شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل
http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة |
الكتاب: شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل [آثار الإمام ابن القيم الجوزية وما لحقها من أعمال (32)]المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (659 – 751) تحقيق: زاهر بن سالم بَلفقيه راجعه: سليمان بن عبد الله العمير – أحمد حاج عثمان الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت) الطبعة: الثانية، 1441 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم) عدد الأجزاء: 2 قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] |
آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (32)
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل
تأليف
الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية
(691 هـ – 751 هـ)
تحقيق
زاهر بن سالم بَلفقيه
وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة
بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى)
دار عطاءات العلم – دار ابن حزم
(المقدمة/1)
راجع هذا الجزء
سليمان بن عبد الله العمير
أحمد حاج عثمان
(المقدمة/3)
مقدمة التحقيق
الحمد لله حمدًا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وصلاةً وسلامًا دائمين على سيد الخلائق، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
أما بعد، فهذه مَعْلمة كبرى في سادس أركان الإيمان، ومصنَّف حافل في أصل عظيم من أصول العقيدة: القضاء والقدر، جمع فيه مؤلفه شمس الدين ابن قيِّم الجوزية رحمه الله ما تناثر من مباحث الباب، فلملم عيون مطالبه، وحرّر ما أشكلَ مِن مسائله، وجلّى ما خفي من غوامضه، وأجاب عما أُورِد فيه من شبهات، واستفرغ فيه جهده بما عُهِد عنه من التحقيق وطول النّفَس في تحرير دقائق المباحث وعويص المسائل.
ليجيء هذا السفر في ثلاثين بابًا، مشتملة على فصولٍ عديدة وأوجه ومقدمات، جامعة بين المنقول والمعقول، والبحث والتحرير، والمناقشة والترجيح، والمناظرة والتقرير، مشحونًا بالفوائد العزيزة، والاستطرادات النفيسة، على ما جرت به عادته رحمة الله عليه في عامة تواليفه.
حتى أضحى الكتاب من أوسع المصنفات في موضوعه ـ إن لم يكن أوسعها ــ، وأغزرها مادة، وأجمعها موردًا، وأكثرها نفعًا، ليصبح مرجعًا أصيلًا لا غنى عنه للباحثين، ويكون شفاء للعليل، ورواء للغليل، وبلاغًا لأهل السنة والدليل، وفي كلٍّ خير.
إن الكلام في مسائل القضاء والقدر مما نشأ مبكّرًا في التاريخ الإسلامي أواخر عصر الصحابة رضوان الله عليهم، ولم يزل شرخ الخلاف يتسع في الأمة شيئًا فشيئًا، حتى تعددت فيه الآراء، واضطربت الأفهام، وزلّت
(المقدمة/5)
الأقدام، ونبتت تلك الطوائف والفرق على اختلاف آرائها وتباين مشاربها، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا.
وقد وضع عدد من الأئمة المتقدمين في هذه المسألة الكبيرة مصنفات مفردة، كالإمام عبد الله بن وهب، والإمام البخاري، والإمام الفريابي وغيرهم.
وفي هذا العصر تزداد أهمية التحرير والبيان في أبواب القضاء والقدر ومدافعة ما يثار من شبهات؛ إذ باتت مسائل الإرادة والاختيار والحكمة والتعليل ووقوع الشر في الكون بوابةً للإلحاد، وذريعة للطعن في مقامات الربوبية، والتشكيك في وجود الخالق العظيم سبحانه، ولم يزل الملاحدة والمرجفون يدندنون حولها، ويقذفون بشبهاتهم بين ظَهْراني شباب المسلمين في وسائل التواصل الاجتماعي والفضاء الإلكتروني؛ ليُرْدوهم في دركات الشك ومهاوي الحيرة، والله المستعان (1).
وهذه مباحث بين يدي الكتاب مشتملة على:
– توثيق نسبة الكتاب
– عنوان الكتاب
– تاريخ تأليف الكتاب
– موضوع الكتاب ومباحثه
– منهج المؤلف في الكتاب
– أهمية الكتاب
_________
(1) ينظر: “مشكلة الشر” لسامي العامري (17 – 20).
(المقدمة/6)
– موارد الكتاب
– وصف مخطوطات الكتاب
– طبعات الكتاب
– منهج التحقيق
* * * *
(المقدمة/7)
توثيق نسبة الكتاب
تظافرت عدة أمور في إثبات نسبة الكتاب إلى مؤلفه شمس الدين ابن قيِّم الجوزية، نوجزها في الآتي:
* الإحالة فيه إلى كتبه:
جرت عادة المؤلفين ـ ومنهم ابن القيم ـ بإحالة القارئ إلى مؤلفاتهم الأخرى طلبًا للاختصار وعدم تكرار بعض المسائل والمناقشات؛ إذ كان المؤلف قد أشبعها بحثًا في الكتاب المحال إليه، أو كان العزم قد وقع على إفراد المسألة بمصنَّف مستقل، وقد أحال ابن القيم في هذا الكتاب إلى مؤلَّفين له صراحة هما: “مفتاح دار السعادة” و “أحكام أهل الملل”، واحتمالًا: “الصواعق المرسلة”.
فمن الأول قوله في (1/ 415): “وقد بيّنا بطلانه من أكثر من خمسين وجهًا في كتاب “المفتاح””. وهذه الأوجه وزيادة في كتابه “مفتاح دار السعادة” (2/ 1017 – 1135).
ومنه أيضًا ما جاء في (2/ 441): “وليس المقصود ذكر هذه المسائل وما يصير به الطفل مسلمًا؛ فإنا قد استوفيناها في كتابنا في “أحكام أهل الملل””، وهو في المطبوع من “أحكام أهل الذمة” (2/ 893) وما بعدها.
ومن الضرب الثاني الإشارة إلى عزم المؤلف على إفراد كتاب يكشف فيه جناية المتأولين على الدنيا والدين في (1/ 273)، فهل يقصد بهذه الإحالة عزمه على إفراد هذا الباب بكتاب مستقل، أم هو وصف لما ضمّنه كتابه “الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة” (2/ 384 – 417)
(المقدمة/8)
من فصول في جناية التأويل على أديان الرسل، وأن خراب العالم وفساد الدنيا والدين بسبب فتح باب التأويل؟
* الإحالة في كتبه إليه:
أحال ابن القيم إلى “شفاء العليل” في كتابين له:
الأول: “إغاثة اللهفان” (1/ 94)، وذلك بعد إشارته إلى طرف من مباحث الإرادة الدينية والكونية ولوازم كل منهما، حيث قال: “وقد أشبعنا الكلام في ذلك في كتابنا الكبير في القدر”، ولا ريب أن هذا الوصف مطابق لما في الكتاب من إشباع لذيول هذه المسألة في الباب التاسع والعشرين (2/ 377) عدا ما نثره في أبواب أخر.
والثاني: “الفوائد” (36)، إذ قال بعد ذكره لشيء من مسائل تقدير الله تعالى المعاصي على بعض العباد وعدله فيهم: “وقد استوفينا الكلام في هذا في كتابنا الكبير في القضاء والقدر”.
* الإشارة إلى شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية:
أشار إليه في أكثر من خمسة عشر موضعًا، منها ما وقع في (2/ 390): “قال شيخنا أبو العباس ابن تيمية: أحمد لم يذكر العهد الأول، وإنما قال: الفطرة الأولى التي فُطِر الناس عليها”.
وقوله في مسألة فناء النار (2/ 327): “وكنت سألتُ عنها شيخ الإسلام ــ قدّس الله روحه ــ فقال لي: هذه مسألة عظيمة كبيرة، ولم يُجِب فيها بشيء”.
وقوله (1/ 270): “قال شيخنا: ولما كان العبد في كل حال مفتقرًا إلى هذه الهداية في جميع ما يأتيه ويذره من أمور قد أتاها على غير الهداية، فهو
(المقدمة/9)
محتاج إلى التوبة منها، انتهى كلامه” والنقل من “بيان الدليل على بطلان التحليل” لشيخ الإسلام (ص 15).
* اشتراك بعض مباحثه مع كتبه الأخرى:
وهو كثير جدًّا في كتب ابن القيم، ومن أمثلته هنا: الاشتراك في مباحث حديث “كل مولود يولد على الفطرة” كما تراه في كتابنا هذا (2/ 413)، و”أحكام أهل الذمة” (2/ 893) وما بعدها.
ومنه إيراده حكاية عن شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابنا هذا (1/ 11)، وهي في “طريق الهجرتين” (185، 658) و “مدارج السالكين” (3/ 378).
ومثله ما وقع في قصة استقباح النمل للكذب بما تراه في (1/ 232) من الكتاب، والقصة بتمامها في “مفتاح دار السعادة” (2/ 690).
* النقل عنه:
وهو عزيز بحسب ما وسعه بحثي، فمنه ما جاء عند ابن حجر (852 هـ) في “فتح الباري” (3/ 349 – 350) عند شرح حديث “كل مولود يولد على الفطرة”: “وقال ابن القيم: ليس المراد بقوله: “يولد على الفطرة” أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين؛ لأن الله يقول: {قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا} [النحل: 78]، ولكن المراد أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإسلام ومحبته” الخ ما نقله بتصرف واختصار من “شفاء العليل” (2/ 407) فيما يظهر.
وأصرح منه ما أورده إبراهيم بن حسن الكوراني الشافعي (1101 هـ) في “شرح منظومة شيخه القشاشي” فيما نقله عنه السفاريني (1188 هـ) في “لوامع
(المقدمة/10)
الأنوار” (1/ 315 – 319): “قال الكوراني: وهذا الكتاب الذي ذكر فيه [يعني الجويني] آخر قوليه هو كتابه المترجم “بالنظامية” فيما وقفت على كلامه منقولًا عنه بلفظه في كتاب “شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل” للعلامة شمس الدين بن القيم في الباب السابع عشر منه، ولفظه … “.
ثم قال الكوراني: “ثم وقفنا على كتاب “شفاء العليل” لابن القيم المنقول فيه كلام إمام الحرمين في “النظامية” فأعجبه ذلك، وأمر بإلحاقه بآخر “اختصار الانتصار””.
وكلام الجويني المشار إليه في (1/ 401) من كتابنا هذا.
ثم كثر النقل عن الكتاب في القرن الرابع عشر الهجري كما هو مشاهد في مؤلفات محمود شكري الألوسي (1342 هـ)، وسليمان بن سحمان (1349 هـ)، ومحمد أنور الكشميري (1352 هـ)، ومحمد رشيد رضا (1354 هـ) وغيرهم.
* عدّه ضمن مؤلفاته عند المترجمين له:
نسبه إليه ابن حجر في “الدرر الكامنة” (3/ 402) باسم “القضاء والقدر”، ومثله الشوكاني في “البدر الطالع” (2/ 144)، وصرّح باسمه الصريح صاحب “كشف الظنون” (2/ 1051).
* التصريح بنسبته في الأصول الخطية:
جاءت هذه النسبة صريحة على غلاف النسخة العتيقة المحفوظة بجامع أبي العباس المرسي.
(المقدمة/11)
عنوان الكتاب
درج ابن قيِّم الجوزية على تسمية كثير من مؤلفاته في مقدماتها بعنوانات مسجوعة مركّبة، تنبئ عن موضوع الكتاب، وتفصح عن مضمونه، بما يقطع اجتهادات النساخ وظنون الناشرين، وذلك في غالب مصنفاته.
كذلك صنع في هذا الكتاب، حيث قال في (1/ 14) من تقدمته: “وسمّيتُه: شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل”.
وكذا جاء العنوان واضحًا على غلاف مخطوطتي جامع المرسي وتركيا.
وذكره كذلك صاحب “كشف الظنون” (2/ 1051)، والكوراني كما تقدمت الإشارة إليه.
بينما أورده ابن حجر والشوكاني في ترجمة المؤلف بعنوان موضوعه “القضاء والقدر” (1).
* * * *
_________
(1) ينظر: “ابن قيم الجوزية: حياته آثاره موارده” (266).
(المقدمة/12)
تاريخ تأليف الكتاب
لم يشر المؤلف إلى زمان تأليفه، ولم تسعفنا به الأصول الخطية، لكن ثمة علامات يُستأنس بها في ذلك.
ولعل أول إشارة يمكن أن تفيد في تاريخ تأليفه ما سطّره المؤلف في “تهذيب السنن” (3/ 205) ــ انتهى من تأليفه سنة 732 هـ ــ من عزمه على وضع مصنف في مسائل القدر، حيث قال: “وقد نظرت في أدلة إثبات القدر والرد على القدرية المجوسية فإذا هي تقارب خمسمائة دليل، وإن قدّر الله تعالى أفردتُ لها مصنفًا مستقلًّا”، فيمكن أن يكون الكتاب الذي بين أيدينا هو المصنف المفرد المشار إليه.
فيفيد هذا النص أن تأليفه لهذا الكتاب بعد سنة 732 هـ، وفيه ــ إن صح ــ دلالة على سبق اهتمامه بمسائل القضاء والقدر، وبكور نية التأليف فيها.
ومما يُستأنس به أيضًا أن “شفاء العليل” مسبوق بـ “مفتاح دار السعادة” و “أحكام أهل الملل”؛ إذ أحال المؤلف عليهما هنا كما سلف.
و “شفاء العليل” فيما يظهر ملحوق بـ “الصواعق المرسلة” و “إغاثة اللهفان” ــ وأقدم نسخه كُتِبت سنة (738 هـ) و “إغاثة اللهفان” مؤلَّف بعد “الصواعق” (1) ــ و “الفوائد”، كما تقدم بيانه.
فعلى هذه التقديرات يكون تأليف “شفاء العليل” بين الأعوام (733 – 738 هـ) ظنًّا، والعلم عند الله.
_________
(1) انظر: مقدمة تحقيق “إغاثة اللهفان” (1/ 8، 11).
(المقدمة/13)
موضوع الكتاب ومباحثه
قصد المؤلف بكتابه ــ كما هو ظاهر من عنوانه ــ جَمْع ما تفرق من مسائل القضاء والقدر، وما اتصل بها من مباحث حكمة الباري وتعليل أفعاله سبحانه، وبيان المذهب الحق في كل ذلك.
فاستهلّ كتابه بخطبة أبان فيها عن موضع الإيمان بالقضاء والقدر من الدين، وخطورة الانحراف عنه، مع إلماحة إلى نشأة الكلام في القدر، ومذاهب الناس فيه، واتساع الخُلْف بينهم، بين غالٍ في النفي وزائغٍ في الإثبات، خلا من اقتبس من مشكاة الوحيين وسلك طريق الأصحاب، ومن صلح من أسلافهم.
ليعرض بعدها إلى بواعث التأليف في الباب، والضرورة التي ألجأته إلى الخوض في هذا الميدان، في ثلاثين بابًا سرد عنواناتها تامة في هذه الخطبة.
وهذه الأبواب مختلفة في الطول والقصر، فبعضها لا يتجاوز الصفحتين كما تراه في الباب الخامس، وبعضها تربو على المائة كما في الباب الخامس عشر.
وقد خصص المؤلف الأبواب: الأول، والثاني، والرابع، والخامس، والسادس؛ في ذكر أنواع التقدير الإلهي، مُفْرِدًا كل نوع بباب مستقل، مستقصيًا ما جاء في هذا التقدير من أحاديث مرفوعة وآثار موقوفة، تارة يسوقها بإسنادها من مصادرها، وأخرى دون إسناد، مع حرصه الشديد على تتبع الألفاظ وتحريرها وإزالة التعارض بينها، وتوضيح وجه الدلالة منها، وربما تكلّم في طرقها تصحيحًا وتضعيفًا.
(المقدمة/14)
وقام بين ذلك بإفراد الباب الثالث في ذكر مرويات المحاجّة المشهورة في القدَر بين آدم وموسى عليهما السلام، وبيان اختلاف الناس في فهم الحديث وأوجه تفسيره، واستطرد في الدفاع عن صاحب “منازل السائرين” في كلام له موهِمٍ لباطل.
وفي الباب السابع ناقش المصنف أنّ سبق المقادير بالشقاوة والسعادة لا يقتضي ترك الأعمال، بل يقتضي الاجتهاد والحرص.
ودار الكلام في الباب الثامن حول تفسير قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]، وفي التاسع حول قوله سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، وما يتعلق بهما من فوائد واستنباطات.
ثم أعاد الحديث مرة أخرى في الأبواب: العاشر، والحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، في مراتب القضاء والقدر، واستقصاء ما جاء فيها من حجج نقلية ــ لم يسبق له إيرادها فيما تقدم من أبواب ــ وبراهين عقلية، وأرخى للقلم العنان في البحث والمناقشة.
ففي العاشر بسط النقاش في المرتبة الأولى: علم الرب سبحانه بالأشياء قبل كونها، والمرويات في ذلك، ولم يخل من استطراد في رد بعض شبه القدرية، والحديث عن حكمة الله سبحانه ومظاهر لطفه وفوائد وثمرات ابتلائه أحباءه.
وفي الباب الذي يليه ساق بعض ما فاته من نصوص القرآن والسنة الصحيحة الصريحة في المرتبة الثانية وهي مرتبة الكتابة.
(المقدمة/15)
وأما الباب الثاني عشر في المرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر ــ وهي مرتبة المشيئة والإرادة ــ فقد حشد فيه رحمة الله عليه ما أمكنه من الآيات والأحاديث الدالة على هذه المرتبة بأصنافها وألفاظها، ثم عقد فصلًا بحث فيه علاقة المشيئة والإرادة بمحبة الله وأوامره.
وختم تلك المراتب في الباب الثالث عشر بذكر مرتبة خلق الله سبحانه الأعمال وتكوينه وإيجاده لها، وأطال النفس في تفنيد بعض أصول الأشاعرة وغيرهم في مسائل الجبر وتأثير القدرة وفروعها، والخلق والاختراع وذيولها، وبيان هدي القرآن والسنة فيها، وإيضاح سبيل المؤمنين، وقاده المقام للغوص في أسرار سورة الفاتحة المتعلقة بهذه المسائل العقدية.
ثم استكمل في الباب الرابع عشر مباحث الهدى والضلال ومراتبهما، وهذا الباب وصفه المصنّف بقوله: “هو قلب أبواب القدر ومسائله”، وعرض فيه مراتب الهدى والضلال في القرآن، كل مرتبة منها في فصل مستقلّ أشبع فيه الحديث حولها، واستطرد طويلًا في مرتبة التقدير والهداية بذكر نماذج من هداية الله تعالى لبعض المخلوقات كالنحلة والنملة والهدهد وغيرها، ثم استطرد مرة أخرى في المرتبة الثالثة من الهداية: هداية التوفيق والإلهام في توضيح جناية التأويل الفاسد على نصوص الوحيين لدى القدرية والجبرية.
وجمع المؤلف في الباب الخامس عشر الآيات الواردة في الطبع والختم والقفل ونحوها على وجه التفصيل، ثم ذكر أوجه ضلال القدرية والجبرية في تحريف هذه الآيات، وأطال النفس في الرد عليها آية آية، وهذا من أطول أبواب الكتاب.
(المقدمة/16)
وفي الباب السادس عشر استقصى ما جاء في السنة النبوية من تفرد الرب تعالى بخلق أعمال العباد، فجمع أحاديث الباب وتكلم عليها وعلى معانيها، ثم عرض للكلام على التوبة والاستغفار، وفقر العباد إلى الجبّار.
ومع أن المؤلف ناقش طرفًا من مذهب الأشاعرة في الكسب والجبر ضمن مباحث الباب الثالث عشر عَرَضًا؛ إلا أنه أعاد وأفرد هذه المباحث ومتعلقاتها في البابين: السابع عشر والثامن عشر بمزيد عناية وتفصيل، ذكر خلاله ما وقع بين الأشاعرة من خلاف واضطراب في مسائل القدر، ونقل فيه عن كبار محققيهم، ثم ناقش مفردات الباب كلمة كلمة: فَعَل وأفعلَ، والفعل والانفعال، وبيّن ضلال الطائفتيَن: القدرية والجبرية، وختم الباب باستطراد في مسألة طلاق السكران والغضبان.
ثم ساق المصنف في البابين: التاسع عشر والعشرين مناظرة مفترضة في مهمات مسائل القدر بين جبريّ وسنّي في الباب الأول منهما، وفي الثاني بين بين قدري وسُنّي ناقش فيها أنواع التعطيل وآثاره، ومباحث التسلسل وأنواعه ولوازمه، وأعاد البحث مع القدرية والجبرية في مسائل المشيئة والإرادة والأسباب والحكمة والتعليل.
وفي الباب الحادي والعشرين عرض للعلاقة بين القدر ووقوع الشر في الكون، وأجاب عما أشكل ودقّ من أسئلة الباب، بعد أن أصّل القواعد، وشيّد أركان مذهب أهل السنة والجماعة في الحكمة والتعليل.
ولم يكتف ابن قيم الجوزية رحمه الله بما سلف في هذا المبحث ــ أعني الحكمة والتعليل ــ بل عقد بابين كاملين بعد ذلك من أجلهما، استوعب في أحدهما نصوص الوحيين في اثنين وعشرين نوعًا، كل نوع في فصل مستقل،
(المقدمة/17)
وخصص الآخر لاستيفاء شُبَه النافين، وذِكْر الأجوبة عنها في عدة فصول وعشرات الأوجه، وحسبك أنه أجاب عن الحكمة في خلق الكفر والفسوق ونحوها من الشرور في أربعين وجهًا، ضمّن أحدها ما في الصلاة من حِكَم العبودية ومنازلها، وأورد في آخرَ شيئًا من أسرار الكون وغايات خلقه في المجرات والأفلاك، وعقد فصلًا مطوّلًا في المسألة الشهيرة: فناء الجنة والنار.
وهذا الباب الثالث والعشرون يعد أطول أبواب الكتاب، وقد استغرق نحوًا من مائة وثمانين صفحة من المطبوع.
وفي الباب الرابع والعشرين ــ وهو من أوجز الأبواب ــ بحث معنى قول السلف: “من أصول الإيمان: الإيمان بالقدر خيره وشرّه، حلوه ومرّه”، وجُلّ مسائله مما تقدمت مناقشته في الباب السابق.
وقريب منه في الإيجاز الباب الذي يليه: في امتناع إطلاق القول نفيًا وإثباتًا: “إن الربّ تعالى مريد للشرّ وفاعل له”، حيث أعاد المؤلف كثيرًا مما تقدم بسطه في الكتاب، كالكلام على المحبة والإرادة وأنواعهما.
وكذلك أوجز الحديث في البابين السادس والعشرين والسابع والعشرين، فشَرَح في الأول منهما قوله – صلى الله عليه وسلم -: “اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك”، وفي الثاني قوله – صلى الله عليه وسلم -: “ماضٍ فيّ حكمك، عدلٌ فيّ قضاؤك”، وذَكَر ما تضمّنه كل منهما من قواعد وفوائد ولطائف.
أما البابان: الثامن والعشرون والتاسع والعشرون فقد عرض فيهما المصنف أحكام الرضا بالقضاء، واختلاف الناس في ذلك، وتحقيق القول فيه، وانقسام القضاء والحكم ونحوهما إلى كوني وديني، دون إسهاب.
(المقدمة/18)
ثم كانت خاتمة أبواب الكتاب الثلاثين بالحديث عن الفطرة التي فطر الله الناسَ عليها، والخلاف في المراد بها، وشرح حديث: “كل مولود يولد على الفطرة” وتتبع ألفاظه بتوسّع.
* * * *
(المقدمة/19)
منهج المؤلف في الكتاب
ثمة معالم رئيسة تشترك فيها سائر مصنفات ابن قيم الجوزية رحمه الله، وسمات متشابهة تنتظمها في عقد تأليفي واحد، لا تكاد تخطئها عين المطالع، وهذا الكتاب له منها نصيب وافر، يتجلّى في عامة أبوابه وطريقة سياقه، بناء ومحتوًى وأسلوبًا في العرض والصياغة، سنشير إلى بعضها في عجالة.
فمن تلك السمات التكوينية: تقسيمه الكتاب إلى أبواب، لكل باب مقصد مستقل وعنوان يضم مسائل من جنس واحد في عموم مباحثه، وربما دعته الحاجة إلى إبراز بعض المباحث داخل الباب بكلمة “فصل”، إما لأهمية المبحث، أو طوله، أو انفصاله عما قبله من حيث الفكرة، وليس هذا التقسيم بمطّرد.
وغالبًا ما يسوق الأجوبة على الشبهات والاعتراضات على هيئة أوجه متسلسلة الأرقام.
ومن أظهر سمات المصنف: انطلاقه في تقرير المسائل ومواطن الاستدلال من نصوص القرآن والسنة الصحيحة، فلا يكاد يخلو مبحث إلا وفيه احتجاج بآية أو حديث، وكثيرًا ما يحشد الآيات المتماثلة في موضع واحد، ويتتبع ألفاظ الرواية حرفًا حرفًا، وقد يسوق الطرق ويرفع الأسانيد، مع الكلام عليها؛ إذ شَرَط على نفسه أن لا يستدل إلا بما ثبت.
ويتصل بالأمر حرصه على تعضيد نصوص الوحيين بفهم السلف الصالح عليهم رحمة الله لهذه النصوص، وتعد كتبه مظنة لأقوال الصحابة في المسائل التي بسط القولَ في بحثها.
(المقدمة/20)
ومن سمات منهجه في هذا الكتاب ونظائره: استناده في حكاية أقوال الفرق وأرباب الطوائف على أصولهم المعتمدة مباشرة، قطعًا لدعوى التحريف والتصرّف في نصوص المخالفين، وكذلك الشأن في الإفادة من كتب الكلام دون واسطة في مواضع الحجاج واللجاج، وسيأتي تفصيل بعضه عند الحديث عن موارد الكتاب.
ومما يحسن ذكره هنا مقدرة المؤلف على توظيف الخلاف داخل المذهب الواحد، وإظهار اضطراب أصحابه، وعجز أتباعه؛ ليبين عواره وانحرافه، ويضرب حُجَجَهم بحُجَجِهم، ويبطل كلام المتكلمين بكلام المتكلمين.
ومن تلك المعالم البارزة: مراعاته لجنس الدليل في مقام الاحتجاج، ففي تأصيل القواعد يصدر عن الوحيين، وفي مواطن الجدال يقارع الحجة العقلية بمثلها، ويدفع الشبهة اللفظية بالمأثور من كلام الفصحاء وقريض الشعراء، وهكذا دواليك.
أما الإفادة من كتب شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية والاقتباس منها والاتّكاء عليها في المهمات والمعضلات العلمية فكثير، كما هو معهود عنه في سائر كتبه.
وربما استعان المؤلف في تقرير بعض المباحث والغوص في أعماقها والكشف عن مكنوناتها بأسلوب المناظرة، وهي طريق سلكها المصنف في بعض كتبه، فمنه ما في “أعلام الموقعين” (3/ 470) حيث عقد مجلس مناظرة بين مقلِّد وصاحبِ حُجة، وفي “روضة المحبين” (167) أفرد بابًا في مناظرة بين القلب والعين ولوم كل منهما صاحبه والحكم بينهما، أما في
(المقدمة/21)
كتابنا هذا فقد أفرد بابين للمناظرة، أحدهما بين جَبْري وسُنّي، والآخر بين قَدَري وسُنّي.
ثم إن المصنف على ما جرت به عادته قد يستطرد في فروع بعض المباحث وذيولها لأغراض مختلفة، كزيادة في التقرير، أو توسّع في التمثيل، ونحو ذلك.
وقريب من هذه السمة في صناعة التأليف لدى ابن قيم الجوزية رحمة الله عليه حرصه الشديد على الإحاطة بفروع المسائل، وعنايته البالغة باستيعاب النصوص والأقوال، وإطالة النفس في اشتقاق الأوجه، وتشقيق المجملات، وتفتيق الأجوبة، وتفتيت الشبهات، ولذا وقع التكرار في معالجة بعض مسائل الكتاب.
وهذه السمة الموسوعية قد ألمح إليها ابن حجر في “الدرر الكامنة” (3/ 402) بقوله: “وكل تصانيفه مرغوب فيها بين الطوائف، وهو طويل النفس فيها، يتعانى الإيضاح جهده فيسهب جدًّا”.
ولأن مقام الربوية عظيم، والمتجرّئون في الكلام عليه كثير، والمتقحّمون في مسائله قد يغفلون عمّن يتحدثون، فربما استطالوا في التعبير، فافترضوا عليه الواجبات واللوازم والممتنعات، وأساؤوا الأدب مع الجبار القدير جل جلاله= من هنا ظهرت عناية المصنف رحمه الله في عدة مواضع بالتذكير بعظمة صاحب المقام، واستحضار قدسيته وجلاله، والالتفات إلى تعظيمه في النفوس، تبارك اسمه، وتقدّست أسماؤه.
* * * *
(المقدمة/22)
أهمية الكتاب
يستمد هذا الكتاب أهميته من جملة أمور، منها:
ما يتعلق بخطورة موضوعه: القضاء والقدر، وموضعه من أركان الدين، واتصال مباحثه بالحديث عن أفعال الرب جل شأنه، فضلًا عما أدخله عليه المتكلمون والمشّاؤون من دقائق علم المنطق والكلام، ومحارات العقول، مع شدة الحاجة إلى بيان الحق فيها، وتزييف الباطل، وهو ما عبّر عنه المؤلف في خطبة الكتاب: “ولما كانت معرفةُ الصواب في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل واقعةً في مرتبة الحاجة، بل في مرتبة الضرورة؛ اجتهدتُ في جمع هذا الكتاب وتهذيبه، وتحريره وتقريبه، فجاء فَرْدًا في معناه، بديعًا في مَغْزاه”.
فإذا أضيف إلى ذلك قلة مصنفات أهل السنة والجماعة المفردة الجائية على هذا الطراز، الجامع بين الرواية والدراية، الحاوي للمنقول والمعقول= علت رتبة “الشفاء”، وتجلّت منزلته بين أضرابه، كـ “القدر” لابن وهب (197 هـ)، وأبي داود (275 هـ)، والفريابي (310 هـ)، والبيهقي (458 هـ)، وغيرها؛ إذ عامتها من كتب الرواية (1).
وهو مع هذه الخصّيصة من أبسط ما دوّن في بابه، وأغزره مادة، وأعزه فائدة، وأكثره تنوّعًا في أساليب العرض والمعالجة والرد على الشبهات، بما لا يكاد يوجد إلا فيه. وقد قصد المؤلف الاستيعاب ما وسعه ذلك، كما
_________
(1) ينظر في تواليف الباب المفردة: “معجم الموضوعات المطروقة في التأليف الإسلامي” للحبشي (1566 – 1568).
(المقدمة/23)
سلف بيانه عند الحديث عن منهج الكتاب.
أشار إلى ذلك حاجي خليفة في “كشف الظنون” (2/ 1051) بقوله: “بسط الكلام فيه كل البسط، وأطال كما هو دأبه”.
وقال محمد رشيد رضا “تفسير المنار” (8/ 54) في أثناء مناقشته لمذاهب الناس في القدر: “وأكبر أنصار مذهب السلف في القرون الوسطى وأقواهم حجة شيخا الإسلام أحمد تقي الدين ابن تيمية وشمس الدين محمد ابن قيِّم الجوزية، ومن أوسع كتب الأخير في هذا الموضوع الذي يخوض في أعضل مسائله كتاب “مفتاح دار السعادة” وكتاب “شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل””.
وهذا الأمر أكّده المصنف عند إحالته للكتاب في “الفوائد” (36) بوصفه: “وقد استوفينا الكلام في هذا في كتابنا الكبير في القضاء والقدر”.
وحُقّ لصاحب هذه الموسوعة العقدية أن يفخر بها في ديباجة الكتاب: “فيا أيُّها المتأمل له، الواقف عليه، لك غُنمه وعلى مؤلِّفه غُرمه، ولك فائدته وعليه عائدته، فلا تعجل بإنكار ما لم يتقدم لك أسباب معرفته، ولا يحملنّك شَنَآن مؤلفه وأصحابه على أن تُحرم ما فيه من الفوائد التي لعلك لا تظفر بها في كتاب، ولعل أكثر من تعظّمه ماتوا بحسرتها، ولم يصلوا إلى معرفتها، والله يقسم فضله بين خلقه بعلمه وحكمته، وهو العليم الحكيم، والفضل بيد الله يؤتيه مَن يشاء، والله ذو الفضل العظيم”.
* * *
(المقدمة/24)
موارد الكتاب
من العسير في كتاب لمصنف في القرن الثامن تعيين جميع موارده، وما سيُذكر هاهنا لا يمثل جميع موارد المؤلف في كتابه.
والسمة الظاهرة في سائر مصنفات ابن قيم الجوزية وفي كتابنا هي كثرة الموارد وتنوعها في أصناف العلوم، وعلوّها وأصالتها في أبوابها.
ثم إنه رحمة الله عليه تارة ينقل مباشرة من المصدر، وأخرى ينقل بواسطة، يظهر هذا عند مقارنة الاقتباسات بمصادرها الأصيلة والوسيطة. وربما يسمّي الكتاب عند النقل، أو يكتفي باسم مؤلفه، أو يقتبس دون عزو، وقد يكتفي حينًا بالعزو في موضع واحد عند تعدده.
وفيما يأتي عرض مجمل لأبرز تلك الموارد بحسب مجيئها في كل فن، وتمامه في فهرست المصنفات والأعلام بملاحق الكتاب:
تقدمت الإشارة إلى اهتمام المؤلف بحشد الآيات القرآنية في مواطن الاستدلال وتأصيل القواعد، وكثيرًا ما يتبع تلك الآيات باقتباسات من تفسير الصحابة فمن بعدهم ومن بيان أهل اللسان؛ تعضيدًا لاستدلاله، ومورده الرئيس في علم التفسير هو كتاب “التفسير البسيط” لأبي الحسن الواحدي، ومع أن المصنف لم يصرّح باسم مؤلفه إلا مرتين فقط إلا أن مقابلة النقول المقتبسة وحكاية الأقوال، بل ومتابعته للواحدي في سياق الشواهد بحروفها تؤكد الأمر دون شك.
ولعل النقل من تفاسير مقاتل ومجاهد و “معاني القرآن” للفراء وابن
(المقدمة/25)
قتيبة في “تفسير الغريب القرآن” و”تهذيب اللغة” للأزهري ومن أبي علي الفارسي؛ كلها بواسطة الواحدي.
ويعد كتابا “معاني القرآن” للزجاج و “تفسير الطبري” من مصادره الرئيسة التي أكثر عنها مصرّحًا باسمي مؤلفيها.
ومن موارد التفسير التي ذكر أصحابها عند الاقتباس: “التحصيل لفوائد كتاب التفصيل” للمهدوي، و “الكشف والبيان” للثعلبي، و “معالم التنزيل” للبغوي، و “الكشاف” للزمخشري، و “زاد المسير” لابن الجوزي.
كما أن المصنف اقتبس كثيرًا في بيان المعاني وشرح الألفاظ من “الصحاح” للجوهري، تارة يسمي الكتاب وأخرى ينسبه إلى قائله.
وفي باب الرواية وسَوْق المرويات بأسانيدها وألفاظها عند الحاجة اعتمد المؤلف على أمّات كتب السنة المشهورة “مسند أحمد” و “إسحاق” والسنن الأربعة ــ وخاصة “الكبرى” للنسائي ــ وغيرها من دواوين الإسلام.
غير أنه في الأبواب الخمسة الأُوَل استند كثيرًا على كتابي “القدر” لابن وهب و “القدر” لأبي داود السجستاني ــ وهذا الأخير لم يصل إلينا ــ، و “القدر” و “الأسماء والصفات” كلاهما للبيهقي، وساق بعض المرويات بأسانيدها من كتابٍ لمحمد بن نصر المروزي، يظهر أنه كتاب خاص في القَدَر لم يصل إلينا، ونقل عددًا من الآثار من “تفسير ابن أبي حاتم” مصرّحًا باسمه.
وفي شروح السنة ومعاني الحديث استند على كتابي “الاستذكار” و”التمهيد” لابن عبد البر، مصدّرًا للنقل بقوله: “قال أبو عمر”.
(المقدمة/26)
على أنه ربما حكى أقوال أبي عمر وتحريراته بواسطة “درء التعارض”، كما صنع ذلك في عدة مواضع أثناء بحثه لحديث “كل مولود يولد على الفطرة” في الباب الثلاثين (2/ 404) وما بعدها، وقد نبهت عليها في محالها.
وحين استطرد في بيان مظاهر هداية الحيوانات (1/ 222) اقتبس الكثير من “الحيوان” للجاحظ مصرّحًا باسمه في موضعين، ويظهر أن أكثر مباحث الباب مقتبس منه.
ومثل ذلك وقع عند ذكر ما في الكون وأجرامه من أسرار وغايات دالة على وجود الصانع، فقد أفاد فيما يظهر من “الدلائل والاعتبار” المنسوب للجاحظ، بيد أنه لم يسمّه.
أما موارده التي صرّح بها في علم الكلام ــ ومذهب الأشاعرة خصوصًا ــ ففي مقدمتها مؤلفات الرازي “المباحث المشرقية” و “الأربعين”، إضافة إلى “مقالات الإسلاميين” للأشعري، وتجريدها لابن فورك، و “النظامية” للجويني، و “شرح الإرشاد” للأنصاري وغيرها.
وهنالك عدة مواضع في تعريف “الكسب” وأقوال الناس فيه لم يفصح فيها عن مورده، ويغلب على الظن أنها من “نهاية الإقدام” للشهرستاني، و”المطالب العالية” للرازي.
وليس بغريب على ابن قيم الجوزية أن يكون معتمده في مواطن عديدة على مصنفات شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليهما إفادة واقتباسًا، “وهو الذي هذب كتبه ونشر علمه” (1).
_________
(1) “الدرر الكامنة” (3/ 401).
(المقدمة/27)
وأكثر كتب شيخه التي ظهر لي اعتماده عليها هنا “درء تعارض العقل والنقل”، كما تراه في شرح حديث “فحج آدم موسى”، وحديث “كل مولود يولد على الفطرة” وغيرها، ونقل مباحث من رسالة “الرد على من قال بفناء الجنة والنار”، وفي بعض هذه المواضع جاء التصريح بنسبتها إلى شيخه بقوله: “قال شيخنا” ونحو ذلك.
وتبقى مواضع استفادة أخرى مبثوثة في ثنايا الكتاب لم يعزها المؤلف يظهر أنها مستفادة من كتب شيخ الإسلام، كـ “منهاج السنة” في (2/ 70)، وفي (2/ 33) من “فصل في قوله تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} ” ضمن “مجموع الفتاوى” (14/ 246 – 281)، وغيرها مما أمكن الوقوف عليه والتنبيه في حواشي الكتاب، والله أعلم.
* * *
(المقدمة/28)
وصف مخطوطات الكتاب
للكتاب خمس نسخ خطية في مكتبات العالم بحسب ما بلغه علمنا، يسّر الله تعالى الحصول على صور ثلاث منها، وهي الثلاث الأُول الآتي وصفها، وبقيت نسختان لم نتمكن من الحصول عليهما؛ لفقدان أصولهما من المكتبات التي تحتفظ بهما، وسنصفهما إجمالًا بالاعتماد على مَن وقف عليهما.
النسخة الأولى: نسخة جامع أبي العباس المرسي “م”
وهي محفوظة في مكتبة الجامع بالإسكندرية (المسمّاة بالمكتبة المركزية للمخطوطات الإسلامية بوزارة الأوقاف المصرية) برقم (عام: 3614 – خاص: 317)، عدد أوراقها (261) (1)، ومسطرتها (23) سطرًا.
والنسخة مخرومة الآخر، سقط منها نحو (80) ورقة من المطبوع، تمثّل جُلّ الباب الثلاثين مع الخاتمة، كما فُقِدت من مصوّرتها الملوّنة التي بين يدي الأوراق (79، 117) بترقيم المفهرس، وبها عدة بياضات يسيرة في أماكن متفرقة.
يطالعنا على الغلاف اسم الكتاب واسم مؤلفه بالمداد الأحمر، وتحته وقفية غير مقروءة بالمداد الأسود، ودون ذلك بأسفل الصفحة ختم وزارة الأوقاف المصرية.
_________
(1) وقع في بطاقة فهرسة الكتاب: (250) ورقة، وهو خطأ، منشؤه حدوث خلل في العدّ ابتداء من الورقة (98) حتى آخر الكتاب.
(المقدمة/29)
استخدم الناسخ المداد الأسود في متن الكتاب، والأحمر في عناوين الأبواب والفصول ونحوها، خطها معتاد واضح في عامته، يغلب عليها الإهمال، التزم ناسخها تدوين التعقيبة، وتظهر فيها علامات المقابلة والتصحيح، ومع ذلك لم تسلم من الوهم والسقط.
وقد عاثت الرطوبة والأرضة فيها فسادًا، فأحدثت خرومًا كثيرة متفرقة متفاوتة المقدار، وربما ذهبت بثلث الورقة، كما تراه في الألواح (67، 68، 95 – 99) (1).
ولا نعلم عن تاريخ نسخها ولا اسم ناسخها شيئًا؛ لخرم آخرها كما تقدم، وإن كان مظهرها وخطّها يشير إلى أنها نسخة قديمة قريبة العهد من مؤلف الكتاب.
كما توجد عبارات متفرقة بخط الناسخ يظهر من خلالها أنها منقولة من أصل المصنف، أو من نسخة منقولة منه، كقوله في طرة (221/ب): “في أصل المصنف بياض بعد: لا تثاب ولا تعاقب”، وفي (241/أ): “في الأصل بياض”.
وفي الحواشي تعليقات نادرة بخطوط مختلفة بعضها استدراكات وتعقبات ولطائف أثبتُّ النافع منها، وبعضها شتائم وردود من بعض مطالعي الكتاب من الأشاعرة، ومناقشات للمصنف في مسائل الكسب أغفلتها كاملة،
_________
(1) يشار إلى أن مجاورة هذه المكتبة للبحر جعل مخطوطاتها عرضة للتلف بسبب الرطوبة العالية بحسب ما جاء في “فهرس مخطوطات أبي العباس المرسي” (1/ 16)، ولم أعثر على مخطوطة كتابنا في المجلدين المطبوعين من الفهارس، والله أعلم.
(المقدمة/30)
وتقع في الأوراق (5/ب، 105 – 108، 248/أ)، وفي الورقة (247) اعتراض ومنازعة في مسألة الإرادة بأبيات في عقيدة الأشاعرة.
وعلى وجه الإجمال تعتبر هذه النسخة أجود نسخ الكتاب التي وقفت عليها، لولا وجود النقص في آخرها، ويغلب على الظن أنها أقدمها، والعلم عند الله.
النسخة الثانية: نسخة دار الكتب “د”
وهي مسجلة في دار الكتب المصرية برقم عام (452234) وخاص (323 علم كلام)، وتقع في (226) ورقة، في كل صفحة (23 – 25) سطرًا.
مخرومة الأول بنحو (4) صفحات من المطبوع، ذهب الخرم بجزء من مقدمة الكتاب، وثمة خروم أخرى في صفحات متفرقة ذهبت بأجزاء من الكتاب كما في يمين الصفحة الأولى، وآخر ورقتين، وقد خُرِم حَرْد المتن في الورقة الأخيرة.
تبتدئ النسخة بقول المصنف: “والإيمان به قُطْب رحا التوحيد … “، وفي أعلا هذه الصفحة ختمان مطموسان، وفي الطرة اليمنى قيد وقفية ذاهب بعضه، ونص ما بقي منه: “وقف هذا الكتاب فقير عفو الله ومغفرته أحمد الفوي على طلبة العلم الشريف، ينتفعون بذلك الانتفاع الشرعي، على الوجه الشرعي، وجعل مقره {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 181]، حُرِّر في أواسط ….. (1) ست وأربعين وألف”، وتحته ختم مطموس، بجانبه اسم لعله لصاحب الوقف
_________
(1) كلمة غير واضحة.
(المقدمة/31)
المذكور على هيئة تشبه الطغراء، وبحاشية الصفحة السفلى بيانات فهرست الكتاب، كما يوجد ختم غير واضح أيضًا في آخر ورقة منها.
النسخة مكتوبة بخط نسخي معتاد بمداد أسود، نشط الناسخ في إعجام أولها ثم بدأ يهمل كثيرًا حتى بات عزيزًا في نصفها الأخير، ويظهر أنه استعمل الحمرة في تدوين العناوين، لذا لم تظهر أجزاء كثيرة منها في مصورة النسخة التي بين يدي، وهي خلو من ترقيم الأوراق، وفي طرر النسخة علامات المقابلة والتصحيح والتعقيبة، وتوجد ردود على المؤلف بقلمين مختلفين في الورقة (20/أ) وفي (138/أ).
وهي نسخة صحيحة في مجملها، ولا تخلو مما وقع في نسخة جامع المرسي السابقة من أوهام وسقط، وأما البياضات فتتفق فيها مع نسخة الجامع، وتزيد عليها في موضع واحد.
لم نعرف الناسخ ولا تاريخ النسخ للخرم الذاهب بحَرْد المتن، وهي جزمًا منسوخة قبل سنة الوقفية المذكورة آنفًا (1046 هـ)، والله أعلم.
وعند النظر في الفروق الواقعة بين هذه النسخة ونسخة جامع المرسي والمقارنة بينها يظهر جليًّا الاختلاف بين النسختين؛ مما ينفي احتمال أن تكون إحداهما منسوخة من الأخرى، أو أن يكون أصلهما واحدًا، والله أعلم.
النسخة الثالثة: نسخة الجامعة “ج”
محفوظة بالمكتبة المركزية للمخطوطات بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض برقم (2082)، وتقع في (170) ورقة.
وهي نسخة بها نقص كبير، مخرومة الأول والوسط والآخر، سقط من أولها خطبة الكتاب وعامة الباب الأول، ثم سقط منها جل الباب الثاني إلى
(المقدمة/32)
قبيل الباب الثاني عشر، وعاد السقط في آخرها من نهاية الباب الحادي والعشرين حتى نهاية الكتاب، فما بقي من أبوابها الكاملة (10)، تمثل ثلث الكتاب فقط، وبها آثار بلل يسير.
بها عدة بياضات في مواضع متفرقة، كما في ورقة (168)، وعلّق في إحداها (70/ب): “هنا بياض في المنقول عنه”.
مكتوبة بخط نسخ معتاد، من خطوط القرن الثاني عشر تقديرًا، مقابلة مصححة، استعمل الناسخ الحمرة في عناوين الأبواب والفصول والأوجه ونحوها.
بقي أن يقال: إن هذه النسخة تتفق مع نسختي “م” و “د” في بعض المواضع وربما وافقت إحداهما فقط، والأهم أنها انفردت بالصواب في عدة مواطن مشكلة.
النسخة الرابعة: نسخة تركيا “ت” (1)
_________
(1) نسخة يوسف آغا هذه بذلنا جهودًا مضنية في طلب تصويرها، أولًا من المكتبة نفسها في تركيا، فذهب إليهم في مقرّ المكتبة غير واحد منهم الصديق أبو الفضل القونوي فأفادت القيّمة على المكتبة بأنها غير موجودة، وسُرِق أصلها مع مخطوطات أخرى، وذهب إليهم مرة أخرى غير واحد ممن سعى معنا في محاولة جلبها والنتيجة واحدة!
ثم حاولنا تصويرها ممن صوّرها من مصدرها قبل أن تسرق (قبل سنة 1420 هـ) ومنهم محققي الكتاب في رسالتين علميتين ــ طبعت مؤخرًا عن دار الصميعي ــ فوعد أحدهما خيرًا، ولم نحصل على شيء حتى كتابة هذه الأسطر، وقد اجتهد معنا في التواصل معهما الشيخ عبد الرحمن بن صالح السديس جزاه الله خيرًا. ثم طلبناها من محقق ط. العبيكان الأخ الشيخ عمر الحفيان (إذ كان صورها قبل أن تسرق) سعى في ذلك الصديقُ الشيخ عبد العزيز بن فيصل الراجحي، فوعده خيرًا، لكن لم تمكّنه الظروف من تصويرها!
وقد أعلنّا مرارًا في وسائل مختلفة عن حاجتنا لهذه النسخة بمَنٍّ أو بثَمَن، فلم نفلح في الحصول على صورة منها. وما زلنا على أمل العثور على مصوّرتها. وقد كتبنا هذا التفصيل ليراه مَن عساه يهتمّ لأمر هذه النسخة فيسعى كما سعينا، فينال أجر الدلالة عليها، ويبلّ رحم العلم ببلالها. (علي العمران).
(المقدمة/33)
من مقتنيات مكتبة جامع يوسف آغا بقونية برقم (5440)، في (321) ورقة، في كل صفحة (23) سطراً، بخط نسخ واضح جميل، وهي النسخة الوحيدة الكاملة من الكتاب فيما نعلم.
كتبت فواصل المقدمة بالمداد الأحمر وكذا عناوين الأبواب ونحوها، ويظهر أنها نسخة منقولة من أصل المؤلف ومقابلة عليها، ولم تخل حواشيها من تصحيحات وتعليقات.
قلت: ويغلب على الظن أن هذه النسخة منقولة من نسخة جامع المرسي أو يشتركان في أصل واحد؛ لما بينهما من الاتفاق في غالب المواضع عند اختلاف نسخ الكتاب الأخرى، والله أعلم.
النسخة الخامسة: نسخة بغداد (1)
كان مستقر هذه النسخة في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد برقم (7155)،
_________
(1) انظر: “فهرس المخطوطات العربية في مكتبة الأوقاف العامة في بغداد” (2/ 441)، ويظهر أن من فهرس المخطوط صحّف عنوانه إلى “شفاء الغليل … “، واستدرك صانع الفهرس الصواب بين قوسين.
وقد حاولنا الحصول على صورة من هذه النسخة من بغداد بواسطة الأستاذ محمد كمال عبيد جزاه الله خيرًا، فأفاد القائمون على المكتبة بأنها فُقِدت مع مجموعة من الأصول، والله المستعان.
(المقدمة/34)
في (210) ورقة، في كل صفحة (19) سطرًا، وهي مخرومة الأول والوسط والآخر، وهي من أوقاف المدرسة المرجانية ببغداد.
كاتب هذه النسخة هو العلامة خير الدين نعمان بن محمود الآلوسي (1317 هـ)، كما نص على ذلك في الصفحة الأولى، ولم يذكر في هذه النسخة الأصل الذي نقلت عنه ولا تأريخ نسخها.
* * *
(المقدمة/35)
طبعات الكتاب
أولى طبعات “شفاء العليل” كانت قبل أزيد من قرن، وهي تلك التي اعتنى بها السيد محمد بدر الدين أبو فراس النعساني الحلبي (1) سنة (1323 هـ) بالمطبعة الحسينية على نفقة محمد أمين الخانجي وشركائه، في مجلد واحد.
أشار المصحح في آخر الكتاب (307) إلى الأصول الخطية التي اعتمد عليها في عمله، بقوله: “تم ولله الحمد طبع كتاب “شفاء العليل” … وذلك بعد عناء تصحيح النصف الأول منه على نسخة وصلتنا من صاحب الفضيلة علامة العراق على الإطلاق آلوسي زاده السيد محمود شكري أفندي حفظه الله، مع مقابلة ذلك على النسخة المحفوظة بدار الكتب الخديوية بمصر، ومن ثم إلى آخر الكتاب على نسخة دار الكتب الخديوية فقط”.
وهذان الأصلان تقدم وصفهما قريبًا، وبيان ما فيهما من خروم في أول الكتاب وآخره، ومن هنا وقع النقص في هذه الطبعة.
كما وقع أيضًا خلط في تعداد أبواب الكتاب ابتداء من الباب الثاني والعشرين (190)، إذ سقطت جملة بنهاية الباب الحادي والعشرين تسببت في اعتقاد سقوط الباب الثاني والعشرين، وهي قول المصنف: “وهذا الباب يتصل بـ الباب الثاني والعشرين في إثبات حكمة الربِّ تعالى في خلقه وأمره .. ما دلَّ عليه القرآن والسنة”، وموضعه في هذه الطبعة: “فصل الأصل
_________
(1) صاحب كتاب “التعليم والإرشاد” (ت 1362 هـ) ترجمته في “الأعلام” للزركلي (7/ 102).
(المقدمة/36)
الخامس”!
ومع أن المعتني بالكتاب رحمة الله عليه قد بذل جهدًا كبيرًا في إخراجه أول مرة بما أتيح لديه من أصول ومصادر في ذلك الزمان غير أنه وقعت بالنص عشرات الأخطاء والتصحيفات والزيادات بقصد إتمام السياق في كثير من الصفحات.
ولمّا كانت هذه الطبعة هي أصل أكثر الطبعات التي جاءت بعدها تابعتها أيضًا في أكثر ما وقع فيها من هنات، وربما زاد كل ناشر عليها مثلها.
ومن أهم تلك الطبعات: طبعة دار التراث بعناية الحساني حسن عبد الله، والذي حاول تصويب المتن ما أمكنه، ونبّه في آخر الكتاب (605) إلى وجود الخلل المشار إليه في الأبواب.
توالت بعد ذلك عدة طبعات تجارية، يجمعها الاعتماد على الطبعة الأولى، وعدم الرجوع إلى شيء من نسخه الخطية.
ثم صدرت طبعتان علميتان جيدتان إجمالًا:
إحداهما: سنة (1420 هـ) بتحقيق عمر بن سليمان الحفيان، عن مكتبة العبيكان، في مجلدين، اعتمد على النسخة التركية ونسخة جامع المرسي ونشرة النعساني.
وتمتاز هذه الطبعة بأنها الطبعة الكاملة للكتاب، وقد بذل محققها جهدًا مشكورًا في تصحيح النص، وتخريج الأحاديث المرفوعة. غير أنها خلت من عزو الآثار وتوثيق الأقوال والنصوص إلا اليسير، ولم تسلم من خطأ وتحريف وتصرّف في المتن بما يخالف الأصول الخطية، كما أنها لم تذيَّل
(المقدمة/37)
بفهارس لا لفظية ولا علمية.
والأخرى: سنة (1427 هـ) بتحقيق أحمد بن صالح الصمعاني وعلي بن محمد العجلان، عن دار الصميعي، في ثلاثة مجلدات، وأصلها رسالتان علميتان للمحققَيْن، نوقشت الأولى سنة (1414 هـ) والثانية سنة (1420 هـ)، طُبِعَتا بكامل ما فيهما من الحواشي الأكاديمية.
وتمتاز هذه الطبعة باعتمادها على ثلاث نسخ خطية: النسخة التركية ونسخة دار الكتب المصرية ــ وكلتا النسختين تشتمل على خاتمة ــ والنسخة العراقية، إضافة إلى اشتمالها على دراسة علمية للكتاب، وفهارس متنوعة.
ويؤخذ عليها كثرة الإقحامات في المتن بزيادة ألفاظ بين [] من مصادر أخرى لغير ضرورة، ووقوع جملة من التصحيفات والتحريفات والأخطاء.
ومن الغريب وقوع نقص في آخر هذه الطبعة بمقدار (6) صفحات من طبعتنا هذه، وهي من الوجه (17) في الباب الثلاثين إلى آخر الكتاب مع خاتمة المؤلف، وهو الموضع عينه الذي تنتهي فيه طبعة النعساني.
***
ولـ “شفاء العليل” مختصر في مجلد واحد بمقدار الثلث، اختصره خالد عبد الرحمن العك، وصدر عن دار المعرفة، سنة 1996 م.
ورسالة مقتطفة من الكتاب بعنوان: “مقادير الخلائق”، استلها سيد بن إبراهيم، وصدرت عن دار الحديث بالقاهرة، سنة 1414 هـ.
* * *
(المقدمة/38)
منهج التحقيق
اعتمدت في تحقيق الكتاب على ما توفّر لدي من الأصول الخطية التي تقدم وصفها: نسخة جامع المرسي “م”، نسخة دار الكتب “م”، نسخة جامعة الإمام “ج”، وهذه الأخيرة قابلت عليها الكثير من المواضع، والمشكلة منها على وجه الخصوص، واستعنت على إتمام بعض الخروم في أول الكتاب وآخره وكذا بعض المواضع المشكلة بقراءة محققي طبعتَي الصميعي والعبيكان لاعتمادهم على النسخة التركية “ت” الكاملة من الكتاب، وربما أشرت لقراءة الحساني في مواضع يسيرة برمز “ط”، خاصة إذا تابعه عليها من جاء بعده من الناشرين.
وأثبتّ أهم الفروق بين هذه النسخ، وخاصة ما كان منها مؤثرًا في المعنى، وأغفلت التنبيه على أوهام النساخ وتحريفاتهم البيّنة إلا اليسير عند الحاجة، ونبّهت على السقط الطويل كجملة ونحوها.
ثم قمت بخدمة النص بما يتطلبه ذلك من توزيع النص على فقرات، وضبط للمشكل من المصطلحات والأعلام ونحوها، وعزو للآيات، التي حافظت في رسمها على قراءة أبي عمرو البصري؛ قراءة أهل الشام في زمن المؤلف (1)، وتخريج موجز للأحاديث والآثار، وتوثيق ما استطعت من الأقوال والأشعار ونحوها من مصادرها الأصيلة، وربما مسّت الحاجة إلى
_________
(1) قال ابن الجزري (833 هـ) في “غاية النهاية” (1/ 292): “القراءة التي عليها الناس اليوم بالشام والحجاز واليمن ومصر هي قراءة أبي عمرو … ولقد كانت الشام تقرأ بحرف ابن عامر إلى حدود الخمس مئة فتركوا ذلك”.
(المقدمة/39)
التعريف بعلم أو بيان معنى أو إيضاح مبهم ونحوه.
متوخّيًا في جميع ذلك ما يحقق المقصود بأقصر عبارة، وأوجز إشارة، دون إثقال للحواشي بتتبع الطرق والروايات وصنوف العلل وتعداد للمصادر وتعريف بالأعلام والكتب.
هذا، ولمّا كان الغرض من التحقيق هو تقديم النص التراثي للقارئ أقرب ما يكون إلى ما تركه مؤلفه؛ فإني آثرت الحفاظ على ما اتفقت عليه الأصول الخطية وإثباته في المتن، حتى لو كان وهمًا أو خطأً أو تحريفًا، بشرط وجود قرينة ترجّح أن هذا الخلل من قلم المؤلف لا من وهم الناسخ أو تحريفه، والتزمت التنبيه عليها في الحواشي وبيان وجه الصواب منها ما وسعني ذلك، وتلك القرائن تختلف باختلاف المقام والتقدير، ومنها على سبيل المثال:
أن يكون الوهم في نسبة القول إلى غير قائله، كما وقع في (1/ 336): “قال لبيد … “، ثم أنشد المصنف بيتًا مشهورًا لامرئ القيس، فلا يُتصوّر في مثله أن يتواطأ النسّاخ على الوهم عينه، أو يخلطون بين رسم “لبيد” و “امرئ القيس”، ليس هذا فحسب، بل عند الكشف عن مورد المؤلف هاهنا تبيّن أنه متابع للواحدي في هذه النسبة.
وقريب منه صنيعه في (1/ 333) حيث قال متابعة للواحدي أيضًا: “قال أبو عبيدة: يقال: ركست الشيء … “، وهو تحريف محض، صوابه: أبو عبيد، وهو في “غريب الحديث” له.
ومن أظهر القرائن فيما نحن بصدده أن يكون الخطأ أو التحريف في رجال الأسانيد بإبدال أو زيادة أو سقط؛ فإن البصير بكتب الرواية يدرك ما في
(المقدمة/40)
الباب من أنواع الاحتمالات التي يصعب معها الجزم بتخطئة الناقلين عنها، ويزيده تأكيدًا هنا وقوع عين الوهم في مصنفات المؤلف الأخرى.
ويكفي ما جاء في (1/ 33) حين نقل ابن القيم رواية بإسنادها من “مسند إسحاق”: “أخبرنا بقية … عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن أبي قتادة”، وهو في أكثر المصادر: “عبد الرحمن بن قتادة”، غير أن بقية كان يضطرب في اسمه على الوجهين، يضاف إلى ذلك أن المؤلف متابع فيه لمصدره، كما سيأتي بيانه في موضعه.
ومما تكرر في الكتاب وغيره من كتب التراث أن يختصر المؤلف لفظ الحديث فيسقط بعض ألفاظه قصدًا في عدة مواضع، أو يسوقه بالمعنى، أو ينقل اللفظ بواسطة، فهذه قرينة أخرى شاهدة على ما نحن فيه، وهي غنية عن التمثيل لظهورها.
ومنه أيضًا أن يكون المثبت من التراكيب اللغوية غير الفصيحة التي يكثر استعمالها في عصر المؤلف وما بعده، كما يقع كثيرًا في الأعداد وتمييزها، والفاء في جواب الشرط وغير ذلك.
وعلى كل حال، فالمقصود هنا التنبيه بأمثلة تدل على المراد، سيأتي التنبيه على بعضها في محالّها، وقد كنت في غنى عن الإشارة إليها هنا لولا ما وقع في طبعات الكتاب القديمة والحديثة من عشرات الإصلاحات والتصرفات والزيادات في نص المؤلف داخل المتن، مخالفة للأصول الخطية، دون التفات للقرائن، أو انتفاع بالموارد.
وبعد؛ فقد بذلت جهدي في إخراج نص الكتاب وخدمته بما يليق به حتى يكون أقرب ما يكون لما تركه عليه مؤلفه، بحسب ما بلغته طاقتي
(المقدمة/41)
المحدودة وعلمي القاصر، والمأمول في قارئه أن يكون باذلًا للعلم ناصحًا، فلعلك تصلنا بما وجدت من خطأ أو ترشد إلى صواب؛ فإن العلم رحم بين أهله.
غفر الله لابن قيم الجوزية ولمحققه ولقارئه، وشملنا بواسع رحمته، إنه جواد كريم.
والحمد لله أولًا وآخرًا.
* * * *
(المقدمة/42)
نماذج من النسخ الخطية
(المقدمة/43)
صفحة العنوان من نسخة جامع أبي العباس المرسي (م)
(المقدمة/45)
الصفحة الأولى من نسخة جامع أبي العباس المرسي (م)
(المقدمة/46)
الصفحة الأخيرة من نسخة جامع أبي العباس المرسي (م)
(المقدمة/47)
الصفحة الأولى من نسخة دار الكتب (د)
(المقدمة/48)
الصفحة الأخيرة من نسخة دار الكتب (د)
(المقدمة/49)
الصفحة الأولى من نسخة الجامعة (ج)
(المقدمة/50)
الصفحة الأخيرة من نسخة الجامعة (ج)
(المقدمة/51)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
الحمد لله ذي الإفضال والإنعام، والمِنن الجِسَام، والأيادي العِظَام، ذي الجلال والإكرام، الملك القدّوس السلام، الذي قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام.
فقدَّر أرزاقهم وآجالهم، وكتب آثارهم وأعمالهم، وقسم بينهم معايشهم وأموالهم ــ وعرشه على الماء ــ قبل خلق الليالي والأيام.
فأبرم القضيَّة، وقدَّر البريَّة، وقال للقلم: اكتب، فجرى بما هو كائن في هذا العالم على تعاقب السِّنين والأعوام.
ثم خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على عرشه المجيد بذاته، منفردًا بتدبير خلقه بالسَّعادة والشقاوة، والعطاء والمنع، والإحياء والإماتة، والخَفض والرَّفع، والإيجاد والإفناء، والنقضِ والإبرام.
{(28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي} [الرحمن:29]، فلا يشغله سَمْعٌ عن سَمْع، ولا تُغَلِّطُه المسائل، ولا يتبَرَّم بإلحاح الملحِّين على (1) الدوام. يسمع ضجيج الأصوات، باختلاف اللغات، على تَفنُّنِ الحاجات (2)، ويرى دبيبَ النملة السوداء، تحت الصَّخرة الصماء، في
_________
(1) “على” استدركت من “ت”، وكذلك المواضع الخمسة الآتيات، موضعها مخروم في “م”.
(2) “تفنن الحاجات” من “ت”.
(1/3)
الليلة (1) المدلهمَّة الشديدة الظلام.
لا تسقط ورقةٌ إلا بعلمه، ولا (2) تتحرك ذرَّة إلا بإذنه، ولا يقع حادثٌ إلا بمشيئته، ولا يخلو مقدورٌ عن حكمته، فله الحكمة الباهرة، والآيات الظاهرة، والحجَّة البالغة، والنعمة السابغة على جميع الأنام.
وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأوسع كل مخلوق فضلًا وجودًا وحلمًا، وقَهَر كلَّ شيءٍ (3) عزَّةً وحُكْمًا، فَعَنَت الوُجوهُ لجلال (4) وجهه، وعجزت العقولُ عن معرفة كُنْهِه، وقامت البراهين على استحالة (5) مثله وشِبْهِه. فهو الأول الذي ليس (6) قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، ذو الأسماء الحسنى، والصفات العُلى، وهو مُسْتوٍ على عرشه، مُسْتولٍ على خلقه، يسمع ويرى. كلَّم موسى تكليمًا، وتجلَّى للجبل فجعله دكًّا هشيمًا، فهو الحيُّ القيوم الذي لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام.
يخفض القِسْط ويرفعه، يُرفَع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سُبُحَاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
_________
(1) “الليلة” من “ت”.
(2) “م”: “فولا”، والتصويب من “ت”.
(3) “م”: “وفهم كل منى”! والتصويب من “ت”.
(4) “لجلال” من “ت”.
(5) “البراهين على استحالة” خرم أكثرها في “م”، وأكملتها من “ت”.
(6) “الذي ليس” من “ت”.
(1/4)
فهو أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، وأعظم رقيب، وأرأف رحيم، حال دون النفوس، وأخذ بالنواصي، وكتب الآثار، ونسخ الآجال، فأزِمَّة الأمور بيديه، ومرجعها كلها إليه، فالقلوب له مُفْضِية، والسِّرُّ عنده علانية، والمستور لديه مكشوف، وكلُّ أحدٍ إليه فقير مَلْهوف على الدوام.
فسبحان مَن نفذ حكمُه في بريّته، وعدل بينهم في أقضيته، وعمَّهم برحمته، وصرَّفهم تحت مشيئته وحكمته، وأكرمهم بتوحيده ومعرفته، وجعل أهل ذكره أهل مجالسته، وأهل شكره أهل زيادته، وأهل طاعته أهل كرامته، وأهل معصيته لا يُقنطهم من رحمته، إن تابوا فهو حبيبهم، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ} [البقرة: 222]، وإن أصرُّوا فهو طبيبُهُم، يبتليهم بأنواع المصائب؛ ليطهّرهم من الدَّنَس والآثام.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا كُفُؤ له، ولا سَمِيَّ له، ولا صاحبة له، ولا ولد له، بل هو الأحد الصمد الذي تفرَّد بإلهيَّته، وتوحَّدَ بربوبيته، وتعالى عن مشابهة خليقته، وأنَّى يشبه العبدُ المخلوقُ الملكَ القدّوسَ السّلام.
وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، وسفيره بينه وبين عباده، أرسله رحمةً للعالمين، وقدوةً للعاملين، ومَحَجّة للسالكين، وحُجّة على العباد أجمعين.
أرسله على حين فترة من الرسل، ودروس من الكتب، وطموس من السُّبُل، حين انقطع خبر الوحي من السماء، وتاه الأدِلّاءُ في دياجي الظَّلماء، وغشيت الأرضَ ظلماتُ الكفر والشِّرك والعناد، واستولى عليها أئمةُ الكفر وعساكرُ الفساد، واستند كل قوم إلى ظلمات آرائهم، وحكموا على الله وبين
(1/5)
عباده بمقالاتهم الباطلة وأهوائهم.
فسُبُلُ الهدى عافيةٌ آثارها، مُنْحَطٌّ منارها، والضلالة قد تَضَرَّمَتْ نارُها، وتطاير في الآفاق شرارُها، وظهر في أقطار الأرض شعارها، وقد استحقَّ الناس أن يحلّ بساحتهم العذاب، وقد نظر الجبَّارُ إليهم فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب.
فأطلع الله شمس الرسالة في حَنَادِس تلك الظُّلَم، وأنعم بها على أهل الأرض، وكانت تلك النعمة عليهم أجلَّ النعم. فبعث رسوله – صلى الله عليه وسلم – للإيمان مناديًا، وإلى الجنة داعيًا، وبكل عُرْف آمِرًا، وعن كل نُكْرٍ ناهِيًا، فاستنقذ به الخليقةَ من تلك الظلمات، ونوَّرَ بصائرهم بالآيات البينات، وجلا عن قلوبهم صدأ تلك الشكوك والشبهات، وفتح به أعينًا عُميًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلْفًا، فبلَّغ رسالات ربّه، وأدّى أمانته، ونصح أمته، ولم يدع بابًا من الهدى إلا فتحه، ولا مُشْكِلًا من الدين إلا أوضحه، ولا خيرًا إلا دلَّ الأمة عليه، ولا شرًّا إلا حذَّرهم منه؛ لئلا يصلوا إليه.
فأغنى الله به عن تكلُّف المتنطّعين، وآراء المُتَهَوِّكين، ومعقولات المتفلسفين، وخيالات المتصوِّفين، وجدل المتكلمين، وأقيسة المتكلِّفين.
فاكتفى بما جاء به العارفون، واستوحش من كثير منه الجاهلون، وعَدَلوا عنه إلى ما يناسب أعينهم الرُّمْد، وبصائرهم العُمْي، وظنوا أنهم بذلك يهتدون، {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الزمر: 49 – 50]، {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51].
(1/6)
أما بعد:
فإن القدر بحر محيط لا ساحل له، ولا خروج عنه لأحد من العالمين، والشرع فيه سفينة النجاة، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها فهو من المُغْرَقين، وهو قُدْرَةُ الله الذي هو على كل شيء قدير، وكل مخلوق فمنه ابتدأ وإليه يصير.
والإيمان (1) به قُطْب رحا التوحيد ونظامه، ومبدأ الإيمان وتمامه، فهو أحد أركان الإيمان، وقاعدة أساس الإحسان، والحكمة آخِيَّته (2) التي يرجع إليها، ويدور في جميع تصاريفه عليها، فالقدر مظهر المُلْك، والحكمة مظهر الحَمْد، والتوحيد متضمن لنهاية الحكمة وكمال التقدير.
فلا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، فبالقدر والحكمة ظهر خلقه وشرعه المبين، {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].
فصل
وقد سلك الناس في هذا الباب في كل واد، وأخذوا في كل طريق، وتولّجوا كل مَضِيق، وركبوا كل صعب وذلول، وقصدوا الوصول إلى معرفته من كل سبيل، وتكلمتْ فيه الأئمة (3) قديمًا وحديثًا، وساروا فيه بطيئًا
_________
(1) بداية “د”.
(2) الآخِيّة ـ بالتشديد والتخفيف ـ: حبل ونحوه يثبت طرفاه في حائط أو أرض كالحلقة، تشد إليه الدابة. “الصحاح” (أخا) (6/ 2256).
(3) “د”: “الأمم”.
(1/7)
وقاصدًا وحثيثًا، وخاضتْ فيه الفرق على تباينها واختلافها، وصَنَّفتْ فيه الطوائف على تنوع أصنافها، فلا أحد إلا وهو يحدّث نفسه بهذا الشان، ويطلب الوصول فيه إلى حقيقة العرفان، فتراه إما ناظرًا مع نفسه، أو مناظرًا لبني جنسه.
وكلٌّ قد اختار لنفسه مذهبًا لا يعتقد الصواب في سواه، ولا يرتضي إلا إيّاه، وكلهم ــ إلا مَن اهتدى بالوحي ــ عن طريق الصواب مصدود، وباب الهدى في وجهه مسدود، قد قَمَّشَ علمًا غير طائل، وارتوى من ماء آجن، قد طاف على أبواب المذاهب، ففاز بأخسِّ الآراء والمطالب، فرح بما عنده من العلم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وقدّم آراء من أحسن به الظن على الوحي المنزّل والنص المرفوع.
حيران يأتمُّ بكل حيران، يحسب كل سراب شرابًا، فهو طول عمره ظمآن، يُنَادى إلى الصواب من مكان بعيد، ويُدعى إلى الهدى فلا يستجيب إلى يوم الوعيد، قد فرح بما عنده من الخيال، وتشبّع بأنواع الباطل وأصناف المُحال، منعه الكفر الذي في صدره ــ وليس هو ببالغه ــ عن الانقياد للهداة المهتدين، ولسان حاله أو قاله يقول: {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53].
فصل
ولما كان الكلام في هذا الباب نفيًا وإثباتًا مداره على الخبر عن أسماء الله وصفاته وأفعاله وخلقه وأمره؛ كان أسعدُ الناس بالصواب فيه مَن تلقّى ذلك من مشكاة الوحي المبين، ورغب بعقله وفطرته وإيمانه عن آراء
(1/8)
المُتَهَوِّكين (1)، وتشكيكات المتكلمين، وتكلفات المُتنطّعين، واستمطر دِيَم الهداية من كلمات أعلم الخلق بربِّ العالمين، فإن كلماته الجوامع النوافع في هذا الباب وفي غيره كفَتْ وشفَتْ، وجمعتْ وفرَّقتْ، وأوضحتْ وبيَّنتْ، وحلَّتْ محل التفسير والبيان لما تضمنه القرآن.
ثم تلاه أصحابه من بعده على نهجه المستقيم، وطريقه القويم، فجاءت كلماتهم كافية شافية، مختصرة نافعة، لقرب العهد ومباشرة التلقي من تلك المشكاة، التي هي مظهر كل نور، ومنبع كل خير، وأساس كل هدى.
ثم سلك على آثارهم التابعون لهم بإحسان، فاقتفوا طريقهم، وركبوا منهاجهم، واهتدوا بهداهم، ودعوا إلى ما دعوا إليه، ومضوا على ما كانوا عليه.
ثم نبغ في عهدهم وأواخر عهد الصحابة مجوسُ هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر، وأنّ الأمر أُنُف، فمَن شاء هدى نفسه، ومَن شاء أضلها، ومَن شاء بخسها حظَّها (2) وأهملها، ومَن شاء وفّقها للخير وكمّلها، كل ذلك مردود إلى مشيئة العبيد، ومُقْتَطَع من مشيئة العزيز الحميد، فأثبتوا في ملكه ما لا يشاء، وفي مشيئته ما لا يكون.
ثم جاء خَلْفُ هذا السلف، فقرروا ما أسَّسَه أولئك من نفي القدر وسمّوه عدلًا، وزادوا عليه نفي صفاته سبحانه وحقائق أسمائه وسمّوه توحيدًا.
_________
(1) الحيرى المترددون، “القاموس” (هوك) (958).
(2) “م”: “حقها”، والمثبت من “د” له نظائر من كلام المؤلف، وليس في “م”: “وأهملها”.
(1/9)
فالعدل عندهم إخراج أفعال الملائكة والإنس والجن وحركاتهم وأقوالهم وإراداتهم عن قدرته ومشيئته وخلقه، والتوحيد عند متأخريهم تعطيله عن صفات كماله، ونعوت جلاله، وأنه لا سمع له، ولا بصر، ولا قدرة، ولا حياة، ولا إرادة تقوم به، ولا كلام، ما تكلم ولا يتكلم، ولا أمَرَ ولا يأمر، ولا قال ولا يقول، إنْ ذلك إلا أصوات وحروف مخلوقة في الهواء، أو في محل مخلوق، ولا استوى على عرشه فوق سماواته، ولا تُرفع إليه الأيدي، ولا تَعرُج الملائكة والروح إليه، ولا ينزل الأمر والوحي من عنده، وليس فوق العرش إلهٌ يُعبد، ولا ربٌّ يُصلَّى له ويُسْجَد، ما فوقه إلا العدم المحض والنفي الصِّرْف، فهذا توحيدهم، وذاك عدلهم.
فصل
ثم نبغت طائفة أخرى من القدرية، فنفت فعل العبد وقدرته واختياره، وزعمت أن حركته الاختيارية ــ ولا اختيار ــ كحركة الأشجار عند هبوب الرياح، وكحركات الأمواج، وأنه على الطاعة والمعصية مجبور، وأنه غير مُيَسَّرٍ لما خُلِق له، بل هو عليه مَقْسور ومَجْبور.
ثم تلاهم أتباعهم على آثارهم مُقتدين، ولمنهاجهم مُقتفين، فقرّروا هذا المذهب، وانتموا إليه وحققوه، وزادوا عليه أن تكاليف الربّ تعالى لعباده كلها تكليفُ ما لا يُطاق، وأنها في الحقيقة كتكليف المُقْعَد أن يرقى إلى السبع الطِّباق، فالتكليف بالإيمان وشرائعه تكليف بما ليس من فعل العبد، ولا هو له بمقدور، وإنما هو تكليف بفعل مَن هو منفرد بالخلق، وهو على كل شيء قدير، فكلّف عباده بأفعاله، وليسوا عليها قادرين، ثم عاقبهم عليها، وليسوا في الحقيقة لها فاعلين.
(1/10)
ثم تلاهم على آثارهم محققوهم من العُبّاد، فقالوا: ليس في الكون معصية البتَّة؛ إذ الفاعل مطيع للإرادة موافق للمراد، كما قيل:
أصبحتُ مُنْفَعِلًا لما يختاره … منِّي ففعلي كلُّه طاعاتُ (1)
ولاموا بعضَ هؤلاء على فعله، فقال: إن كنتُ عصيتُ أمره فقد أطعتُ إرادتَه، ومطيع الإرادة غير ملوم، وهو في الحقيقة غير مذموم.
وقرر محققوهم من المتكلمين هذا المذهب؛ بأن الإرادة والمشيئة والمحبّة في حق الرب سبحانه شيء واحد، فمحبته هي نفس مشيئته، وكل ما في الكون فقد أراده وشاءه، وكل ما شاءه فقد أحبّه.
وأخبرني شيخ الإسلام ــ قدَّس الله روحه ــ أنه لام بعضَ هذه الطائفة على محبّة ما يبغضه الله ورسوله، فقال له المَلوم: المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب، وجميع ما في الكون مراده، فأي شيء أُبْغِضُ منه؟!
قال الشيخ: فقلت له: إذا كان قد سخط على أقوام ولعنهم وذمّهم وغضب عليهم فواليتهم أنت وأحببتهم، وأحببت أفعالهم ورضيتها، تكون مواليًا له أو معاديًا؟
_________
(1) نسبه شيخ الإسلام في “مجموع الفتاوى” (8/ 257) إلى نجم الدين محمد بن سوار بن إسرائيل، الفقير الشاعر الصوفي (677 هـ)، وانظر: “تاريخ الإسلام” (15/ 347).
وأورد البيت دون نسبة في: “منهاج السنة” (3/ 25) و”الفرقان” (237)، وسينشده المؤلف في (1/ 48) من هذا الكتاب، وفي: “طريق الهجرتين” (1/ 55، 352، 659)، و”مدارج السالكين” (1/ 504، 559، 635).
(1/11)
قال: فبُهِتَ الجبري، ولم ينطق بكلمة (1).
وزعمت هذه الفرقة أنهم بذلك للسنة ناصرون، وللقدر مثبتون، ولأقوال أهل البدع مبطلون.
هذا، وقد طووا بساط التكليف، وطفّفوا في الميزان غاية التطفيف، وحملوا ذنوبهم على الأقدار، وبرّؤوا نفوسهم في الحقيقة من فعل الذنوب والأوزار، وقالوا: إنها في الحقيقة فِعْل الخلَّاق العليم.
وإذا سمع المنزِّه لربِّه هذا قال: سبحانك هذا بهتان عظيم! فالشرّ ليس إليك، والخير كله في يديك.
ولقد ظنّت هذه الطائفة بالله أسوأ الظن، ونسبته إلى أقبح الظلم، وقالوا: إن أوامر الربّ ونواهيه كتكليف العبد أن يرقى فوق السماوات، أو كتكليف الميت إحياء الأموات، والله يعذب عباده أشدّ العذاب على فعل ما لا يقدرون على تركه، وعلى ترك ما لا يقدرون على فعله، بل يعاقبهم على نفس فعله الذي هو لهم غير مقدور، وليس أحدٌ منهم ميسَّر له، بل هو عليه مقهور، وترى العارف منهم ينشد مُترنّمًا، ومن ربّه مُتشكّيًا ومُتظلّمًا:
ألقاه في اليمّ مكتوفًا وقال له: … إيّاك إيّاك أن تبتلَّ بالماءِ (2)
_________
(1) حكى المؤلف هذه المحاورة عن شيخ الإسلام ابن تيمية في “طريق الهجرتين” (185، 658) و”مدارج السالكين” (4/ 2793)، وانظر: “الاستقامة” (1/ 424) (2/ 78).
(2) البيت للحلاج في “ديوانه” ضمن الأعمال الكاملة (288)، ونسبه إليه في “وفيات الأعيان” (2/ 143)، وشكك الرافعي في تلك النسبة في “تاريخ آداب العرب” (3/ 133).
(1/12)
وليس عند القوم في نفس الأمر سبب ولا غاية ولا حكمة، ولا قوة في الأجسام ولا طبيعة ولا غريزة، فليس في الماء قوة التبريد، ولا في النار قوة التسخين، ولا في الأغذية قوة الغذاء، ولا في الأدوية قوة الدواء، ولا في العين قوة الإبصار، ولا في الأذن قوة السماع، ولا في الأنف قوة الشم، ولا في الحيوان قوة فاعلة، ولا قوة جاذبة، ولا ممسكة ولا دافعة.
والربّ تعالى لم يفعل شيئًا بشيء، ولا شيئًا لشيء، فليس في أفعاله باء تسبيب (1)، ولا لام تعليل، وما ورد من ذلك فمحمول على باء المصاحبة، ولام العاقبة.
وزادوا على ذلك أن الأفعال لا تنقسم في نفسها (2) إلى حَسَن وقبيح، ولا فرق في نفس الأمر بين الصدق والكذب، والبر والفجور، والعدل والظلم، والسجود للرحمن والسجود للشيطان، والإحسان إلى الخلق والإساءة إليهم، ومسبّة الخالق تعالى والثناء عليه، وإنما نعلم الحسن من ذلك من القبيح بمجرد الأمر والنهي، ولذلك يجوز النهي عن كل ما أمر به، والأمر بكل ما نهى عنه، ولو فعل ذلك لكان هذا قبيحًا وهذا حسنًا.
وزاد بعض محقّقيهم على هذا: أن الأجسام كلها متماثلة، فلا فرق في الحقيقة بين جسم النار وجسم الماء، ولا بين جسم الذهب وجسم الخشب، ولا بين المِسْك والرَّجِيع، وإنما تفترق بصفاتها وأعراضها، مع تماثلها في الحدّ والحقيقة.
_________
(1) “د”: “تسبُّب” مقيدة، والمثبت من “م”، وانظر: “طريق الهجرتين” (1/ 235).
(2) “م”: “أنفسها”، والمثبت من “د” وسيأتي نظيره.
(1/13)
وزادوا على ذلك بأن قالوا: الأعراض كلها لا تبقى زمانين، ولا تستقرّ وقتين. فإذا جمَعْتَ بين قولهم بعدم بقاء الأعراض، وقولهم بتماثل الأجسام، وتساوي الأفعال، وأن العبد لا فعل له البتَّة، وأنه لا سبب في الوجود ولا قوة ولا غريزة ولا طبيعة، وقولهم: إن الربَّ تعالى ليس له فعل يقوم به، وفعله عين مفعوله. وقولهم: إنه ليس بمباين لخلقه، ولا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلًا به ولا منفصلًا عنه. وقولهم: إنه لا يتكلَّم ولا يُكلَّم، ولا قال ولا يقول، ولا سمع أحدٌ خطابَه ولا يسمعه، ولا يراه المؤمنون يوم القيامة جهرة بأبصارهم من فوقهم= أنتجَتْ لك هذه الأصول عقلًا يعارض السمع، ويناقض الوحي، وقد أوصاك الأشياخ عند التعارض بتقديم هذا المعقول، على ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم -.
فلو أني بُلِيتُ بهاشميٍّ … خؤولتُه بنو عبد المدان
لهان عليَّ ما ألقى ولكن … تعالوا فانظروا بمن ابتلاني (1)
فصل
ولمّا كانت معرفةُ الصواب في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل واقعةً في مرتبة الحاجة، بل في مرتبة الضرورة؛ اجتهدتُ في جمع هذا الكتاب وتهذيبه، وتحريره وتقريبه، فجاء فَرْدًا في معناه، بديعًا في مَغْزاه، وسمّيتُه:
_________
(1) أنشدها دون نسبة في “الكامل” (2/ 980)، وفي “ديوان المعاني” (1/ 375).
وأشار محقق “الكامل” إلى مجيئها في بعض الأصول منسوبة لدعبل، ورجح الأشتر عدم صحة هذه النسبة في “ديوان دعبل” (429)، ونسبهما في “أخبار أبي تمام” (39) إلى زياد بن عبيد الله الحارثي، وفي “بهجة المجالس” (1/ 384) إلى أبي راسب.
(1/14)
(شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل)
وجعلتُه أبوابًا:
الباب الأول: في تقدير المقادير قبل خلق السماوات والأرض.
الباب الثاني: في تقدير الربِّ تعالى شقاوة العباد وسعادتهم وأرزاقهم وآجالهم قبل خلقهم، وهو تقدير ثانٍ بعد الأول.
الباب الثالث: في ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك، وحُكْم النبي – صلى الله عليه وسلم – لآدم.
الباب الرابع: في ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه.
الباب الخامس: في التقدير الرابع ليلة القدر.
الباب السادس: في ذكر التقدير الخامس اليومي.
الباب السابع: في أنَّ سَبْق المقادير بالشقاوة والسعادة لا يقتضي ترك الأعمال، بل يوجب الاجتهاد والحرص؛ لأنه تقدير بالأسباب.
الباب الثامن: في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101].
الباب التاسع: في قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49].
الباب العاشر: في مراتب القضاء والقدر التي من استكمل معرفتها والإيمان بها فقد آمن بالقدر، وذكر المرتبة الأولى.
الباب الحادي عشر: في ذكر المرتبة الثانية من مراتب القضاء والقدر، وهي مرتبة الكتابة.
(1/15)
الباب الثاني عشر: في ذكر المرتبة الثالثة، وهي مرتبة المشيئة.
الباب الثالث عشر: في ذكر المرتبة الرابعة، وهي مرتبة خلق الأعمال.
الباب الرابع عشر: في الهدى والضلال ومراتبهما.
الباب الخامس عشر: في الطَّبْع والخَتْم والقَفْل والغَلّ والسَّدّ والغشاوة ونحوها، وأنه مفعول للربّ.
الباب السادس عشر: في تفرّد الربّ بالخلق للذوات والصفات والأفعال.
الباب السابع عشر: في الكسب والجبر، ومعناهما لغةً واصطلاحًا، وإطلاقهما نفيًا وإثباتًا.
الباب الثامن عشر: في فَعَل وأَفْعَل في القضاء والقدر، وذكر الفعل والانفعال.
الباب التاسع عشر: في ذكر مناظرة جرت بين جبريّ وسنّي.
الباب العشرون: في ذكر مناظرة بين قدريّ وسنّي.
الباب الحادي والعشرون (1): في تنزيه القضاء الإلهي عن الشر، ودخوله في المَقْضِي.
الباب الثاني والعشرون: في طرق إثبات حكمة الربّ تعالى في خلقه وأمره، وإثبات الغايات المطلوبة، والعواقب الحميدة، التي فعل وأمر لأجلها، وهو من أجلّ أبواب الكتاب.
_________
(1) “م”: “والعشرين”، وتكررت في الأبواب الآتية.
(1/16)
الباب الثالث والعشرون: في استيفاء شُبَه نفاة الحكمة، وذكر الأجوبة المفصّلة عنها.
الباب الرابع والعشرون: في معنى قول السلف في الإيمان بالقدر خيره وشرِّه، وحلوه ومرِّه.
الباب الخامس والعشرون: في بيان بطلان قول من قال: إن الربَّ تعالى مريدٌ للشرِّ وفاعلٌ له، وامتناع إطلاق ذلك نفيًا وإثباتًا.
الباب السادس والعشرون: فيما دلَّ عليه قوله – صلى الله عليه وسلم -: “أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك”؛ من تحقيق القدر وإثباته، وأسرار هذا الدعاء.
الباب السابع والعشرون: في دخول الإيمان بالقضاء والقدر والعدل والتوحيد تحت قوله: “ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك”، وما تضمنه الحديث من قواعد الدين.
الباب الثامن والعشرون: في أحكام الرضا بالقضاء، واختلاف الناس في ذلك، وتحقيق القول فيه.
الباب التاسع والعشرون: في انقسام القضاء والإرادة والكتابة والحكم والأمر والإذن والجَعْل والكلمات والبعث والإرسال والتحريم والعطاء والمنع= إلى كونيٍّ يتعلق بخلقه، وديني يتعلق بأمره، وما في تحقيق ذلك من إزالة اللبس والإشكال.
الباب الموفي ثلاثين: في الفطرة الأولى التي فطر الله عباده عليها، وبيان أنها لا تنافي القضاء والقدر (1)، بل توافقه وتجامعه.
_________
(1) “د”: “والعدل”.
(1/17)
وهذا حين الشروع في المقصود، فما كان فيه من صواب فمن الله وحده، هو المانّ به. وما كان فيه من خطأ فمنّي ومن الشيطان، والله بريءٌ منه ورسوله.
فيا أيّها المتأمل له، الواقف عليه، لك غُنمه، وعلى مؤلِّفه غُرمه، ولك فائدته، وعليه عائدته. فلا تعجل بإنكار ما لم يتقدم لك أسباب معرفته، ولا يحملنّك شَنَآن مؤلفه وأصحابه على أن تُحرم ما فيه من الفوائد، التي لعلك لا تظفر بها في كتاب، ولعل أكثر من تعظّمه ماتوا بحسرتها، ولم يصلوا إلى معرفتها، والله يقسم فضله بين خلقه بعلمه وحكمته، وهو العليم الحكيم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
* * * *
(1/18)
الباب الأول
في تقدير المقادير قبل خلق السماوات والأرض
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء” رواه مسلم في “الصحيح” (1).
وفيه دليل على أنّ خلق العرش سابق على خلق القلم، وهذا أصحّ القولين؛ لما روى أبو داود في “سننه” (2) عن أبي حفص الشامي قال: قال عبادة بن الصامت: يا بنيّ، إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب. قال: ربِّ، وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة”. يا بنيّ، سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “مَن مات على غير هذا فليس مني”.
وكتابة القلم للقدر كان في الساعة التي خُلِق فيها؛ لما رواه الإمام أحمد
_________
(1) برقم (2653).
(2) برقم (4700) وفي إسناده ضعف، أبو حفص وأبو حفصة الشامي ـ واسمه: حبيش الحبشي ـ تابعي مقل، أورده ابن حبان في “الثقات” (4/ 190)، واختلف عليه في إسناده، وقد تابعه عطاء بإسناد ضعيف عند الترمذي (2155، 3319) وقال في الموضع الثاني منهما: “حسن صحيح غريب”، وللحديث متابعات وشواهد يصح بها، سيذكر المؤلف بعضها.
(1/19)
في “مسنده” (1) من حديث عبادة بن الوليد، قال: حدثني أبي، قال: دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت، فقلت: يا أبتاه، أوصني واجتهد لي. فقال: أجلسوني. فلما أجلسوه قال: يا بنيّ، إنك لن تجد طعم الإيمان، ولن تبلغ حق حقيقة العلم بالله تبارك وتعالى؛ حتى تؤمن بالقدر خيره وشره. قلت: يا أبتاه، وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك. يا بنيّ، إني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “إن أول ما خلق الله تعالى القلم، ثم قال: اكتبْ. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة”. يا بنيّ، إنْ مِتَّ ولستَ على ذلك دخلتَ النار.
وهذا الذي كتبه القلم هو القَدَر؛ لما رواه ابن وهب (2): أخبرني عمر بن محمد، أن سليمان بن مهران حدثه قال: قال عبادة بن الصامت: ادعوا لي ابني ــ وهو يموت ــ لعلي أخبره بما سمعت من رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (3) يقول: “إن أول شيء خلقه الله من خلقه القلم، فقال له: اكتبْ. فقال: يا ربِّ، ماذا أكتب؟ قال: القدر”، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار”.
وعن عبد الله بن عباس قال: كنت خلف النبي – صلى الله عليه وسلم – يومًا، فقال لي: “يا
_________
(1) برقم (22705)، والفريابي في “القدر” (72)، بإسناد ليّن، فيه أيوب بن زياد روى عنه جماعة ولم يوثقه سوى ابن حبان في “الثقات” (6/ 58)، ويقويه ما قبله وما بعده من متابعات وشواهد.
(2) “القدر” (26)، وإسناده منقطع؛ الأعمش لم يدرك عبادة، ويحسن بغيره.
(3) “سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ” ساقطة من “د”.
(1/20)
غلام، إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله. واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعت الأقلام، وجفّت الصحف” رواه الترمذي وقال: “حديث حسن صحيح” (1).
وعن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله، إني رجل شاب، وأنا أخاف على نفسي العَنَت، ولا أجد ما أتزوج به النساء. فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك (2) فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “يا أبا هريرة، جفَّ القلم بما أنت لاق، فاخْتَصِ على ذلك أو ذَرْ” رواه البخاري في “صحيحه” (3)، فقال: ثنا (4) أصبغ: ثنا ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة.
ورواه ابن وهب في “كتاب القَدَر” (5) وقال فيه: فأْذَنْ لي أن أختصي. فقال: قال (6): فسكت عني حتى قلت ذلك ثلاث مرات، فقال: “جفَّ القلم
_________
(1) برقم (2516)، وأحمد (2669) من طرق عن قيس بن الحجاج، عن حنش، عن ابن عباس، قال ابن منده في “التوحيد” (2/ 107): “هذا إسناد مشهور، رواه ثقات، وقيس بن الحجاج مصري روى عنه جماعة، ولهذا الحديث طرق عن ابن عباس، وهذا أصحها”، وانظر: “جامع العلوم والحكم” (1/ 460).
(2) من قوله: “فسكت عني” ـ الثانية ـ إلى هنا ساقط من “م”، انتقال نظر.
(3) برقم (5076) معلّقًا، ووصله الفريابي في “القدر” (437).
(4) كذا في “د” “م”: “ثنا” خطأ، صوابه: “قال”؛ فإنه معلّق في “الصحيح”.
(5) برقم (16)، ومن طريقه أبو عوانة (4007) بإسناد صحيح.
(6) كذا في “د” “م”: “فقال: قال”، صوابه بالفعل الثاني فقط، كما في مصدر الرواية.
(1/21)
بما أنت لاق”.
وقال أبو داود الطيالسي (1): ثنا عبد المؤمن ـ هو ابن عبد الله (2) ـ قال: كنا عند الحسن فأتاه بُرَيْد بن أبي مريم السلولي يتوكأ على عصا، فقال: يا أبا سعيد، أخبرني عن قول الله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22]. فقال الحسن: نعم والله، إن الله ليقضي القَضِيّة في السماء، ثم يضرب لها أجلًا أنه كائن في يوم كذا وكذا، في ساعة كذا وكذا في الخاصة والعامة (3)، حتى إن الرجل ليأخذ العصا ما يأخذها إلا بقضاء وقدر. قال: يا أبا سعيد، والله لقد أخذتها وإنّي عنها لغني، ثم لا صبر لي عنها. قال الحسن: أفلا تَرَى.
واختُلِف في الضمير في قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}، فقيل: هو عائد على الأنفس؛ لقُرْبها منه.
وقيل: هو عائد على الأرض.
وقيل: عائد على المصيبة.
والتحقيق أن يقال: هو عائد على البَريّة التي تعمّ هذا كله، ودلّ عليه السياق، وقوله: “نبرأها”، فتنتظم التقادير الثلاثة انتظامًا واحدًا، والله أعلم.
_________
(1) لم أقف عليه من هذا الوجه، وأخرجه ابن بطة في “الإبانة الكبرى” (2/ 194) من طريق أبي داود السجستاني، عن محمد بن عيسى، عن عبد المؤمن بنحوه، وعزاه في “الدر المنثور” (14/ 285) إلى ابن المنذر بقريب منه.
(2) كذا في “د” “م”: “ابن عبد الله” تحريف، صوابه: “ابن عبيد الله” وهو السدوسي، من رجال “التهذيب” (18/ 444).
(3) “م”: “أو العامة”، والمثبت موافق لمصدرَيْ التخريج الآنفَيْن.
(1/22)
وقال ابن وهب (1): أخبرني عمر بن محمد، أن سليمان بن مهران حدثه قال: قال عبد الله بن مسعود: إن أول شيء خلقه الله عز وجل من خلقه القلم، فقال له: اكتبْ. فكتب كل شيء يكون في الدنيا إلى يوم القيامة، فيجمع بين الكتاب الأول وبين أعمال العباد، فلا يخالف ألفًا ولا واوًا ولا ميمًا.
وعن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور شيء اهتدى، ومن أخطأه ضلَّ”.
قال عبد الله بن عمرو (2): فلذلك أقول: جفَّ القلم بما هو كائن. رواه الإمام أحمد (3).
وقال أبو داود (4):
حدثنا عباس بن الوليد بن مَزْيَد، قال: أخبرني أبي، قال: سمعت الأوزاعي، قال: حدثني ربيعة بن يزيد ويحيى بن أبي عمرو
_________
(1) “القدر” (29)، وفيه انقطاع، سليمان ـ هو الأعمش ـ لم يدرك ابن مسعود.
(2) “د”: “عمر”، وطمست في “م”.
(3) برقم (6644) بنحوه، وهو جزء من حديث طويل يشتمل على ثلاثة أخبار سيأتي قريبًا، وأخرجه بتمامه الفريابي في “القدر” (70)، والحاكم (83).
وأخرج القدر الذي أورده المؤلف ابن أبي عاصم في “السنة” (241)، والترمذي (2642) وحسنه، والفريابي في “القدر” (67)، وصححه ابن حبان (6169).
(4) هو السجستاني في كتابه “القدر”.
والحديث أخرجه من طريق العباس بن الوليد بأطول منه الحاكم في “المستدرك” (83).
(1/23)
السَّيْباني، قال: حدثني عبد الله بن فيروز الديلمي، قال: دخلت على عبد الله ابن عمرو بن العاص ـ وهو في حائط له بالطائف يقال له: الوَهْط ـ فقلت: خصال بلغتني عنك تحدث بها عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “من شرب الخمر لم تُقبل توبته أربعين صباحًا، وأن الشقِيّ مَن شَقِي في بطن أمه”، قال: وسمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم مِن نوره، فمن أصابه من ذلك النور يومئذ اهتدى، ومن أخطأه ضلَّ”، فلذلك أقول: جفَّ القلم على علم الله.
ورواه الإمام أحمد في “مسنده” (1) أطول من هذا، عن عبد الله بن فيروز الديلمي، قال: دخلت على عبد الله بن عمرو، وهو في حائط له بالطائف يقال له: الوَهْط، وهو مُخَاصِر (2) فتى من قريش يُزَنّ (3) بشرب الخمر، فقلت: بلغني عنك حديث أنه: “من شرب شَرْبة خمر لم يقبل الله له توبة أربعين صباحًا، وأن الشقِيّ مَن شَقِي في بطن أمه، وأنه من أتى بيت المقدس لا يَنْهَزُهُ إلا الصلاة فيه خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه”، فلما سمع الفتى ذكر الخمر اجتذب يده من يده، ثم انطلق، فقال عبد الله بن عمرو: إني لا أُحِلُّ لأحد أن يقول عليَّ ما لم أقل، سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “من شرب من الخمر شَرْبة لم تُقْبل له (4) صلاةٌ أربعين صباحًا، فإن تاب تاب الله عليه”، فلا
_________
(1) برقم (6644)، وتقدم الكلام عليه.
(2) “د” “م”: “محاضر” تصحيف، والمثبت من مصادر التخريج، وخاصر الرجل صاحبه إذا أمسك بيده، انظر: “غريب الحديث” لأبي عبيد (خصر) (1/ 308).
(3) يقال: زنّه بكذا وأزنه إذا اتهمه به وظنّه فيه، “النهاية في الغريب” (زنن) (2/ 316).
(4) “م”: “الله” تحريف.
(1/24)
أدري في الثالثة أو في الرابعة قال: “فإن عاد كان حقًّا على الله أن يسقيه من رَدْغة الخبال (1) يوم القيامة”.
قال: وسمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم مِن نوره، فمَن أصابه مِن نوره يومئذ اهتدى، ومَن أخطأه ضلَّ”، فلذلك أقول: جفَّ القلم على علم الله.
وسمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “إن سليمان بن داود سأل الله عز وجل ثلاثًا فأعطاه اثنتين، ونحن نرجو أن تكون لنا (2) الثالثة: سأل الله حُكْمًا يصادف حُكْمه؛ فأعطاه الله إياه، وسأله ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده؛ فأعطاه إياه، وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه، فنحن نرجو أن يكون الله عز وجل، يعني: قد أعطانا (3) إيّاه”، ورواه الحاكم في “صحيحه” (4)، وقال: “هو على شرط الشيخين، ولا علة له”.
* * * *
_________
(1) هي عصارة أهل النار كما في “مسلم” (2002)، وأصل الرَّدْغة: الطين والوحل الكثير، انظر: “النهاية في الغريب” (ردغ) (2/ 215).
(2) في “المسند” ومصادر التخريج: “له”، وجاءت عند ابن كثير موافقة لما هنا في “التفسير” (7/ 72)، و”البداية والنهاية” (2/ 341).
(3) في “د” و”المسند” ومصادر التخريج: “أعطاه”، والمثبت من “م” وهو المتسق مع ما تقدم في الحاشية السابقة.
(4) (1/ 84)، ولفظه: “هذا حديث صحيح قد تداوله الأئمة، وقد احتجا بجميع رواته، ثم لم يخرجاه، ولا أعلم له علة”.
(1/25)
الباب الثاني
في تقدير الرب تبارك وتعالى شقاوةَ العباد وسعادتَهم وأرزاقَهم وآجالَهم وأعمالَهم قبل خلقهم، وهو تقدير ثانٍ بعد التقدير الأول
عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – قال: كنّا في جنازة في بَقِيع الغَرْقَد، فأتانا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقعد وقعدنا حوله، ومعه مِخْصَرة (1)، فنكَّسَ فجعل يَنْكُتُ بمِخْصَرته، ثم قال: “ما منكم من أحد، ما من نفس مَنْفُوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة”. قال: فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نمكث على كتابنا، وندع العمل؟ فقال: “من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومَن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة”، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ} [الليل:5 – 10].
وفي لفظ: “اعملوا فكل ميسَّر، أما أهل السعادة فيُيَسَّرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فيُيَسَّرون لعمل أهل الشقاوة”، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ} (2).
وعن عمران بن حُصين قال: قيل: يا رسول الله، أَعُلِم أهلُ الجنة من
_________
(1) المِخْصَرة: ما يختصره الإنسان بيده فيمسكه أو يتكئ عليه من عصا أو عكازة ونحوها، “النهاية في الغريب” (خصر) (2/ 36).
(2) أخرجه البخاري (1362)، ومسلم (2647) واللفظ له.
(1/26)
أهل النار؟ فقال: “نعم”، قيل: ففيم يعمل العاملون؟ قال: “كل ميسَّر لما خُلِق له” متفق عليه (1).
وفي بعض طرق البخاري: “كل يعمل لما خُلِق له، أو لما يُسِّر له” (2).
وعن أبي الأسود الدُّؤَلي قال: قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قُضِي عليهم، ومضى عليهم من قَدَرٍ قد سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟ فقلت: بل شيء قُضِي عليهم، ومضى عليهم. قال: فقال: أفلا يكون ظلمًا؟ قال: ففزعت من ذلك فزعًا شديدًا، وقلت: كل شيء خَلْقُ الله، ومُلْكُ يده، فلا يُسأل عما يفعل وهم يسألون. قال: فقال لي: يرحمك الله، إني لم أرد بما سألتك إلا لأحزر عقلك، إنّ رجلين من مُزَينة أتيا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالا: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم، ويكدحون فيه، أشيء قُضِي عليهم، ومضى فيهم من قَدَرٍ قد سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: “بل شيء قُضِي عليهم، ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7 – 8] “. رواه مسلم في “صحيحه” (3).
وعن شُفَي الأصبحي، عن عبد الله بن عمرو قال: خرج علينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفي يده كتابان، فقال: “أتدرون ما هذان الكتابان؟ ” قال: قلنا: لا، إلا أن
_________
(1) أخرجه البخاري (7551)، ومسلم (2646) واللفظ له.
(2) برقم (6596).
(3) برقم (2650).
(1/27)
تخبرنا يا رسول الله. قال للذي في يده اليمنى: “هذا كتابٌ من ربّ العالمين تبارك وتعالى بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أُجْمِل على آخرهم (1)، لا يُزاد فيهم، ولا يُنْقص أبدًا”، ثم قال للذي في يساره: “هذا كتاب أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أُجْمِل على آخرهم، لا يُزاد فيهم، ولا يُنْقص منهم أبدًا”، فقال أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: فلأي شيء نعمل إن كان هذا أمرٌ قد فُرِغ منه؟ قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “سدّدوا وقاربوا؛ فإنَّ صاحب الجنة يُخْتم له بعمل الجنة وإنْ عمل أيَّ عمل، وإنَّ صاحب النار يُخْتم له بعمل النار وإنْ عمل أيَّ عمل”، ثم قال بيده فقبضها، ثم قال: “فرغ ربكم عز وجل من العباد”، ثم قال باليمنى فنبذَ بها، فقال: “فريق في الجنة”، ونبذ باليسرى، فقال: “فريق في السعير”. رواه الترمذي عن قتيبة، عن ليث، عن أبي قَبِيل، عن شُفَيّ. وعن قتيبة، عن بكر بن نصر (2)، عن أبي قَبِيل به، وقال: “حديث حسن صحيح غريب”، ورواه النسائي، والإمام أحمد، وهذا السياق له (3).
_________
(1) أي أحصوا وجمعوا، من أجملت الحساب إذا جمعت آحاده وكمّلت أفراده، “النهاية في الغريب” (جمل) (1/ 298).
(2) كذا في “د” “م”: “ابن نصر”، صوابه: “ابن مُضر”، من رجال الشيخين كما في “تهذيب الكمال” (4/ 227)، وكذلك وقعت محرّفة في الأصول الخطية لـ “مدارج السالكين” (2/ 147) كما أشار إليه المحقق، وكأن هذا التحريف كان واقعًا بنفس الأصل الذي ينقل منه المؤلف.
(3) الترمذي (2141)، وأحمد (6563)، والنسائي في “الكبرى” (11409)، من طرق عن أبي قَبِيل حُيي بن هانئ به، وأبو قبيل وثقه جماعة وتكلم فيه آخرون، وحسّن إسناده ابن حجر في “الفتح” (1/ 291).
(1/28)
وفي “صحيح الحاكم” (1) وغيره من حديث أبي جعفر الرازي، حدثنا الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبي بن كعب في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ (2)} قال: “جَمَعهم له يومئذ جمعًا، ما هو كائن إلى يوم القيامة، فجعلهم أرواحًا، ثم صوّرهم واستنطقهم، فتكلموا، وأخذ عليهم العهد والميثاق، {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا يَقُولُوا تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ يَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا (3) فَعَلَ} [الأعراف: 172 – 173]، قال: فإني أُشْهِد عليكم السماوات السبع، والأرضين السبع، وأُشْهِد عليكم أباكم آدم، أن تقولوا يوم القيامة: لم نعلم، أو تقولوا: إنا كنا عن هذا غافلين، فلا تشركوا بي شيئًا، فإني أرسل إليكم رسلي، يذكّرونكم عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي. فقالوا: نشهد أنك ربُّنا وإلهنا، لا ربَّ لنا غيرُك، ورُفِع لهم أبوهم آدم فرأى فيهم الغني والفقير، وحَسَن الصورة وغير ذلك، فقال: ربّ، لو سوَّيتَ بين عبادك؟ فقال: إني أحب أن أُشكر. ورأى فيهم الأنبياء مثل السُرُج” وذكر تمام الحديث.
_________
(1) برقم (3255)، وأخرجه الفريابي في “القدر” (51)، وعبد الله في زوائد “المسند” (21232)، وابن أبي حاتم في “التفسير” (5/ 1615).
(2) “م”: “ذريتهم” قرأ به عاصم وغيره، والمثبت من “د”، قراءة نافع وابن عامر وأبي عمرو ـ قراءة الشاميين في عصر المؤلف ـ، وستتكرر هذه القراءة في سائر الكتاب، انظر: “الحجة للقراء السبعة” (4/ 104).
(3) من أول الآية إلى هنا محله في “د”: “إلى قوله”.
(1/29)
وفي “صحيحه” و”جامع الترمذي” (1) من حديث هشام بن زيد (2)، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة أمثال الذر، ثم جعل بين عيني كلِّ إنسان منهم وَبِيصًا (3) من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: من هؤلاء يا ربِّ؟ قال: هؤلاء ذريتك. فرأى فيهم رجلًا أعجبه وَبِيص ما بين عينيه، فقال: يا ربِّ مَن هذا؟ قال: ابنك داود، يكون في آخر الأمم. قال: كم جعلت له من العمر؟ قال: ستين سنة. قال: يا ربِّ، زده من عمري أربعين سنة. قال الله: إذن يُكتب ويُختم فلا يُبدّل. فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت، قال: أَوَ لَم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال له: أولم تجعلها لابنك داود؟! قال: فجحد فجحدت ذريته، ونسي فنسيت ذريته، وخَطِئ فخَطِئت ذريته”، قال: “هذا على شرط مسلم”.
وفي “الموطأ” (4): مالك، عن زيد بن أبي أُنَيْسة، أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره، عن مسلم بن يسار الجهني، أن
_________
(1) “المستدرك” (3257)، “جامع الترمذي” (3076) وقال: “حسن صحيح”.
(2) كذا في “م”: “زيد”، وفي “د”: “يزيد” سبق قلم من المؤلف؛ فإنه وقع كذلك في جميع الأصول الخطية لكتاب “الروح” (2/ 455)، صوابه: “سعد” كما في مصادر التخريج.
(3) الوبيص: البريق، “النهاية في الغريب” (وبص) (5/ 146).
(4) (2/ 898)، ومن طريقه أبو داود (4703)، والنسائي في “الكبرى” (11126)، والترمذي (3075) وقال: “هذا حديث حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وبين عمر رجلًا”، وسيتكلم المؤلف على الحديث وبيان علّته.
(1/30)
عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – سُئل عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ (1)}، فقال عمر: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سُئل عنها، فقال: “إن الله خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقتُ هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون”. فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ فقال: “إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخله النار”، قال الحاكم: “هذا الحديث على شرط مسلم” (2).
وليس كما قاله، بل هو حديث منقطع، قال أبو عمر: “هو حديث منقطع؛ فإن مسلم بن يسار هذا لم يلق عمر بن الخطاب، بينهما نعيم بن ربيعة، هذا إن صح؛ لأن (3) الذي رواه عن زيد بن أبي أُنَيْسة ــ فذكر فيه نعيم بن ربيعة (4) ــ ليس هو بأحفظ من مالك، ولا ممن يُحتج به إذا خالفه مالك، ومع ذلك فإن نعيم بن ربيعة ومسلم بن يسار جميعًا مجهولان غير معروفين بحمل العلم ونقل الحديث، وليس هو مسلم بن يسار البصري العابد، وإنما هو رجل مدني (5) مجهول”.
_________
(1) “م”: “ذريتهم”، وقد تقدم بيانه قريبًا.
(2) “المستدرك” (1/ 80).
(3) “د”: “أن”، والمثبت من “م” موافق للأصل المنقول منه.
(4) “م”: “بن أبي ربيعة”.
(5) “م”: “بدوي” تحريف.
(1/31)
ثم ذكر من “تاريخ ابن أبي خيثمة” (1) قال: قرأت على يحيى بن معين حديث مالك هذا، فكتب بيده على مسلم بن يسار: لا يُعرف.
قال أبو عمر: “هذا الحديث وإن كان عليل الإسناد فإن معناه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد روي من وجوه كثيرة، من حديث عمر بن الخطاب وغيره، وممن روى عن النبي – صلى الله عليه وسلم – معناه في القدر: علي بن أبي طالب، وأبيُّ بن كعب، وابن عباس، وابن عمر، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وأبو سَرِيحة الغفاري، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وذو اللحية الكلابي، وعمران بن حصين، وعائشة، وأنس بن مالك، وسراقة بن جُعْشُم، وأبو موسى الأشعري، وعبادة بن الصامت” (2).
قلت: وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت، وجابر بن عبد الله، وحذيفة بن أَسِيد (3)، وأبو ذر، ومعاذ بن جبل، وهشام بن حكيم، وأبو عبد الله رجل من الصحابة، روى عنه أبو نَضْرة، وعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وأبو الدرداء، وعمرو بن العاص، وعائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن الزبير، وأبو أمامة الباهلي، وأبو الطفيل، وعبد الرحمن بن عوف، وبعض أحاديثهم موقوفة، وستمر بك جميعها متفرقة في أبواب الكتاب إن شاء الله عز وجل.
_________
(1) (3/ 227).
(2) “الاستذكار” (8/ 260)، وبنحوه في “التمهيد” (6/ 3)، وانظر: “المراسيل” (210) لابن أبي حاتم، “علل الدارقطني” (2/ 221 – 223)، “تفسير ابن كثير” (3/ 503).
(3) في حاشية “م”: “حذيفة بن أسيد هو أبو سريحة الغفاري”، وهو كما قال؛ فلا وجه لاستدراكه على أبي عمر، انظر: “الاستيعاب” (4/ 1667).
(1/32)
وقال إسحاق بن راهويه: أخبرنا بقية بن الوليد، قال: أخبرني الزُّبَيْدي محمد (1) بن الوليد، عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن أبي قتادة (2)، عن أبيه، عن هشام بن حكيم بن حزام أن رجلًا قال: يا رسول الله، أَتُبْتَدأ الأعمال أم قد قُضِي القضاء؟ فقال: “إن الله لما أخرج ذرية آدم من ظهره، أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه، فقال: هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار، فأهل الجنة ميسَّرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسَّرون لعمل أهل النار” (3).
قال إسحاق: وأخبرنا عبد الصمد، حدثنا حماد، حدثنا الجُرَيري، عن أبي نَضْرة أن رجلًا من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – يقال له: أبو عبد الله، دخل عليه أصحابه يعودونه وهو يبكي، فقالوا له: ما يبكيك؟ قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “إن الله قبض قبضة بيمينه، وأخرى بيده الأخرى، قال: هذه لهذه،
_________
(1) “م”: “الزبيدي بن محمد” بإقحام “ابن”.
(2) هكذا في الأصول الخطية، وكذلك هو في “مسند ابن راهويه” كما في الكتب الصادرة عنه، وليس تحريفًا أو خطأ، فقد كان بقية يضطرب في اسمه، نص عليه البخاري في “التاريخ الكبير” (5/ 341)، وابن حبان في “الثقات” (7/ 75)، والوجه فيه: “عبد الرحمن بن قتادة” النصري.
(3) هو في “مسند إسحاق” ـ كما في “المطالب العالية” (12/ 470) ـ، ومن طريقه البيهقي في “القضاء والقدر” (226)، وأخرجه البخاري في “التاريخ الكبير” (5/ 342) (8/ 192)، والفريابي في “القدر” (22، 23، 24) من طرق عن راشد بن سعد، واختلفوا عنه إسنادًا ومتنًا، وبالاضطراب أعله ابن السكن كما في “تعجيل المنفعة” (1/ 891)، وابن عبد البر في “الاستيعاب” (2/ 851)، ولأصل الحديث عدة شواهد ستأتي.
(1/33)
وهذه لهذه، ولا أبالي”، فلا أدري في أيّ القبضتين أنا (1).
أخبرنا عمرو بن محمد، حدثنا إسماعيل بن رافع، عن المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “إن الله تعالى خلق آدم من تراب، ثم جعله طينًا، ثم تركه، حتى إذا كان صلصالًا كالفخّار كان إبليس يمر به فيقول: خُلِقت لأمر عظيم! ثم نفخ الله فيه من روحه، قال: يا ربِّ، ما ذريتي؟ قال: اختر يا آدم. قال: أختار يمين ربي ــ وكلتا يدي ربي يمين ــ. فبسط الله كفّه، فإذا كلّ من هو كائن من ذرّيته في كفّ الرحمن” (2).
أخبرنا النضر، أخبرنا أبو معشر، عن سعيد المقبري ونافع مولى الزبير، عن أبي هريرة قال: “لما أراد الله أن يخلق آدم ــ فذكر خلق آدم ــ فقال له: يا آدم، أيُّ يديّ أحب إليك أن أريك ذرّيتك فيها؟ قال: يمين ربِّي -وكلتا يدي ربي يمين-، فبسط يمينه، وإذا فيها ذرّيته كلهم ما هو خالق إلى يوم القيامة، الصحيح على هيئته، والمبتلى على هيئته، والأنبياء على هيئاتهم، فقال: ألا أعفيتَهم كلهم؟ فقال: إني أحببتُ أن أشكر” وذكر الحديث (3).
_________
(1) أخرجه أحمد (17593) بإسناد صحيح. قال الهيثمي في “المجمع” (7/ 185): “رجاله رجال الصحيح”، وفي الباب عن معاذ وأنس وغيرهما.
(2) أخرجه من هذا الوجه مبسوطًا أبو يعلى (6580)، وإسماعيل بن رافع ضعيف صاحب مناكير، كما في “المجروحين” (1/ 124)، واختلف فيه أصحاب المقبري واضطربوا في لفظه، قال الترمذي (3368) بعد أن أخرجه من طريق آخر: “هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – “، وانظر: “السنن الكبرى” للنسائي (9/ 90 – 93).
(3) جزء من حديث طويل أخرجه ابن بشران في “الأمالي” (1/ 287)، وعزاه في “الدر المنثور” (1/ 251) إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(1/34)
وقال محمد بن نصر المروزي: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا الليث بن سعد، حدثني ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن عبد الله بن سلام قال: “خلق الله آدم، ثم قال بيده فقبضها، فقال: اختر يا آدم. فقال: اخترت يمين ربي ــ وكلتا يديك يمين ــ. فبسطها فإذا فيها ذريته، فقال: مَن هؤلاء يا رب؟ قال: مَن قضيتُ أن أخلق من ذريتك من أهل الجنة إلى أن تقوم الساعة” (1).
قال: وحدثنا إسحاق بن راهويه (2)، حدثنا جعفر بن عون، أخبرنا هشام ابن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي هريرة (3)، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “لمّا خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة” وذكر الحديث (4).
وقال إسحاق: حدثنا المُلائي، حدثنا المسعودي، عن علي بن بَذِيمة، عن سعيد، عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ} [الأعراف: 172] قال: “إن الله أخذ على آدم ميثاقه أنه ربّه، وكتب أجله ورزقه ومصيباته، ثم أخرج من ظهره ولده كهيئة الذر، فأخذ عليهم
_________
(1) أخرجه مطوّلًا الفريابي في “القدر” (1)، ومختصرًا ـ دون ذكر موضع الشاهد ـ النسائي في “الكبرى” (9976)، وهو بإسناده ومتنه في “الروح” (2/ 460).
(2) “بن راهويه” من “د”.
(3) كذا في الأصول: “زيد بن أسلم، عن أبي هريرة”، وكذلك وقع في “الروح” (2/ 460)، وتقدم الإسناد قريبًا بإدخال أبي صالح بينهما؛ فإن زيدًا لم يسمع من أبي هريرة، ذكره ابن معين في “التاريخ” برواية الدوري (3/ 244).
(4) تقدم تخريجه في (30).
(1/35)
الميثاق أنه ربهم، وكتب أجلهم ورزقهم ومصيباتهم” (1).
قال: وثنا وكيع، ثنا الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عباس قال: “مسح الله ظهر آدم، فأخرج كل طيب في يمينه، وفي يده الأخرى كل خبيث” (2).
وقال محمد بن نصر: حدثنا الحسن بن محمد الزَّعْفَراني، وحدثنا (3) حجاج، عن ابن جريج، عن الزبير بن موسى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: “إن الله ضرب منكبه الأيمن، فخرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء نقية، فقال: هؤلاء أهل الجنة. ثم ضرب منكبه الأيسر، فخرجت كل نفس مخلوقة للنار سوداء، فقال: هؤلاء أهل النار. ثم أخذ عهده على الإيمان والمعرفة له والتصديق له وبأمره من بني آدم كلهم، وأشهدهم على أنفسهم، فآمنوا وصدقوا وعرفوا وأقرّوا” (4).
حدثنا إسحاق، حدثنا روح بن عبادة، ثنا محمد بن عبد الملك، عن أبيه، عن الزبير بن موسى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس بهذا الحديث،
_________
(1) أخرجه الدارمي في “الرد على الجهمية” (256)، والفريابي في “القدر” (57)، والطبري (10/ 550).
(2) أخرجه الطبري (10/ 549).
(3) كذا في “د” “م”: “وحدثنا” خطأ، صوابه: “حدثنا”؛ فإن ابن نصر لم يدرك حجاجًا، وجاء على الوجه عند ابن بطة في “الإبانة الكبرى” (1340)، وانظر: “الروح” (2/ 461).
(4) أخرجه الفريابي في “القدر” (58)، والطبري (10/ 556).
(1/36)
وزاد: قال ابن جريج: وبلغني أنه أخرجهم على كفّه أمثال الخردل (1).
قال إسحاق: وأخبرنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ}، قال: “أخذهم كما يؤخذ بالمشط” (2).
وفي “تفسير أسباط”: عن السدي، عن أصحابه أبي مالك (3) وأبي صالح (4)، عن ابن عباس، وعن مُرّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} الآية، قال: “لما أخرج الله آدم من الجنة ــ قبل أن يهبطه من السماء ــ مسح صفحة ظهر آدم اليمنى، فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ، وكهيئة الذر، فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي. ومسح صفحة ظهره اليسرى، فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر، فقال: ادخلوا النار ولا أبالي. فذلك حين يقول: {أَصْحَابُ اُلْيَمِينِ} و {أَصْحَابُ اُلشِّمَالِ}. ثم أخذ منهم الميثاق، فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى.
فأعطاه طائفةٌ طائعين، وطائفةٌ كارهين على وجه التَّقِيّة، فقال هو والملائكة: {شَهِدْنَا أَنْ يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ يَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ} الآية [الأعراف: 172 – 173]، فلذلك ليس أحد من
_________
(1) أخرجه الطبري (10/ 556)، وابن منده في “الرد على الجهمية” (35).
(2) أخرجه الطبري (10/ 553)، وابن أبي حاتم في “التفسير” (5/ 1613).
(3) في “م”: “أن مالك” تحريف، وهو أبو مالك غزوان الغفاري الكوفي، انظر: “تهذيب الكمال” (23/ 100).
(4) في “د”: “وابن صالح”، وفي “م”: “وابن أبي صالح” كلاهما خطأ، وهو أبو صالح باذام مولى أم هانئ، انظر: “تهذيب الكمال” (4/ 6).
(1/37)
ولد آدم إلا وهو يعرف أن ربه الله، ولا مشرك إلا وهو يقول: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]، فذلك قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ}، وذلك حين يقول: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83]، وذلك حين يقول: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149]، قال: يعني يوم أخذ الميثاق” (1).
وقال إسحاق: حدثنا وكيع، حدثنا فِطْر، عن ابن سابط، قال: قال أبو بكر – رضي الله عنه -: “خلق الله الخلق قبضتين، فقال لمن في يمينه: ادخلوا الجنة بسلام. وقال لمن في يده الأخرى: ادخلوا النار ولا أبالي” (2).
وأخبرنا جرير، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن رجل من الأنصار من أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – قال: “لما خلق الله الخلق قبضتين (3) بيده، فقال لمن في يمينه: أنتم أصحاب اليمين. وقال لمن في اليد الأخرى: أنتم أصحاب الشمال. فذهبت إلى يوم القيامة” (4).
_________
(1) أخرجه بهذا السياق ابن عبد البر في “التمهيد” (18/ 85)، ومفرّقًا الطبري (10/ 560 – 562)، وأورده المصنف في “أحكام أهل الذمة” (2/ 996)، وفي “الروح” (2/ 462) مصدّرًا إياه بقوله: “وذكر محمد بن نصر من تفسير السدي”، وطعن شيخ الإسلام في هذا الأثر لجملة: “وطائفة كارهين على وجه التَقِيّة” “درء التعارض” (8/ 423)، وسيأتي في الباب الثلاثين الكلام عليه (2/ 427).
(2) أخرجه معمر في “الجامع” (20094)، والدارمي في “النقض على المريسي” (1/ 268)، وابن بطة في “الإبانة الكبرى” (1335).
(3) كذا في الأصول الخطية، والأليق بالسياق بعده: “قبض قبضتين”.
(4) لم أقف عليه.
(1/38)
وقال عبد الله بن وهب في “كتاب القدر” (1): أخبرني جرير بن حازم، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة قال: “إن الله عز وجل لما خلق آدم أخرج ذريته، ثم نثرهم في كفه، ثم أفاضهم، فألقى التي في يمينه عن يمينه، والتي في يده الأخرى عن شماله، ثم قال: هؤلاء لهذه ولا أبالي، وهؤلاء لهذه ولا أبالي. وكتب أهل النار وما هم عاملون، وأهل الجنة وما هم عاملون، وطوى الكتاب، ورفع القلم”.
وقال أبو داود: ثنا مُسَدَّد، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي صالح فذكره (2).
قال ابن وهب: وأخبرني عمرو بن الحارث، وحيوة بن شُرَيح، عن ابن أبي أسيد ــ هكذا قال ــ، عن أبي فراس حدثه، أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: “إن الله عز وجل لما خلق آدم نفضه نفض المِزْوَد (3)، فأخرج من ظهره ذريته أمثال النَّغَف (4)، فقبضهم قبضتين، ثم ألقاهما، ثم قبضهما، فقال: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7] ” (5).
قال ابن وهب: وأخبرني يونس بن يزيد، عن الأوزاعي، عن عبد الله بن
_________
(1) برقم (12)، ومن طريقه ابن بطة في “الإبانة الكبرى” (1344).
(2) هو في “مسند مسدد” كما في “المطالب العالية” (12/ 481)، ومن طريق أبي داود أخرجه ابن بطة في “الإبانة الكبرى” (1343).
(3) المِزْوَد: وعاء يجعل فيه الزاد، انظر: “الصحاح” (زود) (2/ 481).
(4) النغف: دود يكون في أنوف البهائم، انظر: “الصحاح” (نغف) (4/ 1435).
(5) “القدر” (15)، ومن طريقه الحربي في “غريب الحديث” (3/ 989)، والطبري (20/ 471).
(1/39)
عمرو بن العاص قال: “من كان يزعم أن مع الله قاضيًا أو رازقًا، أو يملك لنفسه ضرًّا أو نفعًا، أو موتًا أو حياة أو نشورًا؛ لقي الله فأدحض حجته، وأحرق (1) لسانه، وجعل صلاته وصيامه هباءً (2)، وقطع به الأسباب، وأكبّه الله على وجهه في النار”.
وقال: “إن الله خلق الخلق، فأخذ منهم الميثاق، وكان عرشه على الماء” (3).
وذكر أبو داود: ثنا يحيى بن حبيب، ثنا معتمر، ثنا أبي، عن أبي العالية في قوله عز وجل: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)} [آل عمران: 106 – 107]، قال: صاروا فريقين، وقال لمن سوَّد وجوههم وعَيَّرهم (4): {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، قال: هو الإيمان الذي كان حيث كانوا أمة واحدة مسلمين” (5).
قال أبو داود: وحدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد، ثنا أبو نعامة السعدي قال: كنا عند أبي عثمان النهدي، فحمدنا الله عز وجل، فذكرناه
_________
(1) في بعض المصادر: “وأخرق”، وفي أخرى: “وأخرس”.
(2) بعده في “م”: “منثورًا”، وليست في مصدر الرواية الآتي.
(3) “القدر” (24)، ومن طريقه ابن بطة في “الإبانة الكبرى” (1642)، ورواه بنحوه (1643) من كلام عبد الله بن عمر.
(4) هكذا في الأصول وتفسير الطبري: “وعيرهم”.
(5) أخرجه ابن أبي حاتم في “التفسير” (3/ 730)، والطبري (3/ 623) (5/ 665) من وجه آخر عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قوله.
(1/40)
ودعوناه، فقلت: لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحًا مني بآخره. فقال أبو عثمان: ثبَّتك الله، كنا عند سلمان، فحمدنا الله عز وجل وذكرناه ودعوناه، فقلت: لأنا بأول هذا الأمر أشدّ فرحًا مني بآخره. فقال سلمان: ثَبَّتَك الله، إن الله تبارك وتعالى لما خلق آدم مسح ظهره، فأخرج من ظهره ما هو ذارئ (1) إلى يوم القيامة، فخلق الذكر والأنثى، والشّقْوَة والسعادة، والأرزاق والآجال والألوان، ومِنْ عَلَم السعادة فِعْلُ الخير ومجالسُ الخير (2)، ومِنْ عَلَم الشقاوة فِعْلُ الشر ومجالسُ الشر (3).
وقال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، أخبرنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: “مسح ربك تعالى ظهر آدم، فأخرج منه ما هو ذارئ (4) إلى يوم القيامة، أخذ (5) عهودهم ومواثيقهم”.
قال سعيد: فيرون أن القلم جَفَّ يومئذ (6).
_________
(1) في “م”: “كائن”، والمثبت من “د”، موافقة لما في “الإبانة” و”الشريعة”، وذارئ: خالق.
(2) يعني من علامة السعادة فعل الخير، وضبط “علم” من “د” “م”.
(3) أخرجه من طريق أبي داود به ابن بطة في “الإبانة الكبرى” (1342)، وهو في “القدر” للفريابي (51)، ومن طريقه الآجري في “الشريعة” (430).
(4) “م”: “كائن”.
(5) كذا في الأصول على الاستئناف: “أخذ”.
(6) أخرجه من طريق عطاء بنحوه ابن سعد في “الطبقات الكبرى” (1/ 29)، والطبري (10/ 548).
(1/41)
وقال الضحاك: خرجوا كأمثال الذر، ثم أعادهم (1).
فهذه الآثار (2) وغيرها تدل على أن الله سبحانه قدَّر أعمال بني آدم وأرزاقهم وآجالهم وسعادتهم وشقاوتهم عقيب خلق أبيهم، وأراهم لأبيهم آدم صورهم وأشكالهم وحلاهم، وهذا ــ والله أعلم ــ أمثالهم وصورهم.
وأما تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} الآية به ففيه ما فيه، وحديث عمر ــ لو صح ــ لم يكن تفسيرًا للآية، وبيان أن ذلك هوالمراد بها، فلا يدل الحديث عليه، ولكن الآية دلت على أن هذا الأخذ من بني آدم لا من آدم، وأنه من ظهورهم لا من ظهره، وأنهم ذرياتهم أمة بعد أمة، وأنه إشهاد تقوم به عليهم الحجة له سبحانه، فلا يقول الكافر يوم القيامة: كنت غافلًا عن هذا، ولا يقول الولد المشرك (3): أشرك أبي وتبعته؛ فإن ما فطرهم الله عليه من الإقرار بربوبيته، وأنه ربهم وخالقهم وفاطرهم؛ حجة عليهم.
ثم دلّ حديث عمر وغيره على أمر آخر لم تدل عليه الآية، وهو القدر السابق والميثاق الأول، وهو سبحانه لا يحتج عليهم بذلك، وإنما يحتج عليهم برسله، وهو الذي دلت عليه الآية.
فتضمنت الآية والأحاديث إثبات القدر والشرع، وإقامة الحجة، والإيمان بالقدر، فأخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – لما سُئل عنها بما يحتاج العبد إلى معرفته والإقرار به معها، وبالله التوفيق.
_________
(1) أخرجه بنحوه ابن أبي حاتم (5/ 1615).
(2) “الآثار” ساقطة من “د”.
(3) “المشرك” ساقطة من “د”.
(1/42)
الباب الثالث
في ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك، وحكم النبي – صلى الله عليه وسلم – لآدم صلوات الله وسلامه عليهم
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “احتجّ آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم، أنت أبونا خيّبتنا وأخرجتنا من الجنة. فقال له آدم: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه، وخطّ لك التوراة بيده، أتلومني على أمر قدَّره الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ “.
فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “فحجّ آدمُ موسى، فحج آدمُ موسى”.
وفي رواية: “كتب لك التوراة بيده”.
وفي لفظ آخر: “تحاجَّ آدم وموسى، فحجّ آدمُ موسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أغويت الناس، وأخرجتهم من الجنة. فقال آدم: أنت موسى الذي أعطاه الله علم كل شيء، واصطفاه على الناس برسالته؟ قال: نعم. قال: أفتلومني على أمرٍ قُدِّر عليَّ قبل أن أُخلق”.
وفي لفظ آخر: “احتجّ آدم وموسى عند ربهما، فحجّ آدمُ موسى، فقال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أهبطتَ الناس بخطيئتك إلى الأرض. قال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقرَّبك نَجِيًّا، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أُخلق؟
(1/43)
قال موسى: بأربعين عامًا. قال آدم: هل وجدت فيها: “وعصى آدم ربه فغوى”؟ قال: نعم. قال: أفتلومني على أن عملتُ عملًا كَتَبه الله عليَّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟! ” قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “فحجّ آدمُ موسى”.
وفي لفظ آخر: “احتجّ آدم وموسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرَجَتْنا خطيئَتُك من الجنة” وذكر الحديث، متفق على صحته (1).
وهذا التقدير بعد التقدير الأول السابق لخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
وقد رَدَّ هذا الحديث مَن لم يفهمه من المعتزلة كأبي علي الجُبّائي (2)، ومَن وافقه على ذلك، وقال: لو صَحَّ لبطلت نبوات الأنبياء؛ فإن القدر إذا كان حجة للعاصي بطل الأمر والنهي، فإن العاصي بترك الأمر، أو فعل النهي، إذا صحت له الحجة بالقدر السابق ارتفع اللوم عنه.
وهذا من ضلال فريق الاعتزال، وجهلهم بالله ورسوله وسنته؛ فإن هذا حديث صحيح متفق على صحته، لم تزل الأمة تتلقاه بالقبول مِن عهد نبيها، قرنًا بعد قرن، وتقابله بالتصديق والتسليم، ورواه أهل الحديث في كتبهم، وشهدوا به على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قاله، وحكموا بصحته، فما لأجهل الناس بالسنة، ومَن عُرف بعداوتها وعداوة حملتها، والشهادة عليهم بأنهم مجسّمة
_________
(1) أخرجه البخاري (3409، 4736، 4738، 6614، 7515)، ومسلم (2652) والألفاظ المذكورة له.
(2) انظر: “المنية والأمل” (69)، “مجموع الفتاوى” (8/ 304).
(1/44)
مشبّهة حشوية نوابت= وهذا الشأن!
ولم يزل أهل الكلام الباطل المذموم موكّلين برد أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – التي تخالف قواعدهم الباطلة، وعقائدهم الفاسدة، كما ردوا أحاديث الرؤية، وأحاديث علو الله على خلقه، وأحاديث صفاته القائمة به، وأحاديث الشفاعة، وأحاديث نزوله إلى سمائه، ونزوله إلى الأرض للفصل بين عباده، وأحاديث تكلّمه بالوحي كلامًا يسمعه مَن شاء مِن خلقه حقيقة، إلى أمثال ذلك.
وكما ردَّت الخوارج والمعتزلة أحاديث خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة وغيرها، وكما ردَّت الرافضة أحاديث فضائل الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة، وكما ردَّت المعطلة أحاديث الصفات والأفعال الاختيارية، وكما ردَّت القدرية المجوسية أحاديث القضاء والقدر السابق.
وكل مَن أصّل أصلًا لم يؤصّله الله ورسوله قاده قسرًا إلى ردِّ السنة أو تحريفها عن مواضعها، فلذلك لم يؤصّل حزب الله ورسوله أصلًا غير ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم -، فهو أصلهم الذي عليه يعوّلون، وآخِيّتهم التي إليها يرجعون.
ثم اختلف الناس في فهم هذا الحديث، ووجه الحجة التي توجّهت لآدم على موسى (1).
_________
(1) انظر: “أعلام الحديث” (3/ 1555)، “درء التعارض” (8/ 418)، “منهاج السنة” (3/ 79).
(1/45)
فقالت فرقة: إنما حَجَّه لأن (1) آدم أبوه، فحجَّه كما يحجُّ الرجلُ ابنَه.
وهذا كلام لا تحصيل فيه البتَّة؛ فإن حجة الله يجب المصير إليها مع الأب كانت أو مع الابن أو العبد أو السيد، ولو حجَّ الرجل أباه بحقٍّ وجب المصير إلى الحجة.
وقالت فرقة: إنما حَجَّه لأن (2) الذنب كان في شريعة، واللوم في شريعة.
وهذا من جنس ما قبله؛ إذ لا تأثير لهذا في الحجة بوجه، وهذه الأمةُ تلوم الأممَ المخالفة لرسلها المتقدمة عليها، وإن كان لم تجمعهم شريعة واحدة، ويقبل الله شهادتهم عليهم، وإن كانوا من غير أهل شريعتهم.
وقالت فرقة أخرى: إنما حَجَّه لأنه كان قد تاب من الذنب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولا يجوز لومه.
وهذا وإن كان أقرب مما قبله، فلا يصح لثلاثة أوجه:
أحدها: أنّ آدم لم يذكر ذلك بوجه، ولا جعله حجَّة على موسى، ولم يقل: أتلومني على ذنب قد تبت منه.
الثاني: أنّ موسى أعرف بالله سبحانه وبأمره ودينه من أن يلوم على ذنب قد أخبره الله سبحانه أنه قد تاب على فاعله، واجتباه بعده وهداه؛ فإن هذا لا يجوز لآحاد المؤمنين أن يفعله، فضلًا عن كليم الرحمن.
الثالث: أنّ هذا يستلزم إلغاء ما عَلَّق به النبي – صلى الله عليه وسلم – وجه الحجة، واعتبار ما
_________
(1) “د”: “حجته أن”.
(2) “د”: “أن”.
(1/46)
ألغاه، فلا يُلتفت إليه.
وقالت فرقة أخرى: إنما حَجَّه لأنه لامه في غير دار التكليف، ولو لامه في دار التكليف لكانت الحجة لموسى عليه.
وهذا أيضًا فاسد من وجهين:
أحدهما: أنّ آدم لم يقل له: لُمتني في غير دار التكليف، وإنما قال: أتلومني على أمر قد قُدِّر عليَّ قبل أن أُخلق. فلم يتعرّض للدار، وإنما احتج بالقدر السابق.
الثاني: أنّ الله سبحانه يلوم الملومين من عباده في غير دار التكليف، فيلومهم بعد الموت، ويلومهم يوم القيامة.
وقالت فرقة أخرى: إنما حَجَّه لأن آدم شهد الحُكْمَ وجريانه على الخليقة، وتفرُّدَ الربّ سبحانه بالربوبية، وأنه لا تتحرك ذرة إلا بمشيئته وعلمه، وأنه لا رادّ لقضائه وقدره، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
قالوا: ومشاهدةُ العبدِ الحُكْمَ لا يدع له استقباح سيئة؛ لأنه يشهد نفسه عدمًا محضًا، والأحكام جارية عليه، مُصَرِّفة له، وهو مقهور مربوب مُدَبَّر، لا حيلة له، ولا قوة له.
قالوا: ومَن شهد هذا المشهد سقط عنه اللوم.
وهذا المسلك أبطل مسلك سُلِك في هذا الحديث، وهو شرٌّ من مسلك القدرية في رده، وهم إنما ردّوه إبطالًا لهذا القول، وردًّا على قائليه، وأصابوا (1) في
_________
(1) “م”: “وأجادوا”.
(1/47)
ردهم عليهم وإبطال قولهم، وأخطؤوا في ردّ حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؛ فإن هذا المسلك لو صحّ لبطلت الديانات جملة، وكان القدر حجَّة لكل مشرك وكافر وظالم، ولم يبق للحدود معنى، ولا يُلام جانٍ على جنايته، ولا ظالم على ظلمه، ولا يُنْكَر منكرٌ أبدًا.
ولهذا قال شيخ الملحدين ابن سينا في “إشاراته”: “العارف لا يُنْكِر منكرًا؛ لاستبصاره بسرِّ الله في القدر” (1).
وهذا كلام منسلخ من الملل، ومتابعة الرسل.
وأعرف خلق الله به رسلُه وأنبياؤه، وهم أعظم الناس إنكارًا للمنكر، وإنما أُرْسِلوا بإنكار (2) المنكر، فالعارف أعظم الناس إنكارًا للمنكر؛ لبصيرته بالأمر والقدر، فإن الأمر يوجب عليه الإنكار، والقدر يعينه عليه، ويُنْفِذُه له، فيقوم في مقام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، وفي مقام: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، فيعبده بأمره وقدره، ويتوكلُ عليه في تنفيذ أمره بقدره. فهذا حقيقة المعرفة، وصاحب هذا المقام هو العارف بالله، وعلى هذا أجمعت الرسل من أولهم إلى خاتمهم.
وأما مَن يقول:
أصبحتُ مُنْفَعِلًا لما يختارهُ … منِّي ففعلي كلّه طاعات (3)
_________
(1) بمعناه في “الإشارات” (4/ 104)، وحكاها المصنف بمثل ما في المتن دون نسبة في “مدارج السالكين” (4/ 3015)، و”طريق الهجرتين” (1/ 184) (2/ 735).
(2) “م”: “لإنكار”.
(3) تقدمت نسبته في (11).
(1/48)
ويقول: أنا وإنْ عصيتُ أمرَه فقد أطعتُ إرادتَه ومشيئتَه.
ويقول: العارف لا يُنْكِر منكرًا؛ لاستبصاره بسِرِّ الله في القدر.
فخارج عما عليه الرسل قاطبة، وليس هو من أتباعهم.
وإنما حكى الله سبحانه الاحتجاج بالقدر عن المشركين أعداء الرسل، فقال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ (1) الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 148 – 149]. وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35]، وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يس: 47]، وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 20].
فهذه أربع مواضع (2) حكى فيها الاحتجاج بالقدر عن أعدائه، وشيخهم وإمامهم في ذلك عدو الله (3) الأحقر إبليس، حيث احتجَّ عليه بقضائه فقال:
_________
(1) “د” “م”: “فعل”، وصححها في هامش “م”.
(2) كذا في “د” “م”: “أربع مواضع”، ومثله في “عدة الصابرين” (134)، والوجه: “أربعة مواضع”.
(3) “م”: “عدوه”.
(1/49)
{رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39].
فإن قيل: قد عُلِم بالنصوص والمعقول صحة قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا}، و {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا}، و {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ}، فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وقد قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112]، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]، فكيف أكذبهم ونفى عنهم العلم، وأثبت لهم الخَرْص فيما هم فيه صادقون؟ وأهل السنة جميعًا يقولون: لو شاء الله ما أشرك به مشرك، ولا كفر به كافر، ولا عصاه أحدٌ من خلقه، فكيف يُنْكِر عليهم ما هم فيه صادقون؟
قيل: بل أنكر سبحانه عليهم ما هم فيه أكذب الكاذبين، وأفجر الفاجرين، ولم ينكر عليهم صدقًا ولا حقًّا، بل أنكر عليهم أبطل الباطل؛ فإنهم لم يذكروا ما ذكروه إثباتًا لقدره وربوبيته ووحدانيته، وافتقارًا إليه، وتوكلًا عليه، واستعانة به، ولو قالوه كذلك لكانوا مصيبين، وإنما قالوه معارضين به لشرعه، ودافعين به لأمره، فعارضوا شرعه وأمره، ودفعوه بقضائه وقدره، ووافقهم على ذلك كل من عارض الأمر ودفعه بالقدر.
وأيضًا فإنهم احتجوا بمشيئته العامة وقدره على محبته لما شاءه، ورضاه به، وإذنه فيه، فجمعوا بين أنواع من الضلال: معارضة الأمر بالقدر، ودفعه به، والإخبار عن الله أنه يحب ذلك منهم ويرضاه حيث شاءه وقضاه، وأن لهم الحجة على الرسل بالقضاء والقدر.
وقد ورثهم في هذا الضلال وتبعهم عليه طوائف من الناس ممن يدّعي
(1/50)
التحقيق والمعرفة، أو يُدَّعَى فيه ذلك، وقالوا: العارف إذا شاهد الحُكْم سقط عنه اللوم.
وقد وقع في كلام شيخ الإسلام أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري ما يوهم ذلك ــ وقد أعاذه الله منه ــ، فإنه قال في باب التوبة من “منازل السائرين” (1): “ولطائفُ أسرار التوبة ثلاثةُ أشياء:
أولها: أن تنظر بين الجنايةِ والقَضيَّةِ، فتعرف مُرادَ الله فيها إذ خلَّاك وإتيانَها، فإن الله تعالى إنما يُخلّي العبدَ والذنْبَ لأجل معنيين (2):
أحدهما: أن يعرف عزّته في قضائه، وبرّه في ستره، وحلمه في إمهال راكِبه، وكَرَمَه في قبول العُذر منه، وفضله في مغفرته.
والثاني: ليقيم على العبد حجة عدله، فيعاقبه على ذنبه بحجَّته.
واللطيفة الثانية: أنْ يعلم أنَّ طلب (3) البصير الصادق سيّئتَه لم يُبْقِ له حسنة بحال؛ لأنه يسير بين مشاهدة المنّة، وتطلّب عيب النفس والعمل.
واللطيفة الثالثة: أنّ مشاهدةَ العبدِ الحُكْمَ لم تدع له استحسانَ حسنةٍ، ولا استقباحَ سيئةٍ؛ لصُعوده من جميع المعاني إلى معنى الحُكْم”.
فهذا الكلام الأخير ظاهره يبطل استحسان الحسن واستقباح القبيح،
_________
(1) “منازل السائرين” (14)، وانظر: “مدارج السالكين” (1/ 587 – 632).
(2) في “م” و”المنازل” وبعض نسخ “المدارج” (1/ 587): “لأحد معنيين”، والمبثت من “د” ونسخ “المدارج” الأخرى، وهو الأشبه بالسياق.
(3) في “مدارج السالكين” (1/ 587): “نظر”، والمثبت من الأصول الخطية، و”المنازل”.
(1/51)
والشرائع كلها مبناها على استحسان هذا، واستقباح هذا، بل مشاهدة الحُكْم تزيد البصير استحسانًا للحسن، واستقباحًا للقبيح، وكلما ازدادت معرفته بالله وأسمائه وصفاته وأمره قوي استحسانه واستقباحه؛ فإنه يوافق في ذلك ربه ورسله، ومقتضى الأسماء الحسنى والصفات العُلى.
وقد كان حال شيخ الإسلام في ذلك موافقًا للأمر، وغضبه لله ولحدوده ومحارمه ومقاماته في ذلك شهيرة عند الخاصة والعامة، وكلامه المتقدم بيِّنٌ في رسوخ قدمه في استقباح ما قبَّحه الله، واستحسان ما حسَّنه، وهو كالمُحْكَم فيه؛ وهذا متشابه، فيُرد إلى مُحْكَم كلامه (1).
والذي يليق به ما ذكره شيخنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الواسطي – رحمه الله – في شرحه، فذكر قاعدة في الفناء والاصطلام، فقال: “الفناء: عبارة عن اصطلام العبد لغلبة وجود الحق، وقوة العلم به في العبد، فيزيد بذلك يقينه به، ومعرفته به، وبصفاته سبحانه، فيذهل بذلك كما يذهل الإنسان في أمر عظيم دهمه، فإنه ربما غاب عن شعوره بما دهمه من الأمور المهمة.
مثاله: رجل وقف بين يدي سلطان عظيم قاهر من ملوك الأرض، فأذهله عظمة ما يلاحظه من هيبته وسلطانه عن كثير مما يشعر به. وهذا تقريب، والأمر فوق ذلك.
فكيف بمن أشهده الله عز وجل فَرْدانيته، حيث كان ولا شيء معه، فرأى الأشياء مواتًا لا قوام لها إلا بقدرته، فشهدها خيالًا كالهباء بالنسبة إلى وجود الحق تعالى.
_________
(1) انظر: “مدارج السالكين” (1/ 632 – 642)، “مجموع الفتاوى” (8/ 230، 339) (14/ 354)، “جامع الرسائل” (2/ 110).
(1/52)
وذلك في البصائر القلبية بالكشف الصحيح بعد التصفية، والتدرب في القيام بأعباء الشريعة، وحمل أثقالها، والتخلّق بأخلاقها، يصفِّي الله عز وجل عبده من درنه، ويكشف لقلبه، فيرى حقائق الأشياء.
فمتى تجلّت على العبد أنوار المشاهدة الحقيقية الروحية الدالّة على عظمة الفَرْدانية؛ تلاشى الوجود الذي للعبد واضْمَحَلَّ، كما يتلاشى الليل إذا أسفر عليه الصباح، ويكون العبد في ذلك آكلًا شاربًا، فلا يظهر عليه شيءٌ مغاير لما اعتاده، لكن يزداد إيمانه ويقينه، حتى ربما غطى إيمانُه عن قلبه كلَّ شيء في أوقات سكره، ويبقى وجوده كالخيال، قائمًا بالعبودية في حضرة ذي الجلال.
وتعود عليه البصائر الصحيحة في معرفة الأشياء عند صحوه، ثم يزول عنه عدم التمييز، ويقوى على حاله فيتصرف فيه، وذلك هو البقاء، بحيث يتصرف في الأشياء، ولا تحجب (1) عنه ما وجده من الإيمان والإيقان في حال البقاء، بل يعود عليه شعوره الأول بوجود آخر يتولّاه الله عز وجل، يُشْهِده فيه (2) قيامه عليه بتدبيره، ويصل إلى مقام المراد بعد عبوره على (3) مقام المريد، فيصير به يسمع (4)، وبه ينطق، كما جاء في الحديث الصحيح (5).
_________
(1) إعجام تاء المضارعة من “د”.
(2) “م”: “شهد فيه”، والمثبت من “د”.
(3) “م”: “عثوره”، وأهملها في “د”، والمثبت أليق بالسياق؛ فمقام المريد قنطرة لمقام المراد، ووقع في “م”: “إلى” بدل “على”.
(4) “د”: “فيصر به ويسمع”، ولعلها: “فيبصر به ويسمع”، والمثبت من “م”.
(5) يشير إلى الحديث القدسي الذي أخرجه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة، وفيه: “وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها”.
(1/53)
ووجه آخر: وهو أن الفاني في حال فنائه قبل أن يبلغ إلى مقام البقاء والصحو والتمييز يستتر من قلبه محل الزهد والصبر والورع، لا بمعنى أن تلك المقامات (1) ذهبت وارتفع عنها العبد، لكن بمعنى أن الشهود (2) ستر محلها من القلب، وانطوت واندرجت في ضمن ما وجده اندراج الحال النازل في الحال العالي، فصارت فيما (3) وجده الواجد من وجود الحق ضمنًا وتبعًا، وصار القلب مشتغلًا بالحال الأعلى عن الحال الأدنى، بحيث لو فُتش قلبُ العبد لوُجِدَ فيه الزهدُ والورعُ، وحقائقُ الخوف والرجاءِ مستورًا بأمثال الجبال من الأحوال الوجودية التي يضيق القلب عن الاتساع لمجموعها، ثم في حال البقاء والصحو والتمييز تعود عليه تلك المقامات بالله، لا بوجود نفسه.
إذا علمت ذلك انحلَّ إشكال قوله: “إنّ مشاهدةَ العبد الحُكْم (4) لم تدع له استحسان حسنة، ولا استقباح سيئة؛ لصعوده إلى معنى الحُكْم”، أي أن صفة حُكْم الله حَشَأت (5) بصيرته وملأتها، فشهد قيام الله تعالى على الأشياء
_________
(1) “د”: “العايات” دون إعجام، والمثبت من “م”، وسيأتي ما يؤكده.
(2) “م”: “المشهود”، وما أثبت من “د” هو الأشبه بعبارات القوم.
(3) “م”: “كما” تحريف.
(4) “الحكم” ساقطة من “م”.
(5) “د”: “خَسَأَت” مجوّدة، ورسمها كذلك في “م” مهملة بزيادة سن رابعة، وعلَّق في الحاشية: “حسان”! وجميع ما تقدم يأباه السياق، وكأنها كانت مشكلة في نسخة المصنف فاجتهد في رسمها النساخ، وفي طبعة “النعساني” (17): “حشت” وتابعه عليها من جاء بعده، والمثبت هو الصحيح إنْ شاء الله؛ لاستقامة معناه وقربه من رسم النساخ، يقال: “حشأتُه: إذا أدخلته جوفه، وإذا أصبت حشاه” “تاج العروس” (حشأ) (1/ 192).
(1/54)
وتصرفه فيها وحكمه عليها، فرأى الأشياء كلها منه (1)، صادرة عن نفاذ حكمه وتقديره وإرادته القدرية، فغاب بما لاحظ من الجمع عن التمييز والفرق، ويُسمى هذا جمعًا؛ لأن العبد اجتمع نظره إلى مولاه في كل حكم وقع في الكون، وفي ملاحظة هذا الحكم الذي صدرت عنه المتفرقات (2) اجتمع قلبه، ولضعف قلبه حين حضر (3) هذا الاجتماع (4) لم يتسع (5) للتمييز الشرعي بين (6) الحسن والقبيح، بمعنى أنه انطوى حكم معرفته بالحسن والقبيح في طي هذه المعرفة الساترة له عن التمييز، لا بمعنى أنه ارتفع عن قلبه حكم التحسين والتقبيح، بل اندرج في مشهده وانطوى بحيث لو فُتش لوُجِد حكم التحسين والتقبيح مستورًا في طيّ مشهده ذلك، وبالله التوفيق”.
وتلخيص ما ذكره شيخنا – رحمه الله – أن للفعل وجهين: وجه هو قائم بالربّ تعالى، وهو قضاؤه، وقدره له، وعلمه به، ومشيئته النافذة فيه الموجدة له، ووجه هو قائم بالعبد، وهو كسبه له، وفعله واختياره.
_________
(1) “م”: “مسنه” مهملة، والمبثت من “د”.
(2) “م”: “التفرقات” تحريف، وانظر: “مدارج السالكين” (5/ 3930).
(3) “م”: “حبر” تحريف، والمثبت أشبه بالسياق.
(4) من قوله: “الذي صدرت” إلى هنا ساقط من “د”.
(5) “م”:”يقع”، وفي حاشيتها: “ظ: يتسع”، وهو المثبت من “د”.
(6) “د” “م”: “من”، تحريف ظاهر.
(1/55)
والعبد له ملاحظتان: ملاحظة للوجه الأول، وملاحظة للوجه الثاني، والكمال أن لا يغيب بإحدى الملاحظتين عن الأخرى، بل يشهد قضاء الربّ تعالى وقدره ومشيئته، ويشهد مع ذلك فعله وجنايته وطاعته ومعصيته. فيشهد الربوبية والعبودية، فيجتمع في قلبه معنى قوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28]، مع قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29]، وقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا يَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 29 – 30]، وقوله تعالى: {إِنَّهُ (1) تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: 54 – 56].
فمن الناس من يتسع قلبه لهذين الشهودين، ومنهم من يضيق قلبه عن اجتماعهما بقوة الوارد عليه، وضعف المحل، فيغيب بشهود العبودية والكسب وجهة الطاعة والمعصية عن شهود الحكم القائم بالربّ تعالى من غير إنكار له، فلا يظهر عليه إلا أثر الفعل وحكمه الشرعي، وهذا لا يضره إذا كان الإيمان بالحكم قائمًا في قلبه.
ومنهم من يغيب بشهود الحكم وسبقه وأولية الربّ تعالى وسبقه للأشياء عن جهة عبوديته وكسبه وطاعته ومعصيته، فيغيب بشهود الحكم عن شهود المحكوم به، فضلًا عن صفته، فإذا لم يشهد له فعلًا، فكيف يشهد كونه حسنًا أو قبيحًا؟
وهذا أيضًا لا يضره إذا كان علمه بحسن الفعل وقبحه قائمًا في قلبه، وإنما توارى عنه لاستيلاء شهود الحكم على قلبه، وبالله التوفيق.
_________
(1) “د” “م”: “إن هذه”.
(1/56)
فأين هذا من احتجاج أعداء الله بمشيئته وقدره على إبطال أمره ونهيه؟
وعُبَّاد هؤلاء الكفرة يشهدون أفعالهم كلها طاعات؛ لموافقتها المشيئة السابقة، ولو أغضبهم غيرُهم وقصَّر في حقوقهم لم يشهدوا فعله طاعة، مع أنه وافق فيه المشيئة، فما احتج بالقدر على إبطال الأمر والنهي إلا مَن هو مِن أجهل الناس وأظلمهم وأتبعهم لهواه.
وتأمّل قوله سبحانه بعد حكايته عن أعدائه احتجاجَهم بمشيئته وقدره (1) على إبطال ما أمرهم به رسوله، وأنه لولا محبته ورضاه به لما شاءه منهم: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 49]، فأخبر سبحانه أن الحجة له عليهم برسله وكتبه، وبيان ما ينفعهم ويضرهم، ويمكّنهم من الإيمان بمعرفة أدلته وبراهينه، وإعطائهم الأسماع والأبصار والعقول، فثبتت حجته البالغة عليهم بذلك، واضمحلّت حجتهم الباطلة عليه بمشيئته وقضائه.
ثم قرر تمام الحجة بقوله: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}، فإن هذا يتضمن أنه المنفرد بالربوبية والملك والتصرف في خلقه، وأنه لا ربّ غيره، ولا إله سواه، فكيف يعبدون معه إلهًا غيره؟!
فإثبات القدر والمشيئة من تمام حجته البالغة عليهم، وأن الأمر كله لله، وأن كل شيء ما خلا الله باطل، فالقضاء والقدر والمشيئة النافذة من أعظم أدلة التوحيد؛ فَجَعَلها الظالمون الجاحدون حجة لهم على الشرك، فكانت حجة الله هي البالغة، وحجتهم هي الداحضة، وبالله التوفيق.
_________
(1) “م”: “وقدرته”.
(1/57)
إذا عُرف هذا، فموسى صلوات الله عليه وسلامه أعرف بالله وأسمائه وصفاته من أن يلوم على ذنب قد تاب منه فاعله، واجتباه ربّه بعده وهداه واصطفاه، وآدم صلوات الله عليه وسلامه أعرف بربّه من أن يحتج بقضائه وقدره (1) على معصيته، بل إنما لام موسى آدمَ على المصيبة التي نالت الذرية بخروجهم من الجنّة، ونزولهم إلى دار الابتلاء والمحنة، بسبب خطيئة أبيهم، فَذَكر الخطيئة تنبيهًا على سبب المصيبة والمحنة التي نالت الذرية، ولهذا قال له: “أخرجتنا ونفسك من الجنة”، وفي لفظ: “خيبتنا”، فاحتج آدم بالقدر على المصيبة، وقال: إن هذه المصيبة التي نالت الذرية بسبب خطيئتي كانت مكتوبة مقدّرة قبل خلقي. والقدر يُحتج به في المصائب دون المعائب، أي: أتلومني على مصيبة قُدّرت عليّ وعليكم قبل خلقي بكذا وكذا سنة؟
هذا جواب شيخنا – رحمه الله – (2).
وقد يتوجه جواب آخر: وهو أن الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع، ويضر في موضع، فينفع إذا احتُجَّ به بعد وقوعه والتوبة منه وتَرْك معاودته، كما فعل آدم عليه السلام، فيكون في ذكر القدر إذ ذاك من التوحيد ومعرفة أسماء الربّ وصفاته وذكرها ما ينتفع به الذاكر والسامع؛ لأنه لا يَدفع بالقدر أمرًا ونهيًا؛ ولا يُبْطِل به شريعة، بل يُخبر بالحق المحض على وجه التوحيد، والبراءة من الحول والقوة.
_________
(1) “د”: “وقدرته”.
(2) انظر: “درء التعارض” (8/ 418 – 420)، “مجموع الفتاوى” (8/ 303 – 307) وغيرهما.
(1/58)
يوضحه أن آدم عليه السلام قال لموسى: “أتلومني على أن عملتُ عملًا كان مكتوبًا عليَّ قبل أن أُخلق؟ “، فإذا أذنب الرجل ذنبًا ثم تاب منه توبة نصوحًا، وزال أثره وموجبه حتى كأن لم يكن، فأنَّبه مؤنِّب عليه ولامه= حَسُنَ منه أن يحتج بالقدر بعد ذلك، ويقول: هذا أمر كان قد قُدِّر عليَّ قبل أن أُخلق، فإنه لم يَدفع بالقدر حقًّا، ولا ذكره حجة له على الباطل، فلا محذور في الاحتجاج به.
وأما الموضع الذي يضرّ الاحتجاج به ففي الحال أو المستقبل؛ بأن يرتكب فعلًا محرمًا، أو يترك واجبًا فيلومه عليه لائم، فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره، فيُبطل بالاحتجاج به حقًّا، ويرتكب باطلًا، كما احتجَّ به المُصِرّون على شركهم وعبادتهم غير الله فقالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148]، و {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20]، فاحتجوا به مُصَوِّبين لما هم عليه، وأنهم لم يندموا على فعله، ولم يعزموا على تركه، ولم يقروا بفساده، فهذا ضدُّ احتجاج مَن تبين له خطأ نفسه، وندم وعزم كل العزم على أن لا يعود، فإذا لامه لائم بعد ذلك قال: كان ما كان بقدر الله.
ونكتة المسألة: أن اللوم إذا ارتفع صحَّ الاحتجاج بالقدر، وإذا كان اللوم واقعًا فالاحتجاج بالقدر باطل.
فإن قيل: فقد احتجَّ عليٌّ بالقدر في ترك قيام الليل، وأقرَّه النبي – صلى الله عليه وسلم -، كما في “الصحيح” (1) عن علي: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – طَرَقه وفاطمة ليلًا، فقال لهم:
_________
(1) أخرجه البخاري (7347)، ومسلم (775).
(1/59)
“ألا تصلون؟ ” قال علي: فقلت: يا رسول الله، إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثها بعثها. فانصرف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين قلت له ذلك ولم يرجع إليّ شيئًا، ثم سمعته وهو مدبر يضرب فخذه، وهو يقول: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54].
قيل: علي لم يحتج بالقدر على ترك واجب ولا فعل محرم، وإنما قال: إن نفسه ونفس فاطمة بيد الله، فإذا شاء أن يوقظهما ويبعث أنفسهما بعثها.
وهذا موافق لقول النبي – صلى الله عليه وسلم – ليلة باتوا (1) في الوادي: “إن الله قبض أرواحنا حيث شاء، وردها حيث شاء” (2).
وهذا احتجاج صحيح، صاحبه معذور فيه؛ فإن النائم غير مفرّط، واحتجاج غير المفرّط بالقدر صحيح.
وقد أرشد النبي – صلى الله عليه وسلم – (3) إلى الاحتجاج بالقدر في الموضع الذي ينفع العبد الاحتجاج به، فروى مسلم في “صحيحه” (4) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أنِّي فعلتُ لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل؛ فإن
_________
(1) “م”: “ناموا”.
(2) أخرجه البخاري (595) بلفظ: “إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها عليكم حين شاء”، ومسلم (681) من طرق عن أبي قتادة.
(3) “م”: “أرشد الله النبي – صلى الله عليه وسلم – ” بزيادة لفظ الجلالة، والمعنى لا يساعده.
(4) برقم (2664).
(1/60)
لو تفتح عمل الشيطان”.
فتضمن هذا الحديث الشريف أصولًا عظيمة من أصول الإيمان:
أحدها: أن الله سبحانه موصوف بالمحبة، وأنه يحب حقيقة.
الثاني: أنه يحب مقتضى أسمائه وصفاته وما يوافقها، فهو القويُّ ويحب المؤمن القويَّ، وهو وِترٌ يحب الوتر، وجميل يحب الجمال، وعليم يحب العلماء، ونظيف يحب النظافة، ومؤمن يحب المؤمنين، ومحسن يحب المحسنين، وصابر يحب الصابرين، وشاكر يحب الشاكرين.
ومنها: أن محبته للمؤمنين تتفاضل، فيحب بعضهم أكثر من بعض.
ومنها: أن سعادة الإنسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده، والحرص هو بذل الجهد واستفراغ الوسع، فإذا صادف ما ينتفع به الحريص كان حرصه محمودًا، وكماله كله في مجموع هذين الأمرين: أن يكون حريصًا، وأن يكون حرصه على ما ينتفع به، فإنْ حرص على ما لا ينفعه، أو فعل ما ينفعه بغير حرص؛ فاته من الكمال بحسب ما فاته من ذلك، فالخير كله في الحرص على ما ينفع.
ولما كان حرص الإنسان وفعله إنما هو بمعونة الله ومشيئته وتوفيقه، أمره أن يستعين بالله؛ ليجتمع له مقام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، فإنَّ حرصه على ما ينفعه عبادة لله، ولا تتم إلا بمعونته، فَأَمَره بأن يعبده وأن يستعين به.
ثم قال: “ولا تعجز” فإن العجز ينافي حرصه على ما ينفعه، وينافي استعانته بالله، فالحريص على ما ينفعه، المستعين بالله: ضدُّ العاجز.
(1/61)
فهذا إرشاد له قبل وقوع المقدور (1) إلى ما هو من أعظم أسباب حصوله، وهو الحرص عليه مع الاستعانة بمن أزِمَّة الأمور بيديه، ومصدرها منه، ومردّها إليه.
فإن فاته ما لم يُقدَّر له، فله حالتان: حالة عجز، وهي مفتاح عمل الشيطان، فيلقيه العجز إلى “لو”، ولا فائدة في “لو” ههنا، بل هي مفتاح اللوم والجزع والسخط والأسف والحزن، وذلك كله من عمل الشيطان، فنهاه – صلى الله عليه وسلم – عن افتتاح عمله بهذا المفتاح، وأمره بالحالة الثانية، وهي النظر إلى القدر وملاحظته، وأنه لو قُدِّر له لم يفته، ولم يغلبه عليه أحد، فلم يبق له ههنا أنفع من شهود القدر، ومشيئة الربّ النافذة التي توجب وجود المقدور (2)، وإذا انتفت امتنع وجوده، فلهذا قال: “فإن غلبك أمرٌ، فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل” (3). فأرشده إلى ما ينفعه في الحالتين: حالة حصول مطلوبه، وحالة فواته.
فلهذا كان هذا الحديث مما لا يستغني عنه العبد أبدًا، بل هو أشد شيء إليه ضرورة، وهو يتضمن إثبات القدر والكسب والاختيار، والقيام بالعبودية ظاهرًا وباطنًا في حالتي حصول المطلوب وعدمه، وبالله التوفيق.
* * * *
_________
(1) “د”: “القدر”.
(2) “د”: “المعدوم”.
(3) أخرجه بهذا اللفظ أحمد (8791)، وابن ماجه (4168).
(1/62)
الباب الرابع
في ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه، وهو تقدير شقاوته وسعادته ورزقه وأجله وعمله وسائر ما يلقاه، وذكر الجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك (1)
عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ــ وهو الصادق المصدوق ــ: “إنَّ أحدكم يُجمَعُ خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه المَلك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكَتْب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره؛ إنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكونُ بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبقُ عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها” متفق عليه (2).
وعن حذيفة بن أَسِيد يبلغ به النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “يدخل المَلَك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة، فيقول: يا ربِّ، أشقي أم سعيد؟ فيكتبان، فيقول: أي ربِّ، أذكر أم أنثى؟ فيكتبان، ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه، ثم تُطوى الصحيفة فلا يزاد فيها ولا ينقص” رواه
_________
(1) ينظر: “تهذيب السنن” (3/ 195 – 205).
(2) البخاري (3208)، ومسلم (2643).
(1/63)
مسلم (1).
وعن عامر بن واثلة، أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد مَن وُعِظ بغيره. فأتى رجلًا من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقال له: حذيفة بن أَسِيد الغفاري، فحدَّثه بذلك من قول ابن مسعود فقال: وكيف يشقى رجل بغير عمل؟ فقال له الرجل: أتعجب من ذلك؟ فإني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “إذا مرّ بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكًا فصوّرها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا ربِّ، أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب المَلَك، ثم يقول: يا ربِّ، أجله؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب المَلَك، ثم يقول: يا ربِّ، رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب المَلَك، ثم يخرج المَلَك بالصحيفة في يده، فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص”.
وفي لفظ آخر: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأذنيَّ هاتين يقول: “إن النطفة تقع في الرَّحم أربعين ليلة، ثم يتسوّر عليها المَلَك” ــ قال زهير بن معاوية: أحسبه قال: “الذي يخلقها” ــ “فيقول: يا ربِّ، أذكر أم أنثى؟ فيجعله الله ذكرًا أو أنثى، ثم يقول: يا ربِّ، سَوِيّ أو غير سَوِيّ؟ فيجعله الله سَويًّا أو غير سَوِيٍّ، ثم يقول: يا ربِّ، ما رزقُه، وما أجَلُه، وما خُلُقُه؟ ثم يجعله الله عز وجل شقيًا أو سعيدًا”.
وفي لفظ آخر: “إن ملَكًا موكلًا بالرحم، إذا أراد الله أن يخلق شيئًا بإذن الله، لبضعٍ وأربعين ليلة” ثم ذكر نحوه.
_________
(1) برقم (2644).
(1/64)
وهذا الحديث بطرقه انفرد به مسلم (1).
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إن الله عز وجل قد وكَّل بالرحم ملكًا، فيقول: أي ربِّ، نطفةً. أي ربِّ، علقة. أي ربِّ، مضغة. فإذا أراد الله أن يقضي خلقًا، قال المَلَك: أي ربِّ، ذكر أو أنثى، شقي أو سعيد، فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه” متفق عليه (2).
وقال ابن وهب: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أن عبد الرحمن [بن] (3) هنيدة حدثهم، أن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إذا أراد الله أن يخلق النَّسَمة، قال مَلَك الأرحام مُعْرِضًا (4): يا ربِّ، أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله أمره، ثم يقول: يا ربِّ، شقي أم سعيد؟ فيقضي الله أمره، ثم يكتب بين عينيه ما هو لاقٍ حتى النكبة ينكبها” (5).
قال ابن وهب: وأخبرني عبد الله بن لَهِيعة، عن بكر بن سوادة الجُذَامي، عن أبي تميم الجَيْشاني، عن أبي ذر: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “إذا دخَلَتْ ــ يعني
_________
(1) برقم (2645).
(2) البخاري (6595)، ومسلم (2646) واللفظ له.
(3) زيادة لازمة، سقطت من “د” “م”.
(4) “م”: “معها” تحريف، وسقطت من “د”، والمثبت من مصدر الخبر، وفي بعض الطرق: “معترضًا” وفي أخرى: “وهو معرض”، جميعها بمعنى، انظر: “النهاية في الغريب” (عرض) (3/ 215).
(5) “القدر” لابن وهب (30) ـ ومن طريقه ابن حبان (6178) ـ، وأخرجه ابن أبي عاصم في “السنة” (183)، واختلف عن الزهري فيه وقفًا ورفعًا، وصحح الدارقطني رفعه في “العلل” (13/ 133).
(1/65)
النطفة ــ في الرحم أربعين، أتى ملك النفس فعرج إلى الربِّ، فقال: يا ربِّ، عبدك أذكر أو أنثى؟ فيقضي الله بما هو قاض. أشقي أم سعيد؟ (1) فيكتب ما هو كائن”، وذكر بقية الحديث (2).
وقال ابن وهب: أخبرني ابن لَهِيعة، عن كعب بن علقمة، عن عيسى بن هلال، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: “إذا مكثت النطفة في رحم المرأة أربعين ليلة، جاءها ملك فاختلجها (3)، ثم عرج بها إلى الله عز وجل، فقال: اخْلُقْ يا أحسن الخالقين. فيقضي الله فيها بما يشاء من أمره، ثم تُدْفَع إلى الملك، فيسأل الملك (4) عند ذلك فيقول: يا ربِّ، أسَقَطٌ أم يَتِمّ؟ فيبيِّنُ له، ثم يقول: يا ربِّ، أواحد أو توأم؟ فيبيِّنُ له، ثم يقول: يا ربِّ، أذكر أم أنثى؟ فيبيِّنُ له، ثم يقول: يا ربِّ، أناقص الأجل أم تام الأجل؟ فيبيِّنُ له، ثم يقول: يا ربِّ، اقْطَعْ رزقه مع خلقه (5). فيقضيهما جميعًا (6)، فوالذي نفس
_________
(1) هكذا في “د” “م”، متابعة لما في مصدر الرواية الآتي، وفي “القدر” للفريابي (123): “ثم يقول: يارب، أشقي أم سعيد؟ “.
(2) “القدر” لابن وهب (36)، والدارمي في “الرد على الجهمية” (94)، وأخرجه من طرق عن ابن لهيعة موقوفًا: ابن سلام في “التفسير” (1/ 355)، والفريابي في “القدر” (123)، ولا يصح إسناده، مداره على ابن لهيعة، وفي لفظه ما يُسْتنكر، وقد اضطرب في رفعه ووقفه، انظر: “الفوائد المجموعة” بتعليق المعلمي (451).
(3) يعني نزعها وجذبها، “النهاية في الغريب” (خلج) (2/ 59).
(4) “د”: “فيسأل الله”، والمثبت من “م” موافق لمصدر الخبر.
(5) في “القدر” للفريابي (146): “اقطع رزقه. فيقطع له رزقه مع خلقه”.
(6) الظاهر أن ضمير التثنية عائد على: رزقه وخلقه، وعند الفريابي: “فيهبط بهما جميعًا”.
(1/66)
محمد بيده؛ لا ينال إلا ما قُسِم له يومئذٍ، إذا أكل رزقه قُبِض” (1).
وقال عبد الله بن أحمد: أخبرنا أحمد بن العلاء، ثنا أبو الأشعث، ثنا أبو عامر، عن الزبير بن عبد الله، حدثني جعفر بن مصعب، قال: سمعت عروة بن الزبير يحدث، عن عائشة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “إن الله سبحانه حين يريد أن يخلق الخلق، يبعث ملكًا فيدخل الرحم، فيقول: أي ربِّ، ماذا؟ فيقول: غلام أو جارية أو ما شاء أن يخلق في الرحم. فيقول: أي ربِّ، أشقي أم سعيد؟ فيقول: شقي أو سعيد. فيقول: أي ربِّ، ما أجله؟ فيقول: كذا وكذا. فيقول: ما خلقه، ما خلائقه؟ فيقول: كذا وكذا. فما شيء إلا وهو يُخْلق معه في الرحم” (2).
وفي “المسند” (3) من حديث إسماعيل بن عبيد الله ـ وهو ابن أبي المهاجر ـ، أن أم الدرداء حدثته، عن أبي الدرداء، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “فرغ الله عز وجل إلى كل عبد من خمس: من أجله، ورزقه، ومضجعه، وأثره، وشقي أم سعيد”.
_________
(1) “القدر” لابن وهب (45) ـ ومن طريقه ابن بطة في “الإبانة الكبرى” (1418) ـ، وأخرجه اللالكائي في “شرح أصول أهل السنة” (1236)، والفريابي (146).
(2) أخرجه ابن راهويه في “المسند” (2/ 345)، والبزار كما في “كشف الأستار” (2151)، وإسناده منكر، آفته الزبير بن عبد الله، قال ابن عدي في “الكامل” (5/ 152) بعد أن أخرج الحديث: “وأحاديث زبير هذا منكرة المتن والإسناد، لا تروى إلا من هذا الوجه”.
(3) برقم (21723) دون لفظ: “ومضجعه”، وهو فيه من وجه آخر برقم (21722)، وأخرجه بهذا اللفظ عبد الله من طريق والده في “السنة” (859)، ورواه ابن أبي عاصم في “السنة” (307)، وصححه ابن حبان (6150).
(1/67)
وقال ابن حميد: ثنا يعقوب بن عبد الله، عن سعيد بن جبير (1)، عن ابن عباس قال: “إذا وقعت النطفة في الرحم مكثت أربعة أشهر وعشرًا، ثم تُنفخ فيها الروح، ثم مكثت أربعين ليلة، ثم يُبعث إليها ملكٌ، فنَقَفَها في نُقْرة القفا (2)، وكتب شقيًا أو سعيدًا” (3).
وروى ابن أبي خيثمة: حدثنا عبد الرحمن بن المبارك، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “السعيد من سعد في بطن أمه” (4).
رواه أبو داود في “القدر” (5)، عن عبد الرحمن، عن حماد، عن هشام (6) [بن حسان]، عن محمد.
_________
(1) كذا في “د” “م”: “يعقوب … عن سعيد”، سقط بينهما جعفر بن أبي المغيرة، كما في مصدر الرواية.
(2) يعني ضربها ضربة يسيرة في الحفيرة الصغيرة الواقعة بأعلى العنق مما يلي الرأس، انظر: “المحكم” لابن سيده (نقف) (6/ 446)، “المصباح المنير” (نقر) (237).
(3) أخرجه اللالكائي في “شرح الأصول” (1060)، وإسناده ضعيف، ابن حميد هو محمد بن حميد الرازي في حديثه نظر، وانظر: “جامع العلوم والحكم” (1/ 163).
(4) أخرجه من طريق ابن أبي خيثمة به اللالكائي في “شرح الأصول” (1054)، ومحمد هو ابن سيرين.
(5) وأخرجه الطبراني في “الأوسط” (8465)، والبزار كما في “كشف الأستار” (2150) من طرق عن عبد الرحمن به، وصحح إسناده البوصيري في “إتحاف الخيرة” (1/ 169).
(6) في “د”: “عن هناد” تحريف، بعده بياض بمقدار كلمة، والمثبت من مصادر التخريج، وسقطت من “م” جملة: “عن هشام … محمد”.
(1/68)
وقال أحمد بن عبيد: أخبرنا علي بن عبد الله بن مُبَشِّر، ثنا عبد الحميد بن بيان، ثنا خالد بن عبد الله، عن يحيى بن عبيد الله، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من سعد في بطن أمه” (1).
وقال سعيد (2): عن ابن إسحاق (3)، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال: “الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وُعِظ بغيره” (4).
وقال شعبة: عن مُخَارِق، عن طارق، عن عبد الله بن مسعود قال (5): “إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشرّ الأمور محدثاتها، فاتبعوا ولا تبتدعوا، فإن الشقيَّ من شقي في بطن أمه، والسعيد من وُعِظ بغيره”، وكان عبد الله بن مسعود إذا كان ليلة الجمعة، قام فقال: “إن أصدق الحديث كتاب الله، وإن أحسن الهدي هدي محمد، وإن الشقيَّ من
_________
(1) أخرجه من طريق أحمد بن عبيد به اللالكائي في “شرح الأصول” (1057)، ورواه مسدد كما في “إتحاف الخيرة” (1/ 169)، والآجري في “الشريعة” (366) من طرق عن خالد به، إسناده ضعيف من أجل يحيى بن عبيد الله القرشي فقد ضعفه جماعة، وفي أبيه جهالة، ويحسن بما قبله من الطرق.
(2) كذا في “د” “م”: “سعيد”، صوابه: “شعبة” كما في مصادر التخريج.
(3) كذا في “د” “م”: “ابن إسحاق”، صوابه: “أبي إسحاق” كما في مصادر التخريج.
(4) أخرجه من طريق أبي داود به ابن بطة في “الإبانة الكبرى” (1421)، ورواه الفريابي في “القدر” (130) من طريق آخر عن شعبة به، وهو في “صحيح مسلم” (2645) من وجه آخر عن ابن مسعود بسياق أطول.
(5) من قوله: “الشقي من شقي” إلى هنا ساقط من “د”.
(1/69)
شقي في بطن أمه، والسعيد مَن وُعِظ بغيره، وإن شرَّ الرَّوَايا رَوَايا الكذب (1)، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل ما هو آت قريب”، رواهن أبو داود في “القدر” (2).
وذكر الطبراني من رواية أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عنه أنه كان يجيء كل يوم خميس، يقوم قائمًا لا يجلس، فيقول: “إنما هما اثنتان: فأحسن الهدي هدي محمد، وأصدق الحديث كتاب الله، وشرُّ الأمور محدثاتها، وكلُّ محدَث ضلالة، إن الشقيَّ مَن شقي في بطن أمه، وإن السعيد مَن وُعِظ بغيره، ألا فلا يطولنّ عليكم الأمد، ولا يلهينّكم الأمل، فإن كلَّ ما هو آت قريب، وإنما البعيد ما ليس آتيًا، وإن من شرار الناس بَطّال النهار جِيفة الليل، وإنّ قَتْل المؤمن كفر، وإن سِبَابه فسوق، ولا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، ألا إن شرّ الرَّوَايا رَوَايا الكذب، وإنه لا يصلح من الكذب جدٌّ ولا هزل، ولا أن يَعِد الرجلُ صبيه ثم لا ينجزه، ألا وإنَّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الصادق يقال له: صدق وبرّ، وإن الكاذب يقال له: كذب وفجر، وإني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “إن العبد ليصدق فيكتب عند الله صديقًا، وإنه ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا”. ألا هل تدرون ما
_________
(1) الرَّوَايا جمع رَوِيّة: ما يفكّر فيه الإنسان من القول والفعل، وقيل غيره، انظر: “النهاية في الغريب” (2/ 279).
(2) أخرج شطره الأول ابن بطة في “الإبانة الكبرى” (1423)، واللالكائي في “شرح الأصول” (1215) من طريق أبي داود به، وأخرج الدارمي (213) قريبًا من شطره الثاني.
والشطران في “صحيح البخاري” (6098، 7277) بسياق أخصر منه.
(1/70)
العِضَةُ؟ هي النميمة التي تفسد بين الناس” (1)، وهذا متواتر عن عبد الله.
وبلغ معاوية أن الوباء اشتد بأهل داب (2) فقال: “لو حولناهم عن مكانهم، فقال له أبو الدرداء: وكيف لك يا معاوية بأنفس قد حضرت آجالها؟! فكأنّ معاوية وَجَدَ على أبي الدرداء، فقال له كعب: يا معاوية، لا تجد على أخيك؛ فإن الله سبحانه (3) لم يدع نفسًا حين تستقر نطفتها في الرحم أربعين ليلة إلا كتب: خَلْقها وخُلُقها وأجلها ورزقها، ثم لكل نفس ورقة خضراء معلقة بالعرش، فإذا دنا أجلها خَلُقَت (4) تلك الورقة حتى تيبس، ثم تسقط، فإذا يبست سقطت تلك النفس وانقطع أجلها ورزقها”، ذكره أبو داود عن محمود بن خالد، ثنا مروان، ثنا معاوية بن سلّام، حدثني أخي زيد بن سلّام، عن جده ابن سلّام (5) قال: بلغ معاوية فذكره (6).
وقال أبو داود: ثنا واصل بن عبد الأعلى، ثنا ابن فضيل، عن الحسن بن عمرو الفُقَيْمي، عن الحكم، عن مجاهد في قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ
_________
(1) “المعجم الأوسط” (7871)، و”الكبير” (8522)، وأخرجه معمر في “الجامع” (20076)، والبغوي في “شرح السنة” (3575)، وروى مسلم (2606) تعريف العضة وبعض المرفوع منه، وقد جمع الطبراني في “الكبير” (9/ 98 – وما بعدها) طرق هذه الخطبة وألفاظها في عنوان مستقل: “خطبة ابن مسعود ومن كلامه”.
(2) كذا في “د” “م” و”الإبانة”، ولم أهتد إليها.
(3) من قوله: “وكيف لك يا معاوية” إلى هنا ساقط من “د”.
(4) أي أصبحت قديمة بالية، انظر: “الصحاح” (خلق) (4/ 1472).
(5) كذا في “د” “م”: “ابن سلام” تحريف، صوابه: “أبي سلام”، وهو أبو سلام ممطور الحبشي، انظر: “تهذيب الكمال” (28/ 484)، ووقع على الوجه في “الإبانة”.
(6) ومن طريق أبي داود أخرجه ابن بطة في “الإبانة الكبرى” (1817).
(1/71)
طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13]، قال: “ما من مولود يولد إلا في عنقه ورقة مكتوب فيها: شقيٌّ أو سعيد” (1).
وفي “الصحيحين” (2) عن أُبيّ بن كعب قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إن الغلام الذي قتله الخضر طُبِع يوم طُبِع كافرًا، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا”.
وفي “صحيح مسلم” (3) عن عائشة قالت: توفي صبيٌّ من الأنصار، فقلت: طوبى له، عصفور من عصافير الجنّة، لم يعمل السوء ولم يدركه. فقال: “أو غير ذلك يا عائشة! إن الله خلق للجنة أهلًا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلًا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم”.
ولا يناقض هذا حديث سمرة بن جندب، الذي رواه البخاري في “صحيحه” (4) من رؤيا النبي – صلى الله عليه وسلم – أطفال المشركين حول إبراهيم الخليل في الروضة؛ فإن الأطفال منقسمون إلى شقي وسعيد كالبالغين، فالذين رآهم حول إبراهيم السعداء من أطفال المسلمين والمشركين، وأنكر على عائشة شهادتها للطفل المعيَّن بأنه عصفور من عصافير الجنة، وقد يكون من القسم الآخر، كالشهادة للبالغين، وبالله التوفيق.
_________
(1) ومن طريق أبي داود أخرجه ابن بطة في “الإبانة الكبرى” (1743)، وأخرجه الطبري (14/ 520) عن واصل به.
(2) اللفظ لـ “مسلم” (2661)، وليس بهذا السياق عند البخاري، بل بمعناه في قصة الخضر وموسى عليه السلام في عدة مواضع، انظر على سبيل المثال: (4726).
(3) برقم (2662).
(4) برقم (1386).
(1/72)
فاجتمعت هذه الأحاديث والآثار على تقدير رزق العبد وأجله وشقاوته وسعادته وهو في بطن أمه، واختلفت في وقت هذا التقدير، وهذا تقدير بعد التقدير الأول السابق على خلق السماوات والأرض، وبعد التقدير الذي وقع يوم استخراج الذرية بعد خلق أبيهم آدم.
ففي حديث ابن مسعود أن هذا التقدير يقع بعد مائة وعشرين يومًا من حصول النطفة في الرحم، وحديث أنس غير مؤقت، وأما حديث حذيفة بن أَسيد فقد وقَّت فيه التقدير بأربعين يومًا، وفي لفظ: بأربعين ليلة (1)، وفي لفظ: ثنتين وأربعين ليلة، وفي لفظ: بثلاث وأربعين ليلة، وهو حديث انفرد به مسلم ولم يروه البخاري.
وكثير من الناس يظن التعارض بين الحديثين، ولا تعارض بينهما بحمد الله؛ فإن الملك الموكل بالنطفة يكتب ما يقدره الله سبحانه على رأس الأربعين الأولى، حتى تأخذ في الطور الثاني وهو العلقة، وأما الملك الذي ينفخ فيه الروح فإنما ينفخها بعد الأربعين الثالثة، فيؤمر عند نفخ الروح فيه بكَتْب: رزقه، وأجله، وعمله، وشقاوته وسعادته، وهذا تقدير آخر غير التقدير الذي كتبه الملك الموكل بالنطفة، ولهذا قال في حديث ابن مسعود: “ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات”، وأما الملك الموكل بالنطفة، فذاك راتب معها ينقلها بإذن الله من حال إلى حال، فتقدير الله سبحانه شأن النطفة حين تأخذ في مبدأ التخليق وهو العلق، وتقدير شأن الروح حين تتعلق بالجسد بعد مائة وعشرين يومًا، فهو تقدير بعد تقدير.
_________
(1) جملة: “وفي لفظ: بأربعين ليلة” ساقطة من “م”.
(1/73)
فاتفقت أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وصدَّق بعضها بعضًا، ودلّت كلها على إثبات القدر السابق، ومراتب التقدير، وما يؤتى أحدٌ إلا من غلط في الفهم، أو غلط في الرواية، ومتى صحَّت الرواية وفُهمت كما ينبغي تبين أن الأمر كله من مشكاة واحدة صادقة متضمنة لنفس الحق، وبالله التوفيق.
* * * *
(1/74)
الباب الخامس
في ذكر التقدير الرابع ليلة القدر
قال الله تعالى: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان: 1 – 5]، وهذه هي ليلة القدر قطعًا؛ لقوله تعالى: {أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} [القدر: 1]، ومَن زعم أنها ليلة النصف من شعبان فقد غلط.
قال سفيان: عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: “ليلة القدر ليلة الحكم” (1).
وقال سفيان: عن محمد بن سُوقَة، عن سعيد بن جبير: “يؤذن للحُجّاج في ليلة القدر، فيكتبون بأسمائهم وأسماء آبائهم، فلا يغادر منهم أحد، ولا يزاد فيهم، ولا ينقص منهم” (2).
وقال ابن علية: حدثنا ربيعة بن كلثوم قال: قال رجل للحسن ــ وأنا أسمع ــ: أرأيت ليلة القدر، في كل رمضان هي؟ قال: نعم، والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي كل رمضان، وإنها لليلة القدر، يُفْرَقُ فيها كل أمر حكيم، فيها يقضي الله كل أجل وعمل ورزق إلى مثلها (3).
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق في “التفسير” (3664)، وابن أبي شيبة في “المصنف” (8784)، وسفيان هو الثوري.
(2) أخرجه الطبري (24/ 544).
(3) أخرجه الطبري (24/ 544).
(1/75)
وذكر يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال: “يُكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر حتى الحُجّاج، يقال: يحج فلان، ويحج فلان” (1).
وذكر عنه سعيد بن جبير في هذه الآية: “إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى” (2).
وقال مقاتل: “يُقَدّر الله في ليلة القدر أمر السنة في بلاده وعباده إلى السنة القابلة” (3).
وقال أبو عبد الرحمن السلمي: “يُقَدّر أمر السنة كلها في ليلة القدر” (4).
وهذا هو الصحيح: أن القدر مصدر قَدَّر الشيء يقدّره قدرًا، فهي ليلة الحكم والتقدير.
وقالت طائفة: ليلة القدر ليلة الشرف والعظمة، من قولهم: لفلان قَدْرٌ في الناس.
فإن أراد صاحب هذا القول أن لها قدرًا وشرفًا مع ما يكون فيها من
_________
(1) أخرجه ابن نصر في “قيام الليل-مختصره” (250)، وعزاه السيوطي في “الدر المنثور” (13/ 249) إلى ابن أبي حاتم وابن المنذر.
(2) أخرجه الحاكم (3678)، وبنحوه الطبري (21/ 10).
(3) بنحوه في “تفسير مقاتل” (3/ 817)، والمؤلف صادر عن “البسيط” للواحدي (24/ 190) في هذا الموضع والذي يليه.
(4) أخرجه الطبري (21/ 8)، والبيهقي في “شعب الإيمان” (3390)، وهو في “التفسير” المنسوب إلى مجاهد (597).
(1/76)
التقدير فقد أصاب، وإن أراد أن معنى القدر فيها هو الشرف والخطر فقط فقد غلط؛ لأن الله سبحانه أخبر أن فيها يُفْرق كل أمر حكيم، أي: يُفصل ويُبَيّن، ويُبْرم كل أمر حكيم.
* * * *
(1/77)
الباب السادس
في ذكر التقدير الخامس اليومي
قال الله تعالى: {(28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي} [الرحمن: 29]، ذكر الحاكم في “صحيحه” (1) من حديث أبي حمزة الثُّمَالي، عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس: “إن مما خلق الله لوحًا محفوظًا من درة بيضاء، دَفّتاه من ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابه نور، ينظر فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة أو مَرَّة، ففي كل نظرة منها يخلق، ويرزق، ويحيي، ويميت، ويعزُّ، ويذلّ، ويفعل ما يشاء، فذلك قوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي} “.
وقال مجاهد والكلبي وعبيد بن عمير وأبو ميسرة وعطاء ومقاتل: “من شأنه أنه يحيي ويميت، ويرزق ويمنع، وينصر، ويعزّ ويذلّ، ويفك عانيًا، ويشفي مريضًا، ويجيب داعيًا، ويعطي سائلًا، ويتوب على قوم، ويكشف كربًا، ويغفر ذنبًا، ويضع أقوامًا، ويرفع آخرين”، دخل كلام بعضهم في بعض (2).
وقد ذكر الطبراني في “المعجم” و”السُّنَّة”، وعثمان بن سعيد الدارمي في كتابه “الرد على المَرِيسي” (3)، عن عبد الله بن مسعود قال: “إن ربكم عز
_________
(1) برقم (3917)، وأخرجه عبد الرزاق في “التفسير” (2/ 263)، والطبري (22/ 215).
(2) انظر: “البسيط” (21/ 161).
(3) “المعجم الكبير” (8886) واللفظ له، “الرد على المريسي” (1/ 475)، وأخرجه أبو داود في “الزهد” (168)، وفي إسناده مجهولان، وبذلك أعله البيهقي في “الأسماء والصفات” (674).
(1/78)
وجل ليس عنده ليل ولا نهار، نور السماوات والأرض من نور وجهه، وإن مقدار كل يوم من أيامكم عنده ثنتي عشرة ساعة (1)، فتعرض عليه أعمالكم بالأمس أول النهار اليوم، فينظر فيها ثلاث ساعات، فيطلع فيها على ما يكره، فيغضبه ذلك، وأول من يعلم غضبه حملة العرش، يجدونه يثقل عليهم، فيسبحه حملة العرش، وسُرَادِقات العرش (2)، والملائكة المقربون، وسائر الملائكة، ثم ينفخ جبريل في القرن فلا يبقى شيء إلا سمع صوته، فيسبحون الرحمن عزَّ وجل ثلاث ساعات حتى يمتلئ الرحمن عز وجل رحمة، فتلك ستّ ساعات، ثم يؤتى بالأرحام، فينظر فيها ثلاث ساعات، فذلك قوله في كتابه: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران: 6]، وقوله: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49 – 50]، فتلك تسع ساعات، ثم يؤتى بالأرزاق فينظر فيها ثلاث ساعات، فذلك قوله في كتابه: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الشورى: 12]، و {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي} [الرحمن: 29]، قال: هذا من شأنكم وشأن ربكم تبارك وتعالى”.
قال الطبراني: حدثنا بشر بن موسى، ثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا حماد ابن سلمة عن أبي عبد السلام، عن عبد الله ــ أو عبيد الله ــ بن مِكْرَز، عن ابن
_________
(1) “م”: “سنة” تحريف، والمثبت من “د” موافق لما في مصادر التخريج.
(2) واحدها سُرَادِق: وهو كل ما أحاط بشيء من حائط ونحوه، انظر: “النهاية في الغريب” (سردق) (2/ 359).
(1/79)
مسعود فذكره.
وقال عثمان بن سعيد الدارمي: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد ابن سلمة، عن الزبير أبي عبد السلام، عن أيوب بن عبد الله الفهري، أن ابن مسعود قال: “إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار”، فذكر الحديث إلى قوله: “فيسبحه حملة العرش، وسُرَادِقات العرش، والملائكة المقربون، وسائر الملائكة”.
فهذا تقدير يومي، والذي قبله تقدير حولي، والذي قبله تقدير عمري عند تعلّق (1) النفس به، والذي قبله كذلك، لكن (2) عند أول تخليقه وكونه مضغة، والذي قبله تقدير سابق على وجوده، لكن بعد خلق السماوات والأرض، والذي قبله تقدير سابق على خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكل واحد من هذه التقادير كالتفصيل من التقدير السابق.
وفي ذلك دليل على كمال علم الربِّ وقدرته وحكمته، وزيادة تعريف لملائكته وعباده المؤمنين بنفسه وأسمائه وصفاته.
وقد قال تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29]. وأكثر المفسرين على أن هذا الاستنساخ من اللوح المحفوظ، فتستنسخ الملائكة ما يكون من أعمال بني آدم قبل أن يعملوها، فيجدون ذلك موافقًا لما يعملونه، فيثبت الله منه ما فيه ثواب أو عقاب، ويطرح منه اللغو.
_________
(1) “د”: “تعليق”.
(2) “لكن” من “د”.
(1/80)
وذكر ابن مردويه في “تفسيره” (1) من طرق إلى بقية، عن أرطاة بن المنذر، عن مجاهد، عن ابن عمر يرفعه: “إن أول ما خلق الله القلم، فأخذه بيمينه ـ وكلتا يديه يمين ـ، فكتب الدنيا وما يكون فيها من عمل معمول، من برٍّ أو فجور، رطب أو يابس، فأحصاه عند الذِّكر (2)، وقال: اقرؤوا إن شئتم: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29]، فهل تكون النسخة إلا من شيء قد فُرِغ منه”.
وقال آدم: حدثنا ورقاء، عن عطاء بن السائب، عن مِقْسَم، عن ابن عباس: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] قال: “تستنسخ الحفظة من أم الكتاب ما يعمل بنو آدم، فإنما يعمل الإنسان على ما استنسخ الملك من أم الكتاب” (3).
وفي “تفسير الأشجعي”: عن سفيان، عن منصور، عن مِقْسَم، عن ابن عباس قال: “كَتَب في الذكر عنده كل شيء هو كائن، ثم بَعَث الحفظة على
_________
(1) عزاه إليه في “الدر المنثور” (13/ 305)، وأخرجه ابن أبي عاصم في “السنة” (106)، والطبراني في “مسند الشاميين” (673)، والآجري في “الشريعة” (339) من طرق عن بقية به، وإسناده جيد، بقية صرح بالتحديث عند ابن أبي عاصم وغيره، وقد تابعه غير واحد.
(2) كذا في “د” “م”: “فأحصاه عند الذكر”، والصواب: “فأحصاه عنده في الذكر” كما في مصدر الرواية ومصادر التخريج الأخرى، وبه يستقيم المعنى.
(3) هو في التفسير المنسوب إلى مجاهد (600) من طريق آدم به، ومن هذا الوجه أخرجه البيهقي في “القضاء والقدر” (40)، وعزاه في “الدر المنثور” (13/ 306) إلى ابن مردويه.
(1/81)
آدم وذريته، ووكَّلَ ملائكته ينسخون من الذكر ما يعمل العباد”، ثم قرأ: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] (1).
وفي “تفسير الضحاك”: عن ابن عباس في هذه الآية قال: “هي أعمال أهل الدنيا: الحسنات والسيئات، تنزل من السماء كل غداة وعشية، ما يصيب الإنسان في ذلك اليوم أو الليلة، الذي يُقْتل، والذي يغرق، والذي يقع من فوق بيت، والذي يتردّى من جبل، والذي يقع في بئر، والذي يُحرَق بالنار، فيحفظوا عليه ذلك كله، وإذا كان المساء صعدوا به إلى السماء، فيجدونه كما في السماء، مكتوبًا في الذكر الحكيم” (2).
* * * *
_________
(1) عزاه في “الدر المنثور” (13/ 306) إلى ابن مردويه، وأخرجه من وجه آخر عن مِقْسَم بنحوه أبو نعيم في “حلية الأولياء” (8/ 262).
(2) قال في “الدر المنثور” (13/ 306): “أخرج ابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس”.
(1/82)
الباب السابع
في أن سَبْق المقادير بالشقاوة والسعادة لا يقتضي ترك الأعمال، بل يقتضي الاجتهاد والحرص؛ لأنها إنما سبقت بالأسباب
يسبق إلى أفهام كثير من الناس أن القضاء والقدر إذا كان قد سبق فلا فائدة في الأعمال؛ فإن ما قضاه الربُّ سبحانه وقدَّره لابدَّ من وقوعه، فتوسُّط العمل لا فائدة فيه.
وقد سبق إيراد هذا السؤال من الصحابة – رضي الله عنهم – على النبي – صلى الله عليه وسلم -، فأجابهم بما فيه الشفاء والهدى.
ففي “الصحيحين” (1) عن علي بن أبي طالب قال: “كُنّا في جنازة في بَقِيع الغَرْقَد، فأتانا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ومعه مِخْصَرة، فنكَّسَ فجعل يَنْكُتُ بمِخْصَرَته، ثم قال: “ما منكم من أحد، ما من نفس مَنْفوسة، إلا كُتِبَ مكانُها من الجنة والنار، وإلّا قد كُتِبت شقية أو سعيدة”، فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منَّا من أهل السعادة، فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومَن كان مِن أهل الشقاوة، فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة. فقال: “اعملوا فكل ميسّرٌ، أما أهل السعادة فيُيَسّرون إلى عمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فيُيَسّرون لعمل أهل الشقاوة”. ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ
_________
(1) تقدم تخريجه في (26).
(1/83)
} [الليل: 5 – 10].
وفي بعض طرق البخاري: أفلا نتكل على كتابنا، وندع العمل؟ فمَن كان منَّا من أهل السعادة، فسيصير إلى أهل السعادة، ومَن كان من أهل الشقاوة، فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة.
وعن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: جاء سراقة بن مالك بن جُعْشُم، فقال: يا رسول الله، بَيِّن لنا ديننا كأننا خُلِقنا الآن، فيم العمل اليوم؟ أفيما جَفَّت به الأقلام، وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟ قال: “لا، بل فيما جَفّت به الأقلام، وجرت به المقادير”، قال: ففيم العمل؟ فقال: “اعملوا فكلٌّ ميسَّر” رواه مسلم (1).
وعن عمران بن حصين قال: قيل: يا رسول الله، أعُلِم أهلُ الجنَّة من أهل النَّار؟ فقال: “نعم”، قيل: ففيم يعمل العاملون؟ فقال: “كُلٌّ ميسَّرٌ لما خُلِق له” متفق عليه.
وفي بعض طرق البخاري: “كلٌّ يعمل لما خُلِق له، أو لما يُسِّرَ له” (2).
ورواه الإمام أحمد أطول من هذا فقال: حدثنا صفوان بن عيسى، ثنا عروة (3) بن ثابت، عن يحيى بن عُقَيل، عن ابن نعيم (4)، عن أبي الأسود
_________
(1) برقم (2648).
(2) تقدم تخريجهما في (27).
(3) كذا في “د” “م”: “عروة” تحريف، صوابه: “عَزْرَة”، كما في مصدر الرواية وكتب الرجال.
(4) كذا في “د” “م”: “ابن نعيم” تحريف، صوابه: “ابن يَعْمر”، كما في مصدر الرواية وكتب الرجال، وهو يحيى بن يعمر البصري.
(1/84)
الدُّؤلي قال: غدوتُ على عمران بن حصين يومًا من الأيام، فقال: إنَّ رجلًا من جهينة أو مزينةَ أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، شيء قُضِي عليهم، أو مضى عليهم في قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم، واتُّخِذَت عليهم به الحجة؟ قال: “بل شيء قُضِي عليهم، ومضى عليهم”، قال: فلِمَ يعملون إذن يا رسول الله؟ قال: “من كان الله عز وجل خلقه لواحدة من المنزلتين يهيئه لعملها، وتصديق ذلك في كتاب الله {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7 – 8] ” (1).
وقال المحاملي: ثنا أحمد بن المقدام، ثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت أبا سفيان يحدث عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر، أنه قال: نزل: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105]، فقال عمر: يا نبي الله، على ما نعمل: على أمر قد فُرِغ منه، أم لم يُفْرَغ منه؟ قال: “لا، على أمر قد فُرِغ منه، وجرت به الأقلام، ولكن كل امرئ ميسّر، {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ} [الليل: 5 – 10] ” (2).
_________
(1) “المسند” (19936)، وأخرجه من طرق عن عزرة به الطيالسي (881)، وابن أبي عاصم في “السنة” (174)، ومسلم (2650).
(2) ومن طريق المحاملي أخرجه اللالكائي في “شرح الأصول” (1067)، ورواه عبد بن حميد “المنتخب” (20)، وابن أبي عاصم في “السنة” (170)، والترمذي (3111) من طرق عن أبي سفيان سليمان بن سفيان به، وقال: “هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث عبد الملك بن عمرو”، وأبو سفيان منكر الحديث لم يرو سوى بضعة أحاديث كما في “الكامل” (5/ 248)، واختلف عنه أيضًا فيما أشار إليه الدارقطني في “العلل” (2/ 68)، وللحديث متابعات وشواهد يصح بها، انظر: “ظلال الجنة” (163).
(1/85)
فاتفقت هذه الأحاديث ونظائرها على أن القدر السابق لا يمنع العمل، ولا يوجب الاتكال عليه، بل يوجب الجد والاجتهاد.
ولهذا لمّا سمع بعض الصحابة ذلك قال: “ما كنت أشدّ اجتهادًا مني الآن” (1)، وهذا مما يدل على جلالة فقه الصحابة، ودقة أفهامهم، وصحة علومهم؛ فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – أخبرهم بالقدر السابق وجريانه على الخليقة بالأسباب، وأن العبد ينال ما قُدِّر له بالسبب الذي أُقْدِر عليه، ومُكِّن منه، وهُيِّئ له، فإذا أتى بالسبب أوصله إلى القدر الذي سبق له في أم الكتاب، وكلما ازداد اجتهادًا في تحصيل السبب كان حصول المُقَدَّر له أدنى إليه.
وهذا كما إذا قُدِّر له أن يكون من أعلم أهل زمانه، فإنه لا ينال ذلك إلا بالاجتهاد والحرص على التعلم وأسبابه، وإذا قُدِّر له أن يُرزق الولد لم ينل ذلك إلا بالنكاح أو التسرّي والوطء، وإذا قُدِّر له أن يستغل من أرضه من المغلِّ كذا وكذا لم ينله إلا بالبذر وفعل أسباب الزرع، وإذا قُدِّر له الشبع والري والدفء فذلك موقوف على الأسباب المحصلة لذلك من الأكل والشرب واللبس، وهذا شأن أمور المعاش والمعاد، فمن عطّل العمل اتكالًا على القدر السابق، فهو بمنزلة من عطّل الأكل والشرب والحركة في المعاش وسائر أسبابه اتكالًا على ما قُدِّر له.
_________
(1) أخرجه من قول سراقة بن جعشم به مسدد كما في “إتحاف الخيرة” (1/ 168)، ونُقِل معناه عن غير واحد من الصحابة، انظر: “فتح الباري” (11/ 497).
(1/86)
وقد فطر الله سبحانه عباده على الحرص على الأسباب التي بها قوام معايشهم ومصالحهم الدنيوية، بل فطر على ذلك سائر الحيوانات، فهكذا الأسباب التي بها مصالحهم الأخروية في معادهم، فإنه سبحانه ربّ الدنيا والآخرة، وهو الحكيم بما نصبه من الأسباب في المعاش والمعاد، وقد يسَّر كُلًّا من خَلْقه لما خَلَقَه له في الدنيا والآخرة، فهو مُهيَّأ له مُيسَّر له.
فإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها كان أشّد اجتهادًا في فعلها والقيام بها منه في أسباب معاشه ومصالح دنياه.
وقد فَقِه هذا كل الفقه مَن قال: “ما كنت أشد اجتهادًا مني الآن”، فإن العبد إذا علم أن سلوك هذا الطريق يفضي به إلى رياض مونقة، وبساتين معجبة، ومساكن طيبة، ولذة ونعيم لا يشوبه نكد ولا تعب، كان حرصه على سلوكها، واجتهاده في السير فيها بحسب علمه بما يفضي إليه.
ولهذا قال أبو عثمان النهدي لسلمان: “لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحًا مني بآخره”، وذلك لأنه إذا كان قد سبق له من الله سابقة، وهيّأه ويسّره للوصول إليها كان فرحه بالسابقة التي سبقت له من الله أعظم من فرحه بالأسباب التي تأتي بها، فإنها سبقت له من الله قبل الوسيلة منه، وعلمها الله وشاءها وكتبها وقدرها، وهيأ له أسبابها؛ ليوصله إليها، فالأمر كله من فضله وجوده السابق، فسبق له من الله سابقة السعادة ووسيلتها وغايتها، فالمؤمن أشد فرحًا بذلك من كون أمره مجعولًا إليه، كما قال بعض السلف: “والله ما أحب أن يجعل أمري إليّ، إنه إذا كان بيد الله خيرًا (1) من أن يكون بيدي”.
_________
(1) هكذا في “د” “م”: “كان بيد الله خيرًا” بنصب “خير”، والأشبه الرفع؛ اسم لـ “كان”.
(1/87)
فالقدر السابق معين على الأعمال، وباعث عليها، ومقتضٍ لها، لا أنه منافٍ لها، وصادّ عنها، وهذا موضع مزلة قدم، من ثبتت قدمه عليه فاز بالنعيم المقيم، ومن زلَّت قدمه عنه هوى إلى قرار الجحيم.
فالنبي – صلى الله عليه وسلم – أرشد الأمة في القدر إلى أمرين، هما سببا السعادة: الإيمان والإقرار به، فإنه نظام التوحيد. والإتيان بالأسباب التي توصل إلى خيره، وتحجز عن شره، وذلك نظام الشرع.
فأرشدهم إلى نظام التوحيد والأمر، فأبى المنحرفون إلا القدح بإنكاره في أصل التوحيد، أو القدح بإثباته في أصل الشرع، ولم تتسع عقولهم ــ التي لم يُلقِ الله عليها مِن نوره ــ للجمع بين ما جمعت الرسل جميعهم بينه، وهو القدر والشرع، والخلق والأمر {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213]، والنبي – صلى الله عليه وسلم – شديد الحرص على جمع هذين الأمرين للأمة، وقد تقدم قوله: “احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز” (1)، وأن العاجز مَن لم يتسع للأمرين، وبالله التوفيق.
* * * *
_________
(1) تقدم تخريجه في (60).
(1/88)
الباب الثامن
في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}
قد تقدمت الأحاديث بوقوع أهل السعادة في إحدى القبضتين، وكتابتهم بأسمائهم، وأسماء آبائهم في ديوان السعداء قبل خلقهم.
وفي “صحيح الحاكم” (1) من حديث الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] قال المشركون: فالملائكة وعيسى وعزير يُعْبَدون من دون الله! قال: فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]. وهذا إسناد صحيح.
وقال علي بن المديني: ثنا يحيى بن آدم، ثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم قال: أخبرني أبو رَزِين، عن أبي يحيى، عن ابن عباس أنه قال: آية لا يسأل الناس عنها، لا أدري أعرفوها فلم يسألوا عنها، أو جهلوها فلا يسألون عنها. فقيل له: وما هي؟ فقال: لما نزلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}، شَقَّ ذلك على قريش، وعلى أهل
_________
(1) برقم (3449) وقال: “صحيح الإسناد” ـ ومن طريقه ابن عساكر في “تاريخ دمشق” (40/ 328) ـ، وأخرجه الطبري (16/ 418)، والطحاوي في “شرح المشكل” (985) من وجه آخر عن ابن عباس.
(1/89)
مكة، وقالوا: يشتم آلهتنا. قال: فجاء ابن الزِّبَعْرى فقال: ما لكم؟ قالوا: يشتم آلهتنا. قال: وما قال؟ قالوا: قال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}. قال: ادعوه لي. فلما دُعِيَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -، قال: يا محمد، هذا شيء لآلهتنا خاصة، أم لكل من عُبِدَ من دون الله؟ فقال: “لا، بل لكل من عُبِدَ من دون الله”، قال: فقال ابن الزِّبَعْرى: خُصِمتَ وربِّ هذه البَنِيّة ــ يعني الكعبة ــ، ألستَ تزعم أن الملائكة عبادٌ صالحون، وأن عيسى عبد صالح، وأن عُزيرًا عبد صالح، وهذه بنو مُلَيْح تعبد الملائكة، وهذه النصارى تعبد عيسى، وهذه اليهود تعبد عزيرًا.
قال: فضجّ أهلُ مكة، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} ــ الملائكة وعزير وعيسى ــ {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء: 101 – 102] قال: ونزلت: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57] قال: هو الضجيج (1).
وهذا الإيراد الذي أورده ابن الزِّبَعْرى لا يَرِد على الآية؛ فإنه سبحانه قال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ولم يقل: “ومَن تعبدون من
_________
(1) أخرجه من طريق ابن المديني به الطبراني في “الكبير” (12739)، والواحدي في “أسباب النزول” (101)، ومن طريق ابن آدم أخرجه الطحاوي في “شرح المشكل” (986)، ورواه أحمد (2920) بسياق مختلف من طريق عاصم، ولا بأس بإسناده، ويعضده رواية ابن عباس السابقة، وحسنه ابن حجر في “موافقة الخبر الخبر” (2/ 174).
وأبو يحيى هو الأعرج اسمه مصدع، وأبو رزين اسمه مسعود بن مالك، وعاصم بن أبي النجود القارئ.
(1/90)
دون الله”، و”ما” لما لا يعقل، فلا يدخل فيها الملائكة والمسيح وعزير، وإنما ذلك للأحجار ونحوها التي لا تعقل.
وأيضًا فإن السورة مكية، والخطاب فيها لعبَّاد الأصنام، فإنه قال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} فلفظة “إنكم” ولفظة “ما” تبطل سؤاله، وهو رجل من فُصَحاء العرب لا يخفى عليه ذلك، ولكن إيراده إنما كان من جهة القياس والعموم المعنوي، الذي يعم الحكم فيه بعموم علته، أي: إنْ كان كونه معبودًا يوجب أن يكون حصب جهنم، فهذا المعنى بعينه موجود في الملائكة وعزير والمسيح، فأُجيب بالفارق، وذلك من وجوه:
أحدها: أن الملائكة والمسيح وعزيرًا ممن سبقت لهم من الله الحسنى، فهم سعداء لم يفعلوا ما يستوجبون به النار، فلا يُعذَّبون بعبادة غيرهم، مع بغضهم ومعاداتهم لهم، فالتسوية بينهم وبين الأصنام أقبح من التسوية بين البيع والربا، والميتة والمذكَّى، وهذا شأن أهل الباطل، وإنما يسوّون بين ما فرّق الشرع والعقل والفطرة بينه، ويفرّقون بين ما سَوَّى الله ورسوله بينه.
الفرق الثاني: أن الأوثان حجارة غير مكلفة ولا ناطقة، فإذا حُصِبَت بها جهنم إهانةً لها ولعابديها؛ لم يكن في ذلك تعذيب مَن لا يستحق العذاب، بخلاف الملائكة والمسيح وعزير، فإنهم أحياء ناطقون، فلو حُصِبَت بهم النَّار كان ذلك إيلامًا وتعذيبًا لهم.
الثالث: أن من عَبَدَ هؤلاء بزعمه فإنه لم يعبدهم في الحقيقة؛ فإنهم لم يدعوا إلى عبادتهم، وإنما عَبَدَ المشركون الشياطين، وتوهّموا أن العبادة لهؤلاء، فإنهم عبدوا بزعمهم مَن ادعى أنه معبود مع الله، وأنه معه إله، وقد برَّأ الله سبحانه ملائكته والمسيح وعزيرًا من ذلك، وإنما ادعى ذلك
(1/91)
الشياطين، وهم بزعمهم يعتقدون أنهم يرضون بأن يكونوا معبودين مع الله، ولا يرضى بذلك إلا الشياطين، ولهذا قال سبحانه: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَا إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40 – 41]، وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60]، وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّيَ إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 26 – 29]، فما عُبِدَ غيرُ الله إلا الشيطان.
وهذه الأجوبة مأخوذة (1) من قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى}، فتأمل الآية تجدها تلوح في صفحات ألفاظها، وبالله التوفيق.
والمقصود: ذكر الحسنى التي سبقت من الله لأهل السعادة قبل وجودهم.
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: ثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد، ثنا أبو عامر العقدي، ثنا عروة (2) بن ثابت الأنصاري، ثنا الزهري، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، أن عبد الرحمن بن عوف مرض مرضًا
_________
(1) “م”: “منتزعة”.
(2) كذا في “د” “م”: “عروة” تحريف، صوابه: “عَزْرَة”، كما في مصدر الرواية وكتب الرجال، وقد تقدم نظيره.
(1/92)
شديدًا، أغمي عليه (1)، فأفاق، فقال: أُغمي عليَّ؟ قالوا: نعم، قال: إنه أتاني رجلان غليظان فأخذا بيدي، فقالا: انطلق نحاكمك إلى العزيز الأمين. فانطلقا بي، فتلقاهما رجل فقال: أين تريدان به؟ قالا: نحاكمه إلى العزيز الأمين. فقال: دعاه؛ فإن هذا ممن سبقت له السعادة، وهو في بطن أمه (2).
وقال عبد الله بن محمد البغوي: ثنا داود بن رشيد، ثنا ابن علية، حدثني محمد بن محمد القرشي، عن عامر بن سعد قال: أقبل سعدٌ من أرض له، فإذا الناس عُكوف على رجلٍ، فاطّلع فإذا هو يسبُّ طلحة والزبير وعليًّا، فنهاه، فكأنما زاده إغراء، فقال: ويلك، تريد أن تسبَّ (3) أقوامًا هم خير منك؟! لتنتهِينّ أو لأدعونّ عليك. فقال (4): كأنما يخوفني نبيٌّ من الأنبياء. فانطلق فدخلَ دارًا فتوضأ، ودخل المسجد، ثم قال: اللهم إنْ كان هذا قد سَبَّ أقوامًا قد سبق لهم منك خير (5)، أسخطك سَبّه إياهم، فأرني اليوم آية تكون آية للمؤمنين. قال: وتخرج بُخْتِيّة (6) من دار بني فلان نادّة لا يردها
_________
(1) كذا في “د” “م” و”شرح الأصول”: “أغمي عليه”، والأليق بالسياق إضافة حرف عطف قبلها: “فأغمي عليه” ونحو ذلك.
(2) أخرجه من طريق ابن أبي حاتم به اللالكائي في “شرح الأصول” (1220)، ومن طرق عن الزهري رواه ابن سعد في “الطبقات الكبرى” (3/ 134)، وابن أبي الدنيا في “المحتضرين” (352).
(3) كذا في “م”، وفي مصدر الخبر: “ما تريد إلى أن تسب” على وجه التعجب، وهي أليق بالسياق.
(4) من قوله: “ويلك” إلى هنا ساقط من “د”، انتقال نظر.
(5) “د”: “الحسنى”، والمثبت من “م” موافق لمصدر الخبر.
(6) البُخْتِيّة: الأنثى من الجمال البُخْت، وهي جمال طوال الأعناق، واللفظة معربة، “النهاية في الغريب” (1/ 101).
(1/93)
شيء، حتى تنتهي إليه، ويتفرق الناس، وتجعله بين قوائمها وتطأه حتى طفي، قال: فأنا رأيت سعدًا يتبعه الناس، يقولون: استجاب الله لك يا أبا إسحاق، استجاب الله لك يا أبا إسحاق (1).
وقال تعالى: {فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ} [الحج: 78]، أي: الله سمَّاكم المسلمين من قبل القرآن وفي القرآن، فسبقت تسمية الحق سبحانه لهم مسلمين قبل إسلامهم وقبل وجودهم.
وقال تعالى: {وَلَقَد سَّبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 – 173].
وقال ابن عباس في رواية الوالبي عنه في قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2]، قال: “سبقت لهم السعادة في الذكر الأول” (2).
وهذا لا يخالف قول مَن قال: إنه الأعمال الصالحة التي قدموها. ولا قول مَن قال: إنه محمد – صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه سبق لهم من الله في الذكر الأول السعادة بأعمالهم على يد محمد – صلى الله عليه وسلم -، فهو خيرٌ تقدم لهم من الله، ثم قدمه لهم على
_________
(1) أخرجه من طريق البغوي به أبو طاهر في “المخلصيات” (2/ 349)، واللالكائي في “شرح الأصول” (2361)، وأخرجه الطبراني في “الكبير” (307) وابن الأعرابي في “المعجم” (936) من طرق عن عامر بنحوه.
(2) أخرجه الطبري (12/ 110)، وابن أبي حاتم في “التفسير” (6/ 1922).
(1/94)
يد رسوله، ثم يقدمهم عليه يوم لقائه.
وقد قال تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذتُّمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68]. وقد اختلف السلف في هذا الكتاب السابق (1).
فقال جمهور المفسرين من السلف ومَن بعدهم: لولا قضاء من الله سبق لكم يا أهل بدر في اللوح المحفوظ أن الغنائم حلال لكم؛ لعاقبكم.
وقال آخرون: لولا كتاب من الله سبق أنه لا يعذب أحدًا إلا بعد الحجّة؛ لعاقبكم.
وقال آخرون: لولا كتاب من الله سبق (2) لأهل بدر أنهم مغفور لهم ــ وإن عملوا ما شاؤواـ؛ لعاقبهم.
وقال آخرون ــ وهو الصواب ــ: لولا كتاب من الله سبق بهذا كلِّه؛ لمسّكم فيما أخذتم عذاب عظيم. والله أعلم.
* * * *
_________
(1) انظر: “جامع البيان” (11/ 276 – 283)، “زاد المسير” (3/ 381 – 382).
(2) من قوله: “أنه لا يعذب” إلى هنا ساقط من “م”.
(1/95)
الباب التاسع
في قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}
قال سفيان: عن زياد بن إسماعيل المخزومي، حدثنا محمد بن عباد بن جعفر، حدثنا أبو هريرة قال: جاء مشركو قريش إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يخاصمون في القدر، فنزلت هذه الآية: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 47 – 49] رواه مسلم (1).
وروى الدارقطني من حديث حبيب بن عمرو (2) الأنصاري، عن أبيه قال (3): قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين خصماء الله؟ وهم القدرية” (4)، ولكن حبيب هذا قال الدارقطني: “مجهول، والحديث
_________
(1) برقم (2656)، وأخرجه ابن ماجه (83)، والترمذي (2157) واللفظ له.
(2) كذا في “د” “م”: “عمرو” تحريف، صوابه: “عمر” كما في كتب التخريج والرجال.
(3) كذا في “د” “م” بسقوط جملة: “عن ابن عمر، عن أبيه”، كما في مصادر التخريج، والحديث من مسند عمر وليس في شيء من الطرق إسناده إلى عمر الأنصاري.
(4) أورده الدارقطني في “العلل” (2/ 71)، وأخرجه ابن أبي عاصم في “السنة” (336)، وابن راهويه وأبو يعلى كما في “المطالب العالية” (2979)، والطبراني في “الأوسط” (6510) وقال: “لا يروى هذا الحديث عن عمر إلا بهذا الإسناد، تفرد به بقية”، وقال أبو حاتم في “العلل” (2810): “هذا حديث منكر، وحبيب بن عمر ضعيف الحديث مجهول، لم يرو عنه غير بقية”، وانظر: “مسند الفاروق” (3/ 28)، “السلسلة الضعيفة” (5581).
(1/96)
مضطرب الإسناد، ولا يثبت” (1).
والمخاصمون في القدر نوعان:
أحدهما: مَن يبطل أمر الله ونهيه بقضائه وقدره، كالذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148].
والثاني: مَن ينكر قضاءه وقدره السابق. والطائفتان خصماء الله.
قال عوف: “من كذَّب بالقدر فقد كذَّبَ بالإسلام، إن الله تبارك وتعالى قدَّر أقدارًا، وخلق الخلق بقدر، وقسم الآجال بقدر، وقسم الأرزاق بقدر، وقسم البلاء بقدر، وقسم العافية بقدر، وأمر ونهى (2) ” (3).
وقال الإمام أحمد: “القدرُ قدرة الله” (4).
واستحسن ابن عقيل هذا الكلام جدًّا، وقال: “هذا يدل على دقة علم
_________
(1) بنحوه في “العلل” (2/ 71).
(2) جملة: “وأمر ونهى” سقطت من “م”، و”بقدر” سقطت من “د”، والمثبت منهما موافق لمصادر الخبر.
(3) لم أقف عليه من قول عوف بن أبي جميلة، ورواه الفريابي في “القدر” (295) ـ ومن طريقه الآجري في “الشريعة” (462) ـ، وابن بطة في “الإبانة الكبرى” (1676) من طرق عن عوف، عن الحسن قوله.
(4) “مسائل أحمد برواية ابن هانئ” (1868) ـ ومن طريقه الخلال في “السنة” (904) ـ، ويروى من قول عمر في “الإبانة الكبرى” (1562)، ومن قول زيد بن أسلم عند الفريابي في “القدر” (207).
ووقعت العبارة في “د”: “القدر قدرُهُ”.
(1/97)
أحمد، وتبحره في معرفة أصول الدين” (1).
وهو كما قال أبو الوفاء، فإن إنكار القدر إنكار لقدرة الربّ على خلق أعمال العباد وكتابتها وتقديرها.
وسَلَفُ القدرية كانوا ينكرون علمه بها، وهم الذين اتفق سلف الأمة على تكفيرهم، وسنذكر ذلك فيما بعد إن شاء الله.
وفي تفسير علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] قال: “الذين يقولون: إن الله على كلِّ شيء قدير” (2).
وهذا من فقه ابن عباس وعلمه بالتأويل، ومعرفته بحقائق الأسماء والصفات، فإن أكثر أهل الكلام لا يوفّون هذه الجملة حقَّها، وإن كانوا يقرون بها. فمنكرو القدر، وخلق أفعال العباد لا يقرون بها على وجهها، ومنكرو أفعال الربِّ تعالى القائمة به لا يقرون بها على وجهها، بل يصرِّحون أنه لا يقدر على فعل يقوم به.
ومَن لا يقر بأن الله سبحانه كل يوم في شأن يفعل ما يشاء؛ لا يقر بأن الله على كل شيء قدير، ومَن لا يقرّ بأن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلّبها كيف يشاء، وأنه سبحانه مقلب القلوب حقيقة، وأنه إن شاء أن يقيم القلب أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه= لا يقر بأن الله على كل شيء قدير.
_________
(1) انظر: “طريق الهجرتين” (1/ 196).
(2) أخرجه اللالكائي في “شرح الأصول” (945)، والطبري (19/ 364) بلفظ: “الذين يعلمون”.
(1/98)
ومن لا يقرّ بأنه استوى على عرشه بعد أن خلق السماوات والأرض، وأنه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا يقول: “من يسألني فأعطيه، مَن يستغفرني فأغفر له”، وأنه نزل إلى الشجرة فكلم موسى كليمَه منها، وأنه ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة حين تخلو من سكانها، وأنه يجيء يوم القيامة فيفصل بين عباده، وأنه يتجلى لهم يضحك، وأنه يريهم نفسه المقدسة، وأنه يضع رجله على النار فتضيق بأهلها، وينزوي بعضها إلى بعض، إلى غير ذلك من شؤونه وأفعاله، التي مَن لم يقرَّ بها= لم يقرّ بأنه على كل شيء قدير.
فيا لها كلمة من حَبْر الأمة وترجمان القرآن – رضي الله عنه -.
وقد كان ابن عباس شديدًا على القدرية، وكذلك الصحابة، كما سنذكر ذلك إن شاء الله.
* * * *
(1/99)
الباب العاشر
في مراتب القضاء والقدر التي مَن لم يؤمن بها لم يؤمن بالقضاء والقدر (1)
وهي أربع مراتب:
المرتبة الأولى: علم الربِّ سبحانه بالأشياء قبل كونها.
المرتبة الثانية: كتابته لها قبل كونها.
المرتبة الثالثة: مشيئته لها.
الرابعة: خلقه لها.
فأما المرتبة الأولى وهي العلم السابق، فقد اتفق عليه الرسل من أولهم إلى خاتمهم، واتفق عليه جميع الصحابة، ومَن تبعهم من الأمة، وخالفهم في ذلك مجوس الأمة.
وكتابته السابقة تدلّ على علمه بها قبل كونها، وقد قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيَ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30].
قال مجاهد: “عَلِم من إبليس المعصية، وخلقه لها، وعلم من آدم الطاعة، وخلقه لها” (2).
_________
(1) من قوله: “التي من لم يؤمن” إلى هنا ليس في “د”.
(2) أسنده الطبري (1/ 509)، وابن بطة في “الإبانة الكبرى” (1393)، وشطره الأول في التفسير المنسوب إلى مجاهد (199)، وهو عند سعيد بن منصور في “التفسير” (184).
(1/100)
وقال قتادة: “كان في علمه أنه سيكون من تلك الخليفة (1) أنبياء ورسل، وقوم صالحون، وساكنو الجنة” (2).
وقال ابن مسعود: “أعلم ما لا تعلمون من شأن إبليس” (3).
وقال مجاهد أيضًا: “علم من إبليس أنه لا يسجد لآدم” (4).
وقال تعالى: {اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ وَيُنزِلُ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} [لقمان: 34].
وفي “المسند” (5) من حديث لقيط بن عامر، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: يا
_________
(1) هكذا وقعت في الأصول موافقة لمصدر القول الآتي.
(2) أسنده الطبري (1/ 510)، وابن أبي حاتم في “التفسير” (335).
(3) أسنده الطبري (1/ 507).
(4) أسنده الطبري (1/ 508).
(5) برقم (16206) من زوائد عبد الله، وأخرجه في “السنة” (1120)، وابن أبي عاصم في “السنة” (636)، وابن أبي خيثمة في “التاريخ الكبير” (2165)، وغيرهم في سياق طويل، وصححه الحاكم في “المستدرك” (8683)، والمؤلف في عدة مواضع من كتبه، ومنه قوله في “الصواعق” ـ المختصر ـ (461): “هذا حديث كبير مشهور، جلالة النبوة بادية على صفحاته، تنادي عليه بالصدق”، ثم نقل تصحيحه عن بعض الحفاظ، وفي تصحيحه بهذا السياق نظر، فقد تفرد به سلسلة من أشباه المجاهيل ممن لا يحتمل تفردهم بما هو دون هذا المتن، قال ابن كثير في “البداية والنهاية” (7/ 339): “هذا حديث غريب جدًّا، وألفاظه في بعضها نكارة”.
(1/101)
رسول الله، ما عندك من علم الغيب؟ فقال: “ضَنَّ ربك بمفاتيح خمسٍ من الغيب لا يعلمها إلا الله”، وأشار بيده، فقلتُ: ما هُنّ؟ قال: “عِلْمُ المَنِيّة، قد عَلِم متى مَنِيّة أحدكم ولا تعلمونه، وعِلْمُ المَنِيِّ حين يكون في الرحم، قد علمه ولا تعلمونه، وعِلْمُ ما في غد، قد علم ما أنت طاعم ولا تعلمه، وعِلْمُ يومِ الغيث، يشرف عليكم آزِلِين (1) مشفقين، فيظل يضحك، قد علم أن غَوْثكم إلى قريب ــ قال لقيط: لن نَعدم من ربٍّ يضحك خيرًا ــ، وعِلْمُ يومِ الساعة”.
وقد تقدم حديث علي المتفق على صحته: “ما منكم من نفس منفوسة، إلا وقد عُلِم مكانُها من الجنة والنار” (2).
وقال البزار: حدثنا محمد بن عمر بن هياج الكوفي، حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا فضل (3) بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أحسبه قال: “يُؤتى بالهالك في الفترة، والمعتوه، والمولود، فيقول الهالك في الفترة: لم يأتني كتابٌ ولا رسولٌ. ويقول المعتوه: أي ربِّ، لم تجعل لي عقلًا أعقل به خيرًا ولا شرًّا. ويقول المولود: ربِّ، لم أدرك العمل. قال: فتُرفعُ لهم نار، فيُقالُ لهم: رِدُوها، أو قال: ادخلوها. فَيَرِدُها من كان في علم الله سعيدًا أن لو أدرك العمل، قال: ويُمسك عنها من كان في علم الله شقيًّا أن
_________
(1) من الأزل: الشدة والضيق، “النهاية في الغريب” (أزل) (1/ 46).
(2) تقدم تخريجه بسياق مشابه في (26)، ولفظ المؤلف هنا في “الإبانة الكبرى” (1413) وغيرها.
(3) كذا في “د” “م”: “فضل”، صوابه: “فضيل” كما في مصادر التخريج، وانظر حاشية تحقيق “الجرح والتعديل” (3/ 5).
(1/102)
لو أدرك العمل، فيقول تبارك وتعالى: إياي عصيتم، فكيف برسلي بالغيب” (1).
وفي “الصحيحين” (2) عن أبي هريرة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه أو يُنَصِّرانه أو يُمَجِّسانه، كما تُنْتَج البهيمةُ جَمْعاء، هل تحسون فيها من جَدْعاء؟ (3) حتى تكونوا أنتم تجدعونها”، قالوا: يا رسول الله، أفرأيت مَن يموت منهم وهو صغير؟ قال: “الله أعلم بما كانوا عاملين”.
ومعنى الحديث: الله أعلم بما كانوا عاملين لو عاشوا.
وقد قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23]، قال ابن عباس: “عَلِم ما يكون قبل أن يخلقه” (4).
وقال أيضًا: “على علم قد سبق عنده” (5).
_________
(1) أخرجه البزار كما في “كشف الأستار” (2176)، وابن الجعد (2038) ـ ومن طريقه اللالكائي في “شرح الأصول” (1076) ـ، وفي إسناده عطية العوفي ضعيف.
وفي الباب عن أبي هريرة وأنس ومعاذ والأسود بن سريع ـ وهو أمثلها ـ تشد أصل الحديث، ورد ابن عبد البر طرق الباب كلها رواية ودراية في “التمهيد” (18/ 130)، وانظر: “القضاء والقدر” للبيهقي (361 – 362)، “السلسلة الصحيحة” (2468).
(2) البخاري (6599)، ومسلم (2658) مع اختلاف يسير.
(3) البهيمة الجمعاء هي التي لم يذهب من بدنها شيء، والجدعاء المقطوعة الأذن، انظر: “فتح الباري” (3/ 250).
(4) حكاه الواحدي في “البسيط” (20/ 148).
(5) أخرجه ابن بطة في “الإبانة الكبرى” (1622).
(1/103)
وقال أيضًا: “يريد الأمر الذي سبق له في أم الكتاب” (1).
وقال سعيد بن جبير ومقاتل: “على علمه فيه” (2).
وقال أبو إسحاق: “أي على ما سبق في علمه أنه ضال قبل أن يخلقه” (3).
وهذا الذي ذكره جمهور المفسرين.
قال الثعلبي: “على علم منه بعاقبة أمره” (4).
قال: “وقيل: على ما سبق في علمه أنه ضال قبل أن يخلقه” (5).
وكذلك ذكر البغوي (6)، وأبو الفرج بن الجوزي قال: “على علمه السابق منه أنه لا يهتدي” (7).
وذكر طائفة منهم المهدوي وغيره قولين في الآية، هذا أحدهما.
قال المهدوي: “فأضلّه الله على عِلْم علمه منه.
وقيل: المعنى: أضلّه عن الثواب على عِلْم منه بأنه لا يستحقه.
_________
(1) حكاه الواحدي في “البسيط” (20/ 149).
(2) حكاه عنهما الواحدي في “البسيط” (20/ 148)، وانظر: “تفسير مقاتل” (3/ 839).
(3) “معاني القرآن وإعرابه” (4/ 433).
(4) “الكشف والبيان” (8/ 363).
(5) لم أجده في “الكشف والبيان”، وقد تقدمت قريبًا من قول الزجاج، وإليه نسبها الواحدي في “الوسيط” (4/ 99).
(6) “معالم التنزيل” (7/ 245).
(7) “زاد المسير” (7/ 362)، وفيه: “علمه السابق فيه”.
(1/104)
قال: وقيل: على عِلْم من عابد الصنم أنه لا ينفع ولا يضر” (1).
وعلى الأول يكون {عَلَى عِلْمٍ} حال من الفاعل، المعنى: أضله الله عالمًا بأنه من أهل الضلال في سابق علمه.
وعلى الثاني: حال من المفعول، أي أضله الله في حال عِلْم الكافر بأنه ضال.
قلت: وعلى الوجه الأول فالمعنى: أضله الله عالمًا به، وبأقواله وما يناسبه ويليق به، ولا يصلح له غيره، قبل خلقه وبعده، وأنه أهل للضلال، وليس أهلًا أن يُهدى، وأنه لو هُديَ لكان قد وضعَ الهدى في غير محلّه، وعند مَن لا يستحقه، والربُّ تعالى حكيم، إنما يضع الأشياء في محالها اللائقة بها.
فانتظمت الآية على هذا القول: إثباتَ القدر والحكمة التي لأجلها قُدّر عليه الضلال، وذِكْرَ العلم؛ إذ هو الكاشف المبين لحقائق الأمور، ووضعِ الشيء في موضعه، وإعطاءِ الخير من يستحقه، ومنعِهِ من لا يستحقه؛ فإن هذا لا يحصل بدون العلم، فهو سبحانه أضله على علمه بأحواله التي تناسب ضلاله وتقتضيه وتستدعيه.
وهو سبحانه كثيرًا ما يذكر ذلك مع إخباره بأنه الذي أضل الكافر، كما قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125]، وقال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ
_________
(1) “التحصيل لفوائد كتاب التفصيل” (6/ 113).
(1/105)
مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ} [البقرة: 26 – 27]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الصف: 7]، {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ} [الصف: 5]، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3]، {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27]، {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر: 34]، {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35]، {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 59].
وقد أخبر سبحانه أنه يفعل ذلك عقوبة لأرباب هذه الجرائم، وهذا إضلال ثانٍ بعد الإضلال الأول، كما قال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ (1) فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:88]، وقال تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ إِنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 109 – 110]، وقال تعالى: {(4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ} [الصف: 5]، وقال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10]، وقال: {(23) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ} [الأنفال: 24]، أي إن تركتم الاستجابة لله ورسوله عاقبكم بأن يحول بينكم وبين قلوبكم، فلا
_________
(1) “د” “م”: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]، وكأنه خلط بين آية البقرة والنساء.
(1/106)
تقدرون على الاستجابة بعد ذلك.
ويشبه هذا ــ إن لم يكن هو بعينه ــ قوله: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا جَّاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا (1)} [يونس: 13]، وفي موضع آخر: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَد جَّاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ (2) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 101].
وفي هذه الآية ثلاثة أقوال، هذا أحدها، قال أبو إسحاق: هذا إخبار عن قوم لا يؤمنون، كما قال عن قوم (3) نوح: {نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ} [هود: 36]، واحتج على هذا بقوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 101]. قال: وهذا يدل على أنه قد طبع على قلوبهم (4).
وقال ابن عباس: “فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا يوم أخذ ميثاقهم، حين أخرجهم من ظهر آدم فآمنوا كُرْهًا، وأقرّوا باللسان، وأضمروا التكذيب” (5).
وقال مجاهد: “فما كانوا ــ لو أحييناهم بعد هلاكهم ــ ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل هلاكهم” (6).
_________
(1) “د” “م”: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ}، كأنه انتقال نظر للآية الآتية.
(2) في “د” “م”: {بما كذبوا به من قبل} بزيادة “به” سهوًا.
(3) “قوم” ساقطة من “م”، والجملة مسوقة بتصرف من المصدر.
(4) “معاني القرآن وإعرابه” (2/ 361).
(5) حكاه الثعلبي في “الكشف والبيان” (4/ 265)، وانظر: “معالم التنزيل” (3/ 261).
(6) أورده في “الكشف والبيان” (4/ 266)، والتعليق الذي يليه من كلام مجاهد في تفسيره، انظر: التفسير المنسوب إلى مجاهد (340)، “جامع البيان” (10/ 338).
(1/107)
قلت: وهو نظير قوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28].
وقال آخرون: لما جاءتهم رسلهم بالآيات التي اقترحوها وطلبوها، ما كانوا ليؤمنوا بعد رؤيتها ومعاينتها بما كذبوا به من قبل رؤيتها، فمنعهم تكذيبهم السابق بالحق لما عرفوه من الإيمان به بعد ذلك، وهذه عقوبة مَن ردَّ الحق إذا عُرِض عليه (1) فلم يقبله، فإنه يُصْرَف عنه، ويُحال بينه وبينه، ويُقْلب قلبه عنه، فهذا إضلال العقوبة، وهو من عدل الربِّ تعالى في عبده.
وأما الإضلال السابق الذي ضلّ به عن قبوله أوّلًا والاهتداء به: فهو إضلال ناشئ عن علم الله السابق في عبده أنه لا يصلح للهدى ولا يليق به، وأن محله غير قابل له، فالله أعلم حيث يضع هداه وتوفيقه، كما هو أعلم حيث يجعل رسالاته، فهو أعلم حيث يجعلها أصلًا وميراثًا.
وكما أنه ليس كل محل أهلًا لتحمل الرسالة عنه، وأدائها إلى الخلق؛ فليس كل محل أهلًا لقبولها والتصديق بها، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]، أي: ابتلينا واختبرنا بعضهم ببعض، فابتلى الرؤساء والسادة بالأتباع والموالي والضعفاء، فإذا نظر الرئيس والمطاع إلى المولى والضعيف قد آمن، حمي أنفه، وأنفَ أن يسلم، وقال: أهذا يمُنّ الله عليه بالهدى والسعادة دوني؟! قال الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}، وهم الذين يعرفون النعمة وقدرها، ويشكرون الله عليها بالاعتراف والذل والخضوع والعبودية، فلو كانت
_________
(1) تحتمل في “م”: “أو اعترض عليه”، والمثبت من “د” أشبه بالسياق.
(1/108)
قلوبكم مثل قلوبهم، تعرفون قدر نعمتي، وتشكروني عليها، وتذكروني بها، وتخضعون لي كخضوعهم، وتحبوني كحبهم= لمننتُ عليكم كما مننتُ عليهم، ولكن لمِنَني ونعمي محالٌّ لا تليق إلا بها، ولا تحسن إلا عندها.
ولهذا يقرن سبحانه كثيرًا أو مطردًا بين التخصيص والعلم، كقوله ههنا: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}، وقوله: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ (1)} [الأنعام: 124]، وقوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص: 68 – 69]، أي: هو سبحانه المنفرد بالخلق والاختيار مما خلق، وهو الاصطفاء والاجتباء، ولهذا كان الوقف التام على قوله: {وَيَخْتَارُ}.
ثم نفى عنهم الاختيار (2) الذي اقترحوه بإراداتهم، وأن ذلك ليس إليهم، بل إلى الخلّاق العليم، الذي هو أعلم بمحالّ الاختيار ومواضعه، لا مَن قال: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
فأخبر سبحانه أنه لا يبعث الرسل باختيارهم، وأن البشر ليس لهم أن يختاروا على الله، بل هو الذي يخلق ما يشاء ويختار، ثم نفى سبحانه أن تكون لهم الخِيَرة، كما ليس لهم الخلق.
_________
(1) هكذا في “د” “م” بالجمع، قرأ بها الجمهور ابن عمرو وغيره كما في “النشر” (5/ 1692)، وانظر: “الحجة” (133).
(2) من قوله: “ولهذا كان الوقف” إلى هنا ساقط من “م”.
(1/109)
ومَن زعم أن “ما” مفعول “يختار” فقد غلط (1)؛ إذْ لو كان هذا هو المراد لكانت “الخِيَرة” منصوبة على أنها خبر “كان”، ولا يصح أن يُقال: المعنى “ما كان لهم الخيرة فيه”، وحُذِف العائد؛ فإن العائد ههنا مجرور بحرف لم يُجَرَّ الموصول بمثله، فلو حُذِف مع الحرف لم يكن عليه دليل، فلا يجوز حذفه.
وكذلك لم يفهم معنى الآية مَن قال: إن “الاختيار” ههنا هو الإرادة، كما يقول المتكلمون: إنه سبحانه فاعل بالاختيار؛ فإن هذا اصطلاح حادث منهم، لا يُحْمَل عليه كلام الله، بل لفظ الاختيار في القرآن مطابق لمعناه في اللغة، وهو اختيار الشيء على غيره، وهو يقتضي ترجيح ذلك المختار وتخصيصه وتقديمه على غيره (2)، وهذا أمر أخص من مطلق الإرادة والمشيئة.
قال في “الصحاح” (3): “الخِيْرَةُ الاسم من قولك: خَارَ الله لك في هذا الأمر، والخِيَرَةُ أيضًا، تقول: محمدٌ خِيَرَةُ الله من خَلْقه، وخِيْرَةُ الله أيضًا ـ بالتسكين ـ، والاختيَارُ: الاصطفاء، وكذلك التَخَيُّرُ.
والاستخارة: طلب الخِيَرَة، يقال: اسْتَخرِ الله يَخِرْ لك، وخَيّرْتُهُ بين الشيئين: فَوَّضتُ إليه الخِيارَ”. انتهى.
فهذا هو الاختيار في اللغة، وهو أخصّ مما اصطلح عليه أهل الكلام.
_________
(1) اختار هذا القول ابن جرير (18/ 299)، وانظر في المسألة: “معاني القرآن وإعرابه” (4/ 151)، “البحر المحيط” (8/ 320).
(2) من قوله: “وهو يقتضي ترجيح” إلى هنا ساقط من “م”، انتقال نظر.
(3) (2/ 652) باختصار يسير.
(1/110)
ومن هذا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} [الأعراف: 155]، أي: اختار منهم.
وبهذا يحصل جواب السؤال الذي تورده القدرية، وهو: ما تقولون في الكفر والمعاصي: هل هي واقعة باختيار الله أم بغير اختياره؟
فإن قلتم: باختياره؛ فكل مختار مرضي مصطفى محبوب، فتكون مرضية محبوبة.
وإن قلتم: بغير اختياره؛ لم تكن بمشيئته واختياره.
وجوابه أن يقال: ما تعنون بالاختيار؟ تعنون به الاختيار العام في اصطلاح المتكلمين، وهو المشيئة والإرادة، أم تعنون به الاختيار الخاص الواقع في القرآن والسنة وكلام العرب؟
فإن أردتم بالاختيار الأول، فهي واقعة باختياره بهذا الاعتبار، ولكن لا يجوز أن يُطلق ذلك عليها؛ لما في لفظ الاختيار من معنى الاصطفاء والمحبة، بل يُقال: واقعة بمشيئته وقدرته.
وإن أردتم بالاختيار معناه في القرآن ولغة العرب، فهي غير واقعة باختياره بهذا المعنى، وإن كانت واقعة بمشيئته.
فإن قيل: فهل تقولون: إنها واقعة بإرادته، أم لا تطلقون ذلك؟
قيل: لفظ الإرادة في كتاب الله نوعان:
إرادة كونية شاملة لجميع المخلوقات، كقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ … }
(1/111)
[البروج: 16]، وقوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} [الإسراء: 16]، وقوله: {لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34]، ونظائر ذلك.
وإرادة دينية أمرية، لا يجب وقوع مرادها، كقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ} [البقرة: 185]، وقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27]، فهي مرادة بالمعنى الأول، غير مرادة بالمعنى الثاني.
وكذلك إن قيل: هل هي واقعة بإذنه أم لا؟
فالإذن أيضًا نوعان:
كوني، كقوله: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102].
وديني أمري، كقوله: {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} [يونس: 59]، وقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39].
ولفظ الاختيار مشتق من الخير المخالف للشر، ولما كان الأصل في الحي أنه يريد ما ينفعه، وما هو خير سُمّيت الإرادة اختيارًا، وهذا يتضمن أن الإرادة لا ترجِّح نوعًا على نوع إلا لترجُّح ذلك النوع عند الفاعل.
والمقصود أنه سبحانه يذكر العِلْم عند المخصَّصات، كقوله تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان: 32]، لا خلاف بين الناس أن المعنى: على علم منّا بأنهم أهل للاختيار، فالجملة في موضع نصب على الحال، أي: اخترناهم عالِمِين بهم وبأحوالهم، وما يقتضي اختيارهم من قبل خلقهم، فَذَكر سبحانه اختيارهم وحكمته في اختياره إياهم، وذَكَر علمه الدال على مواقع حكمته واختياره.
(1/112)
ومن هذا قوله سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 51]، وأصحّ الأقوال في الآية أن المعنى: من قبل نزول التوراة، فإنه سبحانه قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء: 48]، ثم قال: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [الأنبياء: 50]، ثم قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ}، أي من قبل ذلك، ولهذا قُطِعتْ “قبل” عن الإضافة وبُنِيت؛ لأن المضاف مَنْوِي معلوم، وإن كان غير مذكور في اللفظ، وذكر سبحانه هؤلاء الثلاثة وهم أئمة الرسل، وأكرم الخلق عليه، وهم: محمد وإبراهيم وموسى صلوات الله عليهم وسلامه.
وقد قيل: {مِنْ قَبْلُ} أي: في حال صغره قبل البلوغ، وليس في اللفظ ما يدل على هذا، والسياق إنما يقتضي من قبل ما ذُكِر.
وقيل: المعنى بقوله: {مِنْ قَبْلُ} أي: في سابق علمنا. وليس في الآية أيضًا ما يدل على ذلك، ولا هو أمر مختص بإبراهيم، بل كل مؤمن فقد قَدَّرَ الله هداه في سابق علمه.
والمقصود قوله: {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}، قال البغوي: “إنه أهل للهداية والنبوة” (1).
وقال أبو الفرج: “أي: عالِمِين بأنه موضع لإيتاء الرشد” (2).
_________
(1) “معالم التنزيل” (5/ 322).
(2) “زاد المسير” (5/ 357).
(1/113)
وقال صاحب “الكشاف”: “ومعنى “علمه به”: أنه علم منه أحوالًا بديعة، وأسرارًا عجيبة، وصفات قد رَضِيَها وأحمدها، حتى أهّلَهُ لمخالّته ومخالصته، وهذا كقولك في خَيِّر من الناس: أنا عالم بفلان، فكلامك هذا من الاحتواء على محاسن الأوصاف” (1).
وهذا كقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ} [الأنعام: 124]، وقوله: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ} [الدخان: 32]، ونظير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 33 – 34]، وقريب من قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 81]، فلما ذكر ما خصّ به نبيه سليمان، وخصّ به الأرض التي بارك فيها قال: {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ}، حيث وضعنا هذا التخصيص في المحل الذي يليق به من الأماكن والأناسي.
فصل
وهو سبحانه كما هو العليم الحكيم في اختيار مَن يختار من خلقه، وإضلاله مَن يضله منهم؛ فهو العليم الحكيم بما في أمره وشرعه من العواقب الحميدة، والغايات العظيمة، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، بيَّن سبحانه أن ما أمرهم به
_________
(1) “الكشاف” (3/ 121).
(1/114)
يعلم ما فيه من المصلحة والمنفعة لهم التي اقتضت أنه يختاره، ويأمرهم به، وهم قد يكرهونه؛ إما لعدم العلم، وإما لنفور الطبع، فهذا علمه بما في عواقب أمره مما لا يعلمونه، وذاك علمه بما في اختياره من خلقه مما لا يعلمونه، فهذه الآية تضمنت الحض على التزام أمر الله وإن شق على النفوس، وعلى الرضا بقضائه وإن كرهته النفوس.
وفي حديث الاستخارة: “اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلمُ ولا أعلم، وأنت علَّام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم هذا الأمر خيرًا لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري؛ فاقدره لي، ويَسِّره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلمه شرًا لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري؛ فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضِّني به” (1).
ولما كان العبد محتاجًا في فعل ما ينفعه في معاشه ومعاده إلى عِلْمٍ بما فيه من المصلحة، وقدرةٍ عليه، وتيسيرٍ له، وليس له من نفسه شيء من ذلك، بل عِلْمه ممن علَّم الإنسان ما لم يعلم، وقدرته منه؛ فإن لم يقدره عليه وإلا فهو عاجز، وتيسيره منه؛ فإن لم ييسره عليه وإلا فهو متعسر عليه بعد إقداره= أرشده النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى محض العبودية، وهو طلب الخيرة من العالم بعواقب الأمور وتفاصيلها وخيرها وشرها، وطلب القدرة منه؛ فإنه إن لم يقدره وإلا فهو عاجز، وطلب فضله منه؛ فإنه إن لم ييسره له، ويهيئه له، وإلا فهو متعذر عليه، ثم إذا اختاره له بعلمه، وأعانه عليه بقدرته، ويسَّره له من فضله؛ فهو
_________
(1) أخرجه البخاري (6382، 7390) وغيره بألفاظ متقاربة من حديث جابر.
(1/115)
يحتاج إلى أن يبقيه عليه، ويديمه بالبركة (1) التي يضعها فيه، والبركة تتضمن ثبوته ونموه، وهذا قَدْرٌ زائدٌ على إقداره عليه وتيسيره له، ثم إذا فعل به ذلك كله فهو محتاج إلى أن يرضِّيه به، فإنه قد يجيء له ما يكرهه، فيظل ساخطًا له وقد خار الله له فيه.
قال عبد الله بن عمر: “إن الرجل ليستخير الله فيختار له، فيسخط على ربه، فلا يلبث أن ينظر في العاقبة، فإذا هو قد خِير له” (2).
وفي “المسند” (3) من حديث سعد بن أبي وقاص، عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: “من سعادة ابن آدم استخارته الله عز وجل، ومن سعادة ابن آدم رضاه بما قضاه الله، ومن شِقْوة ابن آدم تركه استخارة الله عز وجل، ومن شِقْوة ابن آدم سخطه بما قضى الله”.
فالمقدور يكتنفه أمران: الاستخارة قبله، والرضا بعده، فمن توفيق الله لعبده وإسعاده إياه أن يختار قبل وقوعه، ويرضى بعد وقوعه، ومن خذلانه له أن لا يستخيره قبل وقوعه، ولا يرضى به بعد وقوعه.
وقال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: “لا أبالي أصبحت على ما أحب أو على ما أكره؛ لأني لا أدري: الخير فيما أحب أو فيما أكره” (4).
_________
(1) “د”: “بالذكر” وكذلك في الموضع الآتي، تحريف.
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في “الرضا عن الله بقضائه” (56).
(3) برقم (1444)، وأخرجه الترمذي (2151)، وقال: “هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن أبي حميد … وليس هو بالقوي عند أهل الحديث”.
(4) أخرجه ابن المبارك في “الزهد” (425)، وأبو داود في “الزهد” (103).
(1/116)
وقال الحسن: “لا تكرهوا النقمات الواقعة، والبلايا الحادثة، فلرُبَّ أمر تكرهه فيه نجاتك، ولرُبَّ أمر تؤثره فيه عطبك” (1).
فصل
ومما يناسب هذا قوله تعالى: {لَّقَد صَّدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 27]، بيَّن سبحانه وتعالى حكمة ما كرهوه عام الحديبية من صَدِّ المشركين لهم عن البيت، حتى رجعوا ولم يعتمروا، وبيَّن لهم أن مطلوبهم يحصل بعد هذا، فحصل في العام القابل.
وقال سبحانه: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} وهو صلح الحديبية، وهو أول الفتح المذكور في قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1]، فإنه (2) بسببه حصل من مصالح الدين والدنيا، والنصر، وظهور الإسلام، وبطلان الكفر، ما لم يكونوا يرجونه قبل ذلك، ودخل الناس بعضهم في بعض، وتكلم المسلمون بكلمة الإسلام وبراهينه وأدلته جهرة لا يخافون، ودخل في ذلك الوقت في الإسلام قريب ممن دخل فيه من أوله إلى ذلك الوقت. وظهر لكل أحد بَغْيُ المشركين وعدوانهم وعنادهم، وعَلِمَ الخاص والعام أن محمدًا – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه أولى بالحق والهدى، وأن أعداءهم ليس بأيديهم إلا العدوان والعناد، فإن البيت الحرام لم يُصَدَّ عنه حاجٌّ ولا
_________
(1) أورده الثعلبي في “الكشف والبيان” (3/ 138).
(2) “د” “م”: “فإن”.
(1/117)
معتمر من زمن إبراهيم عليه السلام، فتحققت العرب عناد قريش وعدوانهم، وكان ذلك داعية لبشر كثير إلى الإسلام، وزاد عناد القوم وطغيانهم، وذلك من أكبر العون على نفوسهم، وزاد صبر المؤمنين واحتمالهم والتزامهم بحكم الله وطاعة رسوله، وذلك من أعظم أسباب نصرهم، إلى غير ذلك من الأمور التي علمها الله سبحانه ولم يعلمها الصحابة، ولهذا سَمَّاه فتحًا، وسُئل النبي – صلى الله عليه وسلم -: أفتح هو؟ قال: “نعم” (1).
فصل
ويشبه هذا قول يوسف الصديق: {يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَد جَّعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِيَ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: 100]، فأخبر أنه يلطف لما يريده، فيأتي به بطرق خفية لا يعلمها الناس.
واسمه “اللطيف” يتضمن علمه بالأشياء الدقيقة وإيصاله الرحمة بالطرق الخفية، ومنه التلطف، كما قال أهل الكهف: {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف: 19]، فكان ظاهر ما امتحن به يوسف من مفارقة أبيه، وإلقائه في السجن (2)، وبيعه رقيقًا، ثم مراودة التي هو في بيتها له عن نفسه، وكذبها عليه، وسجنه = محنًا ومصائب، وباطنها نعمًا ومنحًا، جعلها الله سببًا لسعادته في الدنيا والآخرة.
_________
(1) أخرجه بتمامه البخاري (3182)، ومسلم (1785) من حديث سهل بن حنيف.
(2) “م”: “وإلقائه الجب في السجن” سبق قلم، والمثبت من “د”.
(1/118)
ومن هذا الباب ما يبتلي به عباده من المصائب، ويأمرهم به من المكاره، وينهاهم عنه من الشهوات، هي طرق يوصلهم بها إلى سعادتهم في العاجل والآجل، وقد حُفّت الجنّة بالمكاره، وحُفّت النار بالشهوات، وقد قال – صلى الله عليه وسلم -: “لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له، إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن” (1)، فالقضاء كله خيرٌ لمن أُعْطِي الشكر والصبر، جالبًا ما جلب.
وكذلك ما فعله بآدم وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم، من الأمور التي هي في الظاهر مِحَنٌ وابتلاء، وهي في الباطن طُرق خفية أوصلهم بها بلطفه إلى غاية كمالهم وسعادتهم.
فتأمل قصة موسى عليه السلام، وما لطف له من إخراجه في وقت ذبح فرعون الأطفال، ووحيه إلى أمه أن تلقيه في اليم، وسوقه بلطفه إلى دار عدوه الذي قدّر هلاكه على يديه، وهو يذبح الأطفال في طلبه (2)، فربّاه في بيته وحجره على فراشه، ثم قَدَّرَ له سببًا أخرجه به من مصر، وأوصله به إلى موضع لا حكم لفرعون عليه، ثم قَدَّر له سببًا أوصله به إلى النكاح والغنى بعد العزوبة والعَيْلة، ثم ساقه إلى بلد عدوه فأقام عليه به حجَّته، ثم أخرجه وقومه في صورة الهاربين الفارين منه، وكان ذلك عين نصرتهم على أعدائهم وإهلاكهم وهم ينظرون.
وهذا كلّه مما يبيّن أنه سبحانه يفعل ما يفعله لما يريده من العواقب
_________
(1) أخرجه أحمد (18934)، ومسلم (2999) من حديث صهيب بقريب منه.
(2) أي: كان فرعون يذبح الأطفال طلبًا في ذبح موسى، وفي “الفوائد” (59): “كم ذبح فرعون في طلب موسى من ولد! “.
(1/119)
الحميدة، والحكم العظيمة التي لا تدركها عقول الخلق، مع ما في ضمنها من الرحمة التامة، والنعمة السابغة، والتعرف إلى عباده بأسمائه وصفاته.
فكم في أكل آدم من الشجرة التي نُهي عنها، وإخراجه بسببها من الجنة، مِن حكمة بالغة لا تهتدي العقول إلى تفاصيلها.
وكذلك ما قدَّره لسيد ولده من الأمور التي أوصله بها إلى أشرف غاياته، وأوصله بالطرق الخفية فيها إلى أحمد العواقب.
وكذلك فِعله بعباده وأوليائه، يوصل إليهم نعمه، ويسوقهم إلى كمالهم وسعادتهم في الطرق الخفية التي لا يهتدون إلى معرفتها إلا إذا لاحت لهم عواقبها.
وهذا أمر يضيق الجنان عن معرفة تفاصيله، ويحصر اللسان عن التعبير عنه، وأعرف خلق الله به أنبياؤه ورسله، وأعرفهم به خاتمهم وأفضلهم، وأمته في العلم به على مراتبهم ودرجاتهم ومنازلهم من العلم بالله وأسمائه وصفاته، وهو سبحانه قد أحاط علمًا بذلك كله قبل خلق السماوات والأرض، وقدّره وكتبه عنده.
ثم يأمر الملائكة بكتابة ذلك من الكتاب الأول قبل خلق العبد، فيُطابِق حاله وشأنه لما كُتِب في الكتاب، ولما كتبته الملائكة، لا يزيد شيئًا ولا ينقص مما كتبه سبحانه وأثبته عنده، كان في علمه قبل أن يكتبه، ثم كتبه كما في علمه، ثم وُجِدَ كما كتبه. قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70].
والله سبحانه قد علم قبل أن يوجد عباده أحوالهم، وما هم عاملون، وما
(1/120)
هم إليه صائرون، ثم أخرجهم إلى هذه الدار ليظهر معلومه الذي علمه فيهم كما علمه، وابتلاهم من الأمر والنهي والخير والشر بما أظهر معلومه، فاستحقوا المدح والذم، والثواب والعقاب بما قام بهم من الأفعال والصفات المطابِقة للعلم السابق، ولم يكونوا يستحقون ذلك، وهي في علمه قبل أن يعملوها، فأرسل رسله، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه إعذارًا إليهم، وإقامة للحجة عليهم؛ لئلا يقولوا: كيف تعاقبنا على علمك فينا، وهو لا يدخل تحت كسبنا وقدرتنا؟ فلما ظهر علمه فيهم بأفعالهم حصل العقاب على معلومه الذي أظهره الابتلاء والاختبار.
وكما ابتلاهم بأمره ونهيه ابتلاهم بما زيَّنَه لهم من الدنيا، وبما ركَّب فيهم من الشهوات، فذلك ابتلاء بشرعه وأمره، وهذا ابتلاء بقضائه وقدره، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]، وقال تعالى: {الَّذِي (1) خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، وقال: {وَهْوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]، فأخبر في هذه الآية أنه خلق السماوات والأرض ليبتلي عباده بأمره ونهيه، وهذا من الحق الذي خلق به خلقه، وأخبر في الآية التي قبلها أنه خلق الموت والحياة ليبتليهم أيضًا، فأحياهم ليبتليهم بأمره ونهيه، وقدّر عليهم الموت الذي ينالوا (2) به عاقبة ذلك الابتلاء من الثواب والعقاب.
_________
(1) “د” “م”: “هو الذي”.
(2) كذا في “د” “م”: “ينالوا” بحذف النون دون أداة خفض أو نصب.
(1/121)
وأخبر في الآية الأولى أنه زيَّن لهم ما على الأرض ليبتليهم به أيهم يؤثره على ما عنده فيكون حظه، أو يؤثر ما عنده عليه، وابتلى بعضهم ببعض، وابتلاهم بالنعم والمصائب، فأظهر هذا الابتلاء علمه السابق فيهم موجودًا عيانًا بعد أن كان غيبًا في علمه.
فابتلى أبوي الإنس والجن كل منهما بالآخر، فأظهر ابتلاء آدم ما علمه منه، وأظهر ابتلاء إبليس ما علمه منه، فلهذا قال للملائكة: {إِنِّيَ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30].
واستمر هذا الابتلاء في الذرية إلى يوم القيامة، فابتلى الأنبياء بأممهم، وابتلى أممهم بهم، وقال لعبده ورسوله وخليله: “إني مبتليك ومبتلٍ بك” (1)، وقال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]، وقال: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} [الفرقان: 20].
وفي الحديث الصحيح (2) أن ثلاثةً أراد الله أن يبتليهم، أبرص وأقرع وأعمى، فأظهر الابتلاء حقائقهم التي كانت في علمه قبل أن يخلقهم.
فأما الأعمى فاعترف بإنعام الله عليه، وأنه كان أعمى فقيرًا، فأعطاه الله البصر والغنى، وبَذَل للسائل ما طلبه شكرًا لله.
وأما الأقرع والأبرص فكلاهما جحد ما كان عليه قبل ذلك من سوء الحال والفقر، وقال في الغنى: إنما أوتيته كابرًا عن كابر.
وهذا حال أكثر الناس، لا يعترف بما كان عليه أولًا من نقص وجهل وفقر
_________
(1) أخرجه مسلم (2865) بمعناه من حديث عياض المجاشعي.
(2) أخرجه البخاري (3464)، ومسلم (2964) من حديث أبي هريرة.
(1/122)
وذنوب، وأن الله سبحانه نقله من ذلك إلى ضدّ ما كان عليه، وأنعم بذلك عليه.
ولهذا ينبه سبحانه الإنسان على مبدأ خَلْقه الضعيف من الماء المهين، ثم نَقْله في أطباق خَلْقه وأطواره من حال إلى حال، حتى جعله بشرًا سويًّا، يسمع ويبصر ويعقل وينطق ويبطش ويعلم، فنسي مبدأه وأوله، وكيف كان، ولم يعترف بنعم ربه عليه، كما قال تعالى: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} [المعارج: 38 – 39].
وأنت إذا تأملت ارتباط إحدى هاتين الجملتين بالأخرى وجدتَ تحتهما كنزًا عظيمًا من كنوز المعرفة والعلم، فأشار سبحانه بمبدأ خلقهم {مِمَّا يَعْلَمُونَ} من النطفة وما بعدها إلى موضع الحجة والآية الدال على وجود الله ووحدانيته وكماله وتفرده بالربوبية والإلهية، وأنه لا يحسن به مع ذلك أن يتركهم سدى، لا يرسل إليهم رسولًا، ولا ينزل عليهم كتابًا، وأنه لا يعجز مع ذلك أن يخلقهم بعد ما أماتهم خلقًا جديدًا، ويبعثهم إلى دار يوفيهم فيها أعمالهم من الخير والشر، فكيف يطمعون في دخول الجنة وهم يكذِّبوني، ويُكذِّبون رسلي، ويعدلون بي خلقي، وهم يعلمون من أي شيء خلقتهم!
ويشبه هذا قوله: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ} [الواقعة: 57]، وهم كانوا مصدقين بأنه خالقهم، ولكن احتج عليهم بخلقه لهم على توحيده ومعرفته وصدق رسله، فدعاهم منهم ومن خلقهم إلى الإقرار بأسمائه وصفاته وتوحيده وصدق رسله (1) والإيمان بالمعاد.
_________
(1) من قوله: “فدعاهم” إلى هنا ساقط من “م”، انتقال نظر، وجملة: “منهم ومن خلقهم” لم يظهر لي وجهها في السياق، فلعلها تحرّفت عن: “هم ومَن خلفهم”.
(1/123)
وهو سبحانه يذكّر عباده بنعمه عليهم، ويدعوهم بها إلى معرفته ومحبته وتصديق رسله والإيمان بلقائه، كما تضمنته سورة النعم ــ وهي سورة النحل ــ من قوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} إلى قوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسلمون} [النحل: 4 – 81]، فذكّرهم بأصول النعم وفروعها، وعدَّدها عليهم نعمة نعمة، وأخبر أنه أنعم بذلك عليهم؛ ليسلموا له، فتكمل نعمه عليهم بالإسلام الذي هو رأس النعم، ثم أخبر عمن كفره ولم يشكر نعمه بقوله: {(82) نِعْمَتَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ} [النحل: 83] قال مجاهد: “المساكن والأنعام وسرابيل الثياب والحديد، يعرفه كفار قريش ثم ينكرونه، بأن يقولوا: هذا كان لآبائنا ورثناه عنهم” (1).
وقال عون بن عبد الله: “يقولون: لولا فلان لكان كذا” (2).
وقال الفراء وابن قتيبة: “يعرفون أن النعم من الله، ولكن يقولون: هذه بشفاعة آلهتنا” (3).
وقالت طائفة: النعمة ههنا محمد – صلى الله عليه وسلم -، وإنكارها جحد نبوته، وهذا يُروى عن مجاهد والسدّي (4).
_________
(1) التفسير المنسوب إلى مجاهد (424)، وأسنده الطبري (14/ 326).
(2) أسنده الطبري (14/ 326).
(3) “معاني القرآن” للفراء (2/ 112)، “تفسير غريب القرآن” لابن قتيبة (248).
(4) أسنده الخلال في “السنة” (212)، والطبري (14/ 325) عن السدي، ولم أقف على نسبته إلى مجاهد.
(1/124)
وهذا أقرب إلى حقيقة الإنكار؛ فإنه إنكار لما هو من أجلِّ النعم أن تكون نعمة.
وأما على القول الأول والثاني والثالث فإنهم لما أضافوا النعمة إلى غير الله فقد أنكروا نعمة الله بنسبتها إلى غيره، فإن الذي قال: “إنما كان هذا لآبائنا، ورثناه كابرًا عن كابر”؛ جاحد لنعمة الله عليه، غير معترف بها، وهو كالأبرص والأقرع اللذيْن ذكَّرَهُما المَلَكُ بنعم الله عليهما فأنكرا، وقالا: “إنما ورثنا هذا كابرًا عن كابر”. فقال: “إن كنتما كاذبَيْن فصيّركما الله إلى ما كنتما”، وكونها موروثة عن الآباء أبلغ في إنعام الله عليهم؛ إذ أنعم بها على آبائهم، ثم ورثهم إياها، فتمتعوا هم وآباؤهم بنعمه.
وأما قول الآخر: “لولا فلان لما كان كذا”، فيتضمن قطع إضافة النعمة إلى مَنْ لولاه لم تكن، وإضافتها إلى مَن لا يملك لنفسه ولا لغيره ضرًا ولا نفعاً، وغايته أن يكون جزءًا من أجزاء السبب (1)، أجرى الله نعمته على يديه، والسبب (2) لا يستقل بالإيجاد، وجَعْله سببًا هو من نعم الله، فهو المنعم بتلك النعمة، وهو المنعم بما جعله من أسبابها، فالسبب والمسبّب من إنعامه، وهو سبحانه قد ينعم بذلك السبب، وقد ينعم بدونه، فلا يكون له أثر، وقد يسلبه سَبَبيتَه، وقد يجعل لها معارضًا يقاومها، وقد يرتب على السبب (3) ضدَّ مقتضاه، فهو وحده المنعم على الحقيقة.
وأما قول القائل: “بشفاعة آلهتنا” فيتضمن الشرك، مع إضافة النعمة إلى
_________
(1) “م”: “المسبب”، والمثبت من “د” متسق مع السياق، وسيأتي من كلام المؤلف بيانه.
(2) “م”: “المسبب”.
(3) “م”: “المسبب”.
(1/125)
غير وليّها، فالآلهة التي تُعبد من دون الله أحقر وأذل من أن تشفع عند الله، وهي مُحْضَرة في العذاب والهوان مع عابديها، وأقرب الخلق إلى الله وأحبهم إليه لا يشفع عنده إلا من بعد إذنه لمن ارتضاه، فالشفاعة بإذنه من نعمه، فهو المنعم بالشفاعة، وهو المنعم بقبولها، وهو المنعم بتأهيل المشفوع له، إذ ليس كل أحد أهلًا أن يُشْفَع له، فمَن المنعم على الحقيقة سواه؟
قال تعالى: {بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ} [النحل: 53]، فالعبد لا خروج له عن نعمته وفضله ومنّته وإحسانه طرفة عين، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
ولهذا ذَمَّ الله سبحانه مَن آتاه شيئًا من نعمه فقال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِيَ} [القصص:78]، وفي الآية الأخرى: {فَإِذَا (1) مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [الزمر: 49].
قال البغوي: “على علم من الله أني له أهل” (2).
وقال مقاتل: “على خير علمه الله عندي” (3).
وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل. ومضمون هذا القول أن الله آتانِيه على علمه بأني أهله.
وقال آخرون: بل العلم له نفسه. ومعناه: أوتيته على علم مني بوجوه المكاسب. قاله قتادة وغيره (4).
_________
(1) “د” “م”: “وإذا”.
(2) “معالم التنزيل” (7/ 124).
(3) “تفسير مقاتل” (3/ 356)، والمؤلف صادر في هذا الموضع عن البغوي.
(4) انظر: “المحرر الوجيز” (12/ 549).
(1/126)
وقيل: المعنى: قد علمتُ أني لمّا أوتيتُ هذا في الدنيا فلي عند الله منزلة وشرف، وهذا معنى قول مجاهد: “أوتيته على شرف” (1).
قال تعالى: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} [الزمر: 49]، أي: النعم التي أوتيها فتنة نختبره فيها، ومحنة نمتحنه بها، لا يدل ذلك على اصطفائه واجتبائه، وأنه محبوب لنا، مقرب عندنا.
ولهذا قال في قصة قارون: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} [القصص: 78]، فلو كان إعطاء المال والقوة والجاه يدل على رضا الله سبحانه عمن آتاه ذلك، وشرف قدره وعلو منزلته عنده؛ لما أهلك من آتاه من ذلك أكثر مما آتى قارون. فلما أهلكهم مع سعة هذا العطاء وبسطه عُلِم أن عطاءه إنما كان ابتلاء وفتنة ومحنة، لا محبة ورضا واصطفاء لهم على غيرهم.
ولهذا قال في الآية الأخرى: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ}، أي: النعم فتنة لا كرامة، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}.
ثم أكد هذا المعنى بقوله: {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر: 50 – 51]، أي: قد قال هذه المقالة الذين مِن قبلهم لما آتيناهم نعمنا.
قال ابن عباس: “كانوا قد بطروا نعمة الله، إذ آتاهم الدنيا وفرحوا بها وطغوا، وقالوا: هذه كرامة من الله لنا” (2).
_________
(1) “تفسير مجاهد” (580).
(2) لم أقف عليه.
(1/127)
وقوله: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} المعنى: أنهم ظنوا أن ما آتيناهم لكرامتهم علينا، ولم يكن كذلك؛ لأنهم وقعوا في العذاب، ولم يُغْنِ عنهم ما كسبوا شيئًا، وتبيّن أن تلك النعم لم تكن لكرامتهم علينا، وهوان مَن منعناه إياها (1).
وقال أبو إسحاق: معنى الآية أن قولهم: “إنما آتانا الله ذلك لكرامتنا عليه، وإنا أهله”؛ أحبط أعمالهم (2)، فكنَّى عن إحباط العمل بقوله: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، ثم أبطل سبحانه هذا الظن الكاذب منهم بقوله: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الزمر: 52].
والمقصود أن قوله: {عَلَى عِلْمٍ عِندِيَ} [القصص: 78] إن أريد به علمه نفسه، كان المعنى: أوتيته على ما عندي من العلم والخبرة والمعرفة التي توصلتُ بها إلى ذلك وحصلتُه بها. وإن أريد به علم الله؛ كان المعنى: أوتيتُه على ما علم الله عندي من الخير والاستحقاق وأني أهله، وذلك من كرامتي عليه. وقد يترجح هذا القول بقوله: “أوتيته”، ولم يقل: حَصّلته واكتسبته بعلمي ومعرفتي، فدلّ على اعترافه بأن غيره آتاه إيّاه.
ويدل عليه قوله سبحانه: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} أي: محنة واختبار، والمعنى: أنه لم يؤت (3) هذا لكرامته علينا، بل أوتيه امتحانًا وابتلاءً واختبارًا: هل يشكر فيه أم يكفر؟
_________
(1) انظر: “الوسيط” للواحدي (3/ 586).
(2) انظر: “معاني القرآن” (4/ 357).
(3) “د”: “لم يوجب”.
(1/128)
وأيضًا فهذا يوافق قوله: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّيَ أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّيَ أَهَانَنِ} [الفجر: 15 – 16]، فهو قد اعترف بأن ربه هو الذي آتاه ذلك، ولكن ظنَّ أنه (1) لكرامته عليه.
فالآية على التقدير الأول تتضمن ذم من أضاف النعم إلى نفسه وعلمه وقوته، ولم يضفها إلى فضل الله وإحسانه، وذلك محض الكفر بها؛ فإن رأس الشكر الاعتراف بالنعمة، وأنها من المنعم وحده، فإذا أضيفت إلى غيره كان جحدًا لها، فإذا قال: أوتيته على ما عندي من العلم والخبرة التي حصلت بها ذلك؛ فقد أضافها إلى نفسه، وأُعْجِب بها، كما أضافها إلى قدرته الذين قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15]، فهؤلاء اغتروا بقوتهم، وهذا اغتر بعلمه، فما أغنى عن هؤلاء قوتهم، ولا عن هذا علمه.
وعلى التقدير الثاني: يتضمن ذمّ من اعتقد أن إنعام الله عليه لكونه أهلًا ومستحقًا لها، فقد جعل سبب النعمة ما قام به من الصفات التي يستحق بها على الله أن ينعم عليه، وأن تلك النعمة جزاء له على إحسانه وخيره، فقد جعل سببها ما اتصف به هو، لا ما قام بربِّه من الجود والإحسان والفضل والمنة، ولم يعلم أن ذلك ابتلاء واختبار له: أيشكر أم يكفر، ليس ذلك جزاء له على ما منه، ولو كان ذلك جزاء على عمل عمله، أو خير قام به، فالله سبحانه هو المنعم عليه بذلك السبب، فهو المنعم بالسبب والجزاء، والكل محض منّته وفضله وجوده، وليس للعبد من نفسه مثقال ذرة من الخير.
_________
(1) “د”: “ربه هو الذي أراد ذلك، ولكن ضن به”.
(1/129)
وعلى التقديرين فهو لم يضف النعمة إلى الربّ من كل وجه، وإن أضافها إليه من وجه دون وجه، وهو سبحانه وحده المنعم من جميع الوجوه على الحقيقة بالنعم وأسبابها، فأسبابها مِن نعمه على العبد وإن حصلت بكسبه، فكسبه من نعمه، فكل نعمة فمن الله وحده، حتى الشكر فإنه نعمة وهي منه سبحانه، فلا يطيق أحد أن يشكره إلا بنعمته، وشكره نعمة منه عليه، كما قال داود عليه الصلاة والسلام: “يا ربِّ، كيف أشكرك وشكري لك نعمة من نعمك عليّ تستوجب شكرًا آخر؟ فقال: الآن شكرتني يا داود” ذكره الإمام أحمد (1).
وذكر أيضًا عن الحسن قال: قال داود: “إلهي، لو أن لكل شعرة من شعري لسانين يذكرانك بالليل والنهار، والدهر كله؛ لما أدّوا ما لك عليَّ من حق نعمة واحدة” (2).
والمقصود أن حال الشاكر ضد حال القائل: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِيَ} [القصص: 78].
ونظير ذلك قوله تعالى: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فصلت: 49 – 50]، قال ابن عباس: “يريد من عندي” (3).
_________
(1) بنحوه في “الزهد” (375)، وأخرجه ابن أبي حاتم بقريب منه كما في “تفسير ابن كثير” (6/ 501).
(2) بنحوه في “الزهد” (361)، وأخرجه ابن أبي شيبة (32551).
(3) نسبه إليه الواحدي في “البسيط” (19/ 475).
(1/130)
وقال مقاتل: “يعني أنا أحق بهذا” (1).
وقال مجاهد: “هذا بعملي، وأنا محقوق به” (2).
وقال الزجاج: “هذا واجب، بعملي استحققتُه” (3).
فوصَفَ الإنسان بأقبح صفتين: إن مسّه الشرُّ صار إلى حال القانط، ووجم وجوم الآيس، فإذا مسّه الخيرُ نسي أن الله هو المنعم عليه المتفضل بما أعطاه، فبطر وظنَّ أنه هو المستحق لذلك، ثم أضاف إلى ذلك تكذيبه بالبعث فقال: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً}، ثم أضاف إلى ذلك ظنَّه الكاذب: أنه إن بُعِثَ كان له عند الله الحُسنى، فلم يدع هذا للجهل والغرور موضعًا.
فصل
وفي قوله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23] قول آخر أنه على علم عند الضّال، كما قيل: على علم منه أن معبوده لا ينفع ولا يضر، فيكون المعنى: أضله الله مع علمه الذي تقوم به عليه الحجة، لم يضلّه على جهل وعدم علم.
وهذا يشبه قوله: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]، وقوله: {فَصَدَّهُمْ (4) عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38]، وقوله:
_________
(1) “تفسير مقاتل” (3/ 748).
(2) التفسير المنسوب إلى مجاهد (587)، وأسنده الطبري (20/ 458).
(3) “معاني القرآن وإعرابه” (4/ 391).
(4) “د” “م”: “وصدهم”.
(1/131)
{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14]، وقوله: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} [الإسراء: 59]، وقول موسى لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102]، وقوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]، وقوله: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]، وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]، ونظائره كثيرة.
وعلى هذا التقدير فهو ضال عن سلوك طريق رشده، وهو يراها عيانًا كما في الحديث: “أشد الناس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه” (1)، فإن الضّال عن الطريق قد يكون متبعًا لهواه، عالمٌ (2) بأن الرشد والهدى في خلاف ما يعمل.
ولما كان الهدى هو معرفة الحق والعمل به، كان له ضدَّان: الجهل بالحق، وترك العمل به، فالأول ضلال في العلم، والثاني ضلال في القصد والعمل.
فقد وقع قوله: {عَلَى عِلْمٍ} في قوله تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ} [الدخان: 32]، وفي قوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23]، وفي قوله: {قَالَ إِنَّمَا
_________
(1) أخرجه الدينوري في “المجالسة” (90)، والطبراني في “الصغير” (507)، وابن عدي في “الكامل” (8/ 26) من حديث أبي هريرة، وفي إسناده عثمان البري؛ متهم شديد الضعف، انظر: “الميزان” (3/ 56).
(2) كذا في “د” “م” بالرفع على الاستئناف.
(1/132)
أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [القصص: 78]، فالأول يرجع العلم فيه إلى الله سبحانه قولًا واحدًا، والثاني والثالث فيهما قولان، والراجح في قوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} أن يكون كالأول، وهو قول عامة السلف، والثالث فيه قولان محتملان، وقد ذُكِر توجيهُهما، والله أعلم.
والمقصود ذكر مراتب القضاء والقدر علمًا، وكتابةً، ومشيئةً، وخلقًا.
* * * *
(1/133)
الباب الحادي عشر
في ذكر المرتبة الثانية، وهي مرتبة الكتابة
وقد تقدم في أول الكتاب ما دَلَّ على ذلك من نصوص القرآن والسنة الصحيحة الصريحة، فنذكر هنا بعض ما لم نذكره.
قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 105 – 106]، فالزبور هنا جميع الكتب المنزلة من السماء، لا تختص بزبور داود، والذكر أم الكتاب الذي عند الله، والأرض هي الدنيا، وعباده الصالحون أمة محمد – صلى الله عليه وسلم -، هذا أصح الأقوال في هذه الآية.
وهي عَلَمٌ من أعلام نبوة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه أخبر بذلك بمكة وأهل الأرض كلهم كفار أعداء له ولأصحابه، والمشركون قد أخرجوهم من ديارهم ومساكنهم وشتتوهم في أطراف الأرض، فأخبرهم ربهم تبارك وتعالى أنه كتب في الذكر الأول أنهم يرثون الأرض من الكفار، ثم كتب ذلك في الكتب التي أنزلها على رسله.
والكتاب الأول قد أُطْلِق عليه الذكرُ في قول النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحديث المتفق على صحته: “كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء” (1)، فهذا هو الذكر الذي كُتِب فيه أن الدنيا تصير لأمة محمد – صلى الله عليه وسلم -.
_________
(1) أخرجه البخاري وحده (3191) من حديث عمران بن حصين.
(1/134)
والكتبُ المنزّلة قد أُطْلِق عليها الزُّبُر في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا يُوحَى إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل: 43 – 44]، أي: أرسلناهم بالآيات الواضحات، والكتب التي فيها الهدى والنور، والذكر ههنا: الكتابان اللذان أنزلا قبل رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وهما التوراة والإنجيل.
والذكر في قوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] هو القرآن، ففي هذه الآية علمه بما كان قبل كونه، وكتابته له بعد علمه.
وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12]، فجمع بين الكتابين: الكتاب السابق لأعمالهم قبل وجودهم، والكتاب المقارِن لأعمالهم.
فأخبر سبحانه أنه يحييهم بعد ما أماتهم للبعث، ويجازيهم بأعمالهم، ونبّه بكتابته لها على ذلك.
قال مقاتل: ” {نكتب مَا قَدَّمُوا} من خير أو شر فعلوه في حياتهم، {وَآثَارَهُمْ} ما سَنُّوا من سُنّة خير أو شر فاقتُدِي بهم فيها بعد موتهم” (1).
وقال ابن عباس في رواية عطاء: ” {وَآثَارَهُمْ} ما أثروا من خير أو شر” (2). كقوله: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13].
فإن قلت: فقد استفيد هذا من قوله: {مَا قَدَّمُوا}، فما أفاد قوله: {وَآثَارَهُمْ} على قوله؟
_________
(1) “تفسير مقاتل” (3/ 574).
(2) نسبه إليه الواحدي في “البسيط” (18/ 460).
(1/135)
قلت: أفاد فائدة جليلة، وهو أنه سبحانه يكتب ما عملوه، وما تولد من أعمالهم، فيكون المتولد عنها كأنهم عملوه في الخير والشر، وهو أثر أعمالهم (1)، فآثارهم هي آثار أعمالهم المتولدة عنها، وهذا القول أعم من قول مقاتل، وكأن مقاتلًا أراد التمثيل والبيان على عادة السلف في تفسير اللفظة العامة بنوع أو فرد من أفراد مدلولها تقريبًا وتمثيلًا، لا حصرًا وإحاطة.
وقال أنس وابن عباس في رواية عكرمة: نزلت هذه الآية في بني سَلِمة، أرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، وكانت منازلهم بعيدة، فلما نزلت قالوا: بل نمكث مكاننا (2).
واحتج أرباب هذا القول بما في “صحيح البخاري” (3) من حديث أبي سعيد الخدري قال: كانت بنو سَلِمة في ناحية المدينة، فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد، فنزلت هذه الآية: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “يا بني سَلِمة، ديارَكم تُكتب آثارُكم”.
_________
(1) من قوله: “فيكون المتولد” إلى هنا ساقط من “د” انتقال نظر.
(2) رواية عكرمة عن ابن عباس أخرجها ابن ماجه (785)، وابن جرير (19/ 410) بإسناد جيد، ولم أقف على قول أنس مسندًا، والفقرة بحروفها في “البسيط” (18/ 460).
وأخرجه عن أنس دون التصريح بسبب النزول البخاري (656).
(3) كذا عزاه إلى “الصحيح” من حديث أبي سعيد سهوًا، وهو فيه من حديث أنس ــ وسيأتي ــ، وحديث أبي سعيد أخرجه عبد الرزاق في “المصنف” (1982)، والترمذي (3226) وقال: ” هذا حديث حسن غريب من حديث الثوري”، وفي إسناده طريف السعدي ضعيف، وقد أخطأ فيه، انظر: “فتح الباري” لابن رجب (6/ 29).
(1/136)
وقد روى مسلم نحوه من حديث جابر وأنس (1).
وفي هذا القول نظر؛ فإن سورة “يس” مكية، وقصة بني سَلِمة بالمدينة، إلا أن يقال: هذه الآية وحدها مدنية.
وأحسن من هذا أن تكون ذُكِرت عند هذه القصة ودلَّت عليها، وذُكِّروا بها عندها، إما من النبي – صلى الله عليه وسلم – أو من جبريل عليه السلام، فأطلق على ذلك: النزول، ولعل هذا مراد من قال في نظائر ذلك: نزلت مرتين.
والمقصود: أن خُطاهم إلى المساجد من آثارهم التي يكتبها الله لهم.
قال عمر بن عبد العزيز: “لو كان الله سبحانه تاركًا لابن آدم شيئًا لترك له ما عفت عليه الرياح من أثره” (2).
وقال مسروق: “ما خطا رجل خطوة إلا كُتِبت حسنة أو سيئة”.
والمقصود أن قوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} وهو اللوح المحفوظ، وهو أم الكتاب، وهو الذكر الذي كتب فيه كل شيء، يتضمن كتابة أعمال العباد قبل أن يعملوها، والإحصاء في الكتاب يتضمن علمه بها، وحفظه لها، والإحاطة بقدرها (3)، وإثباتها فيه.
وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا
_________
(1) أخرجه مسلم (665) من حديث جابر، وحديث أنس انفرد به البخاري (656) وليس فيه التصريح بسبب النزول.
(2) أخرجه وتاليه عبد الرزاق في “التفسير” (3/ 140).
(3) “م”: “بعددها”.
(1/137)
فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38]، وقد اختُلِف في الكتاب ههنا: هل هو القرآن أو اللوح المحفوظ؟ على قولين:
فقالت طائفة: المراد به القرآن، قالوا: وهذا من العام المراد به الخاص، أي: ما فرطنا فيه من شيء يحتاجون إلى ذكره وبيانه، كقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89].
ويجوز أن يكون من العام المراد عمومه، والمراد أن كل شيء ذُكِر فيه مجملًا ومفصّلًا، كما قال ابن مسعود ــ وقد لعن الواصلة والمستوصلة ــ: ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه؟! فقالت امرأة: لقد قرأت القرآن فما وجدته. فقال: إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ولعن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الواصلة والمستوصلة (1).
وقال الشافعي: “ما تنزل بأحد من المسلمين نازلة إلا وفي كتاب الله سبيل الدلالة عليها” (2).
وقال طائفة: المراد بالكتاب في الآية اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل شيء. وهذا إحدى الروايتين عن ابن عباس (3).
_________
(1) أخرجه أحمد (3945)، والبخاري (4886)، ومسلم (2125).
وهذه الفقرة وسابقتها مقتبسة من “البسيط” (8/ 118) وسياقه أوضح.
(2) “الرسالة” (20) بتصرف.
(3) أخرجه الطبري (11/ 345)، وابن أبي حاتم في “التفسير” (7259).
(1/138)
وكأن هذا القول أظهر في الآية، والسياق يدل عليه، فإنه قال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}، وهذا يتضمن أنها أمم أمثالنا في الخلق والرزق والأجل والتقدير الأول، وأنها لم تُخلق سدى، بل هي معبّدة مذلّلة، قد قَدّر خلقها وأجلها ورزقها وما تصير إليه، ثم ذَكَر عاقبتها ومصيرها بعد فنائها، فقال: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} فذكر مبدأها ونهايتها، وأدخل بين هاتين الحالتين قوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}، أي: كلها قد كُتِبت وقُدِّرت وأُحْصِيت قبل أن توجد، فلا يناسب هذا ذكر كتاب الأمر والنهي، وإنما يناسب ذكر الكتاب الأول.
ولمن نصر القول الأول أن يجيب عن هذا بأن في ذكر القرآن ههنا الإخبار عن تضمنه لذكر ذلك والإخبار به، فلم نفرط فيه من شيء، بل أخبرناكم بكل ما كان، وما هو كائن إجمالًا وتفصيلًا.
ويرجحه أمر آخر، وهو أن هذا ذُكِر عقيب قوله: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 37]، فنبههم على أعظم الآيات وأدلها على صدق رسوله، وهو الكتاب الذي يتضمن تبيان كل شيء، ولم يفرط فيه من شيء، ثم نبههم بأنهم أمة من جملة الأمم التي في السماوات والأرض، وهذا يتضمن التعريف بوجود الخالق سبحانه، وكمال قدرته وعلمه، وسعة ملكه، وكثرة جنوده، والأمم التي لا يحصيها غيره، وهذا يتضمن أنه لا إله غيره، ولا ربَّ سواه، وأنه ربُّ العالمين، فهذا دليل على وحدانيته وصفات كماله من جهة خلقه وقدره. وإنزال الكتاب الذي لم يفرط فيه من شيء دليل من جهة أمره وكلامه، فهذا
(1/139)
استدلال بأمره وذاك بخلقه، {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].
ويشهد لهذا أيضًا قوله: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 50 – 51].
ولمن نصر أن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ أن يقول: لما سألوا الآية أخبرهم سبحانه بأنه لم يترك إنزالها لعدم قدرته على ذلك، فإنه قادر على ذلك، وإنما لم ينزلها لحكمته ورحمته بهم، وإحسانه إليهم؛ إذ لو أنزلها على وفق اقتراحهم لعُوجلوا بالعقوبة إن لم يؤمنوا.
ثم ذكر ما يدل على كمال قدرته بخلق الأمم العظيمة التي لا يحصي عددها إلا هو، فمن قدر على خلق هذه الأمم مع اختلاف أجناسها وأنواعها وصفاتها وهيئاتها؛ كيف يعجز عن إنزال آية؟
ثم أخبر عن كمال قدرته وعلمه بأن هؤلاء الأمم قد أحصاهم، وكَتَبَهم، وقدَّر أرزاقهم وآجالهم وأحوالهم في كتاب لم يفرط فيه من شيء، ثم يميتهم، ثم يحشرهم إليه.
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا (1) صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: 39]، عن النظر والاعتبار الذي يؤديهم إلى معرفة ربوبيته ووحدانيته وصدق رسله.
ثم أخبر أن الآيات لا تستقل بالهدى؛ ولو أنزلها على وفق اقتراح البشر،
_________
(1) “د” “م”: “بآياته”.
(1/140)
بل الأمر كله له، {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، فهذا أظهر القولين، والله أعلم.
وقال تعالى: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 1 – 4]، قال ابن عباس: “في اللوح المحفوظ الذي عندنا” (1).
قال مقاتل: “يقول: إن نسخته في أصل الكتاب، وهو اللوح المحفوظ” (2).
وأمّ الكتاب: أصل الكتاب، وأمّ كل شيء: أصله.
والقرآن كتبه الله في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض، كما قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21 – 22].
وأجمع الصحابة والتابعون وجميع أهل السنة والحديث أن كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب في أم الكتاب.
وقد دلّ القرآن على أن الربّ تبارك وتعالى كتب في أم الكتاب ما يفعله وما يقوله، فكتب في اللوح فِعاله وكلامه، فـ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} في اللوح المحفوظ قبل وجود أبي لهب.
وقوله: {لَدَيْنَا} يجوز فيه أن تكون من صلة {أُمِّ الْكِتَابِ}، أي: أنه
_________
(1) أخرجه بنحوه ابن جرير (20/ 547)، وانظر: “الوسيط” للواحدي (4/ 63).
(2) “تفسير مقاتل” (3/ 789).
(1/141)
في أم الكتاب الذي عندنا، وهذا اختيار ابن عباس (1).
ويجوز أن يكون من صلة الخبر: أنه عليٌّ حكيم عندنا، ليس هو كما عند المكذبين به، أي: وإن كذبتم به وكفرتم فهو عندنا في غاية الارتفاع والشرف والإحكام.
وقال تعالى: {خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ} [الأعراف: 37]، قال سعيد بن جبير ومجاهد وعطية: أي ما سبق لهم في الكتاب من الشقاوة والسعادة، ثم قرأ عطية: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمِ الضَّلَالَةُ} [هود: 30] (2).
والمعنى أن هؤلاء أدركهم ما كُتِب لهم من الشقاوة، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، قال: “يريد ما سبق عليهم في علمي في اللوح المحفوظ” (3).
فالكتاب على هذا القول الكتاب الأول، ونصيبهم ما كُتِب لهم فيه من الشقاوة وأسبابها.
وقال ابن زيد والقرظي والربيع بن أنس: ينالهم ما كُتِب لهم من الأرزاق والأعمال والأعمار، فإذا فني نصيبهم واستكملوه جاءتهم رسلنا يتوفونهم (4).
_________
(1) تقدم تخريجه قريبًا.
(2) أسندها الطبري (10/ 169 – 170)، وانظر: “البسيط” (9/ 115).
(3) نسبها إليه في “البسيط” (9/ 115).
(4) أسندها الطبري (10/ 174 – 175)، وانظر: “البسيط” (9/ 116).
(1/142)
ورجَّح بعضُهم هذا القول؛ لمكان “حتى” التي هي للغاية، يعني: أنهم يستوفون أرزاقهم وأعمارهم إلى الموت.
ولمن نصر القول الأول أن يقول: “حتى” في هذا الموضع هي التي تدخل على الجُمل، وينصرف الكلام فيها إلى الابتداء كـ “أما”، كقوله:
فيا عجبًا حتى كليبٌ تسبّني (1)
والصحيح أن نصيبهم من الكتاب يتناول الأمرين، فهو نصيبهم من الشقاوة، ونصيبهم من الأعمال التي هي أسبابها، ونصيبهم من الأعمار التي هي مدة اكتسابها، ونصيبهم من الأرزاق التي استعانوا بها على ذلك، فعمَّت الآية هذا النصيب كلّه، وذكر هؤلاء بعضه، وهؤلاء بعضه.
هذا على القول الصحيح، وأن المراد بالكتاب ما سبق لهم في أم الكتاب.
وقالت طائفة: المراد بالكتاب القرآن.
قال الزجاج: “معنى {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ}: ما أخبر الله عز وجل من جزائهم، نحو قوله: {(13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا} [الليل: 14]، وقوله: {نَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن: 17]، ونظائره” (2).
قال أرباب هذا القول: وهذا هو الظاهر؛ لأنه ذَكَر عذابهم في القرآن في مواضع، ثم أخبر أنه ينالهم نصيبُهم منه.
_________
(1) صدر بيت للفرزدق، انظر: “الديوان” بشرح الفاعور (361).
(2) “معاني القرآن وإعرابه” (2/ 334).
(1/143)
والصحيح القول الأول، وهو نصيبهم الذي كُتِبَ لهم أن ينالوه قبل أن يُخلقوا، ولهذا القول وجه حسن، وهو أن نصيب المؤمنين منه الرحمة والسعادة، ونصيب هؤلاء منه العذاب والشقاء، فنصيب كل فريق منه ما اختاروه لأنفسهم، وآثروه على غيره. كما أن حظَّ المؤمنين منه كان الهُدى والرحمة، فحظ هؤلاء منه الضلال والخيبة، فكان حظهم من هذه النعمة أن صارت نقمة وحسرة عليهم.
وقريب من هذا قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82]، أي: تجعلون حظكم من هذا الرزق الذي به حياتكم التكذيبَ به.
قال الحسن: “تجعلون حظّكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون”، قال: “وخسر عبد لا يكون حظه من كتاب الله إلا التكذيب به” (1).
وقال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 52]، قال عطاء ومقاتل: “كل شيء فعلوه مكتوب عليهم في اللوح المحفوظ” (2).
وروى حماد بن زيد، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} قال: “كُتِب عليهم قبل أن يعملوه” (3).
وقالت طائفة: المعنى أنه مُحصى عليهم في كتب أعمالهم.
وجمع أبو إسحاق بين القولين، فقال: “مكتوب عليهم قبل أن يفعلوه،
_________
(1) عزاهما إليه في “البسيط” (21/ 256)، وأسند الثاني منهما عبد الرزاق في “التفسير” (3/ 273)، وابن جرير (22/ 372).
(2) عزاه إلى عطاء في “البسيط” (21/ 127)، وانظر: “تفسير مقاتل” (4/ 185).
(3) أورده بهذا السياق ابن عبد البر في “التمهيد” (3/ 139).
(1/144)
ومكتوب لهم وعليهم إذا فعلوه للجزاء” (1)، وهذا أصح. وبالله التوفيق.
وفي “الصحيحين” (2) من حديث ابن عباس قال: ما رأيت شيئًا أشبه باللّمَم مما قال أبو هريرة: إن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “إن الله كتب على ابن آدم حظّه من الزنا، أدرَك ذلك لا محالة: فزنا العينين النَّظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تمنَّى وتشتهي، والفَرْجُ يصدِّق ذلك أو يكذبه”.
وفي “الصحيحين” (3) أيضًا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “كُتِبَ على ابن آدم نصيبُه من الزنا، مدركٌ ذلك لا محالة: فالعينان زناهما النَّظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخُطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدّق الفرج ذلك كله ويكذِّبه”.
وفي “صحيح البخاري” (4) وغيره عن عمران بن حصين قال: دخلت على النبي – صلى الله عليه وسلم – وعقلت ناقتي بالباب، فأتاه ناس من بني تميم فقال: “اقبلوا البشرى يا بني تميم”، قالوا: قد بشرتنا فأعطنا ـ مرتين ـ. ثم دخل عليه ناس من اليمن، فقال: “اقبلوا البشرى يا أهل اليمن، إذ (5) لم يقبلها بنو تميم”. قالوا: قد قبِلنا يا رسول الله. قالوا: جئنا لنسألك عن هذا الأمر؟ قال: “كان الله
_________
(1) “معاني القرآن وإعرابه” (5/ 92).
(2) “البخاري” (6243)، و”مسلم” (2657) واللفظ له.
(3) “مسلم” (2657)، وعلق إسناده البخاري دون متن عقب الحديث (6612)، وانظر: “تغليق التعليق” (5/ 191).
(4) تقدم تخريجه في (134).
(5) بداية نسخة “ج”.
(1/145)
ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض”. فنادى منادٍ: ذهبت ناقتك يا ابن الحصين، فانطلقت، فإذا هي ينقطع دونها السراب، فو الله لوددت أني كنت تركتها.
فالربّ سبحانه وتعالى كتب ما يقوله وما يفعله، وما يكون بقوله وفعله، وكتب مقتضى أسمائه وصفاته وآثارها، كما في “الصحيحين” (1) من حديث أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “لما قضى الله الخلق كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي”.
* * * *
_________
(1) “البخاري” (3194)، و”مسلم” (2751).
(1/146)
الباب الثاني عشر
في ذكر المرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر، وهي مرتبة المشيئة
وهذه المرتبة قد دلَّ عليها إجماعُ الرسل من أولهم إلى آخرهم، وجميعُ الكتب المنزلة من عند الله، والفطرةُ التي فَطَر عليها خلقه، وأدلةُ العقول (1) والعيان.
وليس في الوجود موجِب ومقتضٍ على الحقيقة إلا مشيئة الله وحده، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، هذا عمودُ التوحيد الذي لا يقوم إلا به، والمسلمون من أولهم إلى آخرهم مجمعون على أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
وخالفهم في ذلك من ليس منهم في هذا الموضع، وإن كان منهم في موضع آخر، فجوزوا أن يكون في الوجود ما لا يشاء الله، وأن يشاء ما لا يكون.
وخالفَ الرسلَ كلَّهم وأتباعَهم مَن نفى مشيئة الله بالكلية، ولم يثبت له سبحانه مشيئة واختيارًا أوجد بها الخلق، كما يقوله طوائف من أعداء الرسل من الفلاسفة وأتباعهم.
والقرآن والسنّةُ مملوءان بتكذيب الطائفتين، كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ
_________
(1) “م”: “المعقول”.
(1/147)
اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253]، وقال تعالى: {كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران: 40]، وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112]، وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118]، وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: 35]، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]، وقال: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} [محمد: 4]، وقال: {قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي} [الإسراء: 86]، وقال: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24]، وقال: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} [النساء: 133]، وقال: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27].
وقال عن نوح إنه قال لقومه: {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ} [هود: 33]، وقال إمام الحنفاء وأبو الأنبياء لقومه: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأنعام: 80]، وقال الذبيح له: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]، وقال خطيب الأنبياء شعيب: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [الأعراف: 89]، وقال الصديق الكريم ابن الكريم ابن الكريم: {اَدْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99]، وقال حمو موسى: {وَمَا
(1/148)
أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص: 27]، وقال كليم الرحمن للخضر: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} [الكهف: 69]، وقال قوم موسى له: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: 70]، وقال لسيد ولد آدم وأكرمهم عليه صلوات الله وسلامه عليه: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 – 24]، وقال: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [يونس: 49]، وقال: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 6 – 7]، وقال عن أهل الجنة: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 108] وعن أهل النار كذلك؛ ليبين أن الأمر راجع إلى مشيئته، ولو شاء لكان غير ذلك.
وقال: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} [الإسراء: 54]، وقال: {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 129]، وقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الإسراء: 30]، وقال: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنزِلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 27]، وقال: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]، وقال: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ [لِيُبَيِّنَ لَهُمْ] (1)
فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهْوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم: 4]، وقال: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]، وقال: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}
_________
(1) قوله تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} ساقط من “د” “م”، وألحقها في حاشية “ج” مصحِّحًا ..
(1/149)
[الشورى: 52]، وقال: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142]، وقال: {أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا إِلَى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة: 213]، وقال: {(15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ} [يونس: 16]، وقال: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا} [الإنسان: 28]، وقال: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: 56]، وفي الآية الأخرى: {وَمَا يَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]، فأخبر أن مشيئتهم وفعلهم موقوفان (1) على مشيئته لهم هذا وهذا.
وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]، وقال: {(24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ إِلَى إِلَى صِرَاطٍ} [يونس: 25]، وقال: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَا أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب: 24].
وقوله: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 74]، وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 21]، وقوله: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261]، وقوله: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 56]، وقوله: {نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83]، وقوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الجمعة: 4]، وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11]، وقوله: {فَنُجِي مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 110]، وقوله: {فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ}
_________
(1) “موقوفان” ساقطة من “د”، واستدرك موضعها الناسخ بلحق لم أتمكن من قراءته.
(1/150)
[الروم: 48]، وقوله: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} [يوسف: 100]، وقوله: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 269]، وقوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} [يس: 66]، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} [البقرة: 20]، وقوله: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ} [الشورى: 33]، وقوله: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة: 65]، {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} [الواقعة: 70]، وقوله: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [التوبة: 28]، وقوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ} [الأنعام: 133]، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220]، وقوله: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ} [الشورى: 13]، وقوله عن كليمه موسى أنه قال: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف: 155].
وهذه الآيات ونحوها تتضمن الرد على طائفتي الضلال: نفاة المشيئة بالكلية، ونفاة مشيئة أفعال العباد وحركاتهم وهداهم وضلالهم.
وهو سبحانه تارة يخبر أن كل ما في الكون بمشيئته، وتارة أن ما لم يشأ لم يكن، وتارة أنه لو شاء لكان خلاف الواقع، وأنه لو شاء لكان خلاف المقدر (1) الذي قدره وكتبه، وأنه لو شاء لما عُصِيَ، وأنه لو شاء لجمع خلقه على الهدى وجعلهم أمة واحدة، فتضمن ذلك أن الواقع بمشيئته، وأن ما لم يقع فهو لعدم مشيئته.
وهذا حقيقة الربوبية، وهو معنى كونه ربّ العالمين، وكونه القيّوم القائم
_________
(1) “م” “ج”: “القدر”، والمثبت من “د”.
(1/151)
بتدبير عباده، فلا خلق، ولا رزق، ولا عطاء، ولا منع، ولا قبض، ولا بسط، ولا موت، ولا حياة، ولا إضلال، ولا هدى، ولا سعادة، ولا شقاوة، إلا من بعد إذنه، وكل ذلك بمشيئته وتكوينه؛ إذ لا مالك غيره، ولا مدبّر سواه، ولا ربَّ غيره.
قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68]، وقال: {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} [الحج: 5]، وقال: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8]، وقال: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى: 49 – 50]، وقال: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 35].
وقد تقدم (1) من حديث حذيفة بن أَسِيد في “صحيح مسلم” في شأن الجنين: “فيقضي ربك ما يشاء، ويكتب الملك”.
وفي “الصحيحين” (2) من حديث أبي موسى، عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: “اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء”.
وفي “صحيح البخاري” (3) من حديث علي بن أبي طالب، حين طرقه النبي – صلى الله عليه وسلم – وفاطمة ليلًا فقال: “ألا تصليان؟ ” فقال علي: إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثها بعثها.
__________
(1) في (64).
(2) “البخاري” (1432) واللفظ له، “مسلم” (2627).
(3) تقدم تخريجه في (59).
(1/152)
وفي “صحيحه” (1) أيضًا في قصة نومهم في الوادي عنه – صلى الله عليه وسلم -: “إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها حين شاء”.
وفي حديث ابن مسعود الذي في “المسند” (2) وغيره في قصة رجوعهم من الحديبية، ونومهم عن صلاة الصبح، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إن الله لو شاء لم تناموا عنها، ولكن أراد أن تكون لمن بعدكم، فهكذا لمن نام ونسي”، وفي لفظ آخر: “إن الله سبحانه لو شاء أيقظنا، ولكنه أراد أن يكون لمن بعدكم” (3).
وفي “مسند الإمام أحمد” (4) عن طُفَيل بن سَخْبرة أخي عائشة لأمها أنه رأى فيما يرى النائم كأنه مرَّ برهط من اليهود، فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن اليهود. قال: إنكم أنتم القوم، لولا أنكم تزعمون أن عزيرًا ابن الله. فقالت اليهود: وأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ثم مرّ برهط من النصارى، فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن النصارى. قال: إنكم أنت القوم، لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله. قالوا: وأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبح أخبر بها من أخبر، ثم أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – فأخبره،
_________
(1) تقدم تخريجه في (60).
(2) برقم (3710)، وأخرجه ابن ماجه (2118)، والطيالسي (377)، والنسائي في “الكبرى” (8854)، والبيهقي في “الكبرى” (3182) واللفظ له، وفي إسناده عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي اختلط بأخرة، وللحديث شواهد تقويه.
(3) أخرجه بهذا اللفظ البيهقي في “الأسماء والصفات” (290).
(4) برقم (20694)، وأخرجه ابن أبي عاصم في “الآحاد والمثاني” (2743)، والبيهقي في “الأسماء والصفات” (292)، وصححه الحاكم (5945).
(1/153)
قال: “هل أخبرت أحدًا؟ ” قال: نعم، فلما صلّوا خَطَبهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: “إن طفيلًا رأى رؤيا، فأخبر بها من أخبر منكم، وإنكم تقولون كلمةً كان يمنعني الحياءُ منكم (1) ــ زاد البيهقي: ـــ فلا تقولوها، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده، لا شريك له”.
وروى جعفر بن عون، عن الأجلح، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فكلّمه في بعض الأمر، فقال الرجل لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ما شاء الله وشئت، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “أجعلتني لله عدلًا؟! بل ما شاء الله وحده” (2).
وروى شعبة، عن منصور، عن عبد الله بن يسار، عن حذيفة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان: ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء فلان” (3).
قال الشافعي ـ في رواية الربيع عنه ـ: “المشيئة إرادة الله، قال الله عز وجل: {وَمَا يَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]، فأعلم الله خلقه أن المشيئة له دون خلقه، وأن مشيئتهم لا تكون إلا أن يشاء الله، فيقال لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ما شاء الله ثم شئتَ، ولا يُقال: ما شاء الله وشئت. قال: ويقال: من
_________
(1) تكملة الخبر: “أن أنهاكم عنها”.
(2) أخرجه من هذا الوجه البيهقي في “الأسماء والصفات” (293)، ورواه أحمد (1839)، والنسائي في “الكبرى” (10759)، وابن ماجه (2117) بنحوه، بإسناد لا بأس به.
(3) أخرجه أحمد (23265)، وأبو داود (4980)، والنسائي في “الكبرى” (10755) بإسناد صحيح.
(1/154)
يطع الله ورسوله، فإن الله تعبَّدَ العباد بأن فرض عليهم طاعة رسوله، فإذا أطيع رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – فقد أُطيع الله بطاعة رسوله” (1).
وفي “صحيح مسلم” (2) من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: “قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد يصرِّفها كيف يشاء”، ثم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “يا مصرِّف القلوب، صرِّفْ قلوبنا على طاعتك”.
وفي حديث النواس بن سمعان، سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: “ما من قلب إلا بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه”، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “اللهم يا مقلِّب القلوب، ثبِّت قلوبنا على دينك، والميزان بيد الرحمن، يرفع أقوامًا ويخفض آخرين إلى يوم القيامة” (3).
وفي “الصحيحين” (4) من حديث عبد الله بن عمر، سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو قائم على المنبر يقول: “إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم قبلكم، كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ــ فذكر الحديث، وقال في آخره ــ: فذلك فضلي أوتيه من أشاء”.
_________
(1) “الأم” (1/ 416)، وأسنده البيهقي في “الأسماء والصفات” (295)، ومنه اقتبس المؤلف.
(2) برقم (2654)، والبيهقي في “الأسماء والصفات” (298) ولفظه أقرب لسياق المؤلف.
(3) أخرجه أحمد (17630)، والنسائي في “الكبرى” (7691)، وابن ماجه (199)، وصححه ابن حبان (943).
(4) هو في البخاري وحده برقم (7467).
(1/155)
وفي “صحيح البخاري” (1) مرفوعًا: “مثل الكافر كمثل الأَرْزَة: صَمّاء (2) معتدلة، حتى يقصمها الله إذا شاء”.
وقال عبد الرزاق: عن معمر، عن همام، هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “قال الله تبارك وتعالى: لا يقل ابن آدم: يا خيبةَ الدّهرِ؛ فإني أنا الدهر، أرسل الليل والنهار، فإذا شئت قبضتهما” (3).
قال الشافعي: “تأويله ــ والله أعلم ــ: أن العرب كان شأنها أن تذم الدهر، وتسبَّه عند المصائب التي تنزل بهم من موت أو هدم أو تلف أو غير ذلك، فيقولون: إنما يهلكنا الدهر، وهو الليل والنهار، ويقولون: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهرُ، فيجعلون الليل والنهار اللذين يفعلان ذلك، فيذمون الدهر بأنه الذي يفنينا ويفعل بهم (4)، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “لا تسبوا الدهر” على أنه يفنيكم، والذي يفعل بكم هذه الأشياء؛ فإنكم إذا سببتم فاعل هذه الأشياء فإنما تسبون الله تبارك وتعالى، فإنه فاعل هذه الأشياء” (5).
وفي حديث أنس يرفعه: “اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات
_________
(1) برقم (7466) من حديث أبي هريرة.
(2) تحرفت في “د” “م” إلى: “حما”، وجاءت على الصواب في “ج”.
(3) أخرجه بهذا السياق من طريق عبد الرزاق به أحمد (8232)، والبيهقي في “الأسماء والصفات” (305)، وهو في البخاري (6181)، ومسلم (2246) من طرق عن أبي هريرة بألفاظ متقاربة.
(4) كذا في الأصول، وفي مصدر القول: “يفنينا ويفعل بنا”.
(5) أورده البيهقي في “الأسماء والصفات” عقب الحديث (305)، وفي “مناقب الشافعي” (1/ 336)، وانظر: “شأن الدعاء” (108).
(1/156)
رحمة الله، فإن لله عز وجل نفحات من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم، ويؤمّن روعاتكم” (1).
وفي “الصحيحين” (2) من حديث عبادة بن الصامت قال: كنا عند النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: “تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، فمن وفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله، فهو إلى الله: إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له”.
وفيهما أيضًا (3) في حديث احتجاج الجنة والنار، قول الله للجنة: “أنت رحمتي أرحم بك من أشاء”، وللنار: “أنت عذابي أعذب بك من أشاء”.
وفيهما أيضًا (4) من حديث أبي هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: “لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، وارحمني إن شئت، وارزقني إن شئت. ليعزم مسألته؛ إنه يفعل ما شاء، لا مُكْرِه له”.
وفي “صحيح مسلم” (5) عنه يرفعه: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله،
_________
(1) أخرجه الطبراني في “الكبير” (720)، والبيهقي في “الأسماء والصفات” (306) واللفظ له، وإسناده ضعيف، فيه عيسى بن موسى ضعيف، كما في “الميزان” (3/ 325)، ووقع فيه اختلاف أيضًا، انظر: “العلل” للدارقطني (12/ 97).
(2) “البخاري” (18)، و”مسلم” (1709).
(3) “البخاري” (4850)، و”مسلم” (2846) من حديث أبي هريرة.
(4) “البخاري” (7477)، و”مسلم” (2679).
(5) تقدم تخريجه في (60).
(1/157)
ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، [ولكن] (1) قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان”.
وفي حديث أبي ذر: “يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته … ” الحديث، وفي آخره: “ذلك بأني جواد ماجد، أفعل ما أشاء، عطائي كلام، فإذا أردت شيئًا فإنما أقول له: كن، فيكون” (2).
وفي حديث أنس بن مالك عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: “ما أنعم الله على عبد من نعمة، من أهلٍ وولدٍ، فيقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، فيرى فيه آفة دون الموت” (3).
وهذا الحديث الصحيح مشتق من قوله تعالى: {وَلَوْلَا إِذ دَّخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39].
وفي حديث الشفاعة: “فإذا رأيتُ ربي وقعت له ساجدًا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني” (4).
وفي حديث آخرِ أهل الجنة دخولًا إليها: “فيسكت ما شاء الله أن يسكت،
_________
(1) زيادة لازمة من مصدر الخبر.
(2) أخرجه بهذا السياق أحمد (21367)، والترمذي (2495) وحسنه، وابن ماجه (4257)، ومداره على شهر بن حوشب وفيه ضعف، وأصله عند مسلم (2577) بسياق آخر ليس فيه موضع الشاهد.
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في “الشكر” (1)، والطبراني في “الأوسط” (4261)، وأبو يعلى كما في “إتحاف الخيرة” (4/ 460) وضعفه الأزدي كما في “تفسير ابن كثير” (5/ 159)، وانظر: “فيض القدير” (5/ 429).
(4) أخرجه البخاري (7410)، ومسلم (193) من حديث أنس.
(1/158)
ــ وفيه قوله سبحانه: ــ لا أهزأ بك، ولكني على ما أشاء قادر” (1)، والحديثان في “الصحيحين”.
وفيهما من حديث أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: “لكل نبي دعوة، فأريد ـ إن شاء الله ـ أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة” (2).
وقال: “لا يدخل النار ـ إن شاء الله ـ مِن أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها أحد” (3).
وقال: “إني لأطمع أن يكون حوضي ــ إن شاء الله ــ أوسع ما بين أيلة إلى كذا” (4).
وقال في المدينة: “لا يدخلها الطاعون ولا الدجال ــ إن شاء الله ــ” (5).
وقال في زيارة المقابر: “وإنَّا ــ إن شاء الله ــ بكم لاحقون” (6).
وقال لما حاصر الطائف: “إنا قافلون غدًا ــ إن شاء الله ــ ” (7).
_________
(1) أخرجه البخاري (6573)، ومسلم (182) من حديث أبي هريرة، وموضع الشاهد عند مسلم (187) من حديث ابن مسعود.
(2) أخرجه البخاري (7474)، ومسلم (198) من حديث أبي هريرة.
(3) أخرجه مسلم (2496) من حديث أم مبشر.
(4) أخرجه من حديث أبي هريرة به الطبراني في “مسند الشاميين” (3342)، والبيهقي في “الأسماء والصفات” (350)، وأصله عند مسلم (2496) من وجه آخر.
(5) أخرجه البخاري (7134)، ومسلم (2943) ـ وليس فيه موضع الشاهد ـ، والترمذي (2242) من حديث أنس.
(6) أخرجه مسلم (249) من حديث أبي هريرة.
(7) أخرجه البخاري (6086)، ومسلم (1778) من حديث ابن عمر.
(1/159)
وقال لما قدم مكة: “منزلنا غدًا ــ إن شاء الله ــ بخَيْف بني كنانة” (1).
وقال في يوم بدر: “هذا مصرع فلان غدًا ــ إن شاء الله ــ، وهذا مصرع فلان ــ إن شاء الله ــ ” (2).
وقال في بعض أسفاره: “إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم، ثم تأتون الماء غدًا ــ إن شاء الله ــ ” (3).
وقال للأعرابي الذي عاده من الحمى: “لا بأس طهور ــ إن شاء الله ــ ” (4).
وأخبر عن سليمان بن داود أنه قال: “لأطوفنَّ الليلة على سبعين امرأة، كل واحدة تأتي بفارس يقاتل في سبيل الله، فقال له المَلَك: قُل: إن شاء الله. فلم يقل، فطاف عليهن جميعًا، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة، جاءت بشق رجل. وايم الذي نفس محمد بيده، لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون” (5).
وقال: “مَن حَلَف فقال: إن شاء الله، فإن شاء مضى، وإن شاء رجع غير
_________
(1) أخرجه البخاري (1589)، ومسلم (1314) من حديث أبي هريرة.
(2) أخرجه مسلم (2873) من حديث أنس.
(3) أخرجه مسلم (681)، والبيهقي في “الأسماء والصفات” (350) ــ واللفظ له ــ من حديث أبي قتادة.
(4) أخرجه البخاري (3616) من حديث ابن عباس.
(5) أخرجه البخاري (3424)، ومسلم (1654) من حديث أبي هريرة.
(1/160)
حَنِث” (1).
وقال: “لأغزونَّ قريشًا”، ثم قال في الثالثة: “إن شاء الله” (2).
وقال: “ألا مشمّر للجنة؟ ” فقال الصحابة: نحن المشمّرون لها يا رسول الله. فقال: “قولوا: إن شاء الله” (3).
وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24]، قال الحسن: “إذا نسيت أن تقول: إن شاء الله” (4).
وهذا هو الاستثناء الذي كان يجوّزه ابن عباس متراخيًا (5)، ويتأول عليه الآية، لا الاستثناء في الإقرار واليمين والطلاق والعِتَاق، وهذا من كمال علم ابن عباس وفقهه في القرآن.
_________
(1) أخرجه أبو داود (3262)، والترمذي (1531) وحسنه، والنسائي (3793)، وابن ماجه (2105)، وصححه ابن حبان (4340)، واختلف في إسناده وقفًا ورفعًا، انظر: “العلل” للدارقطني (2986).
(2) أخرجه أبوداود (3285)، وأبو يعلى (2674)، والطحاوي في “مشكل الآثار” (1928)، وابن حبان (4343) من طرق عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس به، واضطرب فيه سماك وصلًا وإرسالًا، ورجح غير واحد من الحفاظ إرساله، انظر: “العلل” لابن أبي حاتم (1322)، “الكامل” (3/ 532).
(3) أخرجه ابن ماجه (4332)، وابن أبي عاصم في “الجهاد” (1)، وابن أبي الدنيا في “صفة الجنة” (2)، وإسناده ضعيف، مداره على الضحاك المعافري مجهول، كما في “الميزان” (2/ 327).
(4) أسنده الطبري (15/ 226)، والبيهقي في “الأسماء والصفات” (366).
(5) أسنده الطبري (15/ 225)، والطبراني في “الأوسط” (119).
(1/161)
وقد أجمع المسلمون على أن الحالف إذا استثنى في يمينه متصلًا بها، فقال: لأفعلن كذا، أو لا أفعله إن شاء الله؛ أنه لا يحنث إذا خالف ما حلف عليه؛ لأن من أصل أهل الإسلام أنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله، فإذا علّق الحالف الفعل أو الترك بالمشيئة لم يحنث عند عدم المشيئة، ولا تجب عليه الكفارة.
ولو ذهبنا نذكر كل حديث أو أثر جاء فيه لفظ المشيئة، وتعليق فعل الربِّ تعالى بها لطال الكتاب جدًّا.
وأما الإرادة فورودها في نصوص القرآن والسنة معلوم أيضًا، كقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج: 16]، {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف: 82]، {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} [الإسراء: 16]، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ} [البقرة: 185]، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: 41]، وقول نوح: {(33) وَلَا نُصْحِيَ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ} [هود: 34]، وقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125]، وقوله: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ} [الرعد: 11]، وقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 27 – 28].
وأخبر أنه إذا لم يرد تطهير قلوب عباده لم يكن لهم سبيل إلى تطهيرها،
(1/162)
فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41].
وقال: {وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} [الحج: 16]، وقال: {إِنَّ (1) اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1]، وقال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6]، وقوله: {فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة: 17]، وقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33]، وقوله: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} [الأحزاب: 17]، وقول صاحب يس: {(22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا} [يس: 23]، وقوله: {أَفَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ إِللَّهِ إِنء أَرَادَنِيَا للَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتٌ ضُرَّهُ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتٌ رَّحْمَتَهُ} [الزمر: 38]، وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ} [آل عمران: 176]، وقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء: 18].
والنصوص النبوية في إثبات إرادة الله سبحانه أكثر من أن تحصر، كقوله: “مَن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين” (2)، “من يرد الله به خيرًا يُصِب منه” (3)،
_________
(1) “د” “م”: (وإن).
(2) أخرجه البخاري (71)، ومسلم (1037) من حديث معاوية.
(3) أخرجه البخاري (5645) من حديث أبي هريرة.
(1/163)
“إذا أراد الله بالأمير خيرًا جعل له وزير صدق” (1)، “إذا أراد الله رحمة أمة قبض نبيها قبلها، وإذا أراد الله هلكة أمة عذبها ونبيها حي، فأقر عينه بهلكتها” (2)، “إذا أراد الله بعبد خيرًا عجَّل له العقوبة في الدنيا”، “إذا أراد الله بعبد شرًّا أمسك عنه بذنبه، حتى يوافي به يوم القيامة كأنه عَيْر” (3)، “إذا أراد الله قَبْض عبد بأرض جعل له إليها حاجة” (4)، “إذا أراد الله بأهل بيت خيرًا أدخل عليهم باب الرفق” (5)، “إذا أراد الله بقوم عذابًا أصاب مَن كان فيهم، ثم بعثوا على نياتهم” (6).
والآثار النبوية في ذلك أكثر من أن نستوعبها.
فصل
وههنا أمر يجب التنبيه عليه، والتنبه له، وبمعرفته تزول إشكالات كثيرة
_________
(1) أخرجه أحمد (24414)، وأبو داود (2932)، والنسائي (4204) من حديث عائشة، وصححه ابن حبان (4494).
(2) أخرجه مسلم (2288) من حديث أبي موسى.
(3) هذا وسابقه جزء من حديث أخرجه بنحوه أحمد (16806)، والطبراني في “الكبير” (11842) من حديث عبد الله بن مغفل، وصححه ابن حبان (2911).
وقوله: “كأنه عير” أراد جبل عير بالمدينة، شبه عظم ذنوبه به، وقيل: العير هنا الحمار الوحشي، انظر: “النهاية في الغريب” (3/ 328).
(4) أخرجه أحمد (15539)، والترمذي (2147) من حديث يسار بن عبد، وصححه الترمذي، وابن حبان (6151).
(5) أخرجه أحمد (24734)، والبخاري في “التاريخ الكبير” (1/ 416) من حديث عائشة.
(6) أخرجه البخاري (7108)، ومسلم (2879) من حديث ابن عمر، وفيهما: “يبعثون على أعمالهم”، ولفظ المؤلف أخرجه أبو يعلى (5696) وغيره.
(1/164)
تعرض لمن لم يُحط به علمًا.
وهو أن الله سبحانه له الخلق والأمر، وأمره سبحانه نوعان: أمرٌ كوني قدري، وأمر ديني شرعي.
فمشيئته سبحانه متعلقة بخلقه وأمره الكوني، ولذلك تتعلق بما يحبه وبما يكرهه، كله داخل تحت مشيئته، كما خلق إبليس وهو يبغضه، وخلق الشياطين والكفار والأعيان والأفعال المسخوطة له وهو يبغضها، فمشيئته سبحانه شاملة لذلك كله.
وأما محبته ورضاه فمتعلقة بأمره الديني (1)، وشرعه الذي شرعه على ألسنة رسله، فما وُجِد منه تعلقت به المحبة والمشيئة جميعًا، فهو محبوب للربّ واقعٌ بمشيئته، كطاعات الملائكة والأنبياء والمؤمنين. وما لم يوجد منه تعلقت به محبته وأمره الديني، ولم تتعلق به مشيئته. وما وُجِد من الكفر والفسوق والمعاصي تعلقت به مشيئته، ولم تتعلق به محبته ولا رضاه ولا أمره الديني. وما لم يوجد منها لم تتعلق به مشيئته ولا محبته.
فلفظ المشيئة كوني، ولفظ المحبة ديني شرعي، ولفظ الإرادة ينقسم إلى: إرادة كونية فتكون هي المشيئة، وإرادة دينية فتكون هي المحبة.
إذا عُرِف هذا؛ فقوله تعالى: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7]، وقوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]، وقوله: {الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ} [البقرة: 185]، لا يناقض نصوص القدر، والمشيئة العامة الدالة على وقوع ذلك بمشيئته
_________
(1) زاد سهوًا في “م”: “وشرعه الديني”.
(1/165)
وقضائه وقدره؛ فإن المحبة غير (1) المشيئة، والأمر غير (2) الخلق.
ونظير هذا لفظ الأمر، فإنه نوعان: أمر تكوين، وأمر تشريع، والثاني قد يُعصى ويخالَف، بخلاف الأول، فقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء: 16]، لا يناقض قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28]، ولا حاجة إلى تكلّف تقدير: أمرنا مترفيها بالطاعة فعصونا وفسقوا فيها، بل الأمر ههنا أمر تكوين وتقدير لا أمر تشريع؛ لوجوه:
أحدها: أن المستعمل في مثل هذا التركيب أن يكون ما بعد الفاء هو المأمور به، كما تقول: أمرته فقام، وأمرته فأكل، كما لو صرح بلفظة “افعل”، كقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} [البقرة: 34]، وهذا كما تقول: دعوته فأقبل، قال تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 52].
الثاني: أن الأمر بالطاعة لا يختص بالمترفين، فلا يصح حمل الآية عليه، بل تسقط فائدة ذكر المترفين؛ فإن جميع المبعوث إليهم مأمورون بالطاعة، فلا يصح أن يكون أَمْر المترفين علة إهلاك جميعهم.
الثالث: أن هذا النسق العجيب، والتركيب البديع، مقتضٍ ترتب ما بعد الفاء على ما قبلها ترتب المسبَّب على سببه، والمعلول على علته. ألا ترى أن الفسق علة “حق القول عليهم”، و”حق القول عليهم” علة لتدميرهم،
_________
(1) “م”: “عين”.
(2) “د” “م”: “عين” تصحيف، وجاءت على الصواب في “ج”، هذا والأشبه بسياق الجملة وما بعدها أن تكون: “والإرادة غير الخلق”.
(1/166)
فهكذا الأمر سبب لفسقهم ومقتضٍ له، وذلك هو أمر التكوين لا التشريع.
الرابع: أن إرادته سبحانه لإهلاكهم إنما كانت بعد معصيتهم ومخالفتهم لرسله، فمعصيتهم ومخالفتهم قد تقدمت، فأراد الله سبحانه هلاكهم فعاقبهم بأن قدّر عليهم الأعمال التي تحتّم معها هلاكهم.
فإن قيل: فمعصيتهم السابقة سببٌ لهلاكهم، فما الفائدة في قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا}، وقد تقدم الفسق منهم؟
قيل: المعصية السابقة ــ وإن كانت سببًا للهلاك ــ، لكن يجوز تخلف الهلاك عنها ولا يتحتم، كما هو عادة الربّ تعالى المعلومة في خلقه: أنه لا يحتم هلاكهم بمعاصيهم، فإذا أراد هلاكهم ولابُدَّ أحدث سببًا آخر يتحتم معه الهلاك.
ألا ترى أن ثمودًا لم يهلكهم بكفرهم السابق حتى أخرج لهم الناقة فعقروها، فأهلكوا حينئذ.
وقوم فرعون لم يهلكهم بكفرهم السابق بموسى حتى أراهم الآيات المتتابعات، واستحكم بغيهم وعنادهم، فحينئذ أهلكوا.
وكذلك قوم لوط لما أراد إهلاكهم أرسل الملائكة إلى لوط في صورة الأضياف، فقصدوهم بالفاحشة، ونالوا من لوط وتواعدوه (1).
وكذلك سائر الأمم إذا أراد الله هلاكها أحدث لها بغيًا وعدوانًا وظلمًا
_________
(1) كذا في الأصول: “تواعدوه”، والأشبه بالسياق: “توعّدوه”؛ فإن الأولى تستعمل في الوعد بالخير، والثانية للتهديد، انظر: “تاج العروس” (9/ 308 – 309).
(1/167)
فأخذها على أثره.
وهذه عادته مع عباده عمومًا وخصوصًا، فيعصيه العبد وهو يحلم عنه ولا يعاجله، حتى إذا أراد أخذه قَيَّضَ له عملًا يأخذه به مضافًا إلى أعماله الأُوَل، فيظن الظان أنه أخذه بذلك العمل وحده، وليس كذلك، بل حق عليه القول بذلك العمل، وكان قبل ذلك لم يحق عليه القول، فأعماله الأُوَل تقتضي ثبوت الحق عليه، ولكن لم يحكم به أحكم الحاكمين، ولم يُمضِ الحكم، فإذا عمل بعد ذلك ما يقرر غضب الربّ عليه أمضى حكمه عليه وأنفذه.
قال تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55]، وقد كانوا قبل ذلك أغضبوه بمعصية رسوله، ولكن لم يكن غضبه سبحانه قد استقرَّ واستحكم عليهم؛ إذ كان بصدد أن يزول بإيمانهم، فلما أيس من إيمانهم تقرر الغضبُ واستحكم، فحلت العقوبة.
وهذا الموضع من أسرار القرآن، وأسرار التقدير الإلهي، وفِكْر العبد فيه من أنفع الأمور له؛ فإنه لا يدري أي المعاصي هي الموجبة التي يتحتم عندها عقوبته فلا يُقال بعدها، والله المستعان.
وسنعقد لهذا الفصل بابًا في الفرق بين القضاء الكوني والديني، نشبع الكلام فيه ـ إن شاء الله ـ لشدة الحاجة إليه (1)؛ إذ المقصود في هذا الباب ذِكْرُ مشيئة الربّ تعالى، وأنها الموجبة لكل موجود، كما أن عدم مشيئته موجب
_________
(1) الباب التاسع والعشرون (2/ 377).
(1/168)
لعدم وجود الشيء، فهما الموجبتان، ما شاء الله وجب وجوده (1)، وما لم يشأ وجب عدمه وامتناعه، وهذا أمر يعم كل مقدور من الأعيان والأفعال والحركات والسكنات.
فسبحانه أن يكون في مملكته ما لا يشاء، أو أن يشاء شيئًا فلا يكون، وإن كان فيها ما لا يحبه ولا يرضاه، وإن كان يحب الشيء فلا يكون لعدم مشيئته له، ولو شاءه لوُجِد.
* * * *
_________
(1) من قوله: “كما أن عدم” إلى هنا ساقط من “م”.
(1/169)
الباب الثالث عشر
في ذكر المرتبة الرابعة من مراتب القضاء والقدر، وهي مرتبة خَلْقِ الله سبحانه الأعمالَ وتكوينِه وإيجادِه لها (1)
وهذا أمر متفق عليه بين الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وعليه اتفقت الكتب الإلهية، ودلت عليه أدلة العقول والفطر والاعتبار، وخالف في ذلك مجوس الأمة، فأخرجت طاعات ملائكته وأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين ــ وهي أشرف ما في العالم ــ عن ربوبيته وتكوينه ومشيئته، بل جعلوهم هم الخالقون (2) لها، ولا تعلق لها بمشيئته، ولا تدخل تحت قدرته، وكذلك قالوا في جميع أفعال الحيوانات الاختيارية.
فعندهم أنه سبحانه لا يقدر أن يهدي ضالًّا، ولا يُضِلّ مهتديًا، ولا يقدر أن يجعل المسلم مسلمًا، والكافر كافرًا، والمصلي مصليًا، وإنما ذلك بجعلهم أنفسهم كذلك، لا بجعله تعالى.
وقد نادى القرآن ــ بل الكتب السماوية كلها ــ والسنة وأدلة التوحيد والعقول (3) على بطلان قولهم، وصاح بهم أهل العلم والإيمان من أقطار الأرض، وصَنَّف يَزَكُ الإسلام (4) وعصابةُ الرسول وعسكره التصانيف في
_________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى” (2/ 119) (8/ 386).
(2) كذا في الأصول: “الخالقون” بالرفع، والأقرب فيها النصب: “الخالقين”.
(3) “م”: “المعقول”محتملة.
(4) يعني طلائع جيش الإسلام ومقدمة حراسه، لفظة فارسية، ينظر: “جامع الأصول” (10/ 348)، “محيط المحيط” (992)، “تكملة المعاجم” (11/ 118).
وقد تكررت هذه الكلمة في عدة مواضع من كتب المؤلف، واضطرب في رسمها أكثر النساخ والمحققين، وتصحّفت في “م”: “ترك”، وجاءت معجمة على الصواب في “د” و”ج”.
(1/170)
الردِّ عليهم، وهي أكثر من أن يحصيها إلا الله.
ولم تزل أيدي السلف وأئمة السنة في أقفيتهم، ونواصيهم تحت أرجلهم، إذ كانوا يردّون باطلهم بالحق المحض، وبدعتهم بالسنة، والسنة لا يقوم لها شيء. فكانوا معهم كأهل الذمة مع المسلمين.
إلى أن نبغت نابغة ردّوا بدعتهم ببدعة تقابلها، وقابلوا باطلهم بباطل من جنسه، وقالوا: العبد مجبور على أفعاله (1)، مقهور عليها، لا تأثير له في وجودها البتَّة، ولا هي واقعة بإرادته واختياره.
وغَلا غلاتهم فقالوا: بل هي عين أفعال الله، ولا تنسب إلى العبد إلا على وجه المجاز، والله سبحانه وتعالى يلوم العبد، ويعاقبه، ويخلده في النار على ما لم يكن للعبد فيه صنع، ولا هو فعله، بل محض فعل الله. وهذا قول الجبرية، وهو إن لم يكن شرًّا من قول القدرية فليس هو بدونه في البطلان، وإجماع الرسل واتفاق الكتب الإلهية وأدلة العقول والفطر والعيان يكذب هذا القول ويرده، والطائفتان في عمى عن الحق والصراط المستقيم.
ولما رأى (2) القاضي وغيره بطلان هذا القول ومناقضته للشرائع والعدل والحكمة قالوا: قدرة العبد وإن لم تؤثر في وجود الفعل فهي مؤثرة
_________
(1) “د”: “أفعال له”.
(2) “د”: “تبين”، من لحق بالحاشية، والقاضي هو ابن الباقلاني.
(1/171)
في صفة من صفاته، وتلك الصفة تسمّى كسبًا، وهي متعلَّق الأمر والنهي والثواب والعقاب، فإن الحركة التي هي طاعة، والحركة التي هي معصية، قد اشتركتا في نفس الحركة، وامتازت إحداهما عن الأخرى بالطاعة والمعصية، فذات الحركة ووجودها واقع بقدرة الله وإيجاده، وكونها طاعة ومعصية واقع بقدرة العبد وتأثيره.
وهذا وإن كان أقرب إلى الصواب، فالقائل به لم يوفّه حقه؛ فإن كونها طاعة ومعصية هو موافقة الأمر ومخالفته، فهذه الموافقة والمخالفة إما أن تكون فعلًا للعبد تتعلق بقدرته واختياره، أو لا تكون كذلك، فإن كان الأول ثبت أن فعل العبد واقع بقدرته واختياره، وإن كان الثاني لم يكن للعبد اختيار ولا فعل ولا كسب البتَّة، فلم يثبت هؤلاء من الكسب أمرًا معقولًا.
ولهذا يقال: محالات الكلام ثلاثة: كسب الأشعري، وأحوال أبي هاشم، وطفرة النظّام (1).
ولما رأى طائفة فساد هذا قالوا: المؤثّر في وجود الفعل هو قدرة الربِّ على سبيل الاستقلال، وقدرة العبد على سبيل الاستقلال، قالوا: ولا يمتنع اجتماع المؤثّرين على أثر واحد.
ولم يستوحش هؤلاء من القول بوقوع مفعول بين فاعلين، ولا مقدور بين قادرين، قالوا: كما لم يمتنع وقوع معلوم بين عالمَيْن، ومراد بين مريدَيْن، ومحبوب بين مُحبَّين، ومكروه بين كارِهَيْن (2).
_________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى” (8/ 128).
(2) “د”، ولحق بحاشية “م” دون تصحيح: “محبوبين” و”مكروهين” بصيغة المفعول، ورسمهما في “ج” بمثل ذلك، ثم ضرب عليهما وكتب الصواب داخل المتن.
(1/172)
قالوا: ونحن نشاهد قادرَيْن مستقلَّيْن كل منهما يمكنه أن يستقل بالفعل، يقع بينهما مفعول واحد يشتركان في فعله والتأثير فيه.
قالوا: وليس معكم ما يبطل هذا إلّا قولكم: إنَّ إضافته إلى أحدهما على سبيل الاستقلال يمنع إضافته إلى الآخر، فإضافته إليهما تمنع إضافته إليهما.
وهذه الحجة فيها إجمال لابدّ من تفصيله، فيجوز وقوع مفعول بين فاعلَيْن لا يستقل أحدهما به، كالمتعاونَيْن على أمر لا يقدر عليه أحدهما وحده. ويجوز وقوع مفعول بين فاعلَيْن، كل منهما يستقل به على سبيل البدل، وهذا ظاهر أيضًا. ويجوز وقوع مفعول بين فاعلَيْن يشتركان فيه، وكل منهما يقدر عليه حال (1) الانفراد، كمحمول يحمله اثنان، كل منهما يمكنه أن يستقل بحمله وحده، فكل هذه الأقسام ممكنة، بل واقعة.
بقي قسم واحد، وهو: مفعول بين فاعلَيْن كل منهما فَعَله على سبيل الاستقلال، فهذا محال؛ فإن استقلال كل منهما بفعله ينفي فعل الآخر له، فاستقلالهما ينافي استقلالهما.
وأكثر الطوائف يقر بوقوع مقدور بين قادرين، وإن اختلفوا في كيفية وقوعه.
فقالت طائفة: الفعل يضاف إلى قدرة الله سبحانه على وجه الاستقلال بالتأثير، ويضاف إلى قدرة العبد لكنها غير مستقلة، فإذا انضمت قدرة الله إلى قدرة العبد صارت قدرة العبد مؤثرة على سبيل الاستقلال، بتوسط إعانة
_________
(1) “د”: “مثال” دون إعجام.
(1/173)
قدرة الله، وجَعْل قدرة العبد مؤثّرة.
والقائل بهذا لم يتخلص من الخطأ، حيث زعم أن قدرة العبد مستقلة بإعانة قدرة الله له، فعاد الأمر إلى اجتماع مؤثّرين على أثر واحد، لكن قدرة أحدهما وتأثيره مستند إلى قدرة الآخر وتأثيره.
وكأنه ــ والله أعلم ــ أراد أن قدرة الربِّ تعالى مستقلة بالتأثير في إيجاد قدرة العبد، ثم قدرة العبد مستقلة بالتأثير في إيجاد الفعل. وهذا قد قاله طائفة من العقلاء.
وقائل هذا لم يتخلص من الخطأ؛ حيث جعل قدرة العبد مستقلة بالتأثير في إيجاد المقدور، وهذا باطل؛ إذ غاية قدرة العبد أن تكون سببًا، بل جزءًا من السبب، والسبب لا يستقل بحصول المسبَّب ولا يوجبه، وليس في الوجود ما يوجب حصول المقدور إلا بمشيئة الله وحده.
وأصحاب هذا القول زعموا أن الله سبحانه أعطى العبد قدرة وإرادة، وفوَّض إليه بهما الفعل والترك، وخلّاه وما يريد، فهو يفعل ويترك بقدرته وإرادته اللتَيْن فوض إليه الفعل والترك بهما.
وقالت طائفة أخرى: مقدور العبد هو عين مقدور الربّ، بشرط أن يفعله العبد إذا تركه الربّ ولم يفعله، لا على أنه يفعله والربّ له فاعل؛ لاستحالة خلق بين خالقَيْن. وهذا هو بعينه مذهب مَن يقول بوقوع مفعول بين فاعلَيْن على سبيل البدل، وهذا مذهب كثير من القدرية، منهم الشحَّام وغيره.
وقالت طائفة: يجوز وقوع فعل بين فاعلَيْن بنسبتين مختلفتين: أحدهما
(1/174)
يكون مُحْدِثًا، والآخر يكون كاسبًا. وهذا مذهب النجار، وضرار بن عمرو، ومحمد بن عيسى، وحفص.
والفرق بين هذا المذهب ومذهب الأشعري من وجهين:
أحدهما: أنَّ أصحاب هذا المذهب يقولون: العبد فاعلٌ حقيقة وإن لم يكن مُحْدِثًا مخترعًا للفعل. والأشعري يقول: العبد ليس بفاعل وإن نُسِبَ إليه الفعل، وإنما الفاعل في الحقيقة هو الله، فلا فاعل سواه.
الثاني: أنهم يقولون: الربّ هو المُحْدِث، والعبد هو الفاعل.
وقالت فرقة: بل أفعال العباد فعل الله على الحقيقة، وفعل العبد (1) على المجاز، وهذا أحد قولي الأشعري.
وقالت فرقة أخرى ــ منهم القَلانِسي وأبو إسحاق في بعض كتبه ــ: إنها فعل لله (2) على الحقيقة، وفعل للإنسان (3) على الحقيقة، لا على معنى أنه أحدثها، بل على معنى أنها كسب له.
وقالت طائفة أخرى ــ وهم جهم وأتباعه ــ: إنّ القادر على الحقيقة هو الله وحده، وهو الفاعل حقًّا، ومن سواه ليس بفاعل على الحقيقة ولا كاسب أصلًا، بل هو مضطر إلى جميع ما فيه من حركة وسكون، وقول القائل: قام، وقعد، وأكل، وشرب؛ مجاز بمنزلة قوله: مات، وكبر، ووقع، وطلعت الشمس وغربت. وهذا قول الجبرية الغلاة.
_________
(1) “د”: “للعبد”.
(2) “م”: “الله”.
(3) “م” “ج”: “الإنسان”.
(1/175)
وقابله طائفة أخرى فقالوا: العباد موجدون لأفعالهم، مخترعون لها بقدرتهم (1) وإرادتهم، والربّ تعالى لا يوصف بالقدرة على مقدور العبد، ولا تدخل أفعالهم تحت قدرته، كما لا يوصف العباد بمقدور الربّ، ولا تدخل أفعاله تحت قُدَرهم. وهذا قول جمهور القدرية، وكلهم متفقون على أن الله سبحانه غير فاعل لأفعال العباد.
واختلفوا: هل يوصف بأنه مخترعها ومحدثها، وأنه قادر عليها وخالق لها؟
فجمهورهم نفوا ذلك، ومن يقرب منهم إلى السنة أثبت كونها مقدورة لله، وأن الله سبحانه قادر على أعيانها، وأن العباد أحدثوها بإقدار الله لهم على إحداثها، وليس معنى قدرة الله عليها عندهم أنه قادر على فعلها، هذا عندهم عين المحال، بل قدرته عليها إقدارهم على إحداثها، فإنما أحدثوها بقدرته وإقداره وتمكينه، وهؤلاء أقرب القدرية إلى السنة.
وأرباب هذه المذاهب مع كل طائفة منهم خطأ وصواب، وبعضهم أقرب إلى الصواب، وبعضهم أقرب إلى الخطأ، وأدلة كل منهم وحججه إنما تنهض على بطلان خطأ الطائفة الأخرى، لا على إبطال ما أصابوا فيه.
فكل دليل صحيح للجبرية إنّما يدلّ على إثبات قدرة الرب تعالى ومشيئته، وأنه لا خالق غيره، وأنه على كل شيء قدير، لا يُستثنى من هذا العموم فرد واحد من أفراد الممكنات (2)، وهذا حق، ولكن ليس معهم دليل
_________
(1) “د”: “بقدرهم”.
(2) “د” “م”: “الكتاب” والمثبت من “ج”.
(1/176)
صحيح ينفي أن يكون العبد قادرًا مريدًا فاعلًا بمشيئته وقدرته، وأنه هو الفاعل حقيقة، وأفعاله قائمة به، وأنها فعل له لا لله، وأنها قائمة به لا بالله.
وكل دليل صحيح يقيمه القدرية فإنما يدل على أن أفعال العباد فعل لهم، قائم بهم، واقع بقدرتهم ومشيئتهم وإرادتهم، وأنهم مختارون لها غير مضطرين ولا مجبورين، وليس معهم دليل صحيح ينفي أن يكون الله سبحانه قادرًا على أفعالهم، وهو الذي جعلهم فاعِلِين.
فأدلة الجبرية متظافرة صحيحة على من نفى قدرة الرب تعالى على كل شيء من الأعيان والأفعال، ونفى عموم مشيئته وخلقه لكل موجود، وأثبت في الوجود شيئًا بدون مشيئته وخلقه.
وأدلة القدرية متظافرة صحيحة على من نفى فعل العبد وقدرته ومشيئته واختياره، وقال: إنه ليس بفاعل شيئًا، والله يعاقبه على ما لم يفعله (1)، ولا له قدرة عليه، بل هو مضطر إليه، مجبور عليه.
وأهل السنة وحزب الرسول وعسكر الإيمان لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، بل هم مع هؤلاء فيما أصابوا فيه، ومع هؤلاء فيما أصابوا فيه، فكل حق مع طائفة من الطوائف فهم يوافقونهم فيه، وهم بُرآء من باطلهم، فمذهبهم جَمْعُ حق الطوائف بعضه إلى بعض، والقول به، ونصرُهُ، وموالاة أهله من ذلك الوجه، ونَفْيُ باطل كل طائفة من الطوائف وكسرُهُ، ومعاداةُ أهله من هذا الوجه (2)، فهم حُكَّام بين الطوائف لا يتحيزون إلى فئة منهم
_________
(1) “د”: “ما يفعله”.
(2) من قوله: “ونفي باطل” إلى هنا ساقط من “د”.
(1/177)
على الإطلاق، ولا يردّون حق طائفة من الطوائف، ولا يقابلون بدعة ببدعة، ولا يردّون باطلًا بباطل، ولا يحملهم شنآن قوم يعادونهم ويكفرونهم على أن لا يعدلوا فيهم، بل يقولون فيهم الحق، ويحكمون في مقالاتهم بالعدل.
والله تعالى أمر رسوله أن يعدل بين الطوائف، فقال: {(14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15]، فأمره سبحانه أن يدعو إلى دينه وكتابه، وأن يستقيم في نفسه كما أمره، وأن لا يتبع هوى أحد من الفرق، وأن يؤمن بالحق جميعه، لا يؤمن ببعضه دون بعض، وأن يعدل بين أرباب المقالات والديانات.
وأنت إذا تأملت هذه الآية وجدت أهل الكلام الباطل وأهل الأهواء والبدع من جميع الطوائف أبخس الناس منها حظًّا، وأقلهم منها نصيبًا، ووجدت حزب الله ورسوله وأنصار سنته هم أحق بها وأهلها، وهم في هذه المسألة وغيرها من المسائل أسعد بالحق من جميع الطوائف، فإنهم يثبتون قدرة الله على جميع الموجودات من الأعيان والأفعال، ومشيئته العامة، وينزّهونه أن يكون في ملكه ما لا يقدر عليه، ولا هو واقعٌ تحت مشيئته، ويثبتون القدر السابق، وأن العباد يعملون على ما قدره الله وقضاه وفرغ منه، وأنه لا يشاؤون إلا أن يشاء الله لهم، ولا يفعلون إلا من بعد مشيئته، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا تخصيص عندهم في هاتين القضيتين بوجه من الوجوه.
والقدر عندهم قدرة الله تعالى وعلمه ومشيئته وخلقه، فلا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بمشيئته وعلمه وقدرته.
(1/178)
فهم المؤمنون بلا حول ولا قوة إلا بالله على الحقيقة إذا قالها غيرهم على المجاز؛ إذ العالم علويّه وسفليّه، وكل حي يفعل فعلًا؛ فإنه يفعله بقوة فيه على الفعل، وهو في حول، مِن تَرْك إلى فعل، ومن فعل إلى تَرْك، ومن فعل إلى فعل، وذلك كله بالله تعالى لا بالعبد.
ويؤمنون بأنه من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأنه هو الذي يجعل المسلم مسلمًا، والكافر كافرًا (1)، والمصلي مصليًا، والمتحرك متحركًا، وهو الذي يسيِّر عبده في البر والبحر، فهو المسيِّر والعبد السائر، وهو المحرِّك والعبد المتحرك، وهو المقيم والعبد القائم، وهو الهادي والعبد المهتدي، كما أنه المطعم والعبد الطاعم، وهو المحيي المميت، والعبد الذي يحيى ويموت، ويثبتون مع ذلك قدرة العبد وإرادته واختياره وفعله حقيقة لا مجازًا.
وهم متفقون على أن الفعل غير المفعول، كما حكاه عنهم البغوي وغيره، فحركاتهم واعتقاداتهم أفعال لهم حقيقة، وهي مفعولة لله سبحانه، مخلوقة له حقيقة، والذي قام بالرب عز وجل علمه وقدرته ومشيئته وتكوينه، والذي قام بهم هو فعلهم وكسبهم وحركاتهم وسكناتهم، فهم المسلمون المصلّون القائمون القاعدون حقيقة، وهو سبحانه المُقْدِر لهم على ذلك، القادر عليه، الذي شاءه منهم وخلقه لهم، فمشيئتهم (2) وفعلهم بعد مشيئته، فما يشاؤون إلا أن يشاء، وما يفعلون إلا أن يشاء.
_________
(1) “والكافر كافرًا” ساقط من “د” “م”.
(2) “م”: “بمشيئتهم”، “ج”: “ومشيئتهم”.
(1/179)
وإذا وازنت بين هذا المذهب وبين ما عداه من المذاهب، وجدته هو المذهب الوسط، والصراط المستقيم، ووجدت سائر المذاهب خطوطًا عن يمينه وعن شماله، فقريب منه وبعيد وبين ذلك.
وإذا أعطيت الفاتحة حقّها وجدتها من أولها إلى آخرها منادية على ذلك، دالة عليه، صريحة فيه؛ فإن كمال حمده لا يقتضي غير ذلك، وكذلك كمال ربوبيته للعالمين لا يقتضي غير ذلك، فكيف يكون الحمد كلّه لمن لا يقدر على مقدور أهل سماواته وأرضه من الملائكة والجن والإنس والطير والوحش، بل يفعلون ما لا يقدر عليه ولا يشاؤه، ويشاء ما لا يفعله كثير منهم، فيشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، وهل يقتضي كمال حمده ذلك، وهل يقتضيه كمال ربوبيته؟
ثم قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مبطل لقول الطائفتين المنحرفتين عن قصد السبيل؛ فإنه يتضمن إثبات فعل العبد، وقيام العبادة به حقيقة، فهو العابد على الحقيقة، وأن ذلك لا يحصل له إلا بإعانة ربِّ العالمين عز وجل له، فإن لم يُعِنْه، ولم يُقْدِره، ولم يشأ له العبادة؛ لم يتمكن منها، ولم توجد منه البتَّة، فالفعل منه، والإقدار والإعانة من الربِّ عز وجل.
ثم قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] يتضمن طلب الهداية ممن هو قادر عليها، وهي بيده إن شاء أعطاها عبده، وإن شاء منعه إياها، والهداية معرفة الحق والعمل به، فمن لم يجعله الله تعالى عالمًا بالحق عاملًا به لم يكن له سبيل إلى الاهتداء، فهو سبحانه المتفرد بالهداية الموجبة للاهتداء التي لا يتخلف عنها، وهي جَعْل العبد مريدًا للهدى، محبًّا له،
(1/180)
مُؤْثِرًا له، عاملًا به.
فهذه الهداية ليست إلى مَلَك مقرب ولا نبي مرسل، وهي التي قال سبحانه فيها: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]، مع قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، فهذه هداية الدعوة والتعليم والإرشاد، وهي التي هدى بها ثمود، فاستحبوا العمى عليها (1)، وهي التي قال تعالى فيها: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]، فهداهم هدى البيان الذي تقوم به حجته عليهم، ومنعهم الهداية الموجبة للاهتداء التي لا يضل من هداه بها، فذاك عدله فيهم، وهذا حكمته، فأعطاهم ما تقوم به الحجة عليهم، ومنعهم ما ليسوا له بأهل، ولا يليق بهم.
وسنذكر في الباب الذي بعد هذا ــ إن شاء الله تعالى ــ ذكر الهدى والضلال ومراتبهما وأقسامهما؛ فإن عليه مدار مسائل القدر.
والمقصود ذكر بعض ما يدل على إثبات هذه المرتبة الرابعة من مراتب القضاء والقدر، وهي خلق الله تعالى لأفعال المكلفين، ودخولها تحت قدرته ومشيئته، كما دخلت تحت علمه وكتابه (2)، قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62]، وهذا عام محفوظ لا يخرج عنه شيء من العالم: أعيانه وأفعاله وحركاته وسكناته، وليس مخصوصًا بذاته وصفاته؛ فإنه الخالق بذاته وصفاته، وما سواه مخلوق له.
_________
(1) “د”: “على الهدى” سبق قلم، وكتبها في “ج” كذلك، ثم ضرب عليها وكتب المثبت.
(2) “م”: “وكتابته”.
(1/181)
واللفظ قد فرق بين الخالق والمخلوق، وصفاته سبحانه داخلة في مسمى اسمه؛ فإن الله سبحانه اسم للإله الموصوف بكل صفة كمال، المنزَّه عن كل صفة نقص ومثال.
والعالَم قسمان: أعيان وأفعال، فهو الخالق لأعيانه وما يصدر عنها من الأفعال، كما أنه العالم بتفاصيل ذلك، فلا يخرج شيء منه عن علمه، ولا عن قدرته، ولا عن خلقه ومشيئته.
قالت القدرية: نحن نقول: إن الله خالق أفعال العباد، لا على معنى أنه محدثها ومخترعها، لكن على معنى أنّه مقدّرها؛ فإن الخلق: التقدير، كما قال تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، وقال الشاعر:
ولأنت تَفْري ما خلقتَ وبعـ … ـضُ القوم يخلق ثم لا يَفْري (1)
أي أنت تمضي ما قدّرته، وتنفذه بعزمك وقدرتك، وبعض القوم يقدّر ثم لا قوة له ولا عزيمة على إنفاذ ما قدّره وأمضاه.
فالله تعالى مقدّر أفعال العباد وهم الذين أوجدوها وأحدثوها.
قال أهل السنة: قدماؤكم ينكرون تقدير الله سبحانه وتعالى لأعمال العباد البتة، فلا يمكنهم أن يجيبوا بذلك، ومن اعترف منكم بالتقدير فهو تقدير لا يرجع إلى تأثير، وإنما هو مجرد العلم بها والخبر عنها، وليس التقدير عندكم جعلها على قدر (2) كذا وكذا، وصفة كذا وكذا؛ فإن هذا عندكم غير مقدور للربِّ ولا مصنوع له، وإنما هو صنع العبد وإحداثه،
_________
(1) البيت لزهير بن أبي سلمى، “شعر زهير” صنعة الشنتمري (119).
(2) “د”: “تقدير”.
(1/182)
فرجع التقدير إلى مجرد العلم والخبر، وهذا لا يسمى خلقًا في لغة أمة من الأمم، ولو كان هذا خلقًا لكان من علم شيئًا وعلم أسماءه وصفاته وأخبر عنه بذلك= خالقًا له.
فالتقدير الذي أثبتموه إن كان متضمنًا للتأثير في إيجاد الفعل فهو خلاف مذهبكم، وإن لم يتضمن تأثيرًا في إيجاده فهو راجع إلى محض العلم والخبر.
قالت القدرية: قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، من العام المراد به الخاص، ولاسيما فإنكم قلتم: إن القرآن لم يدخل في هذا العموم، وهو من أعظم الأشياء وأجلّها، فخصصنا منه أفعال العباد بالأدلة الدالة على كونها فعلهم وصنعهم.
قال أهل السنة: القرآن كلام الله سبحانه، وكلامه صفة من صفاته، وصفات الخالق وذاته لم تدخل في المخلوق؛ فإن الخالق غير المخلوق، فليس ههنا تخصيصًا (1) البتة، بل الله سبحانه بذاته وصفاته الخالق، وكل ما عداه مخلوق، وذلك عموم لا تخصيص فيه بوجه؛ إذ ليس إلا الخالق والمخلوق، والله وحده الخالق، وما سواه كله مخلوق.
وأما الأدلة الدالة على أن أفعال العباد صنع لهم، وأنها أفعالهم القائمة بهم، وأنهم هم الذين فعلوها؛ فكلها حق نقول بموجبها، ولكن لا ينبغي أن تكون أفعالًا لهم ومخلوقة مفعولة لله تعالى؛ فإن الفعل غير المفعول، ولا نقول: إنها فعل لله، والعبد مضطر مجبورٌ عليها، ولا نقول: إنها فعل للعبد،
_________
(1) كذا في الأصول بالنصب: “تخصيصًا”، والجادة الرفع.
(1/183)
والله غير قادر عليها، ولا جاعل العبد (1) فاعلًا لها (2)، ولا نقول: إنها مخلوقة بين خالقين مستقلين بالإيجاد والتأثير، وكل هذه أقوال باطلة.
قالت القدرية: معنى قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} مما لا يقدر عليه غيره، وأما الأفعال التي يقدر عليها العباد فإضافتها إليهم تنفي إضافتها إليه، وإلا لزم وقوع مفعول بين فاعلَيْن، وهو محال.
قال أهل السنة: إضافتها إليهم فعلًا وكسبًا لا ينفي إضافتها إليه سبحانه خلقًا ومشيئة، فهو سبحانه الذي شاءها وخلقها، وهم الذين فعلوها وكسبوها حقيقة، فلو لم تكن مضافة إلى مشيئته وقدرته وخلقه لاستحال وقوعها منهم؛ إذ العباد أعجز وأقل من أن يفعلوا ما لم يشأه الله، ولم يقدر عليه، ولا خلقه.
فصل
ومما يدل على قدرته سبحانه على أفعالهم قوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر: 6]، واعتراض القدرية على الاستدلال بذلك، والجواب عنه نظير الاعتراض على قوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وجوابه.
ونزيده تقريرًا: إن أفعالهم أشياء ممكنة، والله تعالى قادر على كل ممكن، فهو الذي جعلهم فاعلين بقدرته ومشيئته، ولو شاء لحال بينهم وبين الفعل، مع سلامة آلة الفعل منهم، كما قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ
_________
(1) “م” “ج”: “للعبد” خطأ.
(2) من قوله: “ولا نقول إنها فعل للعبد” إلى هنا ساقط من “د”.
(1/184)
الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253]، وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112]، وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، فهو سبحانه يحول بين المرء وقلبه، وبين اللسان ونطقه، وبين اليد وبطشها، وبين الرجل ومشيها، فكيف يُظن به ظنَّ السوء، ويُجعل له مَثَل السوء: أنه لا يقدر على ما يقدر عليه عباده، ولا تدخل أفعالهم تحت قدرته؟! تعالى الله عما يقول الجاهلون به والجاحدون لقدرته علوًّا كبيرًا.
نعم، ولا نظن به ظن السوء، ونجعل له مَثَل السوء: أنه يعاقب عباده على ما لم يفعلوه، ولا قدرة لهم على فعله، بل على ما فعله هو دونهم، واضطرهم إليه، وجبرهم عليه، وذلك بمنزلة عقوبة الزَّمِن إذا لم يطر إلى السماء، وعقوبة أَشلّ اليدين على ترك الكتابة، وعقوبة الأخرس على ترك الكلام.
فتعالى الله عن هذين المذهبين الباطلين المنحرفين عن سواء السبيل.
فصل
ومن الدليل على خلق أعمال العباد قوله سبحانه: {(80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل: 81]، فأخبر أنه هو الذي جعل السرابيل، وهي الدروع والثياب المصنوعة، ومادتها لا تسمى سرابيل، ولا تسمى بذلك إلا بعد أن تحلها صنعة الآدميين وعملهم، فإذا كانت
(1/185)
مجعولة لله فهي مخلوقة له بجملتها: صورتها ومادتها وهيئاتها.
ونظير هذا قوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعَنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} [النحل: 80]، فأخبر سبحانه أن البيوت المصنوعة المستقرة والمنتقلة مجعولة له، وهي إنما صارت بيوتًا بالصنعة الآدمية.
ونظيره قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس: 41 – 42]، فأخبر سبحانه أنه خالق الفلك المصنوع للعباد، وأبعد مَن قال: إنّ المراد بمثله هو الإبل؛ فإنه إخراج للمماثل حقيقة، واعتبار لما هو بعيد عن المماثلة.
ونظير ذلك قوله تعالى حكاية عن خليله أنه قال لقومه: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95 – 96]، فإن كانت “ما” مصدرية ــ كما قدره بعضهم ــ فالاستدلال ظاهر وليس بقوي؛ إذ لا تناسب بين إنكاره عليهم عبادة ما ينحتونه بأيديهم وبين إخبارهم بأن الله خلق أعمالهم من عبادة تلك الآلهة ونحتها وغير ذلك، فالأولى أن تكون “ما” موصولة، أي: والله خلقكم وخلق آلهتكم التي عملتموها بأيديكم، فهي مخلوقة له، لا آلهة شركاء معه، فأخبر أنه خلق معمولهم وقد حَلّه عملهم وصنعهم، ولا يقال: المراد مادته؛ فإن مادته غير معمولة لهم، وإنما يصير معمولًا بعد عملهم.
فصل
وقد أخبر سبحانه أنه هو الذي جعل أئمة الخير يدعون إلى الهدى،
(1/186)
وأئمة الشر يدعون إلى النار، فتلك الإمامة والدعوة بجعله، فهي مجعولة له وفعل لهم، قال تعالى عن آل فرعون: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص: 41]، وقال عن أئمة الهدى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئمَّةٌ يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73]، فأخبر أن هذا وهذا بجعله مع كونه كسبًا وفعلًا للأئمة.
ونظير ذلك قول الخليل عليه السلام: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: 128]، فأخبر الخليل أن الله سبحانه هو الذي يجعل المسلم مسلمًا، وعند القدرية هو الذي جعل نفسه مسلمًا، لا أن الله جعله مسلمًا (1)، ولا جعله إمامًا يهدي بأمره، ولا جعل الآخر إمامًا يدعو إلى النار على الحقيقة، بل هم الجاعلون لأنفسهم كذلك حقيقة، ونسبة هذا الجعل إلى الله مجاز بمعنى التسمية، أي: سمِّنا مسلمين لك، وكذلك {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئمَّةٌ} أي: سميناهم كذلك، وهم جعلوا أنفسهم أئمة رشد وضلال، فمنهم الحقيقة، ومنه تعالى المجاز والتعبير.
فصل
ومن ذلك إخباره سبحانه بأنه هو الذي يُلْهِمُ العبد فجوره وتقواه، والإلهام: الإلقاء في القلب، لا مجرد البيان والتعليم، كما قاله طائفة من المفسرين؛ إذ لا يقال لمن بيّن لغيره شيئًا وعلّمه إيّاه: إنه قد ألهمه ذلك. هذا لا يُعرف في اللغة البتّة، بل الصواب ما قاله ابن زيد، قال: “جعل فيها فجورها وتقواها” (2).
_________
(1) من قوله: “وعند القدرية” إلى هنا ساقط من “م”.
(2) أسنده الطبري (24/ 442)، وانظر: “البسيط” (24/ 55).
(1/187)
وعليه دل حديث عمران بن حصين أن رجلًا من مزينة أو من جهينة أتى النبي – صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس فيه ويتكادحون، أشيءٌ قُضِيَ عليهم ومضى عليهم من قدر سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم؟ قال: “بل شيء قُضِيَ عليهم ومضى”، قال: ففيم العمل؟ قال: “من خلقه الله لإحدى المنزلتين استعمله بعمل أهلها، وتصديق ذلك في كتاب الله {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7 – 8] ” (1).
فقراءة هذه الآية عقيب إخباره بتقدم القضاء والقدر السابق يدل على أن المراد بالإلهام استعمالها فيما سبق لها، لا مجرد تعريفها؛ فإن التعريف والبيان لا يستلزم وقوع ما سبق به (2) القضاء والقدر.
ومن فَسَّرَ الآية من السلف بالتعليم والتعريف فمراده: تعريف مستلزم لحصول ذلك، لا تعريف مجرد عن الحصول، فإنه لا يُسمّى إلهامًا، والله أعلم.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 13 – 14]، وذات الصدور كلمة جامعة لما يشتمل عليه الصدر من الاعتقادات والإرادات والحب والبغض، أي: صاحبة الصدور، فإنها لما كانت فيها قائمة بها، نُسِبت إليها نسبة الصحبة والملازمة.
_________
(1) تقدم تخريجه في (27).
(2) “د”: “من”.
(1/188)
وقد اختُلِف في إعراب {مَنْ خَلَقَ} هل هو الرفع أو النصب؟
فإن كان مرفوعًا فهو استدلال على علمه بذلك بخلقه له، والتقدير: إنه يعلم ما تضمنته الصدور، وكيف لا يعلم الخالق ما خلقه. وهذا الاستدلال في غاية الظهور والصحة؛ فإن الخلق يستلزم حياة الخالق وقدرته وعلمه ومشيئته.
وإن كان منصوبًا فالمعنى: ألا يعلم مخلوقه، وذكر لفظة “مَنْ” تغليبًا؛ ليتناول العَلَم العاقل وصفاته.
وعلى التقديرين؛ فالآية دالةٌ على خلق ما في الصدور، كما هي دالة على علمه سبحانه به.
وأيضًا فإنه سبحانه خَلْقه لما في الصدور دليلًا (1) على علمه بها، فقال: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} أي: كيف يخفى عليه ما في الصدور وهو الذي خَلَقه، فلو كان ذلك غير مخلوق له بطل الاستدلال به على العلم، فخَلْقه سبحانه للشيء من أعظم الأدلة على علمه به، فإذا انتفى الخلق انتفى دليل العلم، فلم يبق معكم ما يدل على علمه بما تنطوي عليه الصدور إذا كان غير خالق لذلك.
وهذا من أعظم الكفر برب العالمين، وجَحْد لما اتفقت عليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وعُلِم بالضرورة أنهم ألقوه إلى الأمم كما ألقوا إليهم أنه إله واحد لا شريك له.
_________
(1) كذا في الأصول بالنصب، والأشبه بالسياق الرفع، وفي الجملة شيء.
(1/189)
فصل
ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن خليله إبراهيم أنه قال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40]، وقوله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37]، وقوله تعالى: {فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} [الحديد: 27]، وقوله تعالى حكاية عن زكريا أنه قال عن ولده: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 6] أي: مرضيًا.
وقال في الطرف الآخر: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13]، وقال: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام: 25]، وهذه الأكنّة والوقر هي شدة البغض والنفرة والإعراض التي لا يستطيعون معها سمعًا ولا عقلًا.
والتحقيق أن هذا ناشئ عن الأكنّة والوقر، فهو موجَب ذلك ومقتضاه، فمن فسَّر الأكنة والوقر به فقد فسَّرهما بموجَبهما ومقتضاهما.
وبكل حال فتلك النفرة والإعراض والبغض من أفعالهم، وهي مجعولة لله سبحانه، كما أن الرأفة والرحمة وميل الأفئدة إلى بيته هو من أفعالهم، والله جاعله، فهو الجاعل للذوات وصفاتها وأفعالها وإراداتها واعتقاداتها، فذلك كله مجعول مخلوق له، وإن كان العبد فاعلًا له باختياره وإرادته.
فإن قيل: هذا كله معارَض بقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} [المائدة: 103]، والبَحِيرة والسائبة إنما صارت كذلك بجَعْل العباد لها، فأخبر سبحانه أن ذلك لم يكن بجَعْله.
(1/190)
قيل: لا تعارض بحمد الله بين نصوص الكتاب بوجهٍ ما، والجَعْل ههنا جَعْل شرعي أمري، لا كوني قدري؛ فإنّ الجَعْل في كتاب الله ينقسم إلى هذين النوعين، كما ينقسم إليهما الأمر والإذن والقضاء والكتابة والتحريم كما سيأتي بيانه إن شاء الله، فنفى سبحانه عن البَحِيرة والسائبة جَعْله الديني الشرعي، أي: لم يشرع ذلك ولا أمر به، ولكن الذين كفروا افتروا عليه الكذب، وجعلوا ذلك دينًا له بلا علم.
ومن ذلك قوله تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 53]، فأخبر سبحانه أن هذه الفتنة الحاصلة بما ألقى الشيطان هي بجَعْله سبحانه، وهذا جَعْل كوني قدري.
ومن هذا قوله – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن حبان في “صحيحه” (1): “اللهم اجعلني لك شكّارًا، لك ذكّارًا، لك رهّابًا، لك مِطْواعًا، لك مخبتًا، إليك أوّاهًا منيبًا”، فسأل ربه أن يجعله كذلك، وهذه كلها أفعال اختيارية واقعة بإرادة العبد واختياره.
وفي هذا الحديث: “وسدّد لساني”، فتسديد اللسان جَعْله ناطقًا بالسداد من القول.
ومثله قوله في الحديث الآخر: “اللهم اجعلني لك مخلصًا” (2).
_________
(1) “المسند” (1997)، “صحيح ابن حبان” (947)، وأخرجه أيضًا أبو داود (1511)، والترمذي (3551)، وابن ماجه (3830) من حديث عبد الله بن عباس، وقال الترمذي: “حسن صحيح”.
(2) أخرجه أحمد (19293)، وأبو داود (1508)، والنسائي في “الكبرى” (9929) من حديث زيد بن أرقم، وفي إسناده داود الطفاوي: ضعيف، وأبو مسلم البجلي: لا يعرف، كما في “الميزان” (2/ 7) (4/ 573).
(1/191)
ومثله قوله: “اللهم اجعلني أُعْظِم شكرك، وأُكْثِر ذكرك، وأَتْبَع نصيحتك، وأحفظ وصيتك” (1).
ومثله قول المؤمنين: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} [البقرة: 250]، فالصبر وثبات الأقدام فعلان اختياريان، ولكن التصبير والتثبيت فعل الرب تعالى، وهو المسؤول، والصبر والثبات فعلهم القائم بهم حقيقة.
ومثله قوله: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} [النمل: 19]، قال ابن عباس والمفسرون بعده: ألهمني (2).
قال أبو إسحاق: “وتأويله في اللغة: كفّني عن الأشياء إلا عن شكر نعمتك” (3).
ولهذا يقال في تفسير المُوزَع أنه المُولَع، ومنه الحديث: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مُوزَعًا بالسواك (4)، أي مُولَعًا به، كأنه كُفّ ومُنِع إلا منه.
_________
(1) أخرجه أحمد (8101)، والطيالسي (2676) من حديث أبي هريرة، وفي إسناده الفرج بن فضالة فيه ضعف، كما في “الميزان” (3/ 344).
(2) انظر: “جامع البيان” (18/ 28)، “تفسير ابن أبي حاتم” (9/ 2858).
(3) “معاني القرآن وإعرابه” (4/ 112).
(4) لم أقف عليه مسندًا، وإن كان متداولًا في كتب اللغة والغريب، ينظر: “العين” (2/ 207)، “الغريبين” (6/ 1995).
(1/192)
وقال في “الصحاح” (1): “وزَعْتُه أزَعُه وَزْعًا: كففته، فاتّزَعَ عنه، أي: كَفَّ، وأوْزَعْتُه بالشيء: أغريته به، فأوزع به، فهو مُوزَع به، أي: مُغْرى به. واستوزعت الله شكره فأوزعني، أي: استلهمته فألهمني”.
فقد دار معنى اللفظة على معنى: ألهمني ذلك، واجعلني مُغْرى به، وكفّني عما سواه.
وعند القدرية أن هذا غير مقدور للرب، بل هو عَين مقدور العبد.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7]، فتحبيبه سبحانه الإيمان إلى عباده المؤمنين هو إلقاء محبته في قلوبهم، وهذا لا يقدر عليه سواه، وأما تحبيب العبد الشيء إلى غيره فإنما هو بتزيينه وذكر أوصافه وما يدعو إلى محبته، فأخبر سبحانه أنه جعل في قلوب عباده المؤمنين الأمرين: حبّه وحُسْنه الداعي إلى حبّه، وألقى في قلوبهم كراهة ضده من الكفر والفسوق والعصيان، وأن ذلك محض فضله ومنّته عليهم، حيث لم يكلهم إلى أنفسهم، بل تولى هو سبحانه هذا التحبيب والتزيين، وتكريه ضده، فجاد عليهم به فضلًا منه ونعمة، والله عليم بمواقع فضله، ومن يصلح له ومن لا يصلح، حكيم بجعله في مواضعه.
ومن ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ
_________
(1) (3/ 1297).
(1/193)
إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 62 – 63]، وقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]، وتأليف القلوب جعل بعضها يألف بعضًا، ويميل إليه ويحبه، وهو من أفعالها الاختيارية، وقد أخبر سبحانه أنه هو الذي فعل ذلك لا غيره.
ومن ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} [المائدة: 11]، أخبر سبحانه بفعلهم وهو الهَمّ، وبفعله وهو كفّهم عما همّوا به، ولا يصح أن يقال: إنه سبحانه أَشلّ أيديهم أو أماتهم، أو أنزل عليهم عذابًا حال بينهم وبين ما هموا به، بل كفّ قُدَرهم وإراداتهم مع سلامة حواسهم وبنيتهم، وصحة آلات الفعل منهم.
وعند القدرية هذا محال، بل هم الذين يكفون أنفسهم، والقرآن صريح في إبطال قولهم.
ومثله قوله تعالى: {وَهْوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24]، فهذا كفّ أيدي الفريقين مع سلامتها وصحتها، وهو بأن حال بينهم وبين الفعل فكفّ بعضهم عن بعض.
ومن ذلك قوله تعالى: {بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ} [النحل: 53]، والإيمان والطاعة من أجلِّ النعم، بل هما أجل النعم على الإطلاق، فهما منه سبحانه تعليمًا وإرشادًا وإلهامًا وتوفيقًا ومشيئة وخلقًا، ولا يصح أن يقال: إنهما منه أمرًا وبيانًا فقط، فإن ذلك حاصل بالنسبة إلى الكفار والعصاة، فتكون نعمته على أكفر الخلق كنعمته على أهل الإيمان والطاعة والبر منهم، إذ نعمة البيان
(1/194)
والإرشاد مشتركة، وهذا قول القدرية، وقد صَرَّح به كثير منهم، ولم يجعلوا لله على العبد نعمة في مشيئته له، وخَلْقه فِعْله وتوفيقه إيّاه حتى فعله، وهذا من قولهم الذي باينوا به جميع الرسل والكتب.
وطردوا ذلك حتى لم يجعلوا لله على العبد مِنّة في إعطائه الجزاء، بل قالوا: ذلك محض حقِّه الذي لا مِنّة لله عليه فيه، واحتجوا بقوله: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت: 8]، قالوا: أي: غير ممنون به عليهم، إذ هو جزاء أعمالهم وأجورها.
قالوا: والمِنّة تكدّر النعمة والعطية.
ولم يدع هؤلاء للجهل بالله موضعًا، وقاسوا مِنّته على مِنّة المخلوق، فإنهم مشبّهة في الأفعال، معطّلة في الصفات.
وليست المِنّة في الحقيقة إلا لله، فهو المانُّ بفضله، وأهل سماواته وأهل أرضه في محض مِنّته عليهم، قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17]، وقال تعالى لكليمه موسى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} [طه: 37]، وقال: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} [الصافات: 114]، وقال: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئمَّةٌ وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5].
ولما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – للأنصار: “ألم أجدكم ضلّالًا فهداكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟ ” قالوا: الله ورسوله أمنّ (1).
_________
(1) أخرجه البخاري (4330)، ومسلم (1061) من حديث عبد الله بن زيد.
(1/195)
وقالت الرسل لقومهم: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11].
فمِنّته سبحانه محض إحسانه وفضله ورحمته، وما طاب عيش أهل الجنة فيها إلا بمنَّته عليهم، ولهذا قال أهلها وقد أقبل بعضهم على بعض يتساءلون: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 26 – 27]، فأخبروا ــ لمعرفتهم بربهم وحقه عليهم ــ أن نجاتهم من عذاب السموم بمحض مِنّته عليهم.
وقد قال أعلم الخلق بالله، وأحبهم إليه، وأقربهم منه، وأطوعهم له: “لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله”. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: “ولا أنا، إلا أن يتغمّدني الله برحمة منه وفضل”.
وقال: “إن الله لو عذَّب أهل سماواته وأرضه لعذّبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرًا من أعمالهم”، والأول في “الصحيح” (1)، والثاني في “المسند” و”السنن”، وصححه الحاكم وغيره (2).
فأخبر سيد العالمين والعاملين أنه لا يدخل الجنة بعمله.
وقالت القدرية: إنهم يدخلونها بأعمالهم؛ لئلا يتكدر نعيمهم عليهم بمِنّة الله، بل يكون ذلك النعيم عوضًا.
_________
(1) أخرجه البخاري (6463)، ومسلم (2816) من حديث أبي هريرة.
(2) أخرجه أحمد (21589)، وأبو داود (4699)، وابن ماجه (77) من حديث أبي بن كعب، وصححه ابن حبان (727)، ولم أعثر عليه في “المستدرك”، ولم أجد من عزاه إليه من المخرّجين، والله أعلم.
(1/196)
وما رمى السلفُ ــ من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم ــ القدريةَ عن قوسٍ واحدة إلا لعظم بدعتهم، ومنافاتها لما بعث الله به أنبياءه ورسله.
فلو أتى العباد بكل طاعة، وكانت أنفاسهم كلها طاعات لله؛ لكانوا في محض مِنّته وفضله، وكانت له المِنّة عليهم، وكلما عظمت طاعة العبد كانت مِنّة الله عليه أعظم، فهو المانّ بفضله، فمن أنكر مِنّته فقد أنكر إحسانه.
وأما قوله تعالى: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت: 8]، فلم يختلف أهل العلم بالله ورسوله وكتابه أن معناه: غير مقطوع، ومنه: {رَيْبَ الْمَنُونِ}، وهو الموت؛ لأنه يقطع العمر.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {فَأَغْرَيْنَا (1) بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 14]، وقوله: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 64]، وهذا الإغراء والإلقاء محض فعله سبحانه، والتعادي والتباغض أثره، وهو محض فعلهم.
وأصل ضلال القدرية والجبرية من عدم اهتدائهم إلى الفرق بين فعله سبحانه وفعل العبد، فالجبرية جعلوا التعادي والتباغض فعل الرب تعالى دون المتعادين والمتباغضين، والقدرية جعلوا ذلك محض فعلهم الذي لا صنع لله فيه ولا قدرة ولا مشيئة، وأهل الصراط السويّ جعلوا ذلك فعلهم، وهو أثر فعل الله وقدرته ومشيئته.
_________
(1) في جميع الأصول: (وأغرينا).
(1/197)
كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22]، فالتسيير فعله، والسير فعل العباد، وهو أثر التسيير، وكذلك الهدى والإضلال فعله، والاهتداء والضلال أثر فعله، وهما أفعالنا القائمة بنا، فهو الهادي، والعبد المهتدي، وهو الذي يضل من يشاء، والعبد ضال، وهذا حقيقة وهذا حقيقة.
فالطائفتان عن الصراط المستقيم ناكبتان.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى عن خليله إبراهيم أنه قال: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]، فههنا أمران: تجنيب عبادتها، واجتنابه، فسأل الخليل ربه أن يجنّبه وبنيه عبادتها؛ ليحصل منهم اجتنابها، فالاجتناب فعلهم، والتجنيب فعله، ولا سبيل إلى فعلهم إلا بعد فعله.
ونظير ذلك قول يوسف الصديق: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف: 33 – 34]، وصرف كيدهن هو صرف دواعي قلوبهن، ومكرهن بألسنتهن وأعمالهن، وتلك أفعال اختيارية، وهو سبحانه الصارف لها، فالصرف فعله، والانصراف أثر فعله، وهو فعل النسوة.
ومن ذلك قوله سبحانه لنبيه محمد – صلى الله عليه وسلم -: {(73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا} [الإسراء: 74]، فالتثبيت فعله سبحانه، والثبات فعل رسوله، فهو سبحانه المثبّت، وعبده الثابت.
(1/198)
ومثله قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]، فأخبر سبحانه أن تثبيت المؤمنين، وإضلال الظالمين فعله، فإنه يفعل ما يشاء (1)، وأما الثبات والضلال فمحض أفعالهم.
ومن ذلك قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 13]، فأخبر أنه هو الذي قسّى قلوبهم حتى صارت قاسية، فالقساوة وصفها وفعلها، وهي أثر فعله، وهو جعلها قاسية، وذلك أثر معاصيهم ونقضهم ميثاقهم، وتركهم بعض ما ذكّروا به، فالآية مبطلة لقول القدرية والجبرية.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 57 – 58]، وهم إنما خرجوا باختيارهم، وقد أخبر أنه هو الذي أخرجهم، فالإخراج فعله حقيقة، والخروج فعلهم حقيقة، ولولا إخراجه لما خرجوا.
وهذا بخلاف قوله: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} [نوح: 17 – 18]، وقوله: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر: 2]، وقوله: {وَاَللَّهُ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ} [النحل: 78]، فإن هذا إخراج لا صُنْع لهم فيه؛ فإنه بغير اختيارهم وإرادتهم.
_________
(1) من قوله: “فأخبر سبحانه” إلى هنا ساقط من “م”.
(1/199)
وأما قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} [الأنفال: 5]، فيحتمل أن يكون إخراجًا بقدره ومشيئته فيكون من الأول، ويحتمل أن يكون إخراجًا بوحيه وأمره فلا يكون من هذا، فيكون الإخراج في كتاب الله ثلاثة أنواع:
أحدها: إخراج الخارج باختياره ومشيئته.
والثاني: إخراجه قهرًا وكرهًا.
والثالث: إخراجه أمرًا وشرعًا.
فصل
وقد ظن طائفة من الناس أن من هذا الباب قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، وجعلوا ذلك من أدلتهم على القدرية، ولم يفهموا مراد الآية، وليست من هذا الباب؛ فإن هذا خطاب لهم في وقعة بدر، حيث أنزل الله سبحانه ملائكته فقتلوا أعداءه، فلم ينفرد المسلمون بقتلهم، بل قتلتهم الملائكة.
وأما رمية النبي – صلى الله عليه وسلم – فمقدوره كان هو الحَذْف والإلقاء، وأما إيصال ما رمى به إلى وجوه العدو مع البعد، وإيصال ذلك إلى وجوه جميعهم؛ فلم يكن من فعله، ولكنه فعل الله وحده، فالرمي يُراد به الحَذْف والإيصال، فأثبت له الحَذْف بقوله: {إِذْ رَمَيْتَ}، ونفى عنه الإيصال بقوله: {وَمَا رَمَيْتَ}.
فصل
ومن ذلك قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43]، والضحك والبكاء فعلان اختياريان للعبد، فهو سبحانه المضحك المبكي حقيقة،
(1/200)
والعبد هو الضاحك الباكي حقيقة، وتأويل الآية بخلاف ذلك إخراج للكلام عن ظاهره بغير موجِب.
ولا منافاة بين ما يُذكر من تلك التأويلات وبين ظاهره؛ فإن إضحاك الأرض بالنبات، وإبكاء السماء بالمطر، وإضحاك العبد وإبكاءه بخلق آلات الضحك والبكاء له= لا ينافي حقيقة اللفظ وموضوعه ومعناه، من أنه جاعل الضحك والبكاء فيه، بل الجميع حق.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الرعد: 12]، ورؤية البرق أمر واقع باختيارهم، فالإراءة فعله، والرؤية فعلنا، ولا يُقال: إراءة البرق خَلْقه؛ فإنّ خَلْقه لا يُسمّى إراءة، ولا يستلزم رؤيتنا له، بل إراءتنا له جَعْلنا نراه، وذلك فعله سبحانه.
ومن ذلك قول الخضر لموسى: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} [الكهف: 82]، فبلوغ الأشُدّ ليس من فعلهما، واستخراج الكنز من أفعالهما الاختيارية، وقد أخبر أن كليهما بإرادته سبحانه.
ومن ذلك قوله تعالى عن السحرة: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]، وليس إذنه ههنا أمره وشرعه، بل قضاؤه وقدره ومشيئته، فهو إذن كوني قدري، لا ديني أمري.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح: 26]، وكلمة التقوى هي الكلمة التي يُتّقى الله بها، وأعلى أنواع هذه
(1/201)
الكلمة هي قول: لا إله إلا الله، ثم كل كلمة يُتّقى الله بها بعدها فهي من كلمة التقوى، وقد أخبر سبحانه أنه ألزمها عباده المؤمنين، فجعلها لازمة لهم لا ينفكون عنها، فبإلزامه التزموها، ولولا إلزامه لهم إيّاها لما التزموها، والتزامها فعل اختياري تابع لإرادتهم واختيارهم، فهو المُلزِم وهم الملتزمون.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 19 – 21]، وهذا تفسير الهلوع، والهَلَع شدة الحرص الذي يترتب عليه الجزع والمنع، فأخبر سبحانه أنه خلق الإنسان كذلك، وذلك صريح في أن هَلَعه مخلوق لله، كما أن ذاته مخلوقة، فالإنسان بجملته ذاته وصفاته وأفعاله وأخلاقه مخلوق لله، ليس فيه شيء خَلْق لله وشيء خَلْق لغيره، بل الله خالق الإنسان بجملته وأحواله كلها، فالهَلَع فعله حقيقة، والله خالق ذلك فيه حقيقة، فليس الله سبحانه بهلوع، ولا العبد هو الخالق لذلك.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [يونس: 100]، وإذنه ههنا قضاؤه وقدره، لا مجرد أمره وشرعه، كذلك قال السلف في تفسير هذه الآية.
قال ابن المبارك، عن الثوري: “بقضاء الله” (1).
_________
(1) أسنده الطبري (12/ 300).
(1/202)
وقال محمد بن جرير: “يقول جل ذكره لنبيه: وما كان لنفس خلقتُها من سبيل إلى أن تصدقك إلا بأن آذن لها في ذلك، فلا تُجْهِدنّ نفسك في طلب هداها، وبلِّغها وعيد الله، ثم خلِّها، فإن هداها بيد خالقها” (1).
وما قبل الآية وما بعدها لا يدل إلا على ذلك، فإنه سبحانه قال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس: 99 – 100]، أي: لا تكفي دعوتك في حصول الإيمان حتى يأذن الله لمن دعوته أن يؤمن، ثم قال: {قُلُ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101].
قال ابن جرير: “يقول تعالى: يا محمد، قل لهؤلاء المشركين السائليك الآيات على صحة ما تدعو إليه من توحيد الله وخلع الأنداد والأوثان: انظروا ــ أيها القوم ــ ماذا في السماوات من الآيات الدالة على حقيقة ما أدعوكم إليه من توحيد الله، من شمسها وقمرها، واختلاف ليلها ونهارها، ونزول الغيث بأرزاق العباد من سحابها، وفي الأرض من جبالها، وتصدّعها بنباتها وأقوات أهلها، وسائر صنوف عجائبها، فإن في ذلك لكم ــ إن عقلتم وتدبّرتم ــ عِظة ومعتبَرًا، ودلالة أن ذلك من فعل من لا يجوز أن يكون له في ملكه شريك، ولا له على حفظه وتدبيره ظهير يغنيكم عما سواها من الآيات. وما يغني ذلك عن قوم قد سبق لهم من الله الشقاء، وقُضي عليهم في أم الكتاب أنهم من أهل النار، فهم لا يؤمنون بشيء من ذلك، ولا يصدقون به، ولو جاءتهم
_________
(1) “جامع البيان” (12/ 299).
(1/203)
كل آية حتى يروا العذاب الأليم” (1).
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} [الإسراء: 13]، قال ابن جرير: “وكل إنسان ألزمناه ما قُضِيَ له أنه عامله، وما هو صائر إليه من شقاء أو سعادة بعمله في عنقه لا يفارقه” (2)، وهذا يجمع ما قاله الناس في الآية، وهو ما طار له من الشقاء والسعادة، وما طار عنه من العمل.
ثم ذكر عن ابن عباس قال: “طائره: عمله وما قُدِّر عليه، فهو ملازمه أينما كان، وزائل معه أينما زال”.
وكذلك قال ابن جريج وقتادة ومجاهد: “هو عمله”، زاد مجاهد: “وما كتب الله له”، وقال قتادة أيضًا: “سعادته وشقاوته بعمله” (3).
قال ابن جرير: “فإن قال قائل: فكيف قال: {أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} إن كان الأمر على ما وصفت، ولم يقل: في يديه، أو رجليه، أو غير ذلك من أعضاء الجسد؟
قيل: لأن العنق هي موضع السِّمَات، وموضع القلائد والأطوقة، وغير ذلك مما يزين أو يشين، فجرى كلام العرب بنسبة الأشياء اللازمة لبني آدم وغيرهم إلى أعناقهم، وكثر استعمالهم ذلك حتى أضافوا الأشياء اللازمة
_________
(1) “جامع البيان” (12/ 300 – 301) باختصار.
(2) “جامع البيان” (14/ 518).
(3) أسند هذه الآثار في “جامع البيان” (14/ 520).
(1/204)
سائر الأبدان إلى الأعناق، كما أضافوا جنايات أعضاء الأبدان إلى اليد، فقالوا: ذلك بما كسبت يداه، وإن كان الذي جرَّ عليه لسانه أو فرجه، فكذلك قوله: {أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} ” (1).
وقال الفراء: “الطائر معناه عندهم: العمل” (2).
قال الأزهري: “والأصل في هذا: أنَّ الله سبحانه لما خلق آدم علم المطيعَ من ذريته والعاصي، فكتب ما علمه منهم أجمعين، وقضى بسعادة من علمه مطيعًا، وشقاوة من علمه عاصيًا، فطار لكل ما هو صائر إليه عند خلقه وإنشائه” (3).
وأما قوله: “في عنقه” فقال أبو إسحاق: “إنّما يقال للشيء اللازم: هذا في عنق فلان، أي: لزومه له كلزوم القلادة من بين ما يلبس في العنق” (4).
قال أبو علي: “هذا مثل قولهم: طوّقْتُك كذا، وقلّدْتُك كذا، أي: صرفته نحوك وألزمتك إيّاه، ومنه: قلّده السلطان كذا، أي: صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة، ومكان الطوق” (5).
وقيل: إنما خص العنق؛ لأن عمله لا يخلو إما أن يكون خيرًا أو شرًّا،
_________
(1) “جامع البيان” (14/ 521).
(2) “معاني القرآن” (2/ 118) بمعناه.
(3) “تهذيب اللغة” (14/ 11) باختصار.
(4) “معاني القرآن وإعرابه” (3/ 230) بتصرف.
(5) “الحجة للقراء السبعة” (5/ 89).
(1/205)
وذلك مما يزين أو يشين، كالحُلي والغُلّ، فأضيف إلى الأعناق (1).
قالت القدرية: إلزامه ذلك: وسْمُه به وتعليمه بعلامة تُعرّف الملائكة أنه سعيد أو شقي، والخبر عنه بذلك، لا أنه ألزمه العمل فجعله لازمًا له.
قال أهل السنة: هذه طريقة لكم معروفة في تحريف الكلم عن مواضعه، سلكتموها في الختم والطبع والقفل، وهذا لا يعرفه أهل اللغة، وهو خلاف حقيقة اللفظ، وما فسّره به أعلم الأمة بالقرآن، ولا يُعرف ما قلتموه عن أحد من سلف الأمة البتَّة، ولا فَسَّر الآية به غيركم، ولا يصح حمل الآية عليه؛ فإن الخبر عنه بذلك، والعلامة التي أعلم بها؛ إنما حصل بعد طائره اللازم له من عمله، فلما لزمه ذلك الطائر ولم ينفك عنه أخبر عنه بذلك، وصارت عليه علامته وسمته.
ونحن قد أريناكم أقوال أئمة الهدى وسلف الأمة في الطائر، فأرونا قولكم عن واحد منهم قاله قبلكم.
وكل طائفة من أهل البدع تجرّ القرآن إلى بدعتها وضلالتها، وتفسّره بمذاهبها وآرائها، والقرآن بريء من ذلك، وبالله التوفيق.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} [الحجر: 11 – 13]، وقد وقع هذا المعنى في القرآن في موضعين: هذا أحدهما، والثاني في سورة الشعراء في
_________
(1) من جملة: “وقال الفراء” إلى هنا مقتبس من “البسيط” للواحدي (13/ 277 – 279).
(1/206)
قوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [الشعراء: 198 – 201]، قال ابن عباس: “سلك الشرك في قلوب المكذبين، كما سلك الخرزة في الخيط” (1).
وقال أبو إسحاق: “أي: كما فعل بالمجرمين الذين استهزؤوا بمن تقدم من الرسل، كذلك سلك الضلال في قلوب المجرمين” (2).
واختلفوا في مفسّر الضمير في قوله: {نَسْلُكُهُ}، فقال ابن عباس: “سلكنا الشرك”. وهو قول الحسن.
وقال الزجاج وغيره: “هو الضلال”.
وقال الربيع: “يعني: الاستهزاء”.
وقال الفراء: “التكذيب” (3).
وهذه الأقوال ترجع إلى شيء واحد، والتكذيب والاستهزاء والشرك كل ذلك فعلهم حقيقة، وقد أخبر أنه سبحانه هو الذي سلكه في قلوبهم.
وعندي في هذه الأقوال شيء؛ فإن الظاهر أن الضمير في قوله: {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} هو الضمير في قوله “سلكناه” فلا يصح أن يكون المعنى: لا يؤمنون بالشرك والتكذيب والاستهزاء.
_________
(1) نسبه إليه في “البسيط” (12/ 551).
(2) “معاني القرآن وإعرابه” (3/ 174).
(3) الفقرة مقتبسة من “البسيط” (12/ 550).
(1/207)
فلا تصحّ تلك الأقوال إلا باختلاف مفسّر الضميرين، والظاهر اتحاده، فالذي لا يؤمنون به هو الذي سلكه في قلوبهم وهو القرآن.
فإن قيل: فما معنى سَلْكه إيّاه في قلوبهم وهم ينكرونه؟
قيل: سَلْكه في قلوبهم بهذه الحال، أي: سلكناه غير مؤمنين به، فدخل في قلوبهم مكذَّبًا به، كما دخل في قلوب المؤمنين مصدَّقًا به، وهذا مراد من قال: إنّ الذي سَلَكه في قلوبهم هو التكذيب والضلال، ولكن فَسَّر الآية بالمعنى، فإنه إذا دخل في قلوبهم مكذبين به، فقد دخل التكذيب والضلال في قلوبهم.
فإن قيل: فما معنى إدخاله في قلوبهم وهم لا يؤمنون به؟
قيل: لتقوم عليهم بذلك حجة الله، فدخل في قلوبهم وعلموا أنه حق وكذبوا به، فلم يدخل في قلوبهم دخول مُصدَّق به مؤمن به مرضي به، وتكذيبهم به بعد دخوله في قلوبهم أعظم كفرًا من تكذيبهم به قبل أن يدخل في قلوبهم؛ فإن المكذب بالحق بعد معرفته له شر من المكذب به ولم يعرفه، فتأمله فإنه من فقه التفسير، والله الموفق للصواب.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83]، فالإرسال ههنا إرسال كوني قدري، كإرسال الرياح، وليس بإرسال ديني شرعي، فهو إرسال تسليط، بخلاف قوله في المؤمنين: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، فهذا السلطان المنفي عنه على المؤمنين، هو الذي أرسل به جنده على الكافرين.
قال أبو إسحاق: “ومعنى الإرسال ههنا التسليط، تقول: قد أرسلت
(1/208)
فلانًا على فلان إذا سلّطته عليه، كما قال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} فأعلم أن من اتبعه هو مسلَّط عليه” (1).
قلت: ويشهد له قوله تعالى: {يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ} [النحل: 100]، وقوله: {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}، فالأزّ في اللغة: التحريك والتهييج، ومنه يقال لغليان القدر: الأزيز؛ لتحرك الماء عند الغليان.
وفي الحديث: كان لصدر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أزيز كأزيز المِرْجَل من البكاء (2).
وعبارات السلف تدور على هذا المعنى.
قال ابن عباس: “تغريهم إغراء” (3)، وفي رواية أخرى عنه: “تشْلِيهم إشلاء” (4)، وفي رواية أخرى: “تحرضهم تحريضًا”، وفي أخرى: “تزعجهم إلى المعاصي إزعاجًا”، وفي أخرى: “توقدهم إيقادًا، أي: كما يتحرك الماء بالوقود (5) تحته” (6).
_________
(1) “معاني القرآن وإعرابه” (3/ 345).
(2) أخرجه أحمد (16312)، وأبو داود (904)، والنسائي (1214) من حديث عبد الله بن الشخير، وصححه ابن خزيمة (900)، وابن حبان (753).
(3) أسنده في “جامع البيان” (15/ 627).
(4) من أشليته إذا دعوته وأغريته، انظر: “مقاييس اللغة” (شلو) (3/ 209).
(5) “د”: “بالعود”، وفي “البسيط”: “بالإيقاد”.
(6) أورد هذه الروايات الواحدي في “البسيط” (14/ 325) منسوبة لأصحابها، وليست جميعها لابن عباس ـ كما يظهر من صنيع المؤلف ـ خلا الأول والأخير منها.
(1/209)
قال أبو عبيدة: “الأزيز الالتهاب والحركة، كالتهاب النار في الحطب، يقال: أُزَّ قدْرَكَ، أي: ألْهِب تحتها النار، وائْتَزَّت القدر إذا اشتد غليانها” (1)، وهذا اختيار الأخفش (2).
والتحقيق أن اللفظة تجمع المعنيين جميعًا.
قالت القدرية: معنى {أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} خلّينا بينهم وبين الكافرين، وليس معناه التسليط.
قال أبو علي: “الإرسال يستعمل بمعنى التخلية بين المرسل وما يريد، فمعنى الآية: خلينا بين الشياطين وبين الكافرين، ولم نمنعهم منهم، ولم نعذهم، بخلاف المؤمنين الذين قيل فيهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} ” (3).
قال الواحدي: “وإلى هذا الوجه تذهب القدرية في معنى الآية”، قال: “وليس المعنى على ما ذهبوا إليه” (4).
وقال أبو إسحاق: “والمختار أنهم أُرسلوا عليهم، وقُيِّضوا لهم بكفرهم، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهْوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]، وقال: {لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}
_________
(1) حكاه في “تهذيب اللغة” (أزز) (13/ 281)، وفي “مجاز القرآن” (2/ 11) تفسير آخر.
(2) حكاه في “البسيط” (14/ 324)، وليس هو في نشرة “معاني القرآن” للأخفش.
(3) حكاه في “البسيط” (14/ 321).
(4) “البسيط” (14/ 322).
(1/210)
[فصلت: 25] وإنما معنى الآية التسليط” (1).
قلت: وهذا هو المفهوم من معنى الإرسال، كما في الحديث: “إذا أرسلتَ كلبك المُعَلَّم” (2) أي: سلَّطته، ولو خَلَّى بينه وبين الصيد من غير إرسال منه لم يُبَح صيده.
وكذلك قوله: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمِ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41]، أي: سلّطناها وسخّرناها عليهم.
وكذلك قوله: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} [الفيل: 3]، وكذلك قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} [القمر: 31].
والتخلية بين المُرْسَل وبين ما أُرْسِل عليه من لوازم هذا المعنى، ولا يتم التسليط إلا به، فإذا أُرْسِل الشيء الذي من طبعه وشأنه أن يفعل فعلًا ولم يمنعه من فعله فهذا هو التسليط.
ثم إنّ القدرية تناقضوا في هذا القول، فإنهم إن جوَّزوا منعهم منهم وعصمتهم وإعاذتهم فقد نقضوا أصلهم؛ فإنّ مَنْع المختار من فعله الاختياري مع سلامة آلته وصحة بنيته يدل على أن فعله وتركه مقدور للربّ، وهذا عين قول أهل السنة.
وإن قالوا: لا يقدر على منعهم وعصمتهم منهم وإعاذتهم، فقد جعلوا قدرتهم ومشيئتهم بفعل ما لا يقدر الرب على المنع منه، وهذا أبطل الباطل.
_________
(1) “معاني القرآن وإعرابه” (3/ 345)، وفيه: “معنى الإرسال ههنا التسليط”.
(2) أخرجه البخاري (175)، ومسلم (1929) من حديث عدي بن حاتم.
(1/211)
ثم قالت القدرية: معنى {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}: تأمرهم بالمعاصي أمرًا. وحكوا ذلك عن الضحاك.
وهذا لا يُلتفت إليه؛ إذ لا يُقال لمن أَمَر غيره بشيء: قد أزّه. ولا تساعد اللغة على ذلك، ولو كان ذلك صحيحًا لكانت تؤز المؤمنين أيضًا؛ فإنها تأمرهم بالمعاصي أكثر من أمر الكافرين؛ فإن الكافر سريع الطاعة والقبول من الشيطان، فلا يحتاج من أمره إلى ما يحتاج إليه من أمر المؤمنين، بل يأمر الكافر مرّة، ويأمر المؤمن مرات، فلو كان الأزّ الأمر لم يكن له اختصاص بالكافرين.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: 1 – 6]، وقوله: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 97 – 98]، وقوله: {يَعْمَلُونَ (97) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ} [النحل: 98]، ومن المعلوم أن الإعاذة من الشيطان الرجيم ليست بإماتته، ولا تعطيل آلات كيده وشرّه، وإنّما هي بأن يَعْصم المستعيذ من أذاه له، ويحول بينه وبين فعله الاختياري به، فدلّ على أنَّ فعله مقدور له سبحانه، إن شاء سلَّطه على العبد، وإن شاء حال بينه وبينه.
وهذا على أصول القدرية باطل، فلا يثبتون حقيقة الإعاذة، وإن أثبتوا حقيقة الاستعاذة من العبد، وجعلوا الآية ردًّا على الجبرية. والجبرية أثبتوا
(1/212)
حقيقة الإعاذة، ولم يثبتوا حقيقة الاستعاذة من العبد، بل الاستعاذة فعل الربِّ حقيقة، كما أن الإعاذة فعله.
وقد ضَلَّت الطائفتان عن الصراط المستقيم، وأصابت كل طائفة منهما فيما أثبتته من الحق.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {(126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127]، وقول هود عليه السلام: {وَمَا تَوْفِيقِيَ إِلَّا بِاللَّهِ} [هود: 88]، ومعلوم أن الصبر والتوفيق فعل اختياري للعبد، وقد أخبر أنه به سبحانه لا بالعبد، وهذا لا ينفي أن يكون فعلًا للعبد حقيقة، ولهذا أمر به وهو لا يأمر عبده بفعل نفسه سبحانه، وإنما يؤمر العبد بفعله هو، ومع هذا فليس فعله واقعًا به، وإنّما هو بالخالق لكل شيء، الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فالتصبير منه سبحانه وهو فعله، والصبر هو القائم بالعبد، وهو فعل العبد.
ولهذا أثنى على من سأله أن يصبِّره فقال تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 250 – 251]، ففي الآية أربعة أدلة:
أحدها: قولهم: {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا}، والصبر فعلهم الاختياري، فسألوه لمن (1) هو بيده ومشيئته وإذنه إن شاء أعطاهموه، وإن شاء منعهموه.
_________
(1) كذا في الأصول: “فسألوه لمن”، ولم يظهر لي وجهها، فلعلها: “فسألوا من”.
(1/213)
الثاني: قولهم: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا}، وثبات الأقدام فعل اختياري، ولكن التثبيت فعله، والثبات فعلهم، ولا سبيل إلى فعلهم إلا بعد فعله.
الثالث: قولهم: {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}، فسألوه النصر، وذلك بأن يقوّي عزائمهم ويشجعهم ويصبرهم ويثبتهم، ويلقي في قلوب أعدائهم الخور والخوف والرعب، فيحصل النصر.
وأيضًا فإنّ كون الإنسان منصورًا على غيره إما أن يكون بأفعال الجوارح، وهو واقع بقدرة العبد واختياره، وإما أن يكون بالحجة والبيان والعلم، وذلك أيضًا فعل العبد، وقد أخبر سبحانه أنّ النصر بجملته من عنده، وأثنى على من طلبه منه، وعند القدرية لا يدخل تحت مقدور الربّ.
الرابع: قوله: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ}، وإذنه ههنا هو الإذن الكوني القدري، أي: بمشيئته وقضائه وقدره، ليس هو الإذن الشرعي الذي هو بمعنى الأمر؛ فإن ذلك لا يستلزم الهزيمة، بخلاف إذنه الكوني وأمره الكوني، فإنّ المأمور المكوَّن (1) لا يتخلف عنه البتة.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف: 28]، وفي الآية ردٌّ ظاهر على الطائفتين وإبطال لقولهما، فإنه سبحانه أغفل قلب العبد عن ذكره فغفل هو، فالإغفال فعل الله، والغفلة فعل العبد، ثم أخبر عن اتباعه هواه، وذلك فعل العبد حقيقة.
_________
(1) “م”: “الكوني”.
(1/214)
والقدرية تحرّف هذا النص وأمثاله بالتسمية والعلم، فيقولون: معنى أغفلنا قلبه: سميناه غافلًا أو وجدناه غافلًا، أي: علمناه كذلك، وهذا من تحريفهم، بل أغفلتُه مثل: أقمتُه وأقعدتُه وأغنيتُه وأفقرتُه، أي: جعلتُه كذلك.
وأما أفعلتُه إذا أوجدتُه كذلك، كأحمدتُه وأجبنتُه وأبخلتُه وأعجزتُه؛ فلا يقع في أفعال الله البتّة، وإنّما يقع في أفعال العاجز أن يجعل غيره جبانًا وبخيلًا وعاجزًا، فيكون معناه صادفتُه كذلك.
وهل يخطر بقلب الداعي: “اللهم أقدرني وأوزعني وألهمني” أي: سمِّني وأعلمني كذلك؟! وهل هذا إلا كذب عليه وعلى المدعو سبحانه، والعقلاء يعلمون علمًا ضروريًا أنّ الداعي إنما سأل الله أن يخلق له ذلك، ويشاءه له، ويقدره عليه، حتى القدري إذا غابت عنه بدعته وما تقلده عن أشياخه وأسلافه، وبقي وفطرته؛ لم يخطر بقلبه سوى ذلك.
وأيضًا فلا يمكن أن يكون العبد هو المُغْفِل لنفسه عن الشيء؛ فإنّ إغفاله نفسَه عنه مشروط بشعوره به، وذلك مضاد لغفلته عنه، بخلاف إغفال الربِّ تعالى له، فإنه لا يضاد علم الربّ بما يغفل عنه العبد، وبخلاف غفلة العبد، فإنها لا تكون إلا مع عدم شعوره بالمغفول عنه، وهذا ظاهر جدًّا، فثبت أن الإغفال فعل الله بعبده، والغفلة فعل العبد.
فصل
ومن ذلك قوله تعالى إخبارًا عن نبيه شعيب أنه قال لقومه: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف: 89]، وهذا يبطل تأويلَ القدريةِ المشيئةَ في مثل ذلك بمعنى
(1/215)
الأمر، فقد علمت الرسل أنه من الممتنع على الله أن يأمر بالدخول في ملة الكفر والشرك به، ولكن استثنوا بمشيئته التي يضل بها من يشاء، ويهدي من يشاء.
ثم قال شعيب: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}، فردَّ الأمر إلى مشيئته وعلمه، فإن له سبحانه في خلقه علم محيط (1) ومشيئة نافذة وراء ما يعلمه الخلائق، فامتناعنا من العَوْد فيها هو مبلغ علومنا ومشيئتنا، ولله علم آخر ومشيئة أخرى وراء علومنا ومشيئتنا، فلذلك ردَّ الأمر إليه.
ومثله قول إبراهيم عليه السلام: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا} [الأنعام: 80]، فأعادت الرسل ــ بكمال معرفتها بالله ــ أمورها إلى مشيئة الربّ وعلمه.
ولهذا أمر الله رسوله أن لا يقول لشيء: إنه فاعله؛ حتى يستثني بمشيئة الله؛ فإنه إن شاء فعله، وإن شاء لم يفعله. وقد تقدم تقرير هذا المعنى.
وبالجملة، فكل دليل في القرآن على التوحيد فهو دليل على القدر وخلق أعمال العباد، ولهذا كان إثبات القدر أساس التوحيد، قال ابن عباس: “الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن كَذَّب بالقدر نقض تكذيبُه توحيدَه” (2).
* * * *
_________
(1) كذا في الأصول بالرفع في الكلمتين: “علم محيط”، والجادة النصب بإنّ.
(2) أخرجه عبد الله في “السنة” (925)، والفريابي في “القدر” (205) بنحوه.
(1/216)
الباب الرابع عشر
في الهدى والضلال ومراتبهما، والمقدور منهما للخلق وغير المقدور لهم
هذا الباب (1) هو قلب أبواب القدر ومسائله؛ فإن أفضل ما يقدِّر الله لعبده وأجلّ ما يقسمه له: الهدى، وأعظم ما يبتليه به، ويقدِّره عليه: الضلال، وكل نعمة دون نعمة الهدى، وكل مصيبة دون مصيبة الضلال.
وقد اتفقت رسل الله من أولهم إلى آخرهم، وكتبه المنزّلة عليهم على أنه سبحانه يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، وأنه من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأن الهدى والإضلال بيده، لا بيد العبد، وأنّ العبد هو الضالّ أو المهتدي، فالهداية والإضلال فعله سبحانه وقدره، والاهتداء والضلال فعل العبد وكسبه.
ولابدَّ قبل الخوض في تقرير ذلك من ذكر مراتب الهدى والضلال في القرآن.
فأما مراتب الهدى فأربعة:
إحداها: الهدى العام، وهو هداية كل نفس إلى مصالح معاشها وما يقيمها، وهذا أعم مراتبه.
المرتبة الثانية: الهدى بمعنى البيان والدلالة والتعليم والدعوة إلى
_________
(1) ما عدا “ج”: “المذهب”.
(1/217)
مصالح العبد في معاده، وهذا خاص بالمكلفين، وهذه المرتبة أخصّ من المرتبة الأولى، وأعم من الثالثة.
المرتبة الثالثة: الهداية المستلزمة للاهتداء، وهي هداية التوفيق ومشيئة الله لعبده الهداية، وخلقه دواعي الهدى وإرادته والقدرة عليه للعبد، وهذه الهداية التي لا يقدر عليها إلا الله عز وجل.
المرتبة الرابعة: الهداية يوم المعاد إلى طريق الجنة والنار.
فصل
فأما المرتبة الأولى فقد قال سبحانه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 1 – 3]، فذكر سبحانه أربعة أمور عامة: الخلق والتسوية والتقدير والهداية، وجعل التسوية من تمام الخلق، والهداية من تمام التقدير.
قال عطاء: {خَلَقَ فَسَوَّى}: “أحسن ما خلقه” (1)، وشاهده قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} [السجدة: 7].
فإحسان خلقه يتضمن تسويته، وتناسب خلقه وأجزائه، بحيث لم يحصل بينها تفاوت يخل بالتناسب والاعتدال، فالخلق: الإيجاد، والتسوية: إتقانه وإحسان خلقه.
وقال الكلبي: “خَلَق كل ذي روح، فجمع خلقه وسواه باليدين (2)
_________
(1) نسبه إليه في “البسيط” (23/ 431).
(2) كذا في الأصول: “باليدين”، وفي مصدر النقل: “اليدين”، وهو الأشبه.
(1/218)
والعينين والرجلين” (1).
وقال مقاتل: “خلق لكل دابة ما يصلح لها من الخلق” (2).
وقال أبو إسحاق: “خلق الإنسان مستويًا” (3)، وهذا تمثيل، وإلا فالخلق والتسوية شامل للإنسان وغيره، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7]، وقال: {السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29]، فالتسوية شاملةٌ لجميع مخلوقاته: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3]، وما يوجد من التفاوت وعدم التسوية فهو راجع إلى عدم إعطاء التسوية للمخلوق؛ فإن التسوية أمرٌ وجودي يتعلق بالتأثير والإبداع، فما عُدِم منها فلعدم إرادة الخالق للتسوية، وذلك أمر عدمي يكفي فيه عدم الإبداع والتأثير.
فتأمل ذلك؛ فإنه يزيل عنك الإشكال في قوله: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ}، فالتفاوت حاصل بسبب عدم مشيئة التسوية، كما أنّ الجهل والصمم والعمى والخرس والبكم يكفي فيها عدم مشيئة خلقها وإيجادها، وتمام هذا يأتي ــ إن شاء الله ــ في باب دخول الشر في القضاء الإلهي عند قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “والشر ليس إليك” (4).
والمقصود أن كل مخلوق فقد سوّاه خالقه سبحانه في مرتبة خلقه، وإن
_________
(1) نسبه إليه في “البسيط” (23/ 431)، ومثله في “تفسير البغوي” (8/ 400).
(2) نسبه إليه في “البسيط” (23/ 431)، ونسبت إلى عطاء في “الكشف والبيان” (10/ 183) وغيره.
(3) “معاني القرآن وإعرابه” (5/ 315).
(4) (2/ 81).
(1/219)
فاتته التسوية من وجه آخر لم يُخلق له.
فصل
وأما التقدير والهداية فقال مقاتل: “قَدّر خلق الذكر والأنثى من الدواب، فهدى الذكر للأنثى كيف يأتيها” (1)، وقاله ابن عباس والكلبي (2).
وكذلك قال عطاء: “قدر من النسل ما أراد، ثم هدى الذكر للأنثى” (3).
واختار هذا القول صاحب “النظم” (4) فقال: “معنى “هدى” هداية الذكر لإتيان الأنثى كيف يأتيها؛ لأن إتيان ذُكران الحيوان لإناثه مختلف لاختلاف الصور والخلق والهيئات، فلولا أنه سبحانه جبل كل ذكر على معرفة كيف يأتي أنثى جنسه لما اهتدى لذلك” (5).
وقال مقاتل أيضًا: “هداه لمعيشته ومرعاه” (6).
وقال السدي: “قَدَّر مدة الجنين في الرحم، ثم هُدِي للخروج” (7).
_________
(1) “تفسير مقاتل” (4/ 669) بنحوه، وبنصها في “البسيط” (23/ 433).
(2) أخرج أثر ابن عباس بمعناه الطبري (16/ 79)، وأثر الكلبي بمعناه عبد الرزاق في “التفسير” (1815)، وانظر: “البسيط” (23/ 433).
(3) نسبه إليه في “البسيط” (23/ 432).
(4) “نظم القرآن” لأبي علي الحسن بن يحيى الجرجاني من علماء القرن الرابع، انظر: “تاريخ جرجان” (187).
(5) انظر: “البسيط” (23/ 433).
(6) “تفسير مقاتل” (3/ 29).
(7) نسبه إليه في “البسيط” (23/ 434).
(1/220)
وقال مجاهد: “هدى الإنسان لسبيل الخير والشر، والسعادة والشقاوة” (1).
وقال الفرّاء: “التقدير: فهدى وأضل، فاكتفى من ذكر أحدهما بالآخر” (2).
قلت: الآية أعمّ من هذا كله، وأضعف الأقوال فيها قول الفرّاء؛ إذ المراد ههنا الهداية العامة لمصالح الحيوان في معاشه، وليس المراد هداية الإيمان والضلال بمشيئته، وهي نظير قوله: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]، فإعطاؤه الخلق: إيجاده في الخارج، والهداية: التعليم والدلالة على سبيل بقائه وما يحفظه ويقيمه.
وما ذكره مجاهد فهو تمثيل منه، لا تفسير مطابق للآية؛ فإن الآية شاملة لهداية الحيوان كله: ناطقه وبهيمه، طيره ودوابه، فصيحه وأعجمه.
وكذلك قول من قال: “إنه هداية الذكر لإتيان الأنثى”، تمثيل أيضًا، وهو فرد واحد من أفراد الهداية التي لا يحصيها إلا الله.
وكذلك قول من قال: “هداه للمرعى”، فإن ذلك من الهداية، فأين الهداية إلى التِقام الثدي عند خروجه من بطن أمه؟ والهداية إلى معرفته أمه دون غيرها حتى يتبعها أين ذهبت؟ والهداية إلى قصد ما ينفعه من المرعى دون ما يضره منه، وهداية الطير والوحش والدواب إلى الأفعال العجيبة التي
_________
(1) بنحوه في التفسير المنسوب إليه (722)، وأسنده الطبري (24/ 311)، وانظر: “البسيط” (23/ 433).
(2) “معاني القرآن” (3/ 256).
(1/221)
يعجز عنها الإنسان، كهداية النحل إلى سلوك السُّبُل التي فيها مراعيها على تباينها (1)، ثم عودها إلى بيوتها من الشجر والجبال وما يعرش بنو آدم.
وأمر النحل في هدايتها من أعجب العجب، وذلك أن لها أميرًا ومدبّرًا وهو اليَعْسوب، وهو أكبر جسمًا من جميع النحل، وأحسن لونًا وشكلًا.
وإناث النحل تلد في إقبال الربيع، وأكثر أولادها يكنّ إناثًا، وإذا وقع فيها ذكرٌ لم تدعه بينها (2)، بل إما أن تطرده، وإما أن تقتله، إلا طائفة يسيرة منها تكون حول الملك، وذلك أن الذكر منها لا يعمل شيئًا ولا يكسب.
ثم تجتمع الأمهات وفراخها عند الملك، فيخرج بها إلى المرعى من المروج والرياض والبساتين والمرابع في أقصد الطرق وأقربها، فتجتني منها كفايتها، فيرجع بها الملك، فإذا انتهوا إلى الخلايا وقف على بابها، ولم يدع ذكرًا ولا نحلة غريبة تدخلها.
فإذا تكامل دخولها دخل بعدها، وقد أخذت النحل مقاعدها وأماكنها، فيبتدئ الملك بالعمل كأنه يعلّمها إيّاه، فيأخذ النحل في العمل ويتسارع إليه، ويترك الملكُ العملَ ويجلس ناحية بحيث يشاهد النحل، فيأخذ النحل في إيجاد الشمع من لزوجات الأوراق والأنوار.
ثم تقتسم النحل فرقًا، فمنها فرقة تلزم الملك ولا تفارقه ولا تعمل ولا تكسب، وهم حاشية الملك من الذكورة.
_________
(1) “ج”: “بابها”، وفي “د” دون إعجام، وطمست في “م”، والمثبت أشبه.
(2) “م”: “لم تدعه يدخل بيتها”.
(1/222)
ومنها فرقة تهيئ الشمع وتصفّيه، والشمع هو ثُفْل العسل (1)، وفيه حلاوة كحلاوة التين، وللنحل به عناية شديدة فوق عنايتها بالعسل، فينظفه النحل ويصفّيه ويخلّصه مما يخالطه من أبوالها وغيرها.
وفرقة تبني البيوت، وفرقة تسقي الماء، وتحمله على متونها، وفرقة تكنس الخلايا وتنظفها من الأوساخ والجيف والزبل.
وإذا رأت بينها نحلة مَهِينة بطّالة قطعتها وقتلتها حتى لا تفسد عليهن بقية العمال، وتعديهن ببطالتها ومهانتها.
وأول ما تبني في الخلية مقعد الملك وبيته، فتبني له بيتًا مربّعًا يشبه السرير والتخت، فيجلس عليه ويستدير حوله طائفة من النحل شبه الأمراء والخدم والخواص لا يفارقنه، ويجعل النحل بين يديه شيئًا يشبه الحوض، يصب فيه من العسل أصفى ما يقدر عليه، ويملأ منه الحوض، يكون ذلك طعامًا للملك وخواصه.
ثم يأخذن في بناء البيوت على خطوط متساوية كأنها سِكَك ومَحَال، وتبني بيوتها مسدّسة الأشكال، متساوية الأضلاع، كأنها قرأت كتاب إقليدس، حتى عرفت أوفق الأشكال لبيوتها؛ لأن المطلوب من بناء الدور هو الوثاقة والسَّعة، والشكل المسدّس ــ دون سائر الأشكال ــ إذا انضمت بعض أشكاله إلى بعض صارت شكلًا مستديرًا كاستدارة الرحى، ولا يبقى فيه فروج ولا خلل، ويشدّ بعضه بعضًا، حتى يصير طبقًا واحدًا محكمًا، لا
_________
(1) ما استقر أسفل العسل من بقايا وكدر ونحوها، انظر: “تاج العروس” (ثفل) (28/ 154).
(1/223)
يدخل بين بيوته رؤوس الإبر.
فتبارك الذي ألهمها أن تبني بيوتها هذا البناء المحكم، الذي يعجز البشر عن صنع مثله، فعلمت أنها محتاجة إلى أن تبني بيوتها من أشكال موصوفة بصفتين:
إحداهما (1): أن لا تكون زواياها ضيقة، حتى لا يبقى الموضع الضيق معطلًا.
الثاني (2): أن تكون تلك البيوت مشكلة بأشكال إذا انضم بعضها إلى بعض امتلأت العَرْصة (3) منها، ولا يبقى شيء منها ضائعًا.
ثم إنها علمت أن الشكل الموصوف بهاتين الصفتين هو المسدّس فقط؛ فإن المثلثات والمربعات وإن أمكن امتلاء العَرْصة منها إلا أن زواياها ضيقة، وأما سائر الأشكال وإن كانت زواياها واسعة إلا أنها لا تمتلئ العَرْصة منها، بل يبقى فيما بينها فروج خالية ضائعة، وأما المسدس فهو موصوف بهاتين الصفتين.
فهداها سبحانه إلى (4) بناء بيوتها على هذا الشكل، من غير تسطير ولا آلة ولا مثال يُحْتَذى عليه، وأصنعُ بني آدم لا يقدر على بناء البيت المسدّس إلا بالآلات الكثيرة.
_________
(1) “د”: “أحدها”.
(2) كذا في الأصول: “الثاني”، والوجه: “الثانية”.
(3) البقعة الواسعة بين الدور الخالية من البناء، انظر: “الصحاح” (عرص) (3/ 1044).
(4) في الأصول: “على” خطأ.
(1/224)
فتبارك الذي هداها أن تسلك سبل مراعيها على قوتها (1)، وتأتيها ذللًا لا تستعصي عليها ولا تضل عنها، وأن تجتني أطيب ما في المرعى وألطفه، وأن تعود إلى بيوتها الخالية فتصب فيها شرابًا مختلفًا ألوانه فيه شفاء للناس، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 69].
فإذا فرغت من بناء البيوت خرجت خِمَاصًا تسيح سهلًا وجبلًا، فأكلت من الحلاوات المرتفعة على رؤوس الأزهار، وورق الأشجار، فترجع بِطَانًا، وجعل سبحانه في أفواهها حرارة منضجة تنضج ما جَنَتْه، فتفيده حلاوة ونضجًا، ثم تمجّه في البيوت، حتى إذا امتلأت ختمتها وسدت رؤوسها بالشمع المصفّى، فإذا امتلأت تلك البيوت عمدت إلى مكان آخر ــ إن صادفته ــ فاتخذت فيه بيوتًا، وفعلت كما فعلت في البيوت الأولى.
فإذا برد الهواء، وأخلف المرعى (2)، وحيل بينها وبين الكسب، لزمت بيوتها، واغتذت بما ادخرته من العسل.
وهي في أيام الكسب والسعي تخرج بكرة، وتسيح في المراتع، وتشتغل كل فرقة منها بما يخصّها من العمل، فإذا أمست رجعت إلى بيوتها.
وإذا كان وقت رجوعها وقف على باب الخلية بوّاب منها ومعه أعوان له، فكل نحلة تريد الدخول يشمها البوّاب ويتفقدها؛ فإن وجد منها رائحة منكرة، أو رأى بها لطخة من قذر منعها من الدخول، وعزلها ناحية إلى أن
_________
(1) “قوتها” من “ج”، ومثلها في “د” مهملة، وفي “م”: “قربها”، وفي المعنى شيء.
(2) أخلف النبات: أخرج الخلفة، وهو الذي يخرج بعد الورق الأول في الصيف، انظر: “تاج العروس” (خلف) (23/ 272)، وفي “م”: “واختلف”.
(1/225)
يدخل الجميع، فيرجع إلى المعزولات الممنوعات من الدخول فيتفقدهنّ، ويكشف أحوالهنّ مرة ثانية، فمن وجده قد وقع على شيء مُنْتِن أو نجس قَدَّه نصفين، ومن كانت جنايته خفيفة تركه خارج الخلية، هذا دأب البوّاب كل عشية.
وأما الملك فلا يكثر الخروج من الخلية إلا نادرًا، إذا اشتهى التنزّه فيخرج ومعه أمراء النحل والخدم، فيطوف في المروج والرياض والبساتين ساعة من النهار، ثم يعود إلى مكانه.
ومن عجيب أمره أنه ربما لحقه أذى من النحل أو من صاحب الخلية أو من خدمه، فيغضب ويخرج من الخلية، ويتباعد عنها، ويتبعه جميع النحل، وتبقى الخلية خالية، فإذا رأى صاحبها ذلك، وخاف أن يأخذ النحل ويذهب بها إلى مكان آخر احتال لاسترجاعه وطلب رضاه، فيتعرف موضعه الذي صار إليه بالنحل، فيعرفه باجتماع النحل إليه، فإنها لا تفارقه، وتجتمع عليه حتى تصير عليه عنقودًا، وهو إذا خرج غضبان جلس على مكان مرتفع من الشجرة، وطافت به النحل، وانضمت إليه، حتى تصير كالكرة، فيأخذ صاحب النحل رمحًا أو قصبة طويلة، ويشدّ على رأسها حزمةً من النبات الطيب الرائحة العَطِر النظيف، ويدنيه إلى محل الملك، ويكون معه إما مِزْهَر (1) أو يَراع أو شيء من آلات الطرب، فيحركه وقد أدنى إليه ذلك الحشيش، فلا يزال كذلك إلى أن يرضى الملك، فإذا رضي وزال غضبه طَفَر
_________
(1) المِزْهَر: العود الموسيقية التي يضرب بها، ينظر: “تاج العروس” (زهر) (11/ 480)، “تكملة المعاجم” (7/ 339).
(1/226)
ووقع على ذلك الضِّغْث (1)، وتبعه خدمه وسائر النحل، فيحمله صاحبه إلى الخلية، فينزل ويدخلها هو وجنوده.
ولا يقع النحل على جيفة ولا حيوان ولا طعام.
ومن عجيب أمرها أنها تقتل الملوك الظلمة المفسدة، ولا تدين بطاعتها.
والنحل الصغار المجتمعة الخلق هي العَسّالة، وهي تحاول مقاتلة الطوال القليلة النفع، وإخراجها ونفيها عن الخلايا، وإذا فعلت ذلك جاد العسل، وتجتهد أن تقتل ما تريد قتله خارج الخلية؛ صيانة للخلية عن جيفته.
ومنها صنف قليلة النفع كبيرة الجسم، وبينها وبين العَسّالة حرب، فهي تقصدها وتغتالها، وتفتح عليها بيوتها، وتقصد هلاكها، والعَسَّالة شديدة التيقظ والتحفظ منها، فإذا هجمت عليها بيوتها صاولتها (2) وألجأتها إلى أبواب البيوت، فتتلطّخ بالعسل، فلا تقدر على الطيران، ولا يفلت منها إلا كل طويل العمر، فإذا انقضت الحرب، وبرد القتال عادت إلى القتلى فحملتها، وألقتها خارج الخلية.
وقد ذكرنا أن الملك لا يخرج إلا في الأحايين، وإذا خرج خرج في جموع من الفراخ والشباب، وإذا عزم على الخروج ظلّ قبل ذلك بيوم أو يومين يعلّم الفراخ، وينزلها منازلها ويرتبها، فيخرج ويخرجن معه على ترتيب ونظام قد دبّره معهن، لا يخرجن عنه.
_________
(1) طَفَر: وثَب، والضِّغْث: قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس، ينظر: “الصحاح” (ضغث) (1/ 258) (طفر) (2/ 726).
(2) تحرفت في الأصول إلى: “حاولتها”.
(1/227)
وإذا تولدت عنده ذكران عرف أنهن يطلبن الملك، فيجعل كل واحد منهم على طائفة من الفراخ، ولا يقتل ملكٌ منها ملكًا آخر؛ لما في ذلك من فساد الرعية وهلاكها وتفرقها.
وإذا رأى صاحب الخلية الملوك قد كثرت في الخلية، وخاف من تفرق النحل بسببهم؛ احتال عليهم وأخذ الملوك كلها إلا واحدًا، ويحبس الباقي عنده في إناء، ويدع عندهم من العسل ما يكفيهم، حتى إذا حدث بالملك المنصوب حدث من مرض أو موت أو كان مفسدًا فقتلته النحل؛ أخذ من هؤلاء المحبوسين واحدًا، وجعله مكانه؛ لئلا يبقى النحل بلا ملك فيتشتّت أمرها.
ومن عجيب أمرها أن الملك إذا خرج متنزِّهًا ومعه الأمراء والجنود ربما لحقه إعياء فتحمله الفراخ.
وفي النحل كرام عمّال لها سعي وهمة واجتهاد، وفيها لئام كسالى قليلة النفع مؤثرة للبطالة، فالكرام دائمًا تطردها وتنفيها عن الخلية، ولا تساكنها خشية أن تعدي كرامها وتفسدها.
والنحل من أنظف الحيوان وأنقاه، ولذلك لا تلقي زِبْلها إلا وهي تطير، وتكره النتن والروائح الخبيثة.
وأبكارها وفراخها أحرص وأشد اجتهادًا من الكبار، وأقل لسعًا وأجود عسلًا، ولسعها إذا لسعت أقل ضررًا من لسع الكبار.
ولما كانت النحل من أنفع الحيوان وأبركه ـ وقد خُصَّت من وحي الربِّ تعالى وهدايته بما لم يشركها فيه غيرها ـ وكان الخارج من بطونها مادة الشفاء من الأسقام والنور الذي يضيء في الظلام بمنزلة الهداة من الأنام= كانت
(1/228)
أكثر الحيوان أعداء، وكان أعداؤها من أقل الحيوان منفعة وبركة، وهذه سنة الله في خلقه، وهو العزيز الحكيم.
فصل (1)
وهذه النمل من أهدى الحيوانات، وهدايتها من أعجب شيء؛ فإنَّ النملة الصغيرة تخرجُ من بيتها وتطلب قوتَها وإن بَعُدت عليها الطريق، فإذا ظفرت به حملته وساقته في طرق مُعْوَجّة بعيدة، ذات صعود وهبوط، في غاية من التوعّر حتى تصل إلى بيوتها، فتخزّن فيها أقواتها في وقت الإمكان، فإذا خزنتها عمدت إلى ما ينبت منها ففلقته فلقتين لئلا ينبت، فإن كان ينبت مع فَلْقه باثنتين فلقته بأربعة، فإذا أصابه بلل وخافت عليه العفن والفساد انتظرت به يومًا ذا شمس، فخرجت به فنشرته على أبواب بيوتها، ثم أعادته إليها، ولا تتغذى منها نملة على ما جمعه غيرها.
ويكفي في هداية النمل ما حكاه الله سبحانه في القرآن عن النملة التي سمع سليمان كلامها وخطابها لأصحابها بقولها: {يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18]، فاستفتحت خطابها بالنداء الذي يسمعه من خاطبته، ثم أتت بالاسم المبهم، ثم أتبعته بما بيَّنه من اسم الجنس إرادة للعموم، ثم أمرتهم بأن يدخلوا مساكنهم فيتحصنون من العسكر، ثم أخبرت عن سبب هذا الدخول، وهو خشية أن يصيبهم مَعَرّة الجيش (2)، فيحطمهم سليمان وجنوده، ثم اعتذرت عن نبي
_________
(1) سيقتبس المؤلف في هذا الفصل كثيرًا من “الحيوان” للجاحظ (4/ 5 – 36).
(2) المعرّة: الأمر القبيح المكروه والأذى، “النهاية في الغريب” (عرر) (3/ 205).
(1/229)
الله وجنوده بأنهم لا يشعرون بذلك، وهذا من أعجب الهداية.
وتأمل كيف عظَّم الله سبحانه شأن النمل بقوله: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17]، ثم قال: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ}، فأخبر أنهم بأجمعهم مروا على ذلك الوادي، ودلَّ على أن ذلك الوادي كان معروفًا بالنمل، كوادي السِّباع ونحوه، ثم أخبر عمَّا دل على شدة فطنة هذه النملة، ودقة معرفتها، حيث أمرتهم أن يدخلوا مساكنهم المختصة بهم، فقد عرفت هي والنمل أن لكل طائفة منها مسكنًا لا يدخل عليهم فيه سواهم، ثم قالت: لا يحطمنكم سليمان، فجمعت بين اسمه وعينه، وعرَّفته بهما، وعرفت جنوده وقائدها، ثم قالت: وهم لا يشعرون، فكأنها جمعت بين الاعتذار عن مَعَرَّة الجيش بكونهم لا يشعرون، وبين لوم أمة النمل حيث لم يأخذوا حِذْرهم، ويدخلوا مساكنهم، ولذلك تبسّم نبي الله سليمان ضاحكًا من قولها، وإنه لموضع تعجّب وتبسّم.
وقد روى الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس أن رسول الله نهى عن قتل أربع: النملة، والنحلة، والهدهد، والصُّرَد (1).
وفي “الصحيح” عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “نزل نبيٌّ من الأنبياء تحت شجرة فقرصته نملة، فأمر بجهازه فأخرج، وأمر بقرية النمل فأحرقت، فأوحى الله إليه: أمن أجل أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبّح؟!
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق (8415)، ومن طريقه أحمد (3066)، وأبو داود (5267)، وابن ماجه (3224)، وصححه ابن حبان (5646).
والصُّرَد طائر أكبر من العصفور ضخم الرأس والمنقار يصيد صغار الحشرات وربما صاد العصفور، وكانوا يتشاءمون به، انظر: “المعجم الوسيط” (1/ 512).
(1/230)
فهلّا نملة واحدة! ” (1).
وذكر هشام بن حسان أن أهل الأحنف بن قيس لقوا من النمل شدّة، فأمر الأحنف بكرسي فوضع عند بيوتهن فجلس عليه، ثم تشهّد، ثم قال: لتنتهنّ أو لنحرقنّ عليكن ونفعل ونفعل، قال: فذهبن (2).
وروى عوف بن أبي جميلة، عن قَسَامَة بن زهير، قال: قال أبو موسى الأشعري: إن لكل شيء سادة، حتى إن للنمل سادة (3).
ومن عجيب هدايتها، أنها تعرف ربّها بأنه فوق سماواته على عرشه، كما رواه الإمام أحمد في “كتاب الزهد” (4) من حديث أبي هريرة يرفعه قال: “خرج نبي من الأنبياء بالناس يستسقون، فإذا هم بنملة رافعة قوائمها إلى السماء تدعو، مستلقية على ظهرها، فقال: ارجعوا فقد كفيتم أو سقيتم بغيركم”.
ولهذا الأثر عدَّة طُرق، ورواه الطحاوي في “التهذيب” (5) وغيره.
وقال الإمام أحمد: حدثنا [وكيع، حدثنا مسعر، عن زيد العَمِّي، عن أبي
_________
(1) أخرجه البخاري (3319)، ومسلم (2241).
(2) أورده الجاحظ في “الحيوان” (4/ 18)، وأسنده من أوجه أخرى أحمد في “مسائل عبد الله” (1620)، و”الزهد” (1296).
(3) “الحيوان” (4/ 19)، وأسنده الحارث كما في “بغية الباحث” (799).
(4) لم أقف عليه في مطبوعته، وأخرجه الدارقطني في “السنن” (1797)، وأبو الشيخ في “العظمة” (5/ 1753)، من طرق لينة تشد بعضها بعضًا، وصححه الحاكم (1215).
(5) لعله يقصد “كشف مشكل الآثار” (875)، فإني لم أقف عليه في “شرح المعاني” له.
(1/231)
الصدّيق الناجي] (1) قال: “خرج سليمان بن داود يستسقي، فرأى نملة مستلقية على ظهرها، رافعة قوائمها إلى السماء، وهي تقول: اللهم إنّا خلق من خلقك، ليس بنا غنى عن سقياك ورزقك، فإمّا أن تسقينا وترزقنا، وإما أن تهلكنا، فقال: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم” (2).
وقد حدثني مَن أثق به أن نملة خرجت من بيتها، فصادفت شِقّ جرادة، فحاولت أن تحمله فلم تطق، فذهبت وجاءت معها بأعوان يحملنه معها، قال: فرفعْتُ ذلك من الأرض، فطافت في مكانه فلم تجده، فانصرفوا وتركوها، قال: فوضعْتُه، فعادت تحاول حمله فلم تقدر، فذهبت وجاءت بهم، فرفعْتُه، فطافت فلم تجده، فانصرفوا، قال: فعلتُ ذلك مرارًا، فلما كان في المرة الأخيرة استدار النمل حلقة، ووضعوها في وسطها، وقطعوها عضوًا عضوًا.
قال شيخنا ــ وقد حكيت له هذه الحكاية ــ: “هذه النمل فطرها الله سبحانه على قبح الكذب وعقوبة الكذاب” (3).
والنمل من أحرص الحيوان، ويُضرب بحرصه المثل.
ويُذكر أن سليمان بن داود ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ لما رأى حرص النملة، وشدَّة ادخارها للغذاء؛ استحضر نملة وسألها: كم تأكل النملة من
_________
(1) زيادة من مصدر الخبر، موضعه بياض في الأصول.
(2) “الزهد” (449)، وأخرجه ابن أبي شيبة (30101)، والجاحظ في “الحيوان” (4/ 19) واللفظ له.
(3) انظر: “مفتاح دار السعادة” (2/ 690).
(1/232)
الطعام كل سنة؟ قالت: ثلاث حبّات من الحنطة. فأمر بإلقائها في قارورة، وسَدَّ فم القارورة، وجعل معها ثلاث حبّات حنطة، وتركها سنة بعد ما قالت (1)، ثم أمر بفتح القارورة عند فراغ السنة، فوجد فيها حبَّة ونصف حبة، فقال: أنتِ زعمتِ أن قُوتك كل سنة ثلاث حبات! فقالت: نعم، ولقد صدقتك، ولكن لما رأيتك مشغولًا بمصالح أبناء جنسك، حَسَبْتُ الذي معي فوجدته أكثر من المدة المضروبة، فاقتصرت على نصف القوت، واستبقيت نصفه استبقاء لنفسي.
فعجب سليمان من شدة حرصها، وهذا من أعجب الهداية والفطنة.
ومن حرصها أنها تكدّ طوال الصيف، وتجمع للشتاء، علمًا منها بإعواز الطلب في الشتاء، وتعذر الكسب فيه.
وهي على ضعفها شديدة القوى؛ فإنها تحمل أضعاف أضعاف وزنها، وتجره إلى بيتها.
ومن عجيب أمرها أنك إذا أخذت عضو جرادة يابسًا فأدنيته إلى أنفك لم تشم له رائحة، فإذا وضعته على الأرض أقبلت النملة من مكان بعيد إليه فاحتملته، فإن عجزت عن حمله ذهبت وأتت معها بصف (2) من النمل يحملونه، فكيف وجدت رائحة ذلك من جوف بيتها حتى أقبلت بسرعة إليه!
فهي تدرك بالشم من البعد ما يدركه غيرها بالبصر أو بالسمع، فتأتي من مكان بعيد إلى موضعٍ أَكَلَ فيه الإنسان، وبقي فيه فتات من الخبز أو غيره،
_________
(1) “بعد ما قالت” زيادة من “د”.
(2) “م”: “بصنف”.
(1/233)
فتحمله وتذهب به، وإن كان أكبر منها، فإن عجزت عن حمله، ذهبت إلى جحرها وجاءت معها بطائفة من أصحابها، فجاؤوا كخيط أسود يتبع بعضهم بعضًا، حتى يتساعدوا على حمله ونقله.
وهي تأتي إلى السنبلة فتشمها، فإن وجدتها حنطة قطعتها وفرّقتها وحملتها، وإن وجدتها شعيرًا تركتها.
فلها أولًا صدق الشم، وبُعْد الهمة، وشدة الحرص، والجرأة على محاولة نقل ما هو أضعاف أضعاف وزنها (1).
وليس للنمل قائد ورئيس يدبرها كما يكون للنحل، إلا أن لها رائدًا يطلب الرزق، فإذا وقف عليه أخبر أصحابه فيخرجن مجتمعات.
وكل نملة تجتهد في صلاح العامة منها، غير مختلسة من الحَبّ شيئًا لنفسها دون صواحباتها.
ومن عجيب أمرها أنّ الرجل إذا أراد أن يحترز من الذّر لا يسقط في عسل أو نحوه، فإنه يحفر حُفَيرة ويجعل حولها ماء، أو يتخذ إناء كبيرًا ويملؤه ماء، ثم يضع فيه ذلك الشيء، فيأتي الذّر يطيف به فلا يقدر عليه، فيتسلق في الحائط، ويمشي على السقف، إلى أن يحاذي ذلك الشيء، فتلقي نفسها عليه، وجربنا نحن ذلك.
وأحمى صانعٌ مرَّة طوقًا بالنار، ورماه على الأرض ليبرد، واتفق أن أسفل الطوق نمل، فتوجه في الجهات ليخرج فلحقه وهج النار، فلزم المركز
_________
(1) انظر: “الحيوان” (4/ 6 – 7).
(1/234)
ووسط الطوق وكان فيه، وكان (1) ذلك مركزًا له، وهو أبعد مكان من المحيط.
فصل
وهذا الهدهد من أهدى الحيوان وأبصره بمواضع الماء تحت الأرض حيث لا يراه غيره.
ومن هدايته ما حكاه الله سبحانه عنه في كتابه أنه قال لنبي الله سليمان، وقد فقَدَهُ وتواعده (2)، فلمَّا جاءه بَدَرَه بالعُذر قبل أن يبْدره سليمان بالعقوبة، وخاطبه خطابًا هيّجه به على الإصغاء إليه، والقبول منه، فقال: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22]، وفي ضمن هذا: أنّي أتيتك بأمر قد عرفتُه حق المعرفة بحيث أحطتُ به، وهو خبر عظيم له شأن، فلذلك قال: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأَ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22]، والنبأ هو الخبر الذي له شأن، والنفوس متطلّعة إلى معرفته، ثم وصفه بأنه نبأ يقين لا شك فيه ولا ريب، فهذه مقدمة بين يدي إخباره لنبي الله بذلك النبأ، استفرغتْ قلب المخبر لتلقّي الخبر وقبوله، وأوجبت له التشوّف التام إلى سماعه ومعرفته، وهذا نوع من براعة الاستهلال وخطاب التهييج.
ثم كشف له عن حقيقة الخبر كشفًا مؤكدًا بأداة (3) التأكيد، فقال: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} [النمل: 23].
_________
(1) “وكان” زيادة من “م”، وفي السياق شيء.
(2) كذا في الأصول: “تواعده”، والأشبه بسياق القصة: “توعّده”؛ وقد سلف التنبيه عليه.
(3) “د”: “بأدلة” تحريف.
(1/235)
ثم أخبر عن شأن تلك الملكة، وأنها من أجلّ الملوك، بحيث أوتيت من كل شيء يصلح أن تؤتاه الملوك، ثم زاد في تعظيم شأنها بذكر عرشها التي تجلس عليه، وأنه عرش عظيم.
ثم أخبره بما يدعوه إلى قصدهم وغزوهم في عقر دارهم بعد دعوتهم إلى الله، فقال: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل: 24]، وحذف أداة العطف من هذه الجملة، وأتى بها مستقلة غير معطوفة على ما قبلها؛ إيذانًا بأنها هي المقصودة وما قبلها توطئة لها، ثم أخبر عن المُغوي لهم، الحامل لهم على ذلك، وهو تزيين الشيطان لهم أعمالهم حتى صدّهم عن السبيل المستقيم، وهو السجود لله وحده، ثم أخبر أن ذلك الصدّ حال بينهم وبين الهداية للسجود لله الذي لا ينبغي السجود إلا له.
ثم ذكر من أفعاله سبحانه إخراج الخَبْء في السماوات والأرض، وهو المخبوء فيهما من المطر والنبات والمعادن، وأنواع ما ينزل من السماء، وما يخرج من الأرض.
وفي ذكر الهدهد هذا الشأن من أفعال الرب تعالى بخصوصه إشعار بما خصَّه الله به من إخراج الماء المخبوء تحت الأرض.
قال صاحب “الكشاف”: “وفي إخراج الخَبْء أمارة على أنه من كلام الهدهد؛ لهندسته ومعرفته الماء تحت الأرض، وذلك بإلهام من يُخرج الخَبْء في السماوات والأرض، جلّت قدرته ولطف علمه، ولا يكاد يخفى على ذي الفراسة الناظر بنور الله مخايل كل مختص بصناعة أو فن من العلم في رُوَائه (1)
_________
(1) الرُّوَاء: حسن المنظر، “الصحاح” (رأى) (6/ 2347).
(1/236)
ومنطقه وشمائله، فما عمل آدمي عملًا إلا ألقى الله عليه رداء عمله” (1).
فصل (2)
وهذا الحمام من أعجب الحيوان هداية، حتى قال الشافعي: “أعقل الطير الحمام” (3).
وبُرُد الحمام ـ وهي التي تحمل الرسائل والكتب ـ ربما زادت قيمة الطير منها على قيمة المملوك والعبد؛ فإن الغرض الذي يحصل به لا يحصل بمملوك ولا بحيوان غيره؛ لأنه يذهب ويرجع إلى مكانه من مسيرة ألف فرسخ فما دونها، وينهي (4) الأخبار والأغراض والمقاصد التي تتعلق بها مهمات الممالك والدول.
والقيِّمون بأمرها يعتنون بأنسابها اعتناءً عظيمًا، فيفرّقون بين ذكورها وإناثها وقت السِّفاد، وتنقل الذكور عن إناثها إلى غيرها، والإناث عن ذكورها، ويخافون عليها من فساد أنسابها وحملها من غيرها، ويتعرفون صحة طرقها ومحلها؛ لأنهم لا يأمنون أن يَسْفِد (5) الأنثى ذكرٌ (6) من عرض الحمام فتعتريها الهُجْنة.
_________
(1) “الكشاف” (3/ 362).
(2) انظر: “الحيوان” (3/ 144 – 298)، وجل مادة هذا الفصل مقتبسة منه.
(3) بنحوه في “الأم” (3/ 507)، وبنصه أورده ابن العربي في “أحكام القرآن” (3/ 472).
(4) “م”: “ويرى”.
(5) “د” “م”: “يفسد”، والمثبت من “ج”، والسياق يعضده.
(6) في الأصول: “ذكرًا” خطأ مفسد للمعنى، والفقرة بقريب منها في “الحيوان” (3/ 213).
(1/237)
والقيّمون بأمرها لا يحفظون أرحام نسائهم ويحتاطون لها كما يحفظون أرحام حمامهم ويحتاطون لها.
والقيّمون بأمرها لهم في ذلك قواعد وطرق يعتنون بها غاية الاعتناء، بحيث إذا رأوا حمامًا ساقطًا لم يَخْفَ عليهم حسبُها ونسبُها وبلدُها.
ويعظّمون صاحب التجربة والمعرفة، وتسمح أنفسهم بالجُعْل الوافر له.
ويختارون لحمل الكتب والرسائل الذكور منها، ويقولون: هو أحنُّ إلى بيته لمكان أنثاه، وهو أشدّ متنًا، وأقوى بدنًا، وأحسن اهتداءً.
وطائفة منهم يختار لذلك الإناث، ويقولون: الذكر إذا سافر وبعد عهده حَنَّ إلى الإناث، وتاقت نفسه إليهن، فربما رأى أنثى في طريقه ومجيئه فلا يصبر عنها، فتَرَكَ المسير، ومال إلى قضاء وطره منها.
وهداية الحمام على قدر التعليم والتوطين.
والحمام موصوف باليُمن والإلف والتأنّس، ويحب الناس ويحبونه، ويألف المكان، ويثبت على العهد والوفاء لصاحبه وإن أساء إليه، ويعود إليه من مسافات شاسعة، وربما صُدّ واختُزِل (1) عن وطنه عشر حجج (2)، وهو ثابت على الوفاء، حتى إذا وجد فرصة واستطاعة عاد إليه.
والحمام إذا أراد السِّفاد تلطّف للأنثى غاية التلطّف، فيبدأ بنشر ذنبه
_________
(1) من الاختزال وهو الانقطاع والانفراد، كما في “تاج العروس” (خزل) (28/ 406)، وفي “د”: “وافترك” دون إعجام، وفي “ج”: “فترك”، والمثبت من “م”.
(2) “ج”: “سنين”.
(1/238)
وإرخاء جناحيه، ثم يدنو من الأنثى، فيهْدِر لها ويقبّلها ويزُقُّها (1) وينتفش ويرفع صدره، ثم يعتريه ضرب من الحكّة والتفَلّي، والأنثى في ذلك مرسلة جناحها وكتفها (2) على الأرض، فإذا قضى حاجته منها، ركبته الأنثى! وليس ذلك في شيء من الحيوان سواه.
وإذا علم الذكر أنه أودع رحم الأنثى ما يكون منه الولد، تقدّم هو والأنثى بطلب القصب والحشيش وصغار العيدان، فيعملان منه أُفْحُوصة (3)، وينسجاها (4) نسجًا متداخلًا في الموضع الذي يكون بقدر جثمان الحمامة، ويجعلان حروفها شاخصة مرتفعة؛ لئلا يتدحرج عنها البيض، ويكون حصنًا للحاضن، ثم يتعاودان ذلك المكان، ويتعاقبان الأُفْحُوص يسخِّنانه ويطيّبانه، وينفيان طباعه الأُوَل ويحدثان فيه طبعًا آخر، مشتقًا ومستخرجًا من طباع أبدانهما ورائحتهما؛ لكي تقع البيضة إذا وقعت في مكان هو أشبه المواضع بأرحام الحمام، ويكون على مقدار من الحر والبرد والرخاوة والصلابة.
ثم إذا ضربها المخاض بادرت إلى ذلك المكان ووضعت فيه البيض. فإن أفزعها رعد قاصف رمت بالبيضة دون ذلك المكان الذي هيّأته، كالمرأة التي تُسْقِط من الفزع.
_________
(1) من الزَّقّ وهو إطعام الطائر فراخه بفيه، “الصحاح” (زقق) (4/ 1492).
(2) “الحيوان” (3/ 158): “وكفيها”.
(3) الأفحوصة: الموضع الذي تضع فيه الحمام بيضها؛ لأنها تفحص الموضع، ثم تبيض فيه، ينظر: “تاج العروس” (فحص) (18/ 63).
(4) “ج”: “ينسجانها”، والمثبت من “د” “م” موافق لما في “الحيوان” (3/ 149).
(1/239)
فإذا وضعت البيض في ذلك المكان لم يزالا يتعاقبان الحَضْن، حتى إذا بلغ الحَضْن (1) مداه وانتهت أيّامه، انصدع عن الفرخ فأعاناه على خروجه، فيبدآن أولًا بنفخ الريح في حلقه حتى تتسع حوصلته، علمًا منهما بأن الحوصلة تضيق عن الغذاء، فتتسع الحوصلة بعد التحامها، وتنفتق بعد ارتتاقها. ثم يعلمان أن الحوصلة وإن كانت قد اتسعت شيئًا فإنها في أول الأمر لا تحتمل الغذاء، فيزُقّانه بلعابهما المختلط بالغذاء وفيه قُوى الطعم، ثم يعلمان أن طبع الحوصلة تضعف عن استمرار الغذاء، وأنها تحتاج إلى دفع وتقوية لتكون لها بعض المتانة، فيلقطان من أصول الحيطان الحب اللين الرخو ويزُقّانه الفرخ، ثم يزُقّانه بعد ذلك الحب الذي هو أقوى وأشدّ، ولا يزالان يزُقّانه بالحب والماء على تدريج بحسب قوة الفرخ، وهو يطلب ذلك منهما، حتى إذا علما أنه قد أطاق اللقط منعاه بعض المنع ليحتاج إلى اللقط ويعتاده.
وإذا علما أن أدواته قد قويت وتمّت، وأنهما إن فطماه فطمًا تامًا قوي على اللقط وتبلَّغ لنفسه؛ ضرباه إذا سألهما الزّقّ ومنعاه، ثم تُنزع تلك الرحمة العجيبة منهما، وينسيان ذلك التعطّف المتمكّن حين يعلمان أنه قد أطاق القيام بنفسه والتكسب، ثم يبتدئان العمل ابتداء على ذلك النظام.
والحمام مُشاكِل للناس في أكثر طباعه ومذاهبه؛ فإن في إناثه أنثى لا تريد إلا زوجها، وفيه أخرى لا تردّ يد لامس، وأخرى لا تُنال إلا بعد الطلب الحثيث، وأخرى تُركَب من أول وهلة وأول طلب (2)، وأخرى لها ذكر
_________
(1) “الحيوان” (3/ 151): “حتى إذا بلغ ذلك البيض مداه”.
(2) من قوله: “وأخرى لا تنال” إلى هنا ساقط من “م”.
(1/240)
معروف بها، وهي تمكّن ذكرًا آخر منها عند غيبة ذكرها لا تعدوه، قد اتخذته خِدْنًا، وأخرى مسافحة إذا غاب زوجها لم تمتنع ممن ركبها، وأخرى تمكّن من نفسها غير زوجها وهو يراهما ويشاهدهما ولا تبالي بحضوره، وأخرى تقْمُط (1) الذكر وتدعوه إلى نفسها، وأنثى تركب أنثى وتساحقها، وذكر يركب ذكرًا ويعشقه، وكل حالة توجد في الناس ذكورهم وإناثهم توجد في الحمام.
وفيها من لا تبيض، وإن باضت أفسدت البيضة، كالمرأة التي لا تريد الولد، كيلا يشغلها عن شأنها.
وفي إناث الحمام من إذا عرض لها ذكر ــ أي ذكر كان ــ أسرعت هاربة ولا تواتي غير زوجها البتّة، بمنزلة المرأة الحرة، ومنها ما يأخذ أنثى يتمتع بها مدة ثم ينتقل عنها إلى غيرها، وكذلك الأنثى توافق ذكرًا آخر غير زوجها وتنتقل عنه، وإن كانوا جميعًا في بُرج واحد، ومنها ما يتصالح على الأنثى منها ذكران أو أكثر فتعاشرهم كلهم، حتى إذا غلب واحد منهم لرفيقه وقهره مالت إليه، وأعرضت عن المغلوب.
وفي الحديث أن النبي – صلى الله عليه وسلم – رأى حمامة (2) تتبع حمامة فقال: “شيطان يتبع شيطانة” (3).
_________
(1) في الأصول: “تعمط” تحريف والمعنى لا يساعده، ففي “القاموس” (679): “عمط عرضه: عابه، وثلبه”، وأما القَمْط فهو سفاد الطائر كما في “مقاييس اللغة” (5/ 27)، وكذلك هي في مصدر المؤلف: “الحيوان” (3/ 165).
(2) كذا في الأصول: “حمامة” سبق قلم، وضبب عليها في “م” وكتب في الحاشية: “رجلًا” وهو الصواب كما في مصادر التخريج.
(3) أخرجه أحمد (8543)، وأبو داود (4940)، وابن ماجه (3765) من حديث أبي هريرة، وصححه ابن حبان (5874)، وقد اختلف في إسناده، وصوّب الدارقطني المرسل في “العلل” (3648).
(1/241)
ومنها ما يزُقّ فراخه خاصّة، ومنها ما فيه شفقة ورحمة بالغة يزُقّ فراخه وغيرها.
ومن عجيب هدايتها أنها إذا حملت الرسائل سلكت الطرق البعيدة عن القرى ومواضع الناس؛ لئلا يعرض لها من يصدّها، ولا تَرِد مياههم، بل تَرِد المياه التي لا يَرِدها الناس.
ومن هدايته أيضًا أنه إذا رأى البازي في الهواء فيعرف (1) أي البزاة هو، وأي نوع من الأنواع صيده (2)؛ فيخالف فعله ليسلم منه.
ومن كيسه أنه في أول نهوضه يعقل ويميّز بين النسر والعقاب، وبين الرَّخَم والبازي، وبين الغراب والصقر، فيعرف من يقصده ومن لا يقصده، وإن رأى الشاهين فكأنه رأى السم الناقع، ويأخذه تحيّر كما يأخذ الشاةَ عند رؤية الذئب، والحمارَ عند مشاهدة الأسد.
ومن هداية الحمام أن الذكر والأنثى يتقاسمان أمر الفراخ، فتكون الحضانة والتربية والكفالة على الأنثى، وجلب القوت والزّقّ على الذكر، فإن الأب هو صاحب العيال والكاسب لهم، والأمّ هي التي تحبل وتلد وترضع.
_________
(1) “د”: “فعرف” والمثبت من “م”، والأقرب حذف الفاء.
(2) “د”: “صده” مهملة، وطمست في “م”، والمثبت من “ج” موافقة للـ “الحيوان” (3/ 187) وعبارته: “الحمام لا يخفى عليه في أوّل ما يرى البازي في الهواء أيّ البزاة هو، وأيّ نوع صيده، فيخالف ذلك”.
(1/242)
ومن عجيب أمرها ما ذكره الجاحظ: أن رجلًا كان له زوج حمام مقصوص، وزوج حمام طيّار، وللطيار فرخان، قال: ففتحتُ لهما في أعلى الغرفة كَوَّة للدخول والخروج وزقّ فراخهما.
قال: فحبسني السلطان فجأة، فاهتممت بشأن المقصوص غاية الاهتمام، ولم أشك في موتهما؛ لأنهما لا يقدران على الخروج من الكَوَّة، وليس عندهما ما يأكلان ويشربان.
قال: فلما خُلّي سبيلي لم يكن لي هَمّ غيرهما، ففتحت البيت فوجدت الفرخين قد كبرا، ووجدت المقصوصين على أحسن حال، فتعجبت، فلم ألبث أن جاء الزوج الطيار، فدنا الزوج المقصوص إلى أفواههما يستطعمانهما كما يستطعم الفرخ، فزقّاهما (1).
فانظر إلى هذه الهداية، فإن المقصوصين لما شاهدا تلطف الفراخ للأبوين وكيف يستطعمانهما، واشتد بهما الجوع والعطش، فعلا كفعل الفرخين فأدركتهما رحمة الطياريْن، فزقّاهما كما يزقّان فرخيهما.
ونظير ذلك ما ذكره الجاحظ وغيره ـ قال الجاحظ: وهو أمر مشهور عندنا بالبصرة ــ: أنه لما وقع الطاعون الجارف أتى على أهل دار، فلم يشك أهل تلك المحلّة أنه لم يُبْقِ منهم أحدًا، فعمدوا إلى باب الدار فسدوه، وكان قد بقي صبي صغير يرضع ولم يفطنوا له.
فلما كان بعد ذلك بمدة تحول إليها بعض ورثة القوم، ففتح الباب، فلما
_________
(1) “الحيوان” (2/ 156 – 157).
(1/243)
أفضى إلى عَرْصة الدار إذا هو بصبي يلعب مع جِراء كلبة قد كانت لأهل الدار، فراعه ذلك، فلم يلبث أن أقبلت كلبة قد كانت لأهل الدار، فلما رآها الصبي حبا إليها فأمكنته من أَطْبائها فمصّها.
وذلك أن الصبي لما اشتدّ جوعه، ورأى جِراء الكلبة يرتضعون من أَطْبائها حبا إليها، فعطفت عليه، فلما سقته مرّة أدامت له ذلك، وأدام هو الطلب.
ولا يُستبعد هذا وما هو أعجب منه؛ فإن الذي هدى المولود إلى مص إبهامه ساعة يولد، ثم هداه إلى التقام حلمة ثدي لم يتقدم له به عادة، كأنه قد قيل له: هذه خزانة طعامك وشرابك التي كأنك لم تزل بها عارفًا= في هدايته للحيوان إلى مصالحه ما هو أعجب من ذلك (1).
ومن ذلك أن الديك الشاب إذا أُلْقِي له حَبٌّ لم يأكله حتى يفرقه، فإذا هرم وشاخ أكله من غير تفريق، كما قال المدائني (2): إن إياس بن معاوية مَرَّ بديك ينقر حبًّا ولا يفرقه، فقال: ينبغي أن يكون هَرِمًا؛ فإن الديك الشاب يفرق الحبَّ لتجتمع الدجاج حوله فيصبن منه، والهَرِم قد فنيت رغبته فيهن، فليس له همة إلا نفسه. قال إياس: والديك الشاب يأخذ الحبة فيؤثر بها الدجاجة حتى يلقيها من فِيه، والهرم يبتلعها ولا يلقيها للدجاجة (3).
_________
(1) “الحيوان” (2/ 150، 152).
(2) علي بن محمد أبو الحسن البصري المدائني الأخباري (225 هـ)، “تاريخ الإسلام” (5/ 638).
(3) “الحيوان” (2/ 155 – 156).
(1/244)
وذكر ابن الأعرابي قال: أكلت حيّةٌ بيض مُكَّاء (1)، فجعل المُكَّاء يشوّش (2) ويطير على رأسها ويدنو منه، حتى إذا فتحت فاها وهمّت به ألقى فيه حَسَكة، فأخذت بحلقها حتى ماتت.
وأنشد أبو عمرو الشيباني في ذلك قول الأسدي:
إن كنت أبصرتني عَيلًا ومصطلمًا … فربما قتل المكَّاءُ ثعبانًا (3)
وهداية الحيوانات إلى مصالح معاشها كالبحر، حدِّث عنه ولا حرج.
ومن عجيب هدايتها أن الثعلب إذا امتلأ من البراغيث أخذ صوفة بفمه، ثم عمد إلى ماء رقيق، فنزل فيه قليلًا قليلًا، حتى ترتفع البراغيث إلى الصوفة، فيلقيها في الماء ويخرج (4).
ومن عجيب أمره أن ذئبًا أكل أولاده، وكان للذئب أولاد، وهناك زُبْيَة (5)، فعمد الثعلب وألقى نفسه فيها، وحفر فيها سردابًا يخرج منه، ثم عمد إلى أولاد الذئب فقتلهم، وجلس ناحية ينتظر الذئب، فلما أقبل وعرف أنها فِعْلَته هرب قدّامه وهو يتبعه، فألقى نفسه في الزُبْيَة، ثم خرج من
_________
(1) طائر له صفير حسن، وتصعيد في الجو وهبوط، من فصيلة القنابر، ينظر: “معجم الحيوان” لمعلوف (146).
(2) من التشويش وهو الخلط واللبس، وفي “الحيوان” (7/ 23): “يشرشر”، والشرشرة كالرفرفة بالجناح، انظر: “التقفية” (432).
(3) الحكاية والشاهد في “الحيوان” (7/ 23)، وفيه: “أبصرتني فذًّا” أي: فردًا، وقوله: “مصطلمًا” يعني مقطوعًا وحيدًا.
(4) “الحيوان” (6/ 306).
(5) الزبية: حفرة لاصطياد السبع تحفر في موضع عال، “الصحاح” (زبى) (6/ 2366).
(1/245)
السَّرَب (1)، فألقى الذئب نفسه وراءه فلم يجده، ولم يطق الخروج، فقتله أهل الناحية.
ومن عجيب أمره أن رجلًا كان معه دجاجتان، فاختفى له (2) وخطف إحداهما وفَرَّ، ثم أعمل فكره في أخذ الأخرى، فتراءى لصاحبها من بعيد، وفي فمه شبيه بالطائر، وأطمعه في استنقاذها بأن تركه وفرّ، فظن الرجل أنها الدجاجة فأسرع نحوها، ويخالفه الثعلب (3) إلى أختها، فأخذها وذهب (4).
ومن عجيب أمره أنه أتى إلى جزيرة فيها طير، فأعمل الحيلة كيف يأخذ منها شيئًا، فلم يطق، فذهب وجاء بضِغْث من حشيش وألقاه في مجرى الماء الذي نحو الطير، ففزع الطير منه، فلما عرفت أنه حشيش رجعت إلى أماكنها، فعاد لذلك مرة ثانية، وثالثة، ورابعة، حتى توطنت الطير على ذلك وألفته، فعمد إلى جُرْزَة (5) أكبر من ذلك فدخل فيها وعبر إلى الطير، فلم يشك الطير أنه من جنس ما قبله فلم تنفر منه، فوثب على طائر منها وعدا به.
ومن عجيب أمر الذئب أنه عرض لإنسان يريد قتله، فرأى معه قوسًا
_________
(1) “السرب”: الطريق والقناة والجُحْر، “تاج العروس” (سرب) (3/ 49 – 50).
(2) كذا في الأصول: “فاختفى له”، والأشبه بالسياق: “فاختبأ له”.
(3) “ج”: “وأسرع يخالفه الثعلب”.
(4) جرت للإمام الشافعي حكاية مماثلة أوردها ياقوت في “معجم الأدباء” (6/ 2407) من طريق الآبري عن المزني بها، وليست في القدر المطبوع من “مناقب الشافعي” للآبري.
(5) الجرزة: الحزمة من الحشيش ونحوها، “المخصص” (3/ 35)، والضِّغْث: قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس.
(1/246)
وسهامًا، فذهب وجاء بعظم رأس جمل في فيه، وأقبل نحو الرجل، فجعل الرجل كلما رماه بسهم اتقاه بذلك العظم، حتى أعجزه وعاين نفاذ سهامه، فصادف من استعان به على طرد الذئب.
ومن عجيب أمر القرد ما ذكره البخاري في “صحيحه” (1) عن عمرو بن ميمون الأودي قال: “رأيت في الجاهلية قردًا وقردة زنيا، فاجتمع عليهما القرود فرجموهما حتى ماتا”، فهؤلاء القرود أقاموا حدَّ الله حين عطَّله بنو آدم.
وهذه البقر يُضرب ببلادتها المثل، وقد أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن رجلًا بَيْنا هو يسوق بقرة إذ ركبها، فقالت: إنا لم نخلق لهذا، فقال الناس: سبحان الله، بقرة تتكلم! فقال: “فإني أؤمن بهذا أنا وأبو بكر وعمر” وما هُما ثَمَّ، قال: وبينا رجل يرعى غنمًا له، إذ عدا الذئب على شاة منها فاستنقذها منه، فقال الذئب: يا هذا، استنقذتها مني! فمن لها يوم السَّبُعِ، يوم لا راعي لها غيري؟ فقال الناس: سبحان الله، ذئب يتكلم! فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إنّي أؤمن بهذا أنا وأبو بكر وعمر” وما هما ثَمَّ (2).
ومن هداية الحمار ــ الذي هو من أبلد الحيوان ــ أن الرجل يسير به، ويأتي به إلى منزله من البُعْد في ليلة مظلمة، فيعرف المنزل، فإذا خُلّي جاء إليه، ويفرق بين الصوت الذي يُستوقَف به، والصوت الذي يُحث به على السير.
_________
(1) برقم (3849) بنحوه.
(2) أخرجه البخاري (3471)، ومسلم (2388) من حديث أبي هريرة.
(1/247)
ومن عجيب أمر الفأر أنها إذا شربت من الزيت الذي في أعلى الجرّة فنقص، وعَزَّ عليها الوصول إليه؛ ذهبت وحملت في أفواهها ماء، وصبته في الجرّة حتى يرتفع الزيت فتشربه.
والأطباء تزعم أن الحُقْنة أُخِذت من طائر طويل المنقار، إذا تعسّر عليه الذَّرَق جاء إلى البحر المالح وأخذ بمنقاره منه، واحتقن به، فيخرج الذَّرَق بسرعة (1).
وهذا الثعلب إذا اشتدَّ به الجوع انتفخ ورمى بنفسه في الصحراء كأنه جيفة، فتدنو منه الطير، فلا يُظهر حركة ولا نفَسًا، فلا تشك أنه ميت، حتى إذا نقرته بمنقارها وثب عليها، فضمّها ضمة الموت (2).
وهذا ابن عِرْس والقنفذ إذا أكلا الأفاعي والحيّات عمدا إلى الصَّعْتَر البرّي، فأكلاه كالترياق لذلك (3).
ومن عجيب أمر الثعلب أنه إذا أصاب القنفذ قَلَبَه لظهره لأجل شوكه، فيجتمع القنفذ حتى يصير كُبّة شوك، فيبول الثعلب على بطنه، ما بين مَغْرِز عَجْبه إلى فكّيه، فإذا أصابه بوله اعتراه الأُسْر (4) فانبسط، فيسلخه الثعلب من
_________
(1) انظر: “الحيوان” (7/ 32)، والذرق خرء الطائر، “الصحاح” (ذرق) (4/ 1478).
(2) انظر: “الحيوان” (2/ 290).
(3) انظر: “الحيوان” (7/ 33).
(4) الأسر: احتباس البول، وفي “الحيوان”: “الأسن”، يقال: أسن الرجل إذا دخل البئر فأصابته ريح منتنة فغشي عليه، أو دار رأسه، وهذا المعنى أليق بالسياق، ينظر: “الصحاح” (2/ 578) (5/ 2070).
(1/248)
بطنه، ويأكل مسلوخه (1).
فصل
وكثير من العقلاء يتعلم من الحيوان البهيم أمورًا تنفعه في معاشه وأخلاقه، وصناعته، وحربه، وحزمه، وصبره.
وهداية الحيوان فوق هداية أكثر الناس، قال تعالى: {أَمْ تَحْسِبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان: 44]، قال أبو جعفر الباقر: “والله ما اقتصر على تشبيههم بالأنعام حتى جعلهم أضلّ سبيلًا منها” (2).
فمَن هدى الأنثى من السباع إذا وضعت ولدها أن ترفعه في الهواء أيامًا، تهرب به من الذرِّ والنمل؛ لأنها تضعه كفِدْرَة (3) من لحم، فهي تخاف عليه الذرَّ والنمل، فلا تزال ترفعه وتضعه، وتحوّله من مكان إلى مكان حتى يشتد؟ (4).
وقال ابن الأعرابي: قيل لشيخ من قريش: من علمك هذا كله، وإنما يعرف مثله أصحاب التجارب والتكسب؟
قال: علمني الله ما علّم الحمامة تقليب بيضها حتى تعطي الوجهين
_________
(1) انظر: “الحيوان” (7/ 33).
(2) لم أقف عليه.
(3) الفدرة: القطعة من اللحم إذا كانت مجتمعة، “الصحاح” (2/ 779).
(4) انظر: “الحيوان” (7/ 36)، وفيه: “ومن علّم الدب … “.
(1/249)
جميعًا نصيبهما من حضانتها، ولِخَوف (1) طباع الأرض على البيض إذا استمر على جانب واحد (2).
وقيل لآخر: ما علّمك اللَّجَاج في الحاجة والصبر عليها وإن استعصت حتى تظفر بها؟
قال: من علّم الخنفساء إذا صعدت في الحائط تسقط، ثم تصعد، ثم تسقط مرارًا عديدة، حتى تستمر صاعدة (3).
وقيل لآخر: من علّمك البكور في حوائجك أول النهار لا تُخلّ به؟
قال: مَن علّم الطير تغدو خِماصًا كل بكرة في طلب أقواتها على قربها وبعدها، لا تسأم ذلك، ولا تخاف ما يعرض لها في الجو والأرض.
وقيل لآخر: مَن علّمك السكون والتحفظ والتماوت حتى تظفر بأربك، فإذا ظفرت به، وثبت وثوب الأسد على فريسته؟
فقال: الذي علم السِّنَّوْر أن ترصد جُحر الفأرة، فلا تتحرك ولا تمور (4) ولا تختلج، كأنها ميتة، حتى إذا برزت لها الفأرة وثبت عليها كالأسد.
وقيل لآخر: من علّمك الصبر والجلد والاحتمال وعدم الشكوى؟
قال: مَن علَّم أبا أيوب (5) صبره على الأثقال والأحمال الثقيلة، والمشي
_________
(1) “د” “م”: “وتخوف”، والمثبت من “ج” موافق لما في “الحيوان”.
(2) انظر: “الحيوان” (7/ 35).
(3) ينظر في لجاج الخنفساء: “الحيوان” (3/ 340).
(4) “ولا تمور” من “م”، وفي “د” “ج”: “ننوى” مهملة، ولعلها: “ولا تموء”.
(5) هي كنية الجمل، ويكنى أيضًا أبا صفوان، كما في “ثمار القلوب” (251).
(1/250)
بها على ظهره من بلد إلى بلد، مادًّا عنقه مستسلمًا، صابرًا على الجوع والعطش والتعب، وغِلْظة الجمَّال وضربه، فالثقل والكَلّ على ظهره، ومرارة الجوع والعطش في كبده، وجهد التعب والمشقة ملء جوارحه، ولا مُعوَّل له غير الصبر.
وقيل لآخر: مَن علَّمك حسن الإيثار والسماحة بالبذل؟
قال: مَن علَّم الديك يصادف الحبة في الأرض وهو محتاج إليها فلا يأكلها، بل يستدعي الدجاج، ويطلبهن طلبًا حثيثًا، حتى تجيء الواحدة منهن فتلقطها، وهو مسرور بذلك طيب النفس به، وإذا وُضِع له الحبّ الكثير فرَّقه ههنا وههنا وإن لم يكن هناك دجاج؛ لأن طبعه قد ألف البذل والجود، فهو يرى من اللؤم أن يستبد وحده بالطعام.
وقيل لآخر: مَن علّمك هذا التحيّل في طلب الرزق، ووجوه تحصيله؟
قال: مَن علّم الثعلب تلك الحيل التي يعجز العقلاء عن علمها وعملها، وهي أكثر من أن تذكر؟
ومَن علّم الأسد إذا مشى وخاف أن يُقتص أثره ويُطلب، عفا (1) على أثر مشيته بذنبه، ومَن علمه أن يأتي إلى شبله في اليوم الثالث من وضعه فينفخ في منخريه فيتحرك؛ لأن اللبوة تضعه خَوِرًا كالميت، فلا تزال تحرسه حتى يأتي أبوه فيفعل به ذلك، ومن ألهَم كرام الأسود وأشرافها أن لا تأكل إلا من فريستها، وإذا مر بفريسة غيره لم يدن منها ولو جهده الجوع؟
ومَن علَّم الأسد أن يخضع للبَبْر، ويذلّ له إذا اجتمعا حتى ينجو منه،
_________
(1) كذا في الأصول: “عفا”، والأقرب: “أن يعفو”.
(1/251)
ومن عجيب أمره أنه إذا استعصى (1) عليه شيء من السّباع دعا الأسد فأجابه إجابة المملوك لمالكه، ثم أمره فربض بين يديه فيبول في أذنه، فإذا رأت السباع ذلك أذعنت للبَبْر بالطاعة والخضوع؟
ومن علَّم الثعلب إذا اشتد به الجوع أن يستلقي على ظهره، ويختلس (2) نفسه إلى داخل بدنه حتى ينتفخ، فيظن الطير (3) أنه ميتة، فيقع عليه، فيثب على من انقضى عمره منها؟
ومن علَّمه إذا أصابه صدع أو جرح أن يأتي إلى صبغ معروف، فيأخذ منه ويضعه على جرحه كالمرهم؟
ومن علَّم الدب إذا أصابه كَلْم أن يأتي إلى نبت قد عرفه، وجهله صاحب الحشائش، فيتداوى به فيبرأ؟
ومن علّم الأنثى من الفيلة إذا دنا وقت ولادها أن تأتي إلى الماء فتلده فيه؛ لأنها ــ دون سائر الحيوانات ــ لا تلد إلا قائمة؛ لأن أوصالها على خلاف أوصال الحيوان (4)، وهي عالية، فتخاف أن تُسْقِطه على الأرض فيتصدّع أو ينشق، فتأتي إلى ماء وسط تضعه فيه، يكون كالفراش الليّن، والوِطَاء الناعم؟
ومن علَّم الذباب إذا سقط في مائع أن يتقي بالجناح الذي فيه الداء دون الآخر؟
_________
(1) في الأصول: “عصى”، تحريف، والصواب المثبت.
(2) هكذا رسمت في “د” “م”: “ويختلس” مهملة، والاختلاس استلاب الشيء.
(3) “د”: “الظان”.
(4) في “حياة الحيوان” للدميري (2/ 309): “ولا فواصل لقوائمها”.
(1/252)
ومن علّم الكلب إذا عاين الظِّباء أن يعرف المُعْتلّ من غيره، والذكر من الأنثى؛ فيقصد الذكر مع علمه بأن عَدْوَه أشدّ وأبعد وثبة، ويدع الأنثى على نقصان عَدْوها؛ لأنه قد علم أن الذكر إذا عدا شوطًا أو شوطين حَقِب ببوله (1)، وكلّ حيوان إذا اشتدّ فزعه فإنه يدركه الحَقَب، وإذا حَقِب الذكر لم يستطع البول مع شدة العدو، فيقل عدوه فيدركه الكلب، وأما الأنثى فإنها تحذف بولها لِسَعَة القبل، وسهولة المخرج، فيدوم عَدْوها (2)؟
ومن علّمه أنه إذا كسا الثلجُ الأرضَ أن يتأمل الموضع الرقيق الذي قد انخسف، فيعلم أن تحته جُحْر الأرنب، فينبشه ويصطادها، علمًا منه بأن حرارة أنفاسها تذيب بعض الثلج فيرق (3)؟
ومن علَّم الذئب إذا نام أن يجعل النوم نُوَبًا بين عينيه، فينام بإحداهما حتى إذا تعبت الأخرى نام بها وفتح النائمة، حتى قال فيه بعض العرب:
ينام بإحدى مُقْلَتيه ويتقي … بأخرى المنايا فهو يقظان هاجعُ (4)
ومن علّم العصفورة إذا سقط فرخها أن تستغيث، فلا يبقى عصفور بجوارها حتى يجيء، فيطيرون حول الفرخ ويحركونه بأفعالهم، ويحدثون له قوة وهمَّة وحركة حتى يطير معهم؟
قال بعض الصيادين: ربما رأيت العصفور على الحائط فأومئ بيدي
_________
(1) الحقب احتباس البول، ينظر: “الصحاح” (1/ 114).
(2) انظر: “الحيوان” (2/ 117 – 118).
(3) انظر: “الحيوان” (2/ 118 – 119).
(4) البيت لحميد بن ثور الهلالي، وهو في “ديوانه” (105)، وانظر: “الحيوان” (6/ 467).
(1/253)
كأنني أرميه فلا يطير، وربما أهويت إلى الأرض كأني أتناول شيئًا فلا يتحرك، فإن مسست بيدي أدنى حصاة أو حجر أو نواة طار قبل أن تتمكن منها يدي (1).
ومن علّم الحمامة إذا حملت أن تأخذ هي والأب في بناء العش، وأن يقيما له حروفًا تشبه الحائط، ثم يسخناه ويحدثا فيه طبيعة أخرى، ثم يقلبان البيض في الأيام؟
ومن قسم بينهما الحضانة والكد؟ فأكثر ساعات الحضانة على الأنثى، وأكثر ساعات جلب القوت على الأب.
وإذا خرج الفرخ علما ضيق حوصلته عن الطعام فنفخا في فيه نفخًا متداركًا حتى تتسع حوصلته، ثم يزُقّانه اللعاب أول شيء قبل الطعام، وهو كاللِّبَأ للطفل، ثم يعلمان احتياج الحوصلة إلى دباغ، فيزُقّانه من أصل الحيطان من شيء بين الملح والتراب، تندبغ به الحوصلة، فإذا اندبغت زقَّاه الحبَّ، فإذا علما أنه أطاق اللقط منعاه الزقّ على التدريج، فإذا تكاملت قوته وسألهما الكفالة ضرباه.
ومن علّمهما إذا أرادا السِّفاد أن يبتدئ الذكر بالدعاء، فتتطارد له الأنثى قليلًا لتذيقه حلاوة المواصلة، ثم تطمعه في نفسها، ثم تمتنع بعض التمنّع ليشتد طلبه وحبه، ثم تتهادى وتتكسل، وتريه معاطفها، وتعرض محاسنها، ثم يحدث بينهما من التغزّل والعشق والتقبيل والترشّف ما هو مشاهد بالعيان؟
_________
(1) انظر: “الحيوان” (2/ 329).
(1/254)
ومن علّم المُرْسَلة منها إذا سافرت ليلًا أن تستدل ببطون الأودية، ومجاري المياه والجبال، ومهاب الرياح ومطلع الشمس ومغربها، فتستدل بذلك وبغيره إذا ضلّت، فإذا عرفت الطريق مرّت مرَّ الريح؟
ومن علّم الليث ــ وهو صنف من العناكب ــ أن يلطأ بالأرض ويجمع نفسه، فيُرِي الذبابة أنه لاهٍ عنها، ثم يثب عليها وثوب الفهد؟
ومن علّم العنكبوت نَسْج تلك الشبكة الرفيعة المحكمة، ويجعل في أعلاها خيطًا، ثم يتعلق به، فإذا تعرقلت البعوضة في الشبكة نزل إليها فاصطادها؟
ومن علّم الظبي أنه لا يدخل كِنَاسه إلا مستدبرًا؛ ليستقبل بعينيه ما يخافه على نفسه وخُشْفه؟ (1).
ومن علَّم السِّنّور إذا رأت فأرة في السقف أن ترفع يديها كالمشيرة إليها بالعود، ثم تشير إليها بالرجوع، وإنما تريد أن ترهبها فتزلق فتسقط؟ (2).
ومن علّم اليَرْبوع أن يحفر بيته في سفح الوادي، حيث يرتفع عن مجرى السيل؛ ليسلم من مِدَقّ الحافر، ومجرى الماء، ويعمّقه، ثم يتخذ في زواياه أبوابًا عديدة، ويجعل بينها وبين وجه الأرض حاجزًا رقيقًا، فإذا أحسَّ بالشرِّ فتح بعضها بأيسر شيء وخرج منه؟
_________
(1) الخشف ـ مثلثة الخاء ـ: ولد الظبي أول ما يولد، انظر: “تاج العروس” (23/ 209)، والفقرة في “الحيوان” (6/ 44).
(2) سياقه في “الحيوان” (5/ 252): “فيقول السّنّور بيده كالمشير بيساره: ارجع. فإذا رجعت أشار بيمينه: أن عد فيعود. وإنما يطلب أن تعيا أو تزلق أو يُدار بها”.
(1/255)
ولما كان كثير النسيان لم يحفر بيته إلا عند أكمة أو صخرة أو شجرة، علامة له على البيت إذا ضلّ عنه.
ومن علّم الفهد إذا سمن أن يتوارى لثقل الحركة عليه، حتى يذهب ذلك السمن، ثم يظهر؟
ومن علّم الإيَّل إذا سقط قرنه أن يتوارى؛ لأن سلاحه قد ذهب فيسمن لذلك، فإذا كمل نبات قرنه تعرّض للشمس والريح، وأكثر الحركة؛ ليشتد لحمه، ويزول السمن المانع له من العدو؟ (1)
وهذا باب واسع جدًّا، ويكفي فيه قوله سبحانه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 38 – 39].
وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها” (2)، وهذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون إخبارًا عن أمر غير ممكن فعله، وهو أن الكلاب أمة لا يمكن إفناؤها لكثرتها في الأرض، فلو أمكن إعدامها من الأرض لأمَرْتُ بقتلها.
_________
(1) انظر: “الحيوان” (7/ 42).
(2) أخرجه أحمد (16788)، وأبو داود (2845)، والترمذي (1486)، والنسائي (4280)، وابن ماجه (3205) من حديث عبد الله بن مغفل، وقال الترمذي: “حسن صحيح”.
(1/256)
والثاني: أن يكون مثل قوله: “أمن أجل أن قرصتك نملةٌ أحرقت أمة من الأمم تسبّح” (1)، فهي أمة مخلوقة لحكمة ومصلحة، فإعدامها وإفناؤها يناقض ما خُلِقت له، والله أعلم بما أراد رسوله.
قال ابن عباس في رواية عطاء {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}: يريد يعرفونني ويوحدونني ويسبحونني ويحمدونني، مثل قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]، ومثل قوله تعالى: {(40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41]، فعلى هذا جُعِلت أممًا أمثالنا في التوحيد والمعرفة بربها وتسبيحه (2).
ويدل على هذا قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ} [الحج: 18]، وقوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ} [النحل: 49]، ويدل عليه قوله تعالى: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ: 10]، ويدل عليه قوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68]، وقوله: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ} [النمل: 18]، وقول سليمان عليه السلام: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} [النمل: 16].
وقال مجاهد: ” {أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} أصناف مصنفة تعرف بأسمائها” (3).
وقال الزجاج: ” {أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} في أنها تبعث” (4).
_________
(1) تقدم تخريجه في (231).
(2) الفقرة مقتبسة من “البسيط” (8/ 112 – 113).
(3) أسنده الطبري (9/ 233).
(4) بمعناه في “معاني القرآن وإعرابه” (2/ 245).
(1/257)
وقال ابن قتيبة: “أمم أمثالنا في طلب الغذاء، وابتغاء الرزق، وتوقّي المهالك” (1).
وقال سفيان بن عيينة: “ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من البهائم، فمنهم من يهتصر اهتصار الأسد، ومنهم من يعدو عدو الذئب، ومنهم من ينبح نباح الكلب، ومنهم من يتطوّس كفعل الطاووس، ومنهم من يشبه الخنازير التي لو ألقي إليها الطعام الطيب عافته، فإذا قام الرجل عن رجيعه ولغت فيه، فكذلك تجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها، وإن أخطأ رجل تروّاه وحفظه” (2).
قال الخطابي: “ما أحسن ما تأول سفيان هذه الآية، واستنبط منها هذه الحكمة، وذلك أن الكلام إذا لم يكن حكمه مطاوعًا لظاهره، وجب المصير إلى باطنه، وقد أخبر الله تعالى عن وجود المماثلة بيننا وبين كل طائر ودابة، وذلك ممتنع من جهة الخلقة والصورة، وعدم من جهة المنطق والمعرفة، فوجب أن يكون منصرفًا إلى المماثلة في الطباع والأخلاق، وإذا كان الأمر كذلك فاعلم أنك إنما تعاشر البهائم والسباع، فليكن حذرك منهم ومباعدتك إياهم على حسب ذلك” (3)، انتهى كلامه.
والله سبحانه قد جعل بعض الدواب كسوبًا محتالًا، وبعضها متوكّلًا غير محتال، وبعض الحشرات يدخر لنفسه قوت سنته، وبعضها يتكل على الثقة
_________
(1) بنحوه في “تأويل مشكل القرآن” (445).
(2) رواه الخطابي في “العزلة” (55)، ومن طريقه الواحدي في “البسيط” (8/ 117).
(3) “العزلة” (55).
(1/258)
بأن له في كل يوم قدر كفايته رزقًا مضمونًا، وأمرًا مقطوعًا، وبعضها يدخر، وبعضها يُكتسب له (1)، وبعض الذكورة يعول ولده، وبعضها لا يعرف ولده البتة، وبعض الإناث تكفل ولدها لا تعدوه، وبعضها تضيّع ولدها وتكفل ولد غيرها، وبعضها لا تعرف ولدها إذا استغنى عنها، وبعضها لا تزال تعرفه وتعطف عليه.
وجعل بعض الحيوانات يُتْمها من قبل أمهاتها، وبعضها يُتْمها من قبل آبائها، وبعضها لا يلتمس الولد، وبعضها يستفرغ الهم في طلبه.
وبعضها يعرف الإحسان ويشكره، وبعضها لا يؤَثّر ذلك عنده شيئًا، وبعضها يؤْثِر على نفسه، وبعضها إذا ظفر بما يكفي أمّة من جنسه لم يدع أحدًا يدنو منه.
وبعضها يحب السِّفاد ويكثر منه، وبعضها لا يفعله في السنة إلا مرة، وبعضها يقتصر على أنثاه، وبعضها لا يعفّ عن أنثى، ولو كانت أمه أو أخته، وبعضها لا تمكّن غير زوجها من نفسها، وبعضها لا تردّ يد لامس.
وبعضها يألف بني آدم ويأنس بهم، وبعضها يستوحش منهم، وينفر غاية النفار.
وبعضها لا يأكل إلا الطيب، وبعضها لا يأكل إلا الخبائث، وبعضها يجمع بين الأمرين.
وبعضها لا يؤذي من بالغ في أذاها، وبعضها يؤذي من لا يؤذيها، وبعضها حقود لا ينسى الإساءة، وبعضها لا يذكرها البتَّة، وبعضها لا
_________
(1) في “الحيوان” (2/ 114):”وبعضه يتكسّب”.
(1/259)
يغضب، وبعضها يشتد غضبه فلا يزال يُسترضى حتى يرضى.
وبعضها عنده علم ومعرفة بأمور دقيقة لا يهتدي إليها أكثر الناس، وبعضها لا معرفة له بشيء من ذلك البتة، وبعضها يستقبح القبيح وينفر منه، وبعضها الحسن والقبيح عنده سواء، وبعضها يقبل التعليم بسرعة، وبعضها مع الطول، وبعضها لا يقبل ذلك بحال.
وهذا كله من أدل الدلائل على الخالق لها سبحانه، وعلى إتقان صنعه، وعجيب تدبيره، ولطيف حكمته، فإن فيما أودعها من غرائب المعارف، وغوامض الحيل وحسن التدبير والتأتّي لما تريده= ما يستنطق الأفواه بالتسبيح، ويملأ القلوب من معرفته ومعرفة حكمته وقدرته، وما يعلم به كل عاقل أنه لم يُخلق عبثًا، ولا يُترك (1) سُدى، وأن لله سبحانه في كل مخلوق حكمًا باهرة، وآيات ظاهرة، وبرهانًا قاطعًا، يدل على أنه ربّ كلّ شيء ومليكه، وأنه المنفرد بكل كمال دون خلقه، وأنه على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم (2).
فصل
فلنرجع إلى ما ساقنا إلى هذا الموضع، وهو الكلام على الهداية العامة، التي هي قرينة الخلق في الدلالة على الرب تبارك وتعالى وأسمائه وصفاته وتوحيده.
قال تعالى إخبارًا عن فرعون أنه قال: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي
_________
(1) عدا “م”: “ولم يترك”.
(2) إزاءه بحاشية “م” دون لحق: “وله في كل شيء آية تدل على أنه واحد”.
(1/260)
أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 49 – 50]، قال مجاهد: “أعطى كل شيء خَلْقه، لم يعط الإنسان خَلْق البهائم، ولا البهائم خَلْق الإنسان” (1).
وأقوال أكثر المفسرين تدور على هذا المعنى.
قال عطية ومقاتل: “أعطى كل شيء صورته” (2).
وقال الحسن وقتادة: “أعطى كل شيء صلاحه” (3).
ومعنى هذا: أعطاه من الخلق والتصوير ما يصلح به لما خُلِق له، ثم هداه لما خُلِق له، وهداه لما يصلحه من معيشته ومطعمه ومشربه ومنكحه وتقلبه وتصرفه.
هذا هو القول الصحيح الذي عليه جمهور المفسرين، فيكون نظير قوله: {قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 3].
وقال الكلبي والسدّي: “أعطى الرجلَ المرأة، والبعيرَ الناقة، والذكرَ الأنثى من جنسه” (4)، ولفظ السدي: “أعطى الذكرَ الأنثى مثل خَلْقه، ثم هدى إلى الجماع”.
_________
(1) أسنده بنحوه الطبري (16/ 81).
(2) انظر: “تفسير مقاتل” (3/ 29)، “البسيط” (14/ 414).
(3) رواه عبد الرزاق في “التفسير” (3/ 17) عن الحسن، ورواه في “جامع البيان” (16/ 81) عن قتادة.
(4) رواه عبد الرزاق في “التفسير” (3/ 17) عن الكلبي، ورواه في “جامع البيان” (16/ 80) عن السدي، وانظر: “البسيط” (14/ 415).
(1/261)
وهذا القول اختيار ابن قتيبة (1) والفرّاء، قال الفرّاء: “أعطى الذكرَ من الناس امرأة مثله، والشاةَ شاة، والثورَ بقرة، ثم ألهم الذكر كيف يأتيها” (2).
قال أبو إسحاق: “وهذا التفسير جائز؛ لأنا نرى الذكر من الحيوان يأتي الأنثى ولم يَرَ ذكرًا قد أتى أنثى قبله، فألهمه الله ذلك وهداه إليه، قال: والقول الأول ينتظم هذا المعنى؛ لأنه إذا هداه لمصلحته فهذا داخل في المصلحة” (3).
قلت: أرباب هذا القول هضموا الآية معناها؛ فإن معناها أجل وأعظم مما ذكروه، وقوله: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ} يأبى هذا التفسير؛ فإن حَمْل كل شيء على ذكور الحيوان وإناثه خاصّة ممتنع لا وجه له، وكيف يخرج من هذا اللفظ الملائكة والجن، ومَن لم يتزوج من بني آدم، ومن لم يسافد من الحيوان؟ وكيف يُسمى الحيوان الذي يأتيه الذكر خلقًا له؟ وأين نظير هذا في القرآن؟
وهو سبحانه لما أراد التعبير عن هذا المعنى الذي ذكروه ذكره بأدلّ عبارة عليه وأوضحها، فقال: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [النجم: 45]، وقال: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [الليل: 3]، وقال: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [القيامة: 39]، فحمْلُ قوله: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} على هذا المعنى غير صحيح، فتأمله.
_________
(1) “تأويل مشكل القرآن” (444).
(2) “معاني القرآن” (2/ 181).
(3) “معاني القرآن وإعرابه” (3/ 359).
(1/262)
وفي الآية قول آخر قاله الضحاك، قال: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} قال (1): “أعطى اليد البطش، والرجل المشي، واللسان النطق، والعين البصر، والأذن السمع” (2). ومعنى هذا القول: أعطى كلّ عضو من الأعضاء ما خُلِق له، والخَلْق على هذا بمعنى المفعول، أي: أعطى كل عضو مخلوقه الذي خلقه له؛ فإن هذه المعاني كلها مخلوقة لله تعالى، أودعها الأعضاء.
وهذا المعنى وإن كان صحيحًا في نفسه، لكن معنى الآية أعم، والقول هو الأول، وأنه سبحانه أعطى كل شيء خَلْقه المختص به، ثم هداه لما خُلِق له، ولا خالق سواه سبحانه ولا هادي غيره، فهذا الخلق وهذه الهداية من آيات ربوبيته ووحدانيته، فهذا وجه الاستدلال على عدو الله فرعون.
ولهذا لما علم فرعون أن هذه حجة قاطعة لا مطعن فيها بوجه من الوجوه، عدل إلى سؤال فاسد غير وارد فقال: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [طه: 51]، أي: فما للقرون الأولى لم تُقرّ بهذا الربّ ولم تعبده، بل عبدت دونه الأوثان، والمعنى: لو كان ما تقوله حقًّا لم يخفَ على القرون الأولى، ولم يهملوه، فاحتج عليه موسى عليه السلام بما يشاهده هو وغيره من آثار ربوبية رب العالمين، فعارضه عدو الله بكفر الكافرين به وشرك المشركين، وهذا شأن كل مبطل (3).
ولهذا صار هذا ميراثًا في ورثته، يعارضون نصوص الأنبياء بأقوال
_________
(1) كذا في الأصول بإعادة “قال”.
(2) نسبه إليه في “البسيط” (14/ 415)، والفقرة وما يليها مقتبسة منه.
(3) “ج”: “معطل”.
(1/263)
الزنادقة والملاحدة، وأفراخ الفلاسفة والصابئة والسحرة، ومبتدعة الأمة، وأهل الضلال منهم.
فأجابه موسى عن معارضته بأحسن جواب فقال: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [طه: 52]، أي: أعمال تلك القرون وكفرهم وشركهم معلوم لربي قد أحصاه وحفظه وأودعه في كتاب، فيجازيهم عليه يوم القيامة، ولم يودعه في الكتاب خشية النسيان والضلال؛ فإنه سبحانه لا يضلّ ولا ينسى، وعلى هذا فالكتاب ههنا كتاب الأعمال.
وقال الكلبي: “يعني به اللوح المحفوظ” (1)، وعلى هذا فهو كتاب القدر السابق، والمعنى على هذا: أنه سبحانه قد علم أعمالهم وكتبها عنده قبل أن يعملوها، فيكون هذا من تمام قوله: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]، فتأمله.
فصل
وهو سبحانه في القرآن كثيرًا ما يجمع بين الخلق والهداية، كقوله في أول سورة أنزلها على رسوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 – 5]، وقوله: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1 – 4]، وقوله: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 8 – 10]، وقوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ
_________
(1) نسبه إليه في “البسيط” (14/ 417).
(1/264)
السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 2 – 3]، وقوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} الآيات [النمل: 60]، ثم قال: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [النمل: 63]، فالخلق إعطاء الوجود العيني الخارجي، والهدى إعطاء الوجود العلمي الذهني، فهذا خلقه، وهذا هداه وتعليمه.
فصل
المرتبة الثانية من مراتب الهداية: هداية الإرشاد والبيان للمكلفين، وهذه الهداية لا تستلزم حصول التوفيق واتباع الحق، وإن كانت شرطًا فيه أو جزء سبب، وذلك لا يستلزم حصول المشروط والمسبَّب، بل قد يتخلف عنه المقتضي إما لعدم كمال السبب، أو لوجود مانع، ولهذا قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]، وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]، فهداهم هدى البيان والدلالة فلم يهتدوا، فأضلهم عقوبة لهم على ترك الاهتداء أولًا بعد أن عرفوا الهدى فأعرضوا عنه، فأعماهم عنه بعد أن أراهموه.
وهذا شأنه سبحانه في كل من أنعم عليه بنعمة فكفرها، فإنه يسلبه إياها بعد أن كانت نصيبه وحظه، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53]، وقال تعالى عن قوم فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]، أي: جحدوا بآياتنا بعد أن تيقنوا صحتها، وقال: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ
(1/265)
إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 86].
وهذه الهداية هي التي أثبتها لرسوله، حيث قال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، ونفى عنه ملك الهداية الموجِبة، وهي هداية التوفيق والإلهام بقوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، ولهذا قال – صلى الله عليه وسلم -: “بُعثت داعيًا ومبلّغًا، وليس إليّ من الهداية شيء، وبُعث إبليس مزيّنًا ومغويًا، وليس إليه من الضلالة شيء” (1).
قال تعالى: {(24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ إِلَى إِلَى صِرَاطٍ} [يونس: 25]، فجمع سبحانه بين الهدايتين: العامة والخاصة، فعمّ بالدعوة حجة منه وعدلًا، وخَصّ بالهداية نعمة منه وفضلًا.
وهذه المرتبة أخص من المرتبة التي قبلها، فإنها هداية تختص المكلفين، وهي حجة الله على خلقه التي لا يعذب أحدًا إلا بعد إقامتها عليه، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقال: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقال: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر: 56 – 57]، وقال:
_________
(1) أخرجه الدولابي في “الأسماء والكنى” (2017)، وابن بطة في “الإبانة الكبرى” (1283) من حديث عمر بن الخطاب، وهو حديث باطل لا أصل له، في إسناده خالد بن عبد الرحمن أبو الهيثم، قال العقيلي في “الضعفاء” (1/ 570): “ليس بمعروف بالنقل، وحديثه غير محفوظ، ولا يعرف له أصل”، وانظر: “الموضوعات” (529).
(1/266)
{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَد جَّاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 8 – 9].
فإن قيل: فكيف تقوم حجته عليهم وقد منعهم من الهدى، وحال بينهم وبينه؟
قيل: حُجَّته قائمة عليهم بتخليته بينهم وبين الهدى، وبيان الرسل لهم، وإراءتهم الطريق المستقيم حتى كأنهم يشاهدونه عيانًا، وأقام لهم أسباب الهداية ظاهرًا وباطنًا، ولم يحل بينهم وبين تلك الأسباب، ومن حال بينه وبينها منهم بزوال عقل أو صغر لا تمييز معه، أو كونه بناحية من الأرض لم تبلغه دعوة رسله= فإنه لا يعذبه حتى يقيم عليه حجته، فلم يمنعهم من هذا الهدى، ولم يحل بينهم وبينه.
نعم، قطع عنهم توفيقه، ولم يرد من نفسه إعانتهم والإقبال بقلوبهم إليه، فلم يحل بينهم وبين ما هو مقدور لهم، وإن حال بينهم وبين ما لا يقدرون عليه، وهو فعله ومشيئته وتوفيقه، فهذا غير مقدور لهم، وهو الذي مُنِعوه، وحيل بينهم وبينه، فتأمل هذا الموضع، واعرف قدره، والله المستعان.
فصل
المرتبة الثالثة من مراتب الهداية: هداية التوفيق والإلهام، وخلق المشيئة المستلزمة للفعل.
وهذه المرتبة أخصُّ من التي قبلها، وهي التي ضلّ جهال القدرية بإنكارها، وصاح عليهم سلف الأمة وأهل السنة منهم من نواحي الأرض عصرًا بعد عصر إلى وقتنا هذا، ولكن الجبرية ظلمتهم ولم تنصفهم، كما
(1/267)
ظلموا أنفسهم بإنكار الأسباب والقُوَى، وإنكار فعل العبد وقدرته، وأن يكون له تأثير في الفعل البتة، فلم تهتد القدرية بقول (1) هؤلاء، بل زادهم ضلالًا على ضلالهم، وتمسّكًا بما هم عليه.
وهذا شأن المبطل إذا دعا مبطلًا آخر إلى أن يترك مذهبه لقوله ومذهبه الباطل، كالنصراني إذا دعا اليهودي إلى التثليث وعبادة الصليب وأن المسيح إله تام غير مخلوق، إلى أمثال ذلك من الباطل الذي هو عليه.
وهذه المرتبة تستلزم أمرين:
أحدهما: فعل الرب تعالى وهو الهدى.
والثاني: فعل العبد وهو الاهتداء، وهو أثر فعله سبحانه، فهو الهادي والعبد المهتدي، قال تعالى: {مَن يَهْدِ اِللَّهُ فَهْوَ اَلْمُهْتَدِ} [الكهف: 17]، ولا سبيل إلى وجود الأثر إلا بمؤثّره التام، فإن لم يحصل فعله لم يحصل فعل العبد.
ولهذا قال تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُهْدَى مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37]، وهذا صريح في أن هذا الهدى ليس إليه – صلى الله عليه وسلم – ولو حرص عليه، ولا إلى أحد غير الله، وأن الله سبحانه إذا أضل عبدًا لم يكن لأحد سبيلٌ إلى هدايته، كما قال تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186]، وقال تعالى: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39]، وقال تعالى: {(7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَأَىهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ
_________
(1) “د”: “فلم يهتدوا بقول”.
(1/268)
يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8]، وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَّكَّرُونَ} [الجاثية: 23]، وقال تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الروم: 29]، وقال: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272]، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]، وقال: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد: 31]، وقال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125]، وقال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا
لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]، ولم يريدوا أن بعض أنواع الهدى منه وبعضها منهم، بل الهدى كلّه منه، ولولا هدايته لهم لما اهتدوا.
وقال تعالى: {(35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي} [الزمر: 36 – 37]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهْوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم: 4]، وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36]، وقال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:
(1/269)
27]، وقال تعالى: {بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ} [المدثر: 31]، وقال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا} [البقرة: 26]، وقال: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16].
وأمر سبحانه عباده كلهم أن يسألوه هدايتهم الصراط المستقيم كل يوم وليلة في الصلوات الخمس، وذلك يتضمن الهداية إلى الصراط، والهداية فيه، كما أن الضلال نوعان: ضلال عن الصراط، فلا يهتدي إليه، وضلال فيه، فالأول ضلال عن معرفته، والثاني ضلال عن تفاصيله أو بعضها.
قال شيخنا: “ولما كان العبد في كل حال مفتقرًا إلى هذه الهداية في جميع ما يأتيه ويذره من أمور قد أتاها على غير الهداية، فهو محتاج إلى التوبة منها، وأمور هُدِي إلى أصلها دون تفصيلها، أو هُدِي إليها من وجه دون وجه، فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها، ليزداد هدى، وأمور هو محتاج إلى أن يحصل له من الهداية فيها في المستقبل مثل ما حصل له في الماضي، وأمور هو خال عن اعتقاد فيها، فهو محتاج إلى الهداية فيها، وأمور لم يفعلها فهو محتاج إلى فعلها على وجه الهداية، إلى غير ذلك من أنواع الهدايات= فرض الله عليه أن يسأله هذه الهداية في أفضل أحواله وهي الصلاة، مرات متعددة في اليوم والليلة” (1)، انتهى كلامه.
ولا يتم المقصود إلا بالهداية إلى الطريق والهداية فيها؛ فإن العبد قد
_________
(1) “بيان الدليل على بطلان التحليل” (15).
(1/270)
يهتدي إلى طريق قَصَده، وتتميز له عن غيرها، ولا يهتدي إلى تفاصيل سيره فيها، وأوقات السير من غيره، وزاد المسير، وآفات الطريق.
ولهذا قال ابن عباس في قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، قال: “سبيلًا وسُنة” (1)، وهذا التفسير يحتاج إلى تفسير، فالسبيل الطريق وهي المنهاج، والسنة الشِّرْعة وهي تفاصيل الطريق وحَزُوناته وكيفية السير فيه وأوقات السير، وعلى هذا فقوله: سبيلًا وسنة، تكون السبيل: المنهاج، والسنة: الشِّرْعة، فالمقدَّم في الآية للمؤخَّر في التفسير، وفي لفظ آخر: “سنة وسبيلًا” (2)، فيكون المقدَّم للمقدَّم والمؤخَّر للثاني.
فصل
ومن هذا إخباره سبحانه بأنه طَبَع على قلوب الكافرين وخَتَم عليها، وأنه أصمها عن الحق، وأعمى أبصارها عنه، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَانْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 6 – 7]، والوقف تام هنا، ثم قال: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7]، كقوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23]، وقال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]، وقال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق في “التفسير” (1/ 192).
(2) أخرجه الطبري (8/ 496).
(1/271)
اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 101]، {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} [يونس: 74]، {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الأعراف: 100].
وأخبر سبحانه أن على بعض القلوب أقفالًا تمنعها من أن تنفتح لدخول الهدى إليها، وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَهْوَ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44]، فهذا الوقر والعمى حال بينهم وبين أن يكون لهم هدى وشفاء.
وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الكهف: 57]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصَدَّ عَنِ السَّبِيلِ} [غافر: 37]، قرأها الكوفيون “وَصُدَّ” بضم الصاد حملًا على “زُيِّن”.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28]، وقال: {وَاَللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]، ومعلوم أنه لم ينفِ هدى البيان والدلالة الذي تقوم به الحجة، فإنه حجته على عباده.
والقدرية تردّ هذا كله إلى المتشابه، وتجعله من متشابه القرآن، وتتأوله على غير تأويله، بل تتأوله بما يقطع ببطلانه وعدم إرادة المتكلم له، كقول بعضهم: المراد من ذلك تسمية الله تعالى العبد مهتديًا وضالًا، فجعلوا هداه وإضلاله مجرد تسمية العبد بذلك.
وهذا مما يُعلم قطعًا أنه لا يصح حمل هذه الآيات عليه، وأنت إذا تأملتها وجدتها لا تحتمل ما ذكروه البتة، وليس في لغة أمة من الأمم، فضلًا عن أفصح اللغات وأكملها؛ هداه بمعنى: سَمَّاه مهتديًا، وأضلّه: سَمَّاه ضالًا، وهل يصح أن يقال: علّمه إذا سمّاه عالمًا، وفهّمه إذا سمّاه فَهِمًا؟
(1/272)
وكيف يصح هذا في مثل قوله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272]؟ فهل فهم أحدٌ غير القدرية المحرِّفة للقرآن من هذا: ليس عليك تسميتهم مهتدين، ولكن الله يسمّي من يشاء مهتديًا؟!
وهل فهم أحد قط من قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] لا تسميه مهتديًا، ولكن الله يسميه بهذا الاسم؟! (1).
وهل فهم أحد من قول الداعي: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، وقوله: “اللهم اهدني من عندك” (2)، ونحوه: اللهم سمنّي مهتديًا؟!
وهذا من جناية القدرية على القرآن ومعناه، نظير جناية إخوانهم من الجهمية على نصوص الصفات، وتحريفها عن مواضعها، وفتحوا للزنادقة والملاحدة جنايتهم على نصوص المعاد وتأويلها بتأويلات إن لم تكن أقوى من تأويلاتهم لم تكن دونها، وفتحوا للقرامطة والباطنية تأويل نصوص الأمر والنهي بنحو تأويلاتهم.
فتأويل التحريف الذي سلكته (3) هذه الطوائف أصل فساد الدنيا والدين، وخراب العالم، وسنفرد إن شاء الله كتابًا نذكر فيه جناية المتأولين على الدنيا والدين (4).
_________
(1) من قوله: “وهل فهم أحد قط” إلى هنا ساقط من “م”.
(2) هو جزء من حديث أخرجه الطبراني في “الكبير” (940)، وابن السني في “عمل اليوم والليلة” (133) من حديث أنس بن مالك، وإسناده تالف، فيه نافع السلمي متروك الحديث كما في “الميزان” (1/ 501).
(3) “د”: “سلسلته”.
(4) كأنه يشير إلى ما ضمّنه كتابه “الصواعق المرسلة” من مباحث في الموضوع، كما سلف الكلام عليه في مقدمة التحقيق.
(1/273)
وأنت إذا وازنت بين تأويلات القدرية والجهمية والرافضة لم تجد بينها وبين تأويلات الملاحدة والزنادقة من القرامطة والباطنية وأمثالهم كبير فرق.
والتأويل الباطل يتضمن تعطيل ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم -، والكذب على المتكلم أنه أراد ذلك المعنى، فيتضمن إبطال الحق وتحقيق الباطل، ونسبة المتكلم إلى ما لا يليق به من التلبيس والإلغاز، مع القول عليه بلا علم أنه أراد هذا المعنى.
فالمتأول عليه أن يبين صلاحية اللفظ للمعنى الذي ذكره أولًا، واستعمال المتكلم به في ذلك المعنى في أكثر المواضع، حتى إذا استعمله فيما يحتمل غيره حُمِل على ما عُهِد منه استعماله فيه، وعليه أن يقيم دليلًا سالمًا عن المعارض على الموجِب لصرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه واستعارته، وإلا كان ذلك مجرد دعوى منه فلا تقبل.
وتأوّلَ بعضهم هذه النصوص على أن المراد بها هداية البيان والتعريف لا خلْق الهدى في القلب، فإن الله سبحانه لا يقدر على ذلك عند هذه الطائفة.
وهذا التأويل من أبطل الباطل، فإن الله سبحانه يخبر أنه قسم هدايته للعبد قسمين: قسمًا لا يقدر عليه غيره، وقسمًا مقدورًا للعباد، فقال في القسم المقدور للبشر: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، وقال في غير المقدور للبشر: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، وقال: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186].
(1/274)
ومعلوم قطعًا أن البيان والدلالة قد تحصل له ولا تنفى عنه، وكذلك قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُهْدَى مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37]، لا يصح حمله على هداية الدعوة والبيان، فإن هذا يُهدى ــ وإن أضله الله ــ بالدعوة والبيان.
وكذا قوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23]، هل يجوز حمله على معنى: فمن يدعوه إلى الهدى، ويبين له (1) ما تقوم به حجة الله عليه، وكيف يصنع هؤلاء بالنصوص التي فيها أنه سبحانه هو الذي أضلهم، أيجوز لهم حملها على أنه دعاهم إلى الضلال؟!
فإن قالوا: ليس ذلك معناها، وإنما معناها ألفاهم ووجدهم كذلك، أو أعلم ملائكته ورسله بضلالهم، أو جعل على قلوبهم علامة تعرف الملائكة بها أنهم ضُلّال.
قيل: هذا (2) من جنس قولكم: إن هُداه سبحانه وإضلالهم بتسميتهم مهتدين وضالين.
فهذه أربع تحريفات لكم، وهي: أنه سمّاهم بذلك، وعلَّمهم بعلامة تعرفهم بها الملائكة، وأخبر عنهم بذلك، ووجدهم كذلك.
فالإخبار من جنس التسمية، وقد بينا أن اللغة لا تحتمل ذلك، وأن النصوص إذا تأملها المتأمل وجدها أبعد شيء عن هذا المعنى.
_________
(1) من هنا يبدأ خرم لوح كامل في “م”، وستأتي نهايته.
(2) “هذا” سقطت من “د” “ج”، واستدركت من “ت”.
(1/275)
وأما العلامة فيا عجبًا لفرقة التحريف، وما جنت على القرآن والإيمان، ففي أي لغة وأي لسان يدل على أن معنى (1) قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، أي: إنك لا تعلمه بعلامة، ولكن الله هو الذي يعلمه بها؟!
وقوله: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186]، مَن يعلمه الله بعلامة الضلال لم يعلمه غيره بعلامة الهدى.
وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13] لعلمناها بعلامة الهدى الذي خلقته هي لنفسها وأعطته نفسها.
ومن (2) أي لغة يفهم من قول الداعي {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، علِّمنَا بعلامة تعرف الملائكة بها أننا مهتدون؟
وقولهم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] لا تعلِّمنَا بعلامة أهل الزيغ.
وقوله: “يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك”، “يا مصرف القلوب، صرف قلبي على طاعتك” (3) وأمثال ذلك من النصوص، ففي أي لغة، وأي لسان يفهم من هذا علِّمنا بعلامة الثبات والتصريف على طاعتك؟
وفي أي لغة يكون معنى قوله: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13]، علَّمناها بعلامة القسوة أو وجدناها كذلك؟
_________
(1) “على أن معنى” ساقطة من “د” “ج”، واستدركت من “ت”.
(2) “ج”: “قيل: أي”.
(3) تقدم تخريجهما في (155).
(1/276)
نعم، لو نزل القرآن بلغة القدرية والجهمية وأهل البدع لأمكن حمله على ذلك، وكان الحق تبعًا لأهوائهم، وكانت نصوصه تبعًا لبدع المبتدعين، وآراء المتحيرين.
وأنت تجد جميع هذه الطوائف تنزل القرآن على مذاهبها وبدعها وآرائها، فالقرآن عند الجهمية جهمي، وعند المعتزلة معتزلي، وعند القدرية قدري، وعند الرافضة رافضي، وكذلك هو عند جميع أهل الباطل، {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنفال: 34].
وأما تحريفهم هذه النصوص وأمثالها بأن المعنى: ألفاهم ووجدهم كذلك؛ ففي أي لسان، وأي لغة وجدتم: هديت الرجل إذا وجدته مهتديًا؟ وختم الله على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غشاوة وجده كذلك؟ وهل هذا إلا افتراء محض على القرآن واللغة؟!
فإن قالوا: نحن لم نقل هذا في نحو ذلك، وإنما قلنا في نحو: {أَضَلَّهُ اللَّهُ} [الجاثية: 23] أي: وجده ضالًا، كما يقال: أحمدت الرجل وأبخلته وأجبنته، إذا وجدته كذلك، أو نسبته إليه.
فيقال لفرقة التحريف: هذا إنما ورد في ألفاظ معدودة نادرة، وإلا فوضع هذا البناء على أنك فعلت ذلك به، ولاسيما إذا كانت الهمزة للتعدية من الثلاثي كقام وأقمته، وقعد وأقعدته، وذهب وأذهبته، وسمع وأسمعته، ونام وأنمته، وكذا ضلّ وأضله الله، وأسعده وأشقاه، وأعطاه وأخزاه، وأماته وأحياه، وأزاغ قلبه، وأقامه إلى طاعته، وأيقظه من غفلته، وأراه آياته، وأنزله منزلًا مباركًا، وأسكنه جنته، إلى أضعاف ذلك، هل تجد فيها لفظًا واحدًا
(1/277)
معناه أنه وجده كذلك، تعالى الله عما يقول المحرفون.
ثم انظر في كتاب “فعل وأفعل” هل تظفر فيه بـ “أفعلتُه” بمعنى وجدته ــ مع سعة الباب ــ إلّا في الحرفين أو الثلاثة نقلًا عن أهل اللغة؟
ثم انظر هل قال أحد من الأولين والآخرين من أهل اللغة: إن العرب وضعت أضلّه الله وهداه، وختم على سمعه وقلبه، وأزاغ قلبه وصرفه على طاعته ونحو ذلك، بمعنى وجده كذلك؟
ولما أراد سبحانه الإبانة عن هذا المعنى قال: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7]، ولم يقل: وأضلك، وقال في حق من خالف الرسول وكفر بما جاء به: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}، ولم يقل: ووجده الله ضالًّا.
ثم أي توحيد وتمدُّح وتعريف للعباد أن الأمر كله لله وبيده، وأنه ليس لأحد من أمره شيء في مجرد التسمية والعلامة ومصادفة الربّ تعالى عباده كذلك، ووجوده (1) لهم على هذه الصفات من غير أن يكون له فيها صنع، أو خلق، أو مشيئة؟ وهل يعجز البشر عن التسمية والمصادفة والوجود كذلك؟ فأي مدحة وأي ثناء يحسن على الرب تعالى بمجرد ذلك؟
فأنتم وإخوانكم من الجبرية لم تمدحوا الرب بما يستحق أن يُمْدح به، ولم تثنوا عليه بأوصاف كماله، ولم تقدروه حق قدره، وأتباع الرسول وحزبه وخاصته بريئون منكم ومنهم في باطلكم وباطلهم، وهم معكم ومعهم فيما عندكم من الحق، لا يتحيّزون إلى فئة غير الرسول وما جاء به، ولا
_________
(1) من هذا الموضع ينتهي الخرم في “م”.
(1/278)
ينحرفون عنه نصرة لآراء الرجال المختلفة وأهوائهم المتشتتة (1)، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
قال ابن مسعود: علمنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – التشهد في الصلاة والتشهد في الحاجة: “إن الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله”، ويقرأ ثلاث آيات: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} الآية [آل عمران: 102]، {اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَّاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} الآية [الأحزاب: 70]، قال الترمذي: “هذا حديث صحيح” (2).
وقال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن خالد الحذاء، عن عبد الأعلى، عن عبد الله بن الحارث، قال: خطب عمر بن الخطاب بالجابية، فحمد الله وأثنى عليه، وعنده جاثَلِيق (3) يُتَرْجَم له ما يقول، فقال: من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. فنفض جبينه كالمنكر لما يقول، قال عمر: ما يقول؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، يزعم أن الله لا يضل أحدًا. قال عمر: كذبت أي عدو الله، بل الله خلقك وقد أضلك، ثم يدخلك النار، أما والله لولا عهد لك لضربت عنقك، إن الله عز وجل خلق أهل الجنة وما
_________
(1) “م”: “المتشبثة”، “د” لم ينقط سوى الشين، والمثبت من “ج” أشبه بالمعنى.
(2) أخرجه أحمد (3721)، وأبو داود (2118)، والترمذي (1105)، والنسائي (3277)، وابن ماجه (1892).
(3) هو مقدم الأساقفة عند بعض طوائف المسيحية الشرقية، “المعجم الوسيط” (1/ 107).
(1/279)
هم عاملون، وخلق أهل النار وما هم عاملون، فقال: هؤلاء لهذه، وهؤلاء لهذه. قال: فتفرق الناس وما يختلفون في القدر (1).
فصل
المرتبة الرابعة من مراتب الهداية: الهداية إلى الجنة والنار يوم القيامة، قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 22 – 23]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد: 4 – 5]، فهذه هداية بعد قتلهم.
فقيل: المعنى: سيهديهم إلى طريق الجنة، ويصلح حالهم في الآخرة بإرضاء خصومهم، وقبول أعمالهم.
وقال ابن عباس: “سيهديهم إلى أرشد الأمور، ويعصمهم أيام حياتهم في الدنيا” (2)، واستُشْكِل هذا القول؛ لأنه أخبر عن المقتولين في سبيله بأنه سيهديهم، واختاره الزجاج، وقال: يصلح بالهم في المعاش، وأحكام الدنيا، قال: وأراد أنه يجمع لهم خير الدنيا والآخرة (3)، وعلى هذا القول فلابد من حمل قوله: {قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} على معنى يصح معه إثبات الهداية وإصلاح البال.
* * * *
_________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب “القدر” كما في “تهذيب الكمال” (16/ 358)، والفريابي في “القدر” (54)، وبإسناد أبي داود مختصرًا الدارمي في “الرد على الجهمية” (257).
(2) نسبه إليه في “البسيط” (20/ 223).
(3) بمعناه في “معاني القرآن” (5/ 7)، وانظر: “البسيط” (20/ 223).
(1/280)
الباب الخامس عشر
في الطبع والختم والقفل والغَلّ والسدّ والغشاوة الحائل بين الكافر وبين الإيمان، وأن ذلك مجعول للربّ تبارك وتعالى
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَانذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 6 – 7]، وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَّكَّرُونَ} [الجاثية: 23]، وقال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ (1) قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]، وقال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 101]، وقال: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الأعراف: 100]، وقال: {(23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ} [محمد: 24]، وقال: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهْيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سُدٍّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سُدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَانْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يس: 7 – 10].
وقد ضلَّ (2) بهذه الآيات ونحوها طائفتا القدرية والجبرية: فحرّفها القدرية بأنواع من التحريف المبطل لمعانيها وما أريد منها. وزعمت الجبرية
_________
(1) في النسخ الخطية: {وقالوا}.
(2) “د”: “دخل”.
(1/281)
أن الله أكرهها على ذلك، وقهرها عليه، وأجبرها من غير فعل منها ولا إرادة ولا اختيار ولا كسب البتّة، بل حال بينها وبين الهدى ابتداء من غير ذنب ولا سبب من العبد يقتضي ذلك، بل أمَرَه وحال ــ مع أمره ــ بينه وبين الهدى، فلم ييسِّر له إليه سبيلًا، ولا أعطاه عليه قدرة، ولا مكّنه منه بوجه، وزاد بعضهم: بل أحب له الضلال والكفر والمعاصي، ورضيه منه.
وهدى الله أهل السنة والحديث وأتباع الرسول لما اختلف فيه هاتان الطائفتان من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
قالت القدرية: لا يجوز حمل هذه الآيات على أنه منعهم من الإيمان، وحال بينهم وبينه، إذ تكون لهم الحجة على الله، ويقولون: كيف تأمرنا بأمر ثم تحول بيننا وبينه، وتعاقبنا عليه وقد منعتنا من فعله؟! وكيف تكلفنا بأمر لا قدرة لنا عليه؟! وهل هذا إلا بمثابة مَنْ أمرَ عبده بالدخول من باب، ثم سَدّ عليه ذلك الباب سدًّا محكمًا لا يمكنه الدخول معه البتّة، ثم عاقبه أشد العقوبة على عدم الدخول؟! وبمنزلة مَنْ أمره بالمشي إلى مكان، ثم قيده بقيد لا يمكنه معه نقل قدمه، ثم أخذ يعاقبه على ترك المشي؟!
وإذا كان هذا قبيحًا في حق المخلوق الفقير المحتاج، فكيف يُنسب إلى الرب تعالى مع كمال غناه وعلمه وإحسانه ورحمته؟!
قالوا: وقد كذَّب الله سبحانه الذين قالوا: قلوبنا غُلفٌ، وفي أكنة، وإنها قد طُبع عليها، وذمَّهم على هذا القول، فكيف يُنسب إليه تعالى؟!
ولكن القوم لما أعرضوا وتركوا الاهتداء بهداه الذي بعث به رسله حتى صار ذلك الإعراض والنفار كالإلف والطبيعة والسجيّة؛ أشبه حالهم حال من مُنِع عن الشيء وصُدّ عنه، وصار هذا وقرًا في آذانهم، وختمًا على قلوبهم،
(1/282)
وغشاوةً على أعينهم، فلا يخلص إليها الهدى، وإنما أضاف الله تعالى ذلك إليه لأن هذه الصفة قد صارت في تمكنها وقوة ثباتها كالخلقة التي خُلق عليها العبد.
قالوا: ولهذا قال تعالى: {كَلَّا بَل رَّانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، وقال: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]، وقال: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وقال: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77].
ولعمر الله، إن الذي قاله هؤلاء حقّه أكثر من باطله، وصحيحه أكثر من سقيمه، ولكن لم يوفّوه حقّه، وعظَّموا الله من جهة وأخلّوا بتعظيمه من جهة؛ فعظموه بتنزيهه عن الظلم وخلاف الحكمة، وأخلّوا بتعظيمه من جهة التوحيد وكمال القدرة ونفوذ المشيئة.
والقرآن يدل على صحة ما قالوه في الران والطبع والختم من وجه، وعلى بطلانه من وجه.
فأمَّا صحته فإنه سبحانه جعل ذلك عقوبة لهم، وجزاء على كفرهم وإعراضهم عن الحق بعد أن عرفوه، كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ} [الصف: 5]، وقال: {كَلَّا بَل رَّانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، وقال: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]، وقال: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [التوبة: 127].
وقد اعترف بعض القدرية بأن ذلك خلق لله تعالى، ولكنه عقوبة على
(1/283)
كفرهم وإعراضهم السابق، فإنه سبحانه يعاقب على الضلال المقدور بإضلال بعده، ويثيب على الهدى بهدى بعده، كما يعاقب على السيئة بسيئة مثلها، ويثيب على الحسنة بحسنة مثلها، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [الأحزاب: 70 – 71]، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، ومن الفرقان الهدى الذي يُفرَّق به بين الحق والباطل، وقال في ضد ذلك: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88]، وقال: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10]، وقال: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [التوبة: 127].
وهذا الذي ذهب إليه هؤلاء حق، والقرآن دلَّ عليه، وهو موجب العدل، والله سبحانه ماضٍ في العبد حكمُه، عدلٌ في عبده قضاؤُه، فإنه إذا دعا عبده إلى معرفته ومحبته وذكره وشكره فأبى العبد إلا إعراضًا وكفرًا؛ قضى عليه بأن أغفل قلبه عن ذكره، وصدَّه عن الإيمان به، وحال بين قلبه وبين قبول الهدى، وذلك عدلٌ منه فيه، وتكون عقوبته بالختم والطبع والصدّ عن الإيمان كعقوبته له بذلك في الآخرة مع دخول النار، كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} [المطففين: 15 – 16]، فحجابهم عنه إضلال لهم (1)، وصدٌّ عن رؤيته وكمال معرفته، كما عاقب قلوبهم في هذه الدار بصدِّها عن الإيمان، وكذلك عقوبته لهم بصدهم عن
_________
(1) “د”: “إضلالهم”.
(1/284)
السجود له يوم القيامة مع الساجدين هو جزاء امتناعهم من السجود له في الدنيا، وكذلك عماهم عن الهدى في الآخرة عقوبة لهم على عماهم في الدنيا عنه، ولكن الفرق أن أسباب هذه الجرائم في الدنيا كانت مقدورة لهم (1)، واقعة باختيارهم وإرادتهم وفعلهم، فإذا وقعت عقوبات (2) لم تكن مقدورة، بل قضاء جارٍ عليهم ماضٍ عدل فيهم. قال تعالى: {(71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ فَهْوَ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ} [الإسراء: 72].
ومن ههنا ينفتح للعبد باب واسع عظيم النفع جدًّا في قضاء الله (3) المعصية والكفر والفسوق على العبد، وأن ذلك محض عدله فيه.
وليس المراد بالعدل ما يقوله الجبرية أنه الممكن، وكل ما يمكن فعله بالعبد فهو عندهم عدل، والظلم هو الممتنع لذاته، فهؤلاء قد سدّوا على أنفسهم باب الكلام في الأسباب والحِكَم.
ولا المراد به ما تقوله القدرية النفاة أنه إنكار عموم قدرة الله (4) على أفعال عباده وهدايتهم وإضلالهم، وعموم مشيئته لذلك، وأن الأمر إليهم لا إليه.
وتأمل قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك” (5)، كيف
_________
(1) “د” “م”: “له”.
(2) كذا في الأصول: “عقوبات”، ولعل الأقرب للمعنى: “عقوباتها”، والله أعلم.
(3) “م”: “إمضاء الله”.
(4) “م” “ج”: “قدرة الله ومشيئته” بزيادة “ومشيئته”، والسياق بدونها أكثر اتساقًا.
(5) أخرجه ابن أبي شيبة (29930)، وأحمد (3712)، وأبو يعلى (5297) من طرق عن فضيل بن مرزوق، ثنا أبو سلمة الجهني، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود به، وأعل باثنتين: الاختلاف في تعيين الجهني، وسماع القاسم من أبيه، وله متابعة وشاهد ضعيف من حديث أبي موسى، وصححه ابن حبان (972)، وقال الحاكم (1877): “هذا حديث صحيح على شرط مسلم إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد الله، عن أبيه فإنه مختلف في سماعه عن أبيه”، وتعقبه الذهبي بقوله: “قلت: وأبو سلمة لا يدرى من هو، ولا رواية له في الكتب الستة”، وحسنه بمتابعته وشاهده ابن حجر في “نتائج الأفكار” (4/ 100)، وانظر: “علل الدارقطني” (819)، حاشية محققي “مسند أحمد” (6/ 247).
(1/285)
ذكر العدل في القضاء مع الحكم النافذ، وفي ذلك ردٌّ لقول الطائفتين القدرية والجبرية؛ فإن العدل الذي أثبتته القدرية منافٍ للتوحيد، معطّل لكمال قدرة الربّ، وعموم مشيئته. والعدل الذي أثبتته الجبرية منافٍ للحكمة والرحمة، ولحقيقة العدل.
والعدل الذي هو اسمه وصفته ونعته سبحانه خارج عن هذا وهذا، ولم تعرفه إلا الرسل وأتباعهم، ولهذا قال هود – صلى الله عليه وسلم – لقومه: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56]، فأخبر عن عموم قدرته، ونفوذ مشيئته، وتصرفه في خلقه كيف شاء، ثم أخبر أنه في هذا التصرف والحكم على صراط مستقيم.
قال أبو إسحاق: “أي: هو سبحانه وإن كانت قدرته تنالهم بما شاء، فهو لا يشاء إلا العدل” (1).
وقال ابن الأنباري: “لما قال: {هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} كان في معنى: لا يخرج عن قبضته، وأنه قاهر بعظيم سلطانه لكل دابة، فأتبع قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى
_________
(1) “معاني القرآن وإعرابه” (3/ 58).
(1/286)
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: على الحق، قال: وهذا نحو كلام العرب إذا وصفوا رجلًا بحسن السيرة والعدل والإنصاف قالوا: فلان على طريقة حسنة، وليس ثَمَّ طريق.
ثم ذكر وجهًا آخر، فقال: لما ذكر أن سلطانه قد قهر كل دابة أتبع هذا قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، أي: أنه لا يخفى عليه مشتبه، ولا يعدل عنه هارب، فذكر الصراط المستقيم، وهو يعني به الطريق الذي لا يكون لأحد مسلك إلا عليه، كما قال: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14] ” (1).
قلت: فعلى القول الأول يكون المراد أنه في تصرفه في ملكه يتصرف بالعدل ومجازاة المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ولا يظلم مثقال ذرة، ولا يعاقب أحدًا بما لم يجنه، ولا يهضمه ثواب ما عمله، ولا يحمل عليه ذنب غيره، ولا يأخذ أحدًا بجريرة أحد، ولا يكلف نفسًا ما لا تطيقه، فيكون من باب {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} [التغابن: 1]، ومن باب “ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك”، ومن باب {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، أي: كما أنه ربّ العالمين المتصرف فيهم بقدرته ومشيئته فهو المحمود على هذا التصرف، وله الحمد على جميعه.
وعلى القول الثاني فالمراد به التهديد والوعيد، وأن مصير العباد إليه، وطريقهم عليه لا يفوته منهم أحد، كما قال تعالى: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} [الحجر: 41]، قال الفرّاء: “يقول: مرجعهم إليَّ فأجازيهم، كقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14]، قال: وهذا كما تقول في الكلام: طريقك
_________
(1) نقله الواحدي في “البسيط” (11/ 448)، وعنه المؤلف.
(1/287)
عليّ، وأنا على طريقك، لمن أوعدته” (1)، وكذلك قال الكلبي والكسائي (2).
ومثل قوله: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9]، على أحد القولين في الآية، قال مجاهد: “الحق يرجع إلى الله، وعليه طريقه” (3)، {وَمِنْهَا} أي: ومن السبيل ما هو جائر عن الحق، {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}، فأخبر عن عموم مشيئته وقدرته، وأن طريق الحق عليه، موصلة إليه، فمن سلكها فإليه يصل، ومن عدل عنها فإنه يضل عنه.
والمقصود أن هذه الآيات تتضمن عدل الرب تعالى وتوحيده، وأنه يتصرف في خلقه بملكه وحمده وعدله وإحسانه، فهو على صراط مستقيم في قوله وفعله وشرعه وقدره وثوابه وعقابه، يقول الحق، ويفعل العدل، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهْوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4].
فهذا العدل والتوحيد الذي دلّ عليه القرآن لا يتناقضان، وأما توحيد أهل القدر والجبر وعدلهم، فكل منهما يبطل الآخر ويناقضه.
فصل
ومن سلك من القدرية هذه الطريق فقد توسط بين الطائفتين، لكنه يلزمه الرجوع إلى قول مثبتي القدر قطعًا، وإلا تناقض أبين تناقض، فإنه إذا زعم أن
_________
(1) “معاني القرآن” (2/ 89).
(2) انظر: “البسيط” (12/ 607).
(3) بنحوه في “تفسير مجاهد” (420)، و”جامع البيان” (14/ 178)، وانظر: “البسيط” (13/ 23).
(1/288)
الضلال والطبع والختم والقفل والوقر، وما يحول بين العبد وبين الإيمان مخلوق لله، وهو واقع بقدرته ومشيئته؛ فقد أعطى أن أفعال العبد مخلوقة لله، وأنها واقعة بمشيئته، فلا فرق بين الفعل الابتدائي والفعل الجزائي إن كان هذا مقدورًا لله واقعًا بمشيئته فالآخر كذلك، وإن لم يكن ذاك مقدورًا، ولا يصح دخوله تحت المشيئة فهذا كذلك، والتفريق بين النوعين تناقض محض.
وقد حَكَى هذا التفريق عن بعض القدرية أبو القاسم الأنصاري في “شرح الإرشاد” فقال: “ولقد اعترف طوائف من القدرية بأن الختم والطبع موانع، غير أنها عقوبات من الله تعالى لأصحاب الجرائم، قال: وممن صار إلى هذا المذهب: عبد الواحد بن زيد البصري، وبكر ابن أخته، قال: وسبيل المعاقبين بذلك سبيل المعاقبين بالنار” (1)، وهؤلاء بقي عليهم درجة واحدة وقد تحيزوا إلى أهل السنة والحديث.
فصل
وقالت طائفةٌ منهم: الكافر هو الذي طَبَع على قلب نفسه في الحقيقة، وخَتَم على قلبه، والشيطانُ أيضًا فعل ذلك، ولكن لما كان الله سبحانه هو الذي أقدر العبد والشيطان على ذلك نسب الفعل إليه؛ لإقداره للفاعل على ذلك، لا لأنه هو الذي فعله.
قال أهل السنة والعدل: هذا الكلام فيه حق وباطل، فلا يُقبل مطلقًا ولا يُرد مطلقًا، فقولكم: “إن الله سبحانه أقدر الكافر والشيطان على الطبع
_________
(1) “شرح الإرشاد” نسخة أيا صوفيا (ق 180/أ) باختصار.
(1/289)
والختم” كلام باطل؛ فإنه لم يقدره إلا على التزيين والوسوسة والدعوة إلى الكفر، ولم يقدره على خلق ذلك في قلب العبد البتَّة، وهو أقل من ذلك وأعجز، وقد قال – صلى الله عليه وسلم -: “بُعِثت داعيًا ومبلّغًا، وليس إليَّ من الهداية شيء، وخُلِق إبليس مُزيّنًا، وليس إليه من الضلالة شيء” (1)، فمقدور الشيطان أن يدعو العبد إلى فعل الأسباب التي إذا فعلها ختم الله على قلبه وسمعه وطبع عليه، كما يدعوه إلى الأسباب التي إذا فعلها (2) عاقبه الله بالنار، فعقابه بالنار كعقابه بالختم والطبع، وأسباب العقاب فعله، وتزيينها وتحسينها فعل الشيطان، والجميع مخلوق لله.
وأما ما في هذا الكلام من الحق فهو أن الله سبحانه أقدر العبد على الفعل الذي أوجب الطبع والختم على قلبه، فلولا إقدار الله له على ذلك لم يفعله.
وهذا حق، لكن القدرية لم توفِ هذا الموضع حقه، وقالت: أقدره قدرة تصلح للضدين، فكان فعْل أحدهما باختياره ومشيئته التي لا تدخل تحت مقدور الرب، وإن دخلت قدرته الصالحة لهما تحت مقدوره سبحانه، فمشيئته واختياره وفعله غير واقع تحت مقدور الرب، وهذا من أبطل الباطل، فإن كل ما سواه مخلوق له، داخل تحت قدرته، واقع بمشيئته، فلو لم يشأه لم يكن.
_________
(1) تقدم تخريجه في (266).
(2) من قوله: “ختم الله” إلى هنا ساقط من “م” انتقال نظر.
(1/290)
قالت القدرية: لما أعرضوا عن التدبّر، ولم يصغوا إلى التذكّر (1)، وكان ذلك مقارنًا لإيراد الله سبحانه حجته عليهم؛ أضيفت أفعالهم إلى الله؛ لأن حدوثها إنما اتفق عند إيراد الحجة عليهم.
قال أهل السنة: هذا من أمحل المحال أن يضيف الربُّ إلى نفسه أمرًا لا يُضاف إليه البتَّة؛ لمقارنته ما هو من فعله، ومن المعلوم أن الضدّ يقارن الضدّ، فالشر يقارن الخير، والحق يقارن الباطل، والصدق يقارن الكذب، وهل يُقال: إن الله سبحانه يحب الكفر والفسوق والعصيان لمقارنتها ما يحبه من الإيمان والطاعة، وإنه يحب إبليس لمقارنة وجوده لوجود الملائكة؟!
فإن قيل: قد يُنسب الشيء إلى الشيء لمقارنته له وإن لم يكن له فيه تأثير، كقوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَت سُّورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 124 – 125]، ومعلوم أن السورة لم تُحْدِث لهم زيادة الرِّجْس، بل قارن زيادة رِجْسهم لنزولها فنُسِب إليها.
قيل: لم ينحصر الأمر في هذين الأمرين اللذين ذكرتموهما، وهما: إحداث السورة الرِّجْس، والثاني: مقارنته لنزولها، بل ههنا أمر ثالث، وهو أن السورة لما أُنزلت اقتضى نزولها الإيمان بها، والتصديق والإذعان لأوامرها ونواهيها، والعمل بما فيها، فوطّن المؤمنون أنفسهم على ذلك، فازدادوا إيمانًا بسببها، فنُسِبت زيادة الإيمان إليها؛ إذ هي السبب في زيادته، وكذّب بها الكافرون وجحدوها، وكذبوا من جاء بها، ووطّنوا أنفسهم على مخالفة ما
_________
(1) “د”: “الذكر”.
(1/291)
تضمنته وإنكاره، فازدادوا بذلك رِجْسًا، فنُسِب إليها؛ إذ كان نزولها ووصولها إليهم هو السبب في تلك الزيادة.
فأين هذا من نسبة الأفعال القبيحة عندكم التي لا تجوز نسبتها إلى الله عند دعوتهم إلى الإيمان وتدبر آياته؟!
على أن أفعالهم القبيحة لا تُنْسب إلى الله سبحانه، وإنما هي منسوبة إليهم، والمنسوب إليه سبحانه أفعاله الحسنة الجميلة، المتضمّنة للغايات المحمودة، والحكم المطلوبة، فالختم والطبع والقفل والإضلال أفعال حسنة من الله، وضَعها في أليق المواضع بها، إذ لا يليق بذلك المحل الخبيث غيرها. والشرك والكفر والمعاصي والظلم أفعالهم القبيحة التي لا تُنْسب إلى الله فعلًا، وإن نُسِبت إليه خلقًا، فخَلْقها غيرها، والخلق غير المخلوق، والفعل غير المفعول، والقضاء غير المقضي، والقدر غير المقدور، وستمر بك هذه المسألة مستوفاة ــ إن شاء الله ــ في باب: اجتماع الرضا بالقضاء (1) وسخط الكفر والفسوق والعصيان، إن شاء الله (2).
قالت القدرية: لما بلغوا في الكفر إلى حيث لم يبق طريق إلى تحصيل الإيمان لهم إلا بالقسر والإلجاء، ولم تقتض حكمته تعالى أن يقسرهم على الإيمان؛ لئلا تزول حكمة التكليف= عبّر عن ترك الإلجاء والقسر بالختم والطبع؛ إعلامًا بأنهم انتهوا في الكفر والإعراض إلى حيث لا ينتهون عنه إلا بالقسر، وتلك الغاية في وصف لجاجهم وتماديهم في الكفر.
_________
(1) “م”: “بالقدر”.
(2) (2/ 370).
(1/292)
قال أهل السنة: هذا كلام باطل؛ فإنه سبحانه قادر على أن يخلق فيهم مشيئة الإيمان وإرادته ومحبته، فيؤمنون بغير قسر ولا إلجاء، بل إيمان اختيار وطاعة، كما قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، وإيمان القسر والإلجاء لا يسمّى إيمانًا، ولهذا يؤمن الناس كلهم يوم القيامة، ولا يسمّى ذلك إيمانًا؛ لأنه عن إلجاء واضطرار.
وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]، وما يحصل للنفوس من المعرفة والتصديق بطريق الإلجاء والاضطرار والقسر لا يسمّى هدى، وكذلك قوله: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد: 31].
فقولكم: لم يبق طريق إلى إيمانهم إلا بالقسر: باطل؛ فإنه بقي إلى إيمانهم طريق لم يُرِهم الله إياه، وهو مشيئته وتوفيقه وإلهامه، وإمالة قلوبهم إلى الهدى، وإقامتها على الصراط المستقيم، وذلك أمر لا يعجز عنه ربّ كل شيء ومليكه، بل هو القادر عليه كقدرته على خلق ذواتهم وصفاتهم وذرّاتهم، ولكن منعهم ذلك لحكمته وعدله فيهم، وعدم استحقاقهم وأهليتهم لبذل ذلك لهم، كما منع السُّفْل خصائص العلو، ومنع الحار خصائص البارد، ومنع الخبيث خصائص الطيب.
ولا يقال: فلم فعل هذا؟ فإن ذلك من لوازم ملكه وربوبيته، ومن مقتضيات أسمائه وصفاته، وهل يليق بحكمته أن يسوّي بين الطيب والخبيث، والحسن والقبيح، والجيد والرديء؟ ومن لوازم الربوبية خلق الزوجين، وتنويع المخلوقات وأخلاقها.
(1/293)
فقول القائل: لِمَ خَلَق الرديء والخبيث واللئيم؟ سؤال جاهل بأسمائه وصفاته وملكه وربوبيته، وهو سبحانه قد فرّق بين خلقه أعظم تفريق، وذلك من كمال قدرته وربوبيته، فجعل منه ما يقبل جميع الكمال الممكن، ومنه ما لا يقبل شيئًا منه، وبين ذلك درجات متفاوتة لا يحصيها إلا الخلاق العليم، وهدى كل نفس إلى حصول ما هي قابلة له، والقابل والمقبول والقَبول كله مفعوله ومخلوقه، وأثر فعله وخلقه، وهذا هو الذي ذهب عن الجبرية والقدرية ولم يهتدوا إليه، وبالله التوفيق.
قالت القدرية: الختم والطبع هو شهادته سبحانه عليهم بأنهم لا يؤمنون، وعلى أسماعهم وعلى قلوبهم (1).
قال أهل السنة: هذا هو قولكم بأن الختم والطبع هو الإخبار عنهم بذلك، وقد تقدم فساد هذا بما فيه كفاية، وأنه لا يقال في لغة من لغات الأمم لمن أخبر عن غيره بأنه مطبوع على قلبه، وأن عليه ختمًا: إنه قد طَبَع على قلبه وخَتَم عليه، بل هذا كذب على اللغات وعلى القرآن.
وكذلك قول من قال: إن ختمه على قلوبهم اطّلاعه على ما فيها من الكفر. وكذلك قول من قال: إنه إحصاؤه عليهم حتى يجازيهم به. وقول من قال: إنه إعلامها بعلامة تعرفها بها الملائكة. وقد بيَّنا بطلان ذلك بما فيه كفاية.
قالت القدرية: لا يلزم من الطبع والختم والقفل أن تكون مانعةً من الإيمان، بل يجوز أن يجعل الله فيهم ذلك من غير أن يكون منعهم من
_________
(1) هكذا وقعت الجملة في الأصول.
(1/294)
الإيمان، بل يكون ذلك من جنس الغفلة والبلادة والعَشَا في البصر، فيورث ذلك إعراضًا عن الحق وتعاميًا عنه، ولو أنعم النظر، وتفكر وتدبر؛ لما آثر على الإيمان غيره.
وهذا الذي قالوه يجوز أن يكون في أول الأمر، فإذا تمكن واستحكم من القلب ورسخ فيه امتنع معه الإيمان، ومع هذا فهو أثر فعله وإعراضه وغفلته، وإيثار شهوته وكبره على الحق والهدى، فلما تمكّن فيه واستحكم صار صفة راسخة وطبعًا وختمًا وقفلًا ورانًا، فكان مبدؤه غير حائل بينهم وبين الإيمان، والإيمان ممكن معه، لو شاؤوا لآمنوا مع مبادئ تلك الموانع، فلما استحكمت لم يبق إلى الإيمان سبيل.
ونظير هذا أن العبد يستحسن ما يهواه فيميل إليه بعض الميل، ففي هذه الحال يمكن صرف دواعيه وعشقه له، إذ الأسباب لم تستحكم، فإذا استمر على ميله، واستدعى أسبابه، واستحكمت لم يمكنه صرف قلبه عن الهوى والمحبة، فيطبع على قلبه، ويختم عليه، فلا يبقى فيه محل لغير ما يهواه ويحبه، فكان الانصراف عن السعي مقدورًا له في أول الأمر، فلما تمكنت أسبابه لم يبق مقدورًا له، كما قال الشاعر:
تولّع بالعشق حتى عشق … فلما استقل به لم يُطِقْ
رأى لُجّةً ظنّها موجةً … فلما تمكّن منها غرق (1)
_________
(1) من أربعة أبيات لأبي الحسين محمد بن المظفر بن نحرير البغدادي (455 هـ) أسندها ابن الجوزي في “ذم الهوى” (586)، وهي في ترجمته من “تاريخ الإسلام” (10/ 65).
وأوردها المؤلف في “الداء والدواء” (498)، و”روضة المحبين” (225)، و”الكلام على مسألة السماع” (248).
(1/295)
فلو أنهم بادروا في مبدأ الأمر (1) إلى مخالفة الأسباب الصادة عن الهدى لسهل عليهم، ولمَا استعصى عليهم، ولقدروا عليه.
ونظير ذلك: المبادرة إلى إزالة العلّة قبل استحكام أسبابها، ولزومها للبدن لزومًا لا ينفك منها، فإذا استحكمت العلة، وصارت كالجزء من البدن عزَّ على الطبيب استنقاذ العليل منها.
ونظير ذلك: المتوحِّل في حَمْأة، فإنه ما لم يدخل لجّتها فهو قادر على التخلص، فإذا توسط معظمها عَزّ عليه وعلى غيره إنقاذه.
فمبادئ الأمور مقدورة للعبد، فإذا استحكمت (2) أسبابها منه وتمكنت لم يبق الأمر مقدورًا له، فتأمل هذا الموضع حق التأمل، فإنه من أنفع الأشياء في باب القدر، والله الموفق للصواب.
والله سبحانه جاعل ذلك كله وخالقه فيهم بأسباب منهم، وتلك الأسباب قد تكون أمورًا عدمية يكفي فيها عدم مشيئة أضدادها، فلا يشاء سبحانه أن يخلق للعبد أسباب الهدى، فيبقى على العدم الأصلي. وإن أراد من عبده الهداية فهي لا تحصل حتى يريد من نفسه إعانته وتوفيقه، فإذا لم يرد سبحانه من نفسه (3) ذلك لم تحصل الهداية.
_________
(1) “م”: “أول الأمر”.
(2) “د” “م”: “تحكمت”.
(3) “د”: “عبده”.
(1/296)
فصل
ومما ينبغي أن يعلم أنه لا يمتنع مع الطبع والختم والقفل حصول الإيمان، بأن يفك الذي خُتِم على القلب، وطُبِع عليه، وضُرِب عليه القفل ذلك الختم والطابع والقفل، ويهديه بعد ضلالته، ويعلمه بعد جهله، ويرشده بعد غَيِّه، ويفتح قفل قلبه بمفاتيح توفيقه التي هي بيده، حتى لو كتب على جبينه الشقاوة والكفر، لم يمتنع أن يمحوها، ويكتب عليه السعادة والإيمان.
وقرأ قارئ عند عمر بن الخطاب: {(23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ} [محمد: 24]، وعنده شاب فقال: اللهم عليها أقفالها، ومفاتيحها بيدك، لا يفتحها سواك. فعرفها له عمر، وزادته عنده خيرًا (1).
وكان عمر – رضي الله عنه – يقول في دعائه: “اللهم إن كنت كتبتني شقيًا فامحني واكتبني سعيدًا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت” (2).
_________
(1) لم أقف عليه بهذا السياق.
وأخرج اللالكائي في “أصول الاعتقاد” (972)، والبيهقي في “القضاء والقدر” (386) عن سهل بن سعد قال: تلا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هذه الآية: {(23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ}، وغلام جالس عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: بلى والله يا رسول الله، إن عليها لأقفالها ولا يفتحها إلا الذي أقفلها. فلما ولي عمر طلبه ليستعمله، وقال: لم يقل ذلك إلا من عقل. وفي إسناده المقدام بن داود وذؤيب بن عمامة: ضعيفان كما في “الميزان” (4/ 176)، وله شاهد من مرسل عروة أخرجه إسحاق كما في “إتحاف الخيرة” (5821)، والطبري (21/ 217).
(2) أخرجه الطبري (13/ 564)، وابن بطة في “الإبانة الكبرى” (1565)، وأُثِر عن غير واحد من السلف نحوه.
(1/297)
فالرب تعالى فعَّالٌ لما يريد، لا حَجْر عليه.
وقد ضلّ ههنا فريقان:
القدرية: حيث زعمت أن ذلك ليس مقدورًا للربِّ، ولا يدخل تحت فعله؛ إذ لو كان مقدورًا له ومنعه العبد لناقض جودَه ولطفَه.
والجبرية: حيث زعمت أنه سبحانه إذا قدّر قدرًا، أو علم شيئًا فإنه لا يغيره بعد هذا، ولا يتصرف فيه بخلاف ما قدره وعلمه.
والطائفتان حَجَرت على من لا يدخل تحت حَجْر أحد أصلًا، وجميع خلقه تحت حَجْره شرعًا وقدرًا.
وهذه المسألة من أكبر مسائل القدر، وسيمر بك ــ إن شاء الله ــ في باب المحو والإثبات ما يشفيك فيها (1).
والمقصود أنه مع الطبع والختم والقفل لو تعرض العبد لفَكِّ ذلك الختم والطابع، وفَتْح ذلك القفل لفتحه من بيده مفاتيح كل شيء، وأسباب الفتح مقدورة للعبد غير ممتنعة عليه، وإن كان فكُّ الختم وفَتْحُ القفل غير مقدور له، كما أن شرب الدواء مقدور له، وزوال العلة وحصول العافية غير مقدور له، فإذا استحكم به المرض، وصار صفة لازمة له لم يكن له عذر في تعاطي ما إليه من أسباب الشفاء، وإن كان غير مقدور له، ولكن لمّا ألف العلة وساكَنها، ولم يحب زوالها، ولا آثر ضدها عليها، مع معرفته بما بينها (2) وبين ضدها من التفاوت= فقد سدّ على نفسه باب الشفاء بالكلية.
_________
(1) لم يفرد المؤلف بابًا لذلك، فلعل قصده مباحث النسخ الآتية في (2/ 120 – 124).
(2) “م”: “وبينه”.
(1/298)
والله سبحانه يهدي عبده إذا كان ضالًّا وهو يحسب أنه على هدى، فإذا تبيّن له الهدى لم يعدل عنه لمحبته له، وملاءمته لنفسه. فإذا عرف الهدى فلم يحبه، ولم يرض به، وآثر عليه الضلال، مع تكرر تعريفه منفعة هذا وخيره، ومضرة هذا وشره؛ فقد سدّ على نفسه باب الهدى بالكلية.
فلو أنه في هذه الحال تعرّض وافتقر إلى من بيده هداه، وعلم أنه ليس إليه هدى نفسه، وأنه إن لم يهده فهو ضالّ، وسأل الله أن يُقْبِل بقلبه، وأن يقيه شر نفسه= لوفّقه وهداه، بل لو علم الله منه كراهيةً لما هو عليه من الضلال، وأنه مرض قاتل له إن لم يشفه منه أهلكه؛ لكانت كراهته له وبغضه إياه مع كونه مبتلى به من أسباب الشفاء والهداية، ولكن من أعظم أسباب الشقاء والضلال محبته له، ورضاه به، وكراهته للهدى والحق.
فلو أن المطبوع على قلبه، المختوم عليه، كره ذلك ورغب إلى الله في فكِّ ذلك عنه وفعل مقدوره؛ لكان هداه أقرب شيء إليه، ولكن إذا استحكم الطبع والختم حال بينه وبين كراهة ذلك، وسؤال الرب فكّه وفتح قلبه.
فصل
فإن قيل: فإذا جوّزتم أن يكون الطبع والختم والقفل عقوبة وجزاء على الجرائم والإعراض والكفر السابق؛ فكيف يمكنكم طرد ذلك في الختم والطبع السابق على فعل الجرائم؟
قيل: هذا موضع يغلط فيه أكثر الناس، ويظنون بالله سبحانه خلاف موجَب أسمائه وصفاته، والقرآن من أوله إلى آخره إنما يدل على أنّ الطبع والختم والغشاوة لم يفعلها الربّ سبحانه بعبده من أول وهلة حين أمره
(1/299)
بالإيمان وبيَّنه له، وإنما فعله بعد تكرر الدعوة منه سبحانه، والتأكيد في البيان والإرشاد، وتكرر الإعراض منهم، والمبالغة في الكفر والعناد، فحينئذ يطبع على قلوبهم، ويختم عليها، فلا تقبل الهدى بعد ذلك، والإعراض والكفر الأول لم يكن مع ختمٍ وطبعٍ، بل كان اختيارًا، فلما تكرر منهم صار طبيعة وسجيّة.
فتأمل هذا المعنى في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَانْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 6 – 7]، ومعلوم أن هذا ليس حكمًا يعم جميع الكفار، بل الذين آمنوا وصدقوا الرسول كان أكثرهم كفارًا قبل ذلك، ولم يختم على قلوبهم وأسماعهم.
فهذه الآيات في حق أقوام مخصوصين من الكفار، فعل الله بهم ذلك عقوبة منه لهم في الدنيا بهذا النوع من العقوبة العاجلة، كما عاقب بعضهم بالمسخ قردة وخنازير، وبعضهم بالطمس على أعينهم، فهو سبحانه يعاقب بالطمس على القلوب، كما يعاقب بالطمس على الأعين، وهو سبحانه قد يعاقب بالضلال عن الحق عقوبة دائمة مستمرة، وقد يعاقب به إلى وقت، ثم يعافي عبده ويهديه، كما يعاقب بالعذاب كذلك.
فصل
وههنا عدة أمور عاقب بها الكفار بمنعهم من الإيمان، وهي: الختم، والطبع، والأكنّة، والغطاء، والغلاف، والحجاب، والوَقْر، والغشاوة، والران، والغل، والسد، والقفل، والصمم، والبكم، والعمى، والصدّ، والصرف،
(1/300)
والشد على القلب، والضلال، والإغفال، والمرض، وتقليب الأفئدة، والحَوْل بين المرء وقلبه، وإزاغة القلوب، والخذلان، والإركاس، والتثبيط، والتزيين، وعدم إرادة هداهم وتطهيرهم، وإماتة (1) قلوبهم بعدم خلق الحياة فيها، فتبقى على الموت الأصلي، وإمساك النور عنها فتبقى في الظلمة الأصلية، وجعل القلب قاسيًا لا ينطبع فيه مثال الهدى وصورته، وجعل الصدر ضيّقًا حرجًا لا يقبل الإيمان.
وهذه الأمور منها ما يرجع إلى القلب، كالختم والطبع والقفل والأكنّة والإغفال والمرض ونحوها، وما يرجع إلى رسوله الموصِل إليه الهدى كالصمم والوَقْر، ومنها ما يرجع إلى طليعته ورائده كالعمى والغشاء (2)، ومنها ما يرجع إلى ترجمانه ورسوله المبلغ عنه كالبَكَم النطقي، وهو نتيجة البَكَم القلبي، فإذا بَكَم القلب بَكَم اللسان.
ولا تصغ إلى قول من يقول: إن هذه مجازات واستعارات، فإنه قال بحسب مبلغه من العلم والفهم عن الله ورسوله، وكأن هذا القائل حقيقة القفل عنده أن يكون من حديد، والختم أن يكون بشمع أو طين، والمرض أن يكون حمّى بنافض أو قَوْلَنْجًا (3) أو غيرهما من أمراض البدن، والموت هو مفارقة الروح للبدن ليس إلا، والعمى ذهاب ضوء العين الذي تبصر به.
وهذه الفرقة من أغلظ الناس حجابًا؛ فإن هذه الأمور إذا أضيفت إلى
_________
(1) “م”: “وإمالة”.
(2) من قوله: “ومنها ما يرجع” إلى هنا ساقط من “د”.
(3) مرض معوي مؤلم يصعب معه خروج البراز والريح، وسببه التهاب القولون، وفي ضبطه عدة أوجه، انظر: “محيط المحيط” (763)، “المعجم الوسيط” (2/ 767).
(1/301)
محالها كانت بحسب تلك المحال، فنسبة قفل القلب إلى القلب كنسبة قفل الباب إليه، وكذلك الختم والطابع الذي عليه هو بالنسبة إليه كالختم والطابع الذي على الباب والصندوق ونحوهما، وكذلك نسبة الصمم والعمى إليه كنسبة الصمم والعمى إلى الأذن والعين، وكذلك موته وحياته نظير موت البدن وحياته، بل هذه أمور ألزم للقلب منها للبدن.
فلو قيل: إنها حقيقة في ذلك، مجاز في الأجسام (1) المحسوسة؛ لكان مثل قول هؤلاء وأقوى منه، وكلاهما باطل، فالعمى في الحقيقة والبكم والموت والقفل للقلب.
ثم قال تعالى: {لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: 46]، وهذا النفي يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون المعنى: إن أبصارهم لم تعمَ عن رؤية آياتنا، بل رأوها عيانًا، ولكن عميت قلوبهم عنها.
ويدل عليه قوله تعالى: {يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا} [الحج: 46]، ثم قال: {لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ} أي: قد رأوا وأبصروا، ولكن عميت قلوبهم ولم يبصروا.
الوجه الثاني: أن يكون المعنى: أنه ليس العمى في الحقيقة عمى البصر إذا كان القلب مبصرًا، وإنما العمى الحقيقي عمى القلب الذي في الصدر، والمعنى: أنه معظم العمى وأصله.
_________
(1) “د”: “الأقسام”.
(1/302)
وهذا كقوله – صلى الله عليه وسلم -: “إنما الربا في النسيئة” (1)، وقوله: “إنما الماء من الماء” (2)، وقوله: “ليس الغنى عن كثرة العَرَض، إنما الغنى غنى النفس” (3)، وقوله: “ليس المسكين الطوّاف الذي تردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، إنما المسكين الذي لا يجد ما يغنيه، ولا يُفْطَن له فيُتصدّق عليه” (4)، وقوله: “ليس الشديد بالصُّرَعَة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب” (5)، ولم يرد نفي الاسم عن هذه المسميات، إنما أراد أن هؤلاء أولى بهذه الأسماء وأحق ممن يسمونه بها، فهكذا قوله: {تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)}، وقريب من هذا قوله تعالى: {لَيْسَ اَلْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية [البقرة: 177]، وعلى التقديرين فقد أثبت للقلب عمى حقيقة، وهكذا جميع ما نُسِب إليه.
ولما كان القلب ملك الأعضاء وهي جنوده، وهو الذي يحركها ويستعملها، والإرادة والقوى والحركة الاختيارية منه تنبعث؛ كانت هذه الأشياء له أصلًا، وللأعضاء (6) تبعًا، فلنذكر هذه الأمور مفصلة ومواقعها في
_________
(1) أخرجه البخاري (2178)، ومسلم (1596) ـ واللفظ له ـ من حديث أسامة بن زيد.
(2) أخرجه البخاري (180)، ومسلم (343) ـ واللفظ له ـ من حديث أبي سعيد الخدري.
(3) أخرجه البخاري (6446)، ومسلم (1051) من حديث أبي هريرة.
(4) أخرجه البخاري (1479)، ومسلم (1039) من حديث أبي هريرة.
(5) أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (2609) من حديث أبي هريرة.
(6) “د” و”م”: “والأعضاء”.
(1/303)
القرآن.
فقد تقدم الختم، قال الأزهري: “وأصله التغطية، وخَتَمَ البذرَ في الأرض إذا غَطَّاه” (1).
وقال أبو إسحاق: “معنى: خَتَم وطَبَعَ في اللغة واحد، وهو: التغطية على الشيء والاستيثاق منه، فلا يدخله شيء، كما قال تعالى: {الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ} [محمد: 24]، وكذلك قوله: {طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [محمد: 16] ” (2).
قلت: الختم والطبع يشتركان فيما ذُكِر، ويفترقان في معنى آخر، وهو: أن الطبع ختم يصير سجية وطبيعة، فهو تأثير لازم لا يفارق.
وأما الأكنّة ففي قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الإسراء: 46]، وهي جمع كِنَان، كعِنَان وأعِنّة، وأصله من الستر والتغطية، ويقال: كَنّهُ وأكنّهُ، وليسا بمعنى واحد، بل بينهما فرق، فأكنّهُ إذا ستره وأخفاه، كقوله تعالى: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 235]، وكَنّهُ إذا صانه وحفظه، كقوله: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ} [الصافات: 49]، ويشتركان في الستر، والكِنَان ما أكنَّ الشيء وسَتَره، وهو كالغلاف، وقد أقرّوا على أنفسهم بذلك فقالوا: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5]، فذكروا غطاء القلب وهي الأكنّة، وغطاء الأذن وهو الوَقْر، وغطاء العين وهو الحجاب، والمعنى: لا نفقه كلامك، ولا نسمعه، ولا نراك، والمعنى: إنا في ترك القبول منك بمنزلة من لا يفقه ما تقول، ولا يسمعه، ولا يراك.
_________
(1) “تهذيب اللغة” (7/ 316).
(2) “معاني القرآن وإعرابه” (1/ 82).
(1/304)
قال ابن عباس: ” {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} مثل الكنانة التي فيها السهام” (1).
وقال مجاهد: “كجَعْبة النّبْل” (2).
وقال مقاتل: “عليها غطاء فلا تفقه ما تقول” (3).
فصل
وأما الغطاء فقال تعالى: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف: 100 – 101]، وهذا يتضمن معنيين:
أحدهما: أن أعينهم في غطاء عما تضمنه الذكر من آيات الله وأدلة توحيده وعجائب قدرته.
والثاني: أن أعين قلوبهم في غطاء عن فهم القرآن وتدبره والاهتداء به، وهذا الغطاء للقلب أولًا، ثم يسري منه إلى العين.
فصل
وأما الغلاف فقال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 88]، وقد اختلف في معنى قولهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ}.
فقالت طائفة: المعنى: قلوبنا أوعية للحكمة والعلم، فما بالها لا تفهم عنك ما أتيت به؟ أو لا تحتاج إليك، وعلى هذا فيكون “غلفٌ” جمع غلاف.
_________
(1) نسبه إليه في “البسيط” (19/ 419).
(2) أسنده عبد الرزاق في “التفسير” (2688)، وانظر: التفسير المنسوب إلى مجاهد (585).
(3) نسبه إليه في “البسيط” (19/ 419)، وانظر: “تفسير مقاتل” (3/ 735).
(1/305)
والصحيح قول أكثر المفسرين أن المعنى: قلوبنا لا تفقه ولا تفهم ما تقول، وعلى هذا فهو جمع “أَغْلف” كأَحْمر وحُمْر.
قال أبو عبيدة: “كل شيء في غلاف فهو أغلف، كما يقال: سيف أغلف، وقوس غَلْفاء، ورجل أغلف غير مختون” (1).
قال ابن عباس وقتادة ومجاهد: على قلوبنا غشاوة، فهي في أوعية، فلا تعي ولا تفقه ما تقول (2).
وهذا هو الصواب في معنى الآية؛ لتكرر نظائره في القرآن، كقولهم: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} [فصلت: 5]، وقوله تعالى: {كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} [الكهف: 101]، ونظائر ذلك.
وأما قول من قال: هي أوعية للحكمة، فليس في اللفظ ما يدل عليه البتة، وليس له في القرآن نظير يُحمل عليه، ولا يقال مثل هذا اللفظ في مدح الإنسان نفسه بالعلم والحكمة، فأين وجدتم في الاستعمال قول القائل: قلبي غلاف، وقلوب المؤمنين العالمين غُلْف، أي: أوعية للعلم؟
والغلاف قد يكون وعاء للجيد والرديء، فلا يلزم من كون القلب غلافًا أن يكون داخله العلم والحكمة، وهذا ظاهر جدًا.
فإن قيل: فالإضراب بـ “بل” على هذا القول الذي قوّيْتموه ما معناه؟ وأما على القول الآخر فظاهر، أي: ليست قلوبكم محلًا للعلم والحكمة، بل مطبوع عليها.
_________
(1) “مجاز القرآن” (1/ 46).
(2) انظر: “جامع البيان” (2/ 228)، “البسيط” (3/ 134).
(1/306)
قيل: وجه الإضراب في غاية الظهور، وهو أنهم احتجوا بأن الله لم يفتح لهم الطريق إلى فهم ما جاء به الرسول ومعرفته، بل جعل قلوبهم داخلة في غُلْف فلا تفقهه، فكيف تقوم به عليهم الحجة، وكأنهم ادعوا أن قلوبهم (1) خلقت في غُلْف، فهم معذورون في عدم الإيمان، فأكذبهم الله سبحانه وقال: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]، وقال في الآية الأخرى: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 88].
فأخبر سبحانه أن الطبع والإبعاد عن توفيقه وفضله إنما كان بكفرهم الذي اختاروه لأنفسهم، وآثروه على الإيمان، فعاقبهم عليه بالطبع واللعنة، والمعنى: لم نخلق قلوبهم غلفًا لا تعي ولا تفقه ثم نأمرهم بالإيمان وهم لا يفهمونه ولا يفقهونه، بل اكتسبوا أعمالًا عاقبناهم عليها بالطبع على القلوب والختم عليها.
فصل
وأما الحجاب ففي قوله تعالى حكاية عنهم: {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5]، وقوله: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45]، على أصح القولين، والمعنى: جعلنا بين القرآن ــ إذا قرأته ــ وبينهم حجاب (2)، يحول بينهم وبين فهمه وتدبره والإيمان به، ويبينه قوله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام: 25]، وهذه الثلاثة هي الثلاثة المذكورة في قوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا
_________
(1) من قوله: “داخلة” إلى هنا ساقط من “د”.
(2) كذا في الأصول: “حجاب” دون تنوين، والوجه النصب على المفعولية.
(1/307)
إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5]، فأخبر سبحانه أن ذلك جَعْله، فالحجاب يمنع عن رؤية الحق، والأكنّة تمنع من فهمه، والوَقْر يمنع من سماعه.
وقال الكلبي: “الحجاب ههنا مانع يمنعهم عن الوصول إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالأذى من الرعب ونحوه مما يصدهم عن الإقدام عليه” (1).
ووصفه بكونه مستورًا، فقيل: بمعنى ساتر، وقيل: على النسب، أي: ذو ستر، والصحيح: أنه على بابه، أي: مستورًا عن الأبصار فلا يُرى، ومجيء مفعول بمعنى فاعل لا يثبت، والنسب في مفعول لم يُشتق من فعله، كمكان مهول، أي: ذي هول، ورجل مرطوب، أي: ذي رطوبة، فأما مفعول فهو جار على فعله، فهو الذي وقع عليه الفعل، كمضروب ومجروح ومستور (2).
فصل
وأما الران فقد قال تعالى: {كَلَّا بَل رَّانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، قال أبو عبيدة: “غلب عليها، والخمر تَرِين على عقل السكران، والموت يَرِين على الميت فيذهب به” (3).
ومن هذا حديث أُسَيْفِع جهينة، وقول عمر: “فأصبح قد رِينَ به” (4)، أي غلب عليه، وأحاط به الرَّيْن.
_________
(1) لم أقف عليه.
(2) انظر: “البسيط” (13/ 348).
(3) “مجاز القرآن” (2/ 289).
(4) أخرجه مالك (2/ 770)، والطحاوي في “مشكل الآثار” (11/ 71).
(1/308)
وقال أبو معاذ النحوي: “الرَّيْن: أن يسْوَدّ القلب من الذنوب، والطبع: أن يُطْبع على القلب، وهو أشد من الرَّيْن، والإقفال أشد من الطبع، وهو أن يُقْفل على القلب” (1).
وقال الفراء: “كثرت الذنوب والمعاصي منهم، فأحاطت بقلوبهم، فذلك الرَّيْن عليها” (2).
وقال أبو إسحاق: “ران: غَطَّى، يقال: ران على قلبه الذنب، يَرِين رَيْنًا، أي: غشيه، قال: والرَّيْن كالغشاء يغشى القلب، ومثله الغَيْن” (3).
قلت: أخطأ أبو إسحاق، فالغين ألطف شيء يكون وأرقّه، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إنه ليُغَان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة” (4)، وأما الرَّيْن والران فهو من أغلظ الحجب على القلب، وأكثفها.
قال مجاهد: “هو الذنب على الذنب حتى تحيط الذنوب بالقلب وتغشاه، فيموت القلب” (5).
وقال مقاتل: “غَمَرت القلوبَ أعمالُهم الخبيثةُ” (6).
_________
(1) نقله في “تهذيب اللغة” (15/ 224).
(2) “معاني القرآن” (3/ 246).
(3) بنحوه في “معاني القرآن وإعرابه” (5/ 299).
(4) أخرجه مسلم (2702) من حديث الأغر المزني.
(5) أسنده بنحوه الطبري (24/ 201)، وانظر: التفسير المنسوب إلى مجاهد (711)، “البسيط” (23/ 325).
(6) حكاه في “البسيط” (23/ 325).
(1/309)
وفي “سنن النسائي” و”الترمذي” (1)، من حديث أبي هريرة، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكِت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب صُقِل قلبه، وإن عاد زِيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكره الله: {كَلَّا بَل رَّانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ” قال الترمذي: “هذا حديث صحيح”.
وقال عبد الله بن مسعود: “كلما أذنب، نُكِت في قلبه نكته سوداء، حتى يَسْوَدّ القلب كله” (2).
فأخبر سبحانه أن ذنوبهم التي كسبوها أوجبت لهم رَيْنًا على قلوبهم، فكان سبب الران منهم، وهو خلق الله فيهم، فهو خالق السبب ومسبَّبه، لكن السبب باختيار العبد، والمسبَّب خارج عن قدرته واختياره.
فصل
وأما الغل فقال تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهْيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سُدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سُدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 7 – 9]، قال الفراء: “حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله” (3).
_________
(1) النسائي في “الكبرى” (10179)، والترمذي (3334)، وأخرجه أحمد (7952)، وابن ماجه (4244).
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في “المصنف” (30958)، والبيهقي في “شعب الإيمان” (6809).
(3) “معاني القرآن” (2/ 373).
(1/310)
وقال أبو عبيدة: “منعناهم عن الإيمان بموانع” (1).
ولما كان الغل مانعًا للمغلول من التصرف والتقلب كان الغل الذي على القلب مانعًا من الإيمان.
فإن قيل: فالغل المانع من الإيمان هو الذي في القلب، فكيف ذكر الغل الذي في العنق؟
قيل: لما كان عادة الغل أن يوضع في العنق ناسب ذكره ذكر محله، والمراد به القلب، كقوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13].
ومن هذا قولهم: إثمي في عنقك، وهذا في عنقك.
ومن هذا قوله: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29]، شبّه الإمساك عن الإنفاق باليد إذا غُلّت إلى العنق.
ومن هذا قال الفراء: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا}: “حبسناهم عن الإنفاق”.
قال أبو إسحاق: “وإنما يقال للشيء اللازم: هذا في عنق فلان، أي: لزومه له كلزوم القلادة من بين ما يلبس في العنق” (2).
قال أبو علي: “هذا مثل قولهم: طوّقتك كذا وقلَّدتك كذا، ومنه قلّده السلطان كذا، أي: صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة ومكان
_________
(1) نسبه إليه في “البسيط” (18/ 455).
(2) “معاني القرآن وإعرابه” (3/ 230) بتصرف.
(1/311)
الطوق” (1).
قلت: ومن هذا قولهم: قلّدت فلانًا حكم كذا وكذا، كأنك جعلته طوقًا في عنقه.
وقد سمّى سبحانه التكاليف الشاقّة أغلالًا في قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]، فشبّهها بالأغلال لشدتها وصعوبتها.
قال الحسن: “هي الشدائد التي كانت في العبادة، كقطع أثر البول، وقتل النفس في التوبة (2)، وقطع الأعضاء الخاطئة، وتتبع العروق من اللحم” (3).
وقال ابن قتيبة: “هي تحريم الله سبحانه عليهم كثيرًا مما أطلقه لأمة محمد – صلى الله عليه وسلم -، وجعلها أغلالًا؛ لأن التحريم يمنع، كما يقبض الغل اليد” (4).
وقوله: {فَهْيَ إِلَى الْأَذْقَانِ} قالت طائفة: الضمير يعود على الأيدي وإن لم تذكر؛ لدلالة السياق عليها.
قالوا: لأن الغل يكون في العنق فتُجْمع إليه اليد، ولذلك سُمّي جامِعَة.
وعلى هذا فالمعنى: فأيديهم أو فأيمانهم مضمومة إلى أذقانهم. هذا قول الفرّاء والزجاج.
_________
(1) “الحجة للقراء السبعة” (5/ 89).
(2) “د”: “النفس”، سبق قلم.
(3) لم أقف عليه، ونسبه في “البسيط” (9/ 401) إلى المفسرين، وانظر: “جامع البيان” (10/ 495).
(4) “تأويل مشكل القرآن” (148).
(1/312)
وقالت طائفة: الضمير يرجع إلى الأغلال، وهذا هو الظاهر، وقوله: {فَهْيَ إِلَى الْأَذْقَانِ} أي: واصلة ومَلْزُوزة إليها (1)، فهو غلّ عريض قد أحاط بالعنق حتى وصل إلى الذقن.
وقوله: {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} قال الفراء والزجاج: “المُقْمَح هو الغاضّ بصره بعد رفع رأسه” (2).
ومعنى الإقماح في اللغة: رفع الرأس وغض البصر، يقال: أقمح البعير رأسه، وقمح.
وقال الأصمعي: “بعير قامح إذا رفع رأسه عن الحوض، ولم يشرب” (3).
قال الأزهري: “لما غُلّت أيديهم إلى أعناقهم رَفَعتِ الأغلالُ أذقانَهم ورؤوسهم صعدًا، كالإبل الرافعة رؤوسها” (4)، انتهى.
فإن قيل: فما وجه التشبيه بين هذا وبين حبس القلب عن الهدى والإيمان؟
قيل: أحسن وجه وأبينه؛ فإن الغلّ إذا كان في العنق واليد مجموعة إليها مَنَع اليد عن التصرف والبطش، فإذا كان عريضًا قد ملأ العنق ووصل إلى الذقن مَنَع الرأس من تصويبه، وجعل صاحبه شاخص الرأس منتصبه لا
_________
(1) من لزّ الشيء إذا شدّه وألصقه إليه، “الصحاح” (3/ 894).
(2) “معاني القرآن” للفراء (2/ 373)، “معاني القرآن وإعرابه” للزجاج (4/ 279).
(3) بنحوه في “الأضداد” (16)، وانظر: “غريب الحديث” لأبي عبيد (2/ 303).
(4) “تهذيب اللغة” (4/ 82)، وانظر: “البسيط” (18/ 456).
(1/313)
يستطيع له حركة.
ثم أكد هذا المنع والحبس بقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سُدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سُدًّا} [يس: 9]، قال ابن عباس: “منعهم من الهدى لما سبق في علمه” (1).
والسد الذي جُعِل من بين أيديهم ومن خلفهم هو الذي سدّ عليهم طريق الهدى، فأخبر سبحانه عن الموانع التي منعهم بها من الإيمان عقوبة لهم، ومثّلها أحسن تمثيل وأبلغه، وذلك حال قوم قد وُضِعت الأغلال العريضة الواصلة إلى الأذقان في أعناقهم، وضُمّت أيديهم إليها، وجُعِلوا بين سدين لا يستطيعون النفوذ من بينهما، وأغشيت أبصارهم فهم لا يرون شيئًا.
وإذا تأملت حال الكافر الذي عرف الحق وتبين له، ثم جحده وكفر به وعاداه أعظم معاداة؛ وجدت هذا المثل مطابقًا له أتم مطابقة، وأنه قد حيل بينه وبين الإيمان، كما حيل بين هذا وبين التصرف، والله المستعان.
فصل
وأما القفل، فقال تعالى: {(23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ} [محمد: 24]، قال ابن عباس: “يريد على قلوب هؤلاء أقفال” (2).
وقال مقاتل: “يعني الطبع على القلب” (3).
فكأن القلب بمنزلة الباب المُرْتَج الذي قد ضُرِب عليه قفل، فإنه ما لم
_________
(1) نسبه إليه في “البسيط” (18/ 458).
(2) نسبه إليه في “البسيط” (20/ 255).
(3) “تفسير مقاتل” (4/ 49).
(1/314)
يفتح القفل (1) لا يمكن فتح الباب والوصول إلى ما وراءه، كذلك ما لم يُرفع الختم والقفل عن القلب لم يدخله الإيمان والقرآن.
وتأمل تنكير القلوب وتعريف الأقفال، فإن تنكير القلوب يتضمن إرادة قلوب هؤلاء، وقلوب من هم بهذه الصفة، ولو قال: (أم على قلوبهم) لم تدخل قلوب غيرهم في هذه الجملة.
وفي قوله: {قُلُوبٍ} بالتعريف: نوع تأكيد، فإنه لو قال (أقفال) لذهب الوهم إلى ما يُعْرف بهذا الاسم، فلما أضافها إلى القلوب عُلِم أن المراد بها ما هو للقلب بمنزلة القفل للباب، فكأنه أراد أقفالها المختصة بها التي لا تكون لغيرها، والله أعلم.
فصل
وأما الصمم والوَقْر، ففي قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18]، وقوله: {(22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى} [محمد: 23]، وقوله: {وَلَقَد ذَّرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ (2) بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَهْوَ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ} [فصلت: 44]، قال ابن عباس: “في آذانهم صمم عن استماع القرآن، {وَهْوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} أعمى الله قلوبهم فلا
_________
(1) “م”: “القلب”.
(2) في جميع الأصول: “لا يعقلون”.
(1/315)
يفقهونه، {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ} مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاء ونداء” (1).
وقال مجاهد: “بعيد من قلوبهم” (2).
وقال الفراء: “تقول للرجل الذي لا يفهم كلامك: أنت تُنادَى من مكان بعيد”، قال: “وجاء في التفسير: كأنما ينادون من السماء فلا يسمعون” (3) انتهى.
والمعنى: أنهم لا يسمعون ولا يفهمون، كما أن من دُعي من مكان بعيد لم يسمع ولم يفهم.
فصل
وأما البَكَم فقال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18]، والبُكْم جمع أبكم، وهو الذي لا ينطق، والبَكَم نوعان: بَكَم القلب، وبَكَم اللسان، كما أن النطق نطقان: نطق القلب، ونطق اللسان، وأشدهما بَكَم القلب، كما أن عماه وصممه أشد من عمى العين وصمم الأذن. فوصفهم سبحانه بأنهم لا يفقهون الحق، ولا تنطق به ألسنتهم.
والعلم يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب: من سمعه، وبصره، وقلبه، وقد سُدّت عليهم هذه الأبواب الثلاثة، فسُدّ السمعُ بالصمم، والبصرُ
_________
(1) نسبه إليه في “البسيط” (19/ 470 – 471).
(2) أسنده الطبري (20/ 451).
(3) “معاني القرآن” (3/ 20).
(1/316)
بالعمى، والقلبُ بالبَكَم، ونظيره قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 179]، وقد جمع سبحانه بين الثلاثة في قوله: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [الأحقاف: 26].
فإذا أراد الله سبحانه هداية عبد فتح قلبه وسمعه وبصره، وإذا أراد ضلاله أصمّه وأعماه وأبكمه، وبالله التوفيق.
فصل
وأما الغشاوة فهو غطاء العين، كما قال تعالى: {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23]، وهذا الغطاء سرى إليها من غطاء القلب؛ فإن ما في القلب يظهر على العين من الخير والشر، فالعين مرآة القلب تُظْهِر ما فيه، وأنت إذا أبغضت رجلًا بغضًا شديدًا، وأبغضت كلامه ومجالسته؛ تجد على عينيك غشاوة عند رؤيته ومخاطبته (1)، فتلك أثر البغض والإعراض عنه.
وغُلّظت على الكفار عقوبة لهم على إعراضهم ونفورهم عن الرسول، وجاءت الغشاوة عليها تشعر بالإحاطة على ما تحته كالعمامة.
ولما عَشَوا عن ذكره الذي أنزله صار ذلك العَشَا غشاوة على أعينهم فلا تبصر مواقع الهدى.
_________
(1) “د” “ج”: “ومخالطته”.
(1/317)
فصل
وأما الصدّ فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصَدَّ عَنِ السَّبِيلِ} [غافر: 37]، قرأها أهل الكوفة: {وَصُدَّ} على البناء للمفعول حملًا على (زُيّن)، وقرأ الباقون: {وَصَدَّ} بفتح الصاد، ويحتمل وجهين:
أحدهما: أعرَض، فيكون لازمًا.
والثاني: صَدَّ غيره، فيكون متعديًا.
والقراءتان كالآيتين لا تتناقضان.
وأما الشَدّ على القلب ففي قوله تعالى: {(87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِيَضِلُّوا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 88 – 89]، فهذا الشّد على القلب هو الصدّ والمنع، ولهذا قال ابن عباس: “يريد امنعها” (1)، والمعنى: قسِّها واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان.
وهذا مطابق لما في التوراة، أن الله سبحانه قال لموسى: “اذهب إلى فرعون فإني سَأقسّي قلبه، فلا يؤمن حتى تظهر آياتي وعجائبي بمصر” (2).
وهذا الشَّدُّ والتقسية من كمال عدل الربّ تعالى في أعدائه، جَعَله عقوبة لهم على كفرهم وإعراضهم، كعقوبته لهم بالمصائب، ولهذا كان محمودًا
_________
(1) نسبه إليه في “البسيط” (11/ 295).
(2) انظر: “العهد القديم: سفر الخروج” (الإصحاح 10/ 1).
(1/318)
عليه، وهو حسن منه سبحانه، وأقبح شيء منهم، فإنه عدل منه وحكمة، وهو ظلم منهم وسفه.
فالقضاء والقدر فِعْلُ عادلٍ حكيم غني عليم، يضع الخير والشر في أليق المواضع بهما، والمَقْضي المُقدَّر يكون ظلمًا وجورًا وسفهًا، وهو فِعْلُ جاهلٍ ظالم سفيه.
فصل
وأما الصرف، فقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَت سُّورَة نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 127]، فأخبر سبحانه عن فعلهم وهو الانصراف، وعن فعله فيهم وهو صرف قلوبهم عن القرآن وتدبره؛ لأنهم ليسوا أهلًا له، فالمحلّ غير صالح ولا قابل، فإن صلاحية المحل بشيئين: حسن فهم، وحسن قصد، وهؤلاء قلوبهم لا تفقه، وقصودهم سيئة.
وقد صرَّح سبحانه بهذا في قوله: {(22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ} [الأنفال: 23]، فأخبر سبحانه عن عدم قابلية الإيمان فيهم، وأنهم لا خير فيهم يدخل بسببه الإيمان إلى قلوبهم، فلم يُسْمِعهم سماع إفهام ينتفعون به، وإن سمعوه سماعًا تقوم به عليهم حجته، فسماع الفهم الذي سمعه به المؤمنون لم يحصل لهم.
ثم أخبر سبحانه عن مانع آخر قام بقلوبهم يمنعهم من الإيمان لو أسمعهم هذا السماع الخاص، وهو الكبر والتولي والإعراض، فالأول مانع من الفهم، والثاني مانع من الانقياد والإذعان، فأفهام سيئة وقصود رديئة،
(1/319)
وهذه نسخة الضلال وعَلَمُ الشقاء، كما أن نسخة الهدى وعَلَم السعادة فهمٌ صحيح وقصد صالح، والله المستعان.
وتأمل قوله سبحانه: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}، كيف جعل هذه الجملة الثانية ـ سواء كانت خبرًا أو دعاء ـ عقوبة لانصرافهم، فعاقبهم عليه بصرْفٍ آخر غير الصرْف الأول، فإن انصرافهم كان لعدم إرادته سبحانه ومشيئته لإقبالهم؛ لأنه لا صلاحية فيهم ولا قبول، فلم يشأ لهم الإقبال والإذعان، فانصرفت قلوبهم بما فيها من الجهل والظلم عن القرآن، فجازاهم على ذلك صرفًا آخر غير الصرف الأول، كما جازاهم على زيغ قلوبهم عن الهدى إزاغة أخرى غير الزيغ الأول، كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وهكذا إذا أعرض العبد عن ربه جازاه سبحانه بأن يعرض بقلبه عنه، فلا يمكّنه من الإقبال عليه.
ولتكن قصة إبليس منك على ذكر، تنتفع بها أتمَّ انتفاع، فإنه لما عصى ربّه تعالى ولم ينقد لأمره، وأصرَّ على ذلك؛ عاقبه بأن جعله داعيًا إلى كل معصية، فعاقبه على معصيته الأولى بأصول المعاصي وفروعها، صغيرها وكبيرها، وصار هذا الإعراض والكفر منه عقوبة لذلك الإعراض والكفر السابق، فمن عقاب السيئة السيئة بعدها، كما أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها.
فإن قيل: فكيف يلتئم إنكاره سبحانه عليهم الانصراف والإعراض وهو منه، وقد قال تعالى: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32]، و {فَأَنَّى (1) تُؤْفَكُونَ}
_________
(1) في الأصول الخطية: “أنى”.
(1/320)
[الأنعام: 95]، وقال: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49]، فإذا كان هو الذي صرفهم وجعلهم معرضين ومأفوكين؛ فكيف ينبغي إنكار ذلك عليهم؟!
قيل: هم دائرون بين عدله فيهم وحجته عليهم، فمكّنهم وفتح لهم الباب، ونهج لهم الطريق، وهيَّأ لهم الأسباب، وأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، ودعاهم على ألسنة رسله، وجعل لهم عقولًا تميّز بين الخير والشر، والنافع والضار، وأسباب الرّدى، وأسباب الفلاح، وجعل لهم أسماعًا وأبصارًا، فآثروا الهوى على التقوى، واستحبوا العمى على الهدى، وقالوا: معصيتك آثر عندنا من طاعتك، والشرك بك أحب إلينا من توحيدك، وعبادة سواك أنفع لنا في دنيانا من عبادتك، فأعرضت قلوبهم عن ربهم وخالقهم ومليكهم، وانصرفت عن طاعته ومحبته وتوحيده، وأفكت عن هداه، فلما رآها سبحانه كذلك عدل فيها بأن صرفها، وأعرض بها عنه، وصدَّها عن الإقبال عليه وعن معرفته ومحبته، فهذا عدله فيهم، وتلك حجته عليهم.
فهم سدوا على نفوسهم باب الهدى إرادة منهم واختيارًا، فسدّه عليهم اضطرارًا، فخلاهم وما اختاروا لأنفسهم، وولّاهم ما تولوه، ومكّنهم مما ارتضوه، وأدخلهم من الباب الذي استبقوا إليه، وأغلق عنهم الباب الذي تولوا عنه وهم معرضون، فلا أقبح من فعلهم، ولا أحسن من فعله.
ولو شاء لخلقهم على غير هذه الصفة، ولأنشأهم غير هذه النشأة، ولكنه سبحانه خالق العلو والسُّفل، والنور والظلمة، والنافع والضار، والطيب والخبيث، والملائكة والشياطين، والشاء والذئاب، ومعطيها آلاتها
(1/321)
وصفاتها، وقواها وأفعالها، ومستعملها فيما خُلِقت له، فبعضها بطباعها وبعضها بإرادتها ومشيئتها، وكل ذلك جار على وفق حكمته، وهو موجَب حمده، ومقتضى كماله المقدس وملكه التام، ولا نسبة لما علمه الخلق من ذلك إلى ما خفي عنهم بوجه ما، إن هو إلا كنقرة عصفور من البحر.
فصل
وأما الإغفال فقال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
سُئل أبو العباس ثعلب عن قوله: {أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} فقال: “مَن جعلناه غافلًا، قال: ويكون في الكلام: أغفلته سميته غافلًا، ووجدته غافلًا” (1).
قلت: الغُفْل: الشيء الفارغ، والأرض الغُفْل: التي لا علامة بها، والكتاب الغُفْل: الذي لا شكل عليه، فأغفلناه تركناه غُفْلًا عن الذكر، فارغًا منه، فهو إبقاء له على العدم الأصلي؛ لأنه سبحانه لم يشأ له الذكر، فبقي غافلًا، فالغفلة وصفه، والإغفال فعل الله فيه بمشيئته لغفلته وعدم مشيئته لتذكره، فكل منهما مقتضٍ لغفلته، فإذا لم يشأ له التذكر لم يتذكر، وإذا شاء غفلته امتنع منه التذكر.
فإن قيل: فهل تضاف الغفلة والكفر والإعراض ونحوها إلى عدم مشيئة الربّ أضدادها أم إلى مشيئته لوقوعها؟
_________
(1) انظر: “تهذيب اللغة” (8/ 136)، “البسيط” (13/ 600).
(1/322)
قيل: القرآن قد نطق بهذا وهذا، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41]، وقال: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ} [المائدة: 41]، {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} [الأنعام: 125].
فإن قيل: فكيف يكون عدم السبب المقتضي موجِبًا للأثر؟
قيل: الأثر إن كان وجوديًا فلا بدّ له من مؤثِّر وجودي، وأما العدم فيكفي فيه عدم سببه وموجِبه، فيبقى على العدم الأصلي، فإذا أضيف إليه كان من باب إضافة الشيء إلى دليله، فعدم السبب دليل على عدم المسبَّب، وإذا سُمّي موجِبًا ومقتضيًا بهذا الاعتبار فلا مشاحة في ذلك، وأما أن يكون العدم أثرًا ومؤثّرًا فلا، وهذا الإغفال ترتب عليه اتباع هواه، وتفريطه في أمره.
قال مجاهد: ” {كَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} أي: ضياعًا” (1).
وقال قتادة: “أضاع أكبر الضيعة” (2).
وقال السُّدِّي: “هلاكًا” (3).
وقال أبو الهيثم: “أمرٌ فُرطٌ، أي: متهاون به، مُضيَّع” (4)، والتفريط تقديم العجز.
_________
(1) التفسير المنسوب إليه (447)، وأسنده الطبري (15/ 242).
(2) نسبه إليه في “البسيط” (13/ 600).
(3) نسبه إليه في “البسيط” (13/ 600).
(4) انظر: “تهذيب اللغة” (13/ 332).
(1/323)
قال أبو إسحاق: “من قدم العجز في أمر أضاعه وأهلكه” (1).
قال الليث: “الفُرُط: الأمر الذي تفرّط فيه، تقول: كل أمر فلان فُرُط” (2).
قال الفراء: “فُرُطًا: متروكًا” (3).
ففرّط فيما لا ينبغي التفريط فيه، واتبع ما لا ينبغي اتباعه، وغفل عما لا يحسن الغفلة عنه.
فصل
وأما المرض فقال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10]، وقال: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]، وقال: {إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ} [المدثر: 31].
ومرض القلوب خروجها عن كمال صحتها واعتدالها، فإن صحتها أن تكون عارفة بالحق، محبة له، مؤثرة له على غيره، فمرضها إما بالشك فيه،
_________
(1) كذا نسب المصنف العبارة إلى أبي إسحاق وليست له، بل هي من تعليق الواحدي الذي ينقل عنه المصنف هنا، قال في “البسيط” (13/ 600) بعد أن حكى قول أبي الهيثم: “و [يـ]ـشبه أن يكون أصل هذا من التفريط، وهو تقديم العجز، وهذا بمعنى قول أبي إسحاق. ومن قدّم العجز في أمره أضاعه وأهلكه”، ونص أبي إسحاق: “أي كان أمره التفريط، والتفريط تقديم العجز” “معاني القرآن وإعرابه” (3/ 281).
(2) “العين” (7/ 420).
(3) “معاني القرآن” (2/ 140).
(1/324)
وإما بإيثار غيره عليه، فمرض المنافقين مرض شك وريب، ومرض العصاة مرض غيّ وشهوة، وقد سمَّى الله سبحانه كلًّا منهما بالمرض.
قال ابن الأنباري: “أصل المرض في اللغة: الفساد، مرض فلان فسد جسمه وتغيرت حاله، ومرضت الأرض تغيرت وفسدت” (1).
قالت ليلى الأَخْيَلية:
إذا هبط الحجاج أرضًا مريضة … تتبع أقصى دائها فشفاها (2)
وقال آخر:
ألم تر أن الأرض أضحت مريضة … لفَقْد الحسين (3) والبلاد اقشعرّت (4)
والمرض يدور على أربعة أشياء: فساد، وضعف، ونقصان، وظلمة، ومنه: مَرَّضَ الرجل في الأمر: إذا ضعف فيه ولم يبالغ، وعين مريضة النظر، أي: فاترة ضعيفة، وريح مريضة إذا ضعف هبوبها، كما قال:
راحت لأرْبُعكِ الرياح مريضة (5)
_________
(1) حكاه في “البسيط” (2/ 144)، وفي “الزاهر” (1/ 457) معنى آخر.
(2) “الديوان” جمع عطية (121) من عشرة أبيات في مدح الحجاج، وهي في “الكامل” (1/ 242).
(3) كذا في “البسيط” وعنه المؤلف: “الحسين” ولا يستقيم به الوزن، وفي سائر المصادر: “حسين”.
(4) من قصيدة لسليمان بن قَتّة يرثي الحسين بن علي – رضي الله عنهما -، أنشدها في “نسب قريش” (41)، و”مقاتل الطالبيين” (121).
(5) صدر بيت للبحتري من قصيدة يمدح فيها إسحاق المصعبي، وعجزه:
وأصاب مغناكِ الغمامُ الصِّيّبُ
انظر: “ديوان البحتري” جمع الصيرفي (1/ 72)، و”الصناعتين” (329).
(1/325)
أي: ليّنة ضعيفة حتى لا تعفي أثرَها.
وقال ابن الأعرابي: “أصل المرض النقصان، ومنه بدن مريض: ناقص القوة، وقلب مريض: ناقص الدين، ومَرَّض في حاجتي إذا نقصتْ حركتُه فيها” (1).
وقال الأزهري، عن المنذري، عن بعض أصحابه: المرض إظلام الطبيعة واضطرابها بعد صفائها، قال: والمرض الظلمة، وأنشد:
وليلة مَرِضتْ من كل ناحية … فما يضيء لها شمس ولا قمر (2)
هذا أصله في اللغة، ثم الشك والجهل، والحيرة والضلال، وإرادة الغي، وشهوة الفجور في القلب، تعود إلى هذه الأمور الأربعة، فيتعاطى العبد أسباب المرض حتى يمرض، فيعاقبه الله بزيادة المرض؛ لإيثاره أسبابه وتعاطيه لها.
فصل
وأما تقليب الأفئدة فقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ
_________
(1) انظر: “تهذيب اللغة” (12/ 34).
(2) “تهذيب اللغة” (12/ 34 – 35)، وفيه: “وأنشد أبو العباس”، والمؤلف صادر عن “البسيط” (2/ 146) ومتابع له في هذا.
والبيت لأبي حية النميري في “ديوانه” جمع الجبوري (148)، وفيه: “نجم” بدل “شمس”، والأخيرة رواية الأزهري والواحدي.
(1/326)
يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]، وهذا عطف على {إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109]، أي: نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم تلك الآية فلا يؤمنون.
واختُلِف في قوله: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، فقال كثير من المفسرين: المعنى نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم الآية، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرَّة.
قال ابن عباس في رواية عطاء عنه: “ونقلب أفئدتهم وأبصارهم حتى يرجعوا إلى ما سبق عليهم من علمي، قال: وهذا كقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ} [الأنفال: 24] ” (1).
وقال آخرون: المعنى: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم لتركهم الإيمان به أول مرة، فعاقبناهم بتقليب أفئدتهم وأبصارهم (2). وهذا معنى حسن؛ فإن كاف التشبيه تتضمن نوعًا من التعليل، كقوله: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77]، وقوله: {(150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي} [البقرة: 151 – 152]، والذي حَسَّن اجتماع التعليل والتشبيه الإعلامُ بأن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر.
والتقليب: تحويل الشيء من وجه إلى وجه، وكان الواجب من مقتضى
_________
(1) نسبه إليه في “البسيط” (8/ 358).
(2) انظر: “البسيط” (8/ 362).
(1/327)
إنزال الآية ووصولها إليهم كما سألوا أن يؤمنوا إذا جاءتهم؛ لأنهم رأوها عيانًا وعرفوا دلالتها، وتحققوا صدقها، فإذا لم يؤمنوا كان ذلك تقليبًا لقلوبهم وأبصارهم عن وجهها الذي ينبغي أن تكون عليه.
وقد روى مسلم في “صحيحه” (1) من حديث عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد يصرفه كيف يشاء”، ثم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “اللهم مصرّف القلوب، صرف قلوبنا على طاعتك”.
وروى الترمذي (2) من حديث أنس، قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يكثر أن يقول: “يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك”، فقلت: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: “نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله، يقلبها كيف يشاء”، قال: “هذا حديث حسن”.
وروى حماد، عن أيوب وهشام ويعلى (3) بن زياد، عن الحسن قال: قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: دعوة كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يكثر أن يدعو بها: “يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك”، فقلت: يا رسول الله، دعوة كثيرًا ما تدعو بها! قال: “إنه ليس من عبد إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله، فإذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه” (4).
_________
(1) برقم (2654).
(2) برقم (2140)، وأخرجه أحمد (12107)، وصححه الحاكم (1927).
(3) كذا في الأصول: “أيوب وهشام ويعلى”، صوابه: “يونس وهشام ومعلّى” كما في مصادر التخريج.
(4) أخرجه أحمد (24604)، والنسائي في “الكبرى” (7690)، والآجري في “الشريعة” (321)، وفي سماع الحسن من عائشة كلام، كما في “تحفة التحصيل” (74)، لكن الحديث يصح بما قبله من شواهد.
(1/328)
وقوله: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}، قال ابن عباس: “أخذُلُهم وأدعهم في ضلالتهم يتمادون” (1).
فصل
وأما إزاغة القلوب، فقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وقال عن عباده المؤمنين أنهم سألوه: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8].
وأصل الزيغ الميل، ومنه زاغت الشمس إذا مالت، فإزاغة القلب إمالته، وزيغه ميله عن الهدى إلى الضلال، والزيغ يوصف به القلب والبصر، كما قال تعالى: {وَإِذ زَّاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10].
قال قتادة ومقاتل: “شَخَصتْ فَرَقًا” (2)، وهذا تقريب للمعنى؛ فإن الشخوص غير الزيغ، وهو أن يفتح عينيه ينظر إلى الشيء فلا يطرف، ومنه شَخَص بصرُ الميت.
ولما مالت الأبصار عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى هؤلاء الذين أقبلوا إليهم من كل جانب؛ اشتغلت عن النظر إلى شيء آخر فمالت عنه، وشخصت بالنظر إلى الأحزاب.
_________
(1) أخرجه مختصرًا الطبري (1/ 323)، وابن أبي حاتم في “التفسير” (149)، وهو بنصه في “البسيط” (8/ 363).
(2) أخرجه عن قتادة بنحوه الطبري (19/ 35)، وهو في “تفسير مقاتل” (3/ 476).
(1/329)
قال الكلبي: “مالت أبصارهم إلا من النظر إليهم” (1).
وقال الفراء: “زاغت عن كل شيء، فلم تلتفت إلا إلى عدوها متحيّرة تنظر إليه” (2).
قلت: القلب إذا امتلأ رعبًا شغله ذلك عن ملاحظة ما سوى المَخُوف، فزاغ البصر عن الوقوع عليه وهو مقابِلُه.
فصل
وأما الخذلان، فقال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 160]، وأصل الخذلان: الترك والتخلية، ويقال للبقرة والشاة إذا تخلّفت مع ولدها في المرعى، وتركت صواحباتها: خَذُول.
قال محمد بن إسحاق في هذه الآية: “إن ينصرك الله فلا غالب لك من الناس، ولن يضرك خذلان من خذلك، وإن يخذلك فلن ينصرك الناس، أي: لا تترك أمري للناس، وارفضِ الناسَ لأمري” (3).
فالخذلان أن يخلّي الله تعالى بين العبد وبين نفسه ويكله إليها، والتوفيق ضده: أن لا يدعه ونفسه ولا يكله إليها، بل يصنع له ويلطف به، ويعينه ويدفع عنه، ويكلؤه كلاءة الوالد الشفيق للولد العاجز عن نفسه، فمن خلّى بينه وبين نفسه، فقد هلك كل الهلاك.
_________
(1) نسبه إليه في “البسيط” (18/ 186).
(2) “معاني القرآن” (2/ 336).
(3) أسنده ابن المنذر في “التفسير” (1123)، وانظر: “سيرة ابن هشام” (3/ 159).
(1/330)
ولهذا كان من دعائه – صلى الله عليه وسلم -: “يا حيّ، يا قيوم، يا بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك” (1).
فالعبد مطروح بين الله وبين عدوه إبليس، فإن تولاه الله لم يظفر به عدوه، وإن خذله وأعرض عنه افترسه الشيطان كما يفترس الذئبُ الشاةَ إذا خلّى الراعي بينه وبينها، فالشيطان ذئب الإنسان.
فإن قيل: فما ذنب الشاة إذا خلّى الراعي بين الذئب وبينها، وهل يمكنها أن تقوى على الذئب وتنجو منه؟
قيل: لعمر الله، إن الشيطان ذئب الإنسان كما قاله الصادق المصدوق، ولكن لم يجعل الله لهذا الذئب اللعين على هذه الشاة سلطانًا مع ضعفها، فإذا أعطت بيدها، وسالمت الذئب، ودعاها فلبت دعوته، وأجابت أمره ولم تتخلف، بل أقبلت نحوه سريعة مطيعة، وفارقت حمى الراعي الذي ليس للذئاب عليه سبيل، ودخلت في محل الذئاب الذي من دخله كان صيدًا لهم، فهل الذنب كل الذنب إلا للشاة، فكيف والراعي يحذّرها، ويخوّفها وينذرها، وقد أراها مصارع الشَّاء التي انفردت عن الراعي، ودخلت وادي الذئاب.
قال أحمد بن مروان المالكي في كتاب “المجالسة” (2): “سمعت ابن
_________
(1) لم أقف عليه بهذا السياق، وأخرجه مختصرًا النسائي في “الكبرى” (10330)، والبزار (6368) بإسناد جيد من طريق عثمان بن موهب عن أنس بن مالك، وصححه الحاكم (2000).
(2) (5/ 193)، من طريق ابن أبي الدنيا في “الإشراف في منازل الأشراف” (397).
(1/331)
أبي الدنيا يقول: إن لله سبحانه من العلوم ما لا يحصى، يعطي كل واحد من ذلك ما لا يعطي غيره.
لقد حدثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن سعيد الطائي، ثنا عبد الله بن بكر السهمي، عن أبيه: أن قومًا كانوا في سفر، فكان فيهم رجل يمر الطائر فيقول: أتدرون ما تقول هذه؟ فيقولون: لا. فيقول: تقول كذا وكذا. فيحيلنا على شيء لا ندري أصادق هو أم كاذب.
إلى أن مروّا على غنم وفيها شاة قد تخلّفت على سَخْلة لها، فجعلت تحنو عنقها إليها وتثغو، فقال: أتدرون ما تقول هذه الشاة؟ قلنا: لا. قال: تقول للسَّخْلة: الحقي، لا يأكلك الذئب كما أكل أخاك عام أول في هذا المكان. قال: فانتهينا إلى الراعي، فقلنا له: ولدت هذه الشاة قبل عامك هذا؟ قال: نعم، ولدت سَخْلة عام أول، فأكلها الذئب بهذا المكان.
ثم أتينا على قوم فيهم ظعينة على جمل لها، وهو يرغو ويحنو عنقه إليها، فقال: أتدرون ما يقول هذا البعير؟ قلنا: لا. قال: فإنه يلعن راكبته، ويزعم أنها رحلته على مِخْيَط، وهو في سنامه. قال: فانتهينا إليهم، فقلنا: يا هؤلاء، إن صاحبنا هذا يزعم أن هذا البعير يلعن راكبته، ويزعم أنها رحلته على مِخْيَط، وأنه في سنامه. قال: فأناخوا البعير، وحَطّوا عنه، فإذا هو كما قال”.
فهذه شاة قد حذَّرت سَخْلتها من الذئب مرة فحذرت، وقد حذر الله سبحانه ابن آدم من ذئبه مرة بعد مرة، وهو يأبى إلا أن يستجيب له إذا دعاه، ويبيت معه ويصبح، {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ
(1/332)
فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ أَشْرَكْتُمُونِ أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ} [إبراهيم: 22].
فصل
وأما الإركاس، فقال تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 88]، قال الفرَّاء: “أركسهم: رَدَّهم إلى الكفر” (1).
قال أبو عبيدة (2): “يقال: ركست الشيء وأركسته ــ لغتان ــ إذا رددته” (3).
والرَّكْس قلب الشيء على رأسه (4)، أو رَدُّ أوله على آخره، والارتكاس: الارتداد، قال أمية:
فأركسوا في حميم النار إنهم … كانوا عصاة وقالوا الإفك والزورا (5)
ومن هذا يقال للروث: الرِّكْس؛ لأنه رُدّ إلى حال النجاسة، ولهذا
_________
(1) “معاني القرآن” (1/ 281).
(2) كذا في الأصول: “أبو عبيدة”، متابعة لما في “البسيط” (7/ 28)، صوابه: “أبو عبيد”.
(3) “غريب الحديث” (1/ 275).
(4) “م”: “نفسه”.
(5) البيت بهذا الوزن وهذه الألفاظ في “جامع البيان” (7/ 281)، و”البسيط” (7/ 128)، وانظر: “ديوان أمية” صنعة السطلي (408).
(1/333)
المعنى سمّي رجيعًا، والرَّكْس والنَّكْس والمركوس (1) والمنكوس بمعنى واحد.
قال الزَّجّاج: “أركسهم: نكّسهم وردهم” (2).
والمعنى: أنه ردهم إلى حكم الكفار من الذلّ والصغار، وأخبر سبحانه عن حكمه وقضائه فيهم وعدله، وأن إركاسهم كان بسبب كسبهم وأعمالهم، كما قال: {كَلَّا بَل رَّانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14].
فهذا توحيده وهذا عدله، لا ما تقوله القدرية المعطلة أن التوحيد إنكار الصفات، والعدل التكذيب بالقدر.
فصل
وأما التثبيط، فقال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46]، والتثبيط ردّ الإنسان عن الشيء الذي يفعله.
قال ابن عباس: “يريد خذلهم وكسّلهم عن الخروج” (3).
وقال في رواية أخرى: “حَبَسهم” (4).
قال مقاتل: “وأوحى إلى قلوبهم: اقعدوا مع القاعدين” (5).
_________
(1) من قوله: “لأنه رد” إلى هنا ساقط من “م”.
(2) “معاني القرآن” (2/ 88).
(3) نسبه إليه في “البسيط” (10/ 462).
(4) أخرجها ابن أبي حاتم في “التفسير” (10087).
(5) بمعناه في “تفسير مقاتل” (2/ 173).
(1/334)
وقد بَيَّن سبحانه حكمته في هذا التثبيط والخذلان قبل وبعد، فقال: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ} ـ يعني: في التخلف عنك ـ {الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 45 – 46].
فلما تركوا الإيمان به وبلقائه وارتابوا بما لا ريب فيه، ولم يريدوا الخروج في طاعته، ولم يستعدوا له، ولا أخذوا أهبة ذلك؛ كره سبحانه انبعاث من هذا شأنه؛ فإن من لم يرفع به وبرسوله وكتابه رأسًا، ولم يقبل هديته التي أهداها إليه على يد أحب خلقه إليه وأكرمهم عليه، ولم يعرف قدر هذه النعمة ولا شكرها، بل بدّلها كفرًا؛ فإن طاعة هذا وخروجه مع رسوله يكرهها الله سبحانه، فثبّطه لئلا يقع ما يكره من خروجه، وأوحى إلى قلبه قدرًا وكونًا أن يقعد مع القاعدين.
ثم أخبر سبحانه عن الحكمة التي تتعلق بالمؤمنين في تثبيط هؤلاء عنهم، فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة: 47]، والخبال: الفساد والاضطراب، فلو خرجوا مع المؤمنين لأفسدوا عليهم أمرهم، وأوقعوا بينهم الاضطراب والاختلاف.
قال ابن عباس: “ما زادوكم إلا خبالًا: عجزًا وجبنًا” (1).
يعني: يجبنونهم عن لقاء العدو بتهويل أمرهم عليهم وتعظيمهم في صدورهم.
_________
(1) حكاه عنه في “البسيط” (10/ 465).
(1/335)
ثم قال: {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ} أي: أسرعوا في الدخول بينكم للتضريب والإفساد.
قال ابن عباس: “يريد أضعفوا شجاعتكم” (1)، يعني بالتضريب بينهم لِتَفَرّق الكلمة فيجبنوا عن العدو.
وقال الحسن: “لأوضعوا خلالكم بالنميمة لإفساد ذات البين” (2).
وقال الكلبي: “ساروا بينكم يبغونكم العَنَت” (3).
قال لبيد (4):
أرانا مُوضِعِين لحَتْم غيبٍ … ونُسْحَرُ بالطعام وبالشّراب (5)
أي: مسرعين.
ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
تَبَالَهْنَ بالعرفان لما عَرَفْنَني … وقُلْنَ امرؤٌ باغٍ أكَلَّ وأوضعا (6)
_________
(1) حكاه عنه في “البسيط” (10/ 469).
(2) حكاه عنه الجصاص في “أحكام القرآن” (4/ 320).
(3) أورده الثعلبي في “الكشف والبيان” (5/ 51)، والواحدي في “البسيط” (10/ 469)، ووقع في “ج” وبعض المصادر: “يبغونكم العيب”، والمثبت من “م”.
(4) كذا في الأصول منسوبًا إلى “لبيد”، متابعة لما في “البسيط” (10/ 467)، والأشهر نسبته إلى امرئ القيس كما سيأتي.
(5) أنشده لامرئ القيس في “الجمهرة” (1/ 511)، وفي “الزاهر” (1/ 79)، وهو في “الديوان” بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (97).
(6) أنشده له في “الكامل” (3/ 78)، والقالي في “الأمالي” (2/ 05)، وهو في “الديوان” بشرح محيي الدين (171).
(1/336)
أي: أسرع حتى كلَّت مطيته.
{يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}، قال قتادة: “وفيكم من يسمع كلامهم ويطيعهم” (1).
وقال ابن إسحاق: “وفيكم قوم أهل محبة لهم، وطاعة فيما يدعونهم إليه؛ لشرفهم فيهم” (2).
ومعناه على هذا القول: وفيكم أهل سمع وطاعة لهم، لو صحبهم هؤلاء المنافقون أفسدوهم عليكم.
قلت: فتضمن “سمَّاعين” معنى مستجيبين.
وقال مجاهد وابن زيد والكلبي: “المعنى: وفيكم عيون لهم، ينقلون إليهم ما يسمعون منكم” (3)، أي: جواسيس.
والقول هو الأول، كما قال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة: 41]، أي: قابلون له، ولم يكن في المؤمنين جواسيس للمنافقين؛ فإن المنافقين كانوا مختلطين بالمؤمنين ينزلون معهم، ويرحلون ويصلون معهم ويجالسونهم، ولم يكونوا متحيزين عنهم قد أرسلوا فيهم العيون ينقلون إليهم أخبارهم؛ فإن هذا إنما يفعله من انحاز عن طائفة ولم يخالطها،
_________
(1) أسنده الطبري (11/ 486).
(2) أسنده الطبري (11/ 486)، وانظر: “سيرة ابن هشام” (2/ 549).
(3) أسند معناه في “جامع البيان” (11/ 486) عن مجاهد وابن زيد، ونسبه إلى الكلبي في “البسيط” (10/ 474).
(1/337)
وأرصد بينهم عيونًا له، فالقول قول قتادة وابن إسحاق، والله أعلم.
فإن قيل: انبعاثهم إلى طاعته طاعة له، فكيف يكرهها؟ وإذا كان سبحانه يكرهها، فهو يحب ضدّها لا محالة؛ إذ كراهة أحد الضدّين تستلزم محبة الضدّ الآخر، فيكون قعودهم محبوبًا له، فكيف يعاقبهم عليه؟
قيل: هذا سؤال له شأن، وهو من أكبر الأسئلة في هذا الباب، وأجوبة الطوائف عنه على حسب أصولهم.
فالجبرية تجيب عنه بأن أفعاله لا تُعَلّل بالحِكَم والمصالح، وكل ممكن فهو جائز عليه، ويجوز أن يعذبهم على فعل ما يحبّه ويرضاه، وترك ما يبغضه ويسخطه، والجميع بالنسبة إليه سواء، وهذه الفرقة قد سدّت على أنفسها باب الحكمة والتعليل.
والقدرية تجيب عنه على أصولها بأنه سبحانه لم يثبّطهم حقيقة ولم يمنعهم، بل هم منعوا أنفسهم، وثبّطوها عن الخروج، وفعلوا ما لا يريد، ولما كان في خروجهم المفسدة التي ذكرها الله سبحانه ألقى في نفوسهم كراهة الخروج مع رسوله.
قالوا: وجعل سبحانه إلقاء كراهة الانبعاث في قلوبهم كراهة منه لذلك، من غير أن يكره هو سبحانه انبعاثهم؛ فإنه أمرهم به، قالوا: وكيف يأمرهم بما يكرهه؟
ولا يخفى على من نوّر الله بصيرته فساد هذين الجوابين، وبُعدهما من دلالة القرآن.
فالجواب الصحيح: أنه سبحانه أمرهم بالخروج طاعة له ولأمره،
(1/338)
واتباعًا لرسوله – صلى الله عليه وسلم – ونصرة له وللمؤمنين، وأحب ذلك منهم ورضيه لهم دينًا، وعلم سبحانه أن خروجهم لو خرجوا لم يقع على هذا الوجه، بل يكون خروجهم خروج خذلان لرسوله وللمؤمنين، فكان خروجًا يتضمن خلاف ما يُحبّه ويرضاه، ويستلزم وقوع ما يكرهه ويبغضه، وكان مكروهًا له من هذا الوجه، ومحبوبًا له من الوجه الذي خرج عليه أولياؤه، وهو يعلم أنه لا يقع منهم إلا على الوجه المكروه إليه، فكرهه وعاقبهم على ترك الخروج الذي يُحبه ويرضاه، لا على ترك الخروج الذي يبغضه ويسخطه، وعلى هذا فليس الخروج الذي كرهه منهم طاعة، حتى لو فعلوه لم يثبهم عليه، ولم يرضه منهم.
وهذا الخروج المكروه له ضدّان:
أحدهما: الخروج المرضي المحبوب، وهذا الضدّ هو الذي يُحبّه.
والثاني: التخلف عن رسوله والقعود عن الغزو معه، وهذا الضدّ يبغضه ويكرهه أيضًا، وكراهته للخروج على الوجه الذي كانوا يخرجون عليه لا ينافي كراهته لهذا الضدّ، فقول السائل: قعودهم يكون محبوبًا له ليس بصحيح، بل قعودهم مبغوض له.
ولكن ههنا أمران مكروهان له سبحانه، وأحدهما أكره إليه من الآخر؛ لأنه أعظم مفسدة: فإن قعودهم مكروه له، وخروجهم على الوجه الذي ذكره أكره إليه، ولم يكن لهم بدّ من أحد المكروهين إليه سبحانه، فَدَفَع المكروه الأعلى بالمكروه الأدنى؛ فإن مفسدة قعودهم عنه أصغر من مفسدة خروجهم معه؛ فإن مفسدة قعودهم تختص بهم، ومفسدة خروجهم تعود على المؤمنين. فتأمل هذا الموضع.
(1/339)
فإن قلتَ: فهلّا وفَّقَهم للخروج الذي يحبّه ويرضاه، وهو الذي خرج عليه المؤمنون؟
قلتُ: قد تقدم جواب مثل هذا السؤال مرارًا، وأن حكمته سبحانه تأبى أن يضع التوفيق في غير محله وعند غير أهله، فالله أعلم حيث يجعل هداه وتوفيقه وفضله، وليس كل محلّ يصلح لذلك، ووضع الشيء في غير محله لا يليق بحكمته.
فإن قلتَ: وعلى ذلك: فهلّا جعل المَحالّ كلها صالحة؟
قلتُ: يأباه كمال ربوبيته وملكه، وظهور آثار أسمائه وصفاته في الخلق والأمر، وهو سبحانه لو فعل ذلك لكان محبوبًا له؛ فإنه يحب أن يُذكر ويُشكر ويُطاع ويُوحّد ويُعبد، ولكن كان ذلك يستلزم فوات ما هو أحب إليه من استواء أقدام الخلائق في الطاعة والإيمان، وهو محبته لجهاد أعدائه والانتقام منهم، وإظهار قدر أوليائه وشرفهم، وتخصيصهم بفضله، وبَذْل نفوسهم له في معاداة من عاداه، وظهور عزته وقدرته وسطوته، وشدّة أخذه، وأليم عقابه، وأضعاف أضعاف هذه الحكم التي لا سبيل للخلق ــ ولو تناهوا في العلم والمعرفة ــ إلى الإحاطة بها، ونسبة ما عقلوه منها إلى ما خفي عنهم كنقرة عصفور في بحر.
فصل
وأما التزيين، فقال تعالى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: 108]، وقال: {(7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَأَىهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر: 8]، وقال: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43]،
(1/340)
فأضاف التزيين إليه سبحانه خلقًا ومشيئة، وحذف فاعله تارة، ونسبه إلى سببه (1) ومن أجراه على يده تارة، وهذا التزيين منه سبحانه حسن؛ إذ هو (2) ابتلاء واختبار لعبيده؛ ليتميز المطيع منهم من العاصي، والمؤمن من الكافر، كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]، وهو من الشيطان قبيح.
وأيضًا فتزيينه سبحانه للعبد عمله السيئ عقوبة منه له على إعراضه عن توحيده وعبوديته، وإيثاره سيئ العمل على حَسَنِه؛ فإنه لابدّ أن يُعرّفه سبحانه السيئ من الحسن، فإذا آثر القبيح، واختاره وأحبَّه ورضيه لنفسه زيّنه سبحانه له، وأعماه عن رؤية قبحه بعد أن رآه قبيحًا، وكل ظالم وفاجر وفاسق لابد أن يريه الله تعالى ظلمه وفجوره وفسقه قبيحًا، فإذا تمادى عليه ارتفعت رؤية قبحه من قلبه، فربما رآه حسنًا عقوبة له؛ فإنه إنما يكشف له عن قبحه بالنور الذي في قلبه، وهو حجة الله عليه، فإذا تمادى في غيّه وظلمه ذهب ذلك النور، فلم ير قبحه في ظلمات الجهل والفسوق والظلم.
ومع هذا فحجة الله قائمة عليه بالرسالة، وبالتعريف الأول، فتزيين الربّ تعالى عدل، وعقوبته حكمة، وتزيين الشيطان إغواء وظلم، وهو السبب الخارج عن العبد، والسبب الداخل فيه حبّه وبغضه وإعراضه، والرب سبحانه خالق الجميع، والجميع واقع بمشيئته وقدرته، ولو شاء لهدى خلقه أجمعين، والمعصوم من عصمه الله، والمخذول من خذله الله، {لَهُ الْخَلْقُ
_________
(1) “د”: “مشيئته” مهملة، “م”: “سنته”، والمثبت من “ج” مطابق للسياق.
(2) “د”: “منه سبحانه جزاء، وهو ابتلاء”.
(1/341)
وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54].
فصل
وأما عدم مشيئته سبحانه وإرادته، فكما قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41]، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، وعدم مشيئته للشيء مستلزم لعدم وجوده، كما أن مشيئته له تستلزم وجوده، فما شاء الله وجب وجوده، وما لم يشأ امتنع وجوده.
وقد أخبر الله سبحانه أن العباد لا يشاؤون إلا بعد مشيئته، ولا يفعلون إلا بعد مشيئته، فقال: {وَمَا يَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]، وقال: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: 56].
فإن قيل: فهل يكون الفعل مقدورًا للعبد في حال عدم مشيئة الله له أن يفعله؟
قيل: إن أريد بكونه مقدورًا: سلامة آلة العبد التي يتمكّن بها من الفعل، وصحة أعضائه، ووجود قواه، وتمكينه من أسباب الفعل، وتعريفه طريق فعله، وفتح الطريق له= فنعم، هو مقدور بهذا الاعتبار.
وإن أريد بكونه مقدورًا: القدرة المقارِنة للفعل، وهي الموجِبة له، التي إذا وجدت لم يتخلف عنها الفعل؛ فليس بمقدور بهذا الاعتبار.
وتقرير ذلك أن القدرة نوعان:
قدرة مُصَحِّحة، وهي قدرة الأسباب والشروط وسلامة الآلة، وهي
(1/342)
مناط التكليف، وهذه متقدمة على الفعل غير موجِبة له.
وقدرة مقارِنة للفعل مستلزِمة له، لا يتخلف الفعل عنها، وهذه ليست شرطًا في التكليف، فلا تتوقّف صحته وحسنه عليها، فإيمان من لم يشأ الله إيمانه، وطاعة من لم يشأ طاعته مقدور بالاعتبار الأول، غير مقدور بالاعتبار الثاني.
وبهذا التحقيق تزول الشبهة في تكليف ما لا يُطاق، كما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
فإذا قيل: هل خَلَق لمن علم أنه لا يؤمن قدرة على الإيمان، أم لم يخلق له قدرة؟
قيل: خَلَق له قدرة مُصَحِّحة متقدِّمة على الفعل، هي مناط الأمر والنهي، ولم يخلق له قدرة موجِبة للفعل مستلزِمة له، لا يتخلّف عنها، فهذه فضله يؤتيه من يشاء، وتلك عدله التي تقوم بها حجته على عبده.
فإن قيل: فهل يمكنه الفعل ولم تُخْلَق له هذه القدرة؟
قيل: هذا هو السؤال السابق بعينه، وقد عرفت جوابه، وبالله التوفيق.
فصل
وأما إماتة قلوبهم، ففي قوله: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80]، وقوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]، وقوله: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس: 70]، وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22]، فوصف
(1/343)
الكافر بأنه ميت، وأنه بمنزلة أصحاب القبور، وذلك أن القلب الحيّ هو الذي يعرف الحق ويقبله ويحبه ويؤثره على غيره، فإذا مات القلب لم يبق فيه إحساس ولا تمييز بين الحق والباطل، ولا إرادة (1) للحق وكراهة للباطل، بمنزلة الجسد الميت الذي لا يحسّ بلذة الطعام والشراب وألم فقدهما.
ولذلك (2) وصف سبحانه كتابه ووحيه بأنه روح؛ لحصول حياة القلب به، فيكون القلب حيًّا، ويزداد حياة بروح الوحي، فيحصل له حياة على حياة، ونور على نور، نور الوحي على نور الفطرة، قال تعالى: {الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ} [غافر: 15]، وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]، فجعله روحًا لما يحصل به من الحياة، ونورًا لما يحصل به من الهدى والإضاءة، وذلك نور وحياة زائد على نور الفطرة وحياتها، فهو نور على نور، وحياة على حياة.
ولهذا يضرب سبحانه لمن عدم ذلك مثلًا بمستوقد النار التي ذهب عنه ضوؤها، وبصاحب الصَّيِّب الذي كان حظّه منه الصواعق والظلمات والرعد والبرق، فلا استنار بما أوقد من النار، ولا حيي بما في الصَّيِّب من الماء.
وكذلك ضرب هذين المثلين في “سورة الرعد” لمن استجاب له، فحصل على الحياة والنور، ولمن لم يستجب له وكان حظه الموت
_________
(1) “د”: “لذاذة”.
(2) عدا “م”: “وكذلك”.
(1/344)
والظُّلمة، وأخبر عمن أمسك عنه نوره بأنه في الظلمة ليس له من نفسه نور، فقال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دِرِّيءٌ تَوَقَّدَ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) (1)} [النور: 35].
ثم ذكر من أمسك عنه هذا النور، ولم يجعله له، فقال: {(38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ يَحْسِبُهُ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ} [النور: 39 – 40].
وفي “المسند” من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل”، فلذلك أقول: جفّ القلم على علم الله (2).
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39]. وهذه الظلمات ضدّ الأنوار التي يتقلب فيها المؤمن، فإن نور الإيمان في قلبه، ومدخله نور، ومخرجه نور، وعمله نور، ومشيه في الناس بالنور، وكلامه نور، ومصيره إلى النور. والكافر بالضدّ.
_________
(1) قوله تعالى: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)} من “م”.
(2) تقدم تخريجه في (23).
(1/345)
ولما كان النور من أسمائه سبحانه وصفاته كان دينه نورًا، ورسوله نورًا، وكلامه نورًا، وداره نورًا تتلألأ، والنور يتوقد في قلوب عباده المؤمنين، ويجري على ألسنتهم، ويظهر على وجوههم.
وكذلك لما كان الإيمان صفته، واسمه المؤمن؛ لم يعطه إلا أحبّ خلقه إليه. وكذلك الإحسان صفته وهو المحسن، ويحب المحسنين، وهو صابر يحب الصابرين، شاكر يحب الشاكرين، عفو يحب أهل العفو، حيِيّ يحب أهل الحياء، سِتّير يحب أهل الستر، قوي يحب أهل القوة من المؤمنين، عليم يحب أهل العلم من عباده، جواد يحب أهل الجود، جميل يحب المتجمّلين، بَرّ يحب الأبرار، رحيم يحب الرحماء، عدل يحب أهل العدل، رشيد يحب أهل الرشد، وهو الذي جعل من يحبّه من خلقه كذلك، وأعطاه من هذه الصفات ما شاء، وأمسكها عمن يبغضه، وجعله على أضدادها، فهذا عدله، وذلك فضله، والله ذو الفضل العظيم.
فصل
وأما جعله القلب قاسيًا، فقال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13]، والقسوة: الشدّة والصلابة في كل شيء، يقال: حجر قاس، وأرض قاسية لا تنبت شيئًا.
قال ابن عباس: “قاسية عن الإيمان”.
وقال الحسن: “طبع عليها” (1).
_________
(1) نسبه إليهما في “البسيط” (7/ 303).
(1/346)
والقلوب ثلاثة: قلب قاس، وهو اليابس الصلب الذي لا يقبل صورة الحق، ولا تنطبع فيه ليبسه. وضده القلب الليّن المتماسك، وهو السليم من المرض، الذي يقبل صورة الحق بلينه، ويحفظها بتماسكه، بخلاف المريض الذي لا يحفظ ما ينطبع فيه؛ لميعانه ورخاوته، كالمائع الذي إذا طَبعتَ فيه الشيء قَبِل صورته بما فيه من اللِّيْن، ولكن رخاوته تمنعه من حفظها، فخير القلوب الصلب الصافي الليْن، فهو يرى الحق بصفائه، ويقبله بلينه، ويحفظه بصلابته.
وفي “المسند” (1) وغيره عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: “القلوب آنية الله في أرضه، فأحبها إليه أصلبها وأرقّها وأصفاها”.
وقد ذكر سبحانه أنواع القلوب في قوله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 53 – 54]، فذكر القلب المريض وهو الضعيف المنحل الذي لا تثبت فيه صورة الحق، والقلب القاسي اليابس الذي لا يقبلها ولا تنطبع فيه، فهذان القلبان شقيّان معذّبان.
_________
(1) لم أقف عليه في “المسند”.
وقد روي هذا الأثر مرفوعًا وموقوفًا ومقطوعًا: فأخرجه مرفوعًا الطبراني في “مسند الشاميين” (840) من حديث أبي عِنَبة الخولاني بإسناد جيد، وله شاهد في “الزهد” (830) عن أبي أمامة، وهو في “جزء الدراج” (99) موقوفًا على أبي عنبة، ومقطوعًا على خالد بن معدان في “الزهد” (2264)، انظر: “فيض القدير” (2/ 496)، “الصحيحة” (1691).
(1/347)
ثم ذكر القلب المُخْبِت المطمئن إليه، وهو الذي ينتفع بالقرآن ويزكو به.
قال الكلبي: ” {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} فترق للقرآن قلوبهم” (1).
وقد بيّن سبحانه حقيقة الإخبات ووصف المُخْبِتين في قوله: {الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)} [الحج: 34 – 35].
فذكر للمُخْبِتين أربع علامات: وَجَل قلوبهم عند ذكره ـ والوَجَل: خوفٌ مقرون بهيبة ومحبّة ـ، وصبرهم على أقداره، وإتيانهم بالصلاة قائمة الأركان ظاهرًا وباطنًا، وإحسانهم إلى عباده بالإنفاق مما آتاهم، وهذا إنما يتأتّى للقلب المُخْبِت.
قال ابن عباس: “المُخْبِتين: المتواضعين” (2).
وقال مجاهد: “المطمئنّين إلى الله” (3).
وقال الأخفش: “الخاشعين” (4).
_________
(1) حكاه عنه في “البسيط” (15/ 472).
(2) نسبه إليه الثعلبي في “الكشف والبيان” (7/ 22)، وعلّقه البخاري في “الصحيح” (6/ 97) عن سفيان بن عيينة، وأسنده عبد الرزاق في “التفسير” (2/ 38) عن قتادة ومجاهد.
(3) أسنده في “جامع البيان” (16/ 551)، وهو في “تفسير مجاهد” (481).
(4) حكاه عنه في “الكشف والبيان” (7/ 22).
(1/348)
وقال ابن جرير: “الخاضعين” (1).
قال الزَّجّاج: “اشتقاقه من الخَبْت وهو المنخفض من الأرض، فكل مُخْبِت متواضع، فالإخبات سكون الجوارح على وجه التواضع والخشوع لله تعالى” (2).
فإن قيل: فإذا كان معناه التواضع والخشوع، فكيف عُدّي بـ “إلى” في قوله: {وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [هود: 23]؟
قيل: ضُمِّن معنى: أنابوا واطمأنوا وتابوا، وهذه عبارات السلف في هذا الموضع.
والمقصود: أن القلب المُخْبِت ضدّ القاسي والمريض، وهو سبحانه الذي جعل بعض القلوب مُخْبِتًا إليه، وبعضها مريضًا، وبعضها قاسيًا، وجعل للقسوة آثارًا، وللإخبات آثارًا.
فمن آثار القسوة: تحريف الكلم عن مواضعه، وذلك من سوء الفهم وسوء القصد، وكلاهما ناشئ عن قسوة القلب، ومنها نسيان ما ذُكّر به، وهو تَرْك ما أُمرَ به علمًا وعملًا، ومن آثار الإخبات وجَل القلوب لذكره سبحانه، والصبر على أقداره، والإخلاص في عبوديته، والإحسان إلى خلقه.
فصل
وأما تضييق الصدر وجعله حرجًا لا يقبل الإيمان، فقال تعالى: {فَمَنْ
_________
(1) “جامع البيان” (16/ 550).
(2) “معاني القرآن وإعرابه” (3/ 427).
(1/349)
يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125]، والحرج: هو الشديد الضيق في قول أهل اللغة جميعهم، يقال: رجلٌ حَرِجٌ وحَرَجٌ، أي: ضَيِّقُ الصدر، قال الشاعر:
لا حَرِج الصدرِ ولا عنيفُ (1)
قال عبيد بن عمير: قرأ ابن عباس هذه الآية فقال: هل ههنا أحد من بني بكر؟ قال رجل: نعم. قال: ما الحَرَجة فيكم؟ قال: الوادي الكثير الشجر الذي لا طريق فيه. فقال ابن عباس: كذلك قلب الكافر (2).
وقرأ عمر بن الخطاب الآية فقال: ابغوني رجلًا من كنانة، واجعلوه راعيًا. فأتوه به، فقال له عمر: يا فتى، ما الحَرَجة فيكم؟ فقال: الشجرة تحدق بها الأشجار فلا تصل إليها راعية ولا وحشية. فقال عمر: كذلك قلب الكافر، لا يصل إليه شيء من الخير (3).
قال ابن عباس: ” {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}، إذا سمع ذكر الله اشْمَأزَّ قلبه ونفسه، وإذا ذُكِر شيء من عبادة الأصنام ارتاح إلى ذلك” (4).
_________
(1) هو دون نسبة في “العين” (3/ 76)، و”تهذيب اللغة” (4/ 137).
(2) أورده بهذا اللفظ الثعلبي في “الكشف والبيان” (4/ 188)، والواحدي في “البسيط” (8/ 423)، وأسنده السرقسطي في “الدلائل في غريب الحديث” (3/ 1034) من طريق عبيد بن عمير بنحوه، ومن وجه آخر الطبري في “جامع البيان” (16/ 641).
(3) أسنده الطبري (9/ 545).
(4) نسبه إليه في “البسيط” (8/ 425).
(1/350)
ولما كان القلب محلًّا للمعرفة والعلم والمحبة والإنابة، وكانت هذه الأشياء إنما تدخل في القلب إذا اتسع لها، فإذا أراد الله هداية عبده وسّع صدره وشرحه، فدخلت فيه وسكنته، وإذا أراد ضلاله ضيّق صدره وأحرجه، فلم يجد محلًّا يدخل فيه، فيعدل عنه ولا يساكنه، وكل إناء فارغ إذا دخل فيه الشيء ضاق به، وكلما أفرغت فيه الشيء ضاق، إلا القلب الليّن (1)، فكلما أُفْرِغ فيه الإيمان والعلم اتسع وانفسح، وهذا من آيات (2) قدرة الرب تعالى.
وفي “الترمذي” وغيره (3) عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إذا دخل النورُ القلبَ انفسح وانشرح”، قالوا: فما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال: “الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله”.
فَشَرْح الصدر من أعظم أسباب الهدى، وتضييقه من أسباب الضلال، كما أن شَرْحَه من أَجَلِّ النعم، وتضييقه من أعظم النقم، فالمؤمن مشروح الصدر منفسحه في هذه الدار على ما ناله من مكروهها، وإذا قوي الإيمان وخالط بشاشته القلوب كان على مكارهها أشرح صدرًا منه على شهواتها
_________
(1) “اللين” من “ج”.
(2) “د”: “باب” معجمة.
(3) لم أقف عليه عند الترمذي ولم يعزه إليه أحد، وهو في “نوادر الأصول” للحكيم الترمذي كما في “تخريج أحاديث الكشاف” للزيلعي (3/ 201).
والحديث أخرجه وكيع في “الزهد” (15)، وسعيد بن منصور في “التفسير” (918)، وابن أبي شيبة في “المصنف” (35455)، من طرق عن عمرو بن مرة، عن أبي جعفر عبد الله بن مسور المدائني ـ وهو وضّاع ـ مرسلًا، قال ابن رجب: “هذا هو أصل الحديث، ثم وصله قوم، وجعلوا له إسنادًا موصولًا مع اختلافهم فيه”، انظر: “علل الدارقطني” (5/ 189)، “شرح العلل” لابن رجب (2/ 772).
(1/351)
ومحابها، فإذا فارقها كان انفساح روحه والشرح الحاصل له بفراقها أعظم بكثير، كحال من خرج من سجن ضيق إلى فضاء واسع موافق له؛ فإنها سجن المؤمن، فإذا بعثه الله يوم القيامة، رأى من انشراح صدره وسعته ما لا نسبة لما قبله إليه، فَشَرْح الصدر كما أنه سبب الهداية فهو أصل كل نعمة، وأساس كل خير.
وقد سأل كليمُ الرحمن موسى بن عمران ربَّه أن يشرح له صدره لما علم أنه لا يتمكن من تبليغ رسالته والقيام بأعبائها إلا إذا شرح له صدره.
وقد عدّد سبحانه من نعمه على خاتم أنبيائه ورسله شَرْح صدره له، وأخبر عن أتباعه أنه شَرَحَ صدورهم للإسلام.
فإن قلتَ: فما الأسباب التي تشرح الصدر، والتي تضيقه؟
قلتُ: السبب الذي يشرح الصدر: النور الذي يقذفه الله سبحانه فيه، فإذا دخله ذلك النور اتسع بحسب قوة النور وضعفه، وإذا فقد ذلك النور أظلم وتضايق.
فإن قلتَ: فهل يمكن اكتساب هذا النور، أم هو وَهْبي؟
قلت: هو وَهْبي وكَسْبي، واكتسابه أيضًا مجرد موهبة من الله تعالى، فالأمر كله لله، والحمد كله له، والخير كله بيديه، وليس مع العبد من نفسه شيء البتَّة، بل الله واهب الأسباب ومسبباتها وجاعلها أسبابًا، ومانحها من يشاء، ومانعها من يشاء، فإذا أراد بعبده خيرًا وفقه لاستفراغ وسعه وبذل جهده في الرغبة والرّهبة إليه، فإنهما مادتا التوفيق، فعلى قدر قيام الرغبة والرّهبة في القلب يحصل التوفيق.
(1/352)
فإن قلتَ: فالرغبة والرهبة بيده لا بيد العبد!
قلتُ: نعم والله، وهما مجرد فضله ومنّته، وإنما يجعلهما في المحل الذي يليق بهما، ويحبسهما عمن لا يصلح.
فإن قلتَ: فما ذنب من لا يصلح؟
قلتُ: أكبر ذنوبه أنه لا يصلح؛ لأن عدم صلاحيته بما اختاره لنفسه وآثره وأحبّه من الضلال والعمى (1) على بصيرة من أمره، فآثر هواه على حق ربّه ومرضاته، واستحب العمى على الهدى، وكان كُفْر المُنْعِم عليه بصنوف النعم، وجَحْد إلهيته والشرك به، والسعي في مساخطه؛ أحبَّ إليه من شكره وتوحيده، والسعي في مرضاته، فهذا من عدم صلاحيته لتوفيق خالقه ومالكه، وأي ذنب فوق هذا؟!
فإذا أمسك الحَكَمُ العدلُ توفيقه عمن هذا شأنه كان قد عَدَل فيه، وانسدَّت عليه أبواب الهداية وطرق الرشاد، فأظلم قلبه، فضاق عن دخول الإسلام والإيمان فيه، فلو جاءته كل آية لم تزده إلا ضلالًا وكفرًا.
وإذا تأمل من شرح الله صدره للإسلام والإيمان هذه الآية، وما تضمنته من أسرار التوحيد والقدر والعدل وعظمة شأن الربوبية؛ صار لقلبه عبودية أخرى ومعرفة خاصة، وعلم أنه عبد من كل وجه وبكل اعتبار، وأن الربّ تعالى ربّ كل شيء ومليكه من الأعيان والصفات والأفعال، والأمر كله بيده، والحمد كله له، وأزمّة الأمور بيديه، ومرجعها كلها إليه.
ولهذه الآية شأن فوق عقولنا، وأجلّ من أفهامنا، وأعظم مما قال فيها
_________
(1) “د”: “والغي”، والمثبت من “م”.
(1/353)
المتكلمون الذين ظلموها معناها، وأنفسهم كانوا يظلمون. تالله لقد غلظ عنها حجابهم، وكثفت عنها أفهامهم، ومنعتهم الوصولَ إلى المراد بها أصولُهم التي أصّلوها، وقواعدُهم التي أسّسوها؛ فإنها تضمنت إثبات التوحيد والعدل الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، لا التوحيد والعدل الذي يقوله معطلو الصفات ونفاة القدر، وتضمنت إثبات الحكمة، والقدرة، والشرع، والقدر، والسبب، والحكم، والذنب، والعقوبة، ففتحت للقلب الصحيح بابًا واسعًا من معرفة