تحفة المودود بأحكام المولود
تحفة المودود بأحكام المولود
http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة |
الكتاب: تحفة المودود بأحكام المولود [آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (22)]المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 – 751) المحقق: عثمان بن جمعة ضميرية راجعه: خلدون بن محمد الأحدب – محمد أجمل الإصلاحي – سليمان بن عبد الله العمير الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت) الطبعة: الرابعة، 1440 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم) عدد الصفحات: 562 قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] |
آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (22)
تحفة المودود بأحكام المولود
تأليف
الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 – 751)
تحقيق
عثمان بن جمعة ضميرية
وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة
بكر بن عبد الله أبو زيد
رحمه الله تعالى
دار عطاءات العلم – دار ابن حزم
(المقدمة/1)
راجع هذا الجزء
خلدون بن محمد الأحدب
محمد أجمل الإصلاحي
سليمان بن عبد الله العمير
(المقدمة/2)
مقدمة التحقيق
الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، وبعد:
(1)
فقد اهتمَّ علماء الأمة الإسلامية بالتأليف والتصنيف في كل الفنون والعلوم الدينية والأدبية والتاريخية والتربوية والتطبيقية وغيرها، وكان علم الفقه من أول العلوم التي أولاها العلماء عنايتهم في كل العصور، وتنوَّعت مناهجهم وطرائقهم في ذلك؛ فهناك كتب شاملة لأبواب الفقه كلِّها، من العبادات و المعاملات والمناكحات والعقوبات وغيرها، وهناك كتب في علم أصول الفقه، وفي القواعد الفقهية والأشباه والنظائر، وفي علم الخلاف. وهذه كلُّها تتناول موضوعات و أبوابًا تتصف بالشمول للأحكام العملية في جوانب الحياة كلها.
ومن العلماء من أفرد بعض الأبواب والمسائل الفقهية بالتصنيف والتأليف ابتداءً، أو تلبية لحاجة طارئة، أو إجابة على سؤال أو استفتاء، فنشأت كتب الفتاوى والرسائل والكتب المفردة في باب معيّن من أبواب الفقه أوفي مسألة من مسائله، يتناولها المصنّف بالدراسة الواسعة، فيحدِّد موضوع بحثه، ويبيِّن منهجه، وسبب تأليفه أو كتابته، ويرسم خطَّته التي تنطوي ــ أحيانًا ــ على أبواب وفصول و مباحث أو
(المقدمة/5)
فروع و مسائل و تنبيهات. وقد تكون هذه الدراسة ضمن مذهب فقهي أو مدرسة فقهية معينة (1).
وقد تتسع دائرة البحث في الدراسة للمسألة أو الموضوع، فيتناولها المؤلف في المذاهب الفقهية المشهورة وغيرها من مذاهب السلف ــ رحمهم الله جميعًا ــ. وأثناء ذلك يعرض أقوال العلماء ومذاهبهم والروايات المنقولة عنهم، ويستقصي الأدلَّة لكلِّ قول، ثم يناقش و يوازن ليرجِّح ما تطمئنُّ إليه نفسه، اتِّباعًا للدليل الصحيح والنص الصريح، وإعمالاً للقواعد والأصول في الاستنباط. وهذا مجال واسع للآراء والأقوال والترجيح للرأي النجيح.
ونجد أمثلة كثيرة على هذه الطريقة عند علمائنا في القديم والحديث، في شتى العلوم والفنون. ولا يغيب عن الذهن «مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميَّة»، و «المعيار المُعْرِب» للونشريسي، و «الحاوي للفتاوى» للسيوطيِّ، و «فتاوى السُّبْكي»، و «رسائل ابن نُجَيم» الحنفيّ، و «مجموع رسائل الملَّا علي القاري الهَرَوِيّ»، و «الفتح
_________
(1) من الأمثلة على ذلك أن العلامة أبا محمد بن غانم بن محمد البغدادي الحنفي (المتوفى في حدود 1030 هـ) جعل مسائل الضمانات موضوعًا لكتاب قائم برأسه هو «مجمع الضمانات في مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان» وقد طبع في المطبعة الخيرية بمصر عام 1308 هـ، ثم صدر في مجلدين بتحقيق محمد أحمد سراج، وعلي جمعة محمد، عن دار السلام بالقاهرة عام 1420 هـ.
(المقدمة/6)
الرباني» للشوكاني، ومجموعة «رسائل أبي الحسنات اللَّكْنَوي»، و «فتاوى الشيخ محمد عليش»، و «فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ» و «فتاوى ورسائل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز» وغيرها كثير.
فهذه الكتب والفتاوى والمجاميع لا تقتصر على الإجابة على السؤال باختصار حسب حاجة السائل أحيانًا، بل تتضمن مسائل أُفردت بالكتابة والبحث برسالة مستقلة.
وتلك الطريقة التي أشرت إليها، هي التي تسير عليها الجامعات العصرية والمعاهد العليا والكليَّات العلميَّة في مناهجها ودراساتها العليا، حيث تشترط لتخريج الطالب في مرحلة التخصص الأولى (الماجستير) وفي مرحلة العالمِيَّة العالية (الدكتوراه) أن يكتب أطروحة أو رسالة مبتكرة في موضوع تخصصه، لها شروطها ومواصفاتها.
(2)
تأتي هذه الكلمات بين يدي كتاب «تحفة المودود بأحكام المولود» للإمام العلامة المتفنن، شمس الدين، محمَّد بن أبي بكر، ابن قيِّم الجوزيّة المتوفى سنة (751 هـ) رحمه الله تعالى. وهو نموذج لتلك الدراسة والأسلوب الذي أشرت إليه.
وهذا الكتاب سبق له أن طبع عدة طبعات في كثير من البلاد الإسلامية، وكان لانتشاره أثر كبير في الإفادة منه ــ على اختلاف منهج
(المقدمة/7)
تلك الطبعات في الإخراج والنشر ـ والتحقيق ــ وتأتي هذه النشرة المحققة على أصول خطية جيدة، في هذا المشروع الرائد، وهو (آثار الإمام ابن قيِّم الجوزيّة وما لحقها من أعمال) لتكون حلقة في هذه السلسلة المباركة، وتكون ضمن مطبوعات مجمع الفقه الإسلامي الدولي.
(3)
ونقدِّم بين يدي هذه الطبعة دراسة موجزة في فقرتين اثنتين؛ تتناول (إحداهما) تربية الأولاد في الإسلام، وأهم الكتب والمراجع القديمة في أحكام الأولاد، استكمالاً لتلك الفصول النافعة التي كتبها المصنّف ــ رحمه الله ــ في كتابه هذا، لعل فيها ما يساعد القارئ الكريم على الاطلاع ومتابعة البحث في هذه الجوانب.
وتتناول الفقرة (الثانية) الكتاب نفسه بالتعريف، ومنهج التحقيق.
وأما ترجمة المصنف وما يتصل بذلك؛ فإنها استُوعبت بالكتابة والدراسة في كتب كثيرة متخصصة. مع ما سيطبع ضمن هذا المشروع من ترجمته، ففيها الغناء والكفاية.
(4)
وأسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، متقبَّلاً عنده في صالح العمل، وأن ينفع به الأمة والملَّة، وأن يجعله في
(المقدمة/8)
ميزان أعمالنا يوم العرض عليه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وأسأله ــ سبحانه ــ أن يجزي كلَّ من كان سببًا فيه، و كلَّ من ساعد فيه، وبخاصة أهل بيتي وأولادي وبناتي جميعهم، الذين ساعدوا في المقابلة والمراجعة، وأدعو الله تعالى أن يحفظهم وأن يجعلهم قرة عين في الدنيا والآخرة.
وأما الأساتذة الكرام: الدكتور خلدون الأحدب، والدكتور محمد أجمل الإصلاحي، والشيخ علي بن محمد العمران، والدكتور سليمان العمير، الذين كان لقراءتهم الدقيقة وملاحظاتهم السديدة خير عون على الوصول بهذا العمل إلى ما نصبو إليه من الإتقان، فما أنا ببالغ ما أريد من الثناء، فجزاهم الله خير الجزاء. وكذا أشكر الأخ الشيخ عدنان البخاري على قيامه بصنع فهارس الكتاب، فجزاه الله خيرًا.
و الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا ونبيِّنا محمّدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
عثمان بن جمعة ضميرية
جامعة الشارقة
في: 20 رجب 1430 هـ
(المقدمة/9)
أولاً: تربية الأولاد
الأسس والعوامل المؤثرة
كانت الكلمة الأولى التي أُنزلت على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في آخر اتصال للسماء بالأرض هي كلمة «اقرأ»: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 – 5].
1 – التربية في مدرسة النبوة:
وتتابع الوحي على رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وبدأ – صلى الله عليه وسلم – يدعو قومه للإسلام، ويقوم بتربية النخبة المختارة من بني البشر، التي أراد الله لها أن تمسك بزمام القيادة العالمية، وأن تكون {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] لتقوم بأعباء الرسالة الخاتمة، التي أعدَّها الله تعالى للقيام بها، فقد ربَّاهم – صلى الله عليه وسلم – في مدرسة النبوة على الإيمان بالله تعالى وحده، وبعث في نفوسهم العزة والأمل، ربَّاهم في مكة المكرمة أولاً: على الإيمان والصبر والمجاهدة … ليتلقوا دعوة الإسلام بكل تكاليفها، ثم تابع – صلى الله عليه وسلم – المسيرة التربوية: إيمانًا وإخلاصًا وتضحيةً وعبودية لله، ليسموَ بنفوس تلك النخبة الممتازة، من الجيل المثالي الذي تخرَّج على يديه.
(المقدمة/10)
منهج متكامل للتربية:
وقد قامت هذه التربية على أساسين عظيمين هما: كتاب الله تعالى وسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم -، وهما المصدران الأساسيان لهذا الدين، وقد حفل كلٌّ منهما بمنهجٍ متكامل للتربية الإسلامية المثالية، يشمل غايات التربية، ومنهجها، ووسائلها، وطرقها، وعواملها.
منهج يتناسق مع جميع مراحل النمو:
و هو منهج يعطي كلَّ مرحلة من مراحل النمو الإنسانيِّ ما يناسبها من التربية المتوازنة الشاملة المتكاملة، إذِ اقتضتْ حكمة الله تعالى: أن يمرَّ الإنسان بمراحل مختلفة، ويتقلَّب في هذه الحياة أطواراً؛ فهو «جَنِين» في بطن أمه، متكامل الخلق، بعد أن كان قبلها «نُطْفَة» ثم «عَلَقة» ثم «مُضْغة»، كما أشار إلى ذلك -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم فقال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)} [الحج: 5].
ثم هو بعد ذلك- بعد مرحلة الجنين- «طفلٌ»، ثم «نَاشِئ»،
ينتقل لمرحلة «المُراهَقة» فمرحلة «الفُتُوَّة» فمرحلة «الشَّباب»،
(المقدمة/11)
ثم «الكُهُولَة» و «الشَّيخُوخَة».
وهو في كلِّ مرحلة من هذه المراحل: يتَّسم بصفات وسِمَاتٍ جسميَّة ونفسيَّة وخُلقيَّة تختلف عن الأخرى، وله في كل مرحلةٍ وطور حاجاتٌ ودوافع، ولكل مرحلة مشكلات خاصة وأساليب في التكيُّف والنموِّ والتربية، يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، عند تربية هذا الكائن.
والإسلام ــ دين الله الخالد ــ يضع لكل مرحلة من مراحل عمر الإنسان خطة تربوية فذة، ترتقي بهذا الإنسان إلى مدارج عالية وآفاق سامية، نلمحها في علاقة هذا الإنسان وتعامله مع ربه تبارك وتعالى، ومع نفسه، ومع الآخرين من حوله.
المنهج التربوي المتميز:
واليوم نجد كثيرًا من المثقفين وغير المثقفين يديرون كلمة «التربية» على ألسنتهم صباحَ مساء، وينظرون إلى مناهج التربية في بلاد الغرب على أنها هي التربية المثالية الفذة، التي تجعل من الإنسان نموذجًا مثاليًا يُشار إليه بالبنان … و ينسون- وهم في غرة البريق الخادع – أصالةَ دينهم، وشخصيتَهم الإسلامية، ومنهجَهم التربويَّ المتميز …
فكان من الوفاء لهذا الدِّين ولهذه الأمة وأجيالها المؤمنة: أن نعود بالأمر إلى نصابه، وبالفضل لأهله وذويه، وهذا ما دفعني لكتابة هذه الكلمات في تقديم هذا الكتاب، و الصلة بينهما وثيقة ومتينة.
(المقدمة/12)
2 – عوامل التربية:
يقصد بعوامل التربية كلَّ المؤثرات التي تؤثر في النشأة والنمو، من النواحي الجسمية والعقلية والخلقية والدينية.
ويُعنَى الباحثون في التربية بتصنيف هذه العوامل وتعدادها, إلا أنه يمكن رَجْعُها إلى طائفتين اثنتين:
(الطائفة الأولى): عوامل التربية المقصودة، وهي الوسائل المدبَّرة التي يقوم بها الكبار حيال الصغار للتأثير في أجسامهم وعقولهم وأخلاقهم, لإعدادهم للحياة المستقبلة. وأهم مواطن هذا النوع من التربية: الأسرة (البيت) والمدرسة. ولما كانت المساجد تقوم بوظيفة المدرسة قبل إنشائها , فإننا نضيف هذا العامل الهام وهو المسجد , وكذلك المنهج الدراسي الذي يقوم بوظيفة كبرى في تقديم ما ينبغي للأبناء في دراستهم.
(الطائفة الثانية): عوامل التربية غير المقصودة، وهي العوامل التي تؤثر في نشأة الأطفال والمراهقين ونموهم دون أن يكون للكبار دخل في توجيهها نحو هذه الغاية, ولا في أدائها هذه الوظائف. وتنقسم هذه الطائفة إلى أقسام كثيرة, أهمها ما يلي:
أ- عوامل طبيعية، كالوراثة والبيئة والجغرافية.
ب- الأمور التي يقوم بها الطفل مدفوعًا إليها بعامل ميوله الفطرية, ومن أظهر هذه العوامل: الألعاب الحرة والتقليد.
(المقدمة/13)
ج – عوامل اجتماعية، كحضارة الأمة المنبثقة عن معتقداتها, وما إلى ذلك مما تشمله البيئة الاجتماعية العامة, ويندرج فيها ما يكوِّن الرأي العام, كوسائل الإعلام ونحوها (1).
فأهم عوامل التربية هي: الأسرة، والمدرسة, والمسجد, الوراثة, والبيئة الجغرافية، واللعب والتقليد, والبيئة الاجتماعية العامة, ووسائل الإعلام. و العامل الأول فيها هو أهم هذه العوامل وأكثرها تأثيرًا وصلة بموضوع هذا الكتاب، فيحسن أن نخصّه بالتنويه وبشيء من التفصيل.
دور الأسرة في التربية:
الأسرة هي الخلية الاجتماعية الأولى في المجتمع, وعلى صلاحها وقوَّتها واستقامتها يتوقف صلاح المجتمع وقوَّته وتماسكه, فالمرأة والرجل هما عماد الأسرة؛ إذا صلح كلٌّ منهما استطاع أن يكوِّن بيتًا نموذجيًا على القواعد التي وضعها الإسلام, وقد وضع الإسلام قواعد هذا البيت فأحكم وضعها, فقد أرشد الزوجين إلى حسن الاختيار، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «تنكح المرأة لأربع: لدينها ولمالها ولحسبها ولجمالها, فاظفر بذات الدين تربت يداك» (2).
_________
(1) انظر: عوامل التربية، د. علي عبد الواحد وافي، ص (3) وما بعدها.
(2) أخرجه البخاري في النكاح برقم (5090) ومسلم في الرضاع برقم (1466).
(المقدمة/14)
وبيَّن الطريق الفطري في لقاء الرجل بالمرأة، فقال الله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21].
وحدَّد الحقوق والواجبات على كل من الطرفين، وما يتميز به كل واحد منهما، فقال الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228].
وأوجب على الطرفين رعاية ثمرات الزواج (الأطفال) حتى تينع وتنضج في غير عبث ولا إهمال، فقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
وقال الله سبحانه و تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233].
وعالج ما يعترض هذه الحياة الزوجية من مشكلات أدقَّ علاج، واختط في كل نظراته طريقًا وسطًا، لا إفراط فيه ولا تفريط، فقال الله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128].
(المقدمة/15)
وقال الله سبحانه وتعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 34 – 35].
والإسلام يعتبر نظام الأسرة هو النظام الطبيعي الفطري المنبثق من أصل التكوين الإنساني, بل من أصل الأشياء كلِّها في الكون الذي يقوم على قاعدة الزوجية.
والأسرة هي المحضن الطبيعي الذي يتولى حماية الناشئة ورعايتها وتنمية أجسادها وعقولها وأرواحها, وفي ظله تتلقى مشاعر الحب والرحمة والتكافل, وتنطبع بالطابع الذي يلازمها مدى الحياة, وعلى هديه ونوره تتفتح للحياة وتتعامل معها (1).
والأسرة منذ القديم كانت تقوم بوظائف اجتماعية كثيرة, ثم بدأت هذه الوظائف تتطور سعة وشمولاً، وتضييقًا وتحديدًا، حيث أصبحت كثير من المؤسسات الاجتماعية والتعليمية والثقافية تنازع الأسرة هذه الوظائف الاجتماعية والتربوية إلا أنها لازالت ــ وستبقى ــ عاملاً من
_________
(1) في ظلال القرآن: 2/ 235.
(المقدمة/16)
أهم عوامل التربية على الإطلاق، وترجح على بقية العوامل
الأخرى مجتمعة (1).
تأثير الأسرة في العوامل التربوية:
والأسرة تؤثر في العملية التربوية من ناحيتين اثنتين:
(الأولى) تأثيرها في عوامل التربية الأخرى، فإن للمنزل آثارًا بليغة في مختلف عوامل التربية الأخرى المقصودة وغير المقصودة.
و (الثانية) آثارها التربوية الخاصة بها. فالطفل الإنساني هو أطول الأحياء طفولة، ومن ثم كانت حاجته لملازمة أبويه أشدَّ من حاجة أي طفل لحيوان أخر, وكانت الأسرة المستقرة الهادئة ألزم للنظام الإنساني وألصق بفطرة الإنسان وتكوينه ودوره في هذه الحياة، وعلى المنزل يقع قسط كبير من واجب التربية الخُلُقية والوجدانية والدينية في جميع مراحل الطفولة, بل في المراحل التالية لها كذلك؛ ففي المنزل تشيد أسس العقيدة و العبادة والأخلاق, فإن كان الأساس متينًا كان البناء قويًا متينًا، وإلا انهار البناء.
_________
(1) انظر عوامل التربية ص 5 – 7, الأسرة والمجتمع ص 16 – 21 كلاهما للدكتور علي عبد الواحد وافي.
(المقدمة/17)
3 – وسائل التربية:
أ ـ الوسيلة الأولى: القدوة الحسنة، وهي الوسيلة الفعالة في التربية، ولها التأثير الكبير فيها بجميع نواحيها، إذْ لا بد للطفل في البيت أو الطالب في المدرسة من مثل أعلى يقتدي به ويترسم خطاه، فلنقدم له القدوة الحسنة متمثلة برسول الله – صلى الله عليه وسلم -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21 [، ومتمثلة بالجيل الأول من الصحابة، ومن أبطال الإسلام وقادته على مرِّ العصور.
والرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يكن يربِّي أصحابه بالكلام يديره على لسانه، وإنما كان يربيهم بأفعاله، فقد كان -عليه الصلاة و السلام- قرآنًا يمشي على الأرض، و «كان خلقه القرآن»؛ لذا مدحه الله تعالى فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
والمسلم يربِّي بسلوكه و عمله قبل أن يربي بلسانه وكلامه. والإسلام انتشر في كثير من بقاع العالم بواسطة التجار المسلمين الذين كانوا أمثلة طيبة وقدوة صالحة.
ولذلك نجد الطفل الذي يرى أبويه يقفان في جوف الليل، يناجيان الله تعالى بالعبادة والصلاة والدعاء … يتعلم السموّ الروحي عمليًّا منهما .. ولن يتعلم الفضيلة طفل يرى أبويه أو أحدهما منغمسًا في الرذيلة والشهوات؛ لأنهما قدوة له، وهو يتأثر بهما، ولن يتعلم
(المقدمة/18)
الإنسانية والخلق السامي طفل يجد صدر أبيه ممتلئًا حقدًا أو بغضًا وحسدًا وضغينة على الآخرين.
ب ـ والوسيلة الثانية: هي التربية بالموعظة، وذلك كي تتفتَّح النفس ويتذكر القلب، بعد أن يكون قد شرد عن الله وغفل عنه لسبب من الأسباب التي تصرف الإنسان وتبعده عن الله وعن منهجه وعن دينه، وفي القرآن الكريم نماذج كثيرة رائعة للتربية بالموعظة منها موعظة لقمان لابنه، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) … } إلى آخر الآيات] لقمان: 13 – 19].
وما أكثر مواعظ الرسول ^؛ وما أشدَّ تأثيرها في النفوس! فمواعظه تتفتّح لها القلوب والعقول وتذرف لها العيون. وقد كان عليه الصلاة والسلام يتخوَّل أصحابه بالموعظة بين الحين والآخر، ومن ذلك حديث العرباض بن سارية: «وعظنا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – موعظة وَجِلَت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودِّع فأوْصِنا. قال: «أوصيكم بتقوى الله عز وجل والسمع والطاعة .. » (1).
_________
(1) رواه أبو داود: 7/ 11، والترمذي: 7/ 438. وقال: «هذا حديث حسن صحيح».
(المقدمة/19)
وكان عليه الصلاة والسلام يعظ أصحابه عند ما يشاهد خطأ، وينبِّه إليه بطريقة تربوية فذة، حيث يصعد المنبر ويقول: «ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، أو ما بال أقوام يتنزهون عن كذا» (1) .. أو «لينتهينَّ أقوام عن كذا .. » (2)
جـ ـ والقصة هي الوسيلة الثالثة: وهي وسيلة فعالة، لأن الإنسان يتطلع دائمًا ويتشوق إلى معرفة المجهول، ويتطلع إلى المفاجآت، والقصة تحتوي على كل هذه العناصر المشوقة، ومن هنا كان تأثيرها الكبير في النفس، حتى إن القرآن الكريم قد ذكر كثيراً من القصص بهدف التربية وأخذ العبرة والعظة {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف:111].
وقد أخضع القرآنُ الكريم القصةَ بجميع أنواعها للغرض الديني التربوي. فليكن هذا حافزًا لاستعمال القصص الناجحة الموجهة في تربيتنا لأولادنا وطلابنا.
د ـ التربية بالأحداث والوقائع: وهي وسيلة بارزة، حيث يستطيع المربي الماهر أن يتلقف كل حادث يقع ليغرس في أعقابه مباشرة ما يريد
_________
(1) كما في صحيح البخاري، كتاب الاعتصام: 13/ 276، و صحيح مسلم في الفضائل: 4/ 1829.
(2) كما في صحيح مسلم، كتاب الجمعة: 2/ 512.
(المقدمة/20)
من المُثل والأخلاق والأحكام في نفوس من يعلِّمهم ويربيهم؛ لأن النفس في أعقاب الحادثة تكون مستعدة لتلقى الدرس، كما فعل القرآن الكريم في تربية الجيل الأول، ونجد أمثلة لذلك في الآيات التي تنزلت في أعقاب غزوة بدر وأحد وحنين .. إلخ، ونجد لهذا أمثلة رائعة في السيرة النبوية كما في موعظة النبي – صلى الله عليه وسلم – للأنصار عقب توزيع غنائم هوازن …
هـ ـ ونأتي أخيرًا إلى العقوبة والمثوبة ومكانهما في التربية، فإن المثوبة أو الجزاء الطيب على العمل الطيب والتشجيع عليه بكل طريقة، وسيلة ناجحة تحمل على السعي الحثيث نحو الخير والفضيلة، وما أكثر الآيات القرآنية التي يرغِّبنا الله تعالى فيها بجنته وثوابه.
والعقوبة أيضًا تقابل المثوبة وتسير معها، فليست كل نفس تنفع فيها المثوبة أو الموعظة، وعندئذ نلجأ إلى العقوبة وسيلةً أخيرة في التربية، وهي تتدرج من النظرة إلى الكلمة الطيبة ثم الكلمة العنيفة القاسية حتى إنها لتصل أحيانًا إلى الضرب .. وخيرُ عقوبةٍ هو الحرمان من المثوبة والجزاء.
وغنيٌّ عن البيان أن كُلًّا من المثوبة والعقوبة تتنوع إلى مادية وأدبية، ولكل منهما تأثير في النفوس. وحسبنا هذه الإشارات السريعة، و للتفصيل مجال آخر (1).
_________
(1) انظر بالتفصيل: منهج التربية الإسلامية: 1/ 180 وما بعدها.
(المقدمة/21)
4 ـ أُسُس التربية في البيت المسلم:
وفيما يلي عرض موجز لبعض الأسس والقواعد التي تقوم عليها التربية الإسلامية، و هي في الحقيقة من مقومات المنهج التربوي في الإسلام.
أ ـ التربية الخلقية:
إن التربية الخلقية من المثل السامية للتربية في الإسلام، وهي تعمل على تكوين رجال مهذبين ونساء مهذبات، ذوي نفوس أبية، وعزيمة صادقة، وأخلاق عالية، وعندما امتدح الله تعالى نبيه عليه الصلاة و السلام قال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (1). و روي عنه أنه قال: «أدَّبني ربي فأحسن تأديبي» (2).
والأخلاق يجب أن تكون قرين العلم، بل تاجه، لأن العلم إن لم يصحبه الخلق، كان وسيلة هدم وشر، وفي هذا يقول الشاعر:
لا تحسبنّ العلمَ ينفعُ وَحْدَه … ما لم يُتَوَّجْ ربُّه بخَلاقِ
_________
(1) أخرجه الإمام مالك في الموطأ:2/ 47. وانظر: مجمع الزوائد للهيثمي:9/ 15.
(2) رواه السمعاني في أدب الإملاء والاستملاء ص 1، والعسكري في الأمثال. وهو ضعيف من حيث السند. انظر كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما يدور من الحديث على ألسنة الناس للعجلوني: 1/ 16.
(المقدمة/22)
فلا بد إذن من شيء آخر بعد العلم والمعرفة، اسمه التهذيب والتربية الخلقية، فينبغي أن يكون دائمًا لوزارة المعارف رسالة مزدوجة، جامعة بين التربية والتعليم جميعًا …
ولهذا عدَّلت كثير من الدول اسم وزارة المعارف إلى وزارة التربية، لأن التربية لها المحل الأول من العناية، والتعليم وسيلة لا غاية، كما أن التربية تتضمن أيضًا العلم والمعرفة.
وقد عُنِي الإسلام بالتربية الخلقية منذ طفولة الناشئ حتى تتكون لديه العادات الحسنة منذ الصغر، إذ يشيب المرء على ما يشبُّ عليه.
والطفل كالنفس، إن تهمله شبَّ على … حبِّ الرضاع وإن تفطمْه ينفطِم
ب ـ تربية الضمير الديني:
إن القرآن الكريم يقف بكل شخص من المسلمين أمام ثلاث محاكم أدبية؛ محكمة الضمير في قلوبنا، ومحكمة الرأي العام من حولنا، ومحكمة السماء من فوقنا، وفي هذا يقول الله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].
وقد هيَّأنا القرآن الكريم وأعدَّنا للوقوف أمام هذه المحاكم بأنواع ثلاثة من التربية لوجداننا: تربية الوجدان الخلقي، وتربية الوجدان الاجتماعي، وتربية الوجدان الأدبي.
(المقدمة/23)
جـ ـ بناء الشخصية السويَّة:
ومنهج الإسلام في بناء شخصية المسلم، يجعلها شخصية سوية، تتمتع بكل مظاهر الصحة النفسية وأركانها. فالإسلام إذا خالطت بشاشته القلوب: يشيع فيها الطمأنينة والثبات و الاتزان الانفعالي والعاطفي والعقلي، ويقيها من القلق و الخوف و الاضطرابات. كما يُعنى الإسلام بغرس أركان الصحة النفسية في المسلم منذ المراحل الأولى لحياته، ويوجهه إلى المرونة في مواجهة الواقع، والصبر عند البلاء، ويحثه على التعاون مع جماعة، المسلمين، ويحثه على القناعة والرضا والتفاؤل.
د ـ الإقناع وحرية الفكر:
يدعو الإسلام إلى توليد الرغبة والدافع، وتحري الإقناع، والحلم وسعة الصدر، وترك المجاهرة بالتوبيخ؛ ولذلك أمر أن تكون الدعوة بالحسنى والرفق، فقال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125].
كما احترم الإسلام الفكر وأعطاه الحرية في العمل، ولكنه أحاطه بضوابط كثيرة لئلا يضلّ، ومن هنا كانت حرية العقيدة، بمعنى عدم الإكراه على الدين بالنسبة لأهل الكتاب من اليهود و النصارى:
{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256].
(المقدمة/24)
هـ ـ النهي عن التقليد الأعمى:
يهاجم الإسلام التقليد، وينعى على المقلدين في كثير من آيات القرآن، ويسخر منهم ويجعلهم كالحيوانات التي لا إرادة لها ولا إدراك. قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170].
وقال الله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171].
وقال عليه الصلاة و السلام: «من تشبّه بقوم فهو منهم» (1).
و ـ المساواة وتكافؤ الفُرَص:
ومن أسس التربية الإسلامية المساواة في الحقوق والواجبات. قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
وقال عليه الصلاة والسلام: «لا فضل لعربي على أعجمي .. إلا بالتقوى» (2).
_________
(1) أخرجه أبو داود في اللباس، باب لباس الشهرة: 6/ 24 (من مختصر المنذري وتعليق ابن قيم). وبأتم منه أخرجه الإمام أحمد: 2/ 50، وفي طبعة الرسالة: 9/ 123، وعبد ابن حميد، ص 267، و ابن أبي شيبة: 5/ 313. وقوّاه ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: 1/ 236. وانظر تعليق المحقق على المسند في الموضع السابق.
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند:5/ 411، و في طبعة الرسالة: 38/ 474. وقال محققه: إسناده صحيح.
(المقدمة/25)
وهذه المساواة لا تغفل عوامل الذكاء والاستعدادات والملكات الفطرية، واختلاف القدرات العامة والخاصة وأثر ذلك كله في النشاط العام وترقية الحياة.
ز ـ الدعوة إلى العمل:
إن القرآن الكريم يدعو إلى العمل الذي يجلب الخير للناس، ويؤدي إلى زيادة وتنمية الحصيلة الإنتاجية للأفراد والجماعات، ولذلك يجب أن توجه العناية إلى تدريب القوى البشرية للارتفاع بمستوى الحياة من جميع نواحيها. قال الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10].
ح ـ الدعوة إلى العلم:
وليست الدعوة إلى العلم مقصورة على العلم الديني فحسب، ولكنها تتناول جميع العلوم والمعارف التي تساعد على النهوض بمستوى الحياة الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية، وبذلك فتح الإسلام آفاقًا رحيبة أمام العقل الإنساني ودعاه إلى الفكر والنظر. والآيات والأحاديث في العلم و فضله والحث عليه، وفي النظر والفكر والتفكر والمطالبة بالدليل، كثيرة تعزُّ على الحصر، كقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].
(المقدمة/26)
ط ـ الوسطية والاعتدال:
استمدت التربية الإسلامية روحها من روح الإسلام فكانت تربية وسطاً في النواحي المادية والروحية، أو الدنيوية والأخروية، فهي تدعو إلى الأخذ من كلٍّ منهما بنصيب. قال الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].
ي ـ الرفق والحب:
يوجِّه الإسلام أتباعه إلى المعاملة بالرفق والحب، والبعد عن العنف بكل صوره، قال عليه الصلاة و السلام: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه» (1). وفي سيرة النبي عليه الصلاة و السلام، وفي سيرة أصحابه أمثلةٌ رائعة للتربية برفقٍ على أساس الحب والمودة.
ك ـ التكليف بالوسع:
يوجه الإسلام إلى أن تكون معاملتنا لمن نربيهم قائمة على سياسة واعية تقدر طبيعة المرحلة التي يمرون بها وما يتناسب مع قدراتهم وإمكاناتهم، فلا نكلفهم فوق ما يطيقون، مما يعجزون عن تنفيذه والالتزام به، قال الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
_________
(1) أخرجه مسلم في البر والصلة، باب فضل الرفق: 3/ 2004 برقم (2594).
(المقدمة/27)
هذه لمحات عن بعض أسس التربية في الإسلام، نكتفي بها في هذا المقام، تاركين التفصيل والتوسع للمراجع المختصة بالتربية الإسلامية.
وفي ختام هذه الفقرة: من الواجب أن نؤكد على توجيه الأبناء توجيهاً سليماً واضحاً، والابتعاد عن السطحية والضحالة في تقديم الأفكار الدينية لهم وتعليمهم إياها؛ إذ يجب أن نوسِّع ثقافتهم من الناحية الدينية حتى ننهض بمستواهم الروحي، ونرى أثر هذه الثقافة في أخلاقهم وسلوكهم.
والذي ينبغي تأكيده من أجل أن تقوم الأسرة بدورها في تربية الأبناء: هو أن نسعى لتوفير البيئة النظيفة الصالحة كي تتضافر العوامل كلها على عملية البناء، ولذلك فإن كل من بيده الأمر ــ قدرة وعلمًا وسلطاناً ــ يجب عليه أن يقف في وجه وسائل الإعلام الهدّامة التي تدعو إلى الخنا والفجور والرذيلة، لأنها أسرع فتكًا و أعون على الهدم من غيرها. وهنا تأتي أهمية المحاضن النظيفة المؤثرة كالمراكز الشبابية و المراكز الصيفية والنوادي العلمية و الاجتماعية.
وهذا هو الطريق السوي السليم ــ فيما أحسب ــ في توجيه الأبناء دينيًا واجتماعيًا وخلقيًا، بحيث نبعث في نفوسهم السكينة والاطمئنان، والثقة بالنفس، مع القناعة العقلية والوجدانية، والمباعدة بينهم وبين الغرور، وبهذا نحفظهم من رياح الإلحاد والاستهتار
(المقدمة/28)
والانحلال، ونؤهلهم للقيام بالدور الذي تنتظره منهم أمتهم ومجتمعهم. والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
5 ـ أهم الكتب في أحكام الأولاد وتربيتهم:
حفلت المكتبة الإسلامية بجملة وافرة من كتب التراث الإسلامي في أحكام الصبيان وتربية الأبناء وما يتصل بذلك من المباحث التي عرض لها المصنف ــ رحمه الله ــ كالختان والعقيقة وثواب الصبر على فقد الأولاد من البنين والبنات. وفيما يلي طائفة من هذه الكتب ملتقطة من «معجم الموضوعات المطروقة في التأليف الإسلامي»، ومن «كشف الظنون» و ذيله: «إيضاح المكنون»، مما يجعلني أكتفي بهذه الإشارة إليهما دون إكثار من الحواشي والإحالات عند كل كتاب منها. ومن هذه الكتب:
– الاحتفال بالأطفال، للشيخ جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بکر السيوطي، المتوفي سنة (911 هـ)، وهي رسالة أوردها بتمامها في «الحاوي للفتاوى». وهو مطبوع.
– أخبار الصبيان، لمحمد بن مخلد بن حفص العطار الدوري المتوفي سنة (331 هـ).
– ارتياح الأکباد بأرباح فَقْد الأولاد، للشيخ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي المتوفى سنة (902 هـ).
– الإرشاد إلي حکم موت الأولاد، لجمال الدين يوسف بن حسن ابن أحمد المعروف بابن عبدالهادي المتوفي سنة (909 هـ).
(المقدمة/29)
– أسني المقاصد في معرفة حقوق الولد علي الوالد، لزين الدين برکات بن أحمد بن محمد بن يوسف الدمشقي معروف بابن الکيّال المتوفي سنة (929 هـ).
– برد الأکباد عند فقد الأولاد، للحافظ شمس الدين محمد بن ناصر الدين الدمشقي المتوفي سنة (842 هـ). مطبوع.
– البرهان في أصح أقوال الختان، لأبي المواهب البكري.
– البستان في مسألة الختان، لمحمد بن عبد الرحمن السخاوي المتوفى سنة (902 هـ).
– تبريد حرارة الأکباد في الصبر علي فقد الاولاد، لکمال الدين أبي حفص عمر بن أحمد بن العديم الحلبي المتوفي سنة (660 هـ).
– تبيين الامتنان بالأمر بالاختتان، لأبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي، المتوفى سنة (571 هـ).
– تحرير المقال في آداب وأحکام مؤدبي الأطفال، لشهاب الدين أحمد بن محمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي المکي الشافعي المتوفي سنة (974 هـ). و هو مطبوع.
– تحفة أهل الإحسان لفضائل سنة الختان، لأبي عبد الله محمد بن محمد بن يوسف.
– تحفة الصبيان، لمحمد توفيق بن شيخ عثمان بن الشيخ مصطفي الأنقروي المتوفي (1319 هـ).
(المقدمة/30)
– تسلية الحزين في موت البنين، لشهاب الدين أحمد بن يحيي بن حجلة (التلمساني الحنفي) المتوفي سنة (776 هـ).
– التعريف والتبيين في ثواب فقد البنين، لکمال الدين محمد بن يحيي الهمداني المصري الشافعي.
– التغلغل والإطفا لنارٍ لاتُطْفا، في موت الأطفال، لجلال الدين عبدالرحمن بن أبي بکر السيوطي المتوفي (911 هـ).
– التلقين لأولاد المؤمنين، لأبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الکراجکي نزيل الرملة المتوفي سنة (449 هـ).
– تنبيه الغبي علي حکم کفالة الصبي، لأحمد بن سيد محمد مکي الحسيني الحموي شهاب الدين المصري المتوفي (1098 هـ).
– ثواب المصاب بالولد، للحافظ أبي القاسم علي ابن عساکر الدمشقي، المتوفي سنة (571 هـ).
– جامع أحكام الصغار لمحمد بن محمود بن الحسين الأسروشني الحنفي، المتوفى سنة (632 هـ). وهو مطبوع بالقاهرة.
– الحرز المعدّ لمن فَقَد الولد، لتاج الدين السعدي عبد الغفار بن محمد المتوفى سنة (722 هـ).
– رشف الحقيقة في كشف العقيقة، لمستقيم زاده الرومي.
– سلوان الجلد عند فقدان الولد، لسليمان بن خلف المصري المتوفى سنة (614 هـ).
(المقدمة/31)
– سلوة الهموم، لحسام الدين علي بن أحمد الرازي الحنفي المتوفي (598 هـ).
– فصل الجلد عند فقد الولد، لجلال الدين عبدالرحمن السيوطي المتوفي (911 هـ).
– الفضل المبين في الصبر عند فقد البنات و البنين، للشيخ الإمام شمس الدين محمد بن علي بن يوسف الدمشقي الصالحي المتوفي (942 هـ).
– كتاب العقيقة، لعلي بن الحسن بن فضال الكوفي.
– مأدبة الختان، لجمال الدين محمد بن محمد القارصي الرومي الحنفي المتوفى سنة (1261 هـ).
(المقدمة/32)
ثانيًا: كتاب «تحفة المودود بأحكام المولود»
1 – نسبة الكتاب للمؤلف وتسميته:
إن نسبة الكتاب لابن قيّم الجوزية ثابتة من طرق لا تجعل للشك طريقًا إلى هذه النسبة؛ فقد جاءت جميع النسخ الخطية للكتاب مصرّحة بذلك، وستأتي ــ إن شاء الله تعالى ــ نماذج من صور النسخ الخطية.
كما جاءت نسبة الكتاب أيضًا في الكتب التي عُنيت بالتراث والفهارس، وفي المصادر التي ترجمت للمؤلف مثل «كشف الظنون» لحاجي خليفة (1)، و «هدية العارفين» للبغدادي (2)، و «أبجد العلوم» للقِنَّوجي (3)، و «الذيل على طبقات الحنابلة» لابن رجب (4)، و «الدّر المنضّد في ذكر أصحاب الإمام أحمد» للعُلَيْمي (5)، و «طبقات المفسرين» للداوودي (6)، و «شذرات الذهب في أخبار من ذهب» لابن العماد الحنبلي (7)، و «البدر الطالع» للشَّوكاني (8)، وغيرها من المصادر.
_________
(1) 1/ 375.
(2) 2/ 158.
(3) 3/ 138 – 140.
(4) 2/ 450.
(5) 2/ 522.
(6) 2/ 96.
(7) 6/ 170.
(8) 2/ 143.
(المقدمة/33)
ونجد في الكتاب كثيرًا من النصوص والمسائل أو المباحث المشتركة في كتب أخرى للمصنف مثل «زاد المعاد» (1)، و «التبيان في أيمان القرآن» (2)، و «مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة» (3)، و «بدائع الفوائد» (4)، و «كتاب الفروسية» (5)، و «طريق الهجرتين» (6)، و «الطرق الحكمية في السياسة الشرعية» (7)، و «إعلام الموقعين عن رب العالمين» (8)، و «شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل» (9)، و «جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام» (10)، و «عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين» (11). وقد أشرت إلى مواضع هذه المشابهات أو بعضها في مناسباتها.
_________
(1) انظر فيما سيأتي من التحفة: ص 45 و 66 و 69 و 73 و 74 و 95 و 102 و 163 و 167 و 192 و 202 و 215 و 231 و 269 و 296 و 346 و 362.
(2) انظر فيما سيأتي: ص 356 و 358 و 312 و 371 و 378 و 394.
(3) انظر فيما سيأتي: ص 356 و 394.
(4) انظر فيما سيأتي: ص 212.
(5) انظر فيما سيأتي: ص 316.
(6) انظر فيما سيأتي: ص 371 و 416.
(7) انظر فيما سيأتي: ص 394 و 395.
(8) انظر فيما سيأتي: ص 259 و 313.
(9) انظر فيما سيأتي: ص 235 و 371.
(10) انظر فيما سيأتي: ص 212.
(11) انظر فيما سيأتي: ص 235 و 371.
(المقدمة/34)
كما أن المصنّف نقل عن شيخه «ابن تيمية» في عدد من المواضع، وهذه النقول ثابتة في كتب الشيخ وفتاواه بنصها أحيانًا (1). وكذلك نقل عن شيخه «أبي الحجّاج المزّي» (2).
أما تسمية الكتاب؛ فقد نصّ عليها المصنف ــ رحمه الله ــ في مقدمة كتابه فقال: وسمَّيتُه: «تُحفةَ المَودودِ بأحكامِ المولودِ». وهو العنوان المثبت على غلاف نسختي الظاهرية بدمشق (د) و قليج علي بإستانبول (ج).
وجاء على غلاف المحمودية بالمدينة المنورة (أ): «تُحفة المودودِ في أَحكامِ المولودِ» كما هو في «كشف الظنون» و «هدية العارفين» و «الدر المنضّد»، وذكره في «هدية العارفين» مرة ثانية باسم «أحكام المولود».
أما نسخة عارف حكمت بالمدينة المنورة (ب) فجاء العنوان فيها على الغلاف «تحفة المولود».
وفي نسخة دار الكتب المصرية رقم (87) فقه حنبلي، وفي «الذيل على طبقات الحنابلة» لابن رجب، وفي «أبجد العلوم» لمحمد
_________
(1) انظر فيما سيأتي، الصفحات: 147 و 156 و 269 و 292 و 321 و 362.
(2) انظر فيما سيأتي، ص 231.
(المقدمة/35)
صدّيق خان القِنَّوجي باسم «تحفة الودود في أحكام المولود»، وهو كذلك في «بغية النسّاك» للسفاريني.
وهذه التسميات إما تحريف أو اختصار للاسم أو إشارة إليه، ويبقى العنوان الأول الذي أثبتناه، هو العنوان الصحيح المشهور؛ ولأن المصنّف رحمه الله نصَّ عليه كاملاً في مقدمته.
2 – سبب تأليف الكتاب وموضوعه:
وكان سبب تصنيف الكتاب ما ذُكر في صفحة عنوانه من نسخة المكتبة الظاهرية بدمشق، فقد كتب عليها: «قال من نثق بقوله: إن الله -عز وجلَّ- رزق ابن المصنف برهان الدين مولودًا، و لم يكن عنده في ذلك الوقت ما يقدمه لولده من متاع الدنيا، فصنّف هذا الكتاب و أعطاه إيّاه، وقال له: أتحفتك بهذا الكتاب؛ إذْ لم يكن عندي شيء من الدنيا أعطيك»، وسمّاه «تحفة المودود بأحكام المولود».
و أما موضوعه: فقد أبان عنه المصنف بقوله في مقدمته (1): «وهذا كتابٌ، قَصَدْنا فيه ذِكْرَ أحكامِ المولُودِ المتعلِّقةِ به بعد ولادتهِ ما دامَ صغيرًا؛ من عَقيقتهِ وأحكامِها، وحَلْقِ رأسهِ، وتَسْميتهِ، وخِتانهِ، وبَولهِ، وثَقْبِ أُذُنهِ، وأحْكامِ تربيتهِ، وأطوارِه من حين كونهِ نُطْفَةً إلى مُسْتَقَرِّهِ في الجنَّةِ أو النَّارِ، فجاء كتابًا بديعًا في معناهُ، مشتملاً من الفَوائدِ على ما لا
_________
(1) ص 6 و 7 من مقدمة المصنف.
(المقدمة/36)
يَكادُ يُوجَدُ في سِوَاه؛ مِنْ نُكَتٍ بَدِيعَةٍ من التَّفسيرِ، وأحَادِيثَ تدعُو الحاجةُ إلى مَعْرِفَتِهَا وعِلَلِهَا والجَمْعِ بين مُخْتَلِفِهَا، ومسائلَ فقهيَّةٍ لا يَكادُ الطالبُ يَظْفَرُ بها، وفوائدَ حِكميَّة تشتدُّ الحاجةُ إلى العلمِ بها».
ثم وصفَه وأبان عن مكانته فقال: «فهو كتابٌ ممتعٌ لقارئهِ، مُعْجِبٌ للنَّاظرِ فيه، يَصْلحُ للمَعَاشِ والمعَادِ، ويحتاجُ إلى مضمونهِ كلُّ من وُهِبَ له شيءٌ من الأولادِ. ومِنَ الله أستمدُّ السَّدادَ، وأسألُ التَّوفيقَ لِسُبُلِ الرَّشادِ، إنّه كريمٌ جَوادٌ».
3 – منهج الكتاب وأسلوبه:
يجد الدارس لكتاب «تحفة المودود بأحكام المولود» أن المؤلف سلك منهجًا وصفيًا استقرائيًا نقديًا مقارنًا. فهو منهج وصفي يستند إلى التحليل باستقراء الجزئيات وتصنيفها وترتيبها، مع التوثّق والتأكّد من صحة نسبة الأقوال ومناقشتها، وما يكتنفها من شرح وتفسير.
وهو أيضًا منهج استنباطي يستخدم القواعد الأصولية والفقهية واللغوية، وينطلق من الجزئيات إلى الكليّات و الحقائق العامة.
وهو كذلك منهج مقارن يقابل الآراء و الأقوال ببعضها ويوازن بينها ليرجّح ما يراه القويّ الراجح منها. وبذلك تكاملت لدى المصنف أنواع المنهج العلمي في البحث.
(المقدمة/37)
وأما أسلوب الكتاب؛ فهو ما عهدناه في سائر كتبه و مؤلفاته (1)، فهو يمتاز بالوضوح في العبارة، و البعد عن الجفاف والتعقيد، ينتقل من حكم أصل إلى حكم فرع، إلى إشارات تربوية وتحضيض على الطاعات وتحذير من المخالفات، ويمزج هذا كله بروحانية عالية وشفافية فائقة، يقرأ القارئ فيه صفحات طويلة دون أن يقف عند كلمة أو عبارة تحتاج إلى شرح أو إيضاح، إلا ما كان أقل من القليل.
كما يمتاز بقوة الحجة والدليل، وتنوع وسائل الاستنباط؛ فهو يقدم الحجة تلو الأخرى من القرآن الكريم و السنة النبوية والآثار المروية والإجماع و القياس، ويمزج ذلك بالحكمة التشريعية والتعليل. وهذا الاعتداد بالأدلة الشرعية لم يقف حاجزًا بينه وبين الاستفادة من كتب غير المسلمين في الطب و التشريح و الغذاء فيما نقله عن «بقراط» و «جالينوس» مثلاً، مع تعقيبه على بعض النقول والآراء.
كما يمتاز بالروح الإصلاحية التي تشيع في أبواب الكتاب وفصوله، وفي تعقيبه على كثير من المسائل و الآراء و المذاهب، حيث كتبه بروح الداعية المصلح و فكره، ومزج بين الحكم الفقهي والإرشاد و التوجيه.
_________
(1) وانظر ما كتبه الشيخ بكر أبو زيد عن منهج المؤلف في البحث والتصنيف في كتابه «ابن قيم الجوزية: حياته، آثاره، موارده» ص 85 – 128.
(المقدمة/38)
ويتميز بميزة أخرى ــ كسائر كتبه ــ وهي البعد عن التعصب المذهبي و الهجوم على الآخرين من المخالفين، فرغم اعتداده بمذهب الإمام أحمد وعنايته بنصوصه في كل المسائل التي عرضها، فإنه يعرض آراء العلماء بإنصاف واستيعاب، وقد يناقشها بأدب وعلم، وقد يرجح بعضها ويعلن ذلك الترجيح. ولا ضير في أن يوافقه القارئ في هذا الترجيح أو ذاك أو يخالفه فيهما أو في أحدهما، فباب العلم و الترجيح باب واسع لا يضيق بأصحابه، و ما ينبغي محاربة التعصب للرأي بتعصب آخر.
هذا، وقد نجد في الكتاب استطرادات تدعو إليها الحاجة أحياناً، كما قد تدعو إليها المناسبة، وفي هذا وذاك فائدة للقارئ، أشار إليها المصنف في كتابه واعتذر عنها، كقوله عقب استطراد في فصل عقده لوقت تسمية المولود (1): «وهذا فصلٌ معترض يتعلَّق بوقت تسميةِ المولود، ذكرناه استطرادًا، فلنرجع إلى مقصود الباب».
وفي موضع آخر عقد فصلاً «فيما يُستحبُّ من الأسماء وما يُكره منها» واستطرد فيه استطرادات مفيدة، ثم قال (2): «وهذا بابٌ طويل عظيمُ النفع، نبَّهْنا عليه أدنى تنبيه، والمقصودُ ذكرُ الأسماء المكروهةِ
_________
(1) ص 162.
(2) ص 182.
(المقدمة/39)
والمحبوبةِ». و إن كانت الاستطرادات أحيانًا تقطع سلسلة الأفكار المتتابعة، وتفصل بين فقرات الموضوع الواحد المتكامل.
ويصف الشيخ العلامة محمد أبو زهرة أسلوب ابن القيم في الكتابة و التأليف فيقول (1): «كانت كتابته في هدأة واطمئنان، ولذلك جاءت هادئة، وإن كانت عميقة الفكرة، قوية المنحى، شديدة المنزع، وكانت حسنة الترتيب؛ منسقة التبويب؛ متساوقة الأفكار؛ طلية العبارة، لأنه كتبها في اطمئنان؛ وتجمع كتابته جمعًا متناسبًا بين عمق التفكير وبُعد غوره، ونصوع عبارته وحسن استقامة الأسلوب؛ من غير ضجة ألفاظ … و كانت كتابته مع كل هذا فيها نور السلف، وحكمة السابقين، فهو كثير الاستشهاد بأقوال السلف الصالح من الصحابة والتابعين».
4 – مصادر الكتاب:
اعتمد المصنف ــ رحمه الله ــ جملة من المصادر التي لها قيمتها العلمية، وقد تنوعت ما بين كتب في التفسير والحديث وشروحه، وكتب في الفقه والمسائل الفقهية، وكتب في الفقه العام والإجماع والخلاف، وكتب في السيرة النبوية، وفي التاريخ والتراجم، وكتب في اللغة والأدب، وكتب في الطب. وبعض الكتب متخصصة في باب أو مسألة معينة. ومن هذه المصادر ما هو مطبوع، ومنها ما لا يزال
_________
(1) في كتابه: ابن تيمية، حياته وعصره، آراؤه وفقهه. ص 528.
(المقدمة/40)
مخطوطاً. ومن المصادر ما قد يكون النقل منه بالواسطة، كالذي نجده في كتب أصحاب المسائل المروية عن الإمام أحمد -رحمه الله- فقد أكثر من الرجوع إلى «الجامع لعلوم الإمام أحمد» لأبي بكر الخلال، لينقل الروايات المتعددة التي رواها أصحاب المسائل أو بعضهم.
كما نجد ضمن مصادره معلومات شفوية مباشرة كالذي سمعه من شيخيه ابن تيمية (1) والمزي (2) وغيرهما (3).
وفيما يلي إشارة إلى أهم هذه المصادر ومواضع الاستفادة منها مرتبة على الحروف:
– الأجنة لبقراط، ص (358 و 361 و 399 و 401).
– الاحتياطات للحكيم الترمذي، بواسطة «الختان» لابن أبي جرادة، ص (301).
– الأدب لحميد بن زنجويه، ص (206 و 207).
– الإرشاد إلى سبيل الرشاد لابن أبي موسى، ص (237).
– الاستذكار لابن عبد البر، ص (176 و 178).
_________
(1) انظر فيما سيأتي، الصفحات: 147 و 156 و 362.
(2) انظر فيما سيأتي ص (231).
(3) انظر ص (290) حيث قال: وأخبرني صاحبنا محمَّد بن عثمان الخليليُّ المحدِّث ببيت المقدس … ، وفي ص (400) ذكر ما حدَّثه به رئيس الأطباء بالقاهرة.
(المقدمة/41)
– الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لابن عبد البر، ص (154 و 156 و 157 و 162 و 263).
– أسماء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومعانيها لابن فارس، ص (210).
– الإشراف على مذاهب العلماء لابن المنذر، ص (239 و 249 و 267 و 268 و 382).
– أعلام الحديث للخطابي، ص (241).
– الأوسط لابن المنذر، ص (34 و 151).
– البسيط في التفسير للواحدي، ص (19).
– تاريخ ابن أبي خيثمة، ص (68 و 186 و 204 و 205 و 207).
– التاريخ الكبير للبخاري، ص (174 و 329 و 330).
– تاريخ بغداد، للخطيب، ص (298 و 303 و 304 و 310).
– تاريخ نيسابور، للحاكم ص (329).
– تفسير ابن جرير الطبري، ص (272 و 273 و 274).
– تفسير القرآن العظيم لعبد الرزاق، ص (233).
– التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لابن عبد البر، ص (63 و 65 و 67 و 72 و 75 و 88 و 94 و 95 و 112 و 116 و 117 و 124 و 143 و 145 و 296 و 297 و 304 و 305).
(المقدمة/42)
– تهذيب اللغة للأزهري، ص (424 و 425).
– الجامع للخلال، ص (77, 98, 107, 110, 115، 118, 122 ,143، 151, 277).
– جامع ابن وهب، ص (67 و 88 و 179).
– الجامع لمعمر بن راشد، ص (30 و 172 و 174).
– الجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي، ص (248).
– الحاوي الكبير للماوردي، ص (279).
– الختان لابن أبي جرادة (ابن العديم)، ص (300 و 303 و 304 و 305).
– الدعاء للطبراني، ص (34).
– الرعاية لابن حمدان، ص (131 و 161).
– الروض الأُنُف للسهيلي، ص (184 و 185 و 202 و 204).
– سنن سعيد بن منصور، ص (319 و 332).
– الشامل لابن الصباغ في فقه الشافعية ص (278).
– شرح الهداية لأبي البركات، ص (277 و 294 و 319).
– شرح صحيح مسلم للقاضي عياض، ص (236).
– شُعَب الإيمان، للبيهقي، ص (26 و 28 و 29 و 36 و 37 و 47 و 51 و 94 و 111 و 124 و 174 و 331 و 332 و 36).
(المقدمة/43)
– الصحاح، للجوهري، ص (66 و 219 و 220 و 424 و 426).
– صحيح البخاريّ، ص (16، 49 , 53, 161, 177, 186, 200,،262 223، 263, 332،395) وغيرها.
– صحيح مسلم، ص (16, 17, 26, 34, 153, 163، 167, 168, 174, 186, 187, 192, 201 ,210، 225، 236, 242, 318, 334).
– الغذاء لبقراط، ص (363 و 373 و 405).
– الفصول لبقراط، ص (344 و 406).
– الكامل في الضعفاء لابن عدي، ص (248 و 249).
– مجاز القرآن لأبي عبيدة، ص (393).
– مختصر ابن تميم، ص (293).
– مختصر الخرقي، ص (412).
– مسائل الإمام أحمد وإسحاق، للمروزي. ص (79 و 134 و 136).
– مسائل الإمام أحمد. رواية عبد الله. ص (130 و 223 و 240 و 228)
– مسائل الإمام أحمد. رواية أبي داود، ص (77 و 86 و 107 و 189 و 222).
– مسائل الإمام أحمد، رواية ابن هانئ النيسابوري. ص (77).
– مسائل الإمام أحمد، رواية حرب الكرماني، ص (238 و 274).
– المستدرك للحاكم، ص (21 و 36 و 316).
– المصنف لابن أبي شيبة، ص (82 و 83 و 94 و 165 و 169
(المقدمة/44)
و 172 و 185 و 190 و 191 و 203 و 205).
– المصنَّف لعبد الرزاق بن همام الصنعاني، ص (26 و 30 و 85 و 129 و 145 و 174).
– معالم السنن، للخَطَّابي، ص (223 و 242).
– معاني القرآن وإعرابه للزجّاج، ص (393 و 394 و 423).
– المعجم الكبير، للطبراني، ص (14 و 214 و 330).
– معرفة علوم الحديث، للحاكم، ص (21).
– المغني لابن قدامة، ص 284 و 383 و 398 و 414 و 419 و 420).
– منتهى الغاية لأبي البركات ابن تيمية= شرح الهداية.
– نهاية المطلب لإمام الحرمين الجويني، ص (243 و 278 و 279).
5 – الطبعات السابقة للكتاب:
طبع الكتاب أكثر من مرة، في مصر وسورية ولبنان والهند وباكستان، وفي بعض الطبعات لا نجد مكانًا للطبع ولا اسم الناشر.
فقد طبع لأول مرة في المطبعة الهندية في بومبي بالهند، سنة 1380 هـ 1962 م، بتحقيق الأستاذ عبد الحكيم شرف الدين الهندي، وأعيدت طباعته في لاهور بالباكستان، وتقع هذه الطبعة في (190) صفحة (1).
_________
(1) انظر: ذخائر التراث العربي الإسلامي، لعبد الرحمن عبد الجبار، ص 221، والتقريب لفقه ابن القيم: 1/ 192، وابن قيم الجوزية: حياته، آثاره، موارده، ص 230. كلاهما للشيخ بكر أبو زيد.
(المقدمة/45)
ثم طبع في دمشق بتحقيق الشيخ عبد القادر الأرناؤوط – رحمه الله- وصدر عن مكتبة دار البيان سنة 1391 هـ /1971 م، ثم أعيد نشره فيها بعناية بشير محمد عيون سنة 1407 هـ، وصدر عن المكتبة القيمة بالقاهرة، سنة 1397 هـ.
ونشرته مكتبة المتنبي في القاهرة عام 1980 م، وطبع بتحقيق عبد الغفار سلمان البنداري في دار الجيل، بيروت سنة 1983 م، وطبع بتحقيق وتعليق عبد اللطيف آل محمد الفواعير، وصدر عن دار الفكر في عمان بالأردن، 1988 م. وطبع في مكتبة الإيمان بالمنصورة سنة 1993 م.
و صدر عن دار الكتب العلمية في بيروت سنة 1403 هـ، وعن دار البشائر الإسلامية في بيروت سنة 1409 وطبع فيها للمرة الثانية سنة 1419 هـ، و صدر له طبعة أخرى في الكويت، دار إيلاف الدولية للنشر والتوزيع، تحقيق صلاح الدين مقبول أحمد، سنة 1416 هـ.
وصدر أيضًا عن دار المنار بدمشق 1419 هـ، وطبع بتحقيق محمد أبو العباس، بمكتبة القرآن بالقاهرة، وبتحقيق فواز زمرلي بدار الكتاب العربي في بيروت سنة 1420 هـ، ونشرته دار ابن عفان بتحقيق سليم الهلالي، وطبعته دار ابن حزم في بيروت سنة 1424 هـ.
وطبع بتحقيق الشيخ شعيب الأرناؤوط ومصطفى أبو يعقوب، مؤسسة الرسالة، 2006 م، وطبع أيضًا بتحقيق عبد المنعم العاني، وبتحقيق محمد صبحي حلاق، وطبع في مكتبة الدعوة الإسلامية في فيصل آباد بباكستان، بتحقيق محمد رمضان الأثري، بدون تاريخ.
(المقدمة/46)
وليس هذا استقراء لكل الطبعات والنشرات، ولكنه ما وصل إليه علمي منها، أو ما اطلعت عليه. وهذه الطبعات متفاوتة في الجودة والإتقان والتحقيق والتخريج، فمنها ما كان على منهج سديد، ومنها ما كان دون ذلك، ومنها ما اعتمد نشره على نسخة خطية مع المقابلة بالمطبوع، ومنها ما كان إعادة تنضيد لإحدى الطبعات وإخفاء معالمها. ولكلّ وجهة هو مولّيها.
6 – أثر الكتاب فيمن جاء بعد ابن القيم:
كان للكتاب أثر في مؤلفات بعض العلماء، فقد نقلوا عنه وأشاروا إلى بعض الترجيحات والآراء. ونجد أمثلة على هذا في
«الإقناع في مذهب الإمام أحمد» لشهاب الدين موسى بن أحمد الحجاوي (1)، وفي «كشف المخدرات على أخصر المختصرات» للبعلي (2)، وفي «كشاف القناع» للبهوتي (3)، وفي «فيض القدير»
_________
(1) الإقناع:1/ 67 أحكام الوطء الكامل و 2/ 58 صلاة ركعتين بنية تحية المسجد وسنة المكتوبة و 2/ 56 – 57 التسمية بعبد المطلب و 2/ 59 حكم العقيقة وكيفية طبخها دون كسر عظامها.
(2) كشف المخدرات، ص 73 عن أحكام تغييب الحشفة.
(3) كشاف القناع في مواضع متعددة منها: 1/ 89 (طبع مكة) مبحث يكره إمرار الموسى على من لا قلفة له -في الختان، و 1/ 165 أحكام تغييب الحشفة، و 3/ 20 – 21 و 26 ذبح العقيقة أفضل من التصدق بثمنها و 3/ 23، 24 الهدي كالأضحية و في منع التسمية بأسماء سور القرآن وفي التسمية بأفلح ويسار، وفي ضمان السراية فيما لو أذن له أن يختنه زمن الحر …
(المقدمة/47)
للمناوي (1)، وفي «مطالب أولي النهى» للرحيباني (2)،
وفي «شرح الزرقاني على الموطأ» (3)، وفي «الإيضاح والتبيين» للسخاوي (4)، وفي «بغية النسّاك في أحكام السواك» للسفاريني (5)، وفي غيرها من الكتب والمؤلفات مثل: «الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف» للمرداوي (6)، و «حاشية البجيرمي على المنهج»، و «نيل الأوطار» للشوكاني.
_________
(1) فيض القدير في مواضع كثيرة منها:1/ 207 ختان إبراهيم وعمره عند ذلك، و 1/ 220 تحريم التسمية بسيد ولد آدم و التسمية بأسماء الله الحسنى، و 1/ 226 عن تعليم الأولاد كلمة التوحيد ليكون أول ما يقرع سمعهم، وهو في «التحفة» ونقله عن «الزاد»، و 2/ 407 حول إبراهيم وأن له مرضعًا في الجنة، و 2/ 518 أسماء النبي باعتبار مسماها واحد، و 2/ 553 تضعيف حديث إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم .. و 3/ 246 التسمية بأسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
(2) مطالب أولي النهى: 1/ 362 أحكام تغييب الحشفة، و 6/ 457 حكم ما لو اجتمع هدي وأضحية، و 6/ 459 التسمية بملك الأملاك .. ويتورعون عن قاضي القضاة .. وفي مبحث الختان: فإن أذن له أن في زمن حر مفرط ……. ما إذا تعذر تضمينه ..
(3) شرح الزرقاني: 3/ 248 في حكم الغيل: و الخبر لا ينافيه .. فإنه كالمشورة عليهم ..
(4) انظر: الإيضاح والتبيين، ص 166 – 168.
(5) انظر: بغية النساك، ص 65.
(6) انظر: الإنصاف: 4/ 414.
(المقدمة/48)
7 – أعمال حول الكتاب:
وأما الأعمال التي تناولت الكتاب بالاختصار والتعليق، فقد اختصره تقي الدين يحيى بن محمد بن يوسف بن علي البغدادي السعيدي الشافعي، المعروف بابن الكرماني المتوفى بمصر سنة (833) وسماه «المقصود من تحفة المودود لابن قيم الجوزية» (1).
و عليه تعليقات للحافظ أبي تراب عبد التواب بن قمر الدين الملتاني الهندي المتوفى سنة 1366 هـ (2).
و للشيخ محمد ناصر الدين الألباني «مختصر تحفة المودود لابن القيم: اختصار وتخريج» (3).
8 – وصف النسخ المعتمدة في التحقيق:
أشار كارل بروكلمان إلى النسخ الخطية للكتاب، (4)، فذكر أنه مخطوط في ليبزج 239، ولاندبرج- بريل 640، وقليج علي 777، والقاهرة: ثان 1، وإضافات 65، و الخالدية في القدس: 27/ 20. و في
_________
(1) انظر: هدية العارفين: 2/ 221، و إيضاح المكنون: 2/ 547.
(2) انظر: التقريب لفقه ابن القيم: 1/ 192، وابن قيم الجوزية: حياته وآثاره وموارده، ص 230. فيما نقله عن العدد (46) من مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
(3) انظر: ثبت مؤلفات الألباني، محمد بن عبد الله الشمراني: 1/ 48 و 76، كما في موقع ملتقى أهل الحديث على الشبكة العالمية.
(4) انظر كتابه: تاريخ الأدب العربي: القسم السادس، ص 423.
(المقدمة/49)
«الفهرس الشامل للتراث العربي الإسلامي المخطوط» (1) إشارة إلى نسخ أخرى في دار الكتب بالقاهرة، وفي مكتبة الفاتح بإستانبول، وفي المكتبة الوطنية في باريس، وفي جامعة ليدن بهولندا.
أما النسخ التي تيسر لي الاعتماد عليها في التحقيق فهي أربع نسخ، بعضها مما ذكر في تلك المصادر، وبعضها مما لم يذكر فيها:
النسخة الأولى:
نسخة محفوظة في المكتبة المحمودية بالمدينة النبوية -حرسها الله- وهي نسخة مقابلة ومصححة، كتبت بخط النسخ، سنة 770 هـ، وكُمِّلت بعض مواضعها بخط مغاير، وأوراقها 90 ورقة، وفي الصفحة 23 سطرًا، مقاس 15×20 سم، ورقمها في المكتبة 2667 مجموعة 84، وعلى صفحة العنوان: «هذا كتاب تحفة المودود في أحكام المولود، تصنيف الشيخ الإمام العالم العلامة، عمدة الحفّاظ فارس المعاني … (2) محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي المعروف بابن القيم جزاه الله جزاء الأبرار ووقاه عذاب النار. آمين».
وعلى النسخة ختم في الصفحة الأولى. وفي آخرها كذلك ختم الوقفية باسم المدرسة المحمودية.
_________
(1) قسم الفقه وأصوله: 2/ 461.
(2) كذا في النسخة ولعل فيه نقصًا.
(المقدمة/50)
والنسخة بخط عبد الله بن أحمد بن عبد الله المقدسي الحنبلي، فرغ منها يوم السبت الثالث من شهر جمادى الآخر سنة سبعين وسبعمئة، و لم يذكر فيها مكان النسخ، وعليها تملكات مؤرخة وبعضها مشطوب عليه.
وقد رمزت لهذه النسخة بالحرف (أ).
النسخة الثانية:
و هي نسخة مكتبة عارف حكمت بالمدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام، وهي نسخة تامة، وتقع في 93 ورقة، وفي كل صفحة 22 سطرًا، مقاس 21×15 سم بخط النسخ، وفي صفحة العنوان: «كتاب تحفة المولود تأليف شمس الدين محمد بن القيم الحنبلي». وعليها أختام ورقمها 234. و في آخرها: «تمّ بعونه ولطفه». ويليه ختم الوقفية، وليس عليها تاريخ النسخ ولا مكانه، ولا اسم الناسخ.
وقد رمزت لها بالحرف (ب).
النسخة الثالثة:
وهي نسخة مكتبة مدرسة قليج على ضمن المكتبة السليمانية في إستانبول بتركيا، وتقع في 91 ورقة، في الصفحة 23 سطرًا. مكتوبة بخط النسخ، وفي صفحة العنوان: «كتاب تحفة المودود بأحكام المولود، تأليف شيخ الإسلام قدوة الأنام شمس الدين أبو الزهر (كذا)
(المقدمة/51)
محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الدين، عرف بابن قيم الجوزية رحمه الله». ويسبق هذه الصفحة ورقة عليها ختم المكتبة ورقم التصنيف، ورقمها 777/ 797، كما يوجد الختم أيضًا في آخرها، وكتبت عناوين الأبواب والفصول بخط ثخين مميّز، وليس عليها اسم الناسخ ولا تاريخ النسخ ومكانه. وختمت بقوله: «والحمد لله رب العالمين، وصلواته على خير خلقه محمَّد خاتم النبيّين، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».
و قد رمزت لها بالحرف (ج).
النسخة الرابعة:
وهي نسخة المكتبة الظاهرية بدمشق الشام، وهي بخط نسخ مقروء، وتقع في 132 لوحة، وفي الصفحة 15 سطرًا، وفي صفحة العنوان على اليمين تملك الشيخ محمد جميل الشطي في شهر شعبان 1352 هـ، وفي أعلى صفحة العنوان: «طالع في هذا الكتاب فقير رحمة الله العلي محمد بن الحاج أحمد السفاريني الحنبلي سنة 1138». كما يوجد تحت العنوان سبب تصنيف الكتاب، كما تقدم فيما سبق، وهي نسخة مقروءة ومضبوطة في كثير من المواضع، وفيها تصحيحات في الحواشي، ولكنها ناقصة بضع كلمات أو فقرات أحيانًا في مواضع متفرقة. وفي آخرها: «فرغ من نسخه كاتبه العبد الفقير المعترف بالزلل والتقصير الراجي عفو ربه الغني عبد الله بن علي بن أيدغدي الحنبلي. غفر الله له، في الثاني والعشرين من شهر رمضان المعظَّم قدْره، سنة
(المقدمة/52)
سبع و ثمانمئة. والحمد لله وحده، وحسبنا الله ونعم الوكيل». ثم كتب من طالعه وقرأه: «الحمد لله وحده، بلغ مطالعة من أوله إلى آخره فقير عفو ربه العلي عبد القادر الحنبلي عامله الله بلطفه الخفي والجلي بتاريخ شهر شوال المبارك سنة إحدى وتسعين وثماني مئة. أحسن الله تقضيه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم».
وقد رمزت لها بالحرف (د).
9 – منهج التحقيق وطريقته:
أما المنهج الذي سلكته في هذه النشرة الجديدة للكتاب؛ فإنه يقوم على أصول وقواعد اتفق عليها علماء التحقيق ونشر التراث. وخلاصة ذلك: أن يبذل المحقق عناية خاصة بالمخطوط لتقديمه إلى القارئ صحيحًا دقيقًا، كما وضعه مؤلفه أو في أقرب صورة مما وضعه عليه.
– وتكاد كلمة المحققين تُجمع على أنّ الجهود التي تُبذل في كل مخطوط يجب أن تتناول تحقيق عنوان الكتاب، وتحقيق نسبته إلى مؤلفه، ثم تحقيق متن الكتاب ونصّه. وبذلك يفارق التحقيق الشرحَ والتعليق، الذي ينبغي أن يكون على قدر الحاجة، دون الإفاضة والتوسع فيه، ودون الإفراط في التخريج، لأن لكل هذا مجالاً غير مجال التحقيق، وإن كان هذا الأمر قد أفرط فيه بعض المحققين وفرّط فيه آخرون.
– ولذلك انصرفت العناية إلى مقابلة النسخ الخطية للكتاب،
(المقدمة/53)
وإثبات ما يراه المحقق صوابًا في المتن، ثم الإشارة إلى العبارات الأخرى المخالفة في الحواشي، وقد يخالف اجتهاد بعض القراء ذلك، وأظن الأمر يسيرًا في هذه الناحية، واتبعت في ذلك طريقة النص المختار، إذ ليس بين النسخ الخطية التي حصلت عليها ما يصلح لاعتماده نسخة أصلية نعتبرها أمًّا نقابل عليها سائر النسخ الأخرى.
– ثم كان من المناسب ضبط كثير من الكلمات والنصوص، وفي ذلك تيسير على بعض القراء، وتقريب للكتاب إلى بعضهم. أما الشروح والتعليقات، فقد كانت يسيرة في بعض المواضع للحاجة إلى ذلك، دون إسراف أو تكثير للصفحات.
– ومن المهم في التحقيق: تخريج الأحاديث الشريفة والآثار تخريجًا إجماليًّا، مع الاقتصار على الصحيحين أو أحدهما إذا كان الحديث فيهما أو في أحدهما، وما لم يكن في الصحيح فإنه ينقل حكم الأئمة على الحديث من حيث القبول أو الرَّد، لئلا يتحول التحقيق إلى دراسة الأسانيد والإسراف في التخريج.
– ومن المناسب الإشارة هنا إلى أن بعض المصادر أشرت فيها إلى طبعتين، كالمسند للإمام أحمد، حيث كان العزو أولاً للطبعة المصورة عن الميمنية، وهي في ست مجلدات، ثم إلى طبعة مؤسسة الرسالة بتحقيق وإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، وبهذا يمكن لمن أراد التوسع في التخريج والحكم على الحديث أن يجد ضالته فيه، وكذلك بالنسبة لمصنف ابن أبي شيبة، جاء العزو للطبعة الهندية
(المقدمة/54)
بتحقيق عامر الأعظمي، ثم الطبعة الجديدة في دار القبلة بجدة بتحقيق الشيخ محمد عوامة.
– ومن الجدير بالذكر هنا الإشارة إلى أن العزو لبعض الأئمة في التخريج ينصرف عند الإطلاق إلى المشهور من كتبهم في ذلك؛ فالعزو للبيهقي يعني «السنن» ولعبد الرزاق يعني «المصنف»، وللطبري يعني «التفسير» و هكذا .. عند الإطلاق، وإلا فهو للكتاب المسمّى.
– وأما النصوص التي نقلها المصنف-رحمه الله- فقد أعيدت إلى مصادرها، ما عدا جملة قليلة منها تعذّر الرجوع إلى مصدرها لعدم توفره، أو لأنه في عداد المفقود.
– ومما يتصل بهذا الجانب، كان من المناسب ربط كلام المصنف في كتابه هذا بما كتبه في مواضع أخرى من كتبه التي أشرت إليها فيما سبق، وفي هذا فائدة للقارئ وتوثيق للكتاب.
– وكذلك انصرفت العناية من الناحية الشكلية إلى طريقة توزيع النص وحُسن تنسيقه، والاهتمام بعلامات الترقيم، وإبراز بعض الأفكار أو رؤوس المسائل بكتابتها بحرف غامق لنستغني بذلك عن إدخال عناوين لها في الكتاب، ولتوجيه النظر إليها بسهولة.
– وأما الفهارس المتنوعة فأصبحت من ضروريات التحقيق العلمي، لتيسير الاستفادة من الكتاب بصورة أوفى. وقد قام بها مشكورًا الشيخ عدنان البخاري.
(المقدمة/55)
وليس هذا بأفضل الممكن في هذا العمل، ولكنه جهد المقلّ، استفاد من قراءة الأساتذة المراجعين ودقيق ملاحظاتهم وتصويباتهم التي كان لها أكبر الأثر في تجويد العمل وإتقانه، مما استوجب الشكر لهم والثناء والدعوات. والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(المقدمة/56)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وبهِ نستعينُ (1)
الحمدُ للهِ العليِّ العظيمِ، الحليمِ الكريمِ، الغفورِ الرَّحيمِ (2).
الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، الرَّحمنِ الرَّحيمِ، مَالكِ يومِ الدِّينِ (3)، بدأ (4) خلْقَ الإنسانِ من سُلالةٍ مِنْ طينٍ، ثمَّ جعلَه نُطْفَةً في قَرارٍ مَكينٍ، ثم خلَق النُّطفةَ عَلَقةً سوداءَ (5) للنَّاظرينَ، ثم خلَق العَلَقةَ مُضْغَةً ـ وهي قطعةُ لحمٍ بقدر أُكْلَةِ الماضِغِينَ ـ ثم خلقَ المُضْغةَ عظامًا مختلفةَ الأشكالِ (6) أساسًا (7) يقومُ عليه هذا البناءُ المتينُ (8)، ثم كَسَا العظامَ
_________
(1) في “ج” بعد البسملة: ربِّ يسر. وفي “ب” زيادة: واختم بخير يا كريم.
(2) في “ج”: الحمد لله العلي الحليم، الغفور الرحيم.
(3) “مالك يوم الدين” ليست في “أ”.
(4) في “أ، ب، د”: الذي أبهر، وفي “ج”: (أبهر). وفي كتاب الروح للمصنف، تبدأ نسخة الظاهرية بدمشق رقم (3188) بأول مقدمة هذا الكتاب، وفيها: (بهر خلق الإنسان)، والسياق يقتضي: (بدأ خلق الإنسان)، كما في سورة السجدة؛ أو (أبدع .. ).
(5) في “أ”: سواء.
(6) في “ب، ج”: مختلفةَ المقاديرِ والأشكالِ والمنافعِ.
(7) في “أ”: أسبابًا.
(8) في جميع النسخ: (المبين) ولعلها تصحيف عن (المتين)، وقد جاءت هكذا في مقدمة نسخة الظاهرية من كتاب الروح للمصنف. وهي أقرب إلى معنى البناء، لأن المتين هو القوي.
(الكتاب/3)
لحمًا هو لها كالثَّوبِ لِلَّابسينَ، ثم أنْشأهُ خَلقًا آخَرَ، فتباركَ اللهُ أَحْسنُ الخالقِينَ!
فَسُبْحَانَ مَنْ شَمِلتْ قدرتُهُ كلَّ مَقْدُورٍ، وجَرَتْ مشيئتُه في خلْقهِ بِتَصَارِيْفِ الأُمورِ، وتفرَّد بملك السمواتِ والأرضِ، يخلُق ما يشاءُ، {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى/ 49].
وتبارك العليُّ العظيمُ، الحليمُ الكريمُ، السَّميعُ العليمُ {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران/6].
وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لهُ، إلهًا جلَّ عن المثيلِ والنَّظيرِ (1)، وتعالى عن الشَّريْكِ والظَّهيرِ، وتقدَّسَ عن شَبَهِ خَلْقهِ (2)، فَـ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى/ 11].
وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورَسُولُهُ، وخِيرتُه من خَلْقه، وأمينُه على وَحْيِهِ، وحجَّتُهُ على عِبَادهِ. أرسلَهُ رحمةً للعالمينَ، وقُدْوةً للعَامِلينَ، ومَحجَّةً للسَّالكينَ، وحُجَّةً على العِبادِ أجمعينَ، فَهَدَى به مِنَ الضَّلالةِ، وعلَّم به من الجَهالةِ، وكثَّر بهِ بعد القِلَّةِ، وأعزَّ به بعد الذِّلةِ، وأغْنَى به بعد
_________
(1) في “د”: التمثيل والنظير.
(2) في “ج”: وتقدَّسَ عن الوزير والمشير.
(الكتاب/4)
العَيْلَةِ (1)، وفتحَ برسالتهِ أَعْيُنًا عُمْيًا، وآذانًا صُمًّا، وقلُوبًا غُلْفًا، فبلَّغَ الرِّسَالةَ، وأدَّى الأمَانةَ، ونصحَ الأُمَّةَ، حتى وَضَحَتْ شَرائعُ الأَحْكامِ، وظهرتْ شرائعُ الإسلامِ، وعزَّ حزبُ الرَّحمنِ وذلَّ حزبُ الشَّيطانِ، فأشرقَ وَجْهُ الدَّهْرِ حُسْنًا، وأَصْبحَ الظَّلامُ ضِياءً، واهتَدَى كلُّ حَيْرانَ.
فصلَّى اللهُ وملائكتُه وأنبياؤه ورُسلُهُ وعبادُه المؤمنونَ عليه ـ كما وحَّد اللهَ (2) وعرَّف به (3) ودعا إليه ـ وعليهِ السَّلامُ ورَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ الله ـ سبحانه ـ نوَّع أحكامَهُ على الإنسانِ مِنْ حينِ خروجهِ إلى هذه الدَّارِ إلى أنْ (4) يستقرَّ في دار القَرارِ. وقَبْلَ ذلك ـ وهو في الظُّلماتِ الثَّلاثِ ـ كانتْ أحكامُه القَدَرِيَّةُ جاريةً عليه ومُنتهيةً إليه، فلمَّا انفصل عن أُمِّه تعلَّقت به أحكامُهُ الأمْرِيَّةُ، وكان المخاطَبُ بها الأبَويْن، أو مَنْ يقومُ مقامَهما في تربيتِهِ والقيامِ عليه. فللّه ـ سبحانه ـ فيه أحكامٌ أمَرَ قيِّمَهُ بها ما دامَ تحتَ كفالتِه، فهو المطالَبُ بها دونَه، حتى إذا بلغَ حدَّ التكليفِ تعلَّقتْ به الأحكامُ، وجَرَتْ عليه الأقلامُ (5)، وحُكِم له بأحكامِ أهلِ
_________
(1) في “أ”: الفقر.
(2) في “د”: وجّه الله.
(3) في “أ”: وعرَّف.
(4) في “ب، د”: حين
(5) في “ج”: وجرت به الأقلام.
(الكتاب/5)
الكُفْرِ وأهلِ الإسْلامِ، وأخذ في التأهُّب لمنازلِ السُّعَداءِ أو دارِ الأشْقِياءِ، فتُطْوَى به (1) مَرَاحِلُ الأيامِ والليالي إلى الدَّار التي كُتِب مِنْ أهلها، ويُسِّرَ في مَراحلِهِ تلكَ لأسبابِها، واستُعْمِل بعَمَلِها، فإذا انتهى به السَّيرُ إلى آخر مرحلةٍ، أشرفَ منها على المسكنِ الذي عُمِّر له قبل إيجادهِ، إمَّا منزلُ شِقْوتِه، وإمَّا منزلُ سعادتِه، فهناك (2) يضعُ عَصَا السَّفرِ عن عَاتقِهِ، ويستقرُّ نَواهُ، وتصيرُ دارُ العَدْلِ مأواهُ، أو دارُ السَّعادةِ مَثْوَاهُ.
فصل
وهذا كتابٌ، قَصَدْنا فيه ذِكْرَ (3) أحكامِ المولُودِ المتعلِّقةِ به بعد ولادتهِ ما دامَ صغيرًا؛ من عَقِيقَتهِ وأحْكَامِهَا، وحَلْقِ رأسهِ، وتَسْمِيَتهِ، وخِتَانهِ، وبَولهِ، وثَقْبِ أُذُنهِ، وأحْكامِ تربيتهِ، وأطوارِه من حين كونهِ نُطْفَةً إلى مُسْتَقَرِّهِ في الجنَّةِ أو النَّارِ، فجاء كتابًا بديعًا (4) في معناهُ، مشتملًا من الفَوائدِ على ما لا يَكادُ يُوجَدُ (5) في سِوَاه؛ مِنْ نُكَتٍ بَدِيعَةٍ من التَّفسيرِ، وأحَادِيثَ تدعُو الحاجةُ إلى مَعْرِفَتِهَا وعِلَلِهَا والجَمْعِ (6) بين مُخْتَلِفِهَا،
_________
(1) في “أ، ب”: فيطوى به.
(2) في “ب”: هناك.
(3) ساقطة من “د”.
(4) في “د”: نافعًا.
(5) في “أ، ب”: ما لا تكاد توجد. وسقطت كلمة (في) من “د”.
(6) في “د”: الجمع.
(الكتاب/6)
ومسائلَ فقهيَّةٍ لا يَكادُ الطالبُ يَظْفَرُ بها، وفوائدَ حِكميَّة تشتدُّ (1) الحاجةُ إلى العلمِ بها.
فهو كتابٌ ممتعٌ لقارئهِ، مُعْجِبٌ للنَّاظرِ فيه، يَصْلحُ للمَعَاشِ والمعَادِ، ويحتاجُ إلى مضمونهِ كلُّ من وُهِبَ له شيءٌ من الأولادِ. ومِنَ الله أستمدُّ السَّدادَ، وأسألُ التَّوفيقَ لِسُبُلِ (2) الرَّشادِ، إنّه كريمٌ جَوادٌ.
وسمَّيتُه: (تُحفَة المَودُودِ بِأَحكَامِ المَولُودِ). واللهُ ـ سبحانه ـ المسؤولُ أنْ يَجْعلَهُ خالصًا لوجهِهِ الكَريمِ، إنَّه حَسْبُنا ونِعْمَ الوَكِيلُ.
وجعلتُه سبعةَ عشَرَ بابًا:
الباب الأول: في استحبابِ طلبِ الأولاد.
الباب الثاني: في كراهةِ تَسخُّط ما وَهَب اللهُ له من البنات.
الباب الثالث: في استحبابِ بشارةِ من وُلِد له ولدٌ وتهنئتِه (3).
الباب الرابع: في استحباب الأذانِ والإقامةِ في أذُنهِ.
الباب الخامس: في استحباب تَحْنِيكهِ.
الباب السَّادس: في العَقِيقَة عنه وأحكامِها وذِكْرِ الاختلاف في وجوبها وحجَّة الطّائفتَين (4).
_________
(1) في “ب”: يشتد.
(2) في “أ”: لنيل.
(3) ليست في “ب، د”.
(4) في “د”: التابعين.
(الكتاب/7)
الباب السَّابع: في حَلْق رأسه والتصدُّقِ بزِنَةِ شَعره.
الباب الثامن: في ذِكْر تسميته ووقتِها وأحكامها.
الباب التاسع: في خِتَان المولود وأحكامِه.
الباب العاشر: في ثَقْبِ أذُن (1) الذَّكر والأنثى وحكمه (2).
الباب الحادي عشر: في حكم بَوْل الغُلام والجَارِيَة قبل أكْلِهما الطعامَ.
الباب الثاني عشر: في حكم ريقِ الرَّضيع ولُعَابهِ وهل هو طاهر أو نَجسٌ؛ لأنه لا يُغسل فمُه مع كثرة قَيئِهِ.
الباب الثالث عشر: في جواز حمل الأطفال في الصَّلاة وإنْ لم تُعلَم حال ثيابهم.
الباب الرابع عشر: في استحباب تقبيل الأطفال (3).
الباب الخامس عشر: في وجوب تأديب الأولاد وتعليمهم والعدل بينهم.
الباب السَّادس عشر: في ذِكْر فصولٍ نافعة في تربية الأطفال.
الباب السَّابع عشر: في أطْوار الطفل من حين كونه نطفةً إلى وقت دُخولِه الجنَّة أو النار.
_________
(1) ليست في “ب”.
(2) في “ج”: وأحكامه.
(3) في “أ، ب، ج” زيادة: والأهل.
(الكتاب/8)
الباب الأول
في استحبابِ طَلبِ الوَلدِ
قال الله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة/187]، فَرَوَى شُعْبَةُ عن الحَكَمِ عن مُجاهِدٍ، قال: هو الولد (1).
وقالَه الحَكَمُ، وعِكْرِمَةُ، والحَسَنُ البصْريُّ، والسُّدّيّ، والضّحَّاكُ (2).
وأرفع ما فيه: ما رواه محمَّدُ بنُ سعدٍ عن أبيه: حدّثني عمِّي قال: حدّثني أَبي عن أبيه، عن ابنِ عبَّاسٍ، قال: هو الوَلدُ (3).
وقال ابنُ زيدٍ: هو الجِمَاعُ (4).
وقال قَتَادَة: ابْتَغُوا الرُّخْصةَ التي كتبَ اللهُ لكم (5).
وعن ابن عبَّاس روايةٌ أخرى، قال: ليلة القدر (6).
_________
(1) انظر: تفسير مجاهد:1/ 97, وأخرجه عنه أيضًا: الطبري: 3/ 244، وسعيد بن منصور:2/ 697، والثوري في التفسير، ص 58، والبغوي في التفسير: 1/ 207.
(2) انظر: تفسير الطبري: 3/ 245 ـ 247، وتفسير ابن أبي حاتم: 1/ 317، والدر المنثور: 2/ 280، وتفسير البغوي: 1/ 207.
(3) أخرجه الطبري: 3/ 245، وابن أبي حاتم: 1/ 317. وانظر: الدر المنثور: 2/ 280.
(4) أخرجه الطبري: 3/ 246، وابن أبي حاتم: 1/ 317.
(5) أخرجه الطبري: 3/ 247، وعبد الرزاق في التفسير: 1/ 71، والبغوي: 1/ 207.
(6) أخرجه الطبري: 3/ 246، والإمام أحمد في العلل: 1/ 412، وابن أبي حاتم: 1/ 317، وعزاه في الدر المنثور 2/ 280 لابن المنذر.
(الكتاب/9)
والتحقيقُ أنْ يُقال: لما خفَّف اللهُ عن الأُمَّة بإباحةِ الجماع ليلةَ الصَّوْمِ إلى طُلوعِ الفجرِ، وكان المُجامِعُ يَغْلبُ عليهِ حُكْمُ الشّهوةِ، وقضاءُ الوَطَرِ حتى لا يكادُ يخطُر بقلبهِ غيرُ ذلك، أَرْشَدَهُمْ ـ سبحانه ـ إلى أنْ يَطلُبوا رِضَاهُ في مثلِ هذه اللَّذةِ، ولا يُبَاشِرُوهَا بِحُكْمِ مجرَّدِ الشهوةِ، بل يَبْتَغُوا (1) بها ما كَتبَ اللهُ لهم من الأَجْرِ والوَلَدِ الذي يَخرُجُ من أصْلابِهم يَعْبُدُ اللهَ لا يُشْركُ به شيئًا، ويبتغوا (2) ما أباحَ اللهُ لهم من الرُّخْصةِ بحُكْمِ محبَّته لقَبولِ رُخَصِهِ (3)، فإنَّ اللهَ يحبُّ أن يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كما يَكْرَهُ أَنْ تُؤتَى مَعْصِيَتُهُ (4)، ومما كَتَبَ اللهُ لهم (5): ليلة القدرِ،
_________
(1) في “ج”: يبتغون.
(2) في “ج”: يبتغون.
(3) في “أ”: رخصته.
(4) أخرج الإمام أحمد في “المسند”: 2/ 108 وفي طبعة الرسالة:10/ 107، عن ابن عُمَر ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إنَّ الله يُحبُّ أَنْ تُؤتَى رُخصُهُ كما يَكره أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيتُه”. وهو حديث صحيح، وقد روي من حديث جماعة من الصحابة، فأخرجه: ابن حبان في صحيحه برقم (2742 و 3568) وفي الثقات: 7/ 186، والبيهقي: 3/ 140، والطبراني في الكبير:10/ 30 و 11/ 323. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 162: “رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، والبزار والطبراني في الأوسط وإسناده حسن”.
(5) في (أ، ب، ج): كُتِب لهم.
(الكتاب/10)
فأُمِرُوا (1) أن يَبْتغُوهَا.
لكنْ يبقَى أن يُقال: فما تعلُّق ذلك بإباحةِ مُبَاشَرةِ أزواجِهِمْ؟
فيقال: فيه إرشادٌ إلى أنْ لا يَشْغَلَهُم (2) ما أُبيحَ لهم مِنَ المُبَاشَرَةِ عن طَلَبِ هذه الليلةِ التي هي خيرٌ من ألف شهرٍ، فكأنَّه ـ سبحانه ـ يقول: اقضُوا وَطَرَكُمْ من نسائِكمْ ليلةَ الصِّيامِ، ولا يَشْغَلْكُمْ ذلك عن ابتغاءِ ما كَتَبَ اللهُ لكم (3) من هذه الليلةِ التي فضَّلكمُ بها. والله أعلم.
وعن أَنَسٍ قالَ: كانَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – يأمر بالبَاءَةِ، وينهى عن التبتُّل نهيًا شديدًا (4)، ويقول: “تزوَّجُوا الوَدُودَ الوَلُودَ فإني مُكاثِرٌ بكمُ الأنبياءَ يومَ القيامَةِ” رواه الإمامُ أَحمَد (5) وأبو حَاتِم في “صحيحه” (6).
_________
(1) في “د”: وأمروا.
(2) في “ج”: أن يشغلهم.
(3) في “ج”: ما كتب لكم.
(4) الباءة هنا: الزواج. والتبتُّل: هو ترك النكاح انقطاعًا إلى العبادة. انظر: شرح السنة للبغوي: 9/ 4.
(5) في المسند: 3/ 158، وفي طبعة الرسالة:20/ 63.
(6) أبو حاتم ابن حبان في الصحيح برقم (4028)، ورواه الطبراني في الأوسط برقم (5095)، والبيهقي: 7/ 81 ـ 82، وسعيد بن منصور برقم (490). قال الهيثمي في المجمع 4/ 258: “إسناده حسن”. والحديث صحيح، وهو مروي عن جماعة من الصحابة. انظر: إرواء الغليل: 6/ 195، التعليق على المسند: 20/ 63 ـ 64.
(الكتاب/11)
وعن مَعْقِلِ بنِ يَسارٍ قال: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنِّي أَصَبْتُ امرأةً ذاتَ حَسَبٍ وجمَالٍ، وإنها لا تَلِدُ، أفأتَزوَّجُهَا؟ قال: “لا”، ثم أتاهُ الثانيةَ فنهاهُ، ثم أتاه الثالثةَ، فقال: “تزوَّجُوا الوَلُودَ، فإني مُكاثرٌ بِكُمْ” رواه أبو داود والنَّسائِيُّ (1).
وعن عبدِ الله بنِ عَمْروٍ أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “انْكحُوا أُمَّهاتِ الأولادِ، فإنِّي أُباهِي بِكُم يومَ القِيامةِ” رواه الإمام أَحمد (2).
وعن عائِشةَ ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: “النِّكاحُ مِنْ سُنَّتي، ومَنْ لم يَعملْ بسنَّتي فَلَيسَ مِنِّي، وتَزوَّجُوا فإنِّي مكاثرٌ بِكمُ الأُمَمَ يومَ القِيامَةِ” (3).
_________
(1) أخرجه أبو داود في النكاح، باب في تزويج الأبكار: 7/ 586 ـ 587 (مع بذل المجهود)، والنسائي في النكاح، باب كراهية تزويج العقيم: 6/ 5 ـ 66، وصححه الحاكم: 2/ 162، ووافقه الذهبي، ورواه ابن حبان برقم (4056).
(2) في المسند: 2/ 171 ـ 172، وفي طبعة الرسالة: 11/ 172. وفيه حيي بن عبدالله المعافري، وقد وثِّق وفيه ضعفٌ. وله شاهد من حديث معقل بن يسار ـ السابق ـ وآخر من حديث أنس عند سعيد بن منصور وابن حبان، فيتقوى بهما. انظر: التعليق على المسند: 1/ 172. وقوله: “أمهات الأولاد” أي: ذوات الأولاد، أوالمرأة الولود.
(3) أخرجه ابن ماجه في النكاح، باب ما جاء في فضل النكاح: 1/ 592. قال البوصيري في الزوائد: “إسناده ضعيف، لاتفاقهم على ضعف عيسى بن ميمون المديني، لكن له شاهد صحيح”. وانظر: التلخيص الحبير لابن حجر: 3/ 116، سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ الألباني رقم (2383).
(الكتاب/12)
وقد روى حمَّادُ بنُ سلَمَةَ، عن عاصمٍ، عن أَبي صالحٍ، عن أبي هُرَيرةَ، عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “إنَّ العبدَ لَتُرْفعُ له الدَّرجةُ فيقولُ: أيْ رَبِّ أنَّى لي هذا! فيقولُ: باستغفارِ وَلَدِكَ لكَ مِنْ بَعدِكَ” (1).
فصل
ومما يرغِّب في الولد: ما رواه مُسْلمٌ في “صحيحه” عن أبي حسَّان، قال تُوفِّي ابنانِ لي، فقلتُ لأبي هُرَيْرَةَ: سمعتَ من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حديثًا تحدّثُناهُ يطيِّب أنفُسَنا عن مَوْتَانا؟ قال: نعم، “صِغَارُهُم دَعَامِيْصُ الجنَّة، يَلْقَى أحدُهم أباه ـ أو قال: أبَوَيه ـ فيأخذُ بناحية ثوبه أو يدِه كما آخذ أنا بِصَنِيفَةِ (2) ثوبِكَ هذا، فلَا يُفَارِقُهُ حتى يُدْخِلَهُ اللهُ وأباه الجنَّةَ” (3).
_________
(1) رواه الإمام أحمد: 2/ 509، وفي طبعة الرسالة: 16/ 356 ـ 357، باختلاف في ألفاظ يسيرة، ورواه البيهقي: 7/ 78 ـ 79، وابن أبي شيبة: 3/ 387، وبمعناه عند ابن ماجه في الأدب، باب بر الوالدين برقم (3660). وقال البوصيري في الزوائد: “إسناده صحيح، ورجاله ثقات”.
(2) في “أ، ب، ج”: بصَنَفة.
(3) أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب، باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه: 4/ 2029 برقم (2635). و”دعاميص الجنة”: صغار أهلها. وأصل الدعموص: دويبة تكون في مستنقع الماء لا تفارقه. أي: إن هذا الصغير في الجنة لا يفارقها. و”صنيفة الثوب”: طرفه. ويقال أيضًا: صنفة.
(الكتاب/13)
وقال وَكِيْع (1): حدّثنا شُعْبَةُ، عن مُعَاويةَ بنِ قُرَّةَ، عن أبيه (2): أنَّ رجلًا كان يأتي النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – ومعه ابنٌ له، فقال له النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: “أتحبُّه؟ ” فقال: يا رسولَ الله، أحبَّك الله كما أحبُّه. ففقَدَه النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – فقال: “ما فعل ابنُ فلانٍ؟ ” قالوا: يا رسولَ الله! مات. فقال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – لأبيه: “أَمَا تحبُّ أن لا تأتيَ بابًا من أبواب الجنَّة إلا وجدتَه ينتظرُكَ عليهِ؟ ” فقال رجلٌ: ألَهُ خاصَّةً يا رسولَ الله، أو لكلِّنا؟ قال: “بَلْ لِكُلِّكم” (3).
قال أَحمد: [حدثنا عبدالصمد] حدّثنا عَبْدُ ربِّه بنُ بَارِقٍ الحَنَفِيُّ، [حَدَّثنا سِمَاك] (4)، أبو زُمَيْل الحَنَفِيُّ (5)، قال سمعتُ ابنَ عبَّاسٍ يقول:
_________
(1) هكذا في جميع النسخ، وفي المطبوع: وقال أَحمد: حدّثنا وكِيع ..
(2) عن أبيه. ساقطة من “ب”.
(3) أخرجه الإمام أحمد: 3/ 436 و 5/ 35، وفي طبعة الرسالة: 24/ 361، والنسائي في الجنائز، باب الأمر بالاحتساب والصبر عند نزول المصيبة:
4/ 22 – 23، والطبراني في الكبير: 19/ 31، وصححه الحاكم: 1/ 384 ووافقه الذهبي، ورواه البيهقي في شعب الإيمان: 17/ 260، وابن أبي شيبة: 3/ 354.
قال السِّنْدِيُّ في التعليق على المسند: قوله: “أحبك الله” بيان شدة محبته لابنه، أو أنه كان يعرف قدر محبة الله تعالى لعباده المؤمنين فضلاً عن الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فضلا عن سيد ولد آدم عليه السلام. وقوله: “أما تحب؟ ” قاله تسلية له وحثًّا له على الصبر على فقده.
(4) ما بين القوسين ليس في الأصول، وهو في المسند.
(5) في “ج”: أبو زبيد الحنفي، وفي “د”: أبو زميد الحنفي. وكلاهما تحريف.
(الكتاب/14)
سمعتُ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “مَنْ كانَ له فَرَطَانِ من أُمَّتي دَخَلَ الجنَّةَ”. فقالتْ عَائِشَةُ ـ رضي الله عنها ـ: بأَبِي [أنتَ وأمِّي] (1)، فمَنْ كانَ لهُ فَرَطٌ؟ فقال: “ومَنْ كانَ له فَرَطٌ يا مُوَفَّقَةُ”، قالتْ: فمَنْ لم يكنْ لهُ فرَطٌ في أمَّتكَ (2)؟ قال: “فأنا فَرَطُ أمَّتي، لم يُصَابُوا بِمِثْلي” (3).
وفي “الصحيحين” عن أبي سعيدٍ الخُدْريّ، أنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قال للنِّساءِ: “ما مِنْكنَّ امرأةٌ يموتُ لها ثلاثةٌ من الوَلَدِ، إلا كانُوا لها حِجَابًا مِن النَّارِ” فقالت امرأة: واثنانِ؟ فقال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: “واثنانِ” (4).
_________
(1) ليست في المسند.
(2) في “د” والمسند: من أمتك.
(3) أخرجه الإمام أحمد: 1/ 334 ـ 335، وفي طبعة الرسالة: 5/ 213، وإسناده حسن، رواه الترمذي في الجنائز، باب ما جاء في ثواب من قدَّم ولدًا: 3/ 376 وقال: “هذا حديث حسن غريب” وفي الشمائل، برقم (480)، والطبراني في الكبير: 20/ 197 برقم (12880)، والبيهقي في السنن: 4/ 68، وفي شعب الإيمان: 17/ 256 ـ 257، والبغوي في شرح السنة: 5/ 456 ـ 457.
و (الفَرَط): من يتقدم الإنسان ليهيئ له الماء وغيره في السفر. والمراد هنا: الولد الذي مات قبل أبويه. انظر: تعليق السندي على المسند، الموضع السابق.
(4) أخرجه البخاري في العلم، باب هل يجعل للنساء يوم على حدة: 1/ 195، وفي الجنائز، باب فضل من مات له ولد فاحتسب: 3/ 218، ومسلم في البر والصلة والآداب، باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه: 4/ 2028 ـ 2029 برقم (2633).
(الكتاب/15)
وفي “صحيح مُسْلِمٍ” من حديث أبي هُرَيْرَة نحوه (1).
ورواه عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: ابنُ مسعودٍ، وأبو بَرْزَةَ الأسْلَمِيّ (2).
وفي “الصَّحِيْحَيْنِ” عن أبي هُرَيْرَةَ عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: “مَا مِنْ مُسْلِمٍ يموتُ لهُ ثلاثةٌ مِنَ الوَلَدِ لم يَبْلُغُوا الحِنْثَ، فتمسُّه النَّارُ إلا تَحِلَّةَ القَسَمِ” (3).
وفي “صحيح البخاريِّ” من حديث أنَسٍ قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “مَا مِنَ النَّاسِ مُسْلِم يموتُ له ثلاثةٌ مِنَ الوَلَد لم يَبْلُغُوا الحِنْثَ إلا أَدْخَلَهُ
_________
(1) في الموضع السابق: 4/ 2028 برقم (2632).
(2) حديث ابن مسعود أخرجه الإمام أحمد: 1/ 421، في طبعة الرسالة: 7/ 101، والترمذي في الجنائز، باب ما جاء في ثواب من قدّم ولدًا: 3/ 375 وقال: “هذا حديث غريب وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه”، وأخرجه ابن ماجه في الجنائز، باب ما جاء في ثواب من أصيب بولده: 1/ 512. وحديث أبي برزة الأسلمي أخرجه الإمام أحمد: 4/ 212، وفي طبعة الرسالة: 29/ 402، وصححه الحاكم: 1/ 71، ووافقه الذهبي، ورواه الطبراني في الكبير: 3/ 300. قال الهيثمي في المجمع 2/ 8: “رواه أحمد من حديث أبي برزة ورجاله ثقات”.
(3) أخرجه البخاري في العلم، باب هل يجعل للنساء يوم على حدة: 1/ 196، وفي الجنائز، باب فضل من مات له ولد فاحتسب: 3/ 218، ومسلم في البر والصلة والآداب، باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه: 4/ 2028 برقم (2632).
وقوله – صلى الله عليه وسلم -: “لم يبلغوا الحنث” أي لم يبلغوا مبلغ الرجال. و”تحلَّة القسم”: أي ما ينحل به القسم، وهو اليمين. قال ابن قتيبة: معناه تقليل مدة ورودها. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم: 16/ 180.
(الكتاب/16)
اللهُ الجنَّة بفَضْلِ رَحْمَتِهِ إيَّاهُمْ” (1).
وفي “صحيح مُسْلمٍ” عن أبي هُرَيْرَةَ قال: أتَتِ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – امرأةٌ بصبيٍّ لها، فقالت: يا نبيَّ الله! ادعُ الله له، لقد (2) دفنتُ ثلاثةً، فقال: “دفنتِ ثلاثةً! ” قالت: نعم، قال: “لقد احْتَظَرْتِ بِحِظَارٍ شَديدٍ من النَّارِ” (3).
فالولدُ إنَّه إنْ عاشَ بعد أبوَيهِ نفَعَهُمَا، وإنْ ماتَ قبلَهُمَا نَفَعَهُمَا.
وقد روى مُسْلِمٌ في “صحيحه” من حديث أبي هُرَيْرَةَ أنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “إذا مَاتَ الإنْسَانُ انقَطعَ عنهُ عَمَلُهُ إلا من ثلاثٍ: صَدقةٍ جاريةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ به، أو ولدٍ صَالحٍ يَدْعُو لَهُ” (4).
فصل
فإن قيل: ما تقولونَ في قوله عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي
_________
(1) أخرجه البخاري في الجنائز، باب فضل من مات له ولد فاحتسب: 3/ 118.
(2) في “أ”: فقد، وفي (ب، ج): فلقد.
(3) أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب، باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه: 4/ 2030 برقم (2636).
ومعناه: امتنعتِ بمانع وثيق. وأصل الحظر المنع، وأصل الحظار ـ بالكسر وبالفتح ـ ما يجعل حول البستان وغيره من قضبان وغيرها كالحائط.
(4) أخرجه مسلم في الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته: 3/ 1255 برقم (1631).
(الكتاب/17)
الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء/ 3].
قال الشّافِعِيّ: “أن لا تكثر عيالكم” (1). فدلَّ على أنَّ قِلَّةَ العيال أَوْلى؟.
قيل: قد (2) قال الشّافِعِيُّ ـ رحمه الله ـ ذلك، وخَالفَه جمهورُ المفسِّرينَ من السَّلَف والخَلَفِ، وقالوا: معنى الآية: ذلك أدْنَى أن لا تَجُوروا ولا تَمِيلُوا، فإنَّه يُقالُ: عَالَ الرَّجُل يَعُولُ عَوْلًا: إذا مَالَ وجَارَ. ومنه عَوْلُ الفَرائضِ؛ لأنَّ سِهَامَها زادتْ. ويقال: عَالَ يَعِيلُ عَيْلةً: إذا احتاج. قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [التوبة/ 28].
وقال الشاعر:
_________
(1) جاء في “أحكام القرآن” للإمام الشافعي، الذي جمعه البيهقي من كلام الإمام 1/ 260: “وقوله: {أَلَّا تَعُولُوا}؛ أي: لا يكثر من تعولوا، إذا اقتصر المرء على واحدة: وإن أباح له أكثر منها. أخبرنا أبو الحسن بن بشران العدل ببغداد أنا أبو عمر محمد بن عبدالواحد اللغوي، صاحب ثعلب، في كتاب: “ياقوتة الصراط” (ص 95 منه)؛ في قوله عز وجل: {أَلَّا تَعُولُوا} أي: أن لا تجوروا، و (تعولوا): تكثر عيالكم. وروينا عن زيد بن أسلم في هذه الآية: ذلك أدنى أن لا يكثر من تعولونه”.
(2) ساقطة من “أ”.
(الكتاب/18)
وَمَا يَدْرِي الفَقِيرُ متَى غِنَاه … ومَا يَدْرِي الغَنِيُّ متَى يَعِيلُ (1)
أي: متى يحتاج ويفتقر.
وأمَّا كثرةُ العِيَالِ، فليس من هذا ولا من هذا، ولكنَّه من (أَفْعَلَ). يقال: أَعَالَ الرَّجُلُ يُعِيلُ: إذا كثُر عيالُه، مثل: ألْبَنَ وأَتْمَر: إذا صار ذا لَبَنٍ وتَمْرٍ. هذا قول أهل اللغة.
قال الوَاحِدِيُّ في “بسيطه”: “ومعنى {تَعُولُوا}:تجُوروا. عن جميع أهل التفسير واللغة.
ورُويَ ذلك مرفوعًا، روت عَائِشَةُ رضي الله عنها عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – في قوله (2): {أَلَّا تَعُولُوا} قال (3): “أن لا تجُورُوا” (4).
ورُوِيَ: “أن لا تَمِيلُوا”.
قال: وهذا قولُ ابنِ عبَّاسٍ والحَسَنِ وقَتادةَ والرَّبِيعِ والسُّدّيّ
_________
(1) البيت لأُحَيْحةَ بن الجُلاح من قصيدة له في جمهرة أشعار العرب: 2/ 659، وهو من شواهد الفرَّاء في معاني القرآن:1/ 255، والطبري: 7/ 549، واللسان: 13/ 517.
(2) ساقط من “أ”. وفي “ب”: قال.
(3) ليست في “د”.
(4) أخرجه ابن المنذر في التفسير برقم (1336)، وابن أبي حاتم: 3/ 860، وابن حبان برقم (4104) عن عائشة. قال ابن أبي حاتم: “قال أبي هذا خطأ، والصحيح عن عائشة موقوف”. وانظر: الدر المنثور للسيوطي: 2/ 403.
(الكتاب/19)
وأبي مالكٍ (1) وعِكْرِمَةَ والفَرَّاءِ والزَّجَّاجِ وابْنِ قُتَيبَةَ وابنِ الأنْبَارِيِّ” (2).
قلت: ويدلُّ على تعيُّنِ هذا المعنى من الآية ـ وإنْ كان ما ذكَرَهُ الشّافِعِيُّ ــ رحمه الله ــ لغةً حَكَاهَا الفرَّاءُ عن الكِسَائيِّ، أنه قال: ومِنَ الصَّحابةِ مَنْ يقولُ: عَالَ يَعُولُ: إذا كَثُرَ عِيَالهُ، قال الكِسَائيّ: وهي لغةٌ فصيحةٌ سمعتُها من العرب.
لكنْ يتعيَّنُ الأولُ لوجوهٍ:
(أحدها): أنَّه المعروفُ في اللغةِ الذي لا يكاد يُعرَفُ سواه، ولا يُعرَف (3) عَالَ يَعُولُ: إذا كثر عياله؛ إلا في حكاية الكِسَائيّ. وسائرُ أهلِ اللغةِ على خِلافِهِ.
(الثاني): أنَّ هذا مَرويٌّ عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، ولو كان من الغَرائِبِ فإنَّه يَصْلُحُ للتَّرجيحِ.
_________
(1) في “ج”: ابن مالك. وأبو مالك هو غزوان الغفاري.
(2) إلى هنا ينتهي ما نقله المصنف عن الواحدي في “البسيط” (6/ 310 – 311).
وانظر الأقوال المنقولة عن المفسرين المذكورين في: سنن سعيد بن منصور: 3/ 1144 – 1145، وتفسير ابن أبي حاتم: 3/ 860، وتفسير الطبري: 7/ 549، ومجاز القرآن لأبي عبيدة: 1/ 117، وتفسير مجاهد: 1/ 144، وتفسير سفيان الثوري، ص 87، ومعاني القرآن للزجّاج: 2/ 7، ومعاني القرآن للفرَّاء: 1/ 255.
(3) ولا يعرف. ساقط من “ج”.
(الكتاب/20)
(الثالث): أنَّه مرويٌّ عن عائِشةَ وابنِ عبَّاسٍ، ولم يُعرَف (1) لهما مخالفٌ من المفسِّرينَ. وقد قال الحاكمُ أبو عبد الله: تفسيرُ الصحابيِّ
ــ عندنا ــ في حُكْمِ المرفوعِ (2).
(الرابع): أنَّ الأدلَّةَ التي ذكرناها على (3) استحبابِ تزوُّجِ الوَلُود، وإخبارَ النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أنه يُكاثِر بأمته الأُممَ يوم القيامة، يردُّ هذا التفسيرَ.
(الخامس): أنَّ سِيَاقَ الآية إنَّما هو في نَقْلِهِمْ ممَّا يخافونَ الظُّلمَ والجَوْرَ فيهِ إلى غيره، فإنَّه قالَ في أوَّلها: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي
_________
(1) في “أ”: ولم يعلم.
(2) قال الحاكم في المستدرك 2/ 258: “ليعلم طالب الحديث أنَّ تفسيرَ الصحابيِّ الذي شهد الوحي والتنزيل عند الشيخين حديثٌ مُسْنَدٌ”. وهذا الكلام في تفسيرٍ يتعلق بسبب نزول آية، كقول جابر: كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قُبلها كان الولد أحول، فنزلت {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}. رواه مسلم برقم (2592). أو نحوه مما لا يمكن أن يؤخذ إلا عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، ولا مدخل للرأي فيه. وقد صرّح بذلك في “معرفة علوم الحديث” ص (19 ـ 20) فقال: “ومن الموقوفات ما حدَّثناه أحمد بن كامل بسنده عن أبي هريرة في قوله تعالى: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} قال: “تلقاهم جهنم يوم القيامة فتلفحهم لفحة فلا تترك لحمًا على عظم”. قال الحاكم: هذا وأشباهه يعدُّ في تفسير الصحابة من الموقوفات، فأما ما نقول: إن تفسير الصحابة مسند، فإنما نقوله في غير هذا النوع. انظر: تدريب الراوي للسيوطي: 1/ 288 ـ 289، النكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر:2/ 530 – 532.
(3) في “أ”: في. وهي ساقطة من “ب”.
(الكتاب/21)
الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء/3]. فدلَّهم
ــ سبحانه ــ على ما يتخلَّصونَ به من ظُلْمِ اليَتامَى، وهو نكاحُ ما طَابَ لهم من النِّساءِ البَوَالِغِ، وأباحَ لهم منه أربعًا (1).
ثم دلَّهم على ما يتخلَّصونَ به من الجَوْر والظُّلْم في عَدَمِ التَّسْوِيةِ بينهنَّ، فقال: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء/ 3]. ثم أخبر ـ سبحانه ـ أنَّ الواحدةَ ومِلْكَ اليمينِ أدْنَى إلى عَدَمِ المَيْل والجَوْرِ. وهذا صريحٌ في المقصُودِ.
(السَّادس): أنه لا يلْتَئِمُ قولُه: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا} في الأربعِ، فَانكِحُوا واحدةً أو تسَرَّوا ما شِئْتُم بمِلْكِ اليمينِ، فإنَّ ذلك أقْرَبُ إلى أنْ لا تَكْثُرَ عِيَالُكُمْ، بل هذا أجنبيٌّ مِن الأوَّل، فتَأمَّلْهُ!
(السَّابع): أنَّه من الممتنع أنْ يُقَالَ لهم: إنْ خِفْتُم ألَّا تَعْدِلُوا بَيْنَ الأَرْبَعِ، فلَكُمْ أن تَتَسَرَّوا بمائة سُرِّيَةٍ وأكثرَ، فإنَّه أَدْنَى ألَّا تَكْثُرَ عِيالُكُم.
(الثامن): أنَّ قولَه: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} تعليلٌ لكلِّ واحدٍ من الحُكْمَيْن المتقدِّمَيْن، وهُمَا: نقلُهم من نكاحِ اليتامَى إلى نكاحِ النِّساءِ البَوَالِغِ، ومن نكاحِ الأربعِ إلى نكاحِ الواحدةِ أو مِلْكِ اليمينِ، ولا يليقُ تعليلُ ذلك بِقِلَّةِ العِيَالِ.
_________
(1) ساقطة من “أ، د”.
(الكتاب/22)
(التاسع): أنَّه ـ سبحانه ـ قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا}، ولم يقلْ: وإنْ خفتُم أن تَفْتَقِرُوا (1) أو تَحتاجُوا. ولو كان المرادُ قلةَ العيالِ، لكان الأنسبُ أنْ يقولَ ذلك.
(العاشر): أنَّه ـ سبحانه وتعالى ـ إذا ذكَرَ حُكْمًا منهيًّا عنه، وعلَّل النَّهيَ بِعِلَّة، أو أباحَ شيئًا وعلَّلَ عدَمَهُ بِعلَّةٍ، فلا بدَّ أن تكون العِلَّةُ مُضَادّةً لضدِّ الحُكْمِ المعلَّلِ، وقد علَّل ـ سبحانه ـ إباحةَ نكاحِ غير اليتامَى والاقتصارَ على الواحدةِ أو مِلْكِ اليمينِ بأنَّه أقربُ إلى عَدَمِ الجَوْرِ. ومعلومٌ أنَّ كثرةَ العيالِ لا تُضَادُّ عَدَمَ الحُكْمِ المُعَلَّلِ، فلا يحسُنُ التَّعليلُ بهِ. والله أعلم (2).
_________
(1) في “ج”: أن لا تفتقروا.
(2) ذكر المصنف خمسة وجوه من هذا المبحث في “عدة الصابرين”، ص (302 – 303). وانظر: مجموع الفتاوى: 32/ 70 – 71.
(الكتاب/23)
الباب الثاني
في كَراهةِ تَسخُّطِ البناتِ
قال الله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى/ 49 ـ 50].
فقسمَ ـ سبحانَه ـ حالَ الزَّوجينِ إلى أربعةِ أقسامٍ اشتملَ عليها الوُجودُ، وأخبرَ أنَّ ما قدَّرهُ بينهما من الولدِ، فقد وَهَبَهُمَا إيَّاه، وكفَى بِالعبدِ تعرُّضًا لمقْتهِ أنْ يتسخَّطَ ما وَهَبَهُ!
وبدأ ـ سبحانه ـ بذِكْرِ الإنَاثِ. فقيل: جبرًا لهنَّ، لأَجْلِ استثقالِ الوالِدَيْنِ لمِكَانِهنَّ (1).
وقيل ـ وهو أحسن ـ: إنما قدَّمَهُنَّ، لأنَّ سياقَ الكلامِ أنه فاعلٌ ما يشاءُ لا ما يشاءُ الأبَوانِ، فإنَّ الأبَوَيْنِ لا يريدانِ إلا الذُّكورَ غالبًا، وهو
ــ سبحانه ــ قد أخبرَ أنه يخلُق ما يشاءُ، فبدأ بذِكْرِ الصِّنفِ الذي يشاءُ، ولا يُريدُه الأبَوَانِ.
وعندي وجهٌ آخرُ: وهو أنه ـ سبحانه ـ قدَّم ما (2) كانت تؤخِّرُه
_________
(1) في (ج، د): لمكانهما.
(2) مكانهما فراغ في “د”.
(الكتاب/24)
الجاهليَّةُ من أمْرِ البناتِ حتى كانُوا يَئِدُونَهُنَّ. أي: هذا النوعُ المؤخَّر الحقيرُ عندَكُم مقدَّمٌ عندي في الذِّكْرِ.
وتأمَّل كيف نَكَّر ـ سبحانه ـ الإناثَ، وعرَّف الذكورَ، فجبر نَقْصَ الأُنُوثةِ بالتَّقديمِ، وجَبَرَ نَقْصَ التَّأخيرِ بالتعريفِ، فإنَّ التعريف تنويهٌ، كأنَّه قال: ويَهَبُ لمَنْ يشاءُ الفُرْسَانَ الأعلامَ المذكُورِينَ الذين لا يَخْفَون عليكم!
ثم لمَّا ذكَر الصِّنْفَيْنِ معًا قدَّمَ الذُّكُورَ إعطاءً لكلٍّ من الجنسينِ حقَّه من التقديم والتأخير. والله أعلم بما أراد من ذلك.
والمقصود: أنَّ التسخُّطَ بالإناثِ (1) من أخلاقِ الجاهليَّة الَّذين ذمَّهم اللهُ تعالى في قوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل/ 58 ـ 59].
وقال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [الزخرف/ 17].
ومن هاهنا عبَّر بعضُ المعبِّرينَ لرجلٍ قال له: رأيتُ كأنَّ وجهي أسود! فقال: ألكَ امرأةٌ حاملٌ؟ قال: نعم. قال: تَلِدُ لك أُنثى.
_________
(1) في “أ”: بالبنات.
(الكتاب/25)
وفي “صحيح مُسْلِمٍ” من حديث أنَسِ بنِ مالكٍ قال: قال رسولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: “مَنْ عَالَ جَارِيَتَين حتَّى تَبْلُغَا، جاءَ يومَ القيامةِ أنا وهوَ هكذا” وضمَّ أُصْبُعَيهِ (1).
وروى عبدُ الرزَّاقِ: أخبرنا مَعْمَرٌ، عن الزُّهْرِيّ، عن عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْر، عن عائشةَ قالت: جاءتْ امرأةٌ ومعها ابنتانِ لها تسألُني، فلم تجِدْ عندي شيئًا غيرَ تمرةٍ واحدةٍ، فأعطيتُها إيَّاها، فأخَذَتْها فشقَّتْهَا بين ابنتَيْهَا، ولم تأكلْ منها شيئًا، ثم قامتْ فخرجتْ هي وابْنَتاها، فدخلَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – على تَفِيئَةِ (2) ذلك، فحدَّثْتُهُ حَدِيْثَها، فقال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: “من ابتُلِي مِنْ هذه البنات بشيءٍ فأحسنَ إليهنَّ، كُنَّ له سترًا من النَّار” (3).
ورواه ابنُ المبَارَكِ عن مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيّ عن عبدِ الله بنِ أبي بكرٍ ابنِ حَزْم، عن عُرْوَةَ، وهو الصَّحيحُ (4).
_________
(1) أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب، باب فضل الإحسان إلى البنات: 4/ 2028 برقم (2631). ومعناه: من قام عليهما بالمؤنة والتربية ونحوها. مأخوذ من العول وهو القوت. وحتى تبلغا: أي تتزوجا.
(2) في “أ”: على بقية، وفي “د”: فدخل بقية … وقوله: على تفيئة ذلك أي: على أثره.
(3) أخرجه عبدالرزاق في المصنف:10/ 457 ـ 458، برقم (19693)، وأخرجه الترمذي برقم (1913) وقال: “حديث حسن”، وأخرجه ابن حبان برقم (2939)، والبيهقي في شعب الإيمان:15/ 175.
(4) هذا قول البيهقي في شعب الإيمان:15/ 176. والرواية بهذا الإسناد أخرجها البخاري في الزكاة، باب اتقوا النار ولو بشق تمرة: 3/ 283، ومسلم في البر والصلة والآداب، باب فضل الإحسان إلى البنات: 4/ 2027 برقم (2629).
(الكتاب/26)
والحديثُ في “مسند أَحْمَدَ” (1).
وفيه أيضًا من حديث أيُّوب بنِ بشيرٍ الأنْصَاريِّ، عن أبي سعيدٍ الخُدْريّ ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: “لا يَكُونُ لأحدٍ ثلاثُ بناتٍ، أو ثلاثُ أخَوَاتٍ (2)، أو بنتانِ أو أُخْتَانِ، فيتَّقِي اللهَ فيهنَّ ويُحْسِنُ إليهنَّ، إلا دَخلَ الجنّةَ” (3).
وروى (4) الحُمَيديّ عن سُفْيانَ، عن سُهَيْلِ بنِ أبي صالحٍ (5)، عن أيُّوب بنِ بشيرٍ، عن سعيدٍ الأعْشَى، عن أبي سعيدٍ، عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: “مَنْ كان لَهُ ثَلاثُ بنَاتٍ أو ثلاث أخَواتٍ، أو ابنتانِ أو أُختانِ فأَحْسَنَ صُحْبَتهُنَّ (6)، وصَبرَ عليهنَّ، واتَّقَى اللهَ فيهنَّ دخلَ الجنَّةَ” (7).
_________
(1) مسند الإمام أحمد: 6/ 33، وفي طبعة الرسالة:40/ 61.
(2) أو ثلاث أخوات. ليست في (ج، د).
(3) أخرجه الإمام أحمد: 3/ 42، وفي طبعة الرسالة:17/ 467، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد، برقم (63)، وأبو داود في الأدب، باب فضل من عال يتيمًا: 13/ 534 ـ 535، والخرائطي في مكارم الأخلاق: 2/ 644 برقم (689)، والبيهقي في شعب الإيمان: 15/ 178، وابن حبان في الثقات: 2/ 17. وانظر: التعليق على المسند في الموضع السابق.
(4) في “ب”: روى، وفي “د”: ورواه.
(5) في “ج”: عن سفيان عن أبي صالح.
(6) في “أ، ب”: فأحسن إليهن وأحسن صحبتهن.
(7) رواه الحميدي في المسند: 2/ 323 ـ 324، والترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في النفقة في البنات والأخوات: 4/ 320 وقال: “هذا حديث غريب”، والبيهقي في شعب الإيمان: 15/ 180. وفيه أيوب بن بشير: مجهول.
(الكتاب/27)
وقال محمَّد بنُ عبدِ الله الأنصاريُّ: عن ابن جُرَيْجٍ، حدّثني أبو الزُّبَيْر، عن عُمَرَ بنِ نَبْهَانَ، عن أبي هُرَيْرَةَ أنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “مَنْ كانَ لَه ثلاثُ بناتٍ فَصبرَ على لَأْوَائِهِنَّ وعلى (1) ضَرَّائِهِنَّ دخلَ الجنَّة” (2).
وفي رواية، فقال رجلٌ: يا رسولَ الله واثنتينِ؟ قال: “واثنتينِ”. قال: يا رسولَ الله وواحدة؟ قال: “وواحدةً” (3).
وقال البَيْهَقِيُّ: حدّثنا أَحْمَد بنُ الحَسَنِ (4)، حدّثنا الأصمُّ، حدّثنا الحَسَنُ بنُ مكرم، حدّثنا عثمانُ بنُ عُمرَ، أنبأنا النَّهَّاسُ، عن شدَّادٍ أبي عمَّار، عن عوفِ بنِ مالكٍ، أنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “مَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ يُنْفِقُ عَلَيْهِنَّ حتى يَبِنَّ أو يَمُتْنَ كُنَّ لهُ حِجَابًا مِنَ النَّارِ” (5).
_________
(1) ساقطة من “أ”.
(2) رواه الإمام أحمد: 2/ 335، وفي طبعة الرسالة: 14/ 148، وصححه الحاكم: 4/ 176، ورواه ابن أبي شيبة: 8/ 364 ـ 365، والطبراني في الكبير: 18/ 56. وفيه عمر بن نبهان، قال الذهبي: فيه جهالة، وأبو الزبير مدلّس
(3) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: 15/ 181، وأبو نعيم في الحلية: 3/ 14، والخرائطي في مكارم الأخلاق: 2/ 652 برقم (699).
(4) في “ج”: الحسين.
(5) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: 15/ 182، والطبراني في الكبير: 18/ 56، قال الهيثمي في المجمع: 3/ 449: “رواه الطبراني، وفيه النَّهاس بن قَهْم، وهو ضعيف”.
(الكتاب/28)
وقال عليُّ بنُ المدِينِيّ: حدّثنا يَزِيدُ بنُ زُرَيعٍ، حدّثنا النَّهّاسُ بنُ قَهْمٍ (1)، حدّثنا شدَّادٌ أبو عمَّارٍ، عن عَوْفِ بنِ مالكٍ الأشْجَعِيِّ، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ما مِنْ عبدٍ يكونُ له ثلاثُ بناتٍ فينفقُ عليهنَّ حتى يَبِنَّ أو يَمُتْنَ، إلا كنَّ له حِجَابًا مِنَ النَّار”. فقالت امرأة: يا رسولَ الله وابنتانِ؟ قال: “وابنتانِ” (2).
قال (3): وقال أبو عمَّار: عن عوف بن مالك قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “أنا وامرأةٌ سَفْعَاءُ الخَدَّيْن كهاتَينِ في الجنَّة”.
وروى فِطْرُ بنُ خَلِيفةَ عن شُرَحْبِيلِ بنِ سعدٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “مَا مِنْ مُسْلِمٍ يكونُ لهُ ابنتانِ فيُحْسِنُ إليهما ما صَحِبَهُمَا وصَحِبَتَاهُ إلَّا أدْخَلَتاهُ الجنَّةَ” (4).
_________
(1) في (أ، ج): قهتم. وهو تحريف.
(2) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: 15/ 183، والخرائطي في مكارم الأخلاق: 2/ 641. وإسناده ضعيف.
(3) أي البيهقي في شعب الإيمان: 15/ 184. ورواه أبو داود في الأدب، باب فضل من عال يتيمًا: 13/ 535 – 536، والإمام أحمد: 6/ 29، وطبعة الرسالة: 39/ 433، والبخاري في الأدب المفرد برقم (146)، والخرائطي في مكارم الأخلاق: 2/ 641 (685). و (سفعاء الخدين): أي تغير لونها بسبب خدمة الأيتام.
(4) رواه أبو داود في الأدب، باب فضل من عال يتيمًا: 13/ 535 ـ 536، والإمام أحمد: 1/ 325 ـ 326، وفي طبعة الرسالة: 4/ 15، وابن ماجه في الأدب، باب بر الوالدين والإحسان إلى البنات: 2/ 1210، والبيهقي في شعب الإيمان: 15/ 184 ـ 185، والبخاري في الأدب المفرد، برقم (77)، وصححه الحاكم:4/ 178 وتعقبه الذهبي فقال: “شرحبيل واهٍ”، ورواه الطبراني في المعجم الكبير: 10/ 410. قال الهيثمي في المجمع 8/ 157: “رواه أحمد، وفيه شرحبيل بن سعد، وثّقه ابن حبان وضعفه جمهور الأئمة، وبقية رجاله ثقات”. وانظر التعليق على المسند في الموضع السابق، وسلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني رقم (2778).
(الكتاب/29)
وقال عبد الرزَّاق: أَنْبأَنا مَعْمَر، عن ابن المُنْكَدِرِ، أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “مَنْ كان له ثلاثُ بناتٍ أو أخواتٍ، فَكَفَّهُنَّ وآوَاهُنَّ وزوَّجَهُنَّ دخل الجنَّة”. قالوا: أو ابنتان قال: “أو ابنتان” حتى ظننَّا أنهم لو قالوا: أو واحدةٌ؟ قالَ: أو واحدةٌ (1). هذا مُرْسَلٌ.
وقال عبدُ الله بنُ المبَارَكِ: عن حَرْمَلَةَ بنِ عِمْرانَ قال: سمعت أبا عُشَّانَةَ (2) قال: سمعت عُقْبَةَ بنَ عَامِرٍ الجُهَنِيّ يقول: سمعتُ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “مَنْ كانتْ لهُ ثَلاثُ بَنَاتٍ فَصَبرَ عليهنَّ، فأطْعَمَهُنَّ وسَقَاهُنَّ وكَسَاهُنَّ
_________
(1) رواه معمر في “الجامع”، المصنف: 10/ 458 ـ 459. وأحمد: 2/ 303، وفي طبعة الرسالة: 22/ 150 موصولًا، وابن أبي شيبة: 13/ 98 ـ 99 تحقيق محمد عوامة، والبخاري في الأدب المفرد، برقم (78)، وصححه الحاكم: 4/ 176 ووافقه الذهبي، والبيهقي في شعب الإيمان: 15/ 181. قال الهيثمي 8/ 157: “وإسناد أحمد جيد”.
(2) في “ج”: غشانة ـ بالمعجمة ـ. وأبو عشّانة هو حي بن يُؤمن المصري (التقريب).
(الكتاب/30)
من جِدَتِه، كنَّ له حِجَابًا مِنَ النَّارِ”. رواه الإمام أَحمدُ في “مسنده” (1).
وقد قال الله تعالى في حقِّ النساء: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء/ 19].
وهكذا البنات أيضًا: قد يكون للعبد فيهنَّ خيرٌ في الدنيا والآخرة، ويكفي في (2) قُبْح كَرَاهَتِهنَّ أن يَكْرهَ ما رَضِيَهُ اللهُ وأعطاهُ عَبْدَهُ.
وقال صالحُ بنُ أحمدَ: كان أبي إذا وُلِدَ لهُ ابنةٌ يقولُ: الأنْبِيَاءُ كانُوا آباءَ بناتٍ. ويقولُ: قد جاءَ في البناتِ ما قد عَلِمْتَ.
وقال يَعقُوبُ بنُ بُخْتَان: وُلِدَ لي سَبْعُ بناتٍ، فكنتُ كلَّما وُلِدَ لي ابنةٌ دخلتُ على أَحْمَدَ بنِ حَنْبَل فيقول لي: يا أبا يوسفَ! الأنبياءُ آباءُ بناتٍ. فكان يُذهِبُ قولُهُ همِّي (3). وبالله التوفيق (4).
_________
(1) المسند: 4/ 154 وطبعة الرسالة: 28/ 624، ورواه البخاري في الأدب المفرد برقم (76) وابن ماجه في الأدب، باب بر الوالد والإحسان إلى البنات: 2/ 1210، والطبراني في الكبير: 17/ 300، وأبو يعلى في مسنده برقم (1764)، والبيهقي في شعب الإيمان: 15/ 189. وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (294).
(2) ساقطة من “أ، ب”.
(3) في “ب”: بهمي.
(4) ليست في “أ، د”.
(الكتاب/31)
الباب الثالث
في استحبابِ بشارةِ من وُلد له ولدٌ وتهنئتهِ
قال الله تعالى في قصة إبراهيم ـ عليه السلام ـ: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} إلى قوله: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود/ 69 ـ 74].
وقال تعالى في سورة الصافات: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات/101].
وقال في الذاريات: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات/ 28].
وقال في سورة الحجر: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر/51 ـ 56].
(الكتاب/32)
وقال تعالى: {يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم/ 7].
وقال تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا} [آل عمران/ 39].
ولما كانت البشارة تَسُرُّ (1) العَبْدَ وتُفْرِحُه، استُحِبَّ للمُسْلِم أن يبادر إلى مَسَرَّة أخيه وإعلامِه بما يُفْرِحُه.
ولما وُلِدَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – بَشَّرتْ به ثُوَيْبَةُ عمَّه أبا لهبٍ ـ وكان مَوْلَاهَا ـ وقالت: قد وُلِدَ الليلةَ لعبدِ اللهِ ابنٌ، فأَعْتَقَها أبو لهبٍ سرورًا به، فلم يضيِّعِ اللهُ ذلك له، وسَقَاهُ بعد موته في النُّقْرَةِ التي في أصْلِ إبْهَامِهِ (2).
فإنْ فاتَتْهُ البشارةُ استُحِبَّ له تهنئتُه.
والفرق بينهما: أنَّ البشارة إعلامٌ له بما يَسُرُّه، والتهنئة دعاءٌ له بالخير فيه بعد أن عَلِمَ به.
_________
(1) في “أ، ج”: تبشر.
(2) أخرجه البخاري: 9/ 140. وهذا النفع إنما هو نقصان من العذاب، وإلا فعملُ الكافرِ كلُّه محبَط بلا خلاف. أي لا يجده في ميزانه ولا يدخل به جنة، وقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصل ثويبة من المدينة ويتحفها؛ لأنها كانت أرضعته وعمه حمزة، ولما افتتح مكة سأل عنها، وعن ابنٍ لها اسمه مَسْرُوح، فأُخبر أنهما قد ماتا. انظر: الروض الأنُف للسهيلي: 3/ 96، وفتح الباري لابن حجر: 9/ 145 ـ 146.
(الكتاب/33)
ولهذا لما أنزل الله توبةَ كعبِ بنِ مالكٍ وصاحِبَيْه ذهب إليه البشير فبشَّره، فلما دخل المسجد جاء الناس فهنَّؤوه (1).
وكانت الجاهليَّةِ يَقُولُونَ في تَهْنِئَتِهم بالنكاحِ: بالرِّفَاءِ والبَنِيْنَ (2).
و “الرِّفاء”: الالتحام والاتفاق، أي تزوجتَ زواجًا يحصل به الاتِّفاقُ والالْتِحَامُ بينكما.
و “البنون”: فيهنِّؤون بالبنينَ سلفًا وتعْجِيْلًا.
ولا ينبغي للرجل أن يهنِّئَ بالابنِ ولا يهنِّئَ بالبنتِ، بل يهنِّئُ بهما، أو يَتركُ التهنئةَ بهما، ليتخلَّصَ من سُنَّة الجاهليَّة؛ فإنَّ كثيرًا منهم كانوا يهنِّؤون بالابنِ وبوفاةِ البنتِ دون ولادتِها.
وقال أبو بكر ابنُ المُنْذِرِ (3) في “الأوسط”: رُوِّينا عن الحَسَنِ البصريِّ أن رجلًا جاء إليه وعنده رجلٌ قد وُلِد له غلامٌ، فقال له: يَهْنِيكَ الفارسُ. فقال له الحَسَنُ: ما يُدريكَ فارسٌ هو أو حمار؟ قال: فكيف
_________
(1) انظر قصة توبة كعب بن مالك وصاحبيه في: صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك: 8/ 113، وفي مواضع أخرى، وفي صحيح مسلم، كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه: 4/ 2120.
(2) انظر: سنن النسائي: 6/ 128 برقم (3371)، وسنن ابن ماجه: 1/ 614 برقم (1906).
(3) تصحفت في “د” إلى: المنكدر. والنص المذكور ليس في المطبوع من كتاب الأوسط لابن المنذر.
(الكتاب/34)
نقول؟ قال: قلْ بُورِكَ لك في الموهُوب، وشكرتَ الواهبَ، وبَلغَ أشُدَّهُ، ورُزِقْتَ بِرَّهُ (1). والله أعلم (2).
_________
(1) روى الطبراني في “الدعاء”: 2/ 1243 – 1244 برقم (945) بإسناده عن السري بن يحيى أن رجلًا ممن كان يجالس الحسن، ولد له ابن، فهنّأه رجل فقال: ليهنك الفارس. فقال الحسن: وما يدريك أنه فارس؟ لعله نجار، لعله خياط! قال: فكيف أقول؟ قال: قل جعله الله مباركًا عليك وعلى أمة محمد – صلى الله عليه وسلم -. قال محققه: “إسناده حسن، وهو موقوف على الحسن البصري”.
(2) (“) والله أعلم” ليست في “أ”.
(الكتاب/35)
الباب الرابع
في استحبابِ التَّأذينِ في أذنه اليمنَى والإقامةِ في أذنهِ (1) اليسرى
وفي هذا الباب أحاديث:
(أحدها): ما رواه أبو عبدِ اللهِ الحاكمُ (2)، حدّثنا أبو جعفر محمَّدُ ابنُ دُحَيم، حدّثنا محمد بنُ حازمِ بنِ أبي غرزةَ، حدّثنا عُبيد الله بنُ موسى، أخبرنا سفيانُ بنُ سعيدٍ الثَوريُّ، عن عاصمِ بنِ عُبَيْدِ اللهِ، أخبرني عُبَيْدُ اللهِ بنُ أبي رَافِعٍ، عن أبي رافعٍ، قال: رأيتُ رسولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – أذَّن في أُذن الحَسَنِ بنِ عليٍّ حين وَلَدَتْهُ فاطمةُ. رواه أبو داود والتّرْمِذِيّ وقال: “حديث صحيح” (3).
(الثاني): ما رواه البَيْهَقِيّ في “الشُّعَبِ” من حديث الحُسَيْنِ بنِ عليّ، عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “مَن وُلِد له مولودٌ فأذَّن في أذُنه اليُمْنَى وأَقَامَ في
_________
(1) ساقطة من “د”.
(2) في المستدرك: 3/ 179 وتعقبه الذهبي فقال: “عاصم ضعيف”.
(3) رواه أبو داود في الأدب، باب المولود يؤذن في أذنه: 13/ 499، والترمذيّ في الأضاحي، باب الأذان في أذن المولود: 4/ 97، والطيالسي برقم (1013)، وعبدالرزاق: 4/ 336، والبيهقي في السنن: 9/ 305، وفي الشعب: 15/ 96.
(الكتاب/36)
أذُنهِ اليُسْرَى، رُفِعَتْ عنه أمُّ الصِّبْيانِ” (1).
و (الثالث): ما رواه أيضًا من حديث أبي سعيد، عن ابن عبَّاس، أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – أذَّن في أذُن الحَسَنِ بنِ عليٍّ يومَ وُلِدَ، وأقامَ في أُذنِه اليُسْرَى (2). قال: “وفي إسنادهما ضعف”.
وسرُّ التأذين ـ والله أعلم ـ أن يكون أولَ ما يقرعُ سَمْعَ الإنسانِ كلماتُه المتضمِّنةُ لكبرياء الربِّ وعظمتِهِ، والشهادةُ التي أوَّلُ ما يَدخلُ بها في الإسلامِ، فكان ذلك كالتَّلقينِ لهُ شعارَ الإسلامِ عند دخولِه إلى الدُّنيا، كما يُلَقَّنُ كلمةَ التوحيدِ عند خُرُوجِهِ منها (3).
وغيرُ مُسْتَنْكَرٍ وصُولُ أثر التأذينِ إلى قلبِه وتأثُّرُهُ به وإنْ لم يَشْعُرْ، مع ما في ذلك من فائدة أخرى، وهي: هروبُ الشَّيطانِ من كلماتِ
_________
(1) رواه البيهقي في شعب الإيمان: 15/ 99، وأبو يعلى في المسند برقم (6780)، وابن السُّني في عمل اليوم والليلة، برقم (624). وهو حديث موضوع. قال الهيثمي في المجمع 4/ 59: “رواه أبو يعلى، وفيه مروان بن سالم الغفاري وهو متروك”. انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني: 1/ 33 برقم (321). و”أم الصبيان”: الريح التي تعرض لهم، فربما غشي عليهم منها.
(2) رواه البيهقي في شعب الإيمان: 15/ 101. قال الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة: 13/ 271: “فيه رجلان يضعان الحديث”.
(3) عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “لقّنوا موتاكم لا إله إلا الله”. رواه مسلم في الجنائز، باب تلقين الموتى لا إله إلا الله: 2/ 613 برقم (916 و 917).
(الكتاب/37)
الأذان، وهو كان يَرْصُدُه حتى يُولدَ، فيقارنه (1) ـ لِلْمِحْنَةِ التي قدَّرها الله وشاءَهَا ـ فيُسْمِعُ شيطانَهُ ما يُضْعِفُهُ ويُغِيظُه أوَّلَ أوقاتِ تعلُّقه به.
وفيه معنًى آخر: وهو أن تكونَ (2) دعوتُه إلى اللهِ وإلى دِيْنِهِ الإسلامِ وإلى عبادتهِ سَابِقَةً على دعوةِ الشَّيطانِ، كما كانت فطرةُ الله التي فُطِر عليها سابقةً على تغيير الشيطانِ لها (3)، ونَقْلِهِ عنها، ولغيرِ ذلك من الحِكَمِ. والله أعلم.
_________
(1) ساقطة من “د”.
(2) في “أ”: أن يكون أول.
(3) في “أ، ب”: الشياطين.
(الكتاب/38)
الباب الخامس
في استحبابِ تَحنيكه
وفي “الصحيحين” من حديث أَبي بُرْدَةَ، عن أبي مُوسَى، قال: وُلِد لي غلامٌ فأَتيتُ به إلى النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – فسمَّاه إبراهيم، وحنَّكه بتمرةٍ.
زاد البُخَاريُّ: ودعَا لهُ بالبَرَكةِ ودفعَهُ إليَّ، وكان أكبرَ وُلْدِ أبي مُوسَى (1).
وفي “الصحيحين” من حديث أنس بن مالكٍ، قال: كان ابنٌ لأبي طَلْحَةَ يشتكي، فخرج أبو طَلْحَةَ، فقُبِضَ الصبيُّ، فلمَّا رجع أبو طَلْحَةَ قال: ما فعل الصبيُّ؟ قالت أم سُلَيْمٍ: هو أسْكَنُ ممَّا كان (2). فقرَّبتْ إليه العَشاء، فتعشَّى ثم أصاب منها. فلما فرغ قالت: وَارُوا الصبيَّ. فلما أصبح أبو طَلْحَة أتى رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – فأخبره، فقال: “أعْرَسْتُمُ الليلةَ؟ ” قال: نعم؛ قال: “اللهمَّ بارِكْ لهما! ” فولدت غلامًا، فقال لي أبو طَلْحَةَ: احْمِلْه، حتى تأتيَ به النبيَّ – صلى الله عليه وسلم -، وبعثتُ (3) معه بتمراتٍ، فأخذه النبيّ – صلى الله عليه وسلم –
_________
(1) أخرجه البخاري في العقيقة، باب تسمية المولود غداة يولد لمن لم يعق عنه وتحنيكه: 9/ 587، وفي الأدب، باب من سمى بأسماء الأنبياء: 10/ 578، ومسلم في الآداب، باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته وحمله إلى صالح يحنكه: 3/ 1690 برقم (2145).
(2) في “ج”: ما كان.
(3) في “ب، ج، د”: وبعث.
(الكتاب/39)
فقال: “أمَعَهُ شيءٌ؟ ” قالوا: نعم تمراتٌ، فأخذها النبيّ – صلى الله عليه وسلم – فمضَغَها، ثم أخذها مِن فيهِ، فجعلها في فمِ الصبيِّ، ثم حنَّكَه وسمَّاه عبدَ اللهِ (1).
وروى أبو أُسامةَ، عن هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عن أسْماءَ، أنَّها حملتْ بعبدِالله بنِ الزُّبَيْر بمكة. قالت: فخرجتُ، وأنا مُتِمٌّ (2)، فأتيتُ المدينةَ، فنزلتُ بقُباء، فولدتُه بقباء، ثم أتيتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فوضعتُه في حِجْرِه، فدعا بتمرةٍ، فمضَغَها، ثم تَفَلَ في فيْهِ، فكان أولَ شيءٍ دخل جوفَه ريقُ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم -، قالت: ثم حنَّكه بالتمرة، ثم دعَا له وبرَّكَ عليه، وكان أوَّلَ مولودٍ وُلِدَ في الإسلامِ ـ للمهاجرين بالمدينة (3) ـ قالت: فَفَرِحُوا به فرحًا شديدًا، وذلك أنّهم قيل لهم: إنَّ اليهود قد سَحَرَتْكُمْ؛ فلا يُولدُ لكُمْ (4).
وقال الخَلاّل: أخبرني محمَّد بن عليٍّ، قال سمعتُ أمَّ ولدِ أَحمدَ
_________
(1) أخرجه البخاري في العقيقة، باب تسمية المولود غداة يولد لمن لم يعق عنه وتحنيكه: 9/ 587، وفي الجنائز، باب من لم يظهر حزنه عند المصائب: 3/ 169، ومسلم في الآداب، باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته وحمله إلى صالح يحنكه: 3/ 1690 برقم (2144).
(2) أي مقاربة للولادة.
(3) ما بين المعترضتين ليست في الصحيح.
(4) أخرجه البخاري في العقيقة، باب تسمية المولود غداة يولد لمن لم يعق عنه وتحنيكه: 9/ 587، وفي الجنائز، باب من لم يظهر حزنه عند المصائب: 3/ 169، ومسلم في الآداب، باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته وحمله إلى صالح يحنكه: 3/ 1691 برقم (2146).
(الكتاب/40)
ابنِ حَنْبَل تقول: لما أَخذني الطَّلْقُ وكان مَوْلَايَ نائمًا، فقلت له: يا مولاي! هو ذا أموتُ! فقال: يفرِّجُ اللهُ، فما هو إلا أن قال: يفرِّج اللهُ، حتى ولدتُ سعيدًا، فلما ولدتُه قال: هاتُوا ذلك التمرَ ـ لتمرٍ كان عندنا من تمرِ مكةَ ـ فقلتُ لأمِّ عليٍّ: امْضَغِي هذا التمرَ وحنِّكِيهِ، ففعلتْ. والله أعلم.
(الكتاب/41)
الباب السَّادس
في العَقيقةِ وأحكامِها
وفيه اثنان وعشرون فصلًا:
الفصل الأول: في بيان مشروعيتها.
الفصل الثاني: في ذكر حجَّة من كرهها.
الفصل الثالث: في أدلة الاستحباب.
الفصل الرابع: في الجواب عما احتجُّوا به.
الفصل الخامس: في اشتقاق اسمها ومن أي شيء أُخذ.
الفصل السَّادس: هل يكره تسميتها عقيقة أم لا؟
الفصل السَّابع: في ذكر الخلاف في وجوبها، واستحبابها، وحجج الفريقين.
الفصل الثامن: في الوقت الذي تستحب فيه العقيقة.
الفصل التاسع: في أنها أفضل من الصدقة بثمنها.
الفصل العاشر: في تفاضل الذكر والأنثى فيها.
الفصل الحادي عشر: في ذكر الغرض من العقيقة، وحكمها، وفوائدها، وإحياء سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
الفصل الثاني عشر: في أن طبخ لحمها أفضل من التصدق به نيئًا.
الفصل الثالث عشر: في كراهة كسر عظامها.
الفصل الرابع عشر: في السن المجزئ فيها.
(الكتاب/43)
الفصل الخامس عشر: في أنه لا يجزئ عن الرأس إلا الرأس، ولا يصح اشتراك السبعة فيها في البَدَنَة والبقرة.
الفصل السَّادس عشر: هل تجزئ العقيقة بغير الغنم من الإبل والبقر؟
الفصل السَّابع عشر: في بيان مصرفها، وما يتصدق به منها ويهديه، واستحباب الهدية منها للقابلة.
الفصل الثامن عشر: في حكم اجتماع العَقِيقَة والأضحية، وهل يجزئ أحدهما عن الآخر أم لا؟
الفصل التاسع عشر: في حكم من لم يَعُقَّ عنه أبواه، هل يَعُقُّ عن نفسه إذا بلغ؟
الفصل العشرون: في حكم جلدها وسواقطها، هل يجوز بيعها أم حُكمه حُكم الأضحية؟
الفصل الحادي والعشرون: فيما يقال عند ذبح العقيقة.
الفصل الثاني والعشرون: في حكمة اختصاصها باليوم السَّابع، والرابع عشر، والحادي والعشرين.
(الكتاب/44)
الفصل الأول
في بيَانِ مَشروعيَّتها
قال مالكٌ: هذا الأمرُ الذي لا اختلافَ فيه عندَنَا (1).
وقال يحيى بنُ سعيدٍ الأنصاريّ: أدركتُ النَّاس وما يَدَعُونَ العقيقةَ عن الغُلامِ والجاريةِ (2).
وقال ابن المُنْذِر (3): “وذلك أمرٌ معمولٌ به بالحجاز قديمًا وحديثًا، ويستعملُهُ العلماءُ (4). وذكر مالكٌ أنه الأمرُ الذي لا اختلافَ فيه عندَهُمْ.
قال (5): وممن كان يرى العَقِيقةَ: عبدُ الله بنُ عبَّاسٍ (6)، وعبدُ الله بنُ
_________
(1) ونصُّ عبارته في الموطأ 1/ 419: “الأمر عندنا في العقيقة: أن من عق فإنما يعق عن ولده بشاة شاة؛ الذكور والإناث. وليست العقيقة بواجبة، ولكنها يستحب العمل بها. وهي من الأمر الذي لم يزل عليه الناس عندنا”. وانظر زاد المعاد للمصنف: 2/ 325 وما بعدها.
(2) انظر: شرح البخاري لابن بطال: 9/ 460، عمدة القاري شرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني: 21/ 83.
(3) في الإشراف على مذاهب العلماء: 3/ 417، بتقديم وتأخير في بعض العبارات. وسيأتي في أكثر من موضع العزو للأوسط لابن المنذر، وهو فيما لم يطبع منه، ولذلك ستكون الإحالة إلى الإشراف.
(4) في “ب، د”: تستعمله العلماء. وفي “الإشراف”: استعمله العامة.
(5) يعني ابن المنذر ـ رحمه الله ـ. وانظر: المغني لابن قدامة: 13/ 393 ـ 394.
(6) في “ج”: عبدالله بن مسعود.
(الكتاب/45)
عُمَرَ، وعائِشةُ أمُّ المؤمنينَ.
وروينا ذلك عن فاطمةَ بنتِ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم -، وعن بُرَيْدَةَ الأسْلَمِىِّ، والقاسمِ بنِ محمَّدٍ، وعُرْوَةَ بنِ الزُّبَير، وعطاءِ بنِ أبي ربَاحٍ، والزُّهْرِيِّ، وأبي الزِّنَادِ.
و به قال مالكٌ، وأهلُ المدينةِ، والشّافِعِيُّ، وأصحابهُ، وأَحْمَد، وإسْحَاق، وأبو ثَوْرٍ، وجماعةٌ يكثُرُ عدَدُهُمْ من أهل العلم، متَّبعينَ في ذلك سُنَّةَ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم -، وإذا ثبتتِ السنَّةُ، وجبَ القولُ بها، ولم يَضُرَّها مَنْ عَدَلَ عنهَا.
قال: وأنكر أصحابُ الرَّأي أن تكونَ العَقِيقَةُ سنَّةً، وخَالَفُوا في ذلكَ الأخبارَ الثابتةَ عَن رَسُولِ الله – صلى الله عليه وسلم -، وعَن أصحابِهِ (1)، وعمَّن رُوِيَ عنه ذلك من التَّابعِين” (2). انتهى.
_________
(1) في “د”: وعن أصحابه والتابعين.
(2) انظر: الإشراف لابن المنذر: 3/ 417.
(الكتاب/46)
الفصل الثاني
في ذِكْر حُججِ من كرهها
قالوا: روى عَمْرو بنُ شُعَيبٍ، عن أبيهِ عن جَدِّه، أنَّ رسولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – سُئِلَ عن العَقِيقَةِ، فقال: “لا أُحِبُّ العُقُوقَ” (1).
قالوا: ولأنها من فِعْلِ أهلِ الكتابِ كما قال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: إن اليهود تَعُقُّ عن الغُلامِ ولا تَعُقَّ عن الجَارِيَة. ذكره البَيْهَقِيّ (2).
قالوا: وهي من الذَّبَائِح التي كانت الجاهليَّةُ تفعلُها، فأَبْطَلها الإسلامُ (3)،
_________
(1) أخرجه أبو داود في الأضاحي، باب العقيقة: 9/ 614، والنسائي في العقيقة: 7/ 162 ـ 163، والإمام أحمد: 2/ 194، وفي طبعة الرسالة: 11/ 320، ومحمد ابن الحسن في الموطأ: 2/ 652، وهو في رواية الليثي: 1/، 418، وأخرجه ابن أبي شيبة:8/ 51، وفي طبعة القبلة: 12/ 324، وعبد الرزاق: 4/ 329، والبيهقي في السنن: 9/ 301 ـ 302، وفي شعب الإيمان: 15/ 106، وصححه الحاكم: 4/ 23.
(2) في السنن: 9/ 301، وفي شعب الإيمان: 15/ 106.
(3) قال الإمام محمد بن الحسن في “الموطأ” 2/ 665 مع شرحه التعليق الممجَّد لأبي الحسنات اللكنوي: “أما العقيقة: فبلغنا أنها كانت في الجاهلية، وقد فُعلت في أول الإسلام، ثم نسخ الأضحى كل ذبح كان قبله، ونسخ شهر رمضان كل صوم كان قبله … كذلك بلغنا”. قال أبو الحسنات اللّكنوي: “المراد من كون العقيقة مرفوضة: يحتمل أن يكون رفض عقيقة الجاهلية بالطريقة التي كانوا يفعلونها. وبالجملة: فالحكم بنفي مشروعيتها في الإسلام مطلقًا غير صحيح”.
هذا، وتحقيق رأي أبي حنيفة أن العقيقة ليست واجبة ولا سنة متأكدة، وليست بدعة كما زعم بعضهم، ولكنها مستحبة، وإنما كره أبو حنيفة اسم العقوق، كما جاء في الحديث. انظر: عمدة القاري شرح البخاري للبدر العيني: 21/ 83.
(الكتاب/47)
كالعَتِيْرَةِ والفَرَعِ (1).
قالوا: وقد روى الإمام أَحمد من حديث أبي رافعٍ أن الحَسنَ بنَ عليٍّ لما وُلِد أرادتْ أمُّه فاطمةُ (2) أن تَعُقَّ عنه بكبشين، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “لا تَعُقِّي ولكنِ احلقِي شَعْرَ رأسِهِ (3) فتصدَّقِي بوَزْنهِ من الوَرِق” (4). ثم وُلِدَ حُسَينٌ فصنعتْ مِثْلَ ذلك (5).
_________
(1) العتيرة: شاة كانوا يذبحونها في الجاهلية للأصنام في شهر رجب. والفَرَع: أول ما تلده الناقة، كانوا يذبحونه لآلهتهم ويتبركون به، فنهى عنه الشارع. انظر: المصباح المنير للفيومي: 2/ 391.
(2) في “ج”: لما أرادت فاطمة أمه.
(3) في “ج”: احلقي رأسه.
(4) الوَرِق: الدراهم المضروبة. والفضة: غير المضروبة.
(5) أخرجه الإمام أحمد: 6/ 390، وفي طبعة الرسالة: 45/ 173، والبيهقي في السنن: 9/ 304، وفي شعب الإيمان: 15/ 106، والطبراني في الكبير: 7/ 9 برقم 918 و 2576، وابن أبي شيبة: 8/ 235، وفي طبعة دار القبلة: 12/ 319. وقال الهيثمي في المجمع 4/ 57: “رواه أحمد والطبراني في الكبير وهو حديث حسن”. وانظر: إرواء الغليل برقم 4281، والتعليق على المسند، الموضع السابق. وسيأتي كلام المؤلف في تضعيفه ص (61) وفي بيان معناه لو صحَّ.
(الكتاب/48)
الفصل الثالث
في أَدلَّةِ الاستحبابِ
فأمَّا أهلُ الحديثِ قاطبةً، وفقهاؤهُم، وجمهورُ أهلِ العِلْمِ، فقالوا: هي من سُنَّةِ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم -.
واحتجُّوا على ذلك بما رواه البُخَاريّ في “صحيحه” عن سَلْمانَ بنِ عامر الضَّبّيِّ، قال: قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: “مع الغُلامِ عَقِيقَتُهُ، فأهْرِيقُوا عنهُ دَمًا، وأَمِيطُوا عنهُ الأذَى” (1).
وعن سَمُرَةَ قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “كلُّ غلامٍ رهينةٌ بعَقِيقَتِه، تُذبح عنه يومَ سَابعهِ، ويُسَمَّى فيه، ويُحْلَقُ رأسُهُ” رواه أهلُ السُّنَنِ كلُّهم، وقال التّرْمِذِيّ: “هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ” (2).
_________
(1) أخرجه البخاري في العقيقة، باب إماطة الأذى عن الصبي في العقيقة: 9/ 590.
(2) رواه أبو داود في الأضاحي، باب العقيقة: 9/ 610، والترمذي في الأضاحي، باب ما جاء في العقيقة: 4/ 101، والنسائي في العقيقة، باب متى يعق؟: 7/ 177، وابن ماجه في الذبائح، باب العقيقة: 2/ 1506 – 1507 برقم (3165)، والإمام أحمد: 5/ 17، وفي طبعة الرسالة: 33/ 356، وابن أبي شيبة: 8/ 236، وفي طبعة دار القبلة: 12/ 320، والدارمي في السنن: 2/ 81 برقم (1969)، وابن عبدالبر في التمهيد: 4/ 307، والبيهقي: 9/ 299، وصححه الحاكم: 4/ 237 ووافقه الذهبي.
(الكتاب/49)
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: “عنِ الغُلامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتانِ، وعنِ الجَارِية شاةٌ” رواه الإمام أَحمد والتّرْمِذِيُّ وقال: “حديثٌ حسنٌ صحيحٌ” (1).
وفي لفظ: أمَرَنا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – أن نَعُقَّ عن الجَارِيَة شاةً وعن الغُلام شاتين. رواه الإمام أَحْمَد في “مسنده” (2).
وعن أمِّ كُرْزٍ الكَعْبِيَّةِ أنها سألتْ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – عن العَقيقةِ فقال: “عن الغُلام شَاتَانِ وعن الأنثى واحدةٌ، ولا يَضرُّكم ذُكْرَانًا كُنَّ أو إناثًا”. رواه الإمام أَحمد والتّرمذِيّ وقال: “هذا حديث صحيح” (3).
وقال الضّحَّاك بنُ مَخْلَد: أخبرنا أبوحَفْصٍ سالمُ بنُ تميمٍ (4)، عن
_________
(1) رواه الإمام أحمد: 6/ 31، وفي طبعة الرسالة: 40/ 30، والترمذي في الأضاحي، باب ما جاء في العقيقة: 4/ 96 – 97، وصححه ابن حبان برقم (5313)، ورواه عبدالرزاق: 4/ 327، والبيهقي: 9/ 301.
(2) المسند: 6/ 251، وفي طبعة الرسالة: 43/ 231، وابن ماجه في الذبائح، باب العقيقة: 2/ 1065، والبيهقي في السنن: 9/ 301، وفي شعب الإيمان: 15/ 104.
(3) رواه الإمام أحمد: 6/ 381، وفي طبعة الرسالة: 45/ 116، وأبو داود في الأضاحي، باب العقيقة: 9/ 608، والترمذي في الأضاحي، باب ما جاء في العقيقة: 4/ 98، وقال: “هذا حديث حسن صحيح”، والنسائي في العقيقة، باب العقيقة عن الجارية وكم يعق؟: 7/ 165، وابن ماجه في الذبائح، باب العقيقة: 2/ 1065، وابن أبي شيبة: 12/ 322، وصححه الحاكم: 4/ 237 ووافقه الذهبي.
(4) في (ج، د): سالم بن سهم.
(الكتاب/50)
أبيه، عن عبدِ الرَّحمن الأعْرَجِ، عن أبي هُرَيرَة، أن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “إنَّ اليَهودَ تَعُقُّ عن الغُلامِ ولا تَعُقُّ عن الجَارِيَة، فَعقُّوا عن الغُلامِ شاتَيْنِ وعنِ الجَاريَة شاةً”. ذكره البيهقِيُّ (1).
وعن ابن عبَّاسٍ أنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – عقَّ عن الحَسَنِ والحُسَيْنِ كَبْشًا كبشًا. رواه أبو داود والنَّسائيّ. ولفظ النَّسائيّ: “بكبشينِ كبشينِ” (2).
وعن عَمْرو بن شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أمَر بتسميةِ المولودِ يومَ سابعِهِ ووضْعِ الأذى عنه والعقِّ (3). قال التّرْمِذِيّ: “هذا حديث حسن غريب”.
وعن بُرَيْدَةَ الأسْلَمِىّ: قال كنَّا في الجاهليَّة، إذا وُلِدَ لِأَحَدِنَا غلامٌ ذَبحَ شاةً ولَطَّخَ رأسَه بِدَمِهَا، فلمَّا جاء الله بالإسلامِ كنَّا نذبحُ شاةً، ونَحْلقُ رأسَهُ، ونلطِّخُهُ بِزَعْفَرَانٍ. رواه أبو داود (4).
وروى ابن المنذر (5) من حديث يحيى بن يحيى، أنبأنا هُشَيم، عن
_________
(1) في السنن: 9/ 301، وفي شعب الإيمان: 15/ 106.
(2) أخرجه أبو داود في الأضاحي، باب العقيقة: 9/ 613، والنسائي في العقيقة، باب كم يعق عن الجارية: 7/ 165 – 166، والبيهقي: 9/ 299.
(3) أخرجه الترمذي في الأدب، باب ما جاء في تعجيل اسم المولود: 5/ 132.
(4) في السنن، كتاب الأضاحي، باب العقيقة: 9/ 615 ـ 616، وصححه الحاكم على شرط الشيخين: 4/ 238 ووافقه الذهبي، ورواه البيهقيُّ في السنن: 9/ 238.
(5) في (ج، د): ابن المنكدر. وهو خطأ، وفي “ب” عقب حديث بريدة السابق: رواه أبو داود وابن المنذر. وانظر: الإشراف لابن المنذر: 3/ 416.
(الكتاب/51)
عُيَينةَ بنِ عبد الرَّحمن، عن أبيه، أنَّ أبا بَكْرَةَ وُلِد له ابنهُ عبدُ الرَّحمن، وكان أوَّلَ مولود وُلِدَ بالبصرة، فَنحَرَ عنه جَزُورًا، فأطعمَ أهلَ البصرةِ. وأنكر بعضُهم ذلك، وقال: أمَرَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – بشَاتَين عن الغُلام وعن الجَارِيَة بشاة.
وعن الحَسَنِ عن سَمُرَة، أن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قال في العَقِيقَة: “كلُّ غلامٍ مُرْتَهَنٌ بعَقيقتهِ، تُذبَحُ عنه يومَ سابعِه، ويُحْلَقُ، ويُدَمَّى”.
قال أبو داود: فكان قتادة إذا سئل عن (1) الدم كيف يصنع به (2)؟ قال: إذا ذُبِحَتِ العَقِيقَةُ، أُخذت منها صوفةٌ، واستُقْبِلَتْ بها أوْداجُهَا، ثم تُوضَع على يَافُوخِ الصبيَّ حتى يسيلَ (3) على رأسه مِثل الخيط، ثم يُغسل رأسُه ويُحلَقُ (4).
قال أبو داود: وهذا وهمٌ من هَمَّام بن يحيى ـ يعني “ويُدَمَّى” ـ ثم
_________
(1) في “ب”: إذا سال عنه الدم.
(2) “قال أبو .. يصنع به” ساقط من “د”.
(3) في “أ”: يسيل الدم.
(4) أخرجه أبو داود في الأضاحي، باب العقيقة: 9/ 608 ـ 609، وابن ماجه برقم (3156)، وابن الجارود في المنتقى، برقم (886)، وابن عبدالبر في التمهيد: 4/ 30. وانظر: زاد المعاد للمصنف: 2/ 326 ـ 328، ومعالم السنن للخطابي: 4/ 265.
(الكتاب/52)
ساقه من طريق أخرى، قال: “كلُّ غلامٍ رهينةٌ بعقيقتِهِ، تُذبَح عنه يومَ سابعِهِ ويحلق رأسه (1) ويُسَمَّى”.
قال أبو داود: “ويسمَّى” أصحُّ.
وأخرجه التّرْمِذِيّ والنَّسائيّ وابنُ ماجه، وقال التّرْمذيّ: “حديث حسن صحيح” (2).
وهذا الحديث قد سَمِعَهُ الحَسَنُ من سَمُرَةَ، فذكر البُخَاريّ في “صحيحه” (3) عن حبيب بن الشهيد، قال: قال لي ابنُ سيرين: سَلِ الحَسَنَ: ممّن سمع حديث العَقيقةِ؟ فسألته، فقال: من سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ (4).
وقد ذكر البَيهقيّ عن سليمان بن شُرَحْبِيل: حدّثنا يحيى بن حَمْزَة قال: قلت لعطاء الخُرَاسَانيّ: ما “مُرْتَهنٌ بعقيقته؟ ” قال: يحرم شفاعة ولده (5).
_________
(1) ساقطة من “ب”.
(2) أخرجه أبو داود في الأضاحي، باب العقيقة: 9/ 610 ـ 611، والترمذي في الأضاحي، باب في العقيقة: 4/ 101، والنسائي في العقيقة، باب متى يعق: 7/ 166، وابن ماجه في الذبائح، باب العقيقة: 2/ 1056 – 1057، وصححه الحاكم: 4/ 233، ورواه البيهقي: 9/ 239.
(3) كتاب العقيقة، باب إماطة الأذى عن الصبي في العقيقة: 9/ 590.
(4) هذا الكلام بنصه في زاد المعاد: 2/ 326، وفي تهذيب السنن: 4/ 126.
(5) سنن البيهقي: 9/ 299.
(الكتاب/53)
وقال إسْحَاق بنُ هَانِئ: سألتُ أبا عبدِ الله عن حديث النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: “الغُلامُ مُرْتَهنٌ بعَقيقتِه” ما مَعْناهُ؟
قال: نعم، سُنَّةُ النبيّ (1) – صلى الله عليه وسلم – أن يُعَقَّ عن الغُلام شَاتانِ وعن الجَارِيَةِ شاةٌ، فإذا لم يُعَقَّ عنه فهو محتَبَسٌ بعقيقتِه، حتى يُعَقَّ عنه (2).
وقال الأَثْرَمُ: قال أبو عبدِ اللهِ: ما في هذه الأحاديثِ أَوْكَدُ من هذا
ــ يعني في العَقِيقَة “كلُّ غلامٍ مُرْتَهنٌ بعقيقتِه” ــ.
وقال يَعقوب بن بُخْتَان: سُئل أبو عبد الله عن العَقِيقَةِ، فقال: ما أَعْلمُ فيه شيئًا أشدَّ من هذا الحديث: “الغُلامُ مرتهنٌ بعقيقتهِ” (3).
وقال حَنْبَل (4): قال أبو عبد الله: ولا أحبُّ لمن أمْكَنهُ وقَدَرَ: أنْ لا يَعُقَّ عن ولده، ولا يَدَعَهُ؛ لأن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “الغُلامُ مُرْتَهنٌ بعَقِيقَتهِ”، وهو أشدُّ ما روي فيه، وإنما كره النبيّ – صلى الله عليه وسلم – من ذلك الاسمَ، وأما الذَّبْحُ، فالنبيُّ – صلى الله عليه وسلم – قد فعلَ ذلك.
وقال أَحْمَدُ بنُ القاسمِ: قيل لأبي عبد الله: العَقِيقَةُ واجبةٌ هي؟ فقال: أمَّا واجبةٌ فلا أدري، لا أقولُ: واجبةٌ. ثم قال: أشدُّ شيءٍ فيه أنَّ
_________
(1) في “أ”: سنة عن النبي.
(2) انظر: مسائل الإمام أحمد برواية إسحاق بن هانئ: 2/ 130.
(3) انظر: مسائل الإمام أحمد برواية صالح: 2/ 208.
(4) في “ج”: أحمد بن حنبل.
(الكتاب/54)
الرجلَ مُرتهنٌ بعقيقتهِ.
وقد قال أَحْمَد في موضعٍ آخرَ: مرتهنٌ عن الشفاعة لِوَالِدَيْهِ (1).
وأمَّا قولُه: “ويُدَمَّى”: فقد اختُلِفَ في هذه اللفظة، فرواها هَمَّام بن يحيى عن قَتَادَة، فقال: “ويُدَمَّى”، وفسَّرها قَتَادَة بما تقدم حكايته.
وخالفَه في ذلك أكثرُ أهلِ العِلْمِ، وقالوا: هذا من فعل الجاهليَّة (2).
_________
(1) سيأتي قوله هذا في ص 98 و 102. وقال الخطابي في معالم السنن: 4/ 265 “اختلف الناس في هذا، وأجود ما قيل فيه ما ذهب إليه أحمد بن حنبل قال: هذا في الشفاعة، يريد أنه إذا لم يعق عنه فمات طفلًا لم يشفع في أبويه، وقيل: معناه أن العقيقة لازمة لا بد منها، فشبه المولود في لزومها وعدم انفكاكه منها بالرهن في يد المرتهن”. وانظر: فتح الباري: 9/ 594.
(2) قال ابن حجر في الفتح 9/ 593: “ولم تقع في حديث أبي هريرة هذه الكلمة الأخيرة وهي”ويسمى” وقد اختلف فيها أصحاب قتادة فقال أكثرهم: “يسمى” بالسين. وقال همام عن قتادة: “يدمى” بالدال. قال أبو داود: خولف همام، وهو وهم منه ولا يؤخذ به، قال: ويسمى أصح. ثم ذكره من رواية غير قتادة بلفظ “ويسمى” واستشكل ما قاله أبو داود بما في بقية رواية همام عنده أنهم سألوا قتادة عن الدم كيف يصنع به؟ فقال: إذا ذبحت العقيقة أخذت منها صوفة واستقبلت به أوداجها ثم توضع على يافوخ الصبي حتى يسيل على رأسه مثل الخيط، ثم يغسل رأسه بعد ويحلق. فيبعد مع هذا الضبط أن يقال: إن هماما وهم عن قتادة في قوله: “ويدمى” إلا أن يقال إن أصل الحديث “ويسمى” وأن قتادة ذكر الدم حاكيًا عما كان أهل الجاهلية يصنعونه، ومن ثم قال ابن عبدالبر: لا يحتمل همام في هذا الذي انفرد به، فإن كان حفظه فهو منسوخ”.
(الكتاب/55)
وكرهه الزُّهْرِيُّ، ومالكٌ، والشّافِعِيُّ، وأَحمدُ، وإسْحَاق.
قال أَحمد: أكره أن يُدَمَّى رأسُ الصبيِّ، هذا من فعل الجاهليَّة (1).
وقال عبد الله بن أَحْمَدَ: سألتُ أبي عن العَقِيقَة: تُذْبَحُ (2) ويُدَمَّى رأسُ الصبيِّ أو الجَارِيَةِ؟ فقال أبى: لا يُدَمَّى (3).
وقال الخَلاّل: أخبرني العبَّاس بن أَحمد: أنَّ أبا عبد الله سُئِلَ عن تلطيخ رأس الصبيِّ بالدم، فقال: لا أحبُّه، إنه من فعل الجاهليَّة. قيل له: فإن هَمَّامًا كان يقول: يدمِّيه، فذكر أبو عبد الله عن رجل قال: كان يقول: يسمِّيه، ولا أحبُّ قول هَمَّام في هذا.
وأخبرنا أَحْمَد بن هاشِم (4) الأنْطَاكِيّ قال: قال أَحْمَد: اختلف هَمَّامٌ وسعيدٌ في العَقِيقَةِ، قال: أحدهما “يُدَمَّى”، وقال الآخر: “يُسَمَّى”.
وعن أَحْمَد رواية أخرى أن التَّدْمِيَةَ سنَّةٌ.
قال الخَلاّل: أخبرني عِصْمَةُ بنُ عصامٍ، قال: حدّثنا حَنْبَل قال:
_________
(1) انظر: مسائل أحمد وإسحاق للمروزي: 8/ 3945، معالم السنن: 4/ 256.
(2) في (ب، ج): يذبح
(3) انظر: مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبدالله: 3/ 879.
(4) في “ج”: هشام.
(الكتاب/56)
سمعت أبا عبد الله في الصبيِّ يُدَمَّى رأسه؟ قال: هذه سنَّةٌ (1).
ومذهبُهُ الذي رواه عنه كافَّةُ أصحابهِ الكراهةُ (2).
قال الخَلاّل: وأخبرني عصمةُ بنُ عصامٍ في موضعٍ آخر: حدّثنا حَنْبَل، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: يُحلَقُ رأسُ الصبيِّ.
وأخبرني محمَّد بن علي: حدّثنا صالح، وأنبأ أَحْمَدُ بنُ محمَّد بن حَازِمٍ، حدّثنا إسْحَاق، كلُّهم يذكر عن أبي عبد الله، قال: الدمُ مكروهٌ، لم يرْوَ إلا في حديثِ سَمُرَةَ (3).
أخبرني محمَّدُ بنُ الحُسَينِ أنَّ الفَضْلَ حدَّثَهُمْ أنَّه قال لأبي عبد الله: يحلق رأسه؟ قال: نعم! قلت: فيُدَمَّى؟ قال: لا، هذا مِنْ فِعْلِ الجاهليَّةِ. قلت: فحديثُ قَتَادَةَ عن الحَسَنِ، كيفَ هوَ “ويُدَمَّى؟ ” فقال: أمَّا هَمَّامٌ، فيقول: “ويُدَمَّى”، وأمَّا سعيد، فيقول: “ويُسمَّى”.
وقال في رواية الأَثرَمِ: قال ابنُ أَبي عَرُوبَة: “يسمَّى”، وقال هَمَّام:
_________
(1) وجزم به في المستوعب والحاويين، وقدّمه في الرعاية الكبرى. انظر: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي: 4/ 112، والمبدع شرح المقنع لابن مفلح: 3/ 302.
(2) قال المرداوي في الإنصاف 4/ 112: يكره لطخ رأس المولود بدم العقيقة على الصحيح من المذهب. نصَّ عليه. وجزم به ابن البنا في الخصال، وقدّمه في المغني والشرح والفروع والفائق. وانظر: المبدع: 3/ 302.
(3) مسائل أحمد وإسحاق للمروزي: 8/ 3945.
(الكتاب/57)
“ويُدَمَّى”، وما أُراه إلا خطأً.
وقد قال أبو عبد الله ابن ماجه في “سننه” (1): حدّثنا يَعقوبُ بنُ حُمَيدٍ بنِ كَاسِبٍ، حدّثنا عبدُ الله بنُ وهب، حدّثني عَمْرُو بنُ الحارث، عن أيُّوبِ بنِ موسى، أنه حدَّثه عن يزيدِ بنِ عبدٍ (2) المُزَنِيّ، أن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “يُعَقُّ عنِ الغُلام ولا يُمَسُّ رأسهُ بدمٍ”.
وقد تقدم حديث بُرَيدَةَ: كنا في الجاهليَّة إذا وُلِدَ لأحدنا غلامٌ، ذبح شاة، ولطَّخَ رأسه بدمها، فلما جاء الإسلام، كنَّا نذبحُ شاةً، ونحلِقُ رأسَه، ونلطِّخُه بزَعْفَرَان (3).
وقد روى البَيهَقيّ وغيره من حديث ابن جُرَيجٍ عن يحيى بنِ سعيدٍ عن عَمْرَةَ عن عَائِشَةَ قالت: كان أهل الجاهليَّة يجعلون قُطنةً في دم العَقِيقة، ويجعلونَهُ على رأسِ الصبيِّ. فأمَرَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أن يُجعلَ مكانَ الدَّمِ خَلُوقًا (4).
_________
(1) كتاب الذبائح، باب العقيقة: 2/ 1057 برقم (3166) قال البوصيري في الزوائد: “إسناده حسن”.
(2) في “أ”: عبدالله.
(3) انظر فيما سبق ص (51).
(4) سنن البيهقي: 9/ 303، وأخرجه أيضًا عبدالرزاق: 4/ 330 ـ 331، وابن حبان: 12/ 124، قال الهيثمي: “رواه أبو يعلى والبزار باختصار، ورجاله رجال الصحيح خلا شيخ أبي يعلى فإني لم أعرفه”. انظر: مجمع الزوائد: 4/ 57 – 58.
(الكتاب/58)
قال ابن المُنْذِر: “ثبتَ أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “أهْرِيقُوا عنه دمًا، وأمِيطُوا عنه الأذى”. فإذا كان النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قد أمَرَنَا بإماطة الأذى عنه، والدَّمُ أذًى
ــ وهو من أكبر الأذى ــ فغير جائزٍ أن ينجَّسَ رأسُ الصبيِّ بالدَّمِ” (1).
_________
(1) الإشراف لابن المنذر: 3/ 419. وانظر: زاد المعاد: 2/ 328، وتهذيب السنن: 4/ 127.
(الكتاب/59)
الفصل الرابع
في الجوَابِ عن حُججِ من كَرهها
قال الإمام أَحْمَد في رواية حَنْبَل ـ وقد حُكِي عن بعض مَنْ كَرِهَهَا أنَّها من أمْرِ الجاهليَّة ـ قال: هذا لقلَّةِ عِلْمِهِمْ ومعرفتِهِم بالأخبارِ، والنبيُّ – صلى الله عليه وسلم – قد عقَّ عن الحَسَنِ والحُسَيْن، وفعلَها أصحابُه، وجَعَلَها هؤلاء (1) مِنْ أمرِ الجاهليَّة، والعقيقةُ سنةٌ عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقد قال: “الغُلام مُرْتَهنٌ بعقيقتِه”، وهو إسنادٌ جيِّدٌ، يَرْوِيْهِ أبو هُرَيْرَةَ عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -.
وقال في رواية الأَثْرَمِ: في العَقِيقَةِ أحاديثُ عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – مُسْنَدَةٌ وعن أصحابِه وعن التَّابعِينَ، وقال هؤلاء: هي من عمل الجاهليَّة، وتبسَّم كالمُعْجَبِ (2)!
وقال في رواية الميموني: قلت لأبي عبد الله: هل ثبت عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – في العَقِيقَة شيء؟ فقال: إي والله غيرُ حديثٍ عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: عنِ الغُلامِ شاتانِ، وعن الجَارِيَةِ شاة (3).
قلت له: فتِلكَ الأحاديثُ التي يعترض فيها؟ فقال: ليست بشيء، لا
_________
(1) جاءت العبارة في “ج” هكذا: وفعلها هؤلاء. بدلا من: وفعلها أصحابه وجعلها هؤلاء ..
(2) انظر: المغني لابن قدامة: 13/ 395.
(3) انظر: المسائل التي حلف عليها أحمد لابن أبي يعلى، ص 55.
(الكتاب/60)
يُعْبَأُ بها (1).
وأما حديثُ عَمْروِ بنِ شُعَيبٍ، عن أبيه عن جَدِّه أنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “لا أحبُّ العُقُوقَ” فسياق الحديث من أدلة الاستحباب، فإنَّ لَفْظَهُ هكذا: سُئِلَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – عن العَقِيْقَة، فقال: “لا أُحِبُّ العُقُوقَ”، وكأنه كَرِهَ الاسمَ، فقالوا: يا رسولَ الله إنما نسألُكَ عن أَحَدِنَا يُولَد له ولدٌ. فقال: “مَنْ أحبَّ منكم أن يَنْسُكَ عن ولدِه، فَلْيَفعلْ، عن الغُلامِ شاتانِ مكافئتانِ، وعن الجَارِيَة شاةٌ” (2).
وأما حديثُ أبي رافعٍ فلا يصحُّ (3).
وقد قال الإمامُ أَحْمَد في هذه الأحاديث المعارِضَةِ لأحاديث العَقِيقَةِ: ليستْ بشيءٍ، لا يُعْبَأُ بها.
وقد استفاضتِ الأحاديثُ بأن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – عقَّ عن الحَسَنِ والحُسَيْنِ، فروى أيُّوبُ عن عِكْرِمَةَ، عن ابن عبَّاس: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عقَّ عن الحَسَن والحُسَيْن كبشًا كبشًا. ذكره أبو داود (4).
وذكر جَرِيرُ بنُ حَازِمٍ عن قَتَادَةَ، عن أنسٍ، أن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – عقَّ عن
_________
(1) نقل قطعة من رواية الميموني هذه في أعلام الموقعين: 4/ 167.
(2) تقدم تخريجه فيما سبق، ص (47).
(3) تقدم تخريجه فيما سبق، ص (48)
(4) تقدم في ص (51) من رواية أبي داود: 9/ 613، والنسائي: 7/ 166.
(الكتاب/61)
الحَسَنِ والحُسَينِ كبشينِ (1).
وذكر يحيى بنُ سعيدٍ، عن عَمْرَةَ، عن عَائِشَة، قالت: عقَّ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – عن الحَسَن والحُسَيْن يوم السَّابع (2).
ولو صحَّ قولُهُ: “لا تَعُقِّي عنه” لم يدلَّ ذلك على كراهة العَقِيْقَةِ، لأنه – صلى الله عليه وسلم – أحبَّ أن يَتحمَّل عنها العقيقة، فقال لها: لا تَعُقِّي، عقَّ هو – صلى الله عليه وسلم – وكفاها المَؤُونَةَ.
وأما قولهم: إنها من فِعْلِ أهل الكتابِ. فالذي مِنْ فِعْلِهمْ تخصيصُ الذَّكَرِ بالعَقِيقَةِ دون الأنثى، كما دلّ عليه لفظُ الحديثِ، فإنه قال: “إنَّ اليَهُودَ تَعُقُّ عن الغُلام شاتينِ، ولا تَعُقُّ عن الجَارِيَة، فعقُّوا عن الغلامِ شاتينِ وعن الجاريةِ شاةً” (3).
_________
(1) رواه البيهقي في السنن: 9/ 299، وصححه ابن حبان: 12/ 125. وانظر: مجمع الزوائد للهيثمي: 4/ 57.
(2) رواه البيهقي في السنن: 9/ 299، وعبد الرزاق برقم (6963)، وصححه الحاكم: 4/ 237، وابن حبان: 12/ 127.
(3) تقدم تخريجه فيما سبق، ص (51 – 52).
(الكتاب/62)
الفصل الخامس
في اشتقاقِهَا، ومِن أيِّ شيءٍ أُخذتْ
قال أبو عُمر (1): “فأمَّا العَقِيقَةُ في اللغة؛ فروى (2) أبو عُبَيْدٍ عن الأَصْمَعِيِّ وغيرِه، أن أصلها: الشَّعر الذي يكون على رأس الصبيِّ حين يُولَد، وإنَّما سُمِّيَتْ الشاة التي تُذْبَحُ عنه عَقِيقَةً؛ لأنه يُحْلَقُ عنه ذلك الشَّعْرُ عند الذَّبْح. قال: ولهذا قال: “أمِيطُوا عنه الأذى” يعني ـ بذلك ـ الشَّعْرَ.
قال أبوعُبَيْدٍ: وهذا ممَّا قلتُ لك: إنهم ربَّما سمَّوا الشيءَ باسمِ غيره، إذا كان معه أومِنْ سببِهِ، فسمِّيَتِ الشاةُ عَقِيقَةً لعَقِيقَةِ الشَّعر، وكذلك كلُّ مولودٍ من البَهَائِمِ، فإن الشَّعْرَ الذي يكونُ عليه حينَ يُوَلدُ عَقِيْقَةٌ وعَقَّةٌ (3). قال زُهَيْرٌ يَذْكُرُ حِمَارَ وَحْشٍ:
أَذَلِكَ أَمْ أَقَبُّ البَطْنِ جَأْبٌ … عَلَيْهِ مِنْ عَقِيقَتِهِ عِفَاءُ (4)
_________
(1) الإمام الحافظ أبو عمر، يوسف بن عبدالله بن محمد بن عبدالبر النمري الأندلسي المتوفى سنة 463 هـ.
(2) في “ب”: فذكره. وفي “ج”: فذكر.
(3) ساقطة من “ج”.
(4) البيت لزهير بن أبي سُلمى في ديوانه، ص (65). وجاءت رواية الشطر الأول في التمهيد هكذا: أذلك أم شتيم الوجه …
(الكتاب/63)
قال: يعني صغارَ الوَبَرِ.
وقال ابن الرِّقَاع (1) يصِفُ حِمَارًا:
تَحَسَّرَتْ عِقَّةٌ عَنْهُ فَأَنْسَلَهَا … وَاجْتَابَ أُخْرَى جَدِيْدًا بَعْدَمَا ابْتَقَلَا (2)
قال: يريدُ أنه لما فُطِمَ من الرَّضاعِ وأكلَ البَقْلَ، ألقَى عَقِيْقَتَهُ واجتابَ أُخرى.
قال أبو عُبَيد (3): العقيقةُ والعِقَّةُ في النَّاس والحُمُرِ، ولم يُسْمَعْ في غير ذلك. انتهى كلام أبي عبيد (4).
وقد أنكر الإمام أَحمد تفسيرَ أبي عُبيدٍ هذا للعَقِيقَةِ، وما ذكَرَهُ عن الأصمعيِّ وغيرِهِ في ذلك. وقال: إنما العقيقةُ الذَّبْح نَفْسُه. وقال: ولا
_________
(1) في “ج، د”: الدفاع. وابن الرقاع هو عدي بن زيد، من أهل دمشق، كان معاصرًا لجرير مهاجيًا له، مقدمًا عند بني أمية. انظر: الأعلام للزركلي: 4/ 221.
(2) ديوان ابن الرِّقاع، ص (30). وهو من شواهد اللسان: 10/ 258، وتهذيب اللغة: 1/ 56، و 4/ 289.
(3) انظر: الغريب المصنف لأبي عبيد القاسم بن سلام: 3/ 758 ـ 759، وغريب الحديث: 2/ 284 ـ 285.
(4) انظر: التمهيد لابن عبدالبر: 4/ 308 ـ 309، والاستذكار له أيضًا: 5/ 548، وتهذيب اللغة للأزهري: 1/ 56 ـ 57.
(الكتاب/64)
وَجْهَ لما قال أبُو عُبَيْدٍ (1).
قال أبو عُمَرَ (2): واحتجَّ بعضُ المتأخِّرينَ لأَحمدَ في قوله هذا، بأن قال: ما قاله أَحمد من ذلك فمعروفٌ في اللغة، لأنه يقال: عقَّ: إذا قطع، ومنه: عقَّ والدَيْه: إذا قطعهما.
قال أبُو عُمَر: ويشهد لقول أَحمدَ قولُ الشَّاعرِ:
بِلَادٌ بِهَا عَقَّ الشَّبَابُ تَمَائِمَهُ … وَأَوَّلُ أَرْضٍ مَسَّ جِلْدِي تُرَابُهَا (3)
يريد: أنه لما شبَّ قُطِعَتْ عنه تمائمه.
ومِثْلُ (4) هذا قولُ ابنِ مَيَّادَةَ:
بِلَادٌ بِهَا نِيْطَتْ عَليَّ تَمَائِمِي … وَقُطِّعْنَ عَنِّي حِيْنَ أَدْرَكَنِي عَقْلي (5)
قال أبُو عُمَر: وقول أَحمد في معنى العَقِيقَة في اللغة أَوْلَى من قول
_________
(1) انظر: مسائل الإمام أحمد، برواية عبدالله، 267 ـ 268، التمهيد لابن عبدالبر: 4/ 308.
(2) التمهيد: 4/ 310.
(3) البيت لرقاع بن قيس الأسدي. وهو من شواهد اللسان: 7/ 418 و 12/ 70، ونسب إلى غيره.
(4) من قوله: ومثل هذا .. إلى آخر البيت ساقط من “أ”.
(5) البيت في الأغاني: 2/ 310، وفي اللسان: 1/ 69، و 7/ 418. وابن ميادة: هو أبو شرحبيل، الرماح بن يزيد. وميادة أمه. انظر: الشعر والشعراء لابن قتيبة: 2/ 655.
(الكتاب/65)
أبي عُبيد، وأقربُ وأصوبُ، والله أعلم. انتهى كلام أبي عمر (1).
وقال الجَوهَريُّ: “عقَّ عن وَلَدهِ يَعُقُّ عقًّا: إذا ذبح عنه يوم أُسبوعِه، وكذلك إذا حلق عقيقتَه” (2).
فجعل العقيقةَ لأمرينِ، وهذا أَوْلَى. والله أعلم.
وأمَّا قولُه في الحديث: “لا أُحبُّ العُقُوقَ” فهو تنبيهٌ على كراهة ما تَنْفِرُ عنه القلوبُ من الأسماء، وكان رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – شديدَ الكراهةِ لذلك جدًّا، حتى كان يغيِّر الاسمَ القبيحَ بالحَسَن، ويتركُ النُّزولَ في الأرض القبيحةِ الاسمِ، والمرورَ بين الجبلَيْنِ القبيحِ اسمُهُمَا، وكان يحبُّ الاسمَ الحَسَنَ والفَأْلَ الحَسَنَ (3).
وفي “الموطَّأ”: أنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قال ـ لِلَقْحَةٍ ـ: “مَنْ يَحْلُبُ هذه؟ ” فقام رجلٌ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ما اسْمُكَ؟ ” فقال: له الرجل (4): مُرَّة، فقال له رسول الله
_________
(1) التمهيد لابن عبدالبر: 4/ 311.
(2) الصحاح للجوهري: 4/ 1528. وانظر: معجم مقاييس اللغة: 4/ 3، لسان العرب:10/ 255، القاموس المحيط: 3/ 258.
(3) انظر: زاد المعاد: 2/ 334 وما بعدها.
(4) ساقطة من “أ”.
(الكتاب/66)
– صلى الله عليه وسلم -: “اجْلِسْ”. ثم قال: “مَن يحلُبُ هذه؟ ” فقام رجل آخر، فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ما اسمُك؟ ” فقال: حَرْبٌ. فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “اجْلِس”، ثم قال: “مَنْ يَحْلُبُ هذه؟ ” فقام رجل آخر (1)، فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ما اسمُك؟ ” فقال: يعيشُ، فقال له النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: “احلُبْ”. رواه مُرْسَلًا في “موطئه” (2).
وأسنده ابن وَهْبٍ في “جامعه” (3) فقال: حدّثني ابنُ لَهِيعَة، عن الحارث بن يزيد، عن عبد الرَّحمن بن جُبير، عن يعيش الغِفَارِيِّ، قال: دعا النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – يومًا بناقةٍ، فقال: “من يَحلُبُها؟ ” فقام رجل، فقال: “ما اسمُكَ؟ ” قال: مُرَّة، قال: “اقعُدْ”، فقام آخر فقال: “ما اسمُك؟ ” قال: جَمْرَةٌ، قال: “اقْعُدْ”. ثم قام رجل، فقال: “ما اسمك؟ ” قال: يعيش، قال: “احْلُبْهَا”.
قال أبُو عُمَر: “وهذا من باب الفَأْل الحَسَن، لا من باب الطِّيَرَةِ” (4).
وعندي فيه وجهٌ آخر: وهو أنَّ بين الاسمِ والمُسمَّى علاقةً ورابطةً تُنَاسِبُه وقلَّما يتخلَّف ذلك؛ فالألفاظُ قَوَالِبُ المعاني، والأسماءُ قَوالبُ المسمَّيات.
_________
(1) ساقطة من “أ”.
(2) في كتاب الاستئذان، باب ما يكره من الأسماء: 2/ 382 برقم (3062). وعبدالرزاق في المصنف: 11/ 41 ووصله ابن عبدالبر. انظر: التمهيد: 24/ 72، والاستذكار: 10/ 269. واللّقحة ـ بكسر اللام وفتحها ـ: الناقة قريبة العهد بالنتاج، وكثيرة اللبن.
(3) الجامع في الحديث لابن وهب: 2/ 742 برقم (654).
(4) التمهيد في الموضع السابق نفسه.
(الكتاب/67)
وقَلَّ إنْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ ذَا لَقَبٍ … إلَّا ومَعْنَاهُ، إنْ فَكَّرْتَ، في لَقَبِهْ (1)
فقُبحُ الاسمِ عنوانُ قُبحِ المسمَّى، كما أنَّ قُبْح الوجه عنوان قبح الباطن (2).
ومن هاهنا ـ والله أعلم ـ أخذ عمرُ بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ ما ذكره مالكٌ عنه، أنه قال لرجلٍ: ما اسمُك؟ فقال: جَمْرَةٌ، فقال: ابنُ مَن؟ قال: ابنُ شِهاب، قال: ممَّن؟ قال: من الحُرَقَةِ، قال: أين مَسكنُكَ؟ قال: بِحَرَّةِ النار، قال: بأيِّتها؟ قال: بِذَاتِ لَظًى. فقال عمر: أدركْ أهلك فقدِ احْتَرَقُوا. فكان كما قال عمرُ بنُ الخطابِ (3) ـ رضي الله عنه ـ.
وقد ذكر ابنُ أبي خَيثَمةَ من حديث بُرَيدَةَ: كان رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – لا يتطيَّر، فَرَكِبَ بُرَيْدَةُ في سبعينَ راكبًا من أهل بيتِهِ من بني أَسْلَمَ (4)، فَلَقِيَ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – ليلًا فقال له النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: “مَنْ أَنْتَ؟ ” قال: أنا بُرَيدَةُ، فالتفتَ إلى أبي بكر وقال: “يا أبا بكر بَرَدَ أمْرُنا وصَلُحَ (5) “. ثمَّ قال: “ممَّن؟ ” قلت:
_________
(1) قاله بعض أصحاب ثعلب، كما في “نور القبس” للحافظ اليغموري، ص (332) بلفظ:
وقَلَّما أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ ذَا لَقَبٍ … إلَّا ومعناهُ، إنْ فَتَّشتَ، في لَقَبِهْ
(2) انظر: زاد المعاد: 2/ 236، ومفتاح دار السعادة: 2/ 259.
(3) رواه مالك في كتاب الاستئذان، باب ما يكره من الأسماء: 2/ 382.
(4) في التاريخ: من بني سهم.
(5) في التاريخ: وملح.
(الكتاب/68)
مِنْ أَسْلَمَ، قال لأبي بكر (1): “الآن (2) سَلِمْنَا”، ثم قال: “ممَّن؟ ” قال: من بني سَهْمٍ، قال: “خَرَجَ سَهْمُكَ” (3).
ولما رأى سُهَيلَ بنَ عَمْرٍو مُقْبِلًا يومَ صلحِ الحُدَيبِيَةِ، قال: “سهل أَمْرُكُم” (4).
ولما انتهى (5) في مَسِيرِهِ إلى جبلَينِ، فسأل عن اسمِهِما، فقالوا: مُخْزٍ وفَاضِحٌ، فعَدَلَ عنهما، ولم يسلُكْ بينهما (6).
_________
(1) لأبي بكر. ليست في “ب، ج”.
(2) الآن: ليست في التاريخ:
(3) أخرجه ابن أبي خيثمة في التاريخ، السفر الثاني: 1/ 103، وأبو الشيخ في أخلاق النبي – صلى الله عليه وسلم -: 1/ 21، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد: 6/ 55 من رواية البزار، وقال: “وفيه عبدالعزيز بن عمران الزهري وهو متروك”. انظر: التمهيد: 24/ 73، تاريخ الإسلام للذهبي: 1/ 233.
(4) جزء من حديث طويل في قصة الحديبية، أخرجه البخاري في الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب: 5/ 331.
(5) في “أ”: وانتهى.
(6) في السيرة النبوية لابن هشام: 2/ 614: “فلما استقبل الصفراء ـ وهي قرية بين جبلين ـ سأل عن جبليها ما اسماهما؟ فقالوا: يقال لأحدهما: هذا مُسْلح، وللآخر: هذا مخرِئ. وسأل عن أهلها .. فكره رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المرور بينهما”. قال السُّهَيلي في الروض الأُنف 3/ 56: “وليس هذا من باب الطيرة التي نهى عنها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولكن من باب كراهية الاسم القبيح”. انظر: زاد المعاد: 2/ 337، ومفتاح دار السعادة: 2/ 259.
(الكتاب/69)
وغيَّر اسمَ عاصية بجميلة (1)، واسمَ أَصْرَمَ بزرْعَة (2).
قال أبو داود في “السُّنن”: وغيَّر النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – اسمَ العاصِ، وعَزِيزٍ وعَتَلَةَ (3) وشَيْطَانٍ، والحَكَمِ، وغُرَابٍ، وشِهَابٍ، فسمَّاه: هِشَامًا، وسَمَّى حَرْبًا: سِلْمًا، وسمَّى المُضْطَجِعَ: المُنْبَعِثَ، وأرْضَ عَفِرَةَ سمَّاها: خَضِرَةَ، وشِعْبَ الضَّلالةِ سمَّاهُ: شِعْبَ الهُدَى، وبَنُو الزِّنْيَةِ (4) سمَّاهُمْ: بني الرّشْدَةِ (5).
وهذا بابٌ عجيبٌ من أبواب الدِّينِ، وهو العُدُولُ عن الاسمِ الذي تستقبِحُهُ العُقُولُ وتَنْفِرُ منه النُّفوس إلى الاسم الذي هو أحسنُ منه، والنفوس إليه أَمْيَلُ. وكان النبيّ – صلى الله عليه وسلم – شديدَ الاعتناء بذلك حتى قال: “لايَقُلْ أحدُكُم: خَبُثَتْ نَفْسِي، ولكنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِي” (6).
_________
(1) أخرجه مسلم في الآداب، باب استحباب تغيير الاسم القبيح إلى حسن: 3/ 1386 برقم (2139).
(2) أخرجه أبو داود في الأدب، باب تغيير الاسم القبيح: 13/ 353. والبخاري في الأدب المفرد، ص 65، طبعة دار القلم.
(3) في (ب، ج): غفلة.
(4) في “ج”: الريبة.
(5) أخرجه أبو داود في الأدب تعليقًا، باب تغيير الاسم القبيح: 13/ 355. وقال: تركت أسانيدها للاختصار. وانظر: الأدب المفرد، ص (65 – 68)، سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، رقم (208 و 215).
(6) أخرجه البخاري في الأدب، باب لا يقل خبثت نفسي: 10/ 563 ومسلم في الألفاظ من الأدب، باب كراهة قول الإنسان: خبثت نفسي: 4/ 1765.
و”لقست نفسي” بمعنى خبثت أو غثّت أو فسدت، وقال ابن الأعرابي: معناه ضاقت. والخبث كثيرًا ما يستعمل في الكتب الإلهية بمعنى خبث الباطن وسوء السريرة، فهذه الكلمة بمنزلة الهيئات المنكرة، ولهذا أرشد النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى تركها. انظر: حجة الله البالغة للدِّهلوي: 2/ 1180.
(الكتاب/70)
فلما كان اسم العَقِيقة بينه وبين العُقُوق تناسب وتشابه (1)، كرهه – صلى الله عليه وسلم – وقال: “إن الله لا يحب العُقُوق” ثم قال: “من وُلِدَ له مولودٌ فأحبَّ أن يَنْسُك عنه فَلْيفعلْ” (2).
_________
(1) في “ب”: مشابهة.
(2) تقدم تخريجه فيما سبق ص (47).
(الكتاب/71)
الفصل السَّادس
هل يُكْرهُ تَسميتُها عَقيقة؟
اختُلِفَ فيه؛ فكرهتْ ذلك طائفةٌ. واحتجُّوا بأنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – كَرِهَ الاسْمَ، فلا ينبغي أن يُطْلَقَ على هذه الذبيحةِ الاسمُ الذي كَرهَهُ.
قالوا (1): فالواجب ـ بظاهر هذا الحديث ـ أن يُقال لها: “نَسِيكَةٌ” ولا يقال لها: “عَقِيقَةٌ”.
وقالت طائفةٌ أخرى: لا يكره ذلك، ورأوا إباحتَه.
واحتجُّوا بحديث سَمُرَةَ: “الغُلام مُرْتَهَنٌ بعَقِيْقَتِهِ”، وبحديث سلمانَ ابنِ عامرٍ “مع الغُلامِ عقيقتُه”.
ففي هذين الحديثين لفظ العَقِيقَةِ، فدلَّ على الإباحةِ، لا على الكراهةِ.
قال أبو عُمَر: فدلَّ ذلك على الكراهةِ في الاسمِ، وعلى هذا كُتُبُ الفقهاءِ في كلِّ الأمصار، ليس فيها إلا العَقِيقَةُ، لا النَّسِيكَة (2).
_________
(1) ساقطة من “أ”.
(2) التمهيد لابن عبدالبر: 4/ 308. ونص عبارته: فهذا لفظ العقيقة قد صحَّ عن النبي – صلى الله عليه وسلم – من وجوه ثابتة، أثبت من حديث زيد بن سلمة، وعليها العلماء، وهو الموجود في كتب الفقهاء وأهل الأثر في الذبيحة: العقيقة دون النسيكة. وانظر: الاستذكار له أيضا: 5/ 547 ـ 548.
(الكتاب/72)
قال: على أنَّ حديثَ مالكٍ هذا ليس فيه التصريحُ بالكراهةِ، وكذلك حديثُ عَمْرو بنِ شُعَيْب عن أبيه عن جدِّه. إنَّما فيهما: كأنَّه كره الاسمَ. وقال: “من أحبَّ أن يَنْسُكَ عن ولدهِ فَلْيفعلْ” (1).
قلت: ونظير هذا اختلافُهم في تسميةِ العِشَاء بالعَتَمَةِ (2)، وفيه روايتان عن الإمام أَحمد (3).
والتحقيقُ في الموضعين: كراهةُ هَجْرِ الاسْمِ المشروعِ من العِشاءِ والنَّسِيكةِ، والاستبدالِ به اسمَ العَقيقةِ والعتَمَةِ.
فأمَّا إذا كان المستعمَلُ هو الاسْمُ الشَّرْعِيُّ، ولم يُهْجَرْ، وأُطْلِقَ الاسمُ الآخرُ أحيانًا، فلا بأس بذلك. وعلى هذا تتَّفِقُ الأَحَادِيثُ (4). وبالله التَّوفيقُ.
_________
(1) الموضع السابق نفسه.
(2) أخرج البخاري في المواقيت باب من كره أن يقال للمغرب العشاء 2/ 43: “لا يغلبنّكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب”. وفي حديث آخر عند مسلم في المساجد 1/ 445: “على اسم صلاة العشاء”. وانظر: شرح السنة للبغوي 2/ 222.
(3) انظر: مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبدالله: 1/ 179 ـ 180.
(4) انظر: زاد المعاد: 2/ 350، وحاشية سنن أبي داود للمصنف: 7/ 276 ـ 277.
(الكتاب/73)
الفصل السَّابع
في ذِكر الخلافِ في وجوبِها واستحبابِها،
وحُجَجِ الطَّائفتين
قال ابنُ المنذرِ (1): “واختَلفُوا في وُجُوبِ العقيقة؛ فقالت طائفةٌ: العقيقةُ واجبةٌ، لأن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – أمَرَ بذلك، وأَمْرُهُ على الفَرْضِ (2).
رُوِّينا عن الحسَنِ البَصْريِّ أنه قال في رجلٍ لم يُعَقَّ عنه، قال: يَعُقُّ عن نَفْسهِ، وكان لا يَرى على الجَارِيَة عقيقةً (3).
_________
(1) في الإشراف على مذاهب العلماء: 3/ 416 ـ 417.
(2) وهو قول الليث بن سعد والحسن البصري وابن حزم وأصحابه. انظر: المحلّى: 7/ 523 و 526، وزاد المعاد للمصنف: 4/ 332. وأبان ابن رشد الحفيد أن سبب اختلافهم هو: تعارض مفهوم الآثار في هذا الباب، وذلك أن ظاهر حديث سمرة وهو قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “كل غلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويماط عنه الأذى” يقتضي الوجوب. وظاهر قوله – صلى الله عليه وسلم – وقد سئل عن العقيقة؟ فقال: “لا أحب العقوق ومن ولد له ولد فأحب أن ينسك عن ولده فليفعل”، يقتضي الندب أو الإباحة، فمَنْ فهم منه الندب قال: العقيقة سنة، ومن فهم الإباحة قال: ليست بسنة ولا فرض، ومن أخذ بحديث سمرة أوجبها. انظر: بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد: 1/ 465 ـ 466.
(3) وانظر: مصنف عبدالرزاق: 4/ 332، وابن أبي شيبة: 8/ 245، وفي طبعة دار القبلة: 12/ 330.
(الكتاب/74)
قال: ورُوِي عن بُرَيْدَةَ: “أن النَّاس يُعْرَضُونَ يومَ القيامة على العَقِيقَة، كما يُعرَضون على الصَّلواتِ الخمسِ”.
قال إسحَاقُ بنُ راهُويَه: حدّثنا يعلى بنُ عُبيد، قال: حدّثنا صالحُ بنُ حِبَّان، عن ابن بُرَيدَةَ، عن أبيه: أنَّ الناس يُعْرَضُونَ يومَ القيامةِ على العَقِيقَةِ، كمَا يُعْرَضُونَ على الصَّلواتِ الخمسِ.
فقلتُ لابن بُرَيدَةَ: وما العَقِيقَة؟ قال: المولودُ يولَدُ في الإسلامِ يَنبغِي أن يُعَقَّ عنه (1).
وقال أبو الزِّنَادِ: العَقِيقَةُ مِنْ أَمْرِ المُسْلمينَ الذي (2) كانوا يَكْرهونَ تَرْكَهُ.
قال: ورُوِّينا عن الحَسَنِ البصريِّ أنه قال: العَقِيقَةُ عن الغُلامِ واجبةٌ يومَ سَابعِهِ”.
وقال أبو عُمَر: “وأما اختلافُ العلماءِ في وجوبها؛ فذهب أهل
_________
(1) انظر: التمهيد لابن عبدالبر: 4/ 311، والاستذكار: 5/ 550 ـ 551. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح 9/ 515: “وأخرج ابن حزم عن بريدة الأسلمي قال: إنَّ الناس يعرضون يوم القيامة على العقيقة كما يعرضون على الصلوات الخمس. وهذا لو ثبت لكان قولاً آخر يتمسك به من قال بوجوب العقيقة. قال ابن حزم: ومثله عن فاطمة بنت الحسين”. وانظر: المحلى لابن حزم: 7/ 525.
(2) في “أ، ج”: الذين.
(الكتاب/75)
الظَّاهر إلى أن العَقِيقَةَ واجبةٌ فرضًا، منهم داود وغيره. قالوا: لأنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أَمَرَ بها وعَمِلَ بها وقال: “الغُلامُ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِه” و”مع الغُلام عَقِيقَتُه”، وقال: “عن الجَارِيَة شَاةٌ وعن الغُلامِ شَاتانِ”، ونحو هذا من الأحاديث، وكان بُرَيْدَةُ الأسْلَمِىُّ يُوجِبُها ويشبِّهها بالصلاة، وكان الحَسَنُ البصريُّ يذهب إلى أنها واجبةٌ عن الغُلامِ يومَ سابعِه، فإن لم يُعَقَّ عنه، عقَّ عن نفسهِ (1).
وقال اللَّيثُ بنُ سَعْدٍ: يُعَقُّ عن المولود أيَّام سَابِعِهِ في أيِّها شاؤوا، فإنْ لم يتهيَّأ لهمُ العقيقةُ في سابعهِ، فلا بأسَ أن يُعَقَّ عنه بعد ذلك، وليس بواجبٍ أن يُعَقَّ عنه بعد سبعةِ أيّامٍ. فكان اللَّيثُ بنُ سعدٍ يذهب إلى أنها واجبةٌ في السَّبْعَةِ الأيَّامِ.
وكان مالكٌ يقول: هي سنَّةٌ واجبةٌ يجبُ العملُ بها. وهو قَولُ الشّافِعِيّ، وأَحْمَدَ بنِ حَنْبَل، وإسْحَاق، وأبي ثَوْر، والطَّبريِّ”. هذا كلام أبي عمر (2).
قلت: والسنَّةُ الواجبةُ ـ عند أصحاب مالك ـ ما تأكَّد استحبابُه وكُرِهَ تَرْكُهُ، فيسمُّونه واجبًا وجوبَ السُّنَنِ؛ ولهذا قالوا: غُسل الجمعة سنةٌ
_________
(1) انظر: المحلّى لابن حزم: 7/ 524 ـ 527، التمام لما صح في الروايتين والثلاث والأربع عن الإمام لأبي يعلى: 2/ 235.
(2) في التمهيد: 4/ 311 وما بعدها، والاستذكار: 5/ 550 – 552.
(الكتاب/76)
واجبة، والأضحيةُ سنةٌ واجبة، والعقيقةُ سنةٌ واجبةٌ.
وقد حكى أصحاب أَحمدَ عنه في وجوبها روايتين، وليس عنه نصٌّ صريحٌ في الوجوب (1). ونحن نذكرُ نصوصَه:
قال الخَلّالُ في “الجامع”: “ذكر استحباب العَقِيقَة وأنها غير واجبة”.
أخبرنا سليمان بن الأشعث، قال: سمعت أبا عبد الله سُئِلَ عن العقيقةِ، ما هيَ؟ قال: الذبيحةُ. وأنكر قولَ الذي يقول: هي حَلْقُ الرَّأسِ (2).
أخبرني (3) محمَّد بن الحُسَين، أن الفَضلَ حدَّثهم، قال: سألت أبا عبد الله عن العقيقة: واجبةٌ هي؟ قال: لا، ولكنْ من أحبَّ أن يَنْسُكَ فليَنْسُكْ.
قال: وسألت أبا عبد الله عن العَقِيقَة: أتُوجِبُهَا؟ قال: لا.
ثم ذكر عن أَحمد بن القاسم أن أبا عبد الله قيل له في العقيقة: واجبة هي؟ قال: أمَّا واجبةٌ، فلا أدري، ولا أقولُ: واجبةٌ. ثم قال: أشدُّ شيءٍ فيه
_________
(1) انظر: مسائل الإمام أحمد وإسحاق: 8/ 3943 ـ 3944، ورواية أبي داود، ص 526، والتمام لأبي يعلى: 2/ 235، والمغني لابن قدامة: 13/ 394، والمبدع لابن مفلح: 3/ 300 ـ 301، والإنصاف للمرداوي: 4/ 110.
(2) مسائل الإمام أحمد برواية أبي داود، ص 256. وانظر: رواية ابن هانئ: 2/ 130.
(3) في “أ”: إلى أن.
(الكتاب/77)
أنَّ الرَّجُلَ مُرْتهَنٌ بعقيقتهِ.
وقال الأثْرمُ: قلت لأبي عبد الله: العقيقَة واجبة؟
قال: لا. وأشدُّ شيءٍ روي (1) فيها حديث: “الغُلام مُرْتَهنٌ بعقيقتهِ” ـ هو أشدُّها (2).
وقال حَنْبَل (3): قال أبو عبد الله: لا أحبُّ لمن أمكنَهُ وقدر: أن لا يَعقَّ عن ولده، ولا يدعه، لأن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “الغُلامُ مرتهنٌ بعقيقتهِ” فهو أشدُّ ما روي في العقيقةِ.
وقال أبو الحارث (4): سألتُ أبا عبدِ الله عن العقيقة، واجبةٌ هي على الغنيِّ والفقير إذا وُلِدَ له أن يَعقَّ عنه؟
قال أبو عبد الله: قال الحَسَنُ: عن سَمُرَة، عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: “كلُّ غلامٍ رهينةٌ بعقيقتهِ حتى يُذْبَحَ عنه يومَ سابعهِ ويُحْلَقَ رأسُه”. هذه سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإني لأُحِبُّ أن تُحيَا هذه السنَّةُ، أرجو أن يُخلِفَ الله عليه.
_________
(1) ساقطة من “أ”.
(2) مسائل الإمام أحمد، رواية صالح: 2/ 208.
(3) في “ج”: وقال أحمد بن حنبل.
(4) في “أ، ج”: الحارث. وأبو الحارث هو أحمد بن محمد الصائغ، لم تؤرخ وفاته، روى عن الإمام أحمد مسائل كثيرة. انظر: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى: 1/ 74 – 75.
(الكتاب/78)
وقال إسْحَاقُ بنُ إبراهيمَ: سألتُ أبا عبد الله عن حديث النبيّ – صلى الله عليه وسلم – ما معناه: “الغُلام مرتهنٌ بعقيقتهِ؟ ” قال: نعم، سنَّةُ النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أن يُعَقَّ عن الغُلام شاتين، وعن الجَارِيَة شاةً، فإذا لم يُعَقَّ عنه، فهو مُحْتَبسٌ بعقيقتهِ حتى يُعَقَّ عنه (1).
وقال جَعْفرُ بنُ محمَّدٍ: قيل لأبي عبد الله في العقيقة: فإن لم تكن عنده؟ قال: ليس عليه شيءٌ.
وقال أبو الحارث (2): قيل لأبي عبد الله في العَقِيقَة: فإنْ لم يكنْ عنده ـ يعني (3) ما يَعُقُّ ـ؟ قال: إن استقرضَ رجوتُ أنْ يُخلِفَ اللهُ عليه، أحْيَا سُنَّةً (4).
وقال صالح: قلت لأبي: يُولَد للرَّجل وليس عنده ما يَعُقُّ، أَحَبُّ إليك أن يستقرضَ ويَعُقَّ عنه، أم يؤخِّر ذلك حتى يُوسِرَ؟
فقال: أشدُّ ما سمعتُ في العَقِيقَة حديثُ الحَسَن عن سَمُرَةَ عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: “كلُّ غلامٍ رهينةٌ بعقيقته”، وإني لأرجو إنِ استقرضَ أن يُعَجِّلَ اللهُ له الخَلَفَ، لأنَّه أَحْيَا سُنَّةً مِن سُنَنِ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – واتَّبعَ ما جاءَ به (5).
_________
(1) انظر: مسائل الإمام أحمد، رواية إسحاق: 2/ 130.
(2) في “أ، ب، ج”: الحارث.
(3) ساقطة من “أ”.
(4) انظر: المغني لابن قدامة: 13/ 395.
(5) انظر: مسائل الإمام أحمد، رواية ابنه صالح: 2/ 208.
(الكتاب/79)
فهذه نُصوصُه كما تَرى. ولكنَّ أصحابَه فرَّعُوا على القولِ بالوجوبِ ثلاثةَ فُروعٍ:
(أحدها): هل هي واجبةٌ على الصبيِّ في مالِه، أو مالِ أبيهِ؟
(الثاني): هل تجبُ الشَّاةُ على الذَّكَرِ أو الشَّاتانِ؟
(الثالث): إذا لم يَعُقَّ عنه أبوهُ هل تَسْقُطُ أو يجبُ أن يَعُقَّ عن نفسهِ إذا بلَغَ؟ (1)
فأمَّا الفرع الأول، فحَكَوا فيه وجهينِ:
(أحدهما): يجبُ على الأبِ. وهو المنصوصُ عن الإمام أَحمد. قال إسماعيل بن سعيد الشَّالَنْجِي: سألت أَحمد عن الرجل يخبرُه والدُه أنه لم يَعُقَّ عنه، هل يَعُقُّ عن نفسهِ؟ قال: ذلك على الأبِ (2).
و (الثاني): في مال الصبيِّ.
وحجةُ من أوجبها على الأبِ: أنه هو المأمورُ بها كما تقدَّم.
واحتجَّ مَن أوجبها على الصبيِّ بقوله: “الغُلامُ مرتهنٌ بعقيقتهِ”.
وهذا الحديثُ يحتجُّ به الطائفتان، فإنَّ أوَّلَهُ الإخبارُ عن ارتهانِ الغُلامِ بالعقيقة، وآخره الأمرُ بأن يُراقَ عنه الدَّمُ (3).
_________
(1) انظر فيما سيأتي ص (128).
(2) انظر: التمام لما صحّ في الروايتين والثلاث والأربع لأبي يعلى: 2/ 237.
(3) انظر: المغني لابن قدامة: 13/ 397.
(الكتاب/80)
قال الموجبون: ويدلُّ على الوجوب قولُه: “عن الغُلام شاتانِ وعن الجَارِيَةِ شاة”. وهذا يدلُّ على الوجوب، لأنَّ المعنى: يجزئ عن الجَارِيَة شاةٌ، وعن الغُلام شاتانِ (1).
واحتجوا بحديثِ البُخَاريِّ عن سلمانَ بنِ عامرٍ عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “معَ الغُلامِ عقيقتُه فأهْرِيقُوا عنه دمًا وأمِيْطُوا عنه الأذَى”.
قالوا: وهذا يدلُّ على الوجوب من وجهين: أحدهما: قوله: “مع الغُلام عقيقته”. وهذا ليس إخبارًا عن الواقع، بل عن الواجب، ثم (2) أمَرَهُمْ أن يُخرِجُوا عنه هذا الذي معه، فقال: “أهْرِيقُوا عنه دمًا”.
قالوا: ويدلُّ عليه أيضًا حديث عَمْرِو بنِ شُعَيبٍ عن أبيه عن جَدِّه، أنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – أَمَر بتسميةِ المولودِ يومَ سابعهِ، ووَضْعِ الأذَى عنه، والعَقِّ.
قالوا: وروى التّرمذيّ: حدّثنا يحيى بن خلَف، حدّثنا بِشر بن المفضّل، حدّثنا عبد الله بن عثمان بن خُثيم، عن يوسف بن ماهك، أنهم دخلُوا على حفصةَ بنتِ عبدِ الرَّحمن فسألُوها عن العَقِيقَة؟ فأخبرتْهم أن عَائِشَةَ ـ رضي الله عنها ـ أخبرتها أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أَمَرَهُم عن الغُلام شاتانِ، وعن الجَارِيَة شاةٌ.
_________
(1) “وهذا يدل على الوجوب … شاتان” ساقط من “أ”.
(2) وهذا هو الوجه الثاني.
(الكتاب/81)
قال التّرْمِذِيّ: “هذا حديث حسن صحيح” (1).
وقال أَبو بكرِ بنُ أَبي شَيبةَ: حدّثنا عفَّانُ (2)، حدّثنا حمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، حدّثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم، عن يوسف بن مَاهك، عن حفصةَ بنتِ عبدِ الرَّحمنِ، عن عائشةَ ـ رضي الله عنها ـ قالت: “أمَرَنَا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – أن نعُقَّ عن الغُلامِ شاتينِ، وعن الجَارِيَة شاةً” (3).
قال أبو بكر: حدّثنا يَعقوب بن حُمَيد بن كاسب، حدّثنا عبد الله بن وهب، قال حدّثني: عَمْرو بن الحارث، عن أيوب بن موسى أنه حدثه، أنَّ يزيد بن عبدٍ المُزَنِيَّ حدَّثه أنَّ النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “يُعَقُّ عن الغُلام، ولا يُمَسُّ رأسه بدمٍ” (4).
قالوا: وهذا خبرٌ بمعنى الأمرِ.
قال أبو بكر: وحدّثنا ابن فُضَيلٍ، عن يحيى بنِ سعيدٍ، عن محمَّدِ ابنِ إبراهيمَ، قال: كان يُؤمَر بالعَقيقة ولو بعُصْفُورٍ (5).
_________
(1) تقدم تخريجه فيما سبق، ص (50).
(2) في “أ”: عثمان.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة: 8/ 239، وفي طبعة دار القبلة: 12/ 322.
(4) المصنف لابن أبي شيبة: 8/ 239، وفي طبعة دار القبلة:12/ 324 ـ 325، وأخرجه ابن ماجه في الذبائح، باب العقيقة: 2/ 1057 برقم (3163).
(5) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: 8/ 236، وفي طبعة دار القبلة: 12/ 320، وبنحوه رواه مالك في الموطأ، باب العمل في العقيقة: 1/ 419، والإمام أحمد: 2/ 47 وفي طبعة الرسالة: 12/ 320، والبيهقي في معرفة السنن والآثار: 14/ 71، وهو في الأم للإمام الشافعي: 7/ 217.
(الكتاب/82)
فصل
قال القائلون بالاستحباب: لو كانت واجبةً لكان وجوبُهَا معلومًا من الدِّين (1)؛ لأنَّ ذلك ممَّا تَدعو الحاجةُ إليه وتَعُمُّ به البَلْوَى (2)، فكانَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – يبيِّن (3) وجوبَها للأمَّة بيانًا عامًّا كافيًا تقومُ به الحجَّةُ وينقطعُ معه العُذْرُ.
قالوا: وقد علَّقها بمحبَّة فاعلِهَا، فقال: “مَن وُلِدَ له ولدٌ فأحبَّ أن يَنْسُكَ عنه فَلْيَفْعل”.
قالوا: وفِعْلُ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – لها لا يدلُّ على الوجوبِ، وإنَّما يدلُّ على الاستحبابِ.
قالوا: وقد روى أبو داود من حديث عَمْرِو بنِ شُعَيبٍ، أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – سُئِلَ عن العَقِيقَة؟ فقال: “لَا يُحِبُّ اللهُ العُقُوقَ”، كأنه كَرِهَ الاسمَ، وقال:
_________
(1) المعلوم من الدين بالضرورة، وهو ما ظهر حكمه بين المسلمين وزالت الشبهة في حكمه بالنصوص الواردة فيه، كوجوب الصلاة وتحريم الخمر والزنا. وسمي بذلك لأن كلَّ واحدٍ من المسلمين يعلم أن هذا الأمر من الدين.
(2) عموم البلوى: شيوع الأمر وانتشاره علمًا أو عملًا مع الاضطرار إليه، ومنه قولهم: عموم البلوى موجب للرخصة.
(3) في “أ”: بين.
(الكتاب/83)
“مَنْ وُلِدَ له ولدٌ فأحبَّ أن يَنْسُكَ عنه فَلْيَفعَلْ؛ عن الغُلامِ شاتانِ مكافئتانِ، وعن الجَارِيَة شاةٌ” (1).
وهذا مُرْسَلٌ، وقد رواه مرة عن عَمْرو عن أبيه، وقال: أُرَاهُ عن جدِّهِ (2).
وروى مالك عن زيدِ بنِ أَسْلَم عن رجلٍ من بني ضَمْرَةَ عن أبيهِ (3)، أنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – سُئِلَ عن العَقِيقَةِ؟ فقال: “لا أُحبُّ العُقُوق” وكأنه إنَّما كَرِهَ الاسْمَ، وقال: “مَنْ أحبَّ أن يَنْسُكَ عن وَلَدِهِ فَلْيَفعَلْ” (4).
قال البَيهَقِيّ: وإذا انضمَّ إلى الأوَّل قَوِيَا (5).
_________
(1) أخرجه أبو داود في الضحايا، باب في العقيقة: 9/ 614 ـ 615 برقم (2842).
(2) في الموضع السابق: 9/ 614.
(3) عن أبيه. ساقطة من “ج”.
(4) أخرجه الإمام مالك في كتاب العقيقة، باب ما جاء في العقيقة: 1/ 418، وفي رواية محمد بن الحسن: 2/ 652 مع التعليق الممجَّد، وأبو داود في الضحايا، باب في العقيقة: 9/ 614 – 615 برقم (2842)، والنسائي في العقيقة: 7/ 162، والإمام أحمد: 2/ 194، وأخرجه ابن أبي شيبة: 8/ 237، وفي طبعة دار القبلة: 12/ 324، وعبد الرزاق: 4/ 329، والبيهقي في السنن: 9/ 301 ـ 302، وفي شعب الإيمان: 15/ 106، وصححه الحاكم: 4/ 23
(5) انظر: سنن البيهقي: 9/ 300.
(الكتاب/84)
قلت: وحديث (1) عَمْرِو بنِ شُعَيب قد جوَّدهُ عبدُ الرزَّاق، فقال: أخبرنا داود بنُ قَيس، قال: سمعتُ عَمْرَو بنَ شُعَيب يحدِّث عن أبيه عن جدِّه قال: سُئِل النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – عن العقيقةِ … فذكر الحديث (2).
_________
(1) ساقطة من “ج”.
(2) مصنف عبدالرزاق: 4/ 329، وانظر: التمهيد: 10/ 391.
(الكتاب/85)
الفصل الثامن
في الوقت الَّذي تُستحبُّ (1) فيه العقيقةُ
قال أبو داود في “كتاب المسائل”: سمعت أبا عبد الله يقول: العقيقةُ تُذبَح يوم السَّابعِ (2).
وقال صالحُ بنُ أحمدَ: قال أَبي فِي العَقِيقَة: تُذبحُ يوم السَّابعِ، فإنْ لم يفعلْ ففي أربعَ عَشْرَة، فإنْ لم يفعلْ، ففي إحدى وعشرينَ (3).
وقال الميموني: قلت لأبي عبد الله: متى يُعَقُّ عنه؟ فقال: أما عائشةُ فتقول: سبعةَ أيامٍ، وأربعةَ عشر، ولأحد وعشرينَ (4).
وقال أبو طالب: قال أَحمد: تُذبح العَقِيقَة لأحد وعشرين يومًا. انتهى.
والحجة على ذلك: حديثُ سَمُرَةَ المتقدِّمُ: “الغُلام مُرتهَنٌ
_________
(1) في “أ، ج”: يستحب.
(2) مسائل الإمام أحمد لأبي داود، ص 256، وانظر: التمام لما صح في الروايتين والثلاث والأربع عن الإمام لابن أبي يعلى: 2/ 236 ـ 237.
(3) مسائل الإمام أحمد، رواية صالح: 2/ 210.
(4) في “أ”: ولإحدى وعشرين. وفي “ج”: وإحدى وعشرين. وسقطت المسألة كلها من “د”.
(الكتاب/86)
بعقيقتِهِ، تُذبح عنه يومَ السَّابعِ ويُسَمَّى” (1) قال التّرْمِذِيّ: “حديث صحيح” (2).
وقال عبد الله بن وهب: أخبرني محمَّد بنُ عَمْرو، عن ابن جُرَيْج، عن يحيى بنِ سعيد، عن عَمْرَةَ بنتِ عبدِ الرَّحمنِ، عن عائشةَ قالت: “عقَّ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – عن حسنٍ وحُسينٍ يوم السَّابعِ وسمَّاهُمَا، وأمَرَ أن يُمَاطَ عن رؤوسِهِما الأذَى” (3).
وقال أبو بكرِ ابنُ المنذِر: “حدّثنا محمَّد بنُ إسماعيل الصَّائغُ، قال: حدّثني أبو جعفر الرَّازيُّ، حدّثنا أبو زهير عبد الرَّحمن بن معن (4)، حدّثنا محمَّد بنُ إسْحَاق عن عَمْرِو بنِ شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه، قال: أمَرَنَا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – حينَ سابعِ المولودِ، بتسميته، وعقيقتهِ، ووَضْعِ الأذى عنهُ (5).
وهذا قول عامَّةِ أهلِ العِلمِ. ونحن نَحْكِي ما بلَغَنا من أقوالهم.
_________
(1) وانظر: فتح الباري: 9/ 519.
(2) انظر: سنن الترمذي، كتاب الأضاحي، باب في العقيقة: 4/ 101.
(3) أخرجه ابن حبان في صحيحه: 12/ 27 برقم (5311)، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي: 4/ 237، ورواه البيهقي في السنن: 9/ 299.
(4) في “ب، ج”: معمر. قال الحافظ ابن حجر في التهذيب: 6/ 246: صوابه ابن مغراء.
(5) انظر: المصنف لابن أبي شيبة: 8/ 240، وفي طبعة دار القبلة: 12/ 326.
(الكتاب/87)
وأرفعُ من رُويَ عنه ذلك: عائشةُ أمُّ المؤمنينَ، كما حكاه أَحمد عنها في رواية الميمونيِّ.
وكذلك قال الحَسَنُ البصريُّ وقَتَادَةُ: يُعَقُّ عنه يومَ سابعهِ” (1).
وقال أبو عُمرَ (2): “وكان الحَسَنُ البصريُّ يذهب إلى أنّها واجبةٌ عن الغُلام يومَ سابعهِ، فإن لم يُعَقَّ عنه، عقَّ عَن نَفْسهِ.
وقال اللَّيث بنُ سعدٍ: يُعَقُّ عن المولود في أيام سابعِه، فإن لم يتهيَّأ لهم العَقِيقَةُ في سابعِه، فلا بأسَ أن يُعَقَّ عنه بعد ذلك، وليس بواجبٍ أن يُعَقَّ عنه بعد سبعةِ أيام”.
قال أبُو عُمَر: “وكان اللَّيثُ يذهب إلى أنها واجبةٌ في السبعةِ الأيامِ.
وقال عطاء: إنْ أخطأهم أمْرُ العَقيقَة يومَ السَّابع، أحببت أن يؤخِّره (3) إلى اليوم السَّابع الآخرِ.
وكذلك قال أَحْمَد، وإسْحَاق، والشّافعيّ، ولم يَزِدْ مالك على السَّابع الثاني.
وقال ابنُ وهب: لا بأس أن يُعَقَّ عنه في السَّابع الثالث. وهو قولُ
_________
(1) الإشراف على مذاهب العلماء لابن المنذر: 3/ 418.
(2) التمهيد لابن عبدالبر: 4/ 311 ـ 312، والاستذكار له أيضًا: 5/ 550 ـ 551.
(3) في “أ”: يؤخر.
(الكتاب/88)
عائشةَ وعطاءٍ وأَحمدَ وإسْحَاق.
قال مالك: ولا يُعَدُّ اليوم الذي وُلِدَ فيه، إلا أنْ يُولَدَ قبلَ الفَجْرِ مِنْ ليلةِ ذلكَ اليومِ” (1).
والظاهر: أنَّ التقييدَ بذلك استحبابٌ، وإلا فلَو ذَبحَ عنه في السَّابع (2)، أوالثامن، أو العاشر، أو ما بَعْدَه أجزأتْ. والاعتبارُ بالذَّبْحِ، لا بيوم الطَّبخِ والأكلِ.
_________
(1) هذه كلها في التمهيد لابن عبدالبر: 4/ 312 ـ 316، وفي الاستذكار: 5/ 551 ـ 552. وانظر: مصنف ابن أبي شيبة: 12/ 326 ـ 327، وعمدة القاري للعيني: 21/ 88، والمغني لابن قدامة: 13/ 396 ـ 397، والمبدع: 3/ 301، والإنصاف للمرداوي: 4/ 111، والمحلى لابن حزم: 7/ 528 ـ 529.
(2) في “ب”: الرابع.
(الكتاب/89)
الفصل التاسع
في أنَّ العَقيقةَ أفضلُ من التَّصدُّقِ بثَمنها و لَو زادَ
قال الخَلّال: “باب ما يستحبُّ من العَقِيقَة وفضلها على الصَّدَقِةِ”: أخبرنا سليمانُ بن الأشعثِ، قال: سُئل أبو عبد الله ـ وأنا أسمع ـ عن العَقِيقَةِ: أحبُّ إليك، أو تدفعُ ثمنها في المساكين؟ قال: العَقِيقَةُ (1).
وقال في رواية أبي الحارث ـ وقد سئل عن العَقِيقَة ـ: إن استقرضَ رجوتُ أن يُخلِفَ اللهُ عليه، أحيا سُنَّةً (2).
وقال له صالحٌ ابنُه: الرَّجلُ يُوْلَد له، وليس عنده ما يَعُقُّ، أَحَبُّ إليك أنْ يَسْتقرضَ ويَعُقَّ عنه، أم يؤخِّر ذلك حتى يُوْسِرَ؟
قال: أشدُّ ما سمعنا في العَقِيقَة حديثُ الحَسَنِ عن سَمُرَةَ، عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: “كلُّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بعَقيقتهِ” (3) وإنِّي لأرجو إن استقرضَ أن يعجِّل اللهُ له الخَلَف، لأنَّه أحيا سُنّةً من سُنَنِ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم -، واتَّبعَ ما جاءَ عنه”. انتهى (4).
_________
(1) انظر: مسائل الإمام أحمد، برواية أبي داود، ص 256.
(2) انظر: مسائل الإمام أحمد، رواية صالح: 2/ 208، والمغني لابن قدامة: 13/ 395.
(3) تقدم تخريجه فيما سبق، ص (49).
(4) أي انتهى ما نقله عن الخلال. وانظر: مسائل الإمام أحمد، رواية صالح: 2/ 210 ـ 212.
(الكتاب/90)
وهذا لأنها سُنَّةٌ ونسيكةٌ مشروعةٌ بسبب تجدُّدِ نعمةِ الله على الوالدَيْنِ، وفيها سرٌّ بديعٌ موروثٌ عن فداء إسماعيل بالكبشِ الذي ذُبِحَ عنهُ وفدَاه اللهُ به، فصار سنةً في أولاده بعده: أن يفدي أحدُهم عند ولادته بذِبْحٍ يُذْبَحُ عنه (1).
ولا يُستنكَر أن يكونَ هذا حِرْزًا له من ضَررِ (2) الشيطانِ بعد ولادتِه، كما كان ذكرُ اسمِ الله عند وَضْعِه في الرَّحمِ حرزًا له من ضررِ الشيطانِ؛ ولهذا قلَّ من يتركُ أبواه العقيقةَ عنه إلا وهو في تخبيطٍ من الشيطانِ.
وأسرارُ الشَّرع أعظمُ من هذا، ولهذا كان الصوابُ أنَّ الذكر والأنثى يشتركانِ في مشروعية العقيقة وإن تَفاضَلا في قَدْرِهَا.
وأما أهلُ الكتابِ، فليست العقيقةُ عندهم للأنثى، وإنَّما هي للذَّكَرِ خاصَّة. وقد ذهبَ إلى ذلك بعضُ السَّلَفِ.
قال أبو بكر ابنُ المُنْذِر: “وفي هذا الباب قولٌ ثالثٌ قاله الحَسَنُ وقَتَادَةُ: كانا لا يريان عن الجَارِيَة عَقِيقةً” (3).
_________
(1) يذبح عنه. ساقط من “أ”.
(2) ساقط من “أ، د”.
(3) الإشراف على مذاهب العلماء، لابن المنذر: 3/ 415. وانظر: التمهيد: 4/ 317، والاستذكار: 5/ 550 ـ 554، ومصنف عبدالرزاق: 4/ 331، ومصنف ابن أبي شيبة: 12/ 331، والمحلى: 7/ 523.
(الكتاب/91)
وهذا قولٌ ضعيفٌ لا يُلْتفَتُ إليه، والسنَّة تخالفُه من وجوهٍ ـ كما سيأتي (1) في الفصل الذي بعد هذا ـ.
فكان الذبحُ في موضعهِ أفضلَ من الصَّدقة بثمنه ولو زادَ، كالهدايا والأضَاحِي، فإنَّ نَفْسَ الذَّبحِ وإراقةِ الدم مقصودٌ، فإنه عبادةٌ مقرونةٌ بالصلاة، كما قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر/2].
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام/ 162].
ففي كلّ مِلَّةٍ صلاةٌ ونَسِيكَةٌ لا يقوم غيرُهما مقامَهما، ولهذا لو تصدَّق عن دمِ المُتْعَةِ والقِرَان بأضعافِ أضعاف القيمةِ لم يقُمْ مقامَهُ، وكذلك الأضحيةُ، والله أعلم.
_________
(1) ساقط من “ب”، وجاءت في “ج” في آخر الفقرة.
(الكتاب/92)
الفصل العاشر
في تَفاضُل الذَّكَر والأنثى فيها واختلافِ النَّاسِ في ذلك
وفيه مسألتان:
(المسألة الأولى): العَقيقَةُ سنَّةٌ عن الجَارِيَة، كما هي (1) سنَّةٌ عن الغُلامِ. هذا قولُ جمهورِ أهلِ العِلْمِ من الصَّحابة والتَّابعِين ومَن بعدهم.
وقد تقدَّم ما حكاه ابن المُنْذِر عن الحَسَنِ وقَتادَةَ، أنهما كانا لا يريان عن الجَارِيَة عقيقةً (2).
ولعلَّهما تمسَّكا بقوله: “معَ الغُلامِ عقيقتُه”. وهذا الحديث رواه الحَسَنُ وقَتَادَةُ من حديث سَمُرَة، والغُلامُ اسمٌ للذَّكر (3) دونَ الأُنثى.
ويردُّ هذا القولَ حديثُ أم كُرْزٍ أنها سألت رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – عن العقيقة؟ فقال: “عن الغُلامِ شاتانِ، وعن الجَارِيَة شاةٌ، لا يَضُرُّكُمْ ذُكْرانًا كُنَّ أم إناثًا” وهو حديث صحيح، صحَّحه التّرمذيُّ وغيرُه (4).
وحديث عائشة: أمرنا – صلى الله عليه وسلم – أن نَعُقَّ عن الغُلام شاتين، وعن الجَارِيَة
_________
(1) ساقطة من “أ”.
(2) انظر ما سبق قبل قليل، ص (91).
(3) في “أ، ب”: الذكر.
(4) تقدم تخريجه فيما سبق، ص (50).
(الكتاب/93)
شاة. رواه ابن أبي شيبة، وقد تقدَّم إسناده (1).
وقال أبو عاصم: حدّثنا سالم بن تميم، عن أبيه (2)، عن الأَعْرَجِ، عن أبي هُرَيْرَةَ، أن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “إنَّ اليَهودَ تَعُقُّ عن الغُلامِ، ولا تَعُقُّ عن الجاريةِ، فَعُقُّوا عن الغُلام شاتينِ، وعن الجارية شاةً” رواه البَيهَقِيُّ من هذه الطريق (3).
وقال مالك: يُذبح عن الغُلام شاةٌ واحدة، وعن الجارِية شاةٌ، والذَّكَرُ والأنثى في ذلك سواءٌ (4).
واحْتُجَّ لهذا القول، بما رواه أبو داود في “سننه”: حدّثنا أبو مَعْمَر، حدّثنا عبدُ الوَارثِ, حدّثنا أيُّوب، عن عِكْرِمَةَ، عن ابنِ عبَّاسٍ: أن رسول – صلى الله عليه وسلم – عقَّ عن الحَسَنِ والحُسَين كبشًا كبشًا (5).
قال أبُو عُمَر: “وروى جعفر بن (6) محمَّدٍ، عن أبيه أنَّ فاطمةَ ذبحتْ عن الحَسَنِ والحُسَينِ كبشًا كبشًا.
_________
(1) فيما سبق، ص (82).
(2) ساقطة من “ب، ج”.
(3) في السنن: 9/ 301 ـ 302، وفي شعب الإيمان: 15/ 106.
(4) انظر: الموطأ، باب العمل في العقيقة: 1/ 419، والتمهيد: 4/ 314، والاستذكار: 5/ 555 ـ 556.
(5) ساقطة من “ج”. وتقدم تخريجه فيما سبق ص (51).
(6) في “أ، ج”: عن.
(الكتاب/94)
قال: وكان عبد الله بن عمر يَعُقُّ عن الغلمان والجواري من ولدهِ شاةً شاةً. وبه قال أبو جعفر محمَّد بنُ عليّ بن حسين بن عليٍّ ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ كقول مالك سواء” (1).
قال أبو عُمَر (2): “وقال ابن عبَّاس، وعائشة، وجماعة من أهل الحديث: عن الغُلام شاتان، وعن الجارية شاة. ثم ذكَرَ طرقَ (3) حديثِ أمِّ كُرْزٍ، وحديث عَمْروِ بنِ شُعَيبٍ عن أبيه عن جدِّه يَرْفَعُهُ: “مَنْ أحبَّ أنْ يَنْسُكَ عن وَلَدِهِ فَلْيفعلْ: عنِ الغُلامِ شاتانِ، وعنِ الجَارِيَة شاةٌ”.
ولا تَعَارُضَ بين أحاديثِ التفضيلِ بين الذَّكَرِ والأُنثَى، وبين حديثِ ابنِ عبَّاسٍ في قصة الحَسَنِ والحُسَين؛ فإنَّ حديثَه قد رُوِي بلفظين: أحدُهما: “أنَّه عقَّ عنهما كبشًا كبشًا”. والثاني: “أنه عقَّ عنهما كبشينِ”. ولعلَّ الراوي أراد: كبشين عن كلِّ واحدٍ منهما، فاقتصر على قوله: كبشين، ثم روى بالمعنى: كبشًا كبشًا.
وعندي فيه جوابٌ أحسن من هذا: وهو أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – ذبحَ عن كلِّ
_________
(1) انظر: التمهيد: 4/ 314، والاستذكار: 5/ 555 – 556، والعيال لابن أبي الدنيا: 1/ 205.
(2) انظر: التمهيد: 4/ 317. وهذه هي المسألة الثانية في هذا الفصل، فقد نص على الأولى في أوله، ثم بين هنا تفاضل الذكر والأنثى. وذكر في زاد المعاد 2/ 329 ـ 332 ثمانية وجوه لترجيح أحاديث التفضيل وأنه الأولى بالأخذ.
(3) في “ب”: طرف
(الكتاب/95)
واحدٍ كبشًا (1)، وذبحتْ أمُّهما عنهما كبشين. والحديثان كذلك رُوِيَا، فكان أحدُ الكبشينِ من النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، والثاني من فاطمةَ. واتفقتْ جميعُ الأحاديثِ.
وهذه قاعدةُ الشريعةِ، فإنَّ الله ـ سبحانه ـ فاضلَ بين الذَّكَرِ والأنثى، وجعل الأنثى على النِّصف من الذَّكَر في المواريث، والدِّيَات، والشَّهاداتِ، والعِتْقِ، والعَقِيقَةِ، كما رواه التّرمذيّ (2)، وصححه من حديث أبي أُمامةَ عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “أيُّما امرئ مُسلمٍ أَعْتَقَ مُسلمًا، كان فِكَاكَهُ من النَّار، يجزئ كلُّ عضوٍ منه عضوًا منه، وأيُّما امرئ مُسلم أعتق امرأتين مسلمتَينِ كانتا فِكَاكَهُ من النَّار، يجزئُ كلُّ عضوٍ منهما عضوًا منه”.
وفي “مسند الإمام أحمدَ” (3) من حديث مُرَّةَ بنِ كعبٍ السُّلَمِيّ، عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم -: “أيُّما رجلٍ أعتقَ رجلًا مُسْلِمًا كان فِكَاكَهُ من النَّار، يُجْزَى بكلِّ عضوٍ من أَعْضَائِهِ عُضْوًا مِنْ أَعْضِائهِ، وأيُّما امرأةٍ مُسْلِمةٍ أعتقتِ امرأةً مُسْلِمةً كانتْ فِكَاكَهِا مِنَ النَّار، تُجْزَى بكلَّ عضوٍ من أعْضَائِهَا
_________
(1) من قوله: وعندي فيه … إلى هنا. ساقط من “ب”.
(2) في النذور والأيمان، باب ما جاء في فضل من أعتق: 5/ 151 وقال: “هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه”.
(3) مسند الإمام أحمد: 4/ 235 و 236، وفي طبعة الرسالة: 29/ 599 ـ 600.
(الكتاب/96)
عضوًا مِنْ أَعْضَائِهَا” رواه أبو داود في “السنن” (1).
فجرت المفاضلة في العَقِيقَة هذا المجرى لو لم يكن فيها سُنَّة، كيف والسننُ الثابتةُ صريحةٌ في التفضيلِ!
_________
(1) كتاب العتق، باب في أي الرقاب أفضل: 11/ 702، وابن ماجه في العتق، باب العتق، برقم (2522)، ورواه البيهقي: 10/ 2، والطيالسي برقم (1198)، والطبراني في الكبير برقم (755 و 756). وصححه ابن حجر في فتح الباري: 5/ 147. وانظر التعليق على المسند في الموضع السابق.
(الكتاب/97)
الفصل الحادي عشر
في ذِكْر الغَرضِ من العقيقة، وحِكَمها، وفوائدِها
قال الخَلّال في “جامعه”: “باب ذكر الغَرَض في العَقِيقَة، وما يُؤَمَّلُ لإحياءِ السنَّة من الخَلَفِ”.
ثم ذكَرَ روايةَ أبي الحارث أنَّه قال لأبي عبد الله في العَقِيقَةِ: فإنْ لم يكنْ عنده ما يَعُقُّ؟ قال: إن استقرضَ رجوتُ أن يُخْلِفَ اللهُ عليه، أَحْيَا سُنَّةً.
ومن رواية صالح عن أبيه: إني لَأَرْجو إن استقرضَ أن يعجّلَ (1) اللهُ له الخَلَفَ، أحيا سنَّةً من سنن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – واتَّبَعَ ما جاء عنه (2).
ومن فوائدها: أنها قربانٌ يُتقرَّب به عن المولودِ في أوَّل أوقاتِ خُروجِه إلى الدنيا. والمولودُ ينتفع بذلك غايةَ الانتفاعِ، كما ينتفع بالدعاءِ له وإحضارِه مَوَاضِعَ المناسكِ، والإحرامِ عنهُ، وغير ذلك.
ومن فوائدها: أنَّها تفكُّ رِهَانَ المولودِ، فإنه مُرتَهنٌ بعقيقتهِ. قال الإمام أَحْمَد: مُرْتَهنٌ عن الشفاعة لوالدَيْه. وقال عطاء بن أبي ربَاح (3):
_________
(1) في “أ، ج، د”: يجعل
(2) تقدمت هذه الروايات فيما سبق، ص (79).
(3) هكذا في النسخ الخطية، وقد تقدمت الرواية في ص (53)، وفيها: عطاء الخراساني، كما في سنن البيهقي، وهو الصواب.
(الكتاب/98)
“مرتهنٌ بعقيقتهِ” قال: يُحْرَمُ شفاعةَ وَلَدِهِ.
ومن فوائدها: أنها فِدْيَةٌ يفدى بها المولودُ، كما فدَى اللهُ ـ سبحانه ـ إسماعيلَ الذبيح (1) بالكَبْشِ، وقد كان أهلُ الجاهليَّةِ يفعلونَها ويسمُّونها عَقِيقَة، ويلطِّخُونَ رأسَ الصبيِّ بدمها، فأقرَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذَّبْحَ، وأبطل اسم العُقُوق ولطخ رأس الصبي بدمها، فقال: “لا أُحبُّ العُقُوقَ” (2)، وقال: “لا يُمَسُّ رأسُه (3) بدمٍ”. وأخبر – صلى الله عليه وسلم – أنَّ ما يُذبَحُ عن المولود، إنّما ينبغي أن يكونَ على سبيل النُّسُك كالأُضحية والهَدْي، فقال: “مَنْ أحبَّ أن يَنْسُكَ عن وَلَدِه فلْيَفعَلْ” فجعلها على سبيل الأُضحية التي جعلَها اللهُ نسكًا وفداءً لإسماعيل عليه السلام وقربة إلى الله عز وجل، وغير مُستَبعَدٍ في حكمة الله في شَرْعِهِ وقدَرِه، أن يكونَ سببًا لحُسْن إنباتِ الولدِ، ودوامِ سلامتِه، وطولِ حياته، وحفظِه من ضرر الشيطان، حتى يكون كلُّ عضوٍ منها فداءَ كلِّ عضوٍ منه، ولهذا يُستحبُّ أن يُقالَ عليها ما يُقالُ على الأضحيةِ.
قال أبو طالب: سألت أبا عبد الله: إذا أراد الرجلُ أن يَعُقَّ كيف يقول؟
_________
(1) “الذبيح” ليست في “ب، ج”.
(2) في “أ”: اسم العقوق.
(3) في “د”: رأس الصبي.
(الكتاب/99)
قال: يقول: باسم الله، ويذبحُ على النيَّة، كما يضحِّي بنيَّتِهِ، يقول: هذه عَقِيقَةُ فلانِ بنِ فلانٍ، ولهذا يقول فيها: اللهمَّ منكَ ولكَ.
ويُستحبُّ فيها ما يستحبُّ في الأضحيةِ، من الصدقة، وتفريقِ اللحمِ. فالذبيحةُ عن الولد، فيها معنى القُربانِ والشُّكران، والفِداء، والصدقةِ، وإطعامِ الطعام عند حوادث السرور العظام، شكرًا لله، وإظهارًا لنعمته التي هي غاية المقصود من النكاح، فإذا شُرِعَ الإطعامُ للنكاح الذي هو وسيلةٌ إلى خروجِ هذه النّسَمَة (1)، فَلأَنْ يُشرعَ عند الغاية المطلوبةِ أَوْلَى وأَحْرَى (2).
وشُرِع بوصف الذَّبح المتضمنِ لما ذكرناه من الحِكَمِ (3)، فلا أحسنَ ولا أحلَى في القلوبِ من مثل هذه الشريعةِ في المولودِ!
وعلى نحو هذا جرتْ سنَّة الولائم في المناكح وغيرها، فإنَّها إظهارٌ للفرحِ والسُّرور بإقامةِ شَرائعِ الإسلامِ وخروجِ نَسَمَةٍ مُسْلِمةٍ يُكاثِرُ بها رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – الأُممَ يومَ القيامة، تعبُّدًا لله، ويُرَاغِمُ عدوَّه.
ولما أقرَّ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – العَقِيقَةَ في الإسلامِ، وأكَّد أمْرَهَا، وأخبرَ أنَّ الغُلامَ مُرتَهنٌ بها: نَهَاهُمْ أن يجعلوا على رأس الصبيِّ من الدَّمِ شيئًا،
_________
(1) في “ب”: حصول هذه النعمة.
(2) انظر: المغني لابن قدامة: 13/ 399 – 400.
(3) في “أ”: الحكمة.
(الكتاب/100)
وسنَّ لهم أن يجعلوا عليه شيئًا من الزَّعْفَرَانِ؛ لأنهم في الجاهليَّة إنَّما كانوا يلطِّخون رأسَ المولودِ بدم العَقِيقَةِ تبرُّكًا به، فإنَّ دمَ الذبيحةِ كان مباركًا عندهم، حتى كانوا يلطِّخون منه آلهتهم تعظيمًا لها وإكرامًا، فأُمِرُوا بترك ذلك، لما فيه من التشبُّه بالمشركين، وعُوِّضُوا عنه بما هو أنفع للأبَوَينِ وللمولودِ وللمساكين، وهو حَلْقُ رأسِ الطفل والتصدُّقُ بِزِنَةِ شعرِهِ ذهبًا أو فضةً. وسنَّ لهم أن يلطِّخوا الرأس بالزّعْفَران الطيِّبِ الرائحةِ، الحَسَنِ اللَّونِ، بدلاً عن الدَّم الخبيثِ الرائحة، النجسِ العينِ، والزَّعفرانُ من أطيبِ الطِّيب وألطفِه وأحسنِه لونًا. وكان حَلْقُ رأسه إماطةَ الأذى عنه، وإزالةَ الشَّعْرِ الضعيفِ، ليخلفه شَعْرٌ أقوى وأمْكَنُ منه، وأنفعُ للرأس، ومع ما فيه من التَّخفيف عن الصبيِّ، وفَتْحِ مَسَام الرّأسِ لِيَخْرجَ البخارُ منها بيُسرٍ وسهولةٍ، وفي ذلك تقويةُ بصرِه وشمِّه وسَمْعِهِ.
وشُرِعَ في المذبوح عن الذَّكَرِ أن يكون شاتين، إظهارًا لشرفه، وإبانة (1) لمحلِّه الذي فضَّله الله به على الأُنثى، كما فضَّله في الميراث والدِّيَة والشَّهادةِ.
وشُرع أن تكون الشَّاتان مُكَافِئَتَيْنِ (2). قال أَحمد في رواية أبي داود: مُسْتَوِيَتَانِ أومُتَقارِبَتَان (3). وقال في رواية الميموني: مِثْلانِ.
_________
(1) في “أ”: إباحة.
(2) في “د”: مكافئتان.
(3) انظر: مسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود، ص 256.
(الكتاب/101)
وفي رواية جعفر بن الحارث: تُشْبِهُ إحداهُما الأُخرى، لأنَّ كلَّ شاةٍ منهما لمَّا (1) كانت بَدَلًا وفداءً، وجعلت الشاتان مكافئتين في الحُسْنِ (2) والسِّنّ، فجعلتا كالشَّاة الواحدة.
والمعنى: أنَّ الفداء لو وقع بالشاةِ الواحدةِ، لكان ينبغي أن تكونَ فاضلةً كاملةً، فلما وقع بالشَّاتين لم يُؤْمَنْ أن يُتَجَوَّز في إحداهما، ويُهَوَّنَ أمرُها، إذْ كان قد حصلَ الفداءُ بالواحدةِ، والأخرى كأنها تتمةٌ غير مقصودةٍ، فشُرِعَ أن تكونَا مُتكافِئَتَينِ دفعًا لهذا التَّوَهُّمِ.
وفي هذا تنبيهٌ على تهذيب العَقِيقَةِ من العيوبِ التي لا يصحُّ (3) بها القُرْبَانُ من الأضاحي وغيرها، ومنها فَكُّ رِهَانِ المولُودِ، فإنَّه مُرْتَهَنٌ بعقيقتهِ، كما قال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -.
وقد اختُلِفَ في معنى هذا الحَبْسِ والارْتِهَانِ:
فقالت طائفةٌ: هو محبوسٌ مرتهنٌ عن الشَّفاعة لوالدَيه، كما قال عطاء، وتبعه عليه الإمامُ أَحمد (4).
_________
(1) في “ب”: كذلك.
(2) في “أ”: الجنس.
(3) في “ب”: لا تصح.
(4) انظر: زاد المعاد للمصنف: 2/ 326، ومعالم السنن للخطابي: 4/ 264.
(الكتاب/102)
وفيه نظرٌ لا يخفى، فإنَّ شفاعةَ الولدِ للوالد (1) ليستْ بأولى من العكس، وكونُه والدًا له، ليس بجهةٍ (2) للشَّفاعةِ فيه، وكذا سائرُ القَراباتِ والأرْحَام، وقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان/ 33].
وقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة/ 48].
وقال تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة/ 254].
فلا يشفع أحدٌ لأحدٍ يومَ القيامةِ، إلَّا مِنْ بعد أن يأذنَ اللهُ لمن يشاءُ ويَرْضَى، وإذْنُه ـ سبحانه ـ في الشَّفاعةِ موقوفٌ على عَمَلِ المشفُوعِ له مِنْ تَوْحيدِه وإخلاصِه.
ومرتبةُ الشَّافع: مِن قُربِه عند الله، ومنزلتِه، ليست مستحقَّةً بقرابةٍ ولا بُنُوَّةٍ ولا أُبوَّة، وقد قال سيِّدُ الشُّفَعَاءِ وأَوْجَهُهُمْ عند الله لعمِّه وعَمَّته وابنتِه: “لا أُغنِي عنكم مِنَ الله شيئًا” (3).
_________
(1) في “د”: في الوالد.
(2) ساقطة من “ج، د”.
(3) أخرجه البخاري في الوصايا، باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب: 5/ 382، وفي التفسير، باب “وأنذر عشيرتك الأقربين”: 8/ 501، ومسلم في الإيمان، باب قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}: 1/ 192 برقم (305).
(الكتاب/103)
وفي رواية “لا أمْلِكُ لكُمْ مِنَ اللهِ شيئًا” (1).
وقال في شفاعتِهِ العُظْمَى لَّما يسجدُ بين يدي ربِّه ويشفعُ: “فَيَحُدُّ لي حدًّا فأُدْخِلُهُمُ الجنَّة” (2).
فشفاعتُه في حدٍّ محدودٍ، يحدّهم اللهُ ـ سبحانه ـ له، لا تُجاوِزُهُمْ (3) شَفَاعتُه. فمِنْ أينَ يُقال: إنَّ الولدَ يشفعُ لوالدِهِ، فإذا لم يَعُقَّ عنه، حُبِسَ عن الشَّفاعَةِ له؟ ولا يُقال لمن لم يشفع لغيره: إنَّه مُرْتَهَنٌ، ولا في اللفظ ما يدلُّ على ذلك.
واللهُ ـ سبحانه ـ يخبر عن ارتهان العبد بكَسْبِهِ، كما قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر/ 38]. وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا} [الأنعام/ 70].
فالمرتَهنُ هو المحبوسُ، إمَّا بفعلٍ منه، أو فعلٍ من غيره، وأمَّا مَنْ لم يشفع لغيره، فلا يُقال له: مرتهنٌ على الإطلاق، بل المرتَهَنُ هو
_________
(1) أخرجه مسلم في الموضع السابق، برقم (203 و 204).
(2) أخرجه البخاري في التفسير، تفسير سورة البقرة، باب {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}: 8/ 160، ومسلم في الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة: 1/ 181 برقم (193).
(3) في “ج”: يجاوزهم.
(الكتاب/104)
المحبوسُ عن أمرٍ (1) كان بصدد نَيْلهِ وحصُولهِ، ولا يَلْزمُ من ذلك أن يكونَ بسببٍ منه، بل يحصل ذلك تارةً بفِعْلِهِ، وتارةً بفعلِ غيره.
وقد جعل الله ـ سبحانه ـ النَّسِيكَةَ عن الولد سببًا لفكِّ رِهَانهِ من الشَّيطان الذي يَعْلَقُ به مِنْ حين خُروجِه إلى الدُّنيا وطَعن في خَاصِرَتِه (2)، فكانت العَقِيقَةُ فداءً وتخليصًا له من حَبْسِ الشَّيطانِ لهُ وسَجْنِهِ في أسْرِهِ، ومَنْعِه له من سَعْيِه في مَصالحِ آخِرَتِه التي إليها مَعَادُه، فكأنَّه محبوسٌ لذَبْح الشّيطانِ له بالسّكينِ التي أعدَّها لأتباعِه وأَوْلِيَائِه، وأقسمَ لربِّه أنَّه لَيَسْتَأصِلَنَّ ذُرّيَّة آدمَ إلا قليلًا منهم، فهو بالمِرْصَادِ للمولودِ من حين يخرجُ إلى الدُّنيا، فحين يخرج يَبْتَدِرُهُ عدوُّه ويضمُّه إليه ويحرصُ على أن يجعلَه في قبضتِه وتحت أسْرِه (3)، ومن جملةِ أوليائه وحِزْبِه، فهو أحرصُ شيءٍ على هذا.
وأكثر المولُودينَ من أقْطَاعِهِ (4) وجُنْدِه، كما قال تعالى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} [الإسراء/ 64].
_________
(1) عن أمر. ساقطة من “أ”.
(2) انظر: صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ}: 8/ 212.
(3) في “ج”: أمره.
(4) الأقطاع جمع لكلمة قطيع. والمعنى من جملة أملاكه وأتباعه. لسان العرب: 8/ 281.
(الكتاب/105)
وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ/ 20].
فكان المولودُ بصَددِ هذا الارتهانِ، فشرَعَ اللهُ ـ سبحانه ـ للوالِدَيْنِ أن يَفُكَّا رهانَه بذِبْحٍ يكون فِدَاهُ، فإذا لم يُذْبَحْ عنه بَقِيَ مُرْتهَنًا به، فلهذا قال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: “الغُلامُ مُرْتَهَنٌ بعَقِيقَتِه، فأَرِيْقُوا عنه الدَّمَ، وأمِيْطُوا عنهُ الأذَى” (1).
فأَمَرَ بإراقَةِ الدَّم عنه، الذي يخلُصُ به منَ الارتهانِ، ولو كان الارتهانُ يتعلَّق بالأبوين لقال: فأريقُوا عنكم الدّمَ لتَخْلُصَ إليكم شفاعةُ أَولَادِكم.
فلما أَمَر (2) بإزالةِ الأذى الظَّاهرِ عنه، وإراقةِ الدَّم الذي يُزِيْل الأذى الباطنَ بارتهانِه: عُلِمَ أنَّ ذلك تخليصٌ للمولُودِ من الأذى الباطنِ والظاهرِ. واللهُ أعلم بِمُرادهِ ورسولُهُ.
_________
(1) تقدم تخريجه فيما سبق ص (90).
(2) في “ج”: أمرنا.
(الكتاب/106)
الفصل الثاني عشر
في استِحْبابِ طَبْخِها دُوْنَ إخراجِ لَحمِها نِيئًا
قال الخَلّال في “جامعه”: “باب ما يستحبُّ من ذبح العَقِيقَة”: أَخْبَرنِي عبدُ الملكِ الميمونيُّ أنَّه قال لأَبي عَبدِ الله: العَقِيقَة تُطبخُ؟ قال: نعم (1).
وأخبرني محمَّد بن علي، قال: حدّثنا الأَثْرَمُ أنَّ أبا عبد الله قال في العَقِيقَة: تُطبخ جُدُولًا (2).
وأخبرني أبو داود أنّه قال لأبي عبد الله: تُطبخ العَقِيْقَة؟ قال: نعم. قيل له: إنّه يشتدُّ عليهم طَبْخُهُ، قال: يَتَحَمَّلُونَ ذلكَ (3).
وأخبرني محمَّدُ بنُ الحُسَين (4)، أنَّ الفضلَ بنَ زيادٍ حدَّثهم أنَّ أبا عبدِ الله قيل له في العَقِيقَة: تُطبخ بماءٍ ومِلْحٍ؟ قال يُستحبُّ ذلكَ، قيل له:
_________
(1) انظر: مسائل الإمام أحمد، رواية صالح: 2/ 210، المغني لابن قدامة: 13/ 400 ـ 401.
(2) في “أ، ب، د”: جداول. والجُدول: جمع جدل ـ بكسر الجيم وفتحها ـ وهو كل عظم موفّر كما هو، لا يكسر ولا يخلط به غيره. أي عضوًا عضوًا. انظر: الغريبين لأبي عبيد:1/ 331، ولسان العرب:11/ 108.
(3) انظر: مسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود، ص 256.
(4) في “أ”: الحسن.
(الكتاب/107)
فإنْ طُبِختْ بشيءٍ آخَرَ؟ قال ما ضرَّ ذلكَ.
وهذا لأنه إذا طبخها فقد كفى المساكين والجيران مؤنةَ الطبخِ (1)، وهو زيادةٌ في الإحسان، وشُكْرُ هذه النَّعمةِ، ويَتَمَتَّعُ الجيرانُ والأولادُ والمساكينُ بها هنيئةً مكفيَّةَ المؤنةِ، فإنَّ من أُهدي له لحمٌ مطبوخٌ مهيَّأٌ للأكلِ مطيَّبٌ، كان فرحُه وسرورُه به أتمَّ من فرحِه بلحمٍ نيءٍ يحتاج إلى كُلْفَةٍ وتَعَبٍ، فلهذا قال الإمام أَحْمَد: يتحمَّلون ذلك.
وأيضًا: فإنَّ الأطعمةَ المعتادةَ التي تجري مَجْرى الشُّكْرانِ، كلُّها سبيلُها الطّبخُ (2).
ولها أسماء متعدِّدةٌ:
– فالقِرَى: طعامُ الضِّيفَان.
– والمَأْدُبةُ: طعامُ الدَّعوة.
– والتُّحْفَةُ: طعام الزَّائرِ.
– والوَلِيمَةُ: طعام العُرسِ.
– والخُرْسُ: طعام الولادةِ.
– والعَقِيقَةُ: الذبحُ عنه يوم حلقِ رأسه في السَّابع.
_________
(1) المَؤونة ـ على وزن فَعُولَة ـ والمؤْنة: الثقل. المصباح المنير: 2/ 586
(2) ساقطة من “أ، ب، د”.
(الكتاب/108)
– والعَذِيْرَةُ: طعام الختانِ.
– والوَضِيْمَةُ: طعام المأتمِ.
– والنَّقِيْعَةُ: طعام القادم من سَفَرِه.
– والوَكِيرَةُ: طعام الفراغِ من البناءِ (1).
فكان الإطعامُ عند هذه الأشياءِ أحسنَ من تفريقِ اللَّحمِ، وأدْخَلَ في مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ والجُودِ. والله أعلم.
_________
(1) انظر: فقه اللغة وسر العربية للثعالبي، ص (264).
(الكتاب/109)
الفصل الثالث عشر
في كَراهةِ كَسْرِ عِظامِها
قال الخَلّال في “جامعه”: “باب كراهة كَسْرِ عَظمِ العَقِيقَةِ وأنْ تُقطع آرابًا” (1).
أخبرني عبدُ الملك بنُ عبدِ الحميد: أنَّه سمع أبا عبد الله يقول في العَقِيقَة: لا يُكسَرُ عظمُها، ولكنْ يُقطعُ كلُّ عظمٍ من مِفْصَلِه، فلا تُكْسَرُ العظامُ.
أخبرنا عبد الله بن أَحْمَد، قال: قلتُ لأَبي: كيف يُصنع بالعَقِيقَة؟ قال: تُفْصَلُ أعضاؤها، ولا يُكْسَرُ لها عظمٌ (2).
ثم ذكر عن صَالحٍ، وحَنْبَل، والفَضْلِ بنِ زيادٍ، وأبي الحارث، وأبي طالب، أنَّ أبا عبد الله قال في العَقِيقَة: تُفصَل تفصيلًا، ولا يُكسَر لها عظمٌ، وتفصل جُدُولًا (3).
وقد ذكر أبو داود في “كتاب المراسيل” (4): عن جعفر بنِ محمَّد
_________
(1) في “ب”: إربًا. و (الإرْب): العضو، والجمع (آراب). انظر: المصباح المنير: 1/ 11.
(2) انظر: مسائل الإمام أحمد، رواية عبدالله: 3/ 879.
(3) انظر: المغني لابن قدامة: 13/ 401.
(4) كتاب المراسيل، ص 278 ـ 279 برقم 379. ومن طريقه أخرجه البيهقي: 9/ 302. ورجاله ثقات، وفيه انقطاع. وانظر: زاد المعاد: 2/ 332.
(الكتاب/110)
عن أبيه، أن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قال في العَقِيقةِ التي عقَّتْها فاطمةُ عن الحَسنِ والحُسَين: “أن ابْعَثُوا إلى القَابِلَة منها برِجْلٍ، وكلُوا وأَطْعِمُوا ولا تَكْسِروا منها عظمًا”.
وذكر البَيْهَقِيُّ: من حديث عبد الوارث (1)، عن عامر الأَحْوَل، عن عطاء، عن أمِّ كُرْزٍ قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “عن الغُلامِ شاتانِ مكافِئتانِ، وعن الجَارِيَة شاةٌ” (2).
وكان عطاء يقول: تقطع (3) جُدُولًا، ولا يكسر لها عظم: أظنُّه قال: وتُطبخ (4).
ورواه ابن جُرَيْجٍ عن عَطاء وقال: تقطع آرابًا، وتُطبَخُ بماءٍ ومِلْحٍ، وتُهدَى في الجِيرانِ (5).
ورُوِيَ في ذلك عن جابرِ بنِ عبدِ الله قولَهُ، وعن عائشةَ أمِّ المؤمنينَ.
_________
(1) في “أ، ج، د”: عبدالوهاب. وهو خطأ.
(2) انظر: سنن البيهقي: 3/ 302، وشعب الإيمان: 15/ 104. وتقدم تخريجه فيما سبق (ص 50).
(3) ساقطة من “أ”.
(4) انظر: التمهيد لابن عبدالبر: 4/ 321، والاستذكار: 5/ 559، والمحلى لابن حزم: 7/ 529.
(5) انظر: الاستذكار لابن عبدالبر: 5/ 559.
(الكتاب/111)
فرَوَى ابن المُنْذِر، عن عطاءٍ، عن أبي كُرْزٍ وأمِّ كُرْزٍ، قالا: قالت امرأةٌ من أهل عبد الرَّحمن بن أبي بكر: لما ولدتْ امرأةُ عبدِ الرَّحمنِ، نَحَرْنَا جَزُورًا، فقالت عَائِشَةُ: لا، بلِ السنَّةُ شاتانِ مكافئتانِ، يُتَصَدَّق بهما عن الغُلامِ، وشاةٌ عن الجَارِيَة، تُطبَخُ ولا يُكْسَرُ لها عظمٌ، فتأكل وتطعم وتتصدَّق، ويكون ذلك في السَّابع، فإن لم يفعل، ففي الرابع عشر، فإن لم يفعل، ففي إحدى وعشرين (1).
قال ابن المُنْذِر: وقال الشّافِعِيّ: العَقِيقَة سنَّة واجبةٌ، ويُتَّقى فيها من العيوب ما يُتَّقى في الضَّحايا، ولا يُباع لحمُها ولا إهَابُها، ولا يُكسر لها عظمٌ، ويأكل (2) أهلُها منها، ويتصدَّقون (3)، ولا يُمَسّ الصبيُّ بشيء من دَمِها (4).
قال أبُو عُمَر: وقولُ مالكٍ مثلُ قولِ الشّافِعِيّ، إلا أنه قال: يكسر عظامها ويطعم منها الجيران، ولا يُدعى الرجال كما يُفعل بالوليمةِ (5).
_________
(1) انظر: الإشراف على مذاهب العلماء لابن المنذر: 3/ 417 ـ 418. وقال ابن حزم في المحلى 7/ 529: “هذا لا يصح؛ لأنه من رواية عبدالملك بن أبي سليمان العرزمي”.
(2) في “أ”: ولا يأكل.
(3) في “ج”: ولا يتصدقون.
(4) انظر: الإشراف لابن المنذر: 3/ 418.
(5) انظر: التمهيد: 4/ 321، والاستذكار: 5/ 558 ـ 559.
(الكتاب/112)
قال: وقال ابنُ شِهَابٍ: لا بأسَ بِكَسْرِ عظامِها. وهو قولُ مالك (1).
والذين رأوا أنه لا بأس (2) بكسر عظامها، قالوا: لم يصحَّ في المنع من ذلك ولا في كراهته سنَّةٌ يجب المصير إليها، وقد جرت العادةُ بكسر عظامِ اللحمِ، وفي ذلك مصلحةُ أَكْلِهِ وتمام الانتفاع به، ولا مصلحةَ تمنعُ من ذلك.
والذين كرهوا كسر عظامها: تمسَّكوا بالآثار التي ذكرناها عن الصحابةِ والتَّابعِينَ، وبالحديث المُرسَل الذي رواه أبو داود.
وذكروا في ذلك وجوهًا من الحكمة:
(أحدها): إظهارُ شرفِ هذا الإطعامِ وخطرِه إذْ كان يُقدَّم للآكلينَ ويُهْدَى إلى الجيران، ويُطعَم للمساكين، فاستحبَّ أن يكون قطعًا، كلُّ قطعة تامة في نفسها، لم يُكسر من عظامها شيء، ولا نقص العضو منها شيئًا، ولا ريب أن هذا أجلُّ موقعًا، وأدخلُ في باب الجود من القِطَع الصِّغار.
(المعنى الثاني): أنَّ الهديةَ إذا شَرُفَت وخرجتْ عن حدِّ الحقارة، وقعتْ موقعًا حسنًا عند المُهْدَى إليه، ودلَّت على شرَف نفسِ المُهْدِي
_________
(1) وهو قول مالك. ساقط من “ج”. وانظر: المصدر السابق، والمحلى:
7/ 528 – 529.
(2) والذين رأوا أنه لا بأس. هذه الجملة ساقطة من “ج”.
(الكتاب/113)
وكِبَرِ همَّتِه، وكان في ذلك تفاؤلٌ بكِبَرِ نفسِ المولود، وعلوِّ همَّته وشرفِ نفسهِ.
(المعنى الثالث): أنها لما جرتْ مجرى الفداءِ، استُحِبَّ أن لا تُكْسرَ عظامُها تفاؤلًا بسلامة أعضاء المولود وصحَّتِها وقوَّتها، وبما زال من عظام فدائِه من الكَسْر، وجرى كَسْرُ عظامِها عند مَنْ كرهه مجرى تسميتها عَقِيقَة، فهذه الكراهةُ في الكسر نظيرُ تلكَ الكراهةِ في الاسمِ، والله أعلم.
(الكتاب/114)
الفصل الرابع عشر
في السِّنِّ المُجْزئ فيها
قال الخَلّال في “الجامع”: “باب ما يستحبُّ من الأسنان في العَقِيقة”.
ثم ذكر من مسائل أبي طالب، أنه سأل أبا عبد الله عن العَقِيقَة، تجزئ بِنَعْجَةٍ أو حَمَلٍ كبيرٍ؟ قال: فَحْلٌ خيرٌ، وقد روي “ذكرانًا
أو إناثًا” (1)، فإن كانت نعجة، فلا بأسَ، قلتُ: فالحَمَلُ؟ قال: الأسنُّ خيرٌ.
وفي قول النبيّ – صلى الله عليه وسلم -: “من وُلِد له مولودٌ، فأحبَّ أن يَنْسُكَ عنه فلْيفعَلْ” كالدليل (2) على أنه إنما يجزئ فيها ما يجزئ (3) في النُّسُك سواها من الضحايا والهدايا. ولأنه ذَبحٌ مسنون، إمَّا وجوبًا وإمَّا استحبابًا، يجري مجرى الهَدْي والأُضْحِيَةِ في الصدقة، والهدية، والأكل، والتقرُّب إلى الله تعالى، فاعْتُبِرَ فيها السنُّ الذي يجزئ فيهما. ولأنه شُرِع بوصف التمام والكمال، ولهذا شُرع في حق الغُلام شاتان،
_________
(1) تقدم تخريجه فيما سبق، ص (50).
(2) في “ج”: فالدليل.
(3) في “أ، ج، د”: يجري. بالمهملة في الموضعين.
(الكتاب/115)
وشُرع أن تكونا مكافئتين لا تنقص إحداهما عن الأخرى، فاعتُبِر أن يكون سنُّهما سنَّ الذبائح المأمور بها، ولهذا جرت مجراها في عامة أحكامها.
قال أبو عُمرَ بنُ عبد البَرِّ: “وقد أجمع العلماء أنه لا يجوز في العَقِيقَة إلا ما يجوز في الضَّحايا من الأزواج الثمانيةِ، إلا من شذَّ ممَّن لا يُعَدُّ قولُه خلافًا.
وأمَّا ما رواه مالكٌ في “الموطأ” عن ربيعةَ بنِ أبي عبدِ الرَّحمنِ، عن محمَّدِ بنِ إبراهيمَ التَّيْمِيِّ أنَّه قالَ: سمعتُ أبي يقول: “تُسْتَحَبُّ العَقِيقَةُ ولَوْ بِعُصْفُورٍ” (1) فإنه كلامٌ خرجَ على التَّقليلِ والمبالَغَةِ، كقوله – صلى الله عليه وسلم – لعُمَرَ ـ في الفَرَسِ ـ: “لا تأخذْهُ ولَو أعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ” (2) وكقوله في الجَارِيَة: “إذا زَنَتْ فَبِيعُوهَا ولَو بِضَفِيرٍ” (3).
وقال مالك: العقيقةُ بمنزلة النُّسُكِ والضَّحايا، ولَا يجوزُ فيها
_________
(1) الموطأ، كتاب العقيقة، باب العمل في العقيقة: 1/ 419.
(2) أخرجه البخاري في الزكاة، باب هل يشتري صدقته؟ 3/ 352 وفي مواضع أخرى، ومسلم في الهبات، باب كراهية شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه: 3/ 1620.
(3) أخرجه البخاري في البيوع، باب بيع المدبر: 6/ 421، وفي مواضع أخرى، ومسلم في الحدود، باب رجم اليهود وأهل الذمة: 3/ 1329 رقم (1703). قال ابن شهاب الزهري: والضفير الحبْل.
(الكتاب/116)
عَوْرَاءُ، ولَا عَجْفاءُ، ولا مَكْسُورَةٌ ولا مريضةٌ، ولا يُباعُ من لحمِهَا شيءٌ ولَا جلدُهَا، ويُكْسَرُ عِظَامُهَا، ويَأكلُ أَهلُها منها، ويتصدَّقون” (1).
_________
(1) انتهى ما نقله عن ابن عبدالبر. انظر: التمهيد: 4/ 320، والاستذكار: 5/ 558. وانظر: المغني: 13/ 396، وفتح العزيز شرح الوجيز للرافعي: 12/ 116، والحاوي للماوردي: 15/ 129.
(الكتاب/117)
الفصل الخامس عشر
أنَّه لا يَصحُّ الاشتراكُ فيها ولا يُجزئُ الرَّأس إلَّا عن رأسٍ
هذا مما (1) تخالف فيه العَقِيقَةُ الهديَ والأضحيةَ. قال الخَلّالُ في “جامعه”: “بابٌ: حُكْمُ الجَزُورِ عن سبعةٍ”:
أخبرني عبد الملك بنُ عبدِ الحميدِ أنَّه قال لأبي عبد الله: تَعُقُّ جزورًا (2)؟ فقال: أليسَ قد عُقَّ بجَزُورٍ؟ قلت: يُعَقُّ بجزور عن سبعة؟ قال: لم أسمع في ذلك بشيء. ورأيته لا ينشط بجزور عن سبعة في العُقُوقِ.
قلتُ: لما كانت هذه الذبيحةُ جاريةً مجرى فداءِ المولودِ، كان المشروعُ فيه دمًا كاملاً لتكون نفسٌ فداءَ نفسٍ.
وأيضًا: فلو صحَّ فيها الاشتراكُ لمَا حصل المقصودُ من إراقةِ الدم عن الولدِ، فإنَّ إراقة الدم تقعُ عن واحدٍ، ويحصل لباقي الأولاد إخراجُ اللحمِ فقط، والمقصودُ نفسُ الإراقةِ عن الولد.
_________
(1) في “ج”: هذا بتمامه.
(2) في “أ”: يعق بجزور.
(الكتاب/118)
وهذا المعنى بعينه هو الذي لحظَه مَنْ منعَ الاشتراكَ في الهدي والأضحية (1).
ولكنَّ سنَّةَ رسولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – أحقُّ وأَوْلَى أن تُتَّبَعَ، وهو الذي شرعَ الاشتراكَ في الهدايا، وشرعَ في العَقِيقَةِ عن الغُلام دَمَينِ مُسْتقِلَّينِ، لا يقوم مَقامَهُما جَزُورٌ ولا بَقَرةٌ. والله أعلم.
_________
(1) قال الخرقي: “ويجوز أن يشترك السبعة، فيضحوا بالبدنة والبقرة”. وقال ابن قدامة في المغني 13/ 392: “وجملته: أنه يجوز أن يشترك في التضحية بالبدنة والبقرة سبعة، واجبًا كان أو تطوعًا، سواء كانوا كلهم متقربين، أو يريد بعضهم القربة وبعضهم اللحم. وبهذا قال الشافعي. وقال مالك: لا يجوز الاشتراك في الهدي. وقال أبو حنيفة: يجوز للمتقربين، ولا يجوز إذا كان بعضهم غير متقرب؛ لأن الذبح واحد، فلا يجوز أن تختل نية القربة فيه”.
وانظر: فتح العزيز شرح الوجيز للرافعي: 12/ 170 ـ 171.
(الكتاب/119)
الفصل السَّادس عشر
هل تُشرعُ العقيقةُ بغير الغَنم كالإبل والبقر أمْ لا؟
وقد اختلف الفقهاء: هل يقوم غير الغنم مقامَها في العَقِيقَة؟
قال ابنُ المُنْذِر (1): “واختلفوا في العَقِيقَة بغير الغنم، فروينا عن أنسِ بنِ مالكٍ، أنه كان يَعُقُّ عن ولدِه الجزورَ.
وعن أبي بَكْرةَ أنه نَحَرَ عن وَلده عبدِ الرَّحمن جَزُورًا، فأطْعمَ أهْلَ البَصْرةِ”.
ثم ساقَ عنِ الحَسَنِ، قال: كان أنسُ بنُ مالكٍ يَعُقُّ عن ولدِه الجَزُورَ.
ثم ذكرَ مِن حَديثِ يحيى بنِ يحيى: أنبأنا هُشَيمٌ عن عُيَينَةَ بنِ عبدِالرَّحمن، عن أبيه، أن أبا بكرةَ وُلِدَ له ابنُه عبدُ الرَّحمنِ، وكانَ أوَّلَ مولودٍ وُلِدَ في البَّصرة، فَنَحَرَ عنهُ جَزُورًا فأطْعمَ أهلَ البصرةِ (2).
وأنكر بعضهم ذلك، وقال: أمرَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – بشاتين عن الغُلام، وعن الجارِية بشاة، ولا يجوز أن يُعَقَّ بغير ذلك.
_________
(1) انظر: الإشراف لابن المنذر: 3/ 415 ـ 416.
(2) الإشراف، الموضع نفسه.
(الكتاب/120)
روِّينا عن يوسف بن مَاهكٍ، أنَّه دخل مع ابنِ أَبي مُلَيكَةَ على حفصةَ بنتِ عبد الرَّحمنِ بنِ أبي بكر (1) ـ ووَلدَتْ للمُنْذِرِ بنِ الزُّبَير غُلامًا ـ فقلتُ: هلَّا عقَّيتِ جزورًا؟ فقالتْ: معاذَ الله، كانت عمَّتي تقول: عن الغُلام شاتان، وعن الجَارِيَة شاةٌ (2).
وقال مالكٌ: الضأن في العَقِيْقَة أحبُّ إليَّ من البقر، والغنمُ أحبُّ إليَّ من الإبل، والبقرُ والإبل في الهدي أحبُّ إلي من الغنم، والإبل في الهدي أحبُّ إليَّ من البقر (3).
قال ابن المُنْذِر (4): ولعلَّ حجةَ مَنْ رأى أن العَقِيقَةِ تُجزِئ بالإبل والبقر، قولُ النبيّ – صلى الله عليه وسلم -: “مع الغُلام عَقِيقتُهُ، فأهْرِيْقُوا عنهُ دمًا” ولم يذكر دمًا دونَ (5) دمٍ، فما ذُبِحَ عنِ المولودِ على ظاهرِ هذا الخَبَرِ يُجزئُ.
قال: ويجوز أن يقول قائلٌ: إنَّ هذا مُجمَلٌ، وقولُ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: “عن الغُلامِ شاتانِ وعنِ الجَارِيَةِ شاةٌ” مفسَّرٌ، والمفَّسرُ أَوْلَى مِنَ المُجمَل.
_________
(1) في “ج”: بكرة.
(2) الإشراف: 3/ 416. وانظر: سنن البيهقي: 9/ 301. وفيه: “فقيل: عُقّي عنه جزورًا”
(3) الإشراف: 3/ 416. وانظر: التمهيد لابن عبدالبر: 4/ 315.
(4) الإشراف: 3/ 416. وانظر: الحاوي الكبير للماوردي: 127 – 128، وفتح العزيز للرافعي: 12/ 170.
(5) في “أ”: غير.
(الكتاب/121)
الفصل السَّابع عشر
في بيانِ مَصْرِفِها
قال الخَلّال في “جامعه” في “باب ذكر ما يتصدَّق به من العقيقة ويُهدي”:
أخبرنا عبد الله بن أحمَد، أنَّ أباه قال: العقيقة تُؤكل ويُهدَى منها (1).
أخبرني عِصْمَةُ بنُ عصامٍ، حدّثنا حَنبل، قال: سمعت أبا عبد الله يُسأل عن العقيقة كيف يُصنعُ بها؟ قال: كيفَ شِئْتَ.
قال: وكان ابنُ سِيرِينَ يقول: اصنعْ ما شئتَ. قيل له: يأكلُها أهلُها؟ قال: نعم. ولا تُؤكلُ كلُّها، ولكن يأكلُ ويُطعِم (2).
وكذلك قال في رواية الأثرَمِ (3).
وقال في رواية أبي الحارث وصالح ابنه: يأكل ويطعم جيرانه (4).
_________
(1) انظر: مسائل عبدالله:3/ 879.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: 8/ 241، وفي طبعة القبلة: 12/ 123، وابن أبي الدنيا في العيال: 1/ 214.
(3) انظر: مسائل الإمام أحمد، لابنه صالح: 2/ 210.
(4) المرجع السابق نفسه.
(الكتاب/122)
وقال له ابنُه عبدُ الله: كم يَقْسِمُ مِنَ العقيقة؟ قالَ: ما أحبَّ (1).
وقال المَيمُونيُّ: سألتُ أبا عبد الله: يُؤكَلُ من العقيقة؟ قال: نعم، يُؤكلُ منها.
قلت: كم؟ قال: لا أدري، أمَّا الأضاحي، فحديثُ ابنِ مسعودٍ وابنِ عمرَ.
ثم قال لي: ولكنَّ العقِيقةَ يُؤكَلُ منها.
قلت: يشبهها في أكل الأضحيةِ؟ قال: نعم يُؤْكَلُ منها.
وقال الميمونيُّ: قال أبو عبدِ الله: يُهْدِي ثلُثَ الأُضْحِيَةِ إلى الجيرانِ، قلتُ: الفقراءُ من الجيرانِ؟ قال: بلى فقراءُ الجيرانِ. قال تُشَبِّهُ العقيقهَ به؟ قال: نعم، من شبَّهه به فَليسَ ببعيدٍ.
قال الخَلّال: أخبرني محمَّد بن علي، حدّثنا الأَثْرَم، أن أبا عبد الله قيل له في العقيقة: يدَّخرُ منها مِثْل الأَضاحِي؟ قال: لا أدري.
أخبرني منصور أنَّ جعفرًا حدَّثهم قال: سمعتُ أبا عبد الله يُسأل عن العَقِيقَة، قيل: يبعثُ منها إلى القابلةِ بشيء؟ أُراه قال: نعم.
وأخبرني عبد الملك، أنه سمع أبا عبد الله يقول: ويُهدِي إلى القابلة
_________
(1) انظر: مسائل الإمام أحمد، لابنه عبدالله: 3/ 880.
(الكتاب/123)
منها، يُحْكَى (1) أنه أهدى إلى القابلةِ حين عقَّ عن الحُسَيْن ـ يعني عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – ـ.
قال الخَلّال: أخبرنا محمَّدُ بنُ أَحْمَدَ، قال: حدّثني أبي، حدّثنا حَفْصُ بنُ غياثٍ، حدّثنا جعفرُ بنُ محمَّدٍ، عن أبيه، أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – أمَرَهُمْ: أنْ يَبْعَثُوا إلى القَابِلَةِ برِجْلٍ من العَقِيقَة.
ورواه البَيْهَقِيُّ من حديث حسينِ بنِ زيدٍ، عن جعفر بنِ محمَّدٍ، عن أبيه، عن جدِّه، عن عليٍّ، أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أمرَ فاطمةَ، فقال: زِنِي شَعْرَ الحُسَينِ وتَصَدَّقِي بوزنهِ فِضَّةً، وأَعْطِي القَابِلَةَ رِجْلَ العَقِيقَةِ (2).
وروى الحُمَيديّ عن حسين بن زيد (3)، عن جعفرِ بنِ محمَّدٍ عن أبيه، أنَّ عليًّا أعطى القابلةَ رِجْلَ العقيقةِ (4).
واختُلِفَ هل يُدْعَى إليها النَّاسُ كما يُفْعلُ بالولِيمةِ، أو يُهدِي ولا يَدعُو النَّاسَ إليها؟
فقال أبُو عُمَرَ بنُ عبدِ البَرِّ: “قولُ مالكٍ: إنَّه يكسر عظامَها ويُطعِم
_________
(1) ساقطة من “أ”.
(2) أخرجه البيهقي في السنن: 9/ 304، وفي شعب الإيمان: 15/ 113. وأخرجه الحاكم في المستدرك: 3/ 179 ـ 180. وقال: “هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه” فتعقبه الذهبي بقوله: “فقلت: لا”.
(3) ابن زيد. ساقطة من “أ”.
(4) أخرجه البيهقي في السنن: 9/ 304، وفي شعب الإيمان: 15/ 113.
(الكتاب/124)
منها الجيرانَ، ولا يُدْعَى الرِّجالُ كما يُفعل بالوليمة، ولا أعرف غيره كَرِهَ ذلك” (1)، والله أعلم.
_________
(1) التمهيد: 4/ 321، والاستذكار: 5/ 559. وانظر: المغني لابن قدامة: 13/ 395 وما بعدها، الحاوي الكبير للماوردي: 15/ 129، فتح العزيز للرافعي: 12/ 118.
(الكتاب/125)
الفصل الثامن عشر
في حُكمِ اجتماعِ العقيقةِ والأُضحيةِ
قال الخَلّال: “باب ما روي أنَّ الأضحية تجزئ عن العقيقةِ”.
أخبرنا عبد الملك الميموني، أنه قال لأبي عبد الله: يجوز أن يُضحّى عن الصبيِّ مكانَ العقيقةِ؟ قال: لا أدري، ثم قال: غيرُ واحدٍ يقول به. قلت: من التَّابعِين؟ قال: نعم.
وأخبرني عبد الملك في موضعٍ آخرَ، قال: ذكر أبو عبد الله أنَّ بعضهم قال: فإنْ ضحَّى أجزأَ عن العقيقةِ.
وأخبرنا عِصْمَةُ بنُ عِصَامٍ، حدّثنا حَنْبَل: أن أبا عبد الله قال: أرجو أن تجزئ الأضحية عن العقيقةِ ـ إن شاء الله تعالى ـ لمن لم يَعقَّ.
وأخبرني عصمةُ بن عصامٍ في موضعٍ آخرَ، قال: حدّثنا حَنْبَل: أن أبا عبد الله قال: فإن ضحَّى عنه أجزأتْ عنه الضحيَّةُ عن العُقُوقِ.
قال: ورأيت أبا عبد الله اشترى أضحيةً ذبحها عنه وعن أهله، وكان ابنُه عبدُ اللهِ صغيرًا فذبحها ـ أُرَاهُ أراد بذلك العقيقةَ والأضحيةَ ـ وقَسَم اللحمَ وأكلَ منها.
أخبرنا عبد الله بن أَحْمَد قال (1): سألت أبي عن العقيقةِ يومَ
_________
(1) انظر: مسائل الإمام أحمد، لابنه عبدالله: 3/ 880.
(الكتاب/126)
الأَضْحَى: تجزئ أن تكونَ أُضحيةً وعَقيقةً؟ قال: إمَّا أضحيةً، وإما عقيقةً، على ما سمَّى (1).
وهذا يقتضي ثلاث روايات عن أبي عبد الله:
إحداها: إجزاؤها عنهما.
والثانية: وقوعها عن أحدهما.
والثالثة: التوقُّف (2).
ووجه عدم وقوعها عنهما: أنهما ذَبْحَانِ بسببَينِ مختلفَين، فلا يقوم الذَّبحُ الواحدُ عنهما، كدم المُتْعةِ، ودمِ الفِدْيَةِ.
ووجه الإجزاء: حصولُ المقصودِ منها بذبحٍ واحدٍ، فإنَّ الأضحيةَ عن المولودِ مشروعةٌ كالعقيقةِ عنه، فإذا ضحَّى ونَوَى أن تكون عقيقةً وأضحيةً وقعَ ذلكَ عنهما، كما لو صلَّى ركعتين ينوي بهما تحيةَ المسجدِ وسنةَ المكتوبةِ، أو صلَّى بعدَ الطوافِ فرضًا أو سنَّةَ مكتوبةٍ، وقع عنه وعن ركعتي الطواف، وكذلك لو ذبحَ المتمتِّعُ والقَارِنُ شاةً يومَ النحرِ أجزأهُ عن دمِ المتعةِ وعن الأضحيةِ، والله أعلم.
_________
(1) في “أ”: تسمي. وعند عبدالرزاق ـ في الجامع لمعمر برقم 7996 ـ عن معمر عن قتادة: “من لم يعق عنه أجزأته أضحيته” وعند ابن أبي شيبة: 12/ 329 عن محمد ابن سيرين والحسن: “يجزئ عن الغلام الأضحية من العقيقة”.
(2) انظر: الإنصاف للمرداوي: 4/ 111. فقد ذكر روايتين منصوصتين.
(الكتاب/127)
الفصل التاسع عشر
في حُكمِ من لم يَعُقَّ عنه أبواه هَلْ يَعُقُّ عن نفسهِ إذا بَلغَ (1)؟
قال الخَلّال: “باب ما يستحب لمن لم يُعَقَّ عنه صغيرًا أن يَعُقَّ عن نفسه كبيرًا” ثم ذكر من مسائل إسماعيلَ بنِ سعيدِ الشَّالَنْجِيِّ، قال: سألت أَحمد عن الرجل يخبرُه والدُه أنه لم يَعُقَّ عنه، هل يَعُقُّ عن نفسه؟ قال: ذلك على الأب (2).
ومن مسائل المَيمُونِيِّ، قال: قلت لأبي عبد الله: إن لم يَعُقَّ عنه صغيرًا، يَعقَّ عنه كبيرًا؟ فذكر شيئًا يروى عن الكبير ضعَّفه، ورأيته يستحسن إن لم يَعُقَّ عنه صغيرًا أن يَعقَّ عنه كبيرًا، وقال: إن فعلَه إنسانٌ لم أكرهْهُ.
قال: وأخبرني عبد الملك في موضعٍ آخرَ، أنه قال لأبي عبد الله: فيَعقُّ عنه كبيرًا؟ قال: لم أسمع في الكبير شيئًا. قلت: أبوه كان معسرًا ثم أَيْسَرَ فأراد أن لا يدع ابنَه حتى يَعُقَّ عنه، قال: لا أدري، ولم أسمع في الكبير شيئًا. ثم قال لي: ومن فَعَله فَحَسنٌ، ومِن النَّاس مَن يُوجِبُه.
_________
(1) إذا بلغ. ساقطة من “ج”. وانظر فيما سبق ص (80).
(2) وانظر: فتح الباري لابن حجر: 9/ 595.
(الكتاب/128)
قال الخَلّال: أخبرني أبو المثنَّى العَنْبَرِيُّ، أنَّ أبا داود حدَّثهم، قال: سمعت أَحْمَد يحدِّث بحديث الهيثم بن جميل، عن عبد الله بن المُثَنَّى، عن ثُمَامَةَ، عن أنسٍ، أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – عقَّ عن نفسهِ (1).
قال أَحمد: عبدُ الله بنُ المحرَّر عن قَتادَة عن أنس “أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – عقَّ عن نَفْسِه” مُنْكَرٌ، وضعَّفَ عبدَ الله بنَ محرّرٍ (2).
قال الخَلّال: أنبأنا محمَّد بن عَوف الحِمْصِيّ، حدّثنا الهيثم بن جميل، حدّثنا عبد الله بن المثنَّى، عن رجل من آل أنس، أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – عقَّ عن نفسه بعد ما جاءته النبوَّةُ (3).
وفي “مصنف عبد الرزَّاق”: أنبأنا عبد الله بن محرّر عن قتادةَ عن أنس، أن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – عقَّ عن نفسه بعد النبوَّة. قال عبد الرزَّاق: إنما تركوا ابنَ محرّر (4) لهذا الحديث (5).
_________
(1) ومن هذه الطريق أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار: 3/ 78 ـ 79، والطبراني في الأوسط: 1/ 529 برقم (998)، والبيهقي: 9/ 300. قال الهيثمي في المجمع 4/ 59: “رواه البزار والطبراني في الأوسط، ورجال الطبراني رجال الصحيح خلا الهيثم بن جميل، وهو ثقة”.
(2) في “ج، د”: محرز.
(3) وانظر: المغني لابن قدامة: 13/ 397، والحاوي الكبير للماوردي: 15/ 129.
(4) في (ج، د): محرز.
(5) أخرجه عبدالرزاق في المصنف: 4/ 329، والبزار برقم (7281) وقال: تفرد به عبدالله وهو ضعيف، وابن عدي في الكامل: 5/ 21، وابن حبان في المجروحين: 2/ 23.
قال الحافظ في الفتح 9/ 595: “وأخرجه أبو الشيخ من وجهين آخرين: أحدهما من رواية إسماعيل بن مسلم عن قتادة، وإسماعيل ضعيف. ثانيهما من رواية أبي بكر المستملي عن الهيثم بن جميل وداود بن المحبر قالا حدثنا عبدالله بن المثنى عن ثمامة عن أنس، وداود ضعيف لكن الهيثم ثقة، وعبد الله من رجال البخاري، فالحديث قوي الإسناد، وقد أخرجه محمد بن عبدالملك بن أيمن عن إبراهيم بن إسحاق السراج عن عمرو الناقد، وأخرجه الطبراني في “الأوسط” عن أحمد بن مسعود كلاهما عن الهيثم بن جميل وحده به، فلولا ما في عبدالله بن المثنى من المقال لكان هذا الحديث صحيحًا”.
(الكتاب/129)
الفصل العشرون
في حُكمِ جلدِها وسَواقطِها
قال الخَلّال: أخبرني عبد الملك المَيمُونِيُّ، أن أبا عبد الله قال له إنسان في العقيقة: الجلدُ والرأسُ والسَّقَطُ يُباع ويُتَصَدَّقُ به؟ قال: يُتَصَدَّقُ به (1).
وقال عبد الله بن أَحْمَد: حدّثنا أبي، حدّثنا يزيد، حدّثنا (2) هشام، عن الحَسَنِ، أنه قال: يُكرَه (3) أن يُعطي جلد العَقِيقَةِ والأُضحيةِ على أن
_________
(1) انظر: التمام لأبي يعلى: 2/ 234. والسَّقَط: أحشاء الذبيحة كالكرِش والمصران.
(2) في “ج”: ابن.
(3) “وقال عبدالله … قال: يكره” ساقط من “د”.
(الكتاب/130)
يعمل به (1).
قلت: معناه: يكره أن يعطى في أُجرة الجازر والطبَّاخ.
وقد تقدم قوله في رواية حَنْبَل: اصنع بها ما شئت، وقوله في رواية عبد الله: يقسم منها ما أحبَّ (2).
وقال أبو عبد الله بن حمدان في “رعايته” (3): ويجوز بيعُ جُلُودِها وسَواقِطِهَا ورأسِها، والصدقةُ بثمن ذلك. نصَّ عليه.
وقيل: يحرم البيع ولا يصحُّ (4).
وقيل: يُنقَل حُكمُ الأُضحيةِ إلى العقيقةِ وعكسهُ، فيكونُ فيهما روايتانِ بالنَّقْلِ والتَّخْريج، والتَّفرقةُ أشهرُ وأَظهرُ.
قلت: النصُّ الذي ذَكرَهُ هو ما ذكرناه من مسائل الميمُونيِّ، وهو مُحْتَمِلٌ لما ذكره، ومحتمل (5) لعكسه: أنَّه يتصدَّق به دونَ ثَمَنِه، فتأمَّلْهُ! إلا أنْ يكونَ عنه نصٌّ آخرُ صريحٌ بالبيعِ.
_________
(1) انظر: مسائل الإمام أحمد، برواية عبدالله: 3/ 880، والمغني: 13/ 382 ـ 383.
(2) تقدم في ص (122 أو 123).
(3) الرعاية الصغرى لابن حمدان: 1/ 257، وتصحفت في “ب” إلى: روايته. وانظر: الإنصاف للمرداوي: 4/ 113 فقد نقل هذا النص.
(4) انظر: التمام لأبي يعلى: 2/ 233.
(5) ساقطة من “أ”.
(الكتاب/131)
وقد قال في رواية جعفرِ بنِ محمَّدٍ ـ وقد سُئلَ عن جلد البقرة في الأُضحية؟ ـ فقال: قد رُوي عن ابن عمرَ أنه قال: يبيعُه ويتصدَّقُ به. وهو مخالفٌ لجِلْدِ الشَّاةِ، فيُتَّخَذُ منه مُصَلًّى، وهذا لا ينتفعُ به في البيت. قال: إنَّ جلدَ البقرةِ يَبْلُغُ كَذَا.
قال الخَلّال: وأخبرني عبدُ الملك بن عبدِ الحميدِ، أنَّ أبا عبدِ الله قال: إنَّ ابنَ عمرَ باعَ جِلْدَ بقرةٍ وتصدَّق بثمنهِ. قال: وهذا لا يُباعُ، لأنَّ جلد البعيرِ والبقرةِ لا يَنْتَفِعُ به أحدٌ، يتَّخذُهُ في البيتِ يجلسُ عليه (1)، ولا يصلُحُ هاهنا لشيء (2)، إنَّما يُباعُ ويُتَصدَّقُ بثمنِه، وجِلْدُ الشاةِ يُتّخذُ لِضرُوبٍ (3).
وقال الأثرَمُ: سمعتُ أبا عبدِ الله ـ وذكر قولَ ابنِ عمرَ أنه كان يقول في جِلْدِ البقرةِ: يُباع ويُتصدَّق به ـ وكأنَّه يذهبُ إلى أنَّ ثمنَهُ كثيرٌ.
وقال أبو الحارث: سُئلَ أبو عبد الله عن جلد البقرة إذا ضحَّى بها، فقال: ابنُ عمرَ يُروَى عنه أنّه يبيعُه ويتصدَّقُ به.
وقال إسْحَاق بنُ منصور (4): قلتُ لأبي عبدِ الله: جلودُ الأضَاحِي ما
_________
(1) في “أ، ج”: يحبس عنده، وفي “د”: يجلس عنده.
(2) في “أ”: لبيته.
(3) انظر: التمام لأبي يعلى: 2/ 234.
(4) مسائل أحمد وإسحاق: 8/ 4048.
(الكتاب/132)
يُصْنَعُ بها؟ قال: ينتفعُ بها ويتصدَّقُ بثمنها، قلت: تُباعُ ويُتصدَّقُ بثمنِهَا؟ قال: نعم، حديثُ ابنِ عُمرَ.
وقال المَرْوَزِيُّ: مذهبُ أبي عبد الله لا تُباع (1) جُلودُ الأضَاحي، وأن يتصدق بها (2)، واحتج بحديث النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – أنه أَمَرَ أن يُتَصَدَّقَ بجلودِها وأَجِلَّتِها (3).
وقال: وفي رواية حَنْبَل لا بأس أن يتخذ من جلود الأُضحية وطاءً يَقعُد عليه، ولا يُباع إلا أن يتصدَّق به؟ فقال: لا، ينتفع بجلود الأضاحي. قيل له: يأخذه لنفسه ينتفع به؟ قال: ما كان واجبًا، أو كان عليه نذرًا، وما أشبه هذا، فإنه يبيعه ويتصدق بثمنه، وما كان تطوعًا، فإنه ينتفع به في منزله إن شاء.
قال: وقال في رواية جعفر بن محمَّد: يتصدَّق بجلد الأُضحية ويتخذ منه في البيت إهابًا، ولا يبيعُه.
وفي رواية أبي الحارث: يتصدق به ويتخذ منه إهابًا أو مصلًّى في البيت.
_________
(1) في “أ، ج”: يباع.
(2) انظر: الإنصاف للمرداوي: 4/ 92 ـ 93، والفروع لابن مفلح: 3/ 554.
(3) انظر: صحيح البخاري، كتاب الحج، باب الجلال والبُدْن: 3/ 549، وصحيح مسلم في الحج، باب الصدقة بلحوم الهدي والأضاحي وجلودها وجلالها: 2/ 954.
(الكتاب/133)
وفي رواية ابن منصور (1): يتصدَّق بجلودها، وينتفعُ بها، ولا يبيعُها.
وفي رواية الميموني: لا يباعُ، ويتصدَّق به. قالوا له: فيبيعه ويتصدق بثمنه (2)؟ قال: لا، يتصدق به كما هو.
وقال أَحْمَد بنُ القَاسِمِ: إنَّ أبا عبد الله قال في جِلْد الأُضحيَةِ: يستحبُّ أن يكون ثمنها في المُنْخُلِ (3)، أو الشيءِ مما يُستعمَل في البيت، ولا يُعطى الجزَّار.
قال أبو طالب: سألت أبا عبد الله عن جلود الأضاحي؟ قال: الشَّعبيُّ وإبراهيمُ يقولان: لا، يبتاع به غربال، أو مُنْخُلٌ. قال: يقولون: يُبتاعُ بالجِلد غربالٌ أو مُنخُل ولا يبيعه ويشتري به. قلت: يعاوض (4) به؟ قال: نعم. قلت: يعجبك هذا؟ قال: إنما يجعله لله ولا يبيعه، لأن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أمر عليًّا أن يتصدق بالجلال والجلود. قلت: فيعطى الذي يذبح؟ قال: لا، قلت: أبيعه وأتصدَّق به؟ قال: لا، كان ابن عمر يدفعه إليهم فيبيعونه لأنفسهم. قلت: أبيعه بثلاثة دراهم وأُعطيه ثلاثةَ مساكين؟
_________
(1) مسائل أحمد وإسحاق: 8/ 4048.
(2) ساقطة من “أ”.
(3) المنخل ـ بضم الميم ـ ما ينخل به، وهو من النوادر التي وردت بالضم، والقياس الكسر، لأنه اسم آلةٍ. انظر: المصباح المنير للفيومي: 2/ 597.
(4) في “أ”: تعارض.
(الكتاب/134)
قال: اجْمَعْهُمْ وادْفَعْهُ إليهم.
قال: وكان مسروقٌ وعَلْقمةُ يتَّخذونه مُصلًّى أو شيئًا في البيت، هذا أرخص ما يكون فيه أن يتَّخذه في بيته.
وقال حربٌ (1): قلت لأحمدَ: رجلٌ أخذ جلد أُضحية فقوَّمه وتصدَّق بثمنه، وحَبَسَ الجِلْد، قال: لا بأس أن يبيع جلد الأُضحية.
ثم قال الخَلّال: “باب استحبابه لبيع جلد البقرة ويتصدق بثمنه”: أخبرني منصور بن الوليد، أن جعفر بن محمَّد حدثهم، أن أبا عبد الله، قيل له: جلد البقرة؟ قال: قد روي عن ابن عمر أنه قال: يبيعه ويتصدق به، وهو مخالف لجلد الشاة، يتخذ منه مُصلًّى، وهذا لا ينتفع به في البيت، قال: إن جلد البقرة يبلغ كذا.
وقال أبو الحارث: إن أبا عبد الله سئل عن جلد البقرة إذا ضحَّى بها؟ فقال: ابنُ عمرَ يُروى عنه أنه قال: يبيعُه ويتصدَّقُ به.
وقال مُهَنَّا: سألت أَحْمَد عن الرجل يشتري البقرة يُضحِّي بها، يبيعُ جِلْدَهَا بعشرينَ درهمًا وأكثرَ من عشرينَ، فيشتري بثمن الجِلْدِ أُضحيةً يضحِّي بها، ما ترى في ذلك؟ فقال: يُروَى فيه عن ابنِ عمرَ مِثلُ هذا.
_________
(1) حرب بن إسماعيل بن خلف الكِرماني المتوفى سنة (280) للهجرة، وهو من تلامذة الإمام أحمد بن حنبل وممن روى عنه المسائل.
(الكتاب/135)
وقال إسْحَاق بنُ منصور (1): قلت لأبي عبد الله: جلود الأضاحي ما يُصنع بها؟ قال: يُنتفع بها ويُتصَدَّق بها، وتُباع (2) ويُتصدَّق بثمنها. قلت: تباع ويتصدق بثمنها! قال: نعم، حديثُ ابنِ عمرَ.
فهذه نصوصُه في جلود العقيقةِ والأُضحيةِ، وفي الواجبِ والمُستحَبِّ كما تَرى (3). والله أعلمُ.
_________
(1) مسائل أحمد وإسحاق: 8/ 4048.
(2) “ويتصدق بها، وتباع” ساقط من “أ، ج”.
(3) وانظر: المغني لابن قدامة: 13/ 396، والإنصاف للمرداوي: 4/ 113 ـ 114، وفتح العزيز للرافعي: 12/ 112 ـ 116، والحاوي الكبير للماوردي: 15/ 129.
(الكتاب/136)
الفصل الحادي والعشرون
فيما يُقال عند ذَبحِها
قال ابن المُنْذِر: “ذكر تسمية من يعُقُّ عنه”: حدّثنا عبد الله بن محمَّد، حدّثنا أبي، حدّثنا هشام عن ابن جُرَيْج، عن يحيى بن سعيد، عن عَمْرَةَ، عن عَائِشَةَ، قالت: قال النبيّ – صلى الله عليه وسلم -: “اذْبحُوا عَلى اسْمِه فقولُوا: بَسْمِ الله، اللهمَّ لك، وإليك، هذه عقيقةُ فلانٍ” (1).
قال ابن المنذرِ: وهذا حسنٌ. وإن نوى العقيقةَ ولم يتكلم به أجزأه، إن شاء الله (2).
وقال الخَلّال: “باب ما يقال عند ذبح العقيقة”: أخبرني أَحمد بنُ محمَّدِ بنِ مَطَر، وزكريا بنُ يحيى، أنَّ أبا طالب حدَّثهم، أنه سأل أبا
_________
(1) وأخرجه عبدالرزاق: 4/ 330، وأبو يعلى: 4/ 301، والبيهقي: 9/ 304، وصححه الحاكم: 4/ 237 ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي: “رواه أبو يعلى والبزار، ورجاله رجال الصحيح خلا شيخ أبي يعلى، فإني لم أعرفه”. وأخرج ابن أبي شيبة: 12/ 329 ـ 330 من طريق هشام الدستوائي عن قتادة قال: يسمِّي على العقيقة كما يسمي على الأضحية: بسم الله عقيقة فلان. ومن طريق سعيد عن قتادة نحوه وزاد: “اللهمَّ منك ولك، عقيقة فلان، بسم الله والله أكبر. ثم ذبح”. وانظر: فتح الباري: 9/ 734.
(2) انظر: الإشراف على مذاهب العلماء: 3/ 420.
(الكتاب/137)
عبدالله: إذا أراد الرجلُ أن يَعُقَّ كيف يقول؟ قال: يقول: بسم الله. ويذبح على النيَّة كما يضحِّي بنيَّته، يقول: هذه عقيقةُ فلانٍ بنِ فلانٍ.
وظاهر هذا: أنه اعتبر النيَّة واللفظ جميعًا، كما يلبِّي ويُحْرِمُ عن غيره بالنيَّة واللفظِ، فيقول: لبَّيْكَ اللهمَّ عن فلان، أو إحْرَامِي عن فلان.
ويؤخذ من هذا: أنه إذا أهدى له ثواب عمل، أن ينويه عنه، ويقول: اللهم هذا عن فلان، أو اجعل ثوابه لفلان.
وقد قال بعضهم: ينبغي أن يعلقه بالشرط فيقول: اللهمَّ إن كنتَ قَبِلْتَ منِّي هذا العملَ، فاجعلْ ثوابَه لفلانٍ؛ لأنه (1) لا يَدري أقُبِلَ منه أم لا؟
وهذا لا حاجة إليه، والحديثُ يردُّه، فإنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – لم يقل لمن سمعه يلبِّي عن شُبْرُمَةَ: قل: اللهمَّ إن كنت قبلت إحرامي فاجعله عن شُبْرُمَة (2)، ولا قال لأحدٍ ممَّن سأله أن يحجَّ عن قريبه ذلك، ولا في حديث واحدٍ ألبتةَ، وهَديُه أَوْلَى ما اتُّبِعَ.
ولا يُحفظ عن أحدٍ من السَّلَف ألبتة أنه علَّق الإهداءَ والضحيَّةَ
_________
(1) في “أ”: فإنه.
(2) أخرج أبو داود في المناسك، باب الرجل يحج عن غيره: 7/ 160 عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي – صلى الله عليه وسلم – سمع رجلاً يقول: لبَّيْكَ عن شبرمة. قال: “من شبرمة؟ ” قال: أخ لي أو قريب لي. قال: “حججت عن نفسك؟ ” قال: لا. قال: “حُجَّ عن نفسك، ثم حُجَّ عن شُبرُمةَ”.
(الكتاب/138)
والعَقِيْقَةَ عن الغير بالشَّرْط. بل المنقولُ عنهم: اللهمَّ هذا عن فلان ابنِ فلانٍ. وهذا كافٍ، فإن الله سبحانه إنما يُوصِل إليه ما قَبِلَهُ من العمل، شَرَطَهُ المُهْدِي أو لم يَشْرُطْهُ. والله أعلم.
(الكتاب/139)
الفصل الثاني والعشرون
في حُكم اختصاصها بالأسابيعِ
ها هنا أربعةُ أمورٍ تتعلَّقُ بالأسابيعِ (1): عقيقتُه، وحَلْقُ رأسِهِ، وتسميتُهُ، وخِتَانُه.
فالأوَّلان مستحبَّان في اليوم السَّابع اتفاقًا.
وأمَّا تسميتُه وختانُه (2) فيه، فمختلَفٌ فيهما ــ كما سنذكره إن شاء الله تعالى ــ.
وقد تقدَّمتِ الآثارُ بذبحِ العقيقةِ يوم السَّابعِ (3).
وحكمةُ هذا ـ والله أعلم ـ أنَّ الطفل حين يُولَد يكون أمْرُه متردِّدًا بين السلامة والعَطَب، ولا يُدْرَى هل هو من أهل الحياة أم لا، إلى أن تأتيَ عليه مدة يُستدلُّ بما يُشاهَدُ من أحواله فيها على سلامةِ بِنْيَتِهِ وصحَّةِ خِلْقَتِهِ، وأنّه قابلٌ للحياة، وجعل مقدار تلك المدة أيام الأسبوع، فإنه دورٌ يوميٌّ، كما أن السنَةَ دورٌ شهريٌّ.
_________
(1) في “د”: السابع.
(2) “فالأولان مستحبان … ختانه” ساقط من”أ”. ولعله سبق نظر.
(3) فيما سبق، ص (86) وما بعدها. وانظر: المغني: 13/ 396 ـ 397، وفتح العزيز: 12/ 117، والحاوي الكبير: 15/ 130.
(الكتاب/140)
هذا هو الزمان الذي قدَّره الله يوم خلقَ السماواتِ والأرضَ، وهو ــ سبحانه ــ خصَّ أيام تخليق العالم بستةِ أيامٍ، وكنَّى كلَّ يوم منها اسمًا يخصُّه به، وخصَّ كلَّ يوم منها بصنف من الخليقة أَوْجَدَهُ فيها، وجعل يومَ إكمالِ الخلق واجتماعِه ــ وهو يومُ اجتماع الخليقة ــ مَجْمعًا وعيدًا للمؤمنين، يجتمعون فيه لعبادته، وذِكْره، والثناءِ عليه، وتحميدِه وتمجيدِه، والتفرُّغِ من أشغال الدنيا لشُكْرِه، والإقبالِ على خدمته، وذكر ما كان في ذلك اليوم من المبدأ، وما يكونُ فيه من المَعاد، وهو اليومُ الذي استوى فيه الربُّ تبارك وتعالى على عرشه، واليومُ الذي خلق الله فيه أبانا آدم، واليومُ الذي أسكنه فيه الجنَّة، واليومُ الذي أخرجه فيه منها، واليومُ الذي ينقضي فيه أجلُ الدنيا، وتقوم الساعةُ، وفيه يجيء الله سبحانه وتعالى، ويُحاسِب خَلْقَهُ، ويدخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم (1).
والمقصود: أن هذه الأيام أوَّل مراتب العمر، فإذا استكملها المولودُ، انتقل إلى المرتبة الثانية وهي الشُّهور، فإذا استكملها انتقل إلى الثالثة وهي السنين، فما نقص عن هذه الأيام، فغيرُ مستوفٍ للخليقة، وما زاد عليها فهو مكرَّر يُعاد عند ذكره اسمُ ما تقدَّم من عدده، فكانت الستةُ غايةً لتمام الخلْق، وجُمِعَ في آخر اليوم السَّادس منها، فجُعِلَت تسميةُ
_________
(1) وانظر ما كتبه المصنف في زاد المعاد: 1/ 375 – 425 ضمن فصل هديه – صلى الله عليه وسلم – في الجمعة وذكر خصائصها.
(الكتاب/141)
المولود، وإماطةُ الأذى عنه، وفِدْيَتُه، وفكُّ رهانِه في اليومِ السَّابعِ، كما جعل الله سبحانه اليومَ السَّابعَ من الأسبوع عيدًا لهم، يجتمعون فيه مُظْهِرين (1) شُكْرَهُ وذِكْرَهُ، فَرِحينَ بما آتاهم الله من فضلِه، من تفضيلِه لهم على سائر الخلائقِ المخلوقةِ في الأيام قبلَه.
وأيضًا: فإنَّ الله سبحانه أجرى حكمته بتغيُّر حال العبد في كلِّ سبعة أيام وانتقالِهِ من حالٍ إلى حال، فكان السبعة طورًا من أطواره، وطَبَقًا من أطْبَاقهِ، ولهذا تجد المريضَ تتغيَّر أحواله في اليوم السَّابع ولا بدَّ، إمَّا إلى قوة، وإمَّا إلى انحطاط.
ولما اقتضت حكمته سبحانه ذلك، شرعَ لعباده كلَّ سبعةِ أيام يومًا يرغبون فيه إليه، يتضرَّعون إليه ويدعونه، فيكون ذلك مِنْ أَعْظَمِ الأسبابِ في صلاحِهم وفي معاشِهم ومَعَادِهم، ودفْعِ كثيرٍ من الشُّرور عنهم، فسبحانَ من بَهَرَتْ حكمتُه العقولَ في شَرْعه وخَلْقِه! والله أعلم.
_________
(1) في “ب”: يظهرون.
(الكتاب/142)
الباب السَّابع
في حلقِ رأسهِ والتَّصدُّقِ بوزنِ شَعْره
قال أبو عُمَرَ بنُ عبدِ البَرِّ (1): أمَّا حلْقُ رأس الصبيِّ عند العقيقة، فإن العلماء كانوا يستحبُّون ذلك، وقد ثبت عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أنَّه قال في حديث العقيقة: “ويُحلَقُ رأسُه ويُسَمَّى”.
وقال الخَلّال “في الجامع”: “ذِكْرُ حلق رأسِ الصبيِّ والصدقة بوزن شَعْرِهِ”: أخبرني محمّد بن عليٍّ، حدّثنا صالح، أنَّ أباه قال: يُستحبُّ أن يحلق يومَ سابعهِ (2).
وروى الحَسَنُ عن سَمُرَةَ: عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم -: “يحلق رأسه”.
ورَوَى سَلْمانُ بنُ عَامرٍ عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: “أمِيطُوا عنه الأذَى” (3).
قال: وسُئلَ الحَسَنُ عن قَولِه – صلى الله عليه وسلم -: “أمِيطُوا عنه الأذى؟ ” قال: يُحْلَقُ رأسُهُ.
وقال حَنبَل: سمعت أبا عبد الله يقول: يُحلقُ رأسُ الصبيِّ.
_________
(1) التمهيد: 4/ 318. وانظر: الاستذكار له أيضًا: 5/ 549 ـ 550.
(2) انظر: مسائل الإمام أحمد برواية صالح: 2/ 209، ورواية أبي داود، ص (256)، ومسائل أحمد وإسحاق: 8/ 3948.
(3) تقدم تخريجهما ص (49).
(الكتاب/143)
وقال الفضلُ بنُ زيادٍ: قلتُ لأبي عبد الله: يُحْلَقُ رأسُ الصبيِّ (1)؟ قال: نعم، قلت: فيُدَمَّى، قال: لا، هذا مِنْ فِعلِ الجاهليَّة.
وقال صالح بنُ أَحْمَد: قال أبي: ويقال إنَّ فاطمةَ ـ رضي الله عنها ـ حلقتْ رأسَ الحَسَنِ والحُسَيْن، وتصدَّقتْ بوَزْنِ شَعْرِهِمَا وَرِقًا (2).
وقال حَنْبَل سمعتُ أبا عبد الله قال: لا بأسَ أن يتصدَّق بوزنِ شَعْرِ الصبيِّ.
وقد روى مَالِكٌ في “مُوطَّئِهِ” عن جعفرِ بنِ محمَّدٍ، عن أبيهِ قالَ: وَزَنَتْ فاطمةُ شَعْرَ حَسَنٍ وَحُسَيْنٍ وزَيْنَبَ وأُمِّ كُلْثُومٍ، فَتَصَدَّقَتْ بِزِنَةِ ذَلِكَ فِضّةً (3).
وفي “الموطأ” أيضًا، عن ربيعةَ بنِ أَبي عبدِ الرَّحمنِ، عن محمَّدٍ بنِ عليٍّ بن الحسينٍ، أنه قالَ: وَزَنَتْ فاطمةُ بنتُ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – شَعْرَ حَسَنٍ وَحُسَيْنٍ، فتصدَّقتْ بِزِنَتِهِ فِضّةً (4).
وقال يحيى بنُ بُكَيْر: حدّثنا ابنُ لَهِيْعَةَ، عن عُمَارَةَ بنِ غَزِيَّة، عن
_________
(1) في “أ، ج”: يحلق رأسه.
(2) مسائل الإمام أحمد بروية صالح: 2/ 213.
(3) موطأ مالك، كتاب العقيقة، باب ما جاء في العقيقة: 1/ 418، وأخرجه أبو داود في المراسيل، ص 279 برقم 380. ورجاله ثقات رجال الشيخين غير جعفر بن محمد فإنه من رجال مسلم.
(4) انظر: الموضع السابق من الموطأ.
(الكتاب/144)
رَبِيْعةَ بنِ أبي عبدِ الرَّحمن، عن أنسِ بنِ مالكٍ، أنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – أمرَ برأس الحَسَنِ والحُسَيْنِ، يومَ سابعِهما فحُلقا وتصدّق بوزنهِ فضةً (1).
وقال عبد الرزَّاق: أخبَرَنَا ابنُ جُرَيْجٍ، قال: سمعت محمَّدَ بنَ عليٍّ يقول: كانتْ فاطمةُ ابنة رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – لا يُولَدُ لها ولدٌ إلَّا أَمَرَتْ بِحَلْقِ رَأْسِهِ (2)، وتصدَّقَتْ بوَزْنِ شَعْرِه وَرِقًا (3).
قال أبو عُمَرَ: قال عطاء: يبدأ بالحلق قبل الذبح (4).
قلت: وكأنه ـ والله أعلم ـ قصد بذلك تمييزه عن مناسك الحاج، وأن لا يشبَّه به، فإنَّ السنَّة في حقِّه أن يقدِّم النَّحْرَ على الحَلْق، ولا أحفظُ عن غير عطاءٍ في ذلك شيئًا.
وقد ذكر ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر، عن محمَّد بن الحُسَيْن، عن عليٍّ، قال: عقَّ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – عن الحَسَنِ شاةً، وقال: “يا فاطمةُ! احْلِقِي رأسَهُ وتصدَّقِي بِزِنَةِ شَعْرِهِ فِضَّةً” فوَزَنَاهُ، فكان وزنهُ درهمًا أو بعضَ درهَمٍ (5).
_________
(1) أخرجه البيهقي في السنن: 9/ 299.
(2) في “أ، ج”: به فحلق رأسه.
(3) انظر: المصنف لعبد الرزاق: 4/ 333.
(4) انظر: الاستذكار لابن عبدالبر: 5/ 550. ورواه ابن أبي الدنيا في العيال: 1/ 222.
(5) أخرجه الترمذي في الأضاحي، باب العقيقة بشاة: 4/ 84، والحاكم: 4/ 237، والبيهقي: 9/ 304 وقال: “هذا منقطع”.
(الكتاب/145)
وقد ذكر البيهقِيُّ من حديث ابن عقيل، عن علي بن أبي الحُسَيْن، عن أبي رافع، أنَّ حسنًا حين وَلَدَتْهُ أمُّه، أرادت أن تَعقَّ عنه بكبشٍ عظيمٍ، فأتت النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – فقال: “لا تَعُقِّي عنه بشيءٍ، ولكنِ احْلِقِي شَعْرَ رأسِهِ، ثم تصدَّقِي بوزنه من الوَرِقِ في سبيل الله أو على ابن السبيل”. وولدتِ الحُسَيْنَ من العام المقبل، فصنعتْ مثل ذلك (1).
قال البيهقيُّ (2): إنْ صحَّ فكأنه أراد أن يتولى العقيقةَ عنهما بنفسه كما روينا.
فصل
ويتعلَّق بالحَلْقِ مسألةُ القَزَعِ، وهي: حَلْقُ بعضِ رأسِ الصبيِّ وتَرْكُ بعضِهِ. وقال (3): وقد أخرجاه في “الصحيحين” من حديث عُبيدِ الله (4) ابنِ عمرَ، عن عُمَرَ بن نافعٍ، عن أبيه، عن ابن عمرَ، قال: نهى رسولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – عنِ القَزَعِ (5).
_________
(1) أخرجه البيهقي في السنن: 9/ 304.
(2) في الموضع السابق نفسه.
(3) أي البيهقي، في الموضع السابق.
(4) في (“أ، ج”: عبدالله.
(5) أخرجه البخاري في اللباس، باب القزع: 10/ 363، ومسلم في اللباس، باب كراهية القزع: 3/ 1675 برقم (2120).
(الكتاب/146)
والقَزَعُ: أن يحلق بعض رأس الصبي ويدع بعضه (1).
قال شيخنا: وهذا من كمال محبة الله ورسوله للعدل، فإنه أمر به حتى في شأن الإنسان مع نفسه، فنهاه أن يحلق بعض رأسه ويترك بعضه (2)، لأنَّه ظلمٌ للرأس حيث ترك بعضَه كاسيًا وبعضَه عاريًا.
ونظير هذا أنه نهى عن الجلوس بين الشمس والظل (3) فإنه ظلم لبعض بدنه. ونظيره: نهى أن يمشيَ الرجلُ في نَعْلٍ واحدة، بل إمَّا أن يُنْعِلَهُمَا أو يُحْفِيَهُما (4).
والقزع أربعة أنواع:
(أحدها): أن يحلق من رأسه مواضع من ها هنا وها هنا. مأخوذ من
_________
(1) انظر: النهاية لابن الأثير: 4/ 59.
(2) “قال شيخنا .. ويترك بعضه” ساقط من “د”.
(3) أخرجه ابن ماجه في الأدب برقم (3722) عن بريدة وأخرج الإمام أحمد في المسند: 3/ 414، وفي طبعة الرسالة: 24/ 147 عن أبي عياض عن رجل من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – نهى أن يُجلس بين الضِّحِّ والظِّل، وقال: “مجلس الشيطان”، وصححه الحاكم: 4/ 271 ووافقه الذهبي. وانظر: سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في الجلوس بين الشمس والظل: 13/ 245 ـ 246.
(4) أخرجه البخاري في اللباس، باب لا يمشي في نعل واحدة: 10/ 309، ومسلم في باب استحباب لبس النعال في اليمنى وكراهية المشي بنعل واحدة: 3/ 1660 برقم (2907).
(الكتاب/147)
تَقَزُّعِ السَّحاب وهو تَقَطُّعُه.
(الثاني): أن يحلق وسطه ويترك جوانبه، كما يفعله شَمَامِسَةُ النَّصارى.
(الثالث): أن يحلق جوانبه ويترك وسطه، كما يفعله كثير من الأوباش والسفل.
(الرابع): أن يحلق مقدّمه ويترك مؤخَّره، وهذا كلُّه من القَزَع. والله أعلم.
(الكتاب/148)
الباب الثامن
في ذِكْر تسميتهِ وأَحكَامِها ووقتِها
وفيه عشرة فصول:
الفصل الأول: في وقت التَّسمية.
الفصل الثاني: فيما يستحب من الأسماء، وما يحرم منها وما يكره.
الفصل الثالث: في استحباب تغيير الاسم إلى غيره لمصلحة.
الفصل الرابع: في جواز تكنية المولود بأبي فلان.
الفصل الخامس: في أن التسمية حق للأب دون الأم.
الفصل السَّادس: في الفرق بين الاسم والكنية واللقب.
الفصل السَّابع: في حكم التسمية باسم نبينا – صلى الله عليه وسلم – والتكنِّي بكنيته إفرادًا وجمعًا، وذكر الأحاديث في ذلك.
الفصل الثامن: في جواز التسمية بأكثر من اسم واحد.
الفصل التاسع: في بيان ارتباط معنى الاسم بالمسمى والمناسبة التي بينهما.
الفصل العاشر: في بيان أن الخلق يُدعون يوم القيامة بآبائهم لا بأمهاتهم.
(الكتاب/149)
الفصل الأول
في وقتِ التَّسميةِ
قال الخَلّال في “جامعه”: “باب ذكر تسمية الصبي”: أخبرني عبدُالمَلِكِ بنُ عبدِ الحميدِ قال: تذاكرنا، لِكَمْ يُسمَّى (1) الصبيُّ؟
فقال لنا أبو عبد الله: أمَّا ثابتٌ فروى عن أنس: أنه كان يسمَّى ليلتَه (2)، وأما سَمُرَةُ: فيسمَّى يوم السَّابع، يعني حديث سَمُرَة، فيقتضي التسمية يوم السَّابع.
أخبرني جعفر بن محمَّد، أن يَعقوب بن بُخْتَان حدَّثهم، أن أبا عبدالله قال: حديث أنس يسمَّى ليلتَه، وحديث سَمُرَة، قال: يسمَّى يوم سابعه. وذكر حديث سَمُرَة.
حدّثنا محمَّد بن علي، حدّثنا صالح أن أباه قال: كان يستحب أن يسمَّى يوم السَّابع … وذكر حديث سَمُرَة (3).
وقال ابن المُنْذِر في “الأوسط” (4): “ذكر تسمية المولود يوم سابعه”
_________
(1) في “أ”: نسمّي.
(2) تحرّف في النسخ والمطبوعات هنا وفي الموضع الآتي إلى: “لثلاثة”. ويشير الإمام أحمد إلى حديث ثابت عن أنس مرفوعًا: “وُلد لي الليلةَ غلامٌ فسمَّيتُه باسمِ أَبي إبراهيم”، وسيأتي قريبًا.
(3) “حدثنا محمد بن علي .. سمرة” ساقط من “أ، د”.
(4) وهو ليس في القسم المطبوع منه. وانظر: الإشراف: 3/ 421.
(الكتاب/151)
جاء الحديث عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، أنه أمر أن يُسمَّى المولود يومَ سابعه. وقد ذكرنا إسناده من حديث عبد الله بن عَمْرو.
قلت: وأراد حديث ابن إسْحَاق عن عَمْرِو بنِ شُعَيبٍ عن أبيه عن جَدِّه: أمَر رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – حين سابع المولود بتسميتِه وعقيقتِه، ووضعِ الأذى عنه. وقد تقدَّم ذِكْره وذِكْرُ حديثِ سَمُرَةَ.
وقال البَيْهَقِيُّ في “سننه”، باب تسمية المولود حين يولد: “وهو أصحُّ من السَّابع” (1).
ثم روى (2) من حديث حمَّاد بن سلَمَةَ، عن ثابتٍ، عن أنس، قال: ذهبتُ بعبد الله بن أبي طَلْحَةَ إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين وُلِدَ، ورسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – يَهْنَأُ بعيرًا له، فقال له: “هل معك تمرٌ؟ “. قلت: نعم! فناولتُه تمراتٍ، فألْقَاهُنَّ في فيه، فَلَاكَهُنَّ، ثم فَغَرَ فَا الصبيِّ فمَجَّه في فِيْهِ، فجعل الصبيُّ يتلَمَّظُهُ، فقال النبيّ – صلى الله عليه وسلم -: “حِبُّ الأنصارِ التمرَ”.
أخرجاه في “الصحيحين” من حديث أنس بن سِيرِين عن أنس بن مالك (3).
_________
(1) سنن البيهقي: 9/ 305.
(2) أي البيهقي، في الموضع السابق من السنن.
(3) أخرجه البخاري في العقيقة، باب تسمية المولود: 9/ 587، ومسلم في الأدب، باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته: 3/ 1689 برقم (2144).
ومعنى “يهنأ”: يطليه بالقَطِران، وهو الهَناء، يقال: هنأت البعيرَ أهنَؤه. وقوله “فغر فاه”: فتح فمه، وقوله “حبّ الأنصار التمر”: روي بضم الحاء وكسرها. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم: 14/ 123.
(الكتاب/152)
وذكر حديث يَزِيدَ بنِ عبدِ الله عن أَبي بُرْدَةَ عن أبي مُوسَى، قال: وُلِدَ لي غلامٌ فأتيتُ به النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – فسمَّاه إبراهيمَ وحنَّكه بتمرةٍ (1).
قلت: وفي “الصحيحين” من حديث سهل بن سعد السَّاعديِّ، قال: أُتي بالمُنْذِرِ بنِ أبي أُسَيْد إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين وُلِدَ، فوَضَعَه النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – على فَخِذِهِ، وأبو أُسَيْد جالسٌ، فَلَهِيَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – بشيءٍ بين يَدَيْهِ، فأمرَ
أبو أُسَيد بابنه فاحْتُمِل من على فخذ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “أين الصبيُّ؟ ” فقال أبو أُسيد: قلَّبْنَاهُ يا رسولَ الله! فقال: “ما اسمُه؟ ” قال: فلانٌ. قال: “لا، ولكنِ اسمُه المُنْذِرُ” (2).
وفي “صحيح مُسْلِمٍ” من حديثِ سليمانَ بنِ المغيرةِ، عن ثابتٍ، عن أنسٍ، قالَ: قالَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: “وُلِدَ ليَ الليلةَ غلامٌ، فسمَّيتُه باسْمِ أَبي إبْرَاهِيمَ”، وذكر باقي الحديث في قصَّةِ موتِه (3).
_________
(1) أخرجه البيهقي في السنن: 9/ 305.
(2) أخرجه البخاري في الأدب، باب تحويل الاسم إلى اسم أحسن منه:10/ 575، ومسلم في الأدب، باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته وحمله إلى صالح يحنكه: 3/ 1692 برقم (2149).
وقوله: “فَلَهِيَ” معناه: اشتغل بشيء بين يديه. و”قلّبناه” أي صرفناه إلى منزله.
(3) صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته- صلى الله عليه وسلم – بالصبيان والعيال وتواضعه: 4/ 1807، برقم (2315).
(الكتاب/153)
وقال أبو عُمَرَ بنُ عبدِ البَرِّ في “الاستيعاب”: ولدتْ له مَارِيَةُ القِبْطِيَّةُ سُرِّيَّتُهُ إبْراهِيمَ في ذِي الحجَّة سنةَ ثمانٍ.
وذكر الزُّبَيْر (1) عن أشْيَاخِهِ، أنَّ أمَّ إبراهيمَ ولدت بالعَالِيَةِ (2)، وعقَّ عنه بكبشٍ يومَ سابعهِ، وحلقَ رأسَه أبو هندٍ، فتصدَّق بِزِنَةِ شَعْرِهِ فضّةً على المساكين، وأمرَ بشَعْرِه فدُفِنَ في الأرضِ، وسمَّاه يومئذٍ.
هكذا قال الزُّبَيْر: وسماَّه يومَ سَابعِه. والحديثُ المرفوعُ أصحُّ من قَوْلهِ وأَوْلَى (3).
ثم ذكر (4) حديث أنس: وكانت قَابِلَتها سلمى مولاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فخرجت إلى زوجها أبي رافع، فأخبرتْه أنَّ ماريةَ ولدت غلامًا، فجاء
أبو رافعٍ إلى رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – فبشَّرَهُ، فوَهبَ له غلامًا (5).
قلت: وفي قصة مارية وإبراهيم أنواعٌ من السُّنَن:
أحدها: استحباب قَبول الهدية.
الثاني: قَبول هدية أهل الكتاب.
_________
(1) هو ابن بكار. وطبع من كتبه: الأخبار الموفقيات، ونسب قريش. ولم أجده فيهما. وصرّح ابن كثير في التفسير (1/ 27) أنه في كتاب النسب، ثم قال عن إسناده: “لا يثبت، وهو مخالف لما في الصحيح … “.
(2) موضع قريب من المدينة النبوية.
(3) الاستيعاب لابن عبدالبر: 1/ 54.
(4) يعني ابن عبدالبر.
(5) الاستيعاب: 1/ 54. وانظرالطبقات الكبرى لابن سعد: 1/ 135.
(الكتاب/154)
الثالث: قَبول هدية الرقيق.
الرابع: جواز التّسَرِّي.
الخامس: البشارة لمن ولد له مولود بولده.
السَّادس: استحباب إعطاء البشير بشراه.
السَّابع: العَقِيقَة عن المولود.
الثامن: كونها يوم سابعه.
التاسع: حلق رأسه.
العاشر: التصدُّق بزنة شعره وَرِقًا.
الحادي عشر: دفن الشعر في الأرض، ولا يُلْقى تحت الأرجل.
الثاني عشر: تسمية المولود يوم ولادته.
الثالث عشر: جواز دفع الطفل إلى غير أمِّه، تُرْضِعُه وتَحْضُنُه.
الرابع عشر: عيادة الوالد ولدَه الطفلَ. فإن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – لمَّا سمع بوجعه انطلق إليه يعوده في بيت أبي سيفٍ القَيْنِ، فدعا به وضمَّه إليه وهو يكيد بنفسه (1)، فدمعت عيناه وقال: “تَدْمَعُ العَيْنُ وَيَحْزَنُ القَلْبُ، ولا نَقولُ إلا ما يُرْضِي الرّبَّ، وإنَّا بكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ” (2).
الخامس عشر: جواز البُكاءِ على الميت بالعين.
_________
(1) أي يجود بها. والمراد النَّزْع.
(2) أخرجه البخاري في الجنائز، باب قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إنا بك لمحزونون”: 3/ 172، ومسلم في الفضائل، باب رحمته – صلى الله عليه وسلم – بالصبيان: 4/ 1807.
(الكتاب/155)
وقد ذُكِرَ في مناقب الفُضَيلِ بنِ عِيَاضٍ، أنه ضحك يومَ موتِ ابنِه عليّ، فسُئِل عن ذلك، فقال: إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قضى بقضاءٍ، فأحببتُ أن أَرضى بقضائِه (1).
وهَدْيُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أكْمَلُ وأفْضَلُ، فإنَّه جمع بين الرِّضا بقضاء ربِّه تعالى وبين رحمة الطفل، فإنه لما قال له سعدُ بنُ عبادةَ: ما هذا يا رسولَ الله؟ قال: “هذه رحمةٌ، وإنَّما يرحمُ اللهُ مِنْ عِبادِهِ الرُّحَماءَ” (2).
والفُضَيْلُ ضاقَ عن الجمع بين الأَمْرَينِ، فلم يتَّسع للرِّضا بقضاء الربِّ وبكاءِ الرَّحمةِ للولدِ. هذا جواب شيخنا سمعته منه (3).
السَّادس عشر: جواز الحزن على الميِّت، وأنه لا ينقص الأجر ما لم يخرج إلى قولٍ أو عمل لا يُرضي الربَّ، أو تركِ قولٍ أو عملٍ يُرضيه.
السَّابع عشر: تغسيلُ الطفل، فإنَّ أبا عُمَرَ وغيره ذكروا أنَّ مُرْضِعَتَهُ أمَّ بُرْدَةَ ـ امرأة أبي سيفٍ ـ غسَّلتْهُ، وحملتْه مِن بيتها على سريرٍ صغيرٍ إلى لَحْدِهِ (4).
_________
(1) بنحوه في الرضا عن الله بقضائه لابن أبي الدنيا، ص 108، ومن طريقه في حلية الأولياء لأبي نُعيم الأصبهاني: 8/ 100.
(2) أخرجه البخاري في الجنائز، باب قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: يعذب الميت ببكاء أهله: 3/ 151، ومسلم في الجنائز، باب البكاء على الميت: 2/ 636، برقم (923).
(3) انظر: زاد المعاد: 1/ 449، وهو بنحوه في التحفة العراقية لشيخ الإسلام ص 37.
(4) الاستيعاب: 1/ 56. وانظر: التمهيد: 6/ 334 وما بعدها.
(الكتاب/156)
الثامن عشر: الصلاة على الطفل.
قال أبُو عُمَرَ: “وصلَّى عليه رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – وكبَّر عليه أربعًا. هذا قول جمهور أهل العلم، وهو الصحيح.
وكذلك قال الشعبي: مات إبراهيم ابن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – وهو ابن ستة عشر شهرًا فصلَّى عليه النبيّ – صلى الله عليه وسلم – (1).
وروى ابن إسْحَاق عن عبدِ الله بنِ أبي بكرٍ، عن عمرة بنت عبدالرحمن، عن عَائِشَةَ، أنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – دَفَنَ ابنَه إبراهيمَ ولم يُصَلِّ عَلَيْهِ”.
قال (2): “وهذا غيرُ صحيحٍ، لأنَّ الجمهور قد أجمعوا على الصَّلاة على الأطفالِ إذا استهلُّوا، وِرَاثةً وعملاً مستفيضًا عن السّلف والخَلَف، ولا أعلم أحدًا جاء عنه غير هذا، إلا عن سَمُرَةَ بنِ جُنْدُب”.
قال: “وقد يَحْتَمِلُ أن يكونَ معنى حديثِ عَائِشَة: أنَّه لم يصلِّ عليه في جماعةٍ، وأمَرَ أصحابَه فصلَّوا عليه ولم يَحْضُرْهُمْ، فلا يكون مخالفًا لما عليه العلماءُ في ذلك، وهو أَوْلَى ما حُمِل عليه”. انتهى (3).
_________
(1) الاستيعاب: 1/ 58. وأخرجه ابن أبي شيبة: 3/ 379، وفي طبعة القبلة: 7/ 467، وعبد الرزاق: 3/ 532، وابن سعد في الطبقات: 1/ 140، ووصله البيهقي: 4/ 9.
(2) أي الحافظ ابن عبدالبر رحمه الله.
(3) أي انتهى ما نقله عن الحافظ ابن عبدالبر.
(الكتاب/157)
وقد قال غيره: إنَّه اشتغل عن الصَّلاة عليه بأمرِ الكسوفِ وصلاتِهِ، فإنَّ الشمسَ كَسَفَتْ يومَ موتهِ (1)، فشُغِل بصلاة الكُسُوفِ فإنَّ الناس قالوا: كَسَفَتِ الشمسُ لموتِ إبراهيمَ، فخطب النبيّ – صلى الله عليه وسلم – خطبة الكُسُوف، وقال فيها: “إنَّ الشمسَ والقمرَ آيتان من آياتِ الله، لا يَنْكَسِفَانِ لموتِ أحدٍ ولا لحيَاتِهِ، ولكنْ يخوِّف اللهُ بهما عِبادَهُ” (2).
وقد قال أبو داود في “سننه” (3): باب الصلاة على الطفل. ثم ساق حديثَ عَائِشَةَ من طريق محمَّدِ بنِ إسْحَاق، قال: مات إبراهيمُ ابنُ النبيّ – صلى الله عليه وسلم – وهو ابن ثمانيةَ عَشَرَ شهرًا، فلم يصلِّ عليه النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -.
ثم ساق في الباب عن البَهِيِّ، قال: لمَّا مات إبراهيمُ ابن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – صلَّى عليه رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – في المَقَاعِدِ (4).
_________
(1) “وصلاته … موته” ساقط من “أ”.
(2) أخرجه البخاري في الكسوف، باب قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “يخوّف الله بهما عباده”: 2/ 536، ومسلم في الكسوف، باب ما عرض على النبي – صلى الله عليه وسلم – في صلاة الكسوف: 2/ 536، برقم (901).
(3) سنن أبي داود، كتاب الجنائز، باب في الصلاة على الطفل: 10/ 469 ـ 470، وأخرجه الإمام أحمد: 6/ 267.
(4) أبو داود في الموضع السابق: 10/ 471، ورواه أيضًا في “المراسيل” برقم (431)، والبيهقي في السنن: 4/ 9. و”المقاعد”: بفتح الميم، هي دكاكين كانت عند دار عثمان ـ رضي الله عنه ـ بالمدينة. وقيل: موضع بقرب المسجد اتُّخذ للقعود فيه للحوائج والوضوء. انظر: مجمع بحار الأنوار للفتني: 4/ 306.
(الكتاب/158)
وهذا مُرْسَلٌ. والبَهِيُّ: هو أبو محمَّد عبدُ الله بنُ يَسارٍ (1)، مَوْلَى مُصْعَبِ بنِ الزُّبَير، تابعيٌّ.
ثم ذكر بعده عن عطاءِ بنِ أبي رَبَاح، أن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – صلَّى على ابنهِ إبراهيمَ وهو ابنُ سبعينَ ليلةً (2).
وهذا مرسل أيضًا، وكأنه وهم، والله أعلم في مقدار عمره.
وقال البَيهَقِيُّ: هذه الآثار وإن كانت مراسيل، فهي تُشْبهُ الموصولَ، ويشدُّ بعضُها بعضًا. وقد أثبتوا صلاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على ابنه إبراهيم، وذلك أَوْلَى من رواية مَنْ روى أنه لم يصلِّ عليه (3).
والموصول الذي أشار إليه هو حديث البَراء بنِ عازبٍ قال: صلَّى رسولُ الله على ابنه إبراهيم، ومات وهو ابنُ ستةَ عشرَ شهرًا، وقال: “إنَّ في الجنَّة مُرْضِعًا تتمُّ رَضَاعَهُ، وهو صدِّيق” (4).
_________
(1) في “أ”: بشار.
(2) في الموضع السابق: 10/ 471. وانظر: فتح الباري: 3/ 174، وعمدة القاري: 6/ 141، وبذل المجهود: 10/ 470 ـ 471.
(3) انظر: السنن الكبرى للبيهقي: 4/ 9.
(4) أخرجه الإمام أحمد في المسند: 4/ 289، وفي طبعة الرسالة: 30/ 456 و 520، وابن سعد في الطبقات: 1/ 141، وأبو يعلى برقم (1696)، وعبد الرزاق برقم (14013). قال الهيثمي في المجمع 9/ 162: “فيه جابر الجعفي وهو ضعيف، ولكنه من رواية شعبة عنه ولا يروي عنه شعبة كذبًا، وقد صحَّ من غير حديث البراء”.
(الكتاب/159)
وهذا حديث لا يثبت لأنه من رواية جابر الجُعْفِيِّ، وهو لا يُحْتَجُّ بحديثه، ولكنَّ هذا الحديثَ مع مُرْسَلِ البَهِيِّ وعَطَاءٍ والشَّعبيِّ يقوِّي بعضُها بعضًا.
وكان بعض الناس يقول: إنما ترك الصلاة عليه لاستغنائه عنها بأبوَّة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، كما استغنى (1) الشهداء عنها بشهادتهم.
وهذا من أفْسَدِ الأقوالِ وأبعدِها عن العِلْم، فإنَّ الله سبحانه شرع الصلاةَ على الأنبياءِ والصدِّيقينَ، وقد صلَّى الصحابةُ على رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم -، والشهيدُ إنّما تُرِكَتِ الصلاةُ عليه، لأنّها تكون بعد الغسل وهو لا يُغسل.
التاسع عشر: إنَّ الشمس كَسَفَتْ يومَ موتِه، فقال الناس: كَسَفَتْ لموتِ إبراهيمَ، فخطب النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – خطبة الكُسُوف وقال: “إنَّ الشَّمسَ والقمرَ لا يَنْكَسِفَانِ لموتِ أحدٍ ولا لِحَيَاتِهِ” (2).
وفيه ردٌّ على من قال: إنه مات يوم عاشر المُحَرَّم، فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أجرى العادةَ التي أوجبتْها حكمتُه، بأنَّ الشمسَ إنَّما تُكسف ليالي السّرار، كما أن القمر إنما يكسف في الإبْدَار، كما أجرى العادةَ بطلوعِ الهلال أوَّلَ الشهرِ وإبْدَارِهِ في وَسْطِهِ ومُحاقِه في آخرهِ.
_________
(1) “عنها بأبوَّة … استغنى” ساقط من “د”.
(2) تقدم تخريجه فيما سبق ص (158).
(الكتاب/160)
العشرون: أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – أخبر أنَّ له مُرْضِعًا تُتمُّ رَضاعه في الجنَّة. وهذا يدل على أنَّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ يُكمِلُ لأهل السعادة مِنْ عِبَاده بعد مَوْتِهم النقصَ الذي كان في الدنيا. وفي ذلك آثارٌ ليس هذا موضعها، حتى قيل: إنَّ من مات وهو طالبٌ للعلم، كُمِّل له حصولُه بعد موته، وكذلك من مات وهو يتعلَّم القرآنَ. والله أعلم.
الحادي والعشرون: أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – أوْصَى بالقِبْطِ خيرًا وقال: “إنَّ لهم ذِمَّةً ورَحِمًا” (1)، فإن سُرّيَّتَي الخَلِيلَينِ الكَريمَيْنِ إبراهيمَ ومحمَّدٍ
ــ صلوات الله عليهما وسلامه ــ كانتا منهم، وهما: هَاجَرُ ومَارِيَةُ؛ فأمَّا هاجر: فهي أمُّ إسماعيل أبي العرب، فهذا الرَّحِمُ.
وأما الذمَّة: فما حصل من تَسَرِّي النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – بِمَارِيَةَ وإيلادِهَا إبراهيم، وذلك ذِمَامٌ يجب على المُسْلِمينَ رعايتُه ما لم تضيِّعه القِبْطُ، والله أعلم.
وقد روى البُخَاريُّ في “صحيحه”، عن السُّدّيِّ قال: سألتُ أنسَ بنَ مالكٍ: كم كانَ بلغَ إبراهيمُ ابنُ النبيّ – صلى الله عليه وسلم -؟ قال: كان قد ملأَ مَهْدَهُ، ولو بقِيَ لكان نبيًّا، ولكن لم يكنْ لِيَبْقَى، لأن نبيَّكم آخرُ الأنبياءِ (2).
_________
(1) عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إنكم ستفتحون أرضًا يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرًا فإنَّ لهم ذمة ورَحِمًا”. أخرجه مسلم في فضائل الصحابة، باب وصية النبي – صلى الله عليه وسلم – بأهل مصر: 4/ 1970، برقم (2543). والقبط ـ بالكسر ـ نصارى مصر. الواحد: قبطي.
(2) أخرجه الإمام أحمد: 3/ 280، وفي طبعة الرسالة: 21/ 402، وابن سعد: 1/ 157. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: 10/ 579: “رواه أحمد وابن منده”. ولم أجده في صحيح البخاري.
(الكتاب/161)
وقد روى عيسى بنُ يُونُسَ عن ابنِ أبي خالدٍ قال: قلت لابنِ أَبي أَوْفَى: أرأيتَ إبراهيمَ ابنَ النبيّ – صلى الله عليه وسلم -؟ قال: مات وهو صغيرٌ، ولو قُدِّر أن يكون بعد محمَّدٍ نبيٌّ لعاشَ، ولكنّه لا نبيَّ بعد محمَّدٍ – صلى الله عليه وسلم – (1).
قال ابنُ عبدِ البَرِّ (2): “ولا أدري ما هذا، وقد وَلَدَ نوحٌ ــ عليه السلام ــ مَنْ ليس بنبيٍّ. وكما يلد غيرُ النبيّ نبيًّا، فكذلك يجوز أن يلد النبيُّ غيرَ نبيٍّ، ولو لم يلد النبيُّ إلا نبيًا لكان كلُّ أحدٍ نبيًّا، لأنَّه من وَلَدِ نوحٍ، وآدمُ نبيٌّ مكلَّم، ما أعلم في ولده لصُلْبِهِ نبيًّا غيرَ شِيثٍ”. والله أعلم.
وهذا فصلٌ معترضٌ يتعلَّق بوقت تسميةِ المولود، ذكرناه استطرادًا، فلنرجع إلى مقصود الباب، فنقول:
إن التسمية لما كانت حقيقتُها تعريفَ الشيء المسمَّى، لأنه إذا وجد وهو مجهولُ الاسمِ لم يكن له ما يقعُ تعريفُه به، فجاز تعريفُه يوم وجودِه، وجاز تأخيرُ التعريفِ إلى ثلاثة أيام، وجاز إلى يوم العقيقَةِ عنه، ويجوزُ قبلَ ذلك وبعدَه، والأمرُ فيه واسعٌ.
_________
(1) أخرجه البخاري في الأدب، باب من سمّى بأسماء الأنبياء: 10/ 579.
(2) في الاستيعاب: 1/ 60.
(الكتاب/162)
الفصل الثاني
فيما يُستحبُّ من الأسماءِ وما يُكْره منها (1)
عن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إنَّكم تُدْعَوْنَ يومَ القيامةِ بأسمائِكم وبأسماءِ آبائِكم فَأَحْسِنُوا أسْماءَكُمْ” رواه أبو داود بإسناد حسن (2).
وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إنَّ أحبَّ أسمائِكم إلى الله عزَّ وجلَّ: عبدُ الله، وعبدُ الرَّحمن” رواه مسلم في “صحيحه” (3).
_________
(1) عقد المصنف في زاد المعاد: 2/ 334 ـ 352 فصلًا في هديه – صلى الله عليه وسلم – في الأسماء والكنى. وانظر: مفتاح دار السعادة: 2/ 242 وما بعدها.
(2) في السنن، كتاب الأدب، باب في تغيير الأسماء: 13/ 348 ـ 349، وقال: “ابن أبي زكريا لم يدرك أبا الدرداء” فهو منقطع، والإمام أحمد: 5/ 194، وفي طبعة الرسالة: 36/ 23، والدارمي في الاستئذان، باب في حسن الأسماء: 2/ 294، وابن حبان برقم (8158)، والطبراني في الكبير برقم (973)، والبغوي في شرح السنة: 12/ 327 برقم (3360)، والبيهقي: 9/ 306 وقال: “هذا مرسل ـ يعني منقطع ـ ابن أبي زكريا لم يسمع من أبي الدرداء”.
(3) كتاب الأدب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم وبيان ما يستحب من الأسماء: 3/ 1682 برقم (2132).
(الكتاب/163)
وعن جابر قال: وُلِدَ لرجلٍ منَّا غلامٌ فسمَّاه القاسمَ (1)، فقلنا: لا نكنِّيك أبا القاسمِ ولا كرامةَ. فأُخْبِرَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – فقال: “سمِّ ابنَك عبدَالرَّحمن” متفق عليه (2).
وعن أبي وَهْبٍ الجُشَمِيِّ قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “تسمَّوا بأسماء الأنبياء، وأحبُّ الأسماءِ إلى الله: عبدُ الله، وعبدُ الرَّحمن، وأَصْدَقُها: حارثٌ وهمَّامٌ، وأقْبَحُها: حَرْبٌ ومُرَّة” (3).
قال أبو محمَّد ابنُ حَزْمٍ: “اتفقوا على استحباب (4) الأسماء المضافة إلى الله، كعبد الله وعبد الرَّحمن، وما أشبه ذلك” (5).
وقد اختلف الفقهاء في أحب الأسماء إلى الله، فقال الجمهور:
_________
(1) في “أ”: أبا القاسم.
(2) أخرجه البخاري في فرض الخُمس، باب قول الله تعالى: “فأن لله خمسه”: 6/ 217، وفي مواضع أخرى، ومسلم في الأدب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم وبيان ما يستحب من الأسماء: 3/ 1682 برقم (2133).
(3) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، برقم (814)، وأبو داود في كتاب الأدب، باب في تغيير الأسماء: 13/ 350، والنسائي في الخيل، باب ما يستحب من شية الخيل: 6/ 218 و 219، وفي السنن الكبرى أيضًا برقم (4391)، والإمام أحمد: 4/ 345 وفي طبعة الرسالة: 31/ 377 برقم (19032). وانظر: فتح الباري لابن حجر: 10/ 587.
(4) في “ج”: استحسان.
(5) انظر: مراتب الإجماع لابن حزم، ص 154.
(الكتاب/164)
أحبها إليه عبد الله وعبد الرَّحمن.
وقال سعيد بن المسيِّب: أحبُّ الأسماءِ إليه أسماءُ الأنبياءِ (1).
والحديثُ الصحيحُ يدلُّ على أنَّ أحبَّ الأسماءِ إليه: عبدُ الله وعبدُ الرَّحمن.
فصل
وأمَّا المكروه منها والمحرَّم؛ فقال أبو محمَّد ابن حزم (2): “اتفقوا على تحريم كلِّ اسمٍ معبَّد لغير الله: كعبد العُزَّى، وعبدِ هُبَل،
وعبدِ عَمْرو، وعبدِ الكَعْبَةِ وما أشبه ذلك ـ حَاشَا عبدَ المطَّلِبِ” انتهى.
فلا تحلُّ التسمية بـ: عبدِ عليٍّ، ولا عبدِ الحُسَيْن، ولا عبدِ الكعبةِ.
وقد روى ابنُ أَبي شَيبَةَ حديثَ يزيدِ بنِ المقْدَام بن شُرَيْح، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن جدِّه هانئ بن يزيد (3)، قال: وَفَدَ على النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قومٌ، فسمعهم يسمُّون: عبد الحَجَر، فقال له: “ما اسْمُكَ؟ ” فقال: عبد الحجر. فقال له رسول – صلى الله عليه وسلم -: “إنَّما أنتَ عبدُالله” (4).
_________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة: 8/ 667.
(2) مراتب الإجماع، ص 154.
(3) في “أ، ج”: شريح.
(4) المصنف لابن أبي شيبة: 8/ 665، وفي طبعة القبلة: 13/ 242 ـ 243، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد برقم (811)، وفي طبعة دار القلم برقم (113).
(الكتاب/165)
فإن قيل: كيف يتَّفقون على تحريمِ الاسمِ المعبَّد لغير الله، وقد صحَّ عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “تَعِسَ عَبْدُ الدِّينارِ، تَعِسَ عبدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عبدُ الخَمِيْصَةِ، تَعِسَ عبدُ القَطِيْفَةِ” (1).
وصحَّ عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال:
“أنَا النبيُّ لا كَذِب … أَنَا ابنُ عبدِ المُطَّلِب” (2).
ودخل عليه رجلٌ وهو جالس بين أصحابه، فقال: أيُّكم ابنُ عبدِالمطَّلب؟ فقالوا: هذا، وأشاروا إليه؟ (3)
فالجواب: أمَّا قوله: “تعس عبد الدينار” فلم يُرِدْ به الاسمَ، وإنما أراد به الوصفَ والدعاءَ على من يعبد قلبُه الدينارَ والدِّرهمَ، فَرَضِيَ بعبوديتهما من (4) عبودية ربّه ـ تبارك وتعالى ـ وذكر الأثمان والملابس وهما جمال الباطن والظاهر.
أمَّا قوله: “أنا ابن عبد المطلب”، فهذا ليس من باب إنشاء التسمية بذلك، وإنَّما هو باب الإخبار بالاسم الذي عُرِفَ به المسمَّى دون غيره. والإخبارُ بمثل ذلك على وجه تعريف المسمَّى لا يَحْرُمُ.
_________
(1) أخرجه البخاري في الرقاق، باب ما يتقى من فتنة المال: 11/ 253، وفي مواضع أخرى.
(2) أخرجه البخاري في الجهاد، باب من صفّ أصحابه عند الهزيمة: 6/ 105، وفي مواضع أخرى، ومسلم في الجهاد، باب غزوة حنين: 3/ 1400 برقم (1776).
(3) أخرجه البخاري في العلم: 1/ 148.
(4) في “أ، ب”: بعبوديتها عن.
(الكتاب/166)
ولا وجه لتخصيص أبي محمَّد ابنِ حزمٍ ذلك بعبد المطلب خاصَّةً، فقد كان الصحابةُ يسمُّون بني عبد شمس، وبني عبد الدَّار بأسمائهم، ولا يُنْكِرُ عليهم – صلى الله عليه وسلم -، فبابُ الإخبار أوسعُ من باب الإنشاء، فيجوز فيه ما لا يجوزُ في الإنشاءِ.
فصل
ومن المحرَّم: التسمية بمَلِكِ الملُوك، وسُلطانِ السَّلاطينِ، وشاهٍ شاه (1)، فقد ثبت في “الصحيحين” من حديث أبي هُرَيْرَة عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “إنَّ أَخْنَعَ اسمٍ عند اللهِ رجلٌ تسمَّى (2) مَلِكَ الأَمْلَاكِ”.
وفي رواية: “أَخْنَى” بدل “أخنع” (3).
وفي رواية لمُسْلِم: “أغيظُ رجلٍ عِنْدَ الله يَومَ القيامةِ وأخْبَثُهُ رجلٌ كان يُسمَّى مَلِكَ الأمْلاكِ. لا مَلِكَ إلا الله” (4).
ومعنى أخْنَعُ وأخنَى: أَوْضَعُ.
_________
(1) قال النووي في شرح صحيح مسلم 14/ 122: “شاهٍ شاه” هذه رواية في مسلم، وفي الرواية المشهورة “شاهان شاه”، وزعم بعضهم أن الأصوب: شاه شاهان. وانظر: زاد المعاد: 2/ 240.
(2) في “أ، ج”: يسمى.
(3) أخرجه البخاري في الأدب، باب أبغض الأسماء إلى الله تعالى: 10/ 588، وفي مواضع أخرى، ومسلم في الآداب، باب تحريم التسمي بملك الأملاك: 3/ 1688 برقم (2143).
(4) في الموضع السابق برقم (2143).
(الكتاب/167)
وقال بعض العلماء: وفي معنى ذلك كراهيةُ التَّسميةِ بقَاضي القُضَاةِ، وحَاكِمِ الحُكَّامِ؛ فإنَّ حاكم الحكَّام في الحقيقة هو اللهُ.
وقد كان جماعةٌ من أهل الدِّين والفَضْلِ يتورَّعونَ عن إطلاقِ لفظ قاضي القضاة وحاكم الحكَّام، قياسًا على ما يُبْغِضُهُ اللهُ ورسولُه من التَّسمية بمَلِكِ الأَمْلَاكِ، وهذا مَحْضُ القياسِ.
وكذلك تحرم التسمية بسيِّد الناس وسيِّد الكل، كما يحرم بسيِّد ولد آدم، فإن هذا ليس لأحدٍ إلا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وحده، فهو سيِّدُ ولدِ آدمَ، فلا يحلُّ لأحدٍ أن يُطْلِق على غيرِه ذلك (1).
فصل
ومن الأسماء المكروهةِ، ما رواه مسلمٌ في “صحيحه” عن سَمُرَةَ ابنِ جُنْدُب، قال: قال – صلى الله عليه وسلم -: “لا تسمِّيَنَّ غلامَك يسارًا ولا ربَاحًا ولا نجيحًا ولا أفلحَ؛ فإنَّك تقول: أثَمَّ هو؟ فلا يكون، فيقول: لا”. إنما هُنَّ أربع لا تَزِيْدُنَّ عليَّ (2).
وهذه الجملة الأخيرة ليست من كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وإنما هي من كلام الراوي (3).
_________
(1) انظر: زاد المعاد: 2/ 340 ـ 341.
(2) صحيح مسلم، كتاب الأدب، باب كراهة التسمي بالأسماء القبيحة: 3/ 1685 برقم (2137).
(3) انظر: زاد المعاد: 2/ 342 ـ 343.
(الكتاب/168)
وفي سنن “أبي داود” من حديث جابر بن عبد الله، قال: أراد النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أن ينهى أن يسمى بـ “يعلى، وبركةَ، وأَفْلحَ، ويسارٍ، ونافعٍ”، وبنحو ذلك، ثم رأيتُه سكت بَعْدُ عنها فلم يقل شيئًا، ثم قُبِض ولم يَنْهَ عن ذلك. ثم أراد عمر أن ينهى عن ذلك ثم تركه (1).
وقال أبو بكرِ ابنُ أَبي شَيبةَ: حدّثنا محمَّد بن عبيد، عن الأعْمَشِ عن أبي سفيانَ، عن جابرٍ، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إنْ عِشْتُ إن شاء الله أَنْهَى أُمَّتي أنْ يُسَمُّوا نافعًا، وأفلحَ، وبَرَكةَ” قال الأعمش: لا أدري ذَكَرَ نافعًا أمْ لا (2).
وفي سنن “ابن ماجه”: من حديث أبي الزُّبَيْر، عن جابرٍ، عن عمرَ ابنِ الخطَّابِ ـ رضي الله عنه ـ قال: قالَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: “إنْ عِشتُ إن شاء الله لأَنْهَيَنَّ أُمَّتي أن يُسَمُّوا: ربَاحًا ونجيحًا، وأفلحَ ويسارًا” (3).
_________
(1) انظر: سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في تغيير الاسم القبيح: 13/ 358 – 359. وأخرج مسلم في صحيحه برقم (2138) من حديث ابن جريج عن أبي الزبير: “أراد النبي أن ينهى أن يسمى الغلام بيعلى وببركة”.
(2) المصنف لابن أبي شيبة: 8/ 666، وفي طبعة القبلة: 13/ 245، وفيه: ذكر رافعًا أم لا؟ وأخرجه أيضًا البخاري في الأدب المفرد برقم (637)، وأبو داود في الموضع السابق: 13/ 359، وعبدبن حميد في المنتخب برقم (1019).
(3) سنن ابن ماجه، كتاب الأدب، باب ما يكر من الأسماء: 2/ 1229، برقم (3735) وانظر: السلسلة الصحيحة: 5/ 176 – 177.
(الكتاب/169)
قلت: وفي معنى هذا: مُبَاركٌ، ومُفْلِحٌ، وخَيرٌ، وسُرورٌ، ونِعْمَةٌ، وما أشبه ذلك، فإنَّ المعنى الذي كَرِهَ له النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – التسميةَ بتلك الأربعِ موجودٌ فيها، فإنه يقال: أعندك خيرٌ؟ أعندك سرور؟ أعندك نعمةٌ؟ فيقول: لا، فتشمئزُّ القلوبُ من ذلك وتَتَطَيَّر به، وتَدخلُ في باب المنطقِ المكروهِ.
وفي الحديث: أنّه كره أن يُقال: خرج من عند بَرَّةَ (1).
مع أن فيه معنى آخر يقتضي النهي، وهو تزكية النفس بأنه مُبَارك ومُفْلِحٌ، وقد لا يكون كذلك، كما روى أبو داود في “سننه” أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نهى أن يسمى بَرَّةَ، وقال: “لا تزكُّوا أنفسَكُمْ، اللهُ أعْلَمُ بأهلِ البِرِّ منكُم” (2).
وفي “سنن ابن ماجه” عن أبي هُرَيرَة، أنَّ زينبَ كان اسمُها بَرَّة، فقيل: تزكِّي نفسَها، فسمَّاها النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – زينب (3).
_________
(1) وهو حديث ابن ماجه الآتي.
(2) أخرجه أبو داود في الأدب، باب في تغيير الاسم القبيح: 13/ 352. وتتمة الحديث: فَقَالَ: مَا نُسَمِّيهَا؟ قَالَ: “سَمُّوهَا زَيْنَبَ”. وهو أيضًا عند الإمام مسلم في الأدب، باب في استحباب تغيير الاسم القبيح، برقم (3992) عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سميت ابنتي: بَرَّة، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نهى عن هذا الاسم، وسميت بَرَّة. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “لا تزكوا أنفسكم الله، أعلم بأهل البر منكم”. فقالوا: بم نسميها؟ قال: “سموها زينب”.
(3) سنن ابن ماجه، كتاب الأدب، باب تغيير الأسماء: 2/ 1230.
(الكتاب/170)
فصل
ومنها (1) التسمية بأسماء الشياطين، كخَنْزَب (2)، والوَلْهان، والأَعْوَرِ، والأَجْدَعِ.
قال الشَّعبيُّ عن مسروقٍ: لقيتُ عمرَ بنَ الخطَّاب، فقال: مَنْ أنت؟ قلت: مَسْرُوقُ بنُ الأَجْدَعِ. فقال عُمَرُ ـ رضي الله عنه ـ: سمعتُ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “الأَجْدَعُ شَيطَانٌ” (3).
وفي سنن “ابن ماجه” (4) و”زيادات عبد الله في مسند أبيه” (5) من
_________
(1) ساقطة من “ج”.
(2) وهو لَقَبٌ له. والخَنْزَبُ قِطْعةٌ لَحْم مُنْتِنةٌ، ويروى بالكسر والضم. انظر: النهاية لابن الأثير (مادة خنزب).
(3) أخرجه أبو داود في الأدب، باب استحباب تغيير الاسم القبيح: 13/ 356، وابن ماجه في الأدب، باب ما يكره من الأسماء: 2/ 1229، والإمام أحمد: 1/ 31، وفي طبعة الرسالة: 1/ 338، وابن أبي شيبة: 13/ 243 (طبعة دار القبلة)، وصححه الحاكم: 4/ 279. قال المنذري في مختصر السنن: 7/ 256: “وفي إسناده مجالد بن سعيد، وفيه مقال”. والأجدع: مقطوع الأعضاء.
(4) سنن ابن ماجه، كتاب الأدب، باب ما يكره من الأسماء: 2/ 1229
(5) المسند: 5/ 136، وفي طبعة الرسالة: 35/ 160، وأخرجه الترمذي في الطهارة، باب ما جاء في كراهة الإسراف في الوضوء بالماء: 1/ 52، وقال: “حديث غريب وليس إسناده بالقوي عند أهل الحديث؛ لأنا لا نعلم أحدًا أسنده غير خارجة، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن الحسن قوله، ولا يصحُّ في هذا الباب عن النبي – صلى الله عليه وسلم – شيء، وخارجة ليس بالقوي عند أصحابنا، وضعَّفه ابن المبارك”. ورواه الحاكم: 1/ 162 وسكت عنه الذهبي، ورواه ابن خزيمة برقم (197)، والبيهقي: 1/ 197 وقال: “هذا الحديث معلول”.
(الكتاب/171)
حديث أُبيِّ بن كعب، عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “إنَّ للوُضوءِ شيطانًا، يُقَال له: الوَلْهَانُ، فَاتَّقُوا وَسْوَاسَ الماءِ”.
وشكا إليه عثمانُ بنُ أبي العاص من وسواسه في الصلاة، فقال: “ذلكَ شيطانٌ يقال له: خَنْزَب” (1).
وذكر أبو بكرِ ابنُ أبي شيبةَ: حدّثنا حُمَيدُ بنُ عبد الرَّحمن، عن هشام عن أبيه، أنَّ رجلًا كان اسمُه الحُباب، فسمَّاه رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – عبدَ الله، وقال: “الحُبابُ شيطانٌ” (2).
فصل
ومنها: أسماء الفَراعِنَةِ والجبَابرةِ، كفرعونَ، وقارونَ، وهامانَ، والوليد.
قال عبدُ الرزَّاق في “الجامع”: أخبرنا مَعْمَر، عن الزُّهْرِيّ قال: أراد
_________
(1) أخرجه مسلم في السلام، باب التعوذ من شيطان الوسوسة في الصلاة: 4/ 1728 ـ 1729 برقم (2203).
(2) المصنف لابن أبي شيبة: 8/ 664، وفي طبعة القبلة: 13/ 241، وعبد الرزاق في الجامع من المصنف: 11/ 40، وابن سعد في الطبقات: 3/ 541. قال الهيثمي في المجمع 8/ 50: “رواه الطبراني، وفيه السري بن إسماعيل وهو متروك”.
(الكتاب/172)
رجلٌ أن يُسمِّي ابنًا له: الوَليدَ، فنهاه رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -، وقال: إنَّه سيكونُ في أُمَّتي (1) رجلٌ، يُقالُ له الوليدُ، يَعملُ في أُمَّتي بعَمَلِ فرعونَ في قومهِ” (2).
فصل
ومنها: أسماء الملائكة، كجِبْرَائِيلَ، ومِيكَائيلَ، وإسْرَافِيلَ، فإنه يُكْرَهُ تسمية الآدميين بها.
قال أشهب: سُئل مالكٌ عن التَّسمِّي بجبريل، فكره ذلك، ولم يُعْجِبْهُ.
قال القاضي عِيَاض: “وقد كَرِهَ (3) بعضُ العُلَماءِ التسمِّي بِأسماءِ الملائكةِ، وهو قولُ الحارثِ بنِ مِسْكِين (4). قال: وكَرِهَ مالكٌ التَّسمِّي
_________
(1) في أمتي. ساقط من “ب، ج”.
(2) المصنف، كتاب الجامع لمعمر بن راشد: 11/ 43 مرسلًا. وذكره ابن الجوزي في الموضوعات 2/ 194 و 3/ 8 – 9، ونقل عن ابن حبان قوله: “هذا خبر باطل”. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: 10/ 580: “إن كان سعيد تلقاه عن أم سلمة فهو على شرط الصحيح، ويؤيد ذلك أن له شاهدًا عن أم سلمة أخرجه الحربي في غريب الحديث”.
(3) في (ب، ج): استظهر. وجاءت العبارة في شرح مسلم للقاضي عياض هكذا: وردت الكراهة بالتسمي بأسماء الملائكة .. وروي ذلك عن الحارث.
(4) أبو عمر، الحارث بن محمد بن يوسف، الفقيه المحدِّث، رئيس القضاة بمصر، توفي سنة 250. انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي: 2/ 514.
(الكتاب/173)
بِجِبْرِيلَ ويَاسِين” (1). وأباحَ ذلك غيرُهُ.
قال عبد الرزَّاق في “الجامع”: عن مَعْمَر، قال: قلتُ لحمَّادِ بنِ أبي سُليمانَ: كيف تقولُ في رجل تسمَّى بِجِبْريلَ ومِيْكَائيلَ؟ فقال: لا بأس به (2).
وقال البُخَاريّ في “تاريخه”: قال أَحْمَد بن الحارث: حدّثنا
أبو قَتَادَة الشامي ـ ليس بالحرَّاني مات سنة أربع وستين ومائة ـ حدّثنا عبدالله ابن جراد، قال: صحبني رجل من مُزَينَةَ، فأتى النبيّ – صلى الله عليه وسلم – وأنا معه، فقال: يا رسول الله! وُلِدَ لي مولودٌ، فما خير الأسماء؟ قال: “إنَّ خيرَ الأسماءِ لكم (3): الحارثُ وهَمَّامٌ، ونِعْمَ الاسمُ عبدُ الله وعبدُ الرَّحمن، وتسمَّوا بأسماء الأنبياءِ، ولا تسمَّوا بأسماء الملائكة”. قال: وبِاسْمكَ؟ قال: “وبِاسْمِي، ولا تكنوا بكُنيتي” (4).
وقال البَيهَقِيّ (5): قال البُخَاريّ في غير هذه الرواية: “في إسناده نظر”.
_________
(1) شرح صحيح مسلم للقاضي عياض: 7/ 10. ونقله النووي في شرح صحيح مسلم: 14/ 114.
(2) المصنف، كتاب الجامع لمعمر بن راشد: 10/ 40 – 41.
(3) في (ب، ج): خير أسمائكم.
(4) التاريخ الكبير للبخاري: 5/ 35 وفي طبعة دار الكتب: 4/ 348. وقال: “في إسناده نظر”.
(5) في شعب الإيمان: 6/ 394، وفي طبعة الهند: 15/ 125 ـ 126، وهو ما تقدم في التعليق السابق. وقول البخاري جاء في تاريخه عقب الرواية مباشرة كما تراه، فلعل عبارة البيهقي “في غير” محرفة عن “في عقب”. والله أعلم.
(الكتاب/174)
فصل
ومنها: الأسماءُ التي لها معانٍ تكرهُها النفوسُ ولا تلائمُها، كحربٍ، ومُرَّة، وكلبٍ، وحيَّة، وأشباهها. وقد تقدَّم الأثر الذي ذكره مالك في “مُوَطَّئِه” أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال ـ لِلَقْحَةٍ ـ: “مَنْ يحلبُ هذه؟ ” فقام رجل، فقال: أنا، فقال: “ما اسمك؟ ” قال الرجل: مُرَّة، فقال له: “اجْلِسْ”. ثم قال: “من يحلبُ هذه؟ ” فقام رجلٌ آخر فقال: أنا، فقال له: “ما اسمُك؟ ” قال: حَرْبٌ، فقال له: “اجْلِسْ”. ثم قال: “من يحلبُ هذه؟ ” فقام رجلٌ فقال: أنا، قال: “ما اسمك؟ ” قال: يَعِيش، فقال له رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: “احلبْ” (1).
فَكَرِهَ مباشرةَ المسمَّى بالاسمِ المكروهِ لحَلْبِ الشَّاةِ.
وقد كان النبيّ – صلى الله عليه وسلم – يشتدُّ عليه الاسم القبيح ويكرهه جدًّا من الأشخاص والأماكن والقبائل والجبال، حتى إنَّه مر في مسيرٍ له بين جبلين، فسأل عن اسمهما؟ فقيل له: فاضحٌ ومُخْزٍ، فعدلَ عنهما، ولم يمرَّ بينهما (2)، وكان – صلى الله عليه وسلم – شديد الاعتناء بذلك.
_________
(1) تقدم تخريجه فيما سبق، ص (67).
(2) تقدم فيما سبق، ص (69).
(الكتاب/175)
ومَنْ تأمَّل السنَّةَ وجدَ معانيَ الأسماءِ مرتبطةً بها، حتى كأنَّ مَعانِيَهَا مأخوذةٌ منها، وكأنَّ الأسماءَ مشتقَّةٌ من معانِيْهَا، فتأمَّلْ قَوْلَهُ – صلى الله عليه وسلم -: “أسلمُ سالمَها اللهُ، وغِفَارٌ غفرَ اللهُ لها، وعصيَّةُ عصتِ الله” (1).
وقوله لمَّا جاء سُهَيلُ بنُ عَمْرو يومَ الصُّلح: “سَهُلَ أمْرُكم” (2).
وقوله لبُرَيدَةَ لمّا سألَهُ عنِ اسمه، فقال: بُرَيْدَةُ، قال: يا أبا بكر! بَرَدَ أمْرُنا، ثم قال: مَّمن أنت؟ قال: من أسْلَمَ، فقال لأبي بكر: “سَلِمْنَا”، ثم قال: ممن؟ قال: من سهم، قال: “خرج سَهْمُك”. ذكره أبو عُمر في “استذكاره” (3).
حتى إنَّه كان يعتبر ذلك في التأويل، فقال: “رأيت كأنّا في دار عُقْبَةَ ابنِ رافعٍ، فأُتينا برُطَبٍ من رُطَبِ ابنِ طَابٍ، فأوَّلتُ العاقبةَ (4) لنا في الدنيا والرِّفعةَ، وأنَّ ديننا قد طابَ” (5).
_________
(1) أخرجه البخاري في المناقب، باب ذكر أسلم وغفار ومزينة: 2/ 542، ومسلم في فضائل الصحابة، باب دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم – لغفار وأسلم: 4/ 1952، برقم (2518).
(2) تقدم تخريجه فيما سبق، ص (69).
(3) الاستذكار: 10/ 270. وسبق تخريجه ص 68 و 69.
(4) في “ج”: العافية.
(5) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “رأيت ذات ليلة فيما يرى النائم كأنا في دار عقبة بن رافع، فأتينا برطب من رطب ابن طاب، فأوَّلت الرفعة لنا في الدنيا والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب” أخرجه مسلم: 4/ 1779، برقم (2270).
(الكتاب/176)
وإذا أردتَ أن تعرفَ تأثيرَ الأسماءِ في مسمَّياتِها فتأمَّلْ حديثَ سعيدِ بنِ المسيِّب، عن أبيه، عن جدِّه، قال: أتيتُ إلى النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – فقال: “ما اسمُك؟ ” قلتُ: حَزْنٌ، فقال: “أنت سهلٌ”. قال: لا أغيِّر اسمًا سمَّانِيهُ أَبِي. قال ابن المسيِّب: فما زالت تلك الحُزُونَة فينا بعدُ. رواه البُخَاريّ في “صحيحه” (1).
والحزُونَةُ: الغِلْظَةُ، ومنه أرضٌ حزنة، وأرض سهلة.
وتأمَّلْ ما رواه مالك في “الموطأ” عن يحيى بن سعيد: أنَّ عُمَرَ بنَ الخطّابِ ـ رضي الله عنه ـ قال لرجلٍ: ما اسمُك؟ قال: جمرةٌ، قال: ابنُ مَن؟ قال: ابنُ شِهابٍ، قال: ممَّن؟ قال: من الحُرقة، قال: أين مسكنُك؟ قال: بِحَرَّة النار، قال: بأيّتها؟ قال: بذات لَظَى، قال عمر: أدْرِكْ أهْلَك فقد احتَرقُوا. فكان كما قال عمر. هذه رواية مالك (2).
ورواه الشَّعْبِيُّ: فقال: جاء رجلٌ من جهينةَ إلى عمرَ بنِ الخطاب
ــ رضي الله عنه ــ، فقال: ما اسمك؟ قال: شهابٌ، قال: ابن مَن؟ قال: ابن ضرام، قال: ممَّن؟ قال: من الحرقة، قال: أين منزلك؟ قال بِحَرَّة النار، قال: ويحك، أدرك منزلك وأهلك فقد أحرقتهم. قال: فأتاهم فأَلْفَاهُم قد احترق عامَّتُهُم (3).
_________
(1) في الأدب، باب اسم الحزن: 10/ 574، وفي مواضع أخرى.
(2) تقدم فيما سبق، ص (68).
(3) راجع مفتاح دار السعادة للمصنف: 2/ 236، فقد ذكرها عن مجالد عن الشعبي.
(الكتاب/177)
وقد استشكل هذا مَن لم يفهمْه، وليس ـ بحمد الله ـ مشكلًا، فإن مسبِّب الأسبابِ جعَل هذه المناسبات مقتضياتٍ لهذا الأثَر، وجعل اجتماعها على هذا الوجه الخاص موجبًا له، وأخَّر اقتضاءها لأثرها إلى أن تكلَّم به من ضُرِبَ الحقُّ على لسانه، ومن كان الملك ينطق على لسانه، فحينئذ كمل اجتماعها وتمَّت، فرتَّب عليها الأثرَ، ومَن كان له في هذا الباب فِقْهُ نفسٍ، انتفعَ به غايةَ الانتفاعِ، فإنَّ البلاءَ موكلٌ بالمنطقِ.
قال أبُو عُمَر: وقد قال النبيّ – صلى الله عليه وسلم -: “البلاءُ موكلٌ بالقولِ” (1).
ومن البلاء الحاصل بالقول: قولُ الشيخِ البائسِ الذي عادَهُ (2) النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – فرأى عليه حمَّى فقال: “لا بأس، طَهورٌ إن شاء الله” فقال: بل حمَّى تفورُ على شيخٍ كبيرٍ تُزِيرهُ القبورَ. فقال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: “فنَعَم إذًا” (3).
_________
(1) رواه ابن عبدالبر في الاستذكار: 10/ 272، والخطيب البغدادي في التاريخ: 7/ 389 بأطول من هذا، والقضاعي في مسند الشهاب برقم (216)، والبيهقي في شعب الإيمان: 9/ 222، وأبو الشيخ في الأمثال، ص 32 برقم (50)، وابن عدي في الكامل: 6/ 2212، وأخرجه ابن أبي شيبة موقوفًا على عبدالله بن مسعود: 6/ 116 وفي طبعة دار القبلة: 13/ 130. وذكره ابن الجوزي في الموضوعات: 3/ 498 برقم (1373) وقال: “هذا حديث لايصح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -” ونقل عن ابن معين أن في سنده كذابًا. وتعقبه السيوطي في اللآلئ: 2/ 294. وانظر: زوائد تاريخ بغداد، د. خلدون الأحدب: 6/ 59 ـ 64.
(2) في “أ”: دعا.
(3) أخرجه البخاري في المرضى، باب ما يقال للمريض وما يجيب: 10/ 121، وفي مواضع أخرى.
(الكتاب/178)
وقد رأينا من هذا عِبَرًا فينا وفي غيرنا، والذي رأيناه كقطرة في بَحْرٍ. وقد قال المؤمّلُ الشَّاعرُ (1):
شَفَّ المُؤَمِّلَ يَوْمَ النّقْلةِ النَّظرُ … لَيْتَ المُؤَمّلَ لم يُخْلَقْ لَهُ البَصَرُ
فلم يلبث أن عَمِيَ.
وفي “جامعِ ابنِ وَهْبٍ” أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أُتِي بغلام، فقال: “ما سمَّيتُمْ هذا؟ ” قالوا: السَّائب، فقال: “لا تسمُّوه السَّائبَ، ولكنْ عبد الله”. قال: فغَلَبوا على اسمهِ، فلَمْ يَمُتْ حتَّى ذهبَ عقلُه (2).
فَحِفْظُ المنطقِ وتخيُّر الأسماء من توفيق الله للعبدِ.
وقد أمر النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – من تمنَّى أن يُحْسِن أُمْنِيَّتَه، وقال: “إنَّ أحدَكم لا يَدري ما يُكتَبُ له من أُمْنِيَّتِه” (3) أي ما يقدر له منها، وتكون أُمنيتُه سببَ
_________
(1) المؤمل بن أميل المحاربي، والبيت في الأغاني: 22/ 250، ومعجم الأدباء: 3/ 208، والزهرة للأصبهاني: 1/ 199 – 200. وفيها كلها: “يوم الحيرة”.
(2) أخرجه عبدالله بن وهب في الجامع في الحديث: 1/ 93 برقم (49). قال محققه: ضعيف أرسله ابن أبي حبيب.
(3) أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة: 2/ 357، وفي طبعة الرسالة: 14/ 317 بلفظ: “إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى، فإنه لا يدري .. “، وأخرجه الطيالسي برقم (2341)، والبخاري في الأدب المفرد، برقم (794). قال الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 151: “رواه أحمد وأبو يعلى، وإسناد أحمد رجاله رجال الصحيح”.
(الكتاب/179)
حصولِ (1) ما تمنَّاه أو بَعضِه، وقد بلغكَ أو رأيتَ أخبارَ كثيرٍ من المتمنِّين، أصابَتْهُمْ أمَانِيهم أو بعضُها!
وكان أبو بكر الصدِّيق ـ رضي الله عنه ـ يتمثَّلُ بهذا البيتِ:
احْذَرْ لِسَانَكَ أنْ يَقُولَ فَتُبْتَلَى … إنَّ البَلَاء مُوَكَّلٌ بِالمَنْطقِ (2)
ولما نزل الحُسَيْن وأصحابه بكَرْبَلَاء، سألَ عنِ اسْمِهَا؟ فقيل: كَرْبَلَاء، فقال: “كَرْبٌ وبَلاءٌ” (3).
ولما وقفت حَلِيْمَةُ السَّعْدِيَّةُ على عبد المطَّلب تسألُه رضاعَ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – قال لها: من أنتِ؟ قالت: امرأةٌ من بني سَعْدٍ، قال: فما اسمُكِ؟ قالت: حَلِيْمَة، فقال: بَخٍ بَخٍ، سَعْدٌ وحِلْمٌ، هَاتَانِ خَلَّتَانِ فيهما غَنَاء الدَّهْرِ (4).
وذَكرَ سليمانُ بنُ أَرْقَمَ، عن عُبيدِ الله بنِ عبد الله، عن ابن عبَّاس، قال: بعث ملك الروم إلى النبيّ – صلى الله عليه وسلم – رسولاً، وقال: انظرْ أين تراهُ جالسًا، ومَنْ إلى جنبهِ، وانظرْ إلى ما بينَ كَتفَيهِ.
_________
(1) في “ج”: حصوله.
(2) انظر: الاستذكار لابن عبدالبر: 10/ 272، والبيت لصالح بن عبدالقدوس، انظر: الحماسة للبحتري ص 455.
(3) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق: 14/ 220، وابن العديم في بغية الطلب في تاريخ حلب: 6/ 2417، والذهبي في تاريخ الإسلام؛ حوادث سنة (61): 2/ 59.
(4) ذكره الحلبي في إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون: 1/ 89 نقلًا عن شفاء الصدور، وانظر: فيض القدير للمناوي: 1/ 705.
(الكتاب/180)
قال: فلما قَدِمَ، رأى رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – جالسًا على نَشَزٍ واضعًا قدميه في الماء، عن يمينه أبو بكر، فلمَّا رآه النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “تحوَّلْ فانظرْ ما أُمِرْتَ به”، فنظر إلى الخاتم، ثم رجع إلى صاحبه فأخبره الخبر، فقال لَيَعْلُوَنَّ أَمْرُهُ ولَيَمْلِكَنَّ مَا تحتَ قَدَميَّ. فتأوّل (1) بالنَّشَزِ العُلوَّ، وبالماءِ الحياةَ (2).
وقال عوانةُ بنُ الحَكَم: لما دعَا ابن الزُّبَير إلى نفسه، قام عبد الله بنُ مطيعٍ ليبايع، فقبض عبدُ الله بنُ الزُّبَيْر (3) يدَهُ، وقال لعُبيدِ الله بنِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ: قُمْ فَبَايِعْ. فقال عُبيدُ الله: قُمْ يا مصعبُ (4) فبايِعْ، فقامَ فبايَعَ، فقال النَّاس: أبى أن يُبايِع ابنَ مُطيعٍ، وبَايعَ مصعبًا، ليجدنَّ في أمره صُعوبةً.
وقال سلَمةُ بنُ مُحارِب: نزل الحجَّاج دَيرَ قُرَّة، ونزل عبد الرَّحمن ابن الأشعث دَير الجَماجِم، فقال الحجَّاجُ: استقرَّ الأمرُ في يدي، وتجمجم به أَمرُه، والله لأقتلنَّه (5).
_________
(1) في “أ”: فيقال. وصححت في الهامش: فتأول، وهو أنسب للسياق، وفي “ب، ج، د”: فينال.
(2) الخبر ذكره ابن حمدون في التذكرة الحمدونية: 8/ 21.
(3) “إلى نفسه … بن الزبير” ساقط من “ج”.
(4) “قال عبيد الله .. مصعب” ساقط من “ج”.
(5) انظر نحوه في تاريخ الطبري: 6/ 347، وذكره المصنف في مفتاح دار السعادة: 2/ 237.
(الكتاب/181)
وهذا بابٌ طويل عظيمُ النفع، نبَّهْنا عليه أدنى تنبيهٍ، والمقصودُ ذِكْرُ الأسماءِ المكروهةِ والمحبوبةِ.
فصل
ومما يُمنَع تسميةُ الإنسانِ به: أسماءُ الربِّ ـ تبارك وتعالى ـ فلا يجوز التسميةُ بالأحَدِ ولا بالصَّمَدِ، ولا بالخَالقِ ولا بالرَّازق، وكذلك سائِرُ الأسماءِ المختصَّةِ بالربِّ تبارك وتعالى.
ولا تجوز تسميةُ الملوكِ بالقاهر والظاهر، كما لا يجوز تسميتُهم بالجبَّار والمتكبِّر، والأوَّلِ والآخرِ، والباطنِ، وعلَّام الغُيوبِ.
وقد قال أبو داود في “سننه”: حدّثنا الرَّبِيعُ بنُ نافع، عن يزيد بن المقْدَامِ بنِ شُرَيحٍ، عن أبيه، عن جدِّه شُرَيح، عن أبيه هانئ، أنَّه لما وَفَدَ إلى رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – إلى المدينة مع قومِه، سمعهم يكنُّونه بأبي الحَكَم، فدعاه – صلى الله عليه وسلم – فقال: “إنَّ الله هو الحَكَمُ وإليه الحُكْمُ، فَلِمَ تُكَنَّى أبا الحَكَم؟ ” فقال: إنَّ قومي إذا اختلَفُوا في شيء أتَوني، فحكمتُ بينهم، فَرَضِيَ كلا الفريقين، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ما أحسنَ هذا! فمَا لَكَ من الولدِ؟ ” قال: لي شُرَيْحٌ ومَسْلمة وعبد الله، قال: “فمَن أَكبرُهم؟ ” قلتُ: شريحٌ، قال: “فأنتَ أبو شُرَيحٍ” (1).
_________
(1) أخرجه أبو داود في الأدب، باب استحباب تغيير الاسم القبيح: 13/ 354، والنسائي في آداب القضاة، باب إذا حكّموا رجلاً فقضى بينهم: 8/ 226، وصححه ابن حبان برقم (504)، والحاكم: 1/ 24، ورواه الطبراني في الكبير برقم (465 و 466).
(الكتاب/182)
وقد تقدَّم ذِكْرُ الحديثِ الصَّحيحِ: “أغْيَظُ رَجُلٍ على الله رَجلٌ تَسَمَّى بمَلِكِ الأَمْلاكِ” (1).
وقال أبو داود: حدّثنا مُسَدَّدٌ، حدّثنا بِشْرُ بنُ المفَضَّل، حدّثنا أبوسلَمةَ سعيدُ بنُ يَزِيدَ، عن أبي نَضْرَةَ عن مُطَرِّفِ بنِ عبدِ الله بن الشِّخِّير، قال: قال أبي: انطلقتُ في وَفْدِ بني عامِر إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقلنا: أنتَ سيِّدُنا، فقال: “السيِّدُ اللهُ” قلنا: وأفْضَلُنَا فَضْلًا وأعْظَمُنَا طَوْلًا، فقال: “قُولُوا بِقَولِكم أو ببعضِ قولِكُمْ ولا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيطانُ” (2).
ولا ينافي هذا قوله – صلى الله عليه وسلم -: “أنا سيّد ولد آدم” (3) فإن هذا إخبارٌ منه عمَّا أعطاه الله من سيادة النوع الإنسانيِّ وفَضْلِه وشَرَفِهِ عليهم.
وأما وصفُ الربِّ ـ تبارك وتعالى ـ بأنه السيِّد، فذلك وصفٌ لربِّه على الإطلاق، فإنَّ سيِّد الخلق هو مالكُ أمرِهم الذي إليه يرجعون، وبأمره يعملون، وعن قوله يصدرون، فإذا كانت الملائكة والإنس والجنُّ خلقًا له ـ سبحانه وتعالى ـ وملكًا، ليس لهم غنى عنه طرفة
_________
(1) تقدم فيما سبق، ص (167).
(2) أخرجه أبو داود في الأدب، باب في كراهية التمادح: 13/ 235 ـ 236.
(3) أخرجه مسلم في الفضائل، باب فضل نسب النبي – صلى الله عليه وسلم – وتسليم الحجر عليه قبل النبوة: 4/ 1782 برقم (2278).
(الكتاب/183)
عين (1)، وكلُّ رغباتهم إليه، وكلُّ حوائجهم إليه، كان هو ـ سبحانه وتعالى ـ السيِّدَ على الحقيقة.
قال علي بن أبي طَلْحَة، عن ابن عبَّاس في تفسير قول الله (2): {الصَّمَدُ}. قال: السيد الذي كَمُلَ سُؤدَدُهُ (3).
والمقصود: أنه لا يجوز لأحدٍ أن يتسمَّى بأسماء الله المختصَّةِ به.
وأمَّا الأسماءُ التي تُطلَق عليه وعلى غيره: كالسَّميع، والبَصير، والرَّؤوفِ، والرَّحيمِ، فيجوز أن يُخبر بمعانيها عن المخلوق، ولا يجوز أن يتسمَّى بها على الإطلاق بحيث يُطلَق عليه كما يُطلق على الربِّ تعالى.
فصل
ومما يُمنع منه التسميةُ بأسماءِ القرآنِ وسُوَرِهِ، مثل: طَهَ، ويس، وحَم، وقد نصَّ مالكٌ على كراهة التسمية بـ: “يس”. ذكره السُّهَيْليُّ (4).
وأمَّا ما يذكره العوامُّ: أنَّ يس وطه من أسماء النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، فغيرُ صحيحٍ، ليس ذلك في حديثٍ صحيحٍ، ولا حَسَنٍ، ولا مُرْسَلٍ، ولا أثَرٍ عن صاحبٍ، وإنَّما هذه الحروف مثل: الم و حم و الر، ونحوها.
_________
(1) في “ب، ج”: في طرفة عين.
(2) في “ج”: في قوله.
(3) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير: 12/ 467، والطبري: 24/ 692.
(4) انظر: الروض الأُنُف في شرح سيرة ابن هشام للسهيلي: 2/ 66.
(الكتاب/184)
فصل
واخْتُلِفَ في كَراهةِ التسمِّي بأسماء الأنبياء على قولين.
(أحدهما): أنه لا يكره، وهذا قول الأكثرين، وهو الصواب.
و (الثاني): يكره (1).
قال أبو بكر ابن أبي شيبة في “باب ما يكره من الأسماء”: حدّثنا الفضل بن دُكَيْن، عن أبي خلدةَ، عن أبي العَالِيَة: تفعلون شرًّا من ذلك! تسمُّون أولادَكُم أسماءَ الأنبياءِ ثم تَلْعَنُونَهم (2).
وأَصْرَحُ مِن ذلك ما حَكَاهُ أبو القاسم السُّهَيْلِيُّ في “الرَّوْضِ” فقال: وكان من مذهب عمر بن الخطاب كراهة التسمي بأسماء الأنبياء (3).
قلت: وصاحبُ هذا القولِ قَصَدَ صيانةَ أسمائهم عن الابتذالِ وما يَعْرِضُ لها من سُوء الخِطَاب عند الغضب وغيره.
وقد قال سعيد بن المسيِّب: أحبُّ الأسماء إلى الله أسماءُ الأنبياءِ (4).
_________
(1) انظر: زاد المعاد: 2/ 342.
(2) المصنف لابن أبي شيبة: 8/ 667، وفي طبعة القبلة: 13/ 245.
(3) انظر: الروض الأنف للسهيلي: 2/ 66.
(4) انظر: المصنف لابن أبي شيبة: 8/ 667، وفي الطبعة الجديدة: 13/ 245 ـ 246.
(الكتاب/185)
وفي “تاريخ ابن أبي خيثمة”: أن طَلْحَة كان له عَشَرةٌ مِنَ الوَلَدِ، كلٌّ منهم اسْمُه (1) اسمُ نبيٍّ، وكان للزُّبَيرِ عَشَرةٌ، كلُّهم تسمَّى باسمِ شهيدٍ، فقالَ له طَلْحَةُ: أنا أسمِّيهم بأسماءِ الأنبياءِ، وأنت تسمِّي بأسماءِ الشهداءِ؟ فقال له الزُّبَير: فإنِّي أطمعُ أن يكونَ بَنِيّ شهداءَ، ولا تطمعُ أن يكونَ بَنُوكَ أنبياءَ (2).
وقد ثبت في “صحيح مسلم” عن أبي موسى قال: وُلِد لي غلامٌ فأتيتُ به النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – فسمَّاه: إبراهيمَ، وحنَّكَه بتمرة (3).
وقال البُخَاريّ في “صحيحه”: باب من تسمَّى بأسماء الأنبياء. حدّثنا ابنُ نمير، حدّثنا ابنُ بِشْر، حدّثنا إسماعيل قال: قلت لابن أبي أوْفَى: رأيتَ إبراهيم ابنَ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -؟ قال: مات صغيرًا، ولو قُضِي أن يكون بعد محمَّدٍ – صلى الله عليه وسلم – نبيٌّ: عاش ابنُهُ، ولكن لا نبيَّ بعده (4).
ثم ذكر حديث البراء: لما ماتَ إبراهيمُ قال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: “إنَّ له
_________
(1) ساقطة من “ج”.
(2) انظر: تاريخ ابن أبي خيثمة، السفر الثاني: 2/ 91. وراجع: الروض الأنف للسهيلي: 2/ 66.
(3) أخرجه مسلم في الآداب، باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته: 3/ 1690 برقم (2145)
(4) أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب الأدب، باب من سمى بأسماء الأنبياء: 10/ 557. وانظر ما تقدم ص 162.
(الكتاب/186)
مُرْضِعًا في الجنَّة” (1).
وفي “صحيح مسلم”: باب التسمي بأسماء الأنبياء والصالحين. ثم ذكر حديثَ المغيرةِ بنِ شُعْبَةَ، قال: لما قَدِمْتُ نجرانَ سألُوني فقالوا: إنَّكم تقرؤونَ: {يَاأُخْتَ هَارُونَ} [مريم/28]. وموسى قَبْلَ عيسى بكذا وكذا! فلما قدمتُ على رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – سألتُه عن ذلك؟ فقال: “إنَّهم كانُوا يسمُّون بأنبيائِهِم والصَّالحينَ قبْلَهُمْ” (2).
_________
(1) أخرجه البخاري في الموضع السابق نفسه.
(2) أخرجه مسلم في الآداب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم: 3/ 1685 برقم (2135).
(الكتاب/187)
الفصل الثالث
في تغييرِ الاسمِ باسمٍ آخَر لمصلحةٍ تقتضِيه
عن ابن عمر أن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – غيَّر اسمَ عَاصِيَةَ، وقال: “أنتِ جَمِيلَةُ” (1).
وفي “صحيح البخاريّ”، عن أبي هُرَيْرَة، أنَّ زينبَ كان اسمُها بَرَّةَ. فقيل: تزكِّي نفسَها، فسمَّاها رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: زَيْنَبَ (2).
وفي “سنن أبي داود” من حديث سعيدِ بنِ المسيِّب عن أبيه عن جدِّه، أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “ما اسمُك؟ ” قال: حَزْنٌ. قال: “أنتَ سَهْلٌ” قال: لا، السَّهْلُ يُوطَأ ويُمْتَهَنُ. قال سعيدٌ: فظننتُ أنَّه سيصيبُنا بعده حُزُونَةٌ (3).
و في “الصحيحين” أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أُتِيَ بالمُنْذِر بن أبي أسيد حين ولد، فوضعه على فخذه فأقاموه، فقال: “أين الصبيُّ؟ ” فقال: أبو أسيد: قَلَبْنَاهُ يا رسولَ الله، قال: “ما اسمُه؟ ” قال: فلان، قال: “لا، ولكنَّ اسمَهُ المُنْذِرُ” (4).
وروى أبو داود في “سننه” عن أُسامةَ بنِ أَخْدَرِيٍّ أنَّ رجلًا كان يُقال
_________
(1) تقدم تخريجه فيما سبق، ص (70).
(2) كتاب الأدب، باب تحويل الاسم إلى أحسن منه: 10/ 575.
(3) في كتاب الأدب، باب في تغيير الاسم القبيح: 13/ 354 ـ 35.
(4) تقدم تخريجه فيما سبق، ص (153).
(الكتاب/188)
له: أَصْرَمُ، كان في النَّفَر الذين أَتَوا رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: “ما اسمُك؟ ” قال: أَصْرَمُ، قال: “بل أنتَ زُرْعَةُ” (1).
قال أبو داود (2): وغيَّر رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – اسمَ العاصِ وعَزِيْزٍ وعَتلَةَ، وشَيْطَانٍ، والحَكَمِ وغُرَابٍ، وشِهَابٍ، وحُبَابٍ، فسمَّاه هشامًا، وسمَّى حَرْبًا: سِلْمًا، وسمَّى المضْطَجِعَ: المُنْبَعِثَ، وأرضًا يقال لها: عَفِرَة: خَضِرَةً، وشِعْبَ الضَّلالَةِ سمَّاهُ: شِعبَ الهُدَى، وبنو الزِّنْيَةِ سمَّاهم: بني الرِّشدَةِ، وسمَّى بني مُغْوِيَّةَ: بني رِشْدَةَ.
قال أبو داود: تركت أسانيدها للاختصار.
وفي “سُننِ البَيْهَقِيّ” من حديث اللَّيثِ بنِ سَعد، عن يزيدَ بنِ أَبي حَبيبٍ، عن عبد الله بن الحارث بن جَزْء الزّبيديِّ: قال: تُوُفِّي صاحبٌ لي غريبًا، فكنَّا على قبره أنا وعبد الله بن عُمَر، وعبد الله بن عَمْرو بن العاص، وكان اسمي: العاص، واسم ابن عمر العاص، واسم ابن عَمْرو العاص (3)، فقال لنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “انْزِلُوا فاقْبُرُوهُ، وأنتم عَبيدُ الله” قال:
_________
(1) أخرجه أبو داود في الأدب، باب تغيير الاسم القبيح: 13/ 353. والبخاري في الأدب المفرد، ص 65، طبعة دار القلم.
(2) في “السنن” كتاب الأدب، باب تغيير الاسم القبيح: 13/ 355. و”العتلة” الغلظة والشدة. و”حباب” اسم الشيطان. و”عفرة” الأرض التي لا تُنبت.
(3) “وكان اسمي .. عمروالعاص” ساقط من “ج”.
(الكتاب/189)
فنزلنا فقبرنا أخانا، وصعدنا من القبر، وقد أُبدِلت أسماؤنا (1).
وإسناده جيد إلى الليث، ولا أدري ما هذا؟ فإنه لا يُعرف تسمية عبدالله بن عمر، ولا ابن عَمْرو، بالعاص.
وقد قال ابنُ أبي شَيْبَةَ في “مصنَّفه”: حدّثنا محمَّد بن بشر، حدّثنا زكريا، عن الشَّعبِيِّ قال: لم يدرك الإسلامَ من عصاة قريش غيرُ مطيع، وكان اسمه العاصي، فسماه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مطيعًا (2).
وقال أبو بكر بن المُنْذِر: حدّثنا محمَّد بن إسماعيل، حدّثنا
أبو نُعيم، حدّثنا إسرائيلُ، عن أبي إسْحَاق، عن هانئ بن هانئ، عن علي
ــ رضي الله عنه ــ قال: لما وُلِدَ الحَسَنُ سمَّيْتُه: حربًا، قال: فجاء النبيّ – صلى الله عليه وسلم – فقال: “أَرُونِي ابنِي ما سمَّيتُمُوهُ؟ ” قلنا: حربًا قال: “بل هو حسنٌ”، فلما ولد الحُسَين سمَّيتُه: حربًا، فجاء النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -، فقال: “أرُوني ابنِي ما سمَّيتُموه؟ ” قلنا: حربًا قال: “بل هو حُسَينٌ”. قال: فلما ولد الثالث سميته: حربًا، فجاء النبيّ – صلى الله عليه وسلم – فقال: “أَرُوني ابنِي ما سمَّيتُموهُ؟ ” قلنا: حربًا، قال: “بل هو مُحسِّنٌ”، ثم قال: “إني سمَّيتُهم بأسماء ولد هارونَ:
_________
(1) أخرجه البيهقي في السنن: 9/ 307 ـ 308.
(2) المصنف لابن أبي شيبة: 8/ 664، وفي طبعة القبلة: 13/ 242. وهو مرسل، ووصله الإمام مسلم في الجهاد والسِّيَر، باب لا يقتل قرشي صبرًا: 3/ 1409 برقم (1782).
(الكتاب/190)
شبَرٌ وشَبِيرٌ ومُشَبِّرٌ” (1).
وفي “مصنف ابن أبي شيبة”: حدّثنا محمَّد بن فضيل، عن العلاء بن المسيب، عن خيثمة قال: كان اسم أبي في الجاهليَّة عزيزًا، فسماَّه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: عبدَ الرَّحمنِ (2).
وقال البُخَاريّ في كتاب “الأدب” (3): حدّثنا إبراهيم بن المُنْذِر، حدّثنا يزيدُ بنُ الحبابِ، قال: حدّثني ابنُ عبدِ الرَّحمنِ بن سعيدٍ المخزوميّ ـ وكان اسمه الصَّرْم ـ فسمَّاه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: سعيدًا.
حدّثنا محمَّد بن سنان، حدّثنا عبدُ الله بنُ الحارثِ بنِ أبْزَى، قال حدثتني أمي رائطة بنت مُسْلِم عن أبيها قال: شَهِدْتُ مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حُنَيْنًا، فقال لي: “ما اسْمُك؟ ” قلت: غُرابٌ. قال: “لا، بل أنتَ
_________
(1) وأخرجه أيضًا: الإمام أحمد: 1/ 98، وفي طبعة الرسالة: 2/ 159، 264، والبخاري في الأدب المفرد برقم (823)، وابن حبان برقم (6958) طبعة الرسالة، والبيهقي: 6/ 166، وصححه الحاكم: 3/ 165 ووافقه الذهبي. وانظر: مجمع الزوائد: 8/ 52.
(2) المصنف لابن أبي شيبة: 8/ 475، وفي طبعة القبلة: 13/ 239، وأخرجه الإمام أحمد: 4/ 187، وصححه ابن حبان برقم (5828) والحاكم في المستدرك: 4/ 276 ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في المجمع 8/ 50: “رواه أحمد بأسانيد رجالها رجال الصحيح، لكن ظاهر الروايتين الأوليين الإرسال”.
(3) الأدب المفرد للبخاري، ص 67 طبعة دار القلم.
(الكتاب/191)
مُسْلِمٌ” (1).
فصل
وكما أن تغيير الاسم يكون لقُبْحِهِ وكراهتِهِ، فقد يكون لمصلحةٍ أُخرى مع حُسْنِه، كما غيَّر اسم بَرَّةَ بزينبَ، كراهةَ التزكيةِ، وأن يقال: خرج مِنْ عند بَرَّة، أو يقال: كنت عند بَرَّة؟ فيقول: لا. كما ذكر في الحديث (2).
فصل
وغيَّر النبيّ – صلى الله عليه وسلم – اسمَ المدينةِ، وكان يَثْرِبَ فسمَّاها: طابةَ، كما في “الصحيحين” عن أبي حميد قال: أقبلْنَا مع رسُولِ الله – صلى الله عليه وسلم – مِن تَبوك حتى أَشرفْنا على المدينة، فقال: هذه طَابةُ (3).
وفي “صحيح مسلم”: عن جابر بن سَمُرَة، قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “إنَّ اللهَ سمَّى المدينةَ طَابةَ” (4).
_________
(1) الأدب المفرد، ص 68. وضعفه الألباني في الموضعين، ضعيف الجامع برقم (132 و 134). ورواه أبو داود تعليقًا: 13/ 355.
(2) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب تحويل الاسم إلى أحسن منه: 10/ 575. وانظر: زاد المعاد: 2/ 244.
(3) أخرجه البخاري في فضائل المدينة، باب المدينة طابة، برقم (187) ومسلم في الحج، باب أحد جبل يحبنا ونحبه: 2/ 1011.
(4) أخرجه مسلم في الحج، باب، المدينة تنفي شرارها: 2/ 1007، برقم (1385).
(الكتاب/192)
ويكره تسميتُها: “يثرب” كراهةً شديدة، وإنما حكى الله تسميتها “يثرب” عن المنافقين، فقال: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب/ 12 ـ 13].
وفي “سنن االنَّسائيّ” (1): من حديث مالكٍ، عن يحيى بنِ سعيدٍ، أنه قال: سمعتُ أبا الحُبابِ سعيدَ بنَ يسارٍ يقول: سمعتُ أبا هُرَيرَةَ يقولُ: سمعتُ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – يقولُ: “أُمِرْتُ (2) بقريةٍ تأكلُ القُرَى، يَقُولُونَ: يَثْرِبُ، وهي المَدِينَةُ تَنْفِي النَّاسَ كما يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ”.
_________
(1) السنن الكبرى للنسائي: 2/ 482، و 6/ 430. والحديث أخرجه البخاري في فضائل المدينة، باب فضل المدينة وأنها تنفي خبثها: 13/ 174، ومسلم في الحج، باب المدينة تنفي خبثها: 2/ 1007، برقم (1382)، ورواه الإمام مالك في الموطأ، كتاب الجامع، باب سكنى المدينة والخروج منها: 2/ 314.
(2) ساقطة من “ج”.
(الكتاب/193)
الفصل الرابع
في جوازِ تَكنيةِ المولُودِ بأبي فُلانٍ
في “الصَّحِيحَينِ” من حديثِ أنسٍ قال: كان النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا وكانَ لي أخٌ يقال له: أبو عُمَير، وكان النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – إذا جاءَ يقولُ له: “يا أبا عُمَير! ما فعل النُّغَيرُ” ـ لِنُغَيرٍ كانَ يلعبُ به ـ. قال الرَّاوي: أظنُّه كان فطيمًا (1).
وكان أَنَسٌ يكنَّى قبل أن يُولَدَ له بأبي حَمْزَة، وأبو هريرة كان يكنَّى بذلك، ولم يكن له ولدٌ إذْ ذاك.
وأَذِنَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – لعَائِشَةَ أن تكنَّى بأمِّ عبدِ الله، وهو عبدُ الله بنُ الزُّبَير، وهو ابنُ أختِها أسماء بنتِ أبي بكرٍ. هذا هو الصحيح (2)، لا الحديث الذي رُوِي أنها أسقطتْ من النبيّ – صلى الله عليه وسلم – سِقْطًا، فسمَّاه عبدَ الله، وكنَّاها به،
_________
(1) أخرجه البخاري في الأدب، باب الكنية للصبي وقبل أن يولد الر جل: 10/ 582، ومسلم في الآداب، باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته: 3/ 1692، برقم (2150).
(2) أخرج أبو داود في السنن، كتاب الأدب، باب في المرأة تكنّى: 13/ 372 عن هشامِ بن عُرْوةَ عن أبيهِ عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أَنَّها قالتْ: يا رسول الله، كلُّ صواحِبي لهنَّ كُنًى، قال: “فَاكْتَنِي بابْنكِ عبدالله” يعْنِي ابْنَ اخْتها. قال مُسَدَّدٌ: عبدالله بن الزُّبير، قال: فكانَتْ تُكَنَّى بأم عبدالله.
(الكتاب/194)
فإنه حديثٌ لا يصحُّ (1).
ويجوز تكنيةُ الرَّجل الذي له أولادٌ بغير أولادِه، ولم يكن لأبي بكرٍ ابنٌ اسمُه بكرٌ، ولا لعمرَ ابنٌ اسمه حَفْصٌ، ولا لأبي ذرٍّ ابنٌ اسمُه ذَرٌّ، ولا لخالدٍ ابنٌ اسمُه سليمانُ، وكان يكنَّى أبا سليمان (2)، وكذلك أبو سلمةَ. وهو أكثر من أن يُحصى. فلا يلزمُ من جواز التكنيةِ أن يكونَ له ولدٌ، ولا أن يكنَّى باسمِ ذلكَ الوَلدِ (3)، والله أعلم.
_________
(1) أخرج ابن السُّنِّيِّ في “عمل اليوم واللَّيلة” ص 199 برقم (417) من حديث هشامِ بن عُرْوَةَ، عن أبيه، عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ: “أَسْقَطْتُ من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سَقْطًا فسمَّاه عبدالله، وكنَّاني بأم عبدالله”.
وذكره ابن الجوزي في الموضوعات: 2/ 557 وقال: “هذا حديث موضوع”. وقال ابن حجر في “التلخيص الحبير” 4/ 147: “في إسناده داود بن المحبَّر، وهو كذَّابٌ”. ثم قال: “وقد روى عبدالرزاق في مصنفه عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كناها أم عبدالله، فكان يقال لها: أم عبدالله حتى ماتت، ولم تسقط. وروى الطبراني من وجه آخر عن هشام عن أبيه عن عائشة: كناني النبي – صلى الله عليه وسلم – أم عبدالله، ولم يكن لي ولد، ولا سقط .. وهذا الحديث فيه اختلاف في إسناده، وهذا كله مما يضعف رواية داود بن المحبر”.
(2) وكان يكنى أبا سليمان. ساقطة من “ج”.
(3) فإن الناس يريدون به التفاؤل أنه سيصير أبًا في ثاني الحال، لا التحقق في المحال. انظر: جامع أحكام الصغار: 1/ 214.
(الكتاب/195)
والتكنيةُ نوعُ تكبيرٍ (1) وتفخيمٍ للمكنَّى، وإكرامٌ له، كما قال:
أَكْنِيهِ حِيْنَ أُنَادِيهِ لِأُكْرِمَهُ … وَلَا أُلَقِّبُهُ، والسَّوْأَةُ اللَّقَبُ (2)
_________
(1) في (ب، ج): تكثير.
(2) البيت لبعض الفزاريين، وهو في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي، ص 1146، والمقاصد النحوية: 2/ 411، وفي خزانة الأدب: 9/ 141، وشرح الأشموني: 1/ 224. ورواية الحماسة: السوأةَ اللقبا.
(الكتاب/196)
الفصل الخامس
في أنَّ التَّسميةَ حقٌّ للأبِ، لا للأمِّ
هذا مما لا نزاع فيه بين النَّاس، وإن الأبوين إذا تنازعا في تسمية الولد، فهي للأب. والأحاديثُ المتقدمةُ كلُّها تدلُّ على هذا.
وهذا كما أنه يُدْعَى لأبيه لا لأمه، فيقال: فلانُ ابنُ فلانٍ، قال تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب /5].
والولدُ يتْبَعُ أمَّه في الحريَّة والرِّقِّ، ويتبع أباه في النَّسَبِ، والتسميةُ تعريفٌ للنَّسَب والمنْسُوبِ، ويتبع في الدِّين خيرَ أبَوَيهِ دينًا. فالتعريفُ كالتعليمِ والعَقيقةِ، وذلك إلى الأب، لا إلى الأم، وقد قال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: “وُلد ليَ اللَّيلةَ مَولُودٌ فسمَّيتُه باسمِ أبي إبراهِيمَ” (1). وتسميةُ الرَّجُلِ ابنَهُ كتَسْمِيَةِ غُلامِهِ.
_________
(1) تقدم تخريجه فيما سبق، ص (153).
(الكتاب/197)
الفصل السَّادس
في الفرق بين الاسمِ والكُنيةِ واللَّقبِ
هذه الثلاثةُ وإن اشتركتْ في تعريفِ المدعوِّ بها، فإنها تفترقُ في أمرٍ آخرَ، وهو أنَّ الاسمَ إمَّا أن يُفهِمَ مدحًا أو ذمًّا، أو لا يُفهِم واحدًا منهما:
فإن أفهم ذلك فهو اللَّقبُ. وغالبُ استعمالِه في الذمّ، ولهذا قال الله تعالى: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات/ 11].
ولا خلاف في تحريم تلقيب الإنسان بما يكرهه، سواءٌ كان فيه أو لم يكن، وأمَّا إذا عُرِف بذلك، واشتهر به كالأَعْمَشِ، والأَشْتَرِ، والأَصَمِّ، والأَعْرَجِ، فقد اضطرد استعمالُه على ألسنة أهل العِلم قديمًا وحديثًا، وسهَّل فيه الإمام أحمدُ.
قال أبو داود في “مسائلِه”: “سمعت أحمدَ بنَ حنبل سُئِل عن الرَّجُلِ يكونُ له اللَّقب، لا يُعرَف إلا به ولا يَكرهُه؟ قال: أليسَ يُقال: سليمانُ الأعمشُ، وحميد الطويل؟ كأنه لا يَرَى به بأسًا.
قال أبو داود: سألت أحمدَ عنه مرةً أُخرى، فرخَّصَ فيه.
قلت: كان أحمد يكره أن يقولَ: الأعمشُ. قال الفُضَيلُ: يَزْعُمُونَ، كان يقولُ: سليمانُ” (1).
_________
(1) انظر: مسائل الإمام أحمد لأبي داود، ص 283 – 284.
(الكتاب/198)
وإمَّا أن لا يُفْهِمَ مَدْحًا ولا ذمًّا، فإن صُدِّر بأبٍ أو أمٍّ، فهو الكُنْيَةُ، كأبي فلان وأم فلان، وإن لم يصدَّرْ بذلك، فهو الاسمُ، كزيدٍ، وعَمْرو. وهذا هو الذي كانت تعرفُه العرب، وعليه مدارُ مُخاطباتِهم.
وأمّا فلانُ الدِّين، وعِزُّ الدين، وعِزُّ الدَّولة، وبهاءُ الدَّولة، فإنَّهم لم يكونوا يعرفونَ ذلك، وإنَّما أَتَى هذا من قِبَلِ العَجَمِ.
(الكتاب/199)
الفصل السَّابع
في حُكم التَّسمية باسمِ نبيّنا – صلى الله عليه وسلم – والتّكنِّي بكُنْيتهِ إفرادًا وجَمعًا
ثبت في “الصَّحيحينِ” من حديث محمَّدِ بنِ سِيرِين، عن أبي هريرة قال: قال أبو القاسم – صلى الله عليه وسلم -: “تَسَمَّوا بِاسْمِي وَلَا تَكَنَّوا بِكُنْيَتِي” (1).
وقال البُخَاريّ في “صحيحه”: باب قول النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: “تَسَمَّوا باسْمِي ولا تَكَنَّوا بكُنْيَتِي” قاله أنس عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – (2).
حدّثنا مُسَدَّدٌ: حدّثنا خالد، عن حُصَين، عن سالم، عن جابر قال: وُلِدَ لرجلٍ منَّا غلامٌ فسمَّاه القاسمَ، فقالوا: لا تكنِّهِ حتى تسأل النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – فقال: “تسمَّوا باسْمِي ولا تَكَنَّوا بكُنْيَتِي” (3).
حدّثنا عبدُ الله بن محمَّد، حدّثنا سفيان، سمعت ابنَ المُنْكَدِر، سمعتُ جابرَ بنَ عبدِ الله يقول: وُلِدَ لرجلٍ منَّا غلامٌ فسمَّاه القاسِمَ، فقلنا:
_________
(1) أخرجه البخاري في الأدب، باب قول النبيّ – صلى الله عليه وسلم -: “سموا باسمي”: 10/ 571، وفي مواضع أخرى، ومسلم في الأدب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم: 3/ 1684، برقم (2134).
(2) البخاري في الموضع السابق.
(3) أخرجه البخاري في الموضع السابق.
(الكتاب/200)
لا نُكَنِّيكَ بأَبِي القَاسِمِ ولا نُنْعِمُكَ عينًا، فأتَى النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – فذكر له ذلك، فقال: “اسْمُ ابْنِكَ عبدُ الرَّحمنِ” (1).
وفي “صحيح مُسْلِم”: من حديثِ إسْحَاق بنِ رَاهُويَه، أخبرَنا جريرٌ، عن منصورٍ، عن سالم بنِ أبي الجَعْدِ، عن جابر قال: وُلِدَ لرجلٍ منَّا غلامٌ فسمَّاه محمَّدًا فقال له قومُه: لا نَدَعُكَ تُسَمِّي بِاسْمِ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم -، فانطلقَ بِابنِه حَامِلَهُ على ظَهْرِهِ، فقال: يا رسولَ الله! وُلِدَ لي غلامٌ، فسمَّيتُه محمَّدًا، فقال لي قومي: لا نَدَعُكَ تُسَمِّي بِاسْمِ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم -، فقال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: “تَسَمَّوا بِاسْمِي ولا تَكَنَّوا بكُنيتي، فإنَّما أنا قاسمٌ أَقْسِمُ بَينكُم” (2).
وفي “صحيحه” من حديث أبي كُرَيبٍ، عن مَرْوانَ الفَزَارِيِّ، عن حُمَيد، عن أنسٍ قال: نادى رجلٌ رجلًا بالبقيع: يا أبا القاسم، فالتفتَ إليه رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -. فقال: يا رسولَ الله إنِّي لم أَعْنِكَ، إنمّا دعوتُ فلانًا، فقال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: “تسمَّوا بِاسْمِي ولا تكنَّوا بِكُنْيَتِي” (3).
فاختلف أهل العلم في هذا الباب بعد إجماعهم على جواز التسمِّي
_________
(1) أخرجه البخاري ومسلم في الموضع نفسه.
(2) أخرجه مسلم في الأدب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم: 3/ 1682، برقم (2133).
(3) أخرجه مسلم في الموضع السابق.
(الكتاب/201)
باسمه – صلى الله عليه وسلم -: فعن أَحْمَد روايتان، (إحداهما): يُكره الجمعُ بين اسمِه وكُنيتِه، فإن أفرد أحدَهما لم يُكره.
و (الثانية): يُكرَهُ التكنِّي بكُنيته، سواءٌ جمَعَهَا إلى الاسمِ أو أفردَها (1).
وقال البَيهَقِيُّ: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: سمعت أبا العبَّاس محمَّد بنَ يَعقوب يقول: سمعت الرَّبِيعَ بنَ سُليمان يقول: سمعت الشّافِعِيّ يقول: لا يحلُّ لأحدٍ أن يكتني بأبي القاسم، كان اسمُه محمَّدًا أو غيره. وروي معنى قوله هذا عن طاووس (2).
قال السُّهيليُّ: وكان ابنُ سِيرِينَ يَكره أن يتكنّى أحدٌ بأبي القَاسِمِ، كان اسمُهُ محمَّدًا أو لم يكنْ (3).
وقالت طائفة: هذا النهيُ على الكراهةِ لا على التَّحريمِ. قال وَكِيْعٌ عن ابنِ عَوْنٍ: قلت لمحمَّد: أكان يكره أن يكنّى الرجل بأبي القاسم وإن لم يكن اسمه محمَّدًا؟ قال: نعم.
_________
(1) مسائل الإمام أحمد، رواية ابنه صالح: 3/ 210. وانظر: زاد المعاد: 2/ 344 ـ 348 فقد ذكر أربع روايات.
(2) انظر: سنن البيهقي: 9/ 309.
(3) الروض الأنُف للسهيلي: 2/ 66.
(الكتاب/202)
وقال ابنُ عَون عن ابن سيرين: كانوا يكرهون أن يكنى الرجل أبا القاسم وإن لم يكن اسمُه محمَّدا؟ قال: نعم (1).
قالوا: ويتعين حملُ النَّهي (2) على الكراهةِ جمعًا بينه وبين أحاديثِ الإذنِ في ذلك.
وقالت طائفةٌ أخرى: بل ذلك مباحٌ. وأحاديثُ النَّهْيِ منسوخةٌ.
واحتجُّوا بما رواه أبو داود في “سننه”: حدّثنا النُّفَيليُّ، حدّثنا محمَّدُ ابنُ عِمْرَانَ الحَجَبِيُّ، عن جَدَّته صفيةَ بنتِ شَيبةَ، عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: جاءتْ امرأةٌ إلى النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله! إني قد وَلَدْتُ غلامًا، فسمَّيته محمَّدًا، وكَنَّيتُهُ أبا القاسم، فَذُكِرَ لي أنَّك تكره ذلك. فقال: “مَا الَّذي أحلَّ اسْمِي وحَرَّمَ كُنْيَتِي” أو “مَا الذي حرَّم كُنْيَتِي وأحلَّ اسْمِي؟ ” (3).
وقال ابنُ أَبي شَيبَةَ: حدّثنا محمَّدُ بنُ الحَسَنِ، حدّثنا أبو عَوانَةَ، عن
_________
(1) انظر: شرح معاني الآثار للطحاوي: 4/ 338.
(2) في “أ، ج”: وسفيان حمل النهي.
(3) أخرجه أبو داود في الأدب، باب الرخصة في الجمع بينهما: 13/ 370، والإمام أحمد: 6/ 135، وفي طبعة الرسالة: 41/ 490، والبيهقي: 9/ 310. وهو حديث منكر، وقد نص على نكارة متنه الذهبيُّ في “ميزان الاعتدال”: 3/ 672، وابن حجر في “التهذيب” 9/ 382.
(الكتاب/203)
مُغِيرَةَ، عن إبراهيم قال: كان محمَّدُ بنُ الأشعث ابنَ أختِ عَائِشَة، وكان يُكنى أبا القاسم (1).
وقال ابن أبي خَيثَمَةَ: حدّثنا الزُّبَير بن بَكَّار، حدّثنا عبدُ العزيزِ بنُ عبدِ الله الأَوْديّ (2)، قال: حدّثني أسامةُ بنُ حفصٍ ـ مولًى لآل هشام بن زهرة ـ عن راشدِ بنِ حَفْصٍ الزُّهْرِيّ، قال: أدركتُ أربعةً من أبناءِ أصحابِ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم -، كلٌّ منهم يُسمَّى محمَّدًا ويُكَنَّى أبَا القَاسِمِ: محمَّدُ بنُ طَلحَةَ بنِ عُبَيْدِ الله، ومحمَّدُ بنُ أبي بكر الصدّيق، ومحمَّدُ بنُ عليّ بنِ أبي طالب، ومحمَّدُ بنُ سعدِ بنِ أبي وقَّاص (3).
قال: وحدّثنا أبي، حدّثنا جَريرٌ عن مُغِيرة، عن إبراهيم قال: كان محمَّدُ بن عليٍّ يكنى أبا القاسم، وكان محمَّد بنُ الأشعث يكنى بها، ويدخل على عائشةَ فلا تُنْكِر ذلك (4).
قال السُّهَيْلِيُّ: وسئل مالك عمَّن اسمُهُ محمَّدٌ (ويكنى بأبي القاسم؟ فلم يَرَ بهِ بأسًا. فقيل له: أكنَّيتَ ابنَك أبا القاسم واسمُهُ محمَّد؟) (5) فقال: ما كنَّيتُه بها، ولكنَّ أهله يكنونه بها، ولم أسمع في ذلك نهًيا، ولا
_________
(1) المصنف لابن أبي شيبة: 8/ 480، وفي طبعة القبلة: 13/ 246 – 247.
(2) في التاريخ لابن أبي خيثمة: الأويسي.
(3) أخرجه ابن أبي خيثمة في التاريخ: 2/ 91.
(4) المرجع السابق.
(5) ما بين القوسين ساقط من “أ”.
(الكتاب/204)
أرى بذلك بأسًا (1).
وقالت طائفة أخرى: لا يجوز الجمع بين الكنية والاسم، ويجوزُ إفرادُ كلِّ واحدٍ منهما.
واحتجت هذه الفِرْقة بما رواه أبو داود في “سننه” حدّثنا مُسْلِمُ بن إبراهيم، حدّثنا هِشَامٌ عن أبي الزُّبَير عن جابر أن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “مَنْ تَسَمَّى باسْمِي فلا يتكَنَّى بِكُنْيَتِي، ومن تكنَّى بكُنيتي فلا يتَسمَّى بِاسْمِي” (2).
وقال أبو بكرِ بنُ أبي شَيبةَ: حدّثنا وَكِيْع، عن سفيان، عن عبدالكريم (3) الجَزَرِيِّ، عن عبد الرَّحمن بن أبي عَمْرَة، عن عمِّه، قال: قال: رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “لا تجمَعُوا بين اسمي وكنيتي” (4).
وقال ابنُ أَبي خَيثَمَةَ: وقيل: إن محمَّد بن طَلْحَة لما وُلِدَ، أتَى طَلْحَةُ
_________
(1) الروض الأُنف للسهيلي: 2/ 66.
(2) أخرجه أبو داود في الأدب، باب فيمن رأى أن لا يجمع بينهما: 13/ 365، والترمذي في الأدب، باب ما جاء في كراهية الجمع بين اسم النبي – صلى الله عليه وسلم – وكنيته برقم (2842) وقال: “هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه”.
(3) في “أ، ج”: عبد السلام.
(4) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: 8/ 672، وفي طبعة القبلة: 13/ 253، وفي مسنده أيضًا برقم (537)، وأخرجه الإمام أحمد: 2/ 433 وفي طبعة الرسالة: 15/ 366، وابن حبان في صحيحه برقم (5814) وابن سعد: 1/ 107.
(الكتاب/205)
النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – فقال: اسْمُه مُحمَّد، أُكَنِّيه أبا القاسم؟ فقال: “لا تجمعهما له، هو أبو سُلَيمَانَ” (1).
وقالت طائفة أخرى: النهي عن ذلك مخصوص بحياته، لأجل السبب الذي ورد النهيُ لأجْله، وهو دعاءُ غيرِه بذلك، فيظنُّ أنه يَدْعُوهُ.
واحتجَّت هذه الفِرْقَةُ بما رواه أبو داود في “سننه”: حدّثنا أبو بَكْرٍ وعثمانُ ابْنَا أَبي شَيبةَ، قالا: حدّثنا أبو أسامةَ، عن فِطْرٍ، عن مُنْذِرٍ، عن محمَّد بن الحَنَفِيَّة، قال: قال عليٌّ ـ رضي الله عنه ـ: يا رسولَ الله! إنْ وُلِدَ لي بعدَك ولدٌ، أُسمِّيه باسمك وأُكْنِيهِ بِكُنْيَتِكَ؟ قال: “نعم” (2).
وقال حُمَيدُ بنُ زَنْجَوَيه في (كتاب الأدب): سألتُ ابنَ أبي أُوَيْس: ما كان مالكٌ يقول في رجل يجمع بين كنية النبيّ – صلى الله عليه وسلم – واسمه؟ فأشار إلى شيخٍ جالس معنا، فقال: هذا محمَّد بن مالك. سمَّاه محمَّدًا وكناه أبا القاسم، وكان يقول: إنما نُهِيَ عن ذلك في حياة النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – كراهية أن يُدْعَى أحد باسمه وكنيته، فيلتفت النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -، فأمَّا اليومَ فلا بأسَ بذلكَ (3).
_________
(1) أخرجه ابن أبي خيثمة في التاريخ: 2/ 91.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب الرخصة في الجمع بينهما: 13/ 368 ـ 369، والترمذي في الأدب، باب في كراهية الجمع بين اسم النبي – صلى الله عليه وسلم – وكنيته برقم (2843) وقال: “هذا حديث حسن صحيح”، والبيهقي: 9/ 309.
(3) نقله عنه البيهقي في السنن: 9/ 310.
(الكتاب/206)
قال حُمَيْدُ بنُ زَنْجَوَيه: إنما كره أن يدعى أحدٌ بكنيته في حياته، ولم يكره أن يُدعى باسمه، لأنه لا يكاد أحدٌ يدعوه باسمه، فلما قُبِضَ ذهب ذلك، ألا ترى أنه أَذِنَ لعليٍّ إن ولد له ولد بعده أن يجمع له الاسم والكنية؟ وإن نفرًا من أبناء وجوه الصحابة جمعوا بينهما، منهم محمَّد ابن أبي بكر، ومحمَّد بن جعفر بن أبي طالب، ومحمَّد بن سعد بن أبي وقاص، ومحمَّد بن حاطب، ومحمَّد بن المُنْذِر (1).
وقال ابنُ أَبي خَيثمَةَ في “تاريخه”: حدّثنا ابنُ الأَصْبَهَانِي، [أنا عليُّ ابن هَاشِمٍ] (2)، عن فِطْرٍ، عن مُنذرٍ، عن ابن الحَنَفِيَّةِ، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -[لعليٍّ]: “إنه سيولدُ لكَ بعدي ولدٌ (3) فَسَمِّهِ باسمي وكَنِّهِ بكُنْيَتِي” فكانتْ رخصةً مِنْ رَسُولِ الله – صلى الله عليه وسلم – لِعَليٍّ (4).
وللكراهة ثلاثة مآخذ:
(أحدها): إعطاء معنى الاسم لغير مَنْ يصلح له، وقد أشار النبيّ – صلى الله عليه وسلم –
_________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) ما بين القوسين في الموضعين من التاريخ.
(3) ليست في التاريخ.
(4) أخرجه ابن أبي خيثمة في التاريخ: 2/ 133، ومن طريقه أخرجه ابن عساكر: 54/ 330، وأخرجه ابن سعد: 5/ 45، والخطيب في التاريخ: 11/ 218. وهو مرسل كما قال الذهبي في السير: 4/ 115. وانظر: زوائد تاريخ بغداد، د. خلدون الأحدب: 8/ 52 – 56
(الكتاب/207)
إلى هذه العلَّة، بقوله: “إنَّما أنا قاسمٌ، أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ” (1).
فهو – صلى الله عليه وسلم – يقسمُ بينهم ما أمر ربُّه تعالى بقسمته، لم يكن يقسم كقسمةِ الملوكِ الذين يُعطُون مَن شاؤوا ويَحْرِمون مَن شاؤوا.
و (الثاني): خشية الالتباسِ وقتَ المخاطبةِ والدعوةِ، وقد أشار إلى هذه العلَّة في حديث أنس المتقدِّم حيث قال الدَّاعي: لم أَعْنِكَ، فقال: “تسمَّوا بِاسْمِي ولا تكنّوا بكُنيتي” (2).
و (الثالث): أنَّ في الاشتراك الواقعِ في الاسم والكنية معًا زوالَ مصلحةِ الاختصاصِ والتمييزِ بالاسم والكُنية، كما نهى أن يَنْقُشَ أحدٌ على خاتمِه كنقْشِهِ (3).
فعلى المأخذ الأول: يمنع الرجل من كنيته في حياته وبعد موته.
وعلى المأخذ الثاني: يختص المنع بحال حياته.
وعلى المأخذ الثالث: يختص المنع بالجمع بين الكنية والاسم دون إفراد أحدهما.
والأحاديث في هذا الباب تدور على هذه المعاني الثلاثة، والله أعلم.
_________
(1) تقدم تخريجه فيما سبق، ص (201).
(2) انظر فيما سبق، ص (200).
(3) في “ب”: كنيته.
(الكتاب/208)
الفصل الثامن
في جوازِ التَّسمية بأكثرَ من اسمٍ واحدٍ
لما كان المقصود بالاسم التعريف والتمييز، وكان الاسم الواحد كافيًا في ذلك، كان الاقتصار عليه أولى.
ويجوز التسمية بأكثر من اسم واحد، كما يوضع له اسم وكنية ولقب.
وأمَّا أسماءُ الربِّ تعالى وأسماءُ كِتَابهِ وأسماءُ رسولِه، فلما كانت نعوتًا دالَّةً على المدح والثناءِ لم تكن من هذا الباب، بل من باب تكثير الأسماء لجلالة المسمَّى وعَظَمَتِه وفَضْلِه، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف/ 18].
وفي “الصحيحين”: من حديث جُبَيْرِ بنِ مُطْعِم قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:”لِي خمسةُ أسماءٍ: أنا محمَّدٌ، وأنا أَحْمَدُ، وأنا المَاحِي الذي يَمْحُو الله بيَ الكُفْرَ، وأنا الحاشرُ الذي يُحشر الناسُ على قَدَمِي، وأنا العَاقِبُ الّذي ليس بَعْدَهُ نَبِيٌّ” (1).
_________
(1) أخرجه البخاري في المناقب، باب ما جاء في أسماء الرسول – صلى الله عليه وسلم -: 2/ 270، ومسلم في الفضائل، باب في أسمائه – صلى الله عليه وسلم -: 3/ 1828 برقم (2354).
(الكتاب/209)
وقال الإمام أَحْمَد: حدّثنا أسْودُ بن عامر، حدّثنا أبو بكر، عن عاصم بن بَهْدَلَة، عن أبي وائل، عن حُذَيْفةَ قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “أنا محمَّدٌ، وأَحْمَدُ، والمقَفِّي، والحاشِرُ، ونبيُّ التوبةِ، ونبيُّ المَلَاحِمِ” (1).
قال أَحْمَد (2): وحدّثنا يزيد بن هارون، حدّثنا المسعودي، عن عَمْرو بن مُرَّة، عن أبي عُبيدةَ، عن أبي موسى، قال: سمَّى لنا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – نفسَه أسماء، منها ما حفظناه، ومنها ما لم نحفظه، قال: “أنا محمَّد، وأَحْمَد، والمقفِّي، والحاشِر، ونبيُّ التوبة، ونبي الملاحِمِ”. رواه مُسْلِم في “صحيحه” (3).
وذكر أبو الحُسَينِ ابنُ فارس (4) لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ثلاثة وعشرين اسمًا: محمَّدٌ، وأَحْمَدُ، والمَاحِي، والعَاقِبُ، والمقفِّي، ونبيُّ الرحمة، ونبيُّ التوبة، ونبيُّ المَلَاحِمِ، والشَّاهدُ، والمبشِّر، والنذيرُ، والضَّحُوكُ، والقَتَّال، والمتوكِّل، والفاتحُ، والأمينُ، والخاتمُ، والمصطفَى، والرَّسولُ، والنبيُّ، والأميُّ، والقَاسِمُ، والحَاشِرُ (5).
_________
(1) مسند الإمام أحمد: 5/ 405، وفي طبعة الرسالة: 38/ 436. قال محققه: صحيح لغيره.
(2) في المسند: 4/ 395.
(3) كتاب الفضائل، باب في أسمائه – صلى الله عليه وسلم -: 3/ 1828 برقم (2355).
(4) في كتابه “أسماء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومعانيها”، ص 30 ـ 39.
(5) الحاشر. ساقط من “أ، ب”.
(الكتاب/210)
الفصل التاسع
في بيانِ ارتباطِ معنَى الاسمِ بالمسَمَّى
وقد تقدم ما يدلُّ على ذلك من وجوه (1):
أحدهما: قول سعيد بن المسيّب: ما زالت فينا (2) تلك الحزونة. وهي التي حصلت من تسمية الجد بحزن (3).
وقد تقدم قول عُمر لِجَمْرَةَ بنِ شِهَابٍ: أدركْ أهلَك فقدِ احترقُوا (4).
ومنع النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – مَن كان اسمه حربًا أو مُرَّة أن يحلب الشَّاة تلك التي أراد حَلْبَهَا (5).
وشواهدُ ذلك كثيرةٌ جدًّا، فقلَّ (6) أنْ تَرى اسمًا قبيحًا، إلا وهو على
_________
(1) راجع ما كتبه المصنف في زاد المعاد: 2/ 336 ـ 342، وفي مفتاح دار السعادة: 2/ 259 ـ 260.
(2) ساقطة من”أ”.
(3) انظر فيما سبق، ص (175) وما بعدها.
(4) انظر فيما سبق، ص (68).
(5) انظر فيما سبق، ص (67).
(6) في “ج”: فقد.
(الكتاب/211)
مسمَّى قبيحٍ، كما قيل (1):
وقَلَّ أنْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ ذَا لَقَبٍ … إلَّا وَمَعْنَاهُ إنْ فَكَّرْتَ فِي لَقَبِهْ
والله ـ سبحانه ـ بحكمته في قضائه وقدَره يُلْهِمُ النفوسَ أن تضعَ الأسماءَ على حسب مُسمَّياتها، لِتُناسِبَ حكمتَه تعالى بين اللفظ ومعناه، كما تناسبتْ بين الأسباب ومسبَّباتها (2).
قال أبو الفتح ابن جِنِّي: ولقد مرَّ بي دهرٌ وأنا أسمع الاسم، لا أدري معناه فآخذ معناه من لفظه، ثم أكشفه، فإذا هو ذلك بعينه أو قريب منه.
فذكرت ذلك لشيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدّس اللهُ روحَهُ ـ فقال: وأنا يقع لي ذلك كثيرًا (3).
وقد تقدم قوله – صلى الله عليه وسلم -: “أسْلَمُ سَالمَها اللهُ، وغفارٌ غَفَرَ الله لها، وعُصيَّةُ عَصَتِ اللهَ ورسُولَهُ” (4).
ولما أسلم وَحْشِيٌّ ـ قاتِلُ حَمزَة ـ وقف بين يدي النبيّ – صلى الله عليه وسلم – فَكَرِهَ اسْمَه وفِعْلَهُ وقال: “غيِّبْ وَجْهَكَ عنِّي” (5).
_________
(1) انظر فيما سبق، ص (68).
(2) ساقطة من “أ”.
(3) ذكر المصنف ذلك أيضًا في بدائع الفوائد: 1/ 166، وفي جلاء الأفهام ص 147.
(4) انظر فيما سبق، ص (176).
(5) أخرجه البخاري في المغازي، باب قتل حمزة بن عبدالمطلب ـ رضي الله عنه ـ: 7/ 367.
(الكتاب/212)
وبالجملة: فالأخلاقُ والأفعالُ القبيحةُ تستدعي أسماء تُناسبُها، وأضدادُها تستدعي أسماء تناسبها، وكما أنَّ ذلك ثابت في أسماء الأوصاف، فهو كذلك في أسماء الأعلام، وما سُمِّيَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: محمَّدًا وأَحْمَدَ إلا لكثرة خصال الحمد فيه، ولهذا كان لواء الحمد بيده، وأمتُه الحمَّادون، وهو أعظمُ الخلق حمدًا لربِّه تعالى، ولهذا أَمَرَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – بتحسين الأسماء، فقال: “حَسِّنُوا أسْمَاءَكُمْ” (1)، فإن صاحب الاسم الحَسَن قد يستحي من اسمه، وقد يحمله اسمه على فعل ما يناسبه وترك ما يضادُّه، ولهذا ترى أكثرَ السُّفْلِ أسماؤهم تناسبهم، وأكثر العلية أسماؤهم تناسبهم، وبالله التوفيق.
_________
(1) انظر فيما سبق، ص (163).
(الكتاب/213)
الفصل العاشر
في بيان أنَّ الخَلْق يُدعَون يوم القيامةِ بآبائهم لا بأمَّهاتهم
هذا هو الصوابُ الذي دلَّت عليه السنَّةُ الصحيحةُ الصَّريحةُ، ونصَّ عليه الأئمةُ، كالبُخَاريّ وغيره، فقال في “صحيحه” (1): بابٌ: يُدْعَى النَّاسُ يومَ القيامةِ بآبائِهِمْ لا بِأُمَّهَاتِهِمْ.
ثم ساق في الباب حديثَ ابنِ عُمرَ، قال: قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: “إذَا جمعَ اللهُ الأوَّلِينَ، والآخِرِينَ يَومَ القيامةِ، يُرْفعُ لكلِّ غَادرٍ لواءٌ يومَ القيامةِ، فيقال: هذه غَدْرَةُ فلانِ بنِ فُلانٍ” (2).
وفي “سنن أبي داود” بإسناد جيِّد، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إنَّكم تُدْعَونَ يَومَ القِيَامةِ بِأَسْمَائِكم وأَسْماءِ آبائِكُمْ، فَحَسِّنُوا أسْمَاءَكُمْ” (3).
فزعم بعض الناس أنهم يُدْعَون بأُمَّهاتهم.
واحتجُّوا في ذلك بحديثٍ لا يصحُّ، وهو في “معجم الطّبَرانيّ” من
_________
(1) “الصريحة … في صحيحه” ساقط من “د”.
(2) في كتاب الأدب، باب يدعى الناس بآبائهم: 10/ 563، وأخرجه مسلم في الجهاد، باب تحريم الغدر: 3/ 1359 برقم (1735).
(3) انظر فيما سبق، ص (163).
(الكتاب/214)
حديث أبي أُمَامَةَ، عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم -: “إذا ماتَ أحدٌ مِنْ إخوانِكُمْ، فَسَوَّيتُمُ الترابَ على قبرِهِ، فَلْيقُمْ أحدُكم على رأسِ قَبْرِه، ثم لْيَقُلْ: يا فلان بن فلانة! فإنه يسمعُه ولا يجيبُه، ثم يقولُ: يا فلان بن فلانة! فإنه يقول: أرشدنا يرحمك الله … ” الحديث. وفيه: فقال رجل: يا رسول الله فإن لم يعرف اسم (1) أمه؟ قال: “فلينسبه إلى أمِّه حواء، يا فلان ابن حواء” (2).
قالوا: وأيضًا فالرجل قد لا يكون نَسَبُه ثابتًا من أبيه، كالمنْفِيِّ باللِّعَانِ، ووَلَدِ الزِّنا، فكيف يُدْعَى بأبيهِ؟
والجواب: أمَّا الحديثُ، فضعيفٌ باتفاق أهل العلم بالحديث. وأمَّا مَن انقطع نَسَبُه من جهة أبيه، فإنَّه يُدعَى بما يُدْعَى به في الدنيا، فالعبدُ يُدعَى في الآخرة بما يُدْعَى به في الدنيا مِنْ أبٍ أو أمٍّ. والله أعلم.
_________
(1) ساقطة من “أ”.
(2) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: 8/ 298 وفي مواضع أخرى. قال الهيثمي: “رواه الطبراني في الكبير، وفي سنده جماعة لم أعرفهم”. انظر: مجمع الزوائد 3/ 45. وضعَّفه المصنف هنا ـ كما ترى ـ وفي زاد المعاد: 1/ 523 وفي المنار المنيف ص 136. وقارن بـ: التلخيص الحبير 2/ 135 ـ 136، والفتوحات الربانية لابن علَّان الصدّيقي: 4/ 196.
(الكتاب/215)
الباب التاسع
في خِتانِ المولودِ وأحكامهِ
وفيه أربعة عشر فصلًا:
الفصل الأول: في معنى الختان واشتقاقه ومسماه.
الفصل الثاني: في ختان إبراهيم الخليل والأنبياء من بعده.
الفصل الثالث: في مشروعيته، وأنه من أصل الفطرة.
الفصل الرابع: في اختلاف أهل العلم في وجوبه.
الفصل الخامس: في وقت الوجوب.
الفصل السَّادس: في اختلافهم في الختان في السَّابع من الولادة، هل هو مكروه، أم لا؟ وحجة الفريقين.
الفصل السَّابع: في بيان حكمة الختان وفوائده.
الفصل الثامن: في بيان القدر الذي يؤخذ في الختان.
الفصل التاسع: في أن حكمه يعم الذكر والأنثى
الفصل العاشر: في حكم جناية الخاتن وسراية الختان.
الفصل الحادي عشر: في أحكام الأقلف في طهارته، وصلاته، وإمامته، وشهادته.
(الكتاب/217)
الفصل الثاني عشر: في المسقطات لوجوبه.
الفصل الثالث عشر: في ختان نبينا – صلى الله عليه وسلم -، والاختلاف فيه، وهل ولد مختونًا، أو خُتِن بعد الولادة، ومتى خُتن.
الفصل الرابع عشر: في الِحكَم التي لأجلها يُبعث الناس يوم القيامة غُرْلًا غيرَ مختونين.
(الكتاب/218)
الفصل الأول
في بيانِ معناه واشتِقاقهِ
الخِتَانُ: اسمٌ لفِعْلِ الخَاتِنِ، وهو مصدرٌ كالنّزال والقِتَال، ويُسمَّى به موضع الخَتْن أيضًا، ومنه الحديث: “إذا الْتَقَى الختَانَانِ، وَجَبَ الغُسْلُ” (1). ويسمى في حقِّ الأُنثى خَفْضًا. يقال: خَتَنْتُ الغُلامَ خَتْنًا، وخَفَضْتُ الجَارِيَةَ خَفْضًا، ويسمى في الذَّكَر إعْذارًا أيضًا. وغيرُ المعذورِ: يسمّى أَغْلف وأَقْلَف. وقد يقال: الإعذار لهما أيضًا (2).
قال: في “الصِّحَاحِ” (3): قال أبُو عُبَيْدٍ (4): عَذَرتُ الجَارِيَةَ والغُلام، أعذِرُهما عذرًا: خَتَنْتُهما، وكذلك، أَعْذَرْتُهما.
قال: والأكثرُ خَفَضْتُ الجَارِيَةَ.
والقُلْفَةُ والغُرْلَةُ، هي الجلدة التي تُقطع.
_________
(1) أخرجه ابن ماجه في الطهارة، باب ما جاء في وجوب الغسل: 1/ 199، والإمام أحمد في المسند: 6/ 239.
(2) انظر: مقاييس اللغة لابن فارس، وتهذيب اللغة للأزهري، ولسان العرب لابن منظور، النهاية لابن الأثير: (ختن، وعذر، وخفض).
(3) الصحاح للجوهري: 2/ 739. وانظر: تهذيب اللغة: 7/ 299 ـ 300.
(4) قول أبي عبيد في كتابه: الغريب المصنف: 3/ 989.
(الكتاب/219)
قال (1): وتَزْعُمُ العَربُ أنَّ الغُلام إذا وُلِد في القَمَر فُسِخَتْ قُلْفَتُه فصار كالمختون.
فَخِتانُ الرَّجُلِ: هو الحرفُ المستديرُ على أسفلِ الحَشَفَةِ، وهو الذي ترتَّبت الأحكامُ على تغييبه في الفرج، فيترتَّب عليه أكثر من ثلاثمائة حُكْمٍ، وقد جمعها بعضُهم فبلغتْ أربعَمائة إلا ثمانيةَ أحكامٍ (2).
وأمَّا ختانُ المرأة فهو (3) جلدة كعُرْفِ الدِّيك فوق الفَرْج، فإذا غابت الحشَفَةُ في الفرج حاذى ختانُه ختانَها، فإذا تحاذيَا فقد التَقَيَا، كما يقال: التقى الفارسان، إذا تحاذيا وإن لم يتضامَّا.
والمقصود: أنَّ الختانَ اسمٌ للمحلِّ، وهي الجلدة التي تبقى بعد القَطْعِ، واسمٌ للفِعْل، وهو فِعْلُ الخَاتِنِ.
ونظير هذا: السِّواكُ؛ فإنه اسمٌ للآلة التي يُسْتَاكُ بها، واسم (4) للتسوُّكِ بها.
_________
(1) في الصحاح: 4/ 1418.
(2) انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 456 – 458، والأشباه والنظائر لابن الوكيل، ص 198 – 199، والمنثور في القواعد للزركشي: 2/ 46، والأشباه والنظائر لابن نُجَيم، ص 395 – 399، وغمز عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر، للحموي: 3/ 42 – 43. وراجع: القواعد الكبرى للعز بن عبدالسلام: 2/ 179 – 180.
(3) في “ب، ج”: فهي.
(4) ساقطة من “أ، ب”.
(الكتاب/220)
وقد يطلق الختان على الدعوة إلى وَلِيمَتِهِ، كما تُطلق العَقِيقَةُ على ذلك أيضًا (1).
_________
(1) انظر: جمهرة اللغة لابن دريد: 2/ 309 – 310.
(الكتاب/221)
الفصل الثاني
في ذِكر ختانِ إبراهِيمَ الخليلِ والأنبياءِ بَعْدَهُ صلى الله عليهم أجمعين
في “الصحيحين” من حديث أَبي هُرَيرَةَ قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “اخْتَتَنَ إبراهيمُ – صلى الله عليه وسلم – وهو ابنُ ثمانينَ سنَةً بالقَدُومِ” (1).
قال البُخَاريّ: القَدُومُ ـ مخفَّفَةٌ ـ وهو اسمُ موضعٍ (2).
وقال المرُّوذِيُّ: سُئِل أبو عبد الله، هل خَتنَ إبراهيمُ ـ عليه السلام ـ نَفْسَه بقَدُوم؟ قال: بطَرَفِ القَدُومِ (3).
وقال أبو داود وعبد الله بن أَحْمَد وحرب: إنهم سألوا أَحمد عن قوله: “اختتن بالقدوم”؟ قال: هو موضع (4).
_________
(1) أخرجه البخاري في الاستئذان، باب الختان بعد الكبر: 11/ 88، ومسلم في الفضائل، باب فضائل إبراهيم الخليل عليه السلام: 4/ 1839 برقم (2370).
(2) في الموضع السابق نفسه. وانظر: إصلاح غلط المحدّثين للخطابي، ص 39.
(3) أخرجه الخلال في الترجل ص 82 برقم (169).
(4) انظر: مسائل الإمام أحمد برواية أبي داود ص 284، وأخرجه الخلال في الترجل ص 170 برقم 170 وفيه: “كلهم سمع أبا عبدالله وسألوه عن حديث إبراهيم أنه اختتن .. قال: هو موضوع” فجعل السؤال عن مرتبة الحديث. وهو تحريف.
(الكتاب/222)
وقال غيره: هو اسمٌ للآلة، واحتجَّ بقول الشاعر:
فَقُلْتُ أَعِيرُونِي القَدُومَ لَعَلَّنِي … أَخُطُّ بِهَا قَبْرًا لِأَبْيَضَ مَاجِد (1)
وقالت طائفة: مَنْ رواه مخفّفًا، فهو اسمُ الموضع، ومن رواه مثقَّلًا فهو اسمُ الآلةِ (2).
وقد رُوِيَت قصة ختان الخليل بألفاظ يُوهم بعضُها التعارضَ، ولا تعارضَ فيها ـ بحمد الله ـ ونحن نذكرها.
ففي “صحيح البُخَاريّ” من حديث أبي الزِّنَاد، عن الأَعْرَجِ، عن أبي هُرَيْرَة ـ رضي الله عنه ـ عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “اختتنَ إبراهيمُ وهو ابنُ ثمانينَ سنة بالقَدُّوم” (3).
_________
(1) البيت أنشده الأزهري في التهذيب: 9/ 47 عن الفرّاء دون نسبة وهو من شواهد اللسان.
(2) قال الخطابي في إصلاح غلط المحدّثين ص 39: القدوم مخفف. ويقال: إنه اسم موضع، وكذلك القدوم الذي يُعتَمل به، مخفف أيضًا. وانظر: المصباح المنير للفيومي 2/ 494.
(3) أخرجه البخاري في الأنبياء، باب قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}: 6/ 388.
(الكتاب/223)
وفي لفظ: “اختتن إبراهيم بعد ثمانين سنة بالقَدُوم”. مخففة (1).
وفي حديث يحيى بن سعيد، عن ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هُرَيرَة مثلَه. وقال يحيى: والقدوم: الفأس (2).
وقال النَّضْرُ بنُ شُمَيْل: قَطَعَه بالقَدُوم. فقيل له: يقولون: قَدُومٌ قريةٌ بالشَّام؟ فلم يعرفه، وثبتَ على قولِهِ.
قال الجَوْهَرِيُّ: القَدوم الذي يُنْحَتُ به مخفَّف. قال ابن السكِّيْتِ: ولا تقل: قدّوم بالتشديد. قال: والقدوم: أيضًا اسمُ موضعٍ، مخفَّفٌ (3).
والصحيح: أن القدوم في الحديث: الآلة، لما رواه البَيْهَقِيّ (4): أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد بن أبي عَمْرو، قالا: حدّثنا
أبو العبَّاس محمَّد بن يَعقوب، حدّثنا محمَّد بن عبد الله (5)، حدّثنا
أبو عبد الرَّحمن المقري، حدّثنا موسى بن علي، قال سمعت أبي يقول: إن إبراهيم الخليل أمر أن يختتن وهو ابن ثمانين سنة، فعجل فاختتن
_________
(1) تقدم قبل قليل ص (222).
(2) قال ابن حجر في فتح البارى 11/ 90: أخرجه أبو العباس السراج في تاريخه. وانظر: الاستذكار لابن عبدالبر: 10/ 21.
(3) الصحاح للجوهري: 5/ 2008 ـ 2009. وانظر: المصباح المنير: 2/ 494، فتح الباري: 11/ 90.
(4) في السنن: 8/ 326.
(5) “حدثنا أبو العباس … عبد الله” ساقط من “ج”.
(الكتاب/224)
بقدوم، فاشتدَّ عليه الوجع، فدعا ربَّه، فأوحى الله إليه إنك عجلت قبل أن نأمرك بالآلة، قال: يا ربّ! كرهت أن أؤخِّر أمْرَك. قال: وختن إسماعيل وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وختن إسْحَاق وهو ابن سبعة أيام.
وقال حَنْبَل: حدّثنا عاصم، حدّثنا أبو أُوَيْس، قال حدّثني أبو الزِّنَاد، عن الأعرج عن أبي هُرَيْرَة عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “إبراهيمُ أوَّلُ من اخْتَتنَ وهو ابن مائةٍ وعشرينَ سنةً، اختتنَ بالقدوم، ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنةً” (1).
ولكنَّ هذا حديثٌ معلولٌ، رواه يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هُرَيرَة قولَه.
ومع هذا، فهو من رواية أبي أُوَيس عبد الله بن عبد الله المدنيِّ، وقد روى له مسلم في “صحيحه” محتجًّا به، وروى له أهل “السنن الأربعة”.
وقال أبو داود: وهو صالح الحديث.
واختلفت الروايةُ فيه عن ابن مَعِين، فروى عنه الدُّوريُّ: في حديثه ضعفٌ، وروى عنه توثيقَه (2).
_________
(1) انظر: فتح الباري، في الموضع السابق، والتمهيد لابن عبدالبر: 23/ 137 ـ 138، والاستذكار: 10/ 21، وشعب الإيمان للبيهقي: 15/ 130.
(2) انظر: تاريخ يحيى بن معين: 2/ 317، وتهذيب التهذيب لابن حجر: 5/ 245 ـ 246.
(الكتاب/225)
ولكن المغيرة بن عبد الرَّحمن، وشُعَيْبَ بنَ أبي حَمْزَةَ وغيرهما رووا عن أبي الزِّنَاد خلاف ما رواه أبو أُوَيس، وهو ما رواه أصحابُ الصَّحيحِ أنه اختتنَ وهو ابنُ ثمانينَ سنةً (1).
وهذا أوْلَى بالصَّواب، وهو يدلُّ على ضَعْفِ المرفوعِ والموقوفِ.
وقد أجاب بعضُهم بأن قال: الروايتانِ صحيحتانِ، ووَجْهُ الجمعِ بين الحديثينِ يُعْرَفُ من مدَّةِ حياةِ الخليلِ، فإنَّه عاش مائتي سنة، منها ثمانونَ غيرَ مختونٍ، ومنها عشرونَ ومائةُ سنة مختونًا، فقوله: “اختتن لثمانين سنة” مضت من عمره، والحديث الثاني: “اختتن لمائة وعشرين سنة” بَقِيَتْ من عُمُرِهِ (2).
وفي هذا الجمع نظرٌ لا يَخْفَى، فإنه قال: “أوَّل من اختتنَ إبراهيمُ وهو ابن مائة وعشرين سنة”، ولم يقل: اختتن لمائةٍ وعشرينَ سنةً.
وقد ذكرنا رواية يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هُرَيْرَةَ موقوفًا عليه: أنه اختتن وهو ابن مائة وعشرين سنة. والروايةُ الصحيحةُ المرفوعةُ عن أبي هُرَيرَة تخالفُ هذا.
على أنَّ الوليدَ بنَ مُسْلِمٍ قد قال: (أخبرني الأوزاعي، عن يحيى بن
_________
(1) انظر: فتح البارى لابن حجر: 11/ 88 ـ 89.
(2) فتح البارى: 11/ 89. وانظر: شعب الإيمان للبيهقي: 15/ 133.
(الكتاب/226)
سعيد، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هُرَيْرَة يرفعه، قال) (1): اختتنَ إبراهيمُ وهو ابنُ عشرينَ ومائة سنة، ثم عاش بعد ذلك ثمانينَ سنةً.
وهذا حديث معلولٌ، فقد رواه جعفر بن عَوْن، وعِكْرِمَة بنُ إبراهيمَ، عن يحيى بنِ سعيدٍ عن أبي هُرَيْرَة قَوْلَهُ، والمرفوعُ الصحيحُ أَوْلَى منه، والوليدُ بن مُسْلِم معروفٌ بالتدليس.
قال هيثم بن خارجة (2): قلت للوليد بن مُسْلِم: قد أفسدتَ حديثَ الأَوْزَاعِيِّ! قال: كيف؟ قلت: تروي عن الأوزاعيِّ عن نافعٍ، وعن الأوزاعيِّ عن الزُّهْرِيّ، وعن الأوزاعيِّ عن يحيى بن سعيد، وغيرُك يُدخل بين الأوزاعيّ وبين نافعٍ عبدَ الله بن عامر الأسْلَمِيّ، وبينه وبين الزُّهْرِيّ إبراهيمَ بن ميسرة وقُرّةَ وغيرهما، فما يحملك على هذا؟
قال: أُنْبِل الأوزاعيَّ أن يرويَ عن مثل هؤلاء.
قلت: فإذا روى الأوزاعيُّ عن هؤلاء، وهؤلاء ضعافٌ، أصحابُ أحاديث مناكير، فأسقطتَهم أنت وصيَّرتَها من رواية الأوزاعي عن الثقات، ضعَّفتَ الأوزاعيَّ! فلم يلتفتْ إلى قولي.
وقال أبو مُسْهِر (3): كان الوليدُ بن مُسْلِم يحدِّث بأحاديث
_________
(1) “أخبرني … قال” ساقط من المطبوع.
(2) انظر: تهذيب الكمال: 7/ 488 تحقيق بشار عواد.
(3) المصدر نفسه: 7/ 489.
(الكتاب/227)
الأوزاعيِّ عن الكذَّابينَ، ثم يدلِّسُهَا عنهم.
وقال الدَّارَقُطْنِيُّ (1): الوليد بن مُسْلِم يروي عن الأوزاعي ـ أحاديث هي عند الأوزاعي عن شيوخ ضعفاء، عن شيوخ قد أدركهم الأوزاعي مثل: نافع، وعطاء، والزُّهْرِيّ، فيسقط أسماء الضعفاء، ويجعلها عن الأوزاعي عن عطاء.
وقال الإمام أَحْمَد في رواية ابنه عبد الله: كان الوليد رفَّاعًا، وفي رواية المرُّوذي: هو كثير الخطأ (2).
وقد روى هذا الحديث من غير هذا الطريق من نسخة نُبَيْط بن شَرِيْط عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم -: أوَّل مَنْ أضَافَ الضيفَ إبراهيمُ، وأوَّل مَن لَبِسَ السَّراويلَ إبراهيمُ، وأوَّل من اختتنَ إبراهيمُ بالقَدُوم وهو ابنُ عشرينَ ومائةِ سنةٍ. وهذه النسخة ضعَّفها أئمة الحديث (3).
وبالجملة: فهذا الحديثُ ضعيفٌ معلولٌ، لا يُعارِضُ ما ثبتَ في الصَّحيحِ.
ولا يصحُّ تأويلُه بما ذكرَه هذا القائلُ لوجوهٍ:
_________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) المصدر السابق: 7/ 488.
(3) انظر: شعب الإيمان للبيهقي: 15/ 130.
(الكتاب/228)
(أحدها): أن لفْظَه لا يصلحُ له، فإنه قال: اختتن وهو ابن عشرين ومائة سنة.
(الثاني): أنه قال: ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة.
(الثالث): أن الذي يحتمله على تَعَسُّرٍ (1) واستكراهٍ قولُه: اختتن لمائة وعشرين سنة.
ويكون المراد: بقِيَتْ من عمره، لا مَضَتْ. والمعروف في مثل هذا الاستعمال إنما هو إذا كان الباقي أقلَّ من الماضي، فإنَّ المشهورَ من استعمالِ العربِ في خَلَتْ وبَقِيَتْ، أنه من أول الشهر إلى نِصْفِه، يقال: خَلَت وخَلَوْنَ. ومن نصفِه إلى آخرِه: بَقِيَتْ وبَقِيْن (2).
فقوله: “لمائة وعشرين بقيت من عمره” مثل أن يقال: لاثنتين وعشرين ليلة بقِيَتْ من الشهر، وهذا لا يسوغ، وبالله التوفيق.
والختان كان من الخصال التي ابْتَلَى اللهُ ـ سبحانه ـ بها إبراهيمَ خليلَه، فأتمهنَّ وأكملهنَّ، فجعله إمامًا للناسِ.
وقد رُوِي أنه أوَّل من اختتنَ ـ كما تقدم ـ والذي في “الصحيح”: اختتنَ إبراهيمُ وهو ابنُ ثمانينَ سنةً، واستمرَّ الختانُ بَعْدَه في الرُّسُلِ وأتْبَاعِهِم حتَّى في المسيح فإنَّه اخْتَتَنَ، والنَّصارى تُقِرُّ بذلك ولا
_________
(1) في “أ”: تعبير.
(2) انظر ما كتبه الصفدي في الوافي بالوفيات: 1/ 20 ـ 21، عن كيفية كتابة التاريخ.
(الكتاب/229)
تَجْحَدُهُ، كما تقرُّ بأنه حرَّم لحمَ الخنزيرِ، وحرَّم كَسْبَ السَّبْتِ، وصلَّى إلى الصَّخْرةِ، ولم يَصُمْ خمسينَ يومًا، وهو الصِّيامُ الذي يسمُّونه: الصَّومَ الكبيرَ.
وفي “جامع التّرْمِذِيّ” (1) و”مسند الإمام أحمد” (2) من حديث أبي أيوب قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “أربعٌ من سُنن المرسَلينَ: الختانُ، والتعطُّر، والسِّواكُ، والنكاحُ”. قال التّرْمذِيّ: “هذا حديث حسن غريب”.
_________
(1) سنن الترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء في فضل التزويج: 4/ 66 (مع تحفة الأحوذي)، بلفظ: “الحياء” وقال: “وفي الباب عن عثمان وثوبان وابن مسعود وعائشة وعبد الله بن عمرو وأبي نجيح وجابر وعكاف. قال أبو عيسى حديث أبي أيوب حديث حسن غريب. حدثنا محمود بن خداش البغدادي، حدثنا عباد بن العوام عن الحجاج عن مكحول، عن أبي الشمال عن أبي أيوب، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – نحو حديث حفص. قال أبو عيسى: وروى هذا الحديث هشيم ومحمد بن يزيد الواسطي وأبو معاوية وغير واحد عن الحجاج عن مكحول عن أبي أيوب، ولم يذكروا فيه عن أبي الشمال، وحديث حفص بن غياث وعباد بن العوام أصح”.
(2) المسند: 5/ 421 وفي طبعة الرسالة: 38/ 553 – 554 بلفظ “الحياء”. قال الحافظ في التلخيص الحبير 1/ 66: “رواه أحمد والترمذي، ورواه ابن أبي خيثمة وغيره من حديث مليح بن عبدالله عن أبيه عن جده نحوه، ورواه الطبراني من حديث ابن عباس. وفيه إسماعيل بن شيبة، قال الذهبي: واهٍ”. وانظر: إرواء الغليل للألباني: 1/ 116 ـ 119.
(الكتاب/230)
واختُلِفَ في ضَبْطِه، فقال بعضُهم: الحياء ـ بالياء والمدِّ ـ وقال بعضهم: الحِنَّاء ـ بالنون ـ (1).
وسمعتُ شيخَنا أبا الحجَّاج الحافظَ المزِّيَّ يقول: وكلاهما غلط، وإنما هو الختان، فوقعت النون في الهامش، فذهبت، فاختلف في اللفظة. قال: وكذلك رواه المَحامِليُّ (2) عن الشيخ الذي روى عنه التّرْمِذِيّ بعينه، فقال: الختان. قال: وهذا أوْلَى من الحَيَاء والحنَّاء، فإنَّ الحَياء خُلُقٌ، والحِنَّاء ليس من السُّنن، ولا ذَكَرَهُ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – في خصال الفطرة، ولا نَدَبَ إليه، بخلاف الختان (3).
فصل
في ختانِ الرَّجلِ نَفْسَه بيدهِ
قال المروزيُّ: سئل أبو عبد الله عن الرجل يختن نفسه؟ فقال: إنْ قويَ (4).
وقال الخَلّال: أخبرني عبد الكريم بن الهيثم، قال: سمعت
_________
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر: 10/ 415.
(2) انظر: أمالي المحاملي برقم (431) ..
(3) ذكر نحو هذا أيضًا في زاد المعاد: 4/ 252، وفي المنار المنيف ص 127 ـ 128. وانظر: فيض القدير للمناوي: 1/ 466.
(4) أخرجه الخلال في كتاب الترجل ص 83 برقم (172)
(الكتاب/231)
أبا عبد الله، وسئل عن الرجل يختن نفسه؟ فقال: إن قوي على ذلك (1).
قال: وأخبرني محمَّد بن [أبي] (2) هارون، أن إسْحَاق حدثهم أن أبا عبد الله سئل عن المرأة يدخل عليها زوجها لم تختتن، يجب عليها الختان؟ فقال: الختان سُنَّة حسنةٌ، وذكر نحو مسألة المروزي في ختان نفسه، قيل له: فإن قويت على ذلك؟ قال: ما أحسنه!
وسئل عن الرجل يختن نفسه؟ قال: إذا قوي عليه فهو حسن، وهي سُنَّة حسنةٌ (3).
_________
(1) المصدر نفسه، ص 83 برقم (173).
(2) الزيادة من كتاب الترجل.
(3) المصدر السابق، ص 86 ـ 87.
(الكتاب/232)
الفصل الثالث
في مَشروعيَّته وأنَّه من خِصالِ الفِطْرةِ
وفي “الصحيحين” من حديث أبي هُرَيرَةَ ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: “الفِطْرةُ خمسٌ: الختانُ، والاسْتِحْدَادُ، وقصُّ الشَّاربِ، وتقليمُ الأظافرِ، ونَتْفُ الإبْطِ” (1).
فجعل الختانَ رأسَ خصالِ الفطرةِ. وإنمَّا كانت هذه الخصالُ مِنَ الفِطْرةِ، لأنَّ الفِطْرَة (2)، هي الحنيفيَّةُ ملَّةُ إبراهيمَ، وهذه الخصالُ أُمِرَ بها إبراهيمُ.
وهي من الكلمات التي ابتلاه ربُّه بهنَّ، كما ذكر عبد الرزَّاق: عن مَعْمَر، عن ابنِ طاووس، عن أبيه، عن ابن عبَّاس في قوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة/ 124]، قال: “ابتلاه بالطهارة، خمس في الرأس، وخمس في الجسد. في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس. وفي الجسد خمسة: تقليم الأظافر، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء” (3).
_________
(1) أخرجه البخاري في اللباس، باب قص الشارب: 10/ 334، وفي مواضع أخرى، ومسلم في الطهارة، باب خصال الفطرة: 1/ 221 برقم (257).
(2) “لأن الفطرة” ساقط من “أ”.
(3) انظر: تفسير عبدالرزاق: 1/ 57.
(الكتاب/233)
والفطرةُ فِطْرَتَانِ: فطرةٌ تتعلَّقُ بالقلب، وهي معرفةُ الله ومحبتُه وإيثارُه على ما سواه، وفطرةٌ عمليَّةٌ، وهي هذه الخصالُ.
فالأولى تزكِّي الروحَ وتطهِّر القلبَ، والثانية تطهِّر البدنَ، وكلٌّ منهما تمدُّ الأخْرَى وتقوِّيها، وكان رأسُ فطرةِ البدنِ: الختان، لما سنذكره في الفصل السَّابع إن شاء الله تعالى.
وفي “مسند الإمام أحمد” من حديث عمَّار بن ياسر ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “مِنَ الفِطْرَةِ ـ أو الفطرةُ ـ: المضمضةُ، والاستنشاقُ، وقصُّ الشاربِ، والسِّواكُ، وتقليمُ الأظافر، وغَسْلُ البَراجِمِ، ونَتْفُ الإبْطِ، والاسْتِحْدَادُ، والاختتانُ، والانْتِضَاحُ” (1).
وقد اشتركت خصال الفطرة في الطهارة والنظافة، وأخْذِ الفضلات المستقذَرةِ التي يألفها الشيطان، ويجاورها من بني آدم، وله بالغُرْلَةِ اتصالٌ واختصاص ستقف عليه في الفصل السَّابع إن شاء الله.
وقال غير واحدٍ من السَّلَف: من صلَّى وحجَّ واخْتَتَنَ فهو حنيفٌ، فالحجُّ والختانُ: شعارُ الحنيفيَّة، وهي فطرةُ الله التي فَطَرَ النَّاسَ عليها.
_________
(1) المسند: 4/ 264، وفي طبعة الرسالة: 30/ 268، وأخرجه أبو داود في الطهارة، باب السواك من الفطرة: 1/ 342 ـ 344، وابن ماجه في الطهارة برقم (294)، والطحاوي في شرح معاني الآثار: 4/ 229، والطيالسي في المسند برقم (641).
(الكتاب/234)
قال الرَّاعي (1) يخاطبُ أبا بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ:
أَخَلِيْفَةَ الرَّحْمَنِ إنَّا مَعْشَرٌ … حُنَفَاءُ، نَسْجُدُ بُكْرَةً وَأَصِيْلَا
عَرَبٌ، نَرَى لله في أمْوِالِنَا … حَقَّ الزَّكَاةِ مُنَزَّلًا تَنْزِيلًا
_________
(1) الراعي النُّميري في ديوانه، ص 206 من قصيدة يمدح بها عبدالملك بن مروان، ويشكو من السُّعاة الذين يأخذون الزكاة من قِبَل السلطان. انظر: جمهرة أشعار العرب للقرشي: 2/ 929. وذكر المصنف البيت في كتابه شفاء العليل ص 574 فقال: قال الشاعر. ولم يذكر أبا بكر.
(الكتاب/235)
الفصل الرابع
في الاختلافِ في وُجُوبه واستحبابهِ
اختلف الفقهاءُ في ذلك؛ فقال الشَّعْبِيُّ، ورَبِيعَةُ، والأَوْزَاعِيُّ، ويَحيى بنُ سعيدٍ الأنصاريُّ، ومالكٌ، والشّافِعِيّ، وأحمد: هو واجب (1).
وشدَّد فيه مالكٌ، حتى قال: من لم يختتن لم تَجُزْ إِمامتُه ولم تُقبَلْ شَهَادَتُه (2). ونقل كثيرٌ من الفقهاء عن مالك أنَّه سنَّة، حتى قال القاضي عِيَاض: “الاختتانُ عند مالكٍ وعامّةِ العُلماءِ (3) سُنَّةٌ” (4).
_________
(1) انظر: نهاية المطلب للجويني: 17/ 354 – 355، والبيان للعمراني:1/ 95، والحاوي الكبير للماوردي: 13/ 430 – 431، والمجموع للنووي: 1/ 164، والمغني لابن قدامة: 1/ 115، وتفسير القرطبي: 2/ 99 – 100.
(2) قال المالكية: الأغلف الذي لا عذر له في الختان لا تجوز شهادته لإخلال ذلك بالمروءة. انظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 6/ 87.
وكذلك قال الحنفية: لا تقبل شهادة الأقلف؛ إذا كان من غير عذر؛ لأنه مستخفٌّ بالختان، ومع الاستخفاف به لا يكون عدلًا. انظر: فتح باب العناية بشرح النّقاية للملا على القاري: 3/ 138، فتح القدير للكمال ابن الهمام: 6/ 45.
(3) في “أ”: الفقهاء.
(4) شرح صحيح مسلم للقاضي عياض: 2/ 65. وقال ابن عبدالبر في الاستذكار 10/ 20: فإن بعضهم جعل الختان فرضًا، واحتج بأن إبراهيم اختتن، وأن الله ـ عز وجلَّ ـ أمر نبيه – صلى الله عليه وسلم – أن يتبع ملة إبراهيم. ثم قال: ولا حجة فيما احتج به؛ لأن من ملة إبراهيم سنةً وفريضةً، وكلٌّ يتّبع على وجهه. وانظر له أيضًا: الكافي في فقه أهل المدينة: 2/ 558.
(الكتاب/236)
ولكن السُّنَّة عندهم يأثم بتركها، فهم يُطْلِقُونهَا على مرتبة بين الفرض وبين النَّدْب، وإلا فقد صرَّح مالك بأنَّه لا تقبل شهادة الأقْلَفِ، ولا تجوز إمامتُه.
وقال الحَسَن البصريُّ وأبو حنيفةَ: لا يجب، بل هو سُنَّة (1)، وكذلك قال ابنُ أبي مُوسَى (2) من أصحابِ أَحْمَدَ: هو سُنَّة مؤكَّدة.
ونصَّ أَحْمَد في رواية: أنه لا يجبُ على النساءِ (3).
واحتجّ الموجبون له بوجوهٍ:
(أحدها): قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل/ 123]. والختان من مِلَّتِه لما تقدم.
_________
(1) قال الملا علي القاري في “فتح باب العناية” 1/ 37: “وسُنَّ الختان للرجال، وهو من الفطرة. وعُدَّ مكرمة للنساء؛ لحصول الكرامة لهنَّ به عند أزواجهنّ، وقُدِّر وقته بسبع سنين ـ وهو مختار أبي الليث ـ أو تسع أو عشر. وقيل بما يطابق المراد بالبلوغ. ويُترك لو ولد شبيهًا بالمختون، أو أسلم كبيرًا وخيف عليه منه. وإن تركه أهل بلد قُوتِلوا عليه، لأنه من شعائر الإسلام، فصار كالأذان”. وانظر: فتح القدير للكمال ابن الهمام: 6/ 45.
(2) في كتابه “الإرشاد إلى سبيل الرشاد” ص 391.
(3) انظر: الترجل للخلال، ص 86، المغني لابن قدامة: 1/ 115 ـ 116.
(الكتاب/237)
(الوجه الثاني): ما رواه الإمام أحمد، حدّثنا عبد الرزَّاق، عن ابن جُرَيج قال: أُخبرت عن عُثَيمِ بنِ كُلَيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، أنه جاء إلى النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – فقال: قد أسلمتُ، قال: “أَلْقِ عَنْكِ شَعْرَ الكُفْرِ” يقول: احْلِقْ. قال: وأخبرني آخرُ معه، أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال لآخر: “ألَقِ عَنْكَ شَعْرَ الكُفْرِ وَاخْتَتِنْ”. ورواه أبو داود عن مَخْلَدِ بنِ خَالِد عن عبدِ الرزَّاق (1). وحَمْلُه على النَّدْب في إلقاء الشعر، لا يلزمُ منه حمله عليه في الآخر.
(الوجه الثالث): قال حربٌ في “مسائله” عن الزُّهْرِيّ قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “مَنْ أسْلَمَ فَلْيَخْتَتِنْ وإنْ كانَ كَبيرًا” (2).
وهذا وإن كان مُرْسَلًا، فهو يصلح لِلاعْتِضَادِ.
(الوجه الرابع): ما رواه البَيهَقِيّ، عن موسى بن إسماعيل بن جعفر
_________
(1) أخرجه عبدالرزاق: 6/ 10، وأبو داود في الطهارة، باب في الرجل يُسلم فيؤمر بالغسل: 2/ 575 – 577، والإمام أحمد: 3/ 415، وفي طبعة الرسالة: 24/ 163، والبيهقي في السنن: 1/ 172، وفي معرفة السنن والآثار: 9/ 4365 برقم (4633)، والطبراني في الكبير: 22/ 395 – 396 برقم (360). قال ابن القطان في بيان الوهم والإيهام 5/ 43: “إسناده في غاية الضعف مع الانقطاع”. وانظر: البدر المنير لابن الملقن: 8/ 741 – 743، والتلخيص الحبير لابن حجر 4/ 82.
(2) انظر: التلخيص الحبير لابن حجر: 4/ 82 فقد عزاه أيضًا لحرب. وقال السيوطي في الدر المنثور 1/ 597: “أخرج البيهقي عن الزهري عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: من أسلم .. ” وهو مرسل.
(الكتاب/238)
ابن محمَّد بن علي بن حسين بن علي، عن آبائه واحدًا بعد واحدٍ، عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال: وجدنا في قائم سيف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الصحيفة: “أنَّ الأقْلَفَ لا يترك في الإسلام حتى يختتن، ولو بلغ ثمانين سنة”. قال البَيهَقِيُّ: هذا حديث ينفرد به أهل البيت بهذا الإسناد (1).
(الوجه الخامس): ما رواه ابنُ المُنْذِرِ من حديث أبي بَرْزَةَ عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – في الأقْلَفِ: “لا يحجّ بيتَ الله حتى يختتنَ” (2). وفي لفظ: سألْنا رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – عن رجل أقْلَف، يحج بيت الله؟ قال: “لا، حتَّى يختتنَ”. ثم قال: لا يثبت، لأن إسناده مجهول (3).
(الوجه السَّادس): ما رواه وَكِيعٌ عن سالم أبي العلاء المُرَادِيِّ، عن عَمْرو بن هرم، عن جابر بن زيد، عن ابن عبَّاس، قال: الأقْلَفُ لا تُقْبَلُ له صلاةٌ (4)، ولا تُؤكَل ذَبِيحَتُه (5).
وقال الإمام أحمد: حدّثنا محمَّد بن عبيد عن سالم المرادي، عن
_________
(1) سنن البيهقي: 8/ 324.
(2) رواه ابن المنذر في الإشراف: 3/ 424، والبيهقي: 8/ 324
(3) انظر: الإشراف: 3/ 424،.
(4) الأقلف لا تقبل له صلاة. ساقط من “ج”.
(5) أخرجه عبدالرزاق: 4/ 483، ومن طريقه أخرجه البيهقي في السنن: 8/ 325، وفي شعب الإيمان: 6/ 396. قال ابن التركماني: فيه مجهول. وقال ابن عبدالبر: لا يثبت. وانظر: فتح الباري: 9/ 637.
(الكتاب/239)
عَمْرو بن هرم، عن جابر بن زيد، عن ابن عبَّاس: لا تُؤكَلُ ذبيحةُ الأقْلَفِ (1).
وقال حَنْبَل في “مسائله”: حدّثنا أبُو عُمَر الحَوضيّ (2)، حدّثنا هَمَّام، عن قَتَادَة، عن عِكْرِمَة، قال: لا تؤكل ذبيحة الأقْلَف (3).
قال: وكان الحَسَنُ لا يرى ما قال عِكْرِمَة (4). قال: وقيل لعِكْرِمَة: ألَه حجٌّ؟ قال: لا (5).
قال حَنْبَل: قال أبو عبد الله: لا تُؤكَل ذبيحتُه، ولا صلاةَ له، ولا حجَّ حتى يطَّهر، وهو من تمام الإسلام (6).
قال حَنْبَل: وقال أبو عبد الله: الأقْلَفُ لا يَذْبَحُ، ولا تُؤْكَلُ ذبيحتُه، ولا صلاةَ له.
وقال عبد الله بن أَحْمَد: حدّثني أبي، حدّثنا إسماعيلُ بنُ إبراهيم، حدّثنا سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قَتَادَة، عن جابر بن زيد، عن
ابنِ عبَّاس، قال: الأقْلَفُ لا تحلُّ له صلاةٌ، ولا تُؤكل له ذبيحةٌ،
_________
(1) الأثر ساقط من “ج” سندًا ومتنًا. وأخرجه الخلال في الترجل ص 86.
(2) في”ب”: الحرزي، وفي “ج”: الحرضي.
(3) انظر: مسائل الإمام أحمد وإسحاق: 9/ 4759.
(4) “قال: وكان الحَسَن لا يرى ما قال: عِكْرِمَة”. ساقط من “أ”.
(5) انظر: المصنف لعبد الرزاق: 11/ 175.
(6) أخرجه الخلال في الترجل برقم (178).
(الكتاب/240)
ولا تجوز له الشهادة (1).
قال قَتَادَة: وكان الحَسَنُ لا يرى ذلك (2).
(الوجه السَّابع): أنَّ الختانَ من أظْهَرِ الشَّعائرِ (3) التي يُفَرَّقُ بها بين المُسْلِم والنَّصرانيِّ (4)، فوجوبُه أظهرُ من وجوبِ الوترِ، وزكاةِ الخيل، ووجوبِ الوضوء على من قَهْقَهَ في صلاته، ووجوبِ الوضوء على من احْتَجَمَ أو تقيَّأ أو رَعَفَ، ووجوبِ التيمم إلى المِرْفَقَيْنِ، ووجوبِ الضَّربتين على الأرض، وغير ذلك، ممَّا وجوبُ الختان أظْهَرُ مِن وُجُوبِه وأقوَى، حتى إن المُسْلِمين لا يكادون يعدُّون الأقْلفَ منهم.
ولهذا ذهب طائفةٌ من الفقهاء إلى أنَّ الكبيرَ يجبُ عليه أن يختتنَ
_________
(1) انظر: مسائل الإمام أحمد، رواية عبدالله: 1/ 151، والترجّل للخلال ص 84.
(2) انظر: المصنف لعبد الرزاق: 11/ 175. وقال ابن المنذر في الإشراف
3/ 434 – 435: “اختلفوا في أكل ذبيحة الأقلف؛ فممن قال لا تؤكل ذبيحته: ابن عباس والحسن البصري. وقد اختلف فيه على الحسن. وقال حماد بن أبي سلمان: لا بأس به، وهو يشبه مذهب الشافعي، وبه قال أبو ثور وعوام أهل الفتيا من علماء الأمصار. وبه نقول؛ لأن الله تعالى لما أباح ذبائح أهل الكتاب، وفيهم من لا يختتن؛ كانت ذبيحة المسلم الذي ليس بمختون أوْلى، قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}، وهذا داخل في جملة ذلك”.
(3) في “أ”: الشرائع.
(4) انظر: أعلام الحديث للخطابي: 3/ 2154.
(الكتاب/241)
ولو أدَّى إلى تَلَفِه، كما سنذكره في الفصل الثاني عشر إن شاء الله تعالى.
(الوجه الثامن): أنَّه قطعٌ شُرِعَ لله، لا تُؤْمَنُ سِرَايَتُهُ (1)، فكان واجبًا كقطع يد السَّارقِ.
(الوجه التاسع): أنه يجوز كَشْفُ العورةِ له لغير ضرورةٍ ولا مداواةٍ، فلو لم يجب لما جازَ، لأنَّ الحرامَ لا يُلْتَزَمُ للمحافَظَةِ على المسْنُونِ (2).
(الوجه العاشر): أنَّه لا يُسْتَغْنَى فيه عن تَرْكِ وَاجِبَيْنِ وارتكابِ محظُورينِ، أحدهما: كشفُ العورةِ في جانبِ المختونِ، والنظرُ إلى عورةِ الأجنبيِّ في جانب الخاتنِ. فلو لم يكن واجبًا لما كان (3) قد تُرِك له واجبانِ وارتُكِبَ محظُورانِ.
(الوجه الحادي عشر): ما احتج به الخَطَّابيُّ قال: “أمَّا الختانُ، فإنه ــ وإن كان مذكورًا في جملة السُّنَنِ ــ فإنَّه عند كثير من العلماء على الوجوب، وذلك أنَّه شعارُ الدِّين، وبه يُعْرَفُ المُسْلِمُ من الكافرِ، وإذا وُجِدَ المختونُ بين جماعةٍ قَتْلَى غير مختتنينَ: صُلِّي عليه، ودُفِن في
_________
(1) قال في المصباح المنير 1/ 257: سرى الجرحُ إلى النفس، معناه دام ألمُه حتى حدث منه الموت. وقطع كفَّه فسرى إلى ساعده: أي تعدَّى أثرُ الجرح.
(2) انظر: نهاية المطلب للجويني: 17/ 355، والمجموع للنووي: 1/ 164، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/ 100، وأعلام الحديث للخطابي: 3/ 2154، وشرح صحيح مسلم للقاضي عياض: 2/ 65.
(3) في (ب، ج): فلو لم يكن واجبًا لكان.
(الكتاب/242)
مقابر المُسْلِمين” (1).
(الوجه الثاني عشر): أن الوليَّ يُؤْلِمُ فيه الصبيَّ، ويُعَرِّضُهُ للتَّلَف بالسِّرَايَةِ، ويُخرِج من ماله أجرةَ الخاتنِ وثمنَ الدواءِ، ولا يضمنُ سِرَايَتَهُ بالتَّلف، ولو لم يكن واجبًا لما جاز ذلك؛ فإنَّه لا يجوز له إضاعةُ مالِه وإيلامُهُ الألمَ البالغَ، وتعريضُه للتَّلَف بفِعلِ ما لا يجبُ فِعْلُه، بل غايتُه أن يكونَ مستحبًّا. وهذا ظاهرٌ بحمد الله.
(الوجه الثالث عشر): أنَّه لو لم يكن واجبًا لما جاز للخاتن الإقدامُ عليه، وإن أَذِنَ فيه المختونُ أو وليُّه؛ فإنه لا يجوز الإقدامُ على قَطْعِ عضوٍ لم يأمرِ اللهُ ورسولُه بقَطْعِهِ، ولا أوجبَ قَطْعَهُ (2)، كما لو أذِن له في قَطْعِ أُذُنِه أو إصْبعِه، فإنه لا يجوز له ذلك، ولا يَسْقُطُ الإثمُ عنه بالإذْنِ، وفي سقوط الضَّمانِ عنه نزاعٌ (3).
(الوجه الرابع عشر): أنَّ الأقْلَفَ معرَّضٌ لفَسَادِ طَهَارتِهِ وصلاتِه، فإن القُلْفَة تستر الذَّكَرَ كلَّه، فيصيبُها البَوْلُ، ولا يمكن الاسْتِجْمَارُ لها. فصحَّةُ الطهارةِ والصلاةِ موقوفةٌ على الختانِ. ولهذا مَنَعَ كثيرٌ من
_________
(1) انظر: معالم السنن للخطابي: 1/ 42 مع مختصر المنذري وشرح ابن القيم.
(2) انظر: نهاية المطلب للجويني: 17/ 355، والمجموع للنووي: 1/ 164 – 165.
(3) انظر: مجمع الضمانات للبغدادي: 1/ 136 – 137، وبدائع الصنائع للكاساني: 7/ 236 – 237، وفتح القدير لابن الهمام: 7/ 206، والشرح الكبير للدردير: 4/ 213، ونهاية المحتاج للرملي: 7/ 248 – 296، والإقناع للحجاوي: 4/ 147.
(الكتاب/243)
السَّلَف والخَلَف إمامتَهُ وإنْ كان معذورًا في نفْسِهِ، فإنَّه بمنزلة مَن به سَلَسُ البَوْلِ ونحوه.
فالمقصود بالختان: التحرُّزُ من احتباسِ البولِ في القُلْفَةِ، فتفسد الطهارةُ والصلاةُ. ولهذا قال ابن عبَّاس ـ فيما رواه الإمام أَحْمَد وغيره ـ: لا تُقْبَلُ لهُ صلاةٌ. ولهذا يَسقطُ بالموتِ؛ لِزَوَالِ التَّكْلِيفِ بالطَّهارةِ والصَّلاةِ.
(الوجه الخامس عشر): أنه شعار عُبَّاد الصَّليبِ وعُبَّاد النَّار الذين تميَّزوا به عن الحُنَفَاء، والختانُ شعارُ الحنفاءِ في الأصل، ولهذا أوَّل من اختتن إمامُ الحنفاء، وصار الختانُ شِعارَ الحنيفيَّة، وهو ممَّا توارثه بنو إسماعيلَ وبنو إسرائيلَ عن إبراهيمَ الخليلِ – صلى الله عليه وسلم -، فلا يجوز مُوَافَقَةُ عُبَّادِ الصَّليبِ القُلْفِ في شعارِ كُفْرِهم وتَثْلِيثِهمْ.
فصل
قال المُسْقِطُونَ لوجوبه:
قد صرَّحت السنَّة بأنه سنَّةٌ، كما في حديث شدَّاد بنِ أوْسٍ، عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “الخِتَانُ سُنَّةٌ للرِّجَالِ، مَكْرُمَةٌ للنِّسَاءِ”. رواه الإمام أَحمد (1).
_________
(1) في المسند: 5/ 75، وفي طبعة الرسالة: 34/ 319، وابن أبي شيبة في المصنف: 6/ 223، وفي الأدب برقم (186)، والخلال في الترجل ص 88 برقم (192)، والطبراني في الكبير: 7/ 329، والبيهقي في السنن: 8/ 325، وفي معرفة السنن والآثار برقم (4369) قال: “ولا يثبت رفعه، ورواه الحجاج بن أرطاة من وجهين آخرين ولا يثبت”، وابن عدي في الكامل: 1/ 44. وقال ابن الملقن البدر المنير 8/ 743 ـ 745: “هذا الحديث ضعيف بمرة، وهو مروي من طرق” ثم ذكر طرقه. وانظر: فتح الباري: 10/ 341.
(الكتاب/244)
قالوا: وقد قَرَنَهُ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – بالمسْنُونَاتِ دُوْنَ الوَاجبَاتِ، وهي: الاسْتِحْدَادُ، وقَصُّ الشَّاربِ، وتَقْلِيمُ الأظْفَارِ، ونَتْفُ الإبْطِ.
قالوا: وقال الحَسَنُ البَصْريُّ: قد أسلمَ مع رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – الناس: الأسودُ، والأبيضُ، والرُّوميُّ، والفَارِسيُّ، والحَبَشِيُّ، فما فتَّشَ أحَدًا منهم، أو ما بَلَغَنِي أنَّه فتَّش أحدًا منهم (1).
وقال الإمام أَحْمَد: حدّثنا المعتمر، عن سَلْم بن أبي الذَّيال (2)، قال: سمعت الحَسَنَ يقول: يا عجبًا لهذا الرجل ـ يعني أَميرَ البصرةِ ـ لقي أشياخًا من أهل كسكر (3)، فقال: ما دينكم؟ قالوا: مُسْلِمين، فأمَرَ بِهِمْ فَفُتِّشُوا، فوُجِدُوا غيرَ مختُونينَ، فَخُتِنُوا في هذا الشِّتاءِ، وقد بَلَغَنِي أنَّ بعضَهم ماتَ! وقد أَسْلَمَ معَ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: الرُّومِيُّ، والفارسيُّ، والحبشيُّ،
_________
(1) أخرجه الخلال في الترجل برقم (182)، وابن هانئ في المسائل: 2/ 151.
(2) في “ج”: سالم بن أبي الدنيا. وفي “ب”: سالم بن أبي الزياد. في “أ، د”: سالم بن أبي الذيال. والتصويب من التهذيب للمزي ومراجع التخريج.
(3) في “أ”: لبكر. وفي “ب”: كيكم. و (كسكر): بلدة في بلاد فارس. وهي معرَّب كاشتكار، ومعناه عامل الزرع.
(الكتاب/245)
فما فتَّش أحدًا منهم (1).
قالوا: وأمّا اسْتِدْلَالُكُمْ بقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} فالملَّةُ هي الحَنِيْفيَّةُ، وهي التَّوحِيْدُ، ولهذا بيَّنهَا بقَوْلِهِ: {حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل/ 123].
وقال يُوسفُ الصِّدِّيقُ: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف/ 37 ـ 38].
وقال تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران/ 95].
فالملَّةُ في هذا كلِّه هي أصلُ الإيمانِ من التَّوحيدِ والإنابةِ إلى الله، وإخلاصِ الدِّينِ لهُ.
وكان رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – يعلّمُ أصحابَه إذا أَصْبَحُوا أنْ يَقُولُوا: “أَصْبَحْنَا على فِطْرَةِ الإسْلامِ، وكَلِمَةِ الإخْلَاصِ، وَدِيْنِ نبيِّنَا مُحَمَّدٍ ومِلَّةِ أَبِينَا إبْرَاهِيمَ حَنِيْفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المشْرِكينَ” (2).
_________
(1) أخرجه الخلال في كتاب الترجّل برقم (191)، والبخاري في الأدب المفرد، برقم (1251) وفي طبعة دار القلم (76)، وصححه الألباني في صحيح الأدب برقم (947).
(2) أخرجه الإمام أحمد: 3/ 406 وفي طبعة الرسالة: 24/ 77، والدارمي في السنن، كتاب الاستئذان، باب ما يقول إذا أصبح: 2/ 292، والنسائي في عمل اليوم والليلة ص 134 برقم (3)، والطبراني في الدعوات الكبير برقم (26 و 27)، وابن السني في عمل اليوم والليلة، ص 20 برقم (34). قال الهيثمي في المجمع 10/ 116: “رواه أحمد والطبراني، ورجالهما جال الصحيح”. وقال الحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار 2/ 402: “رجاله محتج بهم في الصحيح، إلا عبدالله بن عبدالرحمن وهو حسن الحديث”.
(الكتاب/246)
قالوا: ولو دخلت الأفعالُ في الملَّة، فمُتَابَعَتُهُ فيها أن تُفْعَلَ على الوَجْهِ الذي فَعَلَهُ، فإنْ كان فَعَلَها على سبيلِ الوجوبِ، فاتِّباعُه أن يَفْعَلَها كذلك، وإن كان فَعَلَها على وجه النَّدْبِ، فاتِّباعُه أن يفعلَها على وجه النَّدْبِ (1). فليس معكم حينئذٍ إلا مجرَّدُ فِعْلِ إبراهيمَ، والفِعْلُ هل هو على الوجوبِ أو النَّدْبِ؟ فيه النزاع المعروف. والأقوى: أنه إنَّما يدلُّ على النَّدبِ إذا لم يكن بيانًا لواجبٍ، فمتى فعَلْنَاهُ على وجْهِ النَّدبِ كنا قد اتَّبعناهُ.
قالوا: وأمَّا حديثُ عُثَيْمِ بنِ كُلَيْب، عن أبيهِ، عن جَدِّهِ: “أَلْقِ عنْكَ شَعْرَ الكُفْرِ واخْتَتِنْ” (2)، فابنُ جُرَيْجٍ قال فيه: أُخبرتُ عن عُثَيْمِ ابنِ كُلَيب.
قال أبو أحمد بنُ عَدِيٍّ: هذا الذي قالَ ابن جُرَيْج في هذا الإسناد:
_________
(1) انظر: الاستذكار لابن عبدالبر: 10/ 20.
(2) تقدم فيما سبق، ص (238).
(الكتاب/247)
ــ أُخبرت عن عُثيم بن كُليب ــ إنما حدَّثه إبراهيم بن أبي يحيى، فكنَّى عن اسمه. وإبراهيمُ هذا مُتَّفَقٌ على ضَعْفِهِ بين أهْلِ الحديثِ، ما خلا الشّافِعيّ وَحْدَهُ (1).
قالوا: وأمَّا مُرْسَلُ الزُّهْرِيّ عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – “مَنْ أَسْلَمَ: فَلْيَخْتَتِنْ وإنْ كانَ كَبِيْرًا” (2). فمَراسيلُ الزُّهْرِيّ عندَهُمْ مِنْ أضْعَفِ المراسِيْلِ، لا تصلحُ للاحتجاجِ.
قال ابنُ أبي حَاتمِ: حدّثنا أَحْمَد بنُ سِنَان، قال: كان يحيى بنُ سعيد القَطَّان لا يرى إرسال الزُّهْرِيّ وقَتَادَةَ شيئًا، ويقول: هو بمنزلةِ الرِّيح (3).
وقُرِئَ على عبَّاس الدُّوريِّ، عن يحيى بن مَعِيْن، قال: مَراسيلُ الزُّهْرِيّ ليست بشيء (4).
قالوا: وأمَّا حديثُ مُوسَى بنِ إسماعيلَ بنِ حفْصٍ عن آبائِه، فحديثٌ لا يُعْرَفُ، ولم يَرْوِه أهلُ الحديثِ، ومَخْرَجُهُ من هذا الوجهِ وحدَه تفرَّدَ به موسى بنُ إسماعيلَ عن آبائه بهذا السَّنَدِ، فهو نَظِيْرُ أمثاله من الأحاديث التي تفرَّد بها غيرُ الحفَّاظِ المعروفينَ بِحَمْلِ الحديث.
_________
(1) الكامل لابن عدي: 1/ 220. وانظر: تهذيب الكمال: 5/ 124.
(2) تقدم فيما سبق، ص (138). والمرسل هو الحديث الذي يرفعه التابعي إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -.
(3) انظر: تقدمة المعرفة لكتاب الجرح والتعديل، ص (246) كتاب المراسيل لابن أبي حاتم، ونصب الراية للزيلعي: 3/ 422 ـ 423.
(4) انظر: تهذيب التهذيب لابن حجر: 9/ 398.
(الكتاب/248)
قالوا: وأمَّا حديث أبي بَرْزَةَ، فقال ابن المُنْذِر: حدّثنا يحيى بن محمَّد، حدّثنا أَحْمَد بن يونس، حدَّثَتْنَا أمُّ الأسود، عن منية، عن جَدِّها أَبي بَرْزَةَ … فذكره (1).
قال: ابن المُنْذِر هذا إسنادٌ مجهولٌ لا يَثْبُتُ. (2)
قالوا: وأمَّا استدلالُكُمْ بقَولِ ابنِ عبَّاسٍ: “الأقْلَفُ لا تُؤكَلُ ذَبيحتُه ولا تُقبَلُ له صلاةٌ” فقولُ صحابيٍّ تفرَّدَ به.
قال أَحْمَد: وكان يشدِّد فيه، وقد خالفَه الحَسَنُ البصريُّ وغيرُه.
وأمَّا قولُكم: “إنه من الشَّعائر”. فصحيحٌ لا نزاعَ فيه، ولكنْ ليس كلُّ ما كان مِن الشعائرِ يكون واجبًا.
فالشعائرُ منقسمةٌ إلى واجبٍ: كالصلواتِ الخمسِ، والحجِّ، والصِّيامِ، والوُضُوءِ، وإلى مُسْتَحَبٍّ: كالتَّلبِيَةِ، وسَوْقِ الهَدْي وتَقْلِيدِه، وإلى مختلَفٍ فيه: كالأذانِ، والعيدينِ، والأُضحيةِ، والختَانِ.
فمن أين لكم أنَّ هذا مِنْ قِسْمِ الشَّعائرِ الواجبةِ؟
وأمَّا قولُكم: “إنه قطعٌ شُرِعَ لله لا تُؤمَن سِرَايَتُهُ، فكان واجبًا كقَطْعِ يَدِ السَّارقِ” فمِنْ أَبْرَدِ الأَقْيِسَةِ!
_________
(1) انظر فيما سبق ص 239.
(2) انظر: الإشراف على مذاهب أهل العلم لابن المنذر: 3/ 424.
(الكتاب/249)
فأين الختانُ من قَطْعِ يدِ اللصِّ؟ فيا بُعْدَ ما بينَهما!
ولقد أَبْعَدَ النُّجْعَةَ مَنْ قاسَ أحدَهما على الآخَرِ، فالختانُ إكْرَامُ المختونِ، وقطعُ يدِ السَّارقِ عُقُوبةٌ له، وأينَ بابُ العقوباتِ من أبوابِ الطَّهاراتِ والتَّنظيف؟!
وأمَّا قولُكم: “يجوزُ كشفُ العورةِ لهُ لغيرِ ضَرورةٍ ولا مُداواةٍ فكان واجبًا”.
لا يلزمُ من جَوازِ كَشْفِ العَوْرةِ له وُجُوبُه، فإنَّه يجوز كَشْفُهَا لغير الواجبِ إجماعًا، كما تُكْشَفُ لنَظَرِ الطبيبِ ومُعَالجَتِه، وإنْ جازَ تَرْكُ المعالجةِ.
وأيضًا: فوَجْهُ المرأةِ عورةٌ في النَّظَرِ، ويجوزُ لها كَشْفُهُ في المعَامَلَةِ التي لا تجبُ، ولِتَحَمُّلِ الشهادةِ عليها حيثُ لا تجبُ.
وأيضًا: فإنَّهم جوَّزوا لغاسلِ الميِّت حَلْقَ عَانَتِهِ، وذلك يستلزمُ كَشْفَ العورةِ أو لمسها لغير واجبٍ.
وأمَّا قولكم: “إنَّ به يُعرف المُسْلِمُ من الكافرِ، حتى إذا وُجِدَ المختونُ بين جماعةٍ قتلى غير مختونين صُلِّيَ عليه دُوْنَهم”.
(الكتاب/250)
ليس كذلك؛ فإنَّ بعضَ الكفَّار يختتنونَ، وهمُ اليهودُ، فالختانُ لا يميِّز بين المُسْلِمِ والكافِرِ إلا إذا كان في محلٍّ لا يَخْتَتِنُ فيه إلا المُسْلِمونَ، وحينئذٍ يكونُ فرقًا بين المُسْلِم والكافر. ولا يلزمُ من ذلك وجوبُه، كما لا يلزمُ وجوبُ سائرِ ما يفرِّق بين المُسْلِم والكافرِ.
وأمَّا قولُكم: “إن الوليَّ يُؤلِمُ فيه الصبيَّ، ويُعرِّضهُ للتَّلَفِ بالسِّرايَةِ ويُخْرِجُ من مَالِه أُجْرَةَ الخَاتِنِ وثَمَنَ الدَّوَاءِ”.
فهذا لا يدلُّ على وُجُوبِه، كما يُؤلمهُ بضَرْبِ التَّأديبِ لمصلحتِه، ويُخْرِجُ مِن ماله أُجرةَ المؤدِّب والمعلِّم، وكما يضحِّي عنه.
قال الخَلّال: “باب الأُضحية عن اليتيم” أخبرني حَرْبُ بنُ إسماعيلَ قال: قلت لأَحْمَدَ: يُضحَّى عن اليتيم؟ قال: نعم، إذا كان له مالٌ. وكذلك قال سفيان الثَوْريُّ.
قال جعفر بن محمَّد النَّيسَابُورِيُّ: سمعتُ أبا عبدِ الله يُسألُ عن وصيِّ يتيمةٍ يَشْتَرِي لها أُضْحِيَةً؟ قال: لها مالٌ؟ قال: نعم، قال: يشتري لها.
وقولُكم: “لو لم يكن واجبًا لما جاز للخاتن الإقدامُ عليه … ” إلى آخره.
ينتقض بإقدامه على قَطْع السِّلْعَةِ (1)، والعُضْوِ التَّالف، وقَلْعِ السنِّ،
_________
(1) السِّلْعَة: خُرَّاج كهيئة الغُدّة بين الجلد واللحم، تخرج في رأس الإنسان وجسده. قال الأطباء: هي ورم غليظ غير ملتزق باللحم، يتحرك عند تحريكه، كأنه منفصل عن البدن، وله غلاف،. أما السَّلعة ـ بالفتح ـ فهي الشجّة. قال الفقهاء: يجوز قطعها عند الأمن. انظر: التنوير في الاصطلاحات الطبية للقمَري، ص 32، والزاهر في غريب ألفاظ الشافعي للأزهري، ص 503، والمصباح المنير للفيومي: 1/ 285.
(الكتاب/251)
وقَطْعِ العُروق، وشَقِّ الجلد للحجامة والتَّشْريْطِ. فيجوز الإقدام على ما يُباح للرجل قَطْعُه فضلًا عما يُستحبُّ له ويُسنُّ، وفيه مصلحةٌ ظاهرة.
وقولُكم: “إن الأقلَف معرَّضٌ لفسادِ طهارتِه وصلاتِه”.
فهذا إنما يُلام عليه إذا كان باختياره. وما خرج عن اختياره وقدرته لم يُلَمْ عليه، ولم تفسد طهارتُه؛ كسَلَسِ البول والرّعَاف، وسَلَسِ المَذِي، فإذا فعل ما يقدر عليه من الاستجمار والاستنجاء، لم يؤاخَذْ بما عَجَزَ عنه.
وقولُكم: “إنَّه من شِعار عُبَّاد الصُّلْبان، وعبَّاد النيرانِ، فموافقتُهم فيه موافقةٌ في شِعار دينهِم”.
جوابه: أنهم لم يتميَّزوا عن الحُنَفَاءِ بمجرَّد تَرْك الختان، وإنما امتازوا بمجموع ما هم عليه من الدِّين الباطل. ومُوافقةُ المُسْلِمِ لهم في تَرْكِ الختانِ لا يسْتلزمُ موافقتَهم في شعار دينهم الذي امتازوا به عن الحنفاء.
(الكتاب/252)
قال الموجبون: الختان عَلَمُ الحنيفيَّة، وشعارُ الإسلامِ، ورأسُ الفِطْرَةَ، وعُنْوانُ المِلَّةِ، وإذا كان النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – قد قال: “مَنْ لم يأْخُذْ شَارِبَهُ فليسَ منَّا” (1). فكيف يكون (2) من عطَّل الختان، ورضي بشعار القُلْفِ عُبَّادِ الصُّلْبانِ؟
ومن أظهر ما يفرّق بين عُبَّاد الصلبان وعُبَّاد الرَّحمن: الختانُ، وعليه استمرَّ عمل الحنفاءِ من عهد إمامِهم إبراهيمَ إلى عهد خاتَمِ الأنبياء، فبُعِثَ بتكميل الحنيفية وتقريرها، لا بتحويلها وتغييرها.
ولما أمر الله ـ تعالى ـ به خَليلَهُ، وعَلِمَ أنَّ أَمْرَهُ المطاعُ؛ وأنّه لا يجوز أن يُعَطَّل ويُضَاعَ؛ بَادرَ إلى امتثالِ ما أمرَ بهِ الحيُّ القيُّومُ، وختنَ نفْسَه بالقدُّوم، مبادرةً إلى الامتثال؛ وطاعةً لذي العزَّة والجلالِ، وجعَله فطرةً باقيةً في عَقِبِهِ إلى أن يَرِثَ الأرضَ ومَنْ عليها، ولذلك (3) دعا جميعُ الأنبياءِ مِن ذُرِّيَّتهِ أُممَهُمْ إليها حتَّى عبدُ الله ورسولُه وكلمتُه ابنُ العذراءِ
_________
(1) أخرجه الترمذي في الأدب، باب ما جاء في قص الشارب: 5/ 93، وقال: “هذا حديث حسن صحيح”. والنسائي في الطهارة، باب قص الشارب: 1/ 15 برقم (13) وبرقم (4962)، والإمام أحمد: 1/ 15، وصححه ابن حبان برقم (5596)، ورواه أيضًا: عبدبن حميد 266)، والطبراني في الأوسط (529 و 8112)، والطحاوي في مشكل الآثار (1152).
(2) ساقط من “ب، ج”.
(3) في “أ”: كذلك.
(الكتاب/253)
البَتُولِ، فإنَّه اختتنَ متابعةً لإبراهيمَ الخليلِ؛ والنَّصارى تُقِرُّ بذلك، وتعترفُ أنَّه مِنْ أحكامِ الإنْجِيْلِ، ولكنِ اتَّبَعُوا أهواء قومٍ قد ضلُّوا مِن قَبْلُ وأضلُّوا كثيرًا وضلُّوا عن سواءِ السَّبيلِ.
حتى لقد أذَّن عالِمُ أهلِ بيتِ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – عبدُ اللهِ بنُ عبَّاس أذانًا سمعه الخاصُّ والعامُّ: أن من لم يختتن فلا صلاة له؛ ولا تُؤكل ذبيحته (1)؛ فأخرجه من جملة أهل الإسلام.
ومِثْلُ هذا لا يُقال لتارك أَمْرٍ هو بَيْنَ تَرْكِه وفِعْلِه بالخيار؛ وإنَّما يُقال لما عُلِم وجوبُه علمًا يَقْرُبُ من الاضطرار؛ ويكفي في وجوبه أنَّه رأس خصال الحنيفيَّة التي فَطَرَ اللهُ عِبَادَه عليها، ودعتْ جميع الرُّسل إليها، فتاركُهُ خارجٌ عن الفطرة التي بعث اللهُ رسُلَهُ بتكميلها؛ وموضِعٌ (2) في تعطيلها، مؤخِّرٌ لما يستحقُّ التقديم، راغبٌ عن مِلَّة أبيه إبراهيمَ: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة/ 131 ـ 132].
فكما أنَّ الإسلامَ رأسُ الملَّة الحنيفيَّة وقوامُها، فالاستسلامُ لأمْرِهِ كمالُهَا وتمَامُهَا.
_________
(1) انظر فيما سبق، ص (239).
(2) أي مسرع.
(الكتاب/254)
فصل
وأمَّا قولُه في الحديث: “الخِتَانُ سنَّةٌ للرِّجالِ مَكْرُمَةٌ للنِّساءِ”.
فهذا حديث يُرْوَى عنِ ابنِ عبَّاسٍ بإسنادٍ ضعيفٍ. والمحفوظُ أنَّه موقوفٌ عليه.
ويُرْوَى أيضًا عن الحجَّاج بن أرْطَاة ـ وهو ممن لا يُحتجُّ به ـ عن أبي المليح ابن أُسامةَ، عن أبيه، عنه. وعنه عن مَكْحُولٍ، عن أبي أيوب، عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرَهُ.
ذكر ذلك كلَّه البَيْهَقِيُّ، ثم ساق عن ابن عبَّاس: أنه لا تُؤكلُ ذبيحةُ الأقْلَفِ، ولا تُقْبَل صلاتُه، ولا تجوزُ شهادتُه.
ثم قال: وهذا يدلُّ على أنَّه كان يُوجِبُهُ، وأنَّ قولَه: “الختان سنة” أراد به سنَّةَ النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، وأنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – سنَّهُ وأَمَرَ به فيكونُ واجبًا. انتهى (1).
والسنَّةُ: هي الطريقة، يقال: سننت له كذا: أي شرعت. فقوله: “الختانُ سنَّة للرِّجَالِ” أي مشروعٌ لهم، لا أنه (2) نَدْبٌ غيرُ واجبٍ.
فالسُّنَّةُ: هي الطريقةُ المتَّبَعَةُ وجوبًا واستحبابًا، لقوله- صلى الله عليه وسلم -: “مَنْ رَغِبَ
_________
(1) أي النقل من البيهقي. انظر: السنن: 8/ 325.
(2) في “أ”: إلا أنه.
(الكتاب/255)
عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي” (1). وقوله: “عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِيْنَ مِنْ بَعْدِي” (2).
وقال ابن عبَّاس: من خالف السنة كَفرَ (3).
وتخصيصُ السنَّةِ بما يجوز تَرْكُه اصطلاحٌ حادثٌ، وإلا فالسنَّة ما سَنَّه رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – لأمته من واجبٍ ومستحبٍ. فالسنَّةُ: هي الطريقةُ، وهي الشِّرْعَةُ، والمِنْهَاجُ، والسَّبيلُ (4).
_________
(1) أخرجه البخاري في النكاح، باب الترغيب في النكاح: 9/ 104، ومسلم في باب استحباب النكاح: 2/ 1020 برقم (1401).
(2) أخرجه أبو داود في السنة: 7/ 11، 12 (تهذيب المنذري)، والترمذي في العلم: 7/ 438 – 441، وقال: “هذا حديث حسن صحيح”، وابن ماجه في المقدمة: 1/ 16، والدارمي: 1/ 44 – 45، وصححه الحاكم: 1/ 95، ووافقه الذهبي، والإمام أحمد: 4/ 126، 127. وانظر: “جامع العلوم والحكم” لابن رجب ص (243 ـ 244).
(3) انظر: الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية لابن بطة: 1/ 338، جامع العلوم والحكم، الموضع السابق.
(4) راجع في معاني السنة وإطلاقاتها: الكليّات، للكَفَوِيّ: 3/ 9 – 12، كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي: 4/ 53 ــ 57، مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام: 18/ 191، 192، الحجة في بيان المحجة للأصبهاني: 2/ 384، 385، الموافقات للشاطبي: 4/ 3 – 7، السنة ومكانتها في التشريع للدكتور مصطفى السباعي ص (47 ــ 49).
(الكتاب/256)
وأمَّا قولكم: “إنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قَرَنَهُ بالمسْنُونَاتِ”.
فدلالةُ الاقترانِ لا تَقْوَى على مُعَارَضَةِ أدلَّة الوجوبِ (1)، ثم إنَّ الخصالَ المذكورةَ في الحديث، منها ما هو واجبٌ، كالمضمضةِ والاستنشاقِ والاستنجاءِ، ومنها ما هو مستحبٌّ كالسِّواكِ.
وأمَّا تقليمُ الأظفَارِ؛ فإنَّ الظُّفُرَ إذا طالَ جدًّا بحيثُ يجتمعُ تحتَهُ الوَسَخُ: وَجَبَ تقليمُه لصحَّةِ الطَّهارةِ.
وأمَّا قصُّ الشَّارب؛ فالدَّليلُ يقتضي وجوبَه إذا طالَ، وهذا الذي يتعيَّن القولُ به؛ لأمْرِ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – به، ولقوله – صلى الله عليه وسلم -: “مَنْ لم يَأخذْ شاربَه فليس منَّا” (2).
وأمَّا قولُ الحَسَنِ البَصْريِّ: “قد أسلمَ مع رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – الناسُ، فما فتَّشَ أحدًا منهم”.
فجوابه: أنَّهم استغنَوا عن التفتيش بما كانوا عليه من الختان، فإنَّ العرب قاطبةً كلهم كانوا يختتنون، واليهود قاطبة تختتنُ، ولم يَبْقَ إلا النَّصارى. وهم فرقتان: فرقةٌ تختتنُ، وفرقةٌ لا تختتنُ.
وقد عَلِمَ كلُّ من دخلَ في الإسلامَ منهم ومِنْ غيرهم أنَّ شعارَ
_________
(1) في “أ”: دلالة الوجوب.
(2) تقدم قبل قليل ص (253).
(الكتاب/257)
الإسلامِ: الختانُ، فكانوا يُبَادِرُونَ إليه بعد الإسلامِ كما يبادرون إلى الغُسْلِ. ومن كان منهم كبيرًا يشقُّ عليه ويخافُ التَّلفَ: سقطَ عنهُ.
وقد سُئل الإمامُ أَحمدُ عن ذبيحة الأقْلَفِ ـ وذُكِر له حديثُ ابن عبَّاس: لا تؤكل ـ، فقال: ذلك عندي إذا وُلِدَ بين أبَوينِ مُسْلمَينِ فكَبِرَ ولم يختتنْ، وأمَّا الكبيرُ إذا أسلمَ وخافَ على نَفْسه الختانَ، فلهُ عندي رخصةٌ (1).
وأمَّا قولكم: “إنَّ الملَّة هي التوحيدُ”.
فالمِلَّةُ هي الدِّينُ، وهي مجموعةُ أقوالٍ وأفعالٍ واعتقاد، ودخول الأعمال في المِلَّة كدخول الإيمان (2).
فَالمِلَّةُ: هي الفِطْرَةُ وهي الدِّين (3). ومحالٌ أن يأمر الله سبحانه باتِّباعِ إبراهيمَ في مجرَّدِ الكلمةِ دون الأعمالِ وخصالِ الفطرة، وإنما أمر بمتابعته في توحيدِه وأقوالِه وأفعالِه، وهو – صلى الله عليه وسلم – اختتن امتثالًا لأمر ربِّه الذي أمرَه به وابتلاه به، فوفَّاه كما أُمِرَ، فإن لم نفعلْ كما فعلَ، لم نكن متَّبعينَ له.
_________
(1) بنحوه في طبقات الحنابلة: 1/ 206 من رواية عبدالرحمن بن عمرو، أبي زرعة الدمشقي.
(2) في “أ”: لدخول الإيمان.
(3) انظر معاني الملة في: مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني، ص 373، عمدة الحفاظ للسمين الحلبي، ص 550.
(الكتاب/258)
وأمَّا قولُكم: “قد حُكِمَ في حديث عُثَيْمِ بن كُلَيْب، عن أبيه، عن جده بأنه من رواية إبراهيم بن أبي يحيى”.
فالشّافعيُّ كان حَسَنَ الظنِّ به، وغيرُه يضعِّفه، فحديثُه يصلح للاعتضاد بحيث يتقوَّى به، وإن لم يحتجَّ به وحده.
وكذلك الكلامُ في مُرْسَلِ الزُّهْرِيّ، فإذا لم يحتجَّ به وَحْدَهُ، فإنَّ هذه المرفوعاتِ والموقوفاتِ والمراسيلَ يشدُّ بعضها بعضًا.
وكذلك الكلامُ في حديث موسى بنِ إسماعيلَ وشبهه.
وأمَّا قولُكم: “إن ابن عبَّاس تفرَّد بقوله في الأقْلَفِ: لا تُؤكَلُ ذبيحتُه، ولا صلاةَ له”.
فهذا قول صحابيٍّ، وقد احتجَّ الأئمةُ الأربعةُ وغيرهم بأقوال الصحابة، وصرَّحوا بأنها حُجَّة (1)، وبالغ الشّافعيُّ في ذلك، فجعل مخالفتَها (2) بدعةً. كيف ولم يحفظ عن صحابيٍّ خلافُ ابنِ عبَّاس!
ومثل هذا التَّشديدُ والتَّغليظ لا يقولُه عالمٌ مثلُ ابنِ عبَّاسٍ في تَرْكِ مندوبٍ يُخيَّر الرجلُ بين فِعْله وتَرْكه.
_________
(1) انظر: أصول السرخسي: 2/ 105 وما بعدها، إعلام الموقعين عن رب العالمين للمصنف: 1/ 29 وما بعدها، و 4/ 120 ـ 165.
(2) في “أ”: مخالفها.
(الكتاب/259)
وأمَّا قولكم: “إنَّ الشَّعائر تنقسمُ إلى مستحبٍّ وواجبٍ”.
فالأمر كذلك، ولكنْ مِثْلُ هذا الشِّعارِ العظيمِ الفارقِ بين عُبَّادِ الصليبِ وعُبَّاد الرَّحمنِ الذي لا تتمُّ الطهارةُ إلا به، وتَرْكُه شِعارُ عُبَّاد الصَّليبِ، لا يكونُ إلا من أعْظَمِ الواجباتِ.
وأمِّا قولُكم: “أين بابُ العقوباتِ من باب الخِتَان؟ “
فنحن لم نجعل ذلك أصلًا في وجوب الختان، بل اعْتَبَرْنَا وجوبَ أحدِهما بوجوبِ الآخرَ، فإنَّ أعضاء المُسْلِم وظَهْرَهُ ودمَهُ حمًى إلَّا مِنْ حدٍّ أو حقٍّ، وكلاهما يتعيَّن إقامتُه، ولا يجوز تعطيلُهُ.
وأمَّا كَشْفُ العورةِ له، فلو لم تكن مصلحتُه أرجحَ من مفسدة كَشْفِها والنظرِ إليها ولمسِهَا، لم يجز ارتكابُ ثلاثِ مفاسدَ عظيمةٍ لأمرٍ مندوبٍ يجوزُ فعْلُه وتَرْكُهُ.
وأمَّا المداواةُ، فتلك من باب (1) الحياةِ وأسبابِها التي لا بدَّ للبِنْيَةِ منها، فلو كان الختان من باب المندوبات لكان بمنزلة كَشْفِها لما لا تدعو الحاجةُ إليه، وهذا لا يجوز.
وأمَّا قولُكم: “إنَّ الوليَّ يُخرِج من مال الصبيِّ أجرةَ المعلِّمِ والمؤدِّبِ”.
_________
(1) في (ب، ج): تمام.
(الكتاب/260)
فلا رَيبَ أنَّ تعليمَه وتأديبَه حقٌّ واجبٌ على الوليِّ، فما أخرجَ مالَه إلا فيما لا بُدَّ له منه في صلاحه في دنياهُ وآخرتِهِ، فلو كان الختانُ مندوبًا محضًا لَكَانَ إخراجُه بمنزلةِ الصَّدقةِ التَّطوّعِ عنه، وبذْلِه لمن يحجُّ عنه حجَّ (1) التَّطوّعِ ونحو (2) ذلك.
وأمَّا الأضحيةُ عنه، فهي مختلَفٌ في وجوبها، فمَنْ أوجبها لم يُخْرِج مالَه إلا في واجبٍ، ومن رآها سنَّةً قال: ما يحصلُ بها من جَبْرِ قَلبِه والإحسانِ إليه وتَفْريحِه أعظمُ من بقاءِ ثمنِها في مِلْكه (3).
_________
(1) في (ب، ج): حجة.
(2) في “أ”: يجوز.
(3) انظر: المغني لابن قدامة: 13/ 361، وجامع أحكام الصغار للأسروشني: 2/ 185 ـ 186.
(الكتاب/261)
الفصل الخامس
في وقتِ وجوبهِ
ووقتُه عند البلوغ؛ لأنَّه وقتُ وجوبِ العبادات عليه، ولا يجبُ قبل ذلك (1).
وفي “صحيح البُخَاريّ” من حديث سعيد بن جبير، قال: سُئِلَ ابنُ عبَّاسٍ ــ رضي الله عنهما ــ: مِثْلُ مَنْ أنتَ حين قُبِضَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أنا يومئذٍ مختونٌ. وكانوا لا يختنونَ الرَّجلَ حتى يُدْرِكَ (2).
وقد اختُلِفَ في سنِّ ابنِ عبَّاس عند وفاة النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، فقال الزُّبَير والوَاقِدِيُّ: وُلِد في الشِّعب قبل خروجِ بَنِي هَاشمٍ منه قَبْلَ الهجرةِ بثلاثِ سنينَ، وتُوفِّي رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – وله ثلاثَ عَشْرَةَ سنة.
وقال سعيد بن جُبَير، عن ابن عبَّاس: توفي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأنا ابنُ
_________
(1) انظر: فتح القدير للكمال ابن الهمام: 6/ 46، والكافي في فقه أهل المدينة لابن عبدالبر: 2/ 558، ونهاية المطلب للجويني: 17/ 355، والبيان للعمراني: 2/ 196، والحاوي الكبير للماوردي: 13/ 433 – 434، والمجموع للنووي: 1/ 166، والمغني لابن قدامة: 1/ 115، والإشراف على مذاهب العلماء لابن المنذر: 3/ 424.
(2) أخرجه البخاري في الاستئذان، باب الختان بعد الكِبَر، ونتف الإبط: 11/ 88.
(الكتاب/262)
عشرِ سنينَ، وقد قرأتُ المُحْكَمَ، يعني المفصَّل (1).
قال أبُو عُمَرَ: روينا ذلك عنه من وجوه. قال: وقد رُوِيَ عن ابنِ إسْحَاق عن سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس: قُبِضَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – وأنا خَتِينٌ أو مختونٌ. ولا يصحُّ (2).
قلت: بل هو أصحُّ شيءٍ في الباب، وهو الذي رواه البُخَاريُّ في “صحيحه” كما تقدَّم لفظُه.
وقال عبد الله ابن الإمام أَحمد: حدّثنا أبي، حدّثنا سليمان بن داود، حدّثنا شُعْبَة، عن أبي إسْحَاق قال: سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عبَّاس قال: تُوفِّي رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – وأنا ابنُ خمسَ عشرةَ سنة (3).
قال عبد الله: قال أَبي: وهذا هو الصَّوابُ.
قلت: وفي “الصحيحين” عنه قال: أقبلتُ راكبًا على أَتَانٍ، وأنا يومئذ قد نَاهَزْتُ الاحتلامَ، ورسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – يُصَلِّي بالنَّاس بمِنًى إلى غير جدارٍ،
_________
(1) الاستيعاب لابن عبدالبر: 3/ 66.
(2) انتهى كلام ابن عبدالبر في الاستيعاب، الموضع السابق.
(3) مسند الإمام أحمد: 1/ 373، وفي طبعة الرسالة: 5/ 475 قال المحقق: وهو صحيح على شرط مسلم، وأخرجه الطيالسي برقم (2640)، وصححه الحاكم: 3/ 533، والطبراني: 10/ 235 (10578). قال الهيثمي في المجمع 9/ 285: “رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح”.
(الكتاب/263)
فمررتُ بينَ يدَي بعضِ الصفِّ … الحديث (1).
والذي عليه أكثرُ أهلِ السِّيَرِ والأخبارِ، أنَّ سنَّه كان يوم وفاة النبيّ – صلى الله عليه وسلم – ثلاث عشرة سنة، فإنه وُلِد في الشِّعب، وكان قبل الهجرة بثلاث سنين، وأقام رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – بالمدينة عشرًا، وقد أخبرَ أنّه كان حينئذٍ مختونًا.
قالوا: ولا يجبُ الختانُ قبلَ البُلُوغِ، لأنَّ الصبيَّ ليس أهلًا لوجوبِ العباداتِ المتعلِّقة بالأبدانِ، فما الظنُّ بالجَرْحِ الذي وَرَدَ التَّعَبُّدُ به (2)؟
ولا ينتقضُ هذا بالعِدَّة التي تجبُ على الصغيرةِ، فإنَّها لا مُؤنةَ عليها فيها، إنَّما هي مُضِيُّ الزَّمانِ.
قالوا: إذا بلغ الصبيُّ وهو أَقْلَفُ، أو المرأةُ غير مختونةٍ، ولا عُذْرَ لهما، ألْزَمَهما السُّلطانُ به.
وعندي: أنه يجب على الوليِّ أن يختنَ الصبيَّ قبل البلوِغ بحيثُ
_________
(1) أخرجه البخاري في العلم، باب متى يصح سماع الصغير: 1/ 171، وفي مواضع أخرى، ومسلم في الصلاة، باب سترة المصلي: 1/ 361 برقم (504).
(2) انظر: فتح باب العناية للقاري: 1/ 37، وجُمَلُ الأحكام للنَّاطفي، ص 191، والكافي لابن عبدالبر: 2/ 588، والمقدمات الممهدات لابن رشد:
3/ 447 – 448، ونهاية المطلب للجويني: 17/ 355، والبيان للعمراني: 2/ 196، والحاوي الكبير للماوردي: 13/ 443، والمجموع للنووي: 1/ 166، والمغني لابن قدامة: 1/ 115، والإشراف لابن المنذر: 3/ 424.
(الكتاب/264)
يبلغُ مختونًا، فإنَّ ذلك ممالا يتمُّ الواجبُ إلّا بهِ (1).
وأمَّا قولُ ابنِ عبَّاس: وكانوا لا يختنونَ الرَّجلَ حتى يُدْرِكَ، أي حتى يُقارِبُ البلوغَ، كقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق/2]. وبعد بلوغِ الأجَلِ لا يتأتَّى الإمساكُ، وقد صرَّح ابن عبَّاسٍ أنه كان يومَ موتِ النبيّ – صلى الله عليه وسلم – مختونًا، وأَخْبرَ في حَجَّةِ الوَدَاعِ التي عاشَ بعدها رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – بضعةً وثمانينَ يومًا، أنّه كان قد نَاهَزَ الاحتلامَ، وقد أمر النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – الآباءَ أن يأمُروا أولادَهم بالصَّلاةِ لسبعٍ، وأنْ يَضْرِبُوهُمْ على تَرْكِهَا لِعَشْرٍ (2)، فكيفَ يَسُوغُ لهم تَرْكُ ختانِهم حتى يجاوزوا البلوغ، والله أعلم.
_________
(1) سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن مسلم بالغ عاقل يصوم ويصلي، وهو غير مختون وليس مطهّرًا هل يجوز ذلك؟ ومن ترك الختان كيف حكمه؟
فأجاب: إذا لم يخف عليه ضرر الختان فعليه أن يختتن؛ فإن ذلك مشروع مؤكَّد للمسلمين باتفاق الأئمة. وهو واجب عند الشافعي وأحمد في المشهور عنه. وقد اختتن إبراهيم الخليل عليه السلام بعد ثمانين من عمره. ويُرجع في الضرر إلى الأطباء الثقات، وإذا كان يضره في الصيف أخَّره إلى زمان الخريف. انظر: مجموع الفتاوى: 21/ 114.
(2) عن عبدالملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده قال: قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “مروا الصبيَّ بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها” أخرجه
أبو داود في الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة: 1/ 270 (تهذيب المنذري)، والترمذي في الصلاة، باب متى يؤمر الصبي: 2/ 245، والإمام أحمد: 2/ 180، وفي طبعة الرساله: 11/ 284.
(الكتاب/265)
الفصل السَّادس
في الاختلافِ في كَراهيةِ يومِ السَّابع
وقد اختُلِف في ذلك على قولين، هما روايتان عن الإمام أَحْمَد.
قال الخَلّال: «باب ذكر ختان الصبي» أخبرني عبد الملك بن
عبد الحميد، أنَّه ذَاكَرَ أبا عبدِ الله ختانَ الصبيِّ لِكَم يختتن؟ قال: لا أدري، لم أسمع فيه شيئًا. فقلت له: إنه يشقُّ على الصغير ابن عشر، يغلظ عليه، وذكرتُ له ابني محمَّدًا أنه في خمس سنين، فأشتهي أن أختنه فيها، ورأيته كأنه يشتهي ذلك، ورأيته يكره العشرة لغلظه عليه وشدته.
فقال لي: ما ظننتُ أنَّ الصَّغيرَ يشتدُّ عليه هذا.
ولم أرَهُ يكره للصغير الشَّهر أو السّنةَ، ولم يقلْ في ذلك شيئًا، إلا أنّي رأيتُه يَعْجَبُ من أنْ يكونَ هذا يُؤذي الصَّغيرَ.
قال عبد الملك: وسمعتُه يقولُ: كان الحَسَنُ يكره أن يختتنَ الصبيُّ يوم سابعه.
أخبرنا محمَّد بنُ عليّ السمسار، قال: حدّثنا مهنَّا، قال: سألتُ أبا عبدالله عن الرجلِ يختنُ ابنَه لسبعةِ أيامٍ؟ فكرهه، وقال: هذا فِعْلُ اليَهُودِ! (1)
_________
(1) النص عن مهنا في طبقات ابن أبي يعلى: 3/ 317. انظر: مسائل أحمد برواية صالح: 2/ 206.
(الكتاب/266)
وقال لي أحمدُ بنُ حنبل: كان الحَسَنُ يكرهُ أن يختنَ الرجلُ ابنَهُ لسبعةِ أيامٍ، فقلت: من ذكره عن الحَسَن؟ قال: بعضُ البَصْرِيِّينَ.
وقال لي أَحْمَد: بلغني أنَّ سُفيانَ الثَوْريَّ، سأل سفيانَ بنَ عُيَيْنَة: في كم يُختَنُ الصبيُّ؟ فقال سفيان: لو قلتُ له: في كم خَتَنَ ابنُ عُمَرَ بَنِيه؟ فقال لي أَحمد: ما كان أَكْيَسَ سفيانَ بنَ عُيَينَة، يعني حين قال: لو قلت له: في كم ختن ابنُ عمرَ بَنِيه؟
أخبرني عصمة بن عصام، حدّثنا حَنْبَل، أن أبا عبد الله قال: وإن ختن يوم السَّابع فلا بأس، وإنما كرهه الحَسَنُ كيلا يتشبَّه باليهود، وليس في هذا شيء (1).
أخبرني محمَّد بن علي، حدّثنا صالح أنه قال لأبيه: يُختَنُ الصبيُّ لسبعةِ أيامٍ؟ قال: يُرْوَى عن الحَسَنِ أنه قال: فعل اليهود (2).
قال: وسُئل وَهْبُ بنُ مُنَبِّه عن ذلك؟ فقال: إنما يُستحبُّ ذلك في اليومِ السَّابعِ لخفَّتِه على الصِّبْيَانِ، فإنَّ المولودَ يُولَدُ وهو خَدِرُ الجَسَدِ كلِّه، لا يَجِدُ أَلَمَ ما أصَابَه سبعًا، وإذا لم يختتنْ لذلك، فَدَعُوهُ حتى يَقْوَى.
وقال ابن المُنْذِر (3): «ذكر (4) وقت الختان»:
_________
(1) انظر: طبقات ابن أبي يعلى: 3/ 309.
(2) انظر: مسائل أحمد برواية صالح: 2/ 206.
(3) في الإشراف: 3/ 424. وانظر: المقدمات الممهدات لابن رشد: 3/ 448.
(4) في «أ»: وذكر.
(الكتاب/267)
«وقد اختَلفُوا في وقتِ الخِتَانِ: فكرهتْ طائفةٌ أن يُخْتَنَ الصبيُّ يومَ سابعِه، كَرِهَ ذلك: الحَسَنُ البَصريُّ، ومالكُ بنُ أنسٍ، خلافًا (1) على اليهود.
وقال الثَوْري: هو خطر.
قال مالك: والصوابُ في خلاف اليهود. قال: وعامَّة ما رأيت الختان ببلدنا إذا أَثْغَرَ (2).
وقال أَحْمَدُ بنُ حَنْبَل: لم أسمعْ في ذلك شيئًا.
وقال الليثُ بنُ سعدٍ: الختانُ للغلامِ ما بينَ السَّبع سنينَ إلى العشرةِ.
قال: وقد حُكِيَ عن مَكْحُولٍ أو غيره أنَّ إبراهيمَ خليلَ الرَّحمنِ ختن ابنَه إسْحَاق لسبعة أيام، وختن ابنه إسماعيل لثلاثَ عشرةَ سنة، ورُوِيَ عن أبي جعفر: أنَّ فاطمةَ كانت تختِنُ ولدَها يومَ السَّابعِ» (3).
قال ابن المُنْذِرِ: «وليس في هذا الباب شيءٌ يثبت، وليس لوقت (4) الختان خبرٌ يُرْجَعُ إليه ولا سنَّةٌ تستعمل، فالأشياء على الإباحة، ولا
_________
(1) في «د»: خلا. وهو تحريف.
(2) قال في المصباح المنير 1/ 82: «إذا نبتت أسنانه بعد السقوط قيل (أثغر) (إثغارًا) مثل: أكرم إكرامًا. وإذا ألقى أسنانه قيل (اثَّغَرَ) على افتعل. قاله ابن فارس، وبعضهم يقول: إذا نبتت أسنانه قيل (اثَّغَر) بالتشديد».
(3) الإشراف لابن المنذر: 3/ 424.
(4) في «ب، ج»: لوقوع.
(الكتاب/268)
يجوز حَظْرُ شيءٍ منها إلا بحجَّةٍ، ولا نَعْلمُ مع مَن مَنَعَ أن يُختنَ الصبيُّ لسبعة أيامٍ حُجَّةٌ» (1).
وفي «سنن البيهقيّ» من حديث زهير بن محمَّد، عن محمَّدِ بنِ المُنْكَدِر (2)، عن جابرٍ قال: عقَّ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – عن الحَسَنِ والحُسَيْنِ، وختَنهما لسبعةِ أيَّام (3).
وفيها من حديث موسى بن عُلَيّ (4) بن رَباح، عن أبيه، أنَّ إبراهيمَ خَتَنَ إسْحَاقَ وهو ابنُ سبعةِ أيامٍ (5).
قال شيخنا (6): ختنَ إبراهيمُ إسْحَاقَ لسبعة أيام، وختن إسماعيلَ عند بلوغه، فصار ختانُ إسْحَاق سُنّةً في بَنيْهِ، وختانُ إسماعيلَ سُنةً في بنيهِ، والله أعلم.
_________
(1) الإشراف: 3/ 425. وانظر: تفسير القرطبي: 2/ 99، والبيان للعمراني: 1/ 95 ـ 96، والمجموع للنووي: 1/ 164.
(2) في «أ»: المنذر.
(3) أخرجه البيهقي في السنن: 8/ 324.
(4) هكذا ضبطه في الإكمال: 6/ 250.
(5) المصدر نفسه: 8/ 326.
(6) يعني شيخ الإسلام ابن تيمية. وقد صرح بذلك في زاد المعاد: 2/ 333. وانظر: مجموع الفتاوى 21/ 113 ـ 114.
(الكتاب/269)
الفصل السَّابع
في بيان حِكْمةِ الختان وفوائدهِ
الختانُ من مَحاسِنِ الشَّرائعِ التي شَرَعَها اللهُ ـ سبحانه ـ لعِبَادِه، ويجمِّل بها محاسِنَهُم الظَّاهِرَةَ والبَاطِنَةَ، فهو مكمِّلٌ للفطرةِ التي فَطَرَهُمْ عليها، ولهذا كانَ من تمامِ الحنيفيَّة ملةِ إبراهيمَ.
وأصلُ مشروعيَّةِ الختانِ لتكميل الحنيفيَّة، فإنَّ الله ـ عز وجل ـ لما عَاهدَ إبراهيم وَعَدَهُ أن يجعله للناسِ إمامًا، ووَعَدَهُ أن يكونَ أبًا لشعوبٍ كثيرةٍ، وأن يكونَ الأنبياءُ والملُوكُ من صُلْبِهِ، وأن يَكْثُرَ نَسْلُه، وأخبرَهُ أنّه جاعلٌ بَيْنه وبينَ نَسْلِه علامةَ العَهْدِ أنْ يَخْتِنُوا كلَّ مَولُودٍ منهم، ويكون عهدي هذا ميسمًا في أجْسَادِهِمْ، فالختانُ عَلَمٌ للدُّخولِ في ملَّة إبراهيمَ. وهذا موافقٌ لتأويل مَنْ تأوَّلَ قولَه تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة/ 138] على الختان (1).
فالختان للحنفاء بمنزلة الصبغ والتعميد لعُبَّاد الصَّليب، فهم يطهِّرونَ
_________
(1) وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والفرّاء والزجّاج. انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 8/ 107 و 12/ 427، وتفسير البغوي: 1/ 157، وتفسير القرطبي: 2/ 145، والوسيط للواحدي: 1/ 206.
(الكتاب/270)
أَوْلادَهم ـ بزعمهم ـ حين يَصْبُغُونَهُم (1) في المعموديَّة (2)، ويقولون: الآنَ صارَ نَصْرَانِيًّا، فشرع الله سبحانه للحنفاء صبغة الحنيفية، وجَعلَ مِيْسَمَهَا الختانَ فقال: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة/ 138] (3).
وقد جعل الله سبحانه السِّماتِ علامةً لمن يضافُ منها إليه المُعْلَمُ بها، ولهذا الناس يَسِمُون دوابَّهم ومواشِيَهُمْ بأنواع السِّماتِ، حتى يكون ما يضافُ منها إلى كلِّ إنسانٍ معروفًا بِسِمَتِهِ، ثم قد تكونُ هذه السمةُ مُتَوارَثةً في أمَّةٍ بعد أمَّةٍ.
فجعل الله سبحانه الختان عَلَمًا لمن يُضَافُ إليه وإلى دِيْنِه ومِلَّتِهِ، ويُنْسَبُ إليه بنسبةِ العُبُودِيَّةِ والحَنيفيَّةِ، حتى إذا جُهِلَتْ حالُ إنسانٍ في دِيْنِه عُرِف بِسِمَةِ الختانِ ورَنْكهِ (4)، وكانت العرب تُدْعَى بأُمَّة الختانِ،
_________
(1) في «ج»: يضعونهم.
(2) انظر: قاموس الكتاب المقدس ص 637.
(3) قال ابن عباس: إن النصارى إذا ولد لأحدهم ولد فأتى عليه سبعة أيام غمسوه في ماءٍ لهم أصفرَ، يقال له: المعمودي، وصبغوه به ليطهّروه بذلك الماء مكان الختان، فإذا فعلوا به ذلك قالوا: الآن صار نصرانيًا حقًّا. فأخبر الله أن دينه الإسلام لا ما يفعله النصارى. انظر: تفسير البغوي: 1/ 157.
(4) كلمة فارسية بمعنى اللون والصبغة، وهي من مصطلحات العهد المملوكي وما بعده، وتجمع على “رُنُوك” وتعني: الشعار والسمة والشارة. وانظر: المعجم الذهبي: فارسي عربي ص 299، ومعجم المصطلحات والألقاب التاريخية لمصطفى عبدالكريم الخطيب.
(الكتاب/271)
ولهذا جاء في حديثِ هِرَقْل: إني أجد ملك الختان قد ظهَرَ، فقال له أصحابه: لا يهمنَّك هذا، فإنما تختتن اليهود فاقتُلْهُم، فبينما هم على ذلك، وإذا برسولِ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – قد جاء بكتابِه، فأَمرَ به أن يُكْشَف ويُنْظَرَ هل هو مختون؟ فوُجِدَ مختونًا. فلما أخبره أن العرب تختتن، قال: هذا مَلِكُ هذه الأمَّة (1).
ولما كانت وقعة أَجْنَادِينَ بين المُسْلِمين والرُّوم، جعل هشامُ بنُ العَاصِ يقول: يا معشر المُسْلِمين إنَّ هؤلاء القُّلْفَ لا صَبْرَ لهم على السَّيف. فذكَّرَهُمْ بِشِعَارِ عُبَّادِ الصَّلِيْبِ ورَنْكِهِمْ، وجَعَلَه مما يُوجِبُ إقدامَ الحُنَفَاءِ عليهم وتَطْهيرَ الأرضِ منهم.
والمقصود أنَّ صبغة الله هي الحنيفية التي صبغتِ القلوبَ بمعرفتِه ومحبَّتهِ، والإخلاصِ له، وعبادتِهِ وحدَه لا شريكَ لهُ، وصَبغتِ الأبدانَ بِخِصَالِ الفِطْرةِ من الختانِ، والاسْتِحْدَادِ، وقَصِّ الشَّاربِ، وتقليمِ الأظفارِ، ونَتْفِ الإبْطِ، والمضْمَضَةِ، والاسْتِنْشَاقِ، والسِّواكِ، والاستنجاءِ، فظهرتْ فطرةُ الله على قلوبِ الحُنَفَاءِ وأَبْدَانِهم.
قال محمَّدُ بنُ جَرِيرٍ (2) في قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ}: يعني
_________
(1) قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري في بدء الوحي: 1/ 31، وفي مواضع أخرى، ومسلم في الجهاد، باب كتاب النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام: 3/ 1393 وما بعدها، برقم (1773).
(2) في تفسيره جامع البيان: 3/ 117 وما بعدها.
(الكتاب/272)
بالصبغةِ صبغةَ الإسلامِ، وذلك أنَّ النَّصارى إذا أرادتْ أن تُنَصِّرَ أَطْفَالهَا (1) جعلتْهم في ماءٍ لهم (2)، تَزْعُمُ أنَّ ذلك لها تقديسٌ (3) بمنزلة الختانة (4) لأهل الإسلام، وأنّه صبغةٌ لهم في النَّصرانية (5)، فقال الله جل ثناؤه لنبيه – صلى الله عليه وسلم – ـ لما قال اليهود والنصارى: {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} إلى قوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة/135 ـ 138].
قال قَتَادَةُ: إنَّ اليهود تصبغ أبناءَها يهودًا، والنَّصارَى تصبغُ أبناءَها نَصارَى، وإنَّ صبغةَ اللهِ الإسلامُ، فلا صبغةَ أحسن من الإسلام ولا أَطْهَر.
وقال مجاهد: صبغة الله: فطرة الله (6).
_________
(1) في «أ، ب»: أطفالهم.
(2) في (ج، د): مبالهم.
(3) في «أ، ب»: مما يقدس. وفي «ج» جاءت العبارة هكذا: وتزعم أن ذلك مما يقدس.
(4) في «ب»: الختان وفي «د»: الجنابة.
(5) قال الفرّاء في معاني القرآن 1/ 82 ـ 83: «وإنما قيل:”صبغة الله”، لأن بعض النصارى كانوا إذا وُلد المولود جعلوه في ماء لهم، يجعلون ذلك تطهيرًا له كالختانة. وكذلك هي في إحدى القراءتين. قل”صِبغة الله” وهي الخِتَانة، اختتن بها إبراهيم – صلى الله عليه وسلم – فقال: قل: “صِبغة الله” يأمر بها محمدًا – صلى الله عليه وسلم -، فجرت الصِبْغة على الخِتَانة لصَبغهم الغِلْمان فى الماء».
(6) انظر: تفسير مجاهد: 1/ 89 وتتمة كلامه: التي فطر الناس عليها.
(الكتاب/273)
وقال غيره: دين الله (1).
هذا معَ ما في الختانِ من الطَّهارةِ والنَّظافةِ والتَّزْيِينِ، وتَحْسِيْنِ الخِلْقَةِ، وتَعْدِيلِ الشَّهْوَةِ التي إذا أَفْرَطَتْ أَلْحقَتِ الإنسَانَ بالحيوانَاتِ، وإنْ عَدِمَتْ بالكليَّة أَلْحَقَتْهُ بالجمَاداتِ، فالختانُ يعدلها، ولهذا تجدُ الأقْلَفَ من الرِّجال، والقَلْفَاءَ من النساءِ، لا يشبعُ من الجِماعِ.
ولهذا يُذَمُّ الرجلُ ويُشْتَم ويُعَيَّرُ بأنه ابنُ القَلْفَاءِ ـ إشارة إلى غُلْمَتِهَا ـ وأيُّ زينةٍ أحسن من أخْذِ ما طَالَ وجَاوَزَ الحدَّ من جلدةِ القُلْفَة، وشعرِ العَانَة، وشعر الإبط، وشعر الشَّارب، وما طال من الظفر. فإنَّ الشيطان يختبئ تحت ذلك كلِّه ويألفُه ويقطنُ فيه، حتى إنه ينفخ في إحْلِيْل الأقْلفِ وفَرْجِ القَلْفَاءِ ما لا يَنْفخُ في المختونِ، ويختبئُ في شَعر العَانَةِ، وتحت الأظفارِ. فالغُرْلَةُ أقبحُ في موضعها من الظُّفر الطويل والشاربِ الطويل والعانةِ الفاحشةِ الطُّولِ. ولا يخفى على ذي الحسِّ السليمِ قُبْحُ الغُرْلَةِ، وما في إزالتِهَا من التحسينِ والتنظيفِ والتزيين، ولهذا لمَّا ابتلى اللهُ خليلَه إبراهيمَ بإزالة هذه الأمورِ فأتمَّهنَّ، جعله إمامًا للناسِ. هذا مع ما فيه من بَهاءِ الوَجهِ وضِيائِه، وفي تَرْكِهِ من الكَسْفَةِ التي تُرَى عليهِ.
وقد ذكر حَرْبٌ في «مسائله»: عن ميمونة زوج النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أنها قالت للخاتنة: إذا خفضت فأشمِّي ولا تَنْهِكي، فإنَّه أسْرَى للوجهِ، وأَحْظَى لها
_________
(1) أخرج هذه الأقوال كلها الطبري في التفسير، الموضع السابق. وانظر: تفسير القرطبي: 2/ 145، والوسيط للواحدي: 1/ 206.
(الكتاب/274)
عند زوجها (1).
وروى أبو داود عن أمِّ عطيَّةَ، أنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – أمر خَتَّانةً تَختِنُ فقال: «إذا ختنتِ فلا تَنْهَكِي، فإنَّ ذلك أَحْظَى للمرأةِ وأحبُّ للبَعْلِ» (2).
ومعنى هذا أن الخافضةَ إذا استَأصلتْ جِلْدةَ الختانِ ضَعُفَتْ شهوةُ المرأةِ، فقلَّت حظْوَتُها عند زوجها، كما أنها إذا تركتْها كما هي لم تأخذْ
_________
(1) انظر: التلخيص الحبير: 4/ 83، فقد عزاه لحرب.
(2) روي من طرق عن عدد من الصحابة، فأخرجه أبو داود من حديث أم عطية في الأدب، باب في الختان: 13/ 658، من طريق محمد بن حسان وقال عقبه: «محمد بن حسان مجهول الحديث ضعيف». وبيّن ابن الملقن في (البدر المنير: 8/ 76) أنه المصلوب الكذاب. ثم أشار أبو داود للطريق الثانية وقال: «وليس هو بالقوي وقد روي مرسلًا»، ومن حديث أنس أخرجه البيهقي: 8/ 324، وفي شعب الإيمان: 15/ 38، في معرفة السنن والآثار برقم (4368)، والطبراني في الأوسط: 3/ 133، وابن عدي في الكامل: 6/ 2223، ورواه الحاكم من حديث الضحاك بن قيس: 3/ 525. وقال الحافظ ابن حجر: «وفي إسناده مندل بن علي وهو ضعيف، وفي إسناد ابن عدي: خالد بن عمرو القرشي وهو أضعف من مندل، ورواه الطبراني في الصغير وابن عدي أيضًا عن أبي خليفة، عن محمد بن سلام الجمحي، عن زائدة بن أبي الرقاد، عن ثابت، عن أنس نحو حديث أبي داود، قال ابن عدي: تفرد به زائدة، عن ثابت، وقال الطبراني: تفرد به محمد ابن سلام، وقد قال البخاري في زائدة: إنه منكر الحديث، وقال ابن المنذر: ليس في الختان خبر يرجع إليه، ولا سند يتبع». انظر: التلخيص الحبير: 4/ 83 وأصله البدر المنير لابن الملقن: 8/ 745 – 749.
والنَّهْكَ المُبالَغة في القطع. أي اقْطَعِي بعضَ النَّواةِ ولا تَسْتَأصِلِيها.
(الكتاب/275)
منها شيئًا ازدادتْ غُلْمَتُهَا، فإذا أخذتْ منها وأبقتْ، كان في ذلك تعديلًا للخِلقة والشَّهوة.
هذا مع أنَّه لا يُنْكَر أن يكونَ قَطْعُ هذه الجلدةِ عَلمًا على العبوديَّة، فإنك تجد قطْعَ طرفِ الأُذُنِ وكيَّ الجبهةِ ونحو ذلك في كثيرٍ من الرَّقيق علامةً لرِقِّهِم وعبودِيَّتِهِم، حتى إذا أبَقَ رُدَّ إلى مالكه بتلك العلامة، فما يُنكر أن يكونَ قطْع هذا الطرف عَلَمًا على عبوديةِ صاحبِه لله ـ سبحانه ـ حتى يَعرفَ الناسُ أنَّ من كان كذلك فهو من عبيدِ الله الحنفاءِ، فيكون الختانُ عَلَمًا لهذه السنَّة التي لا أشرفَ منها، مع ما فيه من الطهارة والنظافة والزينة وتعديل الشهوة!
وقد ذُكِرَ في حكمةِ خَفْضِ النِّساء: أنَّ سارةَ لما وهبتْ هاجَرَ لإبراهيمَ أصابَها، فحملتْ منه، فغارتْ سارةُ، فحلفت لتقطعنَّ منها ثلاثةَ أعضاء، فخاف إبراهيمُ أنْ تَجْدَعَ أنْفَهَا وتقطعَ أُذُنَيْهَا، فأمرَها بِثَقْبِ أذنيها وختانها، وصار ذلك سُنَّة في النساء بَعْدُ (1).
ولا يُنكر هذا، كما كان مبدأُ السَّعي، سعيَ هاجرَ بينَ جَبَلَيْنِ، تَبْتَغِي لابنها القُوتَ، وكما كان مبدأُ رَمْي الجِمَارِ حَصْبَ إسماعيلَ للشيطانِ لمَّا ذهب مع أبيه، فَشَرعَ اللهُ ـ سبحانه ـ لعبادِه تذكرةً وإحياءً لسنَّة خليله، وإقامةً لذِكْرِه، وإعظامًا لعُبوديَّته، والله أعلم.
_________
(1) انظر: شعب الإيمان للبيهقي: 15/ 138، التمهيد لابن عبدالبر: 21/ 59.
(الكتاب/276)
الفصل الثامن
في بيانِ القَدْرِ الَّذِي يُؤخَذُ في الخِتانِ
قال أبو البركات في كتابه «الغاية» (1): ويُؤخذُ في ختانِ الرَّجلِ جلدةُ الحَشَفَةِ، وإن اقتصر على أخْذِ أكثرِها جازَ، ويُستحبُّ لخافِضَةِ الجَارِيَة أن لا تَحِيْفَ. نَصَّ عليه. وحُكِيَ عن عُمرَ أنه قال للخَاتِنةِ: أبْقِي منه شيئًا إذا خَفَضْتِ.
وقال الخَلّال في «جامعه»: «ذكر ما يقطع في الختان»: أخبرني محمَّد بن الحُسَين، أنَّ الفضل بنَ زياد حدَّثهم، قال سُئل أَحْمَدُ: كم يقطعُ في الخِتَانةِ؟ قال: حتى تَبْدُوَ الحَشَفَةُ.
وأخبرني عبد الملك الميموني قال: قلت: يا أبا عبد الله! مسألة سُئِلتُ عنها: ختَّان ختنَ صبيًا فلم يستقصِ؟
فقال: إذا كان الختانُ قد جازَ نصفَ الحشفة إلى فوق فلا يعتدُّ به؛ لأنَّ الحشفةَ تغلظُ، وكلما غلظتْ هي ارتفعتِ الختانةُ.
_________
(1) أبو البركات مجد الدين المتوفى سنة (652) هو جد شيخ الإسلام ابن تيمية، ولعل كتابه هو «منتهى الغاية في شرح الهداية» لأبي الخطاب الكلوذاني. وذكر المرداوي أنه بيّض بعضه وبقي الباقي مسودة. انظر: المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل للدكتور بكر أبو زيد: 2/ 714.
(الكتاب/277)
ثم قال لي: إذا كانتْ دون النّصفِ أخافُ.
قلت له: فإنَّ الإعادةَ عليه شديدةٌ جدًّا، ولعلَّه قد يخافُ عليه الإعادةَ. قال لي: إيشٍ يخافُ عليه (1)، ورأيت سهولةَ الإعادةِ إذا كانت الختانةُ في أقلَّ من نصفِ الحَشَفَةِ إلى أسْفل.
وسمعته يقول: هذا شيءٌ لا بدَّ أن تتيسَّر فيه الختانةُ.
وقال ابنُ الصبَّاغ في «الشَّامل» (2): الواجبُ على الرَّجُلِ أن يَقْطَعَ الجِلْدةَ التي على الحَشَفَةِ حتى تنكشفَ جميعُها، وأمَّا المرأةُ فلها عُذْرَتَانِ: إحداهُما: بَكَارَتُها. والأخرى: هي التي يجبُ قطْعُهَا، وهي كعُرْفِ الدِّيكِ في أعْلى الفَرْجِ بين الشُفْرَيْنِ، وإذا قُطعتْ يبقى أصلُها كالنَّواة (3).
وقال الجُوَينِيُّ في «نهايته» (4): «المستَحَقُّ في الرِّجالِ قَطْعُ القُلْفَةِ، وهي الجلدةُ التي تغشى الحَشَفَةَ، والغَرَضُ أن تَبْرزَ، ولو فرض مقدارٌ
_________
(1) «الإعادة. قال .. عليه» ساقط من «أ».
(2) أبو نصر الصبّاغ، محمد بن عبدالواحد بن جعفر المتوفى سنة (477) انتهت إليه رياسة أصحاب الشافعي، وكتابه «الشامل» مخطوط في دار الكتب المصرية. انظر: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي: 5/ 122 وما بعدها، تاريخ الأدب العربي لبروكلمان، القسم الرابع ص 37.
(3) شُفْرُ كلِّ شيء حَرْفُه. والجمع أشفار. ومنه شفر الفرج: أي حرفه. انظر: المصباح المنير: 1/ 317، الزاهر للأزهري ص 505.
(4) نهاية المطلب لإمام الحرمين الجويني: 17/ 354.
(الكتاب/278)
منه على الكَمَرَةِ لا ينبسطُ على سطحِ الحَشَفَةِ، فيجب قَطْعُهُ حتى لا تبقَى الجلدةُ متدلِّيةً» (1).
وقال ابنُ كَجّ: «عندي يكفي قَطْعُ شيءٍ من القُلْفَةِ وإنْ قلَّ، بِشَرْطِ أنْ يَسْتَوعبَ القطعُ تدويرَ رأسِهَا» (2).
وقال الجُوينيُّ (3): «المقدار المُسْتَحَقُّ في النساء ما ينطلقُ عليه الاسمُ». قال: «وفي الحديث ما يدلُّ على الأمر بالإقْلالِ، قال – صلى الله عليه وسلم – لخاتنة: «أشمِّي ولا تَنْهَكِي» أي اتْرُكِي الموضعَ أشمَّ. والأشمُّ: المرتفع».
وقال الماوَرْدِيُّ: والسنَّةُ أن يستوعبَ القُلْفةَ التي تَغْشَى الحَشَفَةَ بالقَطْعِ مِن أصْلِهَا، وأقلُّ ما يجزئُ فيه أن لا يَتَغَشَّى بها شيءٌ من الحشَفَةِ، وأما خفضُ المرأةِ: فهو قطْعُ جلدةٍ في الفَرْجِ فوق مدخلِ الذَّكَرِ ومَخْرَجِ البَوْلِ على أصلٍ كالنَّواةِ، ويُؤخذ منه الجلدةُ المستعلِيةُ دونَ أصْلِهَا (4).
وقد بان بهذا أنَّ القطعَ في الخِتَانِ ثلاثةُ أقسامٍ: سنةٌ، وواجبٌ، وغيرُ مجزئٍ ـ على ما تقدم ـ والله أعلم.
_________
(1) في النهاية: «حتى لا يبقى جلد متجافٍ متدلٍّ» بدلًا من: حتى لا تبقى الجلدة متدلِّية
(2) نقله النووي في المجموع: 1/ 165 وحكاه عنه الرافعي.
(3) في الموضع نفسه من نهاية المطلب.
(4) الحاوي الكبير للماوردي: 13/ 433.
(الكتاب/279)
الفصل التاسع
في أنَّ حُكمه يَعُمُّ الذَّكر والأنثى
قال صالحُ بنُ أَحمدَ: إذا جامع الرجلُ امرأتهُ ولم يُنزِل، قال: إذا التقَى الخِتَانانِ وجب الغُسْلُ. قال أَحْمَد: وفي هذا أنَّ النساء كُنَّ يَخْتَتِنَّ.
وسُئِلَ عن الرَّجُل تُدْخَلُ عليه امرأتُهُ فلم يَجِدْهَا مختونةً أيجبُ عليها الختانُ؟ قال: الختانُ سنَّةٌ (1).
قال الخَلّالُ: وأخْبرَني أبو بكر المروذيُّ، وعبدُ الكريمِ بن الهيثَم، ويوسفُ بنُ موسى ــ دخل كلامُ بعضِهم في بعضٍ ــ أنَّ أبا عبدِ الله سُئل عن المرأة تُدخَلُ على زوجها ولم تختتنْ: أيجبُ عليها الختانُ؟ فسكتَ والتفتَ إلى أبي حفْصٍ فقال: تعرفُ في هذا شيئًا؟ قال: لا. فقيل له: إنَّها أتَى عليها ثلاثونَ أو أربعونَ سنةً، فسكتَ. فقيل له: فإنْ قَدرتْ على أن تختتنَ؟ قال: يَحْسُنُ (2).
قال: وأخبرني محمَّد بنُ يحيى الكحَّالُ، قال: سألتُ أبا عبدِ الله عن المرأة تختتن؟ فقال: قد خرَّجتُ فيه أشياءَ. ثم قال: فنظرتُ فإذا خبرُ
_________
(1) أخرجه الخلال في كتاب الترجل ص 86 برقم (185)، وابن هانئ في مسائل الإمام أحمد: 2/ 151.
(2) أخرجه الخلال في الترجل ص 86 برقم (184).
(الكتاب/280)
النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – حين يَلتَقِي الخِتَانَانِ، ولا يكونُ واحدًا إنما هو اثْنَانِ، قلتُ لأبي عبدِ الله: فلا بدَّ منه؟ قال: الرجل أشدُّ، وذلك أنَّ الرجل إذا لم يختَتِنْ، فتلك الجلدةُ مُدلَّاة على الكَمَرَةِ، فلا يَنْقَى ما ثَمَّ، والنِّسَاءُ أهْوَنُ (1).
قلت: لا خلافَ في استحبابِه للأُنثَى، واخْتُلِفَ في وُجُوبِه (2)، وعن أَحْمَدَ في ذلك روايتان، إحداهما: يجبُ على الرِّجالِ والنساءِ، والثانية: يختصُّ وجوبُه بالذُّكورِ. وحجَّةُ هذه الرواية حديثُ شدَّادِ بنِ أَوْسٍ: «الختانُ سنَّةٌ للرِّجال، مَكْرُمَةٌ للنِّساءِ» ففرَّقَ فيه بين الذُّكورِ والإناثِ.
ويحتجُّ لهذا القول بأنَّ الأمرَ به إنَّما جاء للرِّجال، كما أمرَ اللهُ
ــ سبحانه ــ به خَلِيْلَهُ ــ عليه السلام ــ، ففَعلَهُ امتثالًا لأمْرِهِ.
وأما ختانُ المرأةِ، فكان سبَبُه يمين سارةَ كما تقدم.
قال الإمام أَحمد: لا تحيفُ خافضةُ المرأةِ، لأنَّ عُمر قال لختَّانةٍ: أبْقِي منه شيئًا إذا خفضتِ (3).
وذكر الإمامُ أَحمد عن أمِّ عطيّةَ، أنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – أمَرَ ختَّانةً تختِنُ
_________
(1) أخرجه الخلال في الترجل ص 85 برقم (182). وانظر: المغني لابن قدامة: 1/ 115، حاشية الروض المربع لابن قاسم: 1/ 160 ـ 161.
(2) انظر: المجموع للنووي: 1/ 164.
(3) أخرجه الخلال في الترجل ص 87 برقم 185.
(الكتاب/281)
فقال: «إذا ختنتِ فلا تنهِكي، فإنَّ ذلك أحظى للمرأة، وأحبُّ للبَعْلِ» (1).
والحكمةُ التي ذَكَرْنَاهَا في الخِتَانِ، تَعُمُّ الذَّكَرَ والأُنْثَى، وإنْ كانتْ في الذَّكَرِ أَبْيَنَ، واللهُ أعْلَمُ.
_________
(1) تقدم تخريجه فيا سبق، ص (275).
(الكتاب/282)
الفصل العاشر
في حُكم جنايةِ الخاتِن وسِرَايةِ الختان
قال الله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة/ 91]. وفي «السُّنَنِ» من حديث عَمْرو بن شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جدِّه، عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – أنه قال (1): «مَنْ تطبَّبَ ولم يُعْلَمْ منه طِبٌّ فهو ضَامِنٌ» (2).
أمَّا جنايةُ يَدِ الخاتنِ، فمضمونةٌ عليه، أو على عاقِلَته كجنايةِ غيره، فإنْ زادتْ على ثلُثِ الدِّيةِ كانت على العَاقِلة، وإن نقصتْ عن الثُّلُث فهي في مالِهِ (3).
_________
(1) أنه قال. ليست في «أ».
(2) أخرجه أبو داود في الديات، باب فيمن تطبب ولا يعلم منه طبٌ فأعنت: 12/ 691، وقال: «هذا لم يروه إلا الوليد، لا ندري أصحيح هو أم لا؟»، وأخرجه النسائي في القسامة، باب صفة شبه العمد، وعلى من دية الأجنّة: 8/ 52، وابن ماجه في الطب، من تطبب ولم يعلم منه طب: 2/ 1148 برقم (3466)، والبيهقي في السنن: 4/ 241 و 8/ 141، والدارقطني في الديات: 4/ 138 برقم (3402)، وصححه الحاكم: 4/ 212 ووافقه الذهبي. وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني: 2/ 228 برقم (635).
(3) قال ابن رشد الحفيد في بداية المجتهد 2/ 421: «وأجمعوا على أن الطبيب إذا أخطأ لزمته الدية. مثل أن يقطع الحشفة في الختان، وما أشبه ذاك، لأنه في معنى الجاني خطأ، وعن مالك رواية: أنه ليس عليه شيء، وذلك عنده إذا كان من أهل الطب، ولا خلاف أنه إذا لم يكن من أهل الطب أنه يضمن لأنه متعد، وقد ورد في ذلك ـ مع الإجماع ـ حديث عمرو بن شعيب .. والدية فيما أخطأه الطبيب عند الجمهور على العاقلة، ومن أهل العلم من جعله في مال الطبيب، ولا خلاف أنه إذا لم يكن من أهل الطب أنها في ماله على ظاهر حديث عمرو بن شعيب».
وقال ابن المنذر في الإشراف 7/ 446: وإذا ختن الخاتن فأخطأ، فقطع الذكر أو الحشفة أو بعضها: فعليه عقل ما أخطأ به، تعقله العاقلة. وهذا قول كل من حفظت عنه من أهل العلم: مالك والشافعي وإسحاق وأحمد وأصحاب الرأي. وانظر: الإجماع ص 171 لابن المنذر، وفتح القدير لابن الهمام: 7/ 206.
(الكتاب/283)
وأمَّا ما تلف بالسِّرَايَةِ، فإنْ لم يكنْ مِن أهلِ العِلْمِ بِصِناعَتِه، ولم يُعْرفْ بالحِذْقِ فيها، فإنَّه يضمنُها، لأنها سِرَايةُ جرحٍ لم يجزْ له الإقدامُ عليه، فهي كسرايةِ الجِنَايةِ. وقد اتَّفقَ النّاسُ على أنَّ سِرَايَةَ الجنايةِ مَضْمُونةٌ.
واختلفوا فيما عَداها؛ فقال أَحمد ومالكٌ: لا يضمنُ سرايةَ مأذونٍ فيه، حَدًّا كان أو تأديبًا، مقدّرًا كان أو غير مقدَّر؛ لأنها سرايةُ مأذونٍ فيه فلم يَضْمَنْ كسراية استيفاء منفعة النكاح، وإزالة البكارة، وسراية الفَصْدِ والحجامة، والختان، وبَطِّ الدّمَّل، وقطع السِّلْعَة المأذون فيه لحاذق لم يتعدَّ (1).
وقال الشّافعيّ: لا يضمنُ سرايةَ المقدَّر (2) حدًّا كانَ أو قِصَاصًا،
_________
(1) انظر: المغني لابن قدامة: 12/ 529.
(2) في «ج»: المقرر.
(الكتاب/284)
ويضمنُ سرايةَ غير المقدَّر كالتَّعْزيرِ والتَّأدِيبِ، لأنَّ التَّلَفَ بهِ دليلٌ على التَّجَاوُزِ والعُدوانِ (1).
وقال أبوحنيفةَ: لا يَضْمَنُ سِرَايَةَ الواجبِ خاصّةً، ويضمنُ سِرايةَ المقَدَّرِ (2)، لأنَّه إنما أُبِيحَ لَهُ الاسْتِيفَاءُ بشرط السلامة (3).
والسنَّةُ الصحيحةُ تخالف هذا القول.
وإن كان الخاتنُ عارفًا بالصِّناعَةِ، وختَنَ المولودَ في الزَّمنِ الذي يختتنُ في مِثْلِهِ، وأعْطَى الصِّناعَةَ حقَّهَا، لم يَضْمَنْ سِرَايَةَ الجَرْحِ اتفاقًا، كما لو مَرِضَ المختونُ من ذلك وماتَ، فإنْ أذِنَ له أن يختِنَهُ في زَمَنِ حرٍّ مُفْرِط أو بَرْدٍ مُفْرِطٍ، أو حالِ ضعفٍ يُخَاف عليه منه، فإنْ كان بالغًا عاقلًا لم يضمَنْه، لأنه أَسقطَ حقَّه بالإذْنِ فيه، وإنْ كانَ صغيرًا ضَمِنَه، لأنه لا يُعْتبرُ إذنُهُ شرعًا، وإن أَذِن فيه وليُّه، فهو موضعُ نظرٍ، هل يجب الضمانُ على الوليِّ أو على الخاتنِ؟
_________
(1) انظر: نهاية المطلب للجويني: 17/ 356، والحاوي الكبير للماوردي: 13/ 434.
(2) في (أ، ج): القَوَد.
(3) قال البغدادي في «مجمع الضمانات» 1/ 145 ـ 146: الفصَّاد والحجَّام والختَّان لا يضمنون بسراية فعلهم إلى الهلاك إذا لم يجاوز الموضع المعتاد المعهود المأذون فيه. ولو شرط عليهم العمل السليم عن السِّراية بطل الشرط؛ إذْ ليس في وسعهم ذلك. هذا إذا فعلوا فعلاً معتادًا ولم يقصِّروا في ذلك العمل … أما لو فعلوا بخلاف ذلك: ضَمِنُوا.
(الكتاب/285)
ولا رَيْبَ أنَّ الوليَّ مُتَسَبِّبٌ (1)، والخاتنَ مباشِرٌ، فالقاعدةُ تقتضِي تضمينَ المباشِرِ (2)؛ لأنَّه يمكنُ الإحالةُ عليه، بِخلافِ ما إذا تعذَّر تَضْمِينُه.
فهذا تفصيلُ القولِ في جناية الخاتن وسراية خِتَانهِ، والله أعلم.
_________
(1) في «أ، ب»: المتسبب.
(2) قال ابن رجب في «تقرير القواعد وتحرير الفوائد» 2/ 597: «إذا استند إتلاف أموال الآدميين ونفوسهم إلى مباشرة وسبب: تعلَّق الضمان بالمباشرة دون السبب، إلا أن تكون المباشرة مبنية على السبب وناشئة عنه، سواء كانت ملجئة إليه أو غير ملجئة، ثم إن كانت المباشرة والحالة هذه لا عدوان فيها بالكلية: استقلَّ السبب وحده بالضمان، وإن كان فيها عدوان شاركت السبب في الضمان».
(الكتاب/286)
الفصل الحادي عشر
في أَحكامِ الأقْلَفِ في طهارتهِ، وصلاتهِ، وذبِيحتهِ،
وشَهادتهِ، وغير ذلك
قال الخَلّال: أخبرني محمَّدُ بنُ إسماعيلَ، حدّثنا وَكِيعٌ، عن سَالمٍ أبي العَلاءِ المُرَاديّ، عن عَمْرو بنِ هَرم، عن جابرِ بنِ زيد، عن ابنِ عبَّاسٍ قال: الأقْلَفُ لا تُقْبَل له صلاةٌ، ولا تُؤكَلُ ذبيحتُهُ (1).
قال وَكِيْعٌ: الأقْلَف إذا بلغَ فلم يختتِنْ لم تُقبلْ شهادتُه.
أخبرني عِصْمَةُ بنُ عِصَامٍ، حدّثنا حَنْبَل، قال حدّثني أبو عبدِ الله، حدّثنا محمَّد بنُ عُبَيد، عن سالم المرادي (2)، عن عَمْرو بن هرم، عن جابرِ بنِ زيد، عن ابن عبَّاس: لا تُؤكَلُ ذبيحةُ الأقْلفِ (3).
قال حَنْبَل: سمعتُ أبا عبدِ الله قال: لا يُعْجِبُنِي أن يَذبحَ الأقْلَفُ.
وقال حنبلٌ في موضعٍ آخرَ: حدّثنا أبُو عمرو الحوضي، حدّثنا هَمَّام، عن قَتَادَة، عن عِكْرِمَة، قال: لا تُؤكَلُ ذَبِيْحةُ الأقْلَفِ.
قال: وكان الحَسَنُ لا يرى ما قاله عِكْرِمَةُ. قال: قيل لعِكْرِمَة: ألَهُ
_________
(1) انظر: الترجل للخلال برقم (177 و 179). وفيما سبق ص (329).
(2) في «ب»: الرازي.
(3) أخرجه الخلال في الترجل برقم (174). وانظر ما سبق ص (240).
(الكتاب/287)
حجٌّ؟ قال: لا.
قال أبو عبد الله: لا تُؤكل ذبيحتُهُ، ولا صلاةَ له، ولا حجَّ لَهُ، حتى يتطهَّرَ، هو مِن تمامِ الإسلامِ (1).
وقال حَنْبَل في موضع آخر: قال أبو عبد الله: الأقْلفُ لا يَذبحُ، ولا تُؤكلُ ذبيحتُه، ولا صلاةَ له (2).
وقال عبد الله بن أَحْمَد: حدّثني أبي، حدّثنا إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ، حدّثنا سعيدُ بنُ أبي عَرُوبَةَ، عن قَتَادَة، عن جابرِ بنِ زيد، عن ابنِ عبَّاس قال: الأقْلَفُ لا تحلُّ له صلاةٌ، ولا تُؤكلُ ذبيحتُه، ولا تجوزُ له شهادةٌ. قال قَتَادَة: وكان الحَسَنُ لا يرى ذلك (3).
وقال إسْحَاق بن منصور: قلت لأبي عبد الله: ذَبِيْحَةُ الأقْلَفِ؟ قال: لا بأسَ بها (4).
وقال أبو طالب: سألتُ أبا عبدِ الله عن ذبيحةِ الأقلف؟ (5) فقال: ابن عبَّاس يشدّد في ذبيحتِه جدًّا (6).
_________
(1) انظر: الترجل للخلال برقم (174).
(2) أخرجه الخلال في الترجل برقم (178).
(3) المرجع نفسه برقم (180).
(4) وهو مذهب الحنفية. انظر: جامع أحكام الصغار، ص 185.
(5) «قال لا بأس .. الأقلف» ساقط من «أ».
(6) أخرجه الخلال بنحوه رقم (177).
(الكتاب/288)
وقال الفضل بن زياد: سألتُ أبا عبد الله عن ذبيحةِ الأقْلَفِ؟ فقال: يُرْوَى عن إبراهيمَ والحَسَنِ وغيرهما: أنهم كانوا لا يرون بها بأسًا، إلا شيئًا يُروى عن جابرِ بنِ زيدٍ عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّه كَرِهَهُ.
قال أبو عبد الله: وهذا يشتدُّ على النَّاس، فلو أنَّ رجلًا أسلمَ وهو كبيرٌ فَخَافُوا عَليهِ الختانَ، أفلا تُؤكل ذبيحتُه (1)؟
وذكر الخَلّال، عن أبي السَّمْح أَحْمَدَ بنِ عبد الله بنِ ثابتٍ، قال سمعت أَحْمَدَ بنَ حَنْبَل ــ وسئل عن ذبيحة الأقْلَفِ، وذكر له حديث ابن عبَّاس «لا تؤكل ذبيحته» ــ فقال أَحْمَد: ذاك عندي إذا كانَ الرَّجلُ يُولَد بين أبَوَيْن مُسْلِمَيْنِ؛ فيَكْبَر فلا يختتن (2)؛ فأمَّا الكبيرُ إذا أسْلمَ وخافَ على نَفْسِه الختانَ؛ فله عندي رخصةٌ.
ثم ذكر قصةَ الحَسَنِ مع أمير البَصرةِ الذي ختنَ الرجالَ في الشتاء، فماتَ بعضُهم.
قال: فكان أَحْمَد يقول: إذا أسلم الكبيرُ وخاف على نفسِه فله عندي عذرٌ (3).
_________
(1) انظر: الترجل للخلال رقم (180).
(2) في (ب، ج): فكيف لا يختتن.
(3) بنحوه في الترجل للخلال برقم (179). وانظر فيما سبق ص (245 و 258).
(الكتاب/289)
الفصل الثاني عشر
في المُسْقِطَاتِ لوجُوبهِ
وهي أمورٌ:
(أحدها): أن يُولَدَ الرجلُ ولا قُلْفةَ له؛ فهذا مستغنٍ عن الختانِ؛ إذ لم يُخلَق له ما يجبُ ختانُه. وهذا متَّفقٌ عليه (1).
لكنْ قال بعضُ المتأخِّرينَ: يستحبُّ إمرارُ الموسى على مَوْضِعِ الختانِ، لأنَّه ما يقدرُ عليه من المأمور به (2)؛ وقد قالَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: «إذا أمرتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (3). وقد كان الواجبُ أمرين: مباشرةُ الحديدة، والقطعُ؛ فإذا سقط القطع؛ فلا أقلَّ من استحباب مباشرة الحديدة (4).
_________
(1) انظر: المقدمات الممهدات لابن رشد: 3/ 448، والبيان للعمراني: 1/ 95 – 96، والمجموع للنووي: 1/ 166.
(2) انظر: الكافي لابن قدامة: 1/ 477، والإنصاف للمرداوي: 2/ 54 – 55، والمقدمات الممهدات لابن رشد: 3/ 448، فتح الباري: 10/ 340.
(3) أخرجه البخاري في الاعتصام، باب الاقتداء بسنن المصطفى – صلى الله عليه وسلم -: 13/ 251، ومسلم في الحج، باب فرض الحج في العمر مرة: 2/ 975، برقم (1337).
(4) وهذه المسألة متفرعة عن قاعدة ذكرها ابن رجب فقال: من قدر على بعض العبادة وعجز عن باقيها، هل يلزمه الإتيان بما قدر عليه منها أم لا؟ فإن كان المقدور عليه ليس مقصودًا في العبادة بل هو وسيلة محضة إليها، كتحريك اللسان في القراءة وإمرار الموسى على الرأس في الحلق والختان، فهذا ليس بواجب، لأنه إنما وجب ضرورة القراءة والحلق والقطع، وقد سقط الأصل فسقط ما هو من ضرورته. وأوجبه القاضي في تحريك اللسان خاصة وهو ضعيف جدًا. انظر: تقرير القواعد وتحرير الفوائد لابن رجب: 3/ 240.
(الكتاب/290)
والصَّوابُ: أنَّ هذا مكروهٌ (1)، لا يُتقرَّبُ إلى الله به؛ ولا يُتَعَبَّدُ بمثله؛ وتُنَزَّه عنه الشريعةُ، فإنَّه عبثٌ لا فائدةَ فيه، وإمرارُ الموسَى غيرُ مقصودٍ، بل هو وسيلةٌ إلى فِعْلِ المقصودِ، فإذا سقط المقصودُ لم يَبْقَ للوسيلةِ معنًى.
ونظير هذا: ما قاله بعضُهم: إن الذي لم يُخلق على رأسه شعرٌ يستحبُّ له في النُّسُك أن يُمِرَّ الموسَى على رأسِهِ (2).
ونظيرُه قولُ بعضِ (3) المتأخِّرينَ مِنْ أصْحَابِ أَحْمَدَ وغيرِهم: إنَّ الذي لا يُحْسِنُ القِراءةَ بالكليَّة ولا الذِّكْرَ، أو الأخْرَسَ: يحرِّكُ لسانَهُ حَرَكةً مجرّدةً (4).
_________
(1) نقل البهوتي هذا الحكم عن المصنف في كشاف القناع: 1/ 181.
(2) انظر: المبدع لابن مفلح: 3/ 243.
(3) ساقط من «د».
(4) قال إمام الحرمين الجويني في نهاية المطلب 7/ 10: «ذكر العراقيون عن نص الشافعي أن الأخرس الذي لا ينطق لسانه بالفاتحة يلزمه أن يحرك لسانه بدلًا عن تحريكه إياه في القراءة .. وهذا مشكل عندي؛ فإن التحريك بمجرده لا يناسب القراءة ولا يدانيها، فإقامته بدلًا بعيدٌ. ثم يلزم من قياس ما ذكروه أن يلزموا التصويت من غير حروف مع تحريك اللسان، وهذا أقرب من التحريك المجرد. وعلى الجملة: فلست أرى ذلك بدلًا عن القراءة لما ذكرته، ثم إذا لم يكن بدلًا فالتحريك الكثير يلحق بالفعل الكثير».
(الكتاب/291)
قال شيخنا (1): ولو قيل: إنّ الصَّلاة تَبْطُلُ بذلك كان أقربَ، لأنّه عبثٌ يُنَافِي الخُشُوعَ، وزيادةُ عملٍ غير مشروعٍ.
والمقصود: أنَّ هذا الذي وُلِدَ ولا قُلفةَ له، كانت العرب تَزْعُمُ أنَّه إذا وُلِد في القمر تقلّصت قُلْفَتُه وتجمَّعت، ولهذا يقولون: خَتنَهُ القمر. وهذا غير مطّردٍ، ولا هو أمرٌ مستمرٌّ، فلم يزلِ النَّاسُ يُولَدونَ في القمر، والذي يُولد بلا قُلْفةٍ نادرٌ جدًا، ومع هذا فلا يكونُ زوالُ القُلْفَة تامًا، بل يظهرُ رأسُ الحَشَفَةِ، بحيثُ يَبِيْنُ مَخْرَجُ البَوْلِ، ولهذا لا بدَّ من خِتَانِه لتَظْهَرَ تمامُ الحَشَفَةِ. وأمَّا الذي يُسْقِطُ ختانَهُ، فأنْ تكونَ الحشفةُ كلُّها ظاهرةً.
وأخبرني صاحبنا محمَّدُ بنُ عثمانَ الخليليُّ المحدِّث ببيت المقدسِ: أنه ممَّن وُلِدَ كذلك، والله أعلم.
فصل
(الثاني) من مسقطاته: ضَعْفُ المولُودِ عن احْتِمَالِه، بحيث يُخافُ عليه من التَّلفِ، ويستمرُّ به الضَّعفُ كذلك، فهذا يُعذَرُ في تَرْكِهِ، إذْ غايتُه
_________
(1) هو شيخ الإسلام ابن تيمية. وانظر كلامه بنصه في الفتاوى الكبرى: 5/ 336، وفي الاختيارات الفقهية للبعلي ص 103، ونقله المرداوي في الإنصاف 2/ 54.
(الكتاب/292)
أنَّه واجبٌ، فيَسْقطُ بالعَجْزِ عنه كَسَائرِ الوَاجِبَاتِ (1).
فصل
(الثالث): أن يُسْلِمَ الرجلُ كبيرًا، ويخافُ على نَفْسِه منه، فهذا يسقطُ عنهُ عند الجمهور (2).
ونصَّ عليه الإمام أَحْمَدُ في رواية جماعةٍ من أصحابِه، وذكر قول الحَسَنِ أنه قد أسلمَ في زمنِ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم -: الروميُّ والحبَشِيُّ والفَارِسِيُّ، فما فتَّش أحدًا منهم (3).
وخالف سُحْنُونُ بنُ سَعِيدٍ الجمهورَ، فلم يُسْقِطْه عن الكبيرِ الخائفِ على نَفْسِه (4). وهو قولٌ في مذهب أَحْمَدَ حكاه ابنُ تميمٍ وغيرُه (5).
_________
(1) انظر: الإنصاف للمرداوي: 1/ 124، والبيان للعمراني: 1/ 95 – 96، والمجموع للنووي: 1/ 166، والحاوي للماوردي: 13/ 434.
(2) انظر: جامع أحكام الصغار للأسروشني: 1/ 212 – 213، والمقدمات الممهدات لابن رشد: 3/ 448، ونهاية المطلب للجويني: 17/ 365، والبيان للعمراني: 1/ 95 – 96، والحاوي الكبير للماوردي: 13/ 434، والمجموع للنووي: 1/ 166، وحاشية الروض المربع: 1/ 159.
(3) انظر فيما سبق ص (245 – 246).
(4) المقدمات الممهدات: 3/ 448.
(5) انظر: مختصر ابن تميم في مذهب الإمام أحمد: 1/ 137 – 138.
(الكتاب/293)
فصل
وظاهرُ كَلامِ أصْحَابِنَا أنَّه يَسْقطُ وجوبُه فقط عند خوفِ التَّلَفِ، والذي ينبغي أنْ يمنعَ من فِعْلِهِ، ولا يجوزُ له، وصرَّح به في «شرح الهداية» فقال: يُمْنَعُ منهُ (1).
ولهذا نظائرُ كثيرةٌ: منها الاغتسالُ بالماءِ البارد في حالِ قوَّة البَرْدِ والمرضِ، وصومُ المريضِ الذي يُخْشَى تَلَفُه بِصَوْمِهِ، وإقامةُ الحدِّ على المريضِ والحاملِ وغير ذلك، فإنَّ هذه الأعذارَ كلّها تمنعُ إباحةَ الفعلِ، كما تُسقِط وجوبَهُ. والله أعلمُ.
فصل
(الرابع): الموتُ؛ فلا يجبُ خِتَانُ الميِّتِ باتفاقِ الأُمَّة، وهل يستحبُّ؟
فجمهورُ أهلِ العلمِ، على أنَّه لا يُستحبُّ. وهو قولُ الأئمةِ الأربعة (2).
وذكر بعضُ المتأخِّرينَ: أنه مستحبٌّ، وقَاسَهُ على أَخْذِ شَارِبِهِ،
_________
(1) انظر: الإنصاف للمرداوي: 1/ 124. والهداية لأبي الخطاب، وشرحه للمجد أبي البركات ابن تيمية بعنوان تتمة «الغاية» كما تقدم.
(2) انظر: فتح القدير لابن الهمام: 1/ 451، والمجموع شرح المهذب للنووي: 1/ 166، والمغني لابن قدامة: 3/ 484.
(الكتاب/294)
وحَلْقِ عَانَتِهِ، ونَتْفِ إبْطِهِ.
وهذا مخالفٌ لما عليه عمل الأُمَّة، وهو قياسٌ فاسدٌ، فإنَّ أخْذَ الشَّاربِ، وتَقْلِيْمَ الظُّفُرِ، وحَلْقَ العَانةِ، من تمامِ طَهَارتِه وإزَالَةِ وَسَخِهِ ودَرَنِهِ.
وأمَّا الختانُ: فهو قَطْعُ عُضْوٍ من أعضائِه، والمعنى الذي لأجْلِهِ شُرِع في الحياةِ، قد زالَ بِالمَوْتِ فلا مَصْلَحَةَ في خِتَانِه، وقد أَخْبَر النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: أنه يُبعَث يومَ القيامة بِغُرْلَتِه غيرَ مختونٍ (1)، فما الفائدةُ أن يُقْطَعَ منه عند الموتِ عضوٌ يُبْعَثُ به يَوْمَ القيامةِ، وهو مِن تمامِ خَلْقِه في النَّشْأَةِ الأُخْرَى.
فصل
ولا يَمنعُ الإحرامُ من الختان، نصَّ عليه الإمام أَحْمَد ـ وقد سئل عن المُحْرِم ـ: يختتن؟ فقال: نعم.
ولم يجعلْه من باب إزالة الشعر وتقليم الظفر، لا في الحياة ولا بعد الموت.
_________
(1) إشارة إلى حديث عائشة رضي الله عنها: «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلًا» أخرجه البخاري في الرقاق: 11/ 377 – 378، ومسلم في الجنة: 4/ 2194.
(الكتاب/295)
الفصل الثالث عشر
في خِتَانِ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم –
وقَدِ اخْتُلِفَ فيه على أقوالٍ (1):
(أحدها): أنَّه وُلِد مختونًا.
و (الثاني): أنَّ جِبْرِيْلَ خَتَنَهُ حينَ شقَّ صَدْرَهُ.
(الثالث): أنَّ جدَّه عبد المطَّلب ختَنَهُ، على عادةِ العربِ في ختانِ أوْلَادِهِمْ.
ونحن نذكر قائلي هذه الأقوال وحُجَجَهُمْ.
فأمَّا من قال: ولد مختونًا، فاحتجُّوا بأحاديث:
أحدها: ما رواه أبُو عُمَرَ بنُ عبدِ البَرِّ، فقال: «وقد روي أن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – وُلِدَ مختونًا، من حديث عبد الله بن عبَّاس، عن أبيه العبَّاس بن عبدالمطلب، قال: وُلِدَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – مختونًا مسرورًا ـ يعني: مقطوع السُّرَّة ـ فأعجبَ ذلكَ جدَّهُ عبدَ المطَّلبِ وقال: لَيَكُونَنَّ لابْنِي هذا شأنٌ عظيمٌ» (2).
_________
(1) وانظر أيضًا: زاد المعاد للمصنف: 1/ 81 وما بعدها.
(2) رواه ابن عبدالبر في التمهيد: 23/ 140، وابن عساكر في تاريخ دمشق: 3/ 411، وابن عدي في الكامل: 2/ 155، والبيهقي في دلائل النبوة: 1/ 114، والحاكم في المستدرك: 2/ 602 وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقد تواترت الأخبار أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولد مختونًا» فتعقبه الذهبي بقوله: «ما أعلم صحة ذلك، فكيف متواترًا». قال ابن كثير في البداية والنهاية 3/ 387: «وهذا الحديث في صحته نظر». وقال الصَّالحي في سبل الهدى والرشاد 1/ 420: سنده غير صحيح. وانظر: زوائد تاريخ بغداد للدكتور خلدون الأحدب: 1/ 348.
(الكتاب/296)
ثم قال ابنُ عبدِ البَرِّ (1): «ليس إسنادُ حديثِ العبَّاسِ هذا بالقَائِمِ. قال: وقد رُوِيَ موقوفًا على ابنِ عُمَرَ، وَلَا يَثْبُتُ أيضًا».
قلت: حديثُ ابنِ عمرَ رويناه من طريق أبي نُعَيْمٍ، حدّثنا أبو الحَسَن محمَّدُ بنُ أَحْمَد بنِ خالد الخطيب، حدّثنا محمَّد بنُ محمَّد بنِ سليمان، حدّثنا عبدُ الرَّحمن بنُ أيُّوب الحِمْصِيُّ، حدّثنا موسى بنُ أبي موسى المقْدِسِيّ، حدّثنا خالد (2) بنُ سلَمَةَ، عن نافعٍ عن ابنِ عُمَرَ، قال: وُلِدَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – مَسْرورًا مَخْتُونًا (3).
ولكن محمَّد بنَ سُليمانَ هذا، هو البَاغَنْدِيُّ، وقد ضعَّفوه، وقال الدَّارقُطْنِيُّ: كان كثيرَ التَّدْلِيْسِ، يحدِّث بما لم يسمعْ، وربَّما سرقَ الحديثَ (4).
_________
(1) في الموضع نفسه من التمهيد.
(2) في «ج»: خلف. وهو تحريف.
(3) أخرجه أبو نعيم بهذا الإسناد في أخبار أصبهان: 1/ 156، وابن عساكر في التاريخ: 3/ 414.
(4) انظر: تاريخ بغداد للخطيب: 9/ 186، وميزان الاعتدال للذهبي: 6/ 175، ولسان الميزان لابن حجر: 3/ 173.
(الكتاب/297)
ومنها: ما رواه الخطيب بإسناده، من حديث سفيان بن محمَّد المصِّيصيّ، حدّثنا هُشَيْم، عن يُونسَ بنِ عُبيد، عن الحَسَنِ، عن أنسِ بن مالكٍ، قال قالَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «مِنْ كَرامَتي على الله أنّي وُلِدْتُ مختونًا ولم يرَ سَوْأتِي أحدٌ» (1).
قال الخطيب: «لم يروه فيما يقال غير يونس، عن هُشَيْم، وتفرَّد به سفيانُ بنُ محمَّد المصِّيصيّ، وهو منكر الحديث» (2).
قال الخطيب: أخبرني الأزهري، قال: سُئِل الدَّارَقُطْنِيُّ عن سفيان ابنِ محمَّد المصِّيصيِّ، وأخبرني أبو الطيِّب الطبريُّ، قال: قال لنا الدارقطني: شيخٌ لأهل المصِّيْصَة يقال له: سُفيانُ بنُ محمَّد الفَزَارِيّ، كان ضعيفًا سيِّء الحال في الحديث (3).
قال صالح بنُ محمَّدٍ الحافظُ: سفيانُ بنُ محمَّدٍ المصيصيُّ لا شيءَ (4).
_________
(1) رواه الخطيب في تاريخ بغداد: 1/ 329 من طرق كلها واهية. ورواه الطبراني في الصغير: 2/ 59، وفي الأوسط برقم (6327)، وابن عساكر: 3/ 423. قال الهيثمي: «فيه سليمان الفزاري وهو متهم به». انظر: مجمع الزوائد: 8/ 224، وزوائد تاريخ بغداد: 1/ 339 ـ 348.
(2) انظر: تاريخ بغداد: 1/ 329.
(3) تاريخ بغداد: 9/ 185.
(4) تاريخ بغداد: 9/ 186.
(الكتاب/298)
وقد رواه أبو القَاسم ابنُ عَسَاكِرٍ، من طريق الحَسَنِ بن عَرَفَةَ، حدّثنا هُشَيْم، عن يُونس، عن الحَسَنِ، عن أنسٍ قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «من كرامتي على ربي عزَّ وجلَّ أنّي وُلِدْتُ مختونًا لم يرَ أحدٌ سَوْأَتِي» (1). وفي إسناده إلى الحَسَنِ بنِ عرفةَ عِدَّةُ مجَاهِيْل.
قال أبو القاسم ابنُ عَسَاكِر: وقد سرقه ابنُ الجَارُودِ، وهو كذَّابٌ، فَرَواهُ عنِ الحَسَنِ بنِ عَرَفَةَ (2).
ومما احتجَّ به أرباب هذا القول: ما ذكره محمَّدُ بنُ عليٍّ التّرْمِذِيُّ (3) في معجزات النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، فقال: ومنها: أن صفيَّةَ بنتَ عبدِ المطَّلب قالت: أردتُ أن أعْرِفَ أذكرٌ هو أم أُنثى، فرأيتُه مختونًا.
وهذا الحديث لا يثبت، وليس له إسنادٌ يُعرَفُ به.
_________
(1) تاريخ دمشق لابن عساكر: 3/ 413.
(2) الموضع السابق نفسه. وجاء في البداية والنهاية لابن كثير 3/ 388: «قلت ـ أي ابن كثير ـ قد رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية مسألة في ذلك، فردَّ هذه السياقات كلها وضعّفها، وجعل بعضها موضوعًا. وقال: الصحيح أنه إنما خُتن كما تختن الغلمان، ختنه جدُّه عبدالمطلب، وعمل له دعوة جمع عليها قريشًا. والله أعلم».
(3) محمد بن علي بن الحسن بن بشر، المشهور بـ الحكيم الترمذي، توفي نحو (320 هـ) ومن كتبه: (نوادر الأصول في أحاديث الرسول) و (الصلاة ومقاصدها) و (بيان الفرق بين الصدر والقلب والفؤاد واللب). انظر: الأعلام للزركلي: 6/ 272.
(الكتاب/299)
وقد قال أبو القاسم عُمَرُ بنُ أبي الحَسَن بنِ هبةِ الله بنِ أبي جرادة (1) في كتابٍ صنَّفهُ في ختانِ الرَّسول – صلى الله عليه وسلم -، يردُّ به على محمَّدِ بنِ طَلْحَةَ (2) في مُصنَّفٍ صنَّفهُ، وقرَّر فيه أنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – وُلِد مختونًا: «وهذا محمَّد التّرْمِذِيّ الحكيمُ، لم يكنْ من أهلِ الحديثِ، ولا عِلْمَ له بطُرُقِهِ وصِنَاعَتِه، وإنَّما كان فيه الكلامُ على إشاراتِ الصُّوفية والطرائق، ودَعْوَى الكَشْفِ على الأمور الغامضةِ والحقائقِ، حتى خرج في الكلام على ذلك عن قاعدةِ الفقهاءِ، واستحقَّ الطعن عليه بذلك والإزراء، وطعنَ عليه أئمةُ الفقهاء والصوفيِّة (3)، وأخرجوه بذلك عن السيرة المَرْضِيَّة، وقالوا: إنه أدخل في علم الشريعة ما فارق به الجماعة، فاستوجب بذلك القَدْحَ والشَّناعةَ، وملأ كتبَه بالأحاديث الموضوعة، وحشَاها بالأخبار التي ليست بمرويَّةٍ ولا مَسْمُوعة، وعلَّل فيها خفيَّ
_________
(1) هو المشهور بـ «كمال الدين ابن العديم» المتوفى سنة (660 هـ) ولد بحلب، من كتبه «بغية الطلب في تاريخ حلب» و «الدراري في الذراري» و «الأخبار المستفادة في ذكر بني جرادة». وكتابه المشار إليه هو «الملحة في الرد على ابن طلحة» ذكره ابن حجر ونقل عنه في فتح الباري: 11/ 89، وذكر السخاوي في الإعلان بالتوبيخ ص (533) أنه ممن أفرد ختان النبي – صلى الله عليه وسلم – بالتأليف وأنه ولد مختونًا.
(2) هو كمال الدين، محمد بن طلحة بن محمد بن الحسن، أبو سالم القرشي العدوي الشافعي المتوفى سنة (652) ترجم له السبكي وغيره، وتصنيفه المشار إليه هو جزء أفرده في ختان النبي – صلى الله عليه وسلم – جمع فيه بين الروايات في الموضوع، وذكره السخاوي في الإعلان ص (553)، وابن حجر في الفتح: 11/ 89.
(3) «واستحقَّ الطعن .. والصوفيِّة» ساقط من «أ».
(الكتاب/300)
الأمورِ الشرعيَّة التي لا يُعْقَلُ معناها بعِلَلٍ ما أَضْعَفَها ومَا أَوْهَاهَا.
وممَّا ذكره في كتاب له وَسَمَهُ بـ «الاحتياط»: أن يسجد عَقِبَ كلِّ صلاةٍ يصلِّيها سجدتَي السَّهو وإن لم يكن سَهَا فيها (1).
وهذا ممَّا لا يجوزُ فِعْلُه بالإجماعِ، وفاعلُه منسوبٌ إلى الغلوِّ والابتداعِ.
وما حكاه عن صفيَّة بقولها: «فرأيته مختونًا»، يناقضُ الأحاديثَ الأُخَرَ، وهو قوله: «لم يَرَ سَوْأتي أحدٌ»، فكلُّ حديثٍ في هذا الباب يناقضُ الآخرَ، ولا يَثبتُ واحدٌ منها، ولو وُلِدَ مختونًا فليس هذا من خصائصِه – صلى الله عليه وسلم -، فإنَّ كثيرًا من الناس يولَد غيرَ محتاجٍ إلى الختانِ.
قال: وذكر أبو القاسم النسَّابة الزّيديّ، أنَّ أباه القاضي أبا محمَّدٍ الحَسَنَ بنَ محمَّدِ بنِ الحَسَنِ الزيديّ ولد غير محتاج إلى الختان. قال: ولهذا لقب بـ «المطهَّر»، قال: وقال فيما قرأته بخطه: خُلِق أبو محمَّد الحَسَن مطهَّرًا لم يختن، وتوفي كما خُلِقَ. وقد ذكر الفقهاء في كتبهم أن من ولد كذلك لا يختن، واستحسن بعضهم أن يمرَّ الموسى على موضع الختان من غير قطع، والعوامُّ يسمُّون هذا ختان القمر. يشيرون في ذلك إلى أنَّ النموَّ في خِلْقَة الإنسان يحصلُ في زيادةِ القمر (2)، ويحصل
_________
(1) انظر: الاحتياطات للحكيم الترمذي، ص 330 – 331 مخطوط بدار الكتب المصرية رقم 21895 ب.
(2) «يشيرون … زيادةِ القمر» ساقط من «أ».
(الكتاب/301)
النقصانُ في الخِلْقَة عند نقصانِه، كما يوجد ذلك في الجَزْرِ والمَدِّ، فينسبونَ النقصانَ الذي حصلَ في القُلْفَة إلى نقصانِ القمرِ.
قال: وقد وَردَ في حديثٍ رواه سيف بنُ محمَّد ابنُ أختِ سفيانَ الثَّوريّ، عن هشامِ بنِ عُرْوَةَ، عن أبيه، عن عَائِشَةَ عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – قال: «ابنُ صيَّاد وُلِد مسرورًا مختونًا» (1). وسيفٌ مطعونٌ في حَديثهِ.
وقيل: إنَّ قَيْصَرَ مَلِكَ الرُّومِ الذي وَرَدَ عليه امْرُؤ القَيس وُلِدَ كذلك، ودخل عليه امْرُؤ القَيس الحمّامَ فرآه كذلك، فقال يهجوه:
إنِّي حَلَفْتُ يَمِيْنًا غَيْرَ كَاذِبَةٍ … لَأَنْتَ أَغْلَفُ إلّا مَا جَنَى الْقَمَرُ (2)
يعيِّره أنه لم يختتنْ، وجعل ولادته كذلك نقصًا. وقيل إنَّ هذا البيتَ أحدُ الأسبابِ الباعثةِ لِقَيْصَرَ على أنْ سَمَّ امرأ القَيْس فمات.
وأنشد ابنُ الأعْرَابيّ فيمن وُلدَ بلا قُلْفَةٍ (3):
فَذَاكَ نِكْسٌ لا يَبِضُّ حَجَرُهْ … مُخَرَّقُ العِرْضِ حَدِيدٌ مَنْظَرُهْ
فِي لَيْلِ كَانُون شَدِيدٍ خَصَرُهْ … عَضَّ بِأَطْرَافِ الزُّبَانَى قَمَرُهْ
_________
(1) أخرجه ابن عدي في الكامل: 3/ 127.
(2) البيت لامرئ القيس في ديوانه، ص 280، وهو من شواهد اللسان: 9/ 291.
(3) ذكر ابن حمدون هذه الأبيات في التذكرة عن ابن الأعرابي باختلاف في بعض الألفاظ: 5/ 125 ـ 126. يقول: هو أقلف إلا ما جنى القمر. ويقال: من ولد والقمر في العقرب فهو نحس. وقال الأصمعي: إذا عض أطراف الزبانى القمر: فهو أشد ما يكون من البرد.
(الكتاب/302)
يقول: هو أقْلَف، ليس بمختونٍ إلا ما قلَّصَ منه القمرُ، وشبَّه قُلْفتَه بالزُّبانى: وهي قَرْنَا العقرب، وكانت العرب لا تعتدُّ بصورة الختان من غير ختان، وترى الفضيلةَ في الختانِ نفسِه، وتَفْخَرُ بهِ.
قال: وقد بعثَ اللهُ نبيَّنا – صلى الله عليه وسلم – مِن صَمِيْمِ العَربِ، وخصَّه بصفاتِ الكمالِ من الخَلْق والنَّسبِ، فكيف يجوز أن يكونَ ما ذَكَرَهُ من كَوْنِه مختونًا مما يتميَّز به النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – ويخصَّصُ.
وقيل: إنَّ الختانَ من الكلماتِ التي ابتلى اللهُ بها خلِيْلَه – صلى الله عليه وسلم – فأتمهنَّ وأكملهنَّ (1)، وأشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثلُ فالأمثل.
وقد عدَّ النبيّ – صلى الله عليه وسلم – الختان من الفطرة، ومن المعلوم أن الابتلاء به مع الصبر مما يُضاعَف ثوابُ المبتلَى به وأجْرُهُ، والأَلْيَقُ بحال النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – أن لا يُسْلَب هذه الفضيلةَ، وأن يُكرمَه الله بها كما أكرمَ خليلَهُ، فإنَّ خصائصَه أعظمُ من خصائصِ غيرِه من النبيّينَ وأعْلَى.
وخَتْن الملَك إيَّاه ـ كما رُوِّيناه ـ أجْدَرُ مِن أن يكونَ من خصائصِه وأوْلَى». هذا كلُّه كلامُ ابنِ العَدِيْمِ.
ويريد بختن الملك، ما رواه من طريق الخطيب، عن أبي بكرة، أن جبريل ختن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – حين طهَّر قلبه (2).
_________
(1) انظر: تفسير الطبري: 2/ 8، وتفسير البغوي: 1/ 144.
(2) أخرجه الخطيب في التاريخ: 1/ 347، والطبراني في الأوسط برقم (5817)، وأبو نعيم في الدلائل:1/ 193، وابن عساكر في تاريخ دمشق: 3/ 412. قال الهيثمي في المجمع: 8/ 224: «فيه عبدالرحمن بن عيينة ومسلمة بن محارب ولم أعرفهما، وبقية رجاله ثقات». وقال الصَّالحيّ في السيرة 1/ 420: «قيل إن جبريل ختنه، ولا يصحُّ سنده».
(الكتاب/303)
وهو مع كونه موقوفًا على أبي بكرة، لا يصح إسناده، فإنَّ الخطيبَ قال فيه: أنبأنا أبو القاسم عبد الواحد بن عثمان بن محمَّد البَجَلِيّ، أنبأنا جعفر بن محمَّد بن نصير، حدّثنا محمَّد بن عبد الله بن سليمان، حدّثنا عبد الرَّحمن بن عُيَيْنَة البصري، حدّثنا عليُّ بنُ محمَّدٍ المدائنيُّ، حدّثنا مَسْلمةُ بنُ مُحارِب بن سليم بن زيادٍ، عن أبيه، عن أبي بَكْرَةَ. وليس هذا الإسنادُ مما يُحتجُّ به.
وحديثُ شَقِّ الملَكِ قلْبَهُ – صلى الله عليه وسلم -، قد رُوِي من وجوهٍ متعدِّدةٍ مرفوعًا إلى النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، وليس في شيء منها أنَّ جبريل ختنه، إلا في هذا الحديث، فهو شاذٌّ غريبٌ.
قال ابنُ العَدِيْمِ: «وقد جاء في بعض الرِّوايَاتِ: أن جدَّه
عبدَ المطَّلب خَتَنَهُ في اليومِ السَّابع» (1).
قال: «وهو ـ على ما فيه ـ أشبه بالصواب، وأقرب إلى الواقع».
_________
(1) رواه ابن عبدالبر في التمهيد: 23/ 140، وقال الصَّالحيّ في السيرة 1/ 420: «وسنده غير صحيح». وانظر: زوائد تاريخ بغداد، للدكتور خلدون الأحدب: 1/ 348.
(الكتاب/304)
ثم ساق من طريق ابنِ عبد البَرِّ (1): «حدّثنا أبُو عَمرو أَحْمَد بن محمَّد بن أَحْمَد قراءة مني عليه، أن محمَّد بن عيسى حدَّثه قال: حدّثنا يحيى بن أيوب بن زياد العلاف، حدّثنا محمَّد بن أبي السري العسقلاني، حدّثنا الوليد بن مُسْلِم، عن شُعَيْب بن أبي حَمْزَة، عن عطاء الخُرَاسَانيّ، عن عِكْرِمَة (2) عن ابن عبَّاس: أنَّ عبدَ المطَّلبِ ختنَ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – يومَ سابعِه، وجعل له مَأْدُبَةً، وسمَّاه محمَّدًا.
قال يحيى بنُ أيُّوب: ما وجدنا هذا الحديثَ عند أحدٍ إلا عند ابنِ أبي السّريّ، وهو محمَّد بن المتوكِّل بن أبي السّري». والله أعلم.
_________
(1) انظر: التمهيد لابن عبدالبر: 23/ 140.
(2) «عن عكرمة» ساقط من «أ».
(الكتاب/305)
الفصل الرابع عشر
في الحِكمة التي لأجْلِها يُعادُ بَنو آدمَ غُرْلًا
لما وعد اللهُ سبحانه ـ وهو صادق الوعد الذي لا يخلف وعده ـ أنَّه يُعيدُ الخَلْقَ كما بَدَأَهُمْ أوَّلَ مرة، كان مِن صِدْق وَعْدِه أن يُعيدَه على الحالةِ التي بدأه عليها من تمام أعضائِه وكمالِها.
قال الله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ (1) كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء/ 104].
وقال تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف/ 29].
وأيضًا: فإنَّ الختانَ إنما شُرِع في الدنيا لتكميلِ الطهارةِ والتنزُّهِ من البول، وأهلُ الجنَّة لا يبولون ولا يتغوَّطُونَ، فليس هناك نجاسةٌ تصيب الغُرْلةَ فيحتاج إلى التحرُّز منها، والقُلْفَةُ لا تمنع لَذَّة الجماع ولا تعوقُه. هذا إن قُدِّر استمرارُهم على تلك الحالة (التي بُعِثُوا عليها) (2)، وإلَّا فلا يلزمُ من كَوْنِهمْ يُبعثون كذلك أن يستمرُّوا على تلك الحالةِ، فإنهم يُبعَثُونَ حُفَاةً عُراةً بُهْمًا، ثم يُكْسَوْنَ، ويُمَدُّ خَلْقُهم، ويُزَاد فيه بعد ذلك،
_________
(1) في «أ، د»: «للكتاب» وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر. انظر: زاد المسير لابن الجوزي: 5/ 395.
(2) ما بين القوسين ساقط من «أ، ج».
(الكتاب/306)
يُزاد في خَلْق أهل الجنة والنار وإلا فوقت قيامِهم من القبور يكونونَ على صورتِهم التي كانوا عليها في الدُّنيا، وعلى صِفاتِهم وهيئاتِهم وأحوالِهم، فيُبعث كلُّ عبدٍ على ما مات عليه، ثم يُنْشِئُهم الله سبحانه كما يشاء.
وهل تبقى تلك الغُرْلة التي كملت خلقهم في القبور أو تزول؟
يمكن هذا وهذا، ولا يُعلَمُ إلا بخبرٍ يجب المصير إليه، والله
ــ سبحانه وتعالى ــ أعلم.
(الكتاب/307)
الباب العاشر
في حُكمِ ثَقبِ أُذنِ الصَّبيِّ والبنتِ (1)
أمَّا أُذُن البنتِ، فيجوز ثَقْبُها للزِّينة. نصَّ عليه الإمام أَحْمَد، ونصَّ على كراهته في حقِّ الصبيِّ (2).
والفرق بينهما: أنَّ الأنثَى محتاجةٌ (3) للحِلْيَة، فثَقْبُ الأذُن مصلحةٌ في حقِّها، بخلاف الصبيِّ، وقد قال النبيّ – صلى الله عليه وسلم – لعَائِشَةَ في حديث أمِّ زَرْعِ: «كنتُ لكِ كأَبي زَرْعٍ لأمِّ زَرْعٍ» (4). مع قولها: أَنَاسَ من حُلِيٍّ أُذنيَّ، أي ملأها من الحلي، حتى صار ينوس فيها، أي: يتحرك ويجول.
وفي «الصحيحين» لما حرَّض النبيّ – صلى الله عليه وسلم – النساء على الصدقة، جعلت المرأة تلقي خُرْصَهَا … الحديث (5). و «الخُرْصُ»: هو الحَلْقة
_________
(1) في «أ، ج»: الأنثى. وسقطت كلمة (حكم) من العنوان في «ج».
(2) وانظر: المستوعب للسامري: 1/ 267، والآداب الشرعية لابن مفلح: 3/ 356، وجامع أحكام الصغار للأسروشني: 1/ 215.
(3) في «ج»: تحتاجه.
(4) قطعة من حديث أخرجه البخاري في النكاح، باب حسن المعاشرة مع الأهل: 9/ 345، ومسلم في فضائل الصحابة، باب ذكر حديث أم زرع: 4/ 1896، برقم (2448).
(5) عن ابن عبَّاسٍ أنَّ النّبيَّ – صلى الله عليه وسلم – صلَّى يومَ الفطرِ ركعتَينِ لم يصلِّ قبْلها ولا بعدَها ثمَّ أَتى النِّساءَ ومعه بلال فأمَرهُنَّ بالصَّدقةِ فجعلن يُلقينَ، تُلْقِي المرأةُ خُرْصَها وسِخَابَها.
أخرجه البخاري في العيدين، باب الخطبة بعد العيد: 2/ 453، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صلاة العيدين، باب ترك الصلاة قبل العيد وبعدها: 2/ 602 برقم (884).
(الكتاب/308)
الموضوعة في الأذن.
ويكفي في جوازه علْمُ اللهِ ورسولِهِ (1) بفعل الناس له، وإقرارُهم على ذلك، فلو كان مما ينهى عنه لنهى عنه القرآن أو السنَّة.
فإن قيل: فقد أخبر الله ـ سبحانه ـ عن عدوه إبليس، أنه قال: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ} [النساء/ 119] أي يقطعونها. وهذا يدلُّ على أنَّ قَطْعَ الأُذُنِ وشقَّهَا وثَقْبَها من أمر الشيطان، فإنَّ «البَتْك»: هو القَطْعُ، وثَقْبُ الأذنِ قطعٌ لها، فهذا مُلْحَقٌ بقَطْعِ أذُنِ الأنعامِ.
قيل: هذا من أفسد القياس، فإنَّ الذي أمرهم به الشيطانُ أنَّهم كانوا إذا وَلَدَتْ لهم الناقةُ خمسةَ أبْطُن فكان البطنُ السَّادسُ ذكرًا، شقُّوا أذُنَ الناقةِ، وحرَّموا ركوبَها والانتفاعَ بها، ولم تُطْرَدْ عن ماء ولا عن مَرْعَى، وقالوا: هذه بَحِيرَةٌ، فَشرَعَ لهم الشيطانُ في ذلك شريعةً من عنده.
فأين هذا من نَخْسِ (2) أذُنِ الصَّبِيَّة ليوضع فيها الحِلْيةُ التي أباحَ اللهُ لها أن تتحلَّى بها؟
_________
(1) «علم الله ورسوله» ساقط من «ج».
(2) في «ج»: بخش.
(الكتاب/309)
وأما ثَقْبُ أذُنِ الصَّبِيِّ (1)، فلا مصلحةَ له فيه، وهو قطعُ عضوٍ من أعضائهِ، لا لمصلحةٍ دينيةٍ ولا دنيويةٍ، فلا يجوزُ.
ومن أعجب ما في هذا الباب، ما قال الخطيبُ في «تاريخه»: أخبرنا الحَسَنُ بنُ عليّ الجَوْهَرِيُّ، حدَّثنا محمَّد بنُ العبَّاسِ الخزَّازُ، حدّثنا أبُو عَمرو عثمانُ بنُ جعفر المعروف بابن اللبَّان (2)، حدّثنا أبو الحَسَنِ بنُ عليّ بنِ إسْحَاقَ بنِ راهُويَه، قال: ولد أبي من بطن أمِّه مثقوبَ الأذنين، قال: فمضى جدِّي رَاهُويَه إلى الفضل بن موسى السِّينانيّ، فسأله عن ذلك، وقال: ولد لي ولدٌ خرجَ من بطن أُمِّه مثقوبَ الأذنين. فقال: يكونُ ابنُك رأسًا إمَّا في الخير، وإمَّا في الشرِّ (3).
فكأنَّ الفضل بنَ موسى ـ والله أعلم ـ تفرَّسَ فيه، أنَّه لما تفرَّد عن المولُودِيْنَ كلِّهم بهذه الخاصة أن يَنْفَرِدَ عنهم بالرئاسة في الدِّين أو الدُّنيا.
وقد كان ـ رحمه الله ـ رأس أهل زمانه في العلم والحديث والتفسير والسنَّة، والجلالة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكَسْرِ الجَهْمِيَّة وأهل البِدَعِ ببلاد خُرَاسَان، وهو الذي نشر السنَّة في بلاد خراسان، وعنه انتشرت هناك، وقد كان له مقاماتٌ محمودة عند
_________
(1) «ليوضع فيها الحلية … أذن الصّبي» ساقط من «ج».
(2) في «ج»: الكبار.
(3) تاريخ بغداد للخطيب: 6/ 347.
(الكتاب/310)
السلطان، يُظْفِرُه الله فيها بأعدائه ويخزيهم على يديه حتى تعجَّب منه السلطان والحاضرون، حتى قال محمَّد بن أَسْلَمَ الطُّوسيُّ: لو كان الثَوْري حيًّا لاحتاج إلى إسْحَاق. فأُخبر بذلك أَحْمَد بنُ سعيد الرّباطيّ فقال: والله لو كان الثَوْري، وابن عُيَيْنَة، والحمَّادان في الحياة، لاحتاجوا إلى إسْحَاق. فأُخبر بذلك محمَّد بن يحيى الصفَّار فقال: والله، لو كان الحَسَنُ البصريُّ حيًّا لاحتاج إلى إسْحَاق في أشياء كثيرة (1).
وكان الإمام أَحْمَد يسمِّيه أميرَ المؤمنين. وسنذكر هذا وأمثاله في كتاب نُفْرِدُه لمناقبه إن شاء الله تعالى. (2)
ونذكر حكاية عجيبة يُستدلُّ بها على أنه كان رأس أهل زمانه: قال الحاكم أبو عبد الله في «تاريخ نيسابور» أخبرني أبو محمَّد بن زياد قال: سمعت أبا العبَّاس الأزْهَرِيَّ قال: قال سمعت عليَّ بن سلَمَةَ يقول: كان إسْحَاق عند عبد الله بن طاهر وعنده إبراهيم بن أبي صالح، فسأل عبدُالله بن طاهر إسْحَاقَ عن مسألة. فقال إسْحَاق: السنَّة فيها كذا وكذا، وأما النُّعمان وأصحابه فيقولون بخلاف هذا.
فقال إبراهيم: لم يقل النعمان بخلاف هذا.
_________
(1) تاريخ بغداد للخطيب: 6/ 349. وانظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: 11/ 371 وما بعدها.
(2) ومن هنا جعل الشيخ بكر أبوزيد رحمه الله «مناقب إسحاق بن راهويه» ضمن كتب المصنف. انظر كتابه: ابن قيم الجوزية: حياته وآثاره وموارده، ص 305.
(الكتاب/311)
فقال إسْحَاق: حفظتُه من كتاب جدِّك، وأنا وهو في كُتَّاب واحدٍ.
فقال إبراهيم للأمير: أصلحك الله، كذبَ إسْحَاقُ (1) على جَدِّي.
فقال إسْحَاق: يبعثُ الأميرُ إلى جزء كذا وكذا من «الجامع» فَلْيُحْضِرْهُ، فأُتي بالكتاب، فجعل الأمير يقلِّب الكتاب.
فقال إسْحَاق: عُدَّ مِنْ أوَّلِ الكتابِ إحدى وعشرين ورقةً، ثمَّ عُدَّ تسعةَ أسطرٍ. ففعلَ، فإذا المسألةُ على ما قال إسْحَاقُ.
فقال عبد الله بن طاهر: ليس العَجَبُ مِنْ حفظك إنَّما العجبُ بمثل هذه المشاهدة.
فقال إسْحَاق: ليومٍ مثل هذا، لكي يخزي الله على يدي عدوًا للسنَّة مثل هذا (2).
وقال له عبد الله بن طاهر: قيل لي إنك تحفظ مائة ألف حديث! فقال له: مائة ألف، لا أدري ما هو، ولكني ما سمعتُ شيئًا قط إلا حفظتُه، ولا حفظتُ شيئًا قط فنسيته (3).
والمقصود: صحَّة فراسةِ الفضل بن موسى فيه وأنَّه يكون رأسًا في الخير. والله أعلم.
_________
(1) ساقطة من «أ».
(2) انظر: تاريخ بغداد للخطيب: 6/ 353 ـ 354.
(3) تاريخ بغداد للخطيب: 6/ 354.
(الكتاب/312)
الباب الحادي عشر
في حُكمِ بولِ الغُلام والجارِية قَبلَ أن يأكُلا الطَّعام (1)
ثبت في «الصَّحَيحَينِ» و «السُّنَنِ» و «المَسَانِيدِ» عن أمِّ قَيْسِ بنتِ مِحْصَنٍ، أنَّها أتتْ بابنٍ لها صغيرٍ لم يأكُلِ الطَّعَامَ إلى رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – فبَالَ على ثَوبهِ، فدَعَا بِمَاءٍ، فَنَضَحَهُ عَليهِ، ولم يَغْسِلْهُ (2).
وعن عليّ بنِ أَبي طالبٍ ـ رضي الله عنه ـ، أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال: «بَوْلُ الغُلامِ الرَّضيعِ يُنْضَحُ، وبَولُ الجَارِيَةِ يُغْسَلُ». قال قَتادة: هذا ما لم يَطْعَما، فإذا طَعِما غُسِلَا جميعًا (3).
_________
(1) «الطعام» ساقطة من «أ، ب». وانظر كلام المصنف عن هذه المسألة في: أعلام الموقعين: 2/ 59 ـ 60، 352 ـ 353، و 4/ 243.
(2) أخرجه البخاري في الوضوء، باب بول الصبيان: 1/ 326، ومسلم في الطهارة، باب حكم بول الطفل الرضيع: 1/ 238 برقم (287). وأخرجه مالك في الطهارة برقم (177)، وأبو داود (374)، والترمذي في الطهارة (71)، والنسائي: 1/ 57، وابن ماجه (524)، والإمام أحمد: 6/ 355، وفي طبعة الرسالة: 44/ 548، والدارمي (741)، والبيهقي: 2/ 414، وابن خزيمة (285)، وابن حبان (1373)، والحاكم: 1/ 165، وابن المنذر في الأوسط (676).
(3) «فإذا طعما» ساقطة من «ج».
(الكتاب/313)
رواه الإمام أَحْمَد، والتّرْمذِيّ وقال: حديث حسنٌ، وصحَّحهُ الحاكمُ وقال: هو على شرط الشَّيخين (1).
وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: أُتي رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – بصبيٍّ يُحنِّكُه، فبالَ عليه، فأتبعه الماءَ. رواه البُخَاريّ ومُسْلِم، وزاد مُسلم (2): «ولم يغسله» (3).
وعن أمِّ كُرْزٍ الخُزَاعِيَّةِ قالت: أُتي النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – بغلامٍ فبالَ عليه، فأمر به
_________
(1) روه الإمام أحمد: 1/ 76، وفي طبعة الرسالة: 2/ 7، وأبو داود في الطهارة، باب بول الصبي يصيب الثوب: 2/ 608، والترمذي في الصلاة، باب ما ذكر في نضح الغلام الرضيع: 2/ 509، وابن ماجة في الطهارة، باب بول الصبي الذي لم يطعم: 1/ 174 برقم (525)، وابن خزيمة في صحيحه برقم (284) وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي: 1/ 165، وابن حبان برقم (1375)، والدارقطني: 1/ 129، وابن المنذر في الأوسط: 2/ 144 وقال: «وقد تكلم فيه بعض أهل العلم». وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 1/ 38: «إسناده صحيح؛ إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه، وفي وصله وإرساله، وقد رجح البخاري صحته، وكذا الدارقطني، وقال البزار: تفرَّد برفعه معاذ بن هشام، عن أبيه، وقد روي هذا الفعل من حديث جماعة من الصحابة، وأحسنها إسنادًا حديث علي».
(2) ساقطة من «ج».
(3) أخرجه البخاري في الوضوء، باب بول الصبيان: 1/ 325، ومسلم في الطهارة، باب حكم بول الطفل الرضيع: 1/ 237 برقم (286).
(الكتاب/314)
فنُضِحَ، وأُتي بجاريةٍ فبالتْ عليه، فأمَرَ به فغُسِلَ. رواه الإمام أَحْمَد (1).
وفي «سنن ابن ماجه» من حديث عَمْرو بن شُعَيْب (2)، عن أمِّ كُرْزٍ، أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال: «بَوْلُ الغُلام يُنْضَحُ، وبَولُ الجَارِيَة يُغسَل» (3).
وعن أمِّ الفَضْلِ، لُبابةَ بنتِ الحارثِ قالت: بالَ الحُسَيْن بنُ عليٍّ في حِجْرِ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، فقلتُ: يا رسولَ الله أعطني ثوبَك والْبَسْ ثوبًا غيره حتى أَغْسِلَهُ. فقال: «إنَّما يُنضَحُ من بَوْلِ الذَّكَرِ، ويُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الأُنْثَى». رواه الإمام أَحْمَد، وأبو داود، وقال الحاكم: هو صحيح (4).
_________
(1) في المسند: 6/ 422 و 464، وفي طبعة الرسالة: 45/ 369 و 604، والطبراني في الأوسط برقم (828). قال الحافظ في التلخيص الحبير 1/ 38: «وفيه انقطاع، وقد اختلف فيه على عمرو بن شعيب، فقيل: عنه، عن أبيه، عن جده كالجادة. أخرجه الطبراني في الأوسط وفي الباب عن أم سلمة رواه الطبراني وإسناده ضعيف، فيه إسماعيل بن مسلم المكي، لكن رواه أبو داود من طريق الحسن، عن أمه: أنها أبصرت أم سلمة تصب على بول الغلام ما لم يطعم، فإذا طعم غسلته، وكانت تغسل بول الجارية. وسنده صحيح، ورواه البيهقي من وجه آخر عنها موقوفًا أيضًا وصححه». وانظر: مجمع الزوائد: 1/ 285.
(2) في «ب، ج، د»: عن أبيه عن جدِّه. والصواب بدونها كما في «أ» وفي سنن ابن ماجه.
(3) أخرجه ابن ماجة في الطهارة، باب بول الصبي الذي لم يطعم: 1/ 175 برقم (527)، وإسناده منقطع، لأن عمرو بن شعيب لم يسمع من أم كرز، ولكن له شواهد.
(4) روه الإمام أحمد: 6/ 339، وفي طبعة الرسالة: 44/ 446، وأبو داود في الطهارة، باب بول الصبي يصيب الثوب: 2/ 604، وابن خزيمة في صحيحه برقم (284) وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي: 1/ 165: 1/ 174 برقم (522)، وأبو يعلى (7074)، والبيهقي في السنن: 2/ 414، والبغوي في شرح السنة (295).
(الكتاب/315)
وفي «صحيح الحاكم» (1) من حديثِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ مَهْدِيّ، حدّثنا يحيى بنُ الوليدِ، حدّثني مُحِلّ (2) بنُ خليفةَ، حدّثني أبو السَّمْح، قال: كنت خادمَ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، فجيء بالحَسَنِ والحُسَيْن، فبالا على صدره، فأرادوا أن يغسلوه، فقال: «رُشُّوهُ رشًّا، فإنه يُغْسَل بول الجَارِيَة ويُرَشُّ بَولُ الغُلامِ». قال الحاكم: هو صحيح. ورواه أهل السنن (3).
_________
(1) هو المستدرك على الصحيحين، وفي إطلاق (الصحيح) عليه نوع من التجاوز. قال ابن الصلاح في علوم الحديث ص (22): واعتنى الحاكم أبو عبدالله الحافظ بالزيادة في عدد الحديث الصحيح على ما في الصحيحين، وجمع ذلك في كتاب سماه «المستدرك» أودعه ما ليس في واحد من الصحيحين، مما رواه على شرط الشيخين قد أخرجا عن رواته في كتابيهما، أو على شرط البخاري وحده، أو على شرط مسلم وحده، وما أدى اجتهاده إلى تصحيحه وإن لم يكن على شرط واحد منهما. وهو واسع الخطو في شرط الصحيح، متساهل في القضاء به. فالأوْلى أن نتوسط في أمره فنقول: ما حكم بصحته، ولم نجد ذلك فيه لغيره من الأئمة، إن لم يكن من قبيل الصحيح فهو من قبيل الحسن، يحتج به ويعمل به، إلا إن ظهر فيه علة توجب ضعفه». وانظر ما كتبه المصنف في الفروسية ص 213 ـ 214
(2) في (ب، ج): مجلى. و (محلّ) بضم الميم وكسر الحاء المهملة وتشديد اللام، كما في تقريب التهذيب.
(3) أخرجه الحاكم في المستدرك: 1/ 166 وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وأخرجه أبو داود في الموضع السابق: 2/ 606 – 607، والنسائي في الطهارة، باب بول الجارية: 1/ 158 برقم (304)، وابن ماجه في الموضع السابق: 1/ 174، وصححه ابن خزيمة برقم (283)، ورواه الدارقطني في السنن: 1/ 13.
(الكتاب/316)
وذهب إلى القولِ بهذه الأحاديثِ جمهورُ أهلِ العلمِ من أهل الحديثِ والفقهِ، حتى ذهب داود إلى طهارةِ بولِ الغُلامِ. قال: لأنّ النّصَّ إنَّما ورد بنَضْحِه ورشِّه دون غَسله، والنَّضْحُ والرشُّ لا يُزيلُه (1).
وقال فقهاء العراق: لا يجزئُ فيه إلا الغَسْلُ فيهما جميعاً. هذا قولُ النَّخْعِيِّ، والثَوْريِّ، وأبي حنيفةَ وأصحابهِ؛ لعموم الأحاديث الواردة بغَسْل البول، وقياسًا على سائر النجاسات، وقياسًا لبول الغُلام على بول الجَارِيَة (2).
والسنَّة قد فرقت بين البَوْلَين صريحًا، فلا يجوز التَّسويةُ بينَ ما صرَّحَتْ به السُّنَّةُ بالفَرْق بيْنَهُما.
وقالت طائفة؛ منهم الأوْزَاعِيُّ، ومالكٌ ـ في رواية الوليد بن مُسْلِم عنه ـ: يُنضح بولُ الغُلام والجَارِيَة دفعًا للمشقَّة؛ لعموم الابتلاء بالتَّربية
_________
(1) انظر: المحلى لابن حزم: 1/ 100 – 102، والأوسط لابن المنذر: 2/ 142، ومختصر اختلاف العلماء للجصاص: 1/ 126 ـ 128.
(2) انظر: الأوسط لابن المنذر: 2/ 142 ـ 145، والمغني لابن قدامة: 2/ 495. وهو قول الإمام مالك في المدونة: 1/ 4.
(الكتاب/317)
والحمل لهما (1).
وهذا القول يُقَابِل قَوْلَ (2) مَنْ قال: يغسلان. والتفريق هو الصواب الذي دلَّتْ عليه السنَّةُ الصحيحةُ الصريحةُ (3).
قال أبو البركات ابن تيميَّة: «والتفريق بين البَوْلين إجماع الصحابة.
_________
(1) انظر: المحلى: 1/ 102، ومختصر اختلاف العلماء: 1/ 126.
(2) ساقطة من (ب، ج).
(3) قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم 2/ 198: «اختلف العلماء في كيفية طهارة بول الصبي والجارية على ثلاثة مذاهب، وهي ثلاثة أوجه لأصحابنا: الصحيح المشهور المختار: أنه يكفي النضح في بول الصبي، ولا يكفي في بول الجارية، بل لا بد من غسله كسائر النجاسات. والثاني: أنه يكفي النضح فيهما. والثالث: لا يكفي النضح فيهما. .. وممن قال بالفرق: عليُّ بن أبي طالب، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وجماعة من السلف وأصحاب الحديث، وابن وهب من أصحاب مالك رضي الله عنهما، وروي عن أبي حنيفة. وممن قال بوجوب غسلهما: أبو حنيفة ومالك في المشهور عنهما، وأهل الكوفة.
واعلم أن هذا الخلاف إنما هو في كيفية تطهير الشيء الذي بال عليه الصبي، ولا خلاف في نجاسته، وقد نقل بعض أصحابنا إجماع العلماء على نجاسة بول الصبي، وأنه لم يخالف فيه إلا داود الظاهري، قال الخطَّابي وغيره: وليس تجويز من جوَّز النضح في الصبي من أجل أنَّ بوله ليس بنجس، ولكنه من أجل التخفيف في إزالته، فهذا هو الصواب. وأما ما حكاه أبو الحسن بن بطال ثم القاضي عياض عن الشافعي وغيره أنهم قالوا: بول الصبي طاهر فينضح، فحكاية باطلة قطعًا». وانظر: الأوسط لابن المنذر: 2/ 144، وفتح العزيز للرافعي: 1/ 64 – 66.
(الكتاب/318)
رواه أبو داود عن عليّ بن أبي طالب. ورواه سعيد بن منصور عن أم سلَمَةَ، وقال إسْحَاق بن راهُويه: مضتِ السنّةُ عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأن يُرَشَّ بولُ الصبيِّ الذي لم يَطْعَمِ الطعامَ، ويُغْسَلَ بَوْلُ الجَارِيَة طعمت أو لم تطعم. قال: وعلى ذلك كان أهل العلم من الصحابة ومَنْ بعدهم. قال: ولم يُسمع عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، ولا عمَّن بعده إلى زمان التَّابعِين أنَّ أحدًا سوَّى بين بول الغُلامَ والجَارِية». انتهى كلامه (1).
والقياس في مقابلة السنَّة مردودٌ.
وقد فُرِّق بين الغُلامِ والجَارِيَة في المعنى بعدَّةِ فُرُوقٍ:
(أحدها): أنّ بول الغُلام يتطاير وينتشر هاهنا وهاهنا، فيشقُّ غَسْلُه، وبولُ الجارِيةِ يقع في موضعٍ واحد فلا يشقُّ غَسْله.
(الثاني): أنّ بَولَ الجَارِيَة أنتنُ من بول الغُلام، لأنَّ حرارةَ الذَّكَرِ أَقوى، وهي تؤثِّر في إنضاج البول وتخفيفِ رائحتهِ.
(الثالث): أنَّ حَمْلَ الغُلام أكثر من حمْل الجَارِيَة لتعلُّق القلوب به، كما تدلُّ عليه المشاهدة.
فإن صحَّت هذه الفروق، وإلا فالمعوَّل على تفريق السنَّة.
قال الأصحابُ وغيرهم: النَّضْحُ: أن يغرقه بالماء وإن لم يزل عنه (2).
_________
(1) لم أجده في المطبوع من كتبه، ولعله في «الغاية شرح الهداية» فقد نقل عنه فيما سبق، وهو غير مطبوع.
(2) انظر: المغني: 2/ 495، ومطالب أولي النهى: 1/ 226، والمطلع على المقنع، ص 36.
(الكتاب/319)
وليس هذا بشرطٍ، بل النَّضْحُ: الرشُّ، كما صرَّح به في اللفظ الآخر، بحيث يُكاثَرُ البول بالماء.
ولا يَبطلُ حكم النَّضْح بتَلْعِيقِ (1) العسل والشراب والتحنيك ونحوه، لئلا تتعطَّل الرُّخْصَة؛ فإنَّه لا يخلو من ذلك مولودٌ غالبًا، ولأن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم -، كان مِن عادته تحنيك الأطفالِ بالتمر عند ولادتهم، وإنمَّا يزول حُكْمُ النَّضْحِ إذا أكلَ الطعامَ وأرادهُ واشتهاهُ تغذِّيًا به. والله أعلم.
_________
(1) في «أ، ب، د»: بتعليق.
(الكتاب/320)
الباب الثاني عشر
في حُكم رِيقهِ ولُعَابهِ
هذه المسألة ممَّا تعمُّ به البَلْوَى، وقد عَلِم الشارعُ أنّ الطفل يَقِيءُ كثيرًا، ولا يمكن غَسْلُ فَمِهِ، ولا يزال ريقُهُ ولعابُه يسيلُ على من يربّيه ويحملُه، ولم يأمرِ الشارعُ بغَسْل الثياب من ذلك، ولا مَنَعَ من الصلاة فيها، ولا أَمرَ بالتحرُّز من رِيْق الطفل (1).
فقالت طائفة من الفقهاء: هذا من النجاسة التي يُعفَى عنها للمشقَّة والحاجةِ، كطِيْنِ الشَّوارع، والنجاسةِ بعد الاسْتِجْمَار، ونجاسةِ أسفل الخُفِّ والحذاء بعد دَلْكِهِمَا بالأرض.
وقال شيخنا وغيره من الأصحاب (2): بل رِيْقُ الطفل يطهِّر فمَه
_________
(1) قال ابن قدامة في المغني 1/ 113: «ولعاب الصبيان طاهر، وقد روى أبو هريرة، قال: رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حاملًا الحسين بن عليّ على عاتقه، ولعابه يسيل عليه. وحمل أبو بكر الحسن بن علي على عاتقه ولعابه يسيل، وعلي إلى جانبه، وجعل أبو بكر يقول:
وَا بأبي شِبْهَ النبيّ … لا شبيهًا بعليّ
وعلي يضحك».
(2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 21/ 474: «وأما إزالة النجاسة بغير الماء ففيها ثلاثة أقوال في مذهب أحمد: أحدها: المنع كقول الشافعي، وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد. والثاني: الجواز كقول أبي حنيفة، وهو القول الثاني في مذهب مالك وأحمد. والقول الثالث: في مذهب أحمد أن ذلك يجوز للحاجة كما في طهارة فم الهرة بريقها وطهارة أفواه الصبيان بأرياقهم ونحو ذلك». وانظر: الاختيارات الفقهية للبعلي، ص (56).
(الكتاب/321)
للحاجة، كما كان ريقُ الهرَّة مطهِّرًا لفمها، وقد أخبر النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أنّها ليستْ بِنَجَسٍ، مع علمه بأكلها الفأر وغيره. وقد فَهِمَ من ذلك أبو قَتَادَةَ طهارةَ فمِها وريقِها، وكذلك أصْغَى لها الإناءَ حتى شربتْ (1).
وأَخبرت عَائِشَةُ رضي الله عنها، أنَّ النبيّ – صلى الله عليه وسلم – كان يُصْغِي إلى الهرة ماء حتى تشربَ (2)، ثم يتوضأُ بفَضْلِها. واحتمالُ ورودها على ماء كثير فوق القُلَّتَيْن في المدينة في غاية البُعْد، حتى ولو كانت بين مياهٍ كثيرة لم يكن هذا الاحتمال مُزيلًا لما عُلم من نجاسة فمِها لولا تطهيرُ الرِّيق له، فالريقُ مطهِّر فمَ الهرة وفمَ الطفل للحاجة، وهو أولى بالتطهير مِنَ
_________
(1) أخرج الإمام مالك في الموطأ، كتاب الطهارة، باب الطهور للصلاة: 1/ 24: عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة عن خالتها كبشة بنت كعب بن مالك ـ وكانت تحت ابن أبي قتادة الأنصاري ـ أنها أخبرتها أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءًا، فجاءت هرة لتشرب منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت. قالت كبشة: فرآني أنظر إليه! فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ قالت فقلت: نعم. فقال: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «إنها ليست بنجس، إنما هي من الطوَّافين عليكم أو الطوَّافات». وأخرجه أبو داود برقم (38) والترمذي (69) والنسائي (67) وابن ماجه (386).
(2) من أول حديث عائشة إلى هنا ساقط من «أ». والحديث أخرجه أبو داود في الطهارة، الموضع السابق.
(الكتاب/322)
الحَجَرِ في محلِّ الاسْتِجْمَار، ومِنَ التراب لأسفلِ الخُفِّ والحذاءِ والرِّجْل الحافِيَة على أحد القولين في مذهب مالك وأَحْمَد، وأولى بالتَّطهير من الشمس والرِّيح، وأَوْلى بالتَّطهير من الخَلِّ (1) وغيره من المائعات عند من يقول بذلك، وأَوْلى بالتَّطهير من مَسْحِ السَّيفِ والمرآة والسِّكّينِ ونحوها من الأجسام الصَّقِيلة بالخِرْقة (2) ونحوها، كما كان الصحابة يمسحون سيوفهم، ولا يغسلونها بالماء ويصلُّون فيها، ولو غُسِلت السيوفُ لصَدِئَتْ وذهب نَفْعُها (3). وقد نظر النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – في سَيْفَي ابنَي عَفْراءَ، فاستدلَّ بالأثر الذي فيهما على اشتراكهما في قتل أبي جهل ـ لعنه الله تعالى ـ ولم يأمُرْهُمَا بغَسْلِ سيفَيهِما، وقد عَلِم أنهما يصلِّيان فيهما (4). والله أعلم.
_________
(1) ساقط من «أ».
(2) ساقط من «أ».
(3) وانظر: الأوسط لابن المنذر: 2/ 167، ومجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر للشيخ داماد: 1/ 59.
(4) أخرجه البخاري في فرض الخُمس 6/ 246، ومسلم في الجهاد برقم (1752).
(الكتاب/323)
الباب الثالث عشر
في جوازِ حَمْل الأطفالِ في الصَّلاةِ وإنْ لم يُعلم حالُ ثيابهم
ثبت في «الصحيحين» عن أبي قَتَادَةَ، أنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – كان يُصلّي، وهو حاملٌ أمامةَ بنتَ زينبَ بنتِ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم -، وهي لأبي العَاصِ بنِ الرَّبِيعِ، فإذا قام حمَلَهَا، وإذا سجدَ وضعَها (1).
ولمُسْلِمٍ: حملها على عُنُقِهِ (2).
ولأبي داود: بينما نحن ننتظرُ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – في الظُّهر أو العصر، وقد دعَاه بلالٌ إلى الصَّلاة (3)، إذْ خرج إلينا، وأمامةُ بنتُ أبي العَاصِ، بنتُ بنتِه (4)، على عُنُقِهِ، فقام رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – في مُصَلَّاهُ، وقُمْنا خَلْفَهُ، وهي في مَكانِهَا الذي هي فيه، فكبَّر (5)، فكبَّرْنَا، حتى إذا أراد رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم –
_________
(1) أخرجه البخاري في الصلاة، باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة: 1/ 590، ومسلم في المساجد، باب جواز حمل الصبيان في الصلاة: 1/ 385 برقم (534).
(2) في الموضع السابق نفسه.
(3) في (أ، ج): للصلاة.
(4) في (ب، ج): بنت زينب.
(5) فكبر. ساقطة من «ب».
(الكتاب/324)
أنْ يركعَ أخذَها فوضَعَها، ثمَّ ركعَ وسجَدَ حتى إذا فرغَ من سُجودِهِ ثمَّ قامَ، أخذَها فردَّها في مكانها، فما زال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – يصنعُ بها ذلك في كلِّ رَكعةٍ، حتى فرغَ من صلاتِه – صلى الله عليه وسلم – (1).
وهذا صريحٌ أنه كان في الفريضة، وفيه ردٌّ على أهل الوَسْوَاسِ، وفيه أنَّ العمل المتفرِّقَ في الصلاة لا يُبْطِلُها إذا كان للحاجة، وفيه الرحمةُ بالأطفال، وفيه تعليمُ التَّواضُعِ ومكارمِ الأخلاقِ، وفيه أنَّ مسَّ الصغيرةِ (2) لا ينقضُ الوضوءَ (3).
_________
(1) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب في العمل في الصلاة: 4/ 404 ـ 405.
(2) في «أ، ب»: الصغير.
(3) انظر: المغني لابن قدامة: 1/ 112 – 113، وفتح الباري لابن حجر:
1/ 590 – 591.
(الكتاب/325)
الباب الرابع عشر
في استحبابِ تَقبيلِ الأَطفالِ
في «الصحيحين» من حديث أبي هُرَيْرَةَ قال: قبَّل رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – الحَسَنَ بنَ عليٍّ، وعنده الأقرعُ بنُ حابِسٍ التَّمِيمِيُّ جالسٌ، فقال الأقرع: إنَّ لي عَشْرةً من الولد ما قبَّلت أحدًا منهم، فنظر إليه رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -، فقال: «مَنْ لا يَرْحَم لا يُرْحَم» (1).
وفي «الصحيحين» أيضًا: من حديث عائِشَةَ ـ رضي الله عنها ـ قالتْ: قَدِمَ ناسٌ مِنَ الأعرابِ على رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: تقبِّلون صبيانَكُمْ؟ فقالوا: نعم، فقالوا: والله لكنَّا ما نقبِّلُ، فقال: «أوَ أمْلِكُ إنْ كان اللهُ نَزَعَ من قُلوبِكُمُ الرَّحمةَ» (2).
وفي «المسند» من حديث أم سلَمَةَ قالتْ: بينما رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – في بيتي يومًا، إذْ قالتِ الخادمُ: إنَّ فاطمةَ وعليًّا ـ رضي الله عنهما ـ بالسُّدَّةِ، قالت: فقال لي: «قُومِي فَتَنَحَّي عَن أهْلِ بَيتي»، قالت: فقمتُ فتنحَّيْت
_________
(1) أخرجه البخاري في الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته: 10/ 426، ومسلم في الفضائل، باب رحمته- صلى الله عليه وسلم – بالصبيان والعيال وتواضعه: 4/ 1809 برقم (2318).
(2) أخرجه البخاري في الموضع السابق: 10/ 426، ومسلم في الموضع نفسه: 4/ 1808 برقم (2317) واللفظ له.
(الكتاب/326)
في البيت قريبًا، فدخل عليٌّ وفاطمة، ومعهما الحَسَنُ والحُسَيْن، وهما صَبِيَّان صغيران، فأخذ الصبيَّيْن فوضعهما في حجره فقبَّلهما، واعتنقَ عليًّا بإحدى يديه، وفاطمةَ باليد الأُخرى، فقبَّل فاطمةَ، وقبَّل عليًّا، وأغدفَ عليهما (1) خمَيصَةً سوداءَ، وقال: «اللهمَّ إليكَ لا إلى النَّار، أنا وأهلَ بيتي». قالت: فقلت: وأنا يا رسولَ الله فقال: «وأنتِ» (2). وفي طريق أخرى نحوه، وقال: «إنَّكِ إلى خَيْرٍ» (3).
_________
(1) في «أ»: وأغدق عليهم. ومعنى أغدف: أسبل عليهما، والخميصة: كساء أسود معلّم الطرفين ويكون من خزٍّ أو صوف.
(2) أخرجه الإمام أحمد: 6/ 296 وفي طبعة الرسالة: 44/ 161 – 162، وفي فضائل الصحابة برقم (994 ـ 496) وابن حبان برقم (6936)، وابن أبي شيبة: 12/ 73، وفي طبعة القبلة: 17/ 118 – 120.
(3) في «ب»: إلى حين. والحديث في المسند: 6/ 292 وفي طبعة الرسالة: 44/ 118 – 119 بإسناد صحيح. وانظر كلام المصنف أيضَا في: إغاثة اللهفان: 1/ 152 و 157.
(الكتاب/327)
الباب الخامس عشر
في وجوبِ تأديبِ الأَولادِ، وتَعليمِهم، والعَدْلِ بَينَهم
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم/ 6]. قال عليٌّ ـ رضي الله عنه ـ: علِّموهم وأدِّبُوهُمْ (1).
وقال الحَسَن: مُرُوهُمْ بطاعة الله وعلِّموهم الخير (2).
وفي «المسند» و «سنن أبي داود» من حديث عَمْرو بنِ شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «مُرُوا أبناءَكم بالصَّلاةِ لسبعٍ، واضْرِبُوهُمْ عليها لعَشْرٍ، وفرِّقُوا بينَهم في المضَاجِعِ» (3).
ففي هذا الحديث ثلاثة آداب: أمْرُهم بها، وضَرْبُهم عليها لعشر،
_________
(1) أخرجه الطبري: 23/ 491، والبيهقي في شعب الإيمان: 15/ 144، والبغوي في التفسير: 8/ 169، والسمعاني في أدب الإملاء والاستملاء ص (2).
(2) أخرجه الطبري: 23/ 491 – 492، وعبدالرزاق: 3/ 49، والبغوي: 8/ 169، والبيهقي في شعب الإيمان: 15/ 144.
(3) أخرجه الإمام أحمد: 2/ 180، وفي طبعة الرسالة: 11/ 284 – 285 وإسناده حسن، وأخرجه أبو داود في الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة: 1/ 270 (مختصر السنن)، والترمذي مختصرًا في الصلاة، باب متى يؤمر الصبيّ: 2/ 245 وقال: «حديث حسن صحيح».
(الكتاب/328)
والتَّفريقُ بينهم في المضَاجعِ.
وقد روى الحاكم (1) عن أبي النَّضر الفقيه، حدّثنا محمَّد بن محمويه (2)، حدّثنا أبي، حدّثنا النضر بن محمَّد، عن الثَوْري، عن إبراهيم بن مُهاجر، عن عِكْرِمَة، عن ابن عبَّاس، عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قال: «افْتَحُوا على صِبْيانِكم أوَّلَ كلمةٍ بلا إله إلا الله، ولَقِّنُوهُمْ عند الموت: لا إله إلا الله» (3).
وفي «تاريخ البُخَاريّ» من رواية بِشْر بن يوسفَ، عن عامرِ بنِ أبي عامرٍ، سمع أيُّوبَ بنَ موسى القرشيّ، عن أبيه، عن جدِّه، عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قال: «ما نَحَلَ والدٌ ولدًا أفضلَ من أدَبٍ حَسَنٍ».
قال البُخَاريّ: ولم يصحَّ سماعُ جدِّه من النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – (4).
_________
(1) في «أ»: الخلاّل. وهو تصحيف.
(2) في (ب، ج): حمويه.
(3) أخرجه الحاكم في «تاريخ نيسابور» ـ كما في جمع الجوامع للسيوطي: 1/ 126، والبيهقي في شعب الإيمان: 6/ 397، وفي الطبعة الهندية: 15/ 145 وقال: «متن غريب لم نكتبه إلا بهذا الإسناد»، ورواه الديلمي في الفردوس: 1/ 71 برقم (207) وذكره الفتَّني في تذكرة الموضوعات، ص 210 وقال: موضوع، فيه مجهولان ومضعّف. وانظر: اللآلئ المصنوعة: 2/ 416، وتنزيه الشريعة المرفوعة: 2/ 365.
(4) انظر: التاريخ الكبير للبخاري: 1/ 422. وأخرجه أيضًا: الترمذي في البر والصلة، باب أدب الولد: 4/ 338 وقال: «هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث عامر ابن أبي عامر الخزاز، وهو عامر بن صالح بن رستم الخزاز، وأيوب بن موسى هو ابن عمرو بن سعيد بن العاصي، وهذا عندي حديث مرسل»، وأخرجه عبدالله بن الإمام أحمد في زوائده على المسند: 4/ 77 وفي طبعة الرسالة: 27/ 265 ورواه البيهقي: 2/ 18، وفي شعب الإيمان: 4/ 310، و 15/ 150 ونقل قول البخاري فيه، ورواه الديلمي في الفردوس: 1/ 71، وابن حبان في المجروحين: 2/ 177، وصححه الحاكم: 4/ 263 فتعقبه الذهبي فقال: «بل مرسل ضعيف». وانظر: مجمع الزوائد:9/ 54.
(الكتاب/329)
وفي «معجم الطّبَرانيّ» من حديث سماك عن جابر بن سَمُرَة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «لأَنْ يُؤَدِّبَ أحدُكُم وَلَدَهُ خيرٌ له مِنْ أنْ يتصدَّقَ كلَّ يومٍ بنصفِ صاعٍ عَلَى المسَاكِيْنِ» (1).
وذكر البَيْهَقِيُّ من حديث محمَّد بن الفضل بن عطيةَ ـ وهو ضعيف ـ عن أبيه، عن عطاء، عن ابن عبَّاس قال: قالوا: يا رسولَ الله! قد عَلِمْنَا ما
_________
(1) المعجم الكبير للطبراني: 2/ 246 برقم (2032)، وأخرجه الترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في أدب الولد: 4/ 338، وقال: «هذا حديث غريب وناصح هو أبو العلاء كوفي ليس عند أهل الحديث بالقوي ولا يعرف هذا الحديث إلا من هذا الوجه، وناصح شيخ آخر بصري يروي عن عمار بن أبي عمار وغيره، هو أثبت من هذا»، وأخرج عبدالله بن الإمام أحمد في زوائده على المسند: 5/ 96، وفي طبعة الرسالة: 34/ 459، وقال: هذا الحديث لم يخرجه أبي في مسنده من أجل ناصح؛ لأنه ضعيف في الحديث، وأملاه علىَّ في النوادر، والسهمي في تاريخ جرجان، ص 354، وصححه الحاكم 4/ 263 فتعقبه الذهبي. وانظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني: 4/ 362 وما بعدها.
(الكتاب/330)
حقُّ الوَالدِ، فما حقُّ الوَلَدِ؟ قال: «أنْ يُحْسِنَ اسْمَهُ ويُحْسِنَ أَدَبَهُ» (1).
قال سفيان الثَوْريُّ: ينبغي للرجل أن يُكرِه ولدَه على طلبِ الحديثِ؛ فإنَّه مسؤولٌ عنه.
وقال: إنَّ هذا الحديث عزٌّ، من أرادَ بهِ الدُّنيا وَجَدَها، ومن أرادَ به الآخرةَ وَجَدَهَا (2).
وقال عبد الله بن عمر: أدِّب ابنَك؛ فإنَّك مسؤولٌ عنه، ماذا أدَّبتَهُ؟ وماذا علَّمتَه؟ وهو مسؤولٌ عن بِرِّكَ وطَوَاعِيَتهِ لكَ (3).
وذكر البَيْهَقِيُّ من حديث مُسْلِم بن إبراهيم، حدّثنا شدَّاد (4) بن سعيد، عن الجريري، عن أبي سعيد وابن عبَّاس، قالا: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «من وُلِدَ له ولدٌ، فَلْيُحْسِنِ اسْمَهُ وأدَبَه، فإذا بلغ فلْيُزَوِّجْهُ، فإذا بلغ ولم يزوِّجْه فأصاب إثمًا، فإنَّما إثْمُهُ على أبيهِ» (5).
_________
(1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: 6/ 401، وفي الطبعة الهندية: 15/ 155 – 156، ورواه الجصَّاص في أحكام القرآن من طريق أخرى: 3/ 574، وفيه ابن المغلّس، وهو ضعيف.
(2) أخرجه عنه البيهقي في شعب الإيمان: 15/ 157 (الطبعة الهندية).
(3) أخرجه البيهقي في السنن: 3/ 84، وفي شعب الإيمان: 15/ 161، وقال محققه: وسنده جيد.
(4) في «أ»: مسدد.
(5) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: 6/ 401، وفي الطبعة الهندية: 15/ 165. وهو ضعيف. انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة:2/ 163.
(الكتاب/331)
وقال سعيد بن منصور: حدّثنا حزم، قال: سمعت الحَسَنَ ـ وسأله كثير بنُ زياد عن قوله تعالى: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان/ 74].
فقال: يا أبا سعيد: ما هذه القرَّةُ الأعْيُن، أفي الدنيا أم في الآخرة؟
قال: لا، بل والله في الدنيا.
قال: وما هي؟
قال: والله أن يُرِيَ اللهُ العبدَ من زوجته، من أخيه، من حَمِيْمِهِ طاعةَ الله، لا والله ما شيءٌ أحبّ إلى المرء المُسْلِم من أن يَرى ولدًا، أو والدًا، أو حميمًا، أو أخًا مطيعًا لله عزَّ وجلَّ (1).
وقد روى البُخَاريُّ في «صحيحه» من حديث نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِهِ، فالأميرُ راعٍ على النَّاس فهوَ راعٍ عليهِم، وهو مسؤولٌ عن رعيَّته، والرجلُ راعٍ على أهل بيته، وهو مسؤولٌ عنهم، وامرأةُ الرَّجُلِ راعيةٌ على بيتِ بَعْلِهَا
_________
(1) أخرجه سعيد بن منصور ـ كما في فتح الباري 8/ 491 وتغليق التعليق: 4/ 271، وعلَّقه البخاري في التفسير: 8/ 491، وأخرجه الطبري في التفسير: 19/ 318، وابن أبي حاتم: 8/ 2742، والبغوي في التفسير: 6/ 99، والبيهقي في شعب الإيمان: 15/ 167 – 168، وابن المبارك في البر والصلة، كما في فتح الباري: 8/ 491. وزاد السيوطي نسبته في الدر المنثور 11/ 299 لعبد بن حميد وابن المنذر.
(الكتاب/332)
وولدِهِ، وهي مسؤولةٌ عنهم، وعَبْدُ الرَّجُل راعٍ على مالِ سيِّدِهِ، وهو مسؤولٌ عنه، ألَا فكلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِهِ» (1).
_________
(1) أخرجه البخاري في الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن: 1/ 304 (تحقيق البغا) وفي مواضع أخرى، ومسلم في الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل: 3/ 1459 رقم (1829).
(الكتاب/333)
فصل
ومن حقوقِ الأولادِ العدلُ بينهم في العطاءِ والمنعِ
ففي «السنن» و «مسند أَحْمَد» و «صحيح ابن حبان»، من حديث النُّعْمَانِ بنِ بَشِير قال: قالَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «اعْدِلُوا بينَ أبنائِكُمْ، اعْدِلُوا بين أبنائِكُم، اعْدِلُوا بينَ أبنائِكُمْ» (1).
وفي «صحيح مُسْلِم» أن امرأةَ بشيرٍ قالت له: انْحَل ابنِي غلامًا (2)، وأشهِدْ لي رسولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -، فأتى رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: إنَّ ابنةَ فلانٍ سألتنِي أن أنحلَ ابنَها غلامًا، قالَ: «له إخوةٌ؟» قال: نعم، قال: «أكُلَّهُمْ أعطيتَ مثلَ ما أعطيتَهُ؟» قال: لا. قال: «فليسَ يَصْلُحُ هذا، وإنَّي لا أَشْهَدُ إلا على حَقٍّ» (3).
_________
(1) أخرج أبو داود في الإجارة، باب في الرجل يفضل بعض ولده في النُّحل: 11/ 273، والنسائي في النُّحل، باب اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر النعمان: 6/ 262، وفي السنن الكبرى برقم (6481)، والإمام أحمد: 4/ 275 وفي طبعة الرسالة: 30/ 373، وابن حبان برقم (2046) من (موارد الظمآن). قال ابن عبدالهادي في تنقيح التحقيق 3/ 96: «رواه أحمد عن غير واحد عن حماد وحاجب، وهو ثقة، وثّقه ابن معين وأحمد».
(2) قوله: (انحل ابني غلامًا) هو بفتح الحاء يقال: نَحَلَ يَنْحَلُ كذهبَ يذهبُ.
(3) أخرجه مسلم في الهبات، باب كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة: 3/ 1244 برقم (1623).
(الكتاب/334)
ورواه الإمام أَحمد، وقال فيه: «لا تُشْهِدْنِي على جَوْرٍ، إنَّ لِبَنِيْكَ عليكَ من الحقِّ أن تَعْدلَ بينَهُمْ» (1).
وفي «الصحيحين»: عن النُّعْمَانِ بنِ بشيرٍ، أنَّ أباهُ أتى به النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – فقال: إني نَحَلْتُ ابني هذا غلامًا كان لي. فقال رسولُ – صلى الله عليه وسلم -: «أكلَّ ولدِك نحلتَ مثلَ هذا؟» فقال: لا. فقال: «أرْجِعْهُ» (2).
وفي رواية لمُسْلِم، فقال: «أَفَعَلْتَ هذا بولدك كلِّهم؟» قال: لا، قال: «اتَّقُوا اللهَ واعْدِلُوا في أَوْلادِكم». قال: فرجع أبي في تلك الصدقة (3).
وفي لفظٍ في «الصَّحيح» (4): «أشْهِدْ على هذا غَيْري».
وهذا أمْرُ تهديدٍ لا إباحةٍ، فإنَّ تلك العطيَّةَ كانت جَوْرًا بنصِّ الحديثِ، ورسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – لا يأذَنُ لأحدٍ أن يَشْهَدَ على صِحَّةِ الجَوْر، ومَنْ ذَا الذي كانَ يشهدُ على تلك العطيَّة وقد أبَى رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – أن يَشْهَدَ عليها، وأخبر أنها لا تصلح وأنها جور، وأنها خلاف العدل!
_________
(1) أخرجه أحمد في المسند: 4/ 269، وفي طبعة الرسالة:30/ 320 – 321 وهو حديث صحيح بطرقه.
(2) أخرجه البخاري في الهبة، باب الهبة للولد إذا أعطى بعض ولده شيئًا لم يجز حتى يعدل بينهم: 5/ 211، وفي مواضع أخرى، ومسلم في الهبات، باب كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة: 3/ 1241 ـ 1242 برقم (1623).
(3) صحيح مسلم في الموضع السابق.
(4) في «ب، ج»: وفي الصحيح. وانظر الموضع السابق في صحيح مسلم.
(الكتاب/335)
ومن العجب أن يُحْمَلَ قولُه: «اعْدِلُوا بين أَوْلَادِكُمْ» على غير الوجوب، وهو أمر مطلَقٌ مؤكَّد ثلاث مرات، وقد أخبر الآمِرُ به أنَّ خلافَه جَوْرٌ، وأنه لا يَصْلُحُ، وأنه ليس بحقٍّ، وما بعدَ الحقِّ إلا الباطلُ!
هذا والعدل واجبٌ على كلِّ حالٍ، فلو كان الأَمْرُ بهِ مطلقًا لَوَجَبَ حَمْلُه على الوجوب، فكيف وقد اقْتَرنَ به عشَرةُ أشياءَ تؤكِّدُ وُجُوبَه، فتأمَّلْها في ألفاظ القصَّة (1)!
وقد ذكر البَيْهَقِيُّ من حديث أبي أَحْمَد بن عَدِيّ، حدّثنا القاسمُ بنُ مَهْدِيّ، حدّثنا يَعقوب بنُ كاسبٍ، حدّثنا عبد الله بنُ مُعَاذ، عن مَعْمَر، عن الزُّهْرِيّ، عن أنسٍ: أن رجلًا كان جالسًا مع النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – فجاء بُنَيٌّ له، فقبَّله، وأجْلَسَهُ في حِجْرِهِ، ثم جاءت بُنَيَّةٌ، فأخَذَهَا، فأَجْلسَهَا إلى جَنْبِه، فقال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: «فما عَدَلْتَ بينَهُما» (2).
وكان السَّلَفُ يستحبُّون أن يعدلُوا بين الأولاد في القُبْلةِ.
وقال بعض أهلِ العِلْمِ: إنَّ الله سبحانه يسألُ الوالدَ عن وَلَدِهِ يومَ القيامةِ قبلَ أنْ يسألَ الولدَ عن وَالِدِهِ، فإنَّه كما أنَّ للأبِ على ابْنِه حقًّا، فللابنِ على أبيهِ حقٌّ؛ فكما قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت/ 8]. قال تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}
_________
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر: 5/ 214 ـ 216.
(2) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: 12/ 526.
(الكتاب/336)
[التحريم/ 6]. قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ: علِّمُوهُمْ وأدِّبُوهُمْ (1).
وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء/ 36].
وقال النبيّ – صلى الله عليه وسلم -: «اعْدِلُوا بين أَوْلَادِكُمْ» (2)، فوصيَّةُ الله للآباءِ بأَوْلَادِهِمْ سَابِقةٌ على وصيَّة الأولادِ بآبَائِهِمْ.
قال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء/ 31].
فمَنْ أهملَ تعليمَ ولدِه ما ينفعُهُ، وتركَه سُدًى، فقد أساءَ إليه غايةَ الإساءةِ.
وأكثرُ الأولادِ إنَّما جاء فَسَادُهُمْ مِنْ قِبَلِ الآباءِ وإهمالهِم لهم، وتَرْكِ تَعْليمِهم فرائضَ الدِّين وسُنَنِهُ، فأضاعُوهُمْ صغارًا، فلم يَنْتَفِعُوا بأنْفُسِهِمْ، ولم يَنْفَعُوا آباءَهُمْ كِبَارًا، كما عاتبَ بعضُهُم وَلَدَهُ على العُقُوقِ، فقال: يا أبَتِ إنَّك عَقَقْتَنِي صغيرًا، فعقَقْتُك كبيرًا، وأضَعْتَنِي وليدًا، فأضعتُك شيخًا كبيرًا!
_________
(1) انظر تخريجه فيما سبق، ص (328).
(2) تقدم تخريجه فيما سبق، ص (334).
(الكتاب/337)
الباب السَّادس عشر
في فُصولٍ نافعَةٍ في تربيةِ الأطفالِ تُحْمَدُ عَواقبُها عند الكِبَر
فصل
يَنْبَغِي أنْ يكونَ رضاعُ المولودِ مِن غير أمِّه بعد وضْعِه يومينِ أو ثلاثةً، وهو الأجْوَدُ، لِما في لَبَنِهَا ذلكَ الوقتِ من الغِلظ والأخْلاطِ، بخلافِ لَبَنِ مَنْ قد استقلَّت (1) على الرّضاع. وكلُّ (2) العرب تعتني بذلك حتى تَسْتَرضِعَ أولادَها عند نساءِ البَوَادِي، كما اسْتُرْضِعَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – في بَني سَعْدٍ (3).
فصل
وينبغي أن يُمنع مِنْ حَمْلِهِم، والطوافِ بهم حتى يأتيَ (4) عليهم ثلاثةُ أشهرٍ فصاعدًا؛ لقُرْب عَهْدِهِمْ ببطونِ الأمَّهاتِ، وضَعْفِ أبْدَانِهِمْ.
_________
(1) في «أ»: أسفلت.
(2) في «أ»: وكان.
(3) انظر: سيرة ابن إسحاق، ص 25 ـ 27 تحقيق محمد حميد الله.
(4) في «أ»: والتطواف حتى يكون.
(الكتاب/338)
فصل
وينبغي أن يُقتصرَ بهم على اللَّبَنِ وحدَه إلى نباتِ أَسنانِهم؛ لضَعْفِ مَعِدَتِهم وقوَّتِهِمْ الهَاضِمَةِ عن الطعامِ، فإذا نبتتْ أسنانُه قَوِيَت معدته، وتغذَّى بالطعام، فإنَّ اللهَ ـ سبحانه ـ أخَّر إنباتَها إلى وقتِ حاجتِه إلى الطعامِ لحِكْمَتِه ولُطْفهِ، ورحمةً منه بالأُمِّ وحَلَمَةِ ثَدْيِها، فلا يعضُّه الولدُ بأَسْنَانِهِ.
فصل
وينبغي تَدْرِيْجُهم في الغذاءِ، فأوَّل ما يُطْعِمُونَهُمْ: الغذاء الليِّن، فيطعمونهم الخبزَ المنقوعَ في الماء الحار، واللبن الحليب، ثم بعد ذلك الطبيخ، والأمراق الخالية من اللحم، ثم بعد ذلك ما لَطُف جدًّا من اللحم بعد إحكام مضغه، أو رضّه رضًّا ناعمًا.
فصل
فإذا قَرُبوا من وقت التكلُّم، وأُريد تسهيل الكلام عليهم، فَلْتُدْلَكْ ألسنتُهم بالعسل والملح الأَنْدَرَانِيّ (1) لما فيهما من الجلاء للرُّطوبات الثقيلة المانعة من الكلام. فإذا كان وقتُ نُطْقِهم فلْيُلَقَّنُوا: «لا إله إلا الله محمَّد رسول الله»، ولْيَكُن أوَّل ما يقرع مسامعهم معرفة الله سبحانه، وتوحيده، وأنه سبحانه فوق عرشه ينظر إليهم، ويسمع كلامهم، وهو معهم أينما كانوا.
_________
(1) قال الزبيدي في «تاج العروس» 14/ 196: «صوابه (ذَرْآني) أي شديد البياض». انظر: المفردات لابن البيطار: 2/ 164.
(الكتاب/339)
وكان بنو إسرائيل كثيرًا ما يسمُّون أولادهم بـ «عمانويل» ومعنى هذه الكلمة: إلهنا معنا (1)، ولهذا كان أحبُّ الأسماء إلى الله: عبد الله، وعبد الرَّحمن، بحيث إذا وَعَى الطفلُ وعَقَلَ، عَلِم أنه: عبد الله، وأنّ الله هو سيّده ومولاه.
فصل
فإذا حضر وقت نبات الأسنان، فينبغي أن تُدلَك لِثَاهُمْ (2) كلَّ يوم بالزُّبْد والسَّمْن، ويُمرَّخَ خَرَزُ العنق تمريخًا كثيرًا، ويُحْذَر عليهم كلَّ الحذر ـ وقت نباتها إلى حين تكاملها وقوَّتها ـ من الأشياء الصُّلبة، ويُمنعون منها كلَّ المنع، لما في التَّمكين منها من تعريض الأسنان لفسادها وتعويجها وخللها.
فصل
ولا ينبغي أن يَشُقَّ على الأبوين بكاءُ الطفل وصُراخُه، ولاسيَّما لشربه اللبن إذا جاع، فإنه ينتفع بذلك البكاء انتفاعًا عظيمًا، فإنه يروِّض أعضاءه ويوسِّع أمعاءه، ويفسح صدره، ويسخِّن دماغه، ويحمي مزاجه، ويثير حرارته الغريزية، ويحرِّك الطبيعة لدفع ما فيها من الفضول، ويدفع فضلات الدماغ من المخاط وغيره (3).
_________
(1) انظر: قاموس الكتاب المقدس ص 69.
(2) اللِّثَى: جمع اللّثَةِ وهي لحم الأسنان. انظر: لسان العرب: 15/ 241.
(3) وانظر: مفتاح دارالسعادة للمصنف: 1/ 273.
(الكتاب/340)
فصل
وينبغي أن لا يُهمل أمر قِمَاطِه ورباطه، ولو شقَّ عليه، إلى أن (1) يصلب بدنه، وتقوى أعضاؤه، ويجلس على الأرض، فحينئذ يُمَرَّن، ويدرَّب على الحركة والقيام قليلًا قليلًا إلى أن يصير له مَلَكَةٌ وقوَّة يفعل ذلك بنفسه.
فصل
وينبغي أن يُوقَّى الطفل كلَّ أمر يُفزعه؛ من الأصوات الشديدة الشنيعة، والمناظر الفظيعة، والحركات المزعجة، فإنَّ ذلك ربما أدَّى إلى فساد قوته العاقلة لضعفها، فلا ينتفع بها بعد كِبَرِه، فإذا عرض له عارض من ذلك، فينبغي المبادرة إلى تلافيه بضدِّه، وإيناسه بما ينسيه إيَّاه، وأن يُلقم ثديه في الحال، ويسارع إلى رضاعه ليزول عنه ذلك المزعج له، ولا يرتسم في قوته الحافظة (2)، فيعسر زواله، ويستعمل تمهيده بالحركة اللطيفة إلى أن ينام، فينسى ذلك، ولا يهمل هذا الأمر، فإن في إهماله إسكان الفزع والروع في قلبه، فينشأ على ذلك، ويعسر زواله ويتعذَّر.
فصل
ويتغير حال المولود عند نبات أسنانه، ويهيج به القيء (3)،
_________
(1) في «أ»: إلا أن.
(2) في «ج»: الحاضرة.
(3) في «ب»: التقيؤ.
(الكتاب/341)
والحمِّيَّات، وسوء الأخلاق، ولا سيما إذا كان نباتها في وقت الشتاء والبرد، أو في وقت الصيف وشدة الحر. وأَحْمَدُ أوقات نباتها في الرَّبِيع، والخريف. ووقت نباتها لسبعة أشهر، وقد تنبت في الخامس، وقد تتأخر إلى العاشر، فينبغي التلطُّف في تدبيره وقت نباتها، وأن يكرر عليه دخول الحمَّام، وأن يُغذَّى غذاء يسيرًا، فلا يملأ بطنه من الطعام، وقد يعرض له انطلاق البطن، فيُعْصَب بما يكفيه مثل عصابة صوف عليها كَمُّون ناعم، وكَرَفْس، وأنيسون، وتُدلك لِثَتُهُ بما تقدّم ذكره. ومع هذا فانطلاق بطنه في ذلك الوقت خيرٌ له من اعتقاله، فإن كان بطنه معتقلًا عند نبات أسنانه، فينبغي أن يبادر إلى تليين طبيعته، فلا شيء أضرُّ على الطفل عند نبات أسنانه من اعتقال طبيعته، ولا شيء أنفع له من سهولتها باعتدال.
وأَحْمَدُ ما تليَّن به عسلٌ مطبوخ يُتَّخَذ منه فتائل ويحمل بها، أو حَبَق مسحوق معجون بعسل يتخذ منه فتائل كذلك، وينبغي للمرضع في ذلك الوقت تلطيف طعامها وشرابها، وتجتنب الأغذية المضرة.
فصلٌ في وقت الفطام
قال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا
(الكتاب/342)
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة/ 233].
فدلَّت الآيةُ على عدَّة أحكامٍ:
(أحدها): أن تمام الرَّضاع حولان، وذلك حقٌّ للولد إذا احتاج إليه، ولم يستغن عنه، وأكَّدهما بـ {كَامِلَيْنِ} (1) لئلا يُحْمَل اللفظُ على حولٍ وأكثرَ.
و (ثانيها): أنَّ الأبوين إذا أرادا فطامه قبل ذلك بتراضيهما وتشاورهما مع عدم مضرَّة الطفل (2)، فلهما ذلك.
و (ثالثها): أنَّ الأب إذا أراد أن يسترضع لولده مُرْضِعَةً أخرى غير أمِّه فله ذلك وإن كرهت الأم، إلا أن يكون مضارًّا بها أو بولدها، فلا يجاب إلى ذلك، ويجوز أن تستمر الأم على رضاعه بعد الحولين إلى نصف الثالث، أو أكثر.
وأَحْمَدُ أوقاتِ الفطام إذا كان الوقت معتدلًا في الحرِّ والبَرْدِ، وقد تكامل نباتُ أسنانِه وأضراسه، وقَوِيَتْ على تقطيع الغذاء وطَحْنِه، ففطامُه عند ذلك الوقت أجْودُ له، ووقتُ الاعتدال الخريفي أنفعُ في الطعام من وقت الاعتدال الرَّبِيعيّ، لأنه في الخريف يستقبل الشتاء، والهواء يبرد فيه، والحرارة الغريزيَّة تنشأ فيه وتنمو، والهضم يزداد قوة، وكذلك الشهوة.
_________
(1) وأكَّدهما بكاملين. ساقط من «أ». وجاء بدلهما: ولدهما.
(2) في «ج»: الطعام.
(الكتاب/343)
فصل
وينبغي للمُرْضِعِ إذا أرادت فطامه أن تفطمه على التدريج، ولا تفاجئه بالفطام وهلة واحدة، بل تعوِّده إياه، وتمرِّنه عليه لمضرة الانتقال عن الإلف والعادة مرة واحدة، كما قال «بُقْراط» (1) في «فُصُوله»: استعمال الكثير (2) بغتة مما يملأ البدن، أو يستفرغه، أو يسخنه أو يبرده، أو يحركه بنوع آخر من الحركة أي نوع كان، فهو خطر، وكلما كان كثيرًا فهو معادٍ للطبيعة، وكلَّما كان قليلًا فهو مأمون (3).
فصل
ومن سوء التدبير للأطفال: أن يُمَكَّنُوا من الامتلاء من الطعام وكثرة الأكل والشرب. ومن أنفع التدبير لهم (4) أن يُعْطَوا دون شبعهم ليجودَ هضمُهم وتعتدلَ أخلاطُهم، وتقلَّ الفضول في أبدانهم، وتصحَّ أجسادهم، وتقلَّ أمراضهم لقلة الفضلات في المواد الغذائية (5).
_________
(1) بقراط بن إيراقليس، فيلسوف طبيب، عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، وهو أول من علم الغرباء الطب، ترجمت كتبه إلى العربية. انظر: الفهرست لابن النديم، ص 400 ـ 402.
(2) في «د»: الكبير.
(3) انظر: الفصول لبقراط، الفصل رقم 4، طبعة المقتطف.
(4) في «أ»: ومن أنفع التدبير للأطفال ألاّ يمكّنوا من الامتلاء للطعام.
(5) في المواد الغذائية. ساقط من «ج». وفي «د»: لقلة الفضلات في الغذائية.
(الكتاب/344)
قال بعض الأطباء: وأنا أمدح قومًا ذكرهم (1)، حيث لا يطعمون الصبيان إلا دون شبعهم، ولذلك ترتفع قاماتهم، وتعتدل أجسامهم، ويقل فيهم ما يعرض لغيرهم من الكُزَاز (2) ووجع القلب والصدر (3)، وغير ذلك ـ قال: فإن أحببتَ أن يكون الصبيُّ حسنَ الجسد، مستقيمَ القامة، غيرَ منحدبٍ؛ فَقِهِ كَثْرَةَ الشِّبَع، فإنَّ الصبي إذا امتلأ وشبع، فإنه يُكثِر النوم من ساعته ويسترخي، ويعرض له نفخة في بطنه، ورياح غليظة.
فصل
وقال «جالينوس» (4): ولست أمنع هؤلاء الصبيان من شرب الماء البارد أصلًا، لكني أطلق لهم شربة تعقب (5) الطعام في أكثر الأمر، وفي الأوقات الحارة في زمن الصيف إذا تاقت أنفسهم إليه (6).
قلت: وهذا لقوة وجود الحار الغريزي فيهم، ولا يضرهم شرب الماء البارد في هذه الأوقات، ولا سيما عقيب الطعام، فإنه يتعين
_________
(1) في «ج»: وإذا امدح. وفي «ب»: أنا أمدح. ولعل العبارة فيها تحريف.
(2) في «د»: الكزار ـ بالمهملة ـ وهو تحريف. والكُزاز: التشنج الذي يقع في العضل والعصب. انظر: قاموس الأطباء للقوصوني: 1/ 208.
(3) ساقط من «ج».
(4) فيلسوف طبيب يوناني، انتهت إليه الرياسة في الطب بعد بقراط، وهو شارح كتبه، وله كتب ترجمت إلى العربية. انظر: الفهرست لابن النديم، ص 402 ـ 403.
(5) في «أ»: بعقب.
(6) انظر: كتاب جالينوس إلى غلوقن في التأتّي لشفاء الأمراض، ص 217.
(الكتاب/345)
تمكينهم منه بقدر، لضعفهم عن احتمال العطش باستيلاء الحرارة.
فصل
ومما ينبغي أن يُحذر: أن يُحمَل الطفل على المشي قبل وقته؛ لما يعرض في أرجلهم بسبب ذلك من الانفتال والاعوجاج بسبب ضعفها وقبولها لذلك. واحذر كلَّ الحذر أن تحبس عنه ما يحتاج إليه من قيء أو نوم أو طعام أو شراب أو عطاس أو بول أو إخراج دم، فإنَّ لِحَبْسِ ذلك عواقبَ رديئةً في حق الطفل والكبير.
فصل
في وَطءِ المُرْضعِ، وهو الغَيلُ (1)
عن جُدَامَةَ (2) بنتِ وَهبٍ الأَسَدِيَّةِ قالت: حضرتُ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – في أُناسٍ وهو يقول: «لقد هممت أن أنهى عن الغِيلَةِ، فنظرتُ في الرُّومِ وفَارِسٍ، فإذا هم يُغِيلُونَ أولادَهُمْ، فلا يَضُرُّ أوْلَادَهُمْ ذَلِكَ شيئًا» ثم سألوه عن العَزْلِ فقال: «ذلكَ الوَأْدُ الخفيُّ» , وهي: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير/ 8]. رواه مُسْلِمٌ في «الصحيح» (3).
_________
(1) وانظر: زاد المعاد: 5/ 147 ـ 148.
(2) قال الإمام مسلم عقب هذا الحديث: أما خَلَف فيقول: جذامة، والصحيح ما قاله يحيى بالدال.
(3) كتاب النكاح، باب جواز الغيلة: 2/ 1067 برقم (1442). قال أهل اللغة: (الغِيلَة) هنا بكسر الغين، ويقال لها: الغَيْل بفتح الغين مع حذف الهاء. و (الغِيَال) بكسر الغين كما ذكره مسلم .. واختلف العلماء في المراد بالغيلة في هذا الحديث وهي الغيل، فقال مالك في الموطأ، والأصمعي وغيره من أهل اللغة: أن يجامع امرأته وهي مرضع، يقال منه: أغالَ الرجل وأغْيَلَ، إذا فعل ذلك، وقال ابن السّكِّيت: هو أن ترضع المرأة وهي حامل، يقال منه: غالت وأغيلت. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم: 10/ 16، والتلخيص في معرفة أسماء الأشياء لأبي هلال العسكري: 1/ 12 – 13.
(الكتاب/346)
وروى في «صحيحه» أيضًا: عن أُسامةَ بنِ زيدٍ، أن رجلًا جاء إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: إني أَعْزِلُ عن امرأتي. فقال له رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – لِمَ تفعلُ ذلك؟ فقال الرجل: أُشْفِقُ على وَلَدِهَا، أو على أوْلَادِهَا (1). فقال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «لو كانَ ذَلِكَ ضَارًّا ضرَّ فارسَ والرُّومَ» (2).
وعن أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «لا تقتُلوا أَوْلادَكم سرًّا، فو الَّذي نفسي بيدِه إنَّه لَيُدْرِكُ الفَارسَ فَيُدَعْثِرُهُ». قالت: قلت: ما يعني؟ قالت: الغِيلَة؛ يأتي الرجلُ امرأتَهُ وهي تُرْضِعُ. رواه الإمام أَحْمَد وأبو داود (3).
_________
(1) «فقال له .. أولادها» ساقط من «أ».
(2) أخرجه مسلم في الموضع السابق: 2/ 1076 برقم (1443).
(3) أخرجه الإمام أحمد: 6/ 453، وفي طبعة الرسالة: 45/ 543، وأبو داود في الطب، باب في الغيل: 5/ 361 (مع شرح ابن القيم)، وابن ماجه في النكاح: 1/ 648، وابن حبان، ص 317 من (موارد الظمآن)، والطحاوي في مشكل الآثار: 9/ 284. ومعنى يدعثره: يصرعه ويسقطه.
(الكتاب/347)
وقد أشكل الجمع بين هذه الأحاديث على غير واحدٍ من أهل العلم، فقالت طائفة: قوله – صلى الله عليه وسلم -: «لقد هممتُ أن أَنْهَى عن الغَيْلِ» أي أحرِّمِه فأمنع منه. فلا تنافي بين هذا، وبين قوله في الحديث الآخر: «ولا تقتُلوا أولادَكم سرًّا» فإن هذا النهي كالمشورة عليهم، والإرشاد لهم إلى ترك ما يُضْعِفُ الولد ويقتُلُه (1).
قالوا: والدليل عليه: أن المرأة المُرْضِع إذا باشرها الرجل حرَّك منها دم الطَّمْثِ، وأهاجَه للخروج، فلا يبقى اللَّبَن حينئذٍ على اعتداله وطيب رائحته، وربَّما حبلتِ الموطوءةُ، فكان ذلك من شرِّ الأمور وأضرِّها على الرضيع المغتذي (2) بلبنها، وذلك أن جيِّد الدم حينئذ ينصرف في تغذية الجنين الذي في الرَّحِمِ، فينفذ في غذائه، فإن الجنين لما كان ما يناله ويجتذبه مما لا يحتاج إليه ملائمًا له لأنه متصل بأمه اتِّصال الغرس بالأرض، وهو غير مفارق لها ليلًا ولا نهارًا، وكذلك ينقص دم الحامل (3)، ويصير رديئًا فيصير اللَّبَنُ المجتمع في ثديها يسيرًا رديئًا. فمتى حملت المرضع، فمن تمام تدبير الطفل أن يمنع منها، فإنه متى شرب من ذلك اللبن الرديء قتله، أو أثَّر في ضعفه تأثيرًا يجده في كِبَرِهِ،
_________
(1) انظر: زاد المعاد: 5/ 147، وعقد الطحاوي بابًا في مشكل الآثار: 9/ 284 – 294 لبيان «مشكل ما روي في الغَيْل من كراهة له، ومن همٍّ بنهيٍ عنه، ومن نُهي عنه، وما سوى ذلك مما كان منه فيه» فيحسن مطالعته.
(2) في «أ»: المتغذي.
(3) في «أ»: ولذلك ينقص دم الحائض.
(الكتاب/348)
فيُدَعْثِرُه عن فَرَسِه. فهذا وجه المشورة عليهم، (والإرشاد إلى تركه، ولم يحرِّمْه عليهم) (1)، فإن هذا لا يقع دائمًا لكل مولود، وإن عَرَضَ لبعض الأطفال، فأكثرُ الناس يجامعونَ نساءَهم وهنَّ يُرضِعْنَ، ولو كان هذا الضَّررُ لازمًا لكلِّ مولودٍ لاشتركَ فيه أكثرُ النَّاسِ، وهاتانِ الأمَّتانِ الكبيرتانِ فارس والروم (2) تفعلُه، ولا يعمُّ ضررُه أوْلَادَهُمْ.
وعلى كلِّ حال: فالأحْوَطُ إذا حبلتِ المرضعُ أن يُمْنَعَ منها الطفلُ ويلتمسَ مرضعًا غيرها (3). والله أعلم.
فصل
ومما يحتاج إليه الطفل غاية الاحتياج: الاعتناء بأمر خُلُقهِ، فإنَّه ينشأ على ما عوَّده المربِّي في صغره؛ من حَرَدٍ وغضب، ولجَاجٍ وعَجَلَةٍ، وخفَّةٍ مع هَوَاهُ، وطَيْشٍ وحدَّةٍ وجَشَعٍ، فيصعب عليه في كِبَرِه تلافي ذلك، وتصير هذه الأخلاقُ صفاتٍ وهيئاتٍ راسخةً له، فلو تحرَّز منها غاية التحرُّز، فَضَحَتْه ـ ولا بدَّ ـ يومًا مّا. ولهذا تجد أكثرَ الناس منحرفةً أخلاقُهم، وذلك من قِبَلِ التربية التي نشأ عليها.
ولذلك يجب أن يجنَّب الصبيُّ إذا عقل: مجالسَ اللهو والباطلِ، والغناء، وسماع الفحش، والبدع، ومنطق السُّوء؛ فإنه إذا علق بسمعه،
_________
(1) «والإرشاد … عليهم» ساقط من «أ».
(2) «فارس والروم» ساقط من «ب، د».
(3) وانظر ما كتبه الدِّهلوي حول هذه الأحاديث في كتابه حجة الله البالغة: 2/ 992 ـ 993.
(الكتاب/349)
عَسُرَ عليه مفارقتُه في الكبر وعزَّ على وليِّه استنقاذُه منه، فتغيير العوائد من أصعب الأمور، يحتاج صاحبُه إلى اسْتِجْدَادِ طبيعة ثانية. والخروجُ عن حكم الطبيعة عَسِرٌ جدًّا.
وينبغي لوليه أن يجنِّبه الأخذ من غيره غاية التجنب؛ فإنه متى اعتاد الأخذ صار له طبيعة، ونشأ بأن يأخذ لا بأن يُعطي. ويعوِّده البذل والإعطاء، وإذا أراد الولي أن يعطي شيئًا أعطاه إيَّاه على يده ليذوق حلاوة الإعطاء، ويجنِّبه الكذب والخيانة أعظم مما يجنبه السم الناقع، فإنه متى سهَّل له سبيل الكذب والخيانة أفْسَدَ عليه سعادة الدنيا والآخرة وحَرَمَه كلَّ خيرٍ.
ويجنِّبه الكسل والبطالة والدعة والراحة، بل يأخذه بأضدادها، ولا يريحه إلا بما يُجِمُّ نَفْسَه وبَدَنَهُ للشُّغل، فإنَّ للكسل والبطالة عواقب سُوءٍ، ومغبَّة ندمٍ، وللجدِّ والتَّعبِ عواقبُ حميدةٌ، إما في الدنيا، وإما في العُقْبَى، وإما فيهما، فأرْوَح (1) النَّاس أتعبُ الناس، وأتعب الناس أروح الناس؛ فالسيادة في الدنيا والسعادة في العُقْبَى لا يُوصَل إليها إلا على جسر من التعب. قال يحيى بن أبي كثير (2): لا يُنال العلم براحة الجسم (3).
_________
(1) في «أ»: فأرواح.
(2) الإمام الحافظ الحجة أبو نصر، يحيى بن صالح الطائي مولاهم، كان طلابة للعلم، توفي سنة (129)، ترجمته في السِّيَر للذهبي: 6/ 27 وما بعدها.
(3) رواه عنه الإمام مسلم في باب أوقات الصلوات الخمس: 1/ 428 برقم (1421).
(الكتاب/350)
ويُعَوِّدُه الانتباهَ آخر الليل، فإنَّه وقت قسم الغنائم، وتفريق الجوائز، فمستقلٌّ ومستكثرٌ ومحروم، فمتى اعتاد ذلك صغيرًا سهل عليه كبيرًا.
فصل
ويجنِّبه فضول الطعام والكلام والمنام ومخالطة الآثام، فإن الخسارة في هذه الفضلات، وهي تفوِّت على العبد خير دنياه وآخرته.
ويجنِّبه مضارَّ الشهوات المتعلقة بالبطن والفرج غاية التجنب، فإن تمكينه من أسبابها والفَسْح له فيها يُفْسِده فسادًا يعزُّ عليه بعده صلاحه، وكم ممن أشْقَى ولدَه وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله وترك تأديبه، وإعانته له على شهواته. ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه، وأنه يرحمه وقد ظلمه وحرمه، ففاته انتفاعه بولده، وفوَّت عليه حظَّه في الدنيا والآخرة، وإذا اعتبرتَ الفساد في الأولاد رأيتَ عامَّتَه من قِبَلِ الآباء.
فصل
والحذرَ كلَّ الحذرِ من تمكينه من تناول ما يزيل عقله من مُسْكِر وغيره، أو عِشْرِةِ من يخشى فساده، أو كلامه له، أو الأخذ في يده، فإن ذلك الهلاك كله، ومتى سهل عليه ذلك فقد استسهل الدِّيَاثَةَ (1)، «ولا
_________
(1) الدِّياثة: فعل الديُّوث، وهو الرجل الذي لا غيرة له على أهله. انظر: المصباح المنير: 1/ 205.
(الكتاب/351)
يَدْخُلُ الجنَّة دَيُّوثٌ» (1) فما أفسد الأبناءَ مثلُ تغفُّل (2) الآباء وإهمالهم، واستسهالهم شرر النار بين الثياب!
فأكثر الآباء يعتمدون مع أولادهم أعظم ما يعتمد العدوُّ الشديد العداوة مع عدوِّه، وهم لا يشعرون. فكم من والد حرم ولده خير الدنيا والآخرة، وعرَّضه لهلاك الدنيا والآخرة. وكلُّ هذا عواقبُ تفريطِ الآباء في حقوق الله. وإضاعتُهم لها، وإعراضُهم عمَّا أوجب اللهُ عليهم من العلم النافع، والعمل الصالح= حَرَمَهُم الانتفاعَ بأولادهم، وحَرَم الأولادَ خيرَهم ونَفْعَهم لهم، وهو من عقوبة الآباء (3).
فصل
ويجنِّبه لُبْسَ الحرير، فإنه مُفسد له، ومخنِّث لطبيعته، كما يجنِّبه (4) اللواط، وشرب الخمر، والسرقة والكذب؛ وقد قال النبيّ – صلى الله عليه وسلم -: «حُرِّم
_________
(1) أخرجه الطيالسي في مسنده برقم (642)، وبلفظ: ثلاثة لايدخلون الجنة .. وذكر منهم الديوث. وأخرجه النسائي في الكبرى: 1/ 83 برقم (2354)، وعبد الرزاق في المصنف (الجامع لمعمر): 11/ 242، والحاكم في المستدرك: 1/ 72، والبيهقي في السنن: 10/ 226. وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي برقم (2562). وانظر: الترغيب والترهيب للمنذري: 5/ 10
(2) في «ب»: تفضل.
(3) في «ب»: عقوق الآباء.
(4) في (أ، ج، د): يخنثه، وهو تصحيف.
(الكتاب/352)
الحريرُ والذَّهبُ على ذكورِ أُمَّتي، وأُحِلَّ لإناثِهم» (1).
والصبيُّ وإن لم يكن مكلّفًا، فوليُّه مكلَّف لا يحلُّ له تمكينه من المحرَّم، فإنه يعتاده، ويعسر فطامه عنه. وهذا أصح قولي العلماء.
واحتجَّ من لم يره حرامًا عليه: بأنه غير مكلَّف؛ فلم يحرَّم لبسه للحرير كالدابَّة (2).
وهذا من أفسد القياس؛ فإنَّ الصبي وإن لم يكن مكلَّفًا؛ فإنَّه مستعدٌّ للتكليف؛ ولهذا لا يُمَكَّن من الصلاة بغير وضوء؛ ولا من الصلاة عُرْيَانًا ونجسًا؛ ولا مِن شُرب الخَمْر والقِمَار واللِّواط.
فصل
وممَّا ينبغي أن يُعتمد: حالُ الصبيِّ وما هو مستعدٌّ له من الأعمال ومهيَّأ له منها؛ فيعلَّم أنه مخلوق له؛ فلا يحمله على غير ما كان مأذونًا فيه شرعًا. فإنه إن حمله على غير ما هو مستعدٌّ له لم يفلح فيه، وفاتَه ما هو مهيَّأ له. فإذا رآه حسن الفهم، صحيح الإدراك، جيِّد الحفظ واعيًا، فهذه من علامات قَبوله وتهيُّئِه للعلم، فَلْيَنْقُشْه في لوح قلبه ما دام خاليًا،
_________
(1) أخرجه الترمذي في اللباس، باب ما جاء في الحرير والذهب: 4/ 217 عن أبي موسى الأشعري. وقال: «هذا حديث حسن صحيح». وقال: «وفي الباب عن عمر وعلي وعقبة بن عامر وأنس وحذيفة وأم هانئ وعبد الله بن عمرو وعمران بن حصين وعبد الله بن الزبير وجابر وأبي ريحان وابن عمر والبراء وواثلة بن الأسقع» , وبنحوه أخرجه النسائي في باب تحريم لبس الذهب برقم (5170).
(2) انظر: المغني: 2/ 310 – 311، بدائع الصنائع: 5/ 130، روضة الطالبين: 2/ 67.
(الكتاب/353)
فإنه يتمكَّن فيه ويستقرُّ، ويزكو معه. وإن رآه بخلاف ذلك من كل وجه، وهو مستعدٌّ للفروسيَّة وأسبابها من الرُّكوب والرَّمي، واللعب بالرُّمح، وأنه لا نفاذ له في العلم، ولم يُخْلَقْ له= مكَّنه من أسباب الفروسيَّة والتمرُّن عليها، فإنه أنفع له وللمُسلمين. وإن رآه بخلاف ذلك، وأنه لم يخلق لذلك، ورأى عينه مفتوحة إلى صنعة من الصنائع، مستعدًّا لها، قابلاً لها، وهي صناعة مباحة نافعة للناس= فليمكنه منها.
هذا كلُّه بعد تعليمه ما يحتاج إليه في دينه، فإن ذلك ميَسَّر على كلِّ أحد؛ لتقوم حُجَّةُ الله على العبد، فإنَّ له على عباده الحجَّة البالغةَ، كما له عليهم النعمة السابغة، والله أعلم.
(الكتاب/354)
الباب السَّابع عشر
في أَطوارِ ابنِ آدمَ من وقتِ كَوْنهِ نُطفةً إلى استِقرَارهِ في الجنَّة أو النَّارِ
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون/ 12 ـ 16].
فاستوعب ـ سبحانه ـ ذِكْرَ أحوال ابن آدم قبل كونه نطفةً، بل ترابًا وماءً إلى حين بعثه يوم القيامة؛ فأول مراتب خلقه أنه سُلالةٌ من طين، ثم بعد ذلك سُلالة من ماء مَهِين، وهي النطفة التي اسْتُلَّت من جميع البدن، فتمكث كذلك أربعين يومًا، ثم يقلب الله سبحانه تلك النطفة التي انسلَّت علقة. وهي قطعة سوداء من دم، فتمكث كذلك أربعين يومًا أخرى، ثم يصيِّرها ـ سبحانه ـ مُضَغَة، وهي قطعة لحم، أربعين يومًا. وفي هذا الطور تقدَّر أعضاؤه وصورته، وشكله وهيئته.
(الكتاب/355)
واختلف في أول ما يتشكل ويخلق من أعضائه (1):
قال قائلون: هو القلب.
وقال آخرون: إنه الدماغ.
وقال آخرون: هو الكبد.
وقال آخرون: فقار الظهر.
فاحتج أرباب القول الأول، بأن القلب هو العضو والأساس الذي هو معدن الحرارة الغريزية الذي هو مركب الحياة (2)، فوجب أن يكون هو المقدَّم في الخلق. قالوا: وقد أخبر المشرِّحون أنهم وجدوا في النطفة ـ عند كمال انعقادها ـ نقطةً سوداء.
واحتج من قال إنه الدماغ: بأن الدماغ (3) من الحيوان هو العضو الرئيس من الإنسان، وهو مجمع الحواس، وأن الأمر المختص بالحيوان هو الحسُّ والحركة الإرادية، وأصل ذلك من الدماغ، ومنه ينبعث، وإذا كان الخاص بالحيوان هو الحس والحركة الإرادية، وكانا عن هذا العضو، كان هو المقدم (4) في الإيجاد والتكوين.
_________
(1) انظر هذا البحث أيضًا في التبيان في أيمان القرآن للمصنف ص 525 – 528، ومفتاح دار السعادة: 2/ 19.
(2) في «أ»: الذي هي تركب الحياة.
(3) بأن الدماغ. ساقط من «أ».
(4) في «أ»: للقدم.
(الكتاب/356)
واحتج من قال إنه الكبد: بأنه العضو الذي منه النمو والاغتذاء الذي به قوام الحيوان. قالوا: فالنظام الطبيعيُّ يقتضي أن يكون أول متكون: الكبد، ثم القلب، ثم الدماغ، لأن أول فصل الحيوان هو النمو، وليس به في هذا الوقت حاجة إلى حسٍّ، ولا إلى حركة إرادية، لأنه يُعَدُّ بمنزلة النبات، فلا حاجة به حينئذ إلى غير النمو. ولهذا إنما تصير له قوة الحس والإرادة عند تعلُّق النفس به، وذلك في الطور الرابع من أطوار تخليقه، فكان أول الأعضاء خلقًا فيه هو آلة النمو، وذلك الكبد. والذي شاهده أرباب التشريح، حتى إنهم متفقون عليه، أنه أول ما يتبين في خلق جثة الحيوان ثلاث نقط متقاربة بعضها من بعض، يتوهم أنها رسم الكبد والقلب والدماغ ثم يزداد بعضها من بعض بعدًا على امتداد أيام الحمل، فهذا القدر هو الذي عند المشرِّحين، فأما أيّ هذه النقط أقدم وأسبق، فليس عندهم عليه دليل إلا الأَخْلَقُ والأَوْلَى والقياسُ، والله أعلم.
فصل
ثم تُقَدَّرُ مفاصلُ أعضائه، وعظامه وعروقه وعصبه، ويُشَقُّ له السمع والبصر والفم، ويفتق حلقه بعد أن كان رَتْقًا، فيُركَّب فيه اللسان، ويُخطّط شكله وصورته، وتُكْسَى عظامه لحمًا، ويُربَط بعضها إلى بعض أحكم ربط وأقواه، وهو الأسْر الذي قال فيه: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الإنسان/ 28]. ومنه الإسار الذي يربط به، ومنه الأسير (1).
_________
(1) «الذي قال … ومنه الأسير» ساقط من «ب».
(الكتاب/357)
قال الإمام أحمد: حدّثنا روح بن عبادة، حدّثنا أبو هلال، حدّثنا ثابت، عن صفوان بن محرز، قال: كان نبيُّ الله داودُ ـ عليه السلام ـ إذا ذَكرَ عذابَ الله تخلَّعت أوْصَالُه ما يُمْسِكُها إلا الأسْرُ، فإذا ذَكَرَ رحمةَ الله رجعتْ (1).
فصل
قال «بقراط» في المقالة الثالثة من «كتاب الأجنَّة»: أنا أحدِّثك كيف رأيت المَنِيَّ ينشأ.
كانت لامرأة من الأهل جارية نفيسة، ولم تكن تحب أن تحبل لئلا ينقص ثمنها، فسمعت الجَارِيَة النساء يقلن: إن المرأة إذا أرادت أن تحمل لم يخرج منها مَنِيُّ الرجل، بل يبقى محتبسًا، ففهمت ذلك، وجعلت ترصده من نفسها، فأحسَّت في بعض الأوقات أنه لم يخرج منها، فبلغني الخبر، فأمرتها أن تطفر إلى خلفها، فطفرت سبع طفرات، فسقط منها المنيُّ بِوَجْبَةٍ شبيهًا بالبيضة غير مطبوخة قد قشر عنها القشر الخارج، وبقيت رطوبتها في جوف الغشاء.
قال: وأنا أقول أيضًا إنه يجري من الأم فضول الرَّحِم ليتغذى بها
_________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: 13/ 202، وأبو نعيم في الحلية: 2/ 328، وهنّاد في الزهد: 1/ 545. والأوصال: الأعضاء. والأسْر: الشد والعصب. وانظر التبيان في أيمان القرآن للمصنف ص 55 ـ 57.
(الكتاب/358)
الجنين، وقال: إن الذي (1) يظهر هي الأعصاب الدقاق البيض، وهي التي رأيت في وسط السُّرَّة، وليست في موضع آخر غير السُّرَّة، لأن الروح إنما يشق طريقًا للنفس هناك.
ثم قال: وأقول شيئًا آخر ظاهرًا يعرفه كل من يرغب في العلم، وأوضحه بقياسات، وأقول: إن المنيَّ هو في الحجاب، وإنه يغتذي من الدم الذي يجتمع من المرأة وينزل إلى الرحم.
وقال: إن المني يجتذب الهواء، فيتنفس فيه في هذه الحجب في الأسباب التي ذكرنا، ويربو من الدم الذي ينحدر من المرأة.
وقال: إن الطَّمْث لا ينحدر ما دامت المرأة حاملًا إن كان طفلها صحيحًا، وذلك منذ أول شهر من حَبَلها إلى الشهر التاسع، ولكن جميع ما ينزل من الدم من البدن كلُّه يجتمع حول الجنين على الحجاب الأعلى مع اجتذاب النفس، والسرَّةُ طريق وصوله إلى الجنين، فيدخل الغذاء إليه فيغذيه ويزيد في تربيته (2).
وقال: إذا أقام المنيُّ حينًا، خُلقت له حجب أُخَرُ، فتمتدُّ داخلًا من الحجاب الأول، وتكون مختلفة الأنواع كثيرة، وأما كونها، فمثل الحجاب الأول.
_________
(1) في (ب، ج): التي. وهو تحريف.
(2) ساقط من «ج».
(الكتاب/359)
وقال: إنَّ الحُجُب منها ما يُخلق أولاً، ومنها ما يُخلق من بعد الشهر الثاني، ومنها ما يُخلق في الشهر الثالث (1)، وكلها لا تظهر منافعها أول ما يخلق، ولكنَّ بعضها يمتدُّ على المنيِّ، فتظهر منافعها أولًا، وبعضها لا يظهر إلا أخيرًا، فلذلك يخلق بعضها في الشهر الأول، وبعضها في الشهر الثاني، وبعضها في الثالث، وهي السرَّة كأنها مربوط بعضها ببعض، في وسط الحجب تكون السرَّة التي يتنفس منها ويتربى.
وإذا نزل الدم واغتذى الجنين منه حالت الحجب (2) بينه وبين الجنين، ولهذا يقول تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} [الزمر/ 6]. فإن كل حجاب من هذه الحجب له ظلمة تخصه، فذكر سبحانه أطوار خلقه ونقله فيها من حال إلى حال، وذكر ظلمات الحجب التي على الجنين، فقال أكثر المفسِّرين (3): هي ظلمة البطن، وظلمة الرَّحِم، وظلمة المَشِيمَة، فإن كلَّ واحد من هذه حجاب على الجنين.
وقال آخرون: هي ظلمة أصلاب الآباء، وظلمة بطون الأمهات،
_________
(1) ساقط من «د».
(2) «تكون السرة التي .. حالت الحجب» ساقط من «د» بسبب انتقال النظر.
(3) انظر هذه الأقوال في: تفسير الطبري: 23/ 196 (طبعة الحلبي)، وتفسير عبدالرزاق: 2/ 171، وزاد المسير: 7/ 163 ـ 164، والمحرر الوجيز: 12/ 504، والدر المنثور: 12/ 635.
(الكتاب/360)
وظلمة المشيمة.
وأضعف من هذا القول قول من قال: ظلمة الليل، وظلمة البطن، وظلمة الرَّحم؛ فإن الليل والنهار بالنسبة إلى الجنين سواء.
وقال «بُقْرَاط»: إن المرأة إذا حبلت، لم تألم من اجتماع الدم الذي ينزل ويجتمع حول رحمها، ولا تحسُّ بضعف كما تحسُّ إذا انحدر الطَّمْثُ، لأنها لا يثور دمها في كل شهر، لكنه ينزل إلى الرحم في كل يوم قليلًا قليلًا نزولًا ساكنًا من غير وجع، فإذا أتى إلى الرحم اغتذى منه الجنين ونمَا.
ثم قال: وعلى غير بعيد من ذلك، إذا خلق للجنين لحم وجسد تكون الحجب، وإذا كبر كبرت الحجب أيضا، وصار لها تجويف خارج من الجنين، فإذا نزل الدم من الأم جَذبَه الجنين واغتذى به، فيزيد في لحمه، والرديء من الدم الذي لا يصلح للغذاء ينزل إلى مجاري الحُجُب. وكذلك تسمى الحُجُب التي إذا صار لها تجويف يقبل الدم: المَشِيمَة.
وقال: إذا تمَّ الجنين، وكملت صورته، واجتذب الدم لغذائه بالمقدار اتَّسعت الحُجُب، وظهرت المَشِيمَة التي تكون من الآلات التي ذكرنا، فإنِ اتَّسع داخلها اتَّسع خارجها لأنه أولى بذلك، لأن له موضعًا يمتد إليه.
قلت: ومن ها هنا لم تَحِضِ الحامل، بل ما تراه من الدم يكون دم
(الكتاب/361)
فسادٍ ليس دم الحيض المعتاد (1). هذه إحدى الروايتين عن عائشةَ رضي الله عنها، وهو المشهور من مذهب أَحْمَد الذي لا يعرف أصحابه سواه، وهو مذهب أبي حنيفة (2).
وذهب الشّافِعِيُّ وعَائِشَة ـ في رواية عنها ـ والإمام أَحْمَد ـ في رواية عنه اختارها شيخنا (3) ـ إلى أن ما تراه من الدم في وقت عادتها يكون حيضًا.
وحجة هذا القول ظاهرة، وهي عموم الأدلة الدَّالة على ترك المرأة الصوم والصلاة إذا رأت الدم المعتاد في وقت الحيض، ولم يستثن الله ورسوله حالة دون حالة.
وأما كون الدم ينصرف إلى غذاء الولد، فمن المعلوم أن ذلك لا يمنع أن يبقى منه بقية تخرج في وقت الحيض تَفْضُل عن غذاء الولد.
_________
(1) وقال في تهذيب السنن 3/ 109: «وقد أفردت لمسألة الحامل هل تحيض أم لا؟ مصنفًا مستقلًا». ولذلك جعل الشسخ بكر أبوزيد ضمن مؤلفات المصنف «الحامل هل تحيض أم لا؟». انظركتابه: ابن قيم الجوزية: حياته وآثاره وموارده، ص 241. وذكر المصنف هذه المسألة أيضا في التبيان في أيمان القرآن، ص 539 ـ 540، وفي زاد المعاد: 5/ 731 ـ 739.
(2) انظر: الأوسط لابن المنذر: 2/ 238 ـ 241، ومختصر اختلاف العلماء للجصاص: 1/ 171، وفتح القدير لابن الهمام: 3/ 280، والمغني لابن قدامة: 1/ 443 ـ 445، وتنقيح التحقيق لابن الجوزي: 1/ 243 ـ 244.
(3) في مجموع الفتاوى: 19/ 239، والاختيارات الفقهية ص 59.
(الكتاب/362)
فلا تنافي بين غذاء الولد وبين حيض الأم.
وأصحاب القول الآخر، يحتجون بقوله – صلى الله عليه وسلم -: «لا تُوطَأُ حاملٌ حتى تَضعَ، ولا حائلٌ حتى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ» (1) فجعل الحيضة دليلًا على عدم الحمل، فلو حاضت الحامل لم تكن الحيضة عَلمًا على براءة رحمها.
والآخرون يجيبون عن هذا: بأن الحيضة عَلَمٌ ظاهرٌ، فإذا ظهر بها الحمل، تبينَّا أنه لم يكن دليلًا، ولهذا يحكم بانقضاء العِدَّة بالحيض ظاهرًا، ثم تبين المرأة حاملًا، والنبيّ – صلى الله عليه وسلم – قسم النساء إلى قسمين: امرأة معلومة الحمل، وامرأة مظنون أنها حامل، فجعل استبراء الأولى بوضع الحمل، والثانية بالحيضة، وهذا هو الذي دلَّ عليه الحديث، لم يدلَّ على أن ما تراه الحامل من الدم في وقت عادتها تصوم معه وتصلي. والله أعلم.
فصل
قال «بُقْراط»: إنَّ العظام تصلب من الحرارة، لأن الحرارة تصلب العظام، وتربط بعضها ببعض، مثل الشجرة التي ترتبط بعضها ببعض.
_________
(1) أخرجه أبو داود في النكاح، باب وطء السبايا: 3/ 74 ـ 175، والإمام أحمد: 3/ 62، وفي طبعة الرسالة: 18/ 140، والبيهقي: 5/ 359، والطحاوي في مشكل الآثار: 8/ 53 برقم (3048)، وصححه الحاكم: 2/ 195 وسكت عنه الذهبي. وقال ابن حجر في الفتح: 4/ 424: «وليس على شرط الصحيح» وحسّنه في التلخيص الحبير: 1/ 172. وانظر: تنقيح التحقيق: 1/ 234، ونصب الراية: 4/ 252.
(الكتاب/363)
وقال: إن العصب جُعِل داخلًا وخارجًا، وجُعِل الرأس بين العاتقين، والعضدان والساعدان في الجانبين، وفرِّج ما بين الرجلين أيضًا، وجُعل في كل مَفْصِلٍ من المَفَاصِل عصب يوثقه ويشدُّه.
قلت: وهو الأسر الذي شُدَّ به الإنسان.
قال: وجُعل الفم ينفتح من تلقاء نفسه، وركب الأنف والأذنان من اللحم، وثُقِبَت الأذنان ثم العينان بعد ذلك، ومُلِئَتا رطوبة صافية.
وكان النبيّ – صلى الله عليه وسلم – يقول في سجوده: «سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذي خلَقَهُ وصوَّرهُ وشقَّ سَمْعَهُ وبَصَرَهُ» (1). و «الواو» وإن لم تقتضِ ترتيبًا، فتقديمُ السمع في اللفظ يناسب تقدُّمَه في الوجود. ثم تتسع الأمعاء بعد ذلك، ويصير لها تجويف، وترتبط المفاصل، ويرتفع النَّفَس إلى الفم والأنف، ويدخل الاستنشاق في الفم والأنف، وينفتح البطن والأمعاء، ويخرج النَّفَس إلى الفم بدل السُّرّة. فإذا تمَّ ما ذكرنا حضر وقت خروج الجنين، ونزلت فضول من معدته وأمعائه إلى المثانة، ويكون لها طريق من المعدة والأمعاء إلى المثانة، ومنها إلى مجرى البول، وإنما تنفتح هذه كلها ويتسع تجويفها بالاستنشاق، وبه ينفصل بعضها عن بعض على قدر أشكالها.
_________
(1) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه: 1/ 535 برقم (771) من حديث علي رضي الله عنه.
(الكتاب/364)
وقال: إذا اتَّسع البطن، وتبيَّن تجويف الأمعاء، صار فيها طريق إلى المَثانة والإحْليل اضطرارًا.
قال: والمَنِيُّ إذا تركَّب، يجتمع كل شيء منه إلى صاحبه، العظام إلى العظام، والعصب إلى العصب، وكذلك جميع الأعضاء، ثم يُركَّب الجنين.
ثم قال: إنا قد رأينا كثيرًا من النساء قد فسدت الأجنَّة فيهنَّ، ثم خرجت بعد ثلاثين يومًا.
ثم قال: ألا ترى أنه إذا سقط الجنين من بعد ثلاثين يومًا رأيت مفاصله مركبة.
وقال: يُدْرَك هذا بالنظر إلى السِّقْط، لأنه إذا سقط ليس يسقط من حيلنا، بل من قِبَل نفسه. ثم قال: إذا تركَّب الجنين، وائتلفت مفاصِلُه (1)، وكبرت أعضاؤه، وصَلبت عظامه، وتحرَّكت، جَذَبت من البدن دمًا دسمًا (2)، ويحتبس ذلك، ويتحرك في رؤوس العظام مثل تحرُّك رؤوس الشجر.
قال: وكذلك يتحرك (3) الجنين وينقلب.
_________
(1) تصحفت في المطبوع إلى (أتلفت مفاصله).
(2) في «أ، ب»: دمًا ذميمًا. وفي «د»: دمًا دمًا.
(3) ساقطة من «د».
(الكتاب/365)
فصل
وقال في المقالة الثانية من كتابه هذا: ثم يتركَّب الجنين، ويتمُّ الذَّكَرُ إلى اثنين وثلاثين يومًا، والأنثى إلى اثنين وأربعين يومًا، وربما زاد على هذه الأيام قليلًا، وربما نقص قليلًا.
وقال: إن الجنين يتمُّ ويتصوَّر إن كان ذكرًا في اثنين وثلاثين يومًا. وإن كان أنثى، ففي اثنين وأربعين يومًا.
وقال: إنَّا نرى ذلك من نقاء المرأة، لأنها إن ولدت أنثى فإنها تَنْقَى في اثنين وأربعين يومًا، وهو أكثر ما تحتبس المرأة، إلى أن تَنْقَى في اثنين وأربعين يومًا (1) عند ولادة الأنثى، وربما كان في الفرد، وتَنْقَى في خمسة وثلاثين يومًا، فإذا ولدت ذكرًا، فإنها تَنْقَى في اثنين وثلاثين يومًا إذا احتبست كثيرًا، وربما بقيت في الفرد في خمسة وعشرين يومًا إذا احتبس كثيرًا (2).
وقال: إن دم الطَّمْث يخرج من حيث يخرج الجنين، وكما أن الذَّكَر يتصوَّر في اثنين وثلاثين يومًا، كذلك يكون نقاء أمه من بعد ولاده في اثنين وثلاثين يومًا، وتَنْقَى المرأة إذا ولدت أنثى في اثنين وأربعين يومًا بعدد الأيام التي تركيبها فيها.
ثم قال: إنما يجري الدم من النُّفَساء بعد ولادها أيامًا كثيرة، لأنها إذا
_________
(1) «في اثنين وأربعين يومًا» ساقط من «د».
(2) «إذا احتبس كثيرًا» ساقط من «أ، ج».
(الكتاب/366)
حملت لم يحتج الجنين أول ما يخلق إلى غذاء كثير حتى يتم. فإذا تمَّ له اثنان وأربعون يومًا اغتذى كما ينبغي. وما اجتمع في الأيام الأربعين من الدم الذي ينزل إلى الجنين بقي إلى وقت ولاد المرأة، فإذا ولدت نزل أربعين يومًا.
قلت: في هذا الفصل حديثان صحيحان عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نذكرهما ونذكر تصديق أحدهما للآخر، ثم نتَعقَّب كلام بقراط، ونبيِّن ما فيه بحول الله وقوته وتوفيقه وتعليمه وإرشاده.
ففي «الصحيحين» من حديثِ ابنِ مَسْعُودٍ قالَ: حدّثنا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – وهو الصَّادقُ المصْدُوقُ: «إنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُه في بطن أُمِّه أربعينَ يومًا، ثم يكونُ في ذلكَ عَلَقَةً مثلَ ذلك، ثم يكونُ في ذلك مُضْغَةً مثلَ ذلك، ثم يُرسِلُ اللهُ المَلَكَ فينفخ فيه الرُّوح، ويُؤْمَر بأربعِ كلماتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وأجَلِهِ، وعَمَلِهِ، وشقيٌّ أو سعيدٌ، فَوَالذِي لا إلهَ غيرُه، إنَّ أحدَكُم لَيَعْملُ بعملِ أهل الجنَّةِ حتى ما يَكُونُ بينَه وبينَها إلا ذراعٌ، فيَسْبِقُ عليه الكتابُ، فيعملُ بعملِ أهلِ النَّار فيدخلُها، وإنَّ أحدَكم لَيعملُ بعملِ أهلِ النَّار حتى ما يكونُ بينَها وبينَه إلا ذراعٌ، فيسبقُ عليه الكتابُ، فيعملُ بعملِ أهلِ الجنَّة فيدخلُها» (1).
_________
(1) أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب ذكر الملائكة: 6/ 303 وفي الأنبياء وفي القدر، ومسلم في القدر، باب: كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه: 4/ 2036 ـ 2037 برقم (2643).
(الكتاب/367)
وفي طريقٍ أُخْرَى: «إنَّ خَلْقَ ابنِ آدمَ يُجمعُ في بَطْنِ أُمِّه أربعينَ» (1).
وفي أُخْرى: «أَربعينَ ليلةً» (2).
وقال البُخَاريُّ: «أربعينَ يومًا، أو أربعينَ ليلةً» (3).
وفي بعض طرقه: «ثمَّ يبعثُ الله مَلَكًا بأربعِ كلماتٍ: فيكتبُ عَمَلَهُ، وأجَلَهُ، ورِزْقَهُ، وشقيٌّ أوسعيدٌ، ثم ينفخ فيه الروح … » الحديث (4).
وفي «صحيح مُسْلِم»: من حديث حُذَيْفَةَ بنِ أسيد، يبلغ به النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال: «يدخلُ المَلَكُ على النُّطفة بعد ما تستقرُّ في الرَّحِم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة، فيقول: يا ربِّ أشقيٌّ أو سعيدٌ؟ فيُكْتَبان، فيقول: أي ربِّ أذكرٌ أم أنثى؟ فيُكتَبان، ويُكتبُ عملُه، وأثرُه، وأجَلُه، ورزقُه، ثم تُطوى الصحف فلا يُزاد فيها ولا يُنْقَصُ» (5).
وقال الإمام أَحْمَد: حدّثني سفيان، عن عَمْرو، عن أبي الطُّفَيْل، عن حُذيفةَ بن أَسيد الغفاريّ، قال سمعتُ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «يَدخُل
_________
(1) في المواضع السابقة.
(2) في صحيح مسلم، الموضع السابق.
(3) في الصحيح، كتاب التوحيد: 13/ 440.
(4) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء: 6/ 363.
(5) أخرجه مسلم في القدر، باب: كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه: 4/ 2037، برقم (2644).
(الكتاب/368)
المَلَكُ على النُّطفةِ بعد ما تستقرُّ في الرَّحِمِ بأربعينَ ليلةً، فيقولُ: يا ربِّ أشقيٌّ أم سعيدٌ؟ فيقول الله عز وجلَّ. فيكتبانِ، فيقولانِ: أذكرٌ أم أنثى؟ فيقولُ الله عز وجل. فيكتبانِ، فيُكْتَبُ عَمَلُهُ، وأثَرُهُ، ومُصِيبَتُهُ، ورِزْقُهُ، ثمَّ تُطْوَى الصَّحِيْفَةُ فلا يُزْادُ على مَا فِيْهَا وَلا يُنْقَصُ» (1).
وفي «صحيح مُسْلِمٍ»: عن عامرِ بنِ وَاثِلَةَ، أنَّه سمعَ عبدَ الله بنَ مسعودٍ يقول: الشقيُّ من شَقِيَ في بطنِ أُمِّهِ، والسَّعيدُ من وُعِظَ بغيره، فأتى رجلًا من أصحابِ رسولِ الله يقالُ له: حُذيفةُ بن أَسِيْدٍ الغِفَارِيّ فحدَّثه بذلك مِنْ قولِ ابنِ مسعودٍ. فقال: وكيفَ يَشْقَى رجلٌ بغير عملٍ؟ فقال له الرجلُ: أتعجبُ من ذلك؟ فإني سمعتُ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «إذا مرَّ بالنطفة ثنتانِ وأربعونَ ليلةً، بعثَ اللهُ إليها مَلَكًا، فَصَوَّرهَا، وخَلَقَ سَمْعَها وبَصَرَهَا وجِلْدَهَا ولَحْمَها وعِظَامَها، ثمَّ قالَ: يا ربِّ أذكرٌ أم أُنثى؟ فيقضي ربُّكَ ما شاءَ، ويكتبُ المَلَكُ، ثم يقولُ: يا ربِّ أجلُه؟ فيقضي ربُّك ما شاء، فيكتب المَلَكُ، ثم يقول: يا ربِّ رِزْقُه؟ فيقضي ربُّك ما شاءَ. ويكتب المَلَكُ، ثم يَخرجُ الملَك بالصحيفةِ في يده، فلا يزيدُ على ما أُمرَ ولا يَنْقُصُ» (2).
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد: 4/ 7، وفي طبعة الرسالة: 26/ 64 – 65، وأخرجه مسلم في القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه: 4/ 2036 – 2037 برقم (2645).
(2) أخرجه مسلم في الموضع السابق برقم (2645).
(الكتاب/369)
وفي لفظ آخر: سمعتُ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – بأذنيَّ هاتَيْنِ يقول: «إنَّ النُّطْفَةَ تَقَعُ في الرَّحِم أَرْبَعِيْنَ ليْلَةً، ثمَّ يَتَسوَّرُ عليها المَلَكُ» قال زهير: حَسِبْتُهُ قالَ: «الّذي يَخْلُقُهَا، فيقولُ: يا ربِّ أذكرٌ أم أُنثى؟ فيجْعَلُهُ اللهُ ذكرًا أو أنثى، فيقولُ: يا ربِّ أسَوِيٌّ أمْ غيرُ سويٍّ، فيجعله الله سويًّا أو غيرَ سَوِيٍّ، ثم يقولُ: يا ربِّ ما رزقُه؟ وما أجَلُه؟ وما خُلُقُه؟ ثمَّ يجعلُه اللهُ شقيًّا أو سَعِيدًا» (1).
وفي لفظٍ آخرَ: «أنَّ مَلَكًا مُوَكَّلًا بالرَّحِم، إذا أرادَ اللهُ عز وجلّ أن يخلُقَ شيئًا بإذنِ اللهِ لِبِضْعٍ وأَرْبَعِينَ ليلةً … » ثمَّ ذكر الحديث (2).
فاتَّفق حديثُ ابنِ مسعودٍ، وحديثُ حذيفةَ بن أَسيد، على حُدُوثِ شأنِ وحَالِ النُّطفة بعد الأربعينَ، وحديثُ حذيفةَ مفسَّرٌ صريحٌ بأنَّ ذلك يُكتَبُ بعد الأربعينَ قبلَ نَفْخِ الرُّوح فيه، كما تقدم في رواية البُخَاريّ.
وأما حديثُ ابنِ مسعودٍ، فأحدُ ألفاظِه موافقٌ لحديثِ حذيفةَ، وإنْ كان ذلك التقديرُ والكتابةُ بعد الأربعينَ قبلَ نفْخِ الرُّوحِ فيه، كما تقدَّم من رواية البُخَاريّ، ولفظُه: «ثمَّ يَبعثُ اللهُ إليه مَلَكًا بأربعِ كلماتٍ، فيكتب عمله، ورزقه، وأجلَه، وشقيٌّ أو سعيدٌ، ثم ينفخ فيه الروح». فهذا صريحٌ أنَّ الكتابةَ وسؤالَ الملَك قبلَ نفخِ الرُّوح فيه، وهو موافقٌ لحديثِ حذيفةَ في ذلك.
_________
(1) أخرجه مسلم في الموضع السابق برقم (2645).
(2) الموضع السابق نفسه.
(الكتاب/370)
وأما لفظُه الآخرُ: «فينفخُ فيه الروح، ويُؤمَرُ بأربعِ كلماتٍ» فليس بصريحٍ؛ إذِ الكلماتُ المأمورُ بها بعد نفخِ الروح، فإنَّ هذه الجملةَ معطوفةٌ بالواو، ويجوز أن تكونَ معطوفةً على الجملة التي تليها، ويجوز أن تكون معطوفةً على جملةِ الكلامِ المتقدِّمِ. أي: يجمع خلقه في هذه الأطوار، ويؤمر الملك بكَتْبِ رزْقِهِ، وأجَلِهِ، وعَمَلِهِ. ووسَّط بين الجُمَلِ قولَه: «ثم ينفخ فيه الروح» بيانًا لتأخُّر نفْخِ الرُّوح عن طَوْرِ النُّطفة والعَلَقَة والمُضْغَة. وتأمَّلْ كيفَ أتى بـ «ثمَّ» في فَصْلِ نَفْخِ الرُّوحِ، وبِالوَاوِ في قَوْلِه: «ويُؤمَرُ بأربعِ كلمات» فاتَّفَقَتْ سَائرُ الأحاديثِ بِحَمْدِ الله.
وبقيَ أنْ يُقالَ: حديثُ حذيفةَ يدلُّ على أن ابتداءَ التخليقِ عقيبَ الأربعينَ الأُوْلَى، وحديثُ ابنِ مسعودٍ يدلُّ على أنَّه عقيبَ الأربعينَ الثالثةِ. فكيف يُجْمَعُ بينهما (1)؟
قيل: أمَّا حديثُ حذيفةَ، فصريحٌ في كَوْنِ ذلكَ بعد الأربعين، وأمَّا حديثُ ابنِ مسعود، فليس فيه تَعرُّضٌ لوقتِ التصويرِ والتَّخْليقِ، وإنمَّا فيه بيانُ أطوارِ النطفةِ وتنقُّلِهَا بعد كلِّ أربعينَ، وأنه بعد الأربعين الثالثة يُنفخ فيه الرُّوح. وهذا لم يتعرَّضْ له حديثُ حذيفةَ، بل اختصَّ به حديثُ ابنِ مسعود، فاشترك الحديثانِ في حدوثِ أمرٍ بعدَ الأربعينَ الأُوْلَى.
واختصَّ حديثُ حذيفةَ بأنَّ ابتداءَ تصويرِها وخَلْقِها بعد الأربعين الأولى.
_________
(1) انظر في هذا الجمع: طريق الهجرتين: 1/ 156 ـ 162، والتبيان في أيمان القرآن، ص 517 وما بعدها، وشفاء العليل، ص 39 ـ 44.
(الكتاب/371)
واختصَّ حديثُ ابنِ مسعودٍ بأنَّ نَفْخَ الرُّوْحِ فيه بعد الأربعينَ الثالثةِ.
واشتركَ الحديثانِ في استئذانِ المَلَكِ ربَّهُ ـ سبحانه ـ في تقدير شأنِ المولودِ في خلالِ ذلكَ، فتصادقتْ كلماتُ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم -، وصدَّق بعضُهَا بعضًا.
وحديثُ ابنِ مسعودٍ فيه أمران: أمْرُ النُّطْفةِ وتنقُّلها، وأَمْرُ كتابةِ الملَك ما يقدِّر اللهُ فيها، والنبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أخبر بالأمْرَينِ في الحديثِ.
قال الإمامُ أَحْمَد: حدّثنا هُشَيْم، أنبأنا عليّ بنُ زيد، قال سمعت أبا عُتْبَةَ بنَ عبدِ الله يحدِّث قال: قال عبدُ الله بنُ مسعودٍ ـ رضي الله عنه ـ قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ النُّطفةَ تكونُ في الرَّحِمِ أربعينَ يومًا على حَالهَا لا تتغيَّرُ، فإذا مضتْ له أربعونَ صارتْ عَلَقةً، ثم مُضْغَةً كذلك، ثم عظامًا كذلك، فإذا أرادَ أن يُسَوِّيَ خَلْقَهُ بعثَ اللهُ إليهِ المَلَكَ، فيقولُ الملَكُ الذي يليه: أيْ ربِّ أذكرٌ أم أُنثى؟ أشقيٌّ أم سعيدٌ، أقصيرٌ أم طويلٌ، أناقصٌ أم زائدٌ، قُوْتُهُ وأَجَلُهُ، أصحيحٌ أم سقيمٌ؟» قال: «فيَكْتبُ ذلك كلَّه» (1).
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد: 1/ 375 وفي طبعة الرسالة: 6/ 13 – 14. وإسناده ضعيف ومنقطع، أبو عبيدة بن عبدالله لم يسمع من أبيه، وعلي بن زيد بن جدعان ضعيف. وانظر: فتح الباري: 11/ 481.
(الكتاب/372)
فهذا الحديث فيه الشِّفاءُ. وإنَّ الحادثَ بعد الأربعينَ الثالثةِ: تسويةُ الخلْقِ عند نفخِ الرُّوح فيه.
ولا ريب أنَّه عند نفخِ الرُّوح فيه وتَعَلُّقِهَا به يَحدُثُ له في خلْقه أمورٌ زائدة على التخليق الذي كان بعد الأربعينَ الأُولى، فالأوَّلُ كان مبدأَ التخليقِ. وهذا تسويتُه وكمالُ ما قُدِّر له، كما أنَّه ـ سبحانه ـ خلقَ الأرضَ قبل السماء، ثم خلقَ السماءَ، ثم سوَّى الأرضَ بعد ذلك، ومهَّدَها وبَسَطَها، وأكْمَلَ خَلْقَها، فذلك فِعْلُه في السَّكَن، وهذا فِعْلُهُ في السَّاكن. على أن التَّخليقَ والتَّصويرَ ينشأُ في النُّطفة بعد الأربعينَ على التَّدريج شيئًا فشيئًا، كما ينشأ النباتُ، فهذا مشاهَدٌ في الحيوان والنّباتِ، كما إذا تأمَّلتَ حالَ الفرُّوجِ في البَيْضَةِ، فإنَّما يقعُ الإشْكالُ مِن عَدَم فَهْم كلامِ الله تعالى ورسُولِهِ – صلى الله عليه وسلم -، فالإشكالُ في أفهامنا، لا في بَيَانِ المعصومِ، واللهُ المسْتَعَانُ.
وقد أغناك هذا ـ بحمد الله ـ عن تكلُّف الشَّارحينَ، فتأمَّلْهُ ووَازِنْ بينَه وبينَ هذا الجَمْعِ، وبالله التَّوفيقُ.
فصل
وقد قال بُقْراط في «كتاب الغذاء»: تصوير (1) الجنين يكون في خمسة وثلاثين يومًا، وحركتُه في سبعين صباحًا، وكمالُه في مائة وعشرة
_________
(1) في (ب، ج): تصور.
(الكتاب/373)
أيام، ويتصوَّر أجنَّة أُخَر في خمسين صباحًا، ويتحركون التحرُّك الأول في مائة صباح، ويكملون في ثلاثمائة، ويتصور أجنة أُخَر في أربعين صباحًا، ويتحركون في ثمانين صباحًا، ويولدون في مائتين وأربعين صباحًا، ويتصور أجنة أخر في خمسة وأربعين صباحًا، ويتحركون في تسعين صباحًا، ويولدون في مائتين وسبعين صباحًا.
قال: فأما الولادة فتكون في الشهر السَّابع والثامن والتاسع والعاشر.
قلت: الحركة حركتان: حركة طبيعيَّة غير إراديَّة، فهذه قد تكون قبل تعلُّق الروح به، وأما الحركة الإراديَّة فلا تكون إلا بعد نفخ الروح.
ولهذا فرَّق بقراط بين التحرُّك الأول والثاني.
قلت: الذي دلَّ عليه الوحي الصَّادق عن خالق (1) البشر، أنَّ الخلق ينتقل في كل أربعين يومًا إلى طور آخر، فيكون أولًا نطفة أربعين يومًا ثم عَلَقَة كذلك، ثم مُضْغَةً كذلك، ثم ينفخ فيه الروح بعد مائة وعشرين يومًا. فهذا كأنك تشاهده عِيَانًا، وما خالفه فليس مع المخبِر به عِيان، وغاية ما معه قياس فاسد، أوتشريح لا يحيط علمًا بمبدأ (2) ما شاهده منه، أو تقليد لواحد غير معصوم (3)، وكل من جاء به مشى خلفه فيه، فيعتقد المعتقِد أن هذا أمر متفق عليه بين الطبائعيين. وأصله كلُّه
_________
(1) في «أ، ج، د»: خلاق.
(2) في «أ، ج، د»: بمبدأ يكون.
(3) في «د»: أو تقليدًا لواحد معصوم. وفي «ج»: لواحد معصوم.
(الكتاب/374)
واحد (1)، أخطأ فيه، ثم قلَّده مَن بعده، والقوم لم يشاهدوا ما أخبروا به من ذلك.
وغاية ما معهم أنهم شرَّحوا الحاكي أحياء وأمواتًا، فوجدوا الجنين في الرَّحِم على الصفة التي أخبروا بها، ولكن لا علم لهم بما وراء ذلك من مبدأ الحمل وتغير أحوال النطفة.
فإن ضيَّق مقلِّدُهم الفرضَ وقال: نفرض أنهم اعتبروا بِكْرًا من حيث وُطِئَت، ثم جعلوا يعدُّون أيامها إلى أن بلغت ما ذكروه. ثم شرَّحوها فوجدوا الأمر على الصفة التي أخبروا بها= فهذا غاية الكذب والبَهْت، فإن القوم لم يدَّعوا ذلك (2)، وكيف يمكنهم دعواه (3) وهم يخبرون أنَّ بعد ذلك بكذا وكذا يومًا يصير شأن الحَمْل كذا وكذا! وإنَّما مع القوم كليِّات (4) وأقيسة، وينبغي أن يكون كذا وكذا، والنظام الطَّبَعِيُّ يقتضي كذا وكذا.
وكثيرٌ منهم يأخذ ذلك من حركات القمر وزيادته ونقصانه، ومن حركات الشمس، ومن التثليث والتربيع والتسديس، والمقابلة.
وردَّ عليهم آخرون منهم، وأبطلوا ذلك عليهم من وجوه، وأحالوا به
_________
(1) في «ب»: وأصل كل واحد.
(2) في «د»: يرجو.
(3) في «ب، ج، د»: دعواهم.
(4) في «أ، ب»: كلمات.
(الكتاب/375)
على الأَخْلَق والأَوْلى والأنسب.
وأحال به آخرون على حركات الكواكب وتنقلها، وأحال آخرون على (1) أيام البحارين وتغيُّر الطبيعة فيها، وردَّ بعض هؤلاء على بعض، وأبطل قوله بما تركناه مخافة التطويل.
وأصحُّ ما بأيديهم: التشريح والاستقراء التام الذي لا يُخْرَم. ونحن لا ننكر ذلك، ولكن ليس فيه ما يخالف الوحيَ عن خلاف (2) الأجنة أبدًا.
ومما يدلُّ على أن القوم لم يخبروا في ذلك عن مشاهدة: قولهم إنَّ الجنين الذي يُولد في الشهر السَّابع يصير ديديًّا (3) في تسعة أيام، ودمويًّا في ثمانية أيام أُخَر، ولحميًّا في تسعة أيام أخَر، ويقبل الصورة في اثني عشر يومًا أُخَر، فإذا اجتمعت هذه الأيام صارت خمسة وثلاثين يومًا، فجعلوه مضغة في الأربعين الأولى. وهذا كذب ظاهر قطعًا، وإنما يصير لحميًّا بعد الثمانين، ومثل هذا لا يُدرك إلا بوحي أو مشاهدة، وكلاهما مفقود عندهم، وإنما بأيديهم قياس اعتبروا به أحوال الأجنَّة من شهور ولادها، فحكموا على كل جنين ولد في شهر من شهور الولادة، على أنه ينبغي أن يكون ديديًّا، أي: نطفة، كذا وكذا يومًا،
_________
(1) «حركات .. آخرون على» ساقط من «أ، ب».
(2) كذا في جميع النسخ الخطية، ولعلها: خلق.
(3) في (أ، ج): زيديًا. وسيأتي أن معناها: نطفة.
(الكتاب/376)
ودمويًّا، أي: علقة، كذا وكذا يومًا، ولحميًّا، أي: مضغة، كذا وكذا يومًا، ثم أضعفوا ذلك العدد، وجعلوه وقت تحرك الجنين، وكذبوا في ذلك على الخلَّاق العليم في خلقه، كما كذبوا عليه في صفاته وأسمائه، فإن القوم لم يكن لهم نصيب من العلم الذي جاءت به الرسل، بل كانوا كما قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النساء/ 83].
وما غاية ما يناله المنكِرُ (1) المعرِضُ عمَّا جاءت به الرسل، وغاية ما نالوا به علمًا بأمور طبيعيَّة فيها الحقُّ والباطل، وأمور رياضية كثيرة التعب، قليلة الجدوى. وأمورُ الهيئة باطلُها أضعافُ أضعافِ حقِّها، فأين العلم المتلقَّى من الوحي النازل إلى الظن المأخوذ عن الرأي الزائل؟ وأين العلم المأخوذ عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن جبريل عن الله عز وجل، إلى الظن المأخوذ عن رأي رجل لم يَسْتَنِرْ قلبه بنور الوحي طرفة عين، وإنَّما معه حَدْسُه وتخمينه؟ ونسبةُ ما يدركه العقَلاء قاطبة بعقولهم إلى ما جاءت به الرسل، كنسبةِ سراجٍ ضعيف إلى ضوء الشمس، ولا تجد ولو عُمِّرت عُمْر نوح مسألةً واحدة أصلًا اتَّفَق فيها العقلاء كلُّهم على خلاف ما جاءت به الرسل في أمر من الأمور البتة، فالأنبياء لم تأت بما يخالف صريح العقل البتة، وإنما جاءت بما لا يدركه العقل، فما جاءت به الرسل مع العقل ثلاثة أقسام لا رابع لها البتة: قسم شهد به العقل والفطرة، وقسم يشهد
_________
(1) في «أ»: الكفر، وفي «ب»: الفكر.
(الكتاب/377)
بجملته ولا يهتدي لتفصيله، وقسم ليس في العقل قوة إدراكه، وأما القسم الرابع وهو ما يحيله العقل الصريح ويشهد ببطلانه، فالرسل بريئون منه، وإن ظنَّ كثير من الجهَّال المدَّعين للعلم والمعرفة أنَّ بعض ما جاءت به الرسل يكون من هذا القسم، فهذا إمَّا لجهله بما جاءت به، وإمّا لجهله بحكم العقل، أوْ لهما.
فصل
في مقدارِ زمانِ الحَمْلِ واختلافِ الأَجِنَّة في ذلك (1)
قال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف/15].
فأخبر تعالى أن مدة الحمل والفطام ثلاثون شهرًا، وأخبر في آية البقرة أنَّ مدة تمام الرَّضاع {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}، فعُلِمَ أنَّ الباقي يصلُح مدةً للحَمْلِ، وهو ستة أشهر.
فاتفق الفقهاء كلُّهم على أن المرأة لا تَلِدُ لدون ستةِ أشهرٍ إلا أن يكون سِقْطًا، وهذا أمر تلقَّاه الفقهاءُ عن الصَّحابةِ رضي الله عنهم (2).
فذكر البَيْهَقِيُّ وغيره، عن حرب بن أبي الأسود الدّيْلِيّ، أنَّ عُمَرَ أُتي
_________
(1) في «أ، ب»: في مدة زمان الحمل واختلاف مقدار الأجنة في ذلك.
(2) انظر: التبيان في أيمان القرآن للمصنف، ص 509 ـ 510.
(الكتاب/378)
بامرأةٍ قد ولدت لستة أشهر، فهمَّ عمر برَجْمِهَا، فبلغ ذلك عليًّا ـ رضي الله عنه ـ، فقال: ليس عليها رجمٌ. فبلغ ذلك عُمَرَ، فأرسلَ إليه فسألَه. فقال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة/ 233]. وقال: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف/ 15]. فستةُ أشهرٍ حَمْلُهُ، وحولانِ تمامُ الرَّضاعة، لا حدَّ عليها. قال: فخلَّى عنها (1).
وفي «موطأ مالك»: أنّه بلَغَهُ أنَّ عُثمانَ بنَ عفَّانَ ـ رضي الله عنه ـ أُتي بامرأةٍ وقد وَلَدَتْ في ستة أشْهُرٍ، فأَمَرَ بها أنْ تُرْجَمَ، فقال عليٌّ: ليس ذلك عليها، قالَ اللهُ تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} وقال: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان/14]. فأمَرَ بها عثمانُ أن تُردَّ، فَوَجَدَهَا قدْ رُجِمَتْ (2).
وذكر داود بن أبي هند، عن عِكْرِمَةَ، عن ابن عبَّاس، أنه كان يقول:
_________
(1) سنن البيهقي: 7/ 442، وأخرجه أيضًا: عبدالرزاق في المصنف: 7/ 279.
(2) أخرجه مالك في الموطأ بلاغًا: 2/ 255. قال ابن عبدالبر: رواه ابن أبي ذئب، وذكره في موطئه عن زيد بن عبدالله .. ويختلف أهل المدينة في رواية هذه القصة، فمنهم من يرويها لعثمان مع علي، كما رواها مالك وابن أبي ذئب، ومنهم من يرويها لعثمان مع ابن عباس، وأما أهل البصرة فيروونها لعمر مع علي .. ثم قال: وهذا الإسناد لا مدفع فيه من رواية أهل المدينة، وقد خالفهم في ذلك ثقات أهل مكة، فجعلوا ذلك لابن عباس مع عمر. انظر: الاستذكار: 9/ 53، والمصنف لعبد الرزاق: 7/ 280 ـ 281.
(الكتاب/379)
إذا ولدت المرأة لتسعة أشهر كفاها من الرَّضاع أحد وعشرون شهرًا، وإذا وضعت لسبعة أشهر كفاها من الرّضاع ثلاثة وعشرون شهرًا، وإذا وضعت لستة أشهر كفاها من الرّضاع أربعة وعشرون شهرًا، كما قال تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}. انتهى كلامه (1).
وقال الله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} [الرعد/ 8].
قال ابن عبَّاس: {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ}: ما تنقص عن تسعة أشهر. {وَمَا تَزْدَادُ}: وما تزيد عليها. ووافقه على هذا أصحابه، كمجاهد، وسعيد بن جبير (2).
وقال مجاهد أيضًا: إذا حاضت المرأة على ولدها كان ذلك نقصانًا من الولد، {وَمَا تَزْدَادُ} قال: إذا زادت على تسعة أشهر كان ذلك تمامًا لما نقص من ولدها.
وقال أيضا: «الغَيْضُ»: ما رأت الحامل من الدم في حملها، وهو نقصان من الولد، والزيادة: ما زاد على التسعة أشهر وهو تمام النقصان (3).
_________
(1) أي كلام البيهقي في السنن: 7/ 442.
(2) انظر تفسير الطبري: 16/ 359 ـ 365، وتفسير ابن أبي حاتم: 9/ 1 ـ 3، وتفسير البغوي: 4/ 297 ـ 298، وزاد المسير: 4/ 308، والدر المنثور: 8/ 377.
(3) انظر: تفسير الطبري: 16/ 360 ـ 361، وزاد المسير: 4/ 308.
(الكتاب/380)
وقال الحَسَنُ: {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ}: ما كان من سِقْط. {وَمَا تَزْدَادُ}: المرأة تلد لعشرة أشهر (1).
وقال عِكْرِمَةُ: تغيض الأرحام الحيض بعد الحمل، فكل يوم رأت فيه الدم حاملًا ازداد به في الأيام طاهرًا، فما حاضت يومًا إلا ازدادت في الحمل يومًا (2).
وقال قَتَادَة: «الغيض» السِّقْط، «وما تزداد»: فوق التسعة أشهر (3).
وقال سعيد بن جبير: إذا رأت المرأة الدم على الحمل فهو الغيض للولد، فهو نقصان في غذاء الولد، وزيادة في الحمل (4).
«تغيض» و «تزداد» فعلان متعديان مفعولهما محذوف، وهو العائد على «ما» الموصولة، و «الغيض»: النقصان، ومنه: {وَغِيضَ الْمَاءُ} [هود/ 44]، وضدُّه الزيادةُ.
والتحقيق في معنى الآية: أنَّه يَعْلَم مدَّةَ الحَمْلِ وما يحدث فيها من الزيادة والنقصان، فهو العالِمُ بذلك دونكم، كما هو العالم بما تحمل كلُّ أنثى هل هو ذكر أو أنثى؟
_________
(1) انظر: تفسير الطبري: 16/ 361 ـ 362، وزاد المسير: 4/ 308.
(2) انظر: تفسير الطبري: 16/ 362 ـ 363.
(3) انظر: تفسير الطبري: 16/ 359.
(4) انظر: زاد المسير: 4/ 308.
(الكتاب/381)
وهذا أحد أنواع الغيب التي لا يعلمها إلا الله، كما في «الصحيح» عنه – صلى الله عليه وسلم -: «مفاتيحُ الغيبِ خمسٌ لا يَعْلمُهُنَّ إلا الله: لا يَعْلمُ متى تجيءُ السَّاعةُ إلا الله، ولا يَعْلمُ ما في غدٍ إلا الله، ولا يَعْلمُ متى يجيء الغيثُ إلا اللهُ، ولا يعْلمُ ما في الأرحامِ إلا الله، ولا تَدْرِي نفسٌ بأي أرضٍ تموتُ إلا اللهُ» (1).
فهو ـ سبحانه ـ المتفرِّد بِعِلْمِ ما في الرَّحِم، وعِلْمِ وقتِ إقامتِه فيه، وما يزيدُ من بَدَنِهِ، وما يَنْقُص. وما عدا هذا القول فهو من توابعه ولوازمه، كالسِّقْط التام، ورؤية الدم، وانقطاعه.
والمقصود: ذكر مدة إقامة الحمل في البطن وما يتصل بها من زيادة ونقصان.
فصل
وأما أقصاها فقال ابن المُنْذِر (2): «اختلف أهل العلم في ذلك، فقالت طائفة: أقصى مدته سنتان. وروي هذا القول عن عَائِشَةَ.
وروي عن الضّحَّاك، وهرم بن حبان: أن كلَّ واحدٍ منهما أقامَ في بطن أُمِّه سنتين. وهذا قول سفيان الثَوْري (3).
_________
(1) أخرجه البخاري في الاستسقاء، باب لا يدري متى يجيء المطر إلا الله: 2/ 524، وفي التفسير، سورة الأنعام، باب وعنده مفاتح الغيب: 8/ 291.
(2) في الإشراف على مذاهب العلماء: 5/ 347.
(3) الثوري، ليست في «د». وانظر أيضًا هذا القول وما بعده مع الأدلة في: المغني: 11/ 232 ـ 233، وفتح باب العناية للملا علي القاري: 2/ 188 ـ 189.
(الكتاب/382)
وفيه قول ثان: وهو أن مدة الحمل قد تكون ثلاث سنين، رُوِّينا عن الليث بن سعد، أنه قال: حملت مولاة لعمر بن عبد الله ثلاث سنين.
وفيه قول ثالث: إن أقصى مدته أربع سنين، هكذا قال الشّافِعِيّ رحمه الله» (1).
قلت: وعن الإمام أَحْمَد ـ رحمه الله ـ روايتان: إحداهما: أنه أربع سنين، والثانية: سنتان (2).
قال (3): «واختلف فيه عن مالك، فالمشهور عنه عند أصحابه مثل ما قال الشّافِعِيّ، وحكى ابن الماجشون عنه ذلك، ثم رجع لمَّا بلغه قصة المرأة التي وضعت لخمس سنين.
وفيه قول آخر: أن مدة الحمل قد تكون خمس سنين، حُكِيَ عن عَبَّاد ابن العوَّام أنه قال: ولدت امرأة معنا في الدار لخمس سنين، قال: فولدته وشعره يضرب إلى ها هنا، وأشار إلى العنق، قال: ومرَّ به طير فقال: هش. وقد حُكِي عن ابن عجلان أن امرأته كانت تحمل خمس سنين.
وفيه قول خامس قاله الزُّهْرِيّ (4): إن المرأة تحمل ست سنين،
_________
(1) في الإشراف على مذاهب العلماء: 5/ 347.
(2) انظر: المغني لابن قدامة: 11/ 232.
(3) الإشراف: 5/ 347 ـ 348.
(4) في «ب»: قال الأزهر. ولعلها: قال الزهري.
(الكتاب/383)
وسبع سنين، فيكون ولدها محشوشًا (1) في بطنها. قال: وقد أُتي سعيد ابن مالك (2) بامرأة حملت سبع سنين.
وقالت فرقة: لا يجوز في هذا الباب التحديد والتوقيت بالرأي، (لأنَّا وجدنا لأدنى الحمل أصلاً في تأويل الكتاب، وهو الأشهر الستة) (3)، فنحن نقول بهذا ونتبعه، ولم نجد لآخره وقَتًا.
وهذا قول أبي عُبَيْد، ودفعَ بهذا حديثَ عَائِشَةَ، وقال: المرأة التي رَوَتْهُ عنها مجهولةٌ.
وأجمع كلُّ من يُحْفَظُ عنه من أهل العلم: أنَّ المرأة إذا جاءت بولدٍ لأقلَّ من ستةِ أشهرٍ من يومِ تَزوَّجَها الرجلُ: أنَّ الولدَ غير لَاحِقٍ به، فإن جاءت به لستة أشهرٍ من يوم نَكَحَهَا: فالولدُ له».
وهذا وأمثاله يدل على أن الطبيعة ـ التي هي نص (4) سير الطبائعيين ـ لها ربٌّ قاهر قادرٌ يتصرَّف فيها بمشيئته، وينوِّع فيها خَلْقَه كما يشاء ليدلَّ مَنْ له عقلٌ على وجودهِ ووحدانيتِه وصفاتِ كمالِه ونُعوتِ جلالِه، وإلا فمِنْ أين في الطبيعة المجرَّدة هذا الاختلاف العظيم والتباين الشديد؟
_________
(1) في «أ»: مغشوشًا وفي (ج، د): مخشوشًا. وهو تحريف. وراجع: لسان العرب: 6/ 258.
(2) في «أ»: عبدالملك.
(3) ما بين القوسين ساقط من «أ».
(4) في «أ»: منتهى. وهي بمعنى النص.
(الكتاب/384)
ومن أين في الطبيعة خَلْقُ هذا النوع الإنساني على أربعة أضرب:
(أحدها): لا من ذكر، ولا من أنثى، كآدم – صلى الله عليه وسلم -.
(الثاني): من ذكر بلا أنثى، كحواء صلوات الله عليها.
(الثالث): من أنثى بلا ذكر كالمسيح – صلى الله عليه وسلم -.
(الرابع): من ذكر وأنثى كسائر النوع؟
ومن أين في الطبيعة والقوة هذا التركيب والتقدير والتشكيل، وهذه الأعضاء والرباطات، والقُوى والمنافذ، والعجائب التي رُكِّبت في هذه النطفة المهينة؟
لولا بدائعُ صُنعِ الله ما وُجِدَتْ … تلكَ العجائبُ في مُسْتَقْذَرِ الماء
{يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار/ 6 ـ 8].
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران/ 5 ـ 6].
لقد دلَّ ـ سبحانه ـ على نفسه أوْضَحَ دِلَالةٍ بما أَشْهَدَهُ كلَّ عبدٍ على نَفْسهِ من حَالِه وحُدُوثَه، وإتقانِ صُنْعِه، وعَجَائِبِ خَلْقِه، وآياتِ قُدرتِه، وشَوَاهِدِ حِكْمَتِهِ فيه.
ولقد دعا ـ سبحانه ـ الإنسانَ إلى النّظَر في مبدأ خَلْقِه وتَمامِهِ، فقال
(الكتاب/385)
تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق/ 5 ـ 7].
وقال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج/5].
وقال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات/ 20 ـ 21].
و هذا في القرآن كثيرٌ لمن تدبَّره وعَقَلَهُ، وهو شاهدٌ منكَ عليكَ، فمن أينَ للطبيعةِ والقوةِ المحصورةِ هذا الخَلْقُ والإتقانُ والإبداعُ، وتفصيلُ تلك العظام، وشدُّ بعضِها ببعضٍ على اختلاف أشكالها ومقاديرِهَا ومنافعِها وصفاتِها، ومَنْ جعل في النطفة تلك العروقَ واللحمَ والعَصَبَ؟
ومَنْ فَتَحَ لها تلك الأبوابَ والمنافذَ؟ ومَنْ شقَّ سَمْعَهَا وبَصَرَهَا، ومن ركَّبَ فيها لسانًا تنطقُ به، وعينينِ تُبْصِرُ بهما، وأُذُنَيْنِ تَسْمعُ بهما، وشَفَتَيْنِ؟
ومَنْ أوْدَعَ فيها الصَّدْرَ وما حوَاهُ من المنَافِعِ والآلاتِ التي لو شاهدتَها لرأيتَ العجائبَ؟
(الكتاب/386)
ومَنْ جعل هناك حوضًا وخزانةً يجتمع فيها الطعامُ والشرابُ، وساقَ إليه مَجَارِيَ وطرقًا ينفذ فيها، فيسقي جميعَ أجزاءِ البدنِ، كلُّ جزءٍ يشربُ من مجراه الذي يختصُّ به لا يتعدَّاهُ {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة/ 60].
ومَنْ أخذ منها تلكَ القُوَى التي بها تمَّتْ مَصَالِحُهَا ومَنَافِعُهَا؟
ومَنْ أودع فيها العلومَ الدقيقةَ والصنائعَ العجيبةَ، وعلَّمها ما لم تكنْ تعلمْ، وألْهَمَهَا فُجُورَهَا وتَقْوَاهَا، ونَقَلهَا في أطْوَارِ التَّخْليقِ طَوْرًا بعد طَوْرٍ، وطَبَقًا بَعْدَ طَبَقٍ إلى أنْ صارتْ شخصًا حيًّا ناطقًا سميعًا بصيرًا، عالمًا متكلِّمًا آمرًا ناهيًا، مسلَّطًا على طَيْرِ السَّماءِ وحِيْتَانِ الماءِ، ووُحُوشِ الفَلَوَاتِ، عالمًا بما لا يعلمُه غيرُه من المخلوقاتِ؟ {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس/ 17 ـ 22].
فصل
وقد زَعَمَ طائفةٌ ممَّن تكلَّم في خَلْقِ الإنسانِ أنَّه إنَّما يُعطَى السمعَ والبصرَ بعد وِلَادتِه وخُرُوجِهِ من بَطْنِ أُمِّه، واحتجَّ بقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل/78].
واحتجَّ بأنَّه في بطن الأمِّ لا يَرَى شيئًا، ولا يسمعُ صوتًا، فلمْ يكنْ
(الكتاب/387)
لإعطائِهِ السمعَ والبصرَ هناك فائدةٌ!
و ليس ما قاله صحيحًا، ولا حجَّةَ له في الآية، لأنَّ الواو لا ترتيب فيها، بل الآية حجَّةٌ عليه، فإنَّ فؤادَه مخلوقٌ وهو في بطنِ أُمِّه.
وقد تقدَّم حديثُ حذيفةَ بنِ أَسيد الصَّحِيحُ: «إذا مرَّ بالنُّطفَةِ ثنتانِ وأربعونَ ليلةً، بعثَ اللهُ إليها مَلَكًا، فصوَّرهَا وخَلَق سْمَعَها وبَصَرَها، وَجِلْدَهَا ولحمَها» (1).
وهذا، وإنْ كان المراد به العين والأذن، فالقوَّة السامعةُ والبَاصِرةُ مُوْدَعةٌ فيهما، وأمَّا الإدراكُ بالفعل فهو موقوفٌ على زوال الحجاب المانع منه، فلمَّا زال بالخروج من البطن، عمل المقتضي عملَه، والله أعلم.
_________
(1) تقدم تخريجه فيما سبق، ص (369).
(الكتاب/388)
فصل
في ذِكرِ أَحوالِ الجنِينِ بعد تَحرِيكِه وانقِلابهِ عندَ تَمامِ نِصفِ السَّنَةِ
يعرض للجنين في هذا الوقت أن يُهْتَك غشاؤه، والحجُبُ التي عليه، وأن ينتقل عن مكانه نحو فَمِ الرَّحم، فإن كان الجنين قويًّا وكانت أغشيته التي تغشيه (1) وسُرَّتُه أضعف= تمَّ الولاد. وإن كان الجنين ضعيفًا وأغشيته وسُرَّته أقوى= فإما أن يهتكها بعض الهتك ولا يولد، فيبقى مريضًا أربعين يومًا إلى تمام آخر الشهر الثامن، فإن ولد في هذه الأربعين يومًا مات، ولم يمكن تربيته ولا بقاؤه.
وإن هو هتك أغشيته كلَّ الهتك حتى لا يمكن تلافي ذلك ولم يولد= مات، فإن لم يسقط= قتل الحامل به، وإن هَتَك أغشيتَه هتكًا يمكن تلافيه بقي ولم يمت، ومكث في موضعه الذي تحرك نحوه، وانقلب إليه عند فم الفرج. وإنما يعرض لهم المرض في هذه الأربعين يومًا، إذا لم يولدوا بعد تحرُّكهم لأنهم ينقلبون عن مكانهم الذي نشأوا فيه، وتتغير مواضعهم وانخلاع السُّرَّة بانتقالهم، ولأن أمهاتهم يعرض لهنَّ أن يَمْرَضْنَ عند ذلك، لتمدُّد الأغشية، وانخلاع السرَّة المتصلة بالرَّحم منهنَّ، ولأنَّ الجنين إذا انحلَّ رباطه ثقل على أمِّه.
_________
(1) التي تغشيه. ساقط من «ج».
(الكتاب/389)
فصل
في سببِ الشَّبَه للأبوَينِ أو أحدِهما، وسببِ الإذْكارِ والإيناثِ، وهلْ لهما علامَةٌ وقتَ الحَمْلِ (1) أم لا؟
تقدَّم (2) ذِكْرُ قولِه تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران/ 6].
وثبت في «الصحيحين» عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أنّ أم سُلَيْمٍ سَأَلَتِ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – عن المرأة تَرى في مَنَامِهَا مَا يَرَى الرَّجلُ؟ فقالَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «إذا رأتِ المرأةُ ذلك فَلْتَغْتَسِلْ» فقالت أم سُلَيم ــ واسْتَحْيَتْ مِنْ ذَلِكَ ــ وهل يكونُ ذلكَ؟ فقالَ الرسولُ: «نعم، فمِنْ أينَ يكونُ الشَّبَهُ؟ ماءُ الرَّجُلِ غليظٌ أبيضُ، وماءُ المرأةِ رقيقٌ أصفرُ، فَمِنْ أيّهما عَلَا أو سَبَقَ يكونُ منه الشَّبَهُ» (3).
وفي «صحيح مُسْلِم» عن عَائِشَةَ أنَّ امرأةً قالتْ لرسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – هل تغتسلُ المرأةُ إذا احْتَلَمَتْ فأبْصَرَتِ الماءَ؟ فقال: «نعم»، فقالت لها
_________
(1) في «د»: الحبَل.
(2) انظر فيما سبق ص (385).
(3) أخرجه البخاري في العلم، باب الحياء في العلم: 1/ 228 عن أم سلمة، وفي مواضع أخرى، ومسلم في الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المنيِّ منها: 1/ 250 برقم (311) عن أنس.
(الكتاب/390)
عَائِشَةُ: تَرِبَتْ يَدَاكِ! فقال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «دَعِيهِا، وهَلْ يكونُ الشَّبَهُ إلَّا من قِبَلِ ذلك، إذا عَلا ماؤها ماءَ الرجلِ أشبهَ الولدُ أخوالَه، وإذا عَلا ماءُ الرجلِ ماءَهَا أشبهَ أَعْمامَهُ» (1).
وفي «صحيح مُسْلِم»: عن ثَوبَانَ، قال: كنتُ قائمًا عندَ رسُولِ الله – صلى الله عليه وسلم – فجاءَ حَبْرٌ من أحْبَارِ اليهودِ، فقال: السَّلامُ عليكَ يا محمَّدُ، فدفعتُه دفعةً كاد يُصْرَعُ منها، فقال: لِمَ تَدْفَعُنِي؟ فقلتُ: ألَا تَقُولُ: يا رسولَ الله؟ فقالَ اليهوديُّ (2): إنَّما نَدْعُوهُ بِاسْمِهِ الذي سمَّاه به أهلُه. فقال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «اسْمِي مُحَمَّدٌ. الذي سمَّاني به أَهْلِي» فقالَ اليهوديُّ: جئتُ أسألُكَ، فقالَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «أينفعُكَ شيءٌ إن حدَّثْتُكَ؟» فقال: أسمعُ بأُذني. فنكتَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – بِعُودٍ مَعَه، فقالَ: «سَلْ» فقالَ اليهوديُّ: أينَ يكونُ النّاسُ حين تُبدَّل الأرضُ غيرَ الأرضِ والسماوات (3)؟ فقالَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «هم في الظُّلمَةِ دونَ الجِسْرِ». فقال: فمَنْ أوَّلُ الناس إجازةً يوم القيامة؟ قال: «فقراءُ المهاجرينَ». قال اليهودي: فما تُحْفَتُهُمْ حين يدخُلون الجنة؟ قال: «زيادةُ كبدِ النونِ». قال: فما غذاؤهم على إثره؟ قال: «يُنحر لهم ثَوْر الجنة الذي كان يأكل من أطرافها». قال: فما شرابهم عليه؟ قال: «عينًا فيها تسمى سلسبيلًا». قال: صدقت.
_________
(1) أخرجه مسلم في الموضع السابق برقم (314).
(2) «فقال: السلام … فقال اليهودي» ساقط من «د».
(3) ساقطة من «أ».
(الكتاب/391)
قال: أردتُ أن أسألكَ عن شيءٍ لا يعلمُه أحدٌ من أهلِ الأرضِ إلا نبيٌّ أو رجلٌ أو رجلانِ. قال: «ينفعُك إن حدَّثتُك؟» قال: أسمعُ بأذني، قال: جئتُ أسألك عن الولَدِ؟ قال: «ماءُ الرَّجلِ أبيضُ، وماءُ المرأة أصفرُ، فإذا اجتمعا فَعَلَا مَنِيُّ الرجل مَنِيَّ المرأة أذْكَرَا بإذن الله، وإذا عَلَا منيُّ المرأة منيَّ الرجل آنَثَا بإذن الله تعالى». فقال اليهوديُّ: لقد صدقتَ وإنَّك لنبيٌّ، ثم انصرفَ فذهبَ، فقال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «لقد سَألنِي عنِ الذي سَألنِي عنه، ومَا لي عِلمٌ بشيء منه حتى أَتاني اللهُ عز وجلَّ به» (1).
وفي «مسند الإمام أَحْمَد»: من حديث القاسم بن عبد الرَّحمن، عن أبيه، عن عبد الله ـ هو ابن مسعود ـ قال: مرَّ يهوديٌّ برسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يحدِّث أصحابه، فقال رجل من قريش: يا يهودي؟ إن هذا يزعم أنَّه نبي! فقال: لأسألنَّه عن شيء لا يعلمه إلا نبيٌّ، فجاء حتى جلس، ثم قال: يا محمَّد! ممَّ يُخلَق الإنسان؟ قال: «يا يهوديّ! من كلٍّ يُخلق، من نطفةِ الرَّجل ومن نطفةِ المرأةِ، فأمَّا نطفةُ الرجل فنطفةٌ غليظةٌ منها العظم والعَصَبُ، وأمَّا نطفةُ المرأة فنطفةٌ رقيقةٌ منها اللحم والدَّمُ»، فقام اليهودي فقال: هكذا كان يقول مَنْ قبلك (2).
_________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب صفة منيّ الرجل والمرأة وأن الولد مخلوق من مائهما: 1/ 252 برقم (315).
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند: 1/ 465، وفي طبعة الرسالة: 7/ 437، والبزّار برقم (2377) من كشف الأستار، والطبراني في الكبير برقم (10360). وقال الهيثمي في المجمع 8/ 241: «رواه أحمد والطبراني والبزار بإسنادين، وفي أحد إسناديه عامر ابن مدرك وثقه ابن حبان وضعفه غيره، وبقية رجاله ثقات، وفي إسناد الجماعة عطاء ابن السائب وقد اختلط».
(الكتاب/392)
فتضمنت هذه الأحاديث أمورًا:
(أحدها): أنَّ الجنينَ يُخلَق من ماء الرجل وماء المرأة، خلافًا لمن يزعم من الطَّبَائِعِيّينَ أنه إنما يخلق من ماء الرجل وحده، وقد قال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق/ 75].
قال الزجَّاج: قال أهل اللغة: التَّرِيبَة مَوْضِعُ القِلَادة مِن الصَّدْرِ، والجمع: تَرَائِب (1).
وقال أبو عُبَيْدة: التَّرَائِب: مُعَلَّق الحَلْي على الصَّدْرِ (2).
وهو قول جميع أهل اللغة.
وقال عطاءٌ عن ابنِ عبَّاسٍ: يريد صُلْبَ الرَّجُل، وتَرَائِبَ المرأةِ، وهو مَوْضِعُ قِلادَتِهَا. وهذا قولُ الكَلْبيِّ، ومُقَاتِل، وسُفْيَان وجُمْهُورِ أهلِ التفسيرِ (3). وهو المطابقُ لهذه الأحاديثِ.
_________
(1) معاني القرآن للزجّاج: 5/ 312. وفيه: قال أهل اللغة أجمعون: الترائب: موضع …
(2) قاله في مجاز القرآن: 2/ 292.
(3) انظر: معاني القرآن للفرِّاء: 3/ 255، تفسير الطبري: 24/ 354، وتفسير البغوي: 8/ 324.
(الكتاب/393)
وبذلك أجرى اللهُ العادةَ في إيجادِ ما يُوجِدُهُ من بين أَصْلَيْنِ، كالحيوان والنبات وغيرهما من المخلوقات. فالحيوان ينعقد من ماء الذكر وماء الأنثى، كما ينعقد النبات من الماء والتراب والهواء، ولهذا قال الله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام/ 101]. فإنَّ الولد لا يتكوَّن إلا من بين الذَّكَرِ وصاحبتِه. ولا ينتقض هذا بآدم وحواء ـ أبَوَيْنَا ـ ولا بالمسيح، فإنَّ الله ـ سبحانه ـ مَزَجَ ترابَ آدم بالماءِ حتى صار طينًا، ثم أرسل عليه الهواء والشَّمسَ حتى صار كالفخَّار، ثم نفخَ فيه الرُّوحَ، وكانت حواء مستلَّةً منه، وجزءًا من أجزائِه، والمسيحُ خُلِقَ من ماءِ مريمَ ونفخةِ الملك، وكانت النفخةُ له كالأبِ لغيرهِ.
فصل
(الأمر الثاني): أنَّ سَبْقَ أحدِ المائين سببٌ لشَبَهِ السابق ماؤه، وعلوَّ أَحدِهما سببٌ لمجانسة الولد للعالي ماؤه (1).
فها هنا أمران: سَبْقٌ وعُلُوٌّ، وقد يتفقان، وقد يفترقان؛ فإن سبقَ ماءُ الرجل ماءَ المرأة وعلاه، كان الولدُ ذكرًا والشَّبَهُ للرجل، وإن سبقَ ماءُ المرأة وعلا ماءَ الرجل كانت أنثى والشَّبَهُ للأم، وإن سبقَ أحدهما وعلا الآخرُ كان الشَّبَهُ للسّابق ماؤه، والإذكارُ والإيناثُ لمَنْ عَلا ماؤه.
_________
(1) انظر المسألة في: التبيان في أيمان القرآن، ص 510 ـ 517، والطرق الحكمية: 2/ 584 ـ 588، ومفتاح دار السعادة: 1/ 258 ـ 260.
(الكتاب/394)
ويُشْكِلُ على هذا أمران:
(أحدهما) أن الإذكار والإيناث ليس له سبب طبيعي، وإنَّما هو مستندٌ إلى مشيئة الخالق سبحانه، ولهذا قال في الحديث الصحيح: «فيقولُ الملك: يا ربّ أذكر أم أنثى، فما الرزق، فما الأجل، شقي أم سعيد؟ فيقضي الله ما يشاء ويكتب الملك»، فكونُ الولد ذكرًا أو أنثى مستندٌ إلى تقدير الخلاق العليم، كالشقاوة والسعادة، والرزق والأجل، وأما حديث ثوبان، فانفرد به مُسْلِم وحده. والذي في «صحيح البُخَاريّ» إنما هو الشبه، وسببه علوُّ ماء أحدهما أو سبقه، ولهذا قال: «فمِنْ أيّهما عَلا أو سَبقَ يكون الشَّبَه له» (1).
(الأمر الثاني): أن القافة مبناها على شبه الواطئ، لا على شبه الأم (2)، ولهذا قال النبيّ – صلى الله عليه وسلم – في ولد الملاعنة: «انْظُرُوهَا فإنْ جاءتْ به على نَعْتِ كَذَا وَكَذَا، فهوَ لِشَرِيْكِ بنِ السَّحْماءِ ـ يعني الذي رُمِيَتْ به ـ وإنْ جاءتْ بهِ على نَعْتِ كَذا وَكَذَا، فهوَ لِهلَالِ بنِ أميَّةَ» (3)، فاعتبر شبه الواطئ، ولم يعتبر شبه الأم.
ويجاب عن هذين الإشكالين:
أما الأول: فإن الله سبحانه قدَّر ما قدره من أمر النطفة من حين
_________
(1) تقدم فيما سبق، ص (391).
(2) انظرأيضًا: الطرق الحكمية للمصنف: 2/ 573 وما بعدها.
(3) أخرجه مسلم في اللعان: 2/ 1134 برقم (1496).
(الكتاب/395)
وضعها في الرَّحم إلى آخر أحوالها بأسباب قدَّرها (1)، حتى الشقاوة والسعادة، والرزق والأجل والمصيبة، كل ذلك بأسباب قدَّرها (2)، ولا ينكر أن يكون للإذكار والإيناث أسباب (3)، كما للشَّبه أسباب، لكون (4) السبب غير موجب لمسبَّبه، بل إذا شاء الله جعل فيه اقتضاءه، وإذا شاء سَلَبَه اقتضاءه، وإذا شاء رتَّب عليه ضدَّ ما هو سبب له، وهو سبحانه يفعل هذا تارة، وهذا تارة، فالموجب مشيئة الله وحده، فالسبب متصرَّف فيه لا متصرِّفٌ، محكومٌ عليه لا حاكمٌ، مدبَّر لا مدبَّر، فلا تضادَّ بين قيام سبب الإذكار والإيناث وسؤال الملك ربَّه تعالى أي الأمرين يحدثه في الجنين. ولهذا أخبر سبحانه أن الإذكار والإيناث وجمعهما هبةٌ محضة منه ـ سبحانه ـ راجع إلى مشيئته وعلمه وقدرته.
فإن قيل: فقول الملك (5): يا ربِّ! أ ذكرٌ أم أنثى؟ مثل قوله: ما الرِّزقُ، وما الأجلُ؟ وهذا لا يستند إلى سبب من الواطئ، وإن كان يحصل بأسباب غير ذلك.
قيل: نعم، لا يستند الإذكار والإيناث إلى سبب موجب من الوطء،
_________
(1) ساقطة من «أ».
(2) «حتى الشقاوة … قدَّرها» ساقط من «د».
(3) في «د»: ولا ينكر أن يكون الإذكار والإيناث أسبابًا.
(4) في «د»: لكي. وفي الهامش كتب مصححها: لعله: لكون.
(5) في «أ» جاءت العبارة هكذا: قال: فيقول الملك.
(الكتاب/396)
وغاية ما هناك أن ينعقد جزء من أجزاء السبب، وتمامُ السبب من أمور خارجة عن الزوجين، ويكفي في ذلك أنه إن لم يأذن الله باقتضاء السبب لمسببه لم يترتب عليه، فاستناد الإذكار والإيناث إلى مشيئته سبحانه لا ينافي حصول السبب، وكونهما بسبب لا ينافي استنادهما إلى المشيئة، ولا يوجب الاكتفاء بالسبب وحده.
وأما تفرُّد مُسْلِمٍ بحديث ثوبان، فهو كذلك، والحديثُ صحيحٌ لا مَطْعَنَ فيه، ولكن في القلب من ذكر الإيناث والإذكار فيه شيء، هل حُفِظَت هذه اللفظة، أوهي غير محفوظة؟ والمذكور إنَّما هو الشَّبَه، كما ذكر في سائر الأحاديث المتفق على صحتها، فهذا مَوضِعُ نَظَرٍ كما ترى، والله أعلم.
فصل
وأما (الأمر الثاني) (1): وهو اعتبار القَائِفِ لشَبَهِ الأب دون الأم، فذلك لأن كون الولد من الأم أمرٌ محقَّق لا يعرض فيه اشتباه؛ سواء أشبهها أو لم يشبهها، وإنما يحتاج إلى القافة في دعوى الآباء.
ولهذا يلحق بأبوين عند أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأكثر فقهاء أهل (2) الحديث، ولا يلحق بأُمَّين؛ فإذا ادعاه أبوان أُرِيَ القافة فأُلحق بمن كان
_________
(1) في (ب، ج، د): الثالث. وهذا جواب عن الإشكال الثاني الذي أورده.
(2) ساقطة من (ب، ج، د).
(الكتاب/397)
الشَّبَه له إذا لم يكن ثَمَّ فراش، فإن كان هناك فراش لم يلتفت إلى مخالفة الشبه له. فالشَّبَهُ دليلٌ عند عدم معارضة ما هو أقوى منه من الفراش والبيِّنة.
نعم، لو ادَّعَتْه امرأتان، أُري القافة، فأُلحق بمن كان أشبه بها منهما، فعملنا بالشَّبَهِ في الموضعين.
ونصَّ الإمام أَحمدُ على اعتبار القافة في حق المرأتين، فسئل عن يهودية ومُسْلِمة ولدتا، فادَّعت اليهودية ولد المُسْلِمة، فقيل له: يكون في هذه القافة؟ قال: ما أحسنه (1)!
وهذا أصحُّ الوجهين للشافعية.
وقالوا في الوجه الآخر: لا تعتبر القافة ها هنا؛ لإمكان معرفة الأم يقينًا بخلاف الأب.
والصحيح اعتبار القافة في حق المرأتين؛ لأنه اعتبار لشبه الأم. والولد يأخذ الشبه من الأم تارة، ومن الأب تارة، بدليل ما ذكرنا من حديث عائشةَ، وأم سلَمَةَ، وعبد الله بن سلام، وأنس بن مالك، وثوبان رضي الله عنهم. وإمكان معرفة الأم يقينًا لا يمنع اعتبار القافة عند عدم اليقين، كما نعتبرها بالشبه إلى الرجلين عند عدم الفراش.
وقد روى سليمانُ بن حرب، عن حمَّاد، عن هشام بن حسَّان، عن
_________
(1) انظر: المغني لابن قدامة: 8/ 381.
(الكتاب/398)
محمَّد بن سِيرِين قال: حجَّ بنا الوليد ونحن سبعة ولد سِيرِين، فمرَّ بنا إلى المدينة، فلما دخلنا على زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ، قيل له: هؤلاء بنو سِيرِين، قال: فقال زيد: هذان لأم، وهذان لأم، وهذان لأم، فما أخطأ (1).
وقد قال «بقراط» في كتاب «الأجنَّة»: وإذا كان منيُّ الرجل أكثر من منيِّ المرأة أشبه الطفل أباه، وإذا كان منيُّ المرأة أكثر من منيِّ الرجل أشبه الطفل أمه.
وقال: المنيُّ ينزل من أعضاء البدن كلها، ويجري من الصحيحة صحيحًا، ومن السقيمة سقيمًا، وقال: إن الصُّلْع يَلِدُون صلعًا، والشُّهْل يَلِدُون شهلًا، والحُول حُولًا.
وقال: أما اللَّحم فإنه يربو ويزداد مع اللحم، ويخلق فيه مفاصل، ويكون كل شيء من الجنين شبيهًا بما يخرج منه.
وقال: قد يتولد مرارًا كثيرة مِن العميان، ومَنْ به شامةٌ أو أثَر، ومَنْ به علامات أُخَرُ ممَّن به علامةٌ مثلها، وكثيرًا ما يولد أبناءٌ يُشبهون أجدادهم، أو يُشبهون قراباتهم (2).
_________
(1) انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر: 19/ 330، وسير أعلام النبلاء للذهبي: 2/ 438.
(2) في «ب»: آباءهم.
(الكتاب/399)
وقال: الذكور (1) ـ في الأكثر ـ يشبهون آباءهم، والإناث يشبهن أمهاتهن.
فصل
و قد يكون قُبْحُ المولود وحُسْنه من أسباب أُخَر:
منها: أفكار الوَالِدَين وخاصة الوالدة إذا جالت (2) عند المباضعة وبعدها إلى وقت تخلُّق (3) الجنين في الأشخاص التي تُشاهدها وتُعاينها، وتتذكَّرها وتَشتاقها؛ لأنها تحبُّها وتودُّها، فإذا دامت الفكرة فيه والاشتياق إليه، أشبه الجنين وتصوَّر بصورته، فإن الطبيعة نقَّالة، واستعدادها وقبولها أمرٌ يعرفه كلُّ أحد.
وحدّثني رئيس الأطباء بالقاهرة، قال: أجلست ابن أخي يكحل الناس، فما مكث إلا يسيرًا حتى جاء وبه رمَدٌ، فلما برأ منه عاد فعاوده الرَّمَد، فعلمت أنه من فتح عينيه في أعين الرُّمْدِ، والطبيعة نقالة.
وقد ذكر الأطباء: أن إدْمَانَ الحامل على أكل السَّفَرْجل والتُّفاح مما يحسِّن وجه المولود ويصفِّي لونه. وكرهوا للحامل رؤية الصور الشنيعة، والألوان الكمدة، والبيوت الوحشة الضيقة، وإن ذلك كلَّه يؤثِّر في الجنين.
_________
(1) في «د»: الذكورة.
(2) في «د»: جالست.
(3) في «ب، ج»: خلق.
(الكتاب/400)
فصل
وقال بُقْرَاط في كتاب «الأجنَّة»: إذا حصل منيُّ الرجل داخل الرَّحِم عند الجماع ولم يسل إلى خارج، ولكنه مكث في فم الرَّحم وانضمَّ فمه علقت المرأة، وإذا انضمَّ فم الرحم اختلط المنيان في جوفه وتم الحبل، فإذا توافق إنزال الرجل وإنزال المرأة في وقت واحد، واختلط الماءان، وثبتا في الرحم، واشتمل عليهما، وانضمَّ، علقت المرأة.
وتدبير ذلك يكون في ثلاثة أوقات: قبل المباضعة، ومعها، وبعدها بإعداد الرحم لقبول النطفة، ومعها بإيصال النطفة إلى مستقرِّها في الرحم، واتفاق الإنزالين؛ وبعدها بثبات النطفة في الرحم وإمساكه عليه، وحفظها من الخروج والفساد.
قلت: السبب المذكور غير موجب، وإنما الموجب مشيئة الله وحده كما بينَّا، والله أعلم.
فصل
وإذا تكوَّن الجنين وصوَّره الخالق البارئ المصوِّر، خُلِق ورأسُه إلى فوق، ورجلاه إلى أسفل. فعندما يأذن الله بخروجه ينقلب، ويصير رأسه إلى أسفل، فيتقدم رأسُه سائرَ بدنه، هذا باتفاق من الأطباء والمشرِّحين.
وهذا من تمام العناية الإلهيَّة بالجنين وأُمِّه، لأن رأسه إذا خرج أولًا كان خروج سائر بدنه أسهل من غير أن يحتاج شيء منها إلى أن ينثني، فإنَّ
(الكتاب/401)
الجنين لو خرجت رجلاه أولًا لم يُؤْمَن أن يَنْشَب في الرحم عند يديه.
وإن خرجت رجله الواحدة لم يؤمَن أن يعلق وينشب في الرحم عند إدراكه.
وإن خرجت اليدان لم يؤمَن أن يَنْشَب عند رأسه، إما أنه يلتوي إلى خلف، وإما أنَّ السُّرَّة تلتوي إلى عنقه، أو على كتفه، لأن الجنين إذا انحدر فصار إلى موضع فيه السُّرة ممتدة، الْتَوَتْ (1) هناك على عنقه وكتفه، فيعرض من ذلك: إما أن يجاذب السُّرة فتألم الأم غاية الألم، ثم إن الجنين إما أن يموت، وإما أن يصعب خروجه ويخرج وهو عليلٌ متورِّم، فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن ينقلب في البطن، فيخرج رأسه أولًا ثم يتبع الرأس باقي البدن.
فصل
في السَّببِ الَّذي لأَجلِه لا يعِيشُ الوَلدُ إذا وُلِدَ لِثمانِيةِ أَشْهُرٍ،
ويَعيشُ إذا وُلِدَ لسبعةِ أَشْهُرٍ وتِسْعَةٍ وعَشرَةٍ
إذا أتمَّ الجنين سبعة أشهر، عرض له حركةٌ قويةٌ يتحرَّكُها بالطبع للانقلاب والخروج؛ فإن كان الجنين قويًّا، من الأطفال الذين لهم بالطبع قوة شديدة في تركيبهم وجِبِلَّتِهم، حتى يقدر بحركته على أن
_________
(1) في «أ»: ممتد البدن.
(الكتاب/402)
يهتك ما يحيط به من الأغشية المحيطة به (1)، المتصلة بالرحم، حتى ينفذ ويخرج منها= خرج في الشهر السَّابع وهو قويٌّ صحيح سليم، لم تُؤلمه الحركة، ولم يُمرضه الانقلاب.
وإن كان ضعيفًا عن ذلك: فهو إمَّا أن يعطب بسبب ما يناله من الضَّرر والألم بالحركة للانقلاب فيخرج ميتًا، وإمَّا أن يبقى في البطن، فيمرض ويلبث في مرضه (2) نحوًا من أربعين يومًا حتى يبرأ وينتعش ويقوى. فإذا وُلِد في حدود الشهر الثامن، وُلِد وهو مريض لم يتخلص من ألمه، فيعطب ولا يسلم ولا يتربَّى، وإن لبث في الرحم حتى يجوز هذه الأربعين يومًا إلى الشهر التاسع وقوي وصحَّ وانتعش، وبَعُدَ عهدُه بالمرض؛ كان حريًّا أن يسلم، وأوْلَاهُمْ بأن يسلم أَطْوَلُهمْ بعد الانقلاب لُبْثًا في الرحم، وهم المولودون في الشهر العاشر. وأما من يولد بين التاسع والعاشر، فَحَالُهم في ذلك بحسب القرب والبعد.
وقال غيره: العلَّة في أنه لا يمكن أن يعيش المولود لثمانية أشهر: أنه يتوالى عليه ضربان من الضرر:
(أحدهما): انقلابه في الشهر السَّابع في جوف الرحم للولادة.
و (الثاني): تغيُّر الحال عليه بين مكانه في الرَّحِم وبين مكانه في الهواء، وإن كان قد يعرض ذلك التغيير لجميع الأجنَّة، لكن المولود
_________
(1) في «أ»: المختصة به.
(2) في (أ،): ويمكث مدة مرضه. وفي «د»: ويلبث مدة مرضه.
(الكتاب/403)
لسبعة أشهر ينجو من الرَّحِم قبل أن يناله الضرر الذي مِنْ دَاخِلٍ بعَقِب الانقلاب والأمراض التي تعرض في جوف الرحم، فالمولود لسبعة أشهر وعشرة أشهر يلبث في الرحم حتى يبرأ وينجو من تلك الأمراض، فليس يتوالى عليه الضرران معًا، والمولود لثمانية أشهر يتوالى عليه الضرران معًا، وكذلك لا يمكن أن يعيش؛ وجميع الأجنة في الشهر الثامن يعرض لهم المرض.
ويدلُّك على ذلك أنك تجد جميع الحوامل والحبالى في الشهر