ وعَلَيْكُمْ أو عَلَيْهِمْ” مجرورٌ في اللفظ، وهو فاعل في المعنى المضمون من (2) مقصود الكلام، إذْ قولك: “سَوَاءٌ عَلَيَّ” في معنى: “لا أُبَالِي”، وفي “أُبَالي” فاعل، وذلك الضمير الفاعلُ هو المجرورُ بـ “على” في المعنى؛ لأن الأمرينِ إنما استويا عليك في عدم المبالاة، فإذا لم تبالٍ بهما لم تَلْتَفِتْ بقلبك إليهما، (ظ/162 ب)، وإذا لم تلتفتْ فكأنك قلت: “لا أَدْرِي أَقُمْتَ أمْ قَعَدْتَ”.
فلما صارتِ الجملةُ الاستفهاميةُ في معنى المفعول لفعل (3) من أفعال القَلْب، لم يلزمْ أن يكونَ فيها ضميرٌ يعود على ما قبلَها؛ إذ ليس قبلَها في الحقيقة إلا معنى فعل يعملُ فيها، وكيف يعودُ من المفعول ضميرٌ على عامله؟! ولولا قولك: “عَلَيَّ وعَلَيْكُمْ” ما قَوِي ذلك المعنى، ولا عمل في الجملة، ولكن لما تعلَّقَ الجارُّ به صار في حكم المنطوق به، وصار المجرورُ هو الفاعلَ في المعنى، كالفاعل في: “عَلِمْتُ، ودَرَيْتُ، وبَالَيْتُ”.
ألا ترى كيف صار المجرورُ في قولهم: “له صَوْتٌ صَوْتَ غُرَابٍ” بمنزلة الفاعل في يصوت، حتى كأنك نطقت بـ: “يُصَوِّتُ” فنصبت “صوتَ غراب لذلك”.
__________
(1) “نتائج الفكر”: (ص/ 430). و (ق): “فائدة”.
(2) “النتائج”: “المتضمن في”.
(3) “النتائج”: “بفعل”.
(3/909)
وإذ قلت: “عليهِ نَوْحٌ نوحَ الحَمَامِ” رفعت: “نوحَ الحَمَام”؛ لأن الضمير المخفوض بـ “على” ليس هو الفاعل الذي ينوحُ، كما كان في قولك: “له صَوْتٌ صَوْتَ غُرَابٍ”، وكذلك المجرور في “سَوَاءٌ عَلَيْهِم” هو الفاعل الذي في قولك: “لا يُبَالُون ولا يَلْتَفِتُونَ”، إذ المساواةُ إنما هي في عدم المبالاة والالتفات، والمتكلِّمُ لا يريدُ غيرَ هذا بوجه، فصار الفاعلُ مذكورًا والمبالاةُ مفعولةً مقصودةً (1)، فوقعت الجملةُ الاستفهاميةُ مفعولًا لها”.
قال: “ونظير هذه المسألة -حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ- قوله تعالى.
{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ} [يوسف: 35] فـ “بدا”: فعل ماض، فلابُدَّ له من فاعل، والجملةُ المؤكَّدةُ باللام لا تكونُ في موضع فاعل أبدًا، وإنما تكونُ في موضع المفعول بـ”علمت” [أو “علموا” فهي هاهنا في موضع المفعول،] (2) وإن لم يكن (ق / 224 أ) في اللفظ: “علموا” ففي اللَّفظ ما هو في معناه؛ لأن قوله: “بَدَا”: ظَهرَ للقلب لا للعين.
وإذا ظهر الشيءُ للقلب وقد عُلِمَ، والمجرور من قوله: “لهم” هو الفاعلُ، فلما حصل معنى العلم وفاعله مقدَّمًا على الجملة المؤكَّدة باللام، صارت الجملة مفعولًا لذلك العلم، كما تقول: “عَلِمْتُ لَيَقُومَنَّ زَيْدٌ”، ولام الابتداء وألف الاستفهام يكون قبلهما أفعال القلب ملغاةً، فكذلك: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ}، وقعت (3) الجملة الاستفهامية في المعنى بعد فعل من أفعال القلب وبعد فاعله، كما تقدَّم بيانُ ذلك
__________
(1) “النتائج”: “معقولة متصوَّرة”.
(2) ما بينهما من “النتائج”.
(3) (ظ): “رفعت”.
(3/910)
حين قدرناه بقولك: “لا يُبَالُونَ” فالواو في: “يُبَالُونَ” هو الفاعل، والضمير في “عليهم” هو الفاعل في المعنى.
ألا ترى كيف اخْتُصَّ بـ “على” من بين حروف الجر؛ لأن المعنى إذا كان يرجعُ إلى عدم المبالاة فقد هان عليك الأمرانِ، وصارا أخفَّ شيء على من لا يُبَاليهما ويلتفتُ إليهما، فتأملْه تجدْ المعانيَ صحيحةً، والفوائدَ كثيرةً مزدحمةً تحتَ هذا اللَّفظ الوجيز.
فلذلك نبَتْ عنه كثيرٌ من الأفهام حتى تناقضتْ عليهم الأصولُ التي أَصَّلوها، واضطربوا في الجواب عن الاعتراضات التي أُلْزِمُوها (1)، مع ما غابَ عنهم من فوائدِ هذه الآيات وإعجازها وسَمَانة (2) هذه الكلمات على إيجازها.
ثم قال:
“فصل (3)
فإن قيل: ما بالُ الاستفهامٍ في هذه الجملة والكلام خبرٌ محضٌ؟.
قلنا: الاستفهامُ مع “أمْ” يُعطي معنى التَّسوية، فإذا قلت: “أَقَامَ زَيْدٌ أمْ قَعَدَ”؟ فقد سوَّيت بينهما في علمك. فهذا جوابٌ فيه مَقْنَعٌ.
وأما التحقيق في الجواب فأَن تقول: ألفُ الاستفهام لم يُخْلَعْ منها ما وُضعت له، ولا عزلت عنه، وإنما معناه: “عَلِمْتُ أقَامُ زَيْدٌ أم قَعَدَ”، أي: علمتُ ما كنتُ أقول فيه هذا القول، وأستفهم عنه بهذا
__________
(1) (ع وظ): “التزموها”.
(2) (ع): “وسمات”.
(3) بياض في (ق)، وانظر: “النتائج”: (ص/432).
(3/911)
اللفظ، فحكيت الكلام كما كان، ليعلم المخاطب أنّ ما كان مستفهَمًا عنه معلومٌ، كما تقول: “قَامَ زَيْدٌ” فترفعه لأنه فاعل، ثم تقول: “ما قَامَ زَيْدٌ” فيبقى الكلامُ كما كان (1)، وتبقى الجملة محكيَّةً على لفظها لتدُلَّ على أنَّ (2) ما كان خبرًا متوهَّمًا عند المخاطب فهو الذي نفي بحرف النفي، ولهذا نظائرُ يطولُ ذكرُها.
فكذلك قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6]، لما لم يُبالوا بالإنذار ولا نفعهم، ولا دخل في قلوبهم منه شيءٌ صار في حكم المستفهَمْ عنه، أكان أم لم يكن، فلا تسمَّى الألفُ ألفَ التَّسوية كما فعل بعضُهم، ولكن ألف الاستفهام، بالمعنى الذي وضعتْ له ولم تَزُل عنه”.
ثم قال (3) “فإن قيل: فلمَ جاء بلفظ الماضي (ق/224 ب) أعني {أَأَنْذَرْتَهُمْ} وكذلك {أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)} [الأعراف: 193]، و”أَقَامَ زَيْدٌ أَمْ قَعَدَ”؟ ولم يجيءْ بلفظ الحال ولا المستقبل؟.
فالجوابُ من وجهين:
أحدهما: أن في الكلام معنى الشرط، والشرطُ يقعُ [بعده] (4).
المستقبل بلفظ الماضي، تقول: “إنْ قَامَ زَيْدٌ غَدًا قُمْتُ”، وها هنا يتقدَّر ذلك المعنى، كأنك قلت: “إنْ قَامَ زيدٌ أو قعدَ لم أبالِهِ”
__________
(1) من قوله: “ليعلم المخاطب … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(2) في الأصول: “أنه” والتصويب من “النتائج”.
(3) في “النتائج” هنا: “فصلٌ”.
(4) الأصول: “بعد”.
(3/912)
و”لا ينتفعُ القوم إنْ أنذرتَهم أم لم تُنْذِرْهم” فلذلك جاءَ بلفظ الماضي.
وقد قال الفارسيُّ قولًا غير هذا (1)؛ ولكنه قريبٌ منه في اللَّفظ، قال: إن ألف الاستفهام تضارعُ “إن” التي للجزاء؛ لأن الاستفهامَ غيرُ واجب، كما أن الشرط ليس بحاصل إذا عُدِمَ المشروطُ، وهذه العبارة فاسدةٌ من وجوه يطولُ ذكرها، ولو رأى المعنى الذي قدمناه لكان أشبَهَ.
على أنه عندي مدخول أيضًا؛ لأن معنى الشرط يطلب الاستقبال خاصَّة دونَ الحال والماضي، وقوله: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهمْ}، و {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} لا تختصُّ بالاستقبال، بل المساواة في عدم المبالاة موجودةٌ في كلِّ حال، بل هي أظهرُ في فعل الحال، ولا يقعُ بعد حرف الشرط فعل حالٍ بوجه.
والتحقيقُ في الجواب أن نقولَ: قد أَصَّلنا في “نتائج الفكر” (2) أصلًا، وهو أن الفعل لم يُشْتَقَّ من المصدر مضافًا إلا ليدُلَّ على كون الاسم مخبَرًا عنه -أعني الفاعل الذي كان المصدرُ مضافًا إليه- ولم (3) تختلف أبنيتُه بعدما اشتقَّ عن المصدر إلا لاختلاف أحوال الحَدَث عن مُضِيٍّ أو استقبال، فإن كان قصدُ المتكلِّم أن لا يُقَيِّدُ الحَدَثَ بزمان دونَ زمان، ولا بحالِ استقبال دونَ حالِ مُضِي فليجعلُه (4) مطلقًا بلفظ الماضي الذي لا زوائدَ فيه، ليكونَ أخَفَّ على اللسان وأقربَ إلى لفظ الحَدَث المشتقِّ منه، ألا ترى أنهم يقولون: “لا أَفْعَلُهُ ما لاحَ بَرْقٌ وما طَارَ طَائِرٌ”، بلفظ الماضي خاصَّة لما أرادوا مدَّةً مطلقة غيرَ
__________
(1) انظر “الحجة”: (1/ 202 – 203) للفارسي.
(2) انظر المسألة رقم (10) في “النتائج”: (ص/ 66).
(3) في الأصول: “لم” بدون الواو، والمثبت عن “النتائج”.
(4) في الأصول: “بل يجعله” والمثبت من “النتائج”.
(3/913)
مقيَّدة، وأنه لا يفعل هذا الشيء في مدة لوْح البرق وطيران الطائر ونحو ذلك، فلم يجاوزوا لفظَ الماضي؛ لأنهم لا يريدون استقبالًا ولا حالًا على الخُصوص.
فإن قلت: ولا يُريدونَ أيضًا ماضيًا، فكيف جاء بلفظ الماضي؟.
قلنا: قد قرن معه: لا أُكَلِّمُهُ ولا أفعلُه، فدلَّ على أن قوله: “ما لاحَ بَرْقٌ” لا يريدُ به لَوْحًا قد انقضى وانقطع، إنما يريدُ مقارنة الفعل المنفي (ق/225 أ) للفعل الآخر في المدَّة على الإطلاق والدوام، فليس في قوله: “ما لاحَ بَرْقٌ” إلا معنى اللَّوْح خاصَّة، غير أنه تُرك لفظ المصدر ليكون البرقُ مخبرًا عنه كما تقدم، فمتى أردت هذا ولم تُرِدْ تقييدًا بزمان فلفظ الماضي أحقُّ (1) وأولى.
وكذلك قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6] أضاف الإنذار إلى المخاطب المخبر عنه به، فاشتقَّ من الإنذار الفعل ليدلَّ على أن المخاطَب فاعلُ الإنذار، وترك الفعل بلفظ الماضي؛ لأنه مطلقٌ في الزمان كُلِّه، وأن القومَ لم يُبالوا بهذا ولا يبالون ولا هم في حال مبالاة، فلم يكن لإدخال الزوائد الأربع معنى، إذ ليس المرادُ تقييدَ الفعل بوقت ولا تخصيصَه بحال.
فإن قلت: لفظ الماضي يخصِّصُه بالانقطاع.
قطنا: “حَدِّثْ حديثينِ امرأةً” (2)، وفيما قدمناه ما يغني عن الجواب مع ما في قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} من ثبوت هذه الصِّفة فيهم وحصولها في الحال وفي المال، فلا تقول: “سَوَاءٌ ثَوْبَاكَ أو غُلامَاكَ”،
__________
(1) (ق) و”النتائج”: “أخف”.
(2) انظر “مجمع الأمثال”: (1/ 192).
(3/914)
إذا كان الاستواءُ فيما مضى، وهما الآن مختلفان، فهذه القرينةُ تنفي الانقطاعَ الذي يُتَوَهَّمُ في لفظ المُضِيِّ، كما كان لفظ الحال في قولك: “لا أُكَلِّمُهُ ما دَامَتِ السَّمواتُ والأرْضُ”، ينفي الانقطاعَ المتوهَّمَ في “دام”، وإذا انتفى الانقطاعُ، وانتفتِ الزوائدُ الأربعُ، بقي الحَدَيث (1) مطلقًا غيْرَ مقيّد في المسألتين جميعًا، فتأمَّلْ هذا تَجِدْه صحيحًا.
فصل (2)
الكلام على واو الثمانية
قولهم: إن الواوَ تأتي للثَّمانية، ليس عليه دليلٌ مستقيمٌ، وقد ذكروا ذلك في مواضعَ فَلْنَتَكَلَّمْ عليها واحدًا واحدًا:
الموضع الأول: قوله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 112] فقيل الواو في “والناهون” واو الثمانية لمجيئها بعد استيفاء الأوصاف السبعة، وذُكِر في الآية وجوهًا أُخَرَ:
منها: أن هذا من التَّفَنُّنِ في الكلام أن (3) يُعْطَفَ بعضُه، ويتركَ عطفُ بعضٍ.
ومنها: أن الصَّفات التي قبل هاتين (ظ / 163 ب)، الصفتين صفاتٌ لازمةٌ متعلِّقَةٌ بالعامل، وهاتان الصفتان مُتَعَدِّيتان متعلِّقتان بالغير فَقُطِعَتا عما قبلَهما بالعطف.
__________
(1) الأصول: “الحدث” والمثبت من “النتائج”.
(2) انظر ما تقدم في الكتاب (2/ 664)، وإحالة المؤلف في استيفاء الكلام على واو الثمانية على كتابه “الفتح المكيّ”، وانظر “حادي الأرواح”: (ص/ 49).
(3) ليست في (ع).
(3/915)
ومنها: أن المُرَادَ التنبيهُ على أن الموصوفين بالصِّفات المتقدِّمة هم (الآمرون بالمعروف والناهونَ عن المنكر).
وكلُّ هذه الأجوبة غيرُ سديدة، وأحسنُ ما يقال فيها: (ق / 225 ب) إن الصِّفاتِ إذا ذُكِرتْ في مَقامِ التَّعداد، فتارة يتوسَّطُ بينها حرفُ العطف لتغايُرها في نفسها، وللإيذان بأن المُرادَ ذكرُ كُلِّ صفة بمفردها، وتارةً لا يتوسَّطُها العاطفُ لاتحاد موصوفها وتلازُمِها في نفسها، وللإيذان بأنها فى تلازُمها كالصفة الواحدة، وتارةً يتوسَّطُ العاطفُ بين بعضها ويُحذفُ مع بعض ٍبحسْب هذين المقامين.
فإذا كان المقامُ مقامَ تَعداد الصِّفات، من غير نظر إلى جمع أو انفراد حسُنَ إسقاطُ حرف العطف، وإن أريدَ الجمعُ بين الصِّفاتْ أو التَّنبيه على تغايُرها حسُنَ إدخالُ حرف العطف.
فمثال الأول: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ} وقول: {مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ} [التحريم: 5].
ومثال الثاني: قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3]، وتأمَّل كيف اجتمع النوعان في قوله تعالى: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} [غافر: 1 – 3] فأتى بالواو في الوصفين الأولَين، وحذفها في الوصفين الأخيرين؛ لأن غفرانَ الذنب وقبولَ التَّوْب قد يُظَنُّ أنهما مجريانِ مجرى الوصف الواحد لتلازُمِهِما، فمَنْ غفر الذنبَ قبِلَ التوب، فكان في عطف أحدهما على الآخر ما يدلُّ على أنهما صفتانِ وفِعلانِ مُتغايرانِ ومفهومانِ مختلفانِ لكلِّ منهما حُكْمُهُ:
أحدهما: يتعلَّق بالإساءة والإعراض وهو المغفرة.
(3/916)
والثاني: يتعلَّقُ بالإحسان والإقبال على الله تعالى والرُّجوع إليه، وهو التوبة، فتقبل هذه الحسنة وتغفر تلك السيئة.
وحَسَّنَ العطفَ هاهنا هذا التَّغايُرُ الظاهرُ، وكلَّما كان التغايرُ أَبْيَنَ كان العطفُ أحسنَ؛ ولهذا جاء العطفُ في قوله: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3] وترك في وقوله: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [الحشر 23] وقوله: {الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24] وأما: {شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} [غافر: 3] فترك العطف بينهما لنكتة بديعة، وهي الدلالة على اجتماع هذينِ الأمرينِ في ذاته سبحانه، وأنه حال كونِه شديدَ العقاب، فهو ذو الطَّوْل، فطَوْله لا يُنافي شدَّةَ عقابه بل هما مجتمعانِ له، بخلاف الأول والآخر، فإن الأوَّليَّة لا تجامعُ الآخريَّة، ولهذا فسَّرها النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – بقوله: “أنتَ الأوَّلُ فَلَيْسَ قبلَكَ شَيءٌ، وأنتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَك شَيْءٌ” (1) فأوَّلِيَّتُهُ أزليَّتُهُ، وآخريَّتُهُ أبَدِيَّتُهُ.
فإن قلت: فما تصنعُ بقوله: (ق/226 أ) {وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} فإن ظهوره تعالى ثابتٌ مع بطونه، فيجتمع في حقه الظهور والبطون، والنبي – صلى الله عليه وسلم – فسَّر الظاهرَ بأنه الذي ليس فوقَه شيء، والباطنَ بأنه الذي ليس دونَه شيء، وهذا العُلُوُّ والفوقيَّةُ مجامع لهذا القرب والدُّنُوِّ والإحاطة.
قلت: هذا سؤالٌ حَسَن، والذي حسَّنَ دخولَ “الواو” هاهنا: أن هذه الصِّفات متقابلةٌ مُتَضَادَّةٌ، وقد عُطِف الثانى منهما على الأول للمقابلة التي بينهما، والصِّفَتَانِ الأخْرَيَانِ كالُأولَيَيْنِ في المُقابلة، ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة الآخر إلى الأوَّلِ، فكما حَسُن العطفُ
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (2713) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(3/917)
بين الأوليين حسن بين الأخريين.
فإذا عُرِفَ (1) هذا؛ فالآيةُ التي نحن فيها يَتَّضِحُ بما ذكرناه معنى العطف وتركُه فيها؛ لأن كلَّ صفةٍ لم تُعْطفْ على ما قبلَها فيها كان فيه تنبيهٌ على أنها في اجتماعها كالوصف الواحد لموصوف واحد فلم يحتجْ إلى عطف، فلما ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما متلازمانِ مستمدَّانِ من مادَّةٍ واحدة، حسُنَ العطفُ ليَبِيْنَ أنَّ كلَّ وصف منهما قائمٌ على حِدَتِهِ مطلوبٌ بتعيينه، لا يُكتفى فيه بحصول الوصفِ الآخر، بل لابدَّ أن يظهر أمرُه بالمعروف بصريحه، ونهيه عن المنكر بصريحه، (ظ / 164 أ) وأيضًا فحَسَّنَ العطفَ هاهنا ما تقدَّمَ من التَّضَادِّ، فلما كان الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر ضِدَّيْنِ؛ أحدُهما طلب الإيجاد، والآخرُ طلبُ الإعدام كانا كالنَّوْعين المُتَغَايِرَيْنِ المُتَضَادَّيْنِ، فحَسُن لذلك العطف.
الموضع الثاني: قوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ} [التحريم: 5]، إلى قوله {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا}، فقيل: هذه واو الثمانية لمجيئِها بعد الوصف السابع. وليس كذلك، ودخولُ “الواو” هاهنا متعيِّنٌ؛ لأن الأوصاف التي قبلَها المرادُ اجتماعُها في النساء، وأما وصفا البكارة والثيوبة فلا يمكنُ اجتماعُهما، فتعيَّنَ العطف؛ لأن المقصودَ أنه يُزَوِّجُهُ بالنَّوعينِ: الثَّيِّباتِ والأبكار.
الموضع الثالث: قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] قيل: إدخال “الواو” هاهنا لأجل الثمانية، وهذا يحتملُ
__________
(1) (ق): “عطف”.
(3/918)
أمرين؛ أحدهما هذا، والثاني أن يكون دخول “الواو” هاهنا إيذانًا بتمام كلامهم عند قولهم: (سَبْعَة) ثم ابتدأ قوله: (ق/226 ب) {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}، وذلك يتضمَّن تقريرَ قولهم: (سَبْعَةٌ) كما إذا قال لك “زَيْدٌ فَقِيهٌ”، فقلت: “ونَحْوِيٌّ” وهذا اختيار السهيلي (1).
وقد تقدَّم الكلام عليه (2)، وأن هذا إنما يَتِمُّ إذا كان قوله: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} ليس داخلًا في المحكيِّ بالقول، والظاهر خلافه، والله أعلم.
الموضع الرابع: قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] فأتى بـ”الواو” لما كانتْ أبوابُ الجنَّة ثمانيةً، وقال في النار: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71]، لما كانتْ سبعةً، وهذا في غاية البُعد، ولا دلالةَ في اللَّفظ على الثمانية حتى تدخل “الواو” لأجلِها، بل هذا من باب حذف الجوابِ لنكتة بديعة، وهي: أن تَفتيحَ أبواب النار كان حالَ موافاة أهلها، ففتحتْ في وجوههم؛ لأنه أبلغ في مفاجَأة المكروه.
وأما الجنَّةُ فلما كانت دارَ الكرامة وهي مأدبةُ (3) الله، وكان الكريمُ إذا دعا أضيافَهُ إلى داره شرع لهم أبوابَها ثم استدعاهم إليها مُفَتَّحَةَ الأبوابِ، أتى بـ “الواو” العاطفة هاهنا الدَّالَّة على أنهم جاءوها بعدما فُتحتْ أبوابُها (4)، وحَذَفَ الجوابَ تفخيمًا لشأنه وتعظيمًا لقدْره، كعادتهم في حذف الأجوبة وقد أشْبَعْنا الكلامَ على هذا فيما تقدَّمَ والله أعلم.
__________
(1) كما في “نتائج الفكر”: (ص/ 264).
(2) 2/ 666.
(3) (ق وظ): “مائدة”.
(4) انظر: “الفصول المفيدة في الواو المزيدة”: (ص/ 158 – 159).
(3/919)
فصل (1)
مذهب سيبويه أن (لولا) إذا اتصل بها الضمير المتصل نحو: “لَوْلاهُ” و”لَوْلاكَ” كان مجرورًا (2)، وخالفه الأخفش، وقال الأخفشُ والكوفيُّونَ: هذه الضمائر مما وقع المضمَرُ المتَّصِلُ موقعَ المنفصل، كما وقع المنفصل موقعَ المُتَّصِلِ في قولهم: “ما أنَا كأنْتَ ولا أَنْتَ كأَنا” وقد وقع المتَّصِلُ موقعَ المنفصل في قوله:
وما نُبَالي إذا ما كُنْتِ جارتَنَا … أنْ لا يُجَاوِرَنا إلاَّكِ دَيَّارُ (3)
وقال المُبَرِّد يقول الكوفيين:
فأما حجَّةُ سيبويهْ فهي الاستعمال، قال الشاعر (4):
وكم مَوْطِنٍ لَوْلايَ طِحْت كَمَا هَوَى … بأَجْرَامِهِ مِنْ قُلَّةِ النِّيْقِ مُنْهَوِي
وقال الآخر (5):
* لوْلاكِ في ذا العَامِ لَمْ أَحْجُجِ *
__________
(1) انظر للمسألة: “الإنصاف في مسائل الخلاف”: (2/ 687 – 695) لابن الأنباري.
(2) “الكتاب”: (1/ 388).
(3) لا يُعرف قائله، وأنشده ابن جني في “الخصائص”: (1/ 307)، وابن هشام في “المعني”: (1/ 577). و”الأوضح”: (1/ 83).
(4) هو: يزيد بن الحكم الثقفي، من قصيدة له، والبيت من شواهد سيبويه في “الكتاب”: (1/ 388)، وابن جني في “الخصائص”: (2/ 259)، وابن الأنباري في “الإنصاف”: (2/ 691).
(5) هو: عمر بن أبي ربيعة، “ديوانه – الملحقات”: (ص/487). والبيت في “المفصَّل”: (ص/ 175)، و”الإنصاف”: (ص/ 693) وصدره:
* أوْمَت بِعَيْنيها من الهَوْدَجِ *
(3/920)
وقال آخر (1):
* ولَوْلاكَ لَمْ يَعْرِضْ لأحْسَابِنَا حَسَنْ *
واحتجَّ سيبويه على أن الضميرَ هنا مجرور بأَنَّ هذه الضمائر التي هي (الهاء والكاف والياء) إما أن تكونَ ضمائرَ نصب أو ضمائرَ جرٍّ، ومُحالٌ أن تكونَ ضمائرَ رَفع، ولا يجوز أن تكون ضمائر نصب؛ لأن الحروف إذا اتَّصَلَ بها ياء المُتكلم وكانت في موضع نصب اتَّصَلَ بها نون الوقاية، نحو: “إنى وإنني وكأَنى وكأنني” فإن أدَّى ذلك إلى اجتماع مِثْلين جاز حذف نون الوقاية، فيقال: “إنى وكأنِّي ولكنِّي “، فلو كانت “الياءُ” ضميرَ نصب لقالوا: “لولانى” كما قالوا. “ليتني” ولم يأتِ ذلك، فتعيَّنَ أن تكود ضميرَ جرٍّ، فإذا ثبتَ هذا في (الياء) فكذلك في (الكاف والهاء).
وأما الكوفيون فاحتجُّوا بأن الظاهرَ لا يقعُ بعد هذه الحروف إلاّ مرفوعًا، فكذلك المضمَرُ، وقد وُجد ذلك في المنفصل، فيكون المُتَّصِلُ كذلك، ولكن هذه الضمائرَ المتَّصِلة وقعتْ موقعَ الضمائر المنفصلة، كما يقعُ المنفصل موقعَ المتَّصل، فهما يتعاقبانِ ويتعاوَضانِ، فقالوا: “ما أنا كَأنْتَ “، فأوقعوا ضميرَ الرفع موقعَ ضمير الجر، فلذلك قالوا: “لَوْلاك ” فأوقعوا ضميرَ الجرِّ موقعَ ضميرِ الرَّفع، فالتغيير وقع فى الصِّفة، لا في الإعراب، قالوا: وقد ثبت أنَّ (لولا) لا تعملُ في الظّاهر، فكيف تعمل في المضمَر؟.
__________
(1) هو -فيما قيل-: عَمرو بن العاص -رضي الله عنه- والبيت في “الإنصاف “: (2/ 693)، و”شرح ابن عقيل “: (3/ 7) وصدره:
* أنُطمع فينا من أراق دِمَاءَنا *
(3/921)
وأجاب البصريون عن هذا: بأنَّ الأصلَ أن الضمائرَ لا يقعُ بعضُها موقعَ بعض ألا للضَّرورة في الشِّعر، وبأنه يستلزمُ مخالفةَ الأصل من وجهينِ:
أحدهما: إيقاعُ المتَّصل موقع (1) المنفصلِ.
والثاني: إيقاعُ المجرور موقعَ المرفوع، وهذا تغييرٌ مرتين، فالتغييرُ في (لولا) (2) بكونها حرف جرٍّ في هذا الموضع أسهلُ، قالوا: وأما عملُها في المضْمَر خاصَّةً فليس بمستنْكَرٍ عملُ العامل في بعض الأسماء دون بعض، فهذه “لَدُنْ” لا تعمل إلا في “غُدْوَةٍ” وحدها، فإذا كان العاملُ يعملُ في بعض الظاهرات دونَ بعض، وهي جنسٌ واحد، فَلأَنْ يعملَ في المضمَر دونَ الظاهر وهما جنسانِ أولى، وقد ردَّ بعضُ النحاة هذا الاستعمالَ جملةً وقال: هو لحنٌ، واختلف على المُبَرِّد، فقيل: إن هذا مذهبُهُ، وقيل: إن مذهبَهُ قولُ الكوفيين. والله أعلم.
فصل (3)
اختلف في المستثنى، من أيِّ شيءٍ هو مخرَجٌ؟.
فذهب الكسائىُّ إلى أنه مخرَجٌ من المستثنى منه، وهو المحكومُ عليه فقط. فإذا قلت: “جَاءَ القَوْمُ إلاّ زَيْدًا” فزيد مخرَجٌ من القوم، فكأنك أخبرتَ عن القومِ الذين ليس فيهم (4) بالمجيء، وأما هو فلم تخبرْ عنه بشيء، بل سَلَبْتَ الإخبارَ عنه، لا أنك أخبرتَ عنه بسلب
__________
(1) (ع): “موضع “.
(2) “في لولا” ليست في (ع).
(3) من (ع) وحدها.
(4) (ظ) زيادة: “زيد”.
(3/922)
المجيء؛ والفرقُ بين الأمرين واضحٌ، وعلى قوله فالإسناد (1) وقعَ بعدَ الإخراج.
وذهب الفَرَّاء إلى أنه مخرَجٌ من الحُكم نفسِهِ.
وذهب الأكثرون إلى أنه مخرَج منهما معًا، فله اعتباران؛ أحدُهما: كونُه مستثنى، وبهذا الاعتبار هو مخرَجٌ من الاسم المستثنى منه، والثاني: كونه محكومًا عليه بضِدِّ حكم المستثنى منه، وبهذا الاعتبار هو مخرَج من (2) حكمه.
والتحقيقُ في ذلك أنه مخرَجٌ من الاسم المقيَّد بالحكم، فهو خرَج من اسم مقيَّد لا مطلَق.
ونذكرُ ما احْتَجَّ به لهذه المذاهب، {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} [البقرة: 34] ووجهُ الاستدلال: أن الاستثناءَ لو كان مخرَجًا من الحكم لكان قوله: “أبَى” تكرارًا؛ لأنه قد علم بالاستثناء، وأجيبَ عن هذا بأنه تأكيدٌ، واعْتُرِض على هذا الجواب بأن المعانيَ المستفادةَ من الحروف لا تُؤَكَّدُ، فلا يقال: “مَا قَامَ زَيْدٌ نفيًا” و”هلْ قَامَ عَمروٌ استفهامًا” و”لكن قَامَ زَيْدٌ استدراكًا” ونحوه؛ لأن الحرف وُضِعَ على الاختصار، ولهذا عُدِلَ عن الفعل إليه، فتأكيدُه بالفعل ينافي المقصودَ بوضعه.
والتحقيقُ في الجواب: أن “أَبَى” أفاد معنىً زائدًا وهو: أن عدم
__________
(1) (ق): “فالاستثناء”.
(2) من قوله: “الاسم المستثنى … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(3/923)
سجوده استند إلى إبائه، وهو أمرٌ وُجُودي اتَّصف به , نشأ عنه الذنبُ، فلم يكن تركُ سجوده لعَجْزٍ ولا لسَهْوٍ ولا لغفلةٍ، بل كان إباءً واستكبارًا.
ومعلومٌ أن هذا لا يُفْهَم من مجرَّد الاستثناء، وإنما المفهوم منه عدم سجوده، وأما الحاملُ على عدم السجود فلا يدلُّ الاستثناء عليه فصرَّح بذكره.
ونظير هذا الاحتجاج والاعتراض والتقدير سواء قوله تعالى: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)} [الأعراف: 11] فإنَّ نفىَ كونه من السَّاجدين أخصُّ من نفي السُّجود عنه؛ لأن نفي الكون يقتضي نفى الأهليَّةِ والاستعداد، فهو أبلغُ في الذَّمِّ من أن يقال: “لم يَسْجُدْ”.
ثم الذي يدلُّ على بُطلان هذا المذهب وجوهٌ:
منها: أنه لو كان ما بعدَ “إلاّ” مسكوتًا عن حكمِهِ لم يكن قولُنا: لا إله إلاّ الله توحيدًا واللازم باطلُ, فالملزومُ مثلُه, والمقدِّمتانِ ظاهرتان.
ومنها: أن الاستثناء المنقطع لا يُتَصور الإخراجُ فيه من الاسم لعدم دخولِه فيه , فكذلك المتَّصلُ.
ومنها: أنه لو كان الإخراجُ من الاسم وحده لما صحَّ الاستثناء من مضمون الجملة كقولك: “زَيْدٌ أَخوكَ إلاّ أنَّهُ ناءٍ عَنْكَ”، و”عَمْرٌو صّديقُكَ إلاَّ أنَّهُ يُوادُّ عَدُوَّكَ” ونحو هذا.
ومنها: أنه لا يوجدُ في كلام العرب: “قامَ القومُ إلاّ زَيدًا فإنَّهُ قَامَ” ولو كان الإخراجُ من الاسم وحدَه والمستثنى مسكوتٌ عنه لجاز
(3/924)
إثباتُ القيام له؛ كما جاز نفيُهُ عنه، فإن السكوتَ عن حكمه لا يفيدُ نفيَ القيام عنه ولا إثباته، فلا يكونُ واحدٌ منهما مناقضًا للاستثناء.
واحتجَّ الفَرَّاءُ بأن المُنقطعَ مخرَجٌ من الحُكم لا من الاسمِ، وكذلك البابُ كلُّه، وأجيبَ عن ذلك بأن المستثنى داخلٌ مع الاسمِ المحكوم عليه تقديرًا, إذ يقدَّرُ الأوَّلُ شاملاً بوجه ليصِحَّ الاستثناءُ، ولمن نصر قول الكسائي أيضًا أن يُجِيبَ له بهذا الجواب.
وإذا تبين بطلانُ المذهبين صحَّ مذهبُ الجمهور: أن الإخراج من الاسم والحكم معًا، فالاسم المستثنى مخرَجٌ من المستثنى منه، وحكمُه مخرَجٌ من حكمه، ومن الممتنع إخراجُ الاسم المستثنى من المستثنى منه مع دخوله تحتَهُ في الحكم, فإنه لا يُعقل الإخراجُ حينئذٍ ألْبتةَ, فإنه لو شاركه في حكمه لدخلَ معه في الحكم والاسم جميعًا، فكان استثناؤُه غيرَ معقول، ولا يقالُ, إن معنى الاستثناء أن المتكلِّمَ تاركٌ للإخبار عنه بنفىٍ أو إثباتٍ، مع احتمال كلِّ واحدٍ منهما، لأنَّا نقولُ: هذا باطلٌ من وجوه عديدة:
منها: أنَّكَ إذا قلتَ: “ما قَامَ إلا زَيْدٌ” “مَا ضَرَبْتُ إلاّ عَمْرًا” و”مَا مَرَرْتُ إلاّ بِزَيْدٍ”، ونحوه من الاستثناءات المفرَغات لم يَشُكَّ أحدٌ في أنك أثبتَّ هذه الأحكامَ لما بعد “إلاّ” كما أنك سلبتها عن غيره، بل إثباتُها للمستثنى أقوى من سلبها عن غيره (1).
ويلزمُ من قال: إن حكم المستثنى مسكوتٌ عنه، أن لا يفهمَ من هذا إثباتَ القيام والضَّرب والمرور لزيدٍ، وهو باطلٌ قطعًا.
ومنها: أنه لو كان مسكوتًا عنه لم يدخلِ الرجلُ في الإسلام
__________
(1) من قوله: ” بل إثباتها … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(3/925)
بقوله: “لا إلهَ إلاّ الله”، لأنه على هذا التقدير الباطل لم يُثبِت الإلهيَّةَ لله، وهذه أعظمُ كلمةٍ تضمَّنت بالوضع نفيَ الإلهيَّة عما سوى الله، وإثباتها له بوصف الاختصاصِ، فدلالتها على إثبات إلاهيَّته أعظمُ من دلالة قولنا: “الله إلهٌ”، ولا يستريبُ أحدٌ في هذا ألْبتَّة.
ومنها: أنه لو ادُّعِيَ عليه بمائَةِ دِرهَمٍ، فقال: “له عِنْدي مِائَةٌ إلاّ ثلاثَة دَراهِمَ “، فإنه نافٍ لثبوت المستثنى في ذِمَّته، ولو كان ساكتًا عنه لكان قد أقرَّ بالبعض ونكل عن الجواب عن البعض، وهذا لم يقلْهُ عاقلٌ، ولو كان حكم المستثنى السُّكوتَ لكان هذا ناكلاً (1).
ومنها: أن المفهوم من هذا عندَ أهل التخَاطُب نَفيُ الحكم عن المستثنى وإثباته للمستثنى منه، ولا فرقَ عندَهم بين فهم هذا النَّفي وذلك الإثبات ألْبتة، وذلك جارٍ عندَهم مجرى فهم الأمر والنهي والنَّفي والاستفهام وسائر معانى الكلام، فلا يفهمُ سامعٌ من قول الله عز وجل: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] أنه أخبر عن لبْثِهِ تسع مائة عام وخمسين عامًا، وسَكَتَ عن خمسين فلم يُخْبِرْ عنها بشيء، ولا يفهمُ أحدٌ قطّ إلا أن الخمسينَ لم يَلْبَثْها فيهم.
وكذلك قوله: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [ص: 82, 83] لا يفهم منها إلا أن المخْلَصينَ لا يتمَكَّنُ من إغوائهم، وكذلك سائر الاستثناءات.
ومنها: أن القائل إذا قال: “قَامَ القَوْمُ إلاّ زَيْدًا” لم يكن كلامه صدقًا إلا بقيامِهم وعدم قيام زيد، ولهذا من أراد تكذيبه قال له: “كَذَبْتَ بلْ قامَ زَيْدٌ”، ولو كان زيدٌ مسكوتًا عنه لم يكن هذا تكذيبًا
__________
(1) (ق وظ): “باطلاً”.
(3/926)
له، والعقلاءُ قاطبةً يعدونه تكذيبًا، ويعدُّون خبَرَهُ كاذبًا، حيث يعدُّون الإخبار بخلاف ما الشيء عليه كَذِبًا (1).
إذا عُرِفَ هذا؛ فَبِهِ يَنْحَلُّ الإشكال الذي أورده بعضُ المتأخرين على الاستثناء، وقال: الاستثناء مشْكِل التَّعَقُّلِ، قال: لأنك إذا قلت: “جاءَ القَوْم إلا زيْدًا” فإما أن يكون زيدٌ داخلاً في القوم أو لا، فإن كان غيرَ داخل لم يستقمِ الاستثناءُ لأنه إخراجٌ، وإخراجُ ما لم يدخلْ غير معقول، وإن كان داخلاً فيهم لم يستقمْ إخراجه للتناقض, لأنك تحكمُ عليه بحكمين متناقضين.
ولهذه الشبهة قال القاضي (2) وموافقوه: “إن عشرة إلا ثلاثة” مرادفٌ لسبعة، فهما اسمان رُكِّبا مع الحرف وجُعِلا بإزاء هذا العدد، فإن أراد القاضي أن المفهومَ منهما واحدٌ فصحيحٌ، وإن أراد التركيبَ النَّحْوِيَّ فباطلٌ.
والجواب عن هذا الإشكال: أنه لا يُحكم بالنِّسب إلا بعد كمال ذكر المفردات، فالإسناد إنما وقع بعد الإخراج، فالقائلُ إذا قال: “قامَ القَوْمُ إلا زيْدًا” فهاهنا خمسة أمور:
أحدها: القيامُ بمفرده.
الثاني: القَوْمُ بمفرده.
الثالث: زَيْدٌ بمفرده.
الرابع: النسبة بين المفردَين.
__________
(1) هذه الجملة ساقطة من (ق) ومكانها: “وإن كان قبل الحكم عليه “!.
(2) لعله: أبو يعلى ابن الفرَّاء الحنبلي.
(3/927)
الخامس: الأدلة الدَّالَّة على سلب النسبة عن زيد. فـ “زيدٌ” دخل في القوم على تقدير عدم الإسناد، وخرج منهم على تقدير الإسناد، ثم أُسْندَ بعد إخراجِه, فدخولُه وخروجُه باعتبارين غير متنافيين، فإنه دخلَ باعتبار الإفراد وخرج باعتبار النسبة، فهو من القوم غيرِ المحكوم عليهم، وليس من القوم المقيَّدين بالحُكم عليهم، هذا إيضاحُ هذا الإشكال وحَلُّه، واللهُ الموفِّقُ.
فصل
المستثنى إذا جُعِل تابعًا لما قبلَه، فمذهب البصريين أنه بَدَلٌ، وقد نصَّ عليه سيبويه (1)، ومذهب الكوفيين أنه عطفٌ، فأما القول بالبَدَلِ فعليه إشكالان (2):
أحدهما: أنه لو كان بَدَلاً لكان بَدَلَ بعضٍ، إذ يمتنع أن يكون بَدَلَ كُلٍّ من كُل، وبدل البعض لابُدَّ فيه من ضمير يعود على المبدَل منه، نحو: “قَبَضتُ المَالَ نصفهُ”.
الثاني: أن حكمَ البَدَل حكمُ المبدَل منه؛ لأنه تابع يشارك متبوعَه في حكمه، وحكم المستثنى هاهنا مخالفٌ لحكم المستثنى منه، فكيف يكون بَدَلاً.
وأجيب عن الأوَّل بأن “إلاَّ” وما بعدَها من تمام الكلام: الأوَّل، و”إلاَّ” قرينةٌ مُفْهمة أن الثاني قد كان تناولَهُ (3) الأوَّلُ، فمعلوم أنه بعضُ الأول، فلا يحتاجُ فيه إلى رابط بخلاف: “قَبَضْتُ المَالَ نِصْفَهُ”.
__________
(1) في “الكتاب”: (2/ 311).
(2) (ع): “إشكالات”.
(3) (ع): “يتناوله “، و (ق): “تداوله”.
(3/928)
وأُجيب عنه أيضًا: بأن البَدَل في الاستثناء قسم على حِدَتِهِ، ليس من تلك الأبدال التي تثبت (1) في غير الاستثناء.
وأُجيبَ عنه أيضًا: بأن البَدَل في الاستثناء إنما المُراعَى فيه وقوعُه مكان المبدَل منه، فإذا قلت: “ما قَامَ أَحَدٌ إِلاَّ زَيْدٌ” فـ “إِلاَّ زَيْدٌ” هو البَدَل، وهو الذي يقعُ موقعَ “أحدٍ”، فليس “زيدٌ” وحدَه بَدَلاً من “أحد”، فـ”إلا زيْد” هو الأحد الذي نَفَيْت عنه القيامَ، فقولُك: “إِلاَّ زَيْدٌ” هو بيان الأحد (2) الذي عَنَيْتَ، وعلى هذا فالبَدَلُ في الاستثناء أشبهُ ببَدَل الشيء من الشيء، من بَدَلِ البعضِ من الكلِّ.
وأما الإشكالُ الثاني فقال السِّيرافيُّ مجيبًا عنه: هو بَدَلٌ منه في عمل العامل فيه، وتخالفهما بالنفي والإيجاب لا يمنع البَدَلِيَّة؛ لأن مذهب البَدَل فيه أن يجعل الأوَّل كأنه لم يُذْكَر، والثاني في موضعه.
وقد تتخالفُ الصِّفةُ والموصوفُ نفيًا وإثباتًا، نحو: “مررتُ بِرَجُلٍ لا كَرِيمٍ ولا لَبيبِ “.
ومعنى هذا الجواب: أنه إنما يشترطُ في البَدَل أن يحلَّ محل الأوَّلِ في العامل خاصَّة، وأما أن يكون حكمُهما واحدًا فلا.
وأما القولُ الكوفيُّ: إنه عطف، فإنهم جعلوا “إلاَّ” من حروف العطف في هذا الباب خاصَّة، والحاملُ لهم على ذلك وجود المخالفة المذكورة.
قال ثعلب: كيف يكون بَدَلاً وهو موجبٌ ومتبوعه منفىٌّ، والعطفُ
__________
(1) غير بيّنة في (ظ)، وفي (ع): “تبينت” والمثبت من (ق).
(2) كذا في (ق وظ)، وفي (ع): “مقويتان للأخذ … “!.
(3/929)
توجدُ فيه المخالفةُ فى المعنى كالمعطوف بـ “بَلْ” و”لكِنْ “، وهذا ممكنٌ خالٍ من التكَلُّف، ولا يقال: إنه يستلزم الاشتراك في الحروف، وهو مذهب ضعيفٌ؛ لأنا نقول: ليس هذا من الاشتراك في الحروف، فإن “إلاَّ” للإخراج على بابها، وإنما سمّوا هذا النوعَ من الإخراج عطفًا على نحو تسميتهم الإخراجَ بـ”بَلْ ” و”لكن” عطفًا، والاشتراك المردود قول من يقول: إن “إلاَّ” تكون بمعنى الواو، لكن قد رُدَّ قولُهم بالعطف بأن “إلاَّ” لو كانت عاطفةً لم تباشر العاملَ في نحو: “مَا قَامَ إلاَّ زيْدٌ”؛ لأن حروف العطف لا تلي العواملَ, ويجابُ عن هذا بأن “إلا” التي باشرتِ العاملَ ليست هي العاطفة, فليس هاهنا عطفٌ ولا بدلٌ ألبَتَّةَ، وإنما الكلامُ فيما إذا كان ما بعد “إلاَّ” تابعًا لما قبلها.
قال ابن مالك (1): ولمقوِّى العطف أن يقول: تخالفُ الصِّفة والموصوف كَلا تَخَالُف، لأنَّ نفي الصِّفتين إثباتٌ لضِدَّيهما، فإذا قلت: “مرَرْتُ بِرَجُلٍ لا كرِيم ولا شجاع” فكأنك قلت: “بَخيل جَبَان” وليس كذلك تخالف المستثنى والمستثنى منه، فإنَّ جَعْلَ “زيْدٍ” بدلاً من “أحد” إذا قيل: “ما فيها أحدٌ إلا زيدٌ” يلزمُ منه عدم النَّظير، إذ لا بَدَلَ في غير محل النّزاع إلا وتَعَلُّقُ العاملِ به مُسَاوٍ لتَعَلُّقِهِ بالمبْدَل منه, والأمرُ في “ما قَامَ أَحَدٌ إلاّ زَيْدٌ” بخلاف ذلك، فيضعفُ كونه بَدَلاً، إذ ليس في الأبدال ما يشبهه، وإن جُعِل معطوفًا لم يلزمْ من ذلك مخالفة المعطوفات، بل يكون نظيرَ المعطوف بـ”لا” و”بَلْ ” و”لكِنْ ” فكان جعلُه معطوفًا أولى من جعله بَدَلاً.
قلت: ويقوِّي العطفَ أيضًا أنك تقول: “لا أحَدَ في الدَّارِ إلاّ
__________
(1) لم أعثر على كلامه.
(3/930)
عَبْدُ الله “، فـ “عبدُ الله” لا يصحُّ أن يكون بدَلاً من “أحدٍ”، فإنه لا يَحِلُّ مَحَلَّة.
فإن قيل: هذا جائزٌ على توهُّم “ما فيها أحدٌ إلا عَبْدُ اللهِ” إذ المعنى واحدٌ، فأمكنَ أن يَحِلَّ أحدُهما محلَّ الآخرِ، قيل: هذا كاسمه وَهْم، والحقائقُ لا تُبنى على الأوهام.
وأجاب ابنُ عُصفور عن هذا بأن قال: لا يلزمُ أن يَحِلَّ “عبدُ الله” محِلَّ “أحدٍ” الواقع بعد “لا” لأنَّ المُبْدَلَ إنما يلزمُ أن يكونَ على نِيَّةِ تكْرار العاملِ، وقد حصل ذلك كلُّه (1) في هذه المسألة وأمثالها، ألا ترى أن “عبدَ الله” بَدَلٌ من موضع “لا أحَدَ”، فيلزمُ أن يكونَ العاملُ فيه الابتداءَ، كما أن العاملَ في موضع “لا أحَدَ” الابتداء، بلاشكٍّ أنَّك إذا أبدلْتَهُ منه كان مبتدأً في التقدير وخبرُه محذوف، وكذلك حرفُ النَّفيِ لدلالة ما قَبْلَه عليه، والتقدير: “لا أحَدَ فِيها لا فِيها إلاّ عَبْدُ اللهِ ” ثم حذف واختص.
وهذا الجوابُ غيرُ قَوِيٍّ؛ إذ لو كان الأمرُ كما زعم لصحَّ البدل مع الإيجاب، نحو: “قَامَ القَوْمُ إلاّ زَيْدٌ” لصحَّة تقدير العامل في الثاني، وهم قد منعوا ذلك وعَلَّلوه بعدم صِحَّة حلول الثاني مَحَلَّ الأوَّل، فدلَّ على أنه مشترطٌ.
فصل (2)
قوله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]__________
(1) من (ق).
(2) ليس في (ع).
(3/931)
قال الزمخشري (1): هو استثناء منقطعٌ جاء على لغة تميم، لأن الله تعالى وإن صحَّ الإخبار عنه بأنه في السماوات والأرض، فإنما ذلك على المجاز؛ لأنه مقدَّس عن الكون في مكان بخلاف غيره، فإنَّ الإخبار عنه بأنه في السماء أو في الأرض ليس مجازًا، وإنما هو حقيقة، ولا يَصِحُّ حملُ اللَّفظِ فى حالٍ واحدٍ على الحقيقة والمجاز.
قلت: وقولُه “على لغة تميم” يريدُ أن من لغتهم: أن الاستثناءَ المنقطعَ يجوزُ إتباعُهُ كالمتَّصِل إن صحَّ الاستغناءُ به عن المستثنى منه، وقد صحَّ هاهنا، إذ يَصِحُّ أن يقالَ: لا يعلمُ الغيبَ إلا الله.
قال ابن مالك (2): والصحيحُ عندي أن الاستثناءَ في الآية متَّصِلٌ، وفي متعلقه بفعل غير (استقر) من الأفعال المنسوبة حقيقة إلى الله تعالى وإلى المخلوقين كـ: “ذكَرَ ويذْكُرُ” ونحوه، فكأنه قيل: “لا يعلمُ مَنْ يُذكَرُ فى السَّماواتِ والأرض الغيبَ إلا الله”.
قال: ويجوزُ تعليقُ “في” بـ “اسْتَقَرَّ” مستندًا (3) إلى مضاف حُذِف، وأقيمَ المضافُ إليه مقامَهُ، والأصل: “لا يعلمُ من استَقَرَّ ذكره في السَّماوات والأرضِ الغيبَ إلا الله” ثم حذف الفعل والمضاف واستتر المضمر (4) لكونه مرفوعًا. هذا على تسليم امتناع إرادة الحقيقة والمجاز في حال واحد، وليس عندي ممتنعًا لقولهم: ” القَلَم أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ” و” الخَالُ أَحَدُ الأبَوَيْنِ” وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] في قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “الأيْدِي ثَلاثَةٌ: يَدُ اللهِ، ويَدُ
__________
(1) انظر “الكشاف”: (3/ 149).
(2) انظر الصفحة السابقة.
(3) (ق, ظ): “مسندًا”.
(4) (ق): “الضمير”.
(3/932)
المُعْطِي، ويَدُ السَّائلِ” (1) ” تم كلامُه.
فهذا كلام هذين الفاضلين في هذه الآية، وأنت ترى ما فيه من التكَلُّف الظاهر الذي لا حاجة بالآية إليه، بل الأمرُ فيها أوضحُ من ذلك (2).
والصوابُ: أن الاستثناءَ مُتَّصِلٌ، وليس في الآية استعمالُ اللَّفظ في حقيقته ومجازه؛ لأن “من في السَّماوات والأرض” هاهنا أبلغُ صيغ العمومِ، وليس المُراد بها مُعَيَّنًا، فهي في قوَّة “أحد” المنفي بقولك: “لا يَعْلمُ أَحَدٌ الغَيْبَ إلاّ الله”، وأتى في هذا بذكر السموات والأرض تحقيقًا لإرادة العموم والإحاطة فالكلام مُؤدٍّ معنى: “لا يَعْلَمُ أحَدٌ الغَيْبَ إلاّ الله” (3).
وإنما نشأ الوهمُ مِن ظَنِّهم أن الظرفَ هاهنا للتَّخصِيص والتَّقييد، وليس كذلك، بل هو لتحقيق الاستغراق والإحاطة، فهو نظيرُ الصِّفة في قوله تعالى: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] فإنها ليست للتخصيص والتَّقييد، بل لتحقيق الطَّيران المدلول عليه بـ”طائر”، فهكذا قوله: {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لتحقيق الاستغراق المقصود بالنفي.
__________
(1) أخرجه أحمد: (7/ 295 رقم 4261)، وابن خزيمة رقم (2435) والحاكم: (1/ 408) من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، وأخرجه أحمد: (25/ 225 رقم 15890)، وأبو داود رقم (1649) والحاكم: (1/ 408) -كلاهما من طريق أحمد- من حديث مالك بن نضلة -رضي الله عنه- بنحوه.
والحديث صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم.
(2) وذكر كلامهما ابن هشام فى “المغني”: (2/ 449 – 450) ثم قال: “وفى الآية وجه آخر، وهو أن يُقدِّر “من” مفعولاً به، و” الغيب” بدل اشتمال، و”الله” فاعل، والاستثناء مفرَّغ” اهـ.
(3) من قوله: “وأتى في هذا … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(3/933)
ومن تأمَّلَ الآية عَلِم أنه لم يقصدْ بها إلاّ ذلك، وقد قيل: إنه لا يمتنعُ أن يطلقَ عليه تعالى أنه في السموات كما أطلقَه على نفسه، وأطلقَه عليه رسولُهُ، قالوا: ولا يلزم أن يكون هذا الإطلاقُ مجازًا بل له منه الحقيقة التي تليقُ بجلاله ولا يشابهُهُ فيها شيءٌ من مخلوقاته، وهذا كما يطلق عليه أنه سميعٌ بصيرٌ عليمٌ قديرٌ حيٌّ مريدٌ حقيقةً، ويطلقُ ذلك على خلقِهِ حقيقةً، والحقيقَةُ المختصَّةُ به لا تُماثِلُ الحقيقةَ التي لخَلْقِهِ، فتناوُلُ الإطلاقِ بطريق الحقيقة لهما لا يستلزمُ تماثُلاً حتى يُفَرَّ من نفيه إلى المجاز.
وأما قوله: “إن الظرفَ متعلّقٌ بفعل غير “استقر”، من الأفعال المنسوبة إلى الله وإلى المخلوقين حقيقة كـ “ذَكَرَ ويَذْكُرُ” إلى آخره”.
فيقال: حذف عامل الظَّرف لا يجوزُ إلا إذا كان كونًا عامًا أو استقرارًا عامًا، فإذا كان استقرارًا أو كَوْنًا خاصًّا مُقَيَّدًا لم يَجُز حذفُهُ، وعلى هذا جاء مصرَّحًا به في قوله تعالى: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ} [النمل: 40] لأن المُرَادَ به الاستقرارُ الذي هو الثبات واللُّزومُ، لا مطلق الحصول عنده، فكيف يسوغُ ادّعاء [حذفِ] (1) عامل الظرفِ في موضع ليس بمعهودٍ حذفُه فيه؟! وأبعدُ من هذا التقدير: ما ذكره في التقدير الثاني أن عاملَ الظرف استقرار مضاف إلى ذكر محذوف استغني به عن المُضاف إليه، والتقديرُ: “استقرَّ ذكرُه “، فإن هذا لا نظيرَ له، وهو حذفٌ لا دليلَ عليه، والمضافُ يجوز أن يُستغنى به عن المُضاف إليه (2) بشرطينِ: أن يكون مذكورًا، وأن يكونَ معلومَ الوضع مدلولاً عليه لئلا يلزمَ اللَّبْسُ.
__________
(1) من (ظ).
(2) من قوله: “والتقدير: استقر … ” إلى هنا ساقط من (ق)، وهو انتقال نظر.
(3/934)
وأما ادعاءُ إضافة شيءٍ محذوف إلى شيء محذوف، ثم يضافُ المُضاف إليه إلى شيءٍ آخر محذوف، من غير دلالة في اللَّفظ عليه، فهذا مما يُصَانُ عنه الكلام الفصيح فضلاً عن كلام ربِّ العالمينَ!.
وأما قولُه: “على أنه لا يمتنعُ إرادةُ الحقيقة والمجاز معًا” واستدلالُه على ذلك بقولهم: “القَلَمُ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ “، فلا حُجَّةَ فيه! لأن اللَّسانينِ اسم مثنَّى، فهو قائمٌ مقامَ النُّطق باسمين أُريدَ بأحدهما الحقيقة وبالآخر المجاز، وكذلك: “الخَالُ أَحَدُ الأبَوَيْنِ” وكذلك “الأَيْدِي ثَلاثَةٌ”.
وأما قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] فالاستدلال به أبعدُ من هذا كلِّه، فإنَّ الصلاةَ على النبى – صلى الله عليه وسلم – من الله وملائكته حقيقةٌ بلا رَيْب، والحقيقةُ المضافة إلى الله من ذلك لا تُماثِلُ الحقيقةَ المُضافةَ إلى الملائكة، كما إذا قيل: “الله ورسولُهُ والمؤمنونَ يعلمونَ أن القرآنَ كلامُ الله “، لم يَجُزْ أن يُقَالَ: إن هذا استعمالُ اللَّفظ في حقيقته ومجازه، وإن كان العِلْمُ المضافُ إلى الله غيرَ مماثِل للعِلْم المُضافِ إلى الرسول والمؤمنين، فتأمَّلْ هذه النُّكَت البديعة. ولله الحمد والمنّة.
فصل
المعروفُ عند النُّحاة أن الاستثناءَ المنقطعَ هو: أن لا يكونَ المستثنى داخلاً في المُستثنى منه، وربما عبَّروا عنه بأن لا يكونَ المستثنى من جنس المستثنى منه، وهذا يحتمل شيئينِ:
أحدهما: أن لا يكون المستثنى فردًا من أفراد المستثنى منه.
والثاني: أن لا يكونَ داخلاً في ماهِيَّتِهِ ومُسَمَّاه، فنحو: “جَاءَ
(3/935)
القَوْمُ إلاَّ فَرَسًا” منقطعٌ اتفاقًا، و”جَاءوا إلاَّ زَيْدًا” متَّصل، و”رأَيْتُ زَيدًا إلاَّ وَجْهَهُ” منقطعٌ على الاعتبار الأوَّل؛ لأن الوجهَ ليس فردًا من أفراد المستثنى منه، ولكن لا أعلمُ أحدًا من النُّحاة يقولُ ذلك، ويلزمُ من ذلك أن يكون استثناءُ كلِّ جزءٍ من كُلٍّ منقطعًا. ونحو قوله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} منقطع على التفسير الأول لعدم دخولِ الموتة الأولى في المستثنى منه، ومتَّصل على التفسير الثانى؛ لأنها من جنس الموت في الجملة.
وفي الاستثناء المنقطع عبارةٌ أخرى، وهي: أن يكون منقطعًا مما قبلَه، إما في العمل، وإما في تناوله له، فالمنقطع تناولاً: “جَاءَ القَوْمُ إلا حِمَارًا” والمنقطع عملاً نحو قوله تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24)} [الغاشية: 22 – 24] فهذا استثناء منقطِعٌ بجملة، كذا قاله ابن خروف (1) وغيره، وجعلوا “مَنْ” مبتدأ و”يُعَذِّبُه” خبره، ودخلت الفاء لتضمُّن المبتدأ معنى الشرط.
وجعل الفرَّاء من هذا قوله تعالى: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [البقرة: 249] على قراءة الرَّفع (2)، وقدَّره: “إلا قليلٌ منهم لم يشربوا”، وقواه ابن خروف واستحسنه.
ومن هذا قولهم: “ما للشَّيَاطِين مِنْ سِلاحٍ أبْلَغَ في الصَّالحِينَ مِنَ ْالنِّسَاءِ إلاَّ المُتزوِّجون، أُولئكَ المطَهَّرُون المُبرَّؤونَ مِنَ الخَنَاء”.
__________
(1) هو: أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن خروف الإشبيلي النحوي ت (610) انظر “السير”: (22/ 26).
(2) وهي قراءة أُبي والأعمش، “البحر المحيط”: (2/ 275).
(3/936)
وقيل: إنّ من هذا قوله تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} [هود: 81] في قراءة الرفع (1)، ويكون “امرأتُك” مبتدأ وخبره ما بعده.
وهذا التوجيهُ أولى من أن يجعلَ الاستثناء في قراءة من نَصَبَ من قوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ}، وفي قراءة من رفع من قوله: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} , ويكون الاستثناءُ على هذا من (2): “فَأَسرِ بأهْلِكَ “، رفعًا ونصبًا، وإنما قلنا: إنه أوْلى؛ لأنَّ المعنى عليه، فإن الله تعالى أمرَه أن يَسْرِيَ بأهلِه إلا امرأته.
ولو كان الاستثناء من الالتفات؛ لكان قد نهى المُسْرَى بهم عن الالتفات وأذِنَ فيه لامرأته، وهذا ممتنعٌ لوجهين:
أحدُهما: أنه لم يأمرْه أن يَسْرِيَ بامرأتِهِ، ولا دخلت في أهله الذين وُعِد بنجاتهم.
والثاني: أنه لم يكَلِّفْهُمْ بعدم الالتفات، ويأذَنَ فيه للمرأة.
إذا عُرِفَ هذا؛ فاختلف النُّحاة: هل من شرط الاستثناء المنقطع تقدير دخوله في المستثنى منه بوجه أو ليس ذلك بشرط؟.
فكثيرٌ من النُّحاة لم يشترط فيه ذلك، واشترطه آخرون، قال ابن السَرَّاج (3): “إذا كان الاستثناء منقطعًا فلابدَّ من أن يكونَ الكلامُ الذي قبل “إلاَّ” قد دلَّ على ما يُستثنى [منه] “. فعلى الأوَّل لا يُحتاج
__________
(1) وهى قراءة ابن كثير وأبى عَمرو، انظر: “المبسوط”: لابن مِهران.
(2) من قوله: “من قوله: فأسر … ” إلى هنا ساقط من (ق)، و”من” سقطت من (ع).
(3) في “الأصول”: (1/ 291).
(3/937)
إلى تقدير، وعلى الثاني فلابُدَّ من تقدير الرَّدِّ، ولنذكر لذلك أمثلة:
المثال الأول: قوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] فمَنْ لم يشترطِ التقديرَ أجراه مجرى المُفْرَّغ، والمعنى: “ما عندَهم، أو: ما لَهُمْ إلاَّ اتِّباع الظَّنِّ “، وليس اتِّباعُ الظَّنِّ متعلِّقًا بالعلم أصلاً.
ومن اشترطَ التقديرَ قال (1): المعنى: “ما لَهُمْ مِنْ شعورٍ إلاَّ إتِّباع الظَّنِّ “، والظن وإن لم يدخلْ في العلم تحقيقًا فهو داخل فيه تقديرًا، إذ هو مستحضرٌ بذكره، وقائمٌ مقامَهُ في كثير من المواضع، فكان في اللّفظ إشعار به صَحَّ به دخولُه وإخراجُه.
وهذا بعد تقريره (2) فيه ما فيه، فإن المستثنى هو اتِّباع الظَّنِّ لا الظَّنُّ نفسُه، فهو غير داخل في المستثنى منه تحقيقًا ولا تقديرًا، فالأحسن فيه عندي أن يكونَ التقديرُ: “ما لَهمْ به مِنْ عِلْم فَيَتَّبعُونَهُ ويأتمُّون (3) به، إن يتَّبعُونَ إلاَّ الظَّنَّ” فليس اتباع الظن مستثنى من العلم، وإنما هو مستثنى من المقصود بالعلم، والمراد به وهو اتِّباعه، فتأمله.
هذا على تقدير اشتراط التَّنَاول لفظًا أو تقديرًا، وأما إذا لم يشترط -وهو الأظهرُ- فتكونُ فائدةُ الاستثناء هاهنا كفائدة الاستدراك، ويكون الكلامُ قد تضمَّنَ نفيَ العلم عنهم وإثبات ضدِّه لهم، وهو الظَنُّ الذي لا يُغني من العلم شيئًا (4).
__________
(1) (ع): “فإن “.
(2) (ع): “تقديره “.
(3) (ظ): “وينمون” و (ق): ” ويلقون “!.
(4) (ق): “وهذا الظن الذى لا يغني من الحق شيئًا”.
(3/938)
ومثله قوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24] ليس المُرَادُ به نفيَ الحكم الجازم وإثبات الحكم الرَّاجح، بل المرادُ نفيُ العلمِ وإثباتُ ضِدِّه، وهو الشَكُّ الذي لا يُغني عن صاحبه شيئًا، وستزيد الأمثلة هذا وضوحًا (1).
المثال الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)} [الحجر: 42] فهذا استثناءٌ منقطعٌ؛ لأن أَتباعَهُ الغَاوِينَ لم يدخلوا في عبادِه المضافين إليه، وإن دخلوا في مُطلق العِباد، فإن الإضافةَ فيها معنى التَّخصيص والتَّشريف، كما لم تدخل الخانات والحمامات في بيوت الله، قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] إلى آخر الآيات، وقال: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} فعبادُه المضافونَ إليه هم الذين آمنوا، وعلى ربَهم يتوكَّلون، قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)} [النحل: 99] {يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69)} [الزخرف: 68 – 69].
ومن هذا قوله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] فعباده هاهنا الذين يغفرُ ذنوبهم جميعًا هم المؤمنون التائبون، والانقطاع في هذا قول ابن خروف وهو الصَّوابُ.
وقال الزمخشريُّ (2): هو مُتَّصِلٌ، وجعل لفظ العباد عامًّا، وقد عرفتَ غَلَطَهُ، وعلى تقدير الانقطاع فإن لم يُقَدَّرْ دخولُه في الأول
__________
(1) (ظ): “والمذكور من الأمثلة يزيد هذا وضوحًا”.
(2) “الكشاف”: (2/ 314).
(3/939)
فظاهر، وإن قدَّرْنا دخولَه فقالوا: تقديرُه: “إن عبَادِي ليسَ لك عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ، ولا على غَيْرِهِمْ، إلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ” ولا يخفى التَّكَلُّفُ الظاهرُ عليه، فالأحسن أن يُقال: لما ذكر العباد وأضافهم إليه، والإضافةُ يحتملُ أن تكونَ إلى ربوبيَّتِهِ العامَّة، فتكونُ إضافة ملك، وأن تكون إلى إلهيته فتكون إضافةَ اختصاص ومحبَّة. والغاوونَ داخلون فى العباد عند التعميم والإطلاق، لقوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93] فالأوَّلُ متناوِلٌ له بوجه فصحَّ إخراجُه.
المثال الثالث: قوله تعالى: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود: 43] على أصحِّ الوجوه في الآية، فإنه تعالى لما ذَكَر العاصمَ استدعى معصومًا مفهومًا من السياق، فكأنه قيل: لا مَعْصُومَ اليومَ مِن أَمْرِهِ إلا مَنْ رَحِمَهُ، فإنه لما قال: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} بقي الذهنُ طالبًا للمعصوم، فكأنه قيل: فمن الذي يُعصَمُ؛ فأجيب: “لا يُعصمُ إلا من رَحَمَهُ اللهُ”، ودلَّ هذا اللفظ باختصاره وجلالته وفصاحته على نفي كلِّ عاصمٍ سواه، وعلى نفي كلِّ معصوم سوى من رحمه الله، فدلّ الاستثناءُ على أمرين: على المَعصوم مَن هو، وعلى عاصمه (1) وهو ذو الرَّحمة، وهذا من أبلغِ الكلام وأفصحِه وأوجزِه، ولا يُلتفتُ إلى ما قيل فى الآية بعد ذلك، وقد قالوا فيها ثلاثةَ أقاويل أُخَر:
أحدها: أن “عاصمًا” بمعنى معصوم، كـ {مَاءٍ دَافِقٍ (6)} و {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)} والمعنى: “لا معصومَ إلا من رَحِمَهُ الله”.
وهذا فاسدٌ؛ لأن كلَّ واحد من اسم الفاعل واسم المفعول موضوعٌ لمعناه الخاصِّ به،
__________
(1) (ظ): “العاصم”.
(3/940)
فلا يشاركُهُ فيه المعنى الآخرُ، وليس الماءُ الدافقُ بمعنى المدفوق، بل هو فاعلٌ على بابه، كما يقال: “مَاءٌ جَارٍ” فـ”دافقٌ ” كـ”جارٍ ” فما الموجب للتكلُّف البارد؟! وأما “عيشة راضية”، فهي عند سيبويه على النسب، كـ” تامِرٍ ولابِنٍ” أي: ذات رضى، وعند غيره كـ “نهارٍ صَائِمٍ وليْلٍ قَائِمٍ” على المبالغة.
والقول الثاني: إنَّ: “مَنْ رَحِمَ” فاعلٌ لا مفعول، والمعنى: “لا يَعْصِمُ اليومَ مِنْ أمْرِ الله إلا الراحمُ، فهو (1) استثناءُ فاعل من فاعل، وهذا وإن كان أقلَّ تكلُّفًا، فهو أيضًا ضعيف جدًّا، وجزالة الكلام وبلاغتُه تأباه بأوّل نظر.
والقول الثالث: إن في الكلام مضافًا محذوفًا قام المضافُ إليه مقامَهُ، والتقدير: “لا معصومَ عاصمٍ اليومَ مِنْ أمر الله إلا مَنْ رحِمَهُ الله” وهذا من أنكر الأقوال وأشدِّها منافاة للفصاحة والبلاغة (2)، ولو صرّح به لكان مستغثًّا!.
المثال الرابع: قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] فهذا من الاستثناء السَّابق زمان المستثنى فيه زمان المستثنى منه، فهو غيرُ داخل فيه، فمن لم يشترطِ الدُّخولَ فلا يقدِّر شيئًا، ومن قال: لابُدَّ من دخوله قَدَّر دخولَهُ في مضمون الجملة الطَّلَبيَّة بالنَّهي، لأن مضمونَ قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] الإثم والمؤاخذة، أي أنَّ الناكِحَ ما نكحَ أبُوهُ آثِمٌ مُؤَاخَذٌ، إلا ما قد سَلَفَ قبلَ النَّهيِ وإقامَةِ الحُجَّة، فإنه لا
__________
(1) (ق وظ): “فهذا”.
(2) (ظ): “مناقضة للفصحاء والبلغاء”.
(3/941)
تتعلَّقُ به المؤاخذةُ.
وأحسن من هذا -عندي- أن يقال: لما نهى -سبحانه- عن نِكاح مَنْكوحاتِ الآباءِ، أفادَ ذلك أن وَطْئَهنَّ بعد التحريم لا يكون نكاحًا أَلْبتة، بل لا يكون إلا سفاحًا, فلا يترتب عليه أحكامُ النكاح من ثُبوت الفراش ولحوق النسب، بل الوَلَدُ فيه يكونُ وَلَدَ زنْيَةٍ، وليس هذا حكمَ ما سلف قبل التحريم, فإن الفراشَ كان ثابتًا فيه، والنسب لاحق، فأفاد الاستثناءُ فائدةً جليلةً عظيمةً، وهي: أن وَلَدَ مَنْ نكَحَ ما نكح (1) أبُوه قبلَ التحريم ثابتُ النسبِ، وليس ولدَ زِنا، والله أعلم.
المثال الخامس: قوله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28] ومعلوم أن التقاة ليستْ بموالاة، ولكن لما نهاهم عن مُوالاة الكفار اقتضى ذلك معاداتَهم والبراءةَ منهم ومجاهَرَتَهُم بالعداوة في كلِّ حال، إلاَّ إذا خافوا من شرِّهم، فأباح لهم التَّقيَّةَ، وليست التَّقِيَّةُ موالاةً لهم.
والدخولُ هاهنا ظاهر، فهو إخراجٌ من مُتَوَهَّمٍ غيرِ مُرادٍ.
المثال السادس: قوله تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24)} (2) فهذا من المنقطع لا بالاعتبار الذي ذكره ابنُ خروف؛ من كون المستثنى جملةً مستقلةً، بل باعتبار آخر, وهو: أنه ليس المرادُ إثباتَ المسيطرية (3) على الكفار, فإن اللهَ
__________
(1) “ما نكح” ليست فى (ع).
(2) الآية الثالثة من (ع) وحدها.
(3) كذا بالأصول.
(3/942)
سبحانه بعثَهُ نذيرًا مبلغًا لرسالات ربِّهِ، فَمَنْ أطاعه فله الجَنَّة، ومن عصاه فله النَّارُ، قال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشورى: 48] وقال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)} [يونس: 108] قال المفسِّرونَ: المعنى: أنك لم تُرْسَلْ مُسَلَّطًا (1) عليهم، قاهِرًا لهم جبَّارًا كالملوك، بل أنت عبدي ورسولي المُبِّلِّغُ رسالاتي، فمن أطاعَكَ فله الجنَّةُ، ومَنْ عصاك فله النَّارُ، ويوضحُ هذا أن المخاطبينَ بهذا الخطاب هم الكفَّارُ، فلا يَصِحُّ أن يكونوا هم المُسْتَثنيْنَ.
المثال السابع: قوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)} [الواقعة: 25 – 26] وهذا فيه نفيٌ لسماع اللَّغو والتأثيم وإثبات لضده، وهو السَّلامُ المُنافي لهما، فالمقصودُ به نفيُ شيء وإثباتُ ضدِّه، وعلى هذا فلا حاجةَ إلى تكلُّفِ دخوله تحتَ المستثنى منه؛ لأنه يتضمَّنُ زوالَ هذه الفائدةِ من الكلام، ومن ردَّه (2) إلى الأوَّل قال: لما نفى عنهم سماعَ اللَّغو والتأثيمِ وهما مما يقال، فكأن النفسَ تشوّفَتْ إلى أنه هل يسمعُ فيها شيء غيره، فقال: “إلا قيلاً سلامًا سلامًا” فعاد المعنى إلى: “لا يسمعونَ فيها شيئًا {إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)} “، وأنت إذا تأملتَ هذين التقديرينِ رأيتَ الأوّل أصوبَ، فإنه نَفَى سماعَ شيء وأثبتَ ضِدَّهُ، وعلى الثانى نفى سماعَ كلِّ شيء إلا السَّلام، وليس المعنى عليه، فإنهم يسمعون السَّلامَ وغيْرَهُ فتأمله.
__________
(1) (ق): “سلطانًا”، و”الملوك” بعدها ليست في (ق).
(2) (ع): “قدر”، و (ق): “قد رده “.
(3/943)
المثال الثامن: قوله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] وهذا من الاستثناءِ السابق زمانُه زمان المستثنى منه، ولمّا كانت الموتَةُ الأولى من جنس الموت المنفي، زعم بعضُهم أنه مُتَّصِلٌ، وقال بعضهم: “إلاَّ” بمعنى: “بَعْدَ”، والمعنى: لا يَذُوقون بعدَ المَوْتَةِ الأولى مَوْتًا في الجَنَّةِ، وهذا معنى حسنٌ جدًّا يفتقرُ إلى مساعدة اللَّفظ عليه، ويُوضحُه أنه ليس المرادُ إخراج الموتةِ الأولى من الموتِ المنفي، ولا ثَمَّ شيءٌ مُتَوَهَّمٌ يُحتاجُ لأجله إلى الاستثناء، وإنما المُراد الإخبار بأنهم بعد موتَتِهم الأولى التي كَتبَها الله عليهم لا يذوقون غيْرَها.
وعلى هذا فيقالُ: لما كان ما بعدَ “إلاَّ” حكمه مخالفٌ لحكم ما قبلَها، والحياةُ الدائمة في الجنَّة إنّما تكونُ بعد الموتة الأولى، كانت أداةُ “إلاَّ” مفهمةً هذه البَعْدِيَّة، وقد أُمِن اللَّبْس لعدم دخولها في الموت المَنفي في الجنة، فتجرَّدَتْ لهذا المعنى، فهذا من أحسنِ ما يُقَالُ فْي الآية، فتأمله.
المثال التاسع: قوله تعالى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)} [النبأ: 23 – 25] فهذا على عَدَم تقدير التّنَاول يكونُ فيه نفى الشئ وإثباتُ ضِدِّه، وهو أظهرُ، وعلى تقدير التّناول لما نفى ذوْق البَرْد والشَّرَاب، فربما تُوهِّمَ أنهم لا يذوقون غيرهما فقال: {إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)} فيكون الاستثناءُ من عامل (1) مقدَّرٍ.
المثال العاشر: قوله تعالى: {إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ} [النمل: 10 – 11] فعلى تقدير عدم الدُّخول، نفى
__________
(1) (ع): “تمامٍ “، و (ظ): “عام “.
(3/944)
الخوفَ عن المُرسلين وأثبته لمن ظَلَمَ ثم تاب، وعلى تقدير الدخول يكون المعنى: “ولا غيرهم إلا من ظلم”.
وأما قول بعض الناس: إنَّ “إلاّ” بمعنى الواو، والمعنى: “ولا مَنْ ظلمَ ” فَخَبْطٌ منه، فإن هذا يرفع الأمانَ عن اللُّغة ويُوقِعُ اللَّبْسَ في الخطاب، و”الواو”، و”إلاّ” متنافيان، فأحدُهُما يثبتُ للثاني نظيرَ حكم الَأول، والآخر (1) ينفي عن الثاني ذلك، فدعوى تَعاقبهما دعوى باطلة لغةً وعرفًا، والقاعدةُ: أن الحروف لا ينوبُ بعضُها عن بعض خوفًا من اللَّبْسِ وذهاب المعنى الذي قُصِدَ بالحرف، وإنما يُضَمَّنُ الفعل ويُشْرَبُ معنى فعلٍ آخَرَ يقتضي ذلك الحرفَ، فيكونُ ذكرُ الفعل مع الحرف الذي يقتضيه غيره قائمًا (2) مقامَ ذكر الفعلين، وهذا من بديع اللغة وكمالها، ولو قُدِّر تعاقُب الحروف، ونيابة بعضها عن بعض، فإنما يكونُ ذلك إذا كان المعنى مكشوفًا واللَّبْسُ مأمونًا، فيكون من باب التفنّن في الخِطاب والتَّوَسّع فيه، فإما أن يُدَّعَى ذلك من غير قرينة في اللَّفظ فلا يَصِحُّ، وسنُشْبعُ الكلامَ على هذا في فصل مفرد إن شاء الله تعالى.
والذي حملَهم على دعوى ذلك أنهم لما رَأَوا الخوفَ مُنتفيًا عن المذكور بعد “إلاّ” ظنُّوا أنها بمعنى الواو لكون المعنى عليه، وغلِطوا في ذلك، فإن الخوفَ ثابت له حالَ ظلمِهِ وحالَ تبديلِهِ الحُسْنَ بعدَ السُّوءِ؛ أما حالُ ظلمِهِ فظاهِرٌ، وأما حالُ التَّبديل فلأَنَّه يخافُ أنه لم يَقُمْ بالواجب، وأنه لم يقبلْ منه ما أتى به، كما في التِّرمذي عن
__________
(1) (ع وظ): “الأخرى”.
(2) في الأصول: “قائم” بالرفع!.
(3/945)
عائشةَ قالت: “قلت: يا رسول الله {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60] هو الرجلُ يزني ويسرقُ ويخافُ؟ قال: “لا يَا بِنتَ الصِّدِّيقِ هُوَ الرَّجُل يَصُومُ وَيُصَّلِّي وَيَخَافُ أنْ لا يُقْبلَ مِنْهُ” (1) فمن ظَلَمَ ثمَّ تابَ فهو أولى بالخَوْفِ، وإنْ لمْ يكنْ عليه خَوْف.
وقد يجيء الانقطاعُ في هذا الاستثناء من وجهٍ آخَرَ، وهو أن ما بعد “إلاَّ” جملة مستقلّةٌ بنفسها، فهي منقطعة مما قبلَها لانقطاع (2) ألجُمَل بعضِها عن بعض، فيُسَمَّى منقطعًا بهذا الاعتبار كما تقدم نظيرُه، والله اعلم.
المثال الحادي عشر: قوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)} [الانشقاق: 22 – 25] فهذا يبعُدُ تقدير دخوله فيما تقدَّم قبلَه جدًّا، وإنما هو أخبارٌ عن مآل الفريقين (3)، فلما بشَّر الكافرينَ بالعذاب بشَّر المؤمنينَ بالأجر غيرِ الممنون، فهذا من باب المثاني الذى يذكرُ فيه الشئ وضِدُّه , كقوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار: 13 – 14] فليس هناك مقدَّرٌ يخرج منه هذا المستثنى, والله أعلم.
__________
(1) أخرجه الترمذى رقم (3175) , وابن ماجة رقم (4198) وأحمد: (6/ 159 و 205) والحاكم فى “المستدرك”: (2/ 393) وصحح إسناده! إلا أن الراوى عن عائشة -وهو عبد الرحمن بن سعيد بن وهب- لم يلقها, قاله أبو حاتم كما فى “المراسيل”: (ص/ 127) لابنه.
وللحديث شاهد من حديث أبى هريرة أخرجه الطبرانى فى “الأوسط”: (4/ 198).
(2) (ع): “انقطاع الجمل”, و (ظ): “مما قبلها داخلة فى انقطاع … “.
(3) (ق): “عما للفريقين”.
(3/946)
المثال الثانى عشر: قوله تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [سبأ: 37] فمن آمنَ ليس داخلاً في الأموال والأولاد، ولكنَّه من الكلام المحمول على المعنى؛ لأنه تعالى أخبَرَ أن أموالَ العبادِ وأولادَهم لا تُقَرِّبُهمْ إليه، وذلك يتضمَّنُ أن أربابَها ليسوا هم القريبين (1) إليه، فاستثنى منهم من آمَنَ وعَمِل صالحًا، أي: لا قريبَ عندَه إلا مَنْ آمن وعَمِل صالحًا، سواء كان له مالٌ ووَلَدٌ، أو لم يكنْ له، والانقطاعُ فيه أظهرُ، فإنه تعالى نفى قرْبَ الناس إليه بأموالهم وأولادهم، وأثبتَ قُربَهُمْ عندَه بإِيمانهم وعملِهِم الصالح، فتقديرُ “لكِنْ” هاهنا أظهرُ من تقدير الاتصال في هذا الاستثناء.
وإذا تأمَّلْتَ الكلامَ العَرَبيَّ رأيت كثيرًا منه واردًا على المعنى لوضوحِهِ، فلو وَرَدَ على قياس اللَّفظ مع وضوح المعنى لكان عِيًّا، وبهذه القاعدة تزولُ عنك إشكالاتٌ كثيرةٌ، ولا تحتاجُ إلى تكلُّف التَّقديرات، التي إنما عَدَلَ عنها المتكلِّمُ لما في ذِكْرها من التكَلُّفِ، فقدَّر المُتكَلِّفون لنطقه ما فَرَّ منه، وألزموه بما رَغِبَ عنه، وهذا كثيرٌ في تقديرات النُّحاة التي لا تخطرُ ببال المتكلِّم أصلاً، ولا تقع في تراكيب الفصحاء، ولو سمعوها لاستهجنوها، وسنعقدُ -إن شاء الله- لهذا فصلاً مستقلاً (2).
المثال الثالث عشر: قوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} [آل عمران: 111] وتقديرُ الدُّخول في هذا أظهر؛ إذ المعنى: “لن يَنَالوا مِنْكمْ إلا أَذىً، وأما الضَّرَرُ فإنهم لن ينالوه منكم، وإن تَصْبِروا وَتتقوا
__________
(1) (ظ): “من المقربين”.
(2) (ظ): “وسنعقد لها إن شاء الله تعالى فصلاً مستقلاً”.
(3/947)
لا يَصرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شيئًا”، فنفى لحوقَ ضَررِ كيدِهم بهم، مع أنهم لا يَسْلَمون من أذىً يلحقُهم بكيدهم، ولو أنه بالإرهاب والكلام وإلجائهم إلى محاربَتِهم وما ينالُهم بها من الأذى والتعب، ولكن ليس ذلك بضارٍّ لهم، ففرَّق بين الأذى والضَرَر.
المثال الرابع عشر: قوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] المشهور “ظُلِمَ” مبني للمفعول، وعلى هذا ففي الاستثناء قولان:
أحدهما: أنه منقطعٌ، أي: “لكنْ مَنْ ظُلِمَ “، فإنه إذا شكا ظالمه وجهر بظلمه له لم يكنْ آثمًا، وتقدير الدُّخول في الأول على هذا القول ظاهر، فإنَّ مضمونَ “لا يُحِبُّ كذا” أنه يُبْغِضُهُ ويُبْغِضُ فاعلهُ، إلا من ظُلِمَ فإن جَهْرَهُ وشكايتهُ لظالمه حلالٌ له، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “ليُّ الوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وعُقوبتهُ” (1).
فعِرْضُهُ: شِكَايَةُ صاحب الحق له، وقولُه: ظَلَمَني ومَطلنِي ومَنعَني حقِّي، وعقوبته: ضَرْبُ الإمامِ له حتى يؤدِّيَ ما عليه في أصحِّ القولين في مذهب أحمد، وهو مذهبُ (2) مالك، وقيل: هو حبسه.
وقيل: هو استثناءٌ مُتَصِل، والجهرُ بالسوء هو جهره بالدُّعاء، أن يكشفَ اللهُ عنه ويأخذ له حَقَّهُ، أو يشكو ذلك إلى الإمام ليأخذ له بحقِّه.
__________
(1) أخرجه أحمد: (29/ 465 رقم 19746)، وأبو داود رقم (3628)، والنسائي: (7/ 316)، وابن ماجه رقم (2427)، وابن حبان “الإحسان”: (11/ 486)، والحاكم: (4/ 102) وغيرهم من حديث الشريد بن سويد – رضى الله عنه -.
والحديث صححه ابن حبان والحاكم، وحسَّنه الحافظ في “الفتح “: (5/ 76).
(2) “أحمد، وهو مذهب” سقطت من (ق).
(3/948)
وعلى هذا التقدير فيجوزُ فيه الرَّفعُ بدلاً من “أَحَد” المدلول عليه بالجهر، أي: “لا يُحِبُّ الله أن يَجْهَرَ أحَدٌ بالسُّوء إلا المظْلومُ” ويجوزُ فيه النصبُ بَدَلاً من الجهر، والمعنى: “إلاَّ جَهْرَ مَنْ ظُلِمَ”.
وقُرِئ: “مَنْ ظَلَمَ” (1) بالفتح، وعلى هذه القراءة فمنقطع ليس إلا، أي: “لكنِ الظالِمُ يَجْهَرُ بالسُّوءِ من القَوْل”.
المثال الخامس عشر: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] فهذا استثناء منقطعٌ تضمَّنَ نفيَ الأكل بالباطل، وإباحةَ الأكل بالتِّجارة الحقِّ، ومن قدَّر دخولَه في الأوَّل قدَّر مستثنىً منه عامًّا، أي: “لا تأكلُوا أموالَكمْ بَيْنَكم بسبب من الأسباب، إلا أن تكونَ تِجَارةً” أو يقدَّرُ: بـ “البَاطلِ ولا بغيرِهِ إلا بالتجَارة”، ولا يخفى التكَلُّف على هذا التقدير بل هو فاسدٌ، إذ المُرادُ بالنهي الأكل (2) بالباطل وحدَه، وقُرِئَ برفعِ التجارة ونصبها، فالرَّفعُ على التَّمام، والنَّصب على أنها خبرُ كان النَّاقصة، وفي اسمها على هذا وجهان:
أحدهما: التقدير: إلا أن يَكونَ سببُ الأكل أو المعاملة تجارةً (3).
والثاني: إلا أن تكونَ الأموالُ (4) تجارةً (5).
__________
(1) وهب قراءة زيد بن أسلم وابن أبى إسحاق. انظر: “الجامع لأحكام القرآن”: (6/ 3).
(2) (ق): “لا تأكل”.
(3) فحُذِف المضاف وأقيم المضاف إليه مكانه.
(4) كذا في (ع)، و (ق): “المعاملة”، و (ظ): “أموال الناس”.
(5) فيكون اسمها مضمرًا فيها.
(3/949)
المثال السادس عشر: قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] وهذا من أشكل مواضع الاستثناء، لأنَّ مملوكَتَهُ إذا كانت محصَنَةً إحصانَ التَّزويجِ فهي حرامٌ عليه، والإحصان هنا إحصانُ التَّزويج بلا ريْب، إذ لا يَصِحُّ أن يُرادَ به: إحصانُ العِفَّة، ولا إحصان الحُرِيَّة, ولا إحصان الإسلام، فهو إحصانُ التَّزويج قطعًا، فكيف يُستثنى من المحرَّمات به المملوكة؟! فقال كثير من الناس: الاستثناء هاهنا منقطع، والمعنى: “لكنْ ما مَلَكَتْ أيمانكم فهو لَكم حَلالٌ”.
ورُدَّ هذا بأنه استثناءٌ من مُوْجب، والانقطاعُ إنما يقع حيث يقعُ التفريغُ، ورُدَّ هذا الرَّد بأن الانقطَاعَ يقعُ في الموْجب وغيره، قال تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الانشقاق: 24 – 25].
وقالت طائفةٌ: الاستثناءُ على بابه متَّصِل، وما مَلَكَتْ أيماننا مستثنى من المُزَوَّجات، ثم اختلفوا:
فقالت طائفة من الصَّحابة، منهم ابن عباس وغيره وبعض التابعين: إنه إذا زَوَّجَ أَمَتَهُ ثم باعَها، كان بيعُها طلاقًا، وتَحِلُّ للسَّيد لأنها ملكُ يمينه، واحتجَّ لهم بالآية، ورُدَّ هذا المذهب بأمور:
أحدها: أنه لو كان صحيحًا؛ لكان وطؤُها حلالاً لسيِّدها إذا زَوَّجها؛ لأنها ملك يمينه، فكما اجتمعَ ملكُ سيِّدها لها وحِلُّها للزوج، فكذلك يجتمعُ ملك مشتريها لها وحِلُّها للزَّوج، وتناول اللفظ لهما واحد.
الثاني: أن المشتريَ خليفَةُ البائعِ، فانتقل إليه بعقد الشِّراء ما كان
(3/950)
يملكُه بائعُها, وهو كان يملك رقَبَتَها مسلوبة منفعةِ البُضع ما دامت مُزَوَّجَةً، ونُقِلَ إلى المشتري ما كان يملكهُ، فملكها (1) المشتري مسلوبةَ منفعةِ البُضع، فإذا فارقها زوجها رجع إليه البُضع، كما كان يرجِعُ إلى بائعها كذلك، فهذا مَحْض الفقه والقياس.
الثالث: أنه قد ثبت في “الصحيحين” (2) أن عائشة رضي الله عنها اشترت بَرِيرَةَ وكانت مُزَوَّجَةً فعتقَتْها وخَيَّرَها النبي – صلى الله عليه وسلم – , ولو بَطلَ النكاح بالشِّراء لم يخيِّرْها، وهذا مما أَخذ الأئمة الأربعة وغيرهم فيه برواية ابن عباس وتركوا رأيَهُ، فإنه راوي الحديث، وهو ممن يقول: بيعُ الأمَةِ طَلاقُها.
وقالت طائفة أخرى: الآية مختصَّة بالسَّبايا، قال أبو سعيد الخُدْري: نزلت في سبايا أوْطَاس (3). قالوا: فأباح الله تعالى للمسلمين وطءَ ما ملكوه من السَّبي، وإن كنَّ محصَنَاتٍ، ثم اختلف هؤلاء: متى يُبَاحُ وطءُ المَسْبيَّة؛ فقال الشافعي وأبو الخطَّاب (4) وغيرُهما: يُبَاحُ وطؤُها إذا تم استبراؤها، سواء كان زوجُها موجودًا أو مفقودًا، واحتجُّوا بثلاث حُجَج:
أحدها: أن الله سبحانه أباح وَطْءَ المَسْبِيَّات بمُلك اليمين مستثنيا لهن من المحْصَنات.
الثانية: ما رواه مسلم في “صحيحه” (5) من حديث أبي سعيد
__________
(1) (ق): “المشتري بملكه فيما ملكها”.
(2) البخاري رقم (2536)، ومسلم رقم (1504).
(3) أخرجه مسلم رقم (1456).
(4) الكلوذاني الحنبلي ت (510).
(5) تقدم.
(3/951)
الخُدْري: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم حُنَيْن بعث جيشًا إلى أوطاس، فلقي عدُوًّا فقاتلوهم، فظهروا عليهم، وأصابوا لهم سَبَايا، فكأن ناسًا من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – تحرَّجوا من غِشْيانهنْ من أجل أزواجهنَّ من المُشركينَ، فأنزل الله عز وجل في ذلك: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي: فهنَّ لكم حلالٌ إذا انقضتْ عِدَّتُهُن.
وفي التِّرمْذي (1) عن أبي سعيد: أَصَبْنا سبايا يوم أوطاس لهن أزواجٌ في قومهنَّ، فذكروا ذلك لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – , فنزلت: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وهذا صريح في إباحتهنَّ، وإن كنَّ ذواتِ أزواجٍ.
وفى التِّرمذي (2) و”مسند أحمد” (3) من حديث العِرْبَاض بن سَارِيَةَ: “أن النبي – صلى الله عليه وسلم – حَرَّمَ وطْءَ السَّبايا حتى يضعنَ ما في بطونهن”، فهذا التحريمُ إلى غاية, وهي: وَضْعُ الحمل، فلابُدَّ أن يحصلَ الحِلُّ بعد الغاية، ولو كان وجودُ أزواجهنَّ مانعًا من الوطء لكان له غايتان؛ إحداهما: عدمُ الزوج. والثانية: وضعُ الحمْل، وهو خلاف ظاهر الحديث.
قالوا: ولأن ملك الكافر الحربي البُضْعَ، لم يبقِ له حُرْمَةٌ ولا عِصْمة؛ إذ قد ملك المسلمون عليه ما كان يملكُهُ، فملكوا رقبةَ زوجته، فكيف يقال ببقاء (4) العِصمة فى ملك البُضع، لا سيَّما والمسلم يستحق
__________
(1) رقم (1132) وقال عَقِبه: “هذا حديث حسن”.
(2) رقم (1564) واستغربه.
(3) (28/ 384 رقم 17153). وفى سند حديث العرباض مقال، لكن له شواهد يقوّى بها تقدم بعضها.
(4) (ع): “بقاء”.
(3/952)
ملك رقبته وأولاده وسائرَ أملاكه، فما بال ملكِ البُضع وحدَه باقيًا على العِصمة؟! فهذا لا نصَّ ولا قياس ولا معنى، قالوا: فقد أذِنَ النبي – صلى الله عليه وسلم – فى وطء السَّبايا بعد انقضاءِ عِدَّتِهنَّ مُطْلقًا، ولو كان بقاءُ الزوج مانعًا لم يأذَنْ فى وطْئِهِنَّ إلا بعدَ العلم بموته، وهذا المذهبُ كما تراه قوَّة وصحَّة.
وقال أصحابنا -القاضي وغيره-: إنما يباح وطؤُها إذا سُبيت وحدَها، فلو سُبيتْ مع زوجها فهما على نكاحهما ولا يباح وطؤهَا، قالوا: لأنها إذا (1) سُبيتْ وحدَها فبقاء الزوج مجهولٌ، والمجهول كالمعدوم، فنُزِّلت منزلةَ من لا زوجَ لها، فحَلَّ وطؤُها، ولا كذلك إذا كان زوجُها معها.
ثم أوردوا على أنفسهم سؤالاً وهو: إذا سُبيتْ وحدَها وعُلِمَ بقاءُ زوجها فى دار الحرب؛ وهذا سؤال لا محيدَ لهَم عنه ولا يُنجيهم منه إلاّ قولُهم بالحِلّ، وإن عُلِمَ بقاء الزوج استنادًا إلى زوال عِصمة النكاح بالسِّباء، فإنهم إذا أجابوا بالتزام التحريم، خالفوا النصوص خلافًا بيِّنًا، وإن أجابوا بالحِل مع تحقيق بقاء الزوج نقضوا أصلَهم، حيث أسندوا الحِلَّ إلى كون المسبِية خالية من الأزواج تنزيلاً للمجهول منزلةَ المعدوم.
فقول أبي الخطاب أفقهُ وأصحُّ وعليه تتنزَّلُ الآية والأحاديث، ويظهرُ به أنَّ الاستثناءَ متَّصِلٌ، وأن الله تعالى أباحَ من المحصَناتِ مَنْ سباها المسلمون.
فإن قيل: فعلى ما قرَّرتموه يزول الإحصان بالسِّباء، فلا تدخلُ
__________
(1) من قوله: ” سبيت مع … ” إلى هنا ساقط من (ع).
(3/953)
في المحصنات، فيجيء الانقطاعُ في الاستثناء.
قيل: لما كانت محصنة قبل السِّباء، صحَّ شمول الاسم: لها فأخرجت بالاستثناء.
فإن قيل: فما تقولون في الأمَة المزوَّجة إذا بيعتْ فإنها محصَنَةٌ قد ملكتْ نفسَها (1)، فهل هي مخصوصةٌ من هذا العموم أو غير داخلة فيه؟.
قيل: هاهنا مسلكان للناس:
أحدهما: أنها خُصَّت من العموم بالأدِلَّة الدَّالة على أن البيعَ لا يفسخُ النِّكاح، وأن الفرج لا يكون حلالاً لشخصين في وقت واحد.
والمسلك الثاني: أنها لم تدخلْ في المستثنى منه؛ لأن السَّيَد إذا زَوَّجَها فقد أخرج منفعة البُضْع عن ملكه، فإذا باعها فقد انتقلَ إلى المشتري ما كان للبائع، فملكها المشترى مسلوبةً منفعةَ البُضْع، فلم تدخل هذه المنفعةُ في ملكه بعقد البيع، فلم تتناوَلْها الآيةُ، وهذا المسلك ألطفُ وأدقُّ من الأول، والله أعلم.
* * **
__________
(1) من (ق).
(3/954)
فوائد شتى منقولة من خط القاضى أبي يعلى -رحمه الله تعالى-
فائدة
إسماعيل بن سعيد (1) عن أحمد: لا يجهرُ بالقراءة في صلاة الاستسقاء، ويصلِّي صلاةَ النَّاس، ليس فيها تكبيرٌ مثل تكبير العيدين.
وعنه محمد بن الحكم (2) والكَوْسج (3) والمرُّوْذِي (4): يجهر بالقراءة فيها لحديث عبد الله بن زيد (5)، قال أبو حفص (6): يحتملُ أن هذا القولَ هو المتأخرُ لأنه قد قيل: إن إسماعيل بن سعيد سماعه قديمٌ.
فائدة
قال أحمد: لا تعجبُني صلاةُ الخوفِ ركعةً لما روى أبو عياش
__________
(1) أبو إسحاق الشالنجى من أصحاب الإمام أحمد ت (230) عنده مسائل كثيرة حسنة مُشبعة. “طبقات الحنابلة”: (1/ 273).
(2) أبو بكر الأحول، من خواص أصحاب أحمد، ومات قبله سنة (223). “طبقات الحنابلة”: (2/ 295).
(3) هو: إسحاق بن منصور أبو يعقوب ت (251) ومسائله طبع أكثرها. “طبقات الحنابلة”: (1/ 303).
(4) هو: أحمد بن محمد بن الحجاج بن عبد العزيز أبو بكر المرُّوذي -نسبة إلى مَرْو الرُّوْذ- وهو المقدَّم من أصحاب أحمد، ولازمه حتى مات وتولى إغماضه وغسله ت (275). “طبقات الحنابلة”: (1/ 137).
(5) “أن النبى – صلى الله عليه وسلم – خرج يستسقي، فتوجه إلى القبلة يدعو, وحوّل رداءَه، ثم صلى ركعتين، جهر فيهما بالقراءة” أخرجه البخاري رقم (1022)، ومسلم رقم (893) وليس في رواية مسلم ذِكْر للجهر بالقراءة.
(6) هو: عمر بن أحمد بن إبراهيم أبو حفص البَرْمكي ت (387) , له تصانيف وفتيا واسعة. “طبقات الحنابلة”: (3/ 273).
(3/955)
الزُّرَقِيُّ عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه صلى بعُسْفان ويوم بنى سُلَيْم (1)، وكذا روى جابر (2) وابن عباس (3) وابن أبي حَثْمَة (4) في ذات الرقاع، وكذلك أبو هريرة (5) في عام نجد أنه صلى ركعتين، وكذا روت عائشة (6) وابنُ عُمر (7) وأبو موسى (8) (9).
فائدة
ابن بختان (10) عن أحمد في القوم إذا أرادوا الغارة فخشوا أن يُبادِرَهُم العدُوُّ يصلُّونَ على دوابِّهم، أو يؤخرون الصَّلاةَ إلى طلوع الشَّمس؟
قال: أيّ ذلك شاءوا فعلوا، والحجَّةُ فيه تأخير النبى – صلى الله عليه وسلم – أربع صَلَوات يومَ الخندق (11).
__________
(1) أخرجه أحمد: (27/ 120 رقم 16580)، وأبو داود رقم (1236)، والنسائي: (3/ 176)، وابن حبان “الإحسان”: (7/ 128) والحاكم: (1/ 337).
وصححه ابن حبان والحاكم، وجوَّد إسناده الحافظ في “الإصابة”: (4/ 143).
(2) أخرجه البخاري رقم (4136)، ومسلم رقم (843).
(3) أخرجه البخاري رقم (944).
(4) أخرجه البخاري رقم (4131)، ومسلم رقم (841).
(5) أخرجه أبو داود رقم: (1240)، والترمذي رقم (3035)، والنسائى: (3/ 173 – 174).
(6) أخرجه أبو داود رقم (1242).
(7) أخرجه البخاري رقم (943)، ومسلم (839).
(8) أخرجه ابن أبى شيبة في “المصنف”: (2/ 215) من فعله.
(9) وانظر “المغني”: (3/ 315).
(10) هو: يعقوب بن إسحاق بن بختان أبو يوسف، من أصحاب أحمد. “طبقات الحنابلة”: (2/ 554)، وتحرف الاسم في (ق وظ) إلى: “حبان ولحيان”!.
(11) أخرجه أحمد: (6/ 17 رقم 3555)، والترمذي رقم (179) والنسائي: =
(3/956)
وعنه أبو طالب (1): إن كانوا منهزمينَ يصلُّون رُكبانًا، يومِئُونَ ولا يُؤَخِّروُنَ الصَّلاةَ على ما صلَّى النبِي – صلى الله عليه وسلم -، هذه الآيةُ نزلتْ بعدما صلَّى النَّبِى – صلى الله عليه وسلم -، والحجَّةُ قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (2) [البقرة: 239].
فائدة
نقل محمد بن الحكم (3) عن أحمد في رجل صلَّى ركعتينِ من فرض، ثم أقيمتِ الصَّلاةُ.
قال: إن شاءَ دَخَلَ مع الإمام، فإذا صلَّى معه ركعتينِ سَلَّم، وأَعْجَبُ إليَ أن يقطعَ الصَّلاةَ ويدخلَ مع الإمام، قال القاضي: وظاهرُ هذا: الدخولُ من غير تحريمة، غير أنه اختار القطعَ والدخولَ بتحريمةٍ.
فائدة
أبو طالب: سألتُ أحمد عن الرجل يدخلُ المسجدَ يظنُّ أنهم قد صلُّوا، فيصلِّي ركعتين، ثم تُقَامُ الصَّلاةُ. قال: قد اختلفوا فيها؛ بعضٌ قال: يمضِي لا يَدْخُلُ فرضٌ في فرضٍ، وبعضُهم قال: يُسَلِّمُ.
قلت: ما تقولُ؟ قال: ما يُبالي كيف، قلت: يُسَلِّمُ ويدخلُ معه؟ قال: نعم.
__________
= (2/ 17) وغيرهم من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- وفيه انقطاع، وله شواهد يتقوَّى بها.
(1) هو: أحمد بن حميد أبو طالب المُشكاني من خواص أصحاب أحمد ت (244). “طبقات الحنابلة”: (1/ 81).
(2) الآية ساقطة من (ظ).
(3) (ق): “عبد الحكم” وهو خطأ وقد تكرر في (ق).
(3/957)
قال القاضي: وظاهرُ هذا أنه منع من الدخول لأنه قال: يستأنفُ، فإذا قلنا: لا يدخل معه فهل يمضي في صلاتِهِ أو يقطعُ؟. على روايتين: محمد بن الحكم عنه: إن شاءَ دخلَ معه وأعجبُ إليَّ أن يَقْطَعَ، وأبو طالب: يُسَلَّمُ ويدخل معه، والثانية: يمضي.
فعنه أبو الحارث (1) -وقد سُئلَ عن رجل دخل في مسجد فافتتحَ صلاة مكتوبة، وهو يرى أن قد صلّوا، فلما صلَّى ركعة أو ركعَتينِ أقيمتِ الصَّلاةُ – قال: يُتم الصَّلاةَ التي افتتحها، ثم إن شاء صلَّى مع القوم، وإن شاء لم يدخلْ معهم.
قال أبو حفص: وكذا يقولُ فيمن افتتحَ تطوُّعًا ثم أقيمتِ الصَّلاةُ: إنه لا يقطعُها ولكن يتمُّها، ووجهه قوله – صلى الله عليه وسلم -: “تَحْلِيلُها التَّسْلِيمُ ” (2) فوجب أن لا يخرجَ منها بغير التَّسليم الذي بعد التَّمام.
ابن مسعود: من دَخلَ فى صلاة فلا يَقطَعْ حتى يَفْرُغَ.
ووجه الأخرى، وأنه يخرجُ منها: أن صلاة الجماعة واجبةٌ، فإن قلنا: يمضي في صلاتِه، فَفَرَغ، ثم أدركَ الجماعةَ في المسجد، فهل يدخلُ معهم، أو يكونُ مخيَّرًا فى الدُّخول والانصراف؟
على روايتين:
__________
(1) هو: أحمد بن محمد أبو الحارث الصائغ، من أصحاب الإمام أحمد له عنه مسائل كثيرة. “طبقات الحنابلة”: (1/ 177).
(2) أخرجه أحمد: (2/ 292 رقم 1006)، وأبو داود رقم (61)، والترمذى رقم (3)، وابن ماجه رقم (275) من حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.
قال الترمذي: “هذا الحديث أصحُّ شيءٍ في هذا الباب وأحسن” وصحح الحديث جمع من الأئمة، وله شاهد من حديث أبي سعيد.
(3/958)
إحداهما: يُخيَّرُ، وهو المنصوصُ في رواية أبي الحارث، والأخرى: يجبُ أن يُصَلِّيَ معهم إذا حضرَ في مسجدٍ أهلُه يصلُّون، وهو الأكثر في مذهبه، وبه وردت السّنَّةُ.
فإن أحرم بتَطَوّعُ، ثم أُقيمتِ الصَّلاةُ، فهل يقطعُها ويدخل في الجماعة أو يتِمها؟
على روايتين، ولا فرقَ بين ركعتي الفجر وغيرها، كاختلاف قَوْليه فيمن انفردَ بصلاةِ فريضة، ثم أُقيمتِ الصَّلاةُ.
فإنْ دخل في تطوُّعٍ ثم ذكر أن عليه فريضةً، فعنه: يُعجِبُني أن ينصرفَ عن شَفْع ثم يقضي الفريضة.
قال أبو حفص: ويُخَرَّجُ عنه في هذه المسألة رواية أخرى، كما ذكرنا فيمن دخلَ في تَطَوُّع ثم أُقيمتِ الصَّلاةُ، ووجهُهُ قوله – صلى الله عليه وسلم -: “فَلْيُصَلِّهَا إذا ذَكرَها” (1).
فائدة (2)
قال أبو الحارث: سئل أحمدُ عن العَشاءِ إذا وُضِعَ وأقيمتِ الصَّلاةُ، قال: قد جاءت أحاديثُ، وكان القومُ في مجاعَةٍ، فأما اليومَ فلو قامَ رَجَوْت، وقال في روايةِ جماعةٍ: يبدأُ بالطَّعام.
فإن قلنا: يبدأُ بالطعام، فهل يتناولُ منه شيئًا أو يُتمُّ عشاءَه؟
حنبل (3) عنه: إذا كان الرجل قد أكلَ من طعامه لقمة أو نحو
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (597)، ومسلم رقم (684) من حديث أنسِ -رضي الله عنه-.
(2) “فائدة” من (ظ).
(3) هو: حنبل بن إسحاق بن حنبل أبو علي الشيباني، أحد أصحاب الإمام أحمد =
(3/959)
ذلك، فلا بأس أن يقوم إلى الصَّلاة فيصلِّيَ ثم يرجعُ إلى العَشاء لأن النبىَّ – صلى الله عليه وسلم – دُعِيَ إلى الصلاة، وقد كان يحتزُّ من كتِف الشَّاة فأَلقى السكينَ وقام (1).
أحمد بن الحسين (2): سألت أحمد: إذا حضر العَشَاءُ، وأقيمتِ الصلاةُ، قال: ابدأ بالعَشَاء. قلت: أنالُ منه شيئًا ثم أخرجُ إلى الصَّلاةِ (3)؛ قال: لا بل تَعَشَّ. قلت: أخافُ أن تفوتَني الصلاةُ جماعةً، قال: إن الرجلَ إذا تناولَ منه شيئًا ثم تركَه، فكان في نفسه شُغُلٌ من ترْكه الطَّعام إذا لم ينَلْ منه حاجَتَهُ، قلت: فيأتي على ما يُريد من الطعام ثم يُصَلِّي؛ قال: نعم، وإن خاف أن تفوتَه الصَّلاة ما دام في وقت.
حَرْب (4): قلت لأحمد: الرجل يصلِّي بحضرة الطَّعام، قال: إن كان قد أكل بعضه فأُقيمتِ الصَّلاةُ، فإنه يُتمُّ أكلَهُ، وإن كان لم يأكُلْ فأحبُّ إلىَّ أن يُصلِّيَ، قال القاضي: وظاهرُ هذا الفرقُ بين أن يكون
__________
= وابن عمه ت (273). “طبقات الحنابلة”: (1/ 383).
(1) أخرجه البخاري رقم: (208)، ومسلم رقم (355) من حديث عمرو بن أمية الضمرى.
(2) هو: أحمد بن الحسين بن حسَّان السُّرَّمري، روى عن أحمد أشياء. “طبقات الحنابلة” ت (1/ 80).
(3) من قوله: “إذا حضر … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(4) هو: حرب بن إسماعيل بن خلف الحنظلي الكرماني، أخذ عن الإمام، وله عنه مسائل جيدة ت (280). “طبقات الحنابلة”: (1/ 388) و”مسائله ” ذكر زهير الشاويش أن عنده نسخة منها؛ ثم عثر بعضهم على قطعة منها وقدَّمها رسالة علمية بجامعة أم القرى, ثم عُثر على نسخة كاملة منها. في مكتبة خاصة، وهي نسخة جيدة قديمة، رأيتُ صورة منها، وقد قدم الشيخ عبد الباري الثبيتي رسالة علمية بالمدينة “جمع مسائل حرب الكرماني عن أحمد” ونوقشت.
(3/960)
ابتدأ فيستوفي طعامَهُ، وبين أن لا يبدأ فيؤخِّرَهُ (1).
فائدة
إذا أقيمت الصَّلاةُ والإمامُ غيرُ حاضر، مثل أن يكون لم يخرجْ من بيته بعدُ، أو هو المؤذن، وهو في المنارة؛ فعلى روايتين: روى جماعة: لا يقوموا حتى يَرَوْهُ للحديث (2).
وروى الأثرم (3) وغيره: أنه جائزٌ للمأمومين أن يقوموا قبل أن يَرَوا الإمامَ لحديث أبي هريرة: أُقيمتِ الصلاةُ وصَفَّ النّاسُ صفوفَهم وخرجَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – فقام مَقَامَهُ ثم أومَأ إليهم بيدِهِ: “أن مَكَانَكُم ” (4)، ولم يُنكرْ عليهم، فدلَّ على جوازه (5).
وروى جعفر بن محمد (6) والمرُّوْذيُ وغيرهما عنه: أنه وسَّع العملَ بالحديثين جميعًا، فإن شاءوا قاموا قبل أن يَرَوْهُ، وإن شاءوا لم يقوموا حتى يَرَوْه.
فائدة
قال أحمد في رواية أبي طالب: إن انتظرَ الإمام المؤذِّنَ، فلا بأس
__________
(1) انظر مسائل عبد الله رقم (396).
(2) يعنى حديث أبي قتادة -رضي الله عنه- أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت” أخرجه البخاري رقم (637)، ومسلم رقم (604).
(3) هو: أحمد بن محمد بن هانئ الطائي الأثرم أبو بكر، له مسائل كثيرة عن الإمام ت (بعد 260). “طبقات الحنابلة”: (1/ 162).
(4) أخرجه البخاري رقم (275)، ومسلم رقم (605).
(5) وانظر “الفتح”: (2/ 141).
(6) لم أعرف من هو؛ لأن جماعة من أصحاب أحمد كل واحد منهم يقال له جعفر بن محمد، انظر “طبقات الحنابلة”: (1/ 333 – 342).
(3/961)
قد فعل ذلك عمر، وإن لم ينتظرْه فلا بأس. ووجهه: قول بلال للنبي – صلى الله عليه وسلم -: “لا تَسْبِقْني بآمِين ” (1)، فدلَّ على أنه لم يَنتظِرْه.
فائدة (2)
عبد الله (3) والكوْسَجُ قالا: كان أبو عبد الله يضَعُ نعليه بين يديه، ولا يجعلُهما بين رجليه، يعني: في الصَّلاة، إمامًا كان أو غيرَ إمام. قال عبد الله: قال (4) أبي: يُصَلِّي الفريضةَ والتَّطَوُّع ونعلُه بين يديه.
ونقل حنبل وأحمد بن علي (5): يجعلُهما عن يساره.
وجْهُ الأولى: أنه لا يؤذي بهما أحدًا، وقد أشار إلى ذلك فى الحديث (6). ووجهُ الثانية: أنه – صلى الله عليه وسلم – صلَّى يوم الفتح بمكَّةَ فوضَعَ نعليه عن يَساره (7).
__________
(1) أخرجه أحمد: (6/ 15)، وأبو داود رقم (937)، وأعله أبو حاتم بالإرسال “العلل “: (1/ 116).
والصحيح أنه من قول النبي – صلى الله عليه وسلم – لبلال كما أخرجه الحاكم: (1/ 219)، والبيهقي في “الكبرى”: (2/ 23, 56).
(2) “فائدة” ليست في (ع).
(3) هو: عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل ت (290). “طبقات الحنابلة”: (2/ 5 – 20).
(4) (ظ): “كان”، ولكلِّ وجه يصح.
(5) هو: أحمد بن علي بن مسلم أبو العباس النخشبي الأبَّار ت (290).
“طبقات الحنابلة”: (1/ 127) ومن تلاميذ الإمام آخر يُسمَّى: أحمد بن علي له رواية عن الإمام.
(6) أخرجه أبو داود رقم (654 و 655)، والحاكم: (1/ 260، وصححه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(7) أخرجه أحمد: (24/ 113 رقم 15392)، وأبو داود رقم (648) , والنسائى: =
(3/962)
فائدة
قال في رواية علي بن سعيد (1) -في الرجل الجاهل يقومُ خلفَ الإمام، فيجيءُ من هو أعلمُ بالسُّنَّة منه، فيؤخرُه أو يدفعُهُ ويقومُ في مقامِهِ-: لا أرى ذلك، فذُكر له حديثُ قيس بن عُبَادٍ حين أخَّرَهُ أُبَىُّ ابن كعب (2)؛ فقال: إنما كان غلامًا (3).
قال القاضي: إنما لم يَجُزْ تأخيرُه؛ لأنه كبيرٌ قد سبق إلى ذلك الموضِع. وأجاب أحمدُ عن حديث أُبىٍّ بأن قَيْسًا كان غلامًا.
قلت: وقد يؤخذُ من كلام أحمد جوازُ تأخير الصَّبِيِّ، وصلاةُ الرجل مكانَهُ، وقد قال أحمد في رواية الميمونى (4): يلي الإمامَ الشيوخُ وأصحابُ القرآن ويؤخَّرُ الغلامُ والصِّبيانُ. وقال في رواية أبى طالب – في الصَّفِّ يكون طويلاً فيكون في آخره صَبِيٌّ، فيجيء رجلٌ فيقوم خلف الصبي-: لا بأسَ هو مُتَصِلٌ بالصَّفِّ.
قال بعض أصحابنا: وهذا يدُل على أنه إذا كان في الصَّفِّ خَلَلٌ
__________
= (2/ 74)، وابن ماجه رقم (1431) وغيرهم من حديث عبد الله بن السائب – رضي الله عنه-. وسنده صحيح.
(1) هو: علي بن سعيد بن جرير أبو الحسن النسوي، له عن أبي عبد الله جزءان مسائل ت (257). “طبقات الحنابلة”: (2/ 126).
(2) أخرجه أحمد: (35/ 186 رقم 21264)، وعبد الرزاق رقم (2460)، والنسائي: (2/ 88)، ابن خزيمة رقم (1573) وابن حبان “الإحسان”: (5/ 558) وغيرهم، وهو حديث صحيح.
(3) وعليه بوَّب ابن حبان.
(4) هو: عبد الملك بن عبد الحميد بن مِهران الميموني الرَّقي أبو الحسن، من خواص أصحاب الإمام ت (274). “طبقات الحنابلة”: (2/ 92).
(3/963)
مقامَ رجُلٍ لا يُبطِلُ الموقفَ؛ لأن الصبيَّ لا يصافُّ الرجلَ، وقد حكم باتصاله بالصَّفِّ، فإن كان قد امتلأ الصفُّ، وفيه صبيٌّ، فجاء رجلٌ، فللرجل إذا جاء أن يؤخِّرَهُ ويقومَ مقامَهُ لأنه أولى بالتَّقدِمَةِ.
فائدة
قال المرُّوْذي (1): كان أبو عبد الله يقومُ خلفَ الإمام، فجاء يومًا، وقد تجافَى النَّاسُ أن يُصَليَ أحدٌ فى ذلك الموضع، فاعتزل وقامَ في طرف الصَّفِّ، وقال: قد نهى أن يتَّخِذَ الرجل مُصَلاه مثل مَرْبَض البعيرِ (2).
فائدة
قال أحمد فى رواية ابنه عبد الله (3): لو أن جاهلاً صلَّى برجل فجعله عن يساره؛ كان مخالفًا للسُّنة، وردَّ إليها وجازتْ صلاتُه -في رواية جعفر بن محمد في الرجُل يقيمُ الصَّلاةَ وليس معه إلا غلامٌ: لا يَؤُمُّهُ في الفريضة، وإنما أمَّ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – ابنَ عباس في تطوُّع صلاة الليل (4). وكذلك حديث أنس إنما هو تطوّعٌ (5). وروى هذه
__________
(1) “فائدة” ليست في (ع) ثم العبارة فيها: “قال أحمد قال المرّوْذي “.
(2) أخرجه أحمد: (24/ 292 رقم 15532)، وأبو داود رقم (862)، والنسائي: (2/ 214)، وابن ماجه رقم (1429) وغيرهم من حديث عبد الرحمن بن شبل -رضى الله عنه- وفى سنده ضعف. وإن صححه الحاكم في “المستدرك “: (1/ 229)!.
(3) لم أجده في الرواية المطبوعة.
(4) أخرجه البخاري رقم (117)، ومسلم رقم (763) من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما-.
(5) أخرجه البخاري رقم (727)، ومسلم رقم (658).
(3/964)
أيضًا عنه حَرْب وابن سِنْدي (1).
قال بعض أصحابنا: وَجْه ذلك أنه لا يصِحُّ أن يكونَ إمامًا في هذه الصلاة، فلم تنعقد به، كالمرأة والعبد في صلاة الجمعة، ولا يلزم إذا صلَّى بامرأة أن تنعقدَ الجماعة؛ لأنها تَصِحُّ أن تكونَ إمامةً فيها في حقّ النساء.
فائدة (2)
اختلف أصحابنا في علَّة منع البالغ من مصَافَّة الصَّبيِّ؛ فقال أبو حفص: يُخشى أن لا يكونَ مُتَطَهرًا، يعني: فيصيرُ (3) البالغ فذًّا. وقال غيرُه: لمَّا لم يَجُزْ أن يَؤُمَّهُ لم يَجُزْ أن يُصَافَّهُ كالمرأة، وعكسُه صلاة النافلة لما جاز أن يَؤمَّهُ, جاز أن يُصَافَّهُ.
وإذا ثبت ذلك؛ فالإمامُ مخيَّرٌ بين أن يقفَ في وسطهما، الرجلُ عن يمينهِ والصَّبيُّ عن يساره، وبين أن يقفا جميعًا عن يمينه إن كانت الصَّلاة فرضًا، وإن كانت نافلةً جاز أن يقفا خَلْفَهُ، نصَّ عليه، فقال: إذا كان رجل وغلام لم يُدْرِكْ في صلاة الفريضة فيقوم الرجل وسطهم بينهما كما فعل ابن مسعود في الفريضة، قيل له: حديث أنس: “أمَّنا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – واليتيم” (4) قال: ذلك في التطوُّع.
قال أبو حفصٍ: واحتجَّ أبو عبد الله في أن الرجل يقفُ على يمين
__________
(1) هو: حُبَيش بن سِنْدي، من كبار أصحاب الإمام، له عنه مسائل.
“طبقات الحنابلة”: (1/ 390).
(2) “فائدة” ليست في (ع).
(3) (ق): “فيكون”.
(4) تقدم قريبًا.
(3/965)
الإمام، والغلامُ عن يساره، بما رواه (1): حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، حدثني عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، قال: دخلت أنا وعمي عَلْقَمةُ على عبد الله بن مسعود بالهَاجرة، قال: فأقام الصَّلاةَ الظُّهْر، فَقمنا خلْفَهُ، فأخذ بيدي ويدِ عمي، ثم جعل أحدَنا عن يمينه والآخرَ عن يَساره، ثم قام بيننا، فصَفَّنا صفًا واحدًا، ثم قال: هكذا كان رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – يصنَع إذا كانوا ثلاثة.
وحجَّتُهُ في التَّطَوع من أنهما يقفان خلفَ الإمام: ما رواه أحمد (2): حدثنا عبد الرزَّاق، عن مالك، أخبرني إسحاق بن عبد الله ابن أبي طَلْحة، عن أنس، فذكر الحديث، وفيه: “فقمتُ أنا واليتيمُ وراءَه”.
قال أبو حفص: على أن حديث أنس لم يقطعْ به أبو عبد الله، قال في رواية عبد الله (3): كان قلبي لا يجسُرُ على حديث إسحاق؛ لأن حديث موسى -يعني خلافَهُ- ليس فيه ذكر اليتيم، إنما فيه أنَّ أنسًا قام عن يمين النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -.
قال أحمد (4)، حدثنا حجَّاج بن محمد، قال: حدثنا شعبةُ قال: سمعت عبد الله بن المختار، عن موسى بن أنس، يحدث عن أنس: أنه كان هو ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأمُّهُ وخالَتُهُ [فصلّى بهم، فجعل أنسًا عن
__________
(1) في “المسند”: (7/ 395 رقم 4386) وإسناده حسن لأجل محمد بن إسحاق، وأخرجه مسلم رقم (534) وغيره من طريق الأعمش عن إبراهيم عن الأسود وعلقمة به.
(2) فى “المسند”: (20/ 113 رقم 12680)، وسنده صحيح، وتقدم تخريجه من الصحيحين.
(3) رقم (543)، وفيها: “لأن حديث شعبة … “.
(4) في “المسند”: (25/ 322 رقم 13019). وأخرجه مسلم رقم (660).
(3/966)
يمينه، وأمه وخالته] (1) خَلْفَهما.
قال شُعْبة: وكان عبد الله بن المختار أشَبَّ مني.
فائدة
الأفضلُ إذا كانا رجلينِ أن يُصَلِّيا خلْفَه، نصَّ عليه، لحديث جابر وجبَّار (2). فأما ما ذهب إليه ابن مسعود إذا كانوا ثلاثة يقوم وسطَهُم، فإن أبا عبد الله قال: لم يبلغْ عبدَ الله هذه الأخبارُ.
وقدْ سَهَّل أبو عبد الله في ذلك قال: وأرجو أن يكون الإمام في الثلاثة واسعًا، وأحبّ إلىَّ أن يتقدَّمَ، كما فعل عمر.
وروى عنه المرُّوْذيّ في الرجل يجيءُ والإمام في التّشَهُّدِ وإلى لِزْقِه (3) رجلٌ هل يقومُ معه أو يجذبه؛ قال: أعجبُ إلىَّ أن يتقدَّمَ الإمامُ ويجذبَ الرجلَ.
قال أبو حفص: قوله: “يتقدَّم الإمام” لِيَقِلَّ تأَخرُ المأموم، ويقرُبُ الإمامُ من السُّتْرَةِ، وقد أجاز جذب الرجلِ لِيُصِحَّ مقامَهُ معه خَلْفَ الإمام.
وأكثرُ الروايات عنه أنه كرِهَ أن يجذبَ رجلاً؛ لأنه يؤخِّرهُ عن موقفه، وإن (4) اختار هو ذلك.
وقال في رواية أبي طالب: إذا صلَّى الإمام مع رجل، وجلسَ وجَاءَ رجلٌ، فلْيَجْلِسْ عن يساره حتى يقومَ؛ لأن تأخيرَ الجالس يثقُلُ
__________
(1) ما بين المعكوفين ساقط من جميع الأصول، والاستدراك من “المسند”.
(2) أخرجه مسلم رقم (3010) في حديث جابر الطويل.
(3) (ق): “وإن ألزقه”!.
(4) الأصول: فإن، ولعل الصواب ما أثبت.
(3/967)
عليه، وكون المأموم عن يسار الإمام إذا كان عن يمينه رجلٌ موسع.
فائدة
اختلف قول أحمد في صلاة المأمومين على علُو؛ فنقل عنه صالحٌ أنه أجاز ذلك على الضَّرورة، إذا كان موضعًا ضيقًا.
وقال في الرجل يُصلّي فوق البيت بصلاة الإمام: إن كان في موضع ضيِّق يوم الجمعة، كما فعل أنس.
ونقل حَرب وحَنبل وأبو الحارث الجوازَ مطلقًا: أن يصلىَ المأمومُ وهو يسمعُ قراءةَ الإمام في دار أو فوق سطح أو فى الرَّحَبة، أو رجل منزلُه مع المسجد يُصَلي على سطحه بصلاة الإمام، أو على سطح المسجد بصلاة الإمامِ أسفلَ، وذكَر الآثارَ بذلك عن أبى هريرة رضي الله عنه وابن عمرَ وابن عباس (1).
واختلف قوله إذا كان بينهم نَهرٌ أو طريقٌ أو حائطٌ، فنقل حربٌ عنه أنه أجاز للمرأة أن تُصَلِّي فوقَ بيتٍ بصلاة الإمامِ، وبينها وبين الإمام طريق، ولفظه: أرجو أن لا يكونَ به بأسٌ، وذَكر حديثَ أنس أنه كان يفعل ذلك (2). فقيل: إذا كان وحدَه؟ قال: لا، مَن صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وحدَهُ أعادَ.
__________
(1) انظر الآثار في ذلك فى “مصنف عبد الرزاق”: (3/ 81 – 83)، و”مصنف ابن أبي شيبة”: (2/ 35 – 36).
(2) أخرج عبد الرزاق: (3/ 83) والبيهقي: (3/ 111): أن أنس بن مالك صلى الجمعة في دار حميد بن عبد الرحمن بصلاة الوليد بن عبد الملك وبينهما طريق. وأخرج ابن أبي شيبة: (2/ 35): أن أنسًا كان يجمع مع الإمام وهو فى دار نافع بن عبد الحارث -بيت مشرف على المسجد له باب إلى المسجد- فكان يجمع فيه ويأتم بالإمام.
(3/968)
ونقل أبو طالب المنعَ -فقال في الرجل يُصَلِّي فوق سطح بصلاة الإمام- قال: إذا كان بينهَما طريقٌ أو نَهَرٌ فلا، قيل: أنس صلَّى، قال: أنسٌ صلَّى يومَ الجمعة في غُرْفَةٍ بعدما كَبِرَ، ويوم الجمعة لا يكونُ طريقٌ، يمتلئُ من الناسِ.
ونقل ابنُ الحَكَم جواز ذلك للضرورة، قال: إذا كان موضِعَ ضَرورة أجزأَ عنه، يُروَى عن أنس، فأما التراويحُ فتجوز فوقَ سطحٍ، وإن كان بينَهما طريقٌ نصَّ عليه، وقال: ذلك تَطوُّع.
قال أبو حفص: ويومَ الجمعة جائز أن يُصَلِّيَ النَّاسُ في (ق/39؛ أ) طاقاتِ باب خُرَاسانَ وخارج الطاقات، نصَّ عليه.
قال أبو حفص: إذا فعلَ الرجل مثل فعل أبي بَكْرَةَ (1) مع العلم بنهي النبي – صلى الله عليه وسلم – لأبي بَكْرَةَ، فروايتان: إحداهما: يعيدُ، وعنه أنه أجاز للرجل أن يُكَبِّرَ ويركَعَ فيما دونَ الصَّفِّ، ثم يمشي حتى يدخلَ في الصف (2)، إذا علم أنه لا يُدْرِكُ، فقال في رجل كَبَّر قبل أن يدخلَ في الصَّفِّ وركَعَ ثم مشى حتى دخل في الصَّفِّ فقال: يجوز له ذلك، قد رُوِيَ (3) أن أبا بَكْرَةَ ركع دونَ الصَّفِّ، ولم يأمرْه أن يُعِيدَ. وقد رُوِيَ أيضًا عن ابن مسعود وزيد أنهما ركعا دون الصَّفِّ (4).
وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم: أرى إذا عَلِمَ أنه يدركُ الركوع
__________
(1) في صلاته خلف الصف، أخرجه البخاري رقم (783).
(2) “ثم يمشي حتى يدخل في الصف” سقطت من (ق).
(3) (ع): ” فروى”.
(4) أخرج الأثرين ابن أبي شيبة: (1/ 229)، وعبد الرزاق: (2/ 282 – 283)، والبيهقي في “الكبرى”: (2/ 90).
(3/969)
لم يركعْ دونَ الصَّفِّ، وإذا علم أنه لا يدركُ ركَعَ، واثنان أحَبُّ إليَّ أن يُكَبِّرا جميعًا، ويَدِبَّا إلى الصَّفّ (1).
قال أبو حفص: ووَجْه هذه: ما روى عبد الله بن أحمد: حدثنا زكريا بنُ يحيى، حدثنا إبراهيمُ بن سعد الزُّهْرىُّ، عن قَبيصَةَ بن ذُؤَيْب، قال: رأيتُ زيدَ بن ثابت يدخلُ المسجدَ والقوم ركوعٌ فيركعُ ثم يَدِبُّ حتى يَصلَ إلى الصَّفِّ، وعن ابن مسعود مثله (2).
ابن جُرَيْج, عنْ عطاء، أنه سمع ابن الزبير على المنبر يقول للناس: إذا دخلَ أحدُكُم المسجد والناس ركوعٌ فليرْكَعْ حين يدخلُ، ثم لْيَدِبَّ راكعًا حتى يدخل في الصَّفِّ فإن ذلك من السّنة، قال عطاء: وقد رأيتُه هو يفعلُ ذلك (3).
قال أبو حفص البرمكيُّ: وقولُ النبي – صلى الله عليه وسلم – لأبي بَكرَةَ: “لا تَعُد”، نهيٌ عن شدة السَّعْي (4)، بدليل قول ابن الزبيرِ: فإنَّ (5) ذلك من السُّنة.
فائدة
قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم (6) -في رجل مكفوف
__________
(1) “مسائل ابن هانئ”: (1/ 46)، وفيها: “ويدنوا إلى الصف”.
(2) تقدم (3/ 969).
(3) أخرجه عبد الرزاق -مختصرًا-: (2/ 284)، وابن خزيمة رقم (1571)، والحاكم: (1/ 214) وصححه.
(4) وقال الشافعي -رحمه الله-: “قوله: “لا تعد” يشبه قوله: “لا تأتوا للصلاة تسعون” يعني -والله أعلم- ليس عليك أن تركع حتى تصل إلى موقفك لما في ذلك من التعب، كما ليس عليك أن تسعى إذا سمعت الإقامة” اهـ نقله البيهقي في “الكبرى”: (2/ 90).
(5) من قوله: “للناس: إذا … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(6) هو: إسحاق بن إبراهيم بن هانئٍ النَّيسابوري أبو يعقوب، له مسائل عن أبى =
(3/970)
دخل في الصَّفِّ، فلما أراد أن يركَعَ الْتَزَقَ الذين كانوا معه في الصَّفِّ بصَفِّ آخر، وبقيَ هو وحدهَ-: يُعِيْدُ (1).
وقال في رواية مهنَّأَ (2) في رجل صلَّى يوم الجمعة مع الإمام ركعة وسجدتين في الصَّفِّ، ثم زحموه فصلَّى الركعةَ الأخرى خلفَ الصفِّ وحده: يُعِيدُ الركعة التي صلَّى وحدَهُ.
قال في رواية الحسن بن محمد (3): إذا ركعَ ركعةً وسجدَ، ثم دخل في الصَّفِّ، يُعِيدُ الركعةَ التي صلاَّها، ولا يعيدُ الصَّلاةَ كُلَّها.
وقال في رواية مهنأ -في رجل ركع ركعة وسجدتين دونَ الصَّفِّ، ثم جاء الناسُ فقاموا إلى جنبه في الثلاث (ظ/171 ب) رَكَعات-: يعيدُ الصَّلاة كلَّها، ثم قال: لو ركع ركعةً وحدَها ولم يسجدِ السجدتينِ لم يكنْ عليه إعادة؛ لأن أبا بَكْرَةَ ركعَ دون الصَّفِّ ولم يسجدْ.
قال أبو حفص: اختلف قولُ أبي عبد الله في رجل يصلِّي خلف الصَّفِّ ركعةً كاملةً، ثم يدخل الصفَّ أو ينضافُ إليه قومٌ، هل يُعيدُ تلك الركعةَ وحدَها أو الصَّلاة كلَّها؟.
قال أبو حفص: والأصحُّ عندي أنه يعيدُ ما صلَّى خلْف الصَّفِّ
__________
= عبد الله مشهورة ت (275). “طبقات الحنابلة”: (1/ 284).
(1) “مسائل ابن هانئ”: (1/ 86).
(2) هو مهنَّا -بهمزة في آخره والعامة تتركها- ابن يحيى الشامى السُّلَمي أبو عبد الله من كبار أصحاب الإمام. “طبقات الحنابلة”: (2/ 432)، و”توضيح المشتبه”: (8/ 297).
(3) هو: الحسن بن محمد الأنماطي البغدادي، له مسائل صالحة عن أبي عبد الله. ويمكن أن يكون السجستاني. انظر “طبقات الحنابلة”: (1/ 371).
(3/971)
حسْبُ، فيعيدُ الركعةَ (1) أو الركعتين، ولا يُعيد ما صلّى (ق/239 ب) مع غيره. قال: لأنَّ تكبيرة الإحرام لم تَفْسُدْ؛ لأنة لا يختلفُ قولهْ أنه إذا كبَّر وحدَه أنها صحيحة.
قال القاضي: وتحريرُ (2) قول أبي حفص: أنه صلَّى بعضَ الصلاة منفردًا فلم تبطل جميعُها، كالتكبيرة والرُّكوع من غير سجود، ووجهُ: البُطلان: أن القياس يقتضي بُطلانَ الصلاة في التكبيرةِ والرُّكوع؛ لأن ما يفسدُ جميعَ الصَّلاة يُفسِدُ بعضَها كالحَدَث (3)؛ وإنما أجار أحمد: ذلك القَدْر لحديث أبي بَكْرَة.
قال أحمد: إذا صلَّى بين الصَّفَّين وحدَه يُعَيدها؛ لأنه فذٌّ، وإن كان بين الصَّفَّين.
وقال في الرجل ينتهي إلى الصَّفِّ الأول وقد تمَّ: يدخلُ بين رجلين إذا علم أنه لا يَشُقُّ عليهم، وذلك أنهم قد أُمِروا أن لا يكون بينهم خَلَلٌ، ويكرهُ أن يَمُدَّ رجلاً من الصَّفِّ إليه، نصَّ عليه، قال: أما أنا فأستقبحُ أن يَمُدَّ رجلاً، يدخلُ مع القوم، أو يُنْتَزع (4) رجلٌ من الصَّفِّ فيركع معه.
قال بعض أصحابنا: ويقرُبُ من هذه المسألة أنه يُبَاحُ تَخَطِّي رقابِ النَّاسِ إذا تركوا قدَّامَه فرجةً في رواية. وقال في رواية المرُّوْذيِّ: إذا جاءَ وليس يُمكنُهُ الدخولُ في الصَّفِّ، هل يمَدُّ رجلاً
__________
(1) من قوله: “وحدها أو … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(2) (ق): “يجوز” و (ظ): “تجويز”.
(3) (ع): “الحديث”.
(4) (ق وظ): “ينزع”.
(3/972)
يصلي معه؟ قال: لا، ولكن يزاحِمُ الصَّفَّ ويدخُلُ.
قال أبو حفص: وقد ذكرنا عن أحمدَ جواز جَرِّ الرَّجُل في رواية المرُّوْذي، فإن صحَّ النقلُ كان في المسألة روايتان (1)، روي عن أبي أيوبَ قال: تحريكُ الرَّجُلِ من الصَّفِّ ظلمٌ.
قلت: وفي “المُدَوَّنة” (2) قال مالكٌ: هو خطأٌ منهما.
وسمعتُ شيخَ الإسلام ابن تيميّة يُنْكِرُه أيضًا ويقول: يُصلِّي خلفَ الصَّفِّ فذًّا، ولا يجذبُ غيرَه، قال: وتصحّ صلاتُه في هذه الحالة فذًّا، لأن غايةَ المُصَافَّةِ أن تكونَ واجبةً فتسقط بالعُذْر (3).
فائدة
قال مهنَّاٌ: رأيتُ أحمدَ إذا قام إلى الصلاة يفرِّجُ بين قدميه، وإذا انحدرَ للسُّجود ضمَّ قَدَمَيْهِ.
قال القاضي: إنما قلنا: يُفَرِّجُ بين قدميه، لما روى حَرْب: ثنا أبو حفص، ثنا أبو (4) عاصم، عن ابن جُريْجٍ، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لا تقاربَ ولا تباعُدَ (5).
وكيع، عن عُيَيْنةَ بن عبد الرحمن بن جَوْشن (6)، قال: قال: كنت
__________
(1) انظر “الإنصاف” (2/ 289).
(2) (1/ 102) بنحوه.
(3) انظر “مجموع الفتاوى”: (20/ 558 – 559).
(4) (ق): “روى ابن حرب ثنا أبو الأحوص، ثنا ابن عاصم”!.
(5) لم أجده، وذكره الموفَّق بن قدامة في “المغني”: (2/ 396) ولم يَعْزه. وانظر ما أخرجه ابن أبي شيبة: (2/ 110) في صفة وقوف ابن عمر.
(6) وقع هذا السند محرفًا في النسخ، وصوَّبناه من المصادر.
(3/973)
مع أبي في المسجد -يعني مسجدَ البصرة- فنظر إلى رجلٍ قائمًا يُصَلِّي، قد صفَّ بين قدميه، وأَلْزَقَ إحداهُما بالأخرى، فقال أبي: لقد أدركتُ في المسجد ثمانيةَ عَشَرَ من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما رَأَيْتُ أحدًا منهم صنَعُ هكذا (1) قطُّ.
ولأنه أمكنُ للقيام في الصَّلاة، وضَمُّ القدمين عند الانحدار للسُّجود أمكنُ للانحدار.
قال في رواية (ق/ 240 أ) حرب وقد سأله: الرجلُ يصُفَّنَّ بين قدميه أحبُّ إليك، أو يعتمدُ على هذه مَرَّةً وعلى هذه مرّةً؟.
قال: يُرَاوِحُ بين قدميه أحبُّ إليَّ، يعتمدُ على هذه مَرَّةً، وعلى هذه مَرَّةً؛ لما روى الأعمشُ، عن المِنهال، عن أبي عُبَيْدَةَ قال: رأى عبدُ الله رجلاً يُصَلي صافًّا بين قدميه، فقال: لو رَاوَحَ هذا بين قدمه كان أفضلَ (2).
ولأنه أَرْوَح للمُصَلِّي، وقد رفع النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – المَشَقَّة عن المصلِّي بقوله: “أَبْرِدُوا بالصَّلاةِ (3)، وكان يتوقَّى بالثَّوب في الصَّلاة حرَّ الأرض وبَرْدَها (4).
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة: (2/ 109) بالإسناد نفسه.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة: (2/ 109) بالإسناد نفسه.
(3) أخرجه البخاري رقم (533)، ومسلم رقم (615) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(4) أخرج البخاري رقم (385)، ومسلم رقم (620) من حديث أنسٍ -رضي الله عنه- قال: “كنا نصلِّي مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدُنا أن يمكَّن جبهتَه من الأرض، بسط ثوبَه، فسجدَ عليه”.
وأخرج الإمام أحمد: (4/ 164 رقم 2320) وغيره: عن عكرمة عن ابن عباس: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – صلّى في ثوبٍ واحدٍ متوشِّحًا به، يتقّي بفضوله حرَّ الأرض وبَرْدَها. وفي سنده مقال.
(3/974)
وقال حنبل: رأيته يُرَاوحُ بين قدميه في الصلاة التَّطَوُّع؛ فإذا كانت المكتوبةُ قام منتصِبًا لا يتحرَّكُ منه شيء.
* وقال أحمد بن الحسن الترمذي (1): رأيت أبا عبد الله إذا افتتح الصلاةَ رفع يديهِ قريبًا من شَحْمة أذنيهَ ونشرَ أصابِعَهُ.
وقال أبو داود (2): سمعت أحمد بن حنبل سُئِلَ: تذهبُ إلى نشر الأصابع إذا كَبَّرْتَ؟ قال: لا.
قال أبو حفص: لعلَّ أبا عبد الله أرادَ بالنَّشْرِ الذي لم يذهبْ إليه التَّفْرِيقَ الذي كان يقولُ به أوَّلاً، والنَّشْرُ الذي ذهبَ إليه آخرًا هو مَدُّ اليَدَيْنِ وقد قال صالح (3): سألتُ أبي عن رفع اليدين في التَّكبيرة الأولى فقال: يا بنىَّ كنتُ أذهبُ إلى حديث أبي هريرة، كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا كَبَّرَ نشَرَ أصَابعَهُ (4)، فظننتُ أنه التَّفريقُ، فكنت أفرِّقُ أصابعي، فسألت أهلَ العربية فقالوا: هو الضَّمُّ، وهذا النَّشْرُ: ومدَّ أبي أصابِعَهُ مدًّا مضمومةً، وهذا التَّفريقُ: وفرَّق بين أصابِعِه.
قال أحمد (5): حدثنا محمد بن عبد الله بن الزُّبير، حدثنا ابن أبي ذئب، عن محمد بن (ظ/172 أ) عَمْرو بن عطاء، عن محمد بن
__________
(1) هو: أحمد بن الحسن الترمذي أبو الحسن، نقل عن الإمام مسائل كثيرة ت (بعد 242). “طبقات الحنابلة”: (1/ 76).
ووقع في النسخ: “أحمد بن الحسين” والتصويب من المصادر.
(2) “مسائل أبي داود”: (ص/ 30).
(3) لم أعثر عليه في “مسائل صالح”.
(4) أخرجه الترمذي رقم (239) وضعَّفه، وكذا ضعفه أبو داود في “مسائله لأحمد”: (ص/ 383 – ط ابن تيمية)، وأبو حاتم في “العلل”: (1/ 160).
(5) في “المسند”: (16/ 295 رقم 10391) وغيره وسنده صحيح.
(3/975)
عبد الرحمن بن ثَوْبانَ، عن أبي هريرة: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان إذا قام إلى الصلاة رَفَعَ يَدَيْهِ مدًّا.
وروى يحيى بن اليَمان، عن ابن أبي ذئبٍ، عن سعيد بن سَمْعانَ، عن أبي هريرة: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان إذا افتتحَ الصلاةَ فَرَّج بين أصابِعِهِ (1).
وقد ضعَّفه أحمد فقال أحمد بن أَصْرمَ (2): إن أبا عبد الله سُئِل عن ابن سمْعانَ الحديث فقال: ليس بشيء، والحديثُ عندَه حديثُ أبي هريرة أنه كان يرفع يديه مدًّا (3).
قال أحمد في رواية الفضل بن زياد (4) -وقد سأله عن رجل بُلِيَ بأرض يُنْكِرُون فيها رفعَ اليدين في الصلاة، وينسبُونه إلى النَّقص-: يجوزُ له تركُ الرَّفع؛ قال: لا يتركُ ذلك، يُداريهم (5). إنما قال: يُدارِيهم؛ لأنه لا طاقةَ (ق/240 ب) له بهم، وأمر النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – عائشة بالرِّفق.
قال: في رواية ابن مُشَيْش (6): رفعُ اليدين في الصلاة من السُّنَّة. وهذا يدلُّ علي أنَّ الهيئاتِ في الصّلاة يُطلقُ عليها اسم السُّنَّة.
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) هو: أحمد بن أصرم بن خزيمة أبو العباس المزني ت (285).
“طبقات الحنابلة”: (1/ 48).
(3) انظر “مسائل أبي داود – الفقهية”: (ص/384).
(4) هو: الفضل بن زياد أبو العباس القطان البغدادي، من خواص أصحاب الإمام وكان يصلّي به. “طبقات الحنابلة”: (2/ 188).
(5) وجاءت هذه الرواية -أيضًا- عند صالح في “مسائله” رقم (161، لكن فيها “وينسبونه إلى الرفض” بدل “النقص”.
(6) هو: محمد بن موسى بن مُشَيْش البغدادي، من كبار أصحاب الإمام. “طبقات الحنابلة”: (2/ 365).
(3/976)
قال أبو حفص: فأما حديث أحمد بن يونُسَ، عن أبي بكر بن عياش، عن حُصَيْن، عن مجاهد، عن ابن عمر: أنه كان لا يرفعُ يديه، فإن أبا عبد الله قيل له: إن مجاهدًا قال: ما رأيتُ ابن عمر رفعَ يديه إلا في افتتاح الصَّلاة، قال: هذا خطأٌ نافعٌ وسالمٌ أعلمُ بحديث ابنِ عمر، وإن كان مجاهدٌ أقدمَ، فنافعٌ أعلمُ منه (1).
قال بعضُ أصحابنا: وهذا من أحمد يدلُّ على أصلينِ؛ أحدهما: أن روايةَ الأعلم مقدَّمةٌ على رواية غيره. والثاني: أن رواية مَنْ يختصُّ بالصُّحبة أولى من غيره.
فائدة
اختلف قولُ أحمد في رفع اليدينِ فيما عدا المواضع الثلاثة؛ فأكثرُ الروايات عنه أنه لم يَرَ الرفعَ عند الانحدار إلى السجود، ولا بينَ السجدتين، ولا عند القيامِ من الرَّكعتين، ولا فيما عدا المواضع الثلاثةِ في حديث ابن عمر (2).
ونقل عنه ابنُ أصرم، وقد سئل عن رفع اليدين فقال: في كلِّ خفضٍ ورفعٍ.
قال ابن أصرم: ورأيتُ أبا عبد الله يرفعُ يديهِ في الصَّلاة في كل خَفْض ورَفعْ.
ونقل عنه جعفر بن محمد وقد سُئِلَ عن رفع اليدينِ فقال: يرفع يديه في كلِّ موضعٍ إلاَّ بينَ السَّجدتينِ.
__________
(1) انظر “مسائل ابن هانئ”: (1/ 49 – 50).
(2) الذي أخرجه البخاري رقم (735)، ومسلم رقم (390).
(3/977)
ونقل عنه المزُوْدْيُّ: لا يعجبُني أد يرفعَ يديه بين السّجدتين (1)، فإن فعلَ فهو جائزٌ.
عَمْرو بن مرة (2)، عن أبي البَخْتَرِي، عن عبد الرحمن اليَحْصُبي، عن وائل بن حُجْر أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يرفع يديه مع التكبير (3).
وقد حكى أحمدُ لفظَ هذا الحديث في موضع آخَرَ أنه كان يرفعُ يديه كلما كبر (4).
قال أبو حفص: وظاهر هذا الحديث يأتي على جميع الصَّلاة في كل خَفْض ورفع.
أحمد (5)، عن ابن فُضَيْل، عن عاصم بن كُلَيْب، عن محارب بن دِثَار، عن ابن عُمَرَ عن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان إذا نهض من الركعتين رفع يديه.
__________
(1) من قوله: “ونقل عنه … ” إلى هنا ساقط من (ع).
(2) قال الإمام أحمد: (31/ 141 رقم 18848): حدثنا وكيع، حدثنا شعبة، عن عَمْرو بن مرة … بالإسناد نفسه.
(3) في سنده اليحْصُبي مجهول، لم يوثقه غير ابن حبان، وأصل حديث وائل بن حجر صحيح أخرجه مسلم رقم (401).
(4) أخرجه أحمد: (31/ 153 رقم 18861)، ولفظه: ” … وكان يرفع يديه كلما كبَّر ورَفَعَ وَوَضَع بين السجدتين … ” من حديث وائل -رضي الله عنه- وسنده ضعيف، لانقطاعه، فعبد الجبار بن وائل لم يسمع من أبيه، ولضعف أشعث بن سَوَّار الراوي عن عبد الجبار.
لكن أخرجه أبو داود رقم (723)، وابن حبان “الإحسان “: (5/ 173، بسندٍ صحيح، وانظر “التمهيد”: (9/ 227)، في تصحيح حديث ابن عمر في ترك الرفع بين السجدتين على حديث وائل هذا.
(5) في “المسند”: (10/ 405 رقم 6328) وغيره، وسنده جيد.
(3/978)
قال أحمد: لا بأس بحديثه، يعني عاصم بن كليب.
رِفْدَةُ بن قُضَاعة، عن الأَوْزَاعي، عن عبد الله بن عُبَيْد بن عُمَيْر اللَّيثي، عن أبيه، عن جده، قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يرفع يديه مع كل تكبيرة في الصلاة المكتوبة (1). قال أحمد ويحيى بن معين: ليس بصحيح ولا يعرف عُبَيْد بن عُمَيْر يُحدِّث عن أبيه شيئًا ولا عن جده. وقال أحمد: لا أعرف رِفْدَةَ (2).
وجهُ (ق/ 141 أ) الثالثة: حديث ابن عمر: “ولا يرفعُ بين السَّجدتين” بعد ذكر المواضع الثلاثة.
* واختلف قولُه في حدِّ الرفع، فعنه: أنه اختار إلى منكبيه، وعنه: إلى فروع أذنيه.
وجهُ الأولى: حديث ابن عمر. وَجْه الثانية: حديث مالك بن الحُوَيْرث: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – رفع يَدَيْه إلى فروع أذنيه (3).
وكيع، عن فِطْر، عن عبد الجبّار بن وائل، عن أبيه قال: رأيتُ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – رفع يديه حين افتتح الصَّلاة حتى جاوزت إبهاماه شحمةَ أذنيه (4).
__________
(1) أخرجه ابن ماجه رقم (861). وانظر “المجروحين”: (1/ 304).
(2) نقل هذا النص مغلطاي في “إكمال تهذيب الكمال”: (4/ 395) عن رواية مهنَّأ عن أحمد ويحيى.
(3) أخرجه مسلم رقم (391).
(4) أخرجه أحمد: (31/ 142 رقم 18849) وغيره بالإسناد نفسه، لكن عبد الجبار بن وائل لم يسمع من أبيه.
لكن لفظ الحديث: “حتى حاذت إبهامه … ” وليس فيه “جاوزت”.
(3/979)
وكيع، في أبيه، عن يزيدَ بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البَرَاء بن عازِب، قال: كأني أنظر إلى إبهامَيْ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد حاذتا شحمةَ أُذُنَيْهِ في الصَّلاة (1).
قال أبو حفص: الأمر عند أبي عبد الله واسعٌ إلى أيِّ موضع رَفَع، ما لم يُجاوزِ الأذنينِ ولم يُقَصِّر عن المَنْكِبَيْنِ.
الحسن بن محمد الأنماطي (2): رأيت أبا عبد الله إذا رفع رأسَهُ من الركوع لا يرفعُ يديه حتى يستتِمَّ قائمًا.
والحُجَّة فيه: حديث أبي حُمَيْد فيقول: سمع الله لمن حَمِدَه، ثم يرفعُ يديه (3).
أبو داود (4): قلت لأحمد: افتتح الصَّلاةَ ولم يرفعْ يديه أيعيدُ؟. قال: لا.
حُجَّته (ظ/172 ب): أن النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – لم يعَلِّمْهُ الأعرابي (5)، ولا (6) نعلمُ أحدًا قالَ بالإعادَةِ إلاّ محمد بن سيرين، فإن أحمد ذكر عنه أنه
__________
(1) أخرجه أحمد: (30/ 615 قم 18674)، وأبو داود رقم (749) بنحوه. وفي سنده يزيد بن أبي زياد ضعيف الحديث.
(2) وقع في النسخ: “الحسين”، والتصويب من مصادر الترجمة، انظر “طبقات الحنابلة”: (1/ 371).
(3) أخرجه أبو داود رقم (730)، والترمذي رقم (304)، والنسائي: (3/ 2) وغيرهم وأصله في البخاري رقم (828).
(4) “مسائل أبي داود”: (ص/ 46).
(5) أخرجه البخاري رقم (793)، ومسلم رقم (397) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في حديث المسيء صلاته.
(6) (ق): “ولم”.
(3/980)
قال: يَقضي.
* أختلف قوله في صفة وضع اليد على اليد؛ فعنه أحمد بن أصرم المزني وغيرُه؛ أنه يقبضُ بيمينه على رُسْغ يساره. وعنه أبو طالب: يضعُ يَدَهُ اليُمنى وضعًا بعضُها على ظهر كفِّه اليسرى وبعضها على ذراعه الأيسر.
للأولى: حديث وائل: “رأيت النبي – صلى الله عليه وسلم – يضَعُ يده اليُمنى على اليُسْرى قريبًا من الرُّسْغ” (1). وفي حديث: “ثم ضرَب بيميِنهِ على شِماله فَأَمْسَكَها” (2).
وللثانية: ما روى أنس: أنه وَضَعَ يمينَه على شماله على هذا الوصف (3). وفي حديث وائل من طريق زائدة، عن عاصم بن كُلَيب، قال: ثم وَضَع يَدَهُ اليُمنى على ظهر كفِّه والرُّسغ والساعد (4).
* واختلف في موضع الوضع؛ فعنه: فوقَ السُّرَّة، وعنه: تحتها، وعنه أبو طالب: سألت أحمد أين يضع يده إذا كان يصلي؟ قال: على السُّرَّة أو أسفل، وكلُّ ذلك واسعٌ عنده، إن وضعَ فَوْقَ السُّرَّةِ أو
__________
(1) أخرجه أحمد (31/ 166 رقم 18873)، والدارمى: (1/ 312)، والطبراني في “الكبير”: (22/ 25). وفي سنده عبد الجبار بن وائل لم يسمع من أبيه، لكن له شواهد يصحّ بها.
(2) أخرجه بهذا اللفظ ابنُ خزيمة في “صحيحه” رقم (478) والطبراني في “الأوسط”: (2/ 198) من حديث وائل بن حُجْر.
(3) أخرجه البيهقي: (2/ 30)، وأبو الشيخ كما في “الدر”: (6/ 689) وليس فيه تفصيل لصفة الوضع.
(4) أخرجه أحمد: (31/ 160 رقم 18870)، وأبو داود رقم (727)، والنسائي: (2/ 126) وغيرهم.
(3/981)
عَلَيْها أو تحتَها (1).
علي -رضي الله عنه-: من السُّنَّة في الصَّلاة وضعُ الأَكُفِّ على الأَكُفِّ تحت السُّرَّة (2). عمرو بن مالك، عن أبى الجَوْزاء، عن ابن عباس (3) مثل تفسير علي، إلا أنه غيرُ صحيح، والصحيح حديث علي.
قال في (ق/ 241 ب) رواية المُزَني (4): أسفل السُّرَّة بقليل، ويكرهُ أن يجعلَها على الصَّدر (5)، وذلك لما روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه نهى عن التكفير (6)،
__________
(1) انظر “مسائل أبي داود”: (ص/ 48)، و”المغني”: (2/ 141) وقال الترمذي في “جامعه”: (2/ 33) -بعد أن ذكر الاتفاق على وضع اليمنى على اليسرى فى الصلاة-: “ورأى بعضهم أن يضعهما فوق السُّرة، ورأى بعضهم أن يضعهما تحت السُّرّة، وكلُّ ذلك واسع عندهم” اهـ.
(2) أخرجه أحمد “زوائد المسند”: (2/ 222 رقم 875)، وأبو داود رقم (756)، وغيرهم من حديث عبد الرحمن بن إسحاق، عن زياد بن زيد السوائي، عن أبي جُحَيفة به. وعبد الرحمن بن إسحاق ضعيف -ضعَّفه أحمد وغيره- وزياد مجهول.
(3) أخرجه ابن أبي حاتم وابن شاهين وابن مردوية والبيهقي -2/ 31 – كما في “الدر”: (6/ 689) في تفسير {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} قال: “وضع اليمنى على الشمال عند التحريم في الصلاة” ليس فيه ذكر للسُّرَّة. وفى سنده رَوْح بن المسيب ضعيف، وعَمرو بن مالك النّكري متكلَّم فيه.
(4) هو: أحمد بن أصرم، تقدمت ترجمته.
(5) ومثله فى “مسائل أبي داود”: (ص/ 48).
(6) لم أره مسندًا، وذكره ابن أبي يعلى في “الطبقات”: (1/ 16) عن عبد الله بن أحمد قال: سألت أبي عن حديث إسماعيل بن عُلَيَّة، عن أيوب، عن أبي معشر قال: “يُكره التكفير في الصلاة” قال أبي: التكفير أن يضع يمينه عند صدره في الصلاة”.
وذكره أبو موسى المديني في “المجموع المغيث”: (3/ 57) بلا إسناد، وقال: “التكفير: انحناء أهل الذمة لرئيسهم … وهو الانحناء الشديد، ووضع اليد على اليد، كما يفعل أهل الذمة …. “.
(3/982)
وهو موضع اليد على الصدر (1).
مؤمَّل، عن سفيان، عن عاصم بن كُلَيب، عن أبيه، عن وائل: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – وضع يَدَهُ على صدره (2).
فقد روى هذا الحديث عبد الله بن الوليد، عن سفيان، لم يذكر ذلك (3)، ورواه شعبة وعبد الواحد (4) لم يذكرا خَالَفا (5) سفيان.
* قال في رواية صالح (6) والكَوْسج إذا التفت في الصلاة: قد أساءَ، وما علمتُ أني سمعت فيه حديثاً، أي: أنه يُعيدُ.
وقال في رواية أبي طالب: الالتفاتُ في الصَّلاة لا يَقطعُ، إنما كُرِهَ ذلك لأنه يتركُ الخشوعَ والإقبالَ على صلاته، قال – صلى الله عليه وسلم -: “هُوَ اخْتِلاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ” (7) الحديث، فلو كُلِّفَ الإعادةَ شَقَّ، إذ المُصلِّي لا يكادُ يسلمُ من اختلاسه.
* قال في رواية حنبل: كان ابنُ مسعود وأصحابُه لا يعرفون
__________
(1) انظر في معناه ما سلف.
(2) أخرجه من طريق مؤمَّل الطحاوي في “شرح معاني الآثار”: (1/ 196)، وابن خزيمة رقم (479) والبيهقي: (2/ 30)، ومؤمل متكلّم فيه.
(3) أخرجه أحمد: (31/ 163 – 164 رقم 18871).
وتابع عبدَ الله بن الوليد في عدم ذكر هذه الزيادة عن سفيان محمدُ بن يوسف الفريابي عند الطبراني: (22/ رقم 78، وعبدُ الرزاق عند أحمد (31/ 150 رقم 18858).
(4) أخرجهما أحمد: (31/ 142، 148 رقمي 18850، 18855).
(5) (ق): “احال”! و (ظ) بياض، والمثبت من (ع) والمعنى ظاهر.
(6) لم أجده في الرواية المطبوعة.
(7) أخرجه البخاري رقم (751)، ومسلم رقم (3291) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(3/983)
الافتتاحَ، يُكَبِّرون، ولو فعل هذا رجلٌ أجزأَه، وأهلُ المدينة لا يعرفون الافتتاحَ.
وحجَّتُهُ في سقوط وجوب الافتتاح ما رُوي عن ابن مسعود، ولأنَّ في الأخبار ضعفًا.
قلتُ: ابنُ مسعود كان يذهب في الصَّلاة إلى أشياءَ خالَفَهُ فيها سائر الصحابة؛ فمنها: تركُ الرَّفع فيما عدا الافتتاح. ومنها: التَّطبيقُ في الرُّكوع. ومنها: قيامُ إمامِ الثلاثة في وَسَطِهِم. ومنها: تركُ الافتتاح.
وأحمد لم يضعِّف أحاديث الافتتاح، ولا أسقطَ وجوبَه من أجل ضعفها، ولا من أجل ترك ابن مسعود له، وإنما لم يوجبْه لعدم الأمر به، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “إذا قمْتَ إلى الصَّلاةِ فَكَبِّرْ، ثم اقْرَأْ ما تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ” (1)، ولم يأْمُرْه بالاستفتاحِ.
روى حنبل عنه: إذا أراد أن يبتدئَ الصلاةَ يُكَبِّرُ، ثم يستفتحُ استفتاحَ عمرَ (2)، ثم يتعوَّذُ: “أعوذ بالله السَّميع العليم، من الشَّيطان الرجيم، إن الله هو السَّميع العليمُ”، ثم يقرأُ ويبدأُ ببسم الله الرحمن الرحيم، هذا كلُّه يخافِتُ به، فإن جَهَرَ بها فهو سهوٌ، يسجُدُ سجدتي السَّهو إذا جهر بها.
قال أبو حفص: ليس السجودُ واجبًا.
حَرْب عنه: لا يقرأُ الإمام إلا بعدَ سكتة، حتى يقرأَ مَنْ خَلْفَه فاتحةَ الكتاب.
__________
(1) تقدم، وهو حديث المسيء صلاته.
(2) انظر “مسائل أبى داود”: (ص/ 46)، و”مسائل عبد الله” رقم (332، 334).
(3/984)
عبد الله عنه يقول: أعوذُ بالله من الشيطانِ الرجيم، إنَ الله هو السميعُ العليم، هذا أعجبُ إليَّ (1). وكذا نقل المرُّوْذي، ثم قال: والأمر سهلٌ.
والأصل فيه قوله تعالى: (ق/ 242 أ) {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} [النحل: 98] وقوله: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ … } [الأعراف: 200]، وفي هذا جَمْع بين الأمرين. وعن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – في قصة عائشة قال: “أعُوذُ باللهِ السَّمِيعِ العَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ” {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ} ” (2).
روى أحمد بن إبراهيم بن هشام (3)، عن أبي عبد الله أنه سئل عن: “بسم الله الرحمن الرحيم” من فاتحة الكتاب؟ فقال: نعم هي أحل آياتها.
قال أبو حفص: ليستْ هذه الروايةُ في كتاب الخَلاَّل لكنها في سماعنا.
* وروى عنه (ظ/173 أ) أبو طالب: إذا نسي أن يقرأ “بسم الله الرحمن الرحيم” يسجدُ سجدتي السَّهْو؟ قال: لا (4).
قال أبو حفص: هذا على إحدى الروايتين إذا تَرَكَهَا عند قراءة السورة.
__________
(1) انظر “مسائل عبد الله”: رقم (334).
(2) أخرجه البخاري رقم (2661) ومسلم رقم (2770) في حديث الإفك.
(3) كذا، ولعله أحمد بن إبراهيم الكوفي، ترجمته في “طبقات الحنابلة”: (1/ 47)، بدليل أن القاضي أبا يعلى نقل هذه الرواية عنه في “الروايتين والوجهين”: (1/ 118).
(4) انظر “مسائل ابن هانئ”: (1/ 52).
(3/985)
* وروى عنه الفضل وأبو الحارث (1) وقد سئل عن الجهر بـ: (آمين)، قال: اجهَرْ بها فإنها سُنَّةٌ ذهبت من الناس، وهذا يدُلُّ على أن الهيئة (2) سُنَّةٌ عند أحمد؛ لأن الجهرَ هيئةٌ في الكلام.
وروى عنه إسحاق بن إبراهيم (3): “آمينَ” أمرٌ من النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -: “إذَا أَمَّنَ القَارئُ فَأَمِّنُوا” (4)، وهذا يدلُّ على أن المندوبَ مأمور به عند أحمد.
وروى عنه حنبلٌ: يجهرُ بها في المكتوبة وغيرها لعموم الأخبار.
ابن منصور (5)، عن أحمد، وقد سأله عن قول أبي هريرة: “لا تسبقني بآمين” (6) قال: يتَّئِد حتى يجيءَ المؤَذِّنُ، لفضل التأمين.
وروى عنه الأثرمُ وقد سُئِل: إذا كان خلفَ الإمام فقرأ (7) خلفَه فيما يجهرُ فيه أيقول: آمين؟ قال: لا أدري ولا أعلمُ به بأسًا (8).
* اختلف قوله، إذا لم يقرأْ أوَّلَ الصَّلاة هل يَقضي؛ فروى عنه
__________
(1،) هو: أحمد بن محمد أبو الحارث الصائغ، له عن الإمام مسائل كثيرة. “طبقات الحنابلة: (1/ 177).
(2) (ظ): “المنتدب إليه”.
(3) “مسائل ابن هانئ”: (1/ 45).
(4) أخرجه بهذا اللفظ: البيهقي: (2/ 55)، والحميدي فى “مسنده”: (2/ 417) وبلفظ: “إذا أمّن الإمام فأمِّنوا” البخاري رقم (780)، ومسلم رقم (410). من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(5) “المسائل”: (1/ 253 – 254 – الطهارة والصلاة).
(6) أخرجه عبد الرزاق: (2/ 96) ومن طريقه ابن حزم في “المحلّى”: (3/ 264)، وابن أبي شيبة: (2/ 188).
(7) (ع): “يقرأ”.
(8) انظر “مسائل عبد الله”: رقم (358).
(3/986)
عبدُ الله ابنُه: إنْ تركَ القراءةَ في الأُولَيَيْنِ قرأ في الآخرتين، وسجد سجدتي السهو بعد (1) السلام، وإن ترك القراءة في الثلاث، ثم ذكر وهو في الرابعة فسدت صلاتُه، واستأنفَ الصلاةَ.
وروى عنه إسماعيل بن سعيد فيمن ترك القراءةَ في الركعة من صلاةِ الغداة، أو في ركعتين من الظُّهر عمدًا أو سهوًا لا يعتدُّ بتلك الركعة، التي لم يقرأ فيها، ويبني على صلاته ويقرأُ.
وروى عنه ابن مُشَيْش في إمام صلَّى بقومٍ الظُّهْرَ، فلما فرغ ذكر أنه لم يقرأْ: يعيدُ ويعيدون. وهو الصحيح.
وجه الأولة ما روى أحمد: حدثنا وكيعٌ، حدثنا عِكْرِمة بن عمّار، عن ضَمْضَمِ بن جَوْس الهِفَّاني عن عبد الله بن حَنْظَلة بن الرَّاهب قال: صلى بنا عمر المغرب، فنسي أن يقرأَ في الركعة الأولى، فلما قامَ في الثانية قرأَ بفاتحةِ الكتاب مرَّتينِ وسورتينِ، فلما قضى الصَّلاة سجد (ق/242 ب) سجدتينِ (2).
ووجه الثانية: قوله – صلى الله عليه وسلم -: “لا صَلاةَ إلاَّ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ” (3)، والركعة الواحدةُ صلاة. وروى محمد بن أبي عَدِيّ، عن الشَّعْبيِ قال: قال الأشعري: صلَّى بنا عمرُ فدخلَ ولم يقرأْ شيئًا، قال: فابْتَغيت (4) حتى
__________
(1) (ظ): “قبل”.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة: (1/ 359) من طريق وكيع به، والبيهقي: (2/ 382)، ولم أجده في “مسند أحمد”.
(3) أخرجه البخاري رقم (756) ومسلم رقم (394) من حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-.
(4) غير محررة في النسخ، وانظر “مسائل صالح”: (ص/ 174).
(3/987)
أتيتُ الأطناب، فقلت: يا أميرَ المؤمنينَ إنكَ لم تقرأْ شيئًا، فقال: لقد رأيتني أجهز عِيرًا: بكذا وأفعل كذا، قال: فأمَرَ المُؤذِّنِينَ فأذّنوا. وأقاموا فأعاد بنا الصلاة (1).
قال القاضي: إذا قلنا: يعيدُ فإنه يعيدُ الأذان، قال أحمد في رواية إسماعيلَ بن سعيد وقد سأله: هل يعيدونَ الأذان والإقامةَ إذا كانوا على ذلك؛ قال: نعم. ووجهه حديث عُمَرَ، ولأن فيه إعلامَ النَّاسِ ليجتمعوا للإعادة.
* وروى عنه أحمد بن الحسن التِّرمذي، وقد سئل عن حديث عُمَرَ أنه صلّى بالناس وهو جُنُبٌ فأعاد ولم يُعيدوا (2)، قال: هكذا نقول. قلت: فإن لم يقرأ الإمامُ الجُنُبُ والذي على غير طُهْر، ومن خَلْفه؟ قال: يُعيدُ ويُعيدونَ. انتهى.
قلت: والفرقُ بين ترك القراءة وترك الطَّهارة أن القراءةَ يتحمَّلُها الإمامُ عن المأمون، (ظ/173 ب) فإذا لم يقرأْ لم يكنْ ثَمَّ تَحَمُّلٌ: والطَّهارةُ لا يتحمَّلُها الإمامُ عن المأموم، فلا يتعدَّى حكمُها إلى المأموم بخلاف القراءة، فإن حكمَها يتعدَّى إليه.
فإن قيل: فكيف يحمِلُ الجُنُبُ القراءةَ عن المأموم، وليس من أهل التَحَمُّل؟.
قيل: لما كان معذورًا بنِسيانه حَدَثَهُ نُزِّلَ في حقِّ المأموم منزلةَ الطَّاهر، فلا يُعيدُ المأمومُ، وفي حق نفسه تلزمُهُ الإعادةُ، وهذا
__________
(1) أخرجه أحمد من هذا الطريق في “مسائل صالح”: (ص/ 174)، وعبد الرزاق: (2/ 125)، والبيهقي: (2/ 382) من مرسل الشعبي والنخعي.
(2) أخرجه عبد الرزاق: (2/ 348)، والبيهقى: (2/ 399).
(3/988)
بخلاف المتعمِّد للصَّلاة محدِثًا أو جُنُبًا، فإنه لما لم يكن معذورًا نُزِّلَ فعلُه بالنسبة إلى المأموم منزلةَ العَبَث الذي لا يُعْتَدُّ به. وأيضًا لما كان هذا يكثُرُ مع السهو، لم يتعدَّ بطلانُ صلاته إلى المأموم رفعًا (1) للمشقَّة والحَرَج. ولما كان يَنْدر مع التَّعَمُّد تعدَّى فسادُ صلاته إليهم.
* واختلف قوله في الصلاة بغير الفاتحة، فروى حربٌ عنه فيمن نَسِي أن يقرأَ بفاتحة الكتاب، وقرأ قرآنًا قال: وما بأسٌ بذلك، أليس قد قرأ القرآن؟!
قال: وسمعتهُ مرةً أخرى يقول: كلُّ ركعة لا يقرأُ فيها بفاتحة الكتاب فإنها ليست بجائزةٍ، وعلى صاحبِها أن يُعِيدَها.
قال الخَلاَّلُ: الذي رواه حرب قد رجع عنه أبو عبد الله، وبيَّنَ عنه خَلْقٌ كثير أنه لا يجزئُهُ إلا أنْ يَقْرَأَ في كلِّ ركعة.
للثانية: ما روى مالك، عن وهب بن كَيْسان، عن جابر قال: مَنْ صلَّى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن لم يصلِّ إلاّ وراء إمام (2).
وروى عنه أبو طالب: من نَسِيَ أوَّلَ ركعة، ثم ذكر في آخر ركعة أنه لم يقرأ، لا يعتدُّ بالركعة التي لم يقرأْ (ق/243 أ) فيها، ويُصَلِّي ركعةً أخرى مكانَ تلك الرَّكعة، فإن ذكرها وقد سلَّم وتكلَّم أعاد الصَّلاةَ.
* اختلفَ قولُه في قراءة القرآن في الفرائض على التَّأْليف على سبيل الدَّرْس، فروى عنه ابنُه عبد الله أنه قال: سألت أبي عن الرَّجُل
__________
(1) (ق): “دفعًا”.
(2) أخرجه مالك في “الموطأ”: (1/ 84)، والطحاوي في “معاني الآثار”: (1/ 218)، والبيهقي في “الكبرى”: (2/ 160) موقوفًا على جابر، ورُوِي مرفوعًا عند الطحاوي والموقوف أصح وانظر “مسائل عبد الله” رقم (344).
(3/989)
يقرأُ القرآنَ كُلَّهُ في الصَّلاة الفريضة؟ قال: لا أعلمُ أحدًا فعلَ هذا. وقد رُوي عن عثمانَ بن عفَّان رضي الله عنه أنه كان يقرأُ بعض القرآن سُوَرًا على التأليف (1).
وروى عنه حربٌ في الرجل يقرأُ على التأليف في الصَّلاة اليومَ سورةَ الرَّعد وغدا التي تَلِيها، ونحو ذلك؟. قال: ليس في هذا شيءٌ، إلا أنه يُروى عن عثمان أنه فعلَ ذلك في المفصَّل وحدها.
وروى عنه مهنَّأ أنة رخَّص أن يقرأ في الفرائض حيث يَنتهي.
سَلْم بن قُتَيْبَةَ، عن سهيل بن أبي حزم (2)، عن ثابت، عن أنس، قال: كانوا يقرأون في الفريضة من أول القرآن إلى آخره (3).
وروى المرُّوْذيُّ أن أحمد سُئِلَ عن حديث أنس هذا فقال: هذا.
حديثٌ منكر (4).
* روى حنبل عنه: إذا كان المسجدُ على قارعَةِ الطَّريق، أو طريقًا يسلُكُ، فالتخفيف أعجبُ إليَّ، وإن كان مسجدًا معتزلاً أهلُهُ: فيه ويرضون بذلك فلا أرى به بأسًا، وأرجو إن شاءَ الله.
* وروى عنه أبو الحارث: إذا قرأَ بفاتحة الكتاب وهو يحسِنُ غيرَها: إن كانْ عامدًا: فلا أُحِبُّ له ذلك، وإن كان سَاهِيًا فلا بأس، صلاتُهُ تَامَّةٌ.
__________
(1) “مسائل عبد الله” رقم (293).
(2) تحرفت في النسخ إلى: “سهل بن أبي حذيفة”.
(3) أخرجه الطبراني في “الأوسط”: (8/ 123)، وفيه سهيل بن أبي حزم ضعيف. وذكر الإمام أنه منكر.
(4) انظر “المغني”: (2/ 280).
(3/990)
وعنه محمد بن الحكم: هو عندي مسيءٌ إذا عمل ذلك. قلت: يريدُ الاقتصارَ على الفاتحة، وكلامُهُ يدُلُّ على أَحَدِ أمرين: إما أن تكون السُّورَةُ واجبةً، وإما أن يكونَ تاركُ سُنَّةِ الصَّلاةِ مسيئًا.
وروى الفضلُ بن زياد عنه وقد سُئِلَ: الرجلُ يقرأُ في المكتوبة في كلِّ ركعة بالحمد وسورة؟ قال: قد كان عمَرُ يفعلُ، قيل: فتراه أنتَ؟ قال: لا، قد فَعَل النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – غيرَ هذا، اقرأ في الأولَيَيْن. انتهى.
وروي عن علي وجابر قالا: في الرَّكعتين الأُخْرَيين بفاتحة الكتاب.
وروى أبو طالب: سألت أبا عبد الله عن الرَّجُل يصلَّي بالنَّاس المكتوبةَ، فيقرأُ في الأربع كلِّها بالحمد وسورة؟ قال: لا ينبغي أن يفعلَ، قلت: سهى؛ قال: يسجدُ سجدتين.
وروى عنه أحمد بن هاشم (1)، وقد سئل عن رجل قرأ في الرَّكعتين الأُخْرَيَيْنِ بالحمد وسورة ناسيًا هل عليه سجدَتا السَّهو؟ قال: لا، وكذلكَ قال مهنَّأ والميموني.
وروى عنه أبو الحارث في إمام صلَّى بقوم، فقرأ بفاتحة الكتاب (ق/ 243 ب)، ثم قرأَ بعضَ السورة ولم يُتِمَّها ثم ركع: لا بأس.
ثم قال أحمد: ثنا عبد الله بن إدريسَ، ثنا يزيدُ بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ابن أَبْزَى، قال: صلَّيْتُ خلف عُمَرَ فقرأ سورة يوسف حتى إذا بلغ: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ … } وقع عليه البكاءُ فَرَكَعَ، ثم قرأ سورة النجم فسَجَدَ فيها ثم قام فقرأ:
__________
(1) هو: أحمد بن هاشم بن الحكم الأنطاكي، روى عن أحمد مسائل حسانًا. “طبقات الحنابلة”: (1/ 206).
(3/991)
{إِذَا زُلْزِلَتِ} (1).
وروى عنه صالح (2) وقد سأله عن رجل (3) يصلِّي فيبدأ من أوسط (ظ/ 174 أ) السورة أو من آخرها، قال: أما آخر السورة فأرجو، وأما من وسطها فلا.
وروى عنه أحمد بن هاشم (4) الأَنْطَاكِيُّ: هل يُجْزِيءُ مع قراءة الحمد آيةٌ؛ قال: إن كانت مثلَ آية الدَّيْن وآية الكرسي.
وروى عنه محمد بن حبيب (5): يكرَهُ أن يقرأَ الرجلُ في صلاة الفجر بـ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} و {أَرَأَيْتَ} إلا أن يكون في سفر.
محمدُ بن حَبيب (6)، حدثنا عمرو الناقدُ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، ثنا أبي، عن ابن إسحاق، عن مِسْعَر ومالك بن مِغْوَل، عن الحَكَم، عن عمرو بن ميمون، عن عمر أنه صلى بهم الفجر فى طريق مكة: فقرأ بـ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} (7).
__________
(1) أخرجه الطحاوي فى “معانى الآثار”: (1/ 181، 348)، وسقط من إسناده ذكر “ابن أبزى”. وانظر “المغنى”: (2/ 279)، وأخرجه عبد الرزاق: (2/ 116) من طريق حصين بن سبرة عن عمر.
(2) لم أجده في مسائله.
(3) (ظ): “رجلٌ عن رجلٍ”.
(4) في الأصول: “هشام” والتصويب من مصادر الترجمة، وتقدم قريبًا.
(5) هو: محمد بن حبيب أبو عبد الله البزار، روى عن أبي عبد الله مسائل ت (291) “طبقات الحنابلة”: (2/ 291).
(6) من قوله: “يكره أن … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(7) أخرجه ابن أبي شيبة: (1/ 322)، وعبد الرزاق: (2/ 119)، عن عمرو بن ميمون به.
(3/992)
الميمونيُّ: صلَّى بنا أبو عبد الله الفجرَ فقرأ في الأولى بـ (المدثر) وفي الثانية بـ (الفجر)، وكنا نصلي خلف أبي عبد الله بغَلَس فيقرأ بنا في الأولى: (تبارك) ونحوها، ويقرأ في الثانية: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)}.
وروى عنه أحمد بن الحسين بن حسَّان في إمامٍ يقصِّر في الركعة الأولى ويطوِّلُ في الأخيرة: لا ينبغي هذا، يطوِّلُ في الأولى ويقصِّرُ في الآخرة.
قال أبو حفص: وقد روى عن أنس أنه قرأ في الرَّكعة الأولى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} وفي الثانية بـ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)}، وهذا يدلُّ على جواز الإطالة في الثانية، وليس ما ذكره بقَوِيٍّ.
* * *
ومن خط القاضي مما قال: انتقيتُه من “كتاب الصيام” لأبي حفص البرمكي، قال: ونقلته من خطه (1):
نقل عبدُ الله (2): سألت أبي عمن صامَ رمضانَ وهو ينوي به تطوعًا؛ قال: يفعلُ هذا إنسانٌ من أهل الإسلام؟! لا يُجْزِئُهُ حتى يَنْوِيَ، لو أن رجلاً قام يصلِّي أربعَ رَكَعَاتٍ، لا ينوي بها صلاةَ فريضةٍ أكان يُجْزِئُهُ؟! ثم قال: لا تُجْزِئُهُ صلاةُ فريضةٍ حتى ينْوِيَها.
قال أبو حفص: وقد قال الشَّافعيُّ (3): ولو عقد رجلٌ على أن
__________
(1) العبارة في (ق): “لأبي حفص البرمكي، قال: ونقلته من خطه”، وفي (ظ) مثل ما هو مثبت إلى قوله: “أبي حفص” لكن قال: “العكبري”.
(2) “المسائل” رقم (875).
(3) بنحوه في “الأم”: (2/ 96).
(3/993)
غدًا عندَه من رمضان في يوم الشَّكِّ، ثم بان أنه مِنْ رمضان أجزأه. قال: وهذا موافقٌ لما قال أبو عبد الله في الغَيْم.
قال عبدُ الله (1): قلت لأبي: إذا صام شعبانَ كُلَّه؟ قال: لا بأس أن (ق/ 244 أ) يصومَ اليومَ الذي يشُكُّ فيه إذا لم يَنْوِ أنه من رمضانَ؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يَصِلُ شعبانَ برمضان (2)، فقد دخل ذلك اليومُ في صومِهِ.
قال أبو حفص: مرادُ أبي عبد الله في هذه المسألة: إذا كان الشَّكُّ في الصَّحو، لما تقدَّمَ من مذهبه في الغَيْم.
* * *
ومن خط القاضي أيضًا مما ذَكَر أنه انتقاه من كتاب “حكم الوالدين في مال ولدهما” جَمْع أبى حفص البرمكي (3)
قال: اختلف قولُ أبي عبد الله في عِتْق الأب جاريةَ ابِنهِ قبلَ قبضِها، فروى عنه بكر بن محمد (4) أنه قال: ويعتقُ الأبُ في ملكِ الابنِ؟ هو في ملك الابنِ حتى يعتق الأبُ، أو يأخذُ فيكون للأبِ ما أَخَذَ.
وعنه المرُّوْذيُّ: ولو أن لابنه جاريةً فأعتقها كان جائزًا، وعنه بكر بن محمد: إذا كانت للابنِ (5) جاريةٌ فأراد عِتْقَها قبضَها ثم أعتقَها، ولا
__________
(1) “المسائل” رقم (843) إلى قوله: “من رمضان”.
(2) أخرجه أحمد: (6/ 300)، وأبو داود رقم (2336)، وابن ماجه رقم (1648) من حديث أم سلمة -رضي الله عنها-.
(3) هذا العنوان بياض في (ق).
(4) هو: بكر بن محمد النسائي أبو أحمد، له عن أبي عبد الله مسائل كثيرة. “طبقات الحنابلة”: (1/ 318).
(5) (ع وق): “للأب” والمثبت (ظ).
(3/994)
يعتقُ من مال ابنه إلا أن يقبِضَها، وكذا روى عنه عبد الله وغيره (1).
قلت: الروايتانِ مأخذُهُما أن مَن مَلَكَ أن يملكَ فتصرَّفَ قبل تَمَلُّكه هل يَنْفُذ تَصَرُّفُهُ؛ فيه قولان، وعلى هذا يُخَرَّجُ تَصَرُّفُ الزَّوج في نصفِ الصَّدَاق، إذا طلَّق بعدَ الإقباض وقبلَ الدخول، وتصرُّف الموصى له، إذا تصرَّف بعد الموتِ، وقبلَ القبولِ، على أن الذي تقتضيه قواعدُ أحمد وأصولُه صحَّةُ التَّصَرُّفِ، ويجعلُ هذا قَبولاً واسترجاعًا للصَّداق قد قارن التّصرُّف. ومن منع صحَّتَهُ قال: إن غايةَ هذا التَّصَرُّف أن يكونَ دالاًّ على الرُّجوع والقَبول الذي هو سببُ الملك، ولم يتقدَّم على التَّصَرُّفِ، والملكُ لابدَّ أن يكونَ سابقًا للتَّصَرُّف، فكما لا يتأخرُ عنه لا يقارِنُهُ.
ولمن نَصَرَ الأوَّلَ أن يجيبَ عن هذا بأن المحذورَ أن يرد العقدُ على ما لا يملكُه ولا يكون مأذونًا له في التَّصرُّفِ فيه، فإذا قارن العقدَ سببُ التَّمَلُّك لم يردَّ العقد إلا على مملوك، وقولكم: لابدَّ أن يتقدَّمَ المُلْكُ العقدَ، دعوى محل (2) النِّزاع، فمنازعوكم يجَوِّزونَ مقارنةَ العقدِ لسبب التَّملك.
وهذه المسألةُ تشبهُ مسألةَ حصول الرَّجعة بالوِطء، فإنه بشروعِه في الوطء تحصلُ الرَّجعة، وإن لم يتقدَّمْ على الوِطء، فما وَطِئَ إلا مَنِ ارتجعها، وإن كانت رجعتُه مقارنَةً لوِطئها، فتأمَّلْهُ فإنه من أسرار الفقه.
ونظيرُ هذه المسألة مسألةُ الجارية الموهوبة للولد سواء، قال
__________
(1) انظر “مسائل عبد الله” رقم (1640)، و”مسائل ابن هانئ”: (2/ 11).
(2) (ق): “على”.
(3/995)
أحمد في رواية أبي طالب: إذا (ظ/ 174 ب) وهبَ لابنه جاريةً وقبضها الابنُ لم يَجُزْ للأب عِتْقُها حتى يرجعَ فيها ويَرُدَّها إليه.
قال (ق/ 244 ب) أبو حفص البرمكي: ويخرَّجُ في هذه المسألة روايةٌ أخرى بصحَّة العِتْقِ (1)، والأصح الأوَّل.
قال إسحاق بن إبراهيم (2): سألتُ أبا عبد الله عن جارية وَهَبَها رجلٌ لابنه، ثم قبضَها الابنُ من الأب، فأعتقها الأبُ بعدما قبضَها الابنُ؟ قال: الجاريةُ للابن، وأعتق الأبُ ما ليسَ له.
قلت: فحديث النبي – صلى الله عليه وسلم -: “أنْتَ ومَالكَ لأَبيكَ” (3)؛ قال: مَنْ قال: إِن عِتْقَ الأب جائز يذهبُ إلى هذا، فأما الحسن وابن أبي ليلى فإنهما يقولان: عِتْقُهُ عليه جائزٌ، ولا أذهبُ إليه.
قلتُ: أيْشٍ الحُجَّةُ في هذا؟ قال: لا يجوزُ عتقُه على ما وَهَبَهُ الابْنَ وحازه (4).
* اختلف في قبض الأب صداقَ ابنِتِه؛ فروى عنه مهنَّأ: لا يُبَرَّأُ الزوجُ بذلك، وروى: عنه المرُّوْذيُّ وأبو طالب: أنه يبرأ، وأصلُ
__________
(1) (ع): “العقد”.
(2) “مسائل ابن هانئ”: (2/ 12).
(3) جاء هذا الحديث من رواية جماعة من الصحابة، منهم عبد الله بن عَمْرو، أخرجه أحمد: (11/ 261 رقم 6678) والبيهقي: (7/ 480) وسنده حسن، وهو صحيح بطرقه وشواهده الكثيرة.
(4) (ق وظ والمسائل): “وأجازه” والمثبت من (ع) وهو المناسب بدليل بقية جواب الإمام في المسائل وهو: “وله أن يأخذ من مال ولده ما شاء، وليس لولده أن يمنعه إذا أراد أن يأخذ، إلا أن يكون يُسرف، فله أن يعطيه القوت، ولا أرى أن يعتق على الابن إذا حاز الجارية” اهـ.
(3/996)
الروايتين عند بعض أصحابنا: إبراءُ الأب عن الصَّداق، فإن فيه روايتين، فإن قلنا: يصح إبراؤُه صحَّ قبضُه وَإلاَّ فلا كالأجنبي.
قلت: وعندي أن الروايتين في القبض غيرُ مبنيتين على روايتي (1) الإبراء، بل لما مَلَك الأبُ الولايةَ على ابنته في هذا العقد مَلَكَ قَبْضَ عِوَضِهِ، فلما مَلَك تزويجَها، وهو كإقباضِ البُضْع (2) وتمكين الزوج منه، مَلَكَ قبضَ الصَّداق، وهذه هى العادةُ بين الناس.
والرواية الأخرى: لا يقبض لها إلا بإذنها، فلا يبرأُ الزوجُ بإقباضِهِ، كما لا يتصرَّفُ في مالها إلا بإذنِها، والله أعلم.
* روى المرُّوْذي عنه في الرجل يستقرض من مال أولاده، ثم يوصي بما أخد من ذلك، قال: ذلك إليه فإن فعل فلا بأس.
وهذه الرواية تدلُّ على أن الدَّيْنَ يثبتُ في ذِمَّته، وإن لم يملكِ الابنُ المطالبة به؛ إذ لولا ثبوتُهُ في الذِّمَّة لم يملكِ الوصيةَ به، وكانت وصيَّتُه لوارث.
وقد روى عنه أبو الحارث في رجلٍ له على أبيه دَيْن، فمات الأبُ، قال: يَبْطُلُ دَيْنُ الابنِ.
قلت: وهذه الرواية عندي تحتملُ أمرينِ:
أحدهما: بطلانُه وسقوطُه جملةً، وهو الظاهرُ.
والثاني: بطلانُ المطالبةِ به، فلا يختصُّ به من التَّرِكة، ثم يقسما (3) الباقي، فلو
__________
(1) (ق وظ): “رواية”.
(2) ليست في (ع).
(3) (ظ): “يقسم”.
(3/997)
أوصى له به من غير مطالبة، فله أخذُه يقدم به من التَّرِكة. موافقًا لنَصِّه الآخر في رواية المرُّوْذي، والله أعلم.
فإن قيل: لو اشتغلت الذِّمَّةُ به لوجبت الوصِيَّةُ به كسائر الديون.
قلت: لما كان للأب من الاختصاص في مال ولده ما ليس لغيره، فيملكُ أن يتملَّكَ عليه عَيْنَ ماله، فلذلك يملك أن يُسْقِطَهُ من ذِمَّة (1) نفسِهِ، وأن يُوَفِّيَهُ إيَّاه، (ق/ 245 أ) فتأمَّلْهُ.
* اختلفتِ الروايةُ عن أحمد فيما أخذه الأبُ من مال الولد ومات ووجده الابنُ بعيِنهِ، هل يكون له أخذُه؛ على روايتين نقلهما أبو طالب في “مسائِلِهِ” واحتجَّ بجواز الأخذ بقول عمر.
قال أبو حفص: ولأنّا قد بينَّا أن الحقَّ في ذمَّته، ولا يمتنعُ أن يسقطَ الرجوعُ إذا كان ديْنًا ويملكُ إذا كان عَيْنًا كالمفلس بثمن المبيع، ووجه الأخرى: أن الأبَ قد حازه، فسقط الرجوعُ كما لو أتلفه.
روى عنه أبو الحارث: كلما أحرزه الأبُ من مال ولده فهو له رضِيَ أو كَرِهَ، يأخذُ ما شاء من قليل وكثير، والأمُّ لا تأخذُ إنما قال: “أنْتَ ومالُكَ لأَبِيكَ” (2) ولم يقل: لأمِّك.
* وروى عنه إسحاق بن إبراهيم (3): لا يَحِلُّ لها، يعني الأم أن تَتَصَدَّق بشيء من غير: علمِهِ.
قال أحمد: أما الذي سمعنا أن المرأة تتصدَّق من بيت زوجها
__________
(1) (ق وظ): “ذمته”.
(2) تقدم 3/ 996.
(3) “المسائل”: (2/ 11).
(3/998)
ما كان من رطب والشيءَ الذي تَطْعَمُه، فأما الرجل فلا أحبُّ له أن يتصدق بشيءٍ إلا بإذنها.
* وروى عنه حنبل في الرجل يقعُ على جارية أبيه أو ابنه أو أمِّه (1): لا أراهُ يلزقُ به الولدُ؛ لأنه عاهر، إلا أن يُحِلَّها له.
قال أبو حفص: يحتملُ أن يريدُ يقوله: “يُحِلُّها له”، أي: بالهِبة، ويحتملُ أن يريدُ حِلَّ فرجِها؛ لأنه إذا أحلَّ فَرْجها فوَطِئَها لَحِقِةُ الولدُ لأجل الشُّبْهة، ألا ترى أنَّا ندرأُ عن المحصَنِ الرَّجْمَ في هذا لحديث النبي – صلى الله عليه وسلم -.
وقال في رواية بكر بن محمد في رجلٍ له جاريةٌ يطؤُها، فوثبَ عليها ابنُه فوطِئها، فحمَلَتْ منه، وولدَتْ: هي أَمَةٌ تُبَاعُ؛ لأنه بمنزلة الغريب، وهو أشدُّ عقوبةً من الغريب، لا يثبتُ له نَسَبٌ، ولكن لو أعتقه الأبُ. قولُه: “وهو أشدُّ عقوبة” لوجهين:
أحدهما: وطؤه موطوءةَ أبيه، والثاني: أنها محرَّمةٌ عليه على التأبيد، وإنما اختارَ (2) عتقَهُ؛ لأنه من ماء ولده مخلوق، ولم يوجِبْه لعدم ثبوت النَّسَبِ.
* عبد الله ابنه (3): إذا دَفَع إلى (ظ/ 175 أ) ابنه مالاً يعملُ به، فذهب الابنُ فاشترى جاريةً وأعتقها وتزوَّجِ بها: مضى عتقُها، وله أن يرجعَ على ابنه بالمُلْكِ (4)، ويلحقَ به الوَلَدَ، وليس له الرُّجوعُ في الجارية.
__________
(1) “أو ابنة” من (ع)، و”أو أمه” من (ق وظ).
(2) (ق): “أجاز”.
(3) “المسائل” رقم (1648).
(4) يعني: بالمال الذي دفعه أولاً. وهو كذلك في (ق والمسائل).
(3/999)
حنبل عنه: قال: أرى أن من تصدق على ابنه بصَدَقَةٍ، فقبضها الابن أو كان في حِجْر أبيه، فأشهد على صَدَقَتِهِ، فليس له أن ينقضَ (1) شيئًا من ذلك؛ لأنه لا يُرْجَعُ في شيءٍ من الصدقة.
وعنه المرُّوْذيُّ: إذا وهب لابنه جاريةً فأراد أن يشترِيَها، فإن كان وَهَبَها (ق/245 ب) علي جهة المنفعة فلا بأسَ أن يأخذَها بما تَقَوَّمَ، وإذا جعلَ الجاريةَ لله، أو في السَّبيل، أو أعطاها ابنه (2)، لم يعجبني أن يشترِيَها.
أبو حفص: إذا وهبها على جهة المنفعة دونَ الصَّدقة جاز أن يشترِيَها؛ لأن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – الرجوعَ في هبة الولد (3)، وإن جَعَل الجاريةَ صدقةً على ابنته وقصد الدَّارَ الآخِرَةَ، لم يَجُزْ له الرجوع لا بثمن ولا بغيره؛ لقوله – صلى الله عليه وسلم – لعمر: “لا تَعدْ في صَدَقَتِكَ” (4).
قال أبو حفص: وتحصيلُ المذهب أنه لا يجوزُ الرجوعُ فيما دفع إلى غير الولد هبةً كان أو صدقة، ويرجِعُ فيما وهبه لابنه، ولا يرجعُ فيما كان على جهة الصَّدَقة.
وروى عه مهنَّأ: إذا تصدَّقَ الرجلُ بشيءٍ من ماله على بعض ولده ويدعُ بعضًا.
__________
(1) (ع): “يقبض”.
(2) (ع) غير بينه ولعلها: “بنيه”.
(3) في حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه- أخرجه البخاري رقم (2586)، ومسلم رقم (1623).
(4) أخرجه البخاري رقم (1490)، ومسلم رقم (1621) من حديث عمر -رضي الله عنه-.
(3/1000)
قال أبو حفص: لا فرق بين العَطِيَّة للمنفعة وبين الصَّدَقة للأجْر؛ لأنَّ كلاهما عطيَّةٌ، وإنما يختلفُ حكمُهُما في رجوع الوالد.
* اختلف قولُه في قِسْمَةِ الرجلِ مالَه بين ولده في حياته؛ فروى عنه حنبلٌ: إن شاء قَسَمَ، وإن شاء لم يقسمْ، إذا لم يُفَضِّلْ.
وروى عنه محمد بن الحكم: أَحَبُّ إليَّ أن لا يقسمَ مالَه، يَدَعُهُ على فرائضِ الله لعلَّه يُولَدُ له.
علي بن سعيد عن أحمد: إذا زوَّج بعض ولده وجهَّزه، وله ولدٌ سواهم، وهم عنده، يُنْفِقُ عليهم ويَكسوهم، فإن كان نفقتُهُ عليهم مما يُجْحِفُ بماله، ينبغي له أن يُوَاسِيَهُمْ، وإن لم يجحِفْ بماله، وإنما هي نفقةٌ فلا يكونُ عليه شيء.
قال أبو حفص: قوله: “يُجحِفُ بماله”، يعني: يُنْفِقُ فوقَ الحاجةِ، ينبغي أن يُعطي الذين خرجوا من نفقتِه بإزاء ذلك؛ لأن ما زاد على النفقة يجري مجرى النَّحْل.
وروى عنه أحمد بن الحسين في امرأةٍ جعلت مالها لأحدِ بنيها إن هو حَجَّ بها دونَ إخوته: تُعْطِيه أُجْرَتَهُ، وتسوِّي بين الوَلَد.
وروى عنه إسحاق بن إبراهيم (1) في الأب يقول: وهبتُ جاريتي هذه لابنتي: إذا كان ذلك في صحَّةٍ منه، وأشهَدَ عليه، كان قبضُهُ لها قَبْضًا.
وهذه الرواية تدلُّ على أن هبةَ الأب لابِنهِ الصَّغير يجزي فيها الإيجابُ؛ لأنه اعتبر في ذلك القبضَ.
__________
(1) “المسائل”: (2/ 53).
(3/1001)
وروى عنه يوسف بن موسى (1) في الرجل يكون له الولدُ البارُّ الصالحُ، وآخرُ غيرُ بارٍّ: لا يُنِيلُ البَارَّ دون الآخر.
قال أبو حفص: لأن النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – لم يُفَرِّقْ، ولأنه كالبَارِّ الميراث.
وروى عنه حنبلٌ: للشَّاهد أن لا يشهد إذا جاء مثل هذا، وعَرَف فيه (2) الحَيْف في الوصية، وروى عنه الحكم: (ق/ 246 أ) لا يشهدُ إذا فَضَّل بين وَلَدِهِ.
وروى عنه الفضل بن زياد في رجل كانت له بنتٌ وأخٌ وله عشرة آلاف درهم: لم يُجِزْ له أن يصالِحَ الأخ منها على ألفي درهم، ليس هذا بشيء.
قال أبو حفص: لأنه هضمٌ للحقِّ فبَطَلَ، ولأنه إنما يستحقُّ بعد الموت، فهو كإجازة الشَّريك لشَرِيكه بيعَ نصيِبهِ، ثم له المطالبة بالشُّفْعة.
قلت: هذا القياسُ غيرُ صحيح؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – حرَّم على الشَّرِيك البيع قبل استئذان شريكه، فقال: “لا يَحِلُّ له أن يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَة، فإن بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ، فَهُوَ أَحَقُّ بالشُّفْعَةِ” (3)، فدلَّ على أنه إذا أذِنَ في البيع ولم يُرِدْ أخذ الشِّقْص (4) سقطت شُفْعَتُهُ، وعلى موجبِ
__________
(1) هو: يوسف بن موسى بن راشد أبو يعقوب القطان، نقل عن الإمام أشياء ت (253). “طبقات الحنابلة”: (2/ 567).
وآخر من تلاميذ الإمام يقال له: يوسف بن موسى العطار. (2/ 566).
(2) “وعَرَف فيه” ليست في (ع).
(3) أخرجه البخاري رقم (2257)، ومسلم رقم (1608) واللفظ له من حديث جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما-.
(4) أي: النصيب.
(3/1002)
النَّصِّ، فسببُ الشُّفعة إرادةُ البيع واستئذانُ الشريك، فإذا طلبه الشَّريك وجب على شريكه بيعُهُ إيَّاه، هذا مقتضى النَّصِّ خالفه من خَالَفَهُ.
وأما إسقاطُ الميراث فإسقاطُ أمر موهومٍ لا يُدْرَى أيحصلُ أم لا؟ ولعلَّه أن يموتَ هو قبلَه فهو جارٍ مجرى إسقاط حقِّه من الغنيمة (1) قبل الجهاد وتحرُّك العدوِّ ألْبَتَّةَ، وإسقاطُ حقِّهِ بما لعلَّ المُوصِي أن يوصيَ له به، وأمثالُ ذلك مما لا عبرةَ به، والله أعلم.
فصلٌ (2)
إذا مات ولم يُسَوِّ، فهل يُرَدُّ؟
فيه روايتانِ منصوصتانِ؛ رواية ابنه عبد الله و [ابن] عمه حنبل وأبي طالبْ أنه يُرَدُّ، وأصحابُنا إنما نسبوا ذلك إلى أنه قول أبي حفص، ولا ريبَ أنه اختيارُه في هذا الكتاب، ونقله نصًّا عن أحمد مِن رواية من سمَّينا، وهو الأقيسُ.
(ظ/ 175 ب) نقل عنه حَرْبٌ في مجوسيٍّ كان له ولدٌ فنَحَل بعضَ ولده مالاً دونَ بعض (3)، وكان للمنحولِ ابنٌ فماتَ، وترك ابنَهُ، كيف حالُهُ في هذا المال الذي ورِثَ عن أبيه، وكان الجدُّ نَحَلَهُ؟ قال: لا بأس يأكلُهُ؛ لأنَّ هذا كله في الشِّرك.
قال أبو حفص: هذا يجِيءُ على القولينِ جميعًا، أما على القول الذي يمضيه بالموت فهو مثله، وأما على القول بالرَّدِّ بعد الموت فَلأَنَّهُ نَحَلَهُ في حال الشِّرْك وهو مقبوضٌ فيه، فهو كما يثبت قبضَ
__________
(1) كذا في (ق وظ)، و (ع): “القسمة”.
(2) (ق): “فائدة”.
(3) “دون بعض” ليست في (ع).
(3/1003)
المهر إذا كان خمرًا أو خِريرًا وإن كان مردودًا في الإسلام.
آخرُ ما انتقاه القاضي من الكتاب المذكور.
* * *
ومما انتقاه من كتاب “أحكام أهل الملل” لأبى حفص أيضًا (1):
* أبو طالب عنه وسأله: أَيُستعمل (2) اليهوديُّ والنَّصرانيُّ في أعمال المسلمين مثل الخَرَاج؟ قال: لا يُستعانُ بهم في شيءٍ. وذكَرَ أبو حفص الحديث إلى قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “ارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِيْنَ بِمُشْرِكٍ” (3).
قال: (ق/246 ب) وروى أبو معاوية: حدثنا أبو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ، عن الزِّنْباع، عن أبي الدِّهقانة قال: قيل لعُمَرَ إن هاهنا رجلاً من أهل الحِيرةِ له علمٌ بالدِّيوانِ، أفتتخِذَه كاتبًا؟ فقال عمرُ: لقد اتَّخَذْتُ إذًا بطانةً مِنْ دونِ المؤمنينَ (4).
وكيع: حدثنا إسرائيل، عن سِمَاك بن حرب، عن عِيَاض الأشعري، عن أبي موسى، قال: قلت لعُمَرَ: إن لي كاتبًا نصرانيًا، فقال: ما لَكَ قاتلَكَ اللهُ أما سمعتَ اللهَ يقولُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51] وذكر الحديث (5).
__________
(1) هذا العنوان بياض في (ق).
(2) (ظ والمطبوعات): “إسماعيل”!.
(3) أخرجه مسلم رقم (1817) من حديث عائشة – رضي الله عنها-.
(4) أخرجه ابن أبي شيبة: (5/ 259)، والطبري في “التاريخ”: (2/ 566)، وابن أبي حاتم: (3/ 743)، من طرقٍ عن أبي حيان به، رواية وكيع عند الطبري.
(5) أخرجه البيهقي في “الكبرى”: (9/ 204)، وفي “الشعب”: (7/ 43)، وغيره من طرقٍ عن سِماكٍ به.
(3/1004)
* قال أبو حفص: احتجَّ أبو عبد الله في جَبْر الكافر على الإسلام بذكر الشهادتين، وإن لم يقلْ: أنا بريءٌ من الكفر الذي كنتُ فيه = بقوله لعمه: “أدْعُوكَ إِلَى كَلِمَةٍ أَشْهدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ، لا إِلهَ إلاَّ اللهُ، وأَنِّي رَسُولُ اللهِ” (1).
وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – للغلام اليهودي: “يَا غُلامُ قُلْ: لا إلهَ إلاّ اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ” (2).
وقال: “أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُو لا إلهَ إِلاَّ اللهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصِمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ” (3).
فإن قال: لم أُرِدِ الإسلام، فهل تُضْرَبُ عنقُهُ أم لا؟
اختلفَ قولُه في ذلك، فروى عنه حرب: تُضْرَبُ عنقُه. وروى عنه مهنَّأ في يهوديٍ أو نصرانيٍّ أو مجوسيٍّ قال: أشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وأن محمدًا رسول الله، وقال: لم أنوِ الإسلامَ = يُجْبَرُ على الإسلام، فإن أبى يُحْبَسُ، فقلت: يقتلُ؟ قال: لا، ولكن يُحْبَسُ.
وجه الأولى (4): أنه قد أتى بصريح الإسلام، والاعتبار في الإسلام بالظَّاهر. ووجه الثانية: أنه يحتملُ ما قاله وإن لم يقصدِ الإيمانَ،
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (1360)، ومسلم رقم (24) من حديث المسيب بن حزن -رضي الله عنهما-.
(2) أخرجه البخاري رقم (1356) بلفظ: “يا غلام أسلم … “، وبذكر الشهادة أخرجه أحمد: (20/ 187 رقم 12792 وغيره) وابن حبان “الإحسان”: (7/ 227)، والبيهقي: (3/ 383) وغيرهم من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-.
(3) أخرجه البخاري رقم (25) ومسلم رقم (22) من حديث ابن عمر- رضي الله عنهما-.
(4) (ظ): “الأوَّلة”.
(3/1005)
فجاز أن يُجعلَ ذلك شبهةً في سقوط القتلِ، والقتلُ يسقطَ بالشبهة، بدليل ما لو أُعطِيَ الأمانُ لواحد من أهلِ الحِصْنِ واشتَبَهَ علينا.
* * *
ومما انتقاه من خط أبي حفص البرمكي
بإسناده إلى أنس ابن مالك: رأيتُ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – يسجد على كُوْر العِمَامَة (1).
وبإسناده إليه يرفَعُه: “إذا سَمِعْتَ النِّدَاءَ، فَأجِبْ وعَلَيْكَ السَّكِينَةَ، فإنْ أَصَبْتَ فُرْجةً، وإلاّ فَلا تُضَيِّقْ على أخِيكَ، واقْرَأْ ما تُسْمعُ أُذُنَيْكَ، ولا تُؤْذِ جَارَكَ، وصَلِّ صَلاةَ مُوَدِّعٍ” (2).
وبإسناده إلى ابن عمر يرفعه: “لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ في المَسْجِدِ الَّذي يَلِيهِ ولا يَتَّبَعِ المَسَاجِدَ” (3).
وبإسناده عن أبي هريرة يرفعه: “إذا دَخَلَ أحدُكُمُ المَسْجِدَ فَوَجَدَ
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في “العلل” (1/ 187)، ونقل عن أبيه أنه منكر، وانظر “الدراية”: (ص/ 145) للحافظ، وقال ابن القيم في “الزاد”: (1/ 231): “ولم يثبت عنه السجود على كور العمامة من حديث صحيح ولا حسن” اهـ.
(2) أخرجه ابن عساكر في “التاريخ”: (21/ 171)، وابن الأعرابي في “المعجم”: (3/ 893)، وغيرهم، وهو حديث ضعيف، انظر “السلسلة الضعيفة” رقم (2569)، و”فيض القدير”: (1/ 379).
(3) أخرجه الطبراني في “الكبير”: (12/ 379)، والعقيلي في “الضعفاء”: (3/ 432)، وابن عدي في “الكامل”: (6/ 458).
قال الهيثمي في “المجمع”: (2/ 24) عن إسناد الطبراني: “رجاله موثقون إلا شيخ الطبراني … ولم أجد من ترجمه. وقواه الألباني في “السلسلة” رقم (2200).
(3/1006)
النَّاسَ سُجُودًا فَلْيَسْجُدْ، ولا يَقِفْ كما يَقِفُ اليَهُودُ” (1).
وروى ابن بطَّة بإسناده إلى أبي أُمامَةَ: أن رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – شهد جنازةً وهو سابع سبعة، فأمرهم رسول الله (ق/247 أ) – صلى الله عليه وسلم – أن يصفُّوا ثلاثة صفوفٍ خلْفَه، فصف ثلاثة واثنين وواحدًا صفًّا خلفَ صفٍّ، فصلى على الميت ثم انصرف (2).
وبإسناده عن سَمُرَةَ بن جُنْدُب يرفعه: “مَنْ كَتَمَ على غَالٍّ فَهُو غَالٌّ مِثْلُهُ” (3).
وبإسناده عن عائشة: سئل النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الشعر فقال: “هو كَلامٌ حَسَنُهُ حَسَنٌ وقَبِيحُهُ قَبِيحٌ” (4).
وبإسناده عن جابر بن سَمُرَةَ يرفعه: “لأَن يُؤَدِّبَ أَحَدُكُمْ وَلَدَهُ خَيْرٌ له مِنْ أنْ يَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ كُلِّ يَوْمٍ على مِسْكِينٍ” (5).
__________
(1) لم أجده.
(2) أخرجه الطبراني في “الكبير”: (8/ 224) بنحوه، قال الهيثمي (3/ 32): “فيه ابن لهيعة، وفيه كلام”.
(3) أخرجه أبو داود رقم (2716)، والطبراني في “الكبير”: (7/ 302)، وفي سنده مقال، وانظر: “نصب الراية”: (2/ 375).
(4) أخرجه ابن عدي في “الكامل”: (4/ 278)، وابن الجوزي في “العلل المتناهية”: (1/ 137) من حديثها، وأخرجه ابن الجوزي في “العلل”: (1/ 138)، والمزي في “تهذيب الكمال”: (17/ 85) من حديث ابن عَمْرو -رضي الله عنهما- ولا يصح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – بهذا اللفظ.
(5) أخرجه أحمد: (34/ 459 رقم 20900)، والترمذي رقم (1951) والحاكم: (4/ 263) وغيرهم من طرق عن ناصح عن سِماك به.
قال الترمذي: “غريب”، وقال الذهبي في “تلخيص المستدرك”: “ناصح هالك”. ولفظ أحمد والحاكم: “بنصف صاع”.
(3/1007)
وبإسناده عن عائشة ترفعه: “أَعْلِنوا النِّكَاحَ واجْعَلُوه في المَسَاجِدِ، ولْيُولِمْ أَحَدُكُمْ ولَوْ بِشَاةٍ” (1).
وبإسناده عن (2) إبراهيم الحربي قال: الناسُ كلهم عندي عدولٌ إلا منْ عَدَّلَه القاضي.
قلت: ويروى عن ابن المبارك أنه قال: النَّاسُ كلُّهم عدولٌ إلا العدولَ، سمعته من شيخنا (3).
وبإسناده عن يحيى القطان: لم يكن يشهدُ عند الحكَّام إلا القَسَّامُ والذَّرَّاعُ، (ظ/ 176 أ) فأما المستورونُ وأهل العِلم فلم يكونوا يشهدون.
وبإسناده: قال رجلٌ لابن المبارك: يا أبا عبدَ الرحمن، مَن السَّفَلُ؟ قال: الذين يَلْبَسُون القَلَانِسَ ويأتونَ مجالسَ الحُكَّامِ.
وبإسناده عن أنس بن مالك، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “يأتِي على النَّاسِ زَمَانٌ يَدْعو فيه المُؤمنُ للعَامَّةِ فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وجلَّ: ادْعُ لِخاصَّةِ نَفْسِكَ أسْتَجِبْ لَكَ، فأمَّا العَامَّةُ فإنِّي عَلَيْهِمْ سَاخِطٌ” (4).
__________
(1) أخرجه الترمذي رقم (1089) والبيهقي: (7/ 290)، وابن عدي في “الكامل”: (5/ 240) وغيرهم، وفيه عيسى بن ميمون ضعيف جدًّا، والحديث من مناكيره. انظر: “العلل المتناهية”: (2/ 627)، ولقوله: “أعلنوا النكاح” شواهد يتقوَّى بها، أخرج ابن حبان “الإحسان”: (9/ 374)، والحاكم (2/ 183) من حديث ابن الزبير ما يشهد له.
(2) من قوله: “عائشة ترفعه … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(3) يعني: ابن تيمية.
(4) أخرجه أبو نعيم في “الحلية”: (6/ 175)، وقال أبو نعيم: “غريب من حديث صالح -المري- تفرَّد به داود -ابن المخبّر” اهـ.
وداود متروك وصالح ضعيف.
(3/1008)
وبإسناده عن عبد الله بن محمد بن الفضل الصَّيْداوي قال: قال أحمد بن حنبل: إذا سلم الرجل على المبتدع فهو يحبه، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “ألا أدُلُّكُمْ على ما إذا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ” (1).
وبإسناده عن همَّام أنَّ ابن مسعود كان يقول: لأَنْ أَحْلِفَ باللهِ كَاذِبًا، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بغيرِهِ صادِقًا (2).
وليتَ القاضيَ ذكَرَ (3) أسانيدَ هذه الأحاديثِ، وكتبْتُها لأكشِفَ حالَها (4).
* * *
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (54)، وأحمد: (16/ 381 رقم 10650) واللفظ له من حديث أبى هريرة -رضي الله عنه-.
(2) أخرجه ابن أبى شيبة: (3/ 79)، وعبد الرزاق: (8/ 469)، والطبراني في “الكبير”: (9/ 183)، قال الهيثمي في “المجمع”: (4/ 177) عن سند الطبراني: “رجاله رجال الصحيح”.
(3) (ق): “كتب”.
(4) وقد كتبنا في هذا التعليق شيئًا من أسانيدها، وكشفنا عن حالها. والحمد لله.
(3/1009)
ومن خط القاضي أيضًا
حكى على قدامة بن مظعون (1) وعَمْرو بن مَعْدي كَرِبَ (2) أنهما كانا يقولان: الخمرُ مُبَاحَةٌ (3)، ويحتجَّان بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قالا: قد آمنَّا وعملنا الصالحات فلا جناح علينا فيما طَعِمنا (4).
فلم تكفِّرْهما الصحابة بهذا القول، وبَيَّنوا لهما الحكمَ في ذلك؛ لأنه لم يكنْ قد ظهرتْ أحكامُ الشريعة في ذلك الوقت ظهورًا عامًّا، ولو قال بعض المسلمين في وقتنا هذا لكفَّرناه؛ لأنه قد ظهر تحريمُ ذلك (5).
(ق/ 247 ب) وسببُ نزول هذه الآية ما قاله الحسنُ: لما: نَزَلَ تحريمُ الخمرِ، قالوا: كيف بإخوانِنا الذين ماتوا وهي في بطونِهم وقد
__________
(1) (ع وق): “عثمان بن مظعون”، ثم عُدِّلت في (ق) من بعض المطالعين علي ما يظهر، والمثبت من (ظ) وهو الصحيح، وفي هامش (ق) ما نصه تعليقًا “المحكيّ عنه هذا القول قدامة بن مظعون لا عثمان كما هو مشهور، فإن عثمان توفي قبل تحريم الخمر، فلعلّه خطأ من الكاتب، على أن قدامة رجع عن هذا القول كما هو مشهور عند جميع الأمة، والله سبحانه وتعالى أعلم” اهـ كاتبه الفقير محمد بن عبد الله بن حميد.
(2) لم أر تسميته فيمن: تأوّل هذه الآية إلا في “المغني” لابن قدامة: (12/ 493)، فلعله ممن تأول ذلك في جماعة من أهل الشام في إمرة يزيد بن أبي سفيان، انظر “مصنف عبد الرزاق”: (9/ 244).
(3) تكررت في (ظ) وتحتمل قراءتها: “متاحة مباحة”.
(4) أخرجه الحاكم: (4/ 141)، والبيهقي: (8/ 320)، والطحاوي في “شرح المعاني”: (3/ 154) وغيرهم من رواية عكرمة عن ابن عباس.
(5) وانظر “مجموع الفتاوى”: (7/ 610).
(3/1010)
أخبر اللهُ أنها رجسٌ، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} (1) [المائدة: 93].
وكذلك قد قيل في مانعي الزكاة: إنهم على ضَرْبين؛ منهم من حُكِم بكفره، وهم من آمن بِمُسَيْلَمَةَ وطُلَيْحة والعَنْسي. ومنهم من لم يُحْكمْ بكفره وهم من لم يؤمنوا بهم لكن منعوا الزكاة، وتأوَّلوا أنها كانت واجبةً عليهم؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يُصلَّي عليهم، وكانت صلاتُه سكنًا لهم، قالوا: وليست صلاةُ ابنِ أبي قحافة سَكَنًا لنا، فلم يُحْكَمْ بكفرهم؛ لأنه لم يكنْ قد انتشرتْ أحكامُ الإسلام، ولو منعها مانعٌ في وقتنا حُكِم بكفره.
* * *
ومن خطه أيضًا من تعاليقه
* عذاب القبر حق، وقد قيل: لابدَّ من انقطاعه لأنه من عذاب الدنيا، والدنيا وما فيها فانٍ (2) منقطع، فلابُدَّ أن يلحقَهم الفناءُ والبلاءُ، ولا يُعْرَف مقدار مدَّة ذلك.
* يجوز أن يحشُرَ اللهُ العبادَ يوم القيامة عُرَاة (3) في وقت خروجهم من قبورهم يومَ البعثِ، ثم يكسو اللهُ المؤمنَ حُلَلَ الجنَانِ، ويجعل على الكافر والعصاةِ سرابيلَ القَطِران، والتَّعَبُّدُ فيَ الآخرة بترك التَّكَشُّفِ زائلٌ.
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (5582)، ومسلم رقم (1980) من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-.
(2) (ق): “فإنه”.
(3) من قوله: “الفاء والبلاء … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(3/1011)
* المحشر : هل هو في أرض من أراضي الجنة؟ أو في أرض من أراضي الدُّنيا؛ أوفي موضع لا من الجنَّة ولا من النَّار؟ فقد قيل: أوَّلُ حشر النَّاس عند قيامهم من قبورهم في هذه الأرض التي ماتوا ودفنوا فيها، ثم يُحَوَّلون إلى الأرض التي تسمى: السَّاهرة، فهذا معنى قوله: {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)} [النازعات: 14]، والسَّاهرة: هي التي يحاسَبُون عليها (1)، فإذا فَرَغوا من الحساب، جازوا (2) على الصراط، وتميز بين المُجرمينَ والمؤمنينَ، ضُرِبَ بينهم بسُور، فكان ما وراءَ السُّور مما يلي الجنة: من أرض الجنة، وصار ما دونَ السُّور مما يلي النَّار من أرض جهنم، وموضع الحساب يصير من جهنم.
* قوله تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} [التحريم: 6] المراد الأمر في الدنيا؛ لأن الآخرة ليس فيها أمرٌ ولا نهيٌ على: الملائكة ولا غيرهم؛ لأن التَّعَبُّدَ زائلٌ، وفي البخاري (3) عن علي: “اليومَ عَمَلٌ ولا حِسَابٌ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلا عَمَلٌ”.
قلت: هذا وهمٌ منه رحمه الله تعالى، فإنَّ الله تعالى يأمُر الملائكة يومَ القيامة بأخذ الكفار والمجرمينَ إلى النَّار وسَوْقهم إليها وتعذيبهم فيها، ويأمر عبادَهُ بالسُّجود له، فيَخرُّون (ق/248 أ) سُجَّدًا، إلا من منعه الله من السُّجود، ويأمر المؤمنينَ فيعبرونَ الصَّراطَ، ويأمر خَزَنَةَ الجنَّة بفتحها لهم، ويأمر خَزَنَةَ النار بفتحها لأهلها، ويأمرُ ملائكةَ السموات بالنزول إلى الأرض، ويأمر بشأن البعث كلِّه وما بعده، فالأمر يومئذ لله ولا يُعصى الله في ذلك اليوم طَرْفَةَ عينٍ، وأوامرُه
__________
(1) انظر الأقوال فيها في “زاد المسير”: (4/ 395).
(2) (ق وظ): “وجازوا”.
(3) “الفتح”: (11/ 239) معلقًا، ووصله ابن أبي شيبة: (7/ 100) وغيره.
(3/1012)
ذلك اليومِ للثَّوابِ والعقاب، والشفاعةُ للملائكة والأنبياء وغيرهم، لا تضبطُها قدرةُ الخَلْق، فكيف يُقالُ: ليس في الآخرة أمرٌ ولا نهيٌ حتى يقالَ: (لا يعصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهم) في الدنيا؟! أَفترى اللهَ عزَّ وجلَّ لا يأمرُهم يوم القيامةِ في أهل النَّار بشيءٍ فلا يَعْصُونه فيه، نعم ليست الآخرةُ فى دارَ حَرْثٍ وإنما هي دارُ حَصَادٍ، وأوامرُ الربِّ ونواهيه ثابتةٌ في الدَّارين، وكذلك أوامر التَّكليف ثابتةٌ في البرزخ ويوم القيامة، وحكاه أبو الحسن الأشعري في “مقالاته” (1) عن أهل السنّة في تكليف من لم تبلغْه الدعوةُ في الدنيا أنه يُكَلَّف يومَ القيامة. فقولُ القائل: الآخرةُ (ظ/176 ب) ليست دارَ تكليفٍ ولا دار أمرٍ ونهي قولٌ باطل، ودعوى فاسدة، والله الموفق.
* قال: ذكر بعضهم أنه يجور أن يقول: أنا مؤمن، ولا يقول: أنا وَلِيٌّ. وفَرَّق بينهما، فإن الله تعالى أمرَ من ظهر منه الإيمان أن يسمَّى مؤمنًا، قال تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] الآية، ولم يأمُرْ من ظهر منه ذلك أن يسمَّى وَلِيًّا. ولا فَرْقَ بينهما فإن الله قد وصف الوَليَّ بصفة المؤمن، فقال: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34] وهذه صفة المؤمن؛ ثم لا يجوزُ أن يصفَ نقسَه بأنه وَلِيٌّ، كذلك (2) المؤمن؛ ولأنه إنما يكونُ وليًّا بتولِّيه لطاعات الله وقيامه بها كالمؤمن.
قلت: هذا حجَّةُ من منع قول القائل: “أنا مؤمنٌ” بدون الاستثناء، كما لا يقولُ: “أنا وَلِيٌّ”، ومن فرَّق بينهما أجاب: بأنه لا يمكنُه العلمُ
__________
(1) لم أجده في المطبوع.
(2) (ظ): “وكذلك”.
(3/1013)
بأنه وليٌّ؛ لأن الولاية هي القربُ من الله عز وجل، فوليُّ الله هو القريبُ منه المختصُّ به، والولاءُ هو في اللغة القربُ، ولهذا القُرْب علاماتٌ وأدِلَّةٌ، وله أسبابٌ وشروط وموجبات، وله موانعُ وآفاتٌ وقواطعُ، فلا يعلمُ العبدُ هل هو وليٌّ لله أم لا.
وأما الإيمانُ؛ فهو أن يؤمنَ بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله ولقائه، ويلتزمُ أداء فرائضه، وترك محارمه، وهذا يمكنُ أن يعلمَه من نفسه، بل ويعلمُهُ غيرُه منه.
والذي يظهرُ لي من ذلك أن ولايةَ الله تعالى نوعان: عامَّة وخاصَّة، فالعامَّة: ولايةُ كلِّ مؤمن، فمن كان مؤمنًا لله (1) تقيًّا (ق/ 248 ب) كان وليًّا له، وفيه من الولاية بقدْر إيمانه وتقواه، ولا يمتنعُ في هذه الولاية أن يقول: “أنا وليٌّ لله إنْ شَاءَ اللهُ”، كما يقول: “أنا مؤمنٌ إنْ شاءَ اللهُ”.
والولايةُ الخاصَّةُ: إن علم من نفسِه أنه قائمٌ لله بجميع حقوقه، مؤْثِرٌ له على كلِّ ما سواه في جميع حالاته، قد صارت مراضي الله ومحابُّهُ هي همَّهُ ومتعلقَ خواطِرِهِ، يصبحُ ويمسي وهمُّه مرضاة ربِّه، وإن سخِطَ الخلقُ، فهذا إذا قال: “أنا وليُّ لله” كانَ صادِقًا.
وقد ذهب المحققونَ في مسألة: “أنا مُؤْمِنٌ” إلى هذا التَّفصيل بعينه، فقالوا: له أن يقولَ: “آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه”، ولا يقولُ: “أنا مؤمنٌ”؛ لأن قوله: “أنا مؤمنٌ”، يُفيدُ الإيمانَ المطلَقَ الكاملَ الآتي صاحبُه: بالواجباتِ، التاركُ للمحرَّماتِ، بخلاف قوله: “آمنت باللهِ”. فتأمَّلْه.
* إذا دخل خارجيٌّ أو قاطعُ طريقٍ إلى بَلَد، وقد غصَبَ الأموالَ
__________
(1) (ق): “بالله”.
(3/1014)
وسبى الذَّراريَ هل يجوز معاملتُه؟.
نظرتَ فإن لم يكنْ معهم إلا ما أخذوه من النَّاس، لم يَجُزْ معامَلَتُهُم، وإن كان معهم حلالٌ وحرامٌ لم يَجُزْ أيضًا، إلا أن يُبَيِّنوه، كرجلٍ كان عنده أربعُ إماءٍ فأعتقَ واحدةً منهنَّ بعينها، وعرض واحدةً منهنَّ، وهو مدَّعٍ لرِقِّهِنَّ، لم يَجُزِ الشِّراءُ منه حتى يُبَيِّنَ التي أعتقَها، وكذلك إذا كاد عنده مَيْتةٌ ومذكَّاةٌ، لم يَجُزِ الشراءُ منه حتى يُبَيِّنَ، فأما الأموالُ التي في أيدي هؤلاء الغَصَبَةِ من الخوارج واللُّصوص الدين لا يُعرفُ لهم صناعةٌ غير هذه الأموال المحرَّمة عليهم، فالعلمُ قد أحاط بأن جميعَ ما معهم حرامٌ، فلا يجوزُ البيعُ والشِّراء منهم.
ولكن يجوزُ للفقير أن يأخذَ منهم ما يُعطونه من جهة الفقر؛ لأن إمام المسلمين لو ظفر بهذا الفاسقِ وبما معه من الأموال المغصوبة لوجبَ أن يصرفَ هذه الأموالَ في الفقراء، وأما المستورُ فإنه يُحْكَمُ له بما في يده؛ لأنا لا نعلمُ أنه في دعواه مُبْطِلٌ.
وكذلك لو أن رجلاً من فُسَّاق المُسلمينَ لا ينزِعُ عن الزِّنا والقذف ونحوه، وكان في يده مال حُكِم له به، ويفارقُ هذا من يُعْرف بالغَصْبِ والظلم؛ لأن الظاهرَ أن تلك الأموال حرامٌ غُصُوبٌ.
* * *
ومن خط القاضي من جزء فيه تفسير آيات من القرآن عن الإمام أحمد
رواية المرُّوْذي عنه، رواية أبي بكر أحمد بن عبد الخالق عنه (1)،
__________
(1) من أول العنوان إلى هنا ساقط من (ق).
(3/1015)
رواية أبي بكر أحمد بن جعفر بن سَلْم الخُتَّلي (1)، رواية أبي الحسين أحمد بن عبد الّه السُّوْسنْجَرْدي (2).
قال المرُّوْذي: سمعت أبا عبد الله يقول لرجل: اقعدْ اقرأ، فجئتُه أنا بالمصحف فقعدَ،: فقرأ عليه، فكان يمُرُّ بالآية فيقفُ أبو عبد الله، فيقول (ق/ 249 أ) له: ما تفسيرُها؟ فيقول: لا أدري، فَيُفَسِّرُها لنا، فربما خنقته العَبْرَةُ فيردُّها، وكان إذا مرَّ بالسَّجدِة سجدَ الذي يقرأُ وسجدنا معه، فقرأ مرّةً فلم يسجدْ، فقلت لأبي عبد الله: لأيِّ شيءٍ لم تسجد؛ قال: لو سجد سَجَدْنا معه، قد قال ابن مسعود -رضي الله عنه- للذي قرأ: “أنت إمامُنا إن سجدْتَ سَجَدْنا” (3)، وكان يعجبه أن يُسَلِّمَ فيها.
وقال: ذهبت إلى ابنِ سَواء (4) فكان يقرأ بنسخة لعبد الوهاب، فكان يقرأُ ويفسِّرُ، قال ابن سواء: كان سعيد (5) يقرأ ويفسِّر، قال: وكان قَتَادَةُ يقرأُ ويفسِّرُ.
وقال لرجل: لو قرأتَ فسَمِعْنا (ظ/177 أ) ونحن نسير من العسكر، فكان الرجلُ يقرأُ وأبو عبد الله يسمع، وربما زاد أبو عبد الله الحرفَ
__________
(1) تحرّفت في (ظ) إلى “الحنبلي” و (ق): “الخبرا”! وانظر ترجمته في “السير”: (16/ 82).
(2) ترجمته في “طبقات الحنابلة”: (3/ 303).
والسُّوسَنجَرْدي: نسبة إلى سُوْسَنجَرْد قرية بنواحي بغداد، انظر “معجم البلدان”: (3/ 320).
(3) أخرجه عبد الرزاق: (3/ 344).
(4) هو: محمد بن سواء أبو الخطاب السدوسى، روى عن سعيد بن أبي عَروبة ت (187). “الجرح والتعديل”: (7/ 282).
(5) يعني: ابن أبي عَروبة شيخه.
(3/1016)
والآيةَ فتفيضُ عيناه، وسمعتُه يفسِّرُ القرآنَ، وقال: قال مجاهد: عرضتُ القرآنَ على ابن عباس ثلاثَ مرات، وقال: أَعْيَتْنِي الفرائضُ فما أُحْسِنُها.
وقُرِئ عليه: {لَا شِيَةَ فِيهَا} قال: لا سوَادَ فيها.
{عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68] قال: لا كبيرة ولا صغيرة.
{غَيْرَ مَدِينِينَ (86)} [الواقعة: 86] قال: مُحَاسَبِين.
وكان (1) يقرأ: (السِّجْنُ): “السَّجْنُ أَحَبُّ إليَّ” (2) [يوسف: 33].
{أَيَّتُهَا الْعِيرُ} [يوسف: 70] قال: حُمُرٌ تحملُ الطعام.
{فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ} [النحل: 112] قال: مكة (3).
{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] قال: هذه نَسَخَتْها التي في البقرة: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] قال: يفرِض لكل حاملٍ مطلقةً كانت أو متوفى عنها زوجُها لها النَّفَقَةُ حتى تَضَعَ. هكذا رأيت هذا التفسير، ولا يخلو من وهم، إما من المرُّوْذي أو من الناقل!.
{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} [المدثر: 4] قال: عملك فأصلِحْه، {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} [المدثر: 5]، قال: الرجز عيادة الأوثان، {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)} [المدثر: 6] قال: تمنّ بما أعطيتَ لتأخذَ أكثرَ (4).
__________
(1) (ع وظ): “وقال”.
(2) يعني بفتح السين “السَّجن” وهي قراءة يعقوب، انظر “المبسوط”: (ص/ 209).
(3) من قوله: “أيتها العير … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(4) انظر “طبقات الحنابلة”: (1/ 143).
(3/1017)
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} [الفلق: 1] قال: وادٍ في جهنم، الـ {غَاسِقٍ}: القمر، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم – لعائشة: “هذا الغَاسِقُ قَدْ طَلَع” (1) يعني: القَمَر، {النَّفَّاثَاتِ}: السحر، و {الْعُقَدِ (4)}: الذين يعقدون السِّحْرَ، {حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} قال: هو الحسدُ الذي يتحاسدُ الناسُ، قلت: أيْشٍ تفسير “إذا وقب”؟ قال: لا أدري.
وقرئ عليه: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)} [الفجر: 7] قال: لم تزل، {جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9)} (2) [الفجر: 9] قال: نقبوا الصخر (3) وجاءوا عليهم جلود النِّمار، قد جابوها: قد نقبوها.
{عَسْعَسَ (17)}: أظلم.
{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم: 17] قال: هذه مدينة ضَرَوان (4) قد مررتُ بها (5)، وهي قريبة من عبد الرزاق (6)، رأيتها سوِداءَ حمراءَ، أثرُ النار يتبيّن فيها، ليس فيها أثرُ زرع ولا خضرة، إنما غَدَوا على أن يَصرِموها أو يجِذُّوها وفيها حَرْثٌ، وكانوا قد أقسَموا أن لا يَدْخلَها
__________
(1) تقدم 2/ 729.
(2) (ع): “جابوا الصخرة”.
(3) من قوله: “والعقد الذين … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(4) ضرَوان: بالضاد المعجمة، بفَتَحَات، قرية قريبة من صنعاء. “معجم البلدان”: (3/ 456).
(5) “قد مررت بها” سقطت من (ق).
(6) يعني: شيخه عبد الرزاق بن همام الصنعاني ت (211)، لكن في هامش (ق) تعليق -وأظنه بخط ابن حميد- نصّه: “سقط هنا شيءٌ، وهو المجرور بمن، ولعله “صنعاء”، كما في القسطلانى، فأما قوله: “عبد الرزاق” فهو فاعل لفعل محذوف تقديره قال”: اهـ. وما قاله بعيد، والعبارة واضحة المعنى، وأحمد له رحلة إلى اليمن، فهو الذي رآها.
(3/1018)
مسكين {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)} [القلم: 20]، قد أكلتها النارُ حتى تركَتْها سوداءَ.
{قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28]: أعدَلُهم.
{لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ} [الحجرات: 14]: لا يظلِمْكم.
{يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8)} [المعارج: 8]: قال: مثل دُرْدِي الزيت (1).
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11)} [الطارق: 11] قال: المطر، والصدع: النبات.
{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25)} [المرسلات: 25]: يكفتون فيها. الأحياء: الشَّعَر والدَّم، (ق/ 249 ب) وتدفنون (2) فيها موتاكم. قال المرُّوْذي: وسمعته يقول: يُدْفَن فيها ثلاثة أشياء: الأظافر والشعر والدم. قال: {وَأَمْوَاتًا (26)}: تُدْفن فيها الأموات، {مَاءً فُرَاتًا (27)} [المرسلات: 27]: عذبًا.
{كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)} [القارعة: 4] قال: مثل الشَّرار (3) الذي يطيرُ عند السِّراج فيحترقُ.
{وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} [التحريم: 11] قال: مضاجعته (4).
{بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2] قال: كان ابن عباس يقول: تَرَوْنَ السّمواتِ ولا ترونَ العَمَدَ.
{وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)} [الرحمن: 6] قال: الشجر: ما كان إلى الطول قائم، والنجم: النبات الذي على وجه الأرض.
__________
(1) ما يبقى في أسفله.
(2) (ق): “تكفتون”.
(3) في المطبوعة: “الفراش”.
(4) وقيل: دينه.
(3/1019)
وقرئ عليه: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] قال: مشددة مخالفة على الجهمية.
{إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46)} [ص: 46] قال: أخلصوا بذكر الآخرة.
{فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)} [ص: 33] قال: ضَرَبَ أعناقها.
{وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} [العنكبوت: 27] قال: الثناء، قال: يتولى إبراهيم المللَ كلها يتولَّونه.
{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ} [الأحزاب: 25] قال: جاءت ريحٌ فقطعت أطناب الفساطيط فرجعوا.
{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} [آل عمران: 92] قال: الجنة.
{اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} [البقرة: 68] قال: باعوها.
قلت: يريد أبو عبد الله باعوا: الآخرة، لا أنه فسَّر الاشتراءَ بالبيع، فإنهم لم يبيعوا الحياةَ الدنيا وإنما باعوا الآخرةَ واشتروا الدنيا.
{فِيهَا صِرٌّ} [آل عمران: 117]: برد.
{فَضَحِكَتْ} [هود: 71]: حاضت.
{بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] قال: بعشرين درهمًا.
{قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} [الصافات: 48] قال (1): قَصَرْن طرفهنَّ على أزواجهن فلا يُرِدْنَ (2) غيرَهم.
__________
(1) من (ظ).
(2) (ظ): “يرين”.
(3/1020)
{وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] قال: كثيرٌ بياضُ أعينِهن، شديدٌ سواد الحَدَق.
{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] قال: العجم.
{يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46)} [الواقعة: 46] قال: الكفر. {شُرْبَ الْهِيمِ (55)} [الواقعة: 55]: الإبل.
{الأحقاف}: الرمل.
{سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ: 16] قال: السَّيْل هو السيل، والعرم: هو مُسَنَّاةُ البحر.
قال المرُّوْذي [عن أحمد] (1) حدثنا محمد بن جعفر، حدثَنا شَرِيك، عن أبي إسحاقَ، عن أبي مَيْسرة في قوله: {سَيْلَ الْعَرِمِ} قال: المُسَنَّاة بلَحْن اليمن (2).
وقال: أيُّ شيء تفسيرُ: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)} [العاديات: 6] قلت: لَكَفُورٌ، قال: نعم.
{بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} [الكهف: 96] قال: الجَبَلين.
{عَيْنَ الْقِطْرِ} [سبأ: 12]: النحاس المذاب.
{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} [البقرة: 255]: لا تأخذه نعسة.
{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} [سبأ: 14] قال: مكث على عصاه سَنَةً فلما نُخِرَتِ العَصَا وقع، {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} [سبأ: 16] قال: الأراك.
__________
(1) زيادة متعينة.
(2) أخرجه ابن جرير: (10/ 362) عن شريك به.
(3/1021)
{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39]: ما لم يكن فيه سَرَف أو تقتير، {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} [سبأ: 52] قال: التناول بالأيدي.
{وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86] قال: القرآن.
{ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} [الذاريات: 59] قال: سَجْلٌ من العذاب.
{ذَاتُ الْأَكْمَامِ} [الرحمن: 11] قال: الطَّلْع.
قُرئ عليه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] قال: الذي قال سفيانُ: إذا اختلفتم في شيءٍ فانظروا ما عليه أهل الثَّغْر، يتأوَّل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (1).
{سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف: 98]: أخَّر دعاءَهُ إلى السَّحَر.
{الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4)} [التكوير: 4]: لم تُحْلَبْ ولم تُصَرَّ.
{مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)} [المسد: 2] قال: ما كسب: ولدُهُ.
{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} [التكاثر: 8] قال: نعيم الدنيا.
{نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ} [السجدة: 27]: هي أبْيَن (2) لا يأتيها المطرُ إنما يُساقُ إليها الماءُ، وقد مَرَرْتُ بها بليل.
قلت: وكان شيخنا أبو العباس ابن تَيْمِيَّةَ يقول: هي أرض مصر، وهي أرض إِبْلِيز (3) لا ينفعُها المطر، فلو أُمْطرَتْ مطرَ العادة لم ينفعها
__________
(1) انظر “معالم التنزيل”: (3/ 475)، وجاء نحوه عن ابن المبارك كما فى “زاد المسير”: (3/ 414).
(2) أرضٌ باليمن، انظر “تفسير الطبري”: (10/ 252)، و”معجم البلدان”: (1/ 86).
(3) الإبليز: الطين الذي يخلفه نهر النيل بعد ذهابه. “المعجم الوسيط”.
(3/1022)
ولم يَرْوِها، ولو دام عليها المطرُ لهدم البيوتَ وقطع المعايشَ فأمطر اللهُ تعالى بلادَ الحبشة والنُّوبة ثم ساق الماءَ إليها (1) وعندي: أن الآيةَ عامةٌ في الماء الذي يسوقه اللهُ على متون الرياح في السحاب، وفي الماء الذي يسوقُهُ على وجه الأرض، فمن قال: هي أبْيَن أو مصر، إنما أراد التمثيلَ لا التخصيص.
{فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89] قال: أهل المدينة، {قِنْوَانٌ} [الأنعام: 99]: نضيج. قلت: أهلُ المدينة أول من وُكِّلَ بها، ولمَنْ بعدَهم من الوَكالة بحسب قيامِهِ بها علمًا وعملًا ودعوة إلى الله تعالى (2).
قال: بُعِث شعيب إلى مدينتين، قال: عُذِّبوا {يَوْمِ الظُّلَّةِ} [الشعراء: 189] قال: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)} [الأعراف: 78].
قال: يُقْرأ {صُوَاعَ الْمَلِكِ} وصَاع (3)، و”صُواع” أصوب، قال: وكان من ذهبٍ.
{هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)} [طه: 30 – 31] قال: أَشْرِكه معي يا ربِّ قال: افعل بنا هذا، قال: هذا دعاء. قال: ومَن قَرَأ: “أَشْدُدْ به أزْرِي” (4) قال: قال موسى: أنا أُشْرِكُه في أمري، قال: كِلا الوجهين حسن.
__________
(1) انظر “مجموع الفتاوى”: (6/ 558)، و”منهاج السنة”: (5/ 444).
وانظر: “زاد المعاد”: (4/ 393)، و”تفسير ابن كثير”: (76/ 2776).
(2) انظر: “مدارج السالكين”: (2/ 131)، (3/ 502)، و”مفتاح دار السعادة”: (1/ 491 – 492).
(3) وهي قراءة أبي هريرة، وانظر ماله من القراءات في “الجامع لأحكام القرآن”: (9/ 150 – 151).
(4) وهي قراءة ابن عامر وحده. “المبسوط”: (ص/ 247).
(3/1023)
{يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)} [طه: 7] قال: السِّرُّ ما كان في القلب يُسِرُّهُ وأخفى: الذي لم يكنْ بَعْدُ، يعلمُهُ هو.
{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} [غافر: 19] قال: هو الرجلُ يكون في القوم فتمرُّ به المرأةُ فيلحظُها بصره، وقد سئل النبي – صلى الله عليه وسلم – عن نظرة الفجأة فقال: “اصْرِفْ بَصَرَكَ عَنْها” (1).
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] قال: كان ابن مسعود يقرأ: “حيثُ ما وُجِدَ لا يأتِ بخير” قال: أحسن هذا الحرف، وقرأه هو.
{أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)} [الإسراء: 6] قال: رجالًا.
{وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا} [الكهف: 1 – 2] قال: إنما هو: قيمًا ولم يجعل له عوجًا.
وقال: ليس أحدٌ من الأنبياء تمنى الموت غير يوسف، قال: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} [يوسف: 101] الآية.
{أَزْكَى طَعَامًا} [الكهف: 19]: أحَلُّ.
{لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} [الأنبياء: 99] قال: عيسى والعُزَيْر.
قلت: هذا تفسيرٌ يحتاجُ إلى تفسير، فإن كان أحمدُ قالَ هذا، فلعله أراد الشياطين الذين عَبَدَهُم اليهودُ والنصارى، وزعموا أنهما عيسى والعُزَيْر.
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (2159) من حديث جرير البجلي -رضي الله عنه-.
(3/1024)
وقال: {يَاأُخْتَ هَارُونَ} [مريم: 28] قلت: هو هارون أخو موسى؟ قال: نعم، كان المشركون قد اختصموا على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: بين موسى وعيسى كذا وكذا، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “قَدْ كَانَ هَذَا يُدْعَى بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ” (1).
قال أبو عبد الله: استعمَلَ عمرُ رضي الله عنه رجلًا فأبى أن يدخلَ له في عملٍ، فقال: -يعني عمر-: يوسُفُ قد سأل العملَ فاستُعْمِلَ على خزائن الأرض.
وقال: في المائدة ثمان عشرة فريضة: حلال وحرام يعمل بها، وليس فيها شيء لا يعمل به إلا آية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} [المائدة: 2] قال: هذه منسوخة.
وقال: آخر شيءٍ نزل من القرآن المائدةُ، وأوَّلُ شيء نزلَ من القرآن {اقْرَأْ} (2).
{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة: 1] قال: كان ابن عباس يأخذ بذنب الجَنينِ ويقول: هذا من بهيمةِ الأنعام (3).
وقد روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “ذَكَاةُ الجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ” (4) قال:
__________
(1) كذا بالأصول، ولم أجده بهذا السياق، والذي في “صحيح مسلم” رقم (2135) من حديث المغيرة بن شعبة قال: لما قدمتُ نجرانَ سألوني فقالوا: إنكم تقرءون: “يا أخت هارون” وموسى قبل عيسى بكذا وكذا. فلما قدمت على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سألته عن ذلك، فقال: “إنهم كانوا يُسمُّون بأنبيائهم والصالحين قبلهم”.
ووقع في المطبوعات: “هذا بدعًا … “! ولا معنى له.
(2) انظر: “طبقات الحنابلة”: (1/ 141).
(3) من قوله: “قال: كان … ” إلى هنا ساقط من (ع).
(4) أخرجه أبو داود رقم (2827)، وابن حبان “الإحسان”: (13/ 207) من حديث =
(3/1025)
وأما أبو حنيفة فقال: لا يُؤكلُ، تُذْبحُ نفسٌ وتُؤكَلُ نفسٌ!!.
{فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة: 40] قال: على أبي بكر، وكان النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – قد أنزلتْ عليه السكينةُ.
قلت: وكان شيخُنا أبو العباس ابن تيميَّة يذهبُ إلى خلاف هذا ويقولُ: الضميرُ عائد إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – أصلًا، وإلى صاحبه تَبَعًا له، فهو الذي أُنزلتْ عليه السكينةُ، وهو الذي أيده: الله بالجنود، وسرى ذلك إلى صاحبِهِ، انتهى (1).
وقال (2): أربعُ سور أنزلت بالمدينة: البقرةُ وآل عمران والنساء والمائدة. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} قال: بالمدينة، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} قال: بمكة.
قلت: لم يُرِدْ أحمد التخصيص، ولا خلاف بين الأمة في أن الأنفال وبراءة والنور والمجادلة والحشر والممتحنة والصف والجمعة والمنافقين نزلنَ بالمدينة في سور أُخَرَ.
وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالمدينة؛ صحيح، و {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} بمكة؛ فمنه ما هو بالمدينة ومنه ما هو بمكة، فالبقرة مدنية وفيها {يَاأَيُّهَا النَّاسُ}.
{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97] قال: كان ابن عباس يقول: لو ترك الناسُ الحَجَّ سنةً واحدة (3) ماتُوا طُرًّا.
__________
= أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، وله شواهد من حديث جماعه من الصحابة، انظر “الإرواء” رقم (2539).
(1) انظر قوله هذا مفصَّلًا في “منهاج السنة”: (8/ 489 – 491).
(2) بعدها في (ظ) زيادة: “ما نزل بمكة والمدينة من القرآن”.
(3) من (ق).
(3/1026)