حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح_2
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح_2
![](https://ataat.com.sa/wp-content/uploads/2024/12/حادي-الارواح-الى-بلاد-الافراح-1-2--780x470.jpg)
http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
الكتاب: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح [آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (10)]المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 – 751)
المحقق: زائد بن أحمد النشيري
راجعه: يحيى بن عبد الله الثُّمالي – علي بن محمّد العمران
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الرابعة، 1440 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الأجزاء: 2 (في ترقيم واحد متسلسل)
قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]فقال الحسن: “خيارٌ كله لا رَذْل فيه، ألم (1) تروا إلى ثمر الدنيا كيف يسترذلون بعضه، وأنَّ ذلك ليس فيه رذل” (2) .
وقال قتادة: “خيارٌ لا رَذْلَ فيه، وإنَّ ثمار الدنيا ينفى (3) منها، ويرذل منها” (4) “.
وكذلك قال ابن جريج وجماعة (5) .
وعلى هذا، فالمراد بالمُتَشَابه المُتَوافِق والمُتَماثِل.
وقالت طائفة أخرى: منهم ابن مسعود، وابن عباس، وناس من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “متشابهًا في الَّلون والمرأى، وليس يُشْبِهُ الطعمُ الطعمَ” (6) .
قال مجاهد: “متشابهًا لونه مختلفًا طعمه” (7) ، وكذلك قال الربيع ابن أنس (8) ، وقال يحيى بن أبي كثير: “عشب الجنَّة الزعفران،
(1) في “ب”: “ألا”.
(2) أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 389) رقم (520)، وسنده صحيح.
(3) عند الطبري: “ينقى”.
(4) أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 389 – 390) رقم (522) وسنده صحيح.
(5) أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 390) رقم (523) عن ابن جريج.
وسنده صحيح.
(6) أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 390) رقم (524) وسنده ضعيف.
قال ابن كثير: “هذا الإسناد يروى به السُّدِّي أشياء فيها غرابة”.
انظر: الإتقان للسيوطي (2/ 534).
(7) أخرجه الطبري (1/ 390) رقم (525، 528) وغيره، وهو صحيح عنه.
(8) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره ص (9) البقرة، والطبري في تفسيره =
(1/363)
وكثبانها المسك، ويطوف عليهم الولدان بالفاكهة، فيأكلونها، ثمَّ يأتونهم بمثلها فيقولون: هذا الَّذي جئتمونا به آنفًا، فيقول لهم الخدم (1) : كلوا فإنَّ اللون واحد، والطعم (2) مختلف، فهو قوله عزَّ وجل: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25] ” (3) .
وقال طائفة: معنى الآية: أنَّه يشبه ثمر الدنيا، غيرَ أنَّ ثمر الجنَّة أفضل وأطيب. قال ابن وهب: قال عبد الرحمن بن زيد: يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا: التفاح بالتفاح، والرمان بالرمان (4) ، قالوا في الجنَّة: هذا الَّذي رزقنا من قبل، وأُتوا به متشابهًا: يعرفونه، وليس هو مثله في الطعم” (5) .
واختار ابن جرير هذا القول، قال: “وقد دلَّلنا على فساد قول من قال: إنَّ معنى الآية: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 25] أي: في
= (1/ 39) رقم (527).
وسنده حسن.
(1) عند ابن أبي حاتم “الولدان”.
(2) في “ج”: “والمطعم”.
(3) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره رقم (262)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (353). وسنده صحيح. وأخرجه الطبري (1/ 387) رقم (518) بغير هذا اللفظ، وفيه ضعف.
(4) في “ب”: “التفاح والرمان” بدلًا من “التفاح بالتفاح، والرمان بالرمان”.
(5) أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 392) رقم (536)، وسنده صحيح.
(1/364)
الجنَّة، وتلك الدلالة على فساد ذلك القول (1) ، هي الدلالة على فساد قول من خالف قولنا في تأويل قوله: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25] لأنَّ (2) اللَّهَ سبحانه وتعالى أخبر عن المعنى الَّذي من أجله قال القوم {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} بقوله (3) {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا}.
قلتُ: وهذا لا يدل على فساد قولهم لما تقدم.
وقال تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) } [ص: 50 – 51]، وقال تعالى: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) } [الدخان: 55].
وهذا يدلُّ على أمنهم (4) من انقطاعها ومضرتها.
وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) } [الزخرف: 72 – 73]. وقال تعالى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) } [الواقعة: 32 – 33].
أي لا تكون في وقتٍ دون وقتٍ، ولا تُمْنَع مِمَّن أرادها.
وقال تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) } [الحاقة: 21 – 23].
(1) في “د”: “وتلك الدلالة فساد، وذلك القول”.
(2) في جميع النسخ “أن”، والمثبت من الطبري.
(3) قوله “بقوله” من تفسير الطبري (1/ 392 – 393).
(4) في “ب”: “أنهم” وهو خطأ.
(1/365)
والقطوف: جمع قِطْف، وهو ما يُقْطف. والقَطْف -بالفتح- الفِعْل، أي ثمارها دانية: قريبة ممَّن يتناولها، فيأخذها كيف يشاء، قال البراء بن عازب: “يتناول الثمرة وهو نائم” (1) .
وقال تعالى: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان: 14].
قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما: “إذا هَمَّ أنْ يتناول من ثمارها تدلَّتْ (2) إليه حتَّى يتناول ما يريد” (3) .
وقال غيره: “قُرِّبت إليهم مُذلَّلة كيف شاؤوا، فهم يتناولوها قيامًا وقعودًا ومضطجعين” (4) ، فيكون كقوله: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة: 23]
(1) أخرجه الطبري في تفسيره (29/ 61)، وابن صاعد في زوائده على الزهد لابن المبارك رقم (1454)، والواحدي في الوسيط (4/ 346 – 347) وغيرهم.
من طريق شعبة عن أبي إسحاق عن البراء فذكره.
وله طرق عن أبي إسحاق ستأتي.
- ورواهُ أبو الضُّحى عن البراء، فذكره، وزاد “وهم جلوس، وعلى أي حال شاؤوا”.
أخرجه هناد في الزهد برقم (101) وسنده حسن.
(2) في “ب”: “تذلَّلت”، وفي “د” “تدلَّلت”.
(3) ذكره الواحدي في تفسيره الوسيط (4/ 403)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/ 436).
وأخرج الطبري (27/ 150) عن ابن عباس قال في قوله {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54)} [الرحمن: 54]، قال: ثمارها دانية. وسنده حسن.
(4) انظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج (5/ 360)، وزاد المسير لابن الجوزي (8/ 436).
(1/366)
ومعنى تذليل القطف: تسهيل تناوله. وأهل المدينة يقولون: ذَلِّلِ النخل، أي سَوِّى عذوقه وأخرجها من السَّعف، حتَّى يسهل تناولها.
وفي نصب {دَانِيَةٌ (23) } وجهان (1) :
أحدهما: أنَّه على الحال عطفًا على قوله {مُتَّكِئِينَ}.
والثاني: أنَّه صفة لـ {جَنَّةٍ}.
وقال تعالى: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) } [الرحمن: 52]، وفي الجنتين الأخريين: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) } [الرحمن: 68].
وخصَّ النخل والرُّمَّان من بين الفاكهة بالذِّكْرِ لفضلهما وشرفهما، كما نصَّ على حدائق النخل والأعناب في سورة النبأ، إذ هما من أفضل أنواع الفواكه، وأطيبها وأحلاها.
وقال تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد: 15].
وقال الطبراني: حدثنا معاذ بن المثنى حدثنا علي بن المديني حدثنا ريحان بن سعيد عن عبَّاد (2) بن منصور، عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماءَ عن ثوبان رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ الرَّجلَ إذا نزعَ ثمرةً من الجنَّة عادتْ مكانها أخرى” (3) .
(1) انظر: تفسير الطبري (29/ 214).
(2) في “ج”: “عبادة” وهو خطأ.
(3) أخرجه الطبراني في الكبير (2/ 102) رقم (1449)، والبزار في مسنده (10/ 123) رقم (4187)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (345).
كلهم من طريق ريحان بن سعيد عن عبَّاد بن منصور به مثله. =
(1/367)
وقال عبد اللَّه بن الإمام أحمد: حدثني عُقبة بن مُكرم العمي، حدثنا رِبْعِي بن إبراهيم بن عُليَّة حدثنا عوف، عن قسامة بن زُهَير عن أبي موسى -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “اهبط اللَّهُ آدم من الجنَّة، وعلَّمه صنعةَ كل شيءٍ، وزوَّده من ثمار الجنَّة، فثماركم هذه من ثمار الجنَّة، غير أنَّها تغيَّر، وتلك لا تغيَّر” (1) .
وقد تقدَّم: أنَّ سدرة المنتهى نبقها مثل القلال (2) .
وفي “صحيح مسلم” (3) من حديث أبي الزبير، عن جابر رضي اللَّه عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “عُرضت عليَّ الجنَّة حتى لو تناولت منها قطفًا
= وهو حديث منكر بهذا الإسناد، لتفرد عباد بن منصور به عن أيوب، وفيه ضعف، وكان قد تغيَّر. انظر: تهذيب الكمال (14/ 56 – 161).
- ورواهُ إسحاق بن إدريس “كذَّاب يضع الحديث” عن أبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة به بنحوه.
أخرجه البزار في مسنده (10/ 123) رقم (4188)، والحاكم في المستدرك (4/ 496) رقم (8390) مطوَّلًا جدًّا.
وقال الحاكم: “هذا الحديث عن ثوبان لا نعلمه يروى عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من وجهٍ متصل عنه بأحسن من هذا الإسناد، ولا نعلم روى حديث أيوب إلَّا عبَّاد بن منصور، ولا رواهُ عن عباد إلَّا ريحان، ولا نعلمُ روى حديث يحيى ابن أبي كثير إلَّا إسحاق بن إدريس عن أبان”.
قال البرديجي: “فأمَّا حديث ريحان عن عباد عن أيوب عن أبي قلابة فهي مناكير”.
(1) تقدم الكلام عليه في ص (64). والصواب فيه موقوف.
(2) أخرجه البخاري رقم (3035) من حديث أنس رضي اللَّهُ عنه.
(3) رقم (904).
(1/368)
أخذته”.
وفي لفظ: “فتناولت منها قطفًا فقصرت عنه يدي” (1) .
وقال أبو خيثمة: حدثنا عبد اللَّه بن جعفر، حدثنا عبيد اللَّه، حدثنا ابن عقيل، عن جابر -رضي اللَّه عنه- قال: بينما نحن في صلاة الظهر إذ تقدم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فتقدمنا، ثم تناول شيئًا ليأخذه ثم تأخر، فلمَّا قضى الصلاة قال له أُبي بن كعب: يا رسول اللَّه، صنعت اليوم في الصلاة شيئًا، ما كنت تصنعه؟ قال: “إنه عرضت عليَّ الجنة وما فيها من الزهرة والنضرة، فتناولت منها قطفًا من عنب لآتيكم به، فحيل بيني وبينه، ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقصونه” (2) .
(1) انظر: المصدر السَّابق، وهو من شك أحد الرواة.
(2) أخرجه أحمد (3/ 352) و (5/ 137)، وعبد بن حميد برقم (1036).
من طريق زكريا بن عدي والحسين المروزي وأحمد بن عبد الملك كلهم عن عبيد اللَّه بن عمرو عن ابن عقيل عن جابر فذكره.
- ورواهُ أحمد بن عبد الملك والعلاء الرقي عن عبيد اللَّه بن عمرو عن ابن عقيل عن الطفيل عن أبيه أُبي بن كعب فذكره.
أخرجه أحمد في المسند (5/ 138)، والحاكم في المستدرك (4/ 647) رقم (8788) مطوَّلًا.
والحديث تفرَّد به ابن عقيل بهذا اللفظ، والسِّياق فيه غرابة، وابن عقيل في حفظه ضعف. - فقد رواهُ أبو الزبير -كما تقدَّم- وعطاء عن جابر ولم يذكر ما ذكره ابن عقيل.
أخرجه مسلم برقم (904)، وأحمد (3/ 317 و 335) وغيرهما.
(1/369)
وقال ابن المبارك: أنبأنا سفيان، عن حماد، عن (1) سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: “ثمرُ الجنَّة أمثال القلال والدلاء، أشدُّ بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وألينُ من الزُّبْدِ، ليس فيه عَجَم” (2) .
وقال سعيد بن منصور: حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب رضي اللَّه عنه قال: “إنَّ أهل الجنَّة يأكلون من ثمار الجنَّة قيامًا وقعودًا، ومضطجعين على أيِّ حالٍ شاؤوا” (3) .
وقال البزار في “مسنده”: حدثنا أحمد بن الفرج الحمصي حدثنا عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار الحمصي حدثنا محمد بن المهاجر عن الضحاك المعافري عن سليمان بن موسى قال: حدثني كريب أنَّه سمع أُسامة بن زيد رضي اللَّه عنهما يقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “ألَا مُشمرٌ للجنَّة، فإنَّ الجنَّة لا خطر لها، هي وربِّ الكعبة نورٌ يتلألأ، وريحانةٌ تهتزُّ، وقصرٌ مشيدٌ، ونهرٌ مطردٌ، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناءُ جميلة، وحلَلٌ كثيرة في مقام أبدٍ، في دارٍ سليمة، وفاكهة وخضرةٍ، وحِبَرةٍ ونعمةٍ في محلَّةٍ عاليةٍ بهيَّة، قالوا: نعم
(1) في “ب” “بن” وهو خطأ.
(2) تقدم في الباب (44) ص (354)، بلفظ “نخل الجنة. . . “.
(3) أخرجه البيهقي رقم (313)، وابن المبارك في الزهد -رواية نُعَيم- رقم (67) وغيرهما.
وقد توبع شريك القاضي: تابعه شعبة وإسرائيل والثوري وزكريا.
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/ رقم 34074)، وهناد في الزهد رقم (100)، والطبري في تفسيره (29/ 61) وغيرهم.
انظر: فتح الباري (6/ 321).
(1/370)
يا رسول اللَّه، نحن المشمرون لها: قال: قولوا: إنْ شاء اللَّهُ، قال: القوم: إنْ شاء اللَّه” (1) .
قال البزار: “وهذا الحديث لا نعلمُ من رواهُ عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلَّا أسامة، ولا نعلم له طريقًا عن أسامة إلَّا هذا الطريق، ولا نعلم رواهُ عن الضحاك المعافري إلَّا هذا الرجل محمد بن مهاجر”.
وفي حديث لَقِيْط بن صَبِرَة (2) الَّذي رواه عبد اللَّه بن أحمد في “مسند أبيه” وغيره: قلتُ: يا رسول اللَّهِ على ما نطَّلع من (3) الجنَّة؟ قال: على أنهار من عسلٍ مصفَّى، وأنهار من كأس ما بها صُدَاع، ولا نَدامة، وأنهار من لبنٍ لم يتغير طعمه، وماءٍ (4) غير آسن، وبفاكهة، لعَمْر إلهك ممَّا تعلمون، وخير من (5) مثله معه” (6) .
وأمَّا الرَّيْحَانة: فهو كل نبت طيِّب الرَّائحة.
قال الحسن وأبو العالية: “هو ريحاننا هذا، يؤتى بِغُصْنٍ من (7) ريحان الجنَّة فنشمُّه” (8) .
(1) تقدم تخريجه في ص (291).
(2) في “ب”: “عامر” وهو خطأ.
(3) وقع في “هـ” ونسخةٍ على حاشية “أ” “في”.
(4) وقع في “ب، د”: “وأنَّهار من ماء”.
(5) سقط من “ب”.
(6) تقدم الكلام عليه في ص (126 – 127).
(7) سقط من “ج”.
(8) أخرجه الطبري في تفسيره (27/ 212) وسنده إلى الحسن: صحيح.
وسنده إلى أبي العالية: ضعيف.
(1/371)
الباب السادس والأربعون في زرع الجنَّة
قال تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ (1) الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71].
وعن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يومًا يحدث -وعنده رجلٌ من أهل البادية-: “أنَّ رجلًا من أهل الجنَّة استأذنَ ربَّهُ عزَّ وجلَّ في الزرع فقال له: أولستَ فيما اشتهيت؟ فقال: بلى، ولكن (2) أحبُّ أنْ أزرع، فأسرع وبذرَ فبادر الطَّرْف نباته واستواؤُهُ واستحصاده وتكويره أمثال الجبال فيقول اللَّهُ عزَّ وجلَّ: دونك يا ابنَ آدم، فإنَّه لا يشبعك شيءٌ، فقال الأعرابي: يا رسول اللَّه لا نجدُ هذا إلَّا قُرَشيًّا أو أنصاريًّا، فإنَّهم أصحاب زرعٍ، فأمَّا نحنُ فلسنا بأصحاب زرع فضحك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-” (3).
رواهُ البخاري في كتاب التوحيد في باب كلام الربِّ تعالى مع أهل الجنَّة، وخرَّجه في غيره أيضًا (4).
(1) هي قراءة ابن كثير وغيره، راجع (ص/ 11).
(2) في “ب، ج، د، هـ”: “ولكنِّي”.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه في (100) التوحيد، (38) باب: كلام الرب تعالى مع أهل الجنَّة (6/ 2733) رقم (7081).
(4) في (46) الحرث والمزارعة (16)، باب: كِراء الأرضِ بالذهب والفضة (2/ 826) رقم (2221).
(1/372)
وهذا يدلُّ على أنَّ في الجنَّة زرعًا، وذلك البَذْرُ منه، وهذا أحسنُ أنْ تكون الأرض معمورةً بالشَّجر والزرع.
فإنْ قيل: فكيف استأذن هذا الرجل ربَّه في الزرع، فأخبره أنَّه (1) في غنْيةٍ عنه؟
قيل: لعلَّه استأذن في زرع يباشره ويبذره بيده، وقد كان في غُنيةٍ عن ذلك وقد كُفِي مؤونته، ولا أعلم ذكر الزرع في الجنَّة إلَّا في هذا الحديث، واللَّهُ أعلم.
وروى إبراهيم بن الحكم، عن أبيه، عن عكرمة قال: بينما رجل في الجنَّة، فقال في نفسه: لو أنَّ اللَّهَ يأذن لي لزرعتُ، فلا يعلمُ إلَّا والملائكة على أبوابه فيقولون: سلامٌ عليك، يقول لك ربُّك: تَمَنَّيْتَ في نفسك شيئًا فقد علمته، وقد بُعِثَ معنا البذرُ، فيقول: ابذروا فيخرج أمثال (2) الجبال، فيقول له الربُّ من فوق عرشه: كلْ يا ابنَ آدمَ فإنَّ ابن آدم لا يشبع” (3) . واللَّهُ أعلم.
(1) سقط من “ج”.
(2) في نسخةٍ على حاشية “أ”: “مثل”.
(3) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (3/ 334) مطوَّلًا، وموفق الدَّين بن قدامة المقدسي في إثبات صفة العلو رقم (69) مطوَّلًا.
وفيه: إبراهيم بن الحكم العدني وهو في الأصل لم يكن به بأس، ثمَّ زاد في الأحاديث المرسلة ووصلها حتى اتفقوا على ضعفه.
انظر: تهذيب الكمال (2/ 74 – 76).
قال الذهبي في العلو (1/ 895): “إسناده ليس بذاك”.
(1/373)
الباب السابع والأربعون في ذكر أنهار الجنَّة وعيونها وأصنافها ومجراها الَّذي تجري عليه
وقد تكرَّر في القرآن في عدَّة مواضع قوله تعالى: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25]، وفي موضع: {جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا} [التوبة: 100]، وفي موضع: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} [يونس: 9].
وهذا يدلُّ على أمور:
أحدها: وجود الأنهار فيها حقيقة.
الثاني: أنَّها جارية لا واقفة.
الثالث: أنَّها تحت غرفهم وقصورهم وبساتينهم، كما هو المعهود في أنهار الدنيا.
وقد ظنَّ بعض المفسرين أنَّ معنى ذلك جريانها بأمرهم، وتصريفهم لها كيف شاؤوا، وكأنَّ الَّذي حملهم على ذلك أنَّه لمَّا سمعوا أنَّ أنهارها تجري في غير أخدودٍ، فهي جارية على وجه الأرض حملوا قوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} على أنَّها تجري بأمرهم، إذْ لا يكون فوق المكان تحته.
وهؤلاء أُتُوا من ضعف الفَهم، فإنَّ أنهار الجنَّة وإنْ جَرَتْ في غير أخدود؛ فهي تحت القصور والمنازل والغرف، وتحت الأشجار، وهو سبحانه وتعالى لم يقل: من تحتِ أرضها، وقد أخبر سبحانه عن
(1/374)
جريان الأنهار تحت النَّاس في الدنيا، فقال: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ} [الأنعام: 6]، فهذا على المعهود المتعارف، وكذلك ما حكاهُ من قولِ فرعون: {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف: 51].
وقال تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) } [الرحمن: 66].
قال ابن أبي شيبة: حدثنا يحيى بن يمان عن أشعث عن جعفر عن (1) سعيد قال: “نضَّاختان بالماءِ والفواكه” (2) .
وحدثنا ابن يَمَان عن أبي إسحاق عن أبان عن أنس رضي اللَّه عنه قال: “نضَّاختان: بالمسكِ والعنبر، تنضخان على دُوْرِ أهل الجنَّة، كما ينضخ المطر على دور أهل الدنيا” (3) .
(1) في “ب”: “ابن” وهو خطأ.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 65) رقم (34044) وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (71)، والطبري في تفسيره (27/ 156).
وخولف أشعث:
فرواهُ يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد قال: “نضَّاختان بألوان الفاكهة”.
أخرجه الطبري (27/ 156)، وابن صاعد في زياداته على الزهد لابن المبارك رقم (1535)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 287).
وهذا اللفظ أصح، ولعلَّ يحيى بن اليمان لم يضبطه.
وعليه فالأثر سنده حسن.
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (72)، وابن أبي حاتم في تفسيره، =
(1/375)
وحدثنا عبد اللَّه بن إدريس عن أبيه عن أبي إسحاق عن البراء رضي اللَّه عنه قال: “اللتان تجريان أفضل من النَّضَّاختين” (1) .
وقال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد: 15].
فذكر سبحانه هذه الأجناس الأربعة، ونفى عن كلِّ واحدٍ منها الآفة التي تعرض له في الدنيا، فآفة الماء أنْ يأسن ويأجن من طول مكثه، وآفة اللبن أن يتغير طعمه إلى الحموضة، وأنْ يصير قارصًا، وآفة الخمر كراهة مذاقها المنافي للذَّة شربها، وآفة العسلِ عدم تصفيته.
وهذا من آيات الرب تعالى أنْ يُجري أنهارًا من أجناس لم تجر العادة في الدنيا بإجرائها، ويُجْرِيْها في غير أخدود، وينفي عنها الآفات التي تمنع كمال اللَّذة بها، كما نفى عن خمر الجنَّة جميع آفات خمر الدنيا، من الصداع والغَوْلِ والَّلغوِ والإنزافِ وعدم الَّلذة.
= كما في الدر المنثور (6/ 209). وسنده ضعيف جدًّا، فيه أبان بن أبي عياش البصري: متروك الحديث. التقريب رقم (142).
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (73)، وابن المنذر وابن أبي حاتم في تفسيريهما كما في الدر المنثور (6/ 209).
وسنده صحيح.
وأخرجه عبد بن حميد في تفسيره كما في الدر (6/ 209) بلفظ: “ما النضاختان بأفضل من الَّلتين تجريان”.
(1/376)
فهذه خمس آفات من آفات خمر الدنيا: تغتال العقل، وتكثر الَّلغو على شربها؛ بل لا يطيب لشرابها ذلك إلَّا بالَّلغو، وتنزف في نفسها، وتنزف المال، وتصدِّع الرَّأس، وهي كريهة المذاق. وهي رجس من عمل الشيطان، توقع العداوة والبغضاءِ بين النَّاسِ، وتصُد عن ذكر اللَّهِ وعن الصلاة، وتدعو إلى الزِّنا، وربما دعتْ إلى الوقوع على البنت والأُخت وذوات المحارم، وتُذْهِب الغَيْرة، وتورث الخِزْي والنَّدامة والفضيحة، وتُلْحِق شاربها بأنقص نوع الإنسان: وهم المجانين، وتسلبه أحسن الأسماءِ والسماتِ، وتكسوهُ أقبح الأسماء والصفاتِ، وتسهِّل قتل النَّفس، وإفشاء السرِّ الَّذي في إفشائه مضرَّته أو هلاكه، ومؤاخاة الشياطين في تبذير المالِ، الَّذي جعله اللَّهُ قيامًا له، ولمن (1) تلزمه مؤنته، وتهتك الأستار، وتظهر الأسرار، وتدلُّ على العورات، وتهوِّن ارتكاب القبائح والمآثم، وتخرج من القلب تعظيم المحارم، ومُدْمِنها كعابدِ وثنٍ، وكم أهاجت من حرْبٍ، وأفقرتْ من غنيٍّ، وأذلَّتْ من عزيز، ووضعتْ من شريفِ، وسلبتْ من نعمة، وجلبتْ من نقمة، ونسختْ مودَّة، ونسجتْ عداوة، وكم فرَّقتْ بين رجلٍ وحِبِّهِ فذهبت بقلبه، وراحت بلُبِّهِ، وكم أورثتْ من حسرةٍ وأجرتْ من عَبْرة، وكم أغلقتْ في وجه شَاربها بابًا من الخير، وفتحت له بابًا من الشرِّ، وكم أوقعت في بليَّه، وعجَّلت من منية، وكم أورثت من خزية، وجرَّت على صاحبها (2) من محنة، وجرأت عليه من سَفَلةٍ، فهي جماع
(1) في “ب، ج، د”: “ولم”.
(2) في “ب، ج، د، هـ” ونسخة على حاشية “أ”: “شاربها”.
(1/377)
الإثم، ومفتاح الشرِّ، وسلَّابة النِّعم، وجالبة النقم، ولو لم يكن من قبائحها (1) إلَّا أنَّها لا تجتمع هي وخمرة الجنَّة في جوف عبدٍ، كما ثبت عنه (2) -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: “من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة” (3) .
وآفات الخمر أضعاف أضعاف ما ذكرنا، وكلها منتفية عن خمر الجنَّة.
فإنْ قيل: فقد وصفَ سبحانه الأنهارَ بأنَّها جارية، ومعلوم أنَّ الماء الجاري لا يأسن، فما فائدة قوله: {غَيْرِ آسِنٍ} [محمد: 15]؟
قيل: الماء الجاري وإنْ كان لا يأسَن، فإنَّه إذا أُخِذَ منه شيء وطال مكثه أسن، وماء الجنَّة لا يَعْرض له ذلك، ولو طال مكثه ما طال.
وتأمَّل اجتماع هذه الأنهار الأربعة، التي هي أفضل أشربة النَّاس، فهذا لريِّهم وطهورهم، وهذا لقوَّتهم وغذائهم، وهذا للذَّتهم وسرورهم، وهذا لشفائهم ومنفعتهم.
(1) في “أ، ب، ج، د، هـ”: “فضائلها” وهو خطأ، والمثبت قاله ناسخ “هـ”، ووقع في المطبوع “رذائلها”.
(2) في “هـ”، ونسخة على حاشية “أ” “عنه ذلك”.
(3) أخرجه البخاري برقم (5253)، ومسلم رقم (2003) من حديث ابن عمر، واللفظ لمسلم مختصرًا وعند البخاري “حرمها” بدل “لم يشربها”.
تنبيه: وقع في المطبوعة بعد الحديث زيادة: “لكفى”.
(1/378)
فصل (1)
وأنهار الجنَّة تتفجَّر من أعلاها، ثمَّ تنحدر نازلةً إلى أقصى درجاتها، كما روى البخاري في “صحيحه” (2) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: “إنَّ في الجنَّة مئة درجة أعدَّها اللَّهُ عزَّ وجلَّ للمجاهدين في سبيله بين كلِّ درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم اللَّهُ فاسألوهُ الفردوس، فإنَّه وسطُ الجنَّة، وأعلى الجنَّة، وفوقه عرشُ الرحمن، ومنه تفجَّر أنهار الجنَّة”.
وروى الترمذي نحوه من حديث معاذ بن جبل وعُبادة بن الصامت، ولفظ حديث عُبَادة: “الجنَّة مئةُ درجةٍ ما بين كلِّ درجتين مسيرة مئة عام، والفردوس أعلاها درجة، ومنها الأنهارُ الأربعة، والعرشُ فوقها، فإذا سألتم اللَّه فاسألوهُ الفردوسَ الأعلى” (3).
وفي “معجم الطبراني” (4) من حديث الحسن عن سمرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “الفردوس ربوةُ الجنَّة، وأعلاها وأوسطها، ومنها تفجرُ أنهار الجنَّة” (5).
(1) سقط من “ب”.
(2) تقدم في ص (134).
(3) تقدم في ص (132 – 133).
(4) في “ب، ج، د، هـ”: “المعجم للطبراني”.
(5) أخرجه الطبراني في الكبير (7/ 258) رقم (6885، 6886) وفي مسند الشاميين (4/ رقم 2650)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (11)، والطبري في تفسيره (16/ 38)، والبزار في مسنده (10/ 430) رقم (4582). =
(1/379)
وفي “صحيح البخاري” (1) من حديث شعبة عن قتادة قال: أخبرني أنس بن مالك رضي اللَّه عنه أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “رفعت لي (2) سدرة المنتهى في السماء السابعة، نبقها مثلُ قلال هَجَر، وورقها مثل آذانِ الفيلة، ويخرج من أصلها نهران ظاهران، ونهران باطنان، فقلتُ: يا جبريل، ما هذا؟ قال: أما النهران الباطنان ففي الجنَّة، وأمَّا النهرانِ الظاهران، فالنيل والفرات”.
= من طريق سعيد بن بشير والحكم بن عبد الملك -ضعيف- عن قتادة عن الحسن عن سمرة فذكره.
ولفظُ الحكم: “الفردوس ربوة الجنة، فإذا سألتم اللَّه تبارك وتعالى فاسألوهُ الفردوس” لفظ البزار.
- ورواهُ إسماعيل بن مسلم -ضعيف- عن الحسن عن سمرة فذكره.
أخرجه الروياني في مسنده رقم (789)، والطبري في تفسيره (16/ 38)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (86). - ورواهُ خبيب بن سليمان بن سمرة “مجهول” عن أبيه “فيه جهالة” عن سمرة بن جندب أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يقول لنا: “إنَّ الفردوس هي ربوة الجنَّة الوسطى التي هي أرفعها وأحسنها”.
أخرجه الطبراني في الكبير (7088)، والبزار (4650). - ورواهُ روح بن عبادة عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: “الفردوس: ربوة الجنَّة، وأوسطها وأفضلها”.
أخرجه الطبري في “تفسيره” (16/ 38).
قلتُ: ولعلَّ هذا أصح الطرق وأرجحها. واللَّه أعلم.
(1) معلَّقًا برقم (5287)، وهو معلول سندًا ومتنًا، كما بيَّن ذلك البخاري بعد ذِكْره طريق شعبة، انظر: فتح الباري (10/ 73).
(2) في البخاري “إليَّ”.
(1/380)
وفي “صحيحه” (1) أيضًا من حديث همام عن قتادة عن أنس أنَّ رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “بينا أنا أسيرُ في الجنَّة، إذا أنا بنهرٍ حافتاهُ قبَابُ اللؤلؤِ المجوَّفِ، فقلتُ: ما هذا يا جبريلُ؟ قال: هذا الكوثر الَّذي أَعطاك ربُّك، قال: فضرب الملك بيده، فإذا طينه أذفر (2) “.
وفي “صحيح مسلم” (3) من حديث المختار بن فلفل عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “الكوثرُ نهرٌ في الجنَّة وَعَدَنِيْه ربي عزَّ وجلَّ” (4) .
وقال محمد بن عبد اللَّه الأنصاري: حدثنا حُميد الطَّوِيْل عن أنس ابن مالك رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “دخلت الجنَّة فإذا بنهر يجري حافتاه خيام اللؤلؤ، فضربتُ بيدي إلى ما يجري فيه من الماءِ، فإذا أنا بمسكٍ أذفر، فقلتُ: لمن هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثرُ الَّذي أعطاكه اللَّهُ عزَّ وجلَّ”.
وقال الترمذي: حدثنا هَنَّادٌ حدثنا محمد بن فُضَيْل عن عطاء بن
(1) رقم (6210).
(2) في نسخةٍ على حاشية “أ”: “المسك الأذفر”.
(3) رقم (400).
(4) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (327).
ورواهُ عبد الوهاب الثقفي ويحيى القطان وابن أبي عدي وعبد اللَّه بن بكر وغيرهم عن حميد عن أنس فذكره.
أخرجه أحمد (3/ 103 و 115 و 263)، وابن أبي شيبة (7/ رقم 34094) وهنَّاد في الزهد رقم (134)، والطبري في تفسيره (30/ 323 – 324).
وهو حديث صحيح.
(1/381)
السائب عن محارب بن دِثار عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “الكوثر نهرٌ في الجنَّة حافتاهُ من ذهب، ومجراهُ على الدر والياقوتِ، تربته أطيبُ من المسك، وماؤه أحلى من العسلِ، وأبيضُ من الثلج” (1) . قال: “هذا حديثٌ حسن صحيح”.
وقال أبو نعيم الفضل: حدثنا أبو جعفر -هو الرَّازي- حدثنا ابن أبي نَجِيح عن مجاهد: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1 )} [الكوثر: 1] قال: “الخير الكثير” (2) .
وقال أنس بن مالك: “نهرٌ في الجنَّة” (3) .
(1) أخرجه الترمذي برقم (3360)، وابن ماجه (4334).
- وهكذا رواهُ ورقاء وأبو عوانة وحماد بن زيد وسعيد بن زيد وغيرهم كلهم عن عطاء به بنحوه مرفوعًا.
أخرجه أحمد في المسند (2/ 67 و 112)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (326)، وابن حبيب في وصف الفردوس رقم (65) وغيرهم. - ورواهُ أبو الأحوص وجرير كلاهما عن عطاء به موقوفًا.
أخرجه هنَّاد في الزهد رقم (131)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (67).
قلتُ: عطاء اختلط؛ ولكن رفعه صحيح؛ لأنَّ حماد بن زيد سمع من عطاء قبل اختلاطه، والحديث صححه الترمذي.
(2) أخرجه الطبري في تفسيره (30/ 322)، وابن مردويه في تفسيره كما في الدر (6/ 687).
من طريق عيسى بن ميمون وورقاء كلاهما عن ابن أبي نجيح به مثله.
وسنده حسن.
(3) أخرجه الطبري في تفسيره (30/ 321)، وابن مردويه في تفسيره (كما في الدر =
(1/382)
وقالت عائشة رضي اللَّه عنها: “هو نهرٌ في الجنَّة ليس أحدٌ يدخل إصبعيه في أذنيه إلَّا سمع خرير ذلك النهر” (1) .
وهذا معناهُ -واللَّهُ أعلم- أنَّ خرير ذلك النَّهر يشبه الخرير الَّذي يسمعه حين يدخل أصبعيه في أذنيه.
وفي “جامع الترمذي” من حديث الجُرَيري عن حكيم بن معاوية عن أبيه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ في الجنَّة بحرَ الماءِ، وبحر العسلِ،
= (6/ 687).
من طريق ابن أبي نجيح عن أنس فذكره.
وسنده منقطع.
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (68).
من طريق محمد بن ربيعة عن أبي جعفر الرَّازي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن عائشة فذكرته بمثله.
وقد اضطرب فيه أبو جعفر الرَّازي، وفيه ضعف، وعنده مناكير.
- فرواهُ وكيع عن أبي جعفر عن ابن أبي نجيح عن عائشة بمثله.
أخرجه هناد في الزهد رقم (141) وغيره. - ورواهُ أبو النضر وشبابه عن أبي جعفر الرَّازي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن رجلٍ عن عائشة بمثله.
أخرجه الطبري في تفسيره (30/ 320). - ورواهُ عيسى بن عبد اللَّه عن ابن أبي نجيح قالت عائشة فذكره بمثله.
أخرجه البيهقي في البعث رقم (143).
وهذا هو الصواب أنَّه منقطع.
قال ابن كثير: “وهذا منقطع بين ابن أبي نجيح وعائشة، وفي بعض الرِّوايات عن رجلٍ عنها، ومعنى هذا أنَّه يسمع نظير ذلك لا أنَّه يسمعه نفسه، واللَّه أعلم” تفسير ابن كثير (4/ 596).
(1/383)
وبحرَ اللبن، وبحر الخمر، ثمَّ تشقق الأنهار بعدُ” (1) .
قال: “هذا حديث حسن صحيح”.
وقال الحاكمُ: حدثنا الأصم حدثنا الربيع بن سليمان حدثنا أسد بن موسى حدثنا ابن ثوبان عن عطاء بن قرَّة عن عبد اللَّه بن ضمرة عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “من سرَّهُ أنْ يسقيه اللَّهُ عزَّ وجلَّ من الخمر في الآخرة فليتركها في الدنيا، ومن سرَّهُ أنْ يكسوهُ اللَّه الحرير في الآخرة فليتركه في الدنيا، أنهار الجنَّة تَفَجَّرُ من تحت تِلَالِ، أو تحت جبال المسكِ، ولو كان أدنى أهل الجنَّة حليةً عدلتْ بحلية أهل الدنيا جميعًا؛ لكان ما يحليه اللَّه به في الآخرة أفضل من حلية أهل الدنيا جميعًا” (2) .
(1) أخرجه الترمذي برقم (2566)، وأحمد في المسند (5/ 5).
ورواهُ خالد الواسطي عن علي بن عاصم عن الجريري به مثله.
أخرجه عبد بن حميد في مسنده (المنتخب رقم 410)، وابن أبي داود في البعث رقم (70)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 204 – 205)، وفي صفة الجنَّة رقم (307)، وابن حبان في صحيحه (16/ رقم 7409) وغيرهم.
والحديث صححه الترمذي وابن حبان.
والحديث معدود من غرائب حكيم بن معاوية.
فقد قال أبو نعيم: “غريب عن الجريري، تفرَّد به حكيم”.
قال علي بن عاصم: “فحدَّثْتُ بهذين الحديثين (انظر: الحديث الآخر ص (116) بهز بن حكيم، فقال: لم أسمعها”.
انظر: الكامل لابن عدي (2/ 67)، وراجع ص (116).
(2) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (البقرة) رقم (243) مختصرًا، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (313) مختصرًا، والبيهقي في البعث رقم (292). =
(1/384)
وذكر الأعمش عن عبد اللَّه بن مرة عن مسروق عن عبد اللَّهِ قال: “إنَّ أنهار الجنَّة تُفجرُ من جبل مسكٍ” (1) . وهذا موقوفٌ صحيح.
= من طريق الربيع بن سليمان به بمثله.
ورواهُ يوسف بن كامل القراطيسي ومقدام بن داود المصري وعبد الملك ابن حبيب كلهم عن أسد بن موسى به مختصرًا.
أخرجه ابن حبيب في وصف الفردوس رقم (62)، والعقيلي في الضعفاء (2/ 326)، وابن حبان في صحيحه (16/ 4708)، والطبراني في الأوسط رقم (8879)، وفي كتاب “مَنْ اسمه عطاء” (12).
قال الطبراني: “لم يرو هذين الحديثين عن ابن ثوبان إلَّا أسد بن موسى”.
قال العقيلي في ترجمة “عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان” بعد أنْ ذكر هذا الحديث وغيره فيما ينكر عليه قال: “ولا يتابعه إلَّا مَنْ هو دونه أو مثله”.
وعليه فالحديث ضعيف الإسناد لتفرُّد ابن ثوبان به وفيه ضعف.
(1) أخرجه هناد في الزهد رقم (94)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/ رقم 33947)، وابن أبي حاتم في تفسيره البقرة رقم (255)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (306)، والبيهقي في البعث رقم (293).
من طريق وكيع وأبي معاوية عن الأعمش عن عبد اللَّه بن مُرَّة عن مسروق عن ابن مسعود فذكره.
- وخالفهما معمر، فرواهُ عن الأعمش عن عبد اللَّه بن مرة عن مسروق فذكر مثله، ولم يذكر “ابن مسعود”.
أخرجه عبد الرزاق (11/ 416) رقم (20873).
والصوابُ الأوَّل من قول ابن مسعود، قال البيهقي: “هذا موقوف صحيح”.
تنبيه: وقع في جميع النسخ، وعند البيهقي “عمرو بن مُرَّة” وهو خطأ، والصوابُ عبد اللَّه بن مرَّة وهو الخارفي.
ولعلَّ المؤلِّف نقل هذا من البعث للبيهقي بدليل قوله: “وهذا موقوف =
(1/385)
وذكر ابن مردويه في “مسنده” (1) : حدثنا أحمد بن محمد بن عاصم حدثنا عبد اللَّه بن محمد بن النعمان حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا الحارث بن عبيد، حدثنا أبو عمران الجوني، عن أبي بكر بن عبد اللَّه بن قيس، عن أبيه رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “هذه الأنهار تَشْخُبُ من جنَّة عدنٍ في جَوْبَةِ، ثمَّ تصدَّعُ بعدُ أنهارًا” (2) .
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا يعقوب بن عبيد (3) حدثنا يزيد بن
= صحيح” وهو بعينه كلام البيهقي.
(1) في “ب، د، هـ” ونسخةٍ على حاشية “أ”: “تفسيره”.
(2) أخرجه الطيالسي في مسنده رقم (531)، وأحمد (4/ 416)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/ رقم 34098)، وعبد بن حميد في مسنده كما في المنتخب رقم (545)، وابن أبي الدنيا برقم (84) وغيرهم.
كلهم من طريق الحارث بن عبيد الإيادي عن أبي عمران الجوني فذكره.
وخالفه عبد العزيز بن عبد الصمد العَمِّي في متنه.
- فرواهُ عبد العزيز عن أبي عمران الجوني به بلفظ: “جنَّتان من ذهبٍ آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما. . .
أخرجه البخاري رقم (4597)، ومسلم برقم (180)، وأحمد (4/ 411) وغيرهم.
وهذا المتن هو الصحيح، ولفظُ الحارث الَّذي ساقه المؤلِّف منكر، فإنَّ الحارث ضعيف، وأمَّا عبد العزيز بن عبد الصمد العمِّي فثقة حافظ.
راجع بتوسع صفة الجنَّة لأبي نعيم رقم (141، 314)، والبعث لأبي داود رقم (58).
(3) في “هـ”: “عبيدة” وهو خطأ، وهو: النهر تيري، قال ابن أبي حاتم: صدوق.
انظر: الجرح (9/ 210)، وتاريخ بغداد (14/ 282).
(1/386)
هارون حدثنا الجريري عن معاوية بن قُرَّة عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: “أظنُّكُم تظنون أنَّ أنهار الجنَّة أخدود في الأرض؟ لا واللَّه، إنَّها لسائحة على وجه الأرض، إحدى حافتيها اللؤلؤ، والأخرى الياقوت، وطينه المسك الأذفر، قال قلتُ: ما الأذفر؟ قال: الَّذي لا خلط له” (1) .
ورواهُ ابن مردويه في “تفسيره” عن محمد بن أحمد حدثنا محمد ابن أحمد (2) بن أبي يحيى (3) حدثنا مهدي بن حكيم حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا الجُريري عن معاوية بن قُرَّة عن أنس بن مالك قال: قال
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (69)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة (2/ 167 – 168) رقم (316).
من طريق يعقوب بن عبيد وبشر بن معاذ كلاهما عن يزيد بن هارون به مثله موقوفًا.
وخالفهما مهدي بن حكيم بن مهدي.
- فرواهُ عن يزيد بن هارون به مثله مرفوعًا.
- وأخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة (2/ 168)، وابن مردويه في تفسيره كما ذكره المؤلف.
والصحيح موقوفٌ؛ فإنَّ يعقوب وبشرًا صدوقان، وأمَّا مهدي بن حكيم فلم أقف لأحدٍ تكلَّم فيه أو ذَكَره إلَّا قول أبي الشيخ الأصبهاني “شيخ بصري قدم أصبهان. . “.
طبقات المحدثين (3/ 252)، وأخبار أصبهان لأبي نعيم (2/ 321).
ولهذا قال المنذري في الترغيب والترهيب (4/ 518): “والموقوف أشبه بالصواب”.
(2) قوله “محمد بن أحمد” من “ب، ج، د، هـ”.
(3) في “ب”: “بن يحيى” بدل “بن أبي يحيى”.
(1/387)
رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فذكرهُ هكذا، رواهُ مرفوعًا.
وقال أبو خيثمة: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أنَّه قرأ هذه الآية: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ( 1)} [الكوثر: 1] فقال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أعطيت الكوثر فإذا هو يجري، ولم يُشقَّ شقًّا، وإذا حافتاهُ قبابُ اللؤلؤ، فضربتُ بيدي إلى تربته، فإذا مسكٌ أذفر، وإذا حصباؤه اللؤلؤ” (1) .
وذكر سفيان الثوري، عن عمرو بن مُرَّة عن أبي عبيدة عن مسروق في قوله: {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) } [الواقعة: 31] قال: “أنهار تجري في غير أخدود” قال: {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) } [الشعراء: 148] قال: “من أصلها إلى فرعها، أو كلمة نحوها” (2) .
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (75)، وأحمد (3/ 247).
من طريق عفان عن حماد به مثله.
- ورواهُ عبد الصمد وهدبة بن خالد وعبد الرحمن بن سلام الجمحي كلاهما عن حماد بن سلمة به مثله.
أخرجه ابن حبان في صحيحه (14/ رقم 6471)، وأبو يعلى في مسنده (6/ رقم 3290). - ورواهُ حميد الطويل وقتادة عن أنس مثله كما تقدم.
وهو حديث صحيح.
(2) أخرجه البيهقي في البعث والنشور رقم (320) بتمامه.
من طريق أسود بن عامر عن الثوري به.
ورواهُ عبد الرحمن بن مهدي ووكيع وغيرهما عن الثوري.
ورواهُ المسعودي ومسعر بن كدام عن عمرو بن مرة به مقتصرًا على الشطر الأوَّل، وفيه زيادة تقدمت (ص/ 359). =
(1/388)
وفي “صحيح مسلم” (1) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “سيحان وجيحان والفراتُ والنيل: كلٌّ من أنهار الجنَّة”.
وقال عثمان بن سعيد الدَّارمي: حدثنا سعيد بن سابق حدثنا مسلمة (2) بن علي، عن مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “أنزلَ اللَّهُ من الجنَّة خمسة أنهارٍ: سيحون: وهو نهرُ الهندِ، وجيحون: وهو نهرُ بلْخٍ، ودجلة والفراتَ: وهما نهرا العراقِ، والنيل: وهو نهرُ مصرَ، أنزلها اللَّهُ من عينِ واحدةٍ من عيون الجنَّة من أسفل درجةٍ من درجاتها على جناحي جبريل عليه السلام، فاستودعها الجبالَ، وأجراها في الأرض، وجعل فيها منافع للنَّاس في أصناف معايشهم، فذلك قوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} المؤمنون: 18 ، فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أُرسل جبريل فرفع من الأرض القرآن والعلم كله، والحجرَ الأسود من ركن البيت، ومقام إبراهيم، وتابوت موسى بما فيه، وهذه الأنهار الخمسة فرفع ذلك كله إلى السماء، فذلك قوله
= أخرجه هناد في الزهد رقم (95, 103, 104)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/ رقم 33948)، وابن صاعد في زوائده على الزهد لابن المبارك رقم (1490)، والطبري في تفسيره (1/ 170) وغيرهم.
وهو أثرٌ صحيح.
(1) رقم (2839).
(2) في “د، هـ”: “سلمة” وهو خطأ.
(3) قوله: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)} من “د” فقط.
(1/389)
تعالى: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) } [المؤمنون: 18]، فإذا رُفِعت هذه الأشياء من الأرضِ، فقد حُرِم أهلها خير الدنيا والآخرة” (1) .
رواه أبو أحمد ابن عدي في ترجمة: مسلمة هذا مع أحاديث غيره، وقال: “عامة أحاديثه (2) غير محفوظة، وبالجملة فهو من الضعفاء”. قال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك، وقال أبو حاتم: “لا يُشْتَغَلُ به” (3) .
وقال عبد اللَّه بن وهب: حدثنا سعيد بن أبي (4) أيوب عن عُقَيل بن خالد عن الزهري أنَّ ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: “إنَّ في الجنَّة نهرًا يُقال له: البَيْذَخُ، عليه قِبَابٌ من ياقوتٍ تحته جوارٍ، يقول أهل الجنَّة: انطلقوا بنا إلى البَيْذَخ، فيتصفَّحون تلك الجواري، فإذا أعجب رجلًا منهم جاريةٌ مسَّ مِعصَمها فتتبعه” (5) .
(1) أخرجه ابن عدي في الكامل في الضعفاء (6/ 315)، وابن حبان في المجروحين (3/ 34 – 35)، والخطيب في تاريخه (1/ 79 – 80) وغيرهم.
من طريق سعيد بن سابق به نحوه.
قال ابن عدي: “وهذان الحديثان: أحدهما: رواهُ مسلمة عن مقاتل،. . جميعًا غير محفوظين، بل هما منكرا المتن”.
(2) قوله: “غيره، وقال عامة حديثه” سقط من “ج”.
(3) انظر: ترجمته وأقوال العلماء فيه في تهذيب الكمال (27/ 567 – 571).
(4) سقط من “ب، د”.
(5) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (70)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (324).
وفي سنده انقطاع، فالزهري لم يسمع من ابن عباس، بل سمع من ابنه =
(1/390)
فصل
وأمَّا العيون: فقد قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15)} [الذاريات: 15]، وقال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)} [الإنسان: 5 – 6].
قال بعض السلف: “معهم قضبان الذهب، حيثما مالوا مالت معهم” (1).
وقد اختلف في قوله: {يَشْرَبُ بِهَا} [الإنسان: 6]:
- فقال الكوفيون: الباء بمعنى مِنْ. أي يشرب منها (2).
- وقال آخرون: بل الفعل مُضَمَّن (3). ومعنى يشرب بها: أي يروى بها، فلمَّا ضمَّنه معناه عدَّاه تعديته، وهذا أصح وألطف وأبلغ.
- وقالت طائفة: الباء للظَّرفية، والعين اسم للمكان (4)، كما تقول: كنا بمكان كذا وكذا.
ونظير هذا التَّضمين قوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج: 25] ضُمِّنَ معنى يَهُمُّ (5) فَعُدِّيَ تَعْدِيته.
= علي بن عبد اللَّه بن عباس.
انظر: تهذيب الكمال (26/ 424).
(1) انظر: تفسير الطبري (29/ 208)، والدر المنثور (6/ 483).
(2) في “هـ”: “أي: من شرب منها”.
(3) من “أ”، وفي باقي النسخ “مُضْمَر”، والمثبت هو الصواب.
(4) في “ب، ج”: “مكان”، وفي “هـ”: “المكان”.
(5) من “أ”، وفي باقي النسخ “بهم” وهو خطأ.
(1/391)
وقال تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) } [الإنسان: 17، 18]، فأخبر سبحانه عن العين التي يشرب بها المقربون صِرْفًا؛ أنَّ شراب الأبرار يمزج منها؛ لأنَّ أولئك أخلصوا الأَعمال كلها للَّه، فأخلص شرابهم، وهؤلاء مزجوا، فمزج شرابهم.
ونظير هذا قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) } [المطففين: 22 – 28].
فأخبر سبحانه عن مزاج شرابهم بشيئين؟ بالكافور في أوَّل السُّورة، والزنجبيل في آخرها، فإنَّ في الكافور من البرد وطيب الرَّائحة، وفي الزنجبيل من الحرارة وطيب الرَّائحة، وما يحدث لهم باجتماع الشَّرابين -ومجيء أحدهما على إثر الآخر- حالةً أخرى أكمل وأطيب وألذ من كلٍّ منهما بانفراده، وتعتدل (1) كيفية كل منهما بكيفية الآخر، وما ألطف موقع ذكر الكافور في أوَّل السورة، والزنجبيل [108/ ب] في آخرها، فإنَّ شرابهم مُزِج أوَّلًا بالكافور، وفيه من البرد ما يجيء الزنجبيل بعده فيعدله.
والظَّاهرُ أنَّ الكأس الثانية (2) غير الأولى، وأنَّهما نوعان لذيذان من الشراب، أحدهما: مُزِجَ بكافور، والثاني: مُزِجَ بزنجبيل.
(1) في “ب، د”: “يعدل”.
(2) في “ب، د”: “الثاني”.
(1/392)
وأيضًا؛ فإنَّه سبحانه أخبر عن مَزْجِ شرابهم بالكافور وبَرْدِهِ في مقابلة ما وصفهم به من حرارة الخوف، والإيثار، والصبر، والوفاءِ بجميع الواجبات التي نبَّهَ بوفائهم بأضعفها، وهو ما أوجبوه على أنفسهم بالنَّذْرِ على الوفاءِ بأعلاها، وهو ما أوجبه اللَّهُ عليهم، ولهذا قال: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) } [الإنسان: 12]، فإنَّ في الصَّبر من الخشونة وحبس النَّفس عن شهواتها؛ ما اقتضى أنْ يكون في جزائهم من سعة الجنَّة، ونعومة الحريرِ ما يقابل ذلك الحبس والخشونة، وجمع لهم بين النضرة والسرور، هذا جمال ظواهرهم، وهذا جمال بواطنهم، كَمَا جمَّلُوا في الدنيا ظواهرهم بشرائع الإسلام، وبواطنهم بحقائق الإيمان.
ونظيره قوله تعالى في آخر السورة: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان: 21]، فهذه زينة الظاهر، ثمَّ قال: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) } [الإنسان: 21].
فهذه زينة الباطن المُطَهِّر له (1) من كلِّ أذى ونقص.
ونظيرهُ قوله تعالى لأبيهم آدم عليه السلام: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) } [طه: 118, 119].
فضَمِنَ لهُ أنْ لا يصيبه ذل الباطن بالجوع، ولا ذلُّ الظاهر بالعُريِّ، وأنْ لا يناله حرّ الباطن بالظمأ، ولا حرُّ الظاهر بالضحى.
ونظيرُ هذا ما عدَّدهُ على عباده من نعمه أنَّه أنزل عليهم لباسًا يواري
(1) كذا في جميع النسخ.
(1/393)
سوآتهم، ويزين ظواهرهم، ولباسًا آخر يزين بواطنهم وقلوبهم، وهو لباس التقوى، وأخبر أنَّه خير اللباسين (1) .
وقريبٌ من هذا إخباره أنَّه زيَّنَ السَّماءَ الدنيا بزينة الكواكب، وحفظها من كلِّ شيطانٍ ماردٍ، فزيَّن ظاهرها بالنُّجوم، وباطنها بالحراسة (2) .
وقريبٌ منه أمره من أراد الحج بالزَّاد الظَّاهر، ثمَّ أخبر أنَّ خير الزَّادِ الزادُ الباطن، وهو التقوى (3) .
وقريبٌ منه قول امرأة العزيز عن يوسف: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32]، فأرتهنَّ حُسْنَهُ وجماله، ثمَّ قالت: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف: 32]. فأخبرتهنَّ بجمال باطنه، وزينته بالعِفَّةِ.
وهذا كثيرٌ في القرآن لمن تأمله.
(1) يُشير إلى آية (26) من سورة الأعراف.
(2) يشير إلى آيتي (6 و 7) من سورة الصافات.
(3) يشير إلى آية (197) من سورة البقرة.
(1/394)
الباب الثامن والأربعون في ذكر طعام أهل الجنَّة، وشرابهم ومصرفه
قال اللَّهُ تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} [المرسلات: 41 – 43]، وقال: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)} [الحاقة: 19 – 24]، وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)} [الزخرف: 72 – 73]، وقال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35]، وقال تعالى: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23)} [الطور: 22 – 23]، وقال تعالى: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [المطففين: 25 – 26].
وفي “صحيح مسلم” (1) من حديث أبي الزبير، عن جابر رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “يأكل أهل الجنَّة ويشربون، ولا يمتخطون ولا يتغوطون ولا يبولون، طعامهم ذلك جُشاءٌ كريحِ المسكِ، يُلْهَمُون التسبيح والتكبير كما تُلهمون النَّفَسَ”.
ورواهُ أيضًا من رواية طلحة بن نافع، عن جابر وفيه: قالوا: فما بال الطعام؟ قال: “جُشاءٌ ورشحٌ كرشح المسك، يُلْهَمون التسبيح
(1) رقم (2835) – (19).
(1/395)
والحمد” (1) .
وفي “المسند” و”سنن النسائي” بإسناد صحيح على شرط الصحيح من حديث الأعمش، عن ثمامة بن عقبة، عن زيد بن أرقم قال: “جاء رجلٌ من أهل الكتاب إلى النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا أبا القاسم، تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون؟ قال: “نعم، والذي نفس محمد بيده، إن أحدهم ليُعْطَى قوة مئة رجل في الأكل والشرب والجماع والشهوة”، قال: فإن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة وليس في الجنة أذى، قال: “تكون حاجة أحدهم رشحًا يفيض من جلودهم كرشح المسك فَيضْمُر بطنه” (2) .
ورواه الحاكم في “صحيحه” (3) ولفظه: “أتى النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل من اليهود فقال: يا أبا القاسم، ألست تزعم أن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون؟ -ويقول لأصحابه: إن أقرَّ لي بهذا خصمته- فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “بلى والذي نفس محمدٍ بيده، إن أحدهم ليُعْطَى قوة
(1) رقم (2835) – (18).
(2) أخرجه أحمد في المسند (4/ 367 و 371)، وعبد بن حميد في مسنده (المنتخب رقم 263)، والنسائي في الكبرى (6/ رقم 11478)، وهناد في الزهد رقم (63، 90)، واللفظ له، وابن حبان في صحيحه (16/ 7424)، وأبو نعيم في الحلية (7/ 366)، (8/ 116)، وابن حبيب في وصف الفردوس رقم (83 و 84) وغيرهم.
والحديث صححه ابن حبان وأبو نعيم والضياء المقدسي والمؤلِّف.
(3) لم أقف عليه في المطبوع، ولا في إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة لابن حجر (4/ 570 و 571) رقم (4671، 4673). لكن أخرجه البيهقي في البعث والنشور رقم (352) عن الحاكم ومحمد بن موسى به.
(1/396)
رجل في المَطْعم والمَشْرب والشهوة والجماع”، فقال له اليهودي: فإن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “حاجتهم عَرَق يفيض من جلودهم مثل المسك، فإذا البطن قد ضمر”.
وقال الحسن بن عرفة: حدثنا خلف بن خليفة، عن حميد الأعرج، عن عبد اللَّه بن الحارث، عن عبد اللَّه بن مسعود، قال: قال لي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه، فَيَخِرّ بين يديك مشويًّا” (1) .
وقد تقدم حديث أنس في قصة عبد اللَّه بن سلام في أول طعام يأكله أهل الجنة، وشرابهم على أثره (2) .
(1) أخرجه الحسن بن عرفة في جزئه رقم (22)، والبزار في مسنده (5/ 401) رقم (2032)، والبيهقي في البعث رقم (353).
- ورواهُ جماعةٌ عن خلف بن خليفة به.
أخرجه الشاشي في مسنده رقم (858)، والعقيلي في الضعفاء (1/ 268)، وابن عدي في الكامل (2/ 273)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (104)، والبيهقي في البعث رقم (353) وغيرهم.
والحديثُ مدارهُ على حميد الأعرج الكوفي: ضعيف جدًّا، بل قال ابن حبان: “يروي عن ابن الحارث عن ابن مسعود نسخة كأنَّها كلها موضوعة”.
وقال ابن عدي: “وهذه الأحاديث عن ابن الحارث عن ابن مسعود، أحاديث ليست بمستقيمة ولا يتابع عليها. . “.
والحديثُ باطل، وقد ضعفه العقيلي وابن عدي والبوصيري والذهبي وغيرهم.
(2) عند البخاري رقم (3723).
(1/397)
وحديث أبي سعيد الخدري: “تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفَّؤها الجبار بيده نُزُلًا لأهل الجنة” (1) .
وقال الحاكم: أنبأنا الأصم، حدثنا إبراهيم بن منقذ، حدثنا إدريس ابن يحيى، حدثني الفضل بن المختار، عن عبيد اللَّه بن موهب، عن عصمة بن مالك الخطمي، عن حذيفة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إن في الجنة طيرًا أمثال البخاتي، فقال أبو بكر: إنها لناعمة يا رسول اللَّه، قال: أنعم منها من يأكلها، وأنت ممن يأكلها يا أبا بكر” (2) .
قال الحاكم: وأنبانا الأصم، حدثنا يحيى بن أبي طالب، أنبأنا عبد الوهاب بن عطاء، أنبأنا سعيد، عن قتادة في قوله تعالى: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) } [الواقعة: 21] قال: ذكر لنا أن أبا بكر قال: يا رسول اللَّه، إني لأرى طير الجنة ناعمة كما أهلها ناعمون، قال: “من يأكلها أنعم منها، وإنها أمثال البخاتي، وإني لأحتسب على اللَّه أن تأكل منها يا أبا بكر” (3) .
(1) عند البخاري رقم (6155)، ومسلم رقم (2792).
(2) أخرجه البيهقي في البعث والنشور رقم (354).
قال العراقي: غريب. قلت: فيه الفضل بن المختار البصري قال أبو حاتم: “هو مجهول، وأحاديثه منكرة يحدث بالأباطيل”، وقال ابن حجر: “مدارها على الفضلِ بن المختار، وهو ضعيف جدًّا”.
انظر: الجرح والتعديل (7/ 69)، والإصابة (6/ 243).
(3) أخرجه البيهقي في البعث والنشور رقم (355).
وسنده حسن إلى قتادة، والحديث مرسل.
(1/398)
وبهذا الإسناد عن قتادة، عن أبي أيوب رجلٌ من أهل البصرة، عن عبد اللَّه بن عمرو -رضي اللَّه عنهما- في قوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف: 71]، قال: “يطاف عليهم بسبعين صحفة من ذَهَبٍ، كلُّ صفحةٍ فيها لون ليس في الأُخرى” (1) .
وقال الدراوردي: حدثني ابن أخي ابن شهاب، عن أبيه (2) عبد اللَّه ابن مسلم أنه سمع أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- يقول في الكوثر: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “هو نهرٌ أعطانيه ربي أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، فيه طيور أعناقها كأعناق الجُزُرِ”، فقال عمر بن الخطاب: إنها يا رسول اللَّه لناعمة، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “آكِلُها أنعم منها” (3) .
(1) أخرجه البيهقي في البعث والنشور رقم (356)، والطبري في تفسيره (25/ 96) مختصرًا.
وسنده صحيح، أبو أيوب هذا هو يحيى، -ويقال حبيب- ابن مالك الأزدي العتكي. انظر: تهذيب الكمال (33/ 60 – 62).
(2) في “ب، د”: “عن” بين “أبيه” و”عبد اللَّه” وهو خطأ.
(3) أخرجه البيهقي في البعث والنشور رقم (291).
- ورواهُ إبراهيم بن سعد ومعن بن عيسى القزَّاز وعبد اللَّه بن مسلمة القعنبي وأبو أُويس “لكنه اضطرب فيه”، كلهم عن محمد بن عبد اللَّه بن مسلم عن أبيه عن أنس فذكره نحوه؛ لكن قال إبراهيم بن سعد “أبو بكر” بدل “عمر”.
أخرجه أحمد (3/ 236، 237)، وبقي بن مخلد فيما روي في الحوض والكوثر رقم (31)، والآجري في الشريعة رقم (1087)، والترمذي برقم (2542)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة (79) وغيرهم. - ورواهُ جعفر بن عمرو عن عبد اللَّه بن مسلم عن أنس فذكره. =
(1/399)
تابعه إبراهيم بن سعد عن ابن أخي ابن شهاب، وقال: فقال “أبو بكر” بدل “عمر”.
وقال عثمان بن سعيد الدارمي: حدثنا عبد اللَّه بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) } [الواقعة: 18]، يقول: “الخمر”، {لَا فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات: 47] يقول (1) : “ليس فيها صداع”، وفي قوله تعالى: {وَلَا يُنْزِفُونَ} [الواقعة: 19] يقول: “لا تذهب عقولهم”، وقوله تعالى:
= أخرجه بقي بن مخلد في الحوض والكوثر رقم (30) وغيره.
- ورواه عبد الوهاب بن أبي بكر ويزيد بن الهاد (إن كان محفوظًا) عن عبد اللَّه بن مسلم عن ابن شهاب الزهري عن أنس فذكره نحوه.
أخرجه أحمد (3/ 220)، وبقي بن مخلد “فيما روي في الحوض والكوثر” رقم (32/ 33)، والطبري في تفسيره (30/ 324) وغيرهم. - ورواه الليث بن سعد إن كان محفوظًا -عن الزهري عن أنس مرفوعًا- قاله لأبي بكر.
أخرجه ابن حبيب في وصف الفردوس رقم (88).
قال الترمذي: “حسن”، وفي بعض النسخ “حسن غريب”.
قلت: طريق عبد الوهاب أصح، فإن محمد بن عبد اللَّه بن مسلم في حفظه مقال، وجعفر بن عمرو هو ابن جعفر بن أميه فيه جهالة، والراوي عنه ابن إسحاق ولم يصرح بالتحديث، والحديث غريب عن الزهري. - ورواه سيار عن جعفر بن سليمان الضُّبَعي عن ثابت عن أنس رفعه: “إن طير الجنة كأمثال البخت ترعى في شجر الجنة فقال أبو بكر. . . ” نحوه.
أخرجه أحمد (3/ 221)، وصحَّح العراقي إسناده، وفيه نظر، والصواب أنَّه ضعيف الإسناد.
(1) سقط من “ج”.
(1/400)
{وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) } [النبأ: 34]، يقول: “ممتلئة”، وقوله: {رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} [المطففين: 25] يقول: “الخمر ختم بالمسك” (1) .
وقال علقمة، عن ابن مسعود: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين: 26]. قال: “خلطه، وليس بخاتم يختم” (2) .
(1) أخرجه البيهقي في البعث والنشور رقم (357).
وسنده حسن، وعلي بن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس، وإنما لقي مجاهدًا فسمع منه التفسير.
انظر تهذيب الكمال (20/ 490).
وأخرجه الطبري مفرَّقًا ببعضه، عن علي عن عبد اللَّه بن صالح به في (27/ 175) و (30/ 19 و 105 و 106).
(2) أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- رقم (277)، وابن وهب في التفسير – من الجامع (1/ 143) رقم (334)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة رقم (131)، والطبري في تفسيره (30/ 106)، والبيهقي في البعث رقم (359) وغيرهم.
من طريق سفيان الثوري عن أشعث بن سليم عن زيد بن معاوية عن علقمة عن ابن مسعود فذكره.
- وقد خولف الثوري:
خالفه أبو الأحوص وزائدة وأيوب وشريك وإسرائيل كلهم عن أشعث به (من قول علقمة).
وسئل يحيى القطان عن ذلك فقال: “لو كانوا أربعة آلاف مثل هؤلاء لكان سفيان أثبت منهم”.
وسئل عبد الرحمن بن مهدي عن ذلك فقال: “هؤلاء قد اجتمعوا، وسفيان أثبت منهم، والانصاف لا بأس به”.
انظر المجروحين لابن حبان (1/ 51).
والأثر فيه زيد بن معاوية ذكره ابن حبان في الثقات (6/ 317) وسكت =
(1/401)
قلت: يريد -واللَّه أعلم- أن آخره مسك يخالطه فهو من الخاتمة، ليس من الخاتم.
وقال زيد بن معاوية: سألت علقمة عن قوله تعالى: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين: 26] فقرأ {خاتمه مسك}، فقال لي علقمة: “ليست خاتمه، ولكن اقرأها {خِتَامُهُ مِسْكٌ} قال علقمة: ختامه: خلطه، ألم تر إلى (1) المرأة من نسائكم تقول للطيب: إنَّ خَلْطهُ من مسك، لكذا وكذا” (2) .
وذكر سعيد بن منصور (3) : حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عبد اللَّه بن مرة، عن مسروق: “الرحيق: الخمر، والمختوم: يجدون
= عنه البخاري، وروى عنه راويان.
وعليه فالإسناد لا بأس به.
(1) في “ب، ج، د، هـ” “أنَّ”.
(2) أخرجه هناد في الزهد رقم (67)، والطبري في تفسيره (30/ 106)، والبيهقي في البعث رقم (360).
وفيه زيد بن معاوية العبسي -تقدم الكلام فيه- وهو هنا يسأل علقمة فهو أقرب إلى الضبط في الجُمْلة.
وعليه فالإسناد ثابت.
(3) أخرجه البيهقي في البعث رقم (361) من طريق سعيد بن منصور به مثله.
لكن رواه هناد في الزهد رقم (64)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة رقم (137).
عن داود بن عمرو الضَّبي كلاهما “هناد وداود” عن أبي معاوية به.
وزاد “عن ابن مسعود” وهذا هو الصحيح.
ورواهُ وكيع عن الأعمش به -وذكر ابن مسعود- مقتصرًا على أوَّله.
أخرجه هناد رقم (66) وغيره.
(1/402)
عاقبتها طعم المسك”.
وبهذا الإسناد عن مسروق، عن عبد اللَّه في قوله تعالى: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) } [المطففين: 27] قال: “يمزج لأصحاب اليمين، ويشربُها المقربون صرفًا” (1) .
وكذلك قال ابن عباس: “يشرب منها المقربون صرفًا، ويمزج لمن دونهم” (2) .
وقال مجاهدٌ: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين: 26] يقول: “طينه مسك” (3) .
وهذا التفسير يحتاج إلى تفسير. ولفظ الآية أوضح منه، وكأنه –
(1) أخرجه البيهقي في البعث رقم (362) من طريق سعيد بن منصور به مثله.
وأخرجه هناد في الزهد رقم (65)، والمروزي في زوائده على الزهد لابن المبارك رقم (1522)، والطبري (30/ 108).
- ورواهُ جريرُ عن الأعمش عن عبد اللَّه عن مسروق قوله “ولم يذكر ابن مسعود”.
أخرجه الواحدي في تفسيره الوسيط (4/ 449).
والأثر ثابت صحيح عن ابن مسعود.
(2) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (2/ 290) رقم (3545)، والطبري في تفسيره (30/ 109)، والبيهقي في البعث رقم (363) وغيرهم.
وسنده صحيح، انظر تغليق التعليق (3/ 500).
(3) أخرجه الطبري في تفسيره (30/ 107)، والبيهقي في البعث رقم (364) وغيرهما.
وسنده حسن. انظر تغليق التعليق (3/ 500).
(1/403)
واللَّه أعلم- يريد ما يبقى في أسفل الإناء من الدُّرْدِيِّ (1) .
وذكر الحاكم: من حديث آدم، حدثنا شيبان، عن جابر، عن ابن سابط، عن أبي الدرداء في قوله: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين: 26]، قال: “هو شرابٌ أبيض مثل الفضة يختمون به آخر شرابهم، لو أنَّ رجلًا من أهل الدنيا أدخل يده فيه ثم أخرجها؛ لم يبق ذو روح إلا وجد ريح طيبها” (2) .
قال آدم: وحدثنا أبو شيبة، عن عطاء قال: “التَّسْنِيم: اسم العين التي يمزج به الخمر” (3) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، أنبأنا حصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّهُ عنهما في قوله: {وَكَأْسًا دِهَاقًا} [النبأ: 34]
(1) دُرديُّ الشيء: ما يبقى في أسفله، الصحاح (1/ 403).
(2) أخرجه البيهقي في البعث رقم (365) عن الحاكم به مثله.
وأخرجه ابن المبارك في الزهدِ -رواية نُعيم- رقم (276)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (130)، والطبري في تفسيره (30/ 107).
من طريق أبي حمزة ورجل عن جابر به مثله.
والأثرُ ضعيفُ الإسناد فيه جابر الجعفي متكلَّمٌ فيه، وعبد الرحمن بن سابط لم يسمع من أبي الدرداء.
انظر: تهذيب الكمال (17/ 125).
(3) أخرجه البيهقي في البعث رقم (366) عن الحاكم به مثله.
وسنده حسن، وأبو شيبة هو: شعيب بن رزيق الشامي أبو شيبة المقدسي، وعطاء هو ابن أبي مسلم الخراساني. انظر: تهذيب الكمال (12/ 524).
(1/404)
قال: “هي المتتابعة الممتلئة”، قال: ورُبَّما سمعت العباس يقول: اسقنا وادْهَق لنا” (1) .
وقد تقدَّم الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 5 – 6] وعلى قوله: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) } الإنسان: 17 – 18 .
فقالت فرقة: “سلسبيلًا” جملة مركبة من فعل وفاعل، و”سبيلًا” منصوب على المفعول، أي سل سبيلًا إليها (3) .
وليس هذا بشيء، وإنما السلسبيل كلمة مفردة، وهي اسم للعين نفسها باعتبار صفتها، وقد شفى (4) قتادة ومجاهد في اشتقاق اللفظة،
(1) أخرجه البيهقي في البعث رقم (358) من طريق الإمام أحمد به مثله.
وأخرجه عبد بن حميد في تفسيره كما في تغليق التعليق (3/ 501) عن هشيم به نحوه مختصرًا.
- رواهُ يحيى بن المهلب عن حصين به نحوه وفيه (. . . اسقنا كأسًا دهاقًا).
أخرجه البخاري في صحيحه (66) فضائل الصحابة (56) باب: أيام الجاهلية (3/ 1395) رقم (3627).
(2) انظر ص (391 – 392).
(3) ذكره الماوردي في تفسيره (6/ 171) عن علي رضي اللَّه عنه.
قال ابن الجوزي: “ولا يصح” أي: عن علي رضي اللَّه عنه. وقال السمعاني: “ومن قال ذلك فقد أبعد، وهو تأويل باطل، وليس من قول أهل العلم”. انظر زاد المسير (8/ 438)، وتفسير القرآن للسمعاني (6/ 119).
(4) في “أ، ب، هـ” “سعى” وهو خطأ.
(1/405)
فقال قتادة: “سَلِسَة لهم يصرفونها حيث شاؤوا” (1) . وهذا من الاشتقاق الأكبر (2) . وقال مجاهد: “سَلِسَةُ السبيل حديدة الجرية” (3) ، وقال أبو العالية والمقاتلان (4) : “تسيل عليهم في الطرق، وفي منازلهم”. وهذا من سلاستها وحِدَّة جريتها.
وقال آخرون: معناها طيبة الطعم والمذاق (5) .
وقال أبو إسحاق: “سلسبيل: صفة لِمَا كان في غاية السلاسة،
(1) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (2/ 271) رقم (3437)، والطبري (29/ 218).
عن معمر عن قتادة فذكره.
- ورواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: (سَلِسَة مستقيدًا “أي: منقاد” ماؤها).
أخرجه الطبري (29/ 218). وهو أثر صحيح عن قتادة.
(2) في “ج” “الأكثر” وهو خطأ.
(3) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (2/ 271) رقم (3436) وهناد في الزهد رقم (96) والطبري (29/ 218 و 219).
من طريق الثوري وشبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد. .
ولفظ الثوري: حديدة -وفي رواية: شديدة- الجرية. ولفظ شبل: سلسة الجرية. وهو أثر صحيح عن مجاهد.
(4) المقاتلان هما: مقاتل بن حيان، ومقاتل بن سليمان.
وانظر هذا النقل عنهما في تفسير السمرقندي “بحر العلوم” (3/ 432)، وتفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن (19/ 143)، وتفسير الماوردي (6/ 171)، ومعالم التنزيل للبغوي (8/ 297).
(5) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (19/ 142).
(1/406)
فسميت العين بذلك.
وقال ابن الأنباري: “الصواب في سلسبيل: أنه صفة للماء، وليس باسم للعين”. واحتج على ذلك بحجتين:
إحداهما: بأنَّ سلسبيلَ مصْرُوف، ولو كان اسمًا للعين لم يُصْرَف للتأنيث والعلمية.
الثانية: أن ابن عباس قال: معناه “أنها تنسل في حلوقهم انسلالًا” (1) .
قلت: ولا حجة له في واحدة منهما، أما الصرف: فلاقْتِضَاء رؤوس الآي له كنظائره. وأما قول ابن عباس: فإنما يدل على أن العين سميت بذلك باعتبار صفة السلاسة والسهولة (2) .
فقد تضمنت هذه النصوص أنَّ لهم فيها الخبز والَّلحم والفاكهةَ والحلوى، وأنواع الأشربة من الماء واللبن والخمر، وليس في الدنيا ممَّا في الآخرة إلَّا الأسماء، وأمَّا المسميات فبينها من التفاوت ما لا يعلمه البشر.
فإنْ قيل: فأين يُشْوى اللحم وليس في الجنة نار؟.
فقد أجاب عن هذا بعضهم بأنه يُشْوى بـ {كُن}.
(1) ذكره الماوردي في تفسيره (6/ 171).
(2) راجع معاني القرآن للزجاج (5/ 261)، وتفسير السمعاني (6/ 119)، وزاد المسير لابن الجوزي (8/ 438).
(1/407)
وأجاب آخرون: بأنَّه يشوى خارج الجنة، ثم يؤتى به إليهم.
والصواب: أنه يشوى في الجنة بأسباب قدرها العزيز العليم (1) لإنضاجه وإصلاحه، كما قَدَّرَ هناك أسبابًا لإنضاج الثمر والطعام، على أنَّه لا يمتنع أن يكون فيها نار تصلح ولا تفسد شيئًا.
وقد صح عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: “مجامرهم الأَلُوَّةُ” (2) ، و”المجامر”: جمعِ مَجْمَر، وهو البخور الذي يتبخر بإحراقه. و”الألوة”: العود المُطرَّى. فأخبر أنهم يتجمرون به، أي: يتبخرون بإحراقه، لتسطع لهم رائحته.
وقد أخبر سبحانه أنَّ في الجنَّة ظلالًا، والظلال لا بُدَّ أنْ تفيء ممَّا يقابلها فقال: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) } [يس: 56].
وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) } [المرسلات: 41].
وقال تعالى: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) } [النساء: 57].
فالأطعمة والحلوى والتَّجمر تستدعي أسبابًا تتم بها، واللَّه سبحانه خالق السَّبب والمُسَبَّب، وهو رب كل شيء ومليكه لا إله إلا هو، وكذلك جعل لهم سبحانه أسبابًا تُصَرِّف الطعام من الجشاء والعرق الذي يفيض من جلودهم، فهذا سبب إخراجه، وذاك سبب إنضاجه، وكذلك يجعل في أجوافهم من الحرارة ما يطبخ ذلك الطعام ويُلطِّفه، ويهيئه لخروجه رشحًا وجشاءً، وكذلك ما هناك من الثمار
(1) في “هـ”: “الحكيم”.
(2) تقدم في (ص/ 231).
(1/408)
والفواكه يخلق لها من الحرارة ما يُنْضِجها، ويجعل سبحانه أوراق الشجر ظلالًا، فربُّ الدنيا والآخرة واحد، وهو الخالق بالأسباب والحِكَم ما يجعله (1) في الدنيا والآخرة، والأسباب مظهر أفعاله وحكمته؛ ولكنَّها تختلف، ولهذا يقع التعجب من العبد لورود أفعاله سبحانه على أسباب غير الأسباب المعهودة المألوفة، وربما حمله ذلك على الإنكار والكفر، وذلك محض الجهل والظلم؛ وإلَّا فليست قدرته سبحانه وتعالى مقصّرة عن أسباب أُخَر؛ وَمُسَبِّبَات ينشئها منها؛ كما لم يقصر في هذا العالم المشهود عن أسبابه ومسبباته، وليس هذا بأهون عليه من ذلك.
ولعل النشأة الأولى التي أنشأها الرب سبحانه وتعالى فيها بالعيان والمشاهدة = أعجب من النشأة الثانية التي وعدنا بها إذا تأملها اللبيب. ولعل إخراج هذه الفواكه والثمار من بين هذه التربة الغليظة، والماء والخشب والنوى (2) المناسب لها = أعجب عند العقل من إخراجها من بين تربة الجنة ومائها وهوائها.
ولعل إخراج هذه الأشربة التي هي غذاء ودواء وشراب ولذَّة من بين فرث ودم، ومن فِيِّ (3) ذُبَابٍ = أعجب من إجرائها أنهارًا في الجنة بأسباب أُخر.
(1) في “ب، د”: “يخلقه”.
(2) في “ب، د، هـ”: “الهواء”.
(3) في “أ، ب، ج”: “قِيِّ”، ويعني بالذباب: النحل.
(1/409)
ولعل أخراج جوهَرَي الذهب والفضة في (1) عروق الحجارة من الجبال وغيرها = أعجب من إنشائها هناك من أسباب أخر. ولعل إخراج الحرير من لعاب دُوْدِ القَزِّ، وبنائها على أنفسها القباب البِيْض والحُمر والصفر أحكم بناء = أعجب من إخراجه من أكمام تتفتَّق عنه شجر هناك، قد أودع فيها، وأنشئ منها.
ولعلَّ جريان بحار الماء بين السماء والأرض على ظهور السحاب = أعجب من جريانها في الجنة في غير أخدود.
وبالجملة، فتأمل آيات اللَّه التي دعا عباده إلى التفكُّر فيها، وجعلها آياتٍ دالةً على كمال قدرته، وعِلَّةً في مشيئته (2) وحكمته وملكه، وعلى توحُّده بالربوبية والإلهية، ثم وازن بينها وبين ما أخبر به من أمر الآخرة والجنة والنار = تجد هذه أدلَّ شيءٍ على تلك، شاهدة لها، وتجدهما من مشكاةٍ واحدة، وربٍّ واحد، وخالقٍ واحد (3) ، وملكٍ واحد، فبُعدًا لقومٍ لا يؤمنون.
(1) في “هـ”: “من”.
(2) في “ب، د”: “وعلمه ومشيئته”، وفي “هـ” ونسخةٍ على حاشية “أ”: “وعلمه في مشيئته”.
(3) قوله “وخالق واحد” من “ب، ج، د، هـ”.
(1/410)
الباب التاسع والأربعون في ذكر آنيتهم التي يأكلون فيها ويشربون، وأجناسها وصفاتها
قال اللَّهُ تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} [الزخرف: 71]، فالصحاف: جمعُ صَحْفَة، قال الكلبي: “بقصاعٍ من ذهبٍ”. وقال الليث: “الصحفة: قطعةٌ مُسْلَنْطِحَة عريضة، الجمعُ: صِحَاف، قال الأعشى:
والمَكَاكِيْكَ والصِّحَافَ منَ الفِضَّـ … ـــة والضَّامِزَاتِ تحتَ الرِّحَالِ (1)
وأمَّا الأكواب فجمع كوبٍ، قال الفرَّاء: “الكوب: المستدير الرَّأس الَّذي لا أُذَنَ له، وأنشد لِعَدِي:
مُتكئًا تصفقُ أبوابُه … يسعى عليه الغيد بالكوب (2)
وقال أبو عبيدة: “الأكواب: الأباريق التي لا خراطيم لها” (3)، قال أبو إسحاق: “واحدها كوبٌ، وهو إناء مستدير لا عُروة له” (4). وقال ابن عباس: “هي الأباريق التي ليست لها آذان” (5). وقال مقاتل: “هي
(1) انظر: تهذيب الَّلغة للأزهري (2/ 1981)، وانظر البيت في ديوان الأعشى ص (167).
(2) انظر معاني القرآن للفرَّاء (3/ 37).
(3) انظر مجاز القرآن (2/ 206)، وفيه “الأبارق” بدل “الأباريق”.
(4) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج (4/ 419).
(5) لم أقف عليه.
(1/411)
أواني مستديرة الرَّأس ليس لها عُرًى” (1) .
وقال البخاري في “صحيحه” (2) : الأكواب: الأباريق التي لا خراطيم لها”.
وقال تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) } [الواقعة: 17 – 18].
الأباريق: هي الأكواب التي لها خراطيم، فإنْ لم (3) يكن لها خراطيم ولا عُرًى فهي أكواب. وإبريق: إفعيل من البَرِيق، وهو الصفاء الَّذي يبرق لونه من صفائه، ثمَّ سُمِّيَ ما كان على شكله إبريق؛ وإنْ لم يكن صافيًا، وأباريق الجنَّة من الفضة في صفاء القوارير، يُرَى من ظاهرها ما في باطنها، والعربُ تسمى السيف إبريقًا، لَبريق لونه، ومنه قول ابن أحمر:
تعلَّقتَ إبريقًا وعلَّقْتَ جَعْبَة … لتُهلِكَ حيًّا ذَا زُهَاءً وَجَامل (4)
وفي “نوادر الِّلحياني”: “امرأة إبريق إذا كانت برَّاقة” (5) .
(1) انظر تفسير مقاتل المنسوب إليه (3/ 312).
(2) الَّذي في صحيح البخاري في “63” بدء الخلق (8)، باب: ما جاء في صفة الجنَّة وأنَّها مخلوقة (3/ 1184) بهذا اللفظ “والكوب: ما لا أذن له ولا عروة، والأباريق: ذات الآذان والعُرى”. وانظر (4/ 117) ط: بولاق.
(3) سقط من “أ”.
(4) انظر البيت في تهذيب اللغة للأزهري (1/ 316).
(5) انظر تهذيب اللغة للأزهري (1/ 316).
(1/412)
وقال تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) } [الإنسان: 15 – 16].
فالقوارير: هي الزجاج، فأخبر سبحانه وتعالى عن مادة تلك الآنية أنَّها من الفضة، وأنَّها بصفاء الزجاج وشفافته، وهذا من أحسن الأشياء وأعجبها، وقطع سبحانه توهُّم كون تلك القوارير من زجاج فقال: {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ}، قال مجاهد وقتادة ومُقاتل والكلبي والشعبي: “قوارير الجنَّة من الفضة” (1) ، فاجتمع لها بياض الفضة وصفاء القوارير.
قال ابن قتيبة: “كل ما في الجنَّة من الأنهار وسررها وفرشها وأكوابها مخالفٌ لما في الدنيا من صنعة العباد، كما قال ابن عباس: “ليس في الدنيا شيءٌ ممَّا في الجنَّة إلَّا الأسماء” (2) ، والأكواب في الدنيا، قد تكون من فضة، وتكون من قوارير، فأعلمنا اللَّهُ تعالى أنَّ هناك أكوابًا لها بياض الفضة، وصفاء القوارير، قال: وهذا على التشبيه، أراد قوارير كأنَّها من فضة، وهذا كقوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ
(1) انظر: تفسير الطبري (29/ 215 – 217)، ومعالم التنزيل للبغوي (8/ 296)، وتفسير مقاتل (3/ 312 – 313).
(2) أخرجه هناد في الزهد رقم (3, 8)، ووكيع في نسخته عن الأعمش رقم (1)، وابن أبي حاتم في تفسيره البقرة رقم (261)، والطبري (1/ 174)، ومسدد في مسنده كما في المطالب العالية (4617)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (124) وغيرهم.
من طرق عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: لا يشبه شيءٌ ممَّا في الجنَّة ما في الدنيا إلَّا الأسماء”. هذا لفظ الأشجعي عن الثوري.
وهو أثرٌ صحيح ثابت.
(1/413)
الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) } [الرحمن: 58]، أي لهنَّ ألوان المرجان في صفاء الياقوت” (1) .
وهذا مردودٌ عليه، فإنَّ الآية صريحةٌ أنَّها من فضة، و”من” ها هنا لبيان الجنس كما تقول: خاتم من فضة، ولا يراد بذلك أنه يشبه الفضة، بل جنسه ومادته الفضة، ولعله أشكل عليه كونها من فضة وهي قوارير، وهو الزجاج، وليس في ذلك إشكال لما ذكرناه.
وقوله: {قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} التقدير: جعل الشيء بقدر مخصوص، فقدرت الصُّناع هذه الآنية على قدر رِيِّهِم (2) ، لا يزيد عليه ولا ينقص منه، وهذا أبلغ في لذة الشارب، فلو نقص عن رِيِّهِ لنقص التذاذه، ولو زاد حتى يُسْئر (3) منه حصل له ملالة وسآمة من الباقي.
هذا قول جماعة المفسرين (4) .
قال الفراء: “قدروا الكأس على رِيِّ أحدهم، لا فضل فيه، ولا عجز عن رِيِّه، وهو الذُّ الشراب” (5) .
(1) انظر تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة الدينوري ص (80 – 81).
(2) في “ج، هـ”: “زِيِّهم” وهو خطأ.
(3) يسئر: أي يفْضل، قال الليث: يُقال أسأر فلان من طعامه وشرابه سُؤْرًا: وذلك إذا أبقى منه بقيَّة، قال: وبقية كل شيء سُؤْره، انظر: تهذيب اللغة للأزهري (2/ 1592).
(4) في “هـ”، ونسخة على حاشية “أ”: “من المفسرين”.
(5) انظر: معاني القرآن له (3/ 217).
(1/414)
وقال الزجاج: “جعلوا الإناء على قدر ما يحتاجون إليه ويريدونه” (1) .
وقال أبو عبيد: “يكون التقدير للذين يسقون يقدرونها، ثم يسقون”. يعني أن الضمير في “قدروا” للملائكة والخدم، قدروا الكأس على قدر الرِّيِّ، فلا يزيد عليه فَيُثقِل الكف، ولا ينقص منه (2) فتطلب النفس الزيادة كما تقدم.
وقالت طائفة: الضمير يعود على الشاربين، أي قدروا في أنفسهم شيئًا، فجاءهم الأمر (3) بحسب ما قدروه وأرادوه.
وقول الجمهور أحسن وأبلغ، فهو مستلزم لهذا القول. واللَّه أعلم.
وأما الكأس، فقال أبو عبيدة: “هو الإناء بما فيه” (4) . وقال أبو إسحاق: “الكأس: الإناء إذا كان فيه خمر، ويقع الكأس لكلِّ إناءٍ مع شرابه” (5) .
والمفسرون فسَّروا الكأس بالخمر، وهو قول عطاء والكلبي
(1) انظر معاني القرآن وإعرابه له (5/ 260).
(2) من “ب، ج، د، هـ”.
(3) ليس في “د”.
(4) انظر مجاز القرآن (2/ 169).
(5) انظر المخصص لابن سيده (3/ 196 – 197)، والمحرر الوجيز لابن عطية (15/ 363).
(1/415)
ومقاتل (1) ، حتى قال الضحاك: “كل كأس في القرآن، فإنما عنى به: الخمر” (2) .
وهذا نظر منهم إلى المعنى والمقصود: فإن المقصود ما في الكأس لا الإناء معه. وأيضًا، فإن من الأسماء ما يكون اسمًا للحال والمحل مجتمعين ومنفردين: كالنهر، والكأس. فإن النهر اسم للماء ولمحله معًا، ولكل منهما على انفراده، وكذلك الكأس، والقرية. ولهذا يجيء لفظ القرية مرادًا (3) به الساكن فقط، والمسكن فقط، والأمران معًا.
وقد أخرجا في “الصحيحين” (4) من حديث أبي موسى الأشعري -رضي اللَّه عنه-: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما: “وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن”.
وفيهما أيضًا من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على أشد كوكب دُرِّيٍّ في السماء إضاءةً، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يتفلون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة، وأزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خلق
(1) انظر: تفسير مقاتل (3/ 313).
(2) أخرجه هنَّاد في الزهد رقم (72)، والطبري في تفسيره (23/ 34).
وسنده صحيح.
(3) في “د”: “يُراد”.
(4) تقدم في ص (206 – 207).
(1/416)
رجل واحد، على صورة أبيهم آدم، عليه السلام ستون ذراعًا في السماء” (1) .
وفي “الصحيحين” (2) من حديث حذيفة بن اليمان أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها (3) ، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة”.
وقال أبو يعلى الموصلي في “مسنده”: حدثنا شيبان، حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا ثابت قال: قال أنس -رضي اللَّه عنه-: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تعجبه الرؤيا (4) ، فربما رأى الرجل الرؤيا فيسأل عنه إذا لم يكن يعرفه، فإذا أثنى (5) عليه معروف كان أعجب لرؤياه إليه. فأتته امرأة فقالت: يا رسول اللَّه رأيت كأنِّي أُتيت فأخرجت من المدينة فأُدخلت الجنة، فسمعت وجبة انتحت (6) لها الجنة، فنظرت فإذا فلان ابن فلان، وفلان ابن فلان، فَسَمَّتْ اثني عشر رجلًا، كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد بعث سرية قبل (7) ذلك، فجيء بهم، عليهم ثياب طُلْس تَشْخَب
(1) تقدم ص (231 – 232).
(2) البخاري رقم (5110)، ومسلم رقم (2067).
(3) في “ب”: “صحافهما”.
(4) عند أحمد من رواية عفان وبهز عن سليمان به “الرؤيا الحسنة”.
(5) في “أ، ج”: “أتى”، والمثبت من مصدر التخريج، وباقي النسخ.
(6) في “هـ” والمسند “ارْتَجَّتْ” وفي نسخةٍ على حاشية “أ”: “أيتجت”، والمثبت من باقي النسخ، وأبي يعلى.
الوجْبَة: السَّقْطة. وانتحت يعني: مالت وتحركت. انظر: لسان العرب (15/ 310 – 311).
(7) في مسند أبي يعلى “بمثل”.
(1/417)
أوداجهم، فقيل: اذهبوا بهم إلى نهرِ البيذخ أو البنذخ (1) فغمسوا فيه فخرجوا، ووجوهم كالقمر ليلة البدرِ، فأتوا بصحفة من ذهبٍ فيها بُسْر، فأكلوا من بسره ما شاؤوا، فما يقلبونها من وجه إلَّا أكلوا من الفاكهة ما أرادوا، وأكلتُ معهم، فجاء البشير من تلك السرية فقال (2) : أصيبَ فلانٌ وفلانٌ، حتَّى عدَّ (3) اثني عشرَ رجلًا، فدعا رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المرأة، فقال: “قُصِّي رؤياكِ فقصتها، وجعلت تقول: جيء بفلان، وفلان، كما قال” (4) .
رواهُ الإمام أحمد في “مسنده” بنحوه، وإسناده على شرط مسلم.
(1) اضطربت النسخ في ضبط هاتين الكلمتين، والمثبت من “أ”.
(2) في مسند أبي يعلى “كان من أمرنا كذا وكذا فأصيب. . . “.
(3) قوله “حتَّى عدَّ”، وقع في “أ” “فعدَّ”، والمثبت من مسند أبي يعلى، وباقي النسخ.
(4) أخرجه أبو يعلى في مسنده (6/ 44 – 45) رقم (3289)، وابن حبان في صحيحه (13/ رقم 6054)، والبيهقي في دلائل النبوة (7/ 26) وغيرهم.
- ورواهُ عفَّان الصفار وبهز بن أسد وهاشم بن القاسم وموسى بن إسماعيل التبوذكي وأبو هاشم كلهم عن سليمان بن المغيرة به نحوه.
أخرجه أحمد في المسند (3/ 135 و 257) والنسائي في الكبرى (4/ رقم 7622)، والبيهقي في دلائل النبوة (7/ 26)، وأبو عوانة في صحيحه كما في إتحاف المهرة (1/ 531).
والحديث صححه أبو عوانة وابن حبان والمؤلف.
(1/418)
الباب الخمسون في ذكر لباسهم وحليتهم ومناديلهم وفرشهم وبسطهم ووسائدهم ونمارقهم وزرابِيِّهم
قال اللَّهُ تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53)} [الدخان: 51 – 53].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} [الكهف: 30 – 31].
قال جماعةٌ من المفسرين: السندس: ما رقَّ من الديباج، والاستبرق: ما غلظَ منه (1).
وقال طائفة: ليس المراد به الغليظ، ولكن المراد به: الصَّفيق.
وقال الزجاج: “هما نوعان من الحرير” (2).
وأحسن الألوان الأخضر، وألين الملابس الحرير، فجمع لهم بين
(1) انظر: تفسير الطبري (15/ 243)، وتفسير الماوردي (3/ 304)، والوسيط للواحدي (3/ 147)، ومعالم التنزيل للبغوي (5/ 169)، والمحرر الوجيز لابن عطية (10/ 398)، وزاد المسير لابن الجوزي (5/ 137)، ومعاني القرآن للنحاس (4/ 233) وغيره.
(2) انظر معاني القرآن وإعرابه له (3/ 284).
(1/419)
حسن منظر اللباس، والتذاذ العين به، وبين نعومته والتذاذ الجسم به.
وقال تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) } [الحج: 23].
وها هنا مسألة هذا موضع ذكرها، وهي أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى أخبر أنَّ لباس أهل الجنَّة حرير، وصحَّ عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: “من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة” (1) .
متفق على صحته، من حديث عمر بن الخطاب وأنس بن مالك رضي اللَّهُ عنهما.
وقد اخْتُلِفَ في المراد بهذا الحديث:
- فقالت طائفة من السلف والخلف: إنَّه لا يلبس الحرير في الجنَّة، ويلبس غيره من الملابس، قالوا: وأمَّا قوله تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) } فمن العام المخصَّص (2) .
وقال الجمهور: هذا من الوعيد الَّذي له حكم أمثاله من نصوص الوعيد التي تدل على أنَّ هذا الفعل مقتضٍ لهذا الحكم، وقد يتخلَّف (3) عنه لمانع.
(1) أخرجه البخاري رقم (5496)، ومسلم رقم (2069) من حديث عمر رضي اللَّهُ عنه، والبخاري رقم (5494)، ومسلم رقم (2073) من حديث أنس رضي اللَّهُ عنه.
(2) في “ب، ج، د، هـ” ونسخة على حاشية “أ”: “المخصوص”.
(3) في “ج”: “يختلف” وهو خطأ.
(1/420)
وقد دلَّ النص والإجماع على أنَّ التوبة مانعةٌ من لحوق الوعيد، ويمنع من لحوقه أيضًا الحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، ودعاء المسلمين، وشفاعة من أذن اللَّهُ له في الشفاعة فيه، وشفاعة أرحم الراحمين إلى نفسه، فهذا الحديث نظير الحديث الآخر “من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة” (1) .
وقال تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) } [الإنسان: 12]، وقال: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} [الإنسان: 21]. وتأمَّل ما دلَّت عليه لفظة {عَالِيَهُمْ} من كون اللباس ظاهرًا بارزًا يُجَمِّل ظواهرهم، ليس بمنزلة الشعار الباطن، بل الَّذي يلبس فوق الثياب للزينة والجمال.
وقد اختلف القُرَّاء السبعة في نصب {عَالِيَهُمْ} ورفعه على قراءتين.
واختلف النحاة في وجه نَصْبِهِ، هل هو على الظرف، أو على الحال = على قولين.
واختلف المفسرون (2) : هل ذلك للولدان الَّذين يطوفون عليهم، فيطوفون وعليهم ثياب السندس والإستبرق، أو السادات الذين يطوف عليهم الولدان، فيطوفون على ساداتهم، وعلى السادات هذه الثياب؟.
وليس الحال ها هُنا بالبيِّن، ولا تحته ذلك المعنى البديع الرَّائع،
(1) تقدم ص (378).
(2) انظر لذلك معاني القرآن للفراء (3/ 218 – 219)، وتفسير الطبري (29/ 220).
(1/421)
فالصواب فيه: أنَّه منصوب على الظرف، فإنَّ “عاليًا” لمَّا كان بمعنى فوق أُجْريَ مجراهُ، قال أبو علي: وهذا الوجه أبين (1) ، وهو أنَّ “عاليًا” صفة، فجُعِلَ ظرفًا كما كان قوله: {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 42] كذلك، وكما قالوا: هو ناحية من الدار.
وأمَّا من رفع {عَالِيَهُمْ} فعلى الابتداء، و {ثِيَابُ سُنْدُسٍ}: خبره، ولا يمنع من هذا إفراد عالٍ، وجمع الثياب؛ فإنَّ فاعلًا قد يُراد به الكثرة، كما قال:
ألا إنَّ جيراني العَشيَّة رَائحٌ … دعتهم دواع مِن هوًى ومُنَادحُ (2)
وقال تعالى: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) } [المؤمنون: 67].
ومن رفع {خُضْرًا}: أجراه صفة للثياب، وهو الأقيس من وجوه: أحدها: المطابقة بينهما في الجمع.
الثاني: موافقته لقوله تعالى: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا} [الكهف: 31].
الثالث: تخلصه من وصف (3) المفرد بالجمع.
ومَنْ جرَّ أجراه (4) صفةً للسندس على إرادة الجنس، كما يقال: أهلك النَّاس الدينار الصُّفْر، والدرهم (5) البيض.
(1) في “أ”: “بيِّن”.
(2) نقله الفراء عن المفضَّل الضَّبِّي كما في رسالة “الصاهل والشاحج” لأبي العلاء المعري ص (440).
(3) في “أ”: “صفة”.
(4) قوله “ومن جر: أجراه” في “أ” “ومن جرَّاه”، وفي “ج، هـ”: “ومن جَرَى مجراه”.
(5) في “ج، هـ”: “الدراهم”، وتلك المقولة لم أقف عليها.
(1/422)
وتترجَّح القراءة الأولى بوجهٍ رابعٍ أيضًا: وهو: أنَّ العرب تجيء بالجمع الَّذي هو (1) في لفظ الواحد، فيجرونه مجرى الواحد، كقوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا} [يس: 80]، وكقوله: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) } [القمر: 20]، فإذا كانوا قد أفردوا صفات هذا النوع من الجمع، فإفراد صفة الواحد، وإنْ كان في معنى الجمع أولى.
وفي {وَإِسْتَبْرَقٌ} قراءتان: الرفع: عطفًا على ثياب. والجرُّ: عطفًا على سندس.
وتأمَّل كيف جمع لهم بين نوعي الزينة الظاهرة من اللباس والحلي، كما جمع لهم بين الظاهرة والباطنة، كما تقدم قريبًا، فجمَّل البواطن بالشراب الطهور، والسواعد بالأساور، والأبدان بثياب الحرير.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) } [الحج: 23].
واختلفوا في جرِّ “لؤلؤ” ونصبه (2) ، فمن نصبه ففيه وجهان:
(1) سقط من “ج”.
(2) انظر: معاني القرآن للفرَّاء (2/ 230)، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج (3/ 419 – 420)، وتفسير الطبري (17/ 136)، والكشاف للزمخشري (3/ 150 – 151) وغيرها.
(1/423)
أحدهما: أنَّه عطف على موضع قوله: {مِنْ أَسَاوِرَ}.
والثاني: أنَّه منصوب بفعلٍ محذوفٍ دلَّ عليه الأوَّل، أي: ويُحَلَّون لؤلؤًا.
ومن جرَّه فهو عطفٌ على الذهب، ثمَّ يحتمل أمرين:
أحدهما (1) : أنْ يكون لهم أساور من ذهبٍ وأساور من لؤلؤ.
ويحتمل أنْ تكون الأساور مركبة من الأمرين معًا: الذهبُ المرصَّعُ باللؤلؤ، واللَّهُ أعلم بما أراد.
قال ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن رزق اللَّه، حدثنا زيد بن الحباب، قال حدثني عتبة بن سعد قاضي الرَّي عن جعفر بن أبي المغيرة عن شمر بن عطية عن كعب قال: “إنَّ للَّه عزَّ وجلَّ ملكًا منذُ يوم خُلِقَ (2) = يصوغُ حُليَّ أهلِ الجنَّة إلى أنْ تقوم الساعة، لو أنَّ قُلْبًا (3) من حلي أهل الجنَّة أُخْرِجَ لذهب بضوء شُعَاع الشمس، فلا تسألوا بعد هذا (4) عن حُلي أهل الجنَّة” (5) .
(1) ليس في “أ”.
(2) في نسخة على “أ” “إن اللَّه عز وجل خلق ملكًا منذ يوم خلق الجنة يصوغ. . . “
(3) في “ب” “كل” وهو خطأ، ووقعَ “حُليًّا” في المصنف والعظمة كما سيأتي.
والقُلْب: السُّوار، ويقال: الخلخال. انظر غريب الحديث للخطَّابي (2/ 89).
(4) قوله “بعد هذا” سقط من “ب”، ووقع في “هـ”: “بعدها”.
(5) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (223)، وابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 60) رقم (3398)، وأبو الشيخ الأصبهاني في العظمة رقم (335) وغيرهم.
وفي سنده انقطاع، شمر بن عطية لم يدرك كعب الأحبار. =
(1/424)
حدثنا الحسن بن يحيى بن كثير العنبري حدثنا أبي عن أشعث عن الحسن قال: “الحُلي في الجنَّة على الرِّجالِ أحسنُ منه على النساء” (1) .
حدثنا أحمد بن منيع حدثنا الحسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن داود بن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن جده عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “لو أنَّ رجلًا من أهلِ الجنَّة اطَّلعَ فبدا (2) سِوَارُه لطَمَسَ ضوءَ الشمس، كما تطمسُ الشمس ضوءَ النجوم” (3) .
= انظر: تهذيب الكمال (12/ 560 – 561).
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (224) وزاد “وكان يقرأُ: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [الحج: 23].
وأشعث لم أستطع تحديده أهو الكندي “الضعيف” أو الحدَّاني “الصدوق” أو الحمراني “الثقة”.
(2) في “د”: “قيد”.
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (225)، وأحمد (1/ 169)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (266).
من طريق الحسن بن موسى الأشيب عن ابن لهيعة به مثله.
- ورواهُ ابن المبارك عن ابن لهيعة به مثله وأوَّلهُ: “لو أنَّ ما يقل ظفر ممَّا في الجنَّة بَدَاْ لتزخرف له ما بين خوافق السماوات والأرضِ”.
أخرجه أحمد (1/ 171)، وابن المبارك في الزهدِ -رواية نعيم- رقم (416)، والترمذي رقم (2538) وغيرهم. - ورواهُ الليث بن سعد عن يزيد به، ذكره الدارقطني في علله (4/ 335)، ولم أعثر عليه.
- ورواهُ يحيى بن أيوب عن يزيد بن أبي حبيب عن عمر عن سعد بن أبي وقَّاص، فذكره بمثل لفظ ابن المبارك.
أخرجه البخاري في تاريخه الكبير (6/ 208) تعليقًا، والبزار في مسنده =
(1/425)
وقال ابن وهب: حدثني ابن لهيعة عن عُقَيْل بن خالد عن الحسن عن أبي هريرة أنَّ أبا أُمامة حدث أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حدثهم -وذكر حُلِيَّ الجنَّة- فقال: “مسوَّرون بالذَّهب والفضة، مُكلَّلون بالدُّرِّ، عليهم أكاليلُ من دُرٍّ وياقوتٍ متواصلة، وعليهم تاجٌ كتاج الملوك، شبابٌ جردٌ مُرْد (1) مكحلون” (2) .
= (3/ 1109) و (4/ 1226).
- ورواهُ عمرو بن الحارث عن سليمان بن حميد أنَّ عامرًا حدَّثه، قال سليمان: “ولا أعلمه إلَّا أنَّه حدثني عن أبيه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “لو أنَّ أقلَّ ظفر من الجنَّة برز في الدنيا لتزخرف له ما بين السماء والأرضِ”.
أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (57).
والحديث ضعفه الترمذي بقوله: “هذا حديث غريب لا نعرفه بهذا الإسنادِ إلَّا من حديث ابن لهيعة، وقد روى يحيى بن أيوب هذا الحديث عن يزيد بن أبي حبيب وقال: عن عمر بن سعد بن أبي وقاص عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-“.
بينما رجَّح الدَّارقطني طريق الليث بن سعد -الَّذي رواهُ ابن لهيعة- على طريق يحيى بن أيوب فقال: “والأوَّل أصحُّ”.
قلتُ: إنْ كان طريق الليث محفوظًا، فالأمرُ كما قال الدارقطني، ويصبح الإسناد صحيحًا؛ إنْ سَلِمَ من تدليس ابن لهيعة؛ وإلَّا فالأمرُ كما قال الترمذي، وهو أشبه بالصواب، واللَّه أعلم.
(1) من “أ” فقط.
(2) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (267)، وابن أبي حاتم في تفسيره (كما عند ابن كثير (4/ 145) وليس فيه هذا اللفظ.
وفي سنده ابن لهيعة فيه ضعف، ولم يُصرِّح بالسماع، وفي سماع الحسن من أبي هريرة اختلاف.
انظر جامع التحصيل للعلائي ص (164).
(1/426)
وقد أخرجا في “الصحيحين” (1) والسياق لمسلم: عن أبي حازم قال: كنت خلف أبي هريرة وهو يتوضأ للصلاة، فكان يمد يدهُ حتى تبلغ إبطه، فقلتُ له: يا أبا هريرة ما هذا الوضوء؟ فقال يا بني فَرُّوخ أنتم ها هنا؟ لو علمتُ أنَّكم ها هنا ما توضأتُ هذا الوضوء، سمعتُ خليلي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “تبلغُ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء”.
وقد احتجَّ بهذا من يرى استحباب غسل العَضُد وإطالته.
والصحيح أنَّه لا يستحب، وهو قول أهل المدينة، وعن أحمد روايتان (2) .
والحديث لا يدلُّ على الإطالة (3) ، فإنَّ الحلية إنَّما تكون زِينًا في الساعد والمِعصم لا في العضد والكتف.
وأمَّا قوله: “فمن استطاع منكم أنْ يطيل غرَّتهُ فليفعل” (4) .
(1) أخرجه البخاري رقم (136)، من طريق: نعيم المجمر، ومسلم (250).
(2) انظر: الكافي فقه أهل المدينة لابن عبد البر ص (21 – 22)، والمعونة للقاضي عبد الوهاب (1/ 123).
وشرح العمدة لابن تيمية (الطهارة) (214).
(3) في نسخةٍ على حاشية “أ”: “إطالته”.
(4) أخرجه البخاري رقم (136)، ومسلم في صحيحه (246)، وأحمد (2/ 523) كما سيأتي.
من طريق نُعَيم بن عبد اللَّه المُجْمِر عن أبي هريرة بلفظ “إنَّ أمتي يأتون يوم القيامة غُرًّا محجَّلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم. . . “.
(1/427)
فهذه الزيادة مدرجة في الحديث من كلام أبي هريرة لا من كلام النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بيَّن ذلك غير واحدٍ من الحفَّاظ (1) .
وفي “مسند الإمام أحمد” في هذا الحديث قال نُعَيْمٌ: فلا أدري قوله: “من استطاع منكم أنْ يطيل غرته فليفعل” من تمام كلام النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أو شيء قاله أبو هريرة من عنده.
وكان شيخنا يقول: “هذه اللفظة لا يمكن أنْ تكون من كلام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإنَّ الغرة لا تكون في اليد، لا تكون إلَّا في الوجه، وإطالتها غير ممكنة، إذ تدخل في الرأس ولا يسمَّى ذلك غُرَّة”.
وفي “صحيح مسلم” (2) عن أبي هريرة عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “من يدخل الجنَّة ينعمُ لا يبأس، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه، في الجنَّة ما لا عينٌ رأت، وأُذُنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر”.
وقوله: “لا تبلى ثيابه”: الظاهر أنَّ المراد به الثِّياب المُعَيَّنة لا يلحقها البِلَى، ويحتمل: أنْ يراد به الجنس، بل لا تزال عليه الثياب الجُدد، كما أنَّها لا ينقطع أكلها في جنسه، بل كلُّ مأكولٍ يخلفه مأكولٌ آخر، واللَّهُ أعلم.
وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا
(1) راجع: الترغيب والترهيب للمنذري (1/ 149)، وزاد المعاد (1/ 196)، وفتح الباري (1/ 236)، وإرواء الغليل (1/ 133).
(2) رقم (2836)، وأخرجه أحمد (2/ 369 و 416) والَّلفظ له، ولفظ مسلم إلى قوله “شبابه”.
(1/428)
محمد بن أبي الوضاح، حدثنا العلاء بن عبد اللَّه بن رافع، حدثنا حنان (1) بن خارجة عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما قال: جاء أعرابي جرمي (2) فقال: يا رسول اللَّهِ أخبرنا عن الهجرة: أإليك (3) أينما كنت، أم لقومٍ خاصة، أم إلى أرضٍ معلومة، أم إذا مِتَّ انقطعت؟ فسأل ثلاث مرَّات، ثمَّ جلس، فسكت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يسيرًا (4) ثمَّ قال: أين السائل؟ فقال: ها هو ذا يا رسول اللَّه، قال: الهجرة: أنْ تهجر الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتقيمَ الصلاة، وتؤتي الزكاة، ثمَّ أنتَ مهاجرٌ وإنْ متَّ بالحَضَر. فقام آخر: فقال: يا رسول اللَّه أخبرني عن ثياب أهل الجنَّة أتُخلق خلقًا أم تنسج نسجًا؟ قال: فضحك بعض القوم، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: تضحكون من جاهلٍ يسأل عالمًا! فسكتَ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ساعة (5) ، ثمَّ قال: أينَ السَّائلُ (6) ؟ فقال: ها هو ذا يا رسول اللَّه، قال: لا (7) ، بل تُشقَّقُ عنها ثمر الجنَّة” (8) ثلاث
(1) في “أ، ب، ج، د” “حبَّان”، وفي “هـ” “حيَّان” وكلاهما خطأ، انظر المؤتلف والمختلف للدَّارقطني (1/ 428)، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم (3/ 298 – 299)، والتاريخ الكبير للبخاري (3/ 112) وغيرها.
(2) كذا في جميع النسخ “جرمي”، ووقع في المسند “جريء”.
(3) من “أ”، وفي باقي النسخ والمسند بدون همزة الاستفهام.
(4) في المسند “عنه يسيرًا”.
(5) في المسند “ثمَّ أكبَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-” بدل “فسكت النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ساعةً”.
(6) في “هـ” زيادة “عن ثياب أهل الجنَّة”.
(7) ليس في “ب”.
(8) أخرجه أحمد في المسند (2/ 244 – 225)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (171). =
(1/429)
مِرار (1) .
وقال الطبراني في “معجمه” حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني والحسن بن علي الفَسَوي قالا: حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا فضيل ابن مرزوق عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد اللَّه عن النَّبي
= – ورواهُ الطيالسي ومحمد بن سنان العوقي عن محمد بن أبي الوضَّاح به نحوه.
أخرجه الطيالسي في مسنده رقم (2391) مطوَّلًا، والبخاري في تاريخه (3/ 112)، والبزار في مسنده رقم (2434)، والدارقطني في المؤتلف والمختلف (1/ 428) مختصرًا وغيرهم.
- ورواهُ محمد بن عبد اللَّه بن علاثه عن العلاء بن عبد اللَّه به نحوه.
أخرجه أحمد (2/ 203)، والبخاري فى تاريخه (3/ 112) تعليقًا، وأبو داود (2519) ولم يسقه، وذكر لفظًا آخر.
قال البزار: “وهذا الحديث لا نعلمه يروى بهذا الَّلفظ إلَّا عن عبد اللَّه بن عمرو، ولا نعلمُ له طريقًا إلَّا هذا الطريق”.
وفيه العلاءُ بن عبد اللَّه بن رافع: قال أبو حاتم: “يكتب حديثه”، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن القطان: “مجهول الحال”، وقال ابن حجر: “مقبول”، وفيه أيضًا حنان: ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن حجر: “مقبول”.
انظر: تهذيب الكمال (22/ 516)، و (7/ 425 – 427).
والحديث قال عنه ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (4/ 35): “وهو ضعيف. . . حنان بن خارجة مجهول، لا يُعرف له حال، ولا يعرف روى عنه غير العلاء بن عبد اللَّه. . . وهو أيضًا لا تعرف حاله. . . وعلَّة الخبر على كلَّ مذهب الجهل بحال حنان بن خارجة المذكور”.
(1) في نسخةٍ على حاشية “أ”، والمسند “مرَّات”، وسقط من “هـ” “ثلاث مرَّات”.
(1/430)
-صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “أوَّل زُمْرةٍ يدخلون الجنَّة، كأنَّ وجوههم ضوءُ القمر ليلة البدر، والزمرة الثانية على لون أحسن كوكب دُرِّيٍّ في السماء، لكلَّ واحدٍ منهم زوجتان من الحورِ العينِ، على كلِّ زوجةٍ سبعون حُلَّة يُرى مُخُّ سوقهما من وراء لحومهما وحللهما، كما يُرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء” (1) . وهذا الإسناد على شرط الصحيح.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد حدثنا الخزرج بن (2) عثمان السعدي، حدثنا أبو أيوب مولًى لعثمان بن عفان عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “قِيْدُ سوط أحدِكم من الجنَّة خيرٌ من الدنيا ومثلها معها، ولقابُ قوسِ أحدكم من الجنَّة خيرٌ من الدنيا ومثلها معها، ولنصيف امرأةٍ من الجنَّة خيرٌ من الدنيا ومثلها معها” قال: قلتُ يا أبا هريرة ما النَّصيف؟ قال: الخِمارُ (3) .
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (10/ 198 – 199) رقم (10321)، والبزار في مسنده (5/ 243) رقم (1855)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة (2/ 100).
- ورواه الثوري ويونس عن أبي إسحاق عن عمرو قوله مختصرًا.
بلفظ إنَّ المرأة من الحور العين لتلبس سبعين حلَّة. . . بيضاء”.
أخرجه هناد في الزهد رقم (12)، والطبري في تفسيره (27/ 152). - ورواه معمر عن أبي إسحاق به موقوفًا.
- ورواه عطاء بن السائب عن عمرو به موقوفًا.
قلت: المقطوع أصح من الموقوف والمرفوع، راجع ص (257)؛ لأن الثوري ويونس أحفظ وأثبت من معمر. ولأن أبا إسحاق أحفظ وأثبت من عطاء بن السائب. واللَّه أعلم.
(2) في “ج”: “عن” وهو خطأ.
(3) أخرجه أحمد (2/ 483)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة (183)، وأبو نعيم =
(1/431)
وقال ابن وهب: أخبرنا عمرو أنَّ درَّاجًا أبا السَّمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخُدْري رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ الرجل في الجنَّة ليتَّكئ سبعين سنة قبل أنْ يتحول، ثمَّ تأتيه امرأةٌ فتضرب على منكبه، فينظر وجْهَهُ في خدِّها أصفى من المرآة، وإنَّ أدنى لؤلؤة عليها لتضيء ما بين المشرق والمغرب، فتسلم عليه فيرد السلامَ، ويسألها من أنتِ؟ فتقول: أنا المزيد، وإنَّه ليكون عليها سبعون ثوبًا أدناها مثل النعمان من طوى (1) ، فينفذها بصره، حتى يرى مُخَّ ساقها من وراء ذلك، وإنَّ عليهم التِّيجان، وإنَّ أدنى لؤلؤة عليها
= في صفة الجنَّة رقم (59): من طريق الخزرج به نحوه.
وقد خولف الخزرج في لفظه.
- فرواهُ سكن بن المغيرة أنبأنا سليمان أبو أيوب قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “موضع سوط في الجنَّة خيرٌ من الدنيا وما فيها”.
أخرجه الدولابي فى “الكنى والأسماء” (1/ 103).
قلت: وهذا أصح. - فقد رواهُ أبو سلمة وهمام بن منبه والأعرج وعبد الرحمن بن أبي عمرة كلهم عن أبي هريرة بنحوه أو معناهُ، وليس فيه زيادة “ومثلها معها، ولنصيفُ امرأة من الجنَّة. . . الخمار”.
أخرجه أحمد (2/ 482 و 315 و 438)، والترمذي (3013)، والدولابي (1/ 167) وغيرهم. والخزرج متكلَّم فيه.
وجاءَ من حديث أنس وفيه “. . . ولنصيفها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها”. عند البخاري في صحيحه رقم (2643 و 6199).
والحديث صححه الترمذي وابن حبان.
(1) في “هـ” وبعض نسخ المسند “طوبى”.
(1/432)
لتضيءُ ما بين المشرق والمغرب” (1) .
وروى الترمذي منه ذكر التيجان: “وإنَّ أدنى لؤلؤة” عن سويد بن نصر، عن رِشْدين بن سعد عن عمرو به.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن إدريس الحنظلي، حدثنا أبو عتبة حدثنا إسماعيل بن عياش عن سعيد بن يوسف عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلام الأسود قال: سمعت أبا أُمامة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “ما منكم من أحدٍ يدخل الجنَّة إلَّا انطلقَ به إلى طُوبى، فتُفتح له أكمامها فيأخذُ من أيِّ ذلك شاء: إنْ شاء أبيض، وإنْ شاء أحمر، وإنْ شاء أخضر، وإنْ شاء أصفر، وإنْ شاء أسود، مثل شقائق
(1) أخرجه ابن أبي داود في البعث رقم (81)، وابن حبان في صحيحه (16/ رقم 7397) وغيرهما.
- ورواهُ رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث به نحوه.
أخرجه الترمذي رقم (2562)، وابن المبارك في مسنده رقم (119) وغيرهما. - ورواهُ ابن لهيعة عن درَّاج به نحوه.
أخرجه أحمد (3/ 75)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (284).
والحديث صححه ابن حبان والحاكم وحسنه الهيثمي.
وضعفه الترمذي فقال: “هذا حديث غريب لا نعرفه إلَّا من حديث رشدين ابن سعد”.
وقال الذهبي معقِّبًا على الحاكم: “درَّاج صاحب عجائب”. قلتُ: تقدَّم الكلامُ على هذه الرواية “درَّاج عن أبي الهيثم” في الباب “10” ص (117 – 119).
(2) ما بين المعكوفتين من مصدر التخريج.
(1/433)
النعمان، وأرق وأحسن” (1) .
وقال ابن أبي الدنيا: وحدثنا سويد عن سعيد حدثنا عبد ربه بن بارق الحنفي (2) عن خاله (3) الزُّميل أنَّه سمع أباهُ قال: قلتُ لابن عباس: ما حُللُ الجنَّة؟ قال: “فيها شجر فيها ثمرٌ كأنَّه الرُّمان، فإذا أراد وليُّ اللَّه كسوةً انحدرت إليه من غُصنها، فانفلقت عن سبعين حلةً ألوانًا بعد ألوانٍ، ثمَّ تنطبق فترجعُ (4) كما كانتْ” (5) .
قال: وحدثنا عبد اللَّه حدثنا أبو خيثمة حدثنا الحسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثني درَّاج أبو السَّمح أنَّ أبا الهيثم حدثه، عن أبي سعيد عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّ رجلًا قال له: يا رسول اللَّه طُوبَى لمن رآك وآمن بكَ، قال: “طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى، ثمَّ طوبى، ثمَّ طوبى، لمن آمن بي ولم يرني، فقال له رجل: وما طوبى؟ قال: شجرةٌ في الجنَّة مسيرة مئة سنة، ثيابُ أهل الجنَّة تخرج من
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (149)، وابن أبي حاتم في تفسيره كما في البدور السافرة رقم (1957).
وفيه سعيد بن يوسف الرحبي فيه ضعف، وحديثه منكر بهذا الإسناد، لتفرده عن يحيى بن أبي كثير بهذا.
انظر: تهذيب الكمال (11/ 124 – 126).
(2) في “أ، ج، هـ”: “الخثعمي” هو خطأ.
(3) في “أ، ج، د، هـ”: “خالد” وهو خطأ، انظر: تهذيب الكمال (16/ 473).
(4) في “ب، د”: “ثمَّ تسطبق ترجع” بدل “ثمَّ تنطبق فترجع”.
(5) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (147) مطوَّلًا.
وقد تقدَّم ص (290).
(1/434)
أكمامها” (1) .
قال: وحدثني يعقوب بن عبيد حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا حماد بن سلمة عن أبي المُهَزِّم قال: قال أبو هريرة: “دارُ المؤمن في الجنَّة لؤلؤة فيها شجرة تنبتُ الحلل، فيأخذ الرجلُ بأصبعيه -وأشارَ بالسَّبابة والإبهام- سبعين حلَّة مُتَمَنْطِقةً باللؤلؤ والمرجان” (2) .
قال: وحدثنا حمزة بن العباس حدثنا عبد اللَّه بن عثمان أنبأنا ابن المبارك أنبأنا صفوان بن عمرو عن شريح بن عبيد قال: قال كعبٌ: “لو أنَّ ثوبًا من ثياب أهل الجنَّة لُبِسَ اليومَ في الدنيا لصعق من ينظر إليه، وما حملته أبصارهم” (3) .
وقال عبد اللَّه بن المبارك: أنبأنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال عن بُشَير بن كعب أو غيره قال: “ذكر لنا أنَّ الزوجة من أزواج
(1) تقدم ص (353).
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (151).
ورواهُ ابن المبارك وعفان كلاهما عن حماد بن سلمة به نحوه.
أخرجه ابن المبارك في الزهدِ -رواية نُعيم- رقم (262)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/ 64) رقم (34029).
ومداره على أبي المهزِّم التميمي البصري، وهو متروك الحديث.
انظر التقريب رقم (8397).
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (152)، وابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- رقم (417).
وفيه انقطاع بين شريح بن عبيد وكعب الأحبار، قال الحافظ المزي: “ولم يدركه”. انظر: تهذيب الكمال (12/ 446).
(1/435)
الجنَّة لها سبعون حلَّة هي أرقُّ من شُقَيْقكم (1) هذا، يُرى مخُّ ساقِها من وراء اللحم” (2) .
وفي “الصحيحين” (3) عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: أهدَى أُكَيْدَرُ دومَة إلى النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جُبَّةً من سُندس، فتعجَّب النَّاسُ من حُسْنِها، فقال: “لمناديلُ سعدٍ في الجنَّة أحسنُ من هذا”.
وفي “الصحيحين” (4) من حديث البراء قال: أُهديَ لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثوب حرير، فجعلوا يعجبون من لينه، فقال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “تعجبون من هذا؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنَّة أحسنُ من هذا”.
ولا يخفى ما في ذكر سعد بن معاذ بخصوصه ها هنا، فإنَّه كان في الأنصار بمنزلة الصِّدِّيق في المهاجرين، واهتزَّ لموته العرش (5) ، وكان لا تأخذه في اللَّه لومة لائم، وختم اللَّهُ له بالشهادة، وآثر رضا اللَّهِ ورسوله، على رضا قومه وعشيرته وحلفائه، ووافق حكمه الَّذي حكم به حُكم اللَّه فوق سبع سماواته (6) ، ونعاهُ جبريل عليه السلام إلى النَّبي
(1) في “ب، د”: “شفقكم”، وفي “هـ” “شققكم” وعند ابن أبي الدنيا “شفكم”، والمثبت هو الصواب، وشُقيقكم تصغير شُقَّة وهو ضَرْبٌ من الثياب، وقيل نصف ثوب. انظر: معجم تهذيب اللغة للأزهري (2/ 1906)، والمعجم العربي لأسماء الملابس ص (270).
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (154) وسنده صحيح.
(3) البخاري رقم (2473 و 3076)، ومسلم رقم (2469).
(4) البخاري رقم (3077)، ومسلم رقم (2468).
(5) أخرجه البخاري رقم (3592)، ومسلم رقم (2466).
(6) أخرجه البخاري رقم (2878) (2593)، ومسلم رقم (1768)، =
(1/436)
-صلى اللَّه عليه وسلم- يوم موته (1) , فحُقَّ له أنْ تكون مناديله التي يمسح بها يديه في الجنَّة أحسن من حُلَل الملوك.
= ولفظه “. . . لقد حكمت فيهم بحكم الملك” وفي لفظ “حكمت بحكم اللَّه”.
(1) أخرجه أحمد في فضائل الصحابة رقم (1489) وهو مرسل.
(1/437)
فصل ومن ملابسهم التِّيجان على رؤوسهم
ذكر البيهقي من حديث يعقوب بن حُمَيْد بن كاسب، حدثنا هشام ابن سليمان عن عكرمة عن إسماعيل بن رافع عن سعيد المُقْبُرِي وزيد ابن أسلم عن أبي هريرة عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: من قرأ القرآن فقام به آناء الليل والنهار، ويُحل حلالَه ويحرِّم حرامه، خلطه اللَّهُ بلحمه ودمه، وجعله رفيق السفرةِ الكرام البرَرَةِ، وإذا كان يوم القيامة كان القرآن له حجيجًا، فقال: يا رب كلُّ عاملٍ يعمل في الدنيا يأخذ بعمله من الدنيا؛ إلَّا فلانًا كان يقوم بي (1) آناءَ الليل والنهار، فيحل حلالي، ويحرِّم حرامي يقول: يا ربِّ، فأعطه، فيتوِّجُهُ اللَّه تاجَ الملكِ ويكسوهُ من حُلَّة (2) الكرامة، ثمَّ يقول له (3): رضيت؟ فيقول: يا ربِّ أرغبُ له في أفضل من هذا، فيعطيه اللَّه الملكَ بيمينه، والخلدَ بشماله، ثمَّ يقول له: هل رضيتَ؟ فيقول: نعم يا ربِّ” (4).
(1) عند البيهقي “في”.
(2) عند البيهقي “حُلَل”.
(3) في “ب، ج، د، هـ” ونسخة على حاشية “أ”: “هل”.
(4) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4/ 554 – 556) رقم (1836).
- ورواهُ محمد بن عبيد المحاربي عن أبي رافع عن المقبري عن أبي هريرة نحوه.
أخرجه الجورقاني في الأباطيل (2/ 283) رقم (686).
وقال: “هذا حديثٌ باطل، ومحمد بن عبيد المحاربي لم يسمع من أبي =
(1/438)
وذكر الإمام أحمد في “المسند” من حديث ابن (1) بُرَيْدة عن أبيه يرفعه: “تعلموا سورة البقرة فإنَّ أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البَطَلَةُ، ثمَّ سكت ساعة، ثمَّ قال: تعلموا سورة البقرة وآل عمران فإنَّهما الزهراوان، وإنَّهما يظلان صاحبهما يوم القيامة كأنَّهما غَمَامَتَان أو غَيَايتان أو فرقان من طيرٍ صوافَّ، والقرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرَّجل الشَّاحب، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول له (2) : ما أعرفك، فيقول: أنا (3) القرآن، أنا الَّذي أظمأتُك في الهواجر، وأسهرت ليلك، وإنَّ كلَّ تاجرٍ من وراء تجارته، وإنَّك اليومَ من وراء كلِّ تجارة، فيعطى الملكَ بيمينه، والخلدَ بشماله، ويوضع على رأسه تاجُ الوقار، ويكسى والداهُ حلتين لا تقومُ لهما الدنيا، فيقولان: بِمَ كُسينا (4) هذا؟ فيقال: بأخذِ ولدكما القرآن، ثمَّ يقال له: اقرأ واصعد في درج الجنَّة وغرفها، فهو في صعودٍ ما دام يقرأ: هذًّا كان، أو ترتيلًا” (5) .
= رافع المدني شيئًا، ولم يره”.
والحديث مداره على أبي رافع إسماعيل بن رافع المدني وهو ضعيف، وقال ابن عدي في الكامل (1/ 281): “وأحاديثه كلها ممَّا فيه نظر؛ إلَّا أنَّه يكتب حديثه في جملة الضعفاء”.
(1) في “ب، د”: “أبي” وهو خطأ.
(2) ليس في “هـ” ولا المسند.
(3) وقع في “ج، د” ونسخة على حاشية “أ”: “له”، وفي “ب، هـ” “له أنا”، وفي المسند “فيقول: أنا صاحبك القرآن الَّذي أظمأتك”.
(4) في “د، ج، هـ” ونسخةٍ على حاشية “أ” “كسَيْتَنَا”.
(5) أخرجه أحمد في المسند (5/ 348)، وابن الضريس في فضائل القرآن رقم =
(1/439)
البَطَلة: السَّحَرة. والغَيَاية: ما أظل الإنسان فوقه.
وقال عبد اللَّه بن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تلا قوله عزَّ وجلَّ: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [فاطر: 33] فقال: “إنَّ عليهم التيجان، إنَّ أدنى لؤلؤةٍ منها لتضيءُ ما بين المشرق والمغربِ” (1).
فصل
وأمَّا الفرش: فقد قال تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54]، وقال تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)} [الواقعة: 34].
= (99)، وابن عدي في الكامل (2/ 21) وغيرهم من طريق الفضل بن دكين عن بشير بن المهاجر عن ابن بريدة عن أبيه رفعه بنحوه.
ورواه جماعه عن بشير بن المهاجر به نحوه.
أخرجه العقيلي في الضعفاء (1/ 144) والبزار في مسنده (10/ 4421)، والآجري في أخلاق أهل القرآن رقم (24) وابن عدي في الكامل (2/ 21) والحاكم (1/ 742 و 756 – 757) رقم (2043 و 2086) وغيرهم.
والحديث صححه الحاكم والبوصيري وحسنه البغوي وابن كثير.
والحديث عده العقيلي وابن عدي من منكرات بشير بن المهاجر بل قال العقيلي: “ولا يصح في هذا الباب عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حديث، أسانيدها كلها متقاربة”.
قال الإمام أحمد -وذكر بشير بن المهاجر- فقال: منكر الحديث، قال: اعتبرت أحاديثه فإذا هو يجيء بالعجب.
(1) تقدم ص (432 – 433).
(1/440)
فَوَصَفَ الفُرُش بكونها مبطنة بالإستبرق، وهذا يدلُّ على أمرين:
أحدهما: أنَّ ظهائرها أعلى وأحسن من بطائنها؛ لأنَّ بطائنها للأرض، وظهائرها للجمال والزينة والمباشرة.
قال سفيان الثوري: عن أبي إسحاق عن هُبيرة بن يريم، عن عبد اللَّه رضي اللَّهُ عنه في قوله تعالى: {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54]، قال: “هذه البطائن قد خُبِّرتم بها، فكيفَ بالظَّهائر (1) ؟ ” (2) .
الثاني: يدلُّ على أنَّها فرش عالية لها سَمْك وحَشْو بين البطانة والظهارة.
وقد رُوِيَ في سمكها وارتفاعها آثار؛ إنْ كانت محفوظة، فالمراد: ارتفاع محلِّها؛ كما رواهُ الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة: 34] قال: ارتفاعها كما بين السماء والأرض، ومسيرة ما بينهما خمس مئة عام” (3) .
(1) في “د”: “تكون الظهائر” بدل “بالظهائر”.
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة رقم (158)، والطبري في تفسيره (27/ 149) والبيهقي في البعث والنشور رقم (330) وغيرهم.
وسندة لا بأس به لحال هبيرة بن يريم.
انظر تهذيب الكمال (30/ 150 – 152).
(3) أخرجه الترمذي رقم (2540، 3294)، والطبري في تفسيره (27/ 185)، وأبو الشيخ في العظمة رقم (593) وغيرهم.
من طريق رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم =
(1/441)
قال الترمذي: “حديث غريب، لا نعرفه إلَّا من حديث رشدين بن سعد. قيل (1) : ومعناهُ أن الارتفاع المذكور للدرجات، والفرش عليها” (2) .
قلتُ: رشدين بن سعد عنده مناكير: قال الدارقطني: “ليس بالقوي”، وقال الإمام أحمد: “لا يبالي عمَّن روى، وليس به بأس في الرقاق”، وقال: “أرجو أنَّه صالح الحديث”، وقال يحيى بن معين: “ليس بشيء”، وقال أبو زرعة: “ضعيف”، وقال الجوزجاني: “عنده مناكير” (3) .
= عن أبي سعيد فذكره.
- وقد توبع رشدين: تابعه عبد اللَّه بن وهب عن عمرو بن الحارث به.
أخرجه الطبري (27/ 185)، وأبو الشيخ في العظمة رقم (272)، وابن حبان في صحيحه رقم (7405) وغيرهم. - ورواه ابن لهيعة عن دراج به نحوه.
أخرجه أحمد (3/ 75) (11719)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة رقم (157)، وأبو يعلى في مسنده رقم (1395) وغيرهم.
والحديث ضعفه الترمذي كما نقل المؤلف، وقال الترمذي في الموضع الآخر: “حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين”.
وصححه ابن حبان والضياء في المختارة. وانظر اللآلئ المصنوعة للسيوطي (2/ 453).
(1) ليس في “ب، د”.
(2) لفظه عند الترمذي ما يلي: “وقال بعض أهل العلم في تفسير هذا الحديث: معناه: الفرش في الدرجات، وبين الدرجات كما بين السماء والأرض”.
وقال في الموضع الآخر: “. . ارتفاع الفرش المرفوعة في الدرجات، والدرجات: ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض”.
(3) انظر أقوال العلماء فيه: تهذيب الكمال (9/ 191 – 195).
(1/442)
ولا ريبَ أنَّه كان سيء الحفظ، فلا يعتمد على ما ينفرد به (1) .
وقد قال عبد اللَّه بن وهب: حدثنا عمرو بن الحارث عن درَّاج أبي السَّمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) } [الواقعة: 34] قال: “ما بين الفراشين كما بين السماء والأرض” (2) .
وهذا أشبه أنْ يكون هو المحفوظ، واللَّهُ أعلم.
وقال الطبراني: حدثنا المقدام بن داود حدثنا أسد بن موسى حدثنا حمَّاد بن سلمة عن علي بن زيد عن مطرِّف بن عبد اللَّه بن الشِّخِّيْر عن كعب في قوله عزَّ وجل: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة: 34] قال: “مسيرة أربعين سنة” (3) .
(1) في “د”: “يتفرَّد به”.
(2) هذا لفظُ الشاذكوني عن ابن وهب عند البيهقي في البعثِ رقم (342) وفيه “الفرشتين” بدل “الفراشين”.
لكن الشاذكوني: متروك الحديث، ومتهمٌ بوضع الحديث، وقد خُولف في لفظه.
خالفهُ يونس بن عبد الأعلى وحرملة بن يحيى ونُعيم بن حماد -ولم أقف على لفظه- وأحمد بن عبد الرحمن بن وهب -بحْشل- كلهم عن ابن وهب به بلفظ: “والَّذي نفسي بيده إنَّ ارتفاعها لكما بين السماء والأرضِ لمسيرة خمسمائة سنة”.
ونقل هذا الترجيح ابن كثير في النهاية في الفتن والملاحم ص (376).
(3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 206) رقم (35322) عن عفان عن =
(1/443)
قال الطبراني: وحدثنا إبراهيم (1) بن نائلة، حدثنا إسماعيل بن عمرو البجلي حدثنا إسرائيل عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أُمامة قال: سُئِلَ رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الفرش المرفوعة قال: “لو طُرِحَ فراشٌ من أعلاها لهوى إلى قرارها مئة خريف” (2) .
= حماد بن سلمة به مثله.
والأثرُ مدارهُ على علي بن زيد بن جدعان وفي حفظه كلام.
(1) ليس في “أ”.
(2) أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 289) رقم (7947).
- ورواهُ وكيع عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة قال: “لو خرَّ من أعلاها فراش لهوى إلى قرارها كذا وكذا خريفًا”.
أخرجه هنَّاد في الزهد رقم (79)، وابن أبي شيبة في المصنف رقم (34071).
وهذا هو المحفوظ، ورواية الطبراني خطأ، والحملُ فيه على إسماعيل ابن عمرو البجلي: فإنه ضعيف الحديث، الجرح والتعديل (2/ 190)، وجعفر بن الزبير: متروك الحديث، وقد اتهم بوضع الحديث. انظر: تهذيب الكمال (5/ 32 – 37).
وقد توبع عليه، تابعه هشام الدستوائي كما سيأتي عند المؤلِّف.
أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (161).
لكن يظهر لي أنَّ هشامًا لم يسمعه من القاسم، وإنَّما علَّقه عن القاسم، بدليل أنَّهُ لم يذكر السماع في أصله بل قال “عن القاسم. . “
وأيضًا لا يُعرف لهشام رواية عن القاسم بن عبد الرحمن الشامي، وإنَّما جُلّ روايته عن العراقيين، وخاصَّة البصريين والمكيين. انظر: تهذيب الكمال (30/ 216)، وعليه فيحتمل أنْ يرجع الحديث إلى جعفر بن الزبير واللَّه أعلم.
(1/444)
وفي رفع هذا الحديث نظر، فقد قال ابن أبي الدنيا: حدثنا إسحاق ابن إسماعيل حدثنا معاذ بن هشام قال: وجدت في كتاب أبي عن القاسم عن أبي أُمامة في قوله عزَّ وجل: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)} قال: “لو أنَّ أعلاها سَقَطَ ما بلغَ أسفلها أربعين خريفًا”.
فصل
وأمَّا البُسُط والزَّرابي: فقد قال تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76)} [الرحمن: 76]، وقال تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)} [الغاشية: 13 – 16].
ذكر هشيم (1) عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: “الرَّفْرف: رياض الجنَّة، والعَبْقَرِي: عتاق الزرابي” (2).
وذكر إسماعيل بن عُليَّة عن أبي رجاء عن الحسن في قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76)} قال: “هي البُسط”، قال: وأهل المدينة يقولون: هي البُسط” (3).
(1) في نسخة على “أ” “هشام” وهو خطأ، وهشيم هو ابن بشير الواسطي.
(2) أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- رقم (270)، وابن أبي الدنيا صفة الجنَّة رقم (162)، والطبري (27/ 164) وغيرهم.
ورواهُ شعبة عن أبي بشر به مثله.
أخرجه الطبري (27/ 163) وسنده صحيح.
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (163)، والطبري في تفسيره (27/ 163).
وسنده صحيح.
(1/445)
وأمَّا النمارق: فقال الواحدي: “هي الوسائد؛ في قول الجميع، واحدها: نُمْرُقة، بضمِّ النُّون، وحكى الفرَّاء: نِمْرِقَة بكسرها” (1)، وأنشد أبو عبيدة:
إذا ما بِساطُ الَّلهو مُدَّ وَقُرِّبَتْ … للَذَّاتِهِ أنماطُهُ ونمارقُه (2)
قال الكلبي: “وسائد مصفوفة بعضها إلى بعض” (3).
وقال مقاتل: “هي الوسائد مصفوفة على الطنافس” (4).
{وَزَرَابِيُّ} يعني: البسط، والطَّنافس. واحدها زِرْبِيَّة: في قول جميع أهل اللغة والتفسير. و {مَبْثُوثَةٌ}: مبسوطة منشورة (5).
فصل
وأمَّا الرَّفْرف: فقال الليث: “هو ضربٌ من الثياب خضر تبسط. الواحد: رَفْرَفة” (6). وقال أبو عبيدة: “الرَّفارِف: البسط، وأنشد لابن مُقبل:
(1) انظر: الوسيط للواحدي (4/ 475)، ومعاني القرآن للفرَّاء (3/ 258).
(2) انظر: لسان العرب (10/ 361)، ونسبه لمحمد بن عبد اللَّه بن نُمير الثقفي.
(3) انظر: الوسيط (4/ 475).
(4) انظر: تفسير مقاتل (3/ 479).
(5) انظر: الوسيط (4/ 475)، وتفسير الطبري (30/ 164).
(6) انظر: العين المنسوب للخليل بن أحمد ص (359)، دار إحياء التراث، (7) والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (17/ 190).
(1/446)
وَإنَّا لنزَّالون تغْشى نِعَالنَا … سَواقِطُ من أصنافِ ريْطٍ وَرَفْرَفُ” (1)
وقال أبو إسحاق: “قالوا الرفرف ها هنا: رياض الجنَّة، وقالوا: الرفرف: الوسائد، وقالوا: الرفرف: المحابس، وقالوا: فضول المحابس للفرش”. وقال المبرد: “هو فضول الثياب التي تتخذ الملوك (2) في الفرش وغيره”. قال الواحدي: “وكأنَّ الأقرب هذا؛ لأنَّ العرب تسمِّي كِسَرَ الخِبَاءِ، والخِرْقة التي تخاط في أسفل الخباء: رفرفًا، ومنه الحديث في وفاة النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: فرفع الرفرف فرأينا وجهه كأنَّه ورقة (3) ” (4) . قال ابن الأعرابيِّ: “الرَّفْرَف: ها هنا طرف البساط، فشبه ما فضل من المحابس (5) ، عمَّا تحته بطرف الفسطاط، فسمي رفرفًا”.
قلتُ: أصل هذه الكلمة من الطَّرَف والجانب، فمنه: الرَّفُّ في الحائط. ومنه: الرفرف، وهو كسر (6) الخباء، وجوانب الدرع، وما تدلَّى منها، الواحدة رفرفة. ومنه: رفرف الطير (7) : إذا حرَّك
(1) انظر: مجاز القرآن (2/ 246)، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص (44)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (17/ 190).
(2) في “ج” “تُتَّخذ للملوك”، وفي نسخة على حاشية “أ” “الملك” بدل “الملوك”.
(3) في “الصحيحين” “ورقة مصحف”. .
(4) لم أقف على الرواية التي فيها “الرفرف”.
والحديث أصله عند البخاري رقم (648)، ومسلم رقم (419)، وفيه “. . فكشف النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ستر الحجرة، ينظر إلينا وهو قائم كأنَّ وجهه ورقة مصحف. . “.
(5) في “أ، ج، هـ”: “المجلس”، وفي “ب، د”: “المحبس”.
(6) في “ج”: “كسره”.
(7) في “ج”: “الطائر”.
(1/447)
جناحيه حول الشَّيء، يريد أنْ يقع عليه. والرفرف: ثياب خضر تُتَّخَذُ منها المحابس، الواحدة رفرفة. وكل ما فضل من شيء فثُنِيَ وعُطِفَ فهو رفرف، وفي حديث ابن مسعود في قوله عزَّ وجلَّ: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)} [النجم: 18] قال: “رأى رفرفًا أخضر سدَّ الأُفق” (1). وهو في “الصحيحين”.
فصل
وأمَّا العَبْقَريُّ: فقال أبو عبيدة: “كل شيء من البُسُط عبقري. قال: ويرون أنَّها أرض يُوَشَّى (2) فيها” (3). وقال الليث: “عبقر: موضع بالبادية كثير الجن، يقال: كأنَّهم جنُّ عبقر” (4). وقال أبو عبيد في حديث النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حين ذكر عمر: “فلَمْ أرَ عبقريًّا يفرِي فَرِيَّه” (5) وإنَّما أصلُ هذا فيما يقال: إنَّه نُسِبَ إلى عبقر، وهي أرضٌ يسكنها الجنُّ، فصارَ مثلًا منسوبًا إلى شيء رفيعٍ، وأنشد لزهير:
(1) أخرجه البخاري برقم (3061، 4577)، ولم يخرجه مسلم في صحيحه.
(2) في “أ، ب، هـ”: “موشى”، وفي “ج”: “وُشِي”.
(3) انظر: مجاز القرآن (2/ 246)، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص (444)، وفتح القدير للشوكاني (5/ 174).
(4) انظر: تهذيب اللغة للأزهري (3/ 2309).
(5) أخرجه البخاري رقم (3434)، ومسلم برقم (2393) من حديث عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما.
(1/448)
بِخَيْلٍ (1) عليها جِنَّةٌ عبقريةٌ … جَدِيرون يومًا أنْ ينالوا فيستعلوا (2)
قال أبو الحسن الواحدي: “وهذا القول هو الصحيح في العبقري، وذلك أنَّ العربَ إذا بالغتْ في وصف شيءٍ نَسَبتْهُ إلى الجنِّ، أو شَبَّهته بهم، ومنه قول لَبِيْدٍ:
جِنُّ البَديِّ رواسيًا أقدامُها (3)
وقال آخر يَصِفُ امرأةً:
جنِّيةٌ ولها جِنٌّ يُعلِّمُها … رَمْيَ القُلوبِ بِقَوْسٍ ما لها وَتَر (4)
وذلك أنَّهم يعتقدون في الجن كل صفة عجيبة، وأنَّهم يأتون بكلِّ أمرٍ عجيبٍ، ولمَّا كان عبقر معروفًا بسكناهم نسبوا كلِّ شيءٍ مبالغٍ فيه إليها، يريدون بذلك أنَّه من عملهم وصنعهم. هذا هو الأصل، ثمَّ صار العبقري اسمًا ونعتًا لكلِّ ما بُولِغَ في صفته، ويشهد لما ذكرنا بيت زهير، فإنَّه نسب الجن إلى عبقر، ثمَّ رأينا أشياء كثيرة نُسِبَت إلى عبقرٍ غير البسط والثياب: كقوله في صفة عمر “عَبْقَرِيًّا” (5) ، وروى سلمة عن الفرَّاء قال: العبقري: السَّيِّد من الرجال، وهو الفاخر من الحيوان
(1) في “أ، ب، ج، د”: “نخيل”، والمثبت من “هـ”، وديوان زهير وغيره.
(2) انظر: غريب الحديث لأبي عبيد (1/ 87 – 88)، والبيت في ديوان زهير ص (52).
(3) انظر: ديوانه ص (177)، وصدر البيت: غلب تشذَّر بالدُّخول كأنَّها.
(4) انظر: “الحماسة البصرية” للبصري ص (879) وهو منسوب لمحمد بن بشير الخارجي، وقيل: لأبي دهبل الجمحي.
(5) تقدم ص (448).
(1/449)
والجوهر”. فلو كانت عبقر مخصوصة بالوشي، لما نُسِبَ إليها غير الموشَّى، وإنَّما ينسب إليها البسط المُوَشِّية العجيبة الصنعة، لما (1) ذكرنا، كما نسب إليها كل ما بولغ في وصفه.
قال ابن عباس: “وعبقري: يريد البسط والطنافس” (2) ، وقال الكلبي: “هي الطنافس المُخْمَلة” (3) ، وقال قتادة: “هي عتاق الزَّرابي” (4) ، وقال مجاهد: “الديباج الغليظ” (5) ، وعبقريٌّ: جمع.
(1) في “ب”: “كما”.
(2) لم أقف عليه.
وجاء عن ابن عباس قال: “عبقري: الزرابي”. أخرجه الطبري (27/ 164) وسنده حسن. وجاء عن ابن عباس أيضًا: “يعني الوسائد”.
ذكره ابن أبي زمنين في تفسيره (4/ 335).
(3) انظر: النكت والعيون للماوردي (6/ 261).
(4) أخرجه عبد الرزاق في “تفسيره” (2/ 216) رقم (3112)، والطبري في “تفسيره” (27/ 164).
من طرق عن قتادة بلفظ “العبقري: الزرابي”.
وسنده صحيح.
(5) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/ 67) رقم (34075) والَّلفظ له، وهناد في الزهد رقم (83)، عن وكيع عن الثوري عن رجل عن مجاهد فذكره.
ورواهُ قبيصة عن الثوري عن رباح بن أبي معروف عن مجاهد قال: “الديباج”.
أخرجه ابن أبي شيبة (7/ 66) رقم (34061).
فالرجل المبهم هو رباح، وقد كان وكيع إذا استضعف رجلًا لم يُسمِّه كما نصَّ عليه الإمام أحمد، وقد ضعَّف جماعةٌ رباحَ المكي، وقال بعضهم: صالح، انظر: تهذيب الكمال (9/ 48 – 49).
فالإسناد لا بأس به.
(1/450)
واحِدُهُ عبقرية، ولهذا وُصِفَ (1) بالجمع”.
وتأمَّل كيف وصَفَ سبحانه وتعالى الفُرش بأنَّها مرفوعة، والزرابي بأنَّها مبثوثة، والنمارق بأنَّها مصفوفة، فرفْعُ الفرش دالٌ على سُمْكِهَا ولينها، وبثُّ الزرابي دالٌّ على كثرتها، وأنَّها في كل موضع لا يختصُّ بها صدر المجلس دون مؤخره وجوانبه، وصفُّ (2) المساند، يدلُّ على أنَّها مهيأة للاستناد إليها دائمًا، ليست مُخَبَّأة تُصَفُّ في وقتٍ دون وقتٍ، واللَّهُ أعلمُ.
(1) في “د”: “يُوْصَف”.
(2) في “هـ”: “ووصف”.
(1/451)
الباب الحادي والخمسون في ذكر خيامهم وسررهم وأرائكهم وبشخاناتهم (1)
قال اللَّهُ تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72)} [الرحمن: 72]، وفي “الصحيحين” (2) من حديث أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه عن
(1) جمع بشخانة: وهي كلمة فارسية معرَّبة، مركَّبة من بشه: أي البعوض، ومن خانه: أي البيت، والمعنى بيت البعوض، وهي الكِلَّة التي تسمِّيها العامة “ناموسية”: “وهي غثاء رقيق يخاط كالبيت، يتوقَّى به من البعوض. انظر: المعجم العربي لأسماء الملابس ص (66)، ومعجم عطيَّة في العامي والدخيل ص (171).
(2) هذا الحديث وقع فيه اختلاف في لفظة “ستون ميلًا”، وبيانه مختصرًا:
يرويه أبو عمران الجوني عن أبي بكر بن عبد اللَّه بن قيس عن أبيه.
- فرواهُ الحارث بن عبيد عن أبي عمران به.
باللفظ الأوَّل الَّذي ساقه المؤلف عند مسلم (2838) – (23). - ورواهُ عبد العزيز بن عبد الصمد عن أبي عمران به.
باللفظ الثاني عند البخاري (4598)، ومسلم (2838) – (24) والَّلفظ له. - ورواهُ همام بن يحيى العوذي عن أبي عمران واختلف عنه:
- فرواهُ محمد بن المنهال عن همام به باللفظ الرَّابع “ثلاثون ميلًا”.
أخرجه البخاري (3071) وأشار إلى هذا الاختلاف. - ورواهُ يزيد بن هارون وعفان بن مسلم وعبد الصمد وعاصم بن علي ومحمد بن كثير كلهم عن همام به بلفظ “ستون ميلًا”.
أخرجه مسلم (2838) – (25)، وأحمد (4/ 419)، وأبو عوانة كما في الإتحاف (10/ 114)، وأبو الشيخ في العظمة رقم (606) وغيرهم.
وهذا الصحيح “ستون ميلًا”، ولعلَّ الاضطراب من همام بن يحيى فقد كان يحدث حفظًا، حتَّى إذا كان في آخر عمره صار يرجع إلى كتابه وممَّن =
(1/453)
النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ للمؤمن في الجنَّة لخيمة من لؤلؤةٍ واحدةٍ مجوَّفة طولها ستون ميلًا، للمؤمن (1) فيها أهلون يطوف عليهم المؤمنُ فلا يرى بعضهم بعضًا”.
وفي لفظٍ لهما: “في الجنَّة خيمةٌ من لؤلؤةٍ مجوفة، عرضها ستون ميلًا في كلِّ زاوية منها أهلٌ، ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمن”.
وفي لفظٍ آخر لهما أيضًا: “الخيمة دُرَّة طُولها في السماء ستون ميلًا، في كلَّ زاوية منها أهل (2) ، لا يراهم الآخرون”.
وللبخاري وحده في لفظ: “طُولُها ثلاثون ميلًا”.
وهذه الخيام غير الغُرَفِ والقصور، بل هي خيام في البساتين، وعلى شواطئ الأنهارِ.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنى الحسين بن عبد الرحمن عن أحمد بن أبي الحواري قال: سمعتُ أبا سليمان قال: ينشأ خلق الحور العين إنشاءً، فإذا تكامل خلقهنَّ ضربت عليهنَّ (3) الملائكة الخيام (4) .
= روى عنه أخيرًا عفان بن مسلم وبهز بن أسد وحبَّان بن هلال.
وممَّا يدلُّ على عدم ضبط همَّام له، ما رواهُ عبد الصمد عن همام عن قتادة نحوه، فذكر “قتادة” بدل “أبي عمران”، واللَّه أعلم.
(1) من مسلم.
(2) في “ب، ج”: “أهلُ المؤمن”، وفي “د”: “أهلٌ للمؤمن”.
(3) في “ب، د، هـ”: “عليهم” وهو خطأ.
(4) أخرجه ابن أبي الدنيا برقم (318).
(1/454)
وقال بعضهم: لمَّا كُنَّ أبكارًا، وعادة (1) البكر أنْ تكون مقصورة في خدرها، حتَّى يأخذها بعلها، أنشأ اللَّهُ سبحانه وتعالى الحور وقصرهنَّ في خدور الخيام، حتى يجمع بينهنَّ وبين أوليائه في الجنَّة.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا إسحاق، حدثنا سفيان، عن جابر عن القاسم بن أبي بَزَّة عن أبي (2) عبيدة عن مسروق عن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه قال: “لكلِّ مسلمٍ خيرةٌ، ولكلِّ خيرةٍ خيمةٌ، ولكلِّ خيمةٍ أربعة أبواب، يدخل عليها كلَّ يومٍ من كلِّ بابٍ تحفةٌ وهديةٌ وكرامةٌ لم تكن قبل ذلك، لا مَرِحاتٍ (3) ولا ذفرات، ولا بخرات ولا طَمَّاحات، حورٌ عينٌ كأنَّهنَّ بيضٌ مكنون” (4) .
(1) من قوله “ضربت” إلى “وعادة” سقط من “ج”.
(2) قوله “بزَّة عن أبي” سقط من “ج”، ووقع في “د” “بردة” بدل “بزَّة” وهو خطأ.
(3) في “هـ” “مرجات”، وفي “ب، د” “مزجات” وصُحِّحت في حاشية “ب” إلى “سخرات”.
(4) أخرجه ابن أبي الدنيا برقم (320)، وابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 65) رقم (34045) مختصرًا، والطبري في تفسيره (27/ 158) مختصرًا.
ورواه ابن المبارك في الزهد (238) عن سفيان الثوري به نحوه.
وفيه جابر بن يزيد الجعفي ضعيف، وقد اتُّهم بالكذبِ.
المرِحات من المَرَح، وهو التَّبختر والاختيال. والذَّفِرات، من الذَّفَر، وهو الصُّنَان وخُبْث الريح. والبَخِرات، من البَخَر، وهو الرائحة والنَّتَن يكون في الفم وغيره. والطَّمَّاحات، يقال: امراة طمَّاحة: هي التي تُكِرُّ بنظرها يمينًا وشمالًا إلى غير زوجها. انظر لسان العرب (2/ 534 و 591) و (4/ 47 و 307).
(1/455)
حدثنا علي بن الجعد حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة قال: سمعتُ أبا الأحوص يُحدِّثُ عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه في قوله تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} قال: “دُرٌّ مُجوَّف” (1) .
وقال ابن المبارك: أنبأنا سليمان التيمي عن قتادة عن خُلَيد العَصَرِي عن أبي الدرداء (2) رضي اللَّهُ عنه قال: “الخيمة لؤلؤةٌ واحدةٌ لها سبعون بابًا كلُّها من دُرَّةٍ” (3) .
قال ابن المبارك: وأخبرنا همام عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: “الخيمة درةٌ مجوفةٌ فرسخٌ في فرسخٍ، لها أربعة آلاف مصراعٍ من ذهبٍ” (4) .
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (326)، وابن وهب في التفسير -من جامعه- (1/ 140) رقم (325)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/ 66) رقم (34050)، والطبري (27/ 161): من طريق شعبة به مثله.
- ورواهُ مسعر عن عبد الملك عن أبي الأحوص قوله مثله، (ولم يذكر ابن مسعود).
أخرجه ابن المبارك في الزهدِ -رواية نُعيم- رقم (247)، وهناد في الزهد رقم (53).
(2) عند ابن المبارك زاد “ولم يجاوز به خليدًا”، وعند ابن أبي الدنيا نحوه.
(3) أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نُعيم- رقم (250)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (327). - ورواه معتمر بن سليمان عن أبيه سليمان التيمي عن قتادة عن خليد قال: لقد ذكر لي أنَّ الخيمة لؤلؤ. . “.
أخرجه الطبري (27/ 161) وسنده صحيح إلى خليد.
(4) أخرجه ابن المبارك في الزهد رواية نعيم رقم (249)، وابن أبي شيبة (7/ 65) رقم (34047)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (328)، =
(1/456)
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا فضيل (1) بن عبد الوهاب حدثنا شريك عن منصور عن مجاهد: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) } [الرحمن: 72] قال: “في خيام اللؤلؤ، والخيمة لؤلؤة واحدة” (2) .
حدثني محمد بن جعفر حدثنا منصور حدثنا يوسف بن الصَّبَّاح عن أبي صالح عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ [124/ ب] فِي الْخِيَامِ (72) } قال: “الخيمة من دُرَّةٍ مجوَّفة طولها فرسخ، وعرضها فرسخ، ولها ألفُ بابٍ من ذهبٍ، حولها سُرَادِق دَوْرُه خمسون فرسخًا، يدخل عليه من كلَّ بابٍ منها مَلَك بهدية من عند اللَّه عزَّ وجلَّ وذلك قوله: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} [الرعد: 23] ” (3) واللَّهُ
= والبيهقي في البعثِ رقم (333) من طرق عن همام به.
- ورواهُ سعيد بن أبي عروبة وأبو العوَّام ومعمر كلهم عن قتادة قال: ذُكر لنا أنَّ ابن عباس كان يقول فذكره، هذا لفظ سعيد.
أخرجه الطبري (27/ 162)، وعبد الرزاق في تفسيره (2/ 215)، وابن أبي شيبة (7/ 66) رقم (34051) وغيرهم.
قلتُ: طريق ابن أبي عروبة ومن تابعه أصح، وعليه فالإسناد ضعيف لجهل الواسطة بين قتادة وابن عباس.
(1) في “ب، هـ”: “فضل” وهو خطأ.
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (329). - ورواهُ جرير وعمرو بن أبي قيس كلاهما عن منصور به بلفظ “خيام اللؤلؤ”.
أخرجه الطبري (27/ 162) لكن شيخ الطبري ابن حميد متَّهم. - ورواهُ الثوري عن منصور عن مجاهد قال: “الخيمة در مجوفة”.
أخرجه ابن أبي شيبة (7/ 66)، وهناد في الزهد (17)، وهو ثابت عنه.
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (332). =
(1/457)
أعلم.
وأمَّا السُّرَر: فقال تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) } [الطور: 20]، وقال تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة: 13 – 16] وقال تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) } [الغاشية: 13].
فأخبر تعالى عن سُرُرِهم بأنَّها مصفوفة بعضها إلى جانب بعض، ليس بعضها خلف بعض، ولا بعيدًا من بعض، وأخبر أنَّها موضونة، والوَضْن في لغتهم: النضد والنسج المضاعف، يقال: وَضَنَ فلان الحجر والآجُرَّ بعضه فوق بعض، فهو موضون.
وقال الليث: “الوَضْنُ: نسج السرير وأشباهه (1) ، ويقال: درع موضونة مقاربة في النسج. وقال رجل من العرب لامرأته: ضِني متاع البيت: أي قاربي بعضه مِن بعض.
وقال أبو عبيدة والفراء والمبرد وابن قتيبة: موضونة: منسوجة مضاعفة متداخلة، بعضها على بعض، كما تُوضن حلق الدرع، ومنه
= وفيه محمد بن جعفر وهو المدائني: قال أحمد وأبو داود: لا بأس به، وقال أحمد مرَّة: “لا أحدث عنه بشيءٍ أبدًا”، وقال أبو حاتم: “يكتب حديثه، ولا يُحتج به”، وقال ابن حجر: “صدوقٌ فيه لين”، انظر تهذيب الكمال (25/ 10 – 12).
ويوسف بن الصباح الفزاري: لم أقف عليه.
(1) وتتمته “بالجوهر والثياب، وهو موضون”، انظر: معجم تهذيب اللغة للأزهري (4/ 3908).
(1/458)
سُمِّي الوَضين، وهو نطاق من سيور (1) ينسج، فيدخل بعضه (2) على بعض، وأنشدوا للأعشى:
ومن نسج داودَ موضونة … تساقُ مع الحيِّ عِيْرًا فَعِيرًا (3)
قالوا موضونة: منسوجة بقضبان الذهب مشبَّكة (4) بالدرِّ والياقوت والزبرجد.
قال هشيم: حدثنا حصين، عن مجاهد عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: “مرْمولة (5) بالذهب” (6) .
وقال مجاهد: “موصولة (7) بالذهب” (8) ، وقال
(1) في “ب، هـ”: “ستور”.
(2) في “ج”: “بعضها”.
(3) انظر: ديوان الأعشى ص (71)، وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة (2/ 248).
(4) في “أ”: “مسبكة”.
(5) في “ب، د، هـ”: “مزمولة”، والمرمولة: المضفورة المنسوجة. . . انظر وصف الفردوس لابن حبيب ص (90).
(6) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة (166)، والبيهقي في البعث (337).
ورواه الثوري وأبو يوسف القاضي وأشهل كلهم عن حصين به مثله.
أخرجه هناد في الزهد رقم (77)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (412)، وابن وهب في التفسير من جامعه رقم (313) وغيرهم.
وهو صحيح عن ابن عباس.
(7) كذا في جميع النسخ، وفي مصادر التخريج وكتب التفسير “مرمولة”، وذكر الماوردي في تفسيره “موصولة بالذهب” لكن نسبه لابن عباس. انظر: النكت والعيون (5/ 450).
(8) أخرجه هناد في الزهد رقم (74 و 76)، وابن أبي شيبة (7/ 67) رقم =
(1/459)
علي (1) بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما: “موضونة: مصفوفة” (2).
وأخبر سبحانه وتعالى أنَّها مرفوعة قال عطاء عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: “سرر من ذهب، مكلَّلة بالزبرجد والدُّرِّ والياقوت، والسرير مثل ما بين مكة وأيلة” (3).
وقال الكلبي: “طول السرير في السماء مئة عام (4)، فإذا أراد الرجل أنْ يجلس عليه تواضع له حتى يجلس عليه، فإذا جلس عليه ارتفع إلى مكانه”.
فصل
وأمَّا الأرائك: فهي أجمع أريكة. قال مجاهد عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} [الكهف: 31]، قال: “لا يكون أريكة (5)
= (34069)، والطبري (27/ 172) وغيرهم.
وله طريق آخر عن مجاهد: عند الطبري (27/ 173)، وهو صحيح عنه.
(1) وقع في نسخة على حاشية “أ” “عطاء” وهو خطأ.
(2) أخرجه الطبري في تفسيره (27/ 173)، والبيهقي في البعث رقم (338 و 347). وسنده حسن.
(3) ذكره الواحدي في الوسيط (3/ 147)، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن (10/ 398) وفيه “الأريكة ما بين صنعاء إلى أيله، وما بين عدن إلى الجابية”.
(4) كذا في جميع النسخ، وفي المطبوعة “ذراع”، وجاء عند القرطبي “ثلاث مائة ذراع” (17/ 202). قلت: “ذراع” أشبه بالصواب فيما يظهر. واللَّه أعلم.
(5) في “د”: “الأرائك”.
(1/460)
حتى يكون السرير في الحَجَلة، فإنْ كان سريرًا بغير حَجَلة لا يكون أريكة، وإن كانت حَجَلة بغير سرير لم تكن أريكة، و (1) لا تكون أريكة إلَّا والسرير في الحجلة، فماذا اجتمعا كانت أريكة” (2) .
وقال مجاهد: “هي الأسِرَّة في الحِجَال” (3) . وقال الليث: “الأريكة: سرير حجلة، فالحجلة والسرير أريكة، وجمعها أرائك”. وقال أبو إسحاق: “الأرائك: الفرش في الحجال”.
قلتُ: ها هنا ثلاثة أشياء:
أحدها: السرير.
الثانية: الحجلة، وهي البشخانة التي تعلق فوقه.
الثالث (4) : الفراش الَّذي على السرير، ولا يسمَّى السرير أريكة، حتى يجمع ذلك كله.
(1) في نسخةٍ على حاشية “أ”: “وقال”.
(2) أخرجه البيهقي في البعث رقم (334) من طريق علي بن عاصم عن حصين عن مجاهد عن ابن عباس.
وفيه علي بن عاصم الواسطي: في حفظه لين، انظر: تهذيب الكمال (20/ 504 – 520).
وأخرجه ابن وهب في التفسير من جامعه رقم (313) عن أشهل بن حاتم في -حفظه لين- عن حصين به بلفظ “على السرر في الحجال”.
(3) أخرجه هناد في الزهدِ رقم (74 و 75)، وابن أبي شيبة (7/ 68) رقم (34077)، والبيهقي في البعث رقم (335)، والَّلفظ له. وسنده صحيح.
(4) في “ب، د”: “الثالثة”.
(1/461)
وفي “الصحاح”: “الأريكة: سريرٌ مُنَجَّدٌ (1) مُزَيَّن في قُبَّةٍ أو بيتٍ، فإذا لم يكن فيه سرير، فهو حجلة، والجمع الأرائك” (2) .
وفي الحديث: “أنَّ خاتم النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان مثل زرِّ الحَجَلة” (3) . وهو الزِّرُّ الَّذي يُجمع به بين طرفيها من جملة أزرارها، واللَّهُ أعلم.
(1) في “ب، ج، د، هـ”: “متَّخذ”.
(2) انظر: الصحاح (2/ 1189).
(3) أخرجه البخاري رقم (187)، ومسلم رقم (2345) من حديث السائب بن يزيد رضي اللَّه عنه.
(1/462)
الباب الثاني والخمسون في ذكر خدمهم وغلمانهم
قال تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)} [الإنسان: 19]، وقال تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة: 17 – 18].
قال أبو عبيدة والفرَّاء: “مخلَّدون لا يهرمون، ولا يتغيرون، قال: والعربُ تقول للرجل إذا كَبُرَ ولم يشمط: إنَّهُ لمخلَّد، وإذا لم تذهب أسنانه من الكِبَر، قيل: هو مخلَّد” (1).
وقال آخرون: مُخلَّدون: مُقَرَّطُون مُسَوَّرُون، أي في آذانهم القِرَطَة، وفي أيديهم الأساور.
وهذا اختيار ابن الأعرابي، قال: مخلَّدون: مُقَرَّطون بالخَلَدة، وجمعها خَلَدٌ، وهي: القِرَطَة (2).
وروى عمرو (3) عن أبيه: “خلَّد جاريته، إذا حلَّاها بالخَلَدِ، وهي
(1) انظر: مجاز القرآن (2/ 249)، ومعاني القرآن للفراء (3/ 122 – 123)، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة (446).
(2) انظر: العين للخليل ص (261)، ومعجم تهذيب اللغة للأزهري (1/ 108)، ومعاني القرآن للفرَّاء (3/ 123)، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص (446 – 447).
(3) في “هـ”: “عمر”.
(1/463)
القِرَطَة، وخَلَدَ إذا أسنَّ ولم يَشِبْ” (1) ، وكذلك قال سعيد بن جبير: “مقرَّطون” (2) .
واحتجَّ هؤلاء بحجتين:
إحداهما: أنَّ الخلود عامٌّ لكلَّ من في الجنَّة، فلا بُدَّ أنْ يكون الوِلدان موصوفين بتخليدٍ يختصُّ بهم، وذلك هو القِرَطة.
الحجة الثانية: قول الشاعر:
ومُخلَّداتٍ بالُّلجين كأنَّما … أعجازهنَّ رَواكِدُ الكُثبانِ (3)
وقال الأوَّلون: الخُلْد هو البقاء. قال ابن عباس: “غلمان لا يموتون” (4) .
وقول ترجمان القرآن في هذا كافٍ، وهذا قول مجاهد والكلبي ومقاتل، قالوا: لا يكبرون ولا يهرمون ولا يتغيرون (5) .
(1) انظر: معجم تهذيب اللغة للأزهري (1/ 1081).
(2) ذكره البغوي في تفسيره معالم التنزيل (8/ 108)، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن (17/ 202).
(3) انظر: تفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص (447)، ومعجم تهذيب اللغة للأزهري (1/ 1080)، ولم ينسباه لأحدٍ، وعندهما “أقاوِز” بدل “رواكد”.
(4) ذكره الواحدي في تفسيره “الوسيط” (4/ 233).
وقاله أيضًا مجاهد والحسن البصري، انظر: تفسير الطبري (27/ 173).
(5) انظر: تفسير مقاتل (3/ 312)، والقرطبي (17/ 202)، والوسيط (4/ 233)، والبيهقي في البعث رقم (411).
(1/464)
وجمعتْ طائفة بين القولين، وقالوا: هم ولدان لا يعرض لهم الكِبَر ولا الهرم، وفي آذانهم القِرَطة، فمن قال: مقرَّطون. أراد هذا المعنى، أنَّ كونهم ولدانًا أمرٌ لازمٌ لهم.
وشبَّههم سبحانه باللؤلؤ المنثور، لما فيه من البياض وحسن الخلق، وفي كونه منثورًا فائدتان:
إحداهما: الدلالة على أنَّهم غير معطَّلين، بل مَبْثوثون في خدمتهم وحوائجهم.
والثاني (1) : أنَّ اللؤلؤ إذا كان منثورًا، ولا سيما على بساط من ذهبٍ أو حرير؛ كان أحسن لمنظره وأبهى من كونه مجموعًا في مكان واحد.
وقد اختلف في هؤلاء الوِلْدان: هل هم مِنْ وِلْدان الدنيا، أم أنشأهم اللَّهُ في الجنَّة إنشاء؟ على قولين:
فقال علي بن أبي طالب والحسن البصري: هم أولاد المسلمين الَّذين يموتون، ولا حسنةَ لهم ولا سيئة، يكونون خدم أهل الجنَّة وولدانهم (2) ، إِذِ الجنَّة لا وِلادة فيها (3) .
قال الحاكم: حدثنا عبد الرحمن بن الحسن حدثنا إبراهيم بن الحسين حدثنا آدم حدثنا المبارك بن فَضَالة عن الحسن في قوله تعالى:
(1) كذا في جميع النسخ، ولعل صوابه: “الثانية”.
(2) في “ج”: “وولدانهم في الجنَّة”.
(3) انظر: تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن (17/ 203).
(1/465)
{وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) } [الواقعة: 17] قال: “لم يكن لهم حسنات فَيُجْزَوْن بها (1) ، ولا سيئات فيعاقبون عليها، فوضعوا بهذا الموضع” (2) .
ومن أصحاب هذا القول من قال: هم أطفال المشركين، يجعلهم اللَّهُ خَدَمًا لأهل الجنَّة.
واحتجَّ هؤلاء بما رواهُ يعقوب بن عبد الرحمن القاري عن أبي حازمٍ المديني، عن يزيد الرَّقاشي عن أنس عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “سألتُ ربي الَّلاهين من ذرية البشر أنْ لا يعذبهم، فأعطانيهم فهم خدم أهل الجنَّة” (3) . يعني: الأطفال.
(1) في “ب”: “فيخرجون بها”.
(2) أخرجه البيهقي في البعثِ رقم (410)، وعبد بن حميد في تفسيره كما في الدر (6/ 219)، وسنده حسن.
(3) أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 926) رقم (1544).
- ورواهُ الأعمش والربيع بن صبيح وحكيم بن جرير وغيرهم كلهم عن يزيد الرقاشي عن أنس، وفي ألفاظهم اختلاف.
أخرجه أبو يعلى (4090)، والطيالسي (2225)، وأبو نعيم في أخبار أصبهان (1/ 344).
ورواهُ محمد بن المنكدر واختلف عليه. - فرواهُ عبد الرحمن بن المتوكل عن فضيل بن سليمان عن عبد الرحمن بن إسحاق المدني عن الزهري عن أنس فذكره إلى “فأعطانيهم”.
أخرجه أبو يعلى رقم (3570)، وابن عدي في الكامل (4/ 302).
وهذا خطأ، صوابه (ابن المنكدر) بدل (الزهري).
هكذا رواهُ عمرو بن مالك البصري عن فضيل عن عبد الرحمن بن إسحاق عن محمد بن المنكدر عن أنس فذكره إلى “فوهبهم” بدل “فأعطانيهم”.
أخرجه أبو يعلى (3636). =
(1/466)
قال الدَّارقطني: ورواهُ عبد العزيز بن الماجشون عن ابن المنكدر عن يزيد الرقاشي عن أنس عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. انتهى.
ورواهُ فضيل (1) بن سليمان عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن أنس. وهذه الطرق ضعيفة؛ فيزيد واهٍ (2) ، وفضيل بن سليمان مُتَكَلَّمٌ فيه (3) ، وعبد الرحمن بن إسحاق ضعيف (4) .
قال ابن قتيبة: والَّلاهون، مِن “لهيتَ” عن الشيء إذا غفلت عنه (5) ، وليس هو مِن “لهوت” (6) .
وأصحاب القول الأوَّل لا يقولون: إنَّ هؤلاء أولادٌ وُلِدُوا لأهل
= – ورواهُ عبد العزيز بن الماجشون عن محمد بن المنكدر عن يزيد الرقاشي عن أنس فذكره.
أخرجه ابن الجعد في مسنده رقم (3013) وابن أبي شيبة في مسنده كما في المطالب رقم (4180)، وأبو يعلى (4101 و 4102).
وهذا هو الصحيح، والحديث له طرقٌ أخرى لا تثبت.
وعليه فمدارُ الحديث على يزيد الرقاشي، وهو ضعيف.
قال ابن الجوزي: “هذا حديث لا يثبت، ويزيد لا يُعوَّل عليه”. وضعفه البوصيري.
(1) في “ب”: “فضل”، وهو خطأ، وكذلك ما بعده.
(2) انظر: تهذيب الكمال (32/ 77).
(3) هو النُّميري. انظر: تهذيب الكمال (23/ 271).
(4) هو المدني. انظر: تهذيب الكمال (16/ 519 – 525).
(5) سقط من “أ، ج، هـ”.
(6) ذكره ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 926 – 927).
(1/467)
الجنَّة فيها، وإنَّما يقولون: هم غلمان أنشأهم اللَّهُ في الجنَّة إنشاءً (1) ، كما أنشأ الحور العين.
قالوا: وأمَّا وِلْدان أهل الدنيا فيكونون يوم القيامة أبناء ثلاث وثلاثين سنة؛ لما رواهُ ابن وهب حدثنا عمرو بن الحارث أنَّ درَّاجًا أبا السَّمح حدَّثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “من مات من أهل الجنَّة من صغيرٍ أو كبيرٍ يُردُّون بني ثلاثٍ و (2) ثلاثين سنة في الجنَّة، لا يزيدون عليها أبدًا، وكذلك أهل النَّار” (3) . رواهُ الترمذي.
والأشبه أنَّ هؤلاءِ الولدان مخلوقون من الجنَّة -كالحور العين- خَدَمًا لهم وغِلْمَانًا، كما قال تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) } [الطور: 24] وهؤلاء غير أولادهم، فإنَّ من تمام كرامة اللَّهُ تعالى لهم أنْ يجعل أبناءهم مخدومين معهم، لا يجعلهم غلمانًا لهم.
وقد تقدَّم في حديث أنس عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أنا أوَّل النَّاسُ خروجًا إذا بُعِثُوا، -وفيه- يطوف عليَّ ألفُ خادمٍ كأنَّهم لؤلؤ مكنون” (4) .
والمكنون: المستور المصون الَّذي لم تبتذله الأيدي.
(1) من “ب، ج، د، هـ”.
(2) قوله “ثلاثٍ و” من “أ” فقط، وليس عند الترمذي، ولا في باقي النسخ، ولم تَرِد أيضًا في (ص/ 316)؛ لكن كلام المؤلف يقتضيه، فلعلَّه في بعض نسخ الترمذي.
(3) تقدم في ص (316).
(4) تقدم في ص (225).
(1/468)
وإذا تأملتَ لفظة الـ {وِلْدَانٌ}، ولفظة {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ} واعتبرتها بقوله: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ} [الطور: 24] وضَممت ذلك إلى حديث أبي سعيد المذكور آنفًا = علمتَ أنَّ الولدان غلمانٌ أنشأهم الرَّبُّ تعالى في الجنَّة خدمًا لأهلها، واللَّهُ أعلم.
(1/469)
الباب الثالث والخمسون في ذكر نسائهم وسراريِّهم، وأصنافهنَّ وحسنهنَّ وأوصافهنَّ (1) وجمالهنَّ الظاهر والباطن الَّذي وصفهنَّ اللَّهُ تعالى به في كتابه
قال اللَّه تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)} [البقرة: 25].
فتأمَّل جلالة المبشر ومنزلته وصدقه وعظمة من أرسله إليك بهذه البشارة، وقدر ما بشَّرك به، وضمنه لك على أسهل شيءٍ عليك وأيسره، وجمع سبحانه في هذه البشارة بين نعيم البَدَنِ بالجنان، وما فيها من الأنهارِ والثمارِ، ونعيم النفس بالأزواج المطهرة، ونعيم القلبِ وقُرَّة العين بمعرفة دوام هذا العيش أبد الآباد، وعدم انقطاعه.
والأزواج: جمع زوج، والمرأة: زوجُ الرجل، وهو زوجها، هذا هو الأفصحُ، وهو لغة قريش، وبها نزل القرآن كقوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] ومن العربِ من يقول: زوجة، وهو نادرٌ، لا يكادون يقولونه.
وأمَّا المطهرة: وإنْ جرتْ صفةً على الواحد، فتجري صفة على
(1) في المطبوعة: “وَصَفَائِهِنَّ”.
(1/470)
جمع التكسير إجراءً له مجرى جماعة، كقوله تعالى: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} [الصف: 12]، و {قُرًى ظَاهِرَةً} [سبأ: 18]. ونظائره، والمطهرة: التي طُهِّرت من الحيضِ والبول والنفاس، والغائط والمخاط والبُصاق، وكل قَذَر، وكلِّ أذًى يكون من نساء الدنيا، وطُهِّرَ (1) مع ذلك باطنها من الأخلاق السيئة والصفات المذمومة، وطهر لسانها من الفحش والبذاء، وطهر طرفها من أن تطمح به إلى غير زوجها، وطهرت أثوابها من أنْ يعرض لها دنسٌ أو وسخٌ.
قال عبد اللَّه بن المبارك: حدثنا شعبة عن قتادة عن أبي نَضْرة عن أبي سعيد رضي اللَّه عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25] قال: “من الحيض والغائط والنخامة والبصاق” (2) .
(1) في “ج”: “فطهر”.
(2) أخرجه ابن حبان في المجروحين (2/ 160) معلقًا، والحاكم في المستدرك كما عند ابن كثير (1/ 67)، ولم أقف عليه في المطبوع ولا في إتحاف المهرة لابن حجر، وابن مردويه في تفسيره كما في تفسير ابن كثير (1/ 66 – 67)، وقال: “هذا حديثٌ غريب”.
من طريق عبد الرزاق بن عمر البزيعي عن عبد اللَّه بن المبارك به فذكره.
قال الحاكمُ: “صحيح على شرط الشيخين”.
وتعقبه ابن كثير فقال: “هذا الَّذي ادَّعاهُ فيه نظر، فإنَّ عبد الرزاق بن عمر البزيعي هذا قال فيه أبو حاتم البُستي: “لا يجوزُ الاحتجاج به”، قلتُ -ابن كثير-: والأظهرُ أنَّ هذا من كلام قتادة كما تقدم واللَّه أعلم”.
وقال ابن حبان في ترجمة عبد الرزاق هذا: “. . . يقلب الأخبار ويسند المراسيل، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد” ثمَّ ساق له هذا الحديث ثمَّ قال: “وهذا قول قتادة رفعه، لا أصل له من كلام النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-“. =
(1/471)
وقال عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه وعبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما: “مطهرة: لا يحضن ولا يُحْدِثْنَ (1) ولا يتنخَّمن” (2) .
وقال ابن عباس رضي اللَّه عنهما أيضًا: “مطهرة من القَذَرِ والأذى” (3) .
وقال مجاهد: “لا يبلنَ ولا يتغوطن، ولا يمذين (4) ولا يمنين، ولا يحضنَ، ولا يبصقن ولا يتنخمن، ولا يلدن” (5) .
وقال قتادة: “مطهرة من الإثم والأذى، طهرهنَّ اللَّهُ من كلِّ بولٍ وغائطٍ وقذرٍ ومأثم” (6) .
= قلتُ: وهو كما قال. بنحوه رواهُ سعيد بن أبي عروبة وأبان العطار ومعمر وخليد كلهم عن قتادة قوله، وسيأتي.
(1) في “أ، ب، ج، د، هـ” “يمذين” وهو تصحيف، والمثبت مصدر التخريج.
(2) أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 175).
(3) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره -البقرة- رقم (265)، والطبري في تفسيره (1/ 175)، وسنده حسن.
(4) كذا في جميع النسخ، وقد جاءت من رواية الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عند الطبري.
(5) أخرجه هنَّاد في الزهد رقم (27، 29)، وابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- رقم (242)، وابن أبي حاتم في تفسيره/ البقرة رقم (266)، والطبري (1/ 175 و 176) وغيرهم.
من طريقين عن مجاهد، وهو ثابت عنه.
(6) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 64)، وابن أبي حاتم في تفسيره/ البقرة رقم (267 و 268) والطبري في تفسيره (1/ 176).
وهو صحيحٌ عنه.
(1/472)
وقال عبد الرحمن بن زيد: “المطهرة: التي لا تحيض، وأزواج الدنيا لسن بمطهراتٍ، ألَا تراهنَّ يدمين، ويتركن الصلاة والصيام؟. قال: وكذلك خُلِقَتْ حوَّاء حتى عَصَت، فلمَّا عصت قال اللَّهُ: إنَّي خلقتك مطهرةً، وسأُدْميك كما دميت هذه الشجرة” (1) .
وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) } [الدخان: 51 – 56].
فجمعَ لهم بين حُسْن المنزل، وحصول الأمن فيه من كلِّ مكروهٍ، واشتماله على الثمار والأنهار، وحسن اللباس وكمال العِشْرة بمقابلة بعضهم بعضًا، وتمام الَّلذة بالحور العين، ودعائهم بجميع أنواع الفاكهة، مع أمنهم من انقطاعها، ومضرتها وغائلتها، وختامُ ذلك أعلمهم بأنَّهم لا يذوقون هناك موتًا.
والحُوْرُ: جمع حَوْراء، وهي المرأة الشابة الحسناء الجميلة البيضاء، شديدة سواد العين.
وقال زيد بن أسلم: “الحَوْرَاء: التي يحار فيها الطرف، وعِيْن: حسان الأعين” (2) .
(1) أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 176)، وسنده صحيح إلى عبد الرحمن بن زيد.
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (304) وفيه الواقدي: وهو متروك.
(1/473)
وقال مجاهد: “الحوراء التي يحار فيها الطرف من رِقَّة الجلد، وصفاء اللون” (1) .
وقال الحسن: “الحوراء: شديدة بياض العين، شديدة سواد العين” (2) .
واختلف في اشتقاق هذه اللفظة:
فقال ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: “الحور في كلام العرب: البيض” (3) . وكذلك قال قتادة “الحور: البيض” (4) وقال مقاتل: “الحور: البيض الوجوه” (5) . وقال مجاهد: “الحور العين، التي يحار
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (305) والَّلفظ له، وابن أبي شيبة (7/ 218) رقم (35446)، والطبري (27/ 178).
من طريق سفيان وفضيل حدثنا أصحابنا عن مجاهد فذكره.
فيه إبهام من رواهُ عن مجاهد. ووقع عند الطبري “عن رجل” بدل “أصحابنا” وعند ابن أبي شيبة “عن بعض أصحابه”.
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (306)، واللفظ له، والطبري (27/ 177).
من طريق سفيان عن رجلٍ عن الحسن فذكره.
وفيه إبهام الرجل الرَّاوي عن الحسن، ووقع عند الطبري مصرَّحًا به، واسمه “عمرو”، وهو عمرو بن عُبيد المعتزلي، وهو متروك، قد اتَّهمه بعضهم. انظر: تهذيب الكمال (22/ 123).
(3) أخرجه عبد الملك بن حبيب في وصف الفردوس رقم (241).
من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه. وسنده ضعيف جدًّا.
(4) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (2/ 171 – 172) رقم (2825)، والطبري (25/ 136). وسنده صحيح.
(5) انظر: تفسيره (3/ 208).
(1/474)
فيهن الطرف باديًا مخُّ سوقهن من وراء ثيابهن، ويرى الناظر وجهه في كبد إحداهن، كالمرآة من رقة الجلد، وصفاء اللون” (1) .
وهذا من الاتفاق، وليست اللفظة مشتقة من الحيرة. وأصل الحور: البياض. والتحوير: التبييض.
والصحيح: أن الحور مأخوذ من الحَوَرِ في العين، وهو شدة بياضها مع قوة سوادها، فهو يتضمن الأمرين.
وفي “الصحاح”: “الحَوَرُ: شدة بياض العين في شدة سوادها. امرأة حَوْرَاء: بَيِّنة الحَوَر. وقال أبو عمرو: الحَوَر: أن تسْودَّ العين كلها مثل أعين الظِّباء والبقر، وليس فى بني آدم حور، وإنما قيل: للنساء: حور العيون (2) ؛ لأنهنَّ شُبِّهنَ بالظباء والبقر” (3) .
وقال الأصمعي: “ما أدري ما الحَوَرُ في العين؟ ” (4) .
قلت: خالف أبو عمرو أهل اللغة، و (5) اشتقاق اللفظة، وردَّ الحَوَر إلى السواد، والناس غيره إنما ردُّوه إلى البياض، أو إلى بياضٍ في سواد.
(1) أخرجه الطبري في تفسيره (25/ 136)، والبيهقي في البعث رقم (396)، وسنده حسن.
(2) في “ب”: “العين”.
(3) انظر: الصِّحاح (1/ 526).
(4) انظر: “الغريب المصنِّف لأبي عبيد (1/ 28) “.
(5) كذا جميع النسخ ولعلَّها: “في”، وهي في مطبوعة، دار الكتاب العربي.
(1/475)
والحَوَرُ في العين: معنى يلتئم من حسن البياض والسواد وتناسبهما، واكتساب كل واحد منهما الحسن من الآخر.
وعينٌ حوراء: إذا اشتدَّ بياضُ أبيضِها وسواد أسودها، ولا تسمى المرأة حوراء حتى تكون مع حور عينها بيضاء لون الجسد.
والعِيْنُ: جمع عيناء، وهي العظيمة العين من النساء. ورجلٌ أعين: إذا كان ضخم العين. وامرأة عيناء، والجمع عِيْنٌ.
والصحيح: أنَّ العِيْنَ اللاتي جَمَعَتْ أعينهن صفات الحسن والملاحة، قال مقاتل: “العين: حسان الأعين” (1) .
ومن محاسن المرأة اتساع عينها في طول، وضيق العين في المرأة من العيوب، وإنما يستحب الضيق منها في أربعة مواضع: فمها، وخرق أذنها، وأنفها، وما هنالك.
ويستحب السَّعَة منها في أربعة مواضع: وجهها، وصدرها، وكاهلها: وهو ما بين كتفيها، وجبهتها.
ويستحب البياض منها في أربعة مواضع (2) : لونها، وفرقها، وثغرها، وبياض عينها.
ويستحب السواد منها في أربعة مواضع (3) : عينها، وحاجبها، وهدبها، وشعرها.
(1) انظر تفسير مقاتل (3/ 208).
(2) ليس في (أ، ج، هـ).
(3) ليس في (أ، ب، ج، هـ).
(1/476)
ويستحب الطول منها في أربعة: قوامها، وعنقها، وشعرها، وبنانها (1).
ويستحب القِصَر منها في أربعة -وهي معنوية-: لسانها، ويدها، ورجلها، وعينها، فتكون قاصرة الطرف، قصيرة الرَّجْلِ واللسان عن الخروج وكثرة الكلام، قصيرة اليد عن تناول ما يكره الزوج، وعن بذله.
ويستحب الدقة منها في أربعة: خصرها، وفرقها، وحاجباها (2)، وأنفها.
فصل
وقوله تعالى: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)} [الطور: 20].
قال أبو عبيدة: “جعلناهم أزواجًا كما يزوج النعل بالنعل، جعلناهم اثنين اثنين” (3). قال يونس: “قرنَّاهم بهن، وليس من عقد التزوج، قال: والعرب لا تقول: تزوجت بها، وإنما تقول تزوجتها” (4).
قال من نصر هذا: التنزيل (5) يدل على ما قاله يونس، وذلك قوله
(1) في (د، ج) (وثيابها).
(2) في (ب، هـ) ونسخة على حاشية “أ”: (وحاجبها).
(3) انظر مجاز القرآن (2/ 209).
(4) انظر “المخصَّص” لابن سيده (1/ 358).
ويونس: هو ابن حبيب إمام في اللغة.
(5) في (أ) (التأويل).
(1/477)
تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]، ولو كان على تزوجت بها لقال: زوجناك بها. وقال ابن سلَّام: “تميم تقول: تزوجت امرأةً، وتزوجت بها” وحكاه الكسائي أيضًا. وقال الأزهري: “تقول العرب: زوجته امرأةً، وتزوجت امراةً، وليس من كلامهم: تزوجت بامرأة، قال: وقوله تعالى: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الطور: 20] أي: قرنَّاهم، وقال الفرَّاءُ: “هي لغة في أزدِ شَنُوْءة” (1) ، قال الواحدي: “وقول أبي عبيدة في هذا حسن (2) ؛ لأنه جعله من التزوج الذي هو بمعنى جعل الشيء زوجًا لا بمعنى عقد النكاح، ومن هذا يجوز أن يقال: كان فردًا فزوجته بآخر، كما يقال: شفعته بآخر، وإنما تمتنع الباء عند من يمنعها، إذا كان بمعنى عقد التزويج”.
قلت: ولا يمتنع أن يراد الأمران معًا، فلفظ التزويج: يدل على النكاح، كما قال مجاهد: “أنكحناهم الحور” (3) ، ولفظ الباء: يدل على الاقتران والضم، وهذا أبلغ من حذفها، واللَّه أعلم.
وقال تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) }. [الرحمن: 56 – 58].
وصفهنَّ سبحانه بِقِصَرِ الطرف في ثلاثة مواضع:
أحدها: هذا.
(1) انظر معجم تهذيب اللغة للأزهري (2/ 1574).
(2) في (هـ)، ونسخة على حاشية “أ”: (أحسن).
(3) أخرجه الطبري في تفسيره (25/ 136) وسنده حسن.
(1/478)
والثاني: قوله تعالى في الصافات: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) } [آية: 48].
والثالث: قوله تعالى في ص: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) } [آية: 52].
والمفسرون كلهم على أنَّ المعنى: قَصَرْنَ طرفهنَّ على أزواجهنَّ، فلا يطمحن إلى غيرهم. وقيل: قصرن طرف أزواجهنَّ عليهنَّ، فلا يدعهم حسنهنَّ وجمالهنَّ أنْ ينظروا إلى غيرهنَّ.
وهذا صحيح من جهة المعنى، وأمَّا من جهة اللفظِ: فقاصرات: صفة مضافة إلى الفاعل، كحسان الوجوه (1) ، وأصله: قاصرٌ طرفهنَّ، أي: ليس بطامحٍ متعدٍّ.
قال آدم: حدثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} [الرحمن: 56] قال: “يقول: قاصرات الطرف على أزواجهنَّ، فلا يبغين غير أزواجهنَّ” (2) .
قال آدم: وحدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال: “قصرن طرفهنَّ على أزواجهنَّ، فلا يُرِدْنَ (3) غيرهم، واللَّه ما هنَّ متبرِّجات،
(1) قوله “كحسان الوجوه” جاء في “أ، ج” “كحسان الوجه” وفي “ب، د” “لحسان الوجه”.
(2) أخرجه البيهقي في البعث رقم (385) وسنده حسن.
(3) في “هـ”: “يرون”.
(1/479)
ولا متطلعات” (1) .
وقال منصور عن مجاهد: “قصرن أبصارهنَّ وقلوبهنَّ وأنفسهنَّ على أزواجهنَّ، فلا يردن غيرهم” (2) .
وفي “تفسير سعيد” عن قتادة قال: “قصرن طرفهنَّ على أزواجهنَّ، فلا يردن غيرهم” (3) .
وأمَّا الأتراب: فجمع تِرْب (4) : وهو لِدَة (5) الإنسان.
قال أبو عبيدة وأبو إسحاق: “أقران، أسنانهنَّ واحدة” (6) . قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما وسائر المفسرين: “مستويات على سنٍّ واحدةٍ وميلادٍ واحد، بنات ثلاث وثلاثين سنة” (7) . وقال مجاهد: “أتراب:
(1) أخرجه البيهقي في البعث رقم (387). وسنده حسن.
(2) أخرجه البيهقي في البعث رقم (388)، والطبري في تفسيره (27/ 159) وغيرهما، وسنده صحيح.
(3) أخرجه الطبري في تفسيره (27/ 150)، والبيهقي في البعث رقم (392).
وسنده صحيح.
تنبيه: سقط هذا الأثر من “أ”.
(4) التِّرْبُ: المماثل في السنِّ، المعجم الوسيط ص (103).
(5) اللَّدَة: مَنْ ولد معك في وقتٍ واحد. المعجم الوسيط ص (858).
(6) انظر: مجاز القرآن (2/ 185).
(7) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (388).
عن ابن عباس، وبلفظ: “الأتراب: المستويات”. وسنده ضعيف.
وانظر: تفسير الطبري (23/ 175)، ومعالم التنزيل للبغوي (7/ 98)، وتفسير مقاتل (3/ 122).
(1/480)
أمثال” (1) . قال أبو إسحاق: “أي: هنَّ في غاية الشباب والحُسن، وسَمَّي سنَّ الإنسان وقرنه تِرْبه؛ لأنَّه مسَّ (2) تراب الأرض معه في وقتٍ واحدٍ (3) ، والمعنى من الإخبار باستواء أسنانهنَّ، أنَّهنَّ ليس فيهنَّ عجائز قد فات حسنهنَّ، ولا ولائد لا يُطِقْنَ الوطَء بخلاف الذكور، فإنَّ فيهم (4) الولدان: وهم الخدم.
وقد اختلف في تفسير (5) الضمير في قوله: {فِيهِنَّ}:
فقالت طائفة: تفسيره (6) الجنتان، وما حوتاه من القصور والغرف والخيام.
وقالت طائفة: تفسيره (7) الفرش المذكورة في قوله: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54]، و (في) بمعنى: على.
وقوله تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) } [الرحمن: 56].
قال أبو عبيدة: لم يمسهنَّ. يقال: ما طمث هذا البعير حَبْلٌ قط،
(1) أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 175)، والبيهقي في البعثِ رقم (384)، وسنده حسن.
(2) في “أ، ج”: “سنَّ”، وفي “د”: “من”.
(3) سقط من “أ، ج”.
(4) في جميع النسخ “فيهنَّ”.
(5) في “ب، د”: “مفسِّر”.
(6) في “ب، د”: “مفسِّرُهُ”، وجاء في “هـ”: “تفسيره: الجنَّات”.
(7) في “ب، د”: “مفسِّرُهُ”.
(1/481)
أي ما مسَّه (1) ، وقال يونس: تقول العرب (2) : هذا جمل ما طمثه حبل قط: أي ما مسَّه (3) “، وقال الفرَّاء: “الطمث: الافتضاض، وهو النكاح بالتَّدمية. والطَّمث: هو الدم. وفيه لغتان: طَمِثَ يَطْمُثُ ويَطْمَثُ” (4) . قال الليث: “طمثت الجارية: إذا افترعتها (5) ، والطامث في لغتهم: هي الحائض” (6) . قال أبو الهيثم: “يقال للمرأة: طُمِثَت تُطْمَث، إذا أُدْمِيَت بالافتضاض، وطَمِثَت على فَعِلَتْ تَطْمَث إذا حاضت أوَّل ما تحيض، فهي طامث، وقال في قول الفرزدق:
خرجن إليَّ لم يُطمثْنَ قبلي … وهن أصَحُّ من بَيْضِ النَّعام (7)
أي: لم يُمْسَسْنَ.
قال المفسرون: لم يطأهنَّ، ولم يغشهنَّ، ولم يجامعهنَّ. هذه ألفاظهم، وهم مختلفون في هؤلاء: فبعضهم يقول: هنَّ اللواتي أُنشِئْن في الجنَّة من حورها، وبعضهم يقول: يعني نساء (8) الدنيا، أُنْشِئنَ خلقًا آخر أبكارًا كما وصفهنَّ.
(1) انظر: مجاز القرآن (2/ 245 – 246)، وفيه: “ما مسَّهُ حَبَلٌ”.
(2) من “ب، ج، د، هـ”.
(3) انظر: لسان العرب (2/ 166).
(4) انظر: معاني القرآن للفرَّاء (3/ 119) بمعناه، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص (442)، ولسان العرب (2/ 166).
(5) في “ج”: “أفزعتها” وهو خطأ، ووقع في “هـ” “طمث الجارية: إذا افترعها”.
(6) انظر: العين للخليل ص (576).
(7) انظر: لسان العرب (2/ 166)، وفيه: “وقعْنَ” بدل “خرجنَ”.
(8) في نسخةٍ على حاشية “أ”: “نساءً من نساءِ”.
(1/482)
قال الشعبي: “نساء من نساء الدنيا، لم يُمْسَسْن منذ أنشئن خلقًا” (1) . وقال مقاتل: “لأنهنَّ خلقن في الجنَّة” (2) . قال عطاء عن ابن عباس: “هنَّ الآدميات الَّلاتي مُتْنَ أبكارًا” (3) . وقال الكلبي: “لم يجامعهنَّ في هذا الخلق الذي أُنْشِئْنَ فيه إنسٌ ولا جانٌّ” (4) .
قلتُ: ظاهر القرآن أنَّ هؤلاء النِّسوة لسن من نساء الدنيا، وإنَّما هنَّ من الحُوْر العين، أمَّا نساء الدنيا فقد طَمِثَهنَّ الإنس، ونساء الجن قد طَمِثهنَّ الجن، والآية تدل على ذلك.
قال أبو إسحاق: “وفي هذه الآية دليلٌ على أنَّ الجِنِّيَّ يَغْشَى، كما أنَّ الإنْسِيَّ يَغْشَى” (5) .
ويدل على أنَّهنَّ الحور الَّلاتي خلقنَ في الجنَّة:
- أنَّه سبحانه جعلهنَّ ممَّا أعدَّهُ اللَّهُ في الجنَّة لأهلها من الفواكه
(1) ذكره البغوي في تفسيره معالم التنزيل (7/ 454)، والواحدي في الوسيط (4/ 227).
وأخرجه البيهقي في البعث رقم (378) بلفظ “هُنَّ من نساء أهل الدنيا خلقهنَّ اللَّهُ في الخلق الآخر”. وسنده صحيح.
- وأخرجه هناد في الزهد رقم (22)، قال: “منذ أُنشئن”. وفيه رجل لم يسمَّ.
(2) انظر تفسيره (3/ 309).
(3) لم أقف عليه.
(4) ذكره الواحدي في الوسيط (4/ 227).
(5) انظر: زاد المسير لابن الجوزي (8/ 122).
(1/483)
والثمار والأنهار والملابس وغيرها.
- ويدلُّ عليه أيضًا الآية التي بعدها، وهي قوله تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) } [الرحمن: 72] ثمَّ قال: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 56].
قال الإمام أحمد: “والحور العين لا يمتْن عند النفخة في الصور؛ لأنَّهنَّ خلقن للبقاء” (1) .
وفي الآية دليل لما ذهب إليه الجمهور، أنَّ مؤمني الجنِّ في الجنَّة، كما أنَّ كافرهم في النَّارِ. وبوَّب عليه البخاري في “صحيحه” فقال: “بابُ ثوابِ الجن وعقابهم” (2) .
ونصَّ عليه غير واحدٍ من السَّلف:
قال ضَمْرة بن حبيب، وقد سئل: هل للجن ثواب؟ فقال: نعم، وقرأ هذه الآية ثمَّ قال: “الإنسيات للإنس، والجنِّيات للجنَّ” (3) .
(1) ذكره حرب الكرماني في مسائله ص (358) بنحوه، وسيأتي بتمامه في آخر الكتاب ص (834).
(2) في (64) كتاب بدء الخلق، باب: 12، (3/ 1200) ط بغا.
(3) أخرجه الطبري في تفسيره (27/ 151)، وأبو الشيخ في العظمة رقم (1151)، وابن أبي حاتم، وابن المنذر، والمنذر بن سعيد البلوطي في تفاسيرهم كما في آكام المرجان للشبلي ص (58)، والدر المنثور (6/ 205).
من طريقِ مبشِّر بن إسماعيل وشريح بن يزيد الحضرمي كلاهما عن أرطأه ابن المنذر عن ضمرة بن حبيب فذكره.
وسنده صحيح.
(1/484)
وقال مجاهد في هذه الآية: “إذا جامع الرجل، ولم يسمِّ انطوى الجانُّ على إحليله فجامع معه” (1) .
والضميرُ في قوله {قَبْلَهُمْ} للمعنِيَّين بقوله: {مُتَّكِئِينَ}، وهم: أزواج هؤلاء النسوة.
وقوله: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) } [الرحمن: 58].
قال الحسنُ وعامَّة المفسرين: أراد صفاء الياقوت في بياض المرجان، شبَّههن في صفاء الَّلون وبياضه بالياقوت والمرجان” (2) .
يدلُّ عليه ما قالهُ عبد اللَّه: “إنَّ المرأة من نساء أهل الجنَّة لتلبس عليها سبعين حُلَّة من حرير، فيُرَى بياضُ ساقيها من ورائهنَّ، ذلك بأنَّه
(1) أخرجه الطبري في تفسيره (27/ 151) والحكيم الترمذي في نوادر الأصول (104 ق/ ب).
من طريق سهل بن عامر البجلي عن يحيى بن يعلى الأسلمي عن عثمان ابن الأسود عن مجاهد فذكره.
وسنده ضعيف جدًّا، فيه سهل بن عامر قال أبو حاتم: “ضعيف الحديث روى أحاديث بواطيل. . وكان يفتعل الحديث”. وقال البخاري: “منكر الحديث”، ويحيى الأسلمي أيضًا: ضعيف الحديث.
انظر: الجرح والتعديل (4/ 202)، وتهذيب الكمال (32/ 252)، ولسان الميزان (3/ 137).
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (322)، والطبري في تفسيره (27/ 152) عن الحسنِ قال: “صفاء الياقوت في بياض المرجان”.
وسنده صحيح.
(1/485)
تعالى (1) يقول: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58)} ألا وإنَّ الياقوت حجر، لو جعلت فيه سِلْكًا، ثمَّ استصفيته نظرتَ إلى السِّلْك من وراء الحجر” (2).
فصل
وقال تعالى في وصفهنَّ: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن: 72]. المقصورات: المحبوسات. قال أبو عبيدة: “خُدِّرْنَ في الخيام” (3)، وكذلك قال مقاتل: “محبوسات في الخيام” (4).
وفيه معنى آخر: وهو أن يكون المراد: أنهن محبوسات على أزواجهن، لا يردن غيرهم، وهم في الخيام.
وهذا معنى قول من قال: قُصِرْن على أزواجهن فلا يردن غيرهم، ولا يطمحن إلى من سواهم، ذكره الفراء (5).
قلتُ: وهذا معنى {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} [الصافات: 48] لكن أولئك قاصرات بأنفسهن، وهؤلاء مقصورات، وقوله تعالى: {فِي الْخِيَامِ (72)} على هذا القول: صفة لحور، أي: هن في الخيام، وليس معمولًا لمقصروات، وكأنَّ أرباب هذا القول فرُّوا من أن يكُنَّ (6)
(1) في “ب، ج، د، هـ”: “بأنَّ اللَّهَ” بدل “بأنَّه تعالى”.
(2) تقدم الكلام عليه ص (431).
(3) انظر: مجاز القرآن (2/ 246)، والوسيط للواحدي (4/ 229).
(4) انظر: تفسير مقاتل (3/ 310).
(5) في معاني القرآن (3/ 120).
(6) قوله “فرُّوا من أن يكن” وقع في “ج، د، هـ” “فسَّروا من أنْ يكون” وفي “ب” =
(1/486)
محبوسات في الخيام، لا تُفارِقْنها إلى الغرف والبساتين.
وأصحاب القول الأوَّل يجيبون عن هذا: بأنَّ اللَّه سبحانه وصفهنَّ بصفات النساء المخدَّرات المصونات، وذلك أكملُ في الوصف، ولا يلزمُ من ذلك أنَّهنَّ لا يفارقن الخيام إلى الغرف والبساتين، كما أنَّ نساء الملوك وذويهم من النساء المخدَّرات المصونات، لا يمتنع أنْ يخرجن في سَفَرٍ وغيره إلى مُتَنَزَّهٍ (1) وبستانٍ ونحوه، فوَصْفُهنَّ الَّلازم لهنَّ: القصرُ في البيت، ويعرض لهنَّ مع الخدم الخروج إلى البساتين ونحوها. وأمَّا مجاهد فقال: “مقصورات قلوبهنَّ على أزواجهنَّ في خيام اللؤلؤ” (2) . وقد تقدم وصف النسوة الأُوَل (3) ، بكونهنَّ قاصرات (4) الطرف، وهؤلاء بكونهنَّ مقصورات، والوصفان لكلا (5) النوعين، فإنَّهما صفتا كمالٍ، فتلك الصفة: قَصْرُ الطرف عن طموحه إلى غير الأزواج، وهذا الصفة قصر الرِّجْل عن التبرج والبروز والظهور للرجال.
= “فروا من أنْ يكون”.
(1) في (ج، هـ): “مُنْتَزَهٍ”.
(2) أخرجه هنَّاد في الزهدِ رقم (16) وسنده حسن.
وانظر ما تقدم ص (479).
(3) في “أ، د، هـ”: “الأُولى”، وراجع (ص/ 479 – 480).
(4) في “د”: “مقصرات”.
(5) في “د” “لكل”.
(1/487)
فصل
قال تعالى: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70)} [الرحمن: 70].
فالخيرات جمع خَيْرَةٍ، وهي مُخَفَّفة من خيِّرة، كَسَيِّدة ولَيِّنة. وحسان: جمع حسنة، فهن خيرات الصفات والأخلاق والشيم، حسان الوجوه.
قال وكيع: حدثنا سفيان عن جابر، عن القاسم بن أبي بَزَّة، عن أبي عبيدة، عن مسروق، عن عبد اللَّه قال: “لكل مسلم خيرة، ولكل خيرة خيمة، ولكل خيمة أربعة أبوب، يدخل عليها كل يوم من كل باب تحفة وهدية وكرامة لم تكن قبل ذلك، لا مَرِحات (1) ولا ذفرات ولا بَخِرَات (2) ولا طماحات” (3).
فصل
وقال تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38)} [الواقعة: 35 – 38]. [102/ أ]أعاد الضمير إلى النساء، ولم يَجْرِ لهنَّ ذكر؛ لأن الفرش دلت عليهن، إذ هي محلهن.
وقيل: الفرش، في قوله: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)} [الواقعة: 34]: كناية
(1) في “ج”: “تَرِحَات” وفي “د”: “مرجات”.
(2) في “ج”: “بخرات”، وفي “هـ”: “سخرات ولا لماحات”.
(3) تقدَّم الكلام عليه باب “51” ص (455).
(1/488)
عن النساء، كما يكنى عنهن بالقوارير والأزر وغيرها.
ولكن قوله: {مَرْفُوعَةٍ (34) }: يأبى هذا إلا أن يقال: المراد رِفْعة القدر. وقد تقدم تفسير النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للفرش وارتفاعها (1) .
فالصواب أنها الفرش نفسها، ودلت على النساء: لأنها محلَّهنَّ غالبًا.
قال قتادة وسعيد بن جبير: “خلقناهن خلقًا جديدًا” (2) ، وقال ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: “يريد نساء الآدميات” (3) وقال الكلبي ومقاتل: “يعني نساء أهل الدنيا العجز الشمط” يقول تعالى: خلقناهن بعد الكبر والهرم، بعد الخلق الأوَّل (4) في الدنيا” (5) .
(1) في ص (441 – 442).
(2) أثر قتادة أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (2/ 219) رقم (3132)، والطبري في تفسيره (27/ 185). بلفظ “خلقناهن خلقًا”. وسنده صحيح.
ولم أقف على أثر سعيد بن جبير.
(3) ذكره البغوي في معالم التنزيل (8/ 3).
وقد وردَ بلفظٍ آخر: أخرجه الطبري (27/ 186) عن ابن عباس: “هُنَّ من بني آدم، نساء كنَّ في الدنيا ينشئهنَّ اللَّه أبكارًا عذارى عربًا”.
وسنده ضعيف، فيه محمد بن حفص الوصابي الحمصي: قال ابن منده: “ضعيف”، وقال أبو حاتم الرَّازي: “. . . قال لي بعض أهل حمص ليس بصدوق، ولم يدرك محمد بن حمير فتركته. . . “.
وهذا الحديث من رواية محمد بن حفص عن محمد بن حمير.
انظر: الجرح والتعديل (7/ 237)، ولسان الميزان (5/ 150).
(4) سقط من “هـ”.
(5) انظر: تفسير مقاتل (3/ 314).
(1/489)
ويؤيد هذا التفسير حديث أنس المرفوع: “هن عجائزكم العُمْش الرمص” (1) رواه الثوري، عن موسى بن عبيدة، عن يزيد الرقاشي عنه.
ويؤيده ما رواه يحيى الحماني، حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد، عن عائشة رضي اللَّه عنها: “أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دخل عليها وعندها عجوز، فقال من هذه؟ فقالت: إحدى خالاتي، قال: أما إنه لا يدخل الجنة العجز، فدخل العجوز من ذلك ما شاء اللَّه، فقال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) } [الواقعة: 35] “خلقًا آخر، يحشرون يوم القيامة حُفاةً عُراةً غُرْلًا، وأول من يُكْسَى إبراهيم خليل الرحمن”، ثم قرأ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) } الواقعة: 35 .
(1) أخرجه الترمذي رقم (3296)، وابن أبي الدنيا رقم (287)، وهناد في الزهد (21)، والطبري في تفسيره (27/ 185 – 186)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (390)، والبغوي في تفسيره (8/ 14) وغيرهم.
من طريق الثوري ووكيع ومروان بن معاوية ومحمد بن ربيعة وغيرهم كلهم عن موسى بن عبيدة به نحوه.
قال الترمذي: “هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعًا إلَّا من حديث موسى بن عبيدة، وموسى بن عبيدة ويزيد بن أبان الرَّقاشي: يُضَعَّفان في الحديث”.
(2) أخرجه البيهقي في البعثِ رقم (379) من طريق يحيى الحماني به.
- ورواهُ معتمر بن سليمان عن ليث بن أبي سليم به نحوه.
وفيه “إنَّ اللَّهَ ينبت بهنَّ خلقًا غير خلقهنَّ”.
أخرجه أبو نعيم في أخبار أصبهان (2/ 142). - ورواهُ الحسن بن صالح بن حي عن ليث عن مجاهد قال: “دخلَ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فذكره مرسلًا نحو لفظ معتمر”.
أخرجه أبو الشيخ في أخلاق النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم (186).
وهذا الاضطراب من ليث بن أبي سُليم، فإنَّه اختلط، وكان يرفع أشياء =
(1/490)
قال آدم بن أبي إياس: حدثنا شيبان، عن جابر الجعفي، عن يزيد ابن مرة، عن سلمة بن يزيد قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول في قوله: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) } [الواقعة: 35] قال: “يعني الثَّيب والأبكار الَّلاتي كُنَّ في الدنيا” (1) .
قال آدم: وحدثنا المبارك بن فضالة، عن الحسن قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لا يدخل الجنة العجز”. فبكت عجوز، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أخبروها أنها ليست يومئذ بعجوز، إنها يومئذ شابَّة، إنَّ اللَّهَ عزَّ وجل يقول: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) } الواقعة: 35 .
وقال ابن أبي شيبة: حدثنا أحمد بن طارق، حدثنا مسعدة بن اليسع، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب،
= لا يرفعها غيره، انظر: تهذيب الكمال (24/ 287)، ولعلَّ هذا الحديث منها، فإنَّ الحديث المعروف فيه الإرسال كما سيأتي بيانه.
(1) أخرجه الطبراني في الكبير رقم (6322)، وابن أبي حاتم في تفسيره كما عند ابن كثير في تفسيره (4/ 312)، وابن قانع في معجمه رقم (566).
ورواهُ الطيالسي ومعاوية بن هشام كلاهما عن شيبان به نحوه.
أخرجه الطيالسي في مسنده رقم (1403) والطبري في تفسيره (27/ 185) وغيرهما.
والحديث مدارهُ على جابر بن يزيد الجعفي، وهو ضعيف، وقد اتهم.
والحديث ضعفه الهيثمي والبوصيري. انظر: مجمع الزوائد (7/ 119).
(2) أخرجه البيهقي في البعث رقم (382) من طريق آدم به.
- ورواهُ مصعب بن المقدام عن المبارك به نحوه.
أخرجه الترمذي في الشمائل رقم (241) وغيره.
والحديث مرسل.
(1/491)
عن عائشة رضي اللَّه عنها: “أن نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أتته عجوز من الأنصار فقالت: يا رسول اللَّه ادع اللَّه أن يدخلني الجنة، فقال نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إن الجنة لا يدخلها عجوز” فذهب نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فصلى ثم رجع إلى عائشة فقالت عائشة: لقد لَقِيَتْ من كلمتك مشقة وشِدَّة، فقال نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إن ذاك كذاك، إن اللَّه تعالى إذا أدخلهن الجنة حولهن أبكارًا” (1) .
وذكر مقاتل قولًا آخر -وهو اختيار الزجاج- أنهن الحور العين التي ذكرهن.
“قيل: أنشأهن اللَّه عز وجل لأوليائه لم يقع عليهن ولادة (2) .
والظاهر أن المراد به أنشأهن اللَّه تعالى في الجنة إنشاء، ويدل عليه وجوه:
أحدها: أنه قد قال في حقِّ السَّابقين: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط (4/ 154) رقم (5545)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة (391).
- وقد خُولف مسعدة بن اليسع، خالفه عَبْدَة.
فرواهُ عبدة عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب، قال: قلتُ له: أكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يمازح؟ قال: نعم، أتته عجوز من الأنصار فذكر مثله.
أخرجه هنَّاد في الزهدِ رقم (24).
وهذا هو الصواب مرسل، وحديث مسعدة ضعيف جدًّا، ولعلَّ هذا المرسل مع مرسل الحسن يشدُّ بعضهما بعضًا.
(2) انظر: تفسير مقاتل (3/ 314)، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج (5/ 112).
(1/492)
يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) } [الواقعة: 17 – 23].
فذكر سُرُرَهم وآنيتهم وشرابهم وفاكهتهم وطعامهم وأزواجهم من الحور العين، ثمَّ ذكر أصحاب الميمنة وطعامهم وشرابهم وفرشهم ونساءهم، فالظاهر: أنَّهنَّ مثلُ نساءِ مَنْ قبلهم خُلِقنَ في الجنَّة.
الثاني: أنَّه سبحانه قال: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) } [الواقعة: 35].
وهذا ظاهرٌ أنَّه إنشاء أوَّل لا ثانٍ؛ لأنَّه سبحانه حيث يريد الإنشاء الثاني يُقيِّده بذلك، كقوله: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) } [النجم: 47]، وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى} [الواقعة: 62].
الثالث: أنَّ الخطاب بقوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) } [الواقعة: 7]، إلى آخره للذكور والإناث، والنشأة الثانية عامَّة أيضًا للنوعين، وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) } [الواقعة: 35]، ظاهره اختصاصهنَّ بهذا الإنشاء، وتأمَّل تأكيده بالمصدر، والحديث لا يدلُّ على اختصاص العجائز المذكورات بهذا الوصف، بل يدلُّ على مشاركتهنَّ للحور العين في هذه الصفات المذكورة، فلا يتوهم انفراد الحور العين عنهنَّ ممَّا (1) ذُكِرَ من الصفات، بل هُنَّ أحقُّ بها منهنَّ، فالإنشاءُ واقعٌ على الصِّنفين، واللَّهُ أعلمُ.
وقوله تعالى: {عُرُبًا} جمع عَرُوب: وهنَّ المتحبِّبات إلى
(1) في “ب، د”: “بما”، وفي “هـ”: “ما”.
(1/493)
أزواجهنَّ.
قال ابن الأعرابي: “العَرُوب من النساء: المطيعة لزوجها المتحبِّبَة إليه” (1) . وقال أبو عبيدة “العروب: الحسنة التبعُّل” (2) .
قلتُ: يريد حسن مواقعتها، وملاطفتها لزوجها عند الجماع.
وقال المبرِّد: “هي العاشقة لزوجها” (3) وأنشد لِلَبيْد:
وفي الحُدوجِ عَرُوب غير فاحشةٍ … ريّا الرَّوادِفِ يَعْشى دُونَها البَصَرُ (4)
وذكر المفسرون في تفسير العُرُب: أنَّهن العواشق المتحببات الغَنِجَات الشَّكِلات المتعشقاتِ الغَلِمَاتُ المَغْنُوجاتُ، كلُّ ذلك من ألفاظهم (5) .
وقال البخاري في “صحيحه”: “عُربًا: مثقَّلة واحدها عَرُوب، مثل صَبُور وصُبُر، يسمِّيها أهل مكة: العَرِبَة، وأهل المدينة: الغَنِجَة، وأهل العراق : الشَّكِلة، والعُرُب: المتحبِّبات إلى أزواجهنَّ”.
(1) انظر: معجم تهذيب اللغة للأزهري (3/ 2380)، ولسان العرب (1/ 591).
(2) انظر: مجاز القرآن (2/ 251).
(3) انظر: الكامل للمبرد (2/ 868)، وزاد المسير (8/ 142 – 143)، والزهد لهنَّاد رقم (30 – 34).
(4) انظر: ديوانه ص (61).
(5) انظر: تفسير الطبري (27/ 186 – 188)، وتفسير القرطبي (17/ 211)، وتفسير البغوي (8/ 15)، وزاد المسير (8/ 142 – 143)، والزهدُ لهنَّاد رقم (30 – 34).
(6) ما بين المعكوفتين من “هـ” والبخاري.
(1/494)
هكذا ذكره في كتاب: “بدء الخلق” (1)، وقال في كتاب “التفسير” في سورة الواقعة (2): “عُرُبًا مثقلة واحدها عَروب مثل صَبور وصُبُر تسميها أهل مكة: العَرِبَة، وأهل المدينة: الغَنِجة، وأهل العراق: الشَّكِلَة”.
قلتُ: فجمع سبحانه وتعالى بين حُسْن صورتها وحسن عشرتها، وهذا غاية ما يطلب من النساء، وبه تكمل لذَّة الرَّجلِ بِهِنَّ، وفي قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56)} [الرحمن: 56] إعلام بكمال الَّلذة بهنَّ، فإنَّ لذَّة الرجلِ بالمرأةِ التي لم يطأها سواهُ، لها فضل على لذَّته بغيرها، وكذلك هي أيضًا.
فصل
وقال تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33)} [النبأ: 31 – 33].
فالكواعب: جمع كاعب، وهي: النَّاهد. قاله: قتادة ومجاهد والمفسرون (3). قال الكلبي: “هنَّ المُفلَّكات اللواتي تكعبت ثديهنَّ وتفلَّكت” (4). وأصل اللفظة من الاستدارة، والمراد أنَّ ثديهنَّ نواهد
(1) (63)، (8) باب: ما جاء في صفة الجنَّة وأنَّها مخلوقة (3/ 1184).
(2) (4/ 1850).
(3) أخرجه الطبري (30/ 18) عن قتادة.
وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 3) رقم (5788) عن مجاهد.
وانظر: تفسير الطبري (30/ 18)، والوسيط للواحدي (4/ 415)، وتفسير البغوي (8/ 316)، والقرطبي (19/ 183).
(4) انظر: تفسير السمرقندي (3/ 440)، ولسان العرب (1/ 719).
(1/495)
كالرَّمان ليست متدليَّة إلى أسفل، ويُسَمَّيْن نواهد وكواعب (1).
فصل
روى البخاري في “صحيحه” (2) عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “لَغَدْوةٌ في سبيل اللَّهِ أو رَوحةٌ خيرٌ من الدنيا وما فيها، ولَقَابُ قوسِ أحدكم أو موضع قِيْدِهِ -يعني: سوطهِ- من الجنَّة خيرٌ من الدنيا وما فيها، ولو اطَّلعت امرأةٌ من نساء أهل الجنَّة إلى الأرضِ لملأت ما بينهما ريحًا، ولأضاءتْ ما بينها، ولنصيفها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها”.
وفي “الصحيحين” (3) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ أوَّل زُمرةٍ تدخل الجنَّة على صورة القمر ليلة البدرِ، والتي تليها على أضوإِ كوكبٍ دُرِّيٍّ في السَّماءِ، ولكلَّ امرئٍ منهم زوجتان اثنتان، يُرى مُخُّ سُوقِهِمَا من وراء اللحم، وما في الجنَّة أعزب”.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة حدثنا يونس عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “للرجل من أهل الجنَّة زوجتان من حور العينِ، على كلَّ واحدةٍ سبعون حُلَّة يُرى مُخُّ ساقها من وراء الثياب” (4).
(1) من “ب، د”.
(2) رقم (2643).
(3) تقدم في ص (256).
(4) تقدم في ص (256).
(1/496)
وقال الطبراني: حدثنا بكر بن سهل الدمياطي، حدثنا عمرو بن هاشم (1) البيروتي، حدثنا سليمان بن أبي كريمة عن هشام بن حسَّان عن الحسن عن أُمِّه عن أمِّ سلمة قالت: قلتُ يا رسول اللَّه أخبرني عن قول اللَّه عزَّ وجلَّ {وَحُورٌ عِينٌ (22) } [الواقعة: 22] قال: {وَحُورٌ} بيضٌ. {عِينٌ}: ضخام العيون، شفر (2) الحوراء بمنزلة جناح النسر. قلتُ: أخبرني عن قوله عزَّ وجلَّ: {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) } [الطور: 24]. قال: صفاؤهنَّ صفاء الدر الَّذي في الأصداف الَّذي لم تمسه الأيدي. قلتُ: يا رسول اللَّه أخبرني عن قوله عزَّ وجل: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) } [الرحمن: 70] قال: “خَيْرَاتُ الأخلاق، حسان الوجوه”. قلتُ: يا رسول اللَّه أخبرني عن قوله عزَّ وجل: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) } [الصافات: 49]، قال: رِقَّتهنَّ كرقة الجلدِ الَّذي رأيته في داخلِ البيضة ممَّا يلي القشْر، وهو الغِرْقِئُ قلتُ: يا رسول اللَّهِ أخبرني عن قوله عزَّ وجلَّ: {عُرُبًا أَتْرَابًا (37) } [الواقعة: 37]، قال: هنَّ الَّلواتي قُبضْنَ في دار الدنيا عجائز رُمْصًا شُمْطًا خلقهنَّ اللَّه بعد الكِبَر، فجعلهنَّ عذارى، عُرُبًا: متعشِّقاتٍ محبَّباتٍ، أترابًا: على ميلادٍ واحد. قلتُ: يا رسول اللَّهِ نساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال: بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة. قلتُ: يا رسول اللَّهِ وبِمَ ذاك، قال: بصلاتهنَّ وصيامهنَّ، وعبادتهنَّ اللَّه تعالى، ألبس اللَّه وجوههنَّ النور، وأجسادهنَّ الحرير، بيضُ الألوان، خضر الثياب،
(1) في “ب، د” والطبراني “هشام” وهو خطأ. انظر الجرح والتعديل (6/ 268).
(2) في “أ، د، ج، هـ”: “شَعَر”.
(1/497)
صفر الحلي، مجامرهنَّ الدُّر، وأمشاطهنَّ الذهبُ، يقلْن نحن الخالدات فلا نموتُ، ونحن النَّاعمات فلا نبؤس أبدًا، ونحن المقيمات فلا نظعن أبدًا، ونحن الرَّاضيات فلا نسخط أبدًا، طوبى لمن كُنَّا له وكان لنا. قلتُ: يا رسول اللَّه المرأة منَّا تتزوج زوجين والثلاثة والأربعة ثمَّ تموتُ فتدخل الجنَّة، ويدخلون معها، مَنْ يكون زوجها؟ قال: يا أم سلمة إنَّها تُخَيَّر فتختار أحسنهم خُلقًا، فتقول: أي ربِّ، إنَّ هذا كان أحسنهم معي خلقًا في دار الدنيا فزوَّجْنِيه، يا أم سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة” (1) .
تفرَّد به سليمان بن أبي كريمة: ضعَّفه أبو حاتم، وقال ابن عدي: “عامَّة أحاديثه مناكير، ولمَ أرَ للمتقدمين فيه كلامًا ثمَّ ساق هذا الحديث من طريقه، وقال: لا يعرف إلَّا بهذا السند”.
وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا عمرو بن الضحاك بن مخلد حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد حدثنا أبو رافع إسماعيل بن رافع، عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب القُرَظِي عن رجل من الأنصارِ، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: حدثنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو في طائفةٍ
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (23/ 257)، والعقيلي في الضعفاء الكبير (2/ 138).
والحديثُ منكر لا يثبت، علَّته سليمان بن أبي كريمة الشامي.
قال العقيلي: “يحدث بمناكير …. منها، ثمَّ ذكر هذا الحديث ثمَّ قال: ولا يتابع عليه، ولا يعرف إلَّا به”.
قال ابن عدي: “هذا منكر. . . “.
(1/498)
من أصحابه، فذكر حديث الصور وفيه: “فأقولُ يا ربِّ وعدتني الشفاعة فشفَّعني في أهل الجنَّة يدخلون الجنَّة، فيقول اللَّه تعالى: قد شفَّعتك وأذِنْت لهم في دخول الجنَّة، فكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: والَّذي بعثني بالحقِّ، ما أنتم في الدنيا بأعرف بأزواجكم ومساكنكم من أهلِ الجنَّة بأزواجهم ومساكنهم، فيدخل رجلٍ منهم على ثنتين وسبعين زوجةً ممَّا ينشئ اللَّهُ، وثنتين من ولدِ آدم لهما فضل على من أنشأ اللَّهُ، بعبادتهما اللَّه عزَّ وجلَّ في الدنيا، يدخلُ على الأولى منهما في غرفة من ياقوتةٍ على سرير من ذهب مكلَّل باللؤلؤ عليه سبعون زوجًا من سُندس وإستبرق، وإنَّه ليضع يده بين كتفيها، ثمَّ ينظر إلى يده من صدرها من وراء ثيابها وجلدها ولحمها، وإنَّه لينظر إلى مخَّ ساقها، كما ينظر أحدكم إلى السلك في قَصَبَةِ الياقوت، كَبِدُهُ لها مرآة، وكبدها له مرآة، فبينا هو عندها لا يملها ولا تمله، ولا يأتيها من مرَّة إلَّا وجدها عذراء، ما يفتر ذَكَرُهُ، ولا يشتكي قُبُلُهَا، فبينا هو كذلك إذ نودي إنَّا قد عرفنا أنَّك لا تَمَلُّ ولا تُمَلُّ، إلَّا أنَّه لا منيَّ ولا منيَّة، إلَّا أنْ تكون له أزواج غيرها فيخرج فيأتيهنَّ واحدةً واحدةً كلما جاء واحدة (1) قالت: واللَّهِ ما في الجنَّة شيءٌ أحسن منك، وما في الجنَّة شيءٌ أحبّ إليَّ منكَ” (2) .
هذا قطعةٌ من حديث الصور الَّذي تفرَّد به إسماعيل بن رافع، وقد روى له الترمذي وابن ماجه وضعَّفه أحمد ويحيى وجماعة. وقال
(1) قوله: “جاء واحدة” في “ب”: “جاءت” وسقط “واحدة” من “أ”.
(2) تقدم الكلام عليه ص (261 – 262).
(1/499)
الدارقطني وغيره: “متروك الحديث”. وقال ابن عدي: “عامة أحاديثه فيها نظر”. وقال الترمذي: “ضعفه بعض أهل العلم. وسمعت محمدًا، يعني البخاري – يقول: هو ثقة مقارب الحديث”.
وقال لي شيخنا أبو الحجاج الحافظ: “هذا الحديث مجموع من عدة أحاديث ساقه إسماعيل أو غيره هذه السياقة، وشرحه الوليد بن مسلم في كتاب مفرد، وما تضمنه معروف في الأحاديث”. واللَّه أعلم.
وقال عبد اللَّه بن وهب: حدثنا عمرو أن دراجًا حدثه، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد -رضي اللَّه عنه-، عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إن أدنى أهل الجنة منزلة، الذي له ثمانون ألف خادم، واثنتان وسبعون زوجة، وينصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية وصنعاء” (1) .
رواه الترمذي (2) ؛ ولكنَّ دراجًا أبا السمح بالطريق، قال أحمد: “أحاديثه مناكير”، وقال النسائي: “منكر الحديث”، وقال أبو حاتم: “ضعيف”، وقال النسائي أيضًا: “ليس بالقوي”، وساق له ابن عدي أحاديث وقال: “عامتها لا يتابع عليها”، وقال الدارقطني: “ضعيف”، وقال مرة: “متروك”. وأما يحيى بن معين: فقد وثقه، وأخرج عنه أبو حاتم بن حبان في “صحيحه”، وقال عثمان بن سعيد الدارمي، عن علي بن المديني: “هو ثقة”.
(1) أخرجه ابن أبي داود في البعث (78)، وابن حبان (7401).
(2) برقم (2562) من طريق: رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث به.
(1/500)
وقال ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-، عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) } [الرحمن: 58] قال: “ينظرُ إلى وجهه في خدَّها أصفى من المرآة، وانْ أدنى لؤلؤةٍ عليها لتضيءُ ما بين المشرق والمغربِ، وإنَّهُ ليكون عليها سبعون ثوبًا ينفذها بَصَرُهُ حتَّى يُرى مُخُّ ساقِهِا من وراء ذلك” (1) .
وقال الفِرْيابي: أنبأنا أبو أيوب سليمان بن عبد الرحمن حدثنا خالد ابن يزيد بن (2) أبي مالك عن أبيه عن خالد بن معدان عن أبي أُمامة رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “ما من عبدٍ يدخل الجنَّة إلَّا ويزوج ثنتين وسبعين زوجة: ثنتان من الحور العين، وسبعون من أهل ميراثه من أهل الدنيا، ليس منهنَّ امرأة إلَّا ولها قُبُلٌ شهيٌّ، وله ذكَرٌ لا ينْثني” (3) .
قلتُ: خالد هذا هو ابن (4) يزيد بن عبد الرحمن الدمشقي: وهَّاهُ ابن معين، وقال أحمد: “ليس بشيءٍ”، وقال النسائي: “غير ثقة” وقال
(1) تقدم الكلام عليه في ص (432 – 433).
(2) في “ب، د”: “عن” وهو خطأ.
(3) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (370): من طريق الفريابي به مثله.
وأخرجه ابن ماجه (4337)، وابن عدي في الكامل (3/ 11)، والبيهقي فى البعث (406). من طريق خالد بن يزيد بن أبي مالك به مثله.
والحديث من مناكيره، كما ذكر المؤلف رحمه اللَّه.
انظر: تهذيب الكمال (8/ 196 – 199).
(4) في “أ”: “بن أبي” وهو خطأ.
(1/501)
الدَّارقطني: “ضعيف”، وذكر ابن عدي له هذا الحديث ممَّا أنكره عليه.
وقال أبو نعيم: حدثنا إبراهيم بن عبد اللَّه حدثنا (1) محمد بن حمويه حدثنا أحمد بن حفص حدثني أبي (2) حدثني إبراهيم بن طهمان عن الحجاج عن قتادة عن أنس رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لِلمُؤمن في الجنَّة ثلاثٌ وسبعون زوجة”، فقلنا يا رسول اللَّهِ أَوَ له قُوَّة ذلك؟ قال: “إنَّه ليُعْطَى قوَّة مئة” (3) .
قلتُ: أحمد بن حفص هذا هو السَّعدي، له مناكير، والحجَّاجُ هو ابن أرطاة.
(1) في “هـ”: “بن” وهو خطأ.
(2) قوله “حدثني أبي” سقط من “أ”.
(3) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة (2/ 213) رقم (372).
وأخرجه إبراهيم بن طهمان في مشيخته رقم (58) عن الحجاج عن قتادة به.
إلَّا أنَّه قالَ “ثلاثون زوجة” بدل “ثلاث وسبعون زوجة”.
وهذا هو الصواب، فإنَّ راوي النسخة عن ابن طهمان: هو أبو القاسم الفضل بن جعفر بن المؤذن عن أبي بكر محمد بن عبدوس النيسابوري عن أحمد بن حفص بن عبد اللَّه بن راشد النيسابوري عن أبيه حفص عنه.
وأحمد بن حفص وأبوهُ صدوقان، والحجاج هو ابن الحجاج الباهلي البصري ثقة.
وقد توبع الحجاج، تابعه عمران القطان كما سيأتي قريبًا ص (505)؛ لكن خالفه في المتن، فقال: “يُعطى المؤمن في الجنَّة قوَّة كذا وكذا من الجماع”.
قلتُ: وهذا يدلُّ على غرابة هذا الحديث عن قتادة فاللَّهُ أعلمُ بثبوته.
(1/502)
وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن علي الأبَّار، حدثنا أبو همَّام الوليد ابن شُجاع. وأنبأنا محمد بن أحمد بن هشام السجزي (1) ببغداد، حدثنا عبد اللَّه بن عمر بن أبان قالا: حدثنا حسين بن علي الجعفي عن زائدة عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قيل يا رسول اللَّه، هل نَصِلُ إلى نسائنا في الجنَّة؟ فقال: إنَّ الرَّجل لَيصِلُ في اليومِ إلى مئة عذراء” (2) .
قال الطبراني: “لم يروهِ عن هشام إلَّا زائدة تفرَّد به الجعفي”.
(1) في “أ”: “الشجري”.
(2) أخرجه الطبراني في الأوسط (1/ 210) رقم (718) وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة (273)، والبزار في مسنده (3525)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة (373) وغيرهم. من طريق حسين الجعفي به.
وهذا الحديث ممَّا أُنكر على حسين الجعفي – وهو ثقة – وأنَّه وهم فيه.
فرواهُ أبو أُسامة عن هشام عن زيد العمي عن ابن عباس.
كما سيأتي عند المؤلف.
أخرجه هناد في الزهد (88)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة (272)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة (374)، والبيهقي في البعث (404) وغيرهم.
وهذا هو الصحيح، وطريق حسين الجعفي معلول، قال أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان: هذا خطأ، إنَّما هو هشام بن حسان عن زيد العمي عن ابن عباس، قال ابن أبي حاتم: قلتُ لأبي ممَّن الوهم؟ قال من حسين”.
انظر: العلل لابن أبي حاتم (2/ 213).
وعليه: فإسناد حديث ابن عباس ضعيف؛ للانقطاع بين زيد العمي وابن عباس، وأيضًا لضعف زيد العمي.
والحديث ضعفه الخطيب البغدادي في الموضح (2/ 95)، والهيثمي والبوصيري. المجمع (10/ 416).
(1/503)
قال محمد بن عبد الواحد المقدسي: “ورجال هذا الحديث عندي على شرط الصحيح” (1).
وقال أبو الشيخ: حدثنا أبو يحيى بن سلم الرَّازي حدثنا هناد بن السَّري حدثنا أبو أُسامة عن هشامِ بن حسان عن زيد بن أبي الحواري – وهو زيد العمَّي – عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: قيل يا رسول اللَّهِ أنفضي إلى نسائنا في الجنَّة، كما نُفضي إليهنَّ في الدنيا؟ قال: والَّذي نفس محمد بيده إنَّ الرجل ليفضي في الغداة الواحدة إلى مئة عذراء”.
وزيد هذا قال فيه ابن معين: “صالح”، وقال مرَّة: “لا شيء”، وقال: “ضعيف، يكتب حديثه”، وكذلك قال أبو حاتم، وقال الدَّارقطني: “صالح”، وضعفه النسائي، وقال السعدي: “متماسك” (2).
قلتُ: وحسبه رواية شعبة عنه.
فصل
والأحاديث الصحيحة إنَّما فيها “أنَّ لكلِّ منهم زوجتين” (3)، وليس في “الصحيح” زيادة على ذلك، فإنْ كانت هذه الأحاديث محفوظة:
فإمَّا أنْ يُراد بها ما لكلِّ واحدٍ من السراري زيادة على الزوجتين،
(1) صفة الجنَّة ص (129).
(2) انظر: ترجمته وأقوال العلماء فيه: تهذيب الكمال (10/ 56 – 60).
(3) كما تقدَّم في ص (256).
(1/504)
ويكونون في ذلك على حسب منازلهم في القِلَّة والكثرة كالخدمِ والولدان.
وإمَّا أنْ يُرادَ أنَّه يعطى قوَّة من يُجامع هذا العدد، ويكون هذا هو المحفوظ، فرواهُ بعض هؤلاء بالمعنى فقال: له كذا وكذا زوجة.
وقد روى الترمذي في “جامعه” من حديث قتادة عن أنس رضي اللَّه عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “يُعطى المؤمنُ في الجنَّة قوَّة كذا وكذا من الجماع، قيل: يا رسول اللَّهِ أوَ يطيقُ ذلك؟ قال: يعطى قوَّة مئة” (1) هذا حديث صحيح، فلعلَّ من رواهُ “يفضي إلى مئة عذراء” (2) رواهُ بالمعنى أو يكون تفاوتهم في عدد النساء بحسب تفاوتهم في الدرجات، واللَّه أعلم.
ولا ريبَ أنَّ للمؤمن في الجنَّة أكثر من اثنتين، لِمَا في “الصحيحين” (3) ، من حديث أبي عمران الجوني عن أبي بكر بن عبد اللَّه
(1) أخرجه الترمذي (2536)، والطيالسي في مسنده (2125)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة (275)، وابن حبان (7400)، والبزار في مسنده (4/ 198) رقم (3526)، والبيهقي في البعثِ رقم (402).
من طريقِ عمران القطان عن قتادة عن أنس فذكره.
قال الترمذي: “هذا حديث صحيح غريب لا نعرفه من حديث قتادة عن أنس إلَّا من حديث عمران القطان”.
وقد تقدَّم في ص (396) في حديث زيد بن أرقم “. . . إنَّ أحدهم ليُعْطى قوَّة مائة رجلٍ في الأكلِ والشرب والجماع والشهوة. . “
(2) كما تقدم في ص (503)، من حديث ابن عباس.
(3) تقدم في الباب (51) في ص (453 – 454).
(1/505)
ابن قيس عن أبيه قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ للعبدِ المؤمنِ في الجنَّة لخيمةً من لؤلؤةٍ مجوَّفةٍ طولها ستون ميلًا للعبد المؤمن فيها أهلون فيطوف عليهم لا يرى بعضهم بعضًا”.
(1/506)
الباب الرَّابع والخمسون في ذكر المادَّة التي خلق منها الحور العين وما ذكِر فيها من الآثار وذكر صفاتهنَّ ومعرفتهنَّ اليوم بأزواجهنَّ
فأمَّا المادَّة التي خلق منها الحور العين:
فقد روى البيهقى من حديث الحارث بن خليفة، قال حدثنا شعبة، حدثنا إسماعيل بن عُليَّة عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “الحورُ العينِ خُلِقْنَ من الزعفران” (1).
قال البيهقي: “وهذا منكرٌ بهذا الإسناد، لا يصح عن ابن علية”. قلتُ: ولكنَّه حديث فيه شعبة.
وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن رشدين حدثنا علي بن الحسن بن هارون الأنصاري حدثني الليث بن ابنة (2) الليث بن أبي سليم قال:
(1) أخرجه البيهقي في البعثِ والنشور رقم (391)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة (384)، والخطيب في تاريخ بغداد (7/ 101 – 102).
لكن ليسَ في سند البيهقي “شعبة”، وإنَّما هو عند الخطيب وأبي نعيم، والطريق الَّذي أخرجه البيهقي ذكره الخطيب وقال: “لم يذكر بينهما شعبة، وهو أشبه بالصواب” ثمَّ ذكره من طريقين عن الحارث بن خليفة بدون ذكر شعبة.
قلتُ: الحارث بن خليفة قال أبو حاتم: “مجهول”. الجرح والتعديل (3/ 74).
(2) سقط من “أ”، ووقع في “ب”، ونسخة على حاشية “أ” “أبيه” بدل “ابنة”.
(1/507)
حدثتني عائشة بنت يونس امرأة الليث بن أبي سُليم عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن أبي أُمامة رضي اللَّهُ عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “خُلِقَ الحورُ العين من الزعفران” (1) .
قال الطبراني: “لا يروى إلَّا بهذا الإسناد، تفرَّد به علي بن الحسن ابن هارون”.
قلتُ: وقد رواهُ إسحاق بن راهويه، عن عائشة بنت يونس قالت: سمعتُ زوجي ليث بن أبي سُليم يحدِّث عن مجاهد فذكره موقوفًا عليه، وهو أشبه بالصواب.
ورواهُ عُقبة بن مُكْرَم عن عبد اللَّه بن زياد عن ليث عن مجاهد عن
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط (1/ 95) رقم (288)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة (385).
والحديث منكر مرفوعًا، صوابه كما ذهب إليه المؤلِّف أنَّهُ من قول مجاهد كما سيأتي، والحديث مدارهُ على ليث بن أبي سليم وهو مخلَّط.
قال ابن كثير: “وهو حديث غريب جدًّا”.
- فرواهُ عقبة عن عبد اللَّه بن زياد عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس قوله. أخرجه البيهقي في البعث (390).
- ورواهُ عمرو بن سعد وعائشة امرأة ليث وعطاء بن جبلة كلهم عن ليث عن مجاهد قوله.
أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة (302، 366)، والطبري (27/ 178)، والبيهقي في البعث (389)، وحرب في مسائله (407). - ورواهُ إبراهيم بن محمد الأسلمي عن ليث قال: بلغني أنَّ الحور العين فذكره. أخرجه الطبري (27/ 178).
(1/508)
ابن عباس قوله.
ولا يصح رفع الحديث، وحسبه أن يصل إلى ابن عباس.
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: “إنَّ لوليِّ اللَّه في الجنَّة عروسًا لم يَلِدْها آدم ولا حواء، ولكن خُلقت من زعفران” (1) .
وهذا مروي عن صحابيين وهما: ابن عباس وأنس، وعن تابعيين: وهما أبو سلمة ومجاهد، وبكلِّ حالٍ فهنَّ من المنشآت في الجنَّة لسْنَ مولودات بين الآباء والأمهات، واللَّهُ أعلم.
وقد رواهُ الطبراني من حديث عبيد اللَّه بن زحر عن علي بن زيد عن القاسم عن أبي أُمامة رضي اللَّه عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (2) .
وهذا الإسنادُ لا يُحْتَجُّ به.
ورواهُ أبو نعيم: حدثنا علي بن محمد الطوسي، حدثنا علي بن سعيد حدثنا محمد بن إسماعيل الحساني حدثنا منصور بن المهاجر حدثنا أبو النضر الأبار، عن أنس رضي اللَّه عنه يرفعه: “لو أنَّ حوراء
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة (303).
وسنده ضعيف جدًّا، فيه منصور بن عمار الواعظ، والعُمري.
انظر: لسان الميزان (6/ 131).
(2) أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 237) رقم (7813)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (383).
والحديث كما قال المؤلِّف: لا يحتجُّ به. وقد ضعَّفه أيضًا الهيثمي في المجمع (10/ 419).
(1/509)
بصقت في سبعة أبحر لعذب البحار من عذوبة فمها، وخلق الحور العين من الزعفران” (1) .
وإذا كانت هذه الخِلْقة الآدمية التي هي من أحسن الصور وأجملها، مادَّتها من تراب وجاءت الصورة من أحسن الصور، فما الظنُّ بصورةٍ مخلوقةٍ من مادة الزعفران الَّذي هناك! فاللَّه المستعان.
وقد روى أبو نعيم: من حديث عيسى بن يوسف بن الطباع حدثنا حلبس بن محمد الكلابي، حدثنا سفيان الثوري، حدثنا المغيرة، حدثنا إبراهيم النخعي عن علقمة عن عبد اللَّه بن مسعود قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “سطع نورٌ في الجنَّة، فرفعوا رؤوسهم، فإذا هوَ من ثغر حوراء ضحكت في وجه زوجها” (2) .
(1) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (386).
وسنده ضعيف، منصور بن المهاجر لم يوثقه أحد، وقال ابن حجر: “مستور”. انظر: تهذيب الكمال (28/ 555).
وله إسناد آخر: يرويه نصر بن مزاحم عن عمرو بن سعد عن شيخ من أهل البصرة عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. أخرجه ابن أبي الدنيا رقم (364).
وإسنادهُ ضعيف جدًّا، نصر بن مزاحم متروك الحديث.
(2) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة (381)، وابن عدي في الكامل (2/ 457)، والخطيب في تاريخه (8/ 247)، و (11/ 163).
وفيه حلبس هذا: وهو متروك الحديث، وقال ابن عدي: “منكر الحديث عن الثقات”.
والحديث لا يصح، قال ابن عدي: “وهذا حديث منكر عن سفيان”، وقال الذهبي: “هذا باطل”.
والأقربُ أنَّه من قول سفيان الثوري، كما سيأتي عند المؤلِّف في =
(1/510)
وروى بقية بن الوليد حدثنا بَحِيْر بن سعد عن خالد بن معدان عن كثير بن مرَّة قال: “إنَّ منَ المزيد أن تمرَّ السحابةُ بأهل الجنَّة فتقول: فما تريدون أن أمطركم؟ فلا يتمنون شيئًا إلَّا مطروا: قال: يقول كثير: لئن أشهدني اللَّه ذلك لأقولنَّ: أمطرينا جواري مُزَيَّنات” (1) .
وقد رُويَ في مادة خلقهن صفة أخرى:
قال ابن أبي الدنيا: حدثنا خالد بن خداش، حدثنا عبد اللَّه بن وهب، حدثنا سعيد بن أيوب، عن عُقَيل بن خالد، عن الزهري أنَّ ابن عباس قال: “إنَّ في الجنَّة نهرًا يقال له البيذخ، عليه قباب من ياقوت، تحته جوارِ ناشئاتٍ يقول أهل الجنَّة: انطلقوا بنا إلى البيذخ، فيجيئون فيتصفَّحون تلك الجواري فإذا أعجب رجلًا منهم جارية مسَّ مِعْصَمَهَا فتتبعه” (2) .
وقال الليث بن سعد: عن يزيد بن أبي حبيب عن الوليد بن عبدة (3) قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لجبريل: “يا جبريل قفْ بي على الحور العين، فأوقفه عليهنَّ، فقال: من أنتنَّ؟ فقلن: نحن جواري قومٍ كرامٍ حَلُّوا فلم
= ص (515 – 516).
(1) أخرجه ابن المبارك في الزهد، ونعيم في زوائده على الزهد رقم (240)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة (309)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (382).
وسنده صحيح إلى كثير بن مُرَّة.
(2) تقدم ص (390).
(3) كذا في “أ، ب، ج، د” وفي “هـ”: “عبيدة”، وعند ابن أبي الدنيا “عمرو بن الوليد”.
(1/511)
يظعنوا، وشبُّوا فلم يهرموا، ونَقُوا فلم يَدْرَنُوا” (1) .
وقال ابن المبارك: أنبأنا يحيى بن أيوب عن عبيد اللَّه بن زَحْر عن خالد بن أبي عمران عن أبي عياش (2) قال: كُنَّا جلوسًا مع كعب يومًا فقال: “لو أنَّ يدًا من الحور دُلَّيت من السماء لأضاءتْ لها الأرض؛ كما تضيء الشمس لأهل الدنيا، ثمَّ قال: إنَّما قلتُ: يدها، فكيف بالوجه في بياضه وحسنه وجماله! ” (3) .
وفي “مسند الإمام أحمد” من حديث كثير بن مرَّة عن معاذ بن جبل رضي اللَّه عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلَّا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلكِ اللَّهُ، فإنَّما هو عندك دخيل يوشك أنْ يفارقك إلينا” (4) .
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (301).
وهو مرسل، وليس في الصحابة من اسمه عمرو بن الوليد.
(2) في جميع النسخ “ابن عباس”، والتصويب من مصدري التخريج.
(3) أخرجه ابن المبارك في الزهدِ -رواية نعيم- رقم (256)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (308) وفيه زيادة وسنده ضعيف، فيه عبيد اللَّه بن زحر وهو ضعيف.
(4) أخرجه أحمد في المسند (5/ 242)، والترمذي (1174)، وابن ماجه (2014)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة (310)، والطبراني في مسند الشاميين رقم (1166)، وأبو نعيم في الحلية (5/ 220) وغيرهم.
من طريق إسماعيل بن عياش عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن كثير بن مرَّة به فذكره.
قال الترمذي: “هذا حديث غريب، لا نعرفه إلَّا من هذا الوجه، ورواية إسماعيل بن عياش عن الشاميين أصلح، وله عن أهل الحجاز وأهل العراق =
(1/512)
وفي مراسيل عكرمة عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ الحور العين لأكثر عددًا منكُنَّ، يدعون لأزواجهنَّ يَقُلْنَ: الَّلهم أَعِنْهُ على دينك، وأقْبِل بقلبه على طاعتك، وبلَّغه بعزتك يا أرحم الرَّاحمين” (1) .
ذكرهُ ابن أبي الدنيا من حديث أُسامة بن زيد عن عطاء عنه.
وذكر الأوزاعي عن حسَّان بن عطية عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه قال: “إنَّ في الجنَّة حوراء يُقال لها: اللُّعبة، كل حور الجنان يعجبن بها، يضربن بأيديهنَّ على كتفها ويقلنَ: طوبى لك يا لعبةُ، لو يعلم الطالبون لك لَجَدُّوا، مكتوبٌ بين عينيها: من كان يبتغي أنْ يكون له (2) مثلي فليعمل برضى ربي” (3) .
وقال عطاء السليمي لمالك بن دينار: يا أبا يحيى شوَّقنا، قال: “يا عطاء إنَّ في الجنَّة حوراء يتباهى أهل الجنَّة بحسنها، لولا أنَّ اللَّهَ تعالى كتب على أهل الجنَّة ألا يموتوا لماتوا من حُسْنها، فلم يزل عطاء
= مناكير”.
وقال أبو نعيم: “غريب من حديث خالد عن كثير، تفرَّد به بحير”.
قال الذهبي في السير (4/ 47): “. . . وإسناده صحيح متصل”.
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (311).
وهو مرسل ضعيف جدًّا، فيه الواقدي: متروك الحديث، وأسامة بن زيد: فيه لين، وإرسال عكرمة للحديث.
(2) سقط من “أ”.
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (312). وسنده منقطع، حسان بن عطية لم يُدرك ابن مسعود.
(1/513)
جَهِدًا (1) من قول مالك أربعين عامًا ” (3) .
وقال أحمد بن أبي الحواري: حدثني جعفر بن محمد قال: لقي حكيم حكيمًا، فقال: “أتشتاق إلى الحور العين؟ فقال: لا، فقال: فاشتق إليهنَّ، فإنَّ نور وجوهِهِنَّ من نور اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فغشيَ عليه، فحمل إلى منزله فجعلنا نعوده شهرًا” (4) .
وقال ربيعة بن كلثوم: “نظر إلينا الحسن ونحن حوله شباب فقال: يا معشر الشباب، أما تشتاقون إلى الحور العين؟ ” (5) .
وقال ابن أبي الحواري حدثني الحضرمي قال: “نمتُ أنا وأبو حمزة على سطحٍ، فجعلتُ أنظرُ إليهِ يتقلَّبُ على فراشه إلى الصباح، فقلت: يا أبا حمزة ما رقدتَ الليلة؟ فقال: إنَّي لمَّا اضطجعتُ تمثَّلت لي حوراء حتَّى كأنِّي أحسَسْت بجلدها قد مسَّ جلدي، فحدَّثتُ به أبا سليمان فقال: هذا رجلٌ كان مشتاقًا” (6) .
وقال ابن أبي الحواري: سمعتُ أبا سليمان يقول: “يُنشأ خلق الحور العين إنشاءً، فإذا تكاملَ خلقهنَّ ضربت عليهنَّ الملائكة الخيام” (7) .
(1) وقع في “ب” “كَمَدًا”، وفي “د” “كدًّا”.
(2) ما بين المعكوفتين من المطبوعة وابن أبي الدنيا.
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (313).
(4) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة (314).
(5) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (315) وسنده صحيح.
(6) أخرجه ابن ابي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (317).
(7) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (318).
(1/514)
وذكر ابن أبي الدنيا عن صالح المرِّي عن يزيد الرقاشي قال: “بلغني أنَّ نورًا سَطَعَ في الجنَّة لم يبقَ موضع من (1) الجنَّة إلَّا دخلَ من ذلك النور فيه، فقيل: ما هذا؟ قيل: حوراء ضحكت في وجه زوجها، قال صالح: فشهق رجلٌ من ناحية المجلس، فلم يزل يشهق حتَّى مات” (2) .
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا بشر بن الوليد حدثنا سعيد بن زَرْبي عن عبد الملك الجُوْنِي عن سعيد بن جبير قال: سمعتُ ابن عباس يقول: “لو أنَّ حوراء أخرجتْ كفَّها بين السَّماءِ والأرضِ لافتتنَ الخلائقُ بحسنها، ولو أخرجت نَصِيْفَها لكانت الشمس عند حسنه مثل الفتيلة في الشمس لا ضوء لها، ولو أخرجت وجهها لأضاء حسنها ما بين السماء والأرضِ” (3) .
وقال ابن أبي الدنيا: حدثني الحسن بن يحيى وكثير العنبري، حدثنا خزيمة أبو محمد عن سفيان الثوري قال: “سطع نورٌ في الجنَّة لم (4) يبقَ موضعٌ في (5) الجنَّة إلَّا دخل فيه من ذلك النور، فنظروا
(1) وقع في “ب، ج، هـ”: “في”.
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (363).
وفي سنده صالح المري: فيه ضعف.
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا كما في الترغيب والترهيب (4/ 535).
وفيه سعيد بن زربي وهو منكر الحديث.
(4) هكذا في جميع النسخ، ويحتمل “فلم”.
(5) في “ب، د”: “من”.
(1/515)
فوجدوا ذلك من حوراء ضحكت في وجه زوجها” (1) .
ورواه الخطيبُ في “تاريخه” من حديث عبيد اللَّه (2) بن محمد الكرخي، قال: حدثني عيسى بن يوسف بن الطباع، حدثنا حلبس بن محمد حدثنا سفيان الثوري عن مغيرة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد اللَّه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “سَطَعَ نورٌ في الجنَّة فرفعوا رؤوسهم فإذا هو من ثَغْرِ حوراء ضحكت في وجه زوجها” (3) .
وقال الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير: “إذا سَبَّحت المرأة من الحورِ العينِ لم يبقَ شجرةٌ في الجنَّة إلَّا وردَّت عليها (4) ” (5) .
وقال ابن المبارك: حدثنا الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير: “أنَّ الحورَ العين يتلقين أزواجهنَّ عند أبواب الجنَّة فيقلن: طالما انتظرناكم فنحن الراضيات فلا نسخط، والمقيمات فلا نظعن، والخالداتُ فلا نموتُ، بأحسن أصوات سُمِعت وتقول: أنت حِبِّي وأنا حِبك، ليس دونك تقصير (6) ولا وراءك معدل” (7) .
(1) لم أقف عليه، وقد تقدم ذكر المرفوع ص (509).
(2) في “ج”: “عبد اللَّه”.
(3) “تاريخ بغداد” (11/ 163)، وتقدم في ص (509)، الكلام عليه.
(4) من “أ”، ووقع في نسخة على حاشية “أ” “لها”، وليس في باقي النسخ.
(5) لم أقف عليه.
(6) كذا في جميع النسخ، وعند المبارك “مقصر”.
(7) أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- رقم (435)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (268). وسنده صحيح.
(1/516)
الباب الخامس والخمسون: في ذكر نكاح أهل الجنَّة ووطئهم والتذاذهم بذلك أكمل لذَّةٍ، ونزاهة ذلك عن المذي والمني والضعف، وأنَّه لا يُوجبُ غُسلًا
قد تقدم حديث أبي هريرة: قيل يا رسول اللَّه، أنفضي إلى نسائنا في الجنة؟ فقال: “إن الرجل ليَصِلُ في اليوم إلى مئة عذراء” (1)، وأنَّ إسناده صحيح.
وتقدم حديث أبي موسى المتفق على صحته: “إن للمؤمن في الجنة خيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلًا، لهُ فيها أهلون يطوف عليهم” (2).
وحديث أنس: “يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا من الجماع (3) ” (4) وصححه الترمذي.
وروى الطبراني، وعبد اللَّه بن أحمد، وغيرهم من حديث لقيط بن عامر أنه قال: يا رسول اللَّه على ما نطلع من الجنة؟ قال: “على أنهار من عسل مُصفَّى، وأنهار من كأس ما بها صداع ولا ندامة، وأنهار من
(1) تقدم ص (503).
(2) تقدم ص (296).
(3) وقع جميع النسخ: “النساء” وهو خطأ.
(4) تقدم ص (505).
(1/517)
لبن لم يتغير طعمه، وماء غير آسن، وفاكهة، لَعَمْرُ إلهك ممَّا تعلمون، وخير من مثله، وأزواج مطهَّرة”. قلتُ: يا رسول اللَّهِ أَوَ لَنَا فيها أزواج مصلحاتٌ؟ قال: “الصالحات للصالحين، تلذذوا بهنَّ (1) مثل لذَّاتكم (2) في الدنيا ويَلْذَذْنَ بكم (3) ، غير أن لا توالد” (4) .
وقال ابن وهبٍ: أخبرني عمرو بن الحارث عن درَّاجٍ عن ابن حُجيرة عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: يا رسول اللَّه أنطأ في الجنَّة؟ قال: نعم والَّذي نفسي بيده دَحْمًا دَحْمًا (5) ، فإذا قام عنها رجعت مطهَّرةً بكرًا” (6) .
(1) قوله: “تلذُّون بهنَّ” في “د”: “تلذونهن”.
(2) في “هـ”: “لذاذتكم”.
(3) في “ب، ج، د”: “ويَلْذَذْنكم”، وفي “هـ”: “ويلذون بكم”.
(4) تقدم ص (371)، وراجع الكلام عليه ص (127).
(5) دَحْمًا: هو النكاح والوطء بدفع وإزعاج، والتكرار للتأكيد.
انظر النهاية (2/ 106).
(6) أخرجه ابن حبان في صحيحه (16/ 415 و 416) رقم (7402)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة (393).
قال الضياء المقدسي في صفة الجنَّة ص (131 – 132): “ابن حجيرة: اسمه عبد الرحمن، ودرَّاج اسمه عبد الرحمن بن سمعان البصري، وثَّقه يحيى ابن معين، وأخرجه عنه أبو حاتم بن حبان في صحيحه، وكان بعض الأئمة ينكر بعض حديثه”.
- ورواهُ أسد بن موسى عن ابن لهيعة عن ابن حجيرة به بمثله.
ورواهُ محمد بن حازم عن راشد بن سعد عن أبي هريرة بمثله.
أخرجهما ابن حبيب في وصف الفردوس رقم (196, 197).
(1/518)
وقال الطبراني: حدثنا إبراهيمُ بن جابر الفقيه، حدثنا محمد بن عبد الملك الدقيقي الواسطي، حدثنا معلَّى (1) بن عبد الرحمن الواسطي حدثنا شريك عن عاصم الأحول عن أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ أهل الجنَّة إذا جامعوا نساءهم عُدْنَ أبكارًا” (2) .
قال الطبراني: “لم يروه عن عاصمٍ إلَّا شريك تفرَّد به معلَّى” (3) .
قال الطبراني: وحدثنا عبدانُ بن أحمد حدثنا محمد بن عبد الرحيم (4) البرقي، حدثنا عمرو بن أبي سلمة حدثنا صدقة عن هاشم بن زيد عن سليم أبي (5) يحيى أنَّه سمع أبا أُمامة رضي اللَّه عنه يحدث أنَّه سمع رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وسئل: هل يتناكح أهلُ الجنَّة؟ قال: بِذَكَرٍ لا يَمَلُّ، وشهوةٍ لا تنقطع، دَحْمًا دَحْمًا” (6) .
(1) في “ب، د، هـ”: “يعلى”، وفي “ج” “محمد” وكلاهما خطأ.
(2) أخرجه الطبراني في الصغير (1/ 160) رقم (249)، وأبو الشيخ في العظمة رقم (583)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (365 و 392)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 930) رقم (1551) وغيرهم.
والحديث موضوع، تفرَّد به معلَّى بن عبد الرحمن وهو كذَّاب، ومتَّهمٌ بالوضع، انظر: تهذيب الكمال (28/ 289 – 291).
(3) وقع في جميع النسخ “يعْلى” وهو خطأ.
(4) في نسخةٍ على حاشية “أ”: “عبد الرحمن”.
(5) في “د”: “سليم بن أبي” وهو خطأ.
(6) أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 202) رقم (7721)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة (368).
وسنده ضعيف؛ فيه: هاشم بن زيد وصدقه بن عبد اللَّه السَّمين ضعيفان. =
(1/519)
قال الطبراني: وحدثنا أحمد بن يحيى الحلواني حدثنا سويد بن سعيد حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه عن خالد بن معدان عن أبي أُمامة أنَّ رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سُئِلَ: أيجامعُ أهلُ الجنَّة؟ قال: دَحْمًا دَحْمًا، ولكن لا مَنِيَّ ولا مَنِيَّة” (1) .
وهاشم وخالد، وإنْ تُكلَّمَ فيهما فليس الاعتماد عليهما، وقوله: “لا مَنِيَّ ولا مَنِيَّة” أي: لا إنزال ولا موت.
وقال أبو نعيم: حدثنا أبو علي محمد بن أحمد حدثنا بشر بن موسى، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ حدثنا عبد الرحمن بن زياد حدثنا عمارة بن راشد عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه سُئِلَ: هل يَمَسُّ أهل الجنَّة أزواجهم؟ قال: نعم، بذَكَرٍ لا يَمَلُّ، وفرْجٍ لا يحْفَى، وشهوةٍ لا تنقطع” (2) .
= انظر: تهذيب الكمال (13/ 135)، والجرح والتعديل (9/ 103).
وله طريق آخر عن سليم بن عامر أبي يحيى عن أبي أُمامة.
عند الطبراني (7674) وغيره وسنده ضعيف جدًّا.
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 113) رقم (7479)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (271 و 367)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (367)، والبيهقي في البعث رقم (407) وغيرهم.
والحديث ضعيف جدًّا، مدارهُ على خالد بن يزيد، وهو متروك، وكذَّبه ابن معين.
(2) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (366)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (270)، والبزار كما في كشف الأستار رقم (3524) وغيرهم.
من طريق عبد اللَّه بن يزيد المقرئ عن عبد الرحمن بن زياد به مثله.
- ورواهُ عبدة بن سليمان وجعفر بن عون كلاهما عن عبد الرحمن بن زياد =
(1/520)
وقال الحسنُ بن سفيان في “مسنده”: حدثنا هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن يزيد (1) عن القاسم عن أبي أُمامة رضى اللَّهُ عنه قال: سُئِلَ رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: هل ينكح أهل الجنَّة؟ قال: “إي والَّذي بعثني بالحقِّ دَحْمًا دحْمًا – وأشار بيده – ولكن لا مَنِيَّ ولا مَنِيَّة” (2) .
وقال سعيد بن منصور: حدثنا سفيانُ عن أبي (3) عمرو عن عكرمة في قوله تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) } [يس: 55] قال: “في افتضاض الأبكار” (4) .
= عن عمارة عن أبي هريرة قوله.
وهذا الاضطراب من عبد الرحمن بن زياد الأفريقي -وهو ضعيف-، وأيضًا عمارة بن راشد الكناني: قال فيه أبو حاتم: مجهول، وأيضًا روايته عن أبي هريرة مرسلة. انظر: الجرح والتعديل (6/ 365).
فالحديث مع وقفه، ضعيف الإسناد، واللَّه أعلم.
(1) في جميع النسخ “زيد” وهو خطأ.
(2) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (369) من طريق الحسن بن سفيان به مثله.
وسنده ضعيف جدًّا، فيه علي بن يزيد الألهاني ضعيف، وعثمان بن أبي العاتكة ضعيف في روايته عن علي بن يزيد، وقد ضعَّف أبو حاتم هذه السلسلة: علي عن القاسم عن أبي أُمامة فقال: “ليست بالقويَّة هي ضعاف”. انظر: تهذيب الكمال (21/ 180 – 182).
(3) سقط من جميع النسخ، انظر: الموضح للخطيب (2/ 341 – 343).
(4) أخرجه البيهقي في البعث (401) والخطيب في الموضح (2/ 342) من طريق سعيد بن منصور به مثله.
- ورواه علي بن حرب عن سفيان بن عيينة به مثله.
أخرجه الخطيب في الموضح (2/ 341 – 342). =
(1/521)
وقال عبد اللَّه بن أحمد: حدثنا أبو الربيع الزهراني ومحمد بن حميد: قالا: حدثنا يعقوبُ بن عبد اللَّه (1) حدثنا حفصُ بن حُميد عن شِمْر بن عطية عن شقيق بن سلمة عن عبد اللَّه بن مسعود في قوله تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) } قال: “شُغْلُهم افتضاض العَذَارَى” (2) .
= – وقد اضطرب فيه أبو عمرو القاص واسمه محمد بن عبد الرحمن بن خالد ابن ميسرة القاص:
- فرواهُ أسباط بن محمد من رواية ابنه عبيد، والحسن الطهوي وأسد بن موسى عنه، وسليمان التيمي – في الرواية الرَّاجحة عنه – عن أبي عمرو القاص عن عكرمة عن ابن عباس فذكرهُ.
أخرجه الطبري (23/ 18)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (277)، وابن حبيب في وصف الفردوس رقم (201).
ورواهُ هناد بن السري في الزهد (89) عن أسباط بن محمد عن أبي عمرو عن عكرمة قوله. - ورواهُ الثوري عن أبي عمرو عن عكرمة قوله.
أخرجه ابن المبارك في الزهد رقم (1586).
وعليه فالأثرُ مضطرب الإسناد، وأبو عمرو هذا لم يوثقه إلَّا ابن حبان، وأيضًا لم يتابع أبو عمرو عليه فحسْبُهُ إن صحَّ أنْ يكون من قول عكرمة كما رواهُ الثوري وابن عيينة وهو أشبه، واللَّه أعلم.
وقد جاء عن ابن عباس من وجوه ولا تثبت.
انظر: تفسير ابن وهب (1/ 22)، وابن حبيب فى وصف الفردوس ص (90)، والقرطبي (15/ 43).
(1) وقع في “أ، ج”: “عبيد اللَّه” وهو خطأ، انظر: الجرح والتعديل (9/ 209 – 210).
(2) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنة (375)، وابن أبي الدنيا رقم (276)، والطبري =
(1/522)
وقال الحاكم: أنبأنا الأصمُّ أنبأنا العباس بن الوليد، أخبرني شعيب، عن الأوزاعي في قول اللَّهِ تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) } قال: “شغلهم افتضاض الأبكار” (1) .
وقال مقاتل: “شُغِلُوا بافتضاض العذارى عن أهل النَّارِ فلا يذكرونهم ولا يهْتمُّون لهم” (2) .
وقال أبو الأحوص: “شُغِلوا بافتضاض الأبكارِ على السُّرر في الحِجَالِ” (3) .
وقال سليمان التيمي عن أبي مِجْلَزٍ: قلتُ لابن عباس: قولُ اللَّهِ تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) } ما شغلهم؟ قال: “افتضاض الأبكارِ” (4) .
= في تفسيره (23/ 17 – 18) والحكيم الترمذي في مشكل القرآن كما في تفسير القرطبي (15/ 43)، وسند حسن.
(1) أخرجه البيهقي في البعث رقم (400) وسنده صحيح.
(2) انظر تفسير مقاتل (3/ 89).
(3) لم أقف عليه.
(4) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنة رقم (376).
من طريق سهل بن زياد الطحان عن سليمان التيمي به فذكره.
وسهل هذا: قال الأزدي “منكر الحديث”. اللسان (3/ 135).
وقد خولف سهل في سنده:
فرواه يزيد بن زريع -كما سيأتي قريبًا- ومعتمر بن سليمان كلاهما عن سليمان التيمي عن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس فذكره.
أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة رقم (277) والطبري (23/ 18). =
(1/523)
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا فُضيل بن عبد الوهاب حدثنا يزيد بن زُريع عن سليمان التيمي عن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس {فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) } قال: “في افتضاض العذارى”.
حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا يحيى بن يمان، عن أشعث عن جعفر عن سعيد بن جُبير [قال]: “إنَّ شهوته لتجري فى جسدها سبعين عامًا تجدُ الَّلذة” (1) .
ولا يلحقهم بذلك جَنَابة، فيحتاجون إلى التَّطهير، ولا ضعف ولا انحِلال قوَّةٍ، بل وطؤهم وطءُ التذاذٍ ونعيم، لا آفة فيه بوجهٍ من الوجوه”. وأكملُ النَّاسِ فيه أصونهم لنفسه في هذه الدَّارِ عن الحرامِ، فكما أنَّ من شربَ الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة، ومن لبسَ الحرير في الدنيا لم يَلْبسْهُ في الآخرة، ومَنْ أكل في صحاف الذهب والفضة في الدنيا لم يأكل فيها في الآخرة، كما قال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة” (2) .
فمن استوفى طيباته ولذاته وأذهبها في هذه الدار (3) حُرِمَها هناك، كما نعى (4) سبحانه وتعالى على من أذْهَبَ طيباته في الدنيا واستمتع بها، ولهذا كان الصحابة – ومن تبعهم – يخافون من ذلك أشد الخوف،
= وهذا هو الصحيح عن سليمان التيمي، وقد تقدم قريبًا ذكر الاختلاف فيه.
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة رقم (278) مختصرًا.
(2) تقدم ص (417).
(3) في “ب” “الدنيا”.
(4) في “أ، ج، هـ”: “نفى”.
(1/524)
وذكر الإمام أحمد، عن جابر بن عبد اللَّه: “أنه رآه عمر ومعه لحم قد اشتراه لأهله بدرهم، فقال: ما هذا؟ قال: لحم اشتريته لأهلي بدرهم، فقال: أوكلما اشتهى أحدكم شيئًا اشتراه! أما سمعت اللَّه تعالى يقول: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} الأحقاف: 20 .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا جرير بن حازم، قال: حدثنا الحسن قال: قدم وفد أهل البصرة مع أبي موسى على عمر، فكنا ندخل عليه كل يوم وله خبز يُلَتُّ (2) ، ربما وافقناها مأدومة بالسمن، وربما وافقناها مأدومة بالزيت، وربما وافقناها مأدومة باللبن، وربما وافقنا القدائد (3) اليابسة، قد دقت ثم أغلي بها، وربما وافقنا اللحم الغريض وهو قليل، فقال ذات يوم: إني واللَّه قد أرى تعذيركم (4) وكراهيتكم لطعامي، إني واللَّه لو شئت لكنت من ألينكم
(1) أخرجه أحمد في الزهد رقم (651).
من طريق الأعمش عن بعض أصحابه قال: مرَّ جابر بن عبد اللَّه فذكره.
- ورواهُ عبد اللَّه بن عمر العمري -ضعيف- عن وهب بن كيسان عن جابر فذكر نحوه.
أخرجه أبو داود في الزهدِ رقم (64).
وهذا يدلُّ على أنَّ للحديث أصلًا ثابتًا.
(2) اضطربت النسخ في هذه الَّلفظة، ففي “أ، هـ” “ثلاثة”، وفي “ب، ج، د” “ثلثة”. ولعلَّ الصوابُ ما أثبته كما جاء عند ابن المبارك وغيره.
واللَّتُّ: الخلطُ.
(3) وقع في “ج”: “القرائد”.
(4) في “د”: “تقديركم”، وفي نسخةٍ على حاشية “أ” “تعزيركم”. والتعذير: التقصير في الأكلِ.
(1/525)
طعامًا، وأرقَّكم عيشًا، ولكني سمعت اللَّه تعالى عيَّرَ قومًا بأمر فعلوه، فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} الأحقاف: 20 .
فمن ترك اللذة المحرمة للَّه استوفاها يوم القيامة أكمل ما تكون، ومن استوفاها ها هنا حُرِمَها هناك، أو نقص كمالها، فلا يجعل اللَّه لذة من أوضع في معاصيه ومحارمه، كلذة من ترك شهوته للَّه أبدًا (2) ، واللَّه أعلم.
(1) أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 49)، وابن سعد في الطبقات (3/ 279)، والبلاذري في الأنساب في ترجمة الشيخين ص (184).
- ورواهُ ابن المبارك وحماد بن أُسامة ومحمد بن أبان الواسطي كلهم عن جرير بن حازم به نحوه.
أخرجه ابن المبارك في الزهد (579)، وابن سعد في الطبقات (3/ 279)، والبلاذري في الأنساب ص (184).
وأخرجه عبد اللَّه بن أحمد في زوائد الزهد رقم (593) من طريق سليم بن أخضر عن جعفر “لعلَّه العطاردي” عن الحسن قال: أنبأنا الأحنفُ بن قيس قال كُنَّا نشهد طعام عمر رضي اللَّهُ عنه فيومًا لحمًا غريضًا، ويومًا قديدًا، ويومًا زيتًا.
وسندهُ صحيح، وهذا يدلُّ أنَّ لتلك القصَّة أصلًا صحيحًا.
ورواها عبد الرحمن بن أبي ليلى وقتادة نحوه.
عند أبي نعيم في الحلية (1/ 49)، والبلاذري ص (187).
(2) في “هـ”: “للَّه تعالى” بدل “للَّه أبدًا”.
(1/526)
الباب السادس والخمسون: في اختلاف الناس هل في الجنة حَمْلٌ وَوِلادة أم لا؟
قال الترمذي في “جامعه”: حدثنا بندار، حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن عامر الأحول، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-، قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنُّه في ساعةٍ، كما يشتهي” (1).
قال: “هذا حديثٌ حسنٌ غريب”. وقد اختلفَ أهل العلم في هذا:
(1) أخرجه الترمذي برقم (2563)، وابن ماجه (4338)، وأحمد (3/ 9 و 80)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة (280)، وابن حبان في صحيحه رقم (7404)، وأبو الشيخ في العظمة رقم (585) وغيرهم.
من طريق: محمد بن بشار بندار والقواريري عبيد اللَّه بن عمر وأبو هاشم محمد بن يزيد الرفاعي وعلي بن المديني كلهم عن معاذ به مثله.
ورواهُ عمرو بن علي الفلاس عن معاذ عن أبيه عن عاصم الأحول به بلفظ: “إذا أراد المؤمن الولد، فإنَّ حمله ووضعه وشبابه في ساعةٍ، كما يشتهي”.
أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة (2/ 124) رقم (275).
ورواية الجماعة أصحُّ وأثبت.
والحديث صححه ابن حبان وحسنه الترمذي مع قوله: غريب، لوروده من وجهٍ آخر.
وأشار البخاري إلى تفرده، وإلى المخالفة في متنه لحديث أبي رزين العقيلي.
وعامر الأحول في حفظه مقال.
(1/527)
فقال بعضهم: في الجنَّة جماع، ولا يكون ولد، هكذا روي عن طاووس ومجاهد وإبراهيم النخعي (1) .
وقال محمد -يعني البخاري-: قال إسحاق بن إبراهيم في حديث النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إذا اشتهى المؤمن الولدَ في الجنَّة كان في ساعة كما يَشتهي” ولكن لا يشتهي. قال محمد: وقد روي عن أبي رَزِين العُقَيلي عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ أهل الجنَّة لا يكون لهم فيها ولد”. وأبو الصديق الناجي: اسمه بكر بن عمرو، ويقال: بكر بن قيس” انتهى كلام الترمذي.
قلتُ: إسناد حديث أبي سعيد على شرط الصحيح، فرجاله محتج بهم فيه؛ ولكنَّه غريب جدًّا، وتأويل إسحاق فيه نظر، فإنَّه قال: “إذا اشتهى المؤمنُ الولد. فـ “إذا” للمُتَحَقَّقِ (2) الوقوع، ولو أُريِد ما ذكره من المعنى لقال: لو اشتهى المؤمن الولد لكان حمله في ساعة، فإنَّ ما لا يكون أحقَّ بأداة “لو” كما أنَّ المحقَّقَ الوقوع أحقُّ بأداةِ “إذا”.
وقد قال أبو نعيم: حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا أحمد (3) بن
(1) ويضاف إليهم: عطاء بن أبي رباح، وعطاء الخراساني، وقتادة وهو ثابتٌ عنهم كلهم.
انظر: مصنف عبد الرزاق (11/ 420 و 421)، والزهد لهناد رقم (91، 92)، وصفة الجنَّة لابن أبي الدنيا رقم (282 و 293)، وتفسير الطبري (1/ 175 – 176).
(2) في “ب، د”: “للمحقَّق”، وفي “هـ”: “لتحقيق”.
(3) قوله: “حدثنا أحمد” سقط من “هـ”.
(1/528)
إسحاق حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا سفيان الثوري، عن أبان، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال: قيل يا رسول اللَّه، أيولَدُ لأهلِ الجنَّة، فإنَّ الولدَ من تمام السرور؟ فقال: “نعم والَّذي نفسي بيده، وما هو إلَّا كقدر ما يتمنَّى أحدكم فيكون حمله ورضاعه وشبابُه” (1) .
حدثنا أبو الحسن علي بن إبراهيم بن أحمد الرَّازي بمكة حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن إدريس حدثنا سليمان بن داود القزَّاز، حدثنا يحيى بن حفص الأسدي، قال: سمعتُ أبا عمرو بن العلاء، يُحَدِّثُ عن جعفر بن زيد (2) العبدي عن أبي الصديق النَّاجي عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ الرجلَ من أهل الجنَّة ليولد له كما يشتهي، فيكون حمله وفصاله وشبابه في ساعةٍ واحدةٍ” (3) .
(1) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (275)، وهناد في الزهد رقم (93)، وعبد بن حميد في مسنده “المنتخب رقم 937”.
وسنده ضعيف جدًّا، فيه أبان ابن أبي عياش: متروك الحديث. انظر: التقريب رقم (142).
(2) في “هـ”: “ثوبان”، وفي باقي النسخ “ثور”، والتصويب من الجرح والتعديل (2/ 480)، والبعث للبيهقي.
(3) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة (2/ 124) رقم (275)، وفي أخبار أصبهان (2/ 296)، والبيهقي في البعث رقم (442).
وفيه: يحيى بن حفص الأسدي: لم أقف عليه، فإنْ كان هو الكرخي فهو لا يعرف. انظر: اللسان (6/ 328).
(1/529)
وحديث معاذُ بن هشام، قال فيه بُنْدَار: عامر الأحول، وقال عمرو ابن علي: عاصم الأحول.
وقال الحاكمُ: أنبأنا الأصم، حدثنا محمد بن عيسى حدثنا سلَّام ابن سليمان، حدثتا سلَّام الطويل عن زيد العمِّي عن أبي الصديق النَّاجي عن أبي سعيد الخدري يرفعه: “إنَّ الرجل من أهل الجنَّة ليشتهي الولدَ في الجنَّة، فيكون حمله وفصاله وشبابه في ساعةٍ واحدةٍ” (1) .
قال البيهقي: “هذا إسناد ضعيف بمرَّة”.
وأمَّا حديث أبي رَزِين الَّذي أشارَ إليه البخاري فهو حديثه الطويل، ونحن نسوقه بطوله نجمِّل به الكتاب فعليه من الجلالة والمهابة ونورِ النبوة ما ينادي على صِحَّته.
قال عبد اللَّه بن الإمام أحمد في “مسند أبيه”: كتب إليَّ (2) إبراهيم ابن حمزة بن محمد بن حمزة (3) بن مصعب بن الزبير الزبيري (4) : كتبت إليك بهذا الحديث وقد عرضته وسمعتهُ على ما كتبتُ به إليك، فحدِّث بذلك عنَّي، قال: حدثني عبد الرحمن بن المغيرة الخزامي قال: حدثني عبد الرحمن بن عيَّاش السَّمَعِي (5) الأنصاري –
(1) أخرجه البيهقي في البعث رقم (440).
وهو ضعيف جدًّا، فيه سلَّام الطويل: متروك الحديث.
(2) سقط من “هـ”.
(3) قوله “بن حمزة” من “هـ”.
(4) من “أ، ب، هـ”.
(5) قوله: “عياش السَّمَعِي” في جميع النسخ “عابس المسمعي” وهو خطأ، ووقع =
(1/530)
من بني عمرو بن عوف – عن دَلْهم بن الأسود بن عبد اللَّه بن حاجب بن عامر بن المُنْتَفِق العُقَيلي عن أبيه عن عمِّه لقيط بن عامر قال دَلْهم: وحدَّثنيه أيضًا (1) أبي الأسودُ عن عاصم بن لَقِيْط: أنَّ لقيطًا خرج وافدًا إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ومعه صاحبٌ له يُقال له نَهِيْك بن عاصم بن مالك بن المنتفق. قال لقيط: فخرجتُ أنا وصاحبي حتى قدمنا على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حين انصرف من صلاة الغداة، فقام في النَّاسِ خطيبًا فقال: “أيها النَّاسُ ألَا إنِّي قد خبأتُ لكم صوتي منذ أربعة أيَّامٍ ألا لأُسْمِعنَّكُم (2) ، ألَا فَهَلْ من امْرئٍ بعثه قومه؟ فقالوا: اعلم لنا ما يقول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ ألا ثُمَّ لعله أنْ يلهيه حديثُ نفسه، أو حديث صاحبه أو يلهيه الضَّلال، ألَا وإنِّي مسؤول هل بلَّغْتُ، ألا اسمعوا تعيشوا، ألا اجلسوا، ألا اجلسوا، قال: فجلس النَّاسُ، وقمتُ أنا وصاحبي، حتَّى إذا فرَّغ لنا فؤاده وبصره، قلتُ: يا رسول اللَّهِ ما عندك من علم الغيب؟ فضحك لعَمْرُ اللَّهِ وهزَّ رأسهُ، وعلم أنِّي أبتغي سَقْطَةً (3) ، فقال: ضَنَّ ربُّكَ عزَّ وجلَّ بمفاتيح خمس من الغيب لا يعلمها إلَّا اللَّهُ، وأشار بيده، قلتُ: وما هي؟ قال: علم المَنِيَّة، قد عَلِمَ متى منية أحدكم ولا تعلمونه، وعِلْم المنيِّ حين يكون في الرَّحم قد علمه ولا تعلمون (4) ، وعلم ما في غدٍ ما أنت طاعمٌ غدًا، ولا تعلمه، وعلم يوم الغيث يشرف
= في “هـ” “عباس” بدل “عياش” وقد قيل به.
(1) من “د”.
(2) في “ب”: “لأسمعكم”.
(3) جاء في “المسند” “لسقطه”، وفي نسخةٍ على “د” “مظرة”.
(4) من قوله “وعلم المني” إلى “تعلمون” من “د”.
(1/531)
عليكم أزلين مشفقين، فيظل يضحك، قد علم أنَّ غِيَرَكُم إلى قرب” (1) ، قال لقيط: قلتُ: لن نعدم من ربٍّ يضحك خيرًا، وعلمَ يوم السَّاعة، قلتُ: يا رسول اللَّه، علمنا مما تُعَلَّمُ النَّاسَ، وما تَعْلَمُ، فإنَّا من قَبيلٍ لا يصدقون تصديقنا أحد: من مَذْحِج التي تَرْبُوا علينا، وخثعم التي توالينا، وعشيرتنا التي نحن منها. قال: تلبثون ما لبثتم، ثمَّ يُتَوفَّى نبيكم، ثمَّ تلبثون ما لبثتم، ثمَّ تُبْعَثُ الصائحة، لعَمْرُ إلهِكَ ما تدَعُ على ظهرها شيئًا إلَّا ماتَ، والملائكة الَّذين مع ربِّك عزَّ وجلَّ، فأصبحَ ربُّكَ عزَّ وجلَّ يطوفُ في الأرضِ وخلَتْ عليه البلاد، فأرسل ربُّك عزَّ وجلَّ السماء بهَضْبٍ (2) من عند العرشِ، فلعمرُ إلهك ما تدعُ على ظهرها من مصرع (3) قتيل، ولا مدفن ميت إلَّا شقَّت القبر عنه، حتَّى تخلقه (4) من عند رأسهِ، فيستوي جالسًا، فيقول ربك: مَهْيَمْ (5) ، لما كان فيه. يقول: يا رب أمِتْني اليوم، ولعهده بالحياةِ يحسبه حديثًا بأهله، فقلتُ: يا رسول اللَّه، كيف يجمعنا بعدما تُمزقنا الرِّياح والبِلَى والسِّباع؟ قال: أُنْبِئُك بمثل ذلك في آلاءِ اللَّه: الأرض، أشرفت عليهَا وهي مدرة بالية، فقَلت: لا تحيا أبدًا، ثمَّ أرسل ربك عزَّ وجل عليها السماء فلم تلبث عليك إلَّا أيَّامًا حتى أشْرفْتَ عليها، وهي شَرَبَّة واحدة، ولَعَمْرُ إلهك لهو أقدرُ على أنْ يجمعهم من الماءِ على أنْ يجمع نبات الأرضِ،
(1) في “ب، ج، د، هـ”: “إليَّ قريب”.
(2) في “د”: “تهضِب”. والمراد: المطر
(3) في نسخةٍ على “د”: “مفزع”.
(4) في “هـ” ونسخةٍ على “أ”: “تجعله” وفي “أ، ج”: “تخلفه”.
(5) كلمة استفهام، أي: ما حالك؟ وما شأنك، أو: ما وراءك. الوسيط، ص (929).
(1/532)
فيخرجون من الأصواء (1) ، ومن مصارعهم، فتنظرون إليه وينظر إليكم (2) ، قال: قلتُ: يا رسول اللَّه، فكيف ونحن ملء الأرض، وهو شخص واحد ينظر إلينا وننظرُ إليه، قال: أُنْبِئُك بمثل ذلك في آلاءِ اللَّه عزَّ وجلَّ: الشمس والقمر آية منه صغيرة ترونهما ويريانكم ساعةً واحدةً، لا تضارون في رؤيتهما، ولعمرُ إلهك، لهو أقدرُ على أنْ يراكم وترونه منهما (3) ، قلتُ: يا رسول اللَّهِ، فما يفعل ربنا عزَّ وجلَّ، إذا لقيناه؟ قال: تعرضون عليه باديةً له صَفَحاتكم لا يخفى عليه منكم خافية، فيأخذ ربك عزَّ وجلَّ بيده غُرْفَةً من الماءِ فينضح قِبَلكم (4) بها، فلعمرُ إلهك ما تخطئ وجه أحدكم منها قطرة، فأمَّا المسلم فتدع وجهه مثل الرَّيطة (5) البيضاء، وأمَّا الكافرُ فتخطمه بمثل الحُمم الأسود، ألا ثُمَّ ينصرف نبيكم -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويفترقُ على أثرهِ الصَّالحون، فيسلكون جسْرًا من النَّارِ، فيطأ أحدكم الجمرة فيقول: حَسِّ (6) ، فيقول ربك: أَوَانُهُ، فتطَّلِعُون على حوضِ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- على ظمإ -واللَّه- ناهلة قط رأيتها، فلعمرُ إلهك ما يبسط واحد منكم يدهُ إلَّا وقعَ عليها قدح مطهرة من
(1) الأصواء: القبور. من حاشية (د).
(2) في “أ”: “إليهم”.
(3) كتب ناسخ “أ” عليها “كذا”، وفي المسند “من أنْ ترونهما ويريانكم، لا تضارون في رؤيتهما”.
(4) في بعض نسخ المسند “فيبلُّكم”.
(5) الرَّيطة: كل ملاءة ليست بِلِفْقَين، وقيل: كل ثوب رقيق ليِّن.
النِّهاية (2/ 289).
(6) كلمة تُقال عند الألم المفاجئ. الوسيط ص (194).
(1/533)
الطَّوْف (1) والبول والأذى، وتُحْبس الشمس والقمرِ، فلا ترون منهما واحدًا، قال: قلتُ: يا رسول اللَّهِ فَبِمَا نُبْصِرُ؟ قال: بمثل بصرك ساعتك هذه، وذلك مع طلوع الشمس في يوم أشرقته الأرض، ثمَّ واجهته الجبال. قال: قلتُ: يا رسول اللَّهِ فَبمَا نُجْزَى من حسناتنا وسيئاتنا؟ قال: الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها إلَّا أنْ يعفو، قال: قلتُ: يا رسول اللَّهِ ما الجنَّة، ما النَّار؟ قال: لعمرُ إلهك إنَّ للنَّارِ سبعة أبوابٍ ما منهنَّ بابان إلَّا يسير الرَّاكبُ بينهما سبعين عامًا، قال: قلتُ: يا رسول اللَّهِ فعلى ما نطَّلِعُ من الجنَّة؟ قال: على أنهار من عَسَلٍ مصفَّى، وأنَّهارٍ من كأس ما بها من صداع ولا ندامة، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وماءٍ غير آسنٍ، وبفاكهةٍ لَعَمْرُ إلهك ما تعلمون وخير من مثله معه، وأزواج مطهرة، قلتُ: يا رسول اللَّه، ولنا فيها أزواج أو منهنَّ مُصْلحات؟ قال: الصالحات للصالحين، تلذوا بهنَّ (2) مثل لذَّاتكم في الدنيا، ويلذذن (3) بكم غير أنْ لا توالد، قال لقيط: فقلتُ: أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه، فلم يجبه النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. فقلتُ: يا رسول اللَّه على ما أبايعك؟ قال فبسط النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يده، وقال: على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وَزِيَال الشرك، وأنْ لا تشرك باللَّه إلهًا غيره. قال: قلتُ: وإنَّ لنا ما بين المشرق والمغرب؟ فقبض النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يده وظن أنِّي مشترطٌ شيئًا لا يعطينيه. قال: قلتُ: نَحُلُّ منها حيث شئنا، ولا يجني
(1) جاء في حاشية “د”: “الطوف: الغائط”.
(2) في “د، ظ”: “تلذونهنَّ”، وفي “تلذون بهنَّ” وفي “هـ”: “تلذُّ بهنَّ”.
(3) في “أ، هـ”: “يلذوا بكم”، وفي “ب، د” “يلذُذْنكم”، وفي “ج”: “يلذونكم”.
(1/534)
على امرؤٍ إلَّا نفسه، فبسط يده، وقال: ذلك لك تَحُلُّ حيث شئت، ولا يجني عليك إلَّا نفسك، قال: فانصرفنا عنه، ثمَّ قال: إنَّ هذين (1) لعمر إلهك من أتقى (2) النَّاسِ في الأولى والآخرة، فقال له كعب بن الخُداريَّة أخو بني بكر بن كلاب: مَنْ هم يا رسول اللَّه؟ قال: بنو المنتفق أهلُ ذلك، قال: فانصرفنا وأقبلْتُ عليه فقلتُ: يا رسول اللَّه، هل لأحدٍ ممن (3) مضى من خيرٍ في جاهليتهم؟ قال: قال رجل من عُرْضِ قُريش: واللَّه إنَّ أباك المنتفق لفي النَّارِ، قال فَلَكأنَّه (4) وقع حَرٌّ بين جِلْدي ووجهي ولحمي مما قال لأبي على رؤوس (5) الناس: فهممت أن أقول: وأبوك يا رسول اللَّه، ثم إذا الأخرى أجمل، فقلت: يا رسول اللَّه وأهلك؟ فقال: “وأهلي لعمر اللَّه ما أتيت عليه من قبرِ عامريًّ أو قرشيًّ من مشرك فقل: أرسلني إليك محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأبشرك بما يسوءك، تُجَرُّ على وجهك وبطنك في النار”. قال: قلت: يا رسول اللَّه ما فعل بهم ذلك، وقد كانوا على عمل لا يُحسنون (6) إلَّا إيَّاهُ، وكانوا يحسبونهم مصلحين؟ قال: ذلك لأنَّ (7) اللَّه عزَّ وجلَّ بعث في
(1) قوله “إنَّ هذين” من المسند، ووقع في جميع النسخ “ها إن ذين، ها إن ذين. . . إن حدثت إلَّا أنهما” وفي بعض النسخ “. . إنَّ حديث إلَّا أنَّها”.
(2) في “د”: “أبقى”.
(3) في “أ، ج، د، هـ”: “مما”.
(4) في نسخة على حاشية “أ”: “فكأنَّهُ”.
(5) في نسخةٍ على حاشية “أ” “رسوس”.
(6) في “أ”: “يحسبون”، وفي “ج”: “يحبُّون”.
(7) في “أ، ب، هـ”: “بأنَّ”.
(1/535)
آخر كلِّ سبع أُمم -يعني نبيًا – فمن عصى نبيَّه كان من الضَّالين، ومن أطاعَ نبيه كان من المهتدين” (1) .
هذا حديثٌ كبيرٌ مشهورٌ لا يعرف إلَّا من حديث أبي القاسم عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن المدني (2) ، ثمَّ من رواية إبراهيم ابن حمزة الزبيري المدني عنه، وهما من كبار علماء المدينة المحتج بهما في الصحيح، احتج بهما إمام المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري، وروى عنهما في مواضع من كتابه. رواهُ أئمة الحديث في كتبهم، منهم: أبو عبد الرحمن عبد اللَّه بن الإمام أحمد، وأبو بكر أحمد ابن عمرو بن أبي عاصم، وأبو القاسم الطبراني، وأبو الشيخ الحافظ، وأبو عبد اللَّه بن منده، والحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه، والحافظ أبو نعيم الأصبهاني وغيرهم على سبيل القبول والتسليم.
قال الحافظُ أبو عبد اللَّه بن منده: روى هذا الحديث محمد بن إسحاق الصَّغاني، وعبد اللَّه بن أحمد بن حنبل وغيرهما، وقرؤوه بالعراق بمجمع (3) العلماء وأهل الدَّين، فلم ينكره أحدٌ منهم، ولم يُتَكلم في إسناده، وكذلك أبو زرعة وأبو حاتم على سبيل القبول.
وقال أبو الخير بن حمدان: “هذا حديث كبير ثابتٌ حسن مشهور”.
وسألتُ شيخنا أبا الحجاج المِزَّي عنه فقال: “عليه جلالة النبوة”.
(1) تقدم الكلام عليه ص (126 – 127).
(2) في “أ”: “المديني”.
(3) في “ج، هـ”: “بجمع”.
(1/536)
قال نُفَاةُ الإيلاد: فهذا حديث صريحٌ في انتفاء الولد، وقوله: “إذا اشتهى” معلق بالشرط، ولا يلزم من التعليق وقوع المُعَلَّق ولا المعلق به، و”إذا” وإنْ كانت ظاهرةً في المحقَّق، فقد استعمل لمجرد التعليق الأعم من المحقَّق وغيره.
قالوا: وفي هذا الموضع يتعيَّن ذلك لوجوهٍ:
أحدها: حديث أبي رَزِين هذا.
الثاني: قوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25]، وهُنَّ الَّلاتي طُهَّرنَ من الحيض والنفاس والأذى.
قال سفيان: أنبأنا ابن أبي نجيح عن مجاهد: “مطهرة من الحيض والغائط والبول والنخام والبصاق والمني والولد” (1) .
وقال أبو معاوية: حدثنا ابن جريج عن عطاء: “أزواج مطهرة” قال: “من الولد والحيض، والغائط والبولِ” (2) .
الثالث: قوله: “غيرَ أنَّهُ لا مَنِي ولا مَنِيَّة” وقد تقدم (3) ، والولد إنَّما يخلق من ماء الرجل، فإذا لم يكن هناك مني ولا مذي ولا نفخ في الفرج لم يكن هناك إيلاد.
(1) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 64) رقم (26)، والطبري في تفسيره (1/ 176)، وسنده حسن.
(2) أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 176) وسنده صحيح.
(3) ص (520, 521).
(1/537)
الرَّابع: أنَّه قد ثبتَ في “الصحيح” (1) عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: “يبقى في الجنَّة فضلٌ فينشئُ اللَّه لها خلقًا فيسكنهم إيَّاها”، ولو كان في الجنَّة إيلاد لكان الفضل لأولادهم، وكانوا أحقَّ به من غيرهم.
الخامس: أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى جعل الحمل والولادة مع الحيض والمني، فلو كُنَّ النساء يحْبَلْنَ في الجنَّة لم يقطع عنهنَّ الحيض والإنزال.
السادس: أنَّ اللَّهَ سبحانه قدر التناسل في الدنيا؛ لأنَّه قدر الموت، وأخرجهم إلى هذه الدَّارِ قرنًا بعد قرنٍ، وجعل لهم أمَدًا ينتهون إليه، فلولا التناسل لبطل النوع الإنساني، ولهذا الملائكة لا تتناسل، فإنَّهم لا يموتون كما تموت الإنس والجنَّ، فإذا كان يوم القيامة أخرج اللَّهُ سبحانه النَّاسَ كلهم من الأرضِ، وأنشأهم للبقاءِ لا للموتِ فلا يحتاجون إلى تناسل يحفظ النوع الإنساني، إذ هو منشأ للبقاء والدوام، فلا أهل الجنَّة يتناسلون، ولا أهل النَّار (2) .
السابع: أنَّه سبحانه وتعالى قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ (3) بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (4) } [الطور: 21]. فأخبر سبحانه أنَّه يكرمهم بإلحاق ذُرِّياتهم الَّذين كانوا لهم في الدنيا، ولو كان ينشئ
(1) أخرجه مسلم (2848) من حديث أنس رضي اللَّه عنه.
(2) وقع في “د” إضافة “يتناسلون” لكنَّه ضرب عليها.
(3) هكذا قرأ أبو عمرو بن العلاء، وقرأ الجمهور بالإفراد {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} انظر النشر في القراءات العشر لابن الجزري (2/ 282).
(4) هكذا قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب، انظر المصدر السابق.
(1/538)
لهم في الجنَّة ذُرِّية أخرى، لذكرهم كما ذكر ذريتهم الَّذين كانوا في الدنيا؛ لأنَّ قُرَّة عيونهم كانت تكون بهم، كما كانت (1) بذرياتهم من أهل الدنيا.
الثامن: أنَّه (2) إمَّا أنْ يقال باستمرار التناسل فيها لا إلى غاية، أو إلى غاية ثمَّ ينقطع، وكلاهما ممَّا لا سبيل إلى القول به، لاستلزام الأوَّل: اجتماع أشخاص لا تتناهى. واستلزام الثاني: انقطاع نوع من لذَّة أهل الجنَّة وسرورهم، وهو محالٌ، ولا يمكن أنْ يُقال: بتناسل يموت معه نسل ويخلفه نسل، إذ لا موت هناك.
التاسع: أنَّ الجنَّة لا ينمو فيها الإنسان كما ينمو في الدنيا، فلا ولدان أهلها ينمون ويكبرون (3) ولا الرجال ينمون (4) كما تقدم، بل هؤلاء ولدان صغار لا يتغيرون، وهؤلاء أبناء ثلاث وثلاثين لا يتغيرون، ولو كان في الجنَّة ولادة لكان المولود ينمو (5) ضرورة حتى يصير رجلًا، ومعلوم أنَّ من ماتَ من الأطفال يردون أبناء ثلاث وثلاثين من غير نموًّ. يوضحه:
الوجه العاشر: أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى ينشئ أهل الجنَّة نشأَة الملائكة، أو أكمل من نشأتهم، بحيث لا يبولون ولا يتغوطون ولا
(1) في “ب، ج، د، هـ” “هي”.
(2) ليس في “أ”.
(3) في “أ، ج، د، هـ”: “ويكثرون”، والمثبت أولى.
(4) في “هـ” “ولا الرجل ينمو”.
(5) في جميع النسخ “ينمي” وكتب عليها ناسخ “أ” “كذا”.
(1/539)
ينامون، ويلهمون التسبيح ولا يهرمون على تطاول الأحقاب، ولا تنمو أبدانهم، بل القدر الَّذي جعلوا عليه لازمٌ لهم أبدًا، واللَّه تعالى أعلمُ.
فهذا ما في هذه المسألة.
فأمَّا قولُ بعضهم: إنَّ القُدْرة صالحة، والكلَّ ممكن. وقول آخرين (1) : إنَّ الجنَّة دار المكلفين التي يستحقونها بالعملِ. وأمثال هذه المباحث فرخيصة، وهي في كتب النَّاسِ، وباللهِ التوفيقِ.
وقال الحاكمُ: “قال الأستاذُ أبو سهل: أهل الزيغ ينكرون هذا الحديث -يعني: حديث الولادة في الجنَّة – وقد رُوِيَ فيه غير إسناد، وسُئِلَ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ذلك فقال: يكون ذلك على نحوٍ ممَّا روينا، واللَّه سبحانه وتعالى يقول: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71]، وليس بالمستحيل أنْ يشتهي المؤمنُ – الممكن من شهواته، المصفَّى المقرَّب المسلَّط على لذَّاته – قُرَّة عين، وثمرة فؤاد من الَّذين أنعم اللَّهُ عليهم بأزواجٍ مطهرة.
فإنْ قيل: ففي الحديث أنَّهنَّ لا يحضن ولا يَنْفَسْنَ فأنَّى يكون الولد؟
قلتُ: الحيضُ سببُ الولادة المُمْتدّ أمَدُهُ بالحملِ على الكره والوضع عليه، كما أنَّ جميع ملاذَّ الدنيا من المشارب والمطاعم والملابس على ما عُرِفَ من التعب والنصبِ، وما يَعْقبهُ كلُّ منها (2) ،
(1) في “ب، ج”: “الآخرين”.
(2) في “ب، ج، د، هـ”: “منهما”.
(1/540)
ممَّا يُحْذرُ منه ويُخاف من عواقبه، وهذه خمرةُ الدنيا المحرمة المستولية على كلِّ بَلِيَّةِ قد أعدَّها اللَّهُ تعالى لأهل الجنَّة منزوعة البلية، مُوَفَّرة (1) الَّلذة، فلمَ لا يجوزُ أنْ يكون على مثله الولدُ؟ انتهى كلامه” (2) .
قلتُ: النَّافون للولادة في الجنَّة لم ينفوها لزيغ في قلوبهم، ولكن لحديث أبي رزين “غيرَ أنْ لا توالد” وقد حكينا قول (3) عطاء وغيره “أنَّهنَّ مطهرات من الحيض والولد” (4) .
وقد حكى الترمذي عن أهل العلم من السلف والخلف في ذلك قولين، وحكينا قول إسحاق بإنكاره، وقال أبو أُمامة رضي اللَّهُ عنه في حديثه: “غيرَ أنْ لا مَنيَّ ولا منيَّة”، والجنَّة ليست دار تناسل، بل دار بقاء وخلد، لا يموت من فيها فيقوم نسله مقامه.
وحديث أبي سعيد الخدري هذا أجودُ أسانيده إسنادُ الترمذي، وقد حكم بغرابته، وأنَّه لا يُعْرف إلَّا من حديث أبي الصِّديق النَّاجي، وقد اضطرب لفظه: فتارةً يروى عنه: “إذا اشتهى الولد”، وتارة: “إنَّه ليشتهي الولد”، وتارةً: “إنَّ الرجل من أهل الجنَّة ليولد له” فاللَّه أعلمُ، فإنْ كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد قاله، فهو الحقُّ الَّذي لا شكَّ فيه، وهذه الألفاظ لا تنافي بينها، ولا تُناقِضُ حديث أبي رزين “غيرَ أنْ لا توالد”
(1) في “ب”: “مغفورة”.
(2) ذكره البيهقي في البعث والنشور ص (220 – 221) رقم (442).
(3) في “هـ”: “من قول”.
(4) تقدم ص (537).
(1/541)
إذ ذلك نفيٌ للتوالد المعهود في الدنيا، ولا ينفي ولادةً، حمل الولد فيها ووضعه وسنه وشبابه في ساعةٍ واحدة.
فهذا ما انتهى إليه عِلْمنا القاصر في هذه المسألة، ولقد أتينا فيها بما لعلَّك لا تجده في غير هذا الكتاب، واللَّهُ أعلمُ بالصواب.
(1/542)
الباب السابع والخمسون: في ذكر سماع الجنَّة وغناء الحور العين وما فيه من الطَّرَبِ والَّلذة
قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)} [الروم: 14 – 15].
قال محمد بن جرير: حدثني محمد بن موسى الحَرَشي، حدثنا عامر بن يساف قال: سألتُ يحيى بن أبي كثير عن قوله عزَّ وجلَّ: {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)} [الروم: 15] قال: “الحَبْرةُ: اللَّذة والسماع” (1).
حدثنا عبد اللَّه بن محمد الفريابي، حدثنا ضمرة بن ربيعة، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير في قوله: {يُحْبَرُونَ (15)} قال: “السماع في الجنة” (2).
ولا يخالف هذا قول ابن عباس: “يُكْرَمُون” (3). وقول مجاهد، وقتادة: “ينعمون” (4) فلذة الأذن بالسماع من الحبرة والنعيم.
(1) أخرجه الطبري في تفسيره (21/ 28)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (263). وسنده لا بأس به.
(2) أخرجه الطبري (21/ 28)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/ 62) (34010)، وهناد في الزهد رقم (4)، والبيهقي في البعث (419) وغيرهم.
وسنده صحيح.
(3) أخرجه الطبري (21/ 28) وسنده حسن.
(4) أخرجه الطبري في تفسيره (21/ 28).
عن مجاهد بسند حسن. وعن قتادة بسندٍ صحيح.
(1/543)
وقال الترمذي: حدثنا هنَّاد وأحمد بن منيع قالا: حدثنا أبو معاوية عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن النعمان بن سعد، عن عليًّ قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إن في الجنة لمجتمعًا للحور العين يرفعن بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها، يقلن: نحن الخالدات فلا نبيد، ونحن الناعمات (2) فلا نبأس، ونحن الراضيات فلا نسخط، طوبى لمن كان لنا وكنا له” (3) .
“وفي الباب عن أبي هريرة، وأبي سعيد، وأنس، وحديث علي: حديث غريب”.
قلت: وفي الباب عن ابن أبي أوفى، وأبي أمامة، وعبد اللَّه بن عمر أيضًا.
فأما حديث أبي هريرة: فقال جعفر الفريابي: حدثنا سعيد بن حفص، حدثنا محمد بن سلمة (4) ، عن أبي عبد الرحيم، عن زيد بن أبي أُنَيْسَة، عن المنهال بن عمرو، عن أبي صالح، عن أبي هريرة
(1) ما بين المعكوفتين سقط من النسخ، واستدركته من مصادر التخريج.
(2) في نسخةٍ على “أ”: “النَّعِمَات”.
(3) أخرجه الترمذي رقم (2564) و (2550)، وهناد في الزهد (9)، وعبد اللَّه بن أحمد في زوائده على المسند (1/ 156)، وابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 55) رقم (33960) وغيرهم.
وسنده ضعيف: فيه عبد الرحمن بن إسحاق أبو شيبة: ضعيف، والنعمان ابن سعد: فيه جهالة.
انظر: تهذيب الكمال (16/ 515 – 517)، و (29/ 450).
(4) في “ج”: “مسلمة” وهو خطأ، انظر: تهذيب الكمال (10/ 390).
(1/544)
-رضي اللَّه عنه- قال: “إن في الجنة نهرًا طول الجنة، حافتاه العذارى قيام متقابلات، ويغنين بأصوات حتى يسمعها الخلائق، ما يرون في الجنة لذة مثلها، قلنا: يا أبا هريرة وما ذاك الغناء؟ قال: إن شاء اللَّه التسبيح والتحميد والتقديس وثناء على الرب عز وجل” (1) .
هكذا رواه موقوفًا.
وروى أبو نعيم في “صفة الجنة” من حديث مسلمة (2) بن علي، عن زيد بن واقد، عن رجل، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إن في الجنة شجرة جذوعها من ذهب، وفروعها من زبرجد ولؤلؤ، فتهبُّ لها ريح فيَصْطَفِقْن (3) ، فما سمع السامعون بصوت شيء قط ألذ منه” (4) .
وأما حديث أنس: فقال أبو نعيم: أنبأنا عبد اللَّه بن جعفر، حدثنا إسماعيل بن عبد اللَّه، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، حدثنا ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن عون بن الخطاب بن عبد اللَّه بن رافع،
(1) أخرجه البيهقي في البعثِ رقم (425).
وفيه سعيد بن حفص النفيلي أبو عمرو الحرَّاني لم يوثقه إلَّا ابن حبان ومسلمة الأندلسي، وكان قد كبر وتغيَّر في آخر عمره.
انظر: تهذيب الكمال (10/ 391).
(2) في نسخةٍ على “أ”: “سلمة” وهو خطأ.
(3) في “ب، هـ”، ونسخة على حاشية “أ”: “فتصفق”.
(4) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (433).
وفيه مسلمة بن علي الخشني: متروك الحديث، وأيضًا إبهام الرجل الراوي عن أبي هريرة.
(1/545)
عن ابنٍ لأنس؛ عن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إن الحور يغنين في الجنة: نحن الحور الحسان، خلقنا لأزواج كرام” (1) .
ورواه ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو خيثمة، حدثنا إسماعيل بن عمر،
(1) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (432).
ورواهُ كثير بن عبيد ومحمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم والحسن بن داود المنكدري وعبد الرحمن بن شيبة كلهم عن ابن أبي فديك به نحوه “على اختلاف في بعض الأسانيد”.
أخرجه البخاري في تاريخه الكبير (7/ 16)، وابن أبي داود في البعث رقم (75)، والطبراني في الأوسط (5/ 34) رقم (6497)، والبيهقي في البعث رقم (420).
- ورواهُ إسماعيل بن عمر “ثقة” عن ابن أبي ذئب به “رفعه أبو يعلى، وأرسله ابن أبي الدنيا”.
أخرجه أبو يعلى في مسنده كما في المطالب رقم (4609)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (260). - ورواهُ إسماعيل “لعله ابن أبي أُويس، في حفظه ضعف”، عن أخيه “عبد الحميد” عن ابن أبي ذئب عن عبد اللَّه بن رافع عن أنس فذكرهُ مرفوعًا.
أخرجه البخاري في تاريخه (7/ 16).
قلتُ: أخطأ إسماعيل في قوله: “عبد اللَّه بن رافع”. - ورواهُ آدم وشبابة بن سوار عن ابن أبي ذئب عمَّن سمعَ أنس بن مالك قوله موقوفًا.
أخرجه البخاري في تاريخه (7/ 16)، وابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 57) رقم (33977).
وهذا الاضطراب لعلَّه من عون بن الخطاب بن عبد اللَّه بن رافع، فإنَّهُ لم يرو عنه إلَّا ابن أبي ذئب، فهو شبه المجهول، وأيضًا فيه بعض ولد أنس لا يُدرى مَنْ هو، وعليه فالسند ضعيف.
(1/546)
حدثنا ابن أبي ذئب، عن أبي عبد اللَّه بن رافع، عن بعض ولد أنس فذكره.
وأما حديث ابن أبي أوفى: فقال أبو نعيم: حدثنا عبد اللَّه بن (1) محمد بن جعفر من أصله، حدثنا موسى بن هارون، حدثنا حامد بن يحيى البلخي، حدثنا يونس بن محمد المؤدب، حدثنا الوليد بن أبي ثور، حدثني سعد الطائي، عن عبد الرحمن بن سابط، عن ابن أبي أوفى رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “يزوج إلى كل واحد من أهل الجنة أربعة آلاف بكر، وثمانية آلاف أيِّم، ومئة حوراء، فيجتمعن في كل سبعة أيام، فيقلن بأصوات حسان، لم تسمع الخلائق بمثلهنَّ: نحن الخالداتُ فلا نبيد، ونحن النَّاعمات فلا نبأس، ونحن الرَّاضياتُ فلا نسخط، ونحن المقيمات فلا نظعن، طوبى لمن كان لنا وكُنَّا له” (2) .
(1) قوله “عبد اللَّه بن” سقط من جميع النسخ، وهو: أبو الشيخ الأصبهاني.
(2) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (378، 431)، وأبو الشيخ الأصبهاني في العظمة رقم (603).
والحديث فيه نكارة، ومدارهُ على الوليد بن أبي ثور، وقد ضعفه النسائي والدارقطني، وقال أبو حاتم: “شيخ يكتب حديثه، ولا يحتج به”، وقال ابن معين: “ليس بشيء”، وقال ابن نمير: “كذَّاب”، وقال أبو زرعة وابن حبان: منكر الحديث، زاد الأوَّل: يهم كثيرًا، والآخر: جدًّا.
انظر: تهذيب الكمال (31/ 32 – 35).
والحديث معروف من قول عبد الرحمن بن سابط، أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (279)، وأبو الشيخ في العظمة رقم (589)، والبيهقي في البعث رقم (413) من طريق ليث بن أبي سليم عن ابن سابط نحوه بأوَّله، وزاد =
(1/547)
وأمَّا حديث أبي أُمامة: فقال جعفر الفريابي: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه عن خالد بن معدان عن أبي أُمامة رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “ما مِنْ عَبْدٍ يدخلُ الجنَّة، إلَّا ويجلسُ عندَ رأسِهِ وعند رجليهِ ثنتان من الحُورِ العينِ، تُغنِّيانه بأحسن صوتٍ سَمعهُ الإنس والجنُّ، وليس بمزامير الشَّيطانِ” (1) .
وأمَّا حديث ابن عمر: فقال الطبراني: حدثنا أبو رفاعة عمارة بن وَثِيمَة بن موسى بن الفُرَات المصري، حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير عن زيد بن أسلم عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ أزواج أهل الجنَّة ليُغنِّين أزواجهنَّ بأحسنِ أصواتٍ سمعها أحدٌ قطُّ، وإنَّ ممَّا يغنين به: نحنُ الخيراتُ الحِسَانُ، أزواجُ قومٍ كرامٍ، ينظرن بقُرَّةِ أعيان، إنَّ مما يغنين به: نحن الخالدات فلا نُمتْنَه، نحنُ الآمناتُ فلا نخفنه، نحن المقيمات فلا نظعنَّه” (2) .
= ألفاظًا أخرى.
قال البيهقي: “هذا هو الصحيح من قول ابن سابط”.
(1) أخرجه البيهقي في البعث رقم (421)، والطبراني في الكبير (8/ 113) رقم (7478) بأوَّله وزاد لفظًا آخر.
والحديث ضعيف جدًّا مدارهُ على خالد بن يزيد بن أبي مالك، وهو متروك.
(2) أخرجه الطبراني في الصغير (2/ 35) رقم (734)، وفي الأوسط (3/ 391) رقم (3917)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة (322، 430).
فيه عمارة بن وثيمة، ذكره ابن يونس في تاريخه ولم يذكر فيه جرحًا ولا =
(1/548)
قال الطبراني: “لم يروه عن زيد بن أسلم إلَّا محمد، تفرَّد به ابن أبي مريم”.
وقال ابن وهب: حدثني سعيد بن أبي أيوب قال: قال رجلٌ من قريش لابن شهاب: هل في الجنَّة سماعٌ؛ فإنَّه حُبِّبَ إليَّ السماعُ؟ فقال: “إي والَّذي نفس ابن شهاب بيده، إنَّ في الجنَّة لشجرًا حمله اللؤلؤ والزبرجد، تحته جوارٍ ناهداتٍ يتغنين بالقرآن يقُلْنَ: نحنُ النَّاعمات فلا نبأس، ونحن الخالداتُ فلا نموت، فإذا سمع ذلك الشجر صَفَقَ بعضه بعضًا، فأجَبْنَ الجواري، فلا يُدرى أصواتُ الجواري أحسنُ، أم أصواتُ الشجر” (1) .
قال ابن وهب: وحدثنا الليث بن سعد عن خالد بن يزيد: “أنَّ الحورَ العين يغنين أزواجهنَّ فيقلن: نحنُ الخيراتُ الحِسَان، أزواجُ شباب (2) كرام، ونحن الخالدات فلا نموت، ونحن الناعمات فلا نبأس، ونحن الرَّاضيات فلا نسخط، ونحن المقيمات فلا نظعن، في صدر إحداهنَّ مكتوبٌ: أنت حِبِّي، وأنا حِبُّك، انتهت نفسي عندك، لم تَرَ عيناي مثلك” (3) .
= تعديلًا. وهو حديث غريب، وزيد بن أسلم لم يسمع من ابن عمر إلَّا حديثين قاله سفيان بن عيينة، وهما في البخاري، فالحديث منقطع الإسناد.
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (261).
وفيه انقطاع، لأنَّ سعيد بن أبي أيوب المصري، لم يسمع من الزهري، وإنَّما سمع من تلاميذ الزهري. انظر: تهذيب الكمال (10/ 342).
(2) في “ج”: “شبَّان”، والمثبت من مصدر النص وباقي النسخ.
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (262) وسنده لا بأس به.
(1/549)
وقال ابن المبارك: حدثنا الأوزاعي، حدثنا يحيى بن أبي كثير: “إنَّ الحورَ العينِ يتلقين أزواجهنَّ عندَ أبواب الجنَّة فيقلن: طالما انتظرناكم، فنحنُ الرَّاضيات فلا نسخط، والمقيمات فلا نظعن، والخالداتُ فلا نموت، بأحسن أصوات سُمِعَتْ تقول: أنتَ حِبِّي وأنا حبُّك ليس دونك مقصد (1) ، ولا وراءك مَعْدل” (2) .
(1) في “د” “مفضي”، وفي “ب” ونسخةٍ على “د” “مقضي”، ووقع عند ابن المبارك وفي “أ، ج، هـ”: “مقصر”، والمثبت من ابن أبي الدنيا.
(2) أخرجه ابن المبارك في الزهدِ -رواية نعيم- رقم (435)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (268).
وسنده صحيح.
(1/550)
فصل ولهم سماع أعلى من هذا
قال ابن أبي الدنيا: حدثني دَهْثَم بن الفضل القرشي، حدثنا روَّاد ابن الجرَّاح، عن الأوزاعي قال: “بلغني أنَّه ليس من خلق اللَّه أحسن صوتًا من إسرافيل، فيأمرهُ اللَّهُ تبارك وتعالى فيأخذ في السماع، فما يبقى ملكٌ في السماوات إلَّا قطع عليه صلاته، فيمكث بذلك ما شاء اللَّهُ أنْ يمكث، فيقول اللَّه عزَّ وجلَّ: وعزَّتي وجلالي (1) لو يعلمُ العبادُ قدرَ عظمتي (2) ما عبدوا غيري” (3).
وحدثني داود بن عمرو (4) الضبي، حدثنا عبد اللَّه بن المبارك عن مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر قال: “إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أينَ الَّذين كانوا ينزَّهون أسماعهم وأنفسهم عن مجالس الَّلهو ومزامير الشيطان، أسكنوهم رياضَ المسكِ، ثمَّ يقول للملائكة: أسمعوهم تمجيدي وتحميدي” (5).
(1) من نسخةٍ على حاشية “أ”، وهو في إحدى نسخ صفة الجنَّة لابن أبي الدنيا.
(2) في “د”: “عَطِيَّتي”.
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (264).
وفيه: دهثم بن الفضل لا يُعرف فيه جرح ولا تعديل.
انظر: تاريخ بغداد (8/ 382).
(4) في جميع النسخ “عمر” وهو خطأ، انظر: الجرح والتعديل (3/ 420).
(5) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (269) والَّلفظ له، وابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- رقم (43)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 151) نحوه.
وسنده صحيح.
(1/551)
وقال ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن الحسين حدثني عبد اللَّه بن أبي بكر، حدثنا جعفر بن سليمان، عن مالك بن دينار في قوله عزَّ وجلَّ: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) } [ص: 25] قال: “إذا كان يوم القيامة أمرَ بمنبر رفيعٍ فوضِع في الجنَّة، ثمَ نودي: يا داود مجِّدْني بذلك الصوت الحَسَنِ الرخيم الَّذي كنتَ تمجدني به في دار الدنيا، قال: فيستفرغ صوت داود نعيم أهل الجنان، فذلك قوله تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) } ” (1) .
وذكر حماد بن سلمة عن ثابت البُناني، وحجاج الأسود عن شهر ابن حوشب قال: “إنَّ اللَّهَ جلَّ ثناؤه يقول للملائكة: إنَّ عبادي كانوا يحبون الصَّوت الحسن في الدنيا، فيدعونه من أجلي فاسْمِعُوا عبادي، فيأخذوا بأصواتٍ من تهليلٍ وتسبيحٍ وتكبيرٍ لم يسمعوا بمثله قَطُّ” (2) .
قال عبد اللَّه بن الإمام أحمد في كتاب “الزهد” لأبيه: “حدثني علي بن مُسْلم الطُّوسي حدثنا سيار حدثنا جعفر حدثنا مالك ابن دينار في قوله عزَّ وجلَّ: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) } قال: “يقيم اللَّهُ سبحانه داود عند ساق العرش، فيقول: يا داود مجِّدني اليومَ
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (343).
ورواهُ شيبان وسيار عن جعفر به.
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره، كما عند ابن كثير (4/ 32)، والبيهقي في البعث رقم (424).
والأثر صحيح عن مالك بن دينار.
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (344).
(1/552)
بذلك الصوت الحسنِ الرَّخيم، فيقول: إلهي كيف أمجدك وقد سَلبْتنيه في دار الدنيا؟ قال: فيقول اللَّه عزَّ وجلَّ: فإنِّي أرده عليك، قال: فيرده عليه، فيزداد صوته، قال: فيستفرغ صوت داود نعيم أهل الجنَّة” (1) .
وقال ابن أبي الدنيا (2) : حدثنا مسلم بن إبراهيم الحراني (3) ، حدثنا مسكين بن بكير عن الأوزاعي، عن عبدة بن أبي لُبَابة قال: “إنَّ في الجنَّة شجرة ثمرها زبرجد وياقوت ولؤلؤ، فيبعث اللَّه ريحًا فتصفق، فيُسمع لها أصواتٌ لم يسمع ألذُّ منها” (4) .
حدثنا أبو بكر بن يزيد وإبراهيم بن سعيد قالا: حدثنا أبو عامر العَقَدِي، حدثنا زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام (5) عن عكرمة عن ابن عباس قال: “في الجنَّة شجرة على ساق قدر ما يسير الرَّاكبُ في “ظلَّها مئة عام، فيتحدثون في ظلها فيشتهي بعضهم، فيذكر لهو الدنيا،
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3240) رقم (18348)، وأحمد في الزهد، والحكيم الترمذي، وابن المنذر كما في الدرر (5/ 573)، والبيهقي في البعث والنشور رقم (424).
وفي سنده سيَّار فيه ضعف.
(2) في “أ، ج”: “داود” وهو خطأ.
(3) في “أ”: “الحوراني” وهو خطأ.
(4) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (265).
- ورواهُ علي بن معبد عن الأوزاعي به مثله.
أخرجه ابن حبيب في وصف الفردوس رقم (187).
وعليه فالإسناد حسن.
(5) في “د”: “وهران” وهو خطأ.
(1/553)
فيرسل اللَّه ريحًا من الجنَّة، فتحرك تلك الشجرة بكل لهوٍ كان في الدنيا” (1).
حدثني إبراهيم بن سعيد حدثنا علي بن عاصم حدثنا سعيد بنِ أبي سعيد الحارثي قال: “حُدَّثْتُ أنَّ في الجنَّة آجامًا من قَصَبٍ من ذَهَبٍ حملها اللؤلؤ، فإذا اشتهى أهل الجنَّة أنْ يسمعوا صوتًا حسنًا؛ بعث اللَّه على تلك الآجام ريحًا فتأتيهم بكل صوت يشتهونه” (2).
فصل
ولهم سماع أعلى من هذا يضمحل دونه كلُّ سماع، وذلك حين يسمعون كلام الرب جلَّ جلاله، وخِطَابه وسلامه عليهم، ومحاضرته لهم، ويقرأ عليهم كلامه، فإذا سمعوه منه، فكأنَّهم لم يسمعوه قبل ذلك، وسيمرُّ بك – أيها السُّنَّيُّ – من الأحاديث الصِّحاح والحسان في ذلك ما هو من (3) أحب سماع لك في الدنيا وألذه لأذنك، وأقرِّهِ لعينك، إذ ليس في الجنَّة لذَّةٌ أعظمُ من النظر إلى وجه الرَّبِّ تعالى، وسماعِ كلامه منه، ولا يُعْطَى أهل الجنَّة شيئًا أحبَّ إليهم من ذلك.
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (266)، وابن أبي حاتم في تفسيره كما في تفسير ابن كثير (4/ 310)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (404) وغيرهم.
قال ابن كثير: “هذا أثرٌ غريب، وإسنادهُ جيد قوي”.
لكن في سنده، زمعة بن صالح فيه ضعف، انظر: تهذيب الكمال (9/ 386 – 389).
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (267).
(3) ليس في “ب، هـ”.
(1/554)
وقد ذكر أبو الشيخ عن صالح بن حيَّان عن عبد اللَّه بن بُرَيْدة قال: “إنَّ أهلَ الجنَّة يدخلون كلَّ يومٍ مرَّتين على الجبَّارِ جلَّ جلاله فيقرأ عليهم القرآن، وقد جلسَ كلُّ امرئٍ منهم مجلسه الَّذي هو مجلسه على منابر الدرِّ والياقوت، والزبرجد والذهب والزمُرُّد، فلم تَقَرَّ أعينهم بشيءٍ، ولم يسمعوا شيئًا قطُّ أعظم ولا أحسنَ منه، ثمَّ ينصرفون إلى رحالهم ناعمين قرِيرة أعينهم، إلى مثلها من الغَدِ” (1) .
(1) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (270)، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول (2/ 6 ق/ ب).
وسنده ضعيف جدًّا: فيه صالح بن حيان القرشي ضعيف، وفيه المسيب ابن شريك متروك. انظر: لسان الميزان (6/ 47 – 48).
(1/555)
الباب الثامن والخمسون: في ذكر مطايا أهل الجنَّة وخيولهم ومراكبهم
قال الترمذي: حدثنا عبد اللَّه بن عبد الرحمن حدثنا عاصم بن علي حدثنا المسعودي عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بُريدة عن أبيه: أنَّ رجلًا سأل النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا رسول اللَّه: هل في الجنَّة من خيل؟ قال: إن اللَّهُ أدخلك الجنَّة فلا تشاءُ أن تُحمل فيها على فرس من ياقوتة حمراء يطير بك في الجنَّة حيث شئت إلَّا فعلت (1)، قال: وسأله رجل، فقال: يا رسول اللَّه! هل في الجنَّة من إبل؟ قال: فلم يقل ما قال لصاحبه، قال: إن يدخلك اللَّهُ الجنَّة يكن لك فيها ما اشتهت نفسُك ولذَّت عينُك” (2).
(1) قوله: “إلا فعلت” من الترمذي.
(2) أخرجه الترمذي رقم (2543)، وأحمد (5/ 352)، وابن أبي شيبة (7/ 57) رقم (33980)، والطيالسي في مسنده رقم (843) وغيرهم.
من طرق عن المسعودي به نحوه.
لكن رواهُ عنه مَنْ سمعوا منه بعد اختلاطه.
وأشارَ المؤلِّف إلى اضطراب علقمة فيه:
- فرواهُ حنش بن الحارث عن علقمة عن عبد الرحمن بن ساعدة مرفوعًا “هكذا رواهُ الأشعث بن شعبة -فيه جهالة- عن حنش.
أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة (424)، والبيهقي في البعث (439) وغيرهما. - ورواهُ سالم بن قتيبة “لم أقف عليه” عن علقمة عن رجل من الأنصارِ يقال له: عمير بن ساعد فذكره.
أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة (2/ 273) رقم (424). =
(1/556)
حدثنا سويد بن نصر، أنبأنا عبد اللَّه بن المبارك عن سفيان عن علقمة بن مرثد عن عبد الرحمن بن سابط عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نحوه بمعناه وهذا أصحُّ من حديث المسعودي.
حدثنا محمد بن إسماعيل بن سَمُرة الأحْمسِي حدثنا أبو معاوية عن واصل بن السائب عن أبي سَوْرة عن أبي أيوب قال: أتى النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أعرابيٌّ فقال: يا رسول اللَّهِ إنَّي أحبُّ الخيل أفي الجنة خَيْلٌ؟ قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إن أدخلت الجنَّة أُتيتَ بفرسٍ من ياقوتةٍ له جناحان فحملت
= – ورواهُ أبو طيبة عن علقمة عن أبي صالح عن أبي هريرة فذكره.
أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة (426) لكن السند إليه ضعيف، وأبو طيبة: عيسى بن سليمان ضعَّفه ابن معين، وقال ابن حبان في الثقات: يخطئ.
انظر: لسان الميزان (4/ 461 – 462).
- ورواهُ ميكائيل عن علقمة عن يحيى بن إسحاق عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة. أخرجه أبو نعيم (2/ 276) رقم (427).
وميكائيل فيه جهالة، وحديثه يدل على ضعفه. انظر: لسان الميزان (6/ 181). - ورواهُ الثوري عن علقمة عن عبد الرحمن بن سابط فذكره مرسلًا.
أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- رقم (271)، وعبد الرزاق في المصنف (3/ 564) رقم (6700) وغيرهما.
والَّذي يظهر أنَّ الاضطراب ليس من علقمة بن مرثد “ثقة” بل من الرواة عنه.
والصحيح رواية الثوري لإمامته وحفظه وإتقانه كما رجحه أبو حاتم الرَّازي والترمذي، فالحديث مرسل.
انظر: علل ابن أبي حاتم (2/ 215) رقم (2132)، والإصابة لابن حجر (5/ 150 – 151).
(1/557)
عليه، ثمَّ طار بك حيث شئت” (1) .
قال الترمذي: “هذا حديث ليس إسناده بالقوي، ولا نعرفه من حديث أبي أيوب إلَّا من هذا الوجه، وأبو سورة: هو ابن أخي أبي أيوب، يضعَّف في الحديث، ضعفه ابن معين جدًّا، قال: وسمعتُ محمد بن إسماعيل يقول: أبو سورة هذا منكر الحديث، يروي مناكير عن أبي أيوب لا يتابع عليه (2) “.
قلتُ: أمَّا حديث علقمة بن مرثد فقد اضطرب فيه علقمة:
فمرَّة يقول: عن سليمان بن بريدة عن أبيه.
ومرَّة يقول: عن عبد الرحمن بن سابط (3) عن عبد الرحمن (4) بن ساعدة قال: كنتُ أحبُّ الخيل، فقلتُ: هل في الجنَّة خيلٌ يا رسول اللَّهِ؟
ومرَّة يقول: قال رجلٌ من الأنصارِ يُقال له عمير بن ساعدة: يا رسول اللَّه.
(1) أخرجه الترمذي رقم (544)، والطبراني في الكبير (4/ 180) رقم (4075)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة (423).
وهو ضعيف جدًّا، واصل بن السائب: متروك الحديث، وأبو سورة ذكر الكلام فيه الترمذي.
(2) في “د”: “عليها”.
(3) قوله: “عبد الرحمن بن سابط” سقط من “هـ”.
(4) في “أ، ج”: “عمير”.
(1/558)
ومرَّة يقول: عن عبد الرحمن بن سابط عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-.
والترمذي جعل هذا أصحَّ من حديث المسعودي؛ لأنَّ سفيان أحفظ منه، وأثبت.
وقد رواهُ أبو نعيم من حديث علقمة هذا، فقال: عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه: أنَّ أعرابيًّا قال: يا رسول اللَّه! أفي الجنَّة إبلٌ؟ قال: يا أعرابي إنْ يُدخلك اللَّه الجنَّة رأيتَ فيها ما تشتهي نفسك وتلذُّ عينُك”.
ورواه أيضًا من حديث علقمة عن يحيى بن إسحاق عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في ذكر الجنَّة فقال: “والفردوس أعلاها سُمُوًّا، وأوسعها مَحَلَّةً، ومنها تفجر أنهار الجنَّة، وعليها يوضعُ العرش يومَ القيامة، فقام إليه رجلٌ، فقال: يا رسول اللَّهِ إنِّي رجلٌ حُبِّبَ إليَّ الخيل (1) ، فهل في الجنَّة خيل؟ قال: إي والَّذي نفسي بيده، إنَّ في الجنَّة لخيلًا وإبلًا هَفَّافةً ترفّ بين خلال ورق الجنَّة، يتزاورون عليها حيث شاؤوا، فقام إليه رجل فقال: يا رسول اللَّه! إنِّي حُبِّبَ إليَّ الإبل … وذكر الحديث.
وأمَّا حديث أبي سَوْرَة فلا يعرف إلَّا من حديث واصل بن السائب عنه، ولم يروه عنه غيره، وغير يحيى بن جابر الطائي.
وقد أخرج له أبو داود حديث: “ستُفتح عليكم الأمصارُ، وتجندون أجنادًا” (2) .
(1) وقع في “هـ”: “الخيل والإبل وذكر الحديث”.
(2) أخرجه أبو داود (2525)، وأحمد (5/ 413) وغيرهما من حديث أبي أيوب =
(1/559)
وأخرج له ابن ماجه عن أبي أيوب: “رأيتُ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- توضأ فخلَّل لحيته” (1) .
وحديثًا آخر في تفسير قوله تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] ” (2) .
وأخرج له الترمذي حديث: “خيل الجنَّة” (3) فقط.
ورواهُ أبو نعيم: من حديث جابر بن نوح عن واصل به وقال: “إنَّ أهل الجنَّة ليتزاورون على نجائب بيضٍ، كأنَّها الياقوت، وليس في الجنَّة من البهائم إلَّا الخيلُ والإبل” (4) .
وقال أبو الشيخ: حدثنا القاسمُ بن زكريا حدثنا سويد بن سعيد حدثنا مروان بن معاوية عن الحكم بن أبي خالد عن الحسن البصري عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما، عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إذا دخل أهل
= رضي اللَّه عنه.
وهو من منكراته عن أبي أيوب كما ذكر البخاري (ص/ 558).
(1) أخرجه ابن ماجه (433).
وسنده ضعيف جدًّا، واصل: متروك، وأبو سورة كما تقدم.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 243 – 244) رقم (25665)، والطبراني في الكبير (4/ 178) رقم (4065) وغيرهما من حديث أبي أيوب رضي اللَّه عنه.
وهو حديث منكر، عِلَّته ما سبق في الحديث قبله.
(3) كما تقدم قريبًا.
(4) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنة رقم (428)، والطبراني في الكبير (4/ 179) رقم (4069).
وهو ضعيف جدًّا، فيه واصل: متروك، وأبو سورة تقدم حاله.
(1/560)
الجنَّة الجنَّة جاءتهم خيولٌ من ياقوت أحمر، لها أجنحةٌ، لا تروث ولا تبول فقعدوا عليها، ثمَّ طارت بهم في الجنَّة، فيتجلى لهم الجبار، فإذا رأوه خرُّوا سجدًا فيقول لهم الجبار تبارك وتعالى: ارفعوا رؤوسكم فإنَّ هذا ليس بيوم عمل، إنَّما هو يوم نعيم وكرامة، قال: فيرفعون رؤوسهم، فيُمطر اللَّه تعالى عليهم طيبًا، فيمرُّون بكثبان المسك، فيبعث اللَّه على تلك الكثبان ريحًا، فتهيِّجها عليهم حتى إنَّهم ليرجعون إلى أهليهم وإنَّهم لشعث غُبْر” (1) .
وقال عبد اللَّه بن المبارك: حدثنا همام عن قتادة عن عبد اللَّه بن عمرو قال: “في الجنَّة عِتَاق الخيل، وكرائم النجائب يركبها أهلها” (2) .
(1) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (429)، والآجري في الشريعة رقم (616, 617).
ومدارهُ على الحكم بن أبي خالد: هو ابن ظهير الفزاري: متروك، واتهم بالكذب، وسيأتي موقوفًا ص (690).
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (252).
وهذا فيه انقطاع، قتادة لم يسمع من عبد اللَّه بن عمرو.
(1/561)
الباب التاسع والخمسون: في زيارة أهل الجنَّة بعضهم بعضًا، وتذاكرهم ما كان بينهم في الدنيا
قال تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)} [الصافات: 50 – 57].
أخبر سبحانه وتعالى أنَّ أهل الجنَّة أقبل بعضهم على بعض يتحدثون، ويسأل بعضهم بعضًا عن أحوال كانت في الدنيا، فأفضت بهم المحادثة والمذاكرة إلى أنْ قال قائلٌ منهم: كان لي قرينٌ في الدنيا ينكر البعث والدَّار الآخرة، ويقول ما حكاهُ اللَّهُ عنه، يقول: {أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52)} بأنَّا نُبعث ونُجازى بأعمالنا، ونُحاسبُ بها بعد أنْ مَزَّقَنَا البِلَى، وكُنَّا تُرابًا وعظامًا، ثمَّ يقول المؤمنُ لإخوانه في الجنَّة: هل أنتم مطلعون في النَّارِ لننظر منزلة قريني هذا وما صار إليه.
هذا أظهرُ الأقوالِ، وفيها قولان آخران:
أحدهما: أنَّ الملائكة تقول لهؤلاء المتذاكرين الَّذين يحدث بعضهم بعضًا: {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)} [الصافات: 54].
رواهُ عطاء عن ابن عباس (1).
(1) لم أقف عليه. وذكر هذا القول القرطبي في الجامع (15/ 82)، وابن الجوزي =
(1/562)
والثاني: أنَّه من قول اللَّه عزَّ وجلَّ لأهل الجنَّة يقول لهم: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) }.
والصحيح القول الأوَّل (1) ، وأنَّ هذا قول المؤمن لأصحابه ومحادثيه، والسياق كله والإخبار عنه وعن حال قرينه.
قال كعب: “بين الجنَّة والنَّارِ كُوًى، فإذا أراد المؤمنُ أنْ ينظر إلى عدوٍّ كان له في الدنيا اطَّلعَ من بعض تلك الكُوى” (2) .
وقوله تعالى: {فَاطَّلَعَ} أي: أشرف. قال مقاتل: “لما قال لأهل الجنَّة: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ}؟ قالوا له: إنَّك أعرف به منَّا، فاطَّلِعْ أنت، فَأَشْرَفَ فرأى قرينه في وسط الجحيم، ولولا أنَّ اللَّه عرَّفه إيَّاهُ لما عرَفه، لقد تغيَّر وجهُهُ ولونُهُ وغيَّرهُ العذاب أشدَّ تغيير، فعندها قال: {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) } [الصافات: 56 – 57] أي: إنْ كدتَ لتهلكني، ولولا أنْ (3) أنعمَ اللَّهُ عليَّ بنعمه لكنتُ من المحضرين معَك في العذاب” (4) .
= في زاد المسير (7/ 50).
(1) وإليه ذهب عامَّة المفسرين: الطبري (23/ 58)، والماوردي (5/ 49)، والقرطبي (15/ 81 – 82)، وابن الجوزي (7/ 49)، والبغوي (7/ 41) وغيرهم.
(2) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره “كما في الدر المنثور (5/ 52) بنحوه”، وذكره ابن المبارك “كما عند القرطبي (15/ 83) بمثله”. من طريق قتادة قال: ذكر لنا أنَّ كعب فذكره.
وسنده منقطع، قتادة لم يدرك كعب الأحبار.
(3) ليس في “ج”.
(4) انظر: تفسير مقاتل (3/ 99) بمعناه.
(1/563)
وقال تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) } [الطور: 25 – 28].
وقال الطبراني: حدثنا الحسين بن إسحاق حدثنا سهل بن عثمان حدثنا المسيب بن شَرِيك عن بشر بن نُمير (1) عن القاسم عن أبي أُمامة قال: سُئِلَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أيتزاورُ أهل الجنَّة؟ قال: يزور الأعلى الأسفل، ولا يزور الأسفل الأعلى، إلَّا الَّذين يتحابون في اللَّه يأتون منها حيث شاؤوا على النُّوق محتقبين الحشايا” (2) .
وقال الدورقي: حدثنا أبو سلمة التبوذكي، حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال قال: بلغنا أنَّ أهل الجنَّة يزورُ الأعلى الأسفل، ولا يزور الأسفل الأعلى” (3) .
(1) في “ب، د”: “نمر” وهو خطأ.
(2) أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 286) رقم (7936)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (421).
قال الهيثمي في المجمع (10/ 279): “وفيه بشر بن نمير، وهو متروك”.
وقد اتُّهم بالكذبِ ووضع الحديث. انظر: تهذيب الكمال (4/ 156 – 157).
- ورواهُ جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة.
عند الطبراني (8/ 292) رقم (7959)، وجعفر اتُّهم بوضع الحديث.
(3) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (422).
ورواهُ سليمان بن المغيرة وابن المعتمر عن حميد، نحوه.
أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- رقم (235)، وابن حبيب في =
(1/564)
وقد تقدم حديث علقمة بن مرثد عن يحيى بن إسحاق عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه (1) .
وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عبدوس حدثنا الحسن بن حماد حدثنا جابر بن نوح عن واصل بن السائب عن أبي سورة عن أبي أيوب يرفعه: “إنَّ أهل الجنَّة يتزاورون على النجائب” وقد تقدم (2) .
فأهلُ الجنَّة يتزاورون فيها، ويستزيرُ بعضهم بعضًا، وبذلك تَتِمُّ لذَّتُهم وسرورهم، ولهذا قال حارثة للنَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وقد سألهُ: “كيف أصبحتَ يا حارثة؟ ” قال: أصبحتُ مؤِمنًا حقًّا، قال: “إنَّ لكلِّ حقًّ حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ ” قال: عزَفتْ نفسي عن الدنيا، فأسهرتُ ليلي، وأظمأتُ نهاري، وكأنِّي أنظرُ إلى عرش ربي بارزًا، وإلى أهل الجنَّة يتزاورون فيها، وإلى أهل النَّارِ يُعَذَّبون فيها، فقال: “عبدٌ نوَّر اللَّهُ قلبَه” (3) .
= وصف الفردوس رقم (179). وسنده صحيح.
(1) ص (579).
(2) ص (560).
(3) أخرجه البزار “كشف الأستار” رقم (32)، والبيهقي في شعب الإيمان رقم (10590)، والحكيم الترمذي في الصلاة ومقاصدها (ص/ 73).
من طريق يوسف بن عطية عن ثابت وقتادة عن أنس بن مالك.
قال البزار: “تفرَّد به يوسف بن عطية، وهو لين الحديث”.
قلتُ: يوسف بن عطية الصفَّار متروك الحديث.
والحديث وقع فيه اختلاف كثير، ولا يصح مرفوعًا، وإنَّما هو من قول بعض أتباع التَّابعين ومن دونهم: كمالك بن مغول وصالح بن مسمار، وقد =
(1/565)
قال ابن أبي الدنيا: حدثنا عبد اللَّه (1) حدثني سلمة بن شبيب حدثنا سعيد بن دينار عن الربيع بن صبيح عن الحسن عن أنس رضي اللَّه عنه، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إذا دخل أهل الجنَّةِ الجنَّةَ، قال: فيشتاقُ الإخوان بعضهم إلى بعض، فيسير سريرُ هذا إلى سرير هذا، وسرير هذا إلى سرير هذا، حتَّى يجتمعا جميعًا، فيقول أحدهما لصاحبه: تعلمُ متى غفر اللَّهُ لنا؟ فيقول صاحبه: يوم كُنَّا في موضع كذا وكذا، فدعونا اللَّه فغفر لنا” (2) .
قال: وحدثنا حمزة بن العباس، أنبأنا عبد اللَّه بن عثمان أنبأنا ابن المبارك، أنبأنا إسماعيل بن عياش قال: حدثني ثعلبة بن مسلم (3) ، عن أيوب بن بشير العجلي، عن شُفَيِّ بن ماتِعٍ (4) أنَّ رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ من نعيم أهل الجنَّة أنَّهم يتزاورون على المطايا
= قال ابن صاعد: “. . . وهذا الحديث لا يثبت مرفوعًا”.
انظر: المعرفة لأبي نعيم (2/ 778)، والإصابة لابن حجر (1/ 303).
(1) قوله: “حدثنا عبد اللَّه” ليس في المطبوع من كتاب ابن أبي الدنيا، وهو مثبت في جميع النسخ، ولعلَّ عبد اللَّه هذا: هو ابن أحمد بن حنبل، واللَّه أعلم، انظر: تهذيب الكمال (11/ 285).
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (245).
وأخرجه العقيلي في الضعفاء (2/ 103)، والبزار “كما في كشف الأستار رقم (3553).
قال أبو حاتم الرَّازي: “هذا حديث منكر، وسعيد “يعني: ابن دينار” مجهول”. انظر: تفسير ابن كثير (4/ 260).
(3) في “أ، ج”: “سلم” وهو خطأ.
(4) في “هـ”: “نافع” وهو خطأ، وفي “ج”: “مانع” وهو خطأ.
(1/566)
والنجب، وأنَّهم يؤتون في الجنَّة بخيلٍ مُسرجةٍ مُلْجمةٍ، لا تروث ولا تبول، فيركبونها حتَّى ينتهوا حيث شاء اللَّهُ عزَّ وجلَّ، فيأتيهم مثل السحابة، فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، فيقولون: أمطري علينا، فما يزال المطرُ عليهم حتَّى ينتهي ذلك فوق أمانيهم، ثمَّ يبعث اللَّه ريحًا غير مؤذية، فتنسف كثبانًا من مسك عن أيمانهم وعن شمائلهم، فيأخذ ذلك المسك في نواصي خيولهم، وفي مفارقهم (1) وفي رؤوسهم، ولكلِّ رجلٍ منهم جُمَّة على ما اشتهت نفسه، فيتعلَّق ذلك المسك في تلك الجمام وفي الخيل، وفيما سوى ذلك من الثياب، ثمَّ يقبلون حتى ينتهوا إلى ما شاء اللَّهُ تعالى، فإذا المرأة تنادي بعض أولئك: يا عبد اللَّه أمالك فينا حاجة؟ فيقول: ما أنتِ ومن أنتِ؟ فتقول: أنا زوجك وحِبُّكَ، فيقول: ما كنتُ علمتُ بمكانِك، فتقول المرأة: أوما تعلم انَّ اللَّه قال: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) } [السجدة: 17] فيقول: بلى وربِّي، فلعلَّه يُشْغَلُ (2) عنها بعد ذلك الموقف أربعين خريفًا، لا يلتفتُ ولا يعودُ؛ ما يشغلهُ عنها إلَّا ما هو فيه من النعيم والكرامة” (3) .
(1) في “ب، ج، د، هـ”: “مفارقها”.
(2) في “ب”: “ليشغل”.
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في “صفة الجنة” رقم (246)، وابن المبارك في الزهد -رواية نُعيم- رقم (239).
وهو حديث مرسل ضعيف الإسناد؛ لأن شُفي بن ماتع تابعي على الصحيح، وثعلبة بن مسلم فيه جهالة. انظر: جامع التحصيل للعلائي رقم (288).
(1/567)
حدثني حمزة أنبأنا عبد اللَّه بن عثمان أنبأنا ابن المبارك أنبأنا رشدين ابن سعد قال: حدثني ابنُ أنعم أنَّ أبا هريرة رضي اللَّه عنه قال: “إنَّ أهل الجنَّة ليتزاورون على العِيْس الجُوْنِ، عليها رحال المَيْس، تثير مناسمها غبار المسك، خِطام أو زمام أحدها خيرٌ من الدنيا وما فيها” (1) .
وذكر ابن أبي الدنيا: من حديث أبي اليمان، حدثنا إسماعيل بن عيَّاش عن عمر بن محمد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه سأل جبريل عن هذه الآية: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] قال: “هم الشهداء يبعثهم اللَّه متقلدين أسيافهم حول عرشه، فأتاهم ملائكة من المحشر بنجائب من ياقوت، أزِمَّتها الدُّرُّ الأبيض، برحال الذهب، أعِنَّتها السندس والإستبرق، ونمارقها أَلْيَنُ من الحرير، مدُّ خُطَاها مدُّ أبصار الرجال، يسيرون في الجنَّة على خيول، يقولون عند طول النزهة: انطلقوا بنا ننظر كيف يقضي اللَّه (2) بين خلقه، يضحك اللَّهُ إليهم، وإذا ضحك اللَّه إلى عبدٍ في موطن فلا حساب عليه” (3) .
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (247).
وسنده ضعيف، رشدين وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي ضعيفان.
(2) ليس في “أ، ج”.
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (248).
- وأخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 277) رقم (3000) وقال: “صحيح الإسناد ولم يخرجاه”، والدَّارقطني في الإفراد “كما في الأطراف (5/ 155) رقم (4984) وغيرهما. =
(1/568)
قال ابن أبي الدنيا: وحدثنا الفضل بن جعفر ثنا جعفر بن حسن (1) ، حدثنا أبي، عن الحسن بن علي عن علي (2) رضي اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “إنَّ في الجنَّة لشجرةً يخرجُ من أعلاها حللٌ، ومن أسفلها خيلٌ من ذهب مسرجةٍ ملجمةٍ من درٍّ وياقوت، لا تروث ولا تبول، لها أجنحة خطوها مدُّ بصرها، فيركبها أهل الجنَّة فتطيرُ بهم حيث شاؤوا، فيقول الَّذين أسفلَ منهم درجة (3) : يا رب بِمَ بلغ عبادُك هذه الكرامة كلها؟ قال: فيقال لهم: كانوا يصلون بالليل وكنتم تنامون، وكانوا يصومون وكنتم تأكلون، وكانوا ينفقون وكنتم تبخلون، وكانوا يقاتلون وكنتم تجبنون” (4) .
= من طريقِ بقية بن الوليد وحماد بن أُسامة كلاهما عن عمر بن محمد به نحوه.
قال الدَّارقطني: “غريب من حديثه “يعني زيد” عن أبيه، تفرَّد به عمر بن محمد عنه. . . “.
والحديثُ مدارهُ على عمر بن محمد وهو ابن صهبان الأسلمي: وهو متروك الحديث، وهذا الحديث من مناكيره.
انظر: تهذيب الكمال (21/ 400 – 401).
(1) كذا في جميع النسخ، وفي مصدر التخريج، ولعلَّ صوابه “جسر”، وهو: ابن فرْقَد أبو جعفر القصَّاب، انظر: لسان الميزان (2/ 132 – 133).
(2) قوله “عن علي” سقط من “هـ”.
(3) في “أ، جـ”: “فرحة”.
(4) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (249).
وهو حديثٌ منكر، فيه جعفر بن جسر بن فرقد، وأبوهُ جسر وكلاهما ضعيف، لكن جسر أضعف وله منكرات، وقال بعضهم فيه: متروك.
انظر: لسان الميزان (2/ 140 – 141).
(1/569)
فصل
ولهم زيارةٌ أخرى أعلى من هذه وأجلُّ، وذلك حين يزورون ربهم تبارك وتعالى، فيريهم وجهَه، ويُسْمعهم كلامَه، ويحلُّ عليهم رضوانه.
وسيمرُّ بك ذكر هذه الزيارة عن قريبٍ، إنْ شاء اللَّهُ تعالى (1).
(1) في الباب (61).
(1/570)
الباب الستون: في ذكر سوق الجنَّة وما أعدَّ اللَّهُ تعالى فيه (1) لأهلها
قال مسلم في “صحيحه” (2): حدثنا سعيد بن عبد الجبار الصَّيرفي، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ في الجنَّة لسُوقًا يأتونها كلَّ جمعة، فتهبُّ ريحُ الشمال، فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حُسنًا وجمالًا، فيرجعون إلى أهليهم، وقد ازدادوا حُسنًا وجمالًا، فيقول لهم أهلوهم: واللَّهُ لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالًا، فيقولون: وأنتم واللَّهِ لقد ازددتم بعدنا حُسنًا وجمالًا”.
ورواهُ الإمام أحمد في “مسنده” عن عفَّان، عن حماد بن سلمة به (3). وقال: “فيها كثبان المسكِ فإذا خرجوا إليها هبَّت الرِّيح” (4).
وقال ابن أبي عاصم في كتاب “السنة”: حدثنا هشام بن عمَّار حدثنا عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن سعيد بن المسيب أنَّه لقيَ أبا هريرة، فقال أبو هريرة: أسأل اللَّه أنْ يجمع بيني وبينك في سوقِ الجنَّة، فقال سعيد: أوَ فيها سوق؟ قال: نعم، أخبرني رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أنَّ أهلَ الجنَّة إذا دخلوها نزلوها بفضل
(1) ليس في “هـ”، ووقع في “أ” “وما أُعِدَّ فيه”.
(2) برقم (2833).
(3) من “أ، ج، هـ”.
(4) “المسند” (3/ 284 – 285).
(1/571)
أعمالهم، فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا، فيزورون اللَّه تبارك وتعالى، فيبرز لهم عرشه، ويتبدَّى لهم في روضة من رياض الجنَّة، فيوضع لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ياقوت، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، ويجلس أدناهم – وما فيها دنيٌّ – على كثبان المسك والكافور، وما يرون أنَّ أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسًا، قال أبو هريرة: فقلتُ: هل (1) نرى ربنا عزَّ وجلَّ؟ قال: نعم، قال: هل تمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدرِ؟ قلنا: لا، قال: فكذلك لا تمارون في رؤية ربكم تبارك وتعالى، ولا يبقى في ذلك المجلس أحدٌ إلَّا حاضره اللَّه محاضرة، حتَّى يقول: يا فلان بن فلان، أتذكر يوم فعلت كذا وكذا؟ فيُذَكِّره ببعض غدراته في الدنيا، فيقول: بلى، فيقول: يا رب أفلم تغفر لي؟ فيقول: بلى، فبمغفرتي بلغتَ منزلتك هذه، قال: فبينما هم على ذلك، غشيتهم سحابة من فوقهم، فأمطرت عليهم طيبًا لم يجدوا مثل ريحه شيئًا قطُّ، ثمَّ يقول ربنا تبارك وتعالى: قُوموا إلى ما أعددتُ لكم من الكرامة فخذوا ما اشتهيتم، قال: فيأتون سوقًا قد حفَّتْ به (2) بها الملائكة، فيه ما لم تنظرِ العيون إلى مثله، ولم تسمع الآذانُ، ولم يخطر على القلوب، قال: فيُحمل لنا ما اشتهينا ليس يباع فيه شيءٌ ولا يُشْتَرى، وفي ذلك السُّوق يلقى أهل الجنَّة بعضهم بعضًا، قال: فيقبل ذو البِزَّة المرتفعة فيلقى من هو دونه – وما فيهم دنيٌّ – فيروعه ما يرى
(1) في السنة: (يا رسول اللَّه، هل. . .)، وفي جميع النسخ “أبو هريرة: وهل”.
(2) ليس في “أ”، وفي باقي النسخ: “بها”، والمثبت من نسخة على حاشية “أ”.
(1/572)
عليه من اللباس والهيئة، فما ينقضي آخر حديثه حتَّى يتمثل عليه أحسنَ منه، وذلك أنَّه لا ينبغي لأحد أنْ يحزن فيها، قال: ثمَّ ننصرف إلى منازلنا فيلقانا أزواجنا، فيقلن: مرحبًا وأهلًا بمُحِبِّنَا (1) ، لقد جئتَ وإنَّ بك من الجمالِ والطَّيب أفضل ممَّا فارقتنا عليه، فيقول: إنَّا جالسنا اليومَ ربنا الجبَّار تبارك وتعالى، وبحقنا أنْ ننقلبَ بمثل ما انقلبنا” (2) .
ورواه الترمذي في “صفة الجنَّة”: عن محمد بن إسماعيل عن هشام بن عمار. وليس في هذا الإسناد من ينظر فيه إلَّا عبد الحميد بن حبيب وهو كاتب الأوزاعي، فلا نُنْكِرُ عليه تفرده عن الأوزاعي بما لم يروهِ غيره، وقد قال الإمام أحمد وأبو حاتم الرَّازي: هو ثقة، وأمَّا دُحَيم والنسائي: فضعَّفاه، ولا يعرف أنَّه حدث عن غير الأوزاعي. والترمذي قال: “هذا الحديث غريب، لا نعرفه إلَّا من هذا الوجه”.
قلتُ: وقد رواهُ ابن أبي الدنيا، عن الحكم بن موسى حدثنا هقل (3) بن زياد عن الأوزاعي قال: نُبِّئتُ أنَّ سعيد بن المسيب لقيَ أبا هريرة فذكره.
(1) في “ب، د، هـ”: “بحُبنا”.
(2) تقدم الكلامُ عليه في ص (177).
(3) من نسخةٍ على حاشية “د”، وابن أبي الدنيا في “صفة الجنَّة” رقم (256)، ووقع في “ج”: “يعلى”، وفي “أ، ب، د، هـ”: “معلَّى”، وكلاهما خطأ.
(1/573)
وقال الترمذي: حدثنا أحمدُ بن منيع وهنَّاد قالا: حدثنا أبو معاوية أنبأنا عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد (1) عن علي بن أبي طالب رضي اللَّهُ عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ في الجنَّة لسوقًا ما فيها شراء ولا بيع إلَّا الصُّور من الرِّجال والنساء، فإذا اشتهى الرجل صورةً دخلَ فيها” (2) . قال: “هذا حديثٌ غريب”.
وقال عبد اللَّه بن المبارك: أنبأنا سليمان التيمي عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: “يقول أهلُ الجنَّة: انطلقوا إلى السوق، فينطلقون إلى كثبان المسك (3) ، فإذا رجعوا إلى أزواجهم، قالوا: إنَّا لنجدُ لكُنَّ ريحًا ما كانت لكُنَّ إذ خرجنا من عندكنَّ (4) قال: فيقُلنْ لقد رجعتم بريحٍ ما كانت لَكُمْ إذ خرجتم من عندنا (5) ” (6) .
قال ابن المبارك: وأنبأنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: “إنَّ في الجنَّة لسوقًا على كثبان (7) مسك يخرجون إليها،
(1) في “هـ”: “سعيد” وهو خطأ.
(2) (2550) وهو لا يثبت، راجع الكلام على هذا السند ص (293).
(3) قوله “كثبان المسك” من جميع النسخ، ووقع عند ابن المبارك “الكثبان، أو قال: الجبال”.
(4) قوله: “إذ خرجنا من عندكن” سقط من “هـ”.
(5) من قوله: “قال: فيقلن لقد” إلى “عندنا” سقط من “ج”.
(6) أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- رقم (241)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (257).
وسنده صحيح.
(7) قوله “لسوقا على كثبان” وقع في “أ، ب، د، هـ” “سوقًا كثبان”، والمثبت من =
(1/574)
ويجتمعون إليها، فيبعث اللَّهُ تعالى ريحًا فتدخلها (1) بيوتهم فيقول لهم أهلوهم إذا رجعوا إليهم: قد ازددتم بعدنا حُسنًا، ويقولون لأهليهم: قد ازددتم أيضًا عندنا حسنًا” (2) .
وقال الحافظ محمد بن عبد اللَّه الحضرمي المعروف بمطيَّن: حدثنا أحمدُ بن محمد بن طريف البجلي حدثنا أبي حدثنا محمد بن كثير حدثني جابر الجُعفي عن أبي جعفر عن (3) علي بن الحسين عن جابر بن عبد اللَّه قال: “خرج علينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ونحن مجتمعون، فقال: يا معشر المسلمين إنَّ في الجنَّة لسوقًا ما يُباع فيها ولا يُشترى إلَّا الصُّور، من أحبَ صورةً من رجل أو امرأةٍ دخل فيها” (4) .
= “ج” والزهد لابن المبارك.
(1) في “ب، د”: “فتدخلهم”.
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (258).
- ورواهُ ابن أبي عدي عن حميد به بمثله.
أخرجه المروزي في زياداته على الزهد لابن المبارك رقم (4191).
وسنده صحيح.
(3) سقط من “أ”.
(4) أخرجه الطبراني في الأوسط (4/ 187) رقم (5664)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (419).
قال الهيثمي: “رواهُ الطبراني في الأوسط من طريق محمد بن كثير عن جابر الجعفي، وكلاهما ضعيف جدًّا”.
انظر: مجمع الزوائد (8/ 149)، (5/ 125).
تنبيه: وقع عند أبي نعيم: عن أبي جعفر عن علي بن الحسين، ومثله في النسخ، ولعلَّه خطأ.
(1/575)
الباب الحادي والستون: في ذكر زيارة أهل الجنَّة ربَّهم تبارك وتعالى
قال الشافعي في “مسنده”: حدثنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني موسى بن عبيدة قال: حدثني أبو الأزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة عن عبد اللَّه بن عُبيد بن عُمَير أنَّهُ سمع أنس بن مالك رضي اللَّه عنه يقول: أتى جبريل بمرآة بيضاء فيها وَكْتَةٌ (1) إلى النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: ما هذه؟ قال: الجمعة، فُضِّلتَ بها أنتَ وأمتك، فالنَّاس لكم فيها تبعٌ: اليهودُ والنصارى، ولكم فيها خير، وفيها ساعة لا يوافقها مؤمن يدعو اللَّه بخيرٍ إلَّا استجيبَ له، وهو عندنا يوم المزيد، قال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: يا جبريل وما يومُ المزيد؟ قال: إنَّ ربك اتخذَ في الفردوس واديًا أفيحَ فيه كثبُ مسكٍ، فإذا كان يوم الجمعة أنزل اللَّهُ تبارك وتعالى ما شاء من ملائكته، وحوله منابر من نور عليها مقاعد النَّبيين، وحَفَّ تلك المنابر بمنابر من ذهب مكللةٍ بالياقوتِ والزبرجد، عليها الشهداء والصِّدِّيقون، فجلسوا من ورائهم على تلك الكُثُب فيقول اللَّه تعالى: أنا ربُّكم قد صَدَقْتكم (2) وعْدِي، فسلوني أعطكم، فيقولون: ربنا نسألك رضوانك، فيقول: قد رضيت عنكم، ولكم عليَّ ما تمنيتم، ولديَّ مزيد، فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من الخير، وهو اليوم الَّذي استوى فيه ربكم على العرشِ، وفيه خلق
(1) والوكتة: الأثر في الشيء كالنقطة من غير لونه. والجمع: وَكْت.
النهاية (5/ 218).
(2) في “أ، ب، د”: “صدَّقتم”، والمثبت من مسند الشافعي وباقي النسخ.
(1/576)
آدم، وفيه تقوم الساعة” (1) .
ولهذا الحديث طرق سنشير إليها في باب المزيد إنْ شاء اللَّهُ تعالى (2) .
وروى أبو نعيم من حديث شيبان بن جُبير عن فَرْقَد (3) عن الحسن عن أبي بَرْزَة الأسلمي عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (4) قال: “إنَّ أهل الجنَّة ليغدون في حُلَّةٍ ويروحون في أخرى؛ كغدوِّ أحدكم ورواحه إلى ملك من ملوك الدنيا، كذلك يغدون ويروحون إلى زيارة ربِّهم عزَّ وجلَّ، وذلك لهم بمقادير ومعالم يعلمون تلك السَّاعة التي يأتون فيها ربهم عزَّ وجل” (5) .
وقد رواهُ جعفر بن جَسْر بن (6) فرقد، عن أبيه مثله.
(1) مسند الشافعي رقم (374). وسنده ضعيف جدًّا، فيه إبراهيم بن محمد الأسلمي: متروك، وموسى بن عبيدة الربذي: ضعيف.
(2) في الباب (65)، ص (648 – 657).
(3) قوله “شيبان بن جبير عن فرقد” وقع عند أبي نعيم “شيبان بن جسر بن فرقد حدثني أبي”، ووقع في “د”: “جويبر” بدل “جبير”. وفي “د”: “. . . جبير بن فرقد” بدل “عن فرقد” ولعلَّ صوابه: “شيبان عن جسر بن فرقد حدثني أبي”.
(4) قوله “عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-” سقط من “أ، ج” وضُرِبَ عليها في “د”، وهي عند أبي نعيم وباقي النسخ.
(5) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (394).
وسنده ضعيف جدًّا، وقد تقدم الكلامُ على جَسْر بن فرقد ص (569) وهو شبه المتروك.
(6) قوله “جسر بن” وقع في “د، هـ” (حسن) بدل (جسر) وهو خطأ. ووقع في “هـ” “عن” بدل “بن”.
(1/577)
وذكر أبو نعيم أيضًا: من حديث أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال: إذا سكن أهل الجنَّة الجنَّة، أتاهم مَلَكٌ يقول: إنَّ اللَّه تبارك وتعالى يأمركم أنْ تزوروه، فيجتمعون فيأمر اللَّهُ تبارك وتعالى داود عليه الصلاة والسلام، فيرفع صوته بالتسبيح والتهليل، ثمَّ توضع مائدة الخُلْد، قالوا: يا رسول اللَّه وما مائدة الخلد؟ قال زاوية من زواياها أوسع مما بين المشرق والمغرب، فيطمعون، ثمَّ يسقون، ثمَّ يكسون فيقولون: لم يبقَ إلَّا النظر في (1) وجه ربنا عزَّ وجلَّ، فيتجلَّى لهم فيخرون سُجَّدًا، فيقال لهم: لستم في دار عملٍ، إنَّما أنتم في دار جزاء” (2) .
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو موسى إسحاق بن إبراهيم الهَرَوِي حدثنا القاسم بن يزيد المَوصِلي حدثنا أبو إلياس قال: حدثني محمد ابن علي بن الحسين قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (3) .
(1) في “هـ”: “إلى”.
(2) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (397).
وفيه الحارثُ الأعور ضعيفٌ، واتُّهِم بالكذب، وخالد بن يزيد هو أمير العراق ضعيف وأحاديثه تدل على وهائه.
انظر: لسان الميزان (2/ 450 – 451).
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (54)، والآجري في الشريعة رقم (626)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (411)، كما في الحديث الآتي.
قال المنذري: “رواه. . . . هكذا معضلًا، ورفعه منكر”.
وقال ابن كثير: “وهذا مرسل ضعيف غريب، وأحسن أحواله أنْ يكون من كلام بعض السلفِ فَوَهِمَ بعضُ رواته فجعله مرفوعًا، وليس كذلك واللَّه أعلم” النهاية (2/ 406).
(1/578)
وقال أبو نعيم: حدثني محمد بن علي بن حبيش حدثنا إبراهيم بن شريك حدثنا أحمد بن يونس حدثنا المُعَافَى بن عمران – وكان من خيار النَّاس – قال: حدثني إدريس بن سِنَان، عن وهب بن مُنَبه، عن محمد بن علي، قال إدريس: ثمَّ لقيت محمد بن علي بن الحسين بن فاطمة فحدثني قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ في الجنَّة شجرةً يُقال لها طُوبَى، لو سُخِّرَ الجواد الرَّاكب أنْ يسير في ظلِّها لسار فيها مئة عام، ورقها برودٌ خضرٌ، وزهرها رياط صفْر، وأقناؤها سندس وإستبرق، وثمرها حُللٌ، وصمغها زنجبيل وعسل، وبطحاؤها ياقوت أحمر، وزمرد أخضر، وأترابها مسكٌ، وحشيشها زعفران، منبع الألنجوج (1) يؤجَّجان من غير وقود، يتفجَّر من أصلها أنهار السلسبيل والمعين والرَّحيق، وظلها مجلس من مجالس أهل الجنَّة يألفونه، ومتحدث يجمعهم، فبينا هم يتحدثون في ظلها إذ جاءتهم الملائكة يقودون نُجُبًا جُبِلت من الياقوت، ثمَّ نُفِخَ فيها الروح مزمومة بسلاسل من ذهبٍ، كأنَّ وجوهها المصابيح نضارةً وحسنًا، وَبَرُهَا حرير (2) أحمر، ومِرْعِزِّي أبيض مختلطان، لم ينظر الناظرون إلى مثلها، عليها رحائل (3) ألواحها من الدرِّ والياقوت، مُفضَّضة باللؤلؤ والمرجان، صفافها من الذهب الأحمر، ملبسة بالعبقري والأرجوان، فأناخُوا إليهم تلك النجائب، ثم قالوا لهم: إن ربكم تبارك وتعالى يقرئكم
(1) الألنجوج: العود الذي يُتبخَّر به. النهاية (1/ 62).
(2) في “هـ”: “جزا” وعند ابن أبي نعيم “خَزٌّ”.
(3) كذا في جميع النسخ وابن أبي الدنيا، وعند أبي نعيم “رحال”.
(1/579)
السلام، ويستزيركم لتنظروا إليه، وينظر اليكم، وتحيونه ويحييكم، ويكلمكم وتكلمونه، ويزيدكم من سعته وفضله، إنه ذو رحمة واسعة، وفضل عظيم. فيتحول كل رجل منهم على راحلته، ثم انطلقوا صفًّا واحدًا معتدلًا، لا يفوت منه شيء شيئًا، ولا يفوت أذن الناقة أذن صاحبتها، ولا بِرْكَة (1) ناقة بركة صاحبتها، ولا يمرون بشجرة من أشجار الجنة إلا أتحفتهم بثمرتها، وَرَحَلَتْ لهم عن طريقهم كراهية أن ينثلم صفهم، أو يفرق بين الرجل ورفيقه، فلما رفعوا إلى الجبار تبارك وتعالى أسفر لهم عن وجهه الكريم، وتجلى لهم في عظمته العظيمة، فقالوا: ربنا أنت السلام ومنك السلام، ولك حق الجلال والإكرام، فقال لهم ربُّهم تبارك وتعالى: إنِّي السلام، ومنِّي السلام، ولي حق الجلال والإكرام، مرحبًا بعبادي الذين حفظوا وصيتي، ورعوا عهدي، وخافوني بالغيب، وكانوا مني على كل حال مشفقين. قالوا: وعزتك وجلالك وعلو مكانك، ما قدرناك حق قدرك، وما أدينا إليك كل حقك، فائذن لنا بالسجود، فقال لهم ربهم تبارك وتعالى: إني قد وضعت عنكم مؤنة العبادة، وأرحتُ لكم أبدانكم، فطالما أنصبتم لي الأبدان، وأعنيتم لي الوجوه، فالآن أفضيتم إلى رَوحي ورحمتي وكرامتي، فسلوني ما شئتم، وتمنُّوا عليَّ أُعطِكُم أمانيكم، فإنِّي لن أجزِيَكُم اليوم بقدر أعمالكم، ولكن بقدر رحمتي وكرامتي، وَطَوْلي وجلالي، وعلو مكاني وعظمة شأني. فما يزالون في الأماني والعطايا
(1) بركة: ما ولي الأرض من جلد بطن البعير وما يليه من الصدر، واشتقاقه من مبرك البعير. معجم تهذيب اللغة للأزهري (1/ 318).
(1/580)
والمواهب، حتَّى إنَّ المقتصر من أُمْنِيَّتِهِ ليتمنَّى مثلَ جميع الدنيا، منذ خلقها اللَّه عزَّ وجلَّ إلى يومِ أفناها، فقال لهم ربُّهم تبارك وتعالى: لقد قصَّرتم في أمانِيِّكم، ورضيتم بدون ما يحقُّ لكم، فقد أوجبتُ لكم ما سألتم وتمنيتم، وألحقت بكم ذريتكم وزدتكم ما قصرت عنه أمَانِيُّكم”.
ولا يصحُّ رفعه إلى النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وحسبه أنْ يكون من كلام محمد بن علي، فغلط فيه بعض هؤلاء الضعفاء، فجعله من كلام النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-.
وإدريس بن سنان: هذا هو سِبْط وهب بن منبه ضَعَّفه ابن عدي، وقال الدَّارقطني: متروك، وأمَّا أبو إلياس المُتابِعُ له، فلا يُدرى من هو (1) ، وأمَّا القاسم بن يزيد الموصلي الرَّاوي عنه فمجهول أيضًا، ومثل هذا لا يصح رفعه، واللَّهُ أعلم.
وقال الضحاك في قوله عزَّ وجلَّ: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) } [مريم: 85] قال: “على النجائب عليها الرِّحال” (2) .
(1) تقدَّم أنَّه: إدريس بن سنان، فهو إذن ليس بمتابع.
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (253) من طريق جويبر عنه. وجويبر ضعيف جدًّا.
(1/581)
الباب الثاني والستون: في ذكر السحاب والمطر الَّذي يصيبهم في الجنَّة (1)
قد تقدَّم في حديث سوق الجنَّة أنَّه يغشاهم يوم الزيارة سحابةٌ من فوقهم، فتمطر عليهم طيبًا لم يجدوا مثلَ ريحه قطُّ (2).
وقال بقية بن الوليد: حدثنا بَحِيْر بن سعد عن خالد بن مَعْدَان عن كثير بن مُرَّة قال: “إنَّ من المزيد أنْ تمرَّ السحابة بأهل الجنَّة، فتقول: ماذا تريدون أنْ أمطركم؟ فلا يتمنون شيئًا إلَّا مُطِرُوا” (3).
وقال ابن أبي الدنيا: حدثني أزهر بن مروان، حدثنا عبد اللَّه بن عبد اللَّه (4) الشيباني عن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن صَيْفِي اليماني (5)، قال: سأله عبد العزيز بن مروان عن وفد أهل الجنَّة قال: إنَّهم يفدون إلى اللَّهِ سبحانه كلَّ خميس فيوضع لهم أسرَّة، كلُّ إنسانٍ منهم أعرف بسريره منك بسريرك هذا الَّذي أنت عليه، فإذا قعدوا عليه وأخذ القومُ مجالسهم قال تبارك وتعالى: أطعموا عبادي وخلقي وجيراني ووفدي، فيطعموا، ثمَّ يقول: أسقوهم، قال: فيأتون بآنية من ألوانٍ شتَّى مختمة (6) فيشربون منها، ثمَّ يقول: عبادي وخلقي وجيراني
(1) قوله: “في الجنَّة” سقط من “ج”.
(2) انظر: ص (572).
(3) تقدم ص (511).
(4) كذا في جميع النسخ. وجاء عند ابن أبي الدنيا “عرادة”. ولعله هو الصوابُ.
(5) في “ب، د”، وابن أبي الدنيا: “اليمامي”.
(6) في “أ، ب، ج”: “مجتمعة”، والمثبت من “هـ” وابن أبي الدنيا.
(1/582)
ووفدي قد طعموا وشربوا، فكِّهُوْهُم، فتجيء ثمرات شجر مدلاة، فيأكلون منها ما شاؤوا، ثمَّ يقول: عبادي وخلقي وجيراني ووفدي قد طعموا وشربوا وفكهوا، أكسوهم، فتجيء ثمرات شجر أخضر وأصفر وأحمر، وكل لونٍ لم تنبت إلَّا الحلل، فينشر عليهم حللًا وقُمصًا، ثمَّ يقول: عبادي وخلقي وجيراني ووفدي قد طعموا وشربوا وفكهوا وكُسوا، طيِّبوهم، فيتناثر عليهم المسلك مثل رُذاذِ المطرِ، ثمَّ يقول: عبادي وجيراني وخلقي ووفدي قد طعموا وشربوا وفَكهوا وكسوا وطيِّبوا لأتجلينَّ لهم حتَّى ينظروا إليَّ، فإذا تجلَّى لهم فنظروا إليه؛ نضرت وجوههم، ثمَّ يقال لهم: ارجعوا إلى منازلكم، فتقول لهم أزواجهم: خرجتم من عندنا على صورة، ورجعتم على غيرها؟ فيقولون: ذلك أنَّ اللَّه جلَّ ثناؤه تجلَّى لنا فنظرنا إليه، فنضرتْ وجوهنا” (1) .
وقال عبد اللَّه بن المبارك: أنبأنا إسماعيل بن عيَّاش، قال: حدثني ثعلبة بن مسلم عن أيوب بن بشير العجلي عن شُفي بن ماتع (2) أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ من نعيم أهل الجنَّة أنَّهم يتزاورون على المطايا والنجب، وأنَّهم يُؤْتَون في الجنَّة بخيلٍ مُلجمة مسرجة لا تروث ولا تبول، يركبونها حتَّى ينتهوا حيث شاء اللَّه، فيأتيهم مثلُ السحابة فيها
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (339).
وسنده ضعيف جدًا، فيه عبد اللَّه بن عَرَادة.
انظر: تهذيب الكمال (15/ 295).
(2) في “ج”: زيادة “الأصبحي”.
(1/583)
ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، فيقولون: أمطري علينا فما يزال المطر عليهم حتَّى ينتهيَ ذلك فوق أمانيهم، ثمَّ يبعث اللَّه تعالى ريحًا غير مؤذية فتنسفُ كثبانًا من مسك عن أيمانهم وعن شمائلهم، فيأخذون ذلك المسك في نواصي خيولهم وفي مفارقها وفي رؤوسهم، ولكلِّ رجلٍ منهم جُمَّة على ما اشتهتْ نفسه، فيتعلق ذلك المسك في تلك الجمام، وفي الخيلِ وفيما سوى ذلك من الثياب، ثمَّ يقبلون حتَّى ينتهوا إلى ما شاء اللَّه، فإذا المرأة تنادي بعض أولئك: يا عبد اللَّه أَمَا لَك فينا حاجة؟ فيقول (1): ما أنت، ومن أنت؟ فتقول: أنا زوجتك وحِبك، فيقول: ما كنت علمت بمكانك، فتقول المرأة: وما تعلم أنَّ اللَّه تعالى قال: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17]، فيقول: بلى وربِّي. فلعلَّه يشتغل عنها بعد ذلك الموقف أربعينَ خريفًا، ما يشغله عنها إلَّا ما هو فيه من النعيم” (2).
فصل
وقد جعل اللَّهُ سبحانه السحاب وما يمطره سببًا للرحمة والحياة، في هذه الدَّار، ويجعله سببًا لحياةِ الخلقِ في قبورهم، حيث يمطر على الأرضِ أربعين صباحًا (3) مطرًا متداركًا من تحت العرشِ، فينبتون
(1) في نسخة على حاشية “أ”: “فيقول: ما كنت علمتُ”.
(2) تقدمَّ الكلامُ عليه في ص (566 – 567).
(3) أخرجه المروزي في زياداته على الزهد لابن المبارك رقم (1607).
من حديث سلمان الفارسي موقوفًا. =
(1/584)
تحت الأرض كنبات الزرع (1) ، ويبعثون يوم القيامة والسماء تَطِشُّ عليهم (2) ، وكأنَّه -واللَّهُ أعلمُ- أثر ذلك المطر العظيم كما يكون في الدنيا، ويثير لهم سحابًا في الجنَّة يمطرهم ما شاؤوا من طيبٍ وغيره، وكذلك أهل النَّارِ ينشئُ لهم سحابًا يمطرُ عليهم عذابًا إلى عذابهم؛ كما أنشأ لقومِ هودٍ وقوم شعيبٍ سحابًا أمطرهم عذابًا أهلكهم، فهو سبحانه ينشئه للرحمة والعذابِ.
= وسنده صحيح.
(1) ورد معناهُ في البخاري رقم (4651)، ومسلم رقم (2955) عن أبي هريرة وفيه: “ثمَّ ينزل اللَّهُ من السماء ماءً فينبتون كما ينبتُ البقل”.
(2) ورد من حديث أنس موقوفًا عند أبي يعلى رقم (4041) وغيره.
وسنده لا بأس به، وروي مرفوعًا عند أحمد (2/ 267)، والموقوف أشبه.
والطَّشُّ: المطر الضعيف. وراجع البدور السافرة للسيوطي ص (36 – 39).
(1/585)
الباب الثالث والستون: في ذكر مُلكِ الجنَّة وأنَّ أهلها كلهم (1) ملوك فيها
قال اللَّهُ تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)} [الإنسان: 20].
قال ابن أبي نجيح عن مجاهد: {وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)} قال: “عظيمًا”. وقال: “استئذان الملائكة عليهم لا تدخل عليهم الملائكة إلَّا بإذن” (2).
وقال كعب في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)} قال: “يُرسِلُ إليهم ربُّهم الملائكة، فتأتي الملائكة فتستأذن عليهم” (3).
وقال بعضهم: الخدم، ولا تدخل الملائكة عليهم إلَّا بإذن.
وقال الحكم (4) بن أبان: عن عكرمة عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- “أنَّه ذكر مراكب أهل الجنَّة ثمَّ تلا: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)} ” (5).
(1) في “ج”: “كلها”.
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (202)، والبيهقي في البعثِ رقم (446) وغيرهما.
وفي سنده ضعف، فيه مسلم بن خالد الزنجي في حفظه لِيْن.
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (206).
وفيه الواقدي: متروك الحديث.
(4) في “د”: “الحاكم” وهو خطأ.
(5) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (205)، والحاكم في المستدرك =
(1/586)
وقال ابن أبي الحواري: سمعتُ أبا سليمان يقول في قول اللَّه عزَّ وجلَّ: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) } قال: “الملك الكبير: أنَّ رسول ربِّ العِزَّة يأتيه بالتحفة واللطف (1) ، فلا يصل إليه حتَّى يستأذن عليه فيقول للحاجب: استأذن على وليِّ اللَّهِ، فإنِّي لستُ أصلُ إليه، فَيُعْلِمُ ذلك الحاجب حاجبًا آخر، وحاجبًا بعد حاجب، ومن داره إلى دار السلام باب يدخل منه على ربِّه إذا شاءَ بلا إذنٍ، فالملك الكبير: أنَّ رسول ربِّ العزَّة لا يدخل عليه إلَّا بإذن، وهو يدخل على ربِّه بلا إذنٍ” (2) .
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا صالح بن مالك، حدثنا صالح المري، حدثنا يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه يرفعه: “إنَّ أسفَلَ أهلِ الجنَّة أجمعين درجةً مَنْ يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم” (3) .
= (2/ 555) رقم (3885)، والبيهقي في البعث رقم (445) وغيرهم.
قال الحاكم: “هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه”.
وتعقبه الذهبي بقوله: “حفص [يعني ابن عمر العدني] واهٍ”.
فالإسناد ضعيف.
تنبيه: وقعَ عند ابن المبارك “232 – نعيم” وابن أبي الدنيا “عن رجل” وقد جاء مصرحًا باسمه حفص بن عمر عند الحاكم والبيهقي.
(1) في “د”: “اللطائف”.
(2) أخرجه البيهقي في البعث رقم (447).
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (210)، والمروزي في زياداته على الزهد لابن المبارك رقم (1530) مطوَّلًا من طريق صالح المري به. وسنده ضعيف جدًّا، يزيد الرقاشي وصالح المري ضعيفان، والرقاشي أضعف.
وله طريق آخر عن أنس عند الطبراني في الأوسط رقم (7674) مطوَّلًا، وهو =
(1/587)
حدثني محمد بن عباد بن موسى، أنبأنا زيد بن الحُبَاب، عن أبي هلال الراسبي، أخبرنا الحجاج بن عتاب العبدي، عن عبد اللَّه بن معبد (1) الزمَّاني، عن أبي هريرة قال: “إن أدنى أهل الجنة منزلة وليس فيهم دني، من يغدو عليه كل يوم ويروح خمسة عشر ألف خادم، ليس منهم خادم إلا ومعه طرفة ليست مع صاحبه” (2) .
حدثني محمد بن عباد، حدثنا زيد بن الحباب، عن أبي هلال، حدثنا حميد بن هلال قال: “ما من رجل من أهل الجنة إلا وله ألف خازن، ليس منهم خازن إلا على عمل ليس عليه صاحبه” (3) .
حدثني هارون بن سفيان، أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا المُفَضَّل ابن فضالة، عن زهرة بن معبد، عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال: “إن العبد أول ما يدخل الجنة يتلقاه سبعون ألف خادم كأنهم
= حديث منكر.
(1) في “أ”: “محمد” وهو خطأ، انظر: تهذيب الكمال (16/ 168).
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (211)، والبخاري في تاريخه الكبير (2/ 377 – 378).
- ورواهُ موسى وشيبان بن فرُّوخ عن أبي هلال محمد بن سليم به مختصرًا وفيه “عشرة آلاف”.
أخرجه البخاري في تاريخه الكبير (2/ 377 – 378)، والدولابي في الكنى والأسماء (1/ 165).
والحديث مداره على أبي هلال الراسبي، وفيه ضعف.
انظر: تهذيب الكمال (25/ 292 – 296).
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (212).
وفي سنده ضعف، فيه أبو هلال الراسبي.
(1/588)
اللؤلؤ” (1) .
حدثني هارون بن سفيان، حدثنا محمد بن عمر، أخبرنا محمد بن هلال عن أبيه، عن أبي هريرة قال: “إن أدنى أهل الجنة منزلة – وما فيهم دني – لَمَن يغدو عليه عشرة آلاف خادم، مع كل خادم طرفة ليست مع صاحبه” (2) .
وقال عبد اللَّه بن المبارك: حدثنا يحيى بن أيوب، حدثني عبيد اللَّه ابن زَحَر، عن محمد بن أبي أيوب المخزومي، عن أبي عبد الرحمن المعافري قال: “إنه لَيُصَفُّ للرجل من أهل الجنة سِمَاطان لا يرى طرفاهما من غلمانه، حتى إذا مرَّ مَشَوْا وراءه” (3) .
وقال أبو خيثمة: حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إن أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم، واثنتان وسبعون زوجة، وينصب له قبة من لؤلؤ وياقوت وزبرجد، كما بين الجابية وصنعاء” (4) .
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (213).
وفيه الواقدي: محمد بن عمر، وهو متروك الحديث.
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (214).
وفيه الواقدي محمد بن عمر، وهو متروك الحديث.
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (26، 215)، وابن المبارك في الزهدِ -رواية نعيم- رقم (415).
وسنده ضعيف، فيه عبيد اللَّه بن زحر ويحيى بن أيوب فيهما لين.
(4) أخرجه ابن أبي الدنيا في “صفة الجنة” (222).
وأخرجه أحمد في المسند (3/ 76)، وأبو يعلى في مسنده (2/ 532) =
(1/589)
وقال عبد اللَّه بن المبارك: أخبرنا بقية بن الوليد، حدثني أرطاة بن المنذر قال: سمعت رجلًا -من مشيخة الجَنَد (1) – يقال له: أبو الحجاج قال: جلست إلى أبي أمامة فقال: إن المؤمن يكون متكئًا على أريكته إذا دخل الجنة، وعنده سماطان من الخدم، وعند طرف السماطين باب مُبَوَّب فيقبل الملك من ملائكة اللَّه عز وجل ليستأذن، فيقوم أدنى الخدم إلى الباب، فإذا هو بالملك يستأذن، فيقول للذي يليه هذا ملك يستأذن، ويقول للذي يليه: ملك يستأذن، حتى يبلغ المؤمن فيقول: ائذنوا له، فيقول أقربهم إلى المؤمن: ائذنوا له، ويقول الذي يليه للذي يليه: ائذنوا له كذلك، حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب، فيفتح له، فيدخل فيسلم ثم ينصرف” (2) .
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن الحسن، حدثنا قَبِيصة حدثنا سليمان العنبري، عن الضحاك بن مزاحم قال: بينا ولي اللَّه في منزله إذ أتاه رسول من اللَّه عز وجل فقال للآذن: استاذن لرسول اللَّه على ولي اللَّه، فيدخل الآذن فيقول: يا ولي اللَّه، هذا رسول اللَّه يستأذن عليك، قال: ائذن له فيأذن له فيدخل (3) على ولي اللَّه، فيضع ما بين يديه
= (1404)، وغيرهم.
وتقدم كلام المؤلف عليه ص (500).
(1) قوله: “من مشيخة الجند” في “ب، د، هـ”، والزهد لابن المبارك، “الجنيد” بدل “الجند”، ووقع في “مسند أحمد” في حديث النهي عن ضرب وجه الدواب: “أشياخ الجند”، ووقع عند ابن أبي الدنيا “من مسجد الخيف”! وهو تحريف.
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (203)، وفيه جهالة الرجل.
(3) من قوله “الآذن فيقول” إلى “فيدخل” سقط من “أ”، ووقع في نسخةٍ على =
(1/590)
تحفة، فيقول: يا ولي اللَّه: إن ربك يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تأكل من هذه، قال: فُيشبِّهُهُ بطعام أكله أيضًا، فيقول: إنما أكلت هذا الآن، فيقول: إن ربك يأمرك أن تأكل منها، فيأكل منها فيجد منها طعم كل ثمرة في الجنة، قال: فذلك قوله عز وجل: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25] ” (1) .
وفي “صحيح مسلم” (2) من حديث المغيرة بن شعبة، عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “سأل موسى ربه ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو الرجل يجيء بعدما أُدخِل أهل الجنةِ الجنةَ، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي ربِّ، كيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟! فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مَلِك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت ربي، فيقول له: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت رب، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذَّت عينك، فيقول: “رضيت رب” وذكر الحديث، وقد تقدم ذكره بتمامه (3) .
وقال البزار في “مسنده”: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا المغيرة ابن سلمة، حدثنا وهيب عن الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد
= حاشية “أ” مكان هذه الجملة “الآذن”.
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (204).
وسنده لا بأس به.
(2) رقم (189).
(3) ص (219 – 220).
(1/591)
قال: “خلق اللَّه تبارك وتعالى الجنة: لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وغرسها بيده، وقال لها: تكلمي، فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( 1)} [المؤمنون: 1] فدخلها (1) الملائكة، فقال: طوبى لك منزل الملوك” (2) .
هكذا رواه وهيب عن الجريري موقوفًا، ورواه عدي بن الفضل، عن الجريري فرفعه، قال البزار: “ولا نعلم أحدًا رفعه إلا عدي بن الفضل بهذا الإسناد، وعدي بن الفضل ليس بالحافظ، وهو شيخ بصري”.
قلت: عدي بن الفضل هذا تفرد به ابن ماجه، وقد ضعفه يحيى بن معين، وأبو حاتم. والحديث: صحيح موقوف. واللَّه أعلم.
وقد تقدم ذكر التيجان على رؤوسهم (3) ، وإنما (4) يلبسها الملوك.
(1) في نسخة على حاشية “أ” “فيدخلها”.
(2) تقدم في ص (218).
(3) ص (438 – 440).
(4) في نسخةٍ على حاشية “أ”: “وأنَّها”.
(1/592)
آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (10)
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح
تأليف الإمام أبي عبد اللَّه محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 هـ – 751 هـ)
تحقيق زائد بن أحمد النشيري
إشراف بكر بن عبد اللَّه أبو زيد
[المجلد الثاني](2/)
الباب الرَّابع والستون: في أنَّ (1) الجنَّة فوق ما يخطر بالبال أو يدورُ في الخلد، وأنَّ موضع سوطٍ منها خيرٌ من الدنيا وما فيها
قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 16، 17].
وتأمَّل كيفَ قابل ما أخفوه من قيام الليل بالجزاء الَّذي أخفاهُ لهم ممَّا لا تعلمه نفس، وكيف قابل قلقهم وخوفهم واضطرابهم على مضاجعهم حتى يقوموا إلى صلاة الليل = بقُرَّة الأعين في الجنَّة.
وفي “الصحيحين” (2) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “قال اللَّهُ عزَّ وجل: أعددتُ لعبادي الصالحين، ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذُنٌ سمعتْ، ولا خطرَ على قلبَ بشرٍ، مِصْداقُ ذلك في كتاب اللَّه تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} “.
وفي لفظٍ آخر فيهما: “يقول اللَّهُ عزَّ وجلَّ: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أُذنٌ سمعتْ، ولا خطرَ على قلب بشر، ذُخْرًا بَلْهَ ما أطلعكم عليه، ثمَّ قرأ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ
(1) في “ج”: “ذِكْرِ”.
(2) البخاري رقم (4501)، ومسلم رقم (2824) – (2) واللفظ لمسلم.
(2/593)
أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) } الآية” (1) .
وفي بعض طُرُق البخاري: قال أبو هريرة: اقرؤوا إنْ شِئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} ” (2) .
وفي “صحيح مسلم” (3) من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي اللَّه عنه قال: شهدت من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مجلسًا وصف فيه الجنَّة حتَّى انتهى، ثمَّ قال في آخر حديثه: “فيها ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذنٌ سمعتْ، ولا خطرَ على قلب بشر، ثمَّ اقترأ هذه الآية: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) } [السجدة: 16 – 17] “.
وفي “الصحيحين” (4) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لقابُ قوس أحدكم في الجنَّة خيرٌ ممَّا طلعتْ عليه الشمس أو تغرب”.
وقد تقدَّم حديث أبي أُمامة (5) عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أَلَا مُشَمِّرٌ للجنَّة، فإنَّ الجنَّة لا خَطَرَ لها، هي وربِّ الكعبة نورٌ يتلألأ، وريحانةٌ تهتزُّ، وقصرٌ مشيدٌ، ونهرٌ مُطَّرِدٌ، وثمرةٌ نضيجةٌ، وزوجةٌ حسناءُ جميلةٌ،
(1) البخاري رقم (4502)، ومسلم رقم (2824) – (4).
(2) أخرجه البخاري رقم (3072) و (4501).
(3) رقم (2825).
(4) البخاري رقم (2640)، ومسلم رقم (1882).
(5) قوله (أبي أمامة) كذا في الأصول، وصوابه (أُسامة).
(2/594)
وحُللٌ كثيرة، ومقام في أبدٍ في دارٍ سليمة، وفاكهةٍ وخضرةٍ وحبرةٍ ونعمةٍ، في محلةٍ عاليةٍ بهيةٍ (1) ” (2) .
ولو لم يكن من خطر الجنَّة وشرفها إِلَّا أنَّه لا يُسأل بوجه اللَّه غيرها = لكفاها شرفًا وفضلًا، كما في “سنن أبي داود” من حديث سليمان بن معاذٍ عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري (3) -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لا يسأل بوجه اللَّهِ إِلَّا الجنَّة” (4) .
وفي “معجم الطبراني” من حديث بَقِيَّة، عن ابن جُرَيْج عن عطاء عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لما خلقَ اللَّهُ جنَّةَ عَدْنٍ، خَلَقَ فيها ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذُنٌ سمعتْ، ولا خَطَرَ على قلب بشرٍ، ثمَّ قال لها: تكلَّمي. فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) } ” (5) .
(1) في “أ”: “رفيعة”.
(2) تقدم في الباب (45) ص (291 – 292).
(3) قوله “بن عبد اللَّه الأنصاري” ليس في “ب، د”.
(4) أخرجه أبو داود رقم (1671)، وابن عدي في الكامل (3/ 257)، والخطيب في الموضح (1/ 253).
وسنده ضعيف؛ لأنَّ مدارهُ على سليمان بن معاذ، وهو شيعي في حفظه ضعف. انظر: تهذيب الكمال (12/ 52 – 54).
تنبيه: اختلف العلماءُ هل سليمان بن معاذ وسليمان بن قرم، واحد أم اثنان؟ انظر: الموضح للخطيب (1/ 351 – 354).
(5) أخرجه الطبراني في الكبير (11/ 184) رقم (11439)، وفي الأوسط =
(2/595)
وفي “صحيح البخاري” (1) من حديث سهل بن سعد رضي اللَّه عنه قال: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “موضع سوط في الجنَّة خيرٌ من الدنيا وما فيها”.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لَقِيْدُ سوطِ أحدكم من الْجنَّة خيرٌ ممَّا بين السماء والأرضِ” (2) . وهذا الإسناد على شرط الصحيحين.
وقال الترمذي: حدثنا سُوَيد بن نصر حدثنا ابن المبارك أنبأنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن داود بن عامر بن سعد بن أبي وقَّاص عن أبيه عن جده عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “لو أنَّ ما يقِلُّ ظُفُر (3) ممَّا في الجنَّة
= (1/ 215) رقم (738).
من طريق هشام بن خالد عن بقية به.
قال الطبراني: “لم يرو هذين الحديثين عن ابن جريج إِلَّا بقية، تفرَّد بهما: هشام بن خالد”.
والحديث غريب جدًّا، يخشى من تدليس بقية فيه، ويخشى فيه من وهم هشام بن خالد أبي مروان الدمشقي، واللَّهُ أعلم.
والحديث جوَّد إسناده الهيثمي والسيوطي.
انظر: مجمع الزوائد (10/ 397)، والبدور السافرة رقم (1663).
(1) رقم (2735)، ومسلم رقم (1881)، واللفظ للبخاري.
(2) أخرجه أحمد في مسنده (2/ 315)، وعبد الرزاق في المصنف (11/ 420) رقم (20885)، وابن حبان في صحيحه رقم (6158) وغيرهم.
وسنده كما قال المؤلف، وله طرق عن أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما نحوه.
(3) في نسخةٍ على حاشية “أ”: “طرف”، وكذا في “هـ” لكن ضرب عليه وصحح =
(2/596)
بدا لتزخرفت له ما بين خوافق السماوات والأرضِ، ولو أنَّ رجلًا من أهل الجنَّة اطَّلعَ فبدا أساوره لطمسَ ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوءَ الكواكب” (1) .
قال الترمذي: “هذا حديث غريب، لا نعرفه بهذا الإسناد إِلَّا من حديث ابن لهيعة، وقد روى يحيى بن أيوب هذا الحديث عن يزيد بن أبي حبيب، وقال: عن عمر بن سعد بن أبي وقاص عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-“.
قلتُ: وقد رواهُ ابن وهب أنبأنا عمرو يعني: ابن الحارث أنَّ سليمان بن حميد حدَّثه أنَّ عامر بن سعد بن أبي وقاص (2) ، قال سليمان: لا أعلمُ إِلَّا أنَّه حدثني عن أبيه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: “لو أنَّ ما أقلَّ ظفر من الجنَّة برزَ للدنيا لتزخرف له ما بين السماء والأرضِ”.
وفي الباب: عن أَنس بن مالك وأبي سعيد الخدري وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهم.
وكيفَ يُقدَّر قدْر دارٍ غرسها اللَّه بيده، وجعلها مقرًّا لأحبابه، وملأها من كرامته ورحمته ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العظيم، وملكها بالملك الكبير، وأودعها جميع الخير بحذافيره، وطهرها من كل عيب وآفة ونقص.
فإن سألت عن أرضها وتربتها فهي المسك والزعفران.
= إلى “ظفر”.
(1) تقدم الكلام عليه ص (425 – 426).
(2) في “هـ”: “سعد” وهو خطأ.
(2/597)
وإن سألت عن سقفها فهو عرش الرحمن.
وإن سألت عن مِلاطها فهو المسك الأذفر.
وإن سألت عن حصبائها فهي اللؤلؤ والجوهر.
وإن سألت عن بنائها فَلَبِنَة من فضة ولبنة من ذهب.
وإن سألت عن أشجارها فما فيها شجرة إلا ساقها من ذهب (1) أو فضة، لا من الحطب والخشب.
وإن سألت عن ثمرها فأمثال القِلال، ألْين من الزبد، وأحلى من العسل.
وإن سألت عن ورقها فأحسن ما يكون من رقائق الحلل.
وإن سألت عن أنهارها فأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى (2) .
وإن سألت عن طعامهم ففاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون.
وإن سألت عن شرابهم فالتسنيم والزنجبيل والكافور.
وإنْ سألت عن آنيتهم فآنية الذهب والفضة في صفاء القوارير.
وإنْ سألتْ عن سعة أبوابها فبين المصراعين مسيرة أربعين
(1) من قوله “فضة ولبنة” إلى “ذهب” سقط من “ج”.
(2) من “د، هـ”.
(2/598)
من الأعوام، وليأتينَّ عليه يومٌ وهو كظيظ من الزحام
وإنْ سألت عن تصفيق الرياح لأشجارها فإنَّها تستفز بالطرب لمن يسمعها.
وإنْ سألت عن ظِلِّها ففيها شجرة واحدة يسير الرَّاكبُ المجدُّ السريع في ظلها مئة عام لا يقطعها.
وإنْ سألت عن سعتها فأدنى أهلها يسير في ملكه وسرره وقصوره وبساتينه مسيرة ألفي عام.
وإنْ سألت عن خيامها وقبابها فالخيمة الواحدة من دُرَّةٍ مجوَّفة طولها ستون ميلًا من جملة الخيام
وإنْ سألت عن علاليها وجواسقها (1) فهي غرف من فوقها غرف مَبْنِية، تجري من تحتها الأنهار.
وإنْ سألت عن ارتفاعها فانظر إلى الكوكب الطالع، أو الغارب في الأفق الَّذي لا تكاد تناله الأبصار.
وإنْ سألت عن لباس أهلها فهو الحرير والذهب.
وإنْ سألت عن فرشهم فبطائنها من إستبرق مفروشة في أعلى الرُّتَب.
(1) الجواسق: جمع جَوْسَق: فارسي معرَّب، وهو تصغير قصر “كوشك” أي: صغير. انظر: المعرَّب للجواليقي ص (53).
(2/599)
وإنْ سألت عن أرائكها فهي الأسرة عليها البشخانات، وهي: الحِجَال مُزَرَّرَة بإزرار الذهب، فما لها من فُروج ولا خلال.
وإنْ سألت عن وجوه أهلها وحسنهم، فعلى صورة القمر.
وإنْ سألت عن أسنانهم فأبناءُ ثلاثة وثلاثين على صورة آدم أبي البشر.
وإنْ سألت عن سماعهم فغناء أزواجهم من الحور العين، وأعلى منه سماع أصوات الملائكة والنَّبيين، وأعلى منهما سماع خطاب ربِّ العالمين.
وإنْ سألت عن مطاياهم التي يتزاورون عليها، فنجائب أنشأها اللَّه تعالى ممَّا شاءَ تسير بهم حيث شاؤوا من الجنان.
وإنْ سألت عن حُليهم وشارتهم، فأسَاوِر الذهب واللؤلؤ، على الرؤوس ملابس التِّيجان.
وإنْ سألت عن غلمانهم فولدانٌ مخلدون كأنَّهم لؤلؤٌ مكنون.
وإنْ سألتَ عن عرائسهم وأزواجهم فهُنَّ الكواعب الأترابُ، الَّلاتي جرى في أغصانِهنَّ ماءُ الشباب، فللوردِ والتفاح: ما لبسته الخدود، وللرُّمان: ما تضمنته النهود، ولِلُّؤلؤ المنظوم: ما حوته الثغور، وللدقة والَّلطافة: ما دارتْ عليه الخصور، تجري الشمسُ في محاسن وجهها إذا برزت، ويضيء البرق من بين ثناياها إذا ابتسمت، إذا قابلت حِبَّها فَقُلْ ما شئت في تقابل النَّيِّرَين، وإذا حادثته فما ظنُّك بمحادثة الحبيبين، وإنْ ضمها إليه فما ظنك بتعانق الغصنين، يرى وجهه في
(2/600)
صحن خدِّها، كما يرى في المرآة التي جلَّاها صيقلها، ويرى مخَّ ساقها من وراء اللحم، ولا يستره جلدها ولا عظمها ولا حُلَلُها، لو اطلعت على الدنيا لملأت ما بين السماء والأرض ريحًا، ولا استنطقت أفواهَ الخلائقِ تهليلًا وتكبيرًا وتسبيحًا، ولتزخرف لها ما بين الخافقين، ولأغمضت عن غيرها كلَّ عينٍ، ولطمستْ ضوءَ الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم، ولآمن من على ظهرها باللَّه الحيَّ القيوم، نصيفها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها، ووصالها أشهى إليه من جميع أمانيها، لا تزداد على تطاول الأحقاب إِلَّا حسنًا وجمالًا، ولا يزدادُ لها على طول المدى إِلَّا محبة وَوِصالًا، مُبَرَّأة من الحبلِ والولادة والحيضِ والنفاس، مطهَّرة من المخاطِ والبصاق والبولِ والغائط وسائرِ الأَدناس، لا يفنى شبابُهَا، ولا تبلى ثيابها، ولا يخلقُ ثوب جمالها، ولا يملُّ طيبُ وصالها، قد قصرتْ طرفها على زوجها، فلا تطمحُ لأحدٍ سواهُ، وقَصَرَ طرفه عليها فهي غايه أُمنيته وهواه، إنْ نظرَ إليها سرَّته، وإنْ أمرها أطاعته، وإنْ غابَ عنها حفظته، فهو معها في غاية الأماني والأمان، هذا، ولم يطمثها قبله إنسٌ ولا جانٌّ، كلما نظر إليها ملأت قلبه سرورًا، وكلَّما حدثته ملأت أُذُنه لؤلؤًا منظومًا ومنثورًا، وإذا برزت ملأت القصرَ والغرفة نورًا.
وإنْ سألت عن السِنِّ فأترابٌ في أعدلِ سنِّ الشباب.
وإنْ سألت عن الحُسن فهل رأيت الشمس والقمر؟!
وإنْ سألتَ عن الحدَق فأحسن سواد في أصفى بياض، في أحسن حَوَر.
(2/601)
وإنْ سألتَ عن القدود فهل رأيتَ أحسن الأغصان؟
وإنْ سألت عن النهود فهنَّ الكواعب، نهودهن كألطف الرمان.
وإنْ سألت عن اللون فكأنَّهن الياقوت والمرجان.
وإنْ سألت عن حسن الخلق فهنَّ الخَيْرات الحسان، الَّلاتي جُمِعَ لهنَّ بين الحسن والإحسان، فأعطين جمالَ الباطن والظاهر، فهنَّ أفراح النفوس، وقُرَّة النواظر.
وإنْ سألت عن حُسْن العِشْرة، ولذة ما هنالك فهنَّ العُرُب المتحببات إلى الأزواج بلطافة التبعل التي تمتزج بالروح أيَّ امتزاج.
فما ظنك بامرأة إذا ضحكت في وجه زوجها أضاءت الجنَّة من ضحكها، وإذا انتقلت من قصر إلى قصر، قلتَ: هذه الشمس مُنْتقلة (1) في بروج فَلَكِهَا، وإذا حاضرت زوجها فيا حسن تلك المحاضرة، وإنْ خاصرته فيا لذَّة تلك المعانقة والمخاصرة:
وحديثُها السحر الحلالُ لو (2) انَّه … لم يَجْنِ قتلَ المسلم المتحرِّز
إنْ طال لم يُمْلَلْ وإنْ هي حدَّثت … ودَّ المحدَّثُ أنَّها لم توجِزِ (3)
إنْ غنَّت فيا لذَّة الأبصارِ والأسماع، وإنْ آنست وأمتعت فيا حبَّذا تلك المؤانسة والإمتاع، وإنْ قَبَّلت فلا شيء أشهى (4) إليه من ذلك
(1) في “ج، د، هـ”: “متنقلة”.
(2) من “هـ”.
(3) انظر: ديوان ابن الرومي (3/ 1164).
(4) في “ج”: “انتهى”.
(2/602)
التقبيل، وإنْ نوَّلتْ فلا ألذَّ ولا أطيبَ من ذلك التَّنويل.
هذا، وإنْ سألت عن يوم المزيد، وزيارة العزيز الحميد، ورؤية وجهه المنزَّه عن التمثيل والتشبيه، كما تُرَى الشمس في الظهيرة والقمر ليلة البدرِ، كما تواتر عن الصادق المصدوق النقل فيه، وذلك موجود في الصِّحاح، والسنن، والمسانيد، من رواية: جرير، وصهيب، وأنس، وأبي هريرة، وأبي موسى، وأبي سعيد = فاستمع يوم ينادي المنادي: يا أهل الجنَّة، إنَّ ربَّكم تبارك وتعالى يستزيركم فحيَّ على زيارته، فيقولون: سمعًا وطاعة، وينهضون إلى الزيارة مبادرين، فإذا بالنَّجائب قد أُعدتْ لهم، فيستوون على ظهورها مسرعين، حتَّى إذا انتهوا إلى الوادي الأفيح الَّذي جُعل لهم موعدًا، وجُمِعُوا هناك، فلم يغادر الدَّاعي منهم أحدًا = أمرَ تبارك وتعالى بكرسيِّه فنصبَ هناك، ثمَّ نصبت لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجد، ومنابرُ من ذهب، ومنابر من فضة، وجلس أدناهم -وحاشاهم من الدنايا- (1) على كثبان المسك، ما يرون أنَّ أصحاب الكراسي فوقهم في العطايا، حتَّى إذا استقرت بهم مجالسهم، واطمأنت بهم أماكنهم نادى المنادي: يا أهل الجنَّة إنَّ لكم عندَ اللَّهِ موعدًا يريدُ أنْ ينجزَكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يُبيض وجوهنا ويثقِّل موازيننا، ويدخلنا الجنَّة، ويزحزحنا عن النَّارِ، فبينا هم كذلك إذ سطع لهم نورٌ أشرقت له الجنَّة، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الجبَّار جلَّ جلاله، وتقدَّستْ أسماؤه، قد
(1) في “ب، هـ”: “الدنا”، وفي “أ”: “الدنيا”، ووقع في المطبوعة بعد “الدنايا” “أنْ يكون فيهم دنيء”.
(2/603)
أشرف عليهم من فوقهم وقال: يا أهل الجنَّة: سلامٌ عليكم، فلا تردُّ هذه التحية بأحسنَ من قولهم: اللهم أنت السلام، ومنكَ السلام، تباركتَ ياذا الجلال والإكرام، فيتجلى لهم الرب تبارك وتعالى يضحك إليهم، ويقول: يا أهل الجنة، فيكون أول ما يسمعون منه تعالى: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني، فهذا يوم المزيد، فيجتمعون على كلمة واحدة أن قد رضينا فارض عنا، فيقول: يا أهل الجنة، إني لو لم أرض عنكم لم أُسْكِنْكم جنتي، هذا يوم المزيد فسلوني. فيجتمعون على كلمةٍ واحدة: أرنا وجهك ننظر إليه، فيكشف الرب جل جلاله الحُجُب، ويتجلى لهم، فيغشاهم من نوره ما لولا أن اللَّه سبحانه وقضى أن لا يحترقوا لاحترقوا، ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره الربُّ تعالى محاضرة، حتى إنه ليقول: يا فلان أتذكر يوم فعلت كذا وكذا، يذكره ببعض غدراته في الدنيا، فيقول: يا رب ألم تغفر لي؟ فيقول: بلى بمغفرتي بلغت منزلتك هذه.
فيا لذة الأسماع بتلك المحاضرة، ويا قُرَّة عيون الأبرار بالنظر إلى وجهه الكريم في الدار الآخرة، ويا ذِلَّة الراجعين بالصفقة الخاسرة. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) } [القيامة: 22 – 25].
فحيَّ على جنَّاتِ عدْنٍ فإنَّها … منازلُكَ الأُولى وفيها المُخَيَّمُ
ولكنَّنا سبْي العدوِّ فهل ترى … نعُودُ إِلى أوطاننا ونسلِّمُ (1)
(1) البيتان للمؤلَّف ضمن قصيدته في وصف الجنَّة، تقدمت في أَوَّل الكتاب ص (14).
(2/604)
الباب الخامس والستون: في رؤيتهم ربَّهم تبارك وتعالى وتجلِّيه لهم ضاحكًا إليهم
هذا البابُ أشرفُ أبواب الكتاب، وأجلُّها قدرًا، وأعلاها خطرًا، وأقرُّها لعيون أهل السنَّة والجماعة، وأشدُّها على أهل البدعة والفُرقة، وهي الغاية التي شمَّر إليها المشمرون، وتنافس فيها المتنافسون، وتسابقَ إليها المتسابقون، ولمثلها فليعمل العاملون. إذا ناله أهل الجنَّة نَسُوا ما هم فيه من النعيم، وحِرْمانه والحجاب عنه لأهل الجحيم أشدَّ عليهم من عذاب الجحيم، اتفق عليها الأنبياء والمرسلونَ، وجميعُ الصحابة والتابعون، وأئمة الإسلام على تتابع القرون، وأنكرها أهل البدع المارقون، والجهمية المتهوِّكون، والفرعونية المبطلون (1)، والباطنية الَّذين هم من جميع الأديان منسلخون، والرَّافضة الَّذين هم بحبائل الشيطان مُتمسِّكون (2)، ومن حبل اللَّه منقطعون، وعلى مسبَّة أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عاكفون، وللسُّنَّة وأهلها محاربون، ولكلِّ عدوِّ للَّه ورسوله ودينه مسالمونَ، وكل هؤلاء عن ربهم محجوبون، وعن بابه مطرودون، أولئك أحزاب الضلال، وشيعة الَّلعين، وأعداء الرسول وحزبه.
وقد أخبر سبحانه عن أعلم الخلق به في زمانه، وهو كليمه ونجيُّهُ وصفيُّهُ من أهل الأرضِ، أَنَّه سأل ربه تعالى النظر إليه، فقال له ربُّه
(1) في “ج، هـ” ونسخةٍ على حاشية “أ”: “المعطلون”.
(2) في “ج، هـ”: “مستمسكون”.
(2/605)
تبارك وتعالى: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143].
وبيان الدلالة من هذه الآية من وجوهٍ عديدةٍ:
أحدها: أنْ لا يُظَنَّ بكليم الرحمن ورسوله الكريم عليه أنَّه يسأل ربَّهُ ما لا يجوز عليه، بل هو من أبطلِ الباطل، وأعظم المحال، وعند فروخ اليونان، والصائبة، والفِرعونية بمنزلة أنْ يسأله أنْ يأكل ويشرب وينام، ونحو ذلك ممَّا يتعالى اللَّه عنه، فيالله العجب! كيف صارَ أتباعُ الصابئة والمجوس والمشركين عُبَّادِ الأصنام وفروخ الجهمية والفِرْعونية أعلمَ باللَّه تعالى من موسى بن عِمْران، وبما يستحيل عليه، ويجب له، وأشدَّ تنزيهًا له منه؟!
الوجه الثاني: أنَّ اللَّه سبحانه لم ينكر عليه سؤاله، ولو كان محالًا لأنكره عليه، ولهذا لمَّا سأل إبراهيم الخليل ربه تعالى أنْ يريه كيف يحيى الموتى، لم ينكر عليه، ولمَّا سألَ عيسى ابن مريم ربَّه إنزالَ المائدة من السماء لم ينكر سؤاله، ولمَّا سأل نوحٌ ربَّهُ نجاةَ ابنهِ أنكر عليه سؤاله وقال: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [هود: 46 – 47].
الوجه الثالث: أنَّه أجابه بقوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] ولم يقل: إنِّي لا أُرَى، ولا إنِّي لستُ بمرئيّ؛ ولا تجوز رؤيتي. والفرقُ بين الجوابين ظاهرٌ لمن تأمَّلَهُ.
وهذا يدلُّ على أنَّه سبحانه مرئيٌّ، ولكنَّ موسى لا تحتمل قواهُ
(2/606)
رؤيته في هذه الدار لِضَعْفِ قوى البشرِ فيها عن رؤيته تعالى، يوضِّحه:
الوجه الرَّابع: وهو قوله تعالى: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143] فأعْلَمَه أنَ الجبل مع قوَّته وصلابته لا يثبتُ لتجليه له في هذه الدَّار، فكيف بالبشر الضعيف الَّذي خُلِق من ضعْفٍ؟.
الوجه الخامس: أنَّ اللَّهَ سبحانه قادرٌ على أنْ يجعل الجبل مستقرًّا مكانَه، وليس هذا بممتنع في مقدوره، بل هو ممكن، وقد علق به الرؤية، ولو كانت محالًا في ذاتها لم يعلقها بالممكن في ذاته، ولو كانت الرؤية محالًا، لكان ذلك نظير أنْ يقول: إن استقرَّ الجبل فسوفَ آكلُ وأشربُ وأنامُ، فالأمرانِ عندكم سواء.
الوجه السادس: قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} وهذا من أبين الأدلة على جوازِ رؤيته تبارك وتعالى، فإنَّه إذا جازَ أن يتجلَّى للجبلِ الَّذي هو جماد لا ثواب له ولا عقاب، فكيف يمتنع أن يتجلَّى لأنبيائه ورسله وأوليائه في دار كرامته ويريهم نفسه؟ وأعلم سبحانه موسى أنَّ الجبل إذا لم يثبت لرؤيته في هذه الدَّارِ، فالبَشَر أضعف.
الوجه السابع: أنَّ ربه سبحانه قد كلَّمه منه إليه، وخاطبه وناداهُ وناجاهُ، ومن جازَ عليه التَّكلمُ والتكليم، وأنْ يسمع مخاطبه كلامه معه بغير واسطة، فرؤيته أولى بالجواز، ولهذا لا يتم إنكار الرؤية إِلَّا بإنكار التكليم، وقد جمعت هذه الطوائف بين إنكار الأمرين، فأنكروا أنْ يكلِّم أحدًا، أو يراهُ أحدٌ، ولهذا سأله موسى النظر إليه لمَّا
(2/607)
أسمعه كلامه، وعلم من (1) اللَّهِ جوازَ رؤيته من وقوع خطابه وتكليمه، فلم يخبره باستحالة ذلك عليه، ولكنْ أراهُ أن ما سأله لا يقدر على احتماله، كما لم يثبت الجبل لتجليه.
وأمَّا قوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] فإنَّما يدلُّ على النَّفي في المستقبل، ولا يدلُّ على دوام النَّفي؛ ولو قُيِّدت بالتأبيد، فكيف إذا أُطلقت، قال تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة: 95] مع قوله: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77].
فصل
الدليلُ الثاني: قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ} [البقرة: 223]، وقوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} [الأحزاب: 44] وقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف: 110]، وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ} [البقرة: 249].
وأجمع أهل اللسان على أنَّ اللقاء متى نُسِبَ إلى الحي السليم من العَمَى والمانع؛ اقتضى المعاينة والرؤية، ولا ينتقض هذا بقوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77]: فقد دلَّت الأحاديث الصحيحة الصريحة على أنَّ المنافقين يرونه تعالى في عَرَصَات القيامة، بل والكفار أيضًا كما في “الصحيحين” في حديث التجلي يوم القيامة، وسيمرُّ بِكَ عن قريبٍ إن شاء اللَّه (2).
(1) في “هـ”: “نبي”.
(2) انظر: (ص/ 629، 632، 645، 660، 661).
(2/608)
وفي هذه المسألة ثلاثة أقوالٍ لأهل السنة:
أحدها: أنَّه لا يراهُ إِلَّا المؤمنون.
الثاني: يراهُ جميع أهل الموقف: مؤمنهم وكافرهم، ثمَّ يحتجب عن الكفار فلا يرونه بعد ذلك.
والثالث: يراهُ المنافقون دون الكفار.
والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد، وهي لأصحابه، وكذلك الأقوال الثلاثة بعينها في تكليمه لهم، ولشيخنا (1) في ذلك مُصنَّف مُفْرد، حكى فيه الأقوال الثلاثة وحُجج أصحابها.
وكذا قوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)} [الانشقاق: 6] إنْ عادَ الضميرُ على العمل: فهو رؤيته في الكتاب المسطور مُبَينًا، وإنْ عادَ على الرَّبُّ تبارك وتعالى؛ فهو لقاؤه الَّذي وَعَدَ به.
فصل
الدليل الثالث: قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)} [يونس: 25 – 26].
(1) هو شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد كتب رسالة إلى أهل البحرين، ذكر فيها هذه المسألة والأقوال الثلاثة وأدلتها. مجموع الفتاوى (6/ 485 – 502). وله: قاعدة في إثبات الرؤية، والردِّ على نُفاتها. العقود الدرية (ص/ 66).
(2/609)
فالحسنى: الجنَّة، والزيادة: النظر إلى وجْهِهِ الكريم، كذلك فسَّرها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الَّذي أُنزِلَ عليه القرآن، والصحابة من بعده، كما روى مسلم في “صحيحه” (1) من حديث حمَّاد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب رضي اللَّه عنه قال: قرأ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: إذا دخل أهلُ الجنَّة الجنَّةَ، وأهل النَّارِ النَّارَ، نادى منادٍ: يا أهل الجنَّة إنَّ لكم عندَ اللَّهِ موعدًا يريدُ أنْ ينجزكموهُ، فيقولون: ما هو؟ ألم يثقِّل موازيننا، وَيُبَيِّضْ وجوهنا، ويدخلنا الجنَّة ويجرنا من النَّارِ؟! فيكشف الحجابَ فينظرون إليه فما أعطاهم شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة”.
وقال الحسن بن عرفة: حدثنا سلم بن سالم البلخي عن نوح بن أبي مريم عن ثابت عن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: “سُئِلَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال للذين أحسنوا العمل في الدنيا الحسنى: وهي الجنَّة، والزيادة: النظر إلى وجه اللَّه تعالى” (2) .
(1) رقم (181) من طريق حماد بن سلمة عن ثابت به فذكره.
وقد وقع في الحديث اختلاف على ثابت، وسيأتي بيانه ص (693).
(2) أخرجه الحسن بن عرفة في جزئه رقم (85)، وابن أبي حاتم في تفسيره (6 / رقم 10340)، والدارقطني في الرؤية رقم (57)، واللالكائي في أصول الاعتقاد رقم (779) وغيرهم.
من طريق نوح بن أبي مريم عن ثابت به فذكره.
وهو حديث باطل لا يصح، فإنَّ نوحًا هذا متروك الحديث، وقد اتهمه بعضهم.
(2/610)
وقال محمد بن جرير: حدثنا ابن حُمَيد حدثنا إبراهيم بن المختار عن ابن جُرَيج عن عطاء عن كعب بن عُجْرَة -رضي اللَّه عنه- عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: “الزيادة: النظرُ إلى وجه الرحمن جَلَّ جلالُهُ” (1) .
قلتُ: عطاء هذا هو الخراساني، وليس بعطاء بن أبي رباح.
قال ابن جرير: وحدثنا ابن عبد الرحيم (2) حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال: سمعتُ زهيرًا.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا صفوان بن صالح حدثنا الوليدُ بن مسلم حدثنا زهير بن محمد قال: حدثني من سمعَ أبا العالية الرياحي يُحدَّث عن أُبي بن كعب -رضي اللَّه عنه- قال: سألت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الزيادة في كتاب اللَّهِ عزَّ وجلَّ قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 25] قال الحسنى: الجنَّة، والزيادة: النظر إلى وجه اللَّه عزَّ وجلَّ” (3) .
(1) أخرجه الطبري في تفسيره (11/ 107)، واللالكائي في أصول الاعتقاد رقم (781).
وسنده ضعيف جدًّا، فيه محمد بن حميد الرَّازي؛ وهو متهم. وإبراهيم ابن المختار الرَّازي: ضعيف؛ وخاصَّة إذا روى محمد بن حميد عنه، وعطاء لم يسمع من كعب.
(2) عند الطبري “ابن البرقي” بدل “ابن عبد الرحيم”.
(3) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (6/ 1944) رقم (10336)، والطبري في تفسيره (11/ 107)، والَّلالكائي في أصول الاعتقاد رقم (780).
وسنده ضعيف لإبهام من سمع من أبي العالية. =
(2/611)
وقال أَسَدُ السُّنَّة: حدثنا قيس بن الربيع عن أبان عن أبي تميمة الهُجَيْمي أنَّه سمع أبا موسى -رضي اللَّه عنه- يحدَّث أنَّه سمع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “يبعثُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ يومَ القيامة مناديًا ينادي أهلَ الْجنَّة، بصوتٍ يُسْمعُ أَوَّلهم وآخرهم، إنَّ اللَّه وعدَكم الحسنى، والحسنى: الْجنَّة، والزيادة: النظر إلى وجه اللَّه عزَّ وجلَّ” (1) .
وقال ابن وهب (2) ، أخبرني شَبِيْب، عن أبان، عن أبي تميمة الهجيمي، أنَّه سمع أبا موسى الأشعري -رضي اللَّه عنه- يحدث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يبعث يوم القيامة مناديًا ينادي: يا أهل الجنَّة، بصوتٍ يُسْمِعُ أوَّلهم وآخرهم: إنَّ اللَّهَ وعدكم الحسنى وزيادة. الحُسنى: الجنَّة، والزِّيادة: النَّظرُ إلى وجه الرَّحمن”.
وأمَّا الصَّحابة: فقال ابن جرير: حدثنا بشَّارُ، حدثنا عبد الرحمن هو ابن مَهْدِي، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد
= وله طريق آخر: عند الَّلالكائي رقم (849)، والدَّارقطني في الرؤية رقم (183).
وفيه من لم أقف على حاله.
(1) أخرجه ابن وهب في التفسير من الجامع (1/ 76) رقم (171)، والطبري (11/ 105)، والدارقطني في الرؤية رقم (43).
من طريق: شبيب وإبراهيم بن أبي بكرة كلاهما عن أبان به مثله. كما سيأتي في الحديث الآتي.
وسنده ضعيف جدًّا، فيه أبان وهو ابن أبي عياش متروك الحديث.
انظر التقريب (142).
(2) في “هـ”: “قيس”، وضرب عليه الناسخ، وصوَّب “وهب”.
(2/612)
عن أبي بكر الصديق -رضي اللَّه تعالى عنه- {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: النَّظرُ إلى وجه اللَّه” (1) .
وبهذا الإسناد: عن أبي إسحاق عن مسلم بن يزيد عن حذيفة رضي اللَّهُ عنه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: النَّظرُ إلى وجه ربهم تبارك وتعالى (2) .
وحدثنا علي بن عيسى، حدثني شَبَابَة، حدثنا أبو بكر الهذلي قال: سمعتُ أبا تميمة الهُجَيمي يحدث عن أبي موسى الأشعري رضي اللَّه
(1) أخرجه الطبري (11/ 104 – 105) وعبد اللَّه بن أحمد في السنة (471).
- ورواه يونس بن أبي إسحاق وزكريا وغيرهم عن أبي إسحاق عن عامر ابن سعد عن أبي بكر فذكره.
أخرجه الدارقطني في الرؤية رقم (195، 194، 196، 198) وغيره - وخالفهم شعبة والثوري وشريك، فرووه عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد قوله (لم يذكر أبا بكر).
أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- رقم (420)، والطبري (11/ 105، 106) وغيرهما.
ورواية شعبة والثوري أصح.
بينما رجح الدارقطني قول إسرائيل ومن تابعه، وهو محتمل.
انظر: علل الدارقطني (1/ 283).
وعلى قول الدارقطني إسناده منقطع, لأن عامر بن سعد البجلي لم يدرك أبا بكر الصديق. تهذيب الكمال (14/ 23).
(2) أخرجه الطبري (11/ 105)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/ 153) رقم (34795)، وهناد في الزهد رقم (170) وغيرهم.
وسنده لا بأس به، من أجل حال مسلم بن يزيد أبي عياض الكوفي.
(2/613)
عنه قال: إذا كان يوم القيامة يبعث اللَّهُ عزَّ وجلَّ إلى أهل الجنَّة مناديًا ينادي: هل أنجز (1) اللَّهُ لكم ما وعدكم؟ فينظرون إلى ما أعد لهم من الكرامة فيقولون: نعم، فيقول: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} النظرُ إلى وجه الرحمن عزَّ وجلَّ” (2) .
وقال عبد اللَّه بن المبارك: عن أبي بكر الهذلي أنبأنا أبو تميمة قال: سمعتُ أبا موسى الأشعري رضي اللَّه عنه يخطب النَّاسُ في جامع البصرة ويقول: “إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يبعث يوم القيامة ملكًا إلى أهل الجنَّة، فيقول: يا أهل الجنَّة، هل أنجز اللَّه لكم ما وعدكم؟ فينظرون فيرون الحليَّ والحلل والأنهار والأزواج المطهرة، فيقولون: نعم، قد أنجز اللَّه ما وعدنا، ثمَّ يقول الملك: هل أنجزكم اللَّه (3) ما وعدكم ثلاث مرَّات، فلا يفقدون شيئًا ممَّا وُعِدُوا فيقولون: نعم، فيقول: قد بقيَ لكم شيء، إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يقول: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ألا إنَّ الحسنى: الجنَّة، والزيادة: النظر إلى وجه اللَّه عزَّ وجلَّ”.
(1) في (هـ)، وعند الطبري (أنجركم).
(2) أخرجه الطبري (11/ 105)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم (786)، والدارقطني في الرؤية رقم (44).
ورواه: ابن المبارك (وسيأتي عند المؤلف)، ووكيع والمعلَّى بن الفضل عن أبي بكر الهذلي به نحوه.
أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- رقم (419)، وهناد في الزهد رقم (169)، والطبري (11/ 107)، والدارقطني في الرؤية رقم (45، 46).
والأثر مداره على أبي بكر الهذلي: وهو متروك الحديث.
(3) في “ج، هـ” “هل أنجز اللَّه لكم ما وعدكم”.
(2/614)
وفي “تفسير أسباط بن نصر” عن إسماعيل السُّدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس، وعن مُرَّة الهمداني عن ابن مسعود {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ} فقال: “أمَّا الحسنى: فالجنَّة، وأمَّا الزيادة: فالنظر إلى وجه اللَّه، وأمَّا القترُ: فالسَّواد” (1) .
وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى وعامر بن سعد وإسماعيل بن عبد الرحمن السُّدي، والضحاك بن مُزاحم وعبد الرحمن بن سابط وأبو إسحاق السَّبيعي وقتادة وسعيد بن المسيب والحسن البصري وعكرمة مولى ابن عباس ومجاهد بن جبر: الحُسْنَى: الجنَّة، والزيادة: النظر إلى وجه اللَّه (2) .
وقال غير واحدٍ من السَّلفِ في الآية: {وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ} [يونس: 26]: بعد النظر إليه، والأسانيد بذلك صحيحة.
ولمَّا عطفَ سبحانه الزيادة على الحسنى التي هي الجنَّة؛ دلَّ على أنَّها أمرٌ آخر وراء الجنَّة، وقدرٌ زائدٌ عليها، ومن فسَّرَ الزيادة بالمغفرة والرضوان (3) ، فهو من لوازم رؤية الرَّبَّ تبارك وتعالى.
(1) ذكره اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم (787) عن ابن أبي حاتم.
وسنده ضعيف, كما تقدم الكلام عن هذه السلسلة ص (359 و 364).
(2) انظر: الرؤية للدارقطني رقم (208، 214، 216, 217، 221، 223، 224)، والطبري (11/ 105 – 107) والمصنف لابن أبي شيبة (7/ 169)، وشرح أصول الاعتقاد (789 – 798).
(3) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (6/ 1945) رقم (10343)، والطبري =
(2/615)
فصل
الدليل الرَّابع: قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 14, 15].
ووجه الاستدلال بها: أنَّه سبحانه جعل من أعظم عقوبة الكفار كونهم محجوبين عن رؤيته، وسماع كلامه، فلو لم يرهُ المؤمنون، ولم يسمعوا كلامَهُ كانوا أيضًا محجوبين عنه، وقد احتج بهذه الحُجَّة الشافعي نفسه وغيره من الأئمة، فذكره الطبري وغيره عن المزني قال: سمعتُ الشافعي يقول في قوله عزَّ وجلَّ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} قال: “فيها دلالة على أنَّ أولياء اللَّه يرون ربَّهم يوم القيامة” (1).
وقال الحاكم: حدثنا الأصم حدثنا الربيع بن سليمان قال: حضرت محمد بن إدريس الشافعي، وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقولُ في قول اللَّه تبارك وتعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} فقال الشافعي: لمَّا أنْ حَجَبَ هؤلاءِ في السخط كان في هذا دليلٌ على أنَّ أولياءه يرونه في الرِّضى. قال الربيع: فقلت: يا أبا عبد اللَّه، وبه تقول؟ قال: نعمِ، وبه أدين اللَّه، لو لم يُوقن محمد بن إدريس أنَّه يرى اللَّه = لَمَا عَبَدَ اللَّهَ عزَّ وجلَّ”.
= (11/ 108) عن مجاهد. وسنده حسن.
(1) أخرجه اللالكائي الطبري في شرح أصول الاعتقاد برقم (809).
(2/616)
ورواه الطبري في “شرح السنة” (1) من طريق الأصم أيضًا.
وقال أبو زرعة الرَّازي: سمعتُ أحمد بن محمد بن الحسين يقول: سُئِلَ محمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم، هل يرى الخلق كلهم [131/ أ] ربهم يوم القيامة: المؤمنون والكفار؟ فقال محمد: ليس يراهُ إِلَّا المؤمنون. قال محمد: وسئل الشافعي عن الرؤية فقال: يقول اللَّه عزَّ وجلَّ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} ففي هذا دليلٌ على أنَّ المؤمنين لا يُحْجَبون عن اللَّه عزَّ وجلَّ” (2).
فصل
والدليل الخامس: قوله عزَّ وجلَّ: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)} [ق: 35].
قال الطبريُّ (3): قال علي بن أبي طالب وأنس بن مالك: هو النظر إلى وجه اللَّه عزَّ وجلَّ، وقاله من التابعين: زيد بن وهب وغيره (4).
(1) رقم (883)، وأخرجه الواحدي في تفسيره الوسيط (4/ 464).
(2) أخرجه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم (810).
(3) سقط من “ج”، ووقع في “أ، د”: “الطبراني”، وهو خطأ.
(4) انظر شرح أصول الاعتقاد (3/ 469) رقم (811، 812، 813).
(2/617)
فصل
الدليل السادس: قوله عزَّ وجلَّ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103].
والاستدلال بهذا عجب (1)، فإنَّه من أدلة النفاة، وقد قرَّر شيخنا وجه الاستدلال به أحسن تقرير وألطفه، وقال لي: أنا ألتزمُ أنَّهُ لا يحتج مبطلٌ بآية أو حديثٍ صحيح على باطله؛ إِلَّا وفي ذلك الدليلِ ما يدلُّ على نقض قوله، فمنها هذه الآية وهي على جواز الرؤية أدلَّ منها على امتناعها، فإنَّ اللَّهَ سبحانه إنَّما ذكرها في سياق التمدُّح، ومعلومٌ أنَّ المدحَ إنَّما يكونُ بالأوصاف الثبوتية، وأمَّا العدمُ المحض فليس بكمال، فلا يمدح به، وإنَّما يُمْدح الربُّ تعالى بالعَدَمِ إذا تضمن أمرًا وجوديًّا:
كمدحه بنفي السِّنَة والنوم المتضمن كمال القَيُّومية.
ونفي الموت المتضمن كمال الحياة.
ونفي الُّلغوب والإعياء المتضمن كمال القدرة.
ونفي الشريك والصاحبة والولدِ والظهير المتضمن كمال ربوبيته وإلهيته وقهره.
ونفي الأكلِ والشربِ المتضمن لكمال صَمَدِيَّتِهِ وغِنَاهُ.
(1) في “هـ”: “أعجب”.
(2/618)
ونفي الشفاعة عنده بدون إذنه المتضمن كمال توحيده وغناهُ عن خلقه.
ونفي الظلمِ المتضمن كمال عدلهِ وعلمه وغناه.
ونفي النسيان وعزوب شيءٍ عن علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته.
ونفي المثل المتضمن لكمال ذاته وصفاته.
ولهذا لم يتمدَّح بعَدَمٍ محْضٍ لا يتضمن أمرًا ثبوتيًّا، فإنَّ المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدمٍ، ولا يوصف الكامل بأمرٍ يشترك هو والمعدوم فيه؛ فلو كان المراد بقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] أنَّهُ لا يُرَى بحالٍ، لم يكن في ذلك مَدْحٌ ولا كمال، لمشاركة المعدوم له في ذلك، فإنَّ العَدَمَ الصِّرْف لا يُرَى ولا تدركه الأبصارُ، والرَّبُّ جلَّ جلاله يتعالى أنْ يُمْدَحَ بما يشاركه فيه العدمُ المحض.
فإذًا، المعنى أنَّه يرى ولا يُدرك، ولا يحاطُ به كما كان المعنى في قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} [يونس: 61]، أنَّه يعلمُ كلَّ شيء.
وفي قوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38]، أنَّه كامل القدرة.
وفي قوله: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، أنَّه كامل العدل.
وفي قوله: {لَا تَأْخُذُه سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255]، أنَّهُ كامل القيومِيَّة.
(2/619)
فقوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} يدلُّ على غايةِ عظمته، وأَنَّه أكبرُ من كلِّ شيءٍ، وأنَّه لعظمته لا يُدْرَك بحيث يُحَاطُ به، فإنَّ الإدراك هو: الإحاطة بالشيء، وهو قدرٌ زائدٌ على الرؤية، كما قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا} [الشعراء: 61، 62] فلم ينفِ موسى الرؤية، ولم يريدوا بقولهم: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} إنَّا لمرْئِيُّون؛ فإنَّ موسى – صلوات اللَّه وسلامه عليه – نفى إدراكهم إيَّاهم بقوله: {كَلَّا} وأخبر اللَّه سبحانه أنَّه لا يخاف دركهم بقوله: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) } [طه: 77]. فالرؤية والإدراك كلٌّ منهما يوجد مع الآخر وبدونه، فالربُّ تعالى يُرى ولا يُدْرَكُ، كما يعلمُ ولا يحاط به، وهذا هو الَّذي فهمته الصحابة والأئمة من الآية.
قال ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: {لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] لا تُحِيطُ به الأبصار” (1) .
وقال قتادة: “هو أعظمُ من أنْ تدركه الأبصار” (2) .
وقال عطية: “ينظرون إلى اللَّهِ ولا تحيط أبصارهم به من عظمته، وبصره يحيط بهم، فذلك قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} ” (3) .
(1) أخرجه الطبري في تفسيره (7/ 299) بلفظ: “لا يحيط بصر أحد بالملك”.
وسنده ضعيف جدًا.
(2) أخرجه الطبري (7/ 299) وسنده صحيح.
(3) أخرجه الطبري في تفسيره (29/ 192). وعطية هو العوفي.
(2/620)
فالمؤمنون يرون ربهم -تبارك وتعالى- بأبصارهم عيانًا، ولا تدركه أبصارهم، بمعنى أنها لا تحيط به، إذ كان غير جائز أن يوصف اللَّه عز وجل بأن شيئًا يحيط به، وهو بكل شيء محيط، وهكذا يُسْمِعُ كلامه من شاء من خلقه، ولا يحيطون بكلامه، وهكذا يُعلَّم الخلق ما علمهم، ولا يحيطون بعلمه.
ونظير هذا استدلالهم على نفي الصفات بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وهذا من أعظم الأدلة على كثرة صفات كماله ونعوت جلاله، وأنها لكثرتها وعظمتها وسعتها لم يكن له مِثْلٌ فيها، وإلا فلو أريد بها نفي الصفات لكان العدم المحض أولى بهذا المدح منه، مع أن جميع العقلاء إنما يفهمون من قول القائل: فلان لا مِثْلَ له وليس له نظير، ولا شبيه ولا مثل = أنَّه قد تَمَيَّز عن الناس بأوصافٍ ونعوت لا يشاركونه فيها، وكلما كثرت أوصافه ونعوته فات أمثاله، وبعد عن مشابهة أضرابه، فقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} من أدلِّ شيءٍ على كثرة نعوته وصفاته.
وقوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] من أدلِّ شيءٍ على أَنَّهُ يُرى ولا يُدرك.
وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)} [الحديد: 4]، من أدلِّ شيءٍ على مباينة الرَّبِّ لخلقه؛ فإنه لم يخلقهم في ذاته بل
(2/621)
خلقهم (1) خارجًا عن ذاته، ثم بان عنهم باستوائه على عرشه، وهو يعلم ما هم عليه، ويراهم وينفذهم بصره، ويحيط بهم عِلْمًا وقدرة وإرادة وسمعًا وبصرًا، فهذا معنى كونه سبحانه معهم أينما كانوا.
وتأمَّل حُسن هذه المقابلة لفظًا ومعنًى بين قوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]. فإنه سبحانه لعظمته يتعالى أن تدركه الأبصار وتحيط به، ولِلُطْفِه وخبرته يُدْرك الأبصار فلا تخفى عليه، فهو العظيم في لُطْفِه، اللطيف في عظمته، العالي في قربه، القريب في علوِّه، الَّذي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [الأنعام: 103].
فصل
الدليل السابع: قوله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 – 23]، وأنت إذا أَجَرْتَ هذه الآية من تحريفها عن مواضعها والكذب على المتكلم بها سبحانه فيما أراد منها = وجدتها منادية نداء صريحًا: أنَّ اللَّه سبحانه يُرى عيانًا بالأبصار يوم القيامة، وإن أبيت إلا تحريفها الذي يسميه المُحرِّفُون تأويلًا، فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والميزان والحساب أسهل على أربابه من تأويلها، وتأويل كل نصًّ تضمنه القرآن والسنة كذلك، ولا يشاء مُبْطِلٌ على وجه الأرض أن يتأول النصوص ويحرفها عن مواضعها إلا وجَدَ إلى ذلك من السبيل
(1) من “أ” فقط.
(2/622)
ما وجده متأول مثل هذه النصوص، وهذا الذي أفسد الدين والدنيا.
وإضافة النظر إلى الوجه الذي هو محلّه في هذه الآية، وتَعْدِيته بأداة “إلى” الصريحة في نظر العين، وإخلاء الكلام من قرينة تدل على أن المراد بالنظر المضاف إلى الوجه المُعَدَّى بـ “إلى” خلاف حقيقته، وموضوعه = صريح في أن اللَّه سبحانه أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى نفس الرب جل جلاله، فإن النظر له عِدَّة استعمالات بحسب صِلاته وتَعَدِّيه بنفسه:
فإن عُدِّيَ بنفسه فمعناه: التوقف والانتظار، كقوله تعالى: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13].
وإن عُدَّيَ بـ “في” فمعناه: التفكر والاعتبار، كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 185].
وإن عُدِّيَ بـ “إلى” فمعناه: المعاينة بالأبصار كقوله تعالى: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 99]، فكيف إذا أُضيف إلى الوجه الذي هو محل البصر؟
قال يزيد بن هارون: أنبأنا مبارك، عن الحسن: “نظرت إلى ربها تبارك وتعالى فنَضِرت بنوره” (1) .
(1) أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في السنة رقم (479)، والطبري في تفسيره (29/ 192) والآجري في الشريعة رقم (585) والدارقطني في الرؤية رقم (217)، وغيرهم.
وسنده حسن.
(2/623)
فاسمع الآن أيها السُّنِّي تفسير النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه والتابعين وأئمة الإسلام لهذه الآية.
قال ابن مردويه في “تفسيره”: حدثنا إبراهيم بن محمد، حدثنا صالح بن أحمد، حدثنا يزيد بن الهيثم، حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا مصعب بن المقدام، حدثنا سفيان، عن ثوير بن أبي فاختة، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) } قال: “من البهاء والحسن {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) } [القيامة: 23]. قال: في وجه اللَّه عز وجل” (1) .
وقال أبو صالح: عن ابن عباس {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) } قال: “تنظر إلى وجه ربها” (2) .
وقال عكرمة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) } قال: “من النعيم”، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) } (3) قال: “تنظر إلى ربها نظرًا”، ثم حكى عن ابن عباس مثله” (4) .
(1) سنده ضعيف. وعلته ضعف ثوير.
وتقدم أصل هذا الحديث في ص (323 – 324). وهو لا يثبت مرفوعًا.
(2) لم أقف عليه من طريق أبي صالح.
وقد توبع أبو صالح، فرواه عبد الصمد عن أبيه، وعكرمة كلاهما عن ابن عباس نحوه.
أخرجه الآجري في الشريعة رقم (588)، واللالكائي رقم (799).
(3) من قوله “قال عكرمة” إلى “ناظرة” سقط من “ج”.
(4) أخرجه الآجري في الشريعة رقم (588)، واللالكائي رقم (804): عن ابن =
(2/624)
وهذا قول كل مفسر من أهل السنة والحديث.
فصل
وأما الأحاديث عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه الدالة على الرؤية فمتواترة، رواها عنه أبو بكر الصديق وأبو هريرة (1)، وأبو سعيد الخدري، وجرير ابن عبد اللَّه البجلي، وصهيب بن سنان الرومي، وعبد اللَّه بن مسعود الهذلي، وعلي بن أبي طالب، وأبو موسى الأشعري، وعدي بن حاتم الطائي، وأنس بن مالك الأنصاري، وبريدة بن الحصيب الأسلمي، وأبو رزين العقيلي، وجابر بن عبد اللَّه الأنصاري، وأبو أمامة الباهلي، وزيد بن ثابت، وعمار بن ياسر، وعائشة أم المؤمنين، وعبد اللَّه بن عمر، وعُمَارة بن رُوَيْبة، وسلمان الفارسي، وحذيفة بن اليمان، وعبد اللَّه بن عباس، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص -وحديثه موقوف- وأُبي بن كعب، وكعب بن عُجْرة، وفَضَالة بن عُبيد -وحديثه موقوف-، ورجل من أصحاب النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- غير مُسمَّى.
فهاك سياق أحاديثهم من الصحاح والمسانيد والسنن، وتَلَقَّها بالقبول والتسليم وانشراح الصدر، لا بالتحريف والتبديل وضيق العطن، ولا تُكذِّب بها؛ فمن كَذَّبَ بها لم يكن إلى وجه ربه من
= عباس، وسنده ضعيف, فيه إبراهيم بن الحكم بن أبان العدني ضعيف. لكنه ثابت عن عكرمة بالشطر الأول.
أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في السنة رقم (481)، والآجري (586، 587) واللالكائي (803) وغيرهم.
(1) ليس في “أ، هـ”: “وأبو هريرة”.
(2/625)
الناظرين، وكان عنه يوم القيامة من المحجوبين.
فصل
فأما حديث أبي بكر الصديق: فقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطالقاني، قال: حدثني النضر بن شُمَيل المازني قال: حدثني أبو نَعَامة قال: حدثني أبو هُنَيدة البراء بن نوفل عن والان العدوي عن حذيفة عن أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- قال: “أصبح رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذات يوم فصلى الغداة ثم جلس، حتى إذا كان من الضحى ضحك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم جلس مكانه حتَّى صلَّى الأُولى والعصر والمغرب، كل ذلك لا يتكلم حتى صلى العشاء الآخرة، ثم قام إلى أهله، فقال الناس لأبي بكر: ألا تسأل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما شأنه؟ صنع اليوم شيئًا لم يصنعه قط، قال: فسأله، فقال: “نعم، عرض عليَّ ما هو كائنٌ من أمر الدنيا وأمر الآخرة، فجمع الأولون والآخرون في صعيد واحد، فَفَظِع (1) الناس بذلك حتى انطلقوا إلى آدم -صلى اللَّه عليه وسلم- والعرق يكاد يلجمهم، فقالوا: يا آدم أنت أبو البشر، وأنت اصطفاك اللَّه عز وجل، اشفع لنا إلى ربك، قال: لقد لقيت مثل الذي لقيتم، انطلقوا إلى أبيكم بعد أبيكم؛ إلى نوح: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)} [آل عمران: 33] قال: فينطلقون إلى نوح -صلى اللَّه عليه وسلم-، فيقولون: اشفع لنا إلى ربك، فأنت اصطفاك اللَّه واستجاب لك في دعائك، ولم يَدَعْ على الأرض من الكافرين ديارًا، فيقول: ليس ذلكم عندي،
(1) في “ب، ج، د، هـ”: “فقطع”.
(2/626)
انطلقوا إلى إبراهيم -صلى اللَّه عليه وسلم- فإن اللَّه اتخذه خليلًا، فينطلقون إلى إبراهيم، فيقول: ليس ذاكم عندي، انطلقوا إلى موسى -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فإن اللَّه عز وجل كلمه تكليمًا، فيقول موسى -صلى اللَّه عليه وسلم-: ليس ذلك عندي، ولكن انطلقوا إلى عيسى بن مريم -صلى اللَّه عليه وسلم- فإنَّه كان يُبْرئُ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى، فيقول عيسى: ليس ذاكم عندي، انطلقوا إلى سيد ولدِ آدم (1) ، إلى محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فليشفع لكم إلى ربَّكُم عزَّ وجلَّ، قال: فينطلقُ فيأتي جبريل ربه تبارك وتعالى فيقول اللَّه عزَّ وجلَّ: ائذن له وبشِّرهُ بالجنَّة، فينطلقُ به جبريل -صلى اللَّه عليه وسلم- فيخر ساجدًا قدرَ جُمُعة، ويقولُ اللَّه عزَّ وجلَّ: ارفع رأسَك، وقُلْ يُسمع، واشْفع تُشَفَّع، قال: فيرفع رأسه فإذ انظر إلى وجه ربِّه خرَّ ساجدًا قدْر جُمُعةٍ أخرى، فيقول اللَّه عزَّ وجلَّ: ارفع رأسك وقل يُسمع، واشفع تُشفَّع، قال: فيذهب ليقع ساجدًا فيأخذ جبريل بِضَبْعَيه فيفتح اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عليه من الدعاء شيئًا لم يفتحه على بشرٍ قط، فيقول: أي رب خلقتني سيد ولد آدم ولا فخر، وأول من تنشق الأرض (2) عنه يوم القيامة ولا فخر، حتَّى إنَّه ليرد على الحوض أكثر مما بين صنعاء وأيلة، ثم يقال: ادعوا الصديقين فيشفعون، ثم يقال: ادعوا الأنبياء، قال: فيجيء النَّبي ومعهُ العِصَابة، والنَّبي ومعه الخمسة والستة، والنَّبي وليس معه أحد، ثمَّ يقال: ادعوا الشهداء فيشفعون لمن أرادوا، قال: فإذا فعلتِ الشهداء ذلك، قال: يقول اللَّه عزَّ وجلَّ: أنا أرحمُ الرَّاحمين ادْخِلوا جنَّتي من كان لا يشرك بي شيئًا،
(1) جاء في المسند بعد “آدم” “فإنه أول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة”.
(2) من المسند و”ج، د، هـ”.
(2/627)
قال: فيدخلون الجنَّة، قال: ثمَّ يقول اللَّهُ عزَّ وجلَّ: انظروا في النَّارِ هل تلقونَ من أحدٍ عمل خيرًا قطُّ؟ قال: فيجدون في النَّارِ رجلًا، فيقول له: هل عملت خيرًا قطُّ؟ فيقول: لا، غير أنِّي كُنْتُ أسامح الناس في البيع، فيقول اللَّهُ عزَّ وجلَّ: اسْمحُوا لعبدي كإسماحه إلى عبيدي، ثمَّ يُخْرِجُون من النَّارِ رجلًا يُقول له: هل عملت خيرًا قط؟ فيقول: لا، غير أنِّي قد أمرت ولدي إذا متُّ، فأحرقوني بالنَّارِ ثمَّ اطحنوني حتَّى إذا كُنْتُ مثل الكُحل فاذهبوا بي إلى البحرِ فأذِرُّوني في الرِّيح، فواللَّهِ لا يقدرُ عليَّ ربُّ العالمين أبدًا، فقال اللَّهُ عزَّ وجلَّ له: لِمَ فعلتَ ذلك؟ قال: من مخافتك، قال: فيقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: انظر إلى مُلْكِ أعظمِ مَلِكٍ، فإنَّ لك مثلَهُ وعشرةَ أمثالهِ، قال: فيقول: أتسخر بي وأنت الملك، قال: وذلك الَّذي ضحكتُ منه من الضُّحى” (1) .
(1) أخرجه أحمد في مسنده (1/ 4 – 5)، وابن حبان في صحيحه (14/ رقم 6476)، وأبو عوانه في صحيحه رقم (443) وابن أبي عاصم في السنة (815) والبزار في مسنده رقم (76) وغيرهم.
- ورواه الجريري عن أبي هنيدة عن حذيفة مرفوعًا (لم يذكر والان وأبا بكر).
ذكره الدارقطني في علله (1/ 190).
قال الدارقطني: “والحديث غير ثابت”.
وقال ابن خزيمة: “إن صح الحديث”، كما في التوحيد (2/ 734).
وقال ابن حبان: “أخبرنا عبد اللَّه بن محمد الأزدي بخبر غريب. . . ” ثم ساقه، قلت: ولعل مراده التفرد.
والحديث صححه ابن حبان وأبو عوانة وغيرهما.
وقال البزار: “. . . رواه جماعة من جلَّة أهل العلم بالنقل واحتملوه”.
(2/628)
فصل
وأمَّا حديثُ أبي هريرة وأبي سعيد: ففي “الصحيحين” (1) عن أبي هريرة أنَّ أُناسًا قالوا: يا رسول اللَّهِ هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “هل تضارُّون في رؤية القمرِ ليلةَ البدرِ؟ قالوا: لا يا رسول اللَّه، قال: هل تضارُّون في رؤية (2) الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، قال: فإنَّكم ترونه كذلك، يجمعُ اللَّهُ النَّاس يوم القيامة فيقول: من كان يعبد شيئًا فليتبعه، فيتَّبع من كان يعبد الشمسَ الشمسَ، ويتبع من كان يعبد القمرَ القَمَرَ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم اللَّهُ تبارك وتعالى في صورةٍ غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ باللَّه منك، هذا مكاننا حتَّى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم اللَّه عزَّ وجلَّ في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه، ويضرب الصراط بين ظَهْرَانَي جهنَّم، فأكون أنا وأمتي أَوَّلَ من يُجِيْزُ، ولا يتكلَّم يومئذٍ إلَّا الرسل، ودعوى الرُّسل يومئذٍ: اللهم سلِّم سَلِّم، وفي جهنَّم كلاليبُ مثل شوكِ السَّعْدان، هل رأيتم السعدان؟ قالوا: نعم يا رسول اللَّه، قال: فإنَّها مثل شوك السعدان غير أنَّه لا يعلمُ قدر عِظَمها إِلَّا اللَّهُ عزَّ وجلَّ، تخطف النَّاس بأعمالهم، فمنهم المُوْبَق بعمله، ومنهم المُجازى حتى ينجو، حتَّى إذا فرغ اللَّه من القضاء بين العباد، وأراد أنْ يُخرجَ برحمته من أراد من أهل النَّارِ، أمرَ الملائكة أن
(1) البخاري رقم (773 و 6204 و 700)، ومسلم رقم (182).
(2) من “ب، هـ”.
(2/629)
يخرجوا من النَّارِ من كان لا يشرك باللَّه شيئًا ممَّن أراد اللَّه أنْ يرحمه ممَّن يقول: لا إله إِلَّا اللَّهُ، فيعرفونهم بأثر السجود، تأكل النَّارُ من ابن آدم إِلَّا أثرَ السجود، حرَّم اللَّهُ على النَّارِ أنْ تأكل أثر السجود، فيخرجون من النَّارِ قد امْتُحِشُوا فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون منه كما تنبت الحبَّة في حَميل السيل، ثمَّ يفرغ اللَّهُ من القضاء بين العباد، ويبقى رجلٌ مقبل بوجهه على النَّارِ – وهو آخر أهل الجنَّة دخولًا الجنَّة – فيقول: أي ربِّ أصرف وجهي عن النَّارِ، فإنَّه قد قَشَبني ريحُها وأحرقني ذكاؤها، فيدعو اللَّه ما شاء أنْ يدعوهُ، ثمَّ يقول اللَّه تبارك وتعالى: هل عسيت إنْ فعلت ذلك أن تسأل غيره؟ فيقول: لا أسألك غيره، فيُعطِي ربه من عهود ومواثيق ما شاء، فيصرف اللَّه وجهه عن النَّار، فإذا أقبلَ على الجنَّة، ورآها سكت ما شاء اللَّه أن يسكت، ثمَّ يقول: أَي ربِّ قدِّمني إلى باب الجنَّة، فيقول اللَّهُ: أليس قد أعطيتَ عهودك ومواثيقك لا تسألني غير الَّذي أعطيتك؟ ويلك يا ابن آدم ما أغدرك! فيقول أي رب فيدعو اللَّه حتَّى يقول له: فهل عسيت إنْ أعطيتك ذلك أنْ تسأل غيره؟ فيقول: لا وعِزَّتك، فيُعطي ربَّه ما شاء اللَّه من عهودٍ ومواثيق فيقدمه إلى باب الجنَّة، فإذا قامَ على باب الجنَّة انفهقت له الجنَّة فرأى ما فيها من الخيرِ والسرور، فسكتَ ما شاء اللَّهُ أنْ يسكت، ثمَّ يقول أي ربِّ أدخلني الجنَّة، فيقول اللَّه تبارك وتعالى له: أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك أنْ لا تسأل غير ما أُعطِيت؟ ويلك يا ابن آدم ما أغدرك! فيقول: أي ربِّ، لا أكون أشقى خلقك، فلا يزال يدعو حتَّى يضحك اللَّه منه، فإذا ضحك اللَّه منه قال: أدخل الجنَّة، فإذا دخلها قال اللَّه له: تَمَنَّهْ، فيسأل ربه ويتمنَّى حتَّى أنَّ اللَّهَ لَيُذَكَّره فيقول:
(2/630)
من كذا وكذا، حتَّى إذا انقطعت به الأمانيُّ، قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: لك ذلك ومثله معه”.
قال عطاء بن يزيد: وأبو سعيد الخدري مع أبي هريرة لا يرد عليه من حديثه شيئًا حتَّى إذا حدَّث أبو هريرة: إنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ قال لذلك الرجل “ومثله معه” قال أبو سعيد: وعشرة أمثاله معه يا أبا هريرة، قال أبو هريرة: ما حفظت إِلَّا قوله: “ذلك لك ومثله معه” قال أبو سعيد: أشهدُ أنِّي حفظت من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قوله: “ذلك لك وعشرة أمثاله” قال أبو هريرة: وذلك الرجل آخر أهل الجنَّة دخولًا الجنَّة.
وفي “الصحيحين” (1) أيضًا عَن أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- أنَّ ناسًا في زمن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قالوا: يا رسول اللَّه، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: نعم، هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوًا ليس معها سحاب؟ وهل تضارون في رؤية القمرِ ليلة البدرِ صحوًا ليس فيها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول اللَّه؟ قال: ما تضارون في رؤية اللَّه تبارك وتعالى يوم القيامة؛ إِلَّا كما تضارون في رؤية أحدهما، إذا كان يوم القيامة أذَّنَ مؤذَّنٌ، لتتبع كلُّ أُمَّةٍ ما كانت تعبد، فلا يبقى أحدٌ ممَّن كان يعبد غير اللَّه من الأصنام والأنصاب إِلَّا يتساقطون في النَّارِ، حتَّى إذا لم يبقَ إِلَّا من كان يعبد اللَّه من برٍّ وفاجر، وغير أهل الكتاب، فيدعى اليهود فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كُنَّا نعبد عزيرَ ابنَ اللَّه، فيقال: كذبتم ما اتخذَ اللَّه من صاحبة ولا ولد، فماذا تبغون؟ قالوا: عطشنا يا رب فاسقنا، فيشار إليهم ألا
(1) البخاري رقم (7001)، ومسلم رقم (183).
(2/631)
تردون؟ فيحشرون إلى النَّارِ كأنَّها سراب يَحْطِمُ بعضها بعضًا، فيتساقطون (1) في النَّارِ، ثمَّ يدعى النصارى، فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كُنَّا نعبد المسيح ابنَ اللَّه، فيقال لهم: كذبتم ما اتخذ اللَّهُ من صاحبة ولا ولد، فيقال: ماذا تبغون؟ فيقولون: عطشنا يا ربنا فاسقنا، قال: فيشار إليهم ألا تردون؟ فيُحْشَرون إلى جهنَّمْ كأَنَّها سراب يحطم بعضها بعضًا، فيتساقطون في النار، حتَّى إذا لم يبق إلا من كان يعبد اللَّه من بر وفاجر، أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها. قال: فما تنتظرون؟ لِتَتَّبع كل أمة ما كانت تعبد، قالوا: يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ باللَّه منك لا نشرك باللَّه شيئًا -مرتين أو ثلاثًا- حتى إنَّ بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فيُكْشَف عن ساقٍ فلا يبقى من كان يسجد للَّه من تلقاء نفسه إلا أذن اللَّه له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتَّقاءً ورياء إلا جعل اللَّه ظَهْره طبقةً واحدةً، كلمَّا أراد أنْ يسجد خرَّ على قفاهُ، ثمَّ يرفعون رؤوسهم، وقد تحوَّل في صورته التي رأوهُ فيها أَوَّل مرَّة، فيقولُ: أنا ربُّكم، فيقولون: أنت ربنا، ثمَّ يُضْرَب الجسر على جهنَّم وتحلُّ الشفاعة، قيل: يا رسول اللَّه وما الجسر؟ قال: دحض مزلَّة فيه خطاطيف وكلاليب، وحَسَك -تكون بنجدٍ فيها شويكة يقال لها السَّعْدَان- فيمرُّ المؤمنون كطرف العين، وكالبرق، وكالرِّيح، وكالطير، وكأجاويد الخيل والرِّكابِ،
(1) في نسخة على حاشية “أ”: “فيتسابقون”، وكذلك مثله ما بعده.
(2/632)
فناجٍ مسلَّم، ومخدوشٌ مُرْسَلٌ، ومكدوشٌ في نار جهنَّم، حتَّى إذا خلص المؤمنون من النَّار، فوالَّذي نفسي بيده ما منكم من أحدٍ بأشدَّ مناشدةً للَّه في استيفاء الحقِّ من المؤمنين للَّه يوم القيامة لإخوانهم الَّذين في النَّارِ، يقولون: ربنا كانوا يصومون معَنَا ويصلون ويحجُّون، فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النَّارِ فيُخرجون خلقًا كثيرًا، قد أخذتِ النَّار إلى أنصاف ساقيه وإلى ركبتيه، فيقولون: ربَّنَا ما بقيَ فيها أحد ممن أمرتنا، فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينارٍ من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثمَّ يقولون: ربنا لم نَذَرْ فيها أحدًا ممن أمرتنا، ثمَّ يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينارٍ من خير فأخرجوه، فيُخْرِجون خلقًا كثيرًا، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدًا، ثم يقول: ارْجِعوا فمن وجدتم في قلبه مثال ذرَّةٍ من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثمَّ يقولون: ربنا لم نذر فيها خيرًا -وكان أبو سعيد الخدري يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إنْ شئتم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] – فيقول اللَّه عزَّ وجلَّ: شفعتِ الملائكة، وشفع النَّبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبقَ إِلَّا أرحمُ الرَّاحمين، فيقبض قبضة من النَّار فيُخْرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قطُّ، قد عادوا حُمَمًا فيلقيهم في نهرٍ في أفواهِ الجنَّة يقال له: نهر الحياة، فيخرجون كما تخرجُ الحِبَّة في حَميل السيل، ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر، ما يكون إلى الشمس أصيفر وأُخيضر، وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض، فقالوا يا رسول اللَّه كأنَّكَ كنتَ ترعى بالبادية، قال: فيخرجون كاللؤلؤ في
(2/633)
رقابهم الخواتيم يعرفهم أهل الجنَّة: هؤلاء عتقاء اللَّه الَّذين أدخلهم اللَّه الْجنَّة بغير عملٍ عملوه ولا خيرٍ قدَّموه، ثمَّ يقول: ادخلوا الجنَّة فما رأيتموه فهو لكم، فيقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحدًا من العالمين، فيقول: لكم عندي أفضل من هذا، فيقولون: يا ربنا وأيُّ شيءٍ أفضل من هذا؟ فيقول: رضائي فلا أسخط عليكم بعده أبدًا”.
فصل
وأما حديث جرير بن عبد اللَّه: ففي “الصحيحين” (1) من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عنه قال: كنا جلوسًا مع النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال: “إنكم سترون ربكم عيانًا كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تُغلَبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل الغروب فافعلوا، ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39)} [ق: 39].
رواه عن إسماعيل بن أبي خالد: عبد اللَّه بن إدريس الأودي، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن محمد المحاربي، وجرير ابن عبد الحميد، وعبيدة بن حُمَيد، وهشيم بن بشير، وعلي بن عاصم، وسفيان بن عيينة، ومروان بن معاوية، وأبو أسامة، وعبد اللَّه بن نُمَير، ومحمد بن عبيد، وأخوه يعلى بن عبيد، ووكيع بن الجراح، ومحمد ابن فضيل، والطُّفَاوي، ويزيد بن هارون، وإسماعيل بن مجالد،
(1) البخاري رقم (529 و 547 و 4570 و 6997)، ومسلم رقم (633).
(2) وقع في جميع النسخ (إسماعيل بن أبي خالد) وهو خطأ، لذا كتب ناسخ (أ) على هذا الاسم (كذا)، وهو إشارة إلى استغراب هذا الاسم. =
(2/634)
وعنبسة بن سعيد، والحسن بن صالح بن حَيٍّ، وورقاء بن عمر، وعمار بن رزيق، وأبو الأغر سعيد بن عبد اللَّه، ونصر بن طريف، وعمار بن محمد، والحسن بن عياش أخو أبي بكر، ويزيد بن عطاء، وعيسى بن يونس، وشعبة بن الحجاج، وعبد اللَّه بن المبارك، وأبو حمزة السكري، وحسين بن واقد، ومعتمر بن سليمان، وجعفر ابن زياد، وخداش بن المهاجر، وهُرَيْم بن سفيان، ومندل بن علي، وأخوه: حبان بن علي، وعمرو بن مَرْثد، وعبد الغفار بن القاسم، ومحمد بن بشر الجريري، ومالك بن مِغول، وعصام بن النعمان، وعلي بن القاسم الكِنْدِي، وعُبيدة بن الأسود الهمْداني، وعبد الجبار ابن العباس، والمُعلَّى بن هلال، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، والصبَّاح ابن مُحَارب، ومحمد بن عيسى، وسعيد بن حازم، وأبان بن أرقم، وعمرو بن النعمان، ومسعود بن سعد الجُعفي، وعثَّام بن علي،
= وهو كما قال؛ وإن كان هناك رجل بهذا الاسم: إسماعيل بن أبي خالد الفدكي إلا أنَّه يروي عن أبي هريرة، فهو أعلى طبقة منه.
والصواب ما أثبته، بدليل أن المؤلف سَرَدَ هذه الأسماء على هذا النسق من كتاب الرؤية للدارقطني بمثل ترتيب الدارقطني، وأيضًا أخرجه الدارقطني في الرؤية برقم (85) و (145) ثنا أبو حامد محمد بن هارون الحضرمي حدثنا عمر بن إسماعيل بن مجالد ثنا أبي ثنا إسماعيل بن أبي خالد وبيان ومجالد عن قيس بن أبي حازم به.
وأخرجه الطبراني في الكبير (2/ 310) رقم (2292)، والشحامي في حديث السراج رقم (1402).
من طرق عن عمر بن إسماعيل بن مجالد عن أبيه به.
وعمر بن إسماعيل هو الهمداني الكوفي: متروك الحديث.
(2/635)
وحسن بن حبيب، وسنان بن هارون البرجمي، ومحمد بن يزيد الواسطي، وعمرو بن هاشم (1) ، ومحمد بن مروان، ويعلى بن الحارث المحاربي، وشعيب بن راشد، والحسن بن دينار، وسلَّام بن أبي مطيع، وداود بن الزِّبْرقان، وحماد بن أبي حنيفة، ويعقوب بن حبيب، وحكَّام بن سلم، وأبو مقاتل ابن حفص، ومسيب بن شريك، وأبو حنيفة النعمان بن ثابت، وعمرو بن شمر الجعفي، وعمرو بن عبد الغفار الفُقَيمي، وسيف بن هارون البُرْجُمي أخو سنان، وعائذ بن حبيب، ومالك بن سُعَيْر بن الخِمس، ويزيد بن عطاء مولى أبي عوانة، وخالد بن يزيد العَصْري، وعبيد اللَّه بن موسى، وخالد بن عبد اللَّه الطحَّان، وأبو كُدَيْنَة يحيى بن المُهَلَّب، ورَقَبَة بن مَصْقَلة، ومعمر بن سليمان الرَّقي، ومُرَجَّى بن رجاء، وعمرو بن جرير، ويحيى بن هاشم (2) السمسار، وإبراهيم بن طَهْمَان، وخارجة بن مصعب، وعبد اللَّه بن عثمان -شريك شعبة-، وعبد اللَّه بن فروخ، وزيد ابن أبي أُنيسة، وجوَّده فقال: “ستُعايَنُون ربَّكُم عزَّ وجلَّ كما تُعاينون هذا القَمَرَ” (3) . وأبو شهاب الحنَّاط وقال: “سَتَرَوْنَ ربَّكُم
(1) في “ب”: “هشام”.
(2) في “هـ”، ونسخة على حاشية “أ” “هشام” وهو خطأ.
(3) أخرجه ابن مندة في الإيمان رقم (799)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم (826)، والدارقطني في الرؤية رقم (130).
وسنده صحيح.
قال الدارقطني: “جوَّده زيد بن أبي أنيسة عن إسماعيل بقوله (ستعاينون ربكم …. ).
(2/636)
عِيَانًا” (1) . وجارية بن هرم، وعاصم بن حكيم ومقاتل بن سليمان وأبو جعفر الرازي، والحسن بن أبي جعفر، والوليد بن عمرو، وأخوه: عثمان بن عمرو، وعبد السلام بن عبد اللَّه بن قرة العنبري، ويزيد بن عبد العزيز، وعلي بن صالح بن حَيّ، وزُفَر بن الهُذَيل، والقاسم بن معن.
وتابع إسماعيل بن أبي خالد عن قيس جماعة منهم:
بيَان بن بِشْر، ومُجَالد بن سعيد، وطارق بن عبد الرحمن، وجرير ابن يزيد بن جرير البجلي، وعيسى بن المسيب، كلُّهم عن قيس بن أبي حازم، عن جرير (2) .
فكلُّ هؤلاء شهدوا على إسماعيل بن أبي خالد، وشهد إسماعيل ابن أبي خالد على قيس بن أبي حازم، وشهد قيس بن أبي حازم على جرير بن عبد اللَّه، وشهد جرير على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فكأنَّك تسمع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو يقوله ويبلِّغه لأُمَّته، ولا شيءَ أقرَّ لأعينهم منه، وشهدت الجهمية والفرعونية والرَّافضة والقرامطة والباطنية وفروخ الصابئة والمجوس واليونان بكفر من اعتقد ذلك، وأنَّه من أهل التشبيه والتجسيم، وتابعهم على ذلك كلُّ عدوًّ للسنة وأهلها، واللَّه ناصرٌ كتابه وسُنَّة رسوله ولو كره الكافرون.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6998).
(2) انظر عامة هذه الطرق عند الدارقطني في الرؤية من رقم (69) إلى (148).
(2/637)
فصل
وأمَّا حديث صهيب: فرواهُ مسلم في “صحيحه” (1) من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إذا دخل أهل الجنَّة الجنَّةَ قال: يقول اللَّه عزَّ وجلَّ: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تُبيِّض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنَّة وتنجِّنا من النَّارِ؟ قال: فيكشفُ الحجابَ، فما أُعطوا شيئًا أحبَّ إليهم من النظرِ إلى ربِّهم عزَّ وجلَّ، ثمَّ تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] “.
وهذا حديثٌ رواه الأئمة عن حمَّاد وتلقوه عن نبيِّهم بالقبول والتصديق.
فصل
وأمَّا حديث عبد اللَّه بن مسعود: فقال الطبراني: حدثنا محمد بن النضر الأزدي وعبد اللَّه بن أحمد بن حنبل، والحضرمي قالوا: حدثنا إسماعيل بن عُبيد بن أبي كريمة الحرَّاني، حدثنا محمد بن سلمة الحرَّاني عن أبي عبد الرحيم عن زيد بن أبي أنيسة عن المِنْهَال بن عمرو عن أبي عبيدة عن عبد اللَّه عن مسروق بن الأجدع، حدثنا عبد اللَّه بن مسعود قال: “يجمع اللَّه الأوَّلين والآخرين لميقات يومٍ معلوم، قيامًا أربعين سنة شاخصة أبصارهم إلى السماءِ ينتظرون فصل القضاء، قال: وينزل اللَّه عزَّ وجلَّ في ظُلَلٍ من الغمام من العرش إلى الكرسي، ثمَّ ينادي منادٍ: أيها النَّاسُ ألم ترضوا من ربكم الَّذي خلقكم
(1) رقم (181)، وسيأتي بيان الاختلاف فيه ص (693).
(2/638)
ورزقكم، وأمركم أنْ تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا أن يولي كلَّ أناسٍ منكم ما كانوا يتولون ويعبدون في الدنيا، أليس ذلك عدلًا من ربكم؟ قالوا: بلى، قال: فينطلق كلُّ قومٍ إلى ما كانوا يعبدون ويتولون في الدنيا، قال: فينطلقون، ويمثَّل لهم أشباه ما كانوا يعبدون، فمنهم من ينطلق إلى الشمس، ومنهم من ينطلق إلى القمر، وإلى الأوثان من الحجارة وأشباه ما كانوا يعبدون، قال: ويمثَّل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى، ويمثَّل لمن كان يعبد عُزَيرًا شيطان عزير، ويبقى محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وأمته، فيأتيهم الربُّ عزَّ وجلَّ فيقول: ما لكم لا تنطلقون كما انطلق النَّاسُ؟ قال: فيقولون: إنَّ لنا إلهًا ما رأيناهُ بَعْدُ، فيقول: هل تعرفونه إنْ رأيتموه؟ فيقولون: إنَّ بيننا وبينه علامة إذا رأيناه عرفناها، قال: فيقول ما هي؟ فيقولون: يكشف عن ساقه، فعند ذلك يكشف عن ساقٍ فيخرُّون له سُجَّدًا، ويبقى قوم ظهورهم كصياصي البقر يريدون السجود فلا يستطيعون، وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون، ثمَّ يقول: ارفعوا رؤوسكم فيرفعون رؤوسهم فيعطيهم نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يُعْطى نوره مثل الجبل العظيم يسعى بين يديه، ومنهم من يُعطى نورًا أصغر من ذلك، ومنهم من يُعْطى نورًا مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى نورًا أصغر من ذلك حتَّى يكون آخرهم رجلًا يعطى نوره على إبهام قدمه يضيء مرَّة، ويطفأ مرَّة، فإذا أضاء قدَّم قَدَمه فمشى، وإذا طفيء قام، والربُّ تبارك وتعالى أمامهم حتَّى يمر في النَّارِ فيبقى أثره كحدِّ السيف دحض مزلة، قال: ويقول: مرُّوا فيمرون على قدر نورهم، منهم من يمر كطرف العين، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالسحاب، ومنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم
(2/639)
من يمر كالريح، ومنهم من يمرُّ كشد الفرس، ومنهم من يَمُرُّ كشدِّ الرجل، حتَّى يمر الَّذي أُعطي نوره على إبهام قدمه، يحبو على وجهه ويديه ورجليه تخِرُّ يدٌّ، وتعلق يدٌ، وتخِرُّ رجلٌ، وتعلق رجلٌ، وتصيب جوانبه النار، فلا يزال كذلك حتى يخلص، فإذا خلص وقف عليها، ثمَّ قال: الحمد للَّه لقد أعطاني اللَّه ما لم يُعْطِ أحدًا، إذ نجاني منها بعد إذ رأيتها، قال: فينطلق به إلى غدير عند باب الجنَّة فيغتسل فيعود إليه ريح أهل الجنَّة وألوانهم، فيرى ما في الجنَّة من خلال البابِ، فيقول: ربِّ أدخلني الجنَّة، فيقول اللَّه تبارك وتعالى له: أتسأل الجنَّةَ وقد نجيتك من النار؟! فيقول: رب اجعل بيني وبينها حجابًا، لا أسمع حسيسها. قال: فيدخل الجنَّة، قال: ويرى أو يرفع له منزلٌ أمام ذلك، كأنَّما الَّذي هو فيه إليه حلم، فيقول: رب أعطني ذلك المنزل، فيقول: فلعلك إنْ أعطيتكه تسأل غيره؟ فيقول: لا وعزَّتك، لا أسألك غيره، وأي منزلٍ يكون أحسن منه؟ قال: فيعطاهُ فينزله، ويرى أمام ذلك منزلًا (1) ، كأنَّما الَّذي هو فيه إليه حلم، قال: أي رب أعطني ذلك المنزل، فيقول اللَّه عزَّ وجلَّ، فلعلك إنْ أعطيتكه تسأل غيره، فيقول: لا وعزتك لا أسأل غيره، وأي منزل يكون أحسن منه، قال: فيعطى فينزله، قال: ويرى أو يرفع أمام ذلك منزل آخر، كأنَّما هو إليه حلم، فيقول: أعطني ذلك المنزل، فيقول اللَّه جلَّ جلاله: فلعلك إنْ أعطيتكه تسأل غيره؟ فيقول: لا وعزَّتك لا أسأل غيره، وأي منزلٍ – يكون أحسن منه، قال: فيعطاه فينزله، ثمَّ يسكت، فيقول اللَّه
(1) قوله “ذلك منزلًا”: في نسخة على حاشية “أ”: “ذلك المنزل منزلًا”.
(2/640)
عزَّ وجلَّ: مالك لا تسأل؟ فيقول له: ربِّ لقد سألتك حتَّى استحييتك، وأقسمت لك حتَّى استحييتك، فيقول اللَّه عزَّ وجلَّ: ألا ترضى أن أعطيك مثل الدنيا منذ يوم خلقتها إلى يوم أفنيتها وعشرة أضعافها؟ فيقول: أتستهزئُ بي وأنت رب العزَّة، فيضحك الرب عزَّ وجلَّ من قوله – قال: فرأيتُ عبد اللَّه بن مسعود إذا بلغ هذا المكان من هذا الحديث ضحك، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، قد سمعتك تحدث هذا الحديث مرارًا، كلَّما بلغتَ هذا المكان ضحكت، فقال: إنِّي سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يحدث هذا الحديث مرارًا؛ كلَّما بلغ هذا المكان من هذا الحديث ضحك، حتَّى تبدو أضراسه -. قال: فيقول اللَّه عزَّ وجلَّ: لا ولكنِّي على ذلك قادرٌ، سل. فيقول: ألحقني بالنَّاسِ، فيقول: الحق بالنَّاس، قال: فينطلق يرمل في الجنَّة، حتَّى إذا دنى من النَّاسِ رُفِعَ له قصرٌ من درَّةٍ, فيخر ساجدًا، فيقال له: ارفع رأسك مالك؟ فيقول: رأيتُ ربِّي أو تراءى لي ربِّي، فيقال له: إنَّما هو منزلٌ من منازلك، قال: ثمَّ يلقى رجلًا، فيتهيأ للسجود، فيقال له: مه، مالك؟ فيقول: رأيتُ أنَّك ملكٌ من الملائكة، فيقول: إنَّما أنا خازنٌ من خُزَّانك، عبدٌ من عبيدك، تحت يديَّ ألف قهرمان، على مثل ما أنا عليه، قال: فينطلق أمامه حتَّى يفتح له القصر، قال: وهو في دُرَّةٍ مجوَّفة، شقائقها (1) ، وأبوابها وأغلاقها ومفاتيحها منها، يستقبله جوهرة خضراء مبطنة بحمراء كل جوهرة تفضي إلى جوهرة فيها سبعون بابًا، كلُّ بابٍ يفضي إلى جوهرة خضراء مبطنة بحمراء، كل جوهرة تفضي
(1) في “ب، ج، د، هـ”: “سقائفها”.
(2/641)
إلى جوهرة (1) على غير لون الآخرى، في كلُّ جوهرة سررٌ وأزواج، ووصائف أدناهنَّ حوراء عيناء، عليها سبعون حلَّة، يُرى مُخ ساقها من وراء حللها، كبدها مرآته وكبده مرآتها، إذا أعرض عنها إعراضةً ازدادت في عينه سبعون ضعفًا، عمَّا كانت قبل ذلك، فيقول لها: واللَّه لقد ازددت في عيني سبعين [182/ ب] ضعفًا، وتقول له: واللَّه وأنت لقد ازددت في عيني سبعين ضعفًا، فيقال له: أَشْرِف، قال: فيشرف فيقال له: ملكك مسيرة مئة عام ينفذه بصره، قال فقال: عمر: ألا تسمع ما يحدثنا ابن أُمِّ عبدٍ يا كعب، عن أدنى أهل الجنَّة منزلًا، فكيف أعلاهم؟
قال كعب: يا أمير المؤمنين ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت، إنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ جعل دارًا فيها ما شاء من الأزواج والثمرات والأشربة، ثمَّ أطبقها فلم يرها أحدٌ من خلقه لا جبريل ولا غيره من الملائكة، ثمَّ قرأ كعب: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) } [السجدة: 17]، قال: وخلق دون ذلك جنتين، وزينهما بما شاء وأراهما من شاء من خلقه، ثمَّ قال: من كان كتابه في عِلِّيين نزل تلك الدَّار التي لم يرها أحد حتَّى إنَّ الرجل من أهل عليين ليخرج فيسير في ملكه فما تبقى خيمةٌ من خيم الجنَّة إلَّا دخلها من ضوء وجهه فيستبشرون بريحه فيقولون: واهًا لهذه الرِّيح، هذا رجلٌ من أهل عِلِّيَّين قد خرج ليسير في ملكه، فقال: ويحك يا كعب، هذه القلوب قد استرسلت فاقبضها، فقال كعب: والَّذي نفسي بيده إنَّ لجهنَّم يوم القيامة لزفرة ما يبقى من ملكٍ مقرَّب، ولا نبي مرسل إِلَّا خرَّ لركبتيه حتَّى إنَّ إبراهيم خليل اللَّه
(1) من قوله “فيها سبعون بابًا” إلى “جوهرة” من “ب، ج، د، هـ”.
(2/642)
يقول: ربِّ (1) نفسي نفسي، حتَّى لو كان لك عمل سبعين نبيًّا إلى عملك لظننتَ أنَّك لا تنجو” (2) .
هذا حديثٌ كبيرٌ حسن، رواه المصنفون في السنَّة كعبد اللَّه بن أحمد والطبراني والدَّارقطني في كتاب “الرؤية” (3) ، رواه عن ابن صاعد،
(1) في نسخة على حاشية “أ” “يا رب”.
(2) أخرجه عبد اللَّه في السنة رقم (1203) وابن أبي الدنيا في صفة الجنة رقم (31)، والشاشي في مسنده رقم (410)، والطبراني في الكبير رقم (9763)، والآجري في الشريعة رقم (160)، والدارقطني في الرؤية رقم (162) والحاكم في المستدرك (2/ 408) رقم (3424) وقال: “صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه” والبيهقي في البعث رقم (479).
من طريق أبي خالد الدالاني وزيد بن أبي أنيسة كلاهما عن المنهال بن عمرو به.
قال الذهبي: “ما أنكره حديثًا على جودة إسناده، وأبو خالد شيعي منحرف”.
- ورواه الأعمش وإدريس الأودي كلاهما عن المنهال عن قيس بن السكن عن عبد اللَّه بن مسعود موقوفًا.
بلفظ (إن الرجل من أهل الجنة ليؤتى بالكأس وهو جالس مع زوجته فيشربها، يلتفت إلى زوجته فيقول: قد ازددت في عيني سبعين ضعفًا حسنًا).
أخرجه ابن أبي شيبة (7/ 57) رقم (33982)، وذكره الدارقطني في العلل (5/ 244)، وفي الرؤية رقم (164) وابن منده في الإيمان (2/ 820).
قال الدارقطني في العلل: “والصحيح حديث أبي خالد الدالاني وزيد بن أبي أنيسة عن المنهال .. . . “.
وقال ابن منده في الإيمان (2/ 820): في حديث زيد بن أبي أنيسة – وهذا إسناد صحيح، أخرجه النسائي ا. هـ
قلت: الموقوف أصح إسنادًا واللَّه أعلم.
(3) برقم (160).
وفيه كرز بن وبرة عابد زاهد، وكان ابن شبرمة كثير المدح له، وذكره ابن =
(2/643)
حدثنا محمد بن أبي عبد الرحمن المقرئ، قال: حدثنا أبي، حدثنا ورقاء بن عمر، حدثنا أبو طيبة، عن كرز بن وبرة، عن نعيم بن أبي هند، عن أبي عبيدة عن عبد اللَّه.
ورواهُ من طريق عبد السلام بن حرب، حدثنا الدالاني، حدثنا المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة به.
ورواهُ من طريق زيد بن أبي أنيسة، عن المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة به.
ومن طريق أحمد بن أبي طيبة، عن كرز بن وبرة عن نعيم بن أبي هند عن أبي عبيدة.
فصل
وأمَّا حديث علي بن أبي طالب: فقال يعقوب بن سفيان: حدثنا محمد بن المصفَّى حدثنا سويد بن عبد العزيز، حدثنا عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن أبيه عن جدِّه علي (1) بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “يَزُوْرُ أهلُ الجنَّة الربَّ تبارك وتعالى في كلِّ جمعة، وذكر ما يُعطون قال: ثمَّ يقول اللَّه تبارك وتعالى: اكشفوا حجابًا، فيكشف حجاب، ثمَّ حجاب (2)، ثمَّ يتجلَّى لهم تبارك
= حبان في الثقات (9/ 27) وسكت عنه البخاري وابن أبي حاتم.
انظر: الجرح والتعديل (7/ 170)، والتاريخ الكبير (7/ 238).
(1) في “ب، ج، د، هـ” “عن جدِّه عن علي”، وهو غير موجود عند اللالكائي.
(2) قوله “ثم حجاب” ليس في “أ”.
(2/644)
وتعالى عن وجهه، فكأنَّهم لم يرو نعمةً قبل ذلك، وهو قوله تبارك وتعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)} [ق: 35] ” (1).
فصل
وأمَّا حديث أبي موسى: ففي “الصحيحين” (2) عنه -رضي اللَّه عنه- عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “جنَّتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنَّتانِ من ذهبٍ آنيتهما وما فيهما، وما بين القَوْمِ وبينَ أنْ ينظروا إلى ربِّهم تبارك وتعالى إلَّا رداء الكبرياء على وجهه في جنَّةِ عدن”.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى وعفان قالا: حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عمارة عن أبي بُرْدَة عن أبي موسى قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “يجمع اللَّهُ عزَّ وجلَّ الأُمَمَ في صعيدٍ واحدٍ يوم القيامة، فإذا بدا للَّه أنْ يصدع بين خلقه، مُثِّلَ لكلَّ قومٍ ما كانوا يعبدون فيتبعونهم حتَّى يقحموا بهم (3) النَّار، ثمَّ يأتينا ربُّنا عزَّ وجلَّ ونحن على مكان رفيع، فيقول: من أنتم؟ فنقول: نحن المسلمون، فيقول: ما تنتظرون؟ فيقولون: ننتظرُ ربنا عزَّ وجلَّ، قال: فيقول: وهل تعرفونه
(1) أخرجه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم (852) من طريق يعقوب بن سفيان به مثله.
وهو حديث موضوع فيه عمرو بن خالد القرشي قال الإمام أحمد: كذاب، يروي عن زيد بن علي عن آبائه أحاديث موضوعة، يكذب.
انظر تهذيب الكمال (21/ 605).
(2) البخاري رقم (4597)، ومسلم رقم (180).
(3) في “ب، هـ، د” والمسند “يقحمونهم”.
(2/645)
إنْ رأيتموه؟ فيقولون: نعم (1) ، إنَّه لا عِدْل له، فيتجلَّى لنا ضاحكًا فيقول: أبشروا يا معشر المسلمين، فإنه ليس منكم أحد إلا جعلت في النار يهوديًّا أو نصرانيًّا مكانه” (2) .
وقال حماد بن سلمة: عن علي بن زيد، عن عمارة القرشي، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “يتجلى لنا ربنا تبارك وتعالى ضاحكًا يوم القيامة” (3) .
وذكر الدارقطني من حديث أبان بن أبي عياش، عن أبي تميمة الهجيمي، عن أبي موسى، عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “يبعث اللَّه يوم القيامة مناديًا بصوت يسمعه أولهم وآخرهم: إنَّ اللَّه عز وجل وعدكم الحسنى وزيادة، فالحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه اللَّه عز وجل” (4) .
(1) في المسند “فيقول: كيف تعرفونه ولم تروه؟ فيقولون: نعم”.
(2) أخرجه أحمد في المسند (4/ 407 – 408). وأخرجه عبد بن حميد رقم (539)، والآجري في الشريعة رقم (608)، وابن خزيمة في التوحيد رقم (339 و 340) وعبد اللَّه في السنة رقم (180) مختصرًا.
وسنده ضعيف جدًّا فيه عمارة القرشي قال الأزدي: ضعيف جدًّا.
انظر لسان الميزان (4/ 322).
(3) أخرجه الدارقطني في الصفات رقم (34).
وفيه عمارة القرشي: ضعيف جدًا.
(4) أخرجه الدارقطني في الرؤية رقم (43).
وفيه أبو بكر الهذلي: وهو متروك الحديث.
(2/646)
فصل
وأمَّا حديث عدي بن حاتم: ففي “صحيح البخاري” (1) قال: “بينا أنا عند النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتى إليه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: “يا عدي، هل رأيت الحِيْرة”؟ قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها. قال: “فإن طالت بك حياة لترين الظَعِينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدًا إلا اللَّه”. قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دُعَّارُ طيء الذين سعروا البلاد؟ “وإن طالت بك حياة لتفتحنَّ كنوز كسرى”، قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: كسرى بن هرمز، وإن طالت بك حياةٌ لَترينَّ الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدًا يقبله منه، وليلقين اللَّه أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له، فليقولن: ألم أبعث إليك رسولًا فيبلغك؟ فيقول: بلى يا رب، فيقول: ألم أعطك مالًا وأفضل عليك؟ فيقول: بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم”. قال عدي: سمعتُ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد شق تمرة فبكلمة طيبة”. قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا اللَّه، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-“.
(1) رقم (3400).
(2/647)
فصل
وأما حديث أنس بن مالك: ففي “الصحيحين” (1) من حديث سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “يجمع اللَّه الناس يوم القيامة فيهتمُّون لذلك – وفي لفظ: فيُلْهمون لذلك – فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا؟ فيأتون آدم، فيقولون: أنت آدم أبو الخلق، خلقك اللَّه بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا عند ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هناكم، فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي ربه منها، ولكن ائتوا نوحًا أوَّل رسول بعثه اللَّه عز وجل، قال: فيأتون نوحًا فيقول: لست هناكم، فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي ربه منها، ولكن ائتوا إبراهيم الذي اتخذه اللَّه خليلًا، فيأتون إبراهيم فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي ربه منها، ولكن ائتوا موسى الذي كلمه اللَّه وأعطاه التوراة، فيأتون موسى فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب، فيستحيي ربه منها، ولكن ائتوا عيسى روح اللَّه وكلمته، فيأتون عيسى روح اللَّه وكلمته فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم-، عبدًا قد غفر اللَّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: فيأتوني فأستأذن على ربي فيؤذَنُ لي، فإذا أنا رأيته فأقع ساجدًا فَيَدَعَني ما شاء اللَّه أن يدعني، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يُسمع، وسل تعط، واشفع تشفَّع. فأرفع رأسي، فأحمد
(1) البخاري رقم (6975 و 7002)، ومسلم رقم (193).
(2/648)
ربي بتحميد يعلِّمنيه ربي، فأشفع فيحد لي حدًّا، فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعود، فأقع ساجدًا، فيدعني ما شاء اللَّه أن يدعني، ثم يقال: ارفع رأسك يا محمد، قل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفَّع، فأرفع رأسي، فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ربي، ثم أشفع: فيحد لي حدًّا فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة. قال: فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة، قال: فأقول: يا رب، ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن”. أي: وجب عليه الخلود.
وذكر ابن خزيمة: عن ابن عبد الحكم، عن أبيه وشعيب بن الليث، عن الليث (1) ، حدثنا معتمر بن سليمان، عن حميد، عن أنس قال: “يلقى الناس في القيامة ما شاء اللَّه أن يلقوه من الحبس، فيقولون: انطلقوا بنا إلى آدم فيشفع لنا إلى ربنا -فذكر الحديث إلى أن قال:- فينطلقون إلى محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- فأقول: أنا لها، فانطلق حتى أستفتح باب الجنة فيفتح في فأدخل وربي على عرشه فأخر ساجدًا” وذكر الحديث (2) .
وقال أبو عوانة، وابن أبي عروبة، وهمام، وغيرهم: عن أنس (3) في هذا الحديث: “فأستأذن على ربي فإذا رأيته وقعت ساجدًا”.
(1) كذا في النسخ وفيه سقط، ولعلَّ تتمَّته (عن ابن الهاد عن عمرو – وهو ابن أبي عمرو – عن أنس. وحدثنا الحسين بن الحسن حدثنا المعتمر بن سليمان).
انظر التوحيد لابن خزيمة (2/ 710 و 716).
(2) التوحيد لابن خزيمة رقم (358).
(3) كذا في النسخ، وصوابه “وغيرهم عن قتادة عن أنس”.
انظر التوحيد لابن خزيمة رقم (354).
(2/649)
وقال عفان، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس: “فآتي ربي وهو على سريره، أو كرسيه فأخر له ساجدًا”.
وساقه ابن خزيمة بسياق طويل، وقال فيه: “فأستفتح فإذا نظرت إلى الرحمن وقعت له ساجدًا” (1) .
ورؤية النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لربه في هذا المقام ثابته عنه ثبوتًا يقطع به أهل العلم بالحديث والسنة، وفي حديث أبي هريرة: “أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، وأنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا صاحب لواء الحمد ولا فخر، وأنا أول من يدخل الجنة ولا فخر، آخذ بحلقة باب الجنة، فيؤذن لي، فيستقبلني وجه الجبار جل جلاله، فأخر له ساجدًا” (2) .
وقال الدارقطني: حدثنا محمد بن إبراهيم النسائي المعدل بمصر، حدثنا عبد اللَّه بن محمد بن جعفر القاضي، حدثنا أبو بكر إبراهيم بن محمد، حدثنا الخليل بن عمر حدثنا عمر بن سعيد الأبح ، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس -رضي اللَّه عنه- عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}
(1) التوحيد لابن خزيمة رقم (358).
(2) تقدم في ص (122).
(3) ما بين المعكوفتين من مصدر التخريج، ووقع في جميع النسخ بدله: “الأشج” وهو خطأ.
(2/650)
[يونس: 26] قال: “النظر إلى وجه اللَّه عز وجل” (1) .
حدثنا أبو صالح عبد الرحمن بن سعيد بن هارون الأصبهاني، ومحمد بن جعفر بن أحمد المَطِيْري (2) ، ومحمد بن علي ابن إسماعيل الأيلي، قالوا: حدثنا عبد اللَّه بن روح المدائني، حدثنا سلام بن سليمان، حدثنا ورقاء، وإسرائيل، وشعبة، وجرير بن عبد الحميد كلهم قالوا: حدثنا ليث عن عثمان بن أبي حميد، عن أنس ابن مالك، قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “أتاني جبريل وفي كفه كالمرآة البيضاء يحملها، فيها كالنكتة السوداء، فقلت: ما هذه التي في يدك يا جبريل؟ فقال: هذه الجمعة، قلت: وما الجمعة، قال: لكم فيها خير كثير، قلت: وما يكون لنا فيها؟ قال: يكون عيدًا لك ولقومك من بعدك، وتكون اليهود والنصارى تبعًا لكم، قلت: وما لنا فيها؟ قال: لكم فيها ساعة لا يسأل اللَّه عبدٌ فيها شيئًا هو له قِسْمٌ إلا أعطاه إياه، أوْ ليس له بقسم إلا ذُخر له في آخرته ما هو أعظم منه، قلت: ما هذه النكتة التي هي فيها؟ قال: هي الساعة ونحن ندعوه يوم المزيد، قلت: وما ذاك يا جبريل؟ قال إن ربك اتخذ في الجنة واديًا، فيه كثبان من مسك أبيض، فإذا كان يوم الجمعة هبط من عِلَّيين على كرسيه، فيحف
(1) أخرجه الدارقطني في الرؤية رقم (48).
وفيه عمر بن سعيد الأبح: قال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو حاتم الرازي: ليس بقوي.
انظر الجرح والتعديل (6/ 111)، ولسان الميزان (4/ 352).
(2) في جميع النسخ: “الطبري” وهو خطأ. تاريخ بغداد (2/ 143).
(2/651)
الكرسيَّ، بكراسي من نور، فيجئ النَّبيون حتى يجلسوا على تلك الكراسي، وتحف الكراسي بمنابر من نور، ومن ذهب مكللة بالجوهر، ثم يجيء الصديقون والشهداء حتى يجلسوا على تلك المنابر، ثم ينزل أهل الغرف من غرفهم، حتى يجلسوا على تلك الكثبان، ثم يتجلى لهم عز وجل فيقول: أنا الذي صدقتكم وعدي، وأتممت عليكم نعمتي، وهذا محل كرامتي فسلوني، فيسألونه حتى تنتهي رغبتهم، فيفتح لهم في ذلك ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وذلك بمقدار منصرفكم من الجمعة، ثم يرتفع على كُرْسِيِّهِ عز وجل، ويرتفع معه النَّبيون والصديقون، ويرجع أهل الغرف إلى غرفهم وهي: لؤلؤة بيضاء، أو زبرجدة خضراء، أو ياقوتة حمراء، غرفها وأبوابها فيها، أنهارها مطردة فيها، وأزواجها وخدامها، وثمارها متدلية فيها، فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى يوم الجمعة، ليزدادوا نظرًا إلى ربهم ويزدادوا منه كرامة” (1) .
(1) أخرجه الدارقطني في الرؤية (59) بسنده ومتنه. وعنه الخطيب في الموضح (2/ 264).
وأخرجه محمد بن عثمان بن أبي شيبة في العرش رقم (88).
- وقال ليث مرة: عن عثمان بن عمير عن أنس.
أخرجه ابن منده في الرد على الجهمية رقم (92). - ورواه أبو طيبة وعنبسة ومحمد بن إسحاق كلهم عن ليث عن عثمان بن عمير عن أنس.
أخرجه الآجري في الشريعة رقم (612)، وابن منده (92)، والدارقطني في الرؤية (62، 60)، والخطيب في الموضح (2/ 266).
والحديث مداره على عثمان بن أبي حميد -وهو ابن عمير أبو اليقظان =
(2/652)
هذا حديث كبير عظيم الشأن، رواه أئمة السنة وتلقوه بالقبول، وجَمَّل به الشافعي “مسنده”، فرواه عن إبراهيم بن محمد، قال: حدثني موسى بن عبيدة، قال: حدثني أبو الأزهر، عن عبد اللَّه بن عبيد بن عمير أنه سمع أنس بن مالك، فذكره بنحوه، وقد تقدم لفظه (1) .
ثم قال الشافعي: أنبأنا إبراهيم قال: حدثني أبو عمران إبراهيم بن الجعد، عن أنسٍ شبيهًا به وزاد فيه أشياء (2) .
ورواه محمد بن إسحاق، قال: حدثني ليث بن أبي سليم، عن عثمان بن عمير، عن أنس به، وقال فيه: “ثم يتجلى لهم ربهم عز وجل، حتى ينظروا إلى وجهه الكريم. . . ” وذكر باقي الحديث.
ورواه عمرو بن أبي قيس، عن أبي ظبية (3) ، عن عاصم، عن عثمان بن عمير أبي اليقظان، عن أنس وجوَّدهُ، وفيه: “فإذا كان يوم الجمعة نزل على كرسيه، ثم حف الكرسي بمنابر من نور، فيجيء النَّبيون حتى يجلسوا عليها، ويجيء أهل الغرف حتى يجلسوا على الكُثُب، قال: ثم يتجلى لهم ربهم تبارك وتعالى، فينظرون إليه
= الكوفي – ضعفه بعضهم، وقال فيه بعضهم: منكر الحديث، وقال آخرون: متروك، وهو لم يسمع من أنس، وفيه أيضًا ليث بن أبي سليم.
فالحديث ضعيف جدًّا.
(1) في الباب (61) ص (576).
(2) مسند الشافعي رقم (375).
وفيه إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي: متروك الحديث.
(3) في “أ”: “طيبة”، والمثبت هو الصواب.
(2/653)
فيقول: أنا الذي صَدَقْتكم وعدي، وأتممت عليكم نعمتي، وهذا محل كرامتي = سلوني، فيسألونه الرضى، قال: رضاي أنزلكم داري، وأنا لكم كرامتي سلوني، فيسألونه الرضى، فيشهدهم بالرضى، ثم يسألونه حتى تنتهي رغبتهم” (1) . وذكر الحديث.
ورواهُ علي بن حرب، حدثنا إسحاق بن سليمان حدثنا عنبسة بن سعيد عن عثمان بن عمير.
ورواهُ الحسن بن عَرَفة حدثنا عمَّار بن محمد: ابن أخت سفيان الثوري، عن ليث بن أبي سليم، عن عثمان وقال فيه: “ثُمَّ يرتفع على كرسيِّه، ويرتفع معه النَّبيُّون والصِّديقون والشهداء، ويرجعُ أهل الغرفِ إلى غرفهم” (2) .
ورواه الدَّارقطني من طريقٍ أُخرى من حديث قتادة عن أنس قال: سمعته يقول: “بينا نحنُ حولَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذ قال: “أتاني جبريلُ في يده كالمرآة البيضاء في وسطها كالنكتة السوداء، قلتُ: يا جبريلُ، ما هذا؟ قال: هذا يوم الجمعة، يعرضه عليك ربك ليكون لك عيدًا ولأمتك من بعدك، قال: قلتُ: يا جبريل، ما هذا النكتة السوداء؟ قال: هذه الساعة وهي تقوم يوم الجمعة، وهو سيِّد أيام الدنيا، ونحن ندعوه في الجنَّة يوم المزيد، قال: قلتُ: يا جبريل ولمَ تدعونه يوم
(1) أخرجه الدارقطني في الرؤية رقم (61)، والخطيب في الموضح (2/ 268) وغيرهما.
(2) أخرجه الدارقطني في الرؤية رقم (63).
ومداره كما تقدم على عثمان بن عمير أو ابن أبي حميد.
(2/654)
المزيد؟ قال: إنَّ اللَّه اتَّخذَ في الجنَّة واديًا أفيح من مسكٍ أبيض، فإذا كان يوم الجمعة نزل ربنا عزَّ وجلَّ على كرسيِّه إلى ذلك الوادي، وقد حُفَّ العرشُ بمنابر من ذهبٍ مكلَّلةٍ بالجوهرِ، وقد حُفَّت تلك المنابر بكراسي من نورٍ، ثمَّ يؤذن لأهل الغرف فيقبلون يخوضون كثبان المسك إلى الرُّكَب، عليهم أسورة الذهب والفضة وثياب السندس والحرير، حتَّى ينتهوا إلى ذلك الوادي، فإذا اطمأنُّوا فيه جلوسًا بعث اللَّه عليهم ريحًا يُقال لها: المثيرة، فثارت عليهم ينابيع المسك الأبيض في وجوههم وثيابهم، وهم يومئذٍ جُرْدٌ مردٌ مكحلون أبناء ثلاث وثلاثين على صورة آدم يوم خلقه اللَّه عز وجل، فينادي رب العزة تبارك وتعالى رضوان وهو خازن الجنة، فيقول: يا رضوان، ارفع الحجب بيني وبين عبادي وزُوَّارِي، فإذا رفع الحجب بينه وبينهم فرأوا بهاءه ونوره هَبُّوا له بالسجود، فيناديهم تبارك وتعالى بصوته: ارفعوا رؤوسكم فإنما كانت العبادة في الدنيا، وأنتم اليوم في دار الجزاء، سلوني ما شئتم فأنا ربكم الذي صدقتكم وعدي، وأتممت عليكم نعمتي، فهذا محل كرامتي فسلوني ما شئتم، فيقولون: ربنا وأي خير لم تفعله بنا، ألستَ الذي أعنتنا على سكرات الموت، وآنست منا الوحشة في ظلمة القبور، وآمنت روعتنا عند النفخة في الصور؟ ألستَ أقلتنا عثراتنا، وسترت علينا القبيح من فعلنا، وثَبَّتَّ على جسر جهنَّم أقدامنا؟ ألستَ الَّذي أدنيتنا من جوارك وأسمعتنا لذاذة منطقك، وتجليت لنا بنورك فأيُّ خيرٍ لم تفعله بنا؟ فيعودُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، فيناديهم بصوته فيقول: أنا ربُّكم الَّذي صدقتكم وعدي، وأتممتُ عليكم نعمتي فسلوني، فيقولون: نسألك رضاك، فيقول: برضائي عنكم
(2/655)
أقلْتُكُم عثراتكم، وسترتُ عليكم القبيح من أموركم، وأدنيتُ منِّي جواركم، وأسمعتكم لذاذة مَنْطقي، وتجليت لكم بنوري، فهذا محل كرامتي فسلوني، فيسألونه حتى تنتهي مسألتهم، ثمَّ يقول اللَّه عزَّ وجلَّ: سلوني فيسألونه حتَّى تنتهي رغبتهم، ثمَّ يقول اللَّه عزَّ وجلَّ: سلوني، فيقولون: رضينا ربنا وسلمنا، فيريهم من مشهد فضله وكرامته، ما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ويكون ذلك بمقدار تفرقهم من الجمعة، قال أنس: فقلتُ: بأبي أنت وأُمِّي يا رسول اللَّه وما مقدار تفرقهم؟ قال: كقدر الجمعة إلى الجمعة، قال: ثمَّ يحمل عرش ربنا تبارك وتعالى معهم الملائكة والنَّبيون ثمَّ يؤذن لأهل الغرفات فيعودون إلى غرفهم وهما: غرفتان من زمردتين خضراوين، وليسوا إلى شيءٍ أشوق منهم إلى الجمعة لينظروا إلى ربِّهم عزَّ وجلَّ، وليزيدهم من مزيد فضله وكرامته”. قال أنس: سمعته من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وليس بيني وبينه أحد (1) .
ورواهُ الدَّارقطني أيضًا: عن أبي بكر النيسابوري، قال: أخبرني العباس بن الوليد بن مزيد قال: أخبرني محمد بن شعيب قال: أخبرني
(1) أخرجه الدارقطني في الرؤية رقم (64)، والعقيلي في الضعفاء الكبير (1/ 292 – 293).
قال العقيلي في ترجمة حمزة بن واصل المنقري عن قتادة: “مجهول في الرواية، وحديثه غير محفوظ”.
ثم ساق العقيلي هذا الحديث بطوله ثم قال: “ليس له من حديث قتادة أصل، هذا حديث عثمان بن عمير أبو اليقظان عن أنس. . . . “.
وعليه فالحديث منكر من هذا الطريق غير محفوظ.
(2/656)
عمر مولى غُفْرة عن أنس (1) .
ورواهُ محمد بن خالد بن خُلَي، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، حدثنا صفوان قال: قال أنس: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-.
ورواهُ أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الرحمن بن محمد، عن ليث، عن أبي عثمان، عن أنس (2) .
ورواهُ إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة، عن زهير بن حرب، حدثنا جرير، عن ليث، عن عثمان بن أبي حميد، عن أنس.
ورواهُ عن الأسود بن عامر قال: ذُكِر لي عن شريك، عن أبي اليقظان، عن أنس (3) .
ورواهُ ابن بطَّة في “الإبانة” (4) من حديث الأعمش عن أبي وائل عن
(1) أخرجه الدارقطني في الرؤية رقم (65)، والدارمي في الرد على الجهمية رقم (144).
وسنده ضعيف فيه عمر مولى غفرة لم يلق أنس بن مالك، كما قال ابن معين وأبو حاتم الرازي. انظر المراسيل رقم (496).
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 477 – 478) رقم (5516)، وابن بطة في الإبانة (المختار) -الرد على الجهمية- (3/ 24 – 29) رقم (24).
(3) أخرجه الدارمي في الرد على الجهمية رقم (198) عن شيخ من أهل بغداد عن شريك به.
وكذا رواه يحيى بن يمان عن شريك به موقوفًا كما سيأتي عند المصنف ص (412).
والأثر مداره على أبي اليقظان وقد تقدم الكلام عليه.
(4) كما في (المختار) – الرد على الجهمية (3/ 32 – 36) رقم (26)، وسيأتي =
(2/657)
حذيفة، وسيأتي سياقه، وقد جمع ابن أبي داود طرقه.
فصل
وأمَّا حديث بريدة بن الحصيب: فقال إمام الأئمة محمد بن إسحاق ابن خزيمة: حدثنا أبو خالد عبد العزيز بن أبان القرشي، حدثنا بشير بن المهاجر عن عبد اللَّه بن بُريدة عن أبيه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “ما منكم من أحدٍ إلَّا سيخلوا اللَّه به يوم القيامة، ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان” (1).
= الكلام عليه في حاشية ص (679).
(1) أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في السنة رقم (469) واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم (853): عن محمد بن إسحاق الصاغاني نا أبو خالد القرشي نا بشير بن المهاجر به مثله.
- ورواه الحسن بن ناصح عن عبد العزيز بن أبان به نحوه.
أخرجه الدارقطني في الرؤية (184).
ولعل هذا الطريق هو مراد المؤلف، فلعله لما رأى محمد بن إسحاق عند عبد اللَّه في السنة، ورأى الحديث عند ابن خزيمة في التوحيد انتقل ذهنه من الصاغاني إلى ابن خزيمة واللَّه أعلم.
والحديث فيه عبد العزيز بن أبان وهو متروك الحديث. انظر تهذيب الكمال (18/ 110).
لكن يغني عنه ما عند ابن خزيمة في التوحيد (1/ 363) رقم (216).
من طريق زيد بن الحباب عن حسين بن واقد عن عبد اللَّه بن بريدة به (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه، ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان).
(2/658)
فصل
وأمَّا حديث أبي رَزِين العُقيلي: فرواهُ الإمام أحمد من حديث شعبة وحماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن حُدس، عن أبي رزين قال: قلنا: يا رسول اللَّه، أكُلُّنا يرى ربَّه عزَّ وجلَّ يوم القيامة؟ قال: “نعم”، قال: قلتُ: وما آية ذلك في خلقه؟ قال: “أليس كلُّكم ينظر إلى القمر ليلة البدر”؟ قلنا: نعم، قال: “اللَّه أكبر وأعظم” (1).
قال عبد اللَّه قال أبي: والصوابُ حُدس (2).
وقال أبو داود سليمان بن الأشعث: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حمَّاد بن سلمة به.
فقد اتفق شعبة، وحماد بن سلمة -وحسبك بهما- على روايته عن يعلى بن عطاء، ورواهُ النَّاسُ عنهما.
(1) أخرجه أحمد في المسند (4/ 11 و 12) وابن ماجه رقم (180)، وأبو داود (4731)، وابن حبان في صحيحه (6141)، والحاكم في المستدرك (4/ 605) رقم (8682) والدارقطني في الرؤية (186 – 190) وغيرهم.
قال الحاكم: “هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه”.
والحديث مداره على وكيع بن حدس -فيه جهالة- تفرد بالرواية عنه يعلي بن عطاء. وقد جهَّله جماعة.
والحديث صححه ابن حبان والحاكم.
(2) يعني: أنَّ شعبة أخطأ في قوله “عُدس” بدل “حُدس”، والصواب ما رواهُ حماد ابن سلمة وغيره كما ساقه المؤلِّف. انظر العلل ومعرفة الرجال (2/ 189) رقم (1959).
(2/659)
وعن أبي رزين فيه إسناد آخر قد تقدَّم ذِكْره في حديثه الطويل (1).
وأبو رزين العُقَيلي له صحبة وعِدَاده من أهل الطائف، وهو لقيط بن عامر، ويقال: لقيط بن صَبِرَة، هكذا قال البخاري وابن أبي حاتم وغيرهما، وقيل: هما اثنان، ولقيط بن عامر غير لقيط بن صبرة، والصحيح الأوَّل. وقال ابن عبد البر: من قال: لقيط بن صَبِرَة نَسَبَهُ إلى جدِّهِ، وهو لقيط بن عامر بن صَبِرَة (2).
فصل
وأمَّا حديث جابر بن عبد اللَّه: فقال الإمام أحمد: حدثنا روح بن عبادة حدثنا ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أنَّه سمع جابرًا يُسْأل عن الورود فقال: “نجيء (3) يوم القيامة على كذا وكذا، أي فوق النَّاسِ، فتدعى الأُمم بأوثانها وما كانت تعبد، الأوَّل فالأوَّل، ثمَّ يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول: من تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربنا، فيقول: أنا ربكم فيقولون: حتَّى ننظر إليك، فيتجلَّى لهم تبارك وتعالى يضحَكُ قال: فينطلق بهم ويتبعونه، ويُعْطَى كلُّ إنسانٍ منهم: منافق أو مؤمن نورًا، ثمَّ يتبعونه على جسر جهنم، وعليه كلاليب وحسك، تأخذ من شاء اللَّه، ثمَّ يُطْفَأ نور المنافق، ثمَّ ينجو المؤمنون، فتنجو أوَّل زمرة
(1) ص (126).
(2) انظر لِترجمتِهِ والاختلاف فيه: تهذيب الكمال (24/ 248 – 249)، وتهذيب التهذيب (3/ 479 – 480).
(3) في “ب, هـ، د” ونسخة على حاشية “أ”: “نحن”، وهو الموافق لما في المسند المطبوع.
(2/660)
وجوههم كالقمر ليلة البدر، وسبعون ألفًا لا يحاسبون، ثمَّ الَّذين يلونهم كأضوإ نجمٍ في السَّماء، ثمَّ كذلك، ثمَّ تحلُّ الشفاعة حتَّى يخرج من النَّارِ من قال: لا إله إلَّا اللَّه، وكان في قلبه من الخيرِ ما يزنُ شعيرةً، فيُجْعَلون بفناء أهل الجنَّة ويجعل أهل الجنَّة يرشون عليهم الماء، حتى ينبتون نبات الشيء في السيل، ويذهب حراقه ثمَّ يسأل حتَّى يجعلَ اللَّه له الدنيا وعشرة أمثالها مَعَها” (1) .
رواهُ مسلم في “صحيحه” (2) وهذا الَّذي وقع في الحديث من قوله: “على كذا وكذا” قد جاء مفسَّرًا في رواية صحيحة ذكرها عبد الحق في “الجمع بين الصحيحين” (3) “نجيء يوم القيامة على تلٍّ مشرفين على الخلائق”.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا رباح بن زيد، قال: حدَّثني ابن جريج قال: أخبرني زياد بن سعد أنَّ أبا الزبير أخبره عن جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “يتجلَّى لنا الربُّ تبارك وتعالى ينظرون إلى وجهه، فيخِرُّون له سُجَّدًا، فيقول: ارفعوا رؤوسكم فليس هذا بيوم عبادة” (4) .
(1) المسند (3/ 383 – 384).
(2) رقم (191).
(3) (1/ 158 – 159).
(4) أخرجه الدارقطني في الرؤية رقم (52). من طريق أحمد بن محمد بن عمر ابن يونس اليمامي عن عبد الرزاق به مثله.
وسنده ضعيف جدًّا، فيه أحمد بن محمد اليمامي أبو سهل الحنفي متروك =
(2/661)
قال الدَّارقطني: أنبأنا أحمد بن عيسى بن السكن (1) ، حدثنا أحمد ابن محمد بن عمر بن يونس، حدثنا محمد بن شُرَحْبيل الصنعاني، قال: حدثني ابن جُرَيج، عن أبي الزبير عن جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “يتجلَّى لنا ربُّنا عزَّ وجلَّ يوم القيامة ضاحكًا” (2) .
وروى أبو قُرَّة عن مالك بن أنس عن زياد بن سعد، حدثنا أبو الزبير، عن جابر أنَّه سمع النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “إذا كان يوم القيامة جُمعت الأُمَم”، فذكر الحديث وفيه: “فيقول: أتعرفون اللَّه عزَّ وجلَّ إنْ رأيتموه؟ فيقولون: نعم، فيقول: وكيف تعرفونه ولم تَرَوْهُ؟ فيقولون: نعلمُ أنَّه لا عِدْلَ له، قال: فيتجلَّى لهم تبارك وتعالى، فيخرُّون له سُجَّدًا” (3) .
وقال ابن ماجه في “سننه” (4) : حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي
= الحديث، وكان يكذب. تاريخ بغداد (5/ 269 – 270).
(1) وقع في “د” ونسخة على حاشية “أ”: “السكين”، وهو كذلك عند الدارقطني في الرؤية.
(2) أخرجه الدارقطني في الرؤية رقم (53).
وسنده ضعيف جدًّا، فيه أحمد بن محمد اليمامي وهو متروك كما تقدم.
(3) أخرجه الدَّارقطني في الرؤية رقم (54).
وهو حديثٌ غريب من حديث مالك، وفي سنده محمد بن يوسف الزبيدي أبو حُمَة، ذكره ابن حبان في الثقات (9/ 104) وقال: “ربما أخطأ وأغرب، كنيته أبو يوسف، وأبو حُمَة: لقب”.
(4) رقم (184). وأخرجه العقيلي في الضعفاء (2/ 274 – 275)، والآجُرِّي في الشريعة رقم (615)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (98)، وأبو نعيم =
(2/662)
الشوارِب، حدثنا أبو عاصم العبَّاداني عن الفضل بن عيسى الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “بينا أهل الجنَّة في نعيمهم إذ سطعَ لهم نورٌ فرفعوا رؤوسهم، فإذا الربُّ جلَّ جلاله قد أشرفَ عليهم من فوقهم فقال: السلامُ عليكم يا أهل الجنَّة، وهو قول اللَّه عزَّ وجلَّ: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) } يس: 58 فلا يلتفتون إلى شيءٍ ممَّا هم فيه من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتَّى يحتجب عنهم وتبقى فيهم بركته ونوره” (2) .
وقال حرب في “مسائله” (3) : حدثنا يحيى بن أبي حزم، حدثنا يحيى بن محمد أبو عاصم العباداني فذكره.
وعند البيهقي في هذا الحديث سياق آخر رواهُ أيضًا من طريق العباداني، عن الفضل بن عيسى عن ابن المنكدر عن جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “بينا أهل الجنَّة في مجلس لهم إذْ سطعَ لهم نورٌ على باب الجنَّة، فرفعوا رؤوسهم فإذا الربُّ تبارك
= في صفة الجنَّة رقم (91)، والدَّارقطني في الرؤية (51) وغيرهم.
والحديث ضعيفٌ جدًّا، مدارهُ على الفضل بن عيسى الرَّقاشي: متروك الحديث عن ابن المنكدر.
والحديث تكلم فيه العقيلي وابن عدي وابن الجوزي وابن كثير والبوصيري.
(1) عند ابن ماجه “قال: فينظر إليهم، وينظرون إليه”.
(2) زاد ابن ماجه “عليهم في ديارهم”.
(3) لم أجده في القطعة المطبوعة عام 1425 هـ.
(2/663)
وتعالى قد أشرف، فقال: يا أهل الجنَّة سلوني، قالوا: نسألك الرِّضى عنَّا قال: رِضَايَ أحلّكم داري، وأنالكم كرامتي، هذا أوانها فسلوني، قالوا: نسألك الزيادة، قال: فيؤتون بنجائب من ياقوت أحمر، أَزِمَّتها زمرُّد أخضر وياقوت أحمر، فجاؤوا عليها تضع حوافرها عند منتهى طرفها، فيأمر اللَّه عزَّ وجلَّ بأشجار عليها الثمار فتجيء جواري الحور العين وهنَّ يقلنَ: نحن الناعمات فلا نبأس، ونحنُ الخالدات فلا نموتُ، أزواجُ قومٍ مؤمنين كرام، ويأمر اللَّهُ عزَّ وجلَّ بكثبان من مسكٍ أبيض أذفر فيثير عليهم ريحًا يقال لها: المثيرة، حتَّى تنتهي بهم إلى جنَّة عدنٍ وهي قَصَبَة الجنَّة، فتقول الملائكة: يا ربنا قد جاء القومُ، فيقول: مرحبًا بالصادقين، مرحبًا بالطَّائعين، قال: فيكشفُ لهم الحجاب فينظرون إلى اللَّه تبارك وتعالى فيتمتعون بنور الرحمن حتَّى لا يبصر بعضهم بعضًا، ثمَّ يقول: أرجعوهم إلى القصور بالتحف فيرجعون، وقد أبصرَ بعضهم بعضًا، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: فذلك قوله تعالى: {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) } [فصلت: 32].
رواهُ في كتاب “البعث والنشور” (1) ، وفي كتاب “الرؤية” (2) قال: وقد مضى في هذا الكتاب، وفي كتاب “الرؤية” ما يؤكِّد هذا الخبر.
وقال الدَّارقطني: أنبأنا الحسن بن إسماعيل أنبأنا أبو الحسن
(1) رقم (493).
(2) أي للبيهقي، وهذا الكتاب ذكره الذهبي في السير (18/ 166)، وحاجي خليفة في كشف الظنون ص (1421)، وراجع تاريخ الأدب العربي لبروكلمان (6/ 231).
(2/664)
علي بن عبدة، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن ابن أبي ذئب، عن محمد ابن المنكدر، عن جابر قال: قال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يتجلَّى للنَّاس عامَّة ويتجلَّى لأبي بكر خاصَّة” (1).
فصل
وأمَّا حديث أبي أمامة: فقال ابن وهب: أخبرني يونس بن يزيد عن عطاء الخرساني عن يحيى بن أبي عمرو السيباني، عن عمرو بن عبد اللَّه الحضرمي (2) عن أبي أُمامة قال: خطبنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يومًا فكان أكثر خطبته ذكر الدجال يحذرناه، ويحدثنا عنه حتى فرغ من خطبته، فكان فيما قال لنا يومئذ: “إن اللَّه عز وجل لم يبعث نبيًّا إلا حذَّره أُمَّته، وإني آخر الأنبياء، وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة، فإن يخرج وأنا بين أظهركم فأنا حجيج كل مسلم، وإن يخرج فيكم بعدي فكل امرئ حجيج نفسه، واللَّه خليفتي على كل مسلم، إنه يخرج من خَلَّة بين العراق والشام عاث يمينًا، وعاث شمالًا، يا عباد اللَّه اثبتوا وأنه يبدأ
(1) أخرجه الدَّارقطني في الرؤية رقم (48)، وابن عدي في الكامل (5/ 216)، وابن حبان في المجروحين (2/ 115) وغيرهم.
وهو حديثٌ موضوع، فيه علي بن عبدة المكتب: كان وضَّاعًا.
قال ابن عدي: “وهذا حديثٌ باطل بهذا الإسناد .. . . “.
(2) قوله: “عمرو بن عبد اللَّه الحضرمي” كذا في جميع النسخ، وصوابه “حريث ابن عمرو الحضرمي” كما في مصادر التخريج، وقد تصحَّف “حريث” عند الحاكم والدَّارقطني وابن خزيمة إلى “حديث”.
وحريث بن عمرو يروي عن معاذ، فيه جهالة.
راجع الجرح والتعديل (3/ 263)، والثقات لابن حبان (4/ 174).
(2/665)
فيقول: أنا نبيٌّ -ولا نبيَّ بعدي- ثم يثني فيقول: أنا ربكم – ولن تروا ربكم حتى تموتوا – وأنه مكتوب بين عينيه “كافر” يقرؤه كل مؤمن. فمن لقيه منكم فليتفل في وجهه، وليقرأ بفواتح سورة أصحاب الكهف، وأنه يُسلَّط على نفسٍ من بني آدم فيقتلها، ثم يحييها، وأنه لا يعدو ذلك ولا يُسلَّط على نفس غيرها، وإن من فتنته أنَّ معه جنَّةً ونارًا، فنارهُ جنَّة، وجنته نار، فمن ابتلي بنارِهِ فليغمض عينيه، وليستغث باللَّه تكون بردًا وسلامًا كما كانت النَّارُ بردًا وسلامًا على إبراهيم، وإنَّ أيامه أربعون يومًا: يومًا كسنة، ويومًا كشهر، ويومًا كجمعة، ويومًا كالأيام، وآخر أيامه كالسراب، يصبح الرجل عند باب المدينة فيمسي قبل أنْ يبلغ بابها الآخر، قالوا: كيف نُصَلِّي يا رسول اللَّه في تلك الأيام؟ قال: تقدرون فيها كما تقدرون في الأيام الطِّوال” (1) .
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 171 – 172) رقم (7644)، وابن خزيمة في التوحيد رقم (270)، والحاكم في المستدرك (4/ 580) رقم (8620)، والدَّارقطني في الرؤية رقم (68).
قال الحاكم: “صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاهُ بهذه السياقة”.
- ورواهُ إسماعيل بن رافع عن السيباني عن عمرو بن عبد اللَّه الحضرمي عن أبي أُمامة فذكره.
أخرجه ابن ماجه (4077) وغيره، وانظر لزامًا النكت الظراف (4/ 175). - ورواهُ ضمرة بن ربيعة عن السَّيباني عن عمرو بن عبد اللَّه الحضرمي عن أبي أُمامة فذكره.
أخرجه أبو داود (4322)، والطبراني في الكبير (8/ 172) رقم (7645)، والدَّارقطني في الرؤية (67) وغيرهم. =
(2/666)
ورواه الدَّارقطني عن ابن صاعد عن أحمد بن الفرج عن ضمرة بن ربيعة عن يحيى بن أبي عمرو: به مختصرًا.
فصل
وأمَّا حديث زيد بن ثابت: فقال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة قال: حدثني أبو بكر قال: حدثني ضمرة بن حبيب عن أبي الدرداء عن زيد بن ثابت أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- علَّمه دعاءً، وأمرهُ أنْ يتعاهد به أهله كلَّ يومٍ، قال: قل حين تصبح: لبيكَ اللهم لبيك، لبيك وسعديك، والخير في يديك، ومنك وإليك، اللهم وما قلتُ من قولٍ أو نذرتُ من نذرٍ، أو حلفتُ من حلف، فمشيئتك بين يديه، ما شئت كان، وما لم تشأ لم يكن، ولا حولَ ولا قوَّة إلَّا بكَ وأنت (2) على كلَّ شيءٍ قديرٍ، الَّلهم وما صليتُ من صلاةٍ فعلى مَنْ صلَّيت، وما لعنتُ من لعنةٍ فعلى من لعنتَ؛ أنت وليِّي في الدنيا والآخرة، توفني مسلمًا، وألحقني بالصَّالحين، أسألُك الَّلهم الرِّضى بعد القضاء، وبرْدَ العيشِ بعد الموتِ، ولذَّةَ النَّظَرِ إلى وجهك، والشوقِ إلى لقائك، من غير ضرَّاءَ
= وحديث ضمرة وإسماعيل أصح من حديث عطاء الخراساني، وفي سنده عمرو بن عبد اللَّه الحضرمي لم يرو عنه غير السيباني، وقد وثَّقه العجلي والفسوي وابن حبان، لكن لا يعرف له سماع من أبي أُمامة.
وفي الحديث ألفاظ غريبة كقوله “فإنَّهُ يبتدئ فيقول: أنا نبيٌ. . . “.
وهذا لم يأت في حديث صحيح.
(1) ما بين المعكوفتين من المسند، وليس في جميع النسخ، وليس في رواية الحاكم “عن أبي الدرداء”.
(2) في “ب، ج، هـ”: “إنَّك”.
(2/667)
مُضِرَّةٍ، ولا فتنةٍ مضلَّلة، أعوذ بك الَّلهم أنْ أَظْلِم أو أُظلَم، أو أعتدي أو يُعْتَدَى عليَّ، أو كَسْبَ خطيئة محبطه أو ذنبًا لا يغفر، الَّلهم فاطرَ السموات والأرضِ عالمَ الغيب والشهادة ذا الجلالِ والإكرام، فإنِّي أعهدُ إليك في هذه الحياة الدنيا، وأُشهدك وكفى بك شهيدًا. إنِّي أشهدُ أنْ لا إله أنتَ وحدك لا شريك لك، لك الملك، ولك الحمد، وأنت على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبدك ورسولك، وأشهد أن وعدك حق، ولقاءك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة آتية لا ريب فيها، وأنت تبعث من في القبور، وأشهد أنك إن تَكِلْني إلى نفسي تكلْني إلى ضيعة وعورة وذنب وخطيئة، وإني لا أثق إلا برحمتك، فأغفر لي ذنبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وتُبْ عليَّ إنك أنت التواب الرحيم” (1) .
(1) أخرجه أحمد في المسند (5/ 191)، وابن خزيمة في التوحيد رقم (7)، والطبراني في الكبير (5/ 119 – 120) رقم (4803)، وفي الدعاء رقم (321) والبيهقي في الدعوات الكبير رقم (43) وغيرهم.
- ورواهُ عيسى بن يونس عن أبي بكر بن أبي مريم عن ضمرة عن زيد بن ثابت.
أخرجه الحاكم (1/ 697 – 698) رقم (1900)، والبيهقي في الدعوات رقم (42). - ورواهُ معاوية بن صالح عن ضمرة بن حبيب عن زيد بن ثابت.
أخرجه الطبراني في الكبير (5/ 157) رقم (4932).
قال الحاكمُ: “صحيح الإسناد ولم يخرجاه”.
والإسناد ضعيف، للانقطاع بين ضمرة وزيد بن ثابت، وأبو بكر هو ابن أبي مريم ضعيف. وقال الذهبي معقِّبًا على الحاكم: “قلت أبو بكر ضعيف، فأين الصحة؟! “، وضعفه أيضًا الهيثمي في المجمع (10/ 113).
(2/668)
رواهُ الحاكمُ في “صحيحه”.
فصل
وأمَّا حديث عمَّار بن ياسر: فقال الإمام أحمد: حدثا إسحاق الأزرق عن شَرِيك عن أبي هاشم عن أبي مِجْلَز قال: صلَّى بنا عمَّار صلاةً فأوجزَ فيها، فأنكروا ذلك، فقال: ألم أُتِمُّ الركوعَ والسجودَ؟ قالوا: بلى، قال: أما إنِّي قد دعوتُ فيها بدعاء، كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يدعو به: “الَّلهم بعلمك الغيبَ، وبقدرتك على الخلقِ، أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحقِّ في الغضب والرِّضى، والقصدَ في الفقر والغنى، ولذَّة النظر إلى وجهك، والشوقَ إلى لقائك في غيرِ ضرَّاءَ مضرَّةٍ، ولا فتنةٍ مضلَّةٍ، الَّلهم زيِّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هُداةً مهتدين” (1).
(1) أخرجه أحمد (4/ 264).
من طريق إسحاق الأزرق وأسود بن عامر كلاهما عن شريك به.
- ورواهُ جماعة عن شريك عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن عمَّار فذكره.
أخرجه النسائي رقم (1306)، وعبد اللَّه في السنة رقم (280)، والبزار في مسنده رقم (1392) وغيرهم.
وله طريق آخر عن عمار.
رواهُ حماد بن زيد وحماد بن سلمة ومحمد بن فضيل كلهم عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عمار فذكره.
أخرجه النسائي (1305)، وابن خزيمة في التوحيد رقم (13)، وابن =
(2/669)
وأخرجه ابن حبان والحاكمُ في “صحيحيهما”.
فصل (1)
وأمَّا حديثُ عائشة رضي اللَّهُ عنها: ففي “صحيح الحاكم” من حديث الزهري عن عروة عنها قالت: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لجابر: “يا جابر، ألا أبشِّرك؟ قال: بلى بشَّركَ اللَّهُ بخيرٍ، قال: شعرت أنَّ اللَّه أحيا أباك، فأقعده بين يديه، فقال: تمنَّ عليَّ عبدي ما شئت أُعْطِكه، قال: يا ربِّ، ما عبدتك حقَّ عبادتك، أتمنَّى عليك أنْ تردني إلى الدنيا، فأقاتل مع نبيك، فأقتل فيك مرَّةً أخرى، قال: إنَّه قد سلفَ منَّي أنَّك إليها لا ترجع” (2).
وهو في “المسند” (3) من حديث جابر، وفي مسنده أدخله.
وللترمذي فيه سياق أتم من هذا عن جابر قال: “لمَّا قُتِلَ عبد اللَّه بن
= حبان رقم (1971)، والحاكم (1/ 705 – 706) رقم (1923)، وأبو يعلى رقم (1624)، والبيهقي في الدعوات (220) وغيرهم.
والحديث صححه ابن حبان.
(1) من “ب، د، هـ”، ونسخة على حاشية (أ).
(2) المستدرك (3/ 223 – 224) رقم (4911)، وقال: “صحيح الإسناد ولم يخرجاهُ”. وتعقَّبه الذهبي بقوله: “فيض: كذَّاب”.
(3) (3/ 361) من طريق عبد اللَّه بن محمد بن عقيل عن جابر فذكر نحوه.
وأخرجه الحميدي في مسنده رقم (1265) وأبو يعلى في مسنده (4/ 6) رقم (2002) وغيرهما.
وفيه ابن عقيل في حفظه مقال.
(2/670)
عمرو بن حرام يوم أُحُدٍ قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “يا جابر ألا أخبرك ما قال اللَّه عزَّ وجلَّ لأبيك؟ ” قال بلى، قال: “ما كلَّم اللَّه عزَّ وجلَّ أحدًا إلَّا من وراء حجاب، وكلَّم أباك كفاحًا، فقال: يا عبدي، تمنَّ عليَّ أُعْطِكَ”، قال: يا ربِّ تُحْيِيْني، فَأُقْتَل فيك ثانية، قال: “إنَّه سبق منِّي أنَّهم إليها لا يُرجعون، قال: يا ربِّ، فأبلغ من ورائي، فأنزل اللَّه عزَّ وجلَّ هذه الآية {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} الآية [آل عمران: 169] ” (1)، قال الترمذي: “هذا حديث حسن غريب”.
قلتُ: وإسنادُهُ صحيح، ورواهُ الحاكمُ في “صحيحه”.
فصل
وأمَّا حديث عبد اللَّه بن عمر: فقال الترمذي: حدثنا عَبْد بن حُمَيْد (2) عن شَبَابة عن إسرائيل عن ثوير بن أبي فاخِتَة.
وقال الطبراني: حدثنا أسد بن موسى، حدثنا أبو معاوية محمد بن خازم، عن عبد الملك بن أبجر، عن ثوير بن أبي فاختة، عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إن أدنى أهل الجنة منزلة لرجل ينظر في ملكه ألفي سنة، يرى أقصاه كما يرى أدناه، ينظر إلى
(1) أخرجه الترمذي برقم (3010)، وابن ماجه (2800)، وابن خزيمة في التوحيد رقم (599) وابن حبان في صحيحه رقم (7022)، والحاكم في المستدرك (3/ 224 – 225) وقال: “صحيح الإسناد ولم يخرجاه”. وغيرهم.
والحديث حسنه الترمذي، وصححه ابن خزيمة والحاكم والمؤلف.
(2) في “ج”: “جميل” وهو خطأ.
(2/671)
أزواجه وسرره وخدمه، وإن أفضلهم منزلة من ينظر في وجه اللَّه تبارك وتعالى كل يوم مرتين” (1) .
قال الترمذي: “ورُوِي هذا الحديث من غير وجهٍ: عن إسرائيل، عن ثوير، عن ابن عمر مرفوعًا. ورواه عبد الملك بن أبجر، عن ثوير، عن مجاهد، عن ابن عمر موقوفًا. وروى الأشجعي عبيد اللَّه، عن الثوري، عن ثوير، عن مجاهد، عن ابن عمر قوله، ولم يرفعه. حدثنا بذلك أبو كريب، حدثنا الأشجعي، عن سفيان، عن ثوير، عن مجاهد، عن ابن عمر نحوه، ولم يرفعه”.
قلت: ورواه الحسن بن عرفة، عن شبابة، عن إسرائيل، عن ثوير، عن ابن عمر مرفوعًا، وزاد فيه: ثم قرأ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) } القيامة: 22 – 23
وقال سعيد بن هشيم بن بشير عن أبيه، عن كوثر (3) بن حكيم، عن نافع، عن ابن عمر-رضي اللَّه عنهما- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “يوم القيامة أول يوم نظرت فيه عين إلى اللَّه تبارك وتعالى” (4) .
(1) تقدم الكلام عليه في ص (323 – 324).
(2) أخرجه الدَّارقطني في الرؤية رقم (171).
وسنده ضعيف مداره على ثوير وهو ضعيف.
(3) في “أ، ب، ج، هـ”: “كُريز”، وفي “د”: “كدز”، وهو تحريف، والتصويب من الدَّارقطني.
(4) أخرجه الدَّارقطني في الرؤية رقم (175).
وهو حديثٌ باطل فيه: كوثر بن حكيم ضعَّفه بعضهم، وتركه بعضهم، وقال الإمام أحمد: ليس بشيء، وهذا الحديث معدودٌ من منكراته. =
(2/672)
ورواه الدارقطني عن جماعة، عن أحمد بن يحيى بن حيان الرقي، عن إبراهيم بن خُرَّزاد عنه.
وقال الدارقطني: حدثنا أحمد بن سليمان، أخبرنا محمد بن يونس، حدثنا عبد الحميد بن صالح، ثنا أبو شهاب الحنَّاط، عن خالد ابن دينار، عن حماد بن جعفر، عن عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنهما- قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “ألا أخبركم بأسفل أهل الجنة، قالوا: بلى يا رسول اللَّه -فذكر الحديث إلى أن قال-: حتى إذا بلغ النعيم منهم كل مبلغ وظنُّوا أن لا نعيم أفضل منه أشرف الرب تبارك وتعالى عليهم، فينظرون إلى وجه اللَّه عز وجل، فيقول: يا أهل الجنة هلِّلُوني وكبِّروني وسبَّحوني بما كنتم تهللوني وتكبِّروني وتسبِّحوني في دار الدنيا، فيتجاوبون بتهليل الرحمن، فيقول تبارك وتعالى لداود: يا داود قم فمجِّدْني، فيقوم داود فيمجد ربه عز وجل” (1) .
= انظر: الميزان للذهبي (5/ 505)، واللسان (4/ 590).
(1) أخرجه الدَّارقطني في الرؤية (176).
وفيه محمد بن يونس الكديمي: وهو متروك، وقد توبع عليه.
تابعه محمد بن عبد اللَّه “أو عبيد اللَّه” بن موسى القرشي ثنا عبد الحميد بن صالح به مطوَّلًا.
أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (343).
ومحمد القرشي هذا لم أقف عليه.
وفي الإسناد حماد بن جعفر يحتمل أنَّه العبدي البصري: وثقة ابن معين، وقال ابن عدي: “منكر الحديث”.
وضعفه الأزدي، وقال ابن حجر: لين. انظر: تهذيب الكمال (7/ 230).
ويحتمل أنَّه آخر: لم أقف عليه، وأيضًا في الحديث انقطاع بين حماد =
(2/673)
وقال عثمان بن سعيد الدارمي في “رده على بشر المريسي” (1): حدثنا أحمد بن يونس، عن أبي شهاب الحناط (2)، عن خالد بن دينار، عن حماد بن جعفر، عن ابن عمر رفعه إلى النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إن أهل الجنة إذا بلغ النعيمُ منهم كلَّ مَبْلَغ وظنوا أن لا نعيم أفضل منه تجلَّى لهم الرب تبارك وتعالى فنظروا إلى وجه الرَّحمن، فنسوا كلَّ نعيم عاينوهُ حين نظروا إلى وجه الرَّحمن” (3).
فصل
وأمَّا حديث عُمَارة بن رُوَيْبة: فقال ابن بطة في “الإبانة” (4): حدثنا عبد الغافر (5) بن سلامة الحمصي، حدثنا محمد بن عوف بن سفيان الطائي، حدثنا أبو اليمان، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه، عن إسماعيل بن أبي خالدٍ عن أبي بكر بن عمارة بن رويبة عن أبيه قال: نظر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى القمر ليلةَ البدرِ
= بن جعفر وابن عمر واللَّه أعلم.
(1) رقم (229).
(2) في “ب، د”: “الخياط”، وفي “هـ”: “الخباط”، وكلاهما تصحيف.
(3) وأخرجه أيضًا الدَّارمي في الردِّ على الجهمية رقم (189)، وعبد بن حميد فى مسنده (849) المنتخب.
وسنده ضعيف فيه العلل المتقدمة الانقطاع وغيره.
(4) هو ضمن القطعة المفقودة من الإبانة الجزء الخامس عشر، وقد نشر مُختَصَره: “المختار من الإبانة” وليس فيه هذا الحديث.
(5) في “هـ”، ونسخةٍ على حاشية “أ”: “عبد الغفار” هو خطأ.
انظر: تاريخ بغداد للخطيب (11/ 137 – 139).
(2/674)
فقال: “إنَّكم سترونَ ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضارُّون في رؤيته، فإنْ استطعتم ألَّا تغلبوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس، وقبل (1) غروبها فافعلوا” (2) .
قال ابن بطة: وأخبرني أبو القاسم عمر بن أحمد عن أبي بكر (3) أحمد بن هارون، حدثنا عبد الرزاق بن منصور، حدثنا المغيرة حدثنا المسعودي عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي بكر بن عمارة بن رويبة عن أبيه قال: نظر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى القمرِ ليلة البدرِ فقال: “إنَّكم سترون اللَّه ربكم تبارك وتعالى، كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أنْ لا تُغْلَبوا على ركعتين قبل طلوع الشمس، ولا ركعتين بعد غروبها، فافعلوا”.
(1) في “ب، هـ، د” ونسخةٍ على حاشية “أ”: “وصلاة قبل”.
(2) إسناده ضعيف. إسماعيل بن عيَّاش ضعيف في روايته عن غير أهل بلدته، وعبد الرحمن بن عبد اللَّه هو المسعودي وكان قد اختلط، وقد توبع إسماعيل.
- تابعه: المغيرة بن عبد اللَّه الجرجرائي عن المسعودي به بالَّلفظ الآخر الَّذي نكره المؤلِّف.
أخرجه الدَّارقطني في الرؤية رقم (152)، وابن بطة كما ذكر المؤلِّف.
والمغيرة هذا لم أقف عليه. فلا يُدرى هل سمع من المسعودي هو وابن عياش قبل اختلاط المسعودي أم بعده؟.
انظر: الكواكب النيِّرات لابن الكيال ص (282 – 298).
تنبيه: ليس عند الدَّارقطني “عن أبيه”، فلا أدري أسقطت من الطابع أم عنده الرواية مرسلة.
(3) في “هـ”، ونسخةٍ على حاشية “أ” “بكر بن”.
(2/675)
فصل
وأمَّا حديث سلمان الفارسي: فقال أبو معاوية: حدثنا عاصم الأحول، عن أبي عثمان عن سلمان الفارسي قال: يأتون النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيقولون: يا نبيَّ اللَّه إنَّ اللَّهَ فتح بك، وختم بك، وغفر لك، قُمْ فاشفع لنا إلى ربك، فيقول: نعم صاحبكم فيخرج يجوسُ النَّاس حتَّى ينتهي إلى باب الجنَّة، فيأخذ بحلقة الباب فيقرع فيقال: من هذا؟ فيقال: محمد قال: فيفتح له، فيجيء حتَّى يقوم بين يدي اللَّه فيستأذنُ في السجود فيؤذن له” (1) الحديث.
فصل
وأمَّا حديث حُذيفة بن اليمان: فقال ابن بطة: أخبرني أبو القاسم عمر بن أحمد عن أبي بكر أحمد بن هارون، حدثنا يزيد بن جمهور، حدثنا الحسنُ بن يحيى بن كثير العنبري، حدثنا أبي، عن إبراهيم بن المبارك، عن القاسم بن مطيَّب عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة بن اليمان.
وقال البزار: حدثنا محمد بن معمر وأحمد بن عمرو بن عبيدة
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (6/ 312) رقم (31666) مطوَّلًا، وابن خزيمة في التوحيد رقم (450)، وابن أبي عاصم في السنة رقم (813)، والطبراني في الكبير (6/ 247 – 248) رقم (6117) وغيرهم.
وسنده صحيح.
(2/676)
العصفري، قالا: حدثنا يحيى بن كثير العنبري (1) ، حدثنا إبراهيم بن المبارك، عن القاسم بن مطيب عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أتاني جبريلُ فإذا في كفِّهِ مرآة كأصفى ما يكون المرايا وأحسنها، وإذا في وسطها نكته سوداء، قال: قلت: يا جبريل، ما هذا؟ قال هذه الدنيا، صفاؤها وحسنها، قال قلت: وما هذه اللمعة في وسطها؟ قال هذه الجمعة، قال قلت: وما الجمعة؟ قال: يوم من أيام ربك عظيم، وسأخبرك بشرفه وفضله واسمه في الآخرة. أما شرفه وفضله في الدنيا: فإنَّ اللَّه تبارك وتعالى جمع فيه أمر الخلق، وأما ما يرجى فيه: فإنَّ فيه ساعة لا يوافقها عبدٌ مسلم أو أمة مسلمة يسألانِ اللَّه فيها خيرًا إلا أعطاهما إياه. وأما شرفه وفضله واسمه في الآخرة: فإن اللَّه تبارك وتعالى إذا صَيَّر أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، وجرت عليهم أيامها وساعاتها ليس بها ليل ولا نهار إلا قد علم اللَّه مقدار ذلك وساعاته، فإذا كان يوم الجمعة في الحين الذي يبرز أو يخرج فيه أهل الجنة إلى جمعتهم نادى مناد: يا أهل الجنة، اخرجوا إلى دار المزيد، لا يعلم سعته وعرضه وطوله إلا اللَّه عز وجل، في كثبان من المسك، قال: فتخرج غلمان الأنبياء بمنابر من نور، ويخرج غلمان المؤمنين بكراسي من ياقوت، قال: فإذا وضعت لهم، وأخذ القوم مجالسهم بعث اللَّه تبارك وتعالى عليهم ريحًا تدعى المثيرة، تثير عليهم أثابير المسك الأبيض فتدخل من تحت ثيابهم، وتخرجه في وجوههم وأشعارهم، فتلك الريح أعلم كيف تصنع بذلك
(1) ليس في “ب، ج، د، هـ”.
(2/677)
المسك من امرأة أحدكم لو دُفِعَ إليها كل طيب على وجه الأرض لكانت تلك الريح أعْلَمَ كيف تصنع بذلك المسك من تلك المرأة لو دُفِعَ إليها ذلك الطيب بإذن اللَّه، قال: ثم يوحي اللَّه سبحانه إلى حملة العرش، فيوضع بين ظهراني الجنة وبينه وبينهم الحجب، فيكون أول ما يسمعون منه أن يقول: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب، ولم يروني، وصدقوا رسلي، واتبعوا أمري، فسلوني فهذا يوم المزيد، قال: فيجتمعون على كلمه واحدة: رب رضينا عنك فارض عنا، قال: فيرجع اللَّه تعالى في قولهم (1) أن يا أهل الجنة إني لو لم أرض عنكم ما أسكنتكم جنتي، فسلوني فهذا يوم المزيد، قال: فيجتمعون على كلمة واحدة: رضينا عنك فارض عنا، قال: فيرجع اللَّه عز وجل في قولهم أن يا أهل الجنة، إني لو لم أرض عنكم لما أسكنتكم جنتي، فهذا يوم المزيد فسلوني، قال: فيجتمعون على كلمة واحدة: رب وجهك، رب وجهك أرنا ننظر إليه، قال: فيكشف اللَّه تبارك وتعالى تلك الحجب، ويتجلى لهم، فيغشاهم من نورهِ شيء لولا أنه قضى عليهم أن لا يحترقوا لاحترقوا مما غشيهم من نوره، قال: ثم يقال: ارجعوا إلى منازلكم، قال: فيرجعون إلى منازلهم وقد خَفُوا على أزواجهم، وخَفِيْنَ عليهم، مما غشيهم من نوره تبارك وتعالى، فإذا صاروا إلى منازلهم ترادّ النور وأمكن، وتراد وأمكن حتى يرجعوا إلى صورهم التي كانوا عليها، قال: فيقول لهم أزواجهم: لقد خرجتم من عندنا على صورة ورجعتم على غيرها؟ قال فيقولون: ذلك بأن اللَّه
(1) يعني: في قوله لهم.
(2/678)
تبارك وتعالى تجلَّى لنا، فنظرنا منه إلى ما خفينا به عليكم، قال: فَلَهُم في كل سبعة أيام الضِّعف على ما كانوا فيه، قال: وذلك قوله عز وجل: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) } السجدة: 17 .
وقال عبد الرحمن بن مهدي: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مسلم بن يزيد السعدي، عن حذيفة في قوله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] قال: “النظر إلى وجه اللَّه عز وجل” (2) .
قال الحاكم: “وتفسير الصحابي عندنا في حُكمِ المرفوع” (3) .
(1) أخرجه ابن بطة في الإبانة “المختار” (3/ 32 – 36) رقم (26)، والبزار في مسنده (7/ 288 – 290) رقم (2881)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (338).
قال علي بن المديني: “هذا حديث غريب”.
قلت: تفرَّد القاسم بن مطيَّب به عن الأعمش يدل على نكارته.
والقاسم بن مطيَّب وثَّقه الدَّارقطني، لكن قال ابن حبان: “يخطئ عمَّن يروي على قلَّة روايته فاستحقَّ الترك، لمَّا كَثُرَ ذلك منه”.
المجروحين (2/ 213)، والميزان (5/ 461).
(2) تقدم ص (613).
(3) انظر: المستدرك (2/ 375) تحت رقم (3317)، ومعرفة علوم الحديث ص (20).
ولفظه في المستدرك “. . . فإنَّ الصحابي إذا فسَّر التلاوة، فهو مسند عند الشيخين”.
وراجع تعليق الحافظ ابن حجر على كلام الحاكم وابن الصلاح في النكت على ابن الصلاح” (2/ 530 – 533).
(2/679)
فصل
وأما حديث ابن عباس: فروى ابن خزيمة من حديث حماد بن سلمة، عن ابن جدعان، عن أبي نضرة قال: خطبنا ابن عباس فقال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “ما من نبي إلا له دعوة تعجلها في الدنيا، وإنِّي اختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة، فآتي باب الجنة فآخذ بحلقة الباب، فأقرع الباب فيقال: من أنت؟ فأقول: أنا محمد، فآتي ربي وهو على كرسيه، أو قال: على سريره، فيتجلى لي ربي، فأخِرُّ ساجدًا” (1).
ورواه ابن عيينة، عن ابن جدعان فقال: عن أبي سعيد بدل ابن عباس.
وقال أبو بكر بن أبي داود: حدثنا عمِّي محمد بن الأشعث، حدثنا ابن جسر، قال حدثني أبي عن الحسن عن ابن عباس رضي اللَّه
(1) أخرجه أحمد في المسند (1/ 281 – 282) مطوَّلًا، والطيالسي في مسنده (2834) مطوَّلًا، وعبد بن حميد في مسنده (694 – المنتخب) والطبراني (12777) وغيرهم. من طريق حماد بن سلمة به.
- ورواهُ سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري فذكره.
أخرجه الترمذي برقم (3148)، وقال: “هذا حديث حسن”.
ومداره على ابن جدعان وفي حفظه كلام، وقد ذكر في متنه زيادة غريبة، وهي قول عيسى في حديث الشفاعة: “إنِّي اتُّخِذْت إلهًا من دون اللَّه .. . . “، والَّذي في الصحيح لم يذكر عيسى بن مريم ذنبًا.
(2) ما بين المعكوفتين من “الإبانة”، ووقع في النسخ: “جبير”، وكذا ما بعده.
(2/680)
عنهما عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: “إن أهل الجنة يرون ربهم تعالى في كل جمعة في رمال الكافور، وأقربهم منه مجلسًا أسرعهم إليه يوم الجمعة وأبكرهم غدوًّا” (1).
فصل
وأما حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص: فقال الصغاني: حدثنا صدقة أبو عمرو المقعد قال: قرأت على محمد بن إسحاق (2)، حدثني أُميَّة بن عبد اللَّه بن عمرو بن عثمان، عن أبيه عبد اللَّه بن عمرو قال: سمعت عبد اللَّه بن عمرو بن العاص يحدث مروان بن الحكم -وهو أمير المدينة- قال: خلق اللَّه الملائكة لعبادته أصنافًا: فإن منهم الملائكة قيامًا صافِّيْن من يوم خلقهم إلى يوم القيامة، وملائكة ركوعًا خشوعًا من يوم خلقهم إلى يوم القيامة، وملائكة سجودًا منذ خلقهم (3) إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة وتجلى لهم تعالى، ونظروا إلى وجهه الكريم قالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك” (4).
(1) أخرجه الآجري في الشريعة رقم (611)، وابن بطة في الإبانة “المختار” رقم (30).
والحديث سنده ضعيف جدًّا، لحال ابن جسر وهو جعفر، وأبيه جسر بن فرقد، وقد تقدَّم حالهما ص (569).
ومحمد بن الأشعث فيه جهالة، والحسن لم يسمع من ابن عباس.
(2) وقع في “أ، ج”: “الحسن” وهو خطأ.
(3) من قوله “إلى يوم القيامة” إلى “خلقهم” ليس في “هـ” وجاء بدل هذه الجملة “اللَّه”، ووقع في نسخةٍ على حاشية “أ”: “منذ يوم خلقهم”.
(4) أخرجه ابن بطة في الإبانة “المختار” رقم (133) من طريق الصغاني به. =
(2/681)
فصل
وأمَّا حديث أُبيِّ بن كعب: فقال الدارقطني: حدثنا عبد الصمد بن علي، حدثنا محمد بن زكريا بن دينار، قال: حدثني قحطبة بن علاقة حدثنا أبو خلدة عن أبي العالية عن أُبي بن كعب عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله تبارك وتعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] قال: “النظرُ إلى وجهِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ” (1).
فصل
وأمَّا حديثُ كعب بن عُجْرة: فقال محمد بن حميد: حدثنا إبراهيم ابن المختار عن ابن جريج عن عطاء الخراساني عن كعب بن عجرة عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال:
= – ورواهُ هارون بن أبي عيسى الشامي “كاتب محمد بن إسحاق” حدثني محمد بن إسحاق به مختصرًا.
أخرجه البخاري في تاريخه الكبير (2/ 8). وسنده لا بأس به.
(1) أخرجه الدَّارقطني في الرؤية رقم (183).
- ورواهُ العباس بن الفضل الهاشمي عن قحطبة بن غدانة به مثله.
أخرجه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم (849). - ورواهُ زهير عمَّن سمع أبا العالية به مثله.
أخرجه الطبري في تفسيره (11/ 107)، واللالكائي برقم (780).
وفي ثبوت الإسناد إلى قحطبة نظر، فإنَّ العباس بن الفضل لم أقف عليه، ومحمد بن زكريا: قال الدارقطني: يضع الحديث.
انظر: الضعفاء والمتروكين رقم (483).
وأمَّا الإسناد الآخر: ففيه إبهامُ مَنْ سمع أبا العالية. واللَّه أعلم.
(2/682)
“الزيادةُ؛ النظرُ إلى وجه ربِّهم تبارك وتعالى” (1).
فصل
وأمَّا حديث فَضَالة بن عُبيد: فقال عثمان بن سعيد الدارمي: حدثنا محمد بن المهاجر، عن ابن حلبس، عن أُمِّ (2) الدرداء أنَّ فضالة يعني ابن عبيد كان يقول: الَّلهم إنِّي أسألك الرِّضا بعد القضاء، وبَرْدَ العيشِ بعد الموتِ، ولذَّة النَّظرِ إلى وجهك، والشوقَ إلى لقائِكَ، في غير ضرَّاءَ مُضرَّة، ولا فتنةٍ مضلَّة (3).
فصل
وأمَّا حديثُ عُبَادة بن الصامت: ففي “مسند أحمد” (4) من حديث بَقِيَّة، حدثنا بَحْير بن سعد عن خالد بن مَعْدان، عن عمرو بن الأسود عن جُنَادة بن أبي أُمَيَّة عن عبادة بن الصامت -رضي اللَّه عنه- عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: “قد حدثتكم عن الدَّجَّال حتَّى خشيتُ أنْ لا تعقلوا، إنَّ مَسِيحَ الدَّجال رَجُلٌ قصيرٌ أفْحَج جَعْدٌ أعورُ مطموسُ العين ليست بناتئةٍ ولا جحْراء، فإن أُلْبِسَ عليكم فاعلموا أنَّ ربَّكم ليس
(1) تقدم ص (611).
(2) في جميع النسخ “أبي”، والتصويب من مصادر التخريج.
(3) أخرجه الدَّارقطني في الرؤية رقم (207)، وابن أبي عاصم في السنة رقم (427)، والطبراني في الكبير (18/ 319) رقم (825)، والَّلالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم (847) وغيرهم.
وسنده حسن.
(4) (5/ 324).
(2/683)
بأعور، وأنَّكم لن تروا ربكم حتَّى تموتوا” (1).
فصل
وأمَّا حديث الرجل من أصحاب النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: فقال الصَّغاني: حدثنا روح بن عبادة حدثنا عباد بن منصور قال: سمعتُ عدي بن أرطاة يخطب على المنبر بالمدائن، فجعل يَعِظُ حتَّى بكى وأبكانا، ثمَّ قال: كونوا كرجلٍ قال لابنه وهو يَعِظُهُ: يا بُني أوصيك أنْ لا تصلي صلاة إلَّا ظننت أنَّكَ لا تصلي بعدها غيرها حتَّى تموت، وتعالَ بَنِيَّ نعملُ عَمَل رجلين كأنَّهما قد وقفا على النَّارِ، ثمَّ سألا الكَرَّة، ولقد سمعت فلانًا -نسي عَبَّادٌ اسمَه- ما بيني وبين رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- غيرُه فقال: إنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ للَّه ملائكةً ترعُدُ فرائصُهم من مخافته، ما منهم مَلكٌ تقطرُ دمعته من عينه إلَّا وقعت مَلَكًا (2) يسبح اللَّه، قال: وملائكة سجودٌ منذ خلق اللَّه السموات والأرض لم يرفعوا رؤوسهم، ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، وصفوفٌ لم ينصرفوا عن مصافِّهم، ولا ينصرفون إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة وتجلَّى لهم ربُّهم،
(1) وأخرجه أبو داود (4320)، وعبد اللَّه بن أحمد في السنة (1007)، وابن أبي عاصم في السنة (428)، والدارمي في الرد على الجهمية (182)، والَّلالكائي في شرح أصول الاعتقاد (848)، والبزار في مسنده (2681).
وظاهر سنده جيد، وفيه عِلَّة ذكرها البزار.
قال البزار: “وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن عبادة إلَّا من حديث بحير ابن سعد، وقد رواهُ غير واحدٍ عن جنادة بن أبي أُمية عن بعض أصحاب النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-“.
(2) كذا في النسخ، والنَّصْبُ على نزع الخافض، والتقدير: “على مَلَكٍ”.
(2/684)
فنظروا إليه قالوا: سبحانك ما عبدناك كما ينبغي لك” (1).
فصل
وهَاكَ بعض ما قاله أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والتابعون وأئمة الإسلام بعدهم.
قول أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه:
قال أبو إسحاق: عن عامرٍ بن سعد بَعْدَهم. “قرأ أبو بكر الصديق: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] فقالوا: ما الزِّيادة يا خليفة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال: النَّظرُ إلى وجه الرَّبِّ تبارك وتعالى” (2).
قول علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه:
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن ميسرة الهمْداني، حدثنا صالح بن أبي خالد العنبري، عن أبي الأحوص، عن
(1) أخرجه ابن بطة في الإبانة “المختار” رقم (34)، والخطيب في تاريخه (12/ 303)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (40/ 60 و 61).
- ورواهُ محمد بن الحسين البرجلاني عن روح بن عبادة به نحوه.
أخرجه ابن أبي الدنيا في الرقة والبكاء رقم (105). - ورواهُ النضر بن شميل عن عباد بن منصور به نحوه.
أخرجه المروزي في تعظيم قدر الصلاة رقم (260)، وأبو الشيخ في العظمة رقم (515).
والحديث مداره على عبَّاد بن منصور الناجي وهو ليِّن الحديث، وعنده منكرات. تهذيب الكمال (14/ 158)، وعليه فالإسناد ليِّن.
(2) تقدم الكلام عليه ص (613).
(2/685)
أبي إسحاق الهمْداني، عن عُمَارة بن عبدٍ (1) ، قال: سمعتُ عليًّا يقول: “من تمامِ النِّعمة دخول الجنَّة، والنظرُ إلى وجه اللَّه تبارك وتعالى في جنته” (2) .
قول حذيفة بن اليمان:
وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن مسلم بن يزيد عن حذيفة: “الزيادة: النظرُ إلى وجه اللَّهِ تبارك وتعالى” (3) .
قولُ عبد اللَّه بن مسعود وعبد اللَّه بن عباس:
ذكر أبو عوانة عن هلال عن عبد اللَّه بن عُكَيم قال: سمعتُ عبد اللَّه ابن مسعود يقول: في هذا المسجد – مسجد الكوفة – يبدأ باليمين قبل أنْ يُحدِّثنا فقال: “واللَّه ما منكم من إنسانٍ إلَّا إنَّ ربه سيخلو به يوم
(1) وقع في “أ، ب، هـ”: “عبيد” وفي “د” ونسخةٍ على حاشية “أ” “عبيدة” والتصويب من التاريخ الكبير (6/ 501)، وتهذيب الكمال (21/ 252 – 253).
(2) ذكره الَّلالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة رقم (859) عن ابن أبي حاتم.
وفي سنده عمارة بن عبدٍ الكوفي سمع من علي بن أبي طالب، تفرَّد بالرواية عنه أبو إسحاق السبيعي.
قال أبو حاتم الرَّازي: “شيخ مجهول، لا يحتج بحديثه”، وقال الإمام أحمد: “مستقيم الحديث، لا يروي عنه غير أبي إسحاق”. انظر: تهذيب الكمال (21/ 253).
قلتُ: صالح بن أبي خالد: لم أقف عليه.
(3) تقدم الكلام عليه ص (613).
(2/686)
القيامة كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدرِ. قال فيقول: ما غرَّك بي يا ابن آدم ثلاثَ مرَّاتٍ، ماذا أجبتَ المرسلينَ ثلاثًا، كيف عملتَ فيما عَلِمْتَ” (1) .
وقال ابن أبي داود: أخبرنا أحمد بن الأزهر حدثنا إبراهيم بن الحكم حدثنا أبي عن عكرمة قال: قيل لابن عباس: كل من دخل الجنَّة يرى اللَّهَ عزَّ وجلَّ؟ قال: نعم” (2) .
وقال أسباط بن نصر: عن إسماعيل السُّدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما، وعن مُرَّة الهمداني عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه: “الزيادة: النظرُ إلى وجه اللَّه” (3) .
قولُ معاذ بن جبل:
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم، أخبرنا إسحاق بن أحمد الخراز حدثنا إسحاق بن سليمان الرَّازي عن المغيرة بن مسلم عن ميمون أبي (4) حمزة قال: كنتُ جالسًا عند أبي وائل، فدخل علينا رجل يقال
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (9/ 204) رقم (8899)، والَّلالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم (860)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 131).
- ورواهُ شريك القاضي عن هلال الوزان به نحوه.
أخرجه ابن المبارك في الزهد رقم (38)، وعبد اللَّه في السنة رقم (474، 485)، وابن خزيمة في التوحيد رقم (217) وغيرهم.
وهو أثرٌ ثابت صحيح.
(2) تقدم ص (624).
(3) تقدم ص (615).
(4) في “ب، د” “بن أبي” هو خطأ، انظر: تهذيب الكمال (29/ 237 – 238).
(2/687)
له أبو عفيفٍ، فقال له شقيق بن سَلَمَة: يا أبا عفيف، ألا تحدثنا عن معاذ ابن جبل؟ قال: بلى سمعته يقول: “يُحشرُ النَّاسُ يوم القيامة في صعيدٍ واحدٍ، فينادى أين المُتَّقُون، فيقومون في كَنَف من الرَّحمن لا يحتجب اللَّه منهم، ولا يستتر، قلتُ: من المتقون؟ قال: قوم اتقَّوا الشركَ، وعبادة الأوثان، وأخلصوا للَّه بالعبادة فيمُرُّون إلى الجنَّة” (1) .
قول أبي هريرة:
قال ابن وهب: أخبرنا ابن لهيعة عن أبي النضر أنَّ أبا هريرة -رضي اللَّه عنه- كان يقول: “لن تروا ربكم حتَّى تذوقوا الموت” (2) .
قول عبد اللَّه بن عمر:
قال حسين الجعفي، عن عبد الملك بن أبجر عن ثوير عن ابن عمر رضي اللَّهُ عنهما قال: “إنَّ أدنى أهلِ الجنَّة منزلةً من ينظرُ إلى
(1) ذكره الَّلالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة والجماعة رقم (864).
وسنده ضعيف، فيه ميمون أبو حمزة الأعور القصَّاب الكوفي: ضعيف الحديث، وبعضهم: تركه.
انظر: تهذيب الكمال (29/ 238 – 240).
وأيضًا: أبو عفيف لم أقف عليه.
(2) ذكره الَّلالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة والجماعة رقم (865).
وسنده ضعيف، لضعف ابن لهيعة، وللانقطاع بين أبي النضر سالم مولى عمر بن عبيد اللَّه بن معمر القرشي وبين أبي هريرة.
انظر: تهذيب الكمال (10/ 127 – 129).
(2/688)
ملكه ألفي عام يرى أدناهُ كما يرى أقصاهُ، وإنَّ أفضلهم منزلةً لمن ينظرُ إلى وجه اللَّهِ في كلَّ يومٍ مرَّتين” (1) .
قول فضالة بن عبيد:
ذكر الدارمي عن محمد بن مهاجر عن ابن حَلْبَس عن أُمِّ الدرداء أنَّ فضالة بن عبيد كان يقول: “الَّلهم إنِّي أسألك الرِّضا بعد القضاء، وبردَ العيش بعد الموتِ، ولذَّةَ النَّظرِ إلى وجهك” وقد تقدَّم (2) .
قولُ أبي موسى الأشعري:
قال وكيع: عن أبي بكر الهذلي عن أبي تميمة عن أبي موسى -رضي اللَّه عنه- قال: “الزيادةُ: النظرُ إلى وجه اللَّه” (3) .
وروى يزيد بن هارون وابن أبي عدي وابن عُليَّة (4) ، عن التيمي عن أسلم العجلي عن أبي مُراية عن أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه أنَّه كان يحدث النَّاس فشخصوا بأبصارهم (5) فقال: ما صرفَ أبصاركم عنِّي؟ قالوا: الهلال، قال: فكيف بكم إذا رأيتم اللَّه جهرة؟ ” (6) .
(1) تقدم ص (322 – 323)، وراجع ص (671).
(2) تقدم ص (683).
(3) تقدم ص (614).
(4) قوله “وابن عُلَيَّة” من “ب، د” ونسخةٍ على حاشية “أ”.
(5) في “د، هـ” ونسخةٍ على حاشية “أ” “بأبصارهم عنه”.
(6) أخرجه الدارمي في الردِّ على الجهمية رقم (196)، وعبد اللَّه في السنة (465)، والآجري في الشريعة رقم (609)، وابن خزيمة في التوحيد رقم =
(2/689)
قول أنس بن مالك:
قال ابن أبي شيبة: حدثنا يحيى بن يمان حدثنا شريك عن أبي اليقظان عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه في قوله عزَّ وجلَّ: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) } [ق: 35] قال: “يظهر لهم الربُّ تبارك وتعالى يوم القيامة” (1) .
قول جابر بن عبد اللَّه:
قال مروان بن معاوية عن الحكم بن أبي خالد عن الحسن عن جابر -رضي اللَّه عنه- قال: إذا دخل أهل الجنَّة الجنَّة، وأُدِيْم عليهم بالكرامة جاءتهم خيولٌ من ياقوتٍ أحمر لا تبول ولا تروث، لها أجنحة، فيقعدون عليها، ثمَّ يأتون الجبار عزَّ وجلَّ فإذا تجلَّى لهم خرُّوا سُجَّدًا، فيقول: يا أهل الجنَّة ارفعوا رؤوسكم فقد رضيتُ عنكم رضًا (2) لا سخطَ بعده” (3) .
= (257)، والَّلالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم (862).
من طريق يزيد بن زريع ومعتمر بن سليمان التيمي به مرفوعًا.
أخرجه ابن خزيمة في التوحيد (256).
ورفعه خطأ ووَهْم كما قال ابن خزيمة.
والأثر فيه أبو مُراية تابعي روى عنه قتادة وأسلم العجلي، وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 31)، وانظر: تعجيل المنفعة (2/ 540).
وعليه فالإسناد لا بأس به.
(1) تقدم الكلام عليه، والاختلاف فيه على أبي اليقظان ص (651 – 654).
(2) من “هـ” ونسخةٍ على حاشية “أ”.
(3) تقدم الكلام عليه ص (561).
(2/690)
قال الطبري: “فتحصَّل في الباب ممَّن روى عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الصحابة حديث الرؤية ثلاثةٌ وعشرون نفسًا: منهم علي، وأبو هريرة، وأبو سعيد، وجرير، وأبو موسى، وصهيب، وجابر، وابن عباس، وأنس، وعمار ابن ياسر، وأُبي بن كعب، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وحذيفة بن اليمان، وعبادة بن الصامت (1) ، وعدي بن حاتم، وأبو رزين العقيلي، وكعب بن عجرة، وفضالة بن عُبيد، وبريدة بن الحصيب، ورجلٌ من أصحاب النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-” (2) .
وقال الدَّارقطني: “أخبرنا محمد بن عبد اللَّه حدثنا جعفر بن محمد ابن الأزهر حدثنا مفضل بن غسَّان، قال: سمعتُ يحيى بن معين يقول: عندي سبعة عشر حديثًا في الرؤية، كلها صحاح” (3) .
وقال البيهقي: “روينا في “إثبات الرؤية” عن أبي بكر الصديق وحذيفة بن اليمان وعبد اللَّه بن مسعود وعبد اللَّه بن عباس وأبي موسى وغيرهم، ولم يُرو عن أحدٍ منهم نفيها، ولو كانوا فيها مختلفين، لنُقِلَ اختلافهم في ذلك (4) إلينا، كما أنَّهم لما اختلفوا في الحلال والحرام والشرائع والأحكام نُقِلَ اختلافهم في ذلك إلينا، وكما أنَّهم لما اختلفوا في رؤية اللَّه سبحانه بالأبصار في الدنيا نقل اختلافهم في ذلك إلينا،
(1) عند الَّلالكائي هُنا إضافة “وأبو أُمامة”، ولا يوجد في جميع النسخ.
(2) انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة والجماعة (2/ 495)، ويلاحظ -في المطبوعة- لم يُذكر “ابن عمر” بعد “ابن عباس”.
(3) انظر: شرح أصول الاعتقاد للالكائي رقم (857).
(4) قوله “في ذلك” من “أ”.
(2/691)
فلما نُقِلت (1) رؤية اللَّه سبحانه بالأبصار في الآخرة عنهم، ولم ينقل عنهم في ذلك اختلاف، كما نقل عنهم فيها اختلاف في الدنيا = علمنا أنَّهم كانوا على (2) القول برؤية اللَّهِ تعالى بالأبصارِ في الآخرة مُتَّفقين مجتمعين” (3).
فصل
وأمَّا التابعون ويَزَك (4) الإسلام، وعصابة الإيمان: من أئمة الحديث والفقه والتفسير وأئمة التصوف، فأقوالهم أكثر من أنْ يحيط بها إلَّا اللَّهُ عزَّ وجلَّ.
- قال سعيد بن المسيب: “الزيادة: النظرُ إلى وجه اللَّهِ” (5).
رواه مالك، عن يحيى عنه. - وقال الحسن: “الزيادة: النظرُ إلى وجه اللَّه” (6).
رواهُ ابن أبي حاتم عنه.
(1) في نسخة على حاشية “أ” “نُقلت في”.
(2) جاء في نسخةٍ على حاشية “أ” “محل”، وفي “ج”: “على محل”.
(3) انظر الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد للبيهقي ص (142 – 144).
(4) اليَزَك: كلمة فارسية، معناها: طلائع الجيش.
انظر: المعجم الذهبي (619) للتونجي، والمجموع اللفيف (91) للسامرائي.
(5) أخرجه اللالكائي رقم (789).
(6) أخرجه الطبري في تفسيره (11/ 106)، والبيهقي في الاعتقاد ص (132)، واللالكائي رقم (790). من طريق عوف الأعرابي وأبي بشر الحلبي عن الحسن فذكره. وسنده حسن.
(2/692)
- وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: “الزيادة: النظر إلى وجه اللَّهِ تعالى” (1) . رواهُ حماد بن زيد عن ثابت عنه.
- وقاله عامر بن سعد البجلي، ذكره سفيان عن أبي إسحاق عنه (2) .
- وقاله عبد الرحمن بن سابط. رواه جرير عن ليث عنه (3) .
(1) أخرجه الدارمي في الردِّ على الجهمية رقم (192)، وعبد اللَّه في السنة رقم (445)، والطبري في تفسيره (11/ 106)، وابن خزيمة في التوحيد رقم (260) (261) وغيرهم.
وسنده صحيح.
هكذا رواهُ حماد بن زيد وسليمان بن المغيرة ومعمر وحماد بن واقد كلهم عن ثابت عن ابن أبي ليلى قوله.
وخالفهم حماد بن سلمة.
فرواهُ عن ثابت عن ابن أبي ليلى عن صهيب مرفوعًا.
أخرجه مسلم في صحيحه رقم (181) وغيره.
وقد أشار الدَّارقطني وأبو مسعود إلى هذه العلَّة، لكن حماد بن سلمة من أعلم النَّاس بثابت كما نصَّ عليه جماعة ولهذا صحيح هذا الحديث: مسلم والدَّارقطني وابن حبان وأبو عوانة والبزار.
انظر: تحفة الأشراف (4/ 198).
(2) تقدم في حاشية ص (613).
(3) أخرجه الدارمي في الردِّ على بشر المريسي رقم (233)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة (347)، والطبري (11/ 107)، والدارقطني في الرؤية (221، 222)، والَّلالكائي رقم (795).
من طريق ليث عن ابن سابط فذكره.
وخالفه فطر بن خليفة. =
(2/693)
وقاله عكرمة (1) ، ومجاهد (2) ، وقتادة (3) ، والسُّدي (4) ، والضحاك (5) وكعب (6) .
- وكتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عمَّاله: “أمَّا بعدُ: فإنِّي أوصيك بتقوى اللَّهِ، ولزوم طاعته، والتمسك بأمرهِ، والمعاهدة على
= فرواهُ عن ابن سابط في قوله {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 23] قال: إلى وجه ربها ناظرة”.
أخرجه عبد اللَّه في السنة (478).
وهذا أصح، وليث اختلط.
(1) أخرجه الدارمي في الردِّ على الجهمية (200)، والطبري (29/ 192)، والَّلالكائي (803) وغيرهم.
وسنده حسن.
(2) أخرجه اللالكائي (801) (802).
وجاء عنه ما يخالف ذلك، انظر: تفسير الطبري (29/ 192)، وهو بحاجة إلى تحقيق ذلك.
(3) أخرجه الطبري (11/ 106 و 107)، وابن خزيمة في التوحيد رقم (268، 269)، والَّلالكائي (298) وغيرهم.
وسنده صحيح.
(4) أخرجه الدَّارقطني في الرؤية رقم (216)، وفيه الحكم بن ظُهير: متروك الحديث.
(5) أخرجه الدَّارمي في الردِّ على الجهمية رقم (193)، وفي الردَّ على بشر المريسي رقم (232)، والدَّارقطني في الرؤية (219، 220).
وفيه جويبر بن سعيد: وهو متروك.
(6) أخرجه عبد اللَّه في السنَّة (523)، و (1/ 496)، والدَّارقطني في الرؤية (225)، والَّلالكائي (867) وغيرهم.
وسنده صحيح.
(2/694)
ما حملك اللَّهُ من دينه، واسْتَحْفَظَك من كتابه، فإنَّ بتقوى اللَّه نجا أولياء اللَّهِ من سخطه، وبها رافقوا أنبياءه، وبها نضرت وجوههم، ونظروا إلى خالقهم، وهي عصمة في الدنيا من الفتن، ومن كبت (1) يوم القيامة” (2) .
- وقال الحسنُ: “لو علم العابدون في الدنيا أنَّهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابت أنفسهم في الدنيا” (3) .
- وقال الأعمش وسعيد بن جبير: “إنَّ أشرفَ أهل الجنَّة لمن ينظر إلى اللَّهِ تبارك وتعالى غدوةً وعشية” (4) .
- وقال كعب: “ما نظر اللَّه سبحانه إلى الجنَّة قط (5) إلَّا قال: طِيبي لأهلك، فزادت ضعفًا على ما كانت، حتَّى يأتيها أهلها، وما من يومٍ كان لهم عيد في الدنيا إلَّا يخرجون في مقداره في رياض الجنَّة، فيبرز
(1) في “ب، د، هـ” ونسخةٍ على حاشية “أ”: “كرب”.
(2) أخرجه الدَّارمي في الردِّ على الجهمية رقم (202)، وأبو نعيم في الحلية (5/ 278) وغيرهما.
وفي سنده إبراهيم بن أبي حبيبة وهو ضعيف.
(3) أخرجه عبد اللَّه في السنَّة (486)، واللالكائي (869)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 159) وغيرهم.
وفيه عبد الواحد بن زيد: قال البخاري: تركوه.
(4) أخرجه عبد اللَّه في السنة (487) عن سعيد فقط، وابن بطة في الإبانة “المختار” رقم (39) “عن سعيد والأعمش”.
وسنده لا بأس به.
(5) من “ب، ج، د، هـ” ونسخةٍ على حاشية “أ”.
(2/695)
لهم الرب تبارك وتعالى، فينظرون إليه، وتَسْفِي عليهم الريحُ المسكَ، ولا يسألون الرَّبَّ تبارك وتعالى شيئًا إلَّا أعطاهم حتَّى يرجعوا، وقد ازدادوا على ما كانوا من الحسن والجمال سبعين ضعفًا، ثمَّ يرجعون إلى أزواجهم، وقد ازْدَدْنَ مثل ذلك” (1) .
- وقال هشام بن حسان: “إنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى يتجلَّى لأهل الجنَّة، فإذا رآه أهل الجنَّة نَسُوا نعيم الجنَّة” (2) .
- وقال طاووس: “أصحاب المراء والمقاييس لا يزالُ بهم المراء والمقاييس حتَّى يجحدوا الرؤية، ويخالفوا السنة” (3) .
- وقال شريك عن أبي إسحاق السبيعي: “الزيادة: النظرُ إلى وجه الرحمن تبارك وتعالى” (4) .
- وقال حماد بن زيد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنَّه تَلَى هذه
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (37) مختصرًا، والدَّارمي في الرَّدِّ على الجهمية (201)، والآجري في الشريعة رقم (573) بمثله، وغيرهم.
ومداره على يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف.
(2) أخرجه ابن بطة في الإبانة “المختار” رقم (40) وهو بدون سند.
- ورواهُ مكي بن إبراهيم عن هشام بن حسان عن الحسن بمثله.
أخرجه الآجري في الشريعة (572).
وفي سنده عمر بن مدرك: ضعيف، وقيل: كذَّاب.
(3) أخرجه الَّلالكائي (868). وفيه إبراهيم بن يزيد الخوزي: وهو متروك.
(4) أخرجه الطبري (11/ 105)، والدَّارقطني في الرؤية (223)، والَّلالكائي (794).
وسنده حسن.
(2/696)
الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، قال: “إذا دخل أهل الجنَّة الجنَّةَ أعطوا فيها ما سألوا (1) وما شاؤوا، فيقول اللَّه عزَّ وجلَّ لهم: إنَّه قد بقيَ من حقِّكم شيءٌ لم تعطوه، فيتجلَّى لهم ربُّهم، فلا يكونُ ما أعطوا عند ذلك بشيء، فالحسنى: الجنَّة، والزيادة: النظرُ إلى ربهم عزَّ وجلَّ: {وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ} [يونس: 26] بعد نظرهم إلى ربهم تبارك وتعالى” (2) .
- وقال علي بن المديني (3) : سألتُ عبد اللَّه بن المبارك عن قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف: 110] قال عبد اللَّه: “من أراد النظر إلى وجه خالقه، فليعمل عملًا صالحًا، ولا يُخْبِرْ به أحدًا” (4) .
- وقال نُعَيْم بن حمَّاد: سمعتُ ابن المبارك يقول: “ما حجبَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أحدًا عنه إلَّا عذَّبه، ثمَّ قرأ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)
(1) قوله “ما سألوا و” من “ب، د”، ونسخةٍ على حاشية “أ”.
(2) أخرجه الدَّارقطني في الرؤية رقم (210).
من طريق محمد بن عبيد بن حساب عن حماد بن زيد مثله.
وقد تقدَّم ذكر الاختلاف فيه ص (693).
(3) كذا في النسخ، وعند الَّلالكائي “المديني الغاساني” ولعلَّه “الفاشاني”، وعند البيهقي “علي الباشاني” وهو محتمل؛ لأنَّ “باشان”: قرية من قرى هراة، و”فاشان”: قرية من قرى مرو. انظر: الأنساب للسمعاني (1/ 258) و (4/ 338 – 340)، ولعلَّ الصواب “الفاشاني”؛ لأنَّ الحديث حُدِّث بمرو كما عند الَّلالكائي.
(4) أخرجه الَّلالكائي (895)، والبيهقي في الاعتقاد ص (135).
(2/697)
ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين: 15 – 17] قال: بالرؤية”. ذكره ابن أبي الدنيا (1) ، عن يعقوب بن إسحاق عن نُعيم.
وقال عبَّاد بن العوَّام: “قَدِمَ علينا شريك بن عبد اللَّه منذ خمسين سنة، فقلت له: يا أبا عبد اللَّه، إن عندنا قومًا من المعتزلة ينكرون هذه الأحاديث: “إنَّ اللَّهَ ينزلُ إلى سماء الدنيا”، “وإنَّ أهل الجنَّة يرون ربهم”. فحدَّثني بنحو عشرة أحاديث في هذا وقال: أما نحنُ، فقد أخذنا ديننا هذا عن التابعين عن أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فهم عمَّن أخذوا؟ ” (2) .
وقال عقبة بن قَبِيْصة (3) : “أتينا أبا نُعَيم يومًا، فنزل إلينا من الدرجة التي في دَارهِ فجلسَ في وسطها كأنَّه مغضب، فقال: حدَّثنا سفيان بن سعيد ومنذر الثوري وزهير بن معاوية، وحدثنا حسن بن صالح بن حي، وحدثنا شريك بن عبد اللَّه النخعي، هؤلاء أبناء المهاجرين يُحَدِّثوننا عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّ اللَّه تبارك وتعالى يُرى في الآخرة، حتَّى جاءَ ابن يهوديٍّ صبَّاغٍ يزعم أنَّ اللَّهَ تعالى لا يُرى -يعني بشر المرِّيسيّ (4) -.
(1) في صفة الجنَّة رقم (348)، واللالكائي رقم (894).
(2) أخرجه عبد اللَّه في السنة رقم (509)، واللالكائي (879)، والدَّارقطني في الصفات (65) وغيرهم. وهو ثابتٌ عنه.
(3) وقع في “أ، ج، هـ”: “قبيصة بن عقبة”، وهو خطأ، انظر: تهذيب الكمال (20/ 218).
(4) ذكره الَّلالكائي (887) عن ابن أبي حاتم بسنده.
وأخرجه الدَّارقطني في الصفات رقم (66).
(2/698)
فصل: في المنقول عن الأئمة الأربعة، ونظرائهم وشيوخهم وأتباعهم على طريقتهم ومنهاجهم
ذكرُ قول إمام دار الهجرة مالك بن أنس:
قال أحمد بن صالح المصري: حدثنا عبد اللَّه بن وهب قال: قال مالك بن أنس: “النَّاسُ ينظرون إلى اللَّهَ عزَّ وجلَّ يوم القيامة بأعينهم” (1).
وقال الحارث بن مسكين: حدثنا أشهب قال: سُئِلَ مالك عن قوله عزَّ وجلَّ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 – 23] أتنظرُ إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ؟ قال: نعم، فقلتُ إنَّ أقوامًا يقولون: تنتظرُ ما عنده، قال: بل تنظر إليه نظرًا، وقد قال: موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ} [الأعراف: 143]، وقال اللَّه عزَّ وجلَّ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15] ” (2).
وذكر الطبري وغيره أنَّهُ قيل لمالك: “إنَّهم يزعمون أنَّ اللَّهَ لا يُرى، فقال مالك: السيف السيف” (3).
ذكر قول ابن الماجشون:
قال أبو حاتم الرَّازي: قال أبو صالح كاتب الليث: أملى عليَّ
(1) أخرجه الآجري في الشريعة (574)، والَّلالكائي رقم (870)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 326) وغيرهم.
(2) أخرجه الَّلالكائي (871).
(3) أخرجه الَّلالكائي (808 و 872).
(2/699)
عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، وسألته عمَّا جحدت الجَهْمِيَّة فقال: “لم يزلْ يملي لهم الشيطان حتَّى جحدوا قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22، 23]، فقالوا: لا يراه أحدٌ يوم القيامة، فجحدوا -واللَّه- أفضل كرامةِ اللَّه التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظرِ إلى وجهه، ونضرته إيَّاهم {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 55]، فوربِّ السماء والأرضِ ليجعلنَّ رؤيته يوم القيامة للمخلصين له ثوابًا لينضِّر بها وجوههم دون المجرمين، وتفلج بها حُجَّتهم على الجاحدين، وهم عن ربِّهم يومئذٍ لمحجوبون، لا يرونه كما زعموا أنَّهُ لا يرى، ولا يكلمهم ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم” (1).
ذكر قول الأوزاعي:
ذكر ابن أبي حاتم عنه قال: “إنِّي لأرجو أنْ يحجب اللَّه عزَّ وجلَّ جَهْمًا وأصحابه عن أفضل ثوابه الَّذي وعده أولياءَه حين يقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22، 23] فجحدَ جهْم وأصحابه أفضل ثوابه الَّذي وعد أولياءَه” (2).
ذكر قول الليث بن سعد:
قال ابن أبي حاتم: حدثنا إسماعيل بن أبي (3) الحارث، حدثنا
(1) أخرجه ابن بطة في الإبانة “المختار” رقم (59)، والَّلالكائي (873).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (5/ 42): “روى الأثرم في السنة، وأبو عبد اللَّه بن بطة في الإبانة، وأبو عمرو الطلمنكي وغيرهم بإسنادٍ صحيح عن عبد العزيز بن عبد اللَّه بن أبي سلمة الماجشون. . . ” ثمَّ ذكره.
(2) ذكره الَّلالكائي (874) عن ابن أبي حاتم بسنده.
(3) ضُرِبَ عليها في “هـ”.
(2/700)
الهيثم بن خارجة، قال: سمعت الوليد بن مسلم يقول: “سألت الأوزاعي، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، والليث بن سعد، عن هذه الأحاديث التي فيها الرؤية، فقالوا: تُمَرُّ بلا كيف” (1).
قول سفيان بن عيينة:
ذكر الطبري وغيره عنه أنَّه قال: “من لم يقل: إنَّ القرآن كلام اللَّه، وإنَّ اللَّهَ يرى في الجنَّة فهو جهمي” (2).
وذكر عنه ابن أبي حاتم أنَّه قال: “لا يُصَلَّى خلفَ الجهمي، والجهميُّ الَّذي يقول: لا يرى ربه يوم القيامة” (3).
قول جرير بن عبد الحميد:
ذكر ابن أبي حاتم عنه أنَّه ذُكِرَ له حديث ابن سابط في الزيادة: أنَّها النظر إلى وجه اللَّهِ فأنكره رجلٌ فصاح به، فأخرجه من مجلسه” (4).
قول عبد اللَّه بن المبارك:
ذكر عبد الرحمن بن أبي حاتم عنه، أنَّ رجلًا من الجهمية قال له:
(1) أخرجه الَّلالكائي (875) من طريق ابن أبي حاتم به.
والبيهقي في الاعتقاد ص (123)، والدَّارقطني في الصفات رقم (67).
(2) أخرجه الَّلالكائي (876).
(3) ذكره الَّلالكائي (878) عن ابن أبي حاتم.
(4) ذكره الَّلالكائي (880) عن ابن أبي حاتم بسنده.
(2/701)
“يا أبا عبد الرحمن خدارا بآن جهان جون بِيْنَنْد (1)، ومعناهُ: كيفَ يُرى اللَّه يوم القيامة؟ فقال: بالعين” (2).
وقال ابن أبي الدنيا: حدثني يعقوب بن إسحاق قال: سمعت: نُعَيم ابن حماد يقول: سعت ابن المبارك يقول: “ما حجب اللَّه عزَّ وجل عنه أحدًا إلَّا عذَّبه ثمَّ قرأ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)} [المطففين: 15 – 17] قال ابن المبارك: بالرؤية” (3).
قول وكيع بن الجراح:
ذكر ابن أبي حاتم عنه، أنَّه قال: “يراهُ تبارك وتعالى المؤمنون في الجنَّة، ولا يراهُ إلا المؤمنون” (4).
قول قتيبة بن سعيد:
ذكر ابن أبي حاتم عنه، قال: “قول الأئمة المأخوذ به (5) في الإسلام والسنَّة: الإيمان بالرؤية والتصديق بالأحاديث التي جاءت عن
(1) اضطربت النسخ في كتابة هذه الجملة الفارسية، وأقربها إلى الصواب ما جاء في نسخةٍ على حاشية “د”، كما أفادهُ الشيخ محمد عزير شمس.
(2) ذكره الَّلالكائي (881) عن ابن أبي حاتم بسنده.
(3) تقدم ص (698).
(4) ذكره الَّلالكائي (882)، وقوَّام السنة في الحجة في بيان المحجَّة (2/ 246 – 247) عن ابن أبي حاتم بسنده.
(5) في “هـ”: “عنهم به”.
(2/702)
رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الرؤية” (1).
قول أبي عبيد القاسم بن سلَّام:
ذكر ابن بطَّة وغيره عنه أنَّه ذُكِرَت عنده هذه الأحاديث التي في الرؤية فقال: “هي عندنا حق، رواها الثقات عن الثقات إلى أنْ صارت إلينا، إلَّا أنا إذا قيل لنا: فسِّروها لنا، قلنا: لا نفسِّر منها شيئًا، ولكن نُمْضيها كما جاءت” (2).
قول أسود بن سالم شيخ الإمام أحمد:
قال المَرُّوذي: حدثنا عبد الوهَّاب الورَّاق قال: سألت أسود بن سالم عن أحاديث الرؤية، فقال: “أحلف عليها بالطلاق وبالمشي أنَّها حق” (3).
قول محمد بن إدريس الشافعي:
قد تقدَّم رواية الربيع عنه أنَّه قال: “في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15]: لمَّا حجبَ هؤلاء في السَّخَط، كان في هذا دليل على (4): أنَّ أولياءه يرونه في الرِّضى، قال الربيع: فقلتُ: يا أبا عبد اللَّه، وتقول به؟ قال: نعم، وبه أدينُ اللَّه، لو لم يوقن
(1) ذكره الَّلالكائي (886) عن ابن أبي حاتم بسنده عنه.
(2) أخرجه الآجري في الشريعة (581) نحوه، وابن بطة في الإبانة “المختار” رقم (56)، والدَّارقطني في الصفات رقم (57).
(3) أخرجه الآجري في الشريعة رقم (575) وغيره.
(4) من نسخةٍ على حاشية “أ”.
(2/703)
محمد بن إدريس أنَّه يرى اللَّه عزَّ وجلَّ لَمَا عَبَدَهُ” (1).
وقال ابن بطَّة: حدثنا ابن الأنباري، حدثنا أبو القاسم الأنماطي صاحب المُزَني قال: قال الشافعي: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15] دلالة على أنَّ أولياءه يرونه يوم القيامة بأبصار وجوههم” (2).
قول إمام السنَّة أحمد بن حنبل:
قال إسحاق بن منصور: قلتُ لأحمد: “أليس ربنا تبارك وتعالى يراهُ أهل الجنَّة؟ أليسَ تقول بهذه الأحاديث؟ قال أحمد: صحيح، قال ابن منصور: وقال إسحاق بن راهويه: صحيح ولا يدعه إلَّا مبتدع، أو ضعيف الرَّأي” (3).
وقال الفضل بن زياد: “سمعتُ أبا عبد اللَّه، وقيل له: تقول بالرؤية؟ فقال: من لم يقل بالرؤية فهو جهمي” (4).
قال: “وسمعتُ أبا عبد اللَّه (5)، وبلغه عن رجل أنَّه قال: إنَّ اللَّه لا يُرى في الآخرة: فغضب غضبًا شديدًا، ثمَّ قال: من قال: إنَّ اللَّه لا يرى في الآخرة فقد كفر، عليه لعنة اللَّه وغضبه، مَنْ كَانَ مِنَ النَّاس،
(1) أخرجه الَّلالكائي (883)، والبيهقي في مناقب الشافعي (1/ 419).
(2) أخرجه ابن بطة في الإبانة “المختار” رقم (55).
(3) انظر: مسائل الكوسج (2/ 535) رقم (3290).
(4) لم أقف عليها، وقد رواها عن أحمد ابنُ هانئ في مسائله (2/ 152).
(5) في نسخةٍ على حاشية “أ”: “يقول وبلغه”.
(2/704)
أليسَ يقول اللَّه عزَّ وجلَّ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) } [القيامة: 22, 23]، وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) } (1) .
وقال أبو داود: “وسمعتُ أحمد، وذُكِرَ له عن رجلٍ في شيءٍ في الرؤية فغضب وقال: من قال: إنَّ اللَّهَ لا يرى فهو كافر” (2) .
قال أبو داود: “وسمعتُ أحمد وقيل له: في رجل يُحدِّث بحديث عن رجل عن أبي العطوف: إنَّ اللَّهَ لا يُرى في الآخرة، فقال: لعَنَ اللَّهُ من يُحدِّثُ بهذا الحديثِ اليوم، ثمَّ قال: أخزى اللَّهُ (3) هذا” (4) .
وقال أبو بكر المرُّوذي: “قيل لأبي عبد اللَّه: تعرفُ عن يزيد بن هارون، عن أبي العطوف، عن أبي الزبير، عن جابر: “إنِ استقرَّ الجبل فسوف تراني، وإنْ لم يستقر فلا تراني في الدنيا، ولا في الآخرة” (5) ، فغضبَ أبو عبد اللَّه غضبًا شديدًا حتَّى تبيَّن في وجهه، وكان قاعدًا والنَّاسُ حوله، فأخذَ نعله وانتعل، وقال: أخزى اللَّه هذا، لا ينبغي أنْ
(1) أخرجه الآجري في الشريعة رقم (577)، وابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (1/ 253).
(2) مسائل أبي داود ص (263).
(3) سقط من “هـ”.
(4) مسائل أبي داود ص (263).
(5) هذا حديث موضوع. آفته أبو العطوف واسمه الجرَّاح بن المنهال الحرَّاني قال ابن حبان: “وكان رجل سوء يشرب الخمر، ويكذب في الحديث”، وقال أبو حاتم الرَّازي: “هو متروك الحديث، ذاهب الحديث، لا يكتب حديثه”.
انظر: الجرح والتعديل (2/ 523)، والكامل لابن عدي (2/ 160 – 161)، والمجروحين لابن حبان (1/ 218 – 219).
(2/705)
يُكْتَب، ودفع أنْ يكون يزيد بن هارون رواهُ أو حدَّث به، وقال: هذا جَهْمي كافرٌ خالف قول اللَّهُ (1) عزَّ وجلَّ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) } [القيامة: 22 – 23]. وقال: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) } [المطففين: 15] خَزَى اللَّهُ هذا الخبيث”.
قال أبو عبد اللَّه: “ومن زعمَ أنَّ اللَّهَ لا يُرى في الآخرة فقد كفر” (2) .
وقال أبو طالب: “قال أبو عبد اللَّه: قول اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 210]، {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) } [الفجر: 22] فمن قال: إنَّ اللَّه لا يُرى فقد كفر” (3) .
وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ: “سمعتُ أبا عبد اللَّه يقول: من لم يؤمن بالرؤية فهو جهْمي، والجهمي: كافر” (4) .
وقال يوسف بن موسى القطان: “قيل لأبي عبد اللَّه: أهلُ الجنَّة ينظرون إلى ربِّهم تبارك وتعالى ويُكلَّمونه ويكلِّمهم؟ قال: نعم، ينظرُ إليهم، وينظرون إليه، ويكلمهم ويكلمونه كيف شاء وإذا شاء” (5) .
وقال حنبل بن إسحاق: “سمعتُ أبا عبد اللَّه يقول: القومُ يرجعون
(1) قوله “خالف قول اللَّه”، في “د، هـ”: “خالف ما قال اللَّه”، ووقع في نسخةٍ على حاشية “د” “خلاف قول اللَّه”.
(2) انظر: طبقات الحنابلة (1/ 59).
(3) أخرجه ابن بطة في الإبانة “المختار” رقم (49).
(4) مسائل ابن هانئ (2/ 152).
(5) أخرجه ابن بطة في الإبانة “المختار” رقم (48).
(2/706)
إلى التعطيل في أقوالهم، ينكرون الرؤية والآثار كلها، وما ظننتهم على هذا حتَّى سمعت مقالاتهم”.
قال حنبل: “وسمعتُ أبا عبد اللَّه يقول: من زعم أنَّ اللَّهَ لا يُرى في الآخرة (1) فقد ردَّ على اللَّهِ وعلى الرسول، ومن زعمَ أنَّ اللَّهَ لم يتخذ إبراهيم خليلًا فقد كفر، وردَّ على اللَّه قوله، قال أبو عبد اللَّه: فنحنُ نؤمنُ بهذه الأحاديث، ونُقِرُّ بها ونمرُّها كما جاءتْ” (2) .
وقال الأثرم: “سمعتُ أبا عبد اللَّه يقول: فأما من قالَ: إنَّهُ لا يرى اللَّه في الآخرة فهو جهمي، قال أبو عبد اللَّه: وإنَّما تكلَّم من تكلَّم في رؤية الدنيا (3) “.
وقال إبراهيم بن زياد الصائغ: “سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: الرؤية من كذَّب بها فهو زنْدِيْق”.
وقال حنبل: “سمعتُ أبا عبد اللَّه يقول: أدركنا النَّاسُ وما ينكرون من هذه الأحاديث شيئًا -أحاديث الرؤية- وكانوا يحدثون بها على الجملة، يُمِرُّونها على حالها غير منكرين لذلك ولا مرتابين” (4) .
وقال أبو عبد اللَّه: “قال اللَّهُ تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51]. فكلَّم اللَّه موسى
(1) قوله “في الآخرة” من المطبوعة.
(2) لم أقف عليه، وجاء نحوه عن حنبل كما في طبقات الحنابلة (1/ 145).
(3) أخرجه ابن بطة في الإبانة “المختار” رقم (51).
(4) أخرجه ابن بطة في الإبانة “المختار” رقم (52).
(2/707)
من وراء حجاب، فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، فأخبر اللَّه عزَّ وجلَّ أنَّ موسى يراهُ في الآخرة، وقال: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) } [المطففين: 15]، ولا يكون حجاب إلَّا لرؤية أخبر اللَّه سبحانه أنَّ من شاء اللَّه ومن أراد يراهُ، والكفار لا يرونه” (1) .
قال حنبل: “وسمعتُ أبا عبد اللَّه يقول: قال اللَّه تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) } [القيامة: 22 – 23]. والأحاديث التي تُرْوى في النظر إلى اللَّه تعالى -حديث جرير بن عبد اللَّه وغيره- “وتنظرون إلى ربِّكم”، أحاديث صِحَاح، وقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]: النظرُ إلى اللَّه تعالى، قال أبو عبد اللَّه: نؤمن بها، ونعلمُ أنَّها حقٌّ: أحاديث الرؤية، ونؤمن بأنَّ اللَّهَ يُرَى، نَرَى ربنا يوم القيامة، لا نشكُّ فيه ولا نرتاب” (2) .
قال: “وسمعتُ أبا عبد اللَّه يقول: من زعمَ أنَّ اللَّهَ لا يرى في الآخرة فقد كفر باللَّهِ وكذَّب بالقرآن، وردَّ على اللَّه أمره، يُستتاب؛ فإنْ تابَ وإلَّا قُتِلَ” (3) .
قال حنبل: “قلتُ لأبي عبد اللَّه: في أحاديث الرؤية فقال: هذه صحاح نؤمن بها، ونقرُّ بها، وكل ما روي عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إسنادهُ جيِّد
(1) لم أقف عليه، وجاء بمعناه عن حنبل عند الآجري في الشريعة (578).
(2) لم أقف عليه، وانظر معناه عند الآجري في الشريعة (578).
(3) لم أقف عليه، وانظر معناهُ في طبقات الحنابلة (1/ 145).
(2/708)
أقررْنا به” (1).
قال أبو عبد اللَّه: “إذا لم نقر بما جاء عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ودفعناهُ رددنا على اللَّهِ أمره. قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ” (2).
قول إسحاق بن راهويه:
ذكر الحاكم وشيخ الإسلام وغيرهما عنه، أنَّ عبد اللَّه بن طاهر أمير خراسان سأله، فقال: يا أبا يعقوب، هذه الأحاديث التي تَرْوُوْنها في النزول والرؤية ما هُنَّ؟ فقال رواها من روى الطهارة، والغُسل والصلاة والأحكام، وذكر أشياء، فإنْ يكونوا في هذه عدولًا، وإلَّا فقد ارتفعت الأحكام، وبطل الشرع، فقال: شفاك اللَّه كما شفيتني، أو كما قال” (3).
قول جميع أهل الإيمان:
قال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتابه (4): “إنَّ المؤمنين لم يختلفوا أنَّ جميع المؤمنين يرون خالقهم يوم المعاد، ومن أنكر ذلك فليس بمؤمن عند المؤمنين”.
(1) أخرجه اللالكائي (889).
(2) أخرجه ابن بطة في الإبانة “المختار” رقم (53).
(3) أخرجه ابن بطة في الإبانة كما في شرح حديث النزول لابن تيمية ص (152) بنحوه.
(4) لم أقف عليه في التوحيد، ولا في غيره.
(2/709)
قول المزني:
ذكر الطبري في “السنة” عن إبراهيم بن أبي داود المصري، قال: كُنَّا عند نُعَيم بن حمَّاد جلوسًا، فقال نعيم للمُزَني: ما تقول في القرآن؟ فقال: أقول، إنَّهُ كلامُ اللَّهُ، فقال: غير مخلوق؟ فقال: غير مخلوق، قال: وتقول: إنَّ اللَّهَ يرى يوم القيامة؟ قال: نعم، فلما افترق النَّاس قام إليه المزني فقال: يا أبا عبد اللَّه، شهرتني على رؤوس النَّاس، فقال: إنَّ النَّاس قد أكثروا فيك، فأردت أن أُبَرِّئك” (1).
قول جميع أهل اللغة:
قال أبو عبد اللَّه بن بطَّة: سمعت أبا عمر محمد بن عبد الواحد، صاحب اللغة يقول: سمعت – أبا العباس أحمد بن يحيى – ثعلبًا يقول في قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} [الأحزاب: 43 – 44]. أجمع أهل اللغة على (2) أنَّ اللقاء ها هنا لا يكونُ إلَّا معاينة ونظرًا بالأبصارِ” (3).
وحسبك بهذا الإسناد صِحَّةً، والِّلقاء ثابتٌ بنصِّ القرآن كما تقدم (4). وبالتواتر عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكلُّ أحاديث اللقاء صحيحة:
فحديث أنس في قصة بئر معونة: “إنَّا قد لقينا ربَّنَا فَرَضِيَ
(1) أخرجه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم (891).
(2) من “ب”.
(3) أخرجه ابن بطة في الإبانة “المختار” رقم (58).
(4) في ص (608 – 609).
(2/710)
عَنَّا وأَرْضانَا” (1) .
وحديث عبادة وعائشة وأبي هريرة وابن مسعود: “من أحبَّ لقاءَ اللَّهِ أحبَّ اللَّهُ لقاءهُ” (2) .
وحديثُ أنس: “إنَّكُم ستلقون بعدي أَثرَةً فاصْبرُوا حتَّى تَلْقَوا اللَّه ورسولَهُ” (3) .
وحديث أبي ذرٍّ: “لو لقيتني بِقُرَابِ الأرضِ خطَايَا، ثُمَّ لقيتني لا تشركُ بي شيئًا لقيتُكَ بقُرابها مغفرة” (4) .
وحديثُ أبي موسى: “من لقيَ اللَّهَ لا يشركُ به شيئًا دَخَلَ الجنَّة” (5) .
(1) أخرجه البخاري (3864).
(2) البخاري (6142 و 6143)، ومسلم (2683، 2684، 2686) عن عبادة وعائشة وأبي موسى رضي اللَّه عنهم.
- ومسلم (2685) عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
- والطبراني في الكبير (9/ 198) رقم (8882) عن ابن مسعود موقوفًا عليه. وسنده صحيح.
(3) أخرجه البخاري رقم (2978)، ومسلم برقم (1845).
(4) أخرجه مسلم برقم (2687) بلفظ “. . . ومن لقيني بقراب الأرضِ خطيئة لا يشرك بي شيئًا، لقيته بمثلها مغفرة”. - وورد نحوه عند الترمذي رقم (3540) من حديث أنس.
وقال الترمذي: “حسن غريب لا نعرفه إلَّا من هذا الوجه”.
(5) لم أقف عليه من حديث أبي موسى بهذا اللفظ.
وقد جاء هذا المتن عن جماعة من الصحابة: كسلمة بن نعيم وعبد اللَّه بن عمر وعبد اللَّه بن عمرو ومعاذ وعقبة بن عامر وعمارة بن رويبة وأبي هريرة =
(2/711)
وغير ذلك من أحاديث الِّلقاءه التي أطردت (1) كلها بلفظٍ واحدٍ.
فصل: في وعيد منكر (2) الرؤية
قد تقدم قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15]، وقول عبد اللَّه بن المبارك: ما حجب اللَّهُ عنه أحدًا إلَّا عذَّبه، ثمَّ قرأ قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)} [المطففين: 16 – 17]، قال: بالرؤية” (3).
وروى مسلم في “صحيحه” (4) من حديث أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول اللَّه هل نرى ربنا يومَ القيامة؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمسِ في الظهيرة ليست في سحابة؟ قالوا: لا، قال: هل تضارون في رؤية القمرِ ليلةَ البدرِ ليس في سحابة؟ قالوا: لا، قال: فوالَّذي نفسي بيده لا تضارون فى رؤية ربِّكم إلَّا كما تُضارُّون فى رؤية أحدهما، فَيَلْقَى العبد، فيقول: أيْ فُل: ألمْ أُكْرِمْكَ وأسَوِّدْك وأُزوِّجْكَ، وأُسخِّرْ لكَ الخيل والإبل، وأذَرْكَ تَرأسُ وتربعُ؟ فيقول:
= وفي أكثرها كلام.
وأصحها حديث أنس عند البخاري رقم (129)، وجابر بن عبد اللَّه عند مسلم رقم (93).
(1) قوله “التي اطردت” وقع في “ج”: “المطردة”.
(2) في “ب، د”: “منكري”.
(3) راجع ص (696، 702).
(4) رقم (2968).
(2/712)
بلى، فيقولُ: أفظننتَ أنَّكَ مُلاقيَّ؟ فيقول: لا، فيقول: فإنِّي أنساكَ كما نسيتني، ثمَّ يلقى الثاني، فيقول: أي فُل، ألمْ أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيلَ والإبل، وأذَرْكَ ترأس وتربَعُ فيقول: بلى، أي ربِّ، فيقول: أفظننتَ أنَّكَ مُلاقيَّ فيقول: لا، فيقول إنِّي أنساكَ كما نسيتني، ثمَّ يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك، فيقول: يا ربِّ آمنت بك، وبكتابك وبرسلك، وصليت وصمْتُ وتصدقتُ، ويثني بخيرٍ ما استطاع، فيقول: ها هنا إذًا، ثمَّ يُقال: الآن نبعث شاهدنا عليك، فيتفكر في نفسه من الَّذي يشهدُ عليَّ؟ فيُختمُ على فيه، ويقال لفخذه: انطقي، فتنطق فخذُه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق، وذلك الَّذي يسخط اللَّهُ عليه”.
فاجْمَعْ بين قوله: “إنَّكم سترون ربَّكم”، وقوله لمن ظنَّ أنَّه غيرَ ملاقيه: “فإنِّي أنساكَ كما نسيتني”، وإجماع أهل اللغة أنَّ اللقاء: المعاينة بالأبصارِ = يحصلْ لك العلمُ بأنَّ منكر الرؤية أحقُّ بهذا الوعيد.
ومن تراجم أهل السنَّة على هذا الحديث: بابٌ: في الوعيد لمنكر (1) الرؤية، كما فعل شيخ الإسلام وغيره، وباللَّه التوفيق.
فصل
قد دلَّ القرآن والسنَّة المتواترة وإجماعُ الصحابة وأئمة الإسلام وأهل الحديث عصابة الإسلام، ويَزَك الإيمان، وخاصَّة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- = على
(1) في “ب، د”: “لِمُنكري”.
(2/713)
أنَّ اللَّه سبحانه وتعالى يُرى في القيامة بالأبصارِ عِيَانًا، كما يُرى القمرُ ليلةَ البدرِ صَحْوًا، وكما تُرى الشمس في الظهيرة، فإنْ كان لما أخبر به اللَّه ورسوله عنه من ذلك حقيقة -وإنَّ له واللَّه حقَّ الحقيقة- فلا يمكن أنْ يروهُ إلَّا من فوقهم، لاستحالة أن يروهُ أسفل منهم، أو خلفهم، أو أمامهم، أو عن يمينهم وشمالهم، وإنْ لم يكن لِمَا أخبر به حقيقة – كما يقوله: أفراخ الصابئة، والفلاسفة والمجوس، والفِرعونية – بطل الشرع والقرآن، فإنَّ الَّذي جاء بهذه الأحاديث، هو الَّذي جاء بالقرآن والشريعة، والَّذي بلَّغها هو الَّذي بلَّغ الدِّين، فلا يجوزُ أنْ يُجعل كلام اللَّهِ ورسوله عِضِين، بحيث (1) يؤمن ببعض معانيه، ويُكْفر ببعضها، فلا يجتمع في قلب العبدِ بعد الاطلاع على هذه الأحاديث، وفهم معناها إنكارها، والشهادة بأنَّ محمدًا رسول اللَّه أبدًا: و {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 43].
والمنحرفون في باب رؤية الربِّ تبارك وتعالى نوعان:
أحدهما: من يزعم أنَّه يُرى في الدنيا، ويحاضر ويُسَامر.
والثاني: من يزعم أنَّه لا يُرى في الآخرة ألبتَّة، ولا يُكلِّم عباده.
وما أخبر اللَّهُ به رسوله وأجمع عليه الصحابة والأئمة يُكذِّبُ الفريقين، وباللَّه التوفيق.
(1) من “ب، ج، د، هـ” ونسخة على حاشية “أ”.
(2/714)
الباب السادس والستون: في تكليمه سبحانه لأهل الجنَّة، وخطابه لهم ومحاضرته إيَّاهم، وسلامه عليهم
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ} [آل عمران: 77].
وقال في حقِّ الَّذين يكتمون ما أنزلَ اللَّهُ من الهُدَى والبيِّنات: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: 174].
فلو كان لا يكلِّم عباده المؤمنين، لكانوا في ذلك هم وأعداء اللَّه (1) سواء، ولم يكن في تخصيص أعدائه بأنَّه لا يكلمهم فائدةً أصلًا، إذْ تكليمه لعباده عند الفرعونية والمعطِّلة مثل أنْ يُقال: يؤاكلهم ويشاربهم، ونحو ذلك، تعالى اللَّهُ عمَّا يقولون.
وقد أخبر سبحانه أنَّه يسلِّمُ على أهل الجنَّة، وأنَّ ذلك السلام حقيقة، وهو قولٌ من ربٍّ رحيم (2)، وتقدَّم تفسيرُ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لهذه الآية في حديث جابر في الرؤية، وأنَّه يشرف عليهم من فوقهم، ويقول: “سَلَامٌ عليكم يا أهل الجنَّة” (3) فيرونه عيانًا، وفي هذا إثبات الرؤية
(1) قوله “وأعداء اللَّه” في “ب، ج، د، هـ”: “وأعداؤه”.
(2) وقع في نسخةٍ على حاشية “أ”: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)} [يس: 58] بدل جُملة “قول من رب رحيم”.
(3) ص (663).
(2/715)
والتكليم والعُلو، والمعطلة تنكر هذه الأمور الثلاثة وتكفِّر القائل بها.
وتقدم حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه في سوق الجنَّة وقول النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “ولا يبقى أحدٌ في ذلك المجلس إلَّا حاضره اللَّه محاضرة، فيقول: يا فلان أتذكر يومَ فعلت كذا وكذا” الحديث (1) .
وتقدم حديث عدي بن حاتم: “ما منكم إلَّا مَنْ سيُكلِّمه ربُّهُ يومَ القيامة” (2) .
وحديث أبي هريرة في الرؤية وفيه “فيقول تبارك وتعالى للعبدِ: “ألم أكرمك وأسودك” (3) الحديث.
وحديث بريدة: “ما منكم من أحدٍ إلَّا سيخلو به ربُّه ليس بينه وبينه تَرجُمانٌ ولا حِجابٌ” (4) الحديث.
وحديث أنس في يوم المزيد، ومخاطبته فيه لأهل الجنَّة مرارًا (5) .
وبالجملة فتأمَّل أحاديث الرؤية تجد في أكثرها ذِكْرُ التَّكْلِيم.
قال البخاري في “صحيحه” (6) : “بابُ كلامِ الرب تبارك وتعالى مع أهل الجنَّة”. وساق فيه عدَّة أحاديث.
(1) انظر: ص (572).
(2) انظر: ص (246)، وليس فيه هذا اللفظ، ولعله يريد المعنى.
(3) ص (713).
(4) ص (658).
(5) انظر: ص (652 – 656).
(6) في كتاب التوحيد (6/ 2732).
(2/716)
فأفضل نعيم أهل الجنَّة رؤية وجهه تبارك وتعالى، وتكليمه لهم، فإنكار ذلك إنكار لروح الجنَّة، وأعلى نعيمها وأفضله، الَّذي ما طابت لأهلها إلَّا به، واللَّه المستعان.
(2/717)
الباب السابع والستون: في أبدية الجنة وأنها لا تفنى ولا تبيد
هذا مما يُعْلَم بالاضطرار أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أخبر به، قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)} [هود: 108] أي: غير مقطوع.
ولا تنافي بين هذا وبين قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 108]، واختلف السلف في هذا الاستثناء:
- فقال معمر عن الضحاك: “هو في الذين يخرجون من النار، فيدخلون الجنة، يقول سبحانه: إنهم خالدون في الجنة ما دامت السماوات والأرض، إلا مُدَّة مكثهم في النار” (1).
قلت: وهذا يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون الإخبار عن الذين سُعِدُوا وقع عن قوم مخصوصين، وهم هؤلاء.
والثاني: – وهو الأظهر – أن يكون وقع عن جملة السعداء، والتخصيص بالمذكورين هو في الاستثناء، وما دل عليه.
وأحسن من هذين التقديرين: أن تُردَّ المشيئة إلى الجميع، حيث
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (7/ 2088) رقم (1244)، والطبري في تفسيره (12/ 120). وسنده صحيح.
(2/718)
لم يكونوا في الجنة في الموقف. وعلى هذا فلا يبقى في الآية تخصيص.
- وقالت فرقة أخرى: هو استثناءٌ استثناهُ الرب تعالى ولا يفعله، كما تقول: واللَّه لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك. وأنت لا تراه؛ بل تجزم بضربه.
- وقالت فرقة أُخرى: العرب إذا استثنت شيئًا كثيرًا مع مثله، ومع ما هو أكثر منه، كان معنى “إلَّا” في ذلك ومعنى الواو سواء.
والمعنى على هذا: سوى ما شاء اللَّه من الزيادة على مدة دوام السماوات والأرض. هذا قول الفرَّاء (1) ، وسيبويه (2) : يجعل “إلَّا” بمعنى لكن.
قالوا: ونظير ذلك أن يقول: لي عليك ألف إلا الألفين الذين قبلها: أي سوى الألفين. قال ابن جرير: “وهذا أحب الوجهين إليَّ؛ لأن اللَّه تعالى لا خُلْف لوعده، وقد وصل الاستثناء بقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) } هود: 108 .
قالوا: ونظيره أن يقول: أسكنتك داري حولًا إلا ما شئت، أي: سوى ما شئت، أو لكن ما شئت من الزيادة عليه.
(1) في معاني القرآن (2/ 28).
(2) في الكتاب (2/ 325 و 328 و 342).
(3) انظر: تفسير الطبري (12/ 119 و 121) بمعناه.
(2/719)
- وقالت فرقة أخرى: هذا الاستثناء إنما هو مُدَّة احتباسهم عن الجنَّة، ما بين الموت والبعث، وهو البرزخ إلى أنْ يصيروا إلى الجنَّة، ثمَّ هو خلودُ الأبد، فلم يغيبوا عن الجنَّة إلَّا بقدر إقامتهم في البرزخ.
- وقالت فرقة أخرى: العزيمة قد وقعت لهم من اللَّه بالخلود الدَّائم، إلَّا أنْ يشاء اللَّه (1) خلاف ذلك = إعلامٌ لهم بأنهم مع خلودهم في مشيئته، وهذا كما قال لنبيه: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86]، وقوله: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24]، وقوله: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} [يونس: 16]، ونظائره. يخبر عباده سبحانه أنَّ الأمور كلَّها بمشيئته، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
- وقالت فرقة أخرى: المراد بمُدَّة دوام السموات والأرضِ في هذا العالم. فأخبر سبحانه أنَّهم خالدون في الجنَّة مُدَّة دوام السموات والأرضِ إلَّا ما شاء اللَّهُ أنْ يزيدهم عليه.
ولعلَّ هذا قول من قال: إنَّ “إلَّا” بمعنى “سِوى”، ولكن اختلفت عبارته، وهذا اختيار ابن قتيبة (2) . قال: “المعنى: خالدين فيها مُدَّة العالم سوى ما شاء أنْ يزيدهم من الخلود على مدَّة العالم”. - وقالت فرقة أخرى (3) : “ما” بمعنى: “مَنْ”،
(1) من “د”.
(2) في تأويل مشكل القرآن ص (76 – 77).
(3) من “د، هـ”.
(2/720)
كقوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] والمعنى: إلَّا من شاء ربك أن يدخله النَّار بذنوبه من السعداء.
والفرقُ بين هذا القول، وبين أوَّل الأقوال: أنَّ الاستثناء على ذلك القول من المُدَّة، وعلى هذا القول من الأعيان.
- وقالت فرقة أخرى: المراد بالسماوات والأرض: سماءُ الجنَّة وأرضها، وهما باقيتان ابدًا، وقوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] إنْ كانت “ما”: بمعنى: “مَنْ” فهم الَّذين يدخلون النَّار، ثمَّ يخرجون منها، وإنْ كانت بمعنى: “الوقت” فهو مُدَّة احتباسهم في البرزخ والموقف.
قال الجُعْفِي: “سألتُ عبد اللَّه بن وهب عن هذا الاستثناء؟، فقال: سمعتُ فيه أنَّه قَدْرَ وقوفهم في الموقف يوم القيامة إلى أنْ يقضى بين النَّاس”. - وقالت فرقة أخرى: الاستثناء راجعٌ إلى مدَّة لبثهم في الدنيا.
وهذه الأقوال متقاربة، ويمكن الجمع بينها بأنْ يُقالَ: أخبر سبحانه عن خلودهم في الجنَّة كلَّ وقتٍ، إلَّا وقتًا يشاءُ ألَّا يكونوا فيها، وذلك يتناول وقتَ كونهم في الدنيا وفي البرزخ، وفي موقف القيامة، وعلى الصراط، وكون بعضهم في النَّار مدَّة، وعلى كلِّ تقدير فهذه الآية من المتشابه، وقوله تعالى فيها: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} مُحْكم، وكذلك قوله: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)} [ص: 54]، وقوله: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35]، وقوله: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48].
وقد أكَّدَ اللَّه سبحانه خلود أهل الجنَّة بالتأبيد في عدَّة مواضع من
(2/721)
القرآن، وأخبر أنَّهم: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56]، وهذا الاستثناء منقطع، وإذا ضَمَمْتَه إلى الاستثناء في قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] تبيَّن لك المراد من الآيتين، واستثناء الوقت الَّذي لم يكونوا فيه في الجنَّة من مدَّة الخلود، كاستثناء الموتة الأولى من جملة الموت، فهذه موتةٌ تقدمت على حياتهم الأبدية، وذاك مفارقة للجنَّة تقدَّم على خلودهم فيها. وباللَّه التوفيق.
وقد تقدَّم قول النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “من يدخل الجنَّة ينعم لا يبؤس، ويخلد لا يموت” (1) .
وقوله: “ينادي منادٍ يا أهل الجنَّة، إنَّ لكم أنْ تَصِحُّوا فلا تسقموا أبدًا، وأنْ تشبوا فلا تهرموا أبدًا، وأنْ تحيوا فلا تموتوا أبدًا” (2) .
وثبت في “الصحيحين” (3) من حديث أبي سعيد الخدري عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “يُجاءُ بالموتِ في صورة كبشٍ أملح، فيوقفُ بين الجنَّة والنَّارِ، ثمَّ يُقال: يا أهل الجنَّة، فيطَّلعون مشفقين، ويُقال: يا أهل النَّار، فيطلعون فرحين، فيقال (4) : هل تعرفون هذا، فيقولون: نعم، هذا الموتُ، فيذبح بين الجنَّة والنَّار، ويُقال: يا أهل الجنَّة، خلودٌ فلا موت، ويا أهل النَّار خلودٌ فلا موت”.
(1) ص (428).
(2) أخرجه مسلم برقم (2837).
(3) البخاري برقم (4453)، ومسلم رقم (2849)، واللفظ لمسلم.
(4) في نسخةٍ على حاشية “أ”: “فيقال لهم”.
(2/722)
فصل
وهذا موضع اختلف فيه المتأخرون على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنَّ الجنَّة والنَّار فانِيتَانِ غير أبديَّتين، بل كما هما حَادِثَتَان، فهما فانيتان.
والقول الثاني: إنَّهما باقيتان، دائمتان لا يفنيان أبدًا.
والقول الثالث: إنَّ الجنَّة باقية أبديَّة، والنار فانية.
ونحن نذكر هذه الأقوال، ومن قالها، وما احتجَّ به أرباب كلِّ قول، ونردُّ ما خالف كتاب اللَّه وسنَّة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-.
- فأمَّا القولُ بفنائهما فهو قول قاله: جهم بن صفوان، إمام المعطلة الجهمية، وليس له فيه سلف قطُّ من الصحابة ولا من التابعين، ولا أحدٌ من أئمة الإسلام، ولا قال به أحدٌ من أهل السنَّة، وهذا القول ممَّا أنكرهُ عليه وعلى أتباعه أئمة الإسلام وكفَّروهم به، وصاحوا بهم من أقطار الأرضِ، كما ذكر عبد اللَّه بن الإمام أحمد في كتاب “السنة” (1) عن خارجة بن مصعب أنَّه قال: كفرت الجهمية بثلاث آيات من كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ: يقول اللَّهُ سبحانه: {أُكُلُهَا دَائِمٌ} [الرعد: 35] وهم يقولون: لا يدوم، ويقول اللَّه تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)} [ص: 54] وهم يقولون: يَنْفَدُ، ويقول اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {مَا
(1) (1/ 131) رقم (77) وفيه بدل آية النحل آيتي هود (108)، والواقعة (33)، بأطول مما ساقه المؤلف.
(2/723)
عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96].
قال شيخ الإسلام: “وهذا قاله جهم لأصله الَّذي اعتقده: وهو امتناع وجود ما لا يتناهى من الحوادث، وهو عمدة أهل (1) الكلام التي استدلُّوا بها على حدوث الأجسام، وحدوث ما لم يحل من الحوادث، وجعلوا ذلك عمدتهم في حدوث العالم، فرأي الجهم: أن ما يمنع من حوادث لا أول لها في الماضي يمنعه في المستقبل. فدوام الفعل ممتنع عنده على الرب تعالى في المستقبل، كما هو ممتنع عليه في الماضي.
وأبو الهُذَيل العلَّاف -شيخ المعتزلة- وافقه على هذا الأصل؛ لكن قال: إن هذا يقتضي فناء الحركات، لكونها متعاقبة شيئًا بعد شيء. فقال بفناء حركات أهل الجنة والنار، حتى يصيروا في سكون دائم لا يقدر أحد منهم على حركة.
وزعمت فرقة ممن وافقتهم على امتناع حوادث لا نهاية لها: أن هذا القول مقتضى العقل، لكن لما جاء السمع ببقاء الجنة والنار قلنا بذلك.
وكأنَّ هؤلاء لم يعلموا أن ما كان ممتنعًا في العقل لا يجيء الشرع بوقوعه، إذ يستحيل عليه أن يخبر بوجود ما هو ممتنعٌ في العقل،
(1) في جميع النسخ “أصل”، والمثبت من نسخةٍ على حاشية “د”، وكتاب شيخ الإسلام في هذه المسألة ص (44).
(2/724)
وكأنهم لم يفرقوا بين مُحالات العقول ومَحاراتها (1) ، فالسمع يجيء بالثاني لا بالأول، فالسمع يجيء بما تعجز العقول (2) عن إدراكه، ولا يستقل به، ولا يجيء بما يعلم العقل إحالته.
والأكثرون الَّذين وافقوا جهمًا وأبا الهذيل على هذا الأصل، فرَّقوا بين الماضي والمستقبل، وقالوا: الماضي قد دخلَ في الوجود بخلاف المستقبل، والممتنع إنَّما هو دخول ما لا يتناهى في الوجود، لا تقدير دخوله شيئًا بعد شيء.
قالوا: وهذا نظير أن يقول القائل: لا أعطيكَ درهمًا إلَّا وأعطيك بعده درهمًا آخر، فهذا ممكن، والأوَّل نظير أنْ يقول: لا أعطيك درهمًا إلَّا وأعطيك قبله درهمًا، فهذا محال، وهؤلاء عندهم وجود ما لا يتناهى في الماضي محال، ووجوده في المستقبل واجب.
ونازعهم في ذلك آخرون وقالوا: بل الأمر في الماضي كهو في المستقبل، ولا فرق بينهما، بل الماضي والاستقبال أمرٌ نِسْبيٌّ، فكلُّ ما يكون مستقبلًا يصيرُ ماضيًا، وكلُّ ماضٍ فقد كان مستقبلًا، فلا يُعْقَل إمكان الدَّوام في أحد الطرفين، وإحالته في الطرف الآخر.
قالوا: هذه مسألة دوام فاعلية الرب تبارك وتعالى، وهو لم يزل ربًّا قادرًا فعَّالًا، فإنَّه لم يزل حيًّا عليمًا (3) قديرًا، ومن المحال أنْ يكون
(1) في “ب، هـ”: “ومجازاتها”.
(2) في “ب، ج، د، هـ”: “يعجز العقل”.
(3) في “ج”: “عالمًا”.
(2/725)
الفعل ممتنعًا عليه لذاته، ثمَّ ينقلب فيصير مُمكنًا (1) لذَّاته من غير تجدُّد شيء، وليس للأوَّل حدٌّ محدود حتَّى يصير الفعل ممكنًا له عند ذلك الحدِّ، ويكون قبله ممتنعًا عليه.
فهذا القولُ تصوره كافٍ في الجزمِ بفساده، ويكفي في فساده أنَّ الوقتَ الَّذي انقلب فيه الفعل من الإحالة الذَّاتية إلى الإمكان الذَّاتي، إمَّا أنْ يصحَّ أنْ يُفْرَضَ قبلَهُ وقتٌ يمكن فيه الفعل أو لا يصح.
فإنْ قلتم: لا يصحُّ، كان هذا تحكُّمًا غير معقول، وهو من جنس الهَوَس.
وإن قلتم: يصح، قيل: وكذلك ما يفرض قبله لا إلى غاية، فما من زمن محقَّقٍ أو مقدَّرٍ إلا والفعل ممكن فيه، وهو صفة كمال وإحسان ومتعلَّق حمد الرب تعالى وربوبيته وملكه، وهو لم يزل ربًّا حميدًا (2) ملكًا قادرًا، لم تتجدد له هذه الأوصاف، كما أنه لم يزل حيًّا مريدًا عليمًا. والحياة والعلم والإرادة والقدرة تقتضي آثارها ومتعلقاتها، فكيف يعقل حي قدير عليم مريد ليس له مانع ولا قاهر يقهره يستحيل عليه أن يفعل شيئًا البتة؟
فكيف يجعل هذا أصل أصول (3) الدين، ويُجْعَل معيارًا على ما أخبر اللَّه سبحانه به ورسوله، ويفرَّق به بين جائزات العقول ومحالاتها؟
(1) من هنا سقط من “ج” إلى ص (733).
(2) في نسخةٍ على حاشية “أ”: “جميلًا”.
(3) ليس في “ب”.
(2/726)
فإذا كان هذا شأن الميزان، فكيف يستقيم الموزون به؟
وأما قول من فرَّق: بأنَّ الماضي قد دخل في الوجود دون المستقبل، فكلام لا تحقيق وراءه (1) ، فإن الذي يحْضُره (2) الوجود من الحركات هو المتناهي، ثم يعدم فيصير ماضيًا، كما كان معدومًا لما كان مستقبلًا، فوجوده بين عدمين، وكلما انقضت جملة حدثت بعدها جملة أخرى، فالذي صار ماضيًا هو بعينه الذي كان مستقبلًا، فإنْ دلَّ الدليل على امتناع ما لا يتناهى شيئًا قبل شيء، فهو بعينه، دال على امتناعه شيئًا بعد شيء.
وأما تفريقكم بقولكم: المستقبل نظير قوله: ما أعطيك درهمًا إلا وأعطيك بعده درهمًا، فهذا ممكن. والماضي نظير قوله: ما أعطيك درهمًا إلا وأعطيك قبله درهمًا. فهذا الفرق فيه تلبيس لا يخفى، وليس بنظير ما نحن فيه، بل نظيره أن يقول: ما أعطيك درهمًا إلا وقد تقدم مني إعطاء درهم قبله. فهذا ممكن الدوام في الماضي على حدِّ إمكانه في المستقبل، ولا فرق في العقل الصحيح بينهما البتَّة، ولمَّا لم يجدِ الجهمُ (3) وأبو الهذيل وأتباعهما بين الأمرين فرقًا قالوا: بوجوب (4) تناهي الحركات في المستقبل كما يجبُ ابتداؤها عندهم في الماضي.
وقال أهل الحديث: بل هما سواء في الإمكان والوقوع، ولم يزل
(1) في “د”: “له” بدل “وراءه”.
(2) في “ج، د”: “يحصره”.
(3) في “د”: “جهم”.
(4) في “أ”: “يوجب”.
(2/727)
الرب سبحانه فعَّالًا لِمَا يُريد، ولم يزل ولا يزال موصوفًا بصفات الكمال منعوتًا بنعوت الجلال، وليس المتمكِّن من الفعل كلَّ وقتٍ كالَّذي لا يمكنه الفعل إلَّا في وقتٍ معينٍ، وليس من يَخْلُق كمن لا يَخْلُق، ومن يُحْسِن كمن لا يحسِن، ومن يدبر الأمر كمن لا يدبر، وأيُّ كمالٍ في أنْ يكون رب العالمين معطلًا عن الفعل مدَدٍ مقدرة، أو محقَّقةٍ لا تتناهى، يستحيل منه الفعل، وحقيقة ذلك أنَّه لا يقدر عليه.
وإنْ أبيتم هذا الإطلاق وقلتم: إنَّ المحال لا يوصف بكونه غير مقدور عليه، فجمعتم بين محالين: الحكم بإحالة الفعل من غير موجبٍ لإحالته، وانقلابه من الإحالة الذاتية إلى الإمكان الذَّاتي من غير تجدُّد سببٍ، وزعمتم أنَّ هذا هو الأصل الَّذي تثبتون به وجود الصانع، وحدوث العالم، وقيامة الأبدان، فجنيتم على العقل والشرعِ، والربُّ تعالى لم يزل قادرًا على الفعلِ والكلام بمشيئته، ولم يزل فعَّالًا لِمَا يُريد، ولم يزل ربًّا مُحْسنًا” (1) .
“والمقصودُ: أنَّ القولَ بفناء الجنَّة والنَّارِ قولٌ مبتدع ليقله أحدٌ من الصحابة ولا التابعين، ولا أحدٌ من أئمة المسلمين، والَّذين قالوه إنَّما تلقَّوهُ عن قياسٍ فاسدٍ اشتبه أصله على كثيرٍ من النَّاسِ فاعتقدوه
(1) انظر: رسالة الرد على من قال: بفناء الجنَّة والنَّارِ لابن تيمية ص (44 – 49) بتصرف وزيادة من ابن القيم على ما جاء في هذه الرسالة.
وانظر درء تعارض العقل والنقل (8/ 345 – 347)، ومجموع الفتاوى (8/ 153 – 154)، ومنهاج السنة النبوية (1/ 432 – 446).
(2/728)
حقًّا، وبنوا عليه القول بخلق القرآن، ونفي الصفات، وقد دلَّ القرآن والسنَّة والعقل الصريح على أنَّ كلمات اللَّه وأفعاله لا تتناهى، ولا تنقطع بآخرٍ، ولا تُحدُّ بأوَّل، قال اللَّهُ تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109].
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27] فأخبر عن عدم نفادٍ لكلماته لِعِزَّته وحكمته، وهذان وصفان ذاتيان له سبحانه وتعالى لا يكون إلا كذلك.
وذكر ابن أبي حاتم في “تفسيره” (1) عن سليمان بن عامر قال: سمعت الربيع بن أنس يقول: “إن مثل علم العباد كلهم في علم اللَّه عز وجل كقطرة من هذه البحور كلها، وقد أنزل سبحانه في ذلك {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} الآية”.
وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} الآية؛ يقول سبحانه لو كان البحر مدادًا لكلمات اللَّه، والشجر كلها أقلام لانكسرت الأقلام، وفني ماء البحر، وكلمات اللَّه تعالى باقية لا يفنيها شيء؛ لأن أحدًا لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني عليه كما ينبغي، بل هو كما أثنى على نفسه، إن ربنا كما يقول وفوق ما يقول، ثم إن مثل نعيم الدنيا أوَّله وآخره في نعيم الآخرة كحبة من (2) خردل في خلال الأرض كلها” (3) .
(1) ليس في المطبوع، وهو ناقص. انظر: تفسير ابن كثير (3/ 460).
(2) ليس في “د”، ووقع في “أ” “في” وهو خطأ.
(3) انظر: رسالة الرد على من قال: بفناء الجنَّة والنَّار ص (49).
(2/729)
فصل
وأما أبديَّة النار ودوامها: فقال شيخ الإسلام: “فيها قولان معروفان عن السلف والخلف، والنزاع في ذلك معروف عن التابعين” (1).
قلت: ها هنا أقوال سبعة:
أحدها: أن من دخلها لا يخرج منها أبدًا، بل كل من دخلها مخلد فيها أبد الآباد، وهذا قول الخوارج والمعتزلة.
والثاني: أن أهلها يعذبون فيها مُدَّةً، ثم تنقلب عليهم، وتبقى طبيعةٌ نارية لهم، يتلذَّذون بها لموافقتها لطبيعتهم. وهذا قول إمام الإتحادية ابن عربي الطائي.
قال في “فصوصه” (2): “الثناء بصدق الوعد لا بصدق الوعيد، والحضرة الإلهية تطلب الثناء المحمود بالذات، فيثنى عليها بصدق الوعد، لا بصدق الوعيد، بل بالتجاوز {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} [إبراهيم: 47] لم يقل: وعيده، بل قال: {وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} [الأحقاف: 16] مع أنه توعَّدَ على ذلك، وأثنى على إسماعيل بأنه كان صادق الوعد، وقد زال الإمكان في حق الحق، لما فيه من طلب المرجِّح:
(1) انظر المصدر السابق ص (52)، وفيه زيادة “ومن بعدهم”.
(2) ص (93 – 94).
(2/730)
فلم يبق إلا صادق الوعد وحده … وما لوعيد الحقِ عينٌ تُعَاين
وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم … على لذة فيها نعيم مباين
نعيم جنان الخلد والأمر واحد … وبينهما عند التجلِّي تباين
يُسَمَّى عذابًا من عذوبة طعمه … وذاك له كالقشر والقشرُ صاين”
وهذا في طرف، والمعتزلة الذين يقولون: لا يجوز على اللَّه أن يُخْلِفَ وعيده، بل يجب عليه تعذيب من توعده بالعذاب= في طرف، فأولئك عندهم لا ينجو من النار من دخلها أصلًا، وهذا عنده لا يعذب بها أحد أصلًا. والفريقان مخالفان لما عُلِمَ بالاضطرار أن الرسول جاء به، وأخبر به عن اللَّه عز وجل.
الثالث: قول من يقول: إن أهلها يعذبون فيها إلى وقت محدود، ثم يخرجون منها، ويخلفهم فيها قوم آخرون. وهذا القول حكاه اليهود للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فأكذبهم فيه (1) ، وقد أكذبهم اللَّه تعالى في القرآن فيه:
فقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
(1) أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 382)، وابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 155) رقم (813)، والحاكم في المستدرك (2/ 654) رقم (4171)، والواحدي في أسباب النزول ص (26 – 27) وغيرهم.
وفيه محمد بن أبي محمد الأنصاري مولى زيد بن ثابت، تفرَّد بالرواية عنه ابن إسحاق. قال الذهبي: وقد ورد معناهُ عن غير واحدٍ من التابعين.
(2/731)
خَالِدُونَ (81) } [البقرة: 80, 81].
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران: 23 – 24].
فهذا القول إنما هو قول أعداء اللَّه اليهود، فهم شيوخ أربابه والقائلين به.
وقد دل القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين، وأئمة الإسلام على فساده، قال تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 167]، وقال: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48]، وقال: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج: 22]، وقال: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: 20] وقال تعالى: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36]، وقال تعالى: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40].
وهذا أبلغ ما يكون في الإخبار عن استحالة دخولهم الجنة.
الرابع: قول من يقول: يخرجون منها وتبقى نارًا على حالها ليس فيها أحدٌ يُعَذَّبُ، حكاه شيخ الإسلام (1) .
والقرآن والسنة أيضًا يردان هذا القول كما تقدم.
(1) في رسالة الرد على من قال بفناء الجنَّة والنَّار ص (53).
(2/732)
الخامس: قول من يقول: بل (1) تفنى بنفسها؛ لأنها حادثة بعد أن لم تكن، وما ثبت حدوثه استحال بقاؤه وأبديته.
وهذا قول جهم بن صفوان وشيعته، ولا فرق عنده في ذلك بين الجنة والنار.
السادس: قول من يقول: تفنى حياتهم وحركاتهم ويصيرون جمادًا، لا يتحركون ولا يحسُّون بألم.
وهذا قول أبي الهُذَيل العلَّاف إمام المعتزلة، طَرْدًا لامتناع حوادث لا نهاية لها. والجنة والنار عنده سواء في هذا الحكم.
السابع: قول من يقول: بل يفنيها ربها وخالقها تبارك وتعالى، فإنه جعل لها أمَدًا تنتهي إليه ثم تفنى ويزول عذابها.
قال شيخ الإسلام: “وقد نُقِلَ هذا القول عن عمر، وابن مسعود، وأبي هريرة، وأبي سعيد وغيرهم.
وقد روى عَبْد بن حُمَيد -وهو من أجل علماء الحديث- في “تفسيره” المشهور: حدثنا سليمان (2) بن حرب، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن الحسن قال: قال عمر: “لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج (3) ، لكان لهم على
(1) من “ب, هـ”، ونسخةٍ على حاشية “أ”.
(2) إلى هنا انتهى السقط من “ج”.
(3) هو مَثَلٌ يُضرب للمبالغة في الكَثْرة، وعالِج: رمال بين فيد والقريات ينزلها بُحْتر من طيء، وهي متصلة بالثعلبية على طريق مكة، لا ماء بها. . . . =
(2/733)
ذلك (1) يوم يخرجون فيه” (2) .
وقال: حدثنا حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن أن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- قال: لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه” (3) .
ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) } [النبأ: 23]، فقد رواه عَبْدٌ -وهو من الأئمة الحفاظ وعلماء السنة- عن هذين الجليلين: سليمان بن حرب، وحجاج بن منهال كلاهما، عن حماد بن سلمة -وحَسْبُك به- وحماد يرويه عن ثابت وحميد، وكلاهما يرويه عن الحسن. وحسبك بهذا الإسناد جلالة.
والحسن وإن لم يسمع من عمر، فإنما رواه عن بعض التابعين، ولو لم يصح عنده ذلك عن عمر لَمَا جزم به وقال: قال عمر بن الخطاب، ولو قُدِّرَ أنه لم يُحْفَظ عن عمر، فتداول هؤلاء الأئمة له غير مقابلين له بالإنكار والرد، مع أنهم ينكرون على من خالف السنة بدون هذا، فلو كان هذا القول عند هؤلاء الأئمة من البدع المخالفة لكتاب اللَّه وسنة رسوله وإجماع الأئمة، لكانوا أول منكر له.
= وقيل: رمل عالج يحيط بأكثر أرض العربِ. انظر: المعجم للبكري (2/ 913)، ومعجم البلدان (4/ 78).
(1) قوله “على ذلك” ليس في “أ”.
(2) قال ابن القيم: “ورواةُ هذا الأثرِ أئمة ثقات كلهم. . . . ” شفاء العليل (2/ 707).
(3) سقط هذا الأثر كاملًا من “ج”.
(2/734)
قال: ولا ريب أنَّ مَنْ قال هذا القول عن عمر، ونقله عنه إنما أراد بذلك جنس أهل النار الذين هم أهلها، فأما قوم أصيبوا بذنوبهم، فقد علم هؤلاء وغيرهم أنهم يخرجون منها، وأنهم لا يلبثون قدر رمل عالج، ولا قريبًا منه.
ولفظ “أهل النار” لا يختص بالموحِّدين، بل هو مختص بمن عداهم، كما قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون” (1) ، ولا يناقض هذا قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا}، وقوله: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48] بل ما أخبر اللَّه به هو الحق والصدق الذي لا يقع خلافه، لكن إذا انقضى أجلها وفنيت كما تفنى الدنيا لم يبق نارًا ولم يبق فيها عذاب.
قال أرباب هذا القول: في “تفسير علي بن أبي (2) طلحة الوالبي”: عن ابن عباس في قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) } [الأنعام: 128]. قال: “لا ينبغي لأحد أن يحكم على اللَّه في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا نارًا” (3) .
قالوا: وهذا الوعيد في هذه الآية ليس مختصًّا بأهل القبلة، فإنه سبحانه قال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ
(1) أخرجه مسلم رقم (185) مطوَّلًا من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه.
(2) سقط من “أ، هـ”.
(3) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (4/ 1388) رقم (7897)، والطبري (8/ 34). وسنده حسن.
(2/735)
وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)} [الأنعام: 128 – 129].
وأولياء الجن من الإنس يدخل فيه الكفار قطعًا، فإنهم أحق بموالاتهم من عصاة المسلمين، كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)} [الأعراف: 27].
وقال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} [النحل: 99, 100].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)} [الأعراف: 201 – 202].
وقال تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} [الكهف: 50].
وقال تعالى: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ} [النساء: 76].
وقال تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)} [المجادلة: 19].
وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} [الأنعام: 121].
(2/736)
فالاستثناء وقع في الآية التي أخبرت عن دخول أولياء الشيطان (1) النار. فَمِنْ ها هنا قال ابن عباس: “إنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على اللَّه في خلقه”.
قالوا: وقول من قال إن “إلا” بمعنى “سوى”، أي: سوى ما شاء اللَّه أن يزيدهم من أنواع العذاب وزمنه = لا تخفى منافرته للمستثنى والمستثنى منه، وإن الذي يفهمه المخاطب: مخالفة ما بعد “إلا” لما قبلها.
قالوا: وقول من قال: إنه لإخراج ما قبل دخولهم إليها من الزمان؛ كزمان البرزخ والموقف، ومدَّة الدنيا أيضًا = لا يساعد عليه وجه الكلام، فإنَّه استثناء من جملة خبريَّة مضمونها: أنَّهم إذا دخلوا النَّارَ لبثوا فيها مدَّة دوام السماوات والأرضِ إلَّا ما شاء اللَّهُ (2) ، وليس المراد الاستثناء قبل الدخول، هذا ما لا يفهمه المخاطب، ألَا ترى أنَّه سبحانه يخاطبهم بهذا في النَّار حين يقولون: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام: 128]، فيقول لهم حينئذٍ: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 128]، وفي قولهم: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} نوعُ اعترافٍ واستسلام وتحسُّر، أي: استمتع الجن بنا، واستمتعنا بهم، فاشتركنا
(1) في “ب”: “الشياطين”.
(2) انظر: رسالة الرد على من قال بفناء الجنَّة والنَّار لابن تيمية ص (53 – 60) بتصرف مع زيادة أحيانًا.
(2/737)
في الشرك ودواعيه وأسبابه، وآثرنا الاستمتاع على طاعتك وطاعة رسلك، وانقضت آجالنا، وذهبت أعمارنا في ذلك، ولم نكتسب فيها رضاك، وإنَّما كان غاية أمرنا في مُدَّة آجالنا استمتاع بعضنا ببعض.
فتأمل ما في هذا من الاعتراف بحقيقة ما هم عليه، وكيف بدت لهم تلك الحقيقة ذلك اليوم، وعلموا أن الذي كانوا فيه في مدة آجالهم، هو حظهم من استمتاع بعضهم ببعض، ولم يستمتعوا بعبادة ربهم، ومعرفته وتوحيده، ومحبته وإيثار مرضاته.
وهذا من نمط قولهم: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)}.
وقوله تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ} [الملك: 10, 11].
وقوله: {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} [القصص: 75]، ونظائره.
والمقصود أنَّ قوله {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} عائد إلى هؤلاء المذكورين مختصًّا بهم، أو شاملًا لهم ولعصاة الموحِّدين، وأما اختصاصه بعصاة المسلمين دون هؤلاء فلا وجه له.
ولمَّا رأت طائفة ضعف هذا القول، قالوا: الاستثناء يرجع إلى مُدَّة البرزخ والموقف. وقد تبيَّن ضعف هذا القول.
ورأت طائفة أخرى: أنَّ الاستثناء يرجع إلى نوع آخر من العذاب غير النار.
قالوا: والمعنى: أنكم في النار أبدًا إلا ما شاء اللَّه أن يعذبكم
(2/738)
بغيرها، وهو الزمهرير.
وقد قال تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) } [النبأ: 21 – 23].
قالوا: والأبد: لا يُقدَّر بالأحقاب.
وقد قال ابن مسعود في هذه الآية: “لَيأتينَّ على جهنم زمان ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابًا” (1) . وعن أبي هريرة مثله (2) ، حكاه البغوي عنهما. ثم قال: “ومعناه عند أهل السنة إن ثبت: أنه لا يبقى فيها أحد من أهل الإيمان” (3) .
قالوا: قد ثبت ذلك عن أبي هريرة وابن مسعود وعبد اللَّه بن عمرو، وقد سأل حربٌ إسحاق بن راهويه عن هذه الآية (4) ، فقال: سألت إسحاق، قلت: قول اللَّه تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] فقال: أتت هذه الآية على كل وعيد في القرآن.
حدثنا عبيد اللَّه بن معاذ، حدثنا معتمر بن سليمان، قال: قال أبي:
(1) أخرجه الطبري في تفسيره (12/ 118) قال حُدِّثت عن المسيب عمَّن ذكره عن ابن عباس، وذكر كلامًا له، ثمَّ قال وقال: ابن مسعود فذكره.
وسنده ضعيف لإبهام من حدَّثه عن المسيب، ومن ذكره عن ابن عباس.
وأخرجه ابن المنذر وأبو الشيخ كما في الدر المنثور (3/ 635) من طريق إبراهيم النخعي قال: قال ابن مسعود: “ليأتين عليها زمان تخفق أبوابها”.
(2) سيأتي ص (741).
(3) معالم التنزيل (4/ 202).
(4) انظر: مسائر حرب الكرماني ص (429).
(2/739)
حدثنا أبو نضرة، عن جابر أو أبي سعيد أو بعض أصحاب النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “أتت هذه الآية على القرآن كله (1) : {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107] “. قال المعتمر: قال أبي: كل وعيد في القرآن” (2) .
حدثنا عبيد اللَّه بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن أبي بَلْج (3) سمع عمرو بن ميمون يحدث عن عبد اللَّه بن عمرو، قال: “ليأتين على جهنَّم يوم تصطفق فيه أبوابها، ليس فيها أحد، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابًا” (4) .
(1) في “د” “هذه الآية تأتي على القرآن كله”، وهو موافق لما ذكره المؤلِّف في شفاء العليل (2/ 705)، وليس في مسائل حرب المطبوعة كلمة “أتت”.
(2) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 273) رقم (1251)، والطبري (12/ 118)، والبيهقي في الأسماء والصفات رقم (337).
وسنده صحيح.
- ورواهُ جعفر بن سليمان عن الجُريري عن أبي نضرة قوله.
أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات رقم (336)، وابن أبي حاتم في تفسيره رقم (11239) معلَّقًا.
والجريري اختلط، ولا يُدرى هل سمع منه جعفر الضبعي قبل اختلاطه أم بعده؟
انظر: الكواكب النيِّرات ص (185).
(3) في “ب”: “صالح” وهو خطأ.
(4) أخرجه الفسوي في المعرفة والتاريخ (2/ 103).
من طريق الطيالسي عن شعبة به مثله إلى قوله “أحد”.
قال الطيالسي: وحدثنا حماد بن سلمة عن ثابت قال: سألت الحسن عن هذا الحديث فأنكره”.
وهذا الحديث جعله الذهبي من بلايا أبي بَلْج فذكره وقال: “هذا منكر” =
(2/740)
حدثنا عبيد اللَّه، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن يحيى بن أيوب، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: ما أنا بالذي لا أقول: إنه سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد، وقرأ: ” {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) } [هود: 106] ” (1) .
قال عبيد اللَّه: كان أصحابنا يقولون: يعني به الموحِّدين.
حدثنا أبو مَعْنٍ، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا شعبة، عن سليمان التيمي، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد اللَّه، أو بعض أصحابه في قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107]. قال: “هذه الآية أتت (2) على القرآن كله” (3) .
= الميزان (7/ 189).
قلتُ: إنكار الحسن البصري يحتمل عدَّة احتمالات، لكنْ تقدم قريبًا ص (734 – 735) رواية ثابت البناني وحميد الطويل عن الحسن أنَّ عمر بن الخطاب قال: لو لبثت أهل النَّار. . . “.
وأبو بلج الفزاري واسمه يحيى بن سُليم، وقيل غير ذلك، وثَّقه جماعة، وله حديث منكر. انظر: تهذيب الكمال (33/ 162).
فإنْ كان حفظه فالإسناد لا بأس به.
(1) سنده لا بأس به، ويحيى بن أيوب هو البجلي الكوفي مختلفٌ فيه.
تهذيب الكمال (31/ 232).
وأخرجه إسحاق بن راهويه، كما في الدر المنثور (3/ 635) بلفظ “سيأتي على جهنَّم يومٌ لا يبقى فيها أحد، وقرأ {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا. .} الآية.
(2) من “أ، هـ” فقط، وليست في باقي النسخ، ولا في مسائل حرب المطبوعة.
(3) انظر في مسائل حرب ص (430)، وتقدم الكلام عليه.
(2/741)
وقد حكى ابن جرير هذا القول في “تفسيره” (1) عن جماعة من السلف، فقال: وقال آخرون: عنى بذلك أهل النار، وكل من دخلها. ذكر من قال ذلك -ثم ذكر الآثار التي نذكرها-:
وقال عبد الرزاق: حدثنا ابن التيمي، عن أبيه، عن أبي نضرة، عن جابر أو أبي سعيد، أو عن رجل من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) } قال: “هذه الآية تأتي على القرآن كله”، يقول: حيث كان في القرآن “خالدين فيها” تأتي عليه”،. قال: “وسمعت أبا مجلز يقول: جزاؤه جهنم (2) ، فإن شاء اللَّه عز وجل تجاوز عن عذابه” (3) .
وقال ابن جرير: “حدثنا الحسن بن يحيى، أخبرنا عبد الرازق، فذكره. قال: وحُدِّثت عن المسيب عمن ذكره عن ابن عباس: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} قال: “لا يموتون وما هم منها بمخرجين ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك. قال: استثنى اللَّه، قال: أمر النار أن تأكلهم”.
قال: وقال ابن مسعود: “ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد بعدما يلبثون فيها أحقابًا”.
(1) (12/ 118).
(2) من “أ”، وليس في باقي النسخ، ولا عند عبد الرزاق ولا الطبري.
(3) أثر أبي مجلز موصول بالسند المتقدم، وهو عند عبد الرزاق والطبري كما تقدم.
تنبيه: وقع في “هـ” “مخلد” بدل “مجلز” وهو تصحيف.
(2/742)
حدثنا ابن حُمَيد، حدثنا جرير، عن بيان، عن الشعبي، قال: “جهنم أسرع الدارين عمرانًا، وأسرعهما خرابًا” (1) .
وحكى ابن جرير في ذلك قولًا آخر، فقال: “وقال آخرون: أخبرنا اللَّه سبحانه بمشيئته لأهل الجنة، فعرفنا معنى ثنياه بقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) } أنَّها في الزيادة على مقدار مدة السماوات والأرض، قالوا: ولم يخبرنا بمشيئته في أهل النار، وجائز أن تكون مشيئته في الزيادة، وجائز أن تكون في النقصان.
حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} حتَّى بلغ {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) } فقال: أخبرنا بالذي يشاء لأهل الجنة فقال: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) } ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار” (2) .
وقال (3) ابن مردويه في “تفسيره”: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا خير بن عرفة، حدثنا يزيد بن مروان الخلال، حدثنا أبو خليد، حدثنا سفيان -يعني: الثوري- عن عمرو بن دينار، عن جابر -رضي اللَّه عنه- قال: قرأ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)
(1) تفسير الطبري (12/ 118).
وأثرا ابن عباس وابن مسعود: ضعيفا الإسناد كما تقدَّم.
وأثر الشعبي أيضًا ضعيف جدًّا: شيخ الطبري هو محمد بن حُميد وهو ضعيف جدًّا.
(2) تفسير الطبري (12/ 118 – 119). وأثر ابن زيد صحيح.
(3) من هنا سقط من “ج” إلى ص (747).
(2/743)
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 106 – 107]. قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إن شاء اللَّه أن يخرج ناسًا من الذين شقوا من النار فيدخلهم الجنة فَعَل” (1) .
وهذا الحديث يدل على أن الاستثناء إنما هو للخروج من النار بعد دخولهم خلافًا لمن زعم: أنه لما قبل الدخول؛ ولكن إنما يدل على إخراج بعضهم من النار، وهذا حق بلا ريب، وهو لا ينفي انقطاعها وفناء عذابها، وأكلها لمن فيها، وأنهم يُعَذَّبون فيها دائمًا ما دامت كذلك، وما هم منها بمخْرَجين، فالحديث دل على أمرين:
أحدهما: أنَّ بعض الأشقياء إن شاءَ اللَّهُ يخرجهم من النار -وهي نار- فَعَلَ، وأن الاستثناء أنما هو فيما بعد دخولها، لا فيما قبله.
وعلى هذا، فيكون معنى الاستثناء: إلا ما شاء ربك من الأشقياء، فإنهم لا يخلدون فيها، ويكون الأشقياء نوعين: نوعًا يخرجون منها، ونوعًا يخلدون فيها، فيكونون من الذين شقوا أوّلًا، ثم يصيرون من الذين سُعِدوا، فتجتمع لهم الشقاوة والسعادة في وقتين.
قالوا: وقد قال تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً
(1) سنده ضعيف جدًّا.
فيه يزيد بن مروان الخلال: قال ابن معين “كذَّاب” الجرح (9/ 291)، وضعفه الدارمي وأبو داود وقال الدارقطني: “ضعيف جدًّا”.
انظر: اللسان (6/ 380).
(2/744)
وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} [النبأ: 21 – 28].
فهذا صريح في وعيد الكفار المكذبين بآياته، ولا يُقَدَّر الأبدي بمدة الأحقاب (1) ولا غيرها، كما لا يقدَّر به القديم، ولهذا قال عبد اللَّه ابن عمرو: فيما رواه (2) شعبة، عن أبي بلج، سمع عمرو بن ميمون يحدث عنه: “ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابًا” (3).
فصل
والذين قطعوا بدوام النار لهم ست طرق:
أحدها: اعتقاد الإجماع، فكثير من الناس يعتقدون أنَّ هذا مجمع عليه بين الصحابة والتابعين لا يختلفون فيه، وأن الاختلاف فيه حادث، وهو من أقوال أهل البدع.
الطريق الثاني: أن القرآن دل على ذلك دلالة قطعية، فإنه سبحانه وتعالى أخبر: أنه عذاب مقيم، وأنه لا يُفَتَّر عنهم، وأنه لن يزيدهم إلا عذابًا، وأنهم خالدين فيها أبدًا، وما هم بخارجين من النار، وما هم منها بمخرجين، وأن اللَّه حرم الجنة على الكافرين، وأنهم لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمِّ الخياط، وأنهم لا يقضى عليهم
(1) في “د”: “لا أحقاب”.
(2) قوله: “فيما رواهُ”، وقع في “أ”: “فيها” بدل “فيما رواهُ”.
(3) تقدم الكلام عليه في ص (740).
(2/745)
فيموتوا، ولا يُخَفَّف عنهم من عذابها، وأن عذابها كان غرامًا، أي: مقيمًا لازمًا.
قالوا: وهذا يفيد القطع بدوامه واستمراره.
الطريق الثالث: أن السنة المستفيضة أخبرت بخروج مَنْ في قلبه مثقال ذرة مِنْ إيمانٍ دون الكفار، وأحاديث الشفاعة من أولها إلى آخرها صريحة بخروج عصاة الموحدين من النار، وأن هذا حكم مختص بهم، فلو خرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم، ولم يختص الخروج بأهل الإيمان.
الطريق الرابع: أنَّ الرسول وقَّفْنَا على ذلك وعَلِمْنَاهُ من دينه بالضرورة من غير حاجة بنا إلى نقلٍ معينٍ، كما عَلِمْنا من دينه دوام الجنة وعدم فنائها.
الطريق الخامس: أن عقائد السلف وأهل السنة مصرحة بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما لا تفنيان، بل هما دائمتان، وإنما يذكرون فناءهما عن أهل البدع.
الطريق السادس: أنَّ العقلَ يقضي بخلود الكفار في النَّارِ.
وهذا مبنيٌ على قاعدةٍ وهي: أنَّ المعاد (1) وثواب النفوس المطيعة، وعقوبة النفوس الفاجرة هل هو ممَّا يُعلم بالعقل، أو لا يُعْلَم إلَّا بالسمعِ؟
(1) في “أ، هـ”: “النار”.
(2/746)
فيه طريقان لنظَّار المسلمين، وكثير منهم يذهب إلى أنَّ ذلك يُعلَم بالعقل مع السمع، كمَّا دلَّ عليه القرآن في غير موضع، كإنكارهِ سبحانه على من زعم أنَّه يُسَوِّي بين الأبرار والفجار في المحيا والممات، وعلى من زعم أنَّه خلق خلقه عبثًا، وأنَّهم إليه لا يُرجعون، وأنَّه يتركهم سُدى، أي: لا يثيبهم ولا يعاقبهم، وأنَّ ذلك يقدحُ في حكمته وكماله، وأنَّه نِسْبةُ له (1) إلى ما لا يليقُ به، وربما قرَّروهُ بأنَّ النفوس البشرية باقيةٌ، واعتقاداتها وإراداتها صفة لازمةٌ لها لا تفارقها وإن ندمت عليها، لمَّا رأت العذاب، فلم تندم عليها لقبحها وكراهة ربها لها، بل لو فارقها العذاب رجعت كما كانت أوَّلًا.
قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) } الأنعام: 27 – 28 .
فهؤلاء قد ذاقوا العذابَ وباشروه، ولم يزل سببه ومُقْتضِيْهِ من نفوسهم، بل خبثها وكفرها قائم بها، لم يفارقها بحيث لو رُدُّوا لعادوا كفارًا كما كانوا، وهذا يدلّ على أن دوام تعذيبهم يقضي به العقل، كما جاء به السمع.
قال أصحاب الفناء: بالكلام على هذه الطرق: يَبِيْنُ الصوابُ في هذه المسألة.
(1) ليس في “ب، د”.
(2) إلى هنا انتهى السقط من “ج”.
(2/747)
فأما الطريق الأول: فالإجماع الذي ادعيتموه غير معلوم، وإنما يظن الإجماعَ في هذه المسألة من لم يعرف النزاع – وقد عُرِفَ النزاعُ فيها قديمًا وحديثًا – بل لو كلف مُدَّعِي الإجماع أن ينقل عن عشرة من الصحابة فما دونهم إلى الواحد أنَّه قال: إن النار لا تفنى أبدًا، لم يجد إلى ذلك سبيلًا.
ونحن قد نقلنا عنهم التصريح بخلاف ذلك فأوْجِدوا لنا (1) عن واحد منهم خلاف ذلك، بل التابعون حكي عنهم هذا وهذا.
قالوا: والإجماع المُعْتدُّ به نوعان متفق عليهما، ونوع ثالث مختلف فيه، ولم يوجد واحد منها (2) في هذه المسألة.
النوع الأول: يكون معلومًا من ضرورة الدين، كوجوب أركان الإِسلام، وتحريم المحرمات الظاهرة.
الثاني: ما ينقل عن أهل الاجتهاد التصريح بحكمه.
الثالث: أن يقول بعضهم القول، وينتشر في الأمة، ولا ينكره أحد.
فأين معكم واحد من هذه الأنواع؟! ولو أن قائلًا ادعى الإجماع من هذا الطَّرَفِ واحتج بأن الصحابة صح عنهم ذلك ولم ينكر أحد منهم عليه = لكان أسعد بالإجماع منكم.
(1) قوله “فأوجدوا لنا” في “ب، د” “فما وجدنا”، وفي نسخة على “د” “فأوجدنا”، وفي “أ، هـ”: “فأوجدونا”.
(2) قوله “يوجد واحد منها” وقع في “ب، د”: “يوجد واحدا منهما”، وفي “هـ”: “يوجد واحد منهما”.
(2/748)
قالوا: وأما الطريق الثاني: وهو دلالة القرآن على بقاء النار وعدم فنائها، فأين في القرآن دليل واحد يدل على ذلك؟! نعم، الذي دلّ عليه القرآن أن الكفار خالدين في النار أبدًا، وأنهم غير خارجين منها، وأنهم لا يُفَتَّر عنهم عذابها، وأنهم لا يموتون فيها، وأن عذابهم فيها مقيم، وأنه غرام لازم لهم، وهذا كله مما لا نزاع فيه بين الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، وليس هذا مورد النزاع، وإنما النزاع في أمر آخر، وهو: أنَّه هل النار أبدية أو مما كُتِبَ عليها الفناء؟ وأما كون الكفار لا يخرجون منها، ولا يفتر عنهم من عذابها، ولا يُقْضَى عليهم فيموتوا، ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمِّ الخياط = فلم يختلف في ذلك الصحابة ولا التابعون ولا أهل السنة، وإنما خالف في ذلك من قد حكينا أقوالهم من اليهود والإتحادية، وبعض أهل البدع. وهذه النصوص وأمثالها تقتضي خلودهم في دار العذاب ما دامت باقية، ولا يخرجون منها مع بقائها البتة، كما يخرج أهل التوحيد منها مع بقائها. فالفرق بين من يخرج من الحبس -وهو حبس على حاله- وبين من يبطل حبسه بخراب الحبس وانتقاضه.
قالوا: وأما الطريق الثالث: وهو مجيء السنة المستفيضة بخروج أهل الكبائر من النار دون أهل الشرك، فهي حق لا شك فيه، وهي إنما تدل على ما قلناه من خروج الموحِّدين منها، وهي دار عذاب لم تَفْنَ، ويبقى المشركون فيها ما دامت باقية، والنصوص دلت على هذا وعلى هذا.
قالوا: وأما الطريق الرابع: وهو أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقفنا على ذلك
(2/749)
ضرورة، فلا ريب أنَّه من المعلوم من دينه بالضرورة، أن الكفار باقون فيها ما دامت باقية، هذا معلوم من دينه بالضرورة، وأما كونها أبدية لا انتهاء لها ولا تفنى كالجنة، فأين في القرآن والسنة دليل واحد يدل على ذلك؟
قالوا: وأما الطريق الخامس: وهو أن في عقائد أهل السنة: أن الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدًا. فلا ريب أن القول بفنائهما قول أهل البدع من الجهيمية والمعتزلة، وهذا القول لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أحد من أئمة المسلمين، وأما فناء النار وحدها فقد أوجدناكم من قال به من الصحابة، وتفريقهم بين الجنة والنار، فكيف يكون القول به من أقوال أهل البدع، مع أنَّه لا يُعْرَف عن أحد من أهل البدع التفريق بين الدارين، فقولكم: إنه من أقوال أهل البدع كلامُ من لا خِبْرَة له بمقالات بني آدم، وآرائهم واختلافهم.
قالوا: والقول الذي يُعَدُّ من أقوال أهل البدع: ما خالف كتاب اللَّه، أو سنة رسوله، أو إجماع الأمة، إما الصحابة (1) أو من بعدهم، وأما قول يوافق الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، فلا يُعَدُّ من أقوال أهل البدع، وإن دانوا به واعتقدوه، فالحق يجب قبوله ممن قاله، والباطل يجب ردُّهُ على من قاله، وكان معاذ بن جبل يقول: “اللَّه حَكَم قسط، هلك المرتابون، إن من ورائكم فتنًا يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن حتى يقرؤه المؤمن والمنافق، والمرأة والصبي، والأسود والأحمر،
(1) قوله “أو سنة رسوله أو إجماع الأمة، إمَّا الصحابة” وقع في “ج” “والسنة أو إجماع الصحابة أو من بعدهم، ووقع في “أ” “و” بدل “أو”.
(2/750)
فيوشك أحدهم أن يقول: قرأت القرآن، فما أظن أن يتبعوني حتى أبتُدِعَ لهم غيره، فإياكم وما ابتُدِعَ، فإن كل بدعة ضلالة، وإياكم وزيغة الحكيم؛ فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة، وإن المنافق قد يقول كلمة الحق، فتلقوا الحق عمن جاء به، فإن على الحق نورًا، قالوا: وكيف زيغة الحكيم؟ قال: هي الكلمة تروعكم وتنكرونها، وتقولون: ما هذه؟ فاحذروا زيغته، ولا يصدنكم عنه، فإنَّه يوشك أن يفيء، ويراجع الحق، وإن العلم والإيمان مكانهما إلى يوم القيامة” (1) .
فالذي أخبر به أهل السنة في عقائدهم، هو الذي دلّ عليه الكتاب والسنة، وأجمع عليه السلف: أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن أهل النار لا يخرجون منها، ولا يُخَفَّف عنهم عذابها، ولا يُفَتَّر عنهم، وأنهم خالدون فيها، ومن ذكر منهم أن النار لا تفنى أبدًا؛ فإنما قاله لظنه أن بعض أهل البدع قال بفنائها، ولم تبلغه تلك الآثار التي تقدم ذكرها.
قالوا: وأما الطريق السادس: وهو حكم العقل (2) بتخليد أهل النار فيها، فإخبار عن العقل بما ليس عنده، فإن المسألة من المسائل التي لا تعلم إلا بخبر الصادق.
(1) أخرجه أبو داود رقم (4611)، وعبد الرزاق رقم (20750)، والَّلالكائي في شرح أصول الاعتقاد رقم (116)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 232 و 333)، وغيرهم. وسنده صحيح.
(2) جاء في “أ، ب، ج، د”: “وأمَّا حكم العقل” بدل “وأمَّا الطريق السادس: وهو حكم العقل”، والمثبت من “هـ”.
(2/751)