عطاءات العلمكتب ابن القيمكتب ابن القيم- شاملة - txt

حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح_1

حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح_1

http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
  الكتاب: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح [آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (10)]المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 – 751)
المحقق: زائد بن أحمد النشيري
راجعه: يحيى بن عبد الله الثُّمالي – علي بن محمّد العمران
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الرابعة، 1440 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الأجزاء: 2 (في ترقيم واحد متسلسل)
قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (10)

حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح

تأليف
الإمام أبي عبد اللَّه محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 هـ – 751 هـ)

تحقيق
زائد بن أحمد النشيري

إشراف
بكر بن عبد اللَّه أبو زيد

دار عطاءات العلم – دار ابن حزم

(المقدمة/1)


رَاجَعَ هَذا الجُزْءَ
يحيى بن عبد اللَّه الثُّمالي
علي بن محمّد العمران

(المقدمة/3)


مقدمة التحقيق
إنَّ الحمد للَّه نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مُضلَّ لهُ، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهدُ أن لا إله إلَّا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
– {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102].
– {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1].
– {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 – 71].
أما بعد:
فهذا كتاب “حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح” لابن قيم الجوزية، ضمَّنه مؤلفه ما أعدَّه اللَّهُ لأهل الجنَّة: من نُزُل ونعيمٍ مقيم، وهو كتاب كما قال عنه مؤلفه: “اسمٌ يطابق مسمَّاه، ولفظٌ يوافق معناهُ، فهو مثير ساكن العزمات إلى روضات الجنَّات، وباعث الهِمَم العليَّات إلى العيش الهني في تلك الغرفات”.
وقبل الحديث عن دراسة الكتاب وما يتضمنه، أحبُّ أن ألقي

(المقدمة/5)


الضوء على بعض المؤلفات التي تتحدث عن “الجنَّة ووصفها ونعيمها” فأقولُ وباللَّه التوفيق:

تنقسم الكتب المؤلفة عن الجنة إلى قسمين:
الأول: كُتب مفردة في الجنة ووصفها ونعيمها.
الثاني: كتب تضمنت الحديث عن موضوع الجنة ووصفها ونعيمها وهي نوعان:
أ – كتب خاصة عن أحوال الآخرة.
ب – كتب الصحاح والسنن والجوامع والمصنفات المؤلفة على الأبواب الفقهية.

القسم الأول: كتب مفردة في الجنة ووصفها ونعيمها:
1 – “وصف الفردوس”.
لعبد الملك بن حبيب الأندلس الالبيري (ت/ 238 هـ).
– طبع بدار الكتب العلمية – ط الأولى – 1407 هـ – 1987 م.

2 – “صفة الجنة”.
لأبي بكر عبد اللَّه بن محمد بن عبيد القرشي المعروف “بابن أبي الدنيا” (ت/ 281 هـ).
– نشرته مكتبة ابن تيمية – القاهرة – ط الأولى – 1417 هـ – 1996 م – تحقيق ودراسة/ عمرو عبد المنعم سليم.

3 – “دقائق الأخبار في بيان أهل الجنة وأهوال النار”.

(المقدمة/6)


لأبي الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي (ت/ 375 هـ). انظر الأعلام للزركلي (8/ 27).

4 – “صفة الجنة”.
ليحيى بن إبراهيم بن محارب السرقسطي (ت/ 414 هـ).
انظر هدية العارفين (2/ 518).

5 – “صفة الجنة”.
– لأبي نعيم الأصبهاني (ت/ 430 هـ).
– طبعة دار المأمون للتراث (دمشق – بيروت)، (ط – الأولى) 1408 هـ – 1988 م. تحقيق/ علي رضا عبد اللَّه.
6 – “صفة الجنة”.
– لضياء الدين أبي عبد اللَّه محمد بن عبد الواحد بن أحمد المقدسي (ت/ 643 هـ).
– طبعة دار بلنسية – الرياض – 1423 هـ – 2002 م.
– تحقيق/ صبري بن سلامة شاهين.

القسم الثاني: كتب تضمنت الحديث عن موضوع الجنة ووصفها ونعيمها.
أ – كتب خاصة عن أحوال الآخرة:
1 – “الزهد” رواية نُعيم بن حماد.

(المقدمة/7)


لعبد اللَّه بن المبارك المروزي (ت/ 181 هـ).
– طبعة دار الكتب العلمية – بيروت. تحقيق/ حبيب الرحمن الأعظمي.

2 – “الزهد”
لهناد بن السري الكوفي (ت/ 243 هـ).
– طبعة دار الخلفاء للكتاب الإسلامي – الكويت. (ط/ الأولى) 1406 هـ – 1985 م. تحقيق/ عبد الرحمن الفريوائي.

3 – “تنبيه الغافلين بأحاديث سيد المرسلين”.
لأبي الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي (ت/ 375 هـ).
– طبعة – دار الكتب العلمية – بيروت (ط/ الثانية) – 1406 هـ – 1986 م. كتب حواشيه وصححه/ أحمد سلام.

4 – “البعث والنشور”.
لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت/ 458 هـ).
– طبعة مؤسسة الكتب الثقافية – بيروت – (ط/ الأولى) – 1408 هـ – 1988 م. تحقيق/ محمد السعيد بسيوني زغلول.

5 – “العاقبة في أحوال الآخرة”.
لأبي محمد عبد الحق بن عبد الرحمن بن الحسين الأزدي الأندلسي الإشبيلي (ت/ 581 هـ).
– طبعة دار الصحابة – طنطا – (ط/ الأولى) – 1410 هـ – 1990 م.

(المقدمة/8)


تحقيق/ عبيد اللَّه المصري الأثري.

6 – “التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة”.
لمحمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي الأندلسي القرطبي (ت/ 671 هـ).
طبعة دار المنهاج – الرياض – الطبعة الأُولى – 1425 هـ.
دراسة وتحقيق/ الدكتور: الصادق محمد إبراهيم.

7 – “الفتن والملاحم”.
لأبي الفداء الحافظ ابن كثير الدمشقي (ت/ 774 هـ).
– طبعة: دار الكتب العلمية – بيروت – (الطبعة الأولى) – 1408 هـ – 1988 م. ضبطه وصححه/ أحمد عبد الشافي.

8 – “البدور السافرة في أمور الآخرة”.
لجلال الدين عبد الرحمن بن الكمال أبي بكر بن محمد بن سابق الأسيوطي “السيوطي” (ت/ 911 هـ).
– طبعة مؤسسة الكتب الثقافية – بيروت – (ط/ الأولى) (1411 هـ – 1991 م). تحقيق/ أبي محمد المصري.

9 – “البحور الزاخرة في علوم الآخرة” (1).
__________
(1) لمعرفة المزيد من المؤلفات التي تتحدث عن الجنَّة، انظر معجم الموضوعات المطروقة في التأليف الإسلامي، وبيان ما فيها، تأليف: عبد اللَّه بن محمد الحبشي (1/ 380 – 381).

(المقدمة/9)


لمحمد بن أحمد السفاريني (ت/ 1188 هـ).
انظر: غذاء الألباب شرح منظومة الآداب (1/ 50) للسفاريني.

ب – كتب الصحاح والسنن والجوامع والمصنفات المؤلفة على الأبواب الفقهية.
ففي كل من “صحيح مسلم”، و”جامع الترمذي”، و”سنن ابن ماجه” و”سنن الدارمي” و”صحيح ابن حبان” و”شرح السنة” للبغوي؛ و”المصنف” لعبد الرزاق الصنعاني، و”المصنف” لأبي بكر بن أبي شيبة = أبواب تتعلق بـ “صفة الجنة ونعيمها ووصفها”.
– وتتميز تلك الكتب عدا مصنفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة بما يلي:
1 – الترجمة والتبويب لتلك الأحاديث.
2 – الاقتصار على الأحاديث المسندة (المرفوعة) فقط؛ إلا ما ندر.
– ويتميز مصنفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن تلك الكتب بما يلي:
1 – خلوهما من الترجمة والتبويب.
2 – احتواؤهما على الأحاديث المرفوعة والمرسلة والموقوفة والمقطوعة.
– وتتفق جميع الكتب على:
1 – عدم استيعابها لأحاديث الجنة ووصفها.
2 – تضمنها على الأحاديث الصحيحة والضعيفة عدا صحيحي البخاري ومسلم.

(المقدمة/10)


التعريف بكتاب حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح
ويتضمن ما يلي:
1 – اسمه.
2 – إثبات نسبته إلى مؤلفه.
3 – تاريخ تأليفه.
4 – نقول العلماء منه، وثناؤهم عليه.
5 – موضوعه ومحتواه.
6 – موارده.
7 – طبعاته ومختصراته.
8 – وصف النسخ الخطيَّة المعتمدة في التحقيق.
9 – المنهج في تحقيق الكتاب.
10 – نماذج من النسخ المعتمدة في التحقيق.

(المقدمة/11)


1 – اسم الكتاب:
ورد لهذا الكتاب اسمان:
الاسم الأول: “حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح”.
– هكذا سمَّاه مؤلفه في مقدمة كتابه هذا (ص/ 16) فقال: “وهذا كتاب اجتهدت في جمعه وترتيبه وتفصيله وتبويبه. . . . وسمَّيته “حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح”. . . “.
– واتَّفقت جميع النسخ الخطيَّة على هذا الاسم، وأما ما زادته النسخ (أ، ب، ج، هـ) بعد اسم الكتاب: (ومثير ساكن العزمات إلى روضات الجنات، وباعث الهمم العليَّات إلى العيش الهني في تلك الغرفات [وفي (ج) “الدرجات” بدل “الغرفات”] = فهو من إضافة النسَّاخ، بدليل مجيء تلك الجملة بعد اسم الكتاب بخطٍّ صغير عدا النسخة (ج). (1)
– وذكره بهذا الاسم أيضًا أكثر مَنْ ترجم للمؤلف.
– وذكره عامة مَنْ نقل مِنْ هذا الكتاب: كابن حجر والسخاوي
__________
(1) ولعلَّ من تصرُف النساخ أيضًا ما جاء عند السفاريني في “غذاء الألباب شرح منظومة الآداب” في (1/ 50) و (2/ 330) حيث قال: “وقد ألَّف الإمام ابن القيم في صفة الجنَّة كتابه “حادي الأرواح إلى منازل الأفراح”. . . .)، والموضع الثاني نحوه، فلعلَّ السفاريني وقف على نسخة بهذا العنوان، أو عبَّر عنه بفحواه.
ونظير ذلك ما جاء في بعض النسخ الخطية في دار الكتب المصرية رقم (2203) تصوُّف وأخلاق دينية، حيث ورد فيها “ديار” بدل كلمة “بلاد”. انظر مقدمة الجميلي لكتاب “حادي الأرواح” ص (14)، ط/ دار الكتاب العربي.

(المقدمة/12)


والبرزنجي والسفاريني كما سيأتي.
الاسم الثاني: “صفة الجنة”.
هكذا سمَّاه المؤلف في كتابه “الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطِّلة” (4/ 1332): فقال في الطريق الخامس والعشرين ما نصُّه: “وقد ذكرنا في كتاب “صفة الجنة” أربعين دليلًا على مسألة الرؤية من الكتاب والسنة والعقل الصريح. . . “.
والاسم الأول هو الاسم الصريح الذي لا شك فيه، لأمرين:
1 – أنَّ المؤلف نصَّ على ذلك في مقدمة كتابه، كما سبق نقله.
2 – لا يعدو هذا الاسم (صفة الجنة) أن يكون وصفًا مختصرًا لموضوع الكتاب ومحتواه، وليس اسمًا عَلَمِيًّا، بدليل أن المؤلف جمع بين الاسمين في مقام واحد، فقال في ردِّه على أكابر شيوخ المعتزلة: أبي الحسين البصري، الذي ظن أنه ليس في الرؤية إلا حديث واحد، وهو حديث جرير بن عبد اللَّه البجلي =: “ولم يعلم أنه فيها ما يقارب من ثلاثين حديثًا، وقد ذكرناها في كتاب: -صفة الجنة- “حادي الأرواح” (1).

2 – إثبات نسبة الكتاب إلى مؤلفه.
نسبة هذا الكتاب (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) إلى ابن القيم ثابتة لا شك فيها، ودلائل ذلك وجوه عديدة منها:
__________
(1) انظر: مختصر الصواعق المرسلة للموصلي ص (471).

(المقدمة/13)


1 – إحالة المؤلف في هذا الكتاب على كتابٍ من كتبه وهو “اجتماع الجيوش الإسلامية” انظر (ص/ 843).
2 – إحالة المؤلف في كتابه “الصواعق المرسلة على الجهمية المعطلة” (4/ 1332) على هذا الكتاب في الأحاديث الواردة في الرؤية، انظر “حادي الأرواح. . . ” (ص/ 625 – 685).
3 – مجيء نسبة الكتاب إلى مؤلفه في جميع النسخ الخطية = سواء التي اعتمدناها، أو أعتمد عليها غيرنا، أو التي وُصِفت في الفهارس.
4 – ذكر بعض مَنْ ترجم للمؤلف أن له كتابًا بهذا الاسم: كابن رجب في “ذيل طبقات الحنابلة” (2/ 450)، والداودي في “طبقات المفسرين” (2/ 96)، وابن العماد في “شذرات الذهب” (6/ 169 – 170)، وحاجي خليفة في “كشف الظنون” (1/ 623)، والبغدادي في “هدية العارفين” (2/ 158) لكنه تصحَّف عنده من (حادي) إلى “هادي”، وصديق حسن خان في “التاج المكلل” (ص/ 426).
5 – نقول العلماء عن هذا الكتاب، وهي مثبتة في أماكنها في الكتاب، كابن حجر والسخاوي والبرزنجي والسفاريني (كما سيأتي مفصَّلًا في بابه).
6 – تصريح المؤلف بالنقل عن شيخيه: (ابن تيمية والمزِّي). انظر (ص/ 132, 134, 267, 429, 500، 536، 609، 618, 709, 713، 724، 730، 732، 733).

(المقدمة/14)


3 – تاريخ تأليف الكتاب:
ذكر المؤلف -رحمه اللَّه- أنه فرغ من تأليف هذا الكتاب: عشيَّة عرفة عند الثلث الآخر من الليل، سنة خمس وأربعين وسبعمائة، أي: قبل وفاته بست سنين.
وقد جاء هذا النص النفيس في آخر النسخة المدنية (أ)، وفي أوَّل النسخة العراقية (هـ).

4 – نقول العلماء منه، وثناؤهم عليه:
1 – عبد الرحمن بن إسماعيل بن الحسن بن محمد بن عبد الرحمن المؤدب السنجاري المعروف “بابن المسواك الحيالي”.
وهو ناسخ النسخة (هـ) العراقية وذلك عام 771 هـ، فقد أنشأ (16) بيتًا يمدح فيها الكتاب فقال ما نصه: “يقول ناسخ هذا الكتاب المذكور اسمه آخره، ممتدحًا له بهذه الأبيات، وهي:
جزى اللَّه منشئه بخير جزائه … وأسكنه الفردوس مع خير رسله
فقد جدَّ في تأليفه موضحًا لمن … وعاه طريقًا لا مخاف بسبله
وقال:
يحنون شوقًا للديار وأهلها … إذا حادي الأرواح سار بأهله
ونادى ألا مِنْ شيِّق زاد شوقه … إلى بلد الأفراح يا طيب ظله
إلى أن قال:
فهذا كتاب القوم يتلى فمن تُرَى … يقوم بأقوال نحوها بفعله

(المقدمة/15)


وفيه إشارات لمن رام سبرها … تُمْلَ في عقد الكتاب وحُلِّه
وختمه بقوله:
ومغفرةً للسامعين تعمهم … فهذا كتابٌ ما سمعنا بمثله
وصلِّ يا ربي على أحمد الرِّضى … وعترته والصحب جمعًا وأهله
2 – الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت/ 852 هـ).
نقل منه في فتح الباري في مواضع: (12/ 354) و (13/ 434 و437) وهو في “حادي الأرواح” (ص/ 838 و625 – 685 و754 و801).
3 – محمد بن عبد الرحمن السخاوي (ت/ 902 هـ) نقل منه في المقاصد الحسنة (ص/ 287) رقم (668): وهو بنصه في “حادي الأرواح” (ص/ 762).
4 – مرعي بن يوسف الكرمي المقدسي الحنبلي (ت/ 1033 هـ) فقد أشار إليه واقتبس منه كثيرًا في كتابه “الكلمات البيِّنات في قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} (ص/ 49)، المطبوع ضمن لقاء العشر الأواخر بالمسجد الحرام جزء رقم (62).
5 – محمد بن رسول الحسيني الشافعي البرزنجي (ت/ 1103 هـ).
فقد نقل منه في رسالته “القول المختار في حديث “تحاجَّتِ الجنة والنار” (ص/ 50) – المطبوع ضمن لقاء العشر الأواخر بالمسجد الحرام جزء رقم (53).

(المقدمة/16)


وهو في “حادي الأرواح” (ص/ 754 و 801).
6 – محمد بن أحمد السفاريني (ت/ 1188 هـ).
فقد نقل منه في موضعين في كتابه “غذاء الألباب شرح منظومة الآداب” (2/ 330 و 331).
وهو بنصِّه في “حادي الأرواح” (ص/ 485 – 487 و 476 – 477).
7 – أحمد بن إبراهيم بن عيسى (ت/ 1329 هـ).
فقد أكثر النقل من هذا الكتاب في كتابه توضيح المقاصد وتصحيح القواعد فى شرح قصيدة الإمام ابن القيم، من (2/ 468) إلى (2/ 599) (1) .
__________
(1) ونقل السيوطي (ت/ 922 هـ) كلامًا في ذبح الموت يُشابه ما ذكره المؤلف في حادي الأرواح (ص/ 816)، لكنه لم ينسبه لابن القيم، لذا وضعته هنا للعلم به. انظر رسالة رفع الصوت بذبح الموت ضمن الحاوي للفتاوى (2/ 96).

(المقدمة/17)


5 – موضوعه ومحتواه:
افتتح المؤلف كتابه هذا بمقدمة فيها تعريف بكتابه، واشتملت على:
– الغاية التي من أجلها خلق اللَّه الخلق، وحال من استحكمت, هم الغفلة وهم أكثر الناس، وحال الموفَّقين الذين علموا ما خلقوا له، وما أُريد بإيجادهم، ثم قصيدة ميميَّة في وصف الجنة اشتملت على (48) بيتًا.
– ثم بين أقسام الكتاب، حيث قسَّمه إلى (70) بابًا فذكرها.
– الباب الأول: ذكر فيه الأدلة من الكتاب والسنة على وجود الجنة الآن.
الباب الثاني: ذكر فيه اختلاف الناس في الجنة التي أُسكنها آدم عليه الصلاة والسلام وأهبط منها، هل هي: جنة الخلد، أو جنة غيرها؟
فذكر أدلة الفريقين، وما ردَّ كل فريق على الآخر، وذكر شُبه من زعم أن جنة الخلد لم تُخلق بَعد، والردّ عليها.
واستوعبت هذه المسألة من هذا الباب (2) إلى آخر الباب (8).
ثم بدأ بالجنة فافتتح الكلام بذكر عدد أبوابها، وسعتها، وصفاتها، ومسافة ما بين البابين، ثم تطرق إلى مكانها، وأين هي؟ ومفتاح الجنة، وتوقيع الجنة ومنشورها الذي يوقع به لأصحابها عند الموت وعند دخولها، وبيَّن أن الجنة ليس لها إلَّا طريق واحد.

(المقدمة/18)


وهذا شمل من الباب (9) إلى آخر الباب (16).
ثم ذكر درجات الجنة، وبيَّن أعلاها، واسم تلك الدرجة، ثم تطرق لعرض الرب سبحانه وتعالى سلعته الجنة على عباده، وثمنها الذي طلبه منهم، وعقد التبايع، ثم طلب أهل الجنة لها من ربهم، وطلبها لهم وشفاعتها فيهم إلى ربهم.
وذلك من الباب (17) إلى الباب (20).
– ثم تحدث من الباب (21) إلى الباب (33) عن أسماء الجنة، ومعانيها، واشتقاقها، وذكر عدد الجنان وأنها نوعان.
ثم ذكر خلق الرب تبارك وتعالى بعض الجِنَان بيده وغرسها. . .، ثم أعقبه بذكر بوابي الجنة وخزنتها واسم مقدمهم ورئيسهم، وأول من يقرع باب الجنة، وأول الأمم دخولًا، ثم ذكر صفات السابقين من هذه الأمة إلى الجنة، وسبق الفقراء الأغنياء إلى الجنة، ثم تطرق إلى ذكر أصناف أهل الجنة، وبيَّن أنَّ أكثر أهل الجنة هم من أمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وبيَّن أن النساء في الجنة والنار هم أكثر من الرجال، ثم أعقبه فيمن يدخل الجنة من هذه الأمة بغير حساب مع بيان أوصافهم، وذكر ما ورد منَ حثَيات الرب تبارك وتعالى.
– ثم بيَّن نعيم الجنة، وصفة ذلك بالتفصيل، فذكر تربة الجنة وطينها وحصباءَها وبناءها، ونورها وبياضها، وغرفها وقصورها وخيامها، وبيَّن معرفتهم لمنازلهم ومساكنهم إذا دخلوا الجنة؛ وإن لم يروها قبل ذلك.

(المقدمة/19)


ثم تحدث عن صفة أهل الجنة في: خَلْقهم وخُلُقهم وطولهم وعرضهم ومقدار أسنانهم، ثم ذكر أعلى أهل الجنة منزلة وأدناهم، وتحفتهم إذا دخلوها، وذكر ريح الجنة، والأذان الذي يؤذن به مؤذن الجنة فيها، ثم تطرق إلى أشجار الجنة وبساتينها وظلالها، وثمارها وأنواعها وصفاتها وريحانها، ثم تحدث عن زرع الجنة، وأنهارها وعيونها وطعامهم وشرابهم، وآنيتهم التي يأكلون فيها ويشربون وأجناسها وصفاتها، ثم تحدث عن لباسهم وحليهم وفرشهم وبسطهم ووسائدهم ونمارقهم وغيرها، ثم عرَّج إلى ذكر خيامهم وسررهم وأرائكم، وخدمهم وغلمانهم، ونسائهم وسراريهم وأوصافهنَّ، وحسنهن وصفائهن وجمالهن الظاهر والباطن، ثم تطرَّق إلى ذكر المادَّة التي خلق منها الحور العين، وما ورد في ذلك.
ثم ذكر نكاح أهل الجنة ووطئهم ونزاهة ذلك عن المذي والمني، وأن ذلك لا يوجب غسلًا، ثم ذكر اختلاف الناس هل في الجنة حمل وولادة أم لا؟.
ثم تطرَّق إلى ذكر سماع أهل الجنة، وغناء الحور العين، وسماع خطاب اللَّه عز وجل ومحاضرته لهم، ثم تطرق أيضًا إلى ذكر مطايا أهل الجنة وخيولهم ومراكبهم، وزيارة بعضهم بعضًا، ثم ذكر سوق الجنة وما أعدَّ اللَّه فيه لأهلها، وزيارة أهل الجنة ربهم تبارك وتعالى.
ثم ذكر السحاب والمطر الذي يصيبهم في الجنة، وذكر ما ورد في أن أهلها كلهم ملوك، وأن الجنة فوق ما يخطر بالبال أو يدور في الخَلَد.

(المقدمة/20)


وذلك كله استغرق من الباب (34) إلى الباب (64).
– ثم عقد الباب (65) في رؤيتهم ربهم تبارك وتعالى، وتجليه لهم ضاحكًا إليهم وذكر أن هذا الباب أشرف أبواب الكتاب، وأجلها قدرًا، وأعلاها خطرًا.
– فافتتحهُ بسبعة أدلة من القرآن على الرؤية، وبيَّن أوجه الدلالة منها على ذلك.
– ثم أعقبه بالأدلة من السنة على ذلك، فذكره عن (28) صحابيًّا.
– ثم تلاه ما جاء عن الصحابة في ذلك، فذكره عن (12) صحابيًّا.
– ثم أعقبه ما جاء عن التابعين فمن بعدهم.
– ثم ذكر ما جاء عن الأئمة الأربعة ونظرائهم وشيوخهم وأتباعهم في مسألة الرؤية.
– ثم أعقبه ما جاء عن أهل اللغة في ذلك.
– ثم عقد فصلًا في وعيد منكري الرؤية.
ثم عقد الباب (66) في تكليمه سبحانه وتعالى لأهل الجنة وخطابه لهم، ومحاضرته إيَّاهم وسلامه عليهم ثم ذكر ما يدل على ذلك، ثم تحدث في الباب (67) عن أبدية الجنة، وأنها لا تفنى ولا تبيد، وذكر فصلًا في أقوال الناس في فناء الجنة والنار، ومن قال بها، وما احتج به أرباب كل قول، وذكر فيه الفرق بين دوام الجنة والنار شرعًا وعقلًا من (25) وجهًا.

(المقدمة/21)


ثم عقد الباب (68) ذكر فيه ما جاء في آخر أهل الجنة دخولًا.
ثم أعقبه بالباب (69) جمع فيه فصولًا لم يذكرها فيما تقدم، فأورد فيه ما جاء في لسان أهل الجنة، وما جاء في احتجاج الجنة والنار، وما جاء في أن الجنة يبقى فيها فضل فينشئ اللَّه خلقًا دون النار، وما جاء في امتناع النوم على أهل الجنة، وما ورد في ارتقاء العبد وهو في الجنَّة من درجةٍ إلى درجةٍ أعلى منها، ثمَّ ما جاء في إلحاق ذرية المؤمن به في الدرجة، وإن لم يعملوا بعمله، والاختلاف في المراد بالذرية، ودليل كل قول.
ثمَّ أورد ما جاء في أنَّ الجنة تتكلَّم، وأنَّها تزداد حسنًا على الدوام، وأنَّ الحور العين يطلبن أزواجهنَّ أكثرَ مما يطلبهن أزواجهنَّ.
ثمَّ ذكر ما جاء في ذبح الموت بين الجنَّة والنَّار، وذكر ما جاء في ارتفاع العبادات في الجنَّة إلَّا عبادة الذكر فهي دائمة، وأورد ما جاء في تذاكر أهل الجنَّة ما كان بينهم في دار الدنيا.
ثمَّ ختم الكتاب بالباب (70) في ذكر المستحق لهذه البشرى دون غيره، فذكر الآيات الواردة في ذلك، وجملة من إعتقاد أهل السنَّة والجماعة.
وختم هذا الباب بفصل هو خاتمة الكتاب، وهو خاتمة دعوى أهل الجنَّة، فأوردَ ما جاء فيه من آياتٍ وأحاديث في ذلك، وأنَّهم يُلْهَمون الحمد كما يُلهمون النَّفَس.

(المقدمة/22)


6 – موارده:
تنقسم الموارد التي اعتمد عليها المؤلِّف من حيث تصريحه بها وعدمه إلى قسمين (1):
الأوَّل: مصادر صرَّح بأسمائها.
الثاني: مصادر صرَّح بأسماء مؤلفيها.
القسم الأوَّل: المصادر التي صرَّح بأسمائها.
1 – الإبانة، لابن بطة، في ص (657، 674، 675, 676، 703, 704, 710).
2 – البعث والنشور، للبيهقي في (ص/ 507, 530، 664).
3 – التاريخ (تاريخ بغداد)، للخطيب في ص (516).
4 – التفسير، لمنذر بن سعيد البلوطي، في ص (47).
5 – التفسير، للماوردي، في ص (48).
6 – التفسير، لابن الخطيب في ص (49).
7 – التفسير، لأبي القاسم الراغب الأصبهاني في ص (49).
8 – التفسير، للرماني في ص (50).
9 – التفسير، لابن مزين المالكي في ص (51، 94).
10 – التفسير، لابن المنذر في ص (128).
__________
(1) يحتمل نقل المؤلف عن بعض هذه الكتب بواسطة، فلا يُعتبر من موارده.

(المقدمة/23)


11 – التفسير، للسُّدي في ص (359).
12 – التفسير، لابن مردويه في ص (387، 624، 743، 804).
13 – التفسير، لأسباط بن نصر، في ص (615).
14 – التفسير، لسعيد بن أبي عروبة، في ص (480).
15 – التفسير، لابن أبي حاتم، في ص (729).
16 – التفسير، لعبد بن حميد في ص (733).
17 – التفسير، لعلي بن أبي طلحة الوالبي في ص (735).
18 – التفسير، للطبري في ص (743، 744).
19 – الجامع، للترمذي، في ص (41، 91، 111، 149، 158، 171، 293، 314، 316، 321، 350، 379، 381, 383، 242، 443، 500، 505، 527، 556, 573، 670، 671، 672).
20 – الجعديات، لعلي بن الجعد، في ص (309).
21 – الجمع بين الصحيحين، لعبد الحق الإشبيلي، في ص (661).
22 – الحلية = “حلية الأولياء”، لأبي نعيم الأصبهاني في ص (276).
23 – الرد على بشر المريسي، لعثمان بن سعيد الدارمي، في ص (674).
24 – رسالة في السنة للإمام أحمد، رواية أبي جعفر الطائي في ص (99).

(المقدمة/24)


25 – رسالة في السنة للإمام أحمد، رواية عبدوس في ص (100) .
26 – الرؤية = إثبات الرؤية، للبيهقي في ص (664، 691).
27 – الرؤية، للدارقطني، في ص (644) .
28 – الزهد، للإمام أحمد، في ص (524، 552).
29 – السنن، لأبي داود، في ص (36، 39، 112، 145، 173، 187، 188، 229).
30 – السنن، للترمذي = الجامع.
31 – السنن، لابن ماجه، في ص (113، 229، 248، 291، 662).
32 – السنن، للنسائي، في ص (39، 396).
33 – السنة، لابن أبي عاصم في ص (571) .
34 – السنة، للطبراني في ص (643) .
35 – السنة، لعبد اللَّه بن أحمد، في ص (643، 723).
36 – شرح السنة (1) ، للطبري “اللالكائي”، في ص (617، 701، 710).
37 – شرح حديث الصور، للوليد بن مسلم في ص (500) .
__________
(1) هو “شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة”، ويطلق عليه المؤلف أيضًا “السنة”.

(المقدمة/25)


38 – الصحاح، للجوهري، في ص (207، 462، 475).
39 – الصحيح، للبخاري (1) ، (راجع فهرس أسماء الكتب).
40 – الصحيح، لمسلم، (راجع فهرس أسماء الكتب).
41 – الصحيح، للحاكم (2) ، في ص (33، 396، 670، 671).
42 – الصحيح، للبرقاني، في ص (796) .
43 – الصحيح، لأبي عوانة، في ص (35، 141).
44 – الصحيح، لابن حبان، في ص (33، 93، 141).
45 – صفة الجنَّة، لأبي نعيم الأصبهاني، في ص (173, 545).
46 – الطبقات “طبقات الحنابلة”، لأبي الحسين بن أبي يعلى، في ص (97) .
47 – علو الرب على خلقه واستوائه (3) ، للمؤلِّف، في ص (843) .
48 – الفوائد، لابن السمَّاك، في ص (301) .
49 – الفصوص، لابن عربي الطائي في ص (730) .
50 – المسائل للإمام أحمد، رواية عبد اللَّه في ص (96) .
__________
(1) وراجع أيضًا الإحالة إلى “الصحيحين” في فهرس أسماء الكتب.
(2) هو المستدرك على الصحيحين، وذلك الاطلاق فيه تجوز. وانظر ما كتبه المؤلف عن المستدرك في “الفروسية المحمدية”، ص (213 – 214).
(3) هو “اجتماع الجيوش الإسلامية في غزو المعطلة والجهمية”.

(المقدمة/26)


51 – المسائل للإمام أحمد، رواية أحمد الاصطخري، في ص (97).
52 – المسائل للإمام أحمد، رواية إبراهيم بن زياد الصائغ، في ص (707).
53 – المسائل للإمام أحمد، رواية حنبل، في ص (706, 707، 708).
54 – المسائل للإمام أحمد، رواية الفضل بن زياد، في ص (704).
55 – المسائل للإمام أحمد، رواية أبي داود، في ص (705).
56 – المسائل للإمام أحمد، رواية أبي بكر المروذي، في ص (705).
57 – المسائل للإمام أحمد، رواية أبي طالب، في ص (706).
58 – المسائل للإمام أحمد، رواية إسحاق بن هانئ، في ص (706).
59 – المسائل للإمام أحمد، رواية يوسف القطان، في ص (706).
60 – المسائل للإمام أحمد، رواية الأثرم، في ص (707).
61 – المسائل لأحمد وإسحاق، رواية إسحاق بن منصور، في ص (704).
62 – المسائل لأحمد وإسحاق، رواية حرب الكرماني، في

(المقدمة/27)


ص (663, 826).
63 – المسند، للإمام أحمد، (راجع فهرس أسماء الكتب).
64 – المسند، للشافعي، في ص (576، 653).
65 – المسند، للبزار، في ص (35، 371، 591، 676).
66 – المسند، لعبد بن حميد، في ص (117).
67 – المسند، لأبي داود الطيالسي، في ص (185، 335).
68 – المسند، لأبي يعلى الموصلي، في ص (189, 277، 356، 417, 498، 785).
69 – المسند، لأحمد بن منيع، في ص (269).
70 – المسند، لإسحاق بن راهويه، في ص (305).
71 – المسند، لابن مردويه، في ص (386).
72 – المسند، للحسن بن سفيان، في ص (521).
73 – المعارف، لابن قتيبة، في ص (52).
74 – المعجم (الكبير)، للطبراني، في ص (252).
75 – مقالات الإسلاميين، لأبي الحسن الأشعري، في ص (26).
76 – الموطأ، للإمام مالك، في ص (40).
77 – النهاية “في غريب الحديث”، لابن الأثير، في ص (263).

(المقدمة/28)


القسم الثاني: المصادر التي صرَّح بأسماء مؤلفيها:
– الإمام أحمد، من كتابه “الرد على الجهمية والزنادقة” في (ص/ 96 – 97).
– أبو بكر بن أبي عاصم من كتابه “الآحاد والمثاني”، في (ص/ 272).
– الأزهري، من “تهذيب اللغة”، في ص (478).
– البيهقي، من “شعب الإيمان”، في ص (439).
– ابن تيمية، من “مصنف مفرد في الرؤية”، في (ص/ 609).
– ابن تيمية، من “رسالته في الرد على من قال بفناء الجنة والنار”، في (ص/ 724، 730، 732، 733).
– أبو حاتم الرازي، من كتابه “الجرح والتعديل”، في ص (119، 325، 390، 499، 500، 573، 592).
– الحسن بن عرفة، من جزئه، في ص (397، 610).
– خيثمة بن سليمان من الفوائد، في ص (254).
– ابن خزيمة، من كتابه “التوحيد”، في ص (649، 650).
– الدارقطني، من كتابه “الأفراد”، في ص (228).
– ابن أبي داود، من “البعث”، في ص (343، 658، 687).
– ابن أبي الدنيا، من “صفة الجنة”، وقد أكثر عنه جدًّا (راجع فهرس أسماء الرجال).

(المقدمة/29)


– الزجاج، من كتابه “معاني القرآن وإعرابه”، في ص (102، 196, 202, 305, 415, 419, 492).
– أبو زرعة الرازي، من “الضعفاء والكذابين”، في ص (443) .
– الزمخشري، من “الكشاف”، في ص (60، 109).
– سيبويه، من “الكتاب”، في ص (719) .
– ابن أبي شيبة، من “المصنف”، في ص (131، 271, 285, 287).
– الطبراني، من المعجم “الأوسط”، في ص (252 – 253، 274، 502, 507, 595).
– الطبراني، من “المعجم الصغير”، في (ص/ 519).
– أبو عبد اللَّه المقدسي، من كتابه “صفة الجنَّة”، في ص (164، 273، 274، 276, 278، 279، 296، 333، 503).
– عبد الرحمن بن أبي حاتم، من كتابه “السنة” (1) ، في ص (700, 701, 702).
– عبد الرزاق الصنعاني، من كتابه “التفسير”، في ص (193) .
– عبد الرزاق الصنعاني – من “المصنف” في ص (277) .
– ابن عبد البر، من “الاستيعاب”، في ص (660) .
__________
(1) نقله اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد، فهو نقل بواسطة.

(المقدمة/30)


– ابن عدي، من “الكامل في ضعفاء الرجال”، في ص (261، 301, 325, 390, 498, 499, 500, 501, 581).
– ابن عطية، من تفسيره “المحرر الوجيز”، في ص (236).
– أبو عبيد، في “غريب الحديث”، في ص (449).
– أبو عبيدة، في “مجاز القرآن”، في ص (102، 199، 304، 411، 415, 446, 458, 463, 477, 478, 480, 482, 486, 494).
– الفراء، من “معاني القرآن”، في ص (196، 411، 414، 444، 458، 463, 478، 482، 719).
– أبو الفتح بن جني، من كتابه “سر صناعة الإعراب”، في ص (102).
– ابن قتيبة الدينوري، من “تفسير غريب القرآن”، في ص (199, 346).
– ابن قتيبة الدينوري، من “تأويل مشكل القرآن”، في ص (413 – 414، 720).
– ابن المبارك، من “الزهد”، في ص (152، 328، 456، 516).
– المبرد، من “المقتضب”، في ص (102).
– مجاهد، من “التفسير”، وهي عند الطبري، وراجع فهرس أسماء الرجال “مجاهد”.
– مقاتل، من “التفسير”، في ص (106، 197، 412، 416، 446،

(المقدمة/31)


464، 474، 476, 483، 486, 489، 492, 523, 563).
– الواحدي، من تفسيره “الوسيط”، في ص (446، 447، 449، 478، 808).

(المقدمة/32)


7 – طبعاته ومختصراته:
طبع الكتاب عدَّة طبعات.
1 – طبعة مطبعة فرج اللَّه الكردي – القاهرة -، 1326 هـ/ 1908، بهامش: إعلام الموقعين عن ربِّ العالمين، في (3) أجزاء.
2 – طبعة في عام 1340 هـ، القاهرة، في (3) أجزاء.
3 – طبعة مطبعة الأنوار، القاهرة، 1357 هـ/ 1938 م، في (304) صفحة.
4 – طبعة في مصر طَبَعَها: محمد علي صبيح، 1381 هـ، بتصحيح محمود حسن الربيع.
5 – طبعة مكتبة نهضة مصر: القاهرة، 1391 هـ/ 1971 م، في (342) صفحة.
6 – طبعة مكتبة المعارف: الطائف، في (296) صفحة.
7 – طبعة مطبعة المدني: القاهرة، 1398 هـ/ 1978 م، في (424) صفحة.
8 – طبعة دار الكتب العلمية: بيروت، 1403 هـ/ 1983 م، في (301) صفحة.
9 – طبعة دار المدني: جدة، 1404 هـ/ 1983 م، في (301) صفحة.
10 – طبعة مكتبة دار البيان: دمشق، ومكتبة المؤيد: الرياض،

(المقدمة/33)


(ط)، الثانية 1414 هـ/ 1993 م، تحقيق: بشير محمد عيون، في (395) صفحة.
11 – طبعة دار الكتاب العربي: بيروت، (ط) الثانية، 1406 هـ/ 1986 م، تحقيق: السيد الجميلي في (461) صفحة.
12 – طبعة مكتبة دار التراث: المدينة، ودار ابن كثير: دمشق، بيروت، (ط) الأولى 1411 هـ/ 1991 م، تحقيق: يوسف على البديوي، مراجعة وتقديم محي الدين مستو، في (628) صفحة.
13 – طبعة مطبعة المدني: القاهرة، 1417 هـ/ 1996 م، تحقيق: علي صبح المدني، في (363) صفحة.
14 – طبعة مؤسسة الرسالة: بيروت، (ط) الثانية، 1422 هـ، تحقيق: علي الشربجي وقاسم النوري، في (509) صفحة.
15 – طبعة دار ابن حزم: بيروت، (ط) الأولى، 1424 هـ/ 2004 م، تحقيق: فواز زمرلي وفاروق الترك، في (781) صفحة.
16 – طبعة دار ابن رجب: المنصورة، (ط) الأولى 1421 هـ/ 2000 م، تحقيق: محمد العلَّاوي، راجعه وقدَّم له: مصطفى العدوي، في (487) صفحة.
<رمز>- مختصرات الكتاب:</رمز>
1 – “الداعي إلى أشرف المساعي” لأحد تلامذة المؤلِّف، لخصه، وحذف أسانيده، ورتبه على ثمانية أبواب (1) .
__________
(1) كشف الظنون (1/ 623).

(المقدمة/34)


2 – منتقى من حادي الأرواح، ليوسف بن عبد اللَّه الحسني الأرميوني الشافعي، وهو مخطوط بالمكتبة الأحمديَّة، بحلب رقم (285)، نسخت سنة 984 هـ.
3 – “مثير ساكن الغرام إلى روضات دار السلام”، لصديق حسن خان كما في التاج المكلَّل ص (427).
4 – نظم لآخر الباب الرابع عشر في مفاتيح كل مطلوب من الخير نظمها الشيخ سعد بن عتيق النجدي، وهو ضمن مجموعة “هداية الطريق من مسائل آل عتيق”، وهو مخطوط بالمكتبة السعودية بالرياض برقم (46/ 85) مجاميع.
5 – “تقريب حادي الأرواح”، لعبد الحميد أحمد الدخاخني، وقد طبع بدار الصفا، القاهرة، ط – الأولى -، 1410 هـ/ 1990 م.

(المقدمة/35)


8 – وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق:
اعتمدت في تحقيق الكتاب على خمس نسخٍ خطية، وهي كالتالي:

1 – نسخة مكتبة عارف حكمت (أ).
وهي نسخة محفوظة في مكتبة عارف حكمت، بالمدينة النبوية، تحت رقم (178)، مواعظ، ويقع الكتاب في (191) لوحة، كل لوحة تحتوي على وجهين، وخطُّها جيِّد واضح، مضبوط بالشكل في غالبه، وكاتبها: محمود بن أحمد بن محمد الحموي (1) مولدًا، الفيُّومي نسبًا، لثلاث خلون من شهر جمادى الأولى، سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة (793 هـ).
– وجاء في صفحة العنوان بخطٍّ كبير “حادي الأوراح إلى بلاد الأفراح”.
– ثمَّ كُتِبَ بخطٍّ صغير “ومثير ساكن العزَمات إلى روضات الجنَّات، وباعث الهِمم العليَّات إلى العيش الهنيء في تلك الغرفات”.
– وجاء في نهاية الكتاب ما نصُّه: “بلغ مقابلة على أصلٍ غير الأصل المنقول منه، مع معارضتها، فصحَّ إن شاء اللَّه تعالى، وذلك نهاية
__________
(1) ولد سنة (750 هـ)، وهو ابن الفيُّومي صاحب “المصباح المنير”، حفظ القرآن، وسمع الحديث، وتفقَّه إلى أن تقدَّم في الفقه وأصوله والعربية واللغة وغيرها، وولي قضاة حماة، وصنَّف الكثير مثل: شرح ألفيَّة ابن مالك، وتكملة شرح المنهاج للسبكي في (13) مجلدًا. انظر: الضوء اللَّامع (10/ 130).

(المقدمة/36)


ثالث عشر جمادى الأولى، سنة ثلاث وتسعين”.
وقد جعلتها أصلًا لما تتميَّز به هذه النسخة من مميزات تنفرد ببعضها عن النسخ الأخرى.
وأهم هذه المميزات ما يلي:
1 – أنَّها معارضة ومقابلة على أصلٍ غير الأصل المنقول منه.
2 – أنَّها بخط أحد العلماء، وهو ممن انتهت إليه رئاسة المذهب الشافعي بحماة، مع الدين والتواضع والعفَّة والانكباب على المطالعة والتصنيف والمشاركة في الأدب وغيره، وحسن الخط.
3 – أنَّها نسخة متقنة ومضبوطة ضبطًا جيِّدًا (1) ، حيث ضَبَط الألفاظ المُشْكِلَة، وأشار إلى ما له أكثر من وجه في ضبط الكلمة ورمز له بـ “معا”.
4 – أنَّهُ جاء في نهاية النسخة تاريخ تأليف الكتاب فقال: “ذكر المؤلِّف رحمه اللَّه أنَّه فرغ منه عشية عرفة عند الثلث الأخير من الليل سنة خمس وأربعين وسبعمائة”، ولا يخفى ما في هذا النص العزيز من أهمية وفائدة (2) .
__________
(1) ومن عنايته بالخط والكتابة أنَّه عمل منظومة نحو تسعين بيتًا في علم الخط وصناعة الكتاب ثمَّ عمل شرحًا لهذه المنظومة. الضوء اللامع (10/ 130).
(2) قد يُسْتَدلُّ من هذا التاريخ أنَّ تأليف كتاب “الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة” كان سنة (745) هـ أو بعدها؛ لأنَّ المؤلف ذكر كلامًا من “حادي الأرواح” في ذلك الكتاب واللَّه أعلم.

(المقدمة/37)


5 – أنَّ سقطها قليلٌ جدًّا، ولا يعدو أن يكون من انتقال النَظَر ونحوه.

2 – نسخة كوبريلي (ب).
وهي محفوظة بمكتبة كوبريلي زاده محمد باشا، في استانبول بتركيا، تحت رقم (717)، ويقع الكتاب في (253) لوحة، كل لوحة تحتوي على وجهين، وخطُّها عادي واضح العبارة، مضبوط بالشكل أحيانًا، وناسخها: إبراهيم بن عبد الغالب بن إبراهيم الأنصاري الحنبلي (1)، وقد فرغ من كتابتها في الثامن عشر من شهر رمضان سنة إحدى وستين وسبعمائة (761 هـ)، وجاء في صفحة العنوان بخط كبير “حادي الأرواح”، وكتب تحته بخط أصغر منه “إلى بلاد الأفراح، ومثير سكان العزمات إلى روضات الجنَّات، وباعث الهمم العليات إلى العيش الهنيء في تلك الغرفات”.
– وكتب على هذه الصفحة تملُّك: ملكه أحمد بن [. . .]. وبقيته مطموس عليه.
– وكتب عليها أيضًا: “عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه قال: الحنَّان: الَّذي [. . .] مَنْ أعرض عنه، والمنَّان: الَّذي يُعطي النَّوال [. . .] السُّؤال”.
– وجاء في آخر النسخة تملُّك لكنَّه غير واضح في التصوير ونصُّه: “. . . . محمد بن عبد اللَّه المطلبي. . سنة خمس وثمانمائة. . “.
__________
(1) لم أقف على ترجمته.

(المقدمة/38)


وتتميز هذه النسخة:
أ – بقرب عهدها من مؤلفه.
ب – قلَّة السقط والأخطاء.

3 – نسخة جامعة برنستون (ج).
وهي محفوظة في مكتبة جامعة برنستون بالولايات المتحدة، تحت رقم (2208)، ويقع الكتاب في (168) لوحة، كل لوحة تحتوي على وجهين، وخطُّها نسخي لا بأس به، وغالب أوله مشكول الأحرف، ويقل حتَّى يتلاشى في آخره، وكاتبها: محمد بن خليل الناسخ المؤدب (1)، وكان فراغه من كتابتها في يوم الاثنين من شهر شوال من سنة إحدى وستين وسبعمائة (761 هـ).
– وقد كُتب في طرف الورقة الأخيرة بخطًّ حديثٍ “نقلت هذه النسخة من خط المصنف رحمه اللَّه”.
– وجاء في (135 ق/ ب) في الحاشية: “كذا في الأصل نسخة المصنف”.
قلتُ: وهذا الكلام محتمل لقرب عهد النسخة بالمصنف، ولولا أنَّ الخط حديث -فيما يظهر- ومغايرٌ لخطِّ الكتاب لكان الجزم بذلك.
– وقد تملَّك هذا الكتاب واطلع عليه عددٌ من أهل العلم:
فجاء في وسط صفحة العنوان ما يلي: “ثم ملكه العبد الفقير الفاني
__________
(1) لم أقف على ترجمته.

(المقدمة/39)


الحاج تاج الدين بن محمد الكوراني توفاه اللَّه على الإيمان عند خروج نفسه، وثبَّته للجواب في رَمْسِه، وجعله من أصحاب اليمين وحشره تحت لواء سيد المرسلين محمد صلَّى اللَّه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وغفر له ولوالديه، ولمن مات من أهلهم وقومهم وجيرتهم ولسائر المسلمين أحياءً وأمواتًا أجمعين، والحمد للَّه رب العالمين”.
– وجاء في يسار صفحة العنوان ما يلي “ملك الفقير” [. . .] جمال [ابن] الشيخ محمد [إمام] جامع [الشرفية]. . . محرم من. . . .
– وجاء فيها أيضًا: “ثم ملكه من فضل ربه الكريم، السيد عبد الرحيم بفضله. سنة 1144 هـ.
– وجاء في نهاية الكتاب ما نصه: “نظر في هذه النسخة الفقير إلى اللَّه تعالى: أحمد بن محمد المغربي الأندلسي غفر اللَّه له ولوالديه ولجميع المسلمين آمين.
– وجاء أيضًا ما نصه: “قرأتُ هذا الكتاب مطالعة تامة من أوَّله إلى آخره، وأنا الفقير إليه [. . . .] السيد عبد الرحيم -الرَّاجي عفو ربه الكريم- ابن الحاج محمد الحبال، أصلح له كل الأحوال، وذلك المطالعة في مدرسة الشرفية، مدرسة جدِّه: السيد عبد الرحمن محي السنة العجمي عليه الرحمة والرضوان، وصلَّى اللَّه على سيدنا وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين آمين يا رب العالمين، وذلك في نصف شهر رجب الفرد من سنة 1154.

(المقدمة/40)


وتمتاز هذه النسخة:
1 – بقرب تاريخ نسخها إلى المؤلف.
2 – تداولها على أيدي بعض أهل العلم.
3 – أنَّها منسوخة من نسخة المؤلِّف وهذا محتمل.

4 – النسخة البريطانية (د):
وهي محفوظة في المتحف البريطاني (شرقيات) برقم (9259)، وتقع في (266) لوحة، وكل لوحة تحتوي على وجهين، وخطها نسخي جميل جدًّا، وغالبه مضبوط بالشكل، وكاتبها: محمد بن محمد بن عبد الكريم الموصلي الشافعي (1) -فيما يظهر- وقد فرغ من كتابتها في [. . .] من رجب الفرد سنة أربعين [وثمانمائة]:
وجاء في آخرها: “بلغ مقابلة بحسب الطاقة واللَّه المستعان”.
وجاء فيها أيضًا تملُّك ونصه: “الحمد للَّه، انتقل هذا الكتاب المستطاب في ملك [الفقير] إلى ربَّه العلي عبد العزيز بن عبد اللَّه بن فيروز الحنبلي في شهر اللَّه المعظم 9 رمضان سنة 1183 هـ وصلَّى اللَّه وسلم على سيدنا محمد”.
ويبدو أنَّ النسخة اطلع عليها غير واحد:
– فقد جاء في (145 ق/ ب) تعليقًا في تخريج حديث، ثمَّ ختمه بقوله “كتبه محمد”، وهذا يحتمل أنه الناسخ.
__________
(1) لم أقف على ترجمته.

(المقدمة/41)


– وجاء أيضًا في (225 ق/ أ) لرجلٍ آخر “ولعلَّه من المتصوفة” لمَّا ذكر ابنُ القيم ابن عربي ووصفه بإمام الاتحادية، قال معلقًا: “حاشاهُ من الاتحاد قدَّس اللَّه سره، ونوَّر لنا قبره، وأمدنا اللَّه تعالى والمسلمين بمدده آمين”.
وتتميز هذه النسخة:
1 – بقرب عهدها من المؤلِّف.
2 – كونها مكتوبة بخط جميل.
3 – كونها مقابلة ومعارضة على نسخة أخرى.

5 – النسخة العراقية (هـ):
وهي محفوظة في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد تحت رقم (6673).
وقد وصلت هذه النسخة إلى نعمان الآلوسي عن طريق الهِبَة مِنْ عبد الرزاق أفندي سبط متولي الأعظمية، فوقفها الآلوسي على المدرسة المرجانية ببغداد، ثمَّ انتقلت إلى مكتبة الأوقاف العامة (كما جاء ذلك على صفحة العنوان).
ويقع الكتاب في (232) لوحة، كل لوحة تحتوي على وجهين، وخطها عادي واضح، كتبها: عبد الرحمن بن إسماعيل بن الحسن بن محمد بن عبد الرحمن المؤدب السنجاري المعروف “بابن المسواك الحيالي” (1)، وكان قد فرغ من كتابتها في آخر رجب سنة (771 هـ).
__________
(1) لم أقف على ترجمته.

(المقدمة/42)


– وقد جاء على صفحة العنوان -إضافة إلى ما تقدم ذكره- ما نصُّه: “قال رحمه اللَّه:
عِدَّة الخير عندنا كلماتٌ … أربعٌ قالهنَّ خير البرية
اتق الشبهات وازهد ودع … ما ليس يعنيك واعملَنْ بنية
وغيرها
انظر إلى هذا الزمان الَّذي قد … ساد فيه اللكع بن اللكع
في أهله من بعد إعجابهم … شُحٌّ مطاع وهوًى متَّبع
ومِمَّا جاء فيها أيضًا بعد اسم الكتاب والمؤلِّف تاريخ تأليف الكتاب فجاء ما نصه: “وذكر المؤلف أنَّه فرغ منه عشية عرفة عند الثلث الآخر من الليل سنة خمس وأربعين وسبعمائة”.
– ويبدو أنَّ النسخة اطلع عليها غير واحد.
– فقد جاء عليها -في أوَّل الكتاب- تعليقات في تفسير الغريب باللغة العربية ثمَّ ترجمتها بالفارسية.
– وجاء في (50 ق/ ب) تعليق لرجل أشعري في تأويل اليد بالقدرة.
– وكتب أحد المطَّلعين على النسخة في نهاية الكتاب تعليقًا فقال: “طالعه جميعًا واستفاد [. . .] جامعه غير أحرف يسيرة لا أعتقدها، نبَّهت على بعضها في الهامش [. . .].
– وكتب الناسخ (16) بيتًا امتدح فيها هذا الكتاب ومؤلِّفه، “كما تقدم ذكر بعض الأبيات”.

(المقدمة/43)


وتتميز هذه النسخة بما يلي:
1 – قرب عهدها بالمؤلِّف.
2 – قلَّة السقط والأخطاء فيها.
3 – أنَّها مقابلة ومصححة.
4 – ما ذكره الناسخ في أوَّل صفحة تحت العنوان من تاريخ فراغ المؤلِّف من الكتاب.

(المقدمة/44)


9 – المنهج في تحقيق الكتاب:
– لما كانت النسخ المعتمدة في تحقيق هذا الكتاب جيِّدة جدًّا = اتخذت نسخة مكتبة عارف حكمت أصلًا لتميزها عن باقي النسخ بعدَّة مميزات “كما تقدم ذكره في وصفها” وأثبتُّ الفروق وقمت بوضع رموز تشير إلى كلِّ نسخة:
– “أ” = المكتبة المحمودية بالمدينة النبوية.
– “ب” = مكتبة كوبريلي بتركيا.
– “ج” = مكتبة جامعة برنستون.
– “د” = مكتبة المتحف البريطاني.
– “هـ” = مكتبة الأوقاف العامة ببغداد.
وقد قمتُ بإنزال أرقام صفحات كل من نسخة “أ، ب” داخل النص، ووضعه بين معقوفتين.
هذا إضافة إلى ما تقدم ذكره في غير ما كتاب من ضبط النص وتقسيمه، وتخريج الأحاديث والآثار، وتوثيق النصوص الواردة فيه (1)، ووضع الفهارس الكاشفة عن مكنونه.
__________
(1) وكان قد سبقني في العمل على أوَّل الكتاب الشيخ: الحسن بن عبد الرحمن العلوي، فما استفدته منه وضعته بين نجمتين *. . . *.

(المقدمة/45)


10 – نماذج من النسخ المعتمدة في التحقيق

(المقدمة/46)


1 – الورقة الأولى من نسخة مكتبة “عارف حكمت” بالمدينة النبوية (أ)

(المقدمة/47)


1 – الورقة الأولى من الكتاب لنسخة “عارف حكمت” بالم د ينة النبوية (أ)

(المقدمة/48)


1 – الورقة الأخيرة من نسخة “عارف حكمت” (أ)

(المقدمة/49)


2 – الورقة الأولى من نسخة “كوبريلي” بتركيا (ب)

(المقدمة/50)


2 – الورقة الأخيرة من نسخة “كوبريلي” بتركيا (ب)

(المقدمة/51)


3 – الورقة الأولى من نسخة “برنستون” بالولايات المتحدة (ج)

(المقدمة/52)


3 – الورقة الأخيرة من نسخة “برنستون” بالولايات المتحدة (ج)

(المقدمة/53)


4 – الورقة الأولى من نسخة المتحف البريطاني (د)

(المقدمة/54)


4 – الورقة الأخيرة من نسخة المتحف البريطاني (د)

(المقدمة/55)


5 – الورقة الأولى من نسخة مكتبة الأوقاف العراقية (هـ)

(المقدمة/56)


5 – الورقة الأخيرة من نسخة مكتبة الأوقاف العراقية (هـ)

(المقدمة/57)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
الحمد للَّه الَّذي جعل (2) جنَّات الفردوس لعباده المؤمنين نُزُلًا (3)، ويسَّرهم للأعمال الصالحة الموصلة إليها، فلم يتخذوا (4) سواها شُغُلًا، وسهَّل (5) لهم طُرقها، فسلكوا السبيل (6) الموصلة إليها ذُلُلًا، خلقها لهم قبل أن يخلقهم، وأسكنهم إيَّاها قبل أن يُوجدهم، وحجبها بالمكاره، وأخرجهم إلى دار (7) الامتحان، ليبلوهم أيُّهم أحسنُ عملًا، وجعل ميعاد دخولها يوم القدوم (8) عليه، وضرب مدَّة الحياة الفانية دونه أجلًا، أودعها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر علي قلب بشر، وجلَّاها عليهم حتَّى (9) عاينوها بعين البصيرة التي هي أنفذ من رؤية البصر، وبشَّرهم بما أعدَّ لهم فيها على لسان رسوله (10) خير
__________
(1) جاء في “أ” بعد البسملة “وصلَّى اللَّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم”.
وفي “ب”: “وهو حسبي ونعم الوكيل”.
وليس في “ج” البسملة ولا غيرها.
وفي “هـ” “ولا حول ولا قوَّة إلَّا باللَّه العلي العظيم”.
(2) قوله “الَّذي جعل” في “هـ”: “الَّذي عزَّ وجلَّ وعلا، وجعل”.
(3) في “ج” “منزلًا”.
(4) في “هـ”: “يجعل لهم” بدل “يتخذوا”.
(5) في “أ”: “سهَّل لهم طرقها، ويسَّرهم فسلكوا”.
(6) من “أ”، وفي باقي النسخ “السبل”، ووقع في “هـ” “السبل الموصلة بها ذللا”.
(7) قوله “إلى دار” في “هـ” “من صلب أبيهم آدم إلى دار البلوى و”.
(8) في “ج”: “القيامة” وهو خطأ.
(9) في “ب، هـ”: “حين”.
(10) وقع في “ج” بعد “رسوله” جملة مضروب عليها “فهي خير البِشَر على لسان” ووقع =

(1/3)


البشر، وكمَّل لهم البشرى بكونهم (1) {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) } [الكهف: 108].
والحمد للَّه فاطرِ السموات والأرضِ، جاعل الملائكة رسلًا، وباعث الرسل مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للنَّاس على اللَّهِ حُجَّةٌ بعد الرسل، إذ لم يخلقهم عبثًا، ولم يتركهم سُدىً، ولم يغفلهم هملًا، بل خلقَهم لأمرٍ عظيمٍ، وهيَّأَهم لِخَطْبٍ جسيم، وعمَّر لهم دارين (2) ، فهذه لمن أجابَ الدَّاعي، ولم يبغِ سوى ربه الكريم بدلًا، وهذه لمن لم يُجب دعوته، ولم يرفع بها رأسًا، ولم يعلِّق بها أمَلًا.
والحمد للَّه الَّذي رضي من (3) عباده باليسير من العمل، وتجاوزَ لهم عن الكثير من الزَلل، وأفاضَ عليهم النعمة، وكتب (4) على نفسه الرحمة، وضمَّن (5) الكتاب الَّذي كتبه: أنَّ رحمته سبقت غضبه. دعا عباده إلى دار السلام، فعمَّهم بالدَّعوة حُجَّةً منه عليهم وعَدلًا، وخصَّ بالهداية والتوفيقِ من شاء نعمةً (6) منه وفضلًا، فهذا عدْلُه وحكمته، وهو العزيز الحكيم، وذلك فضلُه (7) يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم.
__________
= في “هـ” بعد “رسوله” “صلَّى اللَّه عليه وسلَّم محمدٍ”.
(1) في “هـ”: “بقوله”.
(2) في “هـ”: “دارين آخرتين”.
(3) في “أ”: “عن”، وجاء في “هـ” “من عباده المؤمنين باليسير”.
(4) في “ب”: “وكتب لهم على نفسه”.
(5) في “هـ”: “وضمن لهم في الكتاب”.
(6) في “ج”: “رحمةً”.
(7) في “ج، هـ”: “فضل اللَّه”.

(1/4)


وأشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللَّهُ وحدهُ لا شريكَ له، شهادةَ عبده وابن عبدِه وابن أمَتِه، ومن لا غنى به (1) طرفة عينٍ عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنَّة والنجاة من النَّار إلا بعفوه ومغفرته.
وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله، وأمينُه على وحيهِ، وخيرته من خَلْقِه، أرسله رحمةً للعالمين، وقدوةً للعاملين، ومحجَّةً للسَّالكين، وحُجَّةً على العباد أجمعين، بعثه للإيمان به (2) مناديًا، وإلى دار السَّلام داعيًا، وللخليقة هاديًا، ولكتابه (3) تاليًا، وفي مرضاته ساعيًا، وبالمعروف آمرًا، وعن المنكر ناهيًا، أرسلَه على حين فترةٍ من الرسل، ودروسٍ من السبل (4) ، فهدى به إلى أقوم الطرق، وأوضح السبل، وافترضَ على العباد طاعته ومحبته، وتعزيره، وتوقيره، والقيامَ بحقوقه، وسدَّ إلى (5) الجنَّة جميع الطرقِ، فلم يفتحها لأحدٍ إلَّا من طريقه، فلو أتوا من كلِّ طريق، واستفتحوا من كلِّ بابٍ، لَمَا فُتِحَ لهم حتى يكونوا خَلْفَهُ من الدَّاخلين، وعلى منهاجه وطريقته (6) من السالكين. فسبحانَ من شرحَ له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذِكْرَهُ،
__________
(1) في “ج، د”: “له”.
(2) من “أ”.
(3) في “هـ”: “ولكتابه العزيز”.
(4) قوله “ودروس من السبل” من “هـ”، ونسخةٍ على حاشية “أ”.
(5) في “هـ”: “عن”.
(6) في “ب” “وطريقه”.

(1/5)


وجعل الذلَّة والصغار على من خالفَ أمره.
فدعا إلى اللَّهِ وإلى جنته سرًّا وجهارًا، وأذَّنَ بذلك بين أظهُرِ أُمَّتِهِ (1) ليلًا ونهارًا، إلى أنْ طلع فجرُ الإسلام، وأشرقت شمسُ الإيمان، وعلتْ كلمة الرحمن، وبَطلت دعوة الشيطان، وأضاءت بنور رسالته الأرضُ بعد ظلماتها، وتألَّفت به القلوب بعد تفرُّقها وشتاتها، فأشرقَ (2) وجه الدهر حسنًا، وأصبح الظلامُ ضياءً، واهتدى كلُّ حيران، فلمَّا أكملَ اللَّهُ به دينه، وأتمَّ به نعمته، ونشرَ به على (3) الخلائق رحمته، فبلَّغ رسالات ربه ونصح عباده، وجاهد في اللَّهِ حقَّ جهاده = خيَّره بين المُقام في الدنيا وبين لقائه والقدوم عليه، فاختار لقاءَ ربِّه محبَّةً له، وشوقًا إليه، فاستأثر به ونقله إلى الرفيق الأعلى، والمحل الأرفع الأسنى، وقد ترك أمته على الواضحة الغرَّاء، والمَحَجَّةِ البيضاء، فسلك أصحابُه وأتباعهم على أثره إلى جنَّات النَّعيم، وعدلَ الراغبون عن هديه إلي طريقِ (4) الجحيم: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42].
فصلَّى اللَّهُ وملائكته وأنبياؤه ورسله وعبادُه المؤمنون عليه، كما وحَّد اللَّه وعبَدَهُ، وعرَّفنا به ودعا إليه.
__________
(1) من “أ”، وفي باقي النسخ “الأُمَّة”.
(2) في “هـ” “فأشرق به وجه”.
(3) في نسخةٍ على حاشية “أ” “على كل الخلائق”، ووقع في “هـ” “ونشر على الخلائق”.
(4) قوله “هديه إلى طريق” وقع في “أ” “هذه إلى طرق”.

(1/6)


أمَّا بعدُ: فإنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى لم يخلق خلقَهُ عَبَثًا، ولم يتركهم سُدًى، بل خلقهم لأمرٍ عظيمٍ، وخطْبٍ جسيمٍ، عُرِضَ (1) على السموات والأرض والجبال فأبينَ وأشْفَقْنَ (2) منه إشفاقًا ووجلًا، وقلن: ربَّنا إن أمرتنا فسمعًا وطاعةً، وإن خَيَّرْتَنَا فعافيتك نُريد، لا نَبْغي بها بدَلًا. وحمَلَهُ الإنسانُ على ضَعْفِهِ وعجزِه عن حمله، ونَاءَ (3) به على ظُلمه وجهله، فألقى أكثرُ النَّاسِ الحِمْلَ عن ظهورهم لشدَّة مؤنَتِهِ عليهم وثقله، فصحبوا الدنيا صحبةَ الأنعام السَّائمة، لا ينظرون في معرفة مُوجدِهم وحقِّهِ عليهم، ولا في المراد من إيجادهم وإخراجهم إلى هذه الدَّار، التي هي طريق ومَعْبر إلى دار القرار، ولا يَتَفكَّرُون في قلَّة مقامهم في الدنيا الفانية، وسُرعة رحيلهم إلى الآخرة الباقية، فقد ملكهم باعثُ الحِسِّ (4) ، وغاب عنهم داعي العقل، وشملتهم الغفلة، وغرَّتهم الأمانيُّ الباطلة، والخُدَع الكاذبة، فخدَعَهم طولُ الأمل، ورَانَ على قلوبهم سوءُ العمل، فَهِمَمُهُم (5) في لذَّات الدنيا، وشهوات النفوس، كيف حَصَلَتْ حصَّلوها، ومن أيِّ وجهٍ لاحت لهم (6) أخذوها، إذا أبدى لهم حظٌّ من الدنيا ناجِذَيْه طاروا إليه
__________
(1) في “هـ”: “عُرِضَ حمله على. . . “.
(2) وقع في “ب”، وفي نسخةٍ على حاشية “أ” واسْتعْفعيْن”، وجاء في “د” “واستعفين وأشفقن منه” بالجمع بينهما.
(3) في “ج، هـ” “وباء”، وضُرِبَ عليها في “د”.
(4) في “أ، ج، هـ”: “الجِنِّ”.
(5) في “ب، هـ”: “فهَمُّهُم”.
(6) ليس في “أ، هـ”.

(1/7)


زُرَافاتٍ (1) ووحدانًا، وإذا عَرض لهم عرضٌ (2) عاجلٌ من الدنيا لم يؤثروا عليه ثوابًا من اللَّه ولا رضوانًا: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) } [الروم: 7]، {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) } [الحشر: 19].
والعَجبُ كلُّ العجب مِنْ غفلة مَنْ لحظاتُه معدودةٌ عليه، وكل نَفَسٍ من أنفاسه لا قيمة له، وإذا ذهب لم يرجع إليه، فمَطَايا الليلِ والنَّهار تُسرِعُ به، ولا يتَفَكَّرُ إلى أين يُحْمل، ويسارُ به أعظم من سير البَرِيْدِ، ولا يدري إلى أيِّ الدَّارين يُنقل، فإذا نَزَلَ به الموتُ اشتدَّ قلقُهُ لخراب ذاتِهِ، وذهاب لذَّاتِهِ، لا لِمَا سبقَ من جنَاياتِهِ، وسلَفَ مِنْ تَفْرِيْطِهِ، حيثُ لم يُقَدِّم لحياته، فإن خطرتْ له خطَرةٌ عارضةٌ لِمَا خُلِقَ له، دَفَعَها باعتماده على العفو، وقال: قد أنبأنا اللَّه (3) أنَّه هو الغفور الرحيم، وكأنَّه لم يُنَبَّأ: أنَّ عذابه هو العذابُ الأليم.
فصل
ولمَّا علم المُوَفَّقون ما خُلقوا له، وِما أريدَ بإيجادهم، رفعوا رؤوسهم، فإذا عَلَم الجنة قد رُفِعَ لهم، فشَمَّروا إليه، وإذا صراطُها المستقيم قد وَضَحَ لهم، فاستقاموا عليه، ورأوا من أعظمِ
__________
(1) وقع في “هـ” “زُمُرًا”.
والزرافات: الجماعات، والزرافة -بالفتح-: الجمع من الناس، انظر الصحاح (2/ 1048).
(2) ليس في “هـ”.
(3) من “أ، هـ”.

(1/8)


الغَبْنِ (1) بيعُ ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلب بشر، في أبدٍ لا يزول، ولا ينفذُ = بصُبَابَة (2) عيشٍ، إنَّما هو كأضغاث أحلام، أو كطيفٍ (3) زارَ في المنَام، مَشوبٍ بالنُّغَصِ (4) ، ممزوجِ بالغُصَصِ (5) ، إنْ أضحك قليلًا أبكى كثيرًا، وإن سَرَّ يومًا أحزنَ شهورًا، آلامُهُ تزيدُ على لذَّاتِهِ، وأحزانه أضعافُ أضعاف مَسَرَّاتِهِ، أوله مخَاوف، وآخرُهُ مَتَالِف.
فيَا عَجبًا من سفيهٍ في صورة حكيم (6) ، ومعتوهٍ في مِسْلَاخ (7) عاقلٍ، آثر (8) الحظ الفاني الخسيس، على الحظِّ الباقي النفيس، وباع جنَّةً عرضها السموات والأرض؛ بسجنٍ ضيِّقٍ بين أرباب العاهات (9) ، ومساكن طيِّبةً في جنَّات عدن تجري من تحتها الأنهارَ، بأعْطَانٍ (10)
__________
(1) الغبن: النقص، الصحاح (2/ 1589).
(2) الصُّبابة: البقيَّة من الماءِ في الإناء، الصحاح (1/ 176)، والمعنى: بحياةٍ قصيرة.
(3) الطائف: ما كان كالخيال، يلمُّ بالشخص. المعجم الوسيط ص (598).
(4) النغص: الكدر، الصحاح (1/ 830).
(5) الغُصَصَ: ما اعترض في الحَلْق من شجى أو طعام أو شراب. الصحاح (1/ 821)، والمعجم الوسيط ص (686).
(6) في “هـ”: “حليم”.
(7) المسْلاخ: الإهاب، أي: الجلد، الصحاح (1/ 370)، والمعجم الوسيط ص (468).
(8) في “ب” “ءآثر” بالاستفهام، وهو محتمل، والمثبت أقرب.
(9) في “ب، ج، د، هـ” ونسخة على حاشية “أ” “العاهات والبليات”.
(10) الأعطان جمع عَطَن، وهو مبارك الإبل عند الماء لتشرب عَلَلًا بعد نَهَلٍ. =

(1/9)


ضيقة آخرها الخرابُ والبوار، وأبكارًا عُرُبًا أَتْرَابًا، كأنَّهنَّ الياقوتُ والمرجان؛ بِقَذراتٍ دَنِسَات سيئات الأخلاق مسافحات، أو متخذات أخْدَانٍ (1) ، وحُوْرًا مقصورات في الخيام؛ بخبيثات مُسِيئاتٍ (2) بين الأنامِ (3) ، وأنهارًا من خمرٍ لذَّةٍ للشاربين؛ بشرابٍ نَجس مُذهبٍ للعقل مُفسدٍ للدنيا والدِّين، ولذَّة النظر إلى وجه العزيز الرحيم؛ بالتمتع برؤية الوجهِ القبيح الدميم، وسماعَ الخطاب من الرحمن؛ بسماع المعازف والغناء والألحان، والجلوس على منابر اللؤلؤ والياقوت والزبرجد يوم المَزيد؛ بالجلوس في مجالس الفسوق مع كل شيطانٍ مريدٍ، ونداءَ (4) المنادي يا أهل الجنَّة: “إنَّ لكم أن تنعموا فلا تبأسوا (5) ، وتحيوا فلا تموتوا، وتقيموا فلا تظعنوا، وتشبُّوا فلا تهرموا” (6) ؛ بغناءِ المُغَنِّين:
وقَفَ الهَوَى بِي حَيْثُ أَنْتِ فَلَيْسَ لِي … مُتَأَخرٌ عَنْهُ ولَا مُتَقَدَّمُ
أَجِدُ المَلامَةَ في هَوَاكِ لذيذة … حُبًّا لِذِكْرِكِ، فَلْيَلُمْنِي اللُّوَّمُ (7)
__________
= الصحاح (2/ 1584).
(1) أخدان جمع خِدْن، والخدين: الصَّديق. الصحاح (2/ 1549).
(2) في “د” ونسخةٍ على حاشية “أ” “مُسَيَّبَاتٍ”.
(3) في “د” ونسخةٍ على حاشية “أ” “الأنعام”.
(4) في “هـ” “وقد نادى” بدل “ونداء”.
(5) في “ج”: “تيأسوا”، والمثبت أولى لموافقته لما في صحيح مسلم.
(6) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2837).
(7) انظر ديوان أبي الشيص الخزاعي ص (101 – 102).

(1/10)


وإنَّما يظهرُ الغَبْنُ الفاحشُ في هذا البيعِ يومَ القيامة، وإنَّما يتبينُ سَفَهُ بائِعِهِ يوم الحسرةِ والندامة، إذا حُشِرَ المتقون إلى الرحمن وفدًا، وسيقَ المجرمون إلى جهنَّم وِرْدًا، ونادى المُنادي على رؤوس الأشهاد، ليعلمنَّ أهلُ الموقفِ من أولى بالكرمِ من بين العبادِ، فلو توهم المتخلف عن هذه الرفقة ما أُعِدَّ لهم من الإكرام، وادُّخرَ لهم من الفضل والإنعام، وما أُخْفِيَ لهم من قُرَّة أعين، لم يقعْ على مثلها بصر، ولا سمعته أذن، ولا خطرَ على قلب بشر = لَعَلِمَ أيَّ بضاعة أضاع، وأنَّه لا خيرَ له في حياته، وهو معدودٌ من سَقَطِ المتاعِ، وعلمَ أنَّ القومَ قد توسَّطوا مُلْكًا كبيرًا، لا تعتريه الآفات، ولا يلحَقه الزوال، وفازوا بالنَّعيمِ المُقيمِ في جوار الكبير المُتَعَالِ.
فهُمْ في روضاتِ الجنَّات يتقلبون، وعلى أَسِرَّتهَا تحت الحِجَالِ يجلسون، وعلى الفُرشِ -التي بطائنها من استبرقٍ- يتَّكئون، وبالحور العين يتمتعون، وبأنواع الثمار يتفكهون، {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) } [الواقعة: 17 – 24]، {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ (1) الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف: 71]. تاللهِ، لقد نُوديَ عليها في سوقِ الكَسادِ، فما قلَّبَ ولا
__________
(1) كذا في جميع النسخ، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وخلف ويعقوب وحمزة والكسائي، وقرأ باقي العشرة “تشتهيه”.
انظر “النشر في القراءات العشر” لابن الجزري ص (276).

(1/11)


استام إلَّا أفرادٌ من العباد، فواعجبًا لها كيفَ نامَ طالبُها؟ وكيف لم يسمح بمهرها خاطبُها؟ وكيف طابَ العيش في هذه الدَّار بعد سماعِ أخبارها؟ وكيف قرَّ للمشتاق القَرار، دون مُعانقة أبكارها؟ وكيف قرَّتْ دونها أعينُ المُشتاقين؟ وكيف صَبَرتْ عنها أنفس الموقنين؟ وكيف صَدَفَتْ عنها قلوب أكثر العالمين؟ وبأيِّ شيءٍ تعوَّضَتْ عنها نفوس المُعْرضِينَ؟
وَمَا ذاك إلَّا غيرةً أنْ يَنَالها … سِوَى كفئها، والرَّبُّ بالخلق أعلَمُ
وإنْ حُجِبَتْ عنَّا بكلِّ كريهةٍ … وحُفَّت بما يؤذي النفوس ويُؤْلِمُ
فللَّهِ ما في حشوها من مَسرَّةٍ … وأصنافِ لذَّاتٍ بها يُتَنَعَّمُ
وللَّه بردُ العيشِ بينَ خيامها … وروضاتها، والثغرُ في الروضُ (1) يَبسمُ
وللَّه واديها الَّذي هو موعدُ الـ … مزيد لِوَفْدِ الحُبِّ، لو كُنْتَ مِنْهُم
بذيَّالك الوادي يهيمُ صبابة … مُحِبٌّ يرَى أنَّ الصبابةَ مغنمُ
وللَّه أفراحُ المُحبين عندما … يُخَاطِبُهم من فوقهم، ويُسَلِّمُ
وللَّه أبصارٌ ترى اللَّه جهرةً … فلا الضيمُ يغشاها، ولا هي تسأمُ
فيا نظرةً أَهْدَتْ إلى الوجهِ نَضْرَةً … أَمِنْ بعدِها يَسلو المحبُّ المُتيَّمُ
وللَّه كم من خَيْرَةٍ إنْ تَبَسَّمتْ … أضاء لها نورٌ من الفجر أعظمُ
__________
(1) في نسخةٍ على حاشية “أ” “الثَّغر”، وفي “هـ” “مبسم” بدل “يبسم”.

(1/12)


فيا لذَّةَ الأبصار إنْ هي أقبلتْ … ويا لذَّة الأسماع حين تكلَّمُ
ويا خجْلَةَ الغصن (1) الرطيب إذا انـ … ـــثنتْ ويا خجلة الفجرين (2) حين تَبَسَّمُ
فإن كنت ذا قلبٍ عليل (3) بحبها … فلم يَبْقَ إلَّا وصلُها لك مَرْهَمُ
ولا سيَّما في لَثْمِها عند ضمها … وقد صارَ منها تحت جيدِكَ معصمُ
تراه إذا أبدتْ لهُ حُسْنَ وجهِها … يلَذُّ به قبل الوصال، ويَنعَمُ
تفكَّهُ فيها العينُ عند (4) اجتلائها … فواكه شتَّى، طلعُها ليس يُعْدَمُ
عناقيدَ من كرمِ، وتفاحَ جنَّةٍ … ورمَّانَ أغصانٍ به (5) القلبُ مغرمُ
ولِلوَرد ما قد ألبَسَتْهُ خُدودُهَا … وللخمر ما قد ضمَّهُ الرِّيقُ والفمُ
تقسَّم منها الحسنُ في جمعٍ واحدٍ … فَيا عجبًا من واحدٍ يتقسَّمُ
لها فِرَقٌ شتَّى من الحُسن أُجمِعَتْ … بجُملَتِهَا، إنَّ السُّلوَّ مُحَرَّمُ
تُذَكِّرُ بالرَّحمن مَنْ هُوَ ناظرٌ … فينطقُ بالتَّسبيحِ لا يتلعثمُ
إذا قَابَلَتْ جيشَ الهُموم بوجهها … تولَّى على أعقابه الجيشُ يُهْزَمُ
فيا خاطِبَ الحسناء إنْ كُنْتَ باغيًا … فهذا زمانُ المَهر فهو المُقَدَّم
__________
(1) في “أ، هـ”: “الغض”.
(2) في “أ، ج، د”: “البحرين”.
(3) في نسخةٍ على حاشية “أ” “عليك”.
(4) في “هـ”: “قبل”.
(5) في “ب”: “بها”.

(1/13)


وكن مُبغضًا للخائنات لحبِّها … فتحظى بها من دُونِهنَّ وَتَنْعَمُ
وكنْ أيِّمًا ممَّن (1) سواها فإنَّها … لمثلكَ في جنَّاتِ عَدْنٍ تأيَّمُ
وصُمْ يومَكَ الأدنى لعلَّك في غدٍ … تفوزُ بعيد الفطر، والنَّاسُ صُوَّمُ
وأقدمْ ولا تقنعْ بعيشٍ مُنَغَّصٍ … فما فاز بالَّلذاتِ من ليس يُقدِمُ
وإنْ ضاقت الدنيا علَيك بأسرها … ولم يكُ فيها مَنْزِلٌ لك يُعْلَمُ
فحيَّ على جنَّاتِ عدنٍ فإنَّها … منازلُك الأولى وفيها المُخيَّمُ
ولكنَّنا سَبْيُ العدوِّ فهل ترى … نَعودُ إلى أوطاننا ونسلمُ
وقد زعموا أنَّ الغريبَ إذا نأى … وشطَّتْ بهِ أوطانُهُ فهْوَ مُغرَمُ
وأيُّ اغترابٍ فوقَ غُربتنا التي … لها أَضْحَتِ الأعداءُ فينا تَحَكَّمُ
وحيَّ على السوقِ الَّذي فيه يلتقي الـ … مُحِبُّونَ ذاك السُّوق للقوم مُعلمُ
فما شئت خذْ منه بلا ثمنٍ له … فقد أسلَفَ التُّجارُ فيه وأسلموا
وحيَّ على يومِ المزيد الَّذي به … زيارةُ ربِّ العرشِ، فاليوم مَوسِمُ
وحيَّ على وادٍ هنالكَ أَفْيَحٍ (2) … وتُربتهُ مِنْ أذْفَرِ المِسْكِ أَعْظَمُ
منابرُ من نورٍ هناكَ وفضةٍ … ومن خالصِ العِقْيان (3) لا يتقصَّمُ
__________
(1) في “أ”: “ممَّا”.
(2) الأفيح: الواسع. الصحاح (1/ 348). وأيضًا: فاح المسك فيحًا.
(3) العقيان: ذهب متكاثف في مناجمه، خالص ممَّا يختلط به من الرِّمال والحجارة. =

(1/14)


وكثبانُ مسكٍ قد جُعِلْنَ مقاعدًا … لِمَنْ دونَ أصحابِ المنابر تُعلم
فبينا همُ في عيشِهم وسرورهم … وأرزاقُهُم تجري عليهم وتُقْسَمُ
إذا همْ بنورٍ ساطعٍ أشْرَقَتْ له … بأقطارها الجنَّاتُ لا يُتَوَهَّمُ
تَجَلَّى لَهُمْ ربُّ السماوات جهْرَةً … فيضحَكُ فوقَ العرشِ ثُمَّ يُكَلِّمُ
سَلَامٌ عليكم يسمعون جميعُهُم … بآذانهم تَسْليمَه إذْ يُسَلِّمُ
يقولُ سَلوني ما اشْتَهَيْتُمْ فَكُلُّ ما … تُريدونَ عندي، إنَّني أنا أرْحَمُ
فقالوا جميعًا: نحنُ نسْألُكَ الرضا … فأنْتَ الَّذي تولي الجميلَ وترحمُ
فيعطيهم هذا، ويُشهِدُ جمعهم … عليه، تعالى اللَّهُ، فاللَّهُ أكرمُ
فيا بائعًا هذا ببخسٍ مُعَجَّلٍ … كأنَّك لا تَدري، بلى سوفَ تَعْلَمُ
فإنْ كُنْتَ لَا تدري فتلكَ مصيبةٌ … وإنْ كنتْ تَدْري فالمصيبة أعظمُ (1)
فصل
وهذا كتابٌ اجتهدتُ في جمعه وترتيبه وتفصيله وتبويبه، فهو للمَحْزونِ سَلْوَةٌ، وللمشتاق إلى تلك العرائسِ جَلوة، محرِّكٌ للقلوب إلى أجلِّ مطلوبٍ، وحادٍ للنفوس إلى مُجاورة الملك القدوس، ممتعٌ
__________
= المعجم الوسيط ص (648). والصحاح (2/ 1767).
(1) هذه الأبيات قطعة من “القصيدة الميميَّة” للمؤلف، وقد ذكر قطعة كبيرة منها في “طريق الهجرتين” (ص/ 51 – 55)، وقُرئت على المؤلف كما في ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب الحنبلي (2/ 451 – 452).

(1/15)


لقارئه، مشوِّقٌ للناظر فيه، لا يَسأمُه الجليسُ، ولا يَملُّه الأنيس، مُشتَمِلٌ من بدائع الفوائد، وفرائد القلائد، على ما لعلَّ المجتهد في الطلب لا يظْفَرُ به فيما سواهُ من الكتب، مع تضمُّنه لجملة كثيرةٍ من الأحاديث المرفوعات، والآثار الموقوفات، والأسرارُ المودعة في كثيرٍ من الآيات، والنكت البديعات، وإيضاح كثيرٍ من المشكلاتِ، والتنبيه على أصول من الأسماء والصفات.
إذا نظر فيه النَّاظر زاده إيمانًا، وجلى عليه الجنَّة حتى كأنَّه يشاهدها عيانًا، فهو مثيرُ ساكن العزمات إلى روضات الجنَّات، وباعث الهمم العليات إلى العيش الهنيِّ في تلك الغرفات.
وسميته “حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح” فإنَّه اسمٌ يطابق مسمَّاهُ، ولفظٌ يوافق معناه، واللَّه يعلمُ ما قصدتُ، وما بجمعه وتأليفهِ أردتُ، فهو عند لسان كل عبدٍ وقلبه، وهو المطلِعُ على نيته وكسبهِ، وكان جُلُّ المقصود منه بشارة أهلِ السنَّةِ بما أعدَّ اللَّهُ لهم في الجنَّة؛ فإنَّهم المستحقون للبُشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ونِعَمُ اللَّهِ عليهم باطنة وظاهرة، وهم أولياء الرسول وحزبه، ومن خرَجَ عن سُنَّته فهم أعداؤهُ وحربه، لا تأخذهم في نصرة سنته ملامة اللوَّام، ولا يتركون ما صحَّ عنه لقول أحدٍ من الأنام، والسُّنَّةُ أجلُّ في صدروهم من أنْ يُقَدِّموا عليها رأيًا فقهيًّا، أو بحثًا جدليًّا، أو خيالًا صوفيًّا، أو تناقضًا كلاميًّا، أو قياسًا فلسفيًّا، أو حكمًا سياسيًّا، فمن قدَّم عليها شيئًا من ذلك، فبابُ الصوابِ عليه مسدودٌ، وهو عن طريق الرشاد مصدود.
فيا أيُّها النَّاظرُ فيه لك غُنْمه، وعلى مؤلفه غُرْمُهُ، ولك صَفْوُهُ،

(1/16)


وعليه كَدَرُه، وهذه بضاعته المُزْجَاة تُعرَضُ عليك، وبَنَاتُ أفكارِهِ تُزَفُّ إليك، فإنْ صادفت كفؤًا كريمًا لن تعدم منه إمساكًا بمعروفٍ أو تسريحًا بإحسانٍ، وإنْ كان غيرَه فاللَّه المستعان، فما كان من صواب فمن الواحد المنَّانِ، وما كان من خطأٍ فمنِّي ومن الشيطان، واللَّهُ بريٌ منه ورسوله.
وقد قسَّمتُ الكتاب سبعين بابًا.
الباب الأوَّل: في بيان وجود الجنَّة الآن.
الباب الثاني: في اختلاف النَّاس في الجنَّة التي أسكنها آدم، هل هي جنة الخلد أو جنة في الأرض؟.
الباب الثالث: في سياق حجج من ذهب إلى أنَّها جنَّةُ الخلدِ.
الباب الرَّابع: في سياق حجج الطائفة التي قالت: إنَّها (1) في الأرض.
الباب الخامس: في جواب أرباب هذا القولِ لمن نازعهم
الباب السادس: في جواب من زعمَ أنَّها جنَّةُ الخلدِ عن حجج منازعيهم.
الباب السَّابع: في ذكر شبه من زعمَ أنَّ الجنَّةَ لم تخلق بعد.
الباب الثامن: في الجواب عمَّا احتجوا به من الشبه.
__________
(1) في “هـ”: “إنَّها جنَّةٌ في الأرضِ”.

(1/17)


الباب التاسع: في ذكر عدد أبواب الجنَّة.
الباب العاشر: في ذكر سعة أبوابها.
الباب الحادي عشر: في صفة أبوابها.
الباب الثاني عشر: في ذكر مسافة ما بين الباب والباب.
الباب الثالث عشر: في مكان الجنَّة، وأين هي؟.
الباب الرَّابع عشر: في مفتاح الجنَّة.
الباب الخامس عشر: في توقيع الجنَّة ومنشورها الَّذي يكتب لأهلها.
الباب السادس عشر: في بيان توحد طريق الجنَّة، وأنَّهُ ليس لها إلَّا طريقٌ واحد.
الباب السابع عشر: في درجات الجنَّة.
الباب الثامن عشر: في ذكر أعلى درجاتها، واسم تلك الدرجة.
الباب التاسع عشر: في عرض الرب تعالى سلعته على عباده وثمنها الَّذي طلبه منهم، وعقد التبايع الَّذي وقع بين المؤمنين وبين ربهم.
الباب العشرون: في طلب الجنَّة أهلها من ربهم، وشفاعتها فيهم وطلبهم لها.
الباب الحادي والعشرون: في أسماء الجنَّة ومعانيها واشتقاقها.
الباب الثاني والعشرون: في عدد الجنَّات وأنواعها.

(1/18)


الباب الثالث والعشرون: في خلق الرب تعالى لبعضها بيده.
الباب الرَّابع والعشرون: في ذكر بوابيها وخزنتها.
الباب الخامس والعشرون: في ذكر أوَّل من يقرع باب الجنَّة.
الباب السادس والعشرون: في ذكر أوَّل الأمم دخولًا الجنَّة.
الباب السَّابع والعشرون: في ذكر السَّابقين من هذه الأمة إلى الجنَّة وصفتهم.
الباب الثامن والعشرون: في سبق الفقراءِ الأغنياءَ إلى الجنَّة.
الباب التاسع والعشرون: في ذكر أصناف أهل الجنَّة التي ضُمِّنت لهم دون غيرهم.
الباب الثلاثون: في أنَّ أكثر أهل الجنَّةِ هم أمَّة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-.
الباب الحادي والثلاثون: في أنَّ النساء في الجنَّة والنَّار أكثر من الرجال.
الباب الثاني والثلاثون: في مَنْ يدخل الجنَّة من هذه الأمة بغير حسابٍ، وذكر أوصافهم.
الباب الثالث والثلاثون: في ذكر حثيات الرب عزَّ وجل الذين يدخلهم الجنَّة.
الباب الرَّابع والثلاثون: في ذكر تربة الجنَّة وطينها وحصبائها وبنائها (1) .
__________
(1) في “ب” “ونباتها”.

(1/19)


الباب الخامس والثلاثون: في ذكر نورها وبياضها.
الباب السادس والثلاثون: في ذكر غرفها وقصورها ومقاصيرها وخيامها.
الباب السابع والثلاثون: في ذكر معرفتهم بمنازلهم ومساكنهم إذا دخلوا الجنَّة، وإنْ (1) لم يروها قبل ذلك.
الباب الثامن والثلاثون: في كيفية دخولهم الجنَّة (2) وما يُستقبلون به عند دخولها.
الباب التاسع والثلاثون: في ذكر صفة أهل الجنَّة في خَلْقهم وخُلُقِهِم وطولهم وعرضهم ومقادير أسنانهم.
الباب الأربعون: في ذكر أعلى أهلِ الجنَّة منزلةً وأدناهم.
الباب الحادي والأربعون: في تحفة أهل الجنَّة أوَّل ما يدخلونها.
الباب الثاني والأربعون: في ذكر ريح الجنَّة، ومن مسيرة كم يوجد.
الباب الثالث والأربعون: في الأذان الَّذي يؤذن به المؤذن فيها.
الباب الرَّابع والأربعون: في أشجار الجنَّة وبساتينها وظلالها.
__________
(1) ليس في “هـ”.
(2) في “هـ”: “إلى الجنَّة”.

(1/20)


الباب الخامس والأربعون: في ذكر ثمارها وتعدد أنواعها وصفاتها.
الباب السادس والأربعون: في ذكر الزرع في الجنَّة.
الباب السَّابع والأربعون: في ذكر أنهار الجنَّة وعيونها وأصنافها ومجراها الَّذي تجري عليه.
الباب الثامن والأربعون: في ذكر طعام أهل الجنَّة وشرابهم ومصرفه.
الباب التاسع والأربعون: في ذكر آنيتهم التي يأكلون ويشربون فيها وأجناسها وصفاتها.
الباب الخمسون: في ذكر لباسهم وحليتهم وفرشهم وبسطهم وجنابذهم (1) ونمارقهم وزرابيهم (2) .
الباب الحادي والخمسون: في ذكر خيامهم وسررهم وأرائكهم وبشخاناتهم.
الباب الثاني والخمسون: في ذكر خَدَم أهل الجنَّة وغلمانهم.
الباب الثالث والخمسون: في ذكر نساء أهل الجنَّة وسراريهم وأصنافهنَّ وأوصافهنَّ وجمالهنَّ الظاهر والباطن.
__________
(1) ليس في “د”، والجنابذ: واحدها جُنْبُذَة: وهو ما ارتفع من الشيء واستدار كالقُبَّة. الصحاح (1/ 469).
(2) في “د، هـ”: زيادة “ومناديلهم ووسائدهم”.

(1/21)


الباب الرَّابع والخمسون: في ذكر المادة التي خلق منها الحور العين، وذكر صفاتهنَّ ومعرفتهنَّ اليوم بأزواجهنَّ.
الباب الخامس والخمسون: في ذكر نكاح أهل الجنَّة ووطئهم والتذاذهم بذلك، ونزاهته عن المذي والمني.
الباب السادس والخمسون: في ذكر (1) اختلاف النَّاس، هل في الجنَّة حملٌ وولادة أم لا؟ وحجة الفريقين.
الباب السابع والخمسون: في ذكر سماع الجنَّة وغناء الحور العين.
الباب الثامن والخمسون: في ذكر مطايا أهل الجنَّة وخيولهم ومراكبهم.
الباب التَّاسع والخمسون: في زيارة أهل الجنَّة بعضهم بعضًا ومذاكرتهم ما كان بينهم في الدنيا.
الباب الستون: في ذكر سوق الجنَّة وما أعدَّ اللَّهُ فيه لأهلها.
الباب الحادي والستون: في زيارة أهل الجنَّة ربهم تبارك وتعالى.
الباب الثاني والستون: في ذكر السحاب والمطر الَّذي يصيبهم في الجنَّة.
الباب الثالث والستون: في ذكر مُلْك الجنَّة، وأنَّ أهلها كلهم ملوك فيها.
__________
(1) من “ج”.

(1/22)


الباب الرَّابع والستون: في أنَّ الجنَّة فوق ما يخطر بالبال أو يدور في الخَلَد، وأنَّ موضع سوط منها خير من الدنيا وما فيها.
الباب الخامس والستون: في رؤية أهل الجنَّة ربهم تبارك وتعالى بأبصارهم جهرة كما يُرى القمر ليلة البدر، وتجليه لهم ضاحكًا (1) .
الباب السادس والستون: في تكليمه سبحانه لأهل الجنَّة وخطابه لهم ومحاضرته إيَّاهم وسلامه عليهم.
الباب السابع والستون: في أبدية الجنَّة أنَّها لا تفنى ولا تبيد.
الباب الثامن والستون: في ذكر آخر أهل الجنَّة دخولًا إليها.
الباب التاسع والستون: وهو بابٌ جامع، فيه فصول منثورة.
الباب السبعون: في المستحق لهذه البشارة دون غيره.
واللَّهُ سبحانه المسؤول أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، مُدْنيًا لمؤلفه وقارئه وكاتبه من جنَّات النَّعيم، وأن يجعله حُجَّة له، ولا يجعله حجة عليه، وأن ينفع به من انتهى إليه، إنَّه خيرُ مسؤول، وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل (2) .
__________
(1) قوله “وتجليه لهم ضاحكًا” ليس في “ج”.
(2) من قوله “واللَّه سبحانه وتعالى هو المسؤول” إلى “الوكيل” سقط من “ج”.

(1/23)


الباب الأوَّل: في بيانِ وجودِ الجنَّة الآن
لم يزل أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، والتابعون، وتابعوهم، وأهل السنَّة والحديث قاطبة، وفقهاء الإسلام، وأهل التصوف والزهدِ على اعتقاد ذلك وإثباته؛ مستندين في ذلك إلى نصوص الكتابِ والسنَّة، وما عُلِمَ بالضرورة من أخبار الرُّسل كلهم من أوَّلهم إلى آخرهم، فإنَّهم دعوا الأمم إليها، وأخبروا بها. إلى أنْ نبغت نابغة من القدرية (1) والمعتزلة (2) فأنكرت أنْ تكون الآن مخلوقة، وقالت: بل اللَّهُ ينشئها يومَ المعاد.
وحَمَلَهم على ذلك أصلهم الفاسد الَّذي وضعوا به شريعةً لِمَا (3) يفعله اللَّه تعالى، وأنَّه ينبغي له أنْ يفعلَ كذا، ولا ينبغي له أنْ يفعل كذا، وقاسوه على خلقه في أفعاله (4)، فهم مُشبِّهة في الأفعالِ، ودخل التجهُّم فيهم، فصاروا مع ذلك معطلة في الصفات. وقالوا: خَلْقُ الجنَّة قبل الجزاءِ عبث، فإنَّها تصير معطلة مُدَدًا متطاولة ليس فيها سكانها.
__________
(1) هم منكروا القَدَر.
(2) فرقةٌ ظهرت في عهد الحسن البصري، ثمَّ تطورت عقائدهم.
(3) في “د”: “فيما”.
(4) كذا في جميع النسخ، وجاء في “هـ” “أفعالهم” لكن ضرب عليها النَّاسخ وأثبت “أفعاله”.

(1/24)


وقالوا: ومن المعلوم أنَّ ملكًا لو اتخذ دارًا، وأعدَّ فيها ألوان الأطعمة والآلات والمصالح، وعطَّلها من النَّاسِ، ولم يُمَكِّنهم من دخولها قرونًا متطاولة = لم يكن ما فَعَلَهُ واقعًا على وجه الحكمة، ووجد العقلاء سبيلًا إلى الاعتراض عليه.
فحجروا على الربِّ تبارك وتعالى بعقولهم الفاسدة، وآرائهم الباطلة وشبَّهوا أفعاله بأفعالهم، وردوا من النصوص ما خالف هذه الشَّريعة الباطلة التي وضعوها للرب، أو حرَّفوها عن مواضعِها، وضلَّلوا وبدَّعوا من خالفهم فيها، والتزموا فيها لوازم أضحكوا عليهم فيها العقلاء.
ولهذا يذكر السلفُ في عقائدهم: أنَّ الجنَّة والنَّارَ مخلوقتان، ويذكر من صنَّف في المقالات أنَّ هذه مقالة أهل السنَّة، والحديث قاطبة لا يختلفون فيها (1) .
قال الإمام أبو الحسن الأشعري في كتاب “مقالات الإسلاميين، واختلاف المصلِّين” (2) : “جُملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنَّة: الإقرار باللَّه وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند اللَّه، وما رواهُ الثقات عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، لا يَرُدُّون من ذلك شيئا، واللَّه تعالى إلهٌ واحدٌ فردٌ صمد، لم يتخذ صاحبةً ولا ولدًا، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله،
__________
(1) انظر: “شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة” لِللالكائي: (3/ 1184)، “والشريعة” للآجري: (3/ 1343)، و”الرسالة الوافية” للدَّاني ص (195).
(2) (1/ 345 – 350) ط، مكتبة النهضة المصرية، تحقيق: محمد محيي الدِّين عبد الحميد.

(1/25)


وأنَّ الجنَّة حقٌّ، وأنَّ النَّارَ حق، وأنَّ السَّاعة آتيةٌ لا ريب فيها، وأنَّ اللَّه يبعث من في القبور.
وأنَّ اللَّهَ تعالى على عرشه، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5]، وأنَّ له يَدَيْن بلا كيف، كما قال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، وكما قال: {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، وأنَّ له عينين بلا كيف، كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]، وأنَّ له وجهًا، كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) } [الرحمن: 27].
وأنَّ أسماء اللَّه تعالى لا يقال: إنَّها غير اللَّه، كما قالت المعتزلة والخوارج، وأقرُّوا أنَّ للَّه عِلْمًا، كما قال: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166]، وكما قال: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11].
وأثبتوا السَّمع والبصر، ولم ينفوا ذلك عن اللَّه، كما تَنْفيه (1) المعتزلة، وأثبتوا للَّه القوَّة كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15].
وقالوا: إنَّه لا يكون في الأرضِ من خيرٍ ولا شر إلَّا ما شاء اللَّه، وإنَّ الأشياء تكون بمشيئة اللَّه، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]، وكما قال المسلمون: ما شاء اللَّه كان، وما لم يشأ لا يكون (2) .
وقالوا: إنَّ أحدًا لا يستطيع أنْ يفعل شيئًا قبل أنْ يفعله، أو يكون
__________
(1) في “ب، ج، د، هـ” “نَفَتْهُ”.
(2) في “ب، هـ” “وما لم يشأ لم يكن”، وفي المقالات “وما لا يشأ لا يكون”.

(1/26)


أحد يقدر أنْ يخرج عن علم اللَّه، أو أنْ يفعل شيئًا عَلِمَ اللَّهُ أنَّهُ لا يفعله.
وأَقَرُّوا أنَّه لا خالقَ إلَّا اللَّه (1) ، وأنَّ أعمال العباد يخلقها اللَّهُ، وأنَّ العباد لا يقدرون أنْ يخلقوا شيئًا.
وأنَّ اللَّهَ تعالى وفَّق المؤمنين لطاعته، وخذل الكافرين، ولطف بالمؤمنين، ونظرَ لهم، وأصلحهم، وهداهم، ولم يلطفْ بالكافرين، ولا أصلحهم، ولا هداهم، ولو أصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين.
وأنَّ اللَّهَ تعالى يقدر أنْ يصلح الكافرين، ويلطف بهم حتَّى يكونوا مؤمنين، ولكنَّه أراد أنْ يكونوا كافرين كما علم، وخذلهم وأضلَّهم، وطبع على قلوبهم.
وأنَّ الخيرَ والشَّرَّ بقضاء اللَّه (2) وقدره، ويؤمنون بقضاء اللَّه وقدره خيره وشرِّه، حُلْوه ومُره، ويؤمنون أنَّهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا إلَّا ما شاء اللَّهُ، كما قال، ويلجئون أمرهم إلى اللَّه، ويثبتون الحاجة إلى اللَّه في كلِّ وقتٍ، والفقر إلى اللَّهِ في كلِّ حال.
ويقولون: إنَّ القرآن كلام اللَّهُ غير مخلوق، والكلام في الوقف والَّلفظ من قال بالَّلفظ أو بالوقف فهو مبتدع عندهم، لا يقال: الَّلفظ بالقرآن مخلوق، ولا يقال: غير مخلوق.
__________
(1) في المقالات “وأنَّ سيئات العباد يخلقها اللَّه”، وهي ليست في جميع النسخ.
(2) في “ب” “بقضائه” بدلًا من “بقضاء اللَّه”.

(1/27)


ويقولون: إنَّ اللَّه تعالى يُرى بالأبصارِ يومَ القيامة، كما يُرى القمرُ ليلة البدر، ويراهُ المؤمنون، ولا يراهُ الكافرون؛ لأنَّهم عن اللَّه تعالى محجوبون، قال اللَّهُ تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) } [المطففين: 15]، وأنَّ موسى عليه السَّلام سأل اللَّهَ سبحانه وتعالى الرؤية في الدنيا، وأنَّ اللَّهَ تعالى تجلَّى للجبلِ فجعله دكًّا، فأعلمه بذلك أنَّهُ لا يراهُ في الدنيا، بل يراهُ في الآخرة.
ولا يكفِّرون أحدًا من أهل القبلة بذنبٍ يرتكبه، كنحو: الزِّنَى والسَّرقة، وما أشبه ذلك من الكبائر، وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون، وإنْ ارتكبوا الكبائرَ.
والإيمان -عندهم- هو الإيمان باللَّه وملائكته وكتبه ورسله، وبالقدر خيره وشرِّه، حلوه ومُرِّه، وأنَّ ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، وأنَّ ما أصابهم لم يكن ليُخطئهم.
والإسلام هو: أنْ يشهد أنْ لا إله إلَّا اللَّه، [وأنَّ محمدًا رسول اللَّه] (1) ، كما جاء في الحديث، والإسلام عندهم غير الإيمان.
ويُقِرُّونَ بأنَّ اللَّهَ مقلِّب القلوب.
ويُقِرُّون بشفاعة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأنَّها لأهل الكبائر من أُمَّتِهِ، وبعذاب القبرِ، وأنَّ الحوضَ حقٌ، والصراط حقٌّ، والبعثَ بعد الموتِ حقٌّ، والمحاسبة من اللَّه للعباد حقٌّ، والوقوف بين يدي اللَّه تعالى حقٌّ.
__________
(1) ما بين المعقوفتين من “مقالات الإسلاميين”.

(1/28)


ويقرون بأنَّ الإيمان: قولٌ وعمل، يزيد وينقص (1) ، ولا يقولون: مخلوق، ولا غير مخلوق.
ويقولون: أسماءُ اللَّه هي اللَّه تعالى.
ولا يشهدون على أحدٍ من أهل الكبائرِ بالنَّارِ، ولا يَحْكُمُون بالجنَّة لأحدٍ من المُوَحِّدين، حتَّى يكونَ اللَّه تعالى نزَّلهم (2) حيث شاء، ويقولون: أمرهم إلى اللَّه، إنْ شاء عذَّبهم، وإنْ شاء غفرَ لهم، ويؤمنون بأنَّ اللَّهَ تعالى يُخرج قومًا من المُوَحِّدين من النَّار، على ما جاءت به الروايات عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-.
وينكرون الجدَلَ والمِرَاء في الدِّين، والخصومة في القَدَرِ، والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل ويتنازعون فيه من دينهم، بالتَّسليم للروايات الصحيحة، ولِمَا جاءت به الآثار التي رواها الثقات، عَدْلًا عن عدل، حتَّى ينتهي ذلك إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا يقولون: كيف؟ ولا: لِمَ؛ لأنَّ ذلك بِدْعَة.
ويقولون: إنَّ اللَّه تعالى لم يأمر بالشَّرِّ، بل نهى عنه، وأمرَ بالخيرِ، ولم يَرْضَ بالشَّرِّ، وإنْ كان مريدًا له.
ويعرفون حقَّ السَّلف الَّذين اختارهم اللَّهُ تعالى لصحبة نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويأخذون بفضائِلهم، ويُمْسِكُون عمَّا شجرَ بينهم صغيرهم وكبيرهم، ويُقَدِّمُون أبا بكر، ثمَّ عمر، ثمَّ عثمان، ثمَّ عليًّا رضي اللَّهُ عنه، ويُقِرُّون
__________
(1) في “ب”: “يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية”.
(2) في المقالات “ينزلهم”.

(1/29)


بأنَّهم الخلفاء الرَّاشدون المهديون، وأنَّهم أفضلُ النَّاسِ كلِّهم بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-.
ويُصَدِّقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- “إنَّ اللَّهَ ينزلُ إلى السَّماءِ الدنيا فيقول: هل من مستغفرٍ؟ ” (1) ، كما جاء في الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويأخذون بالكتاب والسنَّة، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59].
ويرون اتباع منْ سلف من أئمة الدِّين، وأنْ لا يتبعون (2) في دينهم ما لم يأذن به اللَّه، ويُقرون أنَّ اللَّه تعالى يجيء يوم القيامة، كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) } [الفجر: 22]، وأنَّ اللَّه تعالى يَقْرُبُ من خلقه كيف شاء، كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) } [ق: 16].
ويَرَوْن العيد والجمعة والجماعة خلف كلِّ إمامٍ، برٍّ وفاجر.
ويُثْبِتون أنَّ المَسْحَ على الخُفَّين سُنَّة، ويرونه في الحضَرِ والسَّفَر.
ويثبتون فرضَ الجهاد للمشركين منذ بعثَ اللَّهُ نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى آخر عصابة تُقاتل الدَّجَّال، وبعد ذلك.
وَيَرَوْنَ الدُّعَاءَ لأئمة المسلمين بالصَّلاحِ، وأنْ لا يُخْرَج (3) عليهم بالسَّيف، وأنْ لا يقاتلوا في الفتنة.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، رقم (1094)، ومسلم رقم (758) واللفظُ له.
(2) في المقالات “يبتدعوا”.
(3) في المقالات “يَخْرُجُوا”.

(1/30)


ويُصَدِّقون بخروج الدَّجَّال، وأنَّ عيسى بن مريم -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقْتُلُه.
ويؤمنون بمُنْكَرٍ وَنَكِيْرٍ، والمعراج، والرُّؤيا في المنامِ، وأنَّ الدعاء لموتى المسلمين والصدقة عنهم بعد موتهم تَصِلُ إليهم، ويصدقون أنَّ في الدنيا سَحَرَة، وأنَّ السَّاحر كافر، كما قال اللَّه تعالى، وأنَّ السَّحْر كائنٌ موجودٌ في الدنيا.
وَيَرَوْنَ الصلاة على كلِّ مَنْ مات من أهل القبلة مؤمنهم (1) وفاجرهم، ويقرون أنَّ الجنَّة والنَّارَ مخلوقتان.
وأنَّ من ماتَ ماتَ بأجله، وكذلك من قُتِلَ قُتِلَ بأجله.
وأنَّ الأرزاق من قِبَل اللَّه تعالى يرزقها عباده حلالًا كانت أو حرامًا.
وأنَّ الشيطان يوسوس للإنسان، ويشككه ويخبَّطه (2) .
وأنَّ الصالحين قد يجوز أنْ يَخُصَّهم اللَّه تعالى بآياتٍ تَظْهَرُ عليهم.
وأنَّ السُّنَّة لا تُنْسَخُ بالقرآن.
وأنَّ الأطفال أمرهم إلى اللَّهِ: إنْ شاء عذَّبهم، وإنْ شاء فعل بهم ما أراد.
وأنَّ اللَّه تعالى عالمٌ ما العبادُ عاملون، وكتب أنَّ ذلك يكون، وأنَّ
__________
(1) في المقالات “بَرِّهم”.
(2) في المقالات “ويتخبَّطه”.

(1/31)


الأمورَ بيدِ اللَّهِ تعالى.
ويرون الصبرَ على حكم اللَّه، والأخذ بما أمر اللَّه تعالى به، والانتهاء عمَّا نهى اللَّه عنه، وإخلاصَ العمل، والنصيحة للمسلمين، ويدينون بعبادة اللَّه في العابدين، والنصيحة لجماعة المسلمين، واجتناب الكبائر، والزنى، وقول الزور، والعَصَبيَّة (1) ، والفَخْر، والكِبْر، والإزراء على النَّاس، والعُجْب (2) .
ويرون مجانبة كل داعٍ إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن، وكتابة الآثار، والنَّظر في الفقه مع التواضع والاستكانة، وحُسن الخلق، وبذل المعروف، وكفِّ الأذى، وترك الغيبة والنميمة والسِّعاية، وتَفَقُّد المأكلِ والمشربِ.
فهذه جملةُ ما يأمرون به، ويستعملونه، ويرونه، وبكلِّ ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلَّا باللَّهِ، وهو حسبنا ونعم الوكيل (3) ، وبه نستعين، وعليه نتوكلُ، وإليه المصير”.
والمقصود حكايته عن جميع أهل السنَّة والحديث: أنَّ الجنَّة والنَّار مخلوقتان، وسُقْنَا جملة كلامه ليكون الكتاب والسنَّة مُؤَسَّسًا على معرفة من يستحقُّ البِشَارة المذكورة، وأنَّ أهل هذه المقالة هم أهلها، وباللَّه التوفيق.
__________
(1) من “هـ” والمقالات، وفي باقي النسخ “والمعصية”.
(2) سقط من “د”.
(3) قوله “ونعم الوكيل” ليس في “ب، د”.

(1/32)


وقد دلَّ على ذلك من القرآن: قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) } [النجم: 13 – 15].
وقد رأى النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سِدرَة المنتهى (1) ، ورأى عندها الجنَّة، كما في “الصحيحين” من حديث أنس -رضي اللَّه عنه- في قصة الإسراء وفي آخره: “ثُمَّ انطلق بي جبريل حتَّى أتى سِدْرَةَ المنتهى، فغشيها ألوانٌ لا أدري ما هي؟ قال: ثُمَّ أُدْخِلْتُ الجنَّة، فإذا فيها جَنابذُ الَّلؤلؤ، وإذا ترابها المسكُ” (2) .
وفي “الصحيحين” (3) من حديث عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنهما- أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ أحدكم إذا ماتَ عُرِضَ على (4) مقعده بالغداة والعَشِيِّ، إنْ كانَ من أهل الجنَّة فمن أهل الجنَّة، وإنْ كان من أهل النَّارِ فمن أهل النَّارِ، فيُقال: هذا مقعدك حتَّى يبعثك اللَّه يومَ القيامة (5) “.
وفي “المسند” و”صحيح الحاكم” و”ابن حبان” وغيرهم من حديث البراء بن عازب -رضي اللَّه عنه- قال: خرجنا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في جَنَازة رجلٍ من الأنصارِ -فذكر الحديث بطوله- وفيه: “فينادي مناد
__________
(1) قوله: “سدرة المنتهى” ليس في “ب”.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (3164)، ومسلم برقم (163)، واللفظ للبخاري.
(3) أخرجه البخاري رقم (1313)، ومسلم رقم (2866).
(4) في “هـ”: “عليه”.
(5) قوله “يوم القيامة” ليس في “ب”.

(1/33)


من السَّماءِ: أنْ صَدَقَ عبدي، فأفرشوهُ من الجنَّة، وألبسوهُ من الجنَّة، وافتحُوا له بابًا إلى الجنَّة، قال: فيأتيه من رَوْحِها وطيبها” (1) ، وذكر الحديث.
وفي “الصحيحين” (2) من حديث أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ العبدَ إذا وُضِعَ في قبره، وتولَّى عنه أصحابه، وإنَّه ليسمع قَرْعَ نعالِهم قال: فيأتيه ملكان فيقعدانه، فيقولان له: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجل؟ قال: فأمَّا المؤمنُ فيقول: أشهدُ أنَّه عبدُ اللَّهِ ورسوله، قال: فيقولان له: انظر إلى مقعدك من النَّارِ، قد أبدلك اللَّه به مقعدًا من الجنَّة. قال نبيُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فيراهما جميعًا”.
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (4/ 287، 288، 295، 297)، وأبو داود (3212، 4753، 4754) والنسائي (4/ 78)، وابن ماجه (1548) و (1549) والحاكم (1/ 93) رقم (107) وأبو عوانة كما في “إتحاف المهرة” (2/ 459)، وابن منده في الإيمان (1064)، والبيهقي في إثبات عذاب القبر رقم (21) و (43) وغيرهم.
من طريق زاذان عن البراء بن عازب فذكره.
والحديث صحَّحه: أبو عوانة وابن منده والحاكمُ والبيهقي وابن القيم وغيرهم.
قال ابن القيم في الروح ص (91): “هذا حديث ثابتٌ مشهورٌ مُسْتفيض، صححه جماعة من الحفاظ، ولا نعلمُ أحدًا من أئمة الحديث طعن فيه، بل رووه في كتبهم وتلقوه بالقبول، وجعلوه أصلًا من أصول الدِّين في عذاب القبر ونعيمه، ومساءلة منكر ونكير، وقبض الأرواحِ وصعودها إلى بين يدي اللَّهِ، ثمَّ رجوعها إلى القبر. . . “.
(2) أخرجه البخاري برقم (1308)، ومسلم برقم (2870)، واللفظ لمسلم.

(1/34)


وفي “صحيح أبي عوانة الإسْفَراييني” و”سنن أبي داود” من حديث البراء بن عازب الطويل في قبض الرُّوح: “ثمَّ يُفتح له بابٌ من الجنَّة، وبابٌ من النَّارِ، فيُقال: هذا كان منزلك لو عصيتَ اللَّه أبدلك اللَّهُ به هذا، فإذا رأى ما في الجنَّة قال: ربِّ عجِّل قيامَ السَّاعة كَيْمَا أرجعُ إلى أهلي ومالي، فيُقال: اسْكن” (1) .
وفي “مُسند البزَّار” وغيره من حديث أبي سعيد رضي اللَّه عنه قال: شهدنا مع النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جَنازةً، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أيُّها النَّاسُ، إنَّ هذه الأُمَّة تُبْتَلى في قبورها، فإذا دُفِنَ الإنسانُ وتفرَّق عنه أصحابه، جاءهُ مَلكٌ في يده مِطْرَاقٌ فأقعده فقال: ما تقولُ في هذ الرجل؟ -يعني محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- فإنْ كان مؤمنًا، قال: أشهدُ أنَّ لا إلهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، فيقولون (2) : صدقت، ثمَّ يُفتح له بابٌ إلى النَّارِ فيقولون: هذا كان منزلَك لو كفرت بربك، فأمَّا إذْ آمنت به فهذا منزلك، فيُفتحُ له بابٌ إلى الجنَّة فيريدُ أنْ ينهض إلى الجنَّة فيقولون: اسْكن” (3) وذكر الحديث.
__________
(1) أخرجه أبو عوانة في صحيحه كما في إتحاف المهرة لابن حجر (2/ 459)، وأبو داود برقم (4753).
ولعلَّ هذا لفظ أبي عوانة في صحيحه، والحديث تقدَّم الكلام عليه مختصرًا.
(2) كذا في جميع النسخ “فيقولون”، وكذا ما بعده، وفي مصادر التخريج “فيقول”.
(3) أخرجه أحمد (3/ 3 – 4) والبزَّار كما في “كشف الأستار” رقم (872)، وابن أبي عاصم في “السنَّة” رقم (865)، والطبري في تفسيره (13/ 214)، =

(1/35)


وفي “صحيح مسلم” (1) عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: خَسَفَتِ الشمسُ في حياةِ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فذكرت الحديث إلى أنْ قالت:- ثمَّ قام فخطب النَّاسَ، فأثنى على اللَّهِ بما هو أهله، ثمَّ قال: “إنَّ الشمس والقمر آيتان من آيات اللَّه تعالى، لا يخْسفان لموتِ أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصَّلاة”.
وقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “رأيتُ في مقامي هذا كلَّ شيءٍ وُعِدْتُم، حتَّى لقد رأيتني آخذ قِطْفًا من الجنَّة حين رأيتموني أُقَدِّمُ، ولقد رأيتُ جهنَّم يَحْطِمُ بعضُها بعضًا حين رأيتموني تأخَّرْتُ”.
وفي “الصحيحين” (2) -واللفظ للبخاري- عن عبد اللَّه بن عباس
__________
= والبيهقي في “إثبات عذاب القبرِ” رقم (31).
من طريق عبَّاد بن راشد البصري عن داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري فذكره.
وقد تفرَّد به عباد -وهو صدوقٌ له أوهام- عن خاله داود بن أبي هند مرفوعًا.
قال البزَّارُ: “لا نعلمهُ عن أبي سعيد إلَّا بهذا الإسنادِ، وهذا من أغربِ ما كان يُسْأَلُ عنه الحسين وابن معمر”.
وقد خولف عباد، خالفه مسلمة بن علقمة فأوقفه.
فرواه عن داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: فذكر نحوًا من حديث عباد بن راشد ولم يرفعه.
أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في “السنَّة” رقم (1460).
ولعلَّ الموقوف أشبه.
(1) رقم (901)، وهو عند البخاري أيضًا رقم (997 و 1154).
(2) أخرجه البخاري رقم (358)، ومسلم رقم (907).

(1/36)


قال: انخسفت الشمسُ على عهد النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فذكر الحديث وفيه – فقال: “إنَّ الشمسَ والقمر آيتان من آيات اللَّه، لا يخسفان لموتِ أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا اللَّه، فقالوا: يا رسول اللَّه رأيناكَ تناولتَ شيئًا في مقامك، ثمَّ رأيناك تكعكعت (1) ، فقال: إنِّي رأيت الجنَّة، وتناولتُ عنقودًا، ولو أصبتُه لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، وأُرِيتُ النَّارَ، فلم أرَ منظرًا كاليومِ قطُّ أفظعَ، ورأيتُ أكثرَ أهلها النساء، قالوا: بِمَ يا رسول اللَّه؟ قال: بَكُفْرِهنَّ. قيل: أيكفرن باللَّه؟ قال: يَكفرنَ العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنتَ إلى إحداهنَّ الدهرَ كلَّه، ثمَّ رأتْ منك شيئًا، قالت: ما رأيت منْكَ خيرًا قطُّ”.
وفي “صحيح البخاري” (2) عن أسماء بنت أبي بكر رضي اللَّه عنهما عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في صلاة الكسوف، قال: “قد دَنَتْ منِّي الجنَّة، حتَّى لو اجترأتُ عليها لجئتكم بقطافٍ من قطافها، ودنت منِّي النَّارُ حتَّى قُلتُ: أي ربِّ، وأنا معهم؟ فإذا امرأةٌ -حسِبْتُ أنَّه قال:- تَخدشها هِرَّةٌ، قلتُ: ما شأن هذه؟ قالوا: حَبَستْها حتَّى ماتت جوعًا، لا أطعمتها ولا أرسلتها تأكل”.
وفي “صحيح مسلم” (3) من حديث جابر رضي اللَّه عنه في هذه القصة قال: “عُرِضَ عليَّ كلُّ شيءٍ تُولجونه (4) ، فعُرِضَتْ عليَّ الجنَّة
__________
(1) تكعكع: هاب وتراجع بعدما أقدم. المعجم الوسيط ص (826).
و”تكعكعت” من رواية الكشميهني، كما في الفتح (2/ 541).
(2) رقم (712).
(3) رقم (904) – (9).
(4) في “د” وفي نسخةٍ على حاشية “ب، ج”: “تُوْعَدُونه” بدلًا من “تولجونه”.

(1/37)


حتَّى تناولتُ منها قطفًا فقصُرتْ يدي عنه، وعُرِضَتْ عليَّ النَّارُ، فرأيتُ فيها امرأةً من بني إسرائيل تُعَذَّبُ في هِرَّةٍ لها” وذكر الحديث.
وفي “صحيح مسلم” (1) عنه في هذا الحديث: “ما من شيء تُوْعَدُوْنَهُ إلَّا قد رأيتُه في صلاتي هذه، لقد جيء بالنَّارِ، وذلك حين رأيتموني تأخرتُ مخافةَ أنْ يصيبني من لَفْحِها، وحتَّى رأيتُ فيها صاحب المِحْجَنِ يجرُّ قُصْبَه في النَّارِ، وكان يسرقُ الحاجَ بِمِحْجَنِه، فإنْ فُطِنَ له قال: إنَّما تَعَلَّقَ بمحجني، وإنْ غُفِل عنه ذهب به، وحتَّى رأيتُ فيها صاحبة الهِرَّة التي ربطتها؛ فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، حتَّى ماتت جوعًا، ثمَّ جيء بالجنَّة، وذلكم حين رأيتموني تقدمت حتَّى قمت في مقامي، ولقد مددتُ يدي -وأنا أريدُ أنْ أتناولَ من ثمرها لتنظروا إليه- ثمَّ بدا لي أنْ لا أفعل، فما من شيءٍ توعدونه إلَّا قد رأيته في صلاتي هذه”.
وفي “مسند الإمام أحمد” و”سنن أبي داود” و”النسائي” من حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما في هذه القصة: “والَّذي نفسُ محمدٍ بيده لقد أُدْنِيَت الجنَّةُ مِنِّي، حتَّى لو بَسَطْتُ يدي لتعاطيتُ من قطوفها، ولقد أُدْنِيت النَّارُ منِّي حتَّى لقد جعلتُ أتَّقِيْها خشيةَ أنْ تغشاكم” وذكر الحديث (2) .
__________
(1) رقم (904) – (10).
(2) أخرجه أحمد (2/ 188 و 198)، وأبو داود رقم (1194)، والترمذي في الشمائل رقم (324)، والنسائي (3/ 137) رقم (1482) واللفظ له، وابن خزيمة في صحيحه رقم (1392 و 1393)، وابن حبان في صحيحه =

(1/38)


وفي “صحيح مسلم” (1) من حديث أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: بينما رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذاتَ يومٍ، إذْ أُقيمت الصلاةُ فقال: “أيُّها النَّاسُ، إنِّي إمَامُكم، فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود، ولا بِرَفْعِ رؤوسكم؛ فإنِّي أراكم من أمامي ومن خلفي، وأيمُ (2) الَّذي نفسي بيده، لو رأيتم ما رأيتُ لضحكتم قليلًا، وبكيتم (3) كثيرًا، قالوا: وما رأيت يا رسول اللَّه؟ قال: رأيتُ الجنَّة والنَّار”.
وفي “الموطأ” و”السنن” من حديث كعب بن مالك قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّما نَسَمَةُ المؤمن طَيرٌ تعلقُ في شجر الجنَّة حتَّى يرجعها اللَّه إلى جسده يوم القيامة” (4) .
__________
= (7/ رقم 2839)، والحاكم (1/ 478) رقم (1229) وغيرهم مختصرًا ومطوَّلًا.
والحديث صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وهو كما قالوا.
(1) رقم (426).
(2) ليست في “هـ” ولا في “صحيح مسلم”.
(3) من (أ). وفي باقي النسخ، وحاشية “أ”، وصحيح مسلم “ولبكيتم”.
(4) أخرجه مالك في “الموطأ” رقم (643)، وابن ماجه (4271)، والنسائي (4/ 108)، وأحمد (3/ 455 و 456) واللفظ له، والطبراني (19/ 65) وغيرهم.
من طريق مالك ومعمر ويونس وشعيب والأوزاعي كلهم عن الزهري حدثني عبد الرحمن بن كعب عن أبيه كعب بن مالك فذكره.
وسنده صحيح، وصححه ابن حبان، لكن وقع فيه اختلاف في سنده ومتنه، وخلاصته:
أمَّا السندُ: فطريق مالك ومن تابعه أرجحها.
وأمَّا المتنُ: فسيأتي في الحديث الآتي. =

(1/39)


وهذا صريحٌ في دخول الروح الجنَّة (1) قبل يوم القيامة (2) .
ومثله حديث كعب بن مالك رضي اللَّه عنه أيضًا عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ أرواح الشهداء في طيْرٍ خُضرٍ تعلقُ من ثمر الجنَّة -أو شجر الجنَّة-” (3) رواهُ أهل السُّنن، وصحَّحه الترمذي.
وسيأتي في آخر هذا الكتاب في الباب الَّذي يذكر فيه دخول أرواح المؤمنين الجنَّة قبل يوم القيامة، تمامُ هذه الأحاديث إنْ شاء اللَّهُ تعالى، وذكر دلالة القرآن على ما دلَّت عليه السُّنة من
__________
= انظر: التمهيد لابن عبد البر (11/ 56 – 58)، وكلام محقق كتاب “الجهاد” لابن أبي عاصم (2/ 521 – 527).
(1) من قوله “حتى يرجعها اللَّهُ” إلى “الجنَّة” سقط من “ج”.
(2) جاء في “هـ” ونسخة على حاشية “أ”: “ورواه الإمام أحمد والشافعي في مسنديهما، رضوان اللَّهِ عليهما”.
(3) أخرجه الترمذي برقم (1640)، وأحمد (6/ 386)، وابن أبي عاصم في “الجهاد” رقم (202)، وابن عبد البر في التمهيد (11/ 60) من طريق أحمد وابن أبي عمر وابن كاسب عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن الزهري عن ابن كعب عن أبيه، فذكره.
وخالفهم الحميدي -في مسنده (2/ 385) – في متنه، فوافق الجماعة.
فرواه عن ابن عيينة عن عمرو به، فذكره بلفظ: “نسمة المؤمن” بدلًا من لفظ “أرواح الشهداء. . . “.
ولعلَّ الوهم من ابن عيينة أو من عمرو بن دينار.
فإنَّ الحديث رواه مالك ويونس وعقيل والليث والأوزاعي وشعيب ومعمر وغيرهم كلهم عن الزهري به باللفظ المتقدم “نسمة المؤمن. . . ” وهذا اللفظ أصحُّ وأثبت.
والحديث صححه الترمذي بقوله: “هذا حديثٌ حسنٌ صحيح”.

(1/40)


ذلك (1) .
وفي “صحيح مسلم” و”السنن” و”المسند” من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “لما خلقَ اللَّهُ تعالى الجنَّة والنَّار، أرسلَ جبريلَ إلى الجنَّة فقال: اذهب فانظر إليها، وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فذهبَ فنظر إليها وإلى ما أعدَّ اللَّهُ لأهلها فيها، فرجع فقال: وعزَّتك لا يسمعُ بها أحدٌ إلَّا دخلها، فأمر بالجنَّة فحُفَّت بالمكاره، فقال: فارجع فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فنظر إليها، ثمَّ رجعَ فقال: وعزَّتك لقد خشيتُ أنْ لا يدخلها أحد، قال: ثمَّ أرسله إلى النَّارِ قال: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فنظر إليها فإذا هي يركبُ بعضها بعضًا، ثمَّ رجع فقال: وعزَّتك لا يدخلها أحد سمع بها، فأمر بها فحُفَّتْ بالشَّهَوَات ثمَّ قال: اذهب فانظر إلى ما أعددتُ لأهلها فيها، فذهب فنظر إليها، فرجع فقال: وعزَّتك (2) لقد خشيتُ أنْ لا ينجو منها أحدٌ إلَّا دخلها” (3) .
قال الترمذي: “هذا حديثٌ حسنٌ صحيح”.
__________
(1) لم يذكر المؤلف ذلك في آخر هذا الكتاب، فلعله ذهل عنه.
(2) من قوله: “لا يدخلها أحدٌ سمع بها” إلى “وعزَّتك” سقط من “ج”.
(3) أخرجه الترمذي رقم (2560)، وأبو داود رقم (4744)، والنسائي (7/ 3)، وأحمد (2/ 332 – 333 و 354 و 373) وغيرهم.
من طريق: محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة فذكره.
والحديث صحَّحه الترمذي كما نقل المصنِّف عنه.
تنبيه: لم يخرج مسلم هذا الحديث في صحيحه.

(1/41)


وفي “الصحيحين” (1) من حديث أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه: “حُجِبت الجنَّة بالمكاره، وحُجِبَتِ النَّارُ بالشهوات”.
وفي “الصحيحين” (2) من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “اختصمت الجنَّة والنَّارُ، فقالت الجنَّة يا ربِّ مالها إنَّما يدخلها ضُعَفَاءُ النَّاس وسَقَطُهُم؟ وقالت النَّارُ: يا رب ما لها يدخلها الجبَّارون والمتكبرون؟ فقال: أنت رحمتي أصيبُ بكِ مَنْ أشاءُ، وأنت عذابي أصيبُ بكِ من أشاءُ، ولكلِّ واحدةٍ منكما ملؤها”.
وفي “الصحيحين” (3) من حديث (ابن عمر رضي اللَّه عنهما) (4) عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: “اشْتكتِ النَّارُ إلى ربِّها فقالت: أي ربِّ أكلَ بعضي بعضًا، فأذنَ لها بنَفَسَين: نفسٍ في الشِّتاء، ونفسٍ في الصَّيف”.
وروى الَّليثُ بن سعد عن معاوية بن صالح عن عبد الملك بن أبي بشير -رفع الحديث- قال: “ما من يوم إلَّا والجنَّة والنَّار يسألان، تقولُ الجنَّة: يا ربِّ قد طابت ثمرتي، واطَّردت (5) أنهاري، واشْتَقْتُ إلى أوليائي، فعجِّل إليَّ بأهلي، وتقول النَّارُ: اشتدَّ حرِّي، وبَعُدَ قَعْري،
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (6122)، ومسلم رقم (2823).
(2) أخرجه البخاري رقم (7011)، ومسلم رقم (2846)، واللفظ للبخاري.
(3) أخرجه البخاري رقم (512)، ومسلم رقم (617) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(4) كذا في جميع النسخ، والصوابُ (أبي هريرة رضي اللَّه عنه).
(5) أي: جَرَتْ. انظر: الصحاح (1/ 427).

(1/42)


وعظُمَ جَمْري، فعجِّل إليَّ بأهلي (1) ” (2) .
وفي “صحيح البخاري” (3) من حديث أنس رضي اللَّه عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “بَيْنَمَا أنا أسيرُ في الجنَّة، وإذا بنهرٍ في الجنَّة حافتاهُ قباب الدرِّ المجوف، قال: قلتُ: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثرُ الَّذي أعطاك ربُّك، فضرب المَلَك بيده فإذا طِيْنُه مِسْك أَذْفَر (4) “.
وفي “صحيح مسلم” (5) من حديث جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما قال: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “دخلتُ الجنَّة فرأيت فيها قصرًا ودارًا فقلتُ: لمن هذا؟ فقيل: لرجلٍ من قريش، فرجوتُ أنْ أكون أنا هو، فقيل لعمر بن الخطاب، فلولا غيرتُك يا أبا حفص
__________
(1) من قوله: “وتقول النَّارُ” إلى “بأهلي” سقط من “ج”.
(2) أخرجه البيهقي في البعث والنشور برقم (192) من طريق أبي العلاءِ الحسن بن سوار عن الليث به مثله.
وأخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة برقم (85) من طريق عبد اللَّه بن صالح عن معاوية بن صالح به مختصرًا.
والحديث معضل، فإنَّ عبد الملك بن أبي بشير البصري، ثقة من أتباع التابعين.
انظر: تهذيب الكمال (18/ 287 – 288).
(3) رقم (6210).
(4) قال عبد الملك بن حبيب السلمي في وصف الفردوس ص (7): “والأذفر: “الشديد الطيب الرائحة التي تكاد رائحته تَعُمُّ من شدَّةِ فيْحها وريحها”.
(5) أخرجه البخاري رقم (6621)، ومسلم رقم (2394)، واللفظُ الَّذي ساقه المؤلفُ مُدْمَج من البخاري ومسلم.

(1/43)


لدخلته، قال: فبكى عمر، وقال: أَوَيُغَار عليك يا رسول اللَّه؟
وسيأتي حديث بلال، وقول النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “ما دخلتُ الجنَّة إلَّا سمعتُ خشخشتك (1) بين يديَّ” (2) وغير ذلك من الأحاديث التي تأتي إنْ شاء اللَّه تعالى (3) .
وقال عبد اللَّه بن وهب: حدثنا معاوية بن صالح عن عيسى بن عاصم عن زرٍّ بن حُبَيْش عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: صلَّى بنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذات يوم صلاة الصبح، ثمَّ مدَّ يده، ثمَّ أخرها، فلمَّا سلَّم قيل له: يا رسول اللَّه، لقد صنعت في صلاتك شيئًا لم تصنعه في غيرها، قال: إنِّي أُرِيْتُ (4) الجنَّة فرأيتُ فيها دالية (5) ، قُطُوفها دانية،
__________
(1) الخشخشة: صَوْت السلاح وغيره، إذا حُرِّكَ.
انظر: الصحاح (1/ 791)، والمعجم الوسيط ص (258).
(2) أخرجه أحمد في المسند (5/ 354 و 360)، والترمذي برقم (3689)، وابن خزيمة رقم (1209)، وابن حبان (15/ رقم 7086 و 7087)، والحاكم (3/ 322) رقم (5245).
من حديث بريدة بن الحصيب رضي اللَّه عنه.
قال الترمذي: “هذا حديث حسن صحيح غريب”.
والحديث صححه أيضًا: ابن خزيمة وابن حبان والحاكم.
وله شاهد: من حديث جابر عند مسلم برقم (2457)، وفيه: “. . ثمَّ سمعتُ خَشْخشَة أمامي، فإذا بلال”.
(3) انظر: ص (235).
(4) في نسخةٍ على حاشية “أ”: “رأيت”.
(5) الدَّالية، جمعها دوالي: عنبٌ أسود غير حالك، وعناقيده أعظم العناقيد كلها. . . المعجم الوسيط ص (318).

(1/44)


حَبُّها كالدُّباءِ، فأردتُ أنْ أتناول منها، فأُوحي إليها أنِ اسْتأخري، فاستأخرت، ثمَّ أُريت (1) النَّارَ فيما بيني وبينكم، حتَّى لقد رأيت ظلَّي وظلكم، فأومأتُ إليكم أنِ استأخروا فأوحي إليَّ أقِرَّهم (2) ، فإنَّك أسْلَمْتَ وأسلموا، وهاجرت وهاجروا، وجاهدت وجاهدوا، فلم أرَ لي عليكم فضلًا إلَّا بالنبوة” (3) .
فإنْ قيل: ما منعكم (4) من الاحتجاج على وجودها (5) الآن بقصة (6) آدم، ودخوله الجنَّة وإخراجه منها بأكله من الشجرة، والاستدلال بها في غاية الظهور؟!
قيل: الاستدلال بذلك وإنْ كان عند العامة في غاية الظهور، فهو في غاية الغموض؛ لاختلاف النَّاس في الجنَّة التي أسكنها آدم، هل كانت جنَّةَ الخُلْدِ التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة؟ أو كانت جنَّةً في الأرضِ في
__________
(1) في “ج”: “رأيت”.
(2) في “ب، د”: “أن أقرَّهم”.
(3) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (2/ رقم 892)، وأبو عوانة في صحيحه كما في “إتحاف المهرة لابن حجر”: (2/ 13)، والحاكم في مستدركه (4/ 503) رقم (8408)، وأبو نعيم في “صفة الجنَّة” رقم (349) مختصرًا، والضياء المقدسي في المختارة (6/ 138) رقم (2136).
والحديث صححه ابن خزيمة وأبو عوانة والحاكمُ والضياء المقدسي.
(4) في نسخة على حاشية “د” “معكم”، وفي حاشية “أ” “فما منعكم”.
(5) في “أ”: “دخولها”.
(6) في نسخةٍ على حاشية “أ”: “بمعصية”.

(1/45)


شَرْقِيِّها؟ ونحن نذكر من قال بهذا ومن قال بهذا، وما احتج به كلُّ فريقٍ على قولهم، وما ردَّ به الفريقُ الآخر عليهم، بحول اللَّه وقوَّته.

(1/46)


الباب الثاني في اختلاف النَّاسِ في الجنَّة التي أُسكِنَها آدم، وأُهْبِطَ منها (1)، هل هي جنَّة الخلد، أو جنَّة (2) أخرى غيرها في موضع عالٍ من الأرضِ (3)؟
قال منذر بن سعيد (4) في “تفسيره”:
“وأمَّا قوله تعالى لآدم: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35].
فقالت طائفة: أسكن اللَّه آدم جنة الخلد التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة.
وقال آخرون: هي جنَّة غيرها جعلها اللَّهُ له وأسكنه إيَّاها، ليست جنَّة الخلد.
__________
(1) قوله: “وأهبط منها” ليس في “ب”.
(2) في “د”: “أم هي جنة”.
(3) في “ب”: “أو جنة في الأرض” بدلًا من “أم جنة أخرى غيرها في موضعٍ عالٍ من الأرضِ”.
(4) وهو منذر بن سعيد بن عبد اللَّهِ أبو الحكم البُلُّوطي، ولد 273 هـ، كان متفننًا في ضروب العلمِ تفسيرًا وفقهًا ولغةً وأدبًا، وكان أخطبَ أهل زمانه، منحرفًا إلى مذهب أهل الكلام، له التفسير والنَّاسخ والمنسوخ وغيرها، توفي سنة (355 هـ).
انظر: “تاريخ علماء الأندلس” لابن الفرضي رقم (1454)، و”طبقات المفسرين” للداوودي (2/ 336 – 337).

(1/47)


قال: وهذا قولٌ يكثر الدَّلائل الشَّاهدة له، والموجبة للقول به” (1) .
وقال أبو الحسن الماوردي في “تفسيره”:
“واختلف النَّاسُ في الجنَّة التي أُسكِنَاها على قولين:
أحدهما: أنَّها جنَّة الخلد.
الثاني: أنَّها جنَّة أعدَّها اللَّهُ تعالى لهما (2) ، وجعلها دار ابتلاء، وليست جنَّة الخلد التي جعلها دار جزاء.
ومن قال بهذا اختلفوا (3) على قولين:
أحدهما: أنَّها في السَّماء؛ لأنَّه أَهْبَطَهُمَا منها، وهذا قول الحسن.
الثاني: أنَّها في الأرضِ؛ لأنَّه امتحنهما فيها بالنَّهي عن الشجرة التي نُهيا عنها دون غيرها من الثمار، وهذا قول ابن بحر (4) .
وكان ذلك بعد أنْ أُمِرَ إبليس بالسجود لآدم عليه السَّلام، واللَّه أعلمُ
__________
(1) نقله المؤلفُ في مفتاح دار السعادة عنه (1/ 11).
(2) إلى هنا ينتهي كلام الماوردي من المطبوع (1/ 104)، فلعلَّ ما بعده سقط من الطباعة، أو للمؤلف نسخة أخرى.
(3) في “ب، د، هـ”: “اختلفوا فيه”.
(4) هو محمد بن بحر الأصبهاني، قال ابن بابويه: كان على مذهب المعتزلة، ووجهًا عندهم، صنَّف لهم التفسير، وتوفي سنة (322 هـ).
انظر: “لسان الميزان”: (5/ 96)، و”طبقات المفسرين” للداوودي: (2/ 109 – 110).

(1/48)


بصواب ذلك” هذا كلامه.
وقال ابن الخطيب (1) في “تفسيره” المشهور:
“واختلفوا في الجنَّة المذكورة في هذه الآية، هل كانت في الأرضِ أو في السماء؟ وبتقدير أنَّها كانت في السَّماء، فهل هي الجنَّة التي هي دار الثواب وجنَّة الخُلد أو جنَّة أخرى؟ فقال أبو القاسم البَلْخي، وأبو مسلم الأصبهاني: هذه الجنَّة في (2) الأرضِ. وحَمَلا الإهباط على الانتقال من بُقْعَةٍ إلى بُقْعَة، كما في قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْرًا} [البقرة: 61] واحتجا عليه بوجوه.
القولُ الثاني: وهو قول الجُبَّائي: أنَّ تلك الجنَّة كانت في السَّماء السَّابعة.
القول الثالث: وهو قول جمهور أصحابنا: أنَّ هذه الجنَّة هي دار الثواب” (3) .
وقال أبو القاسم الرَّاغبُ (4) في “تفسيره”: “واختلف في الجنَّة التي
__________
(1) هو محمد بن عمر بن الحسين فخر الدَّين الرازي، أبو عبد اللَّهِ القرشي التَّيمي، ولد سنة 544 هـ، المفسر، المتكلَّم، إمام وقته في العلومِ العقلية، ندم في آخر عمره على دخوله في علم الكلامِ، له: التفسير الكبير “مفاتيح الغيب” ولم يكمله، توفي سنة (606 هـ).
انظر: طبقات المفسرين للداوودي (2/ 215 – 218).
(2) في مفاتيح الغيب: “كانت في”.
(3) انظر: “مفاتيح الغيب”: (1/ 4 – 5) وعنده مطوَّلًا.
(4) هو الحسين بن محمد بن المفضل الأصبهاني، الملقَّب بـ “الرَّاغب”، قال =

(1/49)


أسكنها آدم، فقال بعض المتكلمين: كان بستانًا جعله اللَّه تعالى له امتحانًا، ولم تكن جنَّة المأوى”. وذكر بعض الاستدلال على القولين.
وممَّن ذكر الخلاف أيضًا أبو عيسى الرُّمَّاني (1) في “تفسيره” واختار أنَّها جنَّة الخلد، ثمَّ قال: “والمذهبُ الَّذي اخترناهُ، قول الحسن وعمرو وواصل وأكثر أصحابنا، وهو قول أبي علي، وشيخنا أبي بكر، وعليه أهل التفسير”.
واختار ابن الخطيب التوقف في المسألة، وجعله قولًا رابعًا فقال:
“والقولُ الرَّابع: أنَّ الكل مُمْكن، والأدلة متعارضة (2) ، فَوَجَبَ التَّوقف وترك القطع”.
قال منذر بن سعيد: “والقولُ بأنَّها جنَّةٌ في الأرض ليست جنَّة الخُلْد قول أبي حنيفة وأصحابه قال: وقد رأيتُ أقوامًا نهضوا لمخالفتنا في
__________
= الذهبي: “كان من أذكياء المتكلمين”. له “المفردات” وهو مشهورٌ، والتفسير، وغيرهما، توفي في حدودِ سنة (450 هـ).
انظر: “سير أعلام النبلاء”: (18/ 120 – 121) مع الحاشية.
(1) هو علي بن عيسى بن علي أبو الحسن الرُّمَّاني ولد سنة (296 هـ)، إمامٌ مشهورٌ في النحو والكلام، وكان معتزليًّا، قال القفطي: “وكان مع اعتزاله شيعيًا” له نحو مائة مؤلف كالتفسير وغيره، توفي سنة (384 هـ).
انظر: “تاريخ بغداد”: (12/ 17)، و”طبقات المفسرين” للداوودي: (1/ 423 – 425). تنبيه: الصواب (ابن عيسى) بدل (أبو عيسى).
(2) في “مفاتيح الغيب”: (1/ 5)، و”مفتاح دار السعادة”: (1/ 149)، و”الأدلة النقلية ضعيفة ومتعارضة” بدلًا من “والأدلة متعارضة”.

(1/50)


جنَّة آدم، بتصويب مذهبهم من غير حُجَّة إلَّا الدَّعاوي والأمانيَّ، ما أتوا بحجةٍ من كتاب ولا سُنَّةٍ، ولا أثر عن صاحبٍ، ولا تابع، ولا تابع التَّابع، لا موصولًا ولا شاذًّا [ولا] (1) مشهورًا.
وقد أوجدناهم أنَّ فقيه العراق ومن قال بقوله، قالوا: إنَّ جنَّة آدم ليست جنَّة الخُلْد، وهذه الدَّواوين مَشْحُونة من علومهم، ليسوا عند أحدٍ من الشَّاذَّين بل من رؤساء المخالفين، وإنَّما قلتُ هذا ليعلم أنِّي لا أنصرُ مذهب أبي حنيفة، وإنَّما أنصرُ ما قام لي عليه دليل من القرآن والسنَّة.
– هذا ابن مُزَين (2) يقول في “تفسيره”: “سألتُ ابن نافع عن الجنَّة أمخلوقةٌ هي؟ فقال: السكوت عن الكلام في هذا أفضل”.
– وهذا ابن عيينة يقول في قوله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا
__________
(1) من مفتاح دار السعادة (1/ 169) للمؤلف، وسقطت من جميع النسخ.
(2) ابن مُزَيْن هذا لعله؛ يحيى بن إبراهيم بن مزين الطليطلي أبو زكريا، مولى رملة بنت عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه، سمع الموطأ من القعنبي ومطرف وحبيب، له تفسير الموطأ وغيره، توفي سنة 259 هـ.
انظر: “أخبار الفقهاء والمحدثين” للخشني رقم (495)، و”تاريخ علماء الأندلس” لابن الفرضي رقم (1558).
قلت: لعلَّ مراد المؤلف بتفسيره أي “تفسير الموطأ” -إن كان المترجم هو المقصود- فقد اشتهر بـ “تفسير يحيى بن مزين” و”تفسير الموطأ”.
انظر: برنامج التجيبي ص (269)، وجذوة المقتبس للحميدي، رقم (880)، وفهرس ابن خير رقم (137) و (148)، ومفتاح دار السَّعادة (1/ 438).

(1/51)


تَعْرَى (118) } [طه: 118] قال: يعني في الأرضِ، وابن نافعِ: إمام، وابن عيينة: إمام، وهم لا يأتوننا بمثلهما، ومن يضادُّ قولُه قولهما.
– وهذا ابن قُتيبة ذكر في كتاب “المعارف” (1) بعد ذِكْرِه خلق اللَّه لآدم وزوجه، قال: “ثمَّ تركهما، وقال: أثمروا وأكثروا، واملؤا الأرضَ، وتسلطوا على أنوانِ (2) البحور، وطير السماء، والأنعام، وعشب الأرضِ، وشجرها، وثمرها”، فأخبر أنَّ في الأرضِ خلقه، وفيها أمره، ثمَّ قال: “ونصبَ الفردوس فانقسم على أربعة أنهار: سيحون وجيحون ودجلة والفرات -ثمَّ ذكر الحيَّة فقال:- “وكانت أعظم دوابَّ البر، فقالت للمرأة: إنَّكما لا تموتان إن أكلتُما من هذه الشجرة” ثمَّ قال بعد كلام: “ثمَّ أخرجه من شرق (3) جنة عدن إلى الأرضِ التي منها أُخِذَ، ثمَّ قال: “قال وهب: وكان مهبطه حين أُهْبِطَ من جنَّة عدن في شرقي أرض الهند، قال: واحتمل قابيلُ أخاهُ حتَّى أتى به واديًا من أودية اليمن، في شرقي (4) عدن، فكمن فيه”.
وقال غيره كما (5) نقل أبو صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: {اهْبِطُوا} [البقرة: 38] “هو كما يُقال: هبط فلان أرض كذا
__________
(1) ص (8 – 12).
(2) أنوان، جمع نُوْن: وهو الحُوْت. ويجمع أيضًا على نِيْنَان.
انظر: الصحاح (2/ 1615)، وحاشية (ج).
(3) في “ب، د، هـ”: “مشرق”.
(4) من قوله: “أرض الهند” إلى “شرقي” سقط من “ج”.
(5) في “ب، د، هـ” ونسخةٍ على حاشية “أ” “فيما”.

(1/52)


وكذا” (1) .
قال منذر بن سعيد: “فهذا وهب بن مُنَبه يحكي أنَّ آدم خُلِقَ في الأرضِ، وفيها سكن، وفيها نُصب له الفردوس، وأنَّه كان بِعَدَن، وأنَّ الأربعة الأنهار انقسمت من ذلك النهر الَّذي كان يُسَمَّى فردوس آدم، وتلك الأنهار معنا (2) في الأرض، لا اختلاف بين المصلين (3) في ذلك، فاعتبروا يا أُولي الألباب.
وأخبر أنَّ الحَيَّة التي كلَّمت آدم كانت من أعظم دوابَّ البَرَّ، ولم يقل: من أعظم دوابِّ السَّماءِ، فهم يقولون: إنَّ الحيَّة (4) لم تكن في الأرضِ وإنَّما كانت فوق السَّماء السَّابعة.
ثمَّ قال: “وأخرجه من شرق جنَّة عدن، وليس في جنَّة المأوى مشرقٌ ولا مغرب؛ لأنَّه لا شمس فيها”.
ثمَّ قال: “وأخرجه إلى الأرضِ التي أُخِذَ منها”. يعني أخرجه من الفردوس الَّذي نصب له في عدن، في شرقي أرض الهند.
وهذه الأخبارُ التي حكى ابن قتيبة إنَّما تُنبئ عن أرض اليمن وعن
__________
(1) انظر: “تفسير غريب القرآن” لابن قتيبة ص (46)، وتلك الرواية لعلها من رواية الكلبي عن أبي صالح به. وهو إسناد واهٍ، انظر: “الإتقان” للسيوطي (2/ 535).
(2) في “ب” “بقيا”، وفي “د” “بفناءٍ”.
(3) قال ناسخ “ج” في الحاشية: “لعله: المسلمين”.
(4) في “ج”: “الجنَّة” وهو محتمل.

(1/53)


عدن وهي من أرض اليمن، وأخبر أنَّ اللَّه نصب الفردوس لآدم بعَدَن، ثمَّ أكَّدَ ذلك بأنْ قال: “الأربعة الأنهار التي ذكرنا منقسمةٌ من النَّهرِ الَّذي كان يسقي فردوس آدم”.
قال منذر: “وقال ابن قُتَيبة عن ابن منبه عن أُبيٍّ قال: واشتهى آدم عند موته قِطْفًا من الجنَّة التي كان فيها -بزعمهم على ظهر السَّماء السَّابعة- وهو في الأرضِ، فخرج أولاده يطلبون ذلك له، حتَّى بَلَّغتهم الملائكة موته” (1) فأولاد آدم كانوا مَجَانيْن عندكم -إنْ كان ما نقله ابن قُتيبة حَقًّا- يطلبون لأبيهم ثمرة جنَّة الخُلْدِ في الأرضِ؟!
قال: ونحنُ لم نَقُلْ عُشْرَ ما قال هؤلاء، ولو كانت جنَّة الخُلْد لخُلِّدَ فيها، ونحن استدللنا من القرآن، وغيرنا قَطَع وادَّعى ما ليس له عليه بُرْهَان”.
فهذا ذكر بعض أقوال من حكى الخلاف في هذه المسألة (2) ، ونحن
__________
(1) انظر: المعارف لابن قتيبة ص (12). وأثر أُبي بن كعب رضي اللَّه عنه أخرجه ابن قتيبة ص (12)، والدارقطني في “السنن” (2/ 71)، وابن سعد في “الطبقات”: (1/ 33 – 34)، وابن المنذر في الأوسط (5/ 370) وغيرهم.
من طريقِ يونس بن عبيد وعثمان بن سعد عن الحسن البصري عن عُتي ابن ضمرة عن أبي بن كعب موقوفًا.
والأثر اختلف في رفعه ووقفه، وفي ذكر “عُتي بن ضمرة” وإسقاطه، والوقف أشبه بالصواب، واللَّه أعلم.
والحديث صححه مرفوعًا الحاكمُ والضياء المقدسي.
راجع تفصيل الكلامِ فيه المرسل الخفي (2/ 603 – 629).
(2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “والجنَّة التي أُسكنها آدم وزوجته عند سلف =

(1/54)


نسوقُ حجج الفريقين إنْ شاءَ اللَّهُ تعالى، ونبين ما لهم وعليهم إنْ شاء اللَّهُ تعالى.
__________
= الأمة، وأهل السنَّة والجماعة: هي جنة الخلد، ومن قال إنَّها جنَّة في الأرضِ بأرض الهند، أو بأرض جُدَّة، أو غير ذلك فهو من المتفلسفة والمعتزلة.
والكتاب والسنَّة يرد هذا القول، وسلف الأمة وأئمتها متَّفقون على بطلان هذا القول. . . ” راجع مجموع الفتاوى (4/ 347 – 349).

(1/55)


الباب الثالث: في سياق حُجَج من اختارَ أنَّها جنَّة الخلد التي يدخلها النَّاس يوم القيامة (1)
قالوا: قولنا هذا هو الَّذي فطرَ اللَّهُ عليه النَّاسَ صغيرهم وكبيرهم، لا يخطر بقلوبهم سواه، وأكثرُهم لا يَعْلَم في ذلك نزاعًا.
قالوا: وقد روى مسلم في “صحيحه” (2) من حديث أبي مالك، عن أبي حازم عن أبي هريرة، وأبي مالك عن ربعي عن حذيفة -رضي اللَّه عنهما- قالا: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “يجمع اللَّه تعالى النَّاسَ، فيقومُ المؤمنون حتى تُزْلَف (3) لهم الجنَّة، فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا: استفتح لنا الجنة: فيقول: وفل أخرجكم من الجنَّة إلَّا خطيئة أبيكم؟ ” وذكر الحديث.
قالوا: وهذا يدلُّ على أنَّ الجنَّة التي أُخرج منها هي بعينها التي تُطْلَبُ منه أن يستفتحها.
وفي “الصحيحين” (4) حديث احتجاج آدم وموسى، وقول موسى:
__________
(1) في “ب”: “في سياق حجج من ذهب إلى أنَّها جنَّة الخلد” بدلًا من قوله “في سياق” إلى “القيامة”، وليس في “هـ”: كلمة “سياق”.
(2) رقم (195).
(3) أي تُقَرَّب. انظر: النهاية: (2/ 309).
(4) أخرجه البخاري رقم (6240)، ومسلم رقم (2652) من حديث أبي هريرة. وليس فيهما هذا اللفظُ، وإنَّما فيهما “خيَّبتنا وأخرجتنا من الجنَّة” وفي =

(1/56)


“أخْرَجْتنا ونَفْسَك من الجنَّة”.
ولو كانت في الأرضِ، فهم قد خرجوا من بساتين، فلم يخرجوا من الجنَّة.
وكذلك قول آدم للمؤمنين يوم القيامة: “وهل أخرجكم من الجنَّة إلَّا خطيئة أبيكم” (1) ، وخطيئته لم تخرجهم من جِنَان الدنيا.
قالوا: وقد قال تعالى في سورة البقرة: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) } [البقرة: 35، 36] عقيب قوله “اهبطوا” فدلَّ على أنَّهم لم يكونوا قبل ذلك في الأرض.
فهذا يدل على أنَّ هُبُوطهم كان من الجنَّة إلى الأرضِ من وجهين:
أحدهما: من لفظة: {اهْبِطُوا} فإنَّه نزول من علوٍّ إلى سُفل.
والثاني: قوله: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} [البقرة: 36]. عقيب قوله: {اهْبِطُوا} فدلَّ على أنَّهم لم يكونوا قبل ذلك في الأرض.
ثمَّ أكَّدَ هذا بقوله تعالى في سورة الأعراف: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) } [الأعراف: 25]، ولو كانت الجنَّة في الأرضِ لكانت حياتهم فيها قبل الإخراج وبعده.
قالوا: وقد وصَفَ سبحانه جنَّة آدم بصفاتٍ لا تكون إلَّا في جنَّة
__________
= لفظ: “أنت آدمُ الَّذي أخرجتكَ خطيئتك من الجنَّة” ونحوها.
(1) تقدَّم قريبًا عند مسلم.

(1/57)


الخُلْدِ فقال: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) } [طه: 118 – 119].
وهذا لا يكون في الدنيا أصلًا، فإنَّ الرَّجل ولو كان في أطيب منازلها فلا بُدَّ أن يعرض له شيءٌ من ذلك، وقابل سبحانه بين الجوع والعُرْي، والظمأ (1) والضحى، وذلك أحسن من المقابلة بين الجوع والعطش، والعري (2) والضحى؛ فإنَّ الجوعَ ذلُّ الباطن، والعُري ذلُّ الظَّاهرِ، والظمأُ حرُّ الباطنِ، والضحى حرُّ الظاهرِ؛ فنفى عن ساكنها ذلَّ الظاهر والباطن، وحرَّ الظاهر والباطن (3) ، وهذا شأن ساكن جنَّة الخلدِ.
قالوا: وأيضًا، فلو كانت تلك الجنَّة فيِ الدنيا لَعَلِمَ آدمُ كذب إبليس في قوله: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) } [طه: 120]؛ فإنَّ آدم كان يعلمُ أنَّ (4) الدنيا مُنقضية فانية، وأنَّ ملكها يبلى.
قالوا: وأيضًا، فهذه القصة في سورة البقرة ظاهرةٌ جدًّا في أنَّ الجنَّة التي أُخْرِجَ منها فوق السَّماءِ، فإنَّه سبحانه قال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا
__________
(1) ليس في “ب”.
(2) في “هـ”: “والظمأ” وهو خطأ.
(3) جاء في “ب” بعد قوله “والباطن” ما نصه: “وذلك أحسن من المقابلة بين الجوع والعطشِ والعري والضحى”.
(4) ليس في “ب”.

(1/58)


مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) } [البقرة: 34 – 37].
فهذا إهباط آدم وحواء وإبليس من الجنَّةِ، ولهذا أتى فيه بضمير الجمعِ.
وقد قيلَ: إنَّ الخطاب لهما وللحيَّة. وهذا ضعيفٌ جدًّا، إذ لا ذكر للحيَّة في شيءٍ من قصَّة آدم، ولا في السِّياقِ ما يدلُّ عليها.
وقيل: الخطابُ لآدمَ وحوَّاء، وأتى فيه بضمير الجمع كقوله تعالى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78]، وهمَا داود وسليمان.
وقيل: لآدم وحواء وذريتهما.
وهذه الأقوال ضعيفة غير الأوَّل؛ لأنَّها بين قولٍ لا دليلَ عليه، وبين ما يدلُّ اللفظُ على خلافه، فثبت أنَّ إبليس داخلٌ في هذا الخطابِ، وأنَّه من المُهْبَطِيْن.
فإذا تقرَّر هذا، فقد كرَّر سبحانه الإهباط ثانيًا بقوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) } [البقرة: 38].
والظَّاهرُ أنَّ هذا (1) الإهباط الثاني غيرُ الأوَّل، وهو إهباط من
__________
(1) ليس في “أ”.

(1/59)


السماء إلى الأرضِ، والأوَّل إهباط من الجنَّة، وحينئذٍ فتكون الجنَّة التي أُهْبِطُوا منها أوَّلًا فوق السَّماءِ = جنة الخلدِ.
وقد ظنَّ الزمخشري أنَّ قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة: 38] خطاب (1) لآدم وحواء خاصَّة، وعبَّر عنهما بالجمع لاسْتِتْباعهما ذُرِّيَّاتهما، قال: “والدليلَ عليه قوله تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه: 123]، قال: ويدل على ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) } [البقرة: 38 – 39]، وما هو إلا حكم يعمّ النَّاس كلهم، ومعنى قوله: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} ما عليه النَّاسُ من التَّعادي والتَّباغي وتضليل بعضهم بعضا” (2) .
وهذا الَّذي اختاره أضعف الأقوال في الآية، فإنَّ (3) العداوة التي ذكرها اللَّهُ تعالى إنَّما هيَ بين آدم وإبليس وذريتهما، كما قال اللَّه تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6]، وهو سبحانه قد أكَّد أَمْرَ العداوةِ بين الشيطان (4) والإنسان، وأعاد وأبَّد (5) ذِكْرَهَا في القرآن لِشِدَّةِ الحاجة إلى التحرز من هذا العدو، وأمَّا آدم وزوجته، فإنَّه إنَّما أخبر في
__________
(1) ليس في “ب”.
(2) انظر: الكشَّاف (1/ 128).
(3) في “ب”: “لأنَّ”.
(4) من قوله “لكم عدو فاتخذوه” إلى “الشيطان” سقط من “ب، ج”.
(5) في “ب، د”: “وأبْدى”، وسقط من “ج”.

(1/60)


كتابه أنَّه خلقها ليسكن إليها، وجعل بينهما مودة ورحمة، فالمودةُ والرحمة بين الرجل وزوجته (1) ، والعداوة بين الإنسانِ والشيطان.
وقد تقدَّم ذكر آدم وزوجه وإبليس وهم ثلاثة، فلماذا يعود الضميرُ على بعض المذكور -مع منافرته لطريق الكلام- دون جميعه، مع أنَّ اللفظ والمعنى يقتضيه، فلم يصنع الزمخشري شيئًا.
وأمَّا قوله تعالى في سورة طه: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه: 123]. وهذا خطاب لآدم وحوَّاء، وقد جعلَ بعضهم عدوًّا لبعضٍ: فالضمير في قوله: {اهْبِطَا} إمَّا أنْ يرجعَ إلى آدم وزوجه، أو إلى آدمَ وإبليس، ولم يذكر الزوجة؛ لأنَّها تبع (2) له وعلى هذا، فالعداوة المذكورة للمخاطبين بالإهباط، وهما: آدم وإبليس، فالأمر (3) ظاهر، وأمَّا على الأوَّل، فتكون الآية قد اشتملت على أمرين:
أحدهما: أمره تعالى لآدم وزوجه بالهبوط.
والثاني: إخباره بالعداوة بين آدم وزوجه، وبين إبليس؛ ولهذا أتى بضمير الجمع في الثاني دون الأوَّل، ولا بدَّ أن يكون إبليسُ داخلًا في حكمِ هذه العداوة قطعًا، كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} [طه: 117]، وقال للذرية: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6].
__________
(1) في “ب، ج، د”: “وامرأته”.
(2) ليس في “أ”.
(3) في “ج”: “بالأمر”، وفي “أ، هـ”: “فبالأمر”.

(1/61)


وتأمَّل كيفَ اتَّفقت المواضع التي فيها ذِكْرُ العداوةِ على ضمير الجمعِ دون التثنية؟
وأمَّا الإهباط: فتارة يُذْكَرُ (1) بلفظِ الجمع، وتارةً بلفظِ التثنية، وتارة بلفظِ الإفرادِ، كقوله في سورة الأعراف: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا} [الأعراف: 13] وكذلك في سورة (ص)، وهذا لإبليس وحده.
وحيثُ وردَ بصيغة الجمع: فهو لآدم وزوجه وإبليس، إذْ مدار القصَّة عليهم.
وحيث وردَ بلفظ التثنية: فإمَّا أن يكون لآدم وزوجه، إذ هما الَّلذانِ باشرا الأكلَ من الشجرة، وأقدما على المعصية.
وإمَّا أنْ يكون لآدمَ وإبليس، إذ هما أَبَوَا الثقلين، وأصْلا الذُّريَّة، فذكر حالهما، وما آل إليه أمرهما ليكون عظةً وعبرة لأولادهما، وقد حُكِيت القولان في ذلك.
والَّذي يوضح أنَّ الضمير في قوله: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا} [طه: 123] لآدم وإبليس، أنَّ (2) اللَّه سبحانه لمَّا ذكرَ المعصيةَ أفرد بها آدم دون زوجه، فقال: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا} [طه: 121 – 123]. وهذا يدلُّ على أنَّ المخاطب بالإهباطِ هو آدم ومن زين له المعصية، ودخلت الزوجة تبعًا، فإنَّ المقصودَ إخبار اللَّه سبحانه للثقلين بما جرى على أبويهما من
__________
(1) في “ج، هـ”: “يذكره”.
(2) في “ب، د”: “لأنَّ”.

(1/62)


شؤم المعصية ومخالفة الأمر (1) ، فذكر أبويهما أبلغُ في حصولِ هذا المعنى، من ذِكْر أَبَوَي الإنس فقط.
وقد أخبر سبحانه عن الزوجة بأنَّها أكلت مع آدم، وأخبر أنَّه أهبطه وأخرجه من الجنَّة بتلك الأكلة، فعُلِمَ أنَّ حُكْمَ الزوجة كذلك، وأنَّها صارت إلى ما صار إليه آدم.
فكان تجريد العناية إلى ذكر حال أبوي الثقلين أولى من تجريده إلى ذكر أبي الإنسِ وأُمَّهم، فتأمله.
وبالجملةِ فقوله تعالى: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [الأعراف: 24] ظاهرٌ في الجمع (2) ، فلا يسوغ حمله على الاثنين في قوله تعالى: {اهْبِطَا} [طه: 123] من غير موجب.
قالوا: وأيضًا، فالجنَّة جاءت مُعَرَّفةً بلام التعريفِ في جميع المواضع، كقوله: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]. ونظائره، ولا جنَّة يعهدها المخاطبون ويعرفونها إلَّا جنَّة الخلدِ التي وعد الرَّحمن عباده بالغيب، فقد صارَ هذا الاسمُ عَلَمًا عليها بالغلبةِ: كالمدينةِ والنَّجمِ والبيت والكتاب ونظائرها، فحيثُ ورد لفظها مُعَرَّفًا انصرف إلى الجنَّةِ المعهودةِ المعلومةِ في قلوبِ المؤمنين.
وأمَّا إنْ أُريدَ به جنَّة غيرها فإنَّها تجيءُ منكَّرةً أو مقيَّدةً بالإضافة (3) ،
__________
(1) في “ج”: “الآمِر” وكلاهما صحيح.
(2) في “ج، هـ”: “الجميع” وكلاهما صحيح.
(3) قوله: “أو مقيدة بالإضافة” سقطت من “ب”.

(1/63)


أو مقيَّدةً من السِّياقِ بما يدل على أنَّها جنةٌ في الأرضِ.
فالأوَّل: كقوله: {جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ} [الكهف: 32].
والثاني: كقوله: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ} [الكهف: 39].
والثالث: كقوله: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم: 17].
قالوا: وممَّا يدلُّ على أنَّ جنَّة آدم هي جنَّة المأوى: ما روى هوذَة بن خليفة عن عوف، عن قَسَامَة بن زهير عن أبي موسى الأشعري -رضي اللَّه عنه- قال: “إنَّ اللَّهَ تعالى لمَّا أخرج آدم من الجنَّة زوَّده من ثمار الجنَّة، وعلَّمه صنعة كلَّ شيء، فثماركم هذه من ثمار الجنَّة، غير أنَّ هذه تَغَيَّر، وتلك لا تغيَّر (1) ” (2)
__________
(1) في “هـ”: “تتغيَّر، وتلك لا تتغيَّر”، وكذا عند ابن أبي حاتم في تفسيره.
(2) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره: (1/ 66)، والطبري في “تفسيره” (1/ 175)، وابن أبي حاتم في تفسيره رقم (421)، والحاكم في المستدرك (2/ 592) رقم (3996)، والبيهقي في البعث والنشور رقم (198)، والبزَّار في مسنده رقم (3030)، وابن عساكر في تاريخه (7/ 410).
من طريق هوذة ومعمر وغندر وعبد الوهاب ومحمد بن ثور وابن أبي عدي كلهم عن عوف به فذكره موقوفًا.
ورواه رِبْعِي بن عُلَيَّة والعباسُ بن الفضل الأنصاري كلاهما عن عوف به مثله مرفوعًا.
أخرجه البزار: (8/ رقم 3029)، والروياني في مسنده رقم (567).
والصوابُ أنَّه موقوفٌ على أبي موسى الأشعري، أمَّا ربعي فقد أخطأ فيه، وأمَّا العبَّاسُ الأنصاري فمتروك الحديث، ولهذا قال البزَّار: “وهذا الحديثُ قد رواه غيرُ واحدٍ عن عوف عن قسامة عن أبي موسى موقوفًا، ولا =

(1/64)


قالوا: وقد ضمن اللَّهُ سبحانه وتعالى له إنْ تابَ إليهِ، وأناب أنْ يعيده إليها، كما روى المِنْهال عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس رضي اللَّهُ عنهما في قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37]. قال: يا ربَّ ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: أيْ ربِّ ألم تنفخ فيَّ من روحك؟ قال: بلى، قال: أيْ ربِّ ألم تُسْكِنَّي جنتك؟ قال: بلى، قال: أيْ ربِّ ألم تسبق رَحْمَتك غَضَبَكَ؟ قال: بلى، قال أرأيتَ إن تبتُ وأصلحتُ أراجعي أنت إلى الجنَّة؟ قال: بلى، قال: فهو قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} (1) .
وله طرق عن ابن عباس (2) ، وفي بعضها: “كأنَّ آدم قال لربه إذْ عصاهُ: ربِّ إنْ أنا تُبْتُ وأصلحتُ، فقال له ربُّه: إنِّي راجعُك إلى الجنَّة” (3) .
فهذه بعض ما احتجَّ به القائلون بأنَّها جنَّة الخلد، ونحن نسوقُ حُجج الآخرين.
__________
= نعلمُ أحدًا رفعه إلَّا ربعي”.
والأثر صحَّحهُ موقوفًا الحاكم فقال: “صحيح الإسنادِ، ولم يخرِّجاهُ”.
(1) أخرجه الطبري في تفسيره: (1/ 243)، والآجري في الشريعة: (3/ 1181 – 1182) رقم (755)، والحاكم في المستدرك (2/ 594) رقم (4002).
من طريق ابن أبي ليلى والحسن بن صالح عن المنهال به مثله.
قال الحاكمُ: “هذا حديثٌ صحيح الإسنادِ، ولم يخرجاه”. وهو كما قال.
(2) عند ابن أبي حاتم في تفسيره رقم (411)، والطبري (1/ 243).
(3) عند الطبري: (1/ 243) ولا يثبت سنده.

(1/65)


الباب الرَّابع في سياق حجج الطائفة التي قالت: ليست جنَّة الخلدِ، وإنَّما هي جنَّةٌ في الأرضِ
قالوا: هذا قول تكثر الدَّلائلُ الموجبة للقول به، فنذكر بعضها.
قالوا: قد أخبرَ اللَّهُ سبحانه على لسان جميع رسله: أنَّ جنة الخُلد إنَّما يكون الدخول إليها يوم القيامة، ولم يأت زمن دخولها بَعْدُ، وقد وصفها اللَّهُ سبحانه وتعالى لنا في كتابه بصفاتها، ومُحال أن يصف اللَّهُ سبحانه وتعالى شيئًا بصفة، ثمَّ يكون ذلك الشيء بغير تلك الصفة التي وصفها به.
قالوا: فوجدنا اللَّه تعالى وصف الجنَّة التي أُعِدَّت للمتقين بأنَّها: {دَارَ الْمُقَامَةِ} [فاطر: 35]، فمن دخلها أقام بها، ولم يقم آدم بالجنَّة التي دخلها.
ووصفها بأنَّها: {جَنَّةُ الْخُلْدِ} [الفرقان: 15]. وآدم لم يُخَلَّد فيها.
ووصفها بأنَّها: دار ثوابٍ وجزاءٍ، لا دار تكليف وأمرٍ ونهي.
ووصفها بأنَّها (1): دار سلامةٍ مطلقةٍ، لا دار ابتلاءٍ وامتحانٍ، وقد ابتلي فيها آدم بأعظم الابتلاء.
ووصفها بأنَّها: دارٌ لا يُعصى اللَّهُ فيها أبدًا، وقد عصى آدمُ ربَّه في
__________
(1) سقط من “ج”.

(1/66)


جنته التي دخلها.
ووصفها بأنَّها: ليست دار خوفٍ ولا حَزَنٍ، وقد حصلَ للأبوين فيها من الخوف والحزن ما حصل.
وسَمَّاها: دارَ السلام ولم يسْلَم فيها الأبوانِ من الفِتنة.
ودارَ القرار، ولم يستقرَّا فيها.
وقال في داخليها: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) } [الحجر: 48] وقد أُخْرِجَ منها الأبوان.
وقال: {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} [الحجر: 48]، وقد ندَّ فيها آدم (1) هاربًا فارًّا، وطفق يخصف ورق الجنَّة على نفسه، وهذا النَّصَبُ بعينه.
وأخبر أنَّه: {لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) } [الطور: 23]، وقد سمع فيها آدم لغوَ إبليس وإثمه.
وأخبر أنَّه لا يُسْمَعُ فيها لغوٌ ولا (2) كِذَّابٌ، وقد سمع فيها آدم عليه السلام كَذِب إبليس وإثمه.
وقد سمَّاها اللَّهُ سبحانه وتعالى: {مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر: 55]، وقد كَذَبَ فيها إبليسُ، وحلف على كذبه.
وقد قال تعالى للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:
__________
(1) قوله: “ندَّ فيها آدم” ليس في “أ، ج”: “آدم”، وليس في “هـ”: “ندَّ”.
(2) قوله: “لغو ولا” سقط من “ج”.

(1/67)


30]، ولم يقل: إنِّي جاعل في جنَّة المأوى، فقالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30] ومحال أنْ يكون هذا في جنة المأوى.
وقد أخبر اللَّهُ سبحانه عن إبليس أنَّه قال لآدمَ: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) } [طه: 120].
فإن كان (1) اللَّهُ سبحانه وتعالى قد أسكنَ آدم جنة الخلد والمُلك الَّذي لا يَبْلَى، فكيف لا (2) يرد عليه ويقول له: كيف تَدُلُّني على شيءٍ أنا فيه، وقد أُعْطِيتُه، ولم يكن اللَّهُ سبحانه وتعالى قد أخبر آدم إذ أسكنه الجنَّة أنَّه فيها من الخالدين، ولو علم أنَّها دار الخلد لما ركن إلى قول إبليس، ولا مال إلى نصيحته، ولكنَّه لما كان في غير دار خلودٍ غرَّهُ بما أطمعه (3) فيه من الخُلْدِ.
قالوا: ولو كان آدم أُسْكِنَ جنة الخلد، وهي دار القُدس التي لا يسكنها إلَّا طاهرٌ مقدَّسٌ، فكيف توصَّل إليها إبليسُ الرجس النجس المذموم المَدْحُور، حتى فتن فيها آدم عليه السلام ووسوس له؟ وهذه الوسوسة: إمَّا أنْ تكون في قلبه، وإمَّا أنْ تكونَ في أُذُنِهِ، وعلى التقديرين، فكيف توصلَ الَّلعينُ إلى دخول دار المتقين.
وأيضًا؛ فبعد أنْ قيلَ له: {فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا}
__________
(1) ليس في “ج”.
(2) من “أ”، وفي باقي النسخ “لم”.
(3) في “ج”: “أطعمه” وهو خطأ.

(1/68)


[الأعراف: 13]، أيفسح له أنْ يرقى إلى جنة المأوى فوق السَّماء السَّابعة بعد السخط عليه، والإبعادِ له، والدَّحْر (1) والطرد بعُتُوَّهِ (2) واستكباره، وهل هذا يلائم قوله: {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} فإنْ كانت مخاطبته لآدم بما خاطبه به وقاسمه عليه ليست تَكَبُّرًا، فما التكبر بعد هذا؟!
فإنْ قلتم: فلعلَّ وسوسته وصلتْ إلى الأبوين، وهو في الأرضِ، وهما فوق السماء في عليين = فهذا غير معقولٍ لغة ولا حسًّا ولا عُرْفًا.
وإن زعمتم أنَّه دخلَ في بطن الحيَّة حتى أوصل إليهما الوسوسة = فأبطلُ وأبطلُ، إذ كيف يَرْقى (3) بعد الإهباطِ له إلى أنْ يدخل الجنَّة، ولو في بطن الحيَّة؟!
وإنْ قلتمْ: إنَّه دخلَ في قلوبهما، ووسوس إليهما = فالمحذور قائم.
وأيضًا؛ فإنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى حكى (4) مخاطبته لهما كلامًا سمعاهُ شفاهًا، فقال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ} [الأعراف: 20]، وهذا دليلٌ على مشاهدته لهما وللشَّجرة، ولمَّا كان آدم خارجًا من الجنَّة وغير ساكن فيها قال اللَّه تعالى له: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ}
__________
(1) في “ج”: “والزجر”، وفي “هـ”: “والدحور”.
(2) في حاشية “ج” ما نصُّه: “العُتو: التجاوز عن الحدَّ”، ووقع في “هـ”: “لعتوَّه”.
(3) في “ب، د”: “ترقَّى”.
(4) جاء في نسخةٍ على حاشية “أ”: “حكى عن”.

(1/69)


[الأعراف: 22] ولم يقل عن هذه الشجرة، فعندما قال لهما: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ} [الأعراف: 20] لما أطمعهما في مُلْكها، والخلود في مقرَّها أتى باسم الإشارة بلفظ الحضور، تقريبًا لها، وإحضارًا لها عندهما، وربهما تعالى قال لهما: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف: 22]، ولمَّا أراد إخراجهما منها، فأتى باسم الإشارةِ بلفظ البُعد والغيبة، كأنَّهما لم يبق لهما من الجنَّة حتى ولا مشاهدة الشجرة التي نُهيا عنها.
وأيضًا؛ فإنَّه سبحانه قال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] ووسوسة اللعين من أخبث الكَلِم، فلا يصعد إلى محل القدس.
قال منذر: “وقد روي عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أنَّ آدمَ عليه السلام نامَ في جنته” (1) . وجنة الخُلْد لا نوم فيها بالنَّص، وإجماع المسلمين، فإنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سُئِلَ: أينامُ أهلُ الجنَّة في الجنَّة؟ قال: “لا، النومُ أخو الموتِ” (2) والنوم وفاةٌ، وقد نطق به القرآن، والوفاة تَقَلُّبُ حالٍ، ودار
__________
(1) لم أقف عليه مرفوعًا.
وسيذكر المؤلف أنَّه جاء عن مجاهد.
(2) أخرجه البزارُ في مسنده، كما في “كشف الأستار”: (4/ 3517)، وأبو الشيخ الأصبهاني في تاريخ أصبهان رقم (353 و 477) وغيرهما.
من طريق الفريابي والحسين بن حفص وغيرهما عن الثوري عن محمد ابن المنكدر عن جابر فذكره مرفوعًا.
وهذا خطأٌ على الثوري، والصواب أنَّ الحديثَ مرسل ليس فيه جابر بن عبد اللَّهِ.
هكذا رواه وكيع وجرير وابن المبارك والأشجعي وقطبة وعبيد اللَّه بن موسى، والفريابي -في الرواية الراجحة عنه- ومخلد بن يزيد وقبيصة كلهم =

(1/70)


السَّلام مسلَّمةٌ من تقلب الأحوالِ، والنَّائمُ ميت أو كالميت”.
قلت: الحديث الَّذي أشار إليه المعروف أنَّه موقوف من رواية ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: “خُلِقَتْ حواءُ من قَصِيْرى آدم وهو نائمٌ” (1) .
وقال أَسْبَاط عن السُّدِّي: “أُسْكِن آدم عليه السلام الجنَّة، وكان يمشي فيها وَحِشًا ليس له زوج يسكن إليها، فنام نومةً، فاستيقظ، فإذا عندَ رأسه امرأة قاعدة خلقها اللَّهُ من ضِلَعه، فسألها ما أنت؟ قالت: امرأة، قال: ولِمَ خُلِقْتِ؟ قالت: لتسكن إليَّ” (2) .
وقال ابن إسحاق عن ابن عباس رضي اللَّهُ عنهما: “أُلْقِيَ على آدم
__________
= عن الثوري عن ابن المنكدر مرسلًا.
أخرجه أحمد في الزهد رقم (43)، وابن المباركِ في الزهد: (279)، والعقيلي في الضعفاء: (2/ 301)، والبيهقي في البعث والنشور رقم: (485 و 486).
ورواه المنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه مرسلًا نحوه.
أخرجه ابن حبيب في وصف الفردوس رقم (251).
ولهذا قال أبو حاتم الرَّازي -وقد سُئِلَ عن طريق الفريابي-: “الصحيح ابن المنكدر عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ليس فيه جابر”، علل ابن أبي حاتم (2/ 219) رقم (2147).
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره: (3/ 853) رقم (4719)، وهو أثر ثابت عن مجاهد.
(2) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره رقم (376)، والطبري: (1/ 229)، وسنده لا بأس به.

(1/71)


عليه السَّلام السِّنة، ثمَّ أُخِذَ ضلعًا من أضلاعه من شقه الأيسر، ولأم مكانه لحمًا، وآدم نائمٌ، لم يَهُبَّ من نومته، حتى خلق اللَّهُ من ضلعه تلك زوجته حواء، فسواها امرأةً يسكن إليها، فلمَّا كشف عنه السَّنة، وهَبَّ من نومته رآها إلى جنبه فقال: لحْمي ودمي وزوجي (1) ، فسكن إليها” (2) .
قالوا: ولا نزاع أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى خلقَ آدم في الأرضِ، ولم يَذْكر في موضع واحدٍ أصلًا أنَّه نقله إلى السماء بعد ذلك، ولو كان قد نقله بعد ذلك إلى السَّماءِ لكان هذا أولى بالذكر؛ لأنَّه من أعظم الآيات، ومن أعظم النَّعَمِ عليه، فإنَّه كان مِعْراجًا ببدنه وروحه من الأرضِ إلى فوق السماوات.
قالوا: وكيف نقله سبحانه ويسكنه فوق السَّماءِ، وقد أخبر ملائكته أنَّه جاعِلُهُ في الأرضِ خليفةً (3) ، وكيف يسكنه دار الخلد التي من دخلها يُخَلَّدُ فيها، ولا يخرج منها؟ قال تعالى: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) } [الحجر: 48].
قالوا: ولو لم يكن مَعَنَا في المسألة إلَّا أنَّ اللَّهَ سبحانه أهبط إبليس من السَّماءِ حين امتنع من السجود لآدم عليه السلام، وهذا أمر تكوين
__________
(1) في “هـ”: “وزوجتي”، وفي “ب، د”: “رُوحي”.
(2) أخرجه الطبري في تفسيره: (1/ 230).
وهو لا يثبت عن ابن عباسٍ؛ لعدم معرفة الواسطة بين ابن إسحاق وابن عباس؛ ولأنَّ شيخ الطبري ابن حميد، متكلمٌ فيه.
(3) من المطبوعة.

(1/72)


لا يمكن وقوع خلافه، ثمَّ أدخل آدم عليه السلام الجنَّة بعد هذا، فإنَّ الأمرَ بالسجود كان عقيب خلقه من غير فصل، فلو كانت الجنَّة (1) فوق السماوات لم يكن لإبليس سبيلٌ إلى صعودِه إليها، وقد أُهبِطَ منها.
وأمَّا تلك التقادير التي قدَّرتموها فتكلُّفات ظاهرة:
كقول من قال: يجوز أنْ يصعد إليها صعودًا عارضًا لا مستقرًّا.
وقول من قال: أدْخَلَتْه الحيَّة.
وقول من قال: دخل في أجوافهما (2) .
وقول من قال: يجوزُ أن تصل وسوسته إليهما وهو في الأرضِ، وهما فوق السَّماء.
ولا يخفى ما في ذلك من التعسف الشَّديد، والتكلف البعيد، وهذا بخلاف قولنا، فإنَّه لما أهبطه سبحانه من ملكوت السماء حيث لم يسجد لآدم عليه السلام أُشْرِبَ عداوته، فلمَّا أسكنه جنته حسده عدوه، وسعى بكيدِهِ وغروره في إخراجه منها، واللَّهُ أعلم.
قالوا: وممَّا يدلُّ على أنَّ جنَّة آدم لم تكن جنة الخلدِ التي وُعِدَ المتقون: أنَّ اللَّهَ سبحانه لما خلقه أعلمه أنَّ لِعُمُرِهِ أجلًا ينتهي إليه، وأنَّه لم يخلقه للبقاءِ، كما روى الترمذي في “جامعه” من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لما خَلَقَ اللَّهُ
__________
(1) في “أ، ج”: “الحيَّة” وهو خطأ، وصوب ناسخ “أ” أنها “الجنة”.
(2) في “ب”: و”أجوافها”.

(1/73)


آدم ونفخَ فيه من الروح عطس، فقال: الحمدُ للَّهِ، فحمدَ اللَّه (1) بإذنه، فقال له ربُّه: يرحمك اللَّه يا آدمُ، اذهب إلى أولئك الملائكة إلى ملأ منهم جلوس فقل: السلام عليكم قالوا: وعليك السَّلام (2) ، ثمَّ رجع إلى ربَّه فقال: إنَّ هذه التَّحية (3) تحيتك وتحية بَنِيْك بينهم، فقال اللَّهُ له ويداه مقبوضتان: اختر أيهما شئت، فقال: اخترت يمين ربي -وكلتا يَدَي ربِّي يمينٌ مباركة- ثمَّ بسطها فإذا فيها آدم وذريته، فقال: يا رب ما هؤلاءِ؟ قال: هؤلاء ذُرَّيتُك، فإذا كلُّ إنسانٍ مكتوبٌ عُمُره بين عينيه، فإذا رجلٌ أضوؤهم، أو من أضوئهم قال: يا ربَّ من هذا؟ قال: هذا ابنُك داود، وقد كَتبتُ لَهُ عُمُر أربعين سنةً، قال: يا ربِّ زدْ في عمره، قال: ذلك الَّذي كتبتُ له، قال: ربَّ، فإنَّي قد جعلتُ له من عُمُري سِتَّين سنة، قال: أنت وذاك، قال: ثمَّ أُسكِنَ آدم الجنَّة ما شاءَ اللَّهُ، ثمَّ أُهْبط منها، فكان آدم يَعُدُّ لِنَفْسِهِ: فأتاهُ مَلَكُ الموتِ فقال له آدم: قد عجلتَ قد كُتِبَتْ لي ألفُ سنةٍ، قال: بلى، ولكنَّك جعلتَ لابنك داودَ ستين سنة، فجحَدَ فجحدت ذريته، ونَسِيَ فنسيت ذُرَّيتُه، قال: فمن يومئذٍ أُمِرَ بالكتاب والشُّهودِ” (4) .
__________
(1) قوله: “فحمد اللَّه” من الترمذي وغيره.
(2) قوله: “قالوا: وعليك السَّلام” من الترمذي.
(3) في “ب، د”: “هذه تحيتك. . . “.
(4) أخرجه الترمذي برقم (3368)، والنسائي في عمل اليوم والليلة رقم (218)، وابن أبي عاصم في “السنة” رقم (206)، وابن حبان في صحيحه رقم (6167)، والحاكم في المستدرك: (1/ 132 – 133) رقم (214) وغيرهم.
من طريق الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذُباب عن سعيد المقبري عن =

(1/74)


قال: “هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقد رُوِيَ من غير وجهٍ عن أبي هريرة” (1) .
قالوا: فهذا صريحٌ في أنَّ آدمَ عليه السلام لم يُخْلَق في دار البقاءِ التي لا يموت من دخلها، وإنَّما خُلِقَ في دار الفناء التي جعل اللَّهُ تعالى لها ولسُكَّانِها أجلًا معلومًا، وفيها أُسْكِنَ.
فإنْ قيلَ: فإذا كان آدمُ عليه السلام قد علم أنَّ له عمرًا مُقَدَّرًا، وأجلًا ينتهي إليه، وأنَّه ليسَ من الخالدين، فكيف لم يَعْلَمْ كَذبَ إبليس في قوله: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} [طه: 120]؟ وقوله: {أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) } [الأعراف: 20].
__________
= أبي هريرة فذكر.
والحديث تفرَّد به الحارث -وهو صدوقٌ يهم- عن المقبري، كما أشار إليه الترمذي بقوله: “. . غريب”.
لكن أعلَّه النسائي بأنَّ هذا خطأ، وأنَّ الصواب ما رواه ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبيه عن عبد اللَّه بن سلام فذكره موقوفًا مختصرًا إلى قوله: “هذه تحيتك وتحية ذريتك”.
(1) رواه أبو صالح وأبو سلمة والشعبي ويزيد بن هرمز كلهم عن أبي هريرة مختصرًا.
أخرجه النسائي في “عمل اليوم والليلة” رقم (220) وغيره.
لكن قال النسائي: “وهو منكر”.
وله طريق آخر عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعًا مختصرًا.
أخرجه ابن سعد: (1/ 27 – 28) وغيره.

(1/75)


فالجوابُ من وجهين:
أحدهما: أنَّ الخُلد لا يستلزم الدوام والبقاء، بل هو المكث الطويل، كما سيأتي (1) .
الثاني: أنَّ إبليس لما حلف لهُ، وغَرَّه وأطمعه في الخلود نسي ما قُدَّرَ له من عُمُره.
قالوا: وأيضًا فمن المعلوم الَّذي لا ينازع فيه مسلمٌ أنَّ اللَّه سبحانه خلق آدم عليه السلام من تربة هذه الأرض، وأخبر أنَّه خلقه {مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) } [المؤمنون: 12]، وأنَّه خلقهُ {مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) } [الحجر: 26]. فقيل: هو الَّذي له صلصلة ليُبْسِهِ.
وقيل: هو الَّذي قد تَغَيَّرت رائحته، من قولهم: صَلَّ اللحم إذا تغيَّرَ.
والحَمَأُ: الطِّيْنُ الأسود المُتَغَير. والمَسْنُون: المَصْبُوب.
وهذه كلها أطوار للتراب الَّذي هو مبدؤه الأوَّل، كما أخبرَ عن أطوار خلق الذرية {مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} [الحج: 5] ولم يخبر سبحانه وتعالى أنَّه رفعه من الأرضِ إلى فوق السماوات، لا قبل التَّخْلِيق ولا بعده، فأين الدليل الدَّالُّ على إصْعاد مادَّته، أو إصعاده (2) هو بعد خلقه، وهذا ما لا دليل لكم عليه، ولا هو لازِمٌ من لوازم ما
__________
(1) ص (82، 784).
(2) في “ب، ج”: “وإصْعَاده”.

(1/76)


أخبر اللَّهُ به؟
قالوا: ومن المعلوم أنَّ ما فوق السماوات ليس بمكان للطين الأرضي المتغير الرَّائحة الَّذي قد أنْتَن من تغيره، وإنَّما محل هذا الأرضِ التي هي محل المُتَغيَّرات الفاسدات، وأمَّا ما فوق الأفلاك فلا يلحقه تَغَيُّر ولا نَتَنٌ ولا فسادٌ (1) ولا استحالة، فهذا أمرٌ لا يرتابُ فيه العقلاء.
قالوا: وقد قال اللَّهُ تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) } [هود: 108]، فأخبر سبحانه أنَّ عطاء جنة الخلد غير مجذوذ.
قالوا: فإذا جُمِعَ ما أخبر اللَّهُ سبحانه به من أنَّه خلقه من الأرضِ، وجعله خليفة في الأرضِ، وأنَّ إبليس وسوس إليه في مكانه الَّذي أسكنه فيه، بعد أنْ أهبطه من السماء بامتناعه من السجود له، وأنَّه أخبر ملائكته أنَّه {جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وأنَّ دار الخلد: دار جزاء وثوابٍ على الامتحان والتَّكاليف، وأنَّها لا لغوَ فيها ولا تأثيم ولا كِذَّابًا، وأن من دخلها لا يخرج منها، ولا يَبْؤُس ولا يحزن، ولا يخاف ولا ينامُ، وأنَّ اللَّهَ حرمها على الكافرين، وإبليس رأس الكفر، فإذا جُمِعَ ذلك بعضه إلى بعضٍ، وفكَّر فيه المُنْصِفُ الَّذي رُفِعَ له علم الدليل، فشمَّر إليه، وربأ بنفسه عن حضيض التقليد تَبَيَّن له الصوابُ، واللَّهُ الموفق.
__________
(1) قوله: “ولا فساد” ليس في “أ، ج”.

(1/77)


قالوا: ولو لم يكن في هذه المسألة إلَّا أنَّ الجنَّة ليستْ دار تكليفٍ، وقد كلف اللَّه سبحانه الأبوين بِنَهْيهِمَا عن الأكل من الشجرة، فدلَّ على أنَّها دار تكليف (1) لا دار جزاء وخُلْد.
فهذا أيضًا بعض ما احتجتْ به هذه الفرقة على قولها (2) ، واللَّهُ أعلم.
__________
(1) قوله: “دار تكليف” ليس في “ج”.
(2) في “أ، ج، هـ”: “قولنا” وهو خطأ.

(1/78)


الباب الخامس في جواب أرباب هذا القول لأصحاب القول الأوَّل
قالوا: أمَّا قولكم: إنّ قولنا هو الَّذي فطر اللَّهُ عليه عباده بحيث لا يعرفون سِوَاهُ، فالمسألةُ سمعية لا تُعْرَفُ إلَّا بأخبار الرسل، ونحن وأنتم إنَّما تلقينا هذا من القرآن، لا من المعقول ولا من الفطرة، فالمتَّبع فيه ما دلَّ عليه كتابُ اللَّهِ تعالى وسنَّة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، ونحن نطالبكم بصاحبٍ واحدِ، أو تابعٍ أو أثرٍ صحيحٍ أو حسن، يصرِّح بأنها جنَّةُ الخلد التي أعدَّها اللَّهُ للمؤمنين بعَيْنِهَا، ولن تجدوا إلى ذلك سبيلًا، وقد أوجدناكم من كلام السلف ما يدل على خلافه، ولكن لمَّا وردت الجنَّة مُطْلقةً في هذه القِصَّة، وافقت اسم الجنَّة التي أعدَّها اللَّهُ لعباده في إطلاقها، وبعض أوصافها، فذهب كثيرٌ من الأوهام إلى أنَّها هي بعينها، فإنْ أردتم بالفطرة هذا القدر لم يُفِدْكم شيئًا، وإنْ أردتم أنَّ اللَّهَ فطر الخلق على ذلك كما فطرهم على حُسْن العدل وقبح الظلم، وغير ذلك من الأمور الفِطْرية فدعوى باطلة، ونحن إذا رجعنا [26/ ب] إلى فطرنا لم نجد علمها بذلك، كعلمها (1) بوجوب الواجبات، واستحالة المستحيلات.
وأمَّا استدلالكم بحديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، وقول آدم: “وهل أخرجكم منها إلَّا خطيئة أبيكم؟ ” (2) فإنَّما يدلُّ على تأخُّر آدم
__________
(1) في “ب”: “لم نجد علمنا بذلك كعلمنا”.
(2) أخرجه مسلم رقم (195)، من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

(1/79)


عليه السلام عن الاستفتاح (1) للخطيئة التي تقدمت منه في دار الدنيا، وأنَّه بسبب تلك الخطيئة حصل له الخروج من الجنَّة، كما في اللفظ الآخر: “إني نُهِيتُ عن أكل الشجرة فأكلت منها” (2) ، فأينَ في هذا ما يدل على أنَّها جنة المأوى بمطابقةٍ أو تَضَمُّن أو اسْتِلزام، وكذلك قول موسى له: “أخرجتنا ونفسَكَ من الجنَّة” (3) ، فإنَّه لم يقل له: أخرجتنا من جنة الخلد.
وقولكم: إنَّهم خرجوا إلى بساتين من جنس الجنَّة التي في الأرضِ، فاسم الجنَّة وإن أُطْلِقَ على تلك البساتين، فبينها وبين جنَّة آدم ما لا يعلمه إلَّا اللَّهُ، وهي كالسجن بالنَّسبة إليها، واشتراكهما في كونهما في الأرضِ لا ينفي تفاوتهما أعظم تفاوتٍ في جميع الأشياء.
وأمَّا استدلالكم بقوله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا} [البقرة: 36] عقيب إخراجهم من الجنَّة، فلفظُ الهبوط لا يستلزم النزول من السماء إلى الأرض، وغايته أن يدلَّ على النزول من مكان عال إلى أسفل منه، وهذا غير منكر، فإنَّها كانت جنَّةً في أعلى الأرضِ، فأُهبِطوا منها إلى الأرضِ.
__________
(1) وقع في “أ”: “الاستقباح” * ولعلَّ المثبت هو الصوابُ، بدليل ما ورد في النَّص: “فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنَّة. . ” إلخ *.
(2) أخرجه البخاري رقم (3162)، ومسلم رقم (194) من حديث أبي هريرة الطويل في الشفاعة.
(3) تقدم تخريجه ص (56 – 57).

(1/80)


وقد بيَّنَّا أنَّ الأمرَ كان (1) لآدم وزوجه وعدوهما، فلو كانت الجنَّة في السماء لما كان عدوُّهما متمكنًا منهما (2) بعد إهباطه الأوَّل؛ لمَّا أبى السُّجود لآدم عليه السلام، فالآية إذًا من أظهر الحُجَجَ عليكم، ولا تغني عنكم وجوه التَّعَسُّفَات والتكلفات التي قدَّرتُمُوها، وقد تقدمت.
وأمَّا قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة: 36]، فهذا لا يدلُّ على أنَّهم لم يكونوا قبل ذلك في الأرضِ؛ فإنَّ الأرضَ اسمُ جنسٍ، وكانوا في أعلاها وأطيبها وأفضلها، في محل لا يدركهم فيه جوع ولا عُري ولا ظمأ ولا ضحى، فأُهْبِطوا إلى أرضٍ يعرض فيها ذلك كله، وفيها حياتهم وموتهم، وخروجهم من القبور، والجنَّة التي أسكناها لم تكن دار نصبٍ ولا تعبٍ ولا أذًى، والأرض التي أهبطوا إليها هي محل التعب والنصب، والأذى وأنواع المكاره.
وأمَّا قولكم: إنَّه سبحانه وتعالى وصفها بصفاتٍ لا تكون في الدنيا.
فجوابه: أنَّ تلك الصِّفات لا تكون في الأرضِ التي أهبطوا إليها، فمن أين لكم أنَّها لا تكون في الأرضِ التي أُهْبِطوا منها.
وأمَّا قولكم: إنَّ آدم عليه السلام كان يعلم أنَّ الدنيا مُنْقَضِية فانية، فلو كانت الجنَّة فيها لَعَلِمَ كَذِبَ إبليس في قوله: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} [طه: 120].
__________
(1) ليس في “أ، ج”.
(2) في “أ، ب، جـ”: “منها”.

(1/81)


فجوابه من وجهين:
أحدهما: أنَّ الَّلفظ إنَّما يدل على الخُلْد، وهو أعمُّ من الدَّوام الَّذي لا انقطاع له، فإنَّهُ في اللغة: المُكْثُ الطَّويل. ومكث كل شيء بحسبه، ومنه قولهم: رجل مخلَّد. إذا أَسَنَّ وكَبر، ومنه قولهم لأثافيِّ (1) الصخور: خَوالِد. لطول بقائها بعد دروس الأطلال. قال:
إلَّا رمادًا هامِدًا دفعت … عنه الرياح خوالدٌ سَحْم (2)
ونظير هذا إطلاقهم القديم على ما تقادم عهده، وإن كان له أوَّل، كما قال تعالى: {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) } [يس: 39] (3) ، وَ {إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) } [الأحقاف: 11]، وقد أطلق تعالى الخلود في النَّارِ على عذاب بعض العصاة، كقاتل النفس، وأطلقه النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على قاتل نفسه.
الوجه الثاني: أنَّ العلم بانقطاع الدنيا ومجيء الآخرة، إنَّما يعلم بالوحي، ولم يتقدَّم لآدم عليه الصلاة والسلام نُبُوَّة يُعْلَمُ بها ذلك، وهو وإنْ نبَّأهُ اللَّهُ سبحانه وتعالى وأوحى إليه، وأنزل عليه صُحُفًا، كما في حديث أبي ذرٍّ (4) -رضي اللَّه عنه-، لكن هذا بعد إهباطه إلى الأرض
__________
(1) الأُثْفيَّة: أحدُ أحجار ثلاثة توضع عليها القدر. المعجم الوسيط ص (26).
(2) * انظر: ديوان المخبَّل السعدي: ضِمْن كتاب شعراء مقلُّون ص (312) *.
(3) وقع في المطبوعة هنا زيادة {إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)} [يوسف: 95].
(4) أخرجه الطبراني في “الكبير” (2/ 157 – 158) مختصرًا. وأخرجه ابن حبان في “صحيحه” رقم (361)، وفي “المجروحين” (3/ 129 – 130)، وأبو نعيم في “الحلية”: (1/ 166 – 168) مطوَّلًا.
وفيه إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني، كذَّبه أبو حاتم وأبو زرعة =

(1/82)


بنصِّ القرآن، قال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)} [طه: 123]، وكذلك في سورة البقرة: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} الآية [البقرة: 38].
وأمَّا قولكم: إنَّ الجنَّة وردت مُعَرَّفةً بالَّلامِ التي للعَهدِ فتنصرف إلى جنَّة الخُلد، فقد وردت مُعَرَّفة بالَّلام، غير مرادٍ بها جنَّة الخلد قطعًا، كقوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17)}
__________
= الرازيان.
وأخرجه أحمد في المسند: (5/ 178) مطوَّلًا, والنسائي (8/ 275) مختصرًا، وابن سعد في “الطبقات”: (1/ 32) مختصرًا وغيرهم من طريق عبيد بن الخشخاش وأبي إدريس الخولاني عن أبي ذر فذكره.
وليس فيه ذكر الصحف، وفيه: “قلت: يا رسول اللَّه، أي الأنبياء كان أوَّل؟ قال: آدم، قلت: يا رسول اللَّه، آدم أنبيٌ كان؟ قال: نعم، نبيٌّ مكلَّمٌ”.
ولا يثبتُ إسناده ففي طريق عبيد الخشخاش -وهو مجهول-: أبو عمر الدمشقي وهو متروك الحديث.
وفي طريق أبي إدريس: القاسم بن محمد وهو مجهول، وقال البوصيري: هو ضعيف.
لكن وردَ عن أبي أمامة عند ابن حبان في صحيحه (14/ رقم 6190)، والطبراني في “الأوسط” رقم (403) وفي “الكبير” رقم (7545) والحاكم (2/ 288) رقم (3039).
والحديث تفرَّد به معاوية بن سلَّام عن أخيه زيد عن أبي سلَّام عن أبي أمامة كما قال الطبراني.
والحديث صححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي، وصححه ابن كثير.
انظر: البداية والنهاية: (1/ 94).

(1/83)


[القلم: 17].
وقولكم: إنَّ السَّياق ها هنا دلَّ على أنَّها جنَّةٌ في الأرضِ.
قُلنا: والأدلة التي ذكرناها دلَّت على أنَّ جنة آدم عليه السَّلام في الأرضِ، فلذلك صِرْنَا إلى مُوْجِبِهَا، إذْ لا يجوزُ تعطيل دلالة الدليل الصحيح.
وأمَّا استدلالكم بأثر أبي موسى: “أنَّ اللَّه أخرج آدم من الجنَّة وزوَّده من ثمارها” (1) ، فليس فيه زيادة على ما دلَّ عليه القرآن، إلَّا تزوده منها، وهذا لا يقتضي أنْ تكون جنَّة الخُلْدِ.
وقوله: “إنَّ هذه تتغير، وتلك لا تتغير” فمن أين لكم أنَّ الجنَّة التي أسكنها آدم كان التَّغيُّر يَعْرِضُ لثمارها، كما يَعْرِضُ لهذه الثمار، وقد ثبتَ في الحديث الصحيح عِن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: “لولا بنو إسرائيل لم يَخْنَز الَّلحم” (2) أي: لم يَتَغَيَّر ولم يَنْتَنْ، وقد أبقى اللَّهُ سبحانه وتعالى في هذا العالم طعامَ العُزَيْر وشَرَابَهُ مئة سنةٍ لم يتغيَّر (3) .
وأمَّا قولكم: إنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى ضَمِنَ لآدم عليه السلام إنْ تابَ أن يعيده إلى الجنَّة، فلا ريبَ أنَّ الأمرَ كذلك، ولكن ليس نعلم أنَّ
__________
(1) تقدم تخريجه ص (64).
(2) أخرجه البخاري رقم (3152)، ومسلم رقم (1470)، واللفظ للبخاري من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(3) يُشير المؤلف إلى قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة: 259]، وراجع تفسير الطبري (3/ 28).

(1/84)


الضمان إنَّما يتناول عوده إلى تلك الجنَّة بِعَيْنِهَا، بل إذا أعاده إلى جنة الخلد، فقد وفَى سبحانه بضمانه حقَّ الوفاءِ، ولفظُ العَوْد لا يستلزم الرجوع إلى عَيْنِ الحالةِ الأولى، ولا زمانها ولا مكانها، بل (1) ولا إلى نظيرها، كما قال شعيب لقومه: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف: 89]، وقد جعل اللَّهُ سبحانه المُظَاهِرَ (2) عائدًا بإرادته الوطء ثانيًا، أو بنفس الوطء، أو بالإمساكِ، وكل منها غيرُ الأوَّلِ لا عينه.
فهذا ما أجابت به هذه الطائفة لمن نازعها.
__________
(1) ليس في “ب”.
(2) أي: الذي يقول لامرأته أنت عليَّ كظهر أُمِّي ونحوه. انظر: “الزاهر” للأزهري ص (443).

(1/85)


الباب السَّادس في جوابِ من زعمَ أنَّها جنَّة الخلد عمَّا احتجَّ به منازعوهم
قالوا: أمَّا قولكم: إنَّ اللَّهَ سبحانه أخبر أنَّ جنَّة الخلدِ إنَّما يقع الدخول إليها يوم القيامة، ولم يأتِ زمن دخولها بَعْدُ.
فهذا حقٌّ في الدخول المطلق، الَّذي هو دخول استقرارٍ ودوامٍ، وأمَّا الدخول العارض، فيقع قبل يوم القيامة.
وقد دخل النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الجنَّة ليلة الإسراء (1)، وأرواح المؤمنين والشهداء في البَرْزخ في الجنَّة (2)، وهذا (3) غير الدخول الَّذي أخبر اللَّهُ به في يوم القيامة (4)، فدخول الخُلُود إنَّما يكون يوم القيامة، فمن أين لكم أنَّ مُطْلق الدخول لا يكون في الدنيا، وبهذا خَرَجَ الجواب عن استدلالكم بكونها دار المقامة، ودار الخلد؟
قالوا: وأمَّا احتجاجكم بسائرِ الوجوهِ التي ذكرتموها في الجنَّة، وأنَّها لم توجد في جنَّة آدم عليه السَّلام من العُري، والنصب والحزن والَّلغوِ والكذب وغيرها.
فهذا كله حقٌّ لا ننكره نحن، ولا أحد من أهل الإسلام، ولكن هذا
__________
(1) تقدم ص (43 و 44).
(2) تقدم ص (39 و 40).
(3) في نسخة على حاشية “أ”: “وهو”.
(4) قوله: “في يوم القيامة” وقع في “أ، ب، د”: “في القيامة”، وجاء في “هـ”: “يوم القيامة”.

(1/86)


إذا دخلها المؤمنون يوم القيامة، كما يدل عليه سياق الآيات كلها، فإنَّ نفي ذلك مقرونٌ بدخول المؤمنين إيَّاها، وهذا لا ينفي أنْ يكونَ فيها بين أبوي (1) الثقلين ما حكاهُ اللَّهُ سبحانه وتعالى من ذلك، ثمَّ يصير الأمر عند دخول المؤمنين إيَّاها إلى ما أخبر اللَّهُ عنها، فلا تَنَافي بين الأمرين.
وأمَّا قولكم: إنَّها دارُ جزاءٍ وثوابٍ لا دار تكليفٍ، وقد كلَّف اللَّهَ سبحانه آدم بالنهي عن الأكل من تلك الشجرة، فدلَّ على أنَّ تلك الجنَّة دار تكليفٍ لا دار خلود.
فجوابه من وجهين:
أحدهما: أنَّه إنَّما (2) يمتنع أنْ تكون دارَ تكليفٍ إذا دخلها المؤمنون يوم القيامة، فحينئذٍ ينقطع التكليف. وأما وقوع التكليف فيها في دار الدنيا، فلا دليلَ على امتناعه البَتَّة، كيف وقد ثبت عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: “دخلتُ (3) الجنَّة فرأيتُ امرأةً تَوَضَّأُ إلى جانب (4) قصرٍ فقلتُ لمن أنتِ. . ” (5) الحديث.
__________
(1) في “ج”: “أنْ يكون فيها أبو الثقلين”، وفي “ظ”: “فيها أبوي الثقلين”.
(2) سقط من “ج”.
(3) في “أ، ج، د”: “دخلتُ البارحة” ولا توجد لفظة “البارحة” في الصحيحين، ولا في “ب، هـ”.
(4) في نسخة على حاشية “أ” “جنب”.
(5) هذا اللفظ مُركَّبٌ من حديثي جابر بن عبد اللَّهِ وأبي هريرة رضي اللَّه عنهم.
أخرجه البخاري رقم (4928) من حديث جابر رضي اللَّهُ عنهما، ورقم (6622) من حديث أبي هريرة، ومسلم في صحيحه رقم (2394 و 2395).

(1/87)


وغير ممتنع أن يكون فيها منْ يعمل بأمر اللَّهِ ويعبد اللَّه قبل يوم القيامة، بل هذا هو الواقع (1) ، فإنَّ مَنْ فيها الآن مُؤْتَمَرُون بأوامر مِنْ قِبل ربَّهم لا يتعدُّونها سواء سُمِّيَ ذلك تكليفًا أو لم يُسَمَّ.
الوجه الثاني: أنَّ التكليف فيها لم يكن بالأعمالِ التي يكلَّف بها النَّاس في الدنيا: من الصيام والصلاة والجهاد ونحوها، وإنَّما كان حَجْرًا عليهما في شجرةٍ واحدةٍ من جملة أشجارها، إمَّا واحدة بالعَيْن أو بالنَّوع، وهذا القدرُ لا يمتنع وقوعه في دار الخلد، كما أنَّ كلَّ أَحَدٍ محجورٍ عليه أنْ يَقْرَبَ أهل غيرِهِ فيها، فإنْ أردْتُم بكونها ليست دار تكليفٍ امتناع وقوع مثل هذا فيها في وقت من الأوقات، فلا دليلَ عليه، وإنْ أردتم أنَّ تكاليف الدنيا منتفيةٌ عنها، فهو حقٌّ، ولكن لا يدل على مطلوبكم.
وأمَّا استدلالكم بنوم آدم فيها، والجنَّة لا ينامُ أهلها.
فهذا إنْ ثبتَ النَّقْلُ بنَوْمِ آدم، فإنَّما ينفي النوم عن أهلها يوم دخول الخلود، حيث لا يموتون، وأمَّا قبل ذلك فلا.
وأمَّا استدلالكم بقصة وسْوَسَة إبليس له بعد إهباطه، وإخراجه من السَّماء. فَلَعْمرُ اللَّهِ إنَّه لَمِنْ أقْوَى الأدلة، وأظهرها على صحة قولكم، وتلك التَّعسُّفاتِ كدخوله (2) الجنَّة، وصعوده إلى السَّماءِ بعد إهباط اللَّه له منها (3) لا يرتضيها مُنْصِف؛ ولكن لا يمتنع أن يصعد إلى هناكَ
__________
(1) في “أ، ج، د، هـ”: “الواضح”.
(2) في “ب، ج، د”: “لدخوله”.
(3) قوله: “بعد إهباط اللَّهِ له منها” سقط من “أ”.

(1/88)


صُعُودًا عارِضًا لِتَمام الابتلاءِ والامتحان الَّذي قدَّره اللَّهُ تعالى وقدَّر أسبابه، وإنْ لم يكن ذلك المكان مَقْعَدًا له مُسْتَقِرًّا كما كان، وقد أخبر اللَّهُ سبحانه عن الشياطين أنَّهم كانوا قبل مبعث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، يقعدون من السَّماء مقاعد للسمع، فيستمعون الشيءَ من الوحي، وهذا صعودٌ إلى هناك، ولكنَّه (1) صعودٌ عارضٌ لا يستقرون في المكان الَّذي يصعدون إليه = مع قوله تعالى: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: 36]، [الأعراف: 24] فلا تنافي بين هذا الصعود وبين الأمر بالهبوط، فهذا محتملٌ، واللَّهُ أعلم.
وأمَّا استدلالكم بأنَّ اللَّهَ سبحانه أعلم آدم عليه السلام مقدار أجله، وما ذكرتم من الحديثِ وتقرير الدَّلالة منه (2) .
فجوابه: أنَّ إعلامه بذلك لا ينافي إدخاله جنَّة الخُلْد، وإسكانه فيها مُدَّة.
وأمَّا إخباره سبحانه أنَّ داخلها لا يموت، وأنَّه لا يَخْرُج منها، فهذا يومُ القيامة.
وأمَّا احتجاجكم بكونه خُلِقَ من الأرض، فلا ريب في ذلك، ولكن من أين لكم أنَّه كَمَّلَ خَلْقَهُ فيها؟ وقد جاء في بعض الآثارِ: “أنَّ اللَّهَ سبحانه ألقاهُ على باب الجنَّة أربعين صباحًا، فجعل إبليسُ يَطِيْفُ به، ويقول: لأمرٍ ما خُلِقْتَ، فلمَّا رآهُ أجوفَ علم أنَّه خلق لا يَتَمالك،
__________
(1) في “أ، ج”: “وإليه”.
(2) سقط من “ب”.

(1/89)


فقال: لئن سُلَّطْتُ عليه لأُهْلِكَنَّهُ، وإنْ (1) سُلَّطَ عليَّ لأَعْصِينَّه” (2) ، مع أنَّ قوله سبحانه: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 31 – 33] يدلُّ على أنَّه كان في السَّماء معهم بحيثُ أنبأهم بتلك الأسماء، وإلا فهم لم ينزلوا كلهم إلى الأرضِ، حتَّى سمعوا منه ذلك، ولو كان خلْقُه قد كمل في الأرضِ لم يمتنع أنْ يصعده سبحانه إلى السَّماءِ لأمرٍ دَبَّرهُ وقدَّرهُ ثمَّ يعيدهُ إلى الأرضِ، فقد أصعد المسيح صلوات اللَّه وسلامه عليه إلى السَّماءِ، ثمَّ ينزله إلى الأرضِ قبل يوم القيامة، وقد أسرى ببدن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وروحه إلى فوق السماوات.
فهذا جواب القائلين بأنَّها جنَّة الخلد لمنازعيهم، واللَّهُ أعلم.
__________
(1) في “ب، د”: “ولئن”.
(2) لم أقف عليه بهذا اللفظ، لكن أخرجه مسلم في صحيحه برقم (2611) عن أنس بن مالك رضي اللَّهُ عنه مرفوعًا بلفظ “لمَّا صوَّر اللَّهُ آدم في الجنَّة، تركه ما شاء اللَّهُ أن يتركه، فجعل يطيف به، ينظر ما هو، فلمَّا رآهُ أجوف عرف أنَّهُ خُلِق خلْقًا لا يتمالك”.

(1/90)


الباب السَّابع في ذكر شُبَه من زعم أنَّ الجنَّةَ لم تُخلق بعد
قالوا: لو كانت مخلوقة الآن لوجب اضْطِرارًا إلى أنْ تَفْنى يوم القيامة، وأن يَهْلِك كل ما فيها ويموت، لقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] و {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]، فتموت الحور العين التي فيها والوِلْدان، وقد أخبر اللَّهُ سبحانه أنَّ الدَّار دار خلود، ومن فيها يخلدون (1) لا يموتون فيها، وخبره سبحانه لا يجوز عليه خُلْف ولا نسخ.
قالوا: وقد روى الترمذي في “جامعه” من حديث ابن مسعود رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لقيتُ إبراهيم ليلةَ أُسري بي فقال: يا محمد أقرئ أُمَّتَكَ منَّي السَّلام، وأخبرهم أنَّ الجنَّة طيبةُ التربة عذبةُ الماءِ، وأنَّها قيعان، وأنَّ غراسها: سبحانَ اللَّه، والحمدُ للَّه، ولا إله إلَّا اللَّه، واللَّهُ أكبر” (2). قال: “هذا حديث حسن غريب”.
وفيه أيضًا، من حديث أبي الزبير عن جابر رضي اللَّهُ عنه عن النَّبي
__________
(1) في “د، هـ”: “مخلدون”.
(2) أخرجه الترمذي رقم (3462)، والطبراني في الصغير رقم (539)، وفي الأوسط (4170).
وهو حديث معل بالإرسال أعلَّه أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان كما في العلل (1/ 170 – 171).
* وورد عن أبي أيوب وابن عمر.
انظر: “جلاء الأفهام” ص (316 – 317).

(1/91)


-صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: “من قالَ سبحانَ اللَّه وبحمدهِ، غُرِسَت له نَخلةٌ في الجنَّة” (1) . قال: “هذا حديثٌ حسنٌ صحيح”.
قالوا: فلو كانت الجنَّة مخلوقةً مفروغًا منها، لم تكن قيعانًا، ولم يكن لهذا الغرس معنى.
قالوا: وقد قال تعالى عن امرأةِ فرعون أنَّها قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11]، ومحال أن يقول قائل لمن نسج له ثوبًا، أو بنى له بيتًا: انسج لي ثوبًا، وابن لي بيتًا.
وأصرح من هذا قول النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “من بنى للَّه مسجدًا بنى اللَّهُ له به بيتًا في الجنَّة” متفق عليه (2) .
وهذه جُمْلة مركَّبة من شَرْطٍ وجزاءٍ، تقتضي وقوع الجزاء بعد الشرط بإجماع أهل العربية، وهذا ثابتٌ عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من رواية عثمان ابن عفان، وعلي بن أبي طالب، وجابر بن عبد اللَّه، وأنس بن مالك، وعمرو بن عبسة (3) رضي اللَّه عنهم.
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم (3464 و 3465)، وابن حبان في صحيحه (3/ رقم 826 و 827)، والحاكم في المستدرك (1/ 680 و 693) رقم (1847 و 1888) وغيرهم.
قال الترمذي: “حسن غريب، لا نعرفه إلَّا من حديث أبي الزبير”. انظر: تحفة الأشراف: (2/ 292، 294).
والحديث صححه ابن حبان والحاكم والمنذري والهيثمي.
(2) أخرجه البخاري رقم (439)، ومسلم رقم (533) عن عثمان بن عفان.
(3) أمَّا حديث عثمان: فقد تقدَّم آنفًا. =

(1/92)


قالوا: وقد جاءت آثار بأنَّ الملائكة تغرس فيها، وتبني للعبد ما دام يعمل، فإذا فَتَرَ فتر الملك عن العمل.
قالوا: وقد روى ابن حبان في “صحيحه” والإمام أحمد بن حنبل في “مسنده” من حديث أبي موسى الأشعري قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إذا قَبَضَ اللَّهُ ولدَ العبد، قالَ: يا ملكَ الموتِ قبضتَ ولدَ عبدي، قبضت قُرَّة عينه وثمرة فؤادِهِ، قال: نعم، قال: فما قال؟ قال: حَمدكَ واسترجعَ، قال: ابنوا له بيتًا في الجنَّة، وسمُّوه بيتَ الحمد” (1) .
__________
= * وأما حديث علي بن أبي طالب: فأخرجه ابن ماجة برقم (737).
قال البوصيري: “هذا إسناد ضعيف، الوليد مدلَّس وابن لهيعة ضعيف،. . . “.
* وأمَّا حديث جابر: فأخرجه ابن ماجة رقم (738)، وابن خزيمة في صحيحه (2/ رقم 1292).
والحديث صحَّحه ابن خزيمة والبوصيري.
* وأمَّا حديث أنس: فأخرجه الترمذي رقم (319).
وفيه زياد النميري: وهو ضعيف، انظر: التقريب (2087).
* وأمَّا حديث عمرو بن عبسة: فأخرجه النسائي (2/ 32)، والترمذي (1635) مختصرًا، وأحمد (4/ 386) مطوَّلًا وغيرهم.
وقال الترمذي: “حسن صحيح غريب”.
(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه (7/ رقم 2948)، وأحمد (4/ 415)، والترمذي رقم (1021).
من طريق أبي سنان عن أبي طلحة عن الضحاك بن عرزب عن أبي موسى فذكره.
قال الترمذي: “هذا حديث حسن غريب”.
وفيه أبو سنان عيسى بن سنان القسملي، فيه ضعف، وأيضًا فيه أبو طلحة =

(1/93)


وفي “المسند” من حديثه أيضًا قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “من صلَّى في يومٍ وليلةٍ ثنتي عشْرة ركعةً سوى الفريضة بُنيَ له بيت في الجنَّة” (1) .
قالوا: وليس هذا من أقوال أهل البدع والاعتزال كما زعمتم، فهذا ابن مُزين قد (2) ذكر في “تفسيره” عن ابن نافع، وهو من أئمة السنَّة، أنَّهُ سُئِلَ عن الجنَّة أمخلوقة هي؟ فقال: السكوت عن هذا أفضل. واللَّهُ أعلم.
__________
= الخولاني الشامي: فيه جهالة. والضحاك لم يسمع من أبي موسى.
انظر: إتحاف المهرة (10/ 32)، والتقرب (5295، 8189).
(1) أخرجه أحمد في المسند (4/ 413)، والبزار كما في “كشف الأستار” رقم (702) والطبراني في الأوسط (6/ رقم 9436).
من طريق حماد بن زيد عن هارون أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى فذكره.
قال الطبراني: “لم يرو هذا الحديث عن أبي بردة إلَّا هارون أبا إسحاق، تفرَّد به حماد بن زيد، ولا يُروى عن أبي موسى إلَّا بهذا الإسناد”.
وقال البزَّار: “تفرد به هارون، ولم يتابع عليه. . . “.
قلت: وقد اختلف عن حمَّاد بن زيد، فرفعه عنه سليمان بن حرب وأحمد الموصلي، وأرسله عنه عارم ومسدَّد.
انظر: “التاريخ الكبير”: (8/ 255) للبخاري.
فلعلَّ هذا الاضطراب من هارون أبي إسحاق، فقد ذكر هذا الاختلاف البخاري في ترجمة هارون هذا.
لكن المتن ثابت من حديث أم حبيبة عند مسلم في صحيحه رقم (728).
(2) من (ب، جـ، د، هـ) ونسخة على حاشية “أ”.

(1/94)


الباب الثامن في الجواب عمَّا احتجت به هذه الطائفة
وقد تقدَّم في الباب الأوَّل من ذكر الأدلَّة الدَّالة على وجود الجنَّة الآن ما فيه كفاية.
فنقول: ما تعنون بقولكم: إنَّ الجنَّة (1) لم تُخْلَق بَعْدُ؟ أتريدون أنَّها الآن عدَمٌ محضٌ لم تدخل إلى (2) الوجود بعدُ، بل هي بمنزلة النفخ في الصُّور، وقيام النَّاس من القبور؟ فهذا قولٌ باطلٌ يَرُدُّه المعلوم بالضَّرورة من الأحاديث الصريحة الصحيحة التي تقدَّم بعضها، وسيأتي بعضها، وهذا قول لم يقله أحد من السلف، ولا أهل السنَّة، وهو باطل قطعًا. أم تريدون أنَّها لم تخلق بكمالها، وجميع ما أعدَّ اللَّهُ فيها لأهلها، وأنَّها لا يزال اللَّهُ يُحْدِثُ فيها شيئًا بعد شيء، وإذا دخلها المؤمنون أَحْدثَ اللَّهُ فيها عند دخولهم أُمُورًا أُخر، فهذا حقٌّ لا يمكن ردُّه.
وأدلتكم هذه إنَّما دلَّت على هذا القدر، وحديث ابن مسعود رضي اللَّهُ عنه الَّذي ذكرتموه (3)، وحديث أبي الزبير، عن جابر (4): صريحان في أنَّ أرضها مخلوقة، وأنَّ الذِّكْر يُنشئ اللَّهُ سبحانه لقائله
__________
(1) قوله: “إنَّ الجنَّة” ليس في “ب”.
(2) في “ب”: “في”.
(3) تقدم ص (91).
(4) تقدم ص (92 – 93).

(1/95)


منه غراسًا في تلك الأرضِ، وكذا بناءُ البيوت فيها بالأعمال المذكورة، والعبد كلَّما وسَّع في أعمال البر (1) وُسِّعَ له في الجنَّة، وكلَّما عمل خيرًا غُرِسَ له به هناك غِراس، وبُنِيَ له به بناء (2) ، وأُنْشئ له من عمله أنواع ممَّا يتمتعَّ به، فهذا القدرُ لا يدلُّ على أنَّ الجنَّة لم تخلق بعد، ولا يسوغ إطلاق ذلك.
وأمَّا احتجاجكم بقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] فإنَّما أُتِيتُم من عَدَم فهمكم معنى الآية، واحتجاجكم بها على عدم وجود الجنَّة والنَّارِ الآن نظير احتجاج إخوانكم بها على فنائهما وخرابهما وموت أهلهما (3) ، فلا أنتم وُفِّقْتُم لِفَهْمِ معناها ولا إخوانكم، وإنَّما وُفَّقَ لفهم معناها السلف، وأئمة الإسلامِ، ونحن نذكر بعض كلامهم في الآية.
قال البخاري في “صحيحه”: “يقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}: إلَّا ملكه، ويقال: إلَّا ما أُريد به وجهه” (4) .
وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد اللَّه: “فأمَّا السَّماء والأرض فقد زالتا؛ لأنَّ أهلها صاروا إلى الجنَّة وإلى النَّار، وأمَّا العرش فلا يَبيدُ ولا يذهبُ؛ لأنَّهُ سَقْفُ الجنَّة، واللَّهُ سبحانه وتعالى عَلَيْهِ، فلا يَهلك ولا يبيد.
__________
(1) ليس في “ب”.
(2) في “ب”: “وبنى له بيتًا”، ووقع في “ج، د”: “له بناء”.
(3) وقع في “أ”: “فنائها، وخرابها وموت أهلها” بالإفراد.
(4) انظر: صحيح البخاري: (68) التفسير (262)، باب: تفسير سورة القصص: (4/ 1788).

(1/96)


وأمَّا قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} وذلك أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى أنزل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) } [الرحمن: 26]، فقالت الملائكة: هلك أهل الأرض – وطَمِعُوا في البقاءِ – فأخبر اللَّه سبحانه وتعالى عن أهل السماواتِ وأهل الأرضِ أنَّهم يموتون فقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ} [القصص: 88]-يعني: ميِّت- {إِلَّا وَجْهَهُ}؛ لأنَّه حيٌّ لا يموت، فأَيْقَنَتِ الملائكة عند ذلك بالموت” (1) . انتهى كلامه.
وقال في رواية أبي العباسِ أحمد بن جعفر بن يعقوب الإصْطَخْرِي، ذكره أبو الحسين في كتاب “الطبقات” (2) قال: “قال أبو عبد اللَّهِ أحمد بن حنبل: هذه مذاهب أهل العلمِ، وأصحاب الأثرِ، وأهل السنَّة المتمسِّكين بعروتها، المعروفين بها، المتقدى بهم فيها، من لدن أصحاب نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى يومنا هذا، وأدركتُ من أدركتُ من (3) علماء أهل الحجاز والشَّام وغيرهم عليها، فمن خالف شيئًا (4) من هذه المذاهب، أو طعن فيها، أو عاب قائلها، فهو مخالف مبتدع خارج عن الجماعة، زائلٌ عن منهج السنَّة وسبيل الحقِّ”.
وساق أقوالهم إلى أنْ قال: “وقد خلقت الجنَّةُ وما فيها، وخلقت النَّار وما فيها، خلقهما اللَّهُ عزَّ وجل، وخلق الخلق لهما (5) ، ولا
__________
(1) انظر: الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد ص (148).
(2) من قوله: “أحمد بن جعفر” إلى “الطبقات” سقط من “ب”.
(3) ليس في “ب”.
(4) ليس في “ب”.
(5) في “ب”: “وخلق كلَّ شيءٍ الخلق لهما” بدل “وخلق الخلق لهما”.

(1/97)


يفنيان، ولا يفنى ما فيهما أبدًا.
فإنْ احتج مبتدعٌ، أو زنديقٌ بقول اللَّهِ عزَّ وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] وبنحو هذا من متشابه القرآن، قيل له: كلُّ شيءٍ ممَّا كتب اللَّهُ عليه الفناء والهلاك هالك، والجنَّة والنَّار خلقتا للبقاءِ لا للفناءِ ولا للهلاكِ، وهما من الآخرة لا من الدنيا، والحور العين لا يَمُتْنَ عند قيام الساعة، ولا عند النفخة، ولا أبدًا؛ لأنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ خلقهنَّ للبقاءِ، لا للفناءِ، ولم يكتب عليهنَّ الموت، فمن قال خلاف هذا فهو مبتدع، وقد ضلَّ عن سواء السبيل.
وخلق سبع سماوات، بعضها فوق بعضٍ، وسبع أرضين، بعضها أسفل من بعض، وبين الأرض العليا والسماء الدنيا مسيرة خمس مائة عام، وبين كلِّ سماءٍ إلى سماءٍ مسيرة خمس مائة عام، والماء فوقُ السَّماء العليا السَّابعة، وعرش الرحمن عزَّ وجلَّ فوق الماء، واللَّهُ عزَّ وجلَّ على العرشِ، والكرسي موضع قدميه، وهو يعلم ما في السماوات والأرضين السبع، وما بينهما، وما تحتَ الثَّرى، وما في قَعْرِ البحر، ومنْبَت كلِّ شعرةٍ وشَجَرة، وكل زرعٍ وكل نباتٍ، ومسقط كلِّ ورقة، وعدد كل كلمة، وعدد الرَّملِ والحصَى والتراب، ومثاقيلِ الجبالِ، وأعمالِ العباد، وآثارهم وكلامهم وأنفاسهم، ويعلمُ كلَّ شيء لا يخفى عليه من ذلك شيء، وهو على العرش فوق السماء السابعة، ودونه حُجُبٌ من نارٍ ونورٍ وظُلمةٍ، وما هو أعلم بها.
فإنْ احتج مبتدعٌ ومخالفٌ بقول اللَّهِ عزَّ وجلَّ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)} [ق: 16] وقوله: {وَهُوَ مَعَكُم] [الحديد: 4] وقوله:

(1/98)


{إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7]، وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] ونحو هذا من متشابه القرآن فقل: إنَّما يعني بذلك العلم؛ لأنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ على العرشِ فوق السَّماء السَّابعة العليا، يعلم ذلك كله، وهو بائنٌ من خلقه، لا يخلو من علمه مكان” (1) .
وقال في رواية أبي جعفر الطائي محمد بن عوف بن سفيان الحمصي، قال الخلالُ: “حافظٌ إمامٌ في زمانهِ، معروفٌ بالتَّقدُّم في العلم والمعرفة، كان أحمد بن حنبل يعرف له ذلك ويقبل منه، ويسأله عن الرِّجالِ من أهل بلده” (2) قال: “أملى عليَّ أحمد بن حنبل -فذكر الرِّسالة في “السنة” ثمَّ قال في أثنائها-: “وأنَّ الجنَّة والنَّارَ مخلوقتانِ قد خلقتا كما جاء الخبر، قال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “دخلتُ الجنَّة فرأيتُ فيها قصرًا” (3) ، و”رأيت الكوثر” (4) ، و”اطَّلعتُ في النَّار فرأيتُ أكثرَ أهلِها كذا وكذا” (5) فمن زعمَ أنَّهما لم تُخلقا؛ فهو مكذِّبٌ برسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-
__________
(1) انظر: “طبقات الحنابلة” لابن أبي يعلى: (1/ 24 – 29).
(2) انظر: المصدر السَّابق (1/ 310).
(3) تقدم الحديث ص (44).
(4) ورد من حديث أنس رضي اللَّهُ عنه قال: لمَّا عُرِجَ بالنَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى السَّماءِ، قال: أتيتُ على نهر، حافتاه قِبابُ اللؤلؤ مجوَّفًا، فقلتُ: ما هذا يا جبريلُ؟ قال: هذا الكوثر”.
أخرجه البخاري برقم (4680).
(5) ورد من حديث عمران بن حصين أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “اطَّلعتُ في الجنَّةِ فرأيتُ أكثرَ أهلها الفقراء، واطَّلعتُ في النَّار فرأيتُ أكثر أهلها النساء”.
أخرجه البخاري رقم (3069). وراجع ص (258) وما بعدها.

(1/99)


وبالقرآنِ، كافرٌ بالجنَّة والنَّار، يُسْتَتَابُ، فإنْ تابَ وإلَّا قُتِلَ” (1) .
وقال: في رواية عبدوس بن مالك العطَّار، وذكر رسالته في “السنَّة” قال فيها: “والجنَّة والنَّارُ مخلوقتان، قد خلقتا كما جاء عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “اطلعتُ في (2) الجنَّة فرأيتُ أكثر أهلها كذا وكذا، واطَّلعتُ في النَّارِ فرأيتُ أكثر أهلها كذا وكذا”، فمن زعمَ أنَّهما لم تُخْلقا فهو مكذِّبٌ بالقرآنِ، وأحاديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا أحسبهُ يؤمن بالجنَّة والنَّار” (3) .
فتأمَّل هذه الأبواب وما تضمنته من النقولِ، والمباحث، والنُّكَت والفوائدِ التي لا يظفر بها في غير هذا الكتاب البتَّة.
ونحن اختصرنا الكلام في ذلك، ولو بسطناهُ لقام منه سفرٌ ضخمٌ، واللَّهُ المستعان، وعليه التكلان، وهو الموفِّقُ للصَّوابِ.
__________
(1) انظر: “طبقات الحنابلة”: (1/ 311 – 312).
(2) في “أ”: “على”.
(3) انظر: طبقات الحنابلة: (1/ 245 – 246).

(1/100)


الباب التَّاسع في ذكر عدد أبواب الجنَّة
قال اللَّهُ تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ [33/ ب] خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]، وقال فى صفة النَّار: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71] بغير واو.
فقالت طائفة: هذه واو الثمانية دخلت في أبواب الجنَّة، لكونها ثمانية، وأبواب النَّار سبعة فلم تدخل الواو.
وهذا قولٌ ضعيف لا دليل عليه، ولا تعرفه العرب، ولا أئمة العربية، وإنَّما هذا من استنباط بعض المتأخرين (1).
وقالت طائفة أخرى: الواو زائدة، والجواب: الفعل الَّذي بعدها، كما هو في الآية الثانية.
وهذا أيضًا ضعيف، فإنَّ زيادة الواو غير معروف في كلامهم، ولا يليقُ بأفصح الكلام أنْ يكون فيه حرفٌ زائد بغير معنى ولا فائدة.
وقالت طائفةٌ ثالثة: الجواب محذوف، وقوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] عطف على قوله: {جَاءُوهَا}.
__________
(1) * كالثعلبي وابن خالويه والحريري الأديب * وانظر: “بدائع الفوائد” للمؤلف: (2/ 663 – 365) و (3/ 915 – 919)، * و”الفصول المفيدة” للعلائي ص (142 – 245) *.

(1/101)


هذا اختيار أبي عُبَيْدة والمُبَرِّد والزَّجَاج وغيرهم (1) .
قال المبرِّد: “وحذفُ الجواب أبلغ عند أهل العلم” (2) .
قال أبو الفتح بن جِنِّي: “وأصحابنا يَدفعون زيادة الواوِ ولا يُجِيْزونه، ويرون أنَّ الجواب محذوفٌ للعلم به” (3) .
بَقِيَ أنْ يقالَ: فما السِّرُّ في حذف الجواب في آية أهل الجنَّة، وذِكْرِهِ في آية أهل النَّارِ؟ فيقال: هذا أبلغُ في الموضعين، فإنَّ الملائكة تسوق أهل النَّارِ إليها، وأبوابُها مُغلقة، حتَّى إذا وصلوا (4) إليها فتحت في وجوههم ففجأهم (5) العذابُ بغتةً، فحين انتهوا إليها {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} بلا مُهْلَة، فإنَّ هذا شأن الجزاء المترتب على الشرط أن يكون عقيبه، فإنَّها دار الإهانة والخِزي، فلم يُسْتأذن لهم في دخولها، ويُطلبُ إلى خزنتها أنْ يمكنوهم من الدخول.
وأمَّا الجنَّة فإنَّها دار اللَّهُ، ودار كرامته، ومحل خواصّه وأوليائه، فإذا انتهوا إليها صادفوا أبوابها مغلقة فيرغبون إلى صاحبها ومالكها أنْ يفتحها لهم، ويستشفعون إليه بأُولي العزم من رسله، فكلهم يتأخَّر عن ذلك، حتَّى تقع الدَّلالة على خاتمهم وسيدهم وأفضلهم فيقول: “أنا
__________
(1) انظر: “معاني القرآن” للزجاج (4/ 364)، و”مجاز القرآن” (2/ 192).
(2) انظر: * المقتضب له: (2/ 77 – 78) *.
(3) انظر: * “سِرّ صناعة الإعراب” له: (2/ 646) *.
(4) من قوله: “في الموضعين” إلى “وصلوا” سقط من “ج” ووقع في “أ، ب، د”: “دخلوا”، وفي “هـ”: “دخلوها” بدلًا من “وصلوا” وهو خطأ.
(5) في “ج”: “فيفجئهم”، وفي نسخةٍ على حاشية “أ”: “فيجيئهم”.

(1/102)


لها” (1) : فيأتي إلى تحتِ العرش ويخرُّ ساجدًا لربه، فيدعه ما شاء أنْ يدعه، ثمَّ يأذنُ له في رفع رأسهِ، وأنْ يسأل حاجته، فيشفع إليه سبحانه في فتح أبوابها فيشفعه، ويفتحها تعظيمًا لخطرها، وإظهارًا لمنزلة رسوله وكرامته عليه.
وإنَّ مثل هذه الدَّار التي هي دار ملك الملوك ورب العالمين، إنَّما دُخِلَ إليها بعد تلك الأهوالِ العظيمة التي أولها من حين عقل العبد في هذه الدَّار إلى أنْ انتهى إليها، وما رَكِبَهُ من الأطباق طبقًا بعد طبق، وقاساه من الشدائد شدَّةً بعد شدَّة، حتَّى أذنَ اللَّهُ تعالى لخاتم أنبيائه ورسله، وأحبِّ خلقه إليه أنْ يشفع إليه في فتحها لهم.
وهذا أبلغُ وأعظمُ في تمام النِّعمة وحصول الفرحِ (2) والسُّرور ممَّا يُقَدَّرُ بخلاف ذلك، ولئلا يتوهمُ الجاهل أنَّها بمنزلة الخان (3) الَّذي
__________
(1) أخرجه البخاري رقم: (6197)، ومسلم رقم (193) – (326) واللفظ لمسلم من حديث أنس بن مالك رضي اللَّهُ عنه.
تنبيه: ليس في حديث الشفاعة الطويل ما ذكره المؤلفُ “من أنَّ طلبهم للشفاعة كان بسبب وجودهم أبواب الجنَّة مغلقة، بل الَّذي جاء فيه – وهذا لفظه -: “يجمعُ اللَّهُ النَّاس يوم القيامة، فيهتمُّون -وفي لفظٍ: فيلهمون- لذلك، فيقولون: لو استشفعنا على ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، قال فيأتون آدم. .، وذكر الحديث بطوله واللفظ لمسلم.
فَلَعَلَّه في حديثٍ آخر فلينظر.
(2) في “ج”: “الفَرَج”.
(3) الخان: الذي للتُّجارِ. أي: المتجر، ويحتمل: الفندق. انظر: “الصحاح”: (2/ 1551)، و”المعجم الوسيط” ص (286).

(1/103)


يدخله من شاء، فجنَّة اللَّهِ غاليةٌ عاليةٌ، بين النَّاس وبينها من العقبات (1) والمفاوز والأخطار ما لا تنال إلا بهِ، فما لِمَنْ أتْبَعَ نفسه هواها وتمنَّى على اللَّهِ الأمانيَّ ولهذه الدَّار؟ فليُعَدِّ عنها إلى ما هو أولى به، وقد خُلِقَ لهُ وهُيِّئَ له.
وتأمَّل ما في سَوْقِ الفريقين إلى الدَّارين زمرًا من فرحة هؤلاء بإخوانهم، وسَيْرهم معهم كل زمرة على حِدَة، مشتركين في عملٍ متصاحبين فيه على زمرتهم وجماعتهم، مستبشرين أقوياء القلوب، كما كانوا في الدنيا وقت اجتماعهم على الخير، كذلك يؤنس بعضهم بعضًا، ويفرح بعضهم ببعض.
وكذلك أصحاب الدَّار الأُخرى يُسَاقون إليها زمرًا، يلعن بعضهم بعضًا، ويتأذَّى (2) بعضهم ببعض، وذلك أبلغ في الخزي والفضيحة والهَتِيْكَة، من أن يساقوا واحدًا واحدًا، فلا تُهمِلْ تَدَبُّر قوله: {زُمَرًا}.
وقال خزنة أهل (3) الجنَّة لأهلها: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} فبدؤوهم بالسَّلام المتضمِّن للسلامة من كلِّ شرٍّ ومكروهٍ، أي: سَلِمْتُمْ، فلا يلحقكم بعد اليومِ ما تكرهون، ثمَّ قالوا لهم: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا} أي: سلامتكم ودخولها بطيبكم، فإنَّ اللَّهَ حرَّمها إلَّا على الطيبين، فبشَّروهم
__________
(1) في “ب”: “العقاب” وهو خطأ.
(2) في “ب”: “وينادي”.
(3) ليس في “ب”.

(1/104)


بالسَّلامة وبالطيبِ، والدخول والخلود.
وأمَّا أهلُ النَّارِ، فإنَّهم لما انتهوا إليها على تلك الحال من الهمِّ والغمِّ والحُزنِ، وفتحت لهم أبوابها، ووقفوا عليها وزيدوا إلى ما هم عليه توبيخ خزنتها، وتبْكِيتهم لهم بقولهم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الزمر: 71] فاعترفوا وقالوا: بلى. فبشروهم بدخولها والخلود فيها، وأنَّها بئس المثوى لهم.
وتأمَّل قول خزنة الجنَّة لأهلها: {ادْخُلُوهَا}: وقول خزنة النَّارِ (1) لأهلها: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} تَجِدْ تَحْتهُ سرًّا لطيفًا ومعنًى بديعًا لا يخفى على المُتأمِّلِ، وهو: أنَّها لمَّا كانت دار العقوبة وأبوابها أفظع شيءٍ، وأشد (2) حرًّا، وأعظم غمًّا، يستقبل فيها الداخلُ من العذاب ما هو أشد منها، ويدنو من الغمّ والخزي والكرب بدخول الأبواب = قيل (3) : ادخلوا أبوابها صَغَارًا لهم، وإذْلالًا وخزيًا، ثمَّ قيل لهم: لا يقتصر بكم (4) على مجرَّد دخول الأبواب الفظيعة، ولكن وراءها الخلود في النَّار.
وأمَّا الجنَّة فهي دار الكرامة، والمنزل الَّذي أعدَّه اللَّهُ لأوليائه، فبُشروا من أوَّل وَهْلَةٍ بالدخولِ إلى المقاعد والمنازل والخلود فيها.
__________
(1) في “ب”: “أهل النَّار” بدل “النَّار”.
(2) في “ج، د”: “وأشده”، وفي “ب”: “وأشده حرًّا وأعظمه إثمًا”.
(3) في جميع النسخ “فقيل” ولعلَّ الصواب ما أثبته، وهو جواب “لمَّا”.
(4) في “ب”: “منكم”.

(1/105)


وتأمَّل قوله سبحانه: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) } [ص: 50 – 51] كيف تجد تحته معنى بديعًا، وهو أنَّهم إذا دخلوا الجنَّة لم تغلق أبوابُها عليهم بل تبقى مفتحة كما قال (1) .
وأمَّا النَّارُ فإذا دخلها أهلها أُغلقت عليهم أبوابها، كما قال تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} [الهمزة: 8] أي مطبقة مغلقة (2) ، ومنه سُمِّيَ الباب وصِيدًا وهي: {مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} قد جعلت العُمُد مُمْسكة للأبواب من خلفها، كالحجر العظيم الَّذي يُجْعل خلف الباب.
قال مُقَاتِل: “يعني أبوابها عليهم مطبقة، فلا يفتح لها باب، ولا يخرج منها غَم، ولا يدخل فيها رَوْح آخرَ الأبَدِ” (3) .
وأيضًا: فإنَّ في تفتيح الأبواب لهم إشارةٌ إلى تصرفهم وذهابهم وإيابهم وتَبؤهم من الجنَّة حيث شاؤوا، ودخول الملائكة عليهم كل وقت بالتُّحف والألطاف من ربهم، ودخول ما يَسُرُّهم عليهم كل وقت.
وأيضًا: إشارة إلى أنَّها دارُ أمْنٍ لا يحتاجون فيها إلى غَلْقِ الأبوابِ، كما كانوا يحتاجون إلى ذلك في الدنيا.
وقد اختلف أهل العربية في الضمير العائد من الصِّفة على
__________
(1) في “ب، د”: “هي”.
(2) ليس في “ب”.
(3) انظر: “تفسير مقاتل”: (3/ 519).

(1/106)


الموصوف في هذه الجملة (1) .
فقال الكوفيون: التَّقْدير مفتَّحة لهم أبوابها. والعربُ تعاقب بين الألف والَّلامُ والإضافة، فيقولون: مررتُ برجل حسن العين: أي عينه. ومنه (2) قوله تعالى: {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) } [النازعات: 39] أي: مأواه.
وقال بعض البصريين: التقديرُ: مفتحة لهم الأبواب منها. فحذف الضمير وما اتصل به، قال: وهذا التقديرُ في العربية أجودُ من أنْ تجعل الألف والَّلام بدلًا من الهاءِ والألفِ، أي (3) معنى الألف والَّلام ليس من معنى الهاء والألف في شيء؛ لأنَّ الهاء والألف اسم، والألف والَّلام دخلتا للتعريف، ولا يُبْدَل حرفٌ من اسم، ولا ينوب عنه.
قالوا: وأيضًا لو كانت الألف والَّلامُ بدلًا من الضَّمير لوجب أنْ يكون في {مُفَتَّحَةً} ضمير الجنَّات، ويكون المعنى مفتحة هي، ثمَّ أُبْدِلَ منها الأبواب، ولو كان كذلك لوجب نصب الأبواب لكون {مُّفَتَّحَةً} قد رفع (4) ضمير الفاعل، فلا يجوز أن يرتفع به اسمٌ آخر لامتناع ارتفاع فاعِلَيْن بفعلٍ واحدٍ، فلمَّا ارتفع {الْأبَوَابُ} دلَّ على أنَّ {مُّفَتَّحَةً} حالٌ من ضمير، و {الْأَبَوَابُ} مرتفعة به. وإذا كان في الصِّفة
__________
(1) انظر: “معاني القرآن” للفراء: (2/ 408 – 409)، وللزجاج: (4/ 337)، و”البحر المحيط”: (7/ 387).
(2) في “أ، ج”: “ومعنى”. والمثبت أصح.
(3) في “ب”: “لأنَّ”.
(4) في “ب، ج”: “وقع”.

(1/107)


ضمير تعَيَّنَ نصْبُ الثاني، كما تقول: مررت برجل حسن الوجه. ولو رفعت “الوجهَ” ونَوَّنْتَ “حَسَنًا” لم يجز، فالألف والَّلامُ إذًا للتعريف ليس إلَّا، فلا بُدَّ من ضمير يعودُ على الموصوف الَّذي هو جنَّات عدنٍ، ولا ضمير في اللفظ، وهو محذوف، تقديره: الأبواب منها.
وعندي: أنَّ هذا غير مبطل لقول الكوفيين، فإنَّهم لم يُرِيْدُوا بالبدَلِ إلَّا أنَّ الألف والَّلام خَلَفٌ وعِوَضٌ عن الضمير يغني (1) عنه، وإجماع العرب على قولهم: حسن الوجه، وحسن وجهه = شاهدٌ بذلك، وقد قالوا: إنَّ التنوين بدل من الألف والَّلام. بمعنى: أنَّهما لا يجتمعان، وكذلك المضاف إليه يكون بدلًا من التنوين، والتنوين بدلٌ من الإضافة، بمعنى: التَّعَاقب والتَّوارد، ولا يريدون بقولهم: هذا بدلٌ من هذا، أنَّ (2) معنى البدلِ معنى المُبْدَل منه، بل قد يكون في كلٍّ منهما معنى لا يكون في الآخر.
فالكوفيون أرادوا أنَّ الألفَ والَّلام في {الْأَبْوَابُ} أغنت عن الضمير؛ لو قيل: أبوابها، وهذا صحيح، فإنَّ المقصود الربط بين الصفة والموصوف بأمرٍ يجعلها له لا مستقلة، فلمَّا كان الضميرُ عائدًا على الموصوف تعيَّن (3) توهم الاستقلال، وكذلك لام التعريف، فإنَّ كلًّا من الضَّمير والَّلام يُعَيِّن صاحبه: هذا يعيِّن (4) تفسيره، وهذا
__________
(1) في “ج”: “يَعْني”.
(2) في “ج”: “أي”.
(3) في “ب”: “نفى”، في “هـ”: “تعيَّن الاستقلالُ”.
(4) في “أ، ب، ج، د”: “معنى”.

(1/108)


يُعَيِّن ما دخل عليه، وقد قالوا في “زيد نعم الرجل”: إنَّ الألف والَّلام أغنت عن الضمير، واللَّهُ أعلم.
وقد أعرب الزمخشري هذه الآية إعرابًا اعْتُرِضَ عليه فيه، فقال: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} معرفة، لقوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} [مريم: 61]، وانتصابها على أنَّها عطف بيان لـ {لَحُسْنَ مَئَابٍ}، و {مُفَتَّحَةً} حال، والعامل فيها ما في {لِلْمُتَّقِينَ} من معنى الفعل، وفي {مُفَتَّحَةً}: ضمير الجنَّات، و {الأَبَوَابُ}: بدل من الضمير، تقديره: مفتحة، هي الأبواب، كقولهم: “ضرب زيد اليد والرجل”، وهو من بدل الاشتمال” (1) . هذا إعرابه.
فاعتُرِضَ عليه بأنَّ {جَنَّاتِ عَدْنٍ} ليس فيها ما يقتضي تعريفها. وأمَّا قوله: {الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ} فَبَدَل، لا صِفَة. وبأنَّ: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} لا يسهل (2) أن تكون عطف بيان لـ {لَحُسْنَ مَئَابٍ} على قوله؛ لأنَّ جريان المعرفة على النكرة عطف بيان = لا قائل به، فإنَّ القائلَ قائلان:
أحدهما: أنَّه لا يكون إلَّا في المعارف، كقول البصريين.
والثاني: أنَّه يكونُ في المعارف والنَّكِرَاتِ بشرط المطابقة، كقول الكوفيين وأبي علي الفارسي.
وقوله: إنَّ في {مُفَتَّحَةً} ضمير الجنَّات، فالظاهر خلافه، وأنَّ {الْأَبْوَابُ}: مرتفعٌ به، ولا ضمير فيه.
__________
(1) انظر: “الكشاف”: (4/ 100).
(2) في “د، هـ” ونسخةٍ على حاشية “أ”: “تشتمل”.

(1/109)


وقوله: إنَّ {الْأَبْوَابُ}: بدلُ اشتمالٍ، فبدل الاشتمال (1) قد صرَّحَ هو وغيره أنَّه لا بُدَّ فيه من الضَّمير، وإنْ نازعهم فيه آخرون، ولكن يجوزُ أنْ يكون الضمير ملفوظًا به، وأنْ يكون مُقَدَّرًا، وهنا لم يلفظْ به، فلا بُدَّ من تقديرهِ أي: الأبواب منها، فإذا كان التقدير: مفتحة لهم هي الأبواب منها، كان فيه تكثيرُ للإضمارِ، وتقليله أولى.
وفي “الصحيحين” (2) : من حديثِ أبي حازم (3) عن سهل بن سعد رضي اللَّهُ عنه أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “في الجنَّةِ ثمانيةُ أَبْوَابٍ، بابٌ منها يُسَمَّى الرَّيَّانُ، لَا يَدْخُلُهُ إلَّا الصَّائمون”.
وفي “الصحيحين” (4) من حديث الزهري، عن حُمَيْد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “مَنْ أَنْفَقَ زَوجينِ من شيءٍ من الأشياء في سبيل اللَّهِ، دُعي من أبواب الجنَّة: يا عبدَ اللَّهِ هذا خيرٌ، فمن كان من أهل الصَّلاةِ دُعي من باب الصَّلاة، ومن كان من أهل الجهادِ دُعِيَ من باب الجهادِ، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصَّدقة، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريَّان”، فقال أبو بكر: بأبي أنتَ وأُمِّي يا رسول اللَّهِ، ما على من دُعي من تلك الأبواب من ضرورةٍ، فهل يُدعى أحدٌ من تلك الأبواب كلِّها، فقال: “نعم، وأرجو أنْ تكون منهم”.
__________
(1) قوله: “فبدل الاشتمال” ليس في “ب”.
(2) البخاري رقم (3084)، ومسلم (1152)، واللفظ للبخاري.
(3) في “ب”: “حاتم” وهو خطأ.
(4) أخرجه البخاري رقم (3466)، ومسلم رقم (1027)، واللفظ للبخاري.

(1/110)


وفي “صحيح مسلم” (1) : عن عمر بن الخطاب رضى اللَّهُ عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “ما منكم من أحدٍ يتوضَّأ فَيُبلِغُ أو فَيُسْبِغُ الوضوءَ ثمَّ يقول: أشهدُ أنْ لا إله إلَّا اللَّهُ وحده لا شريكَ له، وأشهدُ (2) أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولهُ، إلَّا فُتِحَتْ لهُ أبوابُ الجنَّة الثمانية يدخلُ من أيِّها شاء”.
زاد الترمذي بعد التشهد: “الَّلهم اجعلني من التَّوابين واجعلني من المتطهرين” (3) .
__________
(1) رقم (234).
(2) قوله: “وحده لا شريك له، وأشهدُ” من رواية أخرى لحديث عمر عند مسلم رقم (234).
(3) أخرجه الترمذي برقم (5).
عن جعفر بن عمران الكوفي عن زيد بن الحُباب عن معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد الدمشقي عن أبي إدريس الخولاني وأبي عثمان عن عمر بن الخطاب فذكره.
قال الترمذي: “حديث عمر قد خُولِف زيد بن حُباب في هذا الحديث، روى عبد اللَّه بن صالح وغيره عن معاوية بن صالح عن ربيعة عن أبي إدريس عن عقبة بن عامر عن عمر، وعن ربيعة بن أبي عثمان عن جُبَير بن نُفَيْر عن عمر. وهذا حديثٌ في إسناده اضطراب، ولا يصح عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذا الباب كثير شيء”.
قلت: هذه الزيادة شاذَّةٌ، وهي وهمٌ من شيخ الترمذي جعفر بن عمران الكوفي “صدوق”، فقد خالفه أبو بكر بن أبي شيبة، والعباس بن محمد الدوري ومحمد بن علي بن حرب، وأسد بن موسى، وأبو بكر الجعفي، كلهم عن زيد بن الحباب به، ولم يذكروا هذه الزيادة: “اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين”.
أخرجه مسلم في صحيحه رقم (234)، والنسائي (1/ 92)، وابن خزيمة =

(1/111)


زاد أبو داود والإمام أحمد: “ثمَّ رفع نَظَرَهُ إلى السَّماءِ فقال. . . ” (1) .
وعند الإمام أحمد من رواية أنس يرفعه: “من توضأ فأحسنَ الوُضُوءَ، ثمَّ قال ثلاث مرات: أشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللَّهُ وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله، فُتِحَ له ثمانيةُ أبواب الجنَّة من أيِّها شاءَ دخل” (2) .
وعن عُتْبة بن عَبْدٍ (3) السُّلَمِي رضي اللَّهُ عنه قال: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “ما من مسلمٍ يُتوفَّى له ثلاثةٌ من الولد لم يبلغوا الحِنْثَ، إلَّا تلَقَّوه من أبواب الجنَّة الثمانية، من أيِّها شاء دخل”.
__________
= رقم (223)، وأبو عوانة في مستخرجه (605 و 607) وغيرهم.
ورواه الليث بن سعد وابن وهب وعبد الرحمن بن مهدي كلهم عن معاوية ابن صالح عن ربيعة عن أبي إدريس عن عقبة بن عامر.
ووقع في هذا الحديثِ اختلافٌ آخر، انظر تفصيله في شرح الترمذي لأحمد شاكر (1/ 79 – 83).
(1) أخرجه أبو داود (170)، وأحمدُ في مسنده (4/ 150).
من طريق أبي عقيل زُهرة بن مَعْبد عن ابن عمِّه عن عقبة بن عامر عن عمر فذكره.
وسنده ضعيف، لجهالة ابن عم زهرة بن معبد، انظر: التقريب رقم (8510).
(2) أخرجه أحمد في المسند (3/ 265)، وابن ماجه برقم (469) وغيرهما.
من طريق زيد العمِّيِّ عن أنس بن مالك فذكره.
قال البوصيري: “هذا إسنادٌ فيه زيد العمِّي، وهو ضعيف” انظر: “مصباح الزجاجة”: (1/ 187).
(3) وقع في “هـ”: “عبد اللَّه” وهو خطأ.

(1/112)


رواه ابن ماجه، وعبد اللَّهِ بن أحمد عن ابن نُمَير، حدثنا إسحاق بن سليمان، حدثنا حَرِيْز بن عثمان، عن شُرَحبِيل بن شُفْعَة، عن عُتْبة (1) .
__________
(1) أخرجه ابن ماجه رقم (1604)، وأحمد في المسند (4/ 183)، والطبراني في الكبير: (17/ 125) رقم (309) وغيرهم.
قال البوصيري: “هذا إسنادٌ فيه شرحبيل بن شفعة ذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو داود: “شيوخ حريز كلهم ثقات” قلتُ: وباقي رجال الإسناد على شرط البخاري”. انظر: “مصباح الزجاجة”: (1/ 530).

(1/113)


الباب العاشر في ذكر سَعَةِ أبوابها
عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: “وُضِعتْ بين يدي رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَصْعةٌ من ثريد ولحم، فتناول الذراع -وكان أحبَّ الشاة إليه- فَنَهَسَ نَهْسة (1) وقال: أنا سيِّدُ النَّاسِ يوم القيامة”، ثمَّ نهس أخرى، وقال: “أنا سيدُ النَّاس يوم القيامة”، فلمَّا رأى أصحابه لا يسألونه قال: “ألا تقولون كيفَ؟ ” قالوا: كيف يا رسول اللَّهِ؟ قال: “يقوم النَّاسُ لربِّ العالمين فيُسْمعهم الدَّاعي ويَنْفُذُهم البصرُ” فذكر حديث الشفاعة بطوله، وقال في آخره: “فأنطلقُ فآتي تحت (2) العرشِ، فأقع ساجدًا لربي، فيقيمني ربُّ العالمين مقامًا لم يقمه أحدًا قبلي، ولن يقيمه أحدًا بعدي، فأقول: يا ربِّ أمتي (3). فيقولُ: يا محمد أدخل من أمتك من لا حسابَ عليهم من الباب الأيمن، وهم شركاءُ النَّاس فيما سوى ذلك من الأبواب، والَّذي نفسُ محمدٍ بيده إنَّ ما بين المصراعين من مصاريع الجنَّة لَكَمَا بين مكة وهَجَر، أو هَجَر ومكة” (4).
وفي لفظٍ: “لَكَمَا بين مكة وهَجَر، أو كما بين مكة وبُصْرى”.
__________
(1) من “أ، ب” ومصدري التخريج، وفي باقي النسخ “نهش نهشة”، و”نهش أخرى”.
(2) من “ج، د” ونسخةٍ على حاشية “أ”.
(3) في صحيح مسلم “أُمَّتي أُمَّتي”.
(4) أخرجه البخاري رقم (4435)، ومسلم رقم (194) – (328)، واللفظ له.

(1/114)


متفق على صِحَّته (1) .
وفي لفظٍ خارج الصحيح بإسناده: “إنَّ ما بين عِضَادتي (2) الباب لَكَما بين مكة وهجر” (3) .
وعن خالد بن عمير العدوي قال: خطبنا عتبة بن غزوان رضي اللَّهُ عنه فحمدَ اللَّهَ وأثنى عليه، ثمَّ قال: أمَّا بعدُ، فإنَّ الدنيا قد آذنت بِصُرم، وولَّتْ حَذَّاء، ولم يبق منا إلَّا صبابة كصُبابة الإناء، يصطبُّها صاحبُها، وإنَّكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم، ولقد ذكر لنا: أنَّ مصراعين من مصاريع الجنَّة بينهما مسيرةُ أربعين سنة، وليأتينَّ عليه يومٌ وهو كظيظٌ من الزحام” (4) .
فهذا موقوفٌ، والَّذي قبله مرفوع، فإنْ كان رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هو الذَّاكر لهم ذلك، كان هذا سَعَةُ ما بين بابٍ من أبوابها، ولعلَّه الباب الأعظم، وإنْ كان الذاكر لهم ذلك غير رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُقدَّم على حديث أبي هريرة المتقدِّم. ولكن قد روى الإمامُ أحمد في “مسنده” من حديث حماد بن سلمة قال: سمعت الجُرَيري يحدث عن حكيم بن
__________
(1) عند مسلم (194) – (327)، وعند البخاري (4435) “كما بين مكَّة وحِمْيَر، أو: كما بين مكَّة وبُصْرى”.
(2) عِضَادتا الباب: هما خشبتان من جانبيه. انظر: الصحاح: (1/ 432).
(3) في صحيح مسلم برقم (194) – (328) قريبٌ من هذا اللفظ.
وفيه: “. . والَّذي نفس محمد بيده إنَّ ما بين المصراعين من مصاريع الجنَّة إلى عضادتي الباب كما بين مكة وهجر، أو هجر ومكة”.
(4) أخرجه مسلم برقم (2967).

(1/115)


معاوية عن أبيه أنَّ رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “أنتم تُوَفَّون سبعين (1) أُمَّة أنتم أخْيرُها (2) وأكرمها على اللَّه، وما بين مصراعين من مصاريع الجنَّة مسيرةُ أربعين عامًا، وليأتينَّ عليه يومٌ وإنَّه (3) لكظيظ” (4) .
__________
(1) من قوله “عن حكيم” إلى “سبعين” سقط من “ج”.
(2) في “هـ”: “خيرها” وهي في بعض مصادر التخريج، وفي أكثر مصادر التخريج “آخرها”، ولهذا علَّق ناسخ (أ) عليها بقوله “كذا”.
(3) وقع في “أ” “وهو كظيظ”، وفي باقي النسخ “وله كظيظ”.
(4) أخرجه أحمد في مسنده (5/ 3) وعبد بن حميد رقم (411) “المنتخب”.
وقد خولف حماد بن سلمة.
فرواه خالد بن عبد اللَّهِ الطحان -“من رواية إسحاق بن شاهين ووهب بن بقية عنه-، وعلي بن عاصم كلاهما عن الجريري به لكنَّهما قالا “مسيرة سبع سنين”.
أخرجه ابن أبي داود في البعث رقم (60) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني رقم (1475) وابن حبان في صحيحه (16/ 8388)، والروياني في مسنده (929)، والطبراني في “الكبير”: (19/ 424) رقم (1032) وأبو الشيخ في العظمة رقم (577) وغيرهم.
وقد رواه وهيب عن خالد عن الجريري به بلفظ “مسيرة أربعين عامًا”.
أخرجه أبو نعيم في “الحلية”: (6/ 204 – 205).
وهذا الحديثُ معدودٌ في غرائب سعيد الجريري، فقد قال أبو نعيم: “غريب عن الجريري، تفرَّد به عن حكيم”.
وقال علي بن عاصم: “فحدثتُ بهذين الحديثين -وسيأتي الحديث الآخر ص (384).- بهز بن حكيم، فقال: لم أسمعهما” “الكامل”: (2/ 67).
وأيضًا فقد وقع اختلاف عن حمَّاد بن سلمة في ذكر هذه الجملة “وما بين مصراعين. . ” وعدم ذكرها.
وأيضًا فقد روى هذا الحديث مطوَّلًا أبو قزعة وبهز بن حكيم عن حكيم به، فذكرا فيه الجملة الأولى “أنتم توفون. . . ” فقط، ولم يذكرا “وما بين مصراعين. . . “. فاللَّهُ أعلمُ بثبوته.

(1/116)


وقد رواه ابن أبي داود: أنبأنا إسحاق بن شاهين، أنبأنا خالد، عن الجريري، عن حكيم بن معاوية، عن أبيه يرفعه: “ما بين كلِّ مصراعين من مصاريع الجنَّة مسيرةُ (1) سبع سنين”.
ورُوِّيْنَا في “مسند عبد بن حميد”: “ثنا الحسن بن موسى، ثنا ابن لهيعة، ثنا درَّاج أبو السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ ما بين مصراعين في الجنَّة لمسيرة أربعين سنة” (2) .
وحديث أبي هريرة أصح، وهذه النسخة ضعيفة، واللَّهُ أعلمُ.
وروى أبو الشيخ: ثنا جعفر بن أحمد بن فارس، ثنا يعقوب بن حُميد، ثنا معن، حدثنا خالد بن أبي بكر، عن سالم بن عبد اللَّه، عن أبيه رضي اللَّه عنه أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “البابُ الَّذي يدخل منه أهل الجنَّة
__________
(1) ليس في “أ”.
(2) أخرجه عبد بن حميد في مسنده كما في المنتخب رقم (924)، وأحمد في المسند (3/ 29)، وأبو يعلى في مسنده برقم (1275)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (177) وغيرهم.
قال الإمام أحمد: “أحاديث درَّاج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد فيها ضعف” “الكامل”: (3/ 112).
لكن قال ابن معين عن هذا الإسناد: “ما كان هكذا بهذا الإسناد فليس به بأس، درَّاج ثقة، وأبو الهيثم ثقة”.
لكن تعقَّبه فضلك الرَّازي -فقد ذُكر له قول يحيى بن معين في درَّاج أنَّه ثقة- فقال فضلك: “ما هو بثقة ولا كرامة”. انظر: “الكامل” لابن عدي: (3/ 113).

(1/117)


مسيرة الراكب المجود (1) ثلاثًا، ثمَّ إنَّهم ليضْطَغِطُونَ (2) عليه، حتى تكاد مناكبهم تزول”.
رواهُ أبو نعيم عنه (3) .
وهذا مطابق للحديث المتفق عليه: “إنَّ ما بين المِصْراعَين كما بين مكة وبُصْرَى” (4) . فإنَّ الراكب المجوِّد (5) غاية الإجادة على أسرع مجرى لا يَفْتر ليلًا ولا نهارًا، يقطع هذه المسافة في هذا القَدْر أو قريب منه.
وأمَّا حديث حكيم بن معاوية: فقد اضطرب رواته، فحمَّاد بن سلمة ذَكَر عن الجُرَيْري التَّقْدير بأربعين عامًا، وخالد ذكر عنه التقدير بسبع سنين، وحديث أبي سعيد المرفوع في التقدير بأربعين عامًا، من طريق (6) : درَّاج عن أبي الهَيْثَم. قال الإمام أحمد: “أحاديث درَّاج: مناكير” (7) ، وقال أبو حاتم الرَّازي: “ضعيف” (8) ، وقال النسائي:
__________
(1) في “ب، د، هـ” “المُجِدّ”.
(2) في مصدر التخريج: “ليضغطون”.
(3) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة: (179)، والترمذي رقم (2548)، والبيهقي في البعث والنشور رقم (259) وغيرهم.
قال الترمذي: “هذا حديث غريب” سألت محمدًا -يعني البخاري- عن هذا الحديث فلم يعرفه، وقال: لخالد بن أبي بكر مناكير عن سالم بن عبد اللَّهِ”.
وقال البغوي: “ضعيف منكر”، “مصابيح السنَّة”: (2/ 160).
(4) تقدم في أول هذا الباب ص (115).
(5) علَّق ناسخ “أ” على هذه الكلمة بقوله “كذا”.
(6) في جميع النسخ “على طريقة” والصواب ما أثبتُّ.
(7) في الجرح والتعديل: “درَّاج حديثه منكر”. “الجرح”: (3/ 442).
(8) في الجرح والتعديل (3/ 442): “دراج في حديثه صنعة، قال أبو محمد: وكان =

(1/118)


“ليس بالقوي” (1) .
فالصحيح المرفوع السَّالم عن الاضطراب والشُّذوذ والعلَّة حديث أبي هريرة المتفق على صحته، على أنَّ حديث حكيم بن معاوية ليس التقدير فيه بظاهر الرَّفع، ويحتمل أنَّه مدرج في الحديث موقوف، فيكون كحديث عُتبة بن غَزْوان، واللَّهُ أعلمُ.
__________
= درَّاجًا قاصًّا. . “.
(1) انظر: “تهذيب الكمال” للمزي (8/ 477 – 480).

(1/119)


الباب الحادي عشر في صفة أبوابها وأنَّها ذاتُ حلَق
روى الوليد بن مسلم، عن خُلَيد، عن الحسن {مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)} [ص: 50] قال: أبوابٌ تُرى (1).
وذكر أيضًا عن خُليد عن قتادة قال: “أبوابٌ يُرَى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، تتكلَّم وتُكَلَّم، وتَفْهم ما يُقال لها: انْفتحي انغلقي”.
وقال أبو الشيخ: ثنا محمد بن عبد اللَّه بن محمد القيسي، ثنا محمد ابن إسحاق، ثنا أحمد بن أبي الحواري، ثنا عبد اللَّه بن
__________
(1) أخرجه ابن حبيب السلمي في وصف الفردوس رقم (18)، والطبري في تفسيره (16/ 102)، وأبو نعيم في “صفة الجنَّة” رقم (172).
من طريق داود بن رشيد وأسد بن موسى وعلي بن سهل عن الوليد بن مسلم به.
رواه داود باللفظ الأوَّل الَّذي ساقه المؤلف، والآخران باللفظ الثاني.
وخالفهم هشام بن عمَّار.
فرواه عن الوليد عن خليد عن قتادة، كما ساقه المؤلف باللفظ الثاني.
أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (173).
ولعلَّ الصواب أنَّه عن الحسن البصري باللفظ الثاني.
بدليل ما رواهُ ابن نفيل عن خُليد بن دعلج عن الحسن بنحو اللفظ الثاني.
أخرجه الطبري: (23/ 174).
والأثر مداره على خُليد وهو ضعيف، انظر: “تهذيب الكمال”: (8/ 307 – 309).

(1/120)


غياث (1) ، عن الفزاري قال: “لكلِّ مؤمن في الجنَّة أربعة أبواب، فبابٌ يدخل عليه منه زُوَّارهُ من الملائكة، وباب يدخل عليه أزواجه من الحور العين، وباب مقفل فيما بينه وبين أهل النَّارِ، يفتحه إذا شاء ينظر إليهم لتعظم النعمة عليه، وباب فيما بينه وبين دار السلام، يدخل فيه على ربِّه إذا شاء” (2) .
وقد روى سُهَيل بن أبي صالح عن زياد النُّميري (3) ، عن أنس بن مالك رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أنا أوَّلُ من يأخذ بحلقة باب الجنَّة ولا فخر” (4) .
وفي حديث الشفاعة الطويل: من رواية ابن عُيَيْنة عن عليِّ بن زيد عن أنس رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “فآخذ بحلقة باب الجنَّة فأُقَعْقِعُها” (5) .
__________
(1) كذا في جميع النسخ وعند أبي نعيم “عتاب” ولم أقف على هذا الرجل.
(2) أخرجه أبو نعيم في “صفة الجنَّة” رقم (174)، وهو مقطوع.
والإسناد لم أقف على تراجم رجاله سوى أبي الشيخ الأصبهاني وأحمد بن أبي الحواري.
(3) في “أ، ج”: “المهدي”، وفي “ب، د، هـ” ونسخة على حاشية “أ” “البهري” وكلاهما خطأ.
(4) أخرجه أبو يعلى في “مسنده”: (7/ 281) رقم (4305)، وأبو نعيم في “صفة الجنَّة” رقم (182).
والحديث مداره على زياد النميري، ضعفه غير واحد.
انظر: “تهذيب الكمال”: (9/ 492 – 493).
(5) أخرجه الحميدي في مسنده رقم (1204) والترمذي برقم (3148)، =

(1/121)


وهذا صريحٌ في أنَّها حلقة حِسِّية تُقَعْقَعُ وتُحَرَّك.
وروى سُهَيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “آخذ حلقة باب الجنَّة فيؤذن لي” (1) .
ويُذْكَرُ عن علي رضي اللَّه عنه: “من قال لا إله إلَّا اللَّه الملكُ الحقُّ المبين -في كلِّ يوم مئة مرَّة- كان له أمانٌ من الفقرِ، وأَمِنَ (2) من وحشة القبرِ، واستَجلب به الغِنَى، واستَقْرع به باب الجنَّة” (3) .
__________
= والدارمي في “سننه” رقم (51).
قال الترمذي: “هذا حديث حسن”.
وقد صح عن أنس من وجهٍ آخر: رواه ثابت البناني وعمرو بن أبي عمرو عن أنس في حديث الشفاعة الطويل، وفيه: “فآتي باب الجنَّة، فآخذ بحلقة الباب، فاستفتح. . . ” لفظ ثابت.
أخرجه أحمد (3/ 144 و 247)، وأصله في مسلم رقم (197) من رواية ثابت.
(1) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة برقم (184).
وفيه عبد اللَّه بن جعفر المدني -والد علي بن المديني- وهو ضعيف، انظر: تهذيب الكمال (14/ 379 – 384).
ولعلَّ هذا الحديث مما وَهِمَ فيه على سُهِيل بن أبي صالح.
(2) في “أ، ج، د، هـ”: “وأُوْمِن”.
(3) أخرجه أبو نعيم في “صفة الجنَّة” رقم (185)، وفي “الحلية”: (8/ 280)، والخطيب في “تاريخ بغداد”: (12/ 453)، وابن عساكر في “معجم شيوخه” رقم (266).
وهو حديث باطل، تفرَّد به غانم بن الفضل عن الإمام مالك، وغانم هذا قال فيه يحيى بن معين: “ضعيف ليس بشيء”، نظر: “تاريخ بغداد”: (12/ 354).

(1/122)


فصل
ولمَّا كانت الجِنَانُ درجات بعضها فوق بعض، كانت أبوابها كذلك، وباب الجنَّةَ العالية فوق باب الجنَّة التي تحتها، وكلَّما عَلَت الجنَّة اتَّسعت، فعاليها أوسعُ ممَّا دونه، وسَعَة الباب بحسب وسع الجنَّة، ولعلَّ هذا وجه الاختلاف الَّذي جاء في مسافة ما بين مِصْراعي الباب، فإنَّ أبوابها بعضها أعلى من بعض.
ولهذه الأمة بابٌ مختص يدخلون منه دون سائر الأمم، كما في “المسند” من حديث ابن عمر رضي اللَّهُ عنهما عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “بابُ أُمَّتي الَّذي يدخلون منه الجنَّة عرضه مسيرة الراكب ثلاثًا، ثمَّ إنَّهم لينْضغِطُون (1) عليه حتَّى تكاد مناكبهم تزول” (2).
وفيه: من حديث أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أتاني جبريلُ، فأخذ بيدي، فأراني باب الجنَّة الَّذي تدخلُ منه أمَّتي” (3)
__________
(1) في “أ، ج، هـ”: “لَينْضغِطُون”، وفي “د”: “ليضطغطون”.
(2) تقدم تخريجه (ص/ 117 – 118)، وهو لا يثبت.
(3) أخرجه أبو داود برقم (4652)، وعبد اللَّه بن أحمد في زوائده على فضائل الصحابة رقم (258 و 593) وابن شاهين في السنَّة رقم (96) وأبو نعيم في “فضائل الخلفاء الأربعة وغيرهم” رقم (30) وغيرهم.
من طريق أبي خالد مولى جعدة عن أبي هريرة فذكره.
وسنده ضعيف فيه أبو خالد مولى جعدة، قال الذهبي: “لا يُعرف”.
الميزان: (6/ 360) رقم (10148).
تنبيه: جعل بعضهم هذا الحديث: عن أبي يحيى مولى آل جعدة عن أبي هريرة، وجعله بعضهم عن أبي حازم سليمان الأشجعي عن أبي هريرة =

(1/123)


الحديث.
وسيأتي بتمامه إن شاءُ اللَّهُ تعالى (1) .
وقال خَلَفَ بن هشام البزار: حدثنا أبو شهاب عن عمرو بن قيس المُلائي، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضَمْرة عن علي بن أبي طالب رضي اللَّهُ عنه قال: “إنَّ أبواب الجنَّة هكذا بعضها فوق بعض، ثمَّ قرأ: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] إذا هم عندها بشجرة في أصلها عينان تجريان، فيشربون من أحَدَيهما، فلا تترك في بطونهم قذًى ولا أذًى إلَّا رمَتْه، ويغتسلون من الأُخرى، فتجري عليهم نضرة النعيم، فلا تشعث رؤوسهم، ولا تغيرُ أبشارهم بعد هذا أبدًا، ثمَّ قرأ: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) } [الزمر: 73] فيدخل الرجل، وهو يعرف منزلته، ويتلقاهم الولدان، فيستبشرون برؤيتهم، كما يستبشر الأهلُ بالحميم يقدمُ من الغيبة، فينطلقون (2) إلى أزواجهم فيخبرونهم بمعاينتهم، فتقول: أنت رأيتَه؟ فتقوم إلى الباب، فيدخل إلى بيته، فيتكئ على سريره، فينظر إلى أساس بيته، فإذا هو قد أُسِّسَ على اللؤلؤ، ثمَّ ينظر في أخضر وأحمر وأصفر، ثمَّ يرفع رأسه إلى سَمْكِ (3) بيته، ولولا أنَّه خُلِقَ له لالْتَمعَ بصره، فيقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا
__________
= وكلاهما خطأ، اضطرب فيه عمران بن ميسرة وخالفه جماعة من الثقات فرووه بالوجه المخرَّج وهو المشهور.
(1) انظر: الباب (26) ص (229).
(2) في “ب” “فيتطلَّعون”.
(3) كذا في جميع النسخ، وفي بعض مصادر التخريج “سقف”.

(1/124)


لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43] (1) . واللَّهُ أعلم.
__________
(1) أخرجه المروزي في زوائده على الزهد لابن المبارك رقم (1450)، وابن حبيب في “وصف الفردوس”: (122 و 128)، وإسحاق بن راهويه في مسنده كما في المطالب العالية رقم (4601) والطبري في تفسيره (24/ 35)، وأبو نعيم في “صفة الجنَّة” رقم (280، 281) وغيرهم.
وفيه عاصم بن ضمرة صدوق، وله مفاريد ومناكير عن علي، فإن كان حفظه هكذا، فهو ثابت عن علي.
والحديث صححه الحافظ ابن حجر والبوصيري.

(1/125)


الباب الثاني عشر في ذكر مسافة ما بين البابِ والباب
روِّيْنَا في “معجم الطبراني”: حدثنا مصعب بن إبراهيم بن حمزة الزبيري، وعبد اللَّه بن الصقر العسكري (1) قالا: حدثنا إبراهيم بن المنذر الحِزَامي، حدثنا عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن بن عبد اللَّهِ بن خالد بن حِزَام، حدثني (2) عبد الرحمن بن عيَّاش الأنصاري، حدثنا دَلْهَم بن الأسود بن عبد اللَّهِ بن حاجب بن المُنْتَفق.
قال دلهم: وحدَّثنيه أيضًا أبو الأسود عن عاصم بن لَقِيط، أنَّ لقيط ابن عامر خرج وافدًا إلى رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: قلتُ يا رسول اللَّهِ فما الجنَّة والنَّار؟ قال: لعمر إلهك، إنَّ للنَّار سبعة أبواب ما منهنَّ بابان إلَّا يسير الرَّاكبُ بينهما سبعين عامًا، وإنَّ للجنَّة ثمانية أبواب، ما منهن بابان إلَّا يسير الراكب بينهما سبعين عامًا” وذكر الحديث بطوله (3).
__________
(1) في “أ، ب، ج، د، هـ”: “السكري”، وفي “ب، د”: “الصقير” بدل “الصقر”. وكلاهما خطأ.
(2) سقط من “ب”.
(3) أخرجه الطبراني في الكبير (19/ 211 – 214) رقم (477) مطوَّلًا، وعبد اللَّه بن أحمد في زوائده على المسند (4/ 13 – 14) مطوَّلًا، وابن أبي عاصم في السنَّة رقم (524) و (636) والبخاري في “تاريخه” (3/ 249 – 250) مختصرًا (في ترجمة دلهم).
وابن خزيمة في التوحيد رقم (271) والدارقطني في الرؤية رقم (191).
وفي سنده دلهم بن الأسود وعبد الرحمن بن عياش والأسود بن عبد اللَّه لم يوثقهم إلَّا ابن حبان في الثقات (4/ 32) و (6/ 291) و (7/ 71). =

(1/126)


وهذا الظاهر (1) منه أنَّ هذه المسافة بين الباب والباب؛ لأنَّ ما بين مكة وبُصْرَى لا يحتمل التقدير بـ “سبعين عامًا” ولا يمكن حمله على بابٍ معيَّن، لقوله: “ما منهنَّ بابان”، واللَّهُ أعلم.
__________
= والحديث صححه الحاكم وابن القيم.
وذكر ابن منده أنَّ هذا الحديث “لم ينكره أحد، ولم يتكلم في إسناده، بل رووه على سبيل القبول والتسليم. . ” زاد المعاد (3/ 678).
وقال ابن كثير: “هذا حديث غريب جدًّا، وألفاظه في بعضها نكارة”.
وقال ابن حجر في ترجمة عاصم بن لقيط: “وهو حديث غريب جدًّا”.
تهذيب التهذيب (2/ 260) ط: مؤسسة الرسالة.
وقال ابن الملقن في مختصر استدراك الذهبي (7/ 3479): “. . . ولا ينبغي أن يدخل هذا في الصحاح لنكارته، وجهالة دلهم بن الأسود المذكور فيه”.
(1) سقط من “ب”، وجاء في “د”: “والظاهر أنَّ هذه”.

(1/127)


الباب الثالث عشر في مكان الجنَّة وأين هي؟
قال اللَّهُ تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)} [النجم: 13 – 15]. وقد ثبت أنَّ سِدرة المُنتهى فوق السماء، وسميت بذلك؛ لأنَّهُ (1) ينتهي إليها ما ينزل من عند اللَّهِ فيُقْبَضُ منها، وما يَصْعَدُ إليه فيقبضُ منها (2).
وقال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)} [الذاريات: 22].
قال ابن أبي نجيح عن مجاهد: “هو الجنَّة” (3).
وكذلك تلقَّاهُ النَّاسُ عنه.
وقد ذكر ابن المنذر في “تفسيره” وغيره أيضًا عن مجاهد قال: “هو الجنَّة والنَّار” (4).
وهذا يحتاج إلى تفسير، فإنَّ النَّارَ في أسفل السافلين ليست في السماء، ومعنى هذا ما قاله في رواية ابن أبي نجيح عنه، وقاله أبو صالح عن ابن عباس: “الخيرُ والشر كلاهما يأتي من السماء” (5).
__________
(1) في “ب”: “لأنَّها”.
(2) قوله: “وما يصعد إليه فيقبض منها” سقط من “ج”.
(3) انظر: تفسير مجاهد ص (619)، والطبري (16/ 206)، وابن المنذر في تفسيره كما في الدر المنثور (6/ 137).
(4) ذكره السمرقندي في تفسيره بحر العلوم (3/ 277).
(5) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (8/ 34).

(1/128)


وعلى هذا المعنى أسباب الجنَّة والنَّار مُقدَّرٌ ثابتٌ في السماء من عند اللَّه.
وقال الحارث بن أبي أسامة: حدثنا عبد العزيز بن أبان، حدثنا مَهْدِي بن ميمون، حدثنا محمد بن عبد اللَّهِ بن أبي يعقوب، عن بِشْر بن شَغَاف قال: سمعت عبد اللَّه بن سلام يقول: “إنَّ أكرمَ خليقة اللَّه أبو القاسم -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإنَّ الجنَّة في السماء” رواه أبو نعيم عنه (1) .
وقال: ورواه معمر بن راشد، عن محمد بن أبي يعقوب مرفوعًا.
ثمَّ ساقه من طريق ابن منيع، قال: حدَّثنا عمرو النَّاقِد حدثنا عمرو ابن عثمان، حدثنا موسى بن أعين، عن معمر به مرفوعًا (2) (3) .
__________
(1) في صفة الجنَّة رقم (131)، والحارث ابن أبي أسامة في مسنده كما في المطالب العالية (3851).
في سنده عبد العزيز بن أبان هو الأموي الكوفي، وهو متروك، وكذَّبه ابن معين وغيره، التقريب (4083).
وقد توبع عبد العزيز تابعه: موسى بن إسماعيل التبوذكي وعفان ومحمد ابن كثير وخالد بن خداش كلهم عن مهدي بن ميمون به نحوه.
أخرجه البخاري في تاريخه (2/ 76)، والحاكم في المستدرك (4/ 612) رقم (8698).
وقال الحاكم “هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه،. . . “.
(2) من قوله: “ثمَّ ساقه من طريق ابن منيع” إلى “مرفوعًا” سقط من “ج”، وسقط من “ب” “مرفوعًا”.
(3) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (131).
وفيه: عمرو بن عثمان الكلابي قال النسائي والأزدي: متروك، وقال =

(1/129)


ثمَّ ساقَ من طريق محمد بن فُضَيل، حدثنا محمد بن عبيد اللَّه عن عطية، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أنَّه قال: “الجنَّة في السماء السابعة، ويجعلها اللَّهُ حيث شاء يوم القيامة، وجهنَّم في الأرض السابعة” (1) .
وقال ابن منده: حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا محمد بن عبد اللَّه، عن سلمة بن كُهيل عن أبي الزَّعْراء، عن عبد اللَّهِ قال: “الجنَّة فوق السَّماء الرَّابعة، فإذا كان يوم القيامة جعلها اللَّهُ حيث يشاء، والنَّار في الأرض السابعة (2) ، فإذا كان يوم القيامة جعلها اللَّهُ حيث يشاء” (3) .
__________
= أبو حاتم: “يتكلمون فيه، كان شيخًا أعمى بالرقة يحدث النَّاس من حفظه بأحاديث منكرة لا يصيبونه في كتابه”. انظر: تهذيب الكمال (22/ 148 – 149).
وأيضًا فقد رواهُ ابن المبارك في الزهد (398) عن معمر عمَّن سمع محمد ابن عبد اللَّهِ بن أبي يعقوب بنحوه. والصحيح أنه موقوف.
(1) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (132).
وسنده ضعيف جدًّا، فيه محمد بن عبيد اللَّه بن أبي سليمان العَرْزَمي، قال الحاكم في المدخل: “متروك الحديث بلا خلاف أعرفه بين أئمة النقل فيه” تهذيب التهذيب (3/ 638).
(2) في “هـ” وحاشية “أ” “السفلى”، وأيضًا (الزبعرى) بدل (الزعراء).
(3) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (134)، والبيهقي في البعث والنشور رقم (500)، وأبو الشيخ في العظمة رقم (600).
وفيه أبو الزَّعْراء، واسمه عبد اللَّهِ بن هانئ، قال البخاري: “ولا يتابع في حديثه عن ابن مسعود في الشفاعة”. ووثقه ابن سعد والعجلي وابن حبان.
انظر: الضعفاء الكبير للعقيلي (3/ 314)، وتهذيب التهذيب (2/ 448).

(1/130)


وقال مجاهد: “قلت لابن عباس أين الجنَّة؟ قال: فوق سبع سماوات، قلتُ: فأين النَّار؟ قال: تحت سبعة أبْحرٍ مطبِقة” (1) .
رواه ابن منده، عن أحمد بن إسحاق عن الزبيري عن إسرائيل عن أبي يحيى، عن مجاهد.
وأمَّا الأثرُ الَّذي رواه أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عيسى بن يونس، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن مَعْدان، عن عبد اللَّهِ بن عمرو، قال: “الجنَّة مطوية معلقة بقرون الشمس تنشر في كلِّ عامٍ مرَّة، وإنَّ أرواح المؤمنين في طير كالزرازير (2) يتعارفون يرزقون من ثمر الجنَّة” (3) .
فهذا قد يظهر منه التناقض بين أوَّل كلامه وآخره، ولا تناقض فيه؛ فإنَّ الجنَّة المعلقة بقرون الشمس ما يحدثه اللَّهُ سبحانه بالشمس في كلِّ سنة مرَّة من أنواع الثمار والفواكه، والنبات (4) جعله اللَّهُ تعالى مذكرًا بتلك الجنَّة، وآية دالَّة عليها، كما جعل هذه النَّار مذكرة بتلك؛ وإلَّا فالجنَّة التي عرضها السماوات والأرضِ ليست معلَّقة بقرون الشمس،
__________
(1) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (135).
وفيه: أبو يحيى القتَّات: ليِّن الحديث، انظر: التقريب (8444).
(2) الزرازير: جمع زَرْزور: وهو طائر، انظر: الصحاح (1/ 548).
(3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 56) رقم (33967)، وأبو نعيم في “صفة الجنَّة” رقم (133) والبيهقي في “البعث والنشور” رقم (228) وغيرهم.
قال الجورقاني في “الأباطيل”: (1/ 320 – 321): “هذا حديثٌ باطل،. . وخالد بن معدان لم يسمع من ابن عمرو شيئًا”.
(4) في “ب”: “والثمار”.

(1/131)


وهي فوق الشمس وأكبر منها.
وقد ثبت في “الصحيحين” عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: “إنَّ الجنَّة مئة درجة ما بين كلِّ درجتين كما بين السماء والأرضِ” (1) .
وهذا يدلُّ على أنَّها في غاية العلوِّ والارتفاع، واللَّهُ أعلم.
والحديث له لفْظان هذا أحدهما.
والثاني: “إنَّ في الجنَّة مئة درجة ما بين كلِّ درجتين كما بينَ السماء والأرضِ أعدَّها اللَّهُ للمجاهدين في سبيله”.
وشيخنا يرجح هذا اللفظ (2) ، وهو لا ينفي أنْ يكون دَرجَ الجنَّة أكثر
__________
(1) لم أقف عليه في الصحيح بهذا اللفظ.
وإنَّما ورد بهذا اللفظ من حديث عبادة بن الصامت عند الترمذي: (2531) وأحمد (5/ 316 و 321)، والطبري في تفسيره (16/ 37) وعبد بن حميد المنتخب رقم (182) وأبو نعيم في “صفة الجنَّة” رقم (225) وغيرهم.
من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبادة.
وهي رواية معلولة فقد وقع في الحديث اختلاف في سنده ومتنه وسيأتي.
(2) بيان ذلك على وجه الاختصار:
أنَّ الحديث يرويه عطاء بن يسار واختلف عليه:
1 – فرواه زيد بن أسلم عن عطاء واختلف عليه:
– فرواهُ الدراوردي وهشام بن سعد وحفص بن ميسرة ومحمد بن جعفر ابن أبي كثير كلهم عن زيد بن أسلم عن عطاء عن معاذ بن جبل فذكره.
ولفظه فيه: “. . . فإنَّ الجنَّة مائة درجة بين كل درجتين منها مثل ما بين السماء والأرض. . . “.
أخرجه أحمدُ (5/ 241) والطبراني (20/ رقم 327 – 329) وابن ماجه (4331) وغيرهم. =

(1/132)


من ذلك، ونظير هذا قوله في الحديث الصحيح: “إنَّ للَّه تسعةً وتسعين اسمًا، مَنْ أَحْصاها دَخَلَ الجنَّة” (1) .
__________
= – وخالفهم همام بن يحيي العَوْذي.
فرواه عن زيد عن عطاء بن يسار عن عبادة بن الصامت فذكره باللفظ الأوَّل تقدم تخريجه.
ورجَّح الترمذي رواية الجماعة فقال: “وهذا عندي أصح من حديث همام. . .، وعطاء لم يدرك معاذ بن جبل. . “.
2 و 3 – ورواه هلال بن علي المدني ومحمد بن جُحادة:
فقالا: عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة.
فذكره هلال باللفظ الثاني الَّذي ذكره المؤلف، وذكره ابن جُحادة باللفظ الأوَّل مختصرًا.
ولفظ هلال: هو الصواب؛ لأنَّه مدني، ولم يختلف عليه لفظًا ولا معنًى، وإليه ذهب البخاري وشيخ الإسلام ابن تيمية.
فقد أخرجه البخاري في صحيحه (60) الجهاد، (4)، باب: درجات المجاهدين في سبيل اللَّهِ. (3/ 1028) رقم (2637).
وأحمد في المسند (2/ 292)، والترمذي (2528) وقال: “حسن غريب”.
وأيضًا فقد جاء هذا اللفظ الثاني من حديث أبي الدرداء:
عند النسائي (6/ 20)، والبخاري في تاريخه (1/ 203)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (55/ 66).
وفيه محمد بن عيسى الشامي، وثَّقه ابن شاهين، وقال ابن عدي: “لا بأس به. .، وهو حسن الحديث. . . “. وقال أبو أحمد الحاكم وابن حبان: مستقيم الحديث. وقال أبو حاتم الرَّازي: “لا يكتب حديثه ولا يحتج به”.
انظر: تهذيب الكمال (26/ 254 – 258).
فالسند لا بأس به، واللَّهُ أعلم.
(1) أخرجه البخاري برقم (6957)، ومسلم برقم (2677) من حديث أبي هريرة =

(1/133)


أي من جملة أسمائه هذا العَدَد، فيكون الكلام جملة واحدة في الموضعين.
ويدل على صحة هذا أنَّ منزلة نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- فوق هذا كلِّه، في درجةٍ في الجنَّة ليس فوقها درجة، وتلك المئة ينالها آحاد أُمَّته بالجهاد، والجنَّة مُقَبَّبة أعلاها أوسعها، ووسطها: هو الفردوس، وسقفه العرش، كما قال -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث الصحيح: “إذا سألتمُ اللَّه فاسألوه الفِرْدَوس، فإنَّه وسَطُ الجنَّة وأعلى الجنَّة (1) ، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجَّرُ أنهار الجنَّة” (2) .
قال شيخنا أبو الحجاج المزِّي: “والصواب رواية من رواه “وفوقُه” بِضَمِّ القاف على أنَّه اسمٌ لا ظرف، أي: وسقفه عرش الرحمن” (3) .
فإنْ قيل: فالجنَّة جميعها تحت (4) العرشِ، والعرش سقفها، فإنَّ الكرسي وَسِعَ السماوات والأرضِ، والعرش أكبر منه.
قيل: لما كان العرش أقرب إلى الفردوس ممَّا دونه من الجنان،
__________
= رضي اللَّهُ عنه.
(1) قوله: “وأعلى الجنَّة” سقط من “أ”.
(2) هو تتمة لحديث أبي هريرة المتقدم: “إنَّ في الجنَّة مائة درجةٍ. . “.
وهذا اللفظ عند البخاري في صحيحه رقم (2987).
(3) راجع فتح الباري (13/ 414).
(4) في “أ، ج، هـ”: “غير”.

(1/134)


بحيث لا جنَّة فوقه دون العرشِ (1) = كان سقفًا له (2) دون ما تحته من الجنان، ولعظم سعة الجنَّة (3) وغاية ارتفاعها يكون الصعود من أدناها إلى أعلاها بالتدريج شيئًا فشيئًا، درجة فوق درجة، كما يقال لقارئ القرآن: “اقرأ وارقَ، فإنَّ منزلتك عند آخر آية تَقْرؤها” (4) .
وهذا يحتمل شيئين: أن تكون منزلته عند آخر حِفْظه، وأنْ تكون عند آخر تلاوته لمحفوظه، واللَّهُ أعلم.
__________
(1) من قوله: “أقرب إلى” إلى “عرش” سقط من “ج”.
(2) ليس في “أ” فقط.
(3) في “أ” “الجنان”.
(4) أخرجه الترمذي رقم (2914)، وأبو داود رقم (1464)، وأحمد (2/ 192)، وابن حبان (3/ 766)، والحاكم (1/ 739) رقم (2030)، وغيرهم.
من طريق عاصم بن أبي النجود عن زرِّ بن حُبَيش عن عبد اللَّه بن عمرو فذكره.
قال الترمذي: “حسن صحيح”.
والحديث صححه الترمذي وابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي.
وله شواهد: عن أبي هريرة، وأبي سعيد وعائشة موقوفًا عليها بمعناه.
انظر: فضائل القرآن لأبي عبيد (ص/ 37 – 38)، وأخلاق أهل القران للآجري (ص/ 48 – 51).

(1/135)


الباب الرابع عشر في مفتاح الجنَّة
قال الحسن بن عرفة: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن أبي حسين عن شهر بن حوشب عن معاذ بن جبل رضي اللَّهُ عنه قال: قال لي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “مفتاح الجنَّة شهادةُ أن لا إلهَ إلَّا اللَّهُ” (1).
رواه الإمام أحمد في “مسنده” ولفظه: “مفاتيح (2) الجنَّة شهادةُ أن لا إله إلَّا اللَّه” (3).
__________
(1) أخرجه الطبراني في الدعاء (3/ 1479)، وابن عدي في الكامل (4/ 38 – 39).
من طريق إبراهيم بن العلاء الزبيدي ويحيى الحمَّاني كلاهما عن إسماعيل بن عيَّاش به مثله.
(2) من “ب” وفي باقي النسخ “مفتاح”، والمثبت هو الصواب، كما في المسند.
(3) أخرجه أحمد في مسنده (5/ 242)، والبزار في مسنده (7/ 104) رقم (2660)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة (189).
من طريق إبراهيم بن مهدي ومحمد بن سلام البيكندي ومحمد بن إسماعيل بن عياش كلهم عن إسماعيل بن عياش به مثله.
قلت: وهذا الاختلاف في المتن “مفتاح” “مفاتيح” من اضطراب إسماعيل ابن عياش وهو يرجع إلى ضعف روايته عن غير أهل الشام، وهذا منها، فإنَّ عبد اللَّه بن عبد الرحمن هذا مكِّي.
قال البزار: “شهر بن حوشب لم يسمع من معاذ بن جبل رضي اللَّهُ عنه”. وكذا أعلَّهُ بالانقطاع الهيثمي وابن رجب.
انظر: مجمع الزوائد (1/ 16)، وكلمة الإخلاص لابن رجب ص (16).

(1/136)


وذكر البخاري في “صحيحه” عن وهب بن منبه أنَّه قيل له: أليس مفتاح الجنَّة (1) لا إله إلَّا اللَّه؟ قال: بلى، ولكن ليس من مفتاح إلَّا وله أسنانٌ، فإن أتيت بمفتاح له أسنان فُتِحَ لك، وإلَّا لم يفتح (2) .
وروى أبو نعيم من حديث أبان عن أنس رضي اللَّهُ عنه قال: قال أعرابي يا رسول اللَّهِ، ما مفاتيح (3) الجنَّة؟ قال: “لا إله إلَّا اللَّه” (4) .
وذكر أبو الشيخ من حديث الأعمش عن مجاهد عن يزيد بن شجرة (5) قال: “إنَّ السيوف مفاتيح الجنَّة” (6) .
__________
(1) في “ج” بعد الجنَّة “شهادة ألَّا إله إلَّا اللَّهُ”.
(2) ذكره البخاري في “29” الجنائز، (1) باب: في الجنائز، ومن كان آخر كلامه: لا إله إلَّا اللَّه (1/ 417)، بلفظ: وقيل لوهب بن منبه.
ووصله في تاريخه الكبير (1/ 95)، وأبو نعيم في “صفة الجنَّة” رقم (191) وغيرهما.
(3) في “هـ”: “مفتاح”.
(4) أخرجه أبو نعيم في “صفة الجنَّة” رقم (190).
وفيه أبان بن أبي عياش البصري: وهو متروك الحديث، انظر: التقريب (142).
(5) من “هـ” ونسخة على حاشية “أ”، وفي باقي النسخ “سخبرة” وهو خطأ.
(6) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (192).
وهو موقوف، ويزيد بن شجرة مختلف في صحبته، والصحيح ليست له صحبة كما قال أبو زرعة وابن منده وغيرهما.
انظر: الجرح والتعديل (9/ 271)، وتاريخ دمشق (65/ 226).
وقد رُوِيَ هذا الحديث مرفوعًا عند أبي بكر الشافعي في الغيلانيات رقم (637)، وابن عساكر في تاريخه (65/ 220).
ولا يثبت، فيه محمد بن يونس الكديمي، وهو متَّهم بالكذب. انظر: =

(1/137)


وفي “المسند” من حديث معاذ بن جبل رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّهِ: “ألَا أدلُّكَ على بابِ من أبواب الجنَّة؟ قلتُ: بلى، قال: “لَا حولَ ولا قوَّة إلَّا باللَّهِ” (1) .
وقد جعل اللَّهُ سبحانه لكلِّ مطلوب مفتاحًا يفتح به، فجعل مفتاح الصلاة: الطهور، كما قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: “مفتاح الصلاةِ: الطُّهور (2) ” (3) ،
__________
= تهذيب الكمال (27/ 66).
قال ابن حجر: “الكُديمي ضعيف، والمحفوظ عن الأعمش موقوفًا”، الإصابة (6/ 343).
(1) أخرجه أحمد في مسنده (5/ 228)، والنسائي في عمل اليوم والليلة رقم (357)، وعبد بن حميد في مسنده المنتخب رقم (128) وغيرهم.
من طريق أبي رزين مسعود بن مالك الأسدي عن معاذ فذكره.
وأبو رزين لم يسمع من معاذ، فقد كان شعبة ينكر أن يكون سمع من ابن مسعود شيئًا، وابن مسعود توفي سنة 32 هـ، ومعاذ توفي سنة 18 هـ.
وأيضًا الحديث من رواية حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب، وقد قيلَ سمع حماد من عطاء قبل اختلاطه وبعده.
انظر: تهذيب الكمال (27/ 479)، والكواكب النيرات ص (324 – 335).
(2) قوله: “مفتاح الصلاة الطهور” سقط من “ب”.
(3) أخرجه الترمذي رقم (3)، وأبو داود رقم (61)، وابن ماجة رقم (275)، وأحمد (1/ 129) وغيرهم.
من طريق عبد اللَّهِ بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية عن علي فذكره مرفوعًا.
والحديث فيه ابن عقيل وفيه لين، والحديث عدَّه ابن عدي في الكامل (4/ 129) من منكراته.
قال الترمذي: “هذا الحديث أصح شيءٍ في هذا الباب وأحسن”.
والحديث جاء عن غير واحدٍ من الصحابة ولا يثبت عنهم، والثابت عن =

(1/138)


ومفتاح الحج: الإحرام، ومفتاح البِرِّ: الصدق، ومفتاح الجنَّة: التوحيد، ومفتاح (1) العلم: حسن السؤال وحسن الإصغاء، ومفتاح النصر والظفر: الصبر، ومفتاح المزيد: الشكر، ومفتاح الولاية والمحبة: الذكر (2) ، ومفتاح الفلاح: التقوى، ومفتاح التوفيق: الرغبة والرهبة، ومفتاح الإجابة: الدعاء، ومفتاح الرغبة في الآخرة: الزهد في الدنيا، ومفتاح الإيمان: التفكر فيما دعا اللَّه عباده إلى التفكر فيه، ومفتاح الدخول على اللَّهِ: إسلام القلب وسلامته له والإخلاص له في الحُبِّ والبغض والفعل والتَّرك، ومفتاح حياة القلب: تدبر القرآن، والتضرع بالأسحارِ، وترك الذنوب، ومفتاح حصول الرحمة: الإحسان في عبادة الخالق، والسَّعي في نفع عبيده، ومفتاح الرزق: السعي مع الاستغفار والتقوى، ومفتاح العِزِّ: طاعة اللَّهِ ورسوله، ومفتاح الاستعداد للآخرة: قِصَرُ الأملِ، ومفتاح كلِّ خيرٍ: الرغبة في اللَّهِ والدار الآخرة، ومفتاح كلِّ شرٍّ: حُب الدنيا، وطول الأمل.
وهذا بابٌ عظيم من أنفع أبواب العلمِ، وهو معرفة مفاتيح الخير والشر، لا يُوَفَّق لمعرفته ومراعاته إلَّا من عَظُمَ حظه وتوفيقه، فإنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى جعل لكلِّ خير وشرٍّ مفتاحًا وبابًا يُدْخَل منه إليه، كما
__________
= ابن مسعود موقوفًا.
انظر: الصيام من شرح العمدة لابن تيمية (2/ 633 – 635).
(1) من قوله: “الطهور” إلى “التوحيد ومفتاح” سقط من “ج”.
(2) في “د”: “المحبَّة للذكر” وقوَّمها الناسخ إلى “والمحبة”.

(1/139)


جعل الشرك والكبر والإعراض عمَّا بعث اللَّهُ به رسوله، والغفلة عن ذكره والقيام بحقه = مفتاحًا للنَّار، وكما جعل الخمر: مفتاح كلِّ إثمٍ، وجعل الغناء: مفتاح الزنا، وجعل إطلاق النظر في الصُّوَرِ: مفتاح الطلَب والعِشْق، وجعل الكسل والراحة: مفتاح الخيبة والحرمان، وجعل المعاصي: مفتاح الكفر، وجعل الكذب: مفتاح النِّفاق، وجعل الشح والحرص: مفتاح البخل وقطيعة الرحم، وأخذ المال من غير حِلِّهِ، وجعل الإعراض عمَّا جاء به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: مفتاح كل بدعة وضلالة.
وهذه الأمور لا يصدِّق بها إلَّا من له بصيرة صحيحة، وعقلٌ يعرف به ما في نفسه، وما في الوجود من الخير والشرِّ، فينبغي للعبد أن يعتني كل الاعتناء بمعرفة المفاتيح، وما جُعِلَت مفاتيح له، واللَّهُ من وراء توفيقه وعدله، له الملك وله الحمدُ، وله النعمة والفضل (1) ، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.
__________
(1) في نسخةٍ على حاشية “أ” “وله الفضل”.

(1/140)


الباب الخامس عشر في توقيع الجنَّة، ومنشورها الَّذي يُوَقَّعُ به لأصحابها بعد الموت، وعند دخولها
قال اللَّهُ تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)} [المطففين: 18 – 21].
فأخبر تعالى أنَّ كتابهم كتابٌ مرقوم، تحقيقًا لكونه مكتوبًا كتابة (1) حَقِيقية، وخصَّ تعالى كتاب الأبرار بأنَّه يكتب ويوقع لهم به بمشهد المقرَّبين من الملائكة والنَّبيين وسادات المؤمنين، ولم يذكر شهادة هؤلاء لكتاب (2) الفجار = تنويهًا بكتاب الأبرار، وما وقع لهم به، وإشهارًا له (3)، وإظهارًا بين خواصِّ خلقه، كما تكتب الملوك تواقيع من تعظمه بين الأمراء، وخواص أهل المملكة تنويهًا باسم المكتوب له (4)، وإشادةً بذكره، وهذا نوعٌ من صلاة اللَّه سبحانه وتعالى، وملائكته على عبده.
وروى الإمام أحمد في “مسنده”، وابن حبان، وأبو عوانة الإسفرايني في “صحيحيهما” من حديث المنهال، عن زاذان عن البراء ابن عازب رضي اللَّهُ عنه قال: خرجنا مع رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-
__________
(1) في “ج”: “كأنَّه”.
(2) في “ج”: “الكتاب” وهو خطأ.
(3) في “ج”: “وإشهادًا له”.
(4) ليس في “ب”.

(1/141)


إلى (1) جنازةٍ، فجلس رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- على القبرِ وجلسنا حوله كأنَّ على رؤوسنا الطير، وهو يُلْحَد له (2) ، فقال: “أعوذ باللَّه من عذاب القبر ثلاثَ مرَّاتٍ، ثمَّ قال: إنَّ المؤمن إذا كان في إقبالٍ من الآخرة وانقطاع من الدنيا؛ تنزلت إليه الملائكة كأنَّ على وجوههم الشمس مع كلِّ واحدٍ منهم كفن وحنوط (3) ، فجلسوا منه مدَّ بصره، ثمَّ يجيء ملك الموت حتَّى يجلسَ عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة أخرجي إلى مغفرةٍ من اللَّهِ ورضوان، قال: فتخرج تسيلُ كما تسيلُ القطرة مِنْ فِيِّ (4) السِّقاءِ فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عينٍ حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسكٍ وُجدَت على وجه الأرضِ، قال: فيصعدون بها فلا يمرون بها -يعني (5) عَلى ملأٍ من الملائكة- إلَّا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان. بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له فيُفتح لهم، ويُشَيِّعه من كلِّ سماءٍ مقربوها إلى السماء التي تليها؛ حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها اللَّهُ عزَّ وجل (6) ، فيقول اللَّهُ عزَّ وجل: اكتبوا
__________
(1) في “ب”: “في”، وقد وردت في بعض الروايات.
(2) ليس في “ب”.
(3) الحنوط: هو ما يُخْلط من الطيب لأكفان الموتى وأجسامهم خاصَّة. النهاية (1/ 450).
(4) ليس في “ب”.
(5) ليس في “أ”.
(6) قوله: “إلى السماء التي فيها اللَّهُ” كذا في جميع النُّسَخ، ولم أقف عليها.

(1/142)


كتاب عبدي في علِّيين، وأعيدوه إلى الأرضِ، فإنِّي منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارةً أخرى، قال: فتعادُ روحُه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربُّكَ؟ فيقول: ربِّي اللَّه، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الَّذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول اللَّهِ، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأتُ كتابَ اللَّهِ فآمنت به وصدَّقت، قال: فينادي منادٍ من السمَّاء: أنْ صَدقَ عبدي فأفرشوه من الجنَّة، وألبسوه من الجنَّة (1) ، وافتحوا له بابًا إلى الجنَّة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويُفسحُ له في قبره مدَّ بَصَرِهِ، قال: ويأتيه رجلٌ حسنُ الوجه حسن الثياب طيبُ الريح، فيقولُ: أبشر بالَّذي يسرُّك هذا يومك الَّذي كنتَ تُوْعد، فيقول له (2) : من أنتَ فوجهك الوجه الَّذي (3) يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقولُ: ربِّ أقم السَّاعة، ربِّ أقم السَّاعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
قال: وإنَّ العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة (4) ، نَزَلَ إليه من السماء ملائكةٌ سودُ الوجوه معهم المُسُوْحُ (5)
__________
(1) قوله: “وألبسوه من الجنَّة” سقط من “ج”.
(2) ليس في “ب”.
(3) من المطبوعة.
(4) في “ج”: “انقطاع من الآخرة، وإقبال من الدنيا” وهو خطأٌ ظاهر.
(5) المسوح: جمع كثرة، واحدُهُ: مِسْح، وهو الكساءُ من الشعر، وجمع القِلَّة: أَمْسَاح. انظر: لسان العرب (2/ 596).

(1/143)


فيجلسون منه مدَّ البصرِ (1) ، ثمَّ يجيءُ ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة، أخرجي إلى سخطٍ من اللَّهِ وغضب، قال: فتفرَّق في جسده فينتزعها كما ينتزعُ السَّفُّود (2) من الصُّوف المبلول، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عينٍ حتى يجعلوها في تلك المسوح، وتخرج منها كأنتن ريح جيفةٍ وجدت على وجه الأرضِ، فيصعدون بها فلا يَمرون بها على ملأٍ من الملائكة إلَّا قالوا: ما هذا الروح الخبيث (3) ، فيقولون: فلانُ ابن فلان. بأقبح أسمائه التي كان يُسمَّى بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى سماء الدنيا (4) فيستفتح (5) فلا يفتح له، ثمَّ قرأ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]. فيقول اللَّه عزَّ وجل: اكتبوا كتاب عبدي في سِجِّينٍ في الأرضِ السفلى. وتُطرَح رُوحُهُ طَرحًا، ثمَّ قرأ رسول اللَّه: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) } [الحج: 31]، فتعاد روحُهُ في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربُّك؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الَّذي بُعِثَ فيكم؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري، فينادي منادٍ من السماء، أن كذب عبدي (6) فأَفرشوه
__________
(1) في “ب، د”، ونسخةٍ على حاشية “أ” (بَصَرِهِ).
(2) السَّفُّود: الحديدة التي يشوي بها اللحم. انظر: الصحاح (1/ 417).
(3) في “ب، هـ”: “الخبيثة”.
(4) قوله “حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا” سقط “ب”.
(5) في نسخة على حاشية “أ” “فيستفتح له”.
(6) ليس في “ب، ج، د”.

(1/144)


من النار وافتحوا له بابًا إلى النَّار، فيأتيه من حرِّها وسمومها، ويُضَيَّقُ عليه قبرُهُ حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجلٌ قبيح الوجه، قبيحُ الثياب منتن الريح، فيقول: أبشر بالَّذي يسوؤك، هذا يومك الَّذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الوجه الَّذي (1) يجيء بالشر؟ فيقول أنا عملك الخبيث، فيقول: ربِّ لا تُقِمِ السَّاعة” (2).
ورواه أبو داود بطوله بنحوه، فهذا التوقيع، والمنشور الأوَّل.

فصل
وأمَّا المنشور الثاني: فقال الطبراني في “معجمه”: حدثنا إسحاق ابن إبراهيم الدَّبري، عن عبد الرزاق عن سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن عطاء بن يسار عن سلمان الفارسي رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لا يدخل الجنَّة أحدٌ إلَّا بجوازٍ: بسم اللَّهِ الرحمن الرحيم، هذا كتابٌ من اللَّه لفلان بن فلانٍ أَدْخلوهُ جنة عاليةً قطوفها دانية” (3).
__________
(1) من المطبوعة.
(2) تقدم الكلام عليه ص (34).
(3) أخرجه الطبراني في الكبير (6/ 272) رقم (6191) وفي الأوسط (2/ 192) رقم (2987)، والبيهقي في البعث (273)، والخطيب في تاريخ بغداد (5/ 208) و (7/ 98) وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 928) رقم (1547).
قال ابن الجوزي: “هذا حديث لا يصح عن رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أمَّا الطريقُ الأوَّل: ففيه عبد الرحمن بن زياد، قال أحمد بن حنبل: نحن لا نروي عن عبد الرحمن. . . “.

(1/145)


وأخبرنا سليمان بن حمزة الحاكم، أنبأنا محمد بن عبد الواحد المقدسي، أنبأنا زاهر الثقفي أنَّ عبد السلام بن محمد بن عبد اللَّهِ أخبرهم، أنبأنا المطهر بن عبد الواحد البُزاني (1) ، حدثنا محمد بن إسحاق بن منده أنبأنا محمد بن علي البلخي، حدثنا محمد بن خُشَام (2) ، حدثنا العباس بن زياد -ثقة-، حدثنا سَعْدان بن سعد، حدثنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي رضي اللَّهُ عنه أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “يُعْطى المؤمن جوازًا على الصِّراط: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا كتاب من اللَّهِ العزيز الحكيم، لفلانِ بن فلانِ (3) ، أدخلوه جنَّةً عاليةً، قُطوفها دانية” (4) .
قلتُ: وقع المؤمن في قبضة أصحاب اليمين يوم القبضتين، ثمَّ كُتِبَ من أهل الجنَّة يوم نفخ الروح فيه، ثمَّ يُكتب في ديوان أهل الجنَّة يوم موته (5) ، ثمَّ يُعْطى هذا المنشور يوم القيامة، فاللَّهُ المستعان.
__________
(1) في “أ، ب، ج، د”: “البزاقي”، وفي “هـ”: “البراقي” وكلاهما خطأ.
انظر: تكملة الإكمال لابن نقطة (1/ 489) رقم (849).
(2) في “ب، ج، د”: “خشنام” وهو خطأ.
(3) قوله: “ابن فلان” من “ج” فقط.
(4) أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه (11/ 318)، والدَّارقطني في الأفراد كما في أطراف الغرائب (3/ رقم 2232)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 928) رقم (1548) وغيرهم.
قال الدارقطني: “تفرَّد به سعدان عن التيمي”، قال ابن الجوزي: “سعدان مجهول، وكذلك محمد بن خشام”.
(5) قوله: “يوم موته” سقط من “ب”.

(1/146)


الباب السادس عشر في توحُّد طريق الجنَّة وأنَّه (1) ليس لها إلَّا طريق واحد
هذا ممَّا اتفقت عليه الرسل من أوَّلهم إلى خاتمهم صلوات اللَّه وسلامه عليهم. وأمَّا طرق الجحيم: فأكثر من أن تُحْصى، ولهذا يُوَحِّد اللَّه سبحانه سبيله، ويجمع سبل النَّار كقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا [46/ ب] السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]. وقال: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ} [النحل: 9]. أي: ومن السُّبُل جائر (2) عن القصد وهي: سُبُل (3) الغي، وقال: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} [الحجر: 41].
وقال ابن مسعود: خَطَّ لنا رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خطًّا، وقال: “هذا سبيل اللَّهِ، ثمَّ خطَّ خطوطًا عن يمينه وعن يساره، ثمَّ قال: هذه سُبُلٌ على كلِّ سبيلٍ منها شيطانٌ يدعو إليه” ثمَّ قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} الآية [الأنعام: 153] (4).
__________
(1) في “ب”: “وأنها”.
(2) قوله: “أي: ومن السبل جائر” سقط من “ب، د”، ووقع في “ج”: “السبيل” بدلًا من “السُّبل”.
(3) في “ب، د” “سبيل”.
(4) أخرجه الإمام أحمد في “المسند” (1/ 435)، والمروزي في “السنة” رقم (11)، وابن حبان في صحيحه رقم (6) و (7)، والحاكم في المستدرك (2/ 348 – 349) رقم (3241) وقال: “صحيح الإسناد ولم يخرجاه”.
من طريق عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن ابن مسعود، فذكره. =

(1/147)


فإِنْ قيل: فقد قال اللَّه تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 15 – 16] قيل: هي سُبُل تجتمع في سبيلٍ واحدٍ، وهي بمنزلة الجوادِّ (1) والطرق في الطريق الأعظم، فهذه هي شعب الإيمان يجمعها الإيمان، وهي شعبة، كما يجمع ساق الشجرة أغصانها وشعبها، وهذه السبل هي إجابة داعي اللَّهِ بتصديق خبره، وطاعة أمره، فطريق الجنَّة هي إجابة الدَّاعي إليها ليس إلَّا.
وروى البخاري في “صحيحه” (2) عن جابر -رضي اللَّه عنه- قال: “جاءت ملائكة إلى النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال بعضهم: إنَّه نائمٌ، وقال بعضهم: إنَّ (3) العين نائمةٌ والقلبُ يقظان، فقالوا: إنَّ لصاحبكم هذا مثلًا، فاضربوا له مثلًا فقالوا: مثله مثل رجلٍ بنى دارًا وجعل فيها مأدُبةً وبعث داعيًا، فمن أجاب الدَّاعي دخل الدَّار وأكلَ من المأدبة، ومن لم يجب
__________
= ورواه الأعمشُ ومنصور بن المعتمر عن أبي وائل به (رفعه: الأَعمش، وأوقفه: منصور).
انظر: مسند البزار (5/ 1677 و 1694).
ورواه الربيع بن خثيم عن ابن مسعود بمعناه.
أخرجه البخاري في “صحيحه” في (84) الرقاق (5/ 2359) رقم (6054) وغيره.
(1) الجوادُّ: جمع جادَّه وهو معظم الطريق، الصحاح (1/ 389).
(2) أخرجه البخاري رقم (6852) من طريق سليم بن حيَّان عن سعيد بن مِيْنَاء عن جابر بن عبد اللَّه فذكره.
(3) من صحيح البخاري و”ب”.

(1/148)


الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة، فقالوا: أوَّلُوها له (1) يفْقهْهَا فقال بعضهم: إنَّ العين نائمة والقلب يقظان، فالدَّارُ: الجنَّة، والدَّاعي: محمدٌ، فمن أطاع محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- فقد أطاع اللَّه، ومن عصى محمدًا فقد عصى اللَّه، ومحمد فَرْقٌ (2) بين النَّاس”.
ورواه الترمذي عنه ولفظه: خرج علينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يومًا فقال: “إنِّي رأيت في المنام: كأنَّ جبريل عند رأسي، وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلًا، فقال: اسمَع سمِعتْ أذنك، واعقِلْ عَقَلَ قلبُك، إنَّما مثلُكَ ومثلُ أمَّتك كمثل ملكٍ اتخذ دارًا، ثمَّ بنى فيها بيتًا، ثمَّ جعل مائدةً، ثمَّ بعث رسولًا يدعو النَّاس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه، فاللَّهُ هو الملكُ، والدَّارُ الإسلامُ، والبيتُ الجنَّة، وأنت يا محمد رسولٌ، فمن أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنَّة، ومن دخل الجنَّة (3) أكل ما فيها” (4) .
__________
(1) من صحيح البخاري.
(2) وفي رواية أبي ذرٍّ الهروي “فرَّق” قال الحافظ في الفتح (13/ 256): “وكلاهما متَّجه”.
(3) قوله: “من دخل الجنَّة” ليس في “ب”.
(4) أخرجه الترمذي برقم (2860).
من طريق سعيد بن أبي هلال عن جابر فذكره.
قال الترمذي: “هذا حديث مرسل، سعيد بن أبي هلال، لم يدرك جابر ابن عبد اللَّه، وقد روي هذا الحديث عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من غير هذا الوجه، بإسناد أصح من هذا”.

(1/149)


وصحَّح الترمذي من حديث عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه- قال: “صلَّى بنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- العشاء ثمَّ انصرف، فأخذ بيدي حتى خرج بي إلى بطحاء مكة، فأجلسني ثمَّ خطَّ عليَّ خطًّا، ثمَّ قال: لا تبرحنَّ خطَّكَ، فإنَّه سينتهي إليك رجال فلا تكلمهم؛ فإنَّهم لا يكلمونك، ثمَّ مضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حيث أراد، فبينا أنا جالسٌ في خطِّي، إذ أتاني رِجالٌ كأنَّهم الزُّطُّ (1) ، أشعارهم وأجسامهم، لا أرى عورةً، ولا أرى قِشْرًا، وينتهون إليَّ لا يجاوزون الخطَّ، ثمَّ يصدرون إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتَّى إذا كان من آخر الليل، لكن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد جاءني وأنا جالسٌ فقال: “لقد أُراني (2) منذُ الليلة”، ثمَّ دخل عليَّ في خَطِّي فتوسَّدَ فخذي فرقد، وكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا رقد نفخ، فبينا أنا قاعدٌ، ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- متوسدٌ فخذي إذا أنا برجالٍ عليهم ثيابٌ بيضٌ، اللَّه أعلمُ ما بهم من الجمال، فانتهوا إليَّ فجلس طائفةٌ منهم عند رأس رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وطائفة منهم عند رجليه، ثمَّ قالوا: ما رأينا عبدًا قطُّ (3) أوتي مثل ما أوتي هذا النَّبي، إنَّ عينيه تنامان وقلبُهُ يقظان، اضربوا له مثلًا، مثلَ سيدٍ بنى قصرًا ثمَّ جعل مأدُبةً فدعا النَّاس إلى طعامه وشرابه، فمن أجابه أكلَ من طعامه وشرب من شرابه، ومن لم يجبه عاقبه أو قال عذبه، ثمَّ ارتفعوا واستيقظ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عند ذلك
__________
(1) الزُّطّ: جيل من النَّاس. الواحد: زُطِّي، مثل: الزنج وزنجي، والرُّوم ورومي. الصحاح (1/ 882).
(2) في “ب”: “رأى”، وفي باقي النسخ “رآني”، والمثبت من سنن الترمذي، ومعنى: “أُراني”: أي لم أنم.
(3) من الترمذي.

(1/150)


فقال: سمعت ما قال هؤلاء؟ وهل تدري من هم؟ قلت: اللَّهُ ورسولهُ أعلم، قال: هم الملائكة، فتدري ما المثل الَّذي ضربوه؟ قلت: اللَّهُ ورسوله أعلم، قال (1) : الرحمن بنى الجنَّة، ودعا إليها عبادَهُ فمن أجابه دخل الجنَّة، ومن لم يجبه (2) عذَّبه” (3) .
__________
(1) في الترمذي بعد “قال”: “المثل الَّذي ضربوه”.
(2) في الترمذي بعد “يجبه” “عاقبه أو”.
(3) أخرجه الترمذي برقم (2861) وقال: “حسن صحيح غريب من هذا الوجه”، والبخاري في تاريخ الكبير (2/ 200) من طريق جعفر بن ميمون عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود فذكره بطوله.
وجعفر هذا ضعفه الإمام أحمد والنسائي وغيرهما، وقال ابن عدي: “أرجو أنَّه لا بأس به، ويكتب حديثه في الضعفاء”. انظر: الكامل: (2/ 138 – 139).
وقد خولف جعفر هذا، خالفه سليمان بن طرخان.
فرواه عن أبي تميمة عن عمرو البكالي عن ابن مسعود فذكره مطولًا “والبكالي: مجهول”.
أخرجه أحمد في المسند (1/ 399)، والبخاري في الأوسط (1/ 234)، والكبير (2/ 200).
قال البخاري: “ولا يُعْرف لعمرو سماعًا من ابن مسعود”.
وله طرق أُخرى عن ابن مسعود، أعلَّها كلها البخاري في الكبير والأوسط، وأعلها أيضًا أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان، وبَيَّنُوا أنَّ الثابت عن ابن مسعود أنَّه له لم يكن مع النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ليلة الجن، انظر: صحيح مسلم رقم (450).
بل قال أبو حاتم وأبو زرعة: “ولا يصح في هذا الباب شيء”. انظر علل ابن أبي حاتم (1/ 45).

(1/151)


الباب السابع عشر في درجات الجنَّة
قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)} [النساء: 95 – 96].
ذكر ابن (1) جرير: عن هشام بن حسان، عن جَبَلة بن عَطِيَّة (2)، عن ابن مُحَيْرِيْز قال: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ} [النساء: 95, 96]. قال: “هي سبعون درجة ما بين الدرجتين عَدْوُ الفرسِ الجواد المُضَمَّر سبعين عامًا” (3).
وقال ابن المبارك: أنبأنا سلمة بن نُبَيْط عن الضَّحَّاك في قوله تعالى: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنفال: 4] قال: “بعضهم أفضلُ من بعض، فيرى الَّذي قد فضل به فضله (4)، ولا يرى الَّذي هو أسفل منه،
__________
(1) من “هـ”، وسقط من باقي النسخ.
(2) في الطبري “سُحيم” بدل “عطية”، وهو خطأ.
(3) أخرجه الطبري في تفسيره (5/ 232).
وسنده صحيح، إن كان شيخ الطبري ثقة، وابن محيريز هو عبد اللَّه بن محيريز بن جنادة القرشي ثمَّ الشامي، تابعي ثقة جليل من العباد، يُشبَّه بابن عمر في عبادته.
انظر: تهذيب الكمال (16/ 106 – 111).
(4) في الزهد لابن المبارك “فضيلته”.

(1/152)


أنَّه فُضِّلَ عليه أحدٌ من النَّاس” (1).
وتأمَّل قوله: كيف أوقع التَّفْضيل أوَّلًا بدرجة، ثمَّ أوقعه ثانيًا بدرجات، فقيل: الأوَّل بين القاعد والمعذور والمجاهد، والثاني بين القاعد بلا عذر والمجاهد،
وقال تعالى: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)} [آل عمران: 162 – 163].
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)} [الأنفال: 2 – 4].
وفي “الصحيحين” (2) من حديث مالك عن صَفْوان بن سُلَيم، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّهُ عنه أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ أهل الجنَّة لَيتراءون أهلَ الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدُّرِّي الغابرَ من الأُفق: من المشرق أو المغرب؛ لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول اللَّه، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها
__________
(1) أخرجه ابن المبارك في الزهد -زوائد نعيم- رقم (246)، وابن أبي حاتم في تفسيره (5/ رقم 8799).
وسنده صحيح.
(2) أخرجه البخاري رقم (3083)، ومسلم رقم (2831).

(1/153)


غيرهم؟ قال: “بلى، والَّذي نفسي بيده رجالٌ آمنوا باللَّهِ وصدَّقوا المرسلين”.
ولفظ البخاري “في الأفق”: وهو أبْيَن (1) .
والغابر: هو الذَّاهب الماضي الَّذي قد تدلَّى للغروب. وفي التمثيل به دون الكوكب المسامت للرَّأس، وهو أعلى = فائدتان:
أحدهما: بُعْدُهُ عن العيون.
والثانية: أنَّ الجنَّة درجات بعضها أعلى من بعض، وإنْ لم تُسامت العليا السُّفلى، كالبساتين المُمْتدة من رأس الجبل إلى ذيله، واللَّهُ أعلم.
وفي “الصحيحين” (2) أيضًا من حديث سهل بن سعد -رضي اللَّه عنه- أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ أهل الجنَّة ليتراءون الغرفة في الجنَّة، كما تراءون الكوكب في أفقِ السماء”.
وقال الإمام أحمد: حدثنا قراد (3) ، أخبرني فُلَيح عن هلال يعني ابن علي، عن عطاء، عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ أهل الجنَّة ليتراءون في الجنة كما تراءون -أو ترون (4) –
__________
(1) في نسخةٍ على حاشية “أ”: “بَيَّن”.
(2) أخرجه البخاري رقم (6188)، ومسلم رقم (2830).
(3) كذا في جميع النسخ، وفي المسند، وأطرافه لابن حجر (7/ 417) “فزارة” هو: ابن عمرو، وهو الصواب.
(4) قوله: “أو ترون” ليس في “ب، د”.

(1/154)


الكوكب الدريِّ الغاربَ في الأفق الطالع في تفاضل الدَّرجات”، قالوا يا رسول اللَّه أولئك النَّبيُّون؟ قال: “بلى، والَّذي نفسي بيده وأقوامٌ آمنوا باللَّهِ وصدَّقُوا المرسلين” (1) .
ورجال هذا الإسناد احتجَّ بهم البخاري في “صحيحه”.
وفي هذا الحديث: “الغارب”، وفي حديث أبي سعيد: “الغابر”. وقوله: “الطالع” صِفَة للكوكب، وصَفَهُ بكونه غاربًا، وبكونه طالعًا.
وقد صُرِّحَ بهذا (2) المعنى في الحديث الَّذي رواهُ ابن المبارك: عن فليح بن سليمان عن هلال بن علي عن عطاء عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ أهل الجنَّة ليتراءون في الغرف كما يُرى
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (2/ 335، 339)، وابن خزيمة في “التوحيد”: (2/ 907) رقم (620)، والترمذي (2556)، وابن منده في الإيمان (406).
من طرق عن فليح عن هلال به، وقد خولف هلال:
خالفه صفوان بن سُليم: فرواه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد.
أخرجه البخاري ومسلم كما تقدم قريبًا ص (153).
قال محمد بن يحيى الذهلي: “لا أبعد أنْ يكون عطاء بن يسار قد سمعه من أبي سعيد وأبي هريرة رضي اللَّه عنهما”.
وقال الذهلي أيضًا: “حديث مالك عن صفوان بن سليم صحيح، ولا يدفع حديث هلال، ولعلَّ عطاء بن يسار حفظه عنهما”. انظر: علل الدَّارقطني (11/ 101). قلت: فليح في حفظه كلام، فأخشى من وهمه هنا.
فقد رواه النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد بمثل لفظ سهل بن سعد وزاد “كما تراءون الكوكب الغارب في الأفق الشرقي والغربي”.
أخرجه البخاري برقم (6188) ومسلم برقم (2831).
(2) في “ب”: “خرِّج هذا” وفي “د”: “خرج بهذا” بدلًا من “صُرِّح بهذا”.

(1/155)


الكوكب الشرقي، والكوكب الغربي في الأفق في تفاضل الدرجاتِ، قالوا: يا رسول اللَّه أولئك النَّبيون؟ قال: بلى (1) ، والَّذي نفسي بيده وأقوامٌ آمنوا باللَّه وصدَّقوا المرسلين” (2) .
وهذا على شرط البخاري أيضًا.
وفي “المسند” من حديث أبي سعيد رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ المتحابين لتُرى غرفُهم في الجنَّة كالكوكب الطالع الشرقيِّ أو الغربيِّ، فيقال: من هؤلاء؟ فيقال: هؤلاء المتحابُّون في اللَّهِ عزَّ وجلَّ” (3) .
وفي “المسند” من حديث أبي سعيد رضي اللَّهُ عنه أيضًا عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ في الجنَّة مئة درجةٍ، ولو أنَّ العالمين اجتمعوا في إحداهنَّ لوسعتهم (4) ” (5) .
__________
(1) في الزهد لابن المبارك “لا بل”.
(2) أخرجه ابن المبارك في الزهد – زوائد نعيم، برقم (418)، والترمذي برقم (2556)، وابن أبي الدنيا في التوكل على اللَّهِ رقم (41) وغيرهم.
قال الترمذي: “حسن صحيح”.
(3) أخرجه أحمد في “المسند”: (3/ 78).
وفيه انقطاع أبو حازم واسمه سلمة بن دينار لم يسمع من أحد من الصحابة سوى سهل بن سعد الساعدي رضي اللَّهُ عنه.
انظر: جامع التحصيل ص (187) رقم (255).
(4) وقع في “أ”: “اجتمعوا فيهنَّ في إحداهنَّ وسعتهن”، وكتب الناسخ على “فيهنَّ”: “كذا”.
(5) أخرجه أحمد في المسند (3/ 29)، والترمذي برقم (2531)، وأبو يعلى في =

(1/156)


وفي “المسند” عنه أيضًا عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “يُقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنَّة: اقرأ واصعدْ، فيقرأ ويصعد بكلِّ آيةٍ درجة، حتَّى يقرأ آخر شيءٍ معهُ” (1) .
وهذا صريحٌ في أنَّ درج الجنَّة تزيد على مائة درجة (2) .
وأمَّا حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- الَّذي رواه البخاري في صحيحه (3) عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ في الجنَّة مائة درجةٍ أعدَّها اللَّهُ للمجاهدين في سبيله بين كلَّ درجتين كما بين السماء والأرضِ، فإذا سألتم اللَّهَ فاسألوه الفردوس، فإنَّه وسط الجنَّة، وأعلى الجنَّة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجَّرُ أنهار الجنَّة”.
فإمَّا أن تكون هذه المائة درجة من جملة الدَرَج، وإمَّا أنْ تكون نهايتها هذه المائة، وفي ضمن كل درجة درج (4) دونها.
__________
= مسنده (2/ 530) رقم (1398).
من طريق دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد.
وقد تقدَّم الكلام عن مثل هذا الإسناد في ص (117).
والحديث ضعفه الترمذي بقوله: “هذا حديث غريب”.
(1) تقدم ص (135).
(2) ليس في “أ، ب، د”. وجاء في نسخة على حاشية “أ” ما يلي: “وقد تقدم أنَّ آيات القرآن ستة آلاف ومائتا آية وستة عشر آية، فعلى هذا درجات الجنَّة كذلك”.
(3) تقدم ص (134).
(4) ليس في “ب”.

(1/157)


ويدل على المعنى الأوَّل حديث زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل -رضي اللَّه عنه- قال: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “من صلَّى هؤلاء الصلوات الخمس، وصام شهر رمضان كان حقًّا على اللَّهِ أن يغفر له هاجر أو قعدَ حيثُ ولدته أُمُّهُ”، قلتُ: يا رسول اللَّه ألا أخرجُ فأُوذن النَّاس؟ قال: “لا، ذرِ النَّاسَ يعملون، فإنَّ في الجنَّة مائة درجة بين كلِّ درجتين منها مثل ما بين السماء والأرضِ، وأعلى درجةٍ منها الفردوس، وعليها يكون العرشُ، وهي أوسط شيءٍ في الجنَّة، ومنها تفجر أنهار الجنَّة، فإذا سألتم اللَّهَ فسلوه الفردوس” (1) .
رواه الترمذي هكذا بلفظة “في” (2) .
وروى أيضًا: من حديث عطاء عن عبادة بن الصامت أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “في الجنَّة مائة درجة” (3) ثمَّ ذكر نحو حديث معاذ.
وفيه أيضًا: من حديث عطاء عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “في الجنَّة مائة درجةٍ (4) ما بين كلَّ درجتين مائة عامٍ” (5) . قال: “هذا حديثٌ حسن غريب”.
__________
(1) تقدم ص (132 – 133)، وهو منقطع.
(2) سقط من “ب، د” قوله “في”.
(3) تقدم ص (132 – 133).
(4) من قوله: “ثمَّ ذكر نحو” إلى “درجة” سقط من “ب، ج”.
(5) أخرجه الترمذي برقم (2529)، وأحمد (3/ 29).
من طريق شريك القاضي عن محمد بن جحادة عن عطاء عن أبي هريرة فذكره.
وخالفه مالك بن مغول، فرواه عن محمد بن جُحادة عن عطاء بن أبي =

(1/158)


وفيه أيضًا: من حديث أبي سعيد يرفعه: “إنَّ في الجنَّة مائة درجة لو أنَّ العالمين اجتمعوا في إحداهنَّ لوسعتهم” (1) .
ورواه أحمدُ بدون لفظة: “في” كما تقدَّم. وقد رويت هذه الأحاديث بلفظة: “في” وبدونها، فإن كان المحفوظ ثبوتها فهي من جملة درجها، وإنْ كان المحفوظ سقوطها، فهي الدَّرَج الكبار المتضمنة للدَّرج الصِّغار، واللَّه أعلم.
ولا تناقض بين تقدير ما بين الدرجتين بالمائة وتقديرها بالخمس مائة لاختلاف السَّير في السرعة والبُطْءِ، والنَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ذكر هذا تقريبًا للأفهام، ويدل عليه حديث زيد بن حُباب (2) : حدثنا عبد الرحمن بن شُرَيح، حدَّثني أبو هانئ التُّجِيبي، سمعتُ أبا علي الجَنْبي (3) سمعت أبا سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- يقول: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “مائة درجة في الجنَّة ما بين الدرجتين ما بين السماء والأرض، وأبعد ممَّا بين السماء والأرض” قلتُ: يا رسول اللَّه لمن؟ قال: “للمجاهدين في سبيل اللَّهِ” (4) .
__________
= رباح قوله.
قال الدَّارقطني في العلل (11/ 103): “وهو أصحُّ”.
(1) تقدم ص (157 – 158).
(2) في “ب”: “حبان”، وفي “ج”: “حيان”، وفي “هـ”: “خباب” وكلها خطأ.
(3) في “ب، د، هـ”: “التجيبي” وهو خطأ، انظر: تهذيب الكمال (22/ 209).
(4) أخرجه عبد بن حميد في مسنده “المنتخب” رقم (920)، وابن أبي الدنيا في “صفة الجنة” رقم (192).
وسنده حسن.

(1/159)


الباب الثامن عشر في ذكر أعلى درجاتها واسم تلك الدرجة
روى مسلم في “صحيحه” (1) من حديث عبد اللَّه بن (2) عمرو بن العاص -رضي اللَّه عنهما- أنَّه سمع النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “إذا سمعتُم المؤذن فقولوا مثلَ ما يقول، ثمَّ صلُّوا عليَّ، فإنَّه من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى اللَّهُ عليه بها (3) عشرًا، ثمَّ سلُوا اللَّهَ (4) لي الوسيلة، فإنَّها منزلةٌ في الجنَّة لا تنبغي إلَّا لعبدٍ من عباد اللَّهِ، وأرجو أنْ أكون أنا هو، فمن سأل ليَ الوسيلة حلَّتْ عليه الشفاعة”.
وقال أحمد: ثنا عبد الرزاق، أنبأنا سفيان، عن ليث عن كعب، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إذا صليتم عليَّ فاسألوا اللَّه لي الوسيلة، قيل: يا رسول اللَّه، وما الوسيلة؟ قال: أعلى درجةٍ في الجنَّة لا ينالها إلَّا رجلٌ واحدٌ، وأرجوا أنْ أكونَ أنا هو” (5).
هكذا الرواية: “أنْ أكون أنا هو”، ووَجْهُهَا: أنْ تكون الجُملة خَبَرًا
__________
(1) رقم (384).
(2) قوله: “عبد اللَّه بن” سقط من جميع النسخ، فأثبته من مسلم.
(3) ليست في “ب، ج، د”.
(4) من صحيح مسلم.
(5) أخرجه أحمد في المسند (2/ 265)، والترمذي رقم (3612) وإسماعيل القاضي في فضل الصلاة رقم (46)، وهنَّاد في الزهد رقم (147).
قال الترمذي: “هذا حديث غريب، إسناده ليس بالقوي، وكعب ليس هو بمعروف، ولا نعلم أحدًا روى عنه غير ليث بن أبي سليم”.

(1/160)


عن اسم كان المُسْتَتِر فيها، ولا تكون “أنا” فصْلًا، ولا توكيدًا، بل مبتدأ.
وفي “الصحيحين” (1) من حديث جابر -رضي اللَّه عنهما- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “من قال حينَ يسمع النَّداء: الَّلهم رَبَّ هذِهِ الدعوة التَّامَّة، والصَّلاة القائمة، آتِ محمدًا الوسيلةَ والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، حلَّت (2) له شفاعتي (3) يوم القيامة”.
هكذا لفظ الحديث: “مقامًا” بالتَّنكير ليوافق لفظ الآية؛ ولأنَّهُ لمَّا تعين وانحصر نوعه في شخصه جرى مجرى المعرفة، فَوُصِفَ بما توصف به المعارف، وهذا ألطف (4) مِنْ جَعْلِ “الَّذي وعدته” بدلًا، فتأمله.
وفي “المسند” من حديث عمارة بن غَزِيَّة، عن موسى بن وَرْدَان عن أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “الوسيلة درجةٌ عند اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ليس فوقها درجةٌ، فسلوا اللَّه لي (5) الوسيلة” (6) .
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (589) و (4442)، ولم يخرجه مسلم في صحيحه.
(2) وقع في “أ، ج، هـ”: “إلَّا حلَّت”، والمثبت من البخاري و”ب، د”.
(3) في جميع النسخ: “الشفاعة”، والمثبت من البخاري، انظر: فتح الباري (2/ 96).
(4) في “ج”: “لفظ” وهو خطأ.
(5) في المسند: “أنْ يؤتيني” بدل “لي”.
(6) أخرجه أحمد في مسنده: (3/ 83). =

(1/161)


وذكره ابن أبي الدنيا وقال فيه: “درجةٌ في الجنَّة ليس في الجنَّة درجة أعلى منها، فسلُوا اللَّهَ أنْ يؤتينيها على رؤوس الخلائقِ” (1) .
وقال أبو نعيم، أنبأنا سليمان بن أحمد: حدثنا أحمد بن عمرو بن مسلم (2) الخلَّال، حدثنا عبد اللَّه بن عمران العابدي (3) ، حدثنا فُضَيل
__________
= من طريق ابن لهيعة عن موسى بن وردان عن أبي سعيد فذكره.
قال الهيثمي: “رواه أحمد والطبراني في الأوسط، وفيه ابن لهيعة، وفيه ضعف”. مجمع الزوائد: (1/ 332).
تنبيهان:
1 – الحديث لم يخرجه أحمد في مسنده من طريق عمارة بن غزية، وإنَّما هو عند الطبراني في الأوسط.
2 – ليس في سند الطبراني في الأوسط ابن لهيعة، كما سيأتي.
(1) أخرج ابن أبي الدنيا في “صفة الجنة” رقم (201).
من طريق إسماعيل بن عياش عن عمارة عن موسى عن أبي سعيد فذكره.
ورواه إسماعيل بن جعفر وسعيد بن أبي أيوب عن عمارة بن غزية عن موسى عن أبي سعيد فذكره.
أخرجه الطبراني في الأوسط رقم (263 و 1466).
ولفظ إسماعيل بن جعفر مثله وفيه: “. . . فسلوا اللَّهَ أنْ يؤتيني الوسيلة على خلقه”.
وأمَّا طريقُ سعيد بن أبي أيوب فضعيفٌ جدًّا.
والحديث مداره على موسى بن وردان وهو تابعيٌ قاص صدوق يخطئ، له مفاريد، ولعلَّ هذا منها. انظر: تهذيب الكمال: (29/ 163 – 166).
(2) وقع في جميع النسخ “عمرو بن سليم”، وجاء في نسخة على حاشية “أ”: “عمر” بدلًا من “عمرو” وهو خطأ.
(3) جاء في “د”: “العبادي”، وفي “ب”: “العايدي”. انظر: الأنساب للسمعاني =

(1/162)


ابن عِيَاض عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: جاء رجلٌ إلى النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا رسول اللَّه، واللَّهِ إنَّك لأحبٌّ إليَّ من نفسي، وإنَّك لأحب إليَّ من أهلي، وأحبُّ إليَّ من ولدي، وإنِّي لأكون في البيت، فأذكرك فما أصبر حتَّى آتيك فأنظرَ إليك، وإذا ذكرتُ موتي وموتك؛ عرفتُ أنَّك إذا دخلت الجنَّة رُفعتَ مع النبيين، وإنَّي إذا دخلتُ الجنَّة خشيتُ أنْ لا أراكَ. فلم يردَّ عليه (1) النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى نزل جبريل بهذه الآية: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) } [النساء: 69] (2) “.
__________
= (4/ 107).
(1) ليس في “ج”.
(2) أخرجه الطبراني في الأوسط رقم (477)، وفي الصغير رقم (52)، وأبو نعيم في “الحلية”: (4/ 239 – 240) و (8/ 125) والواحدي في أسباب النزول ص (66)، وغيرهم.
قال الطبراني: “لم يروه عن منصور عن إبراهيم. .، إلَّا فضيل، تفرَّد به عبد اللَّه بن عمران”.
وقال أبو نعيم: “غريب من حديث فضيل ومنصور متَّصلًا، تفرَّد به العابدي فيما قاله سليمان”.
وقال أيضًا: “هذا حديث غريب من حديث منصور وإبراهيم، تفرَّد به فضيل وعنه العابدي”.
قلتُ: العابدي صدوق، قاله أبو حاتم، “الجرح”: (5/ 130)، لكن يخشى من خطئه.
فقد رواه جرير وزائدة بن قدامة وعبيدة بن حميد كلهم عن منصور عن أبي الضحى مسلم بن صُبيح عن مسروق فذكره مرسلًا بنحوه. =

(1/163)


قال الحافظ أبو عبد اللَّه المقدسي: “لا أعلم بإسناد هذا الحديث بأسًا”.
وسُمِّيت درجة النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الوسيلة؛ لأنَّها أقرب الدرجات إلى عرش الرب (1) تبارك وتعالى، وهي أقرب الدرجات إلى اللَّهِ.
وأصل اشتقاق لفظ: “الوسيلة” من القُرْب. وهي فَعِيلَة: مِنْ وَسَلَ إليه: إذا تقرَّب إليه.
قال لَبيْد:
بلى كلُّ ذي رأيٍ إلى اللَّهِ واسلُ (2)
ومعنى الوسيلة: من الوُصْلَة، ولهذا كانت أفضل الجنَّة وأشرفها، وأعظمها نورًا.
قال صالح بن عبد الكريم: قال لنا فُضَيل بن عِيَاض: تدرون لِمَ حسنت الجنَّة؟ لأنَّ عرش رب العالمين سقفها (3) .
__________
= أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 997) رقم (577)، والواحدي في “أسباب النزول” ص (165)، وابن أبي شيبة في “المصنف” (6/ 328) رقم (31765) وغيرهم.
قلت: ولعل المرسل أشبه بالصواب، وقد وردت عدة مراسيل بنحو ذلك: عن سعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والربيع.
(1) في “ب”: “الرحمن”.
(2) * ديوان لبيد ص (256) *.
(3) أخرجه الخطيب في تاريخه (9/ 312).

(1/164)


وقال الحكم بن أبان: عن عكرمة عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: “نور سقف مساكنهم نورُ عرشه” (1) .
وقال بكر (2) عن أشعث عن الحسن: “إنَّما سُمِّيت عَدْن؛ لأنَّ فوقها العرش، ومنها (3) تفجَّر أنهار الجنَّة، وللحور العَدْنِيَّة الفضلُ على سائر الحور (4) ” (5) .
والقُرْبَى والزُّلْفَى: واحد، وإنْ كان في الوسيلة معنى التقرب إليه بأنواع الوسائل.
قال الكلبي: “واطلبوا إليه القربة بالأعمال الصالحة” (6) .
__________
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في “صفة الجنَّة” رقم (22) وأوله: “إذا سكن أهل الجنَّةِ الجنَّة: نوَّر. . . “.
وسنده ضعيفٌ، فيه حفص بن عمر العدني والحكم بن أبان، وهما ضعيفان.
انظر: “تهذيب الكمال”: (7/ 41 – 44 و 86 – 88).
(2) في “أ”: “بكر بن أشعث”، وفي باقي النسخ “بكر عن أشعث”، وعند ابن أبي الدنيا “مروان بن بكير”، ويحتمل أنَّه “بكر بن خُنَيس”، انظر: تهذيب الكمال (3/ 265).
(3) في “هـ”: “وفيها”.
(4) قوله: “على سائر الحور” ليس في “ج”.
(5) أخرجه ابن أبي الدنيا في “صفة الجنَّة” رقم (23).
وفيه أشعث بن سوار الكندي، وهو ضعيف.
انظر: تهذيب الكمال (3/ 264 – 266).
(6) انظر الوسيط للواحدي (2/ 183).

(1/165)


وقد كشف سبحانه عن هذا المعنى كلَّ الكشف بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57] فقوله: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}، هو تفسير للوسيلة (1) التي (2) يبتغيها هؤلاء الَّذين يدعونهم المشركون من دون اللَّهِ، فَيُنَافِسُون (3) في القرب منه.
ولمَّا كان رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أعظم الخلق عبوديةً لربه، وأعلمهم به، وأشدَّهم له خشية، وأعظمهم له محبة؛ كانت منزلته أقرب المنازل إلى اللَّهِ، وهي أعلى درجة في الجنَّة، وأمرَ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُمَّتَهُ أنْ يسألوها له لينالوا بهذا الدعاء الزلفى من اللَّهِ، وزيادة الإيمان.
وأيضًا فإنَّ اللَّه سبحانه قدَّرها له بأسباب، منها: دعاء أمَّته له بها (4) بما نالوه على يده من الإيمان والهدى، صلوات اللَّهِ وسلامه عليه.
فقوله: “حلت عليه” (5) يُرْوَى: “عليه” و”له”، فمن رواه بالَّلام فمعناهُ: حصلت له. ومن رواه بِعَلَى فمعناهُ: وقعت عليه شفاعتي، واللَّهُ أعلم.
__________
(1) في “ب، ج”: “الوسيلة”.
(2) في “ب، ج، د، هـ”: “الذي”.
(3) في “ظ، م، ج”: “فيتنافسون”.
(4) في “ب، ج، د”: “لربها بما نالوه”.
(5) تقدم ص (160 و 161).

(1/166)


الباب التاسع عشر في عرض الرَّبِّ تعالى سلعته (1) الجنَّة على عباده وثمنها الَّذي طلبه منهم وعقد التبايع الَّذي وقع بين المؤمنين وبين ربِّهم
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].
فجعل سبحانه الجنَّة ثمنًا لنفوس المؤمنين وأموالهم، بحيث إذا بذلوها فيه استحقُّوا الثَّمن، وعَقَدَ معهم هذا العقدَ، وأكَّدهُ بأنواع التأكيد: أحدها: إخبارُهُ سبحانه بصيغة الخبر المؤكَّد بأداة إنَّ.
الثاني: الإخبارُ بذلك بصيغة الفعل الماضي، الَّذي قد (2) وقع وثبت واستقر.
الثالث: إضافة هذا العقد (3) إلى نفسه سبحانه وأنَّه هو الَّذي اشترى هذا المبيع.
__________
(1) في “أ، ج، هـ”: “سلعة”.
(2) ليس في “أ”.
(3) في “ب”: “الفعل”.

(1/167)


الرَّابع: أنَّه أخبر بأنَّه وعد بتسليم هذا الثمن وَعْدًا لا يُخْلِفُهُ ولا يتركه.
الخامس: أنَّه أتى بصيغة “على” التي للوجوب، إعلامًا لعباده، بأنَّ ذلك حقٌّ عليه، أحَقَّه هو على نفسه.
السادس: أنَّه أكَّد ذلك بكونه حقًّا عليه.
السابع: أنَّه أخبر عن محل هذا الوعد، وأنَّه في (1) أفضل كتبه المنزلة من السماء، وهي: التوراة والإنجيل والقرآن.
الثامن: إعلامه لعباده بصيغة استفهام الإنكار، وأنَّه لا أحد أوفى بعهده منه سبحانه.
التاسع: أنَّه سبحانه أمرهم أنْ يَبْشروا بهذا العقد، ويُبشِّر به بعضهم بعضًا بشارة من قد تمَّ له العقد ولزم، بحيث لا يثبت فيه خيار، ولا يعرض له ما يفسخه.
العاشر: أنَّه أخبرهم إخبارًا يؤكِّد (2) بأنَّ ذلك البيع الَّذي بايعوا به هو الفوز العظيم، والبيع ها هنا: بمعنى المَبِيع الَّذي أخذوه بهذا الثمن، وهو الجنَّة.
وقوله: {بَايَعْتُمْ بِهِ} أي: عاوضتم وثامنتم به.
ثمَّ ذكر سبحانه أهل هذا العقد الذين وقع العقد وتمَّ لهم دون
__________
(1) ليس في “أ، ج”.
(2) في “ب، د، هـ” ونسخةٍ على حاشية “أ”: “مؤكَّدًا”.

(1/168)


غيرهم، وهم:
– {التَّائِبُونَ} مما يكره.
– {الْعَابِدُونَ} له بما يحب.
– {الْحَامِدُونَ} له على ما يحبون وما يكرهون.
– {السَّائِحُونَ} وفُسِّرت السِّياحة: بالصيام، وفُسِّرت: بالسفر في طلب العلم، وفُسِّرت: بالجهاد، وفُسِّرت: بدوام الطاعة.
والتحقيق فيها: أنَّها سياحة القلب في ذكر اللَّه ومحبته والإنابة إليه والشوق إلى لقائه، ويترتب عليها كل ما ذكر من الأفعالِ، وكذلك وصف نساء النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الَّلاتي لو طلق أزواجه بدَّله بهن، بأنَّهنَّ {سَائِحَاتٍ} [التحريم: 5] وليست سياحتهن جهادًا، ولا سفرًا في طلب العلم، ولا إدامة صيام، وإنَّما هي سياحة قلوبهنَّ في محبة اللَّه وخشيته والإنابة إليه وذكره.
وتأمَّل كيف جعل سبحانه التوبة والعبادة قرينين: هذه ترك ما يكره، وهذه فعل ما يحب. والحمد والسياحة قرينين: هذا الثناء عليه بأوصاف كماله، وسياحة اللسان في أفضل ذكره، وهذا سياحة القلب في حُبَّه وذكره وإجلاله.
كما جعل سبحانه العبادة والسياحة قرينين في صفة الأزواج: فهذه عبادة البدن، وهذه عبادة القلب.
وجعل الإسلام والإيمان قرينين: فهذا علانية، وهذا في القلب؛

(1/169)


كما في “المسند” عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “الإسلام علانية، والإيمان في القلبِ” (1) .
وجعل القنوت والتوبة قرينين: فهذا فعل ما يحب، وهذا تركُ ما يكره.
وجعل الثُّيوبة والبَكَارة قرينين، فهذه قد وطئت وارتاضتْ وذُلِّلت صعوبتها، وهذه رَوْضَة أُنُفٌ (2) لم يُرتع فيها بعد.
وجعل الركوع والسجود قرينين، وجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قرينين، وأدخل بينهما الواو دون ما تقدم إعلامًا بأنَّ أحدهما لا يكفي حتى يكون مع الآخر، وجعل ذلك قرينًا لحفظ
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند: (3/ 135)، وابن أبي شيبة في “المصنف”: (6/ 159) رقم (30310)، وفي الإيمان رقم (6)، وأبو يعلى في “مسنده”: (5/ 301 – 302)، والعقيلي في “الضعفاء الكبير”: (3/ 250) وابن عدي في “الكامل”: (5/ 207)، وابن حبان في “المجروحين”: (2/ 111) وغيرهم.
من طريق علي بن مسعدة عن قتادة عن أنس فذكره.
والحديث منكر، تفرَّد به علي بن مسعدة عن قتادة، وعلي بن مسعدة فيه ضعف، والحديث عدَّه العقيلي وابن عدي وابن حبان من منكرات علي بن مسعدة، بل قال ابن عدي: “ولعلي بن مسعدة غير ما ذكرت عن قتادة، وكلها غير محفوظة” قلت: كحديث: “كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون” عند الترمذي برقم (2499) وغيره.
وقال: “غريبٌ لا نعرفه إلَّا من حديث علي بن مسعدة”، وجعله ابن عدي وابن حبان من منكراته.
انظر: تهذيب الكمال: (21/ 129 – 132).
(2) قال الجوهري في “الصحاح”: (2/ 1022): “وروضة أُنُف، بالضم، أي لم يَرْعهَا أحد”.

(1/170)


حدوده، فهذا حِفْظُها في نفس الإنسان، وذاك (1) أمرُ غيرِهِ بحفظها. وأفهمت الآية: خطر النفس الإنسانية وشرفها، وعظم مقدارها، فإنَّ السلعة إذا خفي عليك قدرها فانظر إلى المشتري لها من هو، وانظر إلى الثمن المبذول فيها ما هو؟ وانظر إلى من جرى على يده عقد التبايع، فالسِّلعة: النفس، واللَّهُ سبحانه: المشتري لها، والثمن: جنَّات النعيم، والسَّفِيْر في هذا العقد: خير خلقه من الملائكة وأكرمهم عليه، وخيرهم من البشرِ وأكرمهم عليه.
قد هيؤوكَ لأَمرٍ لو فَطِنْتَ له … فارْبأْ بِنفسِكَ أَنْ تَرْعَى مَعَ الهَمَلِ (2)
وفي “جامع الترمذي” من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “من خافَ أدلج، ومن أدلَجَ بلغَ المنزلَ، ألَا إنَّ سلعةَ اللَّهِ غاليةٌ، ألَا إنَّ سلعةَ اللَّهِ الجنَّة” (3) . قال: “هذا حديثٌ حسن غريب”.
__________
(1) في “أ”: “ذلك”.
(2) البيت للطغرائي في “لامية العجم”.
انظر: “الغيث المسجم في شرح لامية العجم” للصفدي: (2/ 438) وفيه “رشَّحُوك” بدل “هيَّؤوك”.
(3) أخرجه الترمذي رقم (2450)، والبخاري في تاريخه (2/ 111) والعقيلي في “الضعفاء الكبير”: (4/ 383) وغيرهم.
من طريق يزيد بن سنان الرهاوي عن بكير بن فيروز عن أبي هريرة:
والحديث منكرٌ بهذا الإسناد، تفرَّد به يزيد بن سنان أبو فروة الرهاوي وهو ضعيف.
ولهذا قال الترمذي: “حسنٌ غريب. . “.
وقد جاء هذا المتن من حديث أُبيِّ بن كعب عند أبي نعيم في “الحلية”: =

(1/171)


وفي كتاب “صفة الجنَّة” لأبي نعيم من حديث أبان، عن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: جاء أعرابي إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: ما ثمن الجنَّة؟ قال: “لا إله إلَّا اللَّه” (1) . وشواهد هذا الحديث كثيرةٌ جدًّا.
وفي “الصحيحين” (2) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: “أنَّ أعرابيًّا جاء إلى رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: يا رسول اللَّه، دُلَّني على عملٍ إذا عملته دخلتُ الجنَّة، فقال: “تعبد اللَّه لا تشركُ به شيئًا، وتقيمُ الصلاة المكتوبة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصومُ رمضان” قال: “والَّذي
__________
= (8/ 377)، والحاكم في المستدرك: (4/ 343) رقم (7852)، من طريق وكيع وعبد اللَّه بن الوليد العدني عن الثوري عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أُبي عن أبيه أُبي بن كعب فذكره، وفيه زيادة.
قال أبو نعيم: “غريب تفرَّد به وكيع عن الثوري بهذا اللفظ”.
قلت: الراوي عن وكيع هو يحيى بن إسماعيل الواسطي، وقد خالفه الإمام أحمد وأبو كريب وعبد اللَّه بن هاشم العبدي وغيرهم كلهم رووه عن وكيع به بدون زيادة هذا المتن “من خاف أدلج. . “، وإنما بلفظ: “جاءت الراجفة تتبعها الرَّادفة. . . “.
وأمَّا رواية العدني فلم يتابع عليه، فلم يروه من أصحاب الثوري إلَّا هو، ووكيع “في الرواية المرجوحة عنه”. والحديث صححه الترمذي، وليس فيه هذا المتن.
والحديث مدارهُ على ابن عقيل، وفيه لين.
(1) أخرجه أبو نعيم في “صفة الجنَّة”، رقم (51).
وإسناده واهٍ جدًّا، فيه محمد بن مروان السدي: متهمٌ بالكذب، وأمَّا أسيد بن زيد، وأبان فمتروكان.
انظر: ميزان الاعتدال: (1/ 124، 419).
(2) أخرجه البخاري رقم (1333)، ومسلم رقم (14).

(1/172)


نفسي بيده لا أزيدُ على هذا شيئًا أبدًا ولا أنقصُ منه، فلمَّا ولَّى قال: “من سرَّهُ أنْ ينظرَ إلى رجلٍ من أهل الجنَّة فلينظر إلى هذا”.
وفي “صحيح مسلم” (1) عن جابر -رضي اللَّه عنه- قال: أتى النعمان بن قَوْقَل إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا رسول اللَّهِ أرأيت إذا صليت المكتوبة، وحرَّمت الحرام، وأحللتُ الحلال، أدخل الجنَّة؟ فقال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “نعم”.
وفي “صحيح مسلم” (2) عن عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “من ماتَ وهو يعلمُ أن لا إله إلَّا اللَّه دخلَ الجنَّة”.
وفي “المسند” و”سنن أبي داود” عن معاذ بن جبل -رضي اللَّه عنه- قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولُ: “من كانَ آخرُ كلامه: لا إله إلَّا اللَّه، دخل الجنَّة” (3) .
__________
(1) رقم (15).
(2) رقم (26).
(3) أخرجه أبو داود رقم (3116) وأحمد في المسند (5/ 234)، والطبراني في الكبير (3/ 270 – 271) رقم (1372 – 1373)، والبزار في مسنده (7/ 77) رقم (2625، 2626)، والحاكم (1/ 503) رقم (1299) وغيرهم.
من طريق صالح بن أبي عريب عن كثير بن مُرَّة عن معاذ فذكره.
وفيه صالح بن أبي عُريب، ذكره ابن حبان في الثقات، وروى عنه جماعة، وقال ابن القطان: “لا تعرف حاله”.
انظر: “تهذيب الكمال”: (13/ 73)، و”بيان الوهم والإيهام”: (2/ 206).
والحديث صحح إسناده الحاكم.
وللحديث شاهد عن أبي هريرة: مرفوعًا، والصحيح موقوف. وعن ابن =

(1/173)


وفي “الصحيحين” (1) عن أبي ذرٍّ -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أتاني آتٍ من ربي فأخبرني -أو قال- فبشرني أنَّه من ماتَ من أمتك لا يشرك باللَّهِ شيئًا دخل الجنَّة، قلتُ: وإن زنى وإنْ سرق؟ قال: وإنْ زنى وإن سرق”.
وفي “الصحيحين” (2) من حديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “من قال: أشهدُ أنْ لا إله إلَّا اللَّه وحده لا شريك له، وأنَّ محمدًا عبدُهُ ورسوله، وأنَّ عيسى عبدُ اللَّهِ ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، وأنَّ الجنَّة حقٌّ، وأنَّ النَّار حقٌّ، أدخلهُ اللَّهُ من أيِّ أبواب الجنَّة الثمانية شاء”.
وفي لفظٍ: “أدخله اللَّهُ الجنَّة على ما كان من عمل” (3) .
وفي “صحيح مسلم” (4) : “أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أعطى أبا هريرة نعليه فقال: “اذهبْ بنعليَّ هاتين، فمن لقيتَ من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلَّا اللَّه مستيقنًا بها قلبُهُ، فبشِّره بالجنَّة”.
وقال روح بن عبادة عن حبيب بن الشهيد عن الحسن قال:
__________
= مسعود: وسنده ضعيف. وعن عبد اللَّه بن جعفر: موقوفًا وفيه رجل مبهم.
انظر: علل الدَّارقطني (11/ 238 – 241)، و”بيان الوهم والإيهام”: (2/ 205) مع الحاشية.
(1) البخاري رقم (1180)، ومسلم رقم (94).
(2) البخاري رقم (3252)، ومسلم رقم (28).
(3) راجع المصدرين السابقين.
(4) رقم (31).

(1/174)


“ثمنُ الجنَّة لا إله إلَّا اللَّه” (1)
وروى أبو نعيم: من حديث أبي الزبير، عن جابر – رضي اللَّهُ عنه – سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “لا يُدْخِلُ أحدًا منكم عمله الجنَّة، ولا يجيره من النَّار، ولا أنا إلَّا بتوحيد اللَّه” (2) .
وإسنادُه على شرط مسلم، وأصل الحديث في الصحيح.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (13/ 529)، وأبو نعيم في “صفة الجنة” رقم (50)، وسنده صحيح.
(2) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (52).
من طريق زكريا الساجي عن سلمة بن شبيب عن الحسن بن أعين عن معقل بن عبيد اللَّه عن أبي الزبير عن جابر فذكره.
وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (2817) عن سلمة بن شبيب به بمثله إلَّا أنَّه قال: “برحمة من اللَّه” بدلًا من “بتوحيد اللَّه”.
– ورواه ابن لهيعة عن أبي الزبير به بمثل لفظ مسلم.
أخرجه أحمد (3/ 394).
– ورواه الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بلفظ: “قاربوا وسدَّدوا، فإنَّه ليس أحدٌ منكم ينجيه عمله، قالوا: ولا إيَّاك يا رسول اللَّهِ؟ قال: ولا إيَّايَ، إلَّا أنْ يتغمدني اللَّهُ برحمته”.
أخرجه مسلم (2817) وأحمد (3/ 337) وغيرها.
وعليه فلفظة “بتوحيد اللَّه” شاذة واللَّه أعلم.

(1/175)


فصل
وها هنا أمرٌ يجب التنبيه عليه وهو: أنَّ الجنَّة إنما تُدْخَلُ برحمة اللَّه، وليس عمل العبد مستقلًّا بدخولها وإن كان سببًا، ولهذا أثبت اللَّه تعالى دخولها بالأعمال في قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)} [العنكبوت: 8]، ونفى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دخلوها بالأعمال في قوله: “لنْ يدخل أحدٌ منكم الجنَّة بعملهِ” (1).
ولا تنافي بين الأمرين لوجهين:
أحدهما: ما ذكره سفيان وغيره قال: “كانوا يقولون: النجاة من النار بعفو اللَّه، ودخول الجنَّة برحمتهِ، واقتسام المنازل والدرجاتِ بالأعمال” (2).
ويدل على هذا حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- الَّذي سيأتي إنْ
__________
(1) أخرجه البخاري في تاريخه الكبير (4/ 239)، والطبراني في “الكبير”: (7/ 239 و 370) وأبو نعيم في “المعرفة” رقم (3734) وغيرهم.
من طريق زياد بن علاقة عن شريك بن طارق فذكره.
والحديث إلى زياد بن علاقة ثابت، لكن شريك مختلفٌ في صحبته.
انظر: “الإنابة إلى معرفة المختلف فيهم من الصحابة”: (1/ 284 – 285)، و”الإصابة”: (3/ 206 – 207).
وأصح منه ما جاء عند مسلم رقم (2816) من حديث أبي هريرة وفيه “. . . واعلموا أنه لن ينجوَ أحدٌ منكم بعمله. . . “.
(2) لم أقف عليه، وذكر ابن الجوزي في “كشف المشكل من حديث الصحيحين”: (3/ 110): “. . . أنَّهُ قد روي في بعض الأحاديث أنَّ نفسَ دخول الجنَّة بالرحمة، واقتسام الدرجات بالأعمال. . “.

(1/176)


شاء اللَّهُ (1) ، “أنَّ أهل الجنَّة إذا دخلوها، نزلوا فيها بفضل أعمالهم” (2) , رواه الترمذي.
والثاني: أنَّ الباء التي نَفَتِ الدخول هي باء المعاوضة التي يكون
__________
(1) في الباب (60) ص (571 – 573).
(2) أخرجه الترمذي برقم (2549)، وابن ماجه برقم (4336)، والعقيلي في “الضعفاء الكبير”: (3/ 41)، وابن أبي عاصم في “السنة” رقم (585)، وابن حبان في صحيحه (16/ 7438) وغيرهم.
من طريق هشام بن عمار عن عبد الحميد بن أبي العشرين عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة فذكره مطولًا.
قال الترمذي: “هذا حديث غريب لا نعرفه إلَّا من هذا الوجه”.
قلت: وسبب ضعفه تفرَّد عبد الحميد بن أبي العشرين -وهو صدوقٌ يخطئ- عن الأوزاعي بهذا الإسناد، والمحفوظُ عن الأوزاعي ما رواه أبو المغيرة عبد القدوس، والوليد بن مزيد، والهقل بن زياد عن الأوزاعي قال: أنبئتُ أنَّ سعيد بن المسيب به فذكره.
أخرجه الإمام أحمد كما في مسائل أبي داود ص (294)، وابن عساكر في تاريخه (34/ 52 – 53)، وابن حبيب في “وصف الفردوس” رقم (171)، وابن أبي الدنيا في “صفة الجنَّة” رقم (256)، وسيأتي في الباب رقم (60).
وهذا هو الصحيح.
وهناك اختلافاتٌ أخرى في هذا الحديث. راجع: تاريخ دمشق لابن عساكر (34/ 51 – 55).
وعلل الدارقطني (7/ 275 – 276)، وفوائد تمام (الروض البسام (5/ 236 – 241) والضعفاء الكبير للعقيلي (3/ 42).
وعليه فالحديث ضعيف الإسناد لجهل الواسطة بين الأوزاعي وسعيد بن المسيب.

(1/177)


فيها أحد العِوَضين مقابلًا للآخر، والباء التي أثبتت الدخول هي باء السَّببية التي تقتضي سَبَبِيَّة ما دخلت عليه لغيره، وإنْ لم يكن مستقلًّا بحصوله، وقد جمع النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بين الأمرين في قوله: “سدِّدوا وقاربوا وابشروا، واعلموا أنَّ أحدًا منكم لن ينجوَ بعمله. قالوا: ولا أنتَ يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: ولا أنا إلَّا أنْ يتغمدني اللَّه برحمته” (1) .
ومن عرف اللَّه سبحانه، وشَهِدَ مَشْهد حقِّه عليه، ومشهد (2) تقصيره وذنوبه، وأبصرَ هذين المشهدين بقلبه عرف ذلك وجزم به (3) ، واللَّه سبحانه وتعالى المستعان.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2816) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(2) في “ب، د”: “وشهد”.
(3) وقع في “ب”: “وخبره وجزم به”.

(1/178)


الباب العشرون في طلب أهل الجنَّة لها من ربِّهم، وطلبها لهم، وشفاعتها فيهم إلى ربها عزَّ وجلَّ
قال تعالى حكايةً عن أولي الألباب من عباده قولهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)} [آل عمران: 193 – 194].
والمعنى: وآتنا ما وعدتنا على ألسنةِ رُسُلِكَ من دخول الجنَّة.
وقالت طائفة: معناه، وآتنا ما وعدتنا (1) على الإيمان برسلك. وليس يسهل حذف الاسم والحرف معًا، إلَّا أنْ يُقدَّر على تصديق رسلك وطاعة رسلك، وحينئذٍ فيتكافأ التقديران، ويترجَّح الأوَّل بأنَّه قد تقدَّم (2) قولهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [آل عمران: 193]. وهذا صريح في الإيمان بالرسول والمُرْسِل، ثمَّ توسلوا إليه بإيمانهم أن يؤتيهم ما وعدهم على ألسُنِ (3) رسله، فإنهم إنَّما سمعوا وعده لهم (4) بذلك من الرسل، وذلك أيضًا يتضمن التصديق بهم، وأنَّهم بلَّغوهم وَعْدَهُ فصدَّقوا به، وسألوه أن
__________
(1) من قوله: “وعدتنا على ألسنة” إلى قوله “ما وعدتنا” سقط من “ج”.
(2) في “ب”: “بأنَّهم تقدم” بدلا من “بأنَّه قد تقدم”.
(3) في “هـ”: “ألسنة”.
(4) ليس في “ب”.

(1/179)


يؤتيهم إيَّاهُ، وهذا هو الَّذي ذكره السلف والخلف في الآية.
وقيل: المعنى وآتنا ما وعدتنا من النَّصر والظَّفَر على ألسنة الرسل.
والأوَّل أعمُّ وأكمل.
وتأمَّل: كيف تضمَّن إيمانهم به الإيمان بأمره ونهيه ورسله ووعده ووعيده، وأسمائه وصفاته وأفعاله، وصِدق وَعْدِه، والخوف من وعيده واستجابتهم لأمره، فبمجموع ذلك صاروا مؤمنين بربهم تعالى، فبذلك صحَّ لهم التوسل إلى سؤال ما وعدهم به والنجاة من عذابه.
وقد أشكلَ على بعض النَّاس سؤالهم أن ينجز لهم وعده، مع أنَّه فاعل لذلك ولا بُدَّ.
وأجاب: بأنَّ هذا تعبُّدٌ مَحْضٌ، كقوله: {رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء: 112]، وقول الملائكة: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر: 7]، وخفيَ على هؤلاء أنَّ الوعد معلَّقٌ بشروطٍ منها:
– الرغبة إليه سبحانه وسؤاله أنْ ينجزه لهم.
– كما أنَّه مُعَلَّقٌ بالإيمان وموافاتهم به.
– وأنْ لا يلحقه ما يحبطه.
فإذا سألوه سبحانه أنْ ينجز لهم ما وعدهم تضمن ذلك توفيقهم وتثبيتهم وإعانتهم على الأسباب التي ينجز لهم بها وعده، وكان هذا

(1/180)


الدعاءُ من أهمِّ الأدعية وأنفعها، وهم أحوجُ إليه من كثير من الأدعية.
وأمَّا قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء: 112]، فهذا سؤال له سبحانه أن ينصرهم على أعدائهم، فيحكم لهم عليهم بالنَّصر والغلبة.
وكذلك سؤال الملائكة ربهم أنْ يغفر للتَّائبين، هو من الأسباب التي توجب بها لهم المغفرة، فهو سبحانه نَصَبَ الأسباب التي يفعل بها ما يريده بأوليائه (1) وأعدائه، وجعلها أسبابًا لإرادته، كما جعلها أسبابًا لوقوع مراده، فمنه السَّبَبُ والمُسَبَّبُ.
وإنْ أشكل عليك ذلك، فانظر إلى خلقه الأسباب التي توجب محبته وغضبه، فهو يحب ويرضى، ويغضب ويسخط عن (2) الأسباب التي خلقها وشاءها، فالكل منه وبه، فهو مبتدئٌ من مشيئته، وعائدٌ إلى حكمته وحمده (3) .
وهذا بابٌ عظيمٌ من أبواب التوحيد لا يَلِجُهُ إلَّا العالمون باللَّهِ.
ونظيرُ هذه الآية في سؤاله ما وعد به (4) قوله تعالى: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا} [الفرقان: 15 – 16]،
__________
(1) في “ج”: “وأوليائه” وهو خطأ.
(2) في “أ، ج، هـ، د”: “غير”، ولعلَّ المثبتَ هو الصواب.
(3) في المطبوعة “وحده”.
(4) في “ب، ج، د، هـ”: “به في”.

(1/181)


يسألهُ إيَّاهُ عباده المؤمنون، ويسأله إيَّاهُ ملائكته لهم، فالجنَّةُ تسأل ربها أهلها، وأهلها يسألونه إيَّاها، والملائكة تسألها لهم، والرسل يسألونه إيَّاها لهم (1) ولأتباعهم، ويوم القيامة يُقِيمهم سبحانه بين يديه يشفعون فيها لعباده المؤمنين، وفي هذا من تمام ملكه وإظهار رحمته وإحسانه وجوده وكرمه وإعطائه ما سُئِلَ = ما هو من لوازم أسمائه وصفاته (2) ، واقتضائها لآثارها ومتعلقاتها، فلا يجوز تعطيلها عن آثارها وأحكامها، فالربُّ تعالى جوادٌ له الجُوْد كله، يحب أنْ يُسْأَل ويُطْلَبُ منه ويُرْغبُ إليه، فَخَلَقَ مَنْ يسأله وألْهَمه سؤاله، وخلق له ما يسأله إيَّاهُ، فهو خالق السائل وسؤاله ومَسْؤوله، وذلك لمحبته لسؤال (3) عباده له، ورغبتهم إليه، وطلبهم منه، وهو يغضبُ إذا لم يُسْأل (4) .
وأحب خلقه إليه أكثرهم وأفضلهم له سؤالًا، وهو يُحب المُلِحِّين (5) في الدعاء، وكلَّما ألحَّ العبد عليه في السؤال أحبَّهُ وأعطاهُ.
وفي الحديث: “مَنْ لم يسأل اللَّه يغضب عليه” (6) .
__________
(1) قوله “والرسل يسألونه إيَّاها لهم” من “ب، ج، د، هـ”.
(2) في “أ”: “وصفاتها”.
(3) في “ب”: “سؤال”.
(4) جاء في نسخة على حاشية “د” ما نصه:
لا تسألنَّ بنيَّ آدم حاجةً … وَسَل الَّذِي أبوابه لا تُحْجَبُ
اللَّهُ يغضبُ إنْ تَرَكتَ سُؤاله … وبني آدم حين يُسْأَلُ يغضبُ
وانظر: “المستطرف” للأبشيهي (2/ 301).
(5) في نسخة على حاشية “أ، هـ”: “الملحِّين له”.
(6) أخرجه الترمذي برقم (3373) وابن ماجه (3827)، والبخاري في الأدب =

(1/182)


فلا إله إلَّا اللَّهُ، أيُّ جنايةٍ جَنَتْ القواعد الفاسدة على الإيمان، وحالتْ بين القلوب وبين معرفة ربَّها وأسمائه، وصفات كماله ونعوت جلاله و {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43].
قال أبو نعيم الفضل: حدثنا يونس -هو ابن أبي إسحاق- حدثنا بُرَيد ابن أبي مريم قال: قال أنس بن مالك: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “ما من مسلمٍ يسألُ اللَّهَ الجنَّة ثلاثًا إلَّا قالت الجنَّةُ: الَّلهم أدخلهُ الجنَّة، ومن استجارَ باللَّهِ من النَّار ثلاثًا قالت النَّارُ: اللهم أجِرْهُ من النَّار” (1) .
__________
= المفرد رقم (658)، وأحمد في المسند (2/ 442 و 477) وغيرهم.
من طريق أبي صالح الخوزي عن أبي هريرة فذكره.
وهو حديثٌ منكرٌ تفرد به أبو صالح الخوزي وهو متكلمٌ فيه، وعدَّه ابن عدي من مفاريده.
راجع “جلاء الأفهام” ص (419).
(1) أخرجه أحمد في المسند (3/ 262، 141، 155) وابن أبي شيبة رقم (29799)، وابن حبان في صحيحه (3/ رقم 1014)، والطبراني في الدعاء رقم (1312)، والبيهقي في الدعوات الكبير رقم (269) وغيرهم.
كلهم من طريق يونس عن بُريد به فذكره.
– ورواه أبو الأحوص وإسرائيل كلهم عن أبي إسحاق السَّبيعي عن بُريد عن أنس فذكره.
أخرجه الترمذي (2567) وابن ماجه (4340) والنسائي (5521)، وأحمد (3/ 117)، والطبراني في الدعاء (1310، 1311)، وابن حبان (3/ رقم 1034)، والحاكم (1/ 717) رقم (1960) وغيرهم.
قال الترمذي: “وقد روي عن أبي إسحاق عن بُريد عن أنس بن مالك قوله”. =

(1/183)


رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن هناد بن السري، عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن بُرَيد به (1) .
وقال الحسن بن سفيان: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير عن ليث عن يونس بن خَبَّاب عن أبي حازم عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “ما سأل اللَّه عبدٌ الجنَّة في يومٍ سبع مرَّات إلَّا قالت الجنَّة: يا ربِّ إنَّ عبدكَ فلانًا سألني فأدخلنيه” (2) .
__________
= والحديث صححه ابن حبان والحاكم والضياء في المختاره (4/ رقم 1557).
(1) في جميع النسخ “يزيد” وهو خطأ، وسقط “به” من “أ، ج”.
(2) هذا الحديث والَّلذان بعده يرويها أبو علقمة واختلف عليه:
– فرواه شعبة عن يعلى بن عطاء عن أبي علقمة، “قال شعبة ولم يرفعه يعلى إلى أبي هريرة” يعني: مقطوعًا، ويحتمل أنه أراد موقوفًا.
أخرجه الطيالسي في مسنده (4/ رقم 2702).
– ورواه يونس بن خبَّاب -رافضي ضعيف- واضطرب فيه.
– فرواه جرير بن عبد الحميد وليث بن أبي سليم عن يونس عن أبي حازم عن أبي هريرة فذكره، كما ساقه المؤلف.
أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده رقم (213)، وأبو نعيم في “صفة الجنَّة” رقم (68)، والبيهقي في الدعوات رقم (270).
وهذا خطأٌ، أخطأ فيه يونس بن خباب فقال: عن أبي حازم، وهذا من اضطرابه، والصحيح عن أبي علقمة.
هكذا رواه شعبة ومنصور بن المعتمر وشعيب بن صفوان وغيرهم كلهم عن يونس عن أبي علقمة عن أبي هريرة فذكره.
رواه بعضهم موقوفًا، وبعضهم مرفوعًا.
أخرجه الطيالسي في مسنده رقم (2702)، وابن عدي في الكامل =

(1/184)


وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب حدثنا جرير عن يونس عن أبي حازم عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “ما استجارَ عبدٌ من النَّار سَبْعَ مرَّاتٍ إلَّا قالت النَّارُ: يا رب إنَّ عبدك فلانًا استجار منِّي فأجِرْهُ، ولا يسأل عبدٌ الجنَّة سبع مرَّاتٍ إلَّا قالت الجنَّة: يا ربَّ إنَّ عبدَك فلانًا سألني فأدخله الجنَّة”. وإسناده على شرط الصحيحين.
وقال أبو داود في “مسنده”: حدثنا شعبة: حدثني يونس بن خباب: سمع أبا علقمة عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “من قال: أسألُ اللَّهَ الجنَّة سبعًا، قالتِ الجنَّة: الَّلهم أدخله الجنَّة”.
وقال الحسن بن سفيان: حدثنا المُقَدَّمي عمر بن علي، عن يحيى ابن عبيد اللَّه عن أبيه عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أكثروا مسألةَ اللَّهِ الجنَّة واستعيذوا به من النَّارِ؛ فإنَّهما شافعتانِ
__________
= (7/ 174) وغيرهما.
وهذا هو الصحيح عن يونس.
راجع تفصيل ذلك علل الدارقطني (11/ 189 – 190).
والصحيح في حديث أبي هريرة أنَّه موقوفٌ عليه أو مقطوع من قول أبي علقمة على الاختلاف في المراد بعبارة شعبة.
وذهب البوصيري إلى أنَّه موقوف أو مقطوع، فقال: “وإسناد الطيالسي الأوَّل: على شرط مسلم، والثاني فيه يونس بن خباب قال فيه البخاري: منكر الحديث، واتفقوا على ضعفه”.
إتحاف الخيرة المهرة (6/ 506).

(1/185)


مشفعتان (1) ، وإنَّ العبدَ إذا أكثر من مسألةِ اللَّهِ الجنَّة (2) ، قالت الجنَّة: يا ربَّ عبدُك هذا الَّذي سألنيك فأسكنه إياي، وتقول النار: يا ربِّ عبدُكَ هذا الَّذي استعاذ بك منِّي فأعذْهُ” (3) .
وقد كان جماعةٌ من السلفِ لا يسألون اللَّهَ الجنَّة ويقولون: حسبنا أن يُجِيرنا من النَّار.
– فمنهم أبو الصَّهباء صِلَة بن أَشْيَم (4) : صلَّى ليلةً إلى السَّحَرِ، ثمَّ رفعَ يديه وقال: “الَّلهمَّ أجرني من النَّار: أَوَ مِثْلِي يَجْتَرِئُ أنْ يسألك الجنَّة؟ ” (5) .
__________
(1) ليست في “ب، د”.
(2) من قوله: “واستعيذوا به من النار” إلى “اللَّه الجنَّة” سقط من “ج”.
(3) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنة رقم (70)، والديلمي في مسند الفردوس رقم (213) مختصرًا.
وسنده ضعيف، فيه يحيى بن عبيد اللَّه -لعلَّهُ- ابن موهب القرشي المدني فيه ضعف، وله عن أبيه عن أبي هريرة مناكير.
قال الحاكم: “روى عن أبيه عن أبي هريرة بنسخة أكثرها مناكير”.
قلتُ: ولعلَّ هذا منها.
وفيه أيضًا عمر بن علي المقدمي: ثقة؛ لكنَّه يدلس تدليس السكوت، ولم يُبَيَّن هنا السَّماع.
انظر: تهذيب الكمال (31/ 449 – 453).
(4) هو البصري العابد الزاهد، زوج معاذة العدوية، قُتِلَ هو وابنه في إحدى المعارك سنة (162 هـ)، انظر: السير (3/ 497 – 500).
(5) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (2/ 240)، وفيه قصة.
وسنده لا بأس به.

(1/186)


– ومنهم عطاء السُّليمي (1) : كان لا يسأل الجنَّة، فقال له صالح المُرِّي: إنَّ أبانَ حدثني عن أنس أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “يقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: انظروا في ديوانِ عبدي، فمن رأيتموه سألني الجنَّة أعطيتُهُ، ومن استعاذني من النَّارِ أعذته” (2) . فقال عطاء: كفاني أنْ يُجيرني من النَّارِ. ذكرهما أبو نعيم.
وقد روى أبو داود في “سننه” من حديث جابر في قصة معاذ وتطويله بهم، أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لفتى -يعني الَّذي شكاه- “كيفَ تصنعُ يا ابن أخي إذا صليتَ؟ قال: أقرأُ بفاتحة الكتاب وأسألُ اللَّهَ الجنَّة وأعوذُ به من النَّار، وإنِّي لا أدري ما دندنتُكَ ودندنة (3) معاذ؟ فقال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: إنِّي ومعاذًا حولها ندندن” (4) .
__________
(1) في “ب، د” ونسخةِ على حاشية “أ”: “السلمي” وهو خطأ.
وعطاء السليمي هو البصري العابد، أدرك أنس بن مالك، وتوفي بعد سنة 140 هـ، انظر: السير (6/ 86 – 88).
(2) أخرجه أبو نعيم في “حلية الأولياء”: (6/ 175 – 176 و 226)، وفي صفة الجنَّة رقم (71).
وسنده ضعيف جدًّا، فيه أبان بن أبي عياش وهو متروك الحديث، وفيه صالح بن بشير المُرِّي ضعيف الحفظ.
انظر: التقريب رقم (142، 2845).
(3) الدَّنْدنة: أن يتكلم الرجل بالكلام تسمع نغمته ولا يُفْهَمُ، وهو أرفع من الهيْمَنَة قليلًا. انظر: النهاية (2/ 137).
(4) أخرجه أبو داود برقم (793)، وابن خزيمة (1634)، والبيهقي في السنن (3/ 116 – 117) وغيرهم.
والحديث صححه ابن خزيمة. =

(1/187)


وفي “سنن أبي داود” من حديث محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لا يُسْألُ بوجهِ اللَّهِ إلَّا الجنَّة” (1) .
رواهُ أحمد بن عمرو العُصْفُرِي حدثنا يعقوب بن إسحاق حدثنا سليمان بن معاذ عن محمد فذكره.
وقد تقدَّم في أوَّل الكتاب (2) حديث الليث عن معاوية بن صالح عن عبد الملك بن أبي بشير يرفع الحديث: “ما من يومٍ إلَّا والجنَّة والنَّار تسألانِ، تقول الجنَّة: يا ربِّ قد طابت ثماري، واطَّردت أنهاري،
__________
= وللحديث شاهد عن بعض أصحاب النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أخرجه أبو داود (792)، وأحمد (3/ 473) بمثله.
وسنده صحيح.
(1) أخرجه أبو داود برقم (1671) وابن مندة في الرد على الجهمية رقم (89)، وابن عدي في الكامل (3/ 257)، والبيهقي في الأسماء والصفات برقم (661) وغيرهم.
من طريق سليمان بن قرم عن محمد بن المنكدر عن جابر فذكره.
وهذا الحديث تفرَّد به سليمان بن معاذ وهو ابن قرم، وهو ليَّن الحديث، وجعل ابن عدي هذا الحديث من منكراته.
وقال: “وهذا الحديث لا أعرفه عن محمد بن المنكدر إلَّا من رواية سليمان بن قرم. . . “.
وقال أبو حفص بن شاهين: “. . هو حديث غريب”.
انظر: تهذيب الكمال (34/ 21)، والمقاصد الحسنة للسخاوي رقم (1323).
(2) ص (42 – 43).

(1/188)


واشتقت إلى أوليائي، فعجِّل إليَّ بأهلي” الحديث.
فالجنَّة تطلب أهلها بالذَّات، وتجذبهم إليها جذبًا، والنَّار كذلك، وقد أمرنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنْ لا نزال نذكرهما ولا ننساهما.
كما روى أبو يعلى الموصلي في “مسنده”: حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل حدثنا أيوب بن شبيب الصنعاني (1) قال: كان فيما عرضنا على رباح بن زيد حدثني عبد اللَّه بن بَحِيْر (2) سمعت عبد الرحمن بن يزيد (3) يقول: سمعت عبد اللَّه بن عمر يقول: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “لا تنسُوا العظيمتين” قلنا: وما العظيمتان يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: “الجنَّة والنَّار” (4) .
وذكر أبو بكر الشافعي من حديث كُلَيب بن حَزْن قال: سمعت رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “اطلبُوا الجنَّة جُهدكم، واهربوا من النَّار جهدكم، فإنَّ الجنَّة لا ينامُ طالبُها، وإنَّ النَّارَ لا ينامُ هاربُها، وإنَّ الآخرة
__________
(1) في نسخةٍ على حاشية “أ”: “الصاغاني”.
(2) في جميع النسخ “نُمير” وهو خطأ.
(3) وقع في جميع النسخ “زيد” وهو خطأ.
(4) أخرجه البخاري في تاريخه الكبير (1/ 417)، والدولابي في الكنى والأسماء (2/ 164)، وأبو يعلى في مسنده كما في المطالب العالية رقم (3318)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (66).
وفيه أيوب بن شبيب روى عنه رجلان، وذكره ابن حبان في الثقات (8/ 125) وقال: “يخطئ”.
وعليه فالإسناد ضعيف.

(1/189)


اليوم محفوفةٌ بالمكاره وإنَّ الدنيا محفوفةٌ بالَّلذات تقرَّب المسافة والشهوات، فلا تلهينَّكم عن الآخرة” (1) .
__________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (19/ 200) رقم (449)، وفي الأوسط رقم (3643)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (30) وفي معرفة الصحابة (5/ رقم 5871) وغيرهما.
قال الهيثمي: “وفيه يعلى الأشدق، وهو ضعيفٌ جدًّا”. وقال الحافظ ابن حجر: “ويعلى متروك”.
انظر: مجمع الزوائد (10/ 31)، والإصابة (5/ 313).

(1/190)


الباب الحادي والعشرون في أسماء الجنَّة ومعانيها واشتقاقها
ولها عِدَّةُ أسماءٍ باعتبار صفاتها، ومسماها واحد باعتبار الذَّات، فهي مترادفة من هذا الوجه، وتختلف باعتبار الصفات فهي متباينة من هذا الوجه، وهكذا أسماء الرب تعالى وأسماء كتابه، وأسماء رسوله، وأسماء اليوم الآخر، وأسماء النَّار.

الاسم الأوَّل: الجنَّة:
وهو الاسم العام المتناول لتلك الدار، وما اشتملت عليه من أنواع النَّعيم والَّلذة والبهجة والسرور وقرَّة الأعين.
وأصل اشتقاق هذه اللفظة من السِّتر والتغطية. ومنه الجنين: لاستتاره في البطن، والجان: لاستتاره عن العيون، والمِجَن: لستره، ووقايته الوجه، والمجنون: لاستتار عقله وتواريه عنه، والجانّ: وهي الحية الصغيرة الدقيقة، ومنه قول الشاعر:
فَدَقَّتْ وَجَلَّتْ واسْبَكرَّتْ (1) وأكملت … فلوجُنَّ إنسانٌ من الحُسن (2) جُنَّت (3)
أي لو غُطِّي وسُتِرَ عن العيون لفُعِلَ بها ذلك، ومنه سمِّي البستان جَنَّة؛ لأنَّه يستر داخله بالأشجار ويغطِّيه، فلا يستحق هذا الاسم إلَّا
__________
(1) في “ج”: “واستكبرت”، وفي “هـ”: “واستكرت”.
(2) في “ب”: “البَيْن”، وفي “أ، هـ”: “الجِنِّ”.
(3) البيت للشاعر الجاهلي الشَّنْفَرَى الأزدي، كما في المفضليات ص (109).

(1/191)


موضع كثير الشَّجَر مختلف الأنواع، والجُنَّة -بالضَّمِّ- ما يُسْتَجَنُّ به من تُرْسٍ أو غيره.
ومنه قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة: 16] أي: يَتَترَّسُونَ (1) بها من إنكار المؤمنين عليهم.
ومنه الجِنَّة (2) : -بالكسر- وهو الجِنُّ، كما قال تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) } [الناس: 6]، وذهبت طائفة من المفسرين إلى أنَّ الملائكة يسمون جِنَّة، واحتجوا بقوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158] قالوا: وهذا النسب قولهم: الملائكة بناتُ اللَّهِ، ورجحوا هذا القول بوجهين:
أحدهما: أنَّ النَّسب الَّذي جعلوه إنَّما زعموا أنَّه بين الملائكة وبينه، لا بين الجِنّ وبينه.
الثاني: قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) } [الصافات: 158]. أي: قد علمت الملائكة أنَّ الَّذين قالوا هذا القول محضرون العذاب (3) .
والصحيح خلاف ما ذهب إليه هؤلاء، وأنَّ الجِنَّة هم الجن أنفسهم كما قال تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) } [الناس: 6].
__________
(1) في “هـ”: “يستترون”.
(2) في “ج”: “وصفة الجنَّة”.
(3) في “هـ، د”: “للعذاب”.

(1/192)


وعلى هذا ففي الآية قولان:
أحدهما: قول مجاهد، قال: “قالت كفار قريش: الملائكة بناتُ اللَّهِ، فقال لهم أبو بكر: فمن أمهاتهم؟ فقالوا: سَرَوات الجن” (1) .
وقال الكلبي: “قالوا تزوج من الجن فخرج من بينهما الملائكة” (2) .
وقال قتادة: “قالوا: صاهر الجِن” (3) .
والقول الثاني: قول الحسن قال: “أشركوا الشياطين في عبادة اللَّهِ، فهو النسب الَّذي جعلوه” (4) .
والصحيح قول مجاهد وغيره، وما احتج به أصحاب القول الأوَّل ليس بمستلزم لصحة قولهم؛ فإنَّهم لمَّا قالوا الملائكة بناتُ اللَّهِ، وهم من الجِنِّ عقدوا بينه وبين الجنِّ نسبًا بهذا الإيْلاد، أو جَعَلُوا (5) هذا النَّسَبَ متولِّدًا بينه وبين الجِنَّة. وأمَّا قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} فالضمير يرجعَ إلى الجِنَّة، أي: قد علمت الجِنَّة أنَّهم
__________
(1) أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 108) وعنده (بنات سروات الجن).
وسنده حسن إلى مجاهد، وفيه انقطاع بينه وبين أبي بكر الصديق.
“وسروات الجِنِّ”: أي: أشرافهم. النهاية: (2/ 363).
(2) ذكره الواحدي في تفسيره الوسيط (3/ 534).
(3) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (2/ 128) رقم (2560). وسنده صحيح.
(4) ذكره الماوردي في تفسيره النكت والعيون (5/ 70).
(5) في “ب”: “وجعلوا”.

(1/193)


محضرون الحساب، قاله مجاهد (1). أي لو كان بينه وبينهم نسَب لم يحضروا الحساب، كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18]، فجعل سبحانه وتعالى عقوبتهم بذنوبهم وإحضارهم للعذاب مبطلًا لدعواهم الكاذبة، وهذا التقدير في الآية أبلغ في إبطال قولهم من التقدير الأوَّل، فتأمله، والمقصود ذكر أسماء الجنَّة.
فصل

الاسم الثاني: دارُ السَّلام:
وقد سمَّاها اللَّهُ تعالى بهذا الاسم في قوله: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنعام: 127]، وقوله {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: 25]، وهي أحقُّ بهذا الاسم، فإنَّها دار السلامة من كلِّ بليةٍ وآفةٍ ومكروهٍ، وهي دار اللَّهِ، واسمه سبحانه وتعالى السَّلام الَّذي سلَّمها (2)، وسلَّم أهلها: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} [يونس: 10]، {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد: 23، 24]، والرب تعالى يسلم عليهم من فوقهم، كما قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)} [يس: 57, 58]، وسيأتي حديث جابر (3) في سلام الربِّ تبارك وتعالى عليهم في الجنَّة، وكلامهم كلُّه فيها سلام، أي: لا لغو
__________
(1) أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 108).
(2) في نسخةٍ على حاشية “أ”: “سلَّمها اللَّهُ”.
(3) في ص (663 و 664).

(1/194)


فيه ولا فحش ولا باطل، كما قال تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا} [مريم: 62].
وأمَّا قوله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة: 90 – 91] فأكثر المفسرين حامُوا حولَ المعنى وما ورَدُوْهُ، وقالوا أقوالًا لا يخفى بُعْدها عن المقصود؛ وإنَّما معنى الآية واللَّه أعلمُ: فسلام لك أيُّها الرَّاحِلُ عن الدنيا حالَ كونك من أصحاب اليمين، أي: فسلامه لك كائنًا من أصحاب اليمين الَّذين سَلِمُوا من الدنيا وأنكادها، ومن النَّار وعذابها، فَبُشِّر بالسَّلامة عند ارتحاله من الدنيا، وقدومه على اللَّهِ تعالى، كما يُبَشر الملك رُوْحَه عند أخذها بقوله: “أبشري برَوْحٍ وَرَيْحَانِ وربٍّ غير غضبان” (1) ، وهذا أوَّل البُشرى التي للمؤمن في الآخرة.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه رقم (4262)، وأحمد (2/ 364 – 365). وابن خزيمة في التوحيد (1/ 276 – 277) تحت رقم (176)، والطبري في تفسيره (8/ 177)، وابن منده في الإيمان رقم (1068).
من طريق ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة فذكره مطولًا.
وسنده صحيح.
وللحديث طرقٌ عن أبي هريرة:
عند مسلم (2872)، وابن منده في الإيمان رقم (1069) وغيرهما.

(1/195)


فصل

الاسم الثالث: دار الخلد.
وسُمِّيت بذلك؛ لأنَّ أهلها لا يظعنون عنها أبدًا، كما قال تعالى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)} [هود: 108] وقال: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)} [ص: 54]، وقال: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35] وقال: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)} [الحجر: 48].
وسيأتي إبطال قول من قال من الجهمية والمعتزلة بفنائها، أو فناء حركاتِ أهلها إنْ شاء اللَّهُ تعالى (1).
فصل

الاسم الرَّابع: دار المُقامة.
قال تعالى: حكاية عن أهلها: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ} [فاطر: 34 – 35].
قال مُقَاتِل: “أنزلنا دار الخلود، أقاموا فيها أبدًا، لا يموتون، ولا يتحولون منها أبدًا” (2).
قال الفرَّاء والزَّجاج: “المقامة مثل الإقامة، يقال: أقمتُ بالمكان
__________
(1) في ص (723 – 728).
(2) انظر: تفسير مقاتل: (3/ 78).

(1/196)


إقامة، ومقامة، ومقامًا” (1).
فصل

الاسم الخامس: جنَّة المأوى.
قال تعالى: {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)} [النجم: 15] والمأوى: مَفْعَل من أوى يأوي، إذا انضمَّ إلى المكان، وصار إليه واستقرَّ به.
وقال عطاء عن ابن عباس: “هي الجنَّة التي يأوي إليها جبريل والملائكة” (2).
وقال مقاتل والكلبي: “هي جنَّة تأوي إليها أرواح الشهداء” (3).
وقال كعب: “جنَّة المأوى: جنَّةٌ فيها طير خضر ترتعي فيها أرواح الشهداء” (4).
وقالت عائشة رضي اللَّهُ عنها، وزِرُّ بن حُبَيْش: “هي جنَّة من الجنان” (5).
__________
(1) انظر: معاني القرآن للفراء: (2/ 370)، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج: (4/ 270 – 271).
(2) ذكره الواحدي في تفسيره الوسيط (4/ 198)، ومعالم التنزيل للبغوي (7/ 406).
(3) انظر: تفسير مقاتل: (3/ 290)، والوسيط للواحدي (4/ 198)، ومعالم التنزيل للبغوي (7/ 406).
(4) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: (7/ 71) رقم (34105)، وأبو نعيم في الحلية (5/ 381)، وسنده صحيح.
(5) لم أقف عليه.

(1/197)


والصحيح أنَّه اسمٌ من أسماء الجنَّة كما قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: 40 – 41]، وقال في النَّار: {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39)} [النازعات: 39] وقال: {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ} [العنكبوت: 25].
فصل

الاسم السادس: جنَّات عدن.
فقيل: هو اسم لجنَّةٍ من جملة الجنَّات، والصحيح أنَّه اسمٌ لِجُملة الجنَّات، فكلها جنَّات عدن، قال تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} [مريم: 61]، وقال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا (1) وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر: 33]، وقال تعالى: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [الصف: 12]. والاشتقاق يدلُّ على أنَّ جميعها جنَّاتُ عدنٍ، فإنَّه من الإقامة والدَّوامِ. يقال: عَدَن بالمكان: إذا أقام به، وَعَدَنْتُ البلد: توطَّنْتُهُ، وعَدَنتِ الإبل بمكان كذا: لَزِمَتْهُ فلم (2) تبرح منه.
قال الجوهري: “ومنه جنَّات عدن أي جنَّات إقامة، ومنه سمي المَعْدِن (3) -بكسر الدَّالِ-؛ لأنَّ النَّاس يقيمون فيه الصيف والشتاء، ومركز كل شيءٍ معدنه. والعادن: النَّاقة المقيمة في
__________
(1) هكذا بالخفض، وهي قراءة سبعِيَّة، انظر: النشر في القراءات العشر (2/ 244).
(2) في “ب”: “فلن”.
(3) في “ب، ج، د، هـ”: “العدن”.

(1/198)


المرعى” (1).
فصل

الاسم السَّابع: دار الحيوان.
قال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت: 64] والمراد: الجنَّة عند أهل التفسير، قالوا: وإنَّ الآخرة يعني: الجنة. لهي (2) الحيوان: لهي دار الحياة التي لا موت فيها.
وقال الكلبي: “هي حياة لا موت فيها”. وقال الزجاج: “هي دار الحياة الدائمة” (3).
وأهل اللغة على أنَّ الحيوان بمعنى: الحياة.
قال أبو عبيدة وابن قتيبة: “الحياةُ: الحيوان” (4). قال أبو عبيدة: “الحياة والحيوان والحِي -بكسر الحاء- واحد” (5). قال أبو علي: “يعني (6) أنَّها مصادر، فالحياة فَعَلة كالحَلَبة، والحيوان: كالنَّزوان والغَلَيان، والحِيُّ: كالعِيِّ، قال العَجَّاج:
__________
(1) انظر: الصحاح للجوهري مادة “عدن”: (2/ 1582).
(2) في نسخة على حاشية “أ”: “وهي”.
(3) انظر: معاني القرآن وإعرابه: (4/ 173).
(4) انظر: تفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص (339)، والوسيط للواحدي (3/ 425).
(5) انظر: مجاز القرآن لأبي عبيدة: (1172).
(6) في “ج”: “بمعنى”.

(1/199)


كنَّا بِهَا إذِ الحياةُ حِيّ (1)
أي: إذِ الحياة حياة” (2) .
وأمَّا أبو زيد فخالفهما وقال: “الحيوان ما فيه روح، والموتان والموات ما لا روح فيه”.
والصواب: أنَّ الحيوان يقع على ضربين: أحدهما: مصدر، كما حكاه أبو عبيدة. والثاني: وصف كما حكاه أبو زيد، وعلى قول أبي زيدٍ الحيوان مثل: الحَيَّ خلاف الميِّت، ورُجِّحَ القول الأول؛ بأنَّ الفَعَلان بابُهُ المصادر؛ كالنَّزوان والغَلَيان، بخلاف الصِّفات، فإنَّ بابها فَعْلَان كَسَكْران وغضبان.
وأجاب من رَجَّح القول الثاني، بأنَّ فَعَلان قد جاء في الصِّفات أيضًا، قالوا: رجل صَمَيَان: للسريع الخفيف، وزَفَيَان. قال في “الصحاح” (3) : ناقة زفيان: سريعة. وقوس زفيان: سريعة الإرسال للسهم”. فيحتمل قوله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت: 64] معنيين:
أحدهما: أنَّ حياة (4) الآخرة هي الحياة؛ لأنَّه لا تنغيص فيها ولا نفاد لها: أي لا يشوبها ما يشوب الحياة في هذه الدار، فيكون
__________
(1) * انظر: ديوان العجاج ص (295)، والجمهرة لابن دريد (1/ 232) و (3/ 1053) *.
(2) * جاء في حاشية نسخة ديوان العجاج ص (295) تعليق، فليراجع *.
(3) انظر: الصحاح للجوهري (2/ 1049) بغير هذا اللفظ.
(4) قوله: “أنَّ الحياة”: ليس في “ب”.

(1/200)


الحيوان مصدرًا على هذا.
الثاني: أنْ يكون المعنى: أنَّها الدار التي لا تفنى ولا تنقطع، ولا تبيد كما يفنى الأحياء في هذه الدنيا، فهي أحق بهذا الاسم من الحيوان الَّذي يفنى ويموت.
فصل

الاسم الثامن: الفردوس.
قال اللَّهُ تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} [المؤمنون: 10 – 11]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)} [الكهف: 107].
والفردوس (1): اسم يُقال على جميع الجنة، ويقال على أفضلها وأعلاها، كأنَّه أحق بهذا الاسم من غيره من الجنات.
وأصل الفردوس: البستان، والفراديس: البساتين. قال كعب: “هو البستان الَّذي فيه الأعناب” (2). قال الليث: “الفردوس: جنة ذات كروم. يقال: كرم مُفَرْدَس: أي مُعَرَّش”. وقال الضحاك: “هي الجنَّة الملتفة بالأشجار” (3)، وهو اختيار المُبَرَّد. وقال: الفردوس فيما سمعت من كلام العرب: الشجر المُلْتَف، والأغلب عليه العنب (4)،
__________
(1) قوله {نُزُلًا}. و”الفردوس” سقط من “ج”.
(2) أخرجه الطبري في تفسيره (16/ 36) وسنده ضعيف.
(3) ذكره البغوي في تفسيره معالم التنزيل: (5/ 211).
(4) إلى هنا نقله عنه ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير (5/ 199 – 200).

(1/201)


وجمعه: الفراديس: قال: وبهذا سمي الفراديس بالشام، وأنشد لجرير:
فقلت للرَّكب إذْ جدَّ المسيرُ بنا … يا بُعد يَبْرِينَ من باب الفراديس” (1)
وقال مجاهد: “هو البستان بالرومية” (2). واختاره الزجاج، فقال: هو بالرومية منقول إلى لفظ العربية. قال: وحقيقته أنَّه البستان الَّذي يجمع كل ما يكون في البساتين (3). قال حسان:
وإنَّ ثوابَ اللَّهِ كل مُخلَّدٍ … جِنَانٌ من الفردوس فيها يُخلَّدُ (4)
فصل

الاسم التاسع: جنات النعيم.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8)} [لقمان: 8]، وهذا أيضًا اسمٌ جامعٌ لجميع الجنَّات، لما تضمنته من الأنواع التي يتنعم بها من المأكول والمشروب والملبوس والصُّور، والرَّائحة الطَّيِّبة والمنظر البهيج، والمساكن الواسعة، وغير ذلك من النَّعيم الظاهر والباطن.
__________
(1) انظر: ديوان جرير ص (391)، وفيه “الرحيل” بدلًا من “المسير”.
(2) أخرجه الطبري في تفسيره (16/ 36) وسنده صحيح.
(3) انظر: معاني القرآن وإعرابه (3/ 315).
(4) انظر: ديوان حسان بن ثابت رضي اللَّهُ عنه ص (93) وفيه “يتَّلَّد” بدلًا من “يخلَّد”، وانظر: البحر المحيط لأبي حيان (6/ 159).

(1/202)


فصل

الاسم العاشر: المقام الأمين.
قال اللَّه تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51)} [الدخان: 51]، فالمقام: موضع الإقامة، والأمين: الآمن من كلَّ سوءٍ ومكروهٍ، وهو الَّذي قد جمع صفات الأمن كلها، فهو آمن من الزَّوال والخراب، وأنواع النُّغص (1)، وأهله آمنون فيه من الخروج والنَّقص (2) والنَّكد.
و {الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)} [التين: 3]: الَّذي قد أمن أهله فيه ممَّا يخاف منه سواهم.
وتأمَّل كيف ذكر سبحانه الأمن في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51)}، وفي قوله تعالى: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)} [الدخان: 55] فجمع لهم بين أمن المكان وأمن الطعام، فلا يخافون انقطاع الفاكهة ولا سوء عاقبتها ومضرَّتها، وأمن الخروج منها، فلا يخافون ذلك، وأمن الموت فلا يخافون فيها موتًا.
__________
(1) في “ب، ج، د”: “النقص”.
(2) في “ب، د”: “النُّغَص”.

(1/203)


فصل

الاسم الحادي عشر والثاني عشر: مَقْعَدُ الصدق، وقَدَمُ الصدق.
قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر: 54 – 55]، فسمَّى الجنَّة مقعد صِدْقٍ، لحصول كل ما يُراد من المقعد الحسن فيها، كما يقال: مودَّة صادقة: إذا كانت ثابتة تامَّة، وحلاوة صادقة، وحملة صادقة، ومنه الكلام الصَّدق، لحصول (1) مقصوده منه.
وموضوع هذه اللفظة في كلامهم: الصِّحة والكمال، ومنه الصَّدق في الحديث، والصدق في العمل، والصَّديق الَّذي يصدَّق قوله بالعمل، والصَّدق -بالفتح- الصُّلب من الرِّماح، ويقال للرجل الشجاع: إنَّه لذو مِصْدق أي صادق الحَمْلَة.
وهذا مِصْداق هذا: أي ما يُصدِّقه، ومنه الصَّداقة؛ لصفاء المودَّة والمُخالَّة، ومنه صَدَقَنِي القتال، وصَدَقَنِي المودَّة، ومنه قدم الصِّدْق، ولسان الصَّدق، ومدخل الصدق، ومخرج الصَّدق، وذلك كله للحقَّ الثابت المقصود الَّذي يرغب فيه، بخلاف الكذب الباطل، الَّذي لا شيءَ تحته، ولا يتضمن أمرًا ثابتًا، وفُسِّرَ قدم الصَّدق: بالجنَّة، وفُسِّر بالأَعمال التي تنال بها الجنَّة، وفُسِّر بالسَّابقة التي سبقت لهم من اللَّه،
__________
(1) في “ج”: “المحصول”، وفي “د”: “لمحصول”.

(1/204)


وفُسِّر بالرسول الَّذي على يده وهدايته نالوا ذلك.
والتَّحقيق أنَّ الجميع حقَّ؛ فإنَّهم سبقت لهم من اللَّه بذلك السابقة بالأسباب التي قدَّرها لهم على يد رسوله، وادَّخر لهم جزاءها يوم لقائه (1) ، ولسان الصَّدق هو لسان الثناء الصادق بمحاسن الأفعال، وجميل الطرائق، وفي كونه لسان صِدْق إشارة إلى مطابقته للواقع، وأنَّه ثناء بحقًّ لا بباطل، ومدخل الصدق ومخرج الصدق هو المدخل والمخرج الَّذي يكون صاحبه فيه ضامنًا على اللَّهِ، وهو دخوله وخروجه باللَّه وللَّه، وهذه الدعوة من أنفع الدعاء للعبد، فإنَّه لا يزال داخلًا في أمرٍ وخارجًا من أمرٍ، فمتى كان دخوله للَّه وباللَّه وخروجه كذلك، كان قد أُدْخِل مدخل صدق وأُخْرِجَ مخرج صدق.
__________
(1) في “ب، د، هـ”: “القيامة”.

(1/205)


الباب الثاني والعشرون: في عدد الجنَّات، وأنَّها نوعان: جنتان من ذهب، وجنتان من فضة
الجنَّة: اسمٌ (1) شامل لجميع ما حوته من البساتين والمساكن والقصور وهي جنات كثيرة جدًّا، كما روى البخاري في “صحيحه” (2) عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-: أنَّ أم الربيع بنت البراء -وهي أم حارثة بن (3) سراقة- أتت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالت: يا نبي اللَّه ألا تحدِّثني عن حارثة؟ -وكان قُتِل يوم بدرٍ أصابه سهمُ غَرْبٍ (4) -، فإنْ كان في الجنَّة صبرتُ، وإنْ كان غيرَ ذلك اجتهدت عليه في البكاء، قال: “يا أمَّ حارثة، إنَّها جنان في الجنَّة (5)، وإنَّ ابنك أصاب الفردوس الأعلى”.
وفي “الصحيحين” (6) من حديث أبي موسى الأشعري رضي اللَّهُ عنه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “جنتان من ذهبٍ آنيتهما وحليتهما وما فيهما،
__________
(1) في “أ”: “اسم الجنَّة شامل”.
(2) رقم (2654).
(3) في “أ” “بنت” وهو خطأ.
(4) “سهم غرب”: أي لا يُعْرف راميه. انظر: النهاية لابن الأثير (3/ 350).
(5) قوله “في الجنَّة” ليس في “ب”، ووقع في “هـ” ونسخةٍ على حاشية “أ” “جنَّات” بدلًا من “جِنَان”.
(6) البخاري رقم (4597)، ومسلم رقم (180).
تنبيه: قوله “وحليتهما” ليس في الصحيحين.

(1/206)


وجنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أنْ ينظروا إلى ربِّهم إلَّا رداء الكبرياء على وجهه في جنَّة عدنٍ”.
وقد قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) } [الرحمن: 46] فذكرهما ثمَّ قال: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) } [الرحمن: 62] فهذه أربع. وقد اختلف في قوله: {وَمِنْ دُونِهِمَا} هل المراد به أنَّهما فوقهما، أو تحتهما على قولين:
فقالت طائفة: من دونهما أي: أقرب منهما إلى العرش، فيكونان فوقهما.
وقالت طائفة: بل معنى من دونهما: تحتهما.
قالوا: وهذا المنقول في لُغة العرب إذا قالوا: هذا دون هذا، أي دونه في المنزلة، كما قال بعضهم لمن بالغ في مدحه: أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك.
وفي “الصحاح”: “دون: نقيض (1) فوق، وهو تقصيرٌ عن الغاية، ثمَّ قال: ويقال: هذا دون هذا (2) أي أقرب منه” (3) .
والسِّياق يدلُّ على تفضيل الجنتين الأولتين من عشرة أوجه:
أحدها: قوله: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) } [الرحمن: 48] وفيه قولان:
__________
(1) في “د، هـ”: “يقتضي”، والمثبت من الصحاح وباقي النسخ.
(2) سقط من “ج”، وفي الصحاح “ذاك” بدلًا من “هذا”.
(3) انظر: الصحاح للجوهري (2/ 1554).

(1/207)


أحدهما: أنَّه جمع فَنَن، وهو الغصن. والثاني: أنَّه جمع فَنٍّ، وهو الصِّنْف: أي ذواتا أصنافٍ شتَّى من الفواكه وغيرها، ولم يذكر ذلك في الَّلتين بعدهما.
الثاني: قوله: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) } [الرحمن: 50]، وفي الأُخْرَيَيْنِ: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) } [الرحمن: 66]، والنَّضاخة: هي الفوَّارة، والجارية: السَّارحة، وهي أحسن من الفوَّارة، فإنَّها تتضمن الفوران والجريان.
الثالث: أنَّه قال: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) } [الرحمن: 52] وفي الأخريين: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) } [الرحمن: 68]، ولا ريب أنَّ وصف الأولتين أكمل.
واختلف في هذين الزوجين بعد الاتفاق على أنَّهما صِنْفان.
فقالت طائفة: الزوجان: الرَّطب واليابس الَّذي لا يقصر في فضله وجودته عن (1) الرَّطْب، وهو مُتَمَتَّع به كما يُتَمَتع باليابس.
وفيه نظرٌ لا يَخْفى.
وقالت طائفة: الزوجان صنفٌ معروف، وصنف من شكله غريب.
وقالت طائفة: نوعان. ولم تزد.
والظَّاهر واللَّه أعلم: أنَّه الحلو والحامض، والأبيض والأحمر؛
__________
(1) في نسخةٍ على حاشية “أ”: “على”.

(1/208)


وذلك لأنَّ اختلاف أصناف الفاكهة أعجب وأشهى، وألذ لِلْعَيْنِ والفَمِ.
الرَّابع: أنَّه قال: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54]، وهذا تنبيهٌ عن فضل الظَّهائر وخطرها، وفي الآخرتين قال: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) } [الرحمن: 76]، وفُسِّرَ الرَّفْرَف: بالمحابس والبُسُط، وفُسِّر: بالفُرُش، وفُسِّر: بالمحابس فوقها. وعلى كل قول فلم يصفه بما وصف به فرش الجنتين الأوَّلتين.
الخامس: أنَّه قال: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) } [الرحمن: 54] أي قريب سهل يتناولونه كيف شاؤوا، ولم يذكر ذلك في الآخرتين.
السَّادس: أنَّه قال: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} [الرحمن: 56] أي قد قَصَرْنَ طَرْفَهُنَّ على أزواجهنَّ، فلا يُردْنَ غيرهم لرضاهنَّ بهم (1) ، وتحببهنَّ (2) لهم، وذلك يتضمن قصرهنَّ لطرف أزواجهنَّ عليهنَّ، فلا يدعهم حسنهنَّ أن ينظروا إلى غيرهنَّ، وقال في الآخرتين: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) } [الرحمن: 72]، ومن قصرت طرفها على زوجها باختيارها أكمل ممَّن قصرت بغيرها.
السَّابع: أنَّهُ وَصَفَهُنَّ بشبه الياقوت والمرجان في صفاء اللون، وإشراقه وحسنه، ولم يذكر ذلك في التي بعدها.
الثامن: أنَّه سبحانه قال في الجنتين الأَوَّلتين: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) } [الرحمن: 60] وهذا يقتضي أنَّ أصحابهما من أهل
__________
(1) سقط من “ج”.
(2) في “ب، د”: “ومحبتهنَّ”.

(1/209)


الإحسان المطلق الكامل، فكان جزاؤهم بإحسان كامل.
التاسع: أنَّه بدأ بوصف الجنتين (1) الأوَّلتين، وَجَعَلَهُمَا جزاءً لمن خاف مقامه، وهذا يدل على أنَّهما أعلى جزاء الخائف لمقامه، فرتَّب الجزاء المذكور على الخوف ترتيب المسبَّب على سببه، ولما كان الخائفون نوعين: مُقَرَّبين وأصحاب يمين، ذكر جَنَّتَي المقربين، ثمَّ ذكر جنَّتي أصحاب اليمين.
العاشر: أنَّهُ قال: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) } [الرحمن: 62] والسِّياق يدل على أنَّه نقيض (2) فوق، كما قال الجوهري.
فإنْ قيل: فكيف انقسمت هذه الجِنَان الأربع على من خاف مقام ربه؟
قيل: لمَّا كان الخائفون نوعين كما ذكرنا، كان للمقربين منهم الجنتان العاليتان، ولأصحاب اليمين الجنتان اللتان دونهما.
فإنْ قيل: فهل الجنتان لمجموع الخائفين يشتركون فيهما، أم لكلِّ واحد جنتان وهما البستانان؟
قيل (3) : هذا فيه قولان للمفسرين، ورُجِّح القول الثاني بوجهين: أحدهما: من جهة النقل. والثاني: من جهة المعنى.
__________
(1) من “ب، ج، د، هـ”.
(2) في “ب، ج، د، هـ”: “يقتضي”.
(3) من قوله: “فهل الجنتان لمجموع” إلى “قيل” سقط من “ج”.

(1/210)


فأمَّا الَّذي من جهة النقل (1) ، فإنَّ أصحاب هذا القول رَووا عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: “هما بستانان في رياض الجنَّة” (2) .
وأمَّا الَّذي من جهة المعنى فإنَّ إحدى الجنتين جزاء أداء الأوامر، والثانية جزاء اجتناب المحارم.
فإنْ قيل: فكيف قال في ذكر النساء {فِيهِنَّ} في الموضعين، ولمَّا ذكر غيرهنَّ قال {فِيْهِمَا}؟
قيل (3) : لما ذكر الفرش قال بعدها: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن: 70] ثمَّ أعاده في الجنتين الآخرتين بهذا اللفظ، ليتشاكل (4) الَّلفظ والمعنى. واللَّهُ أعلم.
__________
(1) من قوله: “والثاني من جهة” إلى “النقل” سقط من “ج”.
(2) ذكره الثعلبي في تفسيره (9/ 189) بدون سند، وكذا ذكره الهروي كما في التذكرة للقرطبي ص (382)، والجامع لأحكام القرآن (17/ 177).
وأخرج ابن مردويه (6/ 203 – الدر)، عن عياض بن تميم أنه سمع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تلا {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن/ 46]، قال: “بستانان عرض كل واحد منهما مسيرة مائة عام. . . . “.
(3) من قوله: “فكيف قال في ذكر النساء” إلى قوله “قيل” سقط من “ج”.
(4) في “ب، ج، د”: “ليشاكل”.

(1/211)


الباب الثالث والعشرون في خلق الرَّبِّ تبارك وتعالى بعض الجِنَان بيده وغرسها بيده تفضيلًا لها على سائر الجنَّات (1)
وقد اتخذ الرب تعالى من الجنَّات (2) دارًا اصطفاها لنفسه، وخصها بالقرب من عرشه، وغرسها بيده، فهي سيدة الجنان، واللَّهُ سبحانه يختار من كلِّ نوع أعلاه وأفضله، كما اختار من الملائكة: جبريل، ومن البشر: محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومن السماوات: العُليا، ومن البلاد: مكة، ومن الأشهر: الحُرُم، ومن الليالي: ليلة القَدْر، ومن الأيام: يوم الجمعة، ومن الليل: وسطه، ومن الأوقات: أوقات الصلوات، إلى غير ذلك، فهو سبحانه {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68].
قال الطبراني في “معجمه”: حدثنا مُطَّلب بن شعيب الأزدي حدثنا عبد اللَّه بن صالح حدثني الليث. قال الطبراني: وحدثنا أبو الزِّنْباع رَوْح ابن الفَرَج حدثنا يحيى بن بُكَير، حدثنا الليث عن زيادة (3) بن محمد الأنصاري عن محمد بن كعب القُرَظي عن فَضَالة بن عُبيد عن أبي الدرداء -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “ينزلُ اللَّهُ تعالى في آخر ثلاث ساعاتٍ يَبْقيْنَ من الليل، فينظرُ اللَّهُ في الساعة الأولى منهنَّ
__________
(1) في “د، هـ”: “الجنان”.
(2) في “ب، د، هـ”: “الجنان”.
(3) في “ج”: “زياد” وهو خطأ.

(1/212)


في الكتاب الَّذي لا ينظر فيه غيرُهُ، فيمحو ما يشاء ويثبت، ثمَّ ينظر في الساعة الثانية في جنَّة عدنٍ وهي مسكنُهُ (1) الَّذي يسكن، لا يكون معه فيها أحدٌ إلَّا الأنبياء والشهداء والصدِّيقون، وفيها ما لم يره أحد، ولا خطرَ على قلب بشر، ثمَّ يهبطُ آخر ساعة من الليل، فيقول: ألَا مستغفر يستغفرني فأغفر له؟ ألا سائلٌ يسألني فأعطيه؟ ألا داع يدعوني فأستجيب له؟ حتَّى يطلعَ الفجرُ، قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]. فيشهده اللَّهُ تعالى وملائكته” (2) .
وقال الحسن بن سفيان: حدثنا أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن السَّرْح قال: حدثني خالي (3) عبد الرحمن بن عبد الحميد بن سالم، حدثنا يحيى بن أيوب، عن داود بن أبي هند، عن أنس بن مالك رضي
__________
(1) في “ب”: “مستكنَّه”.
(2) أخرجه الطبراني في الأوسط برقم (8635)، وفي الدعاء رقم (135)، وابن أبي شيبة في العرش رقم (86)، وابن خزيمة في التوحيد رقم (199)، والطبري في تفسيره (15/ 139)، والعقيلي في الضعفاء الكبير (2/ 93) وغيرهم.
وهو حديث منكر، فيه زيادة بن محمد الأنصاري وهو منكر الحديث كما قاله البخاري والنسائي وأبو حاتم.
قال العقيلي: “والحديث في نزول اللَّه عزَّ وجل إلى السماء الدنيا ثابت، فيه أحاديث صحاح، إلَّا أنَّ زيادة هذا جاء في حديثه بألفاظ لم يأتِ بها النَّاس، ولا يتابعه عليها أحدٌ منهم”.
وذكره الذهبي في الميزان (3/ 145)، وقال: “فهذه ألفاظ منكرة لم يأتِ بها غير زيادة. . . “.
(3) ليس في “أ، ج”.

(1/213)


اللَّهُ عنه أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ اللَّه بَنَى الفردوس بيده، وحَظَرَهَا على كلِّ (1) مشركٍ، وكلِّ مدمنِ خَمْرٍ (2) سِكِّيرٍ” (3) .
وقد ذكر الدارمي والنَّجاد وغيرهما من حديث أبي معشر: نجيح بن عبد الرحمن -مُتَكَلَّمٌ فيه- عن عون بن عبد اللَّه بن الحارث بن نوفل، عن أخيه عبد اللَّه بن عبد اللَّه عن أبيه عبد اللَّه بن الحارث رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “خلق اللَّه تبارك وتعالى ثلاثة أشياء بيده:
__________
(1) ليس في “ج”.
(2) في “أ، ج، هـ”: “الخمر”.
(3) أخرجه تمام في فوائده رقم (56، 57 – الروض البسَّام)، وابن منده في الرد على الجهمية رقم (51)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 94 – 95)، وفي صفة الجنَّة رقم (61) وغيرهم.
قال أبو نعيم: “غريب من حديث داود عن أنس، لم يروه عنه إلَّا يحيى ابن أيوب المعافري المصري، تفرَّد به عنه أبو رجاء”.
قلتُ: أبو رجاء هذا الَّذي تفرَّد بهذا الحديث هو عبد الرحمن بن عبد الحميد بن سالم المهري مع أنَّه وثقه أبو داود إلَّا أنَّ ابن يونس -في تاريخ مصر- قال: “. . . وكان قد عمي فكان يحدِّث حفظًا، فأحاديثه مضطربه”.
وأيضًا داود بن أبي هندٍ لم يسمع من أنس بن مالك قاله ابن حبان.
انظر: تهذيب التهذيب (2/ 528)، والثقات لابن حبان (6/ 278).
وقد خولف أبو رجاء، خالفه سعيد بن كثير بن عفير المصري.
فرواه سعيد عن يحيى بن أيوب عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن أنس بن مالك بمثله.
أخرجه ابن منده في الرَّدِّ على الجهمية رقم (52).
وهذا هو الصواب، وعليه فالإسناد منقطع سعيد بن أبي هلال لم يسمع من أنس. تهذيب الكمال (11/ 95).

(1/214)


خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده” ثمَّ قال: “وعزَّتي وجلالي لا يدخلها مُدمنُ خمرٍ ولا الدُّيوثُ”. قالوا: يا رسول اللَّه، قد عرفنا مدمن الخمر، فما الدَّيُّوث؟ قال: “الَّذي يُقِرُّ السُّوء في أهله” (1) .
قلتُ: المحفوظ أنَّه موقوف.
قال الدَّارمي: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا عبيد بن مهران حدثنا مجاهد قال: قال عبد اللَّه بن عمر: “خَلَقَ اللَّهُ أربعة أشياء بيدهِ: العرشَ، والقلمَ، وعَدن، وآدم، ثمَّ قال لسائِرِ الخلقِ كُنْ فكان” (2) .
وحدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة عن عطاء بن السَّائب عن مَيْسرة قال: إنَّ اللَّهَ لم يمسَّ شيئًا من خلقه غير ثلاثٍ: “خلق آدم
__________
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (41)، وأبو الشيخ الأصبهاني في العظمة رقم (1117) مختصرًا، والدارقطني في الصفات رقم (28)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (23).
والحديث مرسل ضعيف الإسناد، فإنَّ عبد اللَّه بن الحارث قال العلائي: “حديثه مرسل قطعًا”، نجيح بن عبد الرحمن هو السندي ضعيف الحديث.
انظر: جامع التحصيل للعلائي رقم (345)، والتقريب رقم (7100).
(2) أخرجه الدارمي في الرد على بشر المريسي رقم (44 و 112)، والَّلالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم (729 و 730)، والحاكم (2/ 350) رقم (3244)، وأبو الشيخ في العظمة رقم (213 و 1018)، والطبري في تفسيره (23/ 185).
من طرق عن عبيد المكتب به.
قال الحاكمُ: “هذا حديثٌ صحيح الإسناد ولم يخرجاه”. وهو كما قال.

(1/215)


بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس جنَّة عدنٍ بيده” (1) .
وحدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس عن كعب قال: “لم يخلق اللَّهُ بيده غير ثلاث: خلقَ آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس جنَّة عدْنٍ بيده. ثمَّ قال لها: تكلمي، قالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1 )} (2) .
__________
(1) أخرجه الدَّارمي في النقض على بشر المريسي رقم (45)، وهناد في الزهد رقم (44)، والطبري في تفسيره (1/ 18).
من طريق أبي عوانة وأبي الأحوص وجرير كلهم عن عطاء به.
ولفظُ أبي الأحوص “خلق اللَّهُ تبارك وتعالى بيده أربعة خلق: آدم بيده، واللوح والقلم بيده، وغرس جنَّة عدن بيده، ثمَّ قال: قد أفلح المؤمنون. وقال -يعني أبا الأحوص- والرَّابعة أغفلها. ولفظ جرير بنحوه.
ولعلَّ لفظ أبي عوانة أصح، فقد ذكر بعض أهل العلم أنَّه سمع من عطاء قبل اختلاطه وبعد ما اختلط، وأمَّا جرير فجزموا بأنَّه سمع منه بعد الاختلاط ورواية جرير توافق رواية أبي الأحوص ورواية أبي عوانة تخالفهما فلعلَّ رواية أبي عوانة هذه من صحيح حديثه عن عطاء، انظر: الكواكب النيرات ص (323) وص (328).
وميسرة هو أبو صالح الكندي تابعي روى عن علي بن أبي طالب رضي اللَّهُ عنه. انظر: تهذيب الكمال (29/ 197).
وعليه فالأثر الَّذي ساقه المؤلف حسن.
(2) أخرجه الدارمي في النقض على بشر المريسي رقم (46)، والآجري في الشريعة رقم (759).
ورواه عبد الواهاب الثقفي عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: بلغنا أنَّ كعبًا قال فذكر نحوه.
أخرجه المروزي في زياداته على الزهد لابن المبارك رقم (1458)، =

(1/216)


وقال أبو الشيخ: حدثنا أبو يعلى، حدثنا أبو الربيع، حدثنا يعقوب القُمِّي حدثنا حفص بن حميد عن شِمْر بن عطية قال: “خلق اللَّهُ جنَّة الفردوس بيده، فهو يفتحها كل يوم خميس، فيقول: ازدادي طيبًا لأوليائي، ازدادي حسنًا لأوليائي” (1) .
وذكر الحاكم عن مجاهد قال: “إنَّ اللَّهَ تعالى غرس جنات عدن بيده، فلمَّا تكاملت أُغلقت فهي تفتح في كلِّ سَحَرٍ، فينظر اللَّهُ إليها فيقول: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( 1)} (2) .
__________
= والبيهقي في البعث والنشور رقم (234).
ورواه معمر وغيره عن قتادة أنَّ كعبًا قال فذكره.
أخرجه الطبري في تفسيره (18/ 1)، وابن حبيب في وصف الفردوس رقم (5) وغيرهما.
وفي الحديث اختلافٌ آخر سيأتي ص (219)، ولعلَّ الطريق الَّذي ساقه المؤلف أصحها، فالإسناد صحيح إلى كعب الأحبار.
(1) أخرجه حرب في مسائله ص (407)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة برقم (181).
وسنده حسن إلى شِمْر بن عطية الكوفي وهو من أتباع التابعين.
(2) أخرجه البيهقي في البعث والنشور رقم (237) من طريق جابر الجعفي عن مجاهد فذكره.
وجابر متكلمٌ فيه فوثقه بعضهم واتهمه آخرون، لكنه لم ينفرد به.
فرواه عبد العزيز بن رفيع والقاسم بن أبي بزَّة عن مجاهد بنحوه.
أخرجه الطبري في تفسيره (18/ 1)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (18).
وفي إسناديهما مقال.

(1/217)


وذكر البيهقي من حديث البغوي حدثنا يونس بن عبيد اللَّه (1) البصري حدثنا عدي بن الفضل عن الجُرَيري (2) ، عن أبي نَضْرَة عن أبي سعيد رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ اللَّهَ أحاط حائط الجنَّة لبنةً من ذهب ولبنةً من فضة، وغرس غرْسها بيده، ثمَّ قال لها: تكلمي، فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) } [المؤمنون: 1]، فقال: طوبى لك منزل الملوك” (3) .
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن المثنى البزاز، حدثنا محمد ابن زياد الكلبي حدثنا بشر (4) بن حسين عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “خَلَقَ اللَّهُ جنَّة عدنٍ بيده، لَبنَةً من درَّةٍ بيضاءَ، ولبنةً من ياقوتةٍ حمراء، ولبنةً من زَبرجَدةٍ خضراءَ، ملاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ، وحشيشها الزعفران، ثمَّ قال لها: انطقي، فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) }، فقال اللَّه عزَّ وجل: وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل، ثمَّ تلا رسول اللَّه
__________
(1) في نسخة على حاشية “أ” “عبد اللَّه”.
(2) في “هـ”: “الجوهري” وهو خطأ.
(3) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (140، 237) وفي الحلية (6/ 204)، والبيهقي في البعث والنشور رقم (236).
وعدي بن الفضل هو البصري متروك الحديث، وقد خولف:
خالفه وهيب، فرواه وهيب عن الجريري به موقوفًا.
أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (237)، والبزار كما سيأتي عند المؤلف.
ورجح المنذري والمؤلف في ص (592)، الموقوف، وهو كما قالا.
(4) في جميع النسخ “بشير” وهو خطأ.

(1/218)


-صلى اللَّه عليه وسلم-: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) } [الحشر: 9] (1) .
وتأمَّل هذه العناية كيف جعل الجنَّة (2) التي غرسها بيديه (3) لمن خلقه بيديه ولأفضل ذريته = اعتناءً وتشريفًا وإظهارًا لفضل ما خلقه بيديه (4) وشرفه، وتمييزه (5) بذلك عن غيره، وباللَّه التوفيق، فهذه الجنَّة في الجنان؛ كآدم في نوع الحيوان.
وقد روى مسلم في “صحيحه” (6) عن المغيرة بن شعبة عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “سألَ موسى ربه: ما (7) أدنى أهل الجنَّة منزلةً؟ قال: رجلٌ يجيء بعدما دخل أهل الجنَّة الجنَّة، فيقال له: أدخلِ الجنة، فيقول: ربِّ كيف وقد نزل النَّاس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟! فيقال له: أترضى أنْ يكون لك مثل مَلِكٍ (8) من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت ربِّ، فيقول له: لك ذلك ومِثْلُه ومِثْله ومثله ومثله، فقال في الخامسة:
__________
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (20)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (17) مختصرًا.
وهو حديث باطل وخطأ، فإنَّ محمد بن زياد الكلبي ضعيف جدًّا، وبشر ابن حسين متروك، وهو خطأ على سعيد بن أبي عروبة.
وصوابه عن سعيد عن قتادة عن أنس عن كعب الأحبار كما تقدم ص (217).
(2) في “ب، د” “وتأمَّل كيف هذه العناية كيف جعل الجنة”.
(3) في “د، هـ” ونسخةٍ على حاشية “أ” “بيده” وكذا بعده.
(4) في نسخةٍ على حاشية “أ” “بيده”.
(5) في “هـ”: “وتميزه”.
(6) رقم (189).
(7) في نسخة على حاشية “أ” “من”.
(8) في مسلم: “مثل مُلْكِ مَلِكٍ”.

(1/219)


رضيت رب. قال: رب، فأعلاهم منزلةً، قال: أولئك الَّذين أردت، غرست كرامتهم بيديَّ، وختمت عليها، فلم ترَ عينٌ ولم تسمع أذُنٌ، ولم يخطر على قلب بشر”، ومصداقه من كتاب اللَّهِ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17].

(1/220)


الباب الرَّابع والعشرون في ذكر بوَّابِيْ الجنَّة وخزنتها، واسم مُقدَّمهم ورئيسهم
قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)} [الزمر: 73].
والخَزَنَة: جمع خازن، مثل حَفَظَة وحَافِظ، وهو المُؤْتَمَن على الشيء الَّذي قد استحفظه.
وروى مسلمٌ في “صحيحه” (1) من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “آتي بابَ الجنَّة يومَ القيامة فأستفتح، فيقول الخازنُ: من أنتَ؟ فأقول محمدٌ، فيقول: بك أمرتُ أنْ لا أفتح لأحدٍ قبلَكَ”.
وقد تقدَّم حديث أبي هريرة المتفق عليه (2): “من أنفق زوجين في سبيل اللَّه دعاهُ خزنةُ الجنَّة كلُّ خزنة باب: أي فُلُ هلُمَّ”. قال أبو بكر: يا رسول اللَّه، ذاك الذي لا تَوَى عليه، فقال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنِّي لأرجو أنْ تكون منهم”.
وفي لفظٍ: هل يدعى أحدٌ من تلك الأبواب كلها؟ قال: “نعم، وأرجو أنْ تكون منهم”.
__________
(1) برقم (197).
(2) تقدم ص (110).

(1/221)


لمَّا سَمَتْ هِمَّةُ الصِّدَّيق إلى تكميل مراتب الإيمان، وطمعت نفسه أنْ يُدْعَى من تلك الأبواب كلَّها، فسأل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- هل يحصل ذلك لأحد من النَّاس، ليسعى في العمل الَّذي ينال به ذلك، فأخبره بحصوله وبشَّره بأنَّه من أهله، فكأنَّهُ قال: هل يكمل أحد هذه المراتب فيُدعى يوم القيامة من أبوابها كلها؟
فلِلَّهِ ما أعلى هذه الهمَّة، وأكبر هذه النَّفس.
وقد سمَّى اللَّهُ سبحانه وتعالى كبير الخزنة رِضْوان (1) . وهو اسمٌ مشتقٌّ من الرِّضا، وسمَّى خازن النَّارِ مالكًا (2) ، وهو اسمٌ مشتقٌّ من الملك، وهو القوَّة والشِّدَّة حيث تَصَرَّفت حُرُوفُه.
__________
(1) جاء ذلك في حديث أخرجه الواحدي في أسباب النزول ص (332) والبيهقي في شعب الإيمان (7/ 293 – 296) رقم (3421): من طريق الضحاك عن ابن عباس.
وسنده ضعيفٌ جدًّا.
وفي حديث عن أنس عند الدارقطني في الرؤية رقم (64) وغيره.
وهو حديثٌ منكر، وسيأتي ص (393).
وفي الباب أحاديث عن أُبي بن كعب وعن أبي سعيد الخدري وعائشة، ولا يصح في هذا الباب شيء واللَّه أعلم.
(2) في قوله تعالى: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77].

(1/222)


الباب الخامس والعشرون في ذكر أوَّل من يقرع باب الجنَّة
قد تقدم في حديث أنس (1)، ورواه الطبراني بزيادة فيه قال: “فيقومُ الخازنُ، فيقولُ: لا أفتحُ لأحدٍ قبلَك، ولا أقومُ لأحدٍ بعدك” (2).
وذلك أنَّ قيامه إليه -صلى اللَّه عليه وسلم- خاصة إظهار لمزِيَّته ومرتبته، ولا يقوم في خدمة أحد بعده، بل خزنة الجنَّة يقومون في خدمته، وهو كالملك عليهم، وقد أقامه اللَّهُ في خدمة عبده ورسوله حتى مشى إليه وفتح له الباب.
وقد روى أبو هريرة رضي اللَّهُ عنه، عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “أنا أوَّلُ من يُفْتَحُ له باب الجنَّة، إلَّا أنَّ امرأة تبادرني، فأقول لها مالَكِ أو ما أنتِ؟ فتقول: أنا امرأةٌ قعدتُ على يتاماي (3) ” (4).
__________
(1) ص (121).
(2) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (83)، والخليلي في مشيخته كما في كنز العمَّال (11/ 32047).
وفيه عند أبي نعيم محمد بن يونس الكديمي وهو متهم بالكذب.
(3) في “ب، هـ”: “يتامى”، وفي مسند أبي يعلى “أيتام لي”.
(4) أخرجه أبو يعلى في مسنده (2/ 7) رقم (6651) والأصبهاني في الترغيب والترهيب (3/ 2025).
من طريق يعقوب بن إسحاق الحضرمي عن عبد السلام بن عجلان عن أبي عثمان النهدي عن أبي هريرة فذكره.
خالفه سهل بن بكَّار.
فرواه عن عبد السلام بن عجلان عن أبي يزيد المدني عن أبي هريرة رفعه =

(1/223)


وفي الترمذي من حديث ابن عباس رضي اللَّهُ عنهما قال: جلسَ ناسٌ من أصحاب النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ينتظرونه، قال: فخرج حتَّى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون، فسمع حديثهم، فقال بعضهم: عَجَبًا إنَّ اللَّه من خلقه خليلًا، اتخذ إبراهيم خليلًا، وقال آخر: ماذا بأعجب من كلامه موسى (1) كلَّمه تكليمًا، وقال آخر: فعيسى كلمة اللَّهُ وروحه، وقال آخر: آدم اصطفاهُ اللَّهُ، فخرج عليهم، فسلَّم وقال: سمعتُ كلامكم وعجبكم، إنَّ إبراهيم خليلُ اللَّه وهو كذلك، وموسى نجيُّ اللَّهِ، وهو كذلك، وعيسى روحه وكلمته، وهو كذلك، وآدم اصطفاهُ اللَّهُ، وهو كذلك، ألا وأنا حبيب اللَّه ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوَّل شافعٍ وأوَّل مشفَّع يوم القيامة ولا فخر (2) ، وأنا أوَّل
__________
= بلفظ “حرَّم اللَّهُ على كلِّ آدمي الجنَّة يدخلها قبلي غير أنِّي انظر عن يميني فإذا بامرأة تبادرني إلى باب الجنَّة. . . ” بنحوه.
أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق رقم (691).
قلتُ: الحديث مداره على عبد السلام بن عجلان وقد اضطرب فيه -وهو لين- قال أبو حاتم: “شيخ بصري يكتب حديثه”. وذكره ابن حبان في الثقات (7/ 127) وقال: “يخطئ ويخالف”.
والحديث ضعفه البوصيري فقال: “رواه أبو يعلى بسندٍ ضعيف، لضعف عبد السلام بن عجلان”.
وحسنه المنذري وقال ابن حجر: “رواته لا بأس بهم”.
انظر: الترغيب والترهيب للمنذري (3/ 349)، والفتح (10/ 436)، وإتحاف الخيرة المهرة للبوصيري رقم (5073).
(1) في نسخةٍ على حاشية “أ”: “لموسى”.
(2) قوله “ولا فخر” سقط من “ب”.

(1/224)


من يحرِّك حَلَقَ الجنَّة فيفتح لي فأدخلها، ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر” (1) .
وعن أنس بن مالك رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أنا أوَّل النَّاسِ خروجًا إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا، وقائدهم إذا وفدوا، وشافعهم إذا حُبِسوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا (2) ، لواء الحمد بيدي، ومفاتيح الجنَّة يومئذٍ بيدي، وأنا أكرمُ ولد آدم يومئذ على ربي ولا فخر، يطوف عليَّ ألف خادم كأنَّهم اللؤلؤ المكنون” رواه الترمذي (3) ، والبيهقي واللفظ له (4) .
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم (3616) والدارمي برقم (48).
من طريق زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس فذكره.
والحديث ضعفه الترمذي وابن كثير وفيه زمعة وهو ضعيف، وسلمة فيه مقال.
قال الترمذي: “هذا حديث غريب”.
وقال ابن كثير: “وهذا حديث غريب من هذا الوجه، ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها”.
(2) في “أ، هـ”: “يئسوا”.
(3) أخرجه الترمذي برقم (3610)، والبيهقي في دلائل النبوة (5/ 483 – 484).
قال الترمذي: “حسن غريب”.
والحديث مداره على ليث بن أبي سليم وهو ضعيف لسوء حفظه، واختلاطه في آخر عمره، وقد اضطرب في هذا الحديث. انظر: تهذيب الكمال (24/ 279 – 288).
(4) قوله: “واللفظ له” ليس في “ب”.

(1/225)


وفي “صحيح مسلم” (1) من حديث المختار بن فلفل عن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أنا أكثر النَّاس تبعًا يوم القيامة، وأنا أوَّل من يقرع بابَ الجنَّة”.
__________
(1) رقم (196) – (331).

(1/226)


الباب السادس والعشرون في ذكر أوَّل الأمم دخولًا الجنَّة
وفي “الصحيحين” (1) من حديث همَّام بن مُنَبِّهٍ، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “نحنُ السَّابقون الأوَّلون يوم القيامة، بَيْدَ أنَّهم أوتوا الكتابَ من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم”.
أي: لم يسبقونا إلَّا بهذا القدر، فمعنى: “بَيْدَ” معنى سِوَى وغير وإلَّا أنَّ، ونحوها.
وفي “صحيح مسلم” (2) من حديث أبي صالح عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “نحنُ الآخرون الأوَّلون يومَ القيامة، ونحنُ أوَّل من يدخل الجنَّة، بيدَ أنَّهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فاختلفوا فهدانا اللَّهُ لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه (3) “.
وفي “الصحيحين” (4) من حديث طاووس عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “نحنُ الآخرون الأوَّلون يومَ القيامة، نحنُ أوَّلُ النَّاسِ دخولًا الجنَّة، بيدَ أنَّهم أوتوا الكتابَ من قبلنا، وأوتيناه من
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (6630)، ومسلم رقم (855) – (21) وفيهما “الآخرون السابقون” بدل “السابقون الأولون”.
(2) رقم (855) – (20).
(3) من “ب، ج، د، هـ”، وليست في مسلم ولا “أ”.
(4) البخاري رقم (856)، ومسلم رقم (849) واللفظ للبخاري وعنده “السابقون” بدل “الأوَّلون”.

(1/227)


بعدهم”.
وروى الدارقطني من حديث زهير بن محمد عن عبد اللَّه بن محمد ابن عَقِيل، عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ الجنَّة حُرِّمت على الأنبياء كلَّهم حتى أدخلها، وحُرِّمت على الأمم حتى تدخلها أمتي” (1) .
قال الدَّارقطني: “غريب عن الزهري، ولا أعلمُ رُوي عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل عن الزهري غير هذا الحديث، ولا رواهُ إلَّا عمرو بن أبي سلمة [التِّنِّيسي عن صدقة السَّمين] (2) عن زهير”.
فهذه الأمة أسبق الأمم خروجًا من الأرضِ وأسبقهم إلى أعلى مكان في الموقف، وأسبقهم إلى ظل العرش، وأسبقهم إلى الفصل والقضاء بينهم، وأسبقهم إلى الجواز على الصراط، وأسبقهم إلى دخول الجنَّة، فالجنَّة محرمة على الأنبياء حتى يدخلها محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- ومحرمة على الأمم حتى تدخلها أمته.
__________
(1) أخرجه الدَّارقطني في الأفراد كما في أطراف الغرائب (1/ 103)، وابن أبي حاتم في العلل (2/ 227) رقم (2167)، والطبراني في الأوسط رقم (942)، وابن عدي في الكامل (4/ 129).
قال الطبراني: “لم يرو هذا الحديث عن الزهري إلَّا عن ابن عقيل، ولا عن ابن عقيل إلَّا زهير، ولا عن زهير إلَّا صدقة، تفرَّد به عمرو”.
قال أبو زرعة الرَّازي: “ذا حديث منكر لا أدري كيف هو”.
والحديث جعله ابن عدي من منكرات عبد اللَّه بن محمد بن عقيل.
(2) ما بين المعقوفتين ليس في النسخ واستدركته من أطراف الغرائب.

(1/228)


وأمَّا (1) أوَّل الأمة دخولًا: فقال أبو داود في “سننه” حدثنا هنَّاد بن السَّريِّ، عن عبد الرحمن بن محمد المُحاربي عن عبد السلام بن حرب عن أبي خالد الدَّالاني عن أبي خالد مولى آل جَعْدة عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أتاني جبريل فأخذ بيدي، فأراني باب الجنَّة الَّذي تدخلُ منه أمتي”. فقال أبو بكر: يا رسول اللَّه، وددتُ لئن (2) كنتُ معك حتى أنظر إليه، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أما إنَّك يا أبا بكر أوَّل من يدخل الجنَّة من أمتي” (3) .
وقوله: “وددت لئن كنت معك (4) “. حرصًا منه على زيادة اليقين، وأن يصير الخبر عيانًا، كما قال إبراهيم الخليل {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260].
وأمَّا الحديث الَّذي رواهُ ابن ماجه في “سننه”: حدثنا إسماعيل بن عمر الطلحي، أنبأنا داود بن عطاء المديني، عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب، عن أُبيِّ بن كعب -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أوَّل من يصافحه الحق عمر وأوَّل من يسلِّم عليه، وأوَّل من يأخذ بيده فيدخله الجنَّة” (5) .
__________
(1) في “ب، ج، د، هـ”: “وأنا” وهو خطأ.
(2) كذا في جميع النسخ، وكذلك ما بعدها، وجاء في سنن أبي داود “أني” بدل “لئن”.
(3) تقدم في الباب الحادي عشر ص (123).
(4) من قوله: “حتى أنظر إليه” إلى “معك” سقط من “ج”.
(5) أخرجه ابن ماجه برقم (104) وابن أبي عاصم في السنة برقم (1280)، =

(1/229)


فهو حديثٌ منكر جدًّا، قال الإمام أحمد: “داود بن عطاء ليس بشيءٍ”، وقال البخاري: “منكر الحديث” (1) .
__________
= والقطيعي في زوائد فضائل الصحابة برقم (630)، والحاكم في المستدرك (3/ 90) رقم (4489) وغيرهم.
قال الذهبي: “موضوع في سنده كذَّاب”.
وقال أيضًا في الميزان (3/ 20): “هذا منكرٌ جدًّا”.
وقال ابن كثير: “هذا الحديث منكر جدًّا، وما أبعد أنْ يكون موضوعًا، والآفة فيه من داود بن عطاء هذا”.
انظر: جامع المسانيد (1/ 72) رقم (40).
(1) انظر: أقوال أئمة الجرح والتعديل في داود هذا، في تهذيب الكمال (8/ 419 – 420).

(1/230)


الباب السابع والعشرون في ذكر السَّابقين من (1) هذه الأمة إلى الجنَّة وصفتهم
في “الصحيحين” (2) من حديث همَّام بن مُنَبِّه عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أوَّل زُمرة تَلجُ الجنَّة صُوَرُهم على صورة القمرِ ليلة البَدْرِ، لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون فيها، ولا يتغوطون فيها، آنيتهم وأمشاطهم الذهبُ والفضة، ومجامرهم الأُلُوَّة (3)، ورشحهم المسك، ولكلِّ واحدٍ منهم زوجتان يُرى مُخُّ سوقهما من وراء اللحم من الحُسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبُهم على قلب واحد (4)، يسبحون اللَّهَ بُكْرَةً وعَشيًّا”.
وفي “الصحيحين” (5) أيضًا من حديث أبي زُرعة، عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أوَّل زُمرةٍ يدخلون الجنَّة على صورة القمر ليلةَ البدرِ، والَّذين يلونهم على ضوءِ أشدِّ كوكبٍ دُريٍّ في السماء إضاءةً، لا يبولون ولا يتغوَّطون، ولا يتفُلون ولا يَمْتخِطون، أمشاطهم الذهبُ ورشحهم المسكُ، ومجامرهم الأُلُوَّةُ، وأزواجهم الحورُ العينُ، أخلاقُهم على خَلْقِ رجلٍ واحدٍ، على صورة أبيهم آدم
__________
(1) في “ب، د”: “في”.
(2) البخاري رقم (3073)، ومسلم رقم (2834) – (17).
(3) الأُلُوَّة: هو العود الَّذي يتبخر به، وتُفْتح همزته وتُضَم، انظر: النهاية (1/ 63).
(4) عند البخاري “قلوبهم قلبُ رجلٍ واحدٍ” وعند مسلم “قلوبهم قلبٌ واحد”.
(5) البخاري رقم (3149)، ومسلم رقم (2834) – (15).

(1/231)


ستون ذراعًا في السَّماءِ”.
وروى شُعْبة وقيس عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: قال رسول اللَّه (1) -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أوَّل من يُدعى إلى الجنَّة يومَ القيامة الحمَّادون الَّذين يحمدون اللَّهَ في السَّرَّاء والضَّراء” (2) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا هشام الدسْتوائي عن يحيى بن كثير عن عامر العُقَيلي عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “عُرِضَ عليَّ أوَّل ثلاثةٍ من أُمَّتي يدخلون الجنَّة وأوَّل ثلاثةٍ يدخلون النَّار، فأمَّا أوَّل ثلاثة يدخلون الجنَّة: فالشهيدُ، وعبدٌ مملوكٌ لم (3) يشغله رِقّ الدنيا عن طاعة ربِّه،
__________
(1) قوله “رسول اللَّه” من “ب، ج، د، هـ”.
(2) أخرجه الطبراني في الكبير (12/ 19)، والبزار في مسنده (11/ 247) رقم (5028)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (82)، والبغوي في شرح السنة (5/ 49 – 50) رقم (1270) وغيرهم.
من طرق عن شعبة وقيس بن الربيع والمسعودي كلهم عن حبيب عن سعيد عن ابن عباس فذكره.
قلتُ: طريق شعبة لا يصح عنه فقد رواهُ عنه نصر بن حمَّاد وهو متَّهمٌ بالكذب، وقيس بن الربيع فيه ضعف خاصة بعدما كبر.
والمسعودي كان قد اختلط.
– ورواهُ مسعر عن حبيب عن سعيد قوله مقطوعًا.
أخرجه ابن المبارك في الزهد رقم (206) وهو الصحيح.
(3) في نسخةٍ على حاشية “أ”: “لا”.

(1/232)


وفقير مُتَعَفِّف ذو عِيَال، وأوَّل ثلاثة يدخلون النَّار: فأميرٌ مُسَلَّطٌ، وذو ثروةٍ من مالٍ لا يؤدِّي حقَّ اللَّه في ماله، وفقيرٌ فخور” (1) .
وروى الإمام أحمد في “مسنده” والطبراني في “معجمه” واللفظ له من حديث أبي عُشَّانة المعافري أنَّه سمع عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّهُ عنه يقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “هل تدرون أوَّل من يدخل الجنَّة؟ قالوا: اللَّهُ ورسوله أعلمُ، قال: فقراء المُهاجرين الَّذين تُتَّقى بهم المكاره، ويموتُ أحدهم وحاجته في صَدْرِهِ لا يستطيع لها قضاءً، تقول الملائكة: ربَّنا نحنُ ملائكتك وخزنتك وسُكَّان سماواتك لا تدخلهم، الجنَّة قبلنا، فيقول: عبادي لا يُشْركون بي شيئًا، تُتَّقى بهم المكاره، يموت أحدهم وحاجته في صدره لم يستطع لها قضاءً، فعند ذلك تدخل عليهم الملائكة من كلِّ بابٍ، سلامٌ عليكم بما صبرتم (2) فنعمَ عُقبى الدَّارُ” (3) .
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند (2/ 425)، والترمذي برقم (1641) مختصرًا، والطيالسي في مسنده رقم (2690)، وابن خزيمة برقم (2249) وابن حبان رقم (4312)، والحاكم (1/ 544 – 545) رقم (1429) وغيرهم.
قال الترمذي: “هذا حديث حسن”.
والحديث صححه ابن خزيمة وابن حبان.
قلتُ: في السند عامر العقيلي وأبوه فيهما جهالة. انظر: تهذيب الكمال (14/ 70).
(2) قوله: “بما صبرتم” سقط من “ب”.
(3) أخرجه أحمد في مسنده (2/ 168)، والطبراني في المعجم الكبير “الجزء المفقود” رقم (151) وعبد بن حميد في مسنده “المنتخب رقم 352) وابن حبان في صحيحه (16/ رقم 7421)، والحاكم (2/ 81) رقم (2393) =

(1/233)


ولمَّا ذكر اللَّهُ تعالى أصناف بني آدم سَعيدهم وشقيهم، قسم سُعَداءهم إلى قسمين: سابقين وأصحاب يمين فقال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) } [الواقعة: 10].
واختلف في تقديرها على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنَّه من باب التَّوكيد الَّلفظي، ويكون خبره قوله تعالى: {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) } [الواقعة: 11].
والثاني: أنْ يكون السَّابقون الأوَّل مبتدأ، والثاني خَبَرًا له على حدِّ قولك: زيد زيد، أي زيد الَّذي سمعت به هو زيد كما قال:
أنا أبو النَّجم وَشِعْري شِعْري (1)
وكقول الآخر:
إذا النَّاسُ ناسٌ والنَّهارُ نهارُ (2)
__________
= وغيره.
من طريق عبد اللَّه بن وهب وابن لهيعة ومعروف بن سويد كلهم عن أبي عشانة به فذكره.
ولفظُ ابن وهب: “إنَّ أوَّل ثلَّةٌ تدخل الجنَّة الفقراء المهاجرون الَّذي تُتَّقى بهم المكاره، إذا أُمروا سمعوا وأطاعوا وإنْ كانت لرجل منهم حاجة إلى السلطان لم تقض له حتى يموت وهي في صدره. . . “.
وقال الحاكم عن حديث ابن وهب: “صحيح الإسناد، ولم يخرجاه”.
(1) البيت لأبي النجم العجلي، انظر: الكامل للمبرد (1/ 62)، وخزانة الأدب للبغدادي (1/ 418).
(2) كذا في جميع النسخ، وفي مغني اللبيب ص (863) رقم (1117) “والزمان =

(1/234)


قال ابن عطية: وهذا قول سيبويه (1) .
والثالث: أنْ يكون السَّبقُ الأوَّل غيرَ الثاني، ويكون المعنى: السابقون في الدنيا إلى الخيرات هم السابقون يوم القيامة إلى الجنَّات، والسابقون إلى الإيمان هم السابقون إلى الجنان (2) .
وهذا أظهر، واللَّهُ أعلم.
فإنْ قيل: فما تقولون في الحديث الَّذي رواه الإمام أحمد والترمذي وصحَّحه من حديث بريدة بن الحصيب قال: أصبح رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فدعا بلالًا، فقال: “يا بلالُ، بمَ سبقتني إلى الجنَّة، فما دخلتُ الجنَّة قط إلَّا سمعت خَشْخَشَتَكَ أمَامي. دخلتُ البارحة فسمعتُ خَشْخَشَتَكَ أَمامي، فأتيت على قصر مُرَبَّع مشرفٍ من ذهب، فقلتُ: لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجلٍ عربيٍّ، قلتُ: أنا عربي، لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من قريش، قلتُ: أنا قرشي، لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجلٍ من أُمَّة محمدٍ، قلت: أنا محمد، لمن هذا القَصْر؟ قالوا: لعمرَ بن الخطاب” فقال بلال: يا رسول اللَّهِ ما أَذَّنتُ قط إلَّا صليتُ ركعتين، وما أصابني حَدَثٌ قطُّ إلَّا توضأتُ عندها، ورأيتُ أنَّ للَّهِ عليَّ ركعتين (3) ، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: بهما” (4) .
__________
= زمان” بدل “النهار نهار”.
(1) انظر: المحرر الوجيز (15/ 359).
(2) في نسخةٍ على حاشية “أ” “الجنات”.
(3) من قوله: “وما أصابني حدث” إلى “ركعتين” سقط “ج”.
(4) تقدم تخريجه ص (44).

(1/235)


قيل: نتلقَّاه بالقبول والتصديق، ولا يدل على أنَّ أحدًا يسبق رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى الجنَّة، وأمَّا تقدُّم بلال بين يديه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الجنَّة؛ فلأنَّ بلالًا كان يدعو إلى اللَّهِ أوَّلًا في الأذان فيتقدم أذانه بين يدي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فيتقدَّم (1) دخوله بين يديه كالحاجب والخادم.
وقد رُوِيَ في حديثٍ: “أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يبعثُ يوم القيامة وبلالٌ بين يديه ينادي بالأذان” (2) .
فتقدَّمه بين يديه -صلى اللَّه عليه وسلم- كرامةً لرسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وإظهارًا لشرفه وفضله، لا سَبْقًا من بلالٍ له، بل هذا السَّبق من جنس سبقه إلى الوضوء، ودخول المسجد ونحوه، واللَّهُ تعالى أعلم.
__________
(1) في نسخة على حاشية “أ” “فتقدُّم”.
(2) أخرجه الطبراني في الكبير رقم (2629) وفي الصغير رقم (1122)، والخطيب في تاريخه (3/ 357).
قال ابن الجوزي: “موضوع. . “.
وقال الذهبي: “إسناده مظلمٌ، ما أدري من وضعه. . . “.
وورد عن بُريدة وعلي وأنس، وكلها أحاديث موضوعة.
انظر: اللآلئ المصنوعة (2/ 446 – 447).
والسلسلة الضعيفة رقم (771 – 775).
وزوائد تاريخ بغداد (2/ 420 – 423).

(1/236)


الباب الثامن والعشرون في سبق الفقراء للأغنياء (1) إلى الجنَّة
قال الإمام أحمدُ: حدَّثنا عفَّان، حدَّثنا حمَّاد بن سلمة، عن محمد ابن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “يدخلُ فقراء المسلمين الجنَّة قبل أغنيائهم بنصف يوم، وهو خمسُ مئة عام” (2).
قال الترمذي: “هذا حديثٌ حسن صحيح”.
ورجال إسناده احتجَّ بهم مسلم في “صحيحه”.
__________
(1) في “ب، هـ”: “الأغنياء”.
(2) أخرجه أحمد في المسند (2/ 296 و 342)، والترمذي برقم (2353)، وابن ماجه برقم (4122)، وابن حبان برقم (676) وغيرهم.
من طرق عن محمد بن عمرو به مثله.
والحديث تفرَّد به محمد بن عمرو -وهو صدوق- عن أبي سلمة به.
قال الترمذي: “حسن صحيح”.
والحديث صحَّحه الترمذي وابن حبان والمؤلف.
ورواهُ أبو صالح وأبو حازم وشتير بن نهار عن أبي هريرة نحوه؛ وفي ثبوتها نظر.
أخرجه أحمد (2/ 513 و 519)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 307) و (7/ 99).
وقال أبو نعيم عن حديث “أبي حازم وأبي صالح”: “غريب. . . . “.
قلتُ: وشتير مجهول. وأخشى أن يعارض هذا المتن قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)} [الفرقان: 24]، وأيضًا سيأتي سبقهم (بأربعين خريفًا) وهو أصح إسنادًا واللَّه أعلم.

(1/237)


وروى الترمذي من حديث عبَّاس الدُّوري، عن المُقْرِيء (1) عن سعيد بن أبي أيوب عن عمرو (2) بن جابر الحضرمي عن جابر بن عبد اللَّه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: “يدخلُ فقراءُ أُمَّتي (3) الجنَّة قبلَ الأغنياء بأربعين خريفًا” (4) .
وفي “صحيح مسلم” (5) من حديث عبد اللَّه (6) بن عمرو رضي اللَّهُ عنه قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “إنَّ فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يومَ القيامة (7) بأربعين خريفًا”.
__________
(1) في “ب، هـ” ونسخةٍ على حاشية “أ” “المقبري” وهو خطأ.
(2) في “أ، هـ” “عمر” وهو خطأ.
(3) في الترمذي وغيره “المسلمين”.
(4) أخرجه الترمذي برقم (4355)، وأحمد في المسند (3/ 324) وعبد بن حميد رقم (117)، والبيهقي في البعث رقم (454).
قال الترمذي: “هذا حديث حسن”.
قلتُ: في سنده عمرو بن جابر الحضرمي، قال أبو حاتم: “صالح الحديث عنده نحو عشرين حديثًا”، ووثَّقه العجلي، وقال النسائي والجوزجاني: ليس بثقة. وقال الإمام أحمد: “بلغني أنَّ عمرو بن جابر كان يكذب، روى عن جابر أحاديث مناكير” وقال ابن حبان: “كان سحابيًّا، يزعم أنَّ عليًّا في السحاب، كأنَّه جالس الكوفيين فأخذ عنهم، ومع ذلك ينفرد عن جابر بأشياء ليست من حديثه، لا يحل الاحتجاج بخبره ولا الرواية عنه. . . “.
انظر: تهذيب الكمال (21/ 559 – 562).
(5) رقم (2979).
(6) في “ج” “أبي عبد اللَّه” وهو خطأ.
(7) في مسلم زيادة “إلى الجنَّة”.

(1/238)


وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد حدثنا دُوَيْد عن سلم (1) ابن بشير عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّهُ عنهما قال: قال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “التقى مؤمنان على باب الجنَّة، مؤمنٌ غنيٌ، ومؤمنٌ فقيرٌ، كانا في الدنيا، فأُدْخِلَ الفقيرُ الجنَّة، وحُبسَ الغني ما شاء اللَّهُ أنْ يُحْبس، ثمَّ أُدْخِلَ الجنَّة، فلقيه الفقيرُ فيقول: أي أخي وماذا حبسك؟ واللَّه لقد احْتبَستَ حتى خفت (2) عليك (3) ، فيقول: أي أخي إنِّي حبستُ بعدك محبسًا فظيعًا (4) كريهًا، وما وصلتُ إليك حتى سال منِّي العَرَق (5) ، ما لو وَرَدَهُ ألفُ بعيرٍ كلها آكلة حمضٍ لصدرتْ عنه رواء (6) ” (7) .
وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عبد اللَّه الحضرمي، وعلي ابن سعيد الرَّازي قالا: حدثنا علي بن بهرام (8) العطار، حدثنا
__________
(1) في “ب، د، هـ” ونسخةٍ على حاشية “أ” “سليم”، والمثبت هو الصواب، وقيل في اسمه غير ذلك، وهذا التنوع في الاسم يرجع إلى اختلاف النَّاقلين في اسم هذا الرجل.
انظر: تعجيل المنفعة لابن حجر (1/ 564، 606).
(2) في “هـ”: “خشيت”.
(3) من قوله “فيقول: أي أخي” إلى “عليك” سقط من “ج”.
(4) في “ب، د” “قطيعًا”, وفي نسخةٍ على حاشية “أ” “مضيقًا”.
(5) في “ب، ج” “مني من العرق”.
(6) من المسند.
(7) أخرجه أحمد في المسند (1/ 304).
وسنده ضعيف، فيه دُوَيْد مجهول، قاله الحسيني.
وانظر: تعجيل المنفعة (1/ 564) رقم (356).
(8) في جميع النسخ “مهران” وهو خطأ، انظر: تاريخ بغداد (11/ 353) وغيره.

(1/239)


عبد الملك بن أبي كريمة، عن سفيان الثوري عن محمد بن زيد عن أبي حازم (1) عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “إنَّ فقراء المؤمنين يدخلون الجنَّة قبل أغنيائهم بنصف يومٍ، وذلك خمس مائة عام” وذكر الحديث بطوله (2) .
والَّذي في الصحيح أنَّ سبقهم لهم “بأربعين خريفًا”.
فإمَّا أنْ يكون هو المحفوظ، وإمَّا أنْ يكون كلاهما محفوظان، وتختلف مُدَّة السبق بحسب أحوال الفقراء والأغنياء، فمنهم من يسبق بأربعين، ومنهم من يسبق بخمس مئة كما يتأخر مكث العُصاة من الموحدين في النَّار بحسب جرائمهم واللَّهُ أعلم.
ولكن ها هنا أمرٌ يجب التنبيه عليه، وهو أنَّه لا يلزم من سبقهم لهم في الدخول ارتفاع منازلهم عليهم، بل قد يكون المتأخر أعلى منزلة؛ وإن سَبَقَهُ غيره في الدخول، والدليل على هذا أنَّ من الأمة من يدخل الجنَّة بغير حساب، وهم السَّبعون ألفًا (3) ، وقد يكون بعض من
__________
(1) في نسخةٍ على حاشية “أ” “حاتم” وهو خطأ.
(2) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (7/ 99 – 100) عن الطبراني به.
قال أبو نعيم: “هذا حديث غريب من حديث الثوري عن محمد بن زيد، ويقال: هو العبدي، تفرَّد به عبد الملك”.
والحديث منكر، لم يروه أحدٌ من أصحاب الثوري عن الثوري إلَّا هو، وعلي بن بهرام فيه جهالة.
انظر: تاريخ بغداد (11/ 353)، وتاريخ مصر لابن يونس (2/ 150) جَمْع وتحقيق ودراسة: د: عبد الفتاح فتحي.
(3) يشير المؤلف إلى حديث ابن عباس وفيه “. . . فإذا سواد قد ملأ الأفق، قيل: =

(1/240)


يُحَاسب أفضل من أكثرهم، والغني إذا حوسب على غِنَاهُ، فوجد قد شكر اللَّه تعالى فيه، وتقرَّب إليه بأنواع البِرِّ والخير والصَّدقة والمعروف، كان أعلى درجة من الفقير الَّذي سبقه في الدخول، ولم تكن له تلك الأعمال، ولا سيِّما إذا شاركه الغني في أعماله هو (1) وزاد عليه فيها، واللَّهُ لا يضيع أجرَ من أحسن عملًا.
فالمزيَّة مزيَّتان؛ مزية سبق، ومزية رِفْعة، وقد يجتمعان وينفردان، فيحصل لواحد السبق والرِّفعة، ويعدمهما آخر، ويحصل لآخر السبق دون الرِّفعة، ولآخر الرفعة دون السبق، وهذا بحسب المتقضي للأمرين، أو لأحدهما وعدمه، وباللَّه التوفيق.
__________
= هذه أُمتك، ويدخل الجنَّة من هؤلاء سبعون ألفًا بغير حساب. . . “.
أخرجه البخاري رقم (5378)، ومسلم رقم (220).
(1) من “أ، ج، هـ”.

(1/241)


الباب التاسع والعشرون في ذكر أصناف أهل الجنَّة الَّذين ضمنت لهم دون غيرهم
قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)} [آل عمران: 133 – 136].
فأخبر أنه أعدَّ الجنَّة للمتقين دون غيرهم، ثم ذكر أوصاف المتقين، فذكر بذلهم للإحسان في حالتي العسر واليسر، والشدة والرخاء، فإنَّ من النَّاس من يبذل في حال اليسر والرخاء، ولا يبذل في حال العسر والشدة، ثم ذكر كف أذاهم للنَّاس (1) بحبس الغيظ بالكظم، وحبس الانتقام بالعفو، ثمَّ ذكر حالهم بينهم وبين ربهم في ذنوبهم، وأنَّها إذا صدرت منهم قابلوها بذكر اللَّه، والتوبة والاستغفار، وترك الإصرار، فهذا حالهم مع اللَّهِ، وذاك حالهم مع خلقه.
وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100].
__________
(1) في المطبوعة: “عن الناس”.

(1/242)


فأخبر تعالى أنَّه أعدَّها للمهاجرين والأنصار، وأتباعهم بإحسان، فلا مطمع لمن خرج عن طريقتهم فيها.
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) } [الأنفال: 2 – 4].
فوصفهم بإقامة حقه باطنًا وظاهرًا، وبأداء حق عباده.
وفي “صحيح مسلم” (1) عن عمر بن الخطاب رضي اللَّهُ عنه قال: لما كان يومُ خيبر أقبل نفرٌ من صحابة النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالوا: فلانٌ شهيد، وفلانٌ شهيد، حتى مروا على رَجُلٍ فقالوا: فلانٌ شهيد، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “كلَّا إنَّي رأيته في النَّار في بُرْدةٍ غَلَّها أو عباءةٍ، ثمَّ قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “يا ابنَ الخطاب، اذهب فنادِ في النَّاسِ إنَّهُ لا يدخل الجنَّة إلَّا المؤمنون، قال: فخرجتُ فناديتُ: ألا (2) إنَّهُ لا يدخل الجنَّة إلَّا المؤمنون”. وللبخاري معناه (3) .
وفي “الصحيحين” (4) من حديث أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه أنَّ رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمرَ بلالًا أنْ يناديَ في النَّاسِ: “إنَّه لا يدخلُ الجنَّة إلَّا نفسٌ
__________
(1) رقم (114).
(2) من “صحيح مسلم”.
(3) رقم (3967) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(4) البخاري رقم (2897)، ومسلم رقم (111).

(1/243)


مسلمةٌ”، وفي بعض طرقه “مؤمنة” (1) وفي الحديث قصة.
وفي “صحيح مسلم” (2) من حديث عِيَاض بن حِمَار المجاشعي أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال ذات يومٍ في خطبته: “ألا إنَّ ربي أمرني أنْ أُعَلِّمَكم ما جهلتم ممَّا علمني يومي هذا، كلُّ مالٍ نحلته عبدًا حلالٌ، وإنِّي خلقتُ عبادِي حنفاء كلَّهم، وإنَّهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم (3) عن دينهم، وحرَّمت عليهم ما أحللتُ لهم، وأمَرَتْهم أنْ يشركوا بي ما لم أُنْزل به سُلطانًا، وإنَّ اللَّهَ نظر إلى أهل الأرضِ فمقتهم عربهم وعجمهم إلَّا بقايا من أهل الكتاب. وقال: إنَّما بعثتُك لأبتليكَ، وأبتلي بكَ، وأنزلتُ عليك كتابًا لا يغسلهُ الماءُ، تقرأهُ نائمًا ويقظان. وإنَّ اللَّهَ أمرني أن أُحرَّق قريشًا، فقلتُ: ربِّ إذًا يثغلوا رأسي، فيدعوه خُبزة، قال: استخرجهم كما أخرجوك (4) واغزهم نُعِنْكَ (5) ، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشًا نبعثْ خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك مَنْ عصاكَ، قال: وأهل الجنَّة ثلاثةٌ: ذو سلطان مقسطٌ متصدقٌ
__________
(1) في “هـ” “إلَّا مؤمنة”، وهو عند البخاري رقم (3967 و 6232) بلفظ “إلَّا مؤمن”.
(2) رقم (2865).
(3) في حاشية “أ”: “فاجتالتهم أي استخفتهم، أي فجالوا معهم في الضلال، وروى بالحاء المهملة. أي: نقلتهم من حال إلى حال”.
انظر: النهاية (1/ 317).
(4) في المطبوعة لصحيح مسلم “أستخرجوك”، والمثبت من جميع النسخ، ورواية العذري لصحيح مسلم.
(5) في “ج، هـ” “نعينك” وهو خطأ، وفي صحيح مسلم “نغزِك”.

(1/244)


موفق (1) ورجلٌ رحيمٌ رقيقُ القلب لكلِّ ذي قربى ومسلم، وعفيفٌ متعفف ذو عيال. وأهل النَّار خمسة: الضعيف الَّذي لا زَبْر (2) له الَّذين هم فيكم تبعًا، لا يبغون (3) أهلًا ولا مالًا. والخائن الَّذي لا يخفى له طمعٌ وإنْ دقَّ إلَّا خانه. ورجلٌ لا يصبح ولا يمسي إلَّا وهو يخادعك عن أهلك ومالك” وذَكَرَ البخل والكذب (4) ، والشِّنظير الفحَّاشُ “وإنَّ اللَّهَ أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحدٍ، ولا يبغي أحدٌ على أحد”.
وفي “الصحيحين” (5) من حديث حارثة بن وهب رضي اللَّهُ عنه قال: سمعت رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “ألا أخبركم بأهل الجنَّة، كلُّ ضعيف متضعَّفٍ لو أقسم على اللَّهِ لأبرَّهُ، ألا أخبركم بأهل النَّار؟ كلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُتكبر (6) “.
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق قال: أنبأنا عبد اللَّه أنبأنا موسى بن عُلَي بن رباح قال: سمعت أبي يحدث عن عبد اللَّه بن عمرو
__________
(1) في “ب” “منفق”.
(2) جاء في حاشية “أ” من النهاية: “لا زبر له، أي: لا عقل له يزبره وينهاه عن الإقدام على ما لا ينبغي”. انظر: النهاية لابن الأثير (2/ 293).
(3) كذا في جميع النسخ، وعند مسلم “لا يَتْبعُون”.
(4) في “ج”: “أو الكذب”.
(5) البخاري رقم (4634)، ومسلم رقم (2853).
(6) في نسخة على حاشية “أ” “مستكبر”، وهي عند البخاري.

(1/245)


ابن العاص رضي اللَّهُ عنهما عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ أهل النَّار كلُّ جَعْظَريٍّ (1) جوَّاظ (2) مُسْتَكبر، جمَّاعٍ منَّاعٍ، وأهل الجنَّة الضعفاء المغلوبون” (3) .
وذكر خلف بن خليفة عن أبي هاشم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللَّهُ عنهما قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “ألا (4) أخبركم برجالكم من أهل الجنَّة: النَّبي في الجنَّة، والصديق في الجنة، والشهيد في الجنة، والرجل يزور أخاه ناحية المِصْر لا يزوره إلَّا للَّه (5) = في الجنة، ونساؤكم من أهل الجنَّة: الودود الولود التي إذا غَضِبَ أو غضِبتْ جاءت حتى تضع يدها في يد زوجها، ثمَّ تقول: لا أذوق
__________
(1) الجعظري: الفظُّ الغليظ المتكبر، وقيل هو: الَّذي ينتفخ بما ليس عنده، وفيه قِصَر. انظر: النهاية (1/ 276).
(2) الجوَّاظ: الجَموع المَنوع، وقيل: الكثير اللحم المختال في مشيته، وقيل: القصيرِ البطين. انظر: النهاية (1/ 316).
(3) أخرجه أحمد في مسنده (2/ 499 و 169) والحارث بن أبي أسامة في مسنده (كما في بغية الباحث رقم 1105)، والحاكم في المستدرك (2/ 541 – 542) رقم (3844).
قال الحاكم: “هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه بهذه السياقه،. . . “.
وقال البوصيري: “ورواته ثقات”. انظر: إتحاف الخيرة المهرة (8/ 214). قلتُ: والحديث صححه الحاكم والمؤلف كما سيأتي.
(4) سقط من “ب”.
(5) وقع في “ج” “لا يزوره إلَّا يزوره إلَّا اللَّه”.

(1/246)


غُمْضًا (1) حتى ترضى” (2) .
__________
(1) غُمْضًا: أي نومًا. انظر: اللسان (7/ 199).
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في الإخوان رقم (103) والنسائي في الكبرى (5/ 361) رقم (9139)، والطبراني في الكبير (12/ 59) رقم (12468)، وتمام في فوائده “الروض البسام، رقم 747″، وأبو نعيم في الحلية (4/ 303)، والشجري في أماليه (2/ 151) وابن عساكر في تاريخه (5/ 361).
من طريق الفضل بن زياد الدقاق والعلاء وأحمد بن إبراهيم الموصلي ويحيى بن أيوب المقابري وشريح بن النعمان وابن يونس كلهم عن خلف بن خليفة به فذكره.
– ورواه إسماعيل بن أبي مسعود ومحمد بن صالح وعيسى بن سلمان كلهم عن خلف بن خليفة سمع أبان بن بشير المكتب عن أبي هاشم عن سعيد بن عباس فذكره، اختصره بعضهم.
أخرجه البخاري في تاريخه الكبير (1/ 453)، والبيهقي في شعب الإيمان رقم (8612 و 8358).
قلت: وهذا الاضطراب في ذكر الواسطة “أبان المكتب” من خلف بن خليفة؛ لأنَّه تغير جدًّا بعدما كبر، وأبان هذا مجهول.
وأيضًا قال البخاري: “لا أدري سمع منه أم لا” قال المعلمي: “يريد فيما يظهر “أسمع أبان من أبي هاشم أم لا”.
وقال الحافظ أبو علي النيسابوري: “رواه غيره عن خلف بن خليفة ولم يذكر أبان المكتب، فإنْ كان حفظه فهو غريب جدًّا”.
وقال أبو نعيم: “غريب من حديث سعيد، تفرَّد به عنه أبو هاشم وهو يحيى بن دينار الواسطي. . . “.
وعليه فالحديث ضعيفٌ جدًّا، وقد ورد عن علي وكعب بن عجرة وأنس وكلها واهية.

(1/247)


أخرج النسائي من هذا الحديث فضل النساء خاصة، وباقي الحديث على شرطه.
وروى الإمام أحمد في “مسنده” بإسنادٍ صحيح عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّهُ عنهما عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ أهل النَّار كلُّ جعْظَرِيٍّ جَوَّاظٍ مستكبر جمَّاعٍ منَّاعٍ، وأهل الجنَّة الضعفاء المغلوبون” (1) .
وقال ابن ماجه في “سننه”: حدثنا محمد بن يحيى وزيد بن أخزم قالا: حدثنا مسلم (2) بن إبراهيم حدثنا هلال الرَّاسبي، حدثنا عُقْبة بن أبي ثُبَيْت الراسبي عن أبي الجوزاء عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أهل الجنَّة من ملأ أُذنيه من ثناء النَّاس خيرًا وهو يسمع، وأهل النَّار من ملأ أذنيه من ثناء النَّاس شرًّا وهو يسمع” (3) .
__________
(1) هذا مكررٌ، تقدم قبل الحديث السابق، ولهذا كتب ناسخ “أ” بما يلي: “مكرر وقع في أوَّل هذه الصفحة”.
(2) في “أ، ج، هـ”: “سَلْم” وهو خطأ.
(3) أخرجه ابن ماجه برقم (4224) والطبراني في الكبير (12/ 170) وفي شعب الإيمان (12/ رقم 6618)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 80).
قال أبو نعيم: “غريب من حديث أبي الجوزاء لم يرفعه ولم يسنده إلَّا مسلم عن أبي هلال”.
قلت: في سنده أبو هلال الراسبي المكفوف واسمه محمد بن سليم البصري، وهو صدوق في الأصل، ووقعت له مناكير وغرائب بسبب أنَّه لم يكن له كتاب فكان يحدث من حفظه، وقد ذكر أبو نعيم هذا الحديث واستغربه.
انظر: تهذيب الكمال (25/ 293 – 296). =

(1/248)


وفي “الصحيحين” (1) عن أنس بن مالك رضي اللَّهُ عنه قال: “مُرَّ بجنازة فأُثنيَ عليها خيرٌ (2) ، فقال نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وجبتْ وجبتْ وجبتْ، ومُرَّ بجنازةٍ فأُثني عليها شرٌ (3) فقال نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: وجبت وجبتْ وجبتْ، فقال عمر رضي اللَّهُ عنه: فداك أبي وأمي، مُرَّ بجنازةٍ فأثُني عليها خيرٌ فقلتَ: وجبت وجبت وجبت: ومُرَّ بجنازةٍ فأثني عليها شرٌّ، فقلت: وجبت وجبت وجبت؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: من أثنيتم عليه خيرًا وجبتْ له الجنَّة، ومن أثنيتم عليه شرًّا وجبت له النَّارُ، أنتم شهداء اللَّهِ في الأرضِ، أنتم شهداء اللَّهِ في الأرضِ (4) “.
وفي الحديث الآخر: “يوشكُ أنْ تعلموا أهل الجنَّة من أهل النَّارِ، قالوا: كيف يا رسول اللَّهِ؟ قال: بالثناء الحسن والثناء السيء” (5) .
__________
= وقد ورد عن أنس وفي ثبوته نظر.
(1) البخاري رقم (1301)، ومسلم رقم (949).
(2) في نسخة على حاشية “أ” و”هـ” “خيرًا”.
(3) في نسخةٍ على حاشية “أ” و”هـ” “شرًّا”.
(4) قوله “أنتم شهداء اللَّه في الأرض” سقط من “ب”.
(5) أخرجه البزار في مسنده “البحر الزخار” (3/ 337) رقم (1134) من حديث سعد بن أبي وقاص.
قال البزار: “وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن سعد إلَّا من هذا الوجه بهذا الإسناد، ولا نعلم رواه عن سعد إلَّا عامر، ولا عن عامر إلَّا هاشم بن هاشم، ولا عن هاشم بن هاشم إلَّا شجاع، ولم نسمعه إلَّا من الحسن بن عرفة”.
قال الهيثمي: “ورجاله رجال الصحيح غير الحسن بن عرفة وهو ثقة” مجمع الزوائد (10/ 271).
وقد ورد من حديث أبي زهير الثقفي. =

(1/249)


وبالجملة فأهل الجنَّة أربعة أصناف، ذكرهم اللَّه سبحانه وتعالى في قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) } [النساء: 69].
فنسأل اللَّه أنْ يجعلنا معهم بمنِّه وكرمه (1) .
__________
= أخرجه ابن ماجه رقم (4221) وأحمد في المسند (3/ 416) وابن حبان رقم (7384)، والدارقطني في الأفراد كما في أطراف الغرائب (4/ 60 – 61) رقم (4674) وغيرهم من طريق نافع بن عمر عن أمية بن صفوان عن أبي بكير بن أبي زهير عن أبيه فذكر نحوه وزاد “أنتم شهدا اللَّه بعضكم على بعض”. قال الدارقطني: “غريب من حديث أبي بكر بن أبي زهير عن أبيه، تفرَّد به أمية بن صفوان عنه، وتفرَّد به نافع بن عمر عن أمية”.
وفي سنده أمية بن صفوان المكي الأصغر وأبو بكر بن أبي زهير لم يوثقهما معتبر.
انظر: تهذيب الكمال (3/ 333).
والحديث صححه ابن حبان والحاكم.
وقال الحافظ ابن حجر: “بسند حسن غريب” الإصابة (7/ 75).
(1) قوله “بمنه وكرمه” ليس في “د”.

(1/250)


الباب الثلاثون في أنَّ أكثر أهل الجنَّة هم أُمَّة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-
في “الصحيحين” من حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّهُ عنه قال: قال لنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أما ترضون أنْ تكونوا رُبُعَ أهلِ الجنَّة؟ فكبرنا (1)، ثمَّ قال: أما ترضون أنْ تكونوا ثلثَ أهل الجنَّة؟ فكبرنا، ثمَّ قال: إنِّي لأرجو أنْ تكونوا شطرَ أهلِ الجنَّة، وسأخبركم عن ذلك، ما المسلمون في الكفار إلَّا كشعرةِ بيضاءِ في ثورٍ أسودَ، أو كشعرةٍ سوداء في ثورٍ أبيض” هذا لفظ مسلم (2).
وعند البخاري (3): “وكشعرةٍ سوداء” (4) بغير ألف.
وعن بُرَيدة بن الحصيب قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أهل الجنَّة عشرون ومئة صفٍ، هذه الأمة منها ثمانون صفًّا” (5).
__________
(1) في “ب، د”: “فكبر”، وكذا مثله ما بعده، والمثبت من بقية النسخ.
(2) في صحيحه رقم (221).
(3) رقم (6163) وفيه “. . . وما أنتم في أهل الشرك إلَّا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر”.
(4) في “ج، د”: “كشعرة بيضاء في ثور أسود”.
(5) أخرجه الترمذي برقم (2546)، وأحمد (5/ 347)، وابن أبي شيبة في المصنف (6/ رقم 31704)، وابن أبي الدنيا في حسن الظن باللَّه برقم (74)، وابن حبان في صحيحه برقم (7459)، والحاكم في المستدرك (1/ 155) رقم (273) وغيرهم.
من طريق ضرار بن مرة عن محارب بن دثار عن ابن بريدة عن أبيه فذكره.
ورواهُ الثوري عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بنحوه =

(1/251)


رواه الإمام أحمد والترمذي، وإسناده على شرط الصحيح.
ورواه الطبراني في “معجمه” (1) من حديث عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّهُ عنهما، وفي إسناده خالد بن يزيد البجلي، وقد تُكُلِّمَ فيه.
ورواهُ أيضًا من حديث القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد اللَّه ابن مسعود رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “كيف أنتم وربُعُ الجنَّة لكم، ولسائر النَّاسِ ثلاثةُ أرباعها؟ قالوا: اللَّه ورسوله أعلم. قال: كيف أنتم وثلثها؟ قالوا: ذاك أكثر، قال: كيف أنتم والشطر لكم؟ قالوا: ذاك أكثر، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أهل الجنَّة عشرون ومئة صف، لكم منها ثمانون صفًّا” (2) ، قال الطبراني: “لم يرو هذا
__________
= مرسلًا، هكذا رواه عنه: يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي ومؤمل.
وخالفهم معاوية بن هشام -صدوقٌ يخطئ- والحسين الأصبهاني وعمرو ابن محمد العنقزي وغيرهم عن الثوري فوصلوه، والمرسل أصح.
والحديث حسنه الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم والمؤلف.
تنبيه: قال بعضهم: ضرار بن عمرو -وهو متروك- بدلًا من “ضرار بن مُرَّة “ثقة”، وابن مُرَّة أكثر وأصح. انظر: الكامل لابن عدي (4/ 100) ومسند البزار (10/ رقم 4362) ولسان الميزان (3/ 239).
(1) الكبير (10/ رقم 10682)، وابن عدي في الكامل (3/ 13).
قال ابن عدي -بعد أنْ ذكر هذا الحديث وغيره-: “وخالد بن يزيد هذا له أحاديث غير ما ذكرت، وأحاديثه كلها لا يتابع عليها، لا إسنادًا ولا متنًا … وهو عندي ضعيف، إلَّا أنَّ أحاديثه إفرادات، ومع ضعفه كان يُكْتَبُ حديثه”.
وانظر: لسان الميزان (2/ 450 – 451).
(2) أخرجه أحمد في المسند (1/ 453)، وابن أبي شيبة في مصنفه (6/ رقم 31706)، وأبو يعلي في مسنده (9/ رقم 5358)، والطبراني في الأوسط =

(1/252)


الحديث (1) عن القاسم بن عبد الرحمن إلَّا الحارث بن حُصيرة، تفرد به عبد الواحد بن زياد”.
وقال عبد اللَّه بن أحمد: حدثنا موسى بن غيلان ثنا هاشم بن مخلد حدثنا عبد اللَّه بن المبارك عن سفيان عن أبي عمرو عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: “لمَّا نزلت {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 39 – 40]، قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أنتم رُبُعُ أهل الجنَّة، أنتم ثلث أهل الجنَّة، أنتم نصفُ أهل الجنَّة. أنتم ثلثا أهل الجنَّة” (2) .
__________
= (539)، وفي الصغير رقم (76)، والبزار في مسنده البحر الزخار رقم (1999) وغيرهم.
من طريق عفان بن مسلم الصَّفَّار وعبد الواحد بن زياد عن الحارث بن حصيرة عن القاسم به.
وخالفه يعقوب الحضرمي فأدخل زيد بن وهب مكان القاسم عن أبيه.
فرواه يعقوب عن عبد الواحد عن الحارث عن زيد بن وهب عن ابن مسعود فذكره.
أخرجه الطبراني في الكبير (10/ 227) رقم (10398).
قلتُ: هذا خطأ؛ إمَّا من يعقوب الحضرمي أو الراوي عنه أحمد بن محمد بن نَيْزَك وهو صدوقٌ يخطئ.
فالطريق الأوَّل هو المحفوظ، وهو ضعيف للانقطاع: عبد الرحمن لم يسمع من أبيه هذا الحديث، وأيضًا فيه الحارث بن حصيرة فيه ضعف، وقد تفرَّد بهذا الحديث عن القاسم. انظر: تهذيب الكمال (5/ 224 – 226).
(1) قوله “هذا الحديث” ليس في “أ”.
(2) أخرجه أبو نعيم في الحلية (7/ 101).
ورواهُ شريك القاضي عن محمد بن عبد الرحمن بن خالد عن أبيه عبد الرحمن بن خالد بن ميسرة عن أبي هريرة فذكره، وفيه “أنتم ثلث أهل =

(1/253)


قال الطبراني: “تفرَّد برفعه ابن المبارك عن الثوري”.
وقال خيثمة بن سليمان القرشي: حدثنا أبو قلابة هو عبد الملك بن محمد حدثنا محمد (1) بن بكار الصيرفي حدثنا حمَّاد بن عيسى حدثنا سفيان الثوري عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “أهل الجنَّة عشرون ومئة صف، أنتم منها ثمانون صفًّا” (2) .
وهذه الأحاديث قد تعددت طرقها، واختلفت مخارجها وصح سند بعضها، ولا تنافي بينها وبين حديث الشطر؛ لأنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رجا أوَّلًا أنْ يكونوا شطر أهل الجنَّة، فأعطاهُ اللَّهُ (3) سبحانه رجاءه، وزاده عليه شيئًا آخر.
__________
= الجنَّة، بل أنتم نصف أهل الجنَّة، وتقاسمونهم النصف الباقي”.
أخرجه أحمد (2/ 391)، والبخاري في تاريخه الكبير (1/ 154).
والحديث ضعيف الإسناد، مضطرب المتن، فيه عبد الرحمن بن خالد بن ميسرة مجهول، وكذا ابنه محمد لم يوثقه إلَّا ابن حبان، وقد روى عنه جماعة.
انظر: تهذيب الكمال (25/ 608 – 609)، (17/ 77 – 78).
(1) قوله: “حدثنا محمد” سقط من “ب، ج”.
(2) أخرجه خيثمة بن سليمان الأطرابلسي كما في المنتخب من الجزء الأوَّل من فوائده ص (78 – 79)، والطبراني في معجمه الكبير (19/ 419) رقم (1012)، وابن عدي في الكامل (6/ 286).
وهذا الحديث منكر؛ تفرَّد به حماد بن عيسى الجهني عن الثوري، وحماد ضعيف الحديث عنده مناكير.
انظر: تهذيب الكمال (7/ 281 – 283).
(3) ليس في “ج”.

(1/254)


وقد روى أحمد في “مسنده” من حديث أبي الزبير أنَّه سمع جابرًا يقول: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “أرجو أنْ يكون من يتبعني من أُمَّتي يوم القيامة رُبُعَ أهلِ الجنَّة، قال: فكبرنا، قال: فأرجو أنْ تكونوا الشَّطرَ” (1) .
وإسناده على شرط مسلم.
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند (3/ 346)، والبزار في مسنده كما في كشف الأستار برقم (3533). والحديث كما قال المؤلف.

(1/255)


الباب الحادي والثلاثون في أنَّ النساء في الجنَّة أكثر من الرجال وكذلك هم في النَّار
ثبت في “الصحيحين” (1) من حديث أيوب عن محمد بن سيرين قال: إمَّا تفاخروا، وإمَّا تذاكروا: الرجال أكثر في الجنَّة أم النساء؟ فقال أبو هريرة رضي اللَّهُ عنه: ألم يقل أبو القاسم -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ أوَّل زُمرةٍ تدخل الجنَّة على صورة القمر ليلة البدرِ، والتي تليها على أضوإِ (2) كوكبٍ دريٍّ في السماء، لكلِّ امرئٍ منهم زوجتان اثنتان، يُرى مُخُّ سُوقِهِما من وراء اللحم، وما في الجنَّة عَزَبٌ”.
فإنْ كن من نساء الدنيا فالنساء في الدنيا أكثر من الرجال، وإنْ كُنَّ من الحور العين لم يلزم أنْ يكُنَّ في الدنيا أكثر، والظاهر أنَّهنَّ من الحور العين؛ لما رواه الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا يونس عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “للرَّجل من أهل الجنَّة زوجتان من الحور العين، على كلِّ واحدةٍ سبعون حُلَّة يرى مخ ساقها من وراء الثياب” (3).
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (3073 و 3074 و 3081 و 3149) من طريق همام بن منبه والأعرج وعبد الرحمن بن أبي عمرة وأبي زرعة كلهم عن أبي هريرة.
ومسلم رقم (2834)، واللفظ لمسلم.
(2) من “هـ” و”صحيح مسلم”، وفي باقي النسخ “أضواء”.
(3) أخرجه أحمد في مسنده (2/ 345 و 420 و 422).
هكذا رواه حماد بن سلمة. ويظهر أنَّه مختصر، ولفظه بتمامه ما تقدم آنفًا.
وجملة “على كل واحدةٍ سبعون حُلَّة” غريبة. =

(1/256)


فإنْ قيل: فكيف تجمعون بين هذا الحديث وبين حديث جابر رضي اللَّهُ عنه المتفق عليه: شهدتُ مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- العيد، فصلى قبل أنْ يخطب بغير أذان ولا إقامة، ثمَّ خطب بعدما صلَّى، فوعظ النَّاس وذكرهم، ثمَّ أتى النساء فوعظهنَّ ومعه بلال، فذكرهنَّ وأمرهنَّ بالصدقة، قال: فجعلت المرأة تلقي خاتمها وخُرْصها والشيء كذلك،
__________
= حيث لم يروها أيوب السختياني ولا عوف ولا معمر عن محمد بن سيرين.
لكن جاءت عن محمد بن المنهال عن يزيد بن زريع عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عند الدَّارمي برقم (2874) وفيه “. . إنَّه ليرى مخ ساقها من وراء سبعين حلَّة. . “.
لكنَّها رواية مختصرة ومروية بالمعنى، فقد خالف محمد بن المنهال الإمام أحمد.
فرواه الإمام أحمد في مسنده (2/ 507) عن يزيد بن زريع عن هشام به بمثل لفظ أيوب المتقدم آنفًا، وفيه “من وراء الحلل” بدلًا من “اللحم”.
وأيضًا فقد رواه عن أبي هريرة جماعة: همام بن منبه وأبو زرعة والأعرج وعبد الرحمن بن أبي عمرة وأبو صالح وأبو رافع وزياد المخزومي فلم يذكروا ما ذكره حماد بن سلمة “على كلِّ واحدةٍ سبعون حلَّة”.
انظر: المسند الجامع (8/ 484 – 489)، وصفة الجنَّة لأبي نعيم من الرقم (240 – 244).
وقد ورد هذا عن ابن مسعود موقوفًا قال: “إنَّ المرأة من الحور العين ليُرى مخ ساقها من وراء اللحم والعظم من تحت سبعين حلة كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء”.
أخرجه عبد الرزاق في المصنف رقم (20867) وغيره.
وقد جاء هذا مقطوعًا وهو أصح، وقد روي مرفوعًا ولا يصح.
انظر: علل الدَّارقطني (5/ 227 – 228) رقم (837).

(1/257)


فأمر النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بلالًا فجمع ما هناكَ، ثمَّ قال: “إنَّ منكنَّ في الجنَّة ليسير”. فقالت امرأةٌ: يا رسول اللَّه لِمَ؟ قال: “إنَّكنَّ تُكثرن الَّلعن، وتكفرن العشير” (1) .
وفي الحديث الآخر: “إنَّ أقلَّ ساكني الجنَّة النساء” (2) .
قيل: هذا يدلُّ على أنَّهنَّ إنَّما كُنَّ في الجنَّة أكثر بالحور العين الَّلاتي خلقن في الجنَّة، وأقل ساكنيها نساء الدنيا، فنساء الدنيا أقل أهل الجنَّة، وأكثر أهل النَّار.
وأمَّا كونهنَّ أكثر أهل النَّارِ، فلما روى البخاري في “صحيحه” من حديث عمران بن حصين رضي اللَّهُ عنهما قال: بلغني أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “اطَّلعتُ في النَّارِ فرأيتُ أكثر أهلها النساءَ، واطَّلعتُ في الجنَّة فرأيت أكثر أهلها الفقراء” (3) .
وفي “صحيح مسلم” (4) عن ابن عباس رضي اللَّهُ عنهما قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “اطَّلعتُ في الجنَّة فرأيتُ أكثر أهلها الفقراء، واطَّلعتُ في النَّار فرأيتُ أكثر أهلها النساء”.
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (935)، ومسلم رقم (885) واللفظ لمسلم.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه في (48) الرقاق، برقم (2738) من حديث عمران بن حصين.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه في (63) بدء الخلق، (8) باب ما جاء في صفة الجنَّة وأنَّها مخلوقة (3/ 1184) رقم (3069).
(4) أخرجه مسلم في صحيحه في (48) الرقاق برقم (2737).

(1/258)


وروى الإمام أحمد بإسنادٍ صحيح عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “اطَّلعتُ في النَّار فرأيتُ أكثرَ أهلها النساء، واطَّلعتُ في الجنَّة فرأيتُ أكثر أهلها الفقراء” (1) .
وفي “المسند” أيضًا من حديث عبد اللَّهِ بن عمرو رضي اللَّهُ عنهما قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “اطَّلعتُ في الجنَّة فرأيتُ أكثر أهلها الفقراء، واطَّلعتُ في النَّار فرأيتُ أكثر أهلها الأغنياء والنساء” (2) .
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (2/ 297).
من طريق شهر بن حوشب عن أبي هريرة فذكره.
وسنده منقطع شهر لم يسمع من أبي هريرة، وإنَّما يدخل أحيانًا بينه وبين أبي هريرة واسطة هو عبد الرحمن بن غنم، وقد ورد تصريحه بالسماع من أبي هريرة وفي ثبوته نظر.
والمتن محفوظ كما تقدم.
(2) أخرجه أحمد في مسنده (2/ 173)، وكذا عبد اللَّه في زوائد المسند مختصرًا، وابن حبان في صحيحه (16/ رقم 7489) مطوَّلًا.
من طريق شريك عن أبي إسحاق عن السائب بن مالك عن عبد اللَّه بن عمرو فذكره في قصة كسوف الشمس.
وهذه اللفظة غريبة من حديث أبي إسحاق.
فقد روى الحديث عطاء بن السائب عن أبيه السائب عن عبد اللَّه بن عمرو مطوَّلًا، وليس فيه هذه اللفظة إنَّما فيه بدلًا عنها “. . . عرضت عليَّ الجنَّة حتى لو مددت يدي تناولت من قطوفها، وعرضت عليَّ النَّار فجعلت أنفخ خشية أنْ يغشاكم حرَّها. . ” هذا لفظ شعبة عن عطاء.
أخرجه أحمد (2/ 188) والنسائي (3/ 149). =

(1/259)


وفي الصحيح من حديث ابن عمر رضي اللَّهُ عنهما عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “يا معشر النساء تصدقن، وأكثرن الاستغفار (1) ، فإنِّي رأيتُكنَّ أكثر أهل النَّار، فقالت امرأةٌ منهنَّ جَزْلَة: وما لنا يا رسول اللَّه أكثر أهل النَّار؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير، ما رأيتُ من (2) ناقصات عقلٍ ودينٍ أغلبَ لذي لبٍّ منكنَّ، قالت: يا رسول اللَّهِ وما نقصان العقل والدِّين؟ قال: أمَّا نقصان العقل فشهادة امرأتين بشهادة رجلٍ، فهذا نقصان العقل، وتمكث الأيام لا تصلي وتفطر (3) فهذا نقصان الدِّين” (4) .
وأمَّا كونهنَّ أقل أهل الجنَّة ففي “أفراد مسلم” عن مطرف بن عبد اللَّه: أنَّه كانت له امرأتان، فجاء من عند إحداهما، فقالتِ الأخرى: جئتَ من عند فلانةٍ، فقال: جئتُ من عند عمران بن حصين، فحدثنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ أقلَّ ساكني الجنَّة النساء” (5) .
فإنْ قيل: فما تصنعون بالحديث الَّذي رواه أبو يعلى الموصلي: حدثنا عمرو بن الضحاك بن مخلد حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد
__________
= ورواه أيضًا أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن عبد اللَّه بن عمرو فذكره مختصرًا.
أخرجاه في الصحيحين وأحمد (2/ 175) وغيرهم.
وفي الحديث اختلافٌ في صفة صلاة الكسوف ليس هذا موضعه.
(1) في نسخةٍ على حاشية “أ” “من الاستغفار”.
(2) ليس في “ب”.
(3) في صحيح مسلم “وتفطر في رمضان”.
(4) أخرجه مسلم في صحيحه برقم (79).
(5) أخرجه مسلم برقم (2738).

(1/260)


حدثنا أبو رافع إسماعيل بن رافع عن محمد بن زياد (1) عن محمد بن كعب القرظي عن رجلٍ من الأنصار عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو في طائفةٍ من أصحابه فذكر حديثًا طويلًا وفيه: “فيدخلُ الرجُل منهم على ثنتين وسبعين زوجة ممَّا ينشئ اللَّهُ تعالى وثنتين من ولد آدم، لهما فضلٌ على من أنشأ اللَّهُ، بعبادتهما اللَّه في الدنيا” (2) وذكر الحديث.
قيل: هذا قطعة من حديث الصور الطويل، ولا يعرف إلَّا من حديث إسماعيل بن رافع، وقد ضعفه أحمد، ويحيى وجماعة وقال الدَّارقطني وغيره: “متروك الحديث”، وقال ابن عدي: “أحاديثه كلها ممَّا فيه نظر”.
وأمَّا البخاري، فقال فيه: ما حكاه الترمذي عنه قال: “سمعت محمدًا يقول: هو ثقة، مقارب الحديث” (3) .
__________
(1) وفي بعض مصادر التخريج “يزيد بن أبي زياد” وفي بعضها “محمد بن يزيد بن أبي زياد” وكلها ترجع إلى اضطراب إسماعيل بن رافع في هذا الحديث، وإسماعيل شبه المتروك.
(2) أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده كما في المطالب رقم (3013)، والطبري في تفسيره (10/ 110)، والطبراني في الأحاديث الطِّوال رقم (36)، وأبو الشيخ في العظمة رقم (386)، والبيهقي في البعث والنشور رقم (668 و 669)، وابن عدي في الكامل (6/ 267).
والحديث ضعيف جدًّا، تكلم فيه البخاري والبيهقي وعبد الحق والمؤلف وابن كثير والبوصيري وابن حجر وغيرهم.
انظر: فتح الباري (11/ 368 – 369) وغيره.
(3) انظر أقوال العلماء فيه في تهذيب الكمال (3/ 85 – 90).

(1/261)


قلتُ: ولكن إذا روى مثل هذا ما يخالف الأحاديث الصحيحة لم يلتفت إلى روايته، وأيضًا فالرجل الَّذي رواه عنه القُرَظي لا يُدْرَى منْ هو؟
وقد روى أحمد في “مسنده” من حديث عُمَارة بن خزيمة بن ثابت قال: كُنَّا مع عمرو بن العاص رضي اللَّهُ عنهما في حج أو عمرة، حتَّى إذا كنَّا بمرِّ الظَّهران، فإذا امرأة في هودجها، قال: فمال فدخل الشِّعْبَ فدخلنا معه فقال: كنا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذ المكان، فإذا نحن بغربان كثيرةٍ فيها غُرَابٌ أعصم أحمر المنقار والرجلين، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لا يدخل الجنَّة من النساء إلَّا مثل هذا الغراب في هذه الغربان” (1) .
والأعصم من الغِربان: الَّذي في جناحه ريشة بيضاء.
قال الجوهري: “ويقال هذا كقوهم: الأبلق العَقُوق، وبَيْض الأنُوق، لكلِّ شيء يعزُّ وجوده” (2) .
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (4/ 197 و 205) وعبد بن حميد في مسنده “المنتخب رقم (294)، والنسائي في الكبرى (5/ 400) رقم (9268)، وأبو يعلى في مسنده (13/ رقم 7343)، والحاكم في المستدرك (4/ 645) رقم (8781 و 8782)، والبيهقي في شعب الإيمان (13/ 7433) وغيرهم.
والحديث قال فيه الحاكم: “صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه”.
وقال الهيثمي: “ورجاله ثقات” مجمع الزوائد (10/ 400).
(2) الصحاح (2/ 1465 – 1466).

(1/262)


وفي “النهاية” (1) : “الغراب الأعصم”: هو الأبيض الجناحين، وقيل الأبيض الرجلين، أراد: قلَّة من يدخل الجنَّة من النساء؛ لأنَّ هذا الوصف في الغربان قليل عزيز.
وفي حديث آخر: “المرأة الصالحةُ مثل الغراب الأعصم، قيل: يا رسول اللَّه وما الغراب الأعصم؟ قال: “الَّذي إحدى رجليه بيضاء” (2) .
__________
(1) لابن الأثير (3/ 249).
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في “مسنده” كما في المطالب العالية (8/ 389) رقم (1686) معلقًا.
من طريق مطرِّح بن يزيد عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أُمامة.
وهذا حديثٌ ضعيفٌ جدًّا، وقد ضعف يحيى بن معين وأبو حاتم الرَّازي جميع أحاديث هذه السلسلة.
وعلي بن يزيد هو الألهاني: متروك عند عامة أهل الجرح والتعديل، انظر: تهذيب الكمال (21/ 178 – 182).
وفيه أيضًا مطرَّح بن يزيد وهو متفق على ضعفه. انظر: تهذيب الكمال (28/ 60 – 62).
والحديث ضعفه الهيثمي والبوصيري. انظر: مجمع الزوائد (4/ 273).
* وورد من حديث عائشة وفيه قصة وفيه “. . . إنَّ مثل المرأة المؤمنة في النساء كمثل الغراب الأعصم في الغربان. . “.
أخرجه عبد بن حميد في مسنده رقم (1526 – المنتخب)، وأبو الشيخ في الأمثال رقم (137)، والطبراني في مسند الشاميين رقم (1171).
من طريق: كثير بن عبيد ومحمد بن عمرو بن حنان ومحمد بن الفضل عن بقية بن الوليد حدثني بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة عن عائشة.
ولكنَّه حديث معلول بالإرسال كما أخرجه ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق (65/ 221).

(1/263)


وفي حديثٍ آخر: “عائشة في النساء، كالغراب الأعصم في الغربان” (1) .
__________
(1) انظر الفائق للزمخشري (2/ 369) والحديث لم أقف عليه.

(1/264)


الباب الثاني والثلاثون فيمن يدخل الجنَّة من هذه الأمة بغير حساب وذكر أوصافهم
ثبت في “الصحيحين” (1) من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “يدخل الجنَّة من أمتي زمرةٌ: هم سبعون ألفًا، تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر”، فقام عُكَّاشة بن مِحْصَنٍ الأسدي فرفع نمرة عليه، فقال: يا رسول اللَّه، ادع اللَّه أنْ يجعلني منهم، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “اللهم اجعله منهم”، ثمَّ قام رجلٌ من الأنصار فقال: يا رسول اللَّه، ادعُ اللَّهُ أنْ يجعلني منهم، فقال: “سبقك بها عُكَّاشة”.
وفي “الصحيحين” (2) من حديث سهل بن سعد أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “ليدخلنَّ الجنَّة من أمتي سبعون ألفًا أو سبع مئة ألف (3) آخذٌ بعضهم ببعض حتى يدخل أوَّلُهم وآخرهم الجنَّة، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر”.
فهذه هي الزُمرة الأولى، وهم يدخلونها بغير حساب، والدَّليل عليه ما ثبت في “الصحيحين” (4) والسِّياق لمسلم، حدثنا سعيد بن منصور حدثنا هشيم أخبرنا حُصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند
__________
(1) البخاري رقم (6176)، ومسلم رقم (216).
(2) أخرجه البخاري رقم (6177)، ومسلم رقم (219).
(3) في الصحيحين زيادة “متماسكين”.
(4) البخاري رقم (6175)، ومسلم رقم (220).

(1/265)


سعيد بن جبير، فقال: أيكم رأى الكوكب الَّذي انقض البارحة، قلت: أنا، ثمَّ قلتُ: أما إنِّي لم أكن في صلاة، ولكنِّي لُدغت قال: فما صنعت؟ قلتُ: استرقيت قال: فما حملك على ذلك؟ قلتُ: حديث حدثناه الشعبي، قال: وما حدثكم الشعبي؟ قلتُ: حدثنا عن بُرَيدة بن حصيب الأسلمي أنَّه قال: لا رُقية إلَّا من عينٍ أو حُمَة، فقال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “عرضت عليَّ الأمم فرأيت النَّبي ومعه الرهط، والنَّبي ومعه الرجل والرجلان، والنَّبي وليس معه أحد، إذ رُفِعَ لي سوادٌ عظيم، فظننتُ أنَّهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه؛ ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر فإذا سوادٌ عظيم فقيل لي (1) : هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنَّة بغير حسابٍ ولا عذاب”، ثمَّ نهض فدخل منزله، فخاض النَّاس في أولئك الَّذين يدخلون الجَنَّة بغير حسابٍ ولا عذاب، فقال بعضهم: فلعلهم الَّذين صحبوا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقال بعضهم: فلعلهم الَّذين وُلِدُوا في الإسلام ولم يشركوا باللَّه، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول اللَّه فقال: “ما الَّذي تخوضون فيه”؟ فأخبروه، فقال: هم الَّذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، فقام عُكاشة بن محصن فقال: ادعُ (2) اللَّه أنْ يجعلني
__________
(1) من قوله “انظر إلى الأفق” إلى “لي” من صحيح مسلم، وليس في جميع النسخ.
(2) في نسخةٍ على حاشية “أ” “يا رسول اللَّه ادع” وليست في مسلم ولا في جميع النسخ.

(1/266)


منهم، فقال: “أنت منهم”، ثمَّ قام رجلٌ آخر فقال: ادعُ اللَّهَ أنْ يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة”.
وليس عند البخاري “ولا يَرْقُون”.
قال شيخنا (1) : وهو الصواب، وهذه اللفظة وقعت مقحمة في الحديث، وهو غلطٌ من بعض الرواة (2) ، فإنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جعل الوصف
__________
(1) هو ابن تيمية، انظر: مجموع الفتاوى (1/ 182، 328)، وراجع: مفتاح دار السعادة (2/ 234)، وزاد المعاد (1/ 495 – 496).
فائدة: تعقَّب الحافظ ابنُ حجر ابنَ تيمية في هذه الزيادة “ولا يرقون” في الفتح (11/ 408 – 409)، وأجاب عن هذه التعقبات الشيخ سليمان بن عبد اللَّه آل الشيخ في تيسير العزيز الحميد ص (84 – 85).
(2) لعله من سعيد بن منصور، فقد خالفه جماعة فلم يذكروا هذه اللفظة عن هشيم، منهم:
– سريج بن النعمان عند أحمد (1/ 271).
– وشجاع بن مخلد الفلاس عند عبد اللَّه في زوائده على المسند (1/ 271).
– ومحمد بن الصباح عند أبي نعيم في مستخرجه برقم (526).
– وأُسيد بن زيد عند البخاري برقم (6175).
– وزكريا بن يحيى زحمويه عند البيهقي في شعب الإيمان رقم (1122).
– ومحمد بن عبيد القرشي عند ابن أبي الدنيا في التوكل رقم (39).
ورواه شعبة وحصين بن نمير ومحمد بن فضيل وعبثر بن القاسم كلهم عن حصين بن عبد الرحمن به ولم يذكروا هذه اللفظة.
وجاء الحديث بدون هذه الزيادة “ولا يرقون” عن غير واحدٍ منهم:
عمران بن حصين عند مسلم رقم (371 و 372) وغيره.
وابن مسعود وسيأتي قريبًا.
وهذا يؤيد كلام شيخ الإسلام ابن تيمية بأنَّها غلط.

(1/267)


الَّذي استحق به هؤلاء دخول الجنَّة بغير حساب، هو تحقيق التوحيد وتجريده، فلا يسألون غيرهم أنْ يرقيهم، ولا يتطيرون -والطيرة: نوعٌ من الشرك- ويتوكلون على اللَّهِ وحده لا على غيره، وتركهم الاسترقاء والتطير هو من تمام التوكل على اللَّهِ كما في الحديث: “الطيرة شرك”، قال ابن مسعود: “وما منَّا إلَّا، ولكن اللَّه يذهبه بالتوكل” (1) .
فالتوكل ينافي التطير، وأمَّا رقية الغير فهي إحسان من الرَّاقي، وقد رقى رسولَ اللَّهِ جبريلُ، وأذن (2) في الرُّقا (3) ، وقال: “لا بأس بها ما لم يكن فيها شرك” (4) ، واستأذنوه فيها فقال: “من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه” (5) ، وهذا يدلُّ على أنَّها نفع وإحسان، وذلك مستحب
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم (1614)، وأبو داود برقم (3910)، وابن ماجه برقم (3538)، وأحمد (1/ 389)، وابن حبان (6122)، والحاكم (1/ 64 – 65) رقم (43 و 44).
قال الترمذي: “هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلَّا من حديث سلمة ابن كهيل. . . “.
والحديث صححه الترمذي وابن حبان والحاكم والذهبي والعراقي وغيرهم.
وقوله “وما منَّا إلَّا. . . ” مدرجٌ من قول عبد اللَّه بن مسعود قاله سليمان بن حرب.
(2) في “ب، د” “بل وأذن”.
(3) يشير إلى حديث عائشة وأبي سعيد الخدري عند مسلم رقم (2185 و 2186).
(4) أخرجه مسلم برقم (2200) من حديث عوف بن مالك الأشجعي.
(5) أخرجه مسلم برقم (2199) من حديث جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّهُ عنهما.

(1/268)


مطلوب للَّه ورسوله، فالرَّاقي محسنٌ، والمسترقي سائلٌ راجٍ نفع الغير، وتحقيق التوكل ينافي ذلك.
فإنْ قيل: فعائشة قد رقت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وجبريل قد (1) رقاهُ.
قيل: أجل، ولكن هو لم يسترقِ، وهو -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يقل: لا يرقيهم راقٍ، وإنَّما قال: لا يطلبون من أحدٍ أنْ يرقيهم، وفي امتناعه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنْ يدعو للرجل الثاني سدٌّ لباب الطلب؛ فإنَّه لو دعا لكلِّ من سأله ذلك، فربما طلبه من ليس من أهله، واللَّهُ أعلم.
وفي “صحيح مسلم” (2) من حديث محمد بن سيرين، عن عمران ابن حصين رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “يدخل الجنَّة من أُمَّتي سبعون ألفًا بغير حسابٍ ولا عذاب” قيل: من هم؟ قال: “هم الَّذين لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون”.
وفي “صحيحه” (3) أيضًا من حديث أبي الزبير أنَّه سمع جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّهُ عنهما قال: سمعتُ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يذكر حديثًا وفيه “فتنجوا أوَّل زمرةٍ وجوههم كالقمر ليلة البدرِ، سبعون ألفًا لا يحاسبون، ثمَّ الَّذين يلونهم كأضوإِ نجمٍ في السماء ثمَّ كذلك” وذكر تمام الحديث.
وقال أحمد بن منيع في “مسنده”: حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز حدثنا حمَّاد عن عاصم عن زِرًّ عن ابن مسعود رضي اللَّهُ عنه قال: قال
__________
(1) ليس في “ب”.
(2) رقم (218).
(3) رقم (191).

(1/269)


رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “عُرِضَتْ عليَّ الأُمم بالموسم فراثتْ (1) عليَّ أمتي ثمَّ رأيتهم فأعجبتني كثرتهم وهيئتهم، قد ملؤوا السهل والجبل، فقال: أرضيتَ يا محمد؟ فقلتُ: نعم، فقال: فإنَّ مع هؤلاء سبعين ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب، وهم الَّذين لا يسترقون، ولا يكتوون وعلى ربِّهم يتوكلون، فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول اللَّه، ادعُ اللَّهَ أن يجعلني منهم، فقال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنت منهم، فقال رجلٌ آخر، فقال: “سبقك بها عُكاشة” (2) .
وإسناده على شرط مسلم.
__________
(1) جاء في حاشية “أ”: “راث عليَّ الخَبَر يريثُ، أي: أبطأ. النهاية.
(2) أخرجه أحمد في مسنده (1/ 403)، والطيالسي في مسنده برقم (350)، وابن أبي شيبة في مسنده رقم (352)، وأبو يعلي في مسنده (9/ رقم 5340)، والبخاري في الأدب المفرد رقم (911).
من طرق عن حماد بن سلمة به مثله.
وزادوا “ولا يتطيرون” سوى أبي يعلى وابن أبي شيبة.
وله طريقٌ آخر عن ابن مسعود: رواهُ العلاءُ بن زياد والحسن البصري عن عمران عن ابن مسعود مطوَّلًا وفيه “ولا يتطيرون”.
أخرجه أحمد في المسند (1/ 401)، والطيالسي في مسنده رقم (404)، وأبو يعلي في مسنده (9/ رقم 5339)، وابن حبان (14/ رقم 6431) والحاكم (4/ 621) رقم (8721) وغيرهم.
والحديث صححه ابن حبان والحاكم والبوصيري والضياء المقدسي والمؤلف وغيرهم.
انظر: إتحاف الخيرة المهرة (8/ 250)، وصفة الجنَّة للمقدسي (176).

(1/270)


الباب الثالث والثلاثون في ذِكْر حَثيَات الرَّب تبارك وتعالى الَّذين يدخلهم الجنَّة
قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا إسماعيل بن عياش عن محمد بن زياد قال: سمعتُ أبا أُمامة الباهلي يقول: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “وعدني ربي أنْ يدخل الجنَّة (1) من أمتي سبعين ألفًا، مع كلِّ ألفٍ سبعون ألفًا لا حسابَ عليهم ولا عذاب، وثلاث حثيات من حثيات ربي” (2).
قلتُ: وإسماعيل بن عياش (3) إنَّما يخاف من تدليسه وضعفه.
فأمَّا تدليسه: فقد قال الطبراني: حدثنا أحمدُ بن المعلى الدمشقي، والحسين بن إسحاق التستري قالا: حدثنا هشام بن عمَّار
__________
(1) ليس في “ب”.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 319) رقم (31705)، والترمذي برقم (2437)، وابن ماجه (4286)، وأحمد في المسند (5/ 268)، والطبراني في الكبير (8/ 129 – 130) رقم (7520) وفي مسند الشاميين (2/ 7 – 8) رقم (820) وغيرهم.
قال الترمذي: “حسنٌ غريب”.
وقال ابن كثير: “هذا إسنادٌ جيِّدٌ”.
ورواهُ بقية بن الوليد حدثني محمد بن زياد عن أبي أُمامة أو عن رجلٍ من أصحاب النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-.
أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 130) رقم (7521)، والدارقطني في الصفات رقم (53).
(3) قوله “بن عياش” ليس في “ب”.

(1/271)


قال: حدثنا إسماعيل بن عياش قال: أخبرني محمد بن زياد الألهاني قال: سمعتُ أبا أُمامة يقول: فذكره.
وأمَّا ضعفه: فإنَّما هو فى غير حديث الشاميين (1) وهذا من روايته عن الشاميين.
وأيضًا، فقد جاء من غير طريقه، قال أبو بكر بن أبي عاصم: حدثنا دحيم حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا صفوان بن عمرو عن سليم بن عامر وأبي (2) اليمان الهوزني عن أبي أُمامة رضي اللَّهُ عنه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ اللَّهَ وعدني أنْ يدخل الجنَّة من أُمتي سبعين ألفًا بغير حساب” قال يزيد بن الأخنس: واللَّه ما أولئك يا رسول اللَّه إلَّا مثل الذباب الأصهب (3) في الذِّبانِ (4) ، قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “فإنَّ اللَّهَ وعدني سبعين ألفًا، مع كلِّ ألفٍ سبعين ألفًا، وزادني ثلاثَ حثياتٍ” (5) .
__________
(1) كما نصَّ على ذلك علي ابن المديني ويحيى بن معين والإمام أحمد بن حنبل وأبو حاتم الرَّازي ودحيم وعمرو بن علي الفلَّاس والبخاري ويعقوب بن شيبة وغيرهم.
انظر: تهذيب الكمال (3/ 171 – 181).
(2) في جميع النسخ “عن أبي اليمان” والمثبت عند ابن أبي عاصم وغيره.
(3) الأصهب: هو الَّذي يعلو لونه صُهْبة، كالشُّقْرة، وهو أنْ يخالط لونه لونًا آخر. انظر: الصحاح (1/ 180)، والنهاية (3/ 62).
وقد جاء عند الطبراني وغيره “الذباب الأزرق” بدلًا من “الأصهب”.
(4) في “أ، ج، هـ” “الذباب”، وفي “د” “الذناب” وهو خطأ.
(5) أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2/ 445 – 446) رقم (1247)، وأحمد في المسند (5/ 250)، والطبراني في الكبير (8/ 187) رقم =

(1/272)


قال أبو عبد اللَّه المقدسي: “أبو اليمان اسمه: عامر بن عبد اللَّه بن لحي، ودحيم لقب، واسمه: عبد الرحمن بن إبراهيم القاضي شيخ البخاري ومن فوقه إلى أبي أمامة من رجال الصحيح إلَّا الهوزني وما علمتُ فيه جرحًا” (1) .
وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن خليدٍ حدثنا أبو توبة حدثنا معاوية ابن سلَّام عن زيد بن سلَّام أنَّه سمع أبا سلَّام يقول: حدثني عامر (2) ابن يزيد بن البكالي أنَّه سمع عتبة بن عبدٍ السلمي قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ ربي عزَّ وجل وعدني أنْ يدخل الجنَّة من أُمتي سبعين ألفًا بغير حسابٍ، ثمَّ يشفع كلُّ ألفٍ لسبعين ألفًا، ثُمَّ يحثي (3) ربي تبارك وتعالى بكفيه ثلاث حثياتٍ”، فكبَّر عمر وقال: إنَّ السبعين الأول يشفعهم اللَّهُ في آبائهم وأمهاتهم وأبنائهم وعشائرهم وأرجو أنْ يجعلني اللَّه في أحد الحثيات الأواخر” (4) .
__________
= (7672)، وابن حبان في صحيحه (16/ 230) رقم (7246).
– ورواه معاوية بن صالح عن سليم بن عامر عن أبي أُمامة فذكره.
أخرجه الطبراني (8/ رقم 7665)، والبيهقي في البعث والنشور رقم (147). والحديث صححه ابن حبان، وحسنه ابن كثير، وصحح سنده الحافظ ابن حجر. انظر: الإصابة (6/ 336).
(1) انظر: صفة الجنَّة لضياء الدِّين المقدسي ص (178).
(2) ليس في “ج”.
(3) في الطبراني “يحثي لي ربي”.
(4) أخرجه الطبراني في الكبير (17/ 126 – 127) رقم (312)، وفي الأوسط رقم (402)، والفسوي في المعرفة والتاريخ (2/ 341 – 342)، والبيهقي في البعث والنشور رقم (300)، وابن حبان في صحيحه (14/ رقم 6450)، والطبري =

(1/273)


قال الحافظ أبو عبد اللَّه محمد بن عبد الواحد: “لا أعلم لهذا الإسناد عِلَّة” (1) .
قال الطبراني: وحدثنا أحمد بن خُليد حدثنا توبة حدثنا معاوية بن سلَّام عن زيد بن سلَّام (2) أنَّه سمع أبا سلَّام يقول: حدثني عبد اللَّه بن عامر أنَّ (3) قيس الكندي حدَّثه أنَّ أبا سعيد الأنماري رضي اللَّهُ عنه حدثه أنَّ رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ ربي عزَّ وجلَّ وعدني أنْ يدخل الجنَّة من أمتي سبعين ألفًا بغير حسابٍ، ويشفع كلُّ ألفٍ لسبعين (4) ألفًا، ثمَّ يحثي ربي ثلاث حثيات بكفيه” قال قيس (5) : فقلتُ لأبي سعيد: أنت سمعت هذا من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال: نعم بأذني ووعاه قلبي، قال أبو سعيد: فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “وذلك إنْ شاء اللَّه يستوعب مهاجري
__________
= في تفسيره (13/ 149)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (346) وغيرهم.
– ورواه معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عامر بن زيد البكالي أنَّه سمع عتبة بن عبد السلمي فذكره مطوَّلًا.
أخرجه أحمد في المسند (4/ 183 – 184)، وابن أبي عاصم في السنة رقم (716)، والطبراني في الكبير (17/ 127) رقم (313).
والحديث مداره على عامر بن زيد البكالي وهو تابعي سمع من عتبة، وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 191)، ولم يروه عنه غير أبي سلام ويحيى ابن أبي كثير، وسيأتي من طريق آخر ص (343).
(1) انظر: صفة الجنَّة للمقدسي ص (179).
(2) قوله “عن زيد بن سلام” ليس في “ب، د”.
(3) في جميع النسخ “بن” وهو خطأ.
(4) في جميع النسخ “ويشفع لكلِّ ألفٍ سبعين” هو خطأ.
(5) في جميع النسخ “ابن قيس”.

(1/274)


أمتي ويوفي اللَّه عزَّ وجلَّ بقيته من أعرابنا” (1) .
قال الطبراني: “لم يُروَ هذا الحديث عن أبي سعيد الأنماري إلَّا بهذا الإسناد، تفرَّد به معاوية بن سلَّام”.
وقد رواه محمد بن سهل بن عسكر عن أبي توبة الربيع بن نافع بإسناده وفيه: قال أبو سعيد: فحُسِبَ ذلك عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فبلغ أربعة مئة ألفِ ألفِ وتسع مئة ألفٍ، فقال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ ذلكَ يستوعب إنْ شاء اللَّه مهاجري أمتي”.
قال الطبراني: حدثنا محمد بن صالح بن الوليد النَّرسي، ومحمد ابن يحيى بن منده الأصبهاني قالا: أخبرنا أبو حفص عمرو بن علي، حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن أبي بكر بن أنس عن أبي بكر بن عمير عن أبيه رضي اللَّهُ عنه أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ اللَّهَ وعدني أنْ يدخل من أمتي ثلاث مئة ألف الجنَّة، فقال عمير: يا رسول اللَّه زدنا، فقال: هكذا بيده، فقال عميرٌ: يا رسول اللَّهِ زدنا، فقال عمر: حسبكَ
__________
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط رقم (404)، وفي الكبير (22/ رقم 771)، وفي مسند الشاميين (4/ 106) رقم (2863)، وابن أبي عاصم في السنة رقم (814)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (5/ 2907) رقم (6817)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (40/ 371 – 372)، وابن الأثير في أُسد الغابة (6/ 137 – 138) وغيرهم.
وقد وقع في تلك الأسانيد اختلاف واضطراب ممَّا جعل الحافظ ابن حجر يقول: “فمن هذا الاختلاف يتوقف في الجزم بصحة هذا السند”.
راجع تفصيل ذلك: الإصابة (7/ 85)، وحاشية السنة لابن أبي عاصم للألباني.

(1/275)


يا عميرُ، فقال: ما لنا ولك يا ابنَ الخطاب، وما عليكَ أن يدخلنا اللَّه الجنَّة، فقال عمر: إنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ إنْ شاءَ أدخل النَّاس الجنَّة بحفنةٍ أو بحثيةٍ واحدةٍ، فقال نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “صدَقَ عمر” (1) .
قال محمد بن عبد الواحد: “لا أعرف لعمير حديثًا غيره” (2) .
وفي “الحلية” من حديث سليمان بن حرب حدثنا أبو هلال عن قتادة
__________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (17/ 64) رقم (123)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (4/ 2096 – 2097) رقم (5272).
– ورواهُ معمر عن قتادة عن النضر بن أنس عن أنس بن مالك فذكره كما سيأتي عند المؤلف.
أخرجه عبد الرزاق (11/ 286)، وأحمد في المسند (3/ 165)، وابن أبي داود في البعث رقم (50) وغيرهم.
– ورواهُ أبو هلال الراسبي عن قتادة عن أنس فذكره، كما سيأتي عند المؤلف.
أخرجه أحمد في المسند (3/ 193)، والبزار كما في كشف الأستار برقم (3548)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 334).
قال البزار: “لا نعلمُ أحدًا تابع أبا هلال على روايته، وإنَّما يرويه قتادة عن أنس”.
وقال أبو نعيم: “غريب من حديث قتادة عن أنس رضي اللَّهُ عنه، تفرَّد به أبو هلال واسمه محمد بن سليم الراسبي، ثقةٌ بصري”.
والَّذي يظهر أنَّ الطريق الأوَّل من مسند عمير هو الأصح، وفي سنده أبو بكر بن عمير فيه جهالة، قال الحافظ ابن حجر: “لا أعلمُ أحدًا وثَّقه”. وقال الهيثمي: “. . وأبو بكر بن عمير لم أعرفه. . “.
انظر: مجمع الزوائد (10/ 405).
(2) انظر: صفة الجنَّة للمقدسي ص (182).

(1/276)


عن أنس عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “وعدني ربي عزَّ وجل أنْ يدخل من أمتي الجنَّة مئة ألفٍ، فقال أبو بكر رضي اللَّهُ عنه: يا رسول اللَّه زِدْنا، فقال: وهكذا -وأشار سليمان بن حرب بيده كذلك- قال: يا رسول اللَّه زدنا، فقال عمر: إنَّ اللَّه عزَّ وجل قادرٌ أنْ يدخل النَّاس الجنَّة بحفنةٍ واحدةٍ، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “صدق عمر”.
رواهُ عنه إبراهيم بن الهيثم البلوي، وفيه ضعفٌ. تفرَّد به أبو هلال الرَّاسبي: بصري واسمه محمد بن سُليم.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن قتادة عن النضر بن أنس عن أنس قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ وعدني أنْ يدخل الجنَّة (1) من أمتي أربعَ مئةِ ألف”. قال أبو بكر: زدْنا يا رسول اللَّه قال: وهكذا وجمع بين يديه، قال: زدنا يا رسول اللَّه قال: وهكذا وجمع كفيه (2) ، فقال عمرُ: حسبُك يا أبا بكر، فقال أبو بكر: دَعْني وما عليك أنْ يدخلنا اللَّه الجنَّة كلَّنا!! فقال عمر: إنَّ اللَّه (3) إنْ شاء أدخل خلقه الجنَّة بكفٍّ واحدةٍ، فقال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “صدق عمر”.
تفرَّد به عبد الرزاق.
وقال أبو يعلى الموصلي في “مسنده”: حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا عبد القاهر بن السري السلمي حدثنا حميد عن أنس رضي اللَّه عنه
__________
(1) ليس في “ب”.
(2) قوله “وجمع كفيه” من المصنف لعبد الرزاق.
(3) قوله “إنَّ اللَّهَ” من المصنف لعبد الرزاق.

(1/277)


عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “يدخل الجنَّة من أمتي سبعون ألفًا”. قالوا: زدنا يا رسول اللَّه قال: لكلِّ رجلٍ سبعون ألفًا”. قالوا: زدْنا يا رسول اللَّه وكان على كثيب فحثا بيده، قالوا: زدنا يا رسول اللَّه (1) فقال: هكذا وحثا بيده، قالوا: يا نبي اللَّهِ، أبعدَ اللَّه من دخل النَّار بعد هذا” (2) .
قال محمد بن عبد الواحد: “لا أعلمه رُويَ عن أنس إلَّا بهذا الطريق، وسئل يحيى بن معين عن عبد القاهر فقال: صالح”.
وأصحاب هذه الحثيات هم الَّذين وقعوا في قبضته الأولى سبحانه يوم القبضتين (3) .
فإنْ قيل: فكيف كانوا أوَّلًا قبضة واحدة، ثمَّ صاروا ثلاث حثيات
__________
(1) من قوله “قال: لكل رجل. . . ” إلى “اللَّه” من مسند أبي يعلى.
(2) أخرجه أبو يعلى في مسنده (6/ 417) رقم (3783).
وهذا الحديثُ منكر، تفرَّد به عبد القاهر بن السَّري السلمي وكان ضريرًا، قال فيه ابن معين: صالح، وقال أيضًا: لم يكن به بأس، وقال يعقوب بن سفيان: منكر الحديث.
انظر: تهذيب الكمال (18/ 233 – 234).
(3) لعلَّه يشيرُ إلى ما أخرجهُ أحمد في المسند (4/ 176 – 177) من طريق أبي نضرة أنَّ رجلًا من أصحاب النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يُقال له: أبو عبد اللَّهِ وذكر قصة احتضاره، وفيه “ولكنِّي سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: إنَّ اللَّهَ قبض بيمينه قبضة، وأُخرى باليد الأُخرى، وقال: هذه لهذه، وهذه لهذه، ولا أُبالي”.
وسنده صحيح.
قال الهيثمي: “ورجاله ثقات” مجمع الزوائد (7/ 185).
قال العقيلي: “وقد روي في القبضتين أحاديث بأسانيد صالحة”.

(1/278)


مع العدد المذكور؟
قيل: الرَّبُّ سبحانه وتعالى أخرج يوم القبضتين صورهم وأشباحهم، وقد روي أنَّهم كانوا كالذَّر (1) ، وأمَّا يوم الحَثَيات (2) ، فيكونون أتمَّ ما كانوا خِلْقةً، وأكمل أجسامًا، فناسبَ أنْ تتعدد الحثيات بكلتا اليدين، واللَّه أعلم.
__________
(1) لعلَّه يشيرُ إلى حديث أبي الدرداء مرفوعًا: “خلق اللَّهُ آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمنى، فأخرج ذرية بيضاء، كأنهم الذر، وضرب كتفه اليسرى، فأخرج ذريةً سوداء كأنَّهم الحُمَم، فقال للَّذي في يمينه إلى الجنَّة ولا أُبالي، وقال للَّذي في كفه اليسرى: إلى النَّار ولا أُبالي”.
أخرجه أحمد في المسند (6/ 441)، وعبد اللَّه في زوائده على المسند، والبزار في مسنده (10/ 78) رقم (4133)، وعبد اللَّه بن أحمد في السنة رقم (1059) وغيرهم.
قال البزار: “وهذا الحديثُ لا نعلمه يروى عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بهذا اللفظ إلَّا من هذا الوجه بهذا الإسناد، وإسناده حسن”.
والحديث تفرَّد به أبو الربيع سليمان بن عتبة الدمشقي، وهو مختلف فيه.
انظر: تهذيب الكمال (12/ 37 – 39).
(2) في “أ، ب”: “الحساب”.

(1/279)


الباب الرَّابع والثلاثون في ذكر تربة الجنَّة وطينها (1) وحصبائها وبنائها
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، وأبو كامل قالا: ثنا زهير، حدثنا سعد الطائي، حدثنا أبو المُدِلَّة مولى أم المؤمنين سمع أبا هريرة رضي اللَّهُ عنه يقول: قلنا: يا رسول اللَّهِ، إذا رأيناك رقَّت قلوبنا، وكُنَّا من أهلِ الآخرة، وإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا، وشَمَمْنا النِّساء والأولاد، قال: “لو تكونون على كلِّ حالٍ على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكُفِّهم، ولزارتكم في بيوتكم، ولو لم تذنبوا لجاء اللَّهُ بقومٍ يذنبون كي يغفر لهم”. قال: قلنا: يا رسول اللَّهِ، حدثنا عن الجنَّة ما بناؤها؟ قال: لبنةُ ذهبٍ، ولبنةُ فضة، ومِلاطُها (2) المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم لا يَبْؤس، ويخلدُ لا يموتُ، لا تبلى ثيابُه، ولا يفنى شبابه، ثلاثةٌ لا تُرَدُّ دعوتهم: الإمامُ العادلُ، والصائمُ حتى يفطر، ودعوة المظلوم؛ تُحملُ على الغمام، وتفتح لها أبواب السماواتِ، ويقول الرَّبُّ: وعِزَّتي (3) لأنصرنك ولو بعد حينٍ” (4).
__________
(1) في “ب، هـ” “وطينتها”.
(2) الملاط: الطين يكون بين الَّلبنتين. يعني طينها مسك. قاله عبد الملك بن حبيب في وصف الفردوس ص (6).
(3) ليس في “ب”، وجاء في “د، هـ” “وعزَّتي وجلالي”.
(4) أخرجه أحمد في المسند (2/ 304 – 305)، وعبد بن حميد في مسنده (المنتخب – رقم 1418)، وابن حبان في صحيحه (16/ رقم 7387)، =

(1/280)


وروى أبو بكر بن مردويه من حديث الحسن عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- قال: سُئِل رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الجنَّة فقال: “من يدخل الجنَّة يحيا ولا يموتُ، وينعم لا يبأس لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه” قيل: يا رسول اللَّه كيف بناؤها؟ قال: لبنةٌ من ذهبٍ ولبنةٌ من فضة، وملاطها مسكٌ أذفرٌ (1) ، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران” (2) .
هكذا جاء في هذه الأحاديث أنَّ ترابها الزعفران.
__________
= وأبو نعيم في صفة الجنَّة (100، 136) وغيرهم.
والحديث وقع فيه اختلاف، وهذا السند هو الصحيح.
والحديث مدارهُ على أبي المُدِلَّة لم يوثقه إلَّا ابن حبان في الثقات (5/ 72)، ولم يرو عنه غير أبي مجاهد سعد الطائي، وقد قال فيه علي ابن المديني: “أبو مدلة مولى عائشة، لا يعرف اسمه، مجهول، لم يرو عنه غير أبي مجاهد الطائي”.
(1) في نسخةٍ على حاشية “أ” “المسك الأذفر”.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 53) رقم (33944)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (12)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (96، 139) وغيرهم.
من طريق عمر بن ربيعة عن الحسن عن ابن عمر فذكره.
وعمر بن ربيعة اختلف فيه: فوثقه ابن معين، وقال فيه أبو حاتم الرَّازي: منكر الحديث، الجرح (6/ 109)، وضعفه الدارقطني، واستغرب الترمذي أحاديثه التي أخرجها عنه.
ويظهر أنَّه كما قال أبو حاتم: منكر الحديث، وأيضًا في سماع الحسن من ابن عمر اختلاف.
انظر: المرسل الخفي (2/ 750 – 759)، وجامع التحصيل للعلائي رقم (135).

(1/281)


وكذلك روى يزيد بن زريع (1) ، حدثنا سعيد عن قتادة عن العلاء بن زياد، عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “الجنَّةُ لبنةٌ من ذهبٍ، ولبنةٌ من فضة، ترابها الزعفرانُ وطينها المسكُ” (2) .
__________
(1) في “ج”: “ربيع” وهو خطأ.
(2) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (160)، وفي حلية الأولياء (2/ 249)، والبيهقي في البعث والنشور رقم (283).
– ورواه معمر عن قتادة عن العلاء عن أبي هريرة موقوفًا فذكره وفيه زيادة.
أخرجه عبد الرزاق (11/ 416 – 417) رقم (20875)، وابن المبارك في الزهد -زيادات نعيم- رقم (252) وغيرهما.
– ورواه عمران القطان عن قتادة عن العلاء عن أبي هريرة مرفوعًا.
أخرجه أحمد في المسند (2/ 362) وأبو نعيم في الحلية (2/ 248) وغيرهما.
– ورواه مطر الورَّاق عن العلاء بن زياد عن أبي هريرة مرفوعًا فذكره.
أخرجه ابن طهمان في مشيخته رقم (34)، وأبو بكر الشافعي في الغيلانيات رقم (732)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (138) وغيرهم.
قلتُ: أمَّا رواية سعيد بن أبي عروبة، فقد شك فيها محمد بن المنهال، فقد قال: “-حفظي- قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-“. وليس في مطبوعة الحلية “عن أبي هريرة”، وابن المنهال كان حافظًا لحديث يزيد بن زريع، إلَّا أنَّه كان ضريرًا ولم يكن له كتاب، فلعل قوله ذلك دليلٌ على عدم ضبطه هذا الحديث بعينه، أو علم أنَّ غيره يخالفه فيه فقال: حفظي. . واللَّهُ أعلم.
– وأمَّا رواية عمران فهو يخطئ على قتادة كثيرًا، وليس من حفاظ أصحابه.
– ولعلَّ الصواب قول معمر موقوفًا، فقد سُئِل الدَّارقطني عن حديث قتادة، ومطر -وهو ضعيف الحفظ- فقال: “والموقوف أشبه” علل الدَّارقطني =

(1/282)


وفي “الصحيحين (1) من حديث الزهري عن أنس بن مالك رضي اللَّهُ عنه قال: كان أبو ذرٍّ يحدث أنَّ رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “أُدْخِلْتُ الجنَّة فإذا فيها جنابذُ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسكُ” وهو قطعة من حديث المعراج.
وروى مسلمٌ في “صحيحه” (2) من حديث حمَّاد بن سلمة عن الجُريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّهُ عنه أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سأل ابن صائد (3) عن تربة الجنة، فقال: دَرمَكةٌ بيضاءُ، مسكٌ خالصٌ، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “صدق”.
ثمَّ رواهُ عن أبي بكر بن أبي (4) شيبة عن أبي أُسامة عن الجُريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد (5) أنَّ ابن صياد (6) سأل النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن تربة الجنَّة فقال: “دَرمكَةٌ بيضاءُ مسكٌ خالصٌ” (7) .
__________
= (11/ 139).
(1) البخاري رقم (3164)، ومسلم رقم (163).
(2) ليس هذا الطريق في صحيح مسلم، وإنَّما هو عند أحمد (3/ 4، 24، 25، 43) وغيره، من هذا الطريق.
والَّذي في مسلم رقم (2928)، من طريق بشر بن المفضَّل عن أبي مسلمة عن أبي نضرة به.
(3) في “ب، هـ” “صيَّاد”.
(4) سقط من “ب”.
(5) قوله “عن أبي سعيد” ليس في جميع النسخ.
(6) في نسخةٍ على حاشية “أ” “صايد”.
(7) أخرجه مسلم برقم (2928).

(1/283)


وقال سفيان بن عيينة عن مُجَالد عن الشعبي عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّهُ عنهما قال: جاء رجلٌ إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا محمد، قد غُلِبَ أصحابك اليوم، قال: وبأي شيءٍ غُلِبُوا؟ قال: سألهم اليهود: كم عدد خزنة النَّار فقالوا: لا ندري حتى نسأل نبينا، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أَيُغْلَبُ قومٌ سُئِلوا عمَّا لا يعلمون؛ فقالوا: حتى نسأل نبينا؟! ولكن هم أعداءُ اللَّهِ سألوا نبيهم أنْ يريهم اللَّه جهرةً، عليَّ بأعداءِ اللَّهِ، فإنِّي سائلهم عن تربة الجنَّة وأنَّها دَرْمَكَةٌ”. فلمَّا أنْ جاؤوهُ قالوا: يا أبا القاسم كم عِدَّة خزنة أهل النَّار؟ (1) فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بيديه كلتيهما: هكذا وهكذا، وقبض واحدة، أي: تسعة عشر، فقال لهم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “ما تربة الجنَّة؟ فنظر بعضهم إلى بعض، وقالوا: خبزة يا أبا القاسم، فقال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “الخبزة من الدرمك” (2) .
__________
(1) في “د” “عدد خزنة النَّار”، وليس في “ب، ج” “أهل”، وفي “هـ” “عدد خزنة أهل النَّار”.
(2) أخرجه الترمذي برقم (3327)، وأحمد في مسنده (3/ 361) مختصرًا، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (159) وغيرهم.
قال الترمذي: “هذا حديث غريب، إنَّما نعرفه من هذا الوجه من حديث مجالد”.
– ورواهُ الزبير بن موسى عن أبيه عن جابر قال سُئِلَ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أرض الجنَّة؟ قال: “خبزة بيضاء”.
أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (152).
وفيه الزبير بن موسى لم يوثقه إلَّا ابن حبان، وفيه والدُهُ: موسى بن ميناء، لم أقف عليه.
انظر تهذيب الكمال (9/ 330 – 331).

(1/284)


فهذه ثلاث صفات في تربتها، لا تعارض بينها.
فذهبت طائفة من السلف إلى أنَّ تربتها متضمنةٌ للنوعين: المِسْك والزعفران.
قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا محمد بن أبي عبيدة عن أبيه عن الأعمش عن مالك بن الحارث قال: قال مُغِيث بن سُمَي: “الجنَّة ترابها المسك والزعفران” (1) .
ويحتمل معنيين آخرين:
أحدهما: أنْ يكون التراب من زعفران، فإذا عجن بالماء صار مِسْكًا، والطين يسمَّى ترابًا، ويدل على هذا قوله في اللفظ الآخر: “ملاطها المسك” (2) ، والملاط: الطين، ويدل عليه أنَّ في حديث العلاء بن زياد: “ترابُها الزعفران، وطينها المسك” (3) ، فلمَّا كانت تربتها طيبة، وماؤها طيِّبًا، فانضمَّ أحدهما إلى الآخر حدثَ لهما طيب
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 62) رقم (34014) بأطول ممَّا ذكر المؤلف وفيه “جبالها المسك، وترابها الزعفران”. وأبو الشيخ في العظمة رقم (576)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (162) واللفظ له.
وسنده صحيح.
ومغيث هو ابن سُمي الأوزاعي أبو أيوب الشامي، تابعيٌ ثقة، كان صاحب كتب كأبي الجَلْد ووهب بن منبه.
انظر: تهذيب الكمال (28/ 348 – 350).
(2) تقدم ص (281).
(3) تقدم ص (282).

(1/285)


آخر فصارا مسكًا.
المعنى الثاني: أنْ يكون زعفرانًا: باعتبار اللون. مسكًا: باعتبار الرَّائحة. وهذا من أحسن شيءٍ تكون البهجة والإشراق في لون الزعفران، والرائحة في رائحة المسك (1) ، وكذلك تشبيهها بالدرمك، وهو الخبز الصافي الَّذي يضرب لونه إلى صفرة مع لينها ونعومتها، وهذا معنى ما ذكره سفيان بن عيينة، عن ابن (2) أبي نجيح، عن مجاهد: “أرض الجنَّة من فضة، وترابها مسك” (3) ، فاللون في البياض لون الفضة، والرَّائحة رائحة المسك.
وقد ذكر ابن أبي الدنيا من حديث أبي بكر بن أبي سَبْرة، عن عمر ابن عطاء بن وراز (4) ، عن سالم أبي الغيث عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “أرض الجنَّة بيضاء، عرصتها صخورُ الكافور، وقد أحاط به المسكُ مثل كثبان الرمل، فيها أنهارٌ مطردَةٌ، فيجتمع فيها أهل الجنَّة أدناهم وآخرهم، فيتعارفون، فيبعث اللَّهُ ريح الرحمة، فتهيج عليهم ريح المسك، فيرجع الرجل إلى زوجته، وقد ازدادَ حسنًا
__________
(1) من وقوله “وهذا من أحسن. . ” إلى “رائحة” سقط من “ج”.
(2) سقط من “ج”.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 53) رقم (33943) وفيه “من وَرِق. . “، وابن المبارك في الزهد -زوائد نعيم- رقم (229)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة برقم (161) واللفظ له، وهو أثر ثابت.
تنبيه: وقع في نسخة على حاشية “أ”: “المسك” بدل “مسك”.
(4) في “د، هـ” ونسخة على حاشية “أ” “ورازة” وهو خطأ.

(1/286)


وطيبًا، فتقول: لقد خرجتَ من عندي، وأنا بك معجبة، وأنا بك الآن أشدُّ إعجابًا” (1) .
وقال ابن أبي شيبة: حدثنا معاوية بن هشام حدثنا علي بن صالح، عن عمر بن ربيعة عن الحسن عن ابن عمر رضي اللَّهُ عنهما قال: قيل: يا رسول اللَّهِ كيف بناء الجنَّة؟ قال: لبنةٌ من فضة، ولبنةٌ من ذهب، ملاطها مسكٌ أذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران” (2) .
وقال أبو الشيخ: حدثنا الوليد بن أبان حدثنا أسيد بن عاصم حدثنا الحوضي حدثنا عدي بن الفضل حدثنا سعيد الجُريْري عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ بنى جنَّات عدنٍ بيده، وبناها لبنة من ذهبٍ ولبنة من فضة، وجعل ملاطها المسك الأذفر، وترابها الزعفران، وحصباءها اللؤلؤ، ثمَّ قال لها (3) : تكلمي، فقالت: قد أفلحَ المؤمنون، فقالت الملائكة: طُوبى لك منزل الملوك” (4) .
وقال أبو الشيخ: حدثنا عمرو بن الحصين (5) حدثنا ابن علاثة حدثنا
__________
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (28).
وإسناده ضعيف جدًّا، فيه الواقدي: متروك، وابن أبي سبرة: متَّهمٌ بالوضع.
(2) تقدم ص (281).
(3) ليس في “أ”.
(4) تقدم ص (218).
(5) في جميع النسخ “الحسين” وهو تصحيف قديم وقع في النسخة الخطية لصفة =

(1/287)


ابن جُريج عن عطاء عن عُبَيْد بن عُمَيْر عن أُبيِّ بن كعب قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “قلت ليلة أُسريَ بي: يا جبريل إنَّهم سيسألوني عن الجنَّة قال: فأخبرهم أنَّها من (1) دُرَّةٍ بيضاء، وأنَّ أرضها عِقيان” (2) .
والعِقْيَانُ: الذَّهبُ، فإنْ كان ابن علاثة حفظه، فهي أرض الجنتين الذهبيتين، ويكون جبريل أخبره بأعلى الجنتين وأفضلهما، واللَّهُ أعلم.
__________
= الجنَّة لأبي نعيم.
(1) ليس في “ب”.
(2) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة برقم (151).
وهو حديثٌ موضوع، فيه عمرو بن حصين: متروك، واتهم بالوضع، وفيه ابن علاثة محمد بن عبد اللَّه العقيلي متروك الحديث، وقال الحاكم: “يروي أحاديث موضوعة”، ولعلَّ الحمل على الراوي عنه وهو عمرو بن حصين كما قال الخطيب.
انظر: تهذيب الكمال (21/ 588 – 589) و (25/ 526 – 528).

(1/288)


الباب الخامس والثلاثون في ذكر نورها وبياضها
قال أحمد بن منصور الرَّمادي: حدثنا كثير بن هشام حدثنا هشام (1) ابن زياد أبو المقدام عن حبيب بن الشهيد عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس رضي اللَّهُ عنهما أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “خلقَ اللَّهُ الجنَّة بيضاءَ، وأحبُّ الزِّيِّ إلى اللَّه البياض، فليلبسهُ أحياؤكم، وكفنوا فيه موتاكم، ثمَّ أمرَ برعاء الشاءِ فجمعتْ، فقال: من كان ذا غنمٍ سودٍ فليخلط بها بِيْضًا، فجاءته امرأة فقالت: يا رسول اللَّه، إنِّي اتخذت غنمًا سودًا فلا أَراها تنموا، قال: عفِّري” (2).
وقوله: “عَفِّرِي” أي: بَيِّضِي.
وذكر أبو نُعَيْم من حديث عبَّاد بن عبَّاد حدثنا هشام بن زياد عن
__________
(1) قوله “ثنا هشام” سقط من “ب، د”.
(2) أخرجه البزار في مسنده (11/ 85 – 86) رقم (4795)، وابن عدي في الكامل (7/ 107)، والآجري في الشريعة رقم (928)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (129) كما سيأتي، هكذا رواه غير واحد عن هشام به.
– ورواهُ يزيد بن هارون عن هشام عن عبد الرحمن بن حبيب عن عطاء عن ابن عباس فذكره.
أخرجه أبو جعفر البختري في أماليه رقم (64).
وهو حديثٌ ضعيف جدًّا، مداره على هشام بن زياد أبي المقدام وهو متفق على ضعفه، بل قال النسائي وغيره: متروك الحديث. وقال ابن عدي: “وأحاديثه يشبه بعضها بعضًا، والضَّعف بيِّن على رواياته”.
انظر: تهذيب الكمال (30/ 201 – 203).

(1/289)


يحيى بن عبد الرحمن عن عطاء عن ابن عباس رضي اللَّهُ عنهما يرفعه: “إنَّ اللَّهَ خلق الجنَّة بيضاء، وإنَّ أحبَّ الَّلون إلى اللَّهِ البياض، فليلبسه أحياؤكم، وكفِّنُوا فيهِ موتاكم”.
وذكر من طريق عبد الحميد بن صالح حدثنا أبو شهاب عن حمزة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي اللَّهُ عنهما قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “عليكم بالبياض، فإنَّ اللَّهَ خلق الجنَّة بيضاءَ، فليلبسه أحياؤكم، وكفنوا فيه موتاكم” (1) .
ورُوِّينا من طريق النِّجاد حدثنا عبد اللَّه بن محمد حدثنا سويد بن سعيد حدثنا عبد ربه الحنفي عن خالِهِ الزميل بن سماك سمع أباه يحدث أنَّه لقي عبد اللَّه بن عباس بالمدينة بعدما كُفَّ بَصَرُه فقال: يا ابن عباس ما أرض الجنَّة؟ قال: مَرْمرة بيضاء من فضة كأنَّها مرآة، قلتُ: ما نورها؟ قال: ما رأيت الساعة التي تكون فيها قبل طلوع الشمس، فذلك نورها إلَّا أنَّه ليس فيها شمسٌ ولا زمهرير”، وذكر الحديث (2)
__________
(1) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (130)، وابن عدي في الكامل (2/ 377 – 378).
والحديث فيه حمزة بن أبي حمزة، قال البخاري وأبو حاتم: منكر الحديث، وقال ابن عدي: يضع الحديث. وقال أيضًا: “ولحمزة أحاديث صالحة، وكل ما يرويه أو عامته مناكير موضوعة، والبلاء منه. . . “.
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (147) مطوَّلًا، وأبو الشيخ في العظمة رقم (599) مطوَّلًا، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (211 و 317).
في سنده عبد ربه بن بارق في حفظه لين، وزميل بن سماك فيه جهالة.
انظر: تهذيب الكمال (16/ 472 – 474)، والجرح (3/ 620).
والأثر قال عنه المنذري في الترغيب والترهيب (4/ 518): “رواهُ ابن أبي =

(1/290)


وسيأتي إنْ شاء اللَّه (1) .
وفي حديث لقيط بن عامر الطويل الَّذي رواه عبد اللَّه بن أحمد في “مسند أبيه” عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فذكر الحديث وقال: “وتحبس الشمس والقمر فلا يرون منهما واحدًا، قال: قلتُ يا رسول اللَّهِ فبِمَ نبصرُ؟ قال: بمثل بصرك في ساعتك (2) هذه، وذلك مع طلوع الشمس في يوم أشرقته الأرضِ، وواجهته الجبال” (3) .
وفي “سنن ابن ماجه” من حديث الوليد بن مسلم عن محمد بن مهاجر عن الضحاك المعافري عن سليمان بن موسى حدثني كريب أنَّه سمع أسامة بن زيد يقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “ألَا هل مُشمِّر للجنَّة، فإنَّ الجنَّة (4) لا خطر لها، هي وربِّ الكعبة نورٌ يتلألأ، وريحانةٌ تهتزُّ، وقصرٌ مشيدٌ، ونهرٌ مطردٌ، وثمرةٌ نضيجةٌ، وزوجةٌ حسناءُ جميلة، وحُلَلٌ كثيرةٌ، ومقامٌ في أبدٍ في دارٍ سليمةٍ، وفاكهةٍ وخضرةٍ، وحَبرة ونعمةٍ، في محلَّةٍ عالية بهيةٍ” قالوا: نعم يا رسول اللَّه، نحن المشمرون لها، قال: “قولوا: إنْ شاء اللَّهِ”، قال القوم: إنْ شاء اللَّهُ” (5) .
__________
= الدنيا موقوفًا بإسنادٍ حسن”.
(1) انظر: (ص/ 434).
(2) في “أ، ج، هـ” “عينك” والمثبت من المسند وباقي النسخ.
(3) تقدم الكلام عليه ص (126 – 127).
(4) قوله “فإنَّ الجنَّة” ليس في “ج”.
(5) أخرجه ابن ماجه رقم (4332)، والبخاري في تاريخه الكبير (4/ 336) مختصرًا، وابن أبي داود في البعث رقم (71)، والبزار في مسنده =

(1/291)


الباب السادس والثلاثون في ذكر غرفها وقصورها ومقاصيرها وخيامها
قال اللَّه تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [الزمر: 20].
فأخبر تعالى أنَّها غرفٌ فوق غرف، وأنَّها مبنية بناء حقيقة، لئلا تتوهم النفوس أنَّ ذلك تمثيل، وأنَّه ليس هناك بناء، بل تتصور النفوس غرفًا مبنية كالعلالي بعضها فوق بعض، حتى كأنَّها تنظر إليها عيانًا، و”مَبْنيَّة”: صفةٌ للغرف الأولى والثانية، أي لهم منازل مرتفعة، وفوقها منازل أرفع منها.
وقال تعالى: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: 75].
والغرفة جنْس كالجنَّة، وتأمَّل كيف جعل جزاءهم على هذه الأفعال المتضمنة للخضوع، والذلِّ والاستكانة للَّه = الغرفة؛
__________
= (6/ رقم 2591)، وابن حبان في صحيحه (16/ رقم 7381) وغيرهم.
وقد أسقط الوليد بن مسلم في بعض الروايات “الضحاك” كما عند أبي نعيم في صفة الجنَّة رقم (24, 25) وغيره.
والحديث مداره على الضحاك هذا وفيه جهالة.
قال البوصيري: “هذا إسناد فيه مقال، الضحاك المعافري ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الذهبي في طبقات التهذيب: مجهول، وسليمان بن موسى الأموي مختلفٌ فيه، وباقي رجال الإسناد ثقات”.
انظر: مصباح الزجاجة (3/ 325).

(1/292)


والتحية والسلام في مقابلة صبرهم على سوء خطاب الجاهلين لهم، فبُدِّلُوا بذلك سلام اللَّه وملائكته عليهم.
وقال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37]، وقال تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [الصف: 12]، وقال تعالى عن امرأة فرعون إنَّها قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11].
وروى الترمذي في “جامعه” من حديث عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ في الجنَّة لغُرَفًا يُرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها، فقام أعرابي فقال: يا رسول اللَّه لمن هي؟ قال: لمن طيَّبَ الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلَّى بالَّليل والنَّاس نيام” (1) .
قال الترمذي: “هذا حديثٌ غريب، لا نعرفه إلَّا من حديث
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم (1984 و 2526)، وأحمد في المسند (1/ 156)، وابن خزيمة في صحيحه رقم (2136)، وأبو يعلي في مسنده رقم (428 و 438)، والبزار في مسنده رقم (702)، وابن عدي في الكامل (4/ 305).
والحديث مدارهُ على عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي وهو ضعيف. وله منكرات وهذا الحديث منها.
قال الترمذي: “غريب. . “.
وقال ابن خزيمة: “إنْ صحَّ الخبر؛ فإن في القلب من عبد الرحمن بن إسحاق أبي شيبة الكوفي. . . “. والحديث ذكره ابن عدي في منكراته.

(1/293)


عبد الرحمن بن إسحاق”.
وقال الطبراني: حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا هشام بن عمَّار حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا معاوية بن سلام عن زيد بن سلام حدثني أبو سلام حدثني أبو معانق الأشعري حدثني أبو مالك الأشعري رضي اللَّهُ عنه أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ في الجنَّة غُرفًا يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدَّها اللَّهُ لمن أطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلَّى بالليل والنَّاس نيام” (1) .
وقال ابن وهب: حدثني حُيَيٌّ عن أبي عبد الرحمن عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّهُ عنهما عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ في الجنَّة غُرفًا يُرى
__________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (3/ 342) رقم (3467)، وفي مسند الشاميين (4/ 115) رقم (2873).
– ورواه معمر عن يحيى بن أبي كثير عن ابن معانق أو أبي معانق عن أبي مالك فذكره وفيه “وألان الكلام، وتابع الصيام”.
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (11/ رقم 20883) ومن طريقه: أحمد (5/ 343)، وابن خزيمة (3/ رقم 2137)، وابن حبان في صحيحه رقم (509)، والطبراني في الكبير (3/ 342) رقم (3466) وغيرهم.
والحديث مدارهُ على أبي معانق الأشعري واسمه عبد اللَّه بن معانق الشامي. قال ابن خزيمة: “ولستُ أعرف ابن معانق ولا أبا معانق. . ” وقال الدَّارقطني: “. . . لا شيء مجهول”. ووثقه العجلي وابن خلفون وابن حبان (5/ 36)، وذكره ابن حبان أيضًا في أتباع التابعين (7/ 52) وقال: “. . وهو الَّذي يروي عن أبي مالك الأشعري، وما أراهُ شافهه”.
انظر: تهذيب الكمال (16/ 160 – 161).
والحديث يظهر أنَّ أصلَهُ ثابت لما سيأتي.

(1/294)


ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، قال أبو مالك الأشعري: لمن هي يا رسول اللَّه؟ قال: “لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وبات قائمًا والنَّاس نيام” (1) .
قال محمد بن عبد الواحد: “وهذا عندي إسناد حسن، وذكر أبي مالك فيه ممَّا يدل على صحته؛ لأنَّ أبا مالك قد رواهُ، وإسناده أيضًا حسن” (2) .
وقد تقدَّم حديث أبي سعيد المتفق على صحته: “إنَّ أهل الجنَّة
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 466) رقم (1200)، والبيهقي في البعث والنشور رقم (277).
– ورواهُ ابن لهيعة حدثني حيي بن عبد اللَّه به لكن فيه “فقال أبو موسى الأشعري. . لمن ألان الكلام. . . ” وقوله: “أبو موسى” خطأ.
أخرجه أحمد في المسند (2/ 173).
والحديث مداره على حُيَيِّ بن عبد اللَّه المعافري المصري، صدوق في حفظه لين.
انظر: تهذيب الكمال (7/ 488 – 490).
والحديث قال عنه الحاكم: “هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه”.
وقال الهيثمي: “رواه أحمد والطبراني في الكبير واللفظ له، وإسناده حسن”.
وكذلك حسَّن إسناده المنذري.
انظر: الترغيب والترهيب له (1/ 424)، ومجمع الزوائد (1/ 254).
(2) انظر: صفة الجنَّة له (85).

(1/295)


ليتراءون أهل الغرفِ فوقهم كما تراءون الكوكب الغابرَ من الأفق” (1) .
وفي “الصحيحين” (2) من حديث أبي موسى الأشعري عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ للمؤمن في الجنَّة لخيمة من لؤلؤة واحدةٍ مجوفةٍ، طولها ستون ميلًا، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن، فلا يرى بعضهم بعضًا”.
وقد تقدَّم قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث الصحيح: “من بنى للَّه مسجدًا بنى اللَّهُ له بيتًا في الجنَّة” (3) .
وقوله في حديث أبو موسى: يقول عزَّ وجلَّ لمن حمده واسترجع عند موت ولده: “ابنوا لعبدي بيتًا في الجنَّة وَسَمُّوه بيت الحمد” (4) .
وفي “الصحيحين” (5) من حديث عبد اللَّه بن أبي أوفى وأبي هريرة وعائشة رضي اللَّهُ عنهم أنَّ جبريل قال للنَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “هذه خديجة أقرئها
__________
(1) تقدم في الباب (17) ص (153 – 154).
(2) البخاري رقم (4598)، ومسلم رقم (2838).
(3) تقدم في الباب (7) ص (92).
(4) تقدم في الباب (7) ص (93).
(5) البخاري رقم (3608)، ومسلم رقم (2433) من حديث ابن أبي أوفى رضي اللَّهُ عنه.
* والبخاري رقم (3605)، ومسلم رقم (2435) من حديث عائشة رضي اللَّهُ عنها.
* والبخاري رقم (3609)، ومسلم رقم (2432) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

(1/296)


السلام من ربِّها، وأمره أنْ يُبشِّرها ببيتٍ في الجنَّة، من قصب، لا صخبَ فيه ولا نصب”.
والقَصَبُ ها هنا: قَصَبُ اللؤلؤ المجوف.
وقد روى ابن أبي الدنيا من حديث يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة عن عكرمة عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ في الجنَّة لقصرًا من لؤلؤ ليس فيه صدعٌ ولا وهن، أعدَّه اللَّهُ عزَّ وجلَّ لخليله إبراهيم” (1) .
__________
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (174)، والطبراني في الأوسط برقم (6543 و 8114)، والبزار كما في كشف الأستار (3/ 102 – 103) رقم (2346 و 2347)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (6/ 247).
قال الطبراني: “لم يرو هذا الحديث عن سماك إلَّا حماد بن سلمة، ولا رواهُ عن حماد إلَّا النضر بن شميل ويزيد بن هارون”.
وقال البزار: “لا نعلمُ أسنده إلَّا يزيد بن هارون والنضر، ويرويه غيرهما موقوفًا”.
قلتُ: ولعلَّ هذا الاختلاف في رفعه ووقفه إمَّا من حمَّاد بن سلمة أو من سماك بن حرب من أجل روايته عن عكرمة وهو أشبه، فقد قال يعقوب الفسوي وغيره -والَّلفظ ليعقوب-: “وروايته عن عكرمة خاصَّة مضطربة، وهو في غير عكرمة صالح، وليس من المتثبتين. . . ” انظر: تهذيب الكمال (12/ 120).
– ورواهُ أبو سلمة التبوذكي وسليمان بن حرب وحجاج بن منهال وسريج ابن النعمان عن حماد عن سماك عن عكرمة عن أبي هريرة موقوفًا.
أخرجه ابن أبي حاتم في العلل (2/ 217)، وذكره الدارقطني في العلل (11/ 126). =

(1/297)


وفي “الصحيحين” (1) من حديث حميد عن أنس رضي اللَّهُ عنه أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “دخلتُ الجنَّة فإذا أنا بقصرٍ من ذهب، فقلتُ: لمن هذا القصر؟ قالوا: لشاب من قريش، فظننتُ أنِّي أنا هو، فقلتُ: ومن هو؟ قالوا: لعمر بن الخطاب”.
وهو فيهما من حديث جابر ولفظه: “فأتيت على قصرٍ مُرَبَّع مشرفٍ
__________
= – ورواهُ عمر -لعله ابن عبيد الطنافسي- عن عكرمة به موقوفًا.
قال أبو حاتم الرَّازي والدارقطني: “والموقوف أصح”.
(1) لم أقف عليه في الصحيحين من هذا الوجه.
وإنَّما أخرجه الترمذي برقم (3688)، وأحمد في المسند (3/ 107 و 179 و 263 و 191)، وابن أبي شيبة برقم (31982)، وأبو يعلى في مسنده (6/ رقم 3860)، والآجري في الشريعة رقم (1377 – 1380) وغيرهم.
من طرق عن ابن أبي عدي ويحيى القطان وبكر بن عبد اللَّه السهمي وأبي خالد الأحمر وإسماعيل بن جعفر المدني وحماد بن سلمة وغيرهم كلهم عن حميد به مثله.
– وخالفهم عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون.
فرواهُ عن حميد به وزاد فيه “أبيض” كما سيأتي قريبًا عند المؤلف.
أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (175).
– ورواهُ قتادة وأبو عمران الجوني عن أنس مرفوعًا فذكره بمثله ولم يذكر “أبيض”.
أخرجه أحمد (3/ 191)، وابن حبان رقم (54) وغيرهما.
فالزيادة شاذة، والوهم إمَّا من ابن الماجشون أو الرَّاوي عنه: شجاع بن الأشرس.
ولهذا قال المؤلف -كما سيأتي-: “وهذا إنْ كان محفوظًا فبياضه: نوره وإشراقه وضياؤه واللَّه أعلم”.

(1/298)


من ذهبٍ” وقد تقدَّم (1) .
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا شجاع بن الأشرس قال: سمعت عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن حميد عن أنس بن مالك رضي اللَّهُ عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “دخلتُ الجنَّة فإذا فيها قصرٌ أبيض قال: قلتُ لجبريل: لمن هذا القصر؟ قال: لرجلٍ من قريش، فرجوت أنْ أكون أنا، فقلتُ: لأيِّ قريش؟ قال: لعمر بن الخطاب”.
وهذا إنْ كان محفوظًا فبياضه: نوره وإشراقه وضياؤه، واللَّهُ أعلم.
وقال الحسن: “قصر من ذهب لا يدخله إلَّا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل. يرفع بها صوته” (2) .
وقال الأعمش: حدثنا مالك بن الحارث عن مُغِيث بن سُمَيٍّ قال: “إنَّ في الجنَّة قصورًا من ذهبٍ، وقصورًا من فضة، وقصورًا من لؤلؤ، وقصورًا من ياقوت، وقصورًا من زبرجد” (3) .
وقال الأعمش: عن مجاهد عن عُبَيد بن عُمير قال (4) : “إنَّ أدنى
__________
(1) في الباب الأوَّل ص (43)، وراجع (ص/ 235).
(2) أخرجه سعيد بن منصور في سننه “التفسير” (5/ 434) رقم (1168) وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (180)، والطبري في تفسيره (10/ 181).
وسنده صحيح.
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (180).
وسنده صحيح ومغيث بن سمي هو أبو أيوب الأوزاعي تابعي ثقة، كان صاحب كتب كأبي الجلد ووهب بن منبه.
(4) كذا في جميع النسخ وجاء في مصادر التخريج زيادة “قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-“.

(1/299)


أهل الجنَّة منزلةً من له دار من لؤلؤة واحدةٍ، منها غرفها وأبوابها” (1) .
وروى البيهقي من حديث حفص بن عمر حدثنا عمرو الملائي عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس رضي اللَّهُ عنهما قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ في الجنَّة لغرفًا، فإذا كان ساكنها فيها لم يَخْفَ عليه ما خلفها، وإذا كان خلفها لم يخف عليه ما فيها”، قيل: لمن هي يا رسول اللَّه؟ قال: “لمن أطاب الكلام، وواصل الصيام، وأطعمَ الطعام، وأفشى السلام، وصلَّى والنَّاس نيام”، قيل: وما طيب الكلام؟ قال: “سبحان اللَّهُ والحمدُ للَّه، ولا إله إلَّا اللَّه، واللَّهُ أكبر (2) ، فإنَّها تأتي يوم القيامة ولها مقدماتٌ ومجنباتٌ ومعقباتٌ”، قيل: وما وصال الصيام؟ قال: “من صام شهر رمضان، ثمَّ أدرك شهر رمضان فصامه”، قيل: وما إطعام الطعام؟ قال: “من قات عياله وأطعمهم” (3) ، قيل: فما إفشاء السلام؟ قال: “مصافحة أخيك وتحيته”، قيل: وما الصلاة والنَّاس نيام؟ قال: “صلاة العشاء الآخرة” (4) .
__________
(1) أخرجه هناد بن السري في الزهد رقم (126)، وابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 58) رقم (33986)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 274).
ورجاله ثقات، لكنَّه مرسل كما في مصادر التخريج.
(2) عند البيهقي إضافة: “ولا أكبر إلَّا اللَّه”.
(3) في “أ، ب، ج” “وأطعمه”.
(4) أخرجه البيهقي في البعث النشور رقم (280)، وابن عدي في الكامل (2/ 388)، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (4/ 401)، وابن حبان في المجروحين (1/ 259 – 260).
قال ابن عدي: “وهذه الأحاديث بهذا الإسناد مناكير لا يرويها إلَّا حفص بن =

(1/300)


قال: “حفص بن عمر هذا مجهول، لم يروهِ عنه غير علي بن حرب فيما أعلم”.
قلتُ: هذا يلقب بالكَفْر -بفتح الكاف وسكون الفاء- وقد روى عنه محمد بن غالب: تمتام وعلي بن حرب وهما ثقتان؛ ولكن ضعفه ابن عدي وابن حبان وحديثه هذا له شواهد، واللَّهُ أعلم.
وفي “فوائد ابن السماك”: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن منصور حدثنا أبي حدثنا عبد الرحمن بن عبد المؤمن قال: سمعت محمد بن واسع يذكر عن الحسن عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّهُ عنهما قال: قال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “ألَا أحدثكم بغرف الجنَّة؟ قال: قلنا بلى يا رسول اللَّه بأبينا أنت وأمِّنا، قال: “إنَّ في الجنَّة غرفًا من أصناف الجوهر كله، يُرَى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، فيها من النعيم والَّلذات ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت”، قال: قلنا: يا رسول اللَّه، لمن هذه الغرف؟ قال: “لمن أفشى السلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلَّى بالَّليل والنَّاس نيام”، قال: قلنا: يا رسول اللَّهِ، ومن يطيق ذلك؟ قال: أمتي تطيق ذلك، وسأخبركم عن ذلك: من لقي أخاه فسلَّم عليه، أو ردَّ عليه فقد أفشى السلام، ومن أطعم أهله وعياله من
__________
= عمر بن حكيم هذا، وهو مجهول، ولا أعلمُ أحدًا روى عنه غير علي بن حرب. . . “.
وقال ابن حبان: “يروي عن عمرو بن قيس الملائي المناكير الكثيرة. . .، ولا يجوز الاحتجاج بخبره. . . “.
فالحديث باطل بهذا الإسناد.

(1/301)


الطعام حتى يشبعهم، فقد أطعم الطعام، ومن صام رمضان، ومن كل شهر ثلاثة أيام، فقد أدامَ (1) الصيامَ، ومن صلَّى صلاة العشاء الآخرة في جماعة، فقد صلَّى الليل والنَّاس نيامٌ: اليهود والنَّصارى والمجوس” (2) .
وهذا الإسناد وإنْ كان لا يُحْتَجُّ به وحده، فإذا انضمَّ إليه ما تقدَّم استفاد قُوَّة مع أنَّه قد رُوِيَ بإسنادين آخرين.
__________
(1) في “ب”: “أدَّى”.
(2) أخرجه البيهقي في البعث والنشور برقم (279)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 356).
والحديث مداره على عبد الرحمن بن عبد المؤمن الأزدي ولم أقف عليه.
قال البيهقي: “وهذا الإسناد غير قوي، إلَّا أنَّه مع الإسنادين الأوَّلين يقوَّي بعضه بعضًا”.

(1/302)


الباب السابع والثلاثون في ذكر معرفتهم بمنازلهم ومساكنهم إذا دخلوا الجنَّة وإنْ لم يروها قبل ذلك
قال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)} [محمد: 4 – 6]قال مجاهد: “يَهْتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم، لا يخطئون، كأنَّهم ساكنوها منذ خلقوا، لا يستدلون عليها أحدًا” (1).
وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: “لهُمْ أَعْرف بمنازلهم من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم” (2).
وقال محمد بن كعب: “يعرفونها كما تعرفون بيوتكم في الدنيا، إذا انصرفتم من يوم الجمعة” (3).
__________
(1) أخرجه الطبري في تفسيره (26/ 44) وسنده حسن.
(2) أخرجه عبد الملك بن حبيب السلمي في وصف الفردوس رقم (241) ص (88 – 89).
من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.
وسنده ضعيف جدًّا.
وأخرجه أيضًا برقم (131) من طريق مجاهد لكن وقع في السند تحريف أو سقط لم أتبينه.
(3) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة (2/ 146) رقم (289).
وفيه أحمد بن أبان الأصبهاني روى عنه راويان، وترجم له أبو نعيم في أخبار أصبهان (1/ 98)، ولم يورد فيه جرحًا ولا تعديلًا.
فالإسناد لا بأس به.

(1/303)


هذا قول جمهور المفسرين. وتلخيص أقوالهم ما قاله أبو عبيدة: {عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) } [محمد: 6] أي: بيَّنها لهم، حتى عرفوها من غير استدلال (1) .
وقال مُقَاتل بن حيَّان: “بلغنا أنَّ الملك الموكل بحفظ عمل بني آدم يمشي في الجنَّة، ويتبعه ابن آدم حتى يأتي أقصى منزل هو له، فيعرفه كل شيءٍ أعطاهُ اللَّهُ في الجنَّة، فإذا دخلَ إلى منزله وأزواجه انصرف الملك عنه” (2) .
وقال سلمة بن كُهَيْل: “طَرَّقها لهم” (3) .
ومعنى هذا: أنَّه طرقها لهم حتَّى يهتدوا إليها.
وقال الحسن: “وصف اللَّه الجنَّة في الدنيا لهم، فإذا دخلوها عرفوها بصفتها” (4) .
وعلى هذا القول، فالتعريف وقع في الدنيا، ويكون المعنى: يدخلهم الجنَّة التي عرَّفها لهم، وعلى القول الأوَّل: يكون التعريف
__________
(1) انظر: مجاز القرآن (2/ 214) وفيه (بَيَّنها، وعرَّفهم منازلهم)، زاد المسير لابن الجوزي (7/ 398)، وتفسير القرطبي (16/ 231).
(2) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره كما في الدرر (6/ 23).
وقال القرطبي في تفسيره (16/ 231): “وحديث أبي سعيد الخدري يردُّه”. قلتُ: حديث أبي سعيد سيورده ابن القيم قريبًا وهو نصٌّ في ذلك.
(3) أخرجه الحربي في “غريب الحديث” (1/ 189): بلفظ: “يُعَرَّفون طُرُقها”.
وسنده حسن.
(4) ذكره الماوردي في تفسيره (5/ 294 – 295) بنحوه.

(1/304)


واقعًا في الآخرة، هذا كلُّه إذا قيل: إنَّه من التعريف.
وفيها قولٌ آخر: إنَّها من العَرْفِ، وهو الرَّائحة الطيبة، وهذا اختيار الزجاج، أي: طيَّبها، ومنه طعام مُعرَّف أي مطيَّب (1) .
وقيل: هو من العُرف، وهو التَّتابع: أي تابع لهم طيباتها وملاذَّها. والقول هو الأوَّل، وأنَّه سبحانه أعلمها وبيَّنها بما يعلم به كل أحد منزله وداره، فلا يتعدَّاهُ إلى غيره.
وفي “صحيح البخاري” (2) من حديث قتادة عن أبي المتوكل النَّاجي عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّهُ عنه أنَّ نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: إذا خلص المؤمنون من النَّارِ حُبِسوا بقنطرةٍ بين الجنَّة والنَّار، يتقاصُّون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذَّبوا ونقُّوا أُذِنَ لهم بدخول الجنَّة، والَّذي نفسي بيده إنَّ أحدهم بمنزله في الجنَّة أدلُّ منه بمسكنه كان في الدنيا”.
وفي “مسند إسحاق” من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “والَّذي بعثني بالحقِّ، ما أنتم في الدنيا بأعرف بأزواجكم ومساكنكم من أهل الجنَّة بأزواجهم ومساكنهم إذا دخلوا الجنَّة” (3) .
__________
(1) انظر: زاد المسير لابن الجوزي (7/ 398)، وتفسير السمرقندي “بحر العلوم” (3/ 241).
(2) أخرجه البخاري رقم (2308) وعنده “. . فوالَّذي نفس محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- بيده لأحدهم بمسكنه في الجنَّة أدلَّ بمنزله كان في الدنيا”.
(3) هو قطعة من حديث الصور الطويل، وقد تقدم في الباب (31) ص (261).

(1/305)


الباب الثامن والثلاثون في كيفية دخولهم الجنَّة وما يُسْتقبلون (1) عند دخولها
وقد تقدَّم قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر: 73] وقال تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم: 85].
قال ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن عباد بن موسى العُكلي حدثنا يحيى بن سُلَيم الطائفي حدثنا إسماعيل بن عبد اللَّه المكي حدثني أبو عبد اللَّه أنَّه سمع الضحاك بن مزاحم يحدث عن الحارث عن علي رضي اللَّهُ عنه أنَّه سأل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن هذا الآية: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)} [مريم: 85]، قال: قلتُ يا رسول اللَّه، ما الوفد إلَّا ركبٌ؟ قال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “والَّذي نفسي بيده إنَّهم إذا خرجوا من قبورهم استُقبلوا بنوقٍ بيضٍ، لها أجنحة عليها رحال الذهب، شرك نعالهم نورٌ يتلألأ، كلُّ خطوةٍ منها مثلُ مدِّ البصر، وينتهون إلى باب الجنَّة، فإذا حلقة من ياقوتةٍ حمراء على صفائح الذَّهبِ، وإذا شجرةٌ على باب الجنَّة ينبع من أصلها عينان، فإذا شربوا من إحداهما جرتْ في وجوههم نضرة النَّعيم، وإذا توضؤوا من الأُخرى لم تشعث أشعارهم أبدًا، فيضربون الحلقة بالصَّفيحة، فلو سمعت طنين الحلقة، فيبل كل حوْرَاء، أنَّ زوجها قد أقبل، فتستخفها العَجَلة، فتبعثُ قيِّمها فيفتح له الباب، فلولا أنَّ اللَّهَ عزَّ وجل عرَّفه نفسه لخرَّ له ساجدًا ممَّا يرى من النور والبهاء، فيقول: أنا قيَّمُك الَّذي وُكِّلْتُ بأمرِك، فيتبعه
__________
(1) في “د”: “يستقبلون به”.

(1/306)


فيقفوا أثره، فيأتي زوجته، فتستخفها العجلة، فتخرج من الخيمة (1) فتعانقه، وتقول: أنت حِبِّي وأنا حِبُّكَ، وأنا الرَّاضية فلا أسخط أبدًا، وأنا النَّاعمة فلا أبأس أبدًا، والخالدة فلا أظعن أبدًا، فيدخل بيتًا من أساسه إلى سقفه مئة ألف ذراعٍ مبنيٌّ على جَنْدل اللؤلؤ والياقوت، طرائقَ حمرٍ، وطرائق خُضر، وطرائقَ صفرٍ، ما منها طريقةٌ تُشاكل صاحبتها، فيأتي الأريكة، فإذا عليها سريرٌ، على السَّرير سبعونَ فراشًا، عليها سبعون زوجةً، على كلِّ زوجةٍ سبعون حُلَّةً يُرى مُخُّ ساقها من باطن الجلْد، يقضي جمَاعهنَّ في مقدار ليلة، تجري من تحتهم أنهارٌ مُطَّردةٌ: أنهار من مَاءٍ غير آسن صافي ليس فيه كدرٌ، وأنَّهارٌ من عسلٍ مصفَّى، لم يخرج من بطون النحل، وأنهارٌ من خمرٍ لذَّةٍ للشَّاربين، لم تعصره الرجال بأقدامها، وأنهارٌ من لبنٍ لم يتغير طعمهُ، لم يخرج من بطون الماشية، فإذا اشتهوا الطعامَ، جاءتهم طيرٌ بيض، فترفع أجنحتها، فيأكلون من جنوبها من أي الألوان شاؤوا، ثمَّ تطير فتذهبُ، فيها ثمار مُتدليَّة، إذا اشتهوا انبعث الغُصنُ إليهم، فيأكلون من أيِّ الثمار شاؤوا، إنْ شاء قائمًا، وإنْ شاء متكئًا، وذلك قوله عزَّ وجل: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) } [الرحمن: 54]، وبين أيديهم خدمٌ كاللؤلؤ” (2) .
__________
(1) في “أ، ج، د، هـ”: “الجنَّة”.
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (7).
والعقيلي في الضعفاء (1/ 86) من طريق عبيد اللَّه بن سلمان عن الضحاك به، وذكر حديثًا طويلًا.
– ورواهُ أبو إسحاق السبيعي عن الحارث عن علي موقوفًا، وهو أصح. =

(1/307)


هذا حديثٌ غريب، وفي إسناده ضعف، وفي رفعه نظر، والمعروف أنَّه موقوف على عليٍّ.
قال ابن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن عمرو بن سليمان حدثنا محمد ابن فضيل عن عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد (1) في هذه الآية: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) } قال: “أما واللَّهِ ما يحشر الوفد على أرجلهم، ولكن يؤتون بنوقٍ لم ترَ الخلائق مثلها، عليها رِحالُ الذهب، وأزِمَّتُها الزبرجد، فيركبون عليها يضربوا باب الجنَّة” (2) .
__________
= أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة (2/ 132) رقم (281).
وذكر العقيلي أنَّ الحديث غير محفوظ، والأمر كما قال المؤلف: “حديث غريب، في إسناده ضعف، وفي رفعه نظر. . . “.
(1) كذا في جميع النسخ، وفي مصادر التخريج زيادة “عن علي”.
(2) أخرجه الطبري في تفسيره (16/ 126) عن زكريا بن يحيى بن أبي زائدة عن ابن فضيل عن عبد الرحمن عن النعمان بن سعد عن علي فذكره بمثله.
وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 61) رقم (34003)، وعبد اللَّه بن أحمد في زوائد المسند (1/ 155)، والحاكم (2/ 409) رقم (3425) وأبو نعيم في صفة الجنَّة (2/ 134 – 135) رقم (281) وغيرهم.
من طريق علي بن مسهر وأبي معاوية ويعلى بن عبيد كلهم عن عبد الرحمن بن إسحاق به موقوفًا على علي.
والحديث مدارهُ على عبد الرحمن بن إسحاق وهو ضعيف، وله منكرات كما تقدم ص (174).
والحديث صححه الحاكم، فتعقبه الذهبي فقال: “بل عبد الرحمن هذا لم يرو له مسلم ولا لخاله النعمان، وضعفوه”.

(1/308)


وقال علي بن الجعد في “الجعديات”: أخبرنا زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي اللَّهُ عنه قال: يُساق الَّذين اتقوا ربهم إلى الجنَّة زُمَرًا حتَّى ينتهوا إلى بابٍ من أبوابها، وجدوا عنده شجرةً يخرج من تحت ساقها عينان تجريان، فعدوا إلى إحداهما كأنَّما أُمِرُوا بها، فشربوا منها فأذهبت ما في بطونهم من أذًى أو قذىً أو بأس، ثمَّ عمدوا إلى الأُخرى فتطهروا منها فجرت عليهم نضرة النعيم، فلن تغيَّر أبشارهم أو تغير بعدها أبدًا، ولن تشعث أشعارهم كأنَّما دُهِنُوا بالدِّهان، ثمَّ انتهوا إلى خزنة الجنَّة فقالوا: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) } [الزمر: 73] قال: ثمَّ تتلقَّاهم الولدان يطيفون (1) بهم، كما يطيف ولدان أهل الدنيا بالحميم يقدم من غيبته، فيقولون: أبشرْ بما أعدَّ اللَّهُ (2) لك من الكرامة -كذا قال- ثمَّ ينطلقُ غلامٌ من أولئك الولدان إلى بعض أزواجه من الحور العين، فيقول: قد جاء فلانٌ باسمه الَّذي يُدعى به في الدنيا، فتقول: أنتَ رأيته؟ فيقول: أنا رأيته، وهو ذا بأثري، فيستخف إحداهنَّ الفرحُ، حتى تقوم على أسكُفَّةِ بابها، فإذا انتهى إلى منزله نظر إلى أساس بنيانه، فإذا جندل اللؤلؤ فوقه صرحٌ أخضرُ وأصفرُ وأحمرُ، ومن كلِّ لونٍ، ثمَّ رفع رأسه، فنظر إلى سقه، فإذا مثل البرقِ، فلولا أنَّ اللَّهَ قدَّره له لألمَّ أنْ يذهب ببصره، ثمَّ طأطأ رأسه فنظرَ إلى أزواجه وأكوابٍ موضوعةٍ، ونمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة، فنظروا إلى تلك النعمة،
__________
(1) في نسخةٍ على حاشية “أ”: “يطوفون”.
(2) من “ب، ج، د، هـ”.

(1/309)


ثمَّ اتكئوا وقالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا} [الأعراف: 43] ثمَّ ينادي منادٍ: تَحْيونَ فلا تموتون أبدًا، وتقيمون فلا تظعنون أبدًا (1) ، وتصحون فلا تمرضون أبدًا” (2) .
وقال عبد اللَّه بن المبارك: أخبرنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال قال: “ذُكِرَ لنا أنَّ الرَّجل إذا دخل الجنَّة صُوِّر صورة أهل الجنَّة، وأُلبسَ لباسهم، وحلِّيَ حليتهم، وأُري أزواجه وخدمه، ويأخذه سَوَارّ فرعٍ لو كان ينبغي أنْ يموت لمات من سوار فرحه، فيقالُ له: أرأيتَ فرحتك هذه، فإنَّها قائمة لك أبدًا” (3) .
__________
(1) من “ج”.
(2) أخرجه علي بن الجعد في الجعديات (2/ 926 – 927)، وعبد الرزاق في تفسيره (2/ 143 – 144) رقم (2646 و 2647)، وابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 59) رقم (33993)، وعبد الملك بن حبيب في وصف الفردوس رقم (128) مختصرًا، والمروزي في زياداته على الزهد لابن المبارك (1450) وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (8) وغيرهم.
قال الحافظ ابن حجر: “هذا حديث صحيح، وحكمه حكم الرفع، إذ لا مجال للرَّأي في مثل هذه الأمور”.
وقال البوصيري: “رواه إسحاق بن راهوية بسند صحيح، وحكمه حكم المرفوع، إذ ليس للرَّأي فيه مجال”.
انظر: المطالب العالية رقم (4601)، وإتحاف الخيرة المهرة رقم (7851).
(3) أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نُعيم- رقم (429)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (24) وغيرها.
وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/ 70 – 71) رقم (34103)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (285) من طرق عن سليمان بن المغيرة به =

(1/310)


قال ابن المبارك: وأخبرنا رشدين بن سعد: أنبأنا زهرة بن معبد القرشي، عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال: “إن العبد أوَّل ما يدخل الجنة يتلقاه سبعون ألف خادم، كأنَّهم اللؤلؤ” (1) .
قال ابن المبارك: وأنبأنا يحيى بن أيوب، حدثني عبيد اللَّه بن زحر (2) ، عن محمد بن أبي أيوب المخزومي، عن أبي عبد الرحمن المعافري قال: “إنه لَيُصَفُّ للرجل من أهل الجنة سِمَاطان، لا يرى طرفاهما من غلمانه، حتى إذا مرَّ مشوا وراءه” (3) .
وقال أبو نعيم: حدثنا سلمة عن الضحاك قال: “إذا دخل المؤمن الجنَّة، دخل أمامه ملك فأخذ به في سِكَكِهَا، فيقول له: انظر ما ترى؟ قال: أرى أكثر قصور رأيتها من ذهبٍ وفضةٍ، وأكثر أنيس. فيقول له الملكُ: فإنَّ هذا أجمع لك، حتَّى إذا رُفِعَ إليهم استقبلوه من كلَّ بابٍ، ومن كلِّ مكانٍ: نحن لك، نحن لك، ثمَّ يقول له: امشِ، فيقول له: ماذا ترى، فيقول: أرى أكثر عساكِرَ رأيتها من خيام، وأكثر
__________
= مثله.
وسنده صحيح.
(1) أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- رقم (427)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (25).
في سنده رشدين بن سعد ضعيف.
(2) في “ب، د”: “نصر” وهو خطأ.
(3) أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نُعيم- رقم (415)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (26) وفي سنده ضَعْف، لأنَّ يحيى بن أيوب وعبيد اللَّه بن زحر فيهما كلام.

(1/311)


أنيسٍ، قال: فإنَّ هذا أجمعَ لك، قال: فإذا رُفِعَ إليهم استقبلوه يقولون: نحن لك، ونحن لك” (1) .
وفي “الصحيحين” من حديث سهل بن سعد رضي اللَّهُ عنه أنَّ رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “ليدخلنَّ الجنَّة من أمتي سبعون ألفًا، أو سبع مئة ألف متماسكون آخذٌ بعضهم ببعض، لا يدخل أوَّلهم حتى يدخل آخرهم، وجوههم على صورة القمر ليلة البدرِ” (2) .
__________
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (27) وسنده صحيح.
– ورواهُ أسد بن موسى عن أخيه عن الضحاك فذكر معناه مرسلًا.
أخرجه ابن حبيب في وصف الفردوس رقم (32).
(2) تقدم في الباب الثاني والثلاثين ص (265).

(1/312)


الباب التاسع والثلاثون في ذكر صفة أهل الجنَّة في خَلْقِهِم وخُلُقِهم وطولهم وعرضهم ومقدار أسنانهم
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “خلق اللَّهُ عزَّ وجلَّ آدَمَ على صورته، طولُه ستون ذراعًا، فلما خلقه قال له: اذهب فسلِّم على أولئك النفر – وهم نفرٌ من الملائكة جُلوسٌ -، فاستمع ما يحيونك، فإنَّها تحيتك وتحية ذريتك، قال: فذهبَ فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليكَ ورحمةُ اللَّهِ، فزادوه ورحمة اللَّه قال: فكلُّ من يدخل الجنَّة على صورة آدمَ، طولُهُ ستون ذراعًا، فلم يزل ينقص الخلق بعدهُ حتَّى الآن” (1) متفقٌ على صحته.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، وعفان بن مسلم، قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد ابن المسيب، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “يدخل أهل الجنَّةِ الجنَّةَ جُردًا مُردًا بيضًا جعادًا مكحَّلين، أبناء ثلاث وثلاثين، وهم على خلق آدم ستون ذراعًا في عرض سبعة أذرع” (2)
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (3148)، ومسلم رقم (2841)، وأحمد في المسند (2/ 351).
(2) أخرجه أحمد في مسنده (2/ 295)، وابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 59) رقم (33995)، وابن أبي داود في البعث رقم (63)، وابن أبي الدنيا في صفة =

(1/313)


قيل: تفرد به حماد، عن علي بن زيد.
وفي “جامع الترمذي” من حديث شهر بن حوشب عن عبد الرحمن ابن غنْم عن معاذ بن جبل رضي اللَّهُ عنه أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “يدخل أهل الجنَّةِ الجنَّةَ جردًا مردًا مكحلين بني (1) ثلاثٍ وثلاثين” (2) .
__________
= الجنَّة رقم (15).
– ورواهُ جماعة عن حمَّاد بن سلمة عن علي بن زيد به نحوه.
أخرجه الطبراني في معجمه الصغير رقم (808)، والأوسط رقم (5422)، وابن عدي في الكامل (5/ 198)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (255)، والبيهقي في البعث والنشور رقم (463، 464).
قال الطبراني: “لم يرو هذا الحديث عن علي بن زيد إلَّا حماد بن سلمة، ولا يروى عن أبي هريرة إلَّا بهذا الإسناد”.
والحديث مدارهُ على علي بن زيد بن جُدْعان، وفيه لين، وفي المتن ألفاظٌ تفرَّد بها، لم يأتِ بها غيره كقوله “في عرض سبع أذرع”. ولهذا ساق ابن عدي هذا الحديث في جملة ما أُنكر عليه، وقال في آخر ترجمته “. . . وهو مع ضعفه يكتب حديثه”.
(1) في الترمذي: “بني ثلاثين أو”.
(2) أخرجه الترمذي برقم (2545)، وأحمد (5/ 243)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (21)، والبزار في مسنده برقم (2644)، والشاشي في مسنده رقم (1342)، والطبراني في الكبير (20/ 64) رقم (118)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (257).
قال الترمذي: “هذا حديث حسن غريب، وبعض أصحاب قتادة رووا هذا الحديث عن قتادة مرسلًا ولم يسندوه”.
– رواه معمر عن قتادة قال: أهل الجنَّة أبناء ثلاثين، جرد، مرد، مكحَّلون. . . “.
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11/ 416) رقم (20872)، وابن المبارك =

(1/314)


قال: “هذا حديث حسن غريب”.
وقال أبو بكر بن أبي داود: حدثنا محمود بن خالد وعباس بن الوليد قالا: حدثنا عمر عن الأوزاعي عن هارون بن رئاب (1) عن أنس بن مالك رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “يُبْعثُ أهل الجنَّةِ على صورة آدم في ميلاد ثلاثِ وثلاثين سنة جُرْدًا مُرْدًا مكحلين، ثمَّ يذهبُ بهم إلى شجرةٍ في الجنَّة، فيُكسون منها لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم” (2) .
__________
= في الزهد -رواية نعيم- رقم (423).
– ورواهُ سعيد بن أبي عروبة وشيبان عن قتادة عن شهر عن معاذ “ولم يذكرا: عبد الرحمن بن غنم”.
أخرجه أحمد (5/ 232 و 239) وغيره.
– ورواهُ عامر الأحول عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة مرفوعًا.
أخرجه الترمذي برقم (2539) وغيره.
قال الترمذي: “هذا حديث غريب”. وهذه إشارة إلى خطأ هذه الرواية.
والصواب رواية سعيد بن أبي عروبة وشيبان عن قتادة.
وعليه فالإسناد ضعيف للانقطاع، شهر لم يسمع من معاذ.
(1) في “ج”: “ريان”، وفي “هـ”: “رباب”.
(2) أخرجه ابن أبي داود في البعث رقم (64)، وأبو الشيخ في العظمة رقم (582)، والطبراني في الصغير رقم (1164)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 56)، وفي صفة الجنَّة رقم (255) وغيرهم.
– ورواهُ الوليد بن مسلم فقال: حدثنا الأوزاعي به.
أخرجه البخاري في تاريخه الكبير (8/ 219) تعليقًا.
– قال أبو نعيم: ورواهُ غيره عن الأوزاعي عن هارون فقال: حدثني من سمع أنسًا. =

(1/315)


وقال الترمذي: حدثنا سويد بن نصر حدثنا عبد اللَّه بن المبارك عن رِشْدِين بن سعد عن عمرو بن الحارث أنَّ درَّاجًا أبا السَّمْحِ حدَّثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “من ماتَ من أهل الجنَّة من صغيرٍ أو كبيرٍ يُردُّونَ بني ثلاثين سنة في الجنَّة (1) لا يزيدون عليها أبدًا، وكذلك أهل النَّار” (2) .
__________
= – ورواهُ روَّاد بن الجرَّاح عن الأوزاعي به وزاد في متنه شيئًا، وسيأتي عند المؤلف.
أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (220).
وهذه الرواية منكرة، وروَّاد بن الجرَّاح تغير واختلط، فجاء بمناكير، وهذا منها؛ لمخالفته عمر والوليد بن مسلم، وعليه فالحديث إسناده ضعيف؛ لعدم معرفة الواسطة بين أنس وهارون، واللَّهُ أعلم.
وقال الهيثمي “إسناده جيِّد”. انظر: مجمع الزوائد (10/ 399).
(1) قوله: “بني ثلاثين سنة في الجنَّة”، في الترمذي “أبناء ثلاثين في الجنَّة”.
(2) أخرجه الترمذي برقم (2562)، وابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (17)، والبغوي في شرح السنة (15/ رقم 4381).
– ورواهُ عبد اللَّه بن وهب عن عمرو بن الحارث به مثله.
أخرجه ابن أبي داود في البعث رقم (78)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (259).
– ورواهُ ابن لهيعة عن درَّاج به فقال فيه “ستين” بدلًا من “ثلاثين” وهو من أوهامه.
أخرجه أبو يعلى في مسنده (2/ رقم 1405)، والحديث ضعيف الإسناد، من أجل رواية درَّاج عن أبي الهيثم، كما تقدَّم في الباب (10) ص (119).
وقال الترمذي: “هذا حديث غريب، لا نعرفه إلَّا من حديث رشدين”.

(1/316)


فإن كان هذا محفوظًا لم يناقض ما قبله، فإنَّ العرب إذا قدَّرت بعدَدٍ له نيِّف؛ فإنَّ لهم طريقين: تارةً يذكرون النَّيف للتحرير، وتارةً يحذفونه، وهذا معروف في كلامهم، وخطاب غيرهم من الأمم.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا القاسم بن هاشم (1) حدثنا صفوان بن صالح حدثنا روَّاد بن الجراح العسقلاني حدثنا الأوزاعي عن هارون بن رئاب عن أنس بن مالك رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “يدخل أهلُ الجنَّة الجنَّة على طول آدم ستين ذراعًا بذراع الملك، على حُسْنِ يوسف، وعلى ميلاد عيسى ثلاثٍ وثلاثين سنة، وعلى لسان محمد جُرْد مُرْد مُكحَّلون”.
وقال ابن وهب: حدثني معاوية بن صالح عن عبد الوهاب بن بُخْت عن أبي الزِّناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ أهل الجنَّة يدخلون الجنَّة على قدر آدم ستون ذراعًا، وعلى ذلك قطعتْ سُررهم” (2) .
وقد تقدَّم (3) أنَّ أوَّل زمرة صورهم على صورة القمر ليلة البدر،
__________
(1) وقع في “د، هـ” ونسخة على حاشية “أ”: “هشام”.
(2) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة (2/ 92) تحت رقم (248).
– ورواه أبو صالح وأبو زرعة وهمام بن منبه عن أبي هريرة مطولًا، وليس فيه “وعلى ذلك قطعت سررهم”.
أخرجه البخاري رقم (3148 و 3149)، ومسلم رقم (2834 و 2841) وغيرهما.
(3) في ص (231).

(1/317)


وأنَّ الذين يلونهم على ضوء أشدِّ كوكبٍ في السَّماءِ إضاءةً.
وأمَّا الأخلاق فقد قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) } [الحجر: 47]، فأخبر عن قلوبهم (1) وتلاقي وجوههم.
وفي “الصحيحين” (2) : “أخلاقهم على خَلْق رجلٍ واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعًا في السماء”.
الرواية “على خَلْق” -بفتح الخاء وسكون اللام- والأخلاق كما تكون جمعًا للخُلق بالضم، فهي جمع للخَلق بالفتح، والمراد: تساويهم في الطول والعرض والسن، وإن تفاوتوا في الحسن والجمال، ولهذا فسره بقوله: “على صورة أبيهم آدم ستون ذراعًا في السماء”.
وأما أخلاقهم وقلوبهم ففي “الصحيحين” (3) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: “أول زمرة تلج الجنة” الحديث. وقد تقدم وفيه: “لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب واحد، يسبحون اللَّه بكرة وعشيًا”.
وكذلك وصف اللَّه سبحانه وتعالى نسائهم بأنهنَّ أتراب. أي: في سِنٍّ واحدة، ليس فيهن العجائز والشواب، (4) وفي هذا الطول
__________
(1) في “ب”: “تلاقي قلوبهم”.
(2) تقدم في الباب (27) ص (231 – 232).
(3) تقدم في الباب (27) ص (231).
(4) في نسخةٍ على حاشية “د”: “والتوَّاب”.

(1/318)


والعرض والسن من الحكمة ما لا يخفى، فإنه أبلغ وأكمل في استيفاء اللذة؛ لأنة أكمل سن القوة مع عظم آلات الَّلذة، وباجتماع الأمرين يكون كمال اللذة وقوتها، بحيث يصل في اليوم الواحد إلى مئة عذراء، كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى (1) ، ولا يخفى التناسب الذي بين هذا الطول والعرض، وأنه لو زاد أحدهما على الآخر فات الاعتدال وتَنَاسُب الخِلْقة، يصير طولًا مع دِقَّةٍ، أو غلظًا مع قصر، وكلاهما غير مناسب، واللَّه أعلم.
__________
(1) سيأتي في (ص/ 502 – 506، 517).

(1/319)


الباب الأربعون في ذكر أعلى أهل الجنَّة منزلة وأدناهم، وأعلاهم منزلة سيِّد ولدِ آدم صلوات اللَّهِ وسلامه عليه
قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة: 253].
قال مجاهد وغيره: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ}: موسى {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}: هو محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- (1).
وفي حديث الإسراء المتفق على صحته: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم-، لما جاور موسى قال: “رب لم أظن أن يُرفَع علَيَّ أحد”، ثم علا فوق ذلك بما لا يعلمه إلا اللَّه، حتى جاوز سدرة المنتهى” (2).
وفي “صحيح مسلم” (3) من حديث عمرو بن العاص -رضي اللَّه عنهما-، أنه سمع النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ، فإنه من صلى عليَّ صلاةً صلَّى اللَّه عليه عشرًا (4)، ثم سلوا لي الوسيلة، فإنها منزلةٌ في الجنة لا تنبغي إلَّا لعبدٍ
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (2/ 483) رقم (2553)، والطبري في تفسيره (3/ 1).
وسنده حسن.
(2) أخرجه البخاري رقم (7079)، واللفظ له، ومسلم رقم (162) من حديث أنس رضي اللَّهُ عنه.
(3) رقم (384).
(4) في مسلم “بها عشرًا”.

(1/320)


من عباد اللَّه، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة”.
وفي “صحيح مسلم” (1) : من حديث المغيرة بن شعبة -رضي اللَّه عنه- عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أنَّ موسى سألَ ربَّهُ: ما أدنى أهل الجنَّة منزلةً؟ فقال: رجلٌ يجيء بعدما دخل أهل الجنَّةِ الجنَّةَ، فيقال له: ادخلِ الجنَّة، فيقول: ربِّ كيف، وقد نزل النَّاسُ منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أنْ يكون لك مثل مَلِكٍ (2) من ملوك الدنيا، فيقول: رضيتُ ربِّ، فيقول له: لك ذلك، ومثله، ومثله، ومثله، ومثله، فقال في الخامسة: رضيت ربِّ، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذَّت عينك، فيقول (3) : رضيتُ ربِّ. قال: ربِّ فأعلاهم منزلةً؟ قال: أولئك الَّذين أردت، غرستُ كرامتهم بيديَّ، وختمتُ عليها فلم ترَ عينٌ، ولم تسمع أذنٌ، ولم يخطر على قلب بشر”.
وقال الترمذي: حدثنا عبد بن حميد أخبرنا شَبَابَة عن إسرائيل عن ثوير قال: سمعت ابن عمر رضي اللَّهُ عنهما يقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ أدنى أهل الجنَّة منزلةً لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسُررِهِ مسيرة ألفِ سنة، وأكرمهم على اللَّهِ من ينظر إلى وجهه غُدوةً وعشيةً، ثمَّ قرأ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) }
__________
(1) رقم (189).
(2) في مسلم: “مثل مُلْكِ مَلِكٍ”.
(3) من قوله “رضيت رب، فيقول: هذا لك وعشرة” إلى “فيقول” من مسلم، وقد سقط من جميع النسخ.

(1/321)


[القيامة: 22 – 23] ” (1) .
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم (2553 و 3330)، وعبد بن حميد في مسنده “المنتخب رقم 817″، والآجري في الشريعة (620 و 621)، والدَّارقطني في الرؤية رقم (170 – 172 و 174) وغيرهم.
من طريق إسرائيل عن ثوير به كما تقدم.
ورواهُ عبد الملك بن أبجر، واختلف عليه.
– فرواهُ أبو معاوية عن عبد الملك بن أبجر عن ثوير عن ابن عمر فذكره مرفوعًا.
أخرجه أحمد (2/ 13)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (97)، والدَّارقطني في الرؤية رقم (173)، وأبو الشيخ في العظمة رقم (604)، والطبراني كما ذكره المؤلِّف، وغيرهم.
قلتُ: وهذا خطأ، أخطأ فيه أبو معاوية، وهو كثير الخطأ عن غير الأعمش، ويحتمل من اضطراب ثوير وهو ضعيف.
خالفه حسين بن علي الجعفي فوقفه.
– فرواهُ حسين عن عبد الملك عن ثوير عن ابن عمر موقوفًا من قوله.
أخرجه ابن أبي شيبة (7/ 58) رقم (33989)، والَّلالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم (866).
– ورواهُ الثوري – في الرواية الرَّاجحة عنه – عن ثوير عن مجاهد عن ابن عمر موقوفًا.
أخرجه الترمذي بعد حديث رقم (2553)، والطبري في تفسيره (29/ 193).
– ورواهُ أبو مريم عن ثوير أنَّ رجلًا حدَّثه كان عند ابن عمر فذكره مرفوعًا.
أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (451).
– ورواهُ الأعمش عن ثوير عن ابن عمر قوله بنحوه ولم يذكر الرؤية.
أخرجه ابن أبي شيبة (7/ 62) رقم (34013)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة (34).
فهذا الاضطراب فيما يظهر من ثوير بن أبي فاخته -وهو ضعيف- بل ضعفه بعضهم جدًّا واتَّهمه بالكذب، وهو متجه هنا، خاصة والحديث مداره على ثوير =

(1/322)


قال: “وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن إسرائيل عن ثوير عن ابن عمر مرفوعًا (1) . قال: ورواهُ عبد الملك بن أبجر، عن ثُويْر، عن ابن عمر: موقوفًا. ورواهُ عبيد اللَّه الأشجعي عن سفيان عن ثُوير عن مجاهد عن ابن عمر نحو، ولم يرفعه”.
قلتُ: ورواه الطبراني في “معجمه” من حديث أبي معاوية عن عبد الملك بن أبجر عن ثوير عن ابن عمر مرفوعًا: “إنَّ أدنى أهل الجنَّة منزلةً لرجل ينظر في ملكه ألفي سنة، يرى أقصاه كما يرى أدناهُ، ينظر إلى أزواجه وسرره وخدمه” الحديث.
ورواهُ أبو نعيم عن إسرائيل عن ثوير قال: سمعتُ ابن عمر.
قال إسرائيل: لا أعلم ثويرًا إلَّا رفعه إلى النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن هو: ابن موسى، حدثنا سُكَين بن عبد العزيز، حدثنا أبو الأشعث الضرير، عن شهر بن حوشب، عن أبي
__________
= هذا وهو رافضي متفقٌ على ضعفه.
والحديث ضعفه الترمذي بقوله “غريب” والذهبي والهيثمي وغيرهم.
انظر مختصر استدراك الذهبي على مستدرك الحاكم لابن الملقن (2/ 968)، ومجمع الزوائد (10/ 401).
والثابت عن ابن عمر: ما رواه ابن عون عن محمد بن سيرين قال: إنَّ أدنى أهل الجنَّة منزلةً، لمَن يقال له تمنَّ، ويذكِّره أصحابه، فيقال له: هولك ومثله معه، قال محمد بن سيرين: قال ابن عمر: “هو لك وعشرة أمثاله، وعند اللَّه المزيد”.
أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (36) وسنده صحيح.
(1) في جميع النسخ “غير مرفوع” وهو خطأ، والتصويب من الترمذي.

(1/323)


هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إن أدنى أهل الجنة منزلة من له سبع درج، وهو على السادسة، وفوقه السابعة، وإن له لثلاث مئة خادم، ويُغْدَى عليه ويُراح كل يوم بثلاث مئة صحفة -ولا أعلمه إلا قال- من ذهب، في كل صحفة لون ليس في الأُخرى، وإنه ليلَذّ أوله كما يلذ آخره، ومن الأشربة ثلاث مئة إناء، في كل إناء لون ليس في الآخر، وإنَّه ليلذ أوله كما يلذ آخره، وإنه ليقول: يا رب لو أذنت لي لأطعمت أهل الجنة وسقيتهم لم ينقص ممَّا عندي شيء، وإن له من الحور العين لاثنتين وسبعين زوجة سوى أزواجه من الدنيا، وإن الواحدة منهن ليأخذ مقعدها قدر ميل من الأرض” (1) .
قلت: سكين بن عبد العزيز: ضعفه النسائي (2) . وشهر بن حوشب: ضعفه مشهور.
والحديث منكر، مخالف للأحاديث الصحيحة (3) :
– فإن طول ستين ذراعًا لا يحتمل أن يكون مقعدة صاحبه بقدر ميل من الأرض.
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (2/ 537)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (229).
والحديث كما قال المؤلِّف منكر.
قال ابن كثير: “تفرَّد به أحمد، وهو غريب، وفيه انقطاع”.
(2) وضعفه أيضًا أبو داود والدَّارقطني، ووثَّقه ابن معين والعجلي والطنافسي، وقال أبو حاتم وابن عدي: “لا بأس به”.
انظر ترجمته في تهذيب الكمال (11/ 210 – 211)، والكامل لابن عدي (3/ 462 – 463).
(3) في “هـ” “الأحاديث الصِّحاح”.

(1/324)


– والذي في “الصحيحين” (1) ، في أول زمرة تلج الجنة: “لكل امرئ منهم زوجتان من الحور العين”، فكيف يكون لأدناهم ثنتان وسبعون؟
– وأقل ساكني الجنة نساء الدنيا (2) ، فكيف يكون لأدنى أهل الجنة جماعة منهن؟
– وأيضًا فإن الجنتين الذهبيتين أعلى من الفضيتين (3) ؟ فكيف يكون أدناهم في الذهبيتين؟.
قال الدولابي: “شهر بن حوشب لا يشبه حديثه حديث النَّاس”. وقال ابن عون: “إنَّ شهرًا نزكوه”. وقال النسائي وابن عدي: “ليس بالقوي”. وقال أبو حاتم: “لا يحتج به”. وتركه شعبة ويحيى بن سعيد، وهذان من أعلم الناس بالحديث، ورواته وعلله، وإن كان غير هؤلاء، قد وثقه وحسَّن حديثه، فلا ريب أنه إذا تفرد بما يخالف ما رواه الثقات لم يقبل (4) . واللَّه أعلم.
__________
(1) تقدم ص (256).
(2) تقدم ص (258 – 260).
(3) راجع الباب (22) ص (206 – 211).
(4) انظر ترجمته وأقوال أئمة والتعديل فيه في تهذيب الكمال (12/ 578 – 589).

(1/325)


الباب الحادي والأربعون في تحفة أهل الجنَّة إذا دخلوها
روى مسلم في “صحيحه” (1) من حديث ثوبان قال: كنتُ قائمًا عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فجاء حَبْرٌ من أحبار اليهود فقال: السلام عليكَ يا محمد، فدفعته دفعةً كاد يصرع منها، فقال: لم تدفعني؟ فقلتُ: ألا تقول يا رسول اللَّه؟ فقال اليهودي: إنَّما ندعوه باسمه الَّذي سمَّاه به أهله، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ اسمي محمد الَّذي سماني به أهلي” فقال اليهودي: جئت أسألك، فقال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أينفعك شيءٌ إنْ حدَّثتكَ؟ فقال: أسمعُ بأذني، فنكتَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعودٍ معه في الأرض، فقال: سل؟ فقال اليهودي: أين يكون النَّاسُ يومَ تبدل الأرضُ غير الأرض والسماوات؟ فقال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: هم في الظلمة دون الجسر، قال: فمن أوَّل النَّاس إجازةً يوم القيامة؟ قال: فقراء المهاجرين، قال اليهودي: فما تُحْفتهم حين يدخلون الجنَّة؟ قال: زيادة كبد النون، قال: فما غِذاؤهم على إثره (2)؟ قال: ينحر لهم ثور الجنَّة الَّذي كان يأكل من أطرافها، قال: فما شرابهم عليه؟ قال: من عينٍ فيها تُسمَّى سلسبيلًا، قال: صدقت، قال: وجئتُ أسألك عن شيءٍ لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلَّا نبي، أو رجل أو رجلان، قال: ينفعك إنْ حدثتك؟ قال: أسمع بأُذُنيَّ، قال: جئت أسألك عن الولد؟
__________
(1) رقم (315).
(2) في “ب، ج، هـ”: “إثرها”.

(1/327)


قال: ماء الرجل أبيضُ، وماءُ المرأة أصفرُ، فإذا اجتمعا فعلا منيُّ (1) الرجل منيَّ المرأة أذكرا بإذن اللَّه تعالى، وإن علا مني المرأة منيَّ الرجل آنثا بإذن اللَّه تعالى، فقال اليهودي: لقد صدقت وإنَّك لنبي ثمَّ انصرف، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: لقد سألني هذا عن الَّذي سألني عنه ومالي علمٌ بشيءٍ منه، حتَّى أتاني اللَّه عزَّ وجل به”.
وفي “صحيح البخاري” (2) عن أنس رضي اللَّه عنه قال: سمع عبدُ اللَّهِ بن سلام مَقْدَم النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المدينة، وهو في أرضٍ يَخْتَرِفُ، فأتى النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: إنِّي سائلكَ عن ثلاث لا يعلمهنَّ إلَّا نبي، فما أوَّل أشراط السَّاعة؟ وما أوَّل طعام أهل الجنَّة؟ وما ينزع الولدُ إلى أبيه أو أُمِّهِ؟ قال: أخبرني بهنَّ جبريل آنفًا، قال جبريل؟ قال: نعم، قال ذاك عدوُّ اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 97]، أمَّا أوَّل أشراط السَّاعة: فنارٌ تحشر النَّاس من المشرق إلى المغرب، وأمَّا أوَّل طعام يأكله أهل الجنَّة: فزيادة كبدِ الحوت، وإذا سبق ماءُ الرجل ماءَ المرأة نزع الولدُ، وإذا سبق ماءُ المرأة ماءَ الرجل نزعت الولد (3) ، قال: أشهد أنْ لا إله إلَّا اللَّه وأشهد أنَّك رسول اللَّه، يا رسول اللَّه، إنَّ اليهود قومٌ بهتٌ، وإنَّهم إنْ يعلموا بإسلامي قبل أنْ تسألهم بهتوني، فجاءتِ اليهود
__________
(1) في “أ”: “فعلا ماء مني” ولفظه “ماء” ليست في مسلم، ولا باقي النسخ.
(2) رقم (3723).
(3) قوله “وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد” من البخاري، وفي جميع النسخ، “وإذا سبق ماء المرأة نزعت”.

(1/328)


فقال: أىُّ رجلٍ عبدُ اللَّهِ فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، قال: أفرأيتم إن أسلم عبدُ اللَّه؟ فقالوا: أعاذه اللَّه من ذلك، فخرج عبد اللَّه فقال: أشهد أنْ لا إله إلَّا اللَّه وأشهد أنَّ محمد رسول اللَّه، فقالوا: شَرُّنا وابنُ شرِّنا وانتقصوه، فقال: هذا الَّذي كنتُ أخاف يا رسول اللَّهِ”.
وفي “الصحيحين” (1) من حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “تكون الأرض يوم القيامة خُبزةً واحدةً يتكفَّؤها الجبَّارُ بيدهِ كما يتكفَّأ أحدكم خُبزته في السَّفر نُزُلًا لأهلِ الجنَّة، فأتى رجلٌ من اليهود فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم، ألا أخبرك بنزل أهل الجنَّة يوم القيامة؟ قال: بلى، قال: تكون الأرض خُبزةً واحدةً، كما قال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فنظر النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلينا ثمَّ ضحك حتى بدت نواجذه، ثمَّ قال: ألا أخبرك بإدامهم؟ قال: بلى، قال: إدامهم بالامٌ ونُونٌ، قال: وما هذا؟ قال: ثور ونون يأكل من زيادة كبدهما سبعون ألفًا”.
قال عبد اللَّه بن المبارك: أخبرنا ابن لهيعة، حدثني يزيد بن أبي حبيب أنَّ أبا الخير أخبره أنَّ أبا العوام أخبره أنَّه سمع كعبًا يقول: “إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يقول لأهل الجنَّة إذا دخلوها: إنَّ لكلِّ ضيفٍ جَزورًا، وإنِّي أجْزِرَكم اليومَ، فيؤتى بثورٍ وحوتٍ، فيُجزَرُ لأهل الجنَّة” (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6155)، ومسلم رقم (2792).
(2) أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نُعيم بن حماد- رقم (432)، وأخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة برقم (111). =

(1/329)


الباب الثاني والأربعون في ذكر ريح الجنَّة، ومن مسيرة كم يُنْشَق
قال الطبراني: حدثنا موسى بن خازم الأصبهاني، حدثنا محمد بن بُكير (1) الحضرمي، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري عن الحسن بن عمرو عن مجاهد عن جُنَادة بن أبي أُمية عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “من قتل قتيلًا من أهل الذمة لم يَرَحْ رائحة الجنَّة، وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة مئة عام” (2).
__________
= وسنده لا بأس به، وأبو العوام مؤذَّن إيليا تابعي، صاحَبَ عمر بن الخطاب ومعاذًا روى عنه جماعة، وذكره ابن حبان في الثقات. وابن لهيعة ضعيف؛ لكن لا بأس به في غير الأحاديث المرفوعة؛ إذا صرَّح بالتحديث، وكان من رواية أحد العبادلة.
تنبيه: سقط من الزهد لابن المبارك: “نا ابن المبارك”؛ لأنَّ نُعَيمًا لم يسمع من ابن لهيعة.
(1) في “ب، د” “بن أبي بكر” بدلًا من “بن بكير” وهو خطأ، وفي “هـ” “بن بكر” وهو خطأ.
(2) أخرجه الطبراني لعلَّه في المعجم الكبير -في القسم المفقود-.
وهذه الرواية خطأ:
فقد خولف محمد بن بكير الحضرمي في قوله “مائة عام”.
فرواهُ:
1 – عبد الرحمن بن إبراهيم “دحيم”، عند النسائي (8/ 25) وغيره.
2 – وإسماعيل بن محمد المعقَّب “ثقة”، عند أحمد (2/ 186).
3 – 4 – وأيوب الوزان ويعقوب، عند ابن أبي عاصم في الدِّيات ص (86).
5 – وعلي بن مسلم الطوسي، عند الحاكم في المستدرك (2/ 137) رقم =

(1/330)


ورواهُ البخاري في “الصحيح” عن قيس بن حفص عن عبد الواحد ابن زياد عن الحسن بن عمرو الفُقَيمي عن مجاهد عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما ولم يذكر بينهما جنادة، وقال: “ليوجد من مسيرة أربعين عامًا”.
وقال الترمذي: حدثنا محمد بن بشار حدثنا معدي بن سليمان هو البصري عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “ألا من قتل نفسًا معاهدًا له ذِمَّةُ اللَّهِ وذمَّةُ رسوله، فقد أخفر بذمَّة اللَّهِ، فلا يرح رائحة الجنَّة، وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفًا” (1) .
__________
= (2580)
لكن فيه “. . . ليوجد من كذا وكذا”.
6 – وابن أبي عمر العدني، عند البيهقي في السنن (9/ 205).
كلهم عن مروان به مثله؛ لكنَّهم قالوا -غير الطوسي- “أربعين عامًا”.
– ورواهُ عبد الواحد بن زياد وأبو معاوية كلاهما عن الحسن بن عمرو عن مجاهد عن عبد اللَّه بن عمرو فقال: “أربعين عامًا”، كما ذكره المؤلِّف.
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2995)، وابن أبي شيبة (5/ 455) رقم (27938)، وابن ماجه (2686) وغيرهم.
وعليه فالصحيح رواية “أربعين عامًا”، وأمَّا رواية “مائة عام” فوهم من محمد بن بكير الحضرمي، قال أبو حاتم الرَّازي: “صدوق عندي، يغلط أحيانًا”، وقال أبو نعيم الأصبهان: “. . وهو صاحب غرائب”، ووثَّقه غير واحد، فلعلَّ هذا ممَّا غلط فيه واللَّه أعلم.
انظر: تهذيب الكمال (24/ 544 – 545) وفتح الباري (6/ 270).
(1) أخرجه الترمذي برقم (1403)، وابن ماجه (2687)، والحاكم (2/ 138) =

(1/331)


قال: “وفي الباب عن أبي بكرة، وحديث أبي هريرة حديث حسن صحيح” (1) .
قال محمد بن عبد الواحد: “وإسناده عندي على شرط الصحيح” (2) .
قلتُ: وقد رواهُ الطبراني من حديث عيسى بن يونس عن عوف الأعرابي عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة يرفعه: “من قتل نفسًا مُعاهدة بغير حقها لم يرح رائحة الجنَّة، وإنَّ ريح الجنَّة يوجد من مسيرة مئة عام” (3) .
وقال الطبراني: حدثنا إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن أو غيره عن أبي بكرة رضي اللَّه عنه قال: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “ريحُ الجنَّة يوجدُ من مسيرة مئة عام” (4) .
__________
= رقم (2581). قال الحاكم: “حديث أبي هريرة صحيح على شرط مسلم”.
والحديث صححه الترمذي والحاكم والضياء المقدسي كما نقله المؤلِّف.
(1) وزاد “وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-“.
(2) انظر صفة الجنَّة له ص (147).
(3) أخرجه الطبراني في الأوسط (1/ 198) رقم (663).
قال الطبراني: “لم يرو هذا الحديث عن عوف إلَّا عيسى”.
– ورواهُ محمد بن مهران الجمال عن عيسى بن يونس به نحوه.
أخرجه أبو بكر الإسماعيلي في معجمه برقم (2/ 725 – 726)، والسهمي في تاريخ جرجان ص (323)، والطبراني في الأوسط (6/ 64 – 65) رقم (8011).
والحديث ظاهر سنده صحيح.
(4) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (10/ رقم “19712”)، وأحمد في المسند =

(1/332)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= (5/ 46)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (193) وغيرهم.
– ورواهُ سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بكرة رفعه، وفيه: “خمس مئة عام”.
أخرجه الطبراني في الأوسط رقم (2923) ولا يثبت.
– ورواه جماعة عن الحسن عن أبي بكرة نحوه، وفيه “خمس مئة عام”.
أخرجه عبد الرزاق (18522)، وابن حبان (7383)، والطبراني في الأوسط (431)، ولا يثبت عن الحسن منها شيء.
– ورواه جماعة عن يونس عن الحسن عن أبي بكرة، واضطربوا في لفظه.
أخرجه النسائي (8744)، وابن حبان (4881 و7382)، والحاكم (1/ 105) رقم (134).
والصواب -في حديث يونس- ما رواه الحفَّاظ: كالثوري وابن عُليَّة ويزيد بن زريع وغيرهم، كلهم عن يونس بن عبيد عن الحكم بن الأعرج عن الأشعث بن ثُرْملة عن أبي بكرة نحوه، وفيه: “. . حرَّم اللَّه عليه الجنة”.
أخرجه أحمد (5/ 36 و38)، وابن حبان (11/ رقم 4882)، وابن أبي شيبة في مصنفه (27935) والبخاري في تاريخه (1/ 428) وغيرهم.
قال البخاري عن هذا الطريق “أصح” يعني من طريق حماد بن سلمة.
وقال النسائي عن طريق حماد بن سلمة: “هذا خطأ، والصواب حديث ابن عُليَّة. . . “. وكذا رجَّح هذا الطريق الحافظ أبو علي النيسابوري.
– ورواهُ حميد أبو المغيرة العجلي عن الأشعث بن ثُرْمُلة به نحوه، وفيه “حرَّم اللَّه عليه ريح الجنَّة”.
أخرجه الدولابي في الكنى والأسماء (2/ 126).
– ورواهُ عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن عن أبيه عن أبي بكرة، بنحوه.
أخرجه أحمد (5/ 36 و38)، وأبو داود (2760)، والنسائي (8/ 24).
– ورواهُ عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه نحوه، وفيه “مائة عام” وفي رواية “خمس مئة عام”.

(1/333)


وهذه الألفاظ لا تعارض بينها بوجه.
وقد أخرجا في “الصحيحين” (1) من حديث أنس قال: لم يشهد عَمِّي مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بدرًا، قال: فشقَّ عليه، قال: أوَّلُ مشهدٍ شهده رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- غبتُ عنه، فإنْ أراني اللَّهُ مشهدًا فيما بعدُ مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ليرينَّ اللَّه ما أصنعُ، قال: فهابَ أنْ يقول غيرها، قال: فشهد مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يومَ أحد، قال فاستقبل سعد بن معاذ فقال له: أين؟ فقال: واهًا لريح الجنَّة أجده دون أُحد، قال: فقاتلهم حتى قُتِلَ، قال: فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية، فقالت أخته عمَّة الرُّبَيِّع بنتُ النضر: فما عرفتُ أخي إلَّا ببَنَانه، ونزلت هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]. قالوا: فكانوا يرون أنَّها نزلت فيه وفي أصحابه.
وريح الجنَّة نوعان: ريحٌ يوجد في الدنيا تشمُّه الأرواح أحيانًا ولا تدركه العبارة، وريح يُدرك بحاسة الشمِّ للأبدان، كما تشم روائح الأزهار وغيرها، وهذا يشترك أهل الجنَّة في إدراكه في الآخرة من قرب وبُعد، وأمَّا في الدنيا فقد يدركه من شاء اللَّهُ من أنبيائه ورسله، وهذا الَّذي وجدهُ أنس بن النضر يجوز أنْ يكون من هذا القسم، وأنْ يكون
__________
= أخرجه أحمد (5/ 50 و 51)، وفي سنده ضعف.
والحديث ثابتٌ عن أبي بكرة، لكن رواية “حرَّم اللَّهُ عليه الجنَّة” أقوى وأصحّ إسنادًا ممَّن روى “مئة عام” أو “خمس مئة عام” واللَّه أعلم.
(1) أخرجه البخاري رقم (2651)، ومسلم رقم (1903).

(1/334)


من (1) الأوَّل، واللَّهُ أعلمُ.
وقال أبو نعيم: حدثنا محمد بن معمر حدثنا محمد بن أحمد المؤدب، حدثنا عبد الواحد بن غياث أخبرنا الربيع بن بدر حدثنا هارون بن رئاب عن مجاهد عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “رائحة الجنَّة توجد (2) من مسيرة خمس مئة عامٍ” (3) .
وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عبد اللَّه الحضرمي حدثنا محمد بن أحمد بن محمد بن طريف حدثنا أبي حدثنا محمد بن كثير حدثني جابر الجعفي عن أبي جعفر محمد بن علي عن جابر رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “ريح الجنَّة يوجد من مسيرة ألف عام، واللَّه لا يجدها عاقٌّ، ولا قاطع رحم” (4) .
وقال أبو داود الطيالسي في “مسنده”: حدثنا شعبة عن الحكم عن
__________
(1) من “ب، ج، د، هـ”، ونسخةٍ على حاشية “أ”.
(2) كذا في جميع النسخ، ولفظه عند أبي نعيم “تراح رائحة الجنَّة. . . “.
(3) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (194)، وفي الحلية (3/ 307)، والطبراني في الصغير رقم (408).
قال الهيثمي: “وفيه الربيع بن بدر وهو متروك”.
انظر مجمع الزوائد (8/ 148)، والتقريب لابن حجر رقم (1883).
(4) أخرجه الطبراني في الأوسط رقم (5664)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة (2/ 43) رقم (194).
قال الهيثمي: “رواهُ الطبراني في الأوسط من طريق محمد بن كثير عن جابر الجعفي، وكلاهما ضعيف جدًّا”.
انظر مجمع الزوائد (8/ 148 – 149).

(1/335)


مجاهد عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “من ادَّعى إلى غير أبيه لم يرحْ رائحة الجنَّة، وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة خمسين (1) عامًا” (2) .
وقد أشهد اللَّهُ سبحانه عباده في هذه الدَّار آثارًا من أثار الجنَّة، وأنموذجًا منها من الرائحة الطيبة، والَّلذات المُشْتهاة، والمناظر البَهيَّة، والفاكهة الحسنة، والنعيم والسُّرور، وقُرَّة العين.
وقد روى أبو نُعيم من حديث الأعمش عن أبي سفيان عن جابر رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “يقول اللَّهُ عزَّ وجلَّ للجنَّة: طِيْبي لأهلك فتزداد طيبًا، فذلك البَرْد الَّذي يجده النَّاس بالسَّحَرِ من ذلك” (3) .
__________
(1) في “هـ” “خمسمائة”، وعند الطيالسي “سبعين” بدل “خمسين”.
(2) أخرجه الطيالسي في مسنده رقم (2388)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (196) وغيرهما من هذا الطريق.
– ورواهُ غندر ووهب بن جرير عن شعبة به مثله.
أخرجه أحمد (2/ 171 و 194) وغيره.
ورواهُ مروان بن معاوية عن الحسن بن عمرو عن مجاهد عن جنادة بن أبي أمية عن عبد اللَّه بن عمرو فذكره وفيه “مائة عام”.
أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (198).
والحديث سنده صحيح.
(3) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (20 و 199)، والطبراني في الصغير (1/ 63 – 64) رقم (75).
وقال: “لم يروه عن الأعمش إلَّا عمرو بن عبد الغفار، تفرَّد به يوسف بن =

(1/336)


كما جعل سبحانه نار الدنيا وآلامها وغمومها وأحزانها مُذكِّرةً (1) بنار الآخرة، قال تعالى في هذه النَّار: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} [الواقعة: 73].
وأخبر النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّ شدَّة الحرِّ والبردِ من أنفاس جهنَّم (2) ، فلا بُدَّ أنْ يشهد عباده أنفاس جنته، وما يذكرهم بها، واللَّهُ المستعان.
__________
= موسى أبو غسان”.
قال الهيثمي: “وفيه عمرو بن عبد الغفار وهو متروك”.
انظر مجمع الزوائد (10/ 412).
(1) في “د” “تذكرة”.
(2) أخرجه البخاري رقم (512)، ومسلم رقم (617) من حديث أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه.

(1/337)


الباب الثالث والأربعون في الأذان الَّذي يؤذن به مؤذن الجنَّة فيها
روى مسلمٌ في “صحيحه” (1) من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه وأبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “يُنادي منادٍ: إنَّ لكم أنْ تَصِحُّوا فلا تسقموا أبدًا، وإنَّ لكم أنْ تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وإنَّ لكم أنْ تشبوا فلا تهرموا أبدًا، وإنَّ لكم أنْ تنعموا فلا تبأسوا أبدًا، وذلك قول اللَّه عزَّ وجلَّ: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} [الأعراف: 43].
وقال عثمان بن أبي شيبة: حدثنا يحيى بن آدم حدثنا حمزة الزَّيَّات، عن أبي إسحاق عن الأغر عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي اللَّه عنهما عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} قال: نودوا أنْ صِحُّوا فلا تسقموا أبدًا، واخلدوا فلا تموتوا أبدًا، وأنعموا فلا تبأسوا أبدًا” (2).
__________
(1) رقم (2837).
(2) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة (2/ 148 – 149) رقم (290) من طريق عثمان بن أبي شيبة به.
وأخرجه أحمد في المسند (3/ 38) وابن أبي حاتم في تفسيره (5/ 1480) رقم (8477) والنسائي في تفسيره (1/ رقم 204) من طريق عبيد ابن يعيش ثنا يحيى بن آدم به مثله.
– ورواهُ عبد الرزاق وأبو سفيان المعمري عن الثوري عن أبي إسحاق به مثله.
أخرجه أحمد في المسند (3/ 95)، ومسلم رقم (2837)، وأبو نعيم في =

(1/338)


وفي “صحيح مسلم” (1) من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب رضي اللَّه عنه أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إذا دخل أهل الجنَّة الجنَّة، وأهل النَّارِ النَّارَ، نادى منادٍ، يا أهل الجنَّة، إنَّ لكم عند اللَّهِ موعدًا، فيقولون: ما هو؟ ألم يُثَقِّل موازيننا، ويُبيِّض وجوهنا، ويدخلنا الجنَّة، وينجِّينا من النَّارِ؟ فيكشف الحجاب فينظرون إلى اللَّهِ، فواللَّهِ ما أعطاهم اللَّه شيئًا هو أحبَّ إليهم من النظر إليه”.
وقال عبد اللَّه بن المبارك: حدثنا أبو بكر الهذلي (2) ، أخبرني أبو تميمة الهُجَيمي، قال: سمعتُ أبا موسى الأشعري يخطب على منبر البصرة يقول: إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يبعث يوم القيامة ملكًا إلى أهل الجنَّة،
__________
= صفة الجنَّة (2/ 148) رقم (290).
وقد خولف عبد الرزاق:
– فرواهُ ابن المبارك والفريابي وقبيصة عن الثوري عن أبي إسحاق بمثله موقوفًا.
أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- رقم (428)، وهناد في الزهد رقم (175)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة (2/ 148) رقم (290) وغيرهم.
– ورواهُ شعبة عن أبي بكر بن حفص عن الأغر به.
انظر أطراف المسند (7/ 136).
والحديث ثابتٌ رفعه، قال الدَّارقطني: “ورفعه صحيح”. انظر علل الدَّارقطني (11/ 240 – 241).
(1) رقم (181).
(2) في جميع النسخ “الألهاني” وهو خطأ.

(1/339)


فيقول: يا أهل الجنَّة، هل أنجزكم اللَّهُ ما وعدكم؟ فينظرون فيرون الحُلي والحُلل والأنهار، والأزواج المطهرة، فيقولون: نعم، قد أنجز ما وعدنا، قالوا ذلك ثلاث مرَّاتٍ، فينظرون فلا يفتقدون شيئًا ممَّا (1) وعدوا، فيقولون: نعم، فيقول: قد بقي شيء، إنَّ اللَّهَ يقول: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]: ألَا إنَّ الحسنى: الجنَّة، والزيادة: النظر إلى وجه اللَّهِ” (2) .
وفي “الصحيحين” (3) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إن اللَّه عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟
__________
(1) في “أ، ج” “كما”.
(2) أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- رقم (419)، والطبري في تفسيره (11/ 105)، والدَّارقطني في الرؤية رقم (46)، والبيهقي في البعث رقم (492).
ورواهُ وكيع والنضر بن شميل وشبابه وغيرهم كلهم عن أبي بكر الهذلي به نحوه بعضهم اختصره.
أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (351)، والدَّارقطني في الرؤية رقم (44، 45)، وهناد في الزهد رقم (169) وغيرهم.
والأثر مداره على أبي بكر الهذلي وهو أخباري متروك الحديث. انظر التقريب رقم (8002).
– ورواهُ أبان بن أبي عياش عن أبي تميمة عن أبي موسى بنحوه.
أخرجه الطبري (11/ 105)، والدَّارقطني في الرؤية رقم (43).
وفيه أبان بن أبي عياش وهو متروك الحديث، انظر التقريب رقم (142).
(3) أخرجه البخاري رقم (6183)، ومسلم رقم (2829).

(1/340)


فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك، فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: ربنا وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدًا”.
ومن تراجم البخاري عليه: بابٌ: كلامُ الربِّ مع أهل الجنة (1) .
وسيأتي في هذا أحاديث نذكرها في باب معقود لذلك إن شاء اللَّه تعالى (2) .
وفي “الصحيحين” (3) من حديث نافع عن ابن عمر -رضي اللَّه عنه- أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “يدخل اللَّه أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم فيقول: يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت، كلٌّ خالدٌ فيما هو فيه”.
وهذا الأذان وإن كان بين الجنة والنار فهو يبلغ جميع أهل الجنة والنار، ولهم نداء آخر يوم زيارتهم ربهم تبارك وتعالى، يرسل إليهم ملكًا، فيؤذن فيهم بذلك فيسارعون إلى الزيارة، كما يؤذن مؤذن الجمعة إليها، وذلك في مقدار يوم الجمعة، كما سيأتي مبينًا في باب: زيارتهم الرب عز وجل (4) إن شاء اللَّه تعالى، واللَّه أعلم.
__________
(1) في كتاب التوحيد (6/ 2732) رقم (7080).
(2) انظر الباب (66) ص (715)،
(3) البخاري رقم (6178)، ومسلم رقم (2850).
(4) انظر الباب (61) ص (576).

(1/341)


الباب الرَّابع والأربعون في أشجار الجنَّة، وبساتينها وظلالها
قال تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) [73/ أ] وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33)} [الواقعة: 27 – 33]، وقال تعالى: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48)} [الرحمن: 48]، وهو جمع فَنَنٍ (1): وهو الغصن، وقال: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68)} [الرحمن: 68].
والمخضود: الَّذي خُضِد شوكه: أي نُزِعَ وقُطِعَ، فلا شوك فيه.
وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل، وقتادة، وأبي الأحوص، وقسامة بن زهير، وجماعة (2).
واحتجَّ هؤلاء بحجتين:
إحداهما: أنَّ الخضد في اللغة: القطعُ، وكلُّ رطب قضبته فقد خضدته، وخضدت الشجر: إذا (3) قطعت شوكه، فهو خضيد ومخضود، ومنه الخَضَدُ على مثال الثَّمَر، وهو كل ما قطع من عودٍ رطبٍ، خَضَد بمعنى مَخْضود كقَبَض وسَلَب، والخضاد: شجر رخو لا شوكَ له.
__________
(1) في “ب”: “فن” وهو خطأ.
(2) انظر: تفسير عبد الرزاق (2/ 218) رقم (3125) والطبري (27/ 179 – 180)، والزهد لهناد بن السَّري رقم (109, 110).
(3) من المطبوعة.

(1/342)


الحُجَّة الثانية: قال ابن أبي داود: حدثنا موسى بن مصفَّى (1) ، حدثنا محمد بن المبارك حدثنا يحيى بن حمزة حدثني ثور بن يزيد حدثني حبيب بن عُبَيد عن عُتْبة بن عبدٍ السلمي رضي اللَّه عنه قال: كنتُ جالسًا مع رسول اللَّه، فجاء أعرابي فقال: يا رسول اللَّه، أسمعك تذكر في الجنَّة شجرة (2) لا أعلمُ شجرة أكثرَ شوكًا منها -يعني الطلح- فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ اللَّهَ يجعل مكان كلَّ شوكةٍ منها ثمرةً مثل خَصْوةِ التَّيْسِ الملبود، فيها سبعون لونًا من الطعامِ، لا يُشْبِهُ لونٌ آخَرَ” (3) . “الملبود”: الَّذي قد اجتمع شعره بعضه على بعض.
وقال عبد اللَّه بن المبارك: أخبرنا صفوان بن عمرو عن سُلَيم بن عامر قال: كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولون: إنَّ اللَّهَ لينفعنا بالأعراب ومسائلهم، أقبل أعرابي يومًا، فقال: يا رسول اللَّه، ذكر اللَّه في الجنَّة شجرةً مؤذيةً، وما كنتُ أرى في الجنَّة شجرةً تُوذي صاحبها، قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: وما هي؟ قال: السِّدْرُ، فإنَّ له شوكًا مؤذيًا، قال: أليس اللَّه يقول: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) } [الواقعة: 28]؟! خَضَدَ اللَّهُ شوكه
__________
(1) في “أ”: “معلَّى” وهو خطأ.
(2) من “هـ”، ونسخة على حاشية “أ”.
(3) أخرجه ابن أبي داود في البعث رقم (69).
– ورواهُ أبو مسهر وابن المبارك كلاهما عن يحيى بن حمزة به نحوه.
أخرجه الطبراني في الكبير (17/ 130) رقم (318)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (347)، وفي الحلية (6/ 103).
والحديث صحيح الإسناد، وقد تقدم من طريق آخر عن عتبة بن عبدٍ السلمي (ص/ 273).

(1/343)


فجعل مكان كلِّ شوكةٍ ثمرةً” (1) .
وقالت طائفة: المخضود هو: المُوْقَر حَمْلًا (2) .
وأُنْكِرَ عليهم هذا القول، وقالوا: لا يُعْرَفُ في اللغة الخضد بمعنى الحمل. ولم يُصِبْ هؤلاءِ الَّذين أنكروا هذا القول، بل هو قولٌ صحيح، وأربابه ذهبوا إلى أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى لمَّا خضد شوكه وأذهبه، وجعل مكان كلِّ شوكةٍ ثمرة أوقره بالحمل، والحديثان المذكوران يجمعان القولين (3) .
__________
(1) أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نُعَيم- رقم (263)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (109).
– ورواهُ بشر بن بكر ومحمد بن حرب كلاهما عن صفوان بن عمرو عن سُليم بن عامر عن أبي أُمامة الباهلي قال كان أصحاب رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فذكر نحوه.
أخرجه ابن أبي الدنيا رقم (110)، والحاكم في المستدرك (2/ 518) رقم (3778)، والبيهقي في البعث رقم (302).
قال الحاكم: “صحيح الإسناد، ولم يخرجاه”.
قلتُ: والطريق المرسل أصح، فإنْ طريق محمد بن حرب من رواية الواقدي وهو متروك، وطريق بشر بن بكر التَّنَّيْسي من رواية الربيع بن سليمان المرادي وهو صدوق، وابن المبارك أثبت وأحفظ من بشر بن بكر، واللَّهُ أعلم.
(2) قال به الحسن وقتادة وسعيد بن جبير وعكرمة.
انظر: تفسير الطبري (27/ 180).
(3) وممَّن قال بالقولين جميعًا: ابن عباس، وعكرمة، وقتادة.
انظر: تفسير عبد الرزاق (2/ 218) (3125) والطبري (27/ 179 – 180).

(1/344)


وكذلك قول من قال: المخضود الَّذي لا يَعْقِر اليد، ولا يرد اليد منه شوك ولا أذى فيه، فسَّره بلازم المعنى، وهكذا غالب المفسرين يذكرون لازم المعنى المقصود تارة، وفردًا من أفراده تارة، ومثالًا من أمثلته فيحكيها الجمَّاعون للغثِّ والسَّمين أقوالًا مختلفة، ولا اختلاف بينها.

فصل
وأمَّا الطَّلحُ: فأكثر المفسرين قالوا: إنَّه شجر الموز.
قال مجاهد: “أعجبهم طلح وَجٍّ وحُسْنه، فقيل لهم: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29)} ” (1).
وهذا قول علي بن أبي طالب، وابن عبَّاس، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري رضي اللَّهُ عنهم (2).
وقالت طائفة أخرى: “بل هو شجرٌ عظامٌ طوالٌ، وهو من شجر البوادي الكثير الشوك عند العرب. قال حَاديهم:
__________
(1) أخرجه الطبري في تفسيره (27/ 181 و 182)، والبيهقي في البعث والنشور رقم (304).
وسنده صحيح.
(2) انظر: تفسير عبد الرزاق (2/ 218) رقم (3126 و 3128)، والزهد لهناد بن السري رقم (1/ 111 و 112)، وصفة الجنَّة لابن أبي الدنيا رقم (64)، وتفسير الطبري (27/ 181)، والبعث للبيهقي رقم (305، 306، 308)، وتفسير ابن كثير (4/ 309).

(1/345)


بَشَّرَهَا دَلِيْلُهَا وقَالَا … غدًا ترينَ الطَّلحَ والجِبَالا (1)
ولهذا الشجر نورٌ ورائحة طيبة، وظلٌّ ظليل، وقد نضد بالحمل والثَّمر مكان الشوك.
قال ابن قتيبة: “هو الَّذي نُضِدَ بالحمل أو بالورق والحمل من أوَّله إلى آخره، فليس له ساق بارز” (2) .
وقال مسروق: “ورق الجنَّة نُضِدَ (3) من أسفلها إلى أعلاها، وأنهارها تجري في غير أخدود” (4) .
وقال الليث: “الطلح: شجر أم غيلان له شوك أحجن، من أعظم العضاة شوكًا، وأصلبه عودًا، وأجوده صَمْغًا”.
قال أبو إسحاق: “يجوز أنْ يُعْنى به شجر أم غيلان؛ لأنَّ له نَوْرًا طيبَ الرائحة جدًّا، فَوُعِدُوا بما يحبون مثله، إلَّا أنَّ فضله على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنَّة على سائر ما في الدنيا (5) ، فإنَّه ليس
__________
(1) انظر: مجاز القرآن (2/ 250)، ونقله عنه الطبري في تفسيره (27/ 181)، ونسبه القرطبي (17/ 208) للجعدي.
(2) انظر: تفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص (448)، وفيه “. . . له سوق بارزة”.
(3) في “ج، هـ”: “نضيد”.
(4) أخرجه هناد في الزهد رقم (95 و 103 و 104)، وابن أبي شيبة (7/ 53 – 54)، رقم (33948)، وابن صاعد في زوائده على الزهد لابن المبارك رقم (1489 و 1490).
وسنده صحيح.
(5) من قوله: “قال الليث. . . ” إلى “الدنيا” عند الأزهري في تهذيب اللغة (3/ 2202).
وعنه ابن منظور في لسان العرب (2/ 532 – 533) ط – دار صادر.

(1/346)


ما في الجنَّة ممَّا في الدنيا إلَّا الأسامي.
والظَّاهر أنَّ من فسَّر الطَّلح المنضود: بالموز، إنَّما أراد التمثيل به لحسن نضده، وإلَّا فالطلح في اللغة: هو الشَّجر العظام من شجر البوادي واللَّه أعلم (1) .
وفي “الصحيحين” (2) من حديث أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ في الجنَّة شجرةً يسير الرَّاكبُ في ظلها مئة عامٍ لا يقطعها فاقرؤوا إنْ شئتم {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) } [الواقعة: 30] “.
وفي “الصحيحين” (3) أيضًا من حديث أبي حازم عن سهل بن سعد رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ في الجنَّة لشجرةً يسيرُ الرَّاكبُ في ظلها مئة عامٍ لا يقطعها”.
قال أبو حازم: فحدثْتُ به النعمان بن أبي عيَّاش الزُّرقي فقال: حدثني أبو سعيد الخدري عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ في الجنَّة لشجرةً يسيرُ الرَّاكبُ الجوادُ المضمَّر السريعُ (4) مئة عامٍ لا يقطعها” (5) .
__________
(1) لعلها لغة عند بعض أهل اليمن، قال ابن زيد في قوله “وطلحٍ منضود”، قال: “اللَّه أعلم، إلَّا أنَّ أهل اليمن يُسمُّون الموز: الطَّلح”.
أخرجه الطبري في تفسيره (27/ 182) وسنده صحيح.
(2) أخرجه البخاري رقم (3080، 4599)، ومسلم رقم (2826).
(3) البخاري رقم (6186)، ومسلم رقم (2827).
(4) في البخاري زيادة “في ظلها” وهي ليست في جميع النسخ.
(5) أخرجه البخاري رقم (6186)، ومسلم رقم (2828).

(1/347)


وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا شعبة عن أبي الضَّحَّاك سمعتُ أبا هريرة رضي اللَّه عنه يقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ في الجنَّة شجرةً يسير الرَّاكبُ في ظلِّها سبعين أو مئة سنة، هي شجرة الخلد” (1) .
وقال وكيع: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن زياد مولى بني مخزوم عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه: “إنَّ في الجنَّة شجرةً يسيرُ الرَّاكبُ في ظلها مئة عام اقرؤوا إنْ شئتم {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) } [الواقعة: 30] “. فبلغ ذلك كعبًا فقال: صدق، والَّذي أنزل التوراة على لسان موسى،
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند (2/ 462)، والطبري في تفسيره (27/ 183)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة (2/ 244) رقم (403).
ورواهُ غندر وحجاج والطيالسي وعبد الصمد وسعيد بن الربيع وغيرهم كلهم عن شعبة به نحوه.
أخرجه أحمد (2/ 455)، والطيالسي في مسنده رقم (2670)، وعبد بن حميد في مسنده “المنتخب” رقم (1445) والدارمي رقم (2881)، وابن أبي الدنيا رقم (43 و 63) وغيرهم.
والحديث مداره على أبي الضحاك، قال أبو حاتم: “لا أعلم روى عنه غير شعبة”. وقال الذهبي: “لا يُعرف. . . “.
والحديث فيه نكارة، وهو لفظة “شجرة الخلد”:
فإنَّ الحديث رواهُ عن أبي هريرة جماعة: كالمقبري والأعرج ومحمد بن زياد وعبد الرحمن بن أبي عمرة وغيرهم كلهم عن أبي هريرة، ليس فيه “شجرة الخلد”.
وكذلك رواه أنس بن مالك وأبو سعيد الخدري وسهل بن سعد، وليس فيه “شجرة الخلد”.
وهذا يدل على ضعف حديث أبي الضحاك هذا، واللَّهُ أعلم.

(1/348)


والفرقان على لسان محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- لو أنَّ رجلًا ركب جذعةً أو جذعًا، ثمَّ دار بأصل تلك الشجرة ما بلغها حتى يسقط هرمًا، إنَّ اللَّه غرسها بيده، ونفخ فيها من روحه (1) ، وإنَّ أفنانها من وراء سور الجنَّة، ما في الجنَّة نهرٌ إلَّا وهو يخرج (2) من أصل تلك الشجرة” (3) .
وقال ابن أبي الدنيا: حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا أبو عامر العقدي حدثنا زمعة (4) بن صالح عن سلمة بن وَهْرَام عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: “الظِّلُّ الممدود: شجرةٌ في الجنَّة على ساقٍ، قدر ما يسير الرَّاكب المُجِدُّ في ظلها مئة عام في كلَّ نواحيها، فيخرج إليها أهل الجنَّة: أهل الغرف وغيرهم فيَتَحدَّثون في ظلها، قال: فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا، فيرسل اللَّه ريحًا من
__________
(1) قوله “من روحه” لفظ ابن المبارك وعبدة كما سيأتي، وليست في النُّسَخ.
(2) في “ب” ونسخةٍ على حاشية “أ” “يجري”، وهي ليست في مصادر التخريج.
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (44).
ورواهُ ابن المبارك وجرير وعبدة وغيرهم، كلهم عن إسماعيل بن أبي خالد به نحوه.
أخرجه ابن أبي الدنيا رقم (44)، وابن المبارك في الزهد -رواية نُعيم- رقم (267)، وهنَّاد في الزهد رقم (114) وغيرهم.
والحديث مداره عن زياد مولى بني مخزوم قال ابن معين: “لا شيء” الجرح والتعديل (3/ 549).
– ورواهُ ابن إسحاق عن زياد مولى بني مخزوم عن كعب أنَّه قال: “غرسها اللَّهُ بيده. . . من وراء سور الجنَّة”.
أخرجه عبد الملك بن حبيب في وصف الفردوس رقم (91).
(4) في “د”: “زعمة” وهو خطأ.

(1/349)


الجنَّة فتحرِّك تلك الشجرة بكل لهوٍ كان في الدنيا” (1) .
وفي “جامع الترمذي” من حديث أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “ما في الجنَّة شجرة إلَّا وساقها من ذهب” (2) .
قال: “هذا حديث حسن” (3) .
__________
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (45).
ورواه الكديمي والحسن بن أبي الربيع كلاهما عن أبي عامر العقدي به مثله.
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره كما عند ابن كثير (4/ 310)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (404).
قال ابن كثير: “هذا أثرٌ غريب، وإسناده جيد قوي حسن”.
قلتُ: فيه زمعة بن صالح: ضعيف، انظر: تهذيب الكمال (9/ 386 – 389).
وأيضًا رواية زمعة عن سلمة منكرة، ولهذا قال ابن حبان -في سلمة بن وهرام- “يعتبر بحديثه من غير رواية زمعة بن صالح عنه”.
انظر: تهذيب الكمال (11/ 328 – 329).
(2) أخرجه الترمذي برقم (2524)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (48)، وابن أبي داود في البعث رقم (65)، وابن حبان في صحيحه (16/ رقم 7410) وغيرهم.
من طريق زياد بن الحسن بن الفرات عن أبيه عن جدِّه عن أبي حازم عن أبي هريرة فذكره بمثله.
والحديث مداره على زياد بن الحسن هذا، قال فيه أبو حاتم الرَّازي: “منكر الحديث”، وقال فيه الدارقطني: “لا بأس به، ولا يحتج به”.
انظر: تهذيب الكمال (9/ 453)، والجرح والتعديل (3/ 329 – 530).
(3) كذا في جميع النسخ، وفي تحفة الأشراف للمزي (10/ 87) وقال: “حسن =

(1/350)


وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “يقول اللَّهُ: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، اقرؤوا إنْ شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) } [السجدة: 17]، وفي الجنَّة شجرة يسير الرَّاكبُ في ظلها مئة عامٍ لا يقطعها، واقرؤوا إنْ شئتم: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) } [الواقعة: 30]، وموضع سوط من الجنَّة خيرٌ من الدنيا وما فيها، واقرؤوا إنْ شئتم: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] ” (1) .
رواهُ بهذا اللفظ والسِّياق الترمذي والنسائي وابن ماجه، وصَدْرُهُ
__________
= غريب”.
(1) أخرجه الترمذي برقم (3292) مطوَّلًا، وبرقم (3013) مختصرًا، والنسائي في الكبرى (6/ 317 – 318) رقم (11085)، وابن ماجه برقم (4335)، وأحمد في المسند (2/ 438) مطوَّلًا، وابن حبان في صحيحه (16/ رقم 7417)، والحاكم (2/ 327) رقم (3170) مختصرًا على جملة “موضع السوط”، والبغوي في شرح السنة (15/ 209 – 210) رقم (4372) مطوَّلًا، وغيرهم.
من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة فذكره مطوَّلًا، واختصره بعضهم.
قال الترمذي: “حسن صحيح”.
وقال الحاكم: “صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه”.
وقال البغوي: “حديث صحيح”.
وأصل الجملتين الأولتين في الصحيحين وغيرهما، والجملة الثالثة عند أحمد (2/ 315).

(1/351)


في الصحيحين (1) .
وفي “صحيح البخاري” (2) من حديث أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ في الجنَّة لشجرةً يسير الرَّاكب في ظلِّها مئة عام لا يقطعها، وإنْ شئتم فاقرؤوا: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) } [الواقعة: 30 – 31].
وقال ابن وهب: حدثنا عمرو بن الحارث أنَّ درَّاجًا أبا السَّمْحِ حدَّثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال: قال رجلٌ: يا رسول اللَّهِ، ما طوبى؟ قال: شجرة في الجنَّة مسيرة مئة سنة، ثيابُ أهل الجنَّة تخرج من أكمامها” (3) .
__________
(1) البخاري رقم (3072)، ومسلم رقم (2724).
(2) رقم (3079).
(3) أخرجه ابن أبي داود في البعث رقم (67)، والطبري في تفسيره (13/ 149)، وابن حبان في صحيحه (16/ رقم 7413)، والآجري في الشريعة رقم (624) وغيرهم.
من طريق سليمان بن داود وابن سلم ويزيد بن خالد الرَّملي عن ابن وهب به نحوه.
– ورواهُ حرملة عن ابن وهب به كما ذكره المؤلف.
أخرجه ابن حبان في صحيحه (16/ رقم 7230).
– ورواهُ ابن لهيعة عن درَّاج أبي السمح به نحوه.
أخرجه أحمد في المسند (3/ 71) وغيره.
والحديث مداره على رواية أبي السمح درَّاج عن أبي الهيثم، وقد تقدم الكلام عليها في الباب (10).

(1/352)


وقد رواه عنه حرْمَلَة بزيادة (1) ، فقال: أخبرني ابن وهب، أخبرني عمرو أنَّ درَّاجًا حدثه أنَّ أبا الهيثم حدثه، عن أبي سعيد رضي اللَّه عنه أنَّ رجلًا قال: يا رسول اللَّهِ، طوبَى لمن رآكَ وآمن بكَ؟ فقال: طُوبى لمن رآني وآمن بي، ثمَّ طوبى، ثمَّ طوبى، ثمَّ طوبى لمن آمن بي ولم يرني، فقال رجلٌ: يا رسول اللَّهِ، ما طوبى؟ قال: شجرة في الجنَّة مسيرة مئة سنة، ثياب أهل الجنَّة تخرج من أكمامها”.
قلتُ: وأوَّل هذا الحديث في “المسند” ولفظه: “طوبى لمن رآني وآمن بي، وطُوبى لمن آمن بي ولم يرني سبع مرَّاتٍ” (2) .
__________
(1) في نسخةٍ على حاشية “أ” “بن زيادة” وهو خطأ.
(2) أخرجه أحمد في المسند (5/ 248 و 257 و 264)، والبخاري في تاريخه (2/ 27)، وابن حبان في صحيحه (16/ رقم 7233)، والطبراني في الكبير (7/ رقم 8009).
عن عفان ويزيد بن هارون وعبد الصمد وموسى بن داود وعبيد اللَّه بن موسى وموسى بن إسماعيل وسهيل بن بكَّار كلهم عن همام بن يحيى العوذي عن قتادة عن أيمن بن مالك الأشعري عن أبي أُمامة الباهلي فذكره.
– ورواهُ أبو عامر العقدي عن همام عن قتادة عن أيمن عن أبي هريرة فذكره مثله.
أخرجه ابن حبان في صحيحه (16/ رقم 7232).
وهذا خطأ ووهم، وادَّعى ابن حبان أنَّ أيمن الأشعري سمعه من أبي أُمامة وأبي هريرة، وفيه نظر، فقد قال البخاري: “ولم يذكر قتادة سماعه من أيمن، ولا أيمن من أبي أُمامة”.
– ورواهُ هدبة بن خالد عن همام وحماد بن الجعد عن قتادة عن أيمن عن أبي أمامة فذكره.
أخرجه أحمد (5/ 248) وغيره.
والحديث كما قال البخاري، وأيضًا أيمن مجهول، لم يرو عنه إلَّا قتادة.

(1/353)


وقال ابن المبارك: حدثنا سفيان عن حمَّاد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: “نخلُ الجنَّة جذوعها من زُمرد أخضر، وكربها ذهبٌ أحمر، وسعفها كسوة لأهل الجنَّة، منها مُقطَّعاتهم وحللهم (1) ، وثمرها أمثال القِلالِ والدِّلاءِ، أشدُّ بياضًا من الَّلبن، وأحلى من العسلِ، وألينُ من الزُّبْد، ليس فيه عَجَمٌ” (2) .
__________
(1) في “أ، ج”: “وحلاهم”، والمثبت من باقي النسخ، والزهد لابن المبارك.
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (51).
ورواهُ عبد الرحمن بن مهدي ووكيع وقبيصة والحسين بن حفص وغيرهم عن سفيان به نحوه.
أخرجه ابن الصاعد في زوائده على الزهد لابن المبارك رقم (1488)، وهناد في الزهد رقم (99 و 102)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/ رقم 33950)، والبيهقي في البعث رقم (311) وغيرهم.
– ورواه مسعر بن كدام عن حماد به بلفظ “نخل الجنَّة خشبها ذهبٌ أحمر، وكربها زمرد أخضر. . . “.
أخرجه أبو الشيخ في العظمة رقم (574)، والسرقسطي في الدلائل كما في حاشية النسخة “د” (104 ق).
– وخالفهما محمد بن جابر بن سيار “وهو يخطئ على حماد” فرواهُ عن حماد به فرفعه.
أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (406).
أخطأ فيه ابن سيار فإنَّ له مناكير عن حماد وهذا منها.
والصحيح موقوف، لكن مداره على حماد بن أبي سليمان، وفي حفظه مقال؛ لكنه هنا حفظه.
فقد توبع: تابعه أشعث بن أبي الشعثاء عن حماد به مثله موقوفًا وفيه زيادة. =

(1/354)


وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن بحر، حدثنا هشام بن يوسف حدثنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عامر بن زيد البكالي أنَّه سمع عتبة بن عبد السلمي رضي اللَّه عنه يقول: جاء أعرابي إلى النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فسأله عن الحوض، وذكر الجنَّة، ثمَّ قال الأعرابي: فيها فاكهة، قال: نعم، وفيها شجرةٌ تُدْعَى طُوبى، فذكر شيئًا لا أدري ما هو؟ فقال: إنَّ (1) شجر أرضنا تشبهه، قال: ليست تشبه شيئًا من شجر أرضك (2) ، فقال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أتيت الشام؟ قال: لا، قال: تشبه شجرة بالشام تُدعى الجَوْزة، تنبتُ على ساق واحدٍ، وينفرشُ أعلاها، قال: ما عِظَمُ أصلها؟ قال: لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحاطتْ بأصلها حتى تنكسر ترقوتها هرمًا، قال: فيها عنبٌ؟ قال: نعم، قال: فما عِظَمُ العنقود؟ قال: مسيرة شهر للغراب الأبقع لا يفتر، قال: فما عِظَمُ الحَبَّة؟ قال: هل ذبح أبوك تيسًا -من غنمه قطُّ- عظيمًا؟ قال:
__________
= أخرجه السلمي في وصف الفردوس رقم (97).
وعليه فالأثر ثابتٌ، وقد جوَّده المنذري.
– وقد ثبت عن الحسن البصري أنَّه قال: “نخل الجنَّة جذوعها ذهب، وكرمها زمرد وياقوت، وسعفها حُلَل، يخرج الرطب أمثال القلال، أحلى من العسل، وأبيض من اللبن”.
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/ رقم 34101) بسند صحيح عنه.
تنبيه: قال ناسخ “د” في الحاشية: “هذا الأثر رواهُ قاسم بن ثابت في كتاب الدلائل على غير هذه الصورة -فذكره- ثمَّ قال: كرب الجنَّة: أصل منابت السعف، وذلك العريض. والعجم: النوى، واحدها: عجمة. . . “.
(1) في “ب، هـ”: “أي” استفهامية.
(2) في نسخةٍ على حاشية “أ” “أرضكم”.

(1/355)


نعم، قال: فسلخ أهابه فأعطاهُ أمَّك، فقال: اتخذي لنا منه دلوًا؟ قال: نعم، قال الأعرابي: فإنَّ تلك الحبَّة لتشبعني وأهل بيتي، قال: نعم، وعامة عشيرتك” (1) .
وقال أبو يعلى الموصلي في “مسنده”: حدثنا عبد الرحمن بن صالح حدثنا يونس بن بُكَير عن محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد اللَّه ابن الزبير عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر رضي اللَّه عنهما قالت: سمعت رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وذكر سدرة المنتهى فقال: “يسيرُ في ظلِّ الفَنَنِ منها الرَّاكبُ مئة سنة، أو قال: يستظلُ في الفَنَنِ منها مئة راكب، فيها فراش الذهب كأنَّ ثمرها القلالُ” (2) .
ورواهُ الترمذي وقال: “شك يحيى، وهو حديث حسن غريب”.
وقال عبد اللَّه بن المبارك: أنبأنا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند (4/ 183 – 184)، وقد تقدم الكلام عليه في باب (32) و (44) ص (273 – 274, 343).
(2) أخرجه أبو يعلى في مسنده الكبير وليس المطبوع، والترمذي برقم (2541)، وهناد في الزهد رقم (115)، والطبري في تفسيره (27/ 54 – 55)، والطبراني في الكبير (24/ 87 – 88) رقم (234)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (435)، والحاكم في المستدرك (2/ 510) رقم (3748).
قال الترمذي: “هذا حديث حسن غريب”.
وقال الحاكم: “هذا حديث صحيح على شرط مسلم”.
والحديث سنده حسن، وقد صرَّح ابن إسحاق بالسماع من يحيى، كما عند هنَّاد في الزهد.

(1/356)


مجاهد قال: “أرضُ (1) الجنَّة من ورق، وترابها مسك، وأصول أشجارها ذهبٌ ووَرق، وأفنانها لؤلؤ وزبرجد وياقوت، والورق والثمر تحتَ ذلك، فمن أكَل قائمًا لم يؤذهِ، ومن أكل جالسًا لم يؤذه، ومن أكل مضطجعًا لم يؤذه، {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) } [الإنسان: 14] (2) .
وقال أبو معاوية: حدثنا الأعمش عن أبي ظبيان عن جرير بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه قال: نزلنا الصَّفاح، فإذا رجلٌ نائم تحتَ شجرة قد كادتِ الشمسُ أنْ تبلغه، قال: فقلتُ للغلام: انطلق بهذا النِّطع فأظله، قال: فانطلق فأظلَّهُ، فلما استيقظَ إذا هو سلمان فأتيته أُسلِّمُ عليه (3) ، فقال: يا جريرُ، تواضع للَّه، فإنَّهُ من تواضع للَّه في الدنيا رفعه اللَّهُ يوم القيامة، يا جرير، هل تدري ما الظلماتُ يوم القيامة؟ قلتُ: لا أدري، قال: ظلمُ النَّاسِ بينهم، ثمَّ أخذ عويدًا، لا أكادُ أراهُ بين أصبعيه، فقال: يا جرير، لو طلبت في الجنة مثل هذا لم تجده، قلتُ: يا أبا عبد اللَّهِ، فأينَ النخلُ والشجرُ؟ قال: أصولها اللؤلؤ والذهبُ وأعلاها الثمر” (4) .
__________
(1) في الزهد لابن المبارك “إنَّ أرض”.
(2) تقدم الكلام عليه في الباب (34) ص (286).
(3) قوله: “أسلم عليه” ليس في “ب، د”.
(4) أخرجه أحمد في الزهد رقم (810) مختصرًا، وهناد في الزهد رقم (98)، والبيهقي في البعث رقم (316) وغيرهم.
– ورواهُ وكيع وابن نمير عن الأعمش به نحوه.
أخرجه وكيع في الزهد رقم (215)، والبيهقي في البعث رقم (317)، وأحمد في الزهد (810).
وسنده صحيح.

(1/357)


الباب الخامس والأربعون في ثمارها وتعدُد أنواعها وصفاتها وريحانها
قال اللَّهُ تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25].
وقولهم: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 25]: أي شبيهه ونظيره لا عَيْنَهُ، وهل المراد أنَّ هذا الَّذي رُزقنا في الدنيا نظيره من الفواكه والثمارِ، أو هذا نظيرُ الَّذي رزقنا في الجنة قبلُ؟
قيل: فيه قولان: ففي “تفسير السُّدي” عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالح: عن ابن عباس، وعن مُرَّة عن ابن مسعود: وعن ناس من أصحاب النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قالوا: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} أنَّهم أُتُوا بالثمرة في الجنَّة، فلمَّا نظروا إليها قالوا: هذا الَّذي رزقنا من قبل (1) في الدنيا” (2).
__________
(1) قوله: “من قبل” سقط من “ب”.
(2) أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 385 – 386) رقم (512) (ط: دار المعارف).
وسنده ضعيف. وهي سلسلة فيها غرابة؛ لأنَّها من رواية أسباط بن نصر، ولعلَّه لهذا السبب، لم يخرجها ابن أبي حاتم في تفسيره.
قال الخليلي: “. . . لكن التفسير الَّذي جمعه رواه أسباط بن نصر، وأسباط لم يتفقوا عليه، غير أنَّ أمثل التفاسير تفسير السدي. . ” الإرشاد (1/ 398).

(1/358)


قال مجاهد: “ما أشبهه به” (1) .
وقال ابن زيد: ” {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ}: في الدنيا، {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا}: يعرفونه” (2) .
وقال آخرون: هذا الَّذي رُزِقْنَا من قبل من ثمار الجنَّة، من قبل هذا، لشدة مشابهة بعضه بعضًا في الَّلون والطَّعم (3) .
واحتجَّ أصحاب هذا القول بحُجَجٍ:
أحَدُها: أنَّ المشابهة التي (4) بين ثمار الجنَّة بعضها لبعض أعظمُ من المشابهة التي بينها وبين ثمار الدنيا، ولشدة المشابهة قالوا: هذا (5) هو.
الحجة الثانية: ما حكاه ابن جرير عنهم قال: “ومن عِلَّة قائلي هذا القول أنَّ ثمار الجنَّة كلمَّا نزع منها شيء عاد مكانه آخر مثله، كما حدثنا ابن بشار، حدثنا ابن مَهْدِي، حدثنا سفيان سمعتُ عمرو بن مُرَّة يحدِّث عن أبي عُبَيْدة، وذكر ثمر الجنَّة، قال: “كُلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى” (6) .
__________
(1) أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 386) رقم (514 و 515).
وسنده حسن.
(2) أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 386) رقم (516). وسنده صحيح.
(3) انظر: تفسير الطبري (1/ 386).
(4) في “ب”: “الَّذي”.
(5) من “أ”.
(6) أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 386) رقم (517).
وسيأتي الكلام عليه وأنَّه من قول مسروق في ص (388 – 389).

(1/359)


الحجَّة الثالثة: قوله: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25] وهذا كالتعليل والسبب (1) الموجب لقولهم: {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 25].
الحجة الرابعة: أنَّ من المعلوم أنَّه ليس كل ما في الجنَّة من الثمار قد رزقوه في الدنيا، وكثير من أهلها لا يعرفون ثمار (2) الدنيا ولا رأوها.
ورجحت طائفة منهم: ابن جرير وغيره القول الآخر، واحتجَّت بوجوه.
قال ابن جرير: “والَّذي يحقق صحة قول القائلين: إنَّ معنى ذلك {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 25] في الدنيا، أنَّ اللَّهَ جلَّ ثناؤه قال: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا} [البقرة: 25] يقولون: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 25] ولم يُخَصِّص أنَّ ذلك من قِيْلهم في بعضٍ دون بعض (3) ، فإنْ كان قد أخبر جلَّ ذكره عنهم أنَّ ذلك من قيلهم كلما رزقوا ثمرة، فلا شكَّ أنَّ ذلك من قيلهم في أوَّل رزقٍ رُزِقُوْهُ من ثمارها أُتُوا به بعد دخولهم الجنَّة، واستقرارهم فيها، الَّذي لم يتقدمه عندهم من ثمارها ثمرة، فإذ (4) كان لا شك أنَّ ذلك من قيلهم
__________
(1) في “أ، جـ، هـ”: “والمسبَّب”.
(2) في “ب”: “أثمار”.
(3) قوله “دون بعض” سقط من “ج”.
(4) في “هـ”: “فإذا”.

(1/360)


في أوَّله، كما هو من قيلهم في أوسطه (1) ، وما يتلوه؛ فمعلوم أنَّه محال أنْ يقولوا لأوَّل رزق رزقوه من ثمار الجنَّة: هذا الَّذي رزقنا من قبل هذا من ثمار الجنَّة، وكيف يجوز أنْ يقولوا لأوَّل رزق رزقوه (2) من ثمارها ولمَّا يتقدمه عندهم غيره منها: هذا (3) الَّذي رزقناه قبل (4) ، إلَّا أنْ ينسبهم ذو غَيَّةٍ وضلالٍ إلى قيل الكذب، الَّذي قد طهَّرهم اللَّهُ منه، أو يدفعَ دافعٌ أنْ يكون ذلك من قِيْلهم لأوَّل رزقٍ يرزقونه من ثمارها، فيدفع صحة ما أوجب اللَّهُ صحته من غير نصب دلالةٍ على أنَّ ذلك في حال من أحوالهم دون حال، فقد تبين أنَّ معنى الآية: كلما رزقوا (5) من ثمرة من ثمار الجنَّة في الجنَّة رزقًا، قالوا: هذا الَّذي رزقنا من قبل هذا في الدنيا” (6) .
قلتُ: أصحاب القول الأول يخصُّون هذا العام بما عدا الرزق الأوَّل، لدلالة العقل والسياق عليه، وليس هذا ببدع من طريقة القرآن، وأنت مضطر إلى تخصيصه ولا بد بأنواع من التخصيصات:
أحدها: أنَّ كثيرًا من ثمار الجنَّة وهي التي لا نظير لها في الدنيا، لا
__________
(1) من “ب”: والطبري، وفي باقي النسخ “وسطه”.
(2) سقط من “ب، ج”.
(3) في “ج، د، هـ”: “هذا هو”.
(4) في الطبري “من قبل”.
(5) في “ب”: “رزقوا منها من ثمرة. . . “، وفي الطبري “كلما رزق الَّذين آمنوا وعملوا الصالحات من ثمرة من ثمار. . . “.
(6) انظر: تفسير الطبري (1/ 386 – 388).

(1/361)


يُقال فيها ذلك.
الثاني: أنَّ كثيرًا من أهلها لم يُرْزَقُوا جميع ثمرات الدنيا التي لها نظير في الجنَّة.
الثالث: أنَّهُ من المعلوم أنَّهم لا يستمرون على هذا القول أَبَدَ الآباد، كلَّما أكلوا ثمرةً واحدة قالوا: هذا الَّذي رزقناه في الدنيا، ويستمرون على هذا الكلام دائمًا إلى غير نهاية، والقرآن العزيز لم يقصد إلى هذا المعنى، ولا هو ممَّا يُعْتنى به من نعيمهم ولذتهم، وإنَّما هو كلام مبين خارجٌ على (1) المعتاد المفهوم من المخاطب.
ومعناه: إنَّه يشبه (2) بعضه بعضًا، ليس أوَّله خَيْرًا من آخره، ولا هو ممَّا يَعْرض له ما يَعْرض لثمر الدنيا عند تقادم الشجر وكبرها من نقصان حملها، وصغر ثمرها وغير ذلك، بل أوَّله مثلُ آخره، وآخره مثل أوَّله، وهو خيار كله يشبه بعضه بعضًا، فهذا وجه قولهم. ولا يلزم مخالفه ما نصَّه اللَّهُ سبحانه وتعالى، ولا نِسْبَة أهل الجنَّة إلى الكذب بوجهٍ، والَّذي يلزمهم من التَّخصيص يلزمك نظيره وأكثر منه، واللَّهُ أعلم.
وأمَّا قوله عزَّ وجلَّ: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25].
__________
(1) وقع في “أ، ب” “عن”.
(2) في نسخةٍ على حاشية “أ”: “أنَّ شَبَهَ”.

(1/362)