عطاءات العلمكتب ابن القيمكتب ابن القيم- شاملة - txt

بدائع الفوائد_4

بدائع الفوائد_4

http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
  الكتاب: بدائع الفوائد [آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (1)]المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 – 751 هـ)
المحقق: علي بن محمّد العمران
راجعه: سليمان بن عبد الله العمير (جـ 1 – 5)، محمد أجمل الإصلاحي (جـ 1 – 2)، جديع بن محمد الجديع (جـ 1 – 5)
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الخامسة، 1440 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الأجزاء: 5 (4 في ترقيم واحد متسلسل، والأخير فهارس)
قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] قال: على الأصنام، قال وكل شيء ذُبِحَ على الأصنام لا يؤكل، {تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ} قال: كِعَاب (1) فارس يقال لها: النرد وأشباه ذلك.
{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج: 25] قال: لو أنّ رجلًا بـ “عَدَنِ أبين” همّ بقتل رجل وهو في الحرم هذا قول الله: {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)} [الحج: 25]، هكذا قال ابن مسعود.
قال: وقد خرج جابر من المدينة إلى مكة (2) مجاورًا.
{أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] قال: والعشر ليال أو أيام، ثم قال: لو كانت لياليَ كان يكونُ نقصان يوم؛ لكنها أيام وليال عشرة.
قال: وأهل مصر يقولون: الشام باديتهم، قال يوسف: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف: 100] {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} [يوسف: 92]: لا تعيير. {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي} [يوسف: 93]: قال: شَمَّ ريحَهُ من مسيرة سبعة أيام، {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18]: لا جزع فيه.
قلت: وسمعت شيخَ الإسلام ابن تيميَّة -مرارًا- يقول: ذَكَرَ اللهُ الصَّبْرَ الجميلَ، والصَّفْحَ الجميلَ، والهَجْرَ الجميلَ. فالصبرُ الجميل الذي لا شكوى معه، والهجر الجميلُ الذي لا أذى معه، والصفحُ الجميلُ الذي لا عِتَابَ معه. انتهى (3).
__________
(1) الكِعَاب: فصوص النرد.
(2) (ق): “من مكة إلى المدينة”.
(3) انظر “مجموع الفتاوى” (10/ 183 – 184، 666 وما بعدها). والعبارة في (ق) ترتيب آخر وفيها اضطراب.

(3/1027)


{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26] قال: قد قال قوم: حكيم من أهلها. وقال قوم: القميص الشاهدُ، وقال قوم: الصبرُ.
{خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)} [البلد: 4] قال: مُنْتصِبًا. قلت: وكأنَّ (1) القولَ الآخر أَظْهرُ، وهو: في مشقة وعناء يكابد أمرَ الدنيا والآخرة، قال الحسن: ما أجِدُ من خَلْق الله يكابِدُ ما يُكابِدُهُ ابنُ آدم.
{مَاؤُكُمْ غَوْرًا} [الملك: 30] قال: لا تنَالُهُ الرِّشَاءُ، {بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)} قال: على وجه الأرض.
قلت: يحتملُ تفسير أحمد أمرين؛ أحدهما: أن يكون “معينًا” (2) فَعِيلًا من أمْعَنَ في الأرض إذا ذهب فيها، ويحتمل أن يكون مفعُولًا من العين أي: مرئيًا بالعين وأصله مَعْيون، ثم أُعِلَّ إعلالَ مَبِيع وبابه.
وقال: قرأ زيد بن ثابت (3): “وانْظُرْ إلى العِظَامِ كيفَ نُنْشِرُها” [البقرة: 259] وهو أشبه: {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22)}.
{وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} [الفتح: 9] قال: يُعَزِّرُوه: النبي – صلى الله عليه وسلم -، ويسبحوه: الله تعالى.
{عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47]: على نُقْصانٍ.
{وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)} [يوسف: 49]. قال: يحلبون.
{وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6)} [الطور: 6]: جهنم.
__________
(1) (ق): “وقال …. “.
(2) (ق) زيادة: “في نفسه”.
(3) وهي قراءة أبي جعفر ونافع وابن كثير وأبي عَمْرو ويعقوب. انظر: “المبسوط”: (ص/ 134).

(3/1028)


قلت: لم يُرِدْ أحمد أن المراد بالآية جهنم، وإنما أراد (1) أنه يكون جهنم أو موضعها والله أعلم.
{الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3)} [الانفطار: 3]: فاضت.
{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)} [الماعون: 4 – 5]، قال: كانوا يؤخِّرونها حتى يخرج الوقتُ.
{أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145]: هو العَبِيط، ولا يكادُ أن يكونَ في اللحم الصُّفْرة فيغسل (2).
{فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} [الزمر: 6]: البحرُ وحوتٌ في حوت، {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنبياء: 87].
قلت: هذا تفسير {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ}. وذِكْر {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} وهْمٌ؛ فإن تلك الظلمات هي التي يخلقُ فيها الجَنينُ، لا مدخل لظلمة البحر ولا لظلمة الحُوت فيها، بل ظُلمة الرَّحِم وظلمة المَشِيمةِ وظلمة البطن، والله أعلم.
{فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} [المؤمنون: 7] قال: الزنا.
{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} [الحج: 33] قال: اشترى ابنُ المنكدر بجميع ما كان معه بَدَنَةً وتأوَّلَ هذه الآية.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ … } إلى: { .. عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)} [الحج: 52 – 55] قال: هذه نزلت بمكة والباقي بالمدينة.
__________
(1) (ع): “المراد”.
(2) انظر “تفسير ابن جرير”: (5/ 340).

(3/1029)


{ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون 14] قال: نفخ فيه الرُّوح.
قال: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40] قال: هو أن ينظرَ قبلَ أن يرجعَ طرْفُهُ إليه. قال: وإنما كان قد عَلم الاسم الذي يُستجاب فدعا به.
{سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)} [ق: 21] قال: يسوقُ إلى أمر الله، والشهيد: يشهد عليه بما عمل.
{الْمَاعُونَ (7)} [الماعون: 7]: الفأس والقِدْر وأشباه ذلك.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ (1) وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب: 7] قال: قدَّمه على نوح، قال: هذه حُجَّةٌ على القَدَرية.
قلت: لعلَّ أحمد أراد القدريَّة المنكرة للعلم بالأشياء قبلَ كونها، وهم غُلاتُهم الذين كفَّرَهم السَّلَفُ، وإلا فلا تَعَرُّض فيها لمسألة خلق الأعمال.
{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ … } إلى قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] قال: هذه لها نصف الصَّدَاق، وإن مُتِّعَت فحَسَن، وإن لم تُمتَّعْ فحسن (2)، قال ابن عباس: تُمتع بخادم ونحو ذا ابن عُمر: تمتع بدرعٍ وإزار، ونحو هذا {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236].
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] الآية، قال: هذه ليس عليها عِدَّةٌ، وقال سعيد بن جُبير: لكلِّ مطلقةٍ
__________
(1) صدر الآية في (ق): “وإذا أخذ الله ميثاق النبيين”، وهي آية أخرى.
(2) “وإن لم تمتع فحسن”: سقطت من (ع).

(3/1030)


متاعٌ، ابنُ المسيب: ليس لها متاعٌ، قال أبو عبد الله: من مَتَّع فحسن، ومن لم يمتِّع فحسن.
{الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} هو: الزوج، وقد قال قوم: هو الولي، فإذا عفا الرجلُ أعطاها المهرَ كاملًا {أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] قال: تكونُ المرأة تترك للزوج ما عليه فتكون قد عفت.
قلت: ونص أحمد في رواية أخرى أنه الأبُ، وهو مذهب مالك، واختاره شيخُ الإسلام ابن تيمية (1)، وقد ذكرتُ على رُجحانه بضعةَ عشر دليلًا في موضع آخر (2).
{الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: 5] قال: جمعت، وقال قوم: ماتت.
قال من قرأ: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: 63] قال: موسى وهارون، ومن قرأ: “سِحْرَان” قال: هذان كتابانِ واحد بعد واحد.
قلت: هكذا رأيته، وهو وهْم! وإنما هذا تفسير الآية التي في القصص: “أوَ لَمْ يَكْفروا بما أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا: سَاحِرَانِ تَظَاهَرا” أراد: موسى ومحمدًا – صلى الله عليه وسلم -، {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)} [القصص: 48]. وقرأ الكوفيون: {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} أرادوا: التوراة والقرآن، وأما آية (طه) فليس فيها إلا قراءةٌ واحدةٌ، ومعنًى واحد {لَسَاحِرَانِ} يريدون: موسى وهارون، فاشتبهت الآيتان على الناقل أو السامع.
{نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16)} [المعارج: 16]: تأكل لحم الساقين.
قلت: في الآية تفسيران مشهوران: أحدهما: أن الشَّوَى: الأطراف
__________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى”: (32/ 359 – 360)، و”الاختيارات”: (ص/ 238).
(2) ستأتي إشارة المصنف إلى هذا البحث فيما سيأتي من هذا الكتاب: (3/ 1112) ولم أجد هذا البحث في كتبه المطبوعة.

(3/1031)


التي ليست مقاتِلَ كاليَدين والرجلين تنزعُها عن أماكنها، ومنه قولهم: “رَمَى الصَّيْدَ فأشواهُ”: إذا أصاب أطرافَهُ دونَ مقاتِلِهِ، فإن أصاب مقتلَهُ فماتَ موضِعَهُ، قيل: “رَمَاهُ فأصماهُ” فإن حمل السَّهمَ. وفرَّ به ثم مات في موضع آخر، قيل: رماه فأنْمَاهُ، قال الشاعر (1):
فهو لا تَنْمِي رَمِيَّتُهُ … مالَهُ لا عُدَّ من نَفَرِهْ
والتفسير الثاني: أن الشَّوَى: جمعُ شَوَاة، وهي جلدَة الرأس وفَرْوَتُهُ، وتفسير أحمد لا يناقضُ هذا، فلعله إنما ذكر لحم الساقين تمثيلًا، والله أعلم.
{مَا زَاغَ الْبَصَرُ} [النجم: 17]: لم ينصرف يمينًا ولا شمالًا، {وَمَا طَغَى (17)}: لم ينظرْ إلى فوق.
وقال: من قرأ “سَالَ سَائِلٌ” قال: سَالَ وادٍ، ومن قرأ {سَأَلَ} [المعارج: 1] قال: دعا.
قلت: هذا أحد القولين. والثاني: أن ذا الألف (2) من السؤال أيضًا، لكنه قلبت الهمزة فيه ألفًا.
{نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} [المزمل: 6] قال: قيام الليل من المغرب إلى طلوع الفجر، والناشئةُ لا تكونُ إلا من بعد رَقْدة، ومن لم يرقُدْ لا يقال (3) لها ناشئة.
{هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا} [المزمل: 6] قال: هي أشدُّ تبينًا تَفْهم ما يقرأ وتَعي أذنك.
{وَخَرَّ رَاكِعًا} [ص: 24] قال كان ابن مسعود لا يسجد فيها،
__________
(1) البيت لامرئ القيس “ديوانه”: (ص/ 125).
(2) (ق) زيادة: “واللام”.
(3) (ع): “ومن يرقد لم يقال”!.

(3/1032)


يقول: هى توبة نبي.
{إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14] قال: قوَّينا. [{مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ}] قال: هي أنطاكية، {وَجَاءَ}: الثالث. وقد اجتمع الناس على الاثنين، فقال: {يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} [يس: 20 – 1].
قال أبو عبد الله: قال ابن إدريس: ودِدْتُ أنى قرأتُ قراءة أهلِ المدينة.
قال: وقال ابن عيينة: قال لي ابن جُرَيْج: اقرأ عليَّ حتى أفسِّرَ لك، قال: وكان ابن جريج قد كتبَ التفسير عن ابن عباس وعن مجاهد.
وقال: رحم الله سفيان ما كان أفقَهَهُ في القرآن وكان له علمٌ.
وقال: في (النجم): في آخرها يسجدُ ثم يقوم فيقرأ، هذا في الإمام.
وقال: النفاقُ لم يكن في المهاجرين.
وقال: في القرآن اثنان وثمانون موضعًا الصبرُ محمودٌ، وموضعانِ مذمومٌ، قال: المذموم {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا} [إبراهيم: 21] {امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص: 6] أو قال: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 175] المرُّوْذيُّ شَكَّ.
{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)} [النجم: 37] قال: بُلِيَ بالذبح، ذَبْحِ ابنه فَوَفَّى، وبُلِيَ بحرق النار فوَفَّى، وذكر الثالثة فوفَّى فلم أحفظه (1).
قلت لأبي عبد الله: أيْشٍ تفسير: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} قال: لا تَرْضَوْا أعمالَهم.
__________
(1) من قوله: “المرُّوْذي شك … ” إلى هنا سقط من (ق).

(3/1033)


قال: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]: في الصلاة والخطبة.
{يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} قال: هو في التفسير بكتابها.
قلت لأبي عبد الله: في القرآن المحراب {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} [آل عمران: 37] هو محرابٌ مثل محاريبنا هذه؟ قال: لا أدري أيَّ محرابٍ هو. وفي بعض التفسير ذكر محراب داود.
وسئل عن قوله تعالى: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [النساء: 155] قال: أوعية، قلت: هذا أحد القولين، والقول الثاني -وهو أرجَحُ-: غُلْفٌ، أي: في غِشَاوَة، لا نفقه (1) عنك ما تقول، نظيره قوله (2): {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 5] وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يضعِّفُ قولَ من قال: “أوعيةٌ” جدًّا، وقال: إنما هي جَمْع أَغْلَفَ، ويقال للقلب الذي في الغِشَاء: أغْلَفُ، وجمعه: غُلْفٌ، كما يقال للرجل غيرِ المختون: أقلفُ، وجمعه قُلْفٌ (3).
وسئل عن صيام {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] قال: كملت للهَدْي {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، فأما أهل مكة فليس عليهم هَدْيٌ ولا لمن كان بأطراف ما تقصر فيه الصلاة.
آخر ما وُجِد من خطِّ القاضي -رحمه الله تعالى-.
__________
(1) (ع): “يُفقه”.
(2) “نظيره قوله” سقطت من (ع)، وفي (ق) سقط “قوله”.
(3) انظر: “مجموع الفتاوى”: (7/ 26) و (16/ 13)، وانظر: “مفتاح دار السعادة”: (1/ 341 – 344)، و”شفاء العليل”: (ص / 197 وما بعدها).

(3/1034)


فوائد شتى من كلام ابن عقيل وفتاويه
* سئل عمن قال: “إنْ بَرِئَ مَرِيضي أو قَدِم غائبي صُمْتُ”، هل يكفي كونه نذرًا أو يفتقرُ إلى أن يقول: لله عَلَيَّ؟
فأجاب: يكفي نذرًا؛ لأنه ذكره على وجه المجازاة، لأن الله تعالى هو يُبْرِئُ المرضَى فاستغنى بدِلالة الحال.
* وسُئِل عن رجل طعنَ بعضَ الناس، فظنه لصًّا في لصوص هربوا؟
فأجاب: عليه القَوَدُ؛ لأنه لو كان لصًّا فهرب لم يَجُزْ طعنُه، ووجب القَوَدُ، فكيف إذا لم يكنْ؟!
* وسئل: “لو قال منجِّم: “إن الشمس تكسف تحت الأرض في وقت كذا” هل تُصَلَّى صلاة الكسوف (1)؟
فأجاب: لا؛ لأن خبرَهم لا يؤخذُ به كما لو قال: الهلال تحت الغيم.
فإن قيل: فإذا قالوا: قد زالتِ الشمسُ، قلنا: ذاك موقوفٌ على تقدير، ولهذا نُقدِّرُه بالصَّنائع. انتهى كلامُه. ولا حاجةَ إلى هذا، فإن الشمس لو كَسَفَتْ ظاهرًا، ثم غابت كاسفةً، لم يُصَلَّ للكسوف بعد غَيْبتها، فكيف يُصَلَّى لها إذا لم يُعَايَنْ كسوفُها ألبتَّةَ.
* وذُكِرَ له حاكم طعن (2) عليه بأنه يحكُمُ بالفِراسة، وأنه ضرب
__________
(1) هذا السؤال سقط من (ق) وأشار إلى وجود السقط أحد المطالعين في هامش النسخة.
(2) يمكن أن تقرأ: “ظفر”، وانظر للمسألة ما سيأتي (3/ 1087).

(3/1035)


بالجريد في إقرار بمال وأخذه منه، فقال ابنُ عقيل: ليس ذلك فراسةً بل حُكْمٌ بالأَمَاراتِ، وإذا تأمَّلْتُمُ الشرعَ وجدتموه يجوِّزُ التعويلَ على ذلك، وقد ذهب مالك بن أنس إلى التَّوَصُّل إلى الإقرار بما يراهُ الحاكم، وذلك يستندُ إلى قوله: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} [يوسف: 26] ومتى حكمنا بعقد الأَزَج (1)، وكثرة الخُشُب، ومعاقد القَمُط في الخُصِّ (2)، وما يصلحُ للمرأة والرجل يعني في الدَّعاوى، والدَّبَّاغ والعَطَّار إذا تخاصما (3) في جِلْدٍ، والقيافة، والنظر في الخُنْثى، والنَّظر في أمَارات القِبلة، وهل اللَّوْثُ في القسامة إلَّا نحو هذا؟!. انتهى.
قلت: الحاكم إذا لم يكنْ فقيهَ النفسِ في الأَمارات ودلائل الحال، كفقهه في كُلِّيَّات الأحكام؛ ضيَّعَ الحقوقَ، فهاهنا فقهان لابُدَّ للحاكم منهما: فقهٌ في أحكام الحوادث الكلِّيَّة، وفقه في الواقع (4) وأحوال الناس، يميِّزُ به بين الصادق والكاذب والمُحِقِّ والمُبْطِل، ثم يُطَبِّقُ بين هذا وهذا بين الواقع والواجب، فيعطي الواقع حُكْمَهُ من الواجب.
ومن له ذَوْق في الشريعة، واطلاع على كمالها وعدْلِها، وسَعَتِها ومصلحتها، وأن الخَلْقَ لا صلاحَ لهم بدونِها ألبتَّةَ، عَلِمَ أن السياسة العادلة جزءٌ من أجزائها وفرعٌ من فروعها، وأن من أحاط علمًا بمقاصدها، ووضَعَها مَوَاضِعَها؛ لم يحتجْ معها إلى سياسةٍ غيرِها
__________
(1) بيت يُبنى طولًا. انظر “اللسان”: (2/ 208).
(2) القمط: ما تُشد به الأخصاص، والخُصُّ: البيت الذي يُعمل من القَصَب. وقُمُطه: شُرُطه التي يوثَّق بها ويُشد بها. انظر: “اللسان”: (7/ 385).
(3) (ظ): “تحاكما”.
(4) (ق): “الوقائع”.

(3/1036)


ألبتَّةَ، فإنَّ السياسةَ نوعانِ: سياسةٌ ظالمةٌ، فالشريعةُ تحرِّمُها، وسياسةٌ عادلةٌ تُخرِجُ الحقَّ من الظالم الفاجر، فهي من الشريعة عَلِمَها من عَلِمَها، وخَفِيتْ على من خَفِيتْ عنه.
ولا تْنسَ في هذا الموضع قولَ سليمانَ نبيِّ الله – صلى الله عليه وسلم – للمرأتين اللتين ادَّعتا الوَلَدَ فحكم به داودُ للكبرى، فقال سليمانُ: “ايتونِي بالسِّكّينِ أشُقَّهَ بينهما، فقالت الصُّغرى: لا تَفعلْ هو ابْنُها، فقَضَى به للصُّغْرَى” (1)، لِمَا دلَّ عليه امتناعها من رحمة الأم، ودلَّ رضى الكبرى بذلك على الاسترواح إلى التأسِّي بمساواتها في فقد الولد.
وكذلك قول الشاهد من أهل امرأة العزيز: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} [يوسف: 26] {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ} [يوسف: 27] فذكر الله تعالى ذلك مقرِّرًا له غيرَ منكر على قائله، بل رتَّبَ عليه العلمَ ببراءة يوسف -عليه السلام- وكذِب المرأة عليه.
وقد أمر النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – الزُّبَيْر أن يُقَرِّرَ ابني أبي الحُقَيق بالتَّعذيب على إخراج الكنز، فعذَّبهما حتى أقرَّا به (2).
ومن ذلك قول عليٍّ للظَّعينة التي حملت كتاب حاطب وأنكرَتْهُ، فعال لها: لَتُخْرِجِنَّ الكِتابَ أو لَنُجَرِّدَنَّكِ (3).
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (3427)، ومسلم رقم (1720) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(2) أخرجه أبو داود رقم (3006) مختصرًا، والبيهقي: (9/ 137) من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما-.
(3) أخرجه البخاري رقم (3007)، ومسلم رقم (2494) من حديث علي -رضي الله عنه-.

(3/1037)


وهل تقتضي محاسنُ هذه الشَّريعة الكاملة إلَّا هذا؟! وهل يَشُكُّ أحدٌ في أن كثيرًا من القرائن تُفيدُ علمًا أقوى من الظَّنِّ المستفاد من الشَّاهدين بمراتبَ عديدة؛ فالعلمُ المستفادُ من مشاهدة الرجل مكشوفَ الرأس وآخَرَ هارب قدَّامَه، وبيده عِمَامَهٌ، وعلى رأسه عِمَامَةٌ، فالعلم بأن هذه عمامة المكشوفِ رأسُهُ كالضَّروريّ، فكيف تقدّم عليه (1) اليَدُ التي إنما تُفيدُ ظنًّا ما عند عدم المعارضة؟! وأما مع هذه المعارضة فلا تُفيدُ شيئًا سوى العلم بأنها يدٌ عادِيَهٌ، فلا يجوزُ الحكم بها ألبتة، ولم تأتِ الشريعة بالحكم لهذه اليد وأمثالها ألبتَّةَ.
وقد أمر النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – الملتقِطَ أن يدفعَ اللُّقَطَةَ إلى واصِفِها (2)، وقد نصَّ أحمد على اعتبار الوصف عند تنازع المالك والمستأْجِر في الدَّفين في الدار، وهذه من محاسنِ مذهبه، ونصَّ على البلدَ يُفْتَحُ فيوجد فيه أبواب مكتوبٌ عليها بالكتابة القديمة أنها وقفٌ، أنه يحكم بذلك لقوَّة هذه القرينة، وهل الحكم بالقَافَة إلا حكم بقرينة الشَّبَه، وكذلك اللَّوْث في القَسَامة، حتى إنَّ مالكًا وأحمد في إحدى الروايتين يقيِّدانِ بها وهو الصَّوَابُ الذي لا رَيْبَ فيه، وكذلك الحكم بالنُّكول إنما هو مستنِدٌ إلى قوة القرينة الدَّالَّة على أن النَّاكل غيرُ محقٍّ.
وبالجملة؛ فالبَيِّنَةُ: اسمٌ لكل ما يُبَيِّنُ الحق، ومن خصَّها بالشاهدين فلم يُوَفِّ مُسمَّاها حقَّهُ، ولم تأتِ البينةُ في القرآن قطُّ مرادًا بها الشاهدان،
__________
(1) (ع): “على”.
(2) أخرجه البخاري رقم (91)، ومسلم رقم (1722) من حديث زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه-.

(3/1038)


وإنما أتت مرادًا بها الحُجَّةُ والدليلُ والبرهانُ مفردةً ومجموعةً.
وكذلك قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “البَيِّنَةُ على المُدَّعِي” (1) المراد به: بيانُ ما يصحِّحُ دعواه، والشاهدانِ من البَيِّنَة، ولا ريبَ أن غيرَهما من أنواع البيِّنة قد تكون أقوى منهما، كدِلالة الحال على صِدْق المدَّعِي، فإنها أقوى من دلالة إخبار الشاهدِ.
والبَيِّنَةُ والحُجَّةُ والدلالةُ والبرهانُ والآيةُ والتَّبْصِرةُ، كالمترادفة لتقارب معانيها.
والمقصود أن الشرعَ لم يُلْغِ القرائنَ ولا دلالات الحال، بل من استقرأَ مصادرَ الشرع ومواردَه وجدَه شاهدًا لها بالاعتبار مرتِّبًا عليها الأحكام.
وقولُ ابنِ عقيل: “ليس هذا فراسةً” يقال: ولا ضَيْر في تسميته فراسةً، فإنها فراسةٌ صادقةٌ، وقد مدح الله الفِراسةَ وأهلَها في مواضعَ من كتابه فقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)} [الحجر: 75] وهم المُتَفَرِّسون، الذين يأخذون بالسِّيما، وهي العلامة. ويقال: تَوَسَّمْتُ فيك كذا، أي: تَفَرَّستُهُ، كأنك أخذتَ من السِّيما، وهي فِعْلًا من السِّمَة، وهي العلامةُ. وقال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ (2) فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [محمد: 30]، وقال تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273] وفي الترمذي مرفوعًا: “اتَّقُوا فِرَاسَةَ المُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ الله”، ثم قرأ: {إِنَّ فِي
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (2514)، ومسلم رقم (1711) من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما-.
(2) من قوله: “من السيما … ” إلى هنا سقط من (ع).

(3/1039)


ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)} (1) [الحجر: 75] والله أعلم.
* * *

ذِكْر مناظرةٍ بين فقيهين في طهارة المنيِّ ونجاستِهِ (2)
قال مدِّعي الطَّهارة: المَنِيُّ مبدأُ خلقِ بشرٍ فكان طاهرًا كالتُّرَاب.
قال الآخر: ما أبعدَ ما اعتَبَرْتَ، فالتُّرَاب وُضِعَ طَهورًا ومساعدًا (3) لطهور في الوُلوغ، ويرفعُ حكمَ الحَدَثِ على رأي، والحَدَث نفسه على رأي، فأين ما يُتَطَهَّرُ به إلى ما يُتَطَهَّرُ منه، على أن الاستحالات تعملُ عملَها فأين الثَّواني من المبادئ؟ وهل الخمرُ إلا ابنةُ العنب؟ والمِنِيُّ إلا المُتَوَلِّدُ من الأغذية في المَعِدة ذات الإحالة لها. إلى النَّجاسة ثم لى الدَّم ثم إلى المَنِيّ؟
قال المُطَهِّرُ: ما ذكرتَهُ في التراب صحيح، وكونُ المني يُتَطَّهرُ منه لا يدلُّ على نجاسته، فالجماعُ الخالي من الإنزال يُتَطَّهرُ منه، ولو كان التَّطَهُّرُ منه لنجاسته لاختصَّتِ الطهارةُ بأعضاء الوضوء كالبول والدَّم، وأما كون التَّراب طَهورًا دون المَنِيِّ فلعدم تصوُّر التطهير (4) بالمَنِيِّ، وكذلك مساعدته في الولوغ، فما أبعدَ ما اعتبرتَ من الفرْق وأغثَّهُ!!.
__________
(1) أخرجه الترمذي رقم (3127)، والبخاري في “التاريخ”: (7/ 454)، العُقيلي: (4/ 129)، وأبو نعيم في “الحلية”: (10/ 281) وغيرهم من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- وسنده ضعيف.
وجاء من رواية جماعة من الصحابة، وفي أسانيدها ضعف.
(2) (ق): “ذكر مناظرة جرت بين مدعي طهارة المنيّ ونجاسته”.
(3) (ق): “للطهور وساعد”.
(4) (ع وظ): “التطهر”.

(3/1040)


وأما دعواكَ أن الاستحالة تعملُ عملَها فنعم، وهي تقلبُ الطيبَ إلى الخبيث، كالأغذية إلى البول والعَذِرَة والدَّم، والخبيث إلى الطيب، كدم الطمث ينقلب لَبَنًا، وكذلك خروج اللَّبن من بين الفَرْث والدَّم، فالاستحالة من أكبر حُجَّتنا عليك؛ لأن المَنِيَّ دم قصرته الشهوة وأحالته الحرارة من طبيعة الدَّم ولونه إلى طبيعة المَنِيِّ، وهل هذا إلا دليلٌ على مفارقته للأعيانِ (1) النَّجِسَةِ وانقلابِه عنها إلى عينٍ أخرى، فلو أَعطيتَ الاستحالةَ حقَّها لحكمتَ بطهارته.
قال مُدَّعي النَّجاسة: المَذْي مبدأُ المَنِيِّ، وقد دلَّ الشرعُ على نجاسته حيث أمر بغسل الذَّكَر وما أصابه منه، وإذا كان مبدؤه نجسًا فكيف بنهايته؟! ومعلوم أن المبدأ موجودٌ في الحقيقة بالفعل.
قال المطَهِّر: هذه دعوى لا دليلَ عليها، ومن أين لك أن المَذْي مبدأ المَنِيِّ، وهما حقيقتان مختلفتانِ في الماهِيَّة والصِّفات والعوارض والرَّائحة والطبيعة، فدعواك أن المَذْي مبدأُ المَنِيِّ، وأنه مَنِيٌّ لم يَسْتَحْكمْ طبخُه، دعوى مجردة عن دليلٍ نقليٍّ وعقليٍّ وحِسِّي فلا تكون مقبولة، ثم لو سلَّمتُ لك لم يُفِدْك شيئًا ألبتَّةَ، فإنَّ للمبادئ أحكامًا تخالفُها أحكامُ الثواني، فهذا الدَّمُ مبدأُ اللبن، وحكمهما مختلفٌ، بل هذا المَنِيِّ نفسُه مبدأ الآدمي والآدميُّ طاهر العين، ومبدؤه عندك نَجِسُ العين، فهذا من أظهر ما يُفْسِدُ دليلَكَ ويوضح تناقُضَك، وهذا مَما لا حيلةَ في دفعه، فإن المَنِيَّ لو كان نجِسَ العين لم يكن الآدميُّ طاهرًا؛ لأن النجاسةَ عندَك لا تَطْهُرُ بالاستحالة، فلابُدَّ من نقض أحد أصليك، فإما أن تقولَ بطهارة المَنِيِّ، أو تقولَ:
__________
(1) (ق): “مفارقة الأعيان”، و (ظ): “مقارنته”!.

(3/1041)


النجاسةُ تطهرُ بالاستحالة، وأمَّا أن تقول: المَنِيُّ نجس، والنجاسةُ لا تطهر بالاستحالة ثم تقول مع ذلك بطهارة الآدمِيِّ، فتناقُضٌ مالَنا إلا النكيرُ له!!.
قال المُنَجِّسُ: لا ريبَ أن المَنِيَّ فضلةٌ مستحيلةٌ عن الغذاء، يخرجُ من مخرج البول، فكانت نجِسة كهو، ولا يَرِد عَلَيَّ البصاق والمخاط والدمع والعَرَق؛ لأَنها لا تخرجُ من مخرج البول.
قال المطهِّرُ: حكمُك بالنَّجاسة إما أن يكونَ للاستحالة عن الغذاء، أو للخروج من مخرج البول، أو لمجموع الأمرين، فالأول باطلٌ إذ مجرَّدُ استحالة الفَضْلة عن الغذاء لا يوجبُ الحكمَ بنجاستها، كالدمع والمُخَاط والبُصَاق، وإن كان لخروجه من مخرج البول؛ فهذا إنما يفيدُك أنه متنجِّسٌ لنجاسة مجراه، لا أنه نَجِسُ العين، كما هو أحد الأقوال فيه، وهو فاسدٌ، فإن المجرى والمقرّ الباطن لا يحكمُ عليه بالنجاسة، وإنما يحكمُ بالنَّجَاسة بعد الخروج والانفصال، ويحكم بنجاسة المنفصل لخُبثِه وعينِه لا لمجراهُ ومقرِّهِ، وقد عُلِم بهذا بطلانُ الاستناد إلى مجموع الأمرين.
والذي يوضِّحُ هذا: أنَّا رأينا الفَضَلات المستحيلة عن الغذاء تنقسمُ إلى طاهر؛ كالبُصاق والعَرَق والمُخاط، ونجس كالبول والغائط، فدلَّ على أن جهة الاستحالة غيرُ مقتضيةٍ للنجاسة، ورأينا أن النَّجاسة دارتْ مع الخبث وجودًا وعدمًا، فالبولُ والغائط (1) ذاتان خبيثتان مُنْتنتانِ مؤذيتانِ، مُتَمَيِّزَتانِ عن سائر فضلات الآدمي بزيادة الخَبَث والنَّتْن والاستقذار، تنفرُ منهما النفوس، وتنأى عنهما وتباعدهما.
__________
(1) من قوله: “فدل على … ” إلى هنا ساقط من (ظ).

(3/1042)


عنها (1) أقصى ما يمكنُ، ولا كذلك هذه الفَضْلة الشريفة التي هي مبدأُ خيار عباد الله وساداتهم، وهي من أشرفِ جواهر الإنسان وأفضل الأجزاء المنفصلة عنه، ومعها من رُوح الحياة ما تميَّزت به عن سائر الفضلات، فقياسُها على العَذِرة أفسدُ قياس في العالم وأبعدُه عن الصواب!!.
والله تعالى أحكمُ من أن يجعلَ مَحَالَّ وحيِه ورسالاته وقربِه مبادئهم نَجِسة، فهو أكرمُ من ذلك، وأيضًا: فإن الله تعالى أخبرَ عن هذا الماءَ وكرَّر الخبرَ عنه في القرآن، ووصفه مرَّة بعد مرَّة، وأخبر أنه دافق، وأنه {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)}، وأنه استودعه في {قَرَارٍ مَكِينٍ (13)}، ولم يكنِ الله تعالى ليكرِّرَ ذكرَ شيءٍ كالعَذِرة والبول ويعيده ويبديه، ويخبر بحفظه في قرارٍ مكين، ويصفه بأحسن صفاته (2) من الدفق وغيره، ولم يصِفْه بالمهانة إلا لإظهار قُدْرته البالغة أن خَلَقَ من هذا الماء الضعيف هذا البَشَرَ القوِيَّ السَّوِيَّ، فالمهينُ هاهنا: الضعيفُ، ليس هو النَّجِسَ الخبيث.
وأيضًا فلو كان المَنِيُّ نجسًا -وكلُّ نجس خبيث- لما جعله الله مَبْدأَ خَلْقِ الطَّيِّبينَ من عباده والطَّيِّباتِ، ولهذا لا يتكوَّنُ من البول والغائط طيِّبُ، فلقد أبعد النَّجعةَ من جعل أصولَ بني آدم كالبول والغائط في الخُبث والنجاسة، والناسُ إذا سبُّوا الرجل قالوا: “أصلُه خبيث، وهو خبيث الأصل”، فلو كانت أصولُ الناس نَجِسَةً -وكلُّ نجسٍ خبيثٌ- لكان هذا السب بمنزلة أن يقالَ: أصله
__________
(1) (ق): “وتباعد عنهما”.
(2) (ع): “صفته”.

(3/1043)


نطفةٌ أو أصلُه ماءٌ، ونحو ذلك، وإن كانوا إنما يريدون بخُبْث الأصل كون النُّطفة وُضِعتْ في غير حلها فذاك خَبَثٌ على خَبَث، ولم يجعل اللهُ تعالى في أصول خواصِّ عباده شيئًا من الخبث بوجهٍ ما.
قال المنجِّسون: قد أكثرتم علينا من التَّشنيع بنجاسة أصل الآدمي وأطلتم القولَ، واعترضتم (1)، وتلك الشَّناعَةُ مشتركةُ الإلزام بينَنا وبينَكم، فإنه كما أن الله تعالى يجعلُ خواصَّ عباده ظروفًا وأوعية للنجاسة كالبول والغائط والدم والمَذْي، ولا يكونُ ذلك عائدًا عليهم بالعيب والذَّمِّ، فكذلك خلقُه لهم من المَنِي النَّجِس وما الفرق؟!.
قال المطهِّرون: لقد تعلَّقتم بما لا متعلَّق لكم به، واستروحتم إلى خيال باطل، فليسوا ظروفًا للنجاسات ألبتَّةَ، وإنما تصيرُ الفضلةُ بولًا وغائطًا إذا فارقت محلَّها، فحينئذ يُحْكم عليها بالنجاسة، وإلا فما دامت في محلها فهي طعام وشراب طيِّبٌ غير خبيث، وإنما يصيرُ خبيثًا بعد قذفه وإخراجه، وكذلك الدم إنما هو نجسٌ إذا سُفِح وخرج، فأما إذا كان في بَدَن الحيوان وعروقه فليس بنجس، فالمؤمن لا ينجسُ (2) ولا يكون ظرفًا للخبائث والنجاسات.
قالوا: والذي يقطعُ دابرَ القول بالنَّجاسة: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد علم أن الأُمَّهَ شديدةُ البَلْوى في أبدانهم وثيابهم، وفُرُشهم ولُحفهم، ولم يأمرهم فيه يومًا ما بغسل ما أصابه لا من بَدَن ولا من ثوب ألبتة، ويستحيلُ أن يكونَ كالبول، ولم يتقدَّم إليهم بحرف واحد في الأمر بغسْلِه، وتأخيرُ البيان عن وقت الحاجة إليه ممتنع عليه.
__________
(1) (ق وظ): “وأعرضتم”.
(2) “فالمؤمن لا ينجس” سقطت من (ق).

(3/1044)


قالوا: ونساء النبي – صلى الله عليه وسلم – (1) أعلمُ الأمة بحكم هذه المسألة، وقد ثَبَتَ عن عائشةَ أنها أنكرتْ على رجل أَعَارَتْهُ ملحفةً صفراءً فنام فيها، فاحتلمَ فغَسَلها، فأنكرتْ عليه غَسْلَها، وقالت: إنما كان يَكفِيه أن يفرُكَهُ بإصبعه ربما فركته من ثوب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بإصبعي.
ذكره ابنُ أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همَّام، قال: نزل بعائشة ضيف فذكره (2).
وقال أيضًا (3): حدثنا هُشَيم، عن مُغيرة، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: لقد رأيتُني أجدُهُ في ثوب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأحتُّه عنه، تعني: المني.
وهذا قول عائشة وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عباس – رضي الله عنهم-.
قال ابن أبي شيبة (4): حدثنا هُشَيم، عن حُصَيْن، عن مُصْعَب بن سعد، عن سعد، أنه كان يفركُ الجَنَابَةَ من ثوبه.
حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن مُصْعَب بن سعد، عن سعد، أنه كان يفركُ الجنابَةَ من ثوبه (5).
حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حَبيب، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس في المَنِي، قال: امْسَحْهُ بإذخِرَةً (6).
__________
(1) من قوله: “قد علم أن … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(2) “المصنف”: (1/ 83).
(3) “المصنف”: (1/ 83)، وأخرجه مسلم رقم (288).
(4) (1/ 83).
(5) (1/ 83). وهذا الأثر سقط من (ع).
(6) (1/ 83).

(3/1045)


حدثنا هُشَيم، أنبأنا حجَّاج وابنُ أبي ليلى، عن عطاء، عن ابن عباس في الجنابة تصيب الثوب قال: إنما هو كالنُّخَامة أو النُّخَاعة أَمِطْهُ عنك بخِرقَةٍ أو بإذخِرَة (1).
قالوا: وقد روى الإمام أحمد في “مسنده” (2) من حديث عائشة قالت: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يسلُتُ المَنِيَّ من ثوبه بعرق الإذخِر ثم يصلِّي فيه، وتَحُتُّه من ثوبه يابسًا، ثم يُصلي فيه.
وهذا صريحٌ في طهارته، لا يحتملُ تأويلًا ألبتة.
قالوا وقد روى الدِّارقطني (3) من حديث إسحاق بن يوسف الأزرق، حدثنا شَريك، عن محمد بن عبد الرحمن، عن عطاء، عن ابن عباس قال: سُئل النبي – صلى الله عليه وسلم – عن المَنِيِّ يُصيبُ الثوبَ، قال: إنما هو بمنزلة البُصاق والمُخاط، وإنما يكفيكَ أن تمسحَهُ بخِرقة أو بإذْخِرَةٍ (4).
قالوا: وهذا إسناد صحيح، فإن إسحاقَ الأزرقَ حديثُه مخرّجٌ في “الصحيحين”، وكذلك شَرِيك، وإن كان قد عُلِّل بتفرد إسحاق الأزرق به فإسحاقُ ثقة محْتَجٌ به في “الصحيحين”، وعندكم تفرُّد الثقة بالزيادة مقبول.
قال المُنَجِّس: صحَّ عن عائشة أنها كانت تغسِلُه من ثوب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (5)، وثبت عن ابن عباس أنه أمر بغسله.
__________
(1) (1/ 83).
(2) (6/ 243).
(3) “السنن”: (1/ 124).
(4) وأخرجه الطبراني في “الكبير”: (11/ 148)، والبيهقي: (2/ 418) عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- مرفوعًا، ثم أخرج البيهقي الرواية الموقوفة ثم قال: “هذا صحيح عن ابن عباس من قوله، وقد روي مرفوعًا ولا يصحّ رفعه” اهـ.
(5) أخرجه البخاري رقم: (229)، ومسلم رقم (289).

(3/1046)


قال أبو بكر ابن أبي شيبة (1): حدثنا أبو الأحوص، عن سِمَاك، عن عِكرمة، عن ابن عباس (2)، قال: إذا أجنبَ الرجلُ في ثوبه فرأى فيه أثرًا فليغسله، وإن لم يَرَ فيه (3) أثرًا فلْيَنْضَحْهُ.
حدثنا عبد الأعلى، عن مَعْمَر، عن الزُّهْرِي، عن طَلْحة بن عبد الله ابن عَوْف، عن أبي هريرة أنه كان يقول في الجنابة في الثوب: إن رأيتَ أَثَرَهُ فاغسِلْهُ، وإن علمت أن قد أصابه وخفي عليك فاغسل الثوب، وإن شككتَ فلم تَدْرِ أصاب الثوبَ أم لا، فانْضَحهُ (4).
حدثنا عَبْدَةُ (5) بن سليمان، عن سعيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: إن خفي عليه مكانه وعَلِم أنه قد أصابه غسل الثوبَ كلَّه (6).
حدثنا وكيع، عن هشام، عن أبيه، عن زُبَيْد بن الصَّلْت أن عمر ابن الخطاب غسل ما رأى، ونضح ما لم ير، وأعاد بعدما أضحى متمكِّنًا (7).
حدثنا وكيع، عن السَّرِيِّ بن يحيى، عن عبد الكريم بن رُشَيْد، عن أنس في رجل أجنب في ثوبه فلم ير أثره، قال: يغسله كلَّه (8).
__________
(1) في “المصنف”: (1/ 81).
(2) من قوله: “أنه أمر … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(3) هذه وما قبلها في (ع): “به”.
(4) “المصنف”: (1/ 81).
(5) (ع): “عبد الله” وهو خطأ.
(6) (1/ 81).
(7) (1/ 82).
(8) (1/ 82).

(3/1047)


ثنا حفص (1)، عن أشعث، عن الحكم: أن ابن مسعود كان يغسل أثر الاحتلام من ثوبه (2).
حدثنا حسين بن علي، عن جعفر بن بَرْقان، عن خالد بن أبي عزة، قال: سأل رجلٌ عمرَ بن الخطاب فقال: إني احتلمتُ على طِنْفِسَة، فقال: إن كان رطْبًا فاغسلْه، وإن كان يابسًا فاحكُكْهُ، وإن خفي عليك فارشُشْه (3).
قالوا: وقد ثبت تسميةُ المَنِيِّ أذى، كما سُمِّي دم الحيض أذىً، والأذى هو النجس، فقال الطَّحَاوي: حدثنا ربيع الجِيزِي، حدثنا إسحاق بن بكر بن مُضَر، قال: حدثني أبي، عن جعفر بن ربيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سُوَيد بن قيس، عن معاوية بن حُدَيْج، عن مُعاوية بن أبي سفيان، أنه سأل أختَه أمَّ حَبيبة زوج النبي – صلى الله عليه وسلم -: هل كان النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – يصلِّي في الثوب الذي يضاجعُكِ فيه؛ قالت: نعم، إذا لم يُصِبْه أذى (4). وفي هذا دليلٌ من وجه آخرَ وهو تركه الصلاة فيه.
وقد روى محمد، عن عبد الله بن شَقيق، عن عائشة قالت: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يُصَلِّي في لُحُف نسائه (5).
قالوا: وأما ما ذكرتم من الآثار الدَّالَّة على مسحه بإذخِرَةٍ وفركه،
__________
(1) (ع) والمطبوعات: “حدثنا جابر، حدثنا حفص”! ولا أدري من جابر هذا! وحفص هو ابن غياث شيخ أبي بكر بن أبي شيبة، مُكثر عنه.
(2) (1/ 83).
(3) (1/ 84).
(4) “شرح معاني الآثار”: (1/ 50).
(5) أخرجه أبو داود رقم (367)، والترمذي رقم (600)، والطحاوي في “شرح المعاني”: (1/ 50) قال الترمذي: “هذا حديث حسن صحيح”.

(3/1048)


فإنما هي في ثياب النوم لا في ثياب الصلاة.
قالوا: وقد رأينا الثياب النَّجسة بالغائط والبول والدَّم لا بأس بالنوم فيها، ولا تجوزُ الصلاة فيها، فقد يجوز أن يكون المَنِيُّ كذلك.
قالوا: وإنما تكونُ تلك الآثارُ حجَّةً علينا لو كنا نقولُ: لا يصلح (1) النومُ في الثوب النَّجِس، فإذا كنا نبيحُ ذلك ونوافقُ ما رويتم عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في ذلك، ونقولُ من بعد لا تصلحُ الصلاة في ذلك، فلم نخالف شيئًا مما رُوِيَ في ذلك عن النبي – صلى الله عليه وسلم -.
قالوا: وإذا كانت الآثارُ قد اختلفتْ في هذا الباب ولم يكن فيها دليلٌ على حكم المَنِيِّ كيف هو، اعتبرنا ذلك من طريق النظر، فوجدنا خروج المَنِيِّ حَدَثًا من أغلظ الأحداث؛ لأنه يوجبُ أكبرَ الطهارات، فأردنا أن ننظر في الأشياءِ التي خروجُها حَدَثٌ كيف حكمُها في نفسها؛ فرأينا الغائطَ والبولَ خروجهما حَدَثٌ، وهما نَجِسان في أنفسهما، وكذلك دمُ الحيض والاستحاضة هما حَدَثٌ، وهما نَجسانِ في أنفسهما، ودم العروق كذلك في النظر، فلما ثبت بما ذكرنا أن كلَّ ما خروجه حَدَثٌ فهو نَجِسٌ في نفسه، وقد ثبت أن خروجَ المَنِيِّ حدثٌ، ثبت أيضًا أنه في نفسه نَجِس، فهذا هو النظر فيه.
قال المُطَهِّرُ: ليس في شيءٍ مما ذكرتَ دليلٌ على نجاسته، أما كون عائشة كانت تغسلُه من ثوب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؛ فلا ريبَ أن الثوب يُغْسلُ من القدر والوسخ والنجاسة، فلا يدلُّ مجرد غسل الثوب منه على نجاسته، فقد كانت تغسلُه تارة، وتمسحُه أخرى، وتفركُه أحيانًا، ففرْكُه ومسْحُه دليلٌ على طهارته، وغسْلُه لا يدلُّ على
__________
(1) في “المطبوعات”: “يصح”.

(3/1049)


النجاسة، فلو أعطيتم الأدِلَّةَ حقَّها لعلمتُم تَوَافُقَها وتَصَادُقَها، لا تناقُضَها واختلافَها.
وأما أمر ابن عباس بغسله؛ فقد ثبت عنه أنه قال: إنما هو بمنزلة المُخاط والبُصاق، فأمِطْه عنك ولو بإذْخِرَةٍ، وأمره بغسله للاستقذار والنَّظافة، ولو قُدِّر أنه للنَّجاسة عندَه، وأن الرواية اختلفت عنه، فتكون مسألة خلاف بين (1) الصحابة، والحجَّةُ تفصلُ بين المُتنازعين، علي أنَّا لا نعلمُ عن صحابيٍّ واحدٍ أنه قال: إنه نَجِسٌ ألبتة، بل غاية ما يروونه عن الصحابة غَسْلَه فعلًا وأمرًا، وهذا لا يستلزمُ النجاسة، ولو أخذتمُ بمجموع: الآثار عنهم لدلَّت على جواز الأمرين: غسله للاستقذار، والاجتزاء بمسحه رَطْبًا وفركِهِ يابسًا كالمُخاط.
وأما قولكم: ثبتَ تسميةُ المَنِيِّ أذى؛ فلم يثبت (2) ذلك، وقول أم حبيبة: “ما لم يَرَ فيه أذَىً”، لا يَدُلُّ على أن مرادَها بالأذى المَنِيُّ، لا بمطابقةٍ ولا تضمُّنٍ ولا التزام، فإنها إنما أخبرت بأنه – صلى الله عليه وسلم – كان يُصَلِّي في الثوب الذي يضاجعُها فيه ما لَمْ يُصِبْه أذى ولم تَزِدْ.
فلو قال قائل (3): المُراد بالأذى دمُ الطمث؛ لكان أسعدَ بتفسيره منكم. وكذلك تركه الصلاة في لُحف نسائه، لا يدلُّ على نجاسة المَنِيِّ ألبتة، فإن لحافَ المرأة قد يصيبهُ من دم حيضِها وهي لا تشعرُ، وقد يكون التَّرْك تَنَزُّهًا عنه، وطلب الصلاة على ما هو أطيبُ منه وأنظفُ، فأين دليلُ التنجيس؟!
__________
(1) (ظ): “عند”.
(2) (ق): “فلو ثبت”!.
(3) من (ع).

(3/1050)


وأما حملُكم الآثارَ الدَّالة على الاجتزاء بمسحه وفركه على ثياب النوم دونَ ثياب الطهارة؛ فنُصْرة المذاهب (1) توجبُ مثلَ هذا، فلو أعطيتم الأحاديثَ حَقَّها، وتأمَّلْتُم سياقَها وأسبابَها لجزمْتُمْ بأنَّها إنما سيقتْ لاحتجاج الصحابة بها على الطَّهارة وإنكارهم على من نَجَّسَ المَنِيَّ.
وقالت عائشة: كنت أفركُهُ من ثوب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فركًا فيصلي فيه (2)، وفي حديث عبد الله بن عباس مرفوعًا وموقوفًا: إنما هو كالمخاط والبصاق فأمطه عنك ولو بإذخرة (3).
وبالجملة؛ فمن المحال أن يكون نَجِسًا والنبيُّ – صلى الله عليه وسلم – يعلمُ شدَّةَ ابتلاءِ الأمَّةِ به في ثيابهم وأبدانهم، ولا يَأمرُهم يومًا من الأيام بغسله، وهم يعلمون الاجتزاء بمسحه وفركه.
وأما قولكم: إن الآثار قد اختلفتْ في هذا الباب، ولم يكنْ في المَرْوِيِّ عن النبي – صلى الله عليه وسلم – بيان حكم المَنِي، فاعتبرتم ذلك من طريق النظر؛ فيقال: الآثار بحمد الله في هذا الباب متَّفِقَةٌ لا مختلفة، وشروط الاختلاف منتَفِيَةٌ بأسرها عنها، وقد تقدَّم أن الغَسْل تارة والمسح والفَرْك تارةً جائزٌ (4)، ولا يدُلُّ ذلك على تناقُضٍ ولا اختلافٍ ألبتة.
ولم يكنْ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – لِيَكِلَ أمَّتَهُ في بيان حكم هذا الأمر المهم
__________
(1) (ق وظ): “المذهب”.
(2) تقدم.
(3) تقدم.
(4) (ق وظ): “جائزان”.

(3/1051)


إلى مجرد نظرها وآرائها، وهو يعلِّمُهم كلَّ شيء، حتى التَّخَلِّي وآدابه، ولقد بيَّنت السُّنَّةُ هذه المسألةَ بيانًا شافيًا، ولله الحمد.
وأما ما ذكرتم من النظر على تنجيسه؛ فنظرٌ أعْشى؛ لأنكم أخذتم حكمَ نجاسته من وجوب الاغتسال منه، ولا ارتباطَ بينهما، لا عقلًا ولا شرعًا ولا حِسًّا، وإنما الشارعُ حَكَم بوجوب الغسل على البَدَن كلِّه عند خروجه، كما حَكَم به عند إيلاج الحَشَفَة في الفَرْج، ولا نجاسةَ هناك ولا خارج، وهذه الريحُ توجب غَسْل أعضاء الوضوء وليست نَجِسَةً، ولهذا لا يُسْتَنْجَى منها ولا يُغْسَلُ الإزار والثوبُ منها، فما كلُّ ما أوجب الطهارةَ يكون نجسًا، ولا كلُّ نجسٍ يوجِبُ الطهارةَ أيضًا، فقد ثبت عن الصحابة أنهم صلُّوا بعد خروج دمائهم في وقائعَ متعدِّدة، وهم أعلمُ بدين الله من أن يُصَلُّوا وهم محدِثون، فظهر أن النظرَ لا يوجِبُ نجاستَه، والآثار تدُلُّ على طهارته، وقد خلق الله تعالى الأعيان على أصل الطهارة، فلا ينجسُ منها إلا ما نجَّسه الشرعُ، وما لم يُعْلَم تنجيسُه من الشرع فهو على أصل الطهارة، والله أعلم.

فائدة
إذا علق الطلاق بأمر يعلمُ العقلُ استحالَتَهُ عادةً، وأخبر من لا يعلمُ إلا من جهته بوقوعه، وليس خبره مما قام الدليلُ على صدقه، فقد قال كثير من الفقهاء بوقوع الطلاق عند خبره.
وقال محمد بن الحسن بعدم الوقوع، وهو الصَّوابُ، وهو اختيار ابن عقيل وغيره من أصحاب أحمد.
وصورةُ المسألة إذا قال: إن كنتِ تُحِبِّينَ أن يُعَذِّبَكِ الله في النارِ فأنتِ طالقٌ، فقالت: أنا أحِبُّ ذلك.

(3/1052)


قال الموقِّعون: المحبَّةُ أمرٌ لا يتوقَّفُ عليه، ولا يُعْلم إلا من جهتها، فإذا أخبرتْ به رُجِعَ إلى قولها.
اعترض على ذلك ابنُ عقيل فقال: الباطنُ إذا كان عليه دلالةٌ أمكن الاطلاِعُ عليه، ولا دلالةَ أكبرُ من العلم بأن طباعَ الحيوان لا تصبرُ على لَفَحَات النار ولا تُحِبُّها، وإذا عُلِم هذا طبعًا صار دعوى خلافه خَرْقًا للعادة، فهو كقوله: أنتَ طالِقٌ إن صَعِدْتِ السَّماءَ، فغابت ثم ادَّعَتِ الصُّعودَ، فإنه لا يقعُ لاستحالته طبعًا وعادة.
قالوا: النعامُ يميل إلى النار، فلا يمتنع أن تكون هذه صادقة لإخبارها عن نفسها، أو دخل عليها داخلٌ من برد استولى على جسدها، فتمنَّت معه دخول النار.
قال ابن عَقِيل: لا يستحيلُ الميلُ إلى النَّارِ من الحيوانِ الذي ذكرت، لكن ذلك خَرْقٌ للعادةِ في حقِّ غيرها (1)، فَلَئِنْ جاز أن يُصَدِّقَها في ذلك لكونِهِ لا يستحيلُ، وجب أن يُصَدِّقَها في صعود السماء، فقد صعِدَتْ إليها الملائكةُ والجنُّ والأنبياءُ، بل ينبني الأمرُ على العادة دون خَرْقها، وفي مسألتنا لم تَقُلْ: أُحِبُّ النّارَ، بل قالت: أُحِبُّ أن يُعَذِّبَني اللهُ بالنار، والنعامُ لا يتعذَّبُ، فقد صرحت بحب أعظم الألم، ولا يجتمع في حيوان حبٌّ وميلٌ إلى ما يُعَذَّبُ به، بل طبعُهُ النُّفورُ من كلِّ مؤلم، فأما تعلُّقهم بأنَّ ما في قلبها لا يُطَّلَعُ عليه إلا من إخبارها فهذا شيءٌ يرجعُ إلى ما يجوزُ أن يكونَ في قلبها من طريق العادة.
فأما المستحيلُ عادةً فإنَّهُ كالمستحيلِ في نفسِهِ، ولو أنه قال لها: إن كنتِ تعتقدينَ أن الجَمَلَ يدخل في خُرْم الإبرة فأنت طالِقٌ،
__________
(1) “في حق غيرها” سقطت من (ق).

(3/1053)


فقالت: أعتقده لم يَقَعِ الطلاقُ، إذ لا عاقلَ يُجَوِّزُ ذلك، فضلًا عن أن يعتقدَهُ. انتهى كلامه، وهو كما ترى قُوَّةً وصحَّةً.
حادثة
* مسجد عليه وقوف، خَرِبَ، وليس في وقفِه ما يَفِي بعِمَارَتِهِ، هل يجوزُ نقلُ ذلك إلى عِمارة الجامع الذي لا غِنى للقرية عنه؟.
قال جماعةٌ: يجوز. وخالفهم ابنُ عَقِيل فقال: يَجِبُ صرفُ دخلِ وقف (1) المسجدِ إلى عمارَتِهِ بِحَسَبها، وقد كان سقَفُ مسجد النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – سَعَفًا. انتهى.
والتحقيقُ في المسألة: أن المسجد إن تعطَّل بحيث انتقل أهلُه عنه وبقي في مكان لا يُصَلَّى فيه، فالصوابُ ما قاله الجماعةُ، وإن كالت جيرانه بحالهم وهو بصدَدِ أن يُصَلَّى فيه، فالصوابُ ما قاله (2) ابنُ عقيل. والله أعلم.
* وسئل عن رجل تَزَّوجَ ضريرةً ومعها جاريةٌ تخدمُها، فأنفق عليها مدَّةً ثم قَصَّرَ في نفقة المرأة وعلَّلَ ذلك بأنه في مقابلة ما كان أنفقَ على الجارية.
فقال: هذا جهل منه، فإن من تزوَّج ضريرةً فقد دخل على بَصيرةٍ أنه لابُدَّ لها من خادم، فتكونُ المؤونةُ عليه، كمن تزَّوَجَ امرأة ذات جلالة يلزمُهُ إخدامُها.
* وسئل عن رجل أدرك الناسَ ركوعًا في صلاة الجمعة، وسمع
__________
(1) ليست في (ق وظ).
(2) من قوله: “الجماعة وإن … ” إلى هنا ساقط من (ظ).

(3/1054)


من المبلِّغين قول: سمع الله لمن حمده، فهل يُقَدِّرُ ما يكون به تابعًا للإمام أو يعتبرُ بمن يليه؟
فقال: بل يقدر ما يكون به تابعًا للإمام في حال ركوعه؛ لأنه قد يكونُ ركع والإمام قد رفع، ولكن لبعد ما بين المبلِّغين وبين الإمام قد يكون الأواخر رُكَّعًا، وذلك أن الشرعَ علَّق الإدراكَ بركوع الإمام، فالوسائط لا عِبْرَةَ بهم.
حادثة
* رجل قال لامرأته: أنْتِ طالِقٌ إنْ كلَّمْتُكِ، وأعاده. فقال بعض أصحاب أحمد: إن قَصَدَ إفهامَها بالثاني لم يَقَعْ، وإن قَصَدَ الابتداءَ وقع المعلَّقُ بالثاني.
قال ابن عقيل: هذا خطأ؛ لأن الثاني هو كلامٌ لها على كلِّ حال، سواء قصد الإفهامَ أو الابتداءَ، وإنما اشتبهتْ بمسألة إذا قال: إن حلفتُ بطلاقِكِ فأنتِ طالقٌ، وأعادَه، فإن التفصيل كما ذكرت، فأما الكلامُ فهو على الإطلاق يتناولُ كلَّ كلام مخصوص بخلاف الحلف، فإنه لا يكون حَلِفًا إلا بقصد، وإذا كان قصدُه بالثاني إفهامَها لما حَلَف به أولًا لم يكن حلفًا.
قلت: والصواب القول الأول، وهذا الفرقُ خياليُّ، فإنه إذا قصد إفهامَها فلم يُرِد إلا اليمينَ الأولى ولم يُرِدْ به الكلامَ المحلوف عليه، فتحْنيثُهُ به تحنيثٌ بما لم يُرِدْه ألبتةَ، وبساط الكلام ونيته إنما يدلان على أنه أراد: لا كَلَّمْتُكِ بعد اليمين، مفردةً كانت أو مكررةً، فما كلمها الكلام الذي حلف عليه، وإنما أفهمها يمينه، فلا فرق بينها وبين مسألة الحَلِف.

(3/1055)


وأما قوله: إن الحَلِفَ لا يكونُ حَلِفًا إلا بقَصْد، فيقال: إن كان القصدُ شرطًا في اعتبار المحلوف عليه لم يَحْنَثْ في الموضِعينِ، وإن لم يكنْ شرطًا فيه، فينبغي أن يحنَثَ في الموضعين، فأما أن يُجعلَ القصدُ شرطًا في أحدهما دونَ الآخر فلا وجهَ له، والله أعلم.
فائدة
استدل شيعيٌّ على الوصية لأهل البيت بقوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23].
فأجيب بأن قيل: هذه وصيَّةٌ بهم لا وصيةٌ إليهم (1)، فهي حجَّةٌ على خلاف قول الشيعة؛ لأن الأمر لو كانَ إليهم لأوصاهم ولم يُوصِ بهم، ونظير هذا الاحتجاج على أن الأمرَ في قريشٍ لا في الأنصار بقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “أُوصِيكُمْ بالأنصَارِ” (2) فدلَّ على أن الأمرَ في غيرهم.
قلت: وهذا كلُّه خروج عن معنى الآية وما أُريدَ بها، ولا دلالةَ فيها لواحدة من الطائفتين، فإن معنى الآية (3): لا أسألكم عليه أجرًا إلا أن تَصِلُوا ما بيني وبينَكم من القَرَابة، فإنه لم يكن بطنٌ من بطون قريش إلا وللنبي – صلى الله عليه وسلم – فيهم قَرَابَةٌ، فقال: لا أسألُكم على تبليغ الرسالة أجرًا، ولكن صِلُوا ما بيني وبينَكم من القرابة، وليست هذه الصِّلَةُ أجرًا، فالاستثناء منقطع، فإن الصِّلة من موجبات الرَّحِم، فهي واجبة
__________
(1) (ق): “لهم”.
(2) أخرجه البخاري رقم (3799)، ومسلم رقم (2510) من حديث أنسٍ- رضي الله عنه-.
(3) من قوله: “وما أُريد بها … ” إلى هنا ساقط من (ق).

(3/1056)


على كلِّ أحد، وهذا هو تفسير ابن عباس الذي ذكره البخاريُّ عنه في صحيحه (1).
فائدة (2)
من العجب إنكارُ كونِ القرْعة طريقًا لإثبات الأحكام، مع ورود السُّنَّة بها، وإثباتُ حِلِّ الوطء بشهادة شاهدي زُور، يعلمُ الزوج الثاني أنهما شاهدا زُور، ومع هذا فيثبت الحِلُّ له بشهادتهما، فمن يقولُ هذا في باب حِلِّ الأبْضاع والفروج كيف يمنعُ القرْعَةَ؟!
ومن العجب قولهم: إذا مَنَعَ الذِّمِّيُ دينارًا من الجِزيَةِ انتقضَ عهدُه، ولو جاهرَ بسبِّ الله ورسوله ودينه، أو حَرَقَ (3) بيوتَ الله لم ينتقضْ عهدُه!.
ومن العجب: إباحتُهم القرآنَ بالعجميَّة، ومنعُ رواية الحديثِ بالمعنى!.
ومن العجب قولُهم: الإيمانُ نفسُ التَّصديق وهو لا يتفاضلُ، والأعمالُ ليست منه، وتكفيرُهم من يقول: مُسَيْجِد وفُقَيِّه، ومن يلتدُّ بالسَّماع، ويصلِّي بلا وضوء، ونحو ذلك.
ومن العجب: إسقاطُهم الحَدَّ عمن استأجرَ امرأةً لرَضاع ولده فَزَنا بها، أو استأجرها لِيَزْنِيَ بها، وإيجابُهم الحَدَّ على مَنْ وطِئَ امرأةً في الظُّلْمة يظنُّها امرأتَه، فبانت أجنبيةً.
__________
(1) رقم (4818).
(2) هذه العجائب ذكرها ابن القيم في “إعلام الموقعين”: (3/ 326 – 328) بنحوها، عند كلامه على الحِيَل وإبطالها، وأكثر هذه الأقوال قال بها فقهاء الحنفية.
(3) (ع): “وأحرق”.

(3/1057)


ومن العجب: تشدُّدهم في المياه أعظمَ التَّشديد حتى يُنَجِّسوا القناطيرَ المقنطرةَ من الماء بمثل رأس الإبرة من البول، ويُجَوِّزون الصلاة في ثوب رُبُعه متضمِّخ بالنَّجاسة.
ومن العجب: منعهم إلحاق النَّسَب بالقيافة التي هي من أظهر الأَدِلَّة، وقد اعتبرها النبي – صلى الله عليه وسلم – (1)، وعمل بها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب (2)، وإلحاقهم: النَّسَبَ برجل (3) تزوَّج امرأة بأقصى المشرق وهو بأقصى المغرب، وبينهما ما لا يقطعه البَشَرُ، أو قال: تزوجت فلانة وهي طالِقٌ ثلاثًا عقِبَ القبول ثم جاءت بولدٍ فقالتْ: هو منه.
ومن العجب: إلحاقُهم الولد في هذه الصُّورة، وزعمُهم أن الرجل إذا كانت له سُرِّيَّةٌ وهو يطأُها دائمًا فأتت بولد على فراشه لم يَلْحَقْهُ إلا أن يستلحِقَهُ.
ومن العجب: أنهم يقولون (4): إذا شهد عليه أربعة بالزنا، فقال: صَدَقوا في شهادتهم وقد فعلتُ، سَقَط عنه الحدُّ، وإن اتَّهمهم وقال: كذبوا عَلّيَّ، حُدَّ.
ومن العجب قولهم: لا يصِحُّ استئجارُ دارٍ لتُجْعَلَ مسجدًا يُصَلِّي فيه المسلمونَ، ويصِحُّ استئجارها كنيسةً يُعبدُ فيها الصليبُ، وبيتًا تُعبدُ فيه النار.
__________
(1) فيما رواه البخاري رقم (3731)، ومسلم رقم (1459) من حديث عائشة -رضي الله عنها- في قصة مجزز المدلجي.
(2) أخرجه مالك في “الموطأ”: (2/ 740).
(3) (ع): “فيما رجل”.
(4) (ع): “بقولهم”.

(3/1058)


ومن العجب قولهم: إنه إذا قهقَهُ في صلاته انتقضَ وضوؤُه، ولو غنَّى في صلاته، وَقَذَفَ المحصَنَاتِ، وأتى بأقبح السَّبِّ والفُحش؛ فوضوؤه بحاله لم يَنْتَقِضْ.
ومن العجب قولهم: إذا وقع في البئرِ نَجَاسَةٌ نُزِحَ منها أدْلَاءٌ معيَّنة، فإذا حصل الدَّلْوُ الأوَّلُ فى البئر تنجَّس وغرف الماء نجسًا، فما أصاب حيطانَ البئر منه نَجَّسَها، وكذلك ما بعدَهُ من الدِّلاء إلا الدَّلْو الأخير فإنه ينزلُ نَجِسًا ثم يصعدُ طاهرًا يقشقِشُ النَّجَاسَةَ من البئرِ!!
قال الجاحظ (1): ما يكون أكرمَ أو أعقلَ من هذا الدَّلو.
[ومن العجب قولُهم: لو حَلَفَ لا يأكلُ فاكهةً حَنَثَ بأكلِ الجَوْزِ، ولو كان يابسًا منذُ سنين، ولا يحنَثُ بأكلِ الرُّطَبِ والعِنَب والرُمَّان (2).
وأعجب من ذلك: تعليلُهم بأن هذه الثلاثة خيارُ الفاكهة، فلا تدخلُ في الاسم المطلق، ذكرَ الحكمَ والدليلَ [الإسبِيْجَابي] (3) في “شرح الطَّحَاوي” (4).
__________
(1) في (ع وظ): “الحافظ”، والمثبت من (ق)، ويؤيده ما في “إعلام الموقعين”: (3/ 327): “قال بعض المتكلمين” والجاحظ منهم، وقد نسب هذا القول له أبو الخطاب في “الانتصار”: (1/ 234)، وابن العربي في “العارضة”: (1/ 86)، ولعله ذكره في كتاب “الحيوان”.
(2) انظر: “بدائع الصنائع”: (3/ 61).
(3) تحرف فى المطبوعات إلى: “الأسماقي”! و (ق): “الاستجا”! وهو: أحمد بن منصور أبو نصر الإسْبِيْجابي -نسبةً إلى إسْبِيْجاب بكسر الهمزة وسكون السين المهملة وكسر الباء الفَارسية وسكون الياء المثنَّاة التحتية وفتح الجيم بعده ألف بعده باء- ت (نحو 480) له “شرح مختصر الطحاوي”. انظر “تاج التراجم”: (ص/ 126)، و”الفوائد البهية”: (ص/ 42).
(4) له نسخة فى الظاهرية، وعنها فلم في جامعة الملك سعود رقم 1128/ 6 ف.

(3/1059)


ومن العجب قولهم: لو حَلَفَ لا يشرَبُ من النيل أو الفرات أو دجْلَةَ، فشرب بكفِّه لم يحنث، ولا يحنثُ حتى ينكَبَّ ويكرَعَ بفيه مثلَ البهائم] (1).
فائدة
قال جماعة من الناس: إذا ماتت نصرانيةٌ في بطنها جَنينٌ مُسلم، نَزَل ذلك القَبْرَ نعيمٌ وعذابٌ، فالنَّعيم للابن والعذاب للأم، ولا بُعْدَ فيما قاله، كما لو دُفِنَ في قبر واحدٍ مؤمنٌ وفاجرٌ، فإنه يجتمعُ في القبر النعيمُ والعذابُ.
فائدة.
قالت الإماميةُ: إن العتق لا يَنْفُذُ إلا إذا قُصِدَ به القُرْبة؛ لأنهم جعلوه عبادةً، والعبادةُ لا تصِحُّ إلا بالنية.
قال ابنُ عَقِيل: ولا بأس بهذا القول لاسيَّما (2) وهم يقولون: الطلاق لا يقعُ إلا إذا كان مصادفًا للسُّنَّة، مطابقًا للأمر، وليس بقُرْبة، فكيف بالعتق الذي هو قُرْبَةٌ؟
قلت: وقد ذكر البخاري في “صحيحه” (3) عن ابن عباس أنه قال: “الطلاقُ ما كان عن وَطَرٍ، والعِتْقُ ما ابتُغِيَ به وجهُ الله تعالى”.
فائدة نافعة (4)
كثير من الناس يطلب من صاحبه بعد نيله درجةَ الرياسة الأخلاقَ
__________
(1) ما بين المعكوفين من (ق) فقط، وهو في “إعلام الموقعين”: (3/ 327 – 328).
(2) (ق): “لأنهم”.
(3) “الفتح”: (9/ 300) كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره.
(4) “نافعة” ليست في (ق).

(3/1060)


التي كان يعامِلُه بها قبلَ الرِّياسة، فلا يصادفُها، فينتقضُ ما بينهما من المودَّة، وهذا من جهل الصاحب الطالب للعادة، وهو بمنزلة من يطلبُ من صاحبه إذا سَكِرَ أخلاقَ الصَّاحي، وذلك غلطٌ؛ فإن للرِّياسة سَكْرةً كسكرة الخمر أو أشدَّ، ولو لم يكنْ للرِّياسة سَكْرة لما اختارَها صاحبُها على الآخرة الدائمة الباقية، فسكرتُها فوق سكرة القهوة (1) بكثير، ومُحَالٌ أن يُرى من السكران أخلاقُ الصاحي وطبعه، ولهذا أمر الله تعالى أكرم خلقه عليه بمخاطبة رئيسِ القبط بالخِطَاب اللَّيِّن، فمخاطبةُ الرؤساء بالقول اللَّيِّن أمرٌ مطلوب شرعًا وعقلًا وعرفًا، ولذلك تجدُ الناسَ كالمفطورين عليه، وهكذا كان النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – يخاطِبُ رؤساء العشائر والقبائل.
وتأمل امتثالَ موسى لما أمر به كيف قال لفرعون: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)} [النازعات: 18 – 19]، فأخرَجَ الكلام معه مخرجَ السؤال والعَرْض لا مخرجَ الأمر، وقال: {إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18)} ولم يقل: إلى أن أُزَكِّيَكَ، فنسبَ الفعلَ إليه هو، وذكر لفظ التَّزَكِّي (2) دونَ غيره؛ لما فيه من البركة والخير والنماء، ثم قال: {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ} أكونُ كالدليل بين يديك الذي يسيرُ أمامَك، وقال: {إِلَى رَبِّكَ}، استدعاء لإيمانه بربه الذي خلقه ورزقه وربَّاه بنعمه صغيرًا ويافعًا وكبيرًا.
وكذلك قول إبراهيم الخليل لأبيه: {يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)} [مريم: 42] فابتدأ خطابَه بذكر أبوَّته الدَّالَّة على توقيره ولم يُسَمِّه باسمه، ثم أَخْرج الكلامَ معه مخرجَ السؤال فقال: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)} ولم يقل: لا
__________
(1) كذا في (ع) والقهوة من أسماء الخمر، وفي (ق وظ): “الشهوة”.
(2) (ع): “التزكية”.

(3/1061)


تعبدُ، ثم قال: {يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم: 43] فلم يقل له: إنك جاهلٌ لا علمَ عندَك، بل عَدلَ عن هذه العبارة إلى ألطف عبارة تدُلُّ على هذا المعنى، فقال: {جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ}، ثم قال: {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)}.
وهذا مثل قول موسى لفرعون: {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ} [النازعات: 19]، ثم قال: {يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} (1) [مريم: 45] فنسب الخوفَ إلى نفسِه دون أبيه، كما يفعلُ الشفيقُ الخائفُ على من يُشفِقُ عليه.
وقال: {يَمَسَّكَ} فذكر لفظ المَسِّ الذي هو ألطفُ من غيره، ثم نكَّرَ العذابَ، ثم ذكر الرحمن، ولم يقل: الجبَّارُ ولا القهار، فأيُّ خطابٍ ألطفُ وألْيَنُ من هذا؟!.
ونظيرُ هذا خطابُ صاحب {يس (1)} لقومه حيث قال: {يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)} [يس: 20 – 22].
ونظير هذا قول نوح لقومه: {يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [نوح: 2 – 4]، وكذلك سائر خطاب الأنبياء، لأُمَمِهم قي القرآن، إذا تأمَّلْتَهُ وجدتَه ألْيَنَ خطابٍ وألطفَهُ، بل خطابُ الله لعباده هو ألطفُ خطاب وألينُه، كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] الآيات، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ
__________
(1) الآية في (ع وظ) غير تامة.

(3/1062)


اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73] وقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ لْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)} [فاطر: 5].
وتأمل ما في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50] من اللطف الذي سلب القلوب (1).
وقوله: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف: 5] على أحد التأويلين، أي: نتركُكُم فلا نستصلحكم ولا ندعوكم، ونعرضُ عنكم إذا أعرضتم أنتم وأسرفتم.
وتأمل لطفَ خطاب نُذُر الجنِّ لقومهم وقولهم: {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 31].
فائدة
* سئل ابن عَقِيل عن: رجل له ماء يجري على سطح جاره، فَعَلا دارَه هل يسقط حق الجري؟
فقال: لا، لكنه إذا سلط الماء على عادته، حفر سطح جاره لموضع العُلُوِّ، فينبغي أن يجعل جريَهُ بحدته إلى ملكه، ثم يخرجُه بسهولة إلى سطح جاره.
فائدة (2)
* وسُئل عن رجل قالت له زوجتُه: طلِّقْني، فقال: إن الله قد طَلَّقَكِ؟
__________
(1) (ظ): “العقول”.
(2) (ق): “أخرى”. وعلق أحد المطالعين في هامش (ع): “ابن عقيل جعل دلالة الحال قائمة مقام النية، كما هو المذهب فى الكنايات”.

(3/1063)


فقال: يقع الطلاق لأنه كنايةٌ استندَتْ إلى دلالة الحال، وهي ذكرُ الطلاق وسؤالها إياه.
وأجاب بعض الشافعية: بأنه إنْ نَوَى وَقَعَ (1) الطَلاقُ، وإلا لم يقعْ.
قلت: وهذا هو الصَّوابُ؛ لأن قوله: إن الله قد طَلَّقَكِ، إن أراد به شَرَعَ طلاقَكِ وأباحَهُ؛ لم يقعْ، وإن أراد: أن الله أوقعَ عليك الطلاقَ وأراده وشاءَهُ، فهذا يكون طلاقًا؛ لأن ضَرورة صدقِه أن يكونَ الطلاقُ واقعًا، وإذا احتمل الأمرين فلا يقعُ إلا بالنِّيَّةِ.
فائدة (2).
* وسُئل عن رجل وقفَ دابَّةً (3) في مكان، فجاء رجلٌ فضربها، فرفسته، فمات، هل يضمن صاحبُ الدَّابَّة؟
فقال: إذا لم يكن مُتَعَدِّيًا في إيقافِها بأن تكونَ في مُلك الضَّارب فلا ضَمانَ عليه، وإن كان مُتَعدِّيًا فالضَّمانُ عليه.
فائدة
حكى الطَّحَاويُّ: أنَ مذهبَ أبي يوسف جواز أخذ بني هاشم الفقراءِ الزَّكاةَ من بني هاشم الأغنياء (4)، قاله ابنُ عَقِيل، قال: وسألت قاضيَ القضاة عن ذلك، -يريد الدَّامَغاني (5) – فقال: نعم، هو مذهب أبي يوسف وهو مذهبُ الإمامِيَّة.
__________
(1) (ع): “وقع عليه”.
(2) ليست في (ع) وكذا الفوائد الخمس بعدها.
(3) (ع): “دابته”.
(4) انظر: “أحكام القرآن”: (4/ 335) للجصَّاص.
(5) ترجمته في “السير”: (18/ 485) توفي سنة (478) وغسَّله أبو الوفاء ابن عقيل.

(3/1064)


قلت: وقد ذهب (1) بعضُ الفقهاء إلى أنهم يَجوْزُ لهم الأخذَ من الزَّكاة مطلقًا إذا مُنِعُوا حَقَّهُم من الخُمْس، وأفتى به بعضُ الشافعية.
فائدة
قال ابنُ عقيل: سألني سائل: أيُّما أفضلُ حُجرَةُ النَّبِي – صلى الله عليه وسلم – أو الكعبة؛ فقلت: إن أردتَ مجرَّدَ الحُجرة فالكعبةُ أفضل، وإن أردتَ وهو فيها فلا واللهِ، ولا العرشُ وحَمَلَتُهُ، ولا جَنَّةُ عَدْن، ولا الأفلاكُ الدائرة؛ لأنَّ بالحُجْرة جَسَدًا لو وزن بالكَوْنينِ لرَجَحَ.
* وسُئل عن حَبْس الطير لطيب نَغَمتها؟
فقال: سَفَهٌ وبَطَر، يكفينا أن نُقْدم على ذبحِها للأكل فحسب؛ لأن الهواتفَ من الحَمَام، ربما هتفتْ نياحةً على الطيران وذكر أفراخها، أفيحسُنُ بعاقل أن يُعَذِّبَ حيًّا لِيَتَرنَّمَ فيلْتَذَّ بنياحته؟! وقد منع من هذا بعضُ أصحابنا وسموه سَفَهًا.
فائدة
من دقيق الوَرعَ أن لا يُقْبَلَ المبذولُ حال هَيَجَان الطبع من حزن أو سرور، فذلك كبذل السَّكران، ومعلومٌ أن الرأي لا يتحقَّقُ إلا مع اعتدال المزاج، ومتى بذل باذلٌ (2) في تلك الحال يعقبُهُ نَدَمٌ، ومن هنا (3): “لا يَقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ” (4)، وإذا أردت اختبارَ ذلك
__________
(1) “الإمامية. قلت: وقد ذهب” سقطت من (ع).
(2) (ق): “ما بذل”.
(3) (ق) زيادة: “قال”.
(4) أخرجه البخاري رقم (7158)، ومسلم رقم (1717) من حديث أبي بكرة -رضي الله عنه-.

(3/1065)


فاختبرْ نفسَكَ في كل مواردِكَ من الخير والشر، فالبِدَارُ بالانتقام حالَ الغضبِ يُعْقِبُ ندمًا، وطالما ندم المسرورُ على مجَازفته في العطاءِ، وودَّ أن لو كان اقتصر، وقد نَدِمَ الحسنُ على تمثيله بابن مُلْجِم.
فائدة (1)
في قول النبي – صلى الله عليه وسلم – للسائل عن مواقيت الصلاة: “صَلِّ مَعَنا” (2)، جوازُ البيان بالفعل، وجوازُ تأخيرِه إلى وقتِ الحاجةِ إليه. وجوازُ العُدول عن العمل الفاضلِ إلى المفضولِ لبيانِ الجَوازِ.
فائدة
قوله – صلى الله عليه وسلم -: “مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ، ومَنْ تَبِعَها حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ” (3). سُئل أبو نصر بن الصَّبَّاغ (4) عن القيرَاطين هل هما غيرُ الأوَّلِ أو به؟ فقال: بل القيراطان الأوَّل وآخر معه، بدليل قوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3].
قلت: ونظير هذا قوله – صلى الله عليه وسلم -: “مَنْ صَلَّى العِشَاءَ في جَمَاعَةٍ فكأنَّما قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، ومَنْ صَلَّى الفَجْرَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّما قَامَ اللَّيْلَ كُلَّه” (5) فهذا مع صلاة العشاء في جماعة، وقد جاء مصرَّحًا به في “جامع التِّرْمذي” (6) كذلك “مَنْ صَلَّى العِشاءَ والفجرَ في جماعة
__________
(1) (ق): “فصل”.
(2) أخرجه مسلم رقم (613) من حديث بريدة – رضي الله عنه -.
(3) أخرجه البخاري رقم (1325)، ومسلم رقم (945) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(4) هو: عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد شيخ الشافعية ت (477) “السير”: (18/ 464).
(5) أخرجه مسلم رقم (656) من حديث عثمان -رضي الله عنه-.
(6) رقم (221).

(3/1066)


فكأنما قامَ اللَّيْلَ كُلَّهُ” (1).
ونظيره -أيضًا- قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت: 9 – 10] فهي أربعةٌ باليومين الأولين، ولولا ذلك لكانت أيامُ التَّخليق ثمانية.
فائدة
لم أزل حريصًا على معرفة المراد بالقيراط في هذا الحديث، وإلى أيِّ شيءٍ نسبتُهُ، حتى رأيت لابن عَقِيل فيه كلامًا، قال: القيراطُ نصف سُدُس درهم مثلًا، أو نصفُ عُشر دينار، ولا يجوزُ أن يكون المُرادُ هاهنا جنسَ الأجر؛ لأن ذلك يدخلُ فيه ثوابُ الإيمان وأعماله كالصَّلاة والحج وغيره، وليس في صلاة الجنازة ما يبلُغ هذا، لم يبقَ إلا أن يرجِعَ إلى المعهود، وهو الأجرُ العائدُ إلى الميت، ويتعلَّق بالميت صبر على المُصَاب فيه وبه وتجهيزه (2) وغسله ودفنه والتَّعزية به، وحَمْل الطعام إلى أهله وتسليتهم، وهذا مجموعُ الأجر الذي يتعلَّقُ بالميِّت، فكان للمصلِّي والجالس إلى أن يُقْبَرَ سُدُسُ ذلك، أو نصفُ سُدُسِه إن صلَّى وانصرف (3).
قلت: كأنَّ مجموعَ الأجرِ الحاصل على تجهيز الميت من حين الفراق إلى وضعه في لحدِهِ، وقضاء حقِّ أهله وأولاده وجبرهم دينار مثلًا، فللمصلِّي عليه فقط قيراطٌ من هذا الدينار، والذي يتعارفه
__________
(1) وانظر “فتح الباري”: (3/ 235).
(2) في المطبوعات: “بالميت أجر الصبر على المصاب فيه. وأجر تجهيزه”.
(3) وقد ذكر الحافظ هذا عن ابن عقيل في “الفتح”: (3/ 231) وقوَّاه.

(3/1067)


الناس من القيراط أنه: نصف سُدُس، فإن صلَّى عليه وتَبِعَهُ كان له قيراطانِ منه، وهُما سُدُسُه، وعلى هذا فيكون نسبةُ (1) القيراطِ إلى الأجرِ الكاملِ بحَسَبِ: عِظَمِ ذلك الأجر الكامل في نفسه، فكلما كان أعظمَ كان القيراطُ منه بحسبه، فهذا بَيِّنٌ هاهنا.
وأما قوله – صلى الله عليه وسلم -: “مَنِ اقْتَنى كَلْبًا إلا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أو زَرْعٍ نَقَصَ مِنْ أجْرِهِ أو من عَمَلهِ كُلَّ يومٍ قِيرَاطٌ” (2) فيحتمل أن يُراد به هذا المعنى أيضًا بعينه، وهو نصفُ سدس أجر عمله ذلك اليوم، ويكون صِغَرُ هذا القيراط وكِبَرُهُ بحسب قِلَّة عمله وكثرته، فإذا كان له أربعةٌ وعشرون ألف حسنةٍ مثلًا، نقص منها كلَّ يوم ألفا حسنة. وعلى هذا الحساب، والله أعلم بمراد رسوله، وهذا مبلغُ الجَهد في فهم هذا الحديث.
فائدة
قوله – صلى الله عليه وسلم -: “مَنْ عَزَّى مُصَابًا فله مِثْلُ أَجْرِهِ” (3) استشكله بعضُهم وقال: مشقَّةُ المصيبة أعظمُ بكثير من مساواة تعزية المُعَزِّي لها مع بَرْد قلبه.
فأجاب ابنُ عقيل بجواب بديعٍ جدًّا، فقال: ليس مرادُه – صلى الله عليه وسلم – قولَ
__________
(1) (ع): “صفة”.
(2) أخرجه البخاري رقم (5480) ومسلم رقم (1574) من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما -.
(3) أخرجه الترمذي رقم (1073)، وابن ماجه رقم (1602) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-.
والحديث ضعيف، قال الترمذي: “غريب” وأعلَّه بالوقف، وانظر “الإرواء” رقم (765).

(3/1068)


بعضِهم لبعض: نَسَأَ الله في أجلِكَ، وتعيشُ أنت وتَبْقى، وأطالَ الله عُمُرَك، وما أشبَه ذلك، بل المقصودُ من عَمَد إلى قلبٍ قد أقلقه ألمُ المُصاب وأزعجه، وقد كان يساكنُ السخط، ويقول الهُجْرَ ويوقعُ الذَّنْبَ، فداوى ذلك القلبَ بآيِ الوعيد، وثوابِ الصبر، وذمِّ الجزع حتى يُزِيلَ ما به، أو يقلِّله (1) فيَتَعَزَّى، فيصير ثَواب المُسَلِّي كثواب المصاب؛ لأن كلًّا منهما دفع الجزع، فالمُصاب كابَدَهُ بالاستجابة، والمُعَزِّي عمل في أسباب المداواة لألم الكآبة.
فائدة
قوله – صلى الله عليه وسلم -: “أَقِيلُوا ذَوِي الهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إلَّا الحُدُودَ” (2) قال ابنُ عَقِيل: المُرادُ بهم الذين دامت طاعاتُهم وعدالتُهم، فزلَّت في بعض الأحايينِ أقدامُهم بورطة (3).
قلت: ليس ما ذكره بالبَيِّن، فإن النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – لا يُعَبِّر عن أهلِ التَّقوى والطَّاعة والعبادة بأنهم ذوو (4) الهَيْئَاتِ، ولا عهد بهذه العبارة في كلام الله ورسوله للمُطيعين المتَّقين، والظاهر أنهم ذوو الأقدار بين الناس من الجاه والشَّرَف والسؤدد، فإن الله تعالى خَصَّهم بنوع
__________
(1) (ع): “يقلقه”.
(2) أخرجه أحمد: (6/ 181)، وأبو داود رقم (4375)، والبخاري في “الأدب المفرد”: (ص/ 143) وابن حبان “الإحسان”: (1/ 296)، والبيهقي: (8/ 334)، وغيرهم من حديث عائشة – رضي الله عنها-.
والحديث صححه ابن حبان؛ وفي سنده من يُضعَّف.
(3) في هامش (ع) ما نصه: “ما قاله ابنُ عقيل وقع في كلام الشافعي -رضي الله عنه-” أقول: انظر “الأم”: (6/ 145) بنحوه.
(4) في النسخ: “ذوي”، وما أثبته الصواب.

(3/1069)


تكريم وتفضيل على بني جنسهم، فمن كان منهم مستورًا مشهورًا بالخير حتى كبا به جوادُه، ونبا عَضْبُ صبره، وأديل عليه شيطانه، فلا يتسارَعُ إلى تأنيبه وعقوبته، بل تُقالُ عَثْرَتُهُ (1) ما لم يكنْ حدًّا من حدود الله، فإنه يتعيَّنُ استيفاؤُه من الشَّريف، كما يتعيَّنُ أخذه من الوضيع، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “لوْ أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا”، وقال: “إنما هَلَكَ بنُو إسْرَائِيل أنَّهُمْ كانوا إذا سَرَقَ فيهم (2) الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذا سَرَقَ فيهم الضَّعِيفُ أقاموا عليه الحَدَّ” (3)، وهذا بابٌ عظيم من أبواب محاسن هذه الشريعة الكاملة وسياستها للعالمَ، وانتظامها لمصالح العباد في المعَاشِ والمَعَادِ.
فائدة
اعترض نفاة المعاني والحكم على مُثبتيها في الشَّريعة بأن قالوا: الشَّرْعُ قد فرَّق بين المتماثلات، فأوجبَ الحَدَّ بشربِ الخمر، ولم يحدَّ بشرب الدَّم والبول وأكل العَذِرة، وهَي أخبثُ من الخمر، وأوجبَ قطعَ اليدِ (4) في سرقة رُبُع دينار ومنَعَ قطعها في نُهْبَة ألف دينار، وأوجب الحَدَّ في رمي الرجل بالفاحشة، ولم يوجِبْه في رميه بالكفر وهو أعظمُ منه، ولم يرتِّبْ على الرِّبا حدًّا مع كوَنه من الكبائر، ورتَّبَ الحَدَّ على شرب الخمر والزِّنا وهما من الكبائر.
فأجاب المُثْبِتونَ: بأن قالوا: هذا مما يدُلُّ على اعتبار المعاني
__________
(1) “بل تقال عثرته” سقطت من (ع).
(2) من (ظ).
(3) أخرجه البخاري رقم (3475)، ومسلم رقم (1688) من حديث عائشة – رضي الله عنها -.
(4) (ق): “القطع”.

(3/1070)


والحِكَم ونَصْب الشرع بحسب مصالح العباد، فإن الشارعَ ينظرُ إلى المحرَّم ومفسدته، ثم ينظر إلى وازِعِه وداعيه، فإذا عظُمَتْ مفسدتُه رتَّبَ عليه من العقوبة بحسب تلك المفسدةِ، ثم إن كان في الطِّباعِ التي ركَّبَها الله تعالى في بني (1) آدم وازعٌ عنه اكتفى بذلك الوازع عن الحَدِّ، فلم يُرَتِّب على شُرْب البول والدم والقيء وأكل العَذِرة: حدًّا، لما في طباع الناس من الامتناع عن هذه الأشياء، فلا تكثُرُ مواقَعتُها بحيث يدعو إلى الزجر (2) بالحَدِّ، بخلاف شرب الخمر والزنا والسَّرقة، فإن الباعثَ عليها قَوِيٌّ، فلولا ترتيبُ الحدود عليها لعمَّتْ مفاسدُها وعظُمتِ المصيبةُ بارتكابِها.
وأما النُهبة فلم يرتبْ عليها حدًّا، إما لأن بواعثَ الطِّباع لا تدعو إليها غالبًا؛ خوفَ الفضيحة والاشتهار وسرعة الأخذ، وإما لأن مفسدَتَها تندفعُ بإغاثة الناس، ومنعِهم المُنتهبَ، وأخذهم على يديه.
وأما الرِّبا فلم يرتَبْ عليه حَدًّا؛ فقيل: لأنه يقعُ في الأسواق وفي المَلأِ، فوكلتْ إزالتُهُ إلى إنكار الناس، بخلاف السرقة والفواحش وشرب الخمر؛ فإنها إنما تَقَعُ غالبًا سرًّا، فلو وكلت إزالتُها إلى الناس لم تُزَل.
وأحسنُ من هذا أن يقالَ: لما كان المُرابي إنما يُقْضَى له برأس ماله فقط، فإن أخذَ الزيادةَ قُضِيَ عليه بردِّها إلى غريمه، وإنْ لم يأخذْها لم يُقْضَ له بها، كانت مفسدةُ الرِّبا منتفيةً بذلك، فإن غريمه لو شاء (3) لم يُعْطِهِ إلاّ رأسَ ماله، فحيث رضي بإعطائه الزِّيادة فقد رضي باستهلاكها وبذلها مجانًا، والآخذُ لها رضِيَ بأكل النَّارِ.
__________
(1) (ق وظ): “ابن”.
(2) (ق وظ): “الرد”.
(3) (ق): “سأله”.

(3/1071)


وأجودُ من هذين أن يقالَ: ذنبُ الرِّبا أكبرُ من أن يُطَهِّره الحَدُّ، فإنَّ المرابيَ محاربٌ للُّه ورسوله آكلٌ للجمر، والحَدُّ إنما شُرعَ طُهْرةً وكفارةً، والمرابي لا يزولُ عنه إثم الرِّبا بالحدِّ، لأن جُرمه أعظمُ من ذلك، فهو كَجُرم مفطر رمضانَ عمدًا من غير عُذْر، ومانعُ الزكاة بخلًا، وتاركُ صلاة العصر، وتارك الجمعة عمدًا، فإنَّ الحدود كفاراتٌ وطُهَرٌ، فلا تعملُ إلا قي ذنب يقبل (ق/262 ب) التكفيرَ والطُّهْرَ.
ومن هذا: عدمُ إيجاب الحَدِّ بأكل أموال اليتامى؛ لأنَّ آكِلَها قد وجبِتْ له النارُ، فلا يؤثِّرُ الحَدُّ في إسقاط ما وجب له من النار.
وكذلك تركُ الصلاة هو أعظمُ من أن يُرَتَّبَ عليه حَدٌّ، ونظير هذا اليمينُ الغموسُ هي أعظمْ إثمًا من أن يكون فيها حَدٌّ أو كفارة.
وإذا تأمَّلْتَ أسرار هذه الشريعةِ الكاملةِ وجدتَها في غاية الحكمة ورعاية المصالح، لا تفرِّقُ بين متماثلين ألبتَّةَ ولا تُسَوِّي بين مختلفين، ولا تحرِّمُ شيئًا لمفسدة، وتبيحُ ما مَفْسَدتُه مساويةٌ -لما حَرَّمَتْه- أو راجحةٌ عليه، ولا تُبيح شيئًا لمصلحة وتُحَرِّمُ ما مصلحته مُساويةٌ لما أباحَته ألبتة، ولا يوجدُ فيما جاء به الرسول شيءٌ من ذلك ألبتة.
ولا يلزمُه الأقوالُ المستندةُ إلى آراء الناس وظنونِهم واجتهاداتِهم، ففي تلك من التفريق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات، وإباحةِ الشيء وتحريمِ نظيره -وأمثال ذلك- ما فيها.
فائدة (1)
سُئل ابنُ عقيل عن كشف المرأة وجهَها في الإحرام مع كثرة
__________
(1) (ق): “مسألة”. وانظر: “إعلام الموقَّعين”: (1/ 222 – 223، و”تهذيب السنن”: (2/ 350 – 352)

(3/1072)


الفساد اليوم؛ أهو أولى أم التغطية مع الفدا؟ وقد قالت عائشة – رضي الله عنها: “لو عَلِم رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – ما أحْدَثَ النساءُ لمنعهنَّ المساجِدَ” (1).
فأجاب: بأن الكشفَ شعارُ إحرامها، ورَفْع حكمٍ ثبتَ شرْعًا بحوادث (ظ/184 ب) البدَع لا يجوزُ؛ لأنه يكونُ نسخًا بالحوادث، ويُفضي إلى رفع الشَرْعَ رأسًا.
وأما قول عائشة؛ فإنها ردَّتِ الأمرَ إِلى صاحب الشرع (2)، ففالت: لو رأى لَمنَعَ، ولم تمنعْ هي، وقد جَبَذَ عمرُ السُّتْرَةَ عنِ الأَمَة وقال: لا تَشَبَّهي بالحَرائر (3)، ومعلوم أنّ فيهنَّ مَنْ تَفْتِنُ؛ لكنه لما وُضع كشف رأسها للفرق بين الحرائر والإماء جعله فَرْقًا، فما ظنُّك بكشفٍ وُضِع بين النسك والإحلال؟! وقد ندب الشَّرْعُ إلى النظر إلى المرأَة قبل النكاح، وأجاز للشهود النظرَ، فليس بِبدْعٍ أن يأمُرَها بالكشف، ويأمر الرجال بالغَضِّ ليكونَ أعظمَ للابتلاءَ، كما قَرَّبَ الصيْدَ إلى الأيدي في الإحرام ونهى عنه.
قلت: سببُ هذا السؤال والجواب خفاءُ بعض ما جاءت به السُّنَّةُ في حقِّ المرأة في الإحرام، فإنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – لم يشْرَعْ لها كشفَ الوجه في الإحرام ولا غيره، وإنما جاء النَّصُّ بالنهي عن النِّقاب خاصَّةً، كما جاء بالنهي عن القُفَّازيْن، وجاء بالنهي عغ لُبْس القميص والسراويل، ومعلومٌ أن نهيه عن لُبس هذه الأشياء لم يُرِدْ أنها تكونُ مكشوفةً لا تسترُ ألبتّةَ، بل قد أجمع الناسُ على أن المُحْرِمَةَ تسترُ (ق/263 أ) بَدَنَها
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (869)، ومسلم رقم (445).
(2) (ق): “صاحبه”.
(3) أخرجه عبد الرزاق: (3/ 136)، وابن أبي شيبة: (2/ 41).
وفي (ق): “لا تشبَّهن” وكذا في بعض الروايات.

(3/1073)


بقميصها ودرعها، وأن الرجل يستُرُ بَدَنَه بالرداءْ وأسافِلَه بالإزار، مع أن مخرجَ النهي عن النِّقَاب والقَفَّازيْنِ والقميص والسَّراويل وأحدٌ، فكيف يرادُ على موجب النصَ؟! ويُفهم منه أنه شَرَع لها كشف وجهها بين الملأ جهارًا؛ فأيُّ نص اقتضى هذا أو مفهوم أو عموم أو قياس أو مصلحة؟! بل وجه المرأة كبَدَن الرجل يحرمُ سترُه بالمفصَّل على قَدْره كالنِّقَاب والبُرْقع، بل وكَيَدِها يحرم سترها بالمفصَّل على قَدْرْ اليد كالقفَّاز. وأما سترها بالكُمِّ، وسَتْر الوجه بالمُلاءةْ والخِمار والثوب؛ فلم ينهَ عنه ألبتة.
ومن قال: “إن وجهها كرأس المُحْرِم” فليس معه بذلك نصٌّ ولا عمومٌ، ولا يصِحُّ قياسهُ على رأس المحرم؛ لما جعل الله بينهما من الفرق.
وقول من قال من السَّلف: “إحرام المرأة في وجهها”، إنما أراد به هذا المعنى، أي: لا يلزمُها اجتنابُ اللباس كما يلزمُ الرجل، بل يلزمها اجتناب النِّقَاب فيكوم وجهُها كبَدَن الرجل.
ولو قُدِّر أنه أراد وجوبَ كشفه؛ فقولُه ليس بحُجَّة ما لم يثبتْ عن صاحب الشرع أنه قال ذلك، وأراد به وجوب كشف الوجه، ولا سبيلَ إلى واحد من الأمرين، وقد قالت أمُّ المؤمنينَ عائشةُ – رضي الله عنها -: “كنا إذا مرَّ بنا الرُّكبانُ سَدَلَتْ إحدانا جلبابها على وجهها” (1)،
__________
(1) أخرجه ابن خزيمة رقم (2691)، وأحمد: (6/ 30)، وأبو داود رقم (1833) وأبن ماجه رقم (2935) والبيهقي: (5/ 48) وغيرهم من طريق يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن: عائشة به، وزياد فيه ضعف يسير.
ويشهد له ما أخرجه ابن خزيمة رقم (2690) عن أسماء بنت أبي بكر -بسند صحيح- أنها قالت “كنا نغطي وجوهنا من الرجال … “. =

(3/1074)


ولم تكنْ إحداهُنَّ تَتَّخِذُ عودًا تجعلُه بين وجهها وبين الجلباب كما قاله بعضُ الفقهاء، ولا يعرفُ هذا عن امرأة من نساء الصَحابة، ولا أمَّهات المؤمنين ألبتةَ لا عملًا ولا فتوى (1).
ومستحيلٌ أن يكونَ هذا من شعار الإحرام، ولا يكون ظاهرًا مشهورًا بينهنَّ يعرفه الخاصُّ والعامُّ. ومن آثَرَ الإنصافَ وسلك سبيلَ العلم والعدل تبيَّنَ له راجحُ المذاهب من مرجوحها، وفاسدُها من صحيحها، والله الموفق الهادي.
فائدة
قال ابنُ عقيل: يخرَّجُ من رواية إيجاب الزكاة في حُلِيِّ الكِراء والمواشط. أن يجب في العقار المُعَدِّ للكِرَاء وكلِّ سلعة تؤجَّرُ وتعَدُّ للإجارة، قال: وإنما خرَّجْتُ ذلك على الحُلِيِّ؛ لأنه قد ثبت من أصلنا أن الحُلِيَّ لا يجبُ فيه الزكاة، فإذا أُعِدَّ للكراء وجبتْ، فإذا ثبتَ أن الإعداد للكِراء ينشىِءُ إيجابَ زكاةٍ في شيءٍ لا تجبُ فيه الزكاةُ، كان في جميع العروضِ التىِ لا تجِبُ فيها الزكاةُ ينشئ إيجاب الزكاة.
يوضحُهُ أن الذهبَ والفضَّةَ عينانِ تجبُ الزكاةُ بجنسهما وعينهما، ثم إن الصِّناعةَ والإعداد للباس والزينة والانتفاع غلبت (ق/263 ب) على إسقاط الزكاة في عينه، ثم جاء الإعدادُ للكِراء، فغلبَ على الاستعمالِ وأنشأَ إيجابَ الزكاة، فصار أقوى مما قوي على إسقاط
__________
= وكذا ما صحَّ عن عائشة -رضي الله عنها- في لباس المحرمة أنها قالت: “تسدل الثوب على وجهها إن شاءت … ” أخرجه البيهقي: (5/ 47).
(1) انظر: “المغني”: (5/ 155)، و”تهذيب السنن”: (5/ 198).

(3/1075)


الزكاة، فأولى أن يُوجَبَ الزكاةَ في العَقَار والأواني والحيوان التي لا زكاةَ في جنسها أن (1) يُنْشئَ فيها الإعدادُ للكِراء زكاةً.
فائدة
قال ابن (ظ/85 أ)، عقيل: جاءت فتوى أن حاكمًا قال بين يديه يهوديٌ: لا نُنْكِرُ أن محمدًا بُعِثَ (2) إلى العرب، فقال له: وتقولُ أنه جاء بالحَقِّ؛ فقال: نعم، فأفتى جماعة أنه قد أسلمَ.
وكتبتُ: لا شكَّ أن قوله: “إنه بعِثَ إلى العرب” قولُ طائفة منهم، وقولُه بعد هذا: “وأعتقد أنه جاء بالحق”، يرجعُ إلى ما أقرَّ به من أنه جاء رسولًا إلى العرب، فإذا احتملَ أن يعودَ كلامُه إلى هذا، لم يخرجْ من دينه بأمرٍ محتملٍ، وكتب بذلك إلْكِيا (3) والشاشيُّ (4).
فائدة
قاْلْ ابن عقيل في مسألة (ما إذا أُلقِيَ في مركبهم نارٌ واستوى الأمرانِ عدهم) فيه روايتان. قال: وأعملوا أن التقسيمَ والتَّفصيل ما لم تَمَسَّ الناْرُ الجسد؛ فإن مسَّتْه فالإنسانْ بالطبعْ يتحرَّكُ إلى خارج منها؛ لأن طبعَ الحيوان الهربُ من المُحُسِّ، ويغلبُ الحسُّ على التأمّل والنظر في العاقبة، فتصير النارُ دافعةً له بالحِسِّ، والبحرُ ليس.
__________
(1) (ع): “إنما”.
(2) كذا في (ق). والمطبوعات، وفي (ع) “رسول”، و (ظ): “رسول الله”.
(3) إلْكِيا هو: علي بن محمد أبو الحسن الطبري الهرَّاسي، أحد أئمة الشافعية ت (504). “السير”: (19/ 350).
(4) الشاشي هو: محمد بن أحمد أبو بكر التركي، شيخ الشافعية ت (507). “السير”: (19/ 393).

(3/1076)


محسوسًا أذاهُ له، لكنَّ الغرقَ والمضرَّة معلومةٌ، والحسُّ يغلب على العلم.
يبيِّنُ هذا ما يُشَاهَدُ من الضرب والوَخْز للإنسان الذي قد نُصِبَتْ له خشبة ليصْلَبَ عليها، أو حُفِرَ له بئرٌ ليلْقَى فيها، فإنه يتقدَّمُ إلى الخَشَبة والبئر؛ لأن الضَّرَر فيها ليس بِمُحَسٍّ، والوخزُ بالسِّنان (1) والضرب مُحَسٌّ فهو إضرار ناجزٌ واقع، وإذا أردت أن تعلمَ ذلك فانظر إلى وقوف الحيِّ وجنوحه عن التحرّك، إذا تكافأ عنده الأمرانِ في الحِسِّ والعلم.
بيانُه: إنسانٌ هجم عليه سَبُعٌ على حرف نَهَرٍ جار عميقٍ، وهو لا يُحْسِنُ السِّباحةَ، فإنه لا محالةَ يتحرك نحو الماء راميًا نفسَهُ لأجل إلجاء السَّبُعِ له وهجومه عليه، فلو هجم عليه من قِبل وجهه سَبُعٌ، فالتفتَ فإذا وراءه سَبُعٌ آخرُ، وهما متساويان في الهجوم عليه، لم يَبْق للطبع مهربٌ، وتوازن (2) المكروهاتُ، فإنه يَقِف مستسلمًا صامدًا للبلاء، وكذلك تكافُؤ كفَّةِ الميزان.
قلت: هذا صحيح من جهة الوَهْم والدَّهَش، وإلا فلو كان عقلُه حاضرًا معه، لَتكَافَأ عندَهُ الأمران: المحسوس والمعلوم، وكثيرًا ما يحضرُ الرجل عقلَه إذ ذاك فيتكافأُ عنده (3) المحسوس والمعلوم، فيستسلمُ لما لا صُنْعَ له فيه، ولا يعِينُ على نفسه، (ق/264 أ) ويحكم عقله على حِسِّه، ويعلمُ أنه إن صبر كان له أجرُ مَنْ قُتِلَ، ولم يُعِنْ
__________
(1) (ظ): “بالإنسان”.
(2) (ق): “وتوارت”، والمطبوعة: “وتوازنت”.
(3) (ع) زيادة: “الأمران”.

(3/1077)


على نفسه، وإن ألقى نفسه في الهلاك، لم يكنْ من هذا الأجر على يقين، بل ولا يستلزمُ: ذلك الإيمان (1) بالثواب، بل إذا تصوَّرَ حمدَ الناس له على صبره وعدم جزعه بإلقاء نفسه في الهلاك هَرَبًا مما لابُدَّ له منه رأى الصبر أحمدَ عاقبةً، وأنفعِ له أجلًا، فمحكِّم العقل يقدِّمُ الصبَّر، ومحكِّم الحِسَّ يهربُ من التَّلف إلى التَّلَف، فليست الطباعُ في هذا متكافئة، واللهُ أعلمُ.
فائدة
يُذكر عن كعب الأحبار (2) قال: قرأت في بعض كتب الله تعالى: (الهديَّةُ تفقأُ عين الحَكَمِ) (3)، قال ابن عقيل: معناه: أن المحبَّة الحاصِلَةَ للمُهْدَى إليه، وفرحه بالظَّفَر بها، وميله إلى المُهْدِي، يمنعُهُ من تحديق النظر إلى معرفة باطل المهدِي وأفعاله الدَّالَّة على أنه مُبْطِلٌ، فلا ينظر في أفعاله بعينٍ ينظر بها إلى من لم يُهْدِ إليه، هذا معنى كلامه.
قلت: وشاهده الحديثُ المرفوعُ الذي رواه أحمد في “مسنده ” (4).
“حُبُّك الشَّيءَ يعْمي ويُصِمُّ” (5). فالهديَّةُ إذًا أوجبتْ له محبَّةَ المُهْدِي، ففقأتْ عينَ الحَق، وأصمَّت أذنَهُ.
__________
(1) (ظـ): “للإيمان”.
(2) من (ق).
(3) انظر: “الفروع”: (6/ 393)، و”المبدع”: (10/ 40).
(4) (5/ 194).
(5) وأخرجه أبو داود رقم (5130)، والبخاري في “التاريخ”: (3/ 157)، وابن عدي: (2/ 39) وغيرهم من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- والحديث فيه ضعف. أنظر: “المقاصد الحسنة”: (ص/ 181).

(3/1078)


فائدة
قال ابن عَقِيل: الأموالُ التي يأخذها القضاة أربعة أقسام: (رِشوة وهديةٌ وأجرةٌ ورِزْقٌ).
فالرِّشْوَةٌ: حرامٌ، وهي ضربانِ: رشوةٌ ما ليميلَ إلى أحدهما بغير حقٍّ، فهذه حرامٌ عن فعل، حرام على الآخذ والمعطي، وهما آثمان. ورشوة يُعْطاها ليحكمَ بالحقِّ واستيفاءِ حقِّ المُعطي من دَيْن ونحوه، فهي حرامٌ على الحاكم دون المُعطي؛ لأنها للاستنقاذ، فهي كجُعْل الآبِقِ، وأجرة الوكالة (1) في الخصومة.
وأما الهدية: فضربان: هدية كانت قبل الولاية فلا تحرمُ استدامتها، وهديةٌ لم تكنْ إلا بعدَ الولاية، وهي ضربان: مكروهة وهي الهديَّة إليه ممن لا حكومةَ له، وهدية ممن قد اتجهت له حكومة، فهي حرامٌ على (ظ/ 185 ب) الحاكم والمُهْدِي.
وأما الأجرة: فإن كان للحاكم رزقٌ من الإمام من بيت المال، حَرُمَ عليه أخذُ الأجرة قولًا واحدًا؛ لأنه إنما أَجرى له الرِّزق لأجل الاشتغال بالحكم، فلا وجهَ لأخذ الأجرة من جهة الخصوم، وإن كان الحاكم لا رزقَ له؛ فعلى وجهين: أحدهما: الإباحة؛ لأنه عملٌ مباح فهو كما لو حكَّماه؛ ولأنه مع عدم الرزق لا يتعينُ عليه الحكمُ، فلا يمنعُ من أخذ الأجرة، كالوَصِى وأمين (2) الحاكم يأكلان من مال اليتيم بقدْر الحاجةِ.
وأما الرزق مِنْ بيت (ق / 264 ب) الحال: فإن كان غنيًّا لا حاجةَ له
__________
(1) (ظ): “الوكلاء”.
(2) (ظ): “وعامل”.

(3/1079)


إليه احْتُمل أن يُكْرَهَ لئلا يُضَيَّقَ على أهل المصالح، ويحتمل أن يباحَ؛ لأنه بذل نفسَه لذلك، فصار كالعامل في الزَّكاة والخَراج.
قلت: أصلُ هذه المسائل عاملُ الزكاة وقيِّمُ اليتيم، فإن الله تعالى أباحَ لعامل الزَّكاة جزءًا منها، فهو يأخذه مع الفقر والغنى، والنبيُّ – صلى الله عليه وسلم – منعه من قبول الهدية، وقال: “هَلّا جَلَسَ في بَيْتِ أبيهِ وأُمِّهِ فَيَنْظُرَ هَلْ يُهْدَى إليْهِ أمْ لا؟ ” (1)، وفي هذا دليلٌ على أن ما أُهَديَ إليه في بيته ولم يكن سببه العمل على الزَّكاة جاز له قبوله، فيدلُّ ذلك على أن الحاكمَ إذا أَهْدَىَ إليه من كان يُهْدي له قبل الحُكم ولم تكنْ ولايَتُهُ سببَ الهدية فله قَبُولُها.
وأما ناظرُ اليتيم؛ فاللهُ تعالى أَمَرَهُ بالاستعفاف مع الغِنَى، وأباح له الأكلَ بالمعروفِ مع الفقر، وهو إما اقتراضٌ أو (2) إباحة على الخلاف فيه، والحاكمُ فرعٌ متردِّدٌ بين أصلينِ: عامل الزكاة، وناظر اليتيم، فمن نظر إلى عموم الحاجة إليه وحصول المصلحة العامَّة به ألحقَهُ بعامل الزكاة، فيأخذُ الرِّزقَ مع الغِنى كما يأخذُه عاملُ الزَّكاة، ومن نظر إلى كونه راعيًا منتصِبًا لمعاملة الرعية بالأَحَظِّ لهم ألحقه بولي اليتيم، إن احتاج أخذَ، وإن استغنى ترك.
وهذا أفقه، وهو مذهب الخليفتين الراشدين، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “إني أنزلت نفسي مِنْ مال اللهِ منزلةَ وليِّ اليتيمِ إن احتاجَ أكَلَ بالمعروفِ، وإن استغنى تَرَكَ” (3).
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (1500)، ومسلم رقم (1832) من حديث أبي حميد. الساعدي -رضي الله عنه-.
(2) (ع): “وإما”.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة: (6/ 460)، وابن سعد في “الطبقات”: (3/ 276)، =

(3/1080)


والفرقُ بينَه وبين عامل الزكاة: أنَّ عامل الزكاة مستأجرٌ من جهة الإمام لجباية أموال المستحقين لها وجمعها، فما يأخذه يأخذُهُ بعمله، كَمَن يستأجرُهُ الرجل لجباية أمواله، وأما الحاكمُ فإنه منتصبٌ لإلزام الناس بشرائع الرَّبِّ -تعالى- وأحكامه وتبليغها إليهم، فهو مبلغٌ عن الله بفُتياه، ويتميَّزُ عن المفتي بالإلزام بولايته وقدرته. والمبلِّغُ عن الله الملزمُ للأُمَّة بدينه، لا يستحقُّ عليهم شيئًا، فإن كان محتاجًا فله من الفيء ما يَسُدُّ حاجَتَهُ، فهذا لَوْن وعامل الزكاة لَوْن، فالحاكم مفْتٍ في خبره عن حكم الله ورسوله شاهدٌ فيما ثبت عنده، مُلْزم لمن توجَّهَ عليه الحقُّ، فيشترطُ له شروط المفتي والشاهد، ويتميَّزُ بالقُدْرة على التنفيذ فهو في منصب خلافةِ مَنْ قال: {لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام: 90]، فهؤلاء هم الحَكَّامُ (ق/ 265 أ) المقدَّرُ وجودهم في الأذهان، المفقودون في الأعيان، الذين جعلهم الله ظلالًا، يأوي إليها اللَّهْفان، ومناهِلَ يَرِدُها الظمآنُ.
فائدة
إذا قال إنسان لآخر: “أَنْفِذْ لي كتابًا”، فحلف أنه قد أنفذَهُ أمسِ، فبان أنه قد أنفذَه قبلَه بيوم.
قال ابن عقيل: لا يحنَثُ، لا لأجل الخطأ والنسيان؛ بل لأنَّ قصدَهُ تصديقُ نفسِه في الإنفاذ الذي هو مقصودُ الطالب، وإذا بان أن المقصودَ قد حصل قبل أمس، فقد بان أنه قد حصل أوْفَى المقصود، كما لو حلف: “لقد أعطيتُك دينارًا”، فبان أنه أعطاه دينارين.
__________
= والبيهقي: (6/ 4) عن عمر -رضي الله عنه- بسندٍ صحيح، صححه الحافظ ابن حجر في “الفتح”: (13/ 161)، وابن كثير في “التفسير”: (2/ 853).

(3/1081)


فائدة
إذا ماتت الحاملُ، فصُلِّيَ عليها هل يُنْوَى الحَمْلُ؟.
قال ابنُ عقيل: يحتملُ أن لا يذكرَ سوى المرأة؛ لأن الحَمْلَ غيرُ مُتَيَقَّنٍ، ولهذا يلاعنُ عليه، ولو قُتِلَتْ لم تَجِبْ دِيَتُهُ.
فإن قيل: أليس يُعْزَلُ (1) له الإرثُ، ولا تُدْفَنُ في مقابر المشركين إذا كانت نصرانيةً، ويَتَذَكَّى بذكاة أمِّه؟
قيل: أما الإرثُ فهو الحُجَّة لأنه لا يُعطاه، ولا يُورَثُ عنه، حتى يتحقَّقَ وضْعُه ُعنه (2)، وأما دفنُهُ: فلظنِّ وجوده، وحكمُ الذكاة تلحقهُ إذا وُضِعَ.

فائدة
إذا جَبَّ عبدَه ليزيدَ ثمنُه، فهل تحلُّ له الزِّيَادة؟.
أما على أصْلِنا وأصل مالك بن أنس في العِتْق بالمُثْلة فلا تفريعَ، وأما من لم يعتقْهُ بالمُثْلَة فينبغي عنده أن لا تحرُمَ الزِّيَادَةُ، كما لو قطع له إصبعًا زائدة فزاد ثمنه بقطعها.
فإن قيل: فالمغنِّية إذا زادتْ قيمَتُها لأجل الغناء حَرُمَتِ الزِّيَادَةُ.
قيل: الغناءُ (ظ/186 أ) منهيٌّ عنه حالَ دوامه، فيقالُ: لا يحِلُ لك أن تغنِّى، ولا يؤخذ العِوَضُ عنه، وأما الخِصاء فهو أثر قد انقضى، ولا يتعلَّقُ النهيُ بدوامه، فافترقا.
__________
(1) (ق): “يعول”.
(2) ليست في (ع وظ).

(3/1082)


فائدة
سَرَق (1) منديلًا لا يساوي نِصابًا، وفي طرفه دينار لم يعلمْ به.
قال ابن عقيل: قياس قولِ أحمدَ فيمن سرق إناءً من ذهبٍ فيه خمرٌ، قال: إنه لا يُقْطَعُ، فكذلك هاهنا لا يُقْطَعُ؛ لأنه جعل القَصْدَ للخمر عِلَّةً لإسقاط القطع بالإناء، فقال: لو لم يكن قصدَه الخمرُ أراقه.
فائدة
رجل له على آخر قَوَدٌ في النَّفْس والطَّرَف، فقَطَعَ الطَّرَفَ فَسَرَى إلى النَّفسِ، هل يسقطُ حكمُ القَوَدِ في النَّفس بالسِّرَاية؟.
قال ابن عَقِيل: يحتملُ أن يكونَ مستوفيًا للحقِّ بالسِّراية؛ لأنَّ القطعَ قد صار قتلًا، وما صلح لاستيفاء الحَقَّيْنِ حصلَ به استيفاؤُهما، كمن أعتقَ المُكَاتِبَ عندَنا في الكفَّارة حصلَ به مقصودُ المكاتبِ من العِتقِ ومقصودُ السَّيِّد من التَّكفيرِ.
وكمن أطعم المُضطرَّ طعامًا قد وِجبَ عليه بذلُهُ، لكون المضطرِّ لا طعامَ له، وكون صاحب الطعام غيْرَ محتاج إليه، ونوى بإطعامه الكفَّارَةَ فإنه (ق/265 ب) يتدفعُ به الحَقَّينِ.
وكذا من دخل المسجدَ فصلى قَضاءً ناب عن القضاء والتَّحِيَّة.
قلت: وكذلك إذا نَذَرَ صوم يومٍ يقدُمُ فلان، فقَدِمَ في نهار رمضان -على قول الخِرَقِيِّ-.
__________
(1) كذا في الأصول بدون فاعل، ويقدَّر بمحذوف.

(3/1083)


وكذلك المتمتِّعُ إذا دخل المسجدَ طاف طوافًا واحدًا هو طوافُ العُمْرة وطوافُ القدوم.
وكذلك إذا أخَّرَ طوافَ الزِّيارة إلى وقت الوَدَاع (1) وطافَ طوافًا واحدًا كفاه عنهما.
وكذلك إذا سَرَقَ وقَطَعَ يدًا معصومةً، فطُلِبَ القِصَاص، فقطعتْ يَدُه حدًّا وقِصاصًا.
قال: ويحتملُ أن لا يقعَ موقِعَهُ، ويكون فائدةُ وقوعِهِ على الاحتمال الأوَّل أنه لا يستحقُّ الدِّيَة (2).
وإن قلتا: الواجبُ أحد أمرين، ويكون فائدةُ عدم وقوعه على الاحتمال الثاني أن تقع السِّراية هَدَرًا؛ لأنها غيرُ مضمونة عندَنا، وإذا لم تكن مضمونةً، لم يكن محتسبًا بالسِّراية قتلًا، فإن الاحتسابَ بها عن القَوَد الواجب له هو أحد الضمانين، فإذا ثبت أنها لا تقعُ موقعَ القَوَد، كان له الدِّيَةُ على الرِّواية التي تقول: إن الواجبَ أحدُ الأمرين.
فائدة
مذهبُ الإمام أحمد: يؤخذُ من الذِّمِّيِّ التَّاجر إذا جاز علينا نصفُ العشر، ومن الحربيِّ المستأمنِ العُشر.
ومذهب أبي حنيفة: إن فعلوا ذلك بنا فعلناه بهم، وإلا فلا.
ومذهب الشافعيِّ: لا يجوُزُ إلا بشرطٍ أو تَرَاضٍ بينَهم وبين الإمام.
__________
(1) (ق): “الطلوع “.
(2) فى هامش (ع) تعليق نصُّه: “هذا الفرع ليس يسلّم على المذهب، بل تُقطع يده قِصاصًا، بل إذا سرق ويمينه [] في قصاص قُطعت رجله اليسرى” اهـ.

(3/1084)


قال ابنُ عقيل: وهذا هو الصحيحُ من المذاهب (1)؛ لأن عقد الذِّمَّة للذِّمِّيِّ والأمانَ للحربيِّ أوجبَ حفظَ أموالهم وصيانَتَها بالعهد والجزية، وأخذ ذلك يقعُ ظلمًا منَّا، ونقضًا لذِمَّتِهم الموجِبَةِ عِصْمَةَ أموالهم ودمائهم.
فأوْرِد عليه: ما يصنعُ بقضيَّة عُمَرَ؟
فقال: هي محتملةٌ أنه فعل ذلك مقابلةً لفعلٍ كان منهم، ويحتملُ أنه كان شَرَط على قوم منهم ذلك لمصلحة رآها، وحاجةٍ للمسلمين أوْجَبتْ ذلك، قال: ودليلي مصرِّحٌ بالحكم واضح لا يحتملُ، فأصْرف ظاهرَ القصَّة إلى هذا الاحتمال بدليلٍ واضح.
فائدة
قال ابن عَقِيل: سُئلتُ عن كَتْب المَهْر في ديباج؟
فقلت: إنما يقصدُ المباهاة، وهي التي حُرِّم لأجلها الحريرُ، وهو الكِبْرُ والخُيَلاءُ، قالوا: فهل يطعنُ ذلك في الحُجَّة؟ قلت: لا، كما لو كتب في ورقة مغصوبة، الكَتْبُ حَرَامٌ، والحُجَّةُ ثابتةٌ (2).
__________
(1) (ظ): “المذهب”.
(2) في هامش (ق) ما نصه: “يُسأل على مُقتضى مذهبه عن الفرق بين هذا وبين الحج بمال مغصوب والصلاة في دار مغصوبة ونظائر ذلك” ثم كتب بعده بخط مغاير: “أقول: الفرق أوضح من شمس الظهيرة، وهو أن البقعة شرط للصلاة، والحج إن وقف على مباح يصح وإلا لم يصح؛ لأن المغصوب كالماء النجس، لا يجور التطهر به، وأما كتابة المهر فيه فليست شرطًا لصحة النكاح حتى تقاس على الصلاة في المغصوب، نعم … مهرًا مغصوبًا والله تعالى أعلم” اهـ.
أقول: مكان النقط نحو سطر مطموس لم يظهر، والتعليقة الأخيرة كأنها بخط ابن حميد النجدي صاحب “الحب”.

(3/1085)


فائدة
طُلِبَ في الزنا أربعة، وفي الإحصانِ اكتُفي باثنين؛ لأن الزنا سببٌ وعلَّةٌ، والإحصان شرطٌ، وإبداء الشروط تقصرُ عن العلل والأسباب؛ لأنها مصححةٌ وليست موجبة، ولهذا لا يُكتفى بالإقرار مرَّةً، عندنا وعند الحنفية.
فائدة
عطيةُ الأولاد: المشروع أن يكون على قدْر مواريثهم (ق/ 266 أ)؛ لأن الله تعالى مَنَعَ مما يُؤَدّي إلى قطيعة الرَّحِم، والتسويةُ بين الذكر والأنثى مخالفةٌ لما وَضَعَهُ الشَّرْع هن التفضيل، فيُفضي ذلك إلى العداوة؛ ولأنَّ الشَّرْع أعلمُ بمصالحنا، فلو لم يكنِ الأصلحَ التفضيلُ بين الذَّكَر والأنثى لما أشَرَعَهُ؛ ولأن حاجةَ الذكر إلى المال أعظمُ من حاجة الأنثى، ولأن الله تعالى جعلَ الأنثى على النِّصف من الذكر فى الشهادات والميراث (1) والدِّيَات، وفي العقيقة بالسُّنَّة؛ ولأن الله تعالى جعل الرِّجالَ قوَّامين على (ظ/ 186 ب) النساء، فإذا عَلِمِ الذكرُ أن الأبَ زاد الأنثى على العَطِيَّة التي أعطاها اللهُ وسواها بمن فضَّلَهُ اللهُ عليها، أفضى ذلك إلى العداوة والقَطِيعة، كما إذا فضَّل عليه مَنْ سوَّى بينَهُ وبينَه.
فأيُّ فرقٍ بين أن يُفَضِّلَ من أَمَرَ اللهُ بالتَّسوية بينَه وبين أخيه، أو يُسَوِّيَ بينَ مَنْ أمر الله بالتَّفضيل بينهما!؟
وأعترض ابنُ عقيل على دليل التفضيل وقال: بناءُ العطية حالَ
__________
(1) ليست في (ع).

(3/1086)


الحياة والصِّحَّة والمال لا حقَّ لأحد فيه، ولهذا لا يجوزُ له الهِباتُ والعطايا (1) للوارِث، وما زاد على الثلُث للأجانب عِبْرَةً بحال صحته، وقطعًا له عن حال مرض الموت، فضلًا عن الموت، وكذا تُعطى الإخوة الأخواتُ مع وجود الابن والأب، وإن لم يكنْ لهم حقٌّ في الإرث، وتلك عطيَّةٌ من الله على سبيل التَّحكُّم لا اختيارَ لأحد فيه، وهذه عطيَّةٌ من مكلَّفٍ غيرِ محجورٍ عليه، فكانت على حسب اختياره من تفضيل وتسوية، وهذا هو القولٌ الصحيحُ عندي.
قلت: وهذه الحجَّةُ ضعيفةٌ جدًّا، فإنها باطلةٌ بما سَلَّمه من امتناع التَّفضيل بين الأولاد المُتَساوِينَ في الذكورة والأنوثة، وكيف يصحَّ له قوله: “إنها عطيَّةٌ من مكلّف غير محجور عليه، فجازت على حسْب اختياره” وأنت قد حَجَرت عليه في التَّفضيل بين المُتَساوِينَ؟.
فائدة (2)
قال ابن عقيل: جَرَى (3) في جواز العمل في السَّلطنة الشَّرعية بالسِّياسة: هو الحزم، فلا يخلو منه إمامٌ.
قال شافعيٌّ: لا سياسةَ إلا ما وافق الشَّرْعَ.
قال ابنُ عقيل: السياسةُ ما كان فعلًا يكونُ معه الناسُ أقربَ إلى الصَّلاح، وأبعدَ عن الفساد، وإن لم يضَعْه الرسولُ، ولا نزلَ به
__________
(1) (ق): “يجوز له الهبات والعطيات”.
(2) (ق): “مسألة”، وقد نقل هذا الفصل المؤلف في “الطرق الحكمية”: (ص/13 – فما بعدها) وعلق عليه بما هو أوسع مما هنا، وعزاه إلى “الفنون”، وانظر ما سبق (3/ 1035).
(3) كذا بالأصول، والمقصود: جرى خلاف أو نزاع … فقيل: هو الحزم ….

(3/1087)


وحيٌ، فإن أردتَ بقولك: “إلا ما وافقَ الشَّرْعَ” أي: لم يخالفْ ما نَطَق به الشرعُ = فصحيح، وإن أردتَ: ما نطقَ به الشرعٌ (1) -فغلطٌ وتغليط للصَّحابة، فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والمُثَل ما لا يجحدُه عالم بالسنن، (ق/266 ب) ولو لم يكن إلا تحريق المصاحف كان رأيًا اعتمدوا فيه على مصلحة، وتحريق عليٍّ في الأخاديد وقال:
إني إذا شاهدتُ أمرًا مُنْكَرًا … أجَّجْتُ نَارِي ودَعَوْتُ قنْبَرا (2)
ونَفَى عُمَرُ نصرَ بن حجَّاجٍ (3).
قلت: هذا موضعُ مَزَلَّةِ أقدام، وهو مقام ضْنكٍ ومعتركٌ صعب، فرَّطَ فيه طائفةٌ، فعطَّلوا الحدودَ وضيَّعوا الحقوقَ وجرَّأوا أهلَ الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعةَ قاصرةً لا تقومُ بها مصالحُ العباد، وسدَّوا على أنفسهم طُرُقًا عديدةً من طرق معرفة المحقِّ من المبطل (4)، بل عطَّلوها مع عِلْمهم قطعًا وعِلْمْ غيرهم بأنها أدِلَّةُ حَقٍّ، ظنًّا منهم منافاتها لقواعد الشرع، والذي أوجبَ لهم ذلك نوعُ تقصير في معرفة الشريعة، فلما رأي ولاةُ الأمر ذلك، وأن الناسَ لا يستقيمُ أمرهم إلا (5) بشيء
__________
(1) “فصحيح وإن أردت ما نطق به الشرع” سقطت من (ظ).
(2) قصة تحريق علي -رضي الله عنه- للسبيئة أو الزنادقة أخرجها البخاري رقم (3017)، وقصة التحريق وإنشاد البيت أخرجه أبو طاهر المخلّص في حديثه بسندٍ حسن قاله الحافظ في “فتح الباري”: (12/ 282). على اختلاف في رواية البيت فى المصادر.
(3) أخرج قصة نصر بن حجاج ابنُ سعد في “الطبقات” (3/ 285)، والخرائطي قي”اعتلال القلوب”: (ص/ 337 و 339)، قال الحافظ: “بسندٍ صحيح”، “الإصابة”: (3/ 579).
(4) (ظ): “الحق من الباطل”.
(5) (ع): “ولا”.

(3/1088)


زائدٍ على ما فهمه هؤلاء من الشريعة، أَحْدَثوا لهم قوانينَ سياسيةً ينتظمُ بها أمرُ العالمَ، فتولَّد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياسَتِهم = شرٌّ طويل، وفساد عريضٌ، وتَفَاقَمَ الأمرُ، وتعذَّرَ استدراكُهُ.
وأفرطتْ طائفة أخرى فسَّوغتْ منه ما يُنافي حكمَ الله ورسوله، وكلا الطائفتين أُتِيتْ من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله (1)، فإنَّ اللهَ أرسل رُسلَهُ وأنزل كُتبهُ ليقومَ الناسُ بالقسط، وهو العدل الذي به قامتْ السَّماواتُ والأرضُ، فإذا ظهرت أماراتُ العدل، وتبيَّنَ وجهُه بأيِّ طريق كان، فثَمَّ شرعُ الله ودينُه، والله تعالى لم يحصرْ طرُقَ العدل وأدلَّتَه وعلاماتِه في شيء، ونفى غيرَها من الطرق التي هي مثلُها أو أقوى منها، بل بيَّن بما شَرَعَهُ من الطُّرُق أن مقصوده إقامةُ العدل وقيام الناس بالقسط، فأيُّ طريقٍ اسْتُخْرِجَ بها العدلُ والقسطُ فهي من الدِّين.
لا يقال: “إنها مخالفةٌ له” فلا تقول: إن السياسةَ العادلةَ مخالفةٌ لما نطقَ به الشرعُ، بل موافقة لما جاء به، بل هي جزءٌ من أجزائه، ونحن نسمِّيها سياسةً تبعًا لمصطلحكم، وإنما هي شرعٌ حقٌّ. فقد حبس رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – في تُهمة (2)، وعاقب في تهمة (3)، لما ظهر
__________
(1) من قوله: “وكلا الطائفتين … ” إلى هنا سقط من (ع).
(2) أخرجه أبو داود رقم (3630)، والترمذي رقم (1417)، والحاكم: (4/ 102) وغيرهم من طريق بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده، وهو حديث حسن كما قال الترمذي، وصححه الحاكم. ووقع في ق): “في نميمة”.
(3) تقدم في قصة الزبير وضربه لابن أبي الحقيق (3/ 1037).

(3/1089)


أمارات الرِّيبة على المتهم، فمَنْ أطلقَ كُلَّ متَّهَمٍ وحلّفه وخلَّى سبيلَه مع علمِه باشتهاره بالفساد في الأرض، ونَقْبِه البيوتَ وكثرة سرقاته، وقال: لا آخذُهُ إلا بشاهدَي عدْلٍ؛ فقولهُ مخَالفُ للسِّياسة الشرعية، وكذلك منعَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – الغَالَّ (ق/ 267 أ) من سهمِهِ من الغنيمة (1)، وتحريق الخلفاء الراشدين متاعَه كله (2)، وكذلك أخذه شطرَ مال مانع الزكاة (3)، وكذلك إضعافُه الغُرْمَ على سارق ما لا يُقطعُ فيه وعقوبته بالجَلد (4). (ظ/187 أ) وكذلك إضعافُه الغرْمَ على كاتم الضَّالَّة (5). وكذلك تحريق عمر حانوتَ الخَمَّار (6)، وتحريقه قَرْيَةَ خمر (7)، وتحريقه قصرَ سعد بن أبي وقَّاص لما احتجَبَ فيه عن الرَّعِيَّة (8)، وكذلك حَلْقُه رأسَ نصرِ بن حجَّاج ونفيه (9)، وكذلك
__________
(1) أخرجه أبو داود رقم (2713)، والترمذي رقم (1461) -من حديث عمر رضي الله عنه- وضعفه البخاري والترمذي، وأشار إلى ذلك أبو داود.
(2) أخرجه أبو داود رقم (2715) من حديث ابن عَمْرو -رضي الله عنهما- وهو ضعيف. وانظر: “التلخيص”: (4/ 81، 113).
(3) أخرجه أحمد: (33/ 220 رقم 20016)، وأبو داود رقم (1575) والنسائى: (5/ 25)، وابن خزيمة رقم (2266)، والحاكم: (1/ 398) وغيرهم من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.
(4) أخرجه أبو داود رقم (1710)، والترمذي رقم (1289) مختصرًا، والنسائي: (8/ 85 – 86) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وحسنه الترمذي.
(5) أخرجه أبو داود رقم (1718) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(6) أخرج عبد الرزاق: (6/ 77) أن عمر أحرق بيتَ رجلٍ وجد فيه خمرًا وكان جُلد فيها.
(7) ذكر شيخ الإسلام في “الاقتضاء”: (2/ 49) أن عليًا حرق قرية يباع فيها الخمر، ولم أجده عن عمر.
(8) أخرجه أحمد: (1/ 448 رقم 390)، وابن المبارك في “الزهد”: (ص/ 179) وسنده صحيح غير أنه منقطع.
(9) تقدم قريبًا.

(3/1090)


ضربُه صَبيغًا (1)، وكذلك مصادرته عمّالَه. وكذلك إلزامه الصحابَةَ أن يُقِلُّوا الحَديثَ عن رسول الله ليشتغلَ الناسُ بالقرآن فلا يُضَيِّعوه (2)، إلى غير ذلك من السِّياسة التي ساس بها الأمَّةَ فصارت سُنَّة إلى يوم القيامة، وإن خالفها مَنْ خالفها.
ومن هذا تحريقُ الصديق للُّوطِيِّ (3). ومن هذا تحريقُ عثمان للصُّحف المخالفة للسان قريش (4). ومن هذا اختيار عُمرَ للناس الإفراد بالحج ليعتمروا في غير أشهره، فلا يزالُ البيتُ الحرام مقصودًا (5)، إلى أضعافِ أضعاف ذلك من السِّياسات التي ساسوا بها الأمَّة وهي بتأويل القرآن والسنة.
وتقسيمُ النَّاسِ الحُكْمَ إلى شريعة وسياسة، كتقسيم من قَسَّم الطريقةَ إلى شريعةٍ وحقيقةٍ، وذلك تقسيمٌ باطلٌ، فالحقيقةُ نوعان:
حقيقة هي حقٌّ صحيحٌ، فهي لُبُّ الشَّريعة لا قسيمها، وحقيقةٌ باطلة، فهي مضادَّة للشَّريعة كمضادَّة الضَّلال للهدى.
وكذلك السَّياسة نوعان: سياسةٌ عادلة، فهي جزء من الشَّريعة
__________
(1) أخرجه الدارمي: (1/ 66)، والبزار في “مسنده”: (1/ 423)، واللالكائي: (4/ 635 – 636)، وهي قصة مشهورة.
(2) أخرج مَعمر في “الجامع”: (11/ 262) عن الزهري عن أبي هريرة قال: “لما ولي عمر قال: “أقِلُّوا الروايةَ عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – … ” وأخرجه الطبراني في “الأوسط”: (2/ 326)، والرامهرمزي في “الحديث الفاصل” (ص/ 553)، والروايات عن عمر في هذا المعنى كثيرة.
(3) أخرجه البيهقي: (8/ 232).
(4) أخرجه البخاري رقم (4987) وغيره.
(5) أخرجه مسلم رقم (1221 و 1222).

(3/1091)


وقسمٌ من أقسامها لا قسيمها. وسيَاسَةٌ باطِلَةٌ فهِيَ مُضَادَّة للشَّريعة (1) مضَادَّةَ الظُّلم للعدل.
ونظير هذا: تقسيمُ بعض الناس الكلامَ في الدِّين إلى الشرع والعقل هو تقسيمٌ باطل، بل المعقولُ قسمان: قسمٌ يوافق ما جاء به الرسولُ، فهو معقولُ: كلامِه ونصوصِه، لا قسيم ما جاء به، وقسم يخالِفُه، فذلك ليس: بمعقولٍ، وإنما هو خيالاتٌ وشُبَهٌ باطلة يظن صاحبها أنها معقولات، وإنما هي خيالاتٌ وشُبُهَاتٌ.
وكذلك القياسُ والشرع، فالقياسُ الصحيح هو معقولُ النصوص، والقياسُ الباطل المخالف للنصوص مضَادٌّ للشرع.
فهذا الفصلُ هو فَرْقُ ما بينَ وَرثَةِ الأنبياء وغيرهم، وأصله مبنيٌّ على حرف واحد، وهو عموم رسالة النبي – صلى الله عليه وسلم – بالسُّنَّة، إلى كلِّ ما يَحتاج إليه العباد في معارفهم وعلومهم وأعمالهم التي بها صلاحُهُمْ في معاشهم ومَعَادِهم، وأنه لا حاجةَ إلى أحد سواه ألبَتَّةَ، وإنما حاجتُنا إلى من يُبَلغُنا عنه ما جاء به، فمن لم يستقر هذا في قلبه لم يرسخ قدمُه في الإيمان بالرسول، بل يجبُ الإيمان بعموم رسالته في ذلك، كما يجبُ الإيمان بعموم رسالته بالنسبة إلى المُكَلَّفين، (ق/267 ب) فكما لَا يخرجُ أحد من الناس عن رسالته ألبتة فكذلك لا يخرجُ حقٌّ من العلمِ والعملِ عما جاء به، فما جاء به هو الكافي الذي لا حاجَةَ بالأمَّةِ إلى سواه، وإنما يحتاجُ إلى غيره من قلَّ نصيبُه من معرفته وفهمه، فبحسب قلَّة نصيبِهِ من ذلك تكون حاجتُه، وإلا فقد توفي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وما (2) طائر يُقَلِّب جناحيه في السَّماء إلا وقد ذكر للأمَّة
__________
(1) من قوله: “كمضادة الضلال … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) (ظ): “وما من”.

(3/1092)


منه علمًا (1)، وعلَّمهم كل شيءٍ، حتى آدابَ التخَلِّي وآداب الجماع والنوم، والقيام والقعود، والأكل والشرب، والرُّكوب والنزول، ووصف لهم العَرْشَ والكرسِيَّ والملائكة، والجنة والنار، ويوم القيامة وما فيه، حتى كأنهم (2) رأيُ عَيْن، وعرَّفهم بربِّهم ومعبودِهم أتمَّ تعريف، حتى كأنهم يَرَوْنه بما وصفه لهم من صفات كماله ونعوت جلاله، وعرَّفهم الأنبياءَ وأُمَمَهُمْ وما جرى لهم معهم، حتى كأنهم كانوا بينهم، وعرَّفهم من طرق الخير والشر، دقيقِها وجليلِها، ما لم يعَرِّفْهُ نبيّ لأمَّتِهِ قبلَهُ.
وعرَّفهم من أحوال الموت وما يكونُ بعدَه في البرزخ، وما يحصلُ فيه من النعيم والعذاب للرُّوح والبَدَن ما جلَّى لهم ذلك حتى كأنهم يُعَاينوه.
وكذلك عرفهم من أدِلَّة التوحيد والنُّبُوَّة والمعَاد والرَّدِّ على جميع طوائف أهل الكفر والضَّلال، ما ليس لمن عرفه حاجةٌ إلى كلام أحدٍ من الناس ألبتةَ.
وكذلك عرَّفهم من مكايد الحروب ولقاء العدو وطرُق الظَّفَر به، ما لو علموه وفعلوه لم يَقُمْ لهم عدوٌّ أبدًا.
وكذلك عَرَّفهم من مكائد (3) إبليسَ وطرقه التي يأتيهم منها وما يحترزون به من كَيْدِه ومكرِه، وما يدفعون به شَرَّه ما لا مزيدَ عليه.
__________
(1) جاء هذا في حديثٍ أخرجه البخاري رقم (6604)، ومسلم رقم (2891) من حديث حذيفة -رضي الله عنه-.
(2) (ظ): “كأنه”.
(3) من قوله: “الحروب ولقاء … ” إلى هنا ساقط من (ظ).

(3/1093)


وكذلكْ أرشدَهم في معاشِهِمْ إلى ما لو فعلوه لاستقامتْ لهم دنياهم أعظمَ استقامةٍ.
وبالجملة، فجاءهم بخير الدنيا والآخرة بحذافيره، ولم يجعل الله بهم حاجة إلى أحد سواه. ولهذا ختم اللهُ به ديوان النُّبُوَّة، فلم يجعلْ بعدَه رسولًا، لاستغناء الأُمَّة به عمن سواه، فكيف يظَنُّ أن شريعَتَهُ الكاملة المكملة محتاجة إلى سياسة خارجة عنها، أو إلى حقيقة خارجة عنها، أو إلى قياس خارج عنها، أو إلى معقول خارج عنها؟.
فمن ظنذَ ذلك فهو كمن ظنَّ أن بالناس حاجةً إلى رسول آخر بعده. وسبب هذا كلِّه خفاءُ ما جاء به (ظ/ 187 ب) على مَنْ ظَنَّ ذلك.
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51]، وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، وقال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، وقال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]، وكيف يَشفِي ما في الصدور كتاب لا يَفي بعشر معشار ما النَّاسُ محتاجون إليه على زعمهم الباطل.
ويالله العجبُ كيف كان الصحابةُ والتابعون قيلَ وضع هذه القوانين واستخراج هذه الآراء والمقاييس والأقوال؟ أَهَلْ (1) كانوا مهتدين بالنُّصوص أم كانوا على خلاف ذلك؟! حتى جاء المتأخرون أعلمَ
__________
(1) كذا بالأصول.

(3/1094)


منهم، وأهدى منهم، هذا ما لا يظنُّه من به رَمَقٌ من عقل (1) أو حياء، نعوذُ بالله من الخذلان؛ ولكن من أوتي فَهمًا في الكتاب وأحاديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – استغنى (2) بهما عن غيرهما بحسب ما أوتيه من الفهم، وذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفَضْلُ العظيم، وهذا الفَصْل لو بُسِط كما ينبغي (3) لقام منه عدة: أسفار، ولكن هذه لفظات تشيرُ إلى ما وراءَها.
فائدة
قال ابن عقيل: يحرم خَلْوةُ النساء بالخِصْيان والمَجْبُوبينَ؛ إذ غايةُ ما تجد (4) فيهم عدمُ العضو أو ضعفه، ولا يمنع ذلك لإمكان الاستمتاع بحسِّهم من القبلة واللمس والاعتناق. والخصِيُّ يقرعُ قرعَ الفحل، والمجبوبُ يُسَاحِقُ، ومعلومٌ أن النساء لو عَرَض فيهنَّ حبُّ السِّحَاق منَعْنا خَلْوَةَ بعضِهنَّ ببعض، فأولى أن نمنع خَلْوةَ من هو في الأصل على شهوته للنساء.
فائدة
عزَّى بعضُ العلماءِ رجلًا بطفلة فقال له: قد دخل بعضُك الجَنَّةَ فاجتهد أن لا تَتَخَلَّفَ بقيَّتُك (5) عنها.
قلت: وفي جواز هذه الشَّهادة ما فيها، فإنا وإن لم نشُك أن
__________
(1) استعمل ابن القيم هذا التعبير أيضًا في “مفتاح دار السعادة”: (3/ 97).
(2) (ق) ما: “علم استغناءه”، و (ع): “استغناه”.
(3) “كما ينبغى” ليست في (ق).
(4) (ق وظ): “تجدد”!.
(5) (ق): “نفسك”.

(3/1095)


أطفال المؤمنين في الجنة، لا نشهدُ لمُعَيَّنٍ أنه فيها، كما نشهدُ لعموم المؤمنين بالجنة، ولا نشهدُ بها لمعيَّنٍ سوى من شهد له النَّصُّ.
وعلى هذا يُحمل حديث عائشة، وقد شهدت للطفل من الأنصار بأنه عصفور من عصافير الجنة. فقال لها النبي – صلى الله عليه وسلم -: “وما يُدْرِيكِ” (1)؟.
وهكذا نقول لهذا المُعَزِّي: وما يُدريكَ أنَّ بعضَ المُعَزَّى دخل الجنة؟! وسرُّ المسألة الفرقُ بين المعيَّنِ والمُطْلَق في الأطفال والبالغينَ، والله أعلم.
فائدة
قوله في حديث الجمعة: “وطُوِيتِ الصُّحُف” (2)، أي: صحفُ الفَضلِ، فأما صحفُ الفرض فإنها لا تُطوى (ق/268 ب) لأن الفرض يسقطُ بعد ذلك.
فائدة
عن أحمدَ في الصَّيد إذا أوْجَبه، والشَّاة إذا ذبحها، ثم سقطت في ماء هل تباحُ؟ على روايتين.
وسئِلَ بعض أصحابنا عن هؤلاء الشَّوَّائين يذبحون الدجاج ويرمون به في ماء السَّمْط (3) وهو يضطربُ؛ فخرَّجه على هاتين الروايتين، وصحح الإباحة قال: لأن ذلك: الاضطرابَ ليس له حُكْمُ الحياةِ.
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (2662)، بنحوه من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
(2) أخرجه البخاري رقم (929)، ومسلم رقم (850) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(3) أصل السَّمط: أن يُنزع صوف الشاة المذبوحة بالماء الحار. “اللسان”: (7/ 322).

(3/1096)


فائدة
اسْتدِل على تفضيل النِّكاح على التَّخَلِّي لنوافل العِبادة: بأن الله عز وجل اختار النكاحِ لأنبيائه ورسله، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38] وقال في حق آدم: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189] واقتطع من زمن كليمهِ عشرَ سنينَ في رعاية الغنم مهر الزوجة، ومعلومٌ مقدارُ هذه السنينَ العشرِ في نوافل العبادات.
واختار لنبيه محمد – صلى الله عليه وسلم – أفضلَ الأشياء فلم يخْتَر له ترك النكاح بل زوَّجه بتسعٍ فما فوقهن، ولا هَدْيَ فوقَ هديه.
ولو لم يكنْ فيه إلا سرورُ النبي – صلى الله عليه وسلم – يوم المباهاة بأمَّتِهِ.
ولو لم يكن فيه إلا أنه بِصَدَدِ أنه لا ينقطعُ عملُهُ بموته.
ولو لم يكُنْ فيه إلّا أنه يخرجُ من صُلْبه من يشهدُ للهِ بالوحدانية ولرسوله بالرسالة.
ولو لم يكن فيه إلا غضُّ بصره، وإحصانُ فرجه عن التفاتِهِ إلى ما حرَّم اللهُ.
ولو لم يكن فيه إلا تحصينُ امرأةِ يُعِفُّها اللهُ به، ويُثيبُه على قضاء وَطَرِه ووَطَرِها، فهو في لَذاتِه وصحائفُ حسناته تتزايَدُ.
ولو لم يكنْ فيه إلا ما يُثابُ عليه من نفقته على امرأته وكسوتها ومسكنها ورفع اللُّقمة إلى فيها.
ولو لم يكن فيه إلا تكثيرُ الإسلام وأهله وغيظُ أعداء الإسلام.

(3/1097)


ولو لم يكنْ فيه إلا ما يترتَّب عليه من العبادات التي لا تحصل للمُتخَلِّي للنوافل.
ولو لم يكن فيه إلا تعديلُ قوته الشَّهوانية الصَّارفة له عن تعلُّق قلبه بما هو أنفع له في دينه ودنياه، فإن تعلُّقَ القلب بالشَّهوة ومجاهدته عليها تصدُّه عن تعلّقِه (1) بما هو أنفعُ له، فإن الهمَّة متى انصرفت إلى شيءٍ انصرفتْ عن غيره.
ولو لم يكن فيه إلا تعرضه لبناتٍ إذا صَبَر عليهن وأحسنَ إليهنَّ كُنَّ له سِترًا من النار.
ولو لم يكن فيه إلا أنه إذا قدَّم له فرَطين لم يبلغا الحِنْثَ أدخلَه الله يهما الجنَّةَ.
ولو لم يكن فيه إلا استجلابُه عونَ الله له فإن (ظ / 188 أ) في الحديث المرفوع: “ثَلاثَةٌ حَقٌّ علَى اللهِ عَوْنُهُمْ: النَّاكحُ يُريدُ العَفَافَ. وَالمُكَاتِبُ يُرِيد الأَدَاءَ، وَالمُجَاهِدُ” (2).
فائدة
اسْتُدِل (ق/ 269 أ) على وجوب الجماعة: بأن الجَمع بين الصَّلاتين شُرع في المطر لأجلْ تحصيل الجماعة، مع أن إحدى الصلاتين قد وقعتْ خارج الوقت، والوقت واجبٌ، فلو لم تكنِ الجماعةُ واجبة لما تُرِك لها الوقت الواجب.
__________
(1) (ق): “تعلق قلبه”.
(2) أخرجه أحمد (12/ 379) رقم 7416)، والترمذي رقم (1655) وابن ماجه رقم (2518)، والنسائي: (6/ 61) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
والحديث صححه ابن حبان “الإحسان”: (9/ 339)، والحاكم: (2/ 160)، وحسنه الترمذي والبغوي.

(3/1098)


اعْتُرِض على ذلك: بأن الواجبَ قد يسقط لغير الواجب، بل لغير المستحَبِّ، فإن شطر الصلاة يسقطُ لسفر الفُرْجة والحجارة، ويسقط غسلُ الرجلين لأجل لبس الخُفِّ، وغايتُهُ أن يكون مباحًا.
وهذا الاعتراضُ فاسدٌ؛ فإن فرض المسافر ركعتين، فلم يسقطِ الواجبُ لغيرِ الواجب، وأيضًا فإنه لا محذورَ في سقوط الواجب لأجل المباح، وليس الكلامُ في ذلك، وإنما المستحيلُ أن يُراعى في العبادة أمرٌ مستحبٌّ يتضمَّن فواتَ الواجب، فهذا هو الذي لا عهدَ لنا في الشريعة بمثله ألبتةَ، وبذلك خرج الجواب عن سقوط غسل الرجلين لأجل الخُفِّ.
واسْتُدِلَّ على وجوبها: بأن الله تعالى أمَرَ بها في صلاة الخوف التي هي محل التخفيف، وسقوط ما لا يسقطُ في غيرها، واحتمالُ ما لا يحتمل في غيرها، فما الظن بصلاة الآمنِ المقيم؟!
فاعْتُرِض على ذلك: بأن المقصودَ الاجتماعُ في صلاة الخوف، فقصد اجتماع المسلمين وإظهار طاعتهم وتعظيم شعار (1) دينهم، ولاسيما حيث كانوا مع النبي – صلى الله عليه وسلم -، فكان المقصودُ أن يظهروا للعدوِّ طاعةَ المسلمين له، وتعظيمهم لشأنه، حتى إنهم في حال الخوف الذي لا يبقى أحد مع أحد يتَّبعونه ولا يتفرَّقون عنه ولا يفارقونه بحالٍ، وهذا كما جرى لهم في عُمْرة القضاء معه حتى قال عرْوَةُ بن مسعود: لقد وفَدْتُ على الملوك -كسرى وقيصر- فلم أرَ ملِكًا يعظِّمُهُ أصحابُة ما يُعَظِّمُ محمدًا أصحابُهُ (2).
__________
(1) (ع): “شعائر”.
(2) أخرجه البخاري رقم (1694) من حديث المِسوَر -رضي الله عنه- في قصة الحديبية.

(3/1099)


والذي يدلُّ على هذا: أنا رأينا الجماعةَ تَسْقطُ عند المطر الذي يبلُّ النعال، فكان منادي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ينادي: “ألا صَلّوا في رِحَالِكُمْ” (1)، والجمعةُ تسقطُ بخشية فوات (2) الخبز الذي في التَّنُور، مع كون الجماعة شرطًا فيها، وتسقطُ: خشية مصادفة غريمٍ يؤذيه. ومعلومٌ أن عذرَ الحرب ومواقَفَةَ (3) الكفار أعظمُ من هذا كله، ومع هذا فأقيم شعارُها في تلك الحال، فدلَّ على أن المقصود ما ذكرنا.
قلت: ونحن لا ننكِرُ أن هذا مقصودٌ أيضًا مضمومٌ إلى مقصود الجماعة، فلا منافاةَ بينه وبين وجوبِ الجَماعة، بل إذا كان هذا أمرًا مطلوبًا فهو من أدلِّ الدلائل على وجوب الجماعة في (ق/269 ب) تلك الحال، ومع أن هذا مقصود أيضًا في اجتماع المسلمين في الصلاة وراءَ إمامهم، وأسباب العبادات التي شرعت لأجلها لا يشرَطُ دوامُها في ثبوت تلك العبادات، بل تلك العباداتُ تستقرُّ وتدومُ، وإن زالت أسباب مشروعيَّتها. وهذا كالرَّمَل في الطَّواف والسَّعي بين الصَّفا والمروة.
ونظير هذا اعتراضهم على أحاديث الأمر بفسخ الحجِّ إلى العمرة، بأن المقصودَ بها الإعلام بجواز العُمرة في أشهر الحجِّ مخالفة للكفار. فقيل لهمك وهذا من أدلِّ الدلائل على استحبابه ودوام مشروعيته، فإن ما شُرِع من المناسك قصدًا لمخالفة الكفار فإنه دائمُ المشروعيَّة إلى يوم القيامة. كالوقوف: بعَرفة، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – خالَفَهُم ووقف بها وكانوا
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (632)، ومسلم رقم (697) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.
(2) (ع): “بفوات”.
(3) (ع): “ومواقفته”.

(3/1100)


يقفون بمُزْدلفة، فقال: “خَالَفَ هَدْينا هَدْيَ المُشْرِكينَ” (1)، وكالدَّفْعِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ قبلَ طلُوع الشَّمس، فإنهم كانوا لا يدفعون منها حتى تشرقَ الشمسُ، فَقَصَد مخالَفَتهم وصارت سنَّة إلى يوم القيامة، وهذه قاعدةٌ من قواعد الشرع: أنَّ الأحكامَ المشروعة لهذه الأسباب في الأصل لا يشترطُ في ثبوتها قيامُ تلك الأسباب؛ فلو كان ما ذكرتم من الأسباب في كون الجماعة مأمورًا بها في صلاة الخوف هو الواقعَ، لم يلزمْ مه سقوطُ الأمر بها عند زوال تلك الأسباب، وفَتحْ هذا الباب يفضي إلى إسقاطِ كثيرٍ من السُّنن، وذلك باطلٌ.

فائدة (2)
الخلافُ في كون عائشة أفضلَ من فاطمة أو فاطمة أفضلُ، إذا حُرِّرَ محلُّ التفضيل صار وفاقًا، فالتفضيل بدون التفصيل (3) لا يستقيمُ.
فإن أُريْدَ بالفضل كثرةُ الثواب عند الله؛ فذلك أمر لا يُطَّلَعُ عليه إلا بالنَّصَّ؛ لأنه بحَسْب تفاضُل أعمال القلوب لا بمجرَّد أعمال الجوارح، وكم من عامِلَين أحدُهما أكثرُ عملًا بجوارحه، والآخرُ أرفعُ درجة منه في الجنة.
وإن أُريْدَ بالتفضيل التفضيل بالعلم؛ فلا ريبَ أن عائشة أعلمُ وأنفعُ للأمَّة، وأدَّت إلى الأمَّة من العلم ما لم يؤَدِّ غَيْرُها، واحتاج إليها خاصُّ الأمَّةِ وعامَّتها.
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (1665)، ومسلم رقم (1219) من حديث عائشة – رضي الله عنها -.
(2) (ق): “مسألة”.
(3) “صار وفاقًا، فالتفضيل بدون التفصيل” سقطت من “ظ”.

(3/1101)


وإن أريد بالتفضيل شرَف الأصل وجلالة (ظ/ 188 ب) النَّسَب؛ فلا ريب أن فاطمةَ أفضل، فإنها بضعةٌ من النبي – صلى الله عليه وسلم – وذلك اختصاصٌ لم يَشْرَكْها فيه غيرُ إخوتها.
وإن أريد السيادةُ؛ ففاطمةُ سيّدَةُ نساء الأمَّة (1).
وإذا ثبتتْ (2) وجوهُ التفضيل وموادُّ (3) (ق/270 أ) الفضل وأسبابُه؛ صارَ الكلامُ بعلمٍ وعدل، وأكثرُ الناس إذا تكلَّم في التفضيل لم يفصِّلْ جِهَات الفضل ولم يوازن بينها، فيبخسُ الحق، وإن أنْضَافَ إلى ذلك نوع تعصُّبٍ وهوىً لمن يُفَضَلُهُ تكلَّمَ بالجهلِ والظلمِ.
وقد سُئل شْيخُ الإسلام ابن تيميَّة عن مسائلَ عديدةٍ من مسائلِ التَّفضيل فأجاب فيها بالتَّفصيل الشافي:
فمنها: أنه سئِل عن تفضيل الغَنِيِّ الشَّاكر على الفقير الصابر أو بالعكس؟ فأجاب بما يشفي الصدور فقال: أفضلُهما أتقاهما لله تعالى، فإن استويا في التَّقوى استويا في الدَّرَجة (4).
ومنها: أنه سئل عن عشْر ذي الحِجَّة والعشر الأواخر من رمضانَ أيُّهما أفضل؟ فقال: أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضانَ، وليالي العشر الأواخر من رمضان أفضلُ من ليالي عشر ذي الحجة.
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (3624)، ومسلم رقم (2450) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
(2) (ق): “تبينت”.
(3) كذا في (ع وق)، و (ظ): “موارد”.
(4) تكلم شيخ الإسلام على هذه المسألة في “الفتاوى”: (11/ 21، 122، 195) وغيرها، وله فيها مصَّنف مفرد، ذكره ابن رُشيق ضمن مؤلفاته، انظر “الجامع لسيرة شيخ الإسلام”: (ص/ 249).

(3/1102)


وإذا تأمل الفاضل اللبيب هذا الجوابَ وجده شافيًا كافيًا، فإنه “لَيْسَ مِن أيام العَملُ فِيها أحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ أيامِ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ” (1) وفيهما يوم عرفة ويوم النَّحر ويوم التَّرْوية. وأما ليالي عشر رمضان فهي ليالى الإحياء التي كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يُحييها كلَّها (2)، وفيها ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، فمن أجاب بغير هذا التفصيل لم يُمكنهُ أن يُدْلِى (3) بِحُجَّةٍ صحيحةٍ (4).
ومنها: أنه سُئِلَ عن ليلة القدر وليلة الإسراء بالنبي – صلى الله عليه وسلم – أيُّهما أفضلُ؟
فأجاب: بأن ليلة الإسراء أفضلُ في حقِّ النبي – صلى الله عليه وسلم – وليلةُ القدر أفضلُ بالنسبة إلى الأمّة، فحظ النبي – صلى الله عليه وسلم – الذي اختصَّ به ليلة المعراج منها أكملُ من حظِّه من ليلة القدر، وحظُّ الأمَّةِ من ليلة القدر أكملُ من حظِّهم من ليلة المعراج وإن كان لهم فيها أعظمُ حظٍّ؛ لكن الفضل والشَّرَف والرتبة العليا إنما حصلتْ فيها لمنْ أُسرِيَ به – صلى الله عليه وسلم – (5).
ومنها: أنه سئِلَ عن يوم الجمعة ويومِ النحر أيهما أفضل (6)؟
فقال: يومُ الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم النحرِ أفضلُ أيام العام، وغيرُ هذا الجواب لا يلمُ صاحبه من الاعتراض الذي لا
__________
(1) أخرجه البخاري عن ابن عباسٍ – رضي الله عنهما – رقم (969).
(2) أخرجه البخاري رقم (2024)، ومسلم رقم (1174) من حديث عائشة – رضي الله عنها -.
(3) (ق وظ): “يدل”.
(4) انظر “الفتاوى”: (25/ 287) وهو منقول من هنا.
(5) انظر “الفتاوى”: (25/ 286)، وهو منقول من هنا، وانظر: “زاد المعاد”: (1/ 57).
(6) “أيهما أفضل” من (ع).

(3/1103)


حيلةَ في دفعه (1).
ومنها: أنه سئِلَ (2) عن خديجةَ وعائشةَ أُمَّي المؤمنين، أيهما أفضل؟
فأجاب: بأن سبقَ خديجة وتأثيرها في أول الإسلام، ونصرَها وقيامَها في الدين، لم تشركها فيه عائشة ولا غيرها من أمهات المؤمنين، وتأثيرُ عائشةْ في آخر الإسلام، وحمل الدين وتبليغه إلى الأمَّة، وإدراكها من العلم ما لم تشركها فيه خديجةُ ولا غيرها مما تميَّزت به عن غيرها، فتأمَّلْ هذا الجواب الذي إذا أجبْتَ (3) بغيره من التفضيل مطلقًا لم تتخلَّصْ من المعارضة (4).
ومنها: أنه سئل عن صالحي بني آدَمَ والملائكة أيهما أفضل؟
فأجاب: بأن صالحي البشر أفضل باعتبار كمال (ق/ 270 ب) النهاية، والملائكة أفضل باعتبار البداية، فإنَّ الملائكةَ الآن في في الرَّفيق الأعلى منَزَّهِين عما يلابسُهُ بنو آدم مستغرقون في عبادة الرَّبِّ، ولا ريبَ أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحوال البشر، وأما يوم القيامة بعد دخول الجنة فيصير حالُ صالحي البشر أكملَ من حال الملائكة (5).
وبهذا التفصيل يتبيَّنُ سرُّ التفضيل، وتتَّفِقُ أدِلَّة الفريقين، ويُصالَح كلُّ منهم على حقه، فعلى المتكلم في هذا الباب أن يعرفَ أسبابَ
__________
(1) انظر: “الفتاوى”: (25/ 288 – 289).
(2) سقط السؤال السابق بكامله إلى هنا من (ق).
(3) (ظ)،: “لو جئت”.
(4) انظر: “الفتاوى”: (4/ 393، 394). وفي (ع) بعدها: “يأتي تتمة هذه الفائدة وهو قوله: ومنها: أنه سُئل عن صالحي … ” فأخر الجواب إلى آخر (ق/ 65 ب).
(5) انظر: “الفتاوى” (4/ 350 – 392) وهي رسالة خاصة بهذه المسألة.

(3/1104)


الفضل (1) أولاً، ثم درجاتها، ونسبة بعضها إلى بعض، والموازنة بينها ثانيًا، ثم نسبتها إلى من قامت به ثالثًا كثرةً وقوةً، ثم اعتبار تفاوُتها بتفاوُت محلِّها رابعًا، فرُبَّ صفة هي كمالٌ لشخص وليست كمالًا لغيره، بل كمالُ غيرِهِ بسواها، فكمالُ خالد بن الوليد بشجاعته وحروبه. وكمالُ ابن عباس بفقهه وعلمه. وكمال أبي ذرٍّ بزهده وتجرُّده عن الدنيا، فهذه أربع مقامات يضطر إليها المتكلَّمُ في درجات التفضيل، وتفضيل الأنواع على الأنواع أسهلُ من تفضيل الأشخاص على الأشخاص، وأبعدُ من الهوى والغرض.
وهاهنا نكتةٌ خفيَّةٌ لا يتنبَّهُ لها إلا منْ بصَّرَهُ اللهُ، وهي: أن كثيرًا ممن يتكلَّمُ في التفضيل يستشعرُ نسبتَه وتعلقَه بمن يفَضِّله ولو على بُعْد، ثم يأخذ في تقريظه وتفضيله، وتكون تلك النسبةُ والتعلُّقُ مُهَيِّجةً له على التفضيل، والمبالغة فيه، واستقصاء محاسن المُفَضَّل، والإغضاء عما سواها، ويكون نظره في المفضَّل عليه بالعكس.
ومن تأمَّل كلامَ أكثر الناس في هذا الباب رأى (ظ / 189 أ) غالِبَهُ غيْرَ سالم من هذا، وهذا منافٍ لطريقة العلم والعدل التي لا يقبلُ اللهُ سواها، ولا يرضى غيْرَها، ومن هذا تفضيلُ كثير من أصحاب المذاهب والطرائق وأتباع الشيوخ، كلٌّ منهم لمذهبه أو طريقته أو شيخه، وكذلك الأنسابُ والقبائلُ والمدائن والحِرَف والصناعات، فإن كان الرجلُ ممن لا يُشَكُّ في علمِه وورَعِهِ خِيفَ عليه من جهة أخرى، وهو أنه يشهدَ حظَّه ونفْعَه المتعلق بتلك الجهة، ويغيب عن نفع غيره بسواها؛ لأن نفعه مشاهدٌ له أقرب إليه من علمه بنفع غيره، فيفضِّلُ
__________
(1) (ق): “سر التفضيل”.

(3/1105)


ما كان نفعه وحظُّه من جهته باعتبار شهوده ذلك وغيبته عن سواه، فهذه نكتٌ جامعةٌ (ق/271 أ) مختصرة، إذا تأمَّلَها المنصفُ عظُمَ انتفاعُهُ بها، واستقامَ له نظَرُهُ ومناظرته، والله الموفق.
فائدة (1)
اختلف ابنْ قُتَيْبَةَ وابنُ الأنباريِّ في السَّمع والبَصَر أيهما أفضل (2)؟.
ففضَّل ابنُ قتيبهَ السَّمع ووافقه طائفة، واحتجَّ بقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)} [يونس: 42، 43]، قال: فلما قرن بذهاب السمع ذهاب العقل، ولم يقرن بذهاب النظر إلا ذهاب البصر كان دليلًا على أن السمع أفضل.
قال ابنُ الأنباري: هذا غلط، وكيف يكون السَّمع أفضلَ وبالبصر يكون الإقبال والإدبار، والقربُ إلى النجاة والبعد من الهلاك، وبه جمالُ الوجه وبذهابه شيْنُهُ، وفي الحديث: “مَنْ أذْهَبْتُ كَرِيمَتَيْهِ فصَبرَ وَاحْتَسَبَ لَمْ أرْضَ لَهُ ثَوَابًا دُونَ الجَنَّةِّ” (3).
وأجاب عما ذكره ابن قتيبة بأن الذي نفاه اللهُ تعالى مع السَّمع بمنزلة الذي نفاه عن البصر، إذ كأنه (4) أرادَ إبصارَ القلوب، ولم يُرِدْ
__________
(1) هذه الفائدة بتمامها ساقطة من (ق).
(2) تقدم البحث في هذه المسألة في أول الكتاب (1/ 123 – 130)، وكلام ابن قتيبة في كتابه: “تأويل مشكل القرآن”: (ص/7)، وكلام ابن الأنباري لعله في كتابه “المشكل في الرد على أبي حاتم وابن قتيبة”، ذكره الخطيب في “تاريخه”: (3/ 184)، والقفطي في “الإنباه”: (3/ 204). أو في تفسيره.
(3) أخرج البخاري رقم (5653) نحوه من حديث أنسٍ، وأخرجه الترمذي بهذا اللفظ رقم (2401)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(4) (ع وظ): “كان”.

(3/1106)


إبصارَ العيون، والذي يُبْصِرُهُ القلبُ هو الذي يعقلُه؛ لأنها نزلت في قوم من اليهود كانوا يستمعون كلامَ النبي – صلى الله عليه وسلم – فيقفون على صحَّتِهِ ثم يكذبونه، فأنزل الله فيهم: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ} أي: المُعرضين، {وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} بعين نقص (1)، {أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ} أي: المعرضين، {وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)}، قال: ولا حجَّة في تقديم السَّمع على البصر هنا، فقد أخبر في قوله تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} [هود: 24].
قلت: واحتجَّ مفضلوا السمع بأن به ينال غايةَ السعادة منْ سمع كلام الله وسماع كلام رسوله. قالوا: وبه حصلتِ العلومُ النافعة. قالوا: وبه يدْرَكُ الحاضرُ والغائبُ، والمحسوسُ والمعقولُ، فلا نسبةَ لمدْرَكِ البصَر إلى مدْرَكِ السَّمع. قالوا: ولهذا يكون فاقدُه أقلَّ علمًا من فاقد البَصرَ، بل قد يكون فاقدُ البصر أحدَ العلماء الكبار، بخلاف فاقد صفة السمع، فإنه لم يُعْهَد من هذا الجِنس عالمٌ ألبتة.
قال مفضلوا البصر: أفضلُ النعيم النظرُ إلى الرَّبِّ تعالى وهو يكون بالبصر، والذي يراه البصرُ (2) لا يقبل الغلطَ، بخلاف ما يُسْمعُ (3) فإنه يقعُ فيه الغلط والكَذِب والوهم، فمدْرَكُ البصرِ أتمُّ وأكملُ. قالوا: وأيضًا فمحله أحسن وأكملُ وأعظمُ عجائبَ من محل السَّمع؛ وذلك لشرفه وفضله.
قال شيخنا: والتحقيق أن السمع له مزِيَّةٌ والبصر له مزية، فمزيةُ السمع العموم والشمول، ومزيَّة البصر كمال الإدراك وتمامه، فالسمع
__________
(1) (ع): “نقصان”.
(2) (ع): “البصير”.
(3) (ع): “السمع”.

(3/1107)


أعم وأشمل، والبصر أتم وأكمل، فهذا أفضل من جهة شمول إدراكه وعمومه، وهذا أفضل: من جهة كمال إدراكه وتمامه (1).
فائدة
إذا تزوجها على خمرٍ أو خنزير صح النكاح واستحقت مهر المِثْل، ولو خالعها على خمر أو خنزير صحَّ الخُلْعُ، ولم تستحق عليه شيئًا في أحد القولين، والفرقُ بينهما عند بعض الأصحاب: أن البُضْعَ مُتقَوِّمٌ في دخوله إلى ملك الزوج ولا يُتَقَوَّمُ في خروجه عن ملكه، أما تقوُّمه داخلًا فلِتَعَلُّقِ أحكام المقوّمات به؛ من استقرار المَهر بالدُّخول، ووجوب المَهر بوطء الشُبْهة، ولهذا يزوج الأب ابنه الصغير (ظ/189 ب) ولا يخلَعُ ابنتَهُ الصغيرةَ بشيء من مالِها، ولا فرقَ بينهما إلا أن الابن حصل في ملكه ما له قيمةٌ، والبنت أخرج ما لَها في مقابلة ما لا قيمةَ له في خروجه إليها، ولو كان خروجُ البُضْع من ملك الزوج متَقَوِّمًا، لكان قد بذَل ما لَها في ما له قيمة، وذلك لا يمتنعُ.
ويدُلُّ عليه أنه لو طلَّق زوجَتَهُ في مرض موته لم يُعْتَبَرْ من الثُّلُث، ولو كان لخروج البُضع قيمةٌ لاعتبر من الثُّلُث، وأيضًا لو خالعها في مرض موته بدون مهر مثلها صَحَّ الخلعُ، ولو كان خروجُه متقوِّمًا لكان بمثابة ما لو باع سلعةً بدون ثمنها، فإنه محاباةٌ محسوبةٌ من الثُّلُث، ويدلُّ عليه أيضًا أنه يطلق عليه القاضي في الإيلاء والعَنَت والإعسار بالنَّفَقَة وغير ذلك مجانًا، ولا عهدَ لنا في الشريعة بمتقوم يخرج من مُلك مالكه قهرًا بغير عوض، ويدلُّ عليه: أنه لو كان لخروجه قيمةٌ لجاز للأب أن يُخرِجَهُ عن ابنته الصغيرة بشيء من
__________
(1) انظر: “درء التعارض”: (7/ 325)، و”الرد على المنطقيين”: (ص/ 96).

(3/1108)


مالها، كما يشتري لها عقارًا أو غيره بمالها (1).
قلت: وكان شيخنا أبو العباس ابن تَيْميِّةَ يضعِّف هذا القول جدًّا، ويذهبُ إلى أن خروج البُضع من ملكه متقوِّمٌ، ويحتجُّ عليه بالقرآن (2)، قال: لأن الله تعالى أمر المسلمين أن يردُّوا إلى من ذهبت امرأته إلى الكُفَّار مهرَهُ إذا أخذوا من الكفَّار مالًا بغنيمة أو غيرها، فقال تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 11] ومعنى عاقبتم: غنمتم (3) وأصبتم منهم عُقْبَى وهي الغنيمة، هذا قول المُفَسِّرين.
والمقصود أنه قال: {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} وهو: المهر، وقال تعالى في هذه القصة: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 10] فأمر المسلمين أن يسألوا مهورَ نسائهم، ويسألَ (ق/ 271 ب) الكفارُ مهورَ نسائهم (4) اللاتى هاجرنَ وأسلمنَ، ولولا أن خروجَ البُضْع متقوِّمٌ لم يكن لأحدٍ من (5) الفريقين على الآخر مهر.
وأختلف أهلُ العلم في ردِّ مهر منْ أسلم من النساء إلى أزواجهن في هذه القصة، هل كان واجبًا أو مندوبًا؟ على قولين، أصلهما (6): أن الصُّلحَ هل كان قد وقع على ردِّ النساء أم لا؟.
__________
(1) (ق): “بشيءِ من مالها”.
(2) انظر: “الاختيارات”: (ص/ 238 – 240).
(3) (ع وظ): “عاقبتم: منهم فغزوتم وأصبتم … “.
(4) “ويسأل الكفار مهور نسائهم” سقطت من (ع).
(5) (ق وظ): “لإحدى”.
(6) (ق): “أصلحهما”!.

(3/1109)


والصحيح: أن الصُّلْح كان عامًّا على ردِّ من جاء مسلِمًا مطلَقًا ولم يكن فيه تخصيصٌ، بل وقع بصيغة “من” المتناولة للرجال النساء، ثم أبطلَ الله تعالى منه ردَّ النساء، وعوَّض منه ردَّ مهورِهِنَّ، وهذه شبهة من قال: إن حكمَ هذه الآية منسوخٌ، ولم يُنسْخ منه إلا ردُّ النساء خاصَّةً، وكان ردُّ المهور مأمورًا به، والظاهر أنه كان واجبًا؛ لأن الله تعالى قال: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ}، فثبتَ أن ردَّ المهور حقٌّ لمن يسأله فيجُب رَدُّهُ إليه.
قال الزُّهريُّ: ولولا الهدنةُ والعهدُ الذي كان بينَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وبين قريش يومَ الحُدَيْبيَة لأمسك النساءَ ولم يَرْدد الصَّدَاقَ، وكذلك كان يصنعُ بمن جاءه منَ المُسلمات قبل العهدِ (1).
فلما نزَلَتْ هذه اْلآية أقرَّ المسلمونَ بحكم الله وأدُّوا ما أُمِرُوا به من نفقات المشركين على نسائهم، وأبى المشركون أن يقِرُّوا بحكم الله تعالى، فيما أمر مبن ردِّ نفقات المسلمين إليهم، فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 11] فهذا ظاهر القرآن يدلُّ على أن خروج البُضْعِ من ملك الزَّوج متقوِّمٌ.
قلت: ويدلُّ عليه أن الشارع كما جعله متقوِّمًا فى دخوله فكذلك في خروجه، لأنه لم يدخله إلى مُلك الزوج إلا بقيمة، وحُكْم الصحابة – رضي الله عنهم- في المفقود بما حكموا به منْ ردِّ صداق امرأته إليه بعد دخول: الثاني بها = دليلٌ على أنه متقوِّم في خروجه،
__________
(1) أخرجه الطبري: (12/ 70) عن الزهري، وابن هشام في “السيرة”: (4/ 326 – 327) عن عروة بن الزبير.

(3/1110)


وهذا ثابتٌ عن خمسة من الصحابة منهم عمرُ وعليٌّ (1).
قال أحمد: أيّ شيء يذهب من خالَفَهُمْ؟ فهذا القرآن والسُّنَّة وأقوال الخلفاء لرَّاشدين دالَّةٌ على تقويمه، ولو لم يكنْ له قيمةٌ لما صحَّ بذلُ نفائس الأموال فيه، بل قيمتُه عند الناس من أغلى القيم، ورغبتهم فيه من أقوى الرَّغَبات، وخروجه عن الرجل (ظ / 190 أ) من أعظم المغارم، حتى يعده غرْمًا أعظمَ من غرم المال.
قلت لشيخنا: لو كان خروجُه من ملْكه متقوِّمًا عليه لكانت المرأةُ إذا وطِئَتْ بشُبهة يكون المهرُ للزوج (ق/272 أ) دونَها، فحيث كان المهرُ لها دلَّ على أن الزوج لم يملك البُضع، وإنما مَلَكَ الاستمتاعَ، فإذا خرج البُضع عنه لم يخْرُجْ عنه شيءٌ كان مالِكَهُ.
فقال لى: الزوجُ إنما ملَكَ البُضْعَ يستمتعَ به، لم يملكه ليُعَاوَضَ عليه، فإذا حصلَ لها بِوطْءِ الشُّبهة عِوَضٌ كان لها، لأن عقد النكاح لم يقتض (2) ملكَ الزوج المعاوضةَ عن بُضْعِ امرأتِهِ، فصار ما يحصل لها بجناية الواطئ بمثابة ما يحصل لها بغيره من أُروش الجِنَايات.
قلت له: فما تقولُ في خُلْع المريض بدون مهر المثل؟
فقال: هو يملكُ إخراجَ البُضْع مجانًا بالطَّلاق، فإذا أخَذَ منها شيئًا فقد زاد الوَرَثّةَ خيرًا، قال: ونحن إنما منعناه من المُحاباة فيما ينتقلُ إلى الوَرَثة؛ لأنه يُفَوِّتُهُ عليهم، وبُضْعُ الزوجة لا حَقَّ للوَرَثَةِ فيه ألبتَّةَ ولا ينتقلُ إليهم، فإذا أخرجَهُ بدون مهر المِثْل لم يُفَوِّتْهُمْ حقًّا ينتقل إليهم. انتهى.
__________
(1) أخرجه البيهقي: (7/ 446 – 447).
(2) (ق وظ): “يقبض”.

(3/1111)


قلت: وأما منعُ الأب مِنْ خلع ابنتِهِ بشيءٍ من مالها فليست مسألةَ وِفاق، بل فيها قولان مشهوران، ونحن إذ قلنا: إن الذي بيده عُقدة النكاح هو الأبُ، وإن له أن يعفوَ عن صَدَاق ابنته قبل الدخول، وهو الصحيحُ لبضعة عشر دليلًا قد ذكرتها في موضع آخر (1)، فكذلك خلعُها بشيءٍ منْ مالها، بل هو أولى؛ لأنه إذا ملك إسقاط مالها مجانًا فَلأَنْ يملِكَ إسقاطَهُ ليُخَلَصَها من رقِّ الزَّوج وأسرِهِ ويُزَوِّجَها بمنْ هو خيرٌ لها منه = أولى وأحرى.
وهذه رواية عن أحمد ذكرها أبو الفرج في “مبهجه” (2) وغيره، واختارها شيخُنا.
وأما قولُكم: إنه يخرج من مُلْكِهْ قهرًا بغير عِوَض فيما إذا طلَّق عليه الحاكم لإعسار أو عَنَت أو غيرها، فجوابه: أن الشارع إنما مَلَّكهُ البُضْعَ بالمعروف، وإنما ملَّكَه بحقِّه، فإذا لم يستمتعْ به بالمعروف الذي هو حقُّه، أخرجه الشارع عنه، قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، وقال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، فأوجب الله على الزوج أحدَ الأمرين، إما أن يُمْسِكَ بمعروف وإما أن يُسرِّحَ بإحسان، فإذا لم يُمسِكْ بمعروف ولم يُسَرحْ بإحسان (3) سرَّح الحاكم عليه قهرًا.
__________
(1) تقدمت الإشارة إلى هذا البحث (3/ 1031) وانظر التعليق هناك.
(2) هو: أبو الفرج عبد الواحد بن محمد الشيرازي المقدسي الحنبلي ت (486)، من أصحاب القاضي أبي يعلى، له كتب منها “المبهج” نقل منه ابن رجب: بعض غرائبه. “ذيل الطبقات”: (1/ 68 – 73).
(3) من قوله “فإذا لم … ” إلى هنا ساقط من (ق).

(3/1112)


قلت لشيخنا: فلو قُتِلَتِ الزوجة لم يجبْ للزوجِ المهرُ على قاتلها، مع كونه قد أخرج البُضْع عن مُلْكه وفوَّته إياه، فلو كان خروجُه متقوِّمَا لوجب له على القاتل المَهْرُ.
فقال: النكاحُ معقودٌ على مُدَّة الحياة، فإذا قُتِلَتْ زال وقتُ النكاح وانقضى أمدُه، فلا يجِبُ للزوج شيء بحد ذلك كما لو ماتتْ.
قلت له: فلو أفسد مفسدٌ نكاحَها بعد (ق/272 ب) الدُّخول لاستقرَّ المهرُ على الزوج ولم يرجعْ على المفسد، فضَعَّف هذا القول، وقال: عندي أنه يرجعُ به وهوَ المنصوص عن أحمد، وهو مبنيٌّ على هذا الأصل، فإذا ثبت أن خروجَ البُضْع من ملكه متقوِّم فله قيمتهُ على من أخرجه من ملكه.
قلت (1): ويَرِدُ عليه ما لو أفسدت نكاحَ نفسها بعد الدخول، فإن مهرَها لا يسقطُ قولًا واحدًا، ولم أسألْه عن ذلك، وكان يمنعُ ذلك، ويختارُ سقوط المهر ويُثبتُ الخلاف في المذهب، ولا فرقَ بين ذلك وبين إفساد الأجنبي، فطَرَد قولَ من طَرَد هذا الأصل، وقالَ بالتقويم في حال الخروج أن يسقطَ المهر إذا أفسدته هي، ولو قيل: إن مهرَها لا يسقطُ بذلك قولًا واحدًا. وإن قلنا: بأنَّ خُروجَ البُضْع متقومٌ فيجب لها (ظ / 190 ب) مهرُها المسمَّى في العقد، وعليها مهرُ المِثل وقتَ الإفساد اعتبارًا بخروجهِ (2) عن ملكه حينئذٍ -لكان مُتَوَجِّهًا، ولكن يُشكِل على هذا أن الله -سبحانه- اعتبر في خروج البُضْع ما أنفقَ الزَّوْجُ،
__________
(1) هنا حاشية في (ع) نثبت ما ظهر منها: “الشيخُ في “المغني”: (11/ 333) ذكر أنه لا يعلم خلافًا في عدم سقوطه بإفسادها بعد الدخول؛ ولكن في … شرح الهداية لأبي البركات ما يقتضي أن (فيه) خلافًا” اهـ.
(2) (ظ): “لأن اعتبار خروجه … “.

(3/1113)


وهو المسمَّى لا مهر المثل.
وكذلك الصحابةُ حكموا للمفقود بالمسمَّى الذي أعطاها لا بمهر المثل، فطَرْد هذه القاعدة: أن مهرَها يسقطُ بإفسادها، وهو الذي كان شيخُنا يذهبُ إليه.
فإن قيل: فما تقولون في شهود الطلاق إذا رجعوا قبل الدخول أو بعده؟
قيل: أما قبلَ الدخول فيلزمُهُ نصفُ المهر، ويرجعُ به على الشهود. وفيها مأخذان: أحدهما: أنه يعوَّمُ عليه في دخوله بنصف المهر الذي غَرِمَه فيقوَّمُ عليه في خروجه بنظيره، والثاني: أنهم ألجأوه إلى غُرْمِه، وكان بصدَدِ السقوط جملة بأن ينسُبَ (1) الزوجةَ إلى إسقاطه، ورُجِّح هذا المأخذ بأنه لو كان الغرمُ لأجل التقويم للزمهم نصفُ مهر المثل؛ لأنه هو القيمةُ لا المسمَّى، وقد تقدم أن الشَّارع إنما اعتبر تقويمَهُ في الخروج بالمسمَّى لا بمهر المثل وكذلك خلفاؤُه الراشدون.
فإن قيل: لو كان الغُرمْ لأجل التَّقويم للزم الشهودَ جميعُ المهر؛ لأنهم أخرجوا البُضْعَ كُلَّه من مُلكه.
قيل: هو متقوِّم عليه بما بَذَلَهُ، فلما كان المبذول نصفُ المهر كان هو الذي رَجَعَ به، ولا ريبَ أنّ خروج البُضْع قبل الدّخول دونَ خروجه بعدَ الدخول، فإن المقصود بالنِّكاح لم يحصل إلا بالدخول (2)، فإذا دخل استقر له ملك البُضْع واستقر عليه الصَّداق، وأما إذا رجع
__________
(1) (ع وق): “تتسبب”.
(2) في هامش (ع): “قد قال بموجبه الشافعي في أحد قوليه”.

(3/1114)


الشهود بعد الدخول فكذلك يقول: يجبُ عليهم غُرْمُ المهر (ق/273 أ) الذي بذله الزوجُ، وهو إحدى الروايتينَ عن أحمد.
فإن قيل: فما في مقابلة المهر قد استوفاه بوَطْئِهِ فلم يَفُتْ (1) عليه شيء.
قيل: ليس كذلك؛ لأنه إنما بَذَلَ المهرَ في مقابلة بُضْع يَسْلَم له الاستمتاعُ به، فإذا لم يَسْلَمْ له رجع بما بذله، ويدلُّ عليه حكم الله في المُهاجرات، وحكم الصحابة في امرأة المفقود.
فإن قيل: فما تقولونَ فيما إذا أفسدت امرأةٌ نكاحَه بِرَضَاع؟.
قيل: إن أفسدَتْا قيلَ الدخول غَرِمَتْ نصفَ المهر، وفيه مأخذان: أحدهما: أنها قررته عليه، وهذا مأخذُ كثير من الأصحاب، لظنِّهم أنه لو كان لأجل التَقويم لغرِمت كمالَ المهر بعد الدخول والثاني: -وهو الصحيح- أنها إنما غَرِمته لأنه متقوِّم في خروجه، وقد يقوَّم بنصف المهر، وهو الذي بذله، فهو الذي يرجعُ به، وعلى هذا فإذا كان الإفسادُ بعد الدُّخول رجع عليها بكمال المهر، هذا منصوص أحمدَ في رواية ابن القاسم (2)، وقال بعضُ أصحابه: لا يرجِعُ بشيء، والمنصوصُ هو الأقوى دليلًا ومذهبًا. والله أعلم.
فائدة (3)
إذا خاف على نفسِه الهلاكَ، وأبى صاحبُ الطعام أن يبذُلَهُ إلا
__________
(1) ق،: “يثبت”!.
(2) هو: أحمد بن القاسم صاحب أبي عبيد، حدَث عن الإمام بمسائل كثيرة. “طبقات الحنابلة”: (1/ 135).
(3) (ق): “مسألة”.

(3/1115)


بعقد ربا، فهل يباحُ أخذهُ منه على هذا الوجه، أو يغالبه ويقاتله (1)؟.
فقال بعض أصحاب أحمد: الرِّبا عقدٌ محظور لا تُبيحُهُ الضَّرُورة، والمغالَبَةُ والمقاتلة للمانع طريق أباحَهُ الشرع، فينبغي لهَ أن يغلِبَهُ على قَدْر ما (ظ/ 191 أ) يحتاج إليه، ولا يدخل في الرِّبا، فإِن لم يقدر دخل معه في العَقد ملافظةً وعزم بقلبه على (2) أن لا يُتمِّمَ عقدَ الرِّبا، بل إن كان نسِيئًا (3) عَزَمَ على أن يجعلَ العِوَض الثابتَ في الذِّمَّة قَرضًا.
ولو قيل: إن له أن يُظْهرَ معه صورة الرِّبا ولا يغالبَهُ ولا يقاتلهُ، ويكون بمنزلة المُكْرَهِ، فيعُطيه من عقد الربا صورتهُ لا حقيقَتَهُ، لكان أقوى من مقاتَلتهِ.
فلو اتَّفق مثل هذا لامرأة فأبى صاحبُ الطعام أن يَبْدْلَهُ لها إلا بالفُجور بها؛ فهل يباحُ لها ذلك إذا خافتِ الهلاكَ؟ قال بعضُ أصحابنا: لها أن تبدلَ نفسَها، ويجري ذلك مجرى التهديد بقتلها من قادر، فإن المنعَ في هذا الحال قتلٌ، ولهذا يوجب القَوَدَ على صاحب الطعام إذا مَنع المضطرَّ حتى ماتَ، قال: وغاية ما يُمْكنُها مما يُبعدها عن الزنا يجب فعله بأن تقول: قدِّمْ عقد زوجيَّة على أرخص المذاهب ولو بِمُتعَة، ولا تمكِّنُهُ تمكينًا بغير عقدٍ رأسًا، مع إمكان أن يرغبَ إليه في عقدٍ على قولِ بعض أهل الإسلامِ.
فلو اتَّفق مثل هذا: لِصَبِيٍّ (4) صَبَرَ لحُكْمِ الله ولقائه، (ق/273 ب)
__________
(1) (ق): “أو بمغالبة ومقاتلة”.
(2) (ع): “فعليه”، و (ق): “وعزم على”.
(3) (ق): “كيسا”و (ع) غير بيّنة ويُشبِه أن تكون: “شيئًا”.
(4) (ظ): الرجل”.

(3/1116)


ولم يَجُزْ له التمكينُ من نفسه بحال؛ لأن الضَّرَر اللاحقَ له بتمكينه أعظمُ فسادًا من الضَّرَر اللاحق له بفوات الحياة، والله أعلم.
فائدة (1)
رجل له على ذميٍّ دَيْن، فباع الذِّمِّيُّ خمرًا وقضاه من ثمنه، فأبى أن يأخذَه.
قال الإمام أحمد: ليس له إلا أن يأخذَه أو يبرئه، واستدلَّ بقول عُصَرَ في أخذ العُشْرِ منهم من ثمنِهِ: “ولُوهُمْ بَيْعها وخُذوا العُشْرَ مِنْ أثمانِها” (2).
فائدة
إذا غصَبَ مالًا وبنى به رباطًا أو مسجدًا أو قنطرةً، فهل ينفعُه ذلك، أو يكونُ الثواب للمغصوب منه؟.
قال ابنُ عَقِيل: لا ثوابَ على ذلك لواحدٍ منهما، أما الغاصبُ فعليه العقوبةُ، وجميع تصرُّفاته في مال الغير آثامٌ متكررة، وأما صاحبُ المال فلا وجهَ لثوابه، لأن ذلك البناء لم يكن فيه نِيَّةٌ ولا حِسبة، وما لم يكنْ للمكلَّف فيه عمل ولا نية فلا يُثابُ عليه، وإنما يطالِبُ غاصِبَه يومَ القيامة فيأخذ من حَسنَاتِهِ بقدْر ماله.
قلت: في هذا نظرٌ؛ لأن النفعَ الحاصلَ للناس متولَّد من مال هذا وعمل هذا، والغاصبُ وإن عوقِبَ على ظلمه وتعدِّيه واقتَصَّ المظلومُ من حسناته فما تولَّد من نفع الناس بعَمَلِه له، وغَصْب المال عليه،
__________
(1) (ق): “مسألة” وكذا الفائدتان بعدها.
(2) أخرجه عبد الرزاق: (8/ 195).

(3/1117)


وهو لو غَصَبَه وفسَق به لعُوقبَ عقوبتين، فإذا غصبه وتصدَّق به أو بنى به رباطًا أو مسجدًا أو افتكَّ به أسيرًا فإنه قد عمل خيرًا وشرًّا: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} (1) [الزلزلة: 7، 8].
وأما ثوابُ صاحب المال؛ فإنه وإن لم يقصدْ ذلك فهو متولِّدٌ من مال اكتسبه، فقد تولَّدَ من كسبه خيرٌ لم يقصدْهُ، فيشبه ما يحصلُ له من الخير بِوَلدِه البَرِّ، وإن لم يقصدْ ذلك الخيرَ، وأيضًا فإن أخذ ماله مصيبةٌ، فإذا أنفِقَ في خيرٍ فقد تولَّدَ له من المُصيبة خيرٌ، والمصائبُ إذا وَلَّدَتْ خيرًا لم يعدم صاحبُها منه ثوابًا، وكما أن الأعمال إذا ولَّدت خيرًا أُثيبَ عليه وإن لم يقصِدْه، فالمصائبُ إذا ولَّدت خيرًا (2) لم يمتنع إن يُثابَ عليه، وإن لم يقصُدْه. والله أعلم.
فائدة
رجل ماتَ وترك في دينًا فورِثه ولدُهُ، ولم يستوفهِ، فهل المُطالبة به في الآخرة لهُ أو لولده؟.
قال بعضُ أصحاب أحمد: المطالبةُ للابن (3)؛ لأن الإرْثَ انتقلَ عن الأب إلى الابن فصار الحقُّ له.
قلت: وفي هذا نظرٌ، وينبغي التفصيلُ، فإن كان الموروثُ قد
__________
(1) في هامش (ع) تعقُّبْ نصُّه: “هذا البحث ضعيف جدًّا، فإن عمل الغاصب في ذلك لم يأمر الله به، وهو ملوم معاقب على التصرف الذي لم يأذن الله فيه، فكيف يُثاب عليه” اهـ.
(2) من قوله: “أثيب عليه .. ” إلى هنا ساقط من (ع).
(3) (ق): “للولد”.

(3/1118)


عَجَز عن استيفائه وتعذَّرَ عليه، فقد وجب أجرُه له، وله (ق/274 أ) حقُّ المطالبة [لا للابن؛ لأن الإرث انتقل عن الأب إلى] (1) يوم القيامة، والحقوق الأخروية لا تُوَرَّثُ، وإن أمكنه المطالبةُ به فلم يطالبْ به حتى مات انتقلَ إلى الولد، فإذا لم يُوَفِّهِ إياه كان حقُّ المطالبة به للولد.
وقد قال بعض الناس: إنه إذا لم يُوَفِّ الميتَ ولا وارثَهُ حتى مات الوارثُ وورثه آخر (ظ / 191 ب)، ثبتَتِ المطالبةُ لكلِّ واحد منهم، وتضاعفتْ عليه المطالبةُ لاستحقاق كُلِّ واحدٍ منهم ذلك الحَقَّ عليه.
فائدة (2)
تأمل سر {الم (1)} كيف اشتملتْ على هذه الأحرف الثلاثة، فالألفُ إذا بُدِئَ بها أولًا كانت همزةً، وهى أوَّل المخارج من أقصى الصدر، واللام من وسط مخارج الحروف، وهي أشد الحروف اعتمادا على اللسان، والميم آخر الحروف ومخرجُها من الفَمِ، وهذه الثلاثة هي أصول مخارج الحروف أعني: الحَلْقَ واللِّسان والشَّفَتَيْنِ، وترتبت (3) في التنزيل من البداية إلى الوسط إلى النهاية.
فهذه الحروف تعتمد (4) المخارج الثلاثة التي يتفرَّعُ منها ستة عسْر مخرجًا، فيصيرُ منها تسعة (5) وعشرون حرفا عليها مدارُ كلامِ
__________
(1) بينهما من (ظ) والمطبوعات.
(2) بياض في (ظ).
(3) كذا استظهرتها من (ع وظ)، و (ق): “وتنزّلت”.
(4) (ظ): “معتمد”.
(5): “سبعة”. والصواب المثبت، وانظر، “مفتاح دار السعادة”: (2/ 216 – 217).

(3/1119)


الأمم الأوَّلين والآخرين مع تضمُّنها سرًّا عجيبًا، وهو: أن الألف البداية واللام التوسط والميم النهاية، فاشتملتِ الأحرف الثلاثة على البداية والنهاية والواسطة بينهما، وكلّ سورة استُفتحتْ بهذه الأحرف الثلاثة، فهي مشتملة على بَدء الخلق ونهايته وتوسُّطه، فمشتملةٌ على تخليقِ العالم وغايَتهِ، وعلى التَّوَسُّط بين البداية والنهاية من التَّشرِيع والأوامر، فتأمَّلْ ذلك في البقرة وآل عمران وتنزيل السجدة وسورة الروم.
وتأمَّلِ اقترانَ الطاء بالسين والهاء في القرآن فإنَّ الطَّاء جَمَعتْ من صفات الحروف خمسَ صفات لم يجمعْها غيرُها وهي: “الجهر، والشِّدَّة، والاستعلاء، والإطباق” (1)، والسين “مهموس، رِخْوٌ، مستَفِلٌ، صَفِيريٌّ، منفتح” فلا يمكن أن يجمَعَ إلى الطاء حرف يقابلها كالسين والهاء، فذكر الحرفين اللذين جمعا صفات الحروف.
وتأمَّلْ السُّورَ التي اشتملتْ (2) على الحروف المفرَدة، كيف تجدُ السورة مبنية على كلمة ذلك الحرف، فمن ذلك (قَ) والسورة مبنيَّةٌ على الكلمات القافيَّة من ذِكر القرآن، وذكر الخَلْق، وتكرير القول ومراجعته مرارًا، والقرب من ابن آدم، وتلقي المَلَكَيْنِ قولَ العبد، وذكر الرقيب، وذكر السائق والقَرين، والإلقاء في جهنم، والتَّقَدُّم (ق/274 ب) بالوعيد، وذكر المتقين، وذكر القلب والقرون والتنقيب في البلاد، وذكر “القَبْل” (3) مرتين، وتشقّق الأرض وإلقاء الرَّواسي
__________
(1) هذه أربع صفات، والخامسة إما أن تكون “القلقلة” -وهو الأظهر كما في (شرح النونية: 1/ 309) لابن عيسى -لمقابلتها للصفير في السين، أو “التفخيم”.
(2) (ق): “جمعت”.
(3) كذا في (ع)، وفي (ق): “القيل”.

(3/1120)


فيها، وبُسُوق النخل والرِّزق، وذكر القوم، وحقوق الوعيد، ولو لم يكن إلا تكرارُ القول والمُحَاورة.
وسرُّ آخر: وهو أن كل معاني هذه السورة مناسبة لما في حرف القاف من الشدة والجهر والعلوِّ والانفتاح.
وإذا أردت زيادةَ إيضاح هذا فتأمَّل ما اشتملت عليه سورة (ص) من الخصومات المتعددة، فأولها خصومة الكفار مع النبي – صلى الله عليه وسلم – وقولهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5] إلى آخر كلامهم، ثم اختصام الخصمين عند داود، ثم تخاصُم أهل النار، ثم اختصام الملأ الأعلى في العلم وهو الدرجات والكفَّارات، ثم مخاصمة إبليس واعتراضه على ربه في أمره بالسجود لآدم، ثم خصامه ثانيًا في شأن بَنيه وحَلِفه ليُغْوِيَنَّهم أجمعين، إلا أهلَ الإخلاص منهم، فليتأمل اللبيبُ الفَطِن: هل يليق بهذه السورة غير (ص)، وبسورة (ق) غير حَرْفها، وهذه قطرةٌ من بحر من بعض أسرار هذه الحروف، والله أعلم.
فوائد من السِّياسة الشرعية (1) نص عليها الإمام أحمد
* قال في رواية المرُّوْذي وابن منصور: المُخَنَّثُ يُنفى لأنه لا يقعُ منه إلا الفسادُ والتَّعَرُّض له، وللإمام نفيُهُ إلى بلدٍ يأمنُ فسادَ أهله، وإن خاف عليهم حَبَسَهُ.
*ونقل حنبلٌ عنه فيمن شَرِب خمرًا في نهار رمضان، أو أتى شيئًا نحوَ هذا أُقيم عليه الحدُّ وغلظ عليه، مثل الذي قتل في الحَرَم: دِيَةٌ وثُلُثٌ.
__________
(1) (ق): “مسائل في المخنّث واللوطي وشارب الخمر في رمضان”.

(3/1121)


* ونقل حرب عنه: إذا أتت المرأةُ المرأةَ تُعاقبانِ وتؤَدَّبانِ.
وقال أصحاب أحمد: إذا رأى الإمامُ تحريقَ اللُّوطِيِّ بالنَّار فله ذلك (ظ/ 192 أ)؛ لأن خالد بن الوليد كتبَ إلى أبى بكر: أنه وَجَدَ في بعض ضواحي العرب رجلاً يُنْكَحُ كما تُنْكَحُ المرأةُ، فاستشار أصحابَ النبي – صلى الله عليه وسلم – وفيهمِ عليُّ بن أبي طالب -وكان أشدَّهم قولاً- فقال: إنَّ هذا الذنبَ لم تعْصِ به أمَّةٌ من الأمم إلا واحدة صنع الله بهم ما قد عَلِمْتم، أرى أن يُحْرَقُوا بالنار، فأجمع رأي أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على أنْ يُحْرَقوا بالنار (1)، فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يُحْرَقوا (2). ثم حَرَّقَهُمْ ابنُ الزبير، ثم حَرَّقَهُمْ هشام بن عبد الملك.
* ونص أحمدُ فيمن طعن على الصحابة أنه قد وجبَ على السلطان عقوبتُهُ. وليس للسلطان أن يعفوَ عنه، بل يعاقبُهُ ويستتيبُهُ، فإن تاب وإلا (ق/175 أ) أعاد عليه العقوبةَ.
فائدة
قال ابنُ عقيل: شاهدتُ شيخَنا ومعلِّمَنا المناظرةَ: أبا إسحاق الفيروزابادي (3) لا يُخرج شيئًا إلى فقير إلا أحضر النية، ولا يتكلَّمُ في مسألة إلا قَدَّمَ الاستعانةَ بالله وإخلاصَ القصدِ في نُصْرَةِ الحقِّ دونَ التَّزين والتَّحسين للخَلْق، ولا صنَّفَ مسألةً إلاّ بعد أن صلَّى رَكَعَاتٍ، فلا جَرَمَ شاع اسمُه، واشتهرت تصانيفُه شرقًا وغربًا، هذه بركاتُ الإخلاصِ.
__________
(1) من قوله: “فأجمع … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) أخرجه البيهقي: (8/ 232).
(3) هو: أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزابادي الشيرازي الشافعى، صاحب اللمع، ت (476). “السير”: (18/ 452 – 464).

(3/1122)


فائدة
عُوتب ابنُ عقِيل في تقبيل يد السلطان حين صافحه، فقال: أرأيتم لو كان والدي فعل ذلك فقبلت يَدَه أكان خطأ أو واقعًا موقِعَه؟ قالوا: بلى، قال: فالأب يَرُبُّ ولدَه مربَّةً خاصَّةً، والسلطان يَرُبُّ العالم مربَّة عامَّةَ، فهو بالإكرام أولى، ثم قال: وللحال الحاضرة حكمُ من لابَسَها، وكيف يُطْلَب من المُبتلَى بحالٍ ما يُطْلَب من الخالي عنها.
فائدة
أورد إلكِيا (1) الهَرَّاسِي سؤالاً على القول بكفر تارك الصلاة، وزعم أنه لا جوابَ عنه، فقال: إذا أراد هذا الرجل معاودةَ الإسلامِ فبماذا يُسلم فإنه لم يَتْرُك كلمة الإسلام؟.
فأجابه ابنُ عَقيل بأن قال: إنما كان كفرُهُ بترك الصلاة لا بترك الكلمة، فهو إذا عاود فِعْل الصلاة صارت معاودَتُهُ للصلاة إسلامًا، فإن الدَّالَّ على إسلام الكافر الكلمةُ أو الصلاةُ.
قلت: وهذا الذي ذكره كِيا (2) يرد عليه في كلِّ مَنْ كَفَرَ بشيء من
__________
(1) (ظ): “شيخنا” وفيه بُعْد؛ لأن إلكيا من أقران ابن عقيل على أحسن الأحوال، وإلا فابن عقيل أكبر منه بعشرين عامًا، وقد نقل ابن عقيل عن إلكيا في “الفنون” ولم يطلق عليه “شيخنا” أنظر “الفنون”: (1/ 162، 166، 170، 171).
قال ابن خلكان في “الوفيات”: (3/ 389): “وفي اللغة العجمية إلكيا هو الكبير القدر المقدَّم بين الناس، وهو بكسر الكاف وفتح الباء المثنَّاة من تحتها وبعدها ألف” اهـ.
(2) كذا في (ع وق) وكذا في “الفنون” لابن عقيل، ووقع في (ظ) والمطبوعات: “شيخنا” وانظر ما سبق.

(3/1123)


الأشياء (1)، مع إتيانه بالشهادتين، وتلك صور عديدة.
فائدة (2)
سأل سائل فقال: إذا كانت الجنَّةُ لا موتَ فيها فكيف يأكلون فيها: لحمَ الطير وهو حيوان قد فارقته الروح؟
فأجيبَ: بأنه يجوزُ أن لا يكون ميتًا، وهذا جواب في غاية الغَثَاثَة!.
قال ابنُ عقيل: وما الذي أحوجه إلى هذا والجنَّة دارٌ لا يُخْلَقُ فيها أذىً ولا نَصَبٌ، لا مطلقًا، بل لا يدخل الداخل إليها ذلك على طريق الإكرام كما قال تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)} [طه: 118 – 119] وذلك مشروطٌ بالطاعة، فإذا جاز ذلك في حق آدَمَ عُلِم أنه ليس بواجب في حق الطير، ولا يمتنع: في قدرة اللهُ تعالى أن يكون هذا الطائر مشويًّا لا عن روُح خرجت منه، أو عن روح خرجتْ خارجَ الجنة، وولَجَ الجنة وهو لحمٌ مشويٌّ.
قلت: وما الذي أوجبَ هذا التَّكَلُّفَ كُلَّه، فالجنةُ دارُ الخلود لأهلها: وسكانها، وأما الطيرُ (ق/ 275 ب) فهو نوعٌ من أنواع الأطعمة التي يحدِثُها: اللهُ لهم شيئًا بعد شيء، فهو دائمُ النوع، وإن كانتْ آحادُهُ (3) مُتصَرِّمَة كالفاكهة وغيرها، وقد ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: “أنَّ المُؤْمِنينَ يُنْحَرُ: لهم يَوْمَ القيامَةِ ثَوْرُ الجَنَّةِ الذي كان يَأْكُلُ منها، فَيَكُونُ نُزُلَهُمْ” (4)، فهذا حيوانٌ قد كان يأكلُ من الجنة فَيُنْحَرُ نُزُلاً لأهلها، والله أعلم.
__________
(1) (ظ): “الأسباب”.
(2) (ق): “مسألة”.
(3) تحرفت في النسخ إلى أنحاء شتى.
(4) أخرجه مسلم رقم (315) من حديث ثوبان -رضي الله عنه-.

(3/1124)


فائدة
“الدُّنيا سِجْنُ المُؤْمِنِ” (1) فيه تفسيرانِ صحيحانِ:
أحدهما: أن المؤمنَ قَيَّدَهُ إيمانُهُ عن المحظورات، والكافر مطلقُ التَّصَرُّف.
الثاني: أن ذلك باعتبار العواقب، فالمؤمنُ لو كان أنعمَ النَّاس، فذلك بالإضافة إلى مآله في الجنة كالسِّجن، والكافرُ عكْسُه، فإنه لو كان أشدَّ النَّاس (ظ/192 ب) بؤسًا فذلك بالنسبة إلى النار جَنَّتُه (2).
فائدة
سأل تلميذٌ أستاذَهُ أن يمدحَهُ في رقعة إلى رجل، ويبالغَ في مدحه بما هو فوقَ رُتبته، فقال: لو فعلتُ ذلك لكنتُ عند المكتوبِ إليه إما مقصِّرًا في الفهم؛ حيث أعطيتُكَ فوق حَقِّكَ، أو متَّهمًا في الإخبار فأكون كذابًا، وكلا الأمرينِ يضرُّك؛ لأني شاهِدُك، وإذا قُدِح في الشاهد بطل حَقُّ المشهود له (3).
فائدة
قال قائل: أراني (4) إذا دُعيتُ باسمي دون لَقَبي شقَّ ذلك عَلَيَّ
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (2956) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(2) وانظر جواب الصُّعْلوكي على سؤال عبدٍ يهودي عن هذا الحديث مع ما هو عليه -أي اليهودي- من المهانة والذل، والشيخ الصعلوكي من الجاه والمنزلة؛ فقال على البديهة: “إذا صرتَ غدًا إلى عذاب الله كانت هذه جنتك، وإذا صِرت أنا إلى نعيم الله ورضوانه، كان هذا سجني”. “الطبقات السنية”: (4/ 60) للتميمي.
(3) بنحوها في “البصائر والذخائر” للتوحيدي.
(4) (ق): “إني”.

(3/1125)


جدًّا بخلاف السَّلَف، فإنهم كانوا يُدْعَوْن بأسمائهم.
فقيل له: هذا لمخالفة العادات؛ لأن أُنسَ النفوس بالعادة طبيعةٌ ثابتةٌ؛ ولأن الاسم عند (1) السَّلَف لم يكن (2) دالاً على قِلَّة رُتْبة المدعوِّ، واليوم صارت المنازلُ في القلوب تُعلم بأمارة الاستدعاء، فإذا قصَّر دَلَّ على تقصير رُتبته فيقع السخطُ لما وراء الاستدعاء. فلما صار المخاطباتُ موازينَ المقادير، شقَّ على المخطوط من رتبته قولاً، كما شق (3) عليه فعلاً.
فائدة (4)
سمع بعض أهل العلم رجلاً يدعو بالعافية، فقال له: يا هذا استعملِ الأدويةَ وادعُ بالعافية، فإن الله تعالى إذا كان قد جعل إلى العافية طريقًا. وهو التَّدَاوي ودعوتَهُ بالعافية، ربما كان جوابُهُ: قد عافيتُكَ بما جعلتهُ ووضعتُهُ سببًا للعافية، وما هذا إلا بمثابة من بينَ زرعِهِ وبينَ الماء ثُلْمَةٌ يدخلُ منها الماء يسقي زرعه، فجعل يُصلِّي ويستسقي لزَرْعه، ويطلبُ المطر مع قدرته على فَتْح تلك الثُّلْمة لسقي زَرْعه، فإن ذلك لا يحسُنُ منه شرعًا ولا عقلاً، ولم يكن ذلك إلا لأنه سبق بإعطاء الأسباب، فهو إعطاء بأحد الطريقين، وله أن يُعطي بسبب وبغير سبب، وبالسبب ليُبَيَّنَ به ما أفاض صنعه، وما أودع (ق/ 276 أ) في مخلوقاته من القُوَى والطبائع والمنافع، وإعطاؤه لغير سبب ليُبيَّنَ للعباد أن القُدرة غيرُ مفتَقِرة إلى واسطة في فعله، فإذا
__________
(1) (ق): “عن”.
(2) (ظ) زيادة: “عندهم”.
(3) (ع): “شق”.
(4) انظر: “الفروق”: (4/ 221 – 224) للقرافي.

(3/1126)


دعوتَهُ بالعافية فاستنقِذْ ما أعطاك من العَتَائد والأرزاق، فإن وصلتَ بها، وإلا فاطلبْ طلبَ مَنْ أفلسَ مِن مطلوبه، فرغب إلى المعدِن، كما قال سيِّدُ الخلائق: “اللَّهُمَّ هَذا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلا أَمْلِكُ” (1).
قلت: هذا كلامٌ حسن، وأكملُ منه أن يبذُلَ الأسبابَ ويسأل سؤال من لم يُدْلِ بشيءٍ ألبتَّةَ، والناس في هذا المقام أربعة أقسام:
فأعجزهم: من لم يبذلِ السَّبَبَ ولم يُكْثِرِ الطلبَ، فذاك أمهنُ الخلق.
والثاني: مقابِلُهُ، وهو أحزمُ الناس: من أَدْلى بالأسباب التي نصَبَها اللهُ تعالى مُفضيةً إلى المطلوب، وسأله سؤالَ من (2) لم يُدْلِ بسببٍ أصلاً، بل سؤالَ مفلسٍ بائس ليس له حيلةٌ ولا وسيلة.
والثالث: من اشتغل بالأسبابَ وصرف همَّتَهُ إليها، وقصَرَ نَظَرَهُ عليها، فهذا وإن كاد له حظٌّ مما رتَّبه اللهُ عليها؛ لكنه منقوصٌ منقطعٌ، نُصْبَ الآفاتِ والمعارضات، لا يحصلُ له إلا بعد جُهْد، فإذا حصل فهو وشيكُ الزَّوال، سريعُ الانتقال، غير مُعْقِبٍ له توحيدًا ولا معرفة، ولا كان سببًا لفتح الباب بينَهُ وبينَ معبودِهِ.
الرابع: مقابله، وهو رجلٌ نبَذَ الأسبابَ وراءَ ظهره، وأقبل على
__________
(1) أخرجه أبو داود رقم (2134)، والترمذي رقم (1140)، وابن ماجه رقم (1971)، والنسائي: (7/ 64)، وابن حبان “الإحسان”: (10/ 5)، والحاكم: (2/ 187) من حديث عائشة -رضي الله عنها- ورجاله ثقات إلا أن الصواب فيه أنه مرسل، أعله بالإرسال الترمذي والنسائي وابن أبي حاتم في “العلل”: (1/ 425).
(2) (ق): “وسؤاله من”، و (ظ): “وسؤاله سؤال من”.

(3/1127)


الطَّلَبْ والدُّعاء. والابتهال، فهذا يُحْمَد في موضع، ويذَمُّ في موضع، ويَشْتبه الأمرُ في موضع.
فيُحمد عند كون تلك الأسباب غيْرَ مأمور بها أو فيها مضرَّةٌ عليه في دينه، فإذا تركها وأقبل على السُّؤال والابتهال والتَّضَرُّع لله؛ كان محمودًا.
ويُذمُّ حيث كانتِ الأسبابُ مأمورًا بها فتَرَكها وأقبلَ على الدُّعاء، كمن حَصَره العدوُّ وأُمِر بجهاده فترك جهادَهُ، وأقبل على الدُّعاء والتَّضَرُّع أن يصرفَه الله عنه، وكمن جَهَده العطشُ وهو قادر على تناول الماء، فتَرَكه وأقبل يسأل اللهَ أن يرويَهُ. وكمن أمكنه التَّداوي الشرعي فتركه وأقبل يسأل العافية، ونظائر هذا.
ويشتبه الأمرُ (ظ/193 أ) في الأسباب التي لا يتبيَّنُ له عواقبها، وفيها بعض الاشتباه، ولها لوازمُ قد يعجز عنها، وقد يتولَّدُ عنها ما يعودُ بنقصان دينه؛ فهذا موضعُ اشتباهٍ وخَطَر، والحاكم في ذلك كلِّه الأمرُ، فإن خفيَ فالاستخارةُ، وأمر الله وراء ذلك.
فائدة
قال أحمد: إذا تزوَّج العبدُ حرَّة عَتَقَ نصفه، ومعنى هذا: أن أولاده يكونون أحرارًا، وهم فَرْعُهُ، فالأصل عبد، وفرعُهُ حرٌّ، والفرعُ (ق/276 ب) جزء منم الأصل.
فائدة
حذارِ حذارِ مم أمرينِ لهما عواقبُ سوءٍ:
أحدهما: ردُّ الحقِّ لمخالفته هواك، فإنك تعاقَبُ بتقليب القلب،

(3/1128)


وردّ ما يَرِدُ عليك من الحق رأسًا، ولا تقبله إلا إذا برز في قالب هواك، قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110] فعاقبهم على ردِّ الحق أول مرة بأن قلَّب أفئدتهم وأبصارهم بعد ذلك.
والثانى: التهاون بالأمر إذا حضر وقتُه، فإنك إن (1) تهاونت به ثَبَّطك الله وأقعدَك عن مراضيه وأوامره عقوبةً لك. قال تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)} [التوبة: 83] فمن سلِمَ من هاتينِ الآفتينِ والبليَّتين (2) العظيمتينِ فَلْتَهْنِهِ السَّلامةُ.
فائدة
وقعت حادثة في زمن ابن جرير (3)، وهي: أن رجلاً تزوَّجَ امرأةً فأحبَّها حبًّا شديدًا، وأبغضته بغضًا شديدًا، فكانت تواجهُهُ بالشَّتم والدُّعاء عليه، فقال لها يومًا: أنت طالقٌ ثلاثًا لا خاطبتني بشيءٍ إلا خاطبتُكِ بمثله، فقالت له في الحال: أنتَ طالقٌ ثلاثًا بتاتًا، فأبلس (4) الرجلُ ولم يَدْرِ ما يصنع، فاستفتى جماعةً من الفقهاء. فكلُّهم قال: لابُدَّ أن تُطَلَّقَ، فإنه إن أجابها بمثل كلامها طلقت، وإن لم يُجِبْها حنث فطلقت، فإن بَرَّ طلقت، وإن حنث طلقت.
فأُرْشد إلى ابن جرير، فقال له: امضِ ولا تُعَاوِدِ الأيْمان، وأقمْ
__________
(1) (ع): “إذا”.
(2) (ظ): “النكبتين”.
(3) (ظ): “أيام ابن جرير”، وذكر الحادثة الذهبي في “تاريخه”: (23/ 183).
(4) (ع): “فأفلس”، و (ظ): “فأنكس”.

(3/1129)


على زوجتك بعد أن تقولَ لها: أنت طالقٌ ثلاثًا إن أنا طلَّقْتُكِ، فتكون قد خاطبتَها بمثل خطابها لك، فوفَّيْتَ بيمينك ولم تُطَلَّقْ منك، لِمَا وصلْتَ به الطَّلاقَ في الشرط.
فذُكِر ذلك، بن كيل فاستحسنه. وقال: وفيه وجه آخر لم يذكره ابن جرير، وهو أنها قالت له: “أنْتَ طالقٌ ثلاثًا” بفتح التاء، وهو خطابُ تذكيرٍ، فإذا قال لها: “أنتَ” بفتح التاء لم يقعْ به طلاقٌ (1).
قلت: وفيه وجه آخر أحسن من الوجهين، وهو جارٍ على أصول المذهب، وهو تخصيصُ اللفظ العامِّ بالنِّيَّة، كما إذا حلف لا يتغدَّى ونيَّتُه غداءُ يومه قُصِر عليه. وإذا حلف لا يكلِّمُه ونيَّتُهُ تخْصيصُ الكلام بما يكرهُهُ، لم يحنَثْ إذا كلمه بما يحبُّه، ونظائره كثيرةٌ.
وعلى هذا فِبساط (2) الكلام صريح أو كالصريح في أنه إنما أراد أنها لا تكلمه بشتم أو سب أو دعاء، أو ما كان من هذا الباب (3) إلا كلّمها بمثله، ولم يُرِدْ أنها إذا قالت (ق/ 277 أ) له: اشترِ لي مَقْنَعَةً: أو ثوبًا أن يقول لها. اشتري لي ثوبًا أو مقنعه، وإذا قالت له: لا تشترِ لي كذا فإني لا أحبُّه، أن يقول لها مثلَه. هذا مما يقطعُ أن الحالفَ لم يُرِدْهُ، فإذا لم يخاطبها بمثله لم يحنَثْ. وهكذا يقطعُ بأن هذه الصورة المسؤول عنها لم يُرِدْها، ولا كان بِساط (4) الكلام يقتضيها ولا خطرت بباله، وإنما أراد ما كان من الكلام الذي هَيَّجَ يمينه وبعثه
__________
(1) في هامش (ق) ما نصه: “أما هذا الوجه الثاني فغير سائغ، أرأيت لو قالت: “أنتِ طالق” بكسر التاء، ماذا يكون الجواب”؟.
(2) (ظ): “فليناط”.
(3) من (ظ).
(4) انظر استعمال المؤلف لهذه الكلمة فيما سبق (3/ 872).

(3/1130)


على الحلف. ومثل هذا يعتبرُ عندنا في الأيْمان.
فائدة
قرأ قارئ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)} [التكوير: 1 – 3] وفي الحاضرين أبو الوفاء ابن عقيل، فقال له قائل: يا سيِّدي هبْ أنه أَنشر الموتى للبعث والحساب، وزَوَّج النفوسَ بقُرَنائِها للثوابِ والعقابِ، فلمَ هدم الأبنيةَ وسيَّر الجبالَ، ودكَّ الأرضَ وفطرَ السماءَ، ونثرَ الَنجوم وكوّر الشمس؟.
فقال: إنما بنى لهم الدار للسُّكْنى والتَّمَتُّعُ، وجعلها وجعل ما فيها للاعتبار والتَّفَكُّر، والاستدلال عليه بحسن التأمُّل والتَّذَكُّر، فلما (ظ/193 ب) انقضت مُدَّةُ السُّكْنى وأجلاهم من الدَّار خرَّبها لانتقال الساكن منها (1).
فأراد أن يعلِّمهم بأن الكونين كانت معمورة بهم، وفي إحالة الأحوال وإظهار تلك الأهوال وبيان القدرة بعد بيان العزة، وتكذيب لأهل الإلحاد وزنادقة المنجِّمين وعباد الكواكب والشمس والقمر والأوثان، فيعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين، فإذا رأوا أن منار آلهَتَهُم قد انهدم، وأن معبودِيْهم قد انتثرتْ وانفطرت، ومحالّها قد تشققت = ظهرت فضائحُهم، وتبيَّنَ كَذِبُهم، وظهر أن العالم مربوبٌ محدَث مدبَّر، له ربُّ يصرِّفه كيف يشاءُ تكذيبًا لملاحدة الفلاسفة القائلينَ بالقِدَم، فكم لله تعالى من حكمة في هدم هذه الدار، ودلالة على عِظم عِزَّته وقدرته وسلطانه وانفراده بالرُّبوبيَّة، وانقياد المخلوقات بأسرها لقهره وإذعانها لمشيئته، فتبارك اللهُ ربُّ العالمينَ.
__________
(1) (ق): “للانتقال منها”.

(3/1131)


فائدة
الدليلُ على حَشْرْ الوحوش وجوه:
الأول: قوله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)} [التكوير: 5].
الثانى: قوله تعالي: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38].
الثالث: حديث مانع صدقة الإبلِ والبقر والغنم، وأنها “تَجِيءُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا كَانَتْ وَأَسْمَنَهُ، تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، وَتَطَؤهُ بِأَظْلافِهَا”، وهو متفق على صحته (1).
الرابع: حديث أبي ذَرٍّ أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – رأى شَاتَيْنِ (ق/277 ب) تَنْتَطِحَانِ، فقال: “يَا أَبا ذَرٍّ، أَتَدْرِي فِيمَ تَنْتَطِحَانِ”؟ قال: قلت: لا، قال: “لكِن اللهَ يَدْرِي، وَسَيقْضِي بَيْنَهُمَا”، رواه أحمد في “مسنده” (2).
الخامس: الآثار الواردة في قوله تعالى: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)} [النبأ: 40]، وَأَنَّ اللهَ تعَالى يَجْمَعُ الوُحُوش، ثُمَّ يَقْتَصُّ مِنْ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ، ثُمَّ يَقُولُ لَهَا: كُونِي تُرَابًا، فَتَكُون تُرَابًا، فَعِنْدَهَا يَقُولُ الكَافِرُ {يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} (3). (4)
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (1640)، ومسلم رقم (990) من حديث أبي ذر -رضي الله عنه-.
(2) أخرجه أحمد: (35/ 345 رقم 21438) وغيره وفي سنده جهالة، وأخرجه من طريق آخر (35/ 403 رقم 21511) وفي سنده ضعف. وله شاهد من حديث أبي هريرة عند مسلم رقم (2582).
(3) انظر: “تفسير الطبري”: (12/ 418 – 419)، و”الدر المنثور”: (6/ 507).
(4) وانظر “مجموع الفتاوى”: (4/ 248).

(3/1132)


فائدة
تأمَّلِ الحكمةَ في التَّشديد في أول التَّكليف ثم التَّيسير في آخره، بعد توطين النَّفس على العزم والامتثال، فيحصل للعبد الأمران: الأجرُ على عزمه وتوطين نفسه على الامتثال، والتيسيرُ والسهولة بما خفَّف الله عنه.
فمن ذلك: أمرُ الله تعالى رسولَه بخمسين صلاة ليلة الإسراء، ثم خَفَّفها، وتصدَّقَ بجعلها خمسًا (1).
ومن ذلك: أنه أمَرَ أولاً بصبر الواحد للعشرة، ثم خفَّف ذلك إلى الاثنين (2).
ومن ذلك: أنه حرَّمَ عليهم في الصِّيام إذا نام أحدُهم أن يأكل بعد ذلك أو يجامعَ، ثم خفَّف عنهم بإباحة ذلك إلى الفجر (3).
ومن ذلك: أنه أوجب عليهم تقديمَ الصَّدَقَة بين يَدَيْ مناجاة رسوله – صلى الله عليه وسلم -، فلما وطَّنوا أنفسَهم على ذلك خفَّفه عنهم (4).
ومن ذلك: تخفيفُ الاعتداد بالحَوْل بأربعة أشهر وعشرًا (5).
وهذا (6) كما قد يقعُ في الابتلاء بالأوامر فقد يقعُ في الابتلاء
__________
(1) في حديث الإسراء الطويل في الصحيحين.
(2) أي: في الجهاد، كما في سورة الأنفال الآيات (65 – 66).
(3) كما في سورة البقرة آية (187)، وأخرجه البخاري رقم (1917)، ومسلم رقم (1091) من حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه-.
(4) كما في سورة المجادلة الآيات (12 – 13).
(5) انظر: “الفتح”: (8/ 41 – 42)، و”تفسير ابن كثير”: (2/ 605 – 606).
(6) من قوله: “على ذلك … ” إلى هنا ساقط من (ع).

(3/1133)


بالقضاء والقدر، يشدَّد على العبد أولاً ثم يخفَّف عنه، وحكمة هذا تسهيل الثاني بالأول، في تلقِّي الثاني بالرِّضى، وشهود المِنَّة والرحمة.
وقد يفعل الملوكُ ببعض رعاياهم قريبًا من هذا، فهؤلاء المُصَادَرُونَ يُطْلَبُ منهم الكَثِيرُ جدًّا الذي ربما عَجَزوا عنه، ثم يحُطُّونَه إلى ما دونَه لِتُطَوِّعَ لهم أنفسُهم بذلَهُ ويَسْهُلَ عليهم.
وقد يفعل بعض الحمَّالين قريبًا من هذا، فيزيدون على الحمل أشياء لا يحتاجون إليها، ثم يحُطُّ تلك الأشياء فيسهل حملُ الباقي عليهم.
والمقصود: أنَّ هذا باب من الحكمة خَلْقًا وأمرًا، ويقعُ في الأمر والقضاء والقدر أيضًا ضد هذا، فينقل عبادَهُ بالتَّدريج من اليسير إلى ما هو أشدُّ منه؛ لئلا يفجَأَها الشديدُ بغتةً، فلا تحتملُه ولا تنقادُ له، وهذا لتدريجهم في الشَّرائع شيئًا بعد شيء، دون أن يؤمروا بها كلِّها وهلةً (1) واحدةً، وكذلك المحرَّمات.
ومن هذا: أنهم أُمروا بالصلاة أولاً ركعتين ركعتين فلما (ظ/ 194 أ) أَلِفُوها زيد فيها ركعتين أخريين في الحَضَر (2).
ومن هذا: أنهم أُمروا أولاً بالصيام وخُيِّروا (ق/ 278 أ) فيه بين الصَّوم عينًا، وبين التَّخيير بينه وبين الفدية، فلما أَلِفُوه أُمروا بالصَّوْم عينًا (3).
__________
(1) (ع): “وهذه”.
(2) أخرجه البخارى رقم (350)، ومسلم رقم (685) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
(3) كما في سورة البقرة الآيات (184 – 185).

(3/1134)


ومن ذلك: أنَّهم أذن لهم في الجهاد أولاً من غير أن يُوْجَب عليهم، فلما توطَّنَت عليه أنفسُهم، وباشروا حُسْنَ عاقبته وثمرته أُمروا به فَرْضًا.
وحكمةُ هذا: التدريجُ والتربيةُ على قبول الأحكام والإذعان لها والانقياد لها شيئًا فشيئًا.
وكذلك يقعُ مل هذا في قضائه وقدره، يقدِّر على عبده بلاءً لابُدَّ له منه، اقتضاه حمدُه وحكمتُه فيبتليه بالأخف أوَّلاً، ثم يُرَقِّيه إلى ما هو فَوْقَهُ حتى يستكملَ ما كُتِب عليه منه.
ولهذا قد يسعى العبدُ في أول البلاء في دفعه وزواله، ولا يزداد إلا شدَّةً؛ لأنه كالمرض في أوله وتزايدِه، فالعاقلُ يستكينُ له أولاً، وينكسرُ وِيذِلُّ لربه، ويمد عُنُقَهُ خاضعًا ذليلاً لعزَّته، حتى إذا مرَّ به معظمُهُ وغَمْرَتُه (1)، وآذن ليله بالصَّباح، فإذا سعى في زواله ساعدته الأسبابُ، ومن تأمَّلَ هذا في الخلق انتفع به انتفاعًا عظيمًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى.
فائدة
رجل قالت له زوجتُه: أريدُ منك أن تُطَلِّقَنِي، فقال: إن كنتِ تريدينَ أن أُطَلِّقَكِ فأنتِ طالقٌ، فهل يقعُ الطلاقُ بهذا أو لابدَّ من إخبارها عن إرادةٍ مستقبلة؟.
قال بعض الفقهاء: لابدَّ من إرادة مستقبلةٍ عملاً بمقتضى الشرط، وأن تأثيرَهُ إنما هو في المستقبل.
__________
(1) من قوله: “لربه ويمد … ” إلى هنا ساقط من (ع).

(3/1135)


وقال بعضهم بل تطلَّقُ بذلك اكتفاءً بدلالة الحال، على أنه إنما أراد بذلك إجابَتَها إلى ما سألته من طلاقها المُراد لها، فأوقعه معلِّقًا له بإرادتها التي أخبرتْهُ بها، هذا هو المفهوم من الكلام لا يفهمُ الناسُ غيره.
وقال ابنُ عَقِيل: ظاهرُ الكلام ووضعُه يدُلُّ على إرادة مستقبلَةٍ، ودلالةُ الحال تدُلُّ على أنه أراد إيقاعَه لأجل الإرادة التي أخبرته بها، ولم يَزِدْ.
قلت: وكأنه ترجيجٌ منه للوقوع اكتفاءً بدلالة الحال، على ما هو المعهود من قواعد المذهب، ولفظ الشرط (1) في مثل هذا لا يستلزمُ الاستقبال.
وقد جاء مُرادًا به المشروط المقارن للتعليق، وهو كثيرٌ في أفصحِ الكلام، كقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1]، وقوله: {وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النحل: 114]، وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)} [الأنعام: 118] وقول مريم: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)} [مريم: 18] وهو كثيرٌ جدًّا.
ولما كان متلُوّ أداة الشرط في هذا لا يُرَادُ به المستقبلُ بل يُرادُ الحال والماضي؛ قال بعضُ النُّحَاة: إن “إن” فيه بمعنى “إذ” التي تكون للماضي، وقال غيرُه: إنها للتعليل. والتحقيق فيها (ق/ 278 ب) أنها للشرط على بابها، والشرط في ذلك داخل على الكون المستمر، المطلوبِ دوامُه واستمرُاره، دونَ تقيده بوقتٍ دونَ وقت، فتأمَّلْه.
__________
(1) (ق): “لفظ إن”.

(3/1136)


فائدة (1)
استدلَّ على أن النِّيَّة لا تُشترطُ في طهارة الماء بأن الماءَ خُلِقَ على صفات وطبيعة لا يحتاجُ في حصول أثرها إلى النية، فخُلِقَ طهورًا، وخُلق مُرْوِيًا، وخُلق مُبَرِّدًا وسيَّالاً (2)، كلُّ ذلك طبعه ووضعه (3) الذي جُعِلَ عليه، فكنا أنه لا يُحْتَاجُ إلى النية في حصول الرِّيِّ والتبريد به، فكذلك في حصول التطهير، يوضِّحُه: أنه خلق طاهرًا وطهورًا، وطاهريَّتُهُ لا تتوقَّفُ على نِيَّة، فكذلك طهوريته، يزيدُه إيضاحًا: أن عمله في أقوى الطهارتين -وهي طهارة الخبث- لا تتوقَّف على نية، فعدم توقف عمله على النية في الطهارة الأخرى أولى، وإنما قلنا: إنها أقوى الطهارتين؛ لأن سببها وموجبَها أمرٌ حِسِّيٌّ وخبث مشاهد؛ ولأنه لابُدَّ لها (4) من التُّرَاب، فقد ظهرتْ قوَّتُها حِسًّا وشرعًا، يزيدُه بيانًا: أن قوله – صلى الله عليه وسلم -: “خُلِقَ الماءُ طَهُورًا” (5) صريحٌ في أنه مخلوقٌ على هذه الصِّفة، و”طهورًا” منصوبٌ على الحال، أي: خلق على هذه الحالة من كونه طهورًا، وإن كانت حالاً لازمةً فهي كقولهم: خَلَقَ اللهُ الزَّرَافَة يَدَيْها أطولَ من رجْلَيْها، (ظ/ 194 ب)
__________
(1) انظر “الفنون”: (1/ 293، 299) لابن عقيل.
(2) (ظ): “سائلاً”.
(3) (ق وظ): “ووصفه”.
(4) (ق): “لا يعلم بدلها”، و (ظ): “لا بدل لها”.
(5) أخرجه أحمد: (17/ 359 رقم 11257)، وأبو داود رقم (66) والترمذي رقم (66)، والنسائي: (1/ 174) وغيرهم من حديث أبى سعيد الخدري -رضي الله عنه- بلفظ: “الماء طهور لا ينجسه شيء”، ولم أجده باللفظ المذكور.
والحديث حسنه الترمذي، وصححه أحمد وابن معين وابن حزم، انظر: “التلخيص”: (1/ 13)، وله شواهد كثيرة.

(3/1137)


فهذه الصِّفةُ وهي الطُّهرية مخلوقةٌ معه، نُوِيَتْ أو لم تُنْوَ.
والاستدلالُ بهذا قريبٌ من الاستدلال بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)} [الفرقان: 48]، يوضح ذلك أيضًا: أن النيَّة: إن اعْتُبرت بجَرَيَان الماء على الأعضاء فهو حاصل، نوى أو لم ينوِ، وإن اعْتُبرت لحصول الوضاءَة والنظافة؛ فكذلك لا يتوقَّفُ حصولُها على نية، وإن اعتُبِرت لإزالة الحدث المتعلِّق بالأعضاء؛ فقد بَيّنَّا: أن الخَبَثَ (1) المتعلِّقَ بها أقوى من الحَدَث، وزوال هذا الأقوى لا يتوقَّفُ على النية فكيف الأضعف؟.
يوضحُه أيضًا: أنا رأينا الشريعةَ قد قسمت أفعالَ المكلَّفين إلى قسمين:
قسم: يحصل مقصودُه والمُرادُ منه بنفس وقوعه، فلا يعتبرُ في صحَّته نيةٌ؛ كأداء الديون، وردَّ الأمانات والنفقات الواجبة، وإقامة الحدود، وإزالة النجاسات، وغسل الطِّيْب عن المُحْرِم، واعتداد المفارقة وغير ذلك. فإن مصالحَ هذه الأفعال حاصلةٌ بوجودها ناشئة من ذاتها، فإذا وُجِدتْ حصلتُ مصالحها فلم تتوقَّفْ صحتها (2) على نية.
القسم الثاني: ما لا يحصلُ مُراده ومقصوده منه بمجرَّدِه، بل لا يُكْتَفَى فيه بمجرد صورته العارية عن النية؛ كالتلفُّظ بكلمة الإسلام، والتلبية في الإحرام، وكصورة التَّيَمّم (ق/ 279 أ) والطَّواف حول البيت، والسَّعي بين الصَّفا والمروة، والصلاة والاعتكاف والصيام، ولما كان
__________
(1) (ق): “الحدث”.
(2) (ق): “مصالحها”.

(3/1138)


إزالةُ الخَبَثِ من القسم الأول اكتُفِيَ فيه بصورة الفعل لحصولِ مقصودِهِ.
وقد علَّلنا أن المُرَادَ من الوضوء النظافةُ والوضاءةُ، وقيام العبد ين يدي الرب تعالى على أكمل أحواله، مستورَ العورة، متجنِّبًا للنجاسة، نظيفَ الأعضاء وضيئَها، وهذا حاصلٌ بإتيانه بهذه الأفعال نَوَاها أو لم يَنْوِها.
يوضحُه: أن الوضوء غيرُ مراد لنفسه بل مراد لغيره، والمرادُ لغيره لا يجبُ أن يُنوى لأنه وسيلة، وإنما تعتبر النِّيَّةُ في المواد لنفسه إذ هو المقصود المُرادُ، ولهذا كانت نيَّهُ قطع المسافة في الحج والجمعة غيرَ واجبة ولا تتوقَّفُ الصِّحَّةُ عليها، وكذلك نتَّة شراء الماء، وشراء العبد في عتق الكَفَّارة، وشراء الطعام فيها غير واجبة (1)؛ إذ هذه وسائلُ مرادة لغيرها.
وكذلك الوضوء وسيلةٌ ترادُ للصلاة، فهي كطهارة المكان والثياب.
يوضحه أيضًا: أن النِّيَّةَ لو اعْتُبرت في الوضوء لاعْتُبِرت في سائر شروط الصلاة، كسَتْر العورة وإزالة النجاسة وغيرهما، ولا أرى منازِعِيّ القومِ يتمتكَّنون من الجواب عن هذه الكلمات بجوابٍ شافٍ، وهذه أجوبتُهم في طرايقهم فعليك بمراجعتها.
ونحن لا نرتضي هذا الرأيَ، ولكن لم نَرَ استدلال منازعيهم وأجوبتهم لهم أقوى من هذه الأدلة، وما ذلك لضعفِ المسألةِ من جانِبهم؛ ولكن لأنَّ الكلامَ في مسألة النية شديدُ الارتباط بأعمالِ القلوبِ، ومعرفةِ مراتبِها وارتباطِها بأعمالِ الجوارح، وبنائها عليها
__________
(1) من قوله: “ولا تتوقف صحة … ” إلى هنا ساقط من (ظ).

(3/1139)


وتأثيرها فيها صحَّةً وفسادًا، وإنما هي الأصلُ المُرادُ المقصودُ، وأعمالُ الجوارح تَبَعٌ: ومكمِّلَةٌ ومُتَمّمَةٌ، وأن النية بمنزلة الرُّوحِ، والعملُ بمنزلة الجَسَدِ: والأعضاء، الذي إذا فارق الرُّوحَ فمَوَاتٌ، وكذلك العملُ إذا لم تَصْحَبْهُ النيةُ فحركة عابثٍ. فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح؛ إذ هي أصلُها، وأحكام الجوارح متفرِّعةٌ عليها.
وكذلك أيضًا: لا يتحقَّقُ الكلامُ في المسألة إلا بعد معرفة حقيقة النّيَّة، وهل هي من جنس العلوم والتَّصَوُّرات أو من جنس الإرادات والعزوم؟ أو حقيقتُها مركبةٌ من الأمرين؛ وأما من قَدَّر انبساطها وانقسامها على حروف معينة، لكلِّ حرف منها جزءٌ من أجزاء النِّيَّة، فلم يحصِّل معنى النِّيَّة فَضْلاً عن أن يتمكَّنَ من رَدِّ قول منازعه (ق/ 279 ب) في اعتبارها.
وكذلك من ظنَّ أنها لا تتحقَّقُ إلا بجَرَيان ألفاظ من اللِّسان يخبرُ بها عنها، لم يحصِّلْ أيضًا معناها، فيجبُ أن نعلم حقيقَتَها أوَّلاً ومنزلَتَها من أعمال القلوب، وأنه يستحيل عليها الانبساطُ والانقسامُ، وأنه لا مدخلَ للألفاظ: فيها ألبتَّةَ، ويفرَّقُ بين النية المتعلِّقة بالمعبود التي هي من لوازم الإسلام وموجباته، بل هي رُوحه وحقيقته التي لا يقبلُ اللهُ من (ظ/ 195 ب) عاملٍ عملاً بدونها ألبتة، وبينَ النية المتعلقة بنفس العمل، التي وقع فيها النزاعُ في بعضِ المواضع، ثم يعرف ارتباطها بالعمل وكيف: قصد بها تمييز العبادة عن العادة إذ كانا في الصورة واحدًا، وإنما يتميَّزان بالنية.
فإذا عدمتِ النيةُ كان العمل عاديًّا لا عباديًّا، والعاداتُ لا يُتَقَرَّب

(3/1140)


بها إلى بارئ البَرِيَّاتِ وفاطرِ المخلوقات، فإذا عَرِيَ العملُ عن النية؛ كان كالأكل والشرب (1) والنوم الحيوانى البهيمي الذي لا يكونُ عبادة بوجه، فضلاً عن أن يُؤْمَرَ به ويُرَتَّبَ عليه الثواب والعقاب والمدحُ والذَّمُّ، وما كان هذا سبيلُه لم يكنْ من المشروع (2) المتقرَّب به إلى الرَّبِّ تبارك وتعالى.
وكذلك -أيضًا- يقصد بها تمييز مراتب العبادات بعضها عن بعض، فيُميَّزُ فرضها عن نفلها ومراتبها بعضها عن بعض، وهذه أمورٌ لا تَحَقُّقَ لها إلا بالنية ولا قَوَامَ لها بدونِها ألبتة، وهى مرادةٌ للشارع بل هى وظائف العبودية، فكيف يؤدي وظائفَ العبودية (3) من لا يخطرُ بباله التمييزُ بين العبادات والعادات، ولا التمييز بين مراتب تلك الوظائف ومنازلها من العبودية، هذا أمر ممتنع عادةً وعقلاً وشرعًا، فالنية هى سرُّ العبوديَّة ورُوحُها، ومحلُّها من العمل مَحلُّ الرُّوح من الجَسَد، ومُحَالٌ أن يعتبرَ في العبودية عمل لا روح له؛ بل هو بمنزلة الجسد الخراب، وهذا معنى الأثر المروي موقوفًا على أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: “لا عَمَلَ لِمنْ لا نِيَّةَ له، ولا أجْرَ لمن لا حَسَنَةَ له” (4).
وقد قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]__________
(1) (ق) بدلاً من “كان كالأكل والشرب”: “وترتب عليه الثواب والعقاب”.
(2) من قوله: “ويرتب عليه … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(3) “فكيف يؤدي وظائف العبودية” سقطت من (ق).
(4) قال ابن رجب في “جامع العلوم والحكم”: (1/ 69): “رواه ابن أبى الدنيا [في كتاب الإخلاص والنية] بإسناد منقطع”، وأخرجه البيهقي: (1/ 41) من حديث أنسٍ مرفوعًا، وفي سنده ضَعْف.

(3/1141)


فَنفَى سبحانه أن يكونَ أمَرَ عبادَهُ بغير العبادة التي قد أخلص عاملُها له فيها النِّيَّة، ومعلوم أن إخلاص النِّيَّةِ للمعبود أصلٌ لنية أصل العبادة، فإذا لم يأمرْهم إلا بعمل هو عبادةٌ قد أخلص عاملُها النيَّةَ فيها (1) لرَبِّه عز وجل، ومعلومٌ أن النية جزءٌ من العبادة، بل هي رُوح العبادة، كما تبيَّنَ = عُلِم أن العمل الذي لم يُنْوَ ليس بعبادة ولا مأمور به، فلا يكونُ فاعلُه متقرِّبًا به إلى الله، وهذا مما لا يقبلُ نزاعًا.
ومن نُكَت المسألة: أن يفرَّقَ بين الأفعال التي لا تقعُ إلا منويَّةً عادة وبين الأفعال التي تقع منويةً وغيرَ منوية، فالأول: كالوضوء المرتَّب عضوًا بعد عضو، فإنه لا يكادُ يُتَصَوَّرُ وقوعُه من غير نية، فإن (ق/ 280 أ) عِلْم الفاعل بما يفعلُه وقَصْده له هو النية، والعاقلُ المختار لا يفعلُ فعلاً غلا مسبوقًا بتصوره وإرادته، وذلك حقيقة النية، فليست النية أمرًا خارجًا عن تصوُّر الفاعل وقصده لما يريد أن يفعله.
وبهذا يعْلمُ غلطُ من ظن أن للتَّلَفُّظ (2) مدخلاً في تحصيل النِّيَّة، فإن القائل إذا قال: “نويتُ صلاةَ الظهر، أو نويتُ رفع الحَدَث”، إما أن يكون مخْبرًا أو منشئًا، فإن كان مخبِرًا؛ فإما أن يكون إخبارُه لنفسه أو لغيره، وكلاهما عبَثٌ لا فائدة فيه؛ لأن الإخبار إنما يفيد إذا تضمَّن تعريفَ المخبر ما لم يكن عارفًا به، وهذا مُحالٌ في إخباره لنفسه، وإنْ كان إخبارًا لغيره بالنية، فهو عَبَثٌ محضٌ، وهو غيرُ مشروع ولا مفيدٌ، وهو بمثابة إخباره له بسائر أفعاله من صومه وصلاته وحجه وزكاته، بل بمنزلة إخباره له عن إيمانه وحُبِّه وبغضه، بل قد تكونُ في هذا الإخبار فائدةٌ، وأما إخبار المأمومين أو الإمام
__________
(1) من قوله: “ومعلوم أن … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(2) (ع): “التلفظ”، و (ظ): “اللفظ”.

(3/1142)


أو غيرهما بالنية فعبثٌ محضٌ، ولا يصحُّ أن يكون ذلك إنشاء، فإن اللفظ لا يُنشئُ وجودَ النيّة، وإنما إنشاؤُها إحضارُ حقيقتها في القلب لا إنشاء اللَّفظ الدَّالِّ عليها؛ فعُلِمَ بهذا أن التَّلَفُّظَ بها عَبَثٌ محضٌ، فتأمَّلْ هذه النكتة البديعة.
والمقصودُ أن مثل هذه الأفعال المرتبة، التي لا تقعُ إلا عن علم وقصد، لا تكونُ إلا منويَّةً. وهذا بخلاف الاغتسالِ مثلاً، فإنه قد يقعُ لتنظيفٍ أو تبريد ونحوهما، فإن لم يقصدْ به رفع حَدَثه لم يكن منويًّا.
وكذلك أفعالُ الصلاة المرتبة التي يتبعُ بعضُها بعضًا لا تقعُ إلا منويَّةً. ولو تكلَّفَ الرجلُ أن يصلِّي أو يتوضأ بغير نِيَّةٍ لتعذَّر عليه ذلك، بل يمكن تصوُّرُه فيما إذا قصد تعليمَ غيره (1)، ولم يقصد العبادةَ، أو صلَّى وتوضأ مُكرهًا، وأما عاقلٌ مختار عالم بما يفعلُهُ يقعُ فعلُه على وفق قصده، فهذا لا يكونُ إلا مَنْوِيًّا.
فالنيةُ هي القصد بعينه، ولكن بينَها وبين القصد فَرْقَان:
أحدهما: أن القصد يتعلَّقُ بفعل الفاعل نفسه، وبفعل غيره، والنيةُ لا تتعلَّقُ إلا بفعله نفسه، فلا يتصوَّر أن ينويَ الرجلُ فعلَ غيره، ويتصوَّر أن يقصدَه ويريده. الفرق الثاني: أن القصد لا يكون إلا لفعل مقدور يقصده الفاعل، وأما النية فينوي الإنسان ما يقدر عليه وما يعجز عنه. ولهذا جاء في حديث أبي كَبْشَةَ الأنماري الذي رواه أحمد والترمذي وغيرهما عن
__________
(1) (ع): “قصده تعليم لغيره”.

(3/1143)


النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إنَّما الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِي مَالِهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ للهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا (ق/280 ب) بِأَفْضَلِ المَنَازِلِ عِنْدَ اللهِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزقْهُ مَالاً، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلان فَهُوَ بنِيَّتِهِ وَأجْرُهُمَا سَوَاءٌ. وعَبْدٍ رَزقَهُ اللهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْه عِلْمًا … ” فَذكرَ شَرَّ مَنْزِلَتَه (1) عِنْدَ اللهِ، ثُمَّ قَالَ: “وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالاً وَلا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْت فِيهِ بِعَمَلِ فُلانِ فَهُوَ بِنِيَّتَهِ، وَهُمَا في الوِزْرِ سَوَاءٌ” (2).
فالنيةُ تتعلَّقُ بالمقدورِ عليه والمعجوزِ عنه، بخلاف القصد والإرادة فإنهما لا يتعلقانِ بالمعجوز عنه، لا من فعله ولا من فعل غيره، وإذا عُرِف حقيقة النية ومحلها من الإيمان وشرائعه تبيَّن الكلام في المسألة نفيًا وإثباتًا بعلم وإنصاف؛ ولنذكرْ كلماتهم وما فيها من مقبولٍ ومردود.
فأما قولهم: إن الماءَ خُلق بطبعه مُبَرِّدًا ومُرْوِيًا وسيَّالاً ومُطَهِّرًا، وحصولُ هذه الآثار منه لا تفتقر إلى نية، إلى آخره.
فيقال: إن أردتمْ بكونه مطهِّرًا يطبعه أنه منظِّفٌ لمحل التطهير، فمسلَّم. ولكن نزاعنا في أمر وراءَهُ، وإن أردتم أنه يفتتحُ به الصلاة ويرفعُ المانعُ الذي جعله الشارعُ صادًّا عن الدخول فيها بطبعه من غير اعتبار نية؛ فدعوى مجردة لا يمكنكم تصحيحُها ألبتة، بل هي بمثابة
__________
(1) (ظ): “فذلك شرٌّ منزلةً”، وتمام الحديث: “فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربَّة، ولا يَصِل فيه رَحِمه، ولا يعلم لله فيه حقَّه، فهذا بأخبث المنازل”.
(2) أخرجه أحمد: (29/ 562 رقم 18031)، والترمذي رقم (2325) وغيرهم من حديث أبي كبشة الأنماري -رضي الله عنه-. قال الترمذي: “هذا حديث حسن: صحيح”.

(3/1144)


قول القائل: استعماله عبادة بمجرد طبعه، فحصول التَّعَبُّد والتقرُّب (1) به لا يحتاجُ إلى نية، وهذا بيِّنُ البُطلان، وهذا حرفُ المسألة (2): وهو أن التَّعَبُّدَ به مقصودٌ وهو متوقِّفٌ على النية، والمقدمتانِ معلومتانِ غنيتانِ عن تقرير.
وقد أجابهم بعض الناس بأن منع أن يكونَ في الماء قوَّة أو طبعٌ، وقال: هذا مبنيٌّ على إثبات القُوَى والطبائع في المخلوقات، وأهلُ الحقِّ ينكرونه، وهذا جوابٌ فاسدٌ يرغب طالب الحق عن مثله! وهو باطلٌ طبعًا وحِسًّا، وشرعًا وعقلاً، وأهلُ الحق هم المُتَّبِعُون للحَقِّ أين كانَ، والقرآن والسُّنَّة مملوآن من إثبات الأسبابَ والقُوَى، والعقلاء قاطبةً على إثباتها سوى طائفة من المتكلِّمين حَمَلَتهم المبالغةُ في إبطال قول القَدَرِيَّة النُّفَاة (3) على إنكارها جملةً.
والذي يكشفُ سِرَّ المسألة: أن التبريدَ والرِّيَّ والتنظيفَ حاصلٌ بالماء ولو لم يُرِدْهُ، وحتى لو أراد أن لا يكونَ، وأما التعبُّدُ لله بالوضوء فلا يحصلُ إلا بنيَّة التَّعَبُّدِ، فقياسُ أحد الأمرين على الآخر مِنْ أفسد القياس، فالحاصلُ بطبع الماء أمر غيرُ التعبد الذي هو مقوم لحقيقة الوضوء الذى لا يكونُ وضوءًا إلا به، وبهذا خرج الجوابُ عن قولهم: “إن عملَه في رفع الخَبَث إذا لم (4) يتوقَّفْ على نِيَّةٍ، فَأَنْ لا يتوقَّفَ (ف/ 281 أ) رفعُهُ للحَدَث أوْلى” فإن رفع الخَبَث (5) أمرٌ حِسِّيٌّ
__________
(1) (ظ): “والثواب”.
(2) يعني: سرها، أو محل النزاع فيها. وقد استعمل المؤلف هذا التعبير في عدد من كتبه.
(3) (ع): “والنفاة”.
(4) (ق): “الذي لا”.
(5) (ع): “الحدث”.

(3/1145)


مشاهَدٌ لا يستدعي أن يكونَ رافِعُه من أهل العبادة، بل هو بمنزلة كَنْس الدار، وتنظيفِ الطُّرُقات، وطرح المَيْتات والخبائث.
يوضِّحُه: أن زوالَ النَّجاسة لا يفتقرُ إلى فعل من المكلَّف ألبتَّةَ، بل لو أصابها المطرُ فأزال عينَها طَهُرَ المحلُّ بخلاف الطَّهارة من الحَدَث، فإن الله أمَرَ بأفعال متميِّزة لا يكونُ المكلَّفُ مؤدِّيًا ما أُمِر به إلا بفعلها الاختياري الذي هو مَنَاطُ التكليف، وبهذا خرج الجوانبُ عن قولهم: “النية إن اعْتُبرت بجَرَيان الماء على الأعضاء، أو لحصول الوَضاءة لم يفتقرْ إلى نيَّة … ” إلى آخره.
قولهم: “الشريعةُ قسمت الأفعالَ إلى قسمين؛ قسم: يحصلُ منه مقصوده بمجرده (ظ/196 أ) من غير نيَّة، وقسم: لا يحصل إلا بالنيَّة”؛ فمسلَّم.
قولُهم: “إنَّ الوضوءَ من القسم الأول” دعوى محل النِّزاع، فلا يقبلُ.
قولهم في تقريرِها: “المقصود (1) الوَضاءة والنظافة وقيام العبد بين يدي رَبَّه على أكمل أحواله”.
فجوابه: أن لله على العبد عُبودِيَّتين: عبوديَّة باطنة وعبوديَّة ظاهرة، فله على قلبه عبوديَّةٌ، وعلى لسانه وجوارحه عبوديةٌ، فقيامه بصورة العبودية الظاهرة مع تَعَرِّيه (2) عن حقيقة العبوديَّة الباطنة مما لا يُقَرِّبُه إلى ربِّهِ، ولا يُوجِبُ له ثوابه وقبول عمله، فإنَّ المقصود امتحانُ القلوب وابتلاء السرائر، فعمل القلبِ هو روُح العبودية ولُبُّها، فإذا خلا عملُ الجوارح منه كان كالجسدَ المَوَات (3) بلا رُوح، والنية هي
__________
(1) (ظ): “لمقصود”.
(2) (ع): “نفرته”.
(3) ليست في (ع).

(3/1146)


عملُ القلب الذي هو مَلِكُ الأعضاء والمقصود بالأمر والنهي، فكيف يسقطُ واجبُه، ويعتبر واجبُ رعيتِه وجندِه وأتباعه اللاتي إنما شُرِعَتْ واجباتُها لأجله ولأجل صلاحه، وهل هذا إلا عكسُ القضية وقلب الحقيقة!.
والمقصودُ بالأعمال كلها ظاهرها وباطنها إنما هو صلاحُ القلب وكماله وقيامه بالعبودية بين يدي ربه وقيومه وإلهه، ومن تمام ذلك قيامُه هو وجنودُه في حضرة معبوده وربِّه، فإذا بعث جنودَهُ ورعيِته، وتغيَّب هو عن الخدمة والعبودية، فما أجدَرَ تلك الخدمَةَ بالرَّدِّ والمقت، وهذا مَثَلٌ في غاية المطابقة، وهل الأعمالُ الخاليةُ عن عمل القلب إلا بمنزلة حَرَكات العابثين، وغايَتُها أن لا يَتَرَتَّبَ عليها ثوابٌ ولا عقابُ؟!.
ولما رأى بعضُ أربابِ القلوب طريقةَ هؤلاء انحرفَ هو إلى أن صرف هَمَّه (1) إلى عبوديَّةَ القلب، وعطَّل عبودية الجوارح، وقال: (ق/ 281 ب) المقصودُ قيامُ القلبِ بحقيقةِ الخدمة (2)، والجوارح تَبَعٌ. والطائفتان متقابلتان أعظمَ تقابَل؛ هؤلاء لا التفاتَ لهم إلى عبوديَّة جوارحهم، ففسدت عبوديةُ قلوبهم، وأولئك لا التفات لهم إلى عبودية قلوبهم، ففسدت عبوديَّة جوارِحِهِم، والمؤمنون العارفون بالله وبأمره قاموا له بحقيقة العبوديَّة ظاهرًا وباطنًا، وقدموا قلوبَهم في الخدمة، وجعلوا الأعضاءَ تَبَعًا لها، فأقاموا المَلِكَ وجنودَه في خدمة المعبود، وهذا هو حقيقةُ العبودية.
ومن المعلوم أن هذا هو مقصودُ الرَّبِّ تعالى بإرسالِهِ رُسُلَه،
__________
(1) (ع): “هو إلى صَرْف همته”.
(2) (ق): “العبودية”.

(3/1147)


وإنزالِهِ كُتُبَهُ، وشَرْعِهِ شرائِعَه، فدعوى المدَّعي أن المقصودَ من هذه العبودية حاصل، وإن لم يصحبْها عبوديَّةُ القلبِ من أبطل الدعاوى وأفسدها، والله الموفق.
ومن تأمَّلَ الشريعة في مصادرها ومواردها؛ علمَ ارتباطَ أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وأنها لا تنفع (1) بدونِها، وأن أعمالَ القلوب أفرضُ على العبد من أعمال الجوارح، وهل يُمَيَّزُ المؤمنُ عن المنافق إلا بما في قلب كلِّ واحد منهما من الأعمال التي ميَّزت بينها، وهل يُمْكِنُ أحدٌ الدخولَ في الإسلام إلا بعمل قلبه قبلَ جوارحه، وعبوديَّةُ القلب أعظمُ من عبوديَّة الجوارحِ وأكبرُ (2) وأدْوَمُ، فهي واجبةٌ في كلِّ وقت، ولهذا كان الإيمانُ واجبَ القلب على الدَّوام، والإسلامُ واجبَ الجوارح في بعض الأحيان، فمركَّبُ الإيمانِ القلبُ، ومركَّب الإسلامِ الجوارحُ، فهذه كلمات مختصرةٌ في هذه المسألة، لو بُسِطَتْ لقاْمَ منها سِفْرٌ ضخمٌ، وإنما أُشيرَ إليها إشارة.
وحرفُ المسألة: أنَّ أعمالَ الجوارح (3) إنما تكونُ عبادةً بالنيَّة، والوضوءُ عبادةٌ في نفسِه، مقصودٌ مرتَّبٌ عليه الثواب، وعلى تركه العقابُ، وكما يجبُ في العِبادات إفرادُ المعبود تعالى عن غيره بالنِّيَّةِ والقصد، فيكون وحدُه المقصودَ المُرادَ (4) بها لا سِواه، فكذلك يجبُ فيها تمييزُ العبادة عن العادة، ولا يقعُ التمييزُ بين النوعين مع اتحاد صورة
__________
(1) (ق): “تقع”.
(2) (ق وظ): “وأكثر”.
(3) “أن أعمال الجوارح” سقطت من (ق).
(4) بعده في (ظ) والمطبوعات: “فكما أنه يجب في العبادات إفراد المعبود تعالى بها” والمعنى بدونها مستقيم، وزيادتها تكرار وحشو.

(3/1148)


العملين إلاَّ بالنية، فعملٌ لا يصحبُه إرادة المعبود غيرُ مقبول ولا معْتَدٌّ به، (ظ/196 ب) وكذلك عملٌ لا تصحبُه إرادةُ التَّعَبُّدِ له والتَّقَّرُّب إليه غيرُ مقبولٍ ولا معتدٍّ به، بل نيَّةُ التقرُّب والتعبُّد جزءٌ من نيَّةُ الإخلاص، ولا قَوَام لنية الإخلاص للمعبود إلا بنية التعبد، فإذا كانتْ نِيَّةُ الإخلاصِ شرطًا في صحَّة كلِّ أداء العبادة، فاشتراط نيةِ التَّعَبُّدِ أولى وأحرى، ولا جوابَ عن هذا ألبتةَ إلاَّ بإنكار أن يكون الوضوءُ عبادةً، وذلك يلتحقُ بإنكار المعلوم من الشَّرْع بالضَّرورة، وهو بمنزلةِ إنكار كَوْنِ الصوم والزكاة والحجِّ والجهادِ وغيرِها عباداتٍ، واللهُ الموفق للصواب.
فائدة (1)
ذكر أحمد بن مروان المالكي (2) عن ابن عباس: أنه سئل عن ميت مات ولم يوجد له كفن قال: “يُكَبُّ على وجهه ولا يُسْتَقْبَلُ (ق/ 282 أ) بفرجه القبلة”.
قلت: هذا بعيدُ الصِّحَّة عن ابن عباس، بل هو باطلٌ، والصواب أنه يُسترُ بحاجز من تراب، ويوضعُ في لحده على جنبه مستقبلَ القبلة، كما ينامُ العُرْيان الذي نُشر عليه ملاءة أو غيرها، وإذا كان عليه حاجزٌ من تُراب وهو مستقبلُ القبلةِ كان بمنزلة من عليه ثيابه.
فائدة (3)
* وذكر أيضًا (4) عن مجاهد قال: جلست إلى عبد الله بن
__________
(1) هذه وما بعدها في (ظ): “مسألة”.
(2) هو: الدينوري صاحب “المجالسة وجواهر العلم”: ت (333)، وقد ذكر هذا الأثر في كتابه السالف: (3/ 331 رقم 953) مسندًا، وسنده ضعيف.
(3) من (ق).
(4) في “المجالسة”: (3/ 376 رقم 1007) مسندًا، وفيه انقطاع.

(3/1149)


عُمر (1) وهو يصلي، فخفَّفَ ثم سلَّم، وأقبل إليّ، ثم قال: “إن حقًّا عليَّ أو سُنَّة إذا جلس الرجلُ إلى الرجل وهو يصلِّي التَّطَوُّعَ أن يخفِّفَ ويقبلَ إليه”.
* وذكر أيضًا (2) عن ابن عباس قال: “ما مِنْ يومٍ إلا وليلَتُهُ قَبْلَهُ إلا يومَ عَرَفَةَ فإن ليْلَتَهُ بعدَهُ”.
قلت: هذا مما اختُلف فيه، فحُكِي عن طائفة: أن ليلة اليوم بعده، والمعروف عند الناس أن ليلة اليوم قبله، ومنهم من فصَّل بين اللَّيلة المضافة إلى اليوم، كليْلة الجمعة والسبت والأحد وسائر الأيام، والليلة (3) المضافة إلى مكان أو حال أو فعل، كليْلة عرفة وليلة النَّفْر، ونحو ذلك، فالمضافةُ إلى اليوم قبلَه، والمضافة إلى غيره بعدَه، واحتجُّوا بهذا الأثر المرويِّ عن ابن عباس، ونُقِض عليهم بليلة العيد، والذي فهمه الناس قديمًا وحديثاً من قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “لا تَخُصُّوا يَوْمَ الجُمُعَةِ بصِيَامٍ منْ بَيْنِ الأيَّامِ، وَلا لَيْلَةَ الجُمُعَةِ بقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي” (4) إنها الليلةُ التي تُسفِرُ صبيَحتُها عن يوم الجمعَة، فإن الناس يُسارعونَ إلى تعظيمها، وكثرة التعبُّد فيها عن سائر اللَّيالي، فنهاهم – صلى الله عليه وسلم – عن تخصيصها بالقيام، كما نهاهم عن تخصيص يومِها بالصيام، والله أعلم.
* قال أبو عبد الله الحاكم في كتابه “الجامع لذكر أئمة الأمصار، المُزَكِّين لرواة الأخبار”: سمعت أبا تراب المذكِّرَ يقول: سمعت
__________
(1) في الأصول: “عَمرو” وفي المطبوعات والمجالسة: “عُمر”.
(2) في “المجالسة” (2/ 372 رقم 540) مسندًا.
(3) (ع): “الليالى”.
(4) أخرجه البخاري رقم (1985) ومسلم رقم (1144) من حديث أبي هريرة – رضى الله عنه-.

(3/1150)


إبراهيم بن عبد الرحمن بن سهل يقول: سمعت العباس بن محمد الهاشمي يقول: دخل يحيى بن مَعينٍ مصرَ فاستقبلته هدايا أبي صالح كاتبِ الليث وجاريةٌ ومائةُ دينار فقبلَها، ودخل مصر، فلما تأمل حديثه قال: لا تكتبوا عن أبي صالح.
قال الحاكم: هذه من أجلِّ فضائل يحيى إذ لم يُحَابِ أبا صالحٍ وهو في بلدِه ونعمتِه.
أخبرنا إسماعيل بن محمد بن الفضل الشعراني، نا جدي: سمعتُ عليَّ بن المديني، يقول: كان أبو الجَعْد والد سالم بن أبي الجعد إذا تغدَّى جمع بَنِيه، فكانوا ستةً: اثنان مُرْجئان واثنان شِيعِيَّانِ واثنانِ خارجيَّانِ، فكان أبو الجَعْد يقول: لقد جمعُ اللهَ بينَ أيديكم وفرَّق بين أهوائِكُمْ (1).
قرأت على قاضي القضاة أبي الحسن محمد بن صالح الهاشمي، حدثنا عبد الله بن الحسين بن موسى، أخبرنا عبد الله بن علي بن المديني، قال: سمعت أبي يقول: خمسةُ أحاديث يروونها ولا أصلَ لها عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حديث: “لو صَدَقَ السَّائِلُ ما أَفْلَحَ مَنْ رَدَّهُ” (2)، وحديث: “لا وَجَعَ إلاّ وَجَعُ (ق/ 282 ب) العَيْنِ ولا غَمَّ إلا غَمُّ الدَّيْن” (3)، وحديث: “إن الشَّمْس رُدَّتْ على علِيَّ بن أبي طَالِبٍ” (4)، (ظ/197 أ) وحديث أنه – صلى الله عليه وسلم – قال: “أنا أكرمُ على اللهَ مِن أَنْ يَدَعَني تَحْتَ الأرضِ مِائَتَيْ
__________
(1) الخبر في “طبقات ابن سعد”: (6/ 292).
(2) انظر: “التمهيد”: (5/ 297)، و”كشف الخفاء”: (2/ 203).
(3) أخرجه الطبراني في “الأوسط”: (7/ 38)، وابن حبان في “المجروحين”: (1/ 350)، وغيرهم، وذكره ابن الجوزي في “الموضوعات”: (2/ 244)، وفي إسناده كذَّاب.
(4) أخرجه الطحاوي في “المشكل” رقم (1068)، والطبراني في “الكبير”: (24/ 145)، وهو لا يصح، انظر “منهاج السنة النبوية”: (8/ 164 فما بعدها).

(3/1151)


عامٍ” (1)، وحديث: “أفْطَرَ الحَاجِمُ والمَحْجُومُ إنهما كانا يَغْتَابَانِ” (2).
قال كاتبه:: ونظيرُ هذا قول الإمام أحمد: أربعة أحاديث تدور في الأسواق لا أصل لها عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: حديث: “مَنْ آذَى ذِمِّيًّا فكأنَّما آذَانِي”، وحديث: “مَنْ بَشَّرَنِي بخُروجِ آذَارَ ضَمِنْتُ له على اللهِ الجَنَّةَ”، وحديث: “للسَّائِل حَقٌّ وإنْ جَاءَ عَلى فَرَسٍ”، وحديث: “يَوْمُ صَوْمِكُمْ يَوْمُ نَحْرِكُمْ يَوْمُ رَأَسِ سَنَتِكُمْ” (3).
قال الحاكمُ: سمعت الأستاذ أبا سهل محمد بن سليمان يقول: سمعت أبا العباس محمد بن إسحاق الثقفي يقول: شَهِدت محمد بن إسماعيل البخاري -رحمه الله- ودُفِع إليه كتابٌ من محمد بن كَرَّام يسأله عن أحاديثَ منها: سفيان بن عيينة، عن الزُّهْري، عن سالم، عن أبيه، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “الإيمَانُ لا يَزِيدُ ولا يَنْقُصُ”، ومعْمَر، عن الزُّهري، مثله؛ فكتبَ البخاريُّ على ظهر كتابه: من حدَّث بها استوجَبَ الضَّرْبَ (4) الشديدَ والحبسَ الطويلَ.
سمعت أبا الحسين (5) محمد بن يعقوب الحافظ يقول: سمعت
__________
(1) انظر: “كشف الخفاء”: (1/ 161).
(2) أخرجه الطحاوي في “شرح المعاني”: (2/ 99) وغيره، قال الحافظ في “الفتح”: (4/ 210): “أخرجه الطحاوي وعثمان الدارمي والبيهقي في “المعرفة” وغيرهم من طريق يزيد بن أبي ربيعة عن أبى الأشعث عن ثوبان، ومنهم من أرسله، ويزيد بن ربيعة متروك … ” وذكر كلام ابن المديني.
(3) أسندها عن أحمد ابنُ الجوزي في “الموضوعات”: (2/ 236)، وقال العراقي في “التقييد والإيضاح”: (ص/ 223): “لا يصح هذا الكلام عن الإمام أحمد … ” ثم تكلم عليها حديثاً حديثاً، وبيَّن ما فيها من الكلام.
(4) ليست في (ظ)، وكتب في هامش (ق): “لعلها العقاب”.
(5) (ظ): “أبو الخير”!.

(3/1152)


أبا العباس الدَّغُولي يقول: قلت لأبى حاتمٍ الرَّازي: هل تعرفُ في أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أحدًا اسمه أحمد؟ قال: لا أعلمُه، قلت: فهل تعلمُ في الصَّحابة من اسمُه (1) إسماعيلُ؟ قال: لا، قلت: فهل تعلمُ فيهم من اسمه أيوب؛ قال: لا، قلت: فهل تعرف فيهم أحدًا اسمه أسيد؟ قال: لا أعلمه، قلت: فهل كان فيهم من اسمه أيمن؟ قال: لا أعلم، قلت: فكان فيهم من اسمه أشعث؛ قال: لا، غير أشعث بن قيس الكِنْدي، قلت: فهل كان فيهم من اسمُه أمية؛ قال: صحابى واحد يقال له: أمة بن مخشي الخُزاعي، قلت: فهل كان فيهم من اسمه أسلمُ؟ قال: واحد، أسلم أبو رافع مولى النبي – صلى الله عليه وسلم -، قلت: فهل كان فيهم غير أُهْبان بن صَيْفي؟ قال: أُهْبَانُ بن أوس، قلت: فهل كان فيهم من اسمه أبيضُ غير ابن حمَّال؟ فقال: لا أعلمه، قلت: فهل كان فيهم أغَرُّ غير الأغَرَّ المُزَنِيِّ؟ قال: لا أعلَمُه، قلت: فهل كان فيهم (2) من اسمُه أرقم؛ قال: نعم أرقم بن أبى الأرقم، قلت: فهل كان فيهم من اسمه إبراهيم، قال: نعم إبراهيم اسم قديم قد تسمى به رجل قد سمِع من النبي – صلى الله عليه وسلم – رواه المكيُّون عن عطاء بن إبراهيم، عن أبيه، قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “قابِلوا بين النِّعَالِ” (3).
قال كاتبه: وفي كتاب ابن حِبَّان في ترجمة الصحابة (4): أسلم آخر
__________
(1) (ق): “أحدًا اسمه”.
(2) من قوله: “أبيض غير … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(3) أخرجه ابن أبي عاصم في “الآحاد والمثانى”: (3/ 243)، والطبراني في “الكبير”: (1/ 333) وغيرهم، والحديث ضعفه ابن عبد البر في “الاستيعاب”: (1/ 61)، والحافظ في “الإصابة”: (1/ 16).
(4) “الثقات”: (3/ 18).

(3/1153)


غير أبي رافع، قال: “أسلم بن عَبْدَل (1) لما أسلمَ أسلمتِ اليهودُ بإسلامه” لم يَزِدْ، تمَّ الانتقاء.
* * *
يا جامعَ المال ما أَعْدَدْتَ للحُفَرِ … هل يُغْفِلُ الزَّادَ من أضْحَى عل سَفَرِ
(ق/ 283 أ) أفنيتَ عمرَك في اللَّذَّاتِ تطلُبُها … وا خَيْبَةَ السَّعْيِ، بل وا ضَيْغَةَ العُمُرِ
قِفْ في ديارِ بني اللذات معتَبِرًا … وانظرْ إليها ولا تسألْ عن الخَبَرِ
ففي الذي فَعَلَتْ أيدي الشَّتَاتِ بهمْ … من بعد أُلفَتِهِمْ معنى (2) لمعتَبِرِ
غيره (3):
قد عرف المُنْكَرُ واستْنْكِرَ الْـ … ـمعروفُ في أيامِنا الصَّعْبَهْ
وصار أهلُ العلمِ فى وَهْدَةٍ … وصار أهلُ الجهلِ فى رُتْبَهْ
فقلتُ للأبار أهلِ التُّقَى … والدِّين لما اشتَدَّتِ الكُرْبَهْ
لا تُنْكِروا أحوالَكُمْ قد أتت … نَوْبَتُكُمْ في زمن الغُرْبَهْ
(ظ/ 197 ب) غيره:
اقْنَعْ بأيْسَرِ ميسورٍ من الزَّمَنِ … واشكرْ لرَبِّكَ ما أولاكَ مِنْ مِنَنِ
واذكرْ ملابسَ مِنْ عَدْنٍ يُخَصُّ بها … ذوو التُّقَى، واهجر الأبرادَ من عَدَن
إنْ شئتَ أن تدخلَ الجنَّاتِ مجتنِيًا … قطوفَها فتَوَقَّ النارَ بالجُنَنِ
__________
(1) كذا في الأصول، وفي “الثقات”: “عبيد”.
(2) في هامش (ق): “ظ: كافٍ”.
(3) الأبيات الأربعة سقطت من (ع)، وتأخرت في (ق) بعد الأبيات التي تليها.

(3/1154)


وباشرِ الناسَ بالمعروفِ مجتهِدًا … وراقبِ اللهَ في سِرٍّ وفي عَلَنِ
حديث: روى البيهقيُّ (1) من حديث أبي بكر الحنفيِّ، ثنا سفيان الَثَّوْرِيُّ، عن أبي الزُّبير، عن جابر: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عاد مريضًا فرآه يصلِّي على وسادة، فأخذها فرمى بها، فأخذ عودًا ليصلِّىَ عليه فأخذه فرمى به. وقال: “صَلِّ عَلَى الأَرْضِ فإنِ اسْتَطَعْتَ، وَإلاّ فَأوْمِئْ إِيمَاءً، وَاجْعَلْ سُجُودَك أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِكَ”. قال البيهقيُّ: “هذا الحديث يُعَد في أفراد أبي بكر الحنفي عن الثوري” تم كلامه.
وقال ابن أبي حاتم في كتاب “العلل” (2): “سألت أبي عن هذا الحديث؟ فقال: إن هذا خطأ، إنما هو عن جابرٍ قولُه “أنه دخل على مريض”. قيل له: فإن أبا أسامة قد رواه عن الثوري مرفوعًا، قال: ليس بشيء هو موقوف” تم كلامُهُ.
ورواه يحيى بن أبي طالب، ثنا عبدُ الوهاب بن عطاء، ثنا سفيان الثَّوري فذكره بمثله. رواه البيهقي (3).
فهؤلاء ثلاثة رفعوه: أبو أسامة وعبدُ الوهاب بنُ عطاء وأبو بكر الحنفيُّ: فأما أبو أسامة فالعَلَمُ المشهور. وأما أبو بكَرِ الحنفيُّ فمن رجال الصحيحين ووثقه أحمد. وأما عبد الوهاب بن عطاء فاحتج به مسلم.
والظاهر أن الحديثَ موقوفٌ كما ذكره ابن أبي حاتم على أبيه، والله أعلم.
والآثارُ في ذلك معروفةٌ عن الصحابة، كما روى مالك في “الموطأ” (4) عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يقول: “إذا لم يستطعِ المريضُ
__________
(1) في “الكبرى”: (2/ 306).
(2) (1/ 113).
(3) في “الكبرى”: (2/ 306).
(4) (1/ 168).

(3/1155)


السجودَ أَوْمَأَ برأسه إيماءً ولم يرفعْ إلى جبهته شيئًا”.
وقد رفعه عبد الله بن عامر الأسنمي، عن نافع (1)، وقد ضعَّفه أحمدُ وأبو زُرْعَةَ، والصوابُ وقفه.
وروى شعبة، عن أبى إسحاق السَّبِيعيِّ، عن زَيْد بن معاوية، عن عَلْقَمَةَ، قال: دخلت مع عبد الله بن مسعود على أخيه نعودُه وهو مريض، فرأى مع أخيه مَرْوَحَةً يسجُدُ عليها، فانتزعَها منه عبد الله، وقال: اسجدْ على الأرض فإنْ لم تستطعْ فأَوْمِ إيماءً واجعلِ (ق/283 ب) لسجودَ أخفضَ من الركوع (2). وزيد هذا ثقة (3).
حديث: قال حنبل: قال أحمد (4) في حديث حَجَّاج المِصِّيصِيِّ، عن شَريك، عن إبراهيم بن حزم، عن أبي زُرْعَةَ، عن أبى هريرة قال: “كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا دخل الخَلاءَ أتَيتُهُ بماء فاستنجى، ثم مَسَحَ بيدِهِ على الأرضِ، ثم تَوَضَّأ” (5) فقال أحمد: هذا حديث منكر إنما هو عن أبي الأحوص، عن عبد الله، ولم يرفَعْهُ.
فائدة (6)
قال بعضهم: قولُ العامَّةِ: “نُسَيَّاتٌ” ليس بلحن؛ لأن الجوهريَّ
__________
(1) أخرجه البيهقي: (2/ 306).
(2) أخرجه عبد الرزاق: (2/ 477)، والبيهقي: (2/ 307).
(3) ذكره ابن حبان في الثقات، ووثقه العجلي، وذكره البخاري في “التاريخ”، وابن أبي حاتم في كتابه، ولم يذكرا. فيه جرحًا ولا تعديلاً.
انظر: “لسان الميزان”: (2/ 511)، و”ثقات العجلي” (ص/ 171).
(4) “قال أحمد” ليست في (ع).
(5) أخرجه أحمد: (15/ 533 رقم 9861) عن حجاجٍ به.
(6) هذه الفائدة ليست (ع).

(3/1156)


حكاه (1)، وكأنه جَمْعُ نُسَيَّهِ بتصغير نِسْوَةٍ.
قلت: وعلى هذا فلا يقالُ إلا على جماعات متعدِّدَةٍ منهنَّ؛ لأنه جمعُ الجمع، والعامَّةُ تطلقه على الجماعة الواحدة منهنَّ.
فائدة
قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “مَنْ لَعِبَ بالنَّرْدَشِيرِ، فكأنَّما صَبَغَ يَدَهُ في لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ” (2). سرُّ هذا التشبيه -والله ُكل أعلم-: أن اللاعبَ بها لما كان مقصودُه بلعبه أكلَ المال بالباطل الذي هو حرامٌ كحرمة لحم الخنزير، وتوصَّل إليه بالقمار، وظنَّ أنه يُفيدُه حِلَّ المال، كان كالمتوصِّل إلى أكل لحم الخنزير بذكاته، والنبيُّ – صلى الله عليه وسلم – (ظ/198 أ) شَبَّهَ اللاَّعب بها بغامس يده في لحم الخنزير ودمه، إذ هو مقدِّمَةُ الأكلِ، كما أن اللعب بها مقدمةُ أكل المال، فإن أكَلَ بها المال كان كأَكْل لحم الخنزير. والتشبيه إنما وقع في مقدِّمة هذا بمقدمة هذا، واللهُ أعلم.
فائدة
تفسير النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – البقر التي رآها في النوم تُنْحَرُ بالنَّفَر الذي أصيبوا (3) من أصحابه يوم أحد (4).
قيل: وجهُ هذا التأويل أن “البقر والنفر” مشتركان في صورة الخَطِّ،
__________
(1) في “الصحاح”: (6/ 2508).
(2) أخرجه مسلم رقم (2260) من حديث بريدة بن الحصيب -رضي الله عنه-.
(3) (ق): “قتلوا”.
(4) أخرجه البخاري رقم (3622)، ومسلم رقم (2272) من حديث أبي موسى -رضي الله عنه-.

(3/1157)


ويمتازُ أحدهما عن الآخر بالنَّقْط، وهذه جهةٌ من جهات التعبير. وهذا قولٌ فاسد جدًّا! ولم يكن النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يدركُ شيئًا من الخَطِّ أصلاً، ولا هذه جهةٌ: صحيحةٌ من جهات التأويل، فلا يؤوَّلُ النردُ بالبَرْد، ولا الزَّبَد بالزَّنْد (1)، ولا العين بالغَبْن، ولا الحَيَّة بالجنة، وأمثال ذلك.
وقيل: وجه الشبة أن البقر معها أسلحتُها التي تقاتل بها وهي قرونُها، وكانتِ العربُ تستعملُ الصَّيَاصِيَ (2) والقُرونَ في الرِّماح عند عدم الأسِنَّةِ. وهذا أقربُ من الأول، ولكنه مشتركٌ بين المسلمين والكفار، فإن كل طائفة معها سلاحُها.
وأجودُ من هذين أن يقال: وجهُ التشبيه أن الأرض لا تُعْمَرُ ولا، تُفْلح إلا بالبقر، فهم عمارَةُ الأرض، وبها صلاحُ العالم وبقاءُ معيشتهم وقوامُ أمرِهم، وهكذا المؤمنون، بِهم صلاحُ الأرض وأهلها وهم زينتُها، وأنفعُ أهل الأرض للناس، كما أن البقر أنفع الدَّوابِّ للأرض، ومن وجه آخَرَ وهو: أن البقر تُثير الأرضَ وتُهَيِّئُها (3) لقبول البَذْر (ق/284 أ) وإنباته، وهكذا أهلُ العلم والإيمان يثيرونَ القلوبَ ويُهَيِّئونها لقبول بذر الهدى فيها ونباته وكماله، والله أعلم.
فائدة (4)
قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “رَأَى عِيسَى رَجُلاً يَسْرِقُ فَقَالَ: سَرَقْتَ. قال: كَلاّ
__________
(1) “ولا … ” سقطت من (ظ)، و (ق): “ولا الزند بالزبد” والنَّقط غير محرر، ويمكن قراءته على أنحاء شتى.
(2) هي القرون نفسها.
(3) (ع): “وترخيها”.
(4) ليست في (ظ)، وانظر “إغاثة اللهفان”: (1/ 183)، و “فتح الباري”: (6/ 565).

(3/1158)


وَالّذِي لا إلهَ إلاَّ هُوَ. فقال عيسى: آمَنْتُ باللهِ وكَذَّبْتُ بَصَرِي” (1).
قيل: هو استفهام من المسيح، لا أنه إخبار، والمعنى: “أسرقت” فلما حلف له صدقه، ويردُّ هذا قولُه: “وكذبتُ بَصَري”، وقيل: لما رآه المسيح أخذَ المالَ بصورة السارق فقال: سرقت؟ فقال: كلا، أي: ليس بسرقة، إما لأنه مالُه أو له فيه حق، أو لأنه أخده ليقلبَهُ ويعيدَهُ، والمسيحُ – صلى الله عليه وسلم – أحال على ظاهر ما رأى، فلما حلف له قال: “آمَنْتُ بالله وكَذَّبْتُ نفسي في ظني أنها سرقةٌ” لا أنه كَذَّبَ نفسَه في أخده المال عيانًا، فالتكذيبُ واقعٌ على الظَّنِّ لا على العِيان، وهكذا الروايةُ “وكَذَّبْتُ نَفْسِي” (2) ولا تنافِيَ بينها وبين رواية: “وكَذَّبْتُ بَصري”، لأن البصرَ ظنَّ أن ذلك الأَخْذ سرقةٌ، فأنا كذبته في ظنِّ أنه رأى سرقة، ولعله إنما رأى أخذًا ليس بسرقة.
وفي الحديث معنى ثالث -ولعله أَلْيَقُ به- وهو: أن المسيحَ – صلى الله عليه وسلم – لعظمة وقارِ الله في قلبه وجلالِه ظنَّ أن هذا الحالف بوحدانية الله صادقًا، فحمله إيمانُهُ بالله على تصديقه، وجوَّز أن يكون بصرُة قد كذبه، وأراه ما لم يَرَ، فقال: “آمنْتُ باللهِ وكذبْتُ بَصَري”.
ولا ريبَ أن البَصَرَ يعرِضُ له الغلطُ، ورؤية بعض الأشياء بخلاف (3) ما هي عليه، ويُخَيِّلُ ما لا وجود له في الخارج، فإذا حكم عليه العقلُ تبين غلطُه. والمسيحُ – صلى الله عليه وسلم – حكَّم إيمانه على بصره فكذب بصره (4)
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (3444)، ومسلم رقم (2368) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(2) من قوله: “في ظني أنها … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(3) (ق): “على غير”.
(4) “فكذب بصره” ليست في (ع).

(3/1159)


ونسب الغَلَطَ إليه، والله أعلم.
فائدة
قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “الأَنْبياءُ أَوْلادُ عَلاَّتٍ”، وفي لفظ: “إخْوَةٌ مِنْ عَلاَّتٍ، أمّهاتُهمْ شَتَّى ودِينُهُمُ وَاحِدٌ” (1).
قال الجوهري (2): بنو العَلاَّت: هم أولادُ الرجل من نسوةٍ شتّى، سميتْ بذلك لأن الذي تزوَّجها على أولى كانت قبلها، ثم عَلَّ من الثانية العَلَل، والشُّرْبُ الثاني يقال له: عَلَلٌ بعدَ نَهَل، وعَلَّهُ يَعِلُّهُ: إذا سقاه السَّقْيَة الثانية.
وقال غيره: سمُّوا بذلك لأنهم أولاد ضَرَائِر، والعَلاَّتُ: الضرائر، وهذا الثاني أظهرُ.
وأما وجة التشبيه (3)؛ فقال جماعة -منهم القاضي عِياضُ (4) وغيره-: معناه أن الأنبياءَ مختلفونَ في أزمانهم، (ظ/ 198 ب) وبعضهم بعيدُ الوقت من بعض، فهم أولاد عَلاَّتٍ، إذ لم يجمَعْهم زمانٌ واحد، كما لم (ق/ 284 ب) يجمعْ أولادَ العَلاّتِ بطنٌ واحد، وعيسى لما كان قريبَ الزمان من النبي – صلى الله عليه وسلم – ولم يكنْ بينهما نبيٌّ، كانا: كأنهما في زمان واحد، فقال – صلى الله عليه وسلم -: “أنا أوْلى النَّاسِ بعِيسَى ابنِ مَرْيَمَ”، قالوا: كيف يا رسولَ الله؟ فقال: “الأَنْبِياءُ إخْوَةٌ مِنْ عَلاّتٍ” الحديث.
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (3442)، ومسلم رقم (2365) من حديث أبي هريرة – رضى الله عنه-.
(2) “الصحاح”: (5/ 1773).
(3) (ظ): “التسمية”.
(4) في “إكمال المعلم”: (7/ 337).

(3/1160)


وفيه وجهٌ آخر أحسن من هذا، وهو: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – شَبَّه دين الأنبياء الذي اتفقوا عليه من التوحيد، وهو عبادة الله وحده لا شريكَ له، والإيمانُ به وبملائكته وكتبه ورسله ولقائه = بالأب الواحد؛ لاشتراك جميعهم فيه وهو الدينُ الذي شرعه اللهُ لأنبيائه كلِّهم، فقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13].
وقال البخاريُّ في “صحيحه”: باب ما جاء أن دين الأنبياء واحد، وذكر هذا الحديث (1)، وهذا هو دينُ الإسلام الذي أخبر اللهُ أنه دينُ أنبيائِهِ ورسلِهِ من أولهم نوح إلى خاتَمِهم محمد – صلى الله عليه وسلم -، فهو بمنزلة الأب الواحد.
وأما شرائعُ الأعمال والمأمورات فقد تختلفُ، فهي بمنزلة الأمهَّات الشَّتَّى، فإنّ لقاحَ تلك الأمهات من أبٍ واحد، كما أن مادَّة تلك الشرائع المختلفة من دين واحد متفق عليه، فهذا أولى المعنيين بالحديث، وليس في تباعد أزمنتهم ما يوجبُ أن يُشَبِّهَ زمانَهم بأمهاتهم، ويجعلون مختلفي الأمهات لذلك، وكون الأم بمنزلة الشريعة والأب بمنزلة الدين، وأصالة هذا وتذكيره وفرعيَّه الأم وتأنيثها، واتحاد الأب وتعدد الأم، ما يدلُّ على أنه معنى الحديث، والله أعلم.
فائدة
في قوله تعالى: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} دون: “بَعَثَ بعبده”، و”أرسل به”
__________
(1) لم أجد الترجمة التي ذكرها المصنف في الصحيح، وذكر البخاريُّ هذا الحديث في موضعين متتاليين في باب قول الله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ … } “الفتح”: (6/ 549 – 551).

(3/1161)


ما يفيدُ مصاحَبَتَهُ له في مَسْراه، فإن الباء هنا للمصاحبة، كهي في قوله: “هَاجَرَ بِأَهْلِهِ وسَافَرَ بغُلامِهِ” وليست للتعدية، فإنَّ (أسرى) يتعدَّى بنفسه، يقال: سَرَى به وأَسْرَاه، وهذا لأن ذلك السُّرَى كان من أعظم أسفاره – صلى الله عليه وسلم -، والسفرُ يعتمدُ الصاحبَ، ولهذا كان – صلى الله عليه وسلم – إذا سافر يقول: “اللَّهُمَّ أنْتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ” (1).
فإن قيل: فهذا المعنى يُفهم من الفعل الثلاثي لو قيل: “سَرَي بعبده”، فما فائدة الجمع بين الهمزة والباء؛ ففيه أجوية:
أحدها: أنهما بمعنًى، وإنَّ أَسْرَى لازمٌ كـ: سَرَى، تقول: “سَرَى زيدٌ وأَسْرَى”، بمعنى واحد، هذا قول جماعة.
(ق/285 أ) والثاني: أن (أسرى) مُتَعَدٍّ ومفعوله محذوف، أي: “أَسْرى بِعَبْدهِ البُرَاقُ”، هذا قول السهيلي (2) وغيره، ويشهد للقول الأول قول الصِّدِّيق: “أسْرَيْنا لَيْلَتَنا كُلَّها ومن الغَدِ حتى قام قائمُ الظَّهِيرَةِ” (3).
والجواب الصحيحُ: أن الثُّلاثِيَّ المتعدِّي بالباء يفهم منه شيئانِ؛ أحدهما: صدور الفعل من فاعله، والثاني: مصاحبته لما دخلت عليه الباء.
فإذا قلت: “سَرَيْتُ بزَيْدٍ وسَافَرْتُ به”، كنتَ قد وُجد منك السُّرَى والسفر مصاحبًا لزيد فيه، كما قال:
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (1342) من حديث ابن عمر -رضي الله عنه-.
(2) كما في “الروض الأنف”: (2/ 148).
(3) في حديث الهجرة، أخرجه البخاري رقم (3615)، ومسلم رقم (2009) من حديث البراء بن عازب عن أبي بكر -رضي الله عنهما-.

(3/1162)


* ولقد سَرَيْتُ على الظَّلام بمِغْشَمٍ (1) *
ومنه الحديث: “أقرع بين نسائه، فأيَّتُهُنَّ خرجَ سهمُها، خرج بها” (2).
وأما المتعدي بالهمزة فيقتضى إيقاعَ الفعل بالمفعول فقط، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النحل: 78] {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ} [الشعراء: 57] .. ونظائره، فإذا قُرِن هذا المتعدي بالهمزة أفاد إيقاعَ الفعل على المفعول مع المصاحبة المفهومة من الباء، ولو أتى فيه بالثلاثى فُهِم منه معنى المشاركة في مصدرِهِ، وهو ممتنعٌ، فتأمَّلْه.

فائدة (3)
كانت كرامة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالإسراء مفاجأةً من غيرِ ميعاد؛ ليُحْمَلَ عنه ألمُ الانتظار، ويفاجأ بالكرامة بغتةً. وكرامة موسى بعدَ انتظارِ أربعينَ ليلةً.
فائدة (4) لما سافر موسى إلى الخضر وجَدَ في طريقه مسَّ الجُوع والنَّصَبِ، فقال لفتاه: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)} [الكهف: 62] فإنه سفرٌ إلى مخلوق.
__________
(1) البيت لأبي كبير الهذلي، انظر “الحماسة”: (1/ 73)، وتمامه:
* جَلْدِ من الفِتيانِ غيرِ مُثَقّل *
(2) قطعة من حديث الإفك، تقدم تخريجه.
(3) ليست في (ظ).
(4) ليست في (ع).

(3/1163)


ولما واعَدَهُ ربُّه ثلاثينَ ليلةً وأتَّمها (ظ/199 أ) بعشر، فلم يأكلْ فيها، لم يجدْ مسَّ الجُوع ولا النَّصَب فإنه كان سَفَرٌ إلى ربه تعالى، وهكذا سفرُ القلب وسيرُه إلى ربِّه لا يَجِدُ فيه من الشَّقاء والنَّصَب ما يجِدُه في سفره إلى بعض المخلوقين.

فائدة
تسخيرُ البراق لحَمْل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في ليلةٍ واحدة مسيرةَ شهرينِ ذهابًا وإيابًا أعظمُ من تسخير الريحِ لسليمان مسيرةَ شهرين في يوم ذهابًا وإيابًا، فإن الريحَ سريعةُ الحركة، طبعُها الإسراع بما تحملُهُ، وأما البراق فالآية فيه أعظمُ.
فائدة
شقُّ صدر النبي – صلى الله عليه وسلم – والاعتناءُ بتطهير قلبهِ وحشْوُهُ إيمانًا وحكمَةً، دليلٌ على أنَّ محلَّ العقلِ القلبُ، وهو متَّصِلٌ بالدِّماغ.
واستدلَّ بعضُ الفقهاءِ بغسل قلبه – صلى الله عليه وسلم – في الطِّسْتِ من الذهب على جواز تحلية المصاحف: بالذهب والمساجد، وهو في غاية البُعْدِ! فإن ذلك كان قبل النُّبُوَّة، ولم يكنْ ذلك من ذَهَب الدنيا، وكان كرامةً أُكْرِمَ بها – صلى الله عليه وسلم -، وكان من فِعْل الملائكة بأمر الله، وهم ليسوا داخلينَ تحتَ تكاليف البشر.
وأبعدُ منها احتجاجُ من احتجَّ به على جواز انتفاع الرجل بالحرير تَبَعًا لامرأته كالفراش (ق/ 285 ب) واللِّحاف والمخدَّة، قال: لأن الملكَ لا حرجَ عليه، والنَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – انتفعَ بذلك تَبَعًا. وقد أبعدَ هذا القائلُ النَّجْعَةَ، وأتى بغير دليل!.

(3/1164)


فائدة
الفعل إن كان منشأَ المفسدة الخالصة (1) أو الراجحة فهو المُحرَّم، فإن ضَعُفت تلك المفسدهُ فهو المكروه، ومراتبه في الكراهة بحسب ضعف المفسدة، هذا إذا كان منشأً للمفسدة.
وأما إن كان مُفْضِيًا إليها فإن كان الإفضاءُ قريبًا فهو حرام أيضًا كالخَلْوة بالأجنبية، والسَّفَر بها، ورؤية محاسنها، فهذا القسم يُسْلُبُ عنه اسمُ الإباحَةِ وحكمُها.
وإن كان الإفضاءُ بعيدًا جدًّا لم يسلبْ اسمَ الإباحة ولا حُكْمَها، كخَلْوَة ذي الرَّحِم المَحْرَمِ وسفره معها، وكنظر الخاطب الذي مقصودُه الإفضاء إلى المصلحة الرَّاجحة، فإن قربَ الإفضاء قربًا ما فهو الوَرَع، وهو في المراتب على قَدْر قرب الإفضاء وبعده، وكلما قَرُبَ الإفضاءُ كان أَوْلى بالكراهة والوَرَع، حتى ينتهيَ إلى درجةِ التَّحريم.
فائدة
قولُ الملائكة للنبي – صلى الله عليه وسلم – ليلة الإسراء: “مَرْحَباً بِهِ” أصلٌ في استعمال هذه الألفاظ وما ناسَبَها عند اللِّقاء نحو: أَهلاً وسهلاً، ومرحبًا وكرامَةً، وخيْرَ مَقْدَمٍ وأيْمَنَ (2) مَوْرِدٍ ونحوها.
ووقع الاقتصارُ منها على لفظ: “مَرْحَبًا” وحدها؛ لاقتضاءِ الحال لها، فإن الرَّحْبَ (3) هو السَّعَةُ، وكان قد أفضى إلى أوسع الأماكن، ولم يطلقْ فيها “سهلاً”؛ لأن معناه: وطِئْتَ مكانًا سهلاً، والنَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – كان محمولاً إلى السماء.
__________
(1) (ع): “الحاصلة”.
(2) (ع): “وأتم”.
(3) (ع): “المرحب” و (ظ): “الترحيب”.

(3/1165)


فائدة (1)
قول النبي – صلى الله عليه وسلم – في حديث أبي موسى: “واللهِ لا أحْمِلُكُمْ، وما عِنْديَ ما أحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ” (2) يحتمل وجهينِ:
أحدُهما: أن يكون الكلام جملةً واحدةً، والواو واو الحال، والمعنى: لا أحملُكم في حالٍ ليس عندي فيها ما أحملكم عليه، ويؤيد هذا جوابه – صلى الله عليه وسلم – حيث قال: “ما أنا حَمَلْتْكُمْ، اللهُ حَمَلَكُمْ”، وعلى هذا فلا تكونُ هذه اليمينُ محتاجةً إلى تكفير.
ويحتمل أن تكونَ جملتينِ؛ حَلَف في أحدهما أنه لا يحملُهم، وأخبر في الثانية أنه ليس عنده ما يحمِلُهم عليه، ويؤيِّدُ هذا قوله في الحديث لما قيل له: إنك حَمَلْتنا، وقد حلفت، فقال: “إنِّي لا أَحْلِفُ على يَمِينٍ، فأرَى غَيْرَها خَيْرًا منها إلا كفَّرْتُ عنْ يميني وأَتَيْتُ الذي هو خَيْرٌ”. ولمن نَصَر الاحتمالَ الأول أن يجيب عن هذا بجوابين:
أحدهما: أن هذا استئنافٌ لقاعدةٍ كان سبيها اليمينُ ليبيِّنَ فيها للأمَّة حكمَ اليمين، لا أنه حَنَث في تلك اليمين وكفَّرها.
الجواب الثاني: أن هذا كلامٌ خرج على التقدير، أي: ولو حنثتُ (ق/ 286 أ) لكفَّرتُ عن يميني، وأتيتُ الذي هو خيرٌ، واللهُ أعلم.
فائدة
قول النبي – صلى الله عليه وسلم – عن يوسف: “إنه أُوتِيَ شَطْرَ الحُسْنِ” (3).
__________
(1) “فائدة” ليست في (ع).
(2) أخرجه البخاري رقم (4415)، ومسلم رقم (1649) من حديث أبي موسى الأشعري- رضى الله عنه-.
(3) قطعة من حديث أنسٍ في الإسراء، أخرجه البخاري رقم (3570)، ومسلم رقم (162).

(3/1166)


قالت طائفة: المراد منه أن يوسف أوتِيَ شَطْر الحسن الذي أوتيه محمد – صلى الله عليه وسلم -، فالنبي – صلى الله عليه وسلم – بلغ الغاية في الحُسْن، ويوسُف بلغ شطْرَ تلك الغاية. قالوا: ويحقق ذلك ما رواه الترمذي من حديث قَتَادَةَ عن أنس، (ظ/199 ب) قال: “ما بَعَثَ اللهُ نبِيًّا إلا حَسَنَ الوَجْهِ، حَسَنَ الصَّوْتِ، وكان نَبِيُّكُمْ – صلى الله عليه وسلم – أحْسَنَهُمْ وَجْهًا، وأحْسَنَهُمْ صَوْتًا” (1).
والظاهر أن معناه: أن يوسف عليه السلام اختص عن الناس بشَطْر الحسن، واشتركَ الناسُ كلُّهم في شطره، فانفرد عنهم بشطره وحدَه، هذا ظاهرُ اللفظ فلماذا يُعْدَلُ عنه؛ واللام في “الحُسْن” للجنس لا للحُسْن المعين المعهود المختص بالنبي – صلى الله عليه وسلم -، وما أدري ما الذي حَمَلَهم على العُدول عن هذا إلى ما ذكروه؟.
وحديث أنس لا يُنافي هذا، بل يدلُّ على أن النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – كان أحسنَ الأنبياء وجهًا وأحسنَهم صوتًا، ولا يلزمُ من كونه – صلى الله عليه وسلم – أحسنَهم وجهًا أن لا يكونَ يوسفُ اختصَّ عن النَّاس بشطر الحسن، واشتركوا هم في الشطر الآخر. ويكون النبي – صلى الله عليه وسلم – قد شارك يوسُفَ فيما اختصَّ به من الشطر وزاد عليه بحسنٍ آخر من الشَّطر الثاني (2)، واللهُ أعلم.
فائدة
قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “لا يَكُونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعَاءَ ولا شُهَدَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ” (3)؛
__________
(1) أخرجه الترمذي في “الشمائل”: (ص/ 150)، وابن عدي في “الكامل”: (2/ 434) وغيرهم من حديث أنس، وهو ضعيف من مناكير حسام بن مِصَكّ. ضعَّفه ابن عدي، والذهبى في “الميزان”: (1/ 477).
(2) من قوله: “ويكون النبي … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(3) أخرجه مسلم رقم (2598) من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه-.

(3/1167)


لأنَّ اللعنَ إساءةٌ، بل من أبلغ الإساءة، والشفاعةُ إحسانٌ، فالمُسيءُ في هذه الدَّار باللعن يسلبه اللهُ الإحسانَ في الأخرى بالشفاعة، فإن الإنسان إنما يحصُدُ ما يزرعُ، والإساءةُ مانعةٌ من الشَّفاعة التي هي إحسان.
وأما منعُ اللعن من الشهادة فإنَّ اللَّعنَ عداوةٌ، وهي منافيةٌ للشَّهادة، ولهذا كان النبي – صلى الله عليه وسلم – سيِّدَ الشفعاء وشفيعَ الخلائق؛ لكمال إحسانه ورأفته ورحمته بهم – صلى الله عليه وسلم -.
فائدة
السِّرُّ -والله أعلم – في خروج الخلافة عن أهل بيت النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى أبي بكر وعُمر وعثمان: أن عَلِيًّا لو تولَّى الخلافة بعد موته لأوشكَ أن يقولَ المُبْطِلون: إنه مَلِكٌ وَرِثَ مُلْكَهُ أهلُ بيته، فصان اللهُ منصبَ رسالته ونبوَّته عن هذه الشُّبهة، وتأمَّلْ قولَ هِرَقْلَ لأبي سفيانَ: هل كان في آبائه مَنْ مَلِكَ؟ قال: لا، فقال له: لو كان في آبائه مَلِكٌ لقلتُ: رجلٌ يطلبُ مُلْكَ آبائه (1). فصان اللهُ منصبَه العَلِيَّ من شبهة المُلْكِ في آبائه وأهل بيته وهذا -والله أعلم- هو السِّرُّ في كونه لم يُورَثْ هو والأنبياءُ، قطعًا لهذه الشُّبْهة، لئلا يظنَّ (ق/286 ب) المُبْطِلُ أن الأنبياءَ طلبوا جمعَ الدنيا لأولاهم ووَرثَتِهِم كما يفعلُهُ الإنسانُ من زهده في نفسه وتوريثه مالَهُ لولده وذُرِّتَّتِهِ، فصانهم اللهُ من ذلك، ومنعهم من توريث ورثَتِهم شيئًا من المال، لئلا تتطرَّقَ التهمةُ إلى حُجَج الله ورسله، فلا يبقى في نُبُوَّتِهم ورسالتهم شبهةٌ أصلاً.
__________
(1) في حديث أبي سفيان مع هرقل، أخرجه البخاري رقم (7)، ومسلم رقم (1773) من حديث ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-.

(3/1168)


ولا يقال: فقد وَلِيَها عليٌّ وأهل بيته؛ لأن الأمر لما استقر (1) أنها ليست بملك موروثٍ، وإنما هي خلافةٌ نبوَّةٍ تُسْتَحَقُّ بالسَّبْق والتَّقَدُّم، كان عليٌّ في وقته هو سابقَ الأمة وأفضَلَها، ولم يكنْ فيهم حين وَلِيَها أولى بها منه، ولا خيرًا منه، فلم يحصلْ لمُبطل بذلك شبهةٌ والحمد لله تعالى.
فائدة
في شراءِ أَرْض مسجدِ المدينة من اليتيمين وجَعْلها مسجدًا من الفقه: دليلٌ على جواز بيع عقار اليَتيم، وإن لم يكنْ محتاجًا إلى بيعه للنَّفقة، إذا كان في البيع مصلحةٌ للمُسلمينَ عامة لبناء مسجد أو سور أو نحوه. ويؤْخَذُ من ذلك أيضًا بيعُه إذا عُوِّضَ عنه بما هو خير له منه.
وفي نَبْش قبور المشركين من الأرض وجعلها مسجدًا دليلٌ على طهارة المقبرة، وأن الصَّلاةَ فيها لم يُنْهَ عنها لنجاستها، وإنما هو صيانةً للتَّوحيد، وسدًّا لذريعة الشِّرْك بالقبور، الذي هو أصل عبادة الأصنام، كما قال ابن عباس وغيره.
فائدة
في استئجار النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – عبدَ الله بن أُرَيْقِط الدِّيلي هاديًا في وقت الهجرة (2)، وهو كافر، دليل على جواز الرجوع إلى الكافر في الطِّبِّ والكُحْل والأدوية والكتابة والحساب والعيوب ونحوها، ما لم يكنْ ولايةً تتضمَّنُ (ظ/ 200 أ) عدالةً، ولا يلزمُ من مجرَّد كونِه كافرًا أن لا يوثَقَ به في شيء أصلاً، فإنه لا شيءَ أخطرُ من الدلالة في الطريق،
__________
(1) (ع): “سبق”.
(2) أخرجه البخاري رقم (3905) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

(3/1169)


ولاسِيَّما في مثل طريق الهجرة.
فائدة
في حديث عبد الله بن جحش أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كتب له كتابًا وأمره أن لا يقرَأهُ حتى يسيرَ يومين، وأن عبد الله امتثلَ أمرَه ففتح الكتاب بعد اليومين، فقرأه .. الحديث (1).
فيه من الفقه: جوازُ الشهادة على الكتاب الذي لا يُدْرَى ما فيه، بل إذا قال: هذا كتابي فاشهدْ عليَّ بما فيه، جازت الشهادةُ، وهي مسألةُ خلاف مشهورة، وتسمى: “شهادة التقليد”، ويدلُّ عليها أيضًا: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يبعث كتبه إلى الملوك والنَّواحي ولا يقرؤها على من يبعثُها معه، بل يقول: “هذا كِتَابِي فَأَوْصِلْهُ إلى فُلانٍ”، وكذلك عمل به خلفاؤُه من بعده.
وفيه: جوازُ تراخي القبولِ عن الإيجاب، فإنَّ في الكتاب: “أن اقرأه ولا تُكْرِهْ أحدًا، فمن أجابك فامضِ به حتى تنزلَ نَخْلَةَ”.
وفيه مسألةٌ بديعة (ق/287 أ) وهي: جواز العقد والتَّوْليَة على أمرٍ مجهولٍ حالَ العقد، يتبيَّنُ في ثاني الحال.
فائدة
قول النبي – صلى الله عليه وسلم – لما أنشدته قُتَيْلَةُ بنتُ الحارث شِعْرَها المعروفَ، ترثي به أخاها النَّضْر: “لو سَمِعْتُ هذا قَبْلَ قَتْلِهِ لمْ أَقْتُلْة” (2)، ليس
__________
(1) أخرجه ابن جرير: (2/ 360)، والبيهقي: (9/ 58 – 59) وغيرهم عن عروة مرسلاً، وله شواهد.
(2) أخرجه الزبير بن بكار -كما في “الإصابة”: (4/ 389 – 390) -، وابن عبد البر =

(3/1170)


فيه النَّدَمُ على قتله؛ فإنه لم يقتلْهُ إلا بالحقِّ، ولكن كان – صلى الله عليه وسلم – رفيقًا رحيمًا يقبل الشفاعة، ويمنُّ على الجاني، فمعناه: لو شفَعَتْ عندي بما قالتْ قبل أن أقتلَهُ لَقَيِلْتُ شفاعَتَها وتركْتُهُ.
وقريب من هذا قوله – صلى الله عليه وسلم – “لو اسْتَقْبلْتُ مِنْ أَمْرِي ما اسْتَدْبَرْتُ، لَمَا سُقْتُ الهَدْيَ، ولَجَعَلْتُها مُتْعَةُ” (1)، ليس فيه ندامةٌ (2) على أفضل مما أتى به من النُّسُك، فإن الله لم يكن ليختارَ له إلا أفضلَ الأنساك وأعلاها، ولكن كاد لمحبَّته تآلف قلوبِ أصحابه وموافقتهم وتطييب نفوسهِم بأن يفعل كما فعلوا، ودَّ لو أنهَ أَحَلَّ كما أحلُّوا، ولكن منعه سَوْقُ الهَدْي، وعلى هذا فيكون اللهُ تعالى قد اختار له أفضلَ الأنساك بفعلِهِ، وأعطاه ما تمنَّاه من موافقة أصحابه، وتأليف قلوبهم بِنِيَّتِهِ ومُناه، فجمح له بين الأمرين، وهذا هو اللائقُ به صلواتُ الله وسلَامُه عليه.
فائدة
استشكلَ الناسُ من حديث قتل كعب بن الأشرف استئذان الصحابة أن يقولوا في النبي – صلى الله عليه وسلم – (3) “، وذلك ينافي الإيمان، وقد أذِنَ لهم فيه، وأجيب عنه بأجوبة:
__________
= في “الاستيعاب”: (4/ 390 – بهامش الإصابة) وقال الزبير: سمعت بعض أهل العلم يغمز هذه الأبيات، ويقول إنها مصنوعة.
(1) أخرجه البخاري رقم (1651)، ومسلم رقم (1216) من حديث جابر – رضي الله عنه -.
(2) (ع وق): “ندمة”.
(3) أخرجه البخاري رقم (4037)، ومسلم رقم (1801) من حديث جابر -رضي الله عنه-.

(3/1171)


أحدها: أنَّ الإكراه على التَّكَلُّم بكلمة الكفر يخرجها عن كونها كفرًا مرَّةً طمأْنِينَةِ القلب بالإيمان، وكعب كان قد اشتدَّ في أذى المسلمين وبالغ في ذلك، فكان يحرِّضُ على قتالهم، وكان في قتلِه خلاصُ المسلمين من ذلك، فكأنَّه أكرَه الله عنه – النّاسَ على النُّطق بما نَطَقُوا به وألجأهم إليه، فدفعوا عن أنفسهم بألسنتِهم، مع طمأْنِينَةِ قلوبِهم: بالإيمان، وليس هذا بقويٍّ.
الجواب الثاني: أن ذلك النيل والكلام لم يكن صريحًا بما يتضمَّن كفرًا، بل تعريضًا وتوريةً مقاصِدُ صحيحةٌ موهِمَةٌ موافَقَته في عرَضِه، وهذا قد يجوزُ في الحرب الذي هو خُدعة.
الجواب الثالث: أن هذا الكلام والنيل كان بإذنه – صلى الله عليه وسلم – والحقُّ له، وصاحبُ الحق إذا أَذنَ في حقِّه لمصلحةٍ شرعية عامَّة لم يكن ذلك: محظورًا.
فائدة
قوله – صلى الله عليه وسلم -: “ما يَنْبَغِي لِنبِيٍّ إذَا لَبسَ لأُمَتَهُ أَنْ يَنْزِعَهَا، حَتَّى يَحْكُمَ الله بَيْنَه وَبَينَ أَعْدائهِ” (1) احتج من يقولُ: إنَّ النوافلَ تلزمُ بالشروع، وأن الشروعَ فيها جار مجرى التزامِها (2) بالنَّذر، فإن الشروع التزام بالفعل، والنَّذْر التزامٌ بالقول، والالتزامُ بالفعل أقوى لأنه الغاية.
__________
(1) أخرجه أحمد: (23/ 99 رقم 147787)، والدارمي: (2/ 129)، والنسائى في “الكبرى” رقم (7647) من حديث جابر -رضي الله عنه- وسنده صحيح، وله شاهد من حديث أبي عبَّاس أخرجه الحاكم: (2/ 128 – 129)، والبيهقي: (7/ 41).
(2): (ع): “جارٍ مجراها: بالتزامها”.

(3/1172)


وفي الاستدلال بالحديث شيءٌ، فإن (ق/ 287 ب) فيه الإشارةَ إلى الاختصاص بقوله: “ما ينبغي لِنبِيٍّ”، ولم يقل: “ما ينبغي لأحد” ولا: “ما ينبغي (ظ / 200 ب، لكم”، فدلَّ “على مُخَالَفَةُ حكم غيره له في هذا وأنه من خواصه، ويدلُّ عليه أنَّه – صلى الله عليه وسلم – كان إذا عمل عملًا أثبتَهُ، وداوَمَ عليه، ولهذا لما قضى سُنَّةَ الظهر بعد العصر أثبتها وداوم عليها (1).
وقولهم: الشُّروع التزامٌ بالفعل يقال: تعنونَ بالالتزام إيجابَه إيَّاه على نفسه، أم تعنون (2) به دخوله فيه؟.
الأول: محل النزاع، والثاني: لا يفيد، وبه خرج الجواب عن قولكم: الالتزام بالفعل أقوى.
وسرُّ المسألة: أنَّ الشارعَ في النافلة لم يلتزمها (3) التزامَ الواجبات، بل شرع فيها بنيةِ تكميلها وفعلها فعل سائر النوافل، وأما الناذر لها فبنذره قد الحزمَ أَدَاءَها كما يؤدي الواجباتِ، فافترقا.
فائدة
عتبةُ بنُ أبي وقاص الذي كسر رَبَاعِيَةَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – يوم أُحد، قال بعض العلماء بالأخبار: إنه استقْرَى نسلَه فلا يبلغُ أحدٌ منهم الحُلُمَ
__________
(1) في هامش (ع) حاشية نصُّها: “خالف هذا المؤلف -رحمه الله- في كتابه “الهدي” (3/ 211) فقال: إن من لبس لأمة حربه تعين عليه الجهاد، ولم يجعله من الخصائص كما قال الأكثرون.
وشيخه أَبو العباس -رحمه الله- جنح إلى عدم التخصيص فِى تعليقه على “المحرر”؛ لكن جعل [مأخذ] كونه شروعًا في فرض كفاية وأنه يلزم به، وهذا أقعد مما ذكره هنا في ….. ” اهـ.
(2) من قوله: “بالالتزام … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(3) (ع): “يلزمها”.

(3/1173)


إلَّا أبْخَرَ أو أَهْتَمَ (1) يعرفُ ذلك فيهم وهو مِنْ شؤم الآباء على الأبناء.
واخْتُلِف فيما وقع للنبي – صلى الله عليه وسلم – من هذا ونحوه، فقيل: هو قبلَ نزول قوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، وقيل: العصمةُ الموعودُ بها عصمةُ النفس من القتل لا عصمته من أذاهم بالكُلِّيَّة، بل أبقى الله تعالى لرسوله ثوابَ ذلك الأذى، ولأُمته حُسْن التَّأَسِّي به، إدْا أودي أحدُهم نظرَ إْلى ما (2) جرى عليه – صلى الله عليه وسلم – فتأسَّى وصَبَرَ، وللمُؤْذِينَ الأشقياءِ الأَخْذةُ الرَّابِيَةُ.
فائدة
قيل: إنما فَدَّى: النبي – صلى الله عليه وسلم – سعدًا بأبويه (3) لما ماتا عليه، وأما الأَبوان المسلمان فلا يجوز أن يُفَدَّى بهما، وهذا لا يحتاجُ إليه، فإنَّ التفديةَ نُقِلت بالعُرْف العام عن وضعها الأول، وصارت علامةً على الرضى والمحبة، وكأنه قال: افْعَلْ كدْا مغبوطًا مرضيًّا عنك.
فائدة
في حديث أبي لُبَابَةَ لما بلغ النبي – صلى الله عليه وسلم – ارتباطه قال: “لَوْ أَتَانِي لاسْتَغْفَرْتُ لَهُ، وَإِذ فَعَلَ فَلَسْتُ أُطْلِقُهُ، حَتَّى يُطْلِقَهُ اللهُ”، فأنزل الله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} إلى قوله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102] فأطلقه النبي – صلى الله عليه وسلم – حينئذٍ (4). وفي هذا ما يدُلُّ
__________
(1) البَخَر هو: نَتَن الفم، والهَتَم: سقوط الأسنان من مقدم الفم.
(2) (ظ): “ذكر ما … “.
(3) أخرجه البخاري رقم (2905) ومسلم رقم (2411) من حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.
(4) أخرجه ابن جرير: (6/ 460)، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي =

(3/1174)


على صحَّة قول المفسرين: إنَّ (عسى) من الله واجب (1)، وفيه: أنَّ فاطمةَ جاءت تحلُّه فقال: لا إلَّا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فقال: “فَاطِمَةُ بُضْعَةٌ مِنِّي” (2).
فإن قيل: فهل يَبَرُّ الحالفُ بمثل هذا لو اتَّفَقَ اليوم؟.
قيل: لا، إما أنَّه مختصٌّ بالنبي – صلى الله عليه وسلم -، وإما لأن فاطمةَ بضعةٌ منه قطعًا، واللهُ أعلمُ.
فائدة
اختلف الناسُ (ق / 288 أ) في جواز إطلاق “السَّيِّد” على البَشَر، فمنعه قومٌ، ونُقِل عن مالك، واحتجُّوا بأنه – صلى الله عليه وسلم – (3) لما قيل له: يا سَيِّدَنا، قال: “إنَّمَا السَّيِّد اللهُ” (4)، وجوَّزه قوم، واحتجُّوا بقول النبي – صلى الله عليه وسلم – للأنصار: “قومُوا إلى سَيِّدكُمْ” (5)، وهذا أصحُّ من الحديث الأول.
__________
= في “الدلائل”: (4/ 15 – 16) من حديث ابن عباسٍ في قصة تخلف أبي لبابة ونفرٍ معه عن غزوة تبوك.
وذكر هذه القصة آخرون في شأن أبي لبابة مع بني قُريظَة أخرجه البيهقي في “الدلائل”؛ (4/ 16 – 17) من مرسل سعيد بنُ المسيب، وأخرجه غير واحد عن مجاهد كما في “الدر المنثور”: (3/ 488).
(1) جاء هذا عن ابن عبَّاس والحسن، انظر “الدر المنثور” ت (3/ 488، 490).
(2) لم أجد هذه الزِّيادة في شئٍ من ألفاظ حديث أبي لبابة السالف، وهذه اللفظة أخرجها البخاري رقم (3714)، ومسلم رقم (3449) من حديث المِسْوَر بنُ مخرمة -رضي الله عنه-.
(3) (ق): “بقول النبي – صلى الله عليه وسلم – “.
(4) أخرجه أحمد: (26/ 235 رقم 16307)، وأَبو داود رقم (4806)، والنسائي في “الكبرى” رقم (10076) وغيرهم من حديث عبدِ الله بنُ الشخير -رضي الله عنه- وسنده صحيح.
(5) أخرجه البخاري رقم (4121)، ومسلم رقم (1768)، من حديث أَبى سعيد الخدري -رضي الله عنه-.

(3/1175)


قال هؤلاء: والسيد أحدُ ما يُضاف إليه، فلا يقال لتميميٍّ: إنَّه سيِّد كِنْدَةَ، ولا يقال لملك: إنه سيد البشر، قال: وعلى هذا فلا يجوزُ أن يُطلَقَ على الله هذا الاسم. وفي هذا نظرٌ، فإن السَّيِّدَ إذا أُطْلِقَ عليه تعالى فهو بمعنى المالك والمولى والرَّبِّ، لا بالمعنى الذي يُطْلَقُ على المخلوق.
فوائد (1)
وأخلاقٍ كأخلاقِ الزِّجَاج … دَقَفْت بها فصارتْ كالزُّجَاج
إلى أن عُدْنَ لي عَسَلًا وماءً … كذاك يكونُ عاقَبِةُ العِلاجِ
الأول: جمع زُجٍّ وهو نَصْلُ الرُّمْحِ، والثاني: القوارير.
ما أنت أوَّل سارٍ غرَّهُ قمرٌ … ورائد أعجبتْهُ خضْرَةُ الدِّمَنِ
فاربأْ بنفسك عني إنني رجلٌ … مثلُ المُعَيْدِيِّ، فاسمعْ بي ولا تَرَني (2)
[غيره] (3):
إذا اشتاقَتِ الخيلُ المَنَاهِلَ أَعْرَضَتْ … عن الماءِ فاشْتَاقَتْ إليها المَنَاهِلُ
تَحَامَى الرَّزَايَا كُلَّ خُفٍّ وَمَنْسِمٍ … وتَلْقى رَدَاهُن الذُّرَى والكَواهِلُ
وتَرْجِعُ أعقابُ الرِّماحِ سَلِيمةً … وقد حُطِّمَتْ في الدَّارِعِينَ العَوَامِلُ
* من أراد من العمَّال أن ينظر قَدْرَه عند السلطان فلْيَنْظرْ ماذا يُوَلِّيه (4).
__________
(1) ليست في (ظ)، و (ع): “فائدة”. ومن هنا إلى (ص / 1233) منتقى من “المدهش” لابن الجوزي. وقد أعاد المؤلف هذا الانتقاء في كتابه الآخر “الفوائد”: (ص/ 145 – 151، 357 – 405) مع تغيير وتصرف.
(2) البيتان للحريري صاحب المقامات انظر: “وفيات الأعيان” ت (4/ 66 – 67).
(3) القائل أَبو العلاء المعري “شروح سقط الزند”: (2/ 541).
(4) انظر: “المدهش”: (ص/ 296).

(3/1176)


* وحَّدَ زيد وما رأى الرسولَ، وكَفَرَ ابن أُبَيٍّ وقد صلى معه القبلتين (1).
* لما تقدَّم اختيارُ الطين المنهبط، صعِدَ على النار المرتفعة، فكانت الغلبةُ لآدَمَ في حرب إبليس (2).
* سبق العلم بنبوة موسى وإيمانِ آسية، فسِيْق تابوتُهُ إلى بيتها، فجاء طفل بلا أمٍّ إلى امرأة بلا وَلَد (3).
* يا من هو من جملة عسكر الرسول أيحسُنُ بك كل يوم هزيمة (4).
* الحيوانات تذِلُّ في طلب القُوت، والفيل يتملَّقُ حتَّى يأكلَ (5).
إن كان يوجبُ ضرِّي (6) رحمتي فرِضًى …. بسوءِ حالي وحِلٌّ للضَّنَى بَدَنِيِ
منحتُك القلبَ لا أبغي به ثَمَنًا ….. إلَّا رضاكَ، ووافقري إلى الثَّمَنِ (7)
* غيره:
أحنُّ بأطراف النهار صَبَابَةً …. وباللَّيل يدعونى الهوى فأُجِيبُ (8)
__________
(1) انظر: “المدهش”: (ص / 296 – 297)، لكن فيه: “وحَّد قُس” وليس فيه: “القبلتين”.
(2) “المدهش”: (ص / 297).
(3) “المدهش”: (ص / 297).
(4) بنحوه في “المدهش” (ص/ 143).
(5) المصدر السابق.
(6) في النسخ، و”الفوائد”: (ص/ 146) للمؤلف: “صبري”، والتصويب من “المدهش” ويدل عليه بقية البيت.
(7) البيتان في “المدهش”: (ص/ 423) وقبلي ثلاثة أبيات.
(8) البيت في “المدهش”: (ص/ 420).

(3/1177)


* آخر:
سأُتعِبُ نفسي أو أصادفُ راحةً … فإن هوانَ النفسِ أكرم للنَّفسِ (1)
* يا من هو من أرباب الخبرة هل عرفت قيمة نفسك؟ إنما خُلقت الأكوانُ كلُّها لك، يا مَنْ غُذِي بِلِيان البِرِّ، وقُلِّبَ بأيدي الألطاف، كلُّ الأشياءِ شجرةٌ وأنْت الثمرة، وصورةٌ وأنت المعنى، وصَدَفٌ وأنت الدّرُّ، ومَخيضٌ وأنت الزُّبْدُ، منشورُ اختيارنا لك واضحُ الخَطِّ، ولكنَّ استخراجَكَ ضعيفًا، (ق/ 288 ب) متى رُمْتَ طلبي فاطلبني عندَك.
ويْحَكَ لو عَرَفتَ قَدْرَ نفسِكَ ما أهَنْتها بالمعاصي، إنَّما أبْعَدْنَا إبليسَ لأنَّه لم يسجُدْ لك وأنت في صُلْب أبيك. فواعجبًا كيف صالحْتَهُ وتَرَكْتَنَا، {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)}.
لو كان في قلبكَ محبَّةٌ لبان أثرُها على جسدِكَ، “عَجِبَ رَبُّنا من رجل ثَار عن وِطائه ولِحافِه إلى صلاته” (2) تأمل معنى: ثَارَ، ولم يقلِ: قَامَ؛ لأن القيام قد يقعُ بفُتور. فأما الثَّوَرانُ فلا يكونُ إلَّا بإسراع حَذَرًا من فائت (3).
__________
(1) البيت في “المدهش” (ص/ 342) في أبيات أخرى.
(2) قطعة من حديث أخرجه أحمد: (7/ 61 رقم 3949)، وأَبو داود رقم (2536)، وابن حبان الإحسان”: (6/ 297) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- وسنده جيد، إلَّا أنَّ الدارقطني قد أعله بالوقف كما في “العلل”: (5/ 267).
(3) من قوله: “يا من هو ….. ” إلى هنا بنحوه من “المدهش”: (ص / 340 – 341)، وانظر: “الفوائد”: (ص/ 147) للمصنف.

(3/1178)


* ما انتفعَ آدَمُ في بليَّةَ {وَعَصَى} بكمالِ {وَعَلَمَ}؛ ولا ردَّ عنه عزُّ {اسْجُدُواْ} وإنما خلَّصه ذلُّ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} (1).
* لما عشقت اللبلابة (2) الشجر تقلقلت طلبًا للعناق، فقيل لها: مع الكثافة لا يمكن! فرضيت بالنُّحُول والْتَفَّتْ (3).
تلقَّ قلبي فمَد أرسلتُه عجلًا … إلى لِقَائِكَ والأشواقُ تَقدُمُهُ
ولا تَكِلْنِي على بعْدِ الدِّيارِ إلى …. صبري الضعيفِ فصبري أنتَ تَعْلَمُهُ (4)
* غيره:
إذا لم يكن بيني وبينك مرسِلٌ … فريحٌ الصَّبا مني إليك رسولُ (5)
* ملأوا مراكبَ القلوب مَتَاعًا لا ينفق إلَّا على المَلِكِ، فلما هَبَّتْ رياحُ السَّحَر أقلعتْ تلك المركبُ (6).
* قطعوا باديةَ الهوى بأقدام الجدِّ، فما كاد إلَّا القليل حتى قدِموا من السَّفَر، فاعتنقَتْهُم الرَّاحةُ في طَريق التَّلَقِّي، فدخلوا بلدَ الوصل وقد حاروا رِبْحَ الأبَدِ (7).
* فرَّغَ القومُ قلوبَهم من الشَّواغل، فضُرِبَتْ فيها سُرَادقات المَحَبَّة،
__________
(1) “المدهش”: (ص/ 406).
(2) اللبلاب: نبت يلتوي على الشجر. “اللسان”: (1/ 735).
(3) “المدهش” ت (ص/ 329).
(4) البيتان في “الدهش” (ص/ 255) مع ثالث، وكذا في “الفوائد” (ص/ 148).
(5) البيت في “المدهش”: (ص/ 233).
(6) “المدهش”: (ص/ 156).
(7) بنحوه في “المدهش”: (ص/ 164).

(3/1179)


فأقاموا العيونَ تحرسُ تارةً، وترشُّ الأرض أخرى (1).
* سرادقُ المحبَّة لا تُضْرَب إلَّا في قاعٍ فارغٍ نَزِهٍ، “فرِّغ لي بيتًا أسْكُنه” (2).
* اعْرِف مِقْدارَ ما ضاعَ منكَ، وابْكِ بكاءَ مَنْ يدري مقدارَ الفائتِ (3).
* لو تَخَيَّلْتَ قربَ الأحباب لأَقَمْتَ المآتمَ على بُعْدِكَ، لو استنشقتَ ريح الأسحار لأفاق قلبُك المخَمورُ.
* مَن استطالَ الطريقَ ضَعفَ مشيُهُ.
وما أنْتَ بالمشتاقِ إنْ قلتَ بيننا …. طوالُ اللَّيالي أو بعيدُ المَفَاوزِ
* أما علمت أن الصادق:.
* إدْا همَّ ألْقَى بين عينيه عزمَه (4) *
* إذا نزل آبُ في القلب سكنَ آذارُ في العَيْن (5).
* من قَبَّل فَمَ اللَّذَّةِ لا يُنْكِرْ عَضَّ أسنانِ النَّدامة.
__________
(1) “المدهش” (ص/ 222).
(2) “المدهش”: (ص / 227).
(3) “المدهش”: (ص / 161).
(4) صدر بيت لسعد في ناشب كما في “الحماسة”: (1/ 69 – 70) وعجزه.
* ونكَّبَ عن ذِكْر العواقب جانبًا *
(5) “المدهش”: (ص / 235)، والمعنى: إذا نزلَت حرارة الحب فِى القلب، رأيت كل ما في المحبوب جميلًا. كّنى عن شدة الحرارة بـ “آب”، وعن جمال الربيع بـ “آذار”.

(3/1180)


* هان سهرُ الحراس لما علِموا أنَّ أصواتَهم بِسَمع المَلِك.
* “رفيقُك قَيْسِيٌّ وأنت يَماني”.
* إذا كنت كلَّما لاحتْ لك شهوةٌ طفيل العرائس، فانتظرْ قتْلَة وضَّاح اليَمَن (1).
* من لاحَ له كمالُ (2) الآخرة هان عليه فِراقُ الدنيا.
* إذا لاحَ للباشقِ الصيدْ نَسِيَ مألوفَ الكَفِّ.
* يا أقدامَ الصَّبرِ احملي بَقِيَ القليلُ (3).
* تذكَّرْ حلاوةَ الوِصَالِ يَهُنْ عليكَ مرُّ المُجَاهَدةِ (4).
* قد علمَتْ أينَ المنزل فاحْدُ لها تَسِرْ (5).
* قال أَبو يزيدَ: ما زلت أسوقُ نفسي إلى الله وهي تبكي، حتى سقتُها إليه وهي تضحكُ (6).
* الهِمَّةُ العَلِيَّةُ من استعدَّ صاحبُها للقاء الحبيب، وقدَّم التَّقادم بين يَدَي الملتقى، فاستبشر عند القدوم: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ
__________
(1) طفيل العرائس هو: من يُنْسَب له الطفيليون، وكان يتتبع الأعراس، ووضاح اليمن: شاعر من أجمل الناس، قتله الوليد بنُ عبدِ الملك في صندوق. انظر: “ثمار القلوب”: (1/ 205 – 208) للثعالبي.
(2) (ق وظ): “جمال”.
(3) “المدهش”: (ص/ 274).
(4) نحوه في “المدهش”: (ص/ 188)، وانظر: “الفوائد”: (ص/ 150).
(5) “المدهش”: (ص/ 274).
(6) “المدهش”: (ص/ 463).

(3/1181)


وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ} (1) [البقرة: 223].
* الجنَّةُ ترضى منك بأداء الفرائض، والنارُ تندفعُ عنك بترك المعاصي، والمحبّة لا تقنعُ منك إلَّا ببذل الرُّوح (2). {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111].
بدَمِ المُحب يُبَاعُ وَصْلُهُمُ … فمن الذي يبتاعُ بالثَّمَنِ (3)
* للهِ ما أحلى زيارةً تَسعى فيها أقدامُ الرِّضا على أرض الاشتياق (4).
زُرْناكِ شوقًا ولو أنَّ النوى بَسَطَتْ … فُرُشَ الفلا بَيْنَنَا جَمْرًا لزُرْنَاكِ (5)
* ما سافر الخليلُ سَفَرًا، ولا سَلَكَ طريقًا أطْيَبَ من الفَلاةِ التي دَخلها حين خرج من كِفَّة المَنْجنيق، رآه جبريلُ قد ودع بلدَ العادة فظن ضعفَ قدم التَّوَكُل فعرض عليه زاد: “ألك حاجة”؟ فرده بَأَنَفَةٍ: “أما إليك فلا” (6).
لَمَّا تكامل وفاؤه لِمَا أُمِر به جاءته خِلْعَةُ: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى}.
قالتْ لِطَيْفِ خَيَالٍ زْارَها ومضى …. باللهِ صِفْهُ ولا تُنْقِصْ ولا تَزِدِ
فقالَ: خَلَّفْتُهُ لو ماتَ من ظَمَأٍ … وقلتُ: قِفْ عن وُرودِ الماءِ لم يَردِ
قالت: صدقتَ الوَفا في الحُبِّ شيمتُهُ (7) … يا بَرْدَ ذاك الذي قالتْ على كَبِدِي (8)
__________
(1) انظر “الفوائد”: (ص / 150).
(2) المصدر نفسه.
(3) “المدهش”: (ص/ 291)، وفيه “بالمسعر”.
(4) بنحوه في “المدهش”: (ص / 275).
(5) “المدهش”: (ص / 275).
(6) “المدهش”: (ص/ 275 – 276).
(7) (ق) والمدهش: “عادته”.
(8) الأبيات في “المدهش”: (ص/ 314)، ونسبها في “الخريدة” (1/ 118) إلى =

(3/1182)


* غيره:
إن قومي يومَ بانوا … فرَّقوا بيني وبيني
فإذا كنت أنا الرَّهْـ … ـــــــنُ فمن يقبضُ دَيْني
* غيره:
وكم مُغْرَمٍ بين تلك الخِيَا … مِ تحسَبُّهُ بعضَ أطنابِها (1)
* للنفس حظٌّ وعليها حقٌّ {فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ}، {وَذِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ}، وإن رأيتمْ منها فُتورًا فاضرِبوها بسَوْط الهَجْر في المضاجِعِ {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا}، ارفقوا بمطايا الأبدانِ، فقد أَلِفَتِ التَّرَفَ {وَلَا تُضَارُّوهُنَ لِتُضَيِّقُوْا عَلَيْهِنَّ} (2).
* إن هذا الدينَ متين فأوغِلوا فيه برفق، لا تحملوا على النفوس فوق الطَّاقة إلى أن تتمكَّنَ المحبَةُ فلها حينئذ حكمُها.
* شرابُ الهوى حُلْوٌ، لكنه يورثُ الشَّرَقَ.
* مَنْ تَذَكَرَ خَنْقَ الفخ هانَ عليه هجرانُ الحَبَّةِ.
* يا معرقلًا في شَرَك الهوى جَمْزَةُ (3) عزمٍ وقد خرقت الشَّبَكةَ، لا بُدَّ من نفوذِ القَدَر فاجنحْ للسَّلْم (4).
__________
= أَبى المطاع ابن ناصر الدولة.
(1) البيت في “المدهش”: (ص / 227) وفيه: “وكم ناحل”.
(2) انظر: “المدهش”: (ص/ 310).
(3) (ق): “حموة”، والجمز: العدو والإسراع، أو القفز.
(4) العبارات الثلاث انظرها في “الفوائد”: (ص/ 125).

(3/1183)


* أيُّ تَصَرُّفٍ بقيَ لك في قلبِك وهو بين إصبعين (1).
* يا منقطعينَ عن القوم، سيروا في باديةِ الدُّجَى، وأنِيْخوا بوادي الذُلِّ، فإذا فُتِحَ بابٌ للواصِلِينَ فدونَكم، فاهجموا هجومَ الكذَّابين (2) وابسطوا أكُفَّ {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} لعل هاتف الرحمة يقول، {لَا تَثْرِيبَ} (3).
* {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} واستقرضَ منك حبَّة فبخلتَ بها، وخلَقَ سبعةَ أبحرٍ، واستقرض منك دمعةً فقحطتْ عينُك بها (4).
* إطلاق البصر ينقش في القلب صورةَ المنظور، والقلبُ كعبةٌ، وما يرضى المعبودُ بمزاحمة الأصنامِ (5).
* لذَّاتُ الدُّنيا كسوداء، وقد غَلَبَتْ عليكَ، والحور العين يعجبنَ من سوء اختيارِكَ عليهنَّ، غير أنَّ زوبعة الهوى إذا ثارت سَفَتْ في عين البصيرةِ فخفِيَتِ الجَادَّةُ (6).
* تدور عينك على المُحَرَّمات كأنك قد ضاع منك شيء، ورواحل همَّتك في الهوى ما يُحل لها قَتَبٌ:
* إن قهَرَ نفسَك (ق/ 289 ب)، حبُّ الفاني فذكِّرْها العيشَ (7) الباقيَ،
__________
(1) “المدهش”: (ص/ 298).
(2) (ظ): “اللوانين”.
(3) بنحوه في “المدهش”: (ص/ 484).
(4) بنحوه في “المدهش”: (ص/ 340).
(5) “المدهش”: (ص/ 363).
(6) انظر: “الفوائد”: (ص/ 125 – 126).
(7) (ق وظ): “النفيس”.

(3/1184)


فإن أَبَتْ إلَّا ببيع الغَبْنِ، فاحجُرْ عليها حَجْرَ السَّفِيهِ، وغّط بصَرَ باشِقِكَ إلى أن ينسى ما رأى، واغسل باطنَ (1) عينيكَ بطَهوِر المدامع، وكلما لَذكَّرتَ ما أبصرتَ فأطرِقه بدمعة، (ظ/ 202 أ) لعل فَرْطَ البكاءِ يدفعُ (2) فسادَ البصر فَيَصْلحَ لرؤيةِ الحبيب:
وكيف ترى ليلى بعينٍ تَرَى بها … سِواها وما طَهَّرْتَها بالمدامعِ
وتسمعُ منها لفظةً بعد ما جرى … حديثُ سواها في خروقِ المسامعِ
* غيرُه:
إذا لم أَنَلْ منكمْ حديثًا ونظرةً … إليكمْ فما نَفْعِي بسَمْعِي وناظِرِي (3)
* تزَيَّنَتِ الجنَّةُ للخطَّاب فجدُّوا في تحصيل المهر.
* تعرَّفَ ربُّ العزّة لعباده المحبين فعملوا على اللِّقاء، وأنت مشغولٌ بالجِيَف (4).
* ما يُساوي ربُعُ الدِّينار خجلُ الفضيحة فكيفَ بألَمِ القَطْع؟!.
* المعرفة بساط لا يطأُ عليه إلَّا مقَرَّبٌ، والمحبة نشيد لا يطربُ عليه إلَّا محبٌّ مغرَمٌ، والحبُّ غدير في صحراءَ ليس عليه جادّةٌ، فلهذا قل وُرَّادُهُ (5).
__________
(1) (ق): “ناظر”.
(2) (ق وظ): “يدبغ”.
(3) البيت لصُرَّدُرّ، وهو في “المدهش”: (ص / 436) وصدره هناك:
* إذا لم أفُزْ منكم بوعدٍ ونظرةٍ *
(4) انظر: “الفوائد”: (ص/ 126).
(5) (ق): “وارده” و (ظ): “روَّاده”.

(3/1185)


* المحب يهرب إلى العُزلةِ والخَلوةِ بمحبوبِهِ والتعلُّقِ بذكره، كَهَربِ الحوتِ إلى الماءِ والطِّفْلِ إلى أُمِّهِ:
وأخرجُ من بين البيوتِ لعلَّني … أحدَّثُ عنكِ النفسَ بالسِّرِّ خاليًا (1)
* لو رأيت المحبِّينَ في الدُّجى تمرُّ عليهم زُمَرُ النُّجومِ مرَّ الوصائف، إلى أن يُقْبِلَ هودجُ “هل من سائل”، فينثرون عليه الأرواح نَثْرَ الفَرَاش على النار.
* ليس للعابدينَ مستراحٌ تحت شجرة طوبى، ولا للمحبِّين قرارٌ إلَّا يومَ المزيد، فمَثِّلْ لقلبك الاستراحةَ تحتَ شجرهَ طوبى يَهُنْ عليك النَّصَبُ، واستحضرْ يومَ المزيد يَهُنْ عليك ما تتحمَّلُ من أجله (2).
* كنوز الجواهر مُوْدَعة في مصر الليل، فَتَتَبَّعْ آثارَ المحبِّين لعلك تظفر بكَنْزٍ.
* أنْت طفلٌ في حِجْر العادة، مشدودٌ بقُماط الهوى، فما لك ولِمزَاحمةِ الرِّجالِ.
* أين أنت والمحَبَّة وأنت أسيرُ الحبَّة؟! تَمَسَّكْتَ بالدنيا تمسُّك الرَّضيع بالظِّئر، والقومُ ما أعاروها الطَّرْفَ (3).
* أفٍّ لبَدَوِيٍّ لا يُطْرِبُه ذكرُ حاجر (4).
* انقسم الصالحون عند السِّياق: فمنهم من أخذه القَلَقُ فكان
__________
(1) البيت في “المدهش”. (ص/ 439)، و”الفوائد”: (ص/ 126).
(2) بنحوه في “المدهش”: (ص/ 524)، و”الفوائد”: (ص/ 126).
(3) انظر لهذه والتي قبلها: “المدهش”: (ص/ 352).
(4) “المدهش” (ص/ 310).

(3/1186)


يقولُ: ويل لي إن لم يغفرها، أنا أمضي إلى النار أو يغفر، ومنهم من غَلَبَ عليه الرجاء كبلالٍ الحَبَشِيِّ، كانت زوجتُه تقول: واحُزْنَاهُ وهو يقول: واطَوَبَاهُ، غدًا ألقى الأحبَّهْ، محمَّدًا وحِزْبَهْ، واهًا لبلالٍ عَلِمَ أنَّ الإمامَ لا يَنسى المُؤَذَنَ (1)!.
* اشتَغِلْ به في الحياة يَكْفِكَ ما بعدَ الموتِ (2).
* دق كؤوس الرحيل، فثار (3) الرَّكْبُ وتأهَّبوا للمسير، وعُكِمَت أحمالٌ الزَّاد وسارتْ رفقةُ المتهجِّدين، وأنت في الرَّقدة الأولى بَعْد، كيف تُطِيق السهرَ مع الشبع؟ (ق / 290 أ) أم كيف تُزاحمُ أهلَ العزائم بمناكب الكَسَل (4)؟!.
* هيهاتَ ما وصل القومُ إلى المنزل إلَّا بعد مواصلة السَّرَى، ولا عبروا إلى مِصْر (5) الراحة إلَّا على جسر التعب (6).
وأطيبُ الأرض ما للقلبِ فيه هوىً … سَمُّ الخَياطِ مع المحبوبِ مَيْدَانُ (7)
* لو رأيت أهلَ القبورِ في وَثَاقِ الأسر فلا يستطيعونَ الحركةَ إلى نجاةٍ، {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ}.
* يا منفقًا بضاعة العمر في مُخَالَفَةُ حبيبه والبعد منه، ليس في
__________
(1) “المدهش”: (ص/ 352).
(2) “الفوائد”: (ص/ 126).
(3) (ظ): “فسار”.
(4) “المدهش”: (ص/ 432 – 433).
(5) (ظ): “مقرّ”.
(6) “المدهش”: (ص/ 157).
(7) “المدهش”: (ص/ 385) ونسبه للغزي.

(3/1187)


أعدائك أشدُّ شرًّا عليك منكَ.
ما يَبْلُغ الأعداءُ مِن جاهلٍ … ما يَبْلُغ الجاهلُ من نفسِهِ (1).
* [غيرُه]:
هذا المحبُّ لديك فانظرْ هل تَرَى … قلبًا فإن صادفتَ قلبًا فاعذُلِ (2)
* غايةُ العاذلِ إيصال اللَّوْم إلى الأُذُن، فأما القلب فلا سبيلَ له إليه (3).
* سفر الليل لا يُطيقهْ إلَّا مضمِرُ المجاعَةِ، تَمرُّ النَّجائبُ في الأول، وحاملات الزاد في الآخر، ولو وردْتَ ماءَ مَدْينَ لوجدت عليه {أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} (4).
* إقبال الليل عند المحبين كقميص يوسُفَ في أجفان يعقوبَ.
* لو أحببتَ المخدوم حضر قلبك في خدمته (5).
فيا دارَها بالحَزْن إِنَّ مَزَارَها … قريبٌ ولكنْ دونَ ذلك أهوالُ (6)
* العروسُ تَلْبَسُ عند العرض تحتَ الثياب شعارَ الخوف من
__________
(1) البيت وما قبله في “الفوائد” (ص / 126 – 127)، والبيت لصالح بن عبدِ القدوس، انظر:
(2) بلا نسبة في “المدهش”: (ص/ 443) وقبله بيت، لكن أوله: “هذي حشاي … “.
(3) المصدر نفسه.
(4) بنحوه في “المدهش”: (ص/ 462).
(5) “المدهش”: (ص / 455).
(6) البيت لأبي العلاء المعرِّي “سقط الزند”: (3/ 1228)، وهو في “المدهش”: (ص/291).

(3/1188)


الرَّدِّ، وفوق الثياب حُلَّةَ الانكسار، (ظ/ 202 ب) وحمرةُ الخجل تُغْنِيها عن تخميرٍ مستعارٍ؛ لأنها لا تدري على ماذا تقدُم، فكيف يسكنُ من لا يعلم العواقب؟.
* مداراة قيس تمكن ولكن لا مع ذكر ليلى (1).
* انقسم العباد ثلاثة أقسام: فمنهم من لاحظَ الحصادَ فزادَ في البَذْر. ومنهم من رأى حقَّ المخدوم فقام بأدائه. ومنهم مَنْ خَدَم حُبًّا وشوقًا فتلذَّذَ بالخدمة وهذه الخدمةُ لا ثقلَ لي؛ لأن محركَها الحبُّ وغيرها ثقيل على البَدَن.
* نوق أبدان المحبِّين لا تُحِسُّ بالنَّصَب، وأسماعُها مشغولةٌ بصوت الحادي، وقلوبها معلَّقَةٌ بالمنزل.
* مَنْ عَبَدَهُ خوْفًا أَمَّنَه، ومن عَبَدَهُ رجاءً أعطاه أَمَلَهُ، ومن عبده حبًّا {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِىَ لَهُمْ}.
* شعر (2):
يَرَاها بعين الشَّوق قلبي على النَّوَى … فتحْظَى ولكنْ مَنْ لعيني برؤياها
وهبكم منعتمْ أن يراها بعيِنهِ … فهل تمنعونَ القلبَ أن يَتَمَنَّاها (3)
*كم دخل المجلسَ عاصٍ في باطنه باطيةُ خمر، فما زالت تعمل فيها حِدَّةُ شمس التذكير، حتَّى انقلبتْ خَلًّا فَحَلَّتْ.
__________
(1) “المدهش”: (ص/ 482).
(2) من (ق).
(3) البيتان من قصيدة لمهيار الديلمي: “ديوانه” (4/ 183 – 184).

(3/1189)


يكون أُجَاجًا دونكمْ فإذا انتهى …. إليكم تَلَقَّى نَشْرَكُمْ فيَطِيبُ (1)
فصل (2)
حَلِيَ الشيءُ في عيني، وحَلا في فمي.
الحَذْفُ: بالعصا، والخَذْفُ: بالحَصى.
حَسَرَ عن رأسه، وسَفَرَ عن وجهه.
وافْتَرَّ عن نابه، وكَشَّرَ عن أسنانه.
وأبدى عن ذِرَاعيه، وكَشَفَ عن ساقيه.
مائدةٌ: لما عليها الطَّعام، وخِوَانٌ: لما لا طَعَامَ عليه.
عَرْقٌ: للعَظْمِ عليه اللَّحْمُ، وعُرَاقٌ: جمعُه، وبدون اللَّحم: عظمٌ.
كأسٌ: لما فيه شرابٌ، وبدونه: زجاجةٌ.
وإناءٌ وقَدَحٌ وكُوزٌ: لدي العُرْوة، وبدونها: كُوبٌ.
رُضَابٌ: للرِّيق (ق/ 290 ب) في الفم، فإذا انفصلَ فبُصَاق.
أرِيكَةٌ: للسريرٌ عليه قبَّة، وبدونها: سريرٌ.
خِدْرٌ: للخِباء فيه المرأة، وبدونها: سِتْرٌ.
ظَعِينَةٌ: للمرأة في الهَوْدَجِ (3).
__________
(1) البيت في “المدهش” (ص/ 316)، وهذا البيت والفقرة قبله ساقطة من (ق).
(2) (ظ): “فائدة”.
(3) من قوله: “خدر ….. ” إلى هنا ساقط من (ق).

(3/1190)


قَلَمٌ: للمَبْرِي، وبدون بَرْيِهِ: أنبوبٌ.
عِهْنٌ: للصوف المصبوغ، وبدون صَبْغه: صوف.
وَقودٌ: للحطب المشتعل نارًا، وبدونها: حَطَبٌ.
رَكَيَّةٌ: للبئر ذي الماء، ورَاوِيةٌ: للإبل حاملات الحاء.
سَجْلٌ: للدلو فيها الماء، فإذا مُلِئَتْ فهي: ذَنُوب، وَدَلْوٌ: بدونهما.
نَفَقٌ: إذا كان له منفذٌ، وبدونه: سَرَبٌ.
نَعْشٌ: للسَّرير عليه المَيِّتُ، وبدونه: سرير.
خَاتَم: لذي الفَصِّ، وبدونه: حَلَقةٌ.
رُمْحٌ: لذي الزُّجِّ، وبدونه: قنَاةٌ.
لَطِيمَةٌ: للإبل التي تحمل الطِّيبَ والبَرَّ خاصة، وحَمُولَة: للحاملاتِ الأمتعة، وَبدَنَةٌ: للمهداة.
هَضْبَةٌ: للحمراء من التلول.
غيثٌ: للمطر في إبَّانِهِ، وإلَّا فمطرٌ.
الفَرْك: البغضُ بين الزوجين خاصة.
الشَّيْئمُ: نظرُ البرقِ وحده.
الواعِيَةُ: الصائِحَةُ على الميت خاصَّة (1).
الإباقُ: هربُ العبد خاصَّة.
__________
(1) انظر: “اللسان”: (15/ 397)، و”النهاية”: (5/ 207).

(3/1191)


القُتَارُ (1): ريح الشواء خاصة.
القَذْفُ: الشتم بالزِّنا خاصة.
لا يؤبَه بِهِ ولَهُ، وأمَّا: “إليه” فمن لَحْن الخاصة.
يتفُلُ: بالكسر والضم، ويفْسُقُ، مثله.
آسيتُكَ وآكلتُكَ وآخيتُكَ. وحكى أَبو عبيد (2): “واسَيْتُكَ … ” بالواو فيهن فليس إذًا من لحن الخاصة (3)، وله وجه في العربية، فإنهم يقولون: “أُواسيه” بقلب الهمزة واوًا في المستقبل، فأعطوها ذلك في الماضي.
لا يقال: “أقْلَبه” إلا في موضع واحد: “أَقْلَبَتِ الخُبْزَةُ” إذا حان وقتُ قَلْبِها (4).
* القوة الماسكة: ليس بغلط كما زعم طائفةٌ؛ لأنه قد ورد. (مَسَكَ) ثلاثي (5).
تَعَسَ: بفتح العين (6).
* ما أُعْطِيَ أحدٌ النَّصْفَ فأباه إلَّا أَخَد أقَلَّ منه.
* أعجبني الشيءُ: يُرَادُ به معنيانِ (7):
أحدهما: سرَّني وهو: من الإعجابِ، والثاني: بمعنى دعاتي إلى التَّعَجُّب
__________
(1) كدُخان وزنًا ومعنى.
(2) لعله في “الغريب المصنف”.
(3) من قوله: “بالواو فيهن … ” إلى هنا سقط من (ق).
(4) انظر: “اللسان”: (1/ 686) وهى لغة ضعيفة عن اللحياني، وفي (ع): “قَلَبت … “.
(5) انظر: “تصحيح التصحيف”: (ص/ 460) وهامشه.
(6) ويكسرها، كما في “اللسان والقاموس والمصباح”.
(7) انظر: “المصباح المنير”: (ص / 149).

(3/1192)


منه منقول من عَجِبَ يُعْجَبُ، مُعَدَّى بالهمزة. قال كعب بنُ زهير (1):
لو كنتُ أَعْجَبُ من شيءٍ لأعجبَني … سعْيُ الفتى وهو مخبوءٌ له القَدَرُ
(ظ/ 203 أ) فأعجبني هنا من العَجَب لا من الإعجاب، فتقول: “أعْجَبَني” و”ما أَعْجَبَني” بالاعتبارين.
* يَحْدُر في قراءته: يُسرِعُ، ويَهْدِرُ: يهتاجُ في قراءته مع غلُوِّ صوته فيها، من قولهم: هَدَرَ الفحلُ: إذا هاج، وهدَرَ الحَمَامُ، وهَدَرَتِ الضَّفادع، فليس من لحن العامَّة.
* إذا حلَّتِ الشمسُ بالشَّرَطَيْنِ (2): بفتح الشينِ والراءِ، وضمُّهما لَحْن.
* يقال: عَنِيتُ في كذا، فأنا عانٍ فيه، و”عُنِيتُ به” مبنيٌّ للمفعول، فأنا مَعْنيٌّ به، وحكى ابنُ الأعرابي الفتح -أيضًا- فيه، وقال غيره: “عُنيت” بالضم أي: قصدت بها (3)، و”عَنَيْتُ” بالفتح، أي: قَصَدتُ، تقول: عَنَيت كذا، أي: قصدته غير معدًّى بالباء فهذا من القصد، وأمَّا من العَناء فإنما يقال: مُعَنَّى، وأما مِنَ العِناية فإنما يقال: عُنِيَ به، مبني للمفعول.
فصل (4)
بلالُ بنُ حَمَامة وأَبوه رَباح، ابنُ أم مكتوم وأَبوه عَمْرو، بشير بنُ
__________
(1) “ديوانه”: (ص/ 168).
(2) نجمان من الحمل. انظر: “اللسان”: (7/ 330).
(3) من قوله: “به مبني … ” إلى هنا ساقط من (ظ) والمطبوعات.
(4) هذا الفصل والذي يليه من أنواع علوم الحديث، نوع: “من نُسِب إلى غير أبيه، ومنه: من نسِب إلى أمّه”. انظر: “علوم الحديث”: (ص/ 370) لابن الصلاح، و”تدريب الراوي”: (2/ 845 – فما بعدها).
وهذا الفصل والذي يليه نقله المؤلف من “المدهش”: (ص/ 54) لابن الجوزي.

(3/1193)


الخَصاصية وأَبوه (ق/ 1291) مَعْبَدٌ، الحارث بنُ البَرْصاء وأَبوه مالك، خفَافُ بنُ نُدْبَة وأَبوه عُمَيْرٌ، شرَحْبِيل بنُ حَسَنَةَ وأَبوه مالك، مالك بنُ نُمَيْلة وأَبوه ثابت، مُعَاذٌ وَمعَوِّذٌ ابْنَا عفراء وأَبوهما الحارث، يعلَى بنُ مُنْيَة وأَبوه أميَّة، عبدِ اللهْ بنُ بُحَيْنَةَ وأَبوه مالك.
فصل
إسماعيل بنُ عُلَيَّة وأَبوه إبراهيم، منصور بنُ صَفِيَّة وأبوه عبدِ الرحمن، محمد بنُ عائشة وأَبوه حفص، إبراهيم بنُ هَرَاسة وأَبوه سلمة، محمد ابن عَثْمَة وأَبوه خالد.
فصل (1)
* عطاء عن أبي هريرة: “فى كلِّ صَلاةٍ قِرَاءَةٌ” (2).
وعطاء مرفوعًا: “لا يَجْتَمِعُ حُبُّ هؤلاءِ الأربعةِ إلَّا في قَلْبِ مُؤْمِنٍ” (3) فذكر الخلفاء الأربعة.
وعطاء عنه مرفوعًا: “إذا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فلا صَلَاةَ إِلا المَكْتُوبَةُ” (4).
وعطاء عنه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – “سجد في {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ” (5).
وعطاء عنه مرفوعًا: “إذا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ يَقولُ اللهُ تعالى:
__________
(1) هذا الفصل من “المدهش”: (ص/ 59 – 61).
(2) أخرجه البخاري رقم (722)، ومسلم رقم (396).
(3) أخرجه عبد بنُ حُميد في: مسنده “المنتخب”: (3/ 216)، وأَبو نعيم في “الحلية”: (5/ 203)، والخطيب في “التاريخ”: (14/ 332).
(4) أخرجه مسلم. رقم (710).
(5) أخرجه مسلم رقم (578).

(3/1194)


ألَا دَاعٍ” (1).
الأول: ابنُ أبي رَبَاح، والثاني: الخُرَاساني، والثالث: ابن يَسَار، والرَّابع: ابن ميناء، والخامس: مولى أم صُبَيَّةَ.
* * *
* عَمْرَةُ: أنَّها دخلت مع أمها على عائشة فسألتها ما سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول في الفرار من الطاعون؟ قالت: سمعته يقول: “كالفِرارِ مِنَ الزَّحْفِ” (2).
وعَمْرَةُ قالت: خرجت مع عائشة سنة قتل عثمان إلى مكة، فمررنا بالمدينة ورأينا المصحفَ الذي قُتل وهو في حجره، فكانت أول قطرة قطرت على هذه الآية {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ}. قالت عَمْرَةُ: فما مات منهم رجل سوِيًّا (3).
وعَمْرَة عن عائشة: سمعتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – “ينهى عن الوصال” (4).
الأولى: بنت عبدِ الرحمن (5)، الثانية: بنت قيس العَدَوِيَّة، الثالثة:
__________
(1) أخرجه الدارمي: (1/ 414)، وأحمد: (2/ 272) رقم 967) وسنده ضعيف لجهالة عطاء مولى أم صُبَيَّة.
(2) أخرجه أحمد: (6/ 82)، وإسحاق فى “مسنده: (3/ 986)، والبخاري فِي “التاريخ”: (2/ 198)، وعمرة هى بنت قيس العدوية.
(3) أخرجه عبد الله بنُ أحمد في زوائده على “فضائل الصحابة” رقم (817)، وعنه ابن نقطه في “التقييد”: (1/ 234). عن عمرة بنت أرطاة العدوية، لكن أخرجه ابن أَبى عاصم في “الزهد”: (1/ 127) من حديث عمرة بنت قيس العدوية.
(4) أخرجه أَبو يعلى: (4/ 247)، والرامهرمزي في “المحدَّث الفاصل”: (ص/ 338) من طريق عَمْرة عن عائشة.
(5) لم يذكر المؤلف شيئًا من حديث عَمْرة بنت عبدِ الرحمن، فلعلّه سقط منه =

(3/1195)


بنت أرطاة، الرابعة: يقال لها: الصاحية.
* * *
* حمَّاد، عن ثابت، عن أنس: سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – في النِّخْل صوتًا (1) ….. الحديث.
حماد، على ثابت، على أَنس: “رأى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على عبد الرحمن صُفْرَةً” (2). الحديث.
حمَّاد، عن ثابت، عن أنس يرفعه: “مَثَلُ أُمّتِي كالمَطَرِ” (3).
الأول: ابن سَلَمة، والثاني: ابن زيد، والثالث: الأَبَحُّ.
* * *
* قَتَادة يروي عن عِكْرِمَةَ مولى ابن عبَّاس. وعن عكرمة ابنُ خالد: ضعيف.
* وكيع يروي عن النَّضر بنُ عدي: ثقة، وعن النَّضْر بن عبد الرحمن: ضعيف.
__________
= سهوًا، وحديثها الذي ذكره في “المدهش” هو قول عائشة – رضي الله عنها -: لو أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رأى ما أحدث النساء لمنعهن المساجد … “.
(1) أخرجه مسلم رقم (2363) وهو حديث تأبير النخل الذي قال فيه النبي – صلى الله عليه وسلم – “أنتم أعلم بأمور دنياكم ….. ” ولفظ المؤلف عند البزار في مسنده كما في “الإحكام”: (6/ 209) لابن حزم.
(2) أخرجه البخاري رقم (5155)، ومسلم رقم (1427).
(3) أخرجه أحمد: (19/ 334 رقم 12327)، والترمذي رقم (2869). وغيرهم، وحسنه التِّرمِذي والحافظ ابن حجر في “الفتح”: (7/ 8).

(3/1196)


* حفص بنُ غِيَاث يروي عن أشعث بنُ عبدِ الرحمن: ثقة، وعلى أشعث بنُ سوَّار: ضعيف.
* * *
* موسى بنُ عُبَيْدة الرَّبَذي كان أخوه عبدِ الله بنُ عبيدة أسنَّ منه بثمانين سنةً.
* طالب أسنُّ من عَقِيل بعشر سنين، وَعَقِيل أسنُّ من جعفر بعشر، وجعفر أسنُّ من عليٍّ بعشر.
* يزيدُ (ق/ 291 ب) وزياد ومُدْرِك بنو المُهَلَّب بنُ أبي صُفْرَةَ وُلدوا في عام واحد، وقُتلوا في عام واحد. وعاش كل منهم ثمانيًا وأربعين سنة.
* أربعةُ أنفس وُلد لكل منهم مائة ولد: أنسُ بنُ مالك، وعبد الله ابن عمر الليثي، وخليفة السعدي، وجعفر بنُ سليمان الهَاشمي.
* علي بنُ الحسين، وعلي بنُ عبدِ الله بنُ عبَّاس، وعلي بنُ عبدِ الله بنُ (ظ/203 ب) جعفر: بنو عمٍّ، ولكل منهم ابن اسمه محمد، والكلُّ أشراف، والكلُّ علماء، والكل خِيار (1).
فصل (2)
* الله سبحانه مهَّد الأرضَ لآدم وذريته قبل خلقه، فقال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وقضى أن يعرِّف قدر المخالفة
__________
(1) من قوله: “موسى بنُ عبيدة … ” إلى هنا من “المدهش”: (ص/ 66 – 67).
(2) من (ع).

(3/1197)


وأقام عذره بقوله: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} [البقرة: 36]، وتداركه برحمتِه (1) بقوله: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122] يا آدم: لا تجزع من كأس خَطَأٍ كان سببَ كَيْسِكَ، فقد استخرجَ منك داءَ العجب وألبسك رداءَ العبودية: “لو لم تذنبوا”.
لا تحزنْ بقولِي لك: {اهْبِطُواْ مِنْهَا} فلك خلقتُها، ولكن اخرجْ إلى مزرعة المُجاهدة: واجتهد في البَذْر، واسقِ شجرةَ النَّدَمِ بساقية الدمع؛ فإذا عاد العُودُ أخضرَ فَعُدْ لما كان (2).
* * *
* منصب الخُلَّة منْصبٌ يقبل المزاحمَة بغير المحبوب، وأخْذُ الولد شعبةٌ من شعاب القلب. غار الحبيبُ على خليله أن يُسْكِنَ غيرَهُ في شُعْبة من شِعَاب قلبه فأمره في بذبحه، فلما أسلم للامتثال خرجت تلك المزاحمة، وخَلَصتِ المحبَّةُ لأهلها، فجاءته البشرى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)}.
ليس المراد أن يُعَذَّب، ولكن يُبْتلى ليُهَذَّبَ.
ليس العجبُ من أَمْرِ الخليل بذبح الولد، إنما العجبُ من مباشرة الذبح بيده، ولولا الاستغراق في حبِّ الآمِرِ؛ لَمَا هان مثلُ هذا المأمور، فلذلك جُعِلتْ أَثارُهما مثابةً للقلوب تحِنُّ إليها أعظمَ من حنين الطيور إلى أوكارها (3).
* * *
__________
(1) (ع): “وتدركه الشيطان برحمة”! وهو سبق قلم.
(2) بنحوه في “المدهش”: (ص/ 77).
(3) الفقرة الأخيرة في “المدهش” (ص/ 87).

(3/1198)


* قول لوط لقومه: {يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)} [هود: 78] يجمع أنواعًا من الاستعطاف (1):
أحدها: خطابُهم بخطاب النَّاصح المُشفق بقوله: {يَاقَوْمِ}، ولم يقل: يا هؤلاء.
الثاني: عرضُه بناتِه عليهم بقوله: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي}.
الثالث: تنجيزُ ذلك بالإشارة بلفظ الحضور.
الرابع: ترغيبُه فيهن لطهارتهن وطِيْبِهنَّ.
الخامس: تذكيرُهم بالله تعالى بقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ}.
السادس: المطالبةُ بحفظ الذِّمام، وترك الأذى بقوله: {وَلَا تُخْزُونِ}.
السابع: التوبيخُ الشديدُ بقوله: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)}.
* * *
* لمَّا تمكَّن الحسدُ من قلوب إخوة يوسف -عليه السلام- أُرِيَ المظلوم مآلَ الظالم في مرآةِ {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} (2).
* شكرُك لا يساويَ قَدْرَ قُوتِكَ.
* لا كانتْ دابَّةٌ لا تعمل بعَلَفِها.
__________
(1) انظر بعضها في “المدهش” (ص/ 91).
(2) “المدهش”: (ص/ 94).

(3/1199)


* متى رأيت العقلَ يؤثرُ الفانيَ على الباقي فاعلم أنه قد مُسِخَ (1).
* ومتى رأيت القلبَ قد ترحَّل منه حبُّ الله والاستعداد للقائِهِ، وحلَّ به حبّ المخلوق والرضا بالحياةِ الدُّنيا والطمَأْنينَة بها، فاعْلَم أنَّه قد خُسِف به.
* ومتى أقحطتِ العينُ (ق/ 292 أ) من البكاء من خشْيَةِ الله؛ فاعلمْ أن قحْطَها من قسوةِ القلبِ، وأبعدُ القلوب من الله القلبُ القاسي (2).
* ومتى رأيتَ نفسَك تهربُ من الأُنْس به إلى الأُنسِ بالخَلْق، ومن الخَلْوَة مع الله إلى الخَلْوة مع الأغيار، فاعلم أنك لا تصلُح له.
* ومتى رأيتَهُ يستزيد غيرَك وأنتَ (3) لا تطلبُ، ويستدني سِوَاكَ وأنتَ لا تقربُ. فإن تحركت لك قَدَمٌ في الزِّيارة تخلَّفَ قلبُكَ في المنزلِ؛ فاعلم أنه الحجابُ والعذابُ.
* مزاجُ الإيمان منحرفٌ عن الصِّحَّة، ونبضُ الهوى شديدُ الخَفَقانِ، تحكَّمَتْ أخلاطُ الشَّهَواتِ فى أعضاءِ الكَسَل، فَثَّبَطَتْ عن الحَرَكَةِ، فتولَّدَتِ الأمراضُ المختلفةُ، هذا وما يسهُلُ عليك شربُ مُسْهِلٍ، فإنْ تداركتَ المرضَ وإلَّا قَتَلَ، لو احتميتَ ساعةً لم تَحْتَجْ إلى معالجةِ الدَّواء مُدَّة، من ركب ظهرَ التَّفريط والتَّواني نَزَلَ به دارَ الحسرة والنَّدامةِ (4).
* ربُّك يحِبُّ حياةَ نفسِك، وأنت تريدُ قتلَها، يُريدُ بها اليُسْرَ،
__________
(1) للفقرات الثلاث انظر: “المدهش”: (ص/ 151).
(2) انظر: “الفوائد” (ص/ 182).
(3) (ق): “يستزيدك وأنت”.
(4) “المدهش”: (ص / 151 – 152).

(3/1200)


وأنت تريدُ العُسْرَ، يُريدُ بها الكرامةَ وأنت جاهدٌ في إهانتِها.
* ما يَبْلُغُ الأعداءُ من جاهِلٍ (1) *
* من أدلَج في غياهبِ اللَّيل على نجائب الصبَّر صَبَّحَ منزلَ السرور، ومن نام على فراش الكسل أصبح ملقًى بوادي الأسف، الجدُّ كلُّه حَرَكَةٌ، والكسل كلّه سكون، فُتُورُكَ عن السَّعي في طلب الفَضائل دليلٌ على تأنيث العزم.
* إذا أردتَ أنَّ تعرِفَ الديكَ من الدجاجة وقتَ خروجه من البيضة فعلِّقه بمنقاره فإن (ظ / 204 أ)، تحرَّك فديك وإلا فدجاجة.
الدنيا كامرأة بَغِىٍّ لا تثبتُ مع زوجٍ، فلذلك عِيبَ عُشَّاقُها.
مَيَّزْتُ بين جَمَالِها وفَعَالِها … فإذا الملاحةُ بالقَبَاحَةِ لا تَفِي
حَلَفَتْ لنا أنَّ لا تخونَ عهودَها … فكأنما حَلَفَتْ لنا أن لا تَفِي (2)
* ما حَظِيَ الدينارُ بنقش اسم المَلِك فيه حتَّى صبرتْ سَبِيكَتُهُ على التَّرْداد إلى النار، فنفتْ عنها كلَّ خَبَثِ، ثم صبرتْ على تقطَيعِها دنانيرَ، ثُمَّ صبرتْ على ضربها على السِّكَة، فحينئذ يظهرُ عليها رقْمُ النقش، فكيف يطمعُ في نقشِ: فِى قُلُوبِهِم {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} مَنْ كُلُّه خَبَثٌ (3)؟!.
* مكابَدَةُ البادِيَةِ تهون عند ذكرِ البيت (4) المُضْحي بوادِي الجُوع،
__________
(1) تقدم، وعجزه: * ما يبلغ الجاهلُ من نفسِه *
(2) من قوله: “من أدلج … ” إلى هنا من “المدهش”: (ص/ 154 – 155).
(3) “المدهش”: (ص/ 157)، ومن قوله: “ثم صبرت … ” ساقط من (ق).
(4) كذا في (ع)، وفي (ق): “الموت”، و (ظ): “اللبيب”، و”المدهش”: “منى”.

(3/1201)


والمُعْشي بوادي السَّهَر، إلى أن تَلُوحَ أعلامُ المنزل. إذا وَنَتِ الرَّكاب في السير، فبثُّوا حُداة العزم في نواحيها يطيبُ لها السُّرَى (1).
* إذا حال غيمُ الهوى بين القلوبِ وبينَ شمسِ الهُدى تحيَّرَ السَّالِكُ.
* الحيوانُ البهيمُ يتأمَّلُ العواقب، وأنت لا ترى إلَّا الحاضرَ. ما تكاد تهتمُّ بمؤونة الشتاءِ حتَّى يقوى البَرْدُ، ولا بمؤونة الصَّيفِ حتَّى يقوى الحَرُّ، والذَّرُّ يَدَّخِرُ الزَّادَ من الصَّيف لأيامِ الشِّتاءِ. وهذا الطائرُ إذا علم أن الأنثى قد حَمَلَتْ أخذ ينقُلُ العِيدانَ لبِنَاء العُشِّ قيل الوضع، أَفَتُراك ما علمتَ قربَ رحيلِكَ إلى القبرِ، فلَا بعثتَ فراشَ: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم: 44].
* وهذا اليَرْبوعُ لا يتَّخِذُ بيتًا إلَّا في موضع صُلْب (2)، ليسلَمَ من الحافر، ويكونُ مرتفعًا ليسلمَ من السيلِ، (ق/292 ب) ويكونُ: عند أكمَةٍ أَو صخرةٍ لئلا يَضِلَّ عنه، ثمِ يجعلُ له أَبوابًا، ويرقِّقُ بعضَها فلا يُنْفِذُه، فإذا أُتِى من باب مفتوحٍ دفعَ برأسِهِ ما رَقَّ من التُّراب وخرجَ منه، وأنتَ قد ضيَّقْتَ على نفسِكَ الخناق، فما أبقيتَ للنَّجاة موضَعًا.
* النَّفْسُ كالعدوِّ إدْ عرفتْ صولةَ الجِدِّ منكَ اسْتَأسَرَتْ لك، وإن أنِسَت عنك المهانةَ أَسَرَتْك، امنعْها ملذوذَ مُبَاحاتِها ليقعَ الصُّلْحُ على تَرْكِ الحَرام، فإذا ضَجَّت (3) لطلبِ المُبَاح {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}.
* الدنيا والشيطان عَدُوَّانِ خارجانِ عنك، والنفسُ عَدوٌّ بينَ
__________
(1) “المدهش”: (ص/ 158).
(2) “المدهش”: “طيب”.
(3) (ق وظ): “احتجت”.

(3/1202)


جنبيك، ومن سُنَّةِ الجهاد: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ}، ليس المُبارِزُ بالمحاربة كالكمين الذي يطْلُعُ عليك من حيث لا تشعرُ.
* أقلُّ ما تفعلُ النفسُ معك أنَّها تمزِّق العمر بكفِّ التَّبذير والبطالة، اخْلُ معها في بيتِ الفِكْر سُوَيْعَةً، ثم انظرْ هل هي معك أو عليك؟ ثم عامِلْها بما تعاملُ به واحدًا منهما (1).
* لم تبكِ الدُّنيا عليه لم تَضْحَكِ الآخِرَةُ إليه، سيُقْشعُ غيمُ التَّعَبِ عن فجرِ الأَجر (2) كم صَبَرَ بَشَرٌ (3) عن شهوةٍ حتَّى سَمِعَ: كُلْ يا مَنْ لم يَأْكُلْ، ما مُدَّ سِجافَ (4) {نِعْمَ الْعَبْدُ} على قُبَّة {وَوَهَبْنَا لَهُ} حتَّى فُصِّل على قدر {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا}.
* كيف يفْلِحُ من يشكو اللَّيلُ إلى ربِّه من طول نومِهِ، والنهارُ من قبيح فعلِهِ، كيف يفلحُ من هو جيفة بالليل قُطْرُبٌ (5) بالنهار، ينصبُ ميزان البَخْس، ومكيال التَّطفيف، والغَدْر ثالثةُ الأثافي.
* لو فكِر الطائرُ في الذَّبح ما حام حَوْلَ الفخ، لولا صبرُ المُضْمَرات على قلَّة العَلَف ما قيل لها سوابقُ (6).
مما أضرَّ بأهلِ العِشقِ أَنَّهُمُ …. هَوَوْا، وما عَرَفوا الدُّنيا، وما فَطِنوا
__________
(1) هذه المواعظ من قوله: “الحيوان البهيم يتأمل … ” إلى هنا من “المدهش”: (ص/ 160 – 161) بتصرف.
(2) (ق وظ): “الآخرة”.
(3) بشر بنُ الحارث الحافي.
(4) السِّجاف: الستر.
(5) القطرب: اللص.
(6) “المدهش”: (ص / 530 – 531).

(3/1203)


تفنى نفوسُهُمُ شوْقًا وأعينُهُمْ (1) … في إثْرِ كلِّ قبيح وجهُهُ حسنُ
تَحَمَّلوا حمَلَتْكمْ كلُّ ناجِيةٍ (2) … فكُلُّ بَيْنٍ عَلَيَّ اليَوْمَ مؤتَمَنُ
ما في هوادِجِكُمْ من مُهْجَتِي عِوَضٌ … إن مِتُّ شَوْقًا، ولا فيها لها ثَمَنُ
سهرتُ بعد رحيلي وَحْشَةً لكُمُ … ثم استمرَّ مَرِيرِي وارْعَوَى الوَسَنُ
لا تلقَ دَهْرَكَ إلَّا غَيْرَ مكترِثِ …. ما دامَ تصحبُ فجه رُوحَكَ البَدَنُ
فما يُدِيمُ سُرورٌ قد سُرِرتَ بهِ … ولا يردّ عليكَ الفائت الحَزَن (3)
* إذا لم تكنْ من أنصار الرَّسُول فَتُنَازِلَ الحربَ فكن من حرَّاس الخِيَامِ، فإن لم تفعل فكن من نَظَّارَةِ الحرب الذين يتمنَّوْن الظَفَرَ للمسلمين، ولا تكنِ الرابعةَ فتهلِكَ.
* إذا رأيتَ البابَ مسدودًا وجهِكَ فاقْنَعْ بالوقوفِ خارجَ الدَّار، مستقبِلًا البابَ، سائِلًا مستعْطِيًا فعسى، ولكنْ لا تُوَلِّ ظهرَك وتقول: ما حِيلَتي، وقد سُدَّ البابُ (ق / 293 أ) دوني.
* لما نادى منادي الإفضال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} سارتْ نجائبُ الأعمالِ [إلى] باب الجزاءُ، فصِيْحَ بالدَّليل: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاك} [الإسراء: 74] فقال: “ما منكم من يُنجيه عملُه” (4).
* إن لم تقدرْ على مشارعِ أربابِ العزائمِ فَرِدْ باقي الحِياض،
__________
(1) في “الديوان” و”المدهش”: “تفنى عونهم دمعًا وأنفسهم”.
(2) هي الأصول مشتبهة، وتقرأ: “رابحة”.
(3) الأبيات في “المدهش”. (ص/ 525)، وهى للمتنبي “ديوانه”: (4/ 234 – 235 – مع شرحه). والبيتان الأخيران مقدمان في الديوان والمدهش.
(4) من قوله: “إذا لم تكن من …. ” إلى هنا بنحوه من “المدهش”: (ص/527).

(3/1204)


فمَنْ لم يكن عندَهُ أبنُ لبون قُبِلَتْ منه ابنةُ مَخاضٍ.
* لا تحتقرْ معصيهْ فكم أَحْرَقَتْ شَرَرَهْ، أما عرفت سرَّ: {ولَا تَقرَبَا هَذِهِ الْشَّجَرَةَ} [البقرة: 35]، لو قنع ابن آدم (1) لاكتفى، ولكن كانت المِحْنة في الشَّرَه.
* الخَلْوَةُ شَرَكٌ لصيد المؤانسة، أخفى الصَّيادينَ شخصًا وأقلُّهم حركةً أكثرُهم التقاطًا للصَّيد، ما صاد هِرٌّ نوا (2).
أبدًا نفوسُ العاشقينَ …. إلى ربوعِكُمُ تَحِنُّ (3)
وكذا القلوبُ بذِكْرِكُمْ … بعدَ المخافةِ تَطْمَئِنُّ (4)
* غيره:
طُلول إذا يشكو إليها مُتَيَّمٌ … شكا غيرُ ذي نُطْقٍ إلى غير ذي فَهْمِ (5)
* غيره:
وإنَّما عُمْرُ الفتى سوقٌ له … يصدُرُ عنه غانِمًا أو خاسرًا (6)
* غيره:
__________
(1) (ع وظ): “آدم”.
(2) أي: صاح.
(3) في “المدهش”:
أبدًا نفوس الطالبيـ … ـن إلى طلولكم تحن
(4) من قوله: “إن لم تقدر … ” إلى هنا من “المدهش”: (ص/523 – 524).
(5) البيت في “المدهش”: (ص/ 524)، لكن صدره:
* طلول إذا دمعي شكى البين بينها *
(6) البيت في “المدهش”: (ص / 517) مع اختلاف، وقبله بضعه أبيات.

(3/1205)


نْرَاعُ إذا الجنائزُ قابَلَتْنا …. ونَلْهُو (1) حين تَخْفَى ذاهِبَاتِ
كَرَوْعَةِ ثَلَّةٍ لظهورِ ذِئْبٍ … فلمَّا غَابَ عَادَتْ راتِعَاتِ (2)
* خذ نفسَك بالعزائم لا تُرَخِّصْ، حائطُ الباطن خَرَابٌ فعلام إِذًا تجَصِّصُ (3).
* العلم والعملُ توأمان أمُّهما علوُّ الهمَّةِ (4).
* والجهلُ والبطالة توأمانِ أمُّهما إيثارُ الكسلِ.
* أيها المعلَمِ تثبَّتَ على المُبتدي، {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ}، فللعالِم رسوخٌ وللمتعلِّم قَلقٌ: ويا أَيُّها الطالبُ تواضعْ في الطَّلَب فإن الترابَ بَيْنا هو تحت الأخمص صار طَهورًا للوجه (5).
* تُجلَى عليك عروسُ المعرفة ولكن على غير كفؤ، وإنَّما يحلُّ النظر إذا كان العقدُ جائزًا.
* فغضَّ الطَّرْفَ إنك من نمير (6) *
* ليس العالِمُ شخصًا واحدًا، العالِمُ عَالَمٌ، تصانيف العَالِمِ أولادُه المُخَلَّدون دونَ أولادِه، من خُلِقَ للعِلْمِ شَفَّ جوهرُه من الصِّغَر، طولُ السَّهَرِ مُفضٍ إلى طِيب المَرْقد:
__________
(1) في “المدهش”: “ونسكن”.
(2) البيتان في “المدهش”: (ص / 518)، ونسبهما في (شرح ديوان المتنبي: 3/ 11) إلى زين العابدين.
(3) “المدهش”: (ص / 518).
(4) “المدهش: (ص/ 507).
(5) هذا المقطع من “المدهش”: (ص / 507).
(6) صدر بيت لجرير يهجو الراعى النميري عجزه:
* فلا كعبًا بلغت ولا كلابا *

(3/1206)


والهُوْن في ظلِّ الهوينا كامنٌ …. وجلالةُ الأَخْطار في الإِخْطار (1)
* مياه المعاني مخزونةٌ في قلب العالِمِ يفتحُ منها للسَّقي سَيْحًا بعد سَيْح، ويدَّخِرُ أصفاها لأهل الصَّفاء، فإذا تكاثَرَتْ عليه نادى: للسبيل فيبقى علمُه سَيْحًا، ولهذا تَتَضاعفُ عليه زكاةُ الشكر.
كل وقت تسافر بضائعُ فكرِه من مدينة قلبه إلى قلوب الطالبين، فينادى عليها دلَّال لسانه، وهو يعرضها في مواسمِ النُّصحِ على تجَّار الطلب والإرادة: مَنْ يشتري حكمةً وعلمًا بتخيير الثمن (2)، فيا مَنْ يرى عُلُوَّ تلك المرتبة لا تنسَ الدَّرجَ.
كم خاضَ بحرًا مِلْحًا حتَّى وقع بالعَذْب، وكم تاهَ في مَهْمَهٍ قفرٍ حتَّى سمِّي بالدليل، وكم أَنْضَى مراكبَ الجسم ورفضَّ شَهَوات الحِسِّ وواصلَ السُّرَى (ظ / 205 أ) ليلًا ونهارًا، وأوقد نارَ الصبر في دياجى الهوى، فإن وثِقْتم بأمانَتِهِ فهذا تخيير الشِّرَاءِ (3).
* الدنيا تُفَوِّق سهامَها نحو بنيها وتقول: خذوا حِذْرَكم، فلهذا دَمُ قتيلها هَدَر (4).
* غاب الهدهدُ (ق/293 ب) عن سليمانَ ساعةً فتواعده، فيا مَنْ
__________
(1) البيت لأبي الحسن التِّهامي من قصيدته المشهورة فى رثاء ابنه أبي الفضل “ديوانه”: (ص/ 157)، وهو في “المدهش”: (ص/ 507) ووقت في الأصول تحريفات أصلحناها.
(2) “المدهش”: “حكمةً بقبول”.
(3) من قوله: “ليس العالم شخصًا … ” إلى هنا من “المدهش”: (ص / 507 – 508). والكلمة الأخيرة في الأصول: “السرى” والمثبت من “المدهش”.
(4) نحوه في “المدهش”: (ص/ 509).

(3/1207)


أطالَ الغيبَةَ عن ربِّه هل أمنتَ عْضبَهُ (1)؟.
* تخلَّفَ الثلاثةُ عن الرسول في غزوة واحدة، فجرى لهم ما سمعتَ، فكيف بمن عمره في التَّخَلُّف عنه؟.
* إذا سَكِرَ الغرابُ بشراب الحِرْص تنَقَّلَ (2) بالجِيَفِ، فإذا صحا من خُمَاره نَدِمَ على الطَّلل، خالفَ موسى الخَضِرَ في طريق الصُّحْبة ثلاث ميت، فحل عقدَة المصال بيد: {هَذَا فِرَاقٌ بَيْنِى وَبَيْنِكَ}، أفما تخافُ يا مَنْ لم يَفِ لربِّه قَطُّ أن يقولَ في بعض زلَّاتك: هذا فراقُ بيني وبينك (3).
* أعظم عذابِ أهل جهنَّم جهلُهم بالمُعَذِّب، لو صحَّتْ معرفتهم بالمالكِ لما استغاثَوا بمالك، وقع بينهم شخصٌ ليس من الجنس، كان في باطنه ذرَّةٌ من المعرفة، فكلما حملتَ عليه النار اتّقاها بدرع: “يا حَنَّان يا منَّان”، كأنَّ موتَه في المعاصي سكتةٌ، فقُبِرَ في جهنَّمَ، فلما تحرَّك الرُّوح في الباطن، أخرج من القبر (4).
* حرصُ العصفور يخنقُه، وقنع العنكبوت في زاوية البيت الضَّعيف يسوق إليها الذُّباب قوتًا لها، رُبَّ ساعٍ لقاعدِ. أرسلتَ قلبك مع كلِّ مطلوب من الهوى، ثم تبعث وراءَه وقتَ الصلاة، فربَّما لا يلقاهُ الرسول فتصلي بلا قلبٍ.
خَلَّفْتَ قلبَكَ في الأظعانِ إذ نَزَلَتْ …. بالمَأْزِمَيْنِ عدَاةَ النَّفْر بالنَّفرِ
__________
(1) “المدهش”: (ص/ 490).
(2) ما ينتقل به على الشراب.
(3) “المدهش”: (ص/ 490).
(4) “المدهش”: (ص/ 491).

(3/1208)


ورحتَ تطلبُ في أرض العراق ضحًى … ما ضاعَ عندَ مِنًى فاعجبْ لذا الخَبَرِ
لما طَرَقْنا مِنًى كان الفؤادُ معي … فضَلَّ عنِّيَ بين الضَّالِ والسَّمُرِ
يا أرجلَ العيسِ تُهنيكَ الرِّمالُ فما … أمشي بوجدي غدًا إلَّا على الأثر
* يا من فقد قلبه لا تيأس من عوده.
فقد يجمعُ اللهُ الشتيتين بعدَما … يَظُنَّانِ كُلَّ الظَّنِّ أنْ لا تَلاقِيَا (1)
الهوى قاطن والصواب خاطر، وطرد القاطن صعبٌ، وإمساك الخاطر أصعب (2).
* إنك لم تزلْ في حبس، فأولَّ الحبوس: صُلْبُ الأَب، والثاني: بطنُ الأم، والثالث: القُماط والمهد، والرابع: المكتب، والخامس: الكَدُّ على العيال، والسادس: مرض الموت، والسابع: القبر، فإن وقعت في الثامن نسيت مَرارَةَ كلِّ حبس تقدم.
ادخُلْ حَبْسَ التَّقوى باختيارِك أيامًا ليحصُلَ لك الإطلاق على الدَّوام، ولا تؤثرْ إطلاقَ نفسِك فيما تحبُّ فإنه يؤثرُ حَبْسَ الأبد.
العذْلُ على حمل العشق علاوةٌ.
ومُرَنَّح فَطَن النسيم بوجده … فروى له خبر العذيب مُعَرِّضًا (3)
* متى تركت المعصية وما حللت عُقَدَ الإصرار، لم يُفِدْ شيئًا، كما لو سكن المرضُ من غير استفراغ، فإنّه على حاله، إن لم يتحقَّق
__________
(1) البيت لمجنون بني عامر انظر: “الأغاني”: (2/ 76).
(2) “المدهش”: (ص / 486).
(3) “المدهش”: (ص / 482).

(3/1209)


قصد القلب لم يؤثرِ النُّطقُ شيئًا (1)، يمينُ المُكْرَهِ لا تنعقدُ (2).
* ويحُك نفسك سلعَتُكَ وقد استامها المُشتري بأفخرِ الثَّمَن، (ق/294 أ) فاجهَدْ في إصلاح عُيوبِها لعلَّه يرضى بها.
منامُ المنى أضغاثٌ، ورائدُ الآمال كذوبٌ، ومرتَعُ الشَّهَواتِ وخيمٌ (3) العَجْزُ شَرِيك الحِرمانِ، التفريطُ مصائب (4) الكسل. قُفْلُ قلبِكَ رومِيٌّ ما يقعُ عَليه فشٌّ (5).
متى خَامَرَ من جنود عزمِكَ عليك واحدٌ، لم تأمنْ قلب الهزيمة عليك.
وإذا كان في الأنابيب خُلْفٌ … وقَعَ الطَّيْشُ في رؤوسِ الصِّعادِ (6)
* كُنْ قَيِّمًا على جوارحِك ورَعيَّتك إذا وفَّيْتَها الحظوظَ فاستوفِ منها الحقوقَ.
تأمل قوله تعالى: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)} [طه: 117]، كيف شَرَك بينهما في الخروج، وخص الذِّكَرَ بالشَّقَاء، لاشتغاله: بالكسْب والمعاش، والمرأة في خِدْرها.
تَزَوَّدْ من الماء القَرَاح (7) فلن تَرَى …. بوادي الغَضَا ماء نُقَاخًا ولا بَرْدا
__________
(1) من قوله: “كما لو … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(2) “المدهش”: (ص / 478).
(3) “المدهش”: “ومرعى المشتهي هشيم”.
(4) “المدهش”: “مضارب”.
(5) الفش: الحلّ، يقال: فشَّ القِرْبة حل وِكاءها.
(6) جمع صَعْدَة، وهي: القناة. “اللسان”: (3/ 255) والبيت للمتنبي “ديوانه”: (2/ 43)، وفيه “في صدور الصعاد”.
(7) “المدهش”: “النقاخ”: وهو: العَذْب.

(3/1210)


وَنَل مِن نسيمِ البانِ والرَّنْد نفحةً …. فهيهاتَ وادٍ يُنْيِتُ البانَ والرَّنْدا
وكُرَّ إلى نجدٍ بطَرْفِكَ إنه …. متى تسرِ لا تنظرْ عقيقًا ولا نجدا (1)
انظر يمنَةً فهل ترى إلَّا محنة، ثم اعطِفْ يسْرَةً فهل ترى إلَّا حسرةً، أما الرَّبْعُ العَامِرُ فَدَرَسَ، وأما أَسْر المَمَاتِ ففَرَسٌ، وأما الراكبُ فَكَبَتْ به الفَرَسُ، ساروا في ظُلَم ظلامهم، فما عندَهم قَبَسٌ، ووقفت بهم سفن نجاتِهم لأن البحرَ يَبَسٌ. وانقلبت تلك الدولُ كلُّها في نَفَس، وجاء مُنْكَرٌ بآخر “سبأ”، ونَكِيرٌ بأول “عَبَسَ”. أفلا يقوم لنجاته مَنْ طالما قد جَلَسَ.
يا نفسِ ما هي إلَّا صبرُ أيامِ … كأن مُدَّتَها أضغاثُ أحلامِ
يا نفسِ جوزي عن الدُّنيا ولَذَّتِها …. وخَلِّ عنها فإن العيشَ قدامي (2)
* ألا يصبر طائر الهوى عن حَبَّةٍ مجهولةِ العاقبة، وإنَّما هي ساعةٌ ويصلُ إلى برج أَمْنِه، وكم فيه من حبة:
وَإنْ حَنَنْتَ للحِمَى وروضِهِ … فبِالغَضا ماءٌ وروضاتٌ أُخَرْ
حاصلُ الكُتُب من الطَّير أقوى عَزِيمة منك، فلعل وضْعَكَ على غير الاعتدال، لَا تكون الرُّوح الصافيةُ إلَّا في بَدَد معتدل، ولا الهمة العالية إلَّا لنَفْس نفيسة.
إذا حمل الطائر الرسالةَ صابرَ العزيمةَ ولازَمَ بطونَ الأوديةِ، فإن خَفِيَتْ عليه الطريقُ تَنَسَّمَ الرياحَ وتلمَّحَ قرصَ الشمسِ وتستَّرَ، وهو
__________
(1) “المدهش”: (ص / 479 – 480).
(2) البيتان لأبى العتاهية “ديوانه”: (ص/ 391)، والبيت الثاني في الديوان:
يا نفس كوني عن الدنيا مُبَعَّدة …. وخلِّفيها فإن الخير قُدَّامي

(3/1211)


مع شدَّة جوعِه يحذرُ الحَبَّ الملقى خوفًا من دفينةْ فخٍّ توجِبُ تعرقلَ: الجناح، وتضييعُ ما حمل، فإذا بلَّغَ الرسالةَ أطلقَ نفسَهُ ديَ أغراضِها داخل البُرْج.
فيا حاملي كتُب الأمانة أكثركم على غير الجادَّة، وما يستدلُّ منكمْ من قد رَاقَهُ الحَبُّ، فنزل [ناسيًا] (1) ما حمل فارتُهِنَ وَذبحَ، ومنكم منْ تعرْقَل جناحُه وهو ينتظر الذبحَ، فلا الحَبَّةُ حصلتْ ولا الرسالةُ وصلتْ:
قَطَاةٌ غَرَّهاْ شَرَكٌ فباتَت … تُجَاذِبُه وقد عَلِقَ الجناحُ
فلا في اللَّيلِ نالتْ ما تَمَنَّتْ … ولا في الصُّبْح كان لها سَراحُ
لو صابرتم مشقَّةَ الطَّرِيقِ (ق / 294 ب)، لانتهى السفرُ، فتوطَّنتُمْ مستريحينَ فِى جنَّات عَدْن، يا مهملينَ النظرَ في العواقب أسلفوا في وقت الرُّخص، فما يؤمَن تغْيُّرُ الأسعارِ، لا ترم بسهام النظر فإنها واللهِ: فيك تقعُ، ربَّ راعي مُقْلة أهملها فأُغِيرَ على السَّرْح (2).
كلُّ الحوادثِ مَبْداها من النَّظَرِ … ومعظم النَّار من مستصغرِ الشَّرَرِ
كم نظرةٍ فعلتْ في قلب ناظرِها …. فعلَ السِّهامِ بلا قوسٍ، وَتَرِ (3)
* غيره:
وأرى السِّهامَ تؤم (4) من يرمي بها … فعلامَ سهمُ اللَّحْظِ يُصْمِي من رَمَى (5)
__________
(1) من “المدهش”.
(2) “المدهش”: (ص 473/ -475).
(3) تقدم الكلام عليهما.
(4) (ق وظ): “نام” و (ع): “تام”، والمثبت من “المدهش”.
(5) البيت في “المدهش”: (ص / 458).

(3/1212)


* اعرف قَدْرَ لطفِهِ بك، وحفظِه لك، إنما نهاك عن المعاصي، حماية لك وصيانةً، لا بخلًا منه عليك، وإنَّما أمرك بالطاعة رحمة وإحسانًا لا حاجة منه إليك، لمَّا عرفْتَه بالعقل حَرَّمَ ما يزيلهُ وهو الخمرُ صيانة لبيت المعرفة، يا متناولًا للمُسكِر لا تفعلْ، يَكْفِيكَ سُكْرُ جهلِكَ، فلا تجمعْ بين سُكْرَيْنِ.
* سلعةُ {وَإِنِّى لَغَفَّارٌ} لا تُبْذَلُ إلَّا بثمن {لِمَنْ تَابَ} خارجًا من سَبِيكة {وَآمَنَ} عن سكة {وَعَمِلَ صَالِحًا} من دار ضَرْب {ثُمَّ اهْتَدَى}.
* إن لم تقدر على الجِدِّ في العمل فقفْ على باب الطَّلَب، تعرَّضْ لنفحةٍ من نَفَحَات الرَّبِّ، ففي لحظةٍ أفْلَحَ السَّحَرَةُ:
لا تَجْزَعَنْ مِنْ كلِّ خَطْبٍ [عَرَى] (1) … ولا تُرِي الأعداءَ ما يُشْمِتُ
واصبرْ فبالصَّبْرِ تنالُ المُنَى … “إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا”
ثَمَنُ المعالي الجِدُّ، والفتورُ داءٌ مُزْمن.
من السَّلوة في عَيْنيك …. آياتٌ وآثارُ
إذا ما بَرَدَ القلب … فما تُسخِنْهُ النارُ (2)
* الوجودُ بحرٌ، والعلماء جواهرُه، والزُّهَّاد عنبرُه، والتُّجَّارُ حِيتانه، والأشرارُ تماسيحُه، والجهَّال على ظهره كالزَّبَدِ.
لو كشفت لك الدنيا ما تحتَ نِقابها لرأيت المعشوقةَ عجوزًا، وما ترضى إلَّا بقتل عُشَّاقها، وكم تدللت عليهم بالنشوز، أذاقَتْهم بَرْد
__________
(1) (ع وق): “فادح” وليست فى (ظ) والمثبت من “المدهش”.
(2) “المدهش”: (ص/ 475 – 476).

(3/1213)


كان الأمانيِّ (1) فإذا هم في وسط تَمُّوزَ.
* تطلبُ مشاركةَ الغانمينَ وما شهدْتَ الحربَ، ويحك الغنيمةُ لمن شَهِدَ الوَقْعَةَ.
البلايا تُظهِرُ جواهرَ: الرّجالِ، وما أسرَعَ ما يُفْتَضَحُ المُدَّعِي.
تنامُ عيناك وتشكوا الهَوى …. لو كنت صَبًّا لم تكنْ هكذا (2)
* يا مؤثرًا ما يَفْنَى على ما يَبْقَى، هذا رأي هواك فهلا استشرتَ العقلَ لتعلَم أنصحَهُما لكَ، لا تَحْقِرَنَّ يسيرَ المعصية فالعُشب الضعيف يُفْتَلُ منه حبالٌ تَجُرُّ السُّفنَ، أَوَ ما نفدت في سَدِّ سبأٍ حيلة جُرَذٍ، العمرُ ثوب غيرُ مكفوف، وكلُّ نَفسٍ خيطٌ يَسَلُّ منه، أنتَ أجيرٌ وعليك عملٌ، فأخِّرْ ثيابَ الرَّاحةِ إلى انقضاء العمل، كم غرقت سفينة في بحر سوف (3).
ساروا ولا يسألون ما فَعَل الـ …. ــفجر ولا كيف مالت الشُّهُبُ
عوَّدهم هجرهم مطالبةَ الرَّ … احةِ أن يظفروا بما طلبوا
* الشجاع يَلْبَسُ (ق/295 أ) القلبَ على الدِّرع، والجبان يلبَسُ الدرعَ على القلب.
أعظم البلايا تردُّدُ الرَّكْبِ إلى بلد الحَبيب يودِّعون الدِّمَنَ.
ومعالٍ لو ادَّعاها سِواهُمْ …. لَزِمَتْهُ جِنَايةُ السُّرَّاق (4)
__________
(1) “المدهش” كانون الأول”.
(2) “المدهش”: “نائمًا”.
(3) “المدهش”: (ص/ 470 – 471).
(4) البيت للمتنبي “ديوانه”: (2/ 368).

(3/1214)


[وقال آخر]:
نالوا السماءَ وحطُّوا من نفوسِهمُ … إنَّ الكرامَ إذا انْحطوا فقد صعِدوا
* لو صدق عزمُكَ قذفَتْكَ ديارُ الكَسَل إلى بيداء الطَّلَب (1).
* الناقد يخافُ دخولَ البَهْرجِ عليه واختلاطَه بماله والمبهرِجُ آمن، هذا الصِّدِّيقُ يُمسِكُ بلسانه ويقول: هذا الذي أوردني المواردَ، وعُمَرُ يناشد حذيفة؛ هل أنا منهم (2)، والمخَلِّطُ على بساط الأمن.
* إذا جنَّ الليل وقع الحربُ بين النوم والسهو، فكان الشوق والخوفُ في مقدمة عسكر اليَقَظة، وصار الكَسَل والتَّواني في كتيبة الغفلة، فإذا حمل العزمُ حملةً صادقةً هزم جنودَ الفُتور والنوم، فحصل الظفرُ والغنيمةُ، فما يطلُع الفجرُ إلَّا وقد قُسِمَتِ السُّهمانُ وما عند النائمين خَبَرٌ.
قام المُتهجِّدونَ على أقدام الجدِّ تحت ستر الدُّجى، يبكون على زمنٍ ضاع في غير الوصال.
* ما زالت مطايا السَّهَو تذرعُ بيداءَ الدُّجى، وعيونُ آمالها لا ترى إلَّا المنزلَ، وحادي العزم يقول: يا رفقةَ اللَّيلِ طابَ السَّيْرُ فاغتنِموا المَسْرَى، فمنْ نام طولَ اللَّيْل لم يَصِل. إلى أنَّ هبَّ نسيمُ السَّحَر، فقام الصارخُ يبغي ظلام الليل، فلما همَّ بالرَّحيل تشَبَّثَ القوم بأذياله يبكونَ على فِراقِ المحبوب، فلما طَلَعَ الفجرُ حدا حاديهم:
* عند الصَّبَاحِ يحمَدُ القوم السُّرَى *
__________
(1) “المدهش”: (ص / 465 – 466).
(2) يعني: المنافقين.

(3/1215)


* يا من يستعظمُ أحوالَ القوم تنقَّل في المراقي تَعْلُ (1).
* من جمع بين العلم بالسُّنَّة ومتابعتها أنتجَا له المعاني البديعة، فهي تُنادي على رؤوس الأَشهاد؛ وُلِدْتُ من نِكاحٍ لا مِنْ سِفاحٍ.
ومن قَرَن بين البدعة والهوى أنتجا له ضروبُ الهَذَيانِ، فهي تُنادي على رؤوس الأشهاد: أيها الفَطِنُ لا تعْترَّ.
* إذا فَتَحَت الوردةُ عينَها فرأتِ الشَّوْكَ حولها، فَلْتَصْبِرْ على مجاورته قليلًا، فوحدَها تُقْصَدُ وتُقَبَّلُ وتُشَمُّ.
* إذا تكلمَ مَنْ يريدُ الدنيا بكلامه، فإنه كلما حفر في قَلِيب قلبه وأمعنَ في الاستنباط، انهار عليه ترابُ الطمع فطمَّه (2).
* إذا رأيت سربالَ الدنيا قد تقلَّص عنك (3) فاعلم أنه لطف بك؛ لأن المنعم لم يقبِضْهُ بخلًا أن يتمزَّق، ولكن رفقًا بالسَّاعي أن يَتَعَثَّرَ.
* فَتِّش على القلب الضَّائع قبل (ظ / 256 ب) الشُّروع، فحضورُ القلب أوَّلُ منزل من منازل الصلاة، فإذا نزلْتَه انتقلْتَ إلى بادية المعنى، فإذا رحلتَ عنها أنَّحتَ بباب المُنَاجَاةِ، فكان أوّلَ قِرَى ضيفِ اليَقَظة كشفُ الحجابِ لعينِ القلبَ، فكيف يَطمع في دخولِ مكَّةَ مَنْ لا خرج إلى البادية بعدُ (4).
إذا كانت مشاهدة مخلوق يوم {أخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} استغرقت إحساس
__________
(1) “المدهش”: (ص / 461 – 463).
(2) “المدهش”: (ص / 460).
(3) (ق وظ): “عليك”.
(4) في “المدهش” ” … : مكة منقطع قِبَل الكوفة”.

(3/1216)


الناظرات {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} وما شعرنَ، فكيف بالحال (ق/ 295 ب) يوم المزيد؟! لو أحببت المعبودَ لحضرَ قلبُك في عبادته.
قيل لعامر بنُ عبدِ قيس: أما تسهو في صلاتك؟ قال: أَوَ حديثٌ أحبُّ إليَّ من القرآنِ حتَّى أشتغلَ به؟!.
وكان مسلمُ بنُ يسار لا يلتفتُ في صلاته حتَّى انهدمتْ ناحيةٌ من المسجد فزعَ لها السوق فما التفتَ، وكان إذا دخل منزله سكتَ أهلُ بيته، فإذا قام يُصَلِّي تكلَّموا وضَحِكوا علمًا منهم بالغَيبة.
وقيل لبعضِهم: إنا لنُوَسْوِسُ في صلاتِنا، قال: بأيِّ شيءٍ؟ بالجَنَّة والحُور العِينِ والقِيَامة؟ قالوا: لا بل بالدنيا، فقال: لأَنْ تختلفَ فيَّ الأَسِنَّةُ أحَبّ إليَّ من ذلك.
تقف في صلاتك بجَسَدِك وقد وجهتَ وجَهَكَ إلى القِبْلة، ووجهت قلبَكَ إلى قُطْر آخَرَ، ويحَكَ ما تصلُحُ هذه الصَّلَاةُ مَهْرًا للجنة فكيف تصلح ثمنًا للمحبة.
رأتْ فأرةٌ جملًا فأعجبها فَجَرَّتْ خِطَامَهُ فتَبِعَها، فلما وصَلَتْ إلى باب بيتِها وقفَتْ فنادى بلسان الحال: إمَّا أن تَتَّخِذي دارًا تَليقُ بمحبوبِكِ أو محبوبًا يَلِيقُ بداركِ، وهكذا أنتَ: إما أن تَصَلِّيَ صلاةً تليقُ بمعبودِكَ وإما أنَّ تَتَّخِذَ معبودًا يليقُ بصلاتك (1).
* تعاهَدْ قلبَكَ فإن رأيتَ الهوى قد أمال أحدَ الحِمْلين فاجعل في الجانب الآخر ذكرَ الجنَّة والنار ليعتدلَ الحِمْلُ، فإن غلبكَ الهوى فاستغِثْ بصاحب القلب يُعِينكَ على الحِمْل، فإن تأخَّرَتِ الإجابةُ
__________
(1) “المدهش”: (ص/ 454 – 456).

(3/1217)


فابعثْ رائدَ الانكسار خلْفَها تجدْهُ “عندَ المُنْكسرة قلوبُهم”.
* اللطفُ مع الضعف أكثرُ فتضاعفْ ما أمْكَنَكَ.
لما كانْتِ الدجاجةُ لا تحنو على الولدِ أُخُرِجَ كاسِيًا (1)، ولما كانتِ النملةُ ضعيفَةَ البصر أُعِينَتْ بقوَّة الشَّمِّ فهي تجدُ ريح المطعوم من البعد، ولما كانت الخُلْدُ (2) عمياءَ، أُلهِمَتْ وقتَ الحاجَةِ إلى القوت أن تفتحَ فاها، فيبعث إليها الذباب فيسقط فيه فتناول منه حاجتها.
الأطيار تَتَرَنَّمُ طولَ النهار، فقيلَ للضِّفْدَع: ما لك لا تَنْطِقِينَ؟ فقالت: معَ صوتِ الهَزَار (3) يُستبشعُ صوتي، ولكن الليلَ أجملُ بي.
* لا تنسَ العِنَايَةَ بالسحرة، جاءوا يحاربونَه ويحَاربون رسُلَه، وخِلَعُ الصُّلْحِ قد فصِّلَتْ، وتيجانُ الرِّضى قد رُصِّعت، وشراب الوصال يروقَ، فَمَدُّوا أيديَهم إلى ما اعتصروا من خَمرة الهوى، فإذا بها قد انقلبت خَلًّا فأفطروا عليه فسَكِروا بشراب المحبَّةِ، فلما عَرْبَدَتْ عليهم المحبَّة صُلبوا في جذوع النخل.
واعجبًا لعَزَمات ما ثنَاها {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ} (4).
* سجدوا له سجدةً واحدة فما رقعوا رؤوسَهم حتَّى رأوا منازلَهم من الجنة، فغلبهم الوجدُ وتمكَّنَ منهم الشوقُ، فقالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)}:
__________
(1) ويحتمل أن تكون: “كاسبًا” بالوحدة.
(2) ضرب من الجرذان أعْمَى.
(3) هو: العندليب.
(4) “المدهش”: (ص/ 450 – 451).

(3/1218)


تَمُرُّ الصَّبا صَفْحًا بساكن ذي الغَضا … ويَصْدَعُ قلبي أنَّ يَهُبَّ هبوبُها
قريبة عهدٍ بالحبيبِ وإنما … هوى كلِّ نفسِ حيث حَلَّ حبيبُها (1)
* (ق/ 296 أ) قطعت نياقُ جدِّهم باديةَ الليل، ولم تجدْ مسَّ التعبِ، فالطريق إلى المحبوبِ لا تطولُ:
بعيدٌ على كسلان أو ذي مَلَالَةٍ … وأمَّا على المشتاقِ فهو قريبُ
يا حاضرينَ معنا بنيَّةِ النُّزهة لستم معنا، عُودوا إلى أوكار الكَسَلِ، فالحربُ طعنٌ وضربٌ ويا مودِّعينَ أرجحوا فقد عبرْنا “العُذَيْبَ”، وعن قريب تأتيكُم أخبارُنا بعد “فَيْد”، ويا أيها الحادي عَرَضَ الخَيْفُ من مِنَى. تُعَلِّمْكَ الدُّموعُ كيف ترمي حَصَى الجِمار (2).
* ضيفُ المَحبَّة ماله قِرىً إلَّا المُهَجُ، إذا رأيت محبًّا ولم تدرِ لمن (ظ 207/ أ)، فضع يَدَك على نبضه وسَمِّ له من تظنّه به، فإن النبضَ ينزعج عند ذكره {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (3).
*حرُّ الخوف صيفُ الذُّوَبَان، وبرودة الرَّجاء شتَاءُ العطلةِ (4)، ومن لُطِفَ به زمانه كلُّه فصل الربيع:
عينٌ تُسَرُّ إذا رَأَتْكَ وأختُها …. تَبْكي لطُولِ تباعدٍ وفِرَاق
فاحفظْ لواحدةٍ دوامَ سرورِها … وَعِدِ التي أبكيتها بتَلاقِ (5)
__________
(1) البيتان في “المدهش”: (ص/ 446).
(2) “المدهش”: (ص/ 447)، وليس فيه البيت “بعيد … “.
(3) “المدهش”: (ص / 440).
(4) كذا في الأصول، و”المدهش”: “الغفلة”.
(5) “المدهش”: (ص/ 436).

(3/1219)


* إذا رُزِقْتَ يَقَظَة فصُنْها في بيت عُزْلة، فإنَّ أيدي المُعَاشرة نَهَّابَةٌ احذر معاشرةَ البَطَّالينَ فإن الطبع لصٌّ، لا تُصَادِقَنَّ فاسقًا ولا تَثِقْ إليه، فإنَّ مَنْ خانْ أَوَّلَ منعمٍ عليه لا يَفي لك.
يا فرخَ التوبة لازم ذِكْرَ الخلوة، فإن هِرَّ الهوى صَيُودٌ، إيَّاكَ والتَّقَرُّبَ من طرف الوَكْر، والخروجَ من بيت العُزْلة، حتى يَتكامَلَ نَبَاتُ الخوافي وإلَّا كنت رزقَ الصَّائدِ.
الأُنْسُ بالخَلْق دِبْقٌ (1)، أوَّل ما يعرقل (2) جناحُ الطَّرِ، والمُخالطةُ توجِبُ التَّخليطَ، وأيسرها تشتيتُ الهِمَّةِ وضعف العزيمةِ:
أقَلُّ ما فْي سُقوطِ الذِئْب في غَنَمٍ … إن لم يُصِبْ بعضَها أن تَنْفِرَ الغَنَمُ
* إن لم تكن من جملة المستحقِّين للميراث فكن في رفقة: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى}.
ويْحَك لا تحْقر نفْسَك فالتائبُ حبيبٌ، والمُنْكَسِرُ صحيح، إقرارُك بالإفلاسِ عينُ الغنى، تنكيسُ رأسِكَ بالنَّدم هو الرِّفْعَةُ، اعترافُك بالخطأ نْفسُ الإصابة.
عرضتْ سلعة العبوديَّةِ في سوق البيع، فَبَدلَتِ المَلائكةُ نَقدَ {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ} فقال آدم: ما عندي إلَّا فلوسُ إِفلاس نقشُها {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} فقيل: هذا الذي يُنْفقُ على خزانة الخاص، أنينُ المذنبين أحبُّ إلينا من زَجَل المُسَبِّحِينَ.
* إن كان يأجوجُ الطَّبعْ ومأجوجُ الهوى قد عاثوا في أرضِ القُلوبِ
__________
(1) “المدهش”: “رِبْق” وهو الحبل الذي تُشد له الغنم، والدِّبق الغِراء الذي تُصاد به الطيور.
(2) (ظ): “يعلق”.

(3/1220)


فأفسَدوا فيها، فأعِينوا المَلِكَ بقوَّة يجعلْ بينكمْ وبينَهم رَدْمًا، اجمعوا له من العزائمِ ما يُشَابهُ {زُبَرَ الْحَدِيدِ}، ثم تفكَروا فيما أسلفْتُم، ليثورَ صعداء الأسفِ، فلا يَحتاج أن يقولَ لكم: {انْفُخُوا}.
شدوا بنيانَ العزمِ بهجر المألوفاتِ والعوائدِ، وقد استحكَمَ البناء، فحينئذ أَفْرغوا عليه قِطْرَ الصَّبْر، وهكذا بنى الأولياءُ قبلَكم فجاء العدوُّ {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)}.
ضاقت أيام الموْسم فَأَسْرعوا بالإبِلِ. لا تَفُتكُمُ الوَقْفَةُ (1).
* إذا لم تُخْلِصْ فلا تتعبْ، لا تَحْدُ ومالَكَ بعيرٌ، لا تمدَّ القوسَ وما لها وَتَرٌ.
(ق/296 ب) كم بَذَلَ نَفسَه مراء لمدْحَةِ (2) الخَلْقُ، فذهبت نفسُه وانقلبت المدح ذمًا، ولو بذلها لله لبقيتْ ما بَقِي الدهر، عملُ المرائي بَصَلة كلُّها قشور، المرائى يحشو جرابَ الزوادة رملًا يثقله في الطريق ولا ينفعه، ريحُ الرِّياء جيفةٌ تتجَافاهَا (3) مسامُّ القلوب.
* لما أخد دودُ القَزِّ ينسِجُ أقبلتِ العنكبوتُ تتشبَّه، وقالت: لك نسج ولي نسج، فقالت دودة القز: ولكن نَسْجي أرديةُ الملوك ونَسْجُكِ شبكةُ الذباب، وعند مس الحاجةِ يتبيَّنُ الفَرقُ.
إذا اشتبكتْ دموعٌ في خدودٍ … تَبين مَنْ بكى ممن تَبَاكى (4)
__________
(1) “المدهش”: (ص/ 426 – 429).
(2) (ق): “ليمدَحَه”. وما بعدها في الأصول هكذا “وانقلبت المدح” ولعلها: “المدحة”، وفي “المدهش”: “وانقلبت والمدح”.
(3) كذا في (ع)، و (ق): “تتحاشاها”، و”المدهش”: “تتحاماها”.
(4) البيت للمتنبي “ديوانه”: (2/ 394 – شرحه).

(3/1221)


* شجرةُ الصنوبر تثمرُ في ثلاثين سنة، وشجرة الدّبَّاء تصعد في أسبوعين، فتقول للصنوبرة: إن الطريق التي قطعتِها في ثلاثين سنة قطعتُها في أسبوعين، ويقال: لي شجرة، ولك: شجرة. فقالت الصنوبرة: مهلًا حتى تهبَّ رياحُ الخريف، فإنْ ثبَتِّ لها تمَّ فخركِ.
كان التَّصَوّف والفقرُ في مواطن القلوب فصار في ظواهر الثيِّاب. كان حُرقَة فصار خِرقَة (1)، غيِّرْ زِيَّك أيَّها المرائي فإنه يصيح بك: خذوني، السيفُ والدِّرع للزَّمِنِ هتكة فضيحة (2)، البَهْرجُ يتَبينُ عندَ الحَكِّ.
* لو أبصرتَ طلائع الصِّدِّيقينَ في أوائلِ الركْب، أو سمعتَ استغاثةَ المُحِبِّينَ في وسط الركْب، أو شاهدتَ سَاقَةَ المستغفرينَ: في آخر الركْبِ؛ لعلمتَ أنَّك قد انقطَعتَ تحتَ شجرة (3) أمِّ غَيْلان (4).
* وا حسرتا لمنقطع دون الرَّكْب يَعُدُّ (ظ / 207 ب) المنازلَ:
أَعُدُّ اللَّيالي ليلة بعد ليليةٍ … وقد عشتُ دهرًا لا أعدُّ اللياليا
وقد يجمعُ اللهُ الشَّتِيتَينِ بعدما … يَظُنَّانِ كلَّ الظَّنِّ أن لا تَلاقيا (5)
* إلامَ الرَّواح في الهوى والتَغْليس؟ وحتَّامَ السَّعيُ فْي صحبةِ إبليسَ، وكم بهرجة في العمل وتدليسٍ! أين أقرانك (6) هل تسمع لهم
__________
(1) تحتمل قراءة هذه العبارة على أنحاء شتى.
(2) في “المدهش”: “لِزَمنِ هتكة، ولمقْعد فضيحة … “، و (ع): “هتيكة”.
(3) “شجرة” ليست قي (ع).
(4) “المدهش”: (ص/ 418 – 420).
(5) تقدم التخريج 3/ 1209، وانظر “المدهش”: (ص/ 415 – 416).
(6) (ظ): “ابن آدم إنك”.

(3/1222)


مِنْ حسيسٍ، أعلمت أنهم اشتدَّ ندمهم وحسرتُهم على إيثار الخسيس، تاللهِ لقد ودّوا أن لو كانوا طلقوا الدنيا قبل المَسيس:
عينُ المنية يَقْظَى غيرَ مُطْرِفَةٍ (1) … وطَرفُ مطلوبها مُذْ كانَ وَسنَانُ
جهلًا تَمَكَّنَ منه حينَ مولدِهِ … فالنطْق صاحِ ولُبُّ المرءِ سكرانُ
* لا تنفع الرياضة إلاّ في نجيبٍ، لو سُقِيَ الحنظلُ بماء السّكَّر لم يخرجْ إلا مُرًّا، شجر الأثْلِ والصَّفْصَافِ والجوزِ ونحوها، لو دام الماء في عروقها لا تثمرُ أبدًا.
سحابُ الهدى (2) قد طَبَّقَ بيْد الأكوان، وأمطر مشارقَ الأرض ومغاربها، ولكن قيعان أرض قلبَك “قيعان لا تمسك ماء، ولا تُنبتُ كلأً” ومع هذا فلا تيأس فقد يستحيل الخمر خلاًّ، ولكن إنما ذلَك لطيب العنصر.
* خلا الفكر بالقلب قي بيت التلاوة، فجوى ذكر الحبيب وأوصافه، فنهض الشوق على قدم السَّعي.
من لم يشاهد جمالَ يوسفَ لم (ق / 297 أ) يعرِفْ ما الذىِ آلَمَ قلبَ يعقوبَ:
من لم يَبِتْ والحبُّ حَشْوُ فؤادِهِ … لم يَدْرِ كيف تَفتُّت الأكبادِ (3)
* يا مَن هبَّتْ على قلبه جَنوبُ المُجَانبة، فتكاثفَ عليه غيْمُ الغَفلة، فأظلم أفُقُ المعرفة، لا تيأسْ فالشمسُ تحت الغيم، لو تَصَاعَدَ منك
__________
(1) (ع): “مُطرقة” وهي محتملة.
(2) (ق): “الهوى”.
(3) “المدهش”: (ص/ 410 – 413).

(3/1223)


نَفَسُ أَسَفٍ استحالت شمالًا فتقطَّع السحابُ، فبانت الشمسُ تحتَه (1).
* لما كان رزقُ الطائر اختلاسًا لم يُجْعَلْ لهْ أسنان؛ لأن زمن الانتهاب لا يحتملُ المضغ، وَجعِلَ له حَوْصَلَةٌ كالمِخلاة ينقل إليها ما يستلبُ، ثم تنقلُه إلى القائصة في زمن الإمكان، فإن له فراخ أسهمَهم قبلَ النَّقْل.
كلما طالت ساق: ألحيوان طال عُنُقهُ لِيُمكِنهُ تناولُ الأطعمةِ من الأرض.
* رميتَ صخرةَ الهوى على ينبوع الفِطْنة , فاحتبسَ الماءُ، فإن لم تُطِقْ رفعَها فانقبْ حولَها، لعل ينابيع الماء تَنفجَّرُ.
لو بعتَ لحظة من إقبالك على الله بمقدار عمر نوح في ملك قَارون، لكنت مغبونًا العقد (2).
* عشَاقُ الدنيا بين مقتول ومأسور {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ}.
* يا طالبي (3) العِلم قد كتبتم ودرستُم، فلو طَلَبَكُم العلمُ في بيت العملِ فَلَستُمْ، وإنْ ناقشكم على الإخلاص أفلسْتُمْ، شجرةُ الإخلاص {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} ولا يضرُّها زعازع {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} وأما شجرة الرياء فإنها تجْتثُّ عند نسمة “من كان يعبُدُ شيئًا فَلْيَتْبعه” (4).
__________
(1) “المدهش”: (ص / 405).
(2) “المدهش”: (ص / 403 – 404).
(3) “المدهش”: “يا معاشر العلماء”.
(4) “المدهش”: “نسمة (وَقِفُوْهم) “.

(3/1224)


رياء المرائين صيّر مسجد الضرار مزبلة وخربة {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا}، وإخلاص المخلصين رفح قدر التفَث “ربَّ أشْعَثَ أغْبرَ”.
قلب من تُرائيه بيَد من أعرضتَ عنه، يصرفهُ عنك إلى غيرك، فلا على ثَوَاب المُخلصيَنَ حصلتَ، ولا إلى ما قصدتَهُ بالرياء وصلتَ، وفات الأجرُ والمدحُ، فلا هذا ولا هذا.
لا تنقشْ على الدرهم الزائف اسمَ الملِكِ، فإنه لا يدخلُ الخِزَانَةَ إلا بعد النقْد.
المخلص يتبهرجُ على الخلق بستر حاله، وببهرجته يصح له النقدُ، والمرائي يتبرطلُ على باب الملك يوهم أنه من الخواص، وهو غريبٌ، فَسَلْه عن أسرار الملِك يُفْتَضَحْ، فإن خفِيَ عليك فانظر حالَه مع خاصَّة الملِكِ (1).
* يا مَنْ لم يصبِرْ عن الهوى صبرَ يوسفَ، يتعيَّن عليك بكاء يعقوبَ، فإن لم تطِقْ فذل إخوته يوم {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا}.
إذا طال لبث الطين على حَافات الأنهار تكامَل رِيُّهُ، فإذا نضبَ عنه الماءُ استلبتِ الشمس ما فيه من الرطوبة فيشتد شوقه إلى الماء، فلو وضَعت منه قطعةً (ظ / 208 أ) على لسانك لأمسكه وعَلِق به شوقًا إلى الوِرْد، فيا من نضبَ ماءُ معاملته هل أحسستَ بالعطش؟!.
* وقالوا يعودُ الماءُ في البئرِ بعدَما *
وكانتْ بالحِجاز لنا ليالٍ … نَهَبْناهن من أيدي الزمان (2)
__________
(1) “المدهش”: (ص/ 397 – 399).
(2) “المدهش”: (ص/ 394 – 395).

(3/1225)


*آخر:
ولا تنصبْ خيامَك في محلٍّ … فإن النازلينَ على ارتحالِ (1)
* مدارأة الضعفاء باللُّطف، فإذا قووا شُدِّدْ عليهم. “مُروهمْ بِالصَّلاةِ لِسَبع وَاضْرِبُوهُمْ عَلَى تَرْكِهَا لِعَشْير”.
* كان الإسلامُ في بدايته كالنطفة فاقتنع بلفظة التوحيد، فلما نُفخ فيه الروح احتاج إلى الغذاء ففُرضت الصلاة, فلما تحرَّكْ وجبت الهجرة، فلما اشتد وجبتِ الزكاةُ، فلما قَربت الولادة لزم الحجُّ، فلما ظهر طفلًا حبِي بلطف {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} فلما خاف من الزلل والعقاب جاءت بشارة {لَا تَقْنَطُوا} فلما ترعرع قال المؤدب: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} فلما بلغ أشده واستوى جاء: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}.
* في المتعبدون بالليل يقربون (2) إلى نوق الأبدان حَبَطَ الرُّقاد, فإذا تناولت سدَّ الفاقَةِ رفعتْ رؤوسَها، فإذا الدليلُ على الجادَّة، فتأخذ في السير.
من النجوم الجواري مؤذن ومنها مقيم، فأربابُ العزائم يُؤَذَّن في محلَّتهم بليل، ويقام لهم أول الوقت، ومَنْ دونهم يصَلّون في أول الوقت، وأهل الفتور في آخره.
إذا هجمت جنودُ الرُّقاد على العيون صاح حارس اليقظة بالمتعبدين: “الصَّلاة خيرٌ من النوم”، وهتف رقيب المعاتبة: “كذب من ادَّعى
__________
(1) “المدهش”: (ص/ 397).
(2) (ع): “يقومون”.

(3/1226)


محبتي، حتى إذا جَنَّه الليلُ نام عني” فيصيح المشتاقُ:
سلوا الليلَ عني مُذْ تنَاءَتْ دِيَارُكُمْ … هل اكْتَحَلَتْ بالغُمْض لي فيه أجفانُ
ثم تمر بالمتهجدين سيارة النجومِ، فيبعثون مع كل فَيْج (1) رسالة فتسلم أخبارَه الجوابَ (2) إلى ركب السحر، فتهب لمجيئها رياحُ الأسحار، فيقول المنتظر: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ}.
* سبحان من أنعم على الموجودات بإيجادها من غير طَلَب، فلما وُجِدَتْ بَسَطَتْ أكفَّ السُّؤالِ لطلب تكميلها، فالأجنةُ في بطون الأمهات تطلب تكميل الخلق، والبذر تحت التراب يطلب قوتَهُ من الريِّ، ومخُّ الثمار ينتظر من فضله كمالَ نُضْجهِ، ومراكب البحار ترجو تحريكَها بالرياح، وأصحابُ البضائع ينتَظرون وفودَ الأرباحِ عليهم، وطلابُ العلم يسألون فتح متعلقِ الفهم، وأهل المجاهدة يرومون المعاونةَ على الطيع (3)، والمظلوم يترقَّبُ طلوعَ فجر النصر، والمريض يتململُ بين يديه طلبًا للطْفِهِ، والمكروبُ ينتظرُ كشفَ ما به، والخائفُ يترقب بريدَ الأمن، والأبدان المتمزِّقة في اللحود تنتظرُ جمع الشَّمل بعد الشَّتَات، وعرائس الجنان يسألنَ سلامةَ بعولتهن وتعجيلَ اللقاء.
فإذا قام الخلق من أطباق التراب بإنعاش البعثِ نكَّسَ صاحبُ الزلَلِ رأسَ الندم طلبًا للعفو، ومدَّ العابدُ يدَ التقاضي بالمسلَم فيه عند حلول الأجل، وحَدَّقَ الزاهد إلى جزاء الصبر، وأشرفَ المحِبُّ على
__________
(1) الفيج: الجماعة من الناس. و (ق): “مع فج”.
(2) (ق): “فتسَلم أحساره”.
(3) غير محررة في (ع).

(3/1227)


أطلال الشوق إلى الحبيب، وصاح العارفُ بلسان الوَجْدِ إذ لم يبقَ وقت للصَّمْت:
لى عندَكم دَيْنٌ فوا عجبًا … الدَّيْنُ لي وفؤاديَ الرهْنُ
[غير]:
عدمتُ دوائي بالعراقِ وربما … وجدتُ بنجد لي طبيبًا مداوِيَا
ويا جبلَ الرَّيَّان إن تعْرَ منهُمُ … فإنْي سأكسوك الدمُوعَ الجواريَا
ومِنْ حذري لا أسألُ الركْبَ عنهُم … وأَعْلاق وجدي باقيات كما هيَا
ومنْ يسألِ الركْبَان عن كُلِّ غائبٍ … فلابُدَّ أن يلقى بشيرًا وناعِيَا (1)
فائدة
من له غوصٌ في دقائق المعاني يتجاوز نظره قالب اللفظ إلى لبِّ المعنى، والواقف مع الألفاظ مقصور النظر على الزينة (2) اللفظية: فتأمل قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)} [طه: 118 – 119]، كيف قابلَ الجوعَ بالعُرْي، (ظ / 208 ب) والظمأ بالضُّحْي، والواقف مع القالب ربما يخيل إليه أن الجوعَ يقابَل بالظمأ والعُرْي بالضُّحْي. والداخل إلى بلد المعنى يرى هذا الكلام في أعلى مراتب الفصاحهَ والجلالة؛ لأن الجوعَ ألَمُ الباطنِ والعريَ ألَمُ الظاهر، فهما متناسبان في المعنى، وكذلك الظمأ مع الضُحْي؛ لأن الظمأ موجبٌ لحرارة الباطن والضّحْي موجبٌ لحرارة الظاهر،
__________
(1) الأبيات للشريف الرضي “ديوانه”: (ص/ 968).
(2) (ق): “الرتبة”.

(3/1228)


فاقتضت الآية نفيَ جميع الآفات ظاهرًا وباطنًا.
وفي هذا الباب حكاية مشهورة وهي أن ابن حمدان (1) قال يومًا للمتنبي: قد انتُقِدَ عليك قولك (2):
وَقَفْتَ وما في الموتِ شَكٌّ لواقفٍ … كأنَّك في جَفْنِ الرَّدى وهو نائمُ
تَمُرُّ بِكَ الأبطالُ كَلْمَى هَزِيمَةً … ووجْهُكَ وضَّاحٌ وثغرُك باسمُ
قالوا: ركَّبْتَ صدرَ كلِّ بيت على عَجُز الآخر، وكان الأوْلى أن تقولَ:
وقَفْتَ وما في الموتِ شَكٌّ لواقفٍ … ووجهُكَ وضَّاحٌ وثغركَ باسمُ
تمرُّ بِكَ الأبطالُ كَلْمَى هَزِيمَةً … كأنَّكَ في جَفْن الرَّدَى وهو نائمُ
فيتم المعنى حينئذ؛ لأن انبساط الوجه ووضوحَه مع الوقوف في موقف الموت أشبهُ بأوصاف الكُماة، والسَّلامة من الرَّدَى مع مرور الأبطال كَلْمَى هزيمةً أعجب في حصول النجاة.
وهذا كما انتُقِدَ على امرئ القيس قوله (3):
كأنيَ لم أركبْ جوادًا للَذَّةِ … ولم أَتَبَطَّنْ كاعِبًا ذاتَ خَلْخَال
ولم أَسبأ الزِّقَّ الروِيَّ ولم أَقُلْ … لِخَيلِيَ كُرِّي كرّةً بعد إجفالِ
__________
(1) سيف الدولة الحمداني.
(2) “ديوان المتنبي”: (3/ 386 – 387 – بشرح العكبري)، وذكر هذه القصة شارح الديوان، والأصفهاني في “
الخريدة”: (1/ 43)، وابن الأثير في “المثل السائر”: (3/ 193 – 194).
(3) “ديوانه”: (ص/ 35).

(3/1229)


فلو قال:
كأني لمْ أركبْ جوادًا ولم أقلْ … لِخَيْلِيَ كُري كَرةً بعدَ إجْفَالِ
ولم أسْبَأِ الزقَّ الروِيَّ لِلَذَّة … ولمْ أَتَبَطَّنْ كاعِبًا ذاتَ خَلْخَالِ
كان أَشْبَهَ بالمعنى؛ لأن ركوبَ الخيل أشْبَهُ بالكَرِّ على الأبطال، وسَبْأُ الزِّق أليقُ بتبَطُن الكواعب (1).
فقال المتنبّه: -يعني قائل الشعر المدعو بالمتنبي الكذاب-: اعلم أن القَزَّاز (2) أعلمُ بالثوب من البَزَّار؛ لأن القزَّاز يعلمُ أوله وآخره، والبزَّاز لا يَرَى منه إلا ظاهِرَه. وهذا الانتقاد غير صحيح، فإني قلت:
* وقعْتَ وما في الموتِ شك لواقفٍ *
فذكرت الموت وتحقق وقوعه في صدر البيت، ثم تمَّمتُ المعنى بقولي:
* كأنك في جَفْنِ الرَّدى وهو نائمُ *
والرَّدى: الموتُ بعينه، فكأني قلت: وقفتَ في مواضع الموت ولم تَمت، كأن الموت نائم عنك، فحصل المعنى مناسبًا للقصد، ثم قلت:
*تمر بك الأبطالُ كَلْمى هزيمة*
ومن شأن المكلوم والمنهزم أن يكونا كاشحي الوجوه عابسيها خائبي الأمل، فقلت:
__________
(1) من قوله: “لأن ركوب … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) في المصادر: “لحائك”، وهما بمعنى.

(3/1230)


*ووجهك وضاحٌ وثغرُك باسمُ*
لتحصل المطابقة بين عُبوس الوجه وقُطوبه (ق/298 ب) ونَضَارته وشحوبه، وإن لم تكن ظاهرة في اللفظ فهي في المعنى يفهمها من له في إدراكِ دقائقِ المعاني قدم راسخٌ.
وأما قول امرئ القيس:
*كأنيَ لم أركب جوادًا للذة*
فإنه لما ذكر الركوب في البيت الأول تممه بما يشبهه ويناسبه من ركوب الكواعب، ليحصِّل لذة ركوبِ مهر الحرب، وركوب مُهر اللذة.
وأما البيت الثاني: فمن شأن الشارب إذا انتشى أن تتحرك كوامنُ صدره، ويثور ما في نفسه من كوامن الأخلاق إلى الخارج، فلما ذكر الشرب وحاله وتخيل نفسه كذلك، فتحرك كامن خلقه من الحماسة والشجاعة، فأردفه بما يليق به.
ثم ذكر الآية وتكلم عليها بنحو ما تقدم (1).
إذا ظفرتُ من الدنيا بقربِكُمُ … فكُل ذنب جناه الحبُّ مغفور
فصل (2)
* مَنْ نبَتَ جسمُه على الحرام فمكاسبه كبريتٌ به يوقَدُ عليه، الحجز المغصوبُ في البِناء أساس الخَرَابِ.
__________
(1) كذا، وكأن المؤلف ينقل عن غيره، ولم نتبين من هو.
(2) هذا الفصل من “المدهش” (ص/387 – 389) بتصرف، و”فصل” ليست في (ق وظ).

(3/1231)


أتُرَاهم نسوا طيَّ الليالي لمن تقدمهم {وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} فما هذا الاغترار؛ وقد {خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ}، {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} من لهم إذا طلبوا العودةَ فـ {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ}.
سبحان الله كم بكت دى تنعُّم الظَّالم عينُ أرملة، واحترقت كبِدُ يتيم، وجَرَتْ دمعة مسكين {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46)} [المرسلات: 46] {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)} [ص: 88] ما ابيض لون رغيفهم حتى اسودَّ لون ضعيفهم، وما سمنت أجسامهم حتى انتحلت أجسام من استأثروا عليه.
لا تحتقرْ دعاءَ المظلوم فشررُ قلبهِ محمولٌ بعجيج صوته إلى سقف بيتِكَ، (في / 259 أ) ويْحَك نِبالْ أدعيتهَ مُصِيبة وإن تأخَّرَ الوقتُ، قوسُهُ قلبُهُ المقروحُ، ووَتَرهُ سوادُ اللَّيل، وأستاذُه صاحب: “لأنصرنك ولو بعد حين”، “وقد رأيت ولكن لستَ تعتبِرُ” (1).
احذر عداوة منِ ينام وطرفه باك، يقلِّب وجهه نحو السماء، يرمي سهاما ما لها غرض سوى الأحشاءِ منك، فربَّما ولعلَّما، إذا كانت راحةُ اللذة تُثمر ألمَ العقوبة لم يحسُنْ تنَاولها.
ما تساوي لَذَّةُ سنة غَمَّ ساعة فكيف والأمر بالعكس!.
كم في يمِّ الغرورِ من تمساحٍ فاحذر يا غائص، ستعلم أيّها الغريمُ قِصَّتَكَ عند تعلّقِ الغرماء بك.
إذا التقى كلُّ ذي دَيْن ومَاطِلُهُ …. ستعلم ليلى أيَّ ديْن تَدَيَّنتْ
__________
(1) في “المدهش”: “قوسه حرقه، ووتره قلقه، ومرماته هدف (لأنصرنك)، وسهم سهمه الإصابة “وقد رأيت وفي الأيام تجريب”.

(3/1232)


من لم يَتبع بمنقاش العدل شَوْكَ الظلم من أيدي التَّصرف، أثَّرَ ما لا يُؤمَنُ تَعَدَيهِ إلى القلب، يا أربابَ الدّوَل لا تعَرْبِدوا في سُكْر القُدْرة، فصاحبُ الشرطةِ بالمَرصاد.
سليمان الحكم قد حبس آصِفَ العقوبة في حصن: {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)} [مريم: 84]، وأجرى رَحَى الرخا: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ} [النساء: 165]، فلو هبت سموم الجزاء من مَهَبِّ: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ} [الأنبِاء: 46]، قلعت سكر: {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} [آل عمران: 178]، (ق/ 299 أ) فإذا طوفَانُ التَّلَفِ ينادي فيهم: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود: 43]. فالحذر {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] [الزمر: 56).
وأنت أيها المظلوم فتذكر من أين أتيتَ؟ فإنك لا تلقى كَدَرًا إلاّ من طريق جناية (1): {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30].
كان لبَّانٌ يشُوب الماءَ باللَّبن، فجاء سيلٌ فذهب بالغنم، فجعل يبكي (2)، فهتف به هاتف: اجتمعت تلك القَطَرَاتُ فصارت سيلًا، ولسانُ الجواءِ يناديه: “يداكَ أوْكَتا وفوكَ نَفَخَ”.
اذكر غفلتك عن الآمر والأمرُ وقت الكسب، ولا تنسَ اطِّراح التقوى عند معاملة الخلق، فإذا انْقَضَّ عاصِفٌ فسمعتَ صوت سوطِهِ يضرب عقد الكسب جزاء لخيانَةِ العقودَ، فلا تستعظمْ ذاك فأنتَ الجاني، والبادءُ أظَلمُ (3).
__________
(1) (ق): “خيانة”.
(2) “فجعل يبكي” ليست في (ع).
(3) هنا انتهى الانتقاء والنقل من كتاب “المدهش” لابن الجوزي.

(3/1233)


فائدة (1)
ما يقول الفقيهُ أَيدَهُ اللـ … ــــــــــــهُ ولا زاكَ عندَهُ إحسان
في فتى عَلَّق الطَّلاق بشهرٍ … قبلَ ما قبلَ قبلِهِ رمضانُ
في هذا البيت ثمانية أوجه: أحدها: هذا، والثاني: “بعد ما بعده: بعده”، والثالث: “قبل: ما بعد بعده”، والرابع: “بعد ما قبل قبله”، فهذه أربعة متقابلة، والخامس: “قبل ما بعد قبله”، والسادس: “بعد ما قبل بعده”، والسابع: “بعد ما بعد قبله”، والثامن: “قبل ما قبل بعده”.
وتلخيصها: أنك إن قدمت لفظة (بعد) جاء أربعة: أحدها: بعدات كلها، والثانية: بعداد وقيل. الثالثة: بعد وقبلان. الرابعة: بعد وقبل ثم بعد. وإِن قدمت لفظة (قبل) جاءت أربعة كذلك.
فإذا عرفتَ هذا؛ فضابط الجواب عن هذه الأقسام الثمانية: أنه إذا اتفقت الألفاظ فإن كانت “قبلا” فيكون الشهر هو الذي تقدمَه رمضان بثلاثة أشهر، فيقعُ الطلاقُ في ذي الحجَّة، فكأنه قال: “أنت طالق في شهر ذي الحجَّة”؛ لأن المعنى: أنتِ طالق في شهر رمضاِن قبل قبل قبله، فلو قال: رمضان قبله طلقت في شوال، ولو قال: قبلَ
__________
(1) هذان البيتان وشرحهما ذكرهما شهاب الدين القرافي في “الفروق”: (1/ 63 – 68) وذكر أنهما من نوادر الأبيات وأشرفها معنى وأدقها فهمًا وأغربها استنباطًا، ثم ذكر أنه يمكن أن يستخرج منهما سبع مئة مسألة وعشريك مسألة، وأن هذين البيتين قد وقعا للعلامة أبي عمرو بن الحاجب فأفتى فيهما، وذكر نص فتواه، ثم زاد عليه أمورًا لم يتعرض لها.
ونقل هذه الفائدة عن “البدائع” المرداوي في “الإنصاف”: (9/ 47)، والبهوتي في “كشاف القناع”: (5/ 283)، وذكرها جماعة من الحنفية في كتبهم.

(3/1234)


قبلِهِ لطلقت في ذي القعدة، فإن قال: قبلَ قبلِ قبلِهِ طلقتْ في ذي الحِجّة.
فإن كانت الألفاظُ “بعدًا” طلقت في جُمَادى الآخِرة؛ لأن المعنى: أنتِ طالقٌ في شهر يكونُ رمضان بعدَ بعدِ بعدِهِ، ولو قال: رمضانُ بعدَه طلقتْ في شعبان، ولو قال: بعدَ بعدِه طلقتْ في رجب، فإذا قال: بعدَ بعدِ بعدِهِ طلقتْ في جُمَادى الآخِرَةِ.
وإن اختلفتْ الألفاظُ -وهي في ستِّ مسائلَ- فضابطُها: أن كلَّ ما اجتمعَ فيه قل وبعد فألْغِهِما نحو: قبكَ بعده، وبعدَ قبلِهِ، واعْتبرِ الثالث، فإذا قال: قل بعدِ بعدِه، أو: بعدَ قبلِ قَبْلِهِ، فألغ اللَّفظين الأوَّلين يصير كأنه قال في الأول: بعدَه رمضانُ فيكون شعبانَ، (ق / 299 ب) وفي الثاني كأنه قال: قبْلَا رمضانُ فيكون شوال. وتقرير هذا (ظ/209 ب): أن كلَّ شهر واقع قبلَ ما هو يعدَه وبعدَ ما هو قبلَه.
وإن توسَّطت لفظةٌ بين مضادَّين لها نحو: قبل بعد قَبْله، وبعدَ قبلِ بعد، فألغِ اللَّفظينِ الأولَيْنِ، فيكون “شوَّالًا” في الصورة الأولى، كأنه قال: في شهر قبله رمضانَ، و”شعبانَ” في الثانية، كأنه قال: بعدَهُ رمضانُ.
وإذا قال: بعدَ بعدِ قبله، أو قبلَ قبْلِ بعدِهِ، وهما تمام الثمانية طلقتْ في الأولى في “شعبانَ”، كأنه قال: بعدَه رمضانُ، وفي الثانية في “شوال” كأنه قال: قبلَهُ رمضانُ.
فائدة (1)
قال بعض الفضلاء بيتًا من الشعر يشتمل على أربعين ألف وثلاث
__________
(1) ليست في (ق).
وهذا البيت وما فيه من الاحتمالات ذكره القرافي في “الفروق” (1/ 68 – 69).

(3/1235)


مائة وعشرين بيتًا من الشعر، وهو لزين الدين المغربي (1):
لقلبي (6) حبيبٌ مليحٌ ظريفٌ … بديعٌ جميلٌ رشيقٌ لطيفٌ
وبيانُ ذلك: أن هذا البيتَ ثمانيةُ أجزاء، يمكنُ أن يُنْطَقَ بكل جزء من أجزائه مع الجزء الآخر، فتنتقل كل كلمة ثمانية انتقالات، فالجزءان الأوَّلان “لقلبي حبيب” يتصوَّر منهما صورتان بالتقديم والتأخير.
ثم خذ الجزء الثالث فيحدثُ منه مع الأولين ستُّ صور؛ لأن له ثلاثةَ أحوال؛ تقديمه عليهما وتأخيره وتوسطه، ولهما حالان، فاضرب أحواله في الحالين يكن ستة.
ثم خذ الجزء الرابع، وله أربعةُ أحوال، فاضرِبْها في الستة التي قبله تكن أربعة وعشرين.
ثم خذ الخامسَ تجدْ له خمسة أحوال، فاضرِبها في الصُّور المتقدمة، وهي أربعة وعشرون تكنْ مئة وعشرين.
ثم خذ السادس تجِدْ له ستة أحوال، فاضربها في مائة وعشرين تكن سبع مئة وعشرين.
ثم خذِ السَّابِع تجد له سبعةَ أحوال، فاضربها في سبع مئة وعشرين تكن خمسةَ آلاف وأربعين.
ثم خذ الثامن تجد له أحوال ثمانية، فاضربها في خمسة آلاف
__________
(1) (ق): “المعرى” و (ع): “المقري” والمثبت من “الفروق”. ولم أتبين من هو: (2) “الفروق” “بقلبي”.

(3/1236)


وأربعين تكنْ أربعين ألفًا وثلاث مئة وعشرين بيتًا فامتحنها تجدها كذلك.
ومثله لي قُلْته في القدس:
محبٌّ صبورٌ غريبٌ فقيرٌ … وحيدٌ ضعيف كتومٌ حمولٌ (1)
فائدة
في دخول الشرط على الشرط (2)، وهو صور:
إحداها: “إنْ خَرَجتِ ولَبِستِ فأنت طالقٌ” لا يحنَثُ إلا بهما كيفما كانا.
الثانية: “إن لَبِتِ فخرجتِ” لم يحنَثْ إلا بخروج بعد لُبْسٍ.
الثالثة: “إنْ لبتِ ثم خَرَجتِ” لا يحنث إلا بخروجها بعد لبسها لا معه، ويكون متراخيا، هذا بناءَ على ظاهر اللفظ، وأما قَصْده فيُرَاعى، ولا يلتفت إلى هذا.
الرابعة: “إن خَرَجتِ لا إن لَبسْتِ” يحنَثُ بالخروج وحدَهُ ولا يحنَثُ باللّبس، ويحتمل هذا التعليقَ أمرين:
أحدهما: أن يجعل الخروج شرطًا ويَنْفِي أن يكون اللّبْس شرطًا، فحكمه (ق/300 أ) ما ذكرنا.
الثاني: أن يجعل الخروجَ مع عدمِ اللبس شرطًا، فلا يحنثُ
__________
(1) (ق): “جهول”.
(2) “فائدة في دخول الشرط على الشرط” سقطت من (ق)، و”على الشرط” ليست في (ع)، وقد تقدم هذا البحث في أول الكتاب: (1/ 101 – 106)، وذكر له المؤلف هناك عشر صور.

(3/1237)


بخروج معه لبس، ويكون المعنى: “إن خرجت لا لابسة أو غير لابسةٍ” فإنْ خرجت لابِسةً لم يَحْنَثْ.
الخامسة: “إن خَرَجتِ بل إن لَبسْتِ”، فلا يحنثُ إلا باللُّبس دون الخروج، ويحتمل هذا التعليق أيضًا أمرين:
أحدهما: هذا.
والثاني: أن يكون كلّ منهما شرطًا فيحنث بأيِّهما وجد، ويكوِن الإضراب إضرابَ اقتصار لا إضرابَ إلغاء، فكأنه يقول: لا أقتصرُ على جعل الأوَّل وحده شرطًا، بل أيّهما وُجد فهو شرطٌ، فعلى التقدير الأوَّل: يكون إضرابَ إلغاءِ ورجوع. وعلى الثاني: إضراب اقتصار وإفراد.
السادسة: “إن خرجتِ أو إن لَبِسْت” يحنث بأيهما وُجِد.
السابعة: “إن ليسْت لكنْ إن خرَجْتِ” فالشرطُ الثاني، وقد لغا الأول بـ (لكن)؛ لأنهَا للاستدراك.
الثامنة: -وهي أشكلها- “إن لَبسْتِ إنْ خَرَجْتِ” وهذه مسألةُ دخول الشرط على الشرط، ويحتمل التعليق في ذلك أمرين:
أحدهما: أن يُجعلَ كلُّ واحدٍ منهما شرطًا مستقلًا، فيكون كالمعطوف بالواو سواء ولا إشكال.
والثاني: أن يجعلَ أحدهم شرطًا في الآخر.
فاختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة (1)؛ فقال أصحاب مالك: هو تعليق للتعلق، ففي هذا الكلام تعليقان:
__________
(1) انظر “الفروق”: (1/ 81 – 82) والمؤلف من هنا ينقل منه مع بعض التصرف.

(3/1238)


أحدهما: “إن لَبست فأنتِ طالِقٌ” ثم علق هذه الجملة المعلقة بالخروج، فكأنه قال: شرطُ نفوذ هذا التعليق الخروج، فعلى هذا لا يحنَثُ حتى يوجدَ الخروجُ بعد اللبْس، وممن نصَّ عليها ابن شاس في “الجواهر” (1).
وقال أبو إسحاق في “المهذب” (2) وقد صور المسألة: “إن كَلَّمْتِ زيْدًا، إن دَخَلْتِ الدَّارَ فأنْتِ طالِقٌ”؛ إنْ دَخَلَتِ الدارَ ثمَ كلمَتْ زيدًا طلقَتْ، وإن كلمَتْ زيدًا (ظ/ 215 أ) أولًا، ثم دخلتِ الدارَ لم تطلقْ؛ لأنه جعل دخولَ الدار شرطًا في كلام زيد، فوجبَ تقديمه عليه، وهذا (3) عكس قول المالكية، ورجَّحَ أبو المعالى قولَ المالكية في “نهايته” (4).
وقد وقع هذا التعليق في كتاب الله عز وجل في مواضع:
أحدها: قوله حكايةً عن نوح: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34]، وهذا ظاهر في أن الشَّرْطَ الثانى شرط في الشرط الأول، والمعنى: إن أراد الله أن يُغْوِيَكمْ لم يَنْفَعْكمْ نصحي إن أردته، وهذا يشهد لصحة ما قال الشيخ أبو إسحاق.
الموضع الثاني: قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ} [الأحزاب: 50]، قالوا: فهذه الآية ظاهرة في قول المالكية، لأن إرادة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – متأخرة عن هِبَتِهَا، فإنها تجري مجرى القبول في هذا العقد، والإيجاب هو هبتها.
__________
(1) (2/ 207).
(2) (10/ 215 – مع شرحه للعمراني).
(3) (ع): “هكذا”.
(4) هو كتابه الكبير: “نهاية المَطْلب في دراية المَذْهب”، لم يطبع بعد.

(3/1239)


ونظيرُ هذا أن يقولَ: “إن وَهَبِت لي شَيئًا إنْ أردْتُ قَبُولَهُ أخذْتهُ”، فإرادةُ القبول متأخِّرة عن الهِبة، فلا يكونُ شرطًا فيها، (ق/ 300 ب) قال الأوَّلون: يجوز أن تكونَ إرادةُ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – متَقَدِّمة، فلما فهمت المرأة منه ذلك وَهَبَتْ نفسَها له، فيكون كالآية الأولى، وهذا غيرُ صحيح، والقصَّة تأباه، فإنَّ المرأةَ قامت، وقالت: يا رسولَ الله إنى وَهَبْتُ لك نفسِي، فصَعَّدَ فيها النَّظَرَ وصَوَّبَهُ، ثم لم يَتزوَّجْها وزوَّجَها غيْرَه (1).
الموضع الثالث: قوله تعالى: {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)} [الواقعة: 86 – 87]، والمعنى: فلولا ترجِعُونها، أي: تَردّون الرُّوح، إذا بلغتِ الحُلْقُومَ، إنْ كنتمْ غيْرَ مربوبين مملوكين، إن كنتم صادقين، وهنا الثانى شرط للأول، والمعنى: إنْ كنتُم صادقينَ في قولكم فهلاّ تَرُدُّونها إن كنتم غيرَ مدِينينَ، ويدلّ عليه قول الشاعر أنشده أبو عبد الله بن مالك (2):
إنْ تَستَغيثوا بنا إنْ تُذْعَروا تَجِدُوا … منَّا معاقلَ عِزٍّ زانَها الكرَمُ
ومعلوم أن الاستغاثة إنما تكون بعد الذعر، فالذعر شرطٌ فيها، ومن هذا قول الدُّريدي (3):
فإنْ عَثَرْتُ بَعْدَها، إنْ وَألَتْ … نَفْسِيَ مِنْ هاتا فقُولا: لا لَعَا
__________
(1) متفق عليه، البخارى رقم (2310)، ومسلم رقم (1425) من حديث: سهل بن سعد -رضى الله عنهما-.
(2) صاحب الألفية، أنشده في كتابه “التسهيل – مع شرحه المساعد”: (3/ 173) وكذا ابن هشام فى “المغني”: رقم (848)، وهو في “الخزانة”: (11/ 358).
(3) هو: أبو بكر ابن دريد صاحب “الجمهرة” وغيرها، وهذا البيت ضمن “المقصورة”: (ص/ 20 – مع شرحها للتبريزي).

(3/1240)


ومعلوم أن العثور مرةَ ثانيةَ إنما يكون بعد النجاة من الأولى، فوَألَت شرط في الشرط الثاني، وعلى هذا فإذا ذكرت الشرطينِ، وأتيت بالجواب كان جوابًا للأول خاصة، والثاني جرى معه مجرى الفَضْلة والتَّتِمة كَالحال وغيرها من الفَضَلات قاله ابن مالك (1).
وأحسنُ من هذا أن يقال: ليس الكلامُ شرطين يستدعيان جوابَيْنِ؛ بل هو شرطٌ واحد وتعليق واحد، اعْتُبر في شرطه قيدٌ خاصٌّ جعل شرطًا فيه، وصار الجواب للشرط المقيد، فهو جواب لهما معًا بهذا الاعتبارِ، وإيضاحه: أنك إذا قلت: “إن كَلَّمتِ زيْدًا إن رَأَيْتِهِ فأنتِ طَالِق” جعلت الطلاق جزاء على كلامٍ مقيد بالرُّؤية لا على كلام مطلق، فكأنه قال: “إن كلمتِهِ ناظِرَةً إليه فأنتِ طالِقٌ”، وهذا يبينُ لك حرف المسألة ويزيلُ عنك إشكالَها جملةً، وبالله التوفيق.

فائدة (2)
قولهم: الأعمُ لا يستلزمُ الأخصَّ عينًا، وإنما يستلزم مطلقَ الأخصِّ ضَرُورَةَ وقوعه في الوجود، ولابدَّ في هذا من تفصيل: وهو أن الحقيقةَ العامة تارةَ تقعُ في رْتب متساوية، فهذه تستلزمُ الأخص عينًا ولابدَّ، كما إذا قال: “افْعَلْ كَذا”، فإنه أعمُّ مِنْ مَرَّة ومرات، وهو يستلزمُ المرَّة الواحدة عينًا، و”أَنْفِق مالًا” يستلزم أقَل القليل عينًا، وتارة يقع في رتبَ غير متساوية كالحيوان والعدد، فإنهما لا يستلزمان أحدَ أنواعهما عينًا، والله أعلم.
__________
(1) قاله في شرح الخلاصة، كما صرح بذلك القرافي، ونقله عنه في “الفروق”: (1/ 83) وعنه ينقل المؤلف.
(2) “الفروق”: (2/ 13 – 15)، وأطال القرافي في تقرير ذلك وضرب الأمثلة، وانظر تعقب سراج الدين ابن الشاط عليه في ذلك في حاشيته “إدرار الشروق … “.

(3/1241)


فائدة (1)
حمل المطلق على المقيد في الكلِّي شيءٌ، وحمل المطلق على المقيد في الكلية شيء آخر.
فالأول: كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] وقيدها بالإيمان في مكان آخر، فهذا إذا حُمل المطلقُ على المقيَّد فيه، لم يكن متضمِّنًا لمخالفة أحدهما، بل هو عمل بهما وتوفيَة بمقتضاهما، ولو (ق/ 301 أ)، عُمِل بالمطلق دود المقيد لخالف ولابد.
وأما الثاني: فكما إذا كان الإطلاقُ في العام كقوله: “في كلِّ أرْبَعِينَ شَاةً شاةٌ” (2)، فإذا قيل: “في الغَنَم السائمةِ في كل أربعينَ شاةً شاةٌ (3) فليس هذا من باب حَمل المطلق على المقيد، فإن اللفظ عام متناول لجميع أفراده، فحَمْله على التخصيص إخراج لبعض مدلوله، والفرق بين إخراج بعض مدلول اللفظ وبين تقييدٍ سُلِبَ عنه اللَّفظُ؛ الأوَّل: رافعٌ لموجب الخطاب.
والثاني: رافع لموجب الاستصحاب، وإنما يرجعُ هذا إلى أصل آخرَ، وهو تخصيصُ العموم بالمفهوم، فتَأمَّلْه.
فائدة (4)
وعلى هذا فلا ينبغي أن يقال: يُحْمَل المطلق على المقيَّد مطلقًا، بل يفرق بين الأمر والنهي، فإن المطلقَ إذا كان في الأمر لم يكن
__________
(1) “الفروق”: (1/ 190 – 191).
(2) أخرجه أحمد: (33/ 220 رقم 20016)، وأبو داود رقم (1575)، والنسائي: (5/ 25) من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده. وسنده حسن.
(3) أخرجه البخاري رقم (1454).
(4) “الفروق”: (1/ 191 – 192).

(3/1242)


عامًّا، فحَمْله على المقيد لا يكون مخالفة لظاهره ولا تخصيصًا.
وإذا كان الإطلاقُ في النهي، فإنه يعم ضرورة عموم النكرة في سياق النهي، فإذا حُمل عليه (1) مقيَّد آخرُ كان تخصيصًا.
ومثاله قوله – صلى الله عليه وسلم -: “لا يمْسِكَنَّ أحَدكم ذَكرَه بيَمِينِه” (2) فهذا عامّ في الإمساك وقتَ البول ووَقت الجِماع، وغيرهما، وقال: “لا يمْسِكَن أحدكم ذَكره بيَمِينِهِ وهو يَبوُل” (3) فهذا مقيد بحالة البول، فحَمْل الأول عليه تخصيص محض.
فائدة (4)
حملُ المطلق على المقيَّد مشروط بأن لا يقيدَ بقيدَيْنِ متنافيين، فإن قيِّدَ بقيدينِ متنافيينِ أمتنع الحمل وبقي على إطلاقه، وعلم أن القيدينِ تمثيل لا تقييدٌ، مثاله قوله – صلى الله عليه وسلم – في ولوغ الكلب: “فَلْيَغْسِلْهُ سَبعَ مَرَّات إحْدَاهن بالتراب” (5) مطلق، وفي لفظ: “أولاهنّ” (6) وهذا مقيد بالأول.
َ وفي لفظ “أخْرَاهُن” (7) وهذا مقيد بالآخرة، فلا يحمل على
__________
(1) (ع وظ): “على”.
(2) أخرجه البخاري رقم (154)، ومسلم رقم (267) من حديث أبي قتادة الأنصاري -رضي الله عنه-.
(3) لحديث السالف، وهذا لفظ مسلم.
(4) “الفروق”: (1/ 192).
(5) أخرجه البخاري رقم (172)، ومسلم رقم (279) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(6) هذا اللفظ في مسلم.
(7) أخرجه الترمذي رقم (91)، والبيهقي: (1/ 241).

(3/1243)


أحدهما، بل يبقى على إطلاقه (1).
فائدة
إنما يحمل المطلق على المقيد إذا لم يستلزمْ حملُه تأخيرَ البيان عن وقت الحاجةِ، فإن استلزمَهُ حُمل على إطلاقه، وله مثالان:
أحدهما: قوله – صلى الله عليه وسلم – بعرفات: “مَنْ لم يَجِدْ نعْلَيْنِ، فَلْيلْبس خُفَّيْنِ” (2) ولم يشترط قطعًا، وقال بالمدينة على المِنبَر لمَنْ سأله ما يَلبسُ المحرم؛: “مَنْ لم يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيلْبس خفَّيْنِ (3)، ولْيقْطَعْهمَا أسفَلَ مِنْ كعْبَيهِ” (4).
فهذا مقيَّد ولا يحمَلُ عليه ذلك المطلقُ؛ لأن الحاضرين معه بعرفات من أهل اليمن ومكة والبوادي، لم يشهدوا خُطبته بالمدينة، فلو كان القطع شرطًا لبيَّنَه لهم، لعدم علمهم به، ولا يمكن اكتفاؤهم بما تقدَّم من خطبته بالمدينة.
ومن هنا قال أحمد ومَن تَابَعَهُ: إن القطع منسوخٌ بإطلاقِهِ بعرفات اللُّبْس، ولم يأمر بقطع في أعظم أوقات الحاجة.
المثال الثاني: قول لمن سألته عن دم الحيض: “حُتِّيهِ ثم اغْسِلِيهِ” (5)
__________
(1) انظر “فتح الباري”: (1/ 331 – 333).
(2) أخرجه البخاري رقم (1841)، ومسلم رقم (1178) من حديث ابن عباس -رضي الله عنه-.
(3) من قوله: “ولم يشترط … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(4) أخرجه البخاري رقم (307)، ومسلم رقم (1177) من حديث ابن عمر -رضي الله عنه-.
(5) أخرجه البخاري رقم (307)، ومسلم رقم (291) من حديث أسماء بنت أبي بكر – رضي الله عنهما -، وروي من حديث جماعة من الصحابة.

(3/1244)


ولم يشترط عددًا مع أنه وقت حاجة، فلو كان العددُ شرطًا لبيَّنَه لها، ولم يُحِلْها على غَسْل ولوغ الكلب، فإنها ربَّما لم تسمعه، ولعله لم يكنْ شُرعَ الأمر بغسل ولوغه.
فائدة (1)
نهى رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – (ق/301 ب) عن بيع الطَّعام قبل قبْضِهِ (2)، ونهى عن بيع ما لم يُقْبَض في حديث حكيم بن حزامِ وزيد بن ثابَت (3). فقال أصحابُ مالك: النهيُ مخصوصٌ بالطَّعام دون غيره؛ فمنهم من قال: هو من باب حَمْل المطلَق على المقيَّد، وهو فاسد كما تقدم، فإنه عام وخاص، ولفظه: “إذا اشْتَرَيْتَ شيئًا، فلا تَبِعْه حتى تَقْبِضَهُ”.
ومنهم من قال: خاصٌّ وعامّ تعارضا، فقدَّم الخاصَّ وهو أفسدُ من الأول، إذ لا تعارض بين ذِكْر الشيءِ بحكيم، وذكرِ بعضه به بعينه.
ومنهم (ظ / 211 أ) من قال: هو من باب تخصيص العموم بالمفهوم، وهذا المأْخَذ أقرب، لكنه ضعيف هنا؛ لأنَّ الطعام هنا وإن كان مشتقًا فاللَّقبيَّةُ أغلبُ عليه، حيث لم يَلحْ معنى يقتضي اختصاصَ النهي به دونَ الشراب واللباس والأمتعة، فالصواب التعميم (4).
__________
(1) نظر “الفروق”: (1/ 193).
(2) أخرجه البخاري رقم (2132)، ومسلم رقم (1525) من حديث ابن عباسٍ، وأخرجاه -أيضًا- من حديث ابن عمر – رضي الله عنهم -.
(3) حديث حكيم بن حزام أخرجه أبو داود رقم (3503)، والترمذي رقم (1232)، والنسائي: (7/ 289) وغيرهم.
وحديث زيد بن ثابت أخرجه أبو داود رقم (3499).
(4) وهذا الأخير تعليل المصنف، ردَّ به على القرافى في جعل المسألة من باب تخصيص العموم بالمفهوم.

(3/1245)


فائدة (1)
قوله – صلى الله عليه وسلم -: “جعِلَتْ لى الأرْضُ مسجدًا وطهورًا” (2)، وفي لفظ: “وتُرابها طَهورٌ” (3) فقيل: يحْتص الطهور بالتُّراب حملًا للمطلق على المقيد، وهو ضعيف؛ لأنه من باب الخاص والعامِّ.
وقل: هو من باب التَّخصيص بالمفهوم.
وأعترض عليه بثلاثة أمور:
أحدها: أن دلالةَ العُمومِ أقوى؛ لأنها لفظية متَفقٌ عليها.
الثاني: أنه مفهومُ لقبِ وهو أضعف المفهومات.
الثالث: أن التَّخصيص بالتربة خرجَ لكونها غالب أجزاءِ الأرض، والتخصيص إذا كان له سبب لم يعتبرْ مفهومه.
وأجيب: بأن ذكر التربة الخاصَّة بعد ذكر لفظ الأرض عامًا في مقام بيان ما أختصَّ به وأمتنَ الله عليه وعلى الأمَّة به = دليلٌ ظاهر على اختصاص الحكم باللفظ الخاص، فإن عدولَه عن عطفه على اللفظ العام إلى اسم خاص بعدَه يتضمن زيادةَ اللَّفظِ والتفريق بين الحُكْمين، وأن الطهور متعلِّق بالتربة، وكونها مسجدًا متعلقٌ بمسمَّى الأرض، مُفْهم تقييدَ كلِّ حكم بما نُسِبَ إليه، وتخصيصه بما جعل خبرًا عنه، وهذا واضح.
__________
(1) “الفروق”: (1/ 194).
(2) أخرجه البخاري رقم (335) ومسلم رقم (521)، من حديث جابر ابن عبد الله – رضي الله عنهما -.
(3) رواية مسلم رقم (522) من حديث حذيفة -رضي الله عنه-

(3/1246)


فائدة (1)
استشكل جمهور الفقهاء مذهبَ مالكٍ فيمن قال لنسائه: “إحداكن طالق”، فإن الجميعَ يحرمْنَ عليه بالطَّلاق.
وقالوا: هذا إلزام بالطَّلاق لمن لم يُطَلِّقْها وهو باطلٌ. قالوا: ويلزمُ من هذا خلافُ الإجماع ولابدَّ؛ لأن الله تعالى أوجبَ إحدى خصال الكفَّارة، فإضافة الحكم لأحد الأمور إن اقتضى التعميمَ وجبَ أن يوجبوا جميعَ الخصال، وهو خلاف الإجماع، وإن لم يقتض العمومَ وجبَ أن لا يقتضيَهُ في قوله: “إحداكنَّ طالِقٌ”؛ لأنه لو عمَّ لعم بغير مقتضٍ، وهو باطلٌ (ق/ 302 أ) بالإجماع.
ولكن لقوله -رضي الله عنه- غَوْرٌ، وهو الفرق بين إيجاب القَدْر المشترك وتحريم القَدْر المشترك، فالإيجابُ في الكفارة إيجاب لقدْر مشترك (2)، وهو مسمَّى أحد الخصال، وذلك لا يقتضي العمومَ، كما إذا أوجب عتقَ رقية، وهي مشتركةٌ بين الرّقاب لم يَعمَّ سائرها.
وأما تحريم القَدْرِ المشترك فيلزمُ منه العموم؛ لأن التحريم من باب النهي، وإذا نهى عن القَدْر المشترك كان نهيًا عن كلِّ فرد من أفراده بطريق العموم، وإذا ثبتَ هذا؛ فالطلاق تحريمٌ لأنه رافع لحل النِّكاح، فإذا وقع في القَدْر المشترك -وهو إحدى نسائِهِ- عمَّ جميعَهُنَّ، كما لو قال: واللهِ لا قَرِبْت إحداكُن شهرًا.
وأما أصحاب أحمد فإنهم قالوا: إذا قال: “عَبْدي حرٌّ وامرأتي
__________
(1) “الفروق”: (1/ 157 – 158).
(2) قوله: “وتحريم القدر … ” إلى هنا ساقط من (ق).

(3/1247)


طالقٌ”، عتقَ عليه جميعُ عبيده وطلقَ جميع نسائه، ولكن ليس بناء منهم علي هذا المأْخَذ؛ بل لأن عندهم المفرد المضاف يَعُمُّ كالجمع المُضاف.
وأما أصحاب أبي حنيفة والشافعي فلم يقولوا بالعموم في واحدة من الصُّورتين.
وقال أصحابُ مالك (1): إذا قال لعبيده: “أحدكم حرٌّ”، كان له أن يختارَ من شاء منهم فيعَيِّنهُ للعتق، ولا يعتق الجميع، قالوا: لأن العتق قربةٌ وطاعة لا تحريم، فهو إيجاب للقدْر المشترك، وإن لزم منه التحريمُ، ولهذا لو قال: “لله على أن أعتقَ أَحَدَكم”، لزمه عتق واحد دون الجميع.
فيقال (2): لا فرق بين الطلاق والعتق في ذلك، وقول الجمهور أصحُّ، وقولكم: إن الطلاقَ تحريم ليس كذلك، بل هو كاسمه إطلاق وإرسال للمرأة، ويلزم منه التحريم، كما أن العتاق إرسال للأَمَة، ويلزم منه التحريم، فهما سواء.
ويدل عليه أنه لو قال: “إن كلَّمْتُ زيدًا فلله عليَّ أن أطلّقَ واحدة منكنَّ أو إحداكنَّ”، لم يلزمْه طلاقُ جميعهن (ظ / 211 ب) عندَ من يعَيِّنُ عليه الوفاء عينا دون الكفَّارة، ومعلوم قطعًا أن القائل لنسائه: “إحداكُنَّ طالق”، غيرُ مُطَلِّق لبقِيَتهن لا بلفظه ولا بقصده، فكيف يطلقْنَ جميعًا، فلو طلقْنَ لطلُقْنَ يغير مقتضٍ لطلاقهنَّ.
ويدكُ على أن الطلاقَ ليس بتحريم أن الله تعالى أباحَه، ولم
__________
(1) انظر “الفروق”: (1/ 158 – 159).
(2) هذا الجواب للمؤلف.

(3/1248)


يُبحْ قطُّ تحريمَ الحلال، والتحريم ليس إلى العبد، إنما إليه الأسباب، والتحليل والتحريم يتبعُها فهو كالعِتْقِ سوَاء. وقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، ثم فرض تحلَّةَ اليمين في تحريم الحلال، وقد طلقَ – صلى الله عليه وسلم – حفصة (1)، ولم يكنْ ذلك تحريمًا لها، ولو كان الطلاق تحريمًا لشُرعَتْ فيه الكفارة كما شرِعَتْ في تحريم الحلال، وكما شرِعَتْ في الظِّهَار الذي هو تحريمٌ.
فإن قيل: فما تقولونَ إذا قال لنسائه: “إحداكُنَّ عَلَيَّ حرامٌ”، فإن هذا تحريم للمشترك فينبغي أن يعمَّ؟.
قيل: هذا السؤال (ق/302 ب) غيرُ مسموع منكم، فإن التحريم عندَكم طلاق، فهو كقوله: إحداكنَّ طالق، وأما من يجعله تحريمًا تُزيله الكفارةُ كالظهار كقول أحمد ومن وافقه، فعندَهم لا يعمُّ، لأنه مطلق في إثبات، فهو كقوله: “حَرُمَتْ واحِدَة منكُنَّ”، بخلاف ما إذا ورد المطْلَقُ في نفيٍ، كقوله: “واللهِ لا قَربْتُ واحدة منكنَّ”، أو في نهي كقوله: “لا تَقْرَبْ واحِدَة منهنَّ” فإنه يعم.

فائدة
ارتفاع الواقع شرعًا مُحال، أي: ارتفاعُه في الزَّمن الماضي، وأما تقديرُ ارتفاعه مع وجوده ممكن، وله أمثلة:
أحدها: أنّ من يقول: الفسخُ رفعٌ للعقد من أصله، فيستتبع الولدَ والثمرَةَ والكسبَ، نقول: يقَدَّر ارتفاعُه من أصله واقعًا لا أنا
__________
(1) أخرجه أبو داود رقم (2283)، والنسائي: (6/ 213)، وابن ماجه رقم (2016) من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما -.

(3/1249)


نقولُ برفعِه من أصله.
الثاني: إذا قال لامرأته: “إن قدِمَ زيدٌ آخرَ الشهر فأنتْ طالقٌ أوَّلَهُ”، وقلنا: تطلق من أوَّل الشهر بقدومه آخرَه، فإنا نقدر ارتفاع تلك الإباحةِ قبلَ قدومِهِ، لا أنا نرفعها ونجعلُ الوطءَ حرامًا، بل نقدْر أن تلك الإباحةَ في حكم العَدَم تنزيلًا للموجود منزلةَ المعدوم.
وثالثها: أنا ننزلُ المجهولَ كالمعدوم في بابْ اللُّقَطَة، فينتقل المُلكُ بعد الحول إلى الملتقِطِ مع بقاء المالك، تنزيلًا له منزلةَ المعدوم.
ورابعها: أنَّا في المفقود نزَّلنا الزَّوْجَ الذي فُقِدَ منزلَةَ المعدومِ، فأبحنا لامرأته أن تعتَدَّ وتتزوَّجَ، كما قضى فيه الصحابةُ.
وخامسها: أن مَنْ مات ولا يُعرَف له قرابة كان ماله لبيت المال، تنزيلًا للمجهول منزلةَ المعدوم، ولا نقولُ: نوقفه حتى يتبين له قرابةٌ، وكذلك لو علمنا له وارثًا وأحدًا وشككنا في غيرِهِ، دَفَعْنا إلى المعلوم ميراثهُ ولم نوقِفهُ إلا إن تُيُقِّن أنه كان له وارث وشككنا في عَدَمِهِ، فإنه ينبني على تقدير وجوده لأنه الأصل.
وعكس هذا تنزيلُ المعدوم منزِلةَ الموجود تقديرًا لا تحقيقًا، وله أمثلة:
أحدها: أن المقتولَ خطأ تورثُ عنه دِيَتُهُ المستحقة بعد موته، تنزيلًا لحياته المعدومة وقتَ ثُبوت الدِّيَة منزلةَ الحياة الموجودة ليثبت له المُلْكُ.
ثانيها: لو أعْتَق عبده عن غيره، فإنا نقدرُ المُلْكَ المعدوم للمعتَق عنه منزلةَ الموجود الثابت له ليقعَ العتقُ عنه.

(3/1250)


ثالثها: الأجزاءُ التي لم تخلقْ بعدُ في بيع الثمار بعد بُدُو صلاحها، فإنها تنزلُ منزلةَ الموجود، حتى يكونَ موردًا للعقد.
ورابعها: المنافع المعدومة في الإجارة، فإنها تنزلُ منزلةَ الموجود (1)، ونظائرُ القاعدتين كثيرة.
فائدة (2)
القياس وأصول الشرع (ق / 303 أ) يقتضي أنه لا يصِحُّ رفضُ شيء من الأعمال بعد الفَراغ منه، وأن نِية رفضِه وإبطاله لا تؤثِّرُ شيئًا، فإن الشارع لم يجعلْ ذلك إليه، ولو صحَّ ذلك لتمكَّن المكلَّفُ من إسقاط جميع أعماله الحسنة والقبيحة في الزمن الماضي، فيقصدُ إبطال ما مضى من حَجِّه وجهاده وهجرته وزكاته، وسائر أعماله الحسنة والقبيحة، فيقصدُ إبطالَ زناه وسرقته، وشربه وقتله، ورباه وأكله أموالَ اليتامى، وغير ذلك، فما بالُ الوضوء والصلاة، والصوم والحجّ دون سائر الأعمال؟.
خرج فيها الخلاف، فالمشهورُ في مذهب مالك صحة الرَّفض في الصَّلاة والصوم، وفي الحجِّ والطهارة (ظ / 212 أ) خلافٌ، وفي الطهارة خاصة وجهان لأصحابنا.
وليس في هذه المسائل نصٌّ ولا إجماع، ولا فرقٌ صحيح بينها وبين سائر الأعمال، بل المعلوم من قاعدة الشَّرْع: أن إبطالَ ما وقع من الأعمال إنما يكون بأسباب نَصَبها الله تعالى مبطلات لتلك الأعمال، كالردَّة المبطلة للإيمان، والحَدَث المبطل للوضوء، والإسلام المبطل
__________
(1) من قوله: “حتى يكون … ” إلى هنا ساقط من (ع).
(2) “الفروق”: (2/ 26 – 29).

(3/1251)


للكفر، والتَّوْبة المبطلة لآثار الذنوب، وقريب منه: المنُّ والأذى المُبْطِل للصدقة، وفي الرِّياء اللاحق بعد العمل خلاف، فهذه الأسباب جعلها الشارعُ مبطِلات لآثار الأعمال، وأما الرفض (1) فلا دليل في الشرع يدلُّ على أنه مبطِل، ولا يمكن طرده، وليس له أصل يُقاس عليه، بل قد يقترن بالعمل أمورٌ تمنعُ صحَّتَه وتَرَتُّبَ أَثرِهُ عليه، كالرياء والسُّمعة وغيرهما، وليس هذا إبطالًا لما صَحَّ، وإنما هو مانعٌ من الصِّحَّة.

فائدة (2)
الأسبابُ الفعلية أقوى من الأسباب القولية، ولهذا تصِحُّ الفعليّة من المحجور عليه دون القولية، فلو استَولَدَ ثبَتَ استيلادُه، ولو أَعْتق كان لَغْوًا، ولو تَمَلَّكَ مالًا بالشِّراء كان لغوا (3)، ولو تملَّكه باصطياد أو احتطاب ونحوِهِ مَلَكَهُ، وكذلك لو أحياه مَلَكه بالإحياء.
ثم قيل: الفرق بينهما احتياجُه إلى الفعل دود القول، فإنا لو منعناه من وطء أَمَتِه أضرَرْنا بها (4)، ولا حاجةَ به إلى عِتْقها (5).
وهذا عْير طائل، فإنه قد يحتاجُ إلى القول -أيضًا- كالشِّراء والنكاح والإقرار؛ ولكن الفرق: أن أقوالَه يمكن إلغاؤُها، فإنها مجرَّدْ كلام لا يترتَبُ عليه شيء، وأما الأفعال فإذا وقعتْ لا يمكن إلغاؤها، فلا يمكن أن يقال: إنه لم يسرق ولم يقتلْ ولم يستولدْ ولم يُتلِفْ،
__________
(1) (ع): “الفرض”.
(2) “الفروق”: (1/ 203: 205).
(3) “ولو تملك مالًا بالشراء كان لغوًا” سقطت من (ع).
(4) سياق الكلام في “الفروق” يدل على وقوع الضرر بالمحجور عليه، وليس بالأمة.
(5) يعني: من جهة الطبع. وما سيأتي من الرد هو من كلام المصنف.

(3/1252)


وقد وُجدتْ منه هذه الأفعال، فجرى مجرى المكْرَه في إلغاء أقواله، ومجرىَ المأذون له في صحَّة أفعاله، والله أعلم.

قاعدة
الحائض إذا انقطع دمُها فهي كالجُنُب فيما يجبُ عليها ويحرُمُ، فيصِحُّ صومُها وغسْلها، وتجبُ عليها الصَّلاةُ، ولها أن تتوضأَ وتجلسَ في المسجد، ويجوزُ طَلاقها على أحد القولين، إلا في مسألة واحدة فإنها تخالفُ الجُنُبَ فيها وهي: جواز وطئها، فإنه يتوقَّفُ على الاغتسال، والفرق بينها وبين الجنب في ذلك: أن حَدَث الحَيْض أوجب تحريمَ الوطء، وحدثه لا يزول إلا بالغُسْل، بخلاف حدث الجَنَابة فإنه لا يوجِب تحريم الوطء، ولا يمكنُ ذلك فيه أَلْبتة.
واستثنى بعض الفقهاء مسألة أخرى وهي: نقضُ الشعر للغسْل، فإنه يجبُ على الحائِض في أحد القولين دون الجُنب، ولا حاجةَ إلى هذا الاستثناء، فتأملْه.
قاعدة
في المسائل التي يتعلَّق بها الاحتياطُ الواجب وترك ما لا بأس به حذرًا مما به البأس، ومدارها على ثلاثة قواعد: (قاعدة): في اختلاطِ المباح بالمحظور حسّا: (وقاعدة): في اشتباه أحدهما بالآخر والتباسه به على المكلَّف. (وقاعدة): في الشَّكِّ في العين الواحدة، هل هي قسمٌ من المباح أو من قِسْم المحظور؛ فهذه القواعد الثلاث هي معاقِدُ هذا الباب.
فأما القاعدة الأولى: وهي اختلاط المباح بالمحظور حِسًّا؛ فهي قسمان:

(3/1253)


أحدُهما: أن يكون المحظور محرَّمًا لعينه، كالدَّم والبول والخمر والميتة.
والثاني: أن يكون محرَّمًا لكسبه (1) لا أنه حرامٌ في عينه، كالدِّرْهَم: المغضوب مثلًا، فهذا: القسم الثاني لا يوجبُ اجتنابَ الحلال ولا يُحرِّمه ألبتَّةَ، بل إذا خالط مالَه درهَمٌ حرامَ أو أكثر منه أخرجَ مقدارَ الحرام وحلَّ له الباقي بلا كراهة، سواء كان المخرَجُ عينَ الحرام أو نظيرَة؛ لأن التحريمَ لم يتعلقْ بذات الدرهم وجوهره، وإنما تعلَّقَ بجهة الكسب فيه، فإذا خرج (2) نظيرُه (3) من كلِّ وجه لم يبقَ لتحريم ما عَدَاه معنى، هذا هو الصحيحُ في هذا النوع، ولا تقوم مصالح الخَلْق إلا به.
وأما القسمُ الأول وهو: الحرام لعينهِ كالدَّمِ والخمر ونحوهما، فهذا إذا خالط حلالًا وظهر أثرهُ فيه حَرُمَ تناول الحَلال، ولا نقول: إنه صَيرَ الحَلالَ حرامًا، فإن الحلالَ لا ينقلبُ حرامًا ألبتة ما دام وصفه باقيًا، وإنما حَرم تناولُه لأنه تعذر الوصولُ إليه إلا بتناول الحرام فلم يَجز تناولُه، وهذه العلة بعينها منصوصةٌ للإمام أحمد، وقد سئل: بأي شيءِ يحرم الماءُ إذا ظهرتْ فيه النجاسة؛ فأجاب بهذا، وقال: حرَّم الله تعالى الميْتةَ والدَّمَ (ظ / 212 ب) ولحمَ الخِنزير، فإذا خالطتْ هذه الماءَ فمتناولُهُ كأنْ قَد تناوَل هذه الأشياء، هذا معنى كلامه، هذا (ق / 304 أ) إذا ظهر أثر المخالِط.
فلو استُهلِكَ ولم يظهرْ أثرُه، فهنا معتركُ النِّزال وتلاطم أمواج
__________
(1) (ق): “لسبيه”.
(2) (ق): “أُخْرج”.
(3) من قوله: “لأن التحريم: … ” إلى هنا ساقط من (ظ).

(3/1254)


الأقوال، وهي مسألةُ الماء والمانع إذا خالطته النجاسةُ فاستُهلكت ولم يظهر لها فيه أثر ألبتة، والمذاهب فيها لا تزيدُ على اثني عشر مذهبًا (1) نذكرُها في غير هذا الموضع إن شاء الله.
أصحُها: مذهبُ الطهارة مطلقًا، مائعًا كان ما خالطه أو جامدًا، ماء أو غيره، قليلًا كان أو كثيرًا، لبراهينَ كثيرةِ قطعيّة أو تكاد، تُذْكر هناك إن شاء الله (2).
وعلى هذا فإذا وقعتْ قطرةٌ من لبن في ماء فاستُهْلِكَتْ وشَرِبه الرَّضِيعُ لم تنتشرِ الحرمة، ولو كانت قطرةَ خمر فاستُهلكت في الماء ألبتةَ لم يُحَدَّ بشربه، ولو كانت قطرةَ بول لم يُعَزِّر بشرُبِه، وهذا لأن الحقيقة لما اسْتهْلكت امتنع ثُبوت الاسم الخاص بها، فبقِيَ الاسمُ والحقيقةُ للغالب فيتعيَّنُ ثبوت أحكامِه؛ لأن الأحكام تتبعُ الحقائقَ والأسماء، وهذا أحدُ البراهين في المسألة.
فصل (3)
وأما القاعدة الثانية: وهي اشتباه المُباح بالمحظور.
فهذا إن كان له بدل لا اشتباهَ فيه انتقَلَ إليه وترَكَه، وإن لم يكن له بَدَل ودعَتِ الضَّرُورة إليه، اجتهَد في المباح واتَّقى الله ما استطاع. فإذا اشتبه الماءُ الطاهر بالنجِس انتقلَ إلى بَدَلِهِ وهو التيمم، ولو اشتبها عليه في الشُّرب اجتهد في أحدهما وشَرِبَهُ.
__________
(1) (ع): “درهما”!!
(2) انظر: “إعلام الموقعين”: (2/ 11 – 14)، و”تهذيب السنن – مع المختصر”: (1/ 56 – 74)، وليس فيها الأقوال المشار إليها هنا.
(3) (ق): “مسألة”، وانظر مما سيأتي: (4/ 1340 – 1341).

(3/1255)


وكذلك لو اشتبهت مَيتَة بمذكَّاةٍ انتقل إلى غيرهما، ولم يتحرَّ فيهما، فإن تَعَذَّرَ عليه الانتقال ودعتْهُ الحاجةُ اجتهدَ.
ولو اشتبهت أخته بأجنبية انتقلَ إلى نساءٍ لم يشتبهْ فيهنَّ، فإن كان بلدًا كبيرًا تحرَّى ونكحَ.
ولو اشتبه ثوبٌ طاهر بنجس انتقل إلى غيرهما، فإن لم يجدْ فقيل: يصلِّي في كل ثوب صلاةً ليؤديَ الفرض في ثوب مُتَيَقنِ الطَّهارة، وقيل: بل يجتهدُ في أحد الْثوبين ويصلِّي، وهو اختيار شيخنا أبي العباس (1) -قدَّس الله روحه-، قال: لأن اجتنابَ النجاسة من باب التروك، ولهذا لا تشترطُ له النيَّةُ (2).
ولو صلَّى في ثوب لا يعلم نجاسَتهُ ثم عَلِمَها بعد الصَّلاة لم يُعِدْ الصلاة، فإن اجتهد فقد صلَّي ثوب يغلبُ على ظنه طهارته، وهذا هو الواجب عليه لا غير.
قلت: وهذا كما لو اشترى ثوبًا لا يعلم حالَه، جاز له أن يصَلِّيَ فيه اعتمادًا على غَلَبَةِ ظَنِّه، وإن كان نَجِسًا في نفس الأمر، فكذلك إذا أدّاه اجتهادُه إلى طهارةْ أحد الثوبين، وغلبَ على ظنه، جاز أن يُصَليَ فيه، وإن كان نَجسًا في نفس الأمر، فالمؤثِّر في بطلان الصلاة العلمُ بنجاسة الثوب لا نجاسته المجهولة، بدليل ما لو جَهِلَها في الصلاة ثم علمها بعد الصَّلاة لم يعد الصلاة (3)، (ق / 304 ب) فهذا القول ظاهرٌ جدًّا، وهو قياسُ المذهب.
__________
(1) انظر: “الاختيارات الفقهية” (ص/ 5).
(2) انظر: “مجموع الفتاوى”: (18/ 258).
(3) “لم يعد الصلاة” ليست في (ظ وع).

(3/1256)


وقيل: يُرَاعَى في ذلك جانب المشَقَّةِ، فإذا كثرَتِ الثيابُ اجتهدَ في أحدِها، وإن قَلَّتْ صلى بعدد الثِّياب النَّجِسة وزاد صلاة، وهو اختيار ابن عَقِيل.
* ومن هذا الباب: ما لو استيقظَ فرأى في ثوبه بَلَلًا واشتبه عليه: أمَنِيّ هو أم مَذْىٌ؟ ففي هذه المسألة قولان في كل مذهب من المذاهب الأربعة، إلا أن أصحابَ الإمام أحمد قالوا: إن سبق منه سببٌ يمكن إحالة كونه مَذْيًا عليه، مثل القُبْلَة والملاعبة والفِكْر مع الانتشار فهو مَذي، إذ الظاهر أن الذَّكَر بعد ذلك إنما انكسر به فهو المُتيَقَّنُ، وما زاد عليه فمشكوك فيه، فلا يجبُ عليه الغسْل بالشَك، وإن لم يتقدَّم منه شيء من ذلك فهو مَنِيٌّ في الحكم، إذ هو الغالب على النائم، ولم يتقدَّم سببٌ يعارضُهُ، والنوم في مظنَّة الاحتلام، وقد قام شاهدُ المظنَّةِ ظاهرًا فوجبَ القضاءُ (1) بموجب شهادته، وقوة هذا المسلك مما لا يخفى على مُنْصف.
* ومن هذا الباب: إذا اشتبهتْ عليه جهةُ القِبْلَة؛ ففيها ثلاثة أقوال:
أحدها: يجتهد ويصلِّي صلاة واحدة، هذا أصحُّ الأقوال، وهو المشهور في المذاهب الأربعة (2).
والثاني: أنه يصلي أربع صلوات إلى أربع جهات ليؤدِّيَ مُتَيقنًا، كما قالوا في الثياب النجِسَة، وكما قالوا فيمن فاتته صلاةٌ من يوم لا يعلمُ عينها: صلَّى خمسَ صلوات.
__________
(1) في (ظ): “القياس”.
(2) “في المذاهب الأربعة” في (ظ) بعد قوله: “أصح الأقوال”.

(3/1257)


والقول الثالث: أنه قد سقطَ عنه فرض الاستقبال في هذه الحال، فيصلي حيث شاءَ، وهذا مذهبُ أبي محمد بن حزم (1)، واحتجَّ بأن الله تعالى إنما فرضَ الاستقبال على العالِم بجهةِ الكعبة القادر على التَّوجه إليها، فأما العاجز عنها فلم يفرضِ الله عليه التَّوجُّهَ إليها قط، فلا يجوزُ أن يلْزَمَ بما لم يُلْزِمْا الله ورسولُه به، وإذا لم يكنْ التَّوَجه واجبًا عليه لأن وجوبَه مشروط بالقُدْرة، صلَّى إلى أيِّ جهة شاءَ، (ظ / 213 أ) كالمسافر المتطَوِّع، والزَّمِن الذي لا يمكنه التَّوَجُّه إلى جهة القِبلة.
قلت: وهذا القول أرجحُ وأصحّ من القول بوجوب أربع صلوات عليه، فإنه إيجابُ ما لم يوجبْهُ اللهُ ورسوله، ولا نظيرَ له في إيجابات (2) الشارع ألبتة، ولم يُعْرف في الشريعة موضعٌ واحد أوجب اللهُ على العبد فيه أن (ق / 305 أ) يوقعَ الصلاة ثم يُعيدها مرة أخرى، إلا لتفريط في فعلها أولًا كتارك الطُّمَأْنينة، والمصلِّي بلا وضوء، ونحوه، وأما أن يأمرَهُ بصلاة فيصليها بأمره، ثم يأمرُهُ بإعادتها بعينها؛ فهذا لم يقعْ قطُّ، وأصول الشريعة تردُّه، وقياسُ هذه المسألة على مسألة الثياب وناسي صلاة من يوم = قياس لمختلَفِ فيه على مثلِهِ، وهل الكلام إلا في تَينَكِ المسألتين أيضًا؟! فلو أن حكمهما ثَبَتَ بكتاب أو سنَّة أو إجماع لكان في القياس عليهما ما فيه، بل لم يكنْ صحيحًا؛ لأن جهة الفرق إما مساويةٌ لجهة الجمع أو أظهر، وعلى التَّقديرين فالقياس مُنْتَفٍ.
يبقى النظرُ في ترجيح أحد قولي الاجتهاد والتخيير في مسألة
__________
(1) “المحلى”: (3/ 228).
(2) (ع): “إيجاب”.

(3/1258)


القلة على الآخر؛ فمن نصرَ التخيير احتجَّ بما في الترمذي و”سنن ابن ماجه” عن [عبد الله بن] عامر بن ربيعة، عن أبيه، قال: كنا مع النبي – صلى الله عليه وسلم – في سفر في ليلة مظلمة فلم نَدرِ أين القبلَة، فصلَّى كلّ رجل على حِيَالِه، فلما أصبحْنا ذكرنا ذلك للنَّبيِّ – صلى الله عليه وسلم – فنزل: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (1) [البقرة: 115] قال الترمذي: “هذا حديث حسن، إلا أنه من حديث أشعث السَّمَّان، وفيه ضعف”.
وروى الدَّارَقُطنيّ (2) من حديث عطاء، عن جابر، قال: كنَّا مع النبي – صلى الله عليه وسلم – في مَسِير فأصابنا غيمٌ فتحيَّرنا فاختلفنا في القِبلة، فصلّى كل رجل منا على حِدَة، وجعل أحدنا يُخط بين يديه لنعلَمَ أمكِنتنا، فذكرنا ذلك للنَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فلم يأمرْنا بالإعادة وقال: “قَدْ أجْزأتكمْ صَلاتُكمْ” (3)، قال الدَّارقطني: رواه محمد بن سالم، عن عطاء. قال: ويروى أيضًا عن محمد بن عبيد الله العَرْزَمي، عن عطاء، وكلاهما ضعيف. وقال العقيلي: “لا يروى من هذا الحديث من وجه يثبت” (4).
واحتجوا أيضًا بما تقدَّم حكايته: أن اللهَ لم يأمرْ بالاستقبال إلا
__________
(1) أخرجه الترمذي رقم (2957)، وابن ماجه رقم (1030)، والدارقطني: (1/ 272) وغيرهم من حديث ابن ربيعة.
قال الترمذي: “هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان … وأشعث يُضعف في الحديث” اهـ.
ونقل المزي في “التحفة”: (4/ 228)، والعظيم أبادي في “التعليق المغني” عن الترمذي أنه قال: “ليس إسناده بذاك … ” وهو مخالف لما نقله المؤلف هنا، ولما نقلناه عن “الجامع”.
(2) “السنن”: (1/ 271).
(3) وأخرجه الحاكم: (1/ 206).
(4) “الضعفاء”: (1/ 31).

(3/1259)


من كان عالِمًاْ به قادرًا عليه، وأما العاجزُ الجاهلُ فساقطٌ عنه فرِض الاستقبال فلا يكلَّفُ به.
ومن نصر الاجتهادَ احتجَّ بأن اللهَ تعالى أوجبَ على العبد أن يتَّقيه ما استطاعَ، وهذا يقتضي وجوبَ الاجتهاد عليه في تقوى ربِّه تعالى، وتقْوَاه هي فعلُ ما أمر به وترك ما نهى عنه.
قالوا: وأيضًا فإنه من المعلوم أنه إذا قام إلى الصَّلاة لم يَجُزْ له أن يستقبلَ أيَ جهةٍ شاء ابتداءً، بلْ ينظرُ إلى مطالع الكواكب ومساقِطِها وسُمُوت جهة القبلة، حتى إذا علم جهَتَها استقبلها، وهذا نوع اجتهاد، وأَدِلة الجهة متفاوتَةٌ في الخَفاء والظهور، فيجبُ على كلّ أحد فعلُ مقدوره من ذلك، فإن لم يُصبْها قطعًا أصابها ظنًا، وهو الذي يقدر عليه، فمتى تركَ مقدوره لم يكنْ قد اتَّقى الله بحسب استطاعَتِهِ.
وقولكم: إن الله إنما أوجَب الاستقبالَ على القادر عليه، العالمِ به، قلنا: الله سبحانه (ق / 305 ب) أوجبَ على كل عبد ما تؤدِّيه إليه استطاعته من طاعته، فإذا عَجَز عن هذا اليقين (1) وأدلة الجهة سقط عنه، ولكن من أين يسقطُ عنه يَذل وُسعه ومقدورِه اللاَّئق به؟!.
فصل (2)
ومنْ هذا الباب: لو طلَّق إحدى امرأتيه بعينها، ثم اشتبهت عليه بالأخرى، فقيل: يَجب عليه اعتزالهما ويوقِف الأمرَ حتى يَتبَيَّنَ الحالَ: وعليه نفقتهما، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في إحدى
__________
(1) (ع): “هذا عن اليقين”.
(2) (ق وظ): “فائدة”.

(3/1260)


الروايتين، وهي اختيارُ صاحب “المغني” (1).
وقيل: يُقْرِع بينهما، كما لو أَبْهَمَ الطلاق في واحدة لا بعينها، وهذا هو المشهورُ في المذهب، وهو اختيارُ عامَّة أصحاب أحمد، ونصَّ عليه الخِرقيُّ في “المختصر” (2) فقال: “ولو طلقَ واحدة من نسائه وأُنسِيَها أخرجَت بالقُرْعَةِ”.
قال المانعون من القُرعة: في هذه الصّورة اشتبهت عليه زوجته بأجنبية فلا تحِل له إحداهما بالقُرْعة، كما لو اشتبهت أختُه بأجنبية، لم يكن له أن يعقدَ على إحداهما بالقُرعة.
قالوا: ولأن القرعةَ لا تُزيل التحريم من المطَلَّقة، ولا ترفعُ الطلاق عمن وقَع عليه، ولا تُزيل احتمالَ كون المطلَّقة غير مَنْ وقعت عليها (ظ / 213 ب) القرعة، بدليل أن التحريمَ لو ارتفع بالقُرعة لما عاد إذا ذَكَرها، فلما عاد التَّحريمُ بالذكر دل على أن القُرْعة لم ترفَعْ تحريم المطَلَّقة.
قالوا: وأيضًا القُرعة لا يؤمنُ وقوعها على غير المطلقة، وعدولُها عن المطلقة، وذلك يتضمنُ مفسدتين (3): تحريم المحللة له بلا سَبَب، وتحليل المحرَّمة عليه، مع جواز كونها المطلقَة.
قالوا: وأيضًا فلو حلف لا يأكل تَمْرَة بعينها، ثم وقعت في تَمْر، فإنها لا تخرجُ بالقرعة. ولو حَلَفَ لا يكلمُ إنسانًا بعينه، ثم اختلطَ في آخرين لم يَخْرج بالقرعة، إلى أمثال ذلك من الصُّور، فهكذا هذا.
__________
(1) (10/ 522).
(2) مع “المغني”: (10/ 522).
(3) (ع): “مقدمتين”.

(3/1261)


قالوا: وأيضًا فلا نعلمُ سَلَفًا باستعمال القُرْعة في مثل هذه الصورة.
قالوا: وأيضًا لو حَلَف لا يأكلُ تمرة فوقعت في تَمْر فأكل منه واحدة، فقد قال الخِرَقِيّ: لا تحِل له امرأته حتى يعلَم أنها ليست التي وقعت اليمين عليها، فحرَّمَها مع أن الأصلَ بقاءُ النكاح، ولم يعارضه يقينُ التحريم، فهاهنا أولى (1).
قالوا: وأيضًا فقد قال الخِرَقِى فيمن طلَّقَ امرأتَهُ ولم يَدْر أواحدة طَلَّقَ أو ثلاثًا: اعتزلَها وعليه نفقتها ما دامتْ في العِدَّة، فإن راجَعها في العِدَّة لم يَطَأْها حتى يَتَيَقنَ (2) كم الطّلاق، فلم يُبِح له وِطْأَها لاحتمال كون الطلاق ثلاثًا، والأصلُ عدمُه، واحتمال كون غير من خرجت عليها القرعة هي المطلقةَ كاحتمال كون هذه مطلقة ثلاثًا، بل هو هناك أقوي، فإن في صورة الشَّكِّ فْي عدد الطلاق لم يتيقنْ تحريصًا (ق/306 أ) يرفع النكاحَ، والأصلُ بقاء الحِلِّ، وفي المنْسِيَّة قد (3) تَيَقنَّا ارتفاع النكاح جملة عن إحداهما وأنها أجنبيةٌ، وحصل الشَّكُّ في تعيينها.
قالوا: ولا يصحُّ قياسُ هذه الصورة على ما إذا طلق واحدة مبهَمَةً، فقال: واحدة منكن طالِق، فإن (4) له أن يعَيِّنَها بالقرعة؛ لأن الطلاقَ هاهنا لم يثبتْ لواحدة بعينها، فإذا عَيَّنَتْها القرعة تعيَّنت لأن الشارع جعل القرعةَ صالحة للتعيين منشئة له، وفي مسألتنا المطلقة معيَّنة في نفسها لا محالة، والقرعة ترفعُ الطلاقَ عنها، ولا توقِعُهُ على غيرها كما تقدم.
__________
(1) “المعنى”. (10/ 523).
(2) (ق): “يتبين”.
(3) من قوله: “أقوى فإن … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(4) (ظ): “جاز”.

(3/1262)


وسرُّ المسألة: أن القرعةَ إنما تعملُ في إنشاء التَّعيين الذي لم يكنْ، لا في إظهار تعيين كائن (1) قد نُسي، فهذا ما احتج به من نصر هذا القول.
وأما من نصرَ القولَ بالقُرعة، فقالوا: الشارع جعل القرعةَ معيِّنة في كلِّ موضع تتساوى فيه الحقوق ولا يمكنُ التَّعيينُ إلا بها، إذ لولاها لزمَ أحدُ باطلين: إما الترجيحُ بمجرد الاختيار والشَّهوة، وهو باطلٌ في تصرَّفات الشارع، وإما التَّعطيلُ ووقف الأعيان، وفي ذلك من تعطُلِ الحقوق وتضرُّرِ المكلفين ما لا تأتي به الشريعةُ الكاملة، بل ولا السيَاسةُ العادلة، فإن الضَّرَر الذي في تعطيل الحقوق أعظمُ من الضَّرَر المقدَّر في القُرعة بكثير، ومحال أن تجيءَ الشريعةُ بالتزام أعظم الضَّرَرَيْنِ لدفع أدناهما.
وإذا عرِفَ هذا؛ فالحقُّ إذا كان لواحدٍ غير معين فإن القُرْعة تُعَيِّنُهُ، فيُسْعد اللهُ بها من يَشاء، ويكون تعيينُ القُرعة له هو غايةَ ما يقدرُ عليه المكلَّفُ، فالتعيينُ بها تعيينٌ لتعلُّق حكم الله لما عيَّنته، فهي دليل من أدلَّة الشرع واجبٌ العمل به، وإن كان في نفس الأمرِ بخلافه؛ كالبَيِّنة والإقرار والنكول فإنها أدلة منصوبة من الشَّارع لفَصْل النزاع، وإن كانت غيرَ مطابقة لمتعلِّقها في بعض الصور، فلهذا نصب الشارع القرْعة معيِّنةَ للمستحق قاطعةً للنزاع.
وإن تعلَّقت بغير صاحب الحقِّ في نفس الأمر، فإن جماعة المستحقِّين إذا استووا في سبب الاستحقاق لم تكن القُرعةُ ناقلةً لحق أحدهم ولا مُبْطِلَةً له، بل لما لم يكنْ (2) تعميمُهم كلُّهم ولا حرمانُهم
__________
(1) (ف وظ): “كامن”.
(2) كذا في (ع وق) ومعناه متَّجِه، و (ظ): “لما يمكن”.

(3/1263)


كلُّهمِ، وليس أحدُهم: أولى بالتَّعيين من الآخرين، جُعِلَتِ القُرعَةُ فاصِلة بينهم مُعَيِّنَة لأحدهم، فكأن المقرع يقول: اللَّهُمَّ قد ضاق الحقُّ عن الجميع وهم عبيدُك، فخصَّ من تشاءُ منهم به، ثم تُلقى القرعةُ فيسعدُ اللهُ بها من يشاءُ ويحكمُ بها على من يشاءُ.
فهذا سرُّ القرعة في الشرع، وبهذا عُلِمَ بطلان قول من شبهها بالقِمار، الذي هو ظلم وجَوْرٌ، فكيف يُلْحَق غايةُ الممكن من العدل (ق / 306 ب) والمصلحة بالظلم والجور، هذا من أفسد القياسْ وأظهره بطلانًا، وهو كقياس البيع على (ظ / 214 أ) الرِّبا، فإن الشريعةَ فرقت بين القُرعة والقمار، كما فرَّقَتْ بين الرِّبا والبيع، فأحلَّ اللهُ البيعَ وحرَّم الربا (1)، وأحل الشارع القرعةَ وحرم القمار. وقد قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)} [آل عمران: 44] وقال تعالى (2) إخبارًا عن ذي النون: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)} [الصافات: 141] وقد احتجَّ الأئمة بشرع من قبلنا، جاء ذلك منصوصًا عنهم في مواضعَ، وقد ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – “أنه كان إذا أراد سفرًا أقْرعَ بين نسائه، فأيتُهُنَّ خرجَ سهمُها خرجَ بها معه” (3).
وثبت عنه في “الصحيح” (4) أيضًا: “أن رجلًا أعتقَ ستَّةَ مملوكين لا مالَ له سِوَاهم، فجزَّأهُمُ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – ثلاثةَ أجزاء، وضرب عليهم
__________
(1) من قوله: “فإن الشريعة … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) من قوله: “وما كنت لديهم … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(3) أخرجه البخاري رقم (2593)، ومسلم رقم (2770) من حديث عائشة – رضي الله عنها -.
(4) أخرجه مسلم رقم (1668) من حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه-.

(3/1264)


بسهمي رِقٍّ وسهم حريَّةٍ، فأعتقَ اثنينِ وأرَقَّ أربعة”، وكلّ ما ذكروه في الطلاق فهو منتقَضٌ عليهم بهذه الصورة، بل القرعةُ في الطَّلاق أولى؛ لأن القُرْعَةَ هاهنا إنما هى لجمع الحرية في بعضهم، وقد كان في الممكن أن يعتقَ من كل واحد سُدسهُ، ويَسْتَسْعي في بقية نفسه -كما يقول أبو حنيفة- أو يترَكُ رقيقًا، ومع هذا فأقرعَ بينهم لجمع الحرية في اثنين منهم، وعين بها عبدين من الستة مع تشوُّفه إلى العتق، وحكمه له بالسّرَاية (1) في ملكه وملك شريكه، فما الظَّنّ بالطَّلاق الذي هو أبغض الحلال إلى الله ورسوله؟!.
ولأنَّا لو لم نستعملِ القرعةَ في المنسيَّةِ لزِم أحد محذورين:
إمّا إيقاع الطلاق على الأربع إذ أنسيت بينهنَّ وهذا باطلٌ، لأنه يتضمَّن (2) تحريمَ من لم يطلقها ولا حرمها الله عليه.
وإمّا أن يعطَلَ انتفاعُه بهنَّ ويتركهُنَّ معلقاتٍ أبدًا إلى الممات، ومع هذا نوجب عليه نَفَقَتَهن وكسوتَهن وإسكانَهُنَّ، ونقول: لا يحلّ لك قربان واحدة منهنَّ، وعليك القيامُ بجميع حقوقهنَّ، فهذا لو جاءَ به الشارع لقوبل بالسمع والطاعة، ولكن حكمة شرعِهِ ورحمتِهِ تأباه، ولا شاهدَ من شرعه له يُرَدُّ إليه ويُعْتبر به.
وأما القول بالقُرْعة؛ فقد ذكرنا من أصول شرعه ما يَدلّ عليه، وأنه أولى الأقوال في المسألة، وقد روى البخاري في “صحيحه” (3): “أن النبي – صلى الله عليه وسلم – عَرَضَ على قوم اليمينَ فأسرعوا، فأمرَ أن يسْهَمَ بينهم
__________
(1) (ع): “حكمه به فى السراية”.
(2) (ع): “لم يتضمن” وهو خطأ.
(3) رقم (2674) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

(3/1265)


في اليَمين أيُّهم يحلف”.
وفي “السنن” و”المسند” عن أبي هريرة: “أن رجلينِ تَدَارءا في دابة ليس لواحد منهما بيِّنَة، فأمرهما النَّبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أن يَسْتَهِما على اليَمين أَحَبّا أو كَرِها” (1).
وفي “المسند” و “السنن” أيضًا: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “إذا كرِهَ الاثْنان اليَمِينَ أو استَحَباها فَليَسْتَهِمَا عَلَيْها” (2).
وفي “السنن” عن أم سلمة: أن رَجُلَيْن اختصما إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في مواريث بينهما قد دَرست (ق/307 أ) ليس بينهما بَيِّنَةٌ، فقال: “إنكمْ تَختَصِمونَ إلَيَّ، وَإِنمَا أنا بشَرٌ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْض، وَإِنّمَا أقضي بينكمْ عَلَى نحو مَا أسْمعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حق أَخِيهِ شيئًا فَلا يَأخذْهُ، فَإنما أَقْطَعُ لَه قِطْعَة مِنَ النَّارِ يَأتِي بِهَا أسْطَامًا فِي عُنقهِ يَوْمَ القِيَامَةِ” فبكى الرجلان، وقال كل منهما: حقي لأخي، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “أمَّا إذا قُلْتما فَاذْهَبا فَاقْتسِمَا ثُمَّ تَوَخَّيَا الحَق، ثمَّ اسْتَهِما عَلَيْهِ، ثُمَّ لْيتحَلَّلْ كلّ واحدٍ مِنكمَا صَاحِبه” (3).
وأقرع سعد يوم القادسيَّة بين المؤذِّنِينَ (4).
فهذه قرعة في الحَضَانَةِ، وفي تخفيف السَّفينة، وفي السَّفَر بالزوجة،
__________
(1) أخرجه أبو داود رقم (3616)، وابن ماجه رقم (2329)، وأحمد: 16/ 228 رقم 10347)، وسنده صحيح.
(2) أخرجه أحمد: (13/ 525 رقم 8209)، وأبو داود رقم (3617) من طريق أحمد من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- واللفظ لأبي داود، وسنده صحيح.
(3) أخرجه البخاري رقم (2458)، ومسلم رقم (1713).
(4) أخرجه البيهقي: (1/ 438)، وسعيد بن منصور -كما في “التغليق”: (2/ 265)، وعلقه البخاري بصيغة التمريض، وهو منقطع. انظر: “الفتح”: (2/ 114).

(3/1266)


والبَدَاءة بها في القَسم، وفي الحَلْف على الحَق، وفي تعيين الحق المُتنازع فيه، وفي الأذانِ، وفي العِتْق وجمع الحرية، وتكميلها في رقيةٍ كامَلة.
وصحَّ عن علي أنه سُئِلَ عن رجل له أربع نسوة طَلقَ إحداهنَّ ونكح ثم مات، لا يدري الشهود أيَّتَهُنَّ طَلَّقَ، فقال: أقرع بين الأربع وأنذر منهن واحدة، وأقسم بينهنَّ الميراث (1).
فهذه قرعةٌ، إما في الطلاق وإما في الاستحقاق للمال، وأيًّا ما كان فالموانع التي ذكرتموها في الطلاق بعينها قائمةٌ في استحقاق المال سواء بسواء، فأيُّ فرقٍ بين تحريم مال أحلَّه الله تعالى وبين تحريم فرج أحلَّه اللهُ، فإن كانت القرعةُ تتضمَّن أحدَ الفسادين فهي متضمنَةٌ للآخر قطعًا، وإن لم تتضمنِ الآخرَ لم تتضمَّنْ ذلك.
وقولُكُم: المالُ أسهل، لا ينفعكم في دفع هذا الإلزام، والله أعلم.
قالوا: ونحن نجيبُ عن كلماتكم؛ أما قولكم: اشتبهت عليه زوجته بأجنبية، فَلَمْ يحل المشتبِهَة بالقرعة، كما لو اشتبهت قبلَ (ظ/ 214 ب) العقد أختُه بأجنبية.
فجوابه: أن الأصل قبل العقدِ التَّحريم، وقد شككنا في دفعه والأصل بقاؤه، فمعنا ثَمَّ أصل مستصْحَبٌّ لا يجوزُ تركُه إلا بسبب يزيلُه، ولا كذلك في مسألتنا إذ قد ثبتَ الحِل قطعًا، فنحن إذا أخرجنا المطلقة بالقرعة، بقيت الأخرى على الحِلِّ المستصحبِ قبل الطلاق، وقد شككنا في إصابة الطلاق لها، فنتمسكُ بالأصل حتى
__________
(1) ذكره ابن قدامة في “المغني”: (10/ 523) عن علي، وأخرج البيهقي: (7/ 364) نحوه عن ابن عباسٍ – رضي الله عنهما -.

(3/1267)


يثبت ما يُزيلُهُ، وهذا واضح.
وقد اتفق على هذا الأصل -أعني استصحاب ما ثَبتَ- حتي يْثبتَ رفْعُهُ.
وأما قولكُم: القرعة لا تُزيل التَّحريم من المطلَّقَةِ؛ ولا ترفع الطلاق عمن وقع عليه، ولا تزيل احتمال كون المطلَّقة غير من وقعتْ عليها القرعة.
فجوابه: أنه منقوضٌ بالعِتْق، وما كان جوابكم عن العِتق فهو جوابُنا بعينه، ومنقوضٌ بالقُرْعة في المُلك المُطلق، فحق المالك في ملك المال كحقِّه في مُلك البُضْع، والعِتق بالقُرعة يتضمَّن إرقاقَ رقبة من ثَبتَ له الحُرِّيَّةُ، وسقوط الحجِّ والجهاد عنه، وثبوت أحكام العبيد له على تقدير (ق / 307 ب) كونه هو المعتَقَ في نفس الأمر، وإن كانت أَمَة تضمَّن إباحةَ فرجها لغير مالكها، ومع هذا فالقرعةُ معيِّنة للمعتق، فتعيِينها للمُطَلَّقةِ كذلَك أو أولى.
وجواب آخرُ: وهو أن القُرْعة لم تزلْ تحريمًا ثابتًا في المُطَلَّقة، وإنما عيَّنتْ حكمًا لم يكن لنا سبيل إلى تعيينه إلا بالقُرْعة، واحتمالُ أن كون غيرِ التي خَرَجَتْ لها القُرْعَةُ هي المطَلَّقَةَ في نفسِ الأمر، مما لم يُكَلفْنا به الشارع لتعذر الوصول إلى علمه فنزِّل منزلةَ المعدوم.
وهذا كما أن احتمالَ كون غيرِ الأمَةِ التي خرجت لها القُرْعَةُ هي الحُرَّةَ في نفس الأمر ساقط عنا لِتَعَذر علمنا به فنزَلَ منزلةَ المعدوم (1).
وكذلك كوِن مالك المال الضائع موجودًا: في نفس الأمر لا يمنعُ
__________
(1) هذه الفقرة سقطت من (ق).

(3/1268)


من نقله عنه إلى الملتقِط بعد حَوْلِ التعريف لتعذُّر معرفته، فنُزَلَ منزَلةَ المعدوم.
وكذلك حَكَمَ الصحابةُ -عمرُ وغيرُهُ- في المفقود: تَتَزوج امرأته، وإن كان باقيًا حيًا على وجه الأرض، وقد أُبيحَ فرجُ زوجته لغيره من غير طَلاق منه ولا وفاة لِتَعَذُرِ معرفته، فنزلَ منزلةَ المعدوم.
قولكم: لو ارتَفَعَ التحريمُ بالقُرعة لما عاد إذا ذَكَرَها.
قلنا: ارتفاعُ التحريمِ مشروط باستمرارِ النسيان، فإذا زال النِّسيان زال شرط الارتفاع، فالقرعةُ إنما صرنا إليها للضرورة، ولا ضرُورة مع التَّذكُر.
قولكم: القرعَة لا يؤمَن وقوعها على غير المطَلَّقة، وعدولها عن المطلقة، وذلك يتضمَّن مفسدتين … إلى آخره.
قلنا: منقوض بالعتق وبالملك المطْلَق، وأيضًا: لما كان ذلك مجهولًا معجوزًا عن علمه نزل منزلةَ المعدوم، ولم يضر كونُ المستحقِّ في نفس الأمر غيرَ المستحِق بالقُرْعة كما قدمنا من النظائر، فلسنا مؤاخَذِين بما في نفس الأمر ما لم نَعْلَمْ به.
وهذه قاعدة -أيضًا- من قواعد الشَّرع وهي: أن المؤاخذةَ وتَرَتُّب الأحكام على المكلف إنما هي على علمه لا على ما في نفس الأمر إذا لم يعلمْه، وعليها جل الشريعة في الطَّهارات والنَّجاسات والمعاملات والمناكحات والأحكام والشَّهادات، فإن الشاهد إذا عرف أن لِزيدٍ قِبَل عمْرو حقًا، وجبَ عليه أن يشهدَ به، وإن كان قد بريءَ إليه منه، ويحكُم به الحاكم، فالشريعة غير مُنكرٍ فيها ذلك، وهل تتمُّ مصالح العباد إلا بذلك؟!.

(3/1269)


قولكم: لو حَلَفَ لاْ يأكل تمرة ولا يكلم إنسانًا، ثم اختلط المحلوفُ عليه بغيره لم يخرجْ بالقُرعة.
فيقال: هذه المسألة ليست منصوصًا عليها، ولا يُعْلَم فيها إجماع البتة فإن كانت مثلَ مسألتنا سواءٌ، فالصوابُ التسَّوِيَة بينهما، وإن كان بينهما فرقٌ بطَلَ الإلحاقُ فبطَلَ الإلزام بها على التقديرين، نعم غايةُ ما يفيدُكم إلزام المفرِّق بينهما بالتناقض (1)، وأنه يجبُ عليه التسويَةُ بينهما في الحُكْم، وهذا ليس بدليل مثبت (2) لكم حَكمَ المسألة، إذ مُنازعُكم يقول: تنَاقضِي في الفرق بينَ المسألتين ليس بدليل على صحَّة ما ذهبتم (ق / 308 أ) إليه، فإن كان التفريق باطلًا جاز أن يكون الباطل في عدم القول بالقُرعة في مسألة الإلزام، ولا يتعين أن يكون الباطلُ القولَ بها في المسألة المتنازع فيها فهذا جواب إجماليٌّ كاف، فكيف والفرق بينهما في غاية الظُّهور؟! فإنه إذا حلفَ لا يأكلُ تمرةً بعينها، ثم وقعت في تمر (ظ/215 أ) فأكل منه واحدة، فإنه لا يحنث حتى يأكلَ الجميع، أو ما يُعْلَم بهْ أنه أكلها، وما لم يتيقن أكلُها لم يتيقن حِنْثهُ، فلا حاجة إلى القُرْعة، وكذلك مسألةُ كلامِ رجل بعينه.
فإن قيل: فهل يأمنونَه بالإقدام على الأكل مع الاختلاط؟.
قيل: الورع أن لا يقدمَ على الأكل، فإن أكل لم يحنَثْ حتى يتيقن أَكْلُهُ لها.
__________
(1) (ظ): “إلزام المفرق بينهما وإن كان بينهما فرق بطل التقديران بالتناقض” وهو تكرار عن السطر قبله!.
(2) (ظ): “يثبت”.

(3/1270)


قولكم: لا سَلَفَ بالقُرْعَة في هذه الصُّورة.
فيقال: سبحان الله تعالى! وأيُّ سلف معكم؟ يوقفُ الرجلُ عن جميع زوجاته وجعلهن معلَّقات لا مزَوَّجات ولا مُطَلَّقات إلى الموت، مع وجوب نفقتهن وكسوتهن وسُكناهن عليه؟.
وينبغي أن يُعْلمَ: أد القول الذي لا سَلَفَ به الذي يجِبُ إنكاره: أن تكون المسألة قد وقعت في زمن السلف، فأفتَوْا فيها بقول أو أكثرَ من قول، فجاء بعضُ الخلف فأفتى فيها بقول لم يقلْه فيها أحدٌ منهم، فهذا هو المنكر.
فأما إذا لم تكنِ الحادثةُ قد وقعتْ بينهم وإنما وقعتْ بعدَهم، فإذا أفتى المتأخرون فيها بقول لا يُحْفَظُ عن السَّلف لم يُقلْ: إنه لا سَلَفَ لكم في المسألة، اللهم إلا أن يفتوا في نظيرها سواء بخلافِ ما أفتى به المتأخِّرونَ، فيقال حينئذٍ: إنه لا سَلَفَ لكم بهذه الفتوى، وليس هذا موضعَ بسط الكلام في هذا الموضع، فإنه يستدعي تحريرًا أكثرَ من هذا.
وأما قولكم: لو حَلَفَ لا يأكل تمرةً وقعتْ في تمر، فأكَلَ منه واحدةً، فإن الخِرَقِيَّ يحرم عليه امرأتَه حتى يعلمَ أنها ليست التي حلف عليها (1)، مع أن الأصلَ بقاءُ النكاح فهاهنا أولى.
قلنا: الخِرَقي لم يصرح بالتَّحريم، بل أفتى بأنه لا يقربُ زوجَتَهَ حتى يَتبَيَّنَ الحال، وهذا لا ينتهضُ للتحريمِ، ولفظ الخِرقي في “مختصره” (2)
__________
(1) (ظ): “التي وقعت عليها اليمين”.
(2) مع “المغني”: (10/ 523).

(3/1271)


هكذا: “وإذا حَلَفَ بالطَّلاق أن لا يأكلَ تمرةً، فوقعت في تمر، فإن أكلَ منه واحدةً مُنِعَ من وطء زوجته، حتى يعلمَ أنها ليستِ التي وقعتْ عليها اليمينُ، ولا يتحَقَّقُ حِنْثَهُ حتى يأكُلَ التمرَ كُلَّه” هذا لفظه.
وآخر كلامه يدلُّ على أن منعه من وَطْئِها إنما هو على سبيل الوَرعَ، فإنه لا يحَرِّمُها عليه بحنث مشكوكٍ فيه، وهذا ظاهرٌ.
وأما مسألة من طلَّقَ ولم يدرِ أواحدة طَلَّقَ أم ثلاثًا فالاحتجاجُ بها في غاية الضعف. وكذلك الإلزامُ بها، فإنَّ الخِرَقِيَّ بناها على كونِ الرَّجعيَّةِ مُحَرَّمَة، ولهذا صرَّح في “المختصر” (1) بذلك في تعليل المسألة فقال: “وإذا طلَّقَ فلم يدرِ أواحدة طلق أم ثلاثا أعتزلَها، وعليه نفقتُها ما دامتْ في العِدَّةِ، فإن راجَعَها في العِدَّةِ لم يطأْها حتى يَتَيَقَّن كم الطلاقُ؛ لأنه متيقِّنٌ للتحريم شاكٌّ في التَّحليل”.
فالخِرَقيُّ يقول: هو قد تيَقَّنَ وقوعَ التحريم (2) وشكَّ، هل الرجعةُ رافعةٌ له أمْ لا؟ وعيره ينازعُه في إحدى المقدمتين، ويستفصلُ في الأخرى فيقول: لا نسلِّمُ أن الرجعية محرَّمَةٌ فلم يتيقن تحريمًا ألبتة، وعلى تقدير أن تكون محرَّمَة، فالتحريم المُتَيَقَّنُ أيّ تحريم يعنون به؛ تحريمًا تُزيله الرجعة أو تحريمًا لا تُزْيله؟ الأول: مُسَلَّم ولا يفيدُكم شيئًا، والثاني: ممنوعٌ، وعلى التقديرين فلا حُجَّة لكم في هذه المسألة ولا إلزامَ، فإنها ليست منصوصةً ولا متفقًا عليها، ولا تَلْزمُه أيضًا، فإنه بناها علي أصله من كون الرجعية محرَّمَةً، فقد تَيَقَّنَ تحريمَها، وشكَّ في رفع هذا التحريم بالرَّجعة، ولا كذلك فيمن
__________
(1) المصدر نفسه: (10/ 514).
(2) (ظ): “الطلاق”.

(3/1272)


خرجت القرعةُ على سواها، فإنه لم يُتَيَقَّنْ تحريمُها، وإزالة التحريم بالقُرعة، فافترقا.
وأما قولكم: لا يصحُّ قياسُها على ما إذا طلَّقَ واحدةً مبهمةً حيث يُعَيِّنها بالقُرعة؛ لأن الطلاق لم يثبت لواحدةٍ بعينها، فيعينها بالقُرعة بخلاف المنسيَّة.
قلنا: لا ريْبَ أن بين المسألتين فرقًا، ولكن الشأن في تأثيره ومنعه من إلحاق إحداهما بالأخرى، فإن صحَّ تأثيرُ الفرق بَطَلَ هذا الدليل المعين، ولا يلزمُ من بطلانِ دليل معيَّن بطلانُ الحكم، إلا أن لا يكونَ له دليلٌ سواه، ونحن لم نحتجَّ بهذا الدليل أصلًا حتى يلزمُ بطلانُ ما ذكرناه، وإن بَطَلَ تأثير الفَرْق وجب إلحاقُ إحدى الصورتين بالأخرى.
ونحن نبيَن -بحمد الله- أن هذا الفرقَ مُلْغًى، فنقول: إذا قال لنسائه: “إحداكُنَّ طالق”، فإما أن يُنفذَ الطلاق على واحدة منهن عقِبَ إيقاعه، أو لا يَقَعُ إلا بتعيينه، والثاني: باطل؛ لأن التعيينَ ليس بسبب صالحٍ للتطليق، فلا يصحُّ إضافةُ الطلاق إليه، فتعيَّنَ أن الطلاقَ استندَ إلى إيقاعه أولًا، فقد وقع بواحدة منهن ولابُدَّ، والأقوال هنا ثلاثة:
أحدها: أنه يملكُ تعيينَ المُطَلَّقة فيمنْ شاء، وهذا قولُ الشافعي وأبي حنيفة.
والثاني: أنه تطلق عليه الجميعُ، وهذا قول مالك ومَنْ وافقه.
والثالث، أنه يخْرِجُ المُطَلَّقَةَ بالقُرْعة، وهذا مذهبُ أحمد، وهو قول عليٍّ وابن عباس ولا يعرفُ لهما مخالفٌ في الصحابة، وبه قال

(3/1273)


الحسن البصري وأبو ثَوْر وغيرُهما، وهو الصحيحُ من الأقوال، فإن طلاقَ الأربع -مع كون اللَّفظ غيرَ صالح له والإرادةُ غيرَ متناوِلة له- مخالِفٌ للأصول، وإيقاعٌ للطلاق من غير سَبَبِهِ، وقد تقدّم الكلامُ على مأخذ هذا القول وما فيه فلا نعيدُه، وعلى هَذا القول فلا قرعةَ ولا تعيينَ، وإنما الكلامُ على قولي القرعة والتَّعيين، فنقول: القولُ بالقرعة أصحُّ، وإذا كان القولُ بها أصَحَّ في هذه المسألة، فالقولُ بها في مسألة المنسيَّة أولى، فهذانِ مقامانِ بهما يتمُّ الكلام في المسألة، فأما المقامُ الأول: فيدلُّ عليه أن القرعة قد ثبَتَ لها اعتبارٌ في الشرع -كما قدَّمناه- وهي أقربُ إلى العدل، وأطيبُ للقلوب، وأبعدُ عن تهمة الغَرَض والميلِ بالهوى، إذ لولاها لزمَ أحد الأمرين؛ إما الترجيحُ بالمَيْل والغَرَض، وإما التَّوَقُّفُ وتعطيلُ الانتفاع، وفي كلٍّ منهما من الضَّرَر ما لا خفاءَ به، فكانت القُرْعَةُ من محاسن هذه الشَّريعة وكمالها وعموم مصالحها.
وأما تعيينُ المُطَلَّقةِ بعد إبهامها، وانتظارُ ما يعيُّنه النَّصيب والقسمة التي لا تتطرَّقُ إليها تهمةٌ ولا ظِنَّةٌ، فليس ذلك إلى المكلَّف، بل إليه إنشاءُ الطلاق ابتداءً في واحدة منهنَّ، وأما يكونَ إليه تعيينُ من جعل طريقَ تعيينه خارجًا عن مقدوره، وموكولًا إلى ما يأتي به القَدَر ويُخْرِجُهُ النَّصِيبُ المقسوم المغيَّبُ عن العباد = فكَلاَّ.
وسرُّ المسألة: أن العبدَ له التَّعييِنُ ابتداءً، وأما تعيينُ ما أبهمه أولًا فلم يُجْعَلْ إليه ولا مَلَّكهُ الشارعُ إياه.
والفرقُ بينهما: أن التعيينَ (1) الابتدائيَّ تعلَّقُ به إرادتُه وباشرَه
__________
(1) من قوله: “ابتداء، وأما … ” إلى هنا ساقط من (ظ).

(3/1274)


بسبب الحُكْم، فتعيَّنَ بتعيينه وبمباشرته بالسبب، وأما التَّعيينُ بعد الإبهام فلم يُجْعَلْ إليه؛ لأنه لم يُبَاشِرْه بالسبب، والسبب كان قاصرًا عن تناوله معينًا، وإنما تناوله مُبْهمًا، والمكلَّفُ كان مخيَّرًا بين أن يوْقِعَ الحُكْمَ معيَّنًا فيتعين بتعيينه، أو يوقِعَهُ مبهمًا فيصيرَ تعيينُهُ إلى الشارع. (1).
وسر ذلك: أن الحكم قد تعلَّق في المبهم بالمشترك، فلابُدَّ من حاكم مُنَزَّهٍ عن التُّهمة، يُعَيِّنُ ذلك المشتركَ في فردٍ من أفراده.
والمكلَّفُ ليس بمُنَزَّهِ عن التُّهمة، فكانت القُرعة هي المعَيِّنَةَ، وأما إذا عيَّنه ابتداءً فلم يتعلَّقَ الحكمُ بمشترك، بل تعلَّق بما اقتضاه تعيينُه وغرضُه، فأنفذه الشارعُ عليه.
فهذا مما يدلُّك على دِقَّة فقه الصحابة – رضي اللهُ عنهم- وبُعد غَوْر مداركهم، ولهذا أفتى عليٌّ وابنُ عباس بالقرْعة ولم يجعلا التَّعْيينَ إليه، ولا يُحفظُ عن صحابيٍّ خلافَهما.
وإذا ثَبَتَ أن القُرْعَة في هذه الصُّورة راجحةٌ على تعيين المكلَّف، تبين بذلك تقريرُ المقام الثاني، وهو أن القولَ بها في مسألة المنسيَّة أولى؛ لأنها إذا عَمِلَتْ (2) في محلٍّ قد تعلق الحكمُ فيه بالمشترك، وهو إحدى الزوجات؛ إذ كلُّ واحدة منهنَّ يصدُق عليها أنها أحدها، وهذا هو مأخذُ من عمَّم الوقوع = فَلأَنْ تعملَ في محلٍّ تعلَّقَ الحكمُ فيه ببعض أفراده أولى، فإن الحُكْمَ في الأول كان صالحًا لجميع الأفراد لتَعَلُّقه بالقَدْر المشترك، ومع هذا فالقُرْعَةُ قطعتْ هذه الصلاحيَّهَ وخصَّتْها بفردٍ بعينه، والحكمُ في الثانية
__________
(1) من قوله: “والمكلف كان … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) (ع وظ): “علمت”.

(3/1275)


إنما تعلَّقَ بفردٍ بعينه، لكنه جهِلَ فاستفيدَ علمُهُ من القُرعة، ولما جُهِلَ صار كالمعدوم؛ إذ المجهولُ المطلَقُ في الشريعة كالمعدوم، وليس لنا طريِقٌ إلى اعتباره موجودًا إلا بالقُرْعة.
فإذا قطعتِ القُرْعَةُ الحقَّ المشتركَ من غير المُعَيِّن، فَلأَنَ تُعَيِّنَ مجهولًا لا سبيلَ إلى تعيينه إلا بها أولى وأحرى.
وإن شئتَ قلتَ: إخراجُ المجهول أيسر من تعيين المُبْهَمِ، وأوسعُ طريقًا، وأقلُّ مانعًا؛ لأن المبهم لم تثبتْ له حقيقةٌ معيَّنَةٌ بعد، ولا سيَّما: إذا كان مشتركًا بين أفراد تقتضيه اقتضاء واحدًا، فليس ثبوت التعيين لفرد أولى من ثبوته لغيره، والمجهولُ قد ثبتَتْ له حقيقةٌ أولًا ثم جُهِلَتْ، فيكفي في الدلالة عليها أيُّ دليل وُجِدَ، وأيُّ علامةٍ أمكنت، فإنها علامةٌ ودليلٌ على وجودها لا عِلَّةٌ لآنيتَها، وتعَيّن (1) المبهَم ليس دليلًا محضًا بل هو كالعِلَّةِ لآنيته وثُبوته، فإذا صلحت القرعةُ لتعيين المُبهم؛ فَلأَنْ تَصْلُحَ للدَّلالةِ على المجهول بطريق الأولى. ونحن لا ندَّعي -ولا عاقلٌ- أن القُرعة تجعلُ المخرج بها هو متعلَّق الحكم في نفس الأمر، يل نقولُ: إن القرعة تجعل المخرجَ بها متعلَّقَ الحكم ظاهرًا وشرعًا، وهو غايةُ ما يقدرُ عليه المكلَّف، ولم يكلِّف اللهُ علمَ الغيب ولا موافقةَ ما أن نفس الأمر، بل القرعةُ عندنا لا تزيد على البَيِّنةَ والنُّكول والأمارات الظاهرة التي هي طرقٌ لفصل النزاع.
فصل (2)
وأما القاعدة الثالثة: وهي قاعدةُ الشَّكِّ: فينبغي أن يُعْلَمَ أنه ليس
__________
(1) كذا في (ق)، وبقية النسخ محتملة الرسم.
(2) (ق): “فائدة”.

(3/1276)


في الشَّريعة شيءٌ مشكوكٌ فيه ألبتةَ، وإنما يعرض الشَّكُّ للمكلَّف لتعارُض أمَارتين فصاعدًا عنده، فتصيرُ المسألة مشكوكًا فيها بالنسبة إليه، ففي شَكِّيةٌ عنده، وربما تكون ظَنِّيَّةً لغيره أو له في وقت آخر، وتكون قطعيةً عند آخرين، فكون المسألةِ شكيَّة أو ظنيَّة أو قطعية ليس وصفًا ثابتًا لها، بل هو أمرٌ يعرِض لها عند إضافتها إلى حكم المكلَّف، وإذا عُرِف هذا فالشَّكُّ الواقعُ في المسائل نوعانِ:
أحدهما: شكٌّ سببه تعارُض الأدلة والأمارات، كقولهم في سؤُر البغل والحمار مشكوكٌ فيه فيُتوضأ به ويُتَيَمَّمُ، فهذا الشَّكُّ لتعارض دليلي الطهارة والنجاسة (1)، وإن كان دليلُ النجاسة لا يقاوِمُ دليل الطهارة، فإنه لم يقم على تنجيس سؤرهما دليلٌ، وغاية ما احتجَّ به لذلك قول النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحُمُر الأهلية: “إنها رِجْسٌ” (2)، والرِّجْسُ هو: النَّجَسُ، وهذا لا دليلَ فيه؛ لأنه إنما نهاهم عن لحومها، وقال: “إنها رجسٌ” ولا ريب أن لحومَها (3) ميتة لا تعمل الذَّكاةُ فيها، ففي رِجْسٌ، ولكن من أين يلزم أن تكونَ نَجِسَةً في حياتها حتى يكون سُؤْرُها نَجِسًا؟ وليس هذا موضعَ المسألة.
ومن هذا: قولهم للدم الذي تراه المرأة بين الخمسينَ سنة إلى الستِّين: إنه مشكوكٌ فيه، فتصومُ وتصلِّي وتقضي فرضَ الصوم لتعارض دليلي الصِّحَّة والفساد، وإن كان الصحيحُ أنه حيْضٌ، ولا معارضَ (4)
__________
(1) (ظ): “الظاهر عن الصحابة”!.
(2) أخرجه البخاري رقم (2991) و (4198) وغيرها، ومسلم رقم (1940) من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-.
(3) (ظ): “شحومها”.
(4) (ق وظ): “تعارض”.

(3/1277)


لدليل كونه حيضًا أصلًا لا من كتاب ولا سُنَّة ولا إجماع ولا معقول، فليس هذا مشكوكًا فيه، والمقصودُ التمثيل.
القسم الثاني: الشكُّ العارض للمكلَّف بسبب اشتباه أسباب الحكم عليه وخفائِها لنسيانه وذهولِه، أو لعدم معرفته بالسَّبب القاطع للشَّكِّ، فهذا القسمُ واقعٌ كثيرًا في الأعيان والأفعال، وهو المقصودُ بذكر القاعدة التي تضبطُ أنواعه.
والضابطُ فيه: أنه إن كان للمشكوكِ فيه حالٌ قبل الشَّكِّ استصحبها المكلَّفُ وبنى عليها حتى يَتَيَقَّنَ الانتقالَ عنها، هذا ضابطُ مسائله.
فمن ذلك: إذا شكَّ في الماء هل أصابته نجاسةٌ أم لا؟ بنى على يقين الطَّهارة.
ولو تَيَقَّنَ نجاسَتَهُ ثم شكَّ هل زالت أم لا؟ بنى علي يقينِ النَّجاسةِ.
الثالثة: إذا أحدثَ ثم شَكَّ هل تَوَضَّأَ أم لا؟ بنى علي يقين الحَدَث. ولو توضَّأَ وشَكَّ في الحدث بنى علي يقين الطَّهارة. وفروعُ المسألة مبنيةٌ على هذا الأصل.
الرابعة: إذا شكَّ الصائمُ في غروب الشمس لم يَجُزْ له الفطر، ولو أكلَ أفطرَ، ولو شَكَّ في طُلوع الفجر جاز له الأكلُ، ولو أكل لم يُفْطِرْ.
الخامسة: لو شكَّ هل صلَّى ثلاثًا أو أربعًا وهو منفردٌ بنى على اليقين، إذ الأصلُ بقاءُ الصلاةِ في ذمته، وإن كان إمامًا فعلى غالب ظَنِّه؛ لأن المأمومَ يُنَبِّهُهُ، فقد عارَضَ الأصْلَ هنا ظهورُ تنبيهِ المأموم على الصَّوابِ. وقال الشافعي ومالك: يبني على اليقين مطلقًا؛ لأنه الأصلُ.

(3/1278)


السادسة: إذا رمى صيدًا فوقعَ في ماء فشَكَّ هل كان موتُه بالجُرح أو بالماء؟ لم يأكلْه؛ لأن الأصل تحريمُه، وقد شكَّ في السَّبب المُبيح. وكذلك لو خالَط كلبُهُ كلابًا أُخَرَ ولمِ يَدْرِ أصادَةُ كلْبُهُ أو غيره لم يأكلْهُ؛ لأنه لم يَتَيَقَّنْ شروط الحِلّ في غير كلبه، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إنك إنما سَمَّيْتَ على كَلْبِكَ ولم تُسَمِّ على غَيْرِهِ” (1).
السابعة: إذا شكَّ هل طاف ستًّا أو سبعًا أو رمى سِتَّ حَصَيَاتٍ أو سبعًا (2) بنى على اليَقِينِ.
الثامنة: إذا شكَّ هل عمَّ الماءُ بَدَنَهُ وهو جُنُبٌ أم لا؟ لَزِمَهُ يقينُ تعميمِهِ ما لم يكنْ ذلك وَسْواسًا.
التاسعة: إذا اشترى ثوبًا جديدًا أو لَبيسًا وشَكَّ هل هو طاهرٌ أو نَجِسٌ؛ بنى الأمرَ على الطهارة، ولم يلزمْهُ غسله.
العاشرة: إذا أصابه بَلَلٌ ولم يدرِ ما هو؟ لم يجِبْ عليه أن يبحَثَ عنه، ولا يسأل من أصابه به، ولو سألَه لم تجب إجَابتُه على الصحيح، وعلى هذا لو أصاب ذيلَهُ رطوبةٌ بالليل أو بالنهار لم يجِبْ عليه سَمُّها ولا تَعَرُّفُها، فإذا تَيَقَّنَها عَمِلَ بموجب يقينه.
الحادية عشرة: إذا كان عليه حق لله -عز وجل- من صلاة أو زكاة أو كفارة أو عتق أو صيام، وشكَّ هل أتى به أم لا؟ لزمه الإتيانُ به.
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (175)، ومسلم رقم (1929) من حديث عدي بن حاتم -رضي الله عنه-.
(2) “أو رمى ست حصيات أو سبعًا” سقطت من (ع).

(3/1279)


الثانية: عشرة: إذا شكَّ هل مات مُوْروثُهُ فَيَحِلَّ له مالُهْ أو لم يَمُتْ؟ لم يَحِلَّ له المالُ حتى يَتيقَّنَ موتَه.
الثالثة عشرة: إذا شكَّ في الشَّاهد هل هو عدْلٌ أم لا؟ لم يحكمْ بشهادتِهِ؛ لأن الغالبَ في الناس عدمُ العَدَالَةِ، وقولُ من قال: الأصلُ في الناس العدالةُ كلامٌ مستدرَكٌ، بل العدالةُ طارئةٌ متجدِّدَةٌ (1) الأصلُ عدمُها، فإن خلاف العدالة مستندُهُ جهلُ الإنسانِ وظلمُهُ، والإنسانُ خُلِقَ جهولًا ظلومًا، فالمؤمنُ يكمل بالعِلم والعدل، وهما جمَاعُ الخير، وغيرُه بقي على الأصل، فلا الأصلُ في الناس العدالةَ ولا الغالبُ.
الرابعة عشرة: إذا شكُّ هل صلَّى ثلاثًا أو أربعًا؟ بنى على اليقين وألغى المشكوكَ فيه، واسْتُثنى من هذا موضعين:
أحدهما: أن يقعَ الشَّكُّ بعد الفَرَاغ من الصَّلاة فلا يلْتَفَتْ إليه، الثانى: أن يكون إمامًا فيبني على غالب ظنه.
فأما الموضعُ الأوَّلُ؛ فهو مبنيٌّ على قاعدة الشَّكِّ في العِبَادة بعد الفَراغ منها، فإنه لا يؤثِّرُ شيئًا، وفي الوضوءِ خلافٌ. فمن ألحقه بهذه القاعدة نَظَرَ إلى أنه قد انقضى بالفراغ منه، ومن نظر إلى بقاء حكمه وعمله، وأنه لم يفعل المقصودَ به، ألحقه بالشَّكِّ في العبادة قبلَ انقطاعها والفراغ منها.
وأما الموضعُ الثاني؛ فإنما استُثني لظهور قَطْع الشَّكِّ والرجوع إلى الصَّواب بتنبيه المأمومين له، فسكوتُهم وإقرارُهم دليلٌ على
__________
(1) (ظ): “حادثة تتجد”.

(3/1280)


الصواب، هذا ظاهرُ مذهب أحمد، ومذهبُ الشافعي أنه يبني على اليقين مطلقًا إمامًا كان أو منفردًا ولا يلتفتُ إلى قول غيره. ومذهبُ مالك أنه يبني على اليقين إلا أن يكونَ مستنكحًا (1) بالشَّكِّ، فإنه لا يلتفتُ إليه ويلْهى عنه، فإن لم يُمْكِنْهُ أن يَلْهَى عنه بنى على أول (2) خواطرِه، ومذهبُ أبي حنيفة أنه إن عَرَضَ له ذلك في أول صلاته أعادها، وإن عَرَضَ له فيما بعدَها بنى على اليقين.
الخامسة عشرة: إذا شكَّ هل دخل وقتُ الصلاة أو لا؟ لم يصَلِّ حتى يَتَيَقَّنَ دخولَه، فإن صلَّى مع الشَّكِّ ثم بان أنه صلَّى في الوقت، فقد قالوا: يُعيدُ صلاتَهُ، وعلى هذا إذا صلَّى وهو يَشُكُّ هل هو محدِثٌ أو مُتَطَهِّرٌ، ثم تيقَّنَ أنه كان متطهرًا، فإنه يعيدُها أيضًا، وكذلك إذا صلَّى إلى جهةٍ وشكَّ هل هي القِبلة أو غيرها، ثم تبيَّنَ له أنها جهةُ القبلة.
ولا كذلك إذا شَكَّ في طهارة الثوب والبَدَن والمكان، فصلَّى فيه ثم تَيَقَّنَ أن ذلك كان طاهرًا، لأن الأصل هنا الطهارة وقد تيقنه آخرًا، فتوسُّطُ الشَّكِّ بين الأصل واليقين لا يؤثر بخلاف المسائل الأُوَلِ؛ لأن الأصلَ فيها عدمُ الشُّروط (3) فالشَّك فيها مستنِدٌ إلى أصل يوجِبُ عليه حكمًا لم يأتِ به.
والذي تقتضيه أصولُ الشَّرْع وقواعدُ الفقهِ في ذلك هو التَّفرِقة بين المعذورِ والقادِرِ، فالمعذورُ لا يجبُ عليه الإعادةُ إذا لم يْنُسب إلى تفريط، وقد فعلَ ما أدَّاه إليه اجتهادُهُ وأصابَ، فهو كالمجتهد المُصيب.
__________
(1) أي: مغلوبًا.
(2) كذا في (ق) وهو الموافق لما في “مواهب الجليل”: (1/ 255)، و (ع وظ): “أنزل”.
(3) كذا في النسخ، والمطبوعات: “الشكّ”.

(3/1281)


وعلى هذا؛ فإذا تحرَّى الأسيرُ وفعل جهدَه فصام شهرًا يظنُّهُ رمضانَ وهو يشُكُّ فيه، فبان رمضانَ أو ما بعدَه، أجزأه مع كونه شاكًّا فيه.
وكذلك المصلِّي إذا كان معذورًا محتاجًا إلى تعجيل الصلاة في أوَّل وقتها؛ إنها لسَفَرٍ لا يمكنه النزولُ في الوقت ولا الوقوف، أو لمرضٍ يُغمَى عليه فيه، أو لغير ذلك من الأعذار، فَتَحَرَّى الوقتَ وصلَّى فيه مع شكِّه، ثم تبيَّن له أنه أوقع الصلاةَ في الوقت، لم تجِبْ عليه الإعادة، بل الذي يقوم عليه الدليلُ في مسألة الأسير أنه لو وافق شعبان لم تجبْ عليه الإعادةُ وهو قول الشافعي؛ لأنه فعلَ مقدورَةُ ومأمورَهُ، والواجبُ علي مثله صومُ شهر يظنُّه رمضان، وإن لم يَكُنْهُ (1)، والفرق بين الواجب على القادر المتمكن والعاجز.
فإن قيل: فما تقولونَ في مسألة الصلاة إذا بان أنه صلاَّها قبلَ الوقت؟.
قيلِ الفرقُ بين المسألتين: أن الصوم قابلٌ لإيقاعه في غير الوقت للعُذر، كالمريض والمسافر والمُرضع والحُبلى، فإن هؤلاء يسوغُ لهم تأخيرُ الصوم ونقلُه إلى زمن آخَرَ نظرًا لمصلحتهم، ولم يُسَوَّغْ لأحدٍ منهم تأخير الصَّلاة عن وقتها ألبتَّةَ.
فإن قيل: فقد سُوِّغَ تأخيرُها للمسافر والمريض والممطور من وقتِ أحدهما إلى وقت الأخرى.
قيل: ليس بتأخير من وقت إلى وقت، وإنما جَعَلَ
__________
(1) (ع): “يمكنه”، و (ظ): “يظنه”.

(3/1282)


الشارعُ وقتَ العبادتين في حقِّ المعذور وقتًا واحدًا، فهو مصَلٍّ للصلاة في وقتِها الشرعي الذي جعله الشارعُ وقتًا لها بالنسبة إلى أهل الأعذار، فهو كالنائم والناسي (1) إذا استيقظ وذكر، فإنه يصلِّي الصلاة حينئذٍ؛ لكون ذلك وقتها (2) بالنسبة إليهما، وإن لم يكُنْ وقتًا بالنسبة إلى الذَّاكر المستيقظِ، على أن للشَّافعي قَوْلينِ في المسألتينِ، والله أعلم.
فصل (3)
ابن عُيَيْنَةَ، عن محمد بن المنكدر قال: إن العالم بين الله وبين خلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم (4).
وقال سهل بن عبد الله: من أراد أن ينظرَ إلى مجالس (5) الأنبياء فلينظرْ إلى مجالس العلماء، يجيءُ الرجلُ فيقول: يا فلان أيْشٍ تقولُ في رجلٍ حَلَفَ على امرأته بكذا وكذا، فيقول: طلقت امرأتُه، وهذا مقامُ الأنبياء، فاعرِفوا لهم ذلك (6).
قال عبدُ الرحمن بنُ أبي ليلى: أدركت عشرين ومئة من الأنصار من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يُسْأَلُ أحدُهم عن المسألةِ فيردُّها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجعَ إلى الأوَّل، ما منهم من أحدٍ إلا ودَّ أنَّ أخاه كفاه الفُتْيا.
__________
(1) (ق): “الساهي”.
(2) من قوله: “لها بالنسبة … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(3) (ق): “فوائد”، وهذا الفصل انتقاه المصنف من كتاب “أدب المفتي والمستفتي”: (ص/ 71 – 85) لابن الصلاح.
(4) أخرجه البيهقي في “المدخل إلى السنن”: (ص/438).
(5) (ع وظ): “محاسن” وكذا ما بعدها.
(6) انظر: “صفة الصفوة”: (4/ 66).

(3/1283)


وقال ابن مسعود: من أفتى الناس في كلِّ ما يستفتونه فهو مجنون.
وعن ابن عباس نحوه (1).
وقال حصَيْنٌ الأسديُّ: إن أحدَكم ليُفْتي في المسألة لو وَرَدَتْ علي عمر بن الخطاب لجمع لها أهلَ بَدْر، وعن الحسن والشَّعْبي مثله (2).
وقال الحاكم: سمعت أبا عبد الله الصَّفَّار يقول: سمعت عبد الله ابن أحمد، يقول: سمعت أبي، يقول: سمعت الشافعي، يقول: سمعت مالك بن أنس، يقول: سمعت محمد بن عَجْلانَ يقول: إذا أخطأ العالمُ لا أدري أُصِيبَت مقاتِلُه (3).
وروي ذلك بنحوه عن ابن عباس (4).
وذكر أبو عُمر (5)، عن القاسم بن محمد، أنه جاءه رجل فسأله عن شيء، فقال القاسم: لا أُحسنُه، فجعل الرجلُ يقول: إنى دُفِعتُ إليك لا أعرفُ غيْرَك، فقال القاسم: لا تنظرْ إلى طول لحيتي وكثرة النَّاس حولي، واللهِ لا أُحسِنُه، فقال شيخ من قُرَيْش جالس إلى جنبه: يا ابنَ أخي الزمْها فواللهِ ما رأيتُ في مجلسٍ أَنبل منك (6) اليوم، فقال القاسم: والله لأَنْ يُقْطَعَ لساني أحبُّ إليَّ من أن أتكلمَ بما لا أعلمُ.
__________
(1) هذه الآثار أخرجها ابن عبد البر في “جامع بيان العلم”: (1/ 1120 – 1125) وغيره.
(2) أخرجه البيهقي في “المدخل”: (ص / 434).
(3) أخرجه البيهقي في “المدخل”: (ص/ 436).
(4) أخرجه ابن عبد البر: (2/ 840).
(5) في “الجامع”: (2/ 837).
(6) (ع): “أمثل منك”.

(3/1284)


وذكر أبو عمر (1) عن ابن عُيَيْنَةَ وسُحنون: “أجسرُ النَّاسِ على الفُتْيا أَقَلُّهم علمًا”.
وكان مالك يقول: من أجاب في مسألة فينبغي من قبل أن يجيبَ فيها أن يعوضَ نفسه على الجنَّة أو النَّار، وكيف يكونُ خلاصُه في الآخرة.
وسُئل عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: إنها مسألةٌ خفيفةٌ سهلةٌ، فغضب وقال: ليس في العلم شيءٌ خفيفٌ، ألم تسمعْ قوله جل ثناؤه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} [المزمل: 5] فالعلمُ كلُّه ثقيلٌ وخاصَّة ما يسأل عنه يومَ القيامة.
وقال: كان أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تصعُبُ عليهم المسائلُ ولا يُجيبُ أحدُهم في مسألة حتى يأخذَ رأيَ أصحابه (2)، مع ما رُزقوا من السَّداد والتوفيق مع الطهَّارة، فكيف بنا الذين غطَّتِ الخطايا والذنوبُ قلوبَنا؟!.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: جاء رجلٌ إلى مالك يسألُه عن شيء أيامًا ما يُجيبهُ، فقال: يا أبا عبد الله إني أريدُ الخروجَ، وقد طال التَّرَدُّدُ إليك، فأَطْرَق طويلًا، ثم رفع رأسه، وقال: ما شاء الله يا هذا، إني إنما أتكلمُ فيما أحتسبُ فيه الخيرَ، ولستُ أُحْسِنُ مسألتَك هذه (3).
وسُئِلَ الشافعيُّ عن مسألة فسكت، فقيل له: ألا تجيبُ يرحمُك اللهُ؟ فقال: حتى أدريَ الفضل في سكوتي أو في الجواب.
__________
(1) في “الجامع”: (2/ 1124 – 1125).
(2) (ع وظ): “صاحبه”.
(3) أخرجه البيهقي فى “المدخل”: (ص/ 437).

(3/1285)


وكان سعيد بن المُسَيِّب لا يكادُ يُفْتي فُتْيا، ولا يقولُ شيئًا، إلا قال: اللَّهُمَّ سَلِّمْني وسلِّم مني (1).
وقال سُحْنون: أشقى النَّاس من باعْ آخِرَتَهُ بدُنياه، وأشقى منه من باع آخرته بدنيا غيره، قال: ففَكَّرتُ فيه فوجدته المُفتي، يأتيه الرجل قد حَنث في امرأته ورقيقه، فيقول له: لا شيء عليك، فيذهب الحانثُ فيستمتعُ بامرأته ورقيقِه وقد باع المفتي دينه بدنيا هذا (2).
وجاء رجلٌ إلى سُحْنون فسألَه عن مسألة، فأقام يتردَّد إليه ثلاثةَ أيام فقال: مسألتي أصلحك اللهُ اليوم ثلاثةَ أيام؟ فقال له: وما أصنع؟ مسألة (3) معضِلةٌ، وفيها أقاويلُ، وأنا متحيِّرٌ في ذلك، فقال: وأنْت أصلحك اللهُ لكلِّ مُعضِلة! فقال سحنونٌ: هيهات يا ابن أخي، ليس بقولك هذا أبذُلُ لحمي ودمي للنَّار، ما أكثرَ ما لا أعرفُ. إن صبرْتَ رجوتُ أن تنقلبَ بمسألتك، وإن أردتَ أن تمضيَ إلى غيري فامْضِ تُجَابُ في مسألتِكَ في ساعةٍ، فقال: إنما جئْتُ إليكَ فلا أستفتي غيرَك، قال: فاصبِرْ، ثم أجابه بعدَ ذلك.
وقيل له: إنك تسألُ عن المسألة، لو سئل عنها أحدٌ من أصحابك لأجاب فيها فتتوقَّفُ فيها، فقال: إن فتنة الجواب بالصَّواب أشدُّ من فتنة المال.
وقال بعضُ العلماء: قَلَّ من حَرَصَ على الفتوى، وسابق إليها وثابر عليها، إلا قلَّ توفيقه، واضطرب في أمره، وإذا كان كارهًا
__________
(1) المصدر نفسه: (ص/ 439).
(2) بنحوه في “السير” (12/ 66).
(3) (ظ): “ما أصنع بمسألتك؟ مسألتك … “.

(3/1286)


لذلك غَيْرَ مختار له ما وجد مندوحةً عنه، وقدر أن يُحِيلَ بالأمر فيه على غيره، كانت المعونَةُ له من الله أكثرَ، والصلاحُ في جوابه وفتاويه أغلبَ.
وقال بِشرٌ الحافي: من أحبَّ أن يُسألَ فليس بأهل أن يسْأَلَ.
وذكر أبو عمر (1)، عن مالك قال: أخبرني رجلٌ أنه دخل على ربيعةَ فوجده يبكي، فقال: ما يُبكيكَ أمصيبةٌ دخلت عليك؟ وارتاع لبكائه، فقال: لا، ولكن اسْتُفْتِيَ من لا علمَ له، وظهر في الإسلام أمرٌ عظيمٌ.
قال ربيعة: ولَبَعْضُ من يُفتي هاهنا أحقُّ بالسَّجن (2) من السُّرَّاق.
* * *
__________
(1) في “الجامع”: (2/ 1225).
(2) (ظ): “بالحبس”.

(3/1287)


ومن مسائل إسحاق بن منصور الكوسج لأحمد (1)
قلت: يتوضَّأ الرجل في المسجد؟ قال: قد فعل ذلك قومٌ، قال إسحاق: هو حسنٌ ما لم يَسْتَنْجِ فيه (2).
قلت: إذا عطس الرجل يوم الجمعة؟ قال: لا تُشَمِّتْه (3).
قلت: يُقَاتَلُ اللِّصُّ؟ قال: إذا كان مقبلًا فقاتِلْه، وإذا وَلَّى لا تُقَاتِلْ. قال إسحاق كما قال، ويناشدُه في الإقبال ثلاثًا، فإن أبى وإلا قاتله.
قلت: الضالَّة المكتومة؟ قال: الذي يكتُمُها إذا أَزَلْتَ عنه القطعَ فغرامة مثلها عليه، قال إسحاق كما قال: سُنَّة مسنونة.
قلت: سئل سفيان عن صبيٍّ افتضَّ صَبِيَّةً، قال: لها مَهْرُ مِثلها في مالِهِ، قال أحمد: يكون على عاقلته إذا بَلَغَ الثُّلُثُ، قال إسحاق كما قال سفيان: في ماله.
قلت: قال سفيان: استفتى يوسفُ بن عُمَرَ (4) ابنَ أبى ليلى في هذه، فقال: لها مهرُ مثلِها في ماله، قال أحمد: لا بل على عاقلته إذا بلغ الثلث، قال إسحاق، كما قال ابن أبي ليلى.
قلت: كأنه أراد -واللهُ أعلمُ- أرْشَ البكارة، فسماه مهرًا، أو يقال: إن استيفاء هذه المنفعة منه تجري مجرى جنايته عليها، فإذا
__________
(1) (ق): “مسألة” بدلًا من هذه الجملة.
(2) (ق): “يستقبح”.
(3) كذا بالأصول، والذي في “المسائل”: “شَمِّتْه”، وهكذا في مسائل عبد الله رقم (585) وابن هانئ: (1/ 91)، وفيها التصريح بأن التشميت إذا لم يسمع الخطبة.
(4) عامل هشام بن عبد الملك على العراق.

(3/1288)


أوجبت مالًا كان على من يحملُ جنايَتهُ، ولا ريبَ أن الوطءَ يجري مجرى الجنَاية، إذ لا بُدَّ فيه من عفو أو عقوبة، وجنايةُ الصَّبِيِّ علىَ النفوس والأعضاء والمنافع على عاقلته، وهذه جنايةٌ على منفعة الصِّبِيَّة فتكونُ على عاقلته، وهذا أصوبُ الاحتمالين، ولم أر أصحابنا تعرَّضوا لهذا (1) النَّصِّ ولا وجهه.
قلت: أيقطعُ في الطير؟ قال: لا يقطع في الطير، قال إسحاق كما قال.
قلت: لعله أراد به الطيرَ إذا تفلَّتَ من قفصه فصاده، وهو خلافُ ظاهرِ كلامِهِ، إذ يقالُ: الطيرُ لا تستقرُّ عليه اليدُ ولا يثبتُ في الحِرْز، ولا سيَّما إذا اعتادَ الخروجَ والمجيء كالحمام، وأجودُ من هذين المأخذين أن يقالَ: إذا أخذه فهو بمنزلة من فتح القفصَ عنه حتى ذهب ثم صاده من الهواء، فإن مِلْك صاحبه عليه في الحالين واحد، وهو لو تَفَلَّت من قفصِه ثم جاء إلى دار إنسانٍ فأخذه لم يقطعْ، ولو صاده من الهواء لم يقطعْ، فكذلك إذا فتح قَفَصَه وأخذه منه، والقاضي تأوَّل هذا النَّصَّ على الطير غير المملوك، ولا يخفى فسادُ هذا التأويل، والذي عندي فيه: أن أحمدَ ذهب إلى قول أبي يوسف في ذلك، والله أعلم.
قلت: رجلٌ زَوَّجَ جارِيَتَهُ ثم وقع عليها؟ قال أحمد: أما الرجم فأدرأُ عنه ولكن أَضْرِبُه الحَدَّ، محصنًا كان أو غير مُحْصَنٍ.
قال إسحاق كما قال: يُجْلَدُ مئةً نكالًا كما قال عمر.
قلت: لعله سمى التعزير حدًّا، وبلغ به مئة، أو لما سقط عنه
__________
(1) (ق): “لمثل هذا”.

(3/1289)


الرجم حدَّه حدَّ الزاني غير المحصن.
قلت: سُئِل سفيانُ عن رجل قال لرجل: ما كان فلان لِيَلِد مثلك، قال: ما أرى في هذا شيئًا. فقال أحمد: هو تعريضٌ شديدٌ فيه الحَدُّ.
قلت: سُئِل سفيانُ عن رجل قال لرجل: أنت (1) أكثر زنًا من فلان، وقد ضُرِبَ فلانٌ في الزنا، قال: ما أرى الحَدَّ بَيِّنًا أرى أن يُعَزَّرَ، قال أحمد: هذا تعريضٌ يضرَبُ الحَدَّ. قال إسحاق كما قال.
فقد نصَّ على وجوب الحَدِّ بالتعريض، وهو الصَّواب بلا ريب، فإنه أنكى وأوجع من التصريح، وهو ثابت عن عمر (2).
قلت: قال سفيان: رمى الجمرتين ولم يقمْ عندهما فليذبحْ شاة، أو ليتصدَّقْ بصاع، قال أحمد: لا أعلمُ عليه شيئًا، ويتقرَّبُ إلى الله تعالى بما شاء وقد أساء. قال إسحاق كما قال أحمد.
قلت: الحائكُ يُدْفعُ إليه الثوب على الثُّلُث والرُّبُع؟ قال: كلُّ شيء من هذا، الغَزْل والدار والدَّابّة، وكلُّ شيءٍ يُدْفَعُ إلى الرَّجُل يعملُ فيه على الثُّلُث والرُّبُع، فعلى قصة خَيْبَرَ (3)، قال إسحاق كما قال (4).
قلت: من بنى في حق (5) قوم بإذنهم، أو بغير إذنهم؟ قال: إذا
__________
(1) من قوله: “ليلد مثلك … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في “المصنف”: (5/ 500).
(3) وهي: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – عَامَل أهلَ خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع.
أخرجه البخاري رقم (2328)، ومسلم رقم (1551) من حديث ابن عمر – رضى الله عنهما -.
(4) انظر “مسائل الكوسج” رقم (108).
(5) في “ظ”: “فناء”.

(3/1290)


كان بإذنهم فله عليهم نفقتُه، وإذا كان بغير إذنهم، قُلِعَ بناؤه، وأحبُّ إليَّ إذا كان البناءُ يُنتفعُ به هنا أحب إليّ أنْ يعطيه النفقة ولا يقلعُ بناءَه، قال إسحاق: كما قال سواء (1).
قلت: رجل ضَلَّ بعيرٌ له أعْجَفُ (2) فوجده في يد رجل قد أنفقَ عليه حتى سَمِنَ؟ قال: هو بعيرُه يأخذه، مَنْ أمرَ هذا أن يأخذَه؟ قال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: “دَعْها فإنَّ مَعَها حِذَاءَها وسِقَاءَها” (3).
قال إسحاق: إذا كان أخذه في دار مَضْيَعَةٍ فأنفق عليه ليردَّه إلى الأوَّل ويأخُذَ النفقةَ كان له ذلك (4).
قلت: ولا يناقضُ هذا قاعدَتَه فيمن أدَّى عن غيره واجبًا بغير إذنه أنه يرجعُ عليه؛ لأن هذا متعدٍّ بأخذِ البعير، حيث نهاه الشارعُ عن أخذه، والله تعالى أعلم.
* * *
__________
(1) “مسائل الكوسج” رقم (113).
(2) أي: ضعيف.
(3) أخرجه البخاري رقم (91)، ومسلم رقم (1722) من حديث زيد بن خالد الجهني.
(4) “مسائل الكوسج” رقم (119).

(3/1291)


فصول (1)
في أصول الفقه والجدل وآدابه والإرشاد إلى النافع منه كما جاء (2) في القرآن والسنة
فصل
النكرةُ في سياق النَّفي تعمُّ، مستفادٌ من قوله تعالى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف: 49]، {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]، وفي الاستفهام من قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]، وفي الشرط من قوله: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} [مريم: 26]، {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} [التوبة: 6]، وفي النهي من قوله: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} [هود: 8]، وفي سياق الإثبات بعموم العلَّة والمُقتضي، كقوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير: 14]، وإذا أضيف إليها (كلٌّ) نحو: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ} [ق: 21]، ومن عمومها بعموم المقتضي: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)} [الشمس: 7].
فصل
ويستفادُ عمومُ المفرَدِ المُحَلَّى باللام من قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} [العصر: 2]، وقوله: {وَسَيَعْلَمُ الْكَافِرُ} (3) [الرعد: 42]، {وَيَقُولُ الْكَافِرُ} [النبأ: 40]، وعمومُ المفرد المضاف من قوله:
__________
(1) (ق): “فوائد شتى”.
(2) (ع): “مما كان”.
(3) هكذا في جميع النسخ، وهى قراءة أبي جعفر ونافع وابن كثير وأبي عمرو. وقرأ الباقون {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ}، انظر “المبسوط”: (ص/ 216].

(4/1305)


{وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} [التحريم: 12]، وقوله: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} [الجاثية: 29]، والمراد: جميعُ الكتبِ التي أحصيتْ فيها أعمالُهم.
وعموم الجمع المحلى باللام من قوله: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11)} [المرسلات: 11]، وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} [الأحزاب: 7]، وقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35]. . إلى آخرها. والمضاف من قوله: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285]، وعموم أدوات الشرط الأسماء (1) من قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112} [طه: 112]، وقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)} [الزلزلة: 7]، {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقرة: 197]، {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} [النساء: 78]، وقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، وقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام: 68]، {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 54].
هذا إذا كان الجواب طلبًا مثل هاتين الآيتين فإن كان خبرًا ماضيًا لم يلزم العموم، كقوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11]، و {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1].
وإن كان مستقبلًا فأكثر موارد للعموم كقوله: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 3]، وقوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: 30]، وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)} [الصافات: 35]، وقد لا تعُمُّ كقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون: 4].
__________
(1) (ظ وق): “الا بما”.

(4/1306)


فصل
ويستفادُ كونُ الأمر المطلَق للوجوب: مِنْ ذَمِّه لمن خالَفه، وتسميته إيَّاه عاصِيًا، وترتيبه عليه العقابَ العاجلَ أو (1) الآجلَ.
ويستفادُ كونُ النهي للتحريم: من ذَمِّه لمن ارتكبه، وتسميتِه عاصيًا، وترتيبِه العقابَ على فعله.
ويستفاد الوجوبُ: بالأمر تارة، وبالتصريح بالإيجاب والفَرْض والكَتْب، ولفظة “على”، ولفظة “حق” على العباد وعلى المؤمنين، وترتيب الدم والعقاب على الترك، وإحباط العمل بالترك، وغير ذلك.
ويستفادُ التحريمُ: من النَّهي، والتَّصريح بالتحريم والحظر، والوعيد على الفعل، وذم الفاعل، وإيجاب الكفارة بالفعل. وقول: “لا ينبغي” فإنها في لغة القرآن والرسول للمنع عقلًا أو شرعًا، ولفظة: “ما كان لهم كذا” (2)، “ولم يكنْ لهم”، وترتيب الحدِّ على الفعل، ولفظة: “لا يحل ولا يصلح”، ووَصْف الفعل بأنه فساد، وأنه من تزيين الشيطان وعمله، وأنّ الله لا يحبُّه، وأنه لا يرضاه لعباده، ولا يُزَكِّي فاعِلَه، ولا يكلِّمه، ولا ينظرُ إليه، ونحو ذلك.
وتستفادُ الإباحةُ من الإذن والتخيير، والأمر بعد الحظر، ونفي الجُنَاح والحَرَج والإثم والمؤاخذة، والإخبار بأنه معفوٌّ عنه، وبالإقرار على فعله في زمن الوحى، وبالإنكار على من حَرَّمَ الشيءَ، والإخبار بأنه خلق لنا كذا، وجعله لنا، وامتنانه علينا به، وإخباره عن فعل مَنْ
__________
(1) (ع): “دون”.
(2) (ق): “كذا وكذا”.

(4/1307)


قَبْلَنا لَهُ غَيْرَ ذامٍّ لهم عليه، فإن اقْتَرنَ بإخباره مدحٌ (1) دلَّ على رجحانه استحبابًا أو وجوبًا.
فصل (2)
وكل فعل عظَّمه الله ورسوله، أو مدحه، أو مدح فاعلَه لأجله، أو فَرِحَ به، أو أحبَّه أو أحبَّ فاعِلَه، أو رضي به أو رضي عن فاعله، أو وصفه بالطِّيْب أو البَرَكة أو الحُسْن (3)، أو نصبه سببًا لمحبته، أو لثواب عاجل أو آجل، أو نَصَبَهُ سببًا لذكره لعبده، أو لشكره له، أو لهدايته إياه، أو لإرضاء فاعله، أو لمغفرة ذنبه وتكفير سيئاته، أو لقبوله أو لنُصْرة فاعله، أو بشارة فاعله أو وَصَف فاعلَه بالطيب، أو وَصَف الفعل بكونه معروفًا، أو نفى الحزنَ والخوفَ عن فاعله، أو وعده بالأمن، أو نصبه سببًا لولايته، أو أخبر عن دعاء الرُّسُل بحصوله، أو وصفه بكونه قُرْبةً، أو أقسم به أو بفاعله، كالقَسَم بخيل المجاهدين وإغارتها، أو ضحك الرَّبِّ جلَّ جلالُه من فاعله أو عَجَبه به، فهو دليلٌ على مشروعيته المشتركة بين الوجوب والندب.
فصل (4)
وكلُّ فعل طلبَ الشرعُ تركَه أو ذمَّ فاعله، أو عتب عليه أو لعنه، أو مقته أو مَقَتَ فاعلَه (5)، أو نفى محَبَّتَهُ إيَّاه أو محبَّة فاعله، أو نفى
__________
(1) (ظ) زيادة: “مدح فاعله لأجله”.
(2) هذا الفصل وما سيأتي إلى (4/ 1316) نقله المؤلِّف من كتاب “الإمام في بيان أدلة الأحكام”: (ص/ 87 وما بعدها) للعزّ بن عبد السلام.
(3) (ع): “أو المن به”.
(4) انظر “الإمام”: (ص/ 105 – 106) للعِزِّ.
(5) (ق): “أو ذم فاعله، أو عيب عليه، أو مقت فاعله، أو لعنه أو نفى … “.

(4/1308)


الرضى به أو الرضاء عن فاعله، أو شبَّه فاعله بالبهائم أو بالشياطين، أو جعله مانعًا من الهدى أو من القبول (1)، أو وصفه بسوء أو كراهة، أو استعاذ الأنبياءُ منه أو أبغضوه، أو جُعِلَ سببًا لنفي الفلاح، أو لعذابٍ عاجل أو آجل، أو لذمٍّ أو لوم، أو لضلالة أو معصية، أو وُصِفَ بخبث أو رجس أو نَجَس، أو بكونه فِسقًا، أو إثمًا أو سببًا لإثم أو رجس أو لعن أو غضب، أو زوال نعمة أو حلول نقمة، أو حدّ من الحدود، أو قسوة أو خِزْىِ أو ارتهان نفس، أو لعداوة الله أو محاربته، أو للاستهزاء به وسُخْريته، أو جعله الربَّ سببًا لنسيانه لفاعله، أو وصف نفسه بالصبر عليه، أو بالحِلْم والصفح عنه، أو دعا إلى التوبة منه، أو وصف فاعله بخبث أو احتقار، أو نَسَبه إلى عمل الشيطان وتزيينه، أو تولِّي الشيطان لفاعله، أو وُصِف بصحفة ذم؛ مثل كونه ظلمًا أو بغيًا أو عدوانًا أو إثمًا، أو تبرأ الأنبياءُ منه أو من فاعله، أو شَكَوا إلى الله من فاعله، أو جاهروا فاعِلَه بالعداوة، أو نُصِبَ سببًا لخيبة فاعله عاجلًا أو آجلًا، أو رُتِّبَ (2) عليه حرمان الجنَّة، أو وُصِف فاعلُه بأنه عدُوٌّ لله أو أن الله عدُوُّه، أو أعلم فاعِلَهُ بحرب من الله ورسوله، أو حمَّل فاعلَهُ إثمَ غيره، أو قيل فيه: “لا ينبغي هذا ولا يصلحُ”، أو أمرَ بالتقوى عند السؤال عنه، أو أَمر بفعل يضادُّه، أو هَجْر فاعله، أو تلاعَنَ فاعلوه في الآخرة وتبرَّأ بعضُهم من بعض، أو وَصَف فاعله بالضَّلالة، أو أنه ليس من الله في شيءٍ، أو أنه ليس من الرَّسول وأصحابه، أو قُرِنَ بمحرم ظاهر التحريم في الحكم والخبرُ عنهما بخبر واحد، أو جَعَل اجتنابه سببًا
__________
(1) “أو من القبول” ليست في (ق).
(2) (ظ): “ثبت”.

(4/1309)


للفلاح، أو فِعْله (1) سببًا لإيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين، أو قيل لفاعله: “هل أنت منتهٍ”؟ أو نهى الأنبياءَ عن الدُّعاء لفاعله، أو رتَّبَ عليه إبعادًا وطردًا.
ولفظة: “قُتِل من فَعَله”، أو: “قاتل اللهُ من فَعَله”، أو أخبر أن فاعله لا يكلِّمُه اللهُ يومَ القيامة ولا ينظرُ إليه ولا يُزَكِّيه، وأن الله لا يُصْلِحُ عملَهُ، ولا يهدي كيدَهُ، وأن فاعلَه لا يُفلحُ ولا يكونُ يوم القيامة من الشهداء ولا من الشُّفَعاء، أو أن اللهَ يغار من فعله (2)، أو نبه على وجه المَفْسَدَة فيه، أو أخبر أنه لا يقبل من فاعله صرفًا ولا عَدْلًا، أو أخبر أن من فعله قُيِّضَ له شيطان (3) فهو له قرينٌ، أو جَعَل الفعلَ سببًا لإزاغة الله قلبَ فاعله أو صرفه عن آياته وفهمِ كلامه، أو سؤال اللهِ سبحانه عن علَّة الفعل لمَ فَعَل؟ نحو: {لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ} [آل عمران: 99]، {لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [آل عمران: 71]، {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} [ص: 75]، {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2]، ما لم يقترنْ به جوابٌ من المسؤول، فإن اقترن به جوابٌ كان بحسب جوابه.
فهذا ونحوُه يَدُلُّ على المنع من الفعل، ودلالتُه على التحريم أطرَدُ من دلالته على مجرد الكراهة.
وأما لفظة: “يكرهُهُ اللهُ ورسولُه”، أو “مكروه”، فأكثر ما تُسْتَعملُ في المحرم، وقدْ يستعملُ في كراهة التنزيه. وأما لفظة: “أما أنا فلا
__________
(1) (ق): “جعله”.
(2) (ع): “أو أن الله تعالى يعادى فعله”.
(3) (ع): “الشيطان”.

(4/1310)


افعلُ”، فالمتحقِّق منه الكراهة، كقوله: “أمّا أنا فَلا آكُلُ مُتَكِئًا” (1)، وأما لفظة: “ما يكون لك وما يكون لنا”، فاطَّرَدَ استعمالُها في المحرم نحو: {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} [الأعراف: 13]، {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا} [الأعراف: 89]، {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116].
فصل
وتستفادُ الإباحةُ: من لفظ الإحلال، ورفع الجُنَاح، والإذن، والعفو، وإن شئت فافعل، وإن شئت فلا تفعلْ، ومن الامتنان بما في الأعيان من المنافع، وما يتعلَّقُ بها من الأفعال، نحو: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا} [النحل: 80] ونحو: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] ومن السكوت عن التحريم، ومن الإقرار على الفعل في زمن الوحى، وهو نوعان: إقرار الكتاب تبارك وتعالى وإقرار رسوله إذا علم الفعل. فمن إقرار الرَّبِّ تعالى قول جابر: “كنا نَعْزِلُ والقرآنُ يَنْزِل” (2)، ومن إقرار رسوله قول حسَّان لعمر: “كنتُ أُنشد وفيه من هو خير منك” (3).
فائدة
قوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} [الأعراف: 31] جمعت أصولَ أحكام (4)
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (5398) من حديث أبي جحيفة -رضي الله عنه-.
(2) أخرجه البخاري رقم (5207) ومسلم رقم (1440).
(3) أخرجه البخاري رقم (3212)، ومسلم رقم (2485) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(4) (ع): “أحكام أصول”.

(4/1311)


الشريعة كلَّها، فجمعتِ الأمرَ والنهيَ والإباحةَ والخبر.
فائدة
تقديمُ العتاب على الفعل من الله تعالى لا يدُلُّ على تحريمه، وقد عاتب اللهُ تعالى نَبِيَّهُ في خمسة مواضعَ من كتابه في: (الأنفال وبراءة والأحزاب وسوَرة التحريم وسورة عبس) خلافًا لأبي محمد ابن عبد السلام حيث جعل العتبَ من أدلة النهي (1).

فائدة
لا يصحُّ الامتنانُ بممنوع منه خلافًا لمن زعم أنه يَصِحُّ، ويُصْرف الامتنانُ إلى خلقِه للصبر عنه (2).
فائدة (3)
قوله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)} [النساء: 77] جمعت بين التزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة، والحضِّ على فعل الخير، والزَّجر عن فعل الشَّرِّ، إذ قوله: {وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)} يتضمَّنُ حَثَّهْمْ على كسب الخير وزجرهم عن كسب الشر.
فائدة (4)
التعجُّبُ كما يدُلُّ على محبَّة الله للفعل نحو: “عَجِبَ ربُّكَ من
__________
(1) في كتابه “الإمام”: (ص/ 107).
(2) انظر المصدر السابق: (ص/ 86).
(3) انظر المصدر السابق: (ص/ 134).
(4) انظر “الإمام”: (ص/ 133 – 134) للعزِّ.

(4/1312)


شَابٍّ ليستْ له صَبْوةٌ” (1)، و: “يعجَبُ ربُّكَ من رجلٍ ثارَ من فِرَاشِهِ ووِطائِهِ إلى الصَّلاة” (2) ونحو ذلك، فقد يدُلُّ على بُغْض الفعل كقوله: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} [الرعد: 5]، وقوله: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات: 12]، وقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} [البقرة: 28]، وقوله: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ} [آل عمران: 101].
وقد يدلُّ على امتناع الحكم وعدم حُسْنه، نحو: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} [التوبة: 7]، وقد يدلُّ على حسن المنع قدرًا، وأنه لا يليق به فِعْلُهُ، كقوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران: 86].
فائدة (3)
نفي التَّسَاوي في كتاب الله قد يأتي بين الفعلين، كقوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [التوبة: 19] وقد يأتي بين الفاعلين، نحو: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95]، وقد يأتي بينَ الجزاءينِ كقوله: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20].
وقد جمع اللهُ بين الثلاثةِ في آيةٍ واحدة، وهي قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21)}
__________
(1) أخرجه أحمد: (28/ 600 رقم 17371)، وأبو يعلى رقم (1749)، والطبراني في “الكبير”: (17/ 309) وغيرهم من حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- بنحوه، وفي سنده ابن لهيعة، وأعله أبو حاتم بالوقف كما في “العلل”: (2/ 116).
(2) تقدم تخريجه (3/ 1178).
(3) انظر “الإمام”: (ص/ 139 – 142) مع اختلاف في التمثيل، فقد جعل العز الآية الأولى من نفي التساوي بين الجزائين.

(4/1313)


وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} [فاطر: 19 – 22] فالأعمى والبصيرُ: الجاهلُ والعالم، والظلمات والنُّور: الكفر والإيمان، الظل والحرور: الجنة والنار، الأحياء والأموات: المؤمنونَ والكفَّار (1).
فائدة (2)
ضَرْبُ الأمثالِ في القرآن يُستفادُ منه أمورُ التَّذكير والوعظ، والحَثِّ والزَّجر، والاعتبار والتَّقرير، وتقريب المُراد للعقل، وتصويره في: صورة المحسوس، بحيث يكون نسبتُه للعقل كنسبته المحسوس إلى الحس.
وقد تأتي أمثالُ القرآن مشتملةً على بيان تفاوُت الأجر، وعلى المدح والذَّمِّ، وعلى الثواب والعقاب، وعلى تفخيم الأمر أو تحقيره، وعلى تحقيق أمر وإبطال أمر.
فائدة (3)
السياق يرشدُ إلى تبيين المجمل، وتعيين المحتمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهو من أعظم القرائن الدالَّة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره، وغالط في مناظرته. فانظر إلى قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)} [الدخان: 49]، كيف تجدُ سياقَه يدُلُّ على أنه الذليلُ الحقيرُ.
__________
(1) (ظ): “المؤمن والكافر”.
(2) انظر: “الإمام”: (ص / 143 – 157) ملخَّصًا.
(3) المصدر السابق: (ص / 159).

(4/1314)


فائدة (1)
إخبار الرب تعالى (2) عن المحسوس الواقع له عدة فوائد:
منها: أن يكونَ توطئةً وتَقْدِمةً لإبطال ما بعدَه.
منها: أن يكونَ موعظةً وتذكيرًا.
ومنها: أن يكونَ شاهدًا على ما أخبر به من توحيده وصدق رسوله وإحياء الموتى (3).
ومنها: أن يُذكَرَ في معرِض الامتنان.
ومنها: أن يذكرَ في معرِض اللَّوم (4) والتوبيخِ.
ومنها: أن يذكرَ في معرِض المدح والذَّمِّ.
ومنها: أن يذكرَ في معرِض الإخبار عن إطلاع الرَّبِّ عليه، وغير ذلك من الفوائد.
فائدة
قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)} [يونس: 87] هو من أحسنِ النَّظْم وأبدعِه، فإنه ثنَّى أولًا؛ إذ كان موسى وهرون هما الرسولان المطاعان، ويجبُ على بني إسرائيل طاعةُ كلٍّ منهما سواء،
__________
(1) المصدر السابق: (ص/ 162 – 168) مختصرًا.
(2) من قوله: “تعالى: (ذق إنك … ) إلى بها سقط من (ظ).
(3) (ع): “وإيتاء القربى”.
(4) (ع): “الذم”.

(4/1315)


وإذا تَبَوَّءا البيوتَ لقومهما فهم تَبَعٌ لهما، ثم جَمَع الضميرَ فقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}؛ لأن إقامتها فرضٌ على الجميع، ثم وحَّده في قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)}؛ لأن موسى هو الأصل في الرسالة وأخوه رِدْءًا ووزيرًا، فكما كان الأصل في الرسالة فهو الأصلُ في البشارة، وأيضًا فإن موسى وأخاه لما أُرسلا برسالة واحدة كانا رسولًا واحدًا كقوله تعالى: {إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالمِينَ} [الزخرف: 46] فهذا الرسول هو الذي قيل له: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)}.
فائدة
الفقهاءُ يقولون: عَدَم المانع شرطٌ في ثبوتِ الحكمِ؛ لأن الحكمَ يَتَوَقَّفُ عليه، ولا يلزمُ من تحَقُق عدم المانع ثبوتُ الحكم، وهذا حقيقةُ الشرط، واعْتَرَضَ على هذا الشِّهابُ القَرَافِيُّ (1)، وزعم أنه غيرُ صحيح بأن قال: “المشكوكُ فيه ملغىً في الشريعة، فإذا شككنا في الشرط أو في السبب لم يترتَّبِ الحكمُ، وإذا شككنا في المانع رتبنا الحكمَ، كما إذا شككنا في رِدَّة زيد قبل وفاته، أو في طلاقه لامرأته لم يمنع ذلك تَرَتُّبَ الميراث”.
ثم قال: “فلو كان عدمُ المانع شرطًا لاجتمعَ النقيضانِ فيما إذا شَككْنا في طَرَيان المانع؛ لأن الشَّكَّ في أحد النقيضين يُوجِبُ الشَّكَّ فيِ النقيضِ الآخر، فإذا شَكَكْنا في وجودِ المائع شككنا في عدمه ضَرُورَة، فلو كان عدمُه شرطًا لكنَّا قد شككنا في الشرط، والشَّكُّ في الشرط يمنعُ تَرَتُّبَ الحُكم، والشَّكُّ في المانعِ لا يمنع تَرَتُّبَ الحُكم، فيجتمعُ النقيضان”.
__________
(1) في كتابه “الفروق”: (1/ 111 – 112).

(4/1316)


قلت: وهذا الاعتراضُ في غايةِ الفساد، فإن الشَّكَّ في عدم المانع إنما لم (1) يؤثِّرْ إذا كان عدمُه مستصْحَبًا بالأصل، فيكونُ الشَّكُّ في وجودِه ملغىً بالأصلِ فلا يؤثِّرُ الشَّكُّ، ولا فرقَ بيَنه وبينَ الشَّرط في ذلك، فلو شكَكْنا في إسلام الكافِرِ وعِتْقِ العبد عندَ الموت، لم نُوَرِّثْ قريبَهُ المسلمَ منه، إذا الأَصل بقاءُ الكفر والرِّقِّ، وقد شككنا في ثُبوتِ شرطِ التَّوريثِ.
وهكذا إذا شككنا في الرِّدَّة أو الطلاق لم يمنع الميراث؛ لأن الأصل عَدَمُهُما، ولا يمنعُ كون عدمهما شرطًا ترتُّب الحكم مع الشَّكِّ فيه؛ لأنه مستندٌ إلى الأصل، كما لم يمنع الشك في إسلام الميِّت الذي هو شرطُ التوريث منه؛ لأن بقاءَهُ مستَنِدٌ إلى الأصل، فلا يمنعُ الشك فيه من ترتب الحُكْم، فالضابطُ: أن الشَّكَّ في بقاء الوصف على أصله، أو خروجه عنه لا يؤثِّرُ في الحكم استنادًا إلى الأصل، سواءٌ كان شرطًا أو عدم مانع، فكما لا يمنعُ الشَّكُّ في بقاء الشرط من ترتب الحكم، فكذلك لا يمنعُ الشَّكُّ استمرارَ عدم المانع من ترتُّب الحُكم، فإذا شككنا هل وُجِد مانع الحكم أم لا؟ لم يمنع من تَرَتُّب الحكم ولا من كون عدمِهِ شرطًا؛ لأن استمرارَهُ على النفيِ الأصليِّ يجعلُه بمنزلة العَدَم المحقَّقِ في الشَّرْع، وإن أمكنَ خلافُه، كما أن استمرارَ الشرط على ثُبوته الأصلي يجعلُه بمنزلة الثابت المحقق شرعًا، وإن أمكن خلافُه (2)، فعلم أن إطلاق الفقهاء صحيحٌ، واعتراض هذا المعترض فاسدٌ.
ومما يُبيِّنُ لك الأمرَ اتِّفاقُ الناس على أنَّ الشرط ينقسمُ إلى
__________
(1) سقطت من (ق).
(2) (ق): “ما لم يُعْلَم”.

(4/1317)


وجودي وعدمى، يعني: أن وجود كذا شرط في الحكم، وعدم كذا شرط فيه، وهذا متَّفقٌ عليه بين الفقهاء والأصوليين والمتكلمين وسائر الطوائف، وما كان عَدَمُهُ شرطًا فوجودُهُ مانِعٌ، كما أن ما وجوده شرطٌ فعدمه مانعٌ.
فعدمُ الشرطِ مانع من موانع الحكم، وعدم المانع شرط من شروطه، وبالله التوفيق.
فائدة
الحاكمُ محتاج إلى ثلاثة أشياءَ لا يَصِحُّ له الحكمُ إلا بها: معرفة الأدلة، والأسباب، والبينات.
فالأدلَّةُ، تُعَرِّفْهُ الحكمَ الشَّرعيَّ الكُلِّيَّ. والأسبابُ، تُعَرِّفُهُ ثبوتَه في هذا المحلِّ المُعيَّن أو انتفاءَه عنه. والبَيِّنات، تعرِّفْهُ طريقَ الحكم عند التَّنازعُ، ومتى أخطأ في واحدٍ من هذه الثلاثة أخطأ في الحكم، وجميعُ خطأ الحكَّام مداره على الخطأ فيها، أو في بعضها.
مثالُ ذلك: إذا تنازعَ عندَه اثنان في ردِّ سلعة مشتراة بعيب، فحكمُهُ موقوفٌ على العلم بالدَّليل الشَّرعي الذي يُسَلِّطُ المشتريَ على الرَّدِّ، وهو إجماعُ الأمةِ المستندُ إلى حديث المُصرَّاة وغيره. وعلى العلم بالسَّبب المثبتِ لحكم الشَّارع (1) في هذا البيع المعَيَّن، وهو كون هذا الوصف عيبًا يسلَّط على الرَّدِّ أم ليس بعيب، وهذا لا يتوقَّفُ العلمُ به على الشَّرع بل على الحِسِّ أو العادة أو العُرْف أو الخبر، ونحو ذلك. وعلى البيِّنة التي هي طريقُ الحكم بين
__________
(1) (ع): “التنازع”.

(4/1318)


المتنازعين، وهى كلُّ ما يُبيِّن له صدق أحدِهما يقينًا أو ظنًّا من إقرار أو شهادةِ أربعةِ عدول، أو ثلاثة في دعوى الإعسارِ بتَلَف مالِه على أصحِّ القولين، أو شاهدين أو شهادة رجل وامرأتين، أو شاهد ويمين، أو شهادة رجل واحد وهو الذي يُسَمِّيه بعضُهم الإخبار، ويُفَرَّق بينه وبين الشهادة بمجرَّدِ اللفظ، أو شهادة امرأة واحدة كالقابِلة والمُرْضعَة، أو شهادة النساء منفرداتٍ حيث لا رَجُلَ معهنَّ؛ كالحمَّامَات والأعراس على الصَّحيح الذي لا يجوزُ القولُ بغيره. أو شهادةُ الصبيان على الجِراح إذا لم يتفرَّقوا، أو شهادة الأربع من النِّسوة، أو المرأتين، أو القرائن الظاهرة عند الجمهور كمالك وأحمد وأبي حنيفة، وكتنازع الرجل وامرأته في ثيابهما وكتُب العلم، ونحو ذلك، كتنازع النَّجَّار والخيَّاط في القَدُوم والجَلَم (1)، والإبرة والذِّراعِ، وكتنازع الورَّاق والحدَّاد في الدَّواة والمسطرة والقَلَم، والمِطْرقة والكَلْبَتَيْنِ والسَّنْدَان (2)، ونحو ذلك مما يقضي فيه أكثرُ أهلِ العلم لكل واحد من المتنازعين بآلة صَنْعَتِهِ بمجرَّد دعواه.
والشافعيُّ يقسم الخُفَّ بين الرَّجل والمرأة، ويقسِمُ الكتابَ الذي يُقرَأُ فيه (3) بينهما، وكذلك طيلسانه وعِمامته.
أو الشاهد واليمين، أو اليمين المردودة، أو النُّكول المجرد، أو القَسَامة، أو الْتِعان الزوج ونكول الزوجة، أو شهادة أهل الذِّمَّة في الوصِيَّة في السفر، أو شهادة بعضهم على بعض، أو الوصف للُقَطَةٍ،
__________
(1) الجَلَم: مقص يستعمل لجزّ الصوف، “اللسان”: (12/ 102).
(2) الكلبتان: آلة تكون مع الحدَّاد يأخذ بها الحديد المحمى، “اللسان”: (1/ 726)، والسندان: هي الزُّبرة التي يضرب عليها الحداد الحديد. “اللسان”: (15/ 91).
(3) (ظ): “يقرأونه”.

(4/1319)


أو شهادة الدار (1)، أو الحَبَل في ثُبوت زنا التي لا زوج لها، أو رائحة المسكر أو قيئه، أو وجود المسروق عند من ادُّعِيَ عليه سَرِقَتُهُ على أصحِّ القولين، أو وجوه (2) الآجُرِّ ومعاقد القُمُط وعقد الأَزَجَ (3) عند من يقول به، فهذه كلها داخلة في اسم البيِّنة، فإنها اسم لما يُبَيِّنُ الحقَّ ويُوضِّحُهُ.
وقد أرشد الله سبحانه إليها في كتابه، حيث حكى عن شاهد يوسفَ اعتبارَه لقدِّ القميص، وحكى عن يعقوب وبنيه أخذَهُمُ البضائعَ التي باعوا بها بمجرَّدِ وجودِهم لها في رِحالِهم اعتمادًا على القرائن الظاهرة، بأنها وُهِبَتْ لهم ممن يمْلِكُ التَّصَرُّفَ فيها، وهم لم يشاهدوا ذلك، ولا أُعْلِموا به، ولكن اكتفوا بمجرد القرينة الظاهرة.
وكذلك سليمانُ بن داود حَكَمَ للمرأةِ بالوَلَد بقرينةِ رحْمَتِها له لما قال: “ايتُوْنِي بالسِّكِّيْنِ أَشُقَّهُ بَيْنَكما، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لا تَفْعَلْ هو ابْنُها، فَقَضَى به لها” وهذا من أحسن القرائن وألطفها.
وكذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – أَمَرَ بتعذيب أحد ابني الحُقَيق اليهودي ليَدُلَّهُ على كَنز حُيَيِّ بن أخطبَ وقد ادَّعى ذَهابَهُ، فقال: “هو أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَالعَهْدُ قَرِيبٌ” (4)، فاستدلَّ بهذه القرينة الظاهرة على كَذِبهِ في دعواه، فأمر الزُّبيرَ أن يُعَذِّبَهُ حتى يُقِرَّ به، فإذا عذَّبَ الوالي المتَّهّمَ إذا ظهر له كَذِبُهُ ليُقِرَّ بالسرقة لم يخرجْ عن الشريعة، إذا ظهرت له رِيبة (5)، بل
__________
(1) وهي: أن يتنازع رجلان دابة فيتركاها فمن دخلت داره فهي له.
(2) (ق): “وجود”.
(3) تقدم شرح هذه الكلمات فيما سبق (3/ 1036).
(4) تقدم الحديثان؛ حكومة سليمان: (ص / 12)، وتعذيب ابني الحقيق: (ص/ 1037).
(5) (ع وق): “ريبته”.

(4/1320)


ضَرْبُهُ له في هذه الحال من الشَّرع.
وقد حَبَسَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في تُهْمَةٍ، وقد عزم عليٌّ والزُّبَيْر على تجريد المرأة التي معها الكتاب وتفتيشها، لما تَيَقَّنا أن الكتابَ معها (1). فإذا غلب على ظنِّ الحاكم أن الحال المسروق أو غيره في بيت المُدَّعَى عليه أو معه، فأمر بتفتيشِهِ حتى يظهرَ المالُ، لم يكن بذلك خارجًا عن الشرع.
وقد قال النعمانُ بن بشير للمُدَّعِي على قوم سَرِقةَ مالٍ لهم: إن شئتمْ أن أضربَهم فإن ظهرَ متاعُكُمْ عندَهم، وإلا أخذتُ من ظهورِكم مثلَه، يعني: مثلَ ضَرْبِهِمْ، فقالوا: هذا حكمُك؟ قال: بل هذا حكمُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (2). رواه أحمد (3).
والرجوعُ إلى القرائن في الأحكام متَّفَقٌ عليه بين الفقهاء، بل بين المسلمين كلِّهم. وقد اعتمد الصحابةُ على القرائن في الحدود؛ فرجموا بالحَبَل وجَلَدوا في الخَمْرِ بالقَيْءِ والرَّائحة، وأمر النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – باستنكاه المُقِرِّ بالزِّنا (4) وهو اعتمادٌ على الرَّائحة.
والأمة مُجْمِعَةٌ على جواز وطء الزوج للمرأة التي تُهديها إليها النساء ليلة العُرْس، ورجوعه إلى دلالة الحال أنها هي التي وقع عليها العقدُ وإن لم يَرَها ولم يشهدْ بتعيينها رجلان.
__________
(1) تقدم تخريج هذه الأحاديث: (3/ 1037، 1089) من هذا الكتاب.
(2) أخرجه أبو داود رقم (4382)، والنسائي: (8/ 66) من حديث النعمان بن بشير.
(3) لم أر من عزاه إلى أحمد غير المصنف وقد ذكره هو في “الزاد” (5/ 52) ولم يعزه إلى أحمد، فلعله في غير المسند.
(4) أخرجه مسلم رقم (1695) من حديث بريدة بن الحُصَيب -رضي الله عنه-. والاستنكاه: الشم.

(4/1321)


ومُجْمعةٌ على جواز أكل الهدية وإن كانت من (1) فاسق، أو كافر أو صبيٍّ (2)، ومن نازع في ذلك لم يُمكنْه العملُ بخلافِهِ، وإِنْ قاله بلسانه.
ومجمعةٌ على جواز شراء ما بيد الرجل اعتمادًا على قرينة كونه في يده، وإن جازَ أن يكونَ مغصوبًا، وكذلك يجوزُ إنفاقُ النقدِ إذا أخبر بأنه صحيحٌ رجلٌ واحدُ، ولو كان ذِمِّيًّا، فالعملُ بالقرائن ضروري في الشرع والعقل والعُرْف (3).

فائدة (4)
الفرق بين دليل مشروعية الحكم وبين دليل وقوع الحكم فالأولُ يتوقَّفُ على الشارع، والثاني يُعْلَم بالحِسِّ أو الخبر أو الشهادة (5).
فالأول: الكتابُ والسُّنَّة ليس إلا، وكلُّ دليل سواهما فمستنبطٌ منهما.
والثاني: مثل العلم بسبب الحكم وشروطه وموانعه، فدليلُ مشروعيته يرجعُ فيه إلى أهل العلم بالقرآن والحديث، ودليلُ وقوعه يرجعُ فيه إلى أهل الخبرة بتلك الأسباب والشُّروط والموانع.
__________
(1) (ق وظ): “مع”، ومحتملة للأمرين في (ع).
(2) (ظ): “فاسق أو كان صبي”.
(3) انظر ما تقدم في هذا الكتاب (3/ 1037 – 1089 – 1096)، و”الطرق الحكمية”: (ص/5 – 15).
(4) (ق): “قاعدة”.
(5) (ظ): “الزيادة”.

(4/1322)


ومن أمثلة ذلك: بيع المُغَيَّب في الأرض من السَّلْجم والجَزَر والقُلْقاس وغيره؛ فدليل المشروعية أو منعها موقوفٌ على الشارع لا يُعلمُ إلا من جهته، ودليلُ سبب الحكم أو شروطه أو مانعه يرجعُ فيه إلى أَهْله.
فإذا قال المانِعُ من الصِّحَّة: هذا غَرَرٌ؛ لأنه مستورٌ تحت الأرض، قيل: كون هذا غَرَزًا أو ليس بغَرَر، يرجعُ إلى الواقع لا يتوقَّفُ على الشرع، فإنه من الأمور العاديَّة المعلومة بالحِسِّ أو العادة، مثل كونه صحيحًا أو سقيمًا، وكبارًا أو صغارًا، ونحو ذلك، فلا يُسْتدلُّ على وقوع أسباب الحكم بالأدلَّة الشرعية، كما لا يُسْتَدلُّ على شرعيته بالأدلة الحسية، فكود الشيء متردِّدًا بين السَّلامة والعَطَب، وكونه مما يجهلُ عاقبتُهُ وتطوى مغَبَّتُه أو ليس كذلك يُعْلمُ بالحِسِّ أو العادة لا يتوقَّفُ على الشَّرع، ومن استدلَّ على ذلك بالشرع، فهو كمن استدلَّ على أن هذا الشرابَ مثلًا مسكرٌ بالشَّرع، وهذا ممتنعٌ بل دليلُ إسكاره الحِسُّ، ودليل (1) تحريمه الشرعُ.
فتأمَّلْ هذه الفائدةَ ونفعَها، ولهذه القاعدة عبارةٌ أخرى وهي: أن دليلَ سببية الوصف غيرُ دليل ثبوته، فيستدلُّ على سببيته بالشرع، وعلى ثبوته بالحِسِّ أو العقل أو العادة، فهذا شيءٌ وذاك شيءٌ.
فائدة
الأمر المطلق، والجرحُ المُطلق، والعلمُ المُطلق، والترتيبُ المُطلق، والبيعُ المُطلق، والماء المُطلق، والملكُ المُطلق، غيرُ مُطلقِ الأمرِ، والجرح، والعلم … إلى آخرها، والفرق بينهما من وجوه:
__________
(1) من قوله: “هذا الشراب … ” إلى هنا ساقط من (ع).

(4/1323)


أحدها: أن الأمر المطلق لا ينقسمُ إلى أمر الندب وغيره، فلا يكون موردًا للتقسيم. ومطلق الأمر ينقسمُ إلى أمر إيجاب، وأمر نَدْب، فمطلقُ الأمر ينقسمُ، والأمر المطلقُ غيرُ منقسمٍ.
الثاني: أن الأمرَ المطلقَ فردٌ من أفراد مطلق الأمر، ولا ينعكسُ.
الثالث: أن نفيَ مطلَقِ الأمرِ يستلزمُ نفيَ الأمرِ المطلَق، دونَ العكس.
الرابع: أن ثبوت مطلَقِ الأمرِ لا يستلزمُ ثبوتَ الأمرِ المطلَقِ، دون العكس.
الخامس: أن الأمرَ المطلَقَ نوع لمطلق الأمر، ومطلَقُ الأمرِ (1) جنسٌ للأمر المطلق.
السادس: أن الأمرَ المطلقَ مقيدٌ بالإطلاق لفظًا، مجرَّدٌ عن التقييد معنى، ومطلق الأمر مجرَّد عن التقييد لفظًا مستعملٌ في المقيَّد وغيره معنًى.
السابع: أن الأمرَ المطلقَ لا يصلُحُ للمقيَّد، ومطلَقُ الأمرُ يصلُحُ للمطلَقِ والمُقيَّد.
الثامن: أن الأمرَ المطلَقَ هو المُقَيَّدُ بقيْد (2) الإطلاق، فهو متضمِّن للإطلاق والتَّقييد، ومطلق الأمر غير مقيَّد، وإن كان بعض أفراده مقيَّدًا.
التاسع: أن من بعضِ أمثلةِ هذه القاعدة: الإيمان المُطلق ومطلق الإيمان، فالإيمان المطلق لا يطلقُ إلا على الكامل الكمالَ المأمور به،
__________
(1) من قوله: “لا يستلزم … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) (ع): “تقييد”.

(4/1324)


ومطلقُ الإيمان يطلقُ على النَّاقص والكامل، ولهذا نفى النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – الإيمانَ المُطلق عن الزَّاني وشارب الخمر والسَّارق ولم ينفِ عنه مطلق الإيمان، فلا (1) يدخل في قوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)} [آل عمران: 68]، ولا في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} [المؤمنون: 1]، ولا في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]، إلى آخر الآيات، ويدخلُ في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]، وفي قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9]، وفي قوله – صلى الله عليه وسلم -: “لا يُقْتَل مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ” (2)، وأمثال ذلك.
ولهذا كان قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] نفيًا للإيمان المطلق لا لمطلق الإيمان لوجوه.
منها: أنَّه أَمرهم أو أَذِن لهم أن يقولوا: أسلمنا، والمنافق لا يقالُ له ذلك.
ومنها: أنَّه قال: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} ولم يقل: قالَ المنافقونَ.
ومنها: أن هؤلاء هم الجُفَاةُ الذين نَادوا رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – من وراء الحجرات، ورفعوا أصواتَهم فوقَ صوته غلظة منهم وجفاءً لا نفاقًا وكفرًا.
ومنها: أنه قال: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}، ولم ينْفِ دخولَ الإسلام في قلوبهم، ولو كانوا منافقين لنفى عنهم الإسلامَ كما نفى الإيمان.
ومنها: أنه قال: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا}
__________
(1) (ظ): “لئلآ”.
(2) أخرجه البخاري رقم (111) من حديث علي -رضي الله عنه-.

(4/1325)


أي: لا ينْقِصكم، والمنافق لا طاعةَ له (1).
ومنها: أنه قال: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ} [الحجرات: 17]، فأثبت لهم إسلامًا ونهاهم أن يَمُنُّوا علي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ولو لم يكنْ إسلامًا صحيحًا لقال: لم تُسْلِموا، بل أنتم كاذبون كما كذبهم في قولهم: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] لما لم تطابقْ شهادتُهم اعتقادَهم.
ومنها: أنه قال: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ} ولو كانوا منافقينَ لما منَّ عليهم.
ومنها: أنه قال: {أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} ولا ينافي هذا قوله: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} فإنه نفي (2) الإيمان المطلق، ومنَّ عليهم بهدايتهم إلى الإسلام الذي هو متضمِّنٌ لمطلق الإيمان.
ومنها: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما قَسَم القَسْمَ قال له سعد: أعطيتَ فلانًا وتركتَ فلانًا وهو مؤمن، فقال: “أو مُسْلِمٌ” (3) ثلاث مرات، فأثبت له الإسلامَ (4) دونَ الإيمانِ. وفي الآية أسرارٌ بديعة ليس هذا موضِعَها. والمقصودُ: الفرقُ بين الإيمان المطلقِ ومطلق الإيمان. فالإيمانُ المُطلق يمنعُ دخولَ النار، ومطلق الإيمان يمنع الخلودَ فيها (5).
العاشر: أنك إذا قلت: الأمرُ المطلقُ فقد أدخلت الَّلام على الأمرِ، وهي تُفيدُ العمومَ والشُّمولَ، ثم وصفته بعد ذلك بالإطلاق،
__________
(1) (ق): “والمنافقون لا طاعة لهم”.
(2) (ع): “لا ينفي” وهو خطأ.
(3) أخرجه البخاري رقم (27)، ومسلم رقم (150) من حديث سعد بن أبي وقاص – رضى الله عنه-.
(4) بعده في (ق): “ثلاث مرات”.
(5) وانظر “مجموع الفتاوى”: (7/ 238 – 253).

(4/1326)


بمعنى: أنه لم يُقَيَّدْ بِقَيدٍ يُوجِبُ تخصيصَه من شرط أو صفة أو غيرهما، فهو عامٌّ في كلِّ فرد من الأفَراد التي هذا شأنُها.
وأما مطلق الأمر؛ فالإضافة فيه ليست للعموم بل للتَّمييز، فهو قَدْرٌ مشتركٌ مطلقٌ (1) لا عامٌّ، فيصدق بفردٍ من أفراده، وعلى هذا فمطلقُ البيع جائزٌ والبيع المطلق ينقسمُ إلى جائز وغيره، والأمر المُطلق للوجوب، ومطلق الأمر ينقسمُ إلى الواجب والمندوب. والماء المطلقُ طَهور، ومطلقُ الماء ينقسم إلى طهور وغيره. والمُلك المطلق هو الذي يثبتُ للحُرِّ، ومطلقُ المُلك يُثبتُ للعبد.
فإذا قيل: العبدُ هل يملكُ أم لا يملكُ؟ كان الصوابُ إثباتَ مطلق المُلك له دون الملك المُطلق.
وإذا قيل: هل الفاسقُ مؤمنٌ أو غيرُ مؤمن؟ فهو على هذا التَّفصيل، والله تعالى أعلم.
فبهذا التحقيق يزولُ الإشكال في مسألة المندوب: هل هو مأمورٌ به أم لا (2)؟ وفي مسألة الفاسق المِلِّي: هل هو مؤمنٌ أم لا؟ (3).
فائدة (4)
نصَّ الشافعيُّ على أن البيعَ لا ينعقدُ إلا بالإيجاب والقبول (5)،
__________
(1) (ظ): “مشترك بين مطلق … “!.
(2) انظر “المسودة”: (ص / 6).
(3) انظر كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية.
(4) من هنا وقع في النسخ اضطراب في ترتيب الفوائد والفصول، فجرينا في -الأغلب- على التزام ما في (ظ) وهي الموافقة للنسخ المطبوعة، إلا في مواضع فقد أخذنا بترتيب (ع وق) أو أحدهما؛ لفائدة اقتضت ذلك، واكتفينا بهذا التنبيه عن ذكره في كل موضع.
(5) لم أجده منصوصًا في الأم، فلعله في كتاب آخر، وقد نقله عنه عامة أصحابه.

(4/1327)


وخرَّج ابنُ سُرَيج (1) له قولًا إنه ينعقد بالمُعاطاة (2)، واختلف أصحابُه من أين خرَّجه؟.
فقال بعضُهم: خرَّجه من قوله في الهَديْ إذا عطب قبل المحل، فإنَّ المُهدي ينحرُهُ، ويغمس نعلَه في دمِهِ، ويخلِّي بينه وبين المساكين، ولا يحتاجُ إلى لفظ بل القرينة كافية.
واعترض على هذا التخريج بأن ذلك من باب الإباحات وهي مبنيَّةٌ على المُسامحات، يغْتفَرُ فيها ما لا يُغْتَفَر في غيرها، كتقديم الطعام للضَّيف، والبيع من باب المعاوضات التي تعقدُ على المشاحَّة، ويطلب الشارعُ فيها قطع النزاع والخصومة بكلَّ طريق.
وقال بعضُهم: هو مخرَّج عن مسألة الغَسَّال والطبَّاخ ونحوهما، فإنه يستحقُّ الأجرة مع أنه لم يسم شيئًا.
واعتُرِض على ذلك بأنه لا نصَّ للشافعيِّ فيها إلا عدم الاستحقاق، وإنما قال بعض أصحابه: يستحقُّ الأجرة.
وقال بعضُهِم: هو مخرَّج من مسألة الخلع إذا قال لها: أنْتِ طالِقٌ إن أَعْطَيْتِني ألفًا، فوَضَعَتْها بينَ يديه، فإنها تطلقُ ويملك الألف، مع أنه لم يصدرْ منها لفظٌ يدلُّ على التمليك.
وحُكِي أنْ الشيخ عز الدين ابن عبد السلام كان يرجِّحُ التَّخريجَ (3) من هاهنا. واعْتُرِض عليه بأن في الخلع شائبةَ التَّعلُّق (4) والمعاوضة،
__________
(1) أبو العباس أحمد بن عمر ابن سُرَيْج من أئمة الشافعية ت (306).
(2) انظر: “الوسيط”: (3/ 8)، و “المجموع”: (9/ 153).
(3) (ع): “التحريم”.
(4) (ق): “التعليق”.

(4/1328)


وأما البيع فمعاوضةٌ محضةٌ، ولهذا يصحُّ الخلعُ بالمجهول دون البيع.
فائدة
ما عُلق جوار البَدَل فيه على فقد المُبْدل، فإذا فُقِدا معًا فهل يجبُ عليه تحصيل المُبدل أو يتخير بينه وبين البَدَل؟.
فيه خلافٌ، وعليه إذا وجبت عليه بنتُ مخاضٍ فعَدِمها فابنُ لَبُون.
فإن عدمه فقولان:
أحدهما: يتخيَّر بينهما في الشِّراء، والثاني: أنه يتعيَّنُ شراء الأصل.
ومنها: أنه لو ملك مئتين من الإبل، وقلنا: يخرجُ أربعَ حِقاقٍ تعيينًا (1) فعدمها (2)، فهل يجوز أن يشتريَ خمس بنات لَبون؛ فيه خلافٌ.
فائدة
ثلاثةٌ من الصحابة جمعوا بين كونهم أنصارًا مهاجرين، ذكرهم ابن إسحاق في “سيرته” (3):
أحدهم: ذَكوان بنُ عبد قيس من بني الخَزْرج، قال ابن إسحاق: كان خرج إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكان معه بمكة ثم هاجر منها إلى المدينة، وكان يقال له: مهاجري أنصاري شهد بدرًا (4)، وقتل بأُحُد شهيدًا.
__________
(1) غير بيّنة، وهكذا استظهرت قراءتها.
(2) من قوله: “فابن لبون” … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(3) انظر “سيرة ابن هشام” -على الترتيب-: (1/ ق 2/ 460، 464، 465).
(4) “شهد بدرًا” سقطت من (ع).

(4/1329)


والعباس بن عبَادةَ بن نَضْلَةَ من بني الخَزْرج أيضًا، قال ابن إسحاق: كان فيمن خَرَج إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو بمكة فأقام معه بها، قُتل يوم أُحُد شهيدًا.
وعُقْبة بن وهب خرج إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مهاجرًا من المدينة إلى مكة وكان يقالُ له: مهاجري أنصاري حليف لبني الخَزْرج.
فائدة (1)
إذا قال الحاكم المولَّى: “كنت حَكمْتُ بكذا” قُبِل قوله عند أحمد والشَّافعي والجمهور، وعند مالك لا يقبَل قولُه.
قال الجمهور: هو يملكُ الإنشاء فيملكُ الإقرارَ كوليِّ المُجْبَرة إذا قال: زوَّجْتُها من فلان، قُبِلَ قولُه اتفاقًا.
قال أصحابُ مالكٍ: الفرقُ يبنهما أن وَلِيَّ المجْبرة غيرُ متَّهَمْ عليها (2) لكمال شفقته وكمال رعايته لمصالح ابنته، بخلاف الحاكم.
قال أصحاب القول: وكذلك نحن إنما نقبلُ قولَ الحاكم: حكمت، حيث تنتفي التُّهمة، فإما إذا كان تهمةٌ لم يُقْبَلْ.
قال أصحاب مالك: هذا نفسُه في مظنَّة التُّهمةِ فوجب ردُّه، كما يُرَدُّ حكمُه لنفسه، وحكمه بعلمه، فمظنَّةُ التُّهمة كافيةٌ، وأما الأبُ فهو في مظنَّةِ كمال الشفقة، ورِعَاية مصلحة ابنته فافترقا، وهذا فقهٌ ظاهرٌ، ومأْخَذٌ حسنٌ، والإنصافُ أولى من غيره.
__________
(1) (ق): “فصل”.
(2) (ظ): “بخلعها”.

(4/1330)


فائدة
إذا حَلَفَ على شيءٍ بالطَّلاقِ الثَّلاث أنه لا يفعلُه، ثم خالَعَ ولم يفعلهُ، ثم تزوَّجها:
فقال الشيخ عزُّ الدين بنُ عبد السلام: الصحيحُ أنه لا يعودُ الحِنْث، فَذُكِر له اختيار الشيخ أبي إسحاق في كتاب الطلاق (1)، فقال: ذلك غلطٌ، قال: ومأخذُنا في هذه المسألة أنه لو عاد الحنثُ في النكاح الثاني مَلَك بالعقد الواحد أكثر من ثلاث تطليقات، بيانُه: أن النِّكاح يملكُ به ثلاثًا، والتنجيزُ كالتَّعليق، فإنه يملكُ بالعقد الطلاق المنجَزَ والمعلَّقَ ولا يزيدُ ذلك على ثلاث، فلو عاد الحنث لمَلَكَ ثلاثًا بالعقد، لو نجزها لوقعت ومَلَك المعلَّق بتقدير عَوْد الحنث، وهو محالٌ.
فائدة
ربما يظنُّ بعضُ النَّاس أن عدَّة المُتَوَفَّى عنها زوجُها (2) أربعةُ أشهر وعشر ليال، فإذا طَلَعَ فجرُ الليلة العاشرة انقضتِ العِدَّةُ. ووقع في “التنبيه” (3): “وإن كانت أَمَةً اعتدت بشهرينِ وخمس ليال”.
ويقوِّي هذا الوهمَ: حذفُ التاء من العشر، وإنما يحذفُ مع المؤنث نحو: سبع ليال وثمانية أيام.
__________
(1) انظر: “البيان” (10/ 224) للعمراني.
(2) من (ق).
(3) (ص/ 200).

(4/1331)


وجوابُ هذا: أن المعدودَ إذا ذكِر مع عدده، فالأمرُ كما ذكر تحذف التاءُ مع المؤنث وتثبتُ مع المذكّر، وإذا ذكرَ العَدَدُ دون معدودِهِ المذكَّر جاز فيه الوجهان: حذف التاء وذكرها، حكاه الفَرَّاء وابنُ السِّكِّيت وغيرهما، وعلى هذا جاء قوله – صَلَّى الله عليه وسلم -: “مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأتْبَعَهُ بسِتِّ مِنْ شَوَّال” (1)، ولم يقل بستَّة.
وقوله تعالى: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103)} [طه: 103]، فهذه أيامٌ بدليل ما بعدها، وعلى هذا فلا تنقضي العِدَّةُ حتَّى تغيبَ شمسُ اليوم العاشر، وما وقع فى “التنبيه” فغلط، والله أعلم، ووقع له هذا فى باب العدد في باب الاستبراء (2).
فائدة
المُرْضعُ: من لها وَلَدٌ تُرْضِعُهُ، والمُرْضِعَةُ: من ألقمتِ الثَّدْيَ للرَّضيع، وعلى هذا فقوله تعالى: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج: 2]، أبلغُ من “مرْضع” في هذا المقام، فإن المرأةَ قد تذهلُ عن الرَّضيع إذا كان غيرَ مباشر للرَّضاعةِ، فإذا التقم الثَّدْيَ، واشتغلت برضاعِهِ (3) تذهل عنه إلا لأمرٍ هو أعظمُ عندها (4) من اشتغالها بالرَّضَاع.
وتأمَّل السِّرَّ البديع فى عدوله -سبحانه- عن “كلِّ حامل” إلى قوله: “ذات حمل”، فإن العامل قد تطلق على المهيَّأةَ للحمل،
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (1164) من حديث أبي أيوب الأنصاري – رضي الله عنه -.
(2) (ص / 203).
(3) (ق): “وأشغلته برضاعته”.
(4) (ق): “عليها”.

(4/1332)


وعلى من هي في أول حملها ومبادئه، فإذا قيل: “ذات حَمل” (1)، لم يكنْ إلَّا لمن قد ظهر حملُها وصلح للوضع كاملًا أو سقطًا، كما (2) يقال: “ذات وَلَد”، فأتى في المرضعة بالتاء التي تحقق فعل الرَّضاعة دونَ التَّهيُّؤِ لها، وأتى في الحامل بالنسب (3) الذي يحقِّقُ وجود الحَمْل وقبوله للوضع، والله أعلم.
فائدة
قال الشَّيخُ تاجُ الدين (4): سُئل الشَّيخ عز الدين بن عبد السَّلام عن معنى قول الفقهاء للمطلِّق الطَّلاقَ الرَّجعِيَّ: قلْ: “راجعتُ زوجتي إلى نكاحي” (5) ما معناه؟ وهي لم تخرجْ من النِّكاح، فإنَّها زوجة في جميع الأحكام؟.
فقلت له: معناه أنَّها رجعتْ إلى النِّكاح الكامل الذي لم تكنْ فيه صائرةً إلى بينونة بانقضاء زمان، وبالطَّلاق صارت جارية (6) إلى بينونة بانقضاء العِدَّة، فقال: أحسنت.
__________
(1) من قوله: “فإن الحامل … ” إلى هنا سقطت (ظ).
(2) (ع): “فلا”!.
(3) كذا في (ع وق)، وفي (ظ): “بالسبيل”، وفي المطبوعة: “بالسبب” وهو محتمل.
(4) لعل المقصود به هو: عبد الرحمن بن إبراهيم الفَزَاري تاج الدين المعروف بالفِرْكاح، أحد فقهاء الشافعية، ومن أشهر تلاميذ العز ت (690)، له تصانيف، انظر: “طبقات الشَّافعية”: (8/ 163 – 164).
ومن تلاميذ العز -أيضًا- ممن يلقب “تاج الدين”: عبد الوهاب بن خلف ابن بدر العَلامي، تاج الدين ابن بنت الأعز ت (665). انظر: “طبقات الشَّافعية”: (8/ 318 – 323).
(5) انظر: “المغني”: (10/ 561)، و “روضة الطالبين”: (8/ 215).
(6) من (ق) وفي (ع): “صائرة”.

(4/1333)


فائدة
القاضي والمفتي مشتركان في أنَّ كلاًّ منهما يجبُ عليه إظهارُ حكم الشَّرع فْي الواقعة، ويتميَّزُ الحاكم بالإلزام به وإمضائه، فشروط الحاكم ترجِع إلى شروط الشَّاهد والمفتي والوالي، فهو مخبر عن حكم الشَّارع (ق / 321 أ). بعلمه، مقبولٌ بعدالته، منفذٌ بقدرته.
فائدة (1)
كان الشَّيخ عزُّ الدين يستشكِل مذهبَ الشَّافعي في أن حَجْر الصَّبِي يستمرُّ بمجرَّد (2) الفِسق والسَّفَهِ في الدين، وقال: قد اتَّفق النّاسُ على: أن المجهول يسمعُ الحاكمُ دعواه والدعوى عليه، فالغالب في الناس وجودًا عدمُ الرُّشد في الدين، فلو كان الصلاحُ في الدين شرطًا في فكِّ (3) الحجر، لزم أن لا يسمعَ دعوى المجهول ولا إقراره، وذلك خلاف الإجماع المستمرّ عليه العمل.
فائدة
اختلف النَّاس: هل السَّماءُ أشرفُ من الأرض، أم الأرض أشرف؟
فالأكثرون على الأوَّل، واحتجَّ من فضَّل الأرض: بأن الله أنشأ منها أنبياءَه وَرُسله وعبادَهُ المؤمنينَ، وبأنها مساكنهم ومحلُّهم أحياءً وأمواتًا، وبأنَّ الله سبحانه وتعالى لما أرادَ إظهار فضلِ آدَمَ للملائكة قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] فأظهرَ فضله عليهم
__________
(1) قبله في (ق): “فرع”:
(2) (ق): “بوجود”.
(3) (ظ) والمطبوعات: “كل”.

(4/1334)


بعلمه واستخلافه في الأرض، وبأن الله -سبحانه- وصفَها بأن جعلها محلَّ بركاته عمومًا وخصوصًا، فقال: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا} [فصلت: 10]، ووصف الشامَ بالبَرَكة في ستِّ آيات، ووصف بعضَها بأنَّها مقدَّسة، ففيها الأرضُ المباركة والمقدسة والوادي المقدَّس، وفيها بيته الحرام ومشاعرُ الحجِّ والمساجد التي هي بيوته سبحانه، والطور الذي كلَّم عليه كليمَه ونجيَّه. وإقسامه سبحانه بالأرض عمومًا وخصوصًا أكثر من إقسامه بالسماء، فإنَّه أقسَم بالطُور والبلدِ الأمينِ والتينِ والزيتونِ، ولما أقسم بالسَّماء أقسَمَ بالأرض معها، وبأنه سبحانه خَلَقَها قبل خلق السماء (1) كما دلَّت عليه سورة (حم السجدة) وبأنها مهبِطُ وحيه ومستقرُّ كتبه ورسله، ومحلُّ أحبِ الأعمال إليه، وهو الجهادُ والصَّدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومُغايظة أعدائه ونصر أوليائه، وليس في السماء من ذلك شيءٌ، وبأنَّ ساكنيها من الرسل والأنبياء والمتَّقين أفضلُ من سكَّان السماء من الملائكة، كما هو مذهبُ أهل السنة، فمسكنُهم أشرف من مسكن الملائكة، وبأن ما أودع فيها من المنافع والأنهار والثمار والمعادن والأقوات والحيوان والنبات مما هو من بركاتها لم يودَع في السَّماء مثلُه، وبأن الله سبحانه قال: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)} [الذاريات: 20] ثم قال: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)} [الذاريات: 22] فجعل الأرضَ محلَّ آياته والسماءَ محلَّ رزقه، فلو لم يكن فيها إلَّا بيتُهُ وبيتُ (2) خاتَم أنبيائه ورسله حيًا وميتًا، وبأن الأرض جعلها الله قرارًا وبساطًا ومهادًا وفراشًا، وكِفاتًا، ومادَّة للسَّاكن؛ لملابسه
__________
(1) (ق وظ): “الأرض” والمثبت من (ع) وحاشية (ظ).
(2) (ق): “فإن لم يكن فيها إلا بنية خاتم”!.

(4/1335)


وطعامه وشرابه ومراكبه وجميع آلائه (1)، ولا سيَّما إذا أخرجتْ بَرَكَتَها وازَّيّنتْ وأنبتتْ من كلِّ زوجٍ بهيج.
قال المفضلون للسَّماء: يكفي في فضلها (ظ/223 ب) أن ربَّ العالمين سبحانه (2) فيها. وأن عرشَهُ وكُرسِيَّهُ فيها، وأن الرفيقَ الأعلى الذي أُنعِم عليهم فيها، وأن دارَ كرامته فيها، وأنها مستقرُّ أنبيائه ورسله وعباده المؤمنين يوم الحشر، وأنها مُطَهَّرةٌ مُبرَّأَة من كلِّ شرٍّ (3) وخَبَثٍ ودَنَس يكونُ في الأرض، ولهذا لا تُفتح أبوابها للأرواح الخبيثة، ولا تلجُ ملكوتَها، وبأنها مسكنُ من لا يَعْصُون اللهَ طرفةَ عين، فليس فيها موضعُ أربعٌ أصابعَ إلا ومَلَكٌ ساجدٌ أو قائمٌ، وبأنها أشرفُ مادَّة من الأرض، وأوسعُ وأنْوَر وأصفى وأحسنُ خِلْقَةً وأعظمُ آياتٍ، وبأن الأرض محتاجةٌ في كمالها إليها، ولا تحتاجُ هي إلى الأرض، ولهذا جاءت في كتاب الله في غالب المواضع مقدَّمَة على الأرض، وجُمِعت وأُفْرِدت الأرض فلشرفها وفضلها أتي بها مجموعة، وأمَّا الأرض فلم تأْتِ إلَّا مفردة، وحيث أريد تعدادُها قال: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}، وهذا القول هو الصواب، والله أعلم.

فائدة
فرق النِّكاح عشرون فرقة؛ الأولى: فرقة الطلاق. الثانية: الفسخ للعُسْرة بالمهر. الثالثة: الفسخ للعسرة عن النفقة. الرابعة: فرقة الإيلاء. الخامسة: فرقة الخُلع السادسة: تفريق الحَكمين. السابعة: فرقة العِنِّين.
__________
(1) وتحتمل قراءتها: “آلاته”.
(2) (ع): “أن رب السماء”.
(3) (ق): “شِية”.

(4/1336)


الثامنة: فرق اللعان. التاسعة: فرقة العتق تحت العبد. العاشرة: فرقة الغرور. الحادية عشرة: فرقة العيوب. الثَّانية عشرة: فرقة الرضاع. الثالثة عشرة: فرقة وطءِ الشبهة حيث تحرم الزوجة. الرابعة عشرة: فرقة إسلام أحد الزوجين. الخامسة عشرة: فرقة ارتداد أحدهما. السادسة عشرة: فرقة إسلام الزوج وعنده أختان أو أكثر من أربع، أو امرأة وعمتها أو امرأة وخالتها. السابعة عشرة: فرقة السِّبَاء. الثامنة عشرة: فرقة ملك أحد الزوجين صاحبه. التاسعة عشرة: فرقة الجهل بسبق أحد النِّكاحين. العشرون: فرقة الموت.
فهذه الفرقُ منها إلى المرأة وحدَها: فرقة الحُرِّيّة والغرور والعيب. ومنها إلى الزوج وحده: الطَّلاق والغرور والعيب أيضًا. ومنها ما للحاكم فيه مدخل وهو: فرقة العِنين والحَكَمَينْ والإيلاء والعجز عن النفقة والمهر ونِكاح الوَليَّين. ومنها ما لا يتوقَّف على أحد الزوجين ولا الحاكم وهو: اللِّعان والرِّدة والوطء بالشُّبهة وإسلام أحدهما وملك أحد الزوجين صاحِبهُ والرضاع.
وهذه الفرق منها ما لا يتلافى (1) إلَّا بعد زوجِ وإصابة وهو: استيفاء الثلاث، ومنها مالا يتلافى أبدًا وهو: فرقة اللعان والرَّضاع والوطء بشُبهة، ومنها ما يتلافى (2) في العِدَّة خاصة وهي فرقة الرِّدَّة وإسلام أحد الزَّوجينِ (3) والطَلاق الرَّجعي، ومنها ما يتلافى (4) بعقد جديد وهي: فرقة الخلْع والإعسار بالمهر والنَّفقة وفرقة الإيلاء والعيوب
__________
(1) (ع): “تلافى”.
(2) (ع وق): “ما لا يتلافى”، والتصويب من (ظ).
(3) (ع وظ): “أحدهما”.
(4) (ع): “ما لا”!.

(4/1337)


والغرور، وكلها فسخ إلَّا الطلاقُ، وفرقة الإيلاء وفرقة الحكمين.
فائدة (1)
حيث أطلق الفقهاءُ لفظ الشَّكِّ فمرادُهم به التَّرَدُّدُ بين وجودِ الشيءِ وعدمِهِ، سواءٌ تساوى الاحتمالان أو ترجَّح أحدُهما، كقوله: إذا شَكَّ في نجاسة الماء أو طهارته، أو انتقاض الطهارة أو حصولها، (ظ/ 224 أ) أو فعل ركن في الصَّلاة، أو شك هل طلق واحدة أو أكثر، أو شك هل غرَبَتِ الشمسُ أم لا، ونحو ذلك = بنى على اليقين، ويدل على صحَّة قولهم قوله – صلى الله عليه وسلم – (2): “وَلْيَطْرَح الشكَّ وَلْيَبْن عَلَىْ مَا اسْتَيْقنَ” (3).
وقال أهل اللُّغة: الشَّك خلاف اليقين (4)، وهذا ينتقِض بصُوَر:
منها: أن الإمامَ متى تردَّدَ في عدد الرَّكَعَات بنى على الأغلب من الاحتمالين.
ومنها: أنَّه إذا شك في الأواني بني على الأغلب في ظنِّهْ عند من يُجَوِّز له التَّحَري.
ومنها: أنه إذا شك في القِبْلة بني على غالب ظنِّه في الجهات.
ومنها: أنَّه إذا شكَّ في دخول وقت الصَّلاة، جاز له أن يصَلِّيَ إذا غلب على ظنه دخولُ الوقت.
__________
(1) (ق): “قاعدة”. وانظر ما تقدم: (3/ 1276 – 1283).
(2) (ق): “صحتهم قول النبي … “.
(3) أخرجه مسلم رقم (571) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
(4) انظر: “المصباح المنير”: (ص/ 122).

(4/1338)


ومنها: أنَّه إذا (1) غلبَ على ظنِّه عدالةُ الراوي والشاهد عمل بها ولم يقفْ على اليقين.
ومنها: إذا شكَّ في المال هل هو نِصَابٌ أم لا، وغلب على ظنّه أنَّه نصاب فإنَّه يزكَيه، كما لو أخبره خارصٌ واحدٌ بأنه نِصابٌ.
ومنها: لو وَجَد في بيته طعامًا وغلب على ظنّه أنَّه أهدي له، جاز له الأكل وإن لم يَتيقَّن، كما لو أخبره به ولده أو امرأتُه.
ومنها: أنَّه لو شكَّ في مال زيد هل هو (2) حلال وحرامٌ؟ وغلب على ظنه أنَّه حرام، فإنَّه لا يجوز له الأكلُ منه، ونظائر ذلك كثيرةٌ جدًّا، فما ذكر من القاعدة ليس بمطَّرِد.
قاعدة (3)
إذا تزاحم حقَّان في محلٍّ، أحدهما متعلِّقٌ بذمَّة مَن هو عليه، والآخَرُ متعلِّق بعين من هي (4) له، قُدِّم الحق المتعلق (ق/321 ب) بالعين على الآخر؛ لأنَّه يفوتُ بفواتِها بخلاف الحق الآخر. وعلى ذلك مسائل:
أحدها: إذا جنى العبدُ المرهون؛ فَدَمُ المجني عليه -بموجب جِنايَته- على المرْتَهنِ، لاختصاص حقِّه بالعين بخلاف المُرْتَهِنِ.
الثانية: إذا جنى عبدُ المَدين، فَدَم المجني عليه على الغرماء كذلك.
__________
(1) من قوله: “شك في دخول … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) (ق): “في مالٍ أهو”.
(3) (ظ): “فائدة”.
(4) (ع): “متعلق بعين هي … “، و (ق): “متعلق هي”.

(4/1339)


الثَّالثة: إذا تَشَاحَّ البائعُ والمشتري في المبتدي بالتّسليم، فإن كانا عَيْنَينِ، جعل بينهما عدْل، وإن كان الثمنُ في الذِّمة، أجبر البائع على تسليم المَبيع أولًا، لتعلُّق حقِّه بعين المَبيع، بخلاف المشتري فإن حقَّه متعلِّق بذمة البائع.
قاعدة (1).
فرقٌ بين ما يثبتُ ضِمْنًا وما يثبتُ أصالةً: فيُغْتفرُ (2) في الثّبُوت الضِّمني ما لا يُغفرُ في (3) الأصلي، وعلى ذلك مسائل:
منها: لو أقرَّ المريضُ بمال لوارثٍ لم يقبلْ إقرارُه، ولو أقر بوارث قُبِلَ إقرارُه، واستحقَّ ذلك المالَ وغيره.
ومنها: لو اشترى منه سلعة فخرجت مستحقَّة، رجع عليه بدرك المبيع، وقد تضمَّن شراؤه منه إقرارَه له بالملك، ولو (4) أقرَّ له بالمُلك صريحًا ثم اشتراها فخرجت مستحقَّة، لا يرجع عليه بالدرك.
ومنها: لو قال الكافرُ لمسلم: أعتِقْ عبدَكَ المسلمَ عنّي وعلى ثَمَنُه، فإنَّه يصِحُّ في أحد الوجهين، ونظيره: إذا أعتق الكافر الموسرُ شِرْكًا له في عبد مسلم، عَتَق عليه جميعُه في أحد الوجهين -أيضًا-، ولو قال لمسلم: بعني عبدَكَ المسلمَ حتَّى أُعْتِقَهُ، لم يَصِحَّ بيعُه.
قاعدة
ما تُبِيحُهُ الضَّرورةُ يجوز الاجتهادُ فيه حالَ الاشتباهِ، وما لا تبيحُهُ
__________
(1) (ق): “فائدة” و (ظ) محتملة.
(2) يمكن أن تُقرأ: “فيُفْتقر” في الموضعين.
(3) (ق): “إلي”.
(4) (ق وظ): “وقد”.

(4/1340)


الضَّرورةُ فلا. وعلى هذا مسائل:
أحدها: إذا اشتبهت أختُه بأجنبية، لم يَجُزْ له الاجتهادُ في أحدهما.
الثَّانية: طلق إحدى امرأتيه واشتبهت عليه، لم يَجُزْ له أن يجتهد في إحداهما.
الثَّالثة: اشتبه عليه الطَّاهر بالنَّجس، لم يَحزْ (1) له أن يتحرَّى في أحدهما.
وهذا بخلاف ما لو اشتبهت ميتَةٌ بمذكَّاة، أو طاهر بنَجس للشُّرب عند الضَّرورة، أو اشتبهت جهة القِبلة، فإنَّه يتحرَّى في ذلكَ كلِّه؛ لأن الضَّرورة تُبيحُهُ (2)، وتُبيحُ تركَ القِبلة في حالة المسَابقة (3) وغيرها.
قاعدة
ما بطل حكمه من الأبدال بحصول مبدَلِه ولم يبقَ معتدًّا به بحال، فإن وجودَ المبدَل يعد الشروع فيه كوجوده قبلَ الشروع فيه. وما لم يَبطل حكمُهُ رأسًا بل بقي معتبرًا في الجملة لم يُبْطِلْهُ وجود المبدل بعد الشُّروع فيه، وعلى هذا مسائل:
أحدها: المعتدَّةُ بالأشهر إذا صارت من ذوات القُرء، قبل انقضاء عِدَّتِها، انتقلتْ إليها لبطلان اعتبار الأشهر (ق/ 322 أ) حالَ الحيْض.
الثانية: المتيمِّم إذا قدَرَ على الماء بعد التَّيَمُّم، سواء شَرَعَ في الصَّلاة أو لم يشرعْ فيها بَطَلَ تَيَمُّمه.
__________
(1) (ظ): “يجب”.
(2) ليست في (ع).
(3) أي: المبارزة بالسيوف، وتقدمت هذه المسائل (3/ 1255 – فما بعدها).

(4/1341)


الثالثة (1): إذا شرع في صوم الكفارة ثم قَدَرَ على الإطعام: أو العِتق، لم يلزمْهُ الانتقال عنه إليهما؛ لأنَّ الصومَ لم يبطل اعتبارُه بالقُدْرة على الطَّعام، بل هو معتبرٌ في كونه عبادة وقُرْبَة، وقد شرعَ فيه كذلك، ولم يبطلْ تقرُّبُهُ وتعبُّدُهُ به.
الرابعة: المتمتِّعُ إذا شَرع في الصَّوم ثم قَدَر على الهَدي، لم يلزمْهُ الانتقالُ لذلك.
وفرقٌ ثانٍ: أن الاعتبار في الكَفَّارات بحالِ وجوبها على المُكَلَّف لأنَّه حال استقرار الواجب في ذمَّته، فالواجب عليه أداؤها كما وجبت في ذمَّته، ولهذا لو قدر على الطَّعام بعد الحِنث وقل الصوم لم يلزمْهُ الانتقالُ إليه كذلك، بخلافه العِدَّة والصَّلاة فإن الواجبَ عليه أداءُ الصَّلاة على أكمل الأحوال، وإنما أبيحَ له تركُ ذلك للضَّرورة، وما: أُبيحَ بشرط الضَّرورة فهو عَدَمٌ عند عدمِها، وكذلك العِدَّة سواء.
قاعدة
المُكلَّفُ بالنِّسبة إلى القُدرة في الشيء المأمور به، والآلات المأمور بمباشرتها من البَدَن؛ له أربعة أحوال:
أحدها: قدرتُه بهما، فحكمُه ظاهرٌ، كالصحيح القادر على الماء، والحُرِّ القادر على الرَّقَبَة الكاملة.
الثانية: عجزُهُ عنهما، كالمريض العادم للماء، والرَّقيق العادم للرَّقَبَة، فحكمُه أيضًا ظاهرٌ.
__________
(1) من قوله: “المتيمم إذا … ” إلى هنا ساقط من (ق). فسقطت المسألة الثانية، فلذا جعل الرابعة: الثالثة.

(4/1342)


الثَّالثة: قدرتُه ببدنِهِ وعجزه عن المأمور به، كالصحيح العادم للماء، والحُرِّ العاجز عن الرَّقبة في الكفَّارة، فحكمهُ الانتقالُ إلى بدله إن كان له بدلٌ يقدر عليه، كالتَّيَمُّم أو الصِّيام في الكفارة، ونحو ذلك، فإن لم يكنْ له بَدَلٌ سقط عنه وجوبُه، كالعُريان العاجز عن سَتر عورته في الصَّلاة فإنَّه يُصَلِّي ولا يُعيدُ.
الرابعة: عجزه ببدنه وقدرته على المأمور به أو بَدَله.
فهو موردُ الإشكال في هذه الأقسام وله صُوَر:
أحدها: المعْضُوبُ الذي لا يستمسكُ على الرَّاحلة وله مال يقدرُ أن يُحَجَّ به عنه، فالصحيح وجوب الحجِّ عليه بماله لقدرته على المأمور به، كان عَجَز عن مباشرته هو بنفسه، وهذا قول الأكثرين.
ونظيرهُ (1): القادرُ على الجهاد مسألة العاجزُ ببَدَنه، يجبُ عليه الجهادُ بماله في أصحِّ قوله العلماء، وهما روايتان منصوصتان عن أحمد.
الصورة الثَّالثة: الشَّيخُ الكبيرُ العاجز عن الصَّوم القادرُ على الإطعام، فهذا يجبُ عليه الإطعام عن كل يومٍ مسكينًا في أصَحِّ أقوال العلماء.
الرابعة: المريض العاجز عن استعمال الماء، فهذا حكمُه حكمُ العادم، وينتقل إلى بَدَله، كالشيخ العاجز عن الصيام ينتقلُ إلى الإطعام.
وضابط هذا: أن (ق / 322 ب) المعجوزَ عنه في ذلك كلِّه إن كان له بَدَلٌ انتقل إلى بَدَله، وإن لم يكن له بَدَلٌ سقط عنه وجوبُهُ.
فإذا تَمهَّدت هذه القاعدة ففرقٌ (2) بين العَجْز ببعض البَدَن والعجز
__________
(1) وهذه هي الصورة الثَّانية.
(2) (ق): “فيفرق”.

(4/1343)


عن بعض الواجب، فليسا سواءً، بل متى عَجَز ببعض البَدَن لم يسقطْ عنه حكم البعض الآخر، وعلى هذا إذا كان بعض بَدَنِهِ جريحًا وبعضُهُ صحيحًا، غسل الصحيحَ وتَيَمَّمَ للجريح على المذهب الصَّحيح، كما دلَّ عليه حديث الجريح (1).
ونظيره: إذا مَلَكَ المعتَقُ بعضَه (2) ما يَتَمَكَّنُ به من عتق واجب، لزمه الإعتاقُ.
ونظيره: إذا (ظ / 225 أ) ذهب بعض أعضاء وضوئه وجب عليه غسْلُ الباقي، وأمَّا إذا عَجَزَ عن بعض الواجب، فهذا معتركُ الإشكال حيث يلزمهُ به مَرَّةً ولا يلزمه به مرَّة، ويخرج الخلافُ مرَّة، فمن قَدَرَ على إمساك بعض اليوم دون إتمامه؛ أيلْزَمْهُ اتفاقًا، ومن قدر (3) على بعض مناسك الحَجَّ وعجَزَ عن بعضها، لزمه فعل ما يقدرُ عليه، ويُستنابُ عنه فيما عَجَزَ عنه، ولو: قدر على بعض رقبة، وعَجَزَ عن كاملةٍ؛ أيلزمْه عتقُ البعض، ولو قدر على بعض ما يَكفيه لوضوئه أو غسله، لزمه استعمالُه في الغسلِ، وفي الوضوء وجهاد؛ أحدهما: يلزمُهُ، والثَّاني: له أن ينتقلَ إلى التَّيمُّم، ولا يستعمل الماء.
وضابطُ الباب: أن ما لم يكنْ جزؤُه عبادةً مشروعة لا يلزمُهُ الإتيان به، كإمساك بعض اليوم، وما كان جزؤُه عبادة مشروعةً لزمه الإتيان به (4)، كتطهير الجُنُب بعض أعضائه، فإنَّه يشرعُ كما عند النوم والأكل والمعاودة يشرع له الوضوءُ تخفيفًا للجنَابَة.
وعلى هذا جَوَّز الإمام أحمدُ للجُنُب أن يتوضَّأَ ويلبثَ في المسجد،
__________
(1) هو صاحب الشجة، أخرج حديثه أبو داود رقم (336)، والدارقطني (1/ 190)، وفيه ضعف.
(2) كذا في الأصول، ولعل صوابها: “المعتِق بعض”.
(3) (ع): “عجز”! وهو سبق قلم.
(4) (ع): “وما كان عبادة مشروعة لم يلزمه … ” وهو سبق قلم أيضًا.

(4/1344)


كما كان الصَّحابةُ يفعلونه. وإذا ثبت تخفيفُ الحَدَث الأكبر في بعض البَدَن فكذلك الأصغر (1).
يبقى أن يقالَ: فهذا ينتقض عليكم بالقُدْرة على عتق بعض العبد، فإنَّه مشروعٌ، ومع هذا فلا يُلزِمُونَهُ به؟.
قيل: الفرقُ بينه وبين القدرة على بعض ماء الطَّهارة أن الله سبحانه إنما نَقَل المُكلَّفَ إلى البَدَل عند عدم ما يسمَّى ماء، فقال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] وبعض ماء الطهارة ماء فلا يتيَمَّم مع وجوده.
وأمَّا في العتق فإن الله سبحانه نقله إلى الإطعام والصيام، عند عدم استطاعته (2) إعتاقَ الرَّقبة، فقال: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ}، ولا رَيْبَ أن المعنى: فمن لم يستطعْ تحرير رقبة (3)، ولا يحتمل الكلامُ غيرَ هذا ألبَتَّةَ، والقادرُ على بعض الرقبة غير مستطيع تحريرَ رقبة -والله أعلم- فهذا ما ظهر لي في هذه القاعدة.
فائدة
من وجب عليه شيءٌ وأمِر بإنشائه فامتنعَ، فهل يفعلُهُ الحاكم عنه أو يُجبرُهُ عليه؟
فيه خلافٌ، مأخذُهُ أن الحاكمَ نُصِبَ نائبًا ووكيلًا من جهة الشَّارع لصاحب الحق، حتَّى يستوفيَهُ له، أو مجبِرًا ومُلْزِمًا لمن هو عليه حتَّى يؤَدِّيَهُ.
__________
(1) (ق): “الوضوء”.
(2) (ق): “عند انقطاعه”.
(3) (ق) “ولا ريب أن من قدر على بعض رقبة لم يستطع … “.

(4/1345)


فإذا اجتمع الأمران في حكم، فهل يغلَّبُ وصف الإلزام والإجبار أو وصف الوكالة والنيابة؟ هذا سرُّ المسألة، وعلى هذا مسائل:
أحدها: المُوْلي إذا امتنع من الفَيْئَة والطَّلاق فهل يطلِّق الحاكمُ عليه أو يُجبرُه على الطلاق؟ فيه خلاف.
الثانية: إذا امتنع من الإنفاق على رَقيقه أو بهيمتِهِ لإعساره، كلِّف بيعَ البعض للإنفاق على الباقي، فإذا امتنعَ من البيع فهل يجبَرُ عليه أو يبيع الحاكم عليه؟ فيه خلافٌ أيضًا.
الثالثة: إذا اشترى عبدًا بشرط العتق وامتنع من عِتقه، وقلنا: لا يُخَيَّر البائع بين الفسخ والإمضاء، فهل يُجْبَر علىْ العِتق أو يُعتِق الحاكم عليه؟ فيه خلاف.
فائدة
الشافعيُّ يُبالغُ في ردِّ الاستحسان (1)، وقد قال به في مسائل (2):
الأولى: أنَّه استحسن في المتعة في حق الغَنيِّ أن يكون خادمًا، وفي حقِّ الفقير مقنعة، وفي المتوسط ثلاثين درهمًا.
الثانية: أنَّه استحسنَ التَّحليفَ بالمصحف.
الثالثة: أنَّه استحسن في خيار الشُّفعة أن تكون ثلاثةَ أيَّام.
الرابعة: أنَّه نصَّ في أحد أقواله إنَّه يبدأ في النِّضال بمخرج السبق
__________
(1) انظر كتاب: إبطال الاستحسان من “الأم”: (7/ 267 – 277)، و “قاعدة في الاستحسان”: (ص / 49 – 51) لابن تيمية.
(2) انظر: “الأم”: (3/ 231، 6/ 133، 139، 7/ 362 – 364)، و “البحر المحيط”: (6/ 95 – 97) للزركشي.

(4/1346)


اتباعًا لعادة الرُّماة: قال أصحابه: وهو استحسان.
فائدة (1)
من أصول مالك: اتِّباعُ عمل أهل المدينة -وإن خالفَ الحديث- وسدُّ الذَّرائع، وإبطالُ الحِيَلِ، ومراعاةُ القُصود والنِّيَّات في العقود، واعتبار القرائن وشواهد الحال في الدَّعاوى والحُكومات، والقولُ بالمصالح، والسِّياسة الشَّرعية.
ومن أصول أبي حنيفة: الاستحسان، وتقديمُ القِياس، وتركُ القول بالمفهوم، ونسخُ الخاصَ المتقدم بالعامِّ المُتَأَخِّر، والقولُ بالحِيَل.
ومن أصول الشافعيِّ: “مراعاةُ الألفاظ، والوقوفُ معها، وتقديم الحديث على غيره.
ومن أصول أحمد: الأخذُ بالحديث ما وَجَدَ إليه سبيلًا، فإن تعذَّرَ فقولُ الصحابي ما لم يُخالفْ، فإن اختلف الصحابة أخذ من أقوالهم بأقواها دليلًا، وكثيرًا ما يختلفُ قولهُ عند اختلاف أقوال الصَّحابة، فإن تعَذَّر عليه ذلك كلُّه أخذ بالقياس عند الضَّرورة، وهذا قريبٌ من أصل الشَّافعي بل هما عليه متَّفِقان.

فائدة
شرط العمل بالظَّنِّيات التَّرجيحُ عند التعارض، فإن وقع التَّساوي ففيه قولان: التَّخيير والتوقف. فإن كان طريق العمل التَّقليد فهل يشترطُ التَّرجيحُ في أعيان من يُقَلِّده؟ فيه وجهان.
فإن كان طريقَ العمل اليقينُ، فلا مدخلَ للتَّرجيح هناك، إذ
__________
(1) (ق): “فوائد”.

(4/1347)


التَّرجيحُ إنما يكون بين متعارضينِ، ولا تعارضُ في اليَقينيَّات.
وهل تسمعُ (1) المعارضة فيها؟
فيه لأهل الجَدَل قولان: منهم من يسمعها (2)، ومنهم من لم يسمَعْها، والحقُّ التفصيل: أنَّها إن كانت معارضة في مقدمة قطعيَّة لم تُسمعْ بحال، وإن كانت معارضة في غيرها سمعت.
فائدة
الحقوق المالية الواجبة لله تعالى أربعة أقسام:
أحدها: حقوق المال كالزَّكاة، فهذا يثبتُ في الذمة بعد التَّمكُّن من أدائه، فلو عَجَزَ عنه بعد ذلك لم يسقطْ، ولا يثبتُ في الذِّمة إذا عَجَزَ عنه وقتَ الوجوب، وأُلْحِق بهذا زكاة الفطر.
القسم الثاني: ما يجبُ بسبب الكفَّارة، ككفارة الأيْمان والظِّهار والوِطء في رمضان وكفارة القتل، فإذا عَجَزَ عنها وقتَ انعقاد أسبابها، ففي ثُبوتها في ذمَّته إلى الميسرَةِ أو سقوطها قولان مشهوران في مذهب الشَّافعي وأحمد.
القسم الثالث: ما فيه معنى ضمان المتْلَف، كجزاء الصيدْ، وألحقَ به فدية الحَلْق (3) والطيب واللِّباس في الإحرام، فإذا عَجَز عنه وقتَ وجوبه ثبتَ في ذِمَّته تغليبًا لمعنى الغرامة وجزاء المتلف، وهذا في الصيد ظاهرٌ، وأما في الطِّيب وبابه فليس كذلك؛ لأنه تَرَفُّهٌ لا
__________
(1) (ق): “تعارض”.
(2) (ع): “من من سمعها … “!.
(3) (ظ): “الأذى”.

(4/1348)


إتلافٌ، إذ الشَّعَر والظُّفُرُ ليسا بمتلَفَيْن، ولم تجب الفديةُ في إزالتهما في مقابلة الإتلاف؛ لأنَّها لو وجبتْ لكونها إتلافًا لتقيّدت بالقيمة، ولا قيمةَ لهما (1) وإنما هي من باب التَّرفُّهِ المحض كتغطية الرأس واللُّبس، فأي إتلاف هاهنا؟! وعلى هذا فالرَّاجح من الأقوال أن الفدية في ذلك لا تجبُ مع النسيان والجهل.
القسم الرابع: دم النُّسُك كالمتعة والقران، فهذه إذا عَجَز عنها وجبَ عليه بدلُها من الصيام، فإن عَجَزَ عنها ترتَّبَ في ذمَّته أحدُهُما، فمتى قَدَرَ عليه لَزِمَه، وهل الاعتبارُ بحال الوجوب أو بأغلظ الأحوال؟ فيه خلاف.
وأمَّا حقوق الآدميين؛ فإنَّه لا تسقطُ بالعجْز عنها، لكن إن كان عجزُه بتفريط منه في أدائها طُولبَ بها في الآخرة، وأُخِذَ لصاحبها من حسناته.
وإن كان عَجْزهُ بغير تفريط كمن احترق ماله، أو غرق، أو كان الإتلاف خطأ مع عجزه عن ضمانِهِ، ففي إشغال ذمَّتِهِ به وأخذ أصحابها من حسناته نظرٌ، ولم أقفْ على كلام شافٍ للنَّاس في ذلك، والله أعلم.

فائدة
قولهم: “من مَلَكَ الإنشاءَ لعقدِ مَلَك الإقرارَ به، ومن عَجَزَ عن إنشائه عَجَزَ عن الإقرار به”، غير مطَّرِدٍ ولا منعكس. فأما اختلال طَرْدِه ففي (2) مسائل:
__________
(1) (ظ): “لها”، وسقطت من (ق).
(2) (ع): “ففيه”.

(4/1349)


أحدها: ولىُّ المرأة غير المُجبرة يملكُ إنشاءَ العقد عليها دون الإقرار به.
الثانية: الوكيلُ في الشِّراء إذا ادَّعى أنَّه اشترى ما وكِّل فيه وأنكره الموكِلُ، لم يقبلْ إقراره عليه مع ملكه لإنشائه (1).
الثالثة: الوكيلُ بالبيع إذا أقرَّ به، وأنكر المُوكِلُ، فالقولُ قولٌ الموكِل.
وأما اختلالُ عكسه ففي مسائل:
أحدها: أن العاقل لا يملك (2) إنشاءَ إرقاق نفسه، ولو أقرَّ به قُبِلَ، فهذا عاجزٌ عن الإنشاء قادرٌ على الإقرار.
الثَّانية: المرأةُ عاجزة عن إنشاء النكاح، ولو أقرَّتْ به قبِل إقرارُها.
الثَّالثة: لو أقرَّ العبدُ المرهون (3) بعد الحَجر عليه بِدَيْن، قبِلَ إقرارُه ولم يملكِ الإنشاء.
الرابعة: لو أقر المريضُ لأجنبي أنَّه كان وهبه في الصِّحَّة ما يزيد على الثلثِ، قُبِلَ إقرارهُ في أصحِّ الرِّوايتين ولم يملكِ الإنشاءَ.
الخامسة: الحاكم إذا قال بعد العزل: كنتُ حكمتُ في ولايتي لفلان عن فلان بكذا، قُبلَ قولُهُ وحده، وإن لم يملكِ الإنشاءَ، وكذلك لو قال القاضي المعزول عن مالٍ في يد أمين: أُقِرُّ أنَّه تسلَّمَهُ منه هو لفلان، وقال الأمين: بل هو لفلان، قُبِلَ قول القاضي دون الأمين.
__________
(1) (ق): “الإنشاء يه”.
(2) (ع): “يحمل”.
(3) (ق وظ): “المأذون”.

(4/1350)


وهذه المسألةُ مما يُعَايا بها وهي: رجلان في يد أحدهما مالٌ وهو أمين عليه، والآخرُ ليس الحال في يده، ولا له عليه حكْمٌ، ولا هو أمين عليه، يقبل إقرار هذا الثاني بالمال دون الأمين.
* * *

(4/1351)


فائدة (1)
من كان يعلمُ أن الموت مدركُه … والقبرُ مسكنه والبعث مخرجهُ
وأنَّه بين جناتٍ ستُبهِجُهُ … يومَ القيامةِ أو نار ستنضِجُهُ
فكلُّ شيءٍ سوى التَّقوى به سَمِجٌ … وما أقام عليه منه أسمجُهُ
ترى الذي اتَّخذ الدُّنيا له وطنًا … لم يدرِ أن المنايا سوف تزعِجُهُ (2)
* * *
تظلُّ على أكتاف أبطالها القنا … وهابَتْكَ في أغمادِهِنَّ المناصلُ
تحَامَى الرَّزَايا كُلَّ خُفِّ ومَنسمٍ … وتَلْقَى رَدَاهُنَّ الذُّرَى والكَاهِلُ
وترجِعُ أعقابُ الرِّماح سَلِيمة … وقد حُطِّمتْ في الدَّارِعِينَ العَواملُ
فإن كنتَ تبغي العَيْشَ فابغ توسُّطًا … فعند التناهي يقصُرُ المتطاوِلُ (3)
* * **
__________
(1) (ق): “شعر”.
(2) الآبيات لأبي العلاء المعرِّي في “ديوان سقط الزند”: (2/ 549).
(3) “ديوان سقط الزند”: (2/ 551 – 552).

(4/1352)


من فتاوى أبي الخطاب وابن عقيل وابن الزاغوني (1)
* هل للذِّمِّي أن يُصلِّي بإذن المسلم؟
أجاب أبو الخطَّاب: لا يجوز له، أذِنَ المسلم أو لم يأذَن؛ لأنَّه حقٌّ لله تعالى. أجاب ابنُ عَقِيل مثلَه.
* هل يصحُّ أن يَقِفَ على المسجد ستورًا؟
أجاب أبو الخطَّاب: يصحُّ وقفُها على المسجد، ويبيعها وتنفَقُ أثمانها على عمارته، ولا تُسْتَر حيطانُه (2) بخلاف الكعبة، فإنَّها خصَّت بذلك كما خُصَّت بالطواف حولَها.
وأجاب ابنُ عقيل: لا ينعقدُ هذا الوقف رأسًا، لأنَّه بدعةٌ، وهو على حكم الميراث.
* إذا وجد لُقَطَة فخاف إذا عَرَّفها أن ينتَزِعَها ظالم؟
أجاب أبو الخطَّاب: لا يكونُ معذورًا في ترك التعريف ولا يملكها إلَّا بعد تعريفها.
أجاب ابنُ عَقيل: التَّعريفُ يُرادُ لحِفْظِها على مالكها، وهذا التَّعريف يُفضي إلى تضييعها، فيدعُها أبدًا في يده، إلى أن يجدَ فُسْحة وأمنًا، فَيعَرِّفها حولًا.
__________
(1) هذا العنوان تأخر في (ق) إلى ما قبل مسألة: “إذا رأى إنسانًا يغرق … “. وتكررت كلمة “فتاوى” قبل كل عَلَم.
(2) (ق): “جدرانه”.

(4/1353)


* إذا وجد في البَرِّيَّة شاةً .. ؟
أَخَدها فذبحها ووجَبَ عليه ضمانُها إذا جاء مالكُها، وفي المصر يُعَرِّفُها؛ لأن الظاهر أنَّها خرجتْ من دار أهل المحلَّة بحلاف البَرِّيَّة، هذا جواب أبي الخطاب.
وجواب ابنِ عقيل: لا يجوز له ذبحُها، وإن ذبحَها أثِمَ، ولَزِمَهُ ضمان قيمتها.
* إذا صادر السلطانُ إنسانًا وعنده وديعةٌ هل يضمنُ؟
أجاب أبو الخطاب: عليه الإثمُ والضَّمان إذا فرَّط فيها، فإن تحقَّقَ أنَّه يتأذَّى في نفسه كان عليه الضَّمان من غير إثم، فإن استدعى السلطانُ المُودِعَ إذا لم يَدُلَّه عليها، وأُخِذت بغير اختيار فلا ضمان عليه.
جوابُ ابن عَقِيل: إذا غلب على ظنِّه أنَّه يأخذها منه بإقراره، كان ذلك دلالة عليها وعليه الضَّمان.
* إذا كان عنده وديعةٌ فاعترض السلطان لها ظلمًا؟
أجاب أبو الخطّاب: إن حَلَفَ وروَّى عنها وتأوَّلَ كان مثابًا، مثل (1) أن يحلفَ إنَّه لم يودعْني في المسجد الحرام، أو بموضع لم يَسْلكاه، أو في زمان كرمضان ونحوه، فإن لم يحلفْ وأخذها السلطانُ من حِرْزهِ لم يضمِنْ، فإن طلب منه أن يحلفَ بالطَّلاق فدفعها إليه أو دلَّه على مكانها ضمنَ.
__________
(1) (ق): “وورَّى عنها كان مثل … “!.

(4/1354)


وأجابَ ابنُ عقيل: لا يسقطُ الضَّمان بخوف من وقوع الطلاق، بل يضمنُ دفعها إليه؛ لأنَّه افتدى بها عن ضَررِهِ بوقوع الطلاق.
* إذا كان كلبُ المسلمِ قد علَّمه مجوسِيٌّ؟
أجاب أبو الخطَّاب وابنُ عَقِيل: لا يُكره للمسلم أن يصطادَ به.
* هل يجوز للحاكم أن يسمع شهادة أبيه وأبنه ويحكم بها؟
أجاب أبو الخطَّاب: تجوز له سماع شهادتهما لغيره ويحكم بها.
جواب ابن عقيل: يجوز إذا لم يتعلق عليهما من ذلك تهمة، ولم يوجب لهما بقبول شهادتهما ريبة لم تثبت بطريق التزكية.
* إذا سأل الحاكم الشهود عن مستند شهادتهم، فقالوا: أخبرنا جماعة؟
أجاب أبو الخطَّاب: تقبل شهادتهم في ذلك ويحكم فيه بشهادة الاستفاضة.
جواب ابن عقيل: إن صرَّحا بالاستفاضة أو استفاض بين النَّاس، قبِل في الوفاة والنسب جميعًا.
* هل يجوزُ كتابةُ المصحف بالذّهب؟ وهل تجبُ فيه الزكاة؟ فإن وجبتْ فهل يجوزُ حَكُّهُ لمعرفة قدره؟
أجاب أبو الخطَّاب: تجِبُ فيه الزَّكاة إن كان نِصابًا ويجوز له حَكَّهُ وأخذه.
وسُئل عنها ابنُ الزَّغواني فأجاب: كَتْب القرآن بالذهب حرامٌ؛

(4/1355)


لأنَّه من جملة زخرفة (1) المصاحف، ويؤمرُ بحكه وردعه، وإن كان مما إذا حُكَّ اجتمع منه شيء يتموَّلُ، وجبت فيه الزكاةُ، ولأنَّه ينزَّلُ منزلةَ الأواني المحرَّمة: وإن كان إذا حُكَّ لا يجتمع منه شيء (2) كان بمنزلة التَّالف فلا شيء فيه.
* إذا أجَّرت امرأةٌ نفْسَها للرَّضاع، فكان الصَّومُ يُنْقِصُ من لبنها أو يُغَيِّرُه، فطالبها أهل الصَّبيِّ بالفطر في رمضان لأجل ذلك، هل يجوز لها الفطر؟ فإن لم يَجُزْ هل يثبت لأهل الصَّبيِّ الخيار؟ وما المانع من جوازه وقد قلنا: يجوز للأم أن تفطرَ؟
أجاب أبو الخطَّاب: إذا كانت قد أجَّرتْ نفسها إجارةً صحيحةً جاز لها الإفطار إذا نقص لبنُها أو تغيَّرَ، بحيث يتأذَّى بذلك المرتضعُ، وإذا امتنعت لزمَها ذلك، فإن لم تفعلْ كان لأهل الصبيِّ الخيارُ في الفسخ.
وأجاب ابن الزغواني -وقد سئل عنها-: يجوز لها أن تُؤجَر نفسَها للرَّضاع لولدها ولغير ولدِها، سواء وُجد غيرها أم لم يوجد، فإذا أدركها الصومُ الفرضُ فإن كان لا يلحَقُها المشقَّةُ ولا يلحقُ الصَّبِيَّ الضَّرَرُ لم يَجُزْ لها الفطرُ، وإن لحقها المشقَّة في خاصَّتها دون الصَّبيَّ جاز لها الفطرُ، وتقضي ولا فديةَ عليها، وإن لحقها ولحق الصَّبيَّ المشَقَّة والضَّرر جاز لها الفطرُ، ووجب عليها مع القضاء الفدية، وإن أبتْ الفطر مع تغيير اللَّبن ونقصانه بالصّوم، فمستأجرها لرَضاع الصَّبِيِّ بالخِيار في المُقام على العقد وفي الفسخ، فإن قصدت
__________
(1) (ق): “سرقة”!.
(2) من قوله: “يتمول وجبت … ” إلى هنا ساقط من (ق).

(4/1356)


بالصّوم الإضرار بالصَّبِيِّ أثِمتْ وعَصَتْ، وكان للحاكم إلزامُها الفطرَ إذا طلب ذلك.
* إذا علَّم أحدُ النَّاس قردًا أن يدخل دور النَّاس ويخرِجَ (1) المتاع، فهل يُقطعُ بذلك صاحبةُ؟
أجاب أبو الخطَّاب: لا يلزمه القطعُ.
وأجاب ابنُ عَقِيلٍ: لا حكمَ لفعل القرد في نفسه ولا قطعَ على صاحبِهِ، وإنَّما عليه الرَّدّ لما أخَذهُ، والغُرْمُ لما أتلفه.
وسئل ابنُ الزغوانيِّ عن هذه المسألة بعينها وقيل له: ما الفرقُ بينبها وبين ما لو أمر صَبيًا لا يعقل بالقتل، فإنَّه يجب القَوَد على الآمِرِ؟ فأجاب: بأنه لا قطعَ ويجبُ الرَّدُّ والضَّمان. وأمَّا إذا أمر صبيًّا (2) أو أعجميًّا فإنَّه يتعلق به الضَّمان؛ لأن فعل الصَّبِيِّ أو الأعجميِّ مضمون في الخطأ على عاقِلَتِهِ. وقد قال قومٌ من الفقهاء: للصَّبِيِّ عملٌ في القتل، ولم يقلْ أحدٌ في فعل القرد مثلَ ذلك.
قلتُ: لو قيل بالقطع لكان أولى؛ لأن القردَ آلتهُ فهو ككُلَّابِهِ وخطَّافَتِهِ، وكما لو رمى حبلًا فيه دبقٌ (3) فَعلِقَ به المتاعُ، ولا يَقْوَى الفرق بين هذه الصُّورة ومسألة القرد، وقد قالوا: لو أرسَلَ عليه حيَّة أو سبُعًا فقتله أُقِيْدَ به فنزَّلوا الحيَّة والسَّبُعَ منزلةَ سلاحِهِ، فتنزيل القرد هنا منزلةَ آلتهِ وعُدَّتِهِ التي يتناولُ بها المتاعَ منه أولى؛ لأن (4) الأسبابُ
__________
(1) (ق): “ويأخذ”.
(2) من قوله: “لا يعقل بالقتل … ” إلى هنا سقط من (ق).
(3) هو: الغراء الذي يُصاد به.
(4) (ع): “لهذه”.

(4/1357)


التي يُخرَجُ بها المسروق (1) من الحِرز لا يمكنُ الاحترازُ منها غالبًا، وأسباب القتل يمكنُ الاحتراز منها غالبًا. وأيضًا فجناية القرد حصلت بتعليم صاحبه، وجنايةُ الحيَّة والسَّبُع لم يحصل بتعليم من أنهشهما، والله أعلم.
* إذا رأى إنسانًا يغرق ولا يمكنه تخليصه إلَّا بأن يُفْطِرَ، فهل يجوز له الفطرُ؟
أجاب أبو الخطَّاب: يجوزُ له الفطر إذا تيَقَّنَ تخليصَهُ من الغرق ولم يمكنه الصَّوم مع التخليص.
وأجاب ابن الزاغوني عنها: إذا كان يقدر على تخليصه وغلب على ظنِّه ذلك، لزمه الإفطارُ وتخليصه، ولا فرق بين أن يُفطِرَ (2) بدخول الماء في حلقه وقتَ السِّباحة، أو كان يجدُ من نفسِه ضعفًا عن تخليصِه لأجل الجوع حتَّى يأكلَ؛ لأنَّه يُفطر للسفر المُباح فَلأَن يُفْطِرَ للواجب أولى.
قلت: أسباب الفِطر أربعة: السَّفرُ، والمرضُ، والحيض (3)، والخوفُ على هلاك: من يُخشى عليه بصومه كالمُرضع والحامل إذا خافتا على ولديهما، ومثله مسألة الغريق.
وأجاز شيخُنا ابنُ تيمية الفطرَ للتَّقَوِّيّ على الجهاد وفَعَلهُ، وأفتى به لما نازلَ العدوُّ دمشق في رمضان (4)، فأنكر عليه بعضُ المتَفَقِّهة،
__________
(1) (ق): “المتاع”.
(2) (ع): “يدخل”!.
(3) سقطت من (ق).
(4) وانظر: “الاختيارات”: (ص/ 107).

(4/1358)


وقال: ليس هذا بسفر طويل، فقال الشَّيخ: هذا فطرٌ للتَّقَوِّي على جهاد العدو، وهو أولى من الفطر لسفر يومين سفرًا مُباحًا أو معصية، والمسلمون إذا قاتلوا عدوَّهُم وهم صيامٌ لم يُمْكِنْهمُ النكايةُ فيهم، وربما أضعفهم الصَّومُ عن القتال، فاستباح العدوُّ بيضةَ الإسلام، وهل يشكُّ فقيه أن الفطر هاهنا أولى من فطر المسافر، وقد أمرهم النَّبيّ – صلى الله عليه وسلم – في غَزَاة الفتح بالإفطار لِيَتَقَوَّوْا على عدوُّهم (1)، فعلَّل ذلك للقُوَّة على العدو لا للسَّفَر، والله أعلم.
قلت: إذا جار فطرُ الحامل والمُرْضع لخوفهما على ولديهما، وفطر من يُخَلِّص الغريق، ففطر المقاتلين أولى بالجواز، ومن جعل هذا من المصالح المرسلة فقط غلط، بل هذا أمرٌ من باب قياس الأوْلى (2)، ومن باب دلالة النَّصِّ وإيمائه.
* إذا وطئ ميتةً هل يجبُ إعادةُ غسلها؟
أجاب ابن الزاغوني: ينظرُ فيه فإن كان صُلِّيَ عليها فلا غسل عليها؛ لأن الغسلَ طهارتُها لأجل الصَّلاة عليها، وقد سقط فرض الصَّلاة عنها بالأولى، غير أنه يمنعُ من إعادة الصَّلاة عليها بعد ذلك، وإن لم يكنْ صلَّى عليها أعيدَ غسلها.
وقد اختلف أصحابُنا في وطء الميتة هل يوجب الحَدَّ وينشرُ الحرمةَ؟ على وجهين: أحدهما: يوجب الحَدَّ وينشرُ الحُرْمَةَ، فعلى
__________
(1) أخرجه أحمد: (25/ 241 رقم 15903)،، وأبو داود رقم (2365)، والحاكم: (1/ 432) عن بعض أصحاب النَّبيّ – صَلَّى الله عليه وسلم -.
وصححه ابن عبد البر في “التمهيد”: (22/ 47).
(2) من قوله: “بالجواز … ” إلى هنا ساقط من (ع).

(4/1359)


هذا إيجابُ الغسل أولى، والثَّاني: لا يوجبُ الحَدَّ ولا ينشر الحرمة، فعلى هذا (1) يكون الأمر على التفصيل المتقدِّم.
وأجاب أبو الخطَّاب عن هذه المسألة بأن قال: يجبُ غسلُها بعدَ الوِطء، كذا الظاهرُ عندي، ولا أعرف فيه رواية.
* إذا تيمم الصبي ثمّ بلغ، هل يبطل تيممه (2)؟
أجاب أبو الخطاب: يجوز له الصَّلاة بذلك التَّيمم في رواية، وكذلك إذا تيمم البالغ: قبل الوقت؛ ففيه روايتان:
إحداهما: يصح تيممه.
والأخرى: لا يصح، فالصبي مثله.
وأجاب ابنُ عقيل: هذا قد تيمم لنافلة؛ لأنه لا تجب عليه الصَّلاة (3)، وإذا تيمم لنافلة لم يجز أن يصلَّي بها فريضة.
وأجاب ابنُ الزاغواني: اختلف أصحابنا في الصبي إذا بلغ عشر سنين؛ هل يكون مكلَّفًا بالصلاة أم لا؟.
أحدهما: لا تجب عليه، وهو اختيار الخِرَقي، فعلى هذا إذا بلغ بعد التَّيمم وجب عليه إعادته؛ لأنَّه فَعَل التَّيمم لصلاة نافلة، فلا يصلِّي به الفرض.
والثاني: أنَّه مكلَّف بالصلاة، وهو اختيار أبي بكر
__________
(1) من قوله: “إيجاب الغسل … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(2) هذه المسألة وجوابها ساقطة من (ظ) وجميع المطبوعات. وهي في (ع وق).
(3) من قوله: “والأخرى … ” إلى هنا ساقط من (ق).

(4/1360)


عبد العزيز، فعلى هذا لا يُعيد التَّيمم؛ لأنَّه تيمم واجب عليه لصلاة مفروضة.
قلت: لا وجه لبطلان تيممه، نعم إذا قلنا: التَّيمم لا يرفع الحدث، ولا يتيمم لفرضٍ قبل وقته (1) صَلَّى بهذا التيمم بعد بلوغه ما شاء من النوافل، والصَّواب أنَّه يصلِّي به الفرضَ -أيضًا-.
* إذا امتنع من صلاة الجمعة، وقال: أنا أصلِّي الظُّهْرَ هل يُقْتَلُ أم لا؟
أجاب أبو الخطَّاب: يُستتابُ، فإن تاب وإلا قُتِل.
زاد ابنُ عَقِيل في جوابه: إذا لم يكن على وجهٍ قد اعتقد اعتقادَ بعض المجتهدين في أنَّها لا تنعقدُ في القرايا.
جوابُ ابنِ الزَّغواني: الجمعةُ تُفعلُ في موضعينِ:
أحدهما: متَّفقٌ على وجوبه فيه، وهو البلدُ الكبير الواسع مع إذن الإمام في إقامتها، فهذا متى ترك الجمعةَ في هذه الحالة قُتِلَ كما يُقتَلُ في سائر الصَّلوات.
والموضعُ الثَّاني: ما اختلف الفقهاءُ في وجوبها معه كالأرباض والقرايا، وإذا لم يأذَنِ الإمامُ، وأمثال ذلك، فهذا إن تركَ الجمعةَ متأوِّلًا قولَ أحد من الفقهاء، فإنَّه يكونُ معذورًا بذلك ولا يُعتَرَضُ عليه.
* إذا كان للأخرسِ إشارةٌ مفهومة فأشار بها في صلاته هل تَبْطُل؟
أجاب ابنُ الزّاغوني: أما الإشارة بردِّ السَّلام فلا تُبْطِلُ الصَّلاةَ من
__________
(1) (ق): “فرضه”.

(4/1361)


الأخرس والمتكلِّم، وأمَّا غيرُ ذلك فإنه يجري منهما مجرى العمل في (1) الصَّلاة، إن كان يسيرًا عُفِيَ عنه، وإن كان كثيرًا أبطلَ الصَّلاةَ.
وجواب أبي الخطَّاب: إذا كَثرُ ذلك منه بَطَلَتْ صلاتُهُ.
وجواب ابن عَقِيل: إشارتُه المفهومةُ تجري مجرى الكلام، فإن كانت بردِّ السَّلام خاصَّة لم تَبْطُلْ صلاتُهُ، وما سوى ذلك تَبْطُل.
قلت: إشارةُ الأخرس مُنَزَّلة منزلةَ كلامه مطلقًا، وأمَّا تنزيلها منزلةَ الكلام في غير ردِّ السَّلام خاصة فلا وجهَ له، وإنَّما كان ردُّ السَّلام من النَّاطقِ بالإشارةِ غيرَ مُبْطل في أصحِّ قولي العلماء، كما دلَّ عليه النص؛ لأنَّ إشارته لم تُنزَّل منزِلةَ كلامِهِ، بخلاف الأخرسِ فإن إشارتَهُ المفهمةَ ككلام الناطق في سائر الأحكام.
* إذا توضأ بماء زمزم هل يجوز أم لا؟
أجاب ابنُ الزاغوني: لا يختلف المذهب أنَّه منهيٌّ عن الوضوء به، والأصل في النَّهي قول العباس: “لا أُحلِّها لمغتسل، وهي لشارب حِلٌّ وَبِلٌّ” (2)، واختُلِف في السبب الذي لأجله ثبتَ النَّهي، وفيه طريقان:
أحدهما: أنَّه اختيارُ الواقف وشرطُه، وهو قول العباس.
وقد اختلف أصحابُنا في مسألةٍ مثل هذه، وهي: أن رجلًا لو سَبَّلَ ماءً للشُّرْب، فهل يجوزُ لأحد أن يأخذ منها ما يَتَوضَّأ به؟ قال
__________
(1) (ع): “من”.
(2) أخرجه عبد الرَّزاق: (5/ 114، 316)، وأحمد في “العلل”: (2/ 187) والأزرقي في “أخبار مكة”: (2/ 14، 63 – 64).

(4/1362)


بعضُهم: يجوز ويُكرَهُ، فعلى هذا يكون النّهيُ عنها كراهية تنزيه لا تحريم.
وقال آخرون من أصحابنا: لا يجوز له الوضوءُ به؛ لأنَّه خالف مرادَ الواقفِ، فعلى هذا لا يجوز الوضوءُ بماء زمزم.
فأمَّا الطريقُ الآخرُ: أن سببَهُ الكرامةُ والتعظيمُ.
فإن قلنا: ما يتحدَّرُ من أعضاء المُتَوضِّئ طاهرٌ غير مُطَهِّر، كأَشْهَر الرِّوايات كُرِهَ الوضوءُ بماء زمزم.
وإن قلنَا بالرواية الثَّانية: إنَّه يحكم بنجاسة ما ينفصل من أعضاء الوضوء حرمَ الوضوءُ به (1).
وإن قلنا بالرِّواية الثالثة: إنَّ المنفصلَ طاهرٌ مطهِّرٌ لم يَحْرُمِ الوضوء به ولم يُكْرَهُ؛ لأنَّه لم يؤثر الوضوء فيه بما يوجب رفع التعظيم عنه، فأمَّا إن أزال به نجاسة وتغير كان فعله محرمًا، وإن لم يتغيَّر وكان في الغسلة السابعة؛ فهل يحرم أو يكره؟ على روايتين.
وإن قلنا: إن الماءَ لا ينجس إلَّا بالتَّغَيُّر، فمتى انفصل غيرَ مُتَغَيِّر في أيِّ الغَسْلاتِ كان، كُرِهَ ولم يحرُمْ.
قلت: وطريقةُ شيخِنا شيخِ الإسلام ابن تيْميَّةَ كراهة الغُسل به دود الوضوء، وفرَّقَ بأن غُسْلَ الجَنابة يجري مجرى إزالة النجاسة من وجه، ولهذا عمَّ البَدَن كلَّه لما صار كلّه جُنُبًا، ولأن حَدَثها أغلظُ، ولأن العباس إنما حَجَرها على المغتسل خاصَّة (2).
__________
(1) (ظ): “كره … “، و “حرم الوضوء” سقطت من (ق).
(2) انظر: “مجموع الفتاوى”: (12/ 600)، و “زاد المعاد”: (3/ 669).

(4/1363)


وجواب أبي الخطَّاب وابن عَقِيل: يصحُّ الوضوءُ به رواية واحدة، وهل تُكْرَهُ؟ على روايتين.
* إذا صَلَّى سهوًا خلف المرأة؟
أجاب أبو الخطاب: تلزمه الإعادة إذا علم، وتجوز إمامة المرأة بالنساء، ويجوز على رواية عن أحمد أن تصلي بالرجال نافلة، وتكون وراءهم وهي بعيدة.
قلت: إن كان أميًّا وهي قارئة لم تلزمه الإعادة، وإن كان قارئًا مثلها، ففي وجوب الإعادة نظر؛ إذ غاية ذلك أن يكون كمن (1) صلى خلف محدِث لا يعلم حدثه، فإنه لا تلزمه الإعادة، وهاهنا أولى؛ لأنَّ صلاة المرأة في نفسها صحيحة، بخلاف المحدِث.
وأجاب ابنُ الزاغواني: إذا علم بذلك حُكِم ببطلان صلاته وعليه الإعادة، ولم يجوّر إمامنا أحمد أن يتابع رجلٌ امرأة في الصلاة مفترضًا، فأمَّا في النفل فإنَّه أجازه في موضع واحد، وهو إذا كانت امرأة تحفظ القرآن، فإنَّه يجوز للأمي أن يتابعها في النافلة كصلاة التراويح، وتكون صفوف الرجال بين يديها، والنساء (2) خلفهم.
* إذا قال: بعتك هذه السِّلعة، ولم يسمِّ الثَّمن؟
أجاب أبو الخطَّاب: لا يصح البيع، وإذا قبض السِّلعة فهي مضمونة عليه.
وجواب ابن الزاعوني: أما البيع من غير ذكر العِوَض فباطل،
__________
(1) (ظ): “كرجل”.
(2) (ظ): “وهي والنساء …. “

(4/1364)


وإذا قبض (1) السلعة عند هذا العقد فعليه ردُّها، فإن تلفت تحت يده وجب عليه ضمانها في المشهور من المذهب؛ لأنَّها تجرىِ مجرى المقبوضة على وجه السوْم، وقد روي عن أحمد في المقبوض على وجه السَّوْم إذا تلِفَ من غير تفريط فلا ضمان فيه ومثله هاهنا.
وجوابُ (ق/332 ب) شيخنا ابن تيميّة (2): صحَّةُ البيع بدونِ تسمية الثمن؛ لانصرافه إلى ثمن المِثلِ كالنكاح والإجارة، كَما في دخول الحمام ودفع الثوب إلى القصَّار والغسال، واللَّحم إلى الطبَّاخ، ونظائره، قال: فالمُعاوضة بثمن المثل ثابتةٌ بالنَّصَ والإجماع في النكاح، وبالنص في إجارة المرْضِع، في قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وعمل النَّاس قديمًا وحديثًا عليه في كثير من عقود الإجارة، وكذلك البيع بما ينقطعُ به السعر، هو بيع بثمن المثل، وقد نص أحمد على جوازه، وعملُ الأمَّة عليه.
قلت: والمحرِّمونَ له لا يكادون يخلُصون منه، فإنَّ الرجلَ يعاملُ اللَّحَّامَ والخبازَ والبقَّالَ وغيرهم، ويأخذُ كُلَّ يوم ما يحتاجُ إليه من أحدِهم من غير تقدير ثمن بل بثمن المثْل الذي ينقطع به السعر (3)، وكذلك جرايات الفقهاء وغيرها، فحاجة النَّاس إلى هذه المسألة تجري مجرى الضَّرورة، وما كان هكذا لا يجيء الشرع بالمنع منه ألبتَهَّ، كيف وقد جاء بجوازه في العقد الذي الوفاء بموجبه آكد من غيره من العقود، وهو النِّكاح؟! وتفريقُهم بينه وبين البيع بأن الصَّداق دخل (4) فيه لا يَصِحُّ،
__________
(1) (ظ): “اقتضى”.
(2) بنحوه في “الفتاوى”: (29/ 231).
(3) من قوله: “هو بيع … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(4) (ق): “دخيل”، (ظ): “دَاخل”.

(4/1365)


بل هو ركنٌ فيه بطل (1) العقدُ بنفيه، كما نص عليه صاحبُ الشرع في الشِّغار، وجاء بجوازه أيضًا في عقد الإجارة الذي تقدير العِوَض فيها آكَدُ من تقديره في البيع؛ لأنَّ قيمة العَينِ في البيع أقلُّ اختلافًا من قيمة المنفعة؛ لأنَّها تتجَدَّدُ بتَجَدّدِ الأوقاتِ وتختلفُ باختلافها غالبًا، فإذا جازتِ الإجارةُ بِعوض المِثْل، فالبيعُ بثمن المثل (2) وما ينقطعُ به السعر أولى، ولو فرعنا على بُطلان العَقد؛ فالمقبوض به يضمَن بنظيره، وهو إمَّا مثْلُه وإما قيمتُهُ، ولا يصِحُّ إلحاقُهُ بالمقبوض على وجه السَّوم، فإنّ القابض هناك لم يدخلْ على أنَّه ضامن، بل مختبر مُقَلِّب للمقبوض، والقابض هنا دخل على أنَّه ضامِن بثمن المِثلِ لمْ يقبضه على أنَّهُ مستام مقلب، بل مالكٍ له بِعِوَضِهِ فإذا تلف ضَمِنَهُ.
فإن قيل: هو لم يملكْهُ بهذا العَقد الفاسد، قلنا: دخل على أنَّه مالكٌ ضامنٌ، فلا وجهَ لإسقاط الضَّمان عنه، وكونه لم يملكْهُ في نفس الأمر لا يوجب سقوطَ الضمان عنه كالمستعار والمقبوض بالعقود الفاسدة والمغصوب، وأمَّا إذا فرَّعنا على صحة العَقد؛ فالضمان يكون بثمن المثل وهو القيمة لا بالمثل نفسه، والله أعلم.
* (ظ/230 أ) كم قدرُ الترابِ المعتبرِ في الوُلوغ؟
جواب أبي الخطَّاب: ليس له حَدّ، وإنما هو بحيث تمر أجزاءُ التُّرابِ مع الماء على جميع الإناء.
وأجابَ ابن عقيل: يكونُ بحيث تظهرُ صفتُهُ ويُغيِّرُ صفة الماء.
وأجاب ابنُ الزاغوني فقال: النَّجاسات على ضربين:
__________
(1) (ظ): “يبطل”، (ق): “مبطل”.
(2) “فالبيع بثمن المثل” سقطت من (ع).

(4/1366)


نجاسةٌ لا تزول عن مَحَلِّها إلَّا بالحَتِّ والفَركِ والتُّراب الذي يظهر أثرُه، فهذا الحتُّ والقَرْص والتُّراب في إزالتها واجبٌ.
الثَّاني: ما يكفي فيها إفراغُ الماء، ففي وجوب التُّراب فيها لأصحابنا وجهان؛ أحدُهما: وجوبُه عينًا، وهو اختيار أبي بكر، والثَّاني: مستحبٌّ غير واجب، والقائلون بوجوبه إذا كان المغسولُ مما لا يضرُّهُ التُّراب الكثير فلابُدَّ أن يطرحَ (1) في الغسل ما يؤثِّرُ، وإن كان ممن يضرّهُ التُّرابُ كالثوب ونحوه، فهل يجزيه ما يقعُ عليه اسمُ التُّراب وإن لم يظهرْ أثرهُ؛ فيه من أصحابنا وجهان؛ أحدهما: لا يجْزِئُهُ إلَّا ما يظهر أثره، الثَّاني: يجزئُه ما يقعُ على الاسم، وإن لم يظهرْ أثره.
وهل ينوب عنه الصابونُ والأُشنانُ وأمثالُ ذلك، مما يضرُّه التُّراب؟ فيه أيضًا عن أصحابنا وجهان.
* إذا قلنا: الواجبُ التَّوَجُّهُ إلى عَيْنِ القِبْلَةِ وكان الصَّفُّ طويلًا يزيد على سَمْتِ الكعبة؟
اختلف كلامُ أحمد في ذلك على روايتين:
إحداهما: أن طولَ الصَّفِّ مع البعدِ الكثير لا يُؤَثِّرُ ذلك مَيْلًا عن الكعبة إلّا قدْرًا يَخْفى أَمرُهُ ويعسُرُ اعتبارُه، لا سيَّما فيما هو مأخوذٌ بالاجتهاد فعُفي عنه.
والرِّواية الثَّانية: أنَّه إذا طال الصَّفُ من جانبي الإمام انحرفَ الطَّرَفانِ إلى ما يلي الإمامَ انحرافًا يسيرًا، يجمعُ به توجيهَ الجميع إلى العين،
__________
(1) (ق): “يظهر”.

(4/1367)


ولا يشبهُ هذا اختلاف المجتهدين؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ من المجتهدين يعتقدُ خطأَ صاحِبهِ في اجتهاده، وفي مسألتنا قد اتَّفقا في الاجتهاد.
قلت: الصَّوابُ أنَّه مع كثرة البُعد يكثُرُ المحاذي للعين.
فإن قيل: هذا إنَّما يكون مع التَّقوُّس كالدَّائرة حول النُّقطة، قلنا: تعم، ولكن الدَّائرة إذا عظُمتْ واتَّسعتْ جدًّا، فإن التَّقَوُّسَ لا يظهرُ في جوانب محيطها إلّا خفيًّا، فيكون الخَطُّ الطَّويلُ مُتَقَوسًا نحو شَعَرَةٍ، وهَذا لا يظهرُ للحِسِّ.
* إذا وطئَ الصَّبِيِّ هل يَجبُ عليه الغُسْلُ؟
أجابَ ابنُ الزاغوني: هذا لا نُسَمِّيه جُنُبًا؛ لأنَّ الجُنُبَ اسمٌ لمن أنزل الماءَ، والصَّبيُّ لا ماء له، وهل يجبُ عليه الغسلُ لالتقاء الخِتَانين؟ ينظر فيه، فإن كان مراهقًا وهو أن يجدَ الشَّهوةَ في ذلك وجبَ عليه الاغتسالُ، وإن لم يجِد ذلك فلا غسل عَليه، لكن يؤمَرُ به تمرينًا وعادَة.
وهكذا أجابَ ابنُ عقيل عن هذه المسألة في صَبِيٍّ وطئَ مثلَهُ، قال: إذ كان له شهوة لَزِمَهُ الغُسلُ، وإن كان ذلك على سبيل اللَّعِب بغير شهوة فلا غُسلَ عليه (1).
* إذا سجدَ على شيء مرتفع لعُذر فهل يجوزُ؟
أجاب ابن الزَّاغوني: إذا كانت الأرضُ ذاتَ صعودٍ وهبوط فلا يَضُرُّ إن سجد على الأعلى، ويجلسُ في المنهبط، فأمَّا إذا كان متَّخِذًا كالدَّرجة والصُّفَّةِ، وأمثال ذلك ولا حاجةَ تدعوه إلى السُّجود عليها، فإنه لا يجوز له ذلك.
__________
(1) من قوله: “لكن يؤمر … ” إلى هنا ساقط من (ق).

(4/1368)


وإن كان مريضًا لم يَجُزْ له أن يتعَمَّدَ مثل ذلك، بل يومئُ بركوعِهِ وسجوده، ولا يترُك تحتَ جبهتِه شيئًا دون الأرض يسجدُ عليه، فأمَّا إذا زُحِم ولم يقْدِرْ إلَّا أن يسجدَ على ظهر أخيه سجدَ على ظهر أخيه وأجزأَهُ.
وأجاب أبو الخطَّاب: إن كان ارتفاعُه بحيثُ يخرجُ به عن صِفَةِ السُّجود لم يجزِئْهُ، وإن فعل ذلك لعذر جاز.
* هل يجوزُ أن يُحْدِثَ مدارًا أو حمَّامًا يتأذَّى به الجيران؟
أجاب أبو الخطَّاب: لا يجوز له فعل ما يتأذَّى به عقار الجيران وأبنيتهم ويؤذيهم في أجسامهم.
وأجاب ابن عَقِيل: إذا كان ذلك في خاصَّة مُلكِهِ بحيث لا تَتَزلزلُ حيطانهم بالرَّحا، ولا يتعدَّى دخان نار حمّامِهِ ولا ينزو ماؤُه إلى جدار جارِهِ = جاز.
وأجاب ابن الزاغوني: لا يجوز له أن يَتَصرَّفَ في ملكه على وجه يضُرُّ بجيرانِهِ بزلزال حائط أو حَرٌ (1) نار أو ماءٍ ينزلُ إلى بالوعة، أو غير ذلك مما فيه ضَرَرٌ عليهم إلَّا بإذنهم.
* إذا قال القاضي للشاهدين: أعلمُكما أني حكمتُ بكذا وكذا، هل يجوز أن يقولا: أشهدنا على نفسه أنَّه حَكَم (2) بكذا وكذا؟
أجاب ابنُ الزاغوني: الشَّهادةُ على الحاكم (3) تكونُ في وقت حكمه،
__________
(1) (ع): “حما”.
(2) (ق وظ): “أشهدنا أنَّه حكم على نفسه … “، وانظر البحث فيهما مضى (3/ 1039).
(3) (ع وق): “الحكم”.

(4/1369)


فأمَّا بعد ذلك فإنَّه مخْبِرٌ لكما بحكمه، فيقول الشاهد: أَخبَرني أو أَعْلَمني أنَّه حكم بكذا في وقت كذا.
وأجاب أبو الخطَّاب وابن عَقِيل (1): بأنه لا يجوز أن يقولا: “أشهدنا” (2)، وإنَّما يقولان: أخبرنا أو أعلمنا.
قلت: الصَّوابُ المقطوع به أنَّه يجوز أن يقولا: “أشهدنا” كما يقولان: “أعلمنا وأخبرنا” (3)؛ لأنَّ الخبر شهادةٌ فكلُّ مخبرِ شاهدٌ. قال تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26] ثم ذكر شهادته فقال: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} [يوسف: 26].
وقال ابن عباس: “شَهِدَ عندي رِجَالٌ مَرْضيُّونَ أنَّ رسولَ الله صَلَّى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن الصَّلاة بعد العصر” (4) الحديث.
وقال علي بن المديني: أقول: إنَّ العَشرَةَ في الجنَّة، ولا أشهد بذلك، فقال الإمام أحمد: متى قلت: “هم في الجنَّة” فقد شهدتَ (5).
قالْ شيخُنا: وهذا صريحٌ من أحمد أن لفظ الشَّهادة ليس بشرط، قال: وهو الصَّحيح (6).
__________
(1) “وابن عقيل” سقطت من (ق).
(2) “أن يقولا: أشهدنا” سقطت من (ق).
(3) من قوله: “قلت: الصواب … ” إلى هنا سقط من (ق).
(4) أخرجه البخاري رقم (581)، ومسلم رقم (826).
(5) ذكر القصة في المناظرة بينهما أبو يعلى وشيخ الإسلام فيما نقله ابن القيم في “الطرق الحكمية”: (ص/ 204)، وانظر مناظرات أخرى للإمام في “السُّنة”: 2/ 356 – 359 للخلال.
(6) انظر: “مجموع الفتاوى”: (14/ 170).

(4/1370)


قلت: على أحمد ثلاثُ رواياتِ منصوصات حكاها أبو عبد الله بن تيميَّة (1) في “ترغيبه” (2).
أحدها: الاشتراط وهي المعروفة عند متأخِّري أصحابنا.
الثَّانية: عدم الاشتراط، اختارها شيخُنا.
الثَّالثة: الفرقُ بين الأقوال والأفعال، فإن شهدَ على الفعل؛ لم يشترط لفظ الشهادة، بل يكفيه أن يقولَ: “رأيتُ وشاهدتُ وتيقَّنتُ”، ونحوه، وإن شهود على القول؛ فلابُدَّ من لفظ الشهادة.
إذا عُرِفَ هذا، فإذا قال الحاكم: “أُعْلِمكما أو أُخْبِركما”، أو قال شاهدا الأصل لشاهدي الفرع: نُعلمُكُما أو نخبِرُكما بأنا نشهدُ بكذا وكذا، ساغ أن يقولا: “أشْهدَنا” كما يسوغ أن يقولا: “أخْبَرَنا وأَعْلَمَنَا”، ولا فرقَ بينهما ألبتةَ لا في اللفظ ولا في المعنى، ولا في الشرع ولا في الحقيقة، فالتَّفريقُ بينهما تفريق بين المتماثلين والشريعةُ تأباهُ، وقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يدفعُ كُتُبهُ إلى رُسُلِهِ يُنْفِذونها إلى المكتوب إليه، ولم يقل لأحدِ منهم: أُشْهِدُك أن هذا كتابي، وكان الرسولُ يدفَع كتابَه إلى المرسَل إليه، ولا يقول: أشهدُ أن هذا كتابُ رسول الله – صَلَّى الله عليه وسلم -، ولا يقول: أَشْهدَنِي على ما فيه، ولو سُئِلَ الشهادةَ لشَهِدَ قطعًا وقال: أشهد أَنَّه كتابُهُ.
__________
(1) هو: أبو عبد الله محمَّد بن أبي القاسم الخضر بن محمَّد فخر الدين ابن تيمية ت (622)، انظر: “السير”: (22/ 289 – 291)، و “الذيل على طبقات الحنابلة”: (2/ 151 – 162).
(2) اسم كتابه: “ترغيب المقاصد في تقريب المقاصد” لا يُعلم له وجود، وهو في فقه الحنابلة، والموجود مختصره المسمّى: “بلغة الساغب وبغية الراغب” طبع بتحقيق الشَّيخ بكر أبو زيد في مجلد واحد.

(4/1371)


ومما يدلُّ على أن لفظَ الشهادة غيرُ مُشْتَرط قولُهُ تعالى {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [الأنعام: 150] ومعلومٌ قطعًا أنَّه لم ينكرْ عليهم إلّا مُجَرَّدَ قولهم: إن الله حَرَّمَ هذا، لم يخصَّ الإنكار بقول من قال: نشهدُ أن الله حَرَّمَه (1)، ولا نهى رسوله أن يتلفَّظَ بالشَّهادةِ على التَّحريم، بل هو نهيٌ له أن يقولَ (2): إن الله حَرَّمَه.
* رجلٌ قال لعبده: إذا فرغت من هذا العمل فأنت حُرٌّ، وقال: أردتُ أنَّك حرٌّ من العمل؟
أجاب ابن عَقِيل وأبو الخطَّاب وابن الزاغوني: لا يُقبل قولُه في ظاهر الحكم، وأمَّا ما بيْنهُ وبَيْنَ الله فيُحتَمَلُ.
قلت: أما التَّوقُّفْ لكونه يُدَيَّن (3) فلا وجه له، فإنَّه إذا أراد بلفظِه ما يحتملُهُ ولم يخطرْ بقلبه العِتْق، وليس هناك قرينةٌ ظاهرةٌ تكذبُهُ فهو أعلم بنيَّتِهِ ومرادِهِ، وقد قال أحمد في رواية بشر بن موسى في الرجل يكتبُ إلى أخيه: أعتقْ جاريتي فلانة، ويريد أن يتهدَّدها بذلك، وينوي التَّصْحِيف: أكره ذلك ولا يُخبِرُه (4) وهو عَبَثٌ، فيهدِّدها ويَسَعُه في ما بينه وبينَ الله أن يبيعَها والقاضي يفرِّقُ بينهما.
قلت: مرادُهُ بالتَّصحيفِ التعريض، وكأنه تصحيفٌ للمعنى، وهو العدول باللفظ عن معناه الموضوع له، وقد قال في رواية أبي الحارث إذا
__________
(1) (ظ): “حرم هذا”.
(2) (ظ): “هو بمنزلة يقول”!.
(3) (ع): “أما التوقيف … “، (ع وق): “في كونه”.
(4) (ق): “ولا يجربه”، (ظ): “لا يخبر”.

(4/1372)


قال: “أنتِ طالقٌ” وهو يريدُ طالقٌ من عِقَالٍ: إذا كانت قد سأَلتْهُ الطَّلاقَ، أو كان بينهما غضبٌ، لم يُقْلْ قولُه، وهذا يدلُّ على قبوله عند عدم القرينة الدَّالةِ على الطَّلاق، فعلى هذا إذا قال له عبدُه: أعْتِقْني لله، فقال: إذا فرغتَ من هذا العمل فأنتَ حُرٌّ، لم يُقْبلْ قولُهُ.
وأمَّا إذا قال: أرِحْني من هذا العمل، واستعملْني في غيره، أو أَعْتِقْني من هذا العمل، فقال: إذا فرغتَ منه فأنتَ حُرٌّ، وأراد: مِنْ هذا العمل، قُبلَ قولُه، فالمراتبُ ثلاثة: ما يبعدُ معه صرف اللفظ عن عُرفه (1) لما هناك من القرائنِ، فلا يُقبلُ قوله، وما يقربُ معه الصرفُ كقرائنَ تحفُّ به فيقبل قوله، وما يكونُ مُتَجَرِّدًا عن الأمرينِ فهو محلُّ تردُّدٍ.
* إذا لقي امرأةٌ في الطَّريق، فقال: تَنَحَّيْ يا حُرَّة، فإذا هي جاريتُه؟
فأجابَ أبنُ الزَّاغوني بأن قال: اختلفَ أصحابُنا فيما إذا لقِيَ امرأة في الطَّريق فقال: تنَحَّيْ يا طالقُ، فإذا هي امرأتُهُ، فهل تطلق؟ على وجهين، قال: والعِتقُ مثله.
قلت: وقوعُ العتق في هذه الصُّورة بعيدٌ؛ إذ من عادة النَّاسِ في خطابهم في الطُّرُقاتِ وغيرها إطلاق هذا اللفظ، ولا يريدُ به المخاطب إنشاءَ العِتْقِ، هذا عُرفٌ مستقرٌ، وأمرٌ معلوم، وأيضًا فإنَّما يُريدونَ حرِّيَّةَ الأفعال وحرية العِفَّةِ، لا حرية العِتْقِ، ولم تَجْر العادةُ بأن تخاطَبَ المرأةُ الأجنبية بـ “يا طالق” (2)، فلا يلزمُ من الحكمِ بوقوع الطَّلاقِ في مثلِ هذا: الحكمُ بوقوعِ العِتْقِ.
__________
(1) (ظ) تحتمل قراءتها: “غرضه”.
(2) (ظ): “بالطلاق”.

(4/1373)


* إذا قال المشهود عليه: أشهدت على نفسي بما في هذا الكتاب، ولم أعلم ما فيه، ولم يقرأ علي، وليس في الكتاب أَنَّه قرئ عليه، هل يمنع ذلك من الحكم به؟ وهل يجوز للشاهد أن يقول للمشهود عليه: أشهدُ عليك بجميع ما نُسِب إليك في هذا الكتاب من غير أن يعرفه ما فيه ويشهد به؟
أجاب ابن الزاغوني: لا يجوز للشاهد أن يشهد على المشهود عليه، إلَّا بأن يقرأ عليه الكتاب، أو يقول المشهود عليه: قد قرئ عليَّ، أو يقول: قد فهمت جميع ما فيه وعرفته، فإذا أقرَّ بذلك عند الشهود شهدوا عليه به. وإذا شهد الشاهدان عند الحاكم أنَّه أقر عندهم بفهم جميع ما في الكتاب، لم يلتفت إلى إنكار المشهود عليه.
وأجاب أبو الخطاب: إذا قال المشهود عليه: “أشهدت على نفسي بما في هذا الكتاب”، لا يشهد الشاهدان إلا أن يقول له: نشهد عليك بجميع ما في هذا الكتاب، وقد فهمته أو قرئ عليك، فيقول: نعم، أو يُقرأ عليه، فإذا وجد ذلك لم يقبل قوله: لم أعلم ما فيه، ولزمه الحكم في الظاهر.
قلت: وعلى هذا فكثير من كتب هذه الأوقاف المطوَّلة التي واقفُها امرأة أْو أعجمي أو تركي أو عامي لا يَعْرف مقاصد الشروطيين، لا يجب القيام بكثير من الشروط التي تضمنته؛ لأنَّ الواقف لم يقصدها ولا فهمها، وقد صرّح كثير من الواقفين بذلك بعد الوقف، وعلى هذا يصير كالوقف الذي لا تُعلم شروطه.
* إذا علمَ الحاكم من حال الشَّاهدين أنَّهما لا يفرِّقان بينَ أن يشهدا بما يذكران الشهادة به، وبينَ أن يعتمدا على معرفةِ الخَطِّ من

(4/1374)


غير ذكرٍ، هل يجوزُ إذا شهدا شهادةً قديمة أن يسألَهُما: هل يعتمدانِ على الخِطِّ، أو هما ذاكران للشهادةِ؟
أجاب ابنُ الزَّاغوني: إذا علمَ الحاكم أنَّهما يتجوَّزانِ بذلك صار حكمُهما في ذلك حكمَ المُغَفَّلين أو المجرحين (1)، إذا علم أنَّهما يُجرحانِ (2)، ومَنْ هذه صفته لا يجوز له قَبولُ شهادتِهما بحالٍ، فإن كان يتوهَّمُ ذلك من غير تحقيق لم يَجزْ له (3) أن يسألَهما عن ذلك، ولا يَجِبُ عليهما أنَّ يُخبراه بالصِّفةِ.
وأجاب أبو الخطَّابِ: لا يلزمُ الحاكمَ سؤالهما عن ذلك، ولا يلزمُ جوابه إذا قالا: “شهدنا من حيث جاز لنا الشهادة”، وإذا علم تَجوُّزهما في الشَّهادةِ صارا كالمغفلين، فلا يجوز له قبول شهادتهما.
* إذا شهدا: أنا لا نعلمُ لفلان وارثًا إلَّا هذا، فدفع إليه الحاكمُ المال، ثم عادا وشَهِدا لآخرَ أنَّه وارث معه فهل يشاركُ الأوَّل؟
أجاب ابن الزَّاغونيِّ: ليس بين الشَّهادتينِ تناقُضٌ؛ لأنه قد يعلمُ الإنسانُ بعضَ المعلوم في وقتِ، ويعلمُ في وقتٍ آخرَ ما بقي، وإذا ثبتَ هذا وجبَ أنَّ يشارِكَ الثَّاني الأولَ.
وأجاب أبو الخطَّاب: يُقْبَلُ قولُهما، وتقسمُ التَّركَةُ بينهما.
وأجاب ابن عَقِيل: الشهادَةُ الأولى لا تنافي الثَّانية، ولا تناقُض بينهما، فإن نَفْيَ العلمِ في حالي لا يُنافي ثبوتَهُ بطريقة فيما بعد فَيَرِثانِ جميعًا.
__________
(1) هكذا استظهرتها في (ع)، وغير محررة في (ق) وتحتمل في (ظ): “المحرفين”.
(2) غير محررة -أيضًا- في النسخ، وهكذا استظهرتها من (ع).
(3) (ع): “له أن … “.

(4/1375)


* إذا حكم الحاكم بشهادة شاهدين، ثم بان له فسقُهما أو كذبُهُما وقتَ الشهادةِ؟
أجاب أبو الخطَّاب: ينقضُ الحكم الأوَّل ولا يجوز له تنفيذُهُ.
وأجاب ابن عَقيل: لا يُقْبَلُ قوله بعدَ الحكمِ، فإن قال: كنت عالمًا بفِسْقِهما قُبلَ قولُه.
وجوابُ ابن الزاغواني: لا يخلو قبولُه بشهادة الشَّاهدين؛ إمَّا أن يكون لعدالة ثبتت عندَه بعلمه أو بعدالة ثبتت بتعديل مزَكٍّ، أو بظاهرِ عدالةِ الإسلامِ، فإن كان لعدالة ثبتتْ عندَه بعلمه (1)، فالأمرُ في ذلك مبْنيٌّ على الحاكم، هل يجوز أن يحكمَ بعلمه؟ وفي ذلك عن أحمدَ روايتان:
إحداهما: أنَّه لا يحكمُ بعلمه، فعلى هذا قد أخبر بأنه حكمَ على وجه لا يجوز الحكمُ به فيُنقَض حكمُه.
والرواية الثانية: أنَّه يجوز له الحكم بعلمه، فعلى هذه الرواية لا ينقض حكمه؛ لأنَّه متَّهَمٌ في نقصه، وذلك؛ لأنَّه (2) أتى بقولينِ مختلفينِ يُضيفهما إلى نفسه، فالعمل يكون على الأول دون الثَّاني.
وإن كان حَكَمَ بعدالتِهما بشهادة مُزَكَّين لعدالتهما، لم يَجُزْ له أن ينقص حكمه إذا أضافَهُ إلى علمه، وهل يفتقر في نقضه (3) إلى شاهدينِ غيرِه يشهدان بفسقِهما؟ أو يَكتفي معه بشاهدٍ واحدٍ؟ فيه
__________
(1) من قوله: “أو بعدالة … ” إلى هنا سقط من (ع وق).
(2) “لأنَّه متهم في نقضه، وذلك لأنَّه” سقطت من (ق).
(3) (ظ): “وهل يقتصر في حكمه”.

(4/1376)


وجهان، ذكرهما أبو علي بن أبي موسى (1) من أصحابنا.
وإن كان حكَمَ بشهادتِهما لظاهر عدالةِ الإسلام، فهل يجوزُ له ذلك؟ فيه عن أحمد روايتان:
إحداهما: لا يجوز له الحكم بشهادة شاهدٍ حتَّى يعلمَ عدالته باطنًا وظاهرًا، فعلى هذا ينقض حكمه.
والرواية الثَّانية: أنَّه يجوز (2) له ذلك، فعلى هذا هل (3) يجوز له أن ينقض حكمه؟ يحتمل وجهين:
أحدهما: ليس له ذلك، إلَّا أن يثبتَ (4) عندَه ببيِّنَةٍ.
والثَّاني: يجوز له نقض الحكم؛ لأنَّه قد تظهر بالإسلامِ عدالةُ من لو كُشِفَتْ حالُه لم يكن عدلًا، وكان قولُه محملًا يبعدُ عن التهمة، ثم ينظرُ بعد هذا فإن وافقه المشهودُ له على ما ذكر وجبَ عليه ردُّ ما أخذ، فإن كان عالمًا (5) نقض الحكم بنفسه دونَ الحاكم وإن خالَفَهُ فيه، فإن أوجبَه ذاك (6) غرامَةً لزمت الحاكمَ.
* * *
__________
(1) هو: محمَّد بن أحمد بن أبي موسى أبو علي الهاشمي، من أئمة الحنابلة ت (428)، له كتب منها: “الإرشاد” في الفقه طبع في مجلد واحد بتحقيق د/ عبد الله التركي. انظر: “طبقات الحنابلة”: (3/ 335 – 341).
(2) (ظ): “لا يجوز” وهو خطأ.
(3) سقطت من (ق).
(4) من قوله: “والرواية الثانية … ” إلى هنا سقطت من (ق).
(5) من (ق)، و (ع وظ): “ما”!.
(6) (ق وظ): “دون”!.

(4/1377)


[فائدة] (1)
قال في رواية أبي طالب: إذا قال: “أمرك بيدك” فالأمر في يدها حتَّى ترجع أو يطأها، فإذا وطئها، فليس لها من الأمر شيء، مثل الوكيل إذا رجع فقد خرج الأمر من يده، وإذا قال: “أمرك بيدك” فقالت: قد اخترت، فليس بشىِءٍ إنما أخذت أمرها، ولم يقض بشيء.
ولو قالت: قد أخذت نفسي، فهو بمنزلة: اخترت نفسي وطلقت نفسي، وإذا قالت: أخذت أو قبلت، فليس بشيءٍ، مثل قول الوكيل: قد قبلتُ وكالتك وأخذت وكالتك، فإنَّما (2) قبل ولم يعمل شيئًا.
فقد صرّح أحمد بأن هذا توكيل لا تمليك.
وقالت المالكية: تفويض الطلاق إليها ضربان: توكيل وتمليك، ففي التوكيل له أن يرجع ما لم تطلِّق نفسها، وفي التمليك ليس له ذلك إلَّا أن يبطل تمليكها، فالتمليك أن يقول: قد ملّكتك أمرك، وأمرك بيدك، أو طلاقك بيدك، أو ما أشبهه.
والتمليك عندهم نوعان:
أحدهما: تمليك تفويض، وهو هذا.
والثاني: تمليك تخيير، وهو أن يقول: اختاري، وهذا التخيير على ضربين.
__________
(1) هذه الفائدة ليست في (ظ) ولا في المطبوعات، وهي من (ع وق) تلو المسألة السابقة.
(2) (ق): “فقد”.

(4/1378)


فوائد شتَّى (1)
قال القاضي (2): نص أحمد على أن الإسراء كان يَقَظَة، وحكي له أن موسى بن عقبة (3) قال: أحاديث الإسراء مَنَامٌ، فقال: هذا كلامُ الجَهْميَّة.
ونقل حنبلٌ أن الرؤيةَ منامٌ، ونقل الأثرم وغيره: أنَّه رآه ولا يُطْلَقُ شيء سوى ذلك (4).
وقال أبو بكر النَّجَّاد (5): رآه إحدى عشرةَ مرَّة، منها بالسُّنة تسع مرات ليلة المعراجِ حينَ كان يتردَّدُ بينَ موسى وبينَ ربِّه، ومرتينِ بالكتاب.
فائدة (6)
قال القاضي: صنف المرُّوْذيُّ كتابًا في فضيلة النَّبيُّ – صَلَّى الله عليه وسلم – وذكر فيه
__________
(1) “شتى” ليست في (ق). وانظر “إبطال التأويلات”: (1/ 110 – 114).
(2) تقدم أن المقصود بـ “القاضي” عند المؤلف وغيره من الحنابلة أبو يعلى ابن الفرَّاء، نبَّهنا عليه لبعد العهد.
(3) (ع): “عطية”، ولم أجد من اسمه: موسى بن عطية، وموسى بن عقبة، مشهور، إمام المغازي. (ت 141).
(4) هذه الروايات عن الإمام أحمد ساقها القاضي أبو يعلى مساق الاختلاف، وقد بين شيخ الإسلام، وابن القيم أن كلام أحمد لا اختلاف فيه، وأن رواياته هذه مؤتلفة، انظر: “منهاج السنة”: (5/ 384 – 387)، و”أقسام القرآن”: (ص / 257 – 261).
(5) (ق): “التمار” والنجاد هو: أبو بكر أحمد بن سلمان البغدادي الحنبلي ت (348)، له كتاب كبير في “السنن”. انظر: “طبقات الحنابلة”: (3/ 15).
(6) ليست في (ق).

(4/1379)


إقعادَهُ على العرش، قال القاضي: وهو قولُ أبي داودَ، وأحمدَ بنِ أصرمَ، ويحيى بن أبي طالبٍ، وأبى بكر بن حماد، وأبى جعفر الدّمشقيُّ، وعباس (1): الدُّوري، وإسحاقَ بنِ راهويه، وعبد الوهاب الورَّاق، وإبراهيم الأصبهاني، وإبراهيمَ الحربى، وهارون بن معروف، ومحمدِ بن إسماعيل (2) السُّلَمِيِّ، ومحمدِ بن مُصْعَب العابدِ، وأبى بكر بن صَدَقةَ، ومحمد بن بشر بن شَرِيكٌ، وأبي قِلابَةَ، وعلي بن سهل، وأبي عبد الله بن عبد النور، وأبى عبيد، والحسنْ بن فضل، وهارون بن العباس الهاشميِّ، وإسماعيلَ بن إبراهيمَ الهاشميِّ (3)، ومحمَّد بن أبي عمران الفارسيِّ الزَّاهد، ومحمد ابن يونس البصري، وعبد الله بن الإمام أحمد، والمرُّوْذي، وبشر الحافي. انتهى.
قلتُ: وهو قول ابن جرير الطبريِّ، وإمام هؤلاء كلِّهم مجاهِدٌ إمام التفسير، وهو قول أبي الحسن الدارقطني، ومن شعره فيه (4):
حديثُ الشفاعةِ في أحمد … إلى أحمدَ المصطفى نُسندُه
وجاء حديثٌ بإقعاده … على العرشِ أيضًا فلا نجْحدُهْ
أَمِرُوا الحديثَ على وجهِهِ … ولا تُدْخِلوا فيه ما يُفسِدُهْ
ولا تنكِروا أنَّه قاعد … ولا تنكِروا أنهْ يُقْعِدهْ
__________
(1) (ع): “عياش”، ولم (ظ): “عباد”، وكلاهما خطأ.
(2) (ق): “إبراهِيم”.
(3) سقط الاسم من (ق).
(4) انظر: “إبطال التأويلات”: (2/ 492) لأبي يعلى، و “العلو”: (2/ 1286) للذهبي دون البيت الأخير.

(4/1380)


فائدة
سئل القاضي عن مسائلَ عديدة وردت عليه من مكةَ، وكان منها:
* ما تقول في قول الإنسان إذا عَثَر: محمَّد وعلي؟
فقال: إن قصد الاستغاثةَ (1) فهو مخطئٌ؛ لأنَّ الغوثَ من الله تعالى، وهما مَيتانِ فلا يَصِحُّ الغوثُ منهما، ولأنَّه يجبُ تقديمُ الله على غيره (2).
* ومنها: إذا قال القائل (3): أفضل النَّاس بعد رسول الله الخلفاءُ ثم طلحةُ ثم الزُّبيرُ ثم سعد إلى آخر العشرة؟
فأجاب: الأوْلى العطفُ على الأربعة بالواو؛ لأنَّ (ثم) تقتضي التَّرتيب، فيقتضي تقديمَ طلحةَ على الزُّبير، والزُّبير على عبد الرحمن، ولا يمكن لأنَّه ليس فيه نقل يُرْجَعُ إليه، وعمرُ رضي الله عنه أمرهم أن يختاروا للخلافة واحدًا من ستة، ولم يَنُصَّ على واحد منهم، وظاهرهُ التَّساوي.
* ومنها: وقد سئل عن حركة اللسان بالقرآن الكريم؟
فقال: لا يجوز أن يقالَ: إنَّها قديمة، بل حركة اللِّسان بالقرآن محدَثَة.
* ومنها: في البدريِّينَ أنهم أفضلُ في الجملة من غيرهم، ولا يفضلُ آحادُهم على غيرهم؛ لأنَّه قد يكون في غيرهم من هو أفضلُ
__________
(1) تحتمل: “الاستعانة”.
(2) وورد السُّؤال نفسه على ابن الصلاح، انظر “فتاويه”.
(3) كذا في (ع) و (ق وظ): “القاص” وتحتمل: “القاضي”.

(4/1381)


من آحادهِم، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “خَيْرُكُمُ القَرْنُ الَّذِي بُعِثْتُ فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِين يَلُونَهُمْ” (1)، فخايَرَ بين القرون في الجملة؛ لأنه قد يكون في التفضيل مَنْ غيرُهُ أفضلُ منه، ولهذا يعلم أن أحمَدَ أفضلُ من يزيدَ، ويزيدُ في عصر التابعين، لِمَا جرى من يزيدَ بما عاد في القدح في عدالته.
* ومنها: هل يجوز أن يقال: إنَّ اللهَ يرحمُ الكافرَ؟
فقال: لا يجوزُ أن يقالَ: إن الله يرحمُ الكافرَ؛ لأن فيه ردَّ الخير الصادق: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] {لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ} [البقرة: 162]، إلى أمثاله، بل يقال: يُحففُ عذابُ بعضهم، قال تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} [غافر: 46]، و {آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} [الأحزاب: 68].
فائدة
قال ابن عَقِيل: قولهم: إن الله جعل للمرأة شهوةٌ تزيدُ على شهوة الرجل بسبعة أجزاء (2). قال: لو كان كذلك ما جعل الله للرجلِ أن يتزوَّجَ بأربعٍ ويَتَسَرَّى بما شاء من الإماء، وضيَّق على المرأة فلا تزيدُ على رجلٌ واحد، ولها من القَسْمِ الرُّبُعُ، وحاشا حكمته أن تُضَيِّق (3) على الأحرج، وتُوسِّعَ على من دونَهُ في الحرج.
أجابه حنبليٌّ آخرُ فقال: إن ذلك إنما كان لمعارض راجح، وهو
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (2651)، ومسلم رقم (2535) من حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه-.
(2) انظر: “فيض القدير”: (4/ 430)، وفيه آثار لا تصح!.
(3) ليست في (ع).

(4/1382)


خوف اشتباه الأنساب، وأيضًا: ففي التَّوسعة للرجل تكثير النسلُ الذي هو من أهم مقاصد النِّكاح.
وأيضًا: فإن الرجلَ والمرأة لما اشتركا في التذاذ كلٍّ منهما بصاحبه، وقضاء وطرِهِ منه، وخُصَّ الرجلُ بالنَّفقة والكسوة وكُلفة المرأة، عُوِّضَ بأن أطلق له الاستمتاعُ بغيرها.
وأيضًا: فإن المرأةَ مقصورةٌ في الخِدْرِ، لا تدخلُ ولا تخرجُ إلاَّ لحاجةٍ، حتى إنَّ صلاتَها في بيتها أفضلُ من صلاتها في المسجد، لم يقعْ نظرُها من الرِّجال على ما يقعُ نظرُ الرجل عليه. فحاجتُه إلى أكثر من واحدة أشدُّ من حاجتها.
وأيضًا: فإن طبيعةَ الذَّكَر الحَرارةُ، وطبيعة الأنثى البُرودةُ، وصاحب الحرارة يحتاج من الجماع (1) فوقَ ما يحتاج إليه صاحب البرودة.
وأيضًا: فإن الله تعالى فضَّل الذَّكَرَ على الأنثى في الميراث والدِّيَةِ والشَّهادة والعقيقة، وغير ذلك، ولهذا قال الله تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِه} [النساء: 32] فكان من تفضيله الذَّكَرَ على الأنثى أن خُصَّ بجواز نكاح أكثرَ من واحدة، والله أعلم.
فائدة
سئل ابن عقيل: هل يجوزُ أن يَتَّخِذ النساءُ السُّفَرَ والمطارحَ والمخادَّ، وغير ذلك حريرًا؟
فقال: لا، بل ملابسَ فقط.
__________
(1) “من الجماع” سقط من (ظ).

(4/1383)


فائدة
في “الفنون”: سئل حنبلي (1) عن رجل سمع مؤذِّنًا يقول: أشهد أن محمدًا رسول الله، فقال: كذبتَ، هل يكفُرُ؟
فقال: لا (2) يكفرُ لجواز أن يكونَ قصدُه تكذيبَ القائل فيما قال لا أصل الكلمة، فكأنه قال: أنت لا تشهدُ هذه الشهادةَ، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)} (3) [المنافقون: 1].
فائدة
قال الخَلاّلُ: حدثنا العباسُ بن أحمدَ اليماميُّ بطَرَسُوسَ، سأل أبا (4) عبدِ الله رجلٌ عن الحديث الذي يروى عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: “لا يَكْفُرُ أحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ بِذَنْب” (5)، فقال: موضوع لا أصل له، كيف بحديث النبي – صلى الله عليه وسلم -: “مَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ فقدْ كفَرَ” (6)؟! فقال له: يورث بالمِلَّة؟ فقال: لا يُورَثُ ولا يَرِثُ.
__________
(1) (ظ): “أحمد بن حنبل”.
(2) تكررت في (ظ).
(3) هذا إذا كان الرجل مسلمًا، أما إذا كان ذميًّا فإنه ينتقض عهده ويقتل؛ فعن جعفر بن محمد قال: “سمعت أبا عبد الله يسأل عن يهودي مر بمؤذن وهو يؤذن، فقال له: كذبت، فقال: يُقتل؛ لأنه شتم” ذكره الخلال في “أحكام أهل الملل”: (2/ 339) وشيخ الإسلام في “الصارم المسلول”: (3/ 996).
(4) (ظ): “حدثنا أو أنبأ”! وعليه المطبوعات!.
(5) لم أجده.
(6) أخرجه أحمد: (5/ 346) والترمذي رقم (2621)، والنسائي: (1/ 231 – 232) من حديث بريدة بن الحصيب -رضي الله عنه- قال الترمذي: “هذا حديث حسن صحيح غريب”.

(4/1384)


فائدة
قال ابن الجَوْزي في آخر “منتخب الفُنوِن” (1) مما بلغه عن ابن عَقِيل من غير “الفنون”، قال: سمعت أبا يَعْلَى بنَ الفرَّاء يقول: من قال: إن بينَه وبينَ الله سرًّا فقد كفر، وأيُّ وصلة بينَه وبينَ الإله؟ وإنما ثَمَّ ظواهرُ الشَّرْعِ، فإن عنى بالسِّرِّ ظاهرَ (2) الشَّرع فقد كذبَ؛ لأنه ليس بسِرٍّ، وإن عنى شيئًا وراء ذلك، فقد كفر.
وقال في قول المتوسِّلين بالميِّت: “اللَّهُمَّ إلي أسأَلُكَ بالسِّرِّ الذي بينَكَ وبينَ فلان”: أيُّ سرٍّ بين العبد وبين ربِّه لولا حماقةُ هذا القائل؟!
قال ابن الجوزي معترضًا عليه: إنما يعني المتوسِّلُ بذلك العباداتِ المستورةَ عن الخَلْق.
فائدة
سئل رجلٌ: عن رجلٍ تزوَّج أُمَّ رجلٍ وأختيه فقال:
صورةُ المسألة: رجلانِ وطِئا أَمَةً في طُهْرِ واحدٍ، فأتتْ بولد فَتَداعياه، فأُري القافَةَ فألحقوهُ بهما على مذهب من يرى ذلك، وكان للرجلين بنتان، فجاء رجلٌ أجنبيٌّ (3) فتزوَّجَ بالأَمَة بعد عِتْقِها وتزوَّجَ بنتي الواطِئَيْن؛ لأنه ليس إحداهما أختًا للأخرى، وإن كانتا أختين للولد المُلحق بالواطِئَيْنِ، فقد جمع هذا الرجل الأجنبيُّ بين أم ذلك الولد وأختيه من الواطئين، فأمه ليست أمهما.
__________
(1) انظر “مؤلفات ابن الجوزي” رقم (401).
(2) (ق): “ظواهر”.
(3) ليست في (ق).

(4/1385)


فائدة
استدل على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد بتخصيص آية الميراث بقوله: “لا ثورث ما تركناه صدقة” (1) والصدِّيق أول من خصَّصَه.
قال ابن عقيل: وهذه بلاهة من هذا المستدل، فإن الصدِّيق لم يخصصه إلا بما سمعه شفاهًا من النبي – صلى الله عليه وسلم -، فهو قطعي وليس النزاع فيه.
فائدة
قال ابنُ عقيل في مناظرته لبعض المعتزلة: أنتم اعتمدتم في نفي التثنية على دليل التمانع، وهو بعينه ينقلب عليكم في خلق الأفعال؛ لأنَّا إذا قدرنا أنه -تعالى- أراد تحريك جسم، وأراد العبدُ تسكينه فلا يخلو … إلى آخره، وفِعْلُ الله لا يدخل تحت مقدور العبد، وفعل العبد لا يدخل تحت مقدور الله عندكم، فلا انفكاك لكم ألبتة عن هذا السؤال، فأين توحيدكم (2)؟!.
فائدة.
جعفر بن محمد: سألت أبا عبد الله عن رجلٍ يَنْتَقد للناس مئة دينار بدرهم، يخرج في نقده دينار رديء؟
__________
(1، أخرجه البخاري رقم: (3092)، ومسلم رقم (1758) من حديث عائشة – رضي الله عنها -.
(2) غير محررة في (ع).

(4/1386)


قال: وجب عليه أن يردَّ من أجرته جزءًا من مئة من درهم. قال القاضي: إنما صحَّت هذه الإجارة وإن لم يشاهد الدنانير؛ لأنه لا تفاوت بين الدنانير في النقد، فصحَّت الإجارة. انتهى.
فعلى هذا؛ إذا استأجره ليكيل له مئة مكُّوك (1) من طعام في بيتٍ لم يَرَه، صحت الإجارة (2) للعلة التي ذكرناها، وإنما رجع عليه بجزءٍ من مئة جزء من الدراهم؛ لأن العمل لا يتفاوت في كل واحد منها، كما لو كان له مئة مكُّوك إلا مكُّوكًا.

فوائد شتى من خط القاضي أبي يعلى
أبو الفرج الهندباني (3): سمعت المرُّوْذي يقول: سئل أحمد عما ورد عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إن الله احتجرَ التوبة عن صاحب بدعة” (4)، وحَجْب التوبة أَيْشٍ معناه؟
فقال أحمد: لا يوفَّق ولا ييسَّر صاحب بدعة لتوبة، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم – لعائشة لما قرأ هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا
__________
(1) مكيال يسع صاعًا ونصف، “القاموس”: (ص / 1231).
(2) من قوله: “انتهى … ” إلى هنا سقطت من (ق).
(3) ذكره ابنُ أبي يعلى في “طبقاته”: (3/ 31)، فقال: “أبو الفرج الهندباني، صَحِب المزُّوذي، وروى عنه أشياء … ” وذكر واحدة منها.
(4) أخرجه الضياء في “المختارة”: (6/ 72 – 73)، والطبراني في “الأوسط”: (4/ 281)، والبيهقي في “الشعب”: (5/ 449، 7/ 59)، وغيرهم من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-.
والحديث حسَّنه المنذري في “الترغيب”: (1/ 45)، وقال الهيثمي في “المجمع”: (10/ 189): “رجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الفروي، وهو ثقة”، وصححه الألباني في “السلسلة”: (رقم 1620).
وله شواهد ذكرها المنذري. وقد روي بلفظ: “حَجَر التوبة … ” و “حَحَب … ” و “احْتَجَب … “.

(4/1387)


لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “هُمْ أَهْلُ الأهْواءِ والبِدَعِ، ليْسَتْ لَهُمْ تَوْبةٌ” (1).
فوائد
من مسائل أبي جعفر محمَّد بن أبي حرب الجُرْجرائي (2)، بخط القاضي أبي يعلَى
قيل لأبي عبد الله: الرجلُ يحفِرُ إلى جنب قناة الرّجل ولا يضرُّ بها، أَلَه أن يمنعَهُ؟
قال: يُرْوىَ عن الزُّهريِّ أنه قال: “حريمُ العيون خمسُ مئة ذراعٍ” (3) كأنه ذهبَ إليه.
قيل لأبي عبد الله: فإنْ حفرَ على أكثرَ من خمس سنة ذراع فأضرَّ به هل له أن يمنَعَهُ؟
قال: ليس له أن يمنَعَهُ إذا جاوز حريمَهُ، أضَرَّ به أو لم يُضرَّ به.
قيل لأبي عبد الله: رجلٌ عَمِلَ في قناة رجلٍ بغير إذنه، فاستخرجَ الماءَ، فجاء صاحبُ القناة؟
__________
(1) قال السيوطي في “الدر المنثور”: (3/ 117): “أخرجه الحكيم الترمذي، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والطبراني، وأبو نعيم في “الحلية”: (4/ 138) وابن مردويه، وأبو نصر السجزي في “الإبانة”، والبيهقي في “الشعب”: (5/ 449 – 450) “.
(2) ذكره ابنُ أبي يعلى في “طبقاته” (2/ 395)، وقال: كان أحمد يكاتبه ويعرف قدره، وعنده عن الإِمام مسائل مشبعه.
ووقعت: “الجرجرائي” في (ق وظ): “الجرجاني” وكذا وقعت في بعض المصادر، فلعله تحريف.
(3) أخرجه يحيى بن آدم في “الخراج”: 104، وأبو عبيد في “الأموال”: 369، والبيهقي: (6/ 155).

(4/1388)


فقال: لهذا الذي عَمِلَ نفقتُه إذا عَمِلَ ما يكونُ منفعةً لصاحب القناة. وفي الحاشية بخط القاضي: إنما رَجَع بنفقته! لأن الآبار كالأعيان، ولو عمِلَ في مُلكِ غيره عملًا له فيه أعيانٌ رجعَ بها، كذلك في الآبار، هذا كلامُ القاضي، وفيه نظرٌ.
قيل لأبي عبد الله: الرجلُ يسبق إلى دكاكين السُّوق؟
قال: إذا لم يكنْ لأحد، ولم يحجزْهُ (1) أَحَدٌ، فمن سبق إليه غدْوةً فهو له إلى اللَّيلِ، قال: وكان هذا في سوق المدينة فيما مضى.
قيل: أيُكْرَهُ بيعُ الطعام، وأن تكونَ تجارةُ الرَّجل كلُّها في الطَّعام؟
قال: إذا لم يُرِدِ الحُكْرَةَ فلا بأسَ، هذا ضيق بالمدينة ومكَّة، فأما هاهنا فربما كان خيرًا لهم، ثم قال: إنما هاهنا شبه البحر.
قيل: من أحقُ بالسَّوْم؟ قال: البائع.
قلت له: فإن أوقد نارًا في السَّفينة، فقال: بُدٌّ له من أن يطبُخَ، وكأنه لم يَزِد عليه.
قيل له: رجلٌ اشترى من رجل حائطًا على أن يعمَلَ له فيه سنةً أو سنتين؟ قال: لا بأس.
وكتبتُ إلى أبي عبد الله أسأله، قلت: بنتُ أخٍ لي، خطَبها ابنُ أختٍ لي فقير، وأمُّها تكره ذلك؟
قال: لا تفعَلْ فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “وآمِرُوا النِّسَاءَ في بَنَاتِهِنَّ” (2)،
__________
(1) رسمها في (ق وظ): “يحره”!.
(2) أخرجه أحمد: (8/ 505 رقم 4905)، وأبو داود رقم (2095)، والبيهقي: (7/ 115) من حديث ابن عمر – رضي الله عنها -.
وفي سنده من لم يُسمَّ، وذكره الألباني في “الضعيفة” (رقم 1486).

(4/1389)


وما ذكرتَه من أمر الفقر فزوِّجْ، فإن الفقرَ والغنى إلى الله، فزوَّجتُ الفقيرَ فلم أرَ إلا خيرًا.
وسألته عن الرَّجل: يشتري البقَرَ للإكار؟ فَكَرِهَهُ.
قلت: يأخذ الرجلُ يَحُجُّ عن الرَّجلِ؟ قال: لا يأخذُ.
قلت: فيأخذ الفرس أو لا يأخذ في السَّبيل؟ قال: يأخذ، لم يزلِ: النَّاسُ يأخذونَ، فإذا بلغ مَغْزاه فهو كسائر ماله.
وسُئل عن الطَّواف؟
فقال: ثلاثةٌ واجبة: طواف القُدوم وطوافُ الزِّيارة وهو أنْ الصَّدَر. وأما طوافُ الزيارة فلا بدَّ منه، ولو أُنْسِيَهُ الرجلُ حتى يرجعَ إلبى مدينته عليه أن يأتيَ به. قيل له: كيف يصنعُ؟ قال: يدخل معتمرًا فيطوف بعمرة، ثم يطوف طواف الزيارة بعد ذلك.
وسئل عن المُحْرِم يغسل بَدَنهُ بالمحلب (1)؟ قال: أراه يكرهُهُ؟ وكره الأُشْنانَ.
وسئل عن الخضاب للمحرم؟ فقال: ليس هو بمنزلة الطيب، ولكنه زينة.
وسئل عن صيد الليل؟ فقال: لا أعلم فيه شيئًا، حديث ثابت (2) روى فيه حديث ابن عباس، ثم ذكر تفسيره، أُرَاه عن نافع أو غيره، قال: كانوا في الجاهلية إذا خرجوا يُطَيَّرون الطَّيرَ من مكانِهِ، قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: “أَقِرِّوهُ في مَكَانِهِ” (3) يعني: أنه يَضُرُّ ولا ينفعُ، ولم يَرَ به بأسًا.
__________
(1) ثبت له حب، يوضع على الطعام.
(2) هكذا في الأصول، وكتب الناسخ فوق الكلمتين في (ع وق): “كذا كذا”.
(3) أخرجه أحمد: (6/ 381)، وأبو داود رقم (2835)، والحاكم: (4/ 237) وغيرهم من حديث أم كرز – رضي الله عنها -.

(4/1390)


وسئل عن أكل الكُرَّاث والبَصَل في السَّفر؟
قال: إن كان من عِلَّةٍ فأرجو، وإن كان من غير ذلك فلا يؤكل، وأما الكُرَّاثُ فليس له كبيرُ شيء، وهو أهونُ من البصل.
قيل له: فالثُّومُ؟ قال: إنما جاءتِ الكراهةُ في الثُّوم والبَصَل فلا تأكُلْ.
وسألُه عن أكل الطين (1)، سمعتَ في كَرَاهَتِهِ شيئًا يثبت؟ قال: لا، وكأنه لم يكرَهْهُ ولم يتكَلَّمْ فيه.
وسئل عن شِراء الأرضِ بالثُّغورِ؟ فقال: هو أيسرُ من غيره؛ لأنهم بإزاء العدو، وهم يدفعون عن المُسلمينَ.
فوائد
من مسائل أبي القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي (2) لأحمد:
سمعتُ أبا عبد الله يقول: السَّائمةُ: التي تَرْعَى، والسَّائبة: التي تُسَيَّبُ وليس لها رِعَاءٌ، وفي السائمةِ الزَّكاةُ.
وقال رجلٌ لأحمد: بلغني أن نصارى يكتبونَ المصاحفَ، فهل يكونُ ذلك؟ قال: نعم نصارى الحيرة، كانوا يكتبون المصاحفَ، وإنما كانوا يكتبون لقِلَّةِ من كان يكتُبُها، فقال رجل: يعجبُكَ ذلك؟
__________
(1) (ظ): “الجبن”!.
(2) ذكره ابن أبي يعلى في “طبقاته”: (2/ 30)، والخطيب في “تاريخه”: (10/ 111)، روق حسن أحمد كتاب الأشربة، وجزءًا في الحديث، ومسائل صالحة. ت (317).

(4/1391)


فقال: لا يعجبُني.
وسئل عن رجل أعطى رجلًا درهمًا يشتري له به شيئًا فخلطه مع دراهمه فضاعا؟ قال: ليس عليه شيءٌ.
وسئل عن رجل أوصى أن يشتَريَ بألف درهم فرسًا للجهاد ومئة للنفقة، قال: يُشْتَرَى له مِثْلُ ما أوصى لا يُزادُ على ذلك شيء، قال: فإن أصيبا بأقل من ألف بخمسين أو بأكثر؟ قال: يُزادُ على نفقته.

فوائد من مسائل مُثَنَّى بن جامع (1) الأنباري
سألته عن رجل استودع مالًا وديعةً، فمات الرجل الذي أودعه وله صبيٌّ؟ وكأنه أوسعَ له أن يدفعَ المستودعُ المالَ إلى رجل مستور ينفقُ عليه، قال القاضي: ومعنى هذا إذا لم يكن وصِيٌّ ولا حاكمٌ.
وسُئِلَ عن الرَّجل يكونُ له الجاهُ عند السلطانِ فيُسال له الماءُ، فأَسْتقي منه إذا لم يكنْ له (2) تُرْكيٌّ يرد على من قد سيل عنه، أو نحوًا مما قلت له. فأجازَ لي ذلك إذا أخذت بقَدْر حاجَتي.
وذهبَ في الشُّفْعَةِ أن لا يحلفَ للذي يطالِبُهُ، وإنْ قدَّمَهُ إلى الحاكمِ فأخرجَهُ خَرَجَ.
ورأى أنَّ ما كان في النُّطفةِ والعَلَقَةِ أنه لا يكون نِفَاسًا، وما كان
__________
(1) وقع في (ق وظ) والمطبوعات: “فوائد من مسائل شتى من جامع الأنباري”! والصواب ما أثبت من (ع).
وهو: مُثنَّى بن جامع أبو الحسن الأنباري، روى على الإِمام أحمد مسائل حسانًا، وكان الإِمام يعرف قدره وحقَّه. “طبقات الحنابلة”: (2/ 410 – 413).
(2) (ع): “قولي”!. (ق وظ): “تركي له”، والمعنى: ولم يكن له حارس من الأتراك ..

(4/1392)


في حَدِّ المُضْغَةِ أنه نِفَاسٌ.
وودَّعْتُهُ غيرَ مرَّة، فقال: أحسنَ الله لك الصحابةَ، وطوىَ لك البعيدَ.
قلت له: كيف الحديثُ الذي جاء في المَعَاريضِ في الكلام؟ قال: المعاريضُ لا تكونُ في الشِّراء والبيع وتَصْلُحُ بين النَّاسِ.
وسألتُهُ عن الأذان الذي يوجبُ (1) على من كان خارجًا من المِصْرِ أن يشهدَ الجُمُعَةَ؟ هو الأذانُ الذي على المنارةِ أو الأذانُ الذي بينَ يدي المنبرِ؟ قال: هو الذي في المنارةِ.
وسألتُهُ عن كتابةِ الحديثِ بالأجرة (2) فلم يَرَ به بأسًا، وكتابة القرآنِ أيضًا.
وسألتُهُ عن رجل اشترى من رجل شيئًا بدنانيرَ أو دراهمَ فدفعها إليه، فقال: اذهبْ فانتقدْها وزِنْ حَقَّكَ ورُدَّ عليَّ الباقِيَ، فضاعتْ؟ فرأى أنها من مالِ المشتري، إلاّ أن يقولُ: هذا حقُّكَ فخُذْ ورُدَّ عليَّ الباقِيَ، فكان معنى قوله: يكونُ من مال البائع إذا ضاعتْ.
الرجلُ يُوجَدُ ميتًا مخضوبًا أقلفَ؟ فرأي الصلاةَ عليه.
قلت: فإن وُجِدَ مَيِّتٌ أقلفَ؟ فرأى دفْنَهُ ولم يَرَ الصلاةَ عليه.
وكنت على باب أحمدَ، فجاء رجلٌ يسألُ عن رجلٍ أراد أن يَتَصدَّقَ، -يعني؟ بمالٍ- أيشتري به موضِعَ غلَّة أو يتصدَّقُ به؟ فخرجَ
__________
(1) (ق وظ): “يجب”.
(2) (ق وظ): “بالأجر”.

(4/1393)


إليه الجوابُ: أنه (1) لا يدري من يقومُ بها، وقال: إن كان له قرابةٌ محتاجونَ تصَدَّقَ عليهم.
قلت له: ما تقولُ فيمن باعَ دابَّة بنَساءٍ، هل يشتريها من صاحبها إذا حل مالُهُ بأقلَّ مما باعها، إذا كان قَد هَزَّلها وعملَ عليها؟
فقال: فيه اختلافٌ، ولم يُجِزْهُ، ولم يعدلْ عندَه أن يكون مثلَ من باع ما يُكَالُ، فيأخذُ ما يُكَالُ، فذكرت له الشراءَ عند الضَّرورْةِ، فلم يكرَهْهُ.
قلت: ما تقولُ إذا ضربَ رجلًا بحضرتي أو شَتَمَهُ، فأرادَنِي أن أشهدَ له عليه عند السلطانِ؟
فقال: إن خافَ أن يَتَعدَّى عليه لم يشْهَدْ، وإن لم يَخَفْ شَهِدَ.
ولم يعجبه أن يكونَ في الكفنِ ثوبٌ رقيقٌ، قال: وكانوا يكرهونَ الرَّقيقَ.

من مسائل البُرْزَاطِي (2) بخط القاضي انتقاه من خطِّ ابن بَطَّةَ
حديث ابن عمر “مضت السُّنَّةُ أن ما أدركته الصَّفْقَةُ حيًّا مجموعًا، فهو من مال المُبتاع” (3).
__________
(1) (ق): “فخرج الجواب: إليه”.
(2) هو: الفرج بن الصبَّاح البُرْزاطي، نقل عن الإمام أحمد أشياء. “طبقات الحنابلة”: (2/ 200).
والبُرْزَاطي: نسبة إلى بُرْزاط -بضم الموحدة وسكون الراء المهملة- لعلها قرية من قرى بغداد، انظر: “معجم البلدان”: (1/ 453).
(3) أخرجه ابن وهب في “جامعه” -كما في المحلى: 8/ 365، وتغليق التعليق: 3/ 243 – وعلقه البخاري في الصحيح مجزومًا به “الفتح”: (4/ 412). =

(4/1394)


قال ابن بَطَّةَ: أنا أقولُ: هذا الحديثُ مرفوعٌ، ويدخلُ في المسند لقوله: “مضتِ السُّنَّةُ”.
مسجد فيه نخلةٌ؛ ترى لجيران المسجد أن يأكلوا من ثَمَرَتِها؟
فقال: إن كانتِ النَّخلة في أرضٍ لرجلٍ فجعَلها مسجدًا والنخلةُ فيه (1)، فلا بأسَ أن يأكُلوا (2) منها، وإن كانتِ النخلةُ غُرِستْ بعد أن صار مسجدًا وصُلِّيَ فيه، فهذه غُرِسَتْ بِغير حقِّ، والذي غَرَسَها ظالمٌ غَرَسَ فيما لا يملكُ، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ” (3)، فلا أحِبُّ الأكل منها، والتَّوَقِّي لها (4) أحبُّ إِلَىَّ.
قلت: فترى إن كانتِ النخلةُ هكذا غُرِسَتْ أن تُقْلَعَ؟ قال: من يَقْلَعُها؟ لو فعل ذلك الإمامُ كان (5).
وسُئِلَ عن رجلِ تَيَمَّمَ في السَّفرِ لسجود القرآن أو للقراءةِ في المصحف، وصلَّى به فريضةً؟ قال: يُعيدُ ما صلَّى من الفريضةِ بذلك التَّيمُّمِ.
قلت: يخرج الرجلُ من الصَّفِّ ويقدَّم أباه في موضِعِهِ؟ قال: ما يعجِبُني هو يقدرُ أن يَبَرَّ أباه بغيرِ هذا.
__________
= وقد صححه الحافظ في “التغليق”، وابن حزم في “المحلى”.
(1) (ق وظ): “فيها”.
(2) (ع وق): “يأكل”.
(3) أخرجه أبو داود رقم (3073)، والترمذي رقم (1378)، والبيهقي: (6/ 142) من حديث سعيد بن زيد -رضي الله عنه-.
(4) كذا في الأصول.
(5) كذا في الأصول، وهو واضح، وفي المطبوعات: “جاز”.

(4/1395)


رجلٌ تَيَمَّمَ في السَّفَرِ، وصلَّى على جنازةٍ، ثم جيء بجنازةٍ أخرى، يُصلِّي عليها بذلك التَّيَمُّم؟
فقال: إن جيءَ بالأخرى حين سلَّمَ من الأولى، صلَّى عليها بذلك التَّيَمُّمِ، وإن كان بينَهما وقت، مقدارُ ما يمكنُهُ التَّيَمُّم لم يُصَلِّ على الأخرى حتى يُعِيدَ التَّيِمُّمَ.
قال القاضي: “قد ذكرنا هاهنا أنه يَتَيَمَّمُ لكلِّ صلاةٍ”، وقال في الفوائت: “يُصَلِّيها بتيمُّمٍ واحدٍ” فيخَرَّج الجميعُ على روايتين. وقوله: “إن جيء بالأخرى حين سَلَّمَ صلَّى بذلك التّيَمُّمِ”؛ لأحد وجهينِ:
أحدهما: أن وقتَ الأولى إلى تمامِ فعلِها، فإذا جاءَ بعدَ ذلك وقد خَرَجَ الوقتُ، والتَّيمُّمُ يقدَّرُ (1) بالوقت.
والثاني: أنه إذا جاءتِ الثانيةُ عَقِيبَ الأولى لِحِقَت المَشَقَّة في التَّيَمُّم لتفاوُت الزَّمانِ، وإذا تراخىَ لم يَشُقّ، ويجبُ أن تكون المسألةُ محمولةً على أنه تعيَّنَ عليه الصلاةُ عليها، فأما إن لم يَتَعَيَّنْ عليه جاز أن يُصلِّيَ بتَيَمُّمٍ واحدٍ، كالنوافلِ تجمعُ بتَيَمُّم واحدٍ، ولو قيل: إنه يُصَلِّي عليهما بتَيمُّمٍ واحدٍ مع التَّعَيُّنِ (2) وجهًا واحدًا، وفي الفوائتِ على روايتينِ؛ لأن الجنازةَ إذا تعيَّنتْ فهي فرضٌ على الكفاية، فهي أخفُّ، وتلك فرضٌ على الأعياد فهي آكَدُ” انتهى كلامُ القاضي، وعُدْنا إلى مسائل البرزاطي.
الرجل يتوضّأُ بفَضْل وضوء (3) المرأة وسُؤْرِها؟ قال: أكرهُ ذلك.
__________
(1) (ع): “يتقدّر”.
(2) (ع): “التعيين”.
(3) (ع): “طهور”.

(4/1396)


قلت: فإنْ توَضَّأَ وصَلَّى؟ قال: لا آمُرُهُ بالإعادَةِ.
رجلٌ في سوقِهِ مسجدٌ لا يُصَلَّى فيه إلاَّ الظهرَ والعصرَ، ويسألُهُ أهلُ سوقِهِ أن يُصَلِّيَ بهم فيه هاتينِ الصلاتينِ؟
قال: أحِبُّ له أن يخرجَ يُصَلِّيَ مع الناسِ في مساجدِ الجماعَةِ التي تُصَلَّى فيها الصلواتُ الخمسُ.
مسجدٌ في بعضِهِ غَصبٌ (1)؟
قال: إذا كان موقِفُ الإمامِ منه في الغضب أعادَ الإمامُ ومن صلَّى خلْفَهُ، وإذا لم يكن موقفُ الإمامِ في الغضب، أعاد من صلَّى في الغصْبِ.
قلت: رجلٌ دخل المسجدَ ورجلانِ يقرآن سورَتَيْنِ فيهما سجدةٌ فسجدا جميعًا، قال: إذا سَمِعَهما جميعًا يقرآن السجدةَ، وقد سجدا، سَجَدَ الرجلين (2) سجدتينِ.
سألتُ أحمد عن رجل يعملُ القلانِسَ ويَبِيعُها، فربما خلطَ القطنَ العتيقَ بالقطنِ الجديدِ أو بشيء من الصُّوفِ، وحَشَى القلانِس به؟
قال: هذا من الغِشِّ، وأكرهُ له ذلك إلا أن يعرِّفَ من يشتريها إلى أن القطنَ فيه عتيقٌ وفيه صوفٌ.
سألت أحمدَ عن رجل ماتَ وخلَّف أولادًا صغارًا، وخلَّفَ لهم مالًا، ولهم والدةٌ، أتَرَى لها أن تأكلَ من مالهم؟ قال: لا أحِبُّ لها
__________
(1) سقطت من (ع)
(2) هكذا في جميع النسخ، وكتب فوقها في (ع): “كذا”.

(4/1397)


أن تأكلَ من مالِهم إن كان لها مالٌ.
قلت: إنها تَكْفِيهم (1) وتحْضُنُهم وتقومُ عليهم، فلا يجوزُ لها أن تأكلَ من مالِهم؟
قال: لا، إلاّ من ضَرُورَةٍ وحاجةٍ، ولا تجدُ إلَّا ذلك، أو تصيرُ إلي الحاكم، حتى يفرضَ لها في مالِهِم حقَّ الحضانَةِ لمثلها.
سألت أحمد عن الرجلِ يرهنُ الثوبَ عند التاجرِ، فلمَّا رآه جاء بفكاكِه، أَخرج المُرْتَهِن الثوبَ إليه، فقال الراهنُ: ليس هذا ثوبي، وقال المرتهنُ: هذا ثوبُكَ الذي رَهَنتَهُ؟
قال: القولُ قول الراهِنِ (2) مع يميِنه، “إنَّ هذا ثوبُكَ وإنَّه ما خَرَجِ من يدِهِ إلى يدِ غيرِه منذ أخذه إلى يومِ أخرجَه إليه”.
وفي الحاشية: بخط القاضي قوله: “القولُ قولُ الرّاهِنِ” سهوٌ من الرَّاوي، ومعناه المرتهنُ؛ لأنَّ كلامَهُ فيما بعدُ يدلُّ عليه، وهو قولُه: “يَمِينك، إنّ هذا ثَوْبُك، ما خَرَجَ من يَدِهِ إلى يدِ غيرِه منذ أخذه”؛ لأنه غارِم ولأنه أمينٌ.
قلت لأحمد: ماتت زوجتُه، وقد حكم عليه القاضي أن يدفعَ صبيانَهُ إلى جدَّتِهم لتحضنَهم، وهي في قريةٍ بعيدةٍ عن قريتِه؟
قال: إن كانت بحيثُ يمكنه أن يراهم في كل يومٍ ويَرَوْنَه فلا بأس بذلك، قد قضى أبو بكر على عمرَ أن يدفعَ ابنه إلى جدَّتِه، وهي بقُباء
__________
(1) كذا في (ع)، (ق): “تكلفهم”، (ظ): “تكفلهم”.
(2) كتب فوقها في (ع): “كذا”.

(4/1398)


وعمر بالمدينة (1).
سألتُه عن معنى نهي النبي – صلى الله عليه وسلم – عن منع نقع البئر (2).
قال: هو الرجلُ تكون له الأرضُ، وليس فيها بئرٌ، ولجارِه بئرٌ في أرضه، فليس له أن يمنع جاره أن يسقي أرضه من بئره.
سألته: عن إجارةِ بيتِ الرَّحى الذي يديرهُ الماءُ؟
قال: الإجارةُ على البيت والأحجار والحديد والخشبِ، فأما الماءُ فإنه يزيدُ وينقصُ وينضُبُ ويذهبُ فلا تقعُ عليه إجارةٌ.
قلت: إذا قال لعبدِهِ: “أنت حُرٌّ”، وقال: إنما أردتُ مِنْ هذه الصَّنعة؟ قال: هو حرٌّ ونِيَّتُهُ فيما بينَه وبينَ الله تعالى (3).
وسألته عن رجل يزعمُ أنه يعالجُ المجنون من الصَّرعِ بالرُّقَى والعزائم، ويزعُمُ أنه يخاطبُ الجنَّ ويكلِّمهم، وفيهم من يحدِّثُه، فترى أنه يدفع إليه الرجل المجنون ليعالِجَه؟
قال: ما أدري ما هذا! ما سمعتُ في هذا شيئًا، ولا أحبُّ لأحدٍ أن يفعَلَهٌ، وتركُهُ أحبُّ إليّ.
وسئل عن رجلٍ مات وخلَّف ألفَ درهم، وعليه للغرماءِ ألفا درهم،
__________
(1) أخرجه مالك في “الموطأ”: (2/ 767).
(2) الحديث أخرجه أحمد: (6/ 139)، وابن ماجه رقم (2479) وابن حبَّان “الإحسان”: (11/ 331)، والحاكم: (2/ 61)، وغيرهم من حديث عائشة – رضي الله عنها -.
والحديث صححه ابن حبان والحاكم.
(3) انظر ما تقدم: (4/ 1372).

(4/1399)


وليس له وارثٌ غيرُ ابنه، فقال ابنُهُ لغرمائه: اتركوا هذه الألفَ في يدي وأَخَروني في حقوقكم ثلاث سنين حتى أُوَفِّيَكُم جميعَ حقوقِكم، ترى (1) هذا جائزًا؟
قال: إذا كانوا قد استحقوا قبضَ هذه الألف وإنما يؤخرونَه فيوفيهم (2) لأجل تركها في يديه، فإذا لا يؤخَّرُ (3) فيه إلا أن يقضوا الألفَ منه ويؤخِّرونه في الباقي ما شاءوا.
قلت: وجه هذا: أن الألْف قد انتقلت إلى ملكهم وليس لهم في ذمة الابن شيءٌ، فإذا أخَّروا قبضَها ليستوفوها ألفين. صار كالنسيئة بزيادة، وبعد فلا يخلو ذلك من نظر، فإنهم لو أخَّروا قبضَ الألف اتفاقًا لا لأجل الزيادة، ثم اتَّجر الولدُ بالتركة، وربح فيها ما يقوم بوفائهم لاستوفوا (4) حقَّهم كلَّه، ولا يكون هذا من بات عمل الإنسان في مال غيره، فإنهم لا يستحقون الربح كله، وإنما يستحقون منه تمام حقهم وحق الغرماء.
وإن تعلَّق بالتركة، فهو كتعلق الوهن، لا أنهم يملكون التركة بمجرَّد موت الغريم، ولو وفَّاهم الورثة من غيرها لم يكن لهم أن يمتنعوا من الاستيفاء، وهذا على قولنا: إن الدين لا يمنع انتقال التركة إلى الوَرَثة أظهر، فإن التركة تنتقل إليهم وتبقى ديونُ الغرماء على نفس التركة (5)، فلو ربحتْ لاستحقوا من الربح بقدر ديونهم،
__________
(1) قبلها في (ع): “فلم”! ولعلها تكرار لجزء كلمة “حقوقكم”.
(2) ليست في (ظ).
(3) (ع وق): “لا خير” وفي محتملة.
(4) (ق): “لاستحقوا”.
(5) من قوله: “إلى الورثة … ” إلى هنا ساقط من (ظ).

(4/1400)


وليس هذا من الربا في شيءٍ، فإن الغريم يستحق الألفين استحقاقًا صحيحًا بوجه لا ربا فيه، وإنما يؤخَّرُ قبض بعض حقه ليستوفيه كاملًا، فليس هذا من باب الزيادة على رأس ماله لأجل الأجل في شيءٍ، وهذا حقيقة الربا.
وإنما هذا صبر منه ليستوفي ما وَجَب له بأصل العقد، كما لو كان الغريم حيًّا وأفلس، ولم يَسَع ماله لوفاء ما عليه، فيصبر الغرماء ليستوفوا حقهم كاملًا، ولا يُغني الفرق بأن ذمة الميت قد خربت بالموت، وذمة المعسر ياقية لوجهين:
أحدهما: المنع، بل الدين باقٍ في ذمةِ الميِّت، كما هو باقٍ في ذمة الحيّ، وإنما تعذَّرت المطالبة بالموت، والذمةُ مشغولةٌ مرتَهَنة بالدين، وتعذُّرُ مطالبَتِه كتعذر مطالبة الغريم إذا سقط عنه التكليف بالجنون، وذلك غير مانع من التأخير لتمام الاستيفاء، فكذا في الموت، وهذا على أصول أبي عبد الله وقواعِدِه أَطْرَد، والله أعلم.

ومن مسائل أبي جعفر محمد بن علي الورَّاق (1)
قيل له: قال: حجَّ عني، قال: يحجُّ عنه، يعني: يفرد الحج، قيل له: قال وما فَضَل فهو لك، كيف ترى؟ قال: إذا قال فأرجو أن يطيب له.
صلّى بنا أبو عبد الله يوم جمعة صلاة الفجر، فقرأ: (تنزيل السجدة، وعبس) فسها أن يقرأ السجدة، فجاورها فسجد سجدتي السهو قبل التسليم.
__________
(1) الجرجانيّ المعروف بـ “حمدان” له عن أبي عبد الله مسائل حِسَان ت (271)، “طبقات الحنابلة”: (2/ 334).

(4/1401)


قيل له: لِمَ سجدتَ سجدتي السهو؟
قال: لا يضره، وذكر حديث ابن عباس: “إن استطعتَ أن لا تُصلِّيَ صلاةً إلاّ سجدتَ بعدَها سجدَتَين” (1) أما رأيتني ما صنعتُ، يقول: إني لم أقرأِ السجدةَ.
قلت: هذه الروايةُ في غايةِ الإشكال؛ لأن سجدةَ يوم الجمعة ليست من سُنن صلاة الفجرِ، ولهذا لا يستحبُّ أن يتعمَّدَ قراءة آيةِ سجدةٍ من هذه السُّورة ولا من غيرِها في فجرِ الجمعةِ، وإنما المقصودُ قراءةُ هاتينِ السورتين (تنزيل، وهل أتى)، لما فيهما من مبْدَءِ خَلْقِ الإنسان، وذكر القيامَةِ، فإنهما في يوم الجُمُعَةِ، فإن آدمَ خُلِقَ يومَ الجُمُعةِ، وفي يوم الجمعة تقومُ الساعةُ، فاستحبَّ قراءة هاتينِ السُّورتين في هذا اليومِ تذكيرًا للأمَّةِ بما كان فيه ويكونُ، والسَّجدةُ جاءت تَبَعًا غيرَ مقصودة، فلا يستحبُّ لمن لم يقرأْ سورة “تنزيل” أن يتعمَّدَ قراءة آية سجدةٍ من غيرها، لا سيَّما وقد آل هذا بخلقٍ كثيرٍ إلى اعتقادهم أن يومَ الجمعةِ خُصَّ بزيادةِ سجدة، فيشتدُّ إنكارُهُم على من لم يسجدْ ذلك اليومَ، وربَّما يُعيدونَ الصلاة، وينسبونه مع سَعَةِ علمِه وفقهِه إلى أنَّه لا يُحْسِنُ أن يُصَلِّي.
ولهذا والله أعلمُ، كَرهها مالكٌ وأبو حنيفة وغيرهما، فالسَّجدةُ ليست من سنن الصَّلاة (2)، فلا يستحبُّ سجودُ السَّهوِ لِترْكِها، وهذا إن كان قد صَحَّ عن أحمد فالظاهر -والله أعلم- أنه رَجَعَ عنه، ولم يستقرَّ مذهبُه عليه.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في “المصنف”: (2/ 81) بسندٍ صحيح.
(2) وانظر: “زاد المعاد”: (1/ 375).

(4/1402)


وقوله عن ابن عباس: “إن استطعتَ أن لا تُصَلِّيَ صلاةً إلاّ سجَدتَ بعدَها سجدتين” إنما أرادَ به ابنُ عباس الركعتينِ بعد الفريضة جابرتين لما يكونُ في الفريضة (1) من خَلَلٍ، والركعةُ تُسمَّى سجدة، وقال ابنُ عمر: “حفظتُ عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سجدتينِ قبل الصُّبح، وسجْدَتَيْنِ قبلَ الظُّهرِ، وسجدتينِ بعدَها” (2) الحديث. وهو كثيرٌ في الأحاديث والآثار إطلاقُ اسمِ السَّجدتين على الركعتين.
وقد ذهبتْ طائفةٌ من الزيدية إلى أنه يشرعُ لكلِّ مُصَلٍّ أن يسجدَ سجدتي السَّهو في آخر كلِّ صلاةٍ، ولعلهم فهموا ذلك من قولِ ابن عباس، والله أعلم.
ولا أعلم للورَّاق متابعًا على هذه الرِّواية، والمذهبُ على خلافِها (3).
عدنا إلى مسائِله:
قال: قلت: الإِمامُ إذا خَتَمَ يقرأُ المعوِّذَتَيْنِ، يقرأُ بفاتحة الكتاب، ويبتدئُ بالبقرة؟ قال: لا أدري ما سمعت في هذا بشيء (4).
قلت: تجزئُ العِمامَةُ في الكسوة في كفَّارة اليمين؟ فقال لي: تجزئُ القَلَنْسُوَةُ، ثم قال: لا إلَّا الثوبُ أو القميصُ، وإن كسا امرأة فقميصٌ ومَقْنَعةٌ؛ لأنه لا يجوزُ للمرأةِ أن تصلِّيَ إلاّ في قميص ومقنعة، الكُسوةُ فيما تجوزُ فيها الصَّلاة.
__________
(1) “جابرتين لما يكون في الفريضة” سقطت من (ق)، وفي (ظ): “جابرين بما يكون من الفريضة”.
(2) أخرجه البخاري رقم (1180)، ومسلم رقم (729).
(3) هذه الجملة سقطت من (ظ).
(4) انظر: “سنن القراء”: (ص / 226 – 227) و “إعلام الموقعين”: (4/ 306).

(4/1403)


وسأله رجلٌ عن مسألة، فقال: لا أدري، فردَّها الرجلُ عليه، فقال: أكلُّ العلمِ نحسِنُهُ نحن؟! قال: فأَذْهَبُ إلى هؤلاءِ فأسْألُهم؟ -يعني: أصحابَ الرأي- فقال: لا، انظرُ إلى من يذهبُ إلى رأي أهلِ المدينةِ.
وسمعتُ أحمد يقول: كان الحجَّاجُ بن أرطاةَ يقول: لا تقولوا في حدَّثَكَ، ولا من أخْبَرَكَ؟ قولوا: من ذَكَرَهُ، قيل له: كان يُدلِّسُ؟ قال: نعم.

ومن مسائل أبي العباس أحمد بن محمَّد البِرْتي (1)
قلت: إذا الْتَعَنَ الزوجانِ، ما أمرهما فسخ أو طلاق بتفريق الحاكمِ؟ وكيف يكونُ حالُ المرأة إذا ارتدَّت عن الإِسلام والخُلْع وما أشبه هذا؟
فقال: هذه مسألةٌ أنا فيها منذُ ثلاثينَ سنةً، لم يَتَّضِح الأمرُ فيها، فلا أدري اللِّعَانُ (2) فيها أو لا (3)؟

ومن مسائل زياد الطوسي (4).
سألته عن العقيقةِ؟ فقال: ليست بواجبةٍ، وقد رُويَ عن النَّبيِّ – صلى الله عليه وسلم – أنه عَقَّ عن الحسن والحسين (5).
__________
(1) هو: أحمد بن محمد بن عيسى بن الأزهر، أبو العباس البِرْتى، نقل عن الإمام أحمد مسائل كثيرة ت (280).
والبِرْتى -بكسر الموحَّدة وسكون الراء- نِسبة إلى بِرْت قرية في نواحى بغداد. “طبقات الحنابلة”: (1/ 159 – 161)، و “معجم البلدان”: (1/ 372). وتحرفت “البرتي” في (ق وظ).
(2) (ع): “وما أدري ما اللعان … “.
(3) وانظر: “زاد المعاد” (5/ 390).
(4) هو: زياد بن أيوب بن أبو هاشم الطوسي، المعروف بـ “دِلُوْيَه”، ت (252)، “طبقات الحنابلة”: (1/ 419 – 423).
(5) أخرجه أبو داود رقم: (2841)، والنسائي: (7/ 165 – 166) من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – وأعله أبو حاتم بالإرسال، كما في “العلل”: (2/ 49). =

(4/1404)


قال زياد: وأخبرني ابنه عبد الله أنه قال: تُعْطَى القابلة الرحل، كذا بخط القاضي، بحاء مهملة، وهو سهوٌ منه، وصوابه: الرِّجْلُ بالجيم.
وروى أحمدُ بإسناده أن النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – أمرهم أن يبعثوا إلى القابلة بِرِجْل (1) -يعني من العَقِيقةِ- ذكره الخلاَّلُ في “جامعه”.
عدنا إلى المسائل (2):
قال: وسمعت أحمد يقول: لا يعجبُنا أن يقول: مؤمنٌ حقًّا ولا يكفرُ من قاله، قال وسمعته يقول: لا تسمِّي في التَّشَهُّدِ إلا ما رُوي عن عبد الله: التَّحِيَّاتُ لله.

ومن مسائل بكر (3) بن أحمد البُرَاثي (4)
سألتُ أبا عبد الله: إذا فاتتني أوليُ صلاةِ الإمامِ، فأدركتُ معه ركعةً من آخِرِ صلاتِهِ؟ فقال لي: تقرأُ فيما يقْضى -يعني: الحمدُ لله
__________
= وأخرجه الحاكم: (4/ 237)، والبيهقي: (9/ 299 – 300) من حديث عائشة – رضي الله عنها -، ورُوِي أيضًا عن حديث جماعة من الصحابة.
(1) أخرجه ابن أبي شيبة: (5/ 115)، وأبو داود في “المراسيل”: (رقم 379)، وعنه البيهقي: (9/ 302) عن محمَّد بن علي بن الحسين مرسلًا.
(2) ليست في (ظ).
(3) (ق): “أبي بكر”.
(4) هكذا في النسخ، و “البراثي” ليست في (ظ)، ولم أجد في أصحاب أحمد من يُسمَّى “بكر بن أحمد … “، وليس في أصحابه ممن يسمى بكرًا إلا: بكر بن محمَّد البغدادي النسائي الأصل أبو أحمد، “طبقات الحنابلة”: (1/ 318).
وهذه المسألة بعينها ساقها ابن أبي يعلى في ترجمة: أحمد بن محمَّد أبو العباس البُرَاثي، “طبقات الحنابلة”: (1/ 153 – 154)، فالله أعلم.

(4/1405)


وسُورة- وفي القعودِ تقعُدُ على ابتداء صلاتِكَ (1).

ومن مسائل الفضل بن زياد (2)
قال: سمعتُ أبا عبد الله قيل له: ما تقولُ في التَّزويج في هذا الزَّمان؟
فقال: مثلُ هذا الزمان ينبغي للرَّجل أن يَتَزَوَّجَ، ليت أن الرجلَ إذا تزَوَّجَ اليومَ ثنتين يُفْلِت (3)، ما يأمنُ أحدكم أن ينظرَ النَّظْرة فَيحْبَط عملُهُ. قلت له: كيف يصنُعُ؟ من أين يطعمُهم؟ فقالت: أرزاقُهم عليك؟! أرزاقُهم على الله عزَّ وجلَّ.

ومن مسائل عبد الملك الميموني (4)
قال: الزكاةُ أهونُ من الصَّدَقةِ؛ لأنَّ الله قال فيها: {وَابْنِ السَّبِيلِ} فهو حِينَ يأخذُ الزكاةَ: فيخرجُ من منزله تلك الساعة هو ابنُ السبيل. قال القاضي: “قوله: “حينَ يأخذُ الزكاةَ يخرجُ من منزله تلك الساعة هو ابن سبيل” (5)، يدلُّ على أن ابنَ السبيلِ هو المنشئُ للسفر، وعنه خلافٌ، وأنه المختارُ”. انتهى كلامه.
__________
(1) انظر: “مسائل عبد الله”: (2/ 355)، و”مسائل صالح”: (1/ 370، 452، 2/ 260).
(2) القطان البغدادي، تقدمت ترجمته (ص / 976)، وبعض مسائله (ص / 986، 991، 1002)، وله عن أبي عبد الله مسائل كثيرة.
(3) (ق): “بمفلت”، (ظ): “فقلت”! وكذا في المطبوعات.
(4) الميموني من كبار أصحاب أحمد والملازمين له، له عنه مسائل كثيرة جليلة، تقدمت ترجمته (ص / 963) وبعض مسائله (ص / 991، 993).
(5) من قوله: “قال القاضي … ” إلى هنا ساقط من (ظ).

(4/1406)


ولم يفسِّر قولَ أحمد: “الزكاةُ أهونُ من الصَّدقة”، وأُرَاه قد خَفِيَ عليه معنى كلامِ أحمد، ولم يُرِدْ أحمدُ ما فَهِمَ القاضي.
وقال الميمونيُّ: قلت: يعتقُ من زكاته؟ قال: نعم، قلنا له: فإنْ جَنَى جنايةً أو أحدَثَ حَدَثًا أليسَ يرجعُ عليه؟ قال: بلى، قلنا له: فميراثُهُ له؟ قال: لا، قلنا: ولِمَ؟ قال: لأنَّ ذا للهِ، فإذا ورثَ منه شيئًا جعله في مثلِهِ، قلت: يعقلُ عنه ويؤخذُ بِجَريرتهِ في جنايَتِهِ فإذا ماتَ ذهب ميراثُهُ؟ قال: هو أراده وضيَّعَه بنفسِه.
وسألته عن الحَبِّ يُجْمَعُ؟ قال: مسألة فيها اختلافٌ، قلت: إذا كنا نذهبُ في الذَّهبِ والفضَّةِ إلى أنْ لا نجمَعها، لم لا تُشَبَّهُ الحبوبُ بهما؟ قال: هذه يقعُ عليها اسمُ طعامٍ واسمُ حبوب.
قال: ورأيتُ أبا عبد الله في الحبوب يُحِبُّ جمعَها، ومذهبُهُ في الذهب والفضَّةِ والبقرِ والغنَمِ أن يُزَكَّى كلُّ واحدٍ منها على حِدَتِه ولا يجمعُ بعضُها إلى بعض.
سألته عن الرجل من أهل الكتاب لي عليه اليمين: أستحلفُهُ؟ قال: نعم، إلاَّ أن من الناس من يقول: يستحلفه بالكنيسة ويغلظُ عليه بأيمانهم، ومنهم من يقول: يستحلفُه باللهِ.
قلت: فإذا استحلفه بالله (1) أو بالكنيسة، أليس ترى ذلك جائزًا؟ قال: بلى، وإذا رُفِعَ إلى الحاكم استحلفه بالكنيسة ويغلظ عليه، أو بالله عزَّ وجلَّ.
في الحاشية بخط القاضي: قوله: “أو بالكنيسة” يحتملُ أن يريد به:
__________
(1) “قلت: فإن استحلفه بالله” سقطت من (ع وق).

(4/1407)


يستخلِفُهُ بالله في الكنيسة، ولم يُرِدْ أنه يَحْلف (1) بها. ويحتمل أن يريدَ يستحلفُه بالله، ويضم إليه: وهدم الله الكنيسة (2).
قلت: ما تقولُ في الصَّفِيِّ (3)؟ قال: ذاك شيءٌ للنَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – خاصَّةً. قلت: فيكون للخليفةِ بعدَه قال: لا، إنّما كان للنبيِّ – صلى الله عليه وسلم – خاصَّةً.
قلت: قال الله عزَّ وجلَّ: {لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] الآية، إنْ جعلها رجلٌ في صنفٍ واحدٍ أجزأ عنه؟ قال لي: ما علمتُ أنَّ أحدًا قال بذا، يُجعل في الأصناف كلِّها.
وقال: أرأيتَ إن كان عندَه عشرةُ آلافٍ، وعليه عشرةُ آلافٍ (4) لا يَحُجُّ، ما تقول في حجِّ هذا إذا حجَّ؟ قلت: على القياس حَجُّهُ فاسدٌ على قول من قال: ليس له أن يَحُجَّ من هذا المال.
فقال لي: ما يرى هذا إلاَّ شنيعٌ.
قلتُ: هذا القياسُ غيرُ صحيح؛ لأنه وإن كان دينُهُ بقدْر ما بيدِه فهو لم يحجَّ بمالٍ حرام، حتى تكونَ مسألةُ الحَجِّ بالمال الحرامِ، وإنما حجَّ بمالِه نفسِه، ولكنه أثِمَ بتأخيره قضاءِ الدَّيْن من هذا المالِ، ولو أنه اكتسبَ في هذا المالِ ونما، لكان نماؤُه له يختصُّ به، ولو
__________
(1) (ق وظ): “أن يحلفه”.
(2) كذا في (ق وظ) و (ع): “وهدمت إليه”. وقد نقل هذه الرواية عن الميموني ابن مفلح في “الفروع”: (6/ 284).
(3) هو: ما يختار قبل قسمة الغنائم، كجارية وعبد وثوب ونحوه، قال في “المبدع”: (3/ 363): “وانقطع ذلك بموته – صلى الله عليه وسلم – بغير خلافٍ نعلمه، إلا أبا ثور فإنه زعم أنه باق للأئمة بعده” اهـ.
(4) “وعليه عشرة آلاف” سقطت من (ع).

(4/1408)


تصدَّق منه لكان ثوابُهُ له، فلا يصِحُّ قياسُها على ما لو سَرَق مالًا لغيره وحَجَّ به.
عدنا إلى المسائل:
قلت: تخرجُ صدقة قومٍ من بلد إلى بلد؟ قال: لا، إلا أن يكونَ فيها فضلٌ عنهم.
قلت: كيف يكونُ من فَضْلٍ؟ قال: يُعطيهم ما يَكفيهم، ويُخْرِجُ الفضلَ عنهم؛ لأن الذي كان يجيءُ المدينةَ إلى النَّبيِّ – صلى الله عليه وسلم – وأبي بكر وعمر إنما كان من فضلٍ عنهم.
وقال لي أبو عبد اللهِ: إذا بَيَّتَ فأصابَ نساءَهم فليس عليه كفَّارةٌ، وليس عليه شيءٌ، وإذا عمد فليس عليه -أيضًا- لا دِيَةٌ، ولا كفَّارةٌ، ولكن لا يَقْتلُ، لا يدخل في نهي النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -.
وقال أبو عبد الله: إنما الجهرُ بالقراءة في الجماعة، أرأيتَ إن صلَّى وحدَه عله أن يجهَرَ؟! إنما الجهرُ في الجماعةِ إذا صلَّوا.
وسألوه عن الجُرْح يكونُ بالإنسان يخاف عليه، كيف يمسح عليه؟ قال: ينزع الخِرْقَةَ، ثم يمسحُ على الجرحِ نفسه.
قلتُ: هذا النَّصُّ خلافُ المشهور عندَ الأصحاب، فإنَّهم يقولونَ: إذا كان مكشوفًا لم يمسحْ عليه حتى يسترَهُ، فإن لم يَكنْ مستورًا تَيمَّمَ له، ونصُّ أحمدَ صريحٌ في أنه يكشف الخِرْقَةَ، ثم يباشرُ الجرحَ بالمسحِ، وهذا يدلُّ على أن مسحَ الجرحِ البارزِ أولى من مسحِ الجَبِيرَةِ، وأنه خيرٌ من التَّيمُّمِ، وهذا هو الصَّوابُ الذي لا ينبغي

(4/1409)


العُدولُ عنه، وهو المحفوظُ عن السَّلفِ من الصحابة والتابعينَ، ولا ريْبَ أنه مقتضى القياس، فإنَّ مباشَرةَ العضو بالمسحِ الذي هو بعضُ الغَسْل المأمورِ به أولى من مباشرةِ غيرِ ذلك العضوِ بالتُّراب، ولم أزل استبعدُ هذا، حتى رأيتُ نص أحمدَ هذا بخلافه، ومعلوم أن المسحَ على الحائلِ إنَّما جاء لِضَرورةِ المشقَّةِ بكشفِهِ، فكيف يكونْ أولى من المسحِ على الجرح نفسِه بغير حائلٍ؟! فالقياسُ والآثارُ تشهدُ لصحَّةِ هذا النَّصِّ، والله أعلم.
وقد ذكرتُ في الكتاب الكبير: “الجامع بين السنن والآثار” (1): من قال بذلك من السّلف، وذكرت الآثارَ عنهم بذلك وكان شيخُنا أبو العباس ابن تيميَّة: يذهبُ إلى هذا، ويضعفُ القولَ بالتَّيمُّم بدلَ المسحِ (2).
رجعنا إلى المسائل:
وقال: إذا كان الإمامُ من أئمةِ الأحياء يسكر؛ هذا لا تُقْبَلُ له صلاة أربعينْ يومًا، كيف أُصَلِّي خلفَ هذا؟! أَلِيْ (3) أن أختارَ؟ ليس هو واليَ المسلمينَ، والصلاةُ خلفَ الوُلاةِ لا بُدَّ، والصلاةُ خلف أئمَّةِ الأحياء لنَا أن نختارَ.
قال أبو عبد الله: لم تَرِثْ بناتُ عُمر من مواليه شيئًا (4).
__________
(1) لم أر ذكرًا لهذا الكتاب عند مترجمي ابن القيم، ولا أشار إليه المؤلف في غير هذا الموضع.
(2) انظر: “الفتاوى”: (21/ 178).
(3) (ظ): “لي”.
(4) أخرجه الدارمى: (2/ 489)، وعبد الرزاق: (8/ 422).

(4/1410)


ومن مسائل الفضل بن زياد القطان
سمعتُ أحمد وسُئلَ عن الرَّجل يختِن نفسَهُ، فقال: إذا قَوِيَ على ذلك.
قلت: من أقرأُهم؟ قال: أحفظُهم.
سألتُ أحمدَ عن التطَوَّعُ جالسًا هل يَتَربَّعُ؟ قال إن كان يُطيلُ القراءَةَ تَرَبَّعَ، وإن كان يُكْثِرُ الركوعَ والسجودَ لم يَتَربَّعْ.
وسألت أحمد عن الرَّجل يُصَلِّي تَطَوُّعًا، فَيُصَيِّرُ بعض ذلك عن والدته (1)؟ فقال: أما الطَّوافُ فقد سَمِعنا، وأما الصَّلاةُ فما أدري أحتاجُ أن أنظرَ فيه.
وسمعته سُئل عن القُنوت قبل الرُّكوع أو بعدَ؟ فقال: كلٌّ (2) حسَنٌ إلاّ أني أختارُ بعدَ الرُّكوع.
وسألتُه: إذا قنَتَ الرجلُ في الوِترِ يُكَبِّرُ ثم يقنُتُ؟
فقال: إذا قنت قبل الركوع ففرغ من القراءة (ق/337 أ) كبَّر ثم قنتَ، وإذا قنت بعد الركوع، في فرع رأسه من الركوع قال: “اللَّهمَّ إنَّا نستعينُك … ” ولم يكَبِّر.
وسألته عن قَدْر القيام في القُنوت؟ فقال: كقُنوتِ عُمَرَ (3).
وسمعتُه سئل عن الإِمام يقنُتُ ويُؤمِّنُ من خَلْفَهُ؟ قال: ما أحسَنَه
__________
(1) هكذا في النسخ، وليس: “والديه”.
(2) (ق وظ): “كان”.
(3) أخرجه عبد الرزاق: (3/ 110)، وابن أبي شيبة: (2/ 106)، والبيهقي: (2/ 211)، وصححه البيهقي.

(4/1411)


إلاّ أنّا نحن ندعو جميعًا.
سألتُ أحمد قلت: أختم القرآن أجعلُه في الوِتر أو في التَّراويح؟ قال: اجعله في التَّراويح. قلت: كيف أصنعِ؟ قال: إذا فرغتَ من آخرِ القرآن فارفعْ يديك قبلَ أن تركعَ، وادْعُ بنا ونحن في الصلاة، وأطِلِ القيامَ.
وسألتُ أحمدَ عنِ إمام قومٍ، إذا كان آخرِ ليلةٍ من الشَّهر أقْبَلَ على الناسِ، ووعَظَ وذَكَّر وحَمِد الله وأثنى عليه ودعا؟ قال: حَسَن، قد كان عامَّةُ البصريين يفعلون هذا.
أخبرنا أحمد، ثنا عبد الرزاق، أبنا عَقِيل بن مَعْقِل، عنْ وهب بن منَبِّهٍ، عن جابر بن عبد الله أن النبي – صلى الله عليه وسلم – سُئلَ عن النُّشْرَةِ فقال: “هِيَ مِنَ الشَّيْطَانِ” (1).
كتبتُ إلى أبي عبد الله أسأله عن حديث ابن عباس: “إيَّاكُمْ وَالغُلُوَّ” (2)، ما معنى الغُلُوِّ؟ فأتاني (3) الجوابُ: يغلو في كلِّ شيء في الحبِّ والبغضِ.
صافحتُ أبا عبد الله كثيرًا فصافَحني، وابتدأني بالمُصافحة غيرَ مرَّة، ورأيتُه يصافِحُ الناسَ كثيرًا.
أخبرنا أبو طالب عن أبي عبد الله قال: قلتُ: هؤلاء إذا قلنا لهم:
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق: (11/ 13)، وأحمد: (22/ 40 رقم 14135)، وإسناده صحيح.
(2) أخرجه أحمد: (3/ 350 رقم 1851) وابن ماجه رقم (3029)، وابن خزيمة رقم (2867)، وابن حبان “الإحسان”: (9/ 183)، وغيرهم. والحديث صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وابن تيمية في “الاقتضاء”: (1/ 328).
(3) (ق): “فأتى في”

(4/1412)


يهديكم الله ويصلحُ بالكم، قالوا: إنما قال هذا لليهود، أليس يقرءون: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} قلت: أليس دعاء النبي: “اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ” (1)؟ قال: بلى.
الفضل: قال أبو طالب: سألته عن اليهود والنصارى، من أمّة محمد – صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا، النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: “أُمَّتِي أُمَّتِي” (2) لا يقع على اليهود والنصارى.
وسألتُ أبا عبد الله عن الرجلِ يشتري الأضْحيَةَ ثم يبدو له أن يشتريَ خيرًا منها؟ فقال: إذا سمَّاها فلا يَبيعُها إلا لمن يريدُ أن يُضَحِّيَ بها.
وسألته عن الإزار تحتَ السُّرَّةِ أعجبُ إليك أم فوقَ؟ فقال: تحت السُّرَّةِ.
وسمعتُه سُئل عن معنى: “لا تَرَاءى نَارَاهُما” (3)؟ فقال: لا ينزل من المشركينَ في موضع إذا أوقدتَ رأَوْا فيه نارَكَ، وإذا أوقدوا رأيتَ فيه نارَهم، ولكن تباعَدْ عنهم (4).
__________
(1) أخرجه أحمد: (3/ 245 رقم 1718)، والنسائي: (3/ 248)، وابن خزيمة رقم (1095)، والحاكم: (3/ 172) وغيرهم من حديث الحسن بن علي – رضي الله عنهما -. والحديث صححه ابن خزيمة والحاكم وغيرهم.
(2) أخرجه البخاري رقم (44) ومسلم رقم (193) من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة: (6/ 468)، وأبو داود رقم (2645) والترمذي رقم (1604) والبيهقي: (9/ 142) وغيرهم من حديث جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- وصحح البخاري والترمذي فيه الإرسال كما في “الجامع”، و “العلل الكبير”: (2/ 686).
(4) وفي معناه ثلاثة أقوال ذكرها الخطابي في “المعالم” (3/ 105).

(4/1413)


وسألته عن طواف الزِّيارة كم هو؟ قال: واحدٌ وعشرون طَوافًا، ثلاثةُ أسابيع كذلك أعجبُ إلينا.
قلتُ: يريدُ أحمد أن أكملَ الطوافِ ثلاثةُ أسابيع: سبع للقُدْوم، وسبع للإفاضة، وسبع للوَدَاعِ، فأجاب السائل عن سؤاله وغيره، وقد صرَّح بهذا في موضعِ آخر (1).
وسمعتُه يقول لقوم قدِموا من مكَّةَ: باركُ الله لكم في مَقْدَمِكُمْ، وتَقَبَّلَ منكم.
وسمعتُه، سُئلَ عن المرأة تَلْبَسُ الحُلِيَّ وهي مُحْرْمَةٌ؟ فقال: لا بأسَ به.
وسمعتُه سئل عن محْرِمٍ أحرمَ من خُراسَانَ، فلما صار ببغداد ماتَ أوصى أن يُحَجَّ عنه، يُحْرَمُ عنه من بغدادَ أو من المواقيت؟ قال: من المواقيت.
وسألتُهُ عن المحرمِ يستظِلُّ؟ قال: لا يستظل.
قلت: ترى عليه دمًا؟ فقال: الدمُ عندي كثيرٌ.
كتبتُ إليه أسالُهُ عن رجلٍ له قراباتُ محاويجُ، لا يعرفونَ شرائعَ الإِسلام، ولا يتعلَّمونه، أيضعُ زكاتَهُ فيهم، أو في من يعرفُ شرائعَ الإِسلامِ (2) من غير القراباتِ؟ فأتى الجواب: ينبغي له أن يُعَلِّمَهم ويَضَعَها فيهم ويُعْطِيَهُم من غير الزَّكاةِ (3).
وكتبتُ أسألهُ عن الحديث: “من أقَرَّ بالخَراجِ وهو قادرٌ على أن
__________
(1) انظر ما تقدم (ص / 1390).
(2) من قوله: “ولا يتعلمون … ” إلى هنا ساقط من (ع).
(3) هذه المسألة مع جوابها سقطت من (ظ).

(4/1414)


لا يُقِرَّ به فعليه لعنةُ الله”؟
فأتى الجواب: ما سمعنا بهذا هو حديثٌ منكرٌ. وقد رُوِيَ عن ابن عُمَرَ أنه كان يكرهُ الدخول في الخَراجِ، وإنما كان الخَراجُ على عهد عُمَرَ (1).
وسألته على الرجل يكتبُ على الرجل ولا يراه؟ فقال: كتبتُ على عليِّ بن هاشم (2) ولم أرَهُ.
نافع، عن ابن عمر قال: كان يبعثُ بها قبلَ الفطر باليومين والثلاثة إلى المجمع، وكان عطاء يُعطي على أبويه صَدَقَةَ الفطرِ حتى مات. قيل لأبي عبد الله: يعجِبُكَ هذا؟ قال: هذا تَبَرُّعٌ، ما أَحْسَن هذا.
سمعت أبا عبد الله يقول: أكذبُ الناسِ القُصَّاصُ والسُّؤْآل.
وسمعته يردُّ على السَّائل إذا وقف ببابه: أعاننا اللهُ وإيَّاكَ.
كتبتُ إليه أسأله عن رجل يعملُ الخوصَ قوته، ليس يُصيب منه أكثرَ من ذلك، هل يُقْدم على التزويج، فأتاني الجواب: يقدم على التَّزويج، فإنَّ الله يأتي برزقِها، ويتزوَّجُ ويستقرضُ.
وسألتُه على رجل تزَوَّجَ امرأةَ على ألفِ درهَمٍ، فبعث إليها بقيمَةِ متاعٍ وثيابٍ ولم يخبْرهم أنه من الصَّدَاقِ، فلما دخل بها سأَلتْهُ الصَّدَاقَ؟
__________
(1) في “مسائل صالح بن الإمام أحمد” (رقم 174) أنه سأَل أباه عن الحديث نفسِه، فأجابه بالجواب نفسِه؛ لكن فيه سياق إسناد الحديث على أنس -رضي الله عنه-.
وقد نقل ابن أبي حاتم في “العلل”: (2/ 441) سؤالَ صالح لأبيه، وجوابَ الإمام أحمد، ثم قال أبو حاتم عقبه: “هذا حديث باطل لا أصل له” اهـ.
(2) (ق وظ): “هشام”! وهو خطأ، وعلي بن هاشم من رجال التهذيب.

(4/1415)


فقال أبو عبد الله: لها ذلك.
قلت: فإنه قال لها: إني قد بعثتُ إليك بهذا المتاع واحتسبتُه من الصَّداق (1)، فقالت المرأةُ: إنما صَداقي دراهم، فقالَ أبو عبد الله: صَدَقَتْ، قلت: كيف يصنع بهذا (2)؟ قال: تَرُدُّ عليه الثياب والمتاعَ، وترجعُ المرأةُ عليه بصَدَاقِها.
وسئل عن رجلِ قال لامرأته: “أنتِ طالقٌ ثلاثًا إن لبستُ أمِ غَزْلِكِ”، وعليه من غَزْلها؟ قال: يُلقي ما عليه من غَزْلها ساعةَ وقعتِ اليمينُ، قل له: فإن هو نسيَ وذكر بعدُ؟ قال: يُلقيه عه ساعةَ ذكر، قيل له: فإن مشى خطُوَاتٍ وهو ذاكر له، يقول: الساعة ألقيه؟ [قال]: أخشى أن يكون قد حنث.
قلت: هذا منصوص أحمد هاهنا، وفي مسألة الحمل: إذا قال: “إن حَمَلْتِ فأنتِ طالقٌ”، فبانَتْ حاملًا طَلُقَتْ. وقال صاحب “المحرَّر” (3): وعندي: أنها لا تطْلُقُ إلاَّ بحمل مُتَجَدِّدٍ.
وقد وافق أبو البركات على مسألة اللُّبس، فقال: إذا حلف لا يلبسُ ثوبًا (4) هو لابسُهُ، أو لا يسكنُ دارًا هو ساكنُها، أو لا يساكنُ فلانًا (5) وهو مساكِنُهُ، فاستدامَ ذلك، حَنَثَ، وكذلك إذا حلَف أنْ لا يَتَسرَّى فوطِئَ أمَةً له قال: يحنَثُ، ثم قال: وإن حلفَ لا يَتَطَيَّبُ
__________
(1) من قوله: “فلما دخل بها … ” إلى هنا ساقط من (ق وظ).
(2) (ق): “يضيع هذا”.
(3) (2/ 70).
(4) (ق): “شيئًا”.
(5) (ق): “إنسانًا”.

(4/1416)


وهو مُتَطَيِّبٌ، أو لا يَتَطهَّرُ وهو مُتَطَهِّرٌ، أو لا يَتزوَّجُ وهو متزوِّجٌ، فاستدام ذلك لم يحنثْ، ثم قال: وإنْ حلفَ لا يدخلُ دارًا هو فيها فهلْ يحنثُ بالاستدامة إذا لم تكن له نِيَّةٌ (1)؟ على وجهين (2).
وهذه المسائل تحتاجُ إلى فرقٍ صحيحٍ، ويعسُرُ أو يَتَعذَّرُ إبداؤُهُ، فإنَّا إن اعتبرنا النِّيَّةَ فالجميع سواءٌ، وإن تعذَّرَ اعتبارُ النية لم يظهرْ فرقٌ أَلبتَّةَ بينَ أن يحلفَ أن لا يَتَسَرَّى وأن يحلفَ أن لا يتَزَوَّجَ، وغايةُ ما يمكنُ أن يفرقَ بينهما: أن التَّسَرِّيَ مأخوذٌ من السِّرَّ، وأصله التَّسرُّرُ، وهو الوطءُ؛ لأنه يكون سِرًّا، فيحنَثُ بوطء أَمَتِهِ، بخلافِ التَّزَوُّجِ، فإنَّ وطءَ الزوجة لا يقالُ له: تزوُّجٌ.
وهذا الفرقُ ليس بشيء، فإن التَّزَوُّجَ أيضًا مأخوذٌ من ضم الزَّوج إلى زوجه، ولكن عند الإطلاق لا يفهمُ من التَّسَرِّي والتَّزَوُّجِ إلا تجديدُ فراشِ أمَتِهِ أو زوجِهِ، فإن كان استدامةُ فراشِ الأمَةِ يُعدُّ (3) تَسَرِّيًا، فاستدامَة فراش الزوجةِ يُعدُّ زواجًا، وبالجملة فلا يظهرُ لي في هذه المسائل فرقٌ يعتمدُ عليه.
عُدْنا:
وسُئِلَ عن امرأةِ اختلعَتْ من زوجِها في مرضِه، فماتَ وهي في العِدَّةِ؟
لا تَرِثُهُ ليس هو مثل الطلاقِ. الطلاقُ ابتداءٌ والخلْعُ هو من قِبَلِها.
حدثنا أبو طالب، عن أبي عبد الله أنه سأله على الأمَةِ إذا فقدت زوجَها؟
__________
(1) “إذا لم تكن له نية” سقطت من (ظ).
(2) “المحرر”: (2/ 79 – 80).
(3) (ق): “يسمّى”.

(4/1417)