عطاءات العلمكتب ابن القيمكتب ابن القيم- شاملة - txt

بدائع الفوائد_5

بدائع الفوائد_5

http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة

الكتاب: بدائع الفوائد [آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (1)]المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 – 751 هـ)
المحقق: علي بن محمّد العمران
راجعه: سليمان بن عبد الله العمير (جـ 1 – 5)، محمد أجمل الإصلاحي (جـ 1 – 2)، جديع بن محمد الجديع (جـ 1 – 5)
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الخامسة، 1440 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الأجزاء: 5 (4 في ترقيم واحد متسلسل، والأخير فهارس)
قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]تَتَربَّصَ سنتينِ على النِّصفِ من الحُرَّةِ.
سمعتُ أحمد يقول في حديث أبي هريرة: “من حَمَلَ جنازةً فَليَتَوَضَّأ” (1)؟ فقال: كأنه يقولُ: لا يحملُها حتى يتوضَّأَ، أو كما قال.
وسألتُه عن قوم مالت فيهم ميِّتٌ، وليس عندَهم ماءٌ؟ فقال: يُيَمَّمُ.
قلت: فإنَّهم يَمَّموه وصلَّوا عليه وأصابوا الماء، قال: لا أدري ما هذا، لم أسمعْ في هذا بشيءٍ.
وكتبتُ إليه أسألُه عن من زارَ القبرَ يقف قائمًا أو يجلسُ فيدعو؟ فأتى الجوابُ: أرجو أن لا يكون به بأسٌ.

ومن مسائل أحمد بن أصْرَمَ بن خُزَيْمَةَ بن عباد بن (2) عبد الله بن حسَّان بن عبد الله ابن المُغَفَّل المُزَنى الصَّحابي (3)
سمعته وقال له رجلٌ: جمعنا الله وإيَّاك في مستقرِّ رحمته، فقال: لا تقُلْ هكذا.
قلتُ: اختلف السَّلَفُ في هذه الدعوة، وذكرها البخاري في


(1) أخرجه الترمذي رقم (993)، وابن ماجه رقم (1463)، وابن حبان “الإحسان”: (3/ 435)، والبيهقي: (1/ 301) من حديث أبي صالح عن أبي هريرة. وأخرجه ابن أبي شيبة: (2/ 470) وأحمد: (15/ 334 رقم 9862) من طريق صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة، وله أسانيد أخرى عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
وقد رجح جمع من الحفاظ أنه موقوف على أبي هريرة، انظر في الكلام عليه “العلل للدارقطني”: (9/ 293)، و “نصب الراية”: (2/ 281 – 282).
(2) “عباد بن” سقطت من (ع).
(3) تقدمت ترجمته (3/ 976)، وبعض مسائله.
(4/1418)


كتاب “الأدب المفرد” (1) له، وحكى عن بعض السَّلَف أنه كَرِهَها، وقال: مستقرُّ رحمتِه ذاتُه، هذا معنى كلامِه، وحُجَّة من أجازها ولم يكرهْها أن الرحمة هاهنا المراد: الرحمةُ المخلوقة، ومستقرُّها الجنة، وكان شيخُنا يميل إلى هذا القول (2). انتهى.
وسُئِلَ عن رجلِ استأجرَ أجيرًا على أن يحتطبَ له على حمارين، كلَّ يوم ينقل عليهما، فكان الأجيرُ ينقلُ على الحمارين وعلى حمار (3) رجل آخرَ في نوبة (4) هذا ويأخذُ منه الأجر، فقال: إن كان يُدخلُ عليه فيه ضَرَرًا ارتجع عليه بالقيمةِ، أو قال كلامًا هذا معناه.
قلتُ: وشَبِيهٌ بهده المسألة: إذا أخذ من رجل مالًا مضارَبَةً، ثم ضارَبَ لغيرهِ، وَعلى الأول ضَرَرٌ في ذلك، فإنه يردُّ حِصَّتَهُ من الربحِ في شركة الأول.
ووجهُ هذا: أن منافِعَهُ صارت مستحَقَّةً للمستأجرِ والمضارِب، فإذا بَذَلها لغيره بعِوَضٍ كان العِوَضُ لمستحقِّها.
وسأله رجلٌ: إنَّ والدي تُوُفِّيَ وترك عليه دينًا، أفأقضيه من زكاةٍ مالي؟ قال: لا.
وسُئِلَ عن رجل أَسْلَم في طعام إلى أجل مسمَّى، فإذا حلَّ الأجلُ يشتري منه عقارَا أو دارًا؟ (ظ/1236) فقال: نعم يشتري منه مالًا يُكالُ ولا يُوزَنُ.


(1) (ص / 320).
(2) تقدمت هذه المسألة بأبسط مما هنا: (2/ 678) مع التعليق.
(3) (ق وظ): “حمير”.
(4) (ق وظ): “يومه”!.
(4/1419)


وسمعتُه سُئِل عن رجلٍ حلف أن لا يَلْبَسَ من غَزْل امرأتِهِ، فخاط الخياطُ من غَزْلها؟ فلم يُجِبْ فيها بشيءٍ.
وسُئِلَ عن امرأة (1) رُمِيَتُ فأقرَّت على نفسها، ثم ولدَتْ فَبَلَغ زوجَها، فطلَّقها (2)؟ قال: الولد للفراش حتى يُلاعِنَ.
وسُئِلَ عن رجلٍ أسلمَ من أهل الحرب في دار الحرب، ثم دخل دارَ الإسلام، وليس له وليٌّ في دارِ الإِسلامِ، فقتله رجلٌ من المسلمين خطأ، أيلزَمُ المسلمَ الدِّيَةُ مع الرَّقَبَة؟ قال: الذي أذهبُ إليه أنه ليس عليه دِيَةٌ، وعليه رَقَبةٌ.
وسئل عمن طافَ وراءَ المَقَامِ، وقيل له: رُويَ عن عطاء أنه قال: من لم يُمكِنْهُ الطَّوافُ إلاّ خلَفَ المقام جلسَ، كأنّ عطاءً كَرِهَ الطَّوافَ خلفَ المقامِ؟.
فقال: من رَوَى هذا؟ ليس هذا بشيء، الذي يكرهُ من هذا هو أكثرُ لتعبِهِ وأعظمُ لأجرِهِ.
قيل له: طاف من وراء السِّقَايَةِ، قال: نعم هو أكثرُ لتعبِهِ (3).
قيل له: تذهب إلى حديث عبد الله بن عُكَيْم أن النبىَّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “لا تَنْتَفِعُوا مِنَ المَيْتَةِ بِإِهابٍ وَلا عَصَبَ” (4)؟ قال: نعم.


(1) من قوله: “أسلم في طعام … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) المسألة في (ق) هكذا: “وسئل عن رجل رُميت امرأته، فأقرَّت على نفسها ثم ولدت، فطلقها زوجها بعد علمه بذلك”؟.
(3) الجواب برمته ساقط من (ق)، ومن قوله: “وأعظم لأجره … ” إلى الآخر ساقط من (ع)، لهذا بقي في العبارة اضطراب.
(4) أخرجه أحمد: (31/ 74 رقم 18780)، وأبو داود رقم (4127) والترمذي رقم (1729)، والنسائي: (7/ 175)، وابن ماجه رقم (3613). =
(4/1420)


قيل: وقد رواه خالدٌ الحَذَّاء عمن سمع عبد الله بن عُكَيْم، قال: قد رواه شعْبَةُ، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن عُكَيْم أصحَّ من هذا، وقد رواه عبَّاد، ورواه شعبة، عن الحكم، كأنه صحَّحه من غير حديث خالدٍ.

ومن مسائل الفضل بن زياد القطان -أيضًا-
كتبتُ إلى أبي عبد الله أسأله عن حديث النعمان بن بشير: “مَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ” (1) ما الشُّبُهات؟ فأتاني (2) الجواب: هي منزَلةٌ بينَ الحلالِ والحرامِ، إذا استبرأَ لدِينه لم يقعْ فيها (3).
أحمدُ: حدثنا عبدُ الأعلى، عن هشام، عن محمَّد -يعني: ابن واسع-: أنه كان يكرهُ أن يشتريَ بالدَّنانير إلاّ العُتَّق، وبالدراهم التي فيها كتابُ الله أن يشتريَ بها أو يبيعَ.
وقال أحمد: سمعت من مُعاذ بن هشام، عن أبيه، عن قَتَادَةَ، عن سعيد بن المُسَيِّب، قال: كان ناس من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم –


= قال الترمذي “وسمعتُ أحمد بن الحسن يقول: كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا الحديث لما ذُكِر فيه “قبل وفاته بشهرين” وكان يقول: كان آخر أمر النبي – صلى الله عليه وسلم -، ثم ترك أحمد بن حنبل هذا الحديث لما اضطربوا في إسناده … ” اهـ. والحديث صححه الإمام أحمد في رواية ابنه صالح رقم (1119) و (733)، وفي رواية ابنه عبد الله رقم (43، 47)، وفي رواية ابن هانئ: (1/ 22) صرَّح بأنه يذهب إلى حديث ابن عكيم؛ لأنه آخر الأمرين، وانظر “طبقات الحنابلة”: (2/ 350 – 351).
(1) أخرجه البخاري رقم (52)، ومسلم رقم (1599) من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه-.
(2) (ع): “فأتى”.
(3) وكذا فسّرها في رواية ابنه صالح رقم (205)، وفسَّرها تارةً باختلاط الحلال بالحرام، كما في “جامع العلوم”: (1/ 199).
(4/1421)


يَتَّجِرون في البحر، منهم طَلْحَة بن عبيد الله وسعيد بن زيد (1).
سمعتُ أبا عبد الله وسُئل عن بيع الجُزَافِ (2)، فقال: إذا استوى علمُهما فلا بأس -يعني: إذا جهلا به- فإذا عَلِمَ أحدُهما وجَهِلَ الآخرُ فلا.
وسألته قلت: القطنُ يبيعُه فيرفع ظرفه العِدْل خمسة أمْناء: (3)، قلت: نعم، وربما زاد فيحسبه للمشتري، فرخَّص فيه، ولم ينكرْه على طريق الصُّلح.
قلت: فإنَّا نبيعُ بيعًا آخر، نبيع القطنَ في الكساء، فقال: هذا أحبُّ (4) إلي من ذاك؛ لأنه يكون بمنزلة التَّمْر في جِلالِهِ وقَوَاصِرِه (5)، ما زال هذا يُباعُ في الإِسلامِ.
قلت: فإنهم يحملونا على أن (6) نكشِفَه، فقال: هذا ضَرُورةٌ ليس عليكم هذا.
قال القاضي: “إنما لم يشترط كشفَه على الرواية التي أجاز بيعَ الجُرُبِ قبل حلِّها، وقوله: نبيعُه بظرفِه أحبُّ إلَيَّ من أن يحتسبِ


(1) ورواه عبد الله بن أحمد عن أبيه بسنده ومتنه في العلل”: (2/ 42)، وابن معين في “تاريخه”: (رقم 207 – رواية الدوري).
(2) الجزاف: بضم الجيم وفتحها وكسرها هو: بيع الشيء لا يعلم كيله ولا وزنه. “المصباح المنير”: (ص / 38).
(3) المَنَا: هو ما يكال به أو يوزن، وجمعه: أمناء، وفي لغة تميم مفرده: “المنّ” ويجمع على: أمنان “اللسان”. (13/ 419)، و “المصباح” (ص / 222).
(4) (ق): “لعب”.
(5) الجلال والقواصر هي: الأوعية التي يُكتنز فيها التمر. “اللسان”: (5/ 402).
(6) (ع): “أنّا”.
(4/1422)


بوزنِ الظرفِ؛ لأنهم ربما اختلفوا في وزنِهِ” انتهى كلامُهُ.
قلت: قول أحمد: “نبيعُ القطنَ في الكِسَاءِ أحبُّ إلَيَّ”، وقوله: “لأنه يكون بمنزلة التمرِ في جلالِهِ وقواصِرِه، ما زال هذا يُباعِّ في الإِسلام”، يؤخذ منه بيعُ المُغَيَّبَاتِ في الأرضِ؟ كالجزر والقُلْقاس والسَّلْجم ونحوها، بل أولى، وما زال هذا يُباع في الإِسلام ويتعذَّر عليهم بيعُ المزارع إلاّ هكذا، وعلمهم بما في الأرض أتمُّ من علم المشتري بما في الجُرُبِ والأعْدالِ؛ لأنهم يعرفونه بورقِهِ، ولا يكاد تخلو معرفتُهم به، بل رَبما كان اختلافُ ما في الجُرُب والأعدال (1) أكثرَ من اختلافِ المُغَيَّب في الأرضِ، والعسرُ فيه أكثر؛ لأنه بحسب دواعي البَشَر، وما في الأرض لا صُنْع لهم فيه، فالغالبُ تساويه (2).
وبالجملةِ؛ فلم يزلْ ذلك يُباعُ في الإسلام، وهذه قاعدةٌ من قواعد الشَّرْعٍ عظيمةُ النفع: أن كلَّ ما يعلمُ أنه لا غنىً بالأُمَّةِ عنه، ولم يزلْ يقعُ في الإِسلام، ولم يعلمْ من النبي – صلى الله عليه وسلم – تغييرُهُ ولا إنكارُهُ ولا من الصحابة، فهو من الدِّينِ، وهذا كإجارةِ الإقطاع، وبيع المُعاطاة، وقرضِ الخبزِ والخَميرِ وردِّ أكبرَ منه وأصغرَ، وأكلِ الصيدِ من غير تفريزِ محلِّ أنيابِ الكلب ولا غسلِهِ، وصلاة المسلمينَ في جِراحاتهم، كما قال البخاريُّ (3): “لم يزلِ المسلمون يُصَلُّون في جراحَاتِهمِ”، ومسحِهم سيوفَهم من غير غسلٍ، وصلاتِهم وهم حاملوها، ولو غُسِلتِ السيوفُ لفَسَدَتْ، ولا يُعرَفُ في الإِسلام غَسْل السيوف


(1) من قوله: “لأنهم يعرفونه … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) تقدم البحث في هذه المسألة: (4/ 1323).
(3) “الصحيح – الفتح”: (1/ 336)، وليس هو من قول البخاري، بل علقه على الحسن البصري مجزومًا به.
(4/1423)


ولا إلقاؤها وقت الصلاة، وكذلك صلاة النساء في ثياب الرَّضاعة أمر مستمرٌّ في الإِسلام، مع أن الصِّبيانَ لا يزالُ لُعابُهمْ يسيلُ على الأمَّهاتِ، وهم يَتَقيَّئونَ ولا تُغْسَلُ أفواهُهم، وكذلك البيعُ والشراءُ بالسعرِ لم يزلْ واقعًا في الإِسلامِ حتى إنَّ مَنْ أنكره لا يجدُ منه بُدًّا، فإنه يأخذُ من اللَّحَّام والخَبَّاز وغيرهما كلَّ يومِ ما يحتاجُ إَليه من غير أن يساوِمَهُ على كلِّ حاجة، ثم يحاسبُهُ في الشهر أو العام، (ق / 339 ب) ويُعطيه ثمنَ ذلك، فما يأخُذُه كلَّ يوم إنَّما يأخذُ بالسعر الواقع من غير مساوَمَةٍ، وكذلك الإجارةُ بالسِّعر في مثلِ دخول الحَمَّامِ، وغَسْلِ الغَسَّال، وطبخِ الطَّبَّاخِ والخَبَّاز وغيرهم، لم يزل الناسُ يفعلون ذلك من غير تقدير إجارَةٍ، اكتفاءً منهم بإجارة المثْل.
وقد نصَّ اللهُ تعالى على جوازِ النِّكاحِ من غير تسميةٍ، وحَكَمَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – بِمَهْرِ المِثْل (1)، فإذا كان هذا في النكاحِ، ففي سائرِ العقود من البيوعِ والإجاراتِ أولى وأحْرى.
وقول القائل: “الصَّداقُ في النِّكاح دخيلٌ غيرُ مقصودٍ ولا ركنٌ”، كلامٌ لا تحقيقَ وراءَهُ، بل هو عِوَضٌ مقصودٌ، تُنْكَحُ عليه المرأة، وتُرَدُّ بالعَيْب، وتطالبُ به، وتمنعُ نفسَها من التسليم قبل قبضه، حيث يكونُ لها ذلك، وهو أحقُّ أن يُوَفَّى به من ثمن المَبِيع وعِوَضِ الإجارَة، فهو في هذا العقد أدخل من ثمن المَبيعِ وعِوَضِ الإجارة فيهما؛ لأن


(1) كما في قصة بَرْوَع بن واشق، كما في الحديث الذي أخرجه أحمد: (7/ 175 رقم 4099)، وأبو داود رقم (2114)، وابن ماجه رقم (1891)، والنسائى: (6/ 122)، وابن حبان “الإحسان”: (9/ 408)، والحاكم: (2/ 180 – 181) وغيرهم من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-.
والحديث صححه الترمذي وابن حبان والحاكم والبيهقي.
(4/1424)


منافعَ الإجارةِ والأعيان المَبيعة قد تُسْتَباحُ بغير عِوَضٍ، بل تُباحُ بالبَدَلِ، بخلاف منفعةِ البُضْعِ، والمرأةُ لم تبذلْ بضعَها إلاَّ في مقابلة المهر، وبضعُها أعزُّ عليها من مالِها، فكيف يقال: إنَّ الصَّداقَ عارِيَّةٌ في النِّكاحِ غيرُ دخيل فيه، وهل هو إلاَّ أحقُّ بالوفاء من ثمنِ المَبيع.
والذي أوجبَ لمن قال: إنه دخيلٌ (1) في العقد، أنهم رَأوا النكاحَ يَصِحُّ بدون تسمية، فدلَّتْ (2) على أنه ليس ركنًا في العقد، فهذا هو الذي دَعاهم إلى هذا القول.
وجوابُ هذا: أن النكاحَ لم ينعقدْ بدونه ألبتَّةَ، وإنما انعقدَ عند الإطلاق بصدَاقِ المِثْلِ، فوجَبَ صَدَاقُ المِثْلِ بنفس العقدِ، حتى صار كالمُسمَّى، وجعل الشارع سكوتَهم عنه بمنزلةِ الرِّضى به وتسميته، فلِم ينعقدِ النكاحُ بغيرِ صَدَاقٍ، وإنما انعقدَ (3) بغير تسمية صَداقٍ، وفرْقٌ بينَ الأمرينِ.
والمقصود أن الشارعَ جوَّزَ أن تكونَ أعراضُ المبيعاتِ، والمنافعُ في الإجاراتِ، ومنفعةُ البُضْعِ منصرفة عند الإطلاق إلى عِوَضِ المِثْلِ، وإن لم يُسَمَّ عند العَقْدِ، وليسَ هذا موضعَ تقرير هذه المسائل، وإنما أشرنا إليها إشارةً.
قال: وسألتُه عن الرجل يشتري الثوبَ بدينار ودرهم؟ فقال: لا بأس به، قلت: فإن اشتراه بدينار غير درهم، قال: لا يجوزُ هذا (4)


(1) (ق وظ): “غير دخيل” وهو خطأ!.
(2) (ق وظ): “فدل”.
(3) من قوله: “عند الإطلاق … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(4) نصّ عليه -أيضًا- في رواية الكوسج رقم (11).
(4/1425)


وسمعتُه سئل عن المُكَحَّلَة (1) قال: لا يشتري بها شيئًا، ولكن إذا كان لك على رجلٍ دراهم فأعطاك مُكَحَّلَةً فخذ منه، كأنك أخذتَ دون حَقِّكَ. ورأيته يشدِّدُ في المُزَبَّقة (2) جدًّا.
وسئل عن رجل كان ساكنًا، فقال له صاحبُ الدار: تحوَّلْ، فقال الساكنُ: قد دفنتُ في دارك شيئًا، فقال صاحبُ الدَّار: ليس ذلك لك، فقال أبو عبدٍ الله: ينبشُ كلُّ واحدٍ منهما ما دفن، فكلُّ من أصاب الوصفَ كان ذلك له، أو نحو ذلك.
قلت: هذا له ثلاثةُ أصول:
أحدُها: وصفُ اللُّقَطَةِ، فإنه يُوْجِبُ أو يُسَوِّغُ على القولِ الآخر دفعها إلى الواصف.
الثاني: الدعوى المتأيدة بالظَّاهر والعادة، كدعوى كُلٍّ من الزوجين ما يصلح له دونَ صاحِبِه، فإنه يُعطاهُ بدعواهُ المتَأَيِّدةِ بالظَّاهر (3) والعادة.
الثالث: إن العلمَ المستفادَ من وصف أحدهما له بصِدْقه أقوى من العلم المستفاد بالشاهِد الواحدِ واليمين، أو نكولِ الخصمِ، وهذا مما لا سبيلَ للنفسِ إلى دفعِهِ، ومحالٌ أن يحْكَمَ بالأضعف، ويُلْغَى حُكْمُ ما هو أقوى منه، والذي منع منه الشرعُ أن المُدَّعِيَ لا يُعطى بدعوى مجرَّدة لا دليل معها شيئًا، فإذا تميَّزَتْ بدليل لم يُحْكَمْ له


(1) يعني: الدراهم المزيفة، انظر: “بدائع الصنائع” (7/ 395).
(2) تحرفت في المطبوعات إلى: “الشريعة”! ودرهم مُزَأبق مطلي بالزئبق، والعامة تقول: مُزبَّق. “اللسان”: (10/ 137)، وانظر: “مسائل صالح” رقم (158)، و “مسائل أبي داود”رقم (1233 وما بعدها).
(3) من قوله: “كدعوى … ” إلى هنا سقطت من (ق).
(4/1426)


بدعوى مجرَّدة، ولهذا يحكمُ له بالشاهدين تارةً، وبالواحد تارةً (1)، وبالنُّكولِ تارةً، وبالقرائنِ الظاهرةِ وبالصِّفَة وبالشَّبَهِ (2)، وهذا كُلُّه أمرٌ رائدٌ على مجرَّدِ الدَّعوى، فلم يحكمْ له بدعوى مجرَّدة، وأين تقَعُ معاقدُ القُمُط ووجوهُ الآجُرِّ والخصِّ (3) من الصِّفَةِ هاهنا، وفي اللُّقطة والله الموفق.
وقال أحمد: إذا ادعى أحدُهم الدارَ أجمع، قال الآخر: لي نصفُها، فهي بينَهما نصفانِ، وقد يقولُ بعضُ الناسِ: هي بينَهما ثلاثةُ أرباع لمدَّعي الجميعِ، وللآخرِ الرُّبُعُ.
قلت: وجهُ هذا: أن مدَّعي النِّصفِ قد اعترفَ أن النِّصفَ الآخر لا حقَّ له فيه، فلا منازعَ لخصمِه فيه، فينفردُ به وخصمُهُ ينازعه في هذا النصفِ المدَّعى، وكلاهما يَدَّعِيه، فهما فيه سواءٌ.
ووجهُ المنصوص وهو القياسُ: أن أيديهما على الدَّار سواءٌ، فلكلِّ واحدٍ نصفُها، ومُدَّعي الكلِّ يَدَّعي النصفَ الذي للآخر وهو يُنْكِرُهُ، فلو أُعطي منه شيئًا لأعطيَ بمجرَّد دعواه، وهو باطلٌ، فإن خصمَه إنما يُقِرُّ له بالنِّصفِ، فلأي شيء يُعطى نصفَ ما بيدِ خصمِه بمجرَّد الدعوى، فهذا القولُ ضعيفٌ جدًّا.
وقولهم: “إنهُ يُقِرُّ (4) لخصمِه بالنِّصفِ، فينفردُ به، وهما متداعيانِ للنصف الآخرِ، فيقسم بينهما”.


(1) بعده في (ظ) فقط: “وبالمرأة تارة”.
(2) (ق): “وبالشبهة”.
(3) انظر ما تقدم (3/ 1036).
(4) (ق وظ): “مقر”.
(4/1427)


فجوابه: أن استحقاقَ خصمِهِ للنصفِ لم يكن مستنِدًا إلى إقراره له به، بل النصفُ له، سواءٌ أقرَّ له به خصمُه أو نازعَهُ، فإقرارهُ إنما زادَه تأكيدًا، ويدُ كلِّ منهما مثبتةٌ (1) لنصف المُدَّعَى، وأحدُهما يقول لصاحبه: ليست يَدُكَ يدَ عُدْوانٍ، والآخرُ يقولُ لُمدَّعي النِّصفِ: يَدُكَ يدُ عُدْوانٍ، فلو قضينا له بشيءٍ مما بيدِ خصمِه لقضينا له بمجرَّدِ قولِهِ ودعواه، وهذا لا نَصَّ ولا قياسَ، واللهُ أعلم.
وقال له رجل: أكري نفسي لرجلٍ أُلْزِمُ له الغُرَماء؟ قال: غيرُ هذا أعجبُ إليَّ.
وسمعته يقول: ما أقلَّ بَرَكَةَ بيْع العقار إذا بيع.
وقيل له: ما تقولُ في رجل اكترى من رجل دارًا، فوجد فيها كناسةً، فقال صاحب الدار: لم يكن هذا في داري، وقال السَّاكنُ: بل (2) قد كان في دارِك؟ فقال هو على صاحبِ الدار.
سألتُ أبا عبد الله عن الصَّائغ يغسلُ الفِضَّةَ بدُرْدِي (3) الخمر؟ قال: هذا غِشٌّ، لعلَّ الفضة تكون سوداء فَتَبْيَضُّ.
أملى عَليَّ أبو عبد الله: إنما على الناس اتِّباعُ الآثارِ عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ومعرفةُ صحيحها من سقيمها، ثم بعد ذلك قولُ أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا لم يكنْ قولُ بعضِهم لبعض مخالفًا (4)، فإن اختلفَ نُظِرَ في الكتاب، فأيُّ قولهم كان أشبَهَ بالكتابِ أُخِذَ به،


(1) (ع): “مبينة”.
(2) (ق وظ): “بلى”.
(3) الدُّرْدي: ما يبقى في أسفل كل مائع كالأشربة والأدهان. “اللسان”: (3/ 166).
(4) في النسخ بالرفع. ويصح أن تكون الجمل التي بعدها مبنية للمعلوم.
(4/1428)


وبقولِ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أُخِذَ به، فإذا لم يأتِ عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – ولا عن أحد من أصحاب النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – نُظِرَ في قول التَّابعينَ، فأيّ قولهم كان أشبهَ بالكتاب والسنة، أُخِذَ به وتُرِكَ ما أحدثَ الناسُ بعدَهم.
سمعتُ أبا عبد الله وقد سُئِلَ عن الرجل يسألُ عن الشيءِ من المسائلِ، فيرشدُ صاحبَ المسألةِ إلى رجلٍ يسألُهُ؟ قال: إذا كان رجلًا متِّبَعًا أرشدَه إليه فلا بأسَ.
وقال: ابنُ أبي ذئب أصلَحُ (1) في تَدَيُّنِهِ وأوْرعُ وأقوَمُ بالحقِّ من مالكٍ عند السلاطين، فدخل ابن أبي ذئب على أبي جعفر فلم يَهُلْهُ أن قال له بالحقِّ، وكان يُشَبَّهُ ابنُ أبي ذئب بسعيد بن المسيَّب في زمانه (2).
قلت: رجل يُقرئ رجلًا مئتي آية ويُقرئ آخرَ مئة؟ قال: ينبغي له أن ينصفَ بين الناس. قلت: إنه لِأخذُ على هذا مئتي آية لأنه يرجو أن يكونَ عاملًا به، ويأخذ على هذا أقلَّ لأنه لم (3) يبلغْ مبلَغَ هذا في العمل؟ قال: ما أحسن (4) الإنصافَ في كلِّ شيءٍ.
وسمعت أبا عبد الله وذُكر عنده أبو الوليد (5)، فقال: هو شيخ الإسلام (6).


(1) (ق) وحدها: ” … ما رأينا أصلح”!.
(2) وانظر نحوه وأطول منه في “مسائل صالح بن الإمام أحمد” رقم (805، 810، و “السير”: (7/ 144).
(3) (ظ): “لم يكن … “.
(4) (ع): “ما أحسن هذا … “.
(5) أي: الطيالسي.
(6) وانظر: “تهذيب التهذيب”: (11/ 46).
(4/1429)


أبو عبد الله، عن عبد الوهاب، عن سعيد، عن قَتَادةَ، عن أبي خالد (1)، قال: ذكر له أن موسى لما أخذ الألواحَ قال: رَبِّ إني أجدُ في الألواحِ أمَّةً هم الأوَّلونَ والآخِرونَ السَّابقُون، قال قَتَادةُ: هم الأوَّلونَ في العَرْضِ يومَ القيامة، وهم الآخروُن في الخَلْق، السَّابقونَ (2) في دخول الجَنَّةِ، اجْعَلْهم أُمَّتي، قال: تلك أمَّة أحمَدَ، قال: إني أجدُ في الألواح أُمَّةً أناجيلُهمِ في صدورِهم، يقرأونها، قال قتادة: وكان مَنْ قَبْلَكُم إنّما يقرأُونَ كُتبَهُم نظرًا، فإذا رفعوها لم يَعوها، ولم يحفظوها، وإنَّ الله أعطى هذه الأمَّةَ من الحفظِ ما لم يعْطِ الأمَمَ قَبْلَها، وذكره إلى آخره (3).
وسألتُ أبا عبد اللَّه عن الطَّعامِ في أرضِ العدوِّ إلى متى يأكلونَ؟ فقال: إذا بلغوا الدَّربَ أَلْقَوْا ما معهم.

من مسائل ابن هانئ
قال ابن هانئ (5): سألتُ أبا عبد الله عن الرَّجُل يأخذ من عارضَيْهِ؟


(1) كذا في (ع وظ)، وفي (ق): “قتادة أبي خالد”، لكن في مصادر هذا الأثر لا يوجد ذكر لأبي خالد هذا، بل هو عن قتادة نفسه.
(2) من قوله: “قال قتادة … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(3) أخرجه ابن جرير: (6/ 66) وابن أبي حاتم وعبد بن حميد وأبو الشيخ -كما في “الدر المنثور”: (3/ 227) -.
(4) هذه الزيادة للتمييز: بين سؤالات الفضل بن زياد السالفة، وما سيأتي من سؤالات إسحاق بن هانئ.
ومن هذه الفقرة بدأ اضطراب جديد في النسخ، فكل نسخة من (ع وق وظ) انفردت بترتيب مستقل للمسائل والفوائد، وقد جرينا في الرتيب على ما في (ظ)؛ لأنه الترتيب الذي سارت عليه جميع الطبعات، فلم نر تغييره إلا لمصلحة تقتضي ذلك -كما تقدم نحو ذلك فيما سبق 4/ 1327 – .
(5) “مسائل ابن هانئ”: (2/ 151 – 152).
(4/1430)


قال: يأخذ من اللحية بما فضل عن القَبْضَة.
قلت له: فحديث النبي – صلى الله عليه وسلم -: ” أحْفُوا الشواربَ وأَعْفُوا عن اللِّحَى” (1)؟ قال: يأخذ من طولها ومن تحت حلقِه، ورأيت أبا عبد الله يأخذُ من عارضَيْه، ومن تحتِ حَلْقِهِ.
قال (2): ورأيتُ أبا عبد الله يأخذُ من حاجبِهِ بالمِقْراضِ.
قال (3): وسألته عن خَاتَمِ الحديدِ؟ فقال: لا تَلْبَسْهُ.
وسئل عن جُلود الثعالب؟ قال: البَسْهُ ولا تُصَلِّ فيه (4).
وسئل عن السَّراويل أحَبُّ إليك أم المآزر فقال: السَّرَاويلُ مُحْدَثٌ، ولكنه أستر (5).
قال ابن هانئ (6): خرج أبو عبد الله على قومٍ في المسجد، فقاموا له، فقال: لا تَقومُوا لأحدٍ، فإنه مكروهٌ.
قال (7): وكنتُ مع أبي عبد الله في مسجدِ الجامعِ، فصلَّيْنا، ثم رجَعْنا فقعدَنا، واستراحَ (8) وأنا معه، فجاء رجلٌ كأنه محمومٌ فقال:


(1) أخرجه البخاري رقم (5892)، ومسلم رقم (259) من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما -.
(2) “المسائل”: (2/ 149)، ثم ذكر عن الحسن أنه كان يأخذ من حاجبه.
(3) “المسائل”: (2/ 147).
(4) المصدر نفسه: (2/ 146).
(5) المصدر نفسه: (2/ 147)، وفي (ع): “المئزر”.
(6) المصدر نفسه: (2/ 180).
(7) المصدر نفسه: (2/ 176).
(8) في “المسائل”: “فقعد فاستراح”.
(4/1431)


يا أبا عبد الله: إني كنت شارب مسكرٍ، فتكلَّمت فيك بشيءٍ، فاجعلني فى حِلٍّ:
ففال: أنتَ في حِلٍّ إن لم تَعدْ، قلت: يا أبا عبد الله لمَ قلتَ له لعله يعود؟ قال: ألم ترَ إلى ما قلت له: إن لم يَعدْ، فقد اشترطت عليه، ثم قال: ما أحْسَنَ الشرطَ، إذا أراد أن يعودَ فلا يعودُ إن كان له دِين.
قلت: وهذا صريح في جواز تعليقِ الإبراءِ على الشرط، وهو الصوابُ.
وقال إسحاق بن هانئ (1): قال رجل لأبي عبد الله: أوصني، فقال: أعِزَّ أمرَ الله حيثما كنت يُعِزَّكَ الله.
وقال لي (2): يا إسحاق ما أهون الدُّنيا على اللهِ عز وجل، قال الحسن:. أَهِينوا الدنيا، فوالله إني لأهنأ ما يكون حين تُهان:
وقيل له: ما معنى الحديث: “لا يقُمْ أحدٌ لأحدٍ” (3)؛ فقال: إذا كان عنى جهةِ الدُّنيا مثل ما روى معاوية (4)، فلا يُعْجِبُني (5).


(1) “مسائل ابن هانئ”: (2/ 180)
(2) “المصدر نفسه” (2/ 180)، وقول الحسن ليس في “المسائل”.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة: (5/ 233) من مرسل الحسن بلفظ: “لا يقم رجل لرجل، ولكن ليوسع له”، وهو مع أرساله ففيه علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف. وقد جاء في النهي أحاديث أصح من هذا، منها ما أخرجه أحمد: (5/ 253)، وابن أبي شيبة: (5/ 233)، وأبو داود رقم (5230)، من حديث أبى أمامة -رضي الله عنه- بلفظ: “لا تقوموا كما يقوم الأعاجم … “.
(4) بلفظ: “من أحب أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوّأ مقعده من النار” أخرجه ابن أبى شيبة: (5/ 234)، والترمذي رقم (2755)، وقال الترمذي: “هذا حديث حسن”.
(5) “المسائل”: (2/ 182).
(4/1432)


قيل له (1): يقدم الرجل حاجًا فيأتيه الناسُ وفيهم المشايخُ أيقومُ لهم؟ قال: قد قام النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – لجعفر (2).
وفي المعانَقَةِ احتجَّ بحديث أبي ذرٍّ: أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – عانقه (3).
وسألته عن الرجلِ يلقي الرجلَ أيعانِقُه؟ قال. نعم قد فعلَه أبو الدرداء.
ومحوتُ قدامَهُ لوحًا بثوبي (4) فقال: لا تملأ ثيابك سوادًا امحُ اللوحَ برجْلِكَ (5)
وجئته بكتاب من خُراسان فإذا عنوانه: لأبي عبد الله أبقاه الله، فأنكره وقال: أيْش هذا (6)؟!
قال ابن هانئ (7): دفع إليَّ أبو عبد الله يومًا في المسجد ثلاثَ قطع فيها قريب من دانَقَيْنِ فقال. أعطها هذا وأشار إلى رجل، فجاء معي (ظ/238 أ) حتى وَقَفَ عليه، فدفعتها إليه وهو ينظرُ إليَّ، فلما أن دخَلْنا المسجدَ وصليْنا الفريضةَ، إذا نحن بالسَّائلِ يقول: واللهِ -مِرارًا-


(1) “المصدر نفسه”: (2/ 183)، وكذا ما بعده.
(2) أخرجه الحاكم: (3/ 211)، والبيهقي في “الدلائل”: (4/ 246)، وأبو داود رقم (5220) عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- والصواب فيه الإرسال، من مرسل الشعبي.
(3) أخرجه أحمد: (35/ 349 رقم 21443)، وأبو داود رقم (5214)، وفي سنده ضعف؛ لأن فيه رجلًا لم يُسَمَّ.
(4) (ق): “بثيابي”، ووقع في “المسائل”: “بشيء” وهو تحريف.
(5) “مسائل ابن هانئ”: (2/ 184)، وكذا ما بعده.
(6) انظر “معجم المناهى اللفظية”: (ص/ 57، 601).
(7) “المسائل”: (2/ 177).
(4/1433)


ما دفعْ إلَيَّ اليومَ شيءٌ، ولا وقعَ بيدي اليوم شيءٌ.
فلما صِرنا في الطريق، قال لي أبو عبد الله: ألم تَر إلى ذلك السائلَ ويمينَه باللهِ عزَّ وجلَّ! يُروى عن عائشة عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – إن صحَّ-: “لَوْ صَدَق السَّائل ما أفْلَحَ منْ رَدَّهُ” (1).
وقال لي أبو عبد الله: يكذبون خير لنا، لو صدقوا ما وَسِعنا حتى نواسيَهم مما معنا، وما رأيته تصدق في مسجد الجامع غير تلك المرَّة.
ففي هذا جواز الصَّدقَةِ على سؤال المساجدِ فيها، ووجوب المواساةِ عند الحاجةِ، وجواز رواية الحديث الضعيفِ مُعَلَّقًا باشتراطِ الصّحّة.
فصل
إذا سبَّحَ أحدٌ في مسألة، فإن كان السائلُ سأله عن تحريمِها أو كراهتِها، فهو تقريرٌ لما سأله عنه، كقول ابن منصور (2) له: يُكْرَه التحريش بين البهائم؟ قال: سبحان الله! إي لَعَمْري.
وإن سبَّحَ جوابًا للسائلِ، فإن كان قرينة ظاهرةٌ في التحريم حمل عليه، وإلا احتمل وجهين: التحريم والكراهَةِ.
وإن قال: لا ينبغي فهو للتَّحريم، وإن قال: ينبغي ذلك، فهل هو للوجوب أو الاستحباب (3)؟ على وجهين، والصّواب: النظرُ إلى القرينةِ.
قال. إسحاق بن منصور (4): “قلت لأحمد: المتمتعُ (ق/ 341 ب)


(1) تقدم تخريجه: 3/ 1151.
(2) يعني: إسحاق بن منصور الكوسج.
(3) (ق): “فهو للوجوب أو الاستحقاق”!.
(4) “مسائل الكوسج”: (1/ ق 225 – نسخة دار الكتب).
(4/1434)


كم يسعى بين الصَّفا والمرْوَة؟ قال: إن طافَ طَوافينِ فهو أجودُ، وإن طافَ طوافًا واحدًا فلا بأسَ.
قلت: كيف هذا؟ قال: أصحابُ النبي – صلى الله عليه وسلم – لما رَجعوا من مِنى لم يطوفوا بين الصَّفا والمروة”.
وكذلك قال في رواية ابنه عبد الله (1)، إلاّ أنه لم يذكر الدليلَ، وكذلك نقل عنه ابن مُشَيْش (2).
وقال ابن منصور: قلتُ لأحمد: إذا عَلِمَ من الرجل الفجورُ أيخبرُ به الناسَ؟ قال: بل يسترُ عليه، إلا أن يكون داعية، وزاد إسحاق: يخبرُ به عند الحاجةِ في تعديل أو تجريح أو تزويج.
قلت: يُكْرَهُ الخِضَابَ بالسَّواد؟ قال: إيْ واللهِ مكروهٌ. قال إسحاق كما قال شديدًا، إلا أن يريدَ به تزيُّنًا لأهلِهِ ولا يَغُرُّ به امرأة.
قلت: يكرهُ أن يقولَ الرجل للرجل: فِدَاك أبي وأمي؟ قال: يكرهُ أن تقولَ: جعلني اللهُ فِداكَ، ولا بأس أن تقول: فداكَ أبي وأمي، قال إسحاقُ كما قال (3).
قال حرب: باب من تزَوَّجَ امرأة ولم يدْخل بها فجاءت بولدٍ. قال أحمد في رجل تزوَّجَ امرأة لم يدخلُ بها وإنها وَلَدَتْ ولدًا: إنه لا يلزمُهُ.


(1) “المسائل” رقم (922، 1001).
(2) وللإمام رواية أخري وهي وجوب السعي مرتين للمتمتع، نقلها ابن هانئ: (1/ 141)، وأبو داود: (ص/ 181). واختار شيخ الإسلام الرواية الأولى كما في “الفتاوى”: (26/ 36،)، وانظر: “تهذيب السنن”: (2/ 384).
(3) “مسائل الكوسج”: (2/ ق 212)، وإسحاق هنا هو: ابنَ راهويه، لأن سؤالات الكوسج للإمام أحمد ولابن راهويه.
(4/1435)


قال ابن منصور: قلت لأحمد: في كم تُعْطى الدِّيَةُ؟ قال: لا أعرف فيه حديثًا إلا إذا كانت العاقلةُ تقدر أن تحملَها في سنة، فلا أرى به بأسًا، ويُعجبُني ذلك.
قال ابن منصور: في ثلاث سنين، كل سنة ثلُثًا؛ لأنه وإن لم يكنِ الإسنادُ متَّصِلًا عن عُمَرَ (1)، فهو أقوى من غيرِه.

ومن مسائل ابن بَدِينا محمد بن الحسن (2)
سمعتُ أبا عبد الله سئل: تحضرُ الجمعةُ والجنازةُ، ونخافُ الفوتَ، فبأيِّهما نبدأُ؟ قال: يُبدأ بالجنازَةِ. كذا فيه، وهو غلطٌ من الكاتب، وإنما الصواب يُبدأُ بالجُمُعَة.
حدثني أبو بكر الأثرم قال: قلت لأبي عبد الله: روى شعبةُ، عن قَتَادَةَ، عن أنس أنه كرِهَ إذا أعتقَ الأمَةَ أن يَتزوَّجَها، قال: نعم إذا أعتقها لوجهِ الله كره له أن يرجعَ في شيء منها، فأما إن أعتَقها ليس لوجهِ الله، إنَّما أعتَقَها. ليكون عِتْقُها صداقَها فجائز.
وروي بإسناده عن صُهَيْب، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (ظ/238 ب) “مَنْ تَزَوَّجَ امرأة ونوَى أنْ يَذهَبَ بِصَدَاقِها، لَقِيَ الله وَهُوَ زانٍ” (3).


(1) أخرج عبد الرزاق: (9/ 420)، وابن أبي شيبة: (5/ 406)، والبيهقي: (8/ 109) عن الشعبي: “أن عمر جعل الدية الكاملة في ثلاث سنين … “، وأخرجه عبد الرزاق عن أبي وائل عن عمر.
(2) هو: محمد بن الحسن بن هارون بن بَدِينا، أبو جعفر الموصلي، حدث عن الإمام أحمد ت (303). “طبقات الحنابلة”: (2/ 280).
(3) أخرجه أحمد: (31/ 260 رقم 18932)، وابن ماجه رقم (2410)، وسعيد بن منصور رقم (659): وغيرهم من حديث صهيب بن سنان -رضي الله عنه- وإسناده ضعيف.
(4/1436)


ومن مسائل أبي علي الحسن بن ثَوَاب (1)
قال؟ قلت: الرجلُ يُقَالُ له: اشْهَد أن هذه فلانة؟ قال: إذا كانتْ ممن قد عُرفَ اسمُها، ودُعِيَتْ، فذهبتْ وجاءت، فليشهدْ، وإن كان لا يعلم ما اسمُها فلا يشهدُ.
قلت: ولا يجوز أن يقولَ الرجلُ للرجل: اشهد -إذا كان عندَه ثقة- أن هذه فلانةٌ، فيشهد على شهادةِ ذلك الرجل؟ قال: إذا عَرفْتَ فاشهدْ.
قلت: رجلٌ رهن دارًا عند رجل، فتصدَّقَ بها في المساكين؟ قال: ليس هذا بمنزلة العِتْق، لا يجوز.
قلت: رجلٌ زنى بامرأة أبيه تحرم عليه امرأتُه؟ قال: نعم.
ومعنى هذا القول: أن يكون رجلٌ تزوَّجَ امرأة وابنه بِنْتها، ثم وطئ الابنُ أمَّ زَوْجِته (2).
قلت: رجلٌ حفرَ بئرَا؟ قال: إن كان مما أخذه به السلطان فلا
يضمنْ، وإن كان مما أراد بها (ق/343 أ)، النفعَ لداره، أو ليحدثَ فيها الشيءَ ضَمن، وضمِنَ الحفار معه، إذا جاء به إلى طريق وهو يعلمُ [أن] مثله لا يكون ملكا له، فحفر له، شاركَه في الضَّمَان.
قلت: فإن كان حَفَرَ نصفَها في حَده، ونصفَها في فِنَائِهِ، فوقع


(1) هو: الحسن بن ثواب أبو علي التَّغْلِبي المخَرِّمي، كان له بأبي عبد الله أنس شديد، وكان عنده مسائل كبار عنه لم يجيء بها غيره ت (268).”طبقات الحنابلة”: (1/ 352 – 354).
(2) انظر “مسائل صالح” رقم (627).
(4/1437)


فيها رجلٌ؟ قال: يضمن ولا يضمن الحفارُ.
قلت: فإن أخذ الحفار، قال: إن علم أن هذا الذي حفر لم يكن له، ضَمِنَ، وإن قال: جئتُ إلي شيء أظنُّ (1) أنه ملك لهذا، فليس عليه شيءٌ.
قيل له: فما ترى في رجل حفر بئرًا قامَةً، فجاء آخرُ فحفرها حتى وصلَ الماء، فوقع فيها رجلٌ لمن (2) يلزم الضمان؟ قال: بينهما.
قلت: ما ترى في المرأة تحجُّ أو تسافر من (3) غير مَحْرَم؟ قال: أعوذ بالله.
قلت: ترى إن حَجَّتْ من غيرِ مَحْرَم يبطل؟ قال: أعوذُ بالله (4)، إن حَجَّها جائزٌ لها، ولكنها أتت غَيْرَ ما أمرها النبي – صلى الله عليه وسلم – (5).
قلت. ما تقولُ في رجل مملوك، له أبٌ حرٌّ وأولادٌ أحرارٌ من امرأةٍ حُرَّةٍ، مات العبد ولاء ولدِه لمن؟ قال:. لِموَالي أمِّهِ.
قلت: إن بعضَهم يزعُمُ أن الجَد يجُرُّ ولاءَهم،. قال: ليس هذا ذاك، الذي يَجُرُّ الجَدُّ ولاءَهم، إنما ذاك في رجل مملوك، وله: أبٌ مملوك، وأولاد أحرار، مات الرجلُ المملوكُ والجَد مملوك، ثم إن الرجل عَتَقَ فهو يجُرُّ ولاءَهم؛ لأنه عَتَقَ بعد موتِ ابنه.
قيل له: ما ترى في رجل حَفَر في داره بئرًا، فجاء آخَر فحفر في


(1) (ق): “بظن”.
(2) (عَ): “لم”.
(3) (ق): “مع”.
(4) من قوله: “قلت: ترى … ” إلى هنا ساقط من (ع).
(5) انظر: “مسائل صالح” رقم (626)، و”مسائل ابن هانئ”: (1/ 142)
(4/1438)


دارِه بئرًا إلي جانِب الحائط الذي بينَه وبينه، فجرَّت هذه البئر ماءَ تلك البِئر؟ قال: لا تسدُّ هذه من أجل تلك، هذه في ملك صاحبها.
ومن مسائل أبي بكر أحمد بن محمد بن صدقة (1)
قال سمعتُ أبا عبد الله وسئِل عن رجل قال: “بسم الله التَّحِيَّاتُ”، وقال: لا تقل “بسم الله” (2)، ولكن لتَقُل: “التَّحِيَّات للهِ”.
وسُئِل عن الرجل يشهدُ وهو رديءُ الحفظ؟ قال: يكتبه هو عندَه، فقال: فإنْ وَدَعْتُ الشهادةَ أصلًا آثَمُ (3)؟ ثم قال: إن كان يضُرُّ بأهل القريةِ ومثلُك يُحْتاج إليه، فلا تفعلُ.
وسُئل عن مسجد إلى جنب رجلٍ، ومسجدٍ آخرَ كان أبوه مؤذنه (4): أترى أن أصلِّيَ في المسجد الَذي إلى جنبي؟ قال: إن كانا عَتِيْقَين (5) جميعًا فكلما بَعدَ فهو خيرٌ (6).
وسئل عن حديث أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “لا غرارَ (7) في


(1) هو: أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الله بن صدقة، نقل عن الإمام أحمد مسائل، ت (293). “طبقات الحنابلة” ت (1/ 155 – 157).
(2) (ظ) زيادة: “التحيات”.
(3) “أصلًا” ليست في (ع)، ويمكن ضبط العبارة على الإخبار: “فإن وُدِعَتِ الشهادة أصلًا أثِمَ”. لكن ما بعدها يؤيد ما أثبته من الضبط.
(4) (ظ): “يؤذن فيه”.
(5) فى جميع المطبوعات: “كان عهد”!.
(6) وانظر: “مسائل ابن هانئ”: (1/ 70).
(7) كذا في النسخ، وفي بعض مصادر الحديث: “إغرار”، قال أبو عبيد في “غريب الحديث”: (2/ 130): “رُوي عن بعض المحدثين هذا الحديث: “لا إغرار … ” بالألف، ولا أعرف هذا الكلام وليس له عندي وجه”، وقد سأل الإمام أحمد =
(4/1439)


الصَّلاةِ ولا تَسلِيمَ” (1) قال: الإغرارُ عندنا أن يُسَلِّمَ منها ولا يكمِلُهاْ، وأما التسليمُ فلا أدري (2).
قيل له: حديثا ابن عمر أنه كان يحتجمُ ولا يتوضَّأ (3)؟ قال: لا يصحُّ لأنَّ ابن عمر كان يتوضَّأُ من الرُّعاف (4).
وسئل عن الرجل يعطي أخاه أو أختَه من الزَّكاة؟ فقال: نعم، إذا كان لا يخافُ مَذَمَّتَهُم، وإن كان قد عَوَّدْتَهمْ فأعْطِهِم.
وسئل عن رجل توضأَ بأقلَّ من مُدٍّ، واغتَسَل (ق/3/ 3 ب) بأقلَّ من صاع؟ فقال: (ظ/239 أ) ما سمعنا بأقلَّ من مُدِّ، النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – اغتسل بالصَّاع وتوضَّأَ بالمُدِّ (5).
وَسئلَ عن الرجلِ يموتُ فيقول: وارثي فلان، فيقال له: كيف هذا، وارثُك فلان، وفلانٌ أقربُ إليك منه ببطنٍ؟! قال: ليس ذاك وارثي؛ لأن فلانًا جَدّه كان دَعِيًّا. وينكِر ذلك أهل القرية والجيرانُ،


= أبا عَمْرو الشيباني عن معنى: “لا إغرار” فقال: إنما هو: “لا غِرار .. ” “المسند”: (16/ 29).
(1) أخرجه أحمد: (16/ 27 رقم 9937)، وأبو داود رقم (928)، والحاكم: (1/ 264)، وصححه علي شرط مسلم.
(2) وانظر في معنى الحديث “معالم السنن”: (1/ 569)، و”شرح السنة”: (12/ 257)، و”النهاية”: (3/ 357) لابن الأثير، و “المسند”: (16/ 29)، و”السنن”: (1/ 570)، وقد نقل أبو داود عن الإمام أحمد معنى الغرار في التسليم.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة: (1/ 47)، والبيهقي: (1/ 140).
(4) أخرجه مالك في “الموطأ” برقم (88). وأخرج ابن أبي شيبة: (1/ 128) أن ابنَ عمر عصر بثرة في وجهه فخرج شيءٌ من دم وقيح بين أُصبعيه فحكه ولم يتوضأ”، وانظر “المصنف”: (1/ 339) لعبد الرزاق.
(5) أخرجه البخاري رقم (201)، ومسلم رقم (325) من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-، وانظر “التلخيص الحبير”: (1/ 153).
(4/1440)


وفي الشائع المستفاض: أن هذا الذي زعم أنه جَدهُ فىَ دعيٌّ وارِثي أقربُ إليه، يُقْبَل قولُه؟ قال: لا يقبلُ قوله، “الولدُ للفِراش”.
وسئل عن المجوسيَّة تكون تحتَ أخيها أو أبيها (1) فيطلَقُها أو يموتُ عنها، فيرتفعانِ إلى المسلمين ألمهَا مَهْرها؟ قال أحمد: لم يُسْلِما؟ قال: لا، قال: فليس لها مهرٌ.
وسئل عن الدرهم: إذا رأيتُه مطروحًا آخُذهُ؟ فقال: لا تَأْخُذه، فإن أخَذَهُ يُعَرِّفُهُ سنة، للخَبَر.
وسُئِلَ عن أحاديث وهب بن مُنبهٍ، عن جابرٍ: كيف هي؟ قال:
أرجو، ولم يكن إسماعيل يحدِّثُ بها ونحن ثمَّةَ، وكتبت أنا عن إبراهيم بن عقيل بن مَعْقِل -شيخًا كبيرًا- حديثين منها، ولم يكنْ إسماعيلُ يحدِّث وأرجو، وعَقيلُ بن مَعْقِل أحبُّ إليَّ من عبد الصمد (2).
وسئل عن رجلٍ حلف (3) بصدقة ما يملكُ؟ فقال: كفارة (4) يمين، فقيل له: ثلاثينَ حجَّة؟ قال: لا أُفتي فيه بشيء.
وسئل عن الرجلِ يعزي الرجل، يصافِحُه؟ قال. ما أذكرُه، ما سمعتُ.
وسئل عن حديث النبي – صلى الله عليه وسلم -: “لا تَأتوا النِّساءَ طُرُوقًا” (5) قال: نعم


(1) (ق): “ابنها”.
(2) عقيل وعبد الصمد ابنا مَعْقِل بن مُنبِّه أخو وهب.
(3) (ع): “حاز”!.
(4) (ظ): “هذه”.
(5) أخرجه البخاري رقم (1801)، ومسلم رقم (715) من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-.
(4/1441)


يؤذنهنَّ، قال: بكتابٍ؟ قال: نعم.
ورأيتُه لما بَلَغَ المقابرَ خَلَعَ نعنيْهِ، ورأيته لما حَتى الترابَ على الميِّتِ انصرف ولم يجلس.
قال أحمد في رواية المرُّوذيِّ: من اشترى ما يُكالُ فكاله البائعُ، فوجدَه المشتري زائدًا، فقد يَتَغابَنُ الناسُ بالقليل، فإن كان كثيرًا. رَدَّهُ إليه.
قيل له: في القَفيز مكُّوْكٌ (1)؟ قال: هذا فاحشٌ يَردُّه. قيل: فكَيْلَجَة (2) ونحوه؟ قال: هذا قد يتغابن الناس بمثله. ِ
وقاك في رواية أحمد بن الحسن التِّرْمذي: العِينةُ عندنا أن يكون عند الرجلِ المتاع، فلا يبيعُه إلاَّ بنسيئةٍ فإن باع بنقدٍ ونسيئة فلا بأسَ.
وقال في رواية ابن القاسم (3) وسِندي: أكرهُ للرجل أن لا يكون له عادةٌ غير العِينةِ، لا يبيعُ بنقدٍ (4).


(1) المكُّوك: مكيال، وهو ثلاث كَيْلَجات.
(2) الكَيلَجة: مكيال، وهى مَن وسبعة أثمان مَنِ. انظر: “مختار الصحاح”: (ص/630)، و”القاموس”: (ص/ 1231).
والمكّوك يساوي: 3.28 كغم، والكيلجة تساوي: 1.088 كغم، انظر: “مجلة الحكمة” عدد / 23/ 1422، ص/ 209 – 212. مقال: “تحويل المكاييل والموازين للأوزان المعاصرة” لمحمود الخطيبِ.
والقفيز: مكيال يساوي ثمانية مكاكيك، وهو يساوي: 1.26 كغم.
(3) من أصحاب أحمد اثنان كلاهما يقال له: أحمد بن القاسم، الأول يعرف: بصاحب أبي عبيد، وله عن الإمام أحمد مسائل كثيرة، والثاني: “طوسي” روى عن الإمام أشياء. “طبقات الحنابلة”: (1/ 135 – 136).
(4) انظر: “مسائل صالح” رقم (664).
(4/1442)


وقال في رواية صالح (1) -في الذي يبيعُ الشيءَ علي حدِّ الضَّرورةِ، كأنه يوكلُ به السلطان لأخذِ خَراجٍ فيبيحُ فيؤدَي-: (ق/342 أ) لا يعجبُني أن يشتريَ منه.
وقال في رواية حنبل: يُكْرَهُ بيعُ المضطر الذي يظلمه السلطانُ، وكلُّ بيع يكونُ على هذا المعنى فأحب إليَّ أن يَتَوَقَّاهُ لأنه يبيعُ ما يسوى كذا بكذا من الثمنِ الدُّونِ.
وقال في رواية الميموني: ولا بأس بالعُرْبُونِ، وفي رواية الأثرم -وقد قيل له: “نهى النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – عن العُربان” (2) فقال: ليس بشيء، وأحتج أحمد بما روى نافع بن عبد الحارث: “أنه اشترى لعمرَ دارَ السِّجنِ فإن رَضِيَ عُمَرُ وإلا له كذا وكذا” (3).
قال الأثرم: فقلت لأحمد: فقد يقالُ هذا، قال: أيُّ شيء أقول، هذا عمر رضي الله عنه!.
وقال حرب: قيل لأحمد: ما تقولُ في رجل اشترى ثوبًا، وقال لآخر: انقدْ عني وأنتَ شرِيكي؟ قال: إن لم يُرِدْ منفعة، ولم يكن قرضٌ جرَّ نفعًا فلا بأس.


(1) لم أجده في المطبوع.
(2) أخرجه مالك رقم (1781)، ومن طريقه أحمد: (11/ 332 رقم (6723)، وأبو داود رقم (3502)، وابن ماجه رقم (2192) وغيرهم أنه -أي مالك- بلغه عن عَمرو بن شعب عن أبيه عن جده … الحديث.
وسنده ضعيف من أجل جهالة الواسطة بين مالك وعَمرو بن شعيب، وانظر: “التمهيد”: (24/ 176 – 177).
(3) أخرجه ابن أبي شيبة: (5/ 7)، وابن حزم في “المحلي”: (8/ 373) من طريق عبد الرزاق.
(4/1443)


قال حرب: وسئل أحمد عن دار بين ثلاثة، اشترى أحدهم ثُلُثَها بمائة، والآخر الثُّلثَ الآخر بمئتين، والآخر الثُلث الآخر بثلاث مئة، ثم باعوها بغير تعيين مساومةً؟ قال: الثمن بينهم بالسَّوية، لأن أصل الدَّار بينهم أثلاثًا.
وسئل أحمدُ مرَّةً أخرى عن ثوبٍ بين رجلين قام نصفه على أحدهما بعشرين، ونصفهُ على أحدهما بثلاثين، فباعاه مساومةً؟ فقال: قال ابن سيرين الثَّمن بينهما نصفين.
قال حرب: وهو مذهب أحمد. قيل لمَ؟ قال: لأنَّ لكلِّ واحد منهما نصفَهُ، قلت: وإن كان عبدًا؟ قال: وإن كان عبدًا، العبد والدَّابةُ (ظ/239 ب) وكلُّ شيء بهذه المنزلة. انتهى.
قلت: فإن باعوه مُرابحةً، فالثَّمنُ بينهم على قدر رؤوس أموالهم؛ لأن الربح تابعٌ لرأس المال، فإذا كان الربح عشرة فى مئة فقد قابل كلُّ درهمًا فيقسم الثمن بينهم كما يقسم الربح (1)، وقال صاحب “المغني” (2): “نصَّ أحمد على أنهما إذا باعا مرابحةً فالثمن بينهما نصفان، وعنه رواية أخرى حكاها أبو بكر أنها على قدر رؤوس أموالهما” (3).
قال (4) حرب: وسمعتُ أحمد يقول: يأخذ الرجل من مالِ ولدِه


(1) “كما يقسم الربح” سقطت م (ع).
(2) (6/ 277).
(3) ثم قال فى “المغني”: “ولم أجد عن أحمد رواية بما قال أبو بكر. وقيل: هذا وجه خرّجه أبو بكر، وليس برواية، والمذهب الأول” اهـ.
(4) من قوله: “صاحب المغني .. ” إلى هنا ساقط من (ق).
(4/1444)


ما شاء، قلت: وإن كان الأبُ غَنِيًّا؟ قال. نعم، قيل: فإن كان للابنِ فَرجٌ شبهُ الأمَةِ؟ قال: أما الفَرْجُ فلا، وذهبَ إلى حديثِ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: “أنْتَ وَمَالُكَ لأبِيكَ” (1)، وحديث عائشة: “إن أوْلادَكمْ مِنْ كسْبِكمْ” (2).
فصل
قال أحمدُ في رواية أبي طالب -فيمن عندَه رهونٌ لا يَعْرِفُ صاحبَها-: يبيعُها ويَتصَدَّق بها، ولا يأخذ ما على الرَّهن إذا باعه، فإن جاء صاحِبُها غرمَها.
قال ابن عَقِيل: ولا أعرفُ لقولهِ: “ولا يأخُذُ ما على الرَّهْنِ”، وجهًا مع تجويز بيعِها، فإن كان المنع لأجل جهالةِ صاحبِها فيجبُ أن يمنعَ البيعَ والصَّدَقةَ بالثمنِ كما منع من اقتضاء الدَّيْن، وإن لم يمنعْ من الصَّدَقةِ والبيع فلا وجهَ لمنع اقتضاء الدَّيْنِ (3)، ونقل أبو الحارث (4) في ذلك: يبيعُه ويَتصَدَّقُ بالفضل، فإذا جاء صاحبُها كان بالخيار بينَ الأخذِ (5) أو الثمنِ.
قلت: فقد اختلفت الروايةُ عنه في جوار أخذِه حقَّه من تحتِ يدِه.


(1) أخرجه أحمد: (11/ 503 رقم 6902)، وابن ماجه رقم (2292) من حديث عبد الله بن عَمرو بن العاص -رضي الله عنهما- وله شواهد أخرى يتقوي بها.
(2) أخرجه أحمد: (6/ 31)، وأبو داود رقم (3528)، والترمذي رقم (1338)، والنسائي: (7/ 241)، وابن ماجه رقم (2137)، والحاكم: (2/ 46).
قال الترمذي: “هذا حديث حسن صحيح”، وصححه الحاكم على شرط الشيخين.
(3) من قوله: “وإن لم يمنع … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(4) (ظ): “الحكم”.
(5) (ق): “الأجر”.
(4/1445)


قال ابنُ عَقِيل: وأصلُ هاتين الروايتَينِ جواز شراءِ (ق/342 ب) الوكيل من نفسِهِ، وفيه روايتان، كذلك أخْذه من تحت يده يُخرَّج عليهما، وقد تضمَّنَ نصَّاه جواز البيعِ وإن لم يستأذِن الحاكمَ، وتأوَّلها القاضي على ما إذا تَعَذرَ إذن الحاكم، قال: وأما إذا أمكَنَ فلا يجوزُ له ذلك؛ لأنه لا ولاية له على مالِ الغائب، لا بولاية عامَّةِ ولا خاصَّة، ومجرَّد كون مالِ الغير في يدِهِ (1) لا يُوجِب الولايةَ.
قال: وقد نصَّ أحمد فى رواية أبي طالب: إذا كان عندَه رهنٌ وصاحبُا غائب وخاف فسادَه، كالصُّوف ونحوه: يأتي إلى السلطان ليأمُرَ ببيعِهِ، ولا يبيعُهُ بغير إذن السلطانِ، فهذا النصُّ منه يقضي: على ذلك الإطلاق.
قلت: والصوابُ تقريرُ النَّصَّينِ، والفرق بين المسألتين ظاهرٌ، فإنَّ فى الثانية: صاحِب الرهنِ موجودٌ ولكنة غائبٌ، فليسِ له أن يَتَصَرَّفَ في مال الغائب بغير وكاله أو ولاية وهو لا يأمنُ. شكايَتَه ومطالَبَتَا إذا قدِمَ، وهذا بخلاف ما إذا جهل صاحبَ المال، و (2) أيسَ من معرفتِهِ، فإنَّ المعنى الذي في حقِّ الغائب الموجودَ مفقودٌ في حقّ هذا، والله أعلم.
ومن مسائل أحمد بن محمد بن خالد البُراتي (3)
قال: سألتُ أبا عبد الله، فقلت: إذا فاتَتْني أَوَّلُ صلاةِ الإمامِ


(1) (ق): “وبمجرد كون المال فى يده … “.
(2) (ظ): “أو”.
(3) هو: أحمد بن محمد بن خالد بن يزيد بن غزوان، أبو العباس البُرَاثي، روي عن الإمام ت (300). “طبقات الحنابلة”: (1/ 153 – 155). والبُرَاثي -بضم الموحّدة- نسبة إلى “براثا” محلة ببغداد، “معجم البلدان”: (11/ 362).
(4/1446)


فأدركت معه من آخِرِ صلاتِهِ، فما أعتدُّ به أول صلاتي؟ فقال لي: تقرأُ فيما مضى يعني: الحمد وسورة، وفي القعود تقعدُ على ابتداء صلاتِك (1).

ومن خطِّ القاضي أيضًا
نقل مُهَنّا عن أحمد: في أسير في أيدي الروم مكثَ ثلاثَ سنينَ يصوم شعبان وهو يرى أنه رمضان = يُعِيدُ. قيل له: كيف؟ قال: شهرًا على أثرِ شهرٍ، كما يعيدُ الصّلَواتِ.
ونقل عبد الله (2) عنه في الرجل يُكبِّر تكبيرةَ الافتتاح، قبلَ الإمام = هذا ليس مع الإمامِ، يعيد الصلاةَ.
إنما أمَرَهُ بالإعادةِ، ولمِ يجعلْه منفردًا بالصَّلاةِ لأنه نوى الائتمام بمن ليس بإمام؛ لأنه إذا كثر قبله فليس بإمام له، ولم تَصحَّ صلاة الانفراد؛ لأن النية قد بطلتْ، فإن صلى نفسان ينوي كل واحد منهما أنه يأتم بصاحبه لم تصحَّ صلاتُهما؛ لأنه ائتم بغير إمام، فإن صلى نفسان كل واحد منهما نوى أنه إمام صاحبه (ق/344 أ) لم تصحَّ صلاتُهما أيضًا؛ لأنه (3) نوى الإمامَةَ بمن لا يأتم به، فهو كما لو نوى الائتمامَ بغير إمام.
نقل الحسن بن علي بن الحسن (4)، سألت أبا عبد الله عن الرجل


(1) كرر المؤلف نقل هذه الرواية: (4/ 1405) لكن نسبها هناك إلى بكر بن أحمد الراثي. وانظر التعليق عليها.
(2) “المسائل” رقم (536).
(3) من قوله: “ائتم بغير … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(4) هو: الحسن بن علي بن الحسن بن علي الإسكافي، أبو علىِ، عنده عن أبي عبد الله مسائل صالحة حِسان كبار أغرب فيها على أصحابه. “طبقات الحنابلة”: (1/ 364 – 365).
(4/1447)


يُكَبِّرُ خلفَ الإمام يُخَافِتُ أو يعلنُ به؟ قال: لا نعرفُ فيه شيئًا. إنما يُعرف (1) الحديثُ: “إذا كبَرِّ فَكَبِّروا” (2).
قال القاضي: “ظاهر كلامِه التوَقُّف عن جهر المأموم بذلك، ويجبُ أن يكون السُّنَّة الإخفات (ظ/240 أ) في حقِّه كسائر الأذكار في حقه، ولأن الإمام إنما يجهر ليعلَمَ المأموم بدخوله في الصلاةِ: وركوعِه، وإلاَّ فالسّنَّة الإخفاتُ كسائرِ الأذكار (3) غير القراءةِ”. انتهى.
من خط القاضي أبي يَعْلى مما انتقاه من “شرح مسائل الكَوْسج” لأبى حفص البَرْمكي
قال أبو حفص: إذا ترك التَّشَهُدَان صلاته تُجْزِئه، ولا فرقَ عندَه بين التَّشَهُّدِ الأوَّل والثاني، إن تَرَكَهما عامدًا أعاد الصَلاةَ، وإن تَركهما ناسيًا فصلاتُهُ جائزةٌ، وعليه سجودُ السَّهْوِ.
وقال: سجود السهوِ عندَنا واجب إلا أنَّ الصلاةَ لا تَبْطُلُ بتركِةِ.
قال: ومن الأبدال عندَنا ما يكونُ غيرَ واجب، وإن كان مُبْدَلُهُ واجبًا، مثلَ النكاحِ واجب، وجعل النبي – صلى الله عليه وسلم – البَدلَ منه الصيام (4)،


(1) من (ق).
(2) أخرجه البخاري رقم (734)، ومسلم رقم (414) من حديث أبي هريرة، وأخرجاه -أيضًا- من حديث أنس -رضي الله عنه-.
(3) من قوله: “في حقه … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(4) في حديث: “يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج … “. أخرجه البخاري رقم (1905)، ومسلم رقم (1400) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-.
(4/1448)


وهو غير واجب (1).
وقال تعالى: {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}. فبدأ بالسجود، قيل: ذلك فى غير شريعتنا {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً}، ولأن الركوع يسمى سجودًا، والسجودُ ركوعًا بدليل حديث عائشة: “صلى النبي – صلى الله عليه وسلم – الكسوف ركعتين، فى كلِّ ركعة سجدتين” (2) تريدُ: ركوعين، وفي حديث أبي هريرة: “من أدرك من العصر سجدة” (3) يريد: ركعةً. وقال تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)} يريدُ: ساجدًا.
قال أحمد: وإن انغمس فى الماء لا يُجزئهُ حتى يتوضَّأَ (4).
قال أبو حفص: إن كان اغتسالُهُ لغير الجنابة لا يجزئه من وضوئه وإن نوى الوضوء؛ لأن عليه التَّرتيب، وإذا خرج من الماء خرج رأسهُ قبل وجهه؛ ولأن الغُسل لا يقوم مقام المسح، والمنغمس في الماء، فإن مسح برأسه وغسل رجليه بعد أن رتَّب الأعضاء في جوف الماء، فإن مسح برأسه وغسل رجليه بعد أن خرج رأسه من الماء، ويكون قد تمضمض واستنشق أولًا = صحَّ وضوؤُه.
قال أحمد: إذا علَّم رجلًا الوضوء لا يُجزؤهُ، يريد بهذا: إذا لم يَنو الوضوء لنفسه؛ لأن أبا داود (5) رَوى عنه: علَّم رجلًا الوضوء (6) ونوى أجزأه؛ لأن عثمان وعليًّا رضي الله عنهما جلسا يُعلِّمان الناس


(1) “وهو غير واجب” ساقط من (ظ).
(2) أخرجه البخاري رقم (1044)، ومسلم رقم (901).
(3) أخرجه البخاري رقم (556)، ومسلم رقم (608).
(4) انظر: “مسائل عبد الله” رقم (115 – 119).
(5) لم أجده في مسائله.
(6) من قوله: “لا يجزئه يريد .. ” إلى هنا ساقط من (ق).
(4/1449)


وضوءَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكان لهما طُهورًا (1).
عن أحمد ثلاثُ روايات في الجنب، هل يحتاجُ إلى الوضوء؟
إحداهنَّ: يُجْرئُهُ الغسل بلا وضوءٍ.
الثانية: يجزئُهُ الغسلُ لوضوئه إذا نواه.
الثالثة: لا يجزئه حتى يتوضَّأ.
قلت: استشكلَ: بعض الأصحاب (ق / 344 ب) الرِّوايَةَ الأولى، وهي الصحيحة دليلًا؛ لأن حكمَ الحَدَثَ الأصغرِ قد اندرجَ في الأكبر، وصار جُرءًا منه، فلم: ينفردْ بحكمٍ، لاسيَّما وكلُّ ما يجبُ غسلُهْ من الحَدَث الأصغر (2) يجب غسله في الأكبر وزيادة، فهذه الرِّوايةُ هي الصَّحيحةُ، وبهذا الطَريق كان الصحيح أن العُمْرَةَ ليست بفريضةٍ، لدخولها في الحجِّ، والنبيُّ – صلى الله عليه وسلم – علَّقَ الطُّهْرَ بإفاضةِ الماءِ على جميع الجَسَد (3)، ولم يشترطْ وضوءًا، وفَعَله النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – لبيان أكملِ الغُسْل.
قال أبو حفص: إن قيل: النبي – صلى الله عليه وسلم – أفردَ المضمضةَ والاستنشاقَ بالذِّكر عن الوجهِ، فقال: “إنَّ العَبْدَ أذا تَمَضمَض واسْتَنشَقَ، خرَجتْ ذنوبه مِن فيهِ وَمنخَرَيْهِ، فإذا غسَل وَجْهَهُ … ” (4) الحديث.


(1) حديث عثمان في “الصحيحين”، وحديث علي أخرجه أصحاب السنن وأحمد.
(2) من قوله: “قد اندرج … ” إلى هنا ساقط من “ظ”.
(3) فيما أخرجه مسلم رقم (330) عن أم سلمة قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في وصف الغسل: “إنما يكفيك أن تحثي على رأسِك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين”.
(4) أخرجه أحمد: (31/ 423 رقم 19064)، والنسائي: (1/ 74 – 75)، وابن ماجه رقم (282) من حديث الصنابحي. وأخرجه مسلم رقم (832) في حديث عَمرو بن عَبَسة الطويل.
(4/1450)


قيل: لا يمنعُ ذلك أن يكونا من الوجه، كما قال: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44)} [الرحمن: 44]، فلم يمنعْ تمييزه بين الحميم وبينَ جهنَّمَ أن يكون من جهنَّم، ولأنه أفردهما لأنه خصَّ الوجه بمعنى آخرَ وهو خطايا النَّظَرِ، ولأنهُ يمكن فعلهما في حالٍ، فجمَعَ بينهما في الذِّكْرِ، ولا يمكنُ جَمعُهما مع الوجه في الاستعمالِ، فأفردا بالذكر، وإنما لم يَجِبْ غسلُ باطن العينين؛ لأنه يورِثُ العَمَى فسقط للمشقَّةِ.
وفيهما في الغُسل روايتان:
إحداهما: لا يجبُ للمشَقَّةِ.
والأخرى: يَجِب لعدم التَّكرار.
واختلف أصحابنا في المبالغة في الاستنشاق، فقال ابنُ أبي علي (1): هي غيرُ واجبةٍ لأنها تسقُطُ (ظ/240 ب) في صوم التَّطَوعُّ، وقال أبو إسحاق (2): هي واجبةٌ، ولا يدلُّ سقوطُها في الصَّوم على سقوطِ فرضِها في غيره؛ لأن سَفَرَ التطَوعِّ يُسْقِطُ الجُمعَة، ولا تسقطُ في غير السَّفَرِ.
وأجاب أبو حفص: بأن الجمعةَ منها بَدَلٌ، وليس من المبالغة بَدَلٌ.
وأجاب أبو إسحاق: بأنه قد يسقطُ الفرض بالتَّطَوعُّ ولا بَدَلَ، كالسَفَرِ يسقِطُ بعض الصَّلاة.
قال: إلى قيل: يلزمُ أن يجعلَ ما خلفَ الأذُن من البياضِ من الرأسِ؟
قيل: يقول: إنه منه.
قل: يلزمُ أن يجوزَ الاقتصارُ من التقصِيرِ من شعر الأذن؟


(1) كذا في الأصول، ولم أتبينه، ولم أجد من يُعرف بهذا اللقب من الحنابلة، والمسألة مذكورة في كتبهم، ولم تنسب لقائل معيّن، بل إلى الأكثر.
(2) هو: ابن شاقلا.
(4/1451)


قيل (1) لا، عندنا يلزِمُ استيعابُ الرأس بالأخذ من جميع شعره، والمرأةُ تقصر من طرف شعرها أنملة؛ لأن شَعَرها منسبل فهو يأتي على شعرها.
قيل:. يلزمُ أن يجوز الاقتصارُ بالمسح عليهما في الوضوء؟
قيل: في المسح روايتان؛ إحداهما: استيعابُ الجميع، والأخرى: البعض، ولا يجوزُ الاقتصارُ على الأُذُنَيْنِ إجماعًا. وقال: صفةُ مسح المرأة (2): أن تمسحَ من وسط رأسِها إلى مقَدَّمِهِ، ثم من وسط رأسها إلى مُؤخرِهِ، على استواء الشعر، وكذا الرجلُ إذا كان له شعرٌ (3). وقد روي عن النَّبي – صلى الله عليه وسلم – أنه مسح من (ق/345 أ)، مُقَدَّمِهِ إلى مؤخَّرِهِ (4)
يُجْزِيء في المَذي النَّضْح؛ لأنه ليس بِنجَسٍ، لقوله – صلى الله عليه وسلم -: “ذاكَ مَاءُ الفَحْلِ، ولِكُلِّ فَحلٍ مَاءٌ” (5)، فلما كان ماءُ الفحل طاهرًا، وهو المنِيُّ، كان هذا مثلَهُ، لأنهما ينشآن من الشَّهوة.


(1) من قوله: “يقول إنه … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) (ق): “الرأس”.
(3) انظر: “مسائل أبي داود” رقم (42)، و”مسائل ابن هانئ”: (1/ 15)، وفي “مسائل صالح” رقم (58). سئل عن مسح المرأة رأسها؟ فقال: لا تبالي كيف مسحت.
(4) أخرجه البخاري رقم (185)، ومسلم رقم (235) من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم -رضي الله عنه-.
(5) أخرجه أحمد: (2/ 399 رقم 1238) من حديث علي -رضي الله عنه- وأصله في “الصحيحين” في سؤال علي عن المَذي وما الواجب فيه.
وأخرجه أحمد: (31/ 346 رقم 19007)، وأبو داود رقم (211) وغيرهما من حديث عبد الله بن سعد الأنصاري قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ذاك المَذي، وكلُّ فحلٍ يُمْذي … ” الحديث.
.
(4/1452)


قال: قوله – صلى الله عليه وسلم -: “إذَا قَامَ أحَدكُمْ مِنْ مَنمامِهِ” (1) إشارة إلى نوم
اللّيل؛ لأن المنامَ المطلقَ إشارةٌ إلى الليل (2)؛ ولأنه قال: “باتَت يدُه”، والبيتوتةُ لا تكونُ إلاّ بالليل، كقوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) وَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)} [الأعراف: 97 – 98]، فخصَّ البيَاتَ بالليل، ثم ذَكَرَ النهار (3).
قال أحمد: مسّ الدرهم الأبيض على غير وضوء، أرجو، يحتمل أن يكون سَهَّل، لحاجةِ الناسِ إلى المعاملة به وتقليبه (4).
وقال أحمد في الرجلِ يجامِعُ أهلَه في السفر وليس معه ماءٌ: لا أكرهُ له ذلك (5)، قد فعله ابن عباس، رُوي أنه تَيَمَّم وصلَّى بِمُتوَضِّئينَ، ثم التفتَ إليهم فقال: إني أصبتُ من جارية رُومِيَّة، ثم تَيَمَّمْتُ وصلَّيْتُ بكم.
أحتجَّ للتَّيَمُّم لا يجوزُ بغير تراب بقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] قال: فإن قيل: النبي – صلى الله عليه وسلم – سمَّى المدينة طَيْبةَ وطابة (6)، وكانت سَبْخَةً؟ قيل: سماها طَيْبَة؛ لأنها طابتْ له وبه، لا أن هذا


(1) أخرجه البخاري رقم (161)، ومسلم رقم (278) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(2) “لأن المنام المطلق إشارة إلى الليل” سقط من (ق).
(3) انظر “مسائل أبى داود” رقم (17، 18).
(4) “مسائل الكوسج”: (1/ ق 18). لأن فيها شيئًا من كتاب الله، وانظر آثار السلف في حكم مسها في “مصنف ابن أبي شيبة”: (1/ 107).
(5) انظر “مسائل الكوسج”: (1/ ق 18 – 19)، و”مسائل صالح” رقم (78).
(6) فيما أخرجه مسلم رقم (1385) من حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنه-.
(4/1453)


الاسم استحَقَّتْهُ الأرضُ.
قال في الدَّمِ في أكثرُ الروايات (1): “إن الفاحشَ ما يستفحشه الإنسانُ في نفسِه”، وقد قال هاهنا (2) بالذِّراع والشّبر، ولا يَدلُّ ذلك: على أن ما دونَه ليس بفاحِشٍ؛ لأنه قال في مَسائل المرُّوْذي: “خمس بزقات من دم”، وإنما لم يُوَقت في ذلك؛ لأن التوقيتَ لم يأتِ عمَّن تَقَدَّم.
روي عن ابن عمر أنه تَيمَّمَ، والماء منه على غَلْوَة أو غَلْوتيْنِ (3)، ثم دخل المصر وعليه وقتٌ، أي غسل (4).
روى وَهْب بن الأجدع، عن عليٍّ أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم -قال: “لا صَلاةَ بعْدَ العَصْرِ، إلا أن تكون الشَّمسُ بيضَاءَ نقِية” (5)، قيل: يحتَمل أن يعني وقتَ العصرِ؛ لأنه روي أنه نهى عن الصلاة بعد العصرِ، أي: فعل الصلاة.
قوله -“أسْفروا بِالفَجْرِ، فَإنَّهُ أعْظَمُ للأجْرِ” (6)، فيه ضعف، ويريدُ


(1) انظر “مسائل ابن هاني”: (1/ 7)، و”مسائل عبد الله رقم (82)، و”مسائل صالح” رقم (72، 1002 – 1005).
(2) يعني فى رواية الكوسج، انظرها: (1/ ق 36، 68).
(3) أخرجه البيهقي. (1/ 233). والغَلْوة: قدر رمية بسهم. “النهاية في غريب الحديث”: (3/ 383).
(4) (ق وظ): “إن قيل” بدلًا من: “أي غسل”.
(5) أخرجه ابن أبى شيبة: (2/ 131)، وأبو داود رقم (1274)، والنسائي: (1/ 280)، وابن خزيمة رقم (1284)، وابن حبان “الإحسان”: (4/ 414)، وغيرهم.
(6) أخرجه أحمد: (25/ 133 رقم 15819)، وأبو داود رقم (424)، والترمذي رقم (154)، والنسائي: (1/ 272)، وابن ماجه رقم (672)، وابن حبان “الإحسان”: (4/ 357) وغيرهم من حديث رافع بن خديج -رضي الله عنه-.
قال الترمذي: أحسن صحيح”، وصححه ابن حبان، وابن القطان، كما في “نصب الراية”: (1/ 235)، وتكلم فيه بعض العلماء.
(4/1454)


بذلك الإسفارَ في نفسِ الصلاة، فيكونُ قد ابتدأها بعدَما طَلَعَ الفجرُ، وأسْفَرَ بها بتطويلِ القراءة، أبو بكر قرأ بهم (البقرة) في الفجر، وقال: “لو طَلَعَتْ ما وَجَدَتْنا غافِلينَ” (1).
قلت: للناس في هذا الحديث أربع (ظ/241 أ) طرق:
أحدها: تضعيفُه، وهي طريقة أبي حفص وغيره.
الثانية: حملُه على الإسفار بها في ليالي الغَيْم واللَّيالي المقمرَةِ، خشيَةَ الصَّلاةِ قبل الوقتِ.
الثالثة: أن الإسفارَ المأمورَ (ق/ 345 ب) به: الإسفارُ بها استدامةً وتطويلًا لها لا ابتداءً، وهذه أصحُّ الطُرُق، ولا يجوزُ حملُ الحديث على غيرها؛ إذ من المحال أن يكونَ تأخيرُها إلى وقتِ الإسفار أفضلَ وأعظَمَ للأجر، والنبيُّ – صلى الله عليه وسلم – يواظِبُ على خلافِه هو وخلفاؤه الرَّاشدون من بعدِهِ.
وتفسيرُ هذا الحديث يُؤخَذ من فعلِهِ، وفعلِ خلفائِهِ وأصحابهِ، فإنهم كانوا يُسْفِرونَ باستدامَتِها لا بابتدائِها، وهو حقيقةُ اللَّفظِ، فإنَّ قوِله: “أسْفِروا بها”، الباء للمصاحَبَةِ، أىِ: أطيلوها إلى وقتِ الإسفار، وفهْم هذا المعنى من اللفظ أقوى من فهم معنى آخر، والشروع فيها إلى وقت الإسفار، ولو قُدِّر أن اللَّفظَ يحتمل المعنيينِ احتمالًا متساويًا (2) لم يَجُزْ حملُه على المعنى المخالِفِ لعملِهِ وعمل خلفائِهِ الراشدينَ، والله أعلم.


(1) أخرجه ابن أبي شيبة: (1/ 310)، وعبد الرزاق: (2/ 113)، والبيهقي في “الكبرى”: (2/ 389) بسندٍ صحيح عن أنس -رضي الله عنه-.
(2) من قوله. “إلى وقت … “إلى هنا ساقط من (ع).
(4/1455)


الطريقة الرابعة: أنَّ تأخيرَها أفضل، وحملوا الإسفار بها على تأخيرها إلى وقتِ الإسفارِ.
قال: دليل الجمع للمطر: روى عبدُ الرزاق، عن معْمرٍ، عن أيّوب، عن نافِع، قال: كان أهلُ المدينة إذا جمعوا بين المغرب والعشاء في اللّيلة المطيرة صلَّى معهم ابنُ عمر (1)، ورُوي عن ابن الزبير مثله (2).
قال: ورُوِىِ عن أحمد: الشفقُ الحُمرَةُ حضرًا وسفرًا، وعنه: البياضُ سفرًا وحضرًا.
قال: احتجَّ من قال بطهارةِ الكلب بقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45]، وإطلاقُ الماء يقتضي الطهارة.
قيل: لا يمنعُ أن يقلب الله عينها إلى النَّجاسةِ كالعصير يتحمَّر، والماءُ ينقلبُ (3) بولًا.
سئل أحمد عن جيران المسجد، فقال: كلُّ من سَمعَ النَّداء.
وسُئل: يَؤُمُ الرَّجلُ أباه؟ قال: إيْ واللهِ، يَؤُمُّ القومَ أقرؤُهم، وأحتجَّ أبو حفص أن النبي -رضي الله عنه- قال: “ورأيتني في جماعة منَ الأنبياء” إلى أن ذكر إبراهيمَ، قال: “فصلَّيت بِهِم” (4).
عن أحمد في النفخِ، قال: أكرهُهُ شديدًا إلا أني لا أقولُ: يقطع


(1) أخرجه عبد الرزاق: (1/ 556)، ومالك في “الموطأ” رقم (386) بنحوه.
(2) لم أجده.
(3) (ق وظ): “يصير”.
(4) أخرجه مسلم رقم (172) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(4/1456)


الصَّلاة، وليس هو كلام، وعنه. أن النفخَ يقطعُ الصلاةَ، وعلى الروايتين هو مكروهٌ.
صلاةُ الضُّحى، قُتِل عثمانُ وما أحد يُسَبِّحُها (1)، قيل: وليس في ترك الصحابةِ ما يمنعُ من فعلِها، فقد فعلَها – صلى الله عليه وسلم – وقتًا وتَرَكَها وقتًا، وهذا اختيارُ أحمدَ أن لا يُداوَمَ عليها (2).
قال: إذا قال المؤَذِّن: “قد قامتِ الصلاةُ” وجَبَ أن يقومَ الإمامُ ولا يسبقوه، ثم يقوموا، وإذا لم يكنْ في المسجد أيضًا قاموا فانتظروهُ قِيامًا، َ وقد رَوَى أبو هريرة قال: “أقِيْمتِ الصلاةُ، وصفَّ الناسُ صفوفَهم، فخرجَ علينا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – … إلى قولهِ، ثم ذكر أنه لم يغتسلْ فقال بيدِهِ للناس: “مكانَكم” (3)،
وأما قوله: “لا تَقُوموا حَتَّى تَرَوني” (4)، فنقول: إذا لم يكنْ في المسجدِ جاز أن يقوموا إذا قال: “قد قامتِ الصلاةُ” ينتظرونَه قيامًا (ق/ 346 أ) لحدِيث أبي هريرة، وإذا كانَ في المسجدِ قاموا ولم يتَقدَّموه، لأنه قال: “حتى تَروني” أيْ: قائمًا.
اختار أحمد حديثَ عمَرَ في الاستفتاح (5)، وقد روى أبو سعيد


(1) انظر “مسائل الكوسج”: (1/ ق 40).
(2) انظر: “المغني”: (2/ 549 – 551).
(3) أخرجه البخاري رقم (275)، ومسلم رقم (605) من حديث أبى هريرة -رضي الله عنه-.
(4) أخرجه البخاري رقم (637)، ومسلم رقم (604) من حديث أبى قتادة -رضي الله عنه-.
(5) أثر عمر في الاستفتاح هو: “سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك”. =
(4/1457)


عن النبي – صلى الله عليه وسلم – (1)، وليس بصحيح، لأن رواية عليِّ بن عليِّ الرِّفاعي، عن أبي المتوكّل النَّاجي، عن أبي سعيد، وقد قال أحمد: عليُّ بن علي لا يُعبأُ به شيئًا (2).
حديث البَراء أنه – صلى الله عليه وسلم -“كان إذا افتَتحَ الصلاةَ رَفعَ يديْهِ، ثمَّ لا يعودُ” (3)، قال أحمد: “لم يَعُد” من كلامِ وكيع (4).
قال: لا يختلفُ المذهب في اللَّحْنِ الذي هو مخالفة الإعراب (ظ/ 241 ب)، لا يبْطِلُ الصلاةَ.
واختلف قولُه إذا خَتَم آيةَ رحمة بآيةِ عذاب، على روايتين؟
إحداهُما: عليه الإعادة، والثانية: لا، ووجهها ما روى قابوس بن أبي ظبيان، عن أبي ظَبْيان، عن ابن عباس، قال: صلى رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – فخطرت منه كلمة فسمعها المنافقون قال: فأكثَرُوا، فقال: إنَّ له


= أخرجه الحاكم: (1/ 235)، وابن أبي شيبة: (1/ 209)، والدارقطني: (1/ 299)، والبيهقى: (2/ 34 – 35).
(1) أخرجه أحمد: (18/ 51 رقم 11473)، وأبو داود رقم (775)، والترمذي رقم (242)، وابن ماجه رقم (804)، والنسائي: (2/ 132)، وغيرهم.
قال الترمذي: “وقد تكلَّم في إسناد حديث أبي سعيد، كان يحيي بن سعيد يتكلم في علي بن علي الرفاعي، وقال أحمد: لا يصح هذا الحديث” أهـ. وضعفه أبو داود وابن خزيمة والنووي.
(2) انظر “مسائل الكوسج” (1/ق 44).
(3) أخرجه أبو داود رقم (749)، والبيهقي: (2/ 76)، والحميدي: (2/ 316) وغيرهم، وهو ضعيف: بزيادة: “ثم لا يعود” وانظر ما سيأتي.
(4) انظر: “مسئل عبد الله” رقم (325، 326)، و”العلل”: (1/ 369 – 370)، و”تهذيب السنن”: (1/ 368 – 369)، و”المنار المنيف”: (ص/ 138)، و”نصب الراية”: (1/ 394 – 395).
(4/1458)


قَلْبَيْنِ ألا تسمعونَ إلى قوله، والآية في الصلاة (1).
قال ابن عباس: “لا يَؤُمُّ الغلامُ حتى يحتلمَ” (2)، إن قيل: يلزمُ عليك إمامَتُهُ إذا كان ابنَ عشر؛ لأنه خُوطِبَ بالصَّلاةِ عندَك؟ قيل: الخَبَرُ ألَزَمَ ذلك في النَّظَر. إن قيل: فقد أَمَ عَمْرو بنُ سَلِمَةَ وهو غلامٌ (3). قيل: سمَّي غلامًا وهو بالغٌ، ورواية أنه كان له سبعُ سنين فيه رجلٌ مجهولٌ فهو غيرُ صحيح (4).
الكوسج (5): قلت: يَؤُمُ القومَ، وفيهم من يكرهُ ذلك، قال: إذا كان رجلًا أو رجلينِ فلا حتى يكونوا جماعةَ ثلاثةَ فما فوقَهُ.


(1) أخرجه أحمد: (4/ 233 رقم 2410)، والترمذي رقم (3199)، وابن خزيمة رقم (865)، والحاكم: (2/ 415)، وابن جرير: (10/ 255)، وغيرهم، ولفظ أحمد: “قلت لابن عباس: أرأيتَ قول الله عز وجل: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}، ما عنى بذلك؟ قال: قام نبيُّ الله – صلى الله عليه وسلم – يومَا يصلّي، قال: فَخَطر خَطْرةً، فقال المنافقون الذين يصلون معه: ألا ترون له قلبين، قال: قلبًا معكم، وقلبًا معهم؟ فأنزل الله عز وجل: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}. وسقنا اللفظ هنا لأن سياق المؤلف غير محرر، والحديث حسنه الترمذي، وصححه الحاكم؛ لكن فيه قابوس ضعيف الحديث. وانظر “مسائل الكوسج”: (1/ ق 49).
(2) أخرجه عبد الرزاق: (1/ 487)، والبيهقي: (3/ 225)، وروي مرفوعًا ولا يصح، انظر: “فتح الباري”: (2/ 217).
(3) أخرجه البخاري رقم (4302) عن عَمْرو بن سَلِمة.
(4) بل وقع في رواية البخاري أنه كان ابن ست أو سبع سنين. وسئل أحمد في رواية الكوسج (1/ ق 61): “يؤم القوم من لم يحتلم؟ فسكت. قلت: حديث أيوب عن عَمرو بن سَلِمة؟ قال: دعه، ليس هو شيءٌ بيَّن، جبن أن يقول فيه شيئًا”.
(5) “المسائل”: (1/ ق 62).
(4/1459)


قال أبو حفص: جعل الحكمَ للكثيرِ فى الكراهَةِ لأنَّ الحكمَ للأغلب.
روي أنس: “صلَّيْت خَلْفَ النبي – صلى الله عليه وسلم – أنا ويتيمٌ لنا وأم سُلَيم خَلْفَنا” (1).
يحتمل أن يكون كان بالغًا ويحتملُ أن يكونا صَبيَّيْنِ، أما إذا كان أحدهما بالغًا فعلى حديث ابن مسعود: “أنه صلَّى بَعلقمةَ والأسودِ، وأحدُهما غيرُ بالغ، فأقام أَحَدَهما عن يمينهِ، والآخرَ عن يَسَارهِ، ورفعه إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -” (2).
الكوسج (3): قلت: إذا دخل والإمامُ راكِع يركعُ قبل أن يَصِلَ إلى الصف؟ قال: إذا كان وحدَه وظنَّ أنه يُدْرِكُ فعَلَ (4).
احتجَّ أبو حفص بحديث أبي بَكْرَةَ (5).
فإن قيل: فقد نهاه – صلى الله عليه وسلم -؟ قيل: نهاه عن شدَّة السَّعْيِ.
قلت: الإشارةُ (6) في الصَّلاة؟ قال: قد أشارَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: “اجلِسوا” (7) إذا كان يُفهِمهم شيئًا من أمر صلاتِهم (8).
الصلاةُ لغير القِبْلَةِ وهو لا يعلمُ ثم عَلِمَ؟ قال: يستديرُ، قلت:


(1) أخرجه البخاري رقم: (727)، ومسلم رقم (658)، من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-.
(2) أخرجه مسلم رقم (534).
(3) “المسائل”: (1/ق 63).
(4) وتمام جواب الإمام: “وإن كان مع غيره فيركع حيث ما أدركه الركوع”.
(5) تقدم.
(6) في “المسائل”: “تكره الإشارة … ؟ “.
(7) تقدم.
(8) “المسائل”. (1/ق 67).
(4/1460)


يُعِيدُ ما صلَّى؟ قال: لا (1).
أبو حفص: دليلُه أهل قُبَاء.
قوله – صلى الله عليه وسلم -: “فَلْيصَلَّ إلَى سُتْرَةٍ، وَلْيَدْن مِنْهَا لا يقْطَعِ الشَّيْطَان عَلَيْهِ صَلاتَهُ” (2).
إن قيل: فقد روي أنه – صلى الله عليه وسلم – (ق/346 ب) خَنَقَ شيطانًا وهو يُصَلِّي (3)؟ قيل: يحتملُ أنه خَنَقَهُ يَمْنَةً أو يَسْرَةً.
قال أحمد: لا يعجبُني أن ينقضى وِتْرهُ (4)، وعنه الجواز؛ لحديثِ عثمان، وابنُ عباس وأسامَةُ رخَّصا فيه.
قلتُ: إن رجلًا قال: يا رسولَ الله إني أعملُ العملَ أُسِرُّهُ، فَيطلَعُ عليه، فيُعْجبُني (5)؟ قال: لما أسرَّ العملَ فأظهر الله له الثناءَ الحَسَنَ فأعجبه، فلَم يعبْ ذلك أن الرجلَ يعجِبهُ أن يقالَ فيه الخير (6).


(1) “المسائل”: (1/ ق 69).
(2) أخرجه أحمد: (26/ 9 رقم 16090)، وأبو داود (695)، والنسائي: (2/ 62)، وابن خزيمة رقم (803)، وابن حبان “الإحسان”: (6/ 136) وغيرهم، من حديث سَهل بن أبي حَثْمة -رضي الله عنه-. وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم.
(3) أخرجه البخاري رقم (461)، ومسلم رقم (541) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(4) “المسائل”: (1/ ق 71)، وانظر “مسائل عبد الله” رقم (432 – 435).
(5) أخرجه الترمذي رقم (2384)، وابن ماجه رقم (4226) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه-.
قال الترمذي: “حديث حسن غريب”.
(6) “مسائل الكوسج”: (1/ ق 73) وزاد إسحاق ابن راهوية في الجواب: فإذا كان ذلك منه لِيقتدى به الناس، وليذكر بخير صار له أجر سرِّه وأجر ما نوى، من اقتداءِ الناس به وذكرهم إياه بخير.
(4/1461)


لا بأس أن يُعجبَ الإنسان ما قيلَ عنه من الخير، إذا كان مَقْصَدهْ في عمله اللهُ؛ لأن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “المؤمنُ تسُرُّه حسنتُه” (1).
قوله – صلى الله عليه وسلم -: “إذا نسِيَ أحدُكُمْ صَلاةً، فَلْيصلها إذا ذكَرَهَا ولوَقْتِها مِنَ الغَد” (2) محمول على النسخ (3) بحديث عمرانَ بن حُصَيْن: سِرْنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – .. فذكره، إلى قوله: فصلَّى بنا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – فقلنا: يا رسولَ الله نَقْضيها لميقاتِها من الغد؟ قال: “لا، أيَنهَاكم رَبكم عَنِ الرِّبا ويقبلهُ منكم” (4).
قال ابن مسعود: “لا يقصرُ إلا حاجٌّ أو غازٍ” (5). يحملُ على ما شاهَدَهُ من الرَّسولِ؛ لأن أسفارَهُ لم تكن إلاّ في حَجٍّ أو غزو.


(1) أخرجه أحمد: (1/ 269 رقم 114)، والترمذي رقم (2165)، وابن حبان “الإحسان”: (16/ 239)، والحاكم: (1/ 113) وغيرهم من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بنحوه، وله شواهد من حديث جماعة من الصحابة.
(2) أخرجه مسلم رقم (681)، وأبو داود رقم (437)، والترمذي رقم (177)، والنسائى: (1/ 294)، وابن ماجه رقم (698) من حديث أبي قتادة -رضي الله عنه- مطولًا ومختصرًا.
(3) انظر “مسائل الكوسج”: (1/ ق 74)، وسلك جمعٌ من العلماء سبيل الجمع بين الروايات، فجعل الضمير فى: “فليُصَلها” راجعًا إلى صلاة الغد، أي: فليؤد ما عليه من الصلاة مثل ما يفعل كل يوم بلا زيادة عليها، فتتفق الألفاظ كلها. انظر: “فتح الباري”: (2/ 85)، وحاشية السندي على النسائي: (1/ 295).
(4) أصل حديث عمران في “الصحيحين” بدون هذا اللفظ، وهذا اللفظ أخرجه أحمد: (33/ 178 رقم 19964)، وأبو داود رقم (443)، وابن خزيمة. رقم (994)، وابن حبان “الإحسان”: (4/ 319)، وغيرهم من طريق الحسن البصري عن عمران، ورواية عنه مرسلة في قول جماعة من أهل العلم.
(5) “مسائل الكوسج”: (1/ق 74) وفي (ق) جعله من قول النبي – صلى الله عليه وسلم – وأخرجه عن ابن مسعود الطحاوي في “شرح معاني الآثار”: (1/ 425 – 426).
(4/1462)


اختلفتِ الرِّواية في صلاةِ النائمِ، فرُوِيَ عنه: على جَنْبٍ، وعنه: مستلقيًا ورجلاه إلى القِبْلَةِ.
تجبُ الصلاةُ على الصَّبي عند تكامل العَشر، لا كما يقولُ مخالفُنا: عند تَكامُلِ الخَمس عَشْرَة (1).
قلت: رجلٌ وضع يديه على فَخِذَيه في الركوع، أو وضع إحدى يديهِ على رُكْبَتَيْهِ، (ظ/ 242 أ) ولم يَضَعِ الأخرى. قال أحمد: أرجو أن يُجْزِئَه (2).
قال أبو حفص: معنى هذه المسألةِ إذا كان ذلك من عِلَّةٍ، أما من غير عِلَّة فلا، لما روي عن سعد: كنا نُطَبقُ، ثم أُمِرْنا أَن نَضع الأيديَ على الرُّكَب (3)، وابن مسعود لم يبلغْه ذا، وكان يُطَبِّقُ، ولو أنَّ رجلًا لم يبلغْه فَعمل بالمنسوخ كابن مسعود لم تبطلْ صلاتُهُ، ولزمَهُ ذلك منذ وقتِ عَلِمَ.
إذا سها في صلاتِه عشرينَ مرةً، يكفيه سجدتانِ (4)، لحديث عمران بن حُصَيْن فإنه حصلَ منه سهو كثيرٌ، واكتفى بسجدتينِ، من ذلك أنه جَلَس في الثالثةِ ساهيًا وسلَّم ساهِيًا، وسؤالهم له ساهِيًا، ودخوله الحجرةَ ساهيًا (5).


(1) “مسائل الكوسج”: (1/ ق 78).
(2) المصدر نفسه: (1/ ق 78 – 79).
(3) أخرجه مسلم رقم (535) بنحوه، واللفظ للحاكم: (1/ 244).
(4) “مسائل الكوسج” (1/ ق 85).
(5) أخرجه مسلم رقم (574) من حديث عمران بن حُصَين -رضي الله عنه- في قصة ذي اليدين، وسمَّاه عمرانُ: الخِرْباق.
(4/1463)


إذا أدركَ إحدى سجدتي السَّهْوِ، يقضي السجدةَ ثم يقومُ فيقضي ما فَاتَه، إنما لم يَجُزْ (1) تأخيرها إلى آخر صلاتِه بل يقضيها معه، لقوله: “وَمَا فَاتكُم فَاقْضْوا” (2)، وقد فاتَتهُ سجدةٌ فيجِبُ أن يسجدَها، لا زيادةَ عليها (3).
رجلان نسي أحدُهما الظُّهْرَ أمس والآخر أوَّل أمس، قال أحمد: يجمعان جميعًا من يوم. واحدٍ، وأيامٍ متفرِّقَةٍ (4).
وعنه في رواية صالح أنهما لا يَجمعان من أيام متفَرِّقةٍ (5).
وَجْه. رواية الكوسج: أن صلاتهما يجمعهما اسمُ ظُهْر، (ق/347 أ): وليس بينهما اختلاف، هذا قول أبي حفص.
وجهُ رواية صالح: ما ذكره الشريف أبو جعفر من أن ظُهْرَ يوم واحد في حكم الجنس الواحد، ومن يومين في حكم الجنسين، بدليل أنه قد سقط ظهر أحدهما بما لا يسقطُ به ظهْر الآخَرِ، وهو ظهرُ يومِ الجمعةِ، وبقيَّةُ الأيام تسقط (6) بظهر مثلها، وهذا معدومٌ في


(1) (ق): “يقوم فيصلي ما فاته، إنما لم يجب … “.
(2) أخرجه بهذا اللفظ الحميدي رقم (935)، وأحمد: (12/ 192 رقم 7250)، والترمذي رقم (329)، والنسائي: (2/ 114 – 115)، وابن حبان “الإحسان”: (5/ 517)، وغيرهم من حديث ابن عيينة عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة – ضى الله عنه-.
وذكر مسلم وأبو داود أن لفظة “فاقضوا” تفرَّد بها ابن عيينة عن بقية أصحاب الزهري، فهي خطأ منه والرواية المحفوظة “فأتموا”. وأجاب الزيلعي وغيره عن ذلك بمتابعة معمر لابن عينة وكذا ابن أبي ذئب، انظر “نصب الراية”: (2/ 200).
(3) “مسائل الكوسج” ت (1 / ق 81).
(4) المصدر نفسه: (1/ ق 82).
(5) لم آره في المطبوع في رواية صالح.
(6) من قوله: “ظهر أحدهما … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(4/1464)


اليوم الواحد وهذا فرق صحيحٌ، وقد ذكرناه بعينهِ إذا كان عليه كفَّارتان من جنسين، أنه يفتقرُ إلى التَّعيين.
قال في رجلينِ صَلَّيا جميعًا ائْتَمَّ كلُّ واحدِ منهما بصاحِبه: يُعِيدان جميعًا (1). والدليلُ عليه أنه لم يحصل (2) واحدٌ منهما معتقدًا للإمَامَةِ.
قال: ولو أن رجلًا ائْتَمَّ برجل ولم يَنْو ذلك الرجل أن يكونَ إمامَهُ: يجزئُ الإمامَ ويعيدُ هو (3).
دليلُهُ أن الإمَامَةَ لا تَصِحُّ إلاّ بنيَّةِ.
فإن قيل: ابن عبَّاس ائْتَمَ بالنَّبِي – صلى الله عليه وسلم – في صلاة اللَّيل (4)، وكان قد ابتدأها لنفسِه؟ قيل: النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – ليس كغيرِه، هو إمامٌ كيف تصرَّفَتْ أحوالُه، إلا أن ينقلَ نفسَه فيصيرَ مأمومًا.
قال إسحاق الكوسج (5): قلت: يكرَه لهؤلاء الخيَّاطين الذين في المساجد؟ قال: لَعَمري شديدًا.
دليلُه عمر رأى رجلينِ يَتبَايَعَانِ في المسجد، فقال: هذا سوقُ الآخِرَةِ فاخْرجا إلى سُوقِ الدنيا (6).
قضاءُ الركعتينِ بعدَ العصرِ خُصوصًا له – صلى الله عليه وسلم -، بدليلِ حديثِ أم سَلَمَةَ:


(1) “مسائل الكوسج” (1/ ق 82).
(2) كذا، وفي المطبوعة: “يصل”.
(3) “مسائل الكوسج”: (1/ ق 82).
(4) تقدم (3/ 964).
(5) “المسائل” (1/ ق 90).
(6) أخرج مالك في “الموطأ” رقم (483)، ومن طريقه ابن أبى عاصم في “الزهد”: (ص/317) عن عطاء بن يسار نحوه، ولم أجده عن عمر.
(4/1465)


يا رسولَ الله أنقضيها إذا فاتَتْنَا؟ قال: “لا” (1)
الفرقُ بين الإسلام يَصِحُّ في الأرض المغصوبة دون الصلاة، أنَّ الإسلام لا يفتقرُ إلى مكان بخلاف الصلاةِ.
المسلمُ إذا أعتق عبدَهُ النَّصْرَاني فهل عليه جِزيَة؟ على روايتينِ (2)، وجه سقوطِها أن ذمَّتَهُ ذِمَّة سيدِهِ.
كراهتهُ للمعتكفِ أن يعتكفَ في خيمةٍ، إلا أن يكونَ بَرْد (3)؛ لأنَّ الخيمةَ تُضَيِّق المسجد، والنبيُّ – صلى الله عليه وسلم – اعتكفَ في زمان باردٍ في قُبّةٍ وخيمة، يدلُّ عليه قوله: “إنى رَأيتُنِي أسْجدُ فْي صَبيْحَتِها في ماءٍ وطينٍ” (4) ” فعُلِم أن الزمان بارد لوجود المطَرِ.
في إتيان المستحاضة، قال: لا يأتيها إلاّ أن يطولَ ذلك بها (5). وليس أنه أباح ذلك إذا طال ومنع ذلك إذا قَصُر، ولكنه أراد: أنه إذا طال عَلِمَتْ أيام حَيْضِها من أيام استحاضَتِها يقينًا، وهذا لا تعلمُهُ إذا قَصُر ذلك.
قوله في المرأة تشربُ دواءً يقطعُ الدَّمَ عنها، قال: إذاِ كان دواءً يُعْرَفُ فلا بأسَ (6).


(1) أخرجه أحمد: (6/ 315)، وابن حبان “الإحسان”: (6/ 378) من حديث أم سلمة – رضي الله عنها -.
(2) (ق): “على وجهين روايتين”.
(3) “مسائل الكوسج”: (1/ ق 133).
(4) أخرجه البخاري رقم (669)، ومسلم رقم (1167) من حديث أبي سعيد الخدري – رصى الله عنه-.
(5) “مسائل الكوسج”: (1/ ق 139).
(6) المصدر نفسه: (1/ ق 139).
(4/1466)


قال أبو حفص: معناه عندي: إذا ابْتُلِيَتْ بالاستحاضَةِ الشديدةِ فهو مَرَضٌ، لا بأسَ بشرب الدَّواء، أما الحيض فلا، لأن الحَيض كتبهُ الله على بناتِ آدَمَ، وإنما تَلِدُ إذا (ق/347 ب)، كان حَيْضُها موجودًا، ولا جائز أن يتعرَّض (ظ/242 ب) لما يقطع الوَلَدَ.
في إتيان الحائض، قال أحمد: لو صحَّ الحديثُ كنا نرى عليه الكفَّارَةَ (1).
قال أبو حفص: إن لم يَصِحَّ عن النبي – صلى الله عليه وسلم – صحَّ عن ابن عباس (2)، ومذهب أحمد الحكمُ بقولِ الصَّحَابِيِّ إذا لم يُخالفْ، قال: واختياري ما قال الكوسجُ: إنه مُخيَّرٌ في الدينار أو النصف دينار.
قوله في أكثر الحيض: أكثرُ ما سمعنا سبعة عشر يومًا. يحتملُ أن يكونَ ذكره لأنه قوله، ويمكن أن يكون على طريق الحكاية، والأشبَهُ عندي أن يكونَ قولُه لا يختلِفُ أنه خمسة عشر يومًا، وإنما أخبرَ عن السبعَ عَشْرَةَ أنه سمعه لا أنه يُقَلِّدُهُ (3).
قوله في الطهر إنه على قدر ما يكون. فليس عندَه أنَّ لأقَله حَدًّا، كما ليس لأكثرهِ حَدٌ، وكل شيء ليس لأكثره حَد ليس لأقلِّهِ حَدٌّ.


(1) المصدر نفسه.
(2) أخرجه أحمد: (4/ 269 رقم 2458)، وأبو داود رقم (266)، والترمذي رقم (136)، وغيرهم، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا، وقد اختلف في هذا الحديث اختلافًا كثيرًا في رفعه ووقفه، وفي ألفاظه، وصححه جماعة، وضعفه آخرون، انظر تعليق الشيخ أحمد شاكر على الترمذي: (1/ 246 – 254).
(3) وهذا الموافق لما نص عليه الإمام في جميع الروايات، انظر “مسائل عبد الله” رقم (210)، وأبي داود رقم (152، 153)، وابن هانئ: (1/ 30)، وصالح رقم (382).
(4/1467)


فإن قيل: ينبغي أن كان ليس لأقلِّهِ حَدّ (1)، لو ادَّعَتِ انقضاء: عِدَّتِها في أربعةِ أيام تباحُ للأزواج؟ قيل: العدةُ ليس من هذا؛ لأن قوله: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} يزيدُ الأقْرَاءَ الكاملةَ، وأقل الكاملة أن تكون في شهر لحديث علي مع شُرَيح (2).
وقوله في الصبيِّ: لا يُزَوِّجُ لا يكون وَلِيًّا حتى يحتلِمَ (3)، وعنه: ابنْ عشر يُزوِّجُ ويَتزوَّج.
آخر المنتقى من خط القاضي ما انتقاه من “شرح مسائل الكوسج” لأبي حفص قال: ومبلغهُ ستةُ أجزاء.



(1) من قوله: “وكل شيءِ …. ” إلى هنا سقط من (ق).
(2) لم أعرفه.
(3) “مسائل الكوسج”: (1/ ق 146).
(4/1468)


فصل
قال أحمد في رواية الحسن بن ثَواب (1): إذا كان الرهن غلامًا فاستعملَه المرتَهن، أو ثوبًا فَلَبسَا، وُضِع عنه (2) قَدْر ذلك. قال أصحابُنا يعني: أَنه يضعُ من دينِ الرّهن بقدْرِ ما انتفعَ بالرَّهْن.
ونقل عنه أيضا: إذا كان الرهن دارًا فقال المرتَهِن: أنا أسكنُها بكرائِها، وهي وثيقة بحقِّي: تنتقل فتصيرُ دينا، وتتحوَّلُ عن الرهن، وهذا نصٌ منه على أن الراهن إذا أجَّر العَيْنَ المرهونةَ للمرتَهِن خرجتْ عن الرَّهنِ، وبقي دينهُ بلا رَهْن، هذا معنى قوله: “تنتقِلُ فتصير دَيْنًا”، أن يبقى حقه في (ق/355 أ) الذِّمَّة فقط، لا يتعلَّقُ برقبة الدّار، وتخرج الدَّار عن كونها رهنًا.
ونقل عنه بكر بن محمد (3): إذا رَهَنَ جارية فسقتْ ولَدَ المُرْتَهِنِ: وضِعَ عنه بقَدْر ذلك، يعني: وُضِع عن الراهن من الدَّيْنِ بقدر أجرة مثلِها لرضاعِ ولدِ المرتهنِ.
فصل
إذا قال الراهن للمرتهِنِ: إن جئتُك بحقِّك إلى كذا، وإلَّا فالرَّهنُ لَكَ بالدَّيْنِ الذي أخذتهُ منكَ، فقد فعله الإمام أحمد في حَجَّتِه (4)،


(1) وقع في (ظ): “ثوبان”! وقد تقدمت ترجمته وبعض مسائله (4/ 1437).
(2) ق): “وضع عنده”.
(3) تقدمت ترجمته (3/ 994).
(4) (ق): “نقله الإمام أحمد في جهته”! وقد ذكر ابن القيم في “إعلام الموقعين”: (3/ 388) و (4/ 28) أن الإمام أحمد رهنَ نعلَه وقال للمرتهن: إن جئتك =
(4/1469)


ومنع منه أصحابُهُ، وقالوا: نصَّ في روايةِ حرب على خلافِهِ، فقال: باب الرهنِ يُكتب شراء. قيل لأحمد: المتبايعان بينهما رَهْنٌ فَيَكْتبان شراء؟ فكرهَهُ كراهة شدِيدة، وقال: أوَّلُ شيء أنه يكذب، هو رهن ويُكتَبُ شراء، وكرهَهُ جدًّا.
قال ابن عَقِيل: ومعنى هذا: أن المرتهن يكتب شراءً لموافقة بينَه وبينَ الراهنِ، إن لم يأتهِ بالحق إلى وقتِ كذا يكون الرَّهْنُ مَبيعًا، فهو باطلٌ من حيث تعليق البيع على الشرط، وحرامٌ من حيثَ إنه كَذبٌ وأكل مال بالباطلِ.
قلت: وهذا لا يناقض فعلَه، وهذا شيءٌ وما فعله شيء، فإن الراهن والمرتهن قد اتَّفقا على أنه رهن، ثم كتبا أنه عَقد تبايع في الحال، وتواطَئا على أنه رهْن، فهو شراء في الكتاب رهْنٌ في الباطن، فأين هذا من قولهما ظاهرًا وباطنًا: “إن جئتك بحقِّكَ في محلِّه، وإلا فهو لك بحقِّك”، ألا ترى أن أحمد قال: هذا كذب، ومعلوم أن العقدَ إذا وقع على جهة الشرط فليس بكَذِب، وليس في الأدِلَّةِ الشَّرعيَّةِ ولا القواعدِ الفقهيَّة ما يمنع تعليقَ البيع بالشَّرطِ، والحقّ جوارهُ، فإنَّ المسلمينَ على شروطِهم، إلا شرطًا أحل حَرامًا أو حَرَّم حلالًا، وهذا لم يتضمن واحدًا من الأمرين، فالصَّواب جواز هذا العقد، وهو اختيارُ شيخِنا (1) وفعل إمامنا (2).
قال أحمد في رواية أبي (ظ/243)، طالب: “إذا ضاع الرهنُ عندَ


= بالحق إلى كذا وإلا فهو لك. قال: وهذا بيع بشرط، فقد فعلَه وأَفتَى به، وكذلك ذكره الذهبي في “السير”: (11/ 206) عن ابن أبي حاتم.
(1) في (ق) زيادة: “على عادته حمل ذلك”! وهي مقحمة هنا، ولعله انتقال نظر من الجملة بعد سطرين.
(2) انظر: “إعلام الموقعين”: (3/ 363، 387 – 389) و (4/ 28).
(4/1470)


المرتهن لَزِمَهُ”.
قال ابنُ عقيل: وهذه الرواية بظاهرها تُعطي أن الرهنَ مضمونٌ، إلاَّ أن شيخنا (1) -على عادتِهِ- حَمَل ذلك على التِّعدَّي؛ لأجل نصُوص أحمد على أن الرَّهْنَ أمانة، وعادتُهُ تأويلُ الرِّواية الشَّاذَةِ لأجل الرِّوايات الظَّاهرةِ، وهذا عندي لا يجوز إلا بدلالة، فأما صَرْفُ الكلامِ عن ظاهرِهِ بغير دلالةِ تدل فلا يجور، كما، يجور في كلام صاحبِ الشَرْعِ. انتهى كلامُهُ.

فصل
إذا قدر الرجل على التّزَوُّجِ أو التَّسَرِّي حَرُمَ عليه الاستمناءُ بيده، قاله ابنُ عَقِيل، قال: وأصحابُنا وشيخُنا لم يذكروا سوى الكراهة، لم يطلقوا التحريم.
قال: وإن لم يقدر على زوجة ولا سرية ولا شهوةَ له تحملُه على الزِّنا، حَرُمَ عليه الاستمناءُ لأنه استمتاعٌ بنفسِهِ، والآيةُ تمنعُ منه.
وإن كان متردِّدَ الحال بين الفتورِ والشهوة ولا زوجةَ له ولا أَمَةً، ولا ما يتزوَّجُ به، كُره ولم يَحْرمْ.
وإن كان مغلوبًا على شهوتهِ يخافُ العَنَت كالأسيرِ والمسافرِ والفقيرِ جازِ له ذلك، نصَّ عَليه أحمدُ، وروى أن الصَّحَابَةَ كانوا يفعلونه في غزَواتِهم وأسفارِهم (2).
وإن كانت امرأةٌ لا زوجَ لها واشتدَّت غُلْمتُها، فقال بعض أصحابنا:


(1) يعني: القاضي أبا يعلى ابن الفرَّاء.
(2) انظر: “مجموع الفتاوى”: (34/ 229 – 231)، و”الإنصاف”: (10/ 252 – 253).
(4/1471)


يجور لها اتخاذ الاكرنبج (1)، وهو شيءٌ يُعْملُ من جلود على صُورة الذّكَرِ، فتستدخِلُهُ المرأةُ أو ما أشبهَ ذلك من قِثّاءٍ وقَرع صغار، والصحيح عندي: أنه لا يُبَاحُ؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – إنما أرشد صاحبَ الشَّهْوَةِ إذا عَجَزَ عن الزواجِ (2) إلى الصَّوم (3)، ولو كان هناك معنى غيرُه لذكَرَه.
وإذا اشتهى وصَوَّر في نفسه شخصًا أو دعى باسمه؛ فإن كان زوجة أو أَمَةً له فلا بأسَ إذا كان غائبًا عنها، لأن الفعلَ جائزٌ، ولا يصنعُ من تَوَهُّمهِ وتخيُّلِهِ، وإن كان غلامًا أو أجنبيةً كُرِهَ له ذلك؛ لأنه إغراءٌ لنفسِهِ بالحرامِ وحثٌّ لها عليه.
وإن قوَّر بطِّيخَة أو عجينًا أو أَدِيمًا أو نخشًا في صَنَم (4) فأولج فيه؛ فعلى ما قَدَّمنا في التَّفصيل.
قلتُ: وهو أسهل من استمنائِهِ بيده، وقد قال أحمدُ فيمن به شهوةُ الجماع -غالبًا لا يملكُ نفسَهُ ويخاف أن تنشَقَّ أُنثياه: أَطْعم، هذا لفظَ ما حكاه عنه في “المغني” (5) ثم قال: “أباح له الفطرَ؛ لأنه يَخَافُ على نفسِهِ، فهو كالمريض ومَن يخافُ على نفسِه الهلاكَ لعطش ونحوه، وأوجب الإطعامَ بدلًا من الصيام، وهذا محمولٌ على


(1) كذا، وصوابه: (الكيرنج) كلمة فارسية مركبة من (كير) بمعنى: القضيب، و (رنك) بمعنى: شكل. انظر رسالة “مفاخرة الجواري والغلمان”: (2/ 135 – ضمن رسائل الجاحظ) الحاشية، و”تكملة تاج العروس: (ص / 17).
(2) (ق وظ): “التزوُّج”.
(3) في حديث: “يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوّج … ” الحديث، أخرجه البخاري رقم (19605)، ومسلم رقم (1400) من حديث أبى مسعود -رضي الله عنه-.
(4) في (ظ) زيادة: “أو إليه”.
(5) (4/ 396 – 397).
(4/1472)


من لا يرجو إمكان القضاءِ، فإن رجا ذلك فلا فديةَ عليه، والواجبُ انتظارُ القضاء وفعله إذا قَدَر عليه، لقول {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة: 184] الآية، وإنما يُصار إلى الفدية عند اليأسِ من القضاءِ، فإن أطعمَ مع يأسِهِ، ثم قَدَر على الصِّيام، احْتَمَل أن لا يلزمَهُ؛ لأن ذمَّتَه قد برِئَتْ بأداءِ الفِدْية التي كانت هي الواجبَ، فلم تَعُدْ إلى الشغل بما برئَتْ منه، واحتمَل أن يلزمَهُ القضاء؛ لأنَّ الإطعامَ بدلُ إياس، وقد تبينَّا ذهابَهُ، فأشبَهَ المعتدَّةَ بالشهورِ لليأس إذا حاضتْ في أثنائها” (1).
وفي “الفصول” (2): روي عن أحمد في رجل خاف أن تنشقَ مثانَتُه من الشَّبق، أو تنشقَّ أنثياه لحبس الماء في زمن رمضان: يَسْتَخرج الماء. ولم يَذْكر بأي شيء يستخرجُه، قال: وعندي أنه يستخرجُه بما لا يفسد صومَ غيره؛ كاستمنائه بيده أو ببدن زوجته أو أمته غير الصائمة، فإن كان له أمَةٌ (3) طفلة أو صغيرة استمنى بيدها، وكذلك الكافرة، ويجوز وطْئُها فيما دون الفَرج، فإن أراد الوطء في الفرج مع إمكان إخراج الماء بغيره، فعندي أنه لا يجوزُ؛ لأن الضرورة إذا رُفِعت حَرُم ما وراءها، كالشبع من الميتة (4)، بل هاهنا آكد، لأن بابَ الفروج آكدُ في الحَظْر من الأكل (5).
قلت: وظاهر كلام أحمد جواز الوطء (6)؛ لأنه أباح له الفطر


(1) هذا آخر كلام صاحب “المغني”.
(2) لأبى الوفاء بن عقيل الحنبلي (513) في الفقه، عشرة أجزاء، ويسمى أيضًا “كفاية المفتي”، منه نسخ خطية، انظر “المدخل المفصَّل”: (2/ 811).
(3) (ع): “فإن كانت الأمة”.
(4) من قوله “في الفرج … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(5) انظر: “المغني”: (4/ 405).
(6) انظر: “طبقات الحنابلة”: (1/ 274).
(4/1473)


والإطعام، فلو اتفق مثل هذا في حال الحيض لم يجز له الوطء قولًا واحدًا، فلو اتفق ذلك: لمحْرِم أخرجَ ماءَهُ ولم يجز له الوطء.

(ظ/243 ب) فصل
فإن كان شبَق الصائم مستدامًا جميعَ الزمان سقطَ القضاءُ وعَدَلَ إلى الفدية كالشيخ والشيخة، وإن كان يعتريه في زمن الصيف أو الشتاء قَضى في الزمن الآخر ولا فديةَ هنا؛ لأنه عذرٌ غير مستدام فهو كالمريض، ذكر ذلك في “الفصول”.

فائدة
قوله في “المقنع” (1): “وإن جاءت وهو جالس، لم يقم لها -يعني الجنازة-“. لم أرَ هذا في كلام أحمد، وقد قال “إن قام لم أعِبْه، وإن قعدَ فلا بأس (2).
وقال الميموني في “مسائله”: سمعته يقول. إذا تَبعَ الجنازةَ فلا يجلس حتى توضعَ، كذا قال أبو هريرة وأبو سعيد، وإذا رآها قام، قال: كأن هذا أكثر في الخبر (3)، عَشرةٌ من أصحابِ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يروونه.
ثم قال الميموني: تسميةُ من يَرْوِي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه كان إذا رأى جنازة قام لها: عثمان بن عفانَ. سعيدُ بن زيد. عامر بن ربيعةَ. قيسُ ابن سعد. سهلُ بن حنيْف. يزيد بن ثابتٍ أحْو زيد بن ثابت .. أبو سعيد


(1) (ص/10).
(2) انظر روايات الإمام فيما سيأتي.
(3) “في الخبر” ليست في (ق).
(4/1474)


الخدْري. أبو هريرة. أبو موسى الأشعريُّ. ابنُ عباس. حسن وحسين، فهؤلاء اثنا عشر من الصحابة، ثم ساق الميمونيُّ أحاديثَهم كلَّها بإسناده.
وقال حربٌ في “مسائله”: قلت لأحمد: الرجلُ يرىَ الجنازةَ أيقوم لها؟ فقال: قد رُويَ عن علي أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قام ثم قعد (1)، وكان ابنُ عُمر يقوم، وسَهَّلَ أبو عبد الله فيه.
وقال أبو داود في “مسائله” (2): سمعت أحمد بن حنبل سُئلَ عن القيام إذا رأى الجنازةَ، قال: إن لم يقمْ أرجو، وإن قامَ أرجو. قيلَ: القيامُ أفضلُ عندَكَ؟ قال: لا.
وقال في رواية ابن هانئ (3): إذا رأى الجنازةَ فقام فلا بأس، وإن لم يقمْ فلا بأس.
قال ابن هانئ (4): وسُئِلَ -يعني: أحمد- عن الرجل يموتُ فيُوصي أن يدفنَ في داره؟ قال: يُدْفَن في مقابر المسلمينَ، وإِنْ دُفِنَ في داره أضَرَّ بالوَرثةِ، والمقابرُ مع المسلمينَ أعجب إليَّ.
وقال في روايتِهِ (5): أكرهُ أن يجعلَ على القبرِ ترابًا من غيرِهِ.
قال (6): وسئل عن الحائض تغسِلُ المرأة المَيتةَ؟ قال: لا يعجبُني أن


(1) أخرجه مسلم رقم (2982).
(2) رقم (1015)، وفي (ق): “وقال أبو عبد الله … ” وهو خطأ.
(3) (1/ 189).
(4) (1/ 190).
(5) (1/ 190).
(6) أي ابن هانئ: (1/ 184).
(4/1475)


تغسلَ الحائض شيئًا من المَيِّتِ، والجنابَةُ أيسرُ من الحَيْض.
قال (1): وسئل عمَّن غسَّلَ المَيِّتَ، أعليه غسلٌ أم وضوءٌ؟ قال: يتوضَأُ، وقد أجزأَهُ.
قال (2): وسألته: هل على من غسل الميت غُسْلٌ، قال. عليه الوضوءُ فقط.
واتَّبَع أحمد في ذلك آثارَ الصحابةِ، فإنه صحَّ عن ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة الأمرُ بالوضوء منه، ولا يُحفظُ عن صحَابِى خلافهم، وهو قولُ حذيفةَ وعليٍّ أيضًا.
وقال الجُوزْجَانِىُّ: حدثنا يزيدُ بن هارونَ، أنبأنا مباركُ بن فَضَالَة، عن بكر بن عبد الله المزَنِيِّ، عن علقمة بن عبد الله المُزنيِّ، قال: غسَّل أباك -يعني: أبا بكر: بن عبد الله- أربعة من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ممن بايع نبيَّ الله تحت الشجرة، فما زادوا على أن شمَّروا أكِمَّتهم، وجعلوا قُمُصَهم تحت حُجُزهم، وتوضَّأوا ولم يغتسِلوا (3).
وفي “الموطأ” (4): مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، أن أسماءَ بنتَ عميْس امرأة أبي بكر غَسَلَتْ أبا بكر الصِّدِّيقَ حين تُوُفِّيَ، ثم خرجتْ، فسألت من حضرها من المهاجرينَ والأنصار، فقالت: إني صائمة، وإن هذا اليوم شديدُ البرد فهل عليَّ مِنْ غسْل؟ قالوا: لا.


(1) المصدر نفسه.
(2) المصدر نفسه.
(3) أخرجه عبد الرزاق: (3/ 405)، وابن أبي شيبة: (2/ 469) من طريق بكر بن عبد الله به، وسنده صحيح.
(4) رقم (593).
(4/1476)


قال إسماعيلُ بن سعيد: قلت لأحمد بن حنبل: أرأيتَ إن كان الميت كافرًا، قال: عليه الغسلُ لحديث عليٍّ (1) -يعني: على غاسِلِهِ الغُسْلُ- وهو قول أبى أيوب، قال الجوزجانيّ: وأقول: إن هذا وهم منهما، وذلك أنه ليس في حديث عَليٍّ أنه غسل أبا طالب (2).

فصل
قال أحمدُ في الرجل يعملُ الخيرَ، ويجعل النِّصْف لأبيه أو لأمِّه (3): أرجو.
وقال: الميِّتُ يصِلُ إليه كل شيء من الخير، لما روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “إنَّ مِنَ البِرّ بَعْدَ البِرِّ أن تُصَلِّيَ لَهُمَا مَعَ صَلاتِكَ، وأنْ تَصُومَ (ظ/244 أ) لهما مَعَ صَومكَ، وأنْ تَتَصَدّقَ لَهُما مَعَ (ق/355 ب) صَدَقَتِك” (4). انتهى.
ولا يشترطُ تسمية المهْدَى إليه باسمه، بل يكفي النِّيَّةُ، نصَّ عليه في رواية أبيه عبد الله (5): لا بأسَ أن يَحجَّ عن الرجل ولا يُسَميِه (6).


(1) أخرجه أحمد: (2/ 153 رقم 759)، وابن أبي شيبة: (3/ 32)، والنسائي: (1/ 110)، البيهقي: (1/ 304) وغيرهم.
والحديث ضعَّفه البيهقي والنووي وغيرهم.
(2) وانظر: “المغني”: (1/ 279).
(3) (ق وظ): “نصفه لأبيه أو أمه”.
(4) أخرجه ابن أبي شيبة: (3/ 59)، والخطيب في “تاريخه”: (1/ 363)، وبحشل في “تاريخ واسط”: (ص/ 188)، وابن أبي حاتم في “الجرح والتعديل”: (274/ 1). عن الحجاج بن دينار عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، وبين الحجاج والنبي – صلى الله عليه وسلم – مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي، كما قال عبد الله بن المبارك -رحمه الله-.
(5) رقم (928).
(6) (ق): “ولم يُسمه”.
(4/1477)


فصل
قال إسحاقُ الكوسج: قلت لأحمد: قال الحسنُ في الرجل يقول لامرأته: “أنت طالقٌ إن شاء الله” كان يلزمُه؟ فقال أحمد: أما أنا فلا أقول فيه شيئًا. قلت: لم؟ قال الطلاق ليس هو يمين. قلت: وكذلك العِتقُ؟ قال: نعم.


(4/1478)


فصول في أحكام الوطء في الدُّبُر
فمنها: أنه من الكبائر.
ومنها: أنه يُوجبُ القتلَ إذا كان من كلامٍ، نصَّ عليه أحمد في إحدى الروايتين. والثانية: حدُّه حدُّ الزاني؛ كقول مالك والشافعي، فإن كان من زوجة أو أَمَةٍ أوجبَ التعزيرَ، وفي الكفّارة وجهان؛ أحدُهما: عليه كفَّارة من وَطِئَ حائضًا، اختارَه ابن عقيل. والثاني: لا كفَّارة فيه، وهو قولُ أكثر الأصحاب.
ومنها: أن للزوجةِ أن تفسخَ النكاحَ به، ذكره غير واحد من أصحابنا. وإن كان من امرأة أجنبيةِ فاختلف أصحابُنا في حدِّه، فالذي قاله أبو البركات وأبو محمدَ (1) وغيرهما: إن حدِّه حدُّ الزَّاني.
وقال ابن عَقِيل في “فصوله”: فإنْ كان الوطءُ في الدُّبُرِ في حقِّ أجنبيَّةٍ وجَبَ الحدُّ الذي أوجبناه في اللِّوَاطِ، وعلى هذا فحدُّه القتل بكلِّ حال، وإن كان في مملوكِهِ: فذهب بعض أصحابنا إلى أنه يُعتقُ عليه، وأجراه مجرى المثلَةِ الظاهرة، وهو قولُ بعض السلف.
قال النسائي في “سننه الكبير” (2): “الإباحةُ للحاكم أن يقول للمدَّعَى عليه: “احلف” قبل أن يسأله المدَّعِي.
أبنا هَنَّاد بن السَّرِيِّ، عن أبي معاويةَ، عن الأعمش، على شَقيق (3)،


(1) أي: ابن قدامة، انظر: “المغني”: (12/ 340)، وأبو البركات هو عبد السلام مجد الدين ابن تيمية جد شيخ الإسلام، انظر “المحرَّر”: (2/ 135).
(2) (3/ 484).
(3) تحرفت في (ق) إلى: “سفيان”!.
(4/1479)


عن عبد الله، قال: “قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “مَنْ حَلَفَ عَلَى يمين هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لِيقتَطعَ بِهَا مَال امْرِئٍ مسْلِمٍ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبان” (1) فقال الأشعث: فيَّ واللهِ كان ذلك، كان بينى وبينَ رجل من اليهود دارٌ فجَحَدني فقدمته إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فقال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: “ألك بينة؟ فقلت: لا، فقال لليهوديِّ: “احْلِفْ” فقلت: واللهِ إذا يحلفَ فيذهبَ حقِّي، فأنزل: الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] ” الآية.
قال النَّسائِيُّ: لا نعلم أحدًا تابَعَ أبا معاويةَ على قوله: فقال لليهودي: “أحلف””. انتهى.
ويسوغُ للحاكم أن يقولَ له: “احلفْ” إذا قصد به الزَّجرَ والتَّخويف، أو كان يعلم أن المُدَّعِي قاصد لتحليفِه، أو كان يعلمُ أن المُدَّعَى عليه (2) بريءٌ من الدَّعوى، فإنه في قصده (3) الصّورَ الثلاثَ قد أعان على البِرِّ والتقْوى، وظهورِ الحقِّ، وأكثرُ أوضاعِ الحكامِ. ورسومِهم لا أصلَ لها في الشريعة، والله المستعانُ.

(ق/356 أ) فصل
إذا كانت دَايَةٌ ترضعُ ولدَ غيرها، هل يجوز لها الإفطارُ كما لو كان ولدَها؟.
قال أبو عَقِيل في “فصوله”: جاريةٌ جاءت إلى الشيخ أبي نصر


(1) الحديث أخرجه البخاري رقم (2356)، ومسلم رقم (138).
(2) من قوله: “احلف، إذا .. ” إلى هنا ساقط من (ق).
(3) (ق وظ): “فإنه من هذه”، و (ظ): “في” بدلًا من “من”.
(4/1480)


ابن الصباغ (1) وأنا حاضرٌ، فتحَصّل من الجواب أنها تستبيحُ الإفطار؛ لأن أكثرَ ما فيه أنه نوعُ ضَرَرٍ لأجل المشاقُ، فهو كإفطار المسافر في المُضَارَبَةِ، فيستبيح كالمسافر بمال نفسِه، وفارق العمل في الصَّنائع الشَّاقَّةِ؛ لأنها إذا بلغ منها الجَهْدُ إلى حَدَّ يبيحُ في حقِّ نفسِه أباحَتْ في عملِ غيرِه، وإن لم تبلغِ المشقَّةُ إلى حدّ إباحةِ الإفطارِ، لم يبَحْ في حَقِّه، ولا حق غيره.
قال أحمد في رواية ابن ماهان (2): لا بأس للعبد أن يَتسَرَّى، إذا أذِنَ له سيِّده، فإن رجَعَ السَّيَدُ، فليس له أن يرجعَ إذا أذِن له مَرَّة وتَسَرَّى، فتأوَّله القاضي، وقال: يحتمل أنه أراد بالتَّسَوِّي هاهنا التزويجَ، وسماه تَسَرِّيًا مجازًا، ويكون للسيِّدِ الرجوعُ فيما مَلَّكه” عبدَهُ (3).
وهذا نظيرُ تأويل الشيخ أبي محمد (4) النِّكاحَ بالتَّسَرِّي في مسألة تزويج عبده بأمَتِهِ، وقد قال أحمد في رواية جعفر بن محمد وحرب (5): ليس للسَّيِّد أن يأخذَ سريةَ العبد إذا أذِن له في التَّسَرِّي، فإنْ تَسَرَّى (ظ/ 244 ب) بغير إذنِهِ أخذها منه، وإذا باع العبد وله سُرِّيَّة فهي لسَيِّدِه، ولا يُفَرَّق بينهما؛ لأنها بمنزلةِ المرأةِ، انتهى كلامه.
وهذا يردُّ قولَ الأصحاب: إن التَّسَرِّيَ مبنىٌّ على الملك، وأنه إذا لم يملك لم يَتَسَرَّ، ويرد قولَهم: إن للسيد انتزاعَ سُرِّيتهِ منه، ويردُّ


(1) تقدمت ترجمته.
(2) هو: محمد بن ماهان النيسابوري، له مسائل حسان عن الإمام أحمد ت (284). “طبقات الحنابلة”: (2/ 361 – 364).
(3) انظر رواية ابن ماهان، وكلام القاضي في “المغني”: (9/ 477).
(4) يعني ابن قدامة، انظر: “المغني”: (9/ 475 – 476).
(5) انظر نحوها في “مسائل ابن هانئ”: (1/ 219).
(4/1481)


قولهم: إنه إذا باعه رجعت السُّرِّيَّةُ إلى سيدِه، ولا يطؤها العبدُ.
[قال أحمد في رواية ابن هانئ (1) وحرب ويعقوب بن بختان: “إذا زوَّج عبدَهُ من أَمَتِهِ، ثم أعتقهما (2) لا يجوزُ أن يجتمِعا حتى يجدِّدَ النِّكاحَ”، فاستشكَلَ في “المغني” (3) هذه الرواية؛ فقال: وعن أحمد: إن عَتقا معًا انفسخ النكاحُ. ومعناه -والله أعلم-: أنه إذا وهب لعبده: سُرِّيَّةً أو اشترى له سُرِّيَّةً، وأذن له في التَّسَرِّي بها، ثم اعتقهما جميعًا صارا (ظ/245 أ)، حُرَّيْن، وخرجت من ملك العبدِ، فلم يكنْ له إصابَتُها إلَّا بنكاحٍ جديد، هكذا روى جماعةٌ من أصحابه، فيمن وهب لعبدِهِ سُرِّيَّةً، أو اشترى له سريةً، ثم أعتقهما، لا يقربُها إلا بنكاحٍ جديد، واحتجَّ على ذلك بما روى نافع عن ابن عمر: أن عبدًا له كان له سُرِّيَّتان فأعتقهما وأعتقه، فنهاه أن يقربَهما إلّا بنكاحٍ جديدٍ (4).
قلت: وهذا التأويل بعيدٌ جدًّا من لفظ أحمد، فإن هؤلاء الثلاثة إنما رَوَوا المسألةَ عنه بلفظ واحد، وهو أنه زوَّجَ عبدَه أمَتَهُ، ثم قوله: “حتى يجدِّدَ النِّكاحَ” مع قوله “روَّجَ”، صريحٌ في أنه نكاحٌ لا تَسَرٍّ، وعنه في هذه المسألة ثلاثُ رواياتٍ؛ هذه إحداهنَّ، والثانية: لهما الخيارُ، نصَّ عليه في رواية الأثرم، والثالثة: أنهما على نكاحِهما، نصَّ عليه في رواية مجمد بن حبيب، وحكاها أبو بكر في “زاد المسافر” (5) ثلاث


(1) لم أره في المطبوعة.
(2) (ق وظ): “أعتقها”.
(3) (10/ 73).
(4) أخرجه عبد الرزاق: (7/ 215).
(5) لأبي بكر غلام الخلال ت (363)، في المذهب، وذكر ابن رجب في “القواعد”: (ص/169) أنه قد يقع له الغلط في حكاية كلام الإمام لتصرفه فيه.
(4/1482)


روايات منصوصاتٍ في مسألة التزويج، وللبطلان وجهٌ دقيقٌ، وهو أنه إنما زوَّجها بحكم مُلْكِهِ لهما وقد زال ملْكُه (1) عنهما بخلاف تزويجِها بعبدِ غيره، وبين المسألتينِ فَرْقٌ، ولهذا في وجوب المَهْرِ في هذه المسألةِ نِزَاعٌ، فقيل: لا يجبُ بحال، وقيل: يجبُ ويسَقطُ، والمنصوصُ أنه يجِبُ ويتّبَعُ به بعد العِتْقِ بخلاف تزويجِها بعبَدِ الغير، والله أعلم] (2).
قوله في “المقنع” (3): “وإن باعه السلعةَ برقمها أو بألفِ دينار ذهبًا وفضة، أو بما ينقطعُ به السعر، أو بما باع به فلانٌ، أو بدينار مطلقٍ، وفي البلد نقودٌ لم يَصِحَّ”.
أما الرقمُ؛ فقد نصَّ على صحَّة البيع به، فقال حرب: سألت أحمد عن بيع الرَّقم؟ فلم يَرَ به بأسًا.
وأما البيعُ بالسعر؛ فقد اختلفت الروايةُ عنه فيه، فقال في رواية ابن منصور (4) في الرجلِ يأخذُ من الرجل السِّلْعَةَ يقول: أخذتُها منك على سعر ما تبيع: لم يجزْ ذلك، (ق/ 357 أ) وحكى شيخُنا عنه الجواز نصًا (5).
وأما البيع بدينار مطلق وفي البلدِ نقودٌ؛ فقال في رواية الأثرم: في رجل باع ثوبًا بكذا وكذا درهمًا، أو اكترى دابَّة بكذا وكذا، واختلفا


(1) “لهما وقد زال ملكه” سقطت من (ع).
(2) من قوله: “قال أحمد … ” إلى هنا في (ق وظ) مكانها فى آخر الفصل قبل قوله “فائدة: الذي. وقع … “. وأشرنا إلى ذلك هنا، لأنا التزمنا ترتيب (ظ)، إلا لمناسبة، وهذا منه، لتناسب الكلام. وانظر ما سيأتي (4/ 1520).
(3) (ص/99 – 100).
(4) رقم (25) مع اختلاف في اللفظ.
(5) في “مجموع الفتاوى”: (29/ 510).
(4/1483)


في النقد؟ فقال: له نقْدُ الناسِ بينهم، قيل له: نقدُ الناس بينهم مختلفٌ؟ قال: له البيع (1) بثمن مطلق، مع كونِ النقودِ مختلفةً، وإنما يكونُ له أدناها.
وقال الأثرمُ: بابٌ الرجلُ يأخذ من الرجل المتاعَ، ولا يقاطِعُه على سعره، سئل أبو عبد الله عن الرجل يأخذُ من البقال الأُوْقِيَّةَ من كدا، والرطلَ من كذا، ثم يحاسبُهُ، أيجوزُ له أن يقولَ: اكتبْ ثَمَنَهُ عليَّ ولا يعطِيه على (2) المكان؟ قال: أرجو أن يجوزَ؛ لأنه ساعةَ أخذه إنما أخذه على معنى الشراء، ليس على معنى السَّلَفِ، إنما يُكْرَهُ إذا كان على معنى السَّلَفِ، فإذا قاطعه بقيمتِه يومَ أخذه (3). قيل له: فإن لم يدْرِ كم (4): قيمته يومَ أخذهُ؟ قال: يتحَرَّى ذلك.
وسألته (5) مرة أخرى فقلت: رجل أخذ من رجلٍ رطلًا من كذا ومَنًا من كذا، ولم يقاطعْه على سعرِهِ، ولم يُعْطِهِ ثمنَهُ، أيجوزُ هذا؟ قال: ألَيس على معنى البيع أخَذَهُ؟ قلت: بلى، قال: فلا بأس، ولكنه إذا حاسبه أعطاه على السِّعر يوم أَخَذَهُ لا يوم حَاسَبَهُ.
قال إسحاق بن: هانئ (6): سألتُ أبا عبد الله عن الرجل يفجُرُ بالمرأة ثم يَتزوَّجُها، قال، لا يَتَزَوَّجْها حتى يعلمَ أنها قد تابتْ؛ لأنه


(1) (ع وظ) العبارة: “قال له: قال ابن عقيل: فظاهر هذا جواز البيع .. “! فإما أنه مقحم، أو وقع سقطُ في النُّسَخ لم يتبين به وجه الكلام، فتصرّف ناسخ (ق) بحذف قول ابن عقيل. والله أعلم.
(2) (ق): “غلت”.
(3) كذا في الأصول، وكأن في الكلام نقصًا.
(4) (ق): “يدركه”!.
(5) (ق): “قال: ثم سألته”.
(6) “المسائل”: (1/ 203).
(4/1484)


لا يدري لعلها تعلقُ عليه ولدًا من غيره.
قلت: وما علمُهُ أنها قد تابت؟ قال: يريدُها على ما كان أرادها عليه، فإن امتنعت فهي تائبةٌ.
قلت: وهذا التفات من أحمد إلى القرائن ودلائلِ الحال، وجواز إيهام غير الحقِّ، قولًا وفعلًا، ليعلم به الحق، وهذه اقتداءٌ بنبي الله سليمان بن داود حيث قال في الحكومةِ بين المرأتين في الصبي: “ائتوني بالسِّكِّينِ أشُقَّهُ بينكما” (1).
ومن تراجم النسائى (2) على حديثه هذا: “التَّوسِعةُ للحاكم أن يقول للشيء الذي لا يفعلُه: “افعل” ليستبينَ به الحَقَّ”.
وهذا الذي قاله أحمدُ اتَّبَعَ فيه ابن عمر فإنه قال: يريدُها على نفسِها، فإن طاوعَتْهُ لم تَتُبْ، وإن أبَتْ فقد تابَتْ.
وأنكر الشيخ في “المغني” (3) هذا جدًّا، وقال: “لا ينبغي لمسلم أن يدعوَ امرأة إلى الزنى، ويطلبَهُ منها، ولأنّ طلبه ذلك إنما يكونُ في خَلْوَةٍ، ولا تحلُّ الخَلْوَةُ بأجنبيَّةٍ، ولو كان في تعليمها القرآنَ، فكيف يحِلُّ في مراودِتها على الزِّنا! ثم لا يأمن إن أجابَتْه إلى ذلك أن يعودَ (4) إلى المعصية، فلا يحِلُّ التَّعَرُّضُ لمثل هذا، ولأنَّ التَّوْبَةَ من سائر الذُّنوبِ، بالنسبة إلى سائِر الأحكامِ، وفي حقِّ سائر الناس، على غيرِ هذا الوجهِ، فكذا هذا”.


(1) تقدم تخريجه 1/ 12.
(2) “السنن الكبرى”: (3/ 472).
(3) (9/ 564).
(4) (ق): “يعود هو”.
(4/1485)


وقولُ ابنِ عمر: وأحمدَ أفقهُ؛ فإنَّ التوبةَ لمَّا (ق/ 357 ب) كانت شرطًا في صحَّة النِّكاح، لم يكن بُدٌّ من تحقُّقِهَا، ولا سبيلَ له إلى العلم بها إلَّا بذلك، أو بأن يأمرَ غَيْرَهُ بمراودتِها، ولا رَيْبَ أن المفاسد. المذكورة أقربُ إلى الغير، إذ لا غرضَ له في نكاحِها، بخلافِ الخاطِب، فإن إرادتَهُ لنكاحِها، وعزمَهُ عليه، يمنعُهُ من معاوَدَة ما يعودُ عَلى مقصودِه بالإبطالِ.
فائدة.
الذي وقعَ في “صحيح البخاريِّ” (1) وأكثر كتبِ الحديثِ: “وابعَثْهُ مقامًا محمودًا الذي وعدْتَه” (2)، ووقع في “صحيح ابن خزيمة” والنَّسائيِّ بإسنادِ “الصحيحين”: من رواية جابر: “وابعثه المقامَ المحمُوْدَ” (3)، رواه ابنُ خُزيمة عن موسى بن سهل الرَّمْليِّ، وصَدَّقه أبو حاتمٍ الرَّازيُّ (4)، وباقي الإسنادِ شرطهما، ورواه النسائي عن عَمْرو بن منصور، عن علي بن عيَّاش. والصَّحِيحُ ما في البخاري لوجوه:
أحدها: اتِّفاق أكثرِ الرُّواة عليه (5).


(1) رقم (614 و 4719).
(2) أخرجه أبو داود رقم (529)، والترمذي رقم (211)، وابن ماجه. رقم (722) وغيرهم بهذا اللفظ.
(3) أخرجه بهذا اللفظ ابن خزيمة رقم (420)، والنسائي: (2/ 26 – 27)، وابن حبان “الإحسان”: (4/ 586)، والطحاوي في “شرح معاني الآثار”: (1/ 146)، والطبراني في “الأوسط”: (5/ 54)، والبيهقي: (1/ 410).
(4) في “الجرح والتعديل”: (8/ 146).
(5) اختلف الرواة فى هذه اللفظة على أنحاء:
1 – من رواه -عن علي بن عياش- بالتنكير فقط، وهم سبعة؛: محمد بن سهل بن عسكر، وإبراهيم بن يعقوب، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ومحمد =
(4/1486)


الثاني: موافقتُهُ للفظ القرآن.
الثالث: أن لفظ التنكير فيه مقصودٌ به التعظيم كقوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} [ص: 29]، وقوله: {وَهَذَا ذِكْرٌ} (ق/ 358 أ) {مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} [الأنبياء: 50]، وقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ} [الأحقاف: 12]، ونظائره.
الرابع: أن دخولَ اللام يُعَيِّنُهُ ويخصُّه بمقام معيَّن، وحذفُها يقتضي إطلاقًا وتعدُّدًا، كما في قوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة: 201] ومقاماتُهُ المحمودة في الموقِفِ متعدِّدَةٌ، كما دلَّتْ عليه الأحاديثُ، فكان في التنكيرِ من الإطلاقِ والإشاعَةِ ما ليسَ في التَّعريفِ.
الخامس: أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – كان يحافِظُ على ألفاظ القرآن تقديمًا وتأخيرًا، وتعريفًا وتنكيرًا، كما يحافظُ على معانِيه، ومنه: قولُه وقد بدأ بالصَّفا: “ابْدَأُوا بما بَدَأَ اللهُ به” (1)، ومنه: بداءته في الوضوء بالوجهِ ثم باليدينِ اتَباعًا للفظ القرآن، ومنه: قولُه في حديث البَرَاء ابن عازب: “آمنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، ونَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ” (2)


= ابن مسلم بن وارة، والعباس بن الوليد الدمشقي، ومحمد بن أبي الحسين.
2 – من رواه بالتعريف فقط، وهم اثنان؛ عبد الرحمن بن عَمرو أبو زرعة الدمشقي، وموسى بن سهل الرملي.
3 – من رواه على الوجهين: التعريف والتنكير، وهم ثلاثة؛ عَمرو بن منصور النسائي، ومحمد بن عوف، ومحمد بن يحيى.
(1) أخرجه بلفظ الأمر النسائي في “المجتبى”: (5/ 236)، والكبرى: (2/ 413)، وابن الجارود: (2/ 93)، والطبري في “التفسير”: (2/ 54)، والدارقطني: (2/ 452). وبلفظ الخبر: “أبدأ” أخرجه مسلم رقم (1218) وغيره من حديث جابر -رضي الله عنه-.
(2) أخرجه البخاري رقم (247)، ومسلم رقم (2710).
(4/1487)


موافقةً لقوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} [الأحزاب: 45] وعلى هذا فـ “الذي وعدته” إما بدَلٌ، وإما حْبرُ مبتدأ محذوف، وإما مفعولُ فعلٍ محذوف، وإما صفةٌ لكون “مقامًا محمودًا” قريبًا من المعرفة لفظًا ومعنى، فتأمله.


قال أحمدُ في رواية ابن هانئ (1): لا تجور شهادةُ من أيسر ولم يَحُجَّ، وليس به زَمَانَةٌ، ولا أمرٌ يحْبِسُهُ عنه.
وقال (2): لا تجوزُ شهادةُ الوَلَد لوالدِه، ولا الوالدُ لوَلَدِه، إذا كانوا يَجُرُّون الشيءَ لأنفسِهم.
وقال (3): تجوزُ شهادةُ الغلامِ إذا كان ابنَ اثنتي عشرة سنة أو عشرَ سنين، وأقامَ شهادَتَهُ، جازت شهادَتُهُ.
وقال ابن هانئ: سمعتُ أبا عبد الله يقول: لا يُعْجِبُني أن يُعَدِّلَ القاضي؛ لأنَّ الناس يتغيَّرون، ولا يدري ما يحدُثُ.
وسئل عن الرجل يُعَدِّلُ الرجلَ؟ فقال: ما يُعْجِبُني يعدله؛ لأنه لا يدري ما يحدثُ، والناسُ يتغيرون.
وسُئِلَ: متى يُعَدَّلُ الرجلُ؟ فقال: قال إبراهيم: إذا لم تظهرْ منه ريبةٌ يعدَّلُ.
ولأصحابه فيما إذا سُئِلَ عن مسألةٍ فأجاب فيها بحكايةِ قول من


(1) “المسائل”: (2/ 37).
(2) المصدر نفسه.
(3) هذه المسألة وما بعدها في “المسائل”: (2/ 36 – 37).
(4/1488)


بعد الصَّحابَةِ وجهانِ؛ (ظ/245 ب) أحدهما: أنه يكون مذهبًا له، والثاني: لا.

فائدة
الفرق بين الشك والريب من وجوه:
أحدها: أنه يُقَالُ: شكٌّ مريبٌ، ولا يقال رَيْبٌ مُشَكِّكٌ.
الثاني: أنه يقال: رَابني أمْرُ كذا، ولا يقال شكَّكَني.
الثالث: أنه يقال: رَابَه يَرِيبهُ إذا أزعجَهُ وأقلقَهُ، ومنه قول النبي – صلى الله عليه وسلم – وقد مَرَّ بظبي حاقِف في أصل شجرة”: “لا يَرِيبُهُ أحدٌ” (1)، ولا يحسُنُ هنا: لا يُشَكِّكُه أحدٌ.
الرابع: أنه لا يقالُ للشَّاكِّ في طلوع الشمس أو في غروبها أو دخول الشهرِ أو وقت الصلاة: هو مرتابٌ في ذلك، وإن كان شاكًّا فيه.
الخامس: إن الرَّيْبَ ضدُّ الطُّمَأْنِينَةِ واليقينِ، فهو قلقٌ واضطرابٌ وانزعاجٌ، كما أن اليقينَ والطُّمَأْنِيَنةَ ثباتٌ واستقرارٌ.
السادس: أنه يُقالُ: رَابَني مجيئُهُ وذهابُهُ وفعلُهُ، ولا يقال: شكَّكَني، فالشَّكُّ سببُ الرَّيْبِ، فإنه يَشُكُّ أولًا (2)، فيوقعُهُ شَكُّهُ في الرَّيْبِ، (ق/358 ب) فالشَّكُّ مَبدأُ الرَّيْبِ، كما أن العِلْمَ مَبْدأُ اليقينِ


(1) أخرجه النسائي: (5/ 182)، وابن حبان “الإحسان”: (11/ 512)، والبيهقي: (6/ 171) وغيرهم من حديث عُمير بن سلمة الضمري. وحاقف: أي رابض، وقيل: غير ذلك.
(2) العبارة في (ق): “فالشك المريب كأنه شك أولًا .. “.
(4/1489)


ومما انتقاه القاضي من “شرح أبي حفصٍ لمبسوطِ أبى بكرٍ الخلال” (1)

  • أحمد في رواية أحمد بن الحسين: يغسلُ يَدَهُ ثلاثًا ثم يستنجِي ثم يغسلُ يَدَهُ ثم (2) يَتَوَضَّأُ.
    قال أبو حفص: قد بينَّا عن أبى عبد الله غسلَ اليدِ في الطَّهارة في ثلاثةِ مواضِعَ؛ أحدها: قبل الاستنجاء، والثاني: غسل اليد اليسري بعد الاستنجاء، والثالث: عند ابتداء الوضوء.
    وقال في الرجل يستجمرُ ويعرقُ في سراويله: “إذا استجمرَ ثلاثةً فلا بأسَ”. يحتملُ أن يحملَ على ظاهرِها، فيَكونُ الموضِعُ قد طَهُرَ بالاستجمار فلا يَضُرُّ العَرَقُ، ويحتملُ أن يتأولَ (3) على أنه عَرَقُ غيرِ موضِع الحَدَث، أو عَرِقَ فلم يُصِبْ ذلك الموضعُ سراويلَهُ، وهذا القولُ أولى؛ لأن الموضعَ عُفِيَ عنه تخفيفًا، فإذا نال الموضعَ رطوبةٌ، وَجَبَ إزالةُ الأَثَرِ، كما تجِبُ إزالةُ العين ونَجَسِ ما لاقاها كالعين.
  • قلت: اختلف أصحابُنا في أثر الاستجمارِ؛ هل هو نَجَسٌ معفوٌّ عنه أو طاهرٌ؟ على وجهين، وعلى ما اختاره أبو حفص تصيرُ المسألةُ على ثلاثةِ أوجهٍ، وقولُه الذي اختارَه ضعيفٌ جدًّا، مذهبًا ودليلًا وعملًا، فإنَّ الصَّحابَةَ لم يكنْ أكثرُهم يستنجي بالماء، وإنما كانوا يستجمِرون صَيْفًا وشتاءً، والعادةُ (ق/ 348 أ) جاريةٌ بالعَرَق في الإزارِ،

(1) “المبسوط” لأبي بكر الخلال، انظر “طبقات الحنابلة”: (3/ 226)، وشرحه لأبي حفص العُكْبَرىِ، نقل عنه المرداوي في “الإنصاف”: (2/ 182)، ولم أعرف عنهما أكثر من هذا.
(2) (ف وظ): “و”.
(3) ليست في (ق)، (ظ): “يقول”.
(4/1490)


ولم يأمُرْهم النبي – صلى الله عليه وسلم – بغسلِه، وهو يعلمُ موضِعَهُ، ولا كانوا هم يفعلونَهُ (1)، مع أنهم خيرُ القرونِ وأتقاهم لله، ولا أعلمُ أحدًا من أصحابنا اختارَ ما اختاره أبو حفصٍ، وهو خلاف نصِّ أحمد، والله أعلم.

  • واختلف قولُه إذا لم يجمع المستنْجِي بينَ الأحجارِ والماء أيُّهما أولى بالاستعمال؟ فنقل الشَّالَنجيُّ أنه قال: إن لم يكن مع الأحجار ماءٌ، فالأحجار أحبُّ إليَّ، والوجهُ فيه: أن ابنَ عُمر كان لا يَمَسُّ ذَكَرَهُ بالماء. وروى أبو عبد الله عن إسماعيل بن أميَّة عن نافع قال: “كان ابنُ عُمر لا يغسلُ أثرَ المَبَالِ” (2)، واستعمالُ الحِجارة أتت في الأخبارِ (3).
    وروى حربٌ الكرماني والحسن بن ثَوَاب تضعيفَ الأخبار في الاستنجاءِ بالماءِ، وقال في حديث مُعَاذَةَ، عن عائشة، عنه: قَتَادَةُ لم يرفَعْه، ولأن المستجمِرَ لا تُلاقي يَدُهُ النجاسَةَ، وعنه: هما سواءٌ، وعنه: الماء أفضلُ، جاء في البول من التغليظ ما لم يأتِ في الكلبِ.
  • اختلف قوله إذا لم يقدروا أن يُصَلُّوا في السفينة قيامًا جماعةً وأمكنهم الصلاةُ فُرَادَى قيامًا، هل يُصَلُّون جُلوسًا جماعة؟
    فعنه في رواية حرب: يُصَلِّي كُلُّ إنسان على حِدَتِهِ.
    وقال في رواية الفضل بن زياد: تُصَلِّي وحدَك قائمًا. ووجهُهُ: أن القيامَ آكَدُ؛ لأنه لو صلَّى قاعدًا مع قدرتِه على القيام لِم يجزئْهُ،

(1) (ق وظ): “يغسلونه”.
(2) أخرجه عبد الرزاق: (1/ 152) بنحوه.
(3) (ق وظ): “واستعمال الأحجار أثبت … ” وهو وجيه.
(4/1491)


ولو صلَّى منفردًا مع قدرتِه على الجماعةِ أَجْزَأَ.
والقولُ الآخرُ تخريجًا على قوله: إن الإِمامَ إذا صلَّى جالسًا يُصَلِّي مَنْ خَلْفَهُ جلوسًا، فقد أجاز للمأمومِ الصلاة جالسًا لأجل الجماعة.
قال القاضي: قلت أنا: ولأنا أسقطنا القيامَ لعدم السِّتارة (1) فكذا الجماعةُ.

  • واختلف (ظ/ 246 أ)، قولُه في صفة جلوس العَرْيان في صلاتِه.
    فعنه: يَجْعَلُ قيامَهُ تَرَبُّعًا. قال القاضي: قلت أنا: كالمريض والمُتنفِّل.
    وعنه: يَتَضَامُّون؛ لأنهم إذا تَضَامُّوا كان أسترَ لعوِراتِهم، والمُتَرَبِّعُ يُفْضِي بفرجِه إلى السَّماء، ولا يمكنُهُ وضعُ يَدِهِ على فَرْجِهِ لئلا تنتقضَ طهارَتُهُ.
  • واختلف قوله: إذا توارى بعضُهم عن بعض، فصلُّوا قيامًا.
    فعنه: لا بأس. وعنه: أنه قال: يُصَلِّي العُريانُ قاعدًا يجعل قيامَهُ متَربعًا (2)، فقد ذكر عريانًا واحدًا أنه يُصَلِّيَ قاعدًا، وهذا أصحُّ في مذهبه؛ لأن سترَ العورة آكَدُ عندَه من القيام، لأن مذهبَهُ في العراة يصَلُّون جلوسًا، ولأن سترَ العورةِ يُرَادُ للصلاة، ألا ترى أنه لا يجوزُ للخالي أن يصَلِّيَ مكشوفَ العورة، ولا إذا كان جيبُهُ واسعًا ينظر: إلى عورتهِ، ولحيتُهُ كبيرةٌ تحولُ بينَه وبين النظرِ.

(1) وهي السترة، أي: ما تُسْتر به العورة.
(2) (ع): “تربيعًا”.
(4/1492)


فائدة (1)
حديث: يا رسولَ الله عندي دينارٌ، قال: “أنفِقْهُ على نَفْسِكَ … ” إلى الخامس (2)، قال: “أنتَ أَبْصَرُ” (3).
قيل: لعله أشارَ إلى أنه قبل الخامس في حكم (ق/ 348 ب) الفقير، فلما أخبره أن معه خامسًا -والدينار كان عندهم اثنا عَشَرَ دِرْهَمًا- فقد مَلَكَ قيمةَ خمسينَ درهمًا من الذهب، وزادَ عليها، ففوَّضَ الأمرَ إليه في الصَّدَقَة في الخامس دونَ ما قَبْلَه، فَهذا يُؤَيِّد حديث: “مَنْ سَأَلَ وله ما يُغْنِيه” قيل: وما يغْنِيه؟ قال: “خمسون درهمًا” (4) الحديث، والله أعلم (5).


(1) (ق): “مسألة”.
(2) أي: حتى ذكر أن له دينارًا خامسًا.
(3) أخرجه أحمد: (12/ 381 رقم 7419)، وأبو داود رقم (1691)، وابن حبان “الإحسان”: (8/ 127)، والحاكم: (1/ 415) وغيرهم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. وسنده جيِّد.
(4) أخرجه أحمد: (6/ 194 – 195 رقم 3675)، وأبو داود رقم (1626)، والترمذي رقم (651)، والنسائي: (5/ 97)، وابن ماجه رقم (1840)، وغيرهم من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-.
والحديث حسّنه الترمذي، وتكلم بعض أهل العلم في إسناده، إذ فيه حكيم بن جُبير، وهو ضعيف، وتكلم فيه شعبة من أجل هذا الحديث، أما متابعة زُبيد له فقد طعن فيها جماعة منهم الإمام أحمد.
(5) قال الترمذي -عقب الحديث-: “والعمل على هذا عند بعض أصحابنا، وبه يقول الثوري وعبد الله بن المبارك وأحمد وإسحاق، قالوا: إذا كان عند الرجل خمسون درهمًا لم تحل له الصدقة.
قال: ولم يذهب بعض أهل العلم إلى حديث حكيم بن جُبير، وسَّعُوا في هذا، وقالوا: إذا كان عنده خمسون درهمًا أو أكثر وهو محتاج، فله أن يأخذ من الزكاة، وهو قول الشافعي وغيره من أهل الفقه والعلم” اهـ.
(4/1493)


  • قال أبو حفص: واختلف قولُه في الاستدارة في المحمل.
    فروى محمد بن الحكم عنه: من صلَّى في مَحْمَل فإنه لا يُجْزِئُهُ إلَّا أنْ يستقبلَ القِبْلَةَ؛ لأنه يمكنُهُ أن يدورَ، وصاحبُ الراحلة والدَّابَّة لا يمكنه، والحجةُ أمر الله تعالى باستقبال القبلة حيث كان المصلي، وذلك ممكن في المحمل كما في السفينة، بخلاف الدَّابَّة فتسقطُ لعدم: الإمكان.
    وروى عنه أبو طالب أنه قال: الاستدارةُ في المحمل شديدةٌ، يصلِّي حيثُ كان وجههُ؛ لأن الاستدارةَ في المحمَل شديدٌ على الجَمَل فجاز تَرْكُها، كما جاز في الرَّاحِلَةِ لأجل المَشَقَّةِ على الرَّاكِبِ (1).
  • واختلف قولُه في السُّجود في المَحْمَل.
    فروى عنه عبد الله (2) ابنه أنه قال: وإن كان مَحْمَلًا فَقدَر أن يسجدَ في المحمل سَجَدَ. وروى عنه الميمونيُّ: إذا صلى على محمل أحبُّ إليَّ أن يسجدَ لأنه يمكنُهُ. وعنه الفضل بن زياد: يسجدُ في المحمَلِ إذا أمكنه.
    ووجهه: أنه تعالى أَمَرَ بالسُّجود، وإنما سقط عن المُصَلِّي على الرَّاحِلَةِ لعدمِ الإمكانِ.
    وروى عنه جعفر بن محمد: السُّجودُ على المِرْفَقَةِ، إذا كان في المحملِ، ربما اشتدَّ على البعير، ولكن يومئُ، ويجعل السجودَ

(1) من قوله: “يصلي … ” إلى “شديد” سقط من (ظ)، وقوله: “لأجل المشقة على الراكب” ليست في (ق).
(2) “المسائل” رقم (316).
(4/1494)


أخفض الرُّكوعِ، وكذا روى عنه أبو داود (1)، ووجْهُه: المشقَّةُ على البعير.
قلت: الذي أوجب هذا: أن الصحابَةَ لم يكن سفرُهم ولا حَجُّهم في المحامل، وإنما حدث (2) في زمن الحَجَّاج، فالصّلاةُ فيها دائرةُ الشَّبَهِ بين الصلاةِ في السَّفينة والصلاةِ على الرَّاحلة، فمن راعى شبهها بالسفينة أوجبَ الاستقبال؛ لأن المحملَ بيتٌ سائرٌ في البَرِّ، كما أن السفينةَ بيتٌ سائرٌ في البحر، ومن راعى مَشَقَّةَ الاستدارةِ على المصَلِّي والبعيرِ أسقطَ الاستقبالَ، وهو الأَقْيَسُ، والله أعلم.

مسألة
قال المرُّوْذيُّ: كان أبو عبد الله إذا سَلَّم من المكتوبةِ ركَعَ ركعتينِ قبلَ التَّراويح.
وجْهُه: ما رَوى عليٌّ (3): “كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يُصَلِّي على إِثْر كلِّ صلاة مكتوبة ركعتين، إلا الفجر والعصر، (4)، ظاهرُهُ العمومُ في رمضان وغيره، ولا يُتْركُ (5) ذلك لأجل التَّراويحِ؛ لأن كُلاًّ منهما مقصودٌ.
وروى أحمد بن الحسين: صَلَّيْتُ مع أبي عبد الله في شهر رمضانَ


(1) “المسائل” رقم (536).
(2) (ق): “حدثت”.
(3) (ق): “رُوِي عن علي”.
(4) أخرجه أحمد: (2/ 294 رقم 1012)، وأبو داود رقم (1275)، وابن خزيمة رقم (1196)، والبيهقي: (2/ 459) وغيرهم.
والحديث صححه ابن خزيمة والضياء في “المختارة”: (2/ 149).
(5) تحرفت في (ق وظ).
(4/1495)


التَّرَاوِيحَ، فكان إذا صَلَّى العَتَمَةَ لا يُصَلِّي حتى يقومَ إلى التَّرَاوِيح.
قال الخلَّال: لم يضبط هذا، فإن كان قد ضبط ما رواه، (ق/ 349 أ) فوجهُهُ أنه فعل (1) التَّراويحَ أو الركعتينِ قبل ركعةِ الوترِ، موضعَ الركعتينِ بعدَ المكتوبَةِ.
قال حنبلٌ: كان أبو عبد الله يُصَلِّي معنا، فإذا فرغنا من التَّرْويحة: جَلَسَ وجلسنا، وربما يُحدِّث ويُسألُ عن الشيء فيُجيبُ، ثم يقومُ فيُصَلِّي، ثم يدعو بعد الصلوات بدَعَوَاتٍ، ثم يوتِرُ، ثم ينصرفُ.
وقال الفضل: رأيتُ أحمدَ يقعدُ بين التَّراويحِ ويُرَدِّدُ هذا الكلامَ: “لا إله إلَّا الله وحدَه، لا شريكَ له، أستغفرُ الله الذي لا إله إلَّا هو”. وجلوسُ أبي عبد الله (ظ/ 246 ب)، للاستراحَةِ؛ لأن القيام إنما سمي تراويحَ لما يَخَلَّلُه من الاستراحَةِ بعد كلِّ ترويحة.

  • واختلف قولُه في تأخيرِ التَّراويحِ إلى آخرِ اللَّيلِ.
    فعنه: إن أخَّروا القيامَ إلى آخرِ اللَّيل فلا بأسَ به، كما قال عمرُ: “فإنَّ الساعَةَ التي تنَامون عنها أفضلُ” (2)، ولأنه يحصل قيامٌ بعدَ رَقْدَةٍ، قال الله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ … } [المزمل: 6]، الآية.
    وروى عنه أبو داود (3): لا يؤخَّرُ القيامُ إلى آخر اللَّيْلِ، سنة المسلمين أحبُّ إليَّ.
    ووجهه: فعلُ الصحابة، ويُحْمَلُ قول عمر على التَّرغيبِ في

(1) (ظ): “جعل”.
(2) أخرجه البخاري رقم: (2010).
(3) “المسائل” رقم (438).
(4/1496)


الصَّلاة آخرَ الليل، ليواصِلوا قيامَهم إلى آخرِ الليل، لا أنهم يُؤَخِّرونها، ولهذا أمَرَ عمرُ من يُصَلِّي بهم أوَّلَ الليل.
قال القاضي: قلت: ولأن في التأخير تعريضًا بأن يفوتَ كثيرًا من الناسِ هذه الصلاةُ لغَلَبَةِ النومِ.

  • واختلف قوله في القيام ليلة العيد في الجماعة.
    فروى عنه حنبلٌ: أما قيَامُ ليلةِ الفطرِ فما يُعْجِبُني ما سمعنا أحدًا فعل ذلك إلَّا عبدُ الرحمن (1)، وما أراه؛ لأنَّ رمضَانَ قد مضى، وهذه ليلةٌ ليست منه، وما أُحِبُّ أن أفعلَه، وما بَلَغَنا من سَلَفِنا أنهم فعلوه. وكان أبو عبد الله يصَلِّي ليلةَ الفطرِ المكتوبَةَ، ثم ينصرفُ، ولم يُصَلِّها معه قطُّ، وكان يكرهُهُ للجماعةِ.
    الفضل بن زياد: شهدت أحمدَ ليلةَ الفطرِ وقد اختلفَ الناسُ في الهلال، فصلَّى المكتوبةَ، وركع أربع ركعات، وجلسَ يستخبرُ خبرَ الهلال، فبعث رسولًا فقال: اذهبْ نحو أبي إسحاق (2) فاستخبرْ خَبَر الهلال، فلم يَزَلَ جالسًا ونحن معه حتى رَجَعَ (3) الرسولُ فقال: قد رُؤِيَ الهلالُ، فانتعَلَ (4) أحمد، ثم قام فدخل منزلَه.
    وعنه أبو طالب: أنه قال في الجماعةِ يقومون ليلةَ العيدِ إلى الصَّبَاحِ يجمِّعونَ، قال: من فعلَ ذلك هو زيادةُ خير، كان عبدُ الرحمنِ بن الأسودِ

(1) هو: عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي الكوفي، أحد التابعين، وانظر: “مسائل ابن هانئ”: (1/ 97)، وخبره في “صنف ابن أبي شيبة”: (2/ 168)
(2) (ق): “دار إسحاق”.
(3) (ق): “جلس”.
(4) أي: لبس النعل. ووقع في المطبوعات: “فانتقل”.
(4/1497)


يعتكِفُ فيقومُ ليلةَ العيدِ إلى الصَّباحِ، مَنْ فَعَلَهُ فحسنٌ، ومنْ لم يفعَلْه فليس عليه شيءٌ انتهى.
لما روى مالك بن دينار، عن سالم، عن ابنْ عمر كان يُحْيِي ليلةَ العيدِ (1). عبد الرحمن بن الأسود (ق/ 349 ب)، كان يُصَلِّي بقومِه في شهر رمضان وكان يقرأُ بهم القرآن في كلِّ ليلةٍ (2):
قال أبو عبد الله -في الرجل يُصَلِّي شهرَ رمضان، يقومُ فيُوتِرُ بهم، وهو يريدُ يصلِّي بقومٍ آخرينَ-: يشتغلُ بينَهم بشيءٍ يأكلُ أو يشرب أو يجلِسُ، رواه المرُّوْذيُّ.
وذلك لأنه يكرَهُ: أن يوصلَ بوتِرِهِ صلاةً، فيشتغلُ بينَهم بشيءٍ ليكونَ فصلًا بين وتْرِهِ وبينَ الصلاةِ الثانيةِ، وهذا إذا كان يصلِّي بهم في موضعِه، أما في موضِعٍ آخَرَ فذهابُهُ فصلٌ، ولا يُعيد الوتْرَ ثانيةً، “لا وِتْرَانِ في لَيْلَةٍ” (3).
وقال أبو عبد الله -في الرجل يجيءُ والإمامُ يوتِرُ في شهر رمضان،


(1) قال الشافعي في “الأم”: (1/ 231): “وبلغنا عن ابن عمر أنه كان يحيي ليلة جَمْع، وليلة جمع هي ليلة العيد، لأن في صبحها النحر” اهـ، وأخرج عبد الرزاق: (4/ 317) عن ابن عمر قال: خمس ليالٍ لا يرد فيهن الدعاء .. وذكر ليلتي العيدين. لكن إسناده: ضعيف.
(2) لم أعثر عليه.
(3) أخرجه أحمد: (26/ 222 رقم 16296)، وأبو داود رقم (1439)، والترمذي رقم (470)، والنسائي: (3/ 229 – 230) وغيرهم من حديث طلق بن علي -رضي الله عنه-.
والحديث صححه ابن خزيمة وابن حبان، وقال الترمذي: “حسن غريب”، وحسنه الحافظ في “الفتح”: (2/ 258).
(4/1498)


فيلحق معه ركعةً-: إن كان الإمام يفصلُ بينهم بسلام أجرأتْهُ الركعةُ التي لحِقَ، وإذا كان لا يسلِّمُ في الثنتينِ، يقضي مثلَ ما صلَّى ثلاثًا إذا فَرَغَ قام يقضي ولا يقنُتُ.
قوله: “ولا يقنُتُ”، يحتملُ لأنه قد قنَتَ مع الإمام فلا يقنتُ، كما لو سَجَدَ للسهو معه لا يسجدُ آخر صلاته.
ويحتملُ لأنه أدرك آخرَ صلاتِهِ فلا يقنُتُ في أوَّلها.
محمد بن بحر (1): رأيتُ أبا عبدِ الله في شهر رمضانَ، وقد جاء فضلُ بن زياد القَطَّانُ فصلَّى بأبي عبد الله التَّرَاويحَ -وكان حسَنَ القراءةِ- فاجتمعَ المشايخُ وبعضُ الجيران حتى امتلأَ المسجدُ، فخرج أبو عبد الله فصعِد درجةَ المسجدِ، فنظر إلى الجَمْع فقال: ما هذا تَدَعُونَ مساجدَكم وتجيئونَ إلى غيرها؟! فصلَّى بهم لياليَ، ثم صَرَفَة كراهيَةً لما فيه -يعني: من إخلاء المساجدِ- وعلى جارِ المسجد أن يصليَ في مسجدِه.
قال أحمدُ -في الرجل يتركُ الوِترَ متعمدًا-: هذا رجل سوءٍ، يتركُ سُنَّةً سنَّها رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -؟!، هذا ساقط العدالة إذا تَرَكَ الوِتْرَ مُتَعَمِّدًا.
روى هذه المسألة هارون بن عبد الله البزَّاز (2)، (ظ/ 247 أ) ونقل أبو طالب وصالحٌ (3): من تَرَكَ الوِتْرَ متعمدًا هذا رجلُ سوءٍ، وذلك


(1) لم أعرفه. ولعله محمد بن علي بن بحر، نُسِبَ إلى جده، نقل عنه في “المغني”: (10/ 210)، و”طبقات الحنابلة”: (2/ 585).
(2) أبو موسى المعروف بالحمَّال، له عن أبى عبد الله مسائل حسان جدًّا. ت (243). “طبقات الحنابلة”: (2/ 514 – 517).
(3) في “المسائل” رقم (159، 235).
(4/1499)


لقول الله (1): {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63]، وقد أمر به النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -.

  • واختلف قوله إذا أوتَرَ بعد طلوعِ الفجرِ؛ هل يوتِرُ بواحدةٍ أو بثلاث؟.
    فعنه الميمونيُّ قال: إذا استيقظ وقد طَلَعَ الفجرُ، ولم يكن تَطَوَّعَ ركعَ ركعتين، ثم يُوتِرُ بواحدةٍ، لأن الركعتينِ من وِتْرِهِ. ونحوه الأثرم وأبو داودَ (2).
    ووجهه: أن الوِتْرَ اسمٌ للثلاث؛ لأن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – كان يُوتِرُ بها، ولأنه وقتٌ لفعل الوتر، وكان وقتًا للثلاث.
    ونقل يوسفُ بن موسى (3): يُوتِرُ بواحدةٍ.
    وكذلك (4) نقل أحمد بن الحسين في الرجلِ يَفْجَؤُه الصُّبْحُ، ولم يكنْ صلَّىَ قبل العَتَمَةِ، ولا بعدَها شيئًا: يوتِرُ بواحدةٍ (5)، ولا يُصَلِّي قبلها (ق/ 350 أ) شيئًا.
    ووجهه: قوله – صلى الله عليه وسلم -: “صَلاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ” (6) فجعل ما قبلَها من صلاة الليل (7)، وأمرَه بالمبادرة

(1) (ق وظ): “النبي – صلى الله عليه وسلم -“!.
(2) “المسائل” رقم (467، 468).
(3) هو: القطان، تقدمت: ترجمته (ص/ 1002).
(4) فى الأصول: “وذلك”.
(5) من قوله: “وذلك نقل … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(6) أخرجه البخاري رقم (472)، ومسلم رقم (749) من حديث ابن عمر- رضي الله عنهما-.
(7) (ع) زيادة: “مثنى مثنى”.
(4/1500)


بواحدة، ولأن ما بعد طلوع الفجر لا يجوز فيه إلا ركعتا الفجر، وإنما أجزنا الوتر لتأكُّده.

  • واختلف قولُه في اختيارِه الوترَ.
    فروى عنه أبو بكر بن حمَّاد (1) أنه قال: أذهبُ إلى حديث أبي هريرة: “أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلاثٍ … ” (2) الحديث.
    وعنه الميمونيُّ: لست أنامُ إلَّا على وِتْر.
    وعنه الفضلُ بن زياد قال: آخره أفضل، فإن خافَ رجلٌ أن ينامَ أوْتَرَ أوَّلَ الليلِ.
    قال أبو حفص: وإنما يكونُ الوِتْرُ آخِرَ الليل أفضلَ (3) في غير شهرِ رمضانَ، فأمَّا في شهر رمضانَ، فالوترُ أول الليلِ تَبَعٌ للإمام أفضلُ، لقول النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: “مَنْ صَلَّى مَعَ إمَامِه حَتَى يَنْصَرِفَ كُتِبَ له قِيامُ لَيْلَةٍ” (4).
    قال أحمد: إذا كان يقْنُتُ قبلَ الرُّكوعِ، افتتحَ القنوتَ بتكبيرةٍ، رواه أبو داود (5) والفضل بن زياد، ودليلُه: ابنُ مسعود: كان يقنُتُ

(1) هو: محمد بن حماد بن بكر أبو بكر المقرئ، روى عن أبي عبد الله، وله عنه مسائل ت (267). “طبقات الحنابلة”: (2/ 288 – 289).
(2) أخرجه البخاري رقم (1178)، ومسلم رقم (721).
(3) من قوله: “فإن خاف … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(4) أخرجه أحمد: (35/ 352 رقم 21447)، وأبو داود رقم (1375)، والنسائي: (3/ 83 – 84)، وابن ماجه رقم (1327)، وابن خزيمة رقم (2206)، وابن حبان “الإحسان”: (6/ 288)، وغيرهم من حديث أبي ذرٍّ -رضي الله عنه- في قيام رمضان.
(5) “المسائل” رقم (484).
(4/1501)


في الوِتر، إذا فَرَغَ من القراءة كَبَّرَ (1) ورفع يديه، ثم قَنتَ (2).

  • واختلف قولُه في قَدْر القيام في القنوت.
    فعنه بِقَدْر: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} [الإنشقاق: 1]، أو نحو ذلك. وقد روى (3) أبو داود (4): سمعتُ أحمد سُئل عن قول إبراهيم: القُنُوتُ قَدْرُ: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)}؟ قال: هذا قليلٌ يعجبُني أن يزيدَ.
    وعنه: كقُنوت عُمَرَ (5)، وعنه: كيف شاءَ.
    وجْهُ الأولى: أنه وَسَطٌ من القيام. والثانية: فعل عمر. والثالثة: أن طَرِيقَهُ الاستحبابُ، فسقط التوقيتُ فيه.
    نَقَل يوسفُ بن موسى عنه: لا بأس أن يدعوَ الرجلُ في الوِتْر لحاجتِهِ.
    وروى عنه علي بن أحمد الأنماطي (6) أنه قال: يُصَلِّي على النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – في دعاء القُنُوتِ.
    قال أحمد: يدعو الإمامُ ويؤمِّنُ من خَلْفَهُ (7).
    وعنه أبو داود (8): إذا لم يسْمَعْ صوتُ الإمام يدعو.

(1) (ع وظ): “وكبر”.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة: (2/ 100).
(3) (ق وظ): “وروى”.
(4) “المسائل” رقم (476).
(5) انظر “مسائل أبي داود” رقم (800، 801).
(6) “طبقات الحنابلة”: (2/ 117).
(7) “مسائل أبي داود” رقم (475).
(8) “المسائل” رقم (485).
(4/1502)


أبو حفص: لأن التأمين لما يسمعونَ، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إِذَا أمَّنَ الإمَامُ فَأَمنُوا” (1).
وعنه: إذا (2) دعا وأمَّنُوا فجيدٌ، وإد دعا ودَعَوْا فلا بأسَ كلٌّ موسَّعٌ.
وجْهُه: أن المؤَمِّنَ داع قال تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 89] وكان هارونُ مُؤَمِّنًّا.
قال: يجهر الإمامُ بالقنوتِ، ولم يَرَ أن يخافِتَ إذا قَنَت ألبتة، لما رُوِي أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – جَهَر بالقُنوت، بِدَليل أن أصحابَه كانوا يُؤَمِّنُونَ.
وروى أبو عبد الله: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا سعيد، عن جعفر، عن أبي عثمان: صَلَّيْتُ خلف عمر بن الخطاب فَقَنَتَ بعد الرُّكوع، ورفع يديه في قُنُوته، ورفع صوتَهُ بالدُّعاء، (ق/ 350 ب) حتى سَمَّعَ مَنْ وراء الحائطِ (3).
وعن أُبَيٍّ أنه جَهَرَ بالقُنوتِ. وعن معاذٍ القارئ أنه جَهَرَ.
المرُّوْذيُّ: كان أبو عبد الله في دعاء الوِتر لم يكن يسمَعُ دعاءَهُ مَنْ يليه. هذا يدلُّ (4) على أنه كان مأمومًا والمأموم لا يجْهَرُ.
مهنَّا: سُئل أحمد عن الرجل يقنتُ في بيتِه، أيعجِبُكَ يجهرُ بالدعاء في القنوتِ أو يُسِرُّهُ؟ قال: يُسِرُّهُ، وذلك أن الإمام إنما يجهرُ لِيُؤَمِّنَ المأمومُ.


(1) أخرجه البخاري رقم (780)، ومسلم رقم (410) من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-.
(2) (ق وظ): “إن”.
(3) أخرجه البيهقي: (2/ 212) عن أبي عثمان من طريق آخر.
(4) من (ظ).
(4/1503)


عبد الله (1): قلت لأبي: يمسح بهما وجهَه؟ قال: أرجو أن لا يكون به بأسٌ. وكان الحسنُ إذا دعا مسح وجْهَهُ.
وقال (2): سئل أبي عن رفع الأيدي في القُنوت، يمسحُ بهما وجهه؟ قال: لا بأس يمسح بهما وجهَه، قال عبد الله: ولم أرَ أبي يمسحُ بهما وجْهَهُ (3).
فقد سهَّلَ أبو عبد الله في ذلك وجعَلَه بمنزلة مسحِ الوجهِ في غيرِ الصَّلاةِ؛ لأنه عملٌ قليل ومنسوب إلى الطَّاعة، واختيارُ أبي عبد الله تَرْكُهُ.

  • قال حنبل: قلت لأبي عبد الله: ما أحبُّ إليك ما يَتَقَرَّبُ به العبدُ من العمل إلى الله؟ قال: كثرةُ الصلاةِ والسجودِ، أقربُ ما يكون العبدُ من الله، إذا عَمر وجْهَه له ساجدًا.
    يعني بهذا: إذا سجدَ لله على التراب، وفى هذا بيان أن الصَّلاة أفضلُ أعمال الخير.
    وروى عنه المرُّوْذيُّ أنه قال: كلُّ تسبيحٍ في القرآن صلاةٌ (4) إلَّا موضع واحد. قال: {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (41)} الطور: 49]، ركعتينِ قبلَ الفجر، {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)} [ق: 40]، ركعتين بعد المغرب.

(1) “المسائل” رقم (426).
(2) المصدر نفسه رقم (446).
(3) وفي “مسائل أبي داود” رقم (486): “سئل عن الرجل يمسح وجهه بيده إذا فرغ في الوتر؟ قال: لم أسمع به، وقال مرة: لم أسمع فيه بشيء، ورأيت أحمد لا يفعله” أهـ.
(4) أخرجه الطبري: (9/ 331) وغيره عن ابن عباس: “كل تسبيح في القرآن فهو صلاة، وكل سلطان في القرآن حجة” والزيادة الأخيرة عند الضياء في “المختارة”. (10/ 314)
(4/1504)


قال أبو حفص: والحجَّةُ في تفضيله الصلاةَ على سائِر أعمال القرَب قولُه تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]، {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132].
و قال حذيفةُ: إذا حَزَبَهُ أمرٌ صَلَّى (2).
وقال: “أعِني عَلَى نَفْسِكَ بكَثْرَةِ السُّجُودِ” (3)، وقال: “أَفْضَلُ الأَعْمَالِ الصَّلاةُ لأَوَّلِ وَقْتِها” (4) وقالَ: “جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ” (5)، ولأنها تختصُّ بجمع الهمِّ، وحضورِ القلبِ، والانقطاع عن كلِّ شيء سواها، بخلاف غيرِها من الطَّاعات، ولهذا كانتَ ثقيلةً على النَّفْس.

  • نقل عنه محمد بن الحكم (6) (ظ/ 247 ب) في الرجل يفوتُهُ وِرْدُه من اللَّيل: لا يقرأ به في ركعتي الفجرِ، كان النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – يُخَفِّفُهما، لكن

(1) في الأصول: “وكان”، وسياق الكلام يدل أن المحكيّ عنه هو الرسول – صلى الله عليه وسلم – لا حذيفة، إذ ساق الآيات على فضل الصلاة ثم الأحاديث، ثم لم أجد هذا الأثر عن حذيفة.
(2) حديث حذيفة أخرجه أحمد: (5/ 388)، وأبو داود رقم (1319).
(3) أخرجه مسلم رقم (489) من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي -رضي الله عنه-.
(4) أخرجه البخاري رقم (527)، ومسلم رقم (85) من حديث أبي مسعود بنحوه بلفظ “على وقتها”، ولفظ المؤلف عند الترمذي رقم (170)، وأبو داود رقم (426) من حديث أم فروة.
(5) أخرجه أحمد: (19/ 307 رقم 12294)، والنسائي: (7/ 61 – 62)، والحاكم: (2/ 160) من حديث أنسٍ -رضي الله عنه- والحديث قوَّاه الذهبي والعراقي والحافظ ابن حجر.
(6) تقدمت ترجمته (ص/955)، وعدد من مسائله (ص/957، 958 وغيرها)، ووقع في (ق): “محمد بن عبد الحكم”.
(4/1505)


يقرأُ إذا أصبحَ، أرجو أن يُحتسبَ له بقيامِ اللَّيلِ.

  • اختلفت الرِّوَايةُ في الرَّكعتين بعد الظهر.
    فعنه الأثرم: يُصَلِّيهما في المسجد.
    ووجْهُه، حديث: أم سَلَمَةَ في الركعتين بعد العصر (1)، ظاهرُهُ: أنهم شغلوه عن صلاة: الرَّكعتينِ في المسجد.
    الفضل بن زياد: رأيتُ أحمدَ لا يُصَلِّي بعدَ المكتوبة شيئًا في المسجد إلَّا مَرَّةً بعدَ الظهر، كان يومًا نادرًا.
    ووجْهُه: حديثُ عائشة: “كان يُصَلِّي قبلَ الظهر أربعًا في بيتي، ثم يخرج فَيُصَلِّي بالناس، ثم يرجِعُ إلى بيتي فيُصَلِّي ركعتين” (2)، والله أعلم.

مسألة
أبو (ق/351 أ) الصقر عنه: لا بأسَ أن يجهرَ الرجلُ بالقراءَةِ بالليلِ، ولا يجهرُ بالنهارِ في التَّطَوُّع
وقال في الرجل يُصَلِّي بقومٍ صلاةَ الفريضةِ، فمرَّتْ به آياتُ العذابِ، فقال: “أستجيرُ بالله من النار”: مَضَتْ صلاتُهُ ولا يعيدُ الصلاةَ.
وقال في الرجل يُصَلِّي ويأتي على ذكر النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – وهو في الصَّلاة، قال: إن كان تَطَوُّعًا صلَّى عليه، وإن كانَ في الفريضَةِ فلا.

  • واختلف قولُه في المداومة على صلاة الضُّحى.

(1) تقدم (4/ 1465).
(2) أخرجه مسلم رقم (730).
(4/1506)


فعنه قال: ما أُحِبُّ أن أداومَ عليها، وقد صلاها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم الفَتح (1).
وقال: ربَّما صلَّيْتُ وربما لم أُصَلِّ.
ووجْهُه: ما روى أبو هريرة قال: “ما صَلَّى النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – الضُّحَى قَطُّ إلاّ مرَّةً” (2)، قال الميمونيُّ: قال أحمد: ما سمعناه إلَّا من وكيع وإسنادُه جيد.
وروى عنه موسى بن هارون الحمَّال قال: مَرَّ بي أحمد بن حنبل ومعه المرُّوْذيُّ، وأنا في المسجد قبلَ الزوالِ أُصَلَي الضحى -لأني كنت شُغلتُ عنها- فوقف عَلَيَّ، فقال: ما هذه الصلاةُ، وليس هذا وقتَ الظهر؟! قال: قلت يا أبا عبد الله هذه ركَعَاتٌ كنت أُصَلِّيها ضحىً فشُغِلْتُ عنها إلى هذا الوقت، قال: لا تَتْرُكْها ولو ذكرتَها بعدَ العَتَمَةِ.
ووجهُة: قولُه – صلى الله عليه وسلم -: “أَحَبُّ العَمَلِ إلى اللهِ أَدْوَمُهُ، وَإِنْ قَلَّ” (4).


(1) أخرجه البخاري رقم (280)، ومسلم رقم (336) من حديث أم هانئ -رضي الله عنها-.
(2) أخرجه أحمد: (15/ 472 رقم 9758)، والنسائي في “الكبرى”: (1/ 180)، وقوَّاه أحمد.
(3) فى النسخ “الخطاب”! ولا يعرف في أصحاب أحمد إلا موسى بن هارون أبو عمران الحمَّال الحافظ ت (294). “طبقات الحنابلة”: (2/ 404 – 406)، و”تاريخ بغداد”: (13/ 50). وقد تقدمت ترجمة أبيه هارون بن عبد الله، وهو من أصحاب أحمد -أيضًا-.
(4) أخرجه البخاري رقم (43)، ومسلم رقم (782) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
(4/1507)


وقال في رواية مهنَّا وعبدُ الله (1): صلاةُ التسبيح لم تثبُتْ عندي، فيها حديثٌ سيئٌ.
وقال في رواية أبي الحارث: صلاةُ التسبيح حديثٌ ليس لها أصل، ما يعجبُني أن يصَلِّيَها، يصلِّي غيرها.
وقال علي بن سعيد النسائي: ذكرتُ لأبى عبد الله حديثَ عبد الله ابن مُرَّة من رواية المستمر بن الرَّيَّان (2)؟ فقال: “المستمرُّ شيخ ثقة” (3)، وكأنه أعْجَبَهُ.
الأثرمُ عنه في الركعتين قبل المغرب، قال: أحاديثُ جيادٌ، أو قال صحاحٌ عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وعن الصحابة والتابعينَ (4)، فمن شاء صلَّى بينَ الأذان والإقامة.
وعنه الفضل بن زياد: ما فَعَلْتُهُ قطُّ إلَّا مَرَّةً، فلم أرَ الناسَ عليه فتركتُها (5).
وقال في رواية حنبل: السُّنَّةُ أن يُصَلِّيَ الرجلُ الركعتينِ بعدَ المغرب في بيتِه، كذا رُوِيَ عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – أصحابه.


(1) “المسائل” رقم (413)، وضعفه أيضًا في رواية ابن هانئ: (1/ 151)، والكوسج.
(2) يعني روايته لحديث صلاة التسبيح عن عبد الله بن عَمرو موقوفًا، وهذه الرواية أشار أبو داود رقم (1298) إلى تضعيفها، وعنه البيهقي: (3/ 52). وتحرَّف الاسم في (ق وظ).
(3) وكذلك قال أحمد فيما نقله عبد الله في “العلل” رقم (3259).
(4) (ق وظ): “أصحابه التابعين”.
(5) ذكر هذه الرواية في “المغني”: (2/ 546) عن الأثرم -أيضًا- وقال: “ما فعلته قط إلا مرة، حين سمعتُ الحديثَ … وقال: هذا شيء ينكره الناس، وضحك كالمتعجِّب”اهـ.
(4/1508)


قال السائب بن زيد: لقد رأيتُ الناسَ في زمانِ عمر بن الخطَّاب إذا انصرفوا من المغربِ انصرفوا جميعًا حتى لا يبقى في المسجدِ أحدٌ، كأنه لا يصلُّونَ بعدَ المغربِ حتى (1) يصيروا إلى أهليهم (2).
فإن صلَّى الركعتينِ في المسجدِ فهل يُجْزئُهُ؟ اختلف قوله.
روى عبد الله (3) عنه أنه قال: بلغني عن رجلٍ سمَّاه، أنه قال: لو أن رجلًا صلَّى الرَّكعتينِ في المسجدِ بعدَ المغرب ما أجزأَهُ (4)، (ق/ 351 ب) وقال: ما أحسنَ ما قالَ هذا الرجلُ، وما أجودَ ما انتزَعَ.
ووَجْهه (5): أمرُ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – بالصَّلاة في البيوتِ.
وقال له المرُّوْذي: من صلَّى الركعتينِ بعد المغرب في المسجدِ يكونُ عاصيًا؟ قال: ما أعرفُ هذا.
قلت له: يُحكى عن أبي ثَوْر أنه قال: هو عاصٍ؟ قال: لعله ذَهَبَ إلى قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “اجْعَلُوهَا في بُيوتكُمْ” (6).
ووَجْهه: أنه لو صلَّى الفرضَ في البيت، وتَرَكَ المسجدَ أجزأه،


(1) (ع): “يعني: حتى … “.
(2) أسنده الأثرم فيما نقله الحافظ ابن عبد البر في “التمهيد”: (14/ 178).
(3) في “المسائل” رقم (458).
(4) بعده في “المسائل”: “إلا أن يكون صلاها في بيته، على حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – … “.
(5) هذا التوجيه لأبي حفص العكبري، وكذا عامة التوجيهات التي مرَّت، وانظر “زاد المعاد”: (1/ 313) ففيه التصريح بذلك.
(6) أخرجه أبو داود رقم (1300)، والترمذي رقم (604)، والنسائي: (3/ 198 199) عن كعب بن عجرة، وفيه: “عليكم بهذه الصلاة في البيوت”، وله ألفاظ بنحوه. والحديث استغربه الترمذي. وله شاهد عند أحمد: (5/ 427) من حديث محمود بن لبيد.
(4/1509)


فكذا السُّنَّة في المسجد.
قلت: ليس هذا وجهَهُ عند أحمد، وإنما وَجْهُهُ أن السُّنَنَ لا يُشترطُ لها مكانٌ مُعَيَّنٌ ولا جماعة، فتُفْعَل في المسجد والبيت، والله أعلم.

  • قال في روايةِ الميموني والمرُّوْذيِّ: يستحبُّ أن لا يكونَ قبلَ الرَّكعتينِ بعدَ المغربِ إلى أن تُصَلِّيَهما كلام.
    وقال الحسن بن محمد: رأيت أحمدَ سلَّم الإمام من صلاةِ المغربِ، قام ولم يَتَكَلَّم ولم يركعْ في المسجدِ، وتكلَّمَ قبل أن يدخُلَ الدَّار.
    وَجْه الكراهَةِ: قولُ مكحول: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ، يعني: قَبْلَ أَنْ يَتكَلَّم -رُفِعَتْ صَلاتُهُ في عِلِّيِّينَ” (1) ولأنه يَصِلُ النفلَ بالفرضِ (2).
    قال أحمد في رواية حرب، ويعقوبَ، وإبراهيمَ بن هانئ (3): إن تَرَكَ ركعتي المغربِ لا يُعيدُهما، إنما هما تَطَوُّعٌ.
    المرُّوْذي: رأيت أبا عبد الله يركعُ فيما بينَ المغرب والعشاء.
  • المرُّوْدْيُّ عنه: في رجل يريدُ سفرًا فيقصرُ يومًا ثم يبدو له، فيرجعُ: يتمُّ (4)، وجاءه رسولُ الخليفة ردَّهُ من بعضِ الطريق في اللَّيلِ فأتم الصلاةَ، فقيل له: أليسن نجن مسافرونَ؟ قال: أما السَّاعةُ فلا، وكان نحوًا من سبع فراسِح.

(1) أخرجه ابن أبي شيبة: (2/ 16).
(2) هذه الفقرة بطولها من قوله: “وقال في رواية حنبل … ” إلى هنا ذكرها المصنِّف بنصّها في”زاد المعاد”: (1/ 312 – 314).
(3) أبو إسحاق النيسابوري، “طبقات الحنابلة”: (1/ 252).
(4) (ظ): “فيتم”.
(4/1510)


محمد بن الحكم عنه: في الرجلِ يخرجُ إلى بعض البلدان يَتَنَزَّهُ أو إلى بلد يَتَلَذَّذُ فيه، ليس بطَلبِ حجٍّ ولا عُمْرَةٍ ولا تجارةٍ: ما يُعْجِبُني أن يقصرَ الصلاةَ (1).
والوجْهُ فيه: أن الأصلَ الإتمامُ، فلا يجوزُ أن يجوزُ الفرضَ لطلبِ النزهة.

مسألة
إن لم يكن مع الملَّاحِ أهلُه، وكان يسافرُ ويرجِعُ إلى أهلِهِ، قَصَرَ الصلاةَ.
قال في رواية حرب: إن لم يُقم المكاري في أهلِه ما يقضي رمضانَ يقضي في السفر، وذلك أن هذه حالُ ضرورة، والقضاءُ عليه فرضٌ.
اختلف قولُهُ في المسافر يَرِدُ على أهله لا يريدُ المقامَ.
فروى عنه عبد الله (2): لو أن مسافرًا وَرَدَ على أهلِهِ أمسكَ عن الطَّعام وأتمَّ الصلاةَ، إلَّا أن يكون مارًّا.
وكذا نقل إسحاقُ الكوسجُ (3): في رجل خرج مسافرًا فبدا له، فرجَع في حاجةٍ إلى بيتِه ليأخذَها، فأدركته الصلاةُ: هو (4) مسافرٌ يقصرُ إذا لم يكن له أهلٌ، وهو (ق/ 352 أ) أهونُ لأنه على نِيَّةِ السفرِ. فورودُهُ على أهلِهِ لم يخرجْهُ عن حكم السفر.


(1) انظر: “المغني”: (3/ 117)، ورجح ابن قدامة الرواية الأخرى.
(2) “المسائل” رقم (555) بنحوه، و “المغني”: (3/ 151).
(3) “المسائل”: (1/ ق 89 – دار الكتب).
(4) الأصول: “وهو” والصواب حذف الواو كما في “المسائل”.
(4/1511)


وعنه صالحٌ (1) فى رجل خرجَ مُسافرًا فبدأ له، فرجَعَ في حاجة إلى بيته فأدركتْهُ الصلاةُ: يتمُّ؛ لأن ابن عباس قال: إذا قدمتَ على أهلٍ أو ماشية فأتِمَّ (2).
والوجْهُ فيه: حديثُ ابن عباس، ولا يَصِحُّ حملُه على إذا نوى المُقَامَ؛ لأنه إذا نوى المقامَ في غير أهلِه لزمه الإتمامُ؛ ولأنه لو أنشأ السفرَ من بلدِهِ لم يَجُزْ له القصرُ حتى يفارقَ منزلَهُ، كذا بعد رجوعِهِ لحاجة.
عنه المرُّوْذيُّ: ركعتا الفجر والمغرب لا يَدَعُهُما في السفر (3).
عنه صالح والكوسج (4): إذا نوى المسافرُ المقامَ وهو في الصلاة: يُتِمُّ، وإن قعد في الركعتينِ حتى يخرجَ بتسليمٍ.
ووَجْهه: أنه قد صارَ مقيمًا.
مسألة
الأثرمُ عنه (5): إذا أجمعَ أن يقيمَ إحدى وعشرين صلاةً مكتوبةً قَصَر، فإذا عَزَم على أن يُقِيمَ أكثر من ذلك أتمَّ، واحتجَّ بحديث جابر وابن عباس: “قَدِمَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – لصبحِ رابِعَةٍ” (6) وكذا نقل ابنُ الحَكَم.


(1) لم أره في المطبوعة.
(2) أثر ابن عباس ذكره أحمد في رواية الكوسج السالفة، وقد أخرجه عبد الرزاق: (2/ 524)، وابن أبي شيبة: (2/ 202)، والبيهقي: (3/ 155).
(3) نقل في “المغني”: (2/ 543) عن رواية الأثرم: ” … ليس هاهنا شيءٌ آكد من الركعتين بعد المغرب”.
(4) لم أره في رواية صالح المطبوعة، وانظر “مسائل الكوسج”: (1/ ق 89).
(5) ذكرها ورواية المرُّوذي ابن قدامة في “المغني”: (3/ 148).
(6) حديث جابر أخرجه البخاري رقم (1785)، ومسلم رقم (1216). وحديث ابن عباس أخرجه البخاري رقم (1085)، ومسلم رقم (1240).
(4/1512)


ونقل المرُّوْذيُّ: إذا عزم على مُقام إحدى وعشرين صلاةً فَلْيُتِمَّ؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – صلَّى الغَداةَ يوم التَّرْوِيةِ بمكة، وكذلك نقل حربٌ: إذا دخلَ إلى قربة نوى أن يُقِيمَ أربعةَ أيامٍ وزيادة صلاة أتمَّ، وكذا نقل ابن أصرمَ وصالحٌ والكوسَجُ (1): إذا أزمعَ على إقامَةِ أربعة أيام، وزيادة صلاة يُتِمُّ (2) في أول يوم، واحتجَّ بحديث جابر.
قال أبو حفص البَرْمَكيُّ: هذه الروايةُ ليست مُسْتقصاةً، والأولَّةُ مُسْتقصاةٌ (3) أنه لا يلزمه الإتمامُ بالعزيمة على إقامة أربعةِ أيام وزيادة صلاة، حتى ينويَ أكثرَ من ذلك، فكيف يقول: “إذا أزمعَ على إقامَةِ أربعٍ وزيادةِ صلاة أتَمَّ”. ويحتجُّ بحديث جابر في هذا المقدار! وقد كشف هذا في رواية الفضل بن عبد الصمد (4)، قيل له: يا أبا عبد الله يحكون أنك تقولُ: إذا أجمع على إقامَةِ أكثرَ من أربعة وصلاة أتمَّ؟ فقال: لا يفهمون، النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أجمعَ على إقامةِ أربع وصلاة فقَصرَ.
ونقل عنه أيوبُ بن إسحاق بن سافري (5) أنه قال: إن أزمعَ (6) على إقامة خمسة أيام يَتِمُّ وما دون ذلك يقصُرُ.
قال أبو حفص: ليس في هذا خلافٌ لذلك؛ لأنه إذا أوجبَ


(1) “مسائل صالح” رقم (370)، و”مسائل الكوسج”: (1/ ق 75).
(2) من قوله: “وكذا نقل … ” إلى هنا سقط من (ق وظ).
(3) “والأولة مستقصاة” سقطت من (ع).
(4) هو: الفضل بن عبد الصمد الأصبهاني أبو يحيى، له عن أبي عبد الله مسائل. “طبقات الحنابلة”: (2/ 196 – 199).
(5) أبو سليمان، له عن أبي عبد الله مسائل كثيرة صالحة، ت (260). “طبقات الحنابلة”: (1/ 312 – 315).
(6) (ق وظ): “إذا أجمع”.
(4/1513)


الإتمامَ بإقامَةِ أكثرَ من أربعة أيام وزيادة صلاة، فبخمسة أيام أولى أن يوجبَ الإتمامَ. وقولُهُ: “وما دون ذلك يقصُرُ”، يُحتملُ أن يكون أراد بهَ الأربَعَةَ أيام: وزيادة صلاة؛ لأنها دونَ الخمسةِ أيام، ويحتملُ أن يكون ذِكْره لليَوم الخامس؛ لأن الصلاة (1) بعدَ الأربعَةِ أيامٍ من اليومِ الخامسِ (ق/ 352 ب) لا أنه أراد إكمالَ اليومِ الخامسِ (2).
وقد بيِّن ذلك في رواية طاهر بن محمد التَّميمِيِّ (3) فقال: إذا نوى إقامَةَ أربعةِ أيام وأكثرَ من صلاة من اليوم الخامس أتمَّ، فقد بيَّنَ مرادَه من ذكر اليوم الخامس أنه، بعضُه؛ لأنه أكثرُ من مُقام النبي – صلى الله عليه وسلم – الذي قَصَرَ فيه الصلاة.
قال القاضي: وظاهر كلام أبي حمص هذا أن المسألة على رواية واحدة، وأن مدَّةَ الإقامة ما زاد على إحدى وعشرين صلاة، وتأوَّل بقية الرِّوايات. واحتجَّ في ذلك بحديث جابر: “أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – دَخَل مكةَ صُبْحَ رابعة، فصلَّى بها الغداةَ” وخامسة وسادسة وسابعة أربعةَ أيام كوامِلَ، وزاد صلاةً؛ لأنه صلى الغداةَ يوم التَّرْوِيَةِ بمكة بالأبطحِ، وخرج يوم الخامس إلى منى، فصلَّى الظهرَ بمِنى، وكان (ظ/248 ب) يقصر الصلاةَ في هذه الأيامِ، وقد أجمعَ على إقامتها.
ويجوزُ أن يُحْملَ كلامُ أحمد على ظاهرِهِ، فيكونُ في قَدْر الإقامة ثلاثُ رواياتٍ:


(1) (ع): “الصلاتين”، ولها وجه وانظر الرواية بعدها.
(2) من قوله: “لأن الصلاة … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(3) هو: طاهر بن محمد ابن الحسين التميمي الحلبي، كان عنده عن الإمام مسائل صالحة فيها غرائب. “طبقات الحنابلة”: (1/ 477 – 478).
(4/1514)


إحداها: ما زاد على إحدى وعشرين، اختارها الخِرَقِيُّ وأبو حفص.
الثانية. ما زاد على أربعة أيام ولو بصلاة؛ لأنها مدَّةٌ تزيدُ على الأربعة، فكان بها مُقِيمًا. دليلُه: إذا نوى زيادةً على إحدى وعشرين.
الثالثة: ما نقصَ عن خمسةِ أيام ولو بوقتِ صلاةٍ؛ لأنها مدَّةٌ تنقصُ عن خمسة أيام، فكان في حكم السفر، دليلُه: مدة إحدى وعشرين أو عشرين (1).

  • واختلف قولُه في صلاة الكسوف بغير إذن الإمام.
    فروى عنه يعقوبُ بن بختان (2): لا بأس به.
    وقال المرُّوْذيُّ: قلت لأبي عبد الله: ابن مهدي، عن حماد بن زيد قال: بلغَ أيوبَ (3) أن سليمانَ التَّيْمِيَّ لما انكسفتِ الشمسُ صلَّى في مسجدِه، فبلغ أيوبَ فأنكرَ عليه، فقال: إنما هذا للأئمةِ.
    فقال أبو عبد الله: إلى هذا نذهبُ في كسوفِ الشّمس، الأئمةُ يفعلون ذلك.
    وعنه محمد بن الحكم: يستحَبُّ العَتَاقَةُ في صلاة الكسوفِ (4).
  • واختلف قوله في خروجِ النَّاسِ للاستسقاءِ بغير إمام.
    فعنه أحمدُ بن القاسم: إن لم يخرجِ الإمام لا تخرجوا.

(1) “أو عشرين” ليست في (ق).
(2) تقدمت ترجمته، ووقع في المطبوعات “حسان”!.
(3) ابن أبي تميمة السختياني.
(4) لحديث أسماء: “أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بالعتاقة في الخسوف”، أخرجه البخاري رقم (1054).
(4/1515)


وعنه الميمونيُّ: إن أخرجهم الإمامُ خرَجوا، وإلَّا فيخرجون لأنفسِهم يستسقونَ ما بأسٌ بذلك (1).
فإن قلنا: يخرجون (2) بغير إمامٍ؛ فهل يُصَلُّونَ جماعةً أو يستسقون وينصرفون؟.
فعنه الميموني: يخرجون لأنفسِهم يستسقونَ، ما يُعجِبُني يُصَلِّي بهم بعضُهم. وعنه حربٌ: أنه قال في أهلِ قرية ليس فيها وَالٍ خَرَجوا يستسقونَ؛ يُصَلِّي بهم: إمامُهم جماعةً؟ قال: أرجو أن لا يضيقَ. هذا آخرُ ما وجدته من هذا: “المنتقى” (3).


(1) انظر “المغني”: (3/ 346).
(2) من قوله: “الإمام خرجوا … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(3) (ق): “ما وجدته من المنتقى”.
(4/1516)


فائدة
لا يكون الجحدُ إلَّا بعد الاعترافِ بالقلبِ أو (1) اللِّسانِ، ومنه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14] ومنه: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)} [الأنعام: 33] عقيب (2) قوله: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ}، ومنه: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)} [العنكبوت: 49] {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)} (3) [العنكبوت: 47] وعلى هذا لا يحسنُ استعمالُ الفقهاءِ لفظَ الجحودِ في مطلقِ (4) الإنكارِ، في باب الدَّعاوى وغيرها؛ لأن المُنْكِرَ قد يكون مُحِقًّا فلا يُسَمَّى جاحدًا.
فائدة
قال إسحاقُ بن هانئ (5): تعشَّيْتُ مرَّةً أنا وأبو عبد الله وقرابةٌ لنا (6)، فجعلنا نتكلَّمُ وهو يأكلُ، وجعل يمسحُ عند كلِّ لقمةٍ يدَه بالمنديلِ، وجعل يقولُ عند كل لقمة: الحمدُ لله وبسمِ الله، ثم قال لي: أكلٌ وحَمْدٌ خيرٌ من أكلٍ وصمتٍ.
فائدة
مَنَع كثيرٌ من النَّحاة أن يُقَالَ: (البعض، والكل)؛ لأنهما اسمانِ لا يُستعملان إلَّا مضافَيْنِ. ووقع في كلام الزَّجَّاجيِّ وغيرِه: “بدل


(1) (ظ): “و”.
(2) قبلها في (ق): “ومنه”!.
(3) الآية سقطت من (ق).
(4) (ع): “لفظ”!.
(5) “المسائل”: (2/ 133).
(6) كذا بالأصول، وفي “المسائل”: “له”.
(4/1517)


البعض من الكُلِّ” (1).
وجوَّز أبو عُبَيْدَةَ (2) أن يكونَ بمعنى الكلِّ، كما جوَّزَ ذلك في الأكثر، فالأوَّلُ كقوله: {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر: 28]، والثاني كقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}: [الشعراء: 223]،، ولا دليلَ له في ذلك؛ لأن قوله: {بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} من خطاب التلطُّف والقول اللَّيِّن، وأما: {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} فلا يمنع أن يكون فيهم من يصدقُ في كثير من أقوالِه (3).
إذا عرف هذا فقالت طائفةٌ: “البعضُ” للجزء القليلِ والكثيرِ والمساوي، وفي هذا نظرٌ؛ إذ إطلاق لفظِ “بعض العشرة” على التسعة منها يحتاجُ إلى نقلٍ واستعمال، والظاهرُ: أنه قريبٌ من البضْع معنىً، كما هو قريبٌ منه لفظًا، وليس في عرفِ اللغة والتَّخاطب إَذا قال: “خذ بعض هذه الصبرة” أن يأخذها كُلَّها إلَّا حفنةً منها، ولا لمن يجيئُك في أيامِ الشهر كلِّها إلّا يومًا واحدًا: “هو يجيءُ في بعض أيام الشهر”.

  • قال أحمدُ في: رواية حنبل: حديثُ عائشةَ رضي الله عنها: “لا طَلاقَ ولا عَتَاقَ فِي إِغْلاقٍ” (4) يريد: الغضبَ (5).

(1) انظر “لسان العرب”:. (7/ 119).
(2) في “مجار القرآن”: (2/ 205)، وانظر: “الجامع لأحكام القرآن”: (15/ 200 – 201)، و “اللسان”: (7/ 119).
(3) (ق وظ): “أحواله”.
(4) أخرجه أحمد: (6/ 276)، وأبو داود رقم (2193)، وابن ماجه رقم (2046)، والحاكم: (2/ 198)، والبيهقي: (7/ 357) وغيرهم. وصححه الحاكم.
(5) انظر: “طلاق الغضبان”: (ص/27 – 28)، و”زاد المعاد”: (3/ 599)، و”إعلام الموقعين”: (2/ 175، 3/ 52).
(4/1518)


وقال في رواية أبي داود (1): حديث رُكُانَةَ لا يثبتُ أنه طلَّقَ امرأتَهُ ألبتَّةَ؛ لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحُصَيْن، عن عِكْرمَةَ، عن ابن عباس: أن رُكَانَةَ طلَّق امرأتَه ثلاثًا (2)، وأهل المدينة (3) يسمُّون ثلاثًا ألبتة.
وقال (ظ/ 249 أ)، في رواية أحمد بن أصرم: أن أبا عبد الله سُئِلَ عن حديث رُكُانَةَ في ألبتَّةَ؟ فقال: ليس بشيء.
وقال في رواية أبي الحارث في رجل غَصَب رجلًا على امرأتِهِ فأولدها، ثم رجعَتْ إلى زوجها وقد أولدَها: لا يلزْمُ زوجَها الأولادُ، وكيف يكون الولدُ للفراشِ في مثل هذا؟! وقد عُلم أنَّ هذه في منزلِ رجلٍ أجنبيٍّ، وقد أولدها في منزلِهِ، إنما يكون الولَدُ للفراشِ إذا ادَّعاه الزَّوْجُ، وهذا لا يَدَّعِي فلا يلزمُهُ.

  • قال أحمد في رواية إسحاق بن منصور: إذا زوَّج السَّيِّدُ عبدَهُ من أَمَتِهِ ثم باعها: يكونُ بيعُها طلاقَها، كقول ابن عباس.
    وروايةِ أكثرِ أصحابهِ (ق/ 359 ب) عنه: لا يكون طلاقًا.
    وقال أحمد في رواية أبي طالب: لا أعلمُ شيئًا يدفعُ قولَ ابنِ عباس وابن عُمَرَ (4) وأحدَ عَشَرَ من التابعينَ، منهم (5): عطاءٌ ومجاهدٌ

(1) “المسائل” رقم (1129).
(2) أخرجه أحمد: (4/ 215 رقم 2387).
(3) في بعض نسخ “المسائل”: “أهل الذمة”، ثم قال أحمد بعدها: “والروافض يكون إذا طلَّقها ثلاثًا أنها واحدة أو ليس بشيء” اهـ.
(4) قال في “المغني”: (9/ 474): “ولا نعلم لهما مخالفًا”.
(5) من (ظ).
(4/1519)


وأهل المدينة على تَسَرِّي العبدِ، فمن أحتجَّ بهذه الآيةِ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 5 – 6] وأيُّ ملك للعبد؟ فقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “مَنِ اشْتَرَى عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَالمَالُ لِلسَّيِّدِ” (1)، جعل له مالًا هذا يُقَوِّي التَسَرِّيَ.
وابن عباس وأبنُ عمر أعلمُ بكتاب الله ممن احْتَجَّ بهذه الآية؛ لأنهم أصحابُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وأُنْزلَ القرآنُ على رسَولِ الله، وهم يعلمون فيما أُنْزِل، قالوا: يَتَسَرَّى العبدُ.
إذا ثَبَت هذا؟ فقد قال في رواية إسحاق بن إبراهيم (2): يَتَسَرَّى العبدُ في مالِه، هو مالُه ما لم يأخُذْه سيِّدُهُ منه.
(ق/359 أ) وقال في رواية جعفر بن محمد وحرب: ليس للسَّيِّدِ أن يأخذ سُرِّيَّةَ العبدِ إذا أذِن له في التَّسَرِّي، فإن تَسَرَّى بغيرِ إذنه أخذَها منه، وإذا باع العَبْدَ وله سُرِّيَّة هي لسيِّدهِ ولا يُفَرَّقُ بينهما؛ لأنها بمنزلةِ المرأة.
فقد فرَّق أحمدُ بين أن يبيعَ العبدَ فتكون السُّرِّيَّةُ للسَّيِّد، ولا يفرَّقُ بينَها وبين العيد، وعلَّل بأنها بمنزلةِ الزوجةِ، وبينَ أن يبقى العبدُ على ملكِه، فليس له أخذ السُّرِّيَّةِ منه إذا أذِن له، كما لو أذِن له في التّزويج، ليس له أن يفرِّقَ بينه وبين امرأتِه وكلا النَّصَّينِ مسكلٌ (3)، وله فقهٌ دقيق (4).


(1) أخرجه البخاري رقم (2379)، ومسلم رقم (1543) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.
(2) “المسائل”: (2/ 219)، وانظر “رواية الكوسج”: (1/ ق 155)
(3) (ق): “ولكن التسرِّي”.
(4) تقدم البحث في هذه المسألة مع فقهها: (4/ 1481 – 1483).
(4/1520)


  • وقال في رواية ابن منصور: إذا تزوَّجَ الحُرَّةَ على الأمَةِ يكونُ طلاقًا للأمَةِ، لحديث ابن عباس. قال أبو بكر: مسألة ابن منصور مفردةٌ.
    في وقال في رواية أبي الحارث: إذا تزوَّجَ امرأةً فشرطَ أن لا يبيتَ عندَها إلَّا ليلةَ الجُمُعَةِ، فإنْ طالَبَتْهُ، كان لها المقاسَمَةُ. وإنْ أعْطَتْهُ مالًا واشتَرَطَتْ عليه أن لا يَتَزَوَّجِ عليها، يَرُدُّ عليها المالَ إذا تَزَوَّجَ. ولو دفعَ إليها مالًا على أن لا تَتَزوَّجَ بعد موتِه فتزوَّجَتْ، ترُدُّ المالَ إلى وَرَثَتِهِ.
  • وقال في رواية أحمد بن القاسم: الأَمَةُ إذا كان زوجُها حرًّا فعَتَقَتْ، فلا خيارَ لها؛ لأن الحديث عندنا: أن زوجَ بَريرةَ كان عبدًا (1)، فأجعلُ الروايةَ هكذا ولا أزيلُ النكاح إلاّ في الموضِع الذي أزالته السُّنَّةُ، وهذا ابن عباس وعائشة يقولون: إنه عبدٌ وعليه أهلُ المدينة وعملُهم، وإذا روى أهلُ المدينة حديثًا وعَمِلوا به فهو أصحُّ ما يكونُ، وليس يصِخُ أن زوجَ بَرِيرَةَ كان حرًّا إلاّ عن الأسودِ وحدَه، وأما غيرُه فيقولُ: إنه عبدٌ (2).
  • قال أحمد في رواية حنبل: لا يكنِّي ولدَه بأبي القاسم؛ لأنه يُرْوى عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه نهى عنه.
    وقال في رواية علي بن سعيد وقد سأله عن الحديث: “تَسَمَّوْا

(1) قصّة بريرة أخرجها البخاري رقم (456)، ومسلم رقم (1504) وغيرهما من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
(2) انظر كلام أحمد بنصِّه في “المغني”، (10/ 70)، لكن قال في آخره بحد الحكاية عن الأسود: “فأما غيره فليس بذاك”.
(4/1521)


بِاسْمِي وَلا تَكَنَّوْا بكُنْيَتي” (1): هو أن يجمعَ بين اسمِهِ وكُنيتِهِ أو يُفْرِدَ أَحدَهما؟ فقال: أكَثر (2) الحديث: “تَسَمَّوا باسْمِي وَلا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي”، وهذا موافق لرواية حنبل.

  • وقال ابن منصور (3): قلت لأحمدَ؛ تُكَنَّى المرأةُ؟ قال: نعم، عائشةُ كناها النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أمَّ عبدِ الله (4).
    وقال في روايته (5) أيضًا: عُمَرُ كَرِهَ أن يُكْنَى بأبي عيسى.
    وقال في رواية حنبل: لا بأس أن يُكْنَى الصَّبِيُّ، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “يَا أَبا عُمَيْر” (6)، وكان صغيرًا.
  • وقال في رواية (ظ/249 ب) الأثرم وسُئِلَ عن الرجل يُعْرَفُ بلقبِه؟ قال: إذا لم يُعْرفْ إِلَّا به، قال أحمد: الأعمشُ إنما يعرفُهُ الناسُ هكذا، فسَهَّل في مثل هذا إذا كان قد شُهِر به (7).
  • وقال ابن منصور: قلت لأحمد: رجلٌ نَذَرَ أن يذبحَ نفسَهُ؟ قال: يفدي نفسَهُ، إذا أحَنَثَ يذبَحُ كبشًا. قال إسحاق: كما قال:

(1) أخرجه البخاري رقم (110)، ومسلم رقم (2134) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(2) (ع وظ): “آخر”.
(3) “المسائل”: (2/ ق 211).
(4) أخرجه أحمد: (6/ 107)، وأبو داود رقم (4970) من حديث عائشة -رضي ألله عنها-.
(5) “المسائل”: (2/ق 211).
(6) أخرجه البخاري رقم (6129)، ومسلم رقم (2150) من حديث أنس -رضي الله عنه-.
(7) ونحوه في “مسائل أبي داود” رقم (1829).
(4/1522)


  • وقال أيضًا (1): قلت لأحمد: من ماتَ ولم يَحُجَّ فهو من جميع المالِ؟ قال: إذا كان له مالٌ كثيرٌ، واجبٌ على الوَرثَةِ أن يُنْفِذوا ذاك، وأما إذا كان مالٌ قليلٌ فإنما هو شيءٌ ضيَّعه، ليس هذا مِثل الزكاةِ.
    وقال أيضًا: قلت له: طَوَاف المَكِّيِّ قبلَ المعَرَّف (2)، قال أحمدُ: لا يخرجُ من مكّةَ حتى يُوَدِّعَ البيتَ.
  • وقال أحمد في رواية ابن منصور (3): يكرهُ أن يقولَ للرجل: جعلني الله فِداك، ولا بأس أن يقول: فِدَاكَ أبي وأمي.
  • وقال مهنَّا (4): سألت أبا عبد الله عن المرأةِ تنامُ على قفاها؟ فقال: يُكْرَهُ لها ذلك، قلت: فإذا ماتَتْ فكيف يصنعون في غسلِها؟ فقال: إنما كُرِهَ لها أن تَنَامَ على قَفاها (5) في حياتِها، وليس ذلك في الموتِ.
  • وقال في رواية ابن منصور (6): يكرهُ الجلوسُ بين الشمسِ والظِّلِّ أليس قد نهى عنه! وقال إسحاق ابن راهَوَيه: قد صحّ الخبرُ فيه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – (7)، ولكن لو ابتدأ وجَلَسَ فيه كان أهونَ.

(1) “المسائل”: (2/ ق 215).
(2) أي: قبل الوقوف بعرفة. “مختار الصحاح”: (ص/179).
(3) “المسائل”: (2/ ق 212)، وتقدم بنصه (4/ 1435).
(4) وهو -أيضًا- بنصِّه في “مسائل الكوسج”: (2/ ق 210).
(5) من قوله: “فقال: يكره … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(6) “المسائل”: (2/ق 210).
(7) أخرجه أحمد: (14/ 531 رقم 8976)، وأبو داود رقم (2822)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. والحديث له طرق يقوي بعضها بعضًا.
(4/1523)


  • وقال في رواية أبي طالب (1)، وسألته يكَنِّي الرجلُ أهل الذِّمَّةِ؟ فقال: قد كنى النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أُسْقُفَّ نجرانَ، وعمرُ قال: يا أبا حسَّان. لا بأسَ به.
  • وقال فى رواية: يعقوب بن بُخْتان وسأله عن النُّورة والحِجَامِةِ يوم الأربعاء؟ فكَرِهَها (3)، قال: وبلغني عن رجلٍ أنه تنَوَّرَ واحتجمَ فأصابه المرضُ قلت: كأنه تَهَاوَنَ؟ قال: نعم.
  • وقال في رواية: مهنَّا في الرجلِ تأتيه المرأةُ المسحورةُ فيطلقُ عنها السِّحْرَ؟ قال: لا بأس.
    وحدثنا إسماعيل ابن عُلَيَّةَ، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قَتَادَةَ، قال: سألت سعيد بن المسَيِّب عن المرأة تأتي الرجلَ فيطلقُ عنها السِّحْرَ، فقال: لا بأس (4). فقلت لأحمد: أُحَدِّثُ بهذا عنك؟ قال: نعم (5).
    وقال في رواية المرُّوْذِيِّ (6): حُمِمْتُ فكتب لي من الحُمَّى: بسم الله الرحمن الرحيم، بسم اللهِ وباللهِ، ومحمدٌ رسولُ الله، {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)} [الأنبياء: 69 – 70] اللَّهمَّ ربَّ جِبرائيلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ اشْفِ صاحِبَ

(1) ومثله في رواية ابن هانئ: (2/ 180)، والكوسج: (2/ ق 210).
(2) (ق): “والارتقاء”، و (ع وظ): “والأربعاء”، والتصويب من “زاد المعاد”: (4/ 60)، فقد نقل الرواية عن الخلال بسنده إلى يعقوب.
(3) (ق): “فكرهها”.
(4) علق البخاري نحوه عن سعيد، “الفتح”: (10/ 243)، وذكر الحافظ أن الأثرم وصله في “السنن” والطبري في “التهذيب”.
(5) قال الحافظ: وقد سئل أحمد عمن يطلق السحرَ عن المسحور؟ فقال: لا بأس به.
(6) وذكره المصنف أيضًا: في “زاد المعاد”: (4/ 356 – 357).
(4/1524)


هذا الكتابِ بحوْلِكَ وقُوَّتِكَ وجَبَريَّتِكَ (1) إلهَ الحقِّ آمينَ.
وقال في رواية عبد الله (2): يُكتبُ للمرأةِ إذا عَسُرَ عليها الولادةُ في جامٍ (3) أو شيءٍ نظيفٍ (4): لا إلهَ إلاّ اللهُ الحليمُ الكريمُ، سبحانَ اللهِ ربِّ العرشِ العظيمِ، الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)} (5) {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ}، ثم تُسْقَى ويُنْضحُ بما بَقِي دونَ سُرَّتِها (6).
وقال في رواية الكوسج: يُكْرَهُ التَّفْلُ في الرُّقْيَةِ ولا بأسَ بالنَّفْخ.
وقال في رواية صالح (7): الحُقْنَةُ إذا كانت لضَرورةٍ فلا بأس.
وقال في رواية المرُّوْذيِّ: الحقنة إن اضْطُرَّ إليها فلا بأسَ، قال المرُّوْذي: ووُصِفَ لأبي عبد الله ففعل.

  • وقال إسحاق بن هانئ (8): رأيتُ أبا عبد الله إذا كان يوم الجمعة يصلِّي حتى يعلم أن الشمسَ قد قاربتْ أن تزوْلَ، فإذا قاربَتْ أمسكَ عن الصَّلاة (ق/360 أ) حتى يؤذِّن المؤذِّنُ، فإذا أخذ في الأذانِ

(1) كذا في (ع وظ)، وفي (ق): “وحرمتك”! و”الزاد”: “وجبروتك”.
(2) “المسائل” رقم (1865، 1866).
(3) الجام: إناء من فضة.
(4) كذا في (ع وظ)، و (ق والمسائل): “لطيف”.
(5) هذه الآية ليست في “مسائل عبد الله”.
(6) وهذه الرقية مروية عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أخرجها ابن أبي شيبة: (5/ 39)، والسهمي في “تاريخ جرجان”: (ص/228). ولها شاهد عن أنسٍ أخرجه الطبراني في “الأوسط”: (3/ 358).
(7) لم أجده في المطبوعة.
(8) “المسائل”: (1/ 88).
(4/1525)


قام فصلَّى ركعتين أو أربعًا، يفصِل بينهما بالسَّلام، فإذا صلَّى الفريضةَ انتظر في المسجدِ، ثم يخرجُ منه، فيأتي بعضَ المساجد التي بحضرةِ الجامعِ، فيصلِّي فيه في ركعتين، ثم يجلسُ، وربما صلَّى أربعًا، ثم يجلسُ، ثم يقومُ فيصلِّي ركعتينِ أُخَر، فتلك ستُّ رَكَعَاتٍ على حديث عليٍّ (1).

فائدة (2).
ظنَّ بعضُ الفقهاء أن الوفاءَ إنما (ق/353 أ) يحصلُ باستيفاء الدَّيْنِ، بسبب أن الغريمَ إذا قبضَ المالَ صار في ذمَّتِهِ للمَدِينِ مِثْلُهُ، ثم يقغ التَقاصُّ منهما (3)، والذي أوجبَ لهم هذا. إيجابٌ المماثلةِ بينَ الواجبِ ووفائه ليكونَ قد وفى الدَّيْنَ بالدَّيْنِ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (4): وهذا تكلُّفٌ أنكره جمهورُ الفقهاء، وقالوا: بل نفسُ المال الذي قبضه يحصلُ به الوفاءُ، ولا حاجةَ إلى أن يقَدِّروا في ذمَّةِ المستوفي دينًا، والدَّيْنُ في الذِّمَّةِ من جنس المطلَقِ الكُلِّيِّ، والمعينُ من جنسِ المعينِ الجزئيِّ، فإذا ثبتَ في ذمَّتِهِ دَيْنٌ مطلَقٌ كلِّيٌّ، كان المقصودُ منه الأعيانَ الشخصيَّةَ الجزئيَّةَ، فأيُّ معيَّنٍ استوفاه حَصَلَ به مقصودُهُ لمطابَقَتِهِ للكُلِّي مطابقةَ الأفراد الجزئيَّةِ.


(1) أخرجه عبد الرزاق: (3/ 247).
وبعده في “المسائل”: “وربما صلى بعد الست ستًّا أخرى أو أقل أو أكثر”.
(2) (ق): “مسألة”.
(3) (ق): “بينهما”.
(4) في “مجموع الفتاوى”: (20/ 513).
(4/1526)


فائدة (1)
قال أحمدُ في رواية صالح (2) في المُضَارِبِ إذا خالفَ فاشترى غَيْرَ ما أَمَرَ به صاحبُ المالِ: فالرِّبْحُ لصاحبَ المالِ، ولهذا أجرةُ مِثْلِهِ، إلَّا أن يكونَ الرِّبْحُ محيطًا بأجرةُ مِثلِهِ (ظ/ 250 أ) فيذهبَ. قال: وكنت أذهبُ إلى أن الرِّبْحَ لصاحبِ المالِ، ثم استحسَنْتُ.
وقال في رواية الميمونيِّ: استحسنُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لكلِّ صلاة، ولكن القياسَ أنه بمنزلةِ الماءِ حتى يُحْدِثَ، أو يَجِدَ الماءَ.
وقال في رواية المرُّوْذيِّ: يجوزُ شراءُ أرض السَّوادِ، ولا يجوزُ بيعُها، فقيل له: كيف تشتري ممن لا يملكُ؟ فقال القياسُ كما تقولُ، ولكن هو استحسانٌ. وأحتجَّ بأن أصحابَ النبي – صلى الله عليه وسلم – رخَّصوا في شراء المصاحفِ وكَرِهوا بَيْعَها، وهذا يشبِهُ ذاك.
وقال في رواية بكر بن محمد فيمن غَصَبَ أرضًا وزَرَعَها: الزَّرْعُ لرَبِّ الأرضِ وعليه النفقةُ، وليس هذا شيئًا يوافِقُ القياسَ، اسْتَحسِنُ أن يدفعَ إليه نَفَقَتَهُ.
وقال في رواية أبي طالب: أصحابُ أبي حنيفة إذا قالوا شيئًا خلافَ القياسِ قالوا: نستحسنُ هذا وَنَدَعُ القياسَ، فَيَدَعُون الذي يزْعُمُونَ أنه الحقُّ بالاستحسانِ. قال: وأنا أذهبُ إلى كل حديث جاءَ، ولا أقيسُ عليه (3).


(1) (ق): “مسألة”، وهذه الفائدة نقلها المصنف من كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية “قاعدة في الاستحسان”: (ص/50 – 67).
(2) رقم (377) بنحوه.
(3) هذه النصوص عن أحمد انظرها في “العدة”: (4/ 1604 – 1605)، و”التمهيد”: (4/ 87) لأبي الخطاب.
(4/1527)


فقال القاضي (1): ظاهر هذا يقتضي إبطالَ القولِ بالاستحسانِ، وأنه لا يجوزُ قياسُ المنصوصِ عليه على المنصوص عليه.
وجعل المسألة على روايتينِ، ونَصَرَ هو وأتباعُه روايَةَ القولِ بالاستحسان، ونازعهم شيْخُنا في مراد أحمد من كلامه، وقال (2): “مُرَادُهُ أني أستعملُ النصوصَ كلَّها ولا أقيسُ على أحد النَّصَّيْنِ قياسًا يعارضُ النَّصَّ الآخَرَ، كما يفعلُ من ذكره، حيث يقيسونَ على أحد النَّصَّيْنِ، ثم يستثنونَ موضعَ الاستحسانِ إما لنصٍّ أو لغيره (3)، والقياسُ عندَهم موجبُ العِلَّةِ (4)، فينقضونَ العِلَّةَ التي يدَّعُونَ صِحَّتَها مع تساويها في مَحَالِّها.
وهذا من (ق/353 ب) أحمد بَيِّنٌ أنه يوجبُ طرد العلَّةِ الصحيحة، وأن انتقاضَها مع تساويها في محالَّها يوجبُ فسادَها، ولهذا قال: “لا أقيسُ على أحد النَّصَيْنِ قياسًا ينقضُهُ النَّصُّ الآخَرُ”.
وهذا مثلُ حديث أم سَلَمَة عنِ النبي – صلى الله عليه وسلم – “إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ وَدَخَلَ العَشْرُ، فلا يَأَخُذْ مِنْ شَعَرِهِ، وَلا مِنْ بَشَرَتهِ شَيْئًا” (5)، مع حديث عائشةَ: “كنت أَفْتِلُ قلائِدَ هَدْيِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -، ثم يَبْعثُ به وهو مقيمٌ، ثم لا يحرُمُ عليه شيءٌ مما يَحْرُمُ على المُحْرِم” (6).
والناسُ في هذا على ثلاثةِ أقوال:


(1) يعني: أبا يعلى فى كتابه “العدة فى أصول الفقه”: (4/ 1605).
(2) “قاعدة في الاستحسان”: (ص/51).
(3) (ق وظ): “إما النص أو غيره”.
(4) “القاعدة”: “يوجب العلة الصحيحة”.
(5) أخرجه مسلم رقم (1977).
(6) أخرجه البخاري رقم (1696)، ومسلم رقم (1321).
(4/1528)


منهم: من يُسَوِّي بين الهَدْى والأُضْحِيَة في المنع، ويقول: إذا بعثَ الحلالُ هَدْيًا صارَ مُحْرِمًا، ولا يحلُّ حتى يَنْحَرَ، كما روي عن ابن عباس (1) وغيره.
ومنهم: من يُسَوِّي بينهما في الإذْنِ، ويقول: بل المضحِّي لا يمنعُ عن شيء كما لا يُمْنَعُ باعثُ الهدي، فيقيسونَ على أحد النَّصَّينِ ما يعارضُ الآخَرَ.
وفقهاء الحديثِ كيحيى بن سعيد (2) وأحمد بن حنبل وغيرهما عملوا بالنَّصَّينِ، ولم يقيسوا أحدَهما على الآخَرِ.
وكذلك عند أحمد وغيره من فقهاءِ الحديثِ، لما أمَرَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أن يُصَلِّيَ الناسُ قعودًا إذا صلَّى إمامُهم قاعدًا (3)، ثم لما افتتحوا الصلاة قيامًا أتَمَّها بهم قيامًا (4)، فعمِلَ بالحديثينِ، ولم يَقِسْ على أحدِهما قياسًا ينقضُ الآخَرَ ويجعلُهُ منسوخًا كما فعلَ غيرُهُ.
قلت: وكذلك فَعَل في حديث الأمْرِ بالوضوءِ من لُحومِ الإبِلِ (5)، وتركِ الوضوءِ مما مَسَّتِ النارُ (6)، عمل بهما، ولم يقسْ على أحدِهما قياسًا يُبْطِلُ الآخَرِ ويجعلُه منسوخًا.


(1) انظر “السنن الكبرى”: (5/ 234) للبيهقي.
(2) في “القاعدة” زاد: “والشافعي”.
(3) أخرجه البخاري رقم (689)، ومسلم رقم (411) من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-.
(4) أخرجه البخاري رقم (687)، ومسلم رقم (418) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
(5) أخرجه مسلم رقم (360) من حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنه-.
(6) أخرجه البخاري رقم (207)، ومسلم رقم (354) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.
(4/1529)


وكذلك فَعَل في أحاديثِ المستحاضَةِ ونظائرها.
ثم القائلون بالاستحسانِ، منهم من يقول. هو تركُ الحكم إلى حكمٍ أولى منه، ومنهم من يقولُ: هو أولى القياسَيْنِ.
وقال القاضي (1): “الحُجَّةُ التي يُرجَعُ إليها في الاستحسانِ هي الكتاب تارةً ع والسُّنَّةُ تارةً، والإجماع تارةً، والاستدلالُ بترجُّحِ بعضِ (2) الأصول على بعض.
فالاستحسانُ لأجل الكتاب: كما في شهادة أهل الذِّمَّةِ على المسلمينَ في الوَصِيَّةِ في السَّفَر إذا لم نَجِدْ مسلمًا (3).
ومما قلنا فيه بالاستحسانِ للسُّنَّةُ: فيمن غصَبَ أرضًا وزَرَعَها: الزرعُ لرَبِّ الأرضِ، وعلى صاحبِ الأرضِ النفقةُ؟ لحديث رافع بن خَدِيجٍ (4)، والقياس أن: يكونَ الزَّرْعُ لزارِعِهِ.
ومما قلنا فيه بذلك للإجماعِ: جوازُ سَلَمِ الدَّراهمِ والدَّنانيرِ في الموزونات، والقياسُ أن لا يجوزَ ذلك؛ لوجود الصِّفَةِ المضمومة إلى


(1) في “العدة”: (5/ 1617 – 1609).
(2) في “القاعدة والعدة”: “بترجّحِ شَبَهِ بعض … “.
(3) في قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)} [المائدة/ 106].
(4) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “من زرع في أرضِ قوم فالزرع لربّ الأرض وله نفقته” أخرجه أحمد: (25/ 138 رقم 15821)، وأبو داود رقم (3403)، والترمذي رقم (1366)، وابن ماجه رقم (2466) وغيرهم. قال الترمذي: “حسن غريب”، وانظر “الإرواء”: (5/ 351).
(4/1530)


الجنسِ، وهي الوَزْنُ، إلا أنهم استحسنوا فيه الإجماع”. انتهى (1).
(ظ/250 ب) قال شيخُنا (2): ومن ذلك أن نفقةَ الصغيرِ وأُجْرَةَ مُرْضِعَتِهِ على أبيه دونَ أمِّه (ق/354 أ) بالنَّصِّ والإجماع.
قلت: إلا خلافًا شاذًّا في مذهبِ أبي حنيفةَ وغيرِه، بإيجابِها على الأبوينِ كالجَدِّ والجَدَّةِ.
وكذلك يقولون: إجارةُ الظِّئْرِ ثابتةٌ بالنَّصِّ والإجماعِ، على خلافِ القياسِ.
والاستحسانُ يرجِعُ إلى تخصيص العِلَّة، بل هو نفسه، كما قاله أبو الحسينُ البصريُّ (3)، والرازيُّ (4)، وغيرهُما، والمشهور عن الشافعيَّةِ منع تخصيصِها، وعن الحنفيَّة القولُ بتخصيصِها، ولأصحابِ أحمد قولانِ، وحُكِيتا روايتينِ عن أحمد، وحُكِيَ تخصيصُ العِلَّةِ مذهبُ الأئمة الأربعة، وهو الصَّوابُ.
والقاضي وابن عَقِيل يمنعون تخصيصَ العِلَّةِ، مع قولِهم بالاستحسانِ، وأبو الخطّاب يختارُ تخصيصَ العِلَّة مع قوله بالاستحسانِ (5).
وفرَّقَ القاضي بين التَّخصيص والاستحسانِ: بأن التَّخصيصَ منعُ العلَّة عملَها في حكم خاصٍّ، والاستحسانُ تركُ قياسِ الأصولِ للنُّصوصِ (6)،


(1) يعني كلام القاضي.
(2) “القاعدة”: (ص/60).
(3) في “المعتمد”: (3/ 839).
(4) يعني: أبا بكر الجصاص الرازي الحنفي في كتابه “الفصول في الأصول”: (2/ 351).
(5) “التمهيد”: (4/ 69).
(6) (ق): “المنصوصة”.
(4/1531)


أي: مخالفة القياس لأجل النَّص، كما فى شهادةِ أهلِ الذمَّةِ، وإجارة الظِّئرِ، وإعطاء الزَّرع: لمالك الأرض، ونظائره، كحملِ العاقلةِ دِيَةَ الخطأ.


(4/1532)


فصولٌ عظيمة النفع جداً
في إرشاد القرآن والسُّنّة إلى طريق المناظرة وتصحيحها، وبيانِ العلل المؤثِّرة، والفروق المؤثرة، وإشارتهما (1) إلى إبطال الدَّوْر والتَّسلسل بأوجزِ لفظٍ وأبينِهِ (2)، وذِكْر ما تضمَّناه من التَّسوية بينَ المتماثلين، والفَرق بين المختلفين، والأجوبة عن المعارضاتِ، وإلغاء ما يجبُ إلغاؤُه من المعاني التي لا تأثيرَ لها، واعتبار ما ينبغي اعتبارهُ، وإبداء تناقض المبطِلِينَ في دعاويهم وحُجَجِهم، وأمثال ذلك.
وهذا من كنوزِ القرآن التي ضلَّ عنها أكثرُ المتأخرين، فوضعوا لهم شريعةً جَدَلِيَّةً، فيها حقٌ وباطلٌ، ولو أَعْطَوُا القرآنَ حَقَّهُ لرَأَوْهُ وافياً بهذا المقصودِ كافياً فيه، مُغْنِياً عن غيره.
والعالِمُ عن الله (ق/ 360 ب) مَنْ آتاه الله (3) فَهماً في كتابهِ. والنبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أوَّلُ من بيَّنَ العللَ الشرعيَّةَ والمآخِذَ، والجمعَ والفَرْقَ، والأوصافَ المعتبرةَ والأوصافَ الملغاةَ، وبيَّنَ الدَّورَ والتَّسلسُلَ وقطعهما.
فانظر إلى قوله – صلى الله عليه وسلم – وقد سُئِل عن البعيرِ يجربُ، فتجربُ لأجلِهِ الإبلُ، فقال، “مَنْ أعْدَى الأوَّلَ” (4)، كيف اشتملتْ هذه الكلمةُ الوجيزةُ المختصرةُ البينَةُ على إبطال الدَّوْر والتَّسلسل، وطالما تَفَيْهق


(1) (ع): “وإشارتها”
(2) (ع): “وأثبته”.
(3) “من آتاه الله” سقطت من (ع).
(4) أخرجه البخاري رقم (5717)، ومسلم رقم (2220) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(4/1533)


الفيلسوف وتَشَدَّقَ المتكلِّمُ وقرَّر (1) ذلك -بعد اللَّتَيًّا والَّتي- في عدَّةِ ورقاتٍ، فقال مَنْ أوتي جوامِعَ الكَلِمِ: “فمَنْ أَعْدى الأوَّلَ”، ففَهِم السامِعُ من هذا: أن إعداءَ الأوَّلِ إن كان من إعداءِ غيرِه له، فإن لم ينتَهِ إلى غايَة فهو التَّسلسلُ في المؤثِّرات، وهو باطلٌ بصريحِ العقل، وإن انتهى إلى غايةٍ. وقد استفادَتِ الجَرَبَ من إعداءِ مَن جرب به له، فهو الدَّوْرُ الممتنعُ.
وتأمل قوله في قصة ابن اللُّتْبيَّةِ: “أفَلا جَلَسَ في بيتِ أبيهِ وأمَّهِ، وَقالَ: هَذا أُهْدِيَ لِي” (2)، كيفَ يجدُ تحتَ هذه الكلمةِ الشريفة أن الدَّوَرَانَ يُفيدُ العِلِّيَّةَ، والأصوليُّ ربما كدَّ خاطِرَهُ حتى قرَّر ذلك بعد الجهد، فدلَّت هذه الكلمةُ النبوية على أن الهديةَ لما دارَت مع العمل وجودًا وعدمًا كان العمل سَبَبَها وعِلَّتها؛ لأنه لو جلسَ في بيتِ أبيه وأُمِّه لانتفتِ الهديَّةُ، وإنما وُجِدت بالعملِ فهو عِلَّتها.
وتأملْ قوله – صلى الله عليه وسلم – في اللُّقَطَةِ، وقد سُئِل عن لُقَطَةِ الغنم فقال: “إنَّما هِى لَكَ أو لأخِيْكَ أو للذِّئْب”، فلما سئل عن (ظ /251 أ) لُقَطَةِ الإبلِ غْضبَ، وقال: “ما لَك ولَها، مَعَها حِذاؤُها وسِقاؤها، تَرِدُ الماءَ وتَرعَى الشَّجَرَ” (3)، ففرَّق بين الحُكْمَينِ باستغناءِ الإبل واستِقلالها بنفسِها، دونَ أن يُخاف عليها الهَلَكَةُ في البرِّيَّة، واحتياج الغنم إلى راعٍ وحافظٍ، وأنه إن غابَ عنها، فهي عُرضَةٌ للسِّباع بخلاف الإبل،


(1) (ع): “وقرب”.
(2) أخرجه البخاري رقم: (1500)، ومسلم رقم (1832) من حديث أبي حميد الساعدي -رضي الله عنه-.
(3) أخرجه البخاري رقم (91)، ومسلم رقم (1722)، من حديث زيد بن خالد الجهني – رضي الله عنه -.
(4/1534)


فهكذا تكون الفروقُ المؤثِّرَة في الأحكام لا الفروقُ المذهبيةُ التي إنما يفيدُ ضابط المذهب.
وكذلك قوله في اللَّحم الذي تُصُدِّق به على بَرِيرَةَ: “هُوَ عَلَيْها صَدَقَةٌ، ولنا هَدِيةٌ” (1)، ففرَّقَ في الذاتِ الواحدةِ، وجعل لها حكمينِ مختلفينِ باختلافِ الجهتين؛ إذ جهةُ الصَدَقةِ عليها غير جهة الهديَّة منها.
وكذلك الرجلانِ اللذانِ عَطَسا عند النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -، فشمَّتَ أحَدَهما ولم (ق/ 361 أ)، يُشَمِّتِ الآخَر، فلما سُئِلَ عن الفرق أجاب: “بأن هذا حَمِدَ الله، والآخر لم يَحَمدْهُ” (2)، فدلَّ على أن تفريقَهُ في الأحكام لافتراقها في العلل المؤثِّرَةِ فيها.
وتأمَّلْ قوله – صلى الله عليه وسلم – في المَيْتَةِ: “إنما حَرُمَ منها أَكْلها” (3)، كيف تضمَنَ التَّفْرِقَةَ بينَ أكلِ اللَّحمِ واستعمال الجلدِ، وبيَّنَ أن النصَّ إنما تناولَ تحريمَ الأكلِ، وهدا تحتَهُ قاعدتانِ عظيمتانِ:
إحداهما. بيانُ أنَّ التَّحليلَ والتحريمَ المضافانِ إلى الأعيانِ غيرُ مجمل، وأنه (4) مُراد به من كل عينٍ ما هي مهيَّأة له. وفي ذلك الرَّدُ على من زَعَمَ أن ذلك مُتضمِّنٌ لمضمرٍ عامٍّ، وعلى من زعم أنه مجملٌ.


(1) أخرجه البخاري رقم (1495)، ومسلم رقم (1074)، من حديث أنس -رضي الله عنه-.
(2) أخرجه البخاري رقم (6221)، ومسلم رقم (2991)، من حديث أنسٍ -رضي الله عنه -.
(3) أخرجه البخاري رقم (1492)، ومسلم رقم (363) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.
(4) (ع): “وأنه غير … “.
(4/1535)


والثانية: قَطْع إلحاق استعمال الجلدِ بأكلِ اللَّحمِ، وأنه لا يصحُّ قياسُه عليه، فلو أن قائلًا قاله: وإن دلَّتِ الآيةُ على تحريم الأكل وحدَه، فتحريم ملابَسَة الجلدِ قياسًا عليه، كان قياسُه باطلًا بالنَّصِّ؛ إذ لا يلزمُ من تحريمِ الملابسةِ الباطِنةِ بالتَعَدي تحريمُ ملابَسَةِ الجلدِ ظاهراً بعد الدِّباغِ.
ففي هذا الحديثِ: بيان الموادِ من الآيةِ، وبيان: فسادِ إلحاقِ الجِلْد باللَّحم. وتأمَّلْ قوله – صلى الله عليه وسلم – لأبي النعمان بن بَشِير وقد خصَّ ابنَهُ بالنُخل: “أَتحِبُّ أنْ يَكُونْوا في البِرِّ سَواءً” (1)؟ كيف تجدُهُ مُتَضَمِّنا لبيانِ الوصف الدَّاعي إلى شرع التَسْوِيَةِ بينَ الأولاد، وهو العَدلُ الذي قامتْ به السمواتُ والأرضُ، فكما أنك تحِبُّ أن يستووا في بِرِّكَ، وأنْ لا ينفردَ أحدُهم ببِرِّكَ وتُحرَمَهُ من الآخَرِ، فكيف ينبغي أن تُفرِدَ أَحَدَهما بالعَطِيَّة وتَحْرِمَها الآخرَ؟!.
وتأمَّل قولَه – صلى الله عليه وسلم – لعمر وقد استأذنه في قتل حاطب، فقال: “وَمَا يُدرِيكَ؟ لَعَلَّ اللهَ اطْلَعَ على أهْلَ بَدْرٍ فَقالَ: اعْمَلُوا ما شِئتم، فَقَدْ غفرتُ لَكُمْ” (2)، كيف تجدُهُ متضمِّنا لحكم القاعدةِ التي اختلفَ فيها أربابُ الجدَلِ والأصوليُّون، وهي: أن التعليلَ بالمانِع هل يفتقرُ إلى قيامِ المقتضي، فعلَّلَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – عصمةَ دمِهِ بشهودِه بَدراً دونَ الإِسلام العامَّ، فدلَّ على أن مُقْتضى قتلِهِ كان قد وُجِدَ وعارَض سببَ العصمةِ،


(1) أخرجه البخاري رقم (2586)، ومسلم رقم (1623) من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنهما-.
(2) تقدم تخريجه (3/ 1037).
(4/1536)


وهو الجسُّ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لكنْ عارضَ هذا المقتضي مانعٌ (1) مَنَعَ من تأثيرِهِ وهو شهوده بدرًا، وقد سَبقَ من الله مغفرتهُ لمن شَهدَها.
وعلى هذا؛ فالحديث حجَّةٌ لمن رأى قتلَ الجاسوسِ (2)؛ لأنه ليس ممَّنْ شَهِدَ بدرًا، وإنما امتنعَ قتلُ حاطب لشهودِهِ بدراً.
ومن ذلك: قولُه – صلى الله عليه وسلم – لعُمَرَ وقد سأله عن القبْلة للصّائم، (ق/ 361 ب) فقال: “أرأيْت لو تَمضمَضتَ” (3) … الحديث، فتحتَ هذا إلغاءُ الأوصافِ التي لا تأثيرَ لها في الأحكام، وتحتهُ تشبيهُ الشيءِ بنظيرِهِ وإلحاقُهُ به، وكما أنَّ الممنوعَ منه الصائمُ إنما هو الشُّربُ لا مُقَدمَتهُ، وهو وضع الماء في الفمِ، فكذلك الذي مُنِعَ، إنما هو الجِماعُ لا مُقَدِّمَتُهَ وهي القُبْلَة، فتضمَّنَ الحديثُ قاعدتينِ عظيمتينِ كما ترى.
(ظ/251 ب) ومن ذلك: قولُه – صلى الله عليه وسلم – وقد سُئلَ عن الحج عن الميت؟ فقال للسائل: “أرَأيْتَ لَوْ كانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أكنْتَ قاضِية؟ ” قال: نعم. قال: “فَدَيْنُ اللهِ أَحَقّ أنْ يُقْضَى” (4) فتضمَّنَ هذا الحديثُ بيانَ قياس الأوْلى،


(1) (ق وظ): “مانعاً”!.
(2) في هامش (ق) تعليق أظنه بخط ابن حميد النجدي، قال: “لا حجة فيه؛ لأن التجسُّس على النبي – صلى الله عليه وسلم – ليس كالتجسس على غيره” أهـ. وفي هذا التعليق نظر من جهة أن الجاسوس لا يُقتل باعتبار جسه على شخص بعينه، ولكن باعتبار جسِّه على المسلمين لصالح الكفار.
(3) أخرجه أحمد: (1/ 286 رقم 138)، وأبو داود رقم (2385)، وابن خزيمة رقم (1999)، وابن حبان “الإحسان”: (8/ 314). وغيرهم، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم.
(4) أخرجه البخاري رقم (1953)، ومسلم رقم (1148) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.
ووقع في (ق): “أحق بالقضاء” وهو في بعض روايات الحديث.
(4/1537)


وأن دَيْنَ المخلوقِ إذا كان يقبل الوفاءَ مع شحَهِ وضيقه، فدَيْنُ الواسع الكريم تعالى أحقُّ بأن يقبلَ الوفاء، ففي هذا أن الحكمَ إذا ثَبَتَ في محلُّ لأمرٍ، وثمَّ محلّ آخَر أولى بذلك الحكمِ، فهو أولى بثبُوته فيِه. ومقصودُ الشارِع في ذلك التنبيهُ على المعاني والأوصافِ المقتضيَةِ لشَرْعِ الحكْم والعِلل المؤثِّرة، وإلا فما الفائدةُ في ذكر ذلك؟ والحكم ثابتٌ بمجرَّد قوله؟!
ومن ذلك: أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – أَلحقَ الولدَ في قصة وليدة زَمْعَةَ بعَبْدْ بن زمْعَةَ عملًا بالفِراش القائم، وأَمَر سَوْدَةَ أن تحتجبَ منه (1)، عملاً بالشَبَهِ المعارِض له، فرتَّبَ على الوصْفينِ حكميهما، وجعله أخاً من وجهٍ دونَ وجهٍ. وهذا من ألطفِ مسالكِ الفقهِ، ولا يهتدي إليه إلَّا خواصُّ أهلِ العلمِ والفهم عن الله ورسوله.
وتأمل قولَه – صلى الله عليه وسلم – في التشهد، وقد علَّمهم أن يقولوا: “السلامُ علينا وعلى عباد الله الصّالحين”، ثمَّ قال: “فَإذا قُلْتُمْ ذلِكَ أصابَتْ كُلَّ عبدٍ صالح للهِ في السماءِ والأرض” (2)، كيف قرَّرَ بهذا عمومَ اسم الجمعِ المضاف، وأغنانا – صلى الله عليه وسلم – عن طرق الأصوليين وتَعَسُّفها.
وكذلك قوله – صلى الله عليه وسلم – وقد سئلَ عن (3) زكاة الحُمر، فقال: “لم يَنزلْ عَلَيَّ فيها إلَّا هذهِ الآية الجامِعَة الفاذَّةُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} ” (4).


(1) أخرجه البخاري رقم (2053)، ومسلم رقم (1457) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
(2) أخرجه البخاري رقم (831)، ومسلم رقم (402) من حديث ابن مسعود -رضى الله عنه -.
(3) (ق): “قوله عن زكاة … “.
(4) أخرجه البخاري رقم (2371)، ومسلم رقم (987). من حديث أبي هريرة

  • رضي الله عنه -.
    والفاذَّة: أي المنفردة في معناها.
    (4/1538)

فسمَّى الآية جامعة أي: عامَّة شاملةً (1)، باعتبار اسم الشرط، فدلَ على أن أدواتِ الشرط للعموم، وهذا في مخاطبتِهِ – صلى الله عليه وسلم – ومحاورتِهِ أكثرُ من أن يذكرَ، وإنما يجهله من كلامه – صلى الله عليه وسلم – من لم يُحِطْ به علماً.
وتأملْ قوله – صلى الله عليه وسلم – للرجل الذي استفتاه عن امرأته، وقد ولدَتْ غلامًا أسودَ، فأنكر ذلك، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- “ألَكَ إبِلٌ؟ ” قال: نعم، قال: “فَما ألْوانُها”؟ قال: سُوْدٌ، قال: “هَلْ فِيها مِنْ أوْرقَ”؟ قال: نعم “قال: “فَأنَّى لهَ ذلِكَ”؟ قال: عسى أن يكونَ نَزْعَةَ عِرْقٍ، قال: “وهذا عَسَى أنْ (ق / 362 أ)، يكُونَ نَزْعَةَ عِرْق” (2)، كيف تضمَّنَ إلغاء هذا الوصف الذي لا تأثيرَ له في الحكم، وهو مجرَّد اللَّون، ومخالفة الولد للأبوين فيه، وأنَّ مثل هذا لا يوجب ريبةً، وأنَّ نظيرَهُ في المخلوقات مشاهدٌ بالحسَّ، والله خالقُ الإبَلِ وخالقُ بني آدَمَ، وهو الخلَّاقُ العليمُ، فكما أن الجملَ الأورقَ قد يتولَّدُ من بين أبوينِ (3) أسودينِ، فكذلك الولدُ الأسود قد يتولَّدُ من أبوينِ أبيضينِ، وأنَّ ما جوَّزَ به من سبب ذلك في الإبل، هو بعينِهِ قائمٌ في بني آدَمَ.
فهذه من أصَحَ المناظرات، والإرشادِ إلى اعتبار ما يجبُ اعتبارُهُ من الأوصافِ، وإلغاءِ ما يجِبُ إِلغاؤُه منهما، وأنَّ حكمَ الشيءِ حكمُ نظيرِهِ، وأنَّ العللَ والمعانيَ حقٌّ شرْعًا وقَدَراً.


(1) (ع): “فسمَّى الآية جامعة لهن، عامة شاملة” وهو وجيه.
(2) أخرجه البخاري رقم (5305)، ومسلم رقم (1500) من حديث أبى هريرة -رضي الله عنه -.
(3) (ع): “ولدين” وكذا ما بعدها.
(4/1539)


فصل
وإذا تأملتَ القرآنَ وتدبّرْتَهُ، وأَعَرتَهُ (1) فكرًا وافياً، اطَّلَعْتَ فيه من أسرار المناظرات، وتقرير الحُجَجِ الصحيحة، وإبطال الشُّبَهِ الفاسدَةِ، وذِكْر النقض والفَرْق، والمعارضة والمنع، على ما يَشفي ويَكفي لمن بصَّره اللهُ. وأنعمَ عليه بفهم كتابِهِ.

  • فمن ذلك: قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة: 11، 12] فهذه مناظرةٌ جرت بين المؤمنين والمنافقينَ، قال لهم المؤمنون: {لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ}، فأجابهم المنافقون بقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}، فكأن المناظرةَ انقطعت بين الفريقين، ومَنَعَ المنافقونَ ما ادَّعى عليهم أهلُ الإيمان من كونهم مُفْسِدِينَ، وأن ما نسبوهم إليه إنما هو صلاحٌ لا فسادٌ، فحكَمَ العزيز الحكيمُ بينَ الفريقينِ، بأن أسْجَلَ على المنافقينَ أربع إسجالات:
    أحدها: تكذيبهم.
    والثاني: الإخبارُ: بأنهم مفسِدون.
    والثالث: حصرُ الفسادِ فيهم بقوله: {هُمُ الْمُفْسِدُونَ}.
    والرابع: وصفهم بغايةِ الجهلِ، وهو أنه لا شعورَ لهم ألبتةَ بكونهم مفسِدِينَ:
    وتأمَّلْ كيف نفى الشعورَ عنهم في هذا الموضِعِ (2)، ثم نفى عنهم

(1) (ق): “واعتبرته”، وتحرفت في (ظ).
(2) (ق): “هذه المواضع”.
(4/1540)


العلمَ في قولهم: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} فقال: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)} [البقرة: 13]، فنفى علمَهم بسفَهِهم، وشعورَهم بفسادهم، وهذا أبلغُ ما يكون من الذَّمِّ والتَّجهيل: أن يكون الرجل مفسداً ولا شعورَ له بفساده ألبتَّة، مع أن أَثَرَ فساد مشهورٌ في الخارج مَرئيٌّ لعباد الله، وهو لا يشعرُ به، وهذا يدلُّ على استحكامِ الفسادِ في مدارِكِه وطرق علمِهِ.
وكذلك كونه سفيهًا، والسَّفَهُ غاية الجهلِ، (ظ/252 أ) وهو مركَّبٌ من عَدَم العلم بما يُصلحُ معاشَة ومعادَهُ، وإرادته بخلافه، فإذا كان بهذِه المنزلةِ، وهو لا يعلم بحالِهِ كان (ق/362 ب) من أَشْقى النَّوْعِ الإنسانيِّ، فنَفْيُ العلمِ عنه بالسَّفَهِ الذي هو فيه، متضمِّن لإثباتِ جهلِهِ، ونفيُ الشعورِ عنه بالفسادِ الواقع منه، متضمنٌ لفساد آلاتِ إدراكِهِ، فتضمَّنتِ الآيتانِ الإسجالَ عليهم بالجهلِ، وفسادَ آلاتِ الإدراكِ، بحيثُ يعتقدونَ الفسادَ صلاحاً، والشَّرَّ خيرًا.
وكذلك المناظرة الثانيةُ معهم -أيضًا- فإنَّ المؤمنينَ قالوا لهم:
{آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ}، فأجابهم المنافقونَ بقولهم: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ}. وتقريرُ المناظرة من الجانبينَ: أن المؤمنين دَعَوْهم إلى الإيمانِ الصادرِ من العقلاءِ بالله ورسوله، وأن العاقلَ يتعيَّنُ عليه الدخولُ فيما دخل فيه العقلاءُ الناصحونَ لأنفسِهم، ولا سيَّما إذا قامتْ أدِلَّتُهُ ووضحَتْ شواهدُهُ، فأجابهم المنافقون بما مضمونه: إنَّا إنما يجِبُ علينا موافَقَةُ العقلاءِ، وأما السفهاءُ الذين لا عقلَ لهم يُمَيِّزونَ به بين النّافعِ والضّارِّ؛ فلا يجبُ علينا موافقتُهم، فردَّ اللهُ تعالى عليهم، وحَكم للمؤمنينَ، وأسْجلَ على المنافقينَ بأربعةِ أنواع:
(4/1541)


أحدها: الحكمُ بسَفهِهم (1).
الثاني: حَصْرُ السَّفَه فيهم.
الثالث: نفْيُ العلمِ عنهم.
الرابع: تكذيبهم فيما تضمَّنَهُ جوابُهم من الإخبارِ عن سَفهِ أهل الإيمانِ.
وخامسٌ -أيضًا -وهو: تكذيبهم فيما تضمَّنَه جوابُهم من دعواهم التَّنزيه (2) من السَّفَهِ.

  • ومن ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} [البقرة: 21، 22] إلى قوله: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)} [البقرة: 24]، فهذا استدلالٌ في غايةِ الظهور ونهايةِ البيان، على جميع مطالب أصولِ الدِّين؛ مِن إثبات الصَّانع، وصفات كمالِهِ؛ من قدرتهِ وعلمِهِ، وإرادته وحياته، وحكمته وأفعاله، وحدوث العالم، وإثبات نوعَيْ توحيدِهِ تعالى؛ توحيد الرُّبوبيَّة المتضمِّن أنه وحدَه الرَّبُّ الخالق الفاطرُ، وتوحيد الإلهية المتضمَنُ أنه وحده الإلهُ المعبودُ المحبوبُ الذي لا تصلحُ العبادةُ والذُّلُّ والخضوعُ والحُبُّ إلا له.
    ثم قرَّر تعالى بعد ذلك إثباتَ نبوَّة رسوله محمد – صلى الله عليه وسلم – أبلغَ تقريرٍ

(1) (ظ): “تسفيههم”.
(2) (ق وظ): “التبرئة”.
(4/1542)


وأحسنَهُ وأتَمَّهُ وأبعدَه عن المعارض، فثبتَ بذلك صدقُ رسولهِ في كلِّ ما يقوله، وقد أخبر عن المعاد والجنة والنار، فثبتَ صحَّةُ ذلك ضرورةً، فقرَّرتْ هذه الآياتُ (ق/ 363 أ)، هذه المطالبَ كلَّها على أحسن وجهٍ، فصدرها تعالى بقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ}، وهذا خطاب لجميع بني آدَمَ يشتركون كلُّهم في تعلّقِه بهم.
ثم قال: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} فأَمَرَهم بعبادة ربِّهم، وفي ضمن هذه الكلمة البرهان القطعيُّ على وجوب عبادَتِهِ؛ لأنه إذا كان ربنا الذي يُرَبِّينا بنعمه (1) وإحسانه، وهو مالكُ ذواتِنا ورقابِنا وأنفسنا، وكل ذرَّةٍ من العبد فمملوكةٌ له ملكاً خالصًا (2) حقيقياً، وقد ربَّاه بإحسانِهِ إليه وإنعامِهِ عليه، فعبادتُهُ له وشكرُهُ إياه وأجبٌ عليه، ولهذا قال: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}، ولم يقل: إلهكم. والرّبُّ هو: السَّيِّدُ (3) والمالكُ والمنعِم والمربي والمصلحُ، والله تعالى هو الربّ بهذه الاعتبارات كلِّها، فلا شيءَ أوجبُ في العقول والفِطَرِ من عبادةِ مَنْ هذا شأنُه وحدَه لا شريكَ له.
ثم قال: {الَّذِي خَلَقَكُمْ} فنبَّه بهذا -أيضًا- على وجوب عبادَتِهِ وحدَه، وهو كونه أخرجهم من العدم إلى الوجودِ، وأنشأَهم واخترعَهم وحدَه بلا شريك باعترافهم وإقرارهم كما قال في غيرِ موضِعِ من القرآن: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، فإذا كان هو وحدَه الخالقَ، فكيف لا يكون وحدَه المعبودَ؟! وكيف يجعلونَ معه شريكاً في العبادَةِ! وأنتم مقرُّون بأنه لا شَريكَ له في الخَلْق، وهذه


(1) (ع): “يربُّنا بنعمته”.
(2) (ق): “خاصَّا”.
(3) “والرب هو السيد” سقطت من (ع).
(4/1543)


طريقةُ القرآن يستدل بتوحيد الرُّبوبية على توحيد الإلهيَّةِ.
ثم قال: {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، فنبَّه بذلك على أنه وحدَه الخالق لكم ولآبائِكم ومَنْ تَقَدَّمَكم، وأنه لم يشركْهُ أحدٌ في خَلْقِ من قبلكم ولا في خلقِكم، وخلْقُهُ تعالى لهم متضمِّنٌ لكمال قدرتِه وإرادته وعلمه وحكمته وحياته، وذلك يستلزمُ (1) لسائرِ صفاتِ كمالِهِ ونعوتِ جلالِهِ، فتضمَّنَ ذلك إثبات صفاتِهِ وأفعالِهِ، ووحدانيته في صفاته، فلا شبيهَ له فيها، ولا في أفعالِهِ فلا شرَيكَ له فيها.
ثم ذكر المطلوبَ من خَلْقِهم، وهو: أن يَتقُوه فيطيعونه ولا يعصُونه، ويذكرونه فلا يَنْسَوْنه، ويشكرونه ولا يكفرونه، فهذه حقيقةُ تقواه.
وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} قيل: إنه تعليلٌ للأمر، وقيل: تعليلٌ للخَلْق، وقيل: المعنى أعبدوه لتتقوه بعبادَتِهِ. وقيل: المعنى خَلَقَكم لِتَتَّقُوه، وهو أظهَرُ لوجوهٍ:
أحدها: أن التقوي هي العبادةُ، والشيءُ لا يكون عِلَّة (2) لنفسهِ.
الثاني: أن نظيرهُ قولُه تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
والثالث: أن الخلْقَ أقربُ في اللفظ إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} من الأمر.
(ظ/ 252 ب) ولمن نصر الأول أن يقول: لا يمتنع أن يكون قولُه:


(1) (ق وظ): “مستلزم”.
(2) (ق): “غاية”.
(4/1544)


{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} تعليلًا للأمر بالعبادةِ (1)، ونظيره قوله تعالى: (ق/363 ب) {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [البقرة: 183]، فهذا تعليلٌ لِكَتْب الصِّيام، ولا يمتنعُ أن يكونَ تعليلا للأمرينِ معًا، وهذا هو الألْيَق بالآية، والله أعلم.
ثم قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: 22]، فذكر تعالى دليلًا آخَر متَضَمِّنا للاستدلالِ بحكمتهِ في مخلوقاتِه.
فالأوَّل: متضمِّنٌ لأصلِ الخَلْق والإيجاد، ويسمى: “دليلَ الاختراعِ والإنشاء”.
والثاني: متضمنٌ (2) للحِكم المشهودة في خلْقِه، ويسمَّى: “دليلَ العنايةِ والحكمةِ”، وهو تعالى كثيرًا ما يكرِّر هذينِ النوعينِ (3) من الاستدلالِ في القرآن.
ونظيرُه قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)} [إبراهيم: 32 – 33] فذكر خَلْق السموات والأرض، ثم ذكر منافعَ المخلوقات وحِكَمَها.
ونظيره قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ


(1) (ع): “بالأمر للعبادة”.
(2) (ق وع): “يتضمن”.
(3) في الأصول: “هذان النوعان”!.
(4/1545)


بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} [النمل: 60، 61] إلى آخر الآياتِ، على أنَّ في هذه الآياتِ من الأسرار والحِكمِ ما بحَسْب عقولِ العالمِينَ أن يفهموه ويُدْركوه، ولعلَّه أن يَمُرَّ بك إن شاء الله التنبيهُ على رائحة يسيرةٍ من ذلك.
ونظيرُ ذلك -أيضًا- قولُه تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]، وهذا كثير في القرآن لمن تأمَّلَه.
وذكر -سبحانه-: في آية (البقرة) قرارَ العالم وهو: الأرض، وسقفه وهو: السماء، وأصولَ منافع العباد وهو: الماءُ الذي أنزله من السَماء، فذكر المسْكنَ والسّاكنَ وما يحتاجُ إليه من مصالحهِ، ونبه -تعالى- بجعله للأرض فراشاً على تمامِ حكمتهِ في أن هيّأها لاستقرار الحيوان عليها، فجعلها فراشاً ومهاداً وبِساطاً وقَرَارًا، وجعلَ سقفَها بناءً محكمًا مستوِيًا لا فُطُورَ فيه ولا تفاوُتَ ولا عَيْبَ.
ثم قال: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]، فتأملْ هذه النتيجةَ وشدَّةَ لزومها لتلك المقدماتِ قبلها، وظَفَر العقل بها بأوَّل وهلةٍ وخُلوصها من كل شبهةٍ وريبٍ وقادح، (ق/ 364 أ) وأن كلَّ متكلّم ومستدل ومِحجاج إذا بالغ في تقريرِ ما يقرِّره وأطاله، وأَعْرض القول فيه فغايته -إن صحَّ ما يذكرُه- أن ينتهيَ إلى بعض (1) ما في القرآن


(1) (ق): “فغايته إن صح ما ينتهي أن يذكر بعض … “، و (ظ): “فغايته إن صح أن ينتهي أن بعض … “!.
(4/1546)


فتأمَّلْ ما تحتَ هذه الألفاظِ من البرهان الشَّافِي في التوحيد، أي: إذا كان اللهُ وحدَه هو الذي فَعَلَ هذه الأفعالَ فكيف يجعلونَ له أنداداً!؟ وقد عَلِمتمْ أنَّه لا نِدَّ له يشاركهُ في فعلِهِ.
فلما قرَّرَ نوعَى التوحيد أتم تقرير انتقل إلى تقرير النّبُوَّةِ فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)} [البقرة: 23]، إن حصل لكم رَيبٌ في القرآن وصِدْق من جاء به، وقلتم: إنه مفتعلٌ؛ فأتوا ولو بسورة واحدة تشبهُهُ، وهذا خطابٌ لأهل الأرض أجمعهم، ومن المحالِ أن يأتيَ واحدٌ منهم بكلامِ يفتعلُه ويختلقه من تلقاء نفسِه، ثمَّ يطالب أهل الأرض بأجمعِهم أن يعارضوه في أيسرِ جزءٍ منه، يكون مقدارُهُ ثلاثَ آيات من عِدة ألوف، ثم تعجزُ الخلائِقُ كلّهم عن ذلك، (ظ/253 أ) حتى إنَّ الذين راموا معارَضتهُ كان ما عارضوه من (1) أقوى الأدِلَّةِ على صِدْقِهِ، فإنهم أتَوْا بشيء يَسْتَحيِي العقلاءُ من سَمَاعِهِ، ويحكمونَ بسَماجَتِهِ، وقُبحِ ركاكَتِهِ وخِسَّتِهِ، فهو كمن أظهرَ طِيبًا لم يَشَمَّ أحدٌ مِثْلَ ريحِهِ قطُ، وتحدَّى الخلائقَ ملوكَهم وسوقَتَهم بأن يأتوا بذَرَّة طيب مثله، فاستَحى العقلاءُ وعَرَفوا عَجْزَهم، وجاء الحُمقَان بعَذِرَة منتنة خبيثةٍ، وقالوا: قد جئنا بمثل ما جئتَ به، فهل يزيدُ هذا ما جاء به إلا قوَّة وبرهانًا وعَظَمَة وجلالة؟!.
وأكَّد تعالى هذا التوبيخَ والتقريعَ والتعجيزَ بأن قال: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)}، كما يقولُ المعجزُ لَمن يدَّعي مقاوَمَتَهُ: اجهد علَيَّ بكل من تقدرُ عليه من أصحابِكَ وَأعوانِكَ


(1) من (ع).
(4/1547)


وأوليائِكَ، ولا تُبْقِ منهم أحدًا حتى تستعين به، فهِذا لا يقدمُ عليه إلا أجهلُ العالمِ وأحمقُهُ وأسخفُهُ عقلًا، إن كان غيرَ واثقٍ بصحَّةِ ما يدَّعيه، أو أكملهم وأفضلهم وأصدقهم وأوثقهم بما يقوله.:
والنبيُّ – صلى الله عليه وسلم – يقرأ هذه الآيةَ وأمثالَها على أصنافِ الخلائقِ أُمَّيهِم وكتابيِّهم وعَرَبِهم وعَجَمِهم ويقول: لن تستطيعوا ذلك ولن تفعلوه أبدًا، فيعدلونَ معه إلي الحرب والرضى بقتل الأحباب، فلو قدروا على الإتيان بسُورة واحدةٍ لم يعدِلوا عنها إلى اختيارِ المحارَبَةِ، وإيتامْ الأولادِ، وقتلِ: النفوسِ، والإقرار بالعجز عن معارضته.
وتقرير النّبُوَّةِ بهذه الآية له وجوهٌ متعدِّدَةٌ هذا أحدُها.
وثانيها: إقدامُه – صلى الله عليه وسلم – (ق /364 ب) على هذا الأمر، وإسجاله على الخلائق إسجالا عامًّا إلى يومِ القيامَةِ، أنهم لن يفعلوا ذلك أبداً، فهذا لا يُقْدِمُ عليه ويخْبِر به إلَّا عن عِلم لا يخالجُه شكٌّ (1)، مستندٍ إلى وحي من الله تعالى، وإلَّا فعلمُ البَشَر وقدرتُه يضعفان عن ذلك.
وثالثها: النظرُ إلى نفس ما تحَدَّى به، وما اشتملَ عليه من الأموِرِ التي تعجَزُ قوى البشر عن الإتيان بمثلِهِ، الذي فصاحَتُهُ ونظمُهُ وبلاغتُهُ فَرْدٌ من أفرادِ إعجازِهِ.
وهذا الوجهُ يكون معجزة لمن سمِعه وتأملَهُ وفهِمَهُ، وبالوجهينِ الأوَّلَينِ يكون معجزةً لكلِّ من بلغه خبَرُهُ ولو لم يفهمْه ولم يتأمَّلْه.
فتأمَّل هذا الموضعَ من إعجازِ القرآن تعرف فيه قصور كثيرٍ من المتكلِّمين، وتقصيرَهم في بيان إعجازه (2)، وأنهم لن يُوَفُّوهُ عُشْرَ.


(1) (ق): “عن علم لا شك فيه”.
(2) من قوله: “وهذا الوجه … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(4/1548)


معشارِ حقِّهِ، حتى قَصَرَ بعضهم الإعجاز على صرفِ الدواعي عن معارضتِه مع القُدْرة عليها، وبعضهم قصرَ الإعجازَ على مجرَّد فصاحتِهِ وبلاغتِهِ، وبعضُهم على مخالفةِ أسلوب نظمِه لأساليب نظمِ الكلامِ، وبعضُهم على ما اشتملَ عليه من الإخبارِ بالغيوب، إلىَ غير ذلك من الأقوالِ القاصرةِ التي لا تشفِي ولا تُجْدِي، وإعجازُه فوقَ ذلك ووراءَ ذلك كلِّه.
فإذا ثبتتِ النبُوَّةُ بهذه الحجةِ القاطعةِ، فقد وجبَ على الناس تصديق الرسولِ في خبرِه وطاعةِ أمرِه، وقد أخبر عن الله تعالىَ وأسمائه، وصفاتهِ وأفعالِه، وعن المَعادِ والجَنَّةِ والنَّار، فثبتَ صحَةُ ذلك يقينًا، فقال تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ …….. } [البقرة: 24 – 25] الآية، فاشتملتِ الآياتُ على تقرير مهمّاتِ أصولِ الدِّين؛ من إثبات خالق العالم وصفاتِه ووحدانيتِه، ورسالةِ رسوله، والمَعادِ الأكبرِ.

  • ومن ذلك قولُه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا …… } [البقرة: 26] الآية، وهذا (1) جوابُ اعتراض اعترضَ به الكفَّار على القرآن، وقالوا: إن الرَّبَّ أعظمُ من أن يذكرَ الذبابَ والعنكبوتَ ونحوَها من الحيواناتِ الخسيسةِ، فلو كان ما جاء به محمدٌ – صلى الله عليه وسلم – كلام الله، لم َيذكُرْ فيه الحيواناتُ الخسيسة (2)، فأجابهم -تعالى- بأن قال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً (ظ/ 253 ب) فَمَا فَوْقَهَا}، فإن ضَربَ الأمثالِ بالبعوضةِ فما فوقَها، إذا

(1) (ق وع): “وهذه”.
(2) من قوله: “فلو كان … ” إلى هنا ساقط من (ع).
(4/1549)


تضمَّنَ تحقيقَ الحقِّ وإيضاحَه وإبطالَ الباطل وإدحاضه (1) كان من أحسنِ الأشياءِ، والحُسْنُ لا يستحيا منه، فهذا جواب الاعتراض. فكأن معترضاً اعترض على هذا الجواب أو طلب (ق/ 365 أ)، حكمَةَ ذلك، فأخبر تعالى عما له في ضَرب تلك الأمثالِ من الحكمةِ، وهي: إضلالُ من شاء، وهدايَةُ من شاء. ثم كأنَّ سائلًا سألَ عن حكمةِ الإضلال لمنْ يضلُّهُ بذلك، فأخبر تعالى عن حكمتهِ وعدلِه، وأنه إنما يضلُّ به الفاسقين: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 27] فكانت أعمالهم هذه: (2) القبيحة التي ارتكبوها سببًا لأن أضلَّهم وأعمالهم عن الهدى.

  • ومن ذلك قولُه تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)} [البقرة: 28]، وهذا استدلالٌ قاطعٌ على أن الإيمان بالله أمر مستقِرٌّ في الفطَرِ والعقولِ، وأنه لا عذرَ لأحدٍ في الكفرِ به ألبَتَّةَ، فذكر تعالى أربعةَ أمور؛ ثلاثة منها مشهودة في هذا العالم، والرابع مُنْتَظر موعودٌ به وعدَ الحقِّ.
    الأول: كونهم كانوا أمواتاً لا أرواحَ فيهم، بك نُطَفاً وعَلَقاً ومُضْغَةً مَوَاتا لا حياةَ فيها.
    الثاني: أنه تعالى أحياهم بعدَ هذه الإماتَةِ.
    الثالث: أنه تعالى يُميتهم بعدَ هذه الحياة.

(1) سقطت من (ع وظ).
(2) (ق): “وكانت هذه الأعمال … “.
(4/1550)


الرابع: أنه يُحييهم بعد هذه الإماتَةِ فيرجِعون إليه.
فما بالُ العاقلِ يشهدُ الثلاثةَ الأطوارَ الأُوَلَ (1) ويكذبُ بالرابع؟! وهل الرابعُ إلَّا طوْر من أطوار التَّخليق؟ فالذي أحياكم بعد أن كَنتم أمواتًا، ثم أماتكم بعد أنْ أحياكم، ما الذي يُعْجزهُ عن إحيائِكم بعد ما يُمِيتكم؟! وهل إنكارُكم ذلكَ إلَّا كفرٌ مجرَّدٌ بالله؟ فكيف يقعُ منكم بعدَ ما شاهدتموه؟! ففي ضمنِ هذه الآيةِ الاستدلالُ على وجود الخالق وصفاتِه وأفعالِه على المَعاد.

  • ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)} [البقرة: 30 – 33].
    فهذه كالمناظرةِ من الملائكةِ والجواب عن سؤالهم؛ كأنهم قالوا: إن استخلفتَ في الأرضِ خليفة كان منهَ الفساد وسفكُ الدماء، وحكمتك تقتضي أن لا تفعلَ ذلك، وإن جعلتَ فيها فتجعل فيها من يسبحُ بحمدِك ويقدَسُ لك، ونحن نفعلُ ذلك. فأجابهم تعالى عن هذا السُّؤالِ: بأن له من الحكمةِ في جَعْل، (ق/ 365 ب) هذا الخليفةِ في الأرض ما لا تعلمُهُ الملائكةُ، وإن وراءَ ما زعمتم من الفَسادِ مصالحَ وحِكَماً لا تعلمونها أنتم، وقد ذكرنا منها قريبًا من أربعينَ حكمةً في

(1) تكررت في (ع).
(4/1551)


كتاب “التحفة المكية”، فاستخرجَ تعالى من هذا الخليفةِ وذرِّيَّته: الأنبياءَ والرُّسُلَ والأولياءَ والمؤمنينَ، وعَمَر بهم الجنةَ، وميَّز الخبيثَ من ذريته من الطَّيِّب، فعَمَرَ بهم النارَ، وكان في ضمن ذلك من الحكمِ والمصالح ما لم تكن الملائكةُ تعلمُه (1).
ثم إنه سبحانه أظهر فضلَ الخليفةِ عليهم بما خصَّه به من العِلمِ الذي لم تعلَمْهُ الملائكةُ، وأمَرَهم بالسجودِ له تكريمًا له وتعظيماً، وإظهارًا لفضلِه، وفي ضمنِ ذلك من الحِكَمِ ما لا يعلمُه إلَّا الله (2).
فمنها: امتحانُهم بالسجودِ (ظ/254 أ) لمن زَعَموا أنه يفسِدُ في الأرض ويسْفِكُ الدِّماء، فأسْجَدَهم له، وأظهر فضلَهُ عليهم، لما أَثنَوا على أنفسِهم وذمُّوا الخليفةَ، كما فَعَلٌ سبحانه ذلك بموسى، لما أخبر عن نفسِهِ أنه أعلمُ أهلِ الأرضِ، فامتحنه بالخَضِر وعَجْزِهِ معه في تلك الوقائع الثلاثِ (3). وهذه سنّتُه تعالى في خليقته وهو الحكيمُ العليمُ.
ومنها: جَبْرهُ لهذا الخليفةِ وابتداؤُه له بالإكرام والإنعام، لما عَلِم مما يحصلُ له من الانكسار والمصيبةِ والمحنةِ فابتدأه بالخير (4) والفضلِ، ثم جاءت المحنةُ والبَلِيَّةُ والذّلُّ، وكانت عاقِبَتَها إلى الخير والفضلِ والإحسان، فكانت المصيبةُ التي لَحِقَتْه محفوفةً. بإنعامَيْن: إنعام قبلَها، وإنعام بعدها، ولذريته المؤمنينَ نصيبٌ مما لأبيهم، فإنّ الله تعالى أنعم عليهم بالإيمان ابتداءً وجعل العاقبةَ لهم، فما أصابَهُم


(1) (ع وظ): “ما لم يكن للملائكة تعلّمه”.
(2) من قوله: “وأمرهم بالسجود … ” إلى هنا سقط من (ق).
(3) المذكورة في سورة الكهف الآيات (60 – 82)، وأخرجها البخاري رقم (74)، ومسلم رقم (2380) من حديث أُبَيّ بن كعب -رضي الله عنه-.
(4) (ع): “بالجبر”.
(4/1552)


بينَ ذلك من الذُّنوبِ والمصائب، فهي محفوفةٌ بإنعامِ قبلَها وإنعام بعدها (1)، فتبارك اللهُ ربُّ العالمينَ.
ومنها: استخراجهُ -تعالى- ما كان كامِناً في نفسِ عدوِّهِ (2) إبليسَ من الكبْرِ والمعصيةِ، الذي ظَهَر عند أمرهِ بالسجودِ، فاستحقَّ اللعنةَ والطّردَ والإبعادَ، على ما كان كامِناً في نفسِه عند إظهارِه، والله تعالى كان يعلمُه (3) منه، ولم يكنْ ليعاقِبَهُ ويلعَنَهُ على علمِه فيه، بل على وقوع معلومِه، فكان أمرُة بالسجود له مع الملائكةِ مُظْهراً للخبث والكفَرِ الذي كان كامناً فيه، ولم تكن الملائكةُ تعلمُه فأظهرَ لهم -سبحانه- ما كان يعلمُهُ، وكان خافياً عنهم من أمره، فكان في الأمرِ بالسجودِ له تكريماً لخليفَتِهِ الذي أخبرهم بأنه يجعله في الأرضِ، وجَبْرًا له، وتأديباً للملائكةِ، وإظهاراً لما كان مستخفِياً في نفسِ إبليسَ، وكان ذلك كلّه سببًا لتمييزِ الخبيثِ من الطَّيب، وهذا من بعض حِكَمِهِ -تعالى- في إسجادِهم لآدَمَ.
ثم إنه سبحانه لما علَّمَ آدَمَ ما علَّمَهُ، ثم امتحَنَ الملائكةَ بعلمِه فلم يعلموه، فأنبأهمِ به آدَمُ؛ كان في طيِّ ذلك جوابًا لهم عن كون هذا الخليفةِ لا فائدة في جعلِهِ في الأرضِ، فإنه يفسِدُ فيها ويسفِكُ الدِّماءَ، فأَراهم من فضلِه وعلمِه خلافَ ما كان في ظّنهم.


(1) من قوله: “ولذريته المؤمنين … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) (ع): “عوره”!.
(3) (ع): “يعلم”.
(4/1553)


فصل
في ذكر مناظرةِ إبليس عدوِّ (ق/366 أ) الله في شأن آدَمَ، وإبائهِ من السجود له، وبيان فسادِها
وقد كرَّر اللهُ تعالى ذكرَها في (1) كتابهِ، وأخبرَ فيها أنَّ امتناعَ إبليسَ من السُّجود كان كِبْرًا منه وكفراً، ومُجَرَّدَ إباء، وإنما ذكر تلك الشبْهَةَ تعنّتاً، وإلا فسببُ معصيتِهِ الاستكبارُ والإباءُ والكفر، وإلاّ فليس في أمرهِ بالسجودِ لآدَمَ ما يناقِصُ الحكمةَ بوجهٍ.
وأما شبهتهُ الدَّاحِضَةُ وهي: أن أصلَهُ وعنصرَهُ النارُ، وأصلَ آدم وعنصرَه التُّرابُ، ورتَّب على ذلك أنه خَيْرٌ من آدَمَ، ثم رتَّبَ على هاتينِ المقدمتينِ أنه لا يحسنُ منه الخضوعُ لمن هو فوقَهُ وخيرٌ منة؛ فهي باطلةٌ من وجوهٍ عديدة:
أحدها (2): أن دعواه كونهُ خيرًا من آدَمَ دعوى كاذِبَةٌ باطلةٌ، واستدلالُه عليها بكونهِ: مخلوقاً من نار وآدَمُ من طين، استدلالٌ باطلٌ، وليست النار خيرًا من: الطِّينِ والترابِ، بل التُّراب خيرٌ من النار، وأفضلُ عنصرًا من وجوه:
أحدها: أن النّارَ: طبعُها الفسادُ وإتلاف ما تعلَّقتْ به، بخلاف التُّرابِ.


(1) (ق): “وقد ذكرها الله تعالى في … “.
(2) لم يذكر المؤلف غير هذا الوجه، فلعله طال عليه الكلام بتعداد الوجوه المندرجة تحت هذا الوجه، فلم يذكر بقيتها، وانظر بعض هذه الوجوه في “الصواعق المرسلة”: (3/ 1002 – 1004).
(4/1554)


الثاني: أن طبعَها الخِفَّةُ والحدَّةُ والطيْشِ، والتُّرابُ طبعُهُ الرَّزَانَةُ والسكونُ والثَّبَاتُ.
الثالث: أن الترابَ يتكوَّنُ فيه ومنه أرزاقُ الحيوان وأقواتُهم، ولباسُ العبادِ وزينتُهم، وآلاتُ معايشِهم ومساكِنِهم، والنارُ لا يتكوَّنُ فيها شيءٌ من ذلك.
الرابع: أن (ظ/ 254 ب) التُّرابَ ضَرُورِيّ للحيوانِ لا يستغني عنه ألبَتةَ، ولا عن ما يتكوَّنُ فيه ومنه (1)، والنّارُ يستغني عنها الحيوان البهيمُ مطلقاً، وقد يستغني عنها الإنسانُ الأيامَ والشهورَ، فلا تدعوه إليها الضَّرُورةُ، فأين انتفاعُ الحيوانِ كلِّه بالتُّرابِ إلى (2) انتفاعِ الإنسانِ بالنّارِ في بعضِ الأحيانِ.
الخامس: أن التُّرَابَ إذا وُضِعَ فيه القوت أخرجَهُ أضعافَ أضعافِ ما وُضِعَ فيه، فمن بَركَتِهِ يُؤَدي إليك ما تستوِدِعُه فيه مضاعَفاً، ولو استودعْتَهُ النارَ لخانَتْكَ وأَكَلَتْهُ، ولم تُبْقِ ولم تَذرْ.
السادس: أنَّ النارَ لا تقومُ بنفسِها، بل هي مفتقرةٌ إلى محلّ تقومُ به يكونُ حاملًا لها، والترابُ لا يفتقرُ إلى حامل فالترابُ أكملُ منها.
السابع: أن النارَ مفتقرةٌ إلى التُّراب، وليس بالتُّراب فقرٌ إليها، فإنَّ المَحَلَّ الذي تقومُ به النارُ لا يكون إلَّا مكوناً (3) منَ التُّراب أو فيه، فهي الفقيرةُ إلى التُرَابِ، وهو الغنيُّ عنها.


(1) (ع): “منه وفيه”.
(2) (ق): “من”.
(3) (ق وظ): “متكوناً”.
(4/1555)


الثامن: أن المادَّة الإبليسيَّةَ هى المارجُ (1) من النار، وهو ضعيفٌ، يتلاعَب به الهوى، فيميلُ معه كيفما مالَ، ولهذا غَلَبَ الهوى على المخلوق منه فأسَرَهُ وقَهرَهُ، ولما كانت المادَّةُ الآدَمِيَّةُ الترابَ، (ق/ 366 ب) وهو قويٌّ لا يذهب مع الهوى أينما ذهبَ، قَهرَ هواه وأسره، ورجع إلى ربِّهِ فاجتباه واصطفاه، فكان الهوى الذي مع المادَةِ الآدَمِيَّةِ عارِضا سريعَ الزَّوال فزالَ، وكان الثبات والرَّزانَةُ أصليًّا له فعادَ إليه، وكان إبليس بالعكس من ذلك، فرجَعَ كلّ من الأبوينِ إلى أصلِهِ وعُنْصرِهِ: آدَمُ، إلى أصلِه الطَّيِّبِ الشريفِ، واللَعِين إلى أصلِهِ الرَّديء.
التاسع: أن النارَ وإن حَصَلَ بها بعض المنفعةِ والمتاع، فالشرّ كامنٌ فيها لا يصدُّها عنّه إلَّا قَسْرُها وحَبْسها، ولولا القاسِرُ والحابسُ لها لأفسدتِ الحرْثَ والنسلَ، والتّرابُ فالخير والبِرُّ والبَرَكَةُ كامنٌ فيه، كلما أُثِيرَ وقُلِبَ ظهرتْ بَرَكَتُهُ وخيرُهُ وثَمَرَتُهُ، فأين أحدهما من الآخر؟!.
العاشر: أن الله تعالى أكْثَرَ ذكر الأرض في كتابِه، وأخبر عن منافعِها وخَلْقِها، وأنه جعلها مِهادًا وفراشاً، وبساطًا وقراراً، وكِفاتاً للأحياءِ والأمواتِ، ودعا عبادَهُ إلى التَّفَكّر فيها والنظر في آياتِها، وعجائِب ما أودعَ فيها، ولم يذكرِ النارَ إلَّا في معرض العقوبةِ والتخويف والعذابَ، إلَّا موضعًا أو موضعينِ ذكرها فيه بأنها تذكرةٌ ومتاع للمُقوِيْنَ، تذكرةٌ بنار الآخرة، ومتاعٌ لبعض أفرادِ الإنسان، وهم المُقْوُونَ النازلونَ بالقَوا (2)، وهي الأرض الخالية إذا نزلها المسافرُ تَمتع بالنار في


(1) (ق): “الخارج”!، والمارج هو: الشُّعلة الساطعة ذات اللهب الشديد. “اللسان”: (2/ 365).
(2) بالمد والقصر. “اللسان”: (15/ 210 – 211).
(4/1556)


منزله، فأين هذا من أوصاف الأرض في القرآن؟!.
الحادىِ عشر: أن الله تعالى وصفَ الأرضَ بالبركةِ في غيرِ موضع من كتابهِ خصوصًا، وأخبر أنه باركَ فيها عمومًا، فقال: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)} [فصلت: 9، 10] فهذه بركةٌ عامَّةٌ.
وأما البَرَكَةُ الخاصَّةُ ببعضها فكقوله: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)} [الأنبياء: 71]، وقوله: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً} [سبأ: 18]، وقوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 81].
وأما النار؛ فلم يخبرْ أنه جعل فيها بَرَكَة أصلًا، بل المشهورُ أنها مُذْهِبَةٌ للبركات (1) ماحقةٌ لها، فأين المبارَك في نفسِه المبارَك فيما وُضِع فيه، إلى مُزِيلِ البركةِ وما حِقِها؟!.
الثاني عشر: أنَّ الله تعالى جعلَ الأرضَ محلّ بيوتهِ التي يُذكَرُ فيها اسمه، ويسبَّحُ لها فيها بالغدوِّ والآصال عمومًا، وبيته الحرام الذي جعلَه قياماً للناسِ مباركاً وهدىً للعالمين خصوصًا، (ظ /255 أ) ولو لم يكنْ في (ق/367 أ) الأرضِ إلَّا بيته الحرامُ لكفاها ذلك شَرَفًا وفضلًا على النار.
الثالث عشر: أنَّ اللهَ تعالى أوْدَعَ في الأرض من المنافع والمعادنِ، والأنّهارِ والعيونِ، والثمراتِ والحبوبِ، والأقواتِ، وأصنافَ الحيواناتِ


(1) (ظ): “للبركة”.
(4/1557)


وأمتعتِها، والجبال والجنان والرياض، والمراكبِ البَهيَّةِ والصُّورِ البهيجة، ما لم يودعْ في النار شيئًا منه، فأيّ روضةٍ وُجِدَت في النّار، أو جَنَّةٍ أو معدِن، أو صورَة أو عيْنٍ فوّارةٍ (1)، أو نهير مطَّرِدٍ أو ثَمَرَة لذيذة، أو زوجة حسنةٍ أو لباسٍ وسترة.
الرابع عشر: أن غايةَ النار أنها وضعتُ خادمةً لما في الأرض (2)، فالنارُ إنما محلُّها محلُّ الخادمِ لهذه الأشياءِ المكمِّلِ لها، فهي تابعةٌ لها خادمةٌ فقط، إذا استغنتْ عنها طَرَدَتْها وأبْعَدَتْها عن قربها، وإذا احتاجتْ إليها استَدعَتها استدعاءَ المخدومِ لخادِمِه ومن يقضي حوائِجَهُ.
الخامس عشر: أن اللَّعينَ لقصورِ نظرِهِ وضعف بصيرتِهِ، رأى صورة الطين ترابًا ممتزجاً بماء فاحتقرَهُ، ولم يعلمْ أن الطِّين مُركَّبٌ من أصلين (3): الماءُ الذي جعل اللهُ منه كلَّ شْيءٍ حيّ، والترابُ الذي جعله خزانَةَ المنافع والنعَمِ، هذا وكم يجيء من الطينِ من المنافعِ وأنواعِ الأمتعةِ، فلو تجاوَز نظرُه صورةَ الطِّين إلى مادَّته ونهايته لَرَأى أنه خيرٌ من النار وأفضل (4).


(1) غير محررة في النسخ.
(2) (ع): “النار”!.
(3) (ع وظ): “أصل”.
(4) ذكر المؤلف في “الصواعق”: (3/ 1004 – 1006)، عدداً من هذه الوجوه هي أحد عشر وجهاً، منها وجوهٌ لم يذكرها هنا، وهذه هي:
1 – أن التراب يُفسد صورة النار ويبطلها ويقهرها، وإن علت عليه.
2 – أن الرحمةَ تنزلُ على الأرض فتقبلها وتَحيى بها وتخرج زينتها، وأقواتها، وتشكر ربَّها، وتنزل على النار فتأباها وتطفيها وتمحوها وتذهب بها. فبينها وبين الرحمة معاداة، وبين الأرض وبين الرحمة موالاة وإخاء.
3 – أن النار تطفأ عند التكبير، فتضمحل عند ذكر كبرياء الرب، ولهذا =
(4/1558)


وإذا استقريْتَ الوجوهَ التي تدلُّكَ على أن الترابَ أفضلُ من النارِ وخيرٌ منها وجدتَها كثيرةً جدًا، وإنما أشرنا إليها إشارةً، ثم لو سُلّم بطريقِ الفَرْض الباطل أن النارَ خيرٌ من الطين، لم يلزم من ذلك أن يكونَ المخلوقُ منها خيرًا من المخلوق من الطين، فإنَّ القادرَ على كلِّ شيء يخلُقُ من المادَّةِ المفضولَة مَنْ هو خيرٌ ممن خَلَقَهُ من المادَّة الفاضلة، والاعتبار بكمالِ النهايةِ لا بنقْصِ المادَّةِ، فاللعين لم يتجاوزْ نظرهُ محلَّ المادة، ولم يعبُر منها إلىَ كمالِ الصُّورةِ ونهايةِ الخِلْقَةِ، فأين الماء المَهينُ الذي هو نطفة، ونقصُه (1) واستقذارُ النفوس له إلى كمالِ الصّورةِ الإنسانيةِ التامَّةِ المحاسنِ خَلْقًا وخُلُقاً.
وقد خلق اللهُ -تعالى- الملائكةَ من نورٍ وآدَمَ من تراب، ومن ذريةِ آدمَ من هو خيرٌ من الملائكة، وإن كان النورُ أفضلَ من التُّراب.
فهذا وأمثالُه مما (2) يدلُّك على ضعفِ مناظرةِ اللَّعينِ وفسادِ نظره وإدراكِهِ، وأن الحكمةَ كانت توجبُ عليه خضوعَه لآدَمَ فعارضَ حكمةَ الله وأمْرهُ برأيِهِ الباطلِ ونظرِه الفاسِدِ، فقياسهُ باطلٌ نصًا وعقلاً، وكلُ من عارَضَ نصوصَ الأنبياءِ بقياسِهِ ورأيِهِ، فهو من خلفائِهِ وأتباعِهِ، فنعوذُ بالله من الخِذْلان، ونسألُهُ التوفيقَ والعصمةَ (ق/ 367 ب) من هذا البلاء الذي ما رُمِيَ العبدُ بشرِّ منه، ولأن يَلْقَى اللهَ بذنوبِ الخلائقِ كلَّها ما خلا الإشراكَ به أسلمُ له من أن يلقى الله (3) وقد عارَضَ


= يهرب المخلوق منها عند الأذان، حتى لا يسمعه، والأرض تبتهج بذلك وتفرح به، وتشهد به لصاحبه يوم القيامة.
(1) (ظ) والمطبوعات: “ومُضغة”.
(2) من (ق).
(3) (ق وظ): “يلقاه”.
(4/1559)


نصوصَ أنبيائِهِ برأيه ورأيِ بني جنسِه.
وهلْ طرَدَ اللهُ إبليسَ ولعنه، وأحلَّ عليه سخطَه وغضبَه إلَّا حيث عارضَ النصَّ بالرأي والقياسِ ثم قدَّمه عليه؟! واللهُ يعلمُ أن شبْهةَ عدوِّ الله مع كونها داحضة باطلةً أقوى من كثيرٍ من شُبَهِ المعارضين لنصوص الأنبياءِ بآرائهم وعقولهم.
فالعالمُ يتدَبّر سِرَّ تكرير الله لهذه القصّةِ مَرَةً بعد مرَّة، وليحذرْ أن يكون له نصيبٌ من هذا الرأي والقياسِ وهو لا يشعرُ، فقد أقسمَ عدوُّ اللهِ أنه لَيُغوِيَنَّ بني آدمَ أجمعَينَ إلَّا المخلَصِين منهم، وصدَّق تعالى ظَنَّهُ عليهم، وأخبرَ أن المخْلَصِينَ لا سبيلَ له عليهم، والمخلَصُونَ هم الذين أخلصوا العبادةَ والمَحَبَّةَ والإجلالَ والطاعةَ لله، والمتابعة والانقياد لنصُوص الأنبياءِ، فيجرِّدُ عادةَ الله عن عبادة ما سواه، ويجرَدُ متابعةَ رسولهِ (ظ/255 ب) وترك ما خالفه لقولِهِ دونَ متابعةِ غيره، فليزن العاقلُ (1) نفسَهُ بهذا الميزان قبل أن يوزنَ يومَ القدومِ (2) على الله، واللهُ المستعان، وعليه التكْلان، ولا حَوْلَ ولا قوَّةَ إلَّا بالله تعالى.

فصل

  • ومن ذلك (3) قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 80]، فهذا مطالبة لهم بتصحيح دعواهم، وترديدٌ لهذه المطالبة بين أمرين، لا بدَّ من واحدٍ منهما، وقد تعيَّن بطلانُ أحدِهما، فلزم ثبوتُ الآخرِ.

(1) (ق): “فالعاقل يزن”.
(2) (ع وق): “القيامة”.
(3) الإشارة إلى ما بدأه (4/ 1540).
(4/1560)


فإن قولَهم: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} خبرٌ عن غَيْب لا يُعلَمُ إلَّا بالوحي، فإما أن يكونَ قولًا على الله بلا علمٍ فيكون كاذبًا، وإما أن يكون مستنداً إلى وحي من الله وعهدٍ عَهِدَهُ إلى المخبر، وهذا منتفٍ قطعًا، فتعيَّنَ أن يكونَ خبراً كاذباً قائلُه كاذبٌ على الله تعالى.

فصل

  • ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ …… } [البقرة: 84، 85].
    فهذه حجةٌ من الله احتجَّ بها على أهل الكتاب، فإنه كان قد أخذ عليهم الميثاق أن لا يقتل بعضُهم بعضاً، ولا يجلِيه عن دياره، وأن يفدي (ق/368 أ) بعضُهم بعضاً من الأسْر، فهذه ثلاثُ عهودٍ خالفوا منها عهدينِ، وأخذوا بالثالثِ، فَقَتَلَ بعضُهم بعضًا، وأخرجه من ديارِه، ثم فادوا أَسْرَاهم؛ لأنَّ الله أمرهم بذلك، فإن كنتم قد فادَيتم الأُسارى لأنَّ الله أمركم بفدائِهم، فلِمَ قتلتم بَعْضَكم بعضاً، وأخرجتموهم من ديارِهم، والله قد نهاكم عن ذلك؟! والأخْذُ ببعض الكتاب يوجبُ عليكم الأخذَ بجميعِه، فكيف تكفرون ببعضِ الكتاب وتؤمنونَ ببعض؟ {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}.
    فصل
  • ومن ذلك قولُه تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ
    (4/1561)

اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)} [البقرة: 87] فهذا هو الذي: تسمَّيه النُّظّارُ والفقهاءُ: “التَّشَهِّي والتَّحَكُم”، فيقول أحدُهم لصاحبه: لا حُجَّةَ لكْ على ما ادَّعَيْتَ سوى التّشَهِّي والتَّحَكُم الباطل، فإن جاءَك ما لا تشتهيه دفعتَه ورددتَه. وإن كان القولُ موافقًا لما تهواهُ وتشتهيهِ إما من تقليدِ من تعظمُهُ أو موافقةِ ما تريدُهُ قَبلْتَهُ واخترته (1) فتردُّ ما خالفَ هواك وتقبَل ما وافقَ هواك.
وهذا الاحتجاجُ والذي قبله مفحِمانِ للخصم، لا جوابَ له عنهما (2) ألبتَّةَ، فإن الأخذ ببعض الكتاب يوجبُ الأخذ بجميعه، والتزام بعضِ شرائعه يوجبُ التزامَ جميعِها، ولا يجوز أن تكون الشرائعُ تابعةً للشهَوات، إذ لو كان الشرْعُ تابعاً للهوى والشَّهْوة لكان في الطباع ما يُغني عنه، وكانت شهوةُ كلِّ أحد وهواه شرعاً له: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71].

فصل

  • ومن ذلك قولُه تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)} [البقرة: 89].
    فهذه حجَّةٌ أخرى على اليهودِ في تكذيبِهم بمحمد – صلى الله عليه وسلم -، فإنهم كانوا يحاربون (ظ/256 أ) جيرانَهم من العرب في الجاهليَّة، ويستنصِرُون عليهم بالنبي – صلى الله عليه وسلم – قبلَ ظهورِه، فيُفْتَحُ لهم ويُنصَرُونَ، فلما ظهر النبي – صلى الله عليه وسلم – كفروا به، وجحدوا نبوَّتهُ، فاستفتاحُهم به وجَحْدُ نبوته مما لا

(1) (ظ) والمطبوعات: “وأجزته”.
(2) (ق): “لهما عنه”، (ظ): “له عليهما”.
(4/1562)


يجتمعانِ، فإن كان استفتاحهم به؛ لأنه نبيٌّ كان جَحْدُ نُبوَّتهِ محالًا، وإن كان جَحْدُ نبوتهِ -كما يزعمون- حقاً كان استفتاحُهم به باطلاً، فإن كان استفتاحُهم به حقًا فنبوَّته حق، وإن كان نبوته -كما يقولون- باطلاً (ق/368 ب) فاستفتاحكم به باطلٌ، وهذا مما لا جوابَ لأعدائِهِ عنه ألبَتَّة، ويمكنُ تقريرها على صُوَرٍ عديدة:
منها: أن يقالَ: قد أقررتم بنبوَّتهِ قبل ظهورِه باستفتاحِكم به، فتعيَّنَ عليكم الإقرارُ بها بعد ظهورِه.
الثانية: إن يقالَ: كنتم تستفتحون به، وذلك إقرارٌ منكم بنبوَّته قبل ظهورِه، استنادًا إلى ما عندكم من العِلْم بظهوره، فلما شاهدْتُموه وصارَ المعلوم معايَناً بالرُّؤية، فالتصديقُ به حينئذ يكون أَوْلى، فكفرتم به عند كمالِ المعرفة، وآمنتم به حين كانت غَيْبًا لم تكمل، فآمنتم به على تقدير وجودِه، وكفرتم به عند تحققِ وجودِه، فأيُّ تناقُض وعنادٍ أبلغُ من هذا؟!.
الثالثة: أن يُقال: إيمانكم به لازمٌ لاستفتاحِكم به، ووجود الملزومِ بدونِ لازمِه محالٌ.
الرابعة: أن يُقالَ: استفتاحكم به (1) هل كان عن دليل أو لا عن دليل؟ فلا بدَّ أن يقولوا: كان عن دليل، وحينئذٍ فيجب طَرْدُ الدليل، والقولُ بموجبِه حيث وجِد، فأما أن يقال بموجبه في موضِع، ويُجْحدُ موجبه في موضعٍ أقوى منه، فمن أبطلِ الباطل!!.
الخامسة: أن يُقالَ: إن كان الاستفتاحُ به تصديقاً للنبيِّ الذي


(1) من قوله: “ووجود الملزوم … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(4/1563)


أخبر بظهوره، وقامت البراهينُ على صدقِه؛ فالإيمان به متعيِّن تصديقًا للنبيّ الأول أيضًا، وإن كان ترك الإيمان به قبل ظهورِهِ تكذيباً للنبيِّ الأول، فتركُ الإيمان به بعد ظهورِهِ أشدُّ تكذيباً، فأنتم في كفرِكم به مكذبون للنبيِّ الأوّلِ والثاني، وهذا من أحسنِ الوجوه.
السادسة: أن يُقال: إن كان الاستفتاحُ به حقًا لما ظهر على يد النبي المبشَّرِ به من المعجزات، فالإيمان به عند ظهورِه يكون أقوى؛ لانضمامِ المعجزاتِ التي ظهرت على يدِه، وهي تستلزم لصدقِه إلى المعجزات التي ظهرت على يد النبيِّ المُبَشِّر به، فقويت أدلَّة الصدق وتضافرَتْ براهينه.
السابعة: أن يقالَ: أحد الأمرين لازمٌ ولا بُدّْ؛ إما خطأكم في استفتاحِكم به، وإما في كفرِكم وتكذيبكم به، فإنهما لا يمكنُ اجتماعُهما، فأيُّهما كان خطأ كان الآخرُ صَوابًا، لكن استفتاحكم به مستندٌ إلى الإيمان بالنبيِّ الأوَّلِ، فهو مستند إلى حقِّ، فتعينَ أن يكون كفرُهم به هو الباطل، ولا يمكنُ أن يقالَ: إن التكذيبَ به هو الحقُّ والاستفتاحُ به كان باطلاً، لأنه يستلزمُ تكذيبَ من أقررتم بصدقه ولا بدَّ.
الثامنة: أن يقالَ: التصديقُ به قبلَ ظهوره من لوازمِ التصديقِ بالنبيِّ الأوَّل، والتكذيب به حينئذ كفر، فالتصديقُ به بعدَ ظهوره كذلك، (ق/369 أ)، وإن كان التكذيبُ به قبلَ ظهوره مستلزمًا للكفر بالنبيِّ الأول، فهو بعدَ ظهورِه أشد استلزاماً، فلا يجتمعُ التكذيبُ به والإيمان بالنبيِّ الأوّل أبدًا لا قبل ظهورِه ولا بعدَه؛ أما قيلَ ظهوره فباعترافِكم، وأما بعدَ ظهورِه فلأَن دلالةَ صدقِهِ حينئذ أظهر وأقوى كما تقدَّم بيانهُ.
(4/1564)


التاسعة: أن يقالَ: الاستفتاح به تصديقٌ وإقرار بنبُوَّتهِ، وتكذيبُهُ (ظ/ 256 ب) جَحدٌ وكفرٌ بها، والإيمان والتصديق برسالة الرجل الواحد، والتكذيب والجحد بها مستلزم للكفر ولا بُدَّ، فإنَّه يستلزم أحدَ الأمرين: إما التصديقُ بنبوَّةِ من ليس بنبي، وإما جَحْدُ نبوَّة من هو نبيٌّ، وأيَّهما كان فهو كفرٌ، وقد أقررتم على أنفسكم بالكفر ولا بد، {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)}.
العاشرة: تقريرُ الاستدلال بطريقة استسلافِ المقدمات والمؤاخذةِ بالاعتراف؛ فيقال لهم: ألستم كنتم تستفتحون به؟ فيقولون: بلى، فيقال: أليس الاستفتاح به إيمانٌ به؟ فلا بُدَّ من الاعترافِ بذلك، فيقال: أفليسَ ظهور من كنتمْ تؤمنونَ به قبل وجودِه موجباً عليكم الإيمان به؟ فلا بدَّ من الاعتراف (1) أو العِنادِ الصَّريح.
وليس لأعداءِ الله على هذه الوجوه اعتراض ألبتةَ، سوى أن قالوا: هذا كلُّهُ حقٌّ؛ ولكن ليس هذا الموجودُ بالذي كنا نستفتِحُ به، وهذا من أعظمِ البَهْتِ والعِنادِ، فإن الصِّفاتِ والعلاماتِ التي فيه طابقَتْ ما كانَ عندَهم مطابقةَ المعلوم لعلمهِ، فإنكار أن يكونَ هو، إنما يكونُ جَحْدًا للحقِّ وإنكاراً له باللِّسان، والقلبُ يعرفُ، ولهذا قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89].
فأغنى عن هذه الوجوهِ والتقريراتِ كلّها قولُه تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89]، والمادة الحقُّ يمكنُ إبرازُها في الصُّوَر المتَعَدَّدَةِ، وفي أيّ قالبٍ


(1) من قوله: “بذلك، فيقال … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(4/1565)


أفرغَتْ وصُورة أُبْرِزتْ ظهرتْ صحيحة، وهذا شأن موادِّ براهينِ القرآن في أي صُورةٍ أبرزتَها ظهرتْ في غايةِ الصِّحَّةِ والبيان، فالحمدُ لله المانِّ بالهُدى على عبادِهِ المؤمنينَ.

فصل
وتأمَّلْ قولَه تعالى في هذه الآية: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 101]، كيف تجد تحتَهُ برهاناً عظيمًا على صِدْقِهِ، وهو مجيءُ الرسولِ (ق/369 ب) الثاني بما يطابق ما جاء به الرَّسولُ الأوَّلُ، ويُصَدِّقُهُ مع تباعِدِ زمانِهما، وشهادَة أعدائِه، وإقرارِهم له بأنه لم يَتلَقَّهُ من بَشَرٍ، ولهذا كانوا يمتحنونهُ بَأشياءَ يعلمون أنه لا يُخبِرُ بها إلَّا نَبِيٌّ أو من أَخَذ عنه، وهم يعلمون أنه لم يأخذ عن أحدٍ ألبتةَ، ولو كان ذلك لوجد أعداؤه السبيلَ إلى الطعنِ عليه، ولعارضوه بمثل ما جاء به؛ إذ من الممكنِ أن لو كان ما جاء به مأخوذاً. عن بَشَر أن يأخذوا هم عن مَلَك (1) أو عن نظيرهِ فيعارضوا ما جاء به.
والمقصودُ أن مطابقةَ ما جاء به لِما أخبَرَ به الرَّسُولُ الأوَّلُ، من غير مواطَأة ولا تَشاعُرٍ ولا تَلَق منه، ولا ممن أخذ عنه، دليلٌ قاطعٌ على صدقِ الرَّسُولَيْنِ معًا.
ونظيرُ هذا: أن يشهدَ رجل بشهادةٍ، فيخبر فيها بما يقطعُ به أنه صادقٌ في شهادتِهِ صدقاً لا يتطرَّقُ إليه شُبْهَةٌ، فيجيءُ آخرُ من بلادٍ أخرى لم يجتمعْ بالأوَّل، ولم يَتَواطَأ معه، فيخبِرُ بنظيرِ تلك الشهادةِ سواءً، مع القَطْعِ بأنه لم يجتمعْ به، ولا تَلَقّاها عن أحدٍ اجتمعَ به، فهذا يكفي في صدقةٍ إذا تجرَّد الإخبار، فكيف إذا اقترنَ بأدِلَّة يقطعُ


(1) (ق وظ): “ذلك”.
(4/1566)


بها بأنه صادقٌ أعظمَ من الأدِلَّةِ التي اقترنتْ بخبر الأوَّلِ!؟ فيكفي في العلم بصدقِ الثاني مطابقةُ خبرِه لخبر الأوَّلِ، فكيف إذا بَشَّرَ به الأولُ؟! فكيف إذا اقترن بالثاني من البراهين الدّالَّةِ على صدقِهِ نظيرُ ما اقترنَ بالأولِ وأقوى منها؟!.

فصل

  • ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)} [البقرة: 91].
    هذه حكايةُ مناظرةِ بينَ الرَّسول – صلى الله عليه وسلم – وبينَ اليهود لمّا قال لهم: {آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}، فأجابوه بأن قالوا: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا}، ومرادهُم بهذا التخصيص: أن نؤمنَ بالمُنْزَل علينا دونَ غيرِه، فظهرت عليهم الحُجَّةُ بقولهم هذا من وجهين؛ دَلَّ عليهما قولُه تعالى: …… } إلى آخر الآية.
    قال: إن كنتم قد آمنتم بما أُنْزِلَ عليكم (1) لأنه حقٌّ، فقد وجَبَ عليكمْ أن تُؤمنوا (ظ/ 257 أ) بما جاء به محمد لأنه حقٌّ مصدَّق لما معكم، وحُكْم الحقِّ الإيمان به أينَ كان، ومَعَ من كان، فلزمكم الإيمانُ بالحقَّيْنِ جميعًا أو الكفرُ الصُّراحُ.
    وفي قوله: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ} نكتةٌ بديعةٌ جدًا، وهي: أنهم لما كفروا به (ق/370 أ) وهو حقّ، لم يكن إيمانهم بما أنزل عليهم، لأجل أنه حقّ، فإذا لم يَتَّبِعوا الحق فيما أنزل عليهم،

(1) من قوله: “قوله تعالى … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(4/1567)


ولا فيما جاء به محمد – صلى الله عليه وسلم -، لأنهم لو آمنوا بالمُنْزلِ عليهم لأجل (1) أنه حقٌّ لآمنوا بالحقِّ الثاني، وأَعْطوا الحقَّ حقَّه من الإيمان، ففي ضِمن هذه الشهادةِ عليهم بأنهمِ لم يؤمنوا بالحقِّ الأوَّلِ ولا بالثاني، وهكذا (2) الحكم في كلِّ من فَرَّقَ الحق فآمَنَ ببعضِهِ وكَفَرَ ببعضهِ، كمن آمَنَ ببعض الكتاب وكَفَرَ ببعض، وكمن آمن ببعض الأنبياءِ وكفر ببعض، لم ينفعه إيمانهَ بما آمن به (3) حتى يؤمنَ بالجميع.
ونظيرُ هذا التفريقِ تفريق من يردُّ آيات الصّفاتِ وأخبارها، ويقبلُ آياتِ الأوامرِ والنَّواهي، فإن ذلك لا ينفعُه لأنه آمَنَ ببعض الرِّسالة وكفر ببعض، فإن كانت الشّبْهَةُ التي عَرَضَتْ لمن كفر ببعض الأنبياءِ غيرَ نافعةٍ له، فالشبهةُ التي عرضت لمن ردَّ بعض ما جاء به النبيُّ أولى أن لا تكود نافعة، وإن كانت هذه عذراً له، فشبهةُ من كَذَّبَ بعضَ الأنبياء مثلُها، فكما أنه لا يكون مؤمنًا حتى يؤمنَ بجميع الأنبياء، ومن كفر بنبي من الأنبياء فهو كمن كفر بجميعهم، فكذلكَ لا يكون مؤمناً حتى يؤمنَ بجميِع ما جاء به الرَّسولُ، فإذا آمن ببعضهِ وردَّ بعضَه، فهو كمن كفر به كُلّه.
فتأمَّلْ هذا الموضِعَ واعتبِر به الناس على اختلافِ طوائِفهم، يتبين لك أن أكثرَ من يَدَّعِي الإيمان برئٌ من الإيمان، ولا حَوْل ولا قوَةَ إلَّا بالله.
الوجه الثاني: من النقض قولهُ: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ


(1) ليست في (ع).
(2) (ق وظ): “وهذا”.
(3) (ع وظ): “كفر به”.
(4/1568)


كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}، ووجهُ النقض: أنكم إن زعَمْتُم أنكم تؤمنون بما أنْزلَ إليكم وبالأنبياء الذين بُعثوا فيكم، فَلمَ قتلتموهم من قبلُ؟ وفيما أُنزل إليكم (1) الإيمان بهم وتصديقُهمِ، فلا آمنتم بما أُنْزلَ إليِكم ولا بما أُنْزلَ على محمد – صلى الله عليه وسلم -. ثم كأنه تَوقَعَ منهم الجوابَ: بأنّا لم نقتل من ثَبَتتْ نبوَّتُهُ، ولم نكذِّب به، فأُجيبوا -على تقدير هذا الجوابِ الباطلِ منهم -بأن موسى قد جاءَكُمْ بالبيِّناتِ، وما لا رَيْبَ معه في صحَّة نبوَّتِهِ، ثم عبدتم العجلَ بعد غيبته عنكم وأشركتم باللهِ وكفرتم به، وقد علمتم نبوَّةَ موسى وقيامَ البراهين على صدقِهِ، فقال: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)} [البقرة: 92]، فهكذا تكون الحججُ والبراهينُ ومناظراتُ الأنبياء لخصومهم.

  • (ق/ 370 ب) ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)} [البقرة: 94]، كانوا يقولونَ: نحن أحبَّاءُ اللهِ ولنا الدَّارُ الآخرَةُ خالصةً من دونِ النَّاسِ، وإنما يُعَذَّبُ منا من عَبَدَ العجلَ مُدَّة، ثمَّ يخرُجُ من النَّارِ، وذلك مُدَّةُ عبادتهم له، فأجابهم تبارك وتعالى عن قولهم: إن النار لن تَمَسَّهم إلَّا أيامًا معدودةً بالمطالبة، وتقسيمِ الأمر بينَ أن يكون لهم عند الله عهدٌ عَهِدَهُ إليهم، وبيْنَ أن يكونوا قد قالوه عليه بما (2) لا يعلمونَ، ولا سبيلَ لهم إلى ادِّعاء العهد، فتعيَّنَ الثاني، وقد تقدَّم.
    ثم أجابهم عن دعواهم خلوصَ الآخِرَةِ لهم بقوله: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)}؛ لأن الحبيبَ لا يَكْرَهُ لقاءَ حبيبِه،

(1) من قوله: “وبالأنبياء الذين … ” إلى هنا ساقط من (ع).
(2) (ع): “ما”.
(4/1569)


والابنُ لا يكرهُ لقاءَ أبيه، لاسيَّما إذا عَلِمَ أن كرامَتَه ومثوبته مختصَّة به، بل أحبُّ شيء إليه لقاءُ حبيبه وأبيه، فحيثُ (ظ/ 257 ب) لم يحبَّ ذلك ولم يَتمنَّهُ، فهو كاذبٌ في قوله، مبطِلٌ في دعواه.
ونظير هذا قوله في سورة (المائدة) ردًّا عليهم قولَهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18] يعني. أنَّ الأب لا يُعَذِّبُ ابنَهُ، والحبيبُ لا يُعَذِّبُ حبيبَهُ.
وها هنا نكتةٌ لطيفةٌ جدًّا قلّ من يَنْتَبِهُ لها، ونحنْ نُقَرَّرها بسؤالٍ وجوابٍ.
فإن قيل: معلومٌ أن الأبَ قد يؤَدبُ وَلَدَهُ إذا أذنبَ، والحبيبُ قدِ يهجُرُ حبيبَه إذا رأى منه بعض ما يكرهُ.
قيل: لو تأمَّلْتَ أيُّها السائلَ قوله: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} لعلمتَ الفرقَ بين هذا التعذيبِ وبين الهجران والتأديب، فإنَّ التعذيبَ بالذنب ثمرةُ الغَضَب المنافي للمحبَّةِ، فلو كانت المَحبةُ قائمة كما زعموا لم يكنْ هناكَ ذنوبٌ يستوجبون عليها العذابَ، من المسخِ قردة وخنازيرَ، وتسلُّط أعدائهم عليهم يستبيحونهم ويستعبدونهم، ويُخرَبوِن مُتعَبَّدَاتِهم ويسبونَ ذرارِيهم، فالمحبُّ لا يفعلُ هذا بحبيبِه ولا الأبُ بابِنهِ.
ومعلومٌ أنَّ الرحمن الرحيم لا يفعلُ هذا بأمَّةٍ إلا بعد فَرْط إجرامِها وعُتُوِّها على الله، واستكبارِها عن طاعتِهِ وعبادتِه، وذلك يُنافي كونهم أحبابَهُ، فلو أحبُّوه لما ارتكبوا من غضبهِ وسَخَطِهِ ما أوجبَ لهم ذلك، ولو أحبَّهم لأدَّبهم ولم يُعذِّبْهم، فالتأَديبُ شيءٌ والتَّعذيبُ (ق/ 371 أ) شيء، والتأديبُ يُرادُ به التهذيبُ والرحمةُ والإصلاحُ، والتعذيبُ
(4/1570)


للعقوبةِ والجزاءِ على القبائحِ، فهذا لونٌ وهذا لونٌ.
وفي ضمن هذه المناظرة معجزةٌ باهرةٌ للنبيِّ – صلى الله عليه وسلم – وهي أنه في مقامِ المُناظرةِ مع الخصوم الذين هم أحرصُ النّاسِ على عداوتهِ وتكذيْبهِ، وهو يخبرُهم خبرًا جَزْمًا أنهم لن يَتَمَنَّوُا الموتَ أبداً، ولو علموا من نفوسِهم أنهم يَتَمَنَّوْنَهُ لوجدوا طريقاً إلى الرَّدِّ عليه، بل ذلُّوا وغُلِبوا وعَلموا صحَّةَ قوله، وإنما منعهم من تمَني الموتَ معرفتُهم بما لهم عند الله من الخِزْي والعذاب الأليمِ، بكفرهِم بالأنبياءِ، وقتلِهم لهم وعَدَاوَتِهم لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
فإن قيلَ: فهلا أظَهروا التمَنِّي وإن كانوا كاذبينَ فقالوا: فنحن نَتَمَنَّاه؟.
قيل: وهذا أيضًا معجزةٌ أخرى، وهي: أن الله حَبَسَ عن تَمَنِّيهِ قلوبَهم وألسِنتهم، فلم تُرِدهُ قلوبهم ولم تنطِقْ به ألسنتهم تصديقاً لقوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا}.

  • ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)} [البقرة: 111]، هذه دعوى من كلِّ واحدة من الطائفتين، أنه لن يدخلَ الجنَّةَ إلَّا من كان منها، فقالت اليهودُ: لا يدخلُها إلَّا من كان هودًا (1)، وقالت النَّصارى: لا يدخلُها إلَّا من كان نصرانيًا، فاختصر الكلام أبلغَ اختصارٍ وأوجزَه، مع أَمْن اللَّبْس ووضوح المعنى، فطالَبَهُمُ اللهُ تعالى بالبرهانِ على صحةِ هذه الدَّعوى، فقال: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)}، وهذا هو المُسَمَّى: “سؤالَ المطالبةِ

(1) (ق): “يهودياً”.
(4/1571)


بالدَّليلِ”، فمن ادَّعى دعوى بلا دليل يُقالُ له: هاتِ برهانَكَ إن كنتَ صادقاً فيما ادَّعَيْتَ، ويحتجُّ بهذه الَآيةِ من يقولُ: يلزم النّافي الدَّليل كما يلزمُ المُثبِت، وحَكَوْا في ذلك ثلاثَ مذاهب.
ثالثها: يلزمُهُ في الشرعيات دون العقليات، واستدلالُهم بالآية (ظ/258 أ) لا يصِحُّ؛ لأن الله تعالى لم يطالبهم بدليلِ النَّفْيِ المجرَد، بل ادعوا دعوى مضمونُها إثبات دخولهم الجنَّةَ، وأن غيرَهم لم يدخُلْها (1)، فطولبوا بالدليل الدّالِّ على هذه الدعوى المركَّبة من النفْي والإثباتِ، وصاحبُ هذه الدعوى يلزمُهُ الدليل باتَفاق الناس، وإنما الخلافُ في النفي المُجَرَّدِ.
ولو استَدلَّ هؤلاء بقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80]؛ لكان أقربَ، مع كونهِ متضمِّنا للنفي والإثبات، لكن الدعوى فيه إنما توجَّهَتْ إلى (ق/ 371 ب) النفي ومقصودُ الكلام: إنا لا نعَذَّبُ بعد تلك الأيام، فلم يُنْكِرْ عليهم اعترافَهم بالتَّعذيب تلك الأيام، بل دعواهم أنهم لا يعَذَّبون بعدَها، وذلك نفْيٌ محضٌ، فلذلك قلنا: إن الاستدلال بها أقربُ من هذه الآية.
وبعد؛ فالتحقيقُ -في مسألة النافي هل عليه دليلٌ-: أن النفيَ نوعان:
نوع: مستلزمٌ لإثباتِ ضدِّ المنفي، فهذا يَلْزَمُ النافيَ فيه الدليل، كمن نفى الإباحةَ، فإنه يطالَبُ بالدليل قطعاً؛ لأن نفيَها يستلزمُ ثبوتَ ضدّ من أضدادِها، ولا بد له من دليل، وكذلك نفي التعذيب بالنّار بعد الأيامِ المعدودة، يستلزمُ دخولَ الجنةِ والفوز بالنعيمِ، ولا بُد له من دليل.


(1) (ق): “يدخلوها”.
(4/1572)


النوع الثاني: نفيٌ لا يستلزم ثبوتاً، كنفي صحَّةِ عقدٍ من العقود، أو شرطٍ أو عبادة في الشرعيَّاتِ، ونفي إمكان شيء ما من (1) الأشياء في العقليّاتِ، فالنافي إن نَفَى العلمَ به لم يلزمه دليلٌ، وإن نفى المعلومَ نفسَهُ وادَّعى أنه منتفٍ في نفس الأمر فلا بدَّ له من دليل.

  • ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)} [البقرة: 116، 117]، فردَّ عليهم سبحانه دعواهم له اتخاذَ الولد، ونزَهَ نفسَه عنه، ثم ذكر أربعَ حُجَجٍ على استحالَةِ اتخاذِهِ الولَدَ.
    أحدها: كونُ ما في السموات والأرض مُلْكاً له، وهذا ينافي أن يكونَ فيهما ولدٌ له؛ لأنَّ الولدَ بعضُ الوالد وشريكُه، فلا يكونُ مخلوقاً له مملوكاً له؛ لأنَّ المخلوقَ مملوكٌ مربوبٌ، عبدٌ من العبيد، والابن نظيرُ الأب، فكيف يكونُ عبدُه تعالى ومخلوقه ومملوكُه بعضَه ونظيرَهُ؟! فهذا منَ أبطلِ الباطل.
    وأكَّد مضمونَ هذه الحُجَّةِ بقوله: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)}، فهذا تقريرٌ لعبودِيَّتِهم له، وأنهم مملوكونَ مربوبونَ، ليس فيهم شريكٌ ولا نظيرٌ ولا ولدٌ، فإثباتُ الولدِ لله من أعظم الإشراكِ به، فإن المشرِكَ به جعل له شريكاً من مخلوقاتِه مع اعترافِه بأنه مملوكه، كما كان المشركونَ يقولون في تلبيتِهم: “لَبَّيْكَ اللهُمَّ لبيكْ، لبَّيْكَ لا شريكَ لك، إلَّا شَرِيكٌ هو لك، تملكهُ وما مَلَكَ”، فكانوا يجعلونَ من أشركوا به مملوكاً له عبدًا مخلوقًا، والنَّصارى جعلوا له شريكًا هو نظيرٌ وجزءٌ

(1) (ق وظ): “شيء من”.
(4/1573)


من أجزائِهِ، كما جعل بعض المشركينَ الملائكةَ بنات الله، فقال تعالى: (ق/ 372 أ) {وَجَعَلُوا لَهُ (1) مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)} [الزخرف: 15]، فإذا كان الله ما في السَّمواتِ والأرض عبيدٌ قانتون مربوبونَ مملوكون، استحالَ أن يكون له منهم شريكٌ وكلُّ من أقرَ بأن لله ما في السّموات وما في الأرض؛ لَزِمَهُ أن يُقِرَّ له بالتوحيد ولا بُدَّ، ولهذا يحتجُّ سبحانه على المُشْرِكينَ بإقرارِهم بذلك، كقوله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84)} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون: 84 – 85] وسيأتي إن شاء الله تعالى مزيدُ بيانٍ لهذا في موضعه.
الحجة الثانية: قوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 117]، وهذه من أبلغ الحُجَج على استحالة نسبة الولدِ إليه، ولهذا قال في سورة (الأنعام): {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} [الأنعام: 101] أي: من أينَ يكون لبديع السَّمواتِ والأرض ولدٌ؟! ووجهُ تقريرِ هذه الحجَّةِ: أن مَنِ اخترع السمواتِ والأرض -مع عِظَمِهما وَآياتِهما- وفطَرَهما وابتدَعَهما (ظ / 258 ب)، فهو قادرٌ على اختراع ما هو دونَهما، ولا نسبةَ له إليهما ألبَتَهَّ، فكيف يخرجون هذا الشخص المعيَّن (2) عن قُدرتهِ وإبداعِه، ويجعلونَهُ نظيرًا وشريكاً وجُزءاً؟! مع أنه تعالى بديعُ العالَمِ العُلْوِيَّ والسُّفْلِي وفاطرهُ ومخترعُهُ وبارؤهُ، فكيف يُعْجزُهُ أن يوجدَ هذا الشخص من غيرِ أبٍ حتى يقولوا: إنه ولدُهُ؟! فإذا كان قد أبدع العالَمَ عُلْوِيَّهُ وسُفْلِيَّهُ، فما يُعجزهُ ويمنعُهُ عن إبداعِ هذا العبدِ وتكوينهِ (3) وخلقِه بالقدرةِ التي خلقَ بها العالمَ العُلْويَّ والسفلي؟!.


(1) من قوله: “شريكاً هو نظير … ” إلى هنا ساقط من (ع).
(2) (ع): “بالعين”، وسقطت من (ق).
(3) (ق): “عن إبداعه وتكوينه هذا العبد”
(4/1574)


فمن نسب الولدَ لله فما عرف الربَّ تعالى، ولا آمَنَ به ولا عبدَهُ. فظهرَ أن هذه الحُجَّةَ من أبلغِ الحُجَجِ على استحالةِ نسبةِ الولدِ إليه.
وإن شئت أن تُقَررَ الاستدلالَ بوجهٍ آخَرَ، وهو أن يقالَ: إذا كان نسبةُ السَّمواتِ والأرضِ وما فيهما إليه إنما هى بالاختراع والخَلْق والإبداع، أنشأ ذلك وأبْدَعَهُ من العَدَم (1) إلى الوجود، فكيَف يَصِحُّ نسبةُ شيءٍ من ذلك إليه بالنبوَّةِ، وقدرته على اختراعِ العالمِ وما فيه لم تزَل، ولم يحتجْ فيها إلى معاونٍ ولا صاحب ولا شريكٍ.
وإن شئتَ أن تقَرِّرَها بوجهِ آخَرَ فتقول: النسبةُ إليه بالبنوَّةِ تستلزم حاجتَهُ وفقرَهُ إلى محل الولادةِ، وذلك يُنافي غِناه وانفرادَهُ بإبداع السّمواتِ والأرضِ، وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى بقوله: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 68] فكمال قدرته، وكمالٌ غناه، وكمالُ ربوبِيَّتهِ، يُحِيلُ نسبةَ الولدِ إليه، ونسبَتُه إليه تقدحُ في كمالِ ربوبيتِهِ، وكمال غناه وكمالِ قدرتهِ.
ولذلك كان نسبةُ الوَلَد إليه مَسَبَّةَ له تباركَ (ق/372 ب) وتعالى، كما ثَبَتَ في “الصحيحين” (2) عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “يَقولُ اللهُ تَعالَى شَتَمَنِي ابْن آدَمَ وَما يَنْبغِي لَهُ ذلِكَ، وَكَذَّبنَي ابْنُ آدَمَ وَما يَنْبغِي لَهُ ذلكَ، أمَّا شَتْمُهُ إيّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا وَأنا الأحَدُ الصمَدُ الَّذي لَمْ ألِدْ وَلَمْ أولَدْ وَلَمْ يكُنْ لِي كفُوًا أحدٌ، وَأمَّا تكْذيبُهُ إيَّايَ فَقَوْلُه: لَنْ يُعيدَنِي كما


(1) (ع): من العلوم من العدم”!
(2) أخرجه البخاري رقم (4482) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، ورقم (4975) من حديث أبى هريرة -رضي الله عنه -. وليس في مسلم.
(4/1575)


وأنها والدةُ الإله (1) عيسى، فيقول عوامُّهم: يا والدةَ الإلهِ اغفري لي، ويصرِّح بعضُهم بأنها زوجةُ الرَّبِّ، ولا رَيْبَ أن القول بالإيلادِ يستلزمُ ذلك، أو إثباتُ إيلادٍ لا يُعقلُ ولا يُتوهَّمُ، فخواصُّ النَّصارى في حَيْرَة وضَلالِ، وعوامُهم لا يستنكفونَ أن يقولوا بالزوجةِ والإيلادِ المعقولِ، تعالى اللهُ عن قولهم عُلُوًّا كبيراً، والقومُ في هذا المذهب الخبيثِ أضَلُّ خلق الله، فهم كما وصفهم اللهُ بأنهم: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)} [المائدة: 77]وأما منافاةُ عموم علمِه تعالى للوَلَد؛ فيحتاجُ إلى فهم خاصٍّ، وتقريره أن يقالَ: لو كان له ولدٌ لعَلِمَه؛ لأنه بكلِّ شيء عليم، وهو تعالى لا يعلم له ولداً، فيستحيلُ أن يكون له ولدٌ لا يعلمُه، وهذا استدلالٌ بنفي علمه للشيء على نفيهِ في نفسِه، إذ لو كان لَعَلِمَه، فحيث لم يعلَمْه فهو غيرُ كائنِ.
ونظيرُ هذا قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 18]، فهذا نفيٌ لما ادَّعَوْهُ من الشّفعاء بنفْي علمِ الرَّب تعالى بهم، المستلزمِ لنفيِ المعلومِ، ولا يمكنُ أعداءَ الله المكابرةُ، وأن يقولوا: قد عَلِمَ اللهُ وجودَ ذلك؛ لأنه تعالى إنما يعلم وجودَ ما أوجَدَهُ وكوَّنه، ويعلم أن سيوجدُ ما يريدُ إيجادَه، فهو يعلمُ نفسَهُ وصفاتِهِ، ويعلمُ مخلوقاتِهِ التي دخلت في الوجود وانقطعتْ، والتي دخلتْ في الوجودِ وبَقِيَتْ، والتي لو توجد بعد.
وأما شيءٌ آخَرُ غيرُ مخلوقٍ له ولا مربوب؛ فالرَّبُّ تعالى لا يعلمُه؛


(1) (ظ): “الإله الإله”.
(4/1576)


بَدَأني وَلَيْسَ أوَّلُ الخَلْقِ بأَهْوَنَ عَلَيَّ (1) مِنْ إعادَتِهِ”.
وقال عمرُ بن الخطّاب في النَّصارى: “أَذلُّوهم ولا تَظْلِمُوهم، فلقد سَبُّوا اللهَ مَسَبَّةً ما سَبَّة إيّاها أحَدٌ من البَشَر” (2)، وقال تعالى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)} [الكهف: 4 – 5]، وأخبر تعالى: أن السماوات كادت تنفطر من قولهم هذا وتنشق الأرض منه وتخر الجبال هدًّا (3)، وما ذاك إلا لتضمُّنه شتمَ الرَّبِّ تبارك وتعالى، والتنَقُّصَ به، ونسبة ما يمنع كمال ربوبِيته، وقدرته وغناه إليه.
الحجة الثالثة: قوله تعالى: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [مريم: 35] وتقريرُ هذه الحُجَّةِ: أن من كانت قدرتُهُ تعالى كافية في إيجاد ما يريدُ إيجادَهُ بمجرَّدِ أمرِه، وقوله: “كنْ”، فأيُّ حاجة به إلى ولدٍ؟، وهو لا يتكثَّرُ به من قِلَّة، ولا يَتَعَزَّز (4) به، ولا يستعينُ به، ولا يعجز عن خلقِ ما يريدُ خَلْقهُ، وإنما يحتاج إلى الولدِ من لا يخلُق، ولا إذا أراد شيئًا قال له: كنْ فيكون، وهو (5) المخلوقُ العاجزُ المحتاجُ الذي لا يقدِرُ على تكوينِ ما أراد.
وقد ذكر تعالى حُجَجًا أخرى على استحالةِ نسبة الولد إليه، فنذكرُها في هذا الموضع:


(1) (ع وق): “عليه”.
(2) لم أعثر عليه.
(3) كما في سورة مريم آية (90).
(4) (ق): “ولا يتكبر ولا يتعزّز”.
(5) (ع): “وهذا”.
(4/1577)


وأنها والدةُ الإله (1) عيسى، فيقول عوامُّهم: يا والدةَ الإلهِ اغفري لي، ويصرِّح بعضُهم بأنها زوجةُ الرَّبِّ، ولا رَيْبَ أن القول بالإيلادِ يستلزمُ ذلك، أو إثباتُ إيلادٍ لا يُعقلُ ولا يُتوهَّمُ، فخواصُّ النَّصارى في حَيْرَة وضَلالِ، وعوامُهم لا يستنكفونَ أن يقولوا بالزوجةِ والإيلادِ المعقولِ، تعالى اللهُ عن قولهم عُلُوًّا كبيراً، والقومُ في هذا المذهب الخبيثِ أضَلُّ خلق الله، فهم كما وصفهم اللهُ بأنهم: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)} [المائدة: 77]وأما منافاةُ عموم علمِه تعالى للوَلَد؛ فيحتاجُ إلى فهم خاصٍّ، وتقريره أن يقالَ: لو كان له ولدٌ لعَلِمَه؛ لأنه بكلِّ شيء عليم، وهو تعالى لا يعلم له ولداً، فيستحيلُ أن يكون له ولدٌ لا يعلمُه، وهذا استدلالٌ بنفي علمه للشيء على نفيهِ في نفسِه، إذ لو كان لَعَلِمَه، فحيث لم يعلَمْه فهو غيرُ كائنِ.
ونظيرُ هذا قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 18]، فهذا نفيٌ لما ادَّعَوْهُ من الشّفعاء بنفْي علمِ الرَّب تعالى بهم، المستلزمِ لنفيِ المعلومِ، ولا يمكنُ أعداءَ الله المكابرةُ، وأن يقولوا: قد عَلِمَ اللهُ وجودَ ذلك؛ لأنه تعالى إنما يعلم وجودَ ما أوجَدَهُ وكوَّنه، ويعلم أن سيوجدُ ما يريدُ إيجادَه، فهو يعلمُ نفسَهُ وصفاتِهِ، ويعلمُ مخلوقاتِهِ التي دخلت في الوجود وانقطعتْ، والتي دخلتْ في الوجودِ وبَقِيَتْ، والتي لو توجد بعد.
وأما شيءٌ آخَرُ غيرُ مخلوقٍ له ولا مربوب؛ فالرَّبُّ تعالى لا يعلمُه؛


(1) (ظ): “الإله الإله”.
(4/1578)


لأنه مستحيلٌ في نفسِه، فهو يعلمُه مستحيلاً لا يعلمُه واقعًا، إذ لو عَلِمَه واقعاً لكان العلمُ به عينَ الجهل، وذلك من أعظم المُحال.
فهذه حُجَجُ الرَبِّ تبارك وتعالى على بطلان ما نسبه (1) إليه أعداؤُه المفترونَ عليه، فوازِنْ بينها وبينَ حُجَج المتكلِّمينَ الطَّويلةِ العريضةِ التي هى كالضرِيع، الذي (2) لا يُسمنُ ولا يغني من جوع، فإذا وازنتَ بينهما (ق /373 ب) ظهرت لك المفاضلةُ إنْ كنتَ بصيرًا، {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)} [الإسراء: 72].
فالحمدُ لله الذي أغنى عبادَهُ المؤمنينَ بكتابه، وما أودعَه من حُجَجه وبيِّناتِهِ عن شقائقِ المتكلَمينَ، وهَذَياناتَ المُتَهَوِّكِينَ، فلقد عَظُمَت نعمةُ الله على عبدٍ أغناهُ بفهمِ كتابه عن الفقر إلى غيره: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)} [العنكبوت: 51].

فصل

  • ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة: 135] فأجيبوا عن هذه الدَّعوى بقوله: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)} [البقرة: 135]، وهذا الجوابُ مع اختصاره قد تضمَّن المنعَ والمعارضة.
    أما المنعُ: فما تضمَّنه حرف (بل) من الإضراب، أى: ليس الأمرُ كما قالوا. وأما المعارضةُ: ففي قوله: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}، أي: يتبَّع أو اتَّبعوا ملةَ إبراهيمَ حنيفًا، وفي ضمنِ هذه المعارضة إقامَةُ الحُجةِ

(1) (ق): “نمته”.
(2) ليست في (ع).
(4/1579)


على أنها أولى بالصَّواب مما دعوتم إليه من اليهودِيَّةِ والنصرانيَّةِ؛ لأنه وَصَفَ صاحبَ المِلَّةِ بأنه حنيفٌ غيرُ مُشْرِكٍ، ومن كانتْ (1) مِلَّتَهُ الحنيفيةُ والتوحيدُ، فهو أولى بأن يتبّع ممن مِلَّتُهُ اليهوديةُ والنصرانيَّةُ، فإن الحنيفيةَ والتوحيدَ هي دينُ جميع الأنبياءِ، الذي لا يقبلُ اللهُ من أحدٍ دينًا سواه، وهو الفطرةُ التي فَطرَ اللهُ عليها عبادهُ، فمن كان عليها فهو المهتدي؛ لأنَّ من كان يهوديًّا أو نصرانيًّا فإن الحنيفيةَ تضمَّنُ الإقبالَ على الله بالعبادة والإجلالِ والتعظيمِ والمحبَّةِ والذُلِّ.
والتوحيدُ يضمَّنُ إفرادَه بهذا الإقبالِ دونَ غيرِه، فيُعْبَدُ وحدَهُ، ويحَب وحدَهُ، ويُطاعُ وحدَه، لا يُجْعَل معه إله آخر، فمن أولى بالهداية؛ صاحبُ هذه المِلَّةِ أو مِلَّةُ اليهوديَّة والنصرانيَّة؟!.
ولا يبقى بعد هذا للخصومِ إلَّا سؤالٌ واحدٌ، وهو أن يقولوا (ظ/259 ب): فنحن على ملَّتِهِ أيضًا لم نخرجْ عنها، وإبراهيمُ وبنُوْه كانوا هودًا أو نصارى، فأُجيبوا عن هذا السُّؤال: بأنهم كاذبون فيه، وأن الله تعالى قد عَلِمَ (2) أنه لم يكنْ يهودياً ولا نصرانيًا، فقال تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ (ق/ 374 أ) وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)} [البقرة: 140]،، وقرَّر هذا الجوابَ في سورة (آل عمران) بقوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)}.


(1) (ق وظ): “كان”.
(2) “قد علم” ليست في (ع).
(4/1580)


فإن قالوا: فهبْ أن إبراهيمَ لم يكن يهودياً ولا نصرانيًا فنحن على ملَّتِهِ، وإنِ انْتحلنا هذا الاسمَ؟.
فأجيبوا عن هذا بقوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ.} الآية إلى قوله: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136]، فهذه للمؤمنين.
ثم قال: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} [البقرة: 137]، وإن أَتَوْا من الإيمان بمثلِ ما أتَيْتم به، فَهُم على مِلَّةِ إبراهيمَ وهم مهتدون، وإن لم يأتوا بإيمانٍ مثل إيمانِكم، فليسوا من إبراهيمَ ومِلَّتِهِ في شيء، وإنما هم في شقاقٍ وعداوة، فإن ملَّةَ إبراهيمَ: الإيمانُ بالله وكتبِهِ ورسلِهِ، وأن لا يُفرَّق بين أحدٍ منهم، فَيُؤمَنَ ببعضِهم ويُكْفَرَ ببعضِهم، فمن لم يأتِ بهذا (1) الإيمانِ، فهو بريءٌ بها من ملَّةِ إبراهيمَ، مشاقٌ لمن هو على مِلَتِهِ.
وقوله تعالى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140] أي: الله تعالى يعلمُ ما كان عليه إبراهيمُ والنَّبِيُّونَ من المِلَلِ، وأنهم لم يكونوا يهودًا ولا نصارى، فاللهُ تعالى يعلمُ ذلك، فلو كانوا يهودًا أو نصارى، واللهُ تعالى لا يعلمُ ذلك؛ لكنتم أعلَمَ من الله بهِم، هذا مع أنَّ عندكَم شهادة وبَينَةً من الله بما كان عليه إبراهيمُ، وبأنَّ هذا النبيَّ على مِلَتِهِ، ولكنكم كتمتُم هذه الشهادةَ عن أتباعِكم، فلم تؤدّوها إليهم مع تحقُّقِكم لها، ولا أظلم ممن كَتَمَ شهادة استشهدَهُ الله بها، فهي عندَه من الله، إلا أنه (2) كتمها من اللهِ، فالمجرورُ مُتَعَلِّق بما تضمَّنَه الظرفُ، الذي هو “عندَه” من الكونِ والحصولِ.


(1) (ظ): “بمثل هذا”.
(2) (ق): “لأنه”.
(4/1581)


فصل

  • ومِنْ ذلك قولُه تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)} [البقرة: 142].
    هذا سؤالٌ من السفهاءِ أوردوه على المؤمنينَ، ومضمونهُ: أن القبلةَ الأولى إن كانت حقًا فقد تركتُمُ الحَقَّ, وإن كانت باطلاً فقد كنتم. على باطلٍ، ولفظُ الآية وإن لم يَدُلَّ على هذا, فالسُّفهاءُ المجادلون في القِبْلةِ قالوه.
    فأجاب اللهُ تعالى عنه بجواب شافٍ بعد أن ذكر قَبْلَه مقدِّماتِ تقرِّرُهُ وتوضِّحُهُ، والسؤالُ من جهةِ الكفَّار أوردوه على صُوَر متعدِّدة، ترجعُ إلى شىِء واحدٍ، فقالوا ما تَقَدَّمَ، وقالوا: لو كان (1) نبيًّا (2) ما تركَ قِبْلَةَ الأنبياءِ قَبْلَهُ.
    وقالوا: “لو كان نبيًّا ما كان يفعلُ اليوم شيئًا وغدًا خلافه”.
    وقال المشركون: “قد رَجَعَ إلى قبلتِكم فيوشِكُ أن يرجِعَ إلى دينكم”.
    وقال أهل الكتاب: “لو كان نَبيًّا ما فارقَ قِبْلَةَ الأنبياءِ”، وكثر الكلام وعظُمتِ المحْنَةُ على بعض الناسِ، كما قال تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143].
    وتأملِ حكمةَ العزيز الحكيم، ولطفَه وإرشادَه في هذه القصَّة،

(1) من قوله: “الكفار أوردوه … ” إلى هنا ساقط من “ق”.
(2) (ق): “نبيَّه”.
(4/1582)


لما علم أن هذا التَّحويلَ أمر كبيرٌ، كيف وطَّأهُ ومهَّدَهُ وذلَّلَهُ بقواعدَ قَبْلَه، فذكر النسخَ، وأنه إذا نَسَخَ شيئًا أتى بمثلِه أو خيرٍ منه، وأنه قادرٌ على ذلك فلا يعْجزهُ، ثم قرَّر التسليمَ للرسول، وأنه لا ينبغي أن يُعتَرَضَ عليه، ويسأل تَعنتًا، كما جرى لموسى مع قومِه، ثم ذكر البيتَ الحرامَ وتعظيمه وحُرْمَتَهُ، وذكَرَ بانِيه وأثنى عليه، وأوجب اتِّباعَ مِلَّتِهِ فقرَّر في النفوس بذلك توجهها إلى هذا البيتِ بالتعظيمِ والإجلالِ والمحَبَّة، وإلى بانِيه بالاتِّباع والموالاةِ والموافقةِ، وأخبر تعالى أنه جعل البيتَ مثابةً للناس، يثُوبون إليه ولا يقضون منه وطَرًا، فالقلوب عاكفة على محبَّته، دائمة الاشتياقِ إليه، متوجِّهة إليه حيث كانت، ثم أخبر أنه أمَرَ إبراهيمَ وإسماعيلَ بتطهيرِه للطَّائفينَ والقائمينَ والمُصَلِّين، وأضافَهُ إليه بقوله: {طَهِّرَا بَيْتِيَ} [البقرة: 125]، وهذه الإضافةُ هي التي أسْكَنَتْ في القلوب من محبَّتِهِ والشوقِ إليه ما أسكنَتْ، وهي التي أقبلَتْ بأفئدةِ العالَم إَليه، فلما استقرَّتْ هذه (ظ/ 260 أ) الأمور في قلوبِ أهل الإيمان وذُكَروا بها، فكأنَّها نادتهم: أن استقبلوه في الصَّلاة، ولكن توقفَتْ على ورود الأمر من ربِّ البيت، فلما برز مرسوم: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144]، تلقَّاه رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – والراسخون في الإيمان بالبشرى والقَبولِ، وكان عيدًا عندَهم؛ لأن رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – كان كثيرًا ما يُقَلِّب وجهَه في السَّماءِ ينتظرُ أن يُحَوِّلَه الله عن قبلةِ أهلِ الكتابِ، فولَّاه اللهُ القبلةَ التي يرضاها، وتلقَّى ذلك الكفارُ بالمعارضةِ وذِكْر الشبهاتِ الدَّاحِضَةِ، وتلقَّاه الضعفاء عن المؤمنينَ بالإغماضِ والمشقةِ.
فذكَرَ تعالى أصنافَ الناس عند الأمرِ (1) باستقبالِ الكعبةِ، وابتدأ


(1) من قوله “وتلقاه الضعفاء … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(4/1583)


ذلك بالتسليةِ لرسولهِ وللمؤمنينَ عما يقول السفهاءُ من الناسِ، فلا تَعْبثُوا بقولهم، فإنه قول سفيه، ثم قال: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ (ق / 375 أ) يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)} [البقرة: 142] فأخبر تعالى أن المشرق والمغربَ: له، وأنه ربّ ذلك، فأين ما تَعَبَّدَ له عبادهُ بأمرِه، إلى أيِّ جهة كانت فهم مطِيعون له، كما قال: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ (1) فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، فلم يُصَلِّ مسقبِلُ الجهاتِ بأمرِه إلا له تعالى، فإذا كنتم تصَلُّون إلى غير الكعبة بأمرهِ، ثم أَمَرَكُم أن تصلُّوا إليها، فما صَلَّيْتم إلَّا له أولًّا وَآخرًا، وكنتم على حق في الاستقبال (2) الأوَّلِ والآخرِ، لأن كليهما كان بأمرهِ ورضاه، فانتقلتم من رضاه إلى: رضاه.
ثم نبَّهَ على فضلِ الجهةِ التي أمرهم بالاستقبالِ إليها ثانيًا بأنه يهدي من يَشاءُ إلى صراط مستقيم، كما هداكم للقبلةِ التي جعلها قِبْلَتكُمْ، وشرَعها لكم ورضِيَها، ولكن أمركم باستقبالِ غيرِها أولًّا لحكمة له في ذلك, وهي أن يعلمَ -سبحانه- من يَتَّبعُ الرسولَ ويدور معه حيثما دار، ويأتمر بأوامرِهِ كيف تصَرَّفَتْ، وهو العالِمُ بكل شيء، ولكن شاءَ أن يعلمَ معلومَه الغَيبيَّ (3) عيانا مشاهدًا، فيتميزُ بذلك الراسخُ في الإيمان، المسَلِّمُ للرسولِ، المنقاد له، ممن يعبدُ الله على حَرْف، فينقلبُ على عَقِبيه بأدنى شبهَةٍ.
فهذا من بعضِ حكَمه في أن جعلَ القبلةَ الأولى غيرَ الكعبةِ، فلم يشرعْ ذلك سدًى ولا عَبَثا، ثم أخبر -سبحانه- أنه كما جعل لهم


(1) من قوله: “فأين ما … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) من (ظ)، وسقطت من (ع)، وفي (ق): “الانتقال”.
(3) (ع): “معلومه العيني”، (ق): “علمه الغيبي”.
(4/1584)


أوسط الجهات قبلة لتعبدهم فكذلك جعلهم أمة وسطًا فاختار القبلة الوسط في الجهات للأمة الوسط في الأمم, ثم ذكر أن هذا التفضيل والاختصاص ليستشهدهم على الأمم فيقبل شهادتهم على الخلائق يوم القيامة, ثم أجاب -تعالى- عما سأل عنه المؤمنون من صلاتهم إلى القبلة الأولى, وصلاة من مات من إخوانهم قبل التحويل فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] , وفيه قولان:
أحدهما: ما كان الله ليضيع صلاتكم إلى بيت المقدس, بل يجازيكم عليها؛ لأنها كانت بأمره ورِضاه.
والثاني: ما كان ليضيع إيمانكم بالقبلة الأولى, وتصديقكم بأن الله شرعها ورضيها.
وأكثر السلف والخلف على القول الأول وهو مستلزم للقول الآخِرِ (1).
ثم ذكر منته على رسوله, واطلاعه على حرصه على تحويله عن قبلته الأولى, فقال: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144].
ثم أخبر تعالى عن أهل الكتاب بأنهم يعلمون (ق / 375 ب) أنه الحق من ربهم, ولم يذكر للضمير مفسِّرا غير ما في السياق, وهو الأمر باستقبال المسجد الحرام وأن أهل الكتاب عندهم (ظ / 260 ب) من علامات هذا النبي أن يستقبل بيت الله الذي بناه إبراهيم في صلاته,


(1) انظر “تفسير الطبرى”: (2/ 19 – 21).
(4/1585)


ثم أخبر تعالى عن شدَّة كفر أهل الكتاب بأنهم لو أتاهم الرسول بكلِّ آية ما تبعوا قبلته. ففي ذلك التسلية له, وتركهم وقبلتهم.
ثم بَرَّأهُ من قبلتهم فقال: {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} [البقرة: 145] , ثم ذكر اختلافهم في القبلة, وأن كل طائفة منهم لا تتبع الطائفة الأخرى؛ لأن القبلة من خواصِّ الدين وأعلامه وشعائره الظاهرة, فأهل كل دين لا يفارقون قبلتهم, إلا أن يفارقوا دينهم.
فأخبر تعالى في هذه الجُمل الثلاث بثلاث إخبارات, تتضمَّن براءة كل طائفة من قبله الطائفة الأخرى, وتتضمن الأخبار بأن أهل الكتاب لو رأوا كل آية تدل على صدق الرسول لما تبعوا قبلته, عنادًا وتقليدًا لآبائهم, وأنهم إن اشتركوا في خلاف القبلة الحق, فهم مختلفون في باطلهم, فلا تتبع طائفة قبلة الأخرى, فهم متفقون على خلاف الحق, مختلفون اختيار الباطل.
وفي هذه الآية أيضا تثبيت للرسول – صلى الله عليه وسلم – وللمؤمنين على لزوم
قبلتهم, وأنه لا يشتغل بما يقوله أهل الكتاب: “ارجعوا إلى قبلتنا فنتبعكم على دينكم” فإن هذا خداع ومكرٌ منهم, فإنهم لو رأوا كلَّ آية تدل على صدقك ما تبعوا قبلتك؛ لأن الكفر قد تمكن من قلوبهم, فلا مطمع للحق فيها, ولست أيضا بتابع قبلتهم, فليقطعوا مطامعهم من موافقتك لهم وعودك إلى قبلتهم (1) , وكذلك هم أيضا مختلفون فيما بينهم, فلا يتبع أحد منهم (2) قبلةَ الآخر, فهم مختلفون في القبلة, ولستم أيها المؤمنون موافقين لأحد منهم في قبلته, بل


(1) “فليقطعوا مطامعهم من موافقتك لهم وعودك إلى قبلتهم” سقطت من (ق).
(2) (ظ): “أحدهم”.
(4/1586)


أكرمكُم الله بقبلة غير قبلة هؤلاء المختلفين, اختارها الله لكم ورضيها, وأكد تعالى هذا المعنى بقوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)} [البقرة: 145].
فهذا كله تثبيت وتحذير من موافقتهم في القبلة, وبراءة من قبلتهم ,كما هم براء من قبلتك, وكما بعضهم بريء من قبله بعض, فأنتم أيها المؤمنون أولى بالبراءة من قبلتهم (1) التي أكرمكم الله تعالى بالتحويل عنها, ثم أكد ذلك بقوله {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)} [البقرة: 147].
ثم أخبر تعالى عن اختصاص كل أمة بقبلتهم, فقال: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148] , وأصح القولين أن المعنى: هو متوجه إليها, (ق / 376 أ) أي: موليها وجهه, فالضمير راجعٌ إلى كل, وقيل: إلى الله, اي الله موليها إياه, وليس بشيء؛ لأن الله لم يولِّ القبلة الباطلة أبدا, ولا أمر النصارى باستقبال الشرق قط, بل هم تولوا هذه القبلة من تلقاء أنفسهم, وولوها وجوههم.
وقوله {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] مشعر بصحة هذا القول, أي: إذا كان أهل الملل قد تولوا الجهات (2) فاستبقوا أنتمُ الخيرات, وبادروا إلى ما اختاره الله لكم ورضيه, وولاكم إياه, ولا تتوقفوا فيه, {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} [البقرة: 148]: يجمعكم من الجهات المختلفة, والأقطار المتباينة إلى موقف القيامة, كما تجتمعون من سائر الجهات


(1) من قوله: “كما هم براء … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) من قوله: “فاستبقوا الخيرات … ” إلى هنا ساقط من (ظ)، وبعد هذه الكلمة فى (ق): “واستقبلوها”.
(4/1587)


إلى جهة القبلة التي تؤمونها, فهكذا تجتمعون من سائر أقطار الأرض , إلى جهة الموقف الذي يؤمه الخلائق, وهذا نظير قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} [المائدة: 48] , فأمرهم باستباق الخيرات , (1) وأخبر أن مرجعهم إليه عند إخباره بتعدُّد شرائعهم (2) ومناهجهم كما ذكر ذلك بعينه عند إخباره بتعدد وجههم وقبلهم. فقال: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} البقرة: 148.
وتحت هذا سرٌّ بديعٌ يفهمه من يفهمه, وهو أنه عند الاختلاف في الطرائق والمذاهب والشرائع والقبل يكون أقربها إلى الحق ما كان أدل على الله, وأوصل إليه؛ لأن مرجع الجميع إليه يوم القيامة وحده, وإن اختلفت أحوالهم وأزمنتهم وأمكنتهم (4) , فمرجعهم إلى رب واحد وإله واحد, فهكذا ينبغي أن يكون مرد الجميع ورجوعهم كلهم إليه وحده في الدنيا, فلا يعبدون غيره, ولا يدينون بغير دينه, إذ هو إلههم الحق في الدنيا والآخرة.
فإذا كان أكثر الناس قد أبى ذلك إلا كفورا وذهابا في الطُّرُق الباطلة وعبادة غيره, وإن دانوا غير دينه, فاستبقوا أنتم أيها المؤمنين الخيرات, وبادروا إليها, ولا تذهبوا مع الذين يسارعون في الباطل والكفر فتأمل (ظ / 261 أ) هذا السر البديع في السورتين.


(1) “فأمرهم باستباق الخيرات” من (ق).
(2) (ع): “شعائرهم”.
(3) من قوله: “وأخبر أن مرجعهم … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(4) (ق وظ): “وأماكنهم”.
(4/1588)


وفي قوله: {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)} [المائدة: 48] (ق / 376 ب) سر آخر أيضًا ,وهو أن هذا الاختلاف دليل على يوم الفصل, وهو اليوم الذي يفصل الله تعالى فيه بين الخلائق, وبين لهم حقيقة ما اختلفوا فيه, فنفس الاختلاف دليل على يوم الفصل (1) والبعث, وقد أوضح ذلك قوله تعالى: في سورة النحل: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)} [النحل: 38] فذكر تعالى حكمتين بالغتين في بعثة الأموات بعد ما أماتَهم:
إحداهما: أن يبين (2) للناس الذي اختلفوا فيه, وهذا بيانٌ عيانيٌّ تشترك فيه الخلائق كلهم, والذي حصل في الدنيا بيان إيماني اختص به بعضهم.
الحكمة الثانية: علم المبطل بأنه كان كاذبا, وإن كان على باطل, وأن نسبة أهل الحق إلى الباطل من افترائه وكذبه وبهتانه, فيخزيه ذلك أعظم خزي.
فتأمل أسرار كلام الرب تعالى, وما تضمنته آيات الكتاب المجيد من الحكمة البالغة الشاهدة بأنه كلام رب العالمين, والشاهدة لرسوله بأنه الصادق المصدوق, وهذا كله من مقتضى حكمته وحمده تعالى, وهو معنى كونه خلق السموات والأرض وما بينهما بالحق, ولم يخلق ذلك باطلا, بل خلقه خلقا صادرا عن الحق, آيلا إلى الحق,


(1) من قوله: “وهو اليوم … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(2) (ق): “يتبين”.
(4/1589)


مشتملا على الحق, فالحق سابق لخلقها, مقارن له, غاية له, ولهذا أتى بالباء الدالة على هذا المعنى دون اللام المفيدة لمعنى الغاية وحدها, فالباء مفيدة معنى اشتمال خلقها على الحق السابق والمقارن والغاية.
فالحق السابق: صدور ذلك عن علمه وحكمته, فمصدر خلقه تعالى وأمره عن كمال علمه وحكمته, وبكمال هاتين الصفتين يكون المفعول الصادر عن الموصوف (1) بهما حكمه كله, ومصلحة وحقا (2) , ولهذا قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)} [النمل: 6] , فأخبر أن مصدر التلقي عن علم المتكلم وحكمته (3) , وما كان كذلك كان صدقا وعدلا, وهدى وإرشادا, وكذلك قالت الملائكة لامرأة إبراهيم حين قالت: {عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)} (4) [الذاريات: 29] , وهذا راجع إلى قوله وخلقه, وهو خلق الولد لها على الكبر.
وأما مقارنة الحق لهذه المخلوقات: فهو ما اشتملتْ من الحكم والمصالح والمنافع والآيات الدالة للعباد (ق / 377 أ) على إلههم ووحدانيته وصفاته, وصدق رسله, وأن لقاءه حق لا ريب فيه, ومن نظر في الموجودات ببصيرة قلبه, رآها كالأشخاص الشاهدة الناطقة


(1) (ظ): ” الوصف”.
(2) (ق): “كليه ومصلحه وحق”.
(3) من قوله: “ومصلحة وحقًا … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(4) في الأصول: “أألدُ وأنا عجوز عقيم قالوا كذلك … “! وليس في القرآن آية بهذا السياق، ففى هود: {قَالَتْ يَاوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا … } [هود: 72]، وأثبتنا ما: في سورة الذاريات لأنه أقرب إلى سياق المؤلف.
(4/1590)


بذلك, بل شهادتُها أتم من شهادة الخبر المجرد؛ لأنها شهادة حال لا يقبل كذبا, فلا يتأمل العاقل المستبصر مخلوقا حق تأمله, إلا وجده دالا (1) على فاطره وبارئه, وعلى وحدانيته, وعلى كمال صفاته وأسمائه, وعلى صدق رسله, وعلى أن لقاءه حق لا ريب فيه.
وهذه طريقة القرآن في إرشاده الخلق إلى الاستدلال بأصناف المخلوقات وأحوالها على إثبات الصانع, وعلى التوحيد والمعاد والنبوات, فمرة يخبر أنه لم يخلق خلقه باطلا ولا عبثا, ومرة يخبر أنه خلقهم بالحق, ومرة يخبرهم وينبههم على وجوه الاعتبار, والاستدلال بها على صدق ما أخبرت به رسله حتى يبين لهم أن الرسل إنما جاؤوهم بما يشاهدون أدلة صدقة, وبما لو تأملوه لرأوه مركوزًا في فطرهم, مستقرا في عقولهم, وأن ما يشاهدونه من مخلوقاته شاهد بما أخبرت به رسله عنه, من أسمائه وصفاته , وتوحيده ولقائه, ووجود ملائكته, وهذا باب عظيم من أبواب الإيمان, إنما يفتحه الله على من سبقت له منه سابقة السعادة, وهذا أشرف علم يناله العبد في هذه الدار.
وقد بينت في موضع آخر (2) أن كل حركة تشاهد على اختلاف أنواعها, فهي دالة على التوحيد والنبوات والمعاد, بطريق سهلة واضحة برهانية, وكذلك ذكرت في “رسالة إلى بعض الأصحاب” (3)


(1) (ق): “شاهدًا دالا”.
(2) انظر “مفتاح دار السعادة”: (2/ 5 – فما بعدها).
(3) لم أعثر على هذه الرسالة، ولم يذكرها أحد، وطبعت للمؤلف رسالة بعنوان: “رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه”؛ لكن ليس فيها ما ذكره المؤلف هنا، فلعلها رسالة أخرى.
(4/1591)


بدليل واضح: أن الروح مركوز في أصل فطرتها وخلقتها شهادة (أن لا إله إلا الله, وأن محمدا عبده ورسوله) , وأن الإنسان لو استقصى التفتيش لوجد ذلك مركوزا في نفس روحه وذاته وفطرته.
فلو تأمل العاقل الروح وحركتها فقط؛ لاستخرج منها الإيمان بالله تعالى وصفاته, والشهادة بأنه لا إله إلا هو, والإيمان برسله وملائكته ولقائه, وإنما يصدق بهذا من أشرقت شمس (ظ / 261 ب) الهداية على أفقِ قلبه, وانجابت عنه سحائب غيه (1) , وانكشف عن قلبه حجاب: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)} [الزخرف: 23] , فهنالك يبدو له سر طال عنه اكتتامه, ويلوح له صباحٌ هو (2) ليلة وظلامه. فقف الآن (ق / 377 ب) عند كل كلمة من قوله تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)} [الجاثية: 3 – 5].
ثم تأمل وجه كونها آية, وعلى ماذا جعلت آية؟ أعلى مطلوب واحد أم مطالب متعددة, وكذلك سائر ما في القرآن الكريم من هذا النمط, كآخر (آل عمران) , وقوله في سورة (الروم): {وَمِنْ آيَاتِهِ} [الروم: 20] إلى آخرها, وقوله في سورة (النمل): {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] إلى آخر الآيات, وأضعاف ذلك في القرآن الكريم وكقوله في سورة (الذاريات): {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: 20] , {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)} [يوسف: 105]


(1) (ع): “غيبه”.
(2) كذا في الأصول، وفي العبارة نقص أو تحريف.
(4/1592)


فهذا كلُّه من الحق الذي خلقت به السموات والأرض وما بينهما, وهو حق مقارن لوجود هذه المخلوقات, مسطور في صفحاتها, يقرؤه كل موفق (1) كاتب وغير كاتب, كما قيل:
تأمل سطور الكائنات فإنها … من الملأ الأعلى إليك رسائل
وقد خُطَّ فيها لو تأملت خطها … “ألا كل شيء ما خلا الله باطل” (2)
وأما الحق الذي هو غاية خلقها: فهو غاية تراد من العباد, وغاية تراد بهم.
فالتي تراد منهم: أن يعرفوا الله تعالى وصفات كماله عز وجل,
وأن يعبدوه لا يشركوا به شيئا, فيكون هو وحده إلههم ومعبودهم, ومطاعهم ومحبوبهم, قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12] فأخبر أنه خلق العالم ليعرف عباده كمال قدرته وإحاطة علمه, وذلك يستلزم معرفته ومعرفة أسمائه وصفاته وتوحيده, وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56] , فهذه الغاية هي المرادة من العباد, وهي أن يعرفوا ربهم ويعبدوه وحده.
وأما الغاية المرادة بهم: فهي الجزاء بالعدل والفضل والثواب والعقاب, قال تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)} [النجم: 31] , قال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)} [طه: 15] , وقال تعالى:


(1) غير محررة في (ق وظ) ويشبه أن تكون: “موقن”.
(2) ذكر المؤلف هذين البيتين في عدد من كتبه، ولم ينسبه، انظر: “مفتاح دار السعادة”: (2/ 457، 3/ 178).
(4/1593)


{لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)} [النحل: 39] , قال تعالى: (ق / 378 أ) {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)} [يونس: 3 – 4].
فتأمل الآن كيف اشتمل خلقُ السموات والأرض وما بينهما على الحق أولا وآخرا ووسطا, وأنها خلقت بالحق وللحق, وشاهدة بالحق, وقد أنكر تعالى على من زعم خلاف ذلك, فقال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)} [المؤمنون: 115] ثم نزه نفسه عن هذا الحسبان المضاد لحكمته وعلمه وحمده, فقال: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} [المؤمنون: 116].
وتأمل ما في هذين الاسمين, وهما {الْمَلِكُ الْحَقُّ} من إبطال هذا الحسبان الذي ظنه أعداؤه, إذ هو مناف لكمال ملكه, ولكونه الحق, إذ الملك الحق هو الذي يكون له الأمر والنهي, فيتصرف في خلقه بقوله وأمره, وهذا هو الفرق بين الملك والمالك؛ إذ المالك هو المتصرف بفعله, والملك هو المتصرف بفعله (1) وأمره, والرب تعالى مالك الملك فهو المتصرف بفعله وأمره (2).
فمن ظن أنه خلق خلقه عبثا لم يأمرهم ولم ينههم فقد طعن في


(1) “بفعله، والملك هو المتصرف بفعله” سقطت من (ق).
(2) من قوله: “والرب تعالى … ” إلى هنا سقط من (ظ).
(4/1594)


ملكه, ولم يقدره حق قدره, كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91].
فمن جحد شرع الله وأمره ونهيه, وجعل الخلق بمنزلة الأنعام المهملة؛ فقد طعن في ملك الله ولم يقدره حق قدره, وكذلك كونه تعالى الإله الحق (1) يقتضي كمال ذاته وصفاته وأسمائه, ووقوع أفعاله على أكمل الوجوه وأتمها, فكما أن ذاته الحق فقوله الحق, ووعده الحق, وأمره الحق, وأفعاله كلها حق, وجزاؤه المستلزم لشرعه (ظ / 262 أ) ودينه ولليوم الآخر حق.
فمن أنكر شيئًا من ذلك فما وصف الله بأنه الحق المطلق من كل وجه وبكل اعتبار, فكونه حقا يستلزم شرعه ودينه وثوابه وعقابه, فكيف يظن بالملك الحق أن يخلق خلقه عبثا, وأن يتركهم سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يثيبهم ولا يعاقبهم, كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)} [القيامة: 36] قال الشافعي رحمه الله: مهملا لا يؤمر ولا ينهى (2). وقال غيره: لا يجزي بالخير والشر, ولا يثاب ولا يعاقب, والقولان متلازمان, فالشافعي ذكر سبب الجزاء والثواب (ق / 378 ب) والعقاب, وهو الأمر والنهي, والآخر ذكر غاية الأمر والنهي, وهو الثواب والعقاب.
ثم تأمل قوله تعالى بعد ذلك: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38)} [القيامة: 37 – 38] فمن لم يتركه وهو نطفة سدى, بل قلب النطفة وصرفها, حتى صارت أكمل مما هي وهي العلقة, ثم


(1) كذا في (ق وظ)، وفي (ع): “الإله الخلق”!.
(2) في “الرسالة”: (ص/ 25)، و”الأم”: (7/ 298).
(4/1595)


قَلَبَ العَلَقَة حتى صارت أكمل مما هي (1) , حتى خلقها فسوى خلقها, فدبرها بتصريفه وحكمته في أطوار كمالاتها حتى انتهى كمالها بشرا سويا, فكيف يتركه سدى لا يسوقه إلى غاية كماله الذي خلق له.
فإذا تأمل العاقل البصير أحوال النطفة من مبدئها إلى منتهاها دلَّته على المعاد والنبوات, كما تدله على إثبات الصانع وتوحيده وصفات كماله, فكما تدل أحوال النطفة من مبدئها إلى غايتها على كمال قدرة فاطر الإنسان وبارئه, فكذلك تدل على كمال حكمته, وعلمه وملكه, وأنه الملك الحق المتعالى عن أن يخلقها عبثا ويتركها سدى بعد كمال خلقها.
وتأمل كيف لما زعم أعداؤه الكافرون أنه لم يأمرهم ولم (2) ينههم على ألسنة رسله, وأنه لا يبعثهم للثواب والعقاب, كيف كان هذا الزعم منهم قولا بأن خلق السموات والأرض باطل, فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ (3) وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)} [ص: 27].
فلما ظن أعداؤه أنه لم يرسل إليهم رسولا, ولم يجعل لهم أجلًا للقائه, كان ذلك ظنا منهم أنه خلق خلقه باطلا, ولهذا أثنى تعالى على عباده المتفكرين في مخلوقاته بأن أوصلهم فكرهم فيها إلى شهادتهم بأنه تعالى لم يخلقها باطلا, وأنهم لما علموا ذلك وشهدوا به, علموا أن خلقها يستلزم أمره ونهيه وثوابه وعقابه, فذكروا في


(1) من قوله: “وهي العلقة … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(2) من (ظ).
(3) وقع في الأصول: “السماوات”!.
(4/1596)


دعائهم هذين الأمرين, فقالوا: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)} [آل عمران: 192 – 193].
فلما علموا أن خلق السموات والأرض, يستلزم الثواب والعقاب, تعوذوا بالله من عقابه, ثم ذكروا الإيمان الذي أوقعهم عليه فكرهم في خلق السموات والأرض, فقالوا: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [آل عمران: 193] , فكانت ثمرة فكرهم في خلق السموات والأرض: الإقرار به تعالى, وبوحدانيته, وبدينه, وبرسله, وبثوابه وعقابه, فتوسلوا إليه بإيمانهم, الذي هو من أعظم (ق / 379 أ) فضله عليهم إلى مغفرة ذنوبهم, وتكفير سيئاتهم, وإدخالهم مع الإبرار إلى جنته التي وعدوها (1) , وذلك تمام نعمته عليهم, فتوسلوا بإنعامه عليهم أولا إلى إنعامه عليهم آخرًا, وتلك وسيلة بطاعته إلى كرامته, وهو إحدى الوسائل إليه, وهي الوسيلة التي أمرهم بها (2) في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35].
وأخبر عن خاصَّة عبادهم أنهم يبتغون الوسيلةَ إليه إذ يقول تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57] على أن في هاتين الآيتين أسرارًا بديعة ذكرتها في كتاب “التحفة المكية في بيان الملة الإبراهيمية”, فأثمر لهم فكرهم الصحيح في خلق السموات والأرض. أنه لم يخلقها باطلا (3) وأثمر لهم:


(1) (ع): “وَعَدَهموها”.
(2) (ق وظ): “فيها”.
(3) (ق): “أنهما لم يخلقهما عبثًا باطلًا”.
(4/1597)


الإيمان بالله ورسوله (1) , ودينه وشرعه, وثوابه وعقابه, والتوسُّل إليه بطاعته, والإيمان به, وهذا الذي ذكرناه في هذا الفصل قطرةٌ من بحر لا ساحل له, فلا تستَطِله, فإنه كنز من كنوز العلم, لا يلائم كل نفس, ولا يقبله كل محروم, والله يختص برحمته من يشاء.
ولنرجع إلى ما كنا بصدده من الكلام في ذكر محاجَّة أهل الباطل للمسلمين في القبلة, ونصر الله لهم بالحجة عليهم, وقد رأيت لأبي القاسم السهيلي في الكلام على هذه الآيات فصلا أذكره بلفظه (2) , قال في قول النبي – صلى الله عليه وسلم – للبراء بن معرور: “قد كنت على قبلة لو صبرت عليها” (3) = يعنى لما صلى إلى الكعبة قبل الأمر بالتوجه إليها, ولم يأمره بالإعادة؛ لأنه كان متأولا.
قلت (4): ونظير هذا أنه لم يأمر من أكل في نهار رمضان بالإعادة, لما ربط الخيطين في رجليه وأكل حتى يتبينا له (5)؛ لأجل التأويل.
ونظيره: أنه لم يأمر أبا ذر بإعادة ما ترك من الصلاة مع الجنابة؛ إذ لم يعرف شرع التيمم للجنب, فقال يا رسول الله إني تصيبني


(1) (ع): “برسوله” بدل “بالله ورسوله”.
(2) في كتابه: “الروض الأُنُف”: (2/ 200 – 201).
(3) أخرجه أحمد: (25/ 89 – 95 رقم 15794)، وابن حبان “الإحسان”: (15/ 471)، والطبراني في “الكبير”: (19/ 87)، من حديث كعب بن مالك -رضي الله عنه- في قصة بيعة العقبة.
كلهم من طريق محمد بن إسحاق (السيرة 2/ 439 – 440)، وقد صرح بالتحديث، فسلم من التدليس.
(4) هذا التعليق بطوله لابن القيم -رحمه الله-.
(5) هو: عدي بن حاتم -رضي الله عنه-، والحديث أخرجه البخاري رقم (1916)، ومسلم رقم (1090).
(4/1598)


الجنابة فأمكث الشهر والشهرين لا أصلي -يعني: في البادية- قال: “فأين أنت عن التيمم” (1).
ونظيره أيضًا: أنه لم يأمر المستحاضة (ظ / 262 ب) بالإعادة, وقد قالت: إني أستحاض حيضة شديدة, وقد منعتني الصوم والصلاة, فأمرها أن تجلس أيام الحيض ثم تصلي (2) , ولم يأمرها بإعادة ما تركت.
ونظيره أيضا: أنه لم يأمر المسئ في صلاته بإعادة ما تقدم له من الصلوات التي لم تكن صحيحة, وإنما بالإعادة في الوقت؛ لأنه لم يؤد فرض وقته مع بقائه, بخلاف ما تقدم له (3).
ونظيره أيضا: أنه لم يأمر (ق / 379 ب) المتمعك في التراب كما تتمعك الدابة لأجل التيمم (4) بالإعادة, مع أنه لم يصب فرض التيمم.
ونظيره أيضًا: أنه لم يأمر معاوية بن الحكم السلمي بإعادة الصلاة, وقد تكلم فيها بكلام أجنبيٍّ ليس من مصلحتها (5)


(1) لم أره بهذا اللفظ، والحديث أخرجه أحمد: (35/ 230 – 231 رقم 21304)، وأبو داود رقم (331)، والترمذي رقم (124)، والنسائي: (1/ 171)، وابن حبان “الإحسان”: (4/ 135 – 136)، من حديث أبى ذر – رضي الله عنه- في قصة، وفيها أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال له: “الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمِسه جلدَك، فإن ذلك خير”.
(2) أخرجه البخاري رقم (306)، ومسلم رقم (333) من حديث عائشة- رضي الله عنها-.
(3) أخرجه البخاري رقم (793)، ومسلم رقم (397) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(4) أخرجه البخاري رقم (338)، ومسلم رقم (368) من حديث عمار بن ياسر – رضي الله عنهما-.
(5) أخرجه مسلم رقم (537).
(4/1599)


ونظيرُه أيضًا: أنه لم يضمن أسامة قتيله بعد إسلامه بقصاصٍ ولا ديةٍ ولا كفارةٍ (1).
ولا تجد هذه النظائر مجموعة في موضع, فالتأويل والاجتهاد في إصابة الحق, منع في هذه المواضع من الإعادة والتضمين.
وقاعدة هذه الباب: أن الأحكام إنما تثبت في حق العبد بعد بلوغه هو, وبلوغها إليه, فكما (2) لا يترتب في حقه قبل بلوغه هو, فكذلك لا يترتب في حقه قبل بلوغها إليه, وهذا مجمع عليه في الحدود, أنها لا تقاوم إلا على من بلغه تحريم أسبابها, وما ذكرناه من النظائر يدل على ثبوت ذلك في العبادات والحدود.
ويدل عليه أيضا في المعاملات قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)} [البقرة: 278] , فأمرهم تعالى أن يتركوا ما بقي من الربا, وهو ما لم يقبض, ولم يأمرهم بردِّ المقبوض؛ لأنهم قبضوه قبل التحريم, فأقرهم عليه, بل أهل قباء صلوا إلي القبلة المنسوخة بعد بطلانها, ولم يعيدوا ما صلوا, بل استداروا في صلاتهم وأتمُّوها, لأن الحكم لم يثبت في حقهم إلا بعد بلوغه إليهم, وفي هذا الأصل ثلاثة أقوال للفقهاء وهي لأصحاب أحمد:
هذا أحدها, وهو أصحها, وهو اختيار شيخنا (3) رضي الله عنه.


(1) أخرجه البخاري رقم (4269)، ومسلم رقم (96) من حديث أسامة بنْ زيد – رضي الله عنه-.
(2) (ق): “مع أنه”.
(3) انظر: “مجموع الفتاوي”: (21/ 160 – فما بعدها).
(4/1600)


الثاني: أن الخطاب إذا بلغ طائفة ترتب في حق غيرهم، ولزمهم كما لزم من بلغه، وهذا اختيار كثير من أصحاب الشافعي وغيرهم.
الثالث: الفرق بين الخطاب الابتدائي والخطاب الناسخ، فالخطاب الابتدائي يعم ثبوته من بلغه وغيره، والخطاب الناسخ لا يترتب في حق المخاطب إلا بعد بلوغه، والفرق بين الخطابين: أنه في الناسخ مستصحب لحكم مشروع مأمور به، بخلاف الخطاب الابتدائي، ذكره القاضي أبو يعلي في بعض كتبه، ونصوص القرآن والسنة تشهد للقول الأول، وليس هذا موضع استقصاء هذه المسألة، وإنما أشرنا إليها إشارة.
قال أبو القاسم (1): وفي الحديث دليل على أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس، وهو قول ابن عباس يعني: قوله للبراء: “لقد كنت على قبلة” (2)، وقالت طائفة: ما صلى إلى بيت المقدس إلا مذ قدم المدينة سبعة (ق / 380 أ) عشر شهرا، أو ستة عشر شهرا. فعلى هذا يكون في القبلة نسخان، نسخ سنة بسنة، ونسخ سنة بقرآن وقد بين حديث ابن عباس منشأ الخلاف في هذه المسألة، فروى عنه من طرق صحاح أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – “كان إذا صلى بمكة استقبل بيت المقدس، وجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس” (3)، فلما كان – صلى الله عليه وسلم – يتحرى القبلتين جميعا لم يبن توجهه إلى بيت المقدس للناس حتى خرج من مكة؛ ولذلك -والله أعلم- قال الله تعالى في الآية الناسخة: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 149] أي:


(1) أى السهيلي في “الروض الأنف” كما تقدم.
(2) تقدم قريبًا.
(3) انظر “فتح الباري”: (1/ 119).
(4/1601)


من أي جهة جئت إلى الصلاة وخرجت إليها، فاستقبل الكعبة، كنت متسدبرا بيت المقدس أو لم تكن، لأنه كان بمكة يتحرى في استقباله بيت المقدس أن تكون الكعبة بين يديه.
قال: تدبر قوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ} [البقرة: 149]، وقال لأمته: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150]، ولم يقل: حيث ما خرجتم؟ وذلك لأنه – صلى الله عليه وسلم – كان إمام المسلمين، فكان يخرج إليهم في كل صلاة ليصلي بهم، وكان ذلك واجبا عليه، إذ كان الإمام المقتدي به، فأفاد ذكر الخروج في خاصته هذا المعنى، ولم يكن حكم غيره هكذا يقتضي الخروج، ولا سيما النساء ومن لا جماعة عليه.
قلت (1): ويظهر في هذا معنى آخر، وهو أن قوله: {وَحَيْثُ مَا
كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150]، خطاب عام له – صلى الله عليه وسلم – ولأمته، يقتضي أمرهم بالتوجه إلى المسجد الحرام في أي موضع كانوا من الأرض.
وقوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 150] خطاب بصيغة الإفراد، والمراد هو الأمة، كقوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1] ونظائره، وهو يفيد الأمر باستقبالها من اي جهة ومكان خرج منه.
وقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150] يفيد الأمر باستقبالها في أي موضع استقر فيه، وهو -تعالى- لم يقيد الخروج (2) بغاية، بل أطلق غايته كما عمم مبدأه، فمن حيث خرج، إلى أي مخرج كان من صلاة أو غزو أو حج أو غير ذلك، فهو مأمور باستقبال المسجد الحرام


(1) الكلام لابن القيم.
(2) (ع): “الأمور”.
(4/1602)


هو والأمة، وفي أي بقعة كانوا من الأرض، فهو مأمور هو والأمة باستقباله، فتناولت الآيتان أحوال الأمة كلها في مبدأ تنقلهم من حيث خرجوا، وفي غايته إلى حيث انتهوا، وفي حال اسقترارهم حيث ما كانوا، فأفاد ذلك عموم الأمر بالاستقبال في الأحوال الثلاثة (1) التي لا ينفكُّ منها العبد.
فتأمل هذا المعنى، ووازن بينه وبين ما أبداه أبو القاسم يتبين لك الرجحان، والله أعلم بما أراد من كلامه، وإنما هو كد أفهام أمثالنا من القاصرين.
(ظ / 263 أ) (ق / 380 ب) فقوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} [البقرة: 150] يتناول مبدأ الخروج وغايته له وللأمة، وكان أولى بهذا الخطاب؛ لأن مبدأ التوجه على يديه كان، وكان شديد الحرص على التحويل.
وقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} [البقرة: 150] يتناول أماكن الكون كلها له وللأمة، وكانوا أولى بهذا الخطاب لتعدد أماكن أكوانهم وكثرتها، بحسب كثرتهم واختلاف بلادهم وأقطارهم، واستدارتها حول الكعبة شرقًا وغربا، ويمنا وعراقًا، فكان الأحسن في حقهم أن يقال لهم: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} [البقرة: 150]، أي: من أقطار الأرض في شرقها وغربها، وسائر جهاتها، ولا ريب أنهم أدخل في هذا الخطاب منه – صلى الله عليه وسلم – فتأمل هذه النكت البديعة، فلعلك لا تظفر بها في موضع غير هذا، والله أعلم.
قال أبو القاسم: وكرر الباري تعالى الأمر بالتوجه إلي البيت الحرام في ثلاث آيات؛ لأن المنكرين لتحويل القبلة كانوا ثلاثة أصناف من الناس.


(1) (ع وظ): “الثلاث”.
(4/1603)


اليهود؛ لأنهم لا يقولون بالنسخ في أصل مذهبهم. وأهلُ الرَّيب والنفاق اشتد إنكارُهم له؛ لأنه كان أول نسخ نزل. وكفار قريشٍ قالوا: ندم محمدٌ على فراق ديننا، فسيرجع إليه كما رجع إلى قبلتنا، وكانوا قبل ذلك يحتجون عليه فيقولون: يزعم محمد أنه يدعونا إلى ملة إبراهيم وإسماعيل، وقد فارق قبله إبراهيم وإسماعيل وآثر عليها قبلة اليهود، فقال الله له حين أمره بالصلاة إلى الكعبة: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] على الاستثناء المنقطع، أي: لكن الذين ظلموا منهم لا يرجعون ولا يهتدون. وقال: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)} [البقرة: 147] أي: من الذين شكوا وامتروا.
ومعنى {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [البقرة: 147] أي: الذي أمَّرتك به من التوجه إلى بيت الحرام هو الحق، الذي كان عليه الأنبياء قبلك فلا تمتر في ذلك، فقال: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 144]، وقال: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)} [البقرة: 146]، أي: يكتمون ما علموا أن الكعبة هي قبلة الأنبياء.
ثم ساق من طريق أبي داود في كتاب “الناسخ والمنسوخ” (1). قال حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا عنبسة (2)، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: كان سليمان بن عبد الملك لا يعظم إيلياء كما يعظِّمها أهل بيته، قال: فسرت معه وهو ولي عهد، قال: ومعه خالد بن يزيد بن معاوية، فقال سليمان وهو جالس فيه: والله إن في هذه القبلة


(1) ساقه السُّهيلي بإسناده إلى أبي داود.
(2) عَنبَسة بن خالد بن يزيد الأيلي، متكلم فيه، وقال الحافظ في “التقريب”: “صدوق”، وتُحْتَمل روايتُه في مثل هذا الخبر.
(4/1604)


التي صلَّى إليها المسلمون والنصارى لعجبا -كذا رأيته (1) والصواب: اليهود- قال خالد بن يزيد: أما والله إني لأقرأ الكتاب الذي أنزله الله علي محمد – صلى الله عليه وسلم -، (ق / 381 أ) وأقرأ التوراة فلم تجدْها اليهود في الكتاب الذي أنزله الله عليهم، ولكن تابوت السكينة كان على الصخرة، فلما غضب الله عز وجل على بني إسرائيل رفعه، فكانت صلاتهم إلى الصخرة عن مشاورة منهم.
وروى أبو داود أيضا: أن يهوديا خاصم أبا العالية في القبلة، فقال أبو العالية: إن موسى كان يصلي عند الصخرة، ويستقبل البيت الحرام، فكانت الكعبة قبلته، وكانت الصخرة بين يديه. وقال اليهودي: بيني وبينك مسجد صالح النبي – صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو العالية: فإني صليت في مسجد صالح وقبلته الكعبة (2). وأخبر أبو العالية أنه رأى مسجد ذى القرنين، وقبلته الكعبة (3). انتهى.
قلت: وقد تضمن هذا الفصل فائدة جليلة، وهي: أن استقبال أهل الكتاب لقبلتهم لم يكن من جهة الوحي والتوقيف من الله، بل كان عن مشورة منهم واجتهاد.
أما النصارى؛ فلا ريب أن الله لم يأمرهم في الإنجيل ولا في غيره باستقبال المشرق أبدا، وهم مقرُّون بذلك، ومقرُّون أن قبله المسيح كانت قبلة بني إسرائيل، وهي الصخرة، وإنما وضع لهم شيوخهم وأسلافهم هذه القبلة، وهم يعتذرون عنهم بأن المسيح


(1) وهذا كذلك في مطبوعة “الروض”.
(2) ما بعده من (ق وظ).
(3) وانظر “تفسير الطبري”: (2/ 34)، والقرطبي: (2/ 102).
(4/1605)


فوَّض إليهم التحليل والتحريم وشرع الأحكام، وأن ما حلَّلوه وحرَّموه فقد حلله هو وحرمه في السماء، فهم مع اليهود متفقون على أن الله لم يشرع استقبال المشرق (1) على لسان رسوله أبدا، والمسلمون شاهدون عليهم بذلك.
وأما قبلة اليهود؛ فليس في التوراة الأمر باستقبال الصخرة ألبتَّةَ، وإنما كانوا ينصبون التابوت ويصلون إليه من حيث خرجوا، فإذا قدموا نصبوه على الصخرة وصلوا إليه، فلما رفع صلوا إلى موضعه وهو الصخرة.
وأما السامرةُ (2)؛ فإنهم يصلُّون إلى طور لهم بأرض الشام (3) ويعظمونه ويحُجُّون إليه، ورأيته أنا وهو في بلد نابُلُسَ، وناظرتُ فضلاءهم في استقباله، وقلت: هو قبلة باطلة مبتدعة، فقال مشار إليه في دينهم: هذه هي القبلة الصحيحة، واليهود أخطأوها؛ لأن الله تعالى أمر في التوراة باستقباله عينا، ثم ذكر نصا يزعمه من التوراة في استقباله.
فقلت له: هذا خطأ قطعا على التوراة؛ لأنها إنما أنزلت على بني إسرائيل، فهم المخاطبون بها، وأنتم فرع عليهم فيها، وإنما تلقيتموها عنهم، وهذا النص ليس في التوراة التي بأيديهم، وأنا رأيتها، وليس هذا فيها.


(1) (ق وظ): “الشرق”.
(2) السامرة طائفة من اليهود، يفترقون عنهم في القِبلة، والتوراة، وإيمانهم بالأنبياء، واللسان. انظر: “الملل والنحل”: (ص/ 218 – 219)، و “الفِصَل”: (1/ 99).
(3) (ظ): “طورهم بالشام”.
(4/1606)


فقال لي: صدقت، إنما هو في توراتِنا (ق /381 ب) خاصة.
قلت له: فمن المحال (ظ /263 ب) أن يكون أصحاب التوراة المخاطبون بها، وهم الذين تلقوها عن الكليم، وهم متفرِّقون في أقطار الأرض، قد كتموا هذا النص، وأزالوه، وبدلوا القبلة التي أمروا بها، وحفظتموها أنتم، وحفظتم النص بها. فلم يرجع إلى بجواب (1).
قلت: وهذا كله مما (2) يقوى أن يكون الضميرُ في قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148] راجعا إلى “كل” أي: هو موليها وجهه، ليس المراد أن الله موليه إياها؛ لوجوهٍ؛ هذا أحدها.
الثاني: أنه لم يتقدم لاسمه تعالى ذكر يعود الضمير عليه في الآية، وإن كان مذكورًا فيما قبلها، ففي إعادة الضمير إليه تعالى دون “كل” رد الضمير إلى غير من هو أولى به، ومنعه من القريب منه الأحق به (3).
الثالث: أنه لو عاد الضمير عليه تعالى لقال: “هو مولِّيه إياها”، هذا وجه الكلام، كما قال تعالى: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115]، فوجه الكلام أن يقال: ولاه القبلة، لا يقال ولى القبلة إياه، فتأمله.
وقول أبي القاسم: أنه تعالى كرر ذكر الأمر باستقبالها ثلاثًا، ردًا على الطوائف الثلاث؛ ليس بالبين ولا في اللفظ إشعار بذلك، والذي يظهر فيه” إنه أمر به في كل سياق لمعنى يقتضيه.


(1) (ق وظ): “الجواب”.
(2) “كله مما” ليست في (ق).
(3) (ع): “اللاحق”، (ظ): “الأولى”.
(4/1607)


فذكره أوَّلَ مرَّة ابتداءً للحكم ونَسْخًا للاستقبال الأوَّل، فقال: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] ثم. ذكَرَ أن أهلَ الكتاب يعلمون أن هذا هو الحقُّ من ربِّهم حيثُ يجدونه في كتبهم كذلك، ثم أخبر عن عِنادِهم (1) وكفرِهم، وأنه لو أتاهم بكلِّ آيةٍ ما تَبعوا قِبْلَتهُ، ولا هو أيضًا بتابع قبلتَهم، ولا بعضهم بتابع قبلةَ بعض، ثم حذَّره من اتَباع أهوائِهم، ثم كرَّر معرفةَ أهل الكتاب به، كمعرفتِهم بأبنائِهم، وأنهم يكتمونَ الحقَّ عن علم، ثم أخبر أن هذا هو الحق من ربِّه، فلا يلحقْه فيه امتراءٌ، ثم أخبر أنَّ لكل من الأممِ وجهَةٌ هو مستقبلُها ومُوَلِّيها وجْهَهُ، فاستبقوا أنتم أيها المؤمنون الخيراتِ، ثم أعادَ الأمر باستقبالِها من حيثُ خَرجَ في ضمنْ هذا السِّياق الزائد على مجرَّد النسخِ، ثم أعاد الأمرَ به غيرَ مكرِّر له تكرارًا محضًا، بل في ضِمنه أَمْرُهُم باستقبالِها حيثما كانوا، كما أمرهم باستقبالِها أولًا حيثما كانوا عند النسخ، وابتداءِ شَرْعِ الحكمِ، فأمرهم باستقبالِها حيثما كانوا عند شَرْعِ الحكمِ وابتدائِه، وبعد المحاجَّةِ والمخاصَمَةِ، والحكم لهم، وبيان (ق/ 382 أ) عنادِهِم ومخالفتهم مع علمهم، فذِكْرُ الأمر بذلك في كلِّ موطنٍ لاقتضاء السِّياق له، فتأمَّلْه، والله أعلم.
وقوله. إن الاستثناءَ في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150]، منقطع، قد قاله أكثرُ الناس، ووجهه: أن الظالمَ لا حُجَّةَ له، فاستثناؤه مما ذكر قبلَه منقطعٌ. وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيميَّةَ يقول (2): ليسْ


(1) (ع): “عبادتهم”.
(2) انظر نحوه من كلام الشيخ في “الجواب الصحيح”: (3/ 68 – 72).
(4/1608)


الاستثناء بمنقطع، بل هو مُتَّصِلٌ على بابه، وإنما أوجب لهم أن حكموا بانقطاعه حيث ظنوا أن الحجة هاهنا المراد بها الحجة الصحيحة الحق، والحجة في كتاب الله يُراد بها نوعان:
أحدهما: الحُجَّة الحق الصحيحة (1)، كقوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83]، وقوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149].
ويراد بها: مطلق الاحتجاج بحق أو بباطل، كقوله: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} [آل عمران: 20]، وقوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)} [الجاثية: 25]، وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة: 258]، وقوله: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الشورى: 16].
وإذا كانت الحجَّة اسمًا لما يحتج به من الحق أو باطلٍ، صحَّ استثناء حجة الظالمين من قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} [البقرة: 150]، وهذا في غاية التحقيق، والمعنى: أن الظالمين يحتجون عليك بالحُجَج الباطلة الداحضة فلا تخشوهم واخشوني.

  • ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)} [البقرة: 170] فهذه مناظرة حكاها الله بين المسلمين والكفار، فإن الكفار لجأوا إلى تقليد الآباء، وظنوا أنه منجيهم لإحسانهم ظنَّهم بهم، فحكم الله بينهم بقوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)} [البقرة: 170] وفى موضع آخر: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا

(1) من قوله: “الحق، والحجة … ” إلى هنا ساقط فى (ظ).
(4/1609)


يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)} [المائدة: 104]، وفي موضع آخر (1): {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)} [لقمان: 21]، وفي موضعٍ آخر: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 24].
فأخبر عن بطلان هذه الحُجَّة، وأنها لا تنجني من عذاب الله؛ لأنَّ تقليد من ليس عنده علمٌ ولا هدىً من الله ضلالةٌ وسفَهٌ، والمعنى: ولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير يقلِّدونهم، ولو كانوا لا علم عندهم ولا هدىً يقلدونهم أيضًا، وهذا شأن من لا غرض له في الهدى، ولا في اتباع الحق، إن غرضه بالتقليد إلا دفع الحقِّ (ق / 382 ب) والحجة إذا لزمته؛ لأنه لو كان مقصوده الحق لاتبعه إذا ظهر له، وقد جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم، فلو كنتم ممن يتبع الحق لأتبعتم ما جئتكم به، فأنتم لم تقلدوا (ظ / 264 أ) الآباء لكونهم على حقٌّ، فقد جئتكم أهدى مما وجدتموهم عليه، وإنما جعلتم تقليدهم جُنةً لكم، تدفعون بها الحق الذي جئتكم به. تمت الفصول (2).


(1) هذه الآية زيادة من (ق وظ).
(2) من (ق).
(4/1610)


فائدة
ليس من شرط الدليل اندراجه تحتَ قضية كليةٍ يكون بها جزءًا من قياس شمول (1)، ولا استلزامه نظيرًا يكون به قياس تمثيلٍ، بل يجوز كونه معينًا مستلزمًا لثبوتٍ معينٍ، وإنما شرطه اللزوم فيما كان بينهما تلازمٌ شرعًا أو عقلًا أو عادةً استدل فيه بثبوت الملزوم على ثبوت لازمه، وبنفي اللازم على نفي ملزومه، فكل ملزوم دليلٌ على لازمه، والعلم بدلالته متوقف على العلم به، وعلى العلم بلزومه (2)، ولهذا كانت أدلَّة التوحيد والمعاد والنبوات التي في القرآن آيات ودلالات معيَّناتٍ مستلزمةً لمدلولها بنفسها، من غير احتياجٍ إلى اندراجها تحت قضيةٍ كلية، فالمخلوقات جميعها وما تضمَّنته من التخصيصات والحكم والغايات مستلزمةٌ للخالق سبحانه عينًا، بخلاف ما يزعم كثيرٌ من النُّظَّار أنه دليلٌ لقولهم: “كلُّ ممكنٍ مفتقرٌ إلى واجب، وكلُّ محدث مفتقرٌ إلى محدثٍ”، فإنَّ هذه القضية الكليَّة بعد تعبهم (3) في تقريرها ودفع ما يعارضها، لا يدلُّ على مطلوبٍ معينٍ وخالقٍ معينٍ، إنما يدلُّ على واجبٍ ومحدثٍ ما.
وأما آياته سبحانه وأدلَّة توحيده، وما أخبر به من المعاد وما نصبه (4) من الأدلَّة لصدق رسله، فلا يفتقر في كونها آياتٍ إلى قياس شموليٍّ ولا تمثيليٍّ، وهي مستلزمةٌ لمدلولها عينًا، والعلم بها مستلزمٌ


(1) (ق): “شمولي”.
(2) من قوله: “فكل ملزوم … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(3) رسمها في (ق): “لعربهم”.
(4) (ق): “تضمَّنه”.
(4/1611)


للعلم بالمدلول لا يتخلَّف عنه، فانتقال الذهن منها إلى المدلولِ انتقالٌ بيِّنٌ في غاية البيان (1)، وهو كانتقال الذهن من رؤية الدخان إلى أن تحته نارًا، ومن رؤية الجسم المتحرِّك قسرًا إلى أنَّ له محرِّكًا، ومن رؤية شعاع الشمس إلى العلم بطلوعها، ونظائر ذلك، فالعلم بمفردات هذه القضايا الكلِّيَّة أسبق إلى الذهن وأظهر (2) من القضية الكلِّيَّة، بل لا تتوقَّف دلالتها على القضيَّة الكلية البتة، وعلم العقلِ بمدلول الآية المعيَّنة الحسِّيَّة كعلم الحسِّ بتلك الآية لا فرق في العلم بينهما، إلا أن الآية تدرك بالحسِّ ومدلولها بالعقل، فعلمُ العقل بثبوت التوحيد والمعاد والنُّبوَّات وجزمه بها كجزم الحس بما يشاهد من آياتها المشهودة.
فائدة
الفعل بالنسبة إلى التَّكليف (3) (ق / 383 أ) نوعان:
أحدهما: اتَّفق الناس على جوازه ووقوعه (4)، واختلفوا في نسبة إطلاق القول عليه، بأنه لا يطاق،
والثاني: اتَّفق الناس على أنه لا يطاق، وتنازعوا في جواز الأمر به، ولم يتنازعوا في عدم وقوعه، ولم يثبت بحمد الله أمرٌ اتفق المسلمون على فعل كلِّف به العبد، وأطلقوا القول عليه بأنه لا يُطَاقُ،


(1) زاد في (ع): “وأظهر”.
(2) (ع): “والحركة”.
(3) (ق): “بالتكليف إلى النسبة”.
(4) (ق): “جواز وقوعه”.
(4/1612)


وللمسألة ثلاثةُ مآخِذَ:
أحدها: أنَّ الاستطاعة مع الفعل أو قبله، والصواب أنها: نوعان؛ نوعٌ قبلهُ، وهي المصحِّحة للتَّكليف التي هي شرطٌ فيه، ونوعٌ مقارنٌ له، فليست شرطًا في التَّكليف.
المأخذ الثاني: أنَّ تعلُّق علم الله سبحانه بعدم وقوع الفعل هل يخرجه عن كونه مقدورًا للعبد؟ فمن أخرجه عن كونه مقدورًا قال: الأمر به أمرٌ بما لا يطاق، ومن لم يخرجه عن كونه مقدورًا لم يطلق عليه ذلك، والصواب: أنه لا يخرجه عن كونه مقدورًا القدرة المصحِّحة، التي هي مناط التكليف وشرطٌ فيه، وإن أخرجه عن كونه مقدورًا القدرة الموجبة للفعل المقارنة له.
المأخذ الثالث: أن ما (1) تعلَّق علم الله بأنه لا يكون من أفعال المكلَّفين نوعان:
أحدهما: أن يتعلق بأنه لا يكون لعدم القدرة عليه، فهذا لا يكون ممكنًا مقدورًا ولا مكلَّفًا به (2).
والثاني: ما تعلَّق بأنه لا يكون لعدم إرادة العبد له، فهذا لا يخرج بهذا العلم عن الإمكان، ولا عن جواز الأمر به ووقوعه.
ولهذا مأخذٌ رابع -وهو من أدقَّها وأغمضها- وهو: أنَّ ما علم الله أنه لا يكون؛ لعدم مشيئته له ولو شاءه من العبد لفعله، هل تخرجه عدم مشيئة الرَّبِّ تعالى له عن كونه مقدورًا، ويجعل الأمر به


(1) من قوله: “مقدورًا القدرة … ” إلى هنا ساقط من (ع).
(2) (ع): “لا يكون مقدورًا به”، و (ق): “لا يكون مقدورًا ملكًا ولا مكلفًا به”.
(4/1613)


أمرًا بما لا يطاق؟ والصواب: أن عَدَمَ مشيئة الرَّبِّ له لا يخرجه عن كونه ممكنًا في نفسه، كما أنَّ عدم مشيئته لما هو قادرٌ عليه من أفعاله لا يخرجه عن كونه مقدورًا له، وإنما يخرج الفعل عن الإمكان إذا كان بحيث لو أراده الفاعل لم يمكنه فعله، وأما امتناعه لعدم مشيئته فلا يخرجه عن كونه مقدورًا (1) ويجعله محالًا.
فإن قيل: هو موقوفٌ على مشيئة الله، وهي غير مقدورةٍ للعبد، والموقوف على غير المقدور غير مقدور.
قيل: إنما يكون غير مقدور إذا كان بحيث لو أراده العبد لم يقدر عليه، فيكون عدم وقوعه لعدم قدرة العبد (2) عليه، فأما إذا كان عدم وقوعه لعدم مشيئته له، فهذا لا يخرجه عن كونه مقدورًا له، وإن كانت مشيئته موقوفةً على مشيئة الرَّبِّ (ظ / 264 ب) (ق / 383 ب) تعالى، كما أن عدم وقوع الفعل من الله لعدم مشيئته له، لا يخرجه عن كونه مقدورًا له، وإن كانت مشيئته تعالى موقوفةً على غيرها من صفاته كعلمه وحكمته.
فالنزاع في هذا الأصل يتنوَّع إلى النَّظر إلى المأمور به، وإلى النظر إلى جواز الأمر به ووقوعه، ومن جعل القسمين واحدًا، وادَّعى جواز الأمر به مطلقًا لوقوع بعض الأقسام التي يظنُّها مما لا يُطاقُ، وقاس عليها النوع الذي اتَّفق الناس على أنه لا يطاق، وأن وقوع ذلك النوع يستلزم لوقوع القسم المتَّفق على أنه لا يطاق، أو على جوازه = فقد أخطأ خطأً بيِّنًا (3)، فإن من قاس الصحيح المتمكِّن من


(1) من قوله: “له وإنما … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(2) (ق): “غير العبد”!.
(3) سقطت من (ق).
(4/1614)


الفعل، القادر عليه، الذي لو أراده لفعله، على العاجز عن الفعل؛ إما لاستحالته في نفسه أو لعجزه عنه لجامع ما يشتركان فيه من كون الاستطاعة مع الفعل، ومن تعلَّق علم الرَّبِّ تعالى بعدم وقوع الفعل منهما = فقد جمع بين ما علم الفرق بينهما عقلًا وشرعًا (1) وحسًا، وهذا من أفسد القياس وأبطله، والعبد مأمورٌ من جهة الرَّبِّ تعالى ومنهىٌّ.
وعند هؤلاء: أنَّ أوامره تكليفٌ لما لا يطاقُ، فهي غير مقدورة للعبد، وهو مجبورٌ على ما فعله من نواهيه، فتركها غير مقدور له، فلا هو قادرٌ على فعل ما أمر به، ولا على ترك ما ارتكبه مما نهى عنه، بل هو مجبر في باب النَّواهي، مكلَّفٌ بما لا يُطيقه في باب الأوامر.
وبإزاء هؤلاء القدريَّة، الذين يقولون: إن فعل العبد لا يتوقَّف على مشيئة الله ولا هو مقدورٌ له سبحانه، وأنه يفعله بدون مشيئة الله لفعله، ويتركه بدون مشيئة الله لتركه، فهو الذي جعل نفسه مؤمنًا وكافرًا، وبرًا وفاجرًا، ومطيعًا وعاصيًا، والله لم يجعله كذلك، ولا شاء منه أفعاله، ولا خلقها، ولا يوصف بالقدرة عليها.
وقول هؤلاء شرٌّ من قول أولئك من وجهٍ، وقول أولئك شرٌّ من قول هؤلاء من وجهٍ وكلاهما ناكبٌ عن الحقِّ جائر (2) عن الصِّراط المستقيم (3).


(1) (ق): “عمدًا ومشرعًا”.
(2) (ظ): “حائد”، و (ق): “حائز”.
(3) انظر في مسألة التكليف بما لا يُطاق: “شفاء العليل”: (1/ 320)، و”مجموع الفتاوى”: (8/ 293 – 294)، و”منهاج السنة”: (3/ 104 – 107).
(4/1615)


فائدة
قوله تعالى: {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36)} [الشعراء: 36] هي جمع مدينة، وفيها قولان:
أحدهما: أنها فعيلةٌ واشتقاقها من: مدن، وعلى هذا فتهمزُ؛ لأنها فعائل كعقائل (1) وظرائف وبابه.
والثاني: أنها مفعلةٌ واشتقاقها من: دان يدين، وأصلها: مديونةٌ مفعولةٌ (2) من: دان، أي: مملوكة مذلَّلةٌ لملكها منقادةٌ له، وفُعِل بها ما فعل بمبيوع حتى صار مبيعًا، فعند الخليل أنك ألقيت ضمَّة الياء على الباء، فسكنت الياء، التي هي عين الفعل، وبعدها واو مفعول، (ق/384 أ) وهي ساكنةٌ، فاجتمع ساكنان فحذفت واو “مفعول” لأنها زائدةٌ، فهي أولى بالحذف من العين.
قال أبو الحسن الأخفش: المحذوف عين الفعل، والباقية هي واو “مفعول”، وإنما صارت ياءً؛ لأنهم لما ألقوا ضمَّة الياء على الباء انضمَّت الباء وبعدها ياءٌ ساكنة، فأبدلت الضَّمَّة كسرةً للياء التي بعدها، ثم حذفت الياء لالتقائها ساكنةً مع الواو واو “مفعول”، بعد أن ألزمت (3) الفاء الكسرة التي حدثت لأجل الياء، فصادفت واو “مفعول” ساكنةً فقلبتها ياء.
ورجِّح قول الخليل بأنهم قالوا: “ماء مشيبٌ وأرضٌ مميتٌ عليها -أي مماتٌ عليها- وغارٌ منيلٌ -وهو الذي يُنال ما فيه من النَّوال-“.


(1) (ق): “كفعائل”.
(2) (ع وظ): “مفعول”.
(3) (ظ): “لزمت”.
(4/1616)


وأصل هذه الكلمات: “مشيوبٌ ومميوتٌ ومنيولٌ”، فحذفوا واو “مفعول” وبقُّوا عين الفعل، ولا يجوز أن تكون المحذوفة اللام، وواو “مفعول” هي الباقية المنقلبة ياءً؛ لأنَّ واو “مفعول” إنما تقلب ياءً إذا اعتلَّت لام الفعل؛ كـ “مرمىٍّ ومقضيٍّ مقضيٍّ عليه”، وإلاَّ فإذا كانت لام الفعل صحيحةً بقيت واو “مفعول” على حالها؛ كـ”مضروب ومقتول”.
ورجِّح قول الأخفش بأنَّ واو “مفعول” جاءت لمعنى، فحذفها مخلٌ بما جاءت لأجله، ألا ترى أنهم يقولون: “مررت بقاضٍ” فيحذفون الياء الأصليَّة ويبقون التنوين؛ لأنه جاء لمعنىً.
ورجِّح أيضًا بأن العين قد أعلَّت في: “قال وباع، وقيل وبيع، ومبيع ومقولٍ” فلما اعتلَّت بالإسكان والقلب اعتلَّت بالحذف، وواو “مفعول” لم ينقلب من شيء ولم يعتلَّ في الفعل، فكان إبقاؤها وحذف المعتلِّ أوجب، وأيضًا فإن العين في “مقول ومبيع” حذفت في قولهم: “قل وبع” فلما حذفت هاهنا كانت أولى بالحذف في “مقول ومبيع”.
ولمن نصر قول الخليل أن يقول: الساكنان إذا التقيا في كلمةٍ واحدةٍ حُرِّك الثاني منهما، فكذلك إذا حذف أحد الساكنين من كلمةٍ يحذفُ الآخر منهما.
ولمن نصر قول (1) الأخفش أن يقول: هذا الدليل نقلبه عليكم، فنقول: إذا التقى الساكنان في كلمةٍ واحدةٍ حذف أولهما كـ: “خف وقل وبع” وقياس الحذف على الحذف أقرب من قياس الحذف على


(1) من قوله: “الخليل أن … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(4/1617)


الحرَكَة، وأيضًا فكما اعتلَّت العين بالقلب مع ألف فاعل كـ: “قائم (ظ/265 أ) وقائل” اعتلَّت بالحذف مع واو “مفعولٍ”.
قالت الخليليَّة: الميم في أول “مفعول” دالَّة على أنه اسم مفعول، فتبقى الواو زائدةً محضةً، فتكون أولى بالحذف من الحرف الأصلي.
قالت الأخفشيَّة: الميم لا تستقلُّ (ق/384 ب) بالدلالة على المفعوليَّة، فإن “مبيعًا” يشبه “مسيرًا أو مقيلًا” من المصادر، ولا يتميَّزان إلا بواو “مفعول” فلا سبيل إلى حذفها، فصار في المدينة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها فعليةٌ من: مدن.
والثاني: مفعولةٌ (1) وعينها محذوفةٌ.
والثالث: مفعلةٌ وواو المفعول محذوفةٌ، فإن كانت المدائن فعائل تعيَّن همزها كصحائف، لأن المدَّة وقعت بعد ألف الجمع، وإن كانت مفعلةٌ كمعيشة، فلا تهمز؛ لأنها ليست بمدَّةٍ.
فإن قلت: فما تقول في قراءة من قرأ {معائش} بالهمز (2)؟ وهي جمع معيشةٍ، وياؤها ليست زائدةً، بل أصلها الحركة إما مفعلةٌ


(1) (ق وع): “مقولة”.
(2) قال الإمام ابن مِهْران في “المبسوط في القراءات العشر”: (ص/179): “قرأ القراءُ كلُّهم (معايش) بغير همز، ولم يختلفوا فيه، إلا ما رواه أُسَيد عن الأعرج، وخارجة عن نافع أنهما همزاه، قيل: فأما نافع فهو غلط عليه؛ لأن الرواة عنه الثقات كلهم على خلاف ذلك، وقال أكثر القرَّاء وأهلُ النحو والعربية: إن الهمزة فيه لحن، وقال بعضهم: ليس بلحن وله وجه وإن كان بعيدًا” أهـ. وانظر: “تفسير الطبري”: (5/ 435)، والقرطبي: (7/ 167)، و”اللسان”: (6/ 321).
(4/1618)


وإما مِفعلةٌ، وكذلك ما تقول في همزهم “مصائب”، وهي جمع مصيبةٍ؟.
قلت: أما: معائش، فكدَّرت عيش أهل التصريف، حتى قال فيها أبو عثمان في “تصريفه” (1): وأما قراءة أهل المدينة {معائش} بالهمز فهي خطأٌ فلا يلتفت إليها، فإنما أخذت عن نافع بن أبى نعيم، ولم يكن يدري ما العربية، وله أحرف يقرؤها لحنًا نحوًا من هذا. وأما “مصائب” فلقد أصيبوا منها بمصائب.
قال المازنيُّ (2): وقد قالت العرب: “مصائب” فهمزوا، وهو من الغلط قالوا: حلأْت (3) السَّويق، وكأنهم توهَّموا أن “مصيبة” فعيلةٌ، فهمزوها حين جمعوها كما همزوا: “شقائق”، وإنما “مصيبة” مفعلةٌ من: أصاب يصيب، فأصلها: مصوبةٌ، فألقوا حركة الواو على الصَّاد، فانكسرت الصاد، وبعدها واوٌ ساكنة فأبدلت ياءً وأكثر العرب يقول: مصاوب، فيجيء بها على القياس وما ينبغي.
فيقال: ومن المصائب تخطئة العرب وأهل المدينة، ونحن إنما نجهد أنفسنا في استخراج المقاييس لنوافقهم فيما تكلَّموا به، فإذا


(1) أبو عثمان هو: المازني، قاله في “التصريف”: (1/ 307 – مع شرحه المصنف) لابن جني. قال أبو الثناء الآلوسي في “روح المعاني”: (8/ 85): “وبالغ أبو عثمان فقال: إن نافعًا لم يكن يدري ما العربية، وتُعُقِّب ذلك بأن هذه القراءة وإن كانت شاذة غير متواترة، مأخوذة من الفصحاء الثقات، والعربُ قد تشبِّه الأصلي بالزائد لكونه على صورته، وقد سمع هذا عنهم فيما ذكر وفي مصائب ومنائر أيضًا. وقول سيبويه: إنها غلط، يمكن أن يراد به أنها خارجة عن الجادة والقياس، وكثيرًا ما يَستعمل الغلطَ في كتابه بهذا المعنى” اهـ.
(2) في “تصريفه”: (1/ 307).
(3) تحرفت في النسخ، وبياض في (ظ).
(4/1619)


كان ما ثَبَتَ عنهم خطأ ولحنًا، وخالفناهم فيه، لم نكن تابعين لهم ولا قاصدين لنَهج كلامهم، ولا ريب أن المهموز في هذا الجمع هو ما كانت حروف العلَّة في واحدة مدَّةً زائدةً كـ “صحيفةٍ ورسالةٍ وعجوز”، فإذا همزوا ما كان حرف العلة فيه أصليًّا في بعض المواضع، تشبيهًا له بما هو فيه مدَّة (1) زائدة، فأيُّ خطأٍ يلزمهم؟ وأي غلطٍ يسجَّل به عليهم؟!.
وطالما يخرجون الشيء من كلامهم عن أصله؛ لغرض ما من تشبيهٍ أو تخفيفٍ أو تنبيهٍ، على أنه كان ينبغي أن يكون كذا، ولأغراض عديدةٍ، أفتراهم لما صحَّحوا: “استحوذ”، فصحَّحوا ما حقه الإعلال كانوا مخطئين؟! وكذلك لما صحَّحوا: “استنوق”، فهلاَّ قلتم: إنَّ القوم لما ألقوا الهمزة بعد ألف مفاعل فيها (2) حرف العلَّة مدَّةٌ (ق/385 أ) في واحده لم يستنكروها في: “معايش ومصايب”؛ لأنَّ الموضع موضع همز، فليست الهمزة بشديدة الغربة في هذا الموضع.
ويا لَلعجب كم في اللغة من قلبٍ وإبدالٍ وحذفٍ غير مقيس، بل هو مسموعٌ سماعًا مجردًا ولو تُكُلِّم بغيره لكان غلطًا وخطأً، وإن كان مقتضى القياس!.
وقد ذكر (3) ابن جنِّي (4) من الأمثلة التي زعم أنها وقعت غلطًا في


(1) هذه وما قبلها فى (ظ): “بمدة”.
(2) (ق): “مفاعيل ميمًا”.
(3) (ق): “كرر”، وغير بينة في (ظ).
(4) في “المصنف”: (1/ 309 – 311)، إلا أنه قال لما ذكر بعض ما تهمزه العرب مما لا يُهمز: “وأنا أري ما ورد عنهم من همز الألف الساكنة في “بأز وساق وتأبل” ونحو ذلك، إنما هو عن تَطرُّق وصَنعة، وليس اعتباطًا هكذا من غير مسكة … ” اهـ “الخصائص”: (3/ 147).
(4/1620)


كلامهم، ثم قال: “وإنما يجوز مثل هذا الغلط عليهم لما يستهويهم من الشَّبه؛ لأنهم ليست لهم قياساتٌ يعتصمون بها، وإنما يخلدون إلى طبائعهم”. وأين هذا من كلام الإمام (1) المقدَّم سيبويه حيث يقول (2): “وليس شيءٌ مما يضطرون إليه إلاّ وهم يحاولون به وجهًا”. وهذا من النُّحاة شبيهٌ من ردِّ الجهميَّة نصوص الصِّفات لمخالفتِها أقيستهم، ومن ردِّ أحاديث الأحكام عند مخالفتها الرأي، والمقصود بالأقيسة والاستنباطات فهم المنقول لا تخطئته، والله الموفق.
فائدة
“استطاع” استفعل، من طاع يطوع، ولم ينطق به، وإنما نطقوا بالرُّباعيِّ منه، فيقال (3): أطاعه وقالوا: طوَّع له كذا، أي: حسَّنهُ له وزيَّنه، وكأنه جعل نفسه مُطيعةً لداعيه، فالهمزة من “أطاعه” (4) همزة التَّعدية والنقل من اللُّزوم إلى التَّعدِّي، والتَّضعيف في “طوَّع” لكونه في معنى: حسَّن وزيَّن.
وأما السين والتاء في “استطاع”، فإمَّا أن تكون للوجودِ، أي: وجدته طوعًا لي، كاستجدته، أي: وجدته جيِّدًا، واستصوبت كلامَهُ، أي: وجدته صوابًا، واستعظمته، أي: وجدته عظيمًا.
وأما أن تكون للطَّلب، أي: طلبت أن يُطِيعني إذا أَمَرتُه (5) ولا يستعصي عليَّ بل يكون طوع قُدرتي، وقد يأتي هذا البناء بمعنى:


(1) “الإمام” ليست في (ع وظ)، و “كلام” ليست في (ق).
(2) “الكتاب”: (1/ 32).
(3) (ق): “فقالوا”.
(4) (ق وظ): “في الطاعة”.
(5) (ع): “إذا باشرته”، (ق): “إذ أنا أمرته”.
(4/1621)


فعل كـ: “قرَّ واستقرَّ، ومرَّ واستمرَّ”، وقد يأتي بمعنى الصَّيرورة (ظ/265 ب) كـ: “استنوق البعير، واستحجر الطين”، وبابُهما الفعل اللازم، وقد يأتي موافق تفعَّل، كـ: “تعظم واستعظَم”.
وأما “استعتبت” فهو للطَّلب، أي: طلب الإعتاب، فهو لطلب مصدر الرُّباعيِّ الذي هو: “أعتب”، أي أزال عتبة، لا لطلب الثلاثيِّ الذي هو العتب، فقوله تعالى: {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)} [فصلت: 24]، أي إن يطلبوا إعتابنا وإزالة عتبنا عليهم. ويقال: “عتب عليه” إذا أعرض عنه وغضب عليه، ثم يقال: استعتب السَّيِّد عبده، أي طلب منه أن يزيل عتب نفسه عنه بعوده إلى رضاه، فأعتبته عبده، أي: أزال عتبه بطاعته. ويقال: استعتب العبد سيِّده، أي طلب منه أن يزيل غضبه وعتبه عنه، فأتبعه سيِّده، أي: فأزال (ق/385 ب) عتب نفسه عنه، وعلى هذا فقوله تعالى: {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} أي: وإن يطلبوا إعتابنا وهو إزالة عتبنا عنهم فما هم من المزال عتبهم؛ لأنَّ الآخرة لا تقال فيها عثراتهم ولا يقبل فيها توبتهم.
وقوله: {لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)} [النحل: 84] أي: لا يطلب منهم إعتابنا، وإعتابه تعالى: إزالة عتبة بالتَّوبة والعمل الصَّالح، فلا يطلب منهم يوم القيامة أن يعتبوا ربَّهم فيزيلوا عتبَهُ بطاعته واتِّباع رسله.
وكذلك قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)} [الروم: 57]، وقول النبي – صلى الله عليه وسلم – في دعاء الطائف: “لك العتبي” (1) هو اسمٌ من الإعتاب لا من العتب، أي أنت المطلوب إعتابه، ولك


(1) تقدم 2/ 709.
(4/1622)


عَلَيَّ أن أعتبك وأرضيك بطاعتك، فأفعل ما ترضى به عنِّي، وما يزول به عتبك عليَّ، فالعتب منه على عبده، والعتبي والإعتاب له من عبده (1)، فهاهنا أربعة أمور:
الأول: العتب، وهو من الله تعالى، فإنَّ العبد لا يعتب على ربِّه، فإنه المحسن العادل، فلا يتصوَّر أن يعتب عليه عبده إلاَّ والعبد ظالمٌ، ومن ظن من المفسِّرين خلاف ذلك فقد غلط أقبح (2) غلطٍ.
الثاني: الإعتاب، وهو من الله ومن العبد باعتبارين، فإعتابُ الله عبده إزالة عتب نفسه عن عبده، وإعتاب العبد ربَّه إزالة عتب الله عليه، والعبد لا قدرة له على ذلك إلاَّ بتعاطي الأسباب التي يزول بها عتب الله تعالى عليه.
الثالث: الاستعتاب، وهو من الله إيضًا ومن العبد بالاعتبارين، فاللهُ تعالى يستعتب عباده، أي: يطلب منهم أن يعتبوه، ويزيلوا عتبة عليهم، ومنه قول ابن مسعود -وقد وقعت الزَّلزلة بالكوفة-: “إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه” (3)، والعبد يستعتب ربَّه، أي: يطلب منه إزالة عتبه.
الرابع: العتبي، وهي اسم الإعتاب.
فاشدد يديك بهذا الفصل الذي يعصمك من تخبيط كثيرٍ من المفسدين لهذه المواضع.


(1) (ق وظ): “عنده”.
(2) (ق): “أخس”.
(3) ذكره ابن جرير في “تفسيره”: (8/ 100) بصيغة التمريض، وأخرج ابن أبي شيبة: (3/ 221) عن شهر بن حوشب مرسلًا أن المدينة زلزلت في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: “إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه”.
(4/1623)


ومنه قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “لا يتمنَّينَّ أحدكم الموت لضرٍّ نزل له، فأمَّا محسنٌ فلعلَّه أن يزداد، وإما مسيءٌ فلعلَّه أن يستَعتِب” (1) أي: يطلب من ربِّه إعتابه إيِّاه بتوفيقه للتَّوبة وقبولها منه، فيزول عتبهُ عليه.
والاستعتاب نظير الاسترضاء، وهو طلب الرِّضى، وفي الأثر: إنَّ العبد ليسترضى ربَّه (ق/386 أ) فيرضى عنه، وإن الله ليسترضي فيرضى.
لكنِّ الاسترضاء فوق الاستعتاب، فإنه طلب رضوان الله، والاستعتاب طلب إزالة غضبه وعتبه، وهما متلازمان.
رجعنا إلى (استطاع): وفيها خمس (2) لغات، هذه إحداها.
الثانية: اسطاع، بحذف تاء الافتعال تخفيفًا ومنه قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف: 97].
الثالثة، اصطاع، بالصَّاد، وفيه أمران؛ أحدهما: حذفُ التاء،
والثاني: إبدال السين صادًا لأجل مجاورتها الطاء.
الرابعة (3) اسطَّاع، بإدغام التاء (4) في الطَّاء، وهو إدغامٌ على خلاف القياس؛ لأنَّ فيه التقاء السَّاكنين على غير حدِّهما.
الخامسة: أسطاع، بفتح الهمزة وقطعها وهي أشكَلُها، فقال سيبويه (5): السين عوضٌ عن ذهاب حركة العين؛ لأن أصله “أطوع”


(1) أخرجه البخاري رقم (5673) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(2) (ق وظ): “أربع” وهو خطأ.
(3) (ق وظ): “الثالثة” وما بعدها “الرابعة” وهو وهم.
(4) (ق وظ): “السين”!.
(5) انظر: “سر صناعة الإعراب” (1/ 200 – 201)، و”اللسان”: (8/ 242 – 243)، وفيهما تعقُّب المبرّد.
(4/1624)


فنقِلَت فتحه الواو إلى الطاء، ثم أُعلَّ بقلب واوه ألفا لتحرُّكها أصلًا وانتفاح ما قبلها لفظًا، فزيدت السين عوضًا من ذهاب حركة العين.
وتعقب المبرِّد هذا على سيبويه، وقال: إنما يعوَّض من الشيء إذا فقد وذهب، فأما إذا كان موجودًا في اللفظ فلا، وحركة العين منقولةٌ إلى الفاء فلم تعدم.
وأجيب عن هذا: بأنَّ العين لما سكنت وهنت وتهيَّأت للحذف عند سكون اللام، نحو: لم يطع وأطعت، فلو بقيت حركتها فيها لما تطرَّق إليها الحذف، بل كنت تقول: لم يطوع وأطوعت، فزيدت السين ليكون عوضًا من هذا الإعلال المتضمِّن لثلاثة أمور: نقل حركة المتحرِّك، ووهنه بالسكون، وتعريضه للحذف عند سكون ما بعده، فجبروا هذا الإعلال هذا بزيادة السين في أوله.
ونظير هذا سواء قولهم: إهراق، فإنَّ أصله “أراق” فقلبت عينُه ألفًا بعد تسكينها، فصارت عرضةً للحذف، كقولك: لم يُرق وأرقت، فأُعلَّ بالنَّقل والقلب والحذف، فعوِّضت الهاء في أوله جبرًا لإعلالِه، وأما “أراق” فعلى الأصل، وأما “هراق” (ظ/266 أ) فعلى إبدال الهمزة هاءً لمجاورتها في المخرج.
ونظيره -أيضا- قولهم: اهراح في أراح يريح، هذا قول البصريِّين.
وقال الفرَّاء: أصله “استطاع”، ثم حذفوا التاء، فعوِّضوا منها فتحَ الهمزة وقطعها، وهذا الذي قاله أقلُّ عملًا وأبعد من التَّكلُّف.
وردَّ عليه بأنهم قالوا: “اسطاع” بكسر الهمزة ووصلِها مع حذف التاء، فلو كان حذف (ق/386 ب) التاء يوجب الفتح والقطع لما عدلوا عنه، وهذا ظلم للفرَّاء، فإنه لم يدَّعِ لزوم ذلك، وإنما ذكر ان هذا
(4/1625)


الحذف مسوِّغٌ للفتح والقطع. ويقال: ولو كان ما ذكرتم من الإعلالِ مسوِّغٌ لزيادة السين والهاء لاطَّراد في: أقام وأنام وأجادَ (1) وأقال وما لا يحصى، وليس نقضكم عليه بأقلَّ من نقوضه، فعلم أن هذه مسوِّغاتٌ لا موجباتٌ.
فائدة
يقال مجنونٌ ومغبونٌ ومهروعٌ مخفوعٌ ومعتوهٌ وممتوهٌ ومُمتَّهٌ وممسوسٌ، وبه لمم (2)، ومصابٌ في عقله، فهذه عشرة ألفاظٍ. وأما مخروعٌ فصحَّفها العامَّة من مهروع.


(1) (ق): “وأفاد”.
(2) (ق): “بلم”، (ع): “بلص”.
(4/1626)


فائدة
دلالة الاقتران: تظهر قوَّتها في موطنٍ، وضعفها في موطنٍ، وتساوى الأمرين في موطن، فإذا جمع المقترنين لفظٌ اشتركا في إطلاقه وافتراقا في تفصيله قويت الدلالة، كقوله – صلى الله عليه وسلم -: “الفطرة خمسٌ” (1)، وفي مسلم: “عشرٌ من الفطرة” (2)، ثم فصَّلها، فإذا جعلت الفطرة بمعنى السُّنَّة، والسُّنَّة هي المقابلة للواجب ضعف الاستدلال بالحديث على وجوب الختان؛ لكن تلك المقدمتان ممنوعتان فليست الفطرة بمرادفة للسُّنَّة، ولا السُّنَّة في لفظ النبي – صلى الله عليه وسلم – هي المقابلة للواجب، بل ذلك اصطلاحٌ وضعيٌّ لا يُحمل عليه كلام الشارع، ومن ذلك قوله – صلى الله عليه وسلم -: “حقٌّ على كلِّ مسلمٍ أن يغتسل يوم الجمعة، ويستاك ويمسَّ من طيب بيته” (3)، فقد اشترك الثلاثة في إطلاق لفظ الحقِّ عليه، فإذا كان حقًّا مستحبًّا في اثنين منها كان في الثالث مستحبًّا، وأبين من هذا قوله: “وبالغ في الاستنشاق” (4)، فإنَّ اللفظ تضمَّن الاستنشاق والمبالغة فيه (5)، فإذا كان أحدها مستحبًّا فالآخر كذلك (6).


(1) أخرجه البخاري رقم (5889)، ومسلم رقم (257) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(2) رقم (261) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
(3) أخرجه البخاري رقم (879)، ومسلم رقم (846) من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه-.
(4) أخرجه أحمد: (26/ 206 رقم 16380)، وأبو داود رقم (142)، والنسائي: (1/ 66)، وابن ماجه رقم (448)، وابن حبان “الإحسان”: (3/ 368)، والحاكم: (1/ 148) من حديث لقيط بن صبرة -رضي الله عنه-. وسنده صحيح.
(5) من (ق).
(6) (ق): “فكذلك الآخر”.
(4/1627)


ولقائل أن يقول: اشتراك المستحبِّ والمفروض في لفظ واحدٍ (1) عامٍّ لا يقتضي تساويهما لا لغةً ولا عرفًا، فإنهما إذا اشتركا في شيءٍ لم يمتنع افتراقهما في شيءٍ، فإن المختلفات تشترك في لازم واحدٍ، فيشتركان في أمر عامٍّ ويفترقان بخواصِّهما، فالاقتران كمًا لا يُثبتُ لأحدهما خاصيَّةً، لا ينفيها عنه، فتأمَّله، وإنما يثبت لهما الاشتراكُ في أمرٍ عامٍّ فقط.
وأما الموضع الذي يظهر ضعف دلالة الاقتران فيه: فعند تعدُّد الجمل، واستقلال كلِّ واحدةٍ منهما بنفسها، كقوله – صلى الله عليه وسلم -: “لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدَّائم، ولا يغتسل فيه من جنابةٍ” (2) وقوله: “لا يقتل مؤمنٌ بكافرٍ، ولا ذو عهدٍ في عهده” (3)، فالتَّعرُّض لدلالة الاقتران هاهنا في غاية الضَّعف والفساد، فإنَّ كلَّ جملةٍ مفيدةٌ لمعناها وحكمها وسببها وغايتها منفردةً به عن الجملة الأخرى، واشتراكهما (ق/387 أ) في مجرَّد العطف لا يوجب اشتراكهما فيما وراءه، وإنما يشترك حرف العطف في المعنى إذا عطف (4) مفردًا على مفردٍ، فإنه يشترك بينهما في العامل، كـ “قام زيدٌ وعمرٌو” وأما نحو: “اقتل زيدًا وأكرم بكرًا” فلا اشتراك في معنى.
وأبعد من ذلك: ظنُّ من ظنَّ أنَّ تقييد الجملة السَّابقة بظرفٍ أو


(1) من (ق).
(2) أخرجه أحمد: (15/ 365 رقم 9596)، وأبو داود رقم (70)، وابن حبان “الإحسان”: (4/ 68)، والبيهقي: (1/ 238)، من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – وهو حديث صحيح.
(3) تقدم (4/ 1325).
(4) من قوله: “لا يوجب … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(4/1628)


حالٍ أو مجرورٍ يستلزم تقييد الثانية، وهذا دعوى مجرَّدةٌ بل فاسدةٌ قطعًا، ومن تأمَّل تراكيب الكلام العربيِّ جزم ببطلانها.
وأما موطن التَّساوى؛ فحيث كان العطف ظاهرًا في التَّسوية، وقصد المتكلِّم ظاهرًا في الفرق، فيتعارض ظاهر اللفظ وظاهر القصد، فإن غلب ظهور أحدهما اعتبر، وإلاَّ طلب الترجيح، والله أعلم.
فائدة
“رضي” لامُه واوٌ؛ لأنه من الرِّضوان، وانقلبت واوه ياءً لانكسار ما قبلها، وقالوا في الماضي المسند إلى اثنين: “رضيا” بالياء، وجاءوا إلى المضارع فقالوا: “يرضيان” بالياء، والقياس: يرضوان، إذ لا موجب لقلب الواو ياءً، ولكن حملوا “يرضيان” على “رضيا”، كما حملوا “أعطيا” على “يعطيان”، ولم يقولوا: “أعطوا”، وذلك ليجري الباب على سننٍ واحدٍ، ولا يختلف عليهم.
فائدة
إنما امتنعوا من النُّطق بأفعال: (ويلَه ووَيحَه ووَيسَه ووَيبَه)؛ لأنه لفيفٌ مقرونٌ، فلو وضعوا له فعلًا لوقعت الواو بعد حرف المضارَعة، وذلك يوجب إعلالها بالحذف كـ (يعد ويزن ويثق) (ظ/266 ب) ووقعت العين، وهي حرف علَّة أيضًا ثالثةً، وذلك يوجب نقل حركتها إلى الساكن قبلها، وإعلالها بالإسكان (2) كـ (يَبيعُ ويَحيدُ) فيتوالى عليهم إعلالاتٌ (3) في كلمةٍ واحدةٍ، وهم لا يسمحون بذلك، فرفضوا الفعل رأسًا.


(1) في الأصول: “الماضي” وهو خطأ.
(2) (ق): “بالساكن”.
(3) (ق وظ): “إعلالان”.
(4/1629)


فائدة
قوله تعالى لإبليس: {اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)} [الإسراء: 63] أعاد الضمير بلفظ الخطاب، وإن كان {فَمَنْ تَبِعَكَ} يقتضي الغيبة؛ لأنه اجتمع مخاطبٌ وغائبٌ، فغلِّب المخاطب، وجعل الغائب تبعًا له، كما كان تبعًا له في المعصية والعقوبة، فحسن أن يجعل تبعًا له في اللفظ، وهذا من حسن (1) ارتباط اللفظ بالمعنى واتِّصاله به.
وانتصب {جَزَاءً مَوْفُورًا (63)} عند ابن مالك على المصدر، وعامله عنده المصدر الأوِّل.
قال (2): والمصدرُ يعمل في المصدر، تقول: “عجبت من قيامك قيامًا”، ويعمل فيه الفعل نحو: “قام قيامًا”، واسم الفاعل: كقوله (3):
فَأَصْبَحتُ لا أقرَبُ الغَانِيَا … تِ مُزدَجِرًا عَنْ هَوَاها ازدِجَارا
واسم المفعول نحو: “هو مطلوبٌ طلبًا”.
وبَعْدُ؛ ففي نصب (ق/387 ب) “جزاء” قولانِ آخرانِ:
أحدهما: أنه منصوبٌ بما في معنى: {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ} [الإسراء: 63] من الفعل، فإنه متضمِّنٌ لـ “تجازون” وهو الناصب “جزاءً”.
والثاني: أنه حالٌ، وساغ وقوع المصدر حالًا هاهنا؛ لأنه موصوفٌ.


(1) (ق): “وهو من أحسن … “.
(2) يعني ابن مالك، ولم أعثر على كلامه في “التسهيل” ولا في “شرح الكافية”.
(3) هو الأعشى “ديوانه”: (ص/ 80).
(4/1630)


ذكر الزمخشريُّ (1) هذين القولين، وهذا كما تقول: “خُذْ عَطَاءَك عطاءً موفورًا”.
والذي يظهر في الآية: أن “جزاءً” ليس بمصدر، وإنما هو اسمٌ للحظِّ والنَّصيب، فليس مصدر “جزيته جزاءً”، بل هو كالعطاء والنَّصيب، ولهذا وصفه بأنه موفورا أي: تامٌ لا نقص فيه، وعلى هذا فنصبه على الاختصاص، وهو يشبه نصب الصِّفات المقطوعة، وهذا كما قال الزمخشريُّ وغيره في قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)} [النساء: 7] قال: نصبه على الاختصاص أي: أعني نصيبًا مفروضًا، ويجوز أن ينتصب انتصاب المصادر المؤكَّدة، كقوله تعالى: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} (2) [النساء: 11].
فائدة
المسك: يذكَّر (3) بدليل قولهم: “أذفر” وقد ظنَّ بعضُهم تأنيثه محتجًّا بقوله (4):
مرَّت بنا ما بَيْنَ أتْرَابِها … والمِسْكُ مِن أَرْدَانِهَا نَافِحَهْ


(1) في “الكشاف”: (2/ 366 – 367).
(2) ذكره في “الكشَّاف”: (1/ 249).
(3) (ظ): “مذكر”.
(4) البيت في “شرح الأشموني”: (2/ 324)، و”الهمع”: (2/ 51)، وصدره هناك:

  • مَرَّت بنا في نسوةٍ خَوْلَةٌ *
    وذكر في “اللسان”: (10/ 486) أنه مذكر وأنَّثه بعضُهم على أنه جمع واحدته مسكة … وذكر بيتًا لجران العود فيه تأنيث المسك، إلا أنه خرجه على أنه ذهب به إلى “ريح المسك”.
    (4/1631)

ولا يثبُتُ التأنيثُ بمثل ذلك؛ لأنه خبرٌ عن مضافٍ محذوف، أي: رائحةُ المِسْكِ، وهذا يجوزُ عند أَمْنِ اللَّبْسِ.

فائدة (1)
من كُلِّيَّاتِ النَّحْو: كلُّ صفْةِ نكرةٍ قُدِّمت عليها انقلبتْ حالًا، لاستحالَةِ كونِها صفةً تابعةً مع تَقَدُّمها فجعلتْ حالًا، ففارقها لفظُ الصِّفَةِ لا معناها، فإنَّ الحالَ صفةٌ في المعنى.
وكلُّ صِفَةِ علمٍ قُدِّمت عليه انقلبَ الموصوفُ عطفَ بيانٍ نحو: “مَرَرْتُ بالكريمِ زَيْدٍ” وكذلك غيرُ العَلَمِ كقولك: “مَرَرْتُ بالكريمِ أخِيكَ”؛ لأن الثانيَ تابعٌ للأول (2) مبيِّنٌ له، وكلُ تابعٍ صلح للبَدَلِيَّةِ وعطف البيان نظرتَ فيه، فإن تضمَّنَ زيادةَ بيان فجعله عطفًا أوْلى من جعلِهِ بَدَلًا، وإن لم يتضمَّنْ ذلك فجعله بَدَلًا أولى، مثالُ الأوَّلِ: قولُه تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95]، وقوله: {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} [النور: 35]، وقوله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32)} [النبأ: 31 – 32].
فائدة
الأفعالُ ثلاثة؛ ماضٍ ومضارعٌ وأمْرٌ:
فالأمرُ: لا يكونُ إلَّا للاستقبال، ولذلك فلا (3) يَقْتَرَنُ به ما يجعلُه لغيره، وأما ورودهُ لمن هو ملتبسٌ بالفعلِ فلا يكونُ المطلوبُ منه إلَّا


(1) (ق وظ): “فوائد”.
(2) (ع): “له”.
(3) (ق): “لم”.
(4/1632)


أمرًا متجدِّدًا، وهو إما الاستدامَةُ، وإما تكميلُ المأمورِ به نحو: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136].
وأما الماضي: فَيُصْرَفُ إلى الاستقبالِ بعد أدواتِ الشَّرْطِ (ق/388 أ) في (1) الوعدِ والإنشاءِ ونحوه، لا في الخبر، كقوله تعالى: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ} [يوسف: 26] {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ} [يوسف: 27]، وكقوله: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116] وكقول النبي -صَلى الله علَيه وسلم- لعائشة: “إنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فاسْتَغْفِرِي اللهَ وَتُوبِي إِليْهِ” (2)، ونظائرُه كثيرةٌ جدًّا.
ولا يخفى فسادُ تأويلِ ذلك: بأن المعنى إن يثْبُتْ في المستقبل وقوعُ ذلك في الماضي! أفترى الحسيح يقولُ لربِّهِ: إد يثبتْ في المستقبلِ أني قلتُهُ في الماضي فقد علمْتَهُ، وهل هذا إلَّا فاسدٌ من الكلامِ ممتنعٌ من العاقلِ إطلاقُهُ، وكذلك قولُ النبيِّ -صَلى الله علَيه وسلم- لعائشةَ إنما أرادَ: إن كان وُجِدَ فيما مضى ذنبٌ فتداركيهِ بالتَّوْبَةِ.
وأما ما يصيرُ به الماضي مستقبلًا فكقولِكَ: “إنْ أقَمْتَ (3) أَكْرَمْتُكَ وإنْ زُرْتَنِي أَحْسَنْتُ إِليْكَ” فهذا ماضي اللَّفظِ مستقبلُ المعنى، وللنُّحاة هاهنا مسلكانِ:
أحدهما: أن التغيير وقَعَ في لفظ الفعل، وكان الموضِعُ للمستقبَلِ، فَغُيِّرَ إلى لفظ الماضي، والأداة هي التي تَصَرَّفَتْ في تغييره، وهذا (ظ/267 أ) اختيارُ أبي العباس المُبَرِّد.


(1) (ق): “وفي”.
(2) قطعة من حديث الإفك الطويل، أخرجه البخاري رقم (2593)، ومسلم رقم (2770).
(3) (ق): “قمت”.
(4/1633)


والثاني: أن التغييرَ إنما هو في المعنى، والأداةُ وَرَدَتْ على فعل ماضٍ، فغيرت معناه إلى الاستقبال، وهذا هو الصَّوابُ؛ لأنَّ الأدواتِ المغَيِّرَةَ للكَلِم إنما تُغَيِّرُ معانيَها دونَ ألفاظِها، كالاستفهام المغيِّرِ لمعنى ما بعدَه من الخبرِ إلى الطلبِ، وكالتَّمَنِّي والتَّرَجِّي والطَّلَب (1) والنفي، ونظائره، ويتصرَّف إلى الحال بقرينةِ الإنشاءِ، كـ: “تَزَوَّجْتُ وبعْتُكَ وطَلّقْتُكِ”، على أحدِ القولين في هذه الصِّيَغِ. ومَنْ جَعَلَها إخبارًا عمَّا قام بالنفسِ فهي ماضِيَةٌ على بابِها (2).
والتحقيقُ: أنها إنشاءٌ للخارجِ إخبارٌ عما في النفس، فجهةُ الخَبَرِ فيها لا تُنافي جهةَ الإنشاءِ.
ويتصرَّفُ إلى الاستقبالِ بقرينةِ الطلبِ والدُّعاءِ، كقولك: “غَفَرَ اللهُ لك، وأدخلَكَ الجَنَّةَ، وأعاذَكَ من النَّار”، ونحو “عَزَمْتُ عليك إلّا فَعَلْتَ”. ويتصرَّف إليه أيضًا بالوعد عند بعضِهم، مستشهدًا بقوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1]، {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69]، و {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] ونحوه، وفيه نظر ظاهر للمتأمل.
ويتصرَّفُ أيضًا إلى الاستقبال بعطفِه على ما علم استقبالُه، كقوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود: 98] {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [النمل: 87].
ويتصرف إلى الاستقبال أيضًا بالنفي بـ “لا” و”إنْ” بعد القَسَم، كقوله تعالى: {وَلَئِنْ (ق/388 ب) زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 41]، وكقول الشاعر:


(1) من (ق).
(2) (ق): “حالها”.
(4/1634)


رِدُوا فواللهِ لا ذُدْنَاكُمُ أبدًا … ما دامَ في مائِنَا وِرْدٌ لِنُزَّالِ (1)
ويحتملُ المضيَّ والاستقبال بعد همزة التَّسوية نحو: “سَوَاءٌ عَلَيَّ أَقُمْتَ أم قَعَدْتَ”، والصواب أن المُرَادَ هنا المصدرُ المدلولُ بالفعل، وهو أعمُّ من الحالِ والاستقبالِ، فلم يجيءْ الاحتمالُ من جهة الهمزة، بل من جهةِ القصدِ إلى المصدرِ.
فإن قلت: فلو اقترن الفعلُ الواقعُ بعدَ “أم” بـ: “لم” فهل يصلحُ الماضي للحالِ والاستقبال أم يتعيَّنُ المضي؟.
قلتُ: ذهب صاحب “التسهيل” (2) إلى تعيّن المضيِّ، واحتجَّ بقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6]، والصوابُ: أنه لا يتعيَّنُ المضيُّ، فإنَّ المعنى: سواءٌ عليهم الإنذارُ وعَدَمُهُ، فلا فَرْقَ بَيْنَ ذلك وبَيْنَ أن يُقَالَ: “سَوَاءٌ عليهِم أأَنْذَرْتَ أم تَرَكْتَ الإنذارَ” (3).
وكذلك لو كان بعدَ “أم” جملةٌ إسميَّةٌ لم يتعيَّنِ المضيُّ في الفعل، كقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193]، وإذا وقع الماضي بعدَ حرف التَّحضيضِ صَلَحَ أيضًا للماضي والمستقبلِ، كقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} (4) [التوبة: 122]، والصوابُ: أن الماضِيَ هاهنا باقٍ على وضعِهِ لم يتغيَّرْ عنه، كقوله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} [هود: 116] ويقول: هلا اتقيتَ الله فيما أتيتَ، والآيةُ


(1) ذكره في “الهمع”: (1/ 9)، (2/ 41).
(2) ليس هذا النقل في “التسهيل” ولا في “شرح الكافية”.
(3) في هامش (ع) حاشية نصُّها: “هذا فيه نظر، فإن ما بعد “لم” ماضي المعنى قطعًا؛ فكيف يصح أن يكون التقدير: “أم تركتَ الإنذار”؟! ” أهـ.
(4) (ع وظ) إلى قوله “طائفة” وتكملتها من (ق).
(4/1635)


إنما نزلت في غزوة تبوك في سياق ذمِّ المتخلفينَ عن رسول الله -صَلى الله علَيه وسلم- فأخبرَ تعالى أن المؤمنينَ لم يكونوا لينفروا كافَّةً، ثم وبَّخهم توبيخًا متضمِّنًا للحضِّ على أن ينفرَ بعضهم ويقعدَ بعضُهم.
وأصح القولين: أنه ينفرُ منهم طائفةٌ في السَّرَايا والبعوثِ، وتقعدُ طائفةٌ تَتَفَقَّهُ في الدين فتنذرُ القاعدةُ الطائفةَ النافِرَةَ إذا رَجَعَتْ إليهم، وتخبرُهم بما نَزَلَ بعدَهم من الحلالِ والحرامِ والأحكامِ؛ لوجوه:
أحدها: أن الآيةَ إنما هي في سياقِ النَّفِيرِ في الجهاد وتوبيخِ القاعدينَ عنه.
الثاني: أن النفيرَ إنما يكونُ في الغزو، ولا يقالُ لمن سافر في طلب العلم: إنه نَفَرَ ولا استنفَرَ، ولا يقالُ للسفر فيه: نفيرٌ.
الثالث: أن الآية تكونُ قد اشتملتْ على بيان حكمِ النَّافرين والقاعدينَ، وعلى بيانِ اشتِراكِهم في الجهادِ والعلمِ، فالنَّافرونَ أهلُ الجهاد، والقاعدونَ أهلُ التَّفَقُّهِ، والدِّينُ إنما يتمُّ بالجهاد والعلم، فإذا اشتغلت طَائفةٌ بالجهادِ (ق/389 أ) وطائفةٌ بالتَّفَقُّهِ في الدِّين، ثم يُعَلِّم أهلُ الفقهِ المجاهدينَ إذا رجعوا إليهم، حصلتِ المصلحةُ بالعلمِ والجهادِ وهذا الأليقُ بالآية، والأكملُ لمعناها، وأما إذا جُعِل النفيرُ فيها نفيرًا لطلبِ العلمِ لم يكنْ فيها تعرُّضٌ للجهادِ، مع إخراجِ النفيرِ عن موضوعه (1).
والذي أوجبَ لهم دعوى أن النفيرَ في طلب العلم: أنهم رَأوا الضميرَ إنما يعودُ علي المذكور القريبِ، فالمُنْذِرونَ هم النَّافِرُونَ وهم المُتَفَقِّهونَ.


(1) (ظ): “موضعه”.
(4/1636)


وجوابُ هذا: أن الضميرَ إنما يرجعُ إلى الأقرب (1) عند سلامتِه من معارِضٍ يقتضي الأبعدَ، وقد بَيَّنَّا أن السياقَ يقتضي أن القاعدَ هو المتفَقِّهُ المنذرُ للنافرِ الراجعِ.
والمقصودُ أن “نفر” في الآية ماضٍ، وإنما يفهمُ منه الاستقبال؛ لأن التحضيضَ يؤذِنُ به، والتحقيقُ في هذا الموضِع: أن لفظة “لولا” و”هلَّا” إن تجرَّدَ للتوبيخ لم يتغيرْ الماضي عن وضعِه، وإن تجرَّدَ للتَّحْضيض تَغَيَّرَ إلى الاستقبال (2). وإن كان توبيخًا مُشْرَبًا معنى التَّحضيض صَلَحَ للأمرينِ، وإن وقع بعدَ “كلما” (ظ/267 ب) جازَ أن يُرَادَ به المُضِيُّ كقوله تعالى: {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} [المؤمنون: 44] وأنْ يُراد به الاستقبال كقولِه: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56].
وقد ظن صاحبُ “التسهيل” (3) أنه إذا وقع صِلَةً للموصول جاز أن يُرَادَ به الاستقبالُ محتجًّا بقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)} [المائدة: 34]، وهذا وهمٌ منه -رحمه اللهُ- والفعلُ ماضٍ لفظًا ومعنىً، والمرادُ: إلا الذين تقدَّمَتْ تَوْبَتُهم القُدْرَةَ عليهم، فخلُّوا سبيلَهم، والاستقبالُ الذي لحظه -رحمه الله- إنما هو لما تضمَّنه الكلامُ من معنى الشرط، ففيه معنى: من تاب قبل أن تقدروا عليهِ فخلُّوا سبيلَه، فلم يجيءْ هذا من قبل الصِّلةِ، ولو تجرَّدَتِ (4) الصِّلَةُ عن معنى الشرط، لم يكن الفعلُ إلَّا ماضيًا وضعًا


(1) (ق): “القريب”.
(2) من قوله “لأن التحضيض. . .”، إلى هنا ساقط من (ظ).
(3) انظر (4/ 1635، حاشية 2).
(4) (ع وظ): “تحركت”.
(4/1637)


ومعنى، كقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173]، ونظائره.
وأما قولُه: “نَضَّرَ اللهُ امْرَءًا سَمِعَ مَقَالَتِي” (1)، فقال صاحب “التسهيل” (2): إن الاستقبال في “سمع” جاء من كونِه وقع صفةً لنكرةٍ عامةٍ، وهذا وهمٌ -أيضًا- فإنَّ ذلك لا يوجِبُ استقبالًا بحالٍ، تقولُ: “كم مالٍ أنفقتَهُ، وكم رجلٍ لقيتَهُ، وكم نعمةٍ كَفَرها أبو جهلٍ، وكم مشهدٍ شهِدَه عليٌّ مع رسول الله -صَلى الله علَيه وسلم-“، وإنما جاء الاستقبالُ من جهةِ ما تضمَّنه الكلامُ من الشرطِ، فهو في قُوَّة: “مَن سَمِعَ مقالتي فوعاها نَضَّرَهُ اللهُ”، فتأَمَّلْه.
وكذلك إذا وقعَ (ق/389 ب) مضافًا إليه حيث صَلَحَ للاستقبال إذا تضمَّنتْ معنى الشرط، كقوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150]، فلم يأتِ الاستقبالُ هاهنا من قِبل “حيثُ” كما ظنَّه، وإنما جاء من قِبَل: ما تضمَّنه الكلامُ من الشرط، ولهذا لو تجرَّدَ من الشرط لم يكنْ إلَّا للمضيِّ، كقولك: “اذهبْ حيثُ ذَهَبَ فلانٌ”. وأما قول الشاعر (3):
وإني لآتيكم بتذكار (4) ما مَضَى … من الأمرِ واستحبابِ ما كانَ في غَدِ فلم تكن “كان” هاهنا مستقبلةَ المعنى لكونِها في صلَةِ الموصول،


(1) أخرجه أحمد: (21/ 60 رقم 13350)، وابن ماجه رقم (236) وغيرهما من حديث أنسٍ -رضي الله عنه- وله شواهد من حديث جماعة من الصحابة، يُصحح الحديث بها.
(2) انظر ما تقدم.
(3) البيت للطرماح “ديوانه”: (ص/572 – الملحق)، وهو في “الخصائص”:
(3/ 331).
(4) في النسخ: “بذكر”!.
(4/1638)


بدليلِ وقوعِها للمضي في قوله: “ما مَضَى من الأمر”، وإنما جاءَ الاستقبالُ من جهة الظرفِ الذي جُعِلَ وقتًا للفعل.
فصل
وإذا نُفِيَ المضارع بـ “لا” فهل يختَصُّ بالاستقبال أو يصلحُ له وللحال؟
مذهبانِ للنُّحَاةِ؛ مذهب الأخفش: صلاحِيَّتُه لهما، ووافقه ابنُ مالك (1)، وزعم أنه لازمٌ لسيبويه، محتجًّا بإجماعهم على صحة. “قامَ القَوْمُ لا يكُونُ زَيْدًا” فهو بمعنى: “إلا زيدًا”.
ومن ذلك قولهم: “أتُحِبُّه أمْ لا تُحِبُّهُ؟ ” و”أتظنُّ ذلكَ أمْ لا تَظُنُّهُ؟ “، لا رَيْبَ أنه بمعنى الحال، وقولهم: “ما لك لا تَقْبَلُ وأراكَ لا تُبَالي”، قال تعالى: {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ} [المائدة: 84] و {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] و {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل: 20] {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22] وزعم الزمخشريُّ (2) أنه يَتَخَلَّصُ بها للاستقبالِ أخذًا من قول سيبويهِ (3): “وإذا قال: “هو يَفْعَلُ” ولم يكن الفعلُ واقعًا، فإنَّ نفيَهُ: “لا يفعل” “، وهذا ليس صريحًا في اختصاصِهِ بالمستقبل، فإن (لا) تنفي الحالَ والاستقبالَ، وهو لم يقلْ: لا تنفي الحالَ، وإنما أراد سيبويه أن يفرِّقَ بينَ نفي الفعل بـ “ما” ونفيه بـ “لا” في أكثر الأمر، فقال: “وإذا قال: هو يفعلُ، أي: هو في حالِ فعلٍ، كان نفيُه ما يفعل، وإذا قال: هو يفعلُ، ولم يكن الفعلُ واقعًا، فإن نفيَهُ


(1) لم أعثر على كلامه.
(2) في “المفصَّل”: (8/ 107 – 108 – مع شرحه لابن يعيش).
(3) في “الكتاب”: (3/ 117).
(4/1639)


لا يفعل”، ومعلوم أنَّ “ما” لا يخلصُ الفعل المنفي بها للحالِ، وسيبويه قد جعلَها في فعل الحال كـ “لا” في فعل الاستقبالِ، فعلم أنه إنما أراد الأكثرَ من استعمال الحرفين.
وتأمَّلْ كيف جاءَ نفيُ المضارعِ وهو مرفوع بـ “ما ولا” وهما لا يُزيلانِ رفعه لتشاكُلِ المنفي للمُثْبَتِ، ويقابل مرفوع بمرفوع، والمشاكلةُ مُهِمة (1) في كلامِهم، حتى يغيِّروا لها بعضى الألفاظ، كقولِهم: أخذه ما قَدُمَ وما حَدُثَ، والغَدَايا والعَشَايا، ونظائره.
وترجح الحالُ بدحْول لام الابتداء (ق/ 390 أ) عليه نحو: “إني لأحبُّكَ”، وأما قوله تعالى حكاية على يعقوب: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} [يوسف: 13]، وذهابهم مستقبلٌ، وهو فاعلُ الحزن، ويمتنعُ أن يكون الفاعل مستقبلًا والفعلُ حالًا.
فزعم صاحبُ “التسهيل” أن هذا دليلٌ على أن اللام لا تخلصُ للحالية، واحتجَّ أيضًا بقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النحل: 124]، ولقائل أن يقول: التخلُّصُ (2) إنما يكونُ باللام المجردة، وأما إذا اقترن بالفعل قرينةٌ تخلِّصه للاستقبال، لم تكن اللام للحال، وهذا كـ: “سَوْفَ” كما في قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]، فلولا هذه القرائنُ لتخلَّصَ للحالِ، وهذا كان مع “لم” كقوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا} [المائدة: 73]، فـ “إنْ” منعتِ اقتضاءَ “لم” للمضي، وأمَّا “الآنَ” و”آنِفًا” و”الساعةَ” فمخلِّصة للحال خلافًا لبعضهم.


(1) تحتمل: “فهمه”.
(2) (ق وظ): “التخليص”.
(4/1640)


واحتجَّ بقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] والأمر إنما يكونُ للمستقبل، وقد عمل في “الآن”.
وأجيبَ (ظ/268 أ) عن ذلك بأنَّ “الآن” هنا هو الزَّمَنُ المُتَّصِلُ أوَّلُه بالحالِ مستمرًّا في الاستقبال، فعبَّر عنه بـ “الآن” اعتبارًا بأوله، كقوله تعالى: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)} [الجن: 9]، والصواب أن “الآنَ” في الآية ظرفٌ للأمر والإباحة لا لفعلِ المأمور به، والمعنى: فالآنَ أَبَحْتُ لكم مباشَرَتَهُنَّ، لا أن المعنى: فالآن مُدَّةُ وقوع المباشرة منكم، وترجح الحاليَّة بنفيه بـ “ما وليس وإن” كقوله: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9]، وكقوله: {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 109]، ومثالُ نفيه: بـ “ليس” قولُ الشاعر (1):
ولستُ وبَيْتِ اللهِ أَرْضَى بِمِثْلِها … ولكنَّ مَنْ يَمْشِي سَيَرْضَى بِما رَكِبْ
وأما قوله (2):
فما مِثْلُه فيهمْ ولا كانَ قَبْلَهُ … وليس يكونُ الدَهْرَ ما دامَ يَذْبُلُ
فإنما جاء للاستقبال من تقسيم النفي إلى ماض وحال ومستقبل.
وقال ابن مالك: لا يخلصُه النفيُ بذلك للاستقبال، واحتجَّ بهذا البيت، وبقوله (3):
والمرءُ سَاعٍ لأَمْرٍ ليسَ يُدْرِكُهُ … والعَيْشُ شُحٌّ وإشْفَاقٌ وَتَأْمِيلُ


(1) ذكره الزمخشري في “المستقصى”: (2/ 380)، ولم ينسبه، وعجزه يروى لجحظة البرمكي في “ديوانه” (ص/37)، وصدره: “ولا عن رضى كان الحمار مطيتي”.
(2) البيت لحسَّان بن ثابت -رضي الله عنه- “ديوانه”: (1/ 433) من قصيدة يمدح بها الزبير -رضي الله عنه-.
(3) البيت لعبدة بن الطبيب، “ديوانه”: (ص/ 75).
(4/1641)


وبقول أبي ذُؤَيْب (1):
أَوْدَى بَنِيَّ وأودعوني حَسْرَةً … عندَ الرُّقَادِ وعَبْرَةً ما تُقْلِعُ
وبقول الأعشى يمدحُ النبيَّ -صَلى الله علَيه وسلم-:
له نافلاتٌ ما يُغِبُّ نَوَالَها … وليس عَطَاءُ اليومِ مانِعَهُ غدًا
وبقوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15].
والتحقيقُ في ذلك: أن هذه الأدواتِ تنفي الفعلَ المبتدئَ من الحال، مستمر النفي في الاستقبال، فلا تنفيه في الحال نفيًا منقطِعًا عن التَّعَرُّضِ للمستقبلِ، ولا تنفيه في المستقبلِ، مع جوازِ التَّلَبُّس به في الحال، فَتَأَمَّلْهُ.
وتتخلّصُ للاستقبال بعشرة أشياء: (حرف تنفيس، (ق/ 390 ب) أو مصاحبة ناصب، أو أداة تَرَجٍّ، أو إشفاق كـ “لعل”، أو مجازاة، أو نوني التوكيد، أو “لو” المصدرية)، كقوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)} [القلم: 9]، ومثال الإشفاق، قول الشاعر (3):
فأمَّا كَيِّسٌ فَنَجَا ولكِنْ … عسى يَغْتَرُّ بي حَمِقٌ لَئِيمُ



(1) انظر “ديوان الهذليين”: (1/ 2)، و”المفضليات”: (ص/421)، والبيت فيه:
أوْدَى بنيَّ وأعْقَبُوني غُصَّةً … بَعْدَ الرُّقادِ وعَبْرةً لا تُقْلِعُ
(2) في الأصول: “النابغة”، وهو خطأ. والبيت للأعشى “ديوانه”: (ص/ 137) والبيت فيه:
له صدقاتٌ ما تُغِبُّ ونائلٌ … وليس عطاءُ اليومِ مانِعَهُ غدا
(3) البيت في “الكتاب”: (3/ 159)، و”الخزانة”: (9/ 328) غير منسوب.
(4/1642)


فائدة
قوله في الحديث الصحيح: “إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ” (1) يجوز فيه وجهان:
فتحُهما معًا، وهو الأشهرُ والأفصحُ، وهما مبنيانِ على الفتح، للتركيب المتضمن للحرف (2) كقولهم: “هو جاري بيتَ بيتَ” والمعنى: بيتُهُ إلى بيتي، ومنه قولهم: “همزة بَيْنَ بَيْنَ”، و”فُلانٌ يأتيكَ صَبَاحَ مَسَاءَ ويَوْمَ يَوْمَ”، و”تَرَكوا البلادَ حيْثَ بَيْثَ وحاثَ باثَ”، و”وقعوا في حَيْصَ بَيْصَ”. وأصل هذا كله: “خَمْسَةَ عَشَرَ” وبابه، فإن أصلَهُ قبلَ التركيبِ العطفُ، فرُكِّب وبُني لتضمُّنِه معنى حرف العطف، ولا كذلك: “بَعْلَبَكُّ” وبابُه؛ لأن الاسمين في “خمسة عشر” مقصود دلالتهما قبل التركيب بخلاف “بَعْلَبَكَّ”.
الوجه الثاني: بناء “وراءَ وراءَ” على الضمِّ كالظروف المقطوعة على الإضافَةِ، ورجح هذا بعضُ المتأخرين محتجًّا بما أنشده الجوهري في “صحاحه” (3) بالضم:
إذا أَنا لَمْ أُؤْمَنْ عليْكَ ولم يَكُنْ … لِقَاؤُكَ إلَّا مِنْ وَرَاءُ وراءُ (4)
هكذا أنشده بالضمِّ، وعلى هذا فـ “وراء” الأولى بُنيت كبناء “قبلُ وبعدُ” إذا قُطِعَتا، وفي الثانية أربعة أوجهٍ:


(1) أخرجه مسلم رقم (195) من حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما-.
(2) (ظ): “للحذف”.
(3) (6/ 2523).
(4) وذكره في “الكامل”: (1/ 85) منسوبًا إلى عُتَيّ العُقَيلي.
(4/1643)


أحدها: أن يكونَ بناؤُها كذلك أيضًا على تقديرِ “مِن” فيها أي: “مِنْ وراءُ منْ وَرَاءُ”، حُذِفت “منْ” اكتفاء بالأولى.
الثاني: أن تكون تأكيدًا لفظيًّا للأولى، وتَبِعَتْها في حركةِ البناء لقُوَّتِها، ولأنَّ لها أصلًا في الإعراب وبناؤُها عَارضٌ، فهي كحركةِ المنادى المفرد، كقولك: “يا زيدُ زَيْدٌ”.
الثالث: أن يكونَ بَدَلًا منها.
الرابع: أن يكون عَطْفَ بيان (1)، كقوله (2):
إنِّي وأَسْطَارٍ سُطِرْنَ سَطْرًا … لَقَائِلٌ: يا نَصْرُ نَصْرٌ نَصْرًا
وهذان الوجهانِ عند التحقيقِ لا شيء؛ لأن الشيءَ لا يبدَلُ بنفسِه إلَّا باختلافٍ مَّا في تعريف وتنكير، أو إظهارٍ وإضمارٍ، ومع الاتِّحادِ من كلِّ وجهٍ لا يبدلُ أحدُهما من الآخر لخلوِّ هذا الإبدال عن الفائدة، وكذلك عطفُ البيان، فإنَّ الشيءَ لا يَتَبَيَّنُ بنفسِه، ولا يُفْهَم حقيقة عطفِ البيان بينَ لفظينِ متساويينِ من جميعِ الوجوهِ.
وعلى الوجهِ الأوَّلِ وهو فتحهُما ففيهما وجهانِ:
أحدهما: البناءُ كما تقدَّم تقريره.
والثاني: الإعرابُ، وتكون فتحةُ “وراءَ” فتحةَ إعراب، ولكنه غيرُ منصرف، وتقريره: أن “وراءَ” لما لم يقصدْ بها قصدَ مضافٍ بعينه صارت كأنها اسمٌ مستقبل بنفسِهِ، وهو عَلَمٌ جنسيٌّ لمطلَقِ الخلفية


(1) من قوله: “وبناؤها عارض. . .” إلى هنا ساقط عن (ق).
(2) الرَّجَز لرؤية بن العجاج “ديوانه”: (ص/ 147 – الملحق)، وانظر “الكتاب”: (2/ 185)، و”الخصائص”: (1/ 340).
(4/1644)


والكلمةُ مُؤنَّثةٌ، فاجتمعَ فيها التأنيثُ والعَلَمِيَّةُ فمُنِعت الصرف. وعلى هذا (ق/ 391 أ)، ففي “وراءِ” الثانية الأوجهُ الأربعةُ التي تقدَّمَتْ في المضمومةِ، ويدُلُّ (ظ/268 ب) على صحَّة ما ذكرناه ما وقع في بعض روايات الحديثِ: “مِنْ وَرَاءَ مِنْ وَرَاء” (1) بِتَكرارِ “مِنْ” في الموضِعَيْنِ وفتح “وراء”، وهذا ينفي التركيبَ، فيتعيَّنُ به الإعرابُ ومنع الصرف، والدليل على تأنيث الكلمة: أن الجوهريَّ نصَّ في كتابه على تأنيثها فقال: “وهي مؤنثةٌ لأنهم قالوا في تصغيرِها: “وُرَيْئَةٌ” “.
قلت: ولكن ليس تأنيثُها بالهمزة الممدودة، بل تأنيثها معنويٌّ لا علامةَ له؛ لأن (2) ما تأنيثُه بالهمزة إذا صُغِّرَ لم تقعِ الهمزةُ في حشوِهِ كـ: “حمراءَ”، فلما قالوا: “وُرَيْئَةٌ” علم أن همزتها ليستْ للتأنيثِ، بل تأنيثُها كتأنيثِ “قوس” و”أُذن”، ونحوهما. وقد حُكِيَتْ في هاتينِ الكلمتينِ أربعةُ أوجهٍ أُخَرَ:
أحدها: “من وراءِ وراءِ” بكسر الهمزة فيهما، وهي كسرةُ بناء.
الثانية: “من وراءَ وراءُ” بفتح الأولى وضم الثانية، ووجهه إضافة الأولى إلى الثانية، فأُعْرِبت الأولى وبُنِيتِ الثانيةُ على الضَّمِّ، قالوا: فتكون الأولى ظرفًا منصوبًا، والثانية غايةً مقطوعةً.
قلت: وتصحيحُ هذا يستلزمُ أن يكونَ “وراءُ” صفةً لمحذوفٍ ليصِحَّ تقديرُ الظرفية فيه (3)، فيكون تقديرُه: من مكان وراء، وإلا فمع


(1) لم أعثر على من أخرجها؛ لكن قال القرطبي في “تفسيره”: (11/ 199): “ووقع في بعض نسخ مسلم: “من وراء من وراء” بإعادة “من”” أهـ.
(2) (ع): “لكن”.
(3) من (ق).
(4/1645)


مباشرة “من” لا ينتصبُ ظرفًا.
الثالثة: “من وراءَ وراءَ” بالنصب فيهما على الظَّرفيَّةِ، ووجهه ما أشرنا إليه من تقدير موصوف محذوف أي: “منْ مكانٍ وراءَ وراءَ”.
الرابعة: “من وَرَاءِ وراءَ” بكسر الأولى وفتح الثانية، فتجرُّ الأولى بإضافَتِها، وتعرب الثانية إعرابَ غيرِ المنصرف، كقولك: “من أحمرِ (1) عثمانَ”، وموضوع هذه الكلمة كـ: خَلْفَ ضدَّ أمَامَ.
وذهب بعض المفسِّرينَ واللُّغويينَ إلى أنها قد تأتي بمعنى “أمام” فتكونُ مشتركةً بينهما، واحتجَّ بأمرين:
الأول: قوله تعالى: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16)} [إبراهيم: 16] وجهنَّمُ (2) إنما هي (3) أمام الكافر، وكذلك قوله: {وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)} [إبراهيم: 17] وإنما العذابُ الغليظُ أمامَهُ، وفيما يستقبلُهُ.
الثاني: قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف: 79] أي: أمامُهم، بدليل قراءة عبد الله بن عباس: {وكانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ} (4).
وهذا المذهبُ ضعيفٌ، و”وراءُ” لا يكونُ “أمامًا”، كما لا يكون “أمامُ” “وراءً” إلّا بالنسبة إلى شيئين، فيكون أَمَامَ الشيء وراءً لغيرِه”، ووراءَ الشيء أَمَامًا لغيرِه، فهذا الذي يعقلُ فيها، وأما أن يكونَ وراءُ


(1) في المطبوعات: “أحجر”.
(2) “ويسقى من ماء صديد، وجهنم” ساقط من (ع).
(3) (ع): “أي: هو”.
(4) أخرجه البخاري رقم (4725)، ومسلم رقم (2380).
(4/1646)


زيْدٍ بمعنى أمامه فكَلَّا.
وأما ما استدلُّوا به فلا حُجَّة فيه؛ فأما قوله تعالى: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} [إبراهيم: 16]، فالمعنى أنه ملاقٍ جهنَّمَ بعدَ موتِهِ، فهي من بعدِهِ (ق/391 ب) أي: بعدَ مفارقَتِهِ الدنيا، فهي لما كانت بعدَ حياتِهِ كانت وَرَاءَه؛ لأن “وراءَ” كـ “بعدَ”، فكما لا يكونُ “بَعْدُ قَبْلَ” فلا يكون “وَرَاءُ أمامَ”، وأنت لو قلت: جهنَّم بعدَ موتِ الكافرِ، لم يكن فيها معنى “قبلَ” بوجهٍ، فوراءُ هاهنا رمانٌ لا مكانٌ، فتأمَّلْه.
فهي خَلْفَ زمانِ حياته وبعدَهُ، وهي أمامَهُ ومستقبِلَتَهُ، فكونها خَلْفًا وأمامًا باعتبارين، وإنما وقعَ الاشتباهُ لأن بعدية الزمان إنما يكونُ فيما يُسْتَقْبَلُ أمامَكَ، كقولك: “بعدَ غَدٍ” وورائية المكانِ فيما تَخَلَّفَ وراءَ ظهرِكَ، فـ: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} ورائية زمان لا مكان.
وهي إنما تكونُ في المستقبل الذي هو أمامَك، فلما كان معنى “أمام” لازمٌ لم ظنَّ من ظنَّ أنها مشتركَةٌ، ولا اشتراكَ فيها، وكذلك قوله: {وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)}، وكذلك: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ}.
وأما قولُه: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} فإنْ صحَّتْ قراءةُ: {وكانَ أمَامَهُمْ مَلِكٌ}، فلها معنى لا يناقِضُ القراءةَ العامَّةَ، وهو أنَّ المَلِكَ كان خَلْفَ ظهورهِم وكان مرجِعُهم عليه، فهو وراءَهم في ذَهابِهم، وأمَامَهم في مَرْجِعِهم، فالقراءتانِ بالاعتبارينِ، واللهُ أعلمُ.
فائدة
قولهم: “البَدَلُ في نِيَّةِ تَكرارِ العامل” إنْ أريدَ به أن العاملَ فيه غيرُ العامل في متبوعِهِ فلابُدَّ من إعادَتِهِ، إمَّا ظاهرًا وإمَّا مقدَّرًا -كما هو مذهب ابن خَرُوفٍ وغيره- فضعيف جدًّا، وهو مخالفٌ لمذهبِ
(4/1647)


سيبويه، فإن الذي دلَّ عليه كلامُهُ أنَّ العاملَ فيهما هو الأوَّلُ، ويتعيَّنُ هذا، لأنَّ من المبدلات ما يُبدَلُ من مجرورٍ ومجزومٍ ولا يُعَادُ عامِلُهُ (1)، فلو كان العاملُ مقدَّرًا لزم اطِّرادُ إضمارِ الجارِّ والجازمِ في الإبدالِ من المجرورِ والمجزومِ (2) وهو ممتنعٌ.
والذي أوجبَ لهم ما ادَّعَوْهُ أمرانِ:
أحدهما: أنهم رَأَوُا البَدَلَ كثيرًا ما يُعادُ معه العاملُ، كقوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 75] ولم يَرَوْهُ معَادًا مع غيرِه من التَّوابِع إلا نادرًا.
الثاني: أن البدلَ هو المقصودُ بالذكر، والأوَّلُ في نِيَّةِ الإطِّراحِ، فلما كان هو المقصودَ كانت مباشرتُه بالعامل أولى بخلافِ بقيَّةِ التَّوابعِ، فإنَّ المقصودَ في النعتِ وعطفِ البيان والتأكيد هو الأوَّلُ، (ظ/ 269 أ) والثاني توضيحٌ وتبيينٌ.
وأما عطفُ النَّسَقِ وإن قُصِدَ فيه التابعُ والمتبوعُ فالمعطوفُ في ثانٍ تابعٌ لمقصودٍ فاكْتُفي فيه بالعامل (ق/392 أ) الأوَّلِ، ولا حُجَّةَ في شيءٍ من ذلك، أما الأوَّلُ فمجيء البَدَلِ خاليًا من تَكْرار العامل أكثر من اقترانِهِ بإعادةِ العامل، وإنما أعيدت اللامُ في الآيةِ لمزيدِ البيانِ والاختصاص، وأن القولَ من المستكبِرِينَ إنما كان للمؤمنينَ المُستضعَفينَ خاصَّةً.
ونظيرُ إعادة اللام هاهنا إعادتُها في قوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة: 114]، وإذا كانوا يزيدونَ اللام في قولهم: “لا أبا لَكَ” مع شدَّة ارتباطِ المضافِ بالمضاف إليه لقصدِ الاختصاصِ


(1) (ق): “عليه”.
(2) من قوله: “ولا يعاد عامله. . .” إلى هنا ساقط من (ظ).
(4/1648)


والتَّبيين، فالإتيانُ بها في مثل هذه الآية أوْلى وأقوى، ولهذا لم يُعَدْ في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، وفي قوله: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} [العلق: 15 – 16]، وفي قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ} [الفاتحة: 6 – 7]، ولا في قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى: 52 – 53] الآية، ولا في قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} [الفرقان: 68 – 69]، ولا في قوله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32)} [النبأ: 31 – 32] فنظائره أكثر من أن تُذْكَرَ.
وأما استدلالُهم بأن المبدَل منه في نيَّة الطرح، والمقصودُ مباشرةُ العاملِ للمبدَل (1)؛ فغيرُ صحيح. فإنَّ الأوَّلَ مقصودٌ أيضًا ولكن ذُكِرَ توطئةً للمبدلِ منه، ولم يُقْصَدْ طرحُهُ، ويدلُّ عليه قولُ الشاعر (2):
إنَّ السيوفَ غُدُوَّها ورَوَاحَها … تَرَكَتْ هَوَازِنَ مثلَ قَرْنِ الأعْضَبِ
فجعلَ الخبرَ للسيوفِ، وألغى البَدَلَ وجعلَه كالمطَّرَحِ، إذ لو لم يُلْغِهِ لقال: تركا، وإنما يكون الأوَّلُ في نيَّةِ الطَّرْح في نوعينِ من البَدَل، وهما: بَدَلُ البَدَاءِ والغلطِ، والأكثرُ فيهما أن يقعا بعد “بل”، والله أعلمُ.
فائدة
البدلُ والمبدَلُ إما أن يَتَّحِدا في المفهوم، أَوْ لا، فإنِ اتَّحدا فهو المسمَّى بَدَلَ الكُّلِّ من الكل، وأحسنُ من هذه التَّسْمِيَةِ أن يُقَالَ: بدلُ


(1) (ع): “للبدل”.
(2) هو: الأخطل، “ديوانه”: (ص/36).
(4/1649)


العينِ من العينِ، وبعضُهم يقول: بدلُ الموافقِ من الموافقِ؛ لأن هذا البَدَلَ يجري فيما لا يقبلُ التبعيضَ والكلّ، كقوله تعالى: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)} [إبراهيم: 1] وقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى: 52 – 53] ونحوه.
وإن لم يتَّحدا في المفهوم، فإمَّا أن يكونَ الثاني جُزءًا (1) من الأوَّلِ، أَوْ لا، فإن كان جُزْءًا منه فهو بَدَلُ البعضِ من الكلِّ، وإن لم يكنْ جُزْءَهُ فإمَّا أن يَصِحَّ الاستغناءُ بالأوَّلِ عن الثاني أوْ لا، فإن صحَّ (ق/392 ب) فهو بَدَلُ الاشتمال بمُلابِس، إما وصف أو فعل أو ظرف أو مجاور أو مقصود من العين أو يكونُ مظروفًا (2) للأول.
فالأول: كقولك: “أَعْجَبَنِي زَيْدٌ حُسْنُهُ”.
والثاني: كقولك: “أَعْجَبَنِي زَيْدٌ صَلَاتُهُ”.
والثالث: “أَعْجَبَنِي زَيْدٌ دارُهُ”.
والرابع: “أَعْجَبَنِي زَيْدٌ ثِيَابُهُ”.
والخامس: “دُعِيَ زَيْدٌ للطَّعامِ أَكْلِهِ”.
والسادس: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217].
وهل (3) الأوَّل مشتملٌ على الثاني، أو الثاني على الأول، أو العاملُ مشتملُ عليهما؟ ثلاثة أقوال لا طائلَ تحتَها، وكلُّها صحيحةٌ؛ لأنَّ الملابَسَةَ حاصلةٌ بن الأول والثاني، وهي المرادةُ من الاشتمالِ.


(1) (ق): “خبرًا” وهكذا، وقعت في نظائر الكلمة!.
(2) (ق): “ظرفًا”.
(3) (ع): “وهذا”.
(4/1650)


وأما اشتمالُ العامل عليهما وإن عمَّ سائرَ أقسام البَدَلِ فسمِّي هذا النوعُ به؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ من الأنواع اختُصَّ باسمِهِ، فأعْطِيَ الاسمَ العامَّ لهذا النوعِ من البَدَلِ.
وإن لم يصحَّ الاستغناءُ بالأول، فإما أن يكونَ المتكلِّمُ قد قصده ثم أرادَ إطِّرَاحَهُ، أو لم يقصدْه، فإن كان قَصَدَهُ فهو بَدَل البَدَاءِ، وإن لم يقصدْه فهو بَدَلُ الغَلَطِ.
فمثال الأول: أن تقول: “أعْطِ السَّائِلَ رَغِيفًا” ثم تَرِقّ عليه فتقول: “دينارًا”.
ومثال الثاني: أن تقول: “أكلتُ لَحْمًا” ثم تذكرُ (1) فتقول: “خُبْزًا”.
فائدة
قد تبدلُ الجملةُ من الجملةِ (2) -كبَدَل الفعلِ من الفعل- والجملَة من المفرد، كقولك: “عَرَفْتُ زَيْدًا أبُو مَنْ هو” قال ابنُ جِنِّي: ومنه قول الشاعر:
إلى اللهِ أشكو بالمدينةِ حاجةً … وبالشَّامِ أخرى، كيف يلتقيانِ (3)
قال: “فكيف يلتقيانِ” بَدَلٌ من “حاجةٍ”، كأنه قال: إلى اللهِ أشكو هاتينِ الحاجتينِ، تعذر التقاؤُهما.
ويبدل المفردُ من المفرد، وأما بدلُ المفردِ من الجملةِ (ظ/269 ب)


(1) (ع وق): “يتذكر”.
(2) (ظ): “الكلمة من الكلمة”.
(3) نُسِب البيت للفرزدق ولم أجده في ديوانه، وهو من شواهد “المغني”: (1/ 207)، و”التوضيح”: (3/ 408 – مع شرحه).
(4/1651)


فلا يُتَصَوَّرُ إلّا أن تكونَ الجملةُ في تأويلِ المفردِ (1)، فيصحُّ إبدال المفرَدِ من معناها لا من لفظِها، كقولك: “أَزُورُكَ يَوْمَ يُعَافِيكَ اللهُ يَوْمَ السُّرورِ”.
فائدة
لا يشترطُ في بَدَل النَّكِرة من المعرفة اتحادُ اللفظين، وشَرَطَهُ الكوفيُّون. محتجِّينَ (2) بقوله تعالى: {بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ}، واحتج البصريُّونَ بقول الشاعر (3):
فَلَا وأَبِيكَ خَيْرً منْكَ أَني … لَيُؤْذِيني التَّحَمْحُمُ والصَّهِيلُ (4)
فائدة
يشتركُ المصدر واسمُ الفاعل في عملِهما عملَ الفعل، ويفترقانِ في عشرة أحكامٍ:
الأول: أن اسمَ الفاعلِ يتحمَّلُ ضميرًا مستترًا، نحو: “هذا ضَارِبٌ زَيْدًا”، والمصدر لا يتحمَّلُهُ. فإذا قلتَ: “يُعْجِبُني أكْلُ الخُبْزِ” لم يكن في “أَكْل” ضميرٌ، فقيل: لأنه ليس بمشتقٍّ، والضميرُ إنما يحملُهُ المشتقَّاتُ.


(1) من قوله: “وأما بدل. . .” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) (ق): “محتجون”.
(3) هو: شمير بن الحارث الضبي، انظر “النوادر”: (ص/124) لأبي زيد، و”الخزانة”: (5/ 179).
(4) هنا انتهت نسخة (ق)، وجاء في آخرها ما نصُّه. “تم بحمد الله وعونه على يد الفقير إلى الله تعالى محمد بن سالم [التحريري المؤذن غفر الله له] ولقارئه ولمالكه ولمن ينظر فيه، ويدعو لهم بالمغفرة ولوالديهم ولجميع المسلمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليمًا كثيرًا كثيرًا كثيرًا.
وكان الفراغ من تعليقه: يوم الأربعاء من شهر رجب الفرد سنة أربع وسبعين وثمانمئة”.
(4/1652)


الحكم الثاني: أن المصدرَ يعملُ بمعنى المضيِّ والحال والاستقبال، لأنه أصلُ الفعل، واسمُ الفاعل يختصُّ عملُه بما إذا كان في معنى الحالِ أو الاستقبالِ؛ لأنه يتحمَّلُهُ (1) لشبهِهِ بالفعلِ المُضارعِ الذي لا يكونُ إلا لأحدِهما.
الثالث: أن المصدرَ يضافُ إلى الفاعلِ والمفعولِ، كما يُسَلَّطُ الفعلُ عليهما، واسمُ الفاعل لا يضافُ إلى الفاعلِ لاستحالَةِ إضافَتِه إلى نفسِه.
الرابع: أن اسمَ الفاعل يعملُ فيما قبلَه، والمصدرُ لا يعملُ فيما قبلَهُ. وسرُّ الفرقِ أن المصدر في تقدير “أن” والفعل، فمعمولُه من صِلَتِه، فلا يتقدَّمُ عليه، بخلاف اسم الفاعل.
الخامس: أن إضافَةَ اسمِ الفاعلِ لا يُفيدُ التعريفَ إلَّا إذا كان بمعنى المضيِّ، وإضافةُ المصدر تُفيدُ التعريفَ مطلقًا.
السادس: أن الأَلِفَ واللامَ إذا دخلتْ على اسم الفاعل كانت موصولةً، وإذا دخلتْ على المصدر لم تكنْ موصولةً، ومن (2) الفرق عَوْدُ الضمير عليها من اسم الفاعل دونَ المصدَرِ.
السابع: أن المصدرَ ينعقدُ منه ومن معمولِهِ كلامٌ تامٌّ (3)، لا يفتقرُ إلى شيء قبلَهُ، نحو: “ضَرْبًا زَيْدًا” واسم الفاعل لا ينعقدُ منه ومن معمولِهِ كلامٌ تامٌّ حتى يعتمدَ على شيءِ قبلَهُ، نحو: “هذا ضَارِبٌ زَيْدًا” و”جَاءَنِي مُكْرِمٌ عَمْرًا”.


(1) (ع): “عمله”.
(2) لعلها: “وسِرُّ”.
(3) (ظ): “كلامًا تامًّا”.
(4/1653)


الثامن: أن جهةَ عملِ المصدرِ كونُهُ أصلًا للفعل، وجهةُ عملِ اسمِ الفاعلِ كونُهُ فَرْعًا على الفعل.
التاسع: أن إضافَةَ المصدرِ لا يمنعُ من نصبِهِ بمفعولِه، وإضافة اسمِ الفاعل تمنعُ من نصبِهِ مفعولَهُ، إلاَّ أنْ يَتَعَدَّى فعلُه إلى أكثرَ من واحدٍ، فينتصبُ حينئذٍ ماعدا المفعولَ الأولَ.
العاشر: أن الألفَ واللامَ إذا دخلتْ على المصدر أذهبتْ عَمَلَهُ، فـ “لمْ أَنْكُلْ عن الضَّرْبِ مِسْمَعًا” (1) شاذٌّ نادرٌ، وإذا دخلتْ على (2) اسم الفاعل قَوَّتْ عَمَلَهُ، ولهذا لا يعملُ بمعنى المضي، فإن اقترنَتْ به الألفُ واللامُ (3) عَمَلَ، تقول: “هذا الضَّارِبُ زَيْدًا أَمْسِ” وسرُّ (4) الفرق أنَّ الألفَ واللام فيه موصولة، تقوي جانب الفعلية فيه، بخلافها في المصدر.
فائدة
“إما” لا تكونُ من حروفِ العطفِ لأربعة أوجُهٍ:
أحدها: أنك (5) تقول: “ضَرَبْتُ إمَّا زَيْدًا وإمَّا عَمْرًا” فتذكرُهُ قبلَ معمولِ الفعلِ، فلو كانت “إما” من حروفِ العطفِ لكنتَ قد عطفتَ


(1) قطعة من بيت لمرار الأسدي -وقيل: مالك الباهلي- هو:
لقد عَلِمت أولى المغيرةِ أنني … لحقتُ فلم أَنْكل عن الضرب مِسْمَعا
انظر: “الكتاب”: (1/ 193)، و”الخزانة”: (3/ 439).
(2) من قوله: “المصدر أذهبت. . .” إلى هنا ساقط من (ظ).
(3) (ظ): “أل” وكذا ما بعدها.
(4) (ع): “ومن”.
(5) (ع): “أن”، وكذا في الثالث.
(4/1654)


معمولَ الفعلِ عليه وهو ممتنعٌ، فلما وقعتْ “إما” بينَ الفعل ومعمولِهِ عُلِم أنها ليستْ بعاطِفَةٍ.
الثاني: أنك تقولُ: “جَاءَنِي إمَّا زَيْدٌ وإمَّا عَمْرٌو” (1) فتقعُ “إما” بين الفعلِ والفاعلِ، ومعلومٌ أنَّ الفاعلَ كالجزءِ من الفعل، فلا يصحُّ الفصلُ بينهما بالعاطفِ.
الثالث: أنك تقول: “وإما عَمْرو” فتُدْخِل الواو عليه، ولو كانت حرفَ عطفٍ لم يدخلْ عليها حرفُ عطفٍ آخَرُ، كما لا تقول: “ضَرَبْتُ زَيْدًا وأوْ عَمْرًا”.
الرابع. أن العطفَ لابُدَّ أن يكونَ عطفَ جملةٍ على جملةٍ، أو مفردٍ على مفرَدٍ، وإذا قلت: “ضربتُ إمَّا زَيْدًا وإمَّا عَمْرًا” فـ “إما” الأولى لم تعطفْ زيدًا على مفردٍ، ولا يصِحُّ عطفُه على الجملة بوجهٍ، فالصوابُ أن حروفَ العطفِ تسعةٌ لا عَشَرَةٌ.
فائدة
إذا قلت: “جَاءَنِي زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو” فله معنيانِ:
أحدهما: أنك نفيتَ المجيءَ عن زيدٍ وأثبتَّهُ لعَمرو، وعلى هذا فيكونُ إضرابَ نفي.
والثاني: أنك أثبتَّ لعمروٍ المجيءَ كما أثبتَّهُ لزيدٍ، وأتيتَ بـ “بل” لنفيِ الاقتصارِ على الأوَّلِ لا لنفيِ الإسنادِ إليه، بل لنفيِ الاقتصارِ على الإسنادِ (ظ/ 270 أ) إليه، ويُسَمَّى: إضرابَ اقتصارِ، وهذا أكثرُ استعمالها في القرآنِ وغيرِه، كقوله تعالى: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ


(1) (ظ): “جاءني زيد إما عَمرو”.
(4/1655)


افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [الأنبياء: 5] وكقوله: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)} [النمل: 66]، ونظائره، ويسمَّى هذا: إضرابًا وخُروجًا من قصَّةٍ إلى قصَّةٍ.

وإذا قلتَ: “ما جاءَني زَيْدٌ بل عَمْرٌو” فله معنيانِ:
أحدهما: أنك نفيتَ المجيءَ عن زيدٍ وأثبتَّهُ لعَمرو، وهذا قولُ الأكثرينَ.
الثاني: أنكَ نفيتَ المجيءَ عنهما معًا فنسبتَ إلى الثاني حكمَ الأوَّلِ، وأنت حكمتَ على الأوَّل (1) بالنفيِ، ثم نسبتَ هذا الحكمَ إلى الثاني.
والتحقيقُ في أمرِ هذا الحرفِ: أنه يُذْكَرُ لتقرير ما بعدَهُ نفيًا كان أو إثباتًا، فالنظرُ فيه في أمرينِ: فيما قبلَهُ، وفيما بعدَهُ، ولما لم يفصِلْ كثيرٌ من النُّحَاةِ بين هذينِ النظرينِ، وَقَعَ في كلامِهم تخليطٌ كتيرٌ في معناه، فنقول:
أما حكمُ ما بعدَهُ فالتَّقريرُ والتَّحقيقُ، وهو شبيهٌ بمصحوبِ “قد”، وتجريدُ العنايةِ بالكلامِ إلى ما بعدَهُ أهمُّ عندهم من الاعتناءِ بما قَبْلَهُ، فقوله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى: 16] المقصودُ (2) تقريرُ هذه الجملةِ الإضرابُ عن قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14 – 15]، وكذلك قوله {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} [الفجر: 17] المقصود تقريرُ هذا النفيِ (3) وتحقيقُه لا الإضرابُ عن


(1) (ظ): “عليه”.
(2) (ظ) زيادة: “منه”.
(3) (ظ): “المعنى”.
(4/1656)


قوله: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)}
[الفجر: 19 – 20].
وكذلك إذا وقعتْ بين جملتينِ متضادَّتَيْنِ أفادت تقريرَ كلِّ واحدة منهما، كقوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 169] فالمقصود تقريرُ الطلبِ والخَبَرِ، وكذلك قولُكَ: “لا تَضْرِبْ زَيْدًا بل اضْرِبْ عمْرًا” وكذلك: “ما قامَ زَيْدٌ بل قامَ عَمْرٌو” فهي في ذلك كلِّه لتقريرِ الجملتينِ، وكذلك قولُه تعالى: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} [الأنعام: 40 – 41] المعنى: أنكم إذا نزل بكم هذا الأمرُ العظيمُ لا تدعونَ غيرَ اللهِ، بل تدعونَهُ وحدَهُ، فهو تقريرٌ لتركِ دعائِهم آلهتَهم، ولدعائِهم الإلهَ الحقَّ وحدَه، فيدخلُ في مثلِ ذلك على مقرَّرٍ بعدَ مقَرَّرٍ، والأوَّل تارةً يكونُ تقريرُه تَوْطِئةً للثاني، كقوله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 44] وتارةً لا يكون توطئة كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد: 31] وتارةً يدخلُ على كلام مقرَّر بعد كلام مردودٍ، كقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)} [الأنبياء: 26] وفي مثل هذا يظهرُ معنى الإضرابِ، وليس المرادُ به الإضراب عن الذِّكر، بل الإضرابُ عن المذكور ونفيُه وإبطالُه.
وتارةً يأتي لتقريرِ كلامٍ بعد كلامٍ قد رَجَعَ عنه المتكلِّم، إما لغَلَطٍ أو لظهورِ رأيٍ أو لعُروضِ نسيانٍ، وذلك كلُّه إمَّا في الإخبارِ وإما في المُخْبَرِ به: فمثال الأولِ (1): أن تقولَ: “أنتَ عَبْدي بل سَيِّدي”.


(1) “فمثال الأول” ليست في (ظ).
(4/1657)


ومثال الثاني: “لاحَ بَرْقٌ بل ضَوْءُ نارٍ”.
ومثال الثالث: “خذْ هذا بلْ هذا”.
ومثال الرابع: “شَرِبْتُ عَسَلًا بل لَبَنًا”.
وتأتي مع التَّكرار لقصد ما بعدها بالأولوية والذِّكْر دونَ نفي ما قبلَها، كقوله تعالى: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [الأنبياء: 5] فهم لم يقصدوا إبطالَ ما قبلَ كلِّ واحدةٍ، بل قصدوا أولويَّةَ المتأخِّرِ بالقصدِ إليه والاعتمادِ عليه مع ثُبوتِ ما قبلَهُ، وكذلك قوله تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)} [النمل: 65 – 66]، فليس القصدُ نفيَ إدراكِ علمهم في الآخِرَةِ، ولا نفيَ شكِّهم فيها، فتأمَّلْهُ.
ومن مواردِها مجيئُها بعد قَسَمٍ لم يُذكَرْ جوابُهُ فيتضمَّن تحقيق ما بعدَها وتقريرَهُ، ويتضمَّنُ ذلك مع القَسَمِ تحقيقَ ما قصد بالقَسَمِ وتقريره (1).
فائدة
احتمالُ اللَّفظ للمعنى شيءٌ، ودلالته عليه شيءٌ، فالمطلَقُ بالنسبةِ إلى المُقَيَّداتِ محتملٌ غيرُ دالٍّ، والعامُّ بالنسبةِ إلى الأفراد دَالٌّ.


(1) هنا تنتهى نسخة (ع) وفي خاتمتها ما نصه: “آخر الجزء الثاني، والله المستعان وعليه التكلان، ونسأله الغفران من الزلل والعصيان إنه رحيم رحمان كريم منان وهو حسبي ونعم الوكيل.
نجز في الثامن والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة، على يد الفقير إلى الله تعالى محمد بن علي بن موسى بن يحيى الحمصي مولدًا الحنبلي مذهبًا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم آمين”.
(4/1658)


فائدة
حملُ اللَّفظِ على المعنى يُرادُ به صلاحِيَّتُهُ له تارةً، ووضعُه له تارةً، فإن أُرِيدَ بالحَمْلِ الإخبارُ (ظ/270 ب) بالوضعِ طُوْلِبَ مُدَّعِيه بالنَّقْلِ، وأن أُريدَ صلاحِيَّتُه لم يكْفِ ذلك في حملِه عليه؛ لأنه لا يلزمُ من الصلاحِيَّةِ له أن يكونَ مُرادًا به ذلك المعنى، هذا إن أُريدَ بالحمل الإخبارُ عن مُرَادِ المتكلِّم، وإن أُريدَ به إنشاءُ معنى يدَّعِيه صاحبُ الحَمْل، ثم يحملُ عليه الكلامَ، فإنَّ ذلك يكون وضعًا جديدًا.
فليتأملْ هذا من قولِهم: “يُحْمَلُ اللفظُ على كذا وكذا”، فكثيرٌ من النُّظَّار أطلقَ ذلك، ولا يحصلُ معناها.
فائدة
تجرُّدُ اللفظِ عن جميع القرائنِ الدَّالَّةِ على مُرادِ المُتكلِّمِ ممتنعٌ في الخارج، وإنما يقدِّرهُ الذهنُ ويفرضُه، وإلاَّ فلا يمكنُ استعمالُه إلا مقيَّدًا بالمسند والمسند إليه ومتعلقاتِهما وأخواتِهما الدالَّة على مُرادِ المُتكلِّمِ، فإن كان كلُّ مقيَّدٍ مجازًا استحال أن يكونَ في الخارج لفظُ حقيقةٍ، وإن كان بعضُ المقيَّداتِ مجازًا وبعضها حقيقةً، فلا بُدَّ من ضابطٍ للقيودِ التي تجعلُ اللفظ مجازًا، والقيودُ التي لا تخرِجُهُ على حقيقتِه، ولن يجدَ مُدَّعُو المجازِ إلى ضابطٍ مستقيمٍ سبيلًا ألبَتَّةَ، فمَن كان لديه شيءٌ فَلْيذَكرْهُ.
فائدة
منعُ الدلالة شيءٌ ومنعُ المدلولِ عليه شيءٌ، فالثاني مستلزمٌ للأوَّلِ من غير عكس، فمن مَنَعَ الدلالةَ مع تسليمٍ للمدلول عليه، فانتقل عنه منازِعُهُ إلى دليلٍ آخَرَ كان انقطاعًا، وإن منع المدلولَ فانتقل عنه
(4/1659)


المنازع إلى دليل آخَرَ لم يكنِ انقطاعًا، كما إذا طعن الخصمُ في شهود المُدَّعي فأقام بيِّنَةً أخرى غَيْر مطعونٍ فيها، فله ذلك. فينيغي التَّفَطُّنُ في المناظرةِ لذلك.
فائدة
من ادَّعَى صَرْفَ لفظٍ عن ظاهرِه إلى مجازِه لم يتمَّ له ذلك إلاّ بعد أربعِ مقاماتٍ:
أحدها: بيانُ امتناع إرادةِ الحقيقةِ.
الثاني: بيان صلاحيَّةِ اللفظِ لذلك المعنى الذي عيَّنَهُ. وإلاَّ كان مفترِيًا على اللغةِ.
الثالث: بيانُ تعيين ذلك المُجْمَلِ إن كان له عدَّةُ مجازاتٍ.
الرابع: الجوابُ (1) عن الدليل الموجِبِ لإرادة الحقيقة، فما لم يَقُمْ بهذه الأمورِ الأربعةِ كانت دعواه -صَرْفَ اللفظِ عن ظاهرِهِ- دعوى باطلةً.
وإن ادَّعى مجرَّدَ صرف اللفظ عن ظاهرِه ولم يُعَيِّنْ له مجملًا؛ لزمه أمران:
أحدُهما: بيانُ الدليلِ الدَّالِّ على امتناعِ إرادةِ الظاهرِ، والثاني: جوابُهُ عن المعارِضِ.
فائدة
مدَّعىِ صرفِ اللفظِ عن ظاهرِه وحقيقتِه إلى مجازِه تتضمَّنُ دعواه الإخبارَ عن مراد المتكلِّمِ ومرادِ الواضعِ.


(1) (ظ) “الجواز”! والصواب ما أثبت، ويؤيده ما يأتي بعده.
(4/1660)


أما المتكلِّمُ: فكونُه أراد ذلك المعنى الذي عيَّنَه الصارفُ، وأما الواضعُ فكونُه وضعَ اللفظَ المذكورَ دالًّا على هذا المعنى، فإن لم تكنْ دعواهُ مطابِقَةً كان كاذِبًا على المتكلِّمِ والواضِعِ.
بخلافِ مُدَّعي الحقيقة، فإنه إذا تضمَّنَتْ دعواهُ إرادةَ المتكلِّمِ للحقيقة وإرادة الواضِع كان صادقًا، أما صدقُهُ على الواضِع فظاهر، وأما صدقُهُ على المتكلِّمِ (1) معرفةُ مُرَادِ المتكلِّمِ إِنما يحصلُ بإعادَتِهِ من كلامِه، وأنه إنما يخاطِبُ غيرَه للتفهيمِ والبيانِ، فمتى عُرِفَ ذلك من عَادتِهِ وخاطبنا لما هو المفهومُ من ذلك الخطابِ عَلِمْنا أنه مُرَادُهُ منه، وهذا بحمدِ الله بَيِّنٌ لا خَفَاءَ فيه.

فائدة
دلالةُ اللفظِ على مُدَّعَى المستدلِّ شيءٌ، ودلالَتُهُ على بطلانِ قول منازِعِهِ شيءٌ آخَرُ، وهما متلازمانِ، إن كان القولانِ متقابِلَيْنِ (2) تقابُلَ التَّنَاقُضِ، فللمستدلِّ حينئذٍ تصحيحُ قولِهِ بأيِّ الطريقينِ شاء، وإن تقابلا تقابُلَ التَّضادِّ لم يلزمْ من إقامتِهِ الدليلَ على بُطلانِ مذهبِ منازعِهِ صِحَّةُ مذهبِه هو بجواز بطلانِ المذهبينِ، وكون الحقِّ في ثالثٍ، وإن أقام دلَيلًا على صحةِ قولِهِ لزمَ منه بطلانُ قول منازعِهِ لاستحالةِ جمعِ الضِّدَّيْنِ.
فائدة
الاستدلالُ شيءٌ والدلالةُ شيءٌ آخَرُ (3)، فلا يلزمُ من الغَلَطِ في


(1) بعده في الأصل بياض بمقدار كلمة.
(2) (ظ): “متقابلان” والمثبت الصواب.
(3) “والدلالة شيء آخر” سقطت من (ظ)، والإكمال من “المنيرية”.
(4/1661)


أحدِهما الغلطُ في الآخَرِ، فقد يغلطُ في الاستدلال والدلالةُ صحيحةٌ، كما يستدلُّ بنصٍّ منسوخٍ أو مخصوصٍ على حكمٍ، فهو دالٌّ (ظ/ 271 أ) عليه تناولًا، والغَلَطُ في الاستدلال لا في الدلالةِ.
وعكْسُه: كما إذا استدللنا بالحَيْضة الظاهرة على براءة الرَّحِم، فحكمنا بحِلِّها للزوجِ، ثم بانَتْ حاملًا، فالغَلَطُ هنا وقعَ في الدلالةِ نفسِها لا في الاستدلالِ، فَتَأَمَّلْ هذه الفروقَ.
فائدة
تسليمُ موجبِ الدليل لا يستلزمُ تسليمَ المُدَّعى إلَّا بشرطين:
أحدهما: أن يكونَ موجِبَهُ هو المدَّعى بعينِهِ أو ملزومُ المُدَّعى.
الثاني: أن لا يقوم دليلٌ راجحٌ أو مساوٍ على نقيص المدَّعى، ومع وجود هذا المعارِض، لا يكون تسليمُ موجب الدليلِ الذي قد عُوْرضَ تسليمًا للمُدَّعى؛ إذْ غايتُه أن يعترفَ له منازعُهُ بدلالة دليلِهِ على المدَّعى، وليس في ذلك تعرَّضٌ للجوابِ عن المعارضِ، ولا يتمُّ مُدَّعاه إلَّا بأمرينِ جميعًا.
فائدة
ما يذكرُهُ المجتهدُ العالمُ باللغة من موضوعِ اللفظ لغةً شيء، وما يعيَّنُ له محملًا خاصًّا في بعضِ مواردِهِ من جملةِ محامِلِهِ شيءٌ.
فالأوَّلُ: حكمُ قوله في حكمُ قولِ أئمةِ اللَّغة فَيُقْبَل بشرطِه.
والثاني: حكم قوله في حكم ما يُفنى به، فيُطْلَبُ له الدليلُ، مثالُه قوله: الباء في: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] للتبعيض، فهذا حَمْل منه للباء على التبعيض في هذا المَوْرِد، وليس هو كقوله:
(4/1662)


ابنُ السَّبِيلِ هو المسافرُ الذي انقطعَ عن أهلِهِ ووطنِهِ، ونظائرُ ذلك، فهذا نَقْلُ محضِ اللغةِ، والأولُ استنباطٌ وحملٌ، ومَن لم يفرِّقْ بين الأمرين غَلِطَ في نَظَرِهِ، وغالطَ في مناظَرَتِهِ، والله أعلم (1).
فرغت الفوائد بحمد الله.



(1) كتب في ختام نسخة (ظ): “والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، اللهم اغفر لمن دعا بالمغفرة آمين”.
ثم ذكر في آخرها بالخط نفسه (المنتخب الآتي)، وفيه ما يثبت أنه للمؤلف، بخلاف المنتخب الذي بعده، وانظر المقدمة.
(4/1663)


(ظ/271 ب) مُنْتخب أيضًا
فائدة
قوله تعالى: {بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] وليس له مثل. والجواب من أوجه:
الأول: أن المرادَ به التبكيتُ، والمعنى: حَصِّلوا دينًا آخَرَ مثلَهُ، وهو لا يمكنُ.
الثاني: أن المِثْلَ صِلَةٌ.
الثالث: أنكم آمنتم بالفُرْقان من غير تصحيفٍ ولا تحريفٍ، فإن آمنوا بالتَّوْراةِ من غيرِ تصحيفٍ ولا تحريفٍ فقد اهْتَدَوْا.
والرابع: أن المرادَ: إن آمنوا بمثلِ ما صِرْتُم به مؤمنينَ، روى ابنُ جَريرٍ (1) أن ابن عباس قال: قولوا: فإن آمنوا بالذي آمنتُم به. قال عبد الجبار: ولا يجوزُ تركُ القراءَةِ المتَواتِرَةِ.
فائدة
قوله تعالى: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] أنَّثَ عَدَدَ الأمثالِ لتأويلِها بحسناتٍ، ومثلُهُ قراءة أبي العاليةِ: {لا تَنْفَعُ نَفْسًا إيمَانُها}، بالتاء، والفعل مسندٌ إلى الإيمان، لكنَّه طاعةٌ وإثابةٌ في المعنى.

فائدة
الجهلُ قسمان:


(1) في “تفسيره”: (1/ 620) وذكر هناك أنها مخالفة لمصاحف المسلمين، وأجمع القراء على تركها، وإن صحّت عنه فهي كالتوجيه للقراءة.
(4/1664)


بسيطٌ، وهو عبارةٌ عن عَدَم المعرفةِ مع عَدَمِ تلبُّسٍ بضِدٍّ.
ومُرَكَّبٌ، وهو جهلُ أربابِ الاعتقاداتِ الباطلةِ، والقسمُ الأول هو الذي يطلبُ صاحبُه العلمَ، أما صاحبُ الجهلِ المُرَكَّبِ فلا يطلبُهُ.
فائدة
الأجداثُ: القبورُ، وفيها لغتانِ: بالثاء والفاء، أهلُ العالية تقولُه: بالثاء، وأهلُ السَّافلة بالفاء.
فائدة
في النوم فائدتان: إحداهما: إنعكاسُ الحرارةِ إلى الباطنِ، فينهضمُ الطعامُ. الثانية: استراحةُ الأعضاءِ التي قد كلَّتْ بالأعمالِ.
فائدة (1)
في “صحيح البخاري” ما انفرد به من رواية عمرانَ بن حُصَيْن أنه سأل النبيَّ -صَلى الله علَيه وسلم- عن صلاة الرجل قاعدًا قال: “إنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا، فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ القَائِمِ، وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ القَاعِدِ” (2).
قلت: اختلف العلماءُ؛ هل قولُه: من صلَّى قاعدًا” في الفرض أو في النفل؟ فقالت طائفة: هذا في الفَرْضِ، وهو قولُ كثير عن المُحَدِّثِينَ، واختيارُ شيخِنا، فورد على هذا أن مَنْ صلَّى الفرضَ قاعدًا مع قدرتِه على القيام فصلاتُهُ باطلةٌ، وإن كان مع عَجْزِهِ فأجرُ القاعدِ مساوٍ لأجر القائم؛ لقوله -صَلى الله علَيه وسلم-: “إِذَا مَرِضَ العَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مَا


(1) انظر المسألة في “مجموع الفتاوى”: (7/ 36، 23/ 234 – 238).
(2) أخرجه البخاري رقم (1115) من حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه-.
(4/1665)


كانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا” (1)، فقال لي شيخُنا: وضع صلاة القاعد على النصف مطلقًا، وإنما كَمَلَ الأجرُ بالنِّيَّةِ للعجز.
قلت: ويَرِد على كون هذا في الفرض قوله: “إنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ” وهذا لا يكونُ في الفرض مع القدْرَةِ؛ لأنَّ صلاتَهُ قائمًا لا مساواةَ بينَها وبين صلاتِهِ قاعدًا، لأنّ صلاتَهُ قاعدًا والحالة هذه باطلةٌ، فهذه قرينةٌ تدلُّ على أن ذلك في النَّفْلِ كما قاله طائفةٌ أخرى، لكن يَرِد عليه أيضًا قوله: “وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا”، فإنه يدلُّ على جوازِ التَّطَوُّعِ للمضطجِعِ، وهو خلافُ قولِ الأئمة الأربعة مع كونِه وجهًا في مذهبِ أحمد والشافعي.
وقال الخطَّابي (2): تأوَّلْتُ الحديثَ في [“شرح أبي داود”] على النافلةِ إلا أن قوله: “وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا” يُبْطِلُ هذا التأويلَ لعدم جواز التَّطَوُّع نائمًا.
وقال في “شرح البخاري”: أنا الآن أَتَأَوَّلُهُ على الفرض، وأحملُة على مَن كان القيامُ مُشِقًّا عليه، فإذا صَلَّى قاعدًا مع إمكانِ القيام ومَشَقَّتِهِ فله نصفُ أجرِ القائم.
وقال ابن عبد البَرِّ (4): أجمعوا على أنه لا يجوزُ التَّنَفُّلُ مضطجِعًا.


(1) أخرجه البخاري رقم (2996) من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-.
(2) كلام الخطابي في شرح البخاري “أعلام الحديث”: (1/ 630)، ووقع في الأصل: “تأولت الحديث في شرح البخاري. . .” وهو سَبْق قلم.
(3) “أعلام الحديث”: (1/ 631)، ووقع في الأصل: “شرح أبي داود” وهو وهم أيضًا. وانظر “معالم السنن”: (1/ 584).
(4) بنحوه في “التمهيد”: (1/ 134) لكنه ذكر الإجماع على الكراهة.
(4/1666)


قلت: في التِّرمذي (1) جوازُه عن الحسن البصري، وروى التِّرمذيُّ بإسناده عن الحسن، قال: “إن شاءَ صلَّى صلاةَ التَّطوُّعِ قائمًا وجالسًا ومضطجعًا”، والله أعلم.
فائدة
قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)} [الرحمن: 26]، ولم يقل: فيها؛ لأن عند الفناءِ ليس الحالُ حالَ القرار والتَّمكينِ.

فائدة
إنْ قيلَ: لِمَ كان عاشوراءُ يكفِّر سَنَةً، ويوم عرفَةَ يكفِّرُ سنتينِ (2)؟
قيل: فيه وجهان:
أحدهما: أنَّ يومَ عَرَفَةَ في شهرٍ حرامٍ وقبلَهُ شهرٌ حرام وبعدَه شهرٌ حرامٌ، بخلافِ عاشوراءَ.
الثاني: أن صومَ يومِ عَرَفَةَ من خصائصِ شرعِنا، بخلافِ عاشوراءَ، فضُوعِفَ ببركات المصطفى، والله أعلم.



(1) (2/ 209).
(2) أخرجه مسلم رقم (1162) من حديث أبي قتادة -رضي الله عنه-.
(4/1667)


  • فهرس الكتب
    [الاسم … الصفحة]
  • “الأجوبة المصرية” لابن تيمية … 572
  • “أحكام أهل الملل” لأبي حفص البرمكي … 1004
  • “الأدب المفرد” للبخاري … 677، 1419
  • “إصلاح الغلط” لابن قتيبة … 261
  • “الأصول” لابن السرَّاج … 79
  • “أصول التفسير” للمؤلف … 877
  • أعلام الحديث = شرح البخاري
  • “الأمالي المكية” للمؤلف … 415
  • “التحفة المكيَّة في بيان الملة الإبراهيمية” للمؤلف … 487، 528، 529، 720، 845، 846، 1552، 1597
  • “ترغيب القاصد” للفخر ابن تيمية … 1371
  • “التسهيل” لابن مالك … 1635، 1637، 1638، 1640
  • “تعاليق” للقاضي أبي يعلى … 1011
  • “تعظيم شأن الصلاة والسلام على خير الأنام” للمؤلف … 685، 688
  • “تعليق على الأسماء الحسنى” للمؤلف = شرح الأسماء
  • “التفسير” لابن أبي حاتم … 296
  • “التنبيه” للشيرازي … 1331، 1332
  • “تهذيب السنن” للمؤلف … 668
  • “الثقات” لابن حبان … 1153
  • “الجامع” للخلال … 1405
  • “الجامع بين السنن والآثار” للمؤلف … 1410
    (5/127)

  • جامع الترمذي = سنن الترمذي
  • “الجامع لذكر أئمة الأمصار المزكين لرواة الأخبار” للحاكم … 1150
  • “جزء فيه تفسير آيات في القرآن عن الإمام أحمد” … 1015
  • “الجواهر” لابن شاس … 104، 1239
  • “حكم الوالدين في مال ولدهما” لأبي حفص البرمكي … 994
  • “الحكومة بين البصريين والكوفيين” للمؤلف … 878
  • “رسالة إلى بعض الأصحاب” للمؤلف … 1591
  • “الروض الأُنف” للسُّهيلي … 666
  • “زاد المسافر” لغلام الخلال … 1482
  • “السر المكتوم” للرازي … 758
  • “سنن الترمذي” … 699، 700، 755، 812، 813، 816، 952، 1066، 1259، 1667
  • “سنن أبي داود” … 597، 699، 727، 853
  • “السنن الكبير” للنسائي … 1479
  • “سنن النسائي” … 553، 667، 699، 1486
  • “سنن ابن ماجه” … 611، 612، 1259
  • “السيرة النبوية” لابن إسحاق … 1329
  • “شرح الأسماء الحسنى” للمؤلف … 300، 605
  • “شرح البخاري” للخطابي … 1666
  • “شرح أبي حفص لمبسوط الخلال” … 1490
  • “شرح أبي داود” للخطابي … 1666
  • “شرح الطحاوي” للإسبيجابي … 1059
  • “شرح كتاب سيبويه” للسيرافي … 896
  • “شرح مسائل الكوسج” لأبي حفص العكبري … 1448، 1468
  • “شرح المفصل” للأندلسي … 91، 104
    (5/128)

  • “الصحاح” للجوهري … 524، 1643
  • “صحيح البخاري” … 706، 797، 808، 811، 1057، 1060، 1161، 1265، 1486، 1665
  • “صحيح ابن خزيمة” … 1486
  • “صحيح مسلم” … 682، 699، 951
  • “الصحيحان” … 700، 794، 813، 951، 1046، 1155، 1575
  • “العلل” لابن أبي حاتم … 1155
  • “فتاوى ابن عقيل” … 1035
  • “الفتح القدسي” للمؤلف … 720، 767
  • “الفتح المكي” للمؤلف … 628، 664، 682
  • “فصل مفرد في تقديرات النحاة المتكلفة” للمؤلف … 947
  • “فصل مفرد في الحروف ونيابة بعضها عن بعض” للمؤلف … 945
  • “الفصول” لابن عقيل … 1473، 1474، 1479، 1480
  • “فضيلة النبي -صَلى الله علَيه وسلم-” للمروذي … 1379
  • “الفنون” لابن عقيل … 1384، 1385
  • “الفوائد المكية” للمؤلف … 725
  • “كتاب الخلال” (1) … 985
  • “كتاب سيبويه” … 307، 325، 515، 559، 622
  • “كتاب الصيام” لأبي حفص البرمكي … 993
  • “كتاب العين” للخليل … 564
  • “كتاب في محاسن الشريعة” للمؤلف … 670
  • “كتاب مفرد في الكلام على آية الكرسي وأسرارها وكنوزها” للمؤلف … 812
  • “الكشاف” للزمخشري … 431، 744، 905

(1) لعله (الجامع).
(5/129)


  • “المبهج” لأبي الفرج المقدسي … 1112
  • “المحرر” للمجد ابن تيمية … 1416
  • “المحكم” لابن سيده … 888
  • “مختصر الخِرقي” … 1261، 1271، 1272
  • “المدونه” لمالك … 973
  • “مراتب الإجماع” لابن حزم … 12
  • “مسائل أحمد بن أصرم لأحمد” … 1418
  • “مسائل أحمد بن محمد البراثى لأحمد” … 1446
  • “مسائل أحمد بن محمد بن صدقة لأحمد” … 1439
  • “مسائل إسحاق الكوسج لأحمد” … 1288
  • “مسائل البرزاطي لأحمد” … 1394
  • “مسائل بكر بن أحمد البراثي لأحمد” … 1405
  • “مسائل أبي جعفر الجرجرائي لأحمد” … 1388
  • “مسائل أبي جعفر الوراق لأحمد” … 1401
  • “مسائل حرب الكرماني لأحمد” … 1475
  • “مسائل الحسن بن ثواب لأحمد” … 1437
  • “مسائل أبي داود لأحمد” … 1475
  • “مسائل زياد الطوسي لأحمد” … 1404
  • “مسائل أبي طالب لأحمد” … 998
  • “مسائل أبي العباس البِرْتي لأحمد” … 1404
  • “مسائل عبد الملك الميمونى لأحمد” … 1406، 1474
  • “مسائل الفضل بن زياد القطان لأحمد” … 1406، 1411، 1421
  • “مسائل أبي القاسم البغوي لأحمد” … 1391
  • “مسائل مثنى بن جامع الأنباري لأحمد” … 1392
  • “مسائل محمد بن الحسن بن بدينا عن أحمد” … 1436
    (5/130)

http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
  الكتاب: بدائع الفوائد [آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (1)]المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 – 751 هـ)
المحقق: علي بن محمّد العمران
راجعه: سليمان بن عبد الله العمير (جـ 1 – 5)، محمد أجمل الإصلاحي (جـ 1 – 2)، جديع بن محمد الجديع (جـ 1 – 5)
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الخامسة، 1440 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الأجزاء: 5 (4 في ترقيم واحد متسلسل، والأخير فهارس)
قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

تَتَربَّصَ سنتينِ على النِّصفِ من الحُرَّةِ.
سمعتُ أحمد يقول في حديث أبي هريرة: “من حَمَلَ جنازةً فَليَتَوَضَّأ” (1)؟ فقال: كأنه يقولُ: لا يحملُها حتى يتوضَّأَ، أو كما قال.
وسألتُه عن قوم مالت فيهم ميِّتٌ، وليس عندَهم ماءٌ؟ فقال: يُيَمَّمُ.
قلت: فإنَّهم يَمَّموه وصلَّوا عليه وأصابوا الماء، قال: لا أدري ما هذا، لم أسمعْ في هذا بشيءٍ.
وكتبتُ إليه أسألُه عن من زارَ القبرَ يقف قائمًا أو يجلسُ فيدعو؟ فأتى الجوابُ: أرجو أن لا يكون به بأسٌ.

ومن مسائل أحمد بن أصْرَمَ بن خُزَيْمَةَ بن عباد بن (2) عبد الله بن حسَّان بن عبد الله ابن المُغَفَّل المُزَنى الصَّحابي (3)
سمعته وقال له رجلٌ: جمعنا الله وإيَّاك في مستقرِّ رحمته، فقال: لا تقُلْ هكذا.
قلتُ: اختلف السَّلَفُ في هذه الدعوة، وذكرها البخاري في
__________
(1) أخرجه الترمذي رقم (993)، وابن ماجه رقم (1463)، وابن حبان “الإحسان”: (3/ 435)، والبيهقي: (1/ 301) من حديث أبي صالح عن أبي هريرة. وأخرجه ابن أبي شيبة: (2/ 470) وأحمد: (15/ 334 رقم 9862) من طريق صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة، وله أسانيد أخرى عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
وقد رجح جمع من الحفاظ أنه موقوف على أبي هريرة، انظر في الكلام عليه “العلل للدارقطني”: (9/ 293)، و “نصب الراية”: (2/ 281 – 282).
(2) “عباد بن” سقطت من (ع).
(3) تقدمت ترجمته (3/ 976)، وبعض مسائله.

(4/1418)


كتاب “الأدب المفرد” (1) له، وحكى عن بعض السَّلَف أنه كَرِهَها، وقال: مستقرُّ رحمتِه ذاتُه، هذا معنى كلامِه، وحُجَّة من أجازها ولم يكرهْها أن الرحمة هاهنا المراد: الرحمةُ المخلوقة، ومستقرُّها الجنة، وكان شيخُنا يميل إلى هذا القول (2). انتهى.
وسُئِلَ عن رجلِ استأجرَ أجيرًا على أن يحتطبَ له على حمارين، كلَّ يوم ينقل عليهما، فكان الأجيرُ ينقلُ على الحمارين وعلى حمار (3) رجل آخرَ في نوبة (4) هذا ويأخذُ منه الأجر، فقال: إن كان يُدخلُ عليه فيه ضَرَرًا ارتجع عليه بالقيمةِ، أو قال كلامًا هذا معناه.
قلتُ: وشَبِيهٌ بهده المسألة: إذا أخذ من رجل مالًا مضارَبَةً، ثم ضارَبَ لغيرهِ، وَعلى الأول ضَرَرٌ في ذلك، فإنه يردُّ حِصَّتَهُ من الربحِ في شركة الأول.
ووجهُ هذا: أن منافِعَهُ صارت مستحَقَّةً للمستأجرِ والمضارِب، فإذا بَذَلها لغيره بعِوَضٍ كان العِوَضُ لمستحقِّها.
وسأله رجلٌ: إنَّ والدي تُوُفِّيَ وترك عليه دينًا، أفأقضيه من زكاةٍ مالي؟ قال: لا.
وسُئِلَ عن رجل أَسْلَم في طعام إلى أجل مسمَّى، فإذا حلَّ الأجلُ يشتري منه عقارَا أو دارًا؟ (ظ/1236) فقال: نعم يشتري منه مالًا يُكالُ ولا يُوزَنُ.
__________
(1) (ص / 320).
(2) تقدمت هذه المسألة بأبسط مما هنا: (2/ 678) مع التعليق.
(3) (ق وظ): “حمير”.
(4) (ق وظ): “يومه”!.

(4/1419)


وسمعتُه سُئِل عن رجلٍ حلف أن لا يَلْبَسَ من غَزْل امرأتِهِ، فخاط الخياطُ من غَزْلها؟ فلم يُجِبْ فيها بشيءٍ.
وسُئِلَ عن امرأة (1) رُمِيَتُ فأقرَّت على نفسها، ثم ولدَتْ فَبَلَغ زوجَها، فطلَّقها (2)؟ قال: الولد للفراش حتى يُلاعِنَ.
وسُئِلَ عن رجلٍ أسلمَ من أهل الحرب في دار الحرب، ثم دخل دارَ الإسلام، وليس له وليٌّ في دارِ الإِسلامِ، فقتله رجلٌ من المسلمين خطأ، أيلزَمُ المسلمَ الدِّيَةُ مع الرَّقَبَة؟ قال: الذي أذهبُ إليه أنه ليس عليه دِيَةٌ، وعليه رَقَبةٌ.
وسئل عمن طافَ وراءَ المَقَامِ، وقيل له: رُويَ عن عطاء أنه قال: من لم يُمكِنْهُ الطَّوافُ إلاّ خلَفَ المقام جلسَ، كأنّ عطاءً كَرِهَ الطَّوافَ خلفَ المقامِ؟.
فقال: من رَوَى هذا؟ ليس هذا بشيء، الذي يكرهُ من هذا هو أكثرُ لتعبِهِ وأعظمُ لأجرِهِ.
قيل له: طاف من وراء السِّقَايَةِ، قال: نعم هو أكثرُ لتعبِهِ (3).
قيل له: تذهب إلى حديث عبد الله بن عُكَيْم أن النبىَّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “لا تَنْتَفِعُوا مِنَ المَيْتَةِ بِإِهابٍ وَلا عَصَبَ” (4)؟ قال: نعم.
__________
(1) من قوله: “أسلم في طعام … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) المسألة في (ق) هكذا: “وسئل عن رجل رُميت امرأته، فأقرَّت على نفسها ثم ولدت، فطلقها زوجها بعد علمه بذلك”؟.
(3) الجواب برمته ساقط من (ق)، ومن قوله: “وأعظم لأجره … ” إلى الآخر ساقط من (ع)، لهذا بقي في العبارة اضطراب.
(4) أخرجه أحمد: (31/ 74 رقم 18780)، وأبو داود رقم (4127) والترمذي رقم (1729)، والنسائي: (7/ 175)، وابن ماجه رقم (3613). =

(4/1420)


قيل: وقد رواه خالدٌ الحَذَّاء عمن سمع عبد الله بن عُكَيْم، قال: قد رواه شعْبَةُ، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن عُكَيْم أصحَّ من هذا، وقد رواه عبَّاد، ورواه شعبة، عن الحكم، كأنه صحَّحه من غير حديث خالدٍ.

ومن مسائل الفضل بن زياد القطان -أيضًا-
كتبتُ إلى أبي عبد الله أسأله عن حديث النعمان بن بشير: “مَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ” (1) ما الشُّبُهات؟ فأتاني (2) الجواب: هي منزَلةٌ بينَ الحلالِ والحرامِ، إذا استبرأَ لدِينه لم يقعْ فيها (3).
أحمدُ: حدثنا عبدُ الأعلى، عن هشام، عن محمَّد -يعني: ابن واسع-: أنه كان يكرهُ أن يشتريَ بالدَّنانير إلاّ العُتَّق، وبالدراهم التي فيها كتابُ الله أن يشتريَ بها أو يبيعَ.
وقال أحمد: سمعت من مُعاذ بن هشام، عن أبيه، عن قَتَادَةَ، عن سعيد بن المُسَيِّب، قال: كان ناس من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
__________
= قال الترمذي “وسمعتُ أحمد بن الحسن يقول: كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا الحديث لما ذُكِر فيه “قبل وفاته بشهرين” وكان يقول: كان آخر أمر النبي – صلى الله عليه وسلم -، ثم ترك أحمد بن حنبل هذا الحديث لما اضطربوا في إسناده … ” اهـ. والحديث صححه الإمام أحمد في رواية ابنه صالح رقم (1119) و (733)، وفي رواية ابنه عبد الله رقم (43، 47)، وفي رواية ابن هانئ: (1/ 22) صرَّح بأنه يذهب إلى حديث ابن عكيم؛ لأنه آخر الأمرين، وانظر “طبقات الحنابلة”: (2/ 350 – 351).
(1) أخرجه البخاري رقم (52)، ومسلم رقم (1599) من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه-.
(2) (ع): “فأتى”.
(3) وكذا فسّرها في رواية ابنه صالح رقم (205)، وفسَّرها تارةً باختلاط الحلال بالحرام، كما في “جامع العلوم”: (1/ 199).

(4/1421)


يَتَّجِرون في البحر، منهم طَلْحَة بن عبيد الله وسعيد بن زيد (1).
سمعتُ أبا عبد الله وسُئل عن بيع الجُزَافِ (2)، فقال: إذا استوى علمُهما فلا بأس -يعني: إذا جهلا به- فإذا عَلِمَ أحدُهما وجَهِلَ الآخرُ فلا.
وسألته قلت: القطنُ يبيعُه فيرفع ظرفه العِدْل خمسة أمْناء: (3)، قلت: نعم، وربما زاد فيحسبه للمشتري، فرخَّص فيه، ولم ينكرْه على طريق الصُّلح.
قلت: فإنَّا نبيعُ بيعًا آخر، نبيع القطنَ في الكساء، فقال: هذا أحبُّ (4) إلي من ذاك؛ لأنه يكون بمنزلة التَّمْر في جِلالِهِ وقَوَاصِرِه (5)، ما زال هذا يُباعُ في الإِسلامِ.
قلت: فإنهم يحملونا على أن (6) نكشِفَه، فقال: هذا ضَرُورةٌ ليس عليكم هذا.
قال القاضي: “إنما لم يشترط كشفَه على الرواية التي أجاز بيعَ الجُرُبِ قبل حلِّها، وقوله: نبيعُه بظرفِه أحبُّ إلَيَّ من أن يحتسبِ
__________
(1) ورواه عبد الله بن أحمد عن أبيه بسنده ومتنه في العلل”: (2/ 42)، وابن معين في “تاريخه”: (رقم 207 – رواية الدوري).
(2) الجزاف: بضم الجيم وفتحها وكسرها هو: بيع الشيء لا يعلم كيله ولا وزنه. “المصباح المنير”: (ص / 38).
(3) المَنَا: هو ما يكال به أو يوزن، وجمعه: أمناء، وفي لغة تميم مفرده: “المنّ” ويجمع على: أمنان “اللسان”. (13/ 419)، و “المصباح” (ص / 222).
(4) (ق): “لعب”.
(5) الجلال والقواصر هي: الأوعية التي يُكتنز فيها التمر. “اللسان”: (5/ 402).
(6) (ع): “أنّا”.

(4/1422)


بوزنِ الظرفِ؛ لأنهم ربما اختلفوا في وزنِهِ” انتهى كلامُهُ.
قلت: قول أحمد: “نبيعُ القطنَ في الكِسَاءِ أحبُّ إلَيَّ”، وقوله: “لأنه يكون بمنزلة التمرِ في جلالِهِ وقواصِرِه، ما زال هذا يُباعِّ في الإِسلام”، يؤخذ منه بيعُ المُغَيَّبَاتِ في الأرضِ؟ كالجزر والقُلْقاس والسَّلْجم ونحوها، بل أولى، وما زال هذا يُباع في الإِسلام ويتعذَّر عليهم بيعُ المزارع إلاّ هكذا، وعلمهم بما في الأرض أتمُّ من علم المشتري بما في الجُرُبِ والأعْدالِ؛ لأنهم يعرفونه بورقِهِ، ولا يكاد تخلو معرفتُهم به، بل رَبما كان اختلافُ ما في الجُرُب والأعدال (1) أكثرَ من اختلافِ المُغَيَّب في الأرضِ، والعسرُ فيه أكثر؛ لأنه بحسب دواعي البَشَر، وما في الأرض لا صُنْع لهم فيه، فالغالبُ تساويه (2).
وبالجملةِ؛ فلم يزلْ ذلك يُباعُ في الإسلام، وهذه قاعدةٌ من قواعد الشَّرْعٍ عظيمةُ النفع: أن كلَّ ما يعلمُ أنه لا غنىً بالأُمَّةِ عنه، ولم يزلْ يقعُ في الإِسلام، ولم يعلمْ من النبي – صلى الله عليه وسلم – تغييرُهُ ولا إنكارُهُ ولا من الصحابة، فهو من الدِّينِ، وهذا كإجارةِ الإقطاع، وبيع المُعاطاة، وقرضِ الخبزِ والخَميرِ وردِّ أكبرَ منه وأصغرَ، وأكلِ الصيدِ من غير تفريزِ محلِّ أنيابِ الكلب ولا غسلِهِ، وصلاة المسلمينَ في جِراحاتهم، كما قال البخاريُّ (3): “لم يزلِ المسلمون يُصَلُّون في جراحَاتِهمِ”، ومسحِهم سيوفَهم من غير غسلٍ، وصلاتِهم وهم حاملوها، ولو غُسِلتِ السيوفُ لفَسَدَتْ، ولا يُعرَفُ في الإِسلام غَسْل السيوف
__________
(1) من قوله: “لأنهم يعرفونه … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) تقدم البحث في هذه المسألة: (4/ 1323).
(3) “الصحيح – الفتح”: (1/ 336)، وليس هو من قول البخاري، بل علقه على الحسن البصري مجزومًا به.

(4/1423)


ولا إلقاؤها وقت الصلاة، وكذلك صلاة النساء في ثياب الرَّضاعة أمر مستمرٌّ في الإِسلام، مع أن الصِّبيانَ لا يزالُ لُعابُهمْ يسيلُ على الأمَّهاتِ، وهم يَتَقيَّئونَ ولا تُغْسَلُ أفواهُهم، وكذلك البيعُ والشراءُ بالسعرِ لم يزلْ واقعًا في الإِسلامِ حتى إنَّ مَنْ أنكره لا يجدُ منه بُدًّا، فإنه يأخذُ من اللَّحَّام والخَبَّاز وغيرهما كلَّ يومِ ما يحتاجُ إَليه من غير أن يساوِمَهُ على كلِّ حاجة، ثم يحاسبُهُ في الشهر أو العام، (ق / 339 ب) ويُعطيه ثمنَ ذلك، فما يأخُذُه كلَّ يوم إنَّما يأخذُ بالسعر الواقع من غير مساوَمَةٍ، وكذلك الإجارةُ بالسِّعر في مثلِ دخول الحَمَّامِ، وغَسْلِ الغَسَّال، وطبخِ الطَّبَّاخِ والخَبَّاز وغيرهم، لم يزل الناسُ يفعلون ذلك من غير تقدير إجارَةٍ، اكتفاءً منهم بإجارة المثْل.
وقد نصَّ اللهُ تعالى على جوازِ النِّكاحِ من غير تسميةٍ، وحَكَمَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – بِمَهْرِ المِثْل (1)، فإذا كان هذا في النكاحِ، ففي سائرِ العقود من البيوعِ والإجاراتِ أولى وأحْرى.
وقول القائل: “الصَّداقُ في النِّكاح دخيلٌ غيرُ مقصودٍ ولا ركنٌ”، كلامٌ لا تحقيقَ وراءَهُ، بل هو عِوَضٌ مقصودٌ، تُنْكَحُ عليه المرأة، وتُرَدُّ بالعَيْب، وتطالبُ به، وتمنعُ نفسَها من التسليم قبل قبضه، حيث يكونُ لها ذلك، وهو أحقُّ أن يُوَفَّى به من ثمن المَبِيع وعِوَضِ الإجارَة، فهو في هذا العقد أدخل من ثمن المَبيعِ وعِوَضِ الإجارة فيهما؛ لأن
__________
(1) كما في قصة بَرْوَع بن واشق، كما في الحديث الذي أخرجه أحمد: (7/ 175 رقم 4099)، وأبو داود رقم (2114)، وابن ماجه رقم (1891)، والنسائى: (6/ 122)، وابن حبان “الإحسان”: (9/ 408)، والحاكم: (2/ 180 – 181) وغيرهم من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-.
والحديث صححه الترمذي وابن حبان والحاكم والبيهقي.

(4/1424)


منافعَ الإجارةِ والأعيان المَبيعة قد تُسْتَباحُ بغير عِوَضٍ، بل تُباحُ بالبَدَلِ، بخلاف منفعةِ البُضْعِ، والمرأةُ لم تبذلْ بضعَها إلاَّ في مقابلة المهر، وبضعُها أعزُّ عليها من مالِها، فكيف يقال: إنَّ الصَّداقَ عارِيَّةٌ في النِّكاحِ غيرُ دخيل فيه، وهل هو إلاَّ أحقُّ بالوفاء من ثمنِ المَبيع.
والذي أوجبَ لمن قال: إنه دخيلٌ (1) في العقد، أنهم رَأوا النكاحَ يَصِحُّ بدون تسمية، فدلَّتْ (2) على أنه ليس ركنًا في العقد، فهذا هو الذي دَعاهم إلى هذا القول.
وجوابُ هذا: أن النكاحَ لم ينعقدْ بدونه ألبتَّةَ، وإنما انعقدَ عند الإطلاق بصدَاقِ المِثْلِ، فوجَبَ صَدَاقُ المِثْلِ بنفس العقدِ، حتى صار كالمُسمَّى، وجعل الشارع سكوتَهم عنه بمنزلةِ الرِّضى به وتسميته، فلِم ينعقدِ النكاحُ بغيرِ صَدَاقٍ، وإنما انعقدَ (3) بغير تسمية صَداقٍ، وفرْقٌ بينَ الأمرينِ.
والمقصود أن الشارعَ جوَّزَ أن تكونَ أعراضُ المبيعاتِ، والمنافعُ في الإجاراتِ، ومنفعةُ البُضْعِ منصرفة عند الإطلاق إلى عِوَضِ المِثْلِ، وإن لم يُسَمَّ عند العَقْدِ، وليسَ هذا موضعَ تقرير هذه المسائل، وإنما أشرنا إليها إشارةً.
قال: وسألتُه عن الرجل يشتري الثوبَ بدينار ودرهم؟ فقال: لا بأس به، قلت: فإن اشتراه بدينار غير درهم، قال: لا يجوزُ هذا (4)
__________
(1) (ق وظ): “غير دخيل” وهو خطأ!.
(2) (ق وظ): “فدل”.
(3) من قوله: “عند الإطلاق … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(4) نصّ عليه -أيضًا- في رواية الكوسج رقم (11).

(4/1425)


وسمعتُه سئل عن المُكَحَّلَة (1) قال: لا يشتري بها شيئًا، ولكن إذا كان لك على رجلٍ دراهم فأعطاك مُكَحَّلَةً فخذ منه، كأنك أخذتَ دون حَقِّكَ. ورأيته يشدِّدُ في المُزَبَّقة (2) جدًّا.
وسئل عن رجل كان ساكنًا، فقال له صاحبُ الدار: تحوَّلْ، فقال الساكنُ: قد دفنتُ في دارك شيئًا، فقال صاحبُ الدَّار: ليس ذلك لك، فقال أبو عبدٍ الله: ينبشُ كلُّ واحدٍ منهما ما دفن، فكلُّ من أصاب الوصفَ كان ذلك له، أو نحو ذلك.
قلت: هذا له ثلاثةُ أصول:
أحدُها: وصفُ اللُّقَطَةِ، فإنه يُوْجِبُ أو يُسَوِّغُ على القولِ الآخر دفعها إلى الواصف.
الثاني: الدعوى المتأيدة بالظَّاهر والعادة، كدعوى كُلٍّ من الزوجين ما يصلح له دونَ صاحِبِه، فإنه يُعطاهُ بدعواهُ المتَأَيِّدةِ بالظَّاهر (3) والعادة.
الثالث: إن العلمَ المستفادَ من وصف أحدهما له بصِدْقه أقوى من العلم المستفاد بالشاهِد الواحدِ واليمين، أو نكولِ الخصمِ، وهذا مما لا سبيلَ للنفسِ إلى دفعِهِ، ومحالٌ أن يحْكَمَ بالأضعف، ويُلْغَى حُكْمُ ما هو أقوى منه، والذي منع منه الشرعُ أن المُدَّعِيَ لا يُعطى بدعوى مجرَّدة لا دليل معها شيئًا، فإذا تميَّزَتْ بدليل لم يُحْكَمْ له
__________
(1) يعني: الدراهم المزيفة، انظر: “بدائع الصنائع” (7/ 395).
(2) تحرفت في المطبوعات إلى: “الشريعة”! ودرهم مُزَأبق مطلي بالزئبق، والعامة تقول: مُزبَّق. “اللسان”: (10/ 137)، وانظر: “مسائل صالح” رقم (158)، و “مسائل أبي داود”رقم (1233 وما بعدها).
(3) من قوله: “كدعوى … ” إلى هنا سقطت من (ق).

(4/1426)


بدعوى مجرَّدة، ولهذا يحكمُ له بالشاهدين تارةً، وبالواحد تارةً (1)، وبالنُّكولِ تارةً، وبالقرائنِ الظاهرةِ وبالصِّفَة وبالشَّبَهِ (2)، وهذا كُلُّه أمرٌ رائدٌ على مجرَّدِ الدَّعوى، فلم يحكمْ له بدعوى مجرَّدة، وأين تقَعُ معاقدُ القُمُط ووجوهُ الآجُرِّ والخصِّ (3) من الصِّفَةِ هاهنا، وفي اللُّقطة والله الموفق.
وقال أحمد: إذا ادعى أحدُهم الدارَ أجمع، قال الآخر: لي نصفُها، فهي بينَهما نصفانِ، وقد يقولُ بعضُ الناسِ: هي بينَهما ثلاثةُ أرباع لمدَّعي الجميعِ، وللآخرِ الرُّبُعُ.
قلت: وجهُ هذا: أن مدَّعي النِّصفِ قد اعترفَ أن النِّصفَ الآخر لا حقَّ له فيه، فلا منازعَ لخصمِه فيه، فينفردُ به وخصمُهُ ينازعه في هذا النصفِ المدَّعى، وكلاهما يَدَّعِيه، فهما فيه سواءٌ.
ووجهُ المنصوص وهو القياسُ: أن أيديهما على الدَّار سواءٌ، فلكلِّ واحدٍ نصفُها، ومُدَّعي الكلِّ يَدَّعي النصفَ الذي للآخر وهو يُنْكِرُهُ، فلو أُعطي منه شيئًا لأعطيَ بمجرَّد دعواه، وهو باطلٌ، فإن خصمَه إنما يُقِرُّ له بالنِّصفِ، فلأي شيء يُعطى نصفَ ما بيدِ خصمِه بمجرَّد الدعوى، فهذا القولُ ضعيفٌ جدًّا.
وقولهم: “إنهُ يُقِرُّ (4) لخصمِه بالنِّصفِ، فينفردُ به، وهما متداعيانِ للنصف الآخرِ، فيقسم بينهما”.
__________
(1) بعده في (ظ) فقط: “وبالمرأة تارة”.
(2) (ق): “وبالشبهة”.
(3) انظر ما تقدم (3/ 1036).
(4) (ق وظ): “مقر”.

(4/1427)


فجوابه: أن استحقاقَ خصمِهِ للنصفِ لم يكن مستنِدًا إلى إقراره له به، بل النصفُ له، سواءٌ أقرَّ له به خصمُه أو نازعَهُ، فإقرارهُ إنما زادَه تأكيدًا، ويدُ كلِّ منهما مثبتةٌ (1) لنصف المُدَّعَى، وأحدُهما يقول لصاحبه: ليست يَدُكَ يدَ عُدْوانٍ، والآخرُ يقولُ لُمدَّعي النِّصفِ: يَدُكَ يدُ عُدْوانٍ، فلو قضينا له بشيءٍ مما بيدِ خصمِه لقضينا له بمجرَّدِ قولِهِ ودعواه، وهذا لا نَصَّ ولا قياسَ، واللهُ أعلم.
وقال له رجل: أكري نفسي لرجلٍ أُلْزِمُ له الغُرَماء؟ قال: غيرُ هذا أعجبُ إليَّ.
وسمعته يقول: ما أقلَّ بَرَكَةَ بيْع العقار إذا بيع.
وقيل له: ما تقولُ في رجل اكترى من رجل دارًا، فوجد فيها كناسةً، فقال صاحب الدار: لم يكن هذا في داري، وقال السَّاكنُ: بل (2) قد كان في دارِك؟ فقال هو على صاحبِ الدار.
سألتُ أبا عبد الله عن الصَّائغ يغسلُ الفِضَّةَ بدُرْدِي (3) الخمر؟ قال: هذا غِشٌّ، لعلَّ الفضة تكون سوداء فَتَبْيَضُّ.
أملى عَليَّ أبو عبد الله: إنما على الناس اتِّباعُ الآثارِ عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ومعرفةُ صحيحها من سقيمها، ثم بعد ذلك قولُ أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا لم يكنْ قولُ بعضِهم لبعض مخالفًا (4)، فإن اختلفَ نُظِرَ في الكتاب، فأيُّ قولهم كان أشبَهَ بالكتابِ أُخِذَ به،
__________
(1) (ع): “مبينة”.
(2) (ق وظ): “بلى”.
(3) الدُّرْدي: ما يبقى في أسفل كل مائع كالأشربة والأدهان. “اللسان”: (3/ 166).
(4) في النسخ بالرفع. ويصح أن تكون الجمل التي بعدها مبنية للمعلوم.

(4/1428)


وبقولِ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أُخِذَ به، فإذا لم يأتِ عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – ولا عن أحد من أصحاب النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – نُظِرَ في قول التَّابعينَ، فأيّ قولهم كان أشبهَ بالكتاب والسنة، أُخِذَ به وتُرِكَ ما أحدثَ الناسُ بعدَهم.
سمعتُ أبا عبد الله وقد سُئِلَ عن الرجل يسألُ عن الشيءِ من المسائلِ، فيرشدُ صاحبَ المسألةِ إلى رجلٍ يسألُهُ؟ قال: إذا كان رجلًا متِّبَعًا أرشدَه إليه فلا بأسَ.
وقال: ابنُ أبي ذئب أصلَحُ (1) في تَدَيُّنِهِ وأوْرعُ وأقوَمُ بالحقِّ من مالكٍ عند السلاطين، فدخل ابن أبي ذئب على أبي جعفر فلم يَهُلْهُ أن قال له بالحقِّ، وكان يُشَبَّهُ ابنُ أبي ذئب بسعيد بن المسيَّب في زمانه (2).
قلت: رجل يُقرئ رجلًا مئتي آية ويُقرئ آخرَ مئة؟ قال: ينبغي له أن ينصفَ بين الناس. قلت: إنه لِأخذُ على هذا مئتي آية لأنه يرجو أن يكونَ عاملًا به، ويأخذ على هذا أقلَّ لأنه لم (3) يبلغْ مبلَغَ هذا في العمل؟ قال: ما أحسن (4) الإنصافَ في كلِّ شيءٍ.
وسمعت أبا عبد الله وذُكر عنده أبو الوليد (5)، فقال: هو شيخ الإسلام (6).
__________
(1) (ق) وحدها: ” … ما رأينا أصلح”!.
(2) وانظر نحوه وأطول منه في “مسائل صالح بن الإمام أحمد” رقم (805، 810، و “السير”: (7/ 144).
(3) (ظ): “لم يكن … “.
(4) (ع): “ما أحسن هذا … “.
(5) أي: الطيالسي.
(6) وانظر: “تهذيب التهذيب”: (11/ 46).

(4/1429)


أبو عبد الله، عن عبد الوهاب، عن سعيد، عن قَتَادةَ، عن أبي خالد (1)، قال: ذكر له أن موسى لما أخذ الألواحَ قال: رَبِّ إني أجدُ في الألواحِ أمَّةً هم الأوَّلونَ والآخِرونَ السَّابقُون، قال قَتَادةُ: هم الأوَّلونَ في العَرْضِ يومَ القيامة، وهم الآخروُن في الخَلْق، السَّابقونَ (2) في دخول الجَنَّةِ، اجْعَلْهم أُمَّتي، قال: تلك أمَّة أحمَدَ، قال: إني أجدُ في الألواح أُمَّةً أناجيلُهمِ في صدورِهم، يقرأونها، قال قتادة: وكان مَنْ قَبْلَكُم إنّما يقرأُونَ كُتبَهُم نظرًا، فإذا رفعوها لم يَعوها، ولم يحفظوها، وإنَّ الله أعطى هذه الأمَّةَ من الحفظِ ما لم يعْطِ الأمَمَ قَبْلَها، وذكره إلى آخره (3).
وسألتُ أبا عبد اللَّه عن الطَّعامِ في أرضِ العدوِّ إلى متى يأكلونَ؟ فقال: إذا بلغوا الدَّربَ أَلْقَوْا ما معهم.

[من مسائل ابن هانئ] (4)
قال ابن هانئ (5): سألتُ أبا عبد الله عن الرَّجُل يأخذ من عارضَيْهِ؟
__________
(1) كذا في (ع وظ)، وفي (ق): “قتادة أبي خالد”، لكن في مصادر هذا الأثر لا يوجد ذكر لأبي خالد هذا، بل هو عن قتادة نفسه.
(2) من قوله: “قال قتادة … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(3) أخرجه ابن جرير: (6/ 66) وابن أبي حاتم وعبد بن حميد وأبو الشيخ -كما في “الدر المنثور”: (3/ 227) -.
(4) هذه الزيادة للتمييز: بين سؤالات الفضل بن زياد السالفة، وما سيأتي من سؤالات إسحاق بن هانئ.
ومن هذه الفقرة بدأ اضطراب جديد في النسخ، فكل نسخة من (ع وق وظ) انفردت بترتيب مستقل للمسائل والفوائد، وقد جرينا في الرتيب على ما في (ظ)؛ لأنه الترتيب الذي سارت عليه جميع الطبعات، فلم نر تغييره إلا لمصلحة تقتضي ذلك -كما تقدم نحو ذلك فيما سبق 4/ 1327 – .
(5) “مسائل ابن هانئ”: (2/ 151 – 152).

(4/1430)


قال: يأخذ من اللحية بما فضل عن القَبْضَة.
قلت له: فحديث النبي – صلى الله عليه وسلم -: ” أحْفُوا الشواربَ وأَعْفُوا عن اللِّحَى” (1)؟ قال: يأخذ من طولها ومن تحت حلقِه، ورأيت أبا عبد الله يأخذُ من عارضَيْه، ومن تحتِ حَلْقِهِ.
قال (2): ورأيتُ أبا عبد الله يأخذُ من حاجبِهِ بالمِقْراضِ.
قال (3): وسألته عن خَاتَمِ الحديدِ؟ فقال: لا تَلْبَسْهُ.
وسئل عن جُلود الثعالب؟ قال: البَسْهُ ولا تُصَلِّ فيه (4).
وسئل عن السَّراويل أحَبُّ إليك أم المآزر فقال: السَّرَاويلُ مُحْدَثٌ، ولكنه أستر (5).
قال ابن هانئ (6): خرج أبو عبد الله على قومٍ في المسجد، فقاموا له، فقال: لا تَقومُوا لأحدٍ، فإنه مكروهٌ.
قال (7): وكنتُ مع أبي عبد الله في مسجدِ الجامعِ، فصلَّيْنا، ثم رجَعْنا فقعدَنا، واستراحَ (8) وأنا معه، فجاء رجلٌ كأنه محمومٌ فقال:
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (5892)، ومسلم رقم (259) من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما -.
(2) “المسائل”: (2/ 149)، ثم ذكر عن الحسن أنه كان يأخذ من حاجبه.
(3) “المسائل”: (2/ 147).
(4) المصدر نفسه: (2/ 146).
(5) المصدر نفسه: (2/ 147)، وفي (ع): “المئزر”.
(6) المصدر نفسه: (2/ 180).
(7) المصدر نفسه: (2/ 176).
(8) في “المسائل”: “فقعد فاستراح”.

(4/1431)


يا أبا عبد الله: إني كنت شارب مسكرٍ، فتكلَّمت فيك بشيءٍ، فاجعلني فى حِلٍّ:
ففال: أنتَ في حِلٍّ إن لم تَعدْ، قلت: يا أبا عبد الله لمَ قلتَ له لعله يعود؟ قال: ألم ترَ إلى ما قلت له: إن لم يَعدْ، فقد اشترطت عليه، ثم قال: ما أحْسَنَ الشرطَ، إذا أراد أن يعودَ فلا يعودُ إن كان له دِين.
قلت: وهذا صريح في جواز تعليقِ الإبراءِ على الشرط، وهو الصوابُ.
وقال إسحاق بن هانئ (1): قال رجل لأبي عبد الله: أوصني، فقال: أعِزَّ أمرَ الله حيثما كنت يُعِزَّكَ الله.
وقال لي (2): يا إسحاق ما أهون الدُّنيا على اللهِ عز وجل، قال الحسن:. أَهِينوا الدنيا، فوالله إني لأهنأ ما يكون حين تُهان:
وقيل له: ما معنى الحديث: “لا يقُمْ أحدٌ لأحدٍ” (3)؛ فقال: إذا كان عنى جهةِ الدُّنيا مثل ما روى معاوية (4)، فلا يُعْجِبُني (5).
__________
(1) “مسائل ابن هانئ”: (2/ 180)
(2) “المصدر نفسه” (2/ 180)، وقول الحسن ليس في “المسائل”.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة: (5/ 233) من مرسل الحسن بلفظ: “لا يقم رجل لرجل، ولكن ليوسع له”، وهو مع أرساله ففيه علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف. وقد جاء في النهي أحاديث أصح من هذا، منها ما أخرجه أحمد: (5/ 253)، وابن أبي شيبة: (5/ 233)، وأبو داود رقم (5230)، من حديث أبى أمامة -رضي الله عنه- بلفظ: “لا تقوموا كما يقوم الأعاجم … “.
(4) بلفظ: “من أحب أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوّأ مقعده من النار” أخرجه ابن أبى شيبة: (5/ 234)، والترمذي رقم (2755)، وقال الترمذي: “هذا حديث حسن”.
(5) “المسائل”: (2/ 182).

(4/1432)


قيل له (1): يقدم الرجل حاجًا فيأتيه الناسُ وفيهم المشايخُ أيقومُ لهم؟ قال: قد قام النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – لجعفر (2).
وفي المعانَقَةِ احتجَّ بحديث أبي ذرٍّ: أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – عانقه (3).
وسألته عن الرجلِ يلقي الرجلَ أيعانِقُه؟ قال. نعم قد فعلَه أبو الدرداء.
ومحوتُ قدامَهُ لوحًا بثوبي (4) فقال: لا تملأ ثيابك سوادًا امحُ اللوحَ برجْلِكَ (5)
وجئته بكتاب من خُراسان فإذا عنوانه: لأبي عبد الله أبقاه الله، فأنكره وقال: أيْش هذا (6)؟!
قال ابن هانئ (7): دفع إليَّ أبو عبد الله يومًا في المسجد ثلاثَ قطع فيها قريب من دانَقَيْنِ فقال. أعطها هذا وأشار إلى رجل، فجاء معي (ظ/238 أ) حتى وَقَفَ عليه، فدفعتها إليه وهو ينظرُ إليَّ، فلما أن دخَلْنا المسجدَ وصليْنا الفريضةَ، إذا نحن بالسَّائلِ يقول: واللهِ -مِرارًا-
__________
(1) “المصدر نفسه”: (2/ 183)، وكذا ما بعده.
(2) أخرجه الحاكم: (3/ 211)، والبيهقي في “الدلائل”: (4/ 246)، وأبو داود رقم (5220) عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- والصواب فيه الإرسال، من مرسل الشعبي.
(3) أخرجه أحمد: (35/ 349 رقم 21443)، وأبو داود رقم (5214)، وفي سنده ضعف؛ لأن فيه رجلًا لم يُسَمَّ.
(4) (ق): “بثيابي”، ووقع في “المسائل”: “بشيء” وهو تحريف.
(5) “مسائل ابن هانئ”: (2/ 184)، وكذا ما بعده.
(6) انظر “معجم المناهى اللفظية”: (ص/ 57، 601).
(7) “المسائل”: (2/ 177).

(4/1433)


ما دفعْ إلَيَّ اليومَ شيءٌ، ولا وقعَ بيدي اليوم شيءٌ.
فلما صِرنا في الطريق، قال لي أبو عبد الله: ألم تَر إلى ذلك السائلَ ويمينَه باللهِ عزَّ وجلَّ! يُروى عن عائشة عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – إن صحَّ-: “لَوْ صَدَق السَّائل ما أفْلَحَ منْ رَدَّهُ” (1).
وقال لي أبو عبد الله: يكذبون خير لنا، لو صدقوا ما وَسِعنا حتى نواسيَهم مما معنا، وما رأيته تصدق في مسجد الجامع غير تلك المرَّة.
ففي هذا جواز الصَّدقَةِ على سؤال المساجدِ فيها، ووجوب المواساةِ عند الحاجةِ، وجواز رواية الحديث الضعيفِ مُعَلَّقًا باشتراطِ الصّحّة.
فصل
إذا سبَّحَ أحدٌ في مسألة، فإن كان السائلُ سأله عن تحريمِها أو كراهتِها، فهو تقريرٌ لما سأله عنه، كقول ابن منصور (2) له: يُكْرَه التحريش بين البهائم؟ قال: سبحان الله! إي لَعَمْري.
وإن سبَّحَ جوابًا للسائلِ، فإن كان قرينة ظاهرةٌ في التحريم حمل عليه، وإلا احتمل وجهين: التحريم والكراهَةِ.
وإن قال: لا ينبغي فهو للتَّحريم، وإن قال: ينبغي ذلك، فهل هو للوجوب أو الاستحباب (3)؟ على وجهين، والصّواب: النظرُ إلى القرينةِ.
قال. إسحاق بن منصور (4): “قلت لأحمد: المتمتعُ (ق/ 341 ب)
__________
(1) تقدم تخريجه: 3/ 1151.
(2) يعني: إسحاق بن منصور الكوسج.
(3) (ق): “فهو للوجوب أو الاستحقاق”!.
(4) “مسائل الكوسج”: (1/ ق 225 – نسخة دار الكتب).

(4/1434)


كم يسعى بين الصَّفا والمرْوَة؟ قال: إن طافَ طَوافينِ فهو أجودُ، وإن طافَ طوافًا واحدًا فلا بأسَ.
قلت: كيف هذا؟ قال: أصحابُ النبي – صلى الله عليه وسلم – لما رَجعوا من مِنى لم يطوفوا بين الصَّفا والمروة”.
وكذلك قال في رواية ابنه عبد الله (1)، إلاّ أنه لم يذكر الدليلَ، وكذلك نقل عنه ابن مُشَيْش (2).
وقال ابن منصور: قلتُ لأحمد: إذا عَلِمَ من الرجل الفجورُ أيخبرُ به الناسَ؟ قال: بل يسترُ عليه، إلا أن يكون داعية، وزاد إسحاق: يخبرُ به عند الحاجةِ في تعديل أو تجريح أو تزويج.
قلت: يُكْرَهُ الخِضَابَ بالسَّواد؟ قال: إيْ واللهِ مكروهٌ. قال إسحاق كما قال شديدًا، إلا أن يريدَ به تزيُّنًا لأهلِهِ ولا يَغُرُّ به امرأة.
قلت: يكرهُ أن يقولَ الرجل للرجل: فِدَاك أبي وأمي؟ قال: يكرهُ أن تقولَ: جعلني اللهُ فِداكَ، ولا بأس أن تقول: فداكَ أبي وأمي، قال إسحاقُ كما قال (3).
قال حرب: باب من تزَوَّجَ امرأة ولم يدْخل بها فجاءت بولدٍ. قال أحمد في رجل تزوَّجَ امرأة لم يدخلُ بها وإنها وَلَدَتْ ولدًا: إنه لا يلزمُهُ.
__________
(1) “المسائل” رقم (922، 1001).
(2) وللإمام رواية أخري وهي وجوب السعي مرتين للمتمتع، نقلها ابن هانئ: (1/ 141)، وأبو داود: (ص/ 181). واختار شيخ الإسلام الرواية الأولى كما في “الفتاوى”: (26/ 36،)، وانظر: “تهذيب السنن”: (2/ 384).
(3) “مسائل الكوسج”: (2/ ق 212)، وإسحاق هنا هو: ابنَ راهويه، لأن سؤالات الكوسج للإمام أحمد ولابن راهويه.

(4/1435)


قال ابن منصور: قلت لأحمد: في كم تُعْطى الدِّيَةُ؟ قال: لا أعرف فيه حديثًا إلا إذا كانت العاقلةُ تقدر أن تحملَها في سنة، فلا أرى به بأسًا، ويُعجبُني ذلك.
قال ابن منصور: في ثلاث سنين، كل سنة ثلُثًا؛ لأنه وإن لم يكنِ الإسنادُ متَّصِلًا عن عُمَرَ (1)، فهو أقوى من غيرِه.

ومن مسائل ابن بَدِينا محمد بن الحسن (2)
سمعتُ أبا عبد الله سئل: تحضرُ الجمعةُ والجنازةُ، ونخافُ الفوتَ، فبأيِّهما نبدأُ؟ قال: يُبدأ بالجنازَةِ. كذا فيه، وهو غلطٌ من الكاتب، وإنما الصواب يُبدأُ بالجُمُعَة.
حدثني أبو بكر الأثرم قال: قلت لأبي عبد الله: روى شعبةُ، عن قَتَادَةَ، عن أنس أنه كرِهَ إذا أعتقَ الأمَةَ أن يَتزوَّجَها، قال: نعم إذا أعتقها لوجهِ الله كره له أن يرجعَ في شيء منها، فأما إن أعتَقها ليس لوجهِ الله، إنَّما أعتَقَها. ليكون عِتْقُها صداقَها فجائز.
وروي بإسناده عن صُهَيْب، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (ظ/238 ب) “مَنْ تَزَوَّجَ امرأة ونوَى أنْ يَذهَبَ بِصَدَاقِها، لَقِيَ الله وَهُوَ زانٍ” (3).
__________
(1) أخرج عبد الرزاق: (9/ 420)، وابن أبي شيبة: (5/ 406)، والبيهقي: (8/ 109) عن الشعبي: “أن عمر جعل الدية الكاملة في ثلاث سنين … “، وأخرجه عبد الرزاق عن أبي وائل عن عمر.
(2) هو: محمد بن الحسن بن هارون بن بَدِينا، أبو جعفر الموصلي، حدث عن الإمام أحمد ت (303). “طبقات الحنابلة”: (2/ 280).
(3) أخرجه أحمد: (31/ 260 رقم 18932)، وابن ماجه رقم (2410)، وسعيد بن منصور رقم (659): وغيرهم من حديث صهيب بن سنان -رضي الله عنه- وإسناده ضعيف.

(4/1436)


ومن مسائل أبي علي الحسن بن ثَوَاب (1)
قال؟ قلت: الرجلُ يُقَالُ له: اشْهَد أن هذه فلانة؟ قال: إذا كانتْ ممن قد عُرفَ اسمُها، ودُعِيَتْ، فذهبتْ وجاءت، فليشهدْ، وإن كان لا يعلم ما اسمُها فلا يشهدُ.
قلت: ولا يجوز أن يقولَ الرجلُ للرجل: اشهد -إذا كان عندَه ثقة- أن هذه فلانةٌ، فيشهد على شهادةِ ذلك الرجل؟ قال: إذا عَرفْتَ فاشهدْ.
قلت: رجلٌ رهن دارًا عند رجل، فتصدَّقَ بها في المساكين؟ قال: ليس هذا بمنزلة العِتْق، لا يجوز.
قلت: رجلٌ زنى بامرأة أبيه تحرم عليه امرأتُه؟ قال: نعم.
ومعنى هذا القول: أن يكون رجلٌ تزوَّجَ امرأة وابنه بِنْتها، ثم وطئ الابنُ أمَّ زَوْجِته (2).
قلت: رجلٌ حفرَ بئرَا؟ قال: إن كان مما أخذه به السلطان فلا
يضمنْ، وإن كان مما أراد بها (ق/343 أ)، النفعَ لداره، أو ليحدثَ فيها الشيءَ ضَمن، وضمِنَ الحفار معه، إذا جاء به إلى طريق وهو يعلمُ [أن] مثله لا يكون ملكا له، فحفر له، شاركَه في الضَّمَان.
قلت: فإن كان حَفَرَ نصفَها في حَده، ونصفَها في فِنَائِهِ، فوقع
__________
(1) هو: الحسن بن ثواب أبو علي التَّغْلِبي المخَرِّمي، كان له بأبي عبد الله أنس شديد، وكان عنده مسائل كبار عنه لم يجيء بها غيره ت (268).”طبقات الحنابلة”: (1/ 352 – 354).
(2) انظر “مسائل صالح” رقم (627).

(4/1437)


فيها رجلٌ؟ قال: يضمن ولا يضمن الحفارُ.
قلت: فإن أخذ الحفار، قال: إن علم أن هذا الذي حفر لم يكن له، ضَمِنَ، وإن قال: جئتُ إلي شيء أظنُّ (1) أنه ملك لهذا، فليس عليه شيءٌ.
قيل له: فما ترى في رجل حفر بئرًا قامَةً، فجاء آخرُ فحفرها حتى وصلَ الماء، فوقع فيها رجلٌ لمن (2) يلزم الضمان؟ قال: بينهما.
قلت: ما ترى في المرأة تحجُّ أو تسافر من (3) غير مَحْرَم؟ قال: أعوذ بالله.
قلت: ترى إن حَجَّتْ من غيرِ مَحْرَم يبطل؟ قال: أعوذُ بالله (4)، إن حَجَّها جائزٌ لها، ولكنها أتت غَيْرَ ما أمرها النبي – صلى الله عليه وسلم – (5).
قلت. ما تقولُ في رجل مملوك، له أبٌ حرٌّ وأولادٌ أحرارٌ من امرأةٍ حُرَّةٍ، مات العبد ولاء ولدِه لمن؟ قال:. لِموَالي أمِّهِ.
قلت: إن بعضَهم يزعُمُ أن الجَد يجُرُّ ولاءَهم،. قال: ليس هذا ذاك، الذي يَجُرُّ الجَدُّ ولاءَهم، إنما ذاك في رجل مملوك، وله: أبٌ مملوك، وأولاد أحرار، مات الرجلُ المملوكُ والجَد مملوك، ثم إن الرجل عَتَقَ فهو يجُرُّ ولاءَهم؛ لأنه عَتَقَ بعد موتِ ابنه.
قيل له: ما ترى في رجل حَفَر في داره بئرًا، فجاء آخَر فحفر في
__________
(1) (ق): “بظن”.
(2) (عَ): “لم”.
(3) (ق): “مع”.
(4) من قوله: “قلت: ترى … ” إلى هنا ساقط من (ع).
(5) انظر: “مسائل صالح” رقم (626)، و”مسائل ابن هانئ”: (1/ 142)

(4/1438)


دارِه بئرًا إلي جانِب الحائط الذي بينَه وبينه، فجرَّت هذه البئر ماءَ تلك البِئر؟ قال: لا تسدُّ هذه من أجل تلك، هذه في ملك صاحبها.
ومن مسائل أبي بكر أحمد بن محمد بن صدقة (1)
قال سمعتُ أبا عبد الله وسئِل عن رجل قال: “بسم الله التَّحِيَّاتُ”، وقال: لا تقل “بسم الله” (2)، ولكن لتَقُل: “التَّحِيَّات للهِ”.
وسُئِل عن الرجل يشهدُ وهو رديءُ الحفظ؟ قال: يكتبه هو عندَه، فقال: فإنْ وَدَعْتُ الشهادةَ أصلًا آثَمُ (3)؟ ثم قال: إن كان يضُرُّ بأهل القريةِ ومثلُك يُحْتاج إليه، فلا تفعلُ.
وسُئل عن مسجد إلى جنب رجلٍ، ومسجدٍ آخرَ كان أبوه مؤذنه (4): أترى أن أصلِّيَ في المسجد الَذي إلى جنبي؟ قال: إن كانا عَتِيْقَين (5) جميعًا فكلما بَعدَ فهو خيرٌ (6).
وسئل عن حديث أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “لا غرارَ (7) في
__________
(1) هو: أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الله بن صدقة، نقل عن الإمام أحمد مسائل، ت (293). “طبقات الحنابلة” ت (1/ 155 – 157).
(2) (ظ) زيادة: “التحيات”.
(3) “أصلًا” ليست في (ع)، ويمكن ضبط العبارة على الإخبار: “فإن وُدِعَتِ الشهادة أصلًا أثِمَ”. لكن ما بعدها يؤيد ما أثبته من الضبط.
(4) (ظ): “يؤذن فيه”.
(5) فى جميع المطبوعات: “كان عهد”!.
(6) وانظر: “مسائل ابن هانئ”: (1/ 70).
(7) كذا في النسخ، وفي بعض مصادر الحديث: “إغرار”، قال أبو عبيد في “غريب الحديث”: (2/ 130): “رُوي عن بعض المحدثين هذا الحديث: “لا إغرار … ” بالألف، ولا أعرف هذا الكلام وليس له عندي وجه”، وقد سأل الإمام أحمد =

(4/1439)


الصَّلاةِ ولا تَسلِيمَ” (1) قال: الإغرارُ عندنا أن يُسَلِّمَ منها ولا يكمِلُهاْ، وأما التسليمُ فلا أدري (2).
قيل له: حديثا ابن عمر أنه كان يحتجمُ ولا يتوضَّأ (3)؟ قال: لا يصحُّ لأنَّ ابن عمر كان يتوضَّأُ من الرُّعاف (4).
وسئل عن الرجل يعطي أخاه أو أختَه من الزَّكاة؟ فقال: نعم، إذا كان لا يخافُ مَذَمَّتَهُم، وإن كان قد عَوَّدْتَهمْ فأعْطِهِم.
وسئل عن رجل توضأَ بأقلَّ من مُدٍّ، واغتَسَل (ق/3/ 3 ب) بأقلَّ من صاع؟ فقال: (ظ/239 أ) ما سمعنا بأقلَّ من مُدِّ، النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – اغتسل بالصَّاع وتوضَّأَ بالمُدِّ (5).
وَسئلَ عن الرجلِ يموتُ فيقول: وارثي فلان، فيقال له: كيف هذا، وارثُك فلان، وفلانٌ أقربُ إليك منه ببطنٍ؟! قال: ليس ذاك وارثي؛ لأن فلانًا جَدّه كان دَعِيًّا. وينكِر ذلك أهل القرية والجيرانُ،
__________
= أبا عَمْرو الشيباني عن معنى: “لا إغرار” فقال: إنما هو: “لا غِرار .. ” “المسند”: (16/ 29).
(1) أخرجه أحمد: (16/ 27 رقم 9937)، وأبو داود رقم (928)، والحاكم: (1/ 264)، وصححه علي شرط مسلم.
(2) وانظر في معنى الحديث “معالم السنن”: (1/ 569)، و”شرح السنة”: (12/ 257)، و”النهاية”: (3/ 357) لابن الأثير، و “المسند”: (16/ 29)، و”السنن”: (1/ 570)، وقد نقل أبو داود عن الإمام أحمد معنى الغرار في التسليم.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة: (1/ 47)، والبيهقي: (1/ 140).
(4) أخرجه مالك في “الموطأ” برقم (88). وأخرج ابن أبي شيبة: (1/ 128) أن ابنَ عمر عصر بثرة في وجهه فخرج شيءٌ من دم وقيح بين أُصبعيه فحكه ولم يتوضأ”، وانظر “المصنف”: (1/ 339) لعبد الرزاق.
(5) أخرجه البخاري رقم (201)، ومسلم رقم (325) من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-، وانظر “التلخيص الحبير”: (1/ 153).

(4/1440)


وفي الشائع المستفاض: أن هذا الذي زعم أنه جَدهُ فىَ دعيٌّ وارِثي أقربُ إليه، يُقْبَل قولُه؟ قال: لا يقبلُ قوله، “الولدُ للفِراش”.
وسئل عن المجوسيَّة تكون تحتَ أخيها أو أبيها (1) فيطلَقُها أو يموتُ عنها، فيرتفعانِ إلى المسلمين ألمهَا مَهْرها؟ قال أحمد: لم يُسْلِما؟ قال: لا، قال: فليس لها مهرٌ.
وسئل عن الدرهم: إذا رأيتُه مطروحًا آخُذهُ؟ فقال: لا تَأْخُذه، فإن أخَذَهُ يُعَرِّفُهُ سنة، للخَبَر.
وسُئِلَ عن أحاديث وهب بن مُنبهٍ، عن جابرٍ: كيف هي؟ قال:
أرجو، ولم يكن إسماعيل يحدِّثُ بها ونحن ثمَّةَ، وكتبت أنا عن إبراهيم بن عقيل بن مَعْقِل -شيخًا كبيرًا- حديثين منها، ولم يكنْ إسماعيلُ يحدِّث وأرجو، وعَقيلُ بن مَعْقِل أحبُّ إليَّ من عبد الصمد (2).
وسئل عن رجلٍ حلف (3) بصدقة ما يملكُ؟ فقال: كفارة (4) يمين، فقيل له: ثلاثينَ حجَّة؟ قال: لا أُفتي فيه بشيء.
وسئل عن الرجلِ يعزي الرجل، يصافِحُه؟ قال. ما أذكرُه، ما سمعتُ.
وسئل عن حديث النبي – صلى الله عليه وسلم -: “لا تَأتوا النِّساءَ طُرُوقًا” (5) قال: نعم
__________
(1) (ق): “ابنها”.
(2) عقيل وعبد الصمد ابنا مَعْقِل بن مُنبِّه أخو وهب.
(3) (ع): “حاز”!.
(4) (ظ): “هذه”.
(5) أخرجه البخاري رقم (1801)، ومسلم رقم (715) من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-.

(4/1441)


يؤذنهنَّ، قال: بكتابٍ؟ قال: نعم.
ورأيتُه لما بَلَغَ المقابرَ خَلَعَ نعنيْهِ، ورأيته لما حَتى الترابَ على الميِّتِ انصرف ولم يجلس.
قال أحمد في رواية المرُّوذيِّ: من اشترى ما يُكالُ فكاله البائعُ، فوجدَه المشتري زائدًا، فقد يَتَغابَنُ الناسُ بالقليل، فإن كان كثيرًا. رَدَّهُ إليه.
قيل له: في القَفيز مكُّوْكٌ (1)؟ قال: هذا فاحشٌ يَردُّه. قيل: فكَيْلَجَة (2) ونحوه؟ قال: هذا قد يتغابن الناس بمثله. ِ
وقاك في رواية أحمد بن الحسن التِّرْمذي: العِينةُ عندنا أن يكون عند الرجلِ المتاع، فلا يبيعُه إلاَّ بنسيئةٍ فإن باع بنقدٍ ونسيئة فلا بأسَ.
وقال في رواية ابن القاسم (3) وسِندي: أكرهُ للرجل أن لا يكون له عادةٌ غير العِينةِ، لا يبيعُ بنقدٍ (4).
__________
(1) المكُّوك: مكيال، وهو ثلاث كَيْلَجات.
(2) الكَيلَجة: مكيال، وهى مَن وسبعة أثمان مَنِ. انظر: “مختار الصحاح”: (ص/630)، و”القاموس”: (ص/ 1231).
والمكّوك يساوي: 3.28 كغم، والكيلجة تساوي: 1.088 كغم، انظر: “مجلة الحكمة” عدد / 23/ 1422، ص/ 209 – 212. مقال: “تحويل المكاييل والموازين للأوزان المعاصرة” لمحمود الخطيبِ.
والقفيز: مكيال يساوي ثمانية مكاكيك، وهو يساوي: 1.26 كغم.
(3) من أصحاب أحمد اثنان كلاهما يقال له: أحمد بن القاسم، الأول يعرف: بصاحب أبي عبيد، وله عن الإمام أحمد مسائل كثيرة، والثاني: “طوسي” روى عن الإمام أشياء. “طبقات الحنابلة”: (1/ 135 – 136).
(4) انظر: “مسائل صالح” رقم (664).

(4/1442)


وقال في رواية صالح (1) -في الذي يبيعُ الشيءَ علي حدِّ الضَّرورةِ، كأنه يوكلُ به السلطان لأخذِ خَراجٍ فيبيحُ فيؤدَي-: (ق/342 أ) لا يعجبُني أن يشتريَ منه.
وقال في رواية حنبل: يُكْرَهُ بيعُ المضطر الذي يظلمه السلطانُ، وكلُّ بيع يكونُ على هذا المعنى فأحب إليَّ أن يَتَوَقَّاهُ لأنه يبيعُ ما يسوى كذا بكذا من الثمنِ الدُّونِ.
وقال في رواية الميموني: ولا بأس بالعُرْبُونِ، وفي رواية الأثرم -وقد قيل له: “نهى النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – عن العُربان” (2) فقال: ليس بشيء، وأحتج أحمد بما روى نافع بن عبد الحارث: “أنه اشترى لعمرَ دارَ السِّجنِ فإن رَضِيَ عُمَرُ وإلا له كذا وكذا” (3).
قال الأثرم: فقلت لأحمد: فقد يقالُ هذا، قال: أيُّ شيء أقول، هذا عمر رضي الله عنه!.
وقال حرب: قيل لأحمد: ما تقولُ في رجل اشترى ثوبًا، وقال لآخر: انقدْ عني وأنتَ شرِيكي؟ قال: إن لم يُرِدْ منفعة، ولم يكن قرضٌ جرَّ نفعًا فلا بأس.
__________
(1) لم أجده في المطبوع.
(2) أخرجه مالك رقم (1781)، ومن طريقه أحمد: (11/ 332 رقم (6723)، وأبو داود رقم (3502)، وابن ماجه رقم (2192) وغيرهم أنه -أي مالك- بلغه عن عَمرو بن شعب عن أبيه عن جده … الحديث.
وسنده ضعيف من أجل جهالة الواسطة بين مالك وعَمرو بن شعيب، وانظر: “التمهيد”: (24/ 176 – 177).
(3) أخرجه ابن أبي شيبة: (5/ 7)، وابن حزم في “المحلي”: (8/ 373) من طريق عبد الرزاق.

(4/1443)


قال حرب: وسئل أحمد عن دار بين ثلاثة، اشترى أحدهم ثُلُثَها بمائة، والآخر الثُّلثَ الآخر بمئتين، والآخر الثُلث الآخر بثلاث مئة، ثم باعوها بغير تعيين مساومةً؟ قال: الثمن بينهم بالسَّوية، لأن أصل الدَّار بينهم أثلاثًا.
وسئل أحمدُ مرَّةً أخرى عن ثوبٍ بين رجلين قام نصفه على أحدهما بعشرين، ونصفهُ على أحدهما بثلاثين، فباعاه مساومةً؟ فقال: قال ابن سيرين الثَّمن بينهما نصفين.
قال حرب: وهو مذهب أحمد. قيل لمَ؟ قال: لأنَّ لكلِّ واحد منهما نصفَهُ، قلت: وإن كان عبدًا؟ قال: وإن كان عبدًا، العبد والدَّابةُ (ظ/239 ب) وكلُّ شيء بهذه المنزلة. انتهى.
قلت: فإن باعوه مُرابحةً، فالثَّمنُ بينهم على قدر رؤوس أموالهم؛ لأن الربح تابعٌ لرأس المال، فإذا كان الربح عشرة فى مئة فقد قابل كلُّ درهمًا فيقسم الثمن بينهم كما يقسم الربح (1)، وقال صاحب “المغني” (2): “نصَّ أحمد على أنهما إذا باعا مرابحةً فالثمن بينهما نصفان، وعنه رواية أخرى حكاها أبو بكر أنها على قدر رؤوس أموالهما” (3).
قال (4) حرب: وسمعتُ أحمد يقول: يأخذ الرجل من مالِ ولدِه
__________
(1) “كما يقسم الربح” سقطت م (ع).
(2) (6/ 277).
(3) ثم قال فى “المغني”: “ولم أجد عن أحمد رواية بما قال أبو بكر. وقيل: هذا وجه خرّجه أبو بكر، وليس برواية، والمذهب الأول” اهـ.
(4) من قوله: “صاحب المغني .. ” إلى هنا ساقط من (ق).

(4/1444)


ما شاء، قلت: وإن كان الأبُ غَنِيًّا؟ قال. نعم، قيل: فإن كان للابنِ فَرجٌ شبهُ الأمَةِ؟ قال: أما الفَرْجُ فلا، وذهبَ إلى حديثِ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: “أنْتَ وَمَالُكَ لأبِيكَ” (1)، وحديث عائشة: “إن أوْلادَكمْ مِنْ كسْبِكمْ” (2).
فصل
قال أحمدُ في رواية أبي طالب -فيمن عندَه رهونٌ لا يَعْرِفُ صاحبَها-: يبيعُها ويَتصَدَّق بها، ولا يأخذ ما على الرَّهن إذا باعه، فإن جاء صاحِبُها غرمَها.
قال ابن عَقِيل: ولا أعرفُ لقولهِ: “ولا يأخُذُ ما على الرَّهْنِ”، وجهًا مع تجويز بيعِها، فإن كان المنع لأجل جهالةِ صاحبِها فيجبُ أن يمنعَ البيعَ والصَّدَقةَ بالثمنِ كما منع من اقتضاء الدَّيْن، وإن لم يمنعْ من الصَّدَقةِ والبيع فلا وجهَ لمنع اقتضاء الدَّيْنِ (3)، ونقل أبو الحارث (4) في ذلك: يبيعُه ويَتصَدَّقُ بالفضل، فإذا جاء صاحبُها كان بالخيار بينَ الأخذِ (5) أو الثمنِ.
قلت: فقد اختلفت الروايةُ عنه في جوار أخذِه حقَّه من تحتِ يدِه.
__________
(1) أخرجه أحمد: (11/ 503 رقم 6902)، وابن ماجه رقم (2292) من حديث عبد الله بن عَمرو بن العاص -رضي الله عنهما- وله شواهد أخرى يتقوي بها.
(2) أخرجه أحمد: (6/ 31)، وأبو داود رقم (3528)، والترمذي رقم (1338)، والنسائي: (7/ 241)، وابن ماجه رقم (2137)، والحاكم: (2/ 46).
قال الترمذي: “هذا حديث حسن صحيح”، وصححه الحاكم على شرط الشيخين.
(3) من قوله: “وإن لم يمنع … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(4) (ظ): “الحكم”.
(5) (ق): “الأجر”.

(4/1445)


قال ابنُ عَقِيل: وأصلُ هاتين الروايتَينِ جواز شراءِ (ق/342 ب) الوكيل من نفسِهِ، وفيه روايتان، كذلك أخْذه من تحت يده يُخرَّج عليهما، وقد تضمَّنَ نصَّاه جواز البيعِ وإن لم يستأذِن الحاكمَ، وتأوَّلها القاضي على ما إذا تَعَذرَ إذن الحاكم، قال: وأما إذا أمكَنَ فلا يجوزُ له ذلك؛ لأنه لا ولاية له على مالِ الغائب، لا بولاية عامَّةِ ولا خاصَّة، ومجرَّد كون مالِ الغير في يدِهِ (1) لا يُوجِب الولايةَ.
قال: وقد نصَّ أحمد فى رواية أبي طالب: إذا كان عندَه رهنٌ وصاحبُا غائب وخاف فسادَه، كالصُّوف ونحوه: يأتي إلى السلطان ليأمُرَ ببيعِهِ، ولا يبيعُهُ بغير إذن السلطانِ، فهذا النصُّ منه يقضي: على ذلك الإطلاق.
قلت: والصوابُ تقريرُ النَّصَّينِ، والفرق بين المسألتين ظاهرٌ، فإنَّ فى الثانية: صاحِب الرهنِ موجودٌ ولكنة غائبٌ، فليسِ له أن يَتَصَرَّفَ في مال الغائب بغير وكاله أو ولاية وهو لا يأمنُ. شكايَتَه ومطالَبَتَا إذا قدِمَ، وهذا بخلاف ما إذا جهل صاحبَ المال، و (2) أيسَ من معرفتِهِ، فإنَّ المعنى الذي في حقِّ الغائب الموجودَ مفقودٌ في حقّ هذا، والله أعلم.
ومن مسائل أحمد بن محمد بن خالد البُراتي (3)
قال: سألتُ أبا عبد الله، فقلت: إذا فاتَتْني أَوَّلُ صلاةِ الإمامِ
__________
(1) (ق): “وبمجرد كون المال فى يده … “.
(2) (ظ): “أو”.
(3) هو: أحمد بن محمد بن خالد بن يزيد بن غزوان، أبو العباس البُرَاثي، روي عن الإمام ت (300). “طبقات الحنابلة”: (1/ 153 – 155). والبُرَاثي -بضم الموحّدة- نسبة إلى “براثا” محلة ببغداد، “معجم البلدان”: (11/ 362).

(4/1446)


فأدركت معه من آخِرِ صلاتِهِ، فما أعتدُّ به أول صلاتي؟ فقال لي: تقرأُ فيما مضى يعني: الحمد وسورة، وفي القعود تقعدُ على ابتداء صلاتِك (1).

ومن خطِّ القاضي أيضًا
نقل مُهَنّا عن أحمد: في أسير في أيدي الروم مكثَ ثلاثَ سنينَ يصوم شعبان وهو يرى أنه رمضان = يُعِيدُ. قيل له: كيف؟ قال: شهرًا على أثرِ شهرٍ، كما يعيدُ الصّلَواتِ.
ونقل عبد الله (2) عنه في الرجل يُكبِّر تكبيرةَ الافتتاح، قبلَ الإمام = هذا ليس مع الإمامِ، يعيد الصلاةَ.
إنما أمَرَهُ بالإعادةِ، ولمِ يجعلْه منفردًا بالصَّلاةِ لأنه نوى الائتمام بمن ليس بإمام؛ لأنه إذا كثر قبله فليس بإمام له، ولم تَصحَّ صلاة الانفراد؛ لأن النية قد بطلتْ، فإن صلى نفسان ينوي كل واحد منهما أنه يأتم بصاحبه لم تصحَّ صلاتُهما؛ لأنه ائتم بغير إمام، فإن صلى نفسان كل واحد منهما نوى أنه إمام صاحبه (ق/344 أ) لم تصحَّ صلاتُهما أيضًا؛ لأنه (3) نوى الإمامَةَ بمن لا يأتم به، فهو كما لو نوى الائتمامَ بغير إمام.
نقل الحسن بن علي بن الحسن (4)، سألت أبا عبد الله عن الرجل
__________
(1) كرر المؤلف نقل هذه الرواية: (4/ 1405) لكن نسبها هناك إلى بكر بن أحمد الراثي. وانظر التعليق عليها.
(2) “المسائل” رقم (536).
(3) من قوله: “ائتم بغير … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(4) هو: الحسن بن علي بن الحسن بن علي الإسكافي، أبو علىِ، عنده عن أبي عبد الله مسائل صالحة حِسان كبار أغرب فيها على أصحابه. “طبقات الحنابلة”: (1/ 364 – 365).

(4/1447)


يُكَبِّرُ خلفَ الإمام يُخَافِتُ أو يعلنُ به؟ قال: لا نعرفُ فيه شيئًا. إنما يُعرف (1) الحديثُ: “إذا كبَرِّ فَكَبِّروا” (2).
قال القاضي: “ظاهر كلامِه التوَقُّف عن جهر المأموم بذلك، ويجبُ أن يكون السُّنَّة الإخفات (ظ/240 أ) في حقِّه كسائر الأذكار في حقه، ولأن الإمام إنما يجهر ليعلَمَ المأموم بدخوله في الصلاةِ: وركوعِه، وإلاَّ فالسّنَّة الإخفاتُ كسائرِ الأذكار (3) غير القراءةِ”. انتهى.
من خط القاضي أبي يَعْلى مما انتقاه من “شرح مسائل الكَوْسج” لأبى حفص البَرْمكي
قال أبو حفص: إذا ترك التَّشَهُدَان صلاته تُجْزِئه، ولا فرقَ عندَه بين التَّشَهُّدِ الأوَّل والثاني، إن تَرَكَهما عامدًا أعاد الصَلاةَ، وإن تَركهما ناسيًا فصلاتُهُ جائزةٌ، وعليه سجودُ السَّهْوِ.
وقال: سجود السهوِ عندَنا واجب إلا أنَّ الصلاةَ لا تَبْطُلُ بتركِةِ.
قال: ومن الأبدال عندَنا ما يكونُ غيرَ واجب، وإن كان مُبْدَلُهُ واجبًا، مثلَ النكاحِ واجب، وجعل النبي – صلى الله عليه وسلم – البَدلَ منه الصيام (4)،
__________
(1) من (ق).
(2) أخرجه البخاري رقم (734)، ومسلم رقم (414) من حديث أبي هريرة، وأخرجاه -أيضًا- من حديث أنس -رضي الله عنه-.
(3) من قوله: “في حقه … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(4) في حديث: “يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج … “. أخرجه البخاري رقم (1905)، ومسلم رقم (1400) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-.

(4/1448)


وهو غير واجب (1).
وقال تعالى: {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}. فبدأ بالسجود، قيل: ذلك فى غير شريعتنا {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً}، ولأن الركوع يسمى سجودًا، والسجودُ ركوعًا بدليل حديث عائشة: “صلى النبي – صلى الله عليه وسلم – الكسوف ركعتين، فى كلِّ ركعة سجدتين” (2) تريدُ: ركوعين، وفي حديث أبي هريرة: “من أدرك من العصر سجدة” (3) يريد: ركعةً. وقال تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)} يريدُ: ساجدًا.
قال أحمد: وإن انغمس فى الماء لا يُجزئهُ حتى يتوضَّأَ (4).
قال أبو حفص: إن كان اغتسالُهُ لغير الجنابة لا يجزئه من وضوئه وإن نوى الوضوء؛ لأن عليه التَّرتيب، وإذا خرج من الماء خرج رأسهُ قبل وجهه؛ ولأن الغُسل لا يقوم مقام المسح، والمنغمس في الماء، فإن مسح برأسه وغسل رجليه بعد أن رتَّب الأعضاء في جوف الماء، فإن مسح برأسه وغسل رجليه بعد أن خرج رأسه من الماء، ويكون قد تمضمض واستنشق أولًا = صحَّ وضوؤُه.
قال أحمد: إذا علَّم رجلًا الوضوء لا يُجزؤهُ، يريد بهذا: إذا لم يَنو الوضوء لنفسه؛ لأن أبا داود (5) رَوى عنه: علَّم رجلًا الوضوء (6) ونوى أجزأه؛ لأن عثمان وعليًّا رضي الله عنهما جلسا يُعلِّمان الناس
__________
(1) “وهو غير واجب” ساقط من (ظ).
(2) أخرجه البخاري رقم (1044)، ومسلم رقم (901).
(3) أخرجه البخاري رقم (556)، ومسلم رقم (608).
(4) انظر: “مسائل عبد الله” رقم (115 – 119).
(5) لم أجده في مسائله.
(6) من قوله: “لا يجزئه يريد .. ” إلى هنا ساقط من (ق).

(4/1449)


وضوءَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكان لهما طُهورًا (1).
عن أحمد ثلاثُ روايات في الجنب، هل يحتاجُ إلى الوضوء؟
إحداهنَّ: يُجْرئُهُ الغسل بلا وضوءٍ.
الثانية: يجزئُهُ الغسلُ لوضوئه إذا نواه.
الثالثة: لا يجزئه حتى يتوضَّأ.
قلت: استشكلَ: بعض الأصحاب (ق / 344 ب) الرِّوايَةَ الأولى، وهي الصحيحة دليلًا؛ لأن حكمَ الحَدَثَ الأصغرِ قد اندرجَ في الأكبر، وصار جُرءًا منه، فلم: ينفردْ بحكمٍ، لاسيَّما وكلُّ ما يجبُ غسلُهْ من الحَدَث الأصغر (2) يجب غسله في الأكبر وزيادة، فهذه الرِّوايةُ هي الصَّحيحةُ، وبهذا الطَريق كان الصحيح أن العُمْرَةَ ليست بفريضةٍ، لدخولها في الحجِّ، والنبيُّ – صلى الله عليه وسلم – علَّقَ الطُّهْرَ بإفاضةِ الماءِ على جميع الجَسَد (3)، ولم يشترطْ وضوءًا، وفَعَله النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – لبيان أكملِ الغُسْل.
قال أبو حفص: إن قيل: النبي – صلى الله عليه وسلم – أفردَ المضمضةَ والاستنشاقَ بالذِّكر عن الوجهِ، فقال: “إنَّ العَبْدَ أذا تَمَضمَض واسْتَنشَقَ، خرَجتْ ذنوبه مِن فيهِ وَمنخَرَيْهِ، فإذا غسَل وَجْهَهُ … ” (4) الحديث.
__________
(1) حديث عثمان في “الصحيحين”، وحديث علي أخرجه أصحاب السنن وأحمد.
(2) من قوله: “قد اندرج … ” إلى هنا ساقط من “ظ”.
(3) فيما أخرجه مسلم رقم (330) عن أم سلمة قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في وصف الغسل: “إنما يكفيك أن تحثي على رأسِك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين”.
(4) أخرجه أحمد: (31/ 423 رقم 19064)، والنسائي: (1/ 74 – 75)، وابن ماجه رقم (282) من حديث الصنابحي. وأخرجه مسلم رقم (832) في حديث عَمرو بن عَبَسة الطويل.

(4/1450)


قيل: لا يمنعُ ذلك أن يكونا من الوجه، كما قال: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44)} [الرحمن: 44]، فلم يمنعْ تمييزه بين الحميم وبينَ جهنَّمَ أن يكون من جهنَّم، ولأنه أفردهما لأنه خصَّ الوجه بمعنى آخرَ وهو خطايا النَّظَرِ، ولأنهُ يمكن فعلهما في حالٍ، فجمَعَ بينهما في الذِّكْرِ، ولا يمكنُ جَمعُهما مع الوجه في الاستعمالِ، فأفردا بالذكر، وإنما لم يَجِبْ غسلُ باطن العينين؛ لأنه يورِثُ العَمَى فسقط للمشقَّةِ.
وفيهما في الغُسل روايتان:
إحداهما: لا يجبُ للمشَقَّةِ.
والأخرى: يَجِب لعدم التَّكرار.
واختلف أصحابنا في المبالغة في الاستنشاق، فقال ابنُ أبي علي (1): هي غيرُ واجبةٍ لأنها تسقُطُ (ظ/240 ب) في صوم التَّطَوعُّ، وقال أبو إسحاق (2): هي واجبةٌ، ولا يدلُّ سقوطُها في الصَّوم على سقوطِ فرضِها في غيره؛ لأن سَفَرَ التطَوعِّ يُسْقِطُ الجُمعَة، ولا تسقطُ في غير السَّفَرِ.
وأجاب أبو حفص: بأن الجمعةَ منها بَدَلٌ، وليس من المبالغة بَدَلٌ.
وأجاب أبو إسحاق: بأنه قد يسقطُ الفرض بالتَّطَوعُّ ولا بَدَلَ، كالسَفَرِ يسقِطُ بعض الصَّلاة.
قال: إلى قيل: يلزمُ أن يجعلَ ما خلفَ الأذُن من البياضِ من الرأسِ؟
قيل: يقول: إنه منه.
قل: يلزمُ أن يجوزَ الاقتصارُ من التقصِيرِ من شعر الأذن؟
__________
(1) كذا في الأصول، ولم أتبينه، ولم أجد من يُعرف بهذا اللقب من الحنابلة، والمسألة مذكورة في كتبهم، ولم تنسب لقائل معيّن، بل إلى الأكثر.
(2) هو: ابن شاقلا.

(4/1451)


قيل (1) لا، عندنا يلزِمُ استيعابُ الرأس بالأخذ من جميع شعره، والمرأةُ تقصر من طرف شعرها أنملة؛ لأن شَعَرها منسبل فهو يأتي على شعرها.
قيل:. يلزمُ أن يجوز الاقتصارُ بالمسح عليهما في الوضوء؟
قيل: في المسح روايتان؛ إحداهما: استيعابُ الجميع، والأخرى: البعض، ولا يجوزُ الاقتصارُ على الأُذُنَيْنِ إجماعًا. وقال: صفةُ مسح المرأة (2): أن تمسحَ من وسط رأسِها إلى مقَدَّمِهِ، ثم من وسط رأسها إلى مُؤخرِهِ، على استواء الشعر، وكذا الرجلُ إذا كان له شعرٌ (3). وقد روي عن النَّبي – صلى الله عليه وسلم – أنه مسح من (ق/345 أ)، مُقَدَّمِهِ إلى مؤخَّرِهِ (4)
يُجْزِيء في المَذي النَّضْح؛ لأنه ليس بِنجَسٍ، لقوله – صلى الله عليه وسلم -: “ذاكَ مَاءُ الفَحْلِ، ولِكُلِّ فَحلٍ مَاءٌ” (5)، فلما كان ماءُ الفحل طاهرًا، وهو المنِيُّ، كان هذا مثلَهُ، لأنهما ينشآن من الشَّهوة.
__________
(1) من قوله: “يقول إنه … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(2) (ق): “الرأس”.
(3) انظر: “مسائل أبي داود” رقم (42)، و”مسائل ابن هانئ”: (1/ 15)، وفي “مسائل صالح” رقم (58). سئل عن مسح المرأة رأسها؟ فقال: لا تبالي كيف مسحت.
(4) أخرجه البخاري رقم (185)، ومسلم رقم (235) من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم -رضي الله عنه-.
(5) أخرجه أحمد: (2/ 399 رقم 1238) من حديث علي -رضي الله عنه- وأصله في “الصحيحين” في سؤال علي عن المَذي وما الواجب فيه.
وأخرجه أحمد: (31/ 346 رقم 19007)، وأبو داود رقم (211) وغيرهما من حديث عبد الله بن سعد الأنصاري قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ذاك المَذي، وكلُّ فحلٍ يُمْذي … ” الحديث.
.

(4/1452)


قال: قوله – صلى الله عليه وسلم -: “إذَا قَامَ أحَدكُمْ مِنْ مَنمامِهِ” (1) إشارة إلى نوم
اللّيل؛ لأن المنامَ المطلقَ إشارةٌ إلى الليل (2)؛ ولأنه قال: “باتَت يدُه”، والبيتوتةُ لا تكونُ إلاّ بالليل، كقوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) وَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)} [الأعراف: 97 – 98]، فخصَّ البيَاتَ بالليل، ثم ذَكَرَ النهار (3).
قال أحمد: مسّ الدرهم الأبيض على غير وضوء، أرجو، يحتمل أن يكون سَهَّل، لحاجةِ الناسِ إلى المعاملة به وتقليبه (4).
وقال أحمد في الرجلِ يجامِعُ أهلَه في السفر وليس معه ماءٌ: لا أكرهُ له ذلك (5)، قد فعله ابن عباس، رُوي أنه تَيَمَّم وصلَّى بِمُتوَضِّئينَ، ثم التفتَ إليهم فقال: إني أصبتُ من جارية رُومِيَّة، ثم تَيَمَّمْتُ وصلَّيْتُ بكم.
أحتجَّ للتَّيَمُّم لا يجوزُ بغير تراب بقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] قال: فإن قيل: النبي – صلى الله عليه وسلم – سمَّى المدينة طَيْبةَ وطابة (6)، وكانت سَبْخَةً؟ قيل: سماها طَيْبَة؛ لأنها طابتْ له وبه، لا أن هذا
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (161)، ومسلم رقم (278) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(2) “لأن المنام المطلق إشارة إلى الليل” سقط من (ق).
(3) انظر “مسائل أبى داود” رقم (17، 18).
(4) “مسائل الكوسج”: (1/ ق 18). لأن فيها شيئًا من كتاب الله، وانظر آثار السلف في حكم مسها في “مصنف ابن أبي شيبة”: (1/ 107).
(5) انظر “مسائل الكوسج”: (1/ ق 18 – 19)، و”مسائل صالح” رقم (78).
(6) فيما أخرجه مسلم رقم (1385) من حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنه-.

(4/1453)


الاسم استحَقَّتْهُ الأرضُ.
قال في الدَّمِ في أكثرُ الروايات (1): “إن الفاحشَ ما يستفحشه الإنسانُ في نفسِه”، وقد قال هاهنا (2) بالذِّراع والشّبر، ولا يَدلُّ ذلك: على أن ما دونَه ليس بفاحِشٍ؛ لأنه قال في مَسائل المرُّوْذي: “خمس بزقات من دم”، وإنما لم يُوَقت في ذلك؛ لأن التوقيتَ لم يأتِ عمَّن تَقَدَّم.
روي عن ابن عمر أنه تَيمَّمَ، والماء منه على غَلْوَة أو غَلْوتيْنِ (3)، ثم دخل المصر وعليه وقتٌ، أي غسل (4).
روى وَهْب بن الأجدع، عن عليٍّ أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم -قال: “لا صَلاةَ بعْدَ العَصْرِ، إلا أن تكون الشَّمسُ بيضَاءَ نقِية” (5)، قيل: يحتَمل أن يعني وقتَ العصرِ؛ لأنه روي أنه نهى عن الصلاة بعد العصرِ، أي: فعل الصلاة.
قوله -“أسْفروا بِالفَجْرِ، فَإنَّهُ أعْظَمُ للأجْرِ” (6)، فيه ضعف، ويريدُ
__________
(1) انظر “مسائل ابن هاني”: (1/ 7)، و”مسائل عبد الله رقم (82)، و”مسائل صالح” رقم (72، 1002 – 1005).
(2) يعني فى رواية الكوسج، انظرها: (1/ ق 36، 68).
(3) أخرجه البيهقي. (1/ 233). والغَلْوة: قدر رمية بسهم. “النهاية في غريب الحديث”: (3/ 383).
(4) (ق وظ): “إن قيل” بدلًا من: “أي غسل”.
(5) أخرجه ابن أبى شيبة: (2/ 131)، وأبو داود رقم (1274)، والنسائي: (1/ 280)، وابن خزيمة رقم (1284)، وابن حبان “الإحسان”: (4/ 414)، وغيرهم.
(6) أخرجه أحمد: (25/ 133 رقم 15819)، وأبو داود رقم (424)، والترمذي رقم (154)، والنسائي: (1/ 272)، وابن ماجه رقم (672)، وابن حبان “الإحسان”: (4/ 357) وغيرهم من حديث رافع بن خديج -رضي الله عنه-.
قال الترمذي: أحسن صحيح”، وصححه ابن حبان، وابن القطان، كما في “نصب الراية”: (1/ 235)، وتكلم فيه بعض العلماء.

(4/1454)


بذلك الإسفارَ في نفسِ الصلاة، فيكونُ قد ابتدأها بعدَما طَلَعَ الفجرُ، وأسْفَرَ بها بتطويلِ القراءة، أبو بكر قرأ بهم (البقرة) في الفجر، وقال: “لو طَلَعَتْ ما وَجَدَتْنا غافِلينَ” (1).
قلت: للناس في هذا الحديث أربع (ظ/241 أ) طرق:
أحدها: تضعيفُه، وهي طريقة أبي حفص وغيره.
الثانية: حملُه على الإسفار بها في ليالي الغَيْم واللَّيالي المقمرَةِ، خشيَةَ الصَّلاةِ قبل الوقتِ.
الثالثة: أن الإسفارَ المأمورَ (ق/ 345 ب) به: الإسفارُ بها استدامةً وتطويلًا لها لا ابتداءً، وهذه أصحُّ الطُرُق، ولا يجوزُ حملُ الحديث على غيرها؛ إذ من المحال أن يكونَ تأخيرُها إلى وقتِ الإسفار أفضلَ وأعظَمَ للأجر، والنبيُّ – صلى الله عليه وسلم – يواظِبُ على خلافِه هو وخلفاؤه الرَّاشدون من بعدِهِ.
وتفسيرُ هذا الحديث يُؤخَذ من فعلِهِ، وفعلِ خلفائِهِ وأصحابهِ، فإنهم كانوا يُسْفِرونَ باستدامَتِها لا بابتدائِها، وهو حقيقةُ اللَّفظِ، فإنَّ قوِله: “أسْفِروا بها”، الباء للمصاحَبَةِ، أىِ: أطيلوها إلى وقتِ الإسفار، وفهْم هذا المعنى من اللفظ أقوى من فهم معنى آخر، والشروع فيها إلى وقت الإسفار، ولو قُدِّر أن اللَّفظَ يحتمل المعنيينِ احتمالًا متساويًا (2) لم يَجُزْ حملُه على المعنى المخالِفِ لعملِهِ وعمل خلفائِهِ الراشدينَ، والله أعلم.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة: (1/ 310)، وعبد الرزاق: (2/ 113)، والبيهقي في “الكبرى”: (2/ 389) بسندٍ صحيح عن أنس -رضي الله عنه-.
(2) من قوله. “إلى وقت … “إلى هنا ساقط من (ع).

(4/1455)


الطريقة الرابعة: أنَّ تأخيرَها أفضل، وحملوا الإسفار بها على تأخيرها إلى وقتِ الإسفارِ.
قال: دليل الجمع للمطر: روى عبدُ الرزاق، عن معْمرٍ، عن أيّوب، عن نافِع، قال: كان أهلُ المدينة إذا جمعوا بين المغرب والعشاء في اللّيلة المطيرة صلَّى معهم ابنُ عمر (1)، ورُوي عن ابن الزبير مثله (2).
قال: ورُوِىِ عن أحمد: الشفقُ الحُمرَةُ حضرًا وسفرًا، وعنه: البياضُ سفرًا وحضرًا.
قال: احتجَّ من قال بطهارةِ الكلب بقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45]، وإطلاقُ الماء يقتضي الطهارة.
قيل: لا يمنعُ أن يقلب الله عينها إلى النَّجاسةِ كالعصير يتحمَّر، والماءُ ينقلبُ (3) بولًا.
سئل أحمد عن جيران المسجد، فقال: كلُّ من سَمعَ النَّداء.
وسُئل: يَؤُمُ الرَّجلُ أباه؟ قال: إيْ واللهِ، يَؤُمُّ القومَ أقرؤُهم، وأحتجَّ أبو حفص أن النبي -رضي الله عنه- قال: “ورأيتني في جماعة منَ الأنبياء” إلى أن ذكر إبراهيمَ، قال: “فصلَّيت بِهِم” (4).
عن أحمد في النفخِ، قال: أكرهُهُ شديدًا إلا أني لا أقولُ: يقطع
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق: (1/ 556)، ومالك في “الموطأ” رقم (386) بنحوه.
(2) لم أجده.
(3) (ق وظ): “يصير”.
(4) أخرجه مسلم رقم (172) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

(4/1456)


الصَّلاة، وليس هو كلام، وعنه. أن النفخَ يقطعُ الصلاةَ، وعلى الروايتين هو مكروهٌ.
صلاةُ الضُّحى، قُتِل عثمانُ وما أحد يُسَبِّحُها (1)، قيل: وليس في ترك الصحابةِ ما يمنعُ من فعلِها، فقد فعلَها – صلى الله عليه وسلم – وقتًا وتَرَكَها وقتًا، وهذا اختيارُ أحمدَ أن لا يُداوَمَ عليها (2).
قال: إذا قال المؤَذِّن: “قد قامتِ الصلاةُ” وجَبَ أن يقومَ الإمامُ ولا يسبقوه، ثم يقوموا، وإذا لم يكنْ في المسجد أيضًا قاموا فانتظروهُ قِيامًا، َ وقد رَوَى أبو هريرة قال: “أقِيْمتِ الصلاةُ، وصفَّ الناسُ صفوفَهم، فخرجَ علينا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – … إلى قولهِ، ثم ذكر أنه لم يغتسلْ فقال بيدِهِ للناس: “مكانَكم” (3)،
وأما قوله: “لا تَقُوموا حَتَّى تَرَوني” (4)، فنقول: إذا لم يكنْ في المسجدِ جاز أن يقوموا إذا قال: “قد قامتِ الصلاةُ” ينتظرونَه قيامًا (ق/ 346 أ) لحدِيث أبي هريرة، وإذا كانَ في المسجدِ قاموا ولم يتَقدَّموه، لأنه قال: “حتى تَروني” أيْ: قائمًا.
اختار أحمد حديثَ عمَرَ في الاستفتاح (5)، وقد روى أبو سعيد
__________
(1) انظر “مسائل الكوسج”: (1/ ق 40).
(2) انظر: “المغني”: (2/ 549 – 551).
(3) أخرجه البخاري رقم (275)، ومسلم رقم (605) من حديث أبى هريرة -رضي الله عنه-.
(4) أخرجه البخاري رقم (637)، ومسلم رقم (604) من حديث أبى قتادة -رضي الله عنه-.
(5) أثر عمر في الاستفتاح هو: “سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك”. =

(4/1457)


عن النبي – صلى الله عليه وسلم – (1)، وليس بصحيح، لأن رواية عليِّ بن عليِّ الرِّفاعي، عن أبي المتوكّل النَّاجي، عن أبي سعيد، وقد قال أحمد: عليُّ بن علي لا يُعبأُ به شيئًا (2).
حديث البَراء أنه – صلى الله عليه وسلم -“كان إذا افتَتحَ الصلاةَ رَفعَ يديْهِ، ثمَّ لا يعودُ” (3)، قال أحمد: “لم يَعُد” من كلامِ وكيع (4).
قال: لا يختلفُ المذهب في اللَّحْنِ الذي هو مخالفة الإعراب (ظ/ 241 ب)، لا يبْطِلُ الصلاةَ.
واختلف قولُه إذا خَتَم آيةَ رحمة بآيةِ عذاب، على روايتين؟
إحداهُما: عليه الإعادة، والثانية: لا، ووجهها ما روى قابوس بن أبي ظبيان، عن أبي ظَبْيان، عن ابن عباس، قال: صلى رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – فخطرت منه كلمة فسمعها المنافقون قال: فأكثَرُوا، فقال: إنَّ له
__________
= أخرجه الحاكم: (1/ 235)، وابن أبي شيبة: (1/ 209)، والدارقطني: (1/ 299)، والبيهقى: (2/ 34 – 35).
(1) أخرجه أحمد: (18/ 51 رقم 11473)، وأبو داود رقم (775)، والترمذي رقم (242)، وابن ماجه رقم (804)، والنسائي: (2/ 132)، وغيرهم.
قال الترمذي: “وقد تكلَّم في إسناد حديث أبي سعيد، كان يحيي بن سعيد يتكلم في علي بن علي الرفاعي، وقال أحمد: لا يصح هذا الحديث” أهـ. وضعفه أبو داود وابن خزيمة والنووي.
(2) انظر “مسائل الكوسج” (1/ق 44).
(3) أخرجه أبو داود رقم (749)، والبيهقي: (2/ 76)، والحميدي: (2/ 316) وغيرهم، وهو ضعيف: بزيادة: “ثم لا يعود” وانظر ما سيأتي.
(4) انظر: “مسئل عبد الله” رقم (325، 326)، و”العلل”: (1/ 369 – 370)، و”تهذيب السنن”: (1/ 368 – 369)، و”المنار المنيف”: (ص/ 138)، و”نصب الراية”: (1/ 394 – 395).

(4/1458)


قَلْبَيْنِ ألا تسمعونَ إلى قوله، والآية في الصلاة (1).
قال ابن عباس: “لا يَؤُمُّ الغلامُ حتى يحتلمَ” (2)، إن قيل: يلزمُ عليك إمامَتُهُ إذا كان ابنَ عشر؛ لأنه خُوطِبَ بالصَّلاةِ عندَك؟ قيل: الخَبَرُ ألَزَمَ ذلك في النَّظَر. إن قيل: فقد أَمَ عَمْرو بنُ سَلِمَةَ وهو غلامٌ (3). قيل: سمَّي غلامًا وهو بالغٌ، ورواية أنه كان له سبعُ سنين فيه رجلٌ مجهولٌ فهو غيرُ صحيح (4).
الكوسج (5): قلت: يَؤُمُ القومَ، وفيهم من يكرهُ ذلك، قال: إذا كان رجلًا أو رجلينِ فلا حتى يكونوا جماعةَ ثلاثةَ فما فوقَهُ.
__________
(1) أخرجه أحمد: (4/ 233 رقم 2410)، والترمذي رقم (3199)، وابن خزيمة رقم (865)، والحاكم: (2/ 415)، وابن جرير: (10/ 255)، وغيرهم، ولفظ أحمد: “قلت لابن عباس: أرأيتَ قول الله عز وجل: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}، ما عنى بذلك؟ قال: قام نبيُّ الله – صلى الله عليه وسلم – يومَا يصلّي، قال: فَخَطر خَطْرةً، فقال المنافقون الذين يصلون معه: ألا ترون له قلبين، قال: قلبًا معكم، وقلبًا معهم؟ فأنزل الله عز وجل: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}. وسقنا اللفظ هنا لأن سياق المؤلف غير محرر، والحديث حسنه الترمذي، وصححه الحاكم؛ لكن فيه قابوس ضعيف الحديث. وانظر “مسائل الكوسج”: (1/ ق 49).
(2) أخرجه عبد الرزاق: (1/ 487)، والبيهقي: (3/ 225)، وروي مرفوعًا ولا يصح، انظر: “فتح الباري”: (2/ 217).
(3) أخرجه البخاري رقم (4302) عن عَمْرو بن سَلِمة.
(4) بل وقع في رواية البخاري أنه كان ابن ست أو سبع سنين. وسئل أحمد في رواية الكوسج (1/ ق 61): “يؤم القوم من لم يحتلم؟ فسكت. قلت: حديث أيوب عن عَمرو بن سَلِمة؟ قال: دعه، ليس هو شيءٌ بيَّن، جبن أن يقول فيه شيئًا”.
(5) “المسائل”: (1/ ق 62).

(4/1459)


قال أبو حفص: جعل الحكمَ للكثيرِ فى الكراهَةِ لأنَّ الحكمَ للأغلب.
روي أنس: “صلَّيْت خَلْفَ النبي – صلى الله عليه وسلم – أنا ويتيمٌ لنا وأم سُلَيم خَلْفَنا” (1).
يحتمل أن يكون كان بالغًا ويحتملُ أن يكونا صَبيَّيْنِ، أما إذا كان أحدهما بالغًا فعلى حديث ابن مسعود: “أنه صلَّى بَعلقمةَ والأسودِ، وأحدُهما غيرُ بالغ، فأقام أَحَدَهما عن يمينهِ، والآخرَ عن يَسَارهِ، ورفعه إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -” (2).
الكوسج (3): قلت: إذا دخل والإمامُ راكِع يركعُ قبل أن يَصِلَ إلى الصف؟ قال: إذا كان وحدَه وظنَّ أنه يُدْرِكُ فعَلَ (4).
احتجَّ أبو حفص بحديث أبي بَكْرَةَ (5).
فإن قيل: فقد نهاه – صلى الله عليه وسلم -؟ قيل: نهاه عن شدَّة السَّعْيِ.
قلت: الإشارةُ (6) في الصَّلاة؟ قال: قد أشارَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: “اجلِسوا” (7) إذا كان يُفهِمهم شيئًا من أمر صلاتِهم (8).
الصلاةُ لغير القِبْلَةِ وهو لا يعلمُ ثم عَلِمَ؟ قال: يستديرُ، قلت:
__________
(1) أخرجه البخاري رقم: (727)، ومسلم رقم (658)، من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-.
(2) أخرجه مسلم رقم (534).
(3) “المسائل”: (1/ق 63).
(4) وتمام جواب الإمام: “وإن كان مع غيره فيركع حيث ما أدركه الركوع”.
(5) تقدم.
(6) في “المسائل”: “تكره الإشارة … ؟ “.
(7) تقدم.
(8) “المسائل”. (1/ق 67).

(4/1460)


يُعِيدُ ما صلَّى؟ قال: لا (1).
أبو حفص: دليلُه أهل قُبَاء.
قوله – صلى الله عليه وسلم -: “فَلْيصَلَّ إلَى سُتْرَةٍ، وَلْيَدْن مِنْهَا لا يقْطَعِ الشَّيْطَان عَلَيْهِ صَلاتَهُ” (2).
إن قيل: فقد روي أنه – صلى الله عليه وسلم – (ق/346 ب) خَنَقَ شيطانًا وهو يُصَلِّي (3)؟ قيل: يحتملُ أنه خَنَقَهُ يَمْنَةً أو يَسْرَةً.
قال أحمد: لا يعجبُني أن ينقضى وِتْرهُ (4)، وعنه الجواز؛ لحديثِ عثمان، وابنُ عباس وأسامَةُ رخَّصا فيه.
قلتُ: إن رجلًا قال: يا رسولَ الله إني أعملُ العملَ أُسِرُّهُ، فَيطلَعُ عليه، فيُعْجبُني (5)؟ قال: لما أسرَّ العملَ فأظهر الله له الثناءَ الحَسَنَ فأعجبه، فلَم يعبْ ذلك أن الرجلَ يعجِبهُ أن يقالَ فيه الخير (6).
__________
(1) “المسائل”: (1/ ق 69).
(2) أخرجه أحمد: (26/ 9 رقم 16090)، وأبو داود (695)، والنسائي: (2/ 62)، وابن خزيمة رقم (803)، وابن حبان “الإحسان”: (6/ 136) وغيرهم، من حديث سَهل بن أبي حَثْمة -رضي الله عنه-. وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم.
(3) أخرجه البخاري رقم (461)، ومسلم رقم (541) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(4) “المسائل”: (1/ ق 71)، وانظر “مسائل عبد الله” رقم (432 – 435).
(5) أخرجه الترمذي رقم (2384)، وابن ماجه رقم (4226) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه-.
قال الترمذي: “حديث حسن غريب”.
(6) “مسائل الكوسج”: (1/ ق 73) وزاد إسحاق ابن راهوية في الجواب: فإذا كان ذلك منه لِيقتدى به الناس، وليذكر بخير صار له أجر سرِّه وأجر ما نوى، من اقتداءِ الناس به وذكرهم إياه بخير.

(4/1461)


لا بأس أن يُعجبَ الإنسان ما قيلَ عنه من الخير، إذا كان مَقْصَدهْ في عمله اللهُ؛ لأن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “المؤمنُ تسُرُّه حسنتُه” (1).
قوله – صلى الله عليه وسلم -: “إذا نسِيَ أحدُكُمْ صَلاةً، فَلْيصلها إذا ذكَرَهَا ولوَقْتِها مِنَ الغَد” (2) محمول على النسخ (3) بحديث عمرانَ بن حُصَيْن: سِرْنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – .. فذكره، إلى قوله: فصلَّى بنا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – فقلنا: يا رسولَ الله نَقْضيها لميقاتِها من الغد؟ قال: “لا، أيَنهَاكم رَبكم عَنِ الرِّبا ويقبلهُ منكم” (4).
قال ابن مسعود: “لا يقصرُ إلا حاجٌّ أو غازٍ” (5). يحملُ على ما شاهَدَهُ من الرَّسولِ؛ لأن أسفارَهُ لم تكن إلاّ في حَجٍّ أو غزو.
__________
(1) أخرجه أحمد: (1/ 269 رقم 114)، والترمذي رقم (2165)، وابن حبان “الإحسان”: (16/ 239)، والحاكم: (1/ 113) وغيرهم من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بنحوه، وله شواهد من حديث جماعة من الصحابة.
(2) أخرجه مسلم رقم (681)، وأبو داود رقم (437)، والترمذي رقم (177)، والنسائى: (1/ 294)، وابن ماجه رقم (698) من حديث أبي قتادة -رضي الله عنه- مطولًا ومختصرًا.
(3) انظر “مسائل الكوسج”: (1/ ق 74)، وسلك جمعٌ من العلماء سبيل الجمع بين الروايات، فجعل الضمير فى: “فليُصَلها” راجعًا إلى صلاة الغد، أي: فليؤد ما عليه من الصلاة مثل ما يفعل كل يوم بلا زيادة عليها، فتتفق الألفاظ كلها. انظر: “فتح الباري”: (2/ 85)، وحاشية السندي على النسائي: (1/ 295).
(4) أصل حديث عمران في “الصحيحين” بدون هذا اللفظ، وهذا اللفظ أخرجه أحمد: (33/ 178 رقم 19964)، وأبو داود رقم (443)، وابن خزيمة. رقم (994)، وابن حبان “الإحسان”: (4/ 319)، وغيرهم من طريق الحسن البصري عن عمران، ورواية عنه مرسلة في قول جماعة من أهل العلم.
(5) “مسائل الكوسج”: (1/ق 74) وفي (ق) جعله من قول النبي – صلى الله عليه وسلم – وأخرجه عن ابن مسعود الطحاوي في “شرح معاني الآثار”: (1/ 425 – 426).

(4/1462)


اختلفتِ الرِّواية في صلاةِ النائمِ، فرُوِيَ عنه: على جَنْبٍ، وعنه: مستلقيًا ورجلاه إلى القِبْلَةِ.
تجبُ الصلاةُ على الصَّبي عند تكامل العَشر، لا كما يقولُ مخالفُنا: عند تَكامُلِ الخَمس عَشْرَة (1).
قلت: رجلٌ وضع يديه على فَخِذَيه في الركوع، أو وضع إحدى يديهِ على رُكْبَتَيْهِ، (ظ/ 242 أ) ولم يَضَعِ الأخرى. قال أحمد: أرجو أن يُجْزِئَه (2).
قال أبو حفص: معنى هذه المسألةِ إذا كان ذلك من عِلَّةٍ، أما من غير عِلَّة فلا، لما روي عن سعد: كنا نُطَبقُ، ثم أُمِرْنا أَن نَضع الأيديَ على الرُّكَب (3)، وابن مسعود لم يبلغْه ذا، وكان يُطَبِّقُ، ولو أنَّ رجلًا لم يبلغْه فَعمل بالمنسوخ كابن مسعود لم تبطلْ صلاتُهُ، ولزمَهُ ذلك منذ وقتِ عَلِمَ.
إذا سها في صلاتِه عشرينَ مرةً، يكفيه سجدتانِ (4)، لحديث عمران بن حُصَيْن فإنه حصلَ منه سهو كثيرٌ، واكتفى بسجدتينِ، من ذلك أنه جَلَس في الثالثةِ ساهيًا وسلَّم ساهِيًا، وسؤالهم له ساهِيًا، ودخوله الحجرةَ ساهيًا (5).
__________
(1) “مسائل الكوسج”: (1/ ق 78).
(2) المصدر نفسه: (1/ ق 78 – 79).
(3) أخرجه مسلم رقم (535) بنحوه، واللفظ للحاكم: (1/ 244).
(4) “مسائل الكوسج” (1/ ق 85).
(5) أخرجه مسلم رقم (574) من حديث عمران بن حُصَين -رضي الله عنه- في قصة ذي اليدين، وسمَّاه عمرانُ: الخِرْباق.

(4/1463)


إذا أدركَ إحدى سجدتي السَّهْوِ، يقضي السجدةَ ثم يقومُ فيقضي ما فَاتَه، إنما لم يَجُزْ (1) تأخيرها إلى آخر صلاتِه بل يقضيها معه، لقوله: “وَمَا فَاتكُم فَاقْضْوا” (2)، وقد فاتَتهُ سجدةٌ فيجِبُ أن يسجدَها، لا زيادةَ عليها (3).
رجلان نسي أحدُهما الظُّهْرَ أمس والآخر أوَّل أمس، قال أحمد: يجمعان جميعًا من يوم. واحدٍ، وأيامٍ متفرِّقَةٍ (4).
وعنه في رواية صالح أنهما لا يَجمعان من أيام متفَرِّقةٍ (5).
وَجْه. رواية الكوسج: أن صلاتهما يجمعهما اسمُ ظُهْر، (ق/347 أ): وليس بينهما اختلاف، هذا قول أبي حفص.
وجهُ رواية صالح: ما ذكره الشريف أبو جعفر من أن ظُهْرَ يوم واحد في حكم الجنس الواحد، ومن يومين في حكم الجنسين، بدليل أنه قد سقط ظهر أحدهما بما لا يسقطُ به ظهْر الآخَرِ، وهو ظهرُ يومِ الجمعةِ، وبقيَّةُ الأيام تسقط (6) بظهر مثلها، وهذا معدومٌ في
__________
(1) (ق): “يقوم فيصلي ما فاته، إنما لم يجب … “.
(2) أخرجه بهذا اللفظ الحميدي رقم (935)، وأحمد: (12/ 192 رقم 7250)، والترمذي رقم (329)، والنسائي: (2/ 114 – 115)، وابن حبان “الإحسان”: (5/ 517)، وغيرهم من حديث ابن عيينة عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة – ضى الله عنه-.
وذكر مسلم وأبو داود أن لفظة “فاقضوا” تفرَّد بها ابن عيينة عن بقية أصحاب الزهري، فهي خطأ منه والرواية المحفوظة “فأتموا”. وأجاب الزيلعي وغيره عن ذلك بمتابعة معمر لابن عينة وكذا ابن أبي ذئب، انظر “نصب الراية”: (2/ 200).
(3) “مسائل الكوسج” ت (1 / ق 81).
(4) المصدر نفسه: (1/ ق 82).
(5) لم آره في المطبوع في رواية صالح.
(6) من قوله: “ظهر أحدهما … ” إلى هنا ساقط من (ظ).

(4/1464)


اليوم الواحد وهذا فرق صحيحٌ، وقد ذكرناه بعينهِ إذا كان عليه كفَّارتان من جنسين، أنه يفتقرُ إلى التَّعيين.
قال في رجلينِ صَلَّيا جميعًا ائْتَمَّ كلُّ واحدِ منهما بصاحِبه: يُعِيدان جميعًا (1). والدليلُ عليه أنه لم يحصل (2) واحدٌ منهما معتقدًا للإمَامَةِ.
قال: ولو أن رجلًا ائْتَمَّ برجل ولم يَنْو ذلك الرجل أن يكونَ إمامَهُ: يجزئُ الإمامَ ويعيدُ هو (3).
دليلُهُ أن الإمَامَةَ لا تَصِحُّ إلاّ بنيَّةِ.
فإن قيل: ابن عبَّاس ائْتَمَ بالنَّبِي – صلى الله عليه وسلم – في صلاة اللَّيل (4)، وكان قد ابتدأها لنفسِه؟ قيل: النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – ليس كغيرِه، هو إمامٌ كيف تصرَّفَتْ أحوالُه، إلا أن ينقلَ نفسَه فيصيرَ مأمومًا.
قال إسحاق الكوسج (5): قلت: يكرَه لهؤلاء الخيَّاطين الذين في المساجد؟ قال: لَعَمري شديدًا.
دليلُه عمر رأى رجلينِ يَتبَايَعَانِ في المسجد، فقال: هذا سوقُ الآخِرَةِ فاخْرجا إلى سُوقِ الدنيا (6).
قضاءُ الركعتينِ بعدَ العصرِ خُصوصًا له – صلى الله عليه وسلم -، بدليلِ حديثِ أم سَلَمَةَ:
__________
(1) “مسائل الكوسج” (1/ ق 82).
(2) كذا، وفي المطبوعة: “يصل”.
(3) “مسائل الكوسج”: (1/ ق 82).
(4) تقدم (3/ 964).
(5) “المسائل” (1/ ق 90).
(6) أخرج مالك في “الموطأ” رقم (483)، ومن طريقه ابن أبى عاصم في “الزهد”: (ص/317) عن عطاء بن يسار نحوه، ولم أجده عن عمر.

(4/1465)


يا رسولَ الله أنقضيها إذا فاتَتْنَا؟ قال: “لا” (1)
الفرقُ بين الإسلام يَصِحُّ في الأرض المغصوبة دون الصلاة، أنَّ الإسلام لا يفتقرُ إلى مكان بخلاف الصلاةِ.
المسلمُ إذا أعتق عبدَهُ النَّصْرَاني فهل عليه جِزيَة؟ على روايتينِ (2)، وجه سقوطِها أن ذمَّتَهُ ذِمَّة سيدِهِ.
كراهتهُ للمعتكفِ أن يعتكفَ في خيمةٍ، إلا أن يكونَ بَرْد (3)؛ لأنَّ الخيمةَ تُضَيِّق المسجد، والنبيُّ – صلى الله عليه وسلم – اعتكفَ في زمان باردٍ في قُبّةٍ وخيمة، يدلُّ عليه قوله: “إنى رَأيتُنِي أسْجدُ فْي صَبيْحَتِها في ماءٍ وطينٍ” (4) ” فعُلِم أن الزمان بارد لوجود المطَرِ.
في إتيان المستحاضة، قال: لا يأتيها إلاّ أن يطولَ ذلك بها (5). وليس أنه أباح ذلك إذا طال ومنع ذلك إذا قَصُر، ولكنه أراد: أنه إذا طال عَلِمَتْ أيام حَيْضِها من أيام استحاضَتِها يقينًا، وهذا لا تعلمُهُ إذا قَصُر ذلك.
قوله في المرأة تشربُ دواءً يقطعُ الدَّمَ عنها، قال: إذاِ كان دواءً يُعْرَفُ فلا بأسَ (6).
__________
(1) أخرجه أحمد: (6/ 315)، وابن حبان “الإحسان”: (6/ 378) من حديث أم سلمة – رضي الله عنها -.
(2) (ق): “على وجهين روايتين”.
(3) “مسائل الكوسج”: (1/ ق 133).
(4) أخرجه البخاري رقم (669)، ومسلم رقم (1167) من حديث أبي سعيد الخدري – رصى الله عنه-.
(5) “مسائل الكوسج”: (1/ ق 139).
(6) المصدر نفسه: (1/ ق 139).

(4/1466)


قال أبو حفص: معناه عندي: إذا ابْتُلِيَتْ بالاستحاضَةِ الشديدةِ فهو مَرَضٌ، لا بأسَ بشرب الدَّواء، أما الحيض فلا، لأن الحَيض كتبهُ الله على بناتِ آدَمَ، وإنما تَلِدُ إذا (ق/347 ب)، كان حَيْضُها موجودًا، ولا جائز أن يتعرَّض (ظ/242 ب) لما يقطع الوَلَدَ.
في إتيان الحائض، قال أحمد: لو صحَّ الحديثُ كنا نرى عليه الكفَّارَةَ (1).
قال أبو حفص: إن لم يَصِحَّ عن النبي – صلى الله عليه وسلم – صحَّ عن ابن عباس (2)، ومذهب أحمد الحكمُ بقولِ الصَّحَابِيِّ إذا لم يُخالفْ، قال: واختياري ما قال الكوسجُ: إنه مُخيَّرٌ في الدينار أو النصف دينار.
قوله في أكثر الحيض: أكثرُ ما سمعنا سبعة عشر يومًا. يحتملُ أن يكونَ ذكره لأنه قوله، ويمكن أن يكون على طريق الحكاية، والأشبَهُ عندي أن يكونَ قولُه لا يختلِفُ أنه خمسة عشر يومًا، وإنما أخبرَ عن السبعَ عَشْرَةَ أنه سمعه لا أنه يُقَلِّدُهُ (3).
قوله في الطهر إنه على قدر ما يكون. فليس عندَه أنَّ لأقَله حَدًّا، كما ليس لأكثرهِ حَدٌ، وكل شيء ليس لأكثره حَد ليس لأقلِّهِ حَدٌّ.
__________
(1) المصدر نفسه.
(2) أخرجه أحمد: (4/ 269 رقم 2458)، وأبو داود رقم (266)، والترمذي رقم (136)، وغيرهم، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا، وقد اختلف في هذا الحديث اختلافًا كثيرًا في رفعه ووقفه، وفي ألفاظه، وصححه جماعة، وضعفه آخرون، انظر تعليق الشيخ أحمد شاكر على الترمذي: (1/ 246 – 254).
(3) وهذا الموافق لما نص عليه الإمام في جميع الروايات، انظر “مسائل عبد الله” رقم (210)، وأبي داود رقم (152، 153)، وابن هانئ: (1/ 30)، وصالح رقم (382).

(4/1467)


فإن قيل: ينبغي أن كان ليس لأقلِّهِ حَدّ (1)، لو ادَّعَتِ انقضاء: عِدَّتِها في أربعةِ أيام تباحُ للأزواج؟ قيل: العدةُ ليس من هذا؛ لأن قوله: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} يزيدُ الأقْرَاءَ الكاملةَ، وأقل الكاملة أن تكون في شهر لحديث علي مع شُرَيح (2).
وقوله في الصبيِّ: لا يُزَوِّجُ لا يكون وَلِيًّا حتى يحتلِمَ (3)، وعنه: ابنْ عشر يُزوِّجُ ويَتزوَّج.
آخر المنتقى من خط القاضي ما انتقاه من “شرح مسائل الكوسج” لأبي حفص قال: ومبلغهُ ستةُ أجزاء.
* * *
__________
(1) من قوله: “وكل شيءِ …. ” إلى هنا سقط من (ق).
(2) لم أعرفه.
(3) “مسائل الكوسج”: (1/ ق 146).

(4/1468)


فصل
قال أحمد في رواية الحسن بن ثَواب (1): إذا كان الرهن غلامًا فاستعملَه المرتَهن، أو ثوبًا فَلَبسَا، وُضِع عنه (2) قَدْر ذلك. قال أصحابُنا يعني: أَنه يضعُ من دينِ الرّهن بقدْرِ ما انتفعَ بالرَّهْن.
ونقل عنه أيضا: إذا كان الرهن دارًا فقال المرتَهِن: أنا أسكنُها بكرائِها، وهي وثيقة بحقِّي: تنتقل فتصيرُ دينا، وتتحوَّلُ عن الرهن، وهذا نصٌ منه على أن الراهن إذا أجَّر العَيْنَ المرهونةَ للمرتَهِن خرجتْ عن الرَّهنِ، وبقي دينهُ بلا رَهْن، هذا معنى قوله: “تنتقِلُ فتصير دَيْنًا”، أن يبقى حقه في (ق/355 أ) الذِّمَّة فقط، لا يتعلَّقُ برقبة الدّار، وتخرج الدَّار عن كونها رهنًا.
ونقل عنه بكر بن محمد (3): إذا رَهَنَ جارية فسقتْ ولَدَ المُرْتَهِنِ: وضِعَ عنه بقَدْر ذلك، يعني: وُضِع عن الراهن من الدَّيْنِ بقدر أجرة مثلِها لرضاعِ ولدِ المرتهنِ.
فصل
إذا قال الراهن للمرتهِنِ: إن جئتُك بحقِّك إلى كذا، وإلَّا فالرَّهنُ لَكَ بالدَّيْنِ الذي أخذتهُ منكَ، فقد فعله الإمام أحمد في حَجَّتِه (4)،
__________
(1) وقع في (ظ): “ثوبان”! وقد تقدمت ترجمته وبعض مسائله (4/ 1437).
(2) ق): “وضع عنده”.
(3) تقدمت ترجمته (3/ 994).
(4) (ق): “نقله الإمام أحمد في جهته”! وقد ذكر ابن القيم في “إعلام الموقعين”: (3/ 388) و (4/ 28) أن الإمام أحمد رهنَ نعلَه وقال للمرتهن: إن جئتك =

(4/1469)


ومنع منه أصحابُهُ، وقالوا: نصَّ في روايةِ حرب على خلافِهِ، فقال: باب الرهنِ يُكتب شراء. قيل لأحمد: المتبايعان بينهما رَهْنٌ فَيَكْتبان شراء؟ فكرهَهُ كراهة شدِيدة، وقال: أوَّلُ شيء أنه يكذب، هو رهن ويُكتَبُ شراء، وكرهَهُ جدًّا.
قال ابن عَقِيل: ومعنى هذا: أن المرتهن يكتب شراءً لموافقة بينَه وبينَ الراهنِ، إن لم يأتهِ بالحق إلى وقتِ كذا يكون الرَّهْنُ مَبيعًا، فهو باطلٌ من حيث تعليق البيع على الشرط، وحرامٌ من حيثَ إنه كَذبٌ وأكل مال بالباطلِ.
قلت: وهذا لا يناقض فعلَه، وهذا شيءٌ وما فعله شيء، فإن الراهن والمرتهن قد اتَّفقا على أنه رهن، ثم كتبا أنه عَقد تبايع في الحال، وتواطَئا على أنه رهْن، فهو شراء في الكتاب رهْنٌ في الباطن، فأين هذا من قولهما ظاهرًا وباطنًا: “إن جئتك بحقِّكَ في محلِّه، وإلا فهو لك بحقِّك”، ألا ترى أن أحمد قال: هذا كذب، ومعلوم أن العقدَ إذا وقع على جهة الشرط فليس بكَذِب، وليس في الأدِلَّةِ الشَّرعيَّةِ ولا القواعدِ الفقهيَّة ما يمنع تعليقَ البيع بالشَّرطِ، والحقّ جوارهُ، فإنَّ المسلمينَ على شروطِهم، إلا شرطًا أحل حَرامًا أو حَرَّم حلالًا، وهذا لم يتضمن واحدًا من الأمرين، فالصَّواب جواز هذا العقد، وهو اختيارُ شيخِنا (1) وفعل إمامنا (2).
قال أحمد في رواية أبي (ظ/243)، طالب: “إذا ضاع الرهنُ عندَ
__________
= بالحق إلى كذا وإلا فهو لك. قال: وهذا بيع بشرط، فقد فعلَه وأَفتَى به، وكذلك ذكره الذهبي في “السير”: (11/ 206) عن ابن أبي حاتم.
(1) في (ق) زيادة: “على عادته حمل ذلك”! وهي مقحمة هنا، ولعله انتقال نظر من الجملة بعد سطرين.
(2) انظر: “إعلام الموقعين”: (3/ 363، 387 – 389) و (4/ 28).

(4/1470)


المرتهن لَزِمَهُ”.
قال ابنُ عقيل: وهذه الرواية بظاهرها تُعطي أن الرهنَ مضمونٌ، إلاَّ أن شيخنا (1) -على عادتِهِ- حَمَل ذلك على التِّعدَّي؛ لأجل نصُوص أحمد على أن الرَّهْنَ أمانة، وعادتُهُ تأويلُ الرِّواية الشَّاذَةِ لأجل الرِّوايات الظَّاهرةِ، وهذا عندي لا يجوز إلا بدلالة، فأما صَرْفُ الكلامِ عن ظاهرِهِ بغير دلالةِ تدل فلا يجور، كما، يجور في كلام صاحبِ الشَرْعِ. انتهى كلامُهُ.

فصل
إذا قدر الرجل على التّزَوُّجِ أو التَّسَرِّي حَرُمَ عليه الاستمناءُ بيده، قاله ابنُ عَقِيل، قال: وأصحابُنا وشيخُنا لم يذكروا سوى الكراهة، لم يطلقوا التحريم.
قال: وإن لم يقدر على زوجة ولا سرية ولا شهوةَ له تحملُه على الزِّنا، حَرُمَ عليه الاستمناءُ لأنه استمتاعٌ بنفسِهِ، والآيةُ تمنعُ منه.
وإن كان متردِّدَ الحال بين الفتورِ والشهوة ولا زوجةَ له ولا أَمَةً، ولا ما يتزوَّجُ به، كُره ولم يَحْرمْ.
وإن كان مغلوبًا على شهوتهِ يخافُ العَنَت كالأسيرِ والمسافرِ والفقيرِ جازِ له ذلك، نصَّ عَليه أحمدُ، وروى أن الصَّحَابَةَ كانوا يفعلونه في غزَواتِهم وأسفارِهم (2).
وإن كانت امرأةٌ لا زوجَ لها واشتدَّت غُلْمتُها، فقال بعض أصحابنا:
__________
(1) يعني: القاضي أبا يعلى ابن الفرَّاء.
(2) انظر: “مجموع الفتاوى”: (34/ 229 – 231)، و”الإنصاف”: (10/ 252 – 253).

(4/1471)


يجور لها اتخاذ الاكرنبج (1)، وهو شيءٌ يُعْملُ من جلود على صُورة الذّكَرِ، فتستدخِلُهُ المرأةُ أو ما أشبهَ ذلك من قِثّاءٍ وقَرع صغار، والصحيح عندي: أنه لا يُبَاحُ؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – إنما أرشد صاحبَ الشَّهْوَةِ إذا عَجَزَ عن الزواجِ (2) إلى الصَّوم (3)، ولو كان هناك معنى غيرُه لذكَرَه.
وإذا اشتهى وصَوَّر في نفسه شخصًا أو دعى باسمه؛ فإن كان زوجة أو أَمَةً له فلا بأسَ إذا كان غائبًا عنها، لأن الفعلَ جائزٌ، ولا يصنعُ من تَوَهُّمهِ وتخيُّلِهِ، وإن كان غلامًا أو أجنبيةً كُرِهَ له ذلك؛ لأنه إغراءٌ لنفسِهِ بالحرامِ وحثٌّ لها عليه.
وإن قوَّر بطِّيخَة أو عجينًا أو أَدِيمًا أو نخشًا في صَنَم (4) فأولج فيه؛ فعلى ما قَدَّمنا في التَّفصيل.
قلتُ: وهو أسهل من استمنائِهِ بيده، وقد قال أحمدُ فيمن به شهوةُ الجماع -غالبًا لا يملكُ نفسَهُ ويخاف أن تنشَقَّ أُنثياه: أَطْعم، هذا لفظَ ما حكاه عنه في “المغني” (5) ثم قال: “أباح له الفطرَ؛ لأنه يَخَافُ على نفسِهِ، فهو كالمريض ومَن يخافُ على نفسِه الهلاكَ لعطش ونحوه، وأوجب الإطعامَ بدلًا من الصيام، وهذا محمولٌ على
__________
(1) كذا، وصوابه: (الكيرنج) كلمة فارسية مركبة من (كير) بمعنى: القضيب، و (رنك) بمعنى: شكل. انظر رسالة “مفاخرة الجواري والغلمان”: (2/ 135 – ضمن رسائل الجاحظ) الحاشية، و”تكملة تاج العروس: (ص / 17).
(2) (ق وظ): “التزوُّج”.
(3) في حديث: “يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوّج … ” الحديث، أخرجه البخاري رقم (19605)، ومسلم رقم (1400) من حديث أبى مسعود -رضي الله عنه-.
(4) في (ظ) زيادة: “أو إليه”.
(5) (4/ 396 – 397).

(4/1472)


من لا يرجو إمكان القضاءِ، فإن رجا ذلك فلا فديةَ عليه، والواجبُ انتظارُ القضاء وفعله إذا قَدَر عليه، لقول {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة: 184] الآية، وإنما يُصار إلى الفدية عند اليأسِ من القضاءِ، فإن أطعمَ مع يأسِهِ، ثم قَدَر على الصِّيام، احْتَمَل أن لا يلزمَهُ؛ لأن ذمَّتَه قد برِئَتْ بأداءِ الفِدْية التي كانت هي الواجبَ، فلم تَعُدْ إلى الشغل بما برئَتْ منه، واحتمَل أن يلزمَهُ القضاء؛ لأنَّ الإطعامَ بدلُ إياس، وقد تبينَّا ذهابَهُ، فأشبَهَ المعتدَّةَ بالشهورِ لليأس إذا حاضتْ في أثنائها” (1).
وفي “الفصول” (2): روي عن أحمد في رجل خاف أن تنشقَ مثانَتُه من الشَّبق، أو تنشقَّ أنثياه لحبس الماء في زمن رمضان: يَسْتَخرج الماء. ولم يَذْكر بأي شيء يستخرجُه، قال: وعندي أنه يستخرجُه بما لا يفسد صومَ غيره؛ كاستمنائه بيده أو ببدن زوجته أو أمته غير الصائمة، فإن كان له أمَةٌ (3) طفلة أو صغيرة استمنى بيدها، وكذلك الكافرة، ويجوز وطْئُها فيما دون الفَرج، فإن أراد الوطء في الفرج مع إمكان إخراج الماء بغيره، فعندي أنه لا يجوزُ؛ لأن الضرورة إذا رُفِعت حَرُم ما وراءها، كالشبع من الميتة (4)، بل هاهنا آكد، لأن بابَ الفروج آكدُ في الحَظْر من الأكل (5).
قلت: وظاهر كلام أحمد جواز الوطء (6)؛ لأنه أباح له الفطر
__________
(1) هذا آخر كلام صاحب “المغني”.
(2) لأبى الوفاء بن عقيل الحنبلي (513) في الفقه، عشرة أجزاء، ويسمى أيضًا “كفاية المفتي”، منه نسخ خطية، انظر “المدخل المفصَّل”: (2/ 811).
(3) (ع): “فإن كانت الأمة”.
(4) من قوله “في الفرج … ” إلى هنا ساقط من (ق).
(5) انظر: “المغني”: (4/ 405).
(6) انظر: “طبقات الحنابلة”: (1/ 274).

(4/1473)


والإطعام، فلو اتفق مثل هذا في حال الحيض لم يجز له الوطء قولًا واحدًا، فلو اتفق ذلك: لمحْرِم أخرجَ ماءَهُ ولم يجز له الوطء.

(ظ/243 ب) فصل
فإن كان شبَق الصائم مستدامًا جميعَ الزمان سقطَ القضاءُ وعَدَلَ إلى الفدية كالشيخ والشيخة، وإن كان يعتريه في زمن الصيف أو الشتاء قَضى في الزمن الآخر ولا فديةَ هنا؛ لأنه عذرٌ غير مستدام فهو كالمريض، ذكر ذلك في “الفصول”.

فائدة
قوله في “المقنع” (1): “وإن جاءت وهو جالس، لم يقم لها -يعني الجنازة-“. لم أرَ هذا في كلام أحمد، وقد قال “إن قام لم أعِبْه، وإن قعدَ فلا بأس (2).
وقال الميموني في “مسائله”: سمعته يقول. إذا تَبعَ الجنازةَ فلا يجلس حتى توضعَ، كذا قال أبو هريرة وأبو سعيد، وإذا رآها قام، قال: كأن هذا أكثر في الخبر (3)، عَشرةٌ من أصحابِ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يروونه.
ثم قال الميموني: تسميةُ من يَرْوِي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه كان إذا رأى جنازة قام لها: عثمان بن عفانَ. سعيدُ بن زيد. عامر بن ربيعةَ. قيسُ ابن سعد. سهلُ بن حنيْف. يزيد بن ثابتٍ أحْو زيد بن ثابت .. أبو سعيد
__________
(1) (ص/10).
(2) انظر روايات الإمام فيما سيأتي.
(3) “في الخبر” ليست في (ق).

(4/1474)


الخدْري. أبو هريرة. أبو موسى الأشعريُّ. ابنُ عباس. حسن وحسين، فهؤلاء اثنا عشر من الصحابة، ثم ساق الميمونيُّ أحاديثَهم كلَّها بإسناده.
وقال حربٌ في “مسائله”: قلت لأحمد: الرجلُ يرىَ الجنازةَ أيقوم لها؟ فقال: قد رُويَ عن علي أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قام ثم قعد (1)، وكان ابنُ عُمر يقوم، وسَهَّلَ أبو عبد الله فيه.
وقال أبو داود في “مسائله” (2): سمعت أحمد بن حنبل سُئلَ عن القيام إذا رأى الجنازةَ، قال: إن لم يقمْ أرجو، وإن قامَ أرجو. قيلَ: القيامُ أفضلُ عندَكَ؟ قال: لا.
وقال في رواية ابن هانئ (3): إذا رأى الجنازةَ فقام فلا بأس، وإن لم يقمْ فلا بأس.
قال ابن هانئ (4): وسُئِلَ -يعني: أحمد- عن الرجل يموتُ فيُوصي أن يدفنَ في داره؟ قال: يُدْفَن في مقابر المسلمينَ، وإِنْ دُفِنَ في داره أضَرَّ بالوَرثةِ، والمقابرُ مع المسلمينَ أعجب إليَّ.
وقال في روايتِهِ (5): أكرهُ أن يجعلَ على القبرِ ترابًا من غيرِهِ.
قال (6): وسئل عن الحائض تغسِلُ المرأة المَيتةَ؟ قال: لا يعجبُني أن
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (2982).
(2) رقم (1015)، وفي (ق): “وقال أبو عبد الله … ” وهو خطأ.
(3) (1/ 189).
(4) (1/ 190).
(5) (1/ 190).
(6) أي ابن هانئ: (1/ 184).

(4/1475)


تغسلَ الحائض شيئًا من المَيِّتِ، والجنابَةُ أيسرُ من الحَيْض.
قال (1): وسئل عمَّن غسَّلَ المَيِّتَ، أعليه غسلٌ أم وضوءٌ؟ قال: يتوضَأُ، وقد أجزأَهُ.
قال (2): وسألته: هل على من غسل الميت غُسْلٌ، قال. عليه الوضوءُ فقط.
واتَّبَع أحمد في ذلك آثارَ الصحابةِ، فإنه صحَّ عن ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة الأمرُ بالوضوء منه، ولا يُحفظُ عن صحَابِى خلافهم، وهو قولُ حذيفةَ وعليٍّ أيضًا.
وقال الجُوزْجَانِىُّ: حدثنا يزيدُ بن هارونَ، أنبأنا مباركُ بن فَضَالَة، عن بكر بن عبد الله المزَنِيِّ، عن علقمة بن عبد الله المُزنيِّ، قال: غسَّل أباك -يعني: أبا بكر: بن عبد الله- أربعة من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ممن بايع نبيَّ الله تحت الشجرة، فما زادوا على أن شمَّروا أكِمَّتهم، وجعلوا قُمُصَهم تحت حُجُزهم، وتوضَّأوا ولم يغتسِلوا (3).
وفي “الموطأ” (4): مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، أن أسماءَ بنتَ عميْس امرأة أبي بكر غَسَلَتْ أبا بكر الصِّدِّيقَ حين تُوُفِّيَ، ثم خرجتْ، فسألت من حضرها من المهاجرينَ والأنصار، فقالت: إني صائمة، وإن هذا اليوم شديدُ البرد فهل عليَّ مِنْ غسْل؟ قالوا: لا.
__________
(1) المصدر نفسه.
(2) المصدر نفسه.
(3) أخرجه عبد الرزاق: (3/ 405)، وابن أبي شيبة: (2/ 469) من طريق بكر بن عبد الله به، وسنده صحيح.
(4) رقم (593).

(4/1476)


قال إسماعيلُ بن سعيد: قلت لأحمد بن حنبل: أرأيتَ إن كان الميت كافرًا، قال: عليه الغسلُ لحديث عليٍّ (1) -يعني: على غاسِلِهِ الغُسْلُ- وهو قول أبى أيوب، قال الجوزجانيّ: وأقول: إن هذا وهم منهما، وذلك أنه ليس في حديث عَليٍّ أنه غسل أبا طالب (2).

فصل
قال أحمدُ في الرجل يعملُ الخيرَ، ويجعل النِّصْف لأبيه أو لأمِّه (3): أرجو.
وقال: الميِّتُ يصِلُ إليه كل شيء من الخير، لما روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “إنَّ مِنَ البِرّ بَعْدَ البِرِّ أن تُصَلِّيَ لَهُمَا مَعَ صَلاتِكَ، وأنْ تَصُومَ (ظ/244 أ) لهما مَعَ صَومكَ، وأنْ تَتَصَدّقَ لَهُما مَعَ (ق/355 ب) صَدَقَتِك” (4). انتهى.
ولا يشترطُ تسمية المهْدَى إليه باسمه، بل يكفي النِّيَّةُ، نصَّ عليه في رواية أبيه عبد الله (5): لا بأسَ أن يَحجَّ عن الرجل ولا يُسَميِه (6).
__________
(1) أخرجه أحمد: (2/ 153 رقم 759)، وابن أبي شيبة: (3/ 32)، والنسائي: (1/ 110)، البيهقي: (1/ 304) وغيرهم.
والحديث ضعَّفه البيهقي والنووي وغيرهم.
(2) وانظر: “المغني”: (1/ 279).
(3) (ق وظ): “نصفه لأبيه أو أمه”.
(4) أخرجه ابن أبي شيبة: (3/ 59)، والخطيب في “تاريخه”: (1/ 363)، وبحشل في “تاريخ واسط”: (ص/ 188)، وابن أبي حاتم في “الجرح والتعديل”: (274/ 1). عن الحجاج بن دينار عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، وبين الحجاج والنبي – صلى الله عليه وسلم – مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي، كما قال عبد الله بن المبارك -رحمه الله-.
(5) رقم (928).
(6) (ق): “ولم يُسمه”.

(4/1477)


فصل
قال إسحاقُ الكوسج: قلت لأحمد: قال الحسنُ في الرجل يقول لامرأته: “أنت طالقٌ إن شاء الله” كان يلزمُه؟ فقال أحمد: أما أنا فلا أقول فيه شيئًا. قلت: لم؟ قال الطلاق ليس هو يمين. قلت: وكذلك العِتقُ؟ قال: نعم.
* * *

(4/1478)


فصول في أحكام الوطء في الدُّبُر
فمنها: أنه من الكبائر.
ومنها: أنه يُوجبُ القتلَ إذا كان من كلامٍ، نصَّ عليه أحمد في إحدى الروايتين. والثانية: حدُّه حدُّ الزاني؛ كقول مالك والشافعي، فإن كان من زوجة أو أَمَةٍ أوجبَ التعزيرَ، وفي الكفّارة وجهان؛ أحدُهما: عليه كفَّارة من وَطِئَ حائضًا، اختارَه ابن عقيل. والثاني: لا كفَّارة فيه، وهو قولُ أكثر الأصحاب.
ومنها: أن للزوجةِ أن تفسخَ النكاحَ به، ذكره غير واحد من أصحابنا. وإن كان من امرأة أجنبيةِ فاختلف أصحابُنا في حدِّه، فالذي قاله أبو البركات وأبو محمدَ (1) وغيرهما: إن حدِّه حدُّ الزَّاني.
وقال ابن عَقِيل في “فصوله”: فإنْ كان الوطءُ في الدُّبُرِ في حقِّ أجنبيَّةٍ وجَبَ الحدُّ الذي أوجبناه في اللِّوَاطِ، وعلى هذا فحدُّه القتل بكلِّ حال، وإن كان في مملوكِهِ: فذهب بعض أصحابنا إلى أنه يُعتقُ عليه، وأجراه مجرى المثلَةِ الظاهرة، وهو قولُ بعض السلف.
قال النسائي في “سننه الكبير” (2): “الإباحةُ للحاكم أن يقول للمدَّعَى عليه: “احلف” قبل أن يسأله المدَّعِي.
أبنا هَنَّاد بن السَّرِيِّ، عن أبي معاويةَ، عن الأعمش، على شَقيق (3)،
__________
(1) أي: ابن قدامة، انظر: “المغني”: (12/ 340)، وأبو البركات هو عبد السلام مجد الدين ابن تيمية جد شيخ الإسلام، انظر “المحرَّر”: (2/ 135).
(2) (3/ 484).
(3) تحرفت في (ق) إلى: “سفيان”!.

(4/1479)


عن عبد الله، قال: “قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “مَنْ حَلَفَ عَلَى يمين هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لِيقتَطعَ بِهَا مَال امْرِئٍ مسْلِمٍ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبان” (1) فقال الأشعث: فيَّ واللهِ كان ذلك، كان بينى وبينَ رجل من اليهود دارٌ فجَحَدني فقدمته إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فقال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: “ألك بينة؟ فقلت: لا، فقال لليهوديِّ: “احْلِفْ” فقلت: واللهِ إذا يحلفَ فيذهبَ حقِّي، فأنزل: الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] ” الآية.
قال النَّسائِيُّ: لا نعلم أحدًا تابَعَ أبا معاويةَ على قوله: فقال لليهودي: “أحلف””. انتهى.
ويسوغُ للحاكم أن يقولَ له: “احلفْ” إذا قصد به الزَّجرَ والتَّخويف، أو كان يعلم أن المُدَّعِي قاصد لتحليفِه، أو كان يعلمُ أن المُدَّعَى عليه (2) بريءٌ من الدَّعوى، فإنه في قصده (3) الصّورَ الثلاثَ قد أعان على البِرِّ والتقْوى، وظهورِ الحقِّ، وأكثرُ أوضاعِ الحكامِ. ورسومِهم لا أصلَ لها في الشريعة، والله المستعانُ.

(ق/356 أ) فصل
إذا كانت دَايَةٌ ترضعُ ولدَ غيرها، هل يجوز لها الإفطارُ كما لو كان ولدَها؟.
قال أبو عَقِيل في “فصوله”: جاريةٌ جاءت إلى الشيخ أبي نصر
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري رقم (2356)، ومسلم رقم (138).
(2) من قوله: “احلف، إذا .. ” إلى هنا ساقط من (ق).
(3) (ق وظ): “فإنه من هذه”، و (ظ): “في” بدلًا من “من”.

(4/1480)


ابن الصباغ (1) وأنا حاضرٌ، فتحَصّل من الجواب أنها تستبيحُ الإفطار؛ لأن أكثرَ ما فيه أنه نوعُ ضَرَرٍ لأجل المشاقُ، فهو كإفطار المسافر في المُضَارَبَةِ، فيستبيح كالمسافر بمال نفسِه، وفارق العمل في الصَّنائع الشَّاقَّةِ؛ لأنها إذا بلغ منها الجَهْدُ إلى حَدَّ يبيحُ في حقِّ نفسِه أباحَتْ في عملِ غيرِه، وإن لم تبلغِ المشقَّةُ إلى حدّ إباحةِ الإفطارِ، لم يبَحْ في حَقِّه، ولا حق غيره.
قال أحمد في رواية ابن ماهان (2): لا بأس للعبد أن يَتسَرَّى، إذا أذِنَ له سيِّده، فإن رجَعَ السَّيَدُ، فليس له أن يرجعَ إذا أذِن له مَرَّة وتَسَرَّى، فتأوَّله القاضي، وقال: يحتمل أنه أراد بالتَّسَوِّي هاهنا التزويجَ، وسماه تَسَرِّيًا مجازًا، ويكون للسيِّدِ الرجوعُ فيما مَلَّكه” عبدَهُ (3).
وهذا نظيرُ تأويل الشيخ أبي محمد (4) النِّكاحَ بالتَّسَرِّي في مسألة تزويج عبده بأمَتِهِ، وقد قال أحمد في رواية جعفر بن محمد وحرب (5): ليس للسَّيِّد أن يأخذَ سريةَ العبد إذا أذِن له في التَّسَرِّي، فإنْ تَسَرَّى (ظ/ 244 ب) بغير إذنِهِ أخذها منه، وإذا باع العبد وله سُرِّيَّة فهي لسَيِّدِه، ولا يُفَرَّق بينهما؛ لأنها بمنزلةِ المرأةِ، انتهى كلامه.
وهذا يردُّ قولَ الأصحاب: إن التَّسَرِّيَ مبنىٌّ على الملك، وأنه إذا لم يملك لم يَتَسَرَّ، ويرد قولَهم: إن للسيد انتزاعَ سُرِّيتهِ منه، ويردُّ
__________
(1) تقدمت ترجمته.
(2) هو: محمد بن ماهان النيسابوري، له مسائل حسان عن الإمام أحمد ت (284). “طبقات الحنابلة”: (2/ 361 – 364).
(3) انظر رواية ابن ماهان، وكلام القاضي في “المغني”: (9/ 477).
(4) يعني ابن قدامة، انظر: “المغني”: (9/ 475 – 476).
(5) انظر نحوها في “مسائل ابن هانئ”: (1/ 219).

(4/1481)


قولهم: إنه إذا باعه رجعت السُّرِّيَّةُ إلى سيدِه، ولا يطؤها العبدُ.
[قال أحمد في رواية ابن هانئ (1) وحرب ويعقوب بن بختان: “إذا زوَّج عبدَهُ من أَمَتِهِ، ثم أعتقهما (2) لا يجوزُ أن يجتمِعا حتى يجدِّدَ النِّكاحَ”، فاستشكَلَ في “المغني” (3) هذه الرواية؛ فقال: وعن أحمد: إن عَتقا معًا انفسخ النكاحُ. ومعناه -والله أعلم-: أنه إذا وهب لعبده: سُرِّيَّةً أو اشترى له سُرِّيَّةً، وأذن له في التَّسَرِّي بها، ثم اعتقهما جميعًا صارا (ظ/245 أ)، حُرَّيْن، وخرجت من ملك العبدِ، فلم يكنْ له إصابَتُها إلَّا بنكاحٍ جديد، هكذا روى جماعةٌ من أصحابه، فيمن وهب لعبدِهِ سُرِّيَّةً، أو اشترى له سريةً، ثم أعتقهما، لا يقربُها إلا بنكاحٍ جديد، واحتجَّ على ذلك بما روى نافع عن ابن عمر: أن عبدًا له كان له سُرِّيَّتان فأعتقهما وأعتقه، فنهاه أن يقربَهما إلّا بنكاحٍ جديدٍ (4).
قلت: وهذا التأويل بعيدٌ جدًّا من لفظ أحمد، فإن هؤلاء الثلاثة إنما رَوَوا المسألةَ عنه بلفظ واحد، وهو أنه زوَّجَ عبدَه أمَتَهُ، ثم قوله: “حتى يجدِّدَ النِّكاحَ” مع قوله “روَّجَ”، صريحٌ في أنه نكاحٌ لا تَسَرٍّ، وعنه في هذه المسألة ثلاثُ رواياتٍ؛ هذه إحداهنَّ، والثانية: لهما الخيارُ، نصَّ عليه في رواية الأثرم، والثالثة: أنهما على نكاحِهما، نصَّ عليه في رواية مجمد بن حبيب، وحكاها أبو بكر في “زاد المسافر” (5) ثلاث
__________
(1) لم أره في المطبوعة.
(2) (ق وظ): “أعتقها”.
(3) (10/ 73).
(4) أخرجه عبد الرزاق: (7/ 215).
(5) لأبي بكر غلام الخلال ت (363)، في المذهب، وذكر ابن رجب في “القواعد”: (ص/169) أنه قد يقع له الغلط في حكاية كلام الإمام لتصرفه فيه.

(4/1482)


روايات منصوصاتٍ في مسألة التزويج، وللبطلان وجهٌ دقيقٌ، وهو أنه إنما زوَّجها بحكم مُلْكِهِ لهما وقد زال ملْكُه (1) عنهما بخلاف تزويجِها بعبدِ غيره، وبين المسألتينِ فَرْقٌ، ولهذا في وجوب المَهْرِ في هذه المسألةِ نِزَاعٌ، فقيل: لا يجبُ بحال، وقيل: يجبُ ويسَقطُ، والمنصوصُ أنه يجِبُ ويتّبَعُ به بعد العِتْقِ بخلاف تزويجِها بعبَدِ الغير، والله أعلم] (2).
قوله في “المقنع” (3): “وإن باعه السلعةَ برقمها أو بألفِ دينار ذهبًا وفضة، أو بما ينقطعُ به السعر، أو بما باع به فلانٌ، أو بدينار مطلقٍ، وفي البلد نقودٌ لم يَصِحَّ”.
أما الرقمُ؛ فقد نصَّ على صحَّة البيع به، فقال حرب: سألت أحمد عن بيع الرَّقم؟ فلم يَرَ به بأسًا.
وأما البيعُ بالسعر؛ فقد اختلفت الروايةُ عنه فيه، فقال في رواية ابن منصور (4) في الرجلِ يأخذُ من الرجل السِّلْعَةَ يقول: أخذتُها منك على سعر ما تبيع: لم يجزْ ذلك، (ق/ 357 أ) وحكى شيخُنا عنه الجواز نصًا (5).
وأما البيع بدينار مطلق وفي البلدِ نقودٌ؛ فقال في رواية الأثرم: في رجل باع ثوبًا بكذا وكذا درهمًا، أو اكترى دابَّة بكذا وكذا، واختلفا
__________
(1) “لهما وقد زال ملكه” سقطت من (ع).
(2) من قوله: “قال أحمد … ” إلى هنا في (ق وظ) مكانها فى آخر الفصل قبل قوله “فائدة: الذي. وقع … “. وأشرنا إلى ذلك هنا، لأنا التزمنا ترتيب (ظ)، إلا لمناسبة، وهذا منه، لتناسب الكلام. وانظر ما سيأتي (4/ 1520).
(3) (ص/99 – 100).
(4) رقم (25) مع اختلاف في اللفظ.
(5) في “مجموع الفتاوى”: (29/ 510).

(4/1483)


في النقد؟ فقال: له نقْدُ الناسِ بينهم، قيل له: نقدُ الناس بينهم مختلفٌ؟ قال: له البيع (1) بثمن مطلق، مع كونِ النقودِ مختلفةً، وإنما يكونُ له أدناها.
وقال الأثرمُ: بابٌ الرجلُ يأخذ من الرجل المتاعَ، ولا يقاطِعُه على سعره، سئل أبو عبد الله عن الرجل يأخذُ من البقال الأُوْقِيَّةَ من كدا، والرطلَ من كذا، ثم يحاسبُهُ، أيجوزُ له أن يقولَ: اكتبْ ثَمَنَهُ عليَّ ولا يعطِيه على (2) المكان؟ قال: أرجو أن يجوزَ؛ لأنه ساعةَ أخذه إنما أخذه على معنى الشراء، ليس على معنى السَّلَفِ، إنما يُكْرَهُ إذا كان على معنى السَّلَفِ، فإذا قاطعه بقيمتِه يومَ أخذه (3). قيل له: فإن لم يدْرِ كم (4): قيمته يومَ أخذهُ؟ قال: يتحَرَّى ذلك.
وسألته (5) مرة أخرى فقلت: رجل أخذ من رجلٍ رطلًا من كذا ومَنًا من كذا، ولم يقاطعْه على سعرِهِ، ولم يُعْطِهِ ثمنَهُ، أيجوزُ هذا؟ قال: ألَيس على معنى البيع أخَذَهُ؟ قلت: بلى، قال: فلا بأس، ولكنه إذا حاسبه أعطاه على السِّعر يوم أَخَذَهُ لا يوم حَاسَبَهُ.
قال إسحاق بن: هانئ (6): سألتُ أبا عبد الله عن الرجل يفجُرُ بالمرأة ثم يَتزوَّجُها، قال، لا يَتَزَوَّجْها حتى يعلمَ أنها قد تابتْ؛ لأنه
__________
(1) (ع وظ) العبارة: “قال له: قال ابن عقيل: فظاهر هذا جواز البيع .. “! فإما أنه مقحم، أو وقع سقطُ في النُّسَخ لم يتبين به وجه الكلام، فتصرّف ناسخ (ق) بحذف قول ابن عقيل. والله أعلم.
(2) (ق): “غلت”.
(3) كذا في الأصول، وكأن في الكلام نقصًا.
(4) (ق): “يدركه”!.
(5) (ق): “قال: ثم سألته”.
(6) “المسائل”: (1/ 203).

(4/1484)


لا يدري لعلها تعلقُ عليه ولدًا من غيره.
قلت: وما علمُهُ أنها قد تابت؟ قال: يريدُها على ما كان أرادها عليه، فإن امتنعت فهي تائبةٌ.
قلت: وهذا التفات من أحمد إلى القرائن ودلائلِ الحال، وجواز إيهام غير الحقِّ، قولًا وفعلًا، ليعلم به الحق، وهذه اقتداءٌ بنبي الله سليمان بن داود حيث قال في الحكومةِ بين المرأتين في الصبي: “ائتوني بالسِّكِّينِ أشُقَّهُ بينكما” (1).
ومن تراجم النسائى (2) على حديثه هذا: “التَّوسِعةُ للحاكم أن يقول للشيء الذي لا يفعلُه: “افعل” ليستبينَ به الحَقَّ”.
وهذا الذي قاله أحمدُ اتَّبَعَ فيه ابن عمر فإنه قال: يريدُها على نفسِها، فإن طاوعَتْهُ لم تَتُبْ، وإن أبَتْ فقد تابَتْ.
وأنكر الشيخ في “المغني” (3) هذا جدًّا، وقال: “لا ينبغي لمسلم أن يدعوَ امرأة إلى الزنى، ويطلبَهُ منها، ولأنّ طلبه ذلك إنما يكونُ في خَلْوَةٍ، ولا تحلُّ الخَلْوَةُ بأجنبيَّةٍ، ولو كان في تعليمها القرآنَ، فكيف يحِلُّ في مراودِتها على الزِّنا! ثم لا يأمن إن أجابَتْه إلى ذلك أن يعودَ (4) إلى المعصية، فلا يحِلُّ التَّعَرُّضُ لمثل هذا، ولأنَّ التَّوْبَةَ من سائر الذُّنوبِ، بالنسبة إلى سائِر الأحكامِ، وفي حقِّ سائر الناس، على غيرِ هذا الوجهِ، فكذا هذا”.
__________
(1) تقدم تخريجه 1/ 12.
(2) “السنن الكبرى”: (3/ 472).
(3) (9/ 564).
(4) (ق): “يعود هو”.

(4/1485)


وقولُ ابنِ عمر: وأحمدَ أفقهُ؛ فإنَّ التوبةَ لمَّا (ق/ 357 ب) كانت شرطًا في صحَّة النِّكاح، لم يكن بُدٌّ من تحقُّقِهَا، ولا سبيلَ له إلى العلم بها إلَّا بذلك، أو بأن يأمرَ غَيْرَهُ بمراودتِها، ولا رَيْبَ أن المفاسد. المذكورة أقربُ إلى الغير، إذ لا غرضَ له في نكاحِها، بخلافِ الخاطِب، فإن إرادتَهُ لنكاحِها، وعزمَهُ عليه، يمنعُهُ من معاوَدَة ما يعودُ عَلى مقصودِه بالإبطالِ.
فائدة.
الذي وقعَ في “صحيح البخاريِّ” (1) وأكثر كتبِ الحديثِ: “وابعَثْهُ مقامًا محمودًا الذي وعدْتَه” (2)، ووقع في “صحيح ابن خزيمة” والنَّسائيِّ بإسنادِ “الصحيحين”: من رواية جابر: “وابعثه المقامَ المحمُوْدَ” (3)، رواه ابنُ خُزيمة عن موسى بن سهل الرَّمْليِّ، وصَدَّقه أبو حاتمٍ الرَّازيُّ (4)، وباقي الإسنادِ شرطهما، ورواه النسائي عن عَمْرو بن منصور، عن علي بن عيَّاش. والصَّحِيحُ ما في البخاري لوجوه:
أحدها: اتِّفاق أكثرِ الرُّواة عليه (5).
__________
(1) رقم (614 و 4719).
(2) أخرجه أبو داود رقم (529)، والترمذي رقم (211)، وابن ماجه. رقم (722) وغيرهم بهذا اللفظ.
(3) أخرجه بهذا اللفظ ابن خزيمة رقم (420)، والنسائي: (2/ 26 – 27)، وابن حبان “الإحسان”: (4/ 586)، والطحاوي في “شرح معاني الآثار”: (1/ 146)، والطبراني في “الأوسط”: (5/ 54)، والبيهقي: (1/ 410).
(4) في “الجرح والتعديل”: (8/ 146).
(5) اختلف الرواة فى هذه اللفظة على أنحاء:
1 – من رواه -عن علي بن عياش- بالتنكير فقط، وهم سبعة؛: محمد بن سهل بن عسكر، وإبراهيم بن يعقوب، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ومحمد =

(4/1486)


الثاني: موافقتُهُ للفظ القرآن.
الثالث: أن لفظ التنكير فيه مقصودٌ به التعظيم كقوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} [ص: 29]، وقوله: {وَهَذَا ذِكْرٌ} (ق/ 358 أ) {مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} [الأنبياء: 50]، وقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ} [الأحقاف: 12]، ونظائره.
الرابع: أن دخولَ اللام يُعَيِّنُهُ ويخصُّه بمقام معيَّن، وحذفُها يقتضي إطلاقًا وتعدُّدًا، كما في قوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة: 201] ومقاماتُهُ المحمودة في الموقِفِ متعدِّدَةٌ، كما دلَّتْ عليه الأحاديثُ، فكان في التنكيرِ من الإطلاقِ والإشاعَةِ ما ليسَ في التَّعريفِ.
الخامس: أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – كان يحافِظُ على ألفاظ القرآن تقديمًا وتأخيرًا، وتعريفًا وتنكيرًا، كما يحافظُ على معانِيه، ومنه: قولُه وقد بدأ بالصَّفا: “ابْدَأُوا بما بَدَأَ اللهُ به” (1)، ومنه: بداءته في الوضوء بالوجهِ ثم باليدينِ اتَباعًا للفظ القرآن، ومنه: قولُه في حديث البَرَاء ابن عازب: “آمنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، ونَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ” (2)
__________
= ابن مسلم بن وارة، والعباس بن الوليد الدمشقي، ومحمد بن أبي الحسين.
2 – من رواه بالتعريف فقط، وهم اثنان؛ عبد الرحمن بن عَمرو أبو زرعة الدمشقي، وموسى بن سهل الرملي.
3 – من رواه على الوجهين: التعريف والتنكير، وهم ثلاثة؛ عَمرو بن منصور النسائي، ومحمد بن عوف، ومحمد بن يحيى.
(1) أخرجه بلفظ الأمر النسائي في “المجتبى”: (5/ 236)، والكبرى: (2/ 413)، وابن الجارود: (2/ 93)، والطبري في “التفسير”: (2/ 54)، والدارقطني: (2/ 452). وبلفظ الخبر: “أبدأ” أخرجه مسلم رقم (1218) وغيره من حديث جابر -رضي الله عنه-.
(2) أخرجه البخاري رقم (247)، ومسلم رقم (2710).

(4/1487)


موافقةً لقوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} [الأحزاب: 45] وعلى هذا فـ “الذي وعدته” إما بدَلٌ، وإما حْبرُ مبتدأ محذوف، وإما مفعولُ فعلٍ محذوف، وإما صفةٌ لكون “مقامًا محمودًا” قريبًا من المعرفة لفظًا ومعنى، فتأمله.
* * *
قال أحمدُ في رواية ابن هانئ (1): لا تجور شهادةُ من أيسر ولم يَحُجَّ، وليس به زَمَانَةٌ، ولا أمرٌ يحْبِسُهُ عنه.
وقال (2): لا تجوزُ شهادةُ الوَلَد لوالدِه، ولا الوالدُ لوَلَدِه، إذا كانوا يَجُرُّون الشيءَ لأنفسِهم.
وقال (3): تجوزُ شهادةُ الغلامِ إذا كان ابنَ اثنتي عشرة سنة أو عشرَ سنين، وأقامَ شهادَتَهُ، جازت شهادَتُهُ.
وقال ابن هانئ: سمعتُ أبا عبد الله يقول: لا يُعْجِبُني أن يُعَدِّلَ القاضي؛ لأنَّ الناس يتغيَّرون، ولا يدري ما يحدُثُ.
وسئل عن الرجل يُعَدِّلُ الرجلَ؟ فقال: ما يُعْجِبُني يعدله؛ لأنه لا يدري ما يحدثُ، والناسُ يتغيرون.
وسُئِلَ: متى يُعَدَّلُ الرجلُ؟ فقال: قال إبراهيم: إذا لم تظهرْ منه ريبةٌ يعدَّلُ.
ولأصحابه فيما إذا سُئِلَ عن مسألةٍ فأجاب فيها بحكايةِ قول من
__________
(1) “المسائل”: (2/ 37).
(2) المصدر نفسه.
(3) هذه المسألة وما بعدها في “المسائل”: (2/ 36 – 37).

(4/1488)


بعد الصَّحابَةِ وجهانِ؛ (ظ/245 ب) أحدهما: أنه يكون مذهبًا له، والثاني: لا.

فائدة
الفرق بين الشك والريب من وجوه:
أحدها: أنه يُقَالُ: شكٌّ مريبٌ، ولا يقال رَيْبٌ مُشَكِّكٌ.
الثاني: أنه يقال: رَابني أمْرُ كذا، ولا يقال شكَّكَني.
الثالث: أنه يقال: رَابَه يَرِيبهُ إذا أزعجَهُ وأقلقَهُ، ومنه قول النبي – صلى الله عليه وسلم – وقد مَرَّ بظبي حاقِف في أصل شجرة”: “لا يَرِيبُهُ أحدٌ” (1)، ولا يحسُنُ هنا: لا يُشَكِّكُه أحدٌ.
الرابع: أنه لا يقالُ للشَّاكِّ في طلوع الشمس أو في غروبها أو دخول الشهرِ أو وقت الصلاة: هو مرتابٌ في ذلك، وإن كان شاكًّا فيه.
الخامس: إن الرَّيْبَ ضدُّ الطُّمَأْنِينَةِ واليقينِ، فهو قلقٌ واضطرابٌ وانزعاجٌ، كما أن اليقينَ والطُّمَأْنِيَنةَ ثباتٌ واستقرارٌ.
السادس: أنه يُقالُ: رَابَني مجيئُهُ وذهابُهُ وفعلُهُ، ولا يقال: شكَّكَني، فالشَّكُّ سببُ الرَّيْبِ، فإنه يَشُكُّ أولًا (2)، فيوقعُهُ شَكُّهُ في الرَّيْبِ، (ق/358 ب) فالشَّكُّ مَبدأُ الرَّيْبِ، كما أن العِلْمَ مَبْدأُ اليقينِ
__________
(1) أخرجه النسائي: (5/ 182)، وابن حبان “الإحسان”: (11/ 512)، والبيهقي: (6/ 171) وغيرهم من حديث عُمير بن سلمة الضمري. وحاقف: أي رابض، وقيل: غير ذلك.
(2) العبارة في (ق): “فالشك المريب كأنه شك أولًا .. “.

(4/1489)


ومما انتقاه القاضي من “شرح أبي حفصٍ لمبسوطِ أبى بكرٍ الخلال” (1)
* أحمد في رواية أحمد بن الحسين: يغسلُ يَدَهُ ثلاثًا ثم يستنجِي ثم يغسلُ يَدَهُ ثم (2) يَتَوَضَّأُ.
قال أبو حفص: قد بينَّا عن أبى عبد الله غسلَ اليدِ في الطَّهارة في ثلاثةِ مواضِعَ؛ أحدها: قبل الاستنجاء، والثاني: غسل اليد اليسري بعد الاستنجاء، والثالث: عند ابتداء الوضوء.
وقال في الرجل يستجمرُ ويعرقُ في سراويله: “إذا استجمرَ ثلاثةً فلا بأسَ”. يحتملُ أن يحملَ على ظاهرِها، فيَكونُ الموضِعُ قد طَهُرَ بالاستجمار فلا يَضُرُّ العَرَقُ، ويحتملُ أن يتأولَ (3) على أنه عَرَقُ غيرِ موضِع الحَدَث، أو عَرِقَ فلم يُصِبْ ذلك الموضعُ سراويلَهُ، وهذا القولُ أولى؛ لأن الموضعَ عُفِيَ عنه تخفيفًا، فإذا نال الموضعَ رطوبةٌ، وَجَبَ إزالةُ الأَثَرِ، كما تجِبُ إزالةُ العين ونَجَسِ ما لاقاها كالعين.
* قلت: اختلف أصحابُنا في أثر الاستجمارِ؛ هل هو نَجَسٌ معفوٌّ عنه أو طاهرٌ؟ على وجهين، وعلى ما اختاره أبو حفص تصيرُ المسألةُ على ثلاثةِ أوجهٍ، وقولُه الذي اختارَه ضعيفٌ جدًّا، مذهبًا ودليلًا وعملًا، فإنَّ الصَّحابَةَ لم يكنْ أكثرُهم يستنجي بالماء، وإنما كانوا يستجمِرون صَيْفًا وشتاءً، والعادةُ (ق/ 348 أ) جاريةٌ بالعَرَق في الإزارِ،
__________
(1) “المبسوط” لأبي بكر الخلال، انظر “طبقات الحنابلة”: (3/ 226)، وشرحه لأبي حفص العُكْبَرىِ، نقل عنه المرداوي في “الإنصاف”: (2/ 182)، ولم أعرف عنهما أكثر من هذا.
(2) (ف وظ): “و”.
(3) ليست في (ق)، (ظ): “يقول”.

(4/1490)


ولم يأمُرْهم النبي – صلى الله عليه وسلم – بغسلِه، وهو يعلمُ موضِعَهُ، ولا كانوا هم يفعلونَهُ (1)، مع أنهم خيرُ القرونِ وأتقاهم لله، ولا أعلمُ أحدًا من أصحابنا اختارَ ما اختاره أبو حفصٍ، وهو خلاف نصِّ أحمد، والله أعلم.
* واختلف قولُه إذا لم يجمع المستنْجِي بينَ الأحجارِ والماء أيُّهما أولى بالاستعمال؟ فنقل الشَّالَنجيُّ أنه قال: إن لم يكن مع الأحجار ماءٌ، فالأحجار أحبُّ إليَّ، والوجهُ فيه: أن ابنَ عُمر كان لا يَمَسُّ ذَكَرَهُ بالماء. وروى أبو عبد الله عن إسماعيل بن أميَّة عن نافع قال: “كان ابنُ عُمر لا يغسلُ أثرَ المَبَالِ” (2)، واستعمالُ الحِجارة أتت في الأخبارِ (3).
وروى حربٌ الكرماني والحسن بن ثَوَاب تضعيفَ الأخبار في الاستنجاءِ بالماءِ، وقال في حديث مُعَاذَةَ، عن عائشة، عنه: قَتَادَةُ لم يرفَعْه، ولأن المستجمِرَ لا تُلاقي يَدُهُ النجاسَةَ، وعنه: هما سواءٌ، وعنه: الماء أفضلُ، جاء في البول من التغليظ ما لم يأتِ في الكلبِ.
* اختلف قوله إذا لم يقدروا أن يُصَلُّوا في السفينة قيامًا جماعةً وأمكنهم الصلاةُ فُرَادَى قيامًا، هل يُصَلُّون جُلوسًا جماعة؟
فعنه في رواية حرب: يُصَلِّي كُلُّ إنسان على حِدَتِهِ.
وقال في رواية الفضل بن زياد: تُصَلِّي وحدَك قائمًا. ووجهُهُ: أن القيامَ آكَدُ؛ لأنه لو صلَّى قاعدًا مع قدرتِه على القيام لِم يجزئْهُ،
__________
(1) (ق وظ): “يغسلونه”.
(2) أخرجه عبد الرزاق: (1/ 152) بنحوه.
(3) (ق وظ): “واستعمال الأحجار أثبت … ” وهو وجيه.

(4/1491)


ولو صلَّى منفردًا مع قدرتِه على الجماعةِ أَجْزَأَ.
والقولُ الآخرُ تخريجًا على قوله: إن الإِمامَ إذا صلَّى جالسًا يُصَلِّي مَنْ خَلْفَهُ جلوسًا، فقد أجاز للمأمومِ الصلاة جالسًا لأجل الجماعة.
قال القاضي: قلت أنا: ولأنا أسقطنا القيامَ لعدم السِّتارة (1) فكذا الجماعةُ.
* واختلف (ظ/ 246 أ)، قولُه في صفة جلوس العَرْيان في صلاتِه.
فعنه: يَجْعَلُ قيامَهُ تَرَبُّعًا. قال القاضي: قلت أنا: كالمريض والمُتنفِّل.
وعنه: يَتَضَامُّون؛ لأنهم إذا تَضَامُّوا كان أسترَ لعوِراتِهم، والمُتَرَبِّعُ يُفْضِي بفرجِه إلى السَّماء، ولا يمكنُهُ وضعُ يَدِهِ على فَرْجِهِ لئلا تنتقضَ طهارَتُهُ.
* واختلف قوله: إذا توارى بعضُهم عن بعض، فصلُّوا قيامًا.
فعنه: لا بأس. وعنه: أنه قال: يُصَلِّي العُريانُ قاعدًا يجعل قيامَهُ متَربعًا (2)، فقد ذكر عريانًا واحدًا أنه يُصَلِّيَ قاعدًا، وهذا أصحُّ في مذهبه؛ لأن سترَ العورة آكَدُ عندَه من القيام، لأن مذهبَهُ في العراة يصَلُّون جلوسًا، ولأن سترَ العورةِ يُرَادُ للصلاة، ألا ترى أنه لا يجوزُ للخالي أن يصَلِّيَ مكشوفَ العورة، ولا إذا كان جيبُهُ واسعًا ينظر: إلى عورتهِ، ولحيتُهُ كبيرةٌ تحولُ بينَه وبين النظرِ.
__________
(1) وهي السترة، أي: ما تُسْتر به العورة.
(2) (ع): “تربيعًا”.

(4/1492)


فائدة (1)
حديث: يا رسولَ الله عندي دينارٌ، قال: “أنفِقْهُ على نَفْسِكَ … ” إلى الخامس (2)، قال: “أنتَ أَبْصَرُ” (3).
قيل: لعله أشارَ إلى أنه قبل الخامس في حكم (ق/ 348 ب) الفقير، فلما أخبره أن معه خامسًا -والدينار كان عندهم اثنا عَشَرَ دِرْهَمًا- فقد مَلَكَ قيمةَ خمسينَ درهمًا من الذهب، وزادَ عليها، ففوَّضَ الأمرَ إليه في الصَّدَقَة في الخامس دونَ ما قَبْلَه، فَهذا يُؤَيِّد حديث: “مَنْ سَأَلَ وله ما يُغْنِيه” قيل: وما يغْنِيه؟ قال: “خمسون درهمًا” (4) الحديث، والله أعلم (5).
__________
(1) (ق): “مسألة”.
(2) أي: حتى ذكر أن له دينارًا خامسًا.
(3) أخرجه أحمد: (12/ 381 رقم 7419)، وأبو داود رقم (1691)، وابن حبان “الإحسان”: (8/ 127)، والحاكم: (1/ 415) وغيرهم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. وسنده جيِّد.
(4) أخرجه أحمد: (6/ 194 – 195 رقم 3675)، وأبو داود رقم (1626)، والترمذي رقم (651)، والنسائي: (5/ 97)، وابن ماجه رقم (1840)، وغيرهم من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-.
والحديث حسّنه الترمذي، وتكلم بعض أهل العلم في إسناده، إذ فيه حكيم بن جُبير، وهو ضعيف، وتكلم فيه شعبة من أجل هذا الحديث، أما متابعة زُبيد له فقد طعن فيها جماعة منهم الإمام أحمد.
(5) قال الترمذي -عقب الحديث-: “والعمل على هذا عند بعض أصحابنا، وبه يقول الثوري وعبد الله بن المبارك وأحمد وإسحاق، قالوا: إذا كان عند الرجل خمسون درهمًا لم تحل له الصدقة.
قال: ولم يذهب بعض أهل العلم إلى حديث حكيم بن جُبير، وسَّعُوا في هذا، وقالوا: إذا كان عنده خمسون درهمًا أو أكثر وهو محتاج، فله أن يأخذ من الزكاة، وهو قول الشافعي وغيره من أهل الفقه والعلم” اهـ.

(4/1493)


* قال أبو حفص: واختلف قولُه في الاستدارة في المحمل.
فروى محمد بن الحكم عنه: من صلَّى في مَحْمَل فإنه لا يُجْزِئُهُ إلَّا أنْ يستقبلَ القِبْلَةَ؛ لأنه يمكنُهُ أن يدورَ، وصاحبُ الراحلة والدَّابَّة لا يمكنه، والحجةُ أمر الله تعالى باستقبال القبلة حيث كان المصلي، وذلك ممكن في المحمل كما في السفينة، بخلاف الدَّابَّة فتسقطُ لعدم: الإمكان.
وروى عنه أبو طالب أنه قال: الاستدارةُ في المحمل شديدةٌ، يصلِّي حيثُ كان وجههُ؛ لأن الاستدارةَ في المحمَل شديدٌ على الجَمَل فجاز تَرْكُها، كما جاز في الرَّاحِلَةِ لأجل المَشَقَّةِ على الرَّاكِبِ (1).
* واختلف قولُه في السُّجود في المَحْمَل.
فروى عنه عبد الله (2) ابنه أنه قال: وإن كان مَحْمَلًا فَقدَر أن يسجدَ في المحمل سَجَدَ. وروى عنه الميمونيُّ: إذا صلى على محمل أحبُّ إليَّ أن يسجدَ لأنه يمكنُهُ. وعنه الفضل بن زياد: يسجدُ في المحمَلِ إذا أمكنه.
ووجهه: أنه تعالى أَمَرَ بالسُّجود، وإنما سقط عن المُصَلِّي على الرَّاحِلَةِ لعدمِ الإمكانِ.
وروى عنه جعفر بن محمد: السُّجودُ على المِرْفَقَةِ، إذا كان في المحملِ، ربما اشتدَّ على البعير، ولكن يومئُ، ويجعل السجودَ
__________
(1) من قوله: “يصلي … ” إلى “شديد” سقط من (ظ)، وقوله: “لأجل المشقة على الراكب” ليست في (ق).
(2) “المسائل” رقم (316).

(4/1494)


أخفض الرُّكوعِ، وكذا روى عنه أبو داود (1)، ووجْهُه: المشقَّةُ على البعير.
قلت: الذي أوجب هذا: أن الصحابَةَ لم يكن سفرُهم ولا حَجُّهم في المحامل، وإنما حدث (2) في زمن الحَجَّاج، فالصّلاةُ فيها دائرةُ الشَّبَهِ بين الصلاةِ في السَّفينة والصلاةِ على الرَّاحلة، فمن راعى شبهها بالسفينة أوجبَ الاستقبال؛ لأن المحملَ بيتٌ سائرٌ في البَرِّ، كما أن السفينةَ بيتٌ سائرٌ في البحر، ومن راعى مَشَقَّةَ الاستدارةِ على المصَلِّي والبعيرِ أسقطَ الاستقبالَ، وهو الأَقْيَسُ، والله أعلم.

مسألة
قال المرُّوْذيُّ: كان أبو عبد الله إذا سَلَّم من المكتوبةِ ركَعَ ركعتينِ قبلَ التَّراويح.
وجْهُه: ما رَوى عليٌّ (3): “كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يُصَلِّي على إِثْر كلِّ صلاة مكتوبة ركعتين، إلا الفجر والعصر، (4)، ظاهرُهُ العمومُ في رمضان وغيره، ولا يُتْركُ (5) ذلك لأجل التَّراويحِ؛ لأن كُلاًّ منهما مقصودٌ.
وروى أحمد بن الحسين: صَلَّيْتُ مع أبي عبد الله في شهر رمضانَ
__________
(1) “المسائل” رقم (536).
(2) (ق): “حدثت”.
(3) (ق): “رُوِي عن علي”.
(4) أخرجه أحمد: (2/ 294 رقم 1012)، وأبو داود رقم (1275)، وابن خزيمة رقم (1196)، والبيهقي: (2/ 459) وغيرهم.
والحديث صححه ابن خزيمة والضياء في “المختارة”: (2/ 149).
(5) تحرفت في (ق وظ).

(4/1495)


التَّرَاوِيحَ، فكان إذا صَلَّى العَتَمَةَ لا يُصَلِّي حتى يقومَ إلى التَّرَاوِيح.
قال الخلَّال: لم يضبط هذا، فإن كان قد ضبط ما رواه، (ق/ 349 أ) فوجهُهُ أنه فعل (1) التَّراويحَ أو الركعتينِ قبل ركعةِ الوترِ، موضعَ الركعتينِ بعدَ المكتوبَةِ.
قال حنبلٌ: كان أبو عبد الله يُصَلِّي معنا، فإذا فرغنا من التَّرْويحة: جَلَسَ وجلسنا، وربما يُحدِّث ويُسألُ عن الشيء فيُجيبُ، ثم يقومُ فيُصَلِّي، ثم يدعو بعد الصلوات بدَعَوَاتٍ، ثم يوتِرُ، ثم ينصرفُ.
وقال الفضل: رأيتُ أحمدَ يقعدُ بين التَّراويحِ ويُرَدِّدُ هذا الكلامَ: “لا إله إلَّا الله وحدَه، لا شريكَ له، أستغفرُ الله الذي لا إله إلَّا هو”. وجلوسُ أبي عبد الله (ظ/ 246 ب)، للاستراحَةِ؛ لأن القيام إنما سمي تراويحَ لما يَخَلَّلُه من الاستراحَةِ بعد كلِّ ترويحة.
* واختلف قولُه في تأخيرِ التَّراويحِ إلى آخرِ اللَّيلِ.
فعنه: إن أخَّروا القيامَ إلى آخرِ اللَّيل فلا بأسَ به، كما قال عمرُ: “فإنَّ الساعَةَ التي تنَامون عنها أفضلُ” (2)، ولأنه يحصل قيامٌ بعدَ رَقْدَةٍ، قال الله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ … } [المزمل: 6]، الآية.
وروى عنه أبو داود (3): لا يؤخَّرُ القيامُ إلى آخر اللَّيْلِ، سنة المسلمين أحبُّ إليَّ.
ووجهه: فعلُ الصحابة، ويُحْمَلُ قول عمر على التَّرغيبِ في
__________
(1) (ظ): “جعل”.
(2) أخرجه البخاري رقم: (2010).
(3) “المسائل” رقم (438).

(4/1496)


الصَّلاة آخرَ الليل، ليواصِلوا قيامَهم إلى آخرِ الليل، لا أنهم يُؤَخِّرونها، ولهذا أمَرَ عمرُ من يُصَلِّي بهم أوَّلَ الليل.
قال القاضي: قلت: ولأن في التأخير تعريضًا بأن يفوتَ كثيرًا من الناسِ هذه الصلاةُ لغَلَبَةِ النومِ.
* واختلف قوله في القيام ليلة العيد في الجماعة.
فروى عنه حنبلٌ: أما قيَامُ ليلةِ الفطرِ فما يُعْجِبُني ما سمعنا أحدًا فعل ذلك إلَّا عبدُ الرحمن (1)، وما أراه؛ لأنَّ رمضَانَ قد مضى، وهذه ليلةٌ ليست منه، وما أُحِبُّ أن أفعلَه، وما بَلَغَنا من سَلَفِنا أنهم فعلوه. وكان أبو عبد الله يصَلِّي ليلةَ الفطرِ المكتوبَةَ، ثم ينصرفُ، ولم يُصَلِّها معه قطُّ، وكان يكرهُهُ للجماعةِ.
الفضل بن زياد: شهدت أحمدَ ليلةَ الفطرِ وقد اختلفَ الناسُ في الهلال، فصلَّى المكتوبةَ، وركع أربع ركعات، وجلسَ يستخبرُ خبرَ الهلال، فبعث رسولًا فقال: اذهبْ نحو أبي إسحاق (2) فاستخبرْ خَبَر الهلال، فلم يَزَلَ جالسًا ونحن معه حتى رَجَعَ (3) الرسولُ فقال: قد رُؤِيَ الهلالُ، فانتعَلَ (4) أحمد، ثم قام فدخل منزلَه.
وعنه أبو طالب: أنه قال في الجماعةِ يقومون ليلةَ العيدِ إلى الصَّبَاحِ يجمِّعونَ، قال: من فعلَ ذلك هو زيادةُ خير، كان عبدُ الرحمنِ بن الأسودِ
__________
(1) هو: عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي الكوفي، أحد التابعين، وانظر: “مسائل ابن هانئ”: (1/ 97)، وخبره في “صنف ابن أبي شيبة”: (2/ 168)
(2) (ق): “دار إسحاق”.
(3) (ق): “جلس”.
(4) أي: لبس النعل. ووقع في المطبوعات: “فانتقل”.

(4/1497)


يعتكِفُ فيقومُ ليلةَ العيدِ إلى الصَّباحِ، مَنْ فَعَلَهُ فحسنٌ، ومنْ لم يفعَلْه فليس عليه شيءٌ انتهى.
لما روى مالك بن دينار، عن سالم، عن ابنْ عمر كان يُحْيِي ليلةَ العيدِ (1). عبد الرحمن بن الأسود (ق/ 349 ب)، كان يُصَلِّي بقومِه في شهر رمضان وكان يقرأُ بهم القرآن في كلِّ ليلةٍ (2):
قال أبو عبد الله -في الرجل يُصَلِّي شهرَ رمضان، يقومُ فيُوتِرُ بهم، وهو يريدُ يصلِّي بقومٍ آخرينَ-: يشتغلُ بينَهم بشيءٍ يأكلُ أو يشرب أو يجلِسُ، رواه المرُّوْذيُّ.
وذلك لأنه يكرَهُ: أن يوصلَ بوتِرِهِ صلاةً، فيشتغلُ بينَهم بشيءٍ ليكونَ فصلًا بين وتْرِهِ وبينَ الصلاةِ الثانيةِ، وهذا إذا كان يصلِّي بهم في موضعِه، أما في موضِعٍ آخَرَ فذهابُهُ فصلٌ، ولا يُعيد الوتْرَ ثانيةً، “لا وِتْرَانِ في لَيْلَةٍ” (3).
وقال أبو عبد الله -في الرجل يجيءُ والإمامُ يوتِرُ في شهر رمضان،
__________
(1) قال الشافعي في “الأم”: (1/ 231): “وبلغنا عن ابن عمر أنه كان يحيي ليلة جَمْع، وليلة جمع هي ليلة العيد، لأن في صبحها النحر” اهـ، وأخرج عبد الرزاق: (4/ 317) عن ابن عمر قال: خمس ليالٍ لا يرد فيهن الدعاء .. وذكر ليلتي العيدين. لكن إسناده: ضعيف.
(2) لم أعثر عليه.
(3) أخرجه أحمد: (26/ 222 رقم 16296)، وأبو داود رقم (1439)، والترمذي رقم (470)، والنسائي: (3/ 229 – 230) وغيرهم من حديث طلق بن علي -رضي الله عنه-.
والحديث صححه ابن خزيمة وابن حبان، وقال الترمذي: “حسن غريب”، وحسنه الحافظ في “الفتح”: (2/ 258).

(4/1498)


فيلحق معه ركعةً-: إن كان الإمام يفصلُ بينهم بسلام أجرأتْهُ الركعةُ التي لحِقَ، وإذا كان لا يسلِّمُ في الثنتينِ، يقضي مثلَ ما صلَّى ثلاثًا إذا فَرَغَ قام يقضي ولا يقنُتُ.
قوله: “ولا يقنُتُ”، يحتملُ لأنه قد قنَتَ مع الإمام فلا يقنتُ، كما لو سَجَدَ للسهو معه لا يسجدُ آخر صلاته.
ويحتملُ لأنه أدرك آخرَ صلاتِهِ فلا يقنُتُ في أوَّلها.
محمد بن بحر (1): رأيتُ أبا عبدِ الله في شهر رمضانَ، وقد جاء فضلُ بن زياد القَطَّانُ فصلَّى بأبي عبد الله التَّرَاويحَ -وكان حسَنَ القراءةِ- فاجتمعَ المشايخُ وبعضُ الجيران حتى امتلأَ المسجدُ، فخرج أبو عبد الله فصعِد درجةَ المسجدِ، فنظر إلى الجَمْع فقال: ما هذا تَدَعُونَ مساجدَكم وتجيئونَ إلى غيرها؟! فصلَّى بهم لياليَ، ثم صَرَفَة كراهيَةً لما فيه -يعني: من إخلاء المساجدِ- وعلى جارِ المسجد أن يصليَ في مسجدِه.
قال أحمدُ -في الرجل يتركُ الوِترَ متعمدًا-: هذا رجل سوءٍ، يتركُ سُنَّةً سنَّها رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -؟!، هذا ساقط العدالة إذا تَرَكَ الوِتْرَ مُتَعَمِّدًا.
روى هذه المسألة هارون بن عبد الله البزَّاز (2)، (ظ/ 247 أ) ونقل أبو طالب وصالحٌ (3): من تَرَكَ الوِتْرَ متعمدًا هذا رجلُ سوءٍ، وذلك
__________
(1) لم أعرفه. ولعله محمد بن علي بن بحر، نُسِبَ إلى جده، نقل عنه في “المغني”: (10/ 210)، و”طبقات الحنابلة”: (2/ 585).
(2) أبو موسى المعروف بالحمَّال، له عن أبى عبد الله مسائل حسان جدًّا. ت (243). “طبقات الحنابلة”: (2/ 514 – 517).
(3) في “المسائل” رقم (159، 235).

(4/1499)


لقول الله (1): {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63]، وقد أمر به النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -.
* واختلف قوله إذا أوتَرَ بعد طلوعِ الفجرِ؛ هل يوتِرُ بواحدةٍ أو بثلاث؟.
فعنه الميمونيُّ قال: إذا استيقظ وقد طَلَعَ الفجرُ، ولم يكن تَطَوَّعَ ركعَ ركعتين، ثم يُوتِرُ بواحدةٍ، لأن الركعتينِ من وِتْرِهِ. ونحوه الأثرم وأبو داودَ (2).
ووجهه: أن الوِتْرَ اسمٌ للثلاث؛ لأن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – كان يُوتِرُ بها، ولأنه وقتٌ لفعل الوتر، وكان وقتًا للثلاث.
ونقل يوسفُ بن موسى (3): يُوتِرُ بواحدةٍ.
وكذلك (4) نقل أحمد بن الحسين في الرجلِ يَفْجَؤُه الصُّبْحُ، ولم يكنْ صلَّىَ قبل العَتَمَةِ، ولا بعدَها شيئًا: يوتِرُ بواحدةٍ (5)، ولا يُصَلِّي قبلها (ق/ 350 أ) شيئًا.
ووجهه: قوله – صلى الله عليه وسلم -: “صَلاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ” (6) فجعل ما قبلَها من صلاة الليل (7)، وأمرَه بالمبادرة
__________
(1) (ق وظ): “النبي – صلى الله عليه وسلم -“!.
(2) “المسائل” رقم (467، 468).
(3) هو: القطان، تقدمت: ترجمته (ص/ 1002).
(4) فى الأصول: “وذلك”.
(5) من قوله: “وذلك نقل … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(6) أخرجه البخاري رقم (472)، ومسلم رقم (749) من حديث ابن عمر- رضي الله عنهما-.
(7) (ع) زيادة: “مثنى مثنى”.

(4/1500)


بواحدة، ولأن ما بعد طلوع الفجر لا يجوز فيه إلا ركعتا الفجر، وإنما أجزنا الوتر لتأكُّده.
* واختلف قولُه في اختيارِه الوترَ.
فروى عنه أبو بكر بن حمَّاد (1) أنه قال: أذهبُ إلى حديث أبي هريرة: “أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلاثٍ … ” (2) الحديث.
وعنه الميمونيُّ: لست أنامُ إلَّا على وِتْر.
وعنه الفضلُ بن زياد قال: آخره أفضل، فإن خافَ رجلٌ أن ينامَ أوْتَرَ أوَّلَ الليلِ.
قال أبو حفص: وإنما يكونُ الوِتْرُ آخِرَ الليل أفضلَ (3) في غير شهرِ رمضانَ، فأمَّا في شهر رمضانَ، فالوترُ أول الليلِ تَبَعٌ للإمام أفضلُ، لقول النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: “مَنْ صَلَّى مَعَ إمَامِه حَتَى يَنْصَرِفَ كُتِبَ له قِيامُ لَيْلَةٍ” (4).
قال أحمد: إذا كان يقْنُتُ قبلَ الرُّكوعِ، افتتحَ القنوتَ بتكبيرةٍ، رواه أبو داود (5) والفضل بن زياد، ودليلُه: ابنُ مسعود: كان يقنُتُ
__________
(1) هو: محمد بن حماد بن بكر أبو بكر المقرئ، روى عن أبي عبد الله، وله عنه مسائل ت (267). “طبقات الحنابلة”: (2/ 288 – 289).
(2) أخرجه البخاري رقم (1178)، ومسلم رقم (721).
(3) من قوله: “فإن خاف … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(4) أخرجه أحمد: (35/ 352 رقم 21447)، وأبو داود رقم (1375)، والنسائي: (3/ 83 – 84)، وابن ماجه رقم (1327)، وابن خزيمة رقم (2206)، وابن حبان “الإحسان”: (6/ 288)، وغيرهم من حديث أبي ذرٍّ -رضي الله عنه- في قيام رمضان.
(5) “المسائل” رقم (484).

(4/1501)


في الوِتر، إذا فَرَغَ من القراءة كَبَّرَ (1) ورفع يديه، ثم قَنتَ (2).
* واختلف قولُه في قَدْر القيام في القنوت.
فعنه بِقَدْر: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} [الإنشقاق: 1]، أو نحو ذلك. وقد روى (3) أبو داود (4): سمعتُ أحمد سُئل عن قول إبراهيم: القُنُوتُ قَدْرُ: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)}؟ قال: هذا قليلٌ يعجبُني أن يزيدَ.
وعنه: كقُنوت عُمَرَ (5)، وعنه: كيف شاءَ.
وجْهُ الأولى: أنه وَسَطٌ من القيام. والثانية: فعل عمر. والثالثة: أن طَرِيقَهُ الاستحبابُ، فسقط التوقيتُ فيه.
نَقَل يوسفُ بن موسى عنه: لا بأس أن يدعوَ الرجلُ في الوِتْر لحاجتِهِ.
وروى عنه علي بن أحمد الأنماطي (6) أنه قال: يُصَلِّي على النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – في دعاء القُنُوتِ.
قال أحمد: يدعو الإمامُ ويؤمِّنُ من خَلْفَهُ (7).
وعنه أبو داود (8): إذا لم يسْمَعْ صوتُ الإمام يدعو.
__________
(1) (ع وظ): “وكبر”.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة: (2/ 100).
(3) (ق وظ): “وروى”.
(4) “المسائل” رقم (476).
(5) انظر “مسائل أبي داود” رقم (800، 801).
(6) “طبقات الحنابلة”: (2/ 117).
(7) “مسائل أبي داود” رقم (475).
(8) “المسائل” رقم (485).

(4/1502)


أبو حفص: لأن التأمين لما يسمعونَ، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إِذَا أمَّنَ الإمَامُ فَأَمنُوا” (1).
وعنه: إذا (2) دعا وأمَّنُوا فجيدٌ، وإد دعا ودَعَوْا فلا بأسَ كلٌّ موسَّعٌ.
وجْهُه: أن المؤَمِّنَ داع قال تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 89] وكان هارونُ مُؤَمِّنًّا.
قال: يجهر الإمامُ بالقنوتِ، ولم يَرَ أن يخافِتَ إذا قَنَت ألبتة، لما رُوِي أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – جَهَر بالقُنوت، بِدَليل أن أصحابَه كانوا يُؤَمِّنُونَ.
وروى أبو عبد الله: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا سعيد، عن جعفر، عن أبي عثمان: صَلَّيْتُ خلف عمر بن الخطاب فَقَنَتَ بعد الرُّكوع، ورفع يديه في قُنُوته، ورفع صوتَهُ بالدُّعاء، (ق/ 350 ب) حتى سَمَّعَ مَنْ وراء الحائطِ (3).
وعن أُبَيٍّ أنه جَهَرَ بالقُنوتِ. وعن معاذٍ القارئ أنه جَهَرَ.
المرُّوْذيُّ: كان أبو عبد الله في دعاء الوِتر لم يكن يسمَعُ دعاءَهُ مَنْ يليه. هذا يدلُّ (4) على أنه كان مأمومًا والمأموم لا يجْهَرُ.
مهنَّا: سُئل أحمد عن الرجل يقنتُ في بيتِه، أيعجِبُكَ يجهرُ بالدعاء في القنوتِ أو يُسِرُّهُ؟ قال: يُسِرُّهُ، وذلك أن الإمام إنما يجهرُ لِيُؤَمِّنَ المأمومُ.
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (780)، ومسلم رقم (410) من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-.
(2) (ق وظ): “إن”.
(3) أخرجه البيهقي: (2/ 212) عن أبي عثمان من طريق آخر.
(4) من (ظ).

(4/1503)


عبد الله (1): قلت لأبي: يمسح بهما وجهَه؟ قال: أرجو أن لا يكون به بأسٌ. وكان الحسنُ إذا دعا مسح وجْهَهُ.
وقال (2): سئل أبي عن رفع الأيدي في القُنوت، يمسحُ بهما وجهه؟ قال: لا بأس يمسح بهما وجهَه، قال عبد الله: ولم أرَ أبي يمسحُ بهما وجْهَهُ (3).
فقد سهَّلَ أبو عبد الله في ذلك وجعَلَه بمنزلة مسحِ الوجهِ في غيرِ الصَّلاةِ؛ لأنه عملٌ قليل ومنسوب إلى الطَّاعة، واختيارُ أبي عبد الله تَرْكُهُ.
* قال حنبل: قلت لأبي عبد الله: ما أحبُّ إليك ما يَتَقَرَّبُ به العبدُ من العمل إلى الله؟ قال: كثرةُ الصلاةِ والسجودِ، أقربُ ما يكون العبدُ من الله، إذا عَمر وجْهَه له ساجدًا.
يعني بهذا: إذا سجدَ لله على التراب، وفى هذا بيان أن الصَّلاة أفضلُ أعمال الخير.
وروى عنه المرُّوْذيُّ أنه قال: كلُّ تسبيحٍ في القرآن صلاةٌ (4) إلَّا موضع واحد. قال: {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (41)} الطور: 49]، ركعتينِ قبلَ الفجر، {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)} [ق: 40]، ركعتين بعد المغرب.
__________
(1) “المسائل” رقم (426).
(2) المصدر نفسه رقم (446).
(3) وفي “مسائل أبي داود” رقم (486): “سئل عن الرجل يمسح وجهه بيده إذا فرغ في الوتر؟ قال: لم أسمع به، وقال مرة: لم أسمع فيه بشيء، ورأيت أحمد لا يفعله” أهـ.
(4) أخرجه الطبري: (9/ 331) وغيره عن ابن عباس: “كل تسبيح في القرآن فهو صلاة، وكل سلطان في القرآن حجة” والزيادة الأخيرة عند الضياء في “المختارة”. (10/ 314)

(4/1504)


قال أبو حفص: والحجَّةُ في تفضيله الصلاةَ على سائِر أعمال القرَب قولُه تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]، {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132].
و [قال] (1) حذيفةُ: إذا حَزَبَهُ أمرٌ صَلَّى (2).
وقال: “أعِني عَلَى نَفْسِكَ بكَثْرَةِ السُّجُودِ” (3)، وقال: “أَفْضَلُ الأَعْمَالِ الصَّلاةُ لأَوَّلِ وَقْتِها” (4) وقالَ: “جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ” (5)، ولأنها تختصُّ بجمع الهمِّ، وحضورِ القلبِ، والانقطاع عن كلِّ شيء سواها، بخلاف غيرِها من الطَّاعات، ولهذا كانتَ ثقيلةً على النَّفْس.
* نقل عنه محمد بن الحكم (6) (ظ/ 247 ب) في الرجل يفوتُهُ وِرْدُه من اللَّيل: لا يقرأ به في ركعتي الفجرِ، كان النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – يُخَفِّفُهما، لكن
__________
(1) في الأصول: “وكان”، وسياق الكلام يدل أن المحكيّ عنه هو الرسول – صلى الله عليه وسلم – لا حذيفة، إذ ساق الآيات على فضل الصلاة ثم الأحاديث، ثم لم أجد هذا الأثر عن حذيفة.
(2) حديث حذيفة أخرجه أحمد: (5/ 388)، وأبو داود رقم (1319).
(3) أخرجه مسلم رقم (489) من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي -رضي الله عنه-.
(4) أخرجه البخاري رقم (527)، ومسلم رقم (85) من حديث أبي مسعود بنحوه بلفظ “على وقتها”، ولفظ المؤلف عند الترمذي رقم (170)، وأبو داود رقم (426) من حديث أم فروة.
(5) أخرجه أحمد: (19/ 307 رقم 12294)، والنسائي: (7/ 61 – 62)، والحاكم: (2/ 160) من حديث أنسٍ -رضي الله عنه- والحديث قوَّاه الذهبي والعراقي والحافظ ابن حجر.
(6) تقدمت ترجمته (ص/955)، وعدد من مسائله (ص/957، 958 وغيرها)، ووقع في (ق): “محمد بن عبد الحكم”.

(4/1505)


يقرأُ إذا أصبحَ، أرجو أن يُحتسبَ له بقيامِ اللَّيلِ.
* اختلفت الرِّوَايةُ في الرَّكعتين بعد الظهر.
فعنه الأثرم: يُصَلِّيهما في المسجد.
ووجْهُه، حديث: أم سَلَمَةَ في الركعتين بعد العصر (1)، ظاهرُهُ: أنهم شغلوه عن صلاة: الرَّكعتينِ في المسجد.
الفضل بن زياد: رأيتُ أحمدَ لا يُصَلِّي بعدَ المكتوبة شيئًا في المسجد إلَّا مَرَّةً بعدَ الظهر، كان يومًا نادرًا.
ووجْهُه: حديثُ عائشة: “كان يُصَلِّي قبلَ الظهر أربعًا في بيتي، ثم يخرج فَيُصَلِّي بالناس، ثم يرجِعُ إلى بيتي فيُصَلِّي ركعتين” (2)، والله أعلم.

مسألة
أبو (ق/351 أ) الصقر عنه: لا بأسَ أن يجهرَ الرجلُ بالقراءَةِ بالليلِ، ولا يجهرُ بالنهارِ في التَّطَوُّع
وقال في الرجل يُصَلِّي بقومٍ صلاةَ الفريضةِ، فمرَّتْ به آياتُ العذابِ، فقال: “أستجيرُ بالله من النار”: مَضَتْ صلاتُهُ ولا يعيدُ الصلاةَ.
وقال في الرجل يُصَلِّي ويأتي على ذكر النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – وهو في الصَّلاة، قال: إن كان تَطَوُّعًا صلَّى عليه، وإن كانَ في الفريضَةِ فلا.
* واختلف قولُه في المداومة على صلاة الضُّحى.
__________
(1) تقدم (4/ 1465).
(2) أخرجه مسلم رقم (730).

(4/1506)


فعنه قال: ما أُحِبُّ أن أداومَ عليها، وقد صلاها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم الفَتح (1).
وقال: ربَّما صلَّيْتُ وربما لم أُصَلِّ.
ووجْهُه: ما روى أبو هريرة قال: “ما صَلَّى النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – الضُّحَى قَطُّ إلاّ مرَّةً” (2)، قال الميمونيُّ: قال أحمد: ما سمعناه إلَّا من وكيع وإسنادُه جيد.
وروى عنه موسى بن هارون [الحمَّال] (3) قال: مَرَّ بي أحمد بن حنبل ومعه المرُّوْذيُّ، وأنا في المسجد قبلَ الزوالِ أُصَلَي الضحى -لأني كنت شُغلتُ عنها- فوقف عَلَيَّ، فقال: ما هذه الصلاةُ، وليس هذا وقتَ الظهر؟! قال: قلت يا أبا عبد الله هذه ركَعَاتٌ كنت أُصَلِّيها ضحىً فشُغِلْتُ عنها إلى هذا الوقت، قال: لا تَتْرُكْها ولو ذكرتَها بعدَ العَتَمَةِ.
ووجهُة: قولُه – صلى الله عليه وسلم -: “أَحَبُّ العَمَلِ إلى اللهِ أَدْوَمُهُ، وَإِنْ قَلَّ” (4).
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (280)، ومسلم رقم (336) من حديث أم هانئ -رضي الله عنها-.
(2) أخرجه أحمد: (15/ 472 رقم 9758)، والنسائي في “الكبرى”: (1/ 180)، وقوَّاه أحمد.
(3) فى النسخ “الخطاب”! ولا يعرف في أصحاب أحمد إلا موسى بن هارون أبو عمران الحمَّال الحافظ ت (294). “طبقات الحنابلة”: (2/ 404 – 406)، و”تاريخ بغداد”: (13/ 50). وقد تقدمت ترجمة أبيه هارون بن عبد الله، وهو من أصحاب أحمد -أيضًا-.
(4) أخرجه البخاري رقم (43)، ومسلم رقم (782) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

(4/1507)


وقال في رواية مهنَّا وعبدُ الله (1): صلاةُ التسبيح لم تثبُتْ عندي، فيها حديثٌ سيئٌ.
وقال في رواية أبي الحارث: صلاةُ التسبيح حديثٌ ليس لها أصل، ما يعجبُني أن يصَلِّيَها، يصلِّي غيرها.
وقال علي بن سعيد النسائي: ذكرتُ لأبى عبد الله حديثَ عبد الله ابن مُرَّة من رواية المستمر بن الرَّيَّان (2)؟ فقال: “المستمرُّ شيخ ثقة” (3)، وكأنه أعْجَبَهُ.
الأثرمُ عنه في الركعتين قبل المغرب، قال: أحاديثُ جيادٌ، أو قال صحاحٌ عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وعن الصحابة والتابعينَ (4)، فمن شاء صلَّى بينَ الأذان والإقامة.
وعنه الفضل بن زياد: ما فَعَلْتُهُ قطُّ إلَّا مَرَّةً، فلم أرَ الناسَ عليه فتركتُها (5).
وقال في رواية حنبل: السُّنَّةُ أن يُصَلِّيَ الرجلُ الركعتينِ بعدَ المغرب في بيتِه، كذا رُوِيَ عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – أصحابه.
__________
(1) “المسائل” رقم (413)، وضعفه أيضًا في رواية ابن هانئ: (1/ 151)، والكوسج.
(2) يعني روايته لحديث صلاة التسبيح عن عبد الله بن عَمرو موقوفًا، وهذه الرواية أشار أبو داود رقم (1298) إلى تضعيفها، وعنه البيهقي: (3/ 52). وتحرَّف الاسم في (ق وظ).
(3) وكذلك قال أحمد فيما نقله عبد الله في “العلل” رقم (3259).
(4) (ق وظ): “أصحابه التابعين”.
(5) ذكر هذه الرواية في “المغني”: (2/ 546) عن الأثرم -أيضًا- وقال: “ما فعلته قط إلا مرة، حين سمعتُ الحديثَ … وقال: هذا شيء ينكره الناس، وضحك كالمتعجِّب”اهـ.

(4/1508)


قال السائب بن زيد: لقد رأيتُ الناسَ في زمانِ عمر بن الخطَّاب إذا انصرفوا من المغربِ انصرفوا جميعًا حتى لا يبقى في المسجدِ أحدٌ، كأنه لا يصلُّونَ بعدَ المغربِ حتى (1) يصيروا إلى أهليهم (2).
فإن صلَّى الركعتينِ في المسجدِ فهل يُجْزئُهُ؟ اختلف قوله.
روى عبد الله (3) عنه أنه قال: بلغني عن رجلٍ سمَّاه، أنه قال: لو أن رجلًا صلَّى الرَّكعتينِ في المسجدِ بعدَ المغرب ما أجزأَهُ (4)، (ق/ 351 ب) وقال: ما أحسنَ ما قالَ هذا الرجلُ، وما أجودَ ما انتزَعَ.
ووَجْهه (5): أمرُ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – بالصَّلاة في البيوتِ.
وقال له المرُّوْذي: من صلَّى الركعتينِ بعد المغرب في المسجدِ يكونُ عاصيًا؟ قال: ما أعرفُ هذا.
قلت له: يُحكى عن أبي ثَوْر أنه قال: هو عاصٍ؟ قال: لعله ذَهَبَ إلى قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “اجْعَلُوهَا في بُيوتكُمْ” (6).
ووَجْهه: أنه لو صلَّى الفرضَ في البيت، وتَرَكَ المسجدَ أجزأه،
__________
(1) (ع): “يعني: حتى … “.
(2) أسنده الأثرم فيما نقله الحافظ ابن عبد البر في “التمهيد”: (14/ 178).
(3) في “المسائل” رقم (458).
(4) بعده في “المسائل”: “إلا أن يكون صلاها في بيته، على حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – … “.
(5) هذا التوجيه لأبي حفص العكبري، وكذا عامة التوجيهات التي مرَّت، وانظر “زاد المعاد”: (1/ 313) ففيه التصريح بذلك.
(6) أخرجه أبو داود رقم (1300)، والترمذي رقم (604)، والنسائي: (3/ 198 199) عن كعب بن عجرة، وفيه: “عليكم بهذه الصلاة في البيوت”، وله ألفاظ بنحوه. والحديث استغربه الترمذي. وله شاهد عند أحمد: (5/ 427) من حديث محمود بن لبيد.

(4/1509)


فكذا السُّنَّة في المسجد.
قلت: ليس هذا وجهَهُ عند أحمد، وإنما وَجْهُهُ أن السُّنَنَ لا يُشترطُ لها مكانٌ مُعَيَّنٌ ولا جماعة، فتُفْعَل في المسجد والبيت، والله أعلم.
* قال في روايةِ الميموني والمرُّوْذيِّ: يستحبُّ أن لا يكونَ قبلَ الرَّكعتينِ بعدَ المغربِ إلى أن تُصَلِّيَهما كلام.
وقال الحسن بن محمد: رأيت أحمدَ سلَّم الإمام من صلاةِ المغربِ، قام ولم يَتَكَلَّم ولم يركعْ في المسجدِ، وتكلَّمَ قبل أن يدخُلَ الدَّار.
وَجْه الكراهَةِ: قولُ مكحول: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ، يعني: قَبْلَ أَنْ يَتكَلَّم -رُفِعَتْ صَلاتُهُ في عِلِّيِّينَ” (1) ولأنه يَصِلُ النفلَ بالفرضِ (2).
قال أحمد في رواية حرب، ويعقوبَ، وإبراهيمَ بن هانئ (3): إن تَرَكَ ركعتي المغربِ لا يُعيدُهما، إنما هما تَطَوُّعٌ.
المرُّوْذي: رأيت أبا عبد الله يركعُ فيما بينَ المغرب والعشاء.
* المرُّوْدْيُّ عنه: في رجل يريدُ سفرًا فيقصرُ يومًا ثم يبدو له، فيرجعُ: يتمُّ (4)، وجاءه رسولُ الخليفة ردَّهُ من بعضِ الطريق في اللَّيلِ فأتم الصلاةَ، فقيل له: أليسن نجن مسافرونَ؟ قال: أما السَّاعةُ فلا، وكان نحوًا من سبع فراسِح.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة: (2/ 16).
(2) هذه الفقرة بطولها من قوله: “وقال في رواية حنبل … ” إلى هنا ذكرها المصنِّف بنصّها في”زاد المعاد”: (1/ 312 – 314).
(3) أبو إسحاق النيسابوري، “طبقات الحنابلة”: (1/ 252).
(4) (ظ): “فيتم”.

(4/1510)


محمد بن الحكم عنه: في الرجلِ يخرجُ إلى بعض البلدان يَتَنَزَّهُ أو إلى بلد يَتَلَذَّذُ فيه، ليس بطَلبِ حجٍّ ولا عُمْرَةٍ ولا تجارةٍ: ما يُعْجِبُني أن يقصرَ الصلاةَ (1).
والوجْهُ فيه: أن الأصلَ الإتمامُ، فلا يجوزُ أن يجوزُ الفرضَ لطلبِ النزهة.

مسألة
إن لم يكن مع الملَّاحِ أهلُه، وكان يسافرُ ويرجِعُ إلى أهلِهِ، قَصَرَ الصلاةَ.
قال في رواية حرب: إن لم يُقم المكاري في أهلِه ما يقضي رمضانَ يقضي في السفر، وذلك أن هذه حالُ ضرورة، والقضاءُ عليه فرضٌ.
اختلف قولُهُ في المسافر يَرِدُ على أهله لا يريدُ المقامَ.
فروى عنه عبد الله (2): لو أن مسافرًا وَرَدَ على أهلِهِ أمسكَ عن الطَّعام وأتمَّ الصلاةَ، إلَّا أن يكون مارًّا.
وكذا نقل إسحاقُ الكوسجُ (3): في رجل خرج مسافرًا فبدا له، فرجَع في حاجةٍ إلى بيتِه ليأخذَها، فأدركته الصلاةُ: هو (4) مسافرٌ يقصرُ إذا لم يكن له أهلٌ، وهو (ق/ 352 أ) أهونُ لأنه على نِيَّةِ السفرِ. فورودُهُ على أهلِهِ لم يخرجْهُ عن حكم السفر.
__________
(1) انظر: “المغني”: (3/ 117)، ورجح ابن قدامة الرواية الأخرى.
(2) “المسائل” رقم (555) بنحوه، و “المغني”: (3/ 151).
(3) “المسائل”: (1/ ق 89 – دار الكتب).
(4) الأصول: “وهو” والصواب حذف الواو كما في “المسائل”.

(4/1511)


وعنه صالحٌ (1) فى رجل خرجَ مُسافرًا فبدأ له، فرجَعَ في حاجة إلى بيته فأدركتْهُ الصلاةُ: يتمُّ؛ لأن ابن عباس قال: إذا قدمتَ على أهلٍ أو ماشية فأتِمَّ (2).
والوجْهُ فيه: حديثُ ابن عباس، ولا يَصِحُّ حملُه على إذا نوى المُقَامَ؛ لأنه إذا نوى المقامَ في غير أهلِه لزمه الإتمامُ؛ ولأنه لو أنشأ السفرَ من بلدِهِ لم يَجُزْ له القصرُ حتى يفارقَ منزلَهُ، كذا بعد رجوعِهِ لحاجة.
عنه المرُّوْذيُّ: ركعتا الفجر والمغرب لا يَدَعُهُما في السفر (3).
عنه صالح والكوسج (4): إذا نوى المسافرُ المقامَ وهو في الصلاة: يُتِمُّ، وإن قعد في الركعتينِ حتى يخرجَ بتسليمٍ.
ووَجْهه: أنه قد صارَ مقيمًا.
مسألة
الأثرمُ عنه (5): إذا أجمعَ أن يقيمَ إحدى وعشرين صلاةً مكتوبةً قَصَر، فإذا عَزَم على أن يُقِيمَ أكثر من ذلك أتمَّ، واحتجَّ بحديث جابر وابن عباس: “قَدِمَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – لصبحِ رابِعَةٍ” (6) وكذا نقل ابنُ الحَكَم.
__________
(1) لم أره في المطبوعة.
(2) أثر ابن عباس ذكره أحمد في رواية الكوسج السالفة، وقد أخرجه عبد الرزاق: (2/ 524)، وابن أبي شيبة: (2/ 202)، والبيهقي: (3/ 155).
(3) نقل في “المغني”: (2/ 543) عن رواية الأثرم: ” … ليس هاهنا شيءٌ آكد من الركعتين بعد المغرب”.
(4) لم أره في رواية صالح المطبوعة، وانظر “مسائل الكوسج”: (1/ ق 89).
(5) ذكرها ورواية المرُّوذي ابن قدامة في “المغني”: (3/ 148).
(6) حديث جابر أخرجه البخاري رقم (1785)، ومسلم رقم (1216). وحديث ابن عباس أخرجه البخاري رقم (1085)، ومسلم رقم (1240).

(4/1512)


ونقل المرُّوْذيُّ: إذا عزم على مُقام إحدى وعشرين صلاةً فَلْيُتِمَّ؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – صلَّى الغَداةَ يوم التَّرْوِيةِ بمكة، وكذلك نقل حربٌ: إذا دخلَ إلى قربة نوى أن يُقِيمَ أربعةَ أيامٍ وزيادة صلاة أتمَّ، وكذا نقل ابن أصرمَ وصالحٌ والكوسَجُ (1): إذا أزمعَ على إقامَةِ أربعة أيام، وزيادة صلاة يُتِمُّ (2) في أول يوم، واحتجَّ بحديث جابر.
قال أبو حفص البَرْمَكيُّ: هذه الروايةُ ليست مُسْتقصاةً، والأولَّةُ مُسْتقصاةٌ (3) أنه لا يلزمه الإتمامُ بالعزيمة على إقامة أربعةِ أيام وزيادة صلاة، حتى ينويَ أكثرَ من ذلك، فكيف يقول: “إذا أزمعَ على إقامَةِ أربعٍ وزيادةِ صلاة أتَمَّ”. ويحتجُّ بحديث جابر في هذا المقدار! وقد كشف هذا في رواية الفضل بن عبد الصمد (4)، قيل له: يا أبا عبد الله يحكون أنك تقولُ: إذا أجمع على إقامَةِ أكثرَ من أربعة وصلاة أتمَّ؟ فقال: لا يفهمون، النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أجمعَ على إقامةِ أربع وصلاة فقَصرَ.
ونقل عنه أيوبُ بن إسحاق بن سافري (5) أنه قال: إن أزمعَ (6) على إقامة خمسة أيام يَتِمُّ وما دون ذلك يقصُرُ.
قال أبو حفص: ليس في هذا خلافٌ لذلك؛ لأنه إذا أوجبَ
__________
(1) “مسائل صالح” رقم (370)، و”مسائل الكوسج”: (1/ ق 75).
(2) من قوله: “وكذا نقل … ” إلى هنا سقط من (ق وظ).
(3) “والأولة مستقصاة” سقطت من (ع).
(4) هو: الفضل بن عبد الصمد الأصبهاني أبو يحيى، له عن أبي عبد الله مسائل. “طبقات الحنابلة”: (2/ 196 – 199).
(5) أبو سليمان، له عن أبي عبد الله مسائل كثيرة صالحة، ت (260). “طبقات الحنابلة”: (1/ 312 – 315).
(6) (ق وظ): “إذا أجمع”.

(4/1513)


الإتمامَ بإقامَةِ أكثرَ من أربعة أيام وزيادة صلاة، فبخمسة أيام أولى أن يوجبَ الإتمامَ. وقولُهُ: “وما دون ذلك يقصُرُ”، يُحتملُ أن يكون أراد بهَ الأربَعَةَ أيام: وزيادة صلاة؛ لأنها دونَ الخمسةِ أيام، ويحتملُ أن يكون ذِكْره لليَوم الخامس؛ لأن الصلاة (1) بعدَ الأربعَةِ أيامٍ من اليومِ الخامسِ (ق/ 352 ب) لا أنه أراد إكمالَ اليومِ الخامسِ (2).
وقد بيِّن ذلك في رواية طاهر بن محمد التَّميمِيِّ (3) فقال: إذا نوى إقامَةَ أربعةِ أيام وأكثرَ من صلاة من اليوم الخامس أتمَّ، فقد بيَّنَ مرادَه من ذكر اليوم الخامس أنه، بعضُه؛ لأنه أكثرُ من مُقام النبي – صلى الله عليه وسلم – الذي قَصَرَ فيه الصلاة.
قال القاضي: وظاهر كلام أبي حمص هذا أن المسألة على رواية واحدة، وأن مدَّةَ الإقامة ما زاد على إحدى وعشرين صلاة، وتأوَّل بقية الرِّوايات. واحتجَّ في ذلك بحديث جابر: “أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – دَخَل مكةَ صُبْحَ رابعة، فصلَّى بها الغداةَ” وخامسة وسادسة وسابعة أربعةَ أيام كوامِلَ، وزاد صلاةً؛ لأنه صلى الغداةَ يوم التَّرْوِيَةِ بمكة بالأبطحِ، وخرج يوم الخامس إلى منى، فصلَّى الظهرَ بمِنى، وكان (ظ/248 ب) يقصر الصلاةَ في هذه الأيامِ، وقد أجمعَ على إقامتها.
ويجوزُ أن يُحْملَ كلامُ أحمد على ظاهرِهِ، فيكونُ في قَدْر الإقامة ثلاثُ رواياتٍ:
__________
(1) (ع): “الصلاتين”، ولها وجه وانظر الرواية بعدها.
(2) من قوله: “لأن الصلاة … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(3) هو: طاهر بن محمد ابن الحسين التميمي الحلبي، كان عنده عن الإمام مسائل صالحة فيها غرائب. “طبقات الحنابلة”: (1/ 477 – 478).

(4/1514)


إحداها: ما زاد على إحدى وعشرين، اختارها الخِرَقِيُّ وأبو حفص.
الثانية. ما زاد على أربعة أيام ولو بصلاة؛ لأنها مدَّةٌ تزيدُ على الأربعة، فكان بها مُقِيمًا. دليلُه: إذا نوى زيادةً على إحدى وعشرين.
الثالثة: ما نقصَ عن خمسةِ أيام ولو بوقتِ صلاةٍ؛ لأنها مدَّةٌ تنقصُ عن خمسة أيام، فكان في حكم السفر، دليلُه: مدة إحدى وعشرين أو عشرين (1).
* واختلف قولُه في صلاة الكسوف بغير إذن الإمام.
فروى عنه يعقوبُ بن بختان (2): لا بأس به.
وقال المرُّوْذيُّ: قلت لأبي عبد الله: ابن مهدي، عن حماد بن زيد قال: بلغَ أيوبَ (3) أن سليمانَ التَّيْمِيَّ لما انكسفتِ الشمسُ صلَّى في مسجدِه، فبلغ أيوبَ فأنكرَ عليه، فقال: إنما هذا للأئمةِ.
فقال أبو عبد الله: إلى هذا نذهبُ في كسوفِ الشّمس، الأئمةُ يفعلون ذلك.
وعنه محمد بن الحكم: يستحَبُّ العَتَاقَةُ في صلاة الكسوفِ (4).
* واختلف قوله في خروجِ النَّاسِ للاستسقاءِ بغير إمام.
فعنه أحمدُ بن القاسم: إن لم يخرجِ الإمام لا تخرجوا.
__________
(1) “أو عشرين” ليست في (ق).
(2) تقدمت ترجمته، ووقع في المطبوعات “حسان”!.
(3) ابن أبي تميمة السختياني.
(4) لحديث أسماء: “أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بالعتاقة في الخسوف”، أخرجه البخاري رقم (1054).

(4/1515)


وعنه الميمونيُّ: إن أخرجهم الإمامُ خرَجوا، وإلَّا فيخرجون لأنفسِهم يستسقونَ ما بأسٌ بذلك (1).
فإن قلنا: يخرجون (2) بغير إمامٍ؛ فهل يُصَلُّونَ جماعةً أو يستسقون وينصرفون؟.
فعنه الميموني: يخرجون لأنفسِهم يستسقونَ، ما يُعجِبُني يُصَلِّي بهم بعضُهم. وعنه حربٌ: أنه قال في أهلِ قرية ليس فيها وَالٍ خَرَجوا يستسقونَ؛ يُصَلِّي بهم: إمامُهم جماعةً؟ قال: أرجو أن لا يضيقَ. هذا آخرُ ما وجدته من هذا: “المنتقى” (3).
__________
(1) انظر “المغني”: (3/ 346).
(2) من قوله: “الإمام خرجوا … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(3) (ق): “ما وجدته من المنتقى”.

(4/1516)


فائدة
لا يكون الجحدُ إلَّا بعد الاعترافِ بالقلبِ أو (1) اللِّسانِ، ومنه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14] ومنه: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)} [الأنعام: 33] عقيب (2) قوله: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ}، ومنه: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)} [العنكبوت: 49] {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)} (3) [العنكبوت: 47] وعلى هذا لا يحسنُ استعمالُ الفقهاءِ لفظَ الجحودِ في مطلقِ (4) الإنكارِ، في باب الدَّعاوى وغيرها؛ لأن المُنْكِرَ قد يكون مُحِقًّا فلا يُسَمَّى جاحدًا.
فائدة
قال إسحاقُ بن هانئ (5): تعشَّيْتُ مرَّةً أنا وأبو عبد الله وقرابةٌ لنا (6)، فجعلنا نتكلَّمُ وهو يأكلُ، وجعل يمسحُ عند كلِّ لقمةٍ يدَه بالمنديلِ، وجعل يقولُ عند كل لقمة: الحمدُ لله وبسمِ الله، ثم قال لي: أكلٌ وحَمْدٌ خيرٌ من أكلٍ وصمتٍ.
فائدة
مَنَع كثيرٌ من النَّحاة أن يُقَالَ: (البعض، والكل)؛ لأنهما اسمانِ لا يُستعملان إلَّا مضافَيْنِ. ووقع في كلام الزَّجَّاجيِّ وغيرِه: “بدل
__________
(1) (ظ): “و”.
(2) قبلها في (ق): “ومنه”!.
(3) الآية سقطت من (ق).
(4) (ع): “لفظ”!.
(5) “المسائل”: (2/ 133).
(6) كذا بالأصول، وفي “المسائل”: “له”.

(4/1517)


البعض من الكُلِّ” (1).
وجوَّز أبو عُبَيْدَةَ (2) أن يكونَ بمعنى الكلِّ، كما جوَّزَ ذلك في الأكثر، فالأوَّلُ كقوله: {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر: 28]، والثاني كقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}: [الشعراء: 223]،، ولا دليلَ له في ذلك؛ لأن قوله: {بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} من خطاب التلطُّف والقول اللَّيِّن، وأما: {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} فلا يمنع أن يكون فيهم من يصدقُ في كثير من أقوالِه (3).
إذا عرف هذا فقالت طائفةٌ: “البعضُ” للجزء القليلِ والكثيرِ والمساوي، وفي هذا نظرٌ؛ إذ إطلاق لفظِ “بعض العشرة” على التسعة منها يحتاجُ إلى نقلٍ واستعمال، والظاهرُ: أنه قريبٌ من البضْع معنىً، كما هو قريبٌ منه لفظًا، وليس في عرفِ اللغة والتَّخاطب إَذا قال: “خذ بعض هذه الصبرة” أن يأخذها كُلَّها إلَّا حفنةً منها، ولا لمن يجيئُك في أيامِ الشهر كلِّها إلّا يومًا واحدًا: “هو يجيءُ في بعض أيام الشهر”.
* قال أحمدُ في: رواية حنبل: حديثُ عائشةَ رضي الله عنها: “لا طَلاقَ ولا عَتَاقَ فِي إِغْلاقٍ” (4) يريد: الغضبَ (5).
__________
(1) انظر “لسان العرب”:. (7/ 119).
(2) في “مجار القرآن”: (2/ 205)، وانظر: “الجامع لأحكام القرآن”: (15/ 200 – 201)، و “اللسان”: (7/ 119).
(3) (ق وظ): “أحواله”.
(4) أخرجه أحمد: (6/ 276)، وأبو داود رقم (2193)، وابن ماجه رقم (2046)، والحاكم: (2/ 198)، والبيهقي: (7/ 357) وغيرهم. وصححه الحاكم.
(5) انظر: “طلاق الغضبان”: (ص/27 – 28)، و”زاد المعاد”: (3/ 599)، و”إعلام الموقعين”: (2/ 175، 3/ 52).

(4/1518)


وقال في رواية أبي داود (1): حديث رُكُانَةَ لا يثبتُ أنه طلَّقَ امرأتَهُ ألبتَّةَ؛ لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحُصَيْن، عن عِكْرمَةَ، عن ابن عباس: أن رُكَانَةَ طلَّق امرأتَه ثلاثًا (2)، وأهل المدينة (3) يسمُّون ثلاثًا ألبتة.
وقال (ظ/ 249 أ)، في رواية أحمد بن أصرم: أن أبا عبد الله سُئِلَ عن حديث رُكُانَةَ في ألبتَّةَ؟ فقال: ليس بشيء.
وقال في رواية أبي الحارث في رجل غَصَب رجلًا على امرأتِهِ فأولدها، ثم رجعَتْ إلى زوجها وقد أولدَها: لا يلزْمُ زوجَها الأولادُ، وكيف يكون الولدُ للفراشِ في مثل هذا؟! وقد عُلم أنَّ هذه في منزلِ رجلٍ أجنبيٍّ، وقد أولدها في منزلِهِ، إنما يكون الولَدُ للفراشِ إذا ادَّعاه الزَّوْجُ، وهذا لا يَدَّعِي فلا يلزمُهُ.
* قال أحمد في رواية إسحاق بن منصور: إذا زوَّج السَّيِّدُ عبدَهُ من أَمَتِهِ ثم باعها: يكونُ بيعُها طلاقَها، كقول ابن عباس.
وروايةِ أكثرِ أصحابهِ (ق/ 359 ب) عنه: لا يكون طلاقًا.
وقال أحمد في رواية أبي طالب: لا أعلمُ شيئًا يدفعُ قولَ ابنِ عباس وابن عُمَرَ (4) وأحدَ عَشَرَ من التابعينَ، منهم (5): عطاءٌ ومجاهدٌ
__________
(1) “المسائل” رقم (1129).
(2) أخرجه أحمد: (4/ 215 رقم 2387).
(3) في بعض نسخ “المسائل”: “أهل الذمة”، ثم قال أحمد بعدها: “والروافض يكون إذا طلَّقها ثلاثًا أنها واحدة أو ليس بشيء” اهـ.
(4) قال في “المغني”: (9/ 474): “ولا نعلم لهما مخالفًا”.
(5) من (ظ).

(4/1519)


وأهل المدينة على تَسَرِّي العبدِ، فمن أحتجَّ بهذه الآيةِ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 5 – 6] وأيُّ ملك للعبد؟ فقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “مَنِ اشْتَرَى عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَالمَالُ لِلسَّيِّدِ” (1)، جعل له مالًا هذا يُقَوِّي التَسَرِّيَ.
وابن عباس وأبنُ عمر أعلمُ بكتاب الله ممن احْتَجَّ بهذه الآية؛ لأنهم أصحابُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وأُنْزلَ القرآنُ على رسَولِ الله، وهم يعلمون فيما أُنْزِل، قالوا: يَتَسَرَّى العبدُ.
إذا ثَبَت هذا؟ فقد قال في رواية إسحاق بن إبراهيم (2): يَتَسَرَّى العبدُ في مالِه، هو مالُه ما لم يأخُذْه سيِّدُهُ منه.
(ق/359 أ) وقال في رواية جعفر بن محمد وحرب: ليس للسَّيِّدِ أن يأخذ سُرِّيَّةَ العبدِ إذا أذِن له في التَّسَرِّي، فإن تَسَرَّى بغيرِ إذنه أخذَها منه، وإذا باع العَبْدَ وله سُرِّيَّة هي لسيِّدهِ ولا يُفَرَّقُ بينهما؛ لأنها بمنزلةِ المرأة.
فقد فرَّق أحمدُ بين أن يبيعَ العبدَ فتكون السُّرِّيَّةُ للسَّيِّد، ولا يفرَّقُ بينَها وبين العيد، وعلَّل بأنها بمنزلةِ الزوجةِ، وبينَ أن يبقى العبدُ على ملكِه، فليس له أخذ السُّرِّيَّةِ منه إذا أذِن له، كما لو أذِن له في التّزويج، ليس له أن يفرِّقَ بينه وبين امرأتِه وكلا النَّصَّينِ مسكلٌ (3)، وله فقهٌ دقيق (4).
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (2379)، ومسلم رقم (1543) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.
(2) “المسائل”: (2/ 219)، وانظر “رواية الكوسج”: (1/ ق 155)
(3) (ق): “ولكن التسرِّي”.
(4) تقدم البحث في هذه المسألة مع فقهها: (4/ 1481 – 1483).

(4/1520)


* وقال في رواية ابن منصور: إذا تزوَّجَ الحُرَّةَ على الأمَةِ يكونُ طلاقًا للأمَةِ، لحديث ابن عباس. قال أبو بكر: مسألة ابن منصور مفردةٌ.
في وقال في رواية أبي الحارث: إذا تزوَّجَ امرأةً فشرطَ أن لا يبيتَ عندَها إلَّا ليلةَ الجُمُعَةِ، فإنْ طالَبَتْهُ، كان لها المقاسَمَةُ. وإنْ أعْطَتْهُ مالًا واشتَرَطَتْ عليه أن لا يَتَزَوَّجِ عليها، يَرُدُّ عليها المالَ إذا تَزَوَّجَ. ولو دفعَ إليها مالًا على أن لا تَتَزوَّجَ بعد موتِه فتزوَّجَتْ، ترُدُّ المالَ إلى وَرَثَتِهِ.
* وقال في رواية أحمد بن القاسم: الأَمَةُ إذا كان زوجُها حرًّا فعَتَقَتْ، فلا خيارَ لها؛ لأن الحديث عندنا: أن زوجَ بَريرةَ كان عبدًا (1)، فأجعلُ الروايةَ هكذا ولا أزيلُ النكاح إلاّ في الموضِع الذي أزالته السُّنَّةُ، وهذا ابن عباس وعائشة يقولون: إنه عبدٌ وعليه أهلُ المدينة وعملُهم، وإذا روى أهلُ المدينة حديثًا وعَمِلوا به فهو أصحُّ ما يكونُ، وليس يصِخُ أن زوجَ بَرِيرَةَ كان حرًّا إلاّ عن الأسودِ وحدَه، وأما غيرُه فيقولُ: إنه عبدٌ (2).
* قال أحمد في رواية حنبل: لا يكنِّي ولدَه بأبي القاسم؛ لأنه يُرْوى عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه نهى عنه.
وقال في رواية علي بن سعيد وقد سأله عن الحديث: “تَسَمَّوْا
__________
(1) قصّة بريرة أخرجها البخاري رقم (456)، ومسلم رقم (1504) وغيرهما من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
(2) انظر كلام أحمد بنصِّه في “المغني”، (10/ 70)، لكن قال في آخره بحد الحكاية عن الأسود: “فأما غيره فليس بذاك”.

(4/1521)


بِاسْمِي وَلا تَكَنَّوْا بكُنْيَتي” (1): هو أن يجمعَ بين اسمِهِ وكُنيتِهِ أو يُفْرِدَ أَحدَهما؟ فقال: أكَثر (2) الحديث: “تَسَمَّوا باسْمِي وَلا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي”، وهذا موافق لرواية حنبل.
* وقال ابن منصور (3): قلت لأحمدَ؛ تُكَنَّى المرأةُ؟ قال: نعم، عائشةُ كناها النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أمَّ عبدِ الله (4).
وقال في روايته (5) أيضًا: عُمَرُ كَرِهَ أن يُكْنَى بأبي عيسى.
وقال في رواية حنبل: لا بأس أن يُكْنَى الصَّبِيُّ، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “يَا أَبا عُمَيْر” (6)، وكان صغيرًا.
* وقال في رواية (ظ/249 ب) الأثرم وسُئِلَ عن الرجل يُعْرَفُ بلقبِه؟ قال: إذا لم يُعْرفْ إِلَّا به، قال أحمد: الأعمشُ إنما يعرفُهُ الناسُ هكذا، فسَهَّل في مثل هذا إذا كان قد شُهِر به (7).
* وقال ابن منصور: قلت لأحمد: رجلٌ نَذَرَ أن يذبحَ نفسَهُ؟ قال: يفدي نفسَهُ، إذا أحَنَثَ يذبَحُ كبشًا. قال إسحاق: كما قال:
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (110)، ومسلم رقم (2134) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(2) (ع وظ): “آخر”.
(3) “المسائل”: (2/ ق 211).
(4) أخرجه أحمد: (6/ 107)، وأبو داود رقم (4970) من حديث عائشة -رضي ألله عنها-.
(5) “المسائل”: (2/ق 211).
(6) أخرجه البخاري رقم (6129)، ومسلم رقم (2150) من حديث أنس -رضي الله عنه-.
(7) ونحوه في “مسائل أبي داود” رقم (1829).

(4/1522)


* وقال أيضًا (1): قلت لأحمد: من ماتَ ولم يَحُجَّ فهو من جميع المالِ؟ قال: إذا كان له مالٌ كثيرٌ، واجبٌ على الوَرثَةِ أن يُنْفِذوا ذاك، وأما إذا كان مالٌ قليلٌ فإنما هو شيءٌ ضيَّعه، ليس هذا مِثل الزكاةِ.
وقال أيضًا: قلت له: طَوَاف المَكِّيِّ قبلَ المعَرَّف (2)، قال أحمدُ: لا يخرجُ من مكّةَ حتى يُوَدِّعَ البيتَ.
* وقال أحمد في رواية ابن منصور (3): يكرهُ أن يقولَ للرجل: جعلني الله فِداك، ولا بأس أن يقول: فِدَاكَ أبي وأمي.
* وقال مهنَّا (4): سألت أبا عبد الله عن المرأةِ تنامُ على قفاها؟ فقال: يُكْرَهُ لها ذلك، قلت: فإذا ماتَتْ فكيف يصنعون في غسلِها؟ فقال: إنما كُرِهَ لها أن تَنَامَ على قَفاها (5) في حياتِها، وليس ذلك في الموتِ.
* وقال في رواية ابن منصور (6): يكرهُ الجلوسُ بين الشمسِ والظِّلِّ أليس قد نهى عنه! وقال إسحاق ابن راهَوَيه: قد صحّ الخبرُ فيه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – (7)، ولكن لو ابتدأ وجَلَسَ فيه كان أهونَ.
__________
(1) “المسائل”: (2/ ق 215).
(2) أي: قبل الوقوف بعرفة. “مختار الصحاح”: (ص/179).
(3) “المسائل”: (2/ ق 212)، وتقدم بنصه (4/ 1435).
(4) وهو -أيضًا- بنصِّه في “مسائل الكوسج”: (2/ ق 210).
(5) من قوله: “فقال: يكره … ” إلى هنا ساقط من (ظ).
(6) “المسائل”: (2/ق 210).
(7) أخرجه أحمد: (14/ 531 رقم 8976)، وأبو داود رقم (2822)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. والحديث له طرق يقوي بعضها بعضًا.

(4/1523)


* وقال في رواية أبي طالب (1)، وسألته يكَنِّي الرجلُ أهل الذِّمَّةِ؟ فقال: قد كنى النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أُسْقُفَّ نجرانَ، وعمرُ قال: يا أبا حسَّان. لا بأسَ به.
* وقال فى رواية: يعقوب بن بُخْتان وسأله عن النُّورة والحِجَامِةِ [يوم الأربعاء] (2)؟ فكَرِهَها (3)، قال: وبلغني عن رجلٍ أنه تنَوَّرَ واحتجمَ فأصابه المرضُ قلت: كأنه تَهَاوَنَ؟ قال: نعم.
* وقال في رواية: مهنَّا في الرجلِ تأتيه المرأةُ المسحورةُ فيطلقُ عنها السِّحْرَ؟ قال: لا بأس.
وحدثنا إسماعيل ابن عُلَيَّةَ، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قَتَادَةَ، قال: سألت سعيد بن المسَيِّب عن المرأة تأتي الرجلَ فيطلقُ عنها السِّحْرَ، فقال: لا بأس (4). فقلت لأحمد: أُحَدِّثُ بهذا عنك؟ قال: نعم (5).
وقال في رواية المرُّوْذِيِّ (6): حُمِمْتُ فكتب لي من الحُمَّى: بسم الله الرحمن الرحيم، بسم اللهِ وباللهِ، ومحمدٌ رسولُ الله، {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)} [الأنبياء: 69 – 70] اللَّهمَّ ربَّ جِبرائيلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ اشْفِ صاحِبَ
__________
(1) ومثله في رواية ابن هانئ: (2/ 180)، والكوسج: (2/ ق 210).
(2) (ق): “والارتقاء”، و (ع وظ): “والأربعاء”، والتصويب من “زاد المعاد”: (4/ 60)، فقد نقل الرواية عن الخلال بسنده إلى يعقوب.
(3) (ق): “فكرهها”.
(4) علق البخاري نحوه عن سعيد، “الفتح”: (10/ 243)، وذكر الحافظ أن الأثرم وصله في “السنن” والطبري في “التهذيب”.
(5) قال الحافظ: وقد سئل أحمد عمن يطلق السحرَ عن المسحور؟ فقال: لا بأس به.
(6) وذكره المصنف أيضًا: في “زاد المعاد”: (4/ 356 – 357).

(4/1524)


هذا الكتابِ بحوْلِكَ وقُوَّتِكَ وجَبَريَّتِكَ (1) إلهَ الحقِّ آمينَ.
وقال في رواية عبد الله (2): يُكتبُ للمرأةِ إذا عَسُرَ عليها الولادةُ في جامٍ (3) أو شيءٍ نظيفٍ (4): لا إلهَ إلاّ اللهُ الحليمُ الكريمُ، سبحانَ اللهِ ربِّ العرشِ العظيمِ، الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)} (5) {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ}، ثم تُسْقَى ويُنْضحُ بما بَقِي دونَ سُرَّتِها (6).
وقال في رواية الكوسج: يُكْرَهُ التَّفْلُ في الرُّقْيَةِ ولا بأسَ بالنَّفْخ.
وقال في رواية صالح (7): الحُقْنَةُ إذا كانت لضَرورةٍ فلا بأس.
وقال في رواية المرُّوْذيِّ: الحقنة إن اضْطُرَّ إليها فلا بأسَ، قال المرُّوْذي: ووُصِفَ لأبي عبد الله ففعل.
* وقال إسحاق بن هانئ (8): رأيتُ أبا عبد الله إذا كان يوم الجمعة يصلِّي حتى يعلم أن الشمسَ قد قاربتْ أن تزوْلَ، فإذا قاربَتْ أمسكَ عن الصَّلاة (ق/360 أ) حتى يؤذِّن المؤذِّنُ، فإذا أخذ في الأذانِ
__________
(1) كذا في (ع وظ)، وفي (ق): “وحرمتك”! و”الزاد”: “وجبروتك”.
(2) “المسائل” رقم (1865، 1866).
(3) الجام: إناء من فضة.
(4) كذا في (ع وظ)، و (ق والمسائل): “لطيف”.
(5) هذه الآية ليست في “مسائل عبد الله”.
(6) وهذه الرقية مروية عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أخرجها ابن أبي شيبة: (5/ 39)، والسهمي في “تاريخ جرجان”: (ص/228). ولها شاهد عن أنسٍ أخرجه الطبراني في “الأوسط”: (3/ 358).
(7) لم أجده في المطبوعة.
(8) “المسائل”: (1/ 88).

(4/1525)


قام فصلَّى ركعتين أو أربعًا، يفصِل بينهما بالسَّلام، فإذا صلَّى الفريضةَ انتظر في المسجدِ، ثم يخرجُ منه، فيأتي بعضَ المساجد التي بحضرةِ الجامعِ، فيصلِّي فيه في ركعتين، ثم يجلسُ، وربما صلَّى أربعًا، ثم يجلسُ، ثم يقومُ فيصلِّي ركعتينِ أُخَر، فتلك ستُّ رَكَعَاتٍ على حديث عليٍّ (1).

فائدة (2).
ظنَّ بعضُ الفقهاء أن الوفاءَ إنما (ق/353 أ) يحصلُ باستيفاء الدَّيْنِ، بسبب أن الغريمَ إذا قبضَ المالَ صار في ذمَّتِهِ للمَدِينِ مِثْلُهُ، ثم يقغ التَقاصُّ منهما (3)، والذي أوجبَ لهم هذا. إيجابٌ المماثلةِ بينَ الواجبِ ووفائه ليكونَ قد وفى الدَّيْنَ بالدَّيْنِ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (4): وهذا تكلُّفٌ أنكره جمهورُ الفقهاء، وقالوا: بل نفسُ المال الذي قبضه يحصلُ به الوفاءُ، ولا حاجةَ إلى أن يقَدِّروا في ذمَّةِ المستوفي دينًا، والدَّيْنُ في الذِّمَّةِ من جنس المطلَقِ الكُلِّيِّ، والمعينُ من جنسِ المعينِ الجزئيِّ، فإذا ثبتَ في ذمَّتِهِ دَيْنٌ مطلَقٌ كلِّيٌّ، كان المقصودُ منه الأعيانَ الشخصيَّةَ الجزئيَّةَ، فأيُّ معيَّنٍ استوفاه حَصَلَ به مقصودُهُ لمطابَقَتِهِ للكُلِّي مطابقةَ الأفراد الجزئيَّةِ.
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق: (3/ 247).
وبعده في “المسائل”: “وربما صلى بعد الست ستًّا أخرى أو أقل أو أكثر”.
(2) (ق): “مسألة”.
(3) (ق): “بينهما”.
(4) في “مجموع الفتاوى”: (20/ 513).

(4/1526)


فائدة (1)
قال أحمدُ في رواية صالح (2) في المُضَارِبِ إذا خالفَ فاشترى غَيْرَ ما أَمَرَ به صاحبُ المالِ: فالرِّبْحُ لصاحبَ المالِ، ولهذا أجرةُ مِثْلِهِ، إلَّا أن يكونَ الرِّبْحُ محيطًا بأجرةُ مِثلِهِ (ظ/ 250 أ) فيذهبَ. قال: وكنت أذهبُ إلى أن الرِّبْحَ لصاحبِ المالِ، ثم استحسَنْتُ.
وقال في رواية الميمونيِّ: استحسنُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لكلِّ صلاة، ولكن القياسَ أنه بمنزلةِ الماءِ حتى يُحْدِثَ، أو يَجِدَ الماءَ.
وقال في رواية المرُّوْذيِّ: يجوزُ شراءُ أرض السَّوادِ، ولا يجوزُ بيعُها، فقيل له: كيف تشتري ممن لا يملكُ؟ فقال القياسُ كما تقولُ، ولكن هو استحسانٌ. وأحتجَّ بأن أصحابَ النبي – صلى الله عليه وسلم – رخَّصوا في شراء المصاحفِ وكَرِهوا بَيْعَها، وهذا يشبِهُ ذاك.
وقال في رواية بكر بن محمد فيمن غَصَبَ أرضًا وزَرَعَها: الزَّرْعُ لرَبِّ الأرضِ وعليه النفقةُ، وليس هذا شيئًا يوافِقُ القياسَ، اسْتَحسِنُ أن يدفعَ إليه نَفَقَتَهُ.
وقال في رواية أبي طالب: أصحابُ أبي حنيفة إذا قالوا شيئًا خلافَ القياسِ قالوا: نستحسنُ هذا وَنَدَعُ القياسَ، فَيَدَعُون الذي يزْعُمُونَ أنه الحقُّ بالاستحسانِ. قال: وأنا أذهبُ إلى كل حديث جاءَ، ولا أقيسُ عليه (3).
__________
(1) (ق): “مسألة”، وهذه الفائدة نقلها المصنف من كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية “قاعدة في الاستحسان”: (ص/50 – 67).
(2) رقم (377) بنحوه.
(3) هذه النصوص عن أحمد انظرها في “العدة”: (4/ 1604 – 1605)، و”التمهيد”: (4/ 87) لأبي الخطاب.

(4/1527)


فقال القاضي (1): ظاهر هذا يقتضي إبطالَ القولِ بالاستحسانِ، وأنه لا يجوزُ قياسُ المنصوصِ عليه على المنصوص عليه.
وجعل المسألة على روايتينِ، ونَصَرَ هو وأتباعُه روايَةَ القولِ بالاستحسان، ونازعهم شيْخُنا في مراد أحمد من كلامه، وقال (2): “مُرَادُهُ أني أستعملُ النصوصَ كلَّها ولا أقيسُ على أحد النَّصَّيْنِ قياسًا يعارضُ النَّصَّ الآخَرَ، كما يفعلُ من ذكره، حيث يقيسونَ على أحد النَّصَّيْنِ، ثم يستثنونَ موضعَ الاستحسانِ إما لنصٍّ أو لغيره (3)، والقياسُ عندَهم موجبُ العِلَّةِ (4)، فينقضونَ العِلَّةَ التي يدَّعُونَ صِحَّتَها مع تساويها في مَحَالِّها.
وهذا من (ق/353 ب) أحمد بَيِّنٌ أنه يوجبُ طرد العلَّةِ الصحيحة، وأن انتقاضَها مع تساويها في محالَّها يوجبُ فسادَها، ولهذا قال: “لا أقيسُ على أحد النَّصَيْنِ قياسًا ينقضُهُ النَّصُّ الآخَرُ”.
وهذا مثلُ حديث أم سَلَمَة عنِ النبي – صلى الله عليه وسلم – “إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ وَدَخَلَ العَشْرُ، فلا يَأَخُذْ مِنْ شَعَرِهِ، وَلا مِنْ بَشَرَتهِ شَيْئًا” (5)، مع حديث عائشةَ: “كنت أَفْتِلُ قلائِدَ هَدْيِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -، ثم يَبْعثُ به وهو مقيمٌ، ثم لا يحرُمُ عليه شيءٌ مما يَحْرُمُ على المُحْرِم” (6).
والناسُ في هذا على ثلاثةِ أقوال:
__________
(1) يعني: أبا يعلى فى كتابه “العدة فى أصول الفقه”: (4/ 1605).
(2) “قاعدة في الاستحسان”: (ص/51).
(3) (ق وظ): “إما النص أو غيره”.
(4) “القاعدة”: “يوجب العلة الصحيحة”.
(5) أخرجه مسلم رقم (1977).
(6) أخرجه البخاري رقم (1696)، ومسلم رقم (1321).

(4/1528)


منهم: من يُسَوِّي بين الهَدْى والأُضْحِيَة في المنع، ويقول: إذا بعثَ الحلالُ هَدْيًا صارَ مُحْرِمًا، ولا يحلُّ حتى يَنْحَرَ، كما روي عن ابن عباس (1) وغيره.
ومنهم: من يُسَوِّي بينهما في الإذْنِ، ويقول: بل المضحِّي لا يمنعُ عن شيء كما لا يُمْنَعُ باعثُ الهدي، فيقيسونَ على أحد النَّصَّينِ ما يعارضُ الآخَرَ.
وفقهاء الحديثِ كيحيى بن سعيد (2) وأحمد بن حنبل وغيرهما عملوا بالنَّصَّينِ، ولم يقيسوا أحدَهما على الآخَرِ.
وكذلك عند أحمد وغيره من فقهاءِ الحديثِ، لما أمَرَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أن يُصَلِّيَ الناسُ قعودًا إذا صلَّى إمامُهم قاعدًا (3)، ثم لما افتتحوا الصلاة قيامًا أتَمَّها بهم قيامًا (4)، فعمِلَ بالحديثينِ، ولم يَقِسْ على أحدِهما قياسًا ينقضُ الآخَرَ ويجعلُهُ منسوخًا كما فعلَ غيرُهُ.
قلت: وكذلك فَعَل في حديث الأمْرِ بالوضوءِ من لُحومِ الإبِلِ (5)، وتركِ الوضوءِ مما مَسَّتِ النارُ (6)، عمل بهما، ولم يقسْ على أحدِهما قياسًا يُبْطِلُ الآخَرِ ويجعلُه منسوخًا.
__________
(1) انظر “السنن الكبرى”: (5/ 234) للبيهقي.
(2) في “القاعدة” زاد: “والشافعي”.
(3) أخرجه البخاري رقم (689)، ومسلم رقم (411) من حديث أنسٍ -رضي الله عنه-.
(4) أخرجه البخاري رقم (687)، ومسلم رقم (418) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
(5) أخرجه مسلم رقم (360) من حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنه-.
(6) أخرجه البخاري رقم (207)، ومسلم رقم (354) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.

(4/1529)


وكذلك فَعَل في أحاديثِ المستحاضَةِ ونظائرها.
ثم القائلون بالاستحسانِ، منهم من يقول. هو تركُ الحكم إلى حكمٍ أولى منه، ومنهم من يقولُ: هو أولى القياسَيْنِ.
وقال القاضي (1): “الحُجَّةُ التي يُرجَعُ إليها في الاستحسانِ هي الكتاب تارةً ع والسُّنَّةُ تارةً، والإجماع تارةً، والاستدلالُ بترجُّحِ بعضِ (2) الأصول على بعض.
فالاستحسانُ لأجل الكتاب: كما في شهادة أهل الذِّمَّةِ على المسلمينَ في الوَصِيَّةِ في السَّفَر إذا لم نَجِدْ مسلمًا (3).
ومما قلنا فيه بالاستحسانِ للسُّنَّةُ: فيمن غصَبَ أرضًا وزَرَعَها: الزرعُ لرَبِّ الأرضِ، وعلى صاحبِ الأرضِ النفقةُ؟ لحديث رافع بن خَدِيجٍ (4)، والقياس أن: يكونَ الزَّرْعُ لزارِعِهِ.
ومما قلنا فيه بذلك للإجماعِ: جوازُ سَلَمِ الدَّراهمِ والدَّنانيرِ في الموزونات، والقياسُ أن لا يجوزَ ذلك؛ لوجود الصِّفَةِ المضمومة إلى
__________
(1) في “العدة”: (5/ 1617 – 1609).
(2) في “القاعدة والعدة”: “بترجّحِ شَبَهِ بعض … “.
(3) في قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)} [المائدة/ 106].
(4) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “من زرع في أرضِ قوم فالزرع لربّ الأرض وله نفقته” أخرجه أحمد: (25/ 138 رقم 15821)، وأبو داود رقم (3403)، والترمذي رقم (1366)، وابن ماجه رقم (2466) وغيرهم. قال الترمذي: “حسن غريب”، وانظر “الإرواء”: (5/ 351).

(4/1530)


الجنسِ، وهي الوَزْنُ، إلا أنهم استحسنوا فيه الإجماع”. انتهى (1).
(ظ/250 ب) قال شيخُنا (2): ومن ذلك أن نفقةَ الصغيرِ وأُجْرَةَ مُرْضِعَتِهِ على أبيه دونَ أمِّه (ق/354 أ) بالنَّصِّ والإجماع.
قلت: إلا خلافًا شاذًّا في مذهبِ أبي حنيفةَ وغيرِه، بإيجابِها على الأبوينِ كالجَدِّ والجَدَّةِ.
وكذلك يقولون: إجارةُ الظِّئْرِ ثابتةٌ بالنَّصِّ والإجماعِ، على خلافِ القياسِ.
والاستحسانُ يرجِعُ إلى تخصيص العِلَّة، بل هو نفسه، كما قاله أبو الحسينُ البصريُّ (3)، والرازيُّ (4)، وغيرهُما، والمشهور عن الشافعيَّةِ منع تخصيصِها، وعن الحنفيَّة القولُ بتخصيصِها، ولأصحابِ أحمد قولانِ، وحُكِيتا روايتينِ عن أحمد، وحُكِيَ تخصيصُ العِلَّةِ مذهبُ الأئمة الأربعة، وهو الصَّوابُ.
والقاضي وابن عَقِيل يمنعون تخصيصَ العِلَّةِ، مع قولِهم بالاستحسانِ، وأبو الخطّاب يختارُ تخصيصَ العِلَّة مع قوله بالاستحسانِ (5).
وفرَّقَ القاضي بين التَّخصيص والاستحسانِ: بأن التَّخصيصَ منعُ العلَّة عملَها في حكم خاصٍّ، والاستحسانُ تركُ قياسِ الأصولِ للنُّصوصِ (6)،
__________
(1) يعني كلام القاضي.
(2) “القاعدة”: (ص/60).
(3) في “المعتمد”: (3/ 839).
(4) يعني: أبا بكر الجصاص الرازي الحنفي في كتابه “الفصول في الأصول”: (2/ 351).
(5) “التمهيد”: (4/ 69).
(6) (ق): “المنصوصة”.

(4/1531)


أي: مخالفة القياس لأجل النَّص، كما فى شهادةِ أهلِ الذمَّةِ، وإجارة الظِّئرِ، وإعطاء الزَّرع: لمالك الأرض، ونظائره، كحملِ العاقلةِ دِيَةَ الخطأ.
* * *

(4/1532)


فصولٌ عظيمة النفع جداً
في إرشاد القرآن والسُّنّة إلى طريق المناظرة وتصحيحها، وبيانِ العلل المؤثِّرة، والفروق المؤثرة، وإشارتهما (1) إلى إبطال الدَّوْر والتَّسلسل بأوجزِ لفظٍ وأبينِهِ (2)، وذِكْر ما تضمَّناه من التَّسوية بينَ المتماثلين، والفَرق بين المختلفين، والأجوبة عن المعارضاتِ، وإلغاء ما يجبُ إلغاؤُه من المعاني التي لا تأثيرَ لها، واعتبار ما ينبغي اعتبارهُ، وإبداء تناقض المبطِلِينَ في دعاويهم وحُجَجِهم، وأمثال ذلك.
وهذا من كنوزِ القرآن التي ضلَّ عنها أكثرُ المتأخرين، فوضعوا لهم شريعةً جَدَلِيَّةً، فيها حقٌ وباطلٌ، ولو أَعْطَوُا القرآنَ حَقَّهُ لرَأَوْهُ وافياً بهذا المقصودِ كافياً فيه، مُغْنِياً عن غيره.
والعالِمُ عن الله (ق/ 360 ب) مَنْ آتاه الله (3) فَهماً في كتابهِ. والنبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أوَّلُ من بيَّنَ العللَ الشرعيَّةَ والمآخِذَ، والجمعَ والفَرْقَ، والأوصافَ المعتبرةَ والأوصافَ الملغاةَ، وبيَّنَ الدَّورَ والتَّسلسُلَ وقطعهما.
فانظر إلى قوله – صلى الله عليه وسلم – وقد سُئِل عن البعيرِ يجربُ، فتجربُ لأجلِهِ الإبلُ، فقال، “مَنْ أعْدَى الأوَّلَ” (4)، كيف اشتملتْ هذه الكلمةُ الوجيزةُ المختصرةُ البينَةُ على إبطال الدَّوْر والتَّسلسل، وطالما تَفَيْهق
__________
(1) (ع): “وإشارتها”
(2) (ع): “وأثبته”.
(3) “من آتاه الله” سقطت من (ع).
(4) أخرجه البخاري رقم (5717)، ومسلم رقم (2220) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.

(4/1533)


الفيلسوف وتَشَدَّقَ المتكلِّمُ وقرَّر (1) ذلك -بعد اللَّتَيًّا والَّتي- في عدَّةِ ورقاتٍ، فقال مَنْ أوتي جوامِعَ الكَلِمِ: “فمَنْ أَعْدى الأوَّلَ”، ففَهِم السامِعُ من هذا: أن إعداءَ الأوَّلِ إن كان من إعداءِ غيرِه له، فإن لم ينتَهِ إلى غايَة فهو التَّسلسلُ في المؤثِّرات، وهو باطلٌ بصريحِ العقل، وإن انتهى إلى غايةٍ. وقد استفادَتِ الجَرَبَ من إعداءِ مَن جرب به له، فهو الدَّوْرُ الممتنعُ.
وتأمل قوله في قصة ابن اللُّتْبيَّةِ: “أفَلا جَلَسَ في بيتِ أبيهِ وأمَّهِ، وَقالَ: هَذا أُهْدِيَ لِي” (2)، كيفَ يجدُ تحتَ هذه الكلمةِ الشريفة أن الدَّوَرَانَ يُفيدُ العِلِّيَّةَ، والأصوليُّ ربما كدَّ خاطِرَهُ حتى قرَّر ذلك بعد الجهد، فدلَّت هذه الكلمةُ النبوية على أن الهديةَ لما دارَت مع العمل وجودًا وعدمًا كان العمل سَبَبَها وعِلَّتها؛ لأنه لو جلسَ في بيتِ أبيه وأُمِّه لانتفتِ الهديَّةُ، وإنما وُجِدت بالعملِ فهو عِلَّتها.
وتأملْ قوله – صلى الله عليه وسلم – في اللُّقَطَةِ، وقد سُئِل عن لُقَطَةِ الغنم فقال: “إنَّما هِى لَكَ أو لأخِيْكَ أو للذِّئْب”، فلما سئل عن (ظ /251 أ) لُقَطَةِ الإبلِ غْضبَ، وقال: “ما لَك ولَها، مَعَها حِذاؤُها وسِقاؤها، تَرِدُ الماءَ وتَرعَى الشَّجَرَ” (3)، ففرَّق بين الحُكْمَينِ باستغناءِ الإبل واستِقلالها بنفسِها، دونَ أن يُخاف عليها الهَلَكَةُ في البرِّيَّة، واحتياج الغنم إلى راعٍ وحافظٍ، وأنه إن غابَ عنها، فهي عُرضَةٌ للسِّباع بخلاف الإبل،
__________
(1) (ع): “وقرب”.
(2) أخرجه البخاري رقم: (1500)، ومسلم رقم (1832) من حديث أبي حميد الساعدي -رضي الله عنه-.
(3) أخرجه البخاري رقم (91)، ومسلم رقم (1722)، من حديث زيد بن خالد الجهني – رضي الله عنه -.

(4/1534)


فهكذا تكون الفروقُ المؤثِّرَة في الأحكام لا الفروقُ المذهبيةُ التي إنما يفيدُ ضابط المذهب.
وكذلك قوله في اللَّحم الذي تُصُدِّق به على بَرِيرَةَ: “هُوَ عَلَيْها صَدَقَةٌ، ولنا هَدِيةٌ” (1)، ففرَّقَ في الذاتِ الواحدةِ، وجعل لها حكمينِ مختلفينِ باختلافِ الجهتين؛ إذ جهةُ الصَدَقةِ عليها غير جهة الهديَّة منها.
وكذلك الرجلانِ اللذانِ عَطَسا عند النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -، فشمَّتَ أحَدَهما ولم (ق/ 361 أ)، يُشَمِّتِ الآخَر، فلما سُئِلَ عن الفرق أجاب: “بأن هذا حَمِدَ الله، والآخر لم يَحَمدْهُ” (2)، فدلَّ على أن تفريقَهُ في الأحكام لافتراقها في العلل المؤثِّرَةِ فيها.
وتأمَّلْ قوله – صلى الله عليه وسلم – في المَيْتَةِ: “إنما حَرُمَ منها أَكْلها” (3)، كيف تضمَنَ التَّفْرِقَةَ بينَ أكلِ اللَّحمِ واستعمال الجلدِ، وبيَّنَ أن النصَّ إنما تناولَ تحريمَ الأكلِ، وهدا تحتَهُ قاعدتانِ عظيمتانِ:
إحداهما. بيانُ أنَّ التَّحليلَ والتحريمَ المضافانِ إلى الأعيانِ غيرُ مجمل، وأنه (4) مُراد به من كل عينٍ ما هي مهيَّأة له. وفي ذلك الرَّدُ على من زَعَمَ أن ذلك مُتضمِّنٌ لمضمرٍ عامٍّ، وعلى من زعم أنه مجملٌ.
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (1495)، ومسلم رقم (1074)، من حديث أنس -رضي الله عنه-.
(2) أخرجه البخاري رقم (6221)، ومسلم رقم (2991)، من حديث أنسٍ -رضي الله عنه -.
(3) أخرجه البخاري رقم (1492)، ومسلم رقم (363) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.
(4) (ع): “وأنه غير … “.

(4/1535)


والثانية: قَطْع إلحاق استعمال الجلدِ بأكلِ اللَّحمِ، وأنه لا يصحُّ قياسُه عليه، فلو أن قائلًا قاله: وإن دلَّتِ الآيةُ على تحريم الأكل وحدَه، فتحريم ملابَسَة الجلدِ قياسًا عليه، كان قياسُه باطلًا بالنَّصِّ؛ إذ لا يلزمُ من تحريمِ الملابسةِ الباطِنةِ بالتَعَدي تحريمُ ملابَسَةِ الجلدِ ظاهراً بعد الدِّباغِ.
ففي هذا الحديثِ: بيان الموادِ من الآيةِ، وبيان: فسادِ إلحاقِ الجِلْد باللَّحم. وتأمَّلْ قوله – صلى الله عليه وسلم – لأبي النعمان بن بَشِير وقد خصَّ ابنَهُ بالنُخل: “أَتحِبُّ أنْ يَكُونْوا في البِرِّ سَواءً” (1)؟ كيف تجدُهُ مُتَضَمِّنا لبيانِ الوصف الدَّاعي إلى شرع التَسْوِيَةِ بينَ الأولاد، وهو العَدلُ الذي قامتْ به السمواتُ والأرضُ، فكما أنك تحِبُّ أن يستووا في بِرِّكَ، وأنْ لا ينفردَ أحدُهم ببِرِّكَ وتُحرَمَهُ من الآخَرِ، فكيف ينبغي أن تُفرِدَ أَحَدَهما بالعَطِيَّة وتَحْرِمَها الآخرَ؟!.
وتأمَّل قولَه – صلى الله عليه وسلم – لعمر وقد استأذنه في قتل حاطب، فقال: “وَمَا يُدرِيكَ؟ لَعَلَّ اللهَ اطْلَعَ على أهْلَ بَدْرٍ فَقالَ: اعْمَلُوا ما شِئتم، فَقَدْ غفرتُ لَكُمْ” (2)، كيف تجدُهُ متضمِّنا لحكم القاعدةِ التي اختلفَ فيها أربابُ الجدَلِ والأصوليُّون، وهي: أن التعليلَ بالمانِع هل يفتقرُ إلى قيامِ المقتضي، فعلَّلَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – عصمةَ دمِهِ بشهودِه بَدراً دونَ الإِسلام العامَّ، فدلَّ على أن مُقْتضى قتلِهِ كان قد وُجِدَ وعارَض سببَ العصمةِ،
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (2586)، ومسلم رقم (1623) من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنهما-.
(2) تقدم تخريجه (3/ 1037).

(4/1536)


وهو الجسُّ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لكنْ عارضَ هذا المقتضي مانعٌ (1) مَنَعَ من تأثيرِهِ وهو شهوده بدرًا، وقد سَبقَ من الله مغفرتهُ لمن شَهدَها.
وعلى هذا؛ فالحديث حجَّةٌ لمن رأى قتلَ الجاسوسِ (2)؛ لأنه ليس ممَّنْ شَهِدَ بدرًا، وإنما امتنعَ قتلُ حاطب لشهودِهِ بدراً.
ومن ذلك: قولُه – صلى الله عليه وسلم – لعُمَرَ وقد سأله عن القبْلة للصّائم، (ق/ 361 ب) فقال: “أرأيْت لو تَمضمَضتَ” (3) … الحديث، فتحتَ هذا إلغاءُ الأوصافِ التي لا تأثيرَ لها في الأحكام، وتحتهُ تشبيهُ الشيءِ بنظيرِهِ وإلحاقُهُ به، وكما أنَّ الممنوعَ منه الصائمُ إنما هو الشُّربُ لا مُقَدمَتهُ، وهو وضع الماء في الفمِ، فكذلك الذي مُنِعَ، إنما هو الجِماعُ لا مُقَدِّمَتُهَ وهي القُبْلَة، فتضمَّنَ الحديثُ قاعدتينِ عظيمتينِ كما ترى.
(ظ/251 ب) ومن ذلك: قولُه – صلى الله عليه وسلم – وقد سُئلَ عن الحج عن الميت؟ فقال للسائل: “أرَأيْتَ لَوْ كانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أكنْتَ قاضِية؟ ” قال: نعم. قال: “فَدَيْنُ اللهِ أَحَقّ أنْ يُقْضَى” (4) فتضمَّنَ هذا الحديثُ بيانَ قياس الأوْلى،
__________
(1) (ق وظ): “مانعاً”!.
(2) في هامش (ق) تعليق أظنه بخط ابن حميد النجدي، قال: “لا حجة فيه؛ لأن التجسُّس على النبي – صلى الله عليه وسلم – ليس كالتجسس على غيره” أهـ. وفي هذا التعليق نظر من جهة أن الجاسوس لا يُقتل باعتبار جسه على شخص بعينه، ولكن باعتبار جسِّه على المسلمين لصالح الكفار.
(3) أخرجه أحمد: (1/ 286 رقم 138)، وأبو داود رقم (2385)، وابن خزيمة رقم (1999)، وابن حبان “الإحسان”: (8/ 314). وغيرهم، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم.
(4) أخرجه البخاري رقم (1953)، ومسلم رقم (1148) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.
ووقع في (ق): “أحق بالقضاء” وهو في بعض روايات الحديث.

(4/1537)