طريق الهجرتين وباب السعادتين_1
طريق الهجرتين وباب السعادتين_1
http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة |
الكتاب: طريق الهجرتين وباب السعادتين المؤلف: الإمام أبي عبد اللَّه محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 – 751) حققه: محمد أجمل الإصلاحي خرج أحاديثه: زائد بن أحمد النشيري راجعه: سعود بن عبد العزيز العريفي – علي بن محمد العمران الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت) الطبعة: الرابعة، 1440 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم) عدد الأجزاء: 2 (في ترقيم واحد متسلسل) قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] |
آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (13)
طريق الهجرتين وباب السعادتين
تأليف
الإمام أبي عبد اللَّه محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية
(691 – 751)
حققه: محمد أجمل الإصلاحي
خرج أحاديثه: زائد بن أحمد النشيري
إشراف
بكر بن عبد اللَّه أبو زيد
دار عطاءات العلم – دار ابن حزم
(المقدمة/1)
راجع هذا الجزء
سعود بن عبد العزيز العريفي
علي بن محمد العمران
(المقدمة/3)
مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية
حقوق الطبع محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية
الطبعة الأولى 1429 هـ
دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
مكة المكرمة ص. ب 2928 هاتف 5505305 فاكس 5542309
الصف والإخراج دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
(المقدمة/4)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة التحقيق
الحمد للَّه رب العالمين، القائل في كتابه الحكيم: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} [المائدة/ 15 – 16]. والصلاة والسلام على رسوله الذي بعثه في الأميين، يتلو عليهم آياته، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم؛ فبلغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح للأمة. ومضى إلى ربه محمودًا بعدما أقام الدين، وترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
أما بعد، فإن كتاب “طريق الهجرتين وباب السعادتين” للإمام ابن قيم الجوزية رحمه اللَّه تعالى لكتاب نفيس نادر في بابه. فقد وضعه لبيان قواعد السلوك والسير إلى اللَّه على الطريقة التي شرعها اللَّه ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-. والمقصود بالهجرتين -كما فسَّر المؤلف في مقدمة هذا الكتاب وفي كتبه الأخرى- هجرة العبد إلى اللَّه سبحانه بالتوحيد والإخلاص والإنابة والحب والخوف والرجاء والتوكل والعبودية، وهجرته إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بمتابعته والتأسِّي به في كل شأن من شؤون حياته من عقائده وعباداته ومعاملاته. وهذا هو مضمون الشهادتين اللتين لا يقوم الإيمان والإسلام إلّا بهما.
ولا تخفى أهمية الهجرتين المذكورتين في باب الإحسان وتزكية النفس والسير إلى اللَّه. فإنّ الصوفية منذ أن جعلوه سرًّا مكتومًا، زاعمين أنه علم خصّ به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعض أصحابه، ثم حكَّموا فيه الذوق
(المقدمة/5)
والوجدان والكشف والإلهام = فتحوا بابًا واسعًا للزيغ والانحراف والتأويل والتحريف. ثمّ تعدَّوا إلى تقسيم الدين إلى شريعة وطريقة، وعلم الظاهر وعلم الباطن، وقرّروا أن الأول حجاب دون الآخر، حتى صار التصوف في بعض صوره دينًا مناهضًا لدين رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-.
ومن ثم لم يكن شيخ الإسلام ابن تيمية وصاحبه الإمام ابن القيم رحمهما اللَّه ليصرفا النظر، في المهمة العظيمة التي قاما بها لإصلاح الأمة وتجديد معالم الدين، عن الردّ على مزاعم الصوفية، والكشف عن انحرافاتهم، وبيان هدي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في التزكية والإحسان.
وقد أوتي الشيخان الربّانيّان قدرةً عجيبةً على الخوض في غوامض علوم العارفين ودقائق أحوالهم والكلام عليها. وذلك لما فتح اللَّه عليهما من علوم الكتاب والحكمة، ثم وفقهما للظهور على معارج العبودية والإشراف على مقامات الإحسان. ومن هنا أصبحت كتابات الشيخين في التصوف والسلوك، الجامعة بين خطر الموضوع، وسلفيّة المنهج في التمسّك بالكتاب والسنّة دون تحيّز لأحدٍ كائنًا من كان، وقدرةٍ على الخوض في الدقائق، وقوّة البيان ووضوح التعبير = أصبحت منظومةً نادرةً في المكتبة الإسلامية الزاخرة.
ومن أجلّ تلك الكتب كتابنا هذا. وقد افتتحه ابن القيّم رحمه اللَّه “بباب الفقر والعبودية، إذ هو باب السعادة الأعظم وطريقها الأقوم الذي لا سبيل إلى دخولها إلّا منه”. ثم تكلم على قواعد نافعة منها قاعدة في الإنابة ودرجاتها، وقاعدة في الابتلاء، وقاعدة في ذكر طريق قريب موصل إلى الاستقامة في الأحوال والأقوال والأعمال، وقاعدة في أقسام العباد في سفرهم إلى الدار الآخرة. وختم الكتاب بباب جامع في مراتب
(المقدمة/6)
المكلفين في الدار الآخرة وطبقاتهم فيها.
وقد تطرّق الكلام في أثناء البابين والقواعد إلى مباحث عظيمة ومسائل مشكلة اقتضت أهميتها إشباع القول فيها، كمبحث القضاء والقدر الذي استغرق أكثر من مائتي صفحة. ولكن أهمّ أقسام الكتاب وأنفسها -وهو من صميم الموضوع فلا يعدّ استطرادًا- هو القسم الذي تكلم فيه المؤلف رحمه اللَّه على علل مقامات السلوك. وقد اختار لبيان غلط المشايخ في هذا الباب كتاب محاسن المجالس لأبي العباس ابن العريف الصنهاجي من أكابر صوفية الأندلس. فتناوله فصلًا فصلًا بالنقد والنقض، وبيّن ما له وما عليه، فتكلم على ما قاله في منزلة الإرادة مثلًا، من اثني عشر وجهًا، وعلى التوكل من خمسة عشر وجهًا، وعلى الخوف من ثلاثة عشر وجهًا، وهكذا.
ومما يستغرب أن المستشرق الإسباني الذي نشر محاسن المجالس في باريس سنة 1933 م لم يكن على علم بنقد ابن القيم إياه في طريق الهجرتين، مع كونه مطبوعًا قبل المحاسن بأكثر من ثلاثين سنة.
وقد صدرت أول طبعة من كتابنا عن المطبعة الميمنية سنة 1320 هـ = 1902 م، على حاشية كتاب آخر لابن القيم، وهو إغاثة اللهفان. ثم طبعته إدارة الطباعة المنيرية سنة 1358 هـ، وتلتها طبعة المكتبة السلفية سنة 1375 هـ. ولكن لم تتهيأ لهذه الطبعات نسخة موثقة عالية من الكتاب، فكثرت فيها الأسقاط والتصحيفات والتحريفات، إلا ما صحح منها باجتهاد المشرفين عليها، غير أن اجتهادهم قد أدّى في أحيان كثيرة إلى مزيد من الأخطاء.
وعن هذه الطبعات الثلاث -وبخاصة طبعة المكتبة السلفية-
(المقدمة/7)
صدرت عشرات الطبعات، وصوّرت مرّات ومرّات. وزعمت طبعتان منها -وهما طبعة دار ابن كثير بتحقيق يوسف علي البديوي، وطبعة دار البيان بتحقيق بشير محمد عيون- أنهما اعتمدتا على نسخة الظاهرية، وأثبتت الأخيرة أرقام أوراقها أيضًا في الحواشي، ولكن مقارنة متن الطبعتين بالنسخة المذكورة لا تصدّق دعواهما العريضة. ولو اعتمدت إحداهما عليها لكانت خليقةً بأن تكون أصحّ الطبعات، غير أنهما لم تزيدا على مراجعتها في مواضع متفرقة تحلّةً للقسم!
وكان من فضل اللَّه سبحانه أن وفقني لإخراج هذه النشرة التي هي أول نشرة علمية للكتاب، وقد اعتمدت فيها على خمس نسخ خطيّة، أهمّها نسختان: إحداهما نسخة الظاهرية التي هي مسودة الكتاب بخط المصنف، والأخرى نسخة منقولة من نسخة المصنف حسب تصريح ناسخها.
وقد تبيّن لي أنّ المؤلف رحمه اللَّه قد ترك الكتاب مسوّدة مع إضافاته وإلحاقاته الكثيرة، فلا أمكنه تبييضه، ولا قرئ عليه، ومن ثم قد بقي فيه من السهو وسبق القلم شيء كثير. وقد ضاع بعض كلامه أيضًا لكونه في أطراف الأوراق التي أكل منها البلى. وكان في خطه كذلك من السرعة وإهمال النقط وتداخل الكلمات وغيره ما يؤدي إلى صعوبة واختلاف في القراءة. وقد اجتهدت في قراءة النص مستعينًا بالنسخة المنقولة من الأصل وغيرها، ومستأنسًا بأسلوب المؤلف وعباراته المألوفة، وأرجو أن أكون قد وفقت في خدمة الكتاب وأدائه أداءً مقاربًا لما وضعه المؤلف رحمه اللَّه.
(المقدمة/8)
وقد مهّدت للكتاب بدراسة اشتملت على الفصول الآتية:
1 – توثيق نسبة الكتاب.
2 – عنوان الكتاب.
3 – تاريخ تأليف الكتاب.
4 – مقصد الكتاب.
5 – ترتيب الكتاب وبعض مباحثه المهمة، وفيه إشارة إلى بعض طرائق التاليف اللطيفة عند المصنف.
6 – أهمية الكتاب.
7 – موارد الكتاب.
8 – طبع الكتاب وتحقيقه واختصاره وترجمته.
9 – مخطوطات الكتاب.
10 – منهج التحقيق، مع نماذج مصورة من النسخ المعتمدة.
وأشكر الأخ الشيخ زائد بن أحمد النشيري الذي تولّى تخريج الأحاديث الواردة في الكتاب ما عدا أحاديث الصحيحين، فجزاه اللَّه خير الجزاء.
وقبل أن أضع القلم آمل من القراء، لا سيما العلماء والباحثون، إذا وقفوا على خلل أو زلل في خدمة الكتاب، أن لا يضنّوا عليّ بإفاداتهم وتنبيهاتهم. فالأمانة ثقيلة، والإنسان مهما اجتهد وبالغ فإنه إلى الضعف والنسيان ما هو! وخدمة هذا التراث العظيم لا تتم عندي إلا بتعاون
(المقدمة/9)
المحقق الخبير والناقد البصير؛ وإني إذ لم أكن بذاك، أرجو أن لا أعدم ناقدًا بصيرًا يُهدي إليّ عيوبي.
أسأل اللَّه أن ينفع بهذا الكتاب، وأن يغفر لمؤلفه، ويرفع درجاته، ويجزيه عنا خير ما يجزي العلماء الربانيين. وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الرياض
محمد أجمل أيوب الإصلاحي
22/ 12/ 1427 هـ
(المقدمة/10)
توثيق نسبة الكتاب
لم يكن هذا الكتاب بحاجة إلى توثيق نسبته إلى الإمام ابن القيم رحمه اللَّه، فإننا لا نعرف أحدًا شكّ في ذلك، لولا ما وجد على ظهر نسخة منه، وهي محفوظة في مكتبة الدولة في برلين برقم 8795، وناقصة من أولها بقدر ستين ورقة تقريبًا، فكتب بعضهم في أعلى الورقة الأولى: “كتاب نهج العمل لابن حجر”، وفي ورقة أخرى قبلها كتب: “نهج العمل لابن حجر في السلوك”. ولعل من كتب هذه العبارة قصد المغالاة في ثمن النسخة وإغراء من يعرضها عليه بالشراء. وذلك لأن النسخة كتبت سنة 816 هـ كما جاء في خاتمتها، فإذا كان مؤلفها الحافظ ابن حجر المتوفى سنة 852 هـ، فهي على هذا قد نسخت في حياة المؤلف قبل وفاته بستة وثلاثين عامًا، فلا شكّ إذن في كونها نسخة ثمينة جدَّا! ولكن لا أدري من أين جاء هذا الكاتب بعنوان “نهج العمل”، إذ لم أره عنوانًا لكتاب مطلقًا في كشف الظنون وذيله، فضلًا عن أن يكون عنوانًا لكتاب من كتب الحافظ ابن حجر رحمه اللَّه. والجدير بالذكر أن في بداية بعض الكراريس تصريحًا بكونه “حادي عشر من طريق الهجرتين” مثلًا.
وبعد، فإن الشواهد على نسبة الكتاب إلى ابن القيم كثيرة جدًّا ومتنوعة. ومن أبرزها:
(1) أن المخطوطة التي اعتمدنا عليها في هذه الطبعة مسودة الكتاب بخط المؤلف. وفي صفحة العنوان كتب اسمه واسم الكتاب مصرّحًا بأنه من تأليفه، كما سيأتي في وصف المخطوطة.
(المقدمة/11)
(2) أن المؤلف نفسه ذكره أربع مرّات في كتابه مدارج السالكين، والمباحث التي أحال فيها على كتابنا كلها موجودة فيه. فذكر في الموضع الأول (1/ 155) مذهب نفاة الحكمة والتعليل الذين لا فرق عندهم بين المأمور والمحظور في نفس الأمر، والمشيئة هي التي اقتضت أمره ونهيه عن هذا. ثم أشار إلى أنه بيّن فساد هذا الأصل من نحو ستين وجهًا في كتابه مفتاح دار السعادة، وأنه ذكره أيضًا في كتابه المسمى بسفر الهجرتين وطريق السعادتين. وهذا المبحث موجود في كتابنا في ص (246).
وفي الموضع الثاني (1/ 480) أورد فصلًا في مشاهد الخلق في المعصية وقال: “ولعلك لا تظفر به في كتاب سواه إلّا ما ذكرناه في كتابنا المسمى سفر الهجرتين في طريق السعادتين”. وهذا الفصل يوجد في كتابنا في ص (350).
وفي الموضع الثالث (1/ 567) عندما فسّر ابن القيم كلام صاحب منازل السائرين في رياضة خاصة الخاصة، وأن منها “قطع المعاوضات” نبّه على أن سؤال المحبّ الصادق أن يثيبه اللَّه سبحانه الجنة والقرب منه والتنعم بحبه ليس قادحًا في عبوديته، ثم قال: “وقد استوفينا ذكر هذا الموضع في كتاب سفر الهجرتين عند الكلام على علل المقامات”. ولعل المؤلف يشير إلى المسألة الخامسة من المسائل الخمس في المحبة والشوق، التي تكلم عليها في كتابنا في ص (729).
وأشار في الموضع الرابع (2/ 74) إلى مسألة في الشوق، هل يبقى عند لقاء المحبوب أو يزول، فقال: “ولقد ذكرنا هذه المسألة مستقصاة وتوابعها في كتابنا الكبير في المحبة، وفي كتاب سفر الهجرتين”. وهذه
(المقدمة/12)
المسألة هي المسألة الثالثة من المسائل الخمس المذكورة. انظر ص (724).
(3) ومنها أن ابن القيم أحال في هذا الكتاب على مؤلفات أخرى له نحو قوله في ص (86): “وقد ذكرنا في كتاب الكلم الطيب والعمل الصالح من فوائد الذكر استجلاب ذكر اللَّه لعبده، وذكرنا قريبًا من مائة فائدة تتعلق بالذكر، وكل فائدة منها لا خطر لها، وهو كتاب عظيم النفع جدًّا”. والكتاب المذكور معروف مطبوع، وقد صدرت منه نشرة جديدة ضمن هذا المشروع أيضًا بعنوان “الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب”.
وكذلك أحال فيه على كتابه “التحفة المكية” مرتين (425، 454)، وهو من الكتب التي ذكرها الحافظ ابن رجب وغيره من مؤلفات ابن القيم. وقد أشار ابن القيم أيضَا إليه في عدة مواضع من كتابه بدائع الفوائد.
وأحال أيضًا على كتاب كبير له في المحبة قائلًا: “وقد ذكرنا مجموع هذه الطرق في كتابنا الكبير في المحبة الذي سميناه “المورد الصافي والظل الضافي” في المحبة وأقسامها وأنواعها وأحكامها، وبيان تعلقها بالإله الحق دون ما سواه، وذكرنا من ذلك ما يزيد على مائة وجه” (124). وهذا الكتاب هو الذي أشار إليه في مدارج السالكين (2/ 598) -وإن لم يسمّه- فقال: “وجميع طرق الأدلة عقلًا ونقلًا وفطرةً وقياسًا واعتبارًا وذوقًا ووجدًا تدلّ على إثبات محبة العبد لربه والرب لعبده، وقد كرنا من ذلك قريبًا من مائة طريق في كتابنا الكبير في المحبة”. وهو غير كتاب “روضة المحبين” المطبوع.
وقد أشار أيضًا إلى تابين آخرين لم يسمّهما، فقال في موضع:
(المقدمة/13)
“وقد ذكرنا مائتي دليل على فضل العلم وأهله في كتاب مفرد” (770). ولا يخفى أن المقصود كتاب فضل العلماء الذي ذكره ابن رجب في ترجمة ابن القيم (1).
وفي موضع آخر تطرق الكلام إلى الأنفع والأفضل من النخيل والعنب وأنّ طائفة رجحت النخل وأخرى رجحت العنب، فقال: “وذكرت كل طائفة حججًا لقولها قد ذكرناها في غير هذا الموضع” (808). والظاهر أن المؤلف رحمه اللَّه يشير إلى كتابه مفتاح دار السعادة الذي تضمن هذا المبحث (2/ 117).
(4) ومنها المباحث المشتركة بين هذا الكتاب والكتب الأخرى للمؤلف، ولا خلاف بينها إلا في الاختصار والتفصيل أو التقديم والتأخير. أما نفسه وبيانه ومنهجه في ذكر الأقوال والمذاهب والموازنة بينها، فهو هو، بل تجد اللفظ بعينه بعض الأحيان.
ومن أمثلتها مبحث طويل في مذاهب الناس في أطفال المشركين (842 – 877). وقد ورد المبحث نفسه في كتاب أحكام أهل الذمة (1086 – 1130)، وفي حاشية المؤلف على سنن أبي داود (12/ 320).
ومن ذلك أيضًا تفسير المؤلف لدعاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال” (605). وقد فسره أيضًا في بدائع الفوائد (714) ومفتاح
__________
(1) الذيل على طبقات الحنابلة (5/ 175). وانظر: ابن قيم الجوزية للشيخ بكر بن عبد اللَّه أبو زيد (282).
(المقدمة/14)
دار السعادة (1/ 375) والداء والدواء (118).
ومن ذلك تفسيره لكلام صاحب منازل السائرين على الفقر والغنى والتجريد والشوق. وقد فسره في كتابنا هذا (19، 63، 67، 729) ثم فسره في مدارج السالكين (2/ 497، 503)، (3/ 21، 408). والمقارنة بينهما تكشف عن وجوه المشابهة والمفارقة، ولكن تؤكد في الوقت نفسه أن الكلامين لمؤلف واحد.
(5) ومنها نقول المؤلف عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه. وبعضها من كتبه وبعضها رواية شفوية عنه. وسيأتي الحديث عنها عند الكلام على موارد المؤلف في هذا الكتاب.
(6) وأخيرًا اتفاق كتب التراجم على نسبته إلى ابن القيم، وبعضها لتلامذته ومعاصريه، كما سيتبين من الفقرة الآتية.
(المقدمة/15)
عنوان الكتاب
ذكر الكتاب في المصادر -ومنها بعض كتب المؤلف- بعدّة عناوين وصلت إلى ستة وجوه، وهي:
1 – سفر الهجرتين وطريق السعادتين.
بهذا العنوان سمّاه المؤلف في مدارج السالكين (1/ 156)، فقال: “. . . وذكرنا أيضًا في كتابنا المسمّى بـ (سفر الهجرتين وطريق السعادتين) “.
وهذا العنوان هو الذي ذكره الصفدي (764 هـ) في الوافي (2/ 271) وأعيان العصر (4/ 369)، وابن تغري بردي (874 هـ) في المنهل الصافي (3/ 62).
2 – سفر الهجرتين في طريق السعادتين.
هذا العنوان أيضًا ورد في كتاب مدارج السالكين (1/ 480) قال: “. . . ذكرناه في كتابنا المسمّى (سفر الهجرتين في طريق السعادتين) “. وغريب أن يختلف العنوان في كتاب واحد في موضعين متقاربين.
3 – سفر الهجرتين وباب السعادتين.
ذكره تلميذه الحافظ ابن رجب (795 هـ) في ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة (5/ 175). ومنه نقل ابن ناصر الدين (842 هـ) في الرد الوافر (68) والداودي (945 هـ) في طبقات المفسرين (2/ 92) ومرعي بن يوسف الحنبلي (1033 هـ) في الشهادة الزكية (34) وابن العماد (1089 هـ) في شذرات الذهب (3/ 169).
(المقدمة/16)
4 – سفر الهجرتين.
بهذا سمّاه المؤلف في موضعين في مدارج السالكين (1/ 567) و (2/ 47). وهو ليس عنوانًا جديدًا، وإنما هو اختصار صالح للعناوين الثلاثة السابقة. وكذا ذكره السيوطي في بغية الوعاة (1/ 63).
5 – طرق السعادتين.
وهذا أيضًا جاء على وجه الاختصار. ولكن الذي يلفت النظر أن “الطريق” صارت هنا “طرقًا”، وكذا سمّاه الحافظ ابن حجر (852 هـ) في الدرر الكامنة (3/ 402). وكلمة “طرق” -فيما يظهر- ليست تحريفًا في مطبوعة الدرر، بل كذا ورد في الأصل الذي بخط السخاوي. ثم كذا نقله الشوكاني (1250 هـ) منه في البدر الطالع (2/ 144).
6 – طريق الهجرتين وباب السعادتين.
هذا العنوان ورد بخط المصنف مرتين في الأصل الذي اعتمدنا عليه في تحقيق هذا الكتاب: أولًا في صفحة العنوان، وثانيًا في مقدمة الكتاب التي قال فيها: “. . . وسميناه (طريق الهجرتين وباب السعادتين)، وابتدأناه بباب الفقر والعبودية، إذ هو باب السعادة الأعظم وطريقها الأقوم. . . “.
ولعلّ الصيغ الثلاث الأولى التي ذكرها المؤلف ومعاصره الصفدي وتلميذه ابن رجب، كان المؤلف رحمه اللَّه يميّل رأيه بينها، ثم استقرّ على العنوان الأخير الذي أثبته في المقدمة وفي صفحة العنوان.
وهذا العنوان هو الوارد في سائر النسخ الخطيّة إلّا نسختين لا يعوّل عليهما. إحداهما نسخة الشيخ محمد بن إبراهيم الضويّان، وقد كتب
(المقدمة/17)
العنوان في الورقة الأولى: “كتاب سفر الهجرتين وباب السعادتين” مع أن العنوان المعروف هو الثابت في مقدمة المؤلف (ق 2/ ب)، فأخشى أن يكون ذلك من اجتهاد الناسخ. والنسخة الأخرى في مكتبة جامعة ليدن بخط حديث، وقد كتب اسم الكتاب في صفحة العنوان هكذا: “سفر الهجرتين وطريق السعادتين أو طريق الهجرتين وباب السعادتين”.
(المقدمة/18)
تاريخ تأليف الكتاب
لم أجد في مخطوطات الكتاب أو غيرها نصَّا على التاريخ الذي فرغ المؤلف فيه من تأليف هذا الكتاب، ولكن أذكر فيما يلي بعض الإشارات التي تعين على تقديره.
خرج الإمام ابن القيم رحمه اللَّه من السجن بعد وفاة شيخه فيه سنة 728 هـ. “وكان في مدة حبسه مشتغلًا بتلاوة القرآن وبالتدبر والتفكر، ففتح عليه من ذلك خير كثير، وحصل له جانب عظيم من الأذواق والمواجيد الصحيحة. وتسلّط بسبب ذلك على الكلام في علوم أهل المعارف والخوض في غوامضهم. وتصانيفه ممتلئة بذلك”، كما يقول تلميذه الحافظ ابن رجب في ترجمته (1). وإذا استعرضنا مؤلفات ابن القيم لم نجد كتابًا تصدق عليه كلمة ابن رجب هذه صدقها على كتابنا طريق الهجرتين وكتاب مدارج السالكين. فكلاهما وضع في علم السلوك، وهما يشهدان حقًا بما أوتي المؤلف من “تسلّط” على الكلام في العلوم والحقائق التي تنقطع عندها العبارة، وتجفو عنها الإشارة، كما يقول أصحابها. فالظاهر أن الكتابين من الكتب التي ألّفت بعد خروج المؤلف من السجن سنة 728 هـ. وقد تبيّن ممّا سبق أن طريق الهجرتين ألّف قبل مدارج السالكين لأن المؤلف قد أحال في المدارج أربع مرات على كتابنا هذا.
ثم في طريق الهجرتين مبحث طويل في القدر، جاء على سبيل الاستطراد ولكنه طال جدًّا لأهميته البالغة. وللمؤلف كتاب مستقلّ في
__________
(1) الذيل على طبقات الحنابلة (5/ 173).
(المقدمة/19)
هذا الموضوع، وهو “شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل”. فلو كان ألفه قبل طريق الهجرتين لأحال عليه في هذا، ولم يسهب ذلك الإسهاب. وهذا ينبئ بأن شفاء العليل ألّف بعد طريق الهجرتين.
ويوجد في حاشية المؤلف على سنن أبي داود (12/ 315) بحث في القدر أيضًا، وهناك قال المؤلف: “وقد نظرت في أدلة إثبات القدر والردّ على القدرية والمجوسية، فإذا هي تقارب خمسمائة دليل. وإن قدر اللَّه تعالى أفردت لها مصنّفًا مستقلًا، وباللَّه عزّ وجلّ التوفيق”. وهذا الكتاب الذي نوى المؤلف تأليفه هو “شفاء العليل” المذكور. ومن حسن الحظ قد عرفنا تاريخ تأليف حاشية السنن، إذ نصّ المؤلف في خاتمته للكتاب أنه فرغ من تأليفه في مكة في آخر شوّال سنة 732 هـ. فلما جاء بحث القدر في طريق الهجرتين ولم يشر المؤلف إلى كتاب شفاء العليل ولا نيته لإفراد الموضوع بتأليف مستقلّ، وبدا له ذلك في أثناء تهذيب مختصر السنن والتعليق عليه الذي فرغ منه سنة 732 هـ = علمنا أن طريق الهجرتين ألّف قبل سنة 732 هـ. واللَّه أعلم.
(المقدمة/20)
مقصد الكتاب
موضوع هذا الكتاب قواعد السلوك والسير إلى اللَّه على المنهج الشرعي الذي بينه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. فالمؤمن يجب عليه أن يوحد اللَّه بعبادته ومحبته وخوفه ورجائه، وأن يكون قدوته في ذلك هو النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فيتبع هديه وشرعه ومنهاجه. وهذان الأمران: إفراد اللَّه بالعبادة، وإفراد الرسول بالمتابعة، هما المقصودان بالهجرتين في عنوان الكتاب. فيقول المؤلف رحمه اللَّه في مقدمته: “فله -يعني للمؤمن- في كل وقت هجرتان: هجرة إلى اللَّه بالطلب والمحبة والعبودية، والتوكل والإنابة، والتسليم والتفويض، والخوف والرجاء، والإقبال عليه، وصدق اللجأ والافتقار في كل نفَس إليه. وهجرة إلى رسوله في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة، بحيث تكون موافقة لشرعه الذي هو تفصيل محاب اللَّه ومرضاته، ولا يقبل اللَّه من أحد دينًا سواه. وكل عمل سواه، فعيش النفس وحظّها لا زاد المعاد”.
وقد عني المؤلف في كتبه ببيان أهمية الهجرتين في حياة المسلمين عناية بالغة، فتكلم عليهما في مواطن عديدة؛ لأنهما مضمون الشهادتين ومقتضاهما، ولا يقوم الإيمان والإسلام إلّا بهما. فقال في مدارج السالكين (2/ 520): “وللَّه على كل قلب هجرتان، وهما فرض لازم له على [مدى] الأنفاس: هجرة إلى اللَّه سبحانه بالتوحيد والإخلاص والإنابة والحب والخوف والرجاء والعبودية. وهجرة إلى رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- بالتحكيم له والتسليم والتفويض والانقياد لحكمه، وتلقي أحكام الظاهر والباطن من مشكاته، فيكون تقيده به أعظم من تقيد الركب بالدليل الماهر في ظلم الليل ومتاهات الطريق. فما لم يكن لقلبه هاتان الهجرتان فليحث على
(المقدمة/21)
رأسه الرماد، وليراجع الإيمان من أصله، فيرجع وراء، ليقتبس نورًا قبل أن يحال بينه وبينه، ويقال له ذلك على الصراط من وراء السور، واللَّه المستعان”.
وقد عقد فصلًا كاملًا في قصيدته النونية (870) بعنوان “فصل في تعيّن الهجرة من الآراء والبدع إلى سنّته، كما كانت فرضًا من الأمصار إلى بلدته -صلى اللَّه عليه وسلم-” يشتمل على 57 بيتًا، افتتحه بقوله:
يا قوم فرضُ الهجرتين بحاله … واللَّهِ لم يُنسخ إلى ذا الآنِ
فالهجرة الأولى إلى الرحمن بالـ … إخلاص في سرّ وفي إعلان
إلى أن قال:
والهجرة الأخرى إلى المبعوث بالـ … إسلام والإيمان والإحسان
وفي رسالته التي بعث بها من تبوك إلى أصحابه بالشام، أفاض القول في بيان أهمية الهجرتين بأسلوب أدبي بليغ، وذكر أن الهجرة إلى اللَّه ورسوله فرض عين على كل أحد في كل وقت، وهي مطلوب اللَّه ومراده من العباد. وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية، وهي الأصل، وهجرة الجسد تابعة لها. وبعد ما فسّر الهجرة إلى اللَّه قال: “والذي يُقضى منه العجب أنّ المرء يوسّع الكلام، ويفرّع المسائل في الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وفي الهجرة التي انقطعت بالفتح، وهذه هجرة عارضة ربما لا تتعلق به في العمر أصلًا. وأما هذه الهجرة التي هي واجبة على مدى الأنفاس [فإنه] لا يحصل [فيها] علمًا ولا إرادة. وما ذاك إلا للإعراض عما خلق له والاشتغال عما لا ينجيه غيره” (20 – 21).
وأما الهجرة إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فكلام المؤلف عليها في الرسالة
(المقدمة/22)
المذكورة ينطوي على تألم شديد لما آل إليه أمر المسلمين في عهده من إعراض عن سنة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في عقائدهم وعباداتهم ومعاملاتهم، واشتغال بأفكار ومذاهب وبدع وعادات ما أنزل اللَّه بها من سلطان، فقال: “وأمّا الهجرة إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، فمعلم لم يبق منه سوى رسمه، ومنهج لم تترك منه بنيّات الطريق سوى اسمه، ومحجّة سفت عليها السوافي فطمست رسومها، وأغارت عليها الأعادي فغوّرت مناهلها وعيونها. فسالكها غريب بين العباد، فريد بين كل حيّ وناد، بعيد على قرب المكان، وحيد على كثرة الجيران، مستوحش ممّا [به]، يستأنسون، مستأنس ممّا به يستوحشون. . . والمقصود أن هذه الهجرة النبوية شأنها شديد، وطريقها على غير المشتاق وعير بعيد” (21 – 22).
ثمّ بين حدّ هذه الهجرة بقوله: “فحدّ هذه الهجرة: سفر الفكر في كل مسألة من مسائل الإيمان، ونازلة من نوازل القلب، وحادثة من حوادث الأحكام إلى معدن الهدى، ومنبع النور المتلقى من فم الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)}. فكل مسألة طلعت عليها شمس الرسالة وإلا فاقذف بها في بحار الظلمات، وكل شاهد عدّله هذا المزكّي الصادق وإلّا فعدّه من أهل الريب والشبهات. فهذا هو حدّ هذه الهجرة” (23 – 24).
فهذه الهجرة شاملة محيطة بحياة المؤمن كلها. فلا تخصّ جانبًا منها دون جانب، ولا يحتاج إليها في وقت دون وقت. وليست أهميتها في أحكام الفقه أكثر منها في مسائل الاعتقاد ومنازل السلوك ومقامات الإحسان. بل لها أهمية خاصة في وادي السلوك، فإن المقرر عند كثير من أصحابه أنّ الشرع فيه معزول، والعقل فيه معقول، والحكم فيه
(المقدمة/23)
للذوق والوجدان والكشف والإلهام، لا للشرع والحجة والبرهان. فالشريعة شيء، وأصحابها أصحاب الظاهر. والطريقة شيء، وأصحابها أصحاب الباطن. هذا علم الصدور، وذاك علم السطور. هذا علم اللبّ وذاك علم القشور. بل هذا العلم حجاب دون ذلك العلم. وبهذا التفريق المزعوم قد انفسح مجال الانحراف والضلال في علم السلوك الذي هو أهمّ العلوم، فإن سعادة الإنسان في الدارين منوطة به، وانفتح الباب لكل دخيل غريب، فتشعبت الطرق، وكثرت المزالق، ولا نهاية للترّهات بعد العدول عن قصد السبيل وسواء الصراط.
فالهجرة الثانية -وهي الهجرة إلى ما جاء به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من الكتاب والسنة واتباعُه في كل منازل السلوك- هي التي توصل العبد إلى اللَّه، وتصونه عن الجور والانحراف، وتضمن له السعادة في الدنيا والآخرة. يقول المؤلف رحمه اللَّه في مقدمة هذا الكتاب: “ولما كانت السعادة دائرة نفيًا وإثباتًا مع ما جاء به كان جديرًا بمن نصح نفسه أن يجعل لحظات عمره وقفًا على معرفته، وإرادته مقصورة على محابّه. وهذه أعلى همة شمّر إليها السابقون، وتنافس فيها المتنافسون. فلا جرم ضمنًا هذا الكتاب قواعد من سلوك طريق الهجرة المحمدية”.
فهذا هو مقصود الكتاب، ولكن كيف تناوله المؤلف، وما المباحث التي اشتمل عليها الكتاب؟ هذا سنبينه في الصفحات الآتية.
(المقدمة/24)
ترتيب الكتاب وبعض مباحثه المهمّة
قد رتب المؤلف رحمه اللَّه معظم كتبه على المنهج المألوف، فقسمها إلى أبواب أو فصول أو مسائل تقسيمًا محكمًا، وصرّح بعددها، وسرد عناوينها في مقدمة الكتاب؛ كما ترى في شفاء العليل، وإغاثة اللهفان، وروضة المحبين، وعدة الصابرين، وغيرها. وقد أشار إلى اجتهاده في الترتيب والتبويب في مقدمة كتاب حادي الأرواح إذ قال: “وهذا كتاب اجتهدت في جمعه وترتيبه وتفصيله وتبويبه. . . وقد قسمت الكتاب سبعين بابًا”. ثم ذكر عناوينها كلها.
أمّا كتابنا هذا فلم يرتبه ذلك الترتيب. بل اقتصر في مقدمته على الإشارة إلى مبحثين، وهما المبحث الأول والمبحث الأخير من الكتاب فقال: “وابتدأناه بباب الفقر والعبودية، إذ هو باب السعادة الأعظم وطريقها الأقوم الذي لا سبيل إلى دخولها إلا منه، وختمناه بذكر طبقات المكلفين من الجن والإنس في الآخرة ومراتبهم في دار السعادة والشقاء. فجاء الكتاب غريبًا في معناه، عجيبًا في مغزاه. . . “.
وهذه نظرة في البناء العام للكتاب:
1 – خطبة الكتاب (5 – 11).
2 – “فصل” في الفقر والغنى (12 – 115).
3 – “قاعدة شريفة عظيمة القدر حاجة العبد إليها أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب والنفس، بل وإلى الروح التي بين جنبيه” في كون اللَّه سبحانه هو المطلوب المعبود المحبوب وحده لا شريك له، وهو وحده المعين للعبد على حصول مطلوبه. (116 – 346).
(المقدمة/25)
4 – “قاعدة” في أن كمال العبد وصلاحه يتخلف عنه من إحدى جهتين (347).
5 – “قاعدة” في الابتلاء (348 – 349).
6 – “قاعدة في مشاهد الناس في المعاصي والذنوب” (350 – 372).
7 – “قاعدة” في الإنابة ودرجاتها (373 – 376).
8 – “قاعدة في ذكر طريق قريب موصل إلى الاستقامة في الأحوال والأقوال والأعمال” (377 – 382).
9 – “قاعدة شريفة” في أن الطريق إلى اللَّه واحد (383 – 396).
10 – “قاعدة” في أن السير إلى اللَّه لا يتم إلا بقوتين علمية وعملية (397 – 402).
11 – “قاعدة نافعة” في أقسام العباد في سفرهم إلى الدار الآخرة، ووصف أحوالهم (403 – 760).
12 – “فصل في مراتب المكلّفين في الدار الآخرة وطبقاتهم فيها. وهم ثمان عشرة طبقة” (761 – 931).
ونلاحظ هنا أن المؤلف لم يذكر موضوع الفصل أو القاعدة إلّا في ثلاثة مواضع (6، 8، 12). وفي غيرها اكتفى بكلمة “فصل” أو “قاعدة” أو “قاعدة شريفة” أو “قاعدة نافعة”.
أما حجم هذه القواعد، فالقاعدة الأولى جاءت في 230 صفحة، والقاعدة الأخيرة في 357 صفحة. وبين هاتين القاعدتين الكبيرتين سبع
(المقدمة/26)
قواعد لطيفة تراوح حجمها بين 6 أسطر و 22 صفحة. والقواعد التسع وقعت بين فصلين استغرق أحدهما 104 صفحة والآخر 170 صفحة. وتحت كل فصل وقاعدة -إلّا القواعد القصار- فصول كثيرة تطول أو تقصر حسب مقتضى الكلام.
هذا البناء العام للكتاب قد انطوى على عدد كبير من المباحث العظيمة والمطالب الشريفة والمسائل المشكلة، يستحق بعضها أن يفرد بالتأليف، وبعضها إذا استخرج من هذا الكتاب صار رسالة مستقلة في موضوعها. ونشير هنا بصفة خاصة إلى مبحثين عظيمين، قد وردا في الظاهر عرضًا، ثم استتبع الكلام عليهما مسائل أخرى، وسيقف القارئ من خلال عرضهما على بعض طرائق المؤلف رحمه اللَّه في التأليف.
1 – مبحث في القضاء والقدر:
هذا المبحث الذي جاء استطرادًا استغرق نحو 210 صفحة (137 – 346)، ومن المعلوم أن للمؤلف كتابًا مفردًا في هذا الموضوع كما سبق، ولكن الظاهر أنّه لم يكن ألفه إلى ذلك الحين، وإلّا لأحال عليه، وأوجز الكلام على المسألة حسب الاقتضاء. فلننظر كيف تطرق الحديث إلى هذا الموضوع؟
ذكر المؤلف في أحد فصول القاعدة الأولى أن الإنسان ليس عالمًا بمصلحته ولا قادرًا عليها، واللَّه تعالى هو الذي يعلم ويقدر، ويحب الجود والبذل، ويعطي من فضله لا لمعاوضة ولا لمنفعة، فإذا حبس فضله عن الإنسان فهناك أمران لا ثالث لهما. وذكر الأمر الأول وهو أن يكون الإنسان نفسه واقفًا في طريق مصالحه ومعوقًا لوصول فضله إليه. فإن نعمة اللَّه لا تنال إلا بطاعته ولا تستدام إلا بشكره، فآفته من نفسه
(المقدمة/27)
وبلاؤه منه. ثم قال (137): “فإن أصررت على اتهام القدر وقلت: فالسبب الذي أُصبتُ به وأُتِيتُ منه ودُهيت منه قد سبق به القدر والحكم، وكان في الكتاب مسطورًا، فلا بدّ منه على الرغم منّي. . . “. وهكذا فتح المؤلف لنفسه بابًا واسعًا للكلام على القدر. فأورد على لسان هذا المحتج بالقدر ما جاء في إثبات القدر من الآيات والأحاديث والآثار. ولما اختلفت الروايات في وقت كتابة المقدور للجنين عقد فصلًا في الجمع بينها، ثم عاد إلى سرد الأحاديث الأخرى في إثبات القدر.
وبعدما فرغ من ذلك شرع في الردّ على الذي احتج بالقدر فقال (178): “فالجواب أن ههنا مقامين: مقام إيمان وهدى ونجاة، ومقام ضلال وردى وهلاك. زلّت فيه أقدام فهوت بأصحابها إلى دار الشقاء. . . “. فهذا الجواب في ص (178) عن قوله: “فإن أصررت على اتهام القدر. . . ” الذي سبق في ص (137). وقد ذكر في مقام الضلال حكايات وأقوالًا للمحتجين بالقدر من خصماء اللَّه، ثم نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية أن القدرية المذمومين في السنة وعلى لسان السلف ثلاث فرق: القدرية النفاة، والقدرية الإبليسية، والقدرية المشركية. وذكر أن أربعة مواضع في القرآن بين سبحانه فيها أن الاحتجاج بالقدر من فعل المشركين، وأن الناس تفرقوا في الكلام على هذه الآيات أربع فرق، وبيّن مذاهبها. ثم ذكر مراتب القضاء والقدر عند أهل السنة والجماعة، وأوضح صلة القدر بالقدرة والعلم والحكمة وقال (199): “فكما لا يخرج مقدور عن علمه وقدرته ومشيئته، فهكذا لا يخرج عن حكمته وحمده، وهو محمود على جميع ما في الكون من خير وشر حمدًا استحقه لذاته، وصدر عنه خلقه وأمره، فمصدر ذلك كله عن الحكمة”.
(المقدمة/28)
وهنا واجه مسألة كبيرة أخرى من المعضلات، قد أشكلت على الفلاسفة وغيرهم من أصحاب الديانات والمقالات قديمًا وحديثًا، فخبطوا فيها خبط عشواء. هي مصدر الشرّ الموجود في العالم وحكمة خلق الأضداد. فناقش المؤلف هذه المسألة من وجوه مختلفة، وأعاد فيها وأبدأ ذاكرًا مذاهب الناس في دخول الشر في القضاء الإلهي، والأصول التي تفرّعت عنها تلك المذاهب، وفي أثنائها تعرض لمسألة إيلام الأطفال والبهائم. وفي الأخير نقل فصلًا لفخر الدين الرازي في هذه المسألة من كتابه المباحث المشرقية، وعقّب عليه.
وقد اتضح من هذا العرض المقتضب لمسألة القضاء والقدر وما يتصل بها كيف تطرق الكلام إليها، ثم اقتضى خطرها وكثرة التنازع فيها أن يتوسع في مناقشتها. ولعلك تذكر قول المؤلف في بداية الفصل أن اللَّه سبحانه لا يحبس فضله عن الانسان إلا لأمرين، وأنه ذكر الأمر الأول الذي قاده إلى هذه المسألة العظيمة الواسعة الأطراف، فذهب عليه مع استطالة الكلام أن يذكر الأمر الثاني. وهذا الموضع ومواضع أخرى تدلّ على أن المؤلف رحمه اللَّه لم يتمكن من إعادة النظر في الكتاب بعد تسويده.
2 – نقد كتاب محاسن المجالس لابن العريف في علل المقامات
أبو العباس أحمد بن محمد بن موسى الصنهاجي الأندلسي المعروف بابن العريف من أكابر صوفية الأندلس. ولد في المرية، ومات في مرّاكش. كانت له عناية بالقراءات ومشاركة في عدة علوم. وكان أديبًا شاعرًا، وكانت بينه وبين القاضي عياض مكاتبات حسنة (1). وله كتاب
__________
(1) وفيات الأعيان (1/ 168 – 169).
(المقدمة/29)
في علل المقامات سمّاه “محاسن المجالس”. وقد نشره المستشرق الإسباني آسين بلاسيوس في باريس 1933 م. وعن هذه النشرة أعاد نشره نهاد خياطة في مجلة المورد العراقية (المجلد 19 العدد 4 سنة 1980) وجاء النص فيها في 25 صفحة. فهو كتاب لطيف. وقد ذكر شيخ الإسلام أنه اعتمد فيه على كتاب “علل المقامات” للشيخ الهروي، فقال في كلام له على التوكل: “فقد تبيّن أنّ من ظنّ التوكل من مقامات عامّة أهل الطريق فقد غلط غلطًا شديدًا، وإن كان من أعيان المشايخ كصاحب “علل المقامات”، وهو من أجل المشايخ. وأخذ ذلك عنه صاحب “محاسن المجالس”” (1).
ويؤكد ذلك المقارنة بين محاسن المجالس ومنازل السائرين. ونذكر هنا مثالًا واحدًا من فصل الرجاء. قال صاحب المنازل: “الرجاء أضعف منازل المريدين، لأنه معارضة من وجه، واعتراض من وجه. وهو وقوع في الرعونة في مذهب هذه الطائفة إلا ما فيه من فائدة واحدة نطق بها التنزيل والسنة، ودخل في مسالك المحققين. وتلك الفائدة هي كونه يبرّد حرارة الخوف حتى لا يفضي بصاحبه إلى الإياس”. ثم ذكر درجاته حسب طريقته (2).
وقال صاحب المجالس: “وأما الرجاء فهو من منازل العوام. وهو انتظار غائب وطلب مفقود، وهو من أضعف منازل القوم في هذا الشأن؟ لأنه معارضة من وجه، واعتراض من وجه آخر. وهو وقوع في الرعونة. ولفائدة واحدة نطق بها التنزيل فقال تعالى: {أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ}
__________
(1) مجموع الفتاوى (10/ 35).
(2) مدارج السالكين (2/ 56).
(المقدمة/30)
يريد على العوض من أجر المجاهدة. وقال: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)}، ووردت به السنة لفائدة واحدة، وهي تبريد حرارة الخوف لئلا يفضي بصاحبه إلى اليأس والقنوط. فهو دواء لمرض الخوف، ولا يعرض ذلك المرض إلّا لعوام هذه الطائفة. . . “.
فالنصان متفقان في الفكر وكثير من الألفاظ والتعبيرات، مع أنه ليس بين أيدينا كتاب علل المقامات للهروي، وإنما نقلنا كلامه من منازل السائرين.
وقد ذكر ابن عبد الهادي أنّ لشيخ الإسلام “قاعدة على كلام ابن العريف في التصوف” (1) ولا نعرف خبرًا عن هذه القاعدة، ولا ندري أتكلم فيها على كتابه محاسن المجالس هذا أم على غيره.
يشتمل كتاب المحاسن على فاتحة، و 13 فصلًا، وخاتمة في أربعين كرامة يكرم اللَّه بها أولياءه في الدنيا والآخرة. والفصل الأول في المعرفة والعلم، ثم عشرة فصول في الإرادة، والزهد، والتوكل، والصبر، والحزن، والخوف، والرجاء، والشكر، والمحبة، والشوق. وجعلها جميعًا من منازل عوام السالكين، وقرّر أنها علل أنِف الخواص منها. ثم عقد الفصل الثاني عشر في منازل الخاصة، وذكر فيه حقيقة زهدهم وتوكلهم وصبرهم. . . ” إلى آخر المقامات. والفصل الثالث عشر في النظر إلى اللَّه تعالى.
لم يتعرض ابن القيم للفصلين الأول والثالث عشر ولا للخاتمة.
__________
(1) العقود الدرية (1/ 57).
(المقدمة/31)
وإنما تكلم على الفصول التي بين الفصلين المذكورين. لأن غرضه -وهو الكلام على علل المقامات- كان متعلقًا بها. وقد استغرق الكلام عليها نحو 280 صفحة من نشرتنا هذه، أي نحو ثلث الكتاب. فهو بمنزلة رسالة مستقلة في نقد كتاب ابن العريف. وإذا كان المبحث السابق وهو القضاء والقدر وما إليه قد يشعر القارئ باستطالته مع خطره وجلالته، وبأن ابن القيم رحمه اللَّه لو كان ألّف كتابه الكبير من قبل لأحال عليه وأوجز القول هنا، كما فعل في حاشيته على السنن = فإن هذا المبحث -وهو علل المقامات- قد وقع في حاقّ موضعه، وهو من صميم موضوع الكتاب. وذلك لأن هذه المقامات هي مقامات السلوك ومنازله، فيجب على السالك أن يعرف عللها وقوادحها، فيتجنبها ويتحاشاها، لينجح مسعاه ويحمد مسراه.
ومن المصائب أن جميع المقامات التي ذكرت في الكتاب والسنة، ووصف بها الأنبياء وغيرهم من عباد اللَّه الصالحين قد جعلها أرباب الطرق معلولة ومن مقامات العوامّ من السالكين. ومراتب الخاصة فوقها، ثم مراتب خاصّة الخاصّة. فلم يكن محيص من التعرض لهذه العلل في هذا الكتاب الذي قصد به بيان قواعد السلوك الشرعي.
وكان من السهل أن يعقد ابن القيم رحمه اللَّه بابًا كاملًا في علل المقامات، ولكنه لم يفعل، بل جاء كلامه عليها عرضًا في الظاهر، كأنه لم يصمد إليها صمدًا، ولم يكن ذلك من همّه ووكده. ولعل هذا رفق منه بقارئ كتابه، وتلطف وإيناس له، لكيلا يستوحش من البداية، فينفر نفورًا. فلننظر كيف دلف ابن القيم إلى هذا البحث النفيس الخطير.
عقد ابن القيم فصلًا (403) بعنوان “قاعدة نافعة”، وذكر أن الإنسان
(المقدمة/32)
من حين استقرت قدمه في الدنيا فهو مسافر فيها إلى ربه، ومدة سفره هو عمره الذي كتب له. والناس في سفرهم هذا إما مسافرون إلى دار الشقاء وإما إلى دار السلام. والسائرون إلى دار السلام ثلاثة أقسام: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات. والسابقون بالخيرات نوعان: أبرار ومقربون.
ثم عقد فصلًا في مسألة أن أصحاب اليمين هل هم الأصناف الثلاثة (المقتصدون والأبرار والمقربون) أو يدخل فيهم الظالمون لأنفسهم أيضًا. وفصّل القول فيها على طريقته من ذكر خلاف العلماء وأدلتهم وردودهم في نحو 32 صفحة، ثم رجع فقال: “والمقصود الكلام على مراحل العالمين وكيفية قطعهم إياها، فلنرجع إليه فنقول. . . ” (441).
ثم وصف حال الأصناف المذكورة، وأفضلها وأعلاها: السابقون المقربون. وقد تواضع ابن القيم فاعتذر واستغفر قبل وصف حالهم قائلًا: “وأما السابقون المقربون، فنستغفر اللَّه الذي لا إله إلا هو أولًا من وصف حالهم وعدم الاتصاف به، بل ما شممنا له رائحة، ولكن محبة القوم تحمل على تعرف منزلتهم والعلم بها. وإن كانت النفوس متخلفة منقطعة عن اللحاق بهم، ففي معرفة حال القوم فوائد عديدة” (446). وبعد ذكر هذه الفوائد شرع في وصف حالهم من الجهتين: جهة الإرادة والعمل، وجهة العلم والمعرفة. فلما وصف حالهم مع الأقدار التي تصيبهم بغير اختيارهم بأنهم يقابلونها بمقتضاها من العبودية ذكر أنهم فيها على ثلاث مراتب: إحداها الرضا عنه فيها والمزيد من حبه والشوق إليه. والمرتبة الثانية شكره عليها كشكره على النعم. وهذا فوق الرضا عنه بها، ومنه ينتقل إلى هذه المرتبة، والمرتبتان لأهل هذا الشأن.
(المقدمة/33)
والثالثة للمقتصدين، وهي مرتبة الصبر التي إذا نزل منها نزل إلى نقصان الإيمان وفواته. ثم قال: “فالصبر أول منازل الإيمان ودرجاته، وأوسطها، وآخرها. فإن صاحب الرضا والشكر لا يعدم الصبر في مرتبته، بل الصبر معه، وبه يتحقق الرضا والشكر، لا تصور ولا تحقق لهما دونه. وهكذا كل مقام مع الذي فوقه، كالتوكل مع الرضا، وكالخوف والرجاء مع الحب. فإن المقام الأول لا ينعدم بالترقي إلى الآخر. . . وإنما يندرج حكمه في المقام الذي هو أعلى منه” (477).
ولما وصل هنا قال: “فتأمل هذا الموضع وأعطه حقه يزُل عنك ما يعرض من الغلط في علل المقامات، وتعلم أن دعوى المدعي أنها من منازل العوام ودعوى أنها معلولة غلط من وجهين”. وبعد ذكرهما قال: “ولنذكر لذلك أمثلة”. وهذا هو المدخل لنقد كتاب ابن العريف، فذكر المثال الأول في الإرادة وقال: إن اللَّه جعلها من منازل صفوة عباده، وقالت طائفة: “الإرادة حلية العوام. . . ” (479). ونقل كلامًا طويلًا لابن العريف من كتابه محاسن المجالس ولكن لم يسمّه هنا، بل جعله قول “طائفة” لأن المقصود نقد مذهب، لا نقد شخص بعينه. ثم تكلم عليه من اثني عشر وجهًا.
وفي الفصل الثاني ذكر المثال الثاني وهو في الزهد وهنا فجأة قال: “قال أبو العباس رحمه اللَّه” (492). ولكن من أبو العباس هذا؟ لا يعرف القارئ شيئًا عنه إلى أن يصل بعد استطرادات مهمة إلى ص (545). فيجده يقول: “ولنرجع الآن إلى المقصود، وهو الكلام على ما ذكره أبو العباس ابن العريف في علل المقامات، فقد ذكرنا كلامه في علة مقام الإرادة والكلام عليه، وذكرنا كلامه في مقام الزهد وقوله إنه من مقامات
(المقدمة/34)
العامة، وذكرنا أن الكلام على ذلك من وجوه، هذا آخر الوجه الثاني منها. والوجه الثالث: … “.
وهكذا تكلم ابن القيم على فصل فصل من كتاب محاسن المجالس حتى إذا وصل إلى فصل المحبة قال: “والمقصود: الكلام على علل المقامات وبيان ما فيها من خطأ وصواب. ولما كان أبو العباس ابن العريف رحمه اللَّه قد تعرض لذلك في كتابه “محاسن المجالس” ذكرنا كلامه فيه وما له وما عليه. ثم ذكر بعدها فصلًا في المحبة وفصلًا في الشوق، فنذكر كلامه في ذلك وما يفتح اللَّه به تتميمًا للفائدة، ورجاء للمنفعة وأن يمنّ اللَّه العزيز الوهاب بفضله ورحمته، فيرقي عبده من العلم إلى الحال، ومن الوصف إلى الاتصاف، إنه قريب مجيب” (639).
فانظر كيف تدرّج ابن القيم رحمه اللَّه بقارئه، فقال له أولًا: إنه سيذكر أمثلة من علل المقامات، وذكر مثال الإرادة، ونقل (479) كلام “طائفة” (وهو فصل من كلام ابن العريف). وفي المثال الثاني قال (492): “قال أبو العباس”. وفي المثال الثالث زاد في تعريفه، فقال (545): “أبو العباس بن العريف”. وبعد المثال السادس ذكر (639) مع اسمه اسم كتابه أيضًا، فجاءت الإحالة إحالة كاملة. فهل هذا اتفاق أو أسلوب من أساليب التأليف عند ابن القيم رحمه اللَّه؟ أراني أميل إلى الأمر الثاني. ولعلّ تطرّقه في كتاب “مدارج السالكين” إلى شرح “منازل السائرين” للهروي ونقده أيضًا من هذا.
وبقي سؤال، وهو أنّ ابن العريف قد اعتمد في كتابه على كتاب علل المقامات للشيخ الهروي كما ذكر شيخ الإسلام. وقد أشار إليه ابن القيم أيضًا في مدارج السالكين حينما نقل كلام ابن العريف -دون تسميته- في
(المقدمة/35)
التوكل نموذجًا لكلام هذه الطائفة في علل المقامات، وردّ عليه، ثم قال (3/ 471) “وهكذا الكلام في سائر علل المقامات، وإنما ذكرنا هذا مثالا لما يذكر من عللها، وقد أفرد لها صاحب المنازل مصنّفا لطيفا وجعل غالبها معلولًا”. فلماذا اختار ابن القيم للنقد والنقض كتاب ابن العريف، وترك كتاب الهروي الذي هو الأصل؟ يبدو أن ابن القيم لم يقف على كتاب الهروي لا سيما عند تأليفه طريق الهجرتين ومدارج السالكين.
(المقدمة/36)
أهمية الكتاب
تكمن أهمية هذا الكتاب بالدرجة الأولى في أمرين معًا، وهما: موضوعه، ومؤلفه. فالموضوع -كما سبق- بيان قواعد السلوك والسير إلى اللَّه على المنهج الذي شرعه اللَّه ورسوله، لأن سعادة العبد في الدارين منوطة بهذا السير المستقيم. ولكن الموضوع متداول مطروق في كتب الصوفية، وكلهم يزعم أن القواعد التي يذكرها مؤسسة على الكتاب والسنة. وهنا يكتسب الكتاب أهميته من الأمر الثاني وهو أنه من تأليف إمام ربّاني يصدر في كل مسألة عن كتاب اللَّه وسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وهو مع تمسكه الشديد بالكتاب والسنة مطلع على كتب القوم، عارف بغوامضها، قادر على الخوض في دقائقها، ذائق لأحوال السالكين، مشرف على مقامات العارفين، ومن الزهد والورع والتعبد والتألّه في مكان مكين. هذا إلى العدل والنصفة في النقد والحكم، وعدم التحيز إلى فرقة أو حزب أو مذهب. فكون هذا الكتاب في بيان قواعد السلوك المحمدي، ومن تأليف الإمام ابن القيم رحمه اللَّه هو الذي أضفى عليه أهمية بالغة. والحقيقة أن كتب الشيخين ابن تيمية وابن القيم رحمهما اللَّه في تزكية النفس وطب القلوب لتؤلف “منظومة” لا نظير لها في المكتبة الإسلامية.
أمّا المباحث الجليلة التي اشتمل عليها الكتاب فقد سبقت الإشارة إلى أهمية بعضها في الفقرة السابقة. وقد نبّه المؤلف نفسه رحمه اللَّه -نصحًا لقارئ كتابه وشفقة عليه- على أهمية بعض المباحث، نحو قوله خلال الكلام على طبقات المكلفين في الدار الآخرة: “ولا يدري قدر الكلام في هذه الطبقات إلا من عرف ما في كتب الناس، ووقف على
(المقدمة/37)
أقوال الطوائف في هذا الباب، وانتهى إلى نهاية مرامهم ونهاية إقدامهم” (902).
هكذا في فصل التوكل ختم بيانه لسرّ الاقتران بين التوكل والهداية والحق في القرآن الكريم بقوله: “فتدبّر هذا السر العظيم في اقتران التوكل والكفاية بالحق والهدى، وارتباط أحدهما بالآخر. ولو لم يكن في هذه الرسالة إلّا هذه الفائدة السَّرِيَّة لكانت حقيقة أن توح في خزانة القلب لشدة الحاجة إليها” (561).
والمباحث التي وردت في غضون الكلام استطرادًا، قد نبّه المؤلف رحمه اللَّه على أن أهميتها هي التي اقتضت تناولها، بل كان بعض المباحث المعترضة أهم من المبحث الأصلي. فقال في موضع: “ولولا أن هذه المواضع أهم مما كلامنا بصدده -من ذكر مجرد الطبقات- لم نذكرها، ولكنها من أهم المهم” (811). ولما عاد إلى المقصود بعد بسط الكلام على آيات الإنفاق من سورة البقرة قال: “ولنعد إلى المقصود، فإن هذا من سعي القلم، ولعله أهم مما نحن بصدده” (824).
ولقد أحسن المصنف رحمه اللَّه إذ توقف عند هذه المباحث المهمة وتناولها بالبسط، فهذا الاستطراد ينفع القارئ بعض الأحيان نفعًا عظيمًا. فقد حفظ بفضله كلام شيخ الإسلام وابن القيم وغيرهما في كثير من المسائل العظيمة.
ومع ذلك لا يظن القارئ أن المؤلف رحمه اللَّه كان زمامه بيد الاستطراد يقوده أنّى شاء. فإذا كانت المسألة تقتضي كلامًا مستفيضًا متشعبًا يكتفي المؤلف بالإشارة إليه ولا يخوض فيه. ومن ذلك أنه لما
(المقدمة/38)
ذكر من أصول المعتزلة “النبوة” قال: “مع أنهم لم يوفوها حقّها، بل هضموها غاية الهضم من وجوه كثيرة ليس هذا موضعها” (836). وهكذا لما ذكر مذاهب الفرق في الطبقة التي رجحت سيئاتها على حسناتها قال: “ولولا أن المقصود ذكر الطبقات لذكرنا ما لهذه المذاهب وما عليها، وبيّنا تناقض أهلها” (845).
وفي تفسير آيات الإنفاق لما وصل إلى آية الدين قال: “ولولا أن هذه الآية تستدعي سفرًا وحدها لذكرت بعض تفسيرها”. (823).
(المقدمة/39)
موارد الكتاب
بالإضافة إلى نصوص القرآن والأحاديث والآثار، يتضمن الكتاب نقولًا من كتب التفسير والحديث والتصوف، وأقوالًا وأشعارًا ومذاهب واحتجاجات لأصحاب المقالات ورجال الفرق. فلا شك أن المصنف رحمه اللَّه كان بين يديه عدد كبير من المصادر التي وقف عليها، منها ما وصل إلينا، ومنها ما لم يصل، وبعض ما وصل ليس بين أيدينا، فليس من السهل أن يكشف عنها جميعًا. ثم لم يكن من منهج العلماء عمومًا التزام الإحالة في كل ما يوردونه في مصنفاتهم من أقوال ومذاهب. ثم المصادر في زمنهم كانت متوافرة، وكثير من تلك الأقوال والمذاهب معروفة لأصحابها، والثقة بالناقل قائمة، فكأنّهم كانوا يرون من التكلف كلّما ذكر مؤلف قولًا من الأقوال أن يصرّح باسم الكتاب الذي نقله منه، بل قد لا يرى داعيًا إلى تسمية القائل نفسه فضلًا عن مصدر قوله، بل قد يتعمد إغفال اسمه لأمر ما.
ولنضرب مثالًا من كتابنا هذا، ليتضح القصد. عقد المؤلف رحمه اللَّه فصلًا في ذكر كلمات عن أرباب الطريق في الفقر والغنى (96 – 105) أورد فيه أكثر من عشرين كلمة للمشايخ مع التعليق عليها. وهذه كلها مأخوذة من كتاب واحد، وهو الرسالة القشيرية، ولكن لم يشر المؤلف إليها. نعم ذكر في موضع الأستاذ أبا القاسم القشيري، ولكن لا لبيان مصدر الأقوال، بل لأن أبا القاسم علق على كلمة للمظفر القرميسيني، ورأى المؤلف أن في الكلمة شطحًا وفي التعليق غموضًا وخلطًا، مما يستوجب التعقيب، فعقّب عليهما وأبان وجه الصواب. فنلاحظ هنا أن ابن القيم رحمه اللَّه لم يشر إلى مصدر الأقوال لأن غرضه
(المقدمة/40)
كان متعلقًا بالأقوال نفسها، وقد نقلها من مصدرها بأمانة تامة.
أما تعليق أبي القاسم فكان بإمكان ابن القيم أن يحيل هنا على رسالته أيضًا، ولكنه لم يفعل، وذلك فيما يبدو نظرًا لشهرة الرسالة، وثقةً بفطنة القارئ.
وبعد، فهما طريقان مألوفان للإشارة إلى المصادر، فيصرح حينًا باسم الكتاب، وحينًا آخر يسمّى صاحب الكتاب دون كتابه، وبعض الأحيان يغفل الإحالة. وقدّمنا هذا التنبيه لكيلا يظن القارئ أن الموارد التي سنشير إليها في هذا المبحث هي كل موارد الكتاب أو جلّها، فإنّ الناظر في الكتاب يكاد يجزم أن ما لم يذكر هنا يبلغ عدده أضعاف ما ذكر. هذا، وربما استفاد المؤلف بعض النقول بواسطة.
ونذكر أولًا أسماء الكتب المذكورة في المتن ثم أسماء المؤلفين الذين لم تذكر كتبهم، ثم نقول المؤلف عن شيخه ابن تيمية رحمه اللَّه.
* أولًا: الكتب
أثبتنا بجانب اسم الكتاب أرقام الصفحات التي نصّ فيها على اسمه. ولمعرفة المواضع الأخرى التي نقل فيها عن مؤلفه دون تسمية كتابه المذكور، يراجع فهرس الأعلام.
– تفسير ابن مردويه (262، 428، 437).
– تفسير منذر بن سعيد (414).
– خلق أفعال العباد للبخاري (295).
– الرد على الجهمية للإمام أحمد (771).
(المقدمة/41)
– السنة للطبري (149).
– السنن الأربعة (165).
– سنن الترمذي (166، 168، 170، 541، 626، 686، 784، 920).
لم يسمّ المؤلف كتاب الترمذي، ولكن قوله الترمذي بمنزلة تسمية كتابه، وهكذا في كتب الحديث الأخرى.
– سنن أبي داود (164).
– السنن الكبرى للنسائي (444، 721، 741).
– سنن ابن ماجه (162، 164).
– الصحيحان (148، 149، 150، 155، 162، 163، 165، 687، 842، 860، 873).
– صحيح البخاري (162، 163، 203، 462، 619، 782، 806، 850، 852، 910).
– صحيح مسلم (139، 146، 147، 148، 150، 155، 170، 384، 535، 539، 624، 856، 863).
– صحيح الحاكم (124).
– صحيح ابن حبان (124، 578، 843، 846).
– صحيح أبي عوانة (844).
– كتاب القدر لأبي داود (151).
(المقدمة/42)
– كتاب المحتضرين لابن أبي الدنيا (669).
– كتاب نزول الرب كل ليلة إلى سماء الدنيا للدارقطني (464).
– الكشاف للزمخشري (414).
– المباحث المشرقية للرازي (334).
– محاسن المجالس لابن العريف (639).
– مستخرج البرقاني على البخاري (853).
– مسند أحمد (15، 123، 150، 170، 522، 550، 578، 721، 784، 847، 848، 865).
– مسند إسحاق بن راهويه (866).
– المعجم الكبير للطبراني (263).
– مقالات الإسلاميين للأشعري (872، 912).
– منازل السائرين للهروي (74، 585، 701، 714، 729).
والجدير بالذكر أنّ نسخة “منازل السائرين” التي رجع إليها ابن القيم هذا الكتاب غير النسخة التي اعتمد عليها في كتاب “مدارج السالكين”.
* ثانيًا: المؤلفون
– البغوي (914).
كثيرا ما يعتمد المؤلف على تفسير معالم التنزيل للبغوي، فهناك مواضع أخرى لم يصرّح بنقله عنه، كما سنرى في الحواشي.
(المقدمة/43)
– البيهقي (867، 869، 870، 873).
النقل في المواضع الثلاثة الأولى من كتاب الاعتقاد.
– الثعلبي (535): الكشف والبيان.
– الحاكم (832).
يجوز أن تكون الإحالة على معرفة علوم الحديث أو المستدرك.
– ابن حزم (840): الدرَّة فيما يجب اعتقاده.
– الدارمي (384): نقض الدارمي على بشر المريسي.
– الرماني (414).
يظهر من السياق أن الإحالة على تفسيره.
– الزجّاج (229، 534، 779، 914).
نقل قوله في الموضع الأخير من تفسير البغوي، ولعل المواضع الأخرى أيضًا منقولة بالواسطة.
– الطبري (145، 148، 167، 169، 171).
الظاهر أن هذه النقول كلها ماخوذة من كتاب السنة له، وقد صرّح باسمه في ص (149) كما سبق.
– ابن عبد البرّ (841، 872).
النقل من الاستذكار، وقد صرّح باسمه في أحكام أهل الذمة (872).
– عبد الحق الإشبيلي (866، 869): كتاب العاقبة.
(المقدمة/44)
– أبو عبد الرحمن السلمي (727).
– ابن عطية (535): المحرر الوجيز.
– الفريابي (440).
لعلّ النقل من تفسيره.
– ابن قتيبة (859).
الظاهر أن النقل من غريب الحديث، والمطبوعة ناقصة، ولكن قد يكون مصدر قوله “الرد على ابن قتيبة للمروزي”.
– المهدوي (535). لعلّ النقل من تفسيره.
– ابن وهب (152، 154، 167): كتاب القدر.
– ابن وضاح (772): البدع والنهي عنها.
– القاضي أبو يعلى (846).
* ثالثًا: النقول عن شيخ الإسلام
إنّ شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم رحمهما اللَّه يغرفان جميعًا من ينبوع واحد، ومنهجهما واحد في تقويم الأقوال والآراء ووزنها بميزان الكتاب والسنة دون التعصب لشخص أو مذهب. ثم من طول الملازمة والمذاكرة والموافقة امتزجت الأفكار وتشابهت العبارات، وكادت تتحدّ بعض الأحيان.
وقد يتناول ابن القيم قاعدة من قواعد شيخ الإسلام ويفسرها ويبسط الكلام عليها من غير أن يشير إلى أن أصلها من كلام شيخه، ولا عجب
(المقدمة/45)
في ذلك، فهو حامل علمه وناشره وشارحه. وكذلك بعض أقوال الشيخ وآرائه يعزوها إليه حينًا، ويغفل العزو حينا آخر. ومن ثم يجب على من يريد دراسة أفكار ابن القيم في موضوع من الموضوعات أن يستوعب النظر في مؤلفات شيخه أيضًا.
ذكر ابن القيم شيخه في هذا الكتاب في عشرة مواضع. أورد في موضعين (12، 186) ثلاثة أبيات من تائيته. وفي موضعين (328، 518) ذكر كتابه “موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح” وأثنى عليه. وفي موضعين آخرين (184، 658) نقل مناظرة له مع بعض شيوخ الجبرية حكاها له. وفي (849) نقل حكمه على حديث بأنه باطل موضوع. وفي المواضع الأخرى (200، 214، 534) نقل أقوال شيخه في بعض المسائل.
أما النصوص التي هي لشيخه بدليل وجودها في كتبه أو أن ابن القيم نفسه عزاها إليه في كتاب آخر له، فمنها أنه ذكر في (29) قول المسيح للحواريين: “إنكم لن تلجوا ملكوت السماء حتى تولدوا مرتين” وفسّره واستدل كذلك بقراءة لأبي بن كعب، من غير إشارة إلى شيخه. ولكن في مدارج السالكين (3/ 34) نقل ذلك كله عن الشيخ.
ومنها أنه لما فسّر “العزيز” من أسماء اللَّه سبحانه بأن العزة تتضمن القوة قال: “يقال: عز يعَز -بفتح العين- إذا اشتدّ وقوي. ومنه الأرض العزاز للصلبة الشديدة. وعز يعز -بكسر العين- إذا امتنع ممن يرومه. وعز يعُز -بضم العين- إذا غلبَ وقهر. فأعطوا أقوى الحركات -وهي الضمة- لأقوى المعنى، وهو الغلبة والقهر للغير. . . ” (231). ونحوه في مدارج السالكين (3/ 238) وجلاء الأفهام (147) أيضًا، ولكن السياق في جلاء الأفهام يدلّ على أنه من كلام شيخ الإسلام، إذ قال فيه:
(المقدمة/46)
“ثم ذكر لي فصلًا عظيم النفع في التنالسب بين اللفظ والمعنى، ومناسبة الحركات لمعنى اللفظ، وأنهم في الغالب يجعلون الضمة التي هي أقوى الحركات للمعنى الأقوى. . . فيقولون: عز يعَز بفتح العين إذا صلب. وأرض عزاز: صلبة. . . ” ونجد الفكرة بعينها مع تفسير الكلمة على هذا الوجه في منهاج السنة (3/ 325).
ومنها القاعدة الأولى بعد باب الفقر والغنى، التي عنوانها: “قاعدة شريفة عظيمة القدر حاجة العبد إليها أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب. . . “. وخلاصتها أن اللَّه عز وجل هو المعبود المطلوب المحبوب وحده، وهو المعين للعبد على حصول مطلوبه، وهو معنى قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. فقد بنى ابن القيم كلامه في هذه القاعدة إلى أول الفصل الثالث (116 – 133) على كلام شيخه، ونقل معظمه بنصه مع بسطه. وكذا فعل في الباب السادس من كتابه إغاثة اللهفان (70 – 96)، ولكنه رتبه هناك على نحو آخر، ولم يشر هنا ولا في الإغاثة إلى شيخ الإسلام. وكلام الشيخ في مجموع الفتاوى (1/ 21 – 33).
ولا أستبعد أن يكون نقد ابن القيم لكتاب ابن العريف في علل المقامات مبنيًا على قاعدة الشيخ المذكورة في مؤلفاته، وقد سبقت الإشارة إليها.
وفي آخر هذه الفقرة نشير إلى موضعين في تفسير قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “ربنا ولك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد”. ذكر في الموضع الأول (240) أن قوله: “ملء ما شئت من شيء بعد” يحتمل أمرين: أحدهما أن يملأ ما يخلقه
(المقدمة/47)
اللَّه بعد السماوات والأرض، والثاني أن يكون المعنى: ملء ما شئت من شيء ويقدّر مملوءًا بحمدك، وإن لم يكن موجودًا. ثم أورد وجوهًا تقوي المعنى الأول. وختم الوجه الثاني في المسوّدة (41/ أ) بقوله: “هذا تقرير شيخنا. قلت: وفيه نظر، إذ قوله: “وملء ما شئت من بعد” يحتمل بعدية الزمان وبعدية المكان المغايرة، أي ما شئت غير ذلك. والبعدية مستعملة فيهما”. ثم ضرب على هذه العبارة، فبقي تقرير الوجه الثاني دون إشارة إلى أنه من كلام شيخ الإسلام، ودون التعقيب عليه.
وفي الموضع الثاني (242) ذكر المؤلف اختلاف الناس في معنى كون حمد اللَّه سبحانه يملأ السماوات والأرض وما بينهما، وأن طائفة ذهبت إلى أن ذلك على وجه التمثيل. ثم كتب في مسودته (41/ أ): “وكان شيخنا رحمه اللَّه يرى أنه لا يحتاج إلى هذا التكلف، بل الحمد يملؤها حقيقة”. ثم ضرب على هذه العبارة واستكمل استدلال الطائفة الأولى، ثم قال: “والصواب أنه لا يحتاج إلى هذا التكلف البارد، فإن ملء كل شيء يكون بحسب المالئ والمملوء”. ثم أورد استعمالات وشواهد عديدة ليخلص إلى أنه حقيقة في بابه.
(المقدمة/48)
طبع الكتاب وتحقيقه واختصاره وترجمته
أوّلًا: طبعه وتحقيقه:
صدر طريق الهجرتين لأول مرة سنة 1320 هـ في القاهرة من المطبعة الميمنية. وعلى هذه الطبعة اعتمدت طبعة المنيرية ثم طبعة السلفية مع زيادة تعليقات وتحسينات. ثم عن هذه الثلاث وبخاصة عن السلفية صدرت معظم الطبعات، وإن ادّعت بعضها الاعتماد على نسخة خطية. ونذكر فيما يلي الطبعات التي وقفنا عليها:
– طبعة المطبعة الميمنية على حاشية إغاثة اللهفان، بتصحيح محمد الزهري الغمراوي. صدرت في شعبان 1320 = 1902 م. عدد صفحاتها 4+ 423. والنسخة التي وقفت عليها ضاعت خاتمتها، فلا أدري أأشير في آخرها إلى المخطوطة التي اعتمد عليها في نشرها أم لا.
– طبعة إدارة الطباعة المنيرية. كتب على غلافها: “عنيت بتصحيحه والتعليق عليه للمرة الأولى سنة 1357 هـ إدارة الطباعة المنيرية”. وفي آخرها: “تم طبعه في ربيع الآخر سنة 1358 هـ. وهي في 567 صفحة بالإضافة إلى فهرس الموضوعات المرقم بحروف المعجم.
– طبعة المكتبة السلفية بعناية الأستاذ محب الدين الخطيب رحمه اللَّه. ووقف على طبعها يوسف بن عبد العزيز النافع. صدرت سنة 1375 هـ = 1955 م في 432 صفحة. والطبعة الثانية منها صدرت سنة 1394 هـ = 1974 م.
– طبعة إدارة الشؤون الدينية في الدوحة (قطر) سنة 1397 هـ = 1977 م (عن ط السلفية) بتحقيق ومراجعة الشيخ عبد اللَّه بن إبراهيم
(المقدمة/49)
الأنصاري رحمه اللَّه في 744 صفحة.
– طبعة مكتبة النهضة الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع في القاهرة سنة 1399 هـ = 1979 م. قام بتصحيحها محمود غانم غيث (عن ط المنيرية) في 624 صفحة.
– طبعة دار الكتب العلمية في بيروت، سنة 1416 هـ، مصورة عن ط السلفية في 432 صفحة.
– طبعة مكتبة المعارف بالطائف (عن ط السلفية) دون تاريخ، في 427 صفحة.
– طبعة دار الوطن للنشر والإعلام في المملكة العربية السعودية (عن ط السلفية) دون تاريخ في 432 صفحة.
– طبعة مكتبة المؤيد بالرياض سنة 1414 هـ = 1993 م، بتحقيق بشير محمد عيون. وبين يديّ طبعته الثانية التي صدرت عن مكتبة دار البيان بدمشق سنة 1419 هـ في 443 صفحة. وقد زعم محققها أنه اعتمد على نسخة الظاهرية ونسخة الكويت والطبعتين المنيرية والسلفية، وقد أثبت أرقام أوراق الظاهرية أيضًا على حواشي الصفحات، ولعل هذا هو المقصود بالاعتماد عليها!
– طبعة دار ابن كثير بدمشق، تحقيق يوسف علي بديوي. وبين أيدينا الطبعة الرابعة التي صدرت سنة 1424 هـ في 812 صفحة، ولم أعرف متى صدرت لأول مرة. وقد زعم محققها أيضًا أنه اعتمد فيها على نسخة الظاهرية. وهذه أيضًا دعوى عريضة لا تصدّقها المقابلة بينها وبين النسخة المذكورة!
– طبعة دار الخير في بيروت سنة 1419 هـ، بتحقيق وهبة الزحيلي
(المقدمة/50)
عن ط دار ابن كثير! وخرج أحاديثه أسامة حسن عبد المجيد. عدد صفحاتها 498 صفحة.
– طبعة دار ابن القيم بالدمام، الطبعة الثانية، سنة 1414 هـ، ضبط وتخريج وتعليق عمر بن محمود أبو عمر، في 632 صفحة.
– طبعة المكتبة العصرية في بيروت سنة 1423 هـ باعتناء أبي عبد اللَّه العاملي السلفي، في 488 صفحة، وذكر في المقدمة أنه اعتمد على الطبعة المصرية القديمة، وطبعة دار ابن القيم، وطبعة دار ابن كثير، وهي أصح تلك الطبعات (؟).
– طبعة نزار مصطفى الباز في مكة المكرمة، تحقيق أبي الزهراء حازم علي بهجت القاضي سنة 1415 هـ، في 556 صفحة.
– طبعة دار الكتاب العربي في بيروت. حققه وخرج أحاديثه أحمد إبراهيم زهوة. الطبعة الأولى سنة 1423 هـ. وذكر أنه اعتمد على طبعة سابقة لدار الكتاب العربي.
– طبعة دار ابن حزم في بيروت، الطبعة الأولى سنة 1424 هـ.
– طبعة دار المعرفة في بيروت، الطبعة الأولى سنة 1424 هـ، اعتنى بها عبد اللَّه سنده.
* وقد حُقّق الكتاب لأول مرة في ثلاث رسائل جامعية (1423 – 1424) في كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية من إعداد الباحثين:
1 – عايد بن مسفر العقيلي.
2 – عبد اللَّه بن عايض آل مسعود القحطاني.
(المقدمة/51)
3 – خالد بن علي بن عبد اللَّه العايد.
وقد أشرف على القسمين الأول والثاني: الشيخ عبد اللَّه بن صالح المشيقح، وعلى الثالث: الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم الشهوان.
وكان اعتمادهم على نسخة المصنف، ونسخة الفاتح، ونسخة الكويت، ونسخة برلين، ونسخة الشيخ ابن سحمان المكتوبة سنة 1285 هـ. والرسائل الجامعية لها منهجها وحدودها.
ثانيًا: اختصاره
– اختصر الكتاب فؤاد شاكر، وصدر باسم “إني مهاجر إلى ربي – مختصر طريق الهجرتين” في 212 صفحة من مكتبة التراث الإسلامي بالقاهرة سنة 1407 هـ.
– اختصر الباب الأخير من الكتاب ونشره عبد اللَّه بن جار اللَّه بن إبراهيم الجار اللَّه بعنوان “مختصر طبقات المكلفين”. وقد صدر من مكتبة الطالب الجامعي بمكة المكرمة سنة 1404 هـ في 27 صفحة.
– فصل “مشاهد الخلق في المعصية” استلّه نذير حسن عتمة ونشره سنة 1405 هـ.
ثالثًا: ترجمته
– ترجمه إلى الأردية مع شيء من الاختصار شيخنا الشيخ عبد العليم الإصلاحي، ونشرته رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء في الرياض سنة 1414 هـ = 1994 م في 343 صفحة.
– ترجمة أخرى إلى الأردية صدرت من الدار السلفية في بومباي، لم أقف عليها. وقد ذكرها الشيخ محمد عزير شمس دون ذكر اسم المترجم وتاريخ النشر في فهرس أعدّه لمؤلفات ابن القيم (مخطوط).
(المقدمة/52)
مخطوطات الكتاب
مخطوطات الكتاب التي وقفت عليها أو علمت بها يبلغ عددها 14 نسخة، وقد اخترت منها خمس نسخ اعتمدت عليها أو استأنست بها في إخراج هذه النشرة، أصفها أولًا ثم أذكر سائرها.
1 – نسخة الظاهرية (الأصل)
وهي من مخطوطات دار الكتب الظاهرية برقم 1457 تصوف 139. وصفها الأستاذ محمد رياض مالح رحمه اللَّه في فهرس مخطوطات التصوف (2/ 274) بقوله: “الخط نسخي مقروء، بخطوط مختلفة، الحبر أسود، ق 125، س 24، كلمات السطر 15. هامش 2 سم. 25.5 × 18 سم”.
ثم ذكر من ملاحظاته عليها: “نسخة قيمة. الورقة الأولى بخط المؤلف، ثم ورقتان بخط حديث. ثم يتخلل الكتاب بعض خطوط مختلفة، ولكن الغالب خط المؤلف. وهو من وقف العمرية”.
لقد حرصت على نقل هذا الوصف لأنه صادر عن معاينة للأصل لا لصورته التي بين أيدينا.
الحق أن هذه النسخة -كما سنرى- تحفة نفيسة وكنز ثمين لا يقوّم، لأنها مسوّدة الكتاب بخط ابن القيم رحمه اللَّه. وفيها تصحيحات وإضافات واستدراكات كثيرة بخطه.
أما عدد أوراق النسخة في وضعها الحالي، وهي مرقمة، فقد وصل ترقيمها مع الورقتين اللتين ذكر الأستاذ مالح أنهما بخط حديث إلى 126 ورقة، والظاهر أن تكون معهما 127 ورقة. أما عدد الأسطر فيتراوح ما
(المقدمة/53)
بين 22 و 37 سطرًا.
وقد وقع في ترتيبها اضطراب شديد. ويبدو أنها قد تشتّت شملها، فجمعت أوراقها كيفما اتفق، ورقمت، وليعرف مقدار هذا الاضطراب في أوراقها نثبت هنا الأرقام المثبتة عليها على الترتيب الصحيح.
1 – 12، 31، 97، 99، 94، 96، 33، 34، 118، 28، 45، 46، 43، 44، 93، 42، 47، 49، 27، 36، 37، 13، 14، 29، 30، 15، 16، 39، 35، 116، 108، 115، 117، 50، 100 – 107، 51، 52، 18 – 26، 17، 53 – 87، 91، 90، 88، 92، 93، 119 – 126.
والنسخة كاملة ما عدا “وريقة” تضمنت جزءًا من استدراك طويل وأشار إليها المؤلف في طرة (58/ أ)، فإنها قد فقدت من النسخة. ومحتواها يبلغ ثلاث صفحات وتسعة أسطر من طبعة السلفية. ثم بعض الإضافات والاستدراكات قد ذهب سطر منها أو أكثر لتأكل أطراف الورق قديمًا قبل أن تنسخ منها نسخة الفاتح الآتية سنة 772 هـ. وذهبت أسطر أخرى فيما بعد. وقد يكون التصوير أيضًا أخفى بعضها.
كتب في وجه الورقة الأولى اسم الكتاب في سطرين وتحته اسم المؤلف هكذا: “كتاب طريق الهجرتين وباب السعادتين تأليف العبد الفقير إلى اللَّه تعالى محمد بن أبي بكر بن القيم”.
وتحته العبارة الآتية:
“هذا المكتوب أعلاه هو خط المصنف رحمه اللَّه تعالى. وهو الإمام العلامة شيخ الإسلام ترجمان القرآن، كاشف قناع غوامض المشكلات، ذو التصانيف البديعة، والحد الحديد بالانتصار للسنة الشريفة، أوحد
(المقدمة/54)
العلماء المفوهين، الذائق حلاوة عبارات السالكين، شمس الدين أبو عبد اللَّه محمد الشهير بابن قيم الجوزية. تغمده اللَّه برضوانه ورحمته، وأحفه بفضله بحبوحة جنته آمين”.
لم يكتب صاحب هذا البيان اسمه، ولكنه عارف بخط ابن القيم، والعبارة “تأليف العبد الفقير. . . ” تدل على أنها بقلم صاحبها، غير أن هذا الفاضل أحبّ أن يؤكد ذلك بشهادته.
جاء تحت البيان السابق: “من كتب إلياس بن علي الشافعي” وفي موضع آخر ورد الاسم نفسه على وجه أكمل: “في نوبة الفقير إلى اللَّه سبحانه وتعالى إلياس بن علي بن أبي بكر بن إلياس الشافعي عفا اللَّه سبحانه وتعالى عنهم أجمعين. آمين رب العالمين”.
ولعل إلياس هذا هو آخر من ملك النسخة من الذين ظهرت أسماؤهم في صفحة العنوان. وفي الجانب الأيسر من اسمه قيد تملك آخر طمس بعضه، وقرئ منه: “الحنفي الخراساني عفا اللَّه عنه”. وتحته قيد مطالعة: “الحمد لله الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. طالعه. . . عثمان الحسباني لطف اللَّه به”.
وفي أسفل الصفحة قيد شراء للنسخة: “انتقل بالابتياع الصحيح الشرعي من مالكه إلى العبد علي بن محمد الفقاعي. . . ” (1).
وتحته قيد آخر: “ثم انتقل بالابتياع الصحيح الشرعي من تركة مالكه المذكور أمامه رحمه اللَّه بطريق الوكالة بمشترى سيدي الأخ بدر الدين
__________
(1) لعله علاء الدين علي بن محمد بن علي الحموي ثم الدمشقي الفقاعي الحنفي الشاعر. ولد في حماة سنة 918 هـ. انظر: شذرات الذهب (4/ 80).
(المقدمة/55)
أبي عبد اللَّه محمد بن فخر الدين لكاتب هذه الأحرف الفقير إلى اللَّه تعالى في الحال والمآل عبد القادر بن محمد بن الحبال. . . “.
ولعل على يمين الصفحة قيد وقف النسخة على المدرسة العمرية، ولكن لم يتضح في الصورة.
كان المؤلف رحمه اللَّه قد ترك أكثر من النصف الأعلى من ظهر الورقة الأولى فارغًا للمقدمة التي أخّر كتابتها، وبدأ الكتاب بالآية الكريمة: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} بيّن سبحانه في هذه الآية. . . “. ولكن لما أخذ في تسويد المقدمة رأى أن المساحة المخصصة لها غير كافية، فصغّر الكتابة، وضيّق بين الأسطر، ومع ذلك اضطرّ إلى تكملتها في حواشي الصفحة الأربع، فاستغرقتها ثم تجاوزت إلى حاشية الورقة الثانية. ولما تمّت في أسفلها كتب: “فصل قال تعالى”، ووضع نقاطًا إلى أن كتب في الحاشية اليسرى من الصفحة: “يرجع إلى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} وذلك في الصفحة اليمنى”.
ولما وقف بعض من ملك الكتاب أو اطلع عليه ورأى مقدمة الكتاب على هذا الوجه من التسويد قام بتبييضها في ورقتين (ثلاث صفحات) بعد التصدير الآتي: “بسم اللَّه الرحمن الرحيم. ربّ يسّر وأعن. قال شيخ الإسلام العالم العلامة شيخ الإسلام وقدوة الأنام، أوحد الحفاظ الأعلام، عمدة المفسرين، بقية المجتهدين، كاشف أسرار العلوم، موضح كل مشكل بأعذب نطق مفهوم، شمس الدين أبو عبد اللَّه محمد بن الشيخ الإمام العالم تقي الدين أبي بكر، ابن قيم الجوزية الحنبلي غفر اللَّه له وأعاد علينا من بركته”.
(المقدمة/56)
وصاحب هذا التبييض أيضًا لم يكتب اسمه، ولكنه ليس بصاحب العبارة المكتوبة في صفحة العنوان تحت عنوان الكتاب واسم المؤلف. وقد ضمت هاتان الورقتان إلى النسخة ورقّمتا معها. وقد وردت في مقدمة المؤلف جملة كتبها المبيض هكذا مع الضبط: “فإذا رُؤيَ ذُكِرَ اللَّه”. وعلق في الجانب الأيمن على “رُؤى” حاشية: “صورة خط المصنف فإذا راى ولا ضبط فيه”. وهو كما قال. والملاحظ هنا أن الكاتب صرّح في حاشيته هذه بأن المقدمة بخط المصنف.
والسؤال الآن: هل اسم الكتاب واسم المؤلف في صفحة العنوان ومقدمة الكتاب فقط بخط المصنف أو سائر النسخة أيضًا؟
الجواب في نسخة الفاتح التي سيأتي وصفها، فإن ناسخها قد صرّح في خاتمتها بأنه نقلها من نسخة المصنّف المسودة، ثم قال مرة أخرى إنه قابله بأصل مصنفه رحمه اللَّه المنقول منه. وقال أيضا: “وفيه تبييضات أكلها الزمان من أطراف الأصل قصرت العبارة عن معرفة مضمونها، فبيضها كما ترى في القريب من آخره”. ومعارضة نسخة الفاتح على نسخة الظاهرية هذه خصوصًا في المواضع التي ذكر الناسخ أنها أكل الزمان من أطراف الأصل، لا تدع مجالًا للشك في أن المقصود بنسخة المصنف المسودة هي النسخة التي بين أيدينا.
وقد سبق قول الأستاذ محمد رياض مالح إن الكتاب يتخلله خطوط مختلفة والغالب خط المؤلف. ولكن يظهر لي -واللَّه أعلم- أن الاختلاف الذي يبدو أحيانا في الخط، إنما هو اختلاف الأقلام وأزمنة الكتابة. والمسودة كلها بخط المصنف إلا موضعًا واحدًا في (ق 55/ ب – 56/ 1). وهو جزء من كلام للرازي في كتابه المباحث
(المقدمة/57)
المشرقية. نقل المؤلف منه 17 سطرًا ثم كلف أحدًا تكملة الباقي، فكتب 33 سطرًا، أي مقدار صفحة.
ومما يؤكد أنها مسودة المؤلف كثرة الضرب والتعديل في العبارة في أثناء الكتابة، غير التصحيحات والإضافات بين السطور أو في الحواشي، كما يؤكد وجودها من أول النسخة إلى آخرها أنها بخط المصنف.
وبعض الإضافات حصلت بعد مدة من كتابة المسودة. يدل على ذلك أنه قال في موضع: “وفي الباب أحاديث غير هذا لا تحضرني الآن ” (90/ ب). ثم ضرب على هذا واستدرك بضعة أحاديث، مما أدى إلى شيء من التكرار أيضًا.
ومن المؤكد أن هذه المسودة لم تقرأ على المؤلف، ولا تمكن من تبييضها، فقد وقعت فيها ضروب من الوهم والسهو وسبق القلم، ومنها:
– قوله: “وسنفرد إن شاء اللَّه للغيرة فصلًا نذكر فيها أقسامها وحقيقتها (94/ ب). ولا وجود لهذا الفصل في الكتاب.
– ومنها أن المؤلف رحمه اللَّه كتب في “قاعدة في مشاهد الناس في المعاصي والذنوب” أولًا: “ويجمع ذلك أربعة أقسام أولها. . . ” وبعد أسطر: “القسم الثاني” (57/ أ). ثم ضرب على العبارة الأولى، وكتب: “وجماع ذلك ثمانية مشاهد”. وغيّر القسم الثاني إلى “المشهد الثاني”. ولما فرغ من المشهد الرابع جاء بفصل وقسم المشهد الرابع إلى قسمين. وفي آخرهما زاد في الحاشية طولًا: “فهذه ستة مشاهد. المشهد السابع
(المقدمة/58)
مشهد الحكمة”. وكتب ثلاثة أسطر وبعدها: “الوريقة”. يعني أن بقية الكلام فيها، وهي التي سبق أنها مفقودة الآن، ولكنها كانت محفوظة لما نقلت منها نسخة الفاتح وغيرها. فالتكملة موجودة فيها، إلَّا أنها تخلو جميعًا من المشهد الثامن من غير إشارة إلى بياض أو سقط، فلعل المؤلف رحمه اللَّه سها عنه.
– ومنها أن المؤلف رحمه اللَّه تكلم على كلام ابن العريف في الخوف من خمسة وجوه. وكتب مكان الوجه الرابع: “الوجه الثالث” مع أن الوجه الثالث قد سبق قبل خمسة أسطر.
– ومنها أنه لما أخذ في نقد كتاب ابن العريف ذكر المثال الأول في الإرادة والثاني في الزهد. ثم كتب في (81/ أ): “فصل، المثال الثالث”. وهذا صحيح، ولكنه بعد ذلك ضرب على “الثالث” وكتب “الرابع التوكل”. واستمرّ الخطأ في الترقيم إلى “المثال السابع الخوف” (87/ أ)، وهو في الواقع المثال السادس. ولعل سبب الخطأ أن التوكل هو الفصل الرابع من كتاب ابن العريف، والفصل الأول منه في المعرفة، ولم يتعرض له ابن القيم، بل بدأ نقده من مقام الإرادة وهو الفصل الثاني عند ابن العريف، والمثال الأول عند ابن القيم، ثم الزهد، ثم التوكل. فلما كتب بعد مثال الإرادة ومثال الزهد: “المثال الثالث” كان مصيبًا، ولكن لما رجع إلى كتاب ابن العريف لنقل كلامه رأى “الفصل الثالث” فضرب على “الثالث” الذي عنده، وكتب “الرابع”.
– في (92/ ب) وقع سهو في نقل الآية الكريمة {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} [ص/ 28]، فكتب: “أفنجعل الذين آمنوا”. وكذا في نسخة الفاتح
(المقدمة/59)
المنقولة عنها.
– وهكذا في (76/ أ) كتب الآية الثالثة من سورة يونس هكذا: “. . . ما شفيع إلا من بعد إذنه أفلا تذكرون”. والآية الكريمة: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)}. ولا شك أن ذلك من السهو وسبق القلم.
ومن أمثلة ذلك العبارات الآتية:
– “اشتد خوف سادة الأمة وسابقوها” (118/ أ).
– “وقد علم اللَّه ورسوله والمؤمنون أهل الفتن المفسدون” (1/ 118).
– “مخالفًا لمحبوبته مكرم لمن أهانته” (92/ ب).
– “مبطلًا لأثر الإنفاق مانع من الثواب” (108/ أ).
– “فيبقى قلب العبد الذي هذا شأنه عرش للمثل الأعلى أي عرش لمعرفة محبوبه” (67/ أ).
– “قال” بدلًا من “قالت” (97/ أ).
ومن سبق القلم أيضًا كتابة “صبخة” (37/ أ) بالصاد بدلًا من السين. و”أظالعك” (23/ ب) بالظاء مكان الضاد. وظل (43/ أ) والظن (78/ أ، 83 ب) والحظ (81/ ب) مكان ضل، والضن، والحض.
ومن سمات خط النسخة أن واو العطف تتصل أحيانًا بالكلمة التالية، فتحتمل أن تقرأ واوًا أو فاءً. وتلتبس الكاف والحاء بعض الأحيان. وكثيرًا ما يهمل النقط وبخاصة في حرف المضارع، فيجوز أن يقرأ ياءً أو
(المقدمة/60)
تاءً. وقد يغمض رأس الميم في بداية الكلمة فلا يتميز “الوجود” من “الموجود”. وقد أدى ذلك إلى اختلاف في النسخ.
وفي النسخة ظاهرة غريبة، وهي بلاغات المقابلة. انظر مثلًا: 8/ أ، 9/ أ، 9/ ب، 13/ ب، 15/ ب، 17/ أ، 19/ أ، 21/ ب، 28/ أ، 31/ أ، 34/ ب، 38/ أ، وهلم جرّا إلى آخر النسخة. والمعروف أن هذه البلاغات تكتب في حاشية النسخة المنقولة لمعرفة المكان الذي وصل إليه في مقابلتها بالأصل المنقول منه. وقد ظننت في أول الأمر أن أجزاء من الكتاب ربما سوّدت من قبل، ونسخت من المسودة الأولى فقوبلت عليها. ولكن البلاغات تستمر إلى آخر المسودة، فلا شك أن ناسخًا خالف القاعدة المعروفة وكتب البلاغات في المسودة بدلًا من نسخته المنقولة.
وقد سبق في وصف الورقة الأولى أنّ فيها قيد مطالعة، وصاحبه عثمان الحسباني، ولم أعرفه، ولكن هل تركت مطالعته أو مطالعة غيره آثارًا في النسخة؟
في آخر باب الفقر والغنى الذي انتهى بانتهاء الورقة (19/ أ) ورد أكثر من مائة بيت من القصيدة الميمية للمؤلف. وكأنه خصص لها الصفحات الثلاث الباقية (19/ ب – 20/ ب) من الكراس الثاني. فكتب في الصفحة الأولى كل بيت في سطر، وفي الثانية كل بيتين في سطر، وكذا في الثالثة، وتمت القصيدة في نصفها، فبقي النصف فارغًا. وهنا حاشية على يمين الصفحة نضها: “علّق منها لنفسه نسخةً علي بن زيد بن علوان بن صَبرَةَ (كذا مضبوطًا) بن مهدي بن حريز الزُّبيدي الأثري اليمني داعيًا لناظمها ومالكها ولكل مسلم بالموت على الإسلام والسنّة”.
(المقدمة/61)
وصاحب هذه الحاشية عالم معروف من علماء القرن الثامن. ولد في “رَدْما” قرية بمشارف اليمن سنة 741 هـ، وتوفي بالقاهرة سنة 813 هـ. ذكر الحافظ ابن حجر أنه جاور بمكة ولقي بالشام الحافظ ابن كثير. وعني بالفقه والحديث والأدب ويستحضر كثيرًا من الحديث، ويميل إلى قول ابن حزم (1).
وفي هذه الصفحة زيادة بيتين في آخر القصيدة، ولكنها ليست بخط الشيخ علي بن زيد المذكور. وهي أيضًا قديمة فإنها واردة في نسخة الفاتح، إلا أنها لم توجد في نسخة برنستون، وهذا دليل على أن أصلها نسخ قبل نسخة الفاتح.
ثم كتب البيت الآتي في المسودة هكذا (19/ ب):
وحي على واد بها أفيح به … منابر من نور. . . . . . . .
فكتب صاحب الزيادة المذكورة نفسه في الحاشية: لعله: “لدى الرسل تعلم” أو “بها الرسل تكرم”. وقد أخذ ناسخ نسخة الفاتح بالاقتراح الأول ولكنه نبّه مع ذلك على أنه “ليس هذا من كلام المصنّف رحمه اللَّه”.
ومن تعليقات القراء ما جاء في ق (44/ ب)، إذ ورد في كلام المؤلف: “وإقرار العبد بأن للعالم إله حيّ جامع” فعلّق بعضهم في الحاشية: “صوابه: إلهًا حيًّا جامعًا”. ولكن هناك مواضع أخرى مشابهة كقوله: “فإن لذلك الوقت شأن” (68/ أ)، وقوله: “فإن للقرب من
__________
(1) ذيل الدرر الكامنة (209). وفيه “صَيْرة” بالياء، تصحيف. وكذلك نسبة “الردماري” صوابها: “الردماوي”. وانظر: شذرات الذهب (4/ 102 – 103).
(المقدمة/62)
الإمام تأثير” (68/ أ) وقوله: “ولا ريب أن فوق هذا مقام” (72/ أ)، ولكن لم يعلق هناك.
وكذلك نجد في بعض الصفحات علامة “ظ” أي انظر، عند غموض كلمة أو وجود سهو كما في (9/ ب، 15/ ب، 16/ أ).
ومن تعليقات القراء أيضًا أنه ورد في ق (96/ ب): “فإذًا لا نسبة أصلًا بل كمالات العالم وكمال اللَّه جلّ جلاله”. فوضع بعضهم إشارة بعد “أصلًا” وكتب في الحاشية: “لعله بين”. يعني مكان “بل”، وهو من سبق القلم.
وقد افتتح المؤلف رحمه اللَّه نسخته بالبسملة، وختمها حامدًا ومصلّيًا بقوله: “. . . والقول الأول أظهر الأقوال واللَّه أعلم. والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه على محمد وآله”.
فذلك البدء وهذا الختام مجرّدين من ألقاب التعظيم ونعوت الإكرام يؤكدان أيضًا أن النسخة التي بين أيدينا نسخة المؤلف رحمه اللَّه. فهي نسخة جليلة نفيسة، وتستحق دراسة “اكتناهية” دقيقة يقوم بها عالم خبير بالمخطوطات.
2 – نسخة الفاتح (ف):
أصلها محفوظ في مكتبة الفاتح بإستنبول برقم 2737. عدد أوراقها 226 ورقة. وفي كل صفحة 23 سطرًا. كتبت في بعلبك بخط نسخي جميل سنة 772 هـ، أي بعد وفاة المؤلف بإحدى وعشرين سنة. ثم هي منقولة من مسودة المصنف، ومقابلة عليها، كما صرّح الناسخ في الخاتمة.
(المقدمة/63)
ورد اسم الكتاب واسم المؤلف في صفحة العنوان على الوجه الآتي: “كتاب طريق الهجرتين وباب السعادتين تأليف الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام قدوة الأنام أوحد حفاظ الأعلام عمدة المفسرين بقية المجتهدين كاشف أسرار العلوم موضح كل مشكل بأعذب نطق مفهوم شمس الدين أبي عبد اللَّه محمد بن الشيخ الإمام العالم أبي بكر بن قيم الجوزية، قدس اللَّه روحه، وجعل أبواب الجنة في وجهه مفتوحة”.
والملاحظ أن النعوت والألقاب الواردة في هذه العبارة هي التي صدّر بها من بيّض مقدمة المؤلف من مسوّدته كما سبق.
وتحتها باللغة الفارسية: “قيد شد” يعني: تمّ تقييده. ثم سجل تحته عدد الأسطر وعدد الأوراق. وتحته ختم لعله ختم أوقاف السلطان محمود خان. وتحته قيد يفيد أن الكتاب من أوقاف السلطان المذكور، وكاتبه نعمة اللَّه مفتش أوقاف الحرمين الشريفين، وفي آخره ختم المفتش الذي يحمل العبارة الآتية: “المتوكل على اللَّه عبده نعمة اللَّه” وبجانبه الأيسر ختم مكتبة الفاتح.
وفوق اسم الكتاب تاريخ وفاة ابن القيم وأسماء بعض مؤلفاته المذكورة في هذه النسخة. وعن يساره نص منقول من شرح صحيح البخاري للكرماني. وتحته الإشارة إلى الورقة التي ذكر فيها كتاب موافقة العقل للنقل لابن تيمية وكذلك الموضع الذي ذكر فيه علل المقامات لابن العريف، وظن هذا الكاتب أن “علل المقامات” عنوان كتاب ابن العريف.
وخاتمة النسخة نصّها: “بحمد اللَّه تعالى ومنّه وحسن توفيقه، فرغ من كتابته من نسخة المصنف المسودة العبدُ محمد بن عيسى بن عبد اللَّه بن
(المقدمة/64)
سليمان البعلي الحنبلي غفر اللَّه له ولوالديه وللمصنف ولجميع المسلمين. ووافق الفراغ يوم الأربعاء المبارك تاسع عشرين شهر رمضان المعظم من عام اثنين وسبعين وسعمائة ببعلبك. والحمد للَّه وصلّى اللَّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم”.
ثم كتب بجانب هذه العبارة عن يسارها في الطول: “قابله كاتبه بأصل مصنفه رحمه اللَّه المنقول منه، فصح بحمد اللَّه. غفر اللَّه له ولمن قابل معه وللمصنف والمالك ولمن نظر فيه ودعا لهم، آمين. وفيه تبييضات أكلها الزمان من أطراف الأصل قصرت العبارة عن معرفة مضمونها، فبيضها كما تراها في القريب من آخره. واللَّه المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل”.
والتبييضات التي أشار إليها الناسخ توجد في خمسة مواضع: 204/ أ، 205/ ب، 206/ ب، 209/ ب، 211/ أ.
أما الموضع الأول فيتعلق بمسألة أطفال المسلمين، إذ ورد في النسخة: “فقال الإمام أحمد لا يختلف فيهم أحد يعني أنهم في الجنة. وأما أطفال المشركين. . . “. وضع الناسخ إشارة بعد كلمة “الجنة”، وعلق في الحاشية: “وفي حاشية الأصل بخط المؤلف رحمه اللَّه أسطار مصحح على آخرها ذهب الأول منها تأكلًا على طرف الورقة، أخلى الكاتب تحت هذا السطر موضعًا وكتب ما وجد بعده”. وكتب بعد بياض سطر: “وحماد بن سلمة وابن المبارك وإسحاق بن راهويه. . . “. والرجوع إلى ق (114/ أ) من المسودة يصدّق ما قاله ناسخ (ف) وذلك أن هذا الاستدراك في ثلاثة أسطر كتبها المؤلف في أعلى الصفحة، فذهب السطر الأول، وما زال السطران الآخران ظاهرين.
(المقدمة/65)
أما الموضع الثاني (205/ ب) فترك فيه الناسخ بياضًا في السطر الحادي عشر بقدر كلمتين، وفي السطر الثاني عشر بقدر تسع كلمات تقريبًا. وذلك لأن المؤلف كتب في الصفحة نفسها (114/ أ) استدراكًا في ثلاثة أسطر في طول الصفحة، وذهب أكثر السطر الأخير الذي في طرف الورقة. عندما نقلت نسخة (ف) منها. أما الآن فلا يرى في الصورة إلا كلمات من أول السطر.
وفي الموضع الثالث (206/ ب) بياض أكثر من سطر. وهو الجزء الأخير من استدراك بدأ في الأصل (114/ ب) من وسط حاشية الصفحة اليسرى في طولها، وانعطف إلى أعلاها في العرض، وتم في ثلاثة أسطر، والسطر الأخير قد أكله البلى، ولا يظهر منه الآن في الصورة إلا ثلاث كلمات.
والبياض الرابع (209/ ب) بقدر تسع كلمات تقريبًا، وهو جزء من لحق في الحاشية اليسرى من الأصل (115/ ب). والبياض الخامس (211/ أ) بقدر ست كلمات تقريبًا، وهو أيضًا جزء من استدراك طويل مكتوب في الحاشية اليسرى من الأصل (116/ أ).
وقد تبين من هذه المقارنة أن نسخة الفاتح منقولة من نسخة الظاهرية، وهي المقصودة بمسودة المصنف في نص خاتمتها. والملاحظ أن التأكل الذي أشار إليه ناسخها البعلي كان قد أصاب ثلاث ورقات من المسودة (ق 114 – 116)، وسائر النسخة كانت سليمة في عهده سنة 772 هـ. وإذا صح تقديرنا أن المسودة قد كتبت قبل سنة 732 هـ، فكان قد مضى عليها حين ذاك 40 سنة. والآن بيننا وبين نسخة الفاتح أكثر من 650 سنة. وقد ضاعت وريقة من الأصل في هذه المدة،
(المقدمة/66)
وذهبت أسطر أخرى من أطراف الأوارق في مواضع عديدة مما زاد من قيمة نسخة الفاتح.
هذه النسخة قد قوبلت على الأصك بعد كتابتها كما ذكر الناسخ في الخاتمة. يؤكد ذلك بلاغات المقابلة والتصحيحات. ولكن بقيت فيها ألفاظ كثيرة تختلف عما في الأصل، ووقع أحيانًا سقط أيضًا، ومن الغريب أنه لم يكتشف في المقابلة. ثم أخطأ الناسخ في قراءة النص في مواضع كثيرة، وهو معذور فيها لصعوبة الخط وتشابك الكلمات وإهمال النقط.
في آخر النسخة بعد الخاتمة يوجد قيدان للمطالعة. أحدهما بخط فارسي جميل وصاحبه “الفقير السيد مصطفى بن السيد عبد اللَّه الشهير بطريقتجي”، ولكن لم يظهر في الصورة تاريخه. والآخر الذي ذكر أنه طالع في هذا الكتاب من أوله إلى آخره مرارًا عديدة كتب تاريخه “شهر شوال سنة 989 هـ”. والقارئ الأول هو الذي قتد في صفحة العنوان بعض أسماء كتب المصنف وشيخه المذكورة في النسخة. وله عليها تعليقات لغوية وغيرها.
3 – نسخة برلين الأولى (ب).
وهي محفوظة في مكتبة الدولة في برلين برقم 8795. عدد أوراقها 148 ورقة. وفي كل صفحة 23 سطرًا. كتبها عمر بن محمد المارديني بخط نسخي جميل سنة 816 هـ كما في خاتمتها التي نصها: “ووافق الفواغ من كتابته بيد مالكه الفقير الحقير المعترف بالتقصير عمر بن محمد المارديني عفا اللَّه عنهما يوم الأحد ثالث عشر صفر من سنة ست عشرة وثمان مائة. والحمد للَّه وحده، وصلواته على رسوله وعبده محمد
(المقدمة/67)
النبي وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين وسلامه. آمين يا رب العالمين”.
لم أجد ترجمة هذا الناسخ، ولكن عبارة الخاتمة تدل على أنه كان من الفضلاء المعتنين بالعربية.
والنسخة ناقصة من أولها. وقد كتب في أعلى الورقة الثانية: “السابع”، وبعد عشر ورقات: “الثامن”. فإذا كان كل كراس عشر ورقات، وفقدت منها ستة كراريس إلا ورقة واحدة، فذلك يعني أن النسخة كانت في 208 ورقة أي في 21 كراسًا، وبقيت منها 15 كراسًا.
وبداية النسخة: “ما بقيت الدنيا في شأن موسى وفرعون وقومه. . . “. وتجد هذا النص في ص (123) من طبعة السلفية. وقد سبق في الكلام على عنوان الكتاب أن بعضهم كتب في أعلى الصفحة الأولى: “كتاب نهج العمل لابن حجر” مع أن في أعلى الورقة (32/ أ) تصريحًا بأنه “العاشر من طريق الهجرتين” يعني: الكراس العاشر. ويوجد هذا التصريح في بداية كراريس أخرى أيضًا.
لم يذكر الناسخ الأصل الذي نقل منه نسخته، ولكنها لم تنسخ بلا شك من مسودة المؤلف ولا من نسخة الفاتح. ثم أصل هذه النسخة قد نقل من المسودة قبل نسخة الفاتح، فإن النص الذي أشار ناسخ هذه إلى ذهابه لكونه في طرف الورق وترك له بياضا موجود في نسخة برلين.
والنسخة قد قوبلت على أصلها، ويظهر من بعض التعليقات المنتهية بحرف “خ” أنها قوبلت على نسخة أخرى أيضًا. وهي مع جمال خطها وضبطها وعناية ناسخها كثيرة التصحيفات. وقد وقع فيها سقط طويل في ق (2/ أ) يساوي 22 سطرًا من طبعة السلفية، بالإضافة إلى سقوط
(المقدمة/68)
كلمات وجمل وبياض في (13/ أ، 14/ ب، 51/ ب، 118/ أ) وأغلاط أخرى. والظاهر أن ذلك كله راجع إلى الأصل الذي نقلت منه النسخة.
وفي آخر النسخة يوجد قيد تملك نصه: “ملك الفقير الحقير المعترف بالعجز والتقصير لربه القدير، الفقير شرف الدين بن الفقير يوسف بن الفقير أحمد بن الفقير محمد غزال الفرنوي المؤذنين بمقام القطب الربّاني سيدي عيسى الفرنواني. نفعنا اللَّه ببركاته وبركات علومه في الدنيا والآخرة. آمين”.
4 – نسخة برنستون (ن).
وهي نسخة قديمة قيمة محفوظة في مكتبة جامعة برنستون برقم 2533، ولكنها ناقصة أيضًا كالنسخة السابقة، إلا أن النقص في هذه من آخرها، فهي تنتهي بانتهاء السطر الأول من ص (143) من طبعة السلفية البالغة صفحات النص فيها 423 صفحة. وذلك يعني أن الموجود من هذه النسخة نحو الثلث فقط من أولها.
لم يعرف اسم ناسخها ولا تاريخ نسخها لضياع آخرها، وإن كنا لا ندري أكانت خاتمتها متضمنة لذلك أم لا. ولكن الظاهر أنها قديمة ولعلها من القرن الثامن. ثم قد نسخ أصلها أيضًا قبل نسخة الفاتح. والدليل على ذلك أن البيتين اللذين زيدا في آخر الميمية في المسودة ونقلها ناسخ (ف) لم يكونا موجودين في هذه النسخة، وزادهما بعض القراء بخط حديث. وقد قابل صاحب هذه الزيادة أبيات الميمية (22/ ب – 24/ أ) بنسخة أخرى وقيّد بعض الفروق.
والنسخة لا تخلو من السقط والتصحيف. وقد سقط منها سطر كامل
(المقدمة/69)
من مسودة المؤلف في (41/ أ،41 ب، 45/ أ) وثلاثة أسطر في (17/ ب). ومن المستغرب أن ناسخ أصلها أثبت في بعض المواضع ما هو مضروب عليه في المسودة. ومن أمثلة ذلك أنه ورد في النسخة (10/ أ): “وناداك من قبضة اليمين”. وهكذا كان في المسودة (9/ أ) ثم ضرب على “ناداك” وكتب فوقه: “وجعلك”، وزيد فوق “من”: “أهل”. مع علامة “صح”. فأصبحت الجملة هكذا: “وجعلك من أهل قبضة اليمين”.
وكذلك ورد في الصفحة التالية (10/ ب): “فصل فهنا وقفت شهادة العبد”. وكلمة “فصل” مضروب عليها في المسودة بصورة واضحة. فلا أدري كيف غفل عنه كاتب أصل هذه النسخة. ثم في الصفحة نفسها زاد الكاتب كلمة “فصل” قبل سبعة أسطر، مع أنها لا وجود لها في مسودة المصنف.
5 – نسخة الكويت (ك).
وهي محفوظة في مكتبة وزارة الأوقاف الكويتية برقم خ 52. عدد أوراقها 208 ورقة. وعدد الأسطر في كل صفحة يتراوح بين 21 و 25 سطرًا. كتبها بخط النسخ سنة 1000 هـ عبد القادر بن محمد بن موسى بن حبيش كما يفيد نصّ الخاتمة.
وكتب في صفحة العنوان اسم الكتاب والمؤلف هكذا: “كتاب طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم الحنبلي رحمه اللَّه”. فضرب بعضهم على نسبة “الحنبلي” ضربات! وتحته قيد تملك مطموس. وتحته قيد آخر: “دخل في ملكنا غرة ربيع أول سنة 1344 هـ”.
(المقدمة/70)
وبداية النسخة بعد البسملة: “قال شيخنا العالم الرباني خادم السنة وإمامها في عصره [القائم] بأعيان حقائقها والدعوة إليها أبو عبد اللَّه محمد بن الشيخ أبي [بكر] بن أيوب بن سعد الزرعي المعروف بابن قيم الجوزية رحمه [اللَّه] ورضي عنه ونفع بعلمه وبركته”.
وهذا يدل على أن النسخة التي انحدرت منها نسخة الكويت كانت مكتوبة بخط بعض تلامذة المصنف. ولكن كم نسخةً بين هذه وبين تلك، لا ندري. النسخة كاملة، ولم يذهب منها إلا كلمات وأجزاء من أسطر في الورقتين الأولى والثانية من أجل التمزق.
وفي حواشيها تصحيحات واستدراكات بعضها بخط الناسخ، وبعضها بخط شخص قابلها بنسخة أخرى، وكثير منها لم تظهر في الصورة.
وأم هذه النسخة أو جدّتها نقلت أيضًا من أصل المصنف قبل نسخة الفاتح، فإن العبارة التي ترك لها ناسخ (ف) بياضًا موجودة في نسخة الكويت. ثم في النسخة أسقاط وتصحيفات كغيرها من النسخ.
6 – نسخة برلين الثانية.
رقمها 795، في 315 ورقة، كتبت في جمادى الأولى سنة 1244 هـ كما في فهرس ألورد (3/ 187).
7 – نسخة الأميرة نورة بنت الإمام فيصل بن تركي.
وهي من مخطوطات المكتبة السعودية بالرياض، ومحفوظة الآن في مكتبة الملك فهد الوطنية. وقد سجلت في المكتبة السعودية برقم 45/ 86 في 29/ 6/ 1392 هـ. وهي مما وردها من مكتبة الشيخ محمد
(المقدمة/71)
ابن عبد اللطيف رحمه اللَّه. فرغ من نسخها شريدة بن علي الطيار في جمادى الأولى سنة 1276 هـ للأميرة نورة بنت الإمام فيصل بن تركي، التي جعلتها وقفًا على طلبة العلم من المسلمين في 19 جمادى الأولى سنة 1276 هـ. وهي بخط نسخي جميل في 403 ورقة. وتصديرها مثل تصدير النسخة الكويتية.
8 – نسخة ابن سحمان.
فرغ من كتابتها الشيخ سليمان بن سحمان رحمه اللَّه في التاسع من شهر شوال سنة 1285 هـ. وقد سجلت في المكتبة السعودية بالرياض برقم 43/ 86 في 24/ 6/ 1372 هـ. وهي في 421 صفحة، ومحفوظة الآن في مكتبة الملك فهد الوطنية.
9 – نسخة مكتبة المعهد العلمي بحائل.
وهي في 204 ورقة نسخها إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد اللَّه بن فرحان بن محمد في شهر رجب 1301 هـ. وصورتها موجودة في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية برقم 2850 – 1 – ف.
10 – نسخة الضويان.
وهي من مخطوطات المكتبة السعودية. وقد سجلت فيها برقم 350/ 86 في 15/ 4/ 1392 هـ. وعليه قيد وقف الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه اللَّه المؤرخ في 1391 هـ. عدد صفحاتها 415 صفحة. وفرغ من نسخها الشيخ إبراهيم بن محمد الضويان رحمه اللَّه في 5 ربيع الأول سنة 1314 هـ. وصرّح في خاتمتها أنه كتبها لأخيه عيسى بن حمود المهوس. وعنوان الكتاب في الورقة الأولى: “كتاب سفر الهجرتين
(المقدمة/72)
وباب السعادتين” مع أن العنوان المعروف هو الثابت في مقدمة المؤلف (ق 2/ ب). وهي أيضًا محفوظة في مكتبة الملك فهد الوطنية.
11 – نسخة محفوظة في مكتبة جامعة بولونيا (إيطاليا) برقم 236. ذكرها بروكلمان في الذيل (2/ 127).
12 – نسخة في مكتبة جامعة ليدن في 205 ورقة بخط حديث. رقمها 3002 شرقيات. والأوراق 20 – 27 ساقطة منها. كتب اسم الكتاب في صفحة العنوان: “سفر الهجرتين وطريق السعادتين أو طريق الهجرتين وباب السعادتين”، كما في فهرس المخطوطات العربية في مكتبة جامعة ليدن (336). وذكرها بروكلمان أيضًا في الذيل (2/ 127).
13 – نسخة في جامعة الإمام برقم 891/ خ.
14 – نسخة في مكتبة الشيخ علي بن يعقوب في حائل في 150 ورقة. النسختان الأخيرتان ذكرهما الشيخ محمد عزير شمس في فهرس صنعه لمخطوطات كتب ابن القيم (مخطوط).
وفي ختام حديثي عن نسخ الكتاب يطيب لي أن أشكر للإخوة القائمين على أقسام المخطوطات في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، ومكتبة الملك فهد الوطنية، وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فقد أتاحوا الفرصة للاطلاع على مخطوطات الكتاب المحفوظة عندهم ثم تصوير ما لزم تصويره منها، فجزاهم اللَّه خير الجزاء.
(المقدمة/73)
منهج التحقيق
اعتمدت في تحقيق النص على نسخة الظاهرية التي تأكد أنها مسودة المؤلف كما سبق. واستظهرت بنسخة الفاتح (ف) التي نقلت من المسودة، في قراءة النص واستكمال نص الوريقة التي ضاعت من الأصل، والنقص الذي أدت إليه عوامل البلى في بعض المواضع. وقد حرصت على إثبات كل خلاف من سقط أو تصحيف أو غلط وقع في نسخة الفاتح نتيجة لسهو أو انتقال نظر أو خطأ في القراءة.
ثم اخترت ثلاث نسخ من سائر مخطوطات الكتاب، إذ تبين من دراستها أنها نقلت من أصول مختلفة، ثم تلك الأصول نقلت من مسودة المصنف قبل نسخة الفاتح، فقابلت النص عليها: الأولى نسخة برلين (ب) الناقصة الأول وتحوي أكثر من ثلثي الكتاب، والثانية نسخة برنستون (ن) الناقصة الآخر التي تشتمل على نحو الثلث الأول، فكأنهما تؤلفان نسخة كاملة قديمة. وقد استأنست بهما في ترجيح قراءة على أخرى، وأشرت إلى بعض الفروق، ولم أنبه على كثير من أخطائها وأسقاطها.
أما النسخة الثالثة من هذه -وهي نسخة الكويت- فرأيت أنها تشبه المطبوعة والنسخ النجدية، فكأن أصلها واحد. فاخترتها لتنوب عن النسخ المتأخرة.
ثم قابلت النص على طبعة السلفية (ط)، والطبعة القطرية التي طبعت عن الأولى بعد تصحيح أخطائها بالرجوع إلى بعض النسخ الخطية فيما يبدو. ولما كانت معظم طبعات الكتاب صادرة عن طبعة السلفية، وقد اعتمد فيها أو في أصلها على نسخة متأخرة، قيدت الخلافات بينها وبين
(المقدمة/74)
مسودة المؤلف (غير ألفاظ التسبيح والتمجيد أو ألفاظ الصلاة والسلام)، ليتبين الفرق الشاسع بين هذه النشرة والطبعات السابقة كلها. واخترت من فروق النسخة الكويتية ما شاركت فيه المطبوعة، وصرفت النظر عن غيرها إلا إذا اقتضى الأمر إثباته.
وقد رجعت إلى الكتب الأخرى للمؤلف وشيخه، لربط هذا الكتاب بتلك في المسائل المشتركة، والاستفادة منها في خدمة النص من جهة القراءة أو الضبط أو التفسير أو التعزيز أو غير ذلك.
ولما كان الأصل مسودة، والنسخ التي وصلت إلينا كلها مع اختلافها راجعة إلى هذه المسودة، وقد وقع فيها شيء كثير من السهو وسبق القلم = كنت مترددًا بين إثبات السهو في النص كما ورد في المسودة وإثبات الصواب في الحاشية، وبين تصحيح النص وإثبات السهو في الحاشية. ثم اخترت الطريقة الأخيرة فيما وقع من ذلك في العبارة والترقيم ونحو ذلك. ولا ضير في ذلك إن شاء اللَّه بعد ما التزمت أن لا أغفل شيئًا مما ورد في نص المسودة وأقيّده في الحواشي.
وحاولت أن لا أضع عنوانًا جانبيًّا إلا عند الحاجة، وأحقق هذا الغرض بتحبير الكلمات أو الجمل الواردة في النص.
أما تخريج الأحاديث فقد تولّاه -ما عدا أحاديث الصحيحين- الأخ الشيخ زائد بن أحمد النشيري، فجزاه اللَّه خيرًا. وسترى في آخر تخريجاته حرف الزاي بين القوسين إشارة إليه.
وقد ترجمت لطائفة من الزهاد والمشايخ الذين نقل المؤلف أقوالهم لأن أسماءهم قد تكون غير مألوفة لكثير من قراء هذا الكتاب. وحرصت
(المقدمة/75)
على أن تكون هذه التراجم بألفاظ قليلة مأخوذة من مصدرها ومبينة لمكانة الشخص عند القوم مع الإشارة إلى عهده.
وفي آخر الكتاب وضعت فهارس كاشفة متنوعة تعين على الاستفادة من المباحث الجليلة التي انطوى عليها.
وبعد، فأرجو أن أكون قد وفقت في أداء هذا النص القيم أداءً مقاربًا، وأن تكون نشرتي هذه أول نشرة علمية وأدناها إلى الصحة. واللَّه ولي التوفيق، وله الحمد في الأولى والآخرة. وصلى اللَّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(المقدمة/76)
نماذج مصوّرة من النسخ الخطّيّة المعتمدة
(المقدمة/77)
صفحة العنوان من الأصل
(المقدمة/78)
أول الكتاب في الأصل
(المقدمة/79)
ق 114/ أ من الأصل، وفيها إصلاحات وإضافات
(المقدمة/80)
ق 116/ أ من الأصل وفيها إضافات
(المقدمة/81)
خاتمة الأصل
(المقدمة/82)
صفحة العنوان من نسخة الفاتح (ت)
(المقدمة/83)
ق 1/ ب من النسخة (ف)
(المقدمة/84)
خاتمة النسخة (ف)
(المقدمة/85)
بداية النسخة (ب)
(المقدمة/86)
خاتمة النسخة (ب)
(المقدمة/87)
بداية الكتاب في النسخة (ن)
(المقدمة/88)
آخر النسخة (ن)
(المقدمة/89)
بداية الكتاب في نسخة الكويت (ك)
(المقدمة/90)
خاتمة نسخة الكويت (ك)
(المقدمة/91)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للَّه الذي نَصَبَ الكائناتِ على ربوبيّته ووحدانيّته حُجَجًا، وحَجَبَ العقولَ والأبصارَ أن تجد إلى تكييفه منهجًا، وأوجب الفوزَ بالنجاة لمن شهد له بالوحدانية شهادةً لم يبغِ لها عوجًا، وجعل لمن لاذ به واتّقاه مِن كلِّ ضائقةٍ مخرجًا، وأعقبَ مِن ضيقِ الشدائدِ وضَنْكِ الأوابدِ لمن توكَّل عليه فرجًا، وجعل قلوبَ أوليائه متنقلةً في منازل عبوديته من الصبر والتوكّل والإنابة والتفويض والمحبّة والخوف والرَّجا.
فسبحان من أفاض على خلقه النعمة، وكتَب على نفسه الرحمة، وضمّن الكتابَ الذي كَتَبه أنّ رحمتَه تغلِبُ غضبَه. أسبغ على عباده نِعَمه الفُرادى والتُّؤام. وسخر لهم البرّ والبحر، والشمس والقمر، والليل والنهار، والعيون والأنهار، والضياءَ والظلام. وأرسل إِليهم رُسُله، وأنزل عليهم كُتُبه، يدعوهم إلى جواره في دار السلام. {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام/ 125].
فسبحان من أنْزَلَ على عَبْدِه الكتابَ ولَمْ يَجْعَلْ له عِوَجًا (1). ورفع لمن ائتمَّ به، فَأحلَّ حلالَهُ، وحرَّمَ حرامَهُ، وعمل بمحكمه، وآمن بمتشابهه، في مراقي السعادة درجًا. ووضع مَن (2) أعرض عنه، ولم
__________
(1) ضمَّن المؤلِّفُ هنا الآية الأولى من سورة الكهف، فظنَّ بعضهم أنَّه سها في نقل الآية، فغيَّر في “ن” وكتب: “والحمد للَّه الَّذي أنزل. . “.
(2) “ط”: “ووضع قهره على من”!
(1/5)
يرفع به رأسًا (1)، ونبذه وراءَ ظهره، وابتغى الهدى من غيره، وجعله (2) في دَركاتِ الجحيمِ متولِّجًا. فإنَّه الذكر الحكيم، والصراط المستقيم، والنبأ العظيم، وحبلُ اللَّه المتينُ المديا بينه وبين خلقه، وعهدُه الذي مَن استَمْسَكَ به فاز ونجا.
وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، ولا سمى له، ولا كفو له، ولا صاحبة له، ولا ولد له، ولا شبيه له؛ ولا يحصي أحدٌ ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه خلقُه، شهادةَ مَن أصبحَ قلبُه بالإيمان باللَّه وأسمائه وصفاته مبتهِجًا، ولم يزغْ عنه إلى (3) شُبَهِ الجاحدين المعطّلين مُعَرِّجًا.
وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، وخيرتُه من خلقه، وأمينُه على وحيه، وسفيُره بينه وبين عباده. أرسله اللَّه (4) رحمةً للعالمين، وقدوةً للعاملين، ومحجّةً للسالكين، وحجّةً على العباد أجمعين. أرسله على حين فترةٍ من الرسل، فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل، وافترض على العباد طاعتَه ومحبتَه وتعزيرَه وتوقيره والقيامَ بحقوقه، وسدَّ إلى جنّته جميعَ الطرق فلم يفتح لأحد إلّا مِن طريقه. فشرح له صدرَه، ورفع له ذكرَه، ووضع عنه وزرَه، وجعل الذلّة والصغارَ على من خالف أمره.
فهدى به من الضلالة، وعلَّم به من الجهالة. وكثَّر به بعدَ القلَّة، وأعزَّ به بعدَ الذلَّة، وأغنى به بعدَ العَيْلة. وبصَّر به من العمى، وأرشد به من
__________
(1) “ط”: “رأسه”.
(2) “ك، ط”: “فجعله”.
(3) “ط”: “ولم يدع إلى”، تحريف.
(4) سقط لفظ الجلالة من “ط”.
(1/6)
الغيّ، وفتح برسالته أعينًا عُمْيًا وآذانًا صُمًّا وقلوبًا غُلْفًا. فبلّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأُمّة، وجاهدَ في اللَّه حقَّ جهاده، وعَبَدَ اللَّه حتى أتاه اليقين. فلم يدع خيرًا إلَّا دلَّ أمته عليه، ولا شرًّا إلّا حذّر منه، ونهى عن سلوك الطريق الموصلة إليه. ففتح القلوب بالإيمان والقرآن، وجاهد أعداءَ اللَّه باليد والقلب واللسان.
فدعا إلى اللَّه على بصيرة، وسار في الأُمة -بالعدل والإحسان وخلقه العظيم- أحسنَ سيرة، إلى أن أشرقتْ برسالته الأَرضُ بعد ظلماتها، وتألّفتْ به (1) القلوب بعد شتاتها. وسارت دعوتُه مسيرَ (2) الشمس في الأقطار، وبلغ دينُه القيّم ما بلغ الليل والنهار. واستجابت القلوب لدعوة الحق (3) طوعًا وإذعانًا، وامتلأَت بعد خوفها وكفرها أمنًا وإيمانًا. فجزاه اللَّه عن أمته أَفضَل الجزاءِ، وصلّى عليه صلاةً تملأُ أقطارَ الأرض والسماءِ، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فإنّ اللَّه سبحانه غَرَسَ شجرةَ محبتِه ومعرفتِه وتوحيدِه في قلوب مَن اختارهم مِن بريّته (4)، واختصّهم بنعمته، وفضّلهم على سائر خليقتَه. فهي (5) {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم/ 24 – 25]. وكَذلِكَ (6) شَجَرَةُ الإِيمان
__________
(1) “ك “: “بها”.
(2) “ف”: “سير”، خلاف الأصل، وكذا في ط.
(3) “ط”: “لدعوته الحق القلوب”.
(4) “ط”: “اختارهم لربوبيته”.
(5) في مبيضة المقدمة: “فهي شجرة طيبة”، وكذا في “ف، ن”. والمثبت من خط المؤلف، ونحوه في “ك، ط”.
(6) “ك، ط”: “فكذلك”.
(1/7)
أصلُها ثابتٌ في القلب، وفروعُها من (1) الكلام الطيّب والعمل الصالح في السماءِ، فلا تزال هذه الشجرةُ تُخرِجُ ثمرَها كلَّ وقتٍ بإِذن ربِّها من طيّب القول وصالح العمل ممَّا تقرُّ به عينُ (2) صاحب الأصل وعيونُ حفظته وعيونُ أهله وأصحابه ومَن قرُبَ منه. فإنَّ من قرَّت عينُه باللَّه قرَّت به كلُّ عين، وأَنِسَ به كلُّ مستوحش، وطاب به كلُّ خبيث، وفرِحَ به كلُّ حزين، وأمِنَ به كلُّ خائف، وشهد به كلُّ غائب، وذكَّرتْ رؤيتُه باللَّه، فإذا رُئِيَ ذُكِرَ اللَّه.
قد اطمأنَّ (3) قلبُه باللَّه (4)، وسكنت نفسُه إلى اللَّه، وخلصتْ محبته للَّه، وقصَرَ خوفَه من اللَّه (5)، وجعل رجاءَه كلَّه للَّه. فإن سمع سمع باللَّه، وإن أبصرَ أبصرَ باللَّه، وإن بطش بطش باللَّه، وإن مشى مشى باللَّه. فبه يسمع، وبه يبصر، وبه يبطش، وبه يمشي. فإذا أحبَّ أحبَّ اللَّه، وإذا أبغضَ أبغض للَّه (6)، وإذا أعطى فللّه، إذا منع فللّه.
قد اتخذ اللَّه وحدَه معبودَه ومرجوَّه ومخوفَه وغايةَ قَصْدِه ومنتهى طلبِه، واتخذ رسولَه وحدَه دليلَه وإمامَه وقائدَه وسائقه (7). فوحَّد اللَّه
__________
(1) “ك”: “فروعها والكلم”. ط: “فروعها الكلم”.
(2) “ك، ط”: “ما تقر به عيون”.
(3) “ط”: “فاطمأنَ”.
(4) “ك، ط”: “إلى اللَّه”.
(5) كذا بخط المؤلِّف. وكتب ناسخ المبيضة فوق “من”: “كذا”، وكذا في “ف، ن، ك”. وفي “ط”: “على اللَّه” وفي نسختي الأميرة نورة وابن كمان: “حضر خوفه. . . “.
(6) “ك، ط”: “فإذا أحبَّ فللَّه، وإذا أبغض فللَّه”.
(7) “ف”: “شافعه”، ولعلَّه أخطأ في القراءة.
(1/8)
بعبادته ومحبته وخوفه ورجائه، وأفرَدَ (1) رسوله بمتابعته والاقتداء به والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه.
فله (2) في كلِّ وقتٍ هجرتان (3): هجرةٌ إلى اللَّه بالطلب والمحبة، والعبودية والتوكل والإنابة، والتسليم والتفويض، والخوف والرجاء، والإقبال عليه، وصدق اللَّجأ والافتقار في كلِّ نفس إليه. وهجرةٌ إلى رسوله في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة، بحيث تكون موافقةً لشرعه الذي هو تفصيلُ محابِّ اللَّه ومرضاته، ولا يقبل اللَّه من أحد دينًا سواه، وكل عملٍ سواهُ فعيشُ النفس وحظُّها لا زادُ المعاد.
وقد قال شيخ الطريقة وإمام الطائفة الجنيد بن محمد قدَّس اللَّه روحه: الطرق كلها مسدودة إلا طريقَ من اقتفى آثارَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإنَّ اللَّه عزّ وجلَّ يقول: “وعزَّتي وجلالي لو أتوني من كلِّ طريقٍ، واستفتحوا (4) من كل بابٍ، لما فتحتُ لَهُمْ حتَّى يدخلوا خلفك” (5).
وقال بعض العارفين: “كل عملٍ بلا متابعة فهو عيش النفس” (6).
__________
(1) “ط”: ” إفراد”، خطأ.
(2) “ط”: “وله”.
(3) انظر نحو ذلك في مدارج السالكين (2/ 520)، والكافية الشافية (870)، والرسالة التبوكية (16 – 27).
(4) “ك”: “واستفتحوني”.
(5) قول الجنيد في طبقات الصوفية للسلمي (159)، وحلية الأولياء (10/ 276)، ونقله شيخ الإسلام في الاستقامة (1/ 97، 249). والمؤلف في مدارج السالكين (2/ 521). أمَّا “الأثر الإلهي” فأورده المؤلف في جلاء الأفهام (359).
(6) من كلام سهل بن عبد اللَّه التستري، كما في الرسالة القشيرية (401)، وانظر مدارج السالكين (2/ 521)، والاستقامة (1/ 95، 249)، ومنهاج السنة (331).
(1/9)
ولمَّا كانت السعادة دائرةً -نفيًا وإثباتًا- مع ما جاءَ به كان جديرًا بمن نصح نفسه أن يجعل لحظات عمره وقفًا على معرفته، وإرادتَه مقصورةً على محابّه، وهذه (1) أعلى همَّة شمَّرَ إليها السابقون، وتنافسَ فيها المتنافسون. فلا جرمَ ضمَّنَّا هذا الكتابَ قواعدَ من سلوك طريق (2) الهجرة المحمدية. وسمّيناه “طريق الهجرتين، وباب السعادتين”. وابتدأناه بباب الفقر والعبودية، إذ هو باب السعادة الأعظم (3) وطريقها الأقوم الذي لا سبيل إلى دخولها إلا منه. وختمناه بذكر طبقات المكلَّفين من الجن والإنس في الآخرة ومراتبهم في دار السعادة والشقاء (4). فجاء الكتاب غريبًا فرب معناه، عجيبًا في مغزاه، لكلِّ قومٍ منه نصيب، ولكلِّ واردٍ منه شِرْب (5). وما كان فيه من حق وصوابٍ فمن اللَّه، هو المانُّ به، فإنَّما (6) التوفيق بيده. وما كان فيه من خطأ وزللٍ (7) فمنِّي ومن الشيطان، واللَّه ورسوله منه بريء (8).
فيا أيها القارئ له والناظر فيه، هذه بضاعةُ صاحبه (9) المزجاةُ مسوقةٌ إليك، وهذا فهمه وعقلُه معروضٌ عليك. لك غُنْمُه، وعلى مؤلفه
__________
(1) “ط”: “وهذا”.
(2) “طريق”: ساقط من “ك، ط”.
(3) “الأعظم”: ساقط من “ط”.
(4) “ط”: “الشقاوة”.
(5) “ط”: “مشرب”.
(6) “ط”: “فإن”.
(7) “خطأو” ساقط من “ط”.
(8) ط: “براء”. والذي ورد في الأصل وغيره صحيح في العربية.
(9) “ك، ط”: “صاحبه”.
(1/10)
غُرْمُه؛ ولك (1) ثمرتُه، وعليه عائدته. فإِنْ عدِمَ منك حمدًا وشكرًا، فلا يعدَمْ منك مغفرةً وعذرًا (2)، وإنْ أبيتَ إلا الملامَ فبابُه مفتوحٌ، وقد:
استأثرَ اللَّهُ بالثناء وبالْـ … ــــحَمْدِ وولَّى الملامةَ الرَّجُلا (3)
واللَّه المسؤول أن يجعله لوجهه خالصًا، وأن ينفع (4) به مؤلفه وقارئه وكاتبه في الدنيا والآخرة. إنَّهُ سميع الدعاء. وأهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
__________
(1) “ك”: “فلك”.
(2) “مغفرة و” ساقط من “ك، ط”.
(3) البيت من قصيدة منسوبة إلى الأعشى في مدح سلامة ذي فائش الحميري. الديوان (283). وقد أنشده المؤلف في غير موضع من كتبه، والرواية المشهورة: “بالوفاء وبالعدل”. والمؤلف أورده على أنحاء مختلفة. فوقع هنا وفي شفاء العليل (217) “بالثناء وبالحمد”. وسيأتي في ص (79): “بالمحامد والفضل”. وفي مدارج السالكين (1: 268) “بالمحامد والحمد”. وفي الداء والدواء (137) “بالوفاء وبالحمد”، ونحوه في الشعر والشعراء (1: 69). واستدلَّ بعضهم بهذا البيت أنَّ الأعشى كان قدريًّا. انظر: الأغاني (9: 110)، وأمالي المرتضى (1: 21)، ولكن المؤلف أنشده في المدارج في سياق الاحتجاج بالقدر كان قائله من الجبرية خصماء اللَّه، وأرى ذلك أشبه بلفظ البيت من السياق الذي أورده المؤلف فيه هنا وفي المواضع الأخرى.
(4) “ك، ط”: “وينفع”.
(1/11)
فصل [في أنَّ اللَّه هو الغني المطلق والخلق فقراء محتاجون إليه] (1)
قال اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر/ 15].
بيَّن سبحانه في هذه الآية أنَّ فقرَ العباد إليه أمرٌ ذاتيٌّ لهم لا ينفك عنهم، كما أنَّ كونَه غنيًّا حميدًا أمرٌ (2) ذاتيٌّ له. فغناه وحمده ثابت له لذاته لا لأمرٍ أوجبه، وفقرُ من سواه إليه أمرٌ (3) ثابت لذاته لا لأمرٍ أوجبه. فلا يعلَّل هذا الفقر بحدوث ولا إمكان، بل (4) هو ذاتي للفقير، فحاجة العبد إلى ربه لذاته، لا لعلَّة أوجبت تلك الحاجة؛ كما أنَّ غنى الرب عزَّ وجلَّ لذاته، لا لأمرٍ أوجبَ غناه، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
والفقرُ لي وصفُ ذاتٍ لازمٌ أبدًا … كما الغنى أبدًا وصفٌ له ذاتي (5)
__________
(1) ما بين الحاصرتين من “ط”.
(2) “أمر” ساقط من “ط”.
(3) “ك”: “سواه أمر” فسقط منها “إليه”. وسقط “أمر” من “ط”.
(4) “ك”: “فهو”.
(5) في “ك”: “كما أنَّ الغنى وصف”، وهو خطأ، والبيت من جملة أبيات أوردها المصنف في مدارج السالكين (2: 12)، وذكر أنَّ شيخ الإسلام بعث إليه في آخر عمره قاعدة في التفسير بخطه، وعلى ظهرها تلك الأبيات بخطه من نظمه. وانظر أيضًا (2: 494). وقال صاحب المنهج الأحمد: “ومن إنشاد الشيخ رحمه اللَّه لنفسه قبل موته بأيام” ثمَّ ذكر الأبيات. انظر: الجامع لسيرة شيخ الإسلام (545 – 546).
(1/12)
فالخلق فقير محتاج إلى ربه بالذَّات لا بعلَّة، وكلُّ ما يذكَرُ ويقدَّر (1) من أسباب الفقر والحاجة فهي أدلَّة على الفقر والحاجة، لا علل لذلك؛ إذ ما بالذات لا يعلَّل. فالفقير بذاته محتاج إلى الغني بذاته، فما يذكَر من إمكان وحدوث واحتياج فهي أدلَّةٌ على الفقر، لا أسبابٌ له.
ولهذا كان الصوابُ في مسألة علَّة احتياج العالم إلى الرب تعالى غيرَ القولين اللذين يذكرهما (2) الفلاسفة والمتكلمون، فإنَّ الفلاسفة قالوا: علَّة الحاجة الإمكان، والمتكلمون قالوا: علَّة الحاجة الحدوث. والصواب أنَّ الإمكان والحدوث متلازمان، وكلاهما دليل الحاجة والافتقار. وفقرُ العالم إلى اللَّه عزَّ وجلَّ أمرٌ ذاتي لا يعلَّل، فهو فقيرٌ بذاته إلى ربِّه الغني بذاته. ثمَّ يستدل بإمكانه وحدوثه وغير ذلك من الأدلَّة على هذا الفقر.
والمقصود أنَّه سبحانه أخبرَ عن حقيقة العباد وذواتهم بأنَّها فقيرة إليه عزَّ وجلّ، كما أخبر عن ذاته المقدَّسة وحقيقتِه أنَّه غنيٌّ حميد. فالفقرُ المطلقُ من كلِّ وجهٍ ثابتٌ لذواتهم وحقائقهم من حيث هي، والغنى المطلق من كل وجهٍ ثابتٌ لذاته تعالى وحقيقته من حيث هي. فيستحيل أن يكون العبدُ إلا فقيرًا، ويستحيل أن يكون الربُّ تعالى إلا غنيًّا، كما أنَّهُ يستحيل أن يكون العبدُ إلا عبدًا والربُّ إلا ربًّا.
إذا عُرِف هذا، فالفقرُ فقران: فقرُ اضطرارٍ (3)، وهو فقرٌ عامٌّ لا خروج لِبَرٍّ ولا فاجر عنه. وهذا الفقر لا يقتضي مدحًا ولا ذمًّا
__________
(1) “ط”: “يقرّر”، تحريف.
(2) “ف”: “تذكرهما”. والأصل غير منقوط.
(3) “ط”: “اضطراري”.
(1/13)
ولا ثوابًا ولا عقابًا، بل هو بمنزلة كون المخلوق مخلوقًا ومصنوعًا.
والفقر الثاني فقرٌ اختياريٌ هو نتيجة علمين شريفين: أحدهما معرفة العبد بربه، والثاني معرفته بنفسه؛ فمتى حصلت له هاتان المعرفتان أنتجا (1) له (2) فقرًا هو عينُ غناه وعنوانُ فلاحه وسعادته.
وتفاوتُ النَّاسِ في هذا الفقرِ بحسب تفاوتهم في هاتين المعرفتين، فمن عرف ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق، ومن عرف ربه بالقدرة التامَّة عرف نفسه بالعجز التام، ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة، ومن عرف ربه بالعلم التام والحكمة عرف نفسه بالجهل.
فاللَّه تعالى أخرج العبد من بطن أُمه لا يعلم شيئًا، ولا يقدر على شيءٍ، ولا يملك شيئًا، ولا يقدر على عطاءٍ ولا منع، ولا ضر ولا نفع ولا شيء البتة؛ فكان فقره في تلك الحال إلى ما به كمالُه أمرًا مشهودًا محسوسًا لكلِّ أحد، ومعلوم أنَّ هذا له من لوازم ذاته، وما بالذات دائم بدوامها، وهو لم ينتقل من هذه الرتبة إلى رتبة الربوبية والغنى، بل لم يزل عبدًا فقيرًا بذاته إلى بارئه وفاطره.
فلمَّا أسبغ عليه نعمته، وأفاض عليه رحمته، وساق إليه أسباب كمال وجوده ظاهرًا وباطنًا، وخلع عليه ملابس إنعامه، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، وعلَّمه، وأقدره، وحرَّكه، وصرَّفه (3)، ومكَّنه من
__________
(1) كذا في الأصل، و”ف”، يعني العلمين الشريفين. وفي “ك، ط”: “أنتجتا” يعني المعرفتين.
(2) “له” ساقط من “ك، ط”.
(3) “ك، ط”: “وصرَّفه وحرَّكه”.
(1/14)
استخدام بني جنسه، وسخَّر له الخيل والإبل، وسلَّطه على دواب الماءِ، واستنزال الطير من الهواء، وقهرِ الوحوش (1) العادية، وحفر الأنهار، وغرس الأشجارِ، وشقِّ الأرض، وتعلية البناءِ، والتحيّل على جميع مصالحه (2)، والتحرز والتحفظ ممَّا (3) يؤذيه = ظن المسكينُ أنَّ له نصيبًا من الملك، وادَّعى لنفسه ملكةً (4) مع اللَّه، ورأى نفسه بغير تلك العين الأولى، ونسي ما كان فيه من حالة الإعدام والفقر والحاجة، حتَّى كأنَّه لم يكن هو ذلك الفقير المحتاج المضطر (5)، بل كان ذلك شخصًا آخر غيرَه؛ كما روى (6) الإمام أحمد في مسنده من حديث بُسْر (7) بن جِحَاش القرشي أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بصق يومًا في كفِّه فوضع عليها إصبعه ثمَّ قال: “قال اللَّه عزَّ وجلّ: بُنَيَّ (8) آدم، أنَّى تعجزني! وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بُردين، وللأرض منك وئيد (9)، فجمعتَ
__________
(1) “ك، ط”: “الوحش”.
(2) “جميع” ساقط من “ك، ط”.
(3) “ط”: “لما”.
(4) “ط”: “ملكًا”.
(5) “المضطر” ساقط من “ك، ط”، وفي “ك”: “والمحتاج”.
(6) “ف”: “أخبر”، خلاف الأصل.
(7) كذا بالسين المهملة في الأصل. وفي غيره بالمعجمة، قال ابن منده: أهل العراق يقولون “بسر” بالمهملة، وأهل الشام يقولونه بالمعجمة. وقال الدَّارقطني وابن زبر وابن ماكولا: لا يصح بالمعجمة، أمَّا أبوه “جحاش” فضبط في الأصل بكسر الجيم، ويقال أيضًا بفتحها وتثقيل الحاء.
انظر: الإصابة (1/ 291)، وتوضيح المشتبه (1/ 521). وفي “ن” حاشية لم تظهر كاملة في المصورة، أشير فيها إلى قول ابن منده.
(8) “ط”: “يا ابن آدم”.
(9) الوئيد: صوت شدّة الوطء على الأرض يُسمع كالدويّ من بُعد.
(1/15)
ومنعتَ، حتى إذا بلغتِ التراقي قلتَ: أتصدّق، وأنَّى أوانُ الصدقة! ” (1).
ومن ههنا خُذِلَ مَن خُذِلَ ووُفِّقَ مَنْ وُفِّقَ، فحُجب المخذول عن حقيقته وأُنسيَ (2) نفسه، فنسي فقره وحاجته وضرورَته إلى ربه، فطغى وبغى (3) وعتا، فحقّت عليه الشقوة. قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق/ 6 – 7] وقال: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل/ 5 – 10].
فأكملُ الخلقِ أكملُهم عبودية وأعظمهم شهودًا لفقره وحاجته (4) وضرورته إلى ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عين. ولهذا كان من دعائه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أصلحْ لي شأني كلَّه، ولا تكِلْني إلى نفسي طرفةَ عين، ولا إلى أحدٍ مِن خَلْقِك” (5).
__________
(1) أخرجه أحمد (17842)، وابن ماجه (2707)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (869، 870)، والحاكم (2/ 545) (3855) وغيرهم.
وفيه عبد الرحمن بن ميسرة الحضرمي. قال ابن المديني: مجهول، لم يرو عنه غير حريز. وقال ابن حجر: مقبول. وقد روى عنه جماعة. وقال أبو داود: شيوخ حريز كلهم ثقات. ووثَّقه العجلي وابن حبان.
والحديث صحح إسناده الحاكم والبوصيري وابن حجر. انظر: مصباح الزجاجة (3/ 143)، والإصابة (1/ 153). (ز).
(2) “ك، ط”: “نسي”.
(3) “وبغى” ساقط من “ط”.
(4) “ك، ط”: “ضرورته وحاجته”.
(5) أخرجه أحمد (20430) مطولًا، وأبو داود (5090)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (651)، وابن حبان (970) مختصرًا، والطيالسي في مسنده (910) وغيرهم. وليس عندهم: “ولا إلى أحد من خلقك”. =
(1/16)
وكان يدعو: “يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك” (1). يعلم (2) -صلى اللَّه عليه وسلم- أن قلبه بيد الرحمن عزَّ وجل لا يملك هو (3) منه شيئًا، وأنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ يصرفه كما يشاء، كيف وهو يتلو قوله عزَّ وجلَّ: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)} [الإسراء/ 74].
فضرورته -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى ربه وفاقته إليه بحسب معرفته به، وبحسب (4) قربه منه ومنزلته عنده، وهذا أمر إنَّما لمن بعده منه (5) ما يرشح من ظاهر الوعاءِ. ولهذا كان أقربَ الخلق إلى اللَّه وسيلة، وأعظمهم عنده جاهًا، وأرفعهم عنده منزلة؛ لتكميله مقام العبودية والفقر إلى ربه عزَّ وجلَّ.
__________
= والحديث أعلَّه النسائي بجعفر بن ميمون، فقال: ليس بالقوي. ووافقه المنذري. وجعفر له منكرات، وقد تفرَّد بهذا اللفظ في الحديث.
والحديث صحَّحه ابن حبان، وحسَّن إسناده الهيثمي، وابن حجر. انظر: مجمع الزوائد (10/ 137)، ونتائج الأفكار (2/ 369)، وجاء عن أنس عند النسائي في عمل اليوم والليلة (570)، قال ابن حجر: “حسن غريب”، وانظر الأسماء والصفات للبيهقي (2/ 291) (218). (ز).
(1) أخرجه أحمد (17630) مطوَّلًا، وابن ماجه (199)، وابن حبان (943)، والحاكم (1/ 706) (1926) وابن منده في التوحيد (120) وغيرهم من حديث النواس بن سمعان رضي اللَّه عنه. والحديث صحَّحه ابن حبان والحاكم وابن منده والبوصيري. انظر: مصباح الزجاجة (1/ 27). وجاء هذا المتن عن جماعة من الصحابة. راجع السنة لابن أبي عاصم (237،232، 240) وغيره (ز).
(2) “ك”: “فعلم”.
(3) “هو”: ساقط من “ط”.
(4) “بحسب” ساقط من “ك”. وفي”ط”: “وحسب قربه”.
(5) “ك”: “إنَّما هو لمن بعده ما”، ثم ضرب بعض القراء على “هو”. وفي “ط”: “إنَّما بدا منه لمن بعده ما”.
(1/17)
وكان يقولُ لهم: “أيها النَّاس، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي، إنَّما أنا عبد” (1) وكان يقول: “لا تطروني كما أطرت النصارى المسيحَ ابن مريم، إنَّما أنا عبد، فقولوا: عبد اللَّه ورسوله” (2).
وذكره اللَّه عزَّ وجل بسمة العبودية في أشر مقاماته: مقام الإسراء، ومقام الدعوة، ومقام التحدى (3). فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء/ 1]. وقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن/ 19]، وقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة/ 23]. وفي حديث الشفاعة: “إنَّ المسيح يقول لهم: اذهبوا إلى محمد عبدٍ غفر اللَّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر” (4). فنالَ ذلك المقام بكمال عبوديته للَّه وبكمال مغفرة اللَّه له.
وتأمَّل (5) قوله في الآية: {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر/ 15] فعلَّق الفقر إليه باسمه “اللَّه” (6) دون اسم الربوبية ليؤذن بنوعي الفقر، فإنَّه
__________
(1) أقرب لفظ لما ساقه المؤلف ورد عن الحسين بن علي رضي اللَّه عنهما. أخرجه الدولابي في الذرية الطاهرة (159) بلفظ “يا أيها النَّاسُ لا ترفعوني فوق حقي، فإن اللَّه عزَّ وجلَّ قد اتخذني عبدًا قبل أن يتخذني نبيًّا”.
وأخرجه الطبراني في الكبير (3/ 138 – 139) (2889)، والحاكم في المستدرك (3/ 197) (4825) بنحوه.
والحديث صحَّحه الحاكم وحسَّنه الهيثمي في المجمع (9/ 21) (ز).
(2) من حديث عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه. أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء (3445) وغيره.
(3) وانظر: مفتاح دار السعادة (1/ 110).
(4) أخرجه البخاري من حديث أنس بن مالك رضي اللَّه عنه في كتاب التفسير (4476) وغيره.
(5) “ك، ط”: فتأمَّل”.
(6) “ك، ط”: “باسم اللَّه”. وسقط من “ط”: “فعلق الفقر إليه”.
(1/18)
-كما تقدم- نوعان: فقرٌ إلى ربوبيته، وهو فقر المخلوقات بأسرها؛ وفقرٌ إلى إلاهيته (1)، وهو فقر أنبيائه ورسله وعباده [الصالحين] (2)، وهذا هو الفقر النافع. والذي يشير إليه القوم، ويتكلمون عليه، ويشمرون إليه، هو الفقر الخاص لا العام. وقد اختلفت عباراتهم عنه ووصفهم له، وكلٌّ أخبرَ عنه بقدر ذوقه وقدرته على التعبير.
[تعريف الفقر ودرجاته عند الهروي، وتفسير كلامه]قال شيخ الإسلام الأنصاري: “الفقر اسم للبراءة من رؤية الملَكة، وهو على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: فقر الزهاد، وهو نفضُ اليدين من الدنيا ضبطًا أو طلبًا، وإسكات اللسان عنها ذمًّا أو مدحًا، والسلامةُ منها طلبًا أو تركًا، وهذا هو الفقر الذي تكلَّموا في شرفه.
الدرجة الثانية: الرجوعُ إلى السبق بمطالعة الفضل، وهو يورث الخلاص من رؤية الأعمال، ويقطع شهود الأحوال، ويمحّص من أدناس مطالعات (3) المقامات.
الدرجة الثالثة: صحة الاضطرار، والوقوعُ في يد التقطع الوحداني، والاحتباس في قيد (4) التجريد، وهو فقر الصوفية” (5).
__________
(1) “ك، ط”: “ألوهيته”.
(2) ما بين الحاصرتين من “ك، ط”.
(3) “ط”: “مطالعة” كما في مدارج السالكين (2/ 50).
(4) “ط”: “في بيداء قيد”، كما في المدارج وبعض نسخ منازل السائرين.
(5) منازل السائرين (56). وقارن تفسير المؤلف لكلام الهروي هنا، بما فسره في المدارج (2/ 497 – 502).
(1/19)
فقوله: “الفقرُ اسمٌ للبراءة من رؤية الملكة” يعني أنّ الفقير هو الذي يجرّد رؤية الملك لمالكه الحق، فيرى نفسه مملوكة للَّه، لا يرى نفسه مالكًا بوجه من الوجوه، ويرى أعماله مستحَقّة عليه بمقتضى كونه مملوكًا عبدًا مستعملًا فيما أمره به سيّده. فنفسه مملوكة، وأعماله مستحَقّة بموجب العبودية، فليس مالكًا لنفسه ولا لشيء من ذرّاته ولا لشيء من أعماله، بل كلّ ذلك مملوك عليه مستحقّ عليه؛ كرجل اشترى عبدًا بخالص ماله ثمّ علّمه بعض الصنائع، فلمّا تعلّمها قال له: اعمل وأدِّ إليَّ، فليس لك في نفسك ولا في كسبك شيء. فلو حصل بيد هذا العبد من الأموال والأسباب ما حصل لم ير له فيها شيئًا، بل يراها (1) كالوديعة في يده، وأنّها أموالُ أُستاذه وخزائنُه ونعمُه، بيد عبده مستودعها (2)، متصرّفًا فيها لسيّده لا لنفسه، كما قال عبد اللَّه ورسوله وخيرته من خلقه: “واللَّه إني لا أعطي أحدًا، ولا أمنع أحدًا، وإنما أنا قاسم أضع حيث أُمِرتُ” (3).
فهو متصرّف في تلك الخزائن بالأمر المحض تصرُّفَ العبد المحض الذي وظيفته تنفيذ أوامر سيّده. فاللَّه هو المالك الحق، وكل ما بيد خلقِه هو من أمواله وأملاكه وخزائنه، أفاضها عليهم ليمتحنهم في البذل والإمساك، وهل يكون ذلك منهم على شاهد العبودية للَّه عز وجلّ، فيبذل (4) أحدهم الشيء رغبةً في ثواب اللَّه، ورهبةً من عقابه، وتقرّبًا
__________
(1) “ك، ط”: “يراه”.
(2) “ك، ط”: ” مستودعًا”.
(3) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه. أخرجه البخاري في كتاب فرض الخمس (3117). وانظر المسند (16: 180) (10257).
(4) “ك”: “فبذل”.
(1/20)
إليه، وطلبًا لمرضاته؟ أم يكون البذل والإمساك منهم صادرًا عن مراد النفس، وغلبة الهوى، وموجب الطبع، فيعطي لهواه ويمنع لهواه؟ فيكون متصرّفًا تصرّف المالك لا المملوك، فيكون مصدرُ تصرّفه الهوى ومرادَ النفس، وغايتُه الرغبةَ فيما عند الخلق من جاه أو رفعة أو منزلة أو مدح أو حظ من الحظوظ، أو الرهبةَ من فوت شيء من هذه الأشياءِ. وإذا كان مصدر تصرّفه وغايته هو هذه الرغبة والرهبة رأى نفسه لا محالة مالكًا، فادعى الملكة (1)، وخرج عن حدّ العبوديّة، ونسي فقره. ولو عرف نفسه حقّ المعرفة لعلم أنما هو مملوك ممتحَن في صورة مالك (2) متصرّف، كما قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)} [يونس/ 14].
وحقيق بهذا الممتحَن أن يُوكَل إلى ما ادّعته نفسه من الحالات والملكات مع المالك الحقّ سبحانه، فإنّ من ادّعى لنفسه حالةً مع اللَّه وُكِلَ إليها. ومن وُكِل إلى شيء غير اللَّه فقد أتيح (3) له بابُ الهلاك والعطَب، وأغلق عنه بابُ الفوز والسعادة؛ فإنّ كل شيء ما سوى اللَّه باطل، ومن وُكِلَ إلى الباطل بطل عمله، وضل سعيه، ولم يحصل إلّا على الحرمان.
فكلّ من تعلّق بشيء غير اللَّه (4) انقطع به أحوجَ ما كان إليه، كما قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ
__________
(1) “ك، ط”: “الملك”.
(2) “ك، ط”: “ملِك”.
(3) “ك، ط”: “فتح”.
(4) “ك، ط”: “تعلق بغير اللَّه”.
(1/21)
الْأَسْبَابُ (166)} [البقرة/ 166]. فالأسباب التي تقطعت بهم هي العلائق التي كانت (1) بغير اللَّه ولغير اللَّه، قُطِعت (2) بهم أحوجَ ما كانوا إليها، وذلك لأن تلك الغايات لما اضمحلّت وبطلت اضمحلّت أسبابها وبطلت، فإنّ الأسباب تبطل ببطلان غاياتها وتضمحل باضمحلالها. وكلُّ شيء هالكٌ إلّا وجهه سبحانه، فكل عمل (3) باطلٌ إلّا ما أريد به وجهه، وكلّ سعي لغيره فباطل (4) ومضمحل.
وهذا كما يشاهده الناس في الدنيا من اضمحلال السعي والعمل والكدّ والخدمة التي يفعلها العبد لمتولٍّ أو أمير أو صاحب منصب أو مال، فإذا زال ذلك الذي عمل له وعُدِمَ ضلّ ذلك (5) العمل، وبطل ذلك السعي، ولم يبق في يده سوى الحرمان.
ولهذا يقول اللَّه تعالى يوم القيامة: “أليس عدلًا منّي أن (6) أُولِّيَ كلَّ رجلٍ منكم ما كان يتولّى في الدنيا؟ ” (7) فيتولّى عُبّاد الأصنام والأوثان
__________
(1) “كانت”: ساقط من “ك، ط”.
(2) “ك، ط”: “تقطعت”.
(3) “ك، ط”: “وكل عمل”.
(4) “ك، ط”: “باطل”.
(5) “ك، ط”: “عمل له عدم ذلك”.
(6) “ط”: “أني”.
(7) أخرجه عبد اللَّه في السنة (1203)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة (31)، والطبراني (9763)، والحاكم في المستدرك (2: 408) (3424) وغيرهم مطوَّلًا من حديث ابن مسعود.
والحديث صحَّحه ابن منده والحاكم. وقد اختلف في رفعه ووقفه، ورجَّح الدَّارقطني رفعه. وقال الذهبي: ما أنكره حديثًا على جودة إسناده! (ز).
(1/22)
أصنامَهم وأوثانَهم، فتتساقط بهم في النار. ويتولّى عابدو الشمس والقمر والنجوم آلهتهم، فإذا كوّرت الشمس، وانتثرت النجوم اضمحلّت تلك العبادة، وبطلت، وصارت حسرةً عليهم {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)} [البقرة/ 167].
ولهذا كان المشرك من أخسر الناس صفقةً وأغبنهم يوم معاده، فإنه يحال على مفلس كلَّ الإفلاس بل على عدم، والموحّد حوالته على المليء الكريم، فيا بُعدَ ما بين الحوالتين!
وقوله: “البراءَة من رؤية الملكة”. ولم يقل “من الملكة” (1) لأنّ الإنسان قد يكون فقيرًا لا ملكة له في الظاهر، وهو عرفي عن التحقّق (2) بنعت الفقر الممدوحِ أهلُه الذين لا يرون مَلَكةً إلّا لمالكها الحقّ ذي (3) الملك والملكوت. وقد يكون العبد قد فُوض إليه من ذلك شيءٌ وجُعِلَ كالخازن فيه، كما كان سليمان بن داود -صلى اللَّه عليه وسلم- أوتي مُلْكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وكذلك الخليل وشعيب والأغنياءُ من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكذلك أغنياءُ الصحابة. فهؤلاءِ لم يكونوا بريئين من الملكة في الظاهر، وهم بريئون من رؤية الملكة لنفوسهم، فلا يرون لها ملكًا حقيقيًا، بل يرون ما في أيديهم للَّه عاريةً ووديعةً في أيديهم، ابتلاهم به لينظر هل يتصرّفون فيه تصرَّفَ العبيد أو تصرَّفَ الملّاك الذين يعطون لهواهم ويمنعون لهواهم.
__________
(1) بلى، كذا ورد في بعض نسخ منازل السائرين التي اعتمد المؤلف عليها في مدارج السالكين (2/ 497).
(2) “ف، ك”: “التحقيق”، خطأ.
(3) في الأصل: “ذو”، سهو، وكذا في “ن”.
(1/23)
فوجود المال في يد الفقير لا يقدح في فقره، إنّما يقدح في فقره رؤيته لملكته. فمن عوفي من رؤية الملكة لم يتلوّث باطنه بأوساخ المال وتعبه وتدبيره واختياره (1)، وكان كالخازن لسيّده الذي ينفّذ أوامره في ماله، فهذا لو كان بيده من المال مثل (2) جبال الدنيا لم يضرّه.
ومن لم يُعافَ من ذلك ادّعت نفسه الملكة، فتعلّقت (3) به النفس تعلّقها بالشيء المحبوب المعشوق، فهو أكبر همّه ومبلغ علمه، إن أعطي رضي، وإن مُنع سخط. فهو عبد الدينار والدرهم، يصبح مهمومًا به (4)، ويمسي كذلك، فيبيت (5) مضاجعًا له. تفرح نفسه إذا ازداد، وتحزن وتأسف إذا فات منه شيء، بل يكاد يتلف إذا توهمتْ نفسه الفقر، وقد يؤثر الموت على الفقر.
والأول مستغنٍ بمولاه المالك الحيّ (6) الذي بيده خزائن السموات والأرض، وإذا أصاب المالَ الذي في يده نائبةٌ رأى أنّ المالك الحق هو الذي أصاب مال نفسه، فما للعبد وما للجزع والهلع؟ وإنّما تصرّفَ مالكُ المال في ملكه الذي هو وديعة في يد مملوكه، فله الحكم في ماله: إن شاءَ أبقاه، وإن شاءَ ذهب به وأفناه، فلا يتّهم مولاه في تصرّفه في ملكه، ويرى تدبيره هو موجب الحكمة. فليس لقلبه بالمال تعلّق،
__________
(1) في الأصل نقط الخاء وأهمل الباقي. وفي “ن” نقط التاء، وقرأها ناسخ “ف”: “واحتيازه”. والمثبت من “ك، ط”.
(2) “ك، ط”: “أمثال”.
(3) “ك، ط”: “وتعلقت”.
(4) “به” ساقط من “ن، ك، ط”.
(5) “ك، ط”: “يبيت”.
(6) “ك، ط”: “الحق”.
(1/24)
ولا له به اكتراث، لصعوده عنه وارتفاع همّته إلى المالك الحقّ، فهو غنيّ به وبحبّه ومعرفته وقربه منه عن كل ما سواه، وهو فقير إليه دون ما سواه. فهذا هو البريء عن رؤية الملكة الموجبة للطغيان، كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق/ 6 – 7] ولم يقل: “أن استغنى”، بل جعل الطغيان ناشئًا عن رؤيته (1) غنى نفسه.
ولم يذكر هذه الرؤية في سورة الليل بل قال: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9)} [الليل/ 8 – 9] (2). وهذا -واللَّه أعلم- لأنّه ذكر موجب طغيانه وهو رؤيته (3) غنى نفسه، وذكر في سورة الليل موجِب هلَاكه وعدم تيسيره لليسرى، وهو استغناؤه عن ربّه بترك طاعته وعبوديته، فإنه لو افتقر إليه لتقرّب إليه بما أمره به (4) من طاعته، فعلَ المملوك الذي لا غنى له عن مولاه طرفةَ عين ولا يجد بدًّا من امتثال أوامره. ولذلك ذكر معه بخله، وهو تركه إعطاءَ ما وجب عليه من الأقوال والأعمال وأداءِ المال، وجمع إِلى ذلك تكذيبَه بالحسنى، وهي التي وعد بها أهل الإحسان بقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس/ 26].
ومن فسّرها بشهادة أن لا إله إلّا اللَّه فلأنّها أصل الإحسان، وبها تنال الحسنى. ومن فسّرها بالخلَف في الإنفاق فقد هضم المعنى حقَّه، وهو أكبر من ذلك، وإن كان الخلَف جزءًا من أجزاءِ الحسنى.
__________
(1) “ك، ط”: “رؤية”. وفي “ف”: “عين نفسه”، تحريف.
(2) زاد في “ك، ط” الآية العاشرة.
(3) “ك، ط”: “رؤية”.
(4) “به” ساقط من “ك، ط”.
(1/25)
والمقصود أنّ الاستغناءَ عن اللَّه سببُ هلاك العبد وتيسيرِه لكلّ عسرى، ورؤيتُه غنى نفسه سببُ طغيانه، وكلاهما منافٍ للفقر والعبودية.
[تفسير الدرجة الأولى من الفقر]قوله: “الدرجة الأولى فقر الزهاد، وهو نفض اليدين من الدنيا ضبطًا أَو طلبًا، [وإسكات اللسان عنها ذمًّا أَو مدحًا، والسلامة منها طلبًا] (1) أو تركًا، وهذا هو الفقر الذي تكلّموا في شرفه”.
فحاصلُ هذه الدرجة فراغُ اليد والقلب من الدنيا، والذهولُ عن الفقرِ منها والزهدِ فيها. وعلامةُ فراغ اليد نفضُ اليدين من الدنيا ضبطًا أَو طلبًا: فهو لا يضبط يده مع وجودها شحًّا وضنًّا بها، ولا يطلبها مع فقدها سؤالًا وإلحافًا وحرصًا. فهذا الإعراض والنفض دالٌ على سقوط منزلتها من القلب، إذ لو كان لها في القلب منزلة لكان الأمر بضدّ ذلك، وكان يكون حاله الضبط مع الوجود لغناه بها، ولكان يطلبها مع فقدها لفقره إليها.
وأيضًا من أقسام الفراغ إسكات اللسان عنها ذمًّا أو مدحًا (2) لأن من اهتمّ بأمر وكان له في قلبه موقع اشتغل اللسان بما فاض على القلب من أمره مدحًا أو ذمًّا، فإنه إن حصلتْ له مدَحَها، وإن فاتته ومُنِعَها (3) ذمَّها.
__________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل وغيره بسبب انتقال النظر. وقد استدرك في “ط”.
(2) “ك، ط”: “ومدحًا”.
(3) “ومنعها”: ساقط من “ك، ط”.
(1/26)
وذمُّها (1) علامةُ موضعِها من القلب، لأن الشيء إنّما يُذمّ على قدر الاهتمام به والاعتناءِ بشفاء (2) الغيظ منه بالذم.
وكذلك تعظيم الزهد فيها إنَّما هو على قدر خطرها في القلب، إذ لولا خطرها وقدرها لما صار للزهد فيها خطر. وكذلك مدحها دليل على خطرها وموقعها من قلبه، فإنَّ من أحبَّ شيئا أكثر من ذكرِه.
فصاحب (3) هذه الدرجة لا يضبطها مع وجودها ولا يطلبها مع عدمها، ولا يفيض من قلبه على لسانه مدح لها يدلُّ على محبتها، ولا يفيض من القلب على اللسان ذم يدلُّ على موقعها وخطرها؛ فإنَّ الشيء إذا صغر أعرض القلب عنه ذمًّا أو مدحًا (4).
وكذلك صاحب هذه الدرجة فانٍ (5) عن النظرِ إلى تركها، وهو الذي تقدَّم من ذكر خطر الزهد فيها؛ لأنَّ نظرَ العبد إلى كونه تاركًا لها زاهدًا فيها، تتشوف (6) نفسه بالترك وتتلذَّذ به = دليل على شغله بها، ولو على وجه الترك (7)؛ وذلك من خطرها وقدرها. ولو صغرت في القلب لصغر تركها والزهد فيها، ولو اهتمَّ القلب بمهمٍّ من المهمات المطلوبة التي هي
__________
(1) “ك، ط”: “ومدحها وذمها”.
(2) “ط”: “والاعتناء شفاء”.
(3) “ك، ط”: “وصاحب”.
(4) “ك، ط”: “مدحًا أو ذمًّا”.
(5) “ط”: “سالم”، ولعلَّه تغيير من الناشر.
(6) “ك، ط”: “تتشرف”.
(7) “وتتلذَّذ. . الترك”: ساقط من “ط”.
(1/27)
فاقات (1) أهل القلوب والأرواح لذهل عن النظر إلى نفسه بالترك والزهد (2). فصاحب هذه الدرجة معافى من هذه الأمراض كلّها: من مرض الضبط، والطلب، والذم، والمدح، والترك. فهي بأسرها، وإن كان بعضها ممدوحًا في العلم مقصودًا يستحق المتحقق به الثواب والمدح، لكنَّها آثار وأشكال مشعرة بأنَّ صاحبها لم يذُقْ حال الخلوّ والتجريد الباطن، فضلًا عن أن يتحقق بشيءٍ (3) من الحقائق المتوقعة المتنافس فيها.
فصاحب هذه الدرجة متوسط بين درجتي الداخل (4) بكليته في الدنيا قد ركن إليها، واطمأنَّ إليها، واتخذها وطنًا، وجعلها له سكنًا؛ وبين من نفضها بالكلية من قلبه ولسانه، وتخلص من قيودها ورعوناتها (5) وآثارها، وارتقى إلى ما يسبي (6) القلبَ ويُحييه ويُفرحه ويُبهجه من جذَبات العزَّة (7). فهو في البرزخ كالحامل المقْرِب، ينتظر ولادة الروح والقلب صباحًا ومساءً، فإن من لم تولد روحه وقلبه، ويخرجْ من مشيمة نفسه، ويتخلّصْ من ظلمات طبعه وهواه وإراداته (8)، فهو كالجنين في بطن أمه الذي لم ير الدنيا وما فيها. فهكذا هذا الذي
__________
(1) “ط”: “مذاقات”، تحريف.
(2) “ك، ط”: “بالزهد والترك”.
(3) “بشيء” “ساقط من “ك، ط”.
(4) “ف”: “درجتين الداخل”، أخطأ في القراءة.
(5) “ط”: “رعونتها”.
(6) “ط”: “يسر”، تحريف.
(7) “ف”: “حدثات الغرة”، تصحيف.
(8) “ك، ط”: “إرادته”.
(1/28)
هو (1) بعدُ في مَشِيمة النفس والظلمات الثلاث التي (2) هي: ظلمة النفس، وظلمة الطبع، وظلمة الهوى. فلا بدَّ من الولادة مرَّتين كما قال المسيح للحواريين: “إنَّكم لن تلِجوا ملكوتَ السماء حتى تولَدوا مرَّتين” (3).
ولذلك كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أبًا للمؤمنين، كما في قراءة أُبيّ: “النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم” (4). ولهذا تفرع على هذه الأبوة أن جُعِلت أزواجه أمّهاتِهم، فإن أرواحهم وقلوبهم وُلِدت به ولادةً أخرى غيرَ ولادة الأمهات، فإنّه أخرج أرواحهم وقلوبهم من ظلمات الجهل والضلال والغيّ إلى نور العلم والإيمان وفضاء المعرفة والتوحيد، فشاهدتْ حقائق أُخر وأمورًا لم يكن لها بها شعور قبله.
قال تعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)} [إبراهيم/ 1].
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة/ 2].
وقال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ
__________
(1) “هو”: ساقط من “ط”.
(2) “التي” ساقط من “ط”، وفي “ك”: “الذي”، خطأ. المدارج (2/ 497 – 502).
(3) سيأتي قول المسيح هذا مرَّة أخرى في ص (397).
(4) نقل المصنف قول المسيح المذكور وتفسيره وقراءة أبي بن كعب والاستدلال بها في مدارج السالكين (3/ 34) عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه. وانظر منهاج السنة (5/ 238).
(1/29)
آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران/ 164].
والمقصود أنّ القلوب في هذه الولادة ثلاثة:
قلبٌ لم يولد ولم يأنِ له، بل هو جنين في بطن الشهوات والغيّ والجهل والضلال.
وقلبٌ قد وُلِد وخرج إلى فضاءِ التوحيد والمعرفة، وتخلّص من مشيمة الطباع وظلمات النفس والهوى، فقرّتْ عينه باللَّه، وقرّتْ عيونٌ به وقلوب، وأنِستْ بقربه الأرواح، وذكّرت رؤيتُه باللَّه؛ فاطمأنّ باللَّه، وسكن إليه، وعكف بهمّته عليه (1)، وسافرت هممه وعزائمه إلى الرفيق الأعلى، لا يقَرّ بشيء غير اللَّه، ولا يسكن إلى شيء سواه، ولا يطمئنّ (2) بغيره. يجد من كلّ شيء سوى اللَّه عوضًا، (3) ولا يجد من اللَّه عوضًا أبدًا. فذكرُه حياةُ قلبه، ورضاه نهايةُ (4) مطلبه، ومحبّتُه قوتُه، ومعرفتُه أنيسُه. عدوُّه مَن جذَب قلبه عن اللَّه “وإن كان القريبَ المصافيا” (5)، ووليُّه من ردَّه إلى اللَّه، وجَمَع قلبَه عليه، “وإن كان البعيدَ المناويا”.
__________
(1) “عليه “ساقط من “ط”.
(2) “ف”: “يظهر”، تحريف.
(3) بعده في “ط”: “ومحبته قوته”، وهي جملة مقحمة هنا، وستأتي قريبًا في مكانها.
(4) “ط”: “غاية”.
(5) كأنَّه اقتبسه من قول أبي قيس صرمة الأنصاري:
نعادي الذي عادى من النَّاسِ كلهم … جميعًا وإن كان الحبيب المصافيا
وقد أنشده في مثل هذا السياق في مدارج السالكين (1/ 234)، والبيت في سيرة ابن هشام (1/ 512).
(1/30)
فهذان قلبان متباينان غاية التباين.
وقلبٌ ثالثٌ في البرزخ ينتظر الولادة صباحًا ومساءً، قد أشرف (1) على فضاءِ التجريد، وآنس من خلال الديار أشعّةَ التوحيد. تأبى غلَباتُ الحبّ والشوق إلّا تقرّبًا إلى مَن السعادةُ كلُّها بقربه، والحظُّ كل الحظ في طاعته وحبّه؛ وتأبى غلباتُ الطباع إلّا جذبَه وإيقافَه وتعويقَه، فهو بين الدّاعيَين تارةً وتارةً، قد قطع عقباتٍ وآفات، وبقي عليه مفاوز وفلوات.
والمقصود أن صاحب هذا المقام إذا تحقّق به ظاهرًا وباطنًا، وسلِم عن نظر نفسه إلى مقامه واشتغاله به ووقوفه عنده، فهو فقير حقيقي، وليس فيه قادح من القوادح التي تحطّه عن درجة الفقر.
واعلم أنّه يحسن إعمالُ اللسان في ذمّ الدنيا في موضعين: أحدهما موضع التزهيد فيها للراغب، والثاني عندما يرجع به داعي الطبع والنفس إلى طلبها، ولا يأمن إجابةَ الداعي، فيستحضر في نفسه (2) قلّة وفائها، وكثرة جفائها، وخِسّة شركائها (3)، فإنّه إن تمّ عقلُه وحضر رشدُه زهِدَ فيها ولا بدّ.
فصل [تفسير الدرجة الثانية من الفقر]وقوله: “الدرجة الثانية: الرجوع إلى السبق بمطالعة الفضل. وهو يُورث الخلاصَ من رؤية الأعمال، ويقطع شهودَ الأحوال، ويمحّص من
__________
(1) “ط”: “قد أصبح”.
(2) “ف”: “فتستحضر نفسُه”، وهو خلاف الأصل.
(3) مأخوذٌ من قول بعض الزهاد، كما سيأتي في ص (541).
(1/31)
أدناس مطالعات (1) المقامات”.
فهذه الدرجة أرفع من الأولى وأعلى، والأولى كالوسيلة إليها؛ لأنَّ في الدرجة الأولى يتخلَّى بفقره عن أن يتألَّه غيرَ مولاه الحق، وأن يضيّع أنفاسَه في غير مرضاته (2)، وأن يفرق همومَه في غير محابّه، وأن يؤثر عليه غيرَه (3) في حالِ من الأحوال. فيوجبُ له هذا الخلوُّ (4) وهذه المعاملةُ صفاءَ العبودية، وعمارة السرِّ بينه وبين اللَّه، وخلوص الوداد والمحبة (5). فيصبح ويمسي، ولا همَّ له غير ربه، قد قطع همُّه بربِّه عنه جميعَ الهموم، وعطَّلت إرادته له (6) جميع الإرادات، ونسخت محبتُه له من قلبه كل محبةٍ لسواه، كما قيل (7):
لقد كان يسبي القلبَ في كلِّ ليلة … ثمانون بل تسعون نفسًا وأرجحُ
يهيمُ بهذا ثمَّ يألفُ غيرَه … ويسلوهُمُ من فورِه حينَ يُصبِحُ
وقد كان قلبي ضائعًا قبل حبِّكم … فكان بحبِّ الخلقِ يلهو ويمرَحُ
__________
(1) “ط”: “مطالعة”.
(2) “ف”: “مرضياته”.
(3) “غيره” ساقط من “ط”.
(4) “ك، ط”: “الخلق”، ولعلَّه تحريف.
(5) “ك، ط”: “الود”. وسقطت “المحبة” من “ط”.
(6) “له” ساقط من “ك، ط”.
(7) الأبيات لسمنون بن حمزة، وقد أورد السلمي أربعة منها برواية مختلفة مع بيت آخر في طبقات الصوفية (198)، ونقلها عنه الخطيب في تاريخ بغداد (9/ 236). وانظر: صفة الصفوة (1/ 485). والأبيات (1، 6، 9) في الزهرة (62) معزوة إلى “بعض أهل هذا العصر”. وقد توفي سمنون بعد الجنيد (297 هـ) فهو معاصر لصاحب الزهرة (255 – 297 هـ).
(1/32)
فلمَّا دعا قلبي هواكَ أجابه … فلستُ أُراهُ عن جَنابِكَ (1) ينزَحُ (2)
حُرِمْتُ مُنَايَ (3) منكَ إن كنتُ كاذبًا … وإن كنتُ في الدنيا بغيرك أفرحُ
وإنْ كان شيءٌ في الوجود سواكمُ … يقِرُّ به القلبُ الجريحُ ويفرحُ
وإنْ (4) لعبتْ أيدي الهوى بمُحِبِّكم … فليس له عن بابكم مُتزحْزَحُ
فإنْ أدركته غربةٌ عن دياركم … فحبكم بين الحشا ليس يبرَحُ
وكم مشترٍ في الخلق قد سام قلبَه … فلم يره إلا لحبِّك يصلُحُ
هوى غيرِكم نارٌ تلظَّى ومحبِسٌ … وحبُّكم الفردوس أو هو أفسَحُ
فيا ضيمَ قلبٍ قد تعلَّق غيرَكم … ويارحمتا (5) ممَّا يجولُ ويكدَحُ
واللَّه عزَّ وجلَّ لم يجعل لرجل من قلبين في جوفه، فبقدر ما يدخل القلبَ من همٍّ وإرادةٍ وحبٍّ، يخرج منه همٌّ وإرادةٌ وحبٌّ يقابله، فهو إناءٌ واحد والأشربة متعددة، فأي شراب ملأه لم يبق فيه موضع لغيره، وإنَّما يمتلئ الإناءُ بأعلى الأشربة إذا صادفه خاليًا، فأمَّا إذا صادفه ممتلئًا من غيره لم يساكنه حتَّى يخرج ما فيه، ثمَّ يسكن موضعه،
__________
(1) في حاشية “ن” أنَّ في نسخة: “خباثك”، وكذا في “ط”. وفي الطبقات: “فنائك”.
(2) هذه قراءة “ف”. وفي “ن”: “يبرح” وكذا في الطبقات و”ك، ط”. ويحتمل: “يسرح”، وكذا في تاريخ بغداد.
(3) “ك، ط”: “منائي”. وفي القطرية: “الأماني”. والصوابُ ما أثبتنا.
(4) في حاشية “ن” أنَّ في نسخة “إذا”، وكذا في “ط”.
(5) “ط”: “رحمة”.
(1/33)
كما قال (1):
أتاني هواها قبلَ أنْ أعرفَ الهوى … فصادفَ قلبًا خاليًا فتمكنا (2)
ففقرُ صاحب هذه الدرجة تفريغُه إناءه من كلِّ شراب مسكرٍ، وكلُّ شراب غير شراب المحبة والمعرفة فمسكرٌ (3) ولا بد، “وما أسكر كثيره فقليلهً حرام” (4)، وأين سكر الهوى والدنيا إلى (5) سكر الخمر! وكيف يوضع شرابُ التسنيم الذي هو أعلى أشربة المحبين في إناءٍ ملآن بخمر الدنيا والهوى، لا يفيق (6) من سكره ولا يستفيق! ولو فارق هذا السكر القلبَ لطار بأجنحة الشوق إلى اللَّه والدار الآخرة، ولكن رضيَ المسكين بالدون، وباع حظه من قرب اللَّه ومعرفته وكرامته بأخسِّ الثمن صفقةَ خاسرٍ مغبونٍ، فسيعلم أيَّ حظٍّ أضاع إذا فاز المحبون، وخسر المبطلون!
__________
(1) “ك، ط”: “قال بعضهم”.
(2) من الأبيات المشهورة، وقد أنشده المؤلف في مفتاح دار السعادة (1/ 546)، وإغاثة اللهفان (1/ 181)، وروضة المحبين (187، 240)، ونسبه في الموضع الأخير إلى قيس بن الملوّح. وهو في ديوانه (219). وينسب إلى غيره.
(3) “ط”: “من كل شراب غير شراب المحبة والمعرفة لأنَّ كل شراب فمسكر”.
(4) من حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما. أخرجه أحمد في المسند (6674)، والنسائي (8/ 300)، وابن ماجه (3394) وغيرهم، وسنده حسن. وورد هذا المتن عن جابر وأنس وعائشة وابن عمر رضي اللَّه عنهم (ز).
(5) “ك، ط”: “من”.
(6) “ط”: “ولا يفيق”.
(1/34)
فصل [مقتضيات الدرجة الثانية من الفقر]وإذا كان التلوث بالأعراض (1) قيدًا يقيد القلوبَ عن سفرها إلى بلد حياتها ونعيمها الذي لا سكن لها غيره، ولا راحة لها إلا فيه، ولا سرور لها إلا في منازله، ولا أمن لها إلا بين أهله؛ فكذلك الذي قد باشر (2) قلبُه روحَ التأله، وذاق طعمَ المحبة، وآنسَ نارَ المعرفة، له أعراضٌ دقيقة حاليّة تقيد قلبَه عن مكافحة صريح الحق، وصحة الاضطرار إليه، والفناء التام به، والبقاء الدائم بنوره الذي هو المطلوب من السير والسلوك، وهو الغاية التي شمَّر إليها السالكون، والعلَم الذي أمّه العابدون، ودندن حوله العارفون. فجميع ما يحجب عنه أو يقيد القلبَ نظرُه وهمُّه يكون حجابًا يحجب الواصلَ، ويوقف السالك، وينكس الطالب. فالزهد فيه على أصحاب الهمم العلية متعيِّن تعيُّنَ الواجب المعيّن (3) الذي لا بد منه، وهو كزهد السالك إلى الحج في الظلال والمياه التي يمر بها في المنازل.
فالأوَّل مقيد عن الحقائق برؤية الأعراض، والثاني مقيد عن النهايات برؤية الأحوال، فتقيّد كل منهما عن الغاية المطلوبة، وترتب على هذا
__________
(1) ضبطت الكلمة في الأصل هنا بالعين المهملة، وفي الموضع التالي بالمعجمة، ثمَّ بالمهملة، وستأتي مرَّة أخرى في ص (45) بالمهملة، وفي “ف” في الموضعين الأولين بالمعجمة ثمَّ بالمهملة، ولعل الصواب بالمهملة كما أثبتنا، وكذا في “ن، ك” في المواضع المذكورة كلها.
(2) “ك، ط”: “الذي باشر”.
(3) “المعين”: ساقط من “ك، ط”.
(1/35)
القيد عدمُ النفوذ (1)، وذلك مؤخّر مخلّف.
وإذا عَرَفَ العبدُ هذا وانكشف له علمُه تعيَّن عليه الزهدُ في الأحوال والفقرُ منها، كما تعين عليه الزهدُ في المال والشرف وخلوُّ قلبه منهما. وكما (2) كان موجَبُ الدرجة الأولى من الفقرِ الرجوعَ إلى الآخرة، فأوجب الاستغراقُ في همَّ الآخرة نفضَ اليدين من الدنيا ضبطًا أو طلبًا، وإسكات اللسان عنها مدحًا أو ذمًّا؛ فكذلك (3) كان موجَبُ هذه الدرجة الثانية الرجوعَ إلى فضل اللَّه عزَّ وجلَّ، ومطالعة سبقه للأسباب (4) والوسائط. فبفضل اللَّه وبرحمته (5) وُجِدتْ منهم (6) الأحوال (7) الشريفة، والمقامات العلية، وبفضله ورحمته وصلوا إلى رضاه ورحمته وقربه وكرامته وموالاته.
وكان سبحانه هو الأوَّل في ذلك كلّه، كما أنَّهُ الأوَّل في كلِّ شيء؛ وكان هو الآخر في ذلك، كما هو الآخر في كل شيء. فمن عبده باسمه الأوَّل الآخر (8) حصل (9) له حقيقة هذا الفقر، فإن انضاف إلى ذلك
__________
(1) سيأتي تفسير “النفوذ” في ص (388 – 389).
(2) في الأصل وغيره: “لما”، والصواب ما أثبتنا.
(3) “ط”: “وكذلك”.
(4) “ك، ط”: “الأسباب”.
(5) “ك، ط”: “ورحمته”.
(6) “ك، ط”: “منه”.
(7) “ك، ط”: “الأقوال”، تحريف.
(8) “ن، ك، ط”: “والآخر”.
(9) “ك، ط”: “حصلت”.
(1/36)
عبوديته باسمه “الظاهر الباطن” (1) فهذا هو العارف الجامع لمتفرقات التعبد ظاهرًا وباطنًا.
فعبوديته باسمه “الأوَّل” تقتضي التجردَ من مطالعة الأسباب والوقوف عندها (2) والالتفات إليها، وتجريدَ النظرِ إلى مجرد سبق فضله ورحمته وأنَّه هو المبتدئ بالإحسان من غير وسيلة من العبد، إذ لا وسيلة له في العدم قبل وجوده، وأي وسيلة كانت هناك! وإنَّما هو عدم محض، وقد أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورًا. فمنه الإعداد، ومنه الإمداد، وفضله سابق على الوسائل، والوسائل من مجرد فضله وجوده لم تكن بوسائل أخرى، فمن نزَّل اسمه الأوَّل على هذا المعنى أوجبَ له ذلك (3) فقرًا خاصًّا وعبودية خاصة.
وعبوديته باسمه “الآخر” تقتضي أيضًا عدم ركونه ووثوقه بالأسباب والوقوف معها، فإنَّها تُعدَم (4) لا محالة، وتنقضي بالآخرية، ويبقى الدائم الباقي بعدها. فالتعلق بها تعلُّقٌ بما يُعدَم وينقضي، والتعلق بالآخِر سبحانه تعلقٌ بالحي الذي لا يموتُ ولا يزول فالتعلُّق (5) به حقيق أن لا يزول، ولا ينقطع، بخلاف التعلّق بغيره مما له آخِرٌ يفنى به. فكما (6) نظرُ العارفِ إليه بسبق الأوليّة حيث كان قبل الأسباب كلها،
__________
(1) ” ن، ك، ط”: “والباطن”.
(2) “عندها”: ساقط من “ك، ط”.
(3) “ذلك” ساقط من “ك، ط”.
(4) “ط”: “تنعدم “.
(5) “ط”: “فالمتعلّق”، وهو خطأ.
(6) “ط”: “كذا”.
(1/37)
فكذلك (1) نظره إليه ببقاءِ الآخرّية حيث يبقى بعد الأسباب كلها. فكان اللَّه ولم يكن شيءٌ غيره، وكلّ شيءٍ هالك إلّا وجهه.
فتأمَّلْ عبوديّةَ هذين الاسمين وما يوجبانه من صحة الاضطرار إلى اللَّه وحده ودوام الفقر إليه دون كلّ شيءِ سواه، وأنّ الأمر ابتدأ منه وإليه يرجع، فهو المبتدئ بالفضل حيث لا سبب ولا وسيلة، وإليه ينتهي الأمر حيث (2) تنتهي الأسباب والوسائل، فهو أول كل شيءٍ وآخره. وكما أنّه ربُّ كلِّ شيءٍ وفاعله وخالقه وبارئه، فهو إلهه وغايته التي لا صلاح له ولا فلاح ولا كمال إلّا بأن يكون هو غايته وحده. كما أنه لا وجود له إلّا بكونه وحده هو ربّه وخالقه، فكذلك لا كمال له ولا صلاح إلّا بكونه تعالى (3) وحده هو غايته ونهاية مقصوده (4).
فهو الأول الذي ابتدأت منه المخلوقات، والآخر الذي انتهت إليه عبودياتها (5) وإرادتها (6) ومحبتها، فليس وراءَ اللَّه شيءٌ يُقصَد ويُعبَد ويُتألّه، كما أنه ليس قبله شيءٌ يَخلُق ويَبرأ. فكما كان واحدًا في إيجادك، فاجعله واحدًا في تألّهك وعبوديتك (7). وكما ابتدأ وجودك
__________
(1) “ط”: “وكذلك”.
(2) “ينتهي الأمر حيث” ساقط من “ط”.
(3) من قوله “هو غايته وحده” إلى هنا ساقط من “ط”.
(4) “ط”: “نهايته ومقصوده”.
(5) “ك”: “عبوديتها”.
(6) “ن، ك، ط”: “إراداتها”.
(7) “ط”: “تألهك إليه لتصح عبوديتك”، وهو غلط ناشئ من السقط في بعض النسخ.
(1/38)
وخلقك منه، فاجعل (1) نهايةَ حبّك وإرادتك وتألهك (2) إليه لتصحّ لك عبوديته باسمه الأول والآخر. وأكثر الخلق تعبّدوا له باسمه “الأول”، وإنّما الشأن في التعبد له باسمه “الآخر”، فهذه عبودية الرسل وأتباعهم، فهو ربّ العالمين وإله المرسلين سبحانه وبحمده.
وأما عبوديته باسمه “الظاهر” كما (3) فسّره النبي -صلى اللَّه عليه وسلم – بقوله: “وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء” (4). فإذا تحقق العبدُ علوَّه المطلق على كل شيءٍ بذاته، وأنّه ليس شيءٌ فوقه (5) البتة، وأنّه قاهر فوق عباده، يدبّر الأمر من السماءِ إلى الأرض ثم يعرج إليه {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر/ 10] صار لقلبه أَمَمًا يقصده، وربًّا يعبده، وإلهًا يتوجّه إليه؛ بخلاف من لا يدري أين ربه، فإنَّه ضائع مشتَّت القلب، ليس لقلبه قبلةٌ يتوجه نحوها، ولا معبود يتوجه إليه قصده.
وصاحب هذه الحال إذا سلك وتأله وتعبد طلب قلبُه إلهًا يسكن إليه ويتوجه إليه، وقد اعتقد أنَّه ليس فوق العرش شيء إلا العدم، وأنَّه ليس فوق العالم إله يُعبَد ويُصلَّى له ويُسْجَد، وأنَّه ليس على العرش مَن يصعد إليه الكلمُ الطيب ولا يُرفع إليه العملُ الصالحُ. جال قلبُه في الوجود
__________
(1) “ك، ط”: “فاجعله”، وهو خطأ.
(2) قوله “وعبوديتك” إلى هنا ساقط في “ك” “لانتقال النظر.
(3) “ك، ط”: “فكما”.
(4) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه، أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء (2713).
(5) “ك، ط”: “ليس فوقه شيء”.
(1/39)
جميعِه فوقع في الاتحاد ولا بد، وتعلق قلبُه بالوجود المطلق الساري في المعيّنات، فاتخذه إلهَه (1) من دون الإله الحق (2)، وظن أنَّه قد وصل إلى عين الحقيقة! وإنَّما تأله وتعبد لمخلوق مثله، أو لخيالٍ (3) نَحَتَهُ بفكره واتخذه إلهًا من دون اللَّه، وإلهُ الرسل وراءَ ذلك كله:
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)} [يونس/ 3 – 4].
وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)} [السجدة/ 4 – 9].
فقد تعرَّف سبحانه إلى عباده بكلامه معرفةً لا يجحدها إلا من أنكره سبحانه، وإن زعم أنَّهُ مقرٌّ به.
__________
(1) “ك، ط”: “فاتخذ إلهه”.
(2) “ك، ط”: “إله الحق”، وقد صحح في حاشية “ك”.
(3) “ط”: “ولخيال”.
(1/40)
والمقصود أنَّ التعبد باسم (1) “الظاهر” يجمع القلبَ على المعبود، ويجعل له ربًّا يقصده، وصمدًا يصمُد إليه في حوائجه، وملجأ يلجأ إليه. فإذا استقرَّ ذلك في قلبه، وعرف ربه باسمه “الظاهر” استقامت له عبوديته، وصار له معقل وموئل يلجأ إليه، ويهرب إليه، ويفرُّ كل وقتٍ إليه.
وأمَّا تعبده باسمه “الباطن” فامرٌ يضيق نطاق التعبير عن حقيقته، ويكِلّ اللسانُ عن وصفه، وتصطلم الإشارةُ إليه، وتجفو العبارة عنه؛ فإنَّه يستلزمُ معرفةً بريئةً من شوائب التعطيل، مخلَصةً من فرْث التشبيه (2)، منزَّهةً عن رجس الحلول والاتحاد؛ وعبارةً مؤدية للمعنى كاشفةً عنه، وذوقًا صحيحًا، سليمًا من أذواق أهل الانحراف. فمن رُزِقَ هذا فهِمَ معنى اسمه “الباطن”، وصحَّ له التعبد به.
وسبحانه اللَّه كم زلَّت في هذا المقام أقدام، وضلَّت فيه أفهام! وتكلَّم فيه الزنديق بلسان الصدِّيق، واشتبه فيه إخوان النصارى بالحنفاء المخلصين، لِنُبوِّ الأفهام عنه، وعزَّةِ تخلّص الحقَّ من الباطل فيه، والتباس ما في الذهن بما في الخارج إلا على من رزقه اللَّه بصيرةً في الحقِّ، ونورًا يميز به بين الهدى والضلال، وفرقانًا يفرِّق به (3) بين الحقِّ
__________
(1) “ك، ط”: “باسمه”.
(2) هذا التعبير مأخوذ من قوله تعالى في سوره النحل {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ}. وقد لهج به المصنف، فورد في غير موضع من كتبه. انظر مثلًا مقدمة النونية: (42)، وبدائع الفوائد: (291)، ومدارج السالكين (3: 122). وسيأتي مرة أخرى في هذا الكتاب في ص (54). وانظر نحوه في قول الشاشي في نفح الطيب (5: 286).
(3) “به” ساقطة من “ك، ط”. وقد استدركت في القطرية.
(1/41)
والباطل، ورُزِقَ مع ذلك اطلاعًا على أسباب الخطا، وتفرق الطرق، ومثار الغلط، فكان (1) له بصيرة في الحقِّ والباطل. وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم.
وباب هذه المعرفة والتعبد هو معرفة إحاطة الرب تبارك وتعالى بالعالم وعظمته، وأنَّ العوالم كلها في قبضته، وأنَّ السماوات السبع والأرضين السبع في يده كخردلة في يد العبد (2)، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [الإسراء/ 60]، وقال: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20)} [البروج/ 20]ولهذا يقرن سبحانه بين هذين الاسمين الدالّين على هذين المعنيين: اسم العلوّ الدالّ على أنَّهُ الظاهر وأنَّهُ لا شيء فوقه، واسم العظمة الدالّ على الإحاطة وأنَّهُ لا شيء دونه، كما قال تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} [البقرة/ 255، الشورى/ 4]، وقال: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)} [سبأ/ 23]، وقال: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)} [البقرة/ 115] (3).
وهو تبارك وتعالى كما أنَّه العالي على خلقه بذاته فليس فوقه شيء، فهو الباطن بذاته فليس دونه شيء، بل ظهرَ على كلِّ شيء وكان (4) فوقه،
__________
(1) “ط”: “وكان”.
(2) يشير إلى قول ابن عباس: “ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهما في يد اللَّه إلا كخردلة في يد أحدكم” وقد أخرجه الطبري في في تفسيره (20/ 246).
(3) وانظر الصواعق: (1365).
(4) “ك”: “وهو فوقه”. “ن”: “فكان”، وكذا في “ط”.
(1/42)
وبطن فكان أقرب إلى كلِّ شيء من نفسه، وهو محيط به حيث لا يحيط الشيء بنفسه، وكل شيء في قبضته، وليس (1) في قبضة نفسه، فهذا قرب الإحاطة العامة (2).
وأما القرب المذكور في القرآن والسنة فقربٌ خاصٌّ من عابديه وسائليه وداعيه، وهو من ثمرة التعبد باسمه “الباطن”، قال اللَّه تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة/ 186]، فهذا قربه من داعيه.
وقال تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف/ 56] فذكَّر (3) الخبر -وهو”قريب”- عن لفظ “الرحمة” وهي مؤنثة إيذانًا بقربه تعالى من المحسن (4)، فكأنَّهُ قال: إنَّ اللَّه برحمته قريبٌ من المحسنين (5).
وفي الصحيح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (6): “أقرب ما يكون العبد من ربِّه وهو ساجد” (7) و”أقرب ما يكون الرب من عبده في جوف الليل” (8)، فهذا
__________
(1) “ط”: “وليس شيء”.
(2) “ط”: “أقرب للأحاطة العامة”، غلط.
(3) في الأصل: “فوحد”، وهو سهو، وكذا في “ف، ن”.
(4) “ك، ط”: “المحسنين”.
(5) وانظر كلامًا مستفيضًا للمؤلف على هذه المسألة في بدائع الفوائد (862 – 889). وانظر أيضًا: رسالتي الروذراوري وابن مالك (ط سليمان العايد) ورسالة ابن هشام (ط الحموز).
(6) زاد في “ط”: “قال”.
(7) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه. أخرجه مسلم في كتاب الصلاة (482).
(8) أخرجه الترمذي (3579)، والنسائي (572)، وابن خزيمة في صحيحه (1147)، والحاكم في المستدرك (1/ 453) (1162) وغيرهم. قال الترمذي: =
(1/43)
قربٌ خاصٌّ غير قرب الإحاطة وقرب البطون.
وفي الصحيح من حديث أبي موسى أنَّهم كانوا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في سفر، فارتفعت أصواتهم بالتكبير فقال: “أيها النَّاس اربعوا على أنفسكم، فإنَّكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إنَّ الذي تدعونه سميعٌ قريبٌ، أقرب إلى أحدكم من عُنُق راحلته” (1)، فهذا قربه من داعيه وذاكره، يعني: فأيُّ حاجة بكم إلى رفع الأصوات، وهو لقربه يسمعها، وإن خفضت، كما يسمعها إذا رفعت، فإنَّه سميع قريب؟
وهذا القرب هو من لوازم المحبة، فكلَّما كان الحب أعظم كان القرب أكثر (2). وقد يستولي (3) محبة المحبوب على قلب محبه بحيث يفنى بها عن غيره، ويغلب محبوبه على قلبه حتَّى كأنَّهُ يراه ويشاهده، فإنْ (4) لم يكن عنده معرفة صحيحة باللَّه وما يجب له ويستحيل (5) عليه، وإلا (6) طرق بابَ الحلول إن لم يلِجْه. وسببه ضعف تمييزه، وقوة
__________
= “حسن صحيح غريب من هذا الوجه”. والحديث صححه ابن خزيمة والحاكم، ولم يتعقبه الذهبي (ز).
(1) من حديث أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه، أخرجه البخاري في كتاب الجهاد (2992) وغيره.
(2) وانظر: المدارج (2/ 305)، والبدائع (3/ 845)، ومجموع الفتاوى (15/ 17).
(3) كذا في الأصل بالياء. وفي “ك، ط”: “وقد استولت”.
(4) “ك”: “فإذا”.
(5) “ط”: “وما يستحيل”.
(6) وقعت “إلا” هنا في غير موقعها، ولا يستقيم المعنى إلا بحذفها، ولعلَّه من الأخطاء الشائعة في زمن المصنف، فقد تكرَّر في كتبه وكتب شيخه. انظر مثلًا =
(1/44)
سلطان المحبة، واستيلاء المحبوب على قلبه بحيث يغيب عن ملاحظة سواه (1)، وفي مثل هذه الحال يقول: “سبحاني” أو “ما في الجبة إلا اللَّه” (2)، ونحو هذا من الشطحات التي نهايتها أن تُغفرَ (3) له ويُعذر لسكره وعدم تمييزه في تلك الحال.
فالتعبد بهذا الاسم هو التعبد بخالص المحبة وصفو الوداد، وأن يكون الإله سبحانه أقرب إليه من كل شيء وأقرب إليه من نفسه، مع كونه ظاهرًا ليس فوقه شيء.
ومن كثُفَ ذهنُه وغلُظ طبعُه عن فهمِ هذا فليضرِبْ عنه صفحًا إلى ما هو أولى به (4)، فقد قيل:
إذا لم تستطع شيئًا فدعه … وجاوِزْه إلى ما تستطيع (5)
فمن لم يكن له ذوقٌ مِن قرب المحبة، ومعرفةٌ بقرب المحبوب من محبّه غاية القرب، وإنْ كان بينهما غايةُ المسافة -ولاسيما إذا كانت المحبة من الطرفين، وهي محبة بريئة من العلل والشوائب والأعراض القادحة فيها- فإنَّ المحبَّ كثيرًا ما يستولي محبوبه على قلبه وذكره،
__________
= هذا الكتاب ص (227، 228)، والداء والدواء (239)، وشفاء العليل (198)، وجامع المسائل (1/ 92، 171) و (2/ 202)، ومجموع الفتاوى (11/ 27).
(1) “ط”: “ما سواه”. وانظر: الوابل الصيب (159).
(2) تنسب هذه الكلمات إلى أبي يزيد البسطامي (261 هـ) انظر مجموع الفتاوى (8/ 313)، وسير أعلام النبلاء (13/ 88).
(3) “ك، ط”: “يغفر”.
(4) “به” ساقط من “ك”، وبعده فيها: “وقد قيل”.
(5) البيت لعمرو بن معد يكرب في مجموع شعره (145).
(1/45)
ويفنى عن غيره، ويرِقّ قلبه ولتجرَّد نفسه، فيشاهد محبوبه كالحاضر معه القريب إليه، وبينهما من البعد ما بينهما. وفي هذا (1) الحال يكون في قلبه وجودُه العلمي، وفي لسانه وجودُه اللفظي، فيستولي هذا الشهودُ عليه ويغيبُ به، فيظن أنَّ في عينه (2) وجودَه الخارجي، لِغلبة حكم القلب والروح، كما قيل:
خيالُك في عيني، وذكرُكَ في فمي … ومثواكَ في قلبي، فأين تغيب! (3)
هذا، ويكون ذلك المحبوب بعينه بينه وبين عدوه من البعد ما بينهما (4)، وإن قربت الأبدانُ وتلاصقت الديارُ. والمقصودُ أنَّ المثال العلمي غير الحقيقة الخارجية وإن كان مطابقًا لها، لكنّ المثال العلمي محلُّه القلب، والحقيقة الخارجيَّة محلُّها الخارج.
فمعرفة هذه (5) الأسماء الأربعة -وهي: الأوَّل، والآخر، والظاهر والباطن- هي أركان العلم والمعرفة، فحقيق بالعبد أن يبلغ في معرفتها إلى حيث ينتهي به قواه وفهمه.
واعلم أنَّ لك أنت أوَّلًا وآخرًا وباطنًا وظاهرًا (6)، بل كل شي فله أوَّل
__________
(1) “ك، ط”: “هذه”.
(2) “ف”: “غيبة”، تصحيف.
(3) أنشده المصنف في روضة المحبين (100)، والداء والدواء (285)، ومع بيت آخر في المفتاح (1/ 438)، وهو لأبي الحكم ابن غَلِندو الأشبيلي الطبيب الشاعر (581 أو 587 هـ). انظر: معجم الأدباء (1194).
(4) “ك”: “ما بينها من البعد”. ط: “وما بينهما. . “.
(5) “هذه” ساقط من “ط” ومستدرك في القطرية.
(6) “ك، ط”: “ظاهرًا وباطنًا”.
(1/46)
وآخر وظاهر وباطن، حتَّى الخطرة واللحظة والنفس، وأدنى من ذلك وأكبر (1). فأوَّلية اللَّه عزَّ وجلَّ سابقةٌ على أولية كلِّ ما سواه، وآخريته ثابتةٌ بعد آخريةِ كلِّ ما سواه. فأوليته سبقُه لكل شيء، وآخريته بقاؤه بعد كلِّ شيء. وظاهريتُه سبحانه فوقيته وعلوُّه على كل شيء، ومعنى الظهور يقتضي العلو، وظاهر الشيء هو ما علا منه وأحاط بباطنه. وبطونُه سبحانه إحاطته بكلِّ شيء، وبحيث يكون أقرب إليه من نفسه، وهذا قرب غير قرب المحب من حبيبه. هذا لون، وهذا لون.
فمدار هذه الأسماء الأربعة على الإحاطة، وهي إحاطتان: زمانية ومكانية، فأحاطت (2) أوليتُه وآخريتُه بالقبل والبعد، فكلُّ سابق انتهى إلى أوليته، وكلُّ آخر انتهى إلى آخريته؛ فأحاطت أوليته وآخريته بالأوائل والأواخر. وأحاطت ظاهريته وباطنيته بكلِّ ظاهر وباطن، فما من ظاهر إلا اللَّه فوقه، وما من باطن إلا واللَّه دونه، وما من أوَّل إلا واللَّه (3) قبله، وما من آخر إلا واللَّه بعده: فالأوَّل قِدَمه، والآخِر دوامه وبقاؤه، والظاهر علوه وعظمته، والباطن قربه ودنوه.
فسبق كلَّ شيء بأوليته، وبقي بعد كل شيء بآخريته، وعلا على كلِّ شيء بظهوره، ودنا من كلِّ شيء ببطونه. فلا تواري منه سماءٌ سماءً ولا أرضٌ أرضًا، ولا يحجب عنه ظاهرٌ باطنًا، بل الباطن له ظاهر، والغيب عنده شهادة، والبعيد منه قريب، والسرُّ عنده علانية.
فهذه الأسماء الأربعة تشتمل على أركان التوحيد، فهو الأوَّل في
__________
(1) “ن، ك، ط”: “أكثر”.
(2) “ك، ط”: “فإحاطة”، خطأ.
(3) “ك”: فاللَّه”.
(1/47)
آخريته، والآخِر في أوليته، والظاهر في بطونه، والباطن في ظهوره، لم يزل أوَّلًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا.
والتعبد بهذه الأسماء له (1) رتبتان:
الرتبة الأولى: أن يَشهدَ (2) الأوليةَ منه تعالى في كل شيء، والآخريةَ بعد كل شيء، والعلوَّ والفوقية فوق كل شيء، والقربَ والدنوَّ دون كل شيء. فالمخلوق يحجبه مثلُه عمَّا هو دونه، فيصير الحاجب بينه وبين المحجوب؛ والربُّ جلَّ جلاله ليس دونه شيء هو (3) أقرب إلى الخلق منه.
والمرتبة الثانية من التعبد: أن يعامل كلَّ اسم بمقتضاه، فيعامل سبقه تعالى بأوليته لكل شيء، وسَبْقَه بفضله وإحسانه الأسبابَ كلَّها، بما يقتضيه ذلك من إفراده، وعدم الالتفات إلى غيره، والوثوق بسواه والتوكل على غيره. فمن (4) الذي شفع لك في الأزل حيث لم تكن شيئًا مذكورًا حتَّى سمَّاك باسم الإسلام، ووسمك بسمة الإيمان، وجعلك من أهل قبضة اليمين، وأقطعك في ذلك الغيب عِمالاتِ (5) المؤمنين، فعصمك عن العبادة للعبيد، وأعتقك عن (6) التزام الرق لمن له شكل ونديد؟ ثمَّ وَجِّه وجهةَ قلبِك إليه تبارك وتعالى دون ما سواه.
__________
(1) “له” ساقط من “ط”.
(2) “ك، ط”: “تشهد”.
(3) “هو” ساقط من “ك، ط”.
(4) “ك، ط”: “من ذا”.
(5) أقطع فلانًا أرضًا: أعطاه إياها تمليكًا أو للانتفاع بها. والعمالة: أجرة العامل، والإمارة والولاية.
(6) “ك، ط”: “مِن”.
(1/48)
فاضرع إلى الذي عصمك من السجود للصنم، وقضى لك بقدم الصدق في القِدَم، أن يُتِمَّ عليك نعمةَ هو ابتدأها، وكانت أوليتُها منه بلا سبب منك. واسْمُ بهمتك عن ملاحظة الأغيار (1)، ولا تركن (2) إلى الرسوم والآثار، ولا تقنع بالخسيس الدون. وعليك بالمطالب العالية والمراتب السامية التي لا تنال إلا بطاعة اللَّه، فانَ اللَّه عزَّ وجلَّ قضى أن لا ينالَ ما عنده إلا بطاعته. ومن كان للَّه كما يريد كان اللَّه له فوق ما يريد، فمن أقبل إليه تلقَّاه من بعيد، ومن تصرّف بحوله وقوَّته ألان له الحديد، ومن ترك لأجله أعطاه فوق المزيد، ومن أراد مراده الديني أراد ما يريد.
ثمَّ اسمُ بسرِّك إلى المطلب الأعلى، واقصُرْ حبَّك وتقربك على من سبق فضلُه وإحسانهُ إليك كل سبب منك، بل هو الذي جاد عليك بالأسباب، وهيأها لك (3)، وصرف عنك موانعها، وأوصلك بها إلى غايتك المحمودة. فتوكَّلْ عليه وحده، وعامِلْه وحده، وآثِرْ مرضاتَه (4) وحده، واجعل حُبَّه ومرضاته هو كعبة قلبك التي لا تزال طائفًا بها، مستلمًا لأركانها، واقفًا بملتزمها. فيا فوزك ويا سعادتك إن اطَّلع سبحانه على ذلك من قلبك، ماذا يفيض عليك من ملابس نعمه وخِلَع أفضاله! “اللَّهم لا مانعَ لما أعطيتَ ولا معطي لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ” (5)، سبحانَك وبحمدِك.
__________
(1) “ط”: “الاختيار”. وكذا كان في “ك”، فأصلحه بعض القراء.
(2) “ك، ط”: “ولا تركنن”.
(3) “ط”: “وهيأ لك”.
(4) “ك، ط”: “رضاه”.
(5) من حديث سيأتي في ص (443).
(1/49)
ثمَّ تعبَّدْ له باسمه “الآخر” بأن تجعله وحده غايتك التي لا غاية لك سواه، ولا مطلوب لك وراءَه. فكما انتهت إليه الأواخر، وكان بعدَ كل آخِر، فكذلك اجعل نهايتك إليه، فإنَّ إلى ربِّك المنتهى، إليه انتهت الأسباب والغايات، فليس وراءه مرمى ينتهى إليه. وقد تقدم التنبيه على ذلك وعلى التعبد باسمه “الظاهر”.
وأمَّا التعبد باسمه “الباطن” فإذا شهدتَ إحاطته بالعوالم، وقربَ البعيد (1) منه، وظهورَ البواطن له، وبدوَّ السرائر له (2)، وأنَّه لا شيء بينه وبينها، فعامِلْه بمقتضى هذا الشهود، وطهِّر له سريرتك، فإنَّها عنده علانية؛ وأصلحْ له غيبَك، فإنَّه عنده شهادة؛ وزكِّ له باطنك، فإنَّه عنده ظاهر.
فانظر كيف كانت هذه الأسماء الأربعةُ جمَاعَ المعرفة باللَّه، وجماع العبودية له. فهنا وقفَتْ شهادةُ العبدِ مع فضَل خالقه ومنته، فلَا يرى لغيره شيئًا إلا به وبحوله وقوَّته؛ وغاب بفضل مولاه الحق عن جميع ما منه هو ممَّا كان يستند إليه، أو يتحلَّى به، أو يتخذه عُقدة (3)، أو يراه ليوم فاقته، أو يعتمد عليه في مهمَّة من مهمَّاته. فكلُّ ذلك من قصورِ نظرِه وانعكاسِه عن الحقائق والأصول إلى الأسباب والفروع، كما هو شأن الطبيعة والهوى، وموجَب الظلم والجهل، والإنسان ظلومٌ جهول.
فمن جلَّى اللَّه سبحانه صدأَ بصيرته، وكمَّل فطرته، وأوقفه على مبادئ الأمور وغاياتها ومناطها ومصادرها ومواردها، أصبح
__________
(1) “ك، ط”: “العبيد”.
(2) “له” ساقط من “ك، ط”.
(3) “ف”: “عقده”، وكذا في “ط”. وفي “ك”: “عمده”. ولعلَّ الصواب ما أثبتنا، والعقدة هي المال الذي يقتنيه المرء.
(1/50)
كالمفلس (1) حقًّا من علومه وأعماله وأحواله وأذواقه. يقول: أستغفر اللَّه من علمي ومن عملي، أي من انتسابي إليهما وغيبتي (2) بهما عن فضل من ذكَرني بهما، وابتدأني بإعطائهما، من غير تقدُّم سبب منِّي يُوجبُ ذلك. فهو لا يشهد غير فضل مولاه وسبقِ مِنّته ودوامها (3)، فيثيبه مولاه على هذه الشهادة العالية (4) بحقيقة الفقر الأوسط بين الفقرين الأدنى والأعلى ثوابَين:
أحدهما: الخلاصُ من رؤية الأعمال حيث كان يراها، ويمتدح بها، ويستكثرها؛ فيستغرق بمطالعة الفضل غائبًا عنها، ذاهبًا عنها، فانيًا عن رؤيتها.
الثواب الثاني: أن يقطعه عن شهود الأحوال -أي عن شهود نفسه فيها متكثرةً بها- فإنَّ الحالَ محلُّه الصدر، والصدر بيت القلب والنفس، فإذا نزل العطاءُ في الصدر للقلب (5) وَثَبَتْ (6) النفسُ لتأخذَ نصيبها من العطاء، فتتمدح به، وتُدِلُّ به، وتزهو، وتستطيل، وتقرِّر إنِّيَّتها، لأنَّها جاهلة ظالمة، وهذا مقتضى الجهل والظلم. فإذا وصلَ إلى القلبِ نورُ صفة المِنَّة، وشهد معنى اسمه “المنَّان”، وتجلَّى سبحانه على قلب عبده بهذا الاسم مع اسمه “الأوَّل” ذَهَلَ القلبُ والنفسُ به، وصار العبدُ فقيرًا
__________
(1) “ك، ط”: “كمفلس”.
(2) الأصل غير منقوط، وقراءة “ف”: “غنيتي”، والمثبت من غيرها.
(3) “ك، ط”: “دوامه”.
(4) “ف”: “الغالبة لحقيقة”، تصحيف.
(5) “ف”: “انقلب”، تحريف.
(6) “ط”: “ثبتت”، تحريف.
(1/51)
إلى مولاه بمطالعة سبق فضله الأوَّل، فصارَ مقطوعًا عن شهود أمرٍ أو حالٍ ينسبه إلى نفسه، بحيث يكون بشهادته لحاله مفصومًا مقطوعًا عن رؤية عزةِ مولاه وفاطِرِه وملاحظة صفاته. فصاحب شهود الأحوال منقطع عن رؤية منَّة خالقِه وفضلِه، ومشاهدة سبق الأولية للأسباب كلها؛ وغائب بمشاهدة عزَّة نفسه عن عزَّة مولاه. فينعكس هذا الأمر في حقِّ هذا العبد الفقير، وتشغله رؤيةُ عزَّةِ مولاه ومنّته ومشاهدةُ سبقِه بالأولية عن حالٍ يعتزُ بها العبد أو يشرُف بها.
وكذلك الرجوعُ إلى السبق بمطالعة الفضل يمحِّصُ من أدناس مطالعات المقامات، فـ “المقام” ما كان راسخًا فيه، “والحال” ما كان عارضًا لا يدوم. فمطالعاتُ المقامات (1)، وتشرُّفُه (2) بها، وكونُه يرى نفسَه صاحبَ مقام قد حقَّقه وكمَّله، فاستحقَّ أن ينسب إليه، ويوصف به، مثل أن يقال: زاهدٌ صابرٌ خائفٌ راجٍ محبٌّ راضٍ = فكونُه يرى نفسَه مستحقًّا بأن تضاف المقاماتُ إليه وبأن يوصَف بها -على وجه الاستحقاق لها- خروجٌ عن الفقر إلى الغنى، وتعدٍّ لطور العبودية، وجَهلٌ بحقِّ الربوبية.
فالرجوع إلى السبق بمطالعة الفضل يستغرقُ همة العبد، ويمحّصُه، ويُطهّره (3) من مثل هذه الأدناس، فيصير مصفًّى بنور اللَّه عن رذائل هذه الأرجاس.
__________
(1) “ك، ط”: “المقامة”، ثمَّ أصلحها بعضهم في “ك”.
(2) “ط”: “تشوفه”.
(3) “ف”: “تستغرق. . . تمحصه وتطهره” تصحيف.
(1/52)
[تفسير الدرجة الثالثة من الفقر]قوله: “والدرجة الثالثة صحةُ الاضطرار، والوقوعُ في يدِ التقطع الوحداني، والاحتباسُ في قيد (1) التجريد، وهذا فقر الصوفية”.
هذه (2) الدرجة فوق الدرجتين السابقتين عند أرباب السلوك، وهي الغاية التي شمَّروا إليها وحاموا حولها. فإنَّ الفقر الأوَّل فقرٌ عن الأعراض الدنياوية (3)، والفقر الثاني فقرٌ عن رؤية المقامات والأحوال، وهذا الفقر الثالث فقرٌ عن ملاحظة الوجود (4) الساتر للعبد عن مشاهدة الموجود (5)، فيبقى الوجودُ الحادثُ (6) في قبضة الحق عزَّ وجلَّ كالهباء المنثور في الهواءِ، يتقلَّب بتقليبه إيَّاهُ، ويصير (7) في شاهد العبد كما هو في الخارج. فتمحو رؤيةُ التوحيد عن العبد شواهدَ استبدادِه واستقلاله بأمر من الأمور، ولو في النفس واللمحة والطرفة والهمة والخاطر والوسوسة، إلا بإرادة المريد الحق سبحانه وتدبيره وتقديره ومشيئته. فيبقى العبد كالكرة الملقاة بين صَولَجَانات القضاء والقدر، تُقلِّبها كيف
__________
(1) “ط”: “في بيداء قيد”. والظاهر أن كلمة “بيداء” زيادة الناشر من مدارج السالكين. ولكن نسخة منازل السائرين التي ينقل المؤلف منها في هذا الكتاب تختلف عن نسخته التي كانت بين يديه عند تأليف المدارج.
(2) “ك”: “وهذه”.
(3) “ط”: “الدنيوية”.
(4) “ك، ط”: “الموجود”.
(5) كذا قرأت الأصل، وفي “ف” وغيرها: “الوجود”.
(6) رسم الكلمة في الأصل غير واضح، وكتب في حاشيته: “ظ”، وكتب ناسخ “ف” في الحاشية: “كذا”. وفي “ن”: “الحالي”، وفي حاشيتها: “كذا”.
(7) “ط”: “يسير” تحريف.
(1/53)
شاءَت، بصحةِ شهادة قيومية من له الخلقُ والأمرُ، وتفرّدِه بذلك دون ما سواه.
وهذا الأمر لا يُدْرَك بمجرَّد العلمِ، ولا يعرفه إلا من تحقَّق به، أو لاح له منه بارق. وربما ذَهَلَ صاحبُ هذا المشهد عن الشعور بوجوده لِغلبة شهود وجود القيوم عليه، فهناك يصحُّ من مثل هذا العبد الاضطرار إلى الحي القيوم، ويشهد (1) في كل ذرَّة من ذرَّاته الظاهرة والباطنة فقرًا تامًّا إليه، من جهة كونه ربًّا، ومن جهة كونه إلهًا معبودًا لا غنى له عنه، كما لا وجود له بغيره. فهذا هو الفقر الأعلى الذي دارت عليه رحى القوم، بل هو قطب تلك الرحى.
وإنَّما يصحّ له هذا بمعرفتين لا بد منهما: معرفة حقيقة الربوبية والإلهية، ومعرفة حقيقة النفس والعبودية، فهنالك تتم له معرفة هذا الفقر. فإن أعطى هاتين المعرفتين حقَّهما من العبودية اتَّصف بهذا الفقر حالًا، فما أغناهُ حينئذٍ من فقير! وما أعزَّه من ذليل! وما أقواهُ من ضعيف! وما آنسه من وحيد! فهو الغنيُّ بلا مال، القوي (2) بلا سلطان، العزيز بلا عشيرة، المكفيّ (3) بلا عتاد! قد قرَّت عينه باللَّه، فقرَّت به كلُّ عين؛ واستغنى باللَّه، فافتقر إليه الأغنياء والملوك.
ولا يتمُّ له ذلك إلا بالبراءة من فَرْث الجبر ودَمِهِ (4)، فإنَّه إن طرق بابَ الجبر انحلَّ عنه نظامُ العبودية، وخلع ربقةَ الإسلام من عنقه، وشهد
__________
(1) “ط”: “شهد”.
(2) تحته في “ف” بخط مختلف: “الغالب” مع علامة “صح”.
(3) “ف”: “المكتفي”. أخطأ في القراءة وكتب في الحاشية: “ظ” أي انظر.
(4) انظر ما سلف عن هذا التعبير في ص (41).
(1/54)
أفعالَه كلَّها طاعات للحكم القدري الكوني، وأنشد:
أصبحتُ منفعلًا لما يختارهُ … منِّي، ففعلي كلُّه طاعاتُ (1)
وإذا (2) قيل له: اتَّق اللَّه ولا تعصِه، يقول: إن كنتُ عاصيًا لأمره فأنا مطيع لحكمه وإرادته! (3) فهذا منسلخ من (4) الشرائع، بريءٌ من دعوة الرسل، شقيقٌ لعدوِّ اللَّه إبليس.
بل وظيفةُ الفقير في هذا الموضع وفي هذه الضرورة مشاهدةُ الأمر والشرع، ورؤيةُ قيامِه بالأفعال وصدورِها منه كسبًا واختيارًا، وتعلُّقِ الأمر والنهي بها طلبًا وتركًا، وترتُّبِ الذم والمدح عليها شرعًا وعقلًا، وتعلُّقِ الثواب والعقاب بها آجلًا وعاجلًا.
فمتى اجتمع له هذا الشهودُ الصحيحُ إلى شهود الاضطرار في حركاته وسكناته، والفاقةِ التامةِ إلى مقلِّب القلوب ومن بيده أزمّة الاختيار ومن إذا شاء وجب وجوده، وإذا لم يشأ امتنع وجوده، وأنَّه لا هادي لمن أضلَّه، ولا مضل لمن هداه، وأنَّه هو الذي يحرك القلوبَ بالإرادات،
__________
(1) سيأتي البيت أيضًا في ص (351، 650)، وهو لابن إسرائيل محمد بن سوَّار الشاعر الصوفي الدمشقي (677 هـ). أنشده له شيخ الاسلام في مجموع الفتاوى (8/ 257). وانظر أيضًا (11/ 245)، ومنهاج السنة (3/ 25)، والمدارج (1/ 231، 262، 305) و (2: 233)، وشفاء العليل (19، 40).
(2) “ط”: “إذ”، خطأ.
(3) سيذكر المصنف هذا القول مرة أخرى في (182، 350، 650). وانظر شفاء العليل: (40). ونسبه شيخ الإسلام في الفتاوى (8/ 257) إلى بعض أصحاب علي بن حسين الحريري (645 هـ).
(4) “ك”: “عن”.
(1/55)
والجوارحَ بالأعمال، وأنَّها مدبَّرةٌ تحت تسخيره مذلّلةٌ تحت قهره، وأنَّها أعجز وأضعفُ (1) أن تتحرك بدون مشيئته، وأنَّ مشيئتَه نافذةٌ فيها كما هي نافذة في حركات الأفلاك والمياه والأشجار، وأنَّه حرَّك كلًّا منها بسبب اقتضى تحريكه، وهو خالق السبب المقتضي، وخالقُ السبب خالقٌ للمسبَّب، فخالقُ الإرادة الحادثةِ (2) التي هي سببُ الحركة والفعل الاختياري خالقٌ لهما، وحدوثُ الإرادة بلا خالقٍ مُحدِثِ محالٌ، وحدوثُها بالعبد بلا إرادة منه مُحالٌ، وإنْ كان بإرادة فإرادتُه للإرادة كذلك، ويستحيل هنا (3) التسلسل، فلا بُدَّ من فاعلٍ أوجدَ تلك الإرادة التي هي سبب الفعل. وهنا (4) يتحفق الفقرُ والفاقةُ والضرورةُ التامة إلى مالك الإرادات وربِّ القلوب ومصرِّفها كيف شاء، فما شاء أن يزيغه منها أزاغه، وما شاء أن يقيمه منها أقامه {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران/ 8].
فهذا هو الفقرُ الصحيح المطابق للعقلِ والفطرة والشرع، ومن خرج عنه وانحرف إلى أحد الطرفين زاغ قلبه عن الهدى، وعطَّل مُلْكَ الملِك الحقِّ وانفراده بالتصرف والربوبية عن أوامره وشرعه وثوابه وعقابه.
وحُكْمُ هذا الفقيرِ المضطرِّ إلى خالقه في كلِّ طرفة عين وكلِّ نفس أنّه إن حُرِّك بطاعةٍ أو نعمةٍ شكرها وقال: هذا من فضل اللَّه ومنِّه وجوده، فله
__________
(1) “ط”: “أضعف من أن”.
(2) “ك، ط”: “الجازمة”، تحريف.
(3) كذا في الأصل و”ن”. وفي “ف” وغيرها: “بها”.
(4) كذا في الأصل وغيره. وفي “ط”: “فهنا”، وهو مقتضى سياق الكلام الذي طال، فسياقه: “فمتى اجتمع له هذا الشهود. . . فهنا يتحقق الفقر”.
(1/56)
الحمد، وإن حُرِّك بمبادئ معصيته صرخ، ولجأ (1)، واستغاث، وقال: “أعوذُ بك منك” (2)، “يا مقلّب القلوب ثَبِّت قلبي على دينك” (3)، “يا مصرِّف القلوب صرِّف قلبي على طاعتك” (4).
فإن تمَّ تحريكه بالمعصية التجأ التجاءَ أسير قد أسره عدوُّه، وهو يعلم أنَّه لا خلاص له من أسره إلا بأن يفتكّه سيّدُه من الأسر، ففكاكه في يد سيِّده، ليس في يده منه شيء البتة، ولا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا؛ فهو في أسْر العدوِّ ناظرٌ إلى سيده، وهو قادر على تخليصه (5)؛ قد اشتدَّت ضرورته إليه، وصار اعتمادُه كلُّه عليه. قال سهل (6): “إنَّما يكون الالتجاء على معرفة قدر (7) الابتلاء”. يعني (8): وعلى قدر معرفة (9) الابتلاء تكون المعرفة بالمبتلي.
ومن عرف معنى (10) قوله (11) -صلى اللَّه عليه وسلم-: “وأعوذ بك منك” (12)، وقام
__________
(1) في “ك” فوق السطر: “إلى اللَّه”.
(2) من حديث عائشة رضي اللَّه عنها. أخرجه مسلم في كتاب الصلاة (486).
(3) تقدم في ص (17).
(4) من حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما. أخرجه مسلم في القدر (2654).
(5) “على تخليصه” ساقط من “ك، ط”.
(6) هو سهل بن عبد اللَّه التستري (283 هـ) من كبار الزهاد. طبقات الصوفية: (206)، سير أعلام النبلاء (13/ 330).
(7) “قدر” ساقط من “ط”.
(8) “ك”: “حتى”، تحريف.
(9) “معرفة” ساقط من “ك، ط”.
(10) “معنى” ساقط من “ط”.
(11) “ف”: “قول النبي”، خلاف الأصل.
(12) مرَّ آنفًا.
(1/57)
بهذه المعرفة شهودًا وذوقًا، وأعطاها حقَّها من العبودية، فهو الفقيرُ حقًّا. ومدار الفقر الصحيح على هذه الكلمة، فمن رُزِقَ فهمَها (1) فهِمَ سرَّ الفقر المحمدي. فهو سبحانه الذي ينجي من قضائه بقضائه، وهو الذي يعيذ من نفسه (2) بنفسه، وهو الذي يدفع ما منه بما منه. فالأمرُ كلّه له، والحكم كلّه له، والخلق كلّه له (3). وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وما شاء لم يستطع أن يصرفه إلا مشيئتُه، وما لم يشأ لم يكن أن يجلبه إلا مشيئتُه. فلا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، ولا يهدي لأحسن الأعمال والأخلاق إلا هو، ولا يصرف سيئها إلا هو. {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس/ 107].
والتحقُّق (4) بمعرفة هذا يوجب صحةَ الاضطرار وكمالَ الفقر والفاقة، ويحول بين العبد وبين رؤية أعماله وأحواله، والاستغناء بها، والخروج عن رِبقة (5) العبودية إلى دعوى ما ليس له. وكيف يدَّعي مع اللَّه حالًا أو ملكةً أو مقامًا مَن قلبُه وإراداتُه (6) وحركاتُه الظاهرةُ والباطنةُ بيد ربِّه ومليكه، لا يملك هو منها شيئًا، وإنَّما هي بيد مقلب القلوب ومصرِّفها كيف شاء (7)، فالإيمانُ بهذا والتحقق به نظام التوحيد،
__________
(1) “ك”: “فمن فهم سرّها”. “ط”: ” .. سر هذا”.
(2) “ك، ط”: “يعيذ بنفسه من نفسه”.
(3) وقعت هذه الجملة في “ك، ط” قبل “والأمر كله له”.
(4) “ن”: “التحقيق”، خطأ.
(5) “ط”: “رفقة”، تحريف.
(6) “ك، ط”: “وإرادته”.
(7) “ك، ط”: “يشاء”.
(1/58)
فمتى (1) انحلَّ من القلب انحلَّ نظامُ التوحيد. فسبحان من لا يوصَل إليه إلا به، ولا يطاع إلا بمشيئته، ولا يُنال ما عنده من كرامته (2) إلا بطاعته، ولا سبيل إلى طاعته إلا بتوفيقه ومعونته. فعاد الأمرُ كلُّه إليه، كما ابتدأ الأمرُ كلّه منه، فهو الأوَّل والآخر، وإنَّ إلى ربك المنتهى.
ومن وصل إلى هذا الحال وقع في يد التقطع والتجريد، وأشرف على مقام التوحيد الخاصِّي. فإنَّ التوحيد نوعان: عامِّي وخاصِّي، كما أن الصلاة نوعان، والذكر نوعان، وسائر القُرَب كذلك خاصِّيَّة وعامِّية. فالخاصِّيَّة ما بذل فيها العاملُ نصحَه وقصدَه بحيث يوقعها على أحسن الوجوه وأكملها، والعامية ما لم يكن كذلك. فالمسلمون كلهم مشتركون في إتيانهم بشهادة أن لا إله إلا اللَّه، وتفاوتُهم في معرفتهم بمضمون هذه الشهادة وقيامهم بحقِّها (3) باطنًا وظاهرًا أمرٌ لا يحصيه إلا اللَّه عزَّ وجلَّ.
وقد ظنَّ كثيرٌ من الصوفية أنَّ التوحيد الخاص (4) أن يشهد العبدُ المحرِّكَ له، ويغيبَ عن المتحرك وعن الحركة، فيغيبَ بشاهده (5) عن حركته، فيشهدَ (6) نفسَه شبحًا فانيًا تجري عليه (7) تصاريف المشيئة، كمن غرق في البحر فأمواجه ترفعُه طورًا وتخفضه طورًا، فهو غائب بها
__________
(1) “ك، ط”: “ومتى”.
(2) “ك، ط”: “الكرامة”.
(3) “بحقها”: ساقط من “ط”.
(4) “ط”: “الخاصي”.
(5) “ط”: “بشهوده”.
(6) “ط”: “ويشهد”.
(7) “ك، ط”: “يجري على”.
(1/59)
عن ملاحظة حركته في نفسه، بل قد اندرجت حركته في ضمن حركة الموج، فكأنَّه (1) لا حركة له بالحقيقة.
وهذا، وإن ظنَّه كثيرٌ من القوم غايةً، وظنَّه بعضهم لازمًا من لوازم التوحيد، فالصواب أنَّ وراءَه (2) ما هو أجل منه. وغاية هذا الفناءُ في توحيد الربوبية، وهو (3) أن لا يشهد ربًّا وخالقًا ومدبِّرًا إلا اللَّه، وهذا حق (4)، ولكن توحيد الربوبية وحده لا يكفي فى النجاة فضلًا عن أن يكون شهودُه والفناءُ فيه هو غاية الموحدين ونهاية مطلبهم.
بل الغاية (5) التي لا غايةَ وراءها ولا نهاية بعدها الفناءُ في توحيد الإلاهية. وهو أن يفنى بمحبة ربه عن محبة كل ما سواه، وبتألهه عن تأله ما سواه، وبالشوق إليه وإلى لقائه عن الشوق إلى ما سواه، وبالذلِّ له والفقر إليه من جهة كونه معبودَه وإلهَه ومحبوبَه عن الذل والفقر (6) إلى كلِّ ما سواه، وكذلك يفنى بخوفه ورجائه عن خوف ما سواه ورجائه. فيرى أنَّه ليس في الوجود ما يصلح له ذلك إلا اللَّه، ثمَّ يتصف بذلك حالًا (7)، وينصبغ به قلبه صبغة، ثمَّ يفنى بذلك عمَّا سواه. فهذا هو التوحيد الخاصّ (8) الذي شمَّر إليه العارفون، والورد الصافي الذي حام
__________
(1) “ك، ط”: “وكأنَّه”.
(2) “ط”: “من ورائه”.
(3) “ك”: “وهي”.
(4) “ك، ط”: “هو الحق”.
(5) “ط”: “فالغاية”.
(6) “الفقر” ساقط من “ك، ط”، ومستدرك في حاشية “ك”.
(7) “ك”: “تتصف بذلك حاله”.
(8) “ط”: “الخاصي”.
(1/60)
حوله المحبون.
ومتى وصل إليه العبدُ صار في يد التقطع والتجريد، واشتمل بلباس الفقر الحقيقي، ومزَّق (1) حبُّ اللَّه من قلبه كلَّ محبَّة، وخوفُه كلَّ مخافة (2)، ورجاؤه كلَّ رجاءٍ، فصار حبُّه وخوفه ورجاؤه وذله وإيثاره وإرادته ومعاملته = كلُّ ذلك واحدًا (3) لواحدٍ، فلم ينقسم طلبُه ولا مطلوبُه. فتعددُ المطلوب وانقسامُه قادحٌ في التوحيد والإخلاص، وانقسامُ الطلب قادحٌ في الصدق والإرادة. فلا بدَّ من توحيد الطلب والإرادة، وتوحيد المطلوب المراد. فإذا غاب بمحبوبه عن حب غيره، وبمذكوره عن ذكر غيره، وبمألوهه عن تأله غيره، صارَ من أهل التوحيد الخاص (4). وصاحبُه مجرَّدٌ عن ملاحظة سوى محبوبه أو إيثاره أو معاملته أو خوفه أو رجائه. وصاحبُ توحيد الربوبية في قيد التجريد عن ملاحظة فاعلٍ غير اللَّه، وهو مجردٌ عن ملاحظة وجوده هو، كما (5) كان صاحبُ الدرجة الأولى مجرَّدًا عن أمواله، وصاحبُ الثانية مجرَّدًا عن أعماله وأحواله.
وصاحبُ (6) الفناءِ في توحيد الإلهية مجرَّدٌ عن سوى مراضي محبوبه وأوامره، قد فني بحبه وابتغاء مرضاته عن حبِّ غيره وابتغاء مرضاته.
__________
(1) “ك، ط”: “فرَّق”.
(2) “ك، ط”: “خوف”.
(3) “ط”: “واحد”.
(4) “ط”: “الخاصي”.
(5) “ك، ط”: “وهو كما”.
(6) “ط”: “فصاحب”.
(1/61)
وهذا هو التجريد الذي سَمَتْ إليه هممُ السالكين. فمن تجرَّد عن ماله وحاله وكسبه وعلمه (1)، ثمَّ تجرَّد عن شهود تجريده، فهو المجرَّد عندهم حقًّا، وهذا هو (2) تجريد القوم الذي عليه يحومون، وإياهُ يقصدون. ونهايته عندهم التجريد بفناء وجوده، وبقائه بموجوده، بحيث يفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل، ولا غاية عندهم وراءَ هذا.
ولعمرُ اللَّه إنَّ وراءَه تجريدًا أكملَ منه، ونسبتهُ إليه كتَفْلة في بحرِ، وشَعرةٍ في ظهر بعير. وهو تجريد الحبِّ والإرادة عن الشوائب والعلل والحظوظ، فيتوحد حبُّه كما توحَّد محبوبه، ويتجرَّد عن مراده من محبوبه بمراد محبوبه منه، بل يبقى مرادُ محبوبه منه هو (3) نفس مراده. وهنا يعقل الاتحاد الصحيح، وهو اتحاد المراد، فيكون عينُ مراد المحبوب هو عينَ مراد المحبِّ. وهذا هو غاية الموافقة وكمال العبودية، ولا تتجرَّد المحبة عن العلل والحظوظ التي تفسدها إلا بهذا. فالفرقُ بين محبَّة حظِّكَ ومرادك من المحبوب وأنَّك إنَّما تحبه لذلك، وبين (4) محبَّة مراد المحبوب منك ومحبتك له لذاته وأنَّه أهل أن يُحَبَّ. وأمَّا الاتحاد في الإرادة فمحال، كما أنَّ الاتحاد في المريد محال، فالإرادتان متباينتان. وأمَّا مراد المحب والمحبوب إذا خلصت المحبة من العلل والحظوظ فواحد. فالفقر والتجريد والفناء من واد واحد.
__________
(1) “ط”: “عمله”.
(2) “هو” ساقط من “ك، ط”.
(3) “ك”: “هو من نفس”. “ط”: “محبوبه هو من نفس”.
(4) كلمة “بين” غير واضحة في الأصل فكتب في حاشيته: “ظ” أي انظر. وكذا في حاشية “ف”.
(1/62)
وقد جعله صاحب “منازل السائرين” من قسم النهايات، وحدَّه بأنَّه “الانخلاع عن شهود الشواهد”، وجعله على ثلاث درجات: “الدرجة الأولى: تجريد (1) الكشف عن كسب اليقين، والثانية: تجريد عين الجمع عن درك العلم، والثالثة: تجريد الخلاص من شهود التجريد” (2).
فقوله في الأولى (3): “تجريد الكشف عن كسب اليقين” يريد كشفَ الإيمان ومكافحته للقلب، وهذا وإن حصل باكتساب اليقين من أدلته وبراهينه، فالتجريد أن يشهد سبقَ اللَّه تعالى بمنته لكلِّ سبب يُنال به يقين أو إيمان (4)، فيتجرد (5) كشفُه لذلك عن ملاحظة سبب أو وسيلة، بل يقطع الأسباب والوسائل، وينتهي نظره إلى المسبب.
وهذا (6) إن أريد [به] (7) تجريدُها عن كونها أسبابًا فتجريد باطل، وصاحبه ضال، وإن أريد به (8) تجريدُها عن الوقوف عندها، ورؤيةِ انتسابها إليه، وصدورِها منه، وأنَّ (9) اليقين إنَّما كان به وحده، فهذا
__________
(1) “ك”: “درجة الكشف”، سهو. وفي مدارج السالكين (3/ 408) “تجريد عين الكشف”، وهي نسخة أخرى.
(2) في الأصل: “شهود التدريج” سبق قلم. وكذا في “ف، ن”. وانظر: منازل السائرين (108)، والمدارج (3/ 408).
(3) “ت”: “الدرجة الأولى” خلاف الأصل.
(4) “ط”: “اليقين أو الإيمان”.
(5) “ط”: “فيجرد”.
(6) “ط”: “وهذه”.
(7) زيادة يقتضيها السياق، ويدلُّ عليها ما يأتي.
(8) “به” ساقط من “ن، ك، ط”.
(9) “ط”: “إليه وصيرورتها عنوان اليقين” ولعلَّه تحريف لما جاء في الأصل وغيره.
(1/63)
تجريد صحيح؛ ولكن على صاحبه إثباتُ الأسباب، فإن نفاها عن كونها أسبابًا فسدَ تجريدُه.
وقوله في الدرجة الثانية: “تجريد عين الجمع عن درك العلم”. لمَّا كانت الدرجة الأولى تجريدًا عن الكسب وانتهاءً إلى عين الجمع الذي هو الغَيبة (1) بتفرد الرب بالحكم عن إثبات وسيلة أو سبب، اقتضت تجريدًا آخر أكمل من الأوَّل، وهو تجريد هذا الجمع عن علم العبد به. فالأولى تجريد عن رؤية السبب والفعل، والثانية تجريد عن العلم والإدراك. وهذا يقتضي أيضًا تجريدًا ثالثًا أكمل من الثاني وهو تجريد التخلص من شهود التجريد، وصاحب هذا التجريد الثالث في عين الجمع قد اجتمعت همته على الحقِّ، وشُغِلَ به عن ملاحظة جمعه وذكرِه وعلمِه به. قد استغرق ذلك قلبَه، فلا سعة فيه لشهود علمه بتجريده ولا شعوره به، فلا التفات له إلى تجريده؛ ولو بقيَ له التفاتٌ إليه لم يكمل تجريده.
ووراءَ (2) هذا كلِّه تجريدٌ نسبةُ هذا التجريدِ إليه كشعرة من ظهر بعير (3) إلى جُمْلته، وهو: تجريدُ الحبِّ والإرادة عن تعلقه بالسوى، وتجريدُه عن العلل والشوائب والحظوظ التي هي مراد النفس؛ فيتجرد الطلب والحبُّ عن كلِّ تعلُّقٍ يخالف مراد المحبوب، فهذا تجريد الحنيفية. واللَّه المستعان، وعليه التكلان، ولا حولَ ولا قوَّة إلا به.
__________
(1) الأصل غير منقوط، وكذا في “ن”. وفي “ف”: “العنية”، ويحتمل: “الغنية”، ورجحت قراءة “ك”، وكذا في “ط”.
(2) “ك”: “ووارى”.
(3) “ك”: “جمل”.
(1/64)
فصل [في الغنى وانقسامه إلى عالٍ وسافل]ولمَّا كان الفقرُ إلى اللَّه عزَّ وجلَّ هو عينَ الغنى به، فأفقرُ النَّاس إلى اللَّه أغناهم به، وأذلُهم له أعزهم، وأضعفهم بين يديه أقواهم، وأجهلهم عند نفسِه أعلمُهم باللَّه، وأمقتهم لنفسه أقربُهم إلى مرضاة اللَّه = كان ذكرُ الغنى باللَّه مع الفقر إليه متلازمَين متناسبَين، فنذكر فصلًا نافعًا في الغنى العالي.
واعلم أنَّ الغنى على الحقيقة لا يكون إلا للَّه (1) الغني بذاته عن كلِّ ما سواه، وكلُّ ما سواه فموسومٌ بسِمَةِ الفقرِ، كما هو موسوم بسمة الخلق والصنع. فكما (2) أنَّ كونه مخلوقًا أمرٌ ذاتيٌّ له، فكونه فقيرًا أمرٌ ذاتيٌّ له، كما تقدم بيانه (3). وغناهُ أمرٌ نسبيٌّ إضافيٌّ عارض له، فإنَّه إنَّما استغنى بأمر خارج عن ذاته، فهو غني به فقير إليه. ولا يُوصَف بالغنى على الإطلاق إلا مَن غناهُ من لوازم ذاته، فهو (4) الغني بذاته عمَّا سواه، وهو الأحد الصمد الغني الحميد.
والغنى قسمان: غنى سافل، وغنى عال، فالغنى السافل: الغنى بالعواريّ المسترَدَّة من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوَّمة والأنعام والحرث، وهذا أضعف الغنى،
__________
(1) “ط”: “باللَّه”.
(2) “ك، ط”: “وكما”.
(3) انظر ما سلف في ص (12).
(4) “ف”: “وهو”، خلاف الأصل، وكذا في “ن”.
(1/65)
فإنَّهُ غنًى بظل زائل، وعاريَّةٍ ترجع عن قريب إلى أربابها، فإذا الفقر بأجمعه بعد ذهابها، وكأنَّ الغنى بها كان حُلْمًا فانقضى. ولا همَّة أضعفُ من همَّةِ من رضي بهذا الغنى الذي هو ظلٌّ زائلٌ.
وهذا غنى أرباب الدنيا الذي فيه يتنافسون، وإيَّاه يطلبون، وحوله يحومون، ولا أحبَّ إلى الشيطان وأبعدَ من (1) الرحمن من قلبٍ ملآنَ بحبِّ هذا الغنى وبالخوف (2) من فقده.
قال بعض السلف: إذا اجتمع إبليس وجنوده لم يفرحوا بشيء كفرحهم بثلاثة أشياء: مؤمن قتل مؤمنًا، ورجل يموت على الكفر، وقلب فيه خوف الفقر (3).
وهذا الغنى محفوفٌ بفقرَين: فقرٍ قبله، وفقرٍ بعده، وهو كالغفوة بينهما، فحقيق بمن نصح نفسه أن لا يغترَّ به ولا يجعله نهايةَ مطلبه، بل إذا حصلَ له جعله سببًا لغناهُ الأكبر ووسيلةً إليه، ويجعله خادمًا من خدمه لا مخدومًا له، وتكون نفسه أعزَّ عليه من (4) أن يعبِّدها لغير مولاه الحق، أو يجعلها خادمةً لغيره.
__________
(1) “ط”: “عن”.
(2) “ك، ط”: “والخوف”.
(3) من كلام حمدون القصَّار النيسابوري شيخ الملامتية (271 هـ). انظر الرسالة القشيرية (272).
(4) “من” ساقطة من “ك”.
(1/66)
فصل [في الغنى العالي وتفسير كلام الهروي في درجاته]وأمَّا (1) الغنى العالي فقال شيخ الإسلام (2):
“هو على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: غنى القلب، وهو سلامته من السبب، ومسالمتُه للحكم، وخلاصُه من الخصومة. والدرجة الثانية: غنى النفس، وهو استقامتها على المرغوب، وسلامتُها من المسخوط (3)، وبراءتها من المراياة (4). والدرجة الثالثة: الغنى بالحقِّ، وهو ثلاث مراتب: الأولى: شهود ذكره إيَّاك، والثانية: دوام مطالعة أوليته، والثالثة: الفوز بوجوده” (5).
قلتُ: ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: “ليس الغنى عن كثرة العَرَض، ولكن الغنى غنى النفس” (6). ومتى استغنت النفس استغنى القلب. ولكن الشيخ قسَّم الغنى إلى هذه الدرجات بحسب متعلَّقه فقال: “غنى
__________
(1) “ط”: “أما”، واستدركت الواو في القطرية.
(2) يعني صاحب “منازل السائرين”.
(3) “ط”: “الحظوظ”. ولعلَّه تغيير من الناشر اعتمادًا على مدارج السالكين، ولو تروَّى قليلًا لوجد المؤلف يفسر قول الهروي فيما يأتي حسب ما نقله هنا من نسخة المنازل.
(4) في “ط”: “المراءاة”. والذي في الأصل وغيره بالياء على القلب، لغة في المراءاة. انظر: اللسان (رأي 14/ 296).
(5) منازل السائرين (57)، وقارن النص وتفسيره في مدارج السالكين (2/ 507 – 503).
(6) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق (6446)، ومسلم في الزكاة (1051) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(1/67)
القلب سلامته من السبب، ومسالمته للحكم، وخلاصه من الخصومة”. ومعلومٌ أنَّ هذا شرط في الغنى، لا أنَّهُ نفس الغنى؛ بل وجود المنازعة والمخاصمة وعدم المسالمة مانع من الغنى. فهذه السلامة والمسالمة دليل على غنى القلب، لا أنَّ غناه بها نفسِها، وإنَّما غنى القلب بالدرجة الثالثة فقط، كما سيأتي بيانه (1). فإنَّ الغنيَّ (2) إنَّما يصير غنيًّا بحصول مايسدُّ فاقته ويدفع حاجته. وفي القلبِ فاقة عظيمة وضرورة تامة وحاجة شديدة لا يسدُّها إلا فوزُه بحصول الغني الحميد الذي إن حصل للعبد حصل له كلُّ شيء، وإن فاته فاته كلُّ شيء. فكما أنَّه سبحانه الغنيُّ على الحقيقة ولا غنيَّ سواه، فالغنى به هو الغنى في الحقيقة ولا غِنى بغيره ألبتة. فمن لم يستغن به عمَّا سواه تقطَّعت نفسه على السوى حسراتٍ، ومن استغنى به زالت عنه كل حسرة، وحضره كلُّ سرور وفرح، واللَّه المستعان.
وإنَّما قدَّم الشيخُ (3) الكلامَ على “غنى القلب” على الكلام على “غنى النفس”؛ لأنَّ (4) كمال صلاح النفس، وغناها (5) بالاستقامة من جميع الوجوه، وبلوغها إلى درجة الطمأنينة لا يكون إلا بعد صلاح القلب؛ وإصلاحُ (6) النفس متقدمٌ على إصلاح القلب (7). هكذا قيل! وفيه ما
__________
(1) بعده في “ك، ط”: “إن شاء اللَّه”.
(2) “ط”: “فالغنى”.
(3) “ك، ط”: “شيخ الإسلام”.
(4) “ف”: “أنَّ” أخطأ في القراءة.
(5) “ط”: “النفس غناها”.
(6) “ك، ط”: “صلاح”.
(7) “ط”: “إصلاحه”. “ك”: “صلاح القلب”.
(1/68)
فيه، لأنَّ صلاحَ كلٍّ منهما مقارنٌ لصلاح الآخر، ولكن لمَّا كان القلب هو الملِك وكان صلاحه صلاحَ جميع رعيته كان أولى بالتقديم.
وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ في الجسدِ مضغةً إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب” (1).
والقلبُ (2) إذا استغنى بما فاض عليه من مواهب ربِّه وعطاياه السنية خلَعَ على الأمراءِ والرعية خِلَعًا تناسبها: فخلعَ على النفس خِلَع الطمأنينة والسكينة والرضا والإخبات، فأدَّت الحقوق سماحةً لا كظمًا بل (3) بانشراح ورضًا ومبادرة. وذلك لأنَّها جانست القلب حينئذٍ، ووافقته في أكثر أموره، واتحد مرادهما غالبًا، فصارت له وزير صدق، بعد أن كانت عدوًّا مبارزًا بالعداوة. فلا تسأل عمَّا أحدثت هذه المؤازرة والموافقة من طمأنينة ولذَّة عيش ونعيم هو رقيقة (4) من نعيم أهل الجنَّة! هذا، ولم تضع الحرب أوزارها فيما بينهما، بل عُدّتها وسلاحها كامنٌ متوارٍ، لولا قوْةُ (5) سلطان القلب وقهرُه لحاربت بكلِّ سلاح؛ فالمرابطة
__________
(1) من حديث النعمان بن بشير رضي اللَّه عنه. أخرجه البخاري في الإيمان (52)، ومسلم في المساقاة (1599).
(2) “ك”: “فالقلب”.
(3) “بل” ساقطة من “ك، ط”.
(4) أراد أنَّه جزء يسير جدًّا من نعيم أهل الجنَّة. وقد استعمل المؤلف هذا التعبير في مدارج السالكين أيضًا فقال: “وذلك رقيقة من حال أهل الجنَّة في الجنَّة” (2/ 464). وقال: “وهذا رقيقة من حال أهل الجنَّة” (3/ 156)، وقرن بها كلمة “لطيفة” في (3/ 294) قال: “فإنَّ نعيم المحبة في الدنيا رقيقة ولطيفة من نعيم الجنة في الآخرة”. فالرقيقة هنا اسم. وقد ضبطت في “ك” بضم أولها وفتح ثانيها، وفوقها علامة “صح”، وفي “ط”: “دقيقة”. والصوابُ ما أثبتنا.
(5) “ط”: “قدرة”.
(1/69)
على ثغري الظاهر والباطن فرضٌ معيَّن (1) مدَّة أنفاس الحياة:
وتنقضي الحربُ، محمودٌ عواقبُها … للصابرين، وحظُّ الهاربِ الندمُ (2)
وخَلَعَ على الجوارح خِلَع الخشوع والوقار، وعلى الوجه خلعةَ (3) المهابة والنور والبهاء، وعلى اللسان خلعةَ الصدق والقول السديد الثابت والحكمة النافعة، وعلى العين خلعة الاعتبار في النظر والغضّ عن المحارم، وعلى الأذن خلعة استماع النصيحة واستماع القول النافع استماعُه للعبد في معاشه ومعاده، وعلى اليدين والرجلين خلعة البطش في الطاعات أين كانت بقوَّة وأيدٍ، وعلى الفرج خلعةَ العفَّة والحفظ؛ فغدا العبدُ وراح يرفُلُ في هذه الخِلَع، ويجرُّ لها في النَّاس أذيالًا وأردانًا (4).
فغنى النفس مشتقٌ من غنى القلب وفرعٌ عليه، فإذا استغنى سرى الغنى منه إلى النفس. وغنى القلب بما (5) يناسبه من تحقّقه (6) بالعبودية المحضة التي هي أعظم خلعة تُخلع عليه، فيستغني حينئذٍ بما توجبه هذه العبودية له من المعرفة الخاصة والمحبة الناصحة الخالصة، وبما يحصل
__________
(1) “ك، ط”: “متعين”.
(2) “ن، ك، ط”: “محمودًا”. ولم أجد البيت.
(3) “ف”: “خلع” خلافًا للأصل.
(4) من قول ابن إسرائيل الدمشقي:
فواحد فى رياض الأنس منبسط … يجرّ للتّيه أذيالًا وأردانا
انظر: ذيل مرآة الزمان (3/ 428).
(5) “ط”: “ما”.
(6) “ط”: “تحقيقه”.
(1/70)
له من آثار الصفات المقدسة و [ما] (1) تقتضيه من الأحكام والعبوديات المتعلقة بكل صفةٍ صفةٍ (2) على الانفراد ومجموعها قائمةً بالذَّات. وهذا أمرٌ تضيق عن شرحه عدَّةُ أسفار، بل حظُّ العبد منه علمًا وإرادة كما يُدخل إصبعه في اليم، بل الأمر أعظم من ذلك، واللَّه عزَّ وجلَّ {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد/ 17].
فإذا استغنى القلبُ بهذا الغنى الذي هو غاية فقره استغنت النفسُ غنًى يناسبها، وذهبت عنها البرودة التي توجبُ ثقلَها وكسلَها وإخلادَها إلى الأرضِ، وصارت [لها] (3) حرارةٌ توجِبُ حركتَها وخفّتَها في الأوامر وطلبَها الرفيق الأَعلى، وصارت برودتُها في شهواتها وحظوظها ورعوناتها. وذهبت أيضًا عنها (4) اليبوسةُ المضادَّةُ للينها وسرعةِ انفعالها وقبولها؛ فإنَّها إذا كانت يابسةً قاسيةً كانت بطيئة الانفعال، بعيدة القبول، لا تكاد تنقاد. فإذا صارت برودتها حرارةً، ويبوستها رطوبةً (5) وسُقيَت بماءِ الحياة الذي أنزله اللَّه على قلوب أنبيائه، وجعلها قرارًا ومعينًا له، ففاض منها على قلوب أتباعهم، فأنبتت من كلِّ زوجٍ كريم = فحينئذ انقادت بزمام المحبة إلى مولاها الحق مؤديةً لحقوقه، قائمةً بأوامره، راضيةً عنه، مرضيةً له بكمال طمأنينتها {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)} [الفجر/ 27 – 28].
__________
(1) ما بين الحاصرتين من “ط”.
(2) “ك، ط”: “بكل صفة على”.
(3) ما بين الحاصرتين زيادة من “ك، ط”. وفي الأصل و”ف” علامة “ظ” أي انظر.
(4) “ك، ط”: “عنها أيضًا”.
(5) “ط”: “يبوستها حرارة، وبرودتها رطوبة”، وهو خطأ.
(1/71)
فلنرجع إلى كلامه.
[تفسير الدرجة الأولى وهي غنى القلب]فقوله في الدرجة الأولى -وهي غنى القلب- أنَّهُ “سلامته من السبب” أي من الفقر إلى السبب، وشهودِه، والاعتماد عليه، والركون إليه، والثقة به. فمن كان معتمدًا على سبب غنيًّا به (1) واثقًا به لم يطلق عليه اسم “الغنى”، لأنَّه فقير إلى الوسائط، بل لا يسمَّى صاحبُه غنيًّا إلا إذا سلِم من علُّة السبب استغناءً بالمسيِّب، بعد الوقوف على رحمته وحكمته وتصرفه وحسن تدبيره، فلذلك يصير صاحبه غنيًّا بتدبير اللَّه عزَّ وجلَّ.
فمن كملت له السلامة من علَّة الأسباب، ومن علَّة المنازعة للحكم، بالاستسلام له والمسالمة (2)، أي بالانقياد لحكمه الذي (3) حصَّل الغنى للقلب بوقوفه على حسن تدبيره ورحمته وحكمته (4). فإذا وقف العبد على حسن تدبيره (5) واستغنى القلب به لم يتم له الاستغناء بمجرد هذا الوقوف، إن (6) لم ينضمّ إليه المسالمة للحكم -وهو الانقياد له- فإنَّ المنازعة للحكم إلى حكم آخر دليلٌ على وجود رعونة الاختيار، وذلك
__________
(1) “ط”: “سبب غناه”، تحريف.
(2) “ف”: “المسالة”، تحريف.
(3) “الَّذي” ساقط من “ط”، ولعلَّ الناشر حذفه لتقويم النص.
(4) العبارة “فمن كملت له السلامة. . . ” إلى هنا كذا وردت في الأصل وغيره. وأراها قلقة في هذا الموضع، ولو حذفت لاستقام السياق.
(5) من “رحمته” إلى هنا ساقط من “ف” لانتقال النظر.
(6) “ن”: “الاستغناء وهذا الوقوف إن. . . “. “ط”: “وإن”، خطأ.
(1/72)
دالٌّ على فقر صاحب الاختيار إلى ذلك الشيء المختار، ومن كان فقيرًا إلى شيء لم يُرِده اللَّه عزَّ وجلَّ لم يُطلَق عليه اسمُ الغني بتدبير اللَّه عزَّ وجلَّ. فلا يتمُّ الغنى بتدبير الربِّ عزَّ وجلَّ لعبده إلا بالمسالمة لحكمه بعد الوقوف على حسن تدبيره.
ثمَّ يبقى عليه الخلاصُ من معنى آخر، وهو مخاصمة الخلق بعد الخلاص من منازعة الربِّ. فإنَّ مخاصمة (1) الخلق دليلٌ على فقره إلى الأمرِ الذي وقعت فيه الخصومة من الحظوظ العاجلة، ومن كان فقيرًا إلى حظٍّ من الحظوظ، يسخَط (2) لفوته، ويخاصم الخلقَ عليه، لا يطلق عليه اسم الغني حتَّى يسلم الخلق من خصومته لكمال (3) تفويضه إلى وليّه وقيومه ومتولي تدبيره.
فمتى سلم العبد من علة فقره إلى السبب، ومن علَّة منازعته لأحكام اللَّه عزَّ وجلَّ، ومن علة مخاصمته للخلق على حظوظ = استحقَّ أن يكون غنيًّا بتدبير مولاه، مفوِّضًا إليه، لا يفتقر قلبه إلى غيره، ولا يسخط شيئًا من أحكامه، ولا يخاصم عباده إلا في حقوق ربه؛ فتكون مخاصمته للَّه وباللَّه، ومحاكمته إلى اللَّه؛ كما كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول في استفتاح صلاة الليل: “اللهُمَّ لكَ أسلمتُ وبك آمنتُ، وعليك توكلتُ، وإليك أنبتُ، وبك خاصمتُ، وإليك حاكمتُ” (4).
__________
(1) “ك، ط”: “منازعة”.
(2) “ك”: “ينحط”، تحريف.
(3) “ك، ط”: “بكمال”.
(4) أخرجه البخاري في كتاب التهجد (1120)، ومسلم في صلاة المسافرين (769) من حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما.
(1/73)
فتكون مخاصمةُ هذا العبدِ للَّه، لا لهواه وحظِّه؛ ومحاكمتُه خصمَه إلى أمر اللَّه وشرعه، لا إلى شيءٍ سواه. فمن خاصم لنفسه فهو ممن اتَّبع هواه، وانتصر لنفسه. وقد قالت عائشة: “ما انتقم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لنفسه قط” (1)، وهذا لتكميل عبوديته. ومن حاكم خصمَه إلى غيرِ اللَّه ورسوله فقد حاكم إلى الطاغوت، وقد أُمِر أن يكفر به، ولا يكفر العبد بالطاغوت حتَّى يجعل الحُكمَ للَّه وحده، كما هو كذلك في نفس الأمر.
والحكم حكمان (2): حكم كوني قدري، وحكم أمري ديني. فهذا الذي ذكره الشيخ في “منازل السائرين” وشرَحه عليه الشارحون إنَّما مراده به (3) الحكم الكوني القدري. وحينئذٍ فلا بدَّ من تفصيل ما أجملوه من مسألة الحكم والاستسلام له وترك المنازعة له، فإنَّ هذا الإطلاق غيرُ مأمور به، ولا ممكن للعبد في نفسه.
بل الأحكام ثلاثة: “حكم شرعي ديني”، فهذا حقه أن يُتلقَّى بالمسالمة والتسليم وترك المنازعة، بل الانقياد المحض. وهذا تسليم العبودية المحضة، فلا يعارض بذوق ولا وجد ولا سياسة ولا قياس ولا تقليد، ولا يرى إلى خلافه سبيلًا البتة، وإنَّما هو الانقياد المحض والتسليم والإذعان والقبول. فإذا تلقَّى بهذا التسليم والمسالمة إقرارًا وتصديقًا بقي هناك انقياد آخر وتسليم آخر له إرادةً وتنفيذًا وعملًا، فلا تكون له شهوةٌ تنازعُ مرادَ اللَّهِ من تنفيذ حكمه، كما لم تكن له شبهةٌ تُعارضُ إيمانَه
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأدب (6126) وغيره، ومسلم في الفضائل (2327).
(2) “ك، ط”: “نوعان”.
(3) “به” ساقط من “ف”.
(1/74)
به (1) وإقرارَه.
وهذا حقيقة القلب السليم الذي سلم من شهبة تعارض الحقَّ، وشهوةٍ تعارض الأمر، فلا استمتع بخلاقه كما استمتع به الذين يتّبعون الشهوات، ولا خاض في الباطل (2) خوضَ الذين يتبعون الشبهات، بل اندرج خلاقُه تحت الأمر، واضمحلَّ خوضُه في معرفته بالحقِّ؛ فاطمأنَّ إلى اللَّه معرفةً به (3)، ومحبةً له، وعلمًا بأمره، وإرادةً لمرضاته، فهذا حقُّ الحكم الديني.
الحكم الثاني: الحكمُ الكوني القدري الذي للعبد فيه كسب واختيار وإرادة، والذي حَكَمَ به يَسخطه ويُبغضه ويَذُمّ عليه. فهذا حقُّه أن يُنازَعَ ويُدَافَعَ بكلِّ ممكن ولا يُسالَمَ البتة، بل يُنازعَ بالحكم الكوني أيضًا، فينازعَ حكمُ الحقِّ بالحقِّ للحق، ويدافَع (4) به وله، كما قال شيخ العارفين في وقته عبد القادر الجيلي: “النَّاسُ إذا وصلوا (5) إلى القضاءِ والقدر أمسكوا، وأنا انفتحتْ لي فيه (6) رَوزَنة (7) فنازعتُ أقدارَ الحقِّ بالحقِّ للحقِّ. والعارفُ من يكون منازعًا للقدر، لا واقفًا مع القدر” (8) انتهى.
__________
(1) “به” ساقط من “ط”، وكذا من “ك”، ثمَّ استدرك بخط مغاير.
(2) “ط”: “الباطن” تحريف.
(3) “به”: ساقط من “ك”.
(4) “ك، ط”: “فيدافع”.
(5) “ك، ط”: “دخلوا”.
(6) “فيه” ساقط من “ك، ط”.
(7) الروزنة: الكوَّة النافذة، فارسي معرَّب. انظر: المعرب (336).
(8) مدارج السالكين (1/ 272)، مجموع الفتاوى (2/ 458)، (6/ 308) (10/ 158). وانظر تفسير قول الشيخ “نازعت أقدار الحق. . . ” في =
(1/75)
فإن ضاق ذرعُكَ عن هذا الكلام وفهمه فتأمَّل قول عمر بن الخطاب، وقد عوتب على فراره من الطاعون، فقيل له: أتفِرُّ من قدَر اللَّه؟ فقال: “نفِرُّ من قدر اللَّه إلى قدر اللَّه” (1).
ثمَّ كيف ينكر هذا الكلام من لا بقاءَ له في هذا العالم إلا به، ولا تتمُّ له مصلحة إلا بموجبه. فإنَّه إذا جاءَه قَدرٌ من الجوع والعطش و (2) البرد نازعه، وترك الانقياد له ومسالمته، ودَفَعَ (3) بقدَر آخر من الأكل والشرب واللباس، فقد دفع قدر اللَّه بقدره.
وهكذا إذا وقع الحريقُ في داره فهو بقدَر اللَّه، فما باله لا يستسلم له ويسالمه ويتلماهُ بالإذعان؟ بل ينازعه ويدافعه بالماء والتراب وغيره حتَّى يطفئ قدَر اللَّه بقدر اللَّه، وما خرج في ذلك عن قدر اللَّه.
وهكذا إذا أصابه مرض بقدر اللَّه دافع هذا القدر، ونازعه بقدر آخر يستعمل فيه الأدوية الدافعة للمرض. فحقُّ هذا الحكم الكوني أن يحرص العبدُ على مدافعته ومنازعته بكلِّ ما يمكنه، فإنْ غلبه وقهرَه حرَص على دفع آثاره وموجباته بالأسباب التي نصبها اللَّه لذلك (4)،
__________
= (8/ 547 – 550).
(1) سقط لفظ الجلالة من “ط”. وفي القطرية: “قدره”. وأثر عمر رضي اللَّه عنه أخرجه البخاري في كتاب الطب (5729)، ومسلم في كتاب السلام (2219).
(2) “ط”: “أو”.
(3) “ك، ط”: “دفعه”.
(4) “ط”: “بك” خطأ صحح في القطرية.
(1/76)
فيكون قد دفع القدر بالقدر، ونازع الحكم بالحكم. وبهذا أُمِرَ، بل هذا حقيقة الشرع والقدر.
ومن لم يستبصر في هذه المسألة ويعطِها حقَّها لزمَه التعطيلُ للقدر أو الشرع، شاء أم (1) أبى. فما للعبد ينازع أقدارَ الربِّ تعالى بأقداره في حظوظه وأسباب معاشه ومصالحه الدنيوية (2)، ولا ينازع أقدارَه بأقداره (3) في حقِّ مولاه وأوامره ودينه؟ وهل هذا إلا خروجٌ عن العبودية ونقصٌ في العلم باللَّه وصفاته وأحكامه؟ ولو أنّ عدوًّا للإسلام قَصَده لكان هذا بقدر اللَّه، ويجب على كل مسلم دفعُ هذا القدَر بقدَرٍ يحبُّه اللَّه -وهو الجهاد باليد أو المال أو القلب- دفعًا لقدر اللَّه بقدره، فما للاستسلام والمسالمة هنا مدخل في العبودية؛ اللّهم إلّا إذا بذل العبدُ جهدَه في المدافعة والمنازعة، وخرج الأمر عن يده، فحينئذ يبقى من أهل الحكم الثالث: وهو الحكم القدري الكوني الذي يجري (4) على العبد بغير اختياره، ولا طاقَة له بدفعه، ولا حيلة له في منازعته.
فهذا حقُّه أَن يتلقّى بالاستسلام والمسالمة وترك المخاصمة، وأن يكونَ فيه كالميّت بين يدي الغاسل، وكمن انكسر به المركبُ في لُجّة البحر، وعجَز عن السباحة، وعن سببٍ يدنيه من النجاة؛ فههنا يحسن الاستسلام والمسالمة. مع أنَّ عليه في هذا الحكم عبودياتٍ أخَر سوى
__________
(1) “ن، ك، ط”: “أو”.
(2) “ك”: “أسباب مصالحه ومعايشه الدنيوية”.
(3) “بأقداره” ساقط من “ك، ط”.
(4) “ك”: “جرى”.
(1/77)
التسليم والمسالمة، وهي أن يشهد عزّةَ الحاكم سبحانه في حكمه، وعدلَه في قضائه، وحكمتَه في جريانه عليه، وأنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه (1)، وأنّ الكتابَ الأول سبقَ بذلك قبل برء (2) الخليقة، فقد جفّ القلمُ بما يلقاه كلُّ عبد، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط.
ويشهد أن القدر ما أصابه إلّا لحكمة اقتضاها اسمُ الحكيم جلَّ جلالُه وصفة (3) الحكمة، وأنّ القدر قد أصاب مواقعه وحلّ في المحل الذي ينبغي أن يحلّ فيه، إذ هو مُوجَب الحكمة البالغة والعلم المحيط والعزّة التامّة، لم يخطئ مواقع الحكمة، ولم يتعدَّ منازله التي ينبغي (4) له أن ينزل بها (5)؛ وأنّ ذلك أوجبه عدلُ اللَّه وحكمتُه وعزّتُه وعلمُه وملكُه العادل، فهو موجَب أسمائه الحسنى وصفاته العلى. فله عليه أكملُ حمد وأتمُّه، كما له الحمدُ على جميع أفعاله وأوامره.
وإن كان حظُّ العبد من هذا القدر الذمّ، فحقُّ الربِّ جلّ جلالُه منه الحمد والمدح، لأنّه موجَب كماله وأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وهو موجَب نقصِ العبد وجهلِه وظلمِه وتفريطِه.
__________
(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أحمد (21589، 21611، 21653)، وعبد بن حميد (247)، وأبو داود (4699)، وابن ماجه (77)، وابن حبان (727) من حديث زيد بن ثابت، وهو حديث صحيح، صححه ابن حبان (ز).
(2) “ك، ط”: “بدء”.
(3) “ط”: “وصفته”.
(4) العبارة “أن يحل فيه. . ” إلى هنا ساقطة من “ط” لانتقال النظر.
(5) “ط”: “به”، ولعلَّه تغيير بسبب السقط.
(1/78)
فاقتسم الربِّ والعبدُ الخُطتين (1) في هذا القدَر، فكان (2) للرب تعالى فيه الحمدُ، والنعمةُ، والفضلُ، والثناء الحسن؛ وللعبد خُطَة (3) الذمّ، واللّوم، والإساءة، واستحقاق العقوبة.
استأثر اللَّهُ بالمحامِد والْـ … ــفَضْلِ، وولَّى الملامةَ الرَّجلا (4)
ويشفيه في هذا المقام (5) أربعُ آيات:
أحدها (6) قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء/ 79].
والثانية: قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)} [آل عمران/ 165].
والثالثة: قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى/ 30].
والرابعة: قوله تعالى: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)} [الشورى/ 48].
__________
(1) “ك، ط”: “الحطَّين”، تحريف. وعبارة المصنف ناظرة إلى قول النابغة:
إنَّا اقتسمنا خُطَّتَينا بيننا … فحملتُ برَّةَ واحتملتِ فَجارِ
(2) “ك، ط”: “وكان”.
(3) “ك”: “وللعبد حظه”. وفي “ط”: “والعبد حظه”، والصواب ما أثبتنا من الأصل.
(4) للأعشى، وقد سبق في ص (11).
(5) “ط”: “ويتبين هذا المقام في”، تحريف.
(6) كذا في الأصل و”ف، ن”. وسيأتي مثله في ص (446، 376، 820). وانظر: بدائع الفوائد (308) ومدارج السالكين (2/ 239). وفي “ك، ط”: “إحداها”.
(1/79)
فمن نزَّل هذه الآيات على هذا الحكم علمًا ومعرفةً، وقام بموجبها إرادةً وعزمًا وتوبةً واستغفارًا، فقد أدَّى عبودية اللَّه في هذا الحكم، وهذا قدر زائد على مجرَّد التسليم والمسالمة. واللَّه المستعان، وعليه التكلان، ولا حولَ ولا قوَّة إلا باللَّه.
فصل [في تفسير الدرجة الثانية وهي: غنى النفس]قوله في غنى النفس إنَّه: “استقامتها على المرغوب، وسلامتها من المسخوط (1)، وبراءتها من المراياة (2) “:
يريد به (3) استقامتها على الأمر الديني الذي يحبه اللَّه ويرضاه، وتجنُّبَها لمناهيه التي يسخطها ويُبغضها، وأن تكون هذه الاستقامة على الفعل والترك تعظيمًا للَّه وأمره، وإيمانا به، واحتسابًا لثوابه، وخشية من عقابه (4)؛ لا طلبًا لتعظيم المخلوقين له ومدحهم، وهربًا من ذمهم وازدرائهم، وطلبًا للجاه والمنزلة عندهم. فإنَّ هذا دليل على غاية الفقر من اللَّه، والبعد منه (5)، وأنَّه أفقر شيء إلى المخلوق.
فسلامةُ النفس من ذلك واتصافُها بضده دليلُ غناها؛ لأنَّها إذا أذعنت منقادةً لأمر اللَّه طوعًا واختيارًا ومحبة وإيمانًا واحتسابًا، بحيث تصير
__________
(1) “ط”: “الحظوظ”، تغيير من الناشر قد مرَّ التنبيه عليه.
(2) انظر ما سلف في ص (67).
(3) “به” ساقط من “ك، ط”.
(4) “ك”: “لعقابه”.
(5) “ك”: “عنه”.
(1/80)
لذتُها وراحتُها ونعيمُها وسرورُها في القيام بعبوديته، كما كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول (1): “يا بلالُ أرحْنا بالصلاة” (2)، وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: “حُبِّبَ إليَّ من دنياكم النِّساءُ والطِّيبُ، وجُعِلَت قُرَّةُ عَيْني في الصلاةِ” (3).
وقُرَّة العين (4) فوق المحبة، فجعل النساءَ والطِّيب مما يحبه، وأخبر أنَّ قرَّة العين التي يطمئن القلب بالوصول إليها، وتحضره (5) لذتُه وفرحُه (6) وسرورُه وبهجتُه = إنَّما هو (7) في الصلاة التي هي صلةٌ باللَّه وحضورٌ بين يديه، ومناجاةٌ له واقترابٌ منه، فكيف لا تكون قرَّةَ العين، وكيف تقَرُّ عينُ المحبِّ بسواها؟ فإذا حصل للنفس هذا الحظُّ الجليلُ فأيَّ فقرٍ تَخشَى معه، وأيُّ غنًى فاتها حتَّى تلتفتَ إليه؟
ولا يحصل لها هذا حتَّى ينقلبَ طبعُها، ويصير مجانسًا (8) لطبيعة
__________
(1) “ك”: “كما قال النَّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-“.
(2) أخرجه أحمد (23088، 23154)، وأبو داود (4985)، والطبراني في الكبير (6214) وغيرهم. والحديث وقع خلاف في وصله وإرساله، وأشار الدارقطني والخطيب إلى أنَّ إرساله أصح. انظر: علل الدارقطني (4/ 120 – 122)، وتاريخ بغداد (10/ 443). (ز).
(3) أخرجه أحمد (12293، 12294، 13057). والنسائي (3940) وابن أبي عاصم في الزهد (235). والحديث اختلف في وصله وإرساله. فصححه موصولًا الحاكم، وقوَّاه الذهبي، وجوّده العراقي، وحسَّنه ابن حجر. ورجح الدارقطني المرسل، فقال: “والمرسل أشبه بالصواب”. انظر الأحاديث المختارة للضياء المقدسي (5/ 113) (ز).
(4) “ك، ط”: “فقرّة”.
(5) “ط”: “ومحض لذته”، تحريف.
(6) “ف”: “فرحته”، خلاف الأصل.
(7) كذا “هو” في الأصل وغيره. والضمير راجع إلى “قرّة العين”.
(8) “ك”: “مجانبًا”، تحريف.
(1/81)
القلب؛ فتصير بذلك مطمئنةً بعد أن كانت لوَّامة. وإنَّما تصير مطمئنة بعد تبدُّل صفاتها، وانقلاب طبعها، لاستغناء القلب بما وصل إليه من نور الحقِّ جلَّ جلاله، فجرى أثرُ ذلك النور في سمعه وبصرِه، وشعرِه وبَشرِه، وعَظْمِه ولَحْمِه، (1) وسائرِ مفاصله؛ وأحاطَ بجهاته من فوقه وتحته، ويمينه ويساره، وخلفه وأمامه؛ وصارت ذاتُه نورًا فصارَ (2) عملُه نورًا، وقولُه نورًا، ومدخلُه نورًا، ومخرجُه نورًا؛ وكان في مبعثه ممن أُتِمَّ (3) له نورُه، فقطَع به الجسر.
وإذا وصلت النفسُ إلى هذه الحال استغنت بها عن التطاول إلى الشهوات التي توجب اقتحام الحدود المسخوطة، والتقاعدَ عن الأمور المطلوبة المرغوبة، فإنَّ فقرَها إلى الشهوات هو الموجِبُ لها التقاعدَ عن المرغوب المطلوب؛ وأيضًا فتقاعدُها عن المطلوب منها (4) موجِبٌ لفقرها إلى الشهوات، فكلٌّ منهما موجب للآخر. وتركُ الأوامر أقوى لها في (5) افتقارها إلى الشهوات، فإنَّهُ بحسب قيام العبد بالأمر تُدفَع (6) عنه جيوشُ الشهوة، كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت/ 45].
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (7) [الحج/ 38]، وفي
__________
(1) “ك، ط”: “لحمه ودمه”.
(2) “ك، ط”: “وصار”.
(3) “ط”: “انبهر”، تحريف شنيع.
(4) “ط”: “بينهما”، تحريف.
(5) “ط”: “من”، تحريف.
(6) “ك”: “يدفع”.
(7) كذا وردت الآية في الأصل وغيره بلفظ “يدفع” على قراءة ابن كثير وأبي =
(1/82)
القراءة الأخرى: “يُدافِعُ”. فكمال الدفع والمدافعة بحسب قوَّة الإيمان وضعفه.
فإذا (1) صارت النفس حرَّةً مطمئنةً غنيةً بما أغناها به مالكها وفاطرها من النور الذي وقع في القلب، ففاض منه إليها = استقامت بذلك الغنى على الأمر المرغوب (2)، وسلِمتْ به عن الأمر المسخوط، وبرئت من المراياة (3). ومدار ذلك كله على الاستقامة ظاهرًا وباطنًا (4)، ولهذا كان الدِّين كفُه في قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود/ 112]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)} [الأحقاف/ 13].
فصل [في الدرجة الثالثة وهي: الغنى بالحق سبحانه، ولها ثلاث مراتب]وهذه الاستقامة تُرَقِّيها إلى الدرجة الثالثة من الغنى، وهو الغنى بالحق تبارك وتعالى عن كلِّ ما سواه، وهي أعلى درجات الغنى.
فأوَّل هذه الدرجة أن تشهد ذكرَ اللَّه عزَّ وجلَّ إيَّاك قبلَ ذكرك له،
__________
= عمرو، ثمَّ ذكرت قراءة الباقين: “يدافع”. وعلى هذا الترتيب جاء كلام المؤلف: “فكمال الدفع والمدافعة”. والناشر قد غير الترتيب في إثبات القراءتين.
(1) “ك، ط”: “لماذا”.
(2) “ط”: “الموهوب”، تحريف.
(3) انظر ما سلف في ص (67).
(4) “ك، ط”: “باطنًا وظاهرًا”.
(1/83)
وأنَّه (1) تعالى ذَكَرَك فيمن ذكَره من مخلوقاته ابتداءً قبلَ وجودِك وطاعتِك وذكرِك، فقدّر خلقَك ورزقَك وعمَلَك وإحسانَه إليك ويعمَه عليك حيث لم تكن شيئًا البتة.
وذكَرك سبحانه بالإسلام، فوفقك له، واختارك له دون من خذله، قال تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج/ 78] فجعلك أهلًا لما لم تكن أهلًا له قطّ، وإنَّما هو الذي أفَلَك بسابق ذكره، فلولا ذكرُه لك بكل جميلٍ أولاكَه لم يكن لكَ (2) إليه سبيل.
ومن الذي ذكَرك باليقظة، حتَّى استيقظتَ، وغيرُك في رقدة الغفلة مع النُّوَّام؟
ومَن الذي ذكرك سواه بالتوبة حتَّى وفَّقك لها، وأوقعَها في قلبك، وبعث دواعيك عليها (3)، وأحيا عزَماتِك الصادقةَ عليها، حتَّى تُبْتَ (4) إليه، وأقبلتَ عليه، فذقتَ حلاوة التوبة وبردَها ولذَّتَها؟ (5)
ومَن الذي ذكرك سواه بمحبَّته حتَّى هاجت من قلبك لواعجُها، وتوجَّهتْ نحوَه سبحانه ركائبُها؛ وعمرَ قلبَك بمحبَّته بعد طول الخراب، وآنسَك بقربه بعد طول الوحشة والاغتراب؟
ومن تقرَّب إليك أوَّلًا حتَّى تقرَّبت إليه، ثمَّ أثابك على هذا التقرب
__________
(1) ” ك”: “وأنَّ اللَّه”.
(2) “لك” سقط من “ط” واستدرك في القطرية.
(3) “عليها” ساقط من “ك، ط”.
(4) “ط”: “ثُبت”.
(5) “ط”: “لذَّاتها”.
(1/84)
تقرُّبًا آخر، فصار التقرُّبُ منك محفوفًا بتقرّبَين منه تعالى: تقرُّبٍ قبله، وتقرُّب بعده؛ والحبُّ منك محفوفًا بحبَّينِ منه: حبٍّ قبله، وحُبٍّ بعده؛ والذكرُ منك محفوفًا بذكرَين: ذكرٍ قبله، وذكرٍ بعده؟
فلولا سابقُ ذكره إيَّاك لم يكن من ذلك كلّه شيء، ولا وصل إلى قلبك ذرّةٌ ممَّا وصل إليه من معرفته وتوحيده ومحبَّته وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه والتقرب إليه. فهذه كلُّها آثارُ ذكره لك.
ثمَّ إنَّه سبحانه ذَكَرك بنعمه المترادفة المتواصلة بعدد الأنفاس، فله عليك في كل طرفة عينٍ ونفَسٍ نعمٌ عديدةٌ ذكَرك بها قبلَ وجودك، وتعرَّف بها إليك، وتحبَّب بها إليك، مع غناه التامّ عنك وعن كل شيء. وإنَّما ذلك مجرَّد إحسانه وفضله وجوده، إذ هو الجوادُ (1) المحسنُ لذاته، لا لمعاوضةٍ، ولا لطلب جزاءٍ منك، ولا لحاجةٍ دعته إلى ذلك، كيف وهو الغني الحميد؟ فإذا وصل إليك أدنى نعمة منه فاعلم أنَّه ذكرك بها، فَلْتعظُمْ عندك لِذكره لك بها، فإنَّه (2) ما حقَّرك مَن ذكَرك بإحسانه، وابتدأك بمعروفه، وتحبَّب إليك بنعمته؛ هذا كلّه مع غناه عنك.
فإذا شهد العبدُ ذكرَ ربِّه له، ووصل شاهدُه إلى قلبه شَغَلَه ذلك عمَّا سواه، وحصل لقلبه به غنًى عالٍ لا يشبهه شيء. وهذا كما يحصل للمملوك الذي لا يزال أستاذُه وسيّدُه يَذكُره ولا ينساه، فهو يحصل له -بشعوره بذكر أستاذه له- غنى زائد على إنعام سيّده عليه وعطاياه السنية له؛ فهذا هو غني ذكر اللَّه للعبد.
__________
(1) زاد هنا في “ك، ط”: “المفضل”.
(2) “ط”: “فإنَّها”.
(1/85)
وقد قال -صلى اللَّه عليه وسلم- فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: “مَنْ ذَكَرَني في نَفْسه ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وَمَنْ ذَكَرَني في مَلأٍ ذَكَرْتُهُ في مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ” (1). فهذا ذكرٌ ثانٍ بعد ذكر العبد لربّه غير الذكر الأوَّل الذي ذكره به (2) حتى جعله ذاكرًا، وشعورُ العبد بكلا الذكرَين يُوجب له غنى زائدًا على إنعام ربّه عليه وعطاياه له.
وقد ذكرنا في كتاب “الكلم الطيب والعمل الصالح” (3) من فوائد الذكر استجلابَ ذكرِ اللَّه لِعبده. وذكرنا قريبًا من مائة فائدة تتعلَّق بالذكر، كل فائدةٍ منها لا خطَر (4) لها. وهو كتاب عظيم النفع جدًّا.
والمقصودُ أنَّ شعور العبد وشهودَه لذكر اللَّه له يُغني قلبه ويَسدُّ فاقته، وهذا بخلاف مَن نسوا اللَّه فنسيَهم؛ فإنَّ الفقرَ من كُلّ خير حاصلٌ لهم، وما يظنون أنَّه حاصل لهم من الغنى فهو من أكبر (5) أسباب فقرهم.
__________
(1) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد (7405) وغيره، ومسلم في الذكر (2675).
(2) “به” ساقط من “ف”.
(3) ص (96). وقد صدر الكتاب في هذه السلسلة بعنوان “الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب”.
(4) كذا في الأصل وغيره. أي لا مثيل لها، ولا عوض عنها. في حديث أسامة بن زيد: “ألا مشمّر للجنة، فإنّ الجنَّة لا خطر لها” رواه ابن ماجه (4332). وقال المصنف في زاد المعاد (4/ 273): “فلا تبع لذة الأبد التي لا خطر لها بلذة ساعة تنقلب آلامًا”. وانظر: اللسان (خطر). وفي ط: “لا نظير لها”، ولعله تغيير من ناسخ أو ناشر.
(5) “ف”: “آكد”. “ن”: “أحد”، والصواب ما أثبتنا.
(1/86)
فصل الدرجة الثانية من درجات الفنى باللَّه عزَّ وجلَّ: دوامُ شهودِ أوَّليته تعالى
وهذا الشهود عند أرباب السلوك أعلى ممَّا قبله، والغنى به أتمّ من الغنى المذكور؛ لأنَّه من مبادئ الغنى بالحقيقة؛ لأنَّ العبد إذا فتح اللَّه لقلبه (1) شهود أوليته سبحانه حيث كان ولا شيء غيره، وهو الإله الحقّ الكامل في أسمائه وصفاته، الغنيّ بذاته عمَّا سواه، الحميد المجيد (2) بذاته قبل أن يخلق مَن يحمده ويعبده ويمجّده، فهو معبود محمود حيّ قيّوم، له الملك وله الحمد في الأزل والأبد، لم يزل ولا يزال موصوفًا بصفات الجلال، منعوتًا بنعوت الكمال، وكل شيء سواه فإنَّما كان به؛ وهو تعالى بنفسه ليس بغيره، فهو القيوم الذي قيامُ (3) كلِّ شيءٍ به، ولا حاجةَ به في قيومته إلى غيره بوجه من الوجوه = فإذا شهد العبدُ سبقَه تعالى بالأوَّلية (4) ودوام وجوده الحقّ، وغاب بهذا عمَّا سواه من المحدَثات؛ فني في وجوده من لم يكن، كأنَّه لم يكن (5)، وبقي من لم يزل. واضمحلَّت الممكنات في وجوده الأزليّ الدائم، بحيث صارت كالظلال التي (6) يبسطُها ويمدُّها ويقبِضُها، فيستغني العبدُ بهذا
__________
(1) “ف”: “له”، خلاف الأصل.
(2) “المجيد” ساقط من “ك، ط”.
(3) “ف”: “أقام” خلافًا للأصل.
(4) في الأصل: “الأولوية” سهو، وكذا في “ف”.
(5) “كأنَّهُ لم يكن” ساقط من “ط”.
(6) في الأصل و”ف”: “الذي”، وفي حاشيتيهما علامة “ظ” أي انظر. ولعلَّه سبق قلم. وكذا في “ن، ك”، والمثبت من “ط”.
(1/87)
المشهد العظيم، ويتغذَّى به (1) عن فاقاته وحاجاته.
وإنَّما كان أفضلَ عندهم (2) ممَّا قبله لأن الشهود الذي قبله فيه شائبةٌ مشيرةٌ إلى وجود العبد. وهذا الشهود الثاني ساترٌ للموجودات (3) كلِّها سوى الأوَّل تعالى، قد اضمخَلتْ، وفنيتْ فيه، وصارتْ كأوليتها، وهو (4) العدم. فأفنتها أوَّليةُ الحق تبارك وتعالى، فبقي العبد محوًا صرفًا وعدمًا محضًا، وإن كانت إنّيَّتُه متشخصةً (5) مشارًا (6) إليها، لكنَّها لما نُسِبتْ إلى أوَّلية الحق عزَ وجل اضمحلَّتْ وفنيتْ، وبقي الواحد الحقّ الذي لم يزل باقيًا. فاضمحلَّ ما دون الحق تعالى في شهود العبد، كما هو مضمحلّ في نفسه. وشهِد العبدُ حينئذٍ أنَّ كل شيء سوى اللَّه (7) باطل، وأنَّ الحقَّ المبين هو اللَّه وحده. ولا ريب أنَّ الغنى بهذا الشهود أتمُّ من الغنى بالذي قبله.
وليس هذا مختصًّا بشهود أوَّليته تعالى فقط، بل جميع ما يبدو للقلوب من صفات الربّ جلَّ جلالُه يستغني العبدُ بها بقدر حظه وقسمه من معرفتها وقيامه بعبوديّتها.
فمَن شهد مشهدَ علوِّ اللَّه على خلقه وفوقيّته لعباده واستوائه على عرشه، كما أخبر به أعرَفُ الخلق وأعلَمُهم به الصادقُ المصدوقُ، وتعبَّد
__________
(1) في الأصل وغيره: “بها”، وهو أيضًا سهو. وفي حاشيتي الأصل و”ف” علامة “ظ”.
(2) “ط”: “كان هذا عندهم أفضل”.
(3) “ط”: “سائر الموجودات” تحريف.
(4) “ف”: “هي” خلاف الأصل.
(5) “ط”: “مشخصة”.
(6) “ك”: “ومشارم إليها”.
(7) “ك، ط”: “ما سواه”.
(1/88)
بمقتضى هذه الصفة، بحيث يصيرُ لقلبه صَمَدٌ يعرج القلبُ إليه مناجيًا له مطرقًا واقفًا بين يديه وقوفَ العبد الذليل بين يدي الملك العزيز، فيشعر بأنَّ كلِمَه وعملَه صاعدٌ إليه معروضٌ عليه بين خاصَّته (1) وأوليائه، فيستحيي أن يصعد إليه مِن كلمه وعمله (2) ما يُخزيه ويفضحه هناك؛ ويشهدُ نزول الأمر والمراسيم الإلهية إلى أقطار العوالم كلَّ وقت بأنواع التدبير والتصرف من الإماتة والإحياء، والتولية والعزل، والخفض والرفع، والعطاء والمنع، وكشف البلاءِ وإرساله، وتقليب (3) الدول ومداولة الأيام بين النَّاس إلى غير ذلك من التصرّف (4) في المملكة التي لا يتصرّف فيها سواه، فمراسيمُه (5) نافذةٌ فيها كما يشاء {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)} [السجدة/ 5] = فمن أعطى هذا المشهد حقَّه معرفةً وعبوديةً استغنى به.
وكذلك من شهِد مشهدَ العلم المحيط الذي لا يعزُب عنه مثقال ذرَّةٍ في الأرض ولا في السماوات ولا في قرار البحار ولا تحت أطباق الجبال؛ بل أحاط بذلك كلّه (6) علمًا تفصيليًّا، ثمَّ تعبَّد بمقتضى هذا الشهود من حراسة خواطره، وإراداته (7)، وعزماته، وجوارحه علمًا
__________
(1) “ك”: “مع خاصته”. ط: “مع أوفى خاصته”!
(2) “وعمله” ساقط من “ط”.
(3) “ك، ط”: “تقلب”.
(4) “ك، ط”: “التصرفات”.
(5) “ك، ط”: “فمراسمه”.
(6) “ط”: “علمه”، تحريف.
(7) “ك، ط”: “وإرادته وجميع أحواله”!
(1/89)
بأنَّ (1) حركاته الظاهرة والباطنة وخواطرَه وإراداته (2) وجميعَ أحواله ظاهرةٌ مكشوفةٌ لديه (3)، علانيةٌ له، باديةٌ له (4) لا يخفى عليه منها شيء.
وكذلك إذا أشعرَ قلبَه صفةَ سمعِه تبارك وتعالى لأصوات عباده على اختلافها وجهرها وخفائها، وسواءٌ عنده من أسرَّ القولَ ومن جهرَ به، لا يشغله جَهْرُ من جَهَرَ عن سمعه لِصوت مَن أسرَّ، ولا يشغله سمعٌ عن سمعٍ، ولا تُغلّطه الأصواتُ على كثرتها واختلافها واجتماعها، بل (5) هي عنده كلها كصوت واحد، كما أنَّ خلقَ الخلق جميعِهم وبعثَهم عنده بمنزلة نفس واحدة.
وكذلك إذا شهد معنى اسمه “البصير” جلَّ جلاله الذي يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصمَّاءِ في حِنْدِس الظلماء، ويرى تفاصيلَ خلقِ الذرَّة الصغيرة ومخّها وعروقها ولحمها وحركتها، ويرى مدَّ البعوضة جناحها في ظلمة الليل، وأعطى هذا المشهد حقَّه من العبودية، فحرَسَ حركاته وسكناته (6)، وتيقَّن أنَّها بمرأى منه تبارك وتعالى ومشاهدةٍ لا يغيب عنه منها (7) شيء.
__________
(1) “ك، ط”: “عَلِمَ أنَّ”.
(2) “ك، ط”: “وإرادته”.
(3) “ن”: “لربه”.
(4) “له” ساقط من “ك، ط”.
(5) “بل” ساقط من “ف، ن”.
(6) “ط”: “يحرس حركاتها وسكناتها”.
(7) “منها” ساقط من “ط” واستدرك في القطرية.
(1/90)
وكذلك إذا شهد مشهدَ القيومية الجامع لصفات الأفعال، وأنَّه قائم على كل شيء، وقائم على كل نفس بما كسبت (1)؛ وأنَّه تعالى هو القائم بنفسه، المقيمُ لغيره، القائم عليه بتدبيره وربوبيته وقهره وإيصال جزاءِ المحسن إليه وجزاءِ المسيء إليه؛ وأنَّه لكمال (2) قيوميَّته لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفَع إليه عملُ الليل قبل النَّهار وعملُ النَّهار قبل الليل، لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم، ولا يضلّ ولا ينسى. وهذا المشهد من أرفع (3) مشاهد العارفين، وهو مشهد الربوبية.
وأعلى منه مشهد الإلهية الذي هو مشهد الرسل وأتباعهم الحنفاءِ. وهو شهادة أن لا إله إلا هو، وأنَّ إلهية ما سواه باطل ومحال، كما أنَّ ربوبية ما سواه كذلك، فلا أحد سواه يستحق أن يؤلَّه ويُعبَد، ويُصلَّى له ويُسجَد. ويستحقُّ نهاية الحبّ مع نهاية الذل لكمال أسمائه وصفاته وأفعاله، فهو المطاع وحده على الحقيقة، والمألوه وحده، وله الحكم وحده. فكلُّ عبوديةٍ لغيره باطلةٌ وعناءٌ وضلال، وكلُّ محبة لغيره عذاب لصاحبها، وكلُّ غنًى بغيره (4) فقرٌ وفاقة، وكلُّ عزٍّ بغيره ذلّ وصغار، وكلُّ تكثّر بغيره قلَّة وذلَّة. فكما استحال أن يكون للخلق ربّ غيره، فكذلك يستحيل (5) أن يكون لهم إله غيره، فهو الذي انتهت إليه الرغبات، وتوجهت نحوه الطلبات.
__________
(1) “بما كسبت” ساقط من “ك، ط”.
(2) “ك، ط”: “بكمال”.
(3) “ن”: “أعلى”.
(4) “ك، ط”: “لغيره”، تحريف.
(5) “ط”: “استحال”.
(1/91)
ويستحيل أن يكون معه إله آخر، فإنَّ الإله على الحقيقة هو الغنيّ الصمَد الكامل في أسمائه وصفاته، الذي حاجةُ كل أحدٍ إليه، ولا حاجة به إلى أحد؛ وقيامُ كلِّ شيءٍ به، وليس قيامُه بغيره. ومن المحال أن يحصل في الوجود اثنان كذلك، ولو كان في الوجود إلهان لفسد نظامه أعظمَ فساد واختلّ أعظمَ اختلال، كما يستحيل أن يكون له فاعلان متساويان كل منهما مستقل بالفعل، فإنَّ استقلالَهما ينافي استقلالَهما، واستقلالَ أحدهما يمنع ربوبّيةَ الآخر، فتوحيد الربوبيّة أعظم دليل على توحيد الإلهية.
ولذلك (1) وقع الاحتجاج به في القرآن أكثر مما وقع بغيره، لصحّة دلالته وظهورها، وقبول العقول والفطَر لها، ولاعتراف أهل الأرض بتوحيد الربوبيّة. ولذلك (2) كان عُبّادُ الأصنام يُقِرون به، وينكرون توحيد الإلهية، ويقولون: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص/ 5] مع اعترافهم بأنّ اللَّه وحده هو الخالق لهم وللسماوات والأرض وما بينهما، وأنّه المتفرّد (3) بملك ذلك كله. فأرسل اللَّه تعالى الرسلَ تذكِّرهم (4) بما في فطَرهم الإقرارُ به من توحيده وحده لا شريك له، وأنَّهم لو رجعوا إلى فِطَرهم وعقولهم لدلَّتهم على امتناع إليما آخر معه واستحالته وبطلانه.
فمشهد الألوهية هو مشهد الحنفاءِ، وهو مشهد جامع للأسماء والصفات، وحظُّ العباد منه بحسب حظّهم من معرفة الأسماء
__________
(1) “ك”: “كذلك”، خطأ.
(2) “ك، ط”: “وكذلك”.
(3) “ط”: “المنفرد”، والأصل غير منقوط.
(4) “ك، ط”: “فأرسل اللَّه تعالى يذكر بما”.
(1/92)
والصفات. ولذلك كان أكملُ الخلق فيه أعرفَهم باللَّه وأسمائه وصفاته (1)، ولذلك (2) كان الاسم الدَّالّ على هذا المعنى هو اسم اللَّه جلَّ جلاله، فإنَّ هذا الاسم هو الجامع، ولهذا تضاف الأسماء الحسنى كلُّها إليه، فيقال: الرحمن الرحيم العزيز الغفار القهار من أسماء اللَّه، ولا يقال: “اللَّه” من أسماء الرحمن. قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف/ 185].
فهذا المشهد تجتمع فيه المشاهدُ كلّها، وكلُّ مشهد سواه فإنَّما هو مشهدٌ لصفة من صفاته. فمن اتسع قلبه لمشهد الإلهيَّة، وقام بحقّه من التعبَّد الذي هو كمالُ الحبّ بكمالِ الذلّ والتعظيم والقيام بوظائف العبودية، فقد تمَّ له غناه بالإله الحقّ، وصار من أغنى العباد. ولسانُ حالِ مثلِ هذا يقول:
غنِيتُ بلا مالِ عن النَّاس كلِّهم … وإنَّ الغنى العالي عن الشيء لا بِهِ (3)
فيا لَه من غنًى ما أعظم خطره، وأجلَّ قدره! تضاءَلتْ دونه الممالكُ فما دونها، فصارت بالنسبة إليه كالظلِّ من الحامل له، والطيف الموافي في المنام الذي يأتي به حديثُ النفس، ويطرده الانتباهُ من النوم.
__________
(1) العبارة “ولذلك. . . ” إلى هنا ساقطة من “ك، ط”.
(2) “ك”: “وكذلك”.
(3) من قصيدة نسبت في المستطرف (2/ 43) إلى الإمام الشافعي. ومنه في ديوانه – نشرة إحسان عباس (17)، والبيت وحده ورد في المستطرف أيضًا (1/ 110) منسوبًا إلى القهستاني، وله في معجم الأدباء (1680). وانظر: مفتاح دار السعادة (1/ 419)، ومدارج السالكين (3/ 152).
(1/93)
فصل الدرجة الثالثة من درجات الغنى بالربّ جلَّ جلاله: الفوز بوجوده.
هذا الغنى أعلى درجات الغنى؛ لأنَّ الغنى الأوَّل والثاني كانا من آثار ذكر اللَّه والتوجّه، ففاض على القلب في صدق توجهه (1) أنوارُ الصفات المقدَّسة، فاستغنى (2) القلبُ بذلك، وحصل (3) له أيضًا أنوار الشعور بكفالته وكفايته لعبده، وحسن وكالته له (4)، وقيوميته بتدبيره، وحسن تدبيره، فاستغنت النفس بذلك أيضًا.
وأمَّا هذا الغنى الثالث الذي هو “الغنى بالحق” فهو من آثار وجود الحقيقة، وهو إنَّما يكون بعد ترقيه من آثار الصفات إلى آثار وجود الذات. وإنَّما يكون هذا الوجود بعد مكاشفة عينِ اليقين عندما يطلعِ فجرُ التوحيد، فهذا أوَّله. وكمالُه عند طلوع شمسه، فيتقطع (5) ضبابُ الوجود الفاني، وتُشرق شمسُ الوجود الباقي، فيتقطَّع (6) لها كل ضباب. وهذا عبارة عن نور يُقذَف (7) في القلب يُكشَف له بذلك النور عن عظَمةِ الذَّات، كما كُشِف له بالنور الذي قبلهَ عن عظمة الصفات.
فإذا كان أثرٌ من آثار صفات الذَّات أو صفات الأفعال يُغني القلبَ
__________
(1) “ن”: “من صدق. . . “. “ك، ط”: “من صدق التوجه”.
(2) “ط”: “واستغنى”.
(3) “ك، ط”: “وجعل”، تحريف.
(4) “له” ساقط من “ك، ط”.
(5) هذه قراءة “ف”. وفي “ك، ط”: “فينقطع”.
(6) هذه قراءة “ف”. وفي “ك، ط”: “فينقطع”.
(7) في حاشية “ف” إشارة إلى أن في نسخة: “يقذفه”.
(1/94)
والنفسَ، فما ظنُّك بما تكاشَفُ (1) به الأرواحُ من أنوار قدسِ الذَّات المتَّصفة بالجلال والإكرام. فهذا غنًى لا يناله الوصفُ، ولا يدخل تحت الشرح، فيستغني العبد الفقير بوجود سيّده العزيز الرَّحيم.
فيا لكَ من فَقْرٍ تَقَضَّى (2)، ومِن غِنَى … يدومُ، ومِن عيشٍ ألذَّ من المُنى! (3)
فلا تستعجزْ نفسَك عن البلوغ إلى هذا المقام، فبينك وبينه صدقُ الطلب، فإنَّما (4) هي عزمةٌ صادقةٌ، ونهضةُ حُرٍّ لنفسه (5) عنده قدرٌ وقيمةٌ، يغار عليها أن يبيعَها بالدون.
وقد جاءَ في أثرٍ إلهي: “يقول اللَّه عزَّ وجلَّ: ابْنَ آدمَ خَلَقْتكَ لنفسي فلا تَلْعَبْ، وَتَكَفلْتُ برزقك فلا تتْعَبْ، ابْنَ آدمَ اطْلُبْني تَجدْني، فَإِنْ وَجَدْتَنِي وَجَدْتَ كُلَّ شيءٍ، وإِنْ فُتُّكَّ فَاتَكَ كلُّ شيءٍ، وأَنَا أَحَبُّ إليكَ مِنْ كُل شيءٍ” (6).
فمن طلَب اللَّه بصدقٍ وجده، ومن وجده أغناه وجودُه عن كلِّ شيءٍ (7).
__________
(1) “ك”: “يكشف”، خطأ.
(2) قرأ ناسخ “ف”: “يُقضى”، وكتب في الحاشية: “ينقضي ظ”. وفي “ك”: “يقضى”. وفي “ط”: “ينقص”، والصواب ما أثبتنا.
(3) لم يفطن ناسخ “ف”، فأثبت هذا البيت نثرًا، وكذا في “ك، ط”.
(4) “ك، ط”: “وإنَّما”.
(5) “ك، ط”: “ممن لنفسه”.
(6) أثر إسرائيلي، كما نصَّ شيخ الإسلام في الفتاوى (8/ 52)، وقد ذكره المصنف في مدارج السالكين (2/ 400، 507)، والداء والدواء (305)، وروضة المحبين (432). وسيأتي مرة أخرى في ص (526).
(7) “عن كل شيء” ساقط من “ك”.
(1/95)
فأصبحَ حُرًّا في غنًى ومهابةٍ … على وجهه أنوارهُ وضياؤه
وإن فاتَهُ مولاه جلَّ جلالُه … تباعدَ ما يرجو، وطال عناؤه (1)
ومن وصل إلى هذا الغنى قرَّت به كل عين لأنَّه قد قرَّت عينُه باللَّه والفوز بوجوده، ومن لم يصل إليه تقطعتْ نفسُه على الدنيا حسرات. وقد قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: “مَنْ أَصْبَحَ والدُّنْيَا أكبرُ همِّه جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْه، وَشَتَّتَ عَلَيْه شَمْلَهُ، وَلَمْ يأْتِه من الدُّنْيا إلا ما قُدِّرَ له. ومَنْ أَصْبَحَ والآخِرَةُ أَكْبَرُ هَمِّه جَعَلَ اللَّه غِنَاهُ في قَلْبهِ، وَجَمَعَ عليه شَمْلَه، وأَتَتْهُ الدُّنيا وهي رَاغِمَةٌ، وكان اللَّهُ بِكُلِّ خيرٍ إليه أَسْرَعَ” (2).
فهذا هو الفقر الحقيقي والغنى الحقيقي، وإذا كان هذا غنى من كانت الآخرةُ أكبرَ همِّه، فكيف من كان اللَّه عزَّ وجلَّ أكبرَ همِّه، فهذا من باب التنبيه والأَولى.
فصل في ذكر كلمات عن أرباب الطريق في الفقر والغنى
* قال يحيى بن معاذ (3): “الفقر أن لا يستغني بشيء غير اللَّه،
__________
(1) أثبت ناشر “ط” البيتين نثرًا، والبيت الأوَّلى ذكره المصنف في إغاثة اللهفان (933)، وفيه: “حرًّا عزَّةً وصيانةً”.
(2) من حديث زيد بن ثابت، أخرجه أحمد (21590) مطوَّلًا، والترمذي (2656)، وأبو داود (3660) مختصرًا، وابن ماجه (4105) مطوَّلًا، وابن حبان (67) مختصرًا. وليس عندهم لفظ “وكان اللَّه بكل خير إليه أسرع”، والحديث حسَّنه الترمذي، وصححه ابن حبان والبوصيري. وقد جاء الحديث عن أنس وأبي هريرة نحوه (ز).
(3) الرَّازي أبو زكريا، الواعظ، من كبار المشايخ. مات في نيسابور سنة (258 هـ). =
(1/96)
ورسمُه عدمُ الأسباب كلها” (1).
قلتُ: يريد عدَمَها في الاعتماد عليها والطمأنينة بها، بل تصير عدمًا بالنسبة إلى سبق مسبِّبها بالأوَّلية، وتفرده بالأزلية.
* وسُئِلَ محمد بن عبد اللَّه الفرغاني (2) عن الافتقار إلى اللَّه تعالى والاستغناء به أيهما أكمل (3)؟ فقال: “إذا صحَّ الافتقار إلى اللَّه تعالى صحَّ الاستغناء به، واذا صحَّ الاستغناءُ به صحَّ الافتقار إليه، فلا يقال أيهما أكملُ لأنَّه لا يتمّ أحدهما إلا بالآخر” (4).
قلتُ: الاستغناء باللَّه هو عين الفقر إليه، وهما عبارتان عن معنى واحد؛ لأنَّ كمالَ الغنى به هو كمالُ عبوديته، وحقيقةُ العبوديةِ كمالُ الافتقار إليه من كلِّ وجه، وهذا الافتقار هو عين الغنى به. فليس هنا شيئان يُطلَب تفضيلُ أحدهما على الآخر، وإنَّما يُتوهَّم كونُهما شيئين بحسب المستغنى عنه والمفتقَر إليه. فهي حقيقة واحدة ومقام واحد يُسمَّى “غنًى” بالنسبة إلى فراغه عن الموجودات الفانية، و”فقرًا” بالنسبة إلى قَصْر همَّته وجمعها على اللَّه عزَّ وجلَّ. فهي همَّة سافرت عن شيء واتصلت بغيره، فسفرها عن الغير “غنى”، وسفرها إلى اللَّه “فقر”. فإذا وصلتْ إليه استغنت به لكمال (5) فقرها إليه، إذ يصير لها بعد الوصول
__________
= طبقات الصوفية (107)، سير أعلام النبلاء (13/ 15).
(1) الرسالة القشيرية (272).
(2) نزل بغداد، ولزم الجنيد واشتهر بصحبته، وروى عنه كلامه. الأنساب (4/ 368).
(3) “أيهما أكمل” ساقط من “ك، ط”.
(4) نقله القشيري (273) من كلام الجنيد.
(5) “ك، ط”: “بكمال”.
(1/97)
فقر آخر غير فقرها الأوَّل، وإنَّما يكمل فقرها بهذا الوصول.
* وسئل رُويم (1) عن الفقر فقال: “إرسال النفس في أحكام اللَّه تعالى” (2).
قلت: إن أراد الحكم الديني فصحيح، وإن أراد الحكم الكونيّ القدريّ فلا يصح هذا الإطلاق، بل لا بدّ فيه من التفصيل كما تقدَّم بيانه (3). وإرسالُ النفس في أحكامه التي يسخطها ويبغضها، أو إرسالُها في أحكامه التي يجب منازعتُها ومدافعتُها بأحكامه خروجٌ عن العبودية.
* وقيل: “نعتُ الفقير ثلاثة أشياء: حفظ سرّه، وأداءُ فرضه، وصيانة فقره” (4).
قلتُ: حفظُ السرِّ كتمانُه صيانةً له من الأغيار، وغيرةً عليه أن ينكشف لمن لا يعرفه ولا يؤمَن عليه. وأداء الفرض قيامٌ بحقّ العبودية. وصيانةُ الفقر حفظُه عن لَوث مساكنةِ الأغيار، وحفظُه عن كلِّ سببٍ يفسده، وكتمانه ما استطاع.
* وقال إبراهيم بن أدهم (5): “طلبنا الفقرَ فاستقبلَنا الغنى، وطلب
__________
(1) رُويم بن أحمد بن يزيد البغدادي. من جلَّة المشايخ، كان مقرئًا وفقيهًا على مذهب داود الظاهري، توفي سنة (303 هـ). طبقات الصوفية (180)، سير أعلام النبلاء (14/ 234).
(2) الرسالة القشيرية (273).
(3) انظر ما سلف في ص (74).
(4) القشيرية (273).
(5) العجلي -وقيل: التميمي- البلخي، نزيل الشام، الزاهد المشهور، توفي سنة (162 هـ)، طبقات الصوفية (27)، السير (7/ 387).
(1/98)
النَّاسُ الغنى فاستقبلهم الفقرُ” (1).
* وسُئِلَ يحيى بن معاذ عن الغنى فقال: “هو الأمن باللَّه عزَّ وجلَّ” (2).
* وسُئِلَ أبو حفص (3): بماذا ينبغي أن يقدم الفقير على ربِّه؟ فقال: “ما ينبغي للفقير أن يقدم على ربِّه بشيء سوى فقره” (4).
* وقال بعضهم (5): إنَّ الفقير الصادق لَيخشى من الغنى حِذارًا (6) أن يدخله فيفسد عليه فقره، كما يخشى الغنيُّ الحريصُ من الفقر أن يدخله فيفسد عليه غناه”.
* وقال بشر بن الحارث (7): “أفضل المقامات اعتقاد الصبر على الفقر إلى القبر” (8).
قلتُ: ومن ههنا قال القائل (9):
__________
(1) القشيرية (273).
(2) المصدر السابق (274)، وقد تقدم قوله في الفقر في أوَّل الفصل.
(3) عمرو بن سلمة النيسابوري الزاهد، شيخ خراسان. قال السلمي: هو أوَّل من أظهر طريقة التصوف بنيسابور، توفي سنة 264 هـ، وقيل غير ذلك. طبقات الصوفية (115)، السير (12/ 510).
(4) القشيرية (274)، وسيأتي له قول آخر.
(5) وهو ابن الكُرِّيني كما في القشيرية (274)، وهو أبو جعفر محمد بن كثير، من صوفية البغداديين. انظر: تاريخ بغداد (14/ 413)، والأنساب (4/ 63).
(6) “ط”: “حذرًا”.
(7) المروزي ثمَّ البغدادي المعروف بالحافي، الزاهد المشهور (152 – 227 هـ)، السير (10/ 469).
(8) القشيرية (274).
(9) من أربعة أبيات أوردها أبو نعيم في الحلية (10/ 40) لأبي بكر الشبلي (334 هـ)، وهي في القشيرية (278)، وعوارف المعارف (236).
(1/99)
قالوا: غدا العيدُ ماذا أنت لابسُه؟ … فقلتُ: خلعةَ ساقٍ حِبَّه جُرَعا (1)
فقرٌ وصبرٌ هما ثوبان تحتهما … قلبٌ يرى إلفَه الأعيادَ والجُمَعا (2)
الدهر لي مأتمٌ إن غبتَ يا أملي … والعيدُ مادمتَ لي مرأى ومستمَعا (3)
* وسئل ابن الجلّاءِ (4): متى يستحقّ الفقير اسمَ الفقر؟ فقال: “إذا لم يبقَ عليه بقيّةٌ منه”. فقيل له: كيف ذلك؟ فقال: “إذا كان له فليس له، وإذا لم يكن له فهو له” (5).
قلت: معنى هذا أنّه لا يبقَى عليه بقيّة من نفسه، فإذا كان لنفسه فليس لها، بل قد أضاع حقَّها، وضيَّع سعادتَها وكمالَها. وإذا لم يكن لنفسه، بل كان كلُّه لربّه، فقد أحرز كلَّ حظٍّ له، وحصّل لنفسه سعادتَها. فإنه إذا كان للَّه كان اللَّه له، وإذا لم يكن للَّه لم يكن اللَّه له، فكيف تكون نفسه له؟ فهذا من الذين خسروا أنفسهم.
* وقيل: “حقيقة الفقر أن لا يستغني الفقيُر في فقره بشيء إلّا بمن إليه فقرُه” (6).
* وقال أبو حفص (7): “أحسنُ ما توسّل به العبدُ إلى مولاه دوامُ الفقر
__________
(1) الحلية: أتى العيد. العوارف: “عبدَه الجرعا”.
(2) العوارف: “يرى ربه”.
(3) في الحلية والقشيرية: “ما كنت لي”.
(4) أبو عبد اللَّه أحمد بن يحيى، أصله من بغداد، أقام بالرملة ودمشق، وكان من كبار مشايخ الشام. طبقات الصوفية (176).
(5) القشيرية (275).
(6) المصدر السابق.
(7) قد سبق آنفًا قول آخر لأبي حفص.
(1/100)
إليه على جميع الأحوال، وملازمةُ السنّة في جميع الأفعال، وطلبُ القوت من وجه حلال” (1).
* وقال بعضهم (2): “ينبغي للفقير أن لا تسبق همتُه خطوتَه”.
قلتُ: يشير إلى تعلق همَّته بواجب وقته، وأنَّهُ لا تتخطى همَّته واجبَ الوقت قبل إكماله. وأيضًا يشير إلى قصر أمله، وأنَّ همَّته غيرُ متعلقةٍ بوقتٍ لا يحذث نفسه ببلوغه. وأيضًا يشير إلى جمع الهمَّة على حفظ الوقت، وأن (3) لا يضعفها بتقسيمها على الأوقات.
* وقيل: “أقلُّ ما يلزم الفقير في فقره أربعة أشياء: علم يسوسُه، وورع يحجزُه، ويقين يحمِله، وذكر يؤنسه” (4).
* وقال أبو سهل الخشَّاب لمنصور المغربي (5): “إنَّما هو فقر وذلّ”، فقال منصور: “بل فقر وعز”، فقال أبو سهل: “فقر وثرى”، فقال منصور: “بل فقر وعرش” (6).
قلتُ: أشار أبو سهل إلى البداية، ومنصور إلى الغاية.
* وقال الجنيد: “إذا لقيتَ الفقيرَ فَالْقَه بالرفق ولا تَلْقَه بالعلم، فإنَّ
__________
(1) القشيرية (275).
(2) وهو أبو محمد المرتعش النيسابوري المتوفى ببغداد سنة (328 هـ). انظر: القشيرية (275) وطبقات الصوفية (349).
(3) “ك، ط”: “ولا”.
(4) القشيرية: (276).
(5) منصور بن خلف المغربي من شيوخ أبي القاسم القشيري.
(6) القشيرية (276).
(1/101)
الرفقَ يؤنسه، والعلم يُوحشه”، فقلتُ (1): يا أبا القاسم، كيف يكون فقير يوحشه العلم؟ فقال: “نعم، الفقير إذا كان صادقًا في فقره فطرحتَ عليه العلمَ ذاب كما يذوب الرصاص في النار”.
* وقال أبو المظفر القِرْمِيسِيني (2): “الفقير هو الذي لا يكون له إلى اللَّه حاجة”. قال أبو القاسم القشيري: “وهذا اللفظ فيه أدنى غموض على من سمعه على وصف الغفلة عن مرمى القوم، وإنَّما أشار قائله إلى سقوط المطالبات، وانتفاء الاختيار (3)، والرضى بما يُجريه الحقُّ تبارك وتعالى” (4).
قلتُ: وبعدُ فهو كلام مستدرَكٌ خطأ، فإنَّ حاجاتِ هذا العبد إلى اللَّه بعدد الأنفاس، إذ حاجاته ليست كحاجات غيره من أصحاب الحظوظ والأقسام، بل حاجات هؤلاء في حاجة هذا العبد كتَفْلَةٍ في بَحْر. فإنَّ حاجتَه إلى اللَّه في كلِّ طرفة عين أن يحفظ عليه حالَه، ويثبّت قلبَه، ويُرقّيَه في مقامات العبودية، ويصرفَ عنه ما يفسدها عليه، ويعرِّفه منازلَ الطريق ومكامنها وآفاتِها (5)، ويعرِّفه مواقعَ رضاه ليفعلها ويعزم عليها، ومواقعَ سخطه ليعزم على تركها (6) ويجتنبها. فأي حاجاتٍ أكثر وأعظم
__________
(1) القائل أبو محمد المرتعش. انظر: القشيرية (276). وطبقات الصوفية (160).
(2) كذا في الأصل وغيره. ولعله سهو، فإنَّه في القشيرية -مصدر المؤلف- وغيره “المظفر” لا “أبو المظفر”. وهو من كبار مشايخ الجبل، صحب عبد اللَّه الخراز الرازي المتوفى قبل (310 هـ) ومن فوقه من المشايخ. طبقات الصوفية (396).
(3) “ك، ط”: “الاختيارات”.
(4) القشيرية (277).
(5) “ك، ط”: “أوقاتها”، تحريف.
(6) “على تركها” سقط من “ف” سهوًا.
(1/102)
من هذه؟
فالصوابُ أن يقال: الفقيرُ هو الذي حاجاته إلى اللَّه بعدد أنفاسه أو أكثر، فالعبدُ له في كلِّ نفس ولحظة وطرفة عين عدَّةُ حوائج إلى اللَّه لا يشعر بكثيرٍ منها، فأفقر النَّاسِ إلى اللَّه من شعر بهذه الحاجات وطلَبها من معدنها بطريقها. وإن كان لا بُدَّ من إطلاق تلك العبارة -على أنَّ منها كلَّ بدّ! – فيقال: هو الذي لا حاجة له إلى اللَّه تُخالِف مرضاتَه وتحطُّه عن مقام العبودية إلى منزلة الاستغناء. وأمَّا أن يقال: لا حاجة له إلى اللَّه، فشطح قبيح.
وأمَّا حملُ أبي القاسم لكلامه على إسقاط المطالبات وانتفاء الاختيار والرضى بمجاري الأقدار، فإنَّما يحسن في بعض الحالات، وهو في القدَر الذي يجري عليه بغير اختياره ولا يكون مأمورًا بدفعه ومنازعته بقدَرٍ آخر كما تقدم (1). وأمَّا إذا كان مأمورًا بدفعه ومنازعته بقدَر هو أحبُّ إلى اللَّه منه، وهو مأمور به أمرَ إيجابٍ أو استحباب، فإسقاطُ المطالبات وانتفاءُ الاختيار فيه والسعي عينُ العجز، واللَّه تعالى يلوم على العجز.
* وقال ابن خفيف (2): “الفقرُ عدمُ الأملاك، والخروجُ عن أحكام الصفات” (3).
__________
(1) انظر: ص (77).
(2) أبو عبد اللَّه محمد بن خفيف الشيرازي المتوفى سنة (371 هـ) كان شيخ المشايخ في وقته. طبقات الصوفية (642).
(3) القشيرية (277).
(1/103)
قلتُ: يريد به (1) عدمَ إضافةِ شيءٍ إليه إضافةَ ملك، وأن يخرج عن أحكام صفات نفسه، ويبدلها بأحكام صفات مالكه وسيده. مثاله أن يخرج عن حكم صفة قدرته واختياره التي تُوجِبُ له دعوى الملَكة (2) والتصرف والإضافات، ويبقى بأحكام صفة القدرة الأزلية التي توجبُ له العجز والفقر والفاقة، كما في دعاء الاستخارة: “اللَّهمَّ إنِّي أستخيرك بعلمكَ، وأستقدِرُكَ بقدرتِكَ، وأسألك من فضلك، فإنَّك تعلمُ ولا أعلمُ، وتقدِرُ ولا أقدِرُ (3)، وأنت علَّامُ الغيوب” (4)، فهذا اتصاف بأحكام الصفات العلى في العبد، وخروج عن أحكام صفات النفس.
* وقال أبو حفص (5): “لا يصح لأحدٍ الفقر حتَّى يكون العطاءُ أحبَّ إليه من الأخذ، وليس السخاءُ أن يعطي الواجدُ المعدِمَ، وإنَّما السخاءُ أن يعطي المعدمُ الواجدَ” (6).
* وقال بعضهم (7): “الفقيرُ: الذي لا يرى لنفسه حاجةً إلى شيءٍ من الأشياءِ سوى ربه تبارك وتعالى”.
__________
(1) “به “ساقط من “ك، ط”.
(2) “ط”: “الملك”. وفي “ك”: “دعوة الملك”.
(3) “ك، ط”: “من فضلك العظيم، فإنَّك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم”. وكذا في صحيح البخاري.
(4) من حديث جابر رضي اللَّه عنه. أخرجه البخاري في كتاب التهجد (1162)، وانظر رقم (7390).
(5) قد سبق له قولان آخران في ص (99، 100).
(6) القشيرية (277).
(7) هو محمد المُسُوحي، انظر: المصدر السابق (277).
(1/104)
* وسُئِلَ سهل بن عبد اللَّه (1): متى يستريحُ الفقير؟ فقال: “إذا لم ير لنفسه غير الوقت الذي هو فيه”.
*وقال أبو بكر بن طاهر (2): “من حكم الفقير أن لا يكون (3) له رغبة، وإنْ كان لا بدَّ فلا تجاوز رغبتُه كفايتَه” (4).
* وسُئِلَ بعضهم (5) عن الفقيرِ الصادق، فقال: “الذي لا يَملِك ولا يُملَك”.
*وقال ذو النون (6): “دوام الفقرِ إلى اللَّه تعالى مع التخليط أحبُّ إليَّ من دوام الصفاء مع العُجْبِ” (7).
فصل
فجملة نعت الفقيرِ حقًّا أنَّه المتخلي من الدنيا تظرّفًا (8)، والمتجافي عنها تعفّفًا، لا يستغني بها تكثّرًا (9)، ولا يستكثر منها تملُّكًا. وإن كان
__________
(1) التستري، انظر: المصدر السابق.
(2) اسمه عبد اللَّه بن طاهر الأبهري، من أقران الشبلي. وكان من أجلِّ المشايخ بالجبل. توفي نحو (330 هـ)، طبقات الصوفية (391).
(3) “ف”: “تكون”، والأصل غير منقوط. وفي “ك، ط” والقشيرية كما أثبتنا.
(4) القشيرية (278).
(5) هو أبو بكر المصري كما في القشيرية. وهو محمد بن أحمد بن محمد الكناني المصري الشافعي ابن الحدَّاد، لازم النسائي وتخرَّج به، توفي سنة (345 هـ). السير (15/ 445).
(6) القشيرية (278).
(7) بعده في “ك، ط”: “واللَّه أعلم”.
(8) “ك”: “تطرقًا”، “ط”: “تطرفًا”، وكلاهما تصحيف.
(9) “ن”: “تكبرًا”.
(1/105)
مالكًا لها بهذا الشرط لم تضرَّه (1)، بل هو فقيرٌ غناه في فقره، وغني فقرُه في غناه.
ومن نعته أيضًا أن يكون فقيرًا من حاله، وهو خروجه عن الحال تبرِّيًا، وتركُ الالتفات إليه تسلّيًا، وتركُ مساكنة الأحوال، والرجوعُ عن موافقتها؛ فلا (2) يستغني بها اعتمادًا عليها، ولا يفتقرُ إليها مساكنةً لها.
ومن نعته أنَّه يعمل على موافقة اللَّه في (3) الصبر والرضى والتوكل والإنابة، فهو عاملٌ على مراد اللَّه منه لا على موافقة هواه، وهو تحصيل مراده من اللَّه. فالفقيرُ خالص بكلِّيته للَّه عزَّ وجلَّ، ليس لنفسه ولا لهواه في أحواله حظٌّ ولا نصيب (4)، بل عملُه بقيام شاهدِ الحقِّ وفناءِ شاهد نفسه. قد غيّبه شاهدُ الحقِّ عن شاهد نفسه، فهو يريد اللَّه بمراد اللَّه، فمعوَّله على اللَّه، وهمَّته لا تقف دون شيءٍ سواه. قد فني بحبّه عن حبِّ ما سواه، وبأمره عن هواه، وبحسن اختياره له عن اختياره لنفسه. فهو في وادٍ، والنَّاسُ في واد!
خاضع، متواضع، سليم القلب، سلِس القياد (5) للحقِّ، سريع القلب إلى ذكر اللَّه، بريء من الدعاوى لا يدعي بلسانه ولا بقلبه ولا بحاله. زاهدٌ في كلِّ ما سوى اللَّه، راغبٌ في كلِّ ما يقرِّب إلى اللَّه، قريبٌ من النَّاسِ، أبعد شيءٍ منهم، يأنس بما يستوحشون منه،
__________
(1) “ف”: “لم يضره” تصحيف.
(2) “فلا” ساقط من “ط” ومستدرك في القطرية.
(3) “ط”: “والصبر”، وصحح في القطرية.
(4) “ط”: “ونصيب”.
(5) “ط”: “القيادة”، وصحح في القطرية.
(1/106)
ويستوحش ممَّا يأنسون به، متفرد (1) في طريق طلبه، لا تقيده الرسوم، ولا تملكه العوائد (2)، ولا يفرح بموجود، ولا يأسف على مفقود.
من جالسه قرَّت عينه به، ومن رآهُ ذكَّرتْه رؤيتُه باللَّه. قد حملَ كَلَّه ومُؤنته عن النَّاسِ، واحتمل أذاهم، وكفَّ (3) أذاه عنهم. وبذلَ لهم نصيحته، وسبَّل لهم عِرْضه ونفسه لا لمعاوضة ولا لذلَّة وعجز. لا يدخلُ فيما لا يعنيه، ولا يبخلُ بما لا ينقصه.
وصفه الصدق والعفَّة والإيثار والتواضع والحلم والوقار والاحتمال. لا يتوقع لما يبذله للنَّاسِ منهم عوضًا (4)، ولا مدحة. لا يعاتِب، ولا يخاصم، ولا يطالِب، ولا يرى له على أحدٍ حقًّا، ولا يرى له على أحدٍ فضلًا.
مقبلٌ على شأنه، مكرمٌ لإخوانه، بخيل بزمانه، حافظ للسانه، مسافرٌ في ليله ونهاره، ويقظته ومنامه، لا يضغ عصا السيرِ عن عاتقه حتَّى يصل إلى مطلبه.
قد رُفِعَ له عَلَمُ الحبِّ، فشمَّرَ إليه، وناداهُ داعي الاشتياق، فأقبل بكلّيته عليه. أجابَ منادي المحبة إذ دعاه: حيَّ على الفلاح، وواصل السُّرى (5) في بيداءِ الطلب، فحمِد عند الوصول مسراه (6)، وإنَّما يحمد
__________
(1) “ك، ط”: “منفرد”.
(2) “ك، ط”: “الفوائد”، تحريف.
(3) “ك”: “بكف أذاه”.
(4) “ط”: “عوضًا منهم”.
(5) “ك”: “وصل السير”. “ط”: “وصل السرى”.
(6) “ط”: “سراه”.
(1/107)
القوم السُّرى عند الصباح:
فحيَّ على جنَّاتِ عدنٍ فإنَّها … منازلُكَ الأولى وفيها المخيَّمُ (1)
ولكنَّنا سَبْيُ العدوّ، فهل ترى … نعود إلى أوطاننا ونسلِّمُ
وحيَّ على روضاتها وخيامها … وحيَّ على عيشِ بها ليس يُسأَمُ
وحيَّ على يوم المزيد وموعدِ الـ … ــمحبِّين، طوبى للذي هو منهمُ
وحيَّ على وادٍ بها [هو أفيَحٌ … وتربتُه من أذفرِ المسك أعظمُ] (2)
منابرُ من نورٍ [هناكَ وفضَّةٍ … ومن خالص العِقيانِ لا يتفصّمُ] (3)
__________
(1) هذه القصيدة الميمية للمصنف رحمه اللَّه. وقد أورد 48 بيتًا منها في حادي الأرواح (30 – 32)، وطبعت كاملة ضمن مجموعة لم أقف عليها بعنوان “أربح بضاعة في معتقد أهل السنة والجماعة” سنة 1316 هـ في الهند. ثم نشرتها مع النونية مكتبة ابن تيمية بالقاهرة سنه 1407 هـ.
(2) كذا ورد البيت في “ك، ط” وحادي الأرواح. وفي الأصل:
وحيَّ على واد بها أفيح به … منابر من نور. . . . . . . . . .
كذا ورد ناقضا، وبعده بياض، فأراد بعضهم استدراك النقص فقال في الحاشية: “لعله “لدى الرسل تُعلم” أو “بها الرسل تكرم”. وقد أثبت ناسخ “ف” الاقتراح الأوَّل، ولكن نبَّه على أنَّه “ليس هذا من كلام المصنف رحمه اللَّه”. وفي “ن” أيضًا ورد البيت كما في الأصل، فضرب بعضهم على “به منابر من نور”، وكتب بعده الشطر الثاني كما ورد في “ك”.
وقد تبين من “ك” وحادي الأرواح أن “منابر من نور” ليس جزءًا من هذا البيت، بل هو بداية البيت التالي. هذا، وقد كتب بإزائه في الحاشية اليسرى: “تضيء بهم تلك المنابر” كأنَّه بداية بيت جديد لم يكتمل!
(3) تكملة هذا البيت من “ك”، ولم يرد في الأصل وغيره إلَّا أوَّله مع صدر البيت السابق. “لا يتفصم”: كذا بالفاء في “ك”. وتفصم الشيء: انكسر دون بينونة. =
(1/108)
يروَن به الرحمنَ جلَّ جلالُه … كرؤية بدْرِ التِّمِّ لا يُتَوهَّمُ
أو الشمس صحوًا ليس من دون أُفْقِها … ضَبابٌ ولا غَيْمٌ هناكَ يُغيِّمُ
وبيناهمُ في عيشهم وسرورهم … وأرزاقُهم تُجرى عليهم وتُقسَمُ
إذا هُمْ بنورٍ ساطع قد بدا لهم … فقيل: ارفعوا أبصاركم، فإذا هُمُ
بربِّهِمُ مِن فوقِهمْ وهو قائلٌ: … سلامٌ عليكم طبتُمُ وسلِمتُمُ
فياعجبًا، ما عذرُ من هو مؤمنٌ … بهذا ولا يسعى له ويُقدِّمُ
فبادِرْ إذًا ما دام في العمر فسحةٌ … وعَدْلُك مقبولٌ وصَرْفُك قيِّمُ
فما فرحتْ بالوصل نفسٌ مَهينةٌ … ولا فاز قلبٌ بالبطالة يَنعَمُ
فجِدَّ وسارعْ واغتنِمْ ساعةَ السُّرى … ففي زمن الإمكان يُسْعَى ويُغنَمُ (1)
وسِرْ مسرعًا فالسَّيلُ (2) خلفك مسرعٌ … وهيهاتَ ما منه مفرٌّ ومهزَمُ
فهنَّ المنايا أيُّ واد نزلتَه … عليها القدومُ أو عليك ستقدَم
وإن تكُ قد عاقتْك سُعدى فقلبُك الـ … ــمُعَنَّى رهينٌ في يديها مسلَّمُ
وقد ساعدتْ بالوصل غيرَك فالهوى … لها منكَ والواشي بها يتنعَّمُ
فدَعْهَا وسلِّ النفسَ عنها بجنَّةٍ … من الفقر في روضاتها الدرُّ يَبسمُ
ومن تحتها الأنهارُ تخفِق دائمًا … وطيرُ الأماني فوقها يترنَّمُ
__________
= وفي حادي الأرواح بالقاف.
(1) “ط”: “تسعى وتغنم”.
(2) “ط”: “فالسير”، تحريف.
(1/109)
وقد ذُلِّلتْ منها القطوفُ فمن يُرِدْ … جناها يَنَلْه كيف شاءَ وينعَمُ
وقد فُتِحت أبوابها وتزينت … لِخُطَّابها (1) فالحسنُ فيها مقسَّمُ
أقام على أبوابها داعي الهدى … هلمُّوا إلى دار السعادة تغنموا
وقد طابَ منها نُزْلُها ومقيلُها … فطوبى لمن حلُّوا بها وتنعموا
وقد غرس الرحمنُ فيها غِراسَه … من النَّاسِ، والرحمن بالغرس أعلمُ
فمن كان من غرس الإله فإنَّهُ … سعيدٌ وإلا فالشقا متحتِّمُ
فيا مسرعينَ السيرَ باللَّه ربِّكم … قِفوا بي على تلك الربوع وسلِّموا
وقولوا: محبٌّ قاده الشوقُ نحوَكم … قضى نحبَه فيكم تعيشوا وتسلَموا
قضى اللَّه ربّ العالمين قضيةً … بأنَّ الهوى يُعمي القلوبَ ويُبكِمُ
وحبُّكُمُ أصلُ الهدى ومدارُه … عليه وفوزٌ للمحبِّ ومغنمُ
وتفنى عظامُ الصَّبِّ بعد مماته … وأشواقُه وقفٌ عليه محرَّمُ
فياأيها القلبُ الذي ملَك الهوى … أعِنّتَه، حتَّامَ هذا التلؤُّمُ
وحتَّامَ لا تصحو وقد قرُب المدى … ودقّت كؤوسُ السير والنَّاسُ نُوَّمُ
بلى سوف تصحو حين ينكشف الغطا … ويبدو لك الأمرُ الذي كنت تكتمُ
ويا موقدًا نارًا لغيرك ضؤوها … وحرُّ لظاها بين جنبَيك يضرَمُ
أهذا جنَى العلمِ الذي قد غرستَه … وهذا الذي قد كنتَ ترجوه تطعَمُ
__________
(1) “ك”: “لخاطبها”.
(1/110)
وهذا هو الحظُّ الذي قد رضيتَه … لنفسك في الدَّارين لو كنت تفهَمُ
وهذا هو الربحُ الذي قد كسبته … لعمرُك لا ربحٌ ولا الأصلُ يسلَمُ
بخلتَ بشيءٍ لا يضرُّك بذلُه … وجُدْتَ بشيءٍ مثلُه لا يُقومُ
وبعتَ نعيمًا لا انقضاءَ له ولا … نظيرَ ببخسٍ عن قليلٍ سيُعدَمُ
فهلَّا عكستَ الأمرَ إن كنتَ حازمًا … ولكن أضعت الحزم لو (1) كنتَ تعلمُ
وتهدِمُ ما تبني بكفِّك جاهدًا … فأنتَ مدى الأيام تبني وتهدمُ
وعندَ مراد الحق تفنى كميِّتٍ … وعندَ مراد النفس تُسْدِي وتُلحِمُ
وعند خلاف الأمر تحتجُّ بالقضا … ظهير على الرحمن للجبر يزعُمُ (2)
تُنزه تلك النفسَ عن سوءِ فعلها … وتعتِبُ (3) أقدارَ الإله وتظلِمُ
وتزعمُ مَعْ هذا بأنَّكَ عارف … كذبتَ يقينًا في الذي (4) أنت تزعمُ
وما أنت إلا جاهل ثمَّ ظالم … وإنَّكَ بين الجاهلبن مقدمُ
إذا كان هذا نُصْحَ عبدٍ لنفسه … فمن ذا الذي منه الهُدَى يتعلمُ
وفي مثل هذي الحال (5) قد قال من … مضى وأحسنَ فيما قالَه المتكلِّمُ:
__________
(1) “ط”: “إن”.
(2) كذا في الأصل و”ف”. وفي غيرهما: “ظهيرًا. . . تزعم”. وفي “ن”: “ظهير” فزاد قارئ آنفًا!
(3) “ط”: “وتغتاب”.
(4) “ك”: “بالذي”.
(5) “ك”: “هذا الحال”. “ط”: “هذا كان”.
(1/111)
(فإِن كنتَ لا تدري فتلك مصيبةٌ … وإنْ كنتَ تدري فالمصيبةُ أعظمُ)
ولو تبصِرُ الدنيا وراءَ ستورها … رأيتَ خيالًا في منامٍ سيصرَمُ
كحُلْم بطيفٍ زارَ في النوم وانقضى الـ … ـمنام وراح الطيفُ والصَّب مغرمُ
وظل أرتْه الشمسُ عند طلوعها … سيقلِصُ في وقت الزوال ويُفصَمُ
ومُزنةِ صيفٍ طاب منها مقيلُها … فولت سريعًا والحَرورُ تضرَّمُ
فجُزْها مَمَرًّا لا مَقرًا، وكنْ بها … غريبًا تعِشْ فيها حميدًا (1) وتسلَمُ
أو ابنَ سبيل قال في ظلِّ دوحةٍ … وراحَ وخلَّى ظلَّها يتقسَّمُ
أخا سفر (2) لا يستقرُّ قرارُه … إلى أن يرى أوطانَه ويُسلِّمُ
فيا عجبًا كم مصرعٍ وعظتْ به … بنيها (3) ولكن عن مصارعها عَمُوا
سقَتْهم بكأس الحبِّ حتَّى إذا انتشَوا (4) … سقتهم كؤوسَ السُّمَّ والقومُ قد ظَمُوا
وأعجبُ ما في العبد رؤية هذه الـ … ـعظائمِ منها وهو فيها متيَّمُ
وأعجبُ من ذا أنَّ أحبابها الأُلي … تُهينُ ولِلأَعداء تَرْعَى (5) وتُكرِمُ
وذلك برهان على أنَّ قدرَها … جناحُ بَعوضِ أو أدقُّ وألأَمُ
وحسبُك ما قال الرسولُ ممثِّلًا … لها ولدار الخلد والحقُّ يُفْهَمُ
__________
(1) “ك”: “سعيدًا”.
(2) رسمه في الأصول: “أخى سفر” غير أن ناسخ “ف” ضبط الخاء بالفتحة.
(3) “ط”: “عطبوا به بنيها”! الضمير في “وعظت” راجع إلى الدنيا.
(4) “ط”: “انثنوا”، تصحيف.
(5) “ط”: “للأعداء تُراعي”.
(1/112)
كما يُدخِل الإنسانُ في اليمِّ إصبعًا … وينزعُها منه فما ذاك يغنمُ
ألا ليتَ شعري هل أبيتَنَّ ليلةً … على حذرٍ منها وأمريَ مُحكمُ
وهل أَرِدَنَ ماءَ الحياةِ وأرتوي … على ظمأٍ من حوضه وهو مُفعَمُ
وهل تبدوَنْ أعلامُهم بعدما سَفَتْ … عليها السوافي (1) تستبينُ وتُعلَمُ
وهل أفرُشَنْ خدِّي ثرى عتَباتِهم … خضوعًا لهم كيما يرِقُّوا ويرحموا
وهل أَرَيَنْ نفسي طريحًا ببابهم … وطيرُ أماني الحبِّ فوقي تُحَومُ
فوا أسفا تفنى الحياةُ وتنقضي … وعتبُكُم باقٍ، بقيتُمْ وعِشْتُمُ
فما منكمُ بدٌ ولا عنكمُ غنًى … وما لِيَ من صبرٍ فأسلوَ عنكمُ
فمن شاءَ فليغضبْ سواكم فلا إذًا (2) … إذا كنتمُ عن عبدكم قد رضيتمُ
وعُقْبَى اصطباري في رضاكم حميدةٌ … ولكنها عنكم عِقَابٌ ومَغرمُ (3)
وما أنا بالشاكي لما ترتضونه … ولكنني أرضى به وأسلمُ
وحسب انتسابي من بعيدٍ إليكمُ … وذلك حظٌ مثلُهُ يتيمَّمُ
إذا قيل: هذا عبدهم ومحبُّهم … تهلَّلَ بِشرًا ضاحكًا يتبسَّمُ
وها هو قد أبدى الضراعةَ قائلٌ (4) … لكم بلسان الحال والحالُ يُعلَمُ
__________
(1) السوافي: الرياح التي تحمل الغبار وتذرو التراب.
(2) “ط”: “أذى”، خطأ.
(3) “ط”: “رضاكم هوى لكم حميد ولكنه عقاب”.
(4) كذا في الأصل وغيره. وفي “ط”: “قائلًا”.
(1/113)
أحِبَّتنَا عطفًا علينا فإنَّنا … بنا ظمأٌ، والموردُ العذبُ أنتمُ
فيا ساهيًا في غَمْرةِ الجهلِ والهوى … صريعَ الأماني عن قليلٍ ستندَمُ
أَفِقْ قد دنا الوقتُ الذي ليس بعده … سوى جنَّةٍ أو حرِّ نارٍ تضرَّمُ
وبالسنة الغرَّاءِ كنْ متمسِّكًا … هي العروة الوثقى التي ليس تُفْصَمُ
تمسَّكْ بها مَسْكَ البخيل بمالهِ … وعَضَّ عليها بالنواجذِ تسلمُ
وإِيَّاكَ ممَّا أحدث الناسُ بعدها … فمرتعُ هاتيكَ الحوادثِ أوخَمُ
وهَيِّئْ جوابًا عندما تسمع النِّدا … من اللَّه يومَ العرضِ: ماذا أجبتمُ
بهِ رُسُلي لمَّا أتوكمْ، فمن يُجِبْ … سواهم سيخزى عند ذاك ويندمُ
وخذْ من تقى الرحمن أسبغَ جُنَّةٍ … ليومٍ به تبدو عيانًا جهنَّمُ
ويُنصبُ ذاك الجسرُ من فوق متنها … فهاوٍ ومخدوشٌ وناجٍ مسلَّمُ
ويأتي إلهُ العالمين لوعده … فَيفْصِلُ ما بين العباد ويحكمُ
ويأخذ للمظلوم إذ ذاك حقَّه … فياويحَ من قد كان للخلق يَظلِمُ
ويُنشَر ديوانُ الحساب وتوضَع الـ … ـموازينُ بالقسط الذي لا يُظَلمُ (1)
فلا مُجْرِمٌ يَخْشَى هناكَ ظُلامةً … ولا مُحسِنٌ من أجره الذرَّ يُهضَمُ
وتشهد أعضاء المسيء بما جنى … لذاك على فيه المهيمنُ يَختِمُ
__________
(1) كذا في الأصل وغيره، وضبط في الأصل و”ف” بفتح الظاء واللام المشددة المفتوحة. والمعنى: الذي لا يُنسب إلى الظلم. وفي “ط”: “ليس يظلم”.
(1/114)
ويا ليتَ شعري كيف حالُكَ عندما … تَطايرُ كُتْبُ العالمين وتُقسَمُ
أتأخُذُ باليمنى كتابَكَ أم [ترى] (1) … بيُسراكَ خلفَ الظهرِ منك تُسلَّمُ
وتقرأ فيه كلَّ شيءٍ عملتَهُ … فيُشرقُ منك الوجهُ أو هو يُظْلِمُ
تقولُ: كتابي هاؤمُ فاقرؤو لي … يُبَشِّرُ بالجنَّاتِ حقًا ويُعلِمُ (2)
وإنْ تكن الأخرى فإنَّكَ قائِلٌ … ألا ليتني لم أوتَهُ فهو مُغرِمُ
فلا والذي شقَّ القلوب وأودع الـ … ـمحبَّةَ فيها حيث لا تتصرَّمُ
وحَمَّلها قلبَ المحبِّ وإنَّهُ (3) … ليضعفُ عن حمل القميص ويألمُ
وذلَلَ فيها أنفسًا دون ذلِّها … حياضُ المنايا فوقها هي حُوَّمُ
[فلقد فازَ أقوامٌ وحازوا مَرابحًا … بتركهم الدنيا وَالاقبالِ منهُمُ (4)
على ربِّهم طولَ الحياة وحبِّهم … على نهجِ ما قد سنَّهُ فَهُمُ هُمُ] (5)
__________
(1) زيادة من “ط” لإقامة الوزن، ولم ترد في الأصل وغيره.
(2) “ك، ط”: “اقرؤوه. . . تبشر. . . تعلم”.
(3) “ف”: “فإنَّه”.
(4) قد أضيف هذا البيت والذي يليه إلى الأصل قديمًا قبل أن تنسخ منها “ف”. ولم يردا في أصل “ن” أيضًا، فزادهما بعضهم فيها بخط حديث.
(5) بعد هذا البيت بياض في الأصل بقدر نصف صفحة؛ لأن هذا الجزء من الأصل نسخ مستقلًّا عما يليه. وكتب في الحاشية اليمنى: “علق منها لنفسه نسخة علي بن زيد بن علوان بن صَبِرة بن مهدي بن حريز الزبيدي الأثري اليمني داعيًا لناظمها ومالكها ولكل مسلم بالموت على الإسلام والسنة”. وصاحب الحاشية من علماء القرن الثامن. ولد في “رَدْما” سنة 741 هـ. وتوفي بالقاهرة سنة 813 هـ. انظر ترجمته في شذرات الذهب (4/ 102 – 103).
(1/115)
قاعدة شريفة عظيمة القدر حاجةُ العبدِ إليها أعظمُ من حاجته إلى الطعام والشراب والنفس، بل وإلى الروح التي بين جنبيه (1)
اعلم أنَّ كلَّ حيٍّ سوى اللَّه فهو فقيرٌ إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، والمنفعة للحي من جنس النعيم واللّذة، والمضرَّةُ من جنس الألم والعذاب. فلا بُدَّ له (2) من أمرين: أحدهما هو المطلوب المقصود المحبوب الذي يَنتفعُ ويلتذُّ (3) به، والثاني هو المعين الموصِل المحصِّل لذلك المقصود، والمانع لحصول المكروه، أو الدافع (4) له بعد وقوعه.
فهاهنا أربعةُ أشياء: أمرٌ محبوب مطلوب الوجود، والثاني: أمرٌ مكروهٌ مطلوب العدم، والثالث: الوسيلة إلى حصول المحبوب، والرابع: الوسيلة إلى دفع المكروه. فهذه الأمور الأربعة ضروريةٌ للعبد، بل ولكلّ حي سوى اللَّه، لا يقوم صلاحُه إلا بها.
إذا عرف هذا فاللَّه سبحانه وتعالى هو المطلوب المعبود المحبوب وحده لا شريك له، وهو وحده المعين للعبد على حصول مطلوبه، فلا معبود سواه، ولا معين على المطلوب غيره؛ وما سواه هو المكروهُ
__________
(1) من هنا إلى ص (132) قارن بمجموع الفتاوى (1/ 21 – 33)، فقد بنى المصنف كلامه في هذه القاعدة وما تبعها من فصلين وأول الفصل الثالث على كلام شيخه، ونقل معظمه بنصه. وكذا فعل في “إغاثة اللهفان”: الباب السادس (70 – 96) غير أنه رتبه هناك على نحو آخر.
(2) “له” ساقط من “ك، ط”.
(3) “ك، ط”: “به ويتلذذ”.
(4) في “ك، ط”: “والدافع”.
(1/116)
المطلوب (1) بُعْدُه، وهو المعينُ على دفعه. فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه، وهذا معنى قول العبد: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة/ 5]، فإنَّ العبادة (2) تتضمن المقصود المطلوبَ على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذي يُستعان به على حصول المطلوب ودفع المكروه. فالأول من مقتضى ألوهيته، والثاني من مقتضى ربوبيته؛ لأن الإله هو الذي يُؤلَه فيعبَدُ محبَّةً وإنابةً وإجلالًا وإكرامًا، والرب هو الذي يرُب عبدَه فيعطيه خَلْقَه، ثمَّ يهديه إلى جميع أحواله ومصالحه التي بها كمالُه، ويهديه إلى اجتناب المفاسد التي بها فسادُه وهلاكُه.
وفي القرآن سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين:
أحدها: قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة/ 5].
الثاني: قوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} [هود/ 88].
الثالث: قوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود/ 123].
الرَّابع: قوله تعالى: {عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} [الممتحنة/ 4].
الخامس: قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان/ 58].
السادس: قوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)} [الرعد/ 30].
السابع: قوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا
__________
(1) “ط”: “والمطلوب” وقد صحح في القطرية.
(2) “ط”: “هذه العبادة”.
(1/117)
إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)} [المزمل/ 8 – 9].
ومما يقرِّر هذا أنَّ اللَّه سبحانه خلقَ الخلقَ لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه ومحبته والإخلاصِ له. فبذكره تطمئنُّ قلوبُهم، وبرؤيته في الآخرة تقرُّ عيونُهم. ولا شيء يعطيهم في الآخرة أحبَّ إليهم من النظر إليه، ولا شيء يعطيهم في الدنيا أحبَّ إليهم من الإيمان به، ومحبتهم له، ومعرفتهم به.
وحاجتهم إليه في عبادتهم له وتألُههم له كحاجتهم إليه -بل أعظم- في خلقه لهم (1)، وربوبيته لهم، ورزقه لهم. فإنَّ ذلك هو الغاية المقصودة التي بها سعادتُهم وفوزُهم، وبها ولأجلها يصيرون عاملين متحرّكين، ولا صلاح لهم ولا فلاح ولا نعيم ولا لذَّة ولا سرور بدون ذلك بحال. فمن أعرض عن ذكر ربِّه فإنَّ له معيشةً ضنْكًا، ويحشره يوم القيامة أعمى. ولهذا لا يغفرُ اللَّه لمن يشرك به شيئًا، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. ولهذا كانت “لا إلهَ إلا اللَّه” أفضلَ الحسنات، وكان توحيدُ الإلهية الذي كلمته “لا إله إلا اللَّه” رأس الأمر.
فأمَّا توحيد الربوبية الذي أقرَّ به كلُّ المخلوقات فلا يكفي وحده، وإن كان لا بُدَّ منه، وهو حجة على من أنكر توحيدَ الألوهية، فحقُّ اللَّه على العبادِ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحقُّهم عليه إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم وأن يكرمهم إذا قدموا عليه.
وهذا كما أنَّهُ غايةُ محبوب العبدِ ومطلوبه، وبه سروره ولذَّته ونعيمه، فهو أيضًا محبوبُ الربِّ من عبده ومطلوبُه الذي يرضى
__________
(1) “لهم” ساقط من “ط”.
(1/118)
به. ويفرح بتوبة عبده إذا رجع إليه وإلى عبوديته وطاعته أعظمَ من فرحِ من وجَدَ راحلتَه التي عليها طعامُه وشرابُه في أرض مهلكة بعد أن فقدها وأَيِسَ منها (1)، وهذا أعظمُ فرع يكون.
وكذلك العبد لا فَرَحَ له أعظمُ من فرحِه بوجود ربه، وأنسِه به، وطاعته له، وإقباله عليه، وطمأنينتِه بذكره، وعمارة قلبه بمعرفته، والشوقِ إلى لقائه. فليس في الكائنات ما يسكن العبدُ إليه، ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه إلا اللَّه سبحانه. ومن عبد غيرَه وأحبَّه -وإن حصل له نوع من اللَّذة والمودَّة والسكون إليه والفرَح والسرور بوجوده- ففسادُه به ومضرتُه وعطَبُه أعظمُ من فساد أكل الطعام المسموم اللذيذ الشهي الذي هو عذبٌ في مبدئه، وعذابٌ في نهايته، كما قال القائل:
مآربُ كانت في الشباب لأهلها … عِذابًا، فصارت في المشيب عَذَابا (2)
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)} [الأنبياء/ 22]، فإنَّ قوام السماوات والأرضِ والخليقة بأن تأله الإلهَ الحقَّ، فلو كان فيهما آلهة أخر (3) غير اللَّه لم يكن إلهًا حقًّا، إذ الإله الحق لا شريكَ له ولا سمي له ولا مثل له، فلو تألهت غيرَه لفسدت كل الفساد بانتفاء ما به صلاحُها، إذ صلاحُها بتألُهِ الإلهِ الحقِّ. كما أنَّها لا توجَد إلا باستنادها إلى الربِّ الواحد القهَّار،
__________
(1) يشير إلى حديث الصحيحين، وسيأتي في ص (512).
(2) تمثل به المؤلف في روضة المحبين (633)، والداء والدواء (266، 361)، والفوائد (46).
(3) “ط”: “إله آخر”.
(1/119)
ومستحيلٌ (1) أن تستند في وجودها إلى ربَّين متكافئين، فكذلك يستحيل أن تستند في بقائها وصلاحها إلى إلهين متساويَين.
إذا عُرفَ هذا فاعلم أنَّ حاجةَ العبد إلى أن يعبد اللَّه وحده، ولا يشرك (2) به شيئًا في محبته، ولا في خوفه، ولا في رجائه، ولا في التوكل عليه، ولا في العمل له، ولا في الحلف به، ولا في النذر له، ولا في الخضوع له، ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب = أعظمُ من حاجة الجسد إلى روحه، والعين إلى نورها. بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به، فإنَّ حقيقة العبد قلبه وروحه (3)، ولا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إلهَ إلا هو. فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره، وهي كادحة إليه كدحًا فملاقيته، ولابد لها من لقائه؛ ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له، ورضاه وإكرامه لها.
ولو حصلَ للعبد من اللذات والسرور بغير اللَّه ما حصلَ لم يدُمْ له ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت، ثمَّ يتعذب به (4) -ولا بد- في وقت آخر. وكثيرًا ما يكون ذلك الذي يتنعم به ويلتذ به غيرَ منعِمٍ له ولا مُلِذّ، بل قد يؤذيه اتصالُه به ووجودُه عنده (5)، ويضرّه ذلك. وإنما يحصل له بملابسته من جنس ما يحصل للجَرِب من لذة الأظفار التي تحكُه، فهي تُدمي الجلد
__________
(1) “ك، ط”: “يستحيل”.
(2) “ك، ط”: “وحده لا يشرك”.
(3) “ك، ط”: “وروحه وقلبه”.
(4) “ك”: “يعذب به”. “ط”: “يعذب ولابد”.
(5) في الأصل وغيره: “عنه”، وهو سهو. والصواب ما أثبتنا من “ط”.
(1/120)
وتُحْرِقُه (1) وتزيد في ضرره، وهو يؤثر ذلك لما له في حكّها من اللَّذّة. وهكذا ما يتعذب به القلب من محبة غير اللَّه، هو عذابٌ عليه ومضرةٌ وألمٌ في الحقيقة، لا تزيد لذَّتُه على لذة حكّ الجرِب. والعاقل يوازن بين الأمرين ويؤثر أرجحَهما وأنفعَهما، واللَّه الموفق المعين، وله الحجَّة البالغة، كما له النعمة السابغة.
والمقصود أن إله العبد الذي لا بُدَّ له منه في كل حالة وكلِّ دقيقة وكلِّ طرفة عين فهو (2) الإلهُ الحق الذي كلُّ ما سواه باطل، الذي (3) أينما كان فهو معه. وضرورته إليه (4) وحاجته إليه لا تشبهها (5) ضرورةٌ ولا حاجةٌ، بل هي فوق كل ضرورة، وأعظمُ من كل حاجة، ولهذا قال إمام الحنفاء: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)} [الأنعام/ 76] (6).
__________
(1) “ط”: “تخرقه”.
(2) “ط”: “هو”.
(3) “ط”: “والذي”.
(4) “إليه” ساقط من “ك، ط”.
(5) “ف، ك”: “يشبههَا”.
(6) زاد بعدها في “ك، ط”: “واللَّه أعلم”.
(1/121)
فصل
وهذا مبني على أصلين أحدهما: أنَّ نفس الإيمان باللَّه، وعبادته، ومحبته، وإخلاص العمل له، وإفراده بالتوكل عليه هو غذاءُ الإنسان وقوتُه وصلاحُه وقِوامُه؛ كما عليه أهل الإيمان، وكما دلَّ عليه القرآن؛ لا كما يقوله من يقوله (1) إن عبادته تكليف ومشقة على خلاف مقصود القلب ولذَّته، بل (2) لمجرد الامتحان والابتلاء، كما يقوله منكرو الحكمة والتعليل؛ أو لأجلِ التعويض بالأجر لما (3) في إيصاله إليه بدون معاوضةٍ منَّة (4) تكدره، أو لأجل تهذيب النفس ورياضتها واستعدادها لقبول العقليات، كما يقوله من يتقرَّب إلى النبوات من الفلاسفة.
بل الأمرُ أعظمُ من ذلك كله وأجلُّ، بل أوامرُ المحبوب قرَّةُ العيون، وسرورُ القلوب، ونعيمُ الأرواح، ولذاتُ النفوس، وبها كمالُ النعيم. فقرةُ عين المحب في الصلاة والحج، وفرَحُ قلبِه وسروره ونعيمه في ذلك، وفي الصيام والذكر والتلاوة؛ وأما الصدقة فعجب من العجب.
وأمَّا الجهاد، والأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى اللَّه، والصبر على أعداء اللَّه، فاللذة بذلك أمر آخر لا يناله الوصف، ولا يدركه من ليس له نصيب منه، وكل من كان به أقوَم كان نصيبه من الالتذاذ به أعظم.
__________
(1) “ط”: “يقول”.
(2) “بل” ساقط من “ط”، ومستدرك في القطرية.
(3) “ف”: “كما”، تحريف.
(4) “ط”: “منه”، وصحح في القطرية.
(1/122)
ومن غلظ فهمُه وكثف طبعُه عن إدراك هذا فليتأمَّلْ إقدامَ القوم على قتل آبائهم وأبنائهم وأحبابهم، ومفارقة أوطانهم، وبذل نحورهم لأعدائهم، ومحبتهم للقتل، وإيثارهم له على البقاء، وإيثار لوم اللائمين، وذمّ المخالفين على مدحهم وتعظيمهم. ووقوعُ هذا من البشرِ بدون أمر يذوقه قلبُه من حلاوته ولذته وسروره ونعيمه ممتنع. والواقع شاهد بذلك، بل ما قام بقلوبهم من اللذّة والسرور والنعيم أعظم مما يقوم بقلب العاشق الذي يتحمل ما يتحمله في موافقة رضى معشوقه، فهو (1) يلتذ به، ويتنعم به، لما يعلمُ من سرور معشوقه به:
فيا منكِرًا هذا تأخَّرْ فإنَّهُ … حرامٌ على الخُفَّاشِ أن يُبْصِرَ الشَّمْسَا
فمن كان مرادُه وجهَ (2) اللَّه، وحياتُه في معرفته ومحبته، ونعيمُه في التوجّه إليه وذكرِه، وطمأنينتِه به وسكونه إليه وحدَه = عرف هذا وأقرَّ به.
الأصل الثاني: أنَّ (3) كمال النعيم في الدَّار الآخرة أيضًا به تعالى: برؤيته، وسماع كلامه، وقربه، ورضوانه؛ لا كما يزعمُ من يزعم أنه لا لذَّةَ في الآخرَة إلا بالمخلوق من المأكول والمشروب والملبوس والمنكوح. بل اللذة والنعيم التام في حظهم من الخالق تعالى أعظمُ مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال.
وفي دعاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن حبان
__________
(1) “ف”: “وهو”، قراءة محتملة.
(2) “ك، ط”: “وحبه” تصحيف.
(3) “أن” ساقطة من “ط”. وفي “ك”: “والأصل الثاني أنّ”.
(1/123)
والحاكم في صحيحيهما: “وأسألُكَ (1) لذَّة النظَرِ إلى وجهكَ، والشَّوْقَ إلى لقائِكَ، في غيرِ ضراءَ مُضِرَّة، ولا فتنةٍ مُضِلَّة” (2).
ولهذا قال تعالى في حقِّ الكفَّار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)} [المطففين/ 15 – 16].
فعذاب الحجاب من أعظم أنواع العذاب الذي يعذَّب به أعداؤه، ولذة النظر إلى وجهه (3) الكريم أعظمُ أنواع اللذات التي ينعم بها أولياؤه، ولا تقومُ حظوظُهم من سائر المخلوقات مقامَ حظِّهم من رؤيته، وسماع كلامه، والدنو منه وقربه.
وهذان الأصلان ثابتان بالكتاب والسنَّة، وعليهما أهل العلم والإيمان، ويتكلم فيهما مشايخ الطرق العارفون، وعليهما أهل السنة والجماعة، وهما من فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها، ويحتجّون على من ينكرهما بالنصوص والآثار تارة، وبالذوقِ والوجد تارة، وبالفطرة تارةً، وبالقياس والأمثال تارةً.
وقد ذكرنا مجموع هذه الطرق في كتابنا الكبير في المحبَّة الذي سمَّيناهُ “المورد الصافي، والظل الضافي” (4) في المحبة وأقسامها
__________
(1) “ط”: “أسألك” دون واو العطف.
(2) أخرجه أحمد (18325). والنسائي في الكبرى (1229) وابن حبان (1971) والحاكم (1/ 524 – 525) من حديث عمار. والحديث صححه ابن حبان والحاكم وأقرّه الذهبي. (ز). وقد شرح المؤلف هذا الحديث في إغاثة اللهفان (1/ 27).
(3) “ك، ط”: “وجه اللَّه”.
(4) وهو الذي ذكر المصنف في مفتاح دار السعادة (1/ 216) أنَّه سيتبعه بعد الفراغ =
(1/124)
وأنواعها وأحكامها وبيان وجوب (1) تعلّقها بالإله الحقّ دون ما سواه، وقد ذكرنا من ذلك ما يزيد على مائة وجه (2).
ومما يوضح ذلك ويزيده تقريرًا أنَّ المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضرٌ ولا عطاءٌ ولا منع، بل ربُّه سبحانه الذي خلَقه، ورزقَه، وبصَّره، وهداه، وأسبغَ عليه نِعَمه، وتحبَّب إليه بها مع غناه عنه، ومع تبغُّض العبدِ إليه بالمعاصي مع فقره إليه. فإذا مسَّه اللَّه بِضُرٍّ فلا كاشف له إلا هو، وإذا أصابه بنعمةٍ فلا راد لها ولا مانع؛ كما قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)} [يونس/ 107]. {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)} [فاطر/ 2].
فالعبدُ لا ينفع ولا يضرّ ولا يعطي ولا يمنع إلا بإذن اللَّه، فالأمر كله للَّه أوَّلًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، هو مقلِّب القلوب ومصرِّفها كيف يشاء،
__________
= منه “كتابًا في الكلام على المحبة وأقسامها وأحكامها. . ” وانظر كتاب “ابن قيم الجوزية حياته، آثاره، موارده” (305، 285).
(1) “وجوب” ساقط من “ط”.
(2) قد أحال المصنف على ثلاثة كتب له أفاض الكلام فيها في هذا الموضوع. أحدها: “التحفة المكية” (بدائع الفوائد: 846)، والثاني: “قرة عيون المحبين وروضة قلوب العارفين”، (مدارج السالكين: 1/ 156)، ولعلَّه هو الذي أشار إليه بالكتاب الكبير فيما بعد (المدارج 2/ 598). والثالث: “المورد الصافي” هذا، وقد وصفه هنا بالكبير. فيبدو أن “قرة عيون المحبين” و”المورد الصافي” اسمان لكتاب واحد. أما كتاب “روضة المحبين” المطبوع فهو كتاب مستقلّ، ولم تذكر فيه الوجوه التي أشير إليها هنا.
(1/125)
المتفرِّد بالضرّ والنفع، والعطاء والمنع، والخفض والرفع {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود/ 56]، {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف/ 54].
وهذا الوجه أظهرُ (1) لعموم الناس من الوجه الأوَّل، ولهذا خوطبوا به في القرآن أكثر من الأوَّل. لكن من تدبَّر القرآن تبين له أنَّ اللَّه سبحانه يدعو عباده بهذا الوجه إلى الأوَّل (2). فهذا الوجه يقتضي التوكلَ على اللَّه، والاستعانة به، والدعاء له، ومسألته دون ما سواه. ويقتضي أيضًا محبته وعبادته لإحسانه إلى عبده، وإسباغ نعمه عليه؛ فإذا عبده وأحبَّه وتوكَّل عليه من هذا الوجه دخل في الوجه الأوَّل.
وهذا كمن (3) نزل به بلاءٌ عظيم وفاقة شديدة أوخوف مقلِق، فجعل يدعو اللَّه ويتضرع إليه، حتَّى فتح له من لذيذ مناجاته له وباب الإيمان به (4) والإنابة إليه ما (5) هو أحبُّ إليه من تلك الحاجة التي قصدها أوَّلًا، لكنَّه لم يكن يعرف ذلك أوَّلًا حتّى يطلبه ويشتاقَ إليه، فعرَّفه إيَّاه بما أقامه له من الأسباب التي أوصلته إليه.
والقرآن مملوءٌ من ذكر حاجة العباد (6) إلى اللَّه دون ما سواه، ومن
__________
(1) “ط”: “أعظم”، ولعله غلط.
(2) “ط”: “بهذا إلى الوجه الأوَّل”.
(3) في الأصل: “هكذا كمن”، وهو سهو، وكذا في “ف”. وفي “ك، ط”: “هكذا من”. والصوابُ ما أثبتنا من “ن” غير أنَّه قد سقط منها “نزل”.
(4) في مطبوعة إغاثة اللهفان (84): “عظيم الإيمان به”.
(5) “ط”: “مناجاته له باب الايمان. . . إليه وما هو”.
(6) “ك”: “العبد”. “ط”: “العبيد”.
(1/126)
ذكر نعمائه عليهم، ومن ذكر ما وعدهم به في الآخرة من صنوف النعيم واللذّات، وليس عند المخلوق شيء من هذا. فهذا الوجه يحقق التوكل على اللَّه، والشكر له، ومحبته على إحسانه.
وممَّا يوضح ذلك ويقوّيه أنّ تعلّق (1) العبد بما سوى اللَّه مضرَّةٌ عليه، إذا أخذَ منه القدرَ الزائد على حاجته المعينة له على عبودية اللَّه، ومحبته، وتفريغ قلبه له. فإنَّه إن نالَ من الطعام والشراب فوق حاجته (2) ضرَّه أو أهلكه، وكذلك من النكاح واللباس. وإن أحبَّ شيئا بحيث يخالِله فلا بُدَّ أن يسأمه أو يفارقه، فالضررُ حاصلٌ له إن وُجد أو فُقِدَ، فإن فُقِدَ تعذب بالفراق وتألم، وان وُجدَ فإنهُ يحصل له من الألم أكثر ممَّا يحصل له من اللذة. وهذا أمرٌ معلومٌ بالاعتبار والاستقراء أن كلَّ من أحب شيئًا دون اللَّه لغير اللَّه، فإنَّ مضرته أكثرُ من منفعته، وعذابَه به (3) أعظمُ من نعيمه.
يزيدُ (4) ذلك إيضاحًا أنَّ اعتمادَه على المخلوق وتوكُّلَه عليه يُوجب له الضررَ من جهته، فإنَّه يُخْذَل من تلك الجهة. وهذا أيضًا معَلوم بالاعتبار والاستقراءِ. فإنَّه (5) ما علَّق العبدُ رجاءه وتوكلَه بغير اللَّه إلا خابَ من تلك الجهة، ولا استنصرَ بغيره إلا خُذِلَ.
قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا
__________
(1) “ط”: “أن في تعلق”.
(2) “ط”: “حاجاته”.
(3) “به” ساقط من “ف، ك، ط”. وفي “ن”: “أكبر من نعيمه”.
(4) “ف”: “سنزيد”. ورسم الأصل يحتمل “سيزيد”، ولكن الراجح ما أثبتنا من “ن” وغيرها.
(5) “ط”: “أنه”.
(1/127)
سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)} [مريم/ 81، 82].
وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)} [يس: 74، 75].
وقال تعالى عن إمام الحنفاء إنَّه قال للمشركين: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت/ 25].
ولمَّا كان غايةُ صلاحِ العبدِ في عبادة اللَّه وحدَه، واستعانته به (1) وحده كان في عبادة غيره والاستعانة بغيره غايةُ مضرته.
وممَّا يوضح الأمرَ في ذلك ويبينه أنَّ اللَّه سبحانه غني حميد، كريم رحيم، فهو محسِن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعةٍ إليه سبحانه ولا لدفع مضرَّة، بل رحمةً وإحسانًا وجودًا محضًا. فإنه رحيم لذاته، محسن لذاته، جواد لذاته، كريم لذاته؛ كما أنَّهُ غني لذاته، قادر لذاته، حيٌّ لذاته. فإحسانه وجوده وبرّه ورحمته من لوازم ذاته، لا يكون إلا كذلك، كما أنَّ حياته (2) وقدرته وغناه من لوازم ذاته، فلا يكون إلا كذلك.
وأما العباد فلا يتصوَّر أن يُحسِنوا إلا لحظوظهم، فأكثرُ ما عندهم للعبد أن يحبوه، ويعنهموه، ويجلبوا (3) له منفعةً، ويدفعوا عنه مضرَّة. وذلك من تيسير اللَّه وإذنه لهم به، فهو في الحقيقة وليّ هذه
__________
(1) “به” ساقط من “ن، ك، ط”.
(2) “حياته و” ساقط من “ك، ط”.
(3) “ك”: “يجلبوا”، ط: “ليجلبوا”.
(1/128)
النعم (1) ومُسْدِيها ومُجرِيها على أيديهم. ومع هذا فإنَّهم لا يفعلون ذلك إلا لحظوظهم من العبد، فإنهم إذا أحبوه طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبته، سواءٌ أحبوه لجماله الباطن أوالظاهر.
فإذا أحبوا الأنبياء والأولياءَ، وطلبوا (2) لقاءهم، فهم يحبون التمتع برؤيتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك. وكذلك من أحب إنسانًا لشجاعته أو رياسته أو جماله أو كرمه، فهو يحب أن ينال حظه من تلك المحبة، ولولا التذاذه بها لما أحب ذلك.
وإن جلبوا له منفعةً كخدمةٍ ومالٍ (3)، أو دفعوا عنه مضرَّةً كمرض وعدوّ -ولو بالدعاء- فهم يطلبون العوض إذا لم يكن العمل للَّه. فأجناد الملوك، وعبِيدُ المالِك (4)، وأُجَراء المستأجرِ، وأعوانُ الرئيس كلهم إنما يسعون في نيل أغراضهم به، ولا يعرج أكثرُهم على قصد منفعة المخدوم إلا أن يكون قد عُلم وهُذِّبَ من جهة أخرى، فيدخل ذلك في الجهة الدينية، أو يكون فيه طبعُ عدل وإحسان من باب المكافأة والرحمة؛ وإلا فالمقصودُ بالقصد الأول هو منفعة نفسه.
وهذا من حكمة اللَّه التي أقام بها مصالح خلقه، إذ قسَّم بينهم معيشتَهم في الحياة الدنيا، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًّا (5).
__________
(1) “ط”: “النعمة”.
(2) “ك، ط”: “فطلبوا”.
(3) “كخدمة ومال” ساقط من “ك، ط”.
(4) “ك”: “الممالك”. “ط”: “المماليك”، تحريف.
(5) اقتبس من الآية (32) من سورة الزخرف.
(1/129)
فصل
إذا تبيَّن هذا ظهر أنَّ أحدًا من المخلوقين لا يقصد منفعتَك بالقصد الأوَّل، بل إنَّما يقصد منفعته بك، وقد يكون عليك في ذلك ضرر إذا لم يراع المحب العدلَ، فإذا دعوتَه فقد دعوتَ من ضرُّه أقربُ من نفعه. وأمَّا الربُّ تبارك وتعالى فهو يريدك لك ولمنفعتك لا لينتفع بك، وذلك منفعة لك محضة لا ضرر فيها.
فتدبَّرْ هذا حقَّ التدبُّر وراعِه حق المراعاة، فملاحظتُه تمنعك أن ترجو المخلوق أو تطلب منه منفعته لك، فإنَّه لا يريد ذلك البتة بالقصد الأوَّل، بل إنما يريد انتفاعه بك عاجلًا أو آجلًا، فهو يريد نفسه لا يريدك، ويريد نفع نفسه بك لا نفعك بنفسه. فتأمَّل ذلك، فإنَّ فيه منفعةً عظيمةً، وراحة، ويأشا من المخلوقين، وسدًّا (1) لباب عبوديتهم، وفتحًا لباب عبودية اللَّه وحده. فما أعظمَ حظَّ من عرفَ هذه المسألة ورعاها حقَّ رعايتها!
ولا يحملنَّك هذا على جفوة النَّاس، وترك الإحسان إليهم واحتمال أذاهم، بل أحْسِن إليهم للَّه لا لرجائهم، فكما لا تَخَفْهم فلا ترجُهم (2).
وممَّا يبين ذلك أنَّ غالبَ الخلق يطلبون إدراك حاجتهم بك، وإن كان ذلك ضررًا عليك، فإنَّ صاحبَ الحاجة أعمى (3) لا يرى إلا قضاءَها.
__________
(1) “ط”: “سدًّا” دون واو العطف.
(2) كذا في الأصل و”ف”. وفي “ن”: “لم تخفهم”. وفي “ك، ط”: “فكما لا تخافهم لا ترجوهم”.
(3) “أعمى” ساقط من “ط”.
(1/130)
فهم لا يبالون بمضرتك إذا أدركوا منك حاجاتهم (1)، بل لو كان فيها هلاكُ دنياك وآخرتك لم يبالوا بذلك.
وهذا إذا تدبره العاقل علم أنَّه عداوة في صورة صداقة، وأنَّهُ لا أعدى للعاقل اللبيب من هذه العداوة. فهم يريدون أن يُصَيِّروك (2) كالكِير، تنفخ بطنَك وتعصر أضالعَك (3) في نفعهم ومصالحهم، بل لو أبيح لهم أكلُك لجزَرُوك كما يجزُرون الشاة! وكم يذبحونك كلَّ وقت بغير سكين لمصالحهم، وكم اتخذوك جسرًا ومعبرًا لهم إلى أوطارهم وأنت لا تشعر. وكم بعتَ آخرتك بدنياهم وأنت لا تعلم، وربما علمتَ! وكم بعتَ حظَّك من اللَّه بحظوظهم منك، ورُحْتَ صفر اليدين! وكم فوتوا عليك من مصالح الدَّارين، وقطعوك عنها، وحالوا بينك وبينها؛ وقطعوا عليك (4) طريق سفرك إلى منازلك الأولى ودارك التي دُعِيتَ إليها، وقالوا: نحن أحبابك، وخدمك، وشيعتك، وأعوانك، والساعون في مصالحك؛ وكذبوا! واللَّه إنْ هم إلا أعداء (5) في صورة أولياءَ، وحربٌ في صورة مسالمين، وقُطّاع طريق في صورة أعوان. فواغوثاه ثمَّ واغوثاه (6) باللَّه الذي يغيث ولا يغاث!
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ
__________
(1) “ط”: “حاجتهم”.
(2) “ك”: “يضروك”، تحريف.
(3) كتبت الكلمة في الأصل بالظاء، وكذا في “ف”. وفي “ك، ط”: “أضلاعك”، وفي حاشية “ك” إشارة إلى ما في الأصل. وفيها أيضًا: “ينفخ. . . يعصر”.
(4) “عليك” ساقط من “ك، ط”.
(5) “ك، ط”: “إنهم لأعداء”.
(6) “ثم واغوثاه” سقط من “ط” واستدرك في القطرية.
(1/131)
فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن/ 14].
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)} [المنافقون/ 9].
فالسعيد الرابح من عامل اللَّه فيهم، ولم يعاملهم في اللَّه. وخاف اللَّه فيهم، ولم يخفهم في اللَّه؛ وأرضى اللَّه بسخطهم، ولم يُرضِهم بسخط اللَّه. وراقب اللَّه فيهم، ولم يراقبهم في اللَّه؛ وآثرَ اللَّه عليهم، ولم يؤثرهم على اللَّه. وأماتَ خوفهم ورجاءهم وحبهم من قلبه، وأحيا حب اللَّه وخوفَه ورجاءَه فيه. فهذا (1) هو الذي يكتَب عليهم، وتكون معاملته لهم كلُّها ربحًا، بشرط أن يصبر على أذاهم، ويتخذه مغنمًا لا مغرمًا، وربحًا لا خسرانًا.
وممَّا يوضح الأمر أن الخلقَ لا يقدر أحد منهم أن يدفع عنك مضرة البتة، إلا بإذن اللَّه ومشيئته وقضائه وقدره. فهو في الحقيقة الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو ولا يذهب بالسيئات إلا هو: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس/ 107].
قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لعبد اللَّه بن عباس: “واعلم أنَّ الخليقة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيءٍ كتبه اللَّه لك، ولو اجتمعوا على أن يضرّوك لم يضروك إلا بشيءٍ كتبه اللَّه عليك” (2).
__________
(1) “ن”: “وهذا”.
(2) أخرجه أحمد (2669)، والترمذي (2516). والحديث صححه الترمذي وابن رجب. وأشار العقيلي إلى لين أسانيده عن ابن عباس. انظر: الضعفاء للعقيلي (3/ 54)، وجامع العلوم والحكم (1/ 462) (ز).
(1/132)
وإذا كانت هذه حال الخليقة، فتعليق الخوف والرجاء بهم ضارّ غير نافع (1).
فصل
وجِمَاعُ هذا أنَّك إذا كنتَ غيرَ عالمٍ بمصلحتك، ولا قادرٍ عليها، ولا مريدٍ لها كما ينبغي، فغيرك أولى أن لا يكون عالمًا بمصلحتك، ولا قادرًا عليها، ولا مريدًا لها. واللَّه سبحانه هو يعلم ولا تعلم، ويقدر ولا تقدر، ويعطيك من فضله (2) لا لمعاوضة ولا لمنفعة يرجوها منك، ولا لِتكثُر بك، ولا لِتعزز بك؛ ولا يخاف الفقر، ولا تنقص خزائنه على سعة الإنفاق. ولا يحبس فضلَه عنك لحاجةٍ منه إليه (3) واستغناءً به (4)، بحيث إذا أخرجه أثَّر ذلك في غناه.
وهو يحب الجود والبذل والعطاءَ والإحسان أعظمَ ممَّا تحبّ أنت الأخذ والانتفاع بما سألته، فإذا حبسه عنك فاعلم أنَّ هناك أمرَين لا ثالث لهما:
أحدهما: أن تكون أنت الواقف في طريق مصالحك، وأنت المعوّق لوصول فضله إليك، وأنت حجر في طريق نفسك. وهذا الأمر (5) هو الأغلبُ على الخليقة، فإنَّ اللَّه سبحانه قضى فيما قضَى به أنَّ ما عنده
__________
(1) بعده في “ك، ط”: “واللَّه أعلم”.
(2) انتهى هنا ما نقله المصنف من كلام شيخه مع بسطه، انظر: مجموع الفتاوى (1/ 33).
(3) “ك، ط”: “إليك”.
(4) “ن، ك، ط”: “استغنائه”، تحريف.
(5) “الأمر” ساقط من “ك، ط”.
(1/133)
لا يُنال إلا بطاعته، وأنَّه ما استُجلِبتْ نِعَمُ اللَّه بغير طاعته، ولا استُديمتْ بغير شكره، ولا عُوِّقتْ وامتنعتْ بغير معصيته. وكذلك إذا أنعمَ عليك ثمَّ سلبك النعمة فإنه لم يسلبها لبخل منه ولا استئثار بها عليك، وإنَّما أنت السبب (1) في سلبها عنك، فإنَّ اللَّه لا يغيِّر ما بقومٍ حتَّى يغيروا ما بأنفسهم.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)} [الأنفال/ 53].
فما أُزيلت نعمُ اللَّه بغير معصيته: (2)
إذا كنتَ في نعمةٍ فارْعَهَا … فإنَّ الذنوبَ تُزيلُ النِّعَمْ (3)
فآفتُك من نفسك، وبلاؤك منك (4)، وأنت في الحقيقة الذي بالغتَ في عداوتك، وبلغتَ من معاداة نفسك ما لا يبلغ العدوُّ منك، كما قيل:
ما يبلغُ الأعداءُ من جَاهلٍ … ما يبلغُ الجاهلُ من نفسِهِ (5)
__________
(1) “ك”: “المتسبب”، “ط”: “المسبب”.
(2) زاد في “ك”: “شعر”.
(3) من ثمانية أبيات ذكرها المؤلف في الداء والدواء (119)، وهذا البيت وحده في بدائع الفوائد (712) وسيأتي مرة أخرى في كتابنا ص (582). وفي “ك، ط”: “فإنَّ المعاصي”. وقد نقل ابن عساكر في تاريخ دمشق (54/ 70) بسنده أن عمر بن عبد العزيز كان يتمثل بهذا البيت وبيت آخر بعده:
ولا تحقرن صغير الذنوب … فإن الإله شديد النقمْ
وانظر أيضًا: تاريخ دمشق (51/ 103).
(4) “ك، ط”: “من نفسك”.
(5) ذكره المصنف في الداء والدواء (159)، والمدارج (1/ 264)، والمفتاح =
(1/134)
ومن العجب أنَّ هذا شأنك مع نفسك، وأنت تشكو المحسن البريء عن الشكاية، وتتهم أقداره وتعاتبها (1) وتلومها! فقد ضيعت فرصتك، وفرَّطت في حظك، وعجز رأيك عن معرفة أسباب سعادتك وإرادتها، ثمَ قعدتَ تعاتب القدرَ بلسان الحال والقال! فأنت المعنيّ بقول القائل:
وعاجزُ الرَّأي مِضياعٌ لِفرصته … حتَّى إذا فاتَ أمرٌ عاتَبَ القَدَرا (2)
ولو شعرتَ بدائك (3)، وعلمتَ من أين دُهِيتَ ومن أين أُصِبتَ، لأمكنك تداركُ ذلك. ولكن قد فسدت الفطرة، وانتكس القلب، وأطفأ الهوى مصابيح العلم والإيمان منه، فأعرضتَ عمَّن أصلُ بلائك ومصيبتك منه، وأقبلتَ تشكو مَنْ كلُّ إحسان دقيق أو جليل وصل إليك فمنه. فإذا شكوته إلى خلقه كنتَ كما قال بعض العارفين، وقد رأى رجلًا يشكو إلى آخر ما أصابه ونزل به (4): يا هذا تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك!
وإذا عَرَتْكَ مصيبةٌ فاصْبِرْ لها … صبرَ الكريمِ فإنَّهُ بك أرحَمُ (5)
__________
= (3/ 38)، والبدائع (1188). وهو لصالح بن عبد القدوس. انظر: التمثيل والمحاضرة (77)، والحماسة البصرية (874).
(1) “ط”: “تعانيها”، تصحيف.
(2) تمثل به المصنف في الروح (29)، والفوائد (181). وقد أنشده الجاحظ في البيان (2/ 350)، ونسب في المنتخل (1/ 463) إلى الخليل بن أحمد.
(3) “ك، ط”: “برأيك”، تحريف.
(4) زاد في “ط” بعد “به”: “فقال”.
(5) “ط”: “وإذا أتتك”.
(1/135)
وإذا شكوتَ إلى ابنِ آدمَ إنَّما … تشكو الرحيمَ إلى الذي لا يرحمُ (1)
وإذا علمَ العبدُ حقيقة الأمر، وعرف من أين أُتِيَ، ومن أيِّ الطرقِ أُغيرَ على سَرْحه (2)، ومن أي ثَغرَة سُرِقَ متاعُه وسُلِبَ = استحيا من نفسه -إن لم يستحي من اللَّه- أن يشكوَ أحدًا من خلقه، أو يتظلَّمهم، أو يرى مصيبته وآفته (3) من غيره.
قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى/ 30].
وقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران/ 165].
هذا، ومن المخاطب بهذا الخطاب؟ (4) وقال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء/ 79].
__________
(1) قول العارف مع البيتين في المدارج (2: 192). ونسب البيتان في الكشكول (1: 74) إلى الإمام زين العابدين -مع اختلاف في الألفاظ- والبيت الثاني مع آخر في عيون الأخبار (2/ 260).
(2) السرح: الماشية الراعية.
(3) “ف”: “وافية”، تحريف.
(4) “هذا. . . الخطاب” كذا في الأصل وغيره، وهو ساقط من “ط”.
(1/136)
[الاحتجاج بالقدر، والنصوص الواردة في إثباته]فإن أصررتَ (1) على اتهام القدر، وقلتَ: فالسببُ الذي أُصِبتُ به (2)، وأُتيتُ منه، ودُهيتُ منه، قد سبقَ به القدرُ والحكمُ، وكان في الكتاب مسطورًا، فلا بُد منه على الرغم منِّي. وكيف لي أن أنفكَّ منه، وقد أُودع الكتابَ الأوَّل قبل بدءِ الخليقة، والكتابَ الثاني قبل خروجي إلى هذا العالم، وأنا في ظلمات الأحشاءِ، حين أُمر الملَكُ بكَتْب الرزق والأجل والسعادة والشقاوة؛ فلو جريتُ إلى سعادتي ما جريتُ حتَّى بقيَ بيني وبينها شِبْرٌ لغلَب عليَّ الكتابُ، فأدركتني الشقاوة. فما حيلةُ من قلبُه بيدِ غيرِه، يقفبه كيف يشاءُ، ويصرّفه كيف أراد؛ إن شاءَ أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يُزيغه أزاغه. فهو (3) الذي يحول بين المرءِ وقلبه، وهو الذي يثبِّت قلبَ العبد إذا شاءَ، ويُزلزله إذا شاء، فالقلب مربوب مقهور تحت سلطانه لا يتحرك إلا بإذنه ومشيئته.
قال أعلمُ الخلق بربِّه صلوات اللَّه وسلامه عليه: “ما من قلب إلا وهو بين إصبَعين من أصابع الرحمن، إن شاءَ أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه”، ثمَ قال: “اللَّهم مقلِّبَ القلوب ثبِّت قلوبَنا على دينك” (4) وكانت (5) أكثر يمينه: “لا، ومقلِّبِ القلوب” (6).
__________
(1) سيأتي جواب هذا الشرط، والرد على الاحتجاج بالقدر في ص (177).
(2) “ط”: “منه”.
(3) هذه قراءة “ن”. وفي “ف” وغيرها: “وهو”.
(4) تقدم تخريجه في ص (17).
(5) “ك، ط”: “كان”.
(6) أخرجه البخاري في كتاب القدر (6617) من حديث عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما.
(1/137)
وقال بعض السلف: “مثل القلب مثل ريشة في أرض فلاة تقلِّبها الرياح ظهرًا لبطن” (1).
فما حيلةُ قلب هو بيد مقلبه ومصرفه، وهل له مشيئة بدون مشيئته؟ كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير/ 29].
وروى (2) عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعد قال: تلا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قوله عزَّ وجلَّ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد/ 24] وغلامٌ جالسٌ عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: بلى، واللَّه يا رسول اللَّه، إنَّ عليها لأقفالها، ولا يفتحُها إلا الذي أقفلها. فلمَّا وُلِّيَ عمرُ بن الخطَّاب طلَبه ليستعمله وقال: “لم يقل ذلك إلا من عقل” (3).
وقال طاووس: “أدركتُ ثلاثمائة من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولون: كل شيء بقدر” (4).
__________
(1) أخرجه ابن الجعد في مسنده (1499) ومسدّد في مسنده (1/ 60 مصباح الزجاجة). وذكره أحمد في المسند (19757) وغيرهم عن أبي موسى موقوفًا. وقد اختلف في رفعه ووقفه، والموقوف هو الصواب. وقد روى معناه عن أبي عبيدة رضي اللَّه عنه أبو نعيم في الحلية (1/ 102) وغيره، وفيه انقطاع. (ز).
(2) “ط”: “وروي عن”.
(3) أخرجه الدارقطني في الأفراد كما في أطراف الغرائب والأفراد (3/ 98) (2146)، والبيهقي في القضاء والقدر (386). قال الدارقطني: “غريب من حديثه، عن سهل (يعني أبا حازم)، تفرد به ذؤيب بن عمامة، عن عبد العزيز، عن أبيه”. (ز).
(4) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (535، 661). وسيأتي بلفظ آخر في ص (146).
(1/138)
وقال أيوب السَّخْتِياني: “أدركتُ الناسَ، وما كلامهم إلا: إن قُضِي، إن قُدِّرَ” (1).
وقال عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)} [الجاثية/ 29] قال: “كتب اللَّه أعمال بني آدم وما هم عاملون إلى يوم القيامة”. قال: “والملائكة تستنسخ ما يعمل بنو آدم يومًا بيوم، فذلك قوله: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)} [الجاثية/ 29] ” (2).
وفي الآية قول آخر: إن استنساخ الملائكة هو كتابتهم لما يعمل بنو آدم بعد أن يعملوه (3).
وقد يُقال وهو الأظهر: إنَّ الآية تعمُ الأمرَين، فيأمر اللَّه ملائكته فتنسخ (4) من أم الكتاب أعمالَ بني آدم، ثمَ يكتبونها عليهم إذا عملوها، فلا تزيد على ما نسخوه من أم الكتاب ذرةً ولا تنقصها (5).
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر/ 49]: “خلَق اللَّه الخلقَ كلَّهم بقدر، وخلق الخير والشر؛ فخير الخير السعادة، وشر الشر الشقاوة” (6).
وفي صحيح مسلم عن أبي الأسود الدِّيلي (7) قال: قال لي عمران بن
__________
(1) أخرجه البيهقي في القضاء والقدر (213)، وسنده صحيح. (ز).
(2) تفسير الطبري (25/ 156).
(3) المصدر السابق، زاد المسير (7/ 365).
(4) “ك، ط”: “فتستنسخ”.
(5) وانظر: شفاء العليل (54).
(6) تفسير الطبري (27/ 111).
(7) “ط”: “الدؤلي”. وهكذا يقول البصريون. وكان ابن إسحاق وأبو عبيد وابن =
(1/139)
حصين: أرأيتَ ما يعمل الناس اليوم ويكدحون، أشيء قُضي عليهم ومضى عليهم من قدرٍ قد سبق، أو فيما يستقبلون ممَّا أتاهم به نبيهم وثبتت به الحجة؟ قال قلتُ: لا، بل فيما قضي عليهم ومضى. قال: أفيكون ذلك ظلمًا؟ قال: ففزعتُ فزعًا شديدًا وقلتُ: إنه ليس شيء إلا خلقه وملكه، ولا يُسأل عمَّا يفعل، وهم يُسْألَون. فقال: سددك اللَّه، إنما سألتك لأحزر (1) عقلك. إنَّ رجلًا من مُزينة -أو جهينة- أتى النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا رسول اللَّه، أرأيت ما يعمل النَّاس ويتكادحون فيه، أشيءٌ قضي عليهم ومضى، أو فيما يستقبلون ممَّا أتاهم به نبيُّهم؟ قال: “فيما قضي عليهم ومضى”. فقال الرجل: ففيم العمل؟ قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “من كان خلقه اللَّه لإحدى المنزلتين فسيستعمله لها. وتصديقُ ذلك في كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس/ 7، 8] (2).
وقال مجاهد في قوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة/ 30]. قال: علِم من إبليس المعصية وخلقه لها (3).
وقال تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف/ 30]،
__________
= حبيب يقولون: “الديلي”، كما جاء في الأصل وغيره. انظر: تقييد المهمل (1/ 249 – 251) وفرحة الأديب (35).
(1) أي لأمتحن عقلك، وأصل الحزر: التقدير والخرص. وفي “ط”: “لأحرز”، تصحيف.
(2) أخرجه مسلم في كتاب القدر (2650).
(3) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 65) (36) والطبري في تفسيره (1/ 477)، وسنده صحيح (ز).
(1/140)
قال ابن عباس: إنَّ اللَّه سبحانه بدأ خلقَ ابن آدم (1) مؤمنًا وكافرًا، ثم قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن/ 2]، ثمَّ يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقَهم: مؤمنٌ وكافرٌ (2).
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {أنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال/ 24] قال: يحول بين المؤمن والكفر ومعاصي اللَّه، ويحول بين الكافر وبين الإيمان (3) وطاعة اللَّه (4).
وقال ابن عباس ومالك وجماعة مني السلف في قوله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود/ 118، 119] قالوا: خلق أهلَ الرحمة للرحمة، وأهل الاختلاف للاختلاف (5).
وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة/ 253]، {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة/ 13]، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس/ 99]، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام/ 35]، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام/ 112].
وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} [الأعراف/ 37]، أي نصيبهم ممَّا كتب لهم (6).
__________
(1) “ط”: “خلق آدم”، وصحح في القطرية.
(2) أخرجه الطبري في تفسيره (12/ 382). وفيه: “مؤمنًا وكافرًا”. وسنده حسن. (ز).
(3) “بين” لم يرد في “ك، ط”.
(4) أخرجه الطبري في تفسيره (13/ 468).
(5) انظر تفسير الطبري (15/ 535 – 536).
(6) تفسير الطبري (12/ 413).
(1/141)
وقال: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200)} [الشعراء/ 200]، قال الحسن وغيره: الشرك والتكذيب (1).
وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)} [المطففين/ 7]، قال محمد بن كعب القُرَظي: رقم اللَّه عزَّ وجلَّ كتاب الفجار في أسفل الأرض، فهم عاملون بما قد رُقِمَ في ذلك الكتاب. ورقم كتابَ الأبرار، فجعله في عليّين، فهم يؤتى بهم حتى يعملوا ما قد رُقِمَ عليهم في ذلك الكتاب (2).
وقال ابن عباس: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد/ 1]: بما جرى من القلم في اللوح المحفوظ (3).
وقال مجاهد في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} [يس/ 9] قال: “عن الحق” (4). وفي قوله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الإسراء/ 46] قال: “كالجَعْبة فيها السهام” (5).
وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية/ 23]، قال: “أضلَّه في سابق علمه” (6). وقال في قوله حكاية عن عدوه إبليس
__________
(1) تفسير الطبري (19/ 115).
(2) أخرجه البيهقي في القضاء والقدر (534)، وسنده حسن (ز).
(3) أخرجه البيهقي في القضاء والقدر (491) بسند صحيح، ولفظه: “أوَّل ما خلق اللَّه القلم وأمره أن يكتب ما هو كائن، فكتب فيما كتبَ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} (ز).
(4) تفسير الطبري (22/ 152).
(5) تفسير الطبري (24/ 91).
(6) تفسير الطبري (25/ 151).
(1/142)
{فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الأعراف/ 16] قال: “أضللتني” (1).
وقال في قوله: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)} [الصافات/ 162، 163] قال: “من قضيتُ له أنَّه صالي الجحيم” (2).
وقال عمر بن عبد العزيز: لو أراد اللَّه أن لا يعصى لم يخلق إبليس، وقد فصَّل لكم وبين لكم: ما أنتم عليه بفاتنين إلا من قدِّر له (3) أن يصلى الجحيم (4).
وقال وُهَيب بن خالد: حدثنا خالد قال: قلتُ للحسن: ألهذه خلق آدم -يعني السماء- أم للأرض؟ فقال: “لا بل للأرض”. قال: قلتُ: أرأيتَ لو اعتصمَ من الخطيئة فلم يعملها، أكان تُرِكَ في الجنة؟ قال: “سبحان اللَّه كان (5) له بد من أن يعملها؟ ” (6).
وقال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَ} [الأنبياء/ 73]، وقال: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص/ 41]، وقال: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)} [الفرقان/ 74]، أي أئمة يُهْتدى بنا، ولا تجعلنا أئمة ضالين يَدعُون إلى النار.
__________
(1) تفسير الطبري (12/ 332).
(2) تفسير الطبري (23/ 109).
(3) “له” ساقط من “ط”.
(4) أخرجه الآجري في الشريعة (230)، والبيهقي في الأسماء والصفات (373) (ز).
(5) “ن، ط”: “أكان”.
(6) أخرجه اللالكائي في أصول الاعتقاد (1006) (ز).
(1/143)
وقال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام/ 28].
وقال: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام/ 110].
وقال: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام/ 111].
وقال زيد بن أسلم: “واللَّه ما قالت القدرية كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ، ولا كما قال رسوله، ولا كما قال أهل الجنة، ولا كما قال أهل النار، ولا كما قال أخوهم إبليس. قال اللَّه عزَّ وجلَّ: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان/ 30، التكوير/ 29]، وقالت الملائكة: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة/ 32]، وقال شعيب: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأعراف/ 89]، وقال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف/ 43]، وقال أهل النار: {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون/ 106]، وقال أخوهم إبليس: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر/ 39] ” (1).
وقال مجاهد في قوله عزَّ وجلَّ: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء/ 13] قال: “مكتوب في عنقه شقي أو سعيد” (2).
وقال ابن عباس في قوله: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة/ 41] “يقول: ومن يرد اللَّه ضلالته لم تغنِ عنه شيئًا” (3).
__________
(1) أخرجه اللالكائي (1012) (ز).
(2) نحوه في تفسير الطبري (15/ 51).
(3) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (4/ 1133) (6370، 6371) وسنده حسن (ز).
(1/144)
وذكر الطبري وغيره من حديث سويد بن سعيد (1) عن سوَّار بن مصعب عن أبي حمزة عن مِقسَم عن ابن عباس: صعد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المنبر، فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثمَّ بسط يده اليمنى فقال: “بسم اللَّه الرحمن الرحيم، كتاب من اللَّه الرحمن الرحيم لأهل الجنَّة بأسمائهم، وأسماء آبائهم وقبائلهم وعشائرهم، مجمَلٌ (2) أوَّلُهم على آخرهم، لا ينقَص منهم ولا يُزاد فيهم، فرغ ربكم. وقد يُسلك بأهل السعادة طريق الشقاء حتى يقال: كأنهم هم، بل هم هم، ما أشبههم بهم، بل (3) هم هم، فيردّهم ما سبق لهم من اللَّه من السعادة، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها قبل موته بفَواق ناقة. وقد يُسلك بأهل الشقاء طريق السعادة حتى يقال: كأنهم هم، بل هم هم، ما أشبههم بهم، بل هم هم، فيردّهم ما سبق لهم من اللَّه، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ولو قبل موته بفَواق ناقة. فصاحب الجنَّة مختوم له بعمل أهل الجنَّة وإنْ عمِل عملَ أهل النار، وصاحب النار مختوم له بعمل أهل النار وإنْ عمِل بعمل أهل الجنَّة”. ثمَّ قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “الأعمال بخواتيمها” (4).
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
__________
(1) “ط”: “سعد” خطأ.
(2) “ف”: “فحمل” بالحاء، وأكد ناسخها بوضع حاء صغيرة تحتها، وهو تصحيف. وفي “ك، ط”: “فجمل”، وهي قراءة محتملة. وستأتي الكلمة مرة أخرى في ص (167). جَمَلَ الشيءَ: جمعه عن تفرق. وفي رواية: “أُجمِل على آخرهم” أي أحصوا وجُمعوا. انظر: النهاية (1/ 298).
(3) سقطت “بل” من “ط”. وفي القطرية: “بلى”!
(4) أخرجه اللالكائي (1017). من حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما، وسنده ضعيف جدًّا (ز).
(1/145)
كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)} [البقرة/ 6]، وفي قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام/ 35]، وقوله (1): {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام/ 125]، وفي قوله (2): {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام/ 111]، وقوله (3): {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة/ 13]، وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} (4) [يس/ 8]، وقوله: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف/ 28] ونحو هذا من القرآن: “وإنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يحرص أن يؤمن جميعُ النَّاس ويتابعوه على الهدى، فأخبره اللَّه عزّ وجلّ أنه لا يؤمن إلا من سبق له من اللَّه السعادة في الذكر الأوَّل. ثمَّ قال لنبيه -صلى اللَّه عليه وسلم-: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)} [الشعراء/ 3]، ويقول: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)} [الشعراء/ 4]، ثمَّ قال: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر/ 2]. ويقول: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران/ 128] (5).
وفي صحيح مسلم عن طاوس: أدركتُ ناسًا من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولون: كلُّ شيءٍ بقدر. وسمعت عبد اللَّه بن عمر يقول: قال رسول
__________
(1) “ك، ط”: “وفي قوله”.
(2) “ط”: “وفي قوله تعالى”.
(3) “ط”: “وفي قوله”.
(4) في الأصل وغيره: “وجعلنا”، وهو سهو.
(5) انظر: تفسير الطبري (1/ 252)، والأسماء والصفات (104) للبيهقي، وليس فيها آية فاطر وآية آل عمران.
(1/146)
اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “كل شيء بقدر، حتَّى العَجْز والكَيْس” (1).
وفي صحيح مسلم أيضًا (2) عن عبد اللَّه بن عمرو (3) قال: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “كتب اللَّه مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء” (4).
وفي صحيحه أيضًا عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى اللَّه من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، فاحرصْ على ما ينفعك واستعنْ باللَّه ولا تعجز، وإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أنِّي فعلتُ كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر اللَّهُ وما شاءَ (5) فعل، فإنَّ “لو” تفتح عمل الشيطان” (6).
وفي صحيحه أيضًا عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ النذْرَ لا يُقَدِّرُ لابن آدمَ شيئًا لم يكن اللَّه قدرَه، ولكنِ النذرُ يُوافِقُ القدَر فيُخرِجُ ذلِكَ من البَخيلِ مَا لَمْ يكن يريد أن يُخرجَه” (7).
وفي حديث جبريل وسؤاله للنبي (8) -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الإيمان قال: “الإيمان أن تؤمن باللَّه وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره” (9).
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب القدر (2655).
(2) سقط “أيضًا” من “ك، ط”.
(3) “ك، ط”: “عمر”، خطأ.
(4) كتاب القدر (2653).
(5) “ط”: “ما شاء اللَّه”.
(6) كتاب القدر (2664).
(7) كتاب النذر (1640)، وانظر: صحيح البخاري (6694).
(8) “ك، ط”: “النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-“.
(9) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (8) من حديث عمر رضي اللَّه عنه.
(1/147)
وفي الصحيحين حديث ابن مسعود في التخليق، وفيه: “فوالذي لا إله غيره إنَّ أحدكم ليعملُ بعمل أهل الجنَّة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبق عليه الكتابُ، فيعملُ بعمل أهل النَّارِ، فيدخل النَّار. وإنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النارِ حتَّى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتابُ، فيعمل بعمل أهل الجنَّة، فيدخلها” (1).
ذكر (2) الطبري عن الحسن بن علي الطوسي، حدثنا محمد بن يزيد الأسفاطي البصري محدث البصرة قال: رأيتُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في النوم فقلتُ: يا رسول اللَّه، حديث عبد اللَّه بن مسعود حدَّثني الصادق المصدوق -أعني حديث القدر- فقال: “إي واللَّه الذي لا إله إلا هو حدثتُ به، رحم اللَّه عبد اللَّه بن مسعود حيث حدث به، ورحم اللَّه زيد بن وهب حيث حدَّث به، ورحمَ اللَّه الأعمش حيث حدَّث به، ورحمَ اللَّه من حدَّث به قبل الأعمش، ورحمَ اللَّه من يحدث به بعد الأعمش” (3).
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود: “الشقيُّ من شَقِيَ في بطن أُمِّه، والسعيدُ من وُعِظَ بغيره” (4).
وقد رويَ حديث تقدير السعادة والشقاوة في بطن الأم من حديث عبد اللَّه بن مسعود (5)، وأنس بن مالك (6)، وعبد اللَّه بن
__________
(1) أخرجه البخاري في القدر (6594) وغيره، ومسلم في القدر (2643).
(2) “ن، ط”: “وذكر”.
(3) انظر اللالكائي (1043).
(4) كتاب القدر (2645).
(5) انظر التعليق السابق.
(6) البخاري (6595)، ومسلم (2646).
(1/148)
عمر (1)، وعائشة أم المؤمنين (2)، وحذيفة بن أُسَيد (3)، وأبي هريرة (4).
وقال أبو الحسن علي بن عبيد (5) الحافظ: سمعتُ أبا عبد اللَّه بن أبي خيثمة يقول: سمعت عمرو بن علي الفلاس يقول: انحدرتُ من سُر من رأى إلى بغداد في حاجة لي، فبينما أنا أمشي في بعض الطريق إذا بجُمْجُمةِ قد نخِرت فأخذتُها، فإذا على الجبهة مكتوب: “شقي”، والياء مكسورة إلى خلف! (6) وهؤلاء كلهم أئمة حفاظ، ذكره الطبري في “السنَّة”.
وفي الصحيحين حديث علي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “ما منكم من أحدٍ إلا كُتِبَ مقعده من النار ومقعده من الجنَّة، فقالوا: يا رسول اللَّه، أفلا نتكلُ على كتابنا، وندعُ العمل؟ فقال: “اعملوا فكل ميسَّرٌ لما خُلِقَ له: أما من كان من أهل السعادة فييسَّر لعمل أهل السعادة، وأمَّا من كان من أهل الشقاوة فييسَّر لعمل أهل الشقاوة” ثمَّ قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل/ 5 – 10] (7).
__________
(1) عند ابن وهب في القدر (30) وغيره. وقد اختلف في رفعه ووقفه، والصواب أنَّه موقوف كما في القدر للفريابي (138، 139) والسنة لابن أبي عاصم (188، 190) (ز).
(2) عند اللالكائي (1053)، والآجري فى الشريعة (365)، وهو حديث منكر (ز).
(3) في صحيح مسلم (2644).
(4) عند اللالكائي (1055، 1056) وغيره، وسنده صحيح (ز).
(5) “علي” ساقط من “ط”، واستدرك في القطرية.
(6) اللالكائي (1061) (ز).
(7) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز وغيره (1362، 4945 – 4948)، ومسلم في =
(1/149)
وفي الصحيحين عن عمران بن حصين أنَّ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سُئِلَ: أَعُلِمَ أهلُ الجنة من أهل النارِ؟ قال: “نعم”، قيل له (1): ففيم يعمل العاملون؟ قال: “نعم، كلّ ميسَّر لما خلق له” (2).
وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: دُعِيَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى جنازة غلام من الأنصار، فقلت: يا رسول اللَّه، طوبى لهذا، عصفورٌ من عصافير الجنة، لم يدرك السوءَ ولم يعمله. قال: “أو غيرَ ذلك، إنَّ اللَّه تعالى خلق للجنَّة أهلًا، خلقَهم لها وهم في أصلاب آبائهم. وخلق للنارِ أهلًا، خلقَهم لها وهم في أصلاب آبائهم” (3).
وفي الصحيحين (4) عن ابن عباس عن أبى بن كعب عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “الغلام الذي قتله الخضر طُبع يومَ طُبع كافرًا، ولو عاش لأرهقَ أبوَيه طغيانًا وكفرًا”.
وفي مسند الإمام أحمد عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قال: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “إنَّ اللَّهَ خلقَ الخلقَ في ظلمة، ثمَّ ألقى عليهم من نوره”. وفي لفظ: “فجعلهم في ظلمة واحدة، فأخذ من نوره فألقاه على تلك الظلمة، فمن أصابه النور اهتدى، ومن أخطأه ضل، فلذلك أقولُ:
__________
= القدر (2647).
(1) “له” ساقط من “ك، ط”.
(2) أخرجه البخاري في القدر (6596)، ومسلم في القدر (2649).
(3) كتاب القدر (2662).
(4) كذا عزاه المصنف إلى الصحيحين هنا، وفي تهذيب السنن (12/ 320)، وشفاء العليل (50)، ولكن لم يرد هذا اللفظ إلا في صحيح مسلم في كتاب القدر (2661).
(1/150)
جفَّ القلمُ على علم اللَّه” (1).
وذكر راشد بن سعد عن عبد الرحمن بن أبي قتادة (2) السلَمي سمع (3) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “خلقَ اللَّهُ آدمَ وأخرجَ الخلقَ من ظهره فقال: هؤلاء في الجنَّة ولا أبالي، وهؤلاء في النارِ ولا أُبالي” قال: قيل علامَ (4) نعمل؟ قال: على مواقع القَدَر” (5).
وذكر أبو داود في كتاب القدر عن عبد اللَّه بن مسعود أنَّهُ مرَّ على رجل
__________
(1) أخرجه أحمد (6644)، والترمذي (2642)، وابن حبان (6169، 6170) من حديث عبد اللَّه بن عمرو، وقال الترمذي: “هذا حديث حسن”، وصححه ابن حبان (ز).
(2) “أبي قتادة”: كذا وقع في الأصل وغيره، وكذا نقله المصنف في إسناد آخر “عن إسحاق بن راهويه، أخبرنا بقية بن الوليد قال: أخبرني الزبيدي محمد بن الوليد، عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن أبي قتادة البصري عن أبيه عن هشام بن حكيم بن حزام. . . “. الروح (379)، أحكام أهل الذمة (547)، شفاء العليل (31) (وليس فيه “البصري”). ثمَّ قال في أحكام أهل الذمة (559): “وأبو قتادة البصري، وهو مجهول”. قلت: لم أجد من سمَّى أبا عبد الرحمن: “أبا قتادة” سواء في هذا السند أو السند السابق. فالصحابي المعروف: عبد الرحمن بن قتادة السلمي، كما في طبقات ابن سعد (7/ 417)، والإصابة (4/ 352) وغيرهما. أما “البصري” فهو في مطبوعتي الروح وأحكام أهل الذمة تصحيف “النصري”. وانظر الكلام على نسب الصحابي واضطراب هذا السند في تفسير الطبري (13/ 246 – 248) (حاشية المحقق).
(3) “ط”: “راشد بن سعد عن أبي عبد الرحمن السلمي أنَّ أبا قتادة سمع”!
(4) رسمها في الأصل وغيره: “على ما”. وفي المسند: “على ماذا”.
(5) أخرجه أحمد (17660)، وابن حبان (338)، والحاكم (1/ 31)، وصححاه.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 186): “ورجاله ثقات”. وقد وقع فيه اختلاف كثير، راجع القدر للفريابي (22 – 26) (ز).
(1/151)
فقالوا: هذا هذا. . ونالوا منه. فقال عبد اللَّه: أرأيتم لو قطعتم يده، أكنتم تستطيعون أن تخلقوا له يدًا؟ قالوا: لا، قال: فلو قطعتم رجله، أكنتم تستطيعون أن تخلقوا له رجلًا؟ قالوا: لا (1)، قال: فلو قُطِعَ رأسُه، أكنتم تستطيعون أن تخلقوا له رأسًا؟ قالوا: لا. قال: فكما لا تستطيعون أن تغيروا خَلقَه لا تستطيعون أن تغيروا خُلقه. إنَّ النطفة إذا وقعت في الرحم بعث اللَّه إليه (2) ملَكًا، فيكتب أجله، وعمله، ورزقه، وشقيٌّ أو سعيد (3).
وذكر فيه عن ابن مسعود مرفوعًا: “إنَّما هُما اثنتان: الهدي والكلام. فأحسن الكلام كلام اللَّه، وأحسن الهدي هدي محمد. وشرُّ الأمور محدثاتها، وإنَّ كلَّ بدعةٍ ضلالة، وإنَّ كلَّ ما هو آتٍ قريبٌ. وإنَّ الشقيَّ من شقيَ في بطن أُمِّه، والسعيدُ من وُعِظَ بغيره” (4).
وقال ابن وهب: أخبرني يونس عن ابن شهاب أنَّ عبد الرحمن بن هنيدة (5) حدَّثه أنَّ عبد اللَّه بن عمر (6) قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إذا أرادَ
__________
(1) “قال: فلو قطعتم رجله. . . ” إلى هنا ساقط من “ط”.
(2) “إليه” ساقط من “ط”.
(3) أخرجه الطبراني في الكبير (8884)، والفريابي في القدر (130)، والبيهقي في القضاء والقدر (479) بنحوه. قال الهيثمي في المجمع (7/ 196) “ورجاله ثقات” (ز).
(4) أخرجه ابن ماجه (46) من حديث عبد اللَّه بن مسعود مرفوعًا. وسنده ضعيف، لضعف عبيد بن ميمون، فقد جهله أبو حاتم الرازي كما في تهذيب الكمال (19/ 237) (ز).
(5) في حاشية الأصل: “نسخة: بن أبي هنيدة”، وانظر: تهذيب التهذيب (6/ 291).
(6) في الأصل وغيره: “عمرو”، هو سهو.
(1/152)
اللَّهُ أن يخلق النَّسَمة قال ملَكُ الأرحام مُعرضًا (1): يا ربّ، أذَكَرٌ أم أنثى؟ فيقضي اللَّه أمره. ثمَّ يقول: يا ربّ، أشقيٌّ أم سعيد؟ فيقضي اللَّه أمره. ثمَّ يكتب بين عينيه ما هو لاقٍ حتَّى النكبةَ يُنكبها” (2).
وقال الليث عن عُقَيل (3) عن ابن شهاب: أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال، فذكره سواء. قال الزهري: وحدَّثني عبد الرحمن بن أذينة (4) عن ابن عمر مثل ذلك.
وذكر أبو داود أيضًا عن عائشة ترفعه: “إنَّ اللَّه حينَ يريدُ أن يخلقَ الخلقَ يبعث ملكًا فيدخل على الرحم فيقول: أي رب ماذا؟ فيقول: غلام، أو جارية، أو ما شاء اللَّه أن يخلق في الرحم، فيقول: أي ربّ، أشقي أم سعيد؟ فيقول: شقي، أو سعيد. فيقول: أي رب، ما أجله؟ فيقول كذا وكذا، فيقول: أي رب، ما خلقه؟ فيقول كذا وكذا. قال: [فيقول] (5): يا رب، ما خلائقه؟ فيقول كذا وكذا. قال: “فما من شيءٍ إلا وهو يخلق معه في الرحم” (6).
__________
(1) ضبط في الأصل بتشديد الرَّاء، وفي “ف” بتخفيفها، وفي “ك”: “تعرضا”، و”ط”: “تعرُّفا”.
(2) القدر لابن وهب (30)، وأخرجه معمر في جامعه (20066)، واللالكائي في أصول الاعتقاد (1051) من حديث ابن عمر موقوفًا. وقد اختلف في رفعه ووقفه، والصحيح الموقوف كما تقدم في ص (147) (ز).
(3) “ن”: “وقال أحمد بن عقيل”، تحريف.
(4) قال ابن حجر: “صوابه: ابن هنيدة، قاله جماعة عن الزهري، وتفرد به هارون بن محمد عن الليث عن عقيل عنه بقوله: ابن أذينة”. تهذيب التهذيب (6/ 135).
(5) ما بين الحاصرتين من “ك، ط”.
(6) أخرجه اللالكائي (1053)، وهو حديث منكر كما تقدم في ص (149). =
(1/153)
وذكر ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن بكر بن سوادة، عن أبي تميم الجيشاني، عن أبي ذر أنَّ المنيّ إذا مكث في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس فعرَج به إلى الرب تعالى في راحته فيقول: يا رب، عبدك ذَكَر أم أنثى؟ فيقضي اللَّه ما هو قاض. أشقي أم سعيد؟ فيكتب ما هو لاقٍ بين عينيه. قال أبو تميم: وزاد (1) أبو ذر من فاتحة سورة التغابن خمس آيات (2).
وقال ابن وهب: أخبرني ابن لهيعة، عن كعب بن علقمة، عن عيسى ابن هلال، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص أنه قال: إذا مكثت النطفةُ في رحم المرأة أربعين يومًا جاءَها مَلَك، فاختلجها (3)، ثمَّ عرَجَ بها إلى الرحمن عز وجل فقال: اخلُق يا أحسن الخالقين، فيقضي اللَّه فيها بما يشاء من أمره، ثمَّ تدفع (4) إلى الملَك، فيسأل الملَك عن ذلك، فيقول: يا ربّ، سِقْط أم تِمّ؟ فيبيّن له، ثمَّ يقول: يا ربّ، واحد أو توأم؟ فيبين له، ثمَّ يقول: يا رب، أذكر أم أنثى؟ فيبين له، فيقول: يا ربّ، أناقص الأجل أم تامّ الأجل؟ فيبيّن له (5)، ثمَّ يقول: يا ربّ، أشقيٌّ أم سعيد؟ فيبين له، ثمَّ يقول: يا ربّ، اقطع رزقَه مع خلقِه، فيهبط بهما جميعًا. فوالذي
__________
= انظر: الكامل لابن عدي (3/ 227) (ز).
(1) “ط”: “وقرأ”.
(2) أخرجه ابن وهب في القدر (36) من حديث أبي ذر مرفوعًا، والفريابي في القدر موقوفًا. والحديث مداره على ابن لهيعة، وهو ضعيف، وهذا الاضطراب منه. راجع الفوائد المجموعة للشوكاني مع تعليق المعلمي (451) (ز).
(3) يعني: انتزعها.
(4) هذه قراءة “ن”، وكذا في القدر لابن وهب. وفي “ف” وغيرها: “يدفع”.
(5) “ك، ط”: “له ذلك”.
(1/154)
نفسي بيده ما ينال من الدنيا إلا ما قُسِمَ له، فإذا أكل رزقه قُبِضَ” (1).
وفي صحيح مسلم (2): عن حذيفة بن أُسيد يبلغ به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة فيقول: يا رب، أشقي أم سعيد؟ فيكتبان، فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيكتبان، ويكتب عمله وأثره ورزقه، ثم تطوى الصحف، فلا يزاد فيها ولا ينقص”.
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك -ورفع الحديث- قال: “إن اللَّه وكّل بالرحم ملكًا فيقول: أي ربّ نطفة، أي ربّ علقة، أي رب مضغة. فإذا أراد اللَّه أن يقضي خلقًا قال الملك: أي ربّ، ذكر أو أنثى، شقي أو سعيد، فما الرزق، فما الأجل؟ فيكتب ذلك في بطن أمه” (3).
وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إن أحدكم يُجمَع خلقُه في بطن أمه أربعين يومًا ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم ينفخ فيه الروح، ويبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد” (4).
ففي (5) حديث ابن مسعود أنّ هذا التقدير وهذه الكتابة في الطور
__________
(1) أخرجه ابن وهب في القدر (45)، والفريابي في القدر (145). وحسَّنه الحافظ في الفتح (11/ 479). قلتُ: فيه ابن لهيعة ضعيف الحديث. وعيسى بن هلال مجهول (ز).
(2) كتاب القدر (2644).
(3) أخرجه البخاري في القدر (6595) وغيره، ومسلم في القدر (2646).
(4) أخرجه البخاري في القدر (6594)، وغيره، ومسلم في القدر (2643).
(5) “ك، ط”: “وفي”.
(1/155)
الرابع من أطوار التخليق عند نفخ الروح فيه، وفي الأحاديث التي ذكرت (1) آنفًا أنّ ذلك في الأربعين الأولى قبل كونه علقةً ومضغةً، وفي رواية صحيحة (2): “إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلةً بعث اللَّه إليها ملكًا فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها” (3)، وفي رواية (4): أنّ ذلك يكون في بضع وأربعين ليلة (5).
فصل
الجمع بين هذه الروايات أنّ للملَك ملازمةً ومراعاةً لِحال (6) النطفة، وأنّه يقول: ياربّ هذه نطفة، هذه علقة، هذه مضغة، في أوقاتها. فكلّ وقت يقول فيه ما صارت إليه بأمر اللَّه تعالى، وهو أعلم بها منه (7).
ولِكلام الملَك وتصرُّفِه أوقاتٌ: أحدها حين يخلقها (8) اللَّه نطفةً ثم ينقلها علقةً، وهو أول أوقات علمِ الملك بأنه ولد، لأنه ليس كلّ نطفة تصير ولدًا، وذلك بعد الأربعين الأولى في أول الطور الثاني. ولهذا -واللَّه أعلم- وقعت الإشارة إليه في أول سورة أنزلها على رسوله {اقْرَأْ
__________
(1) “ك، ط”: “ذكرت أيضًا”.
(2) “ن”: “وفي حديث صحيح”.
(3) أخرجه مسلم في القدر (2645) من حديث حذيفة بن أسيد.
(4) في صحيح مسلم أيضًا. انظر الموضع السابق.
(5) زاد في “ك، ط”: “واللَّه أعلم”.
(6) “ك، ط”: “بحال”.
(7) “منه” ساقط من “ك، ط”.
(8) “ك، ط”: “بكلام الملك، فتصرفه في أوقات. . “. “ف”: “بكلام الملك، فيصرفه أوقات أخذها حتى يخلقها”. والصواب ما أثبتنا من الأصل. وكذا في “ن” إلا أنَّ فيها: “حين يجعلها”، وهو تحريف.
(1/156)
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)} [العلق/ 1 – 2] إذ خلقُه من علقة هو أول مبدأ الإنسانية، وحينئذ يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقاوته وسعادته.
ثمّ للملك فيه تصرف آخر في وقت آخر، وهو تصويره وتخليق سمعه وبصره وجلده وعظمه ولحمه وذكوريته وأنوثيته. وهذا إنّما يكون في الأربعين الثالثة قبل نفخ الروح فيه، لأن (1) نفخ الروح لا يكون إلا بعد تمام تصويره.
فههنا تقديران وكتابتان (2):
التقدير الأول عند ابتداءِ تعلّق (3) التخليق في النطفة، وهو إذا مضى عليها أربعون، ودخلت في طور العلقة، ولهذا في إحدى الروايات: “إذا مرّ بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة”.
والتقدير الثاني والكتابة الثانية إذا (4) كمل تصويره وتخليقه وتقدير أعضائه وكونه ذكرًا أو أُنثى.
فالتقدير الأول تقدير لما يكون للنطفة بعد الأربعين، والتقدير الثاني تقدير لما يكون للجنين بعد تصويره.
ثم إذا وُلِد قُدّر مع ولادته كلَّ سنة ما يلقاه في تلك السنة، وهو ما يقدَّر ليلة القدر من العام إلى العام. فهذا التقدير أخصّ من التقدير
__________
(1) “ك، ط”: “فيها فإن”.
(2) “ط”: “كتابان”.
(3) “ك، ط”: “تعليق”.
(4) “ك، ط”: “الثاني الكتابة إذا”.
(1/157)
الثاني، والثاني أخصّ من الأول.
ونظير هذا أيضًا أنّ اللَّه سبحانه قدّر مقاديَر الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم قدّر مقادير هذا الخلق حين خلقه وأوجده (1)، ثم يقدّر كلّ سنة في ليلة القدر ما يكون في ذلك العام.
وهكذا تقدير أمر النطفة وشأنها يقع بعد تعلّقها بالرحم، وبعد كمال تصوير الجنين، وقد تقدّم ذلك (2) تقديرُ شأنها قبل خلق السموات والأرض، فهو تقدير بعد تقدير.
ونظير هذا أيضًا رفعُ الأعمال وعرضُها على اللَّه، فإنّ عمل العام يُرفَع في شعبان، كما أخبر به الصادق المصدوق أنه شهر ترفع فيه الأعمال، قال: “فأحب أن يُرفع عملي وأنا صائم” (3). ويُعرض عملُ الأسبوع يوم الاثنين والخميس، كما ثبت ذلك عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (4). ويُعْرَض عملُ اليوم في آخره والليلة في آخرها، كما في حديث أبي موسى الذي رواه البخاري (5) عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أنَّ اللَّه لا ينامُ ولا ينبغي له أن ينام، يخفض
__________
(1) “ك، ط”: “خلقهم وأوجدهم”.
(2) “ط”: “تقدم ذكر تقدير”، خطأ.
(3) أخرجه أحمد (21753)، والنسائي (2357) واللفظ له، من حديث أسامة بن زيد رضي اللَّه عنهما، وسنده حسن (ز).
(4) أخرجه أحمد (21753، 21781)، وأبو داود (2436)، والنسائي في الكبرى (2781، 2782) من حديث أسامة بن زيد، وسنده لا بأس به. وله طريق آخر عن أسامة عند ابن خزيمة (2119) (ز).
(5) وكذا في روضة المحبين (565). وفي تهذيب السنن (13/ 24) عزاه إلى الصحيحين، وهو سهو. فإنما أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (179).
(1/158)
القسط ويرفعه، يُرفَع إليه عملُ الليل قبل النهار وعملُ النهار قبل الليل”.
فهذا الرفع والعرض اليومي أخص من العرض يوم الاثنين والخميس، والعرضُ فيهما (1) أخص من العرض في شعبان، ثمَّ إذا انقضى الأجلُ رُفِعَ العمل كله، وعُرِضَ على اللَّه، وطويت الصحف، وهذا عرضٌ آخر.
وهذه المسائل العظيمة القدرِ هي من أهم مسائل الإيمان بالقدر، فصلوات اللَّه وسلامه على كاشف الغمّة وهادي الأمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-.
فإنْ قيل: فما (2) تقولون في قوله: “إذا مرَّ بالنطفة ثنتان وأربعون ليلةً بعث اللَّه إليها ملكًا فصوَّرها وخلق سمعها وبصرها وجِلْدها ولَحْمها (3) وعظمها ثمَّ قال: يا ربّ أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شَاء، ويكتب الملك، ثمَّ يقول: يا ربّ أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك”. وهذه بعض ألفاظ مسلم في الحديث. وهذا يوافق الرواية الأخرى “يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة (4) وأربعين ليلة، فيقول: يا رب أشقي أم سعيد (5)؟ “، ويوافق الرواية الأخرى: “إنَّ النطفة تقع في الرحم أربعين ليلةً ثمَّ يتسور عليها الملك”. وهذا يدل على أن تصويرها عقيب الأربعين الأولى.
__________
(1) “ط”: “فيها”، خطأ.
(2) “ك، ط”: “ما”.
(3) “ف”: “ومخها”، خلاف الأصل.
(4) كذا في الأصل وغيره، وفي “ط”: “خمس”.
(5) “ط”: “أو سعيد”.
(1/159)
قيل: لا ريب أنَّ التصوير المحسوس وخلق الجلد والعظم واللحم إنما يقع في الأربعين الثالثة، لا يقع عقيب الأولى، هذا أمرٌ معلوم بالضرورة، فإمَّا أن يكون المراد بالأربعين في هذه الألفاظ الأربعين الثالثة، وسمَّى المضغة فيها نطفةً اعتبارًا بأوَّل أحوالها وما كانت عليه. أو يكون المراد بها الأربعين الأولى، وسمَّى كتابةَ تصويرها وتخليقها (1) وتقديرَه تخليقًا اعتبارًا بما يؤول؛ فيكون قوله “صورها وخلق سمعها وبصرها” أي قدَّر ذلك وكتبه وأعلم به، ثمَّ يفعله (2) بعد الأربعين الثالثة.
أو يكون المراد به (3) الأربعين الأولى وحقيقة التصوير فيها، فيتعين حمله على تصوير خفي لا يدركه إحساس البشر. فإنَّ النطفة إذا جاوزت الأربعين انتقلت علقة، وحينئذٍ يكون أول مبدأ التخليق، فيكون مع هذا المبدأ مبدأ التصوير الخفي الذي لا يناله الحس. ثم إذا مضت الأربعون الثالثة صُورت التصويرَ المحسوس المشاهد.
فأحد التقديرات الثلاثة متعيِّن (4)، ولا بُدَّ؛ ولا يجوز غير هذا البتة، إذ العلقة لا سمع فيها ولا بصر ولا جلد ولا عظم. وهذا التقدير الثالث أليق بألفاظ الحديث وأشبه وأدل على القدرة (5)، واللَّه أعلم بمراد رسوله. غير أنَّا لا نشك أن التخليق المشاهد والتقسيم إلى الجلد والعظم
__________
(1) “ط”: “تصويره وتقديره”، وفيه سقط وتحريف.
(2) “ك، ط”: “يفعله به”. “ن”: “ثم يكون ذلك”.
(3) “ط”: “به أي الأربعين”. “ك”: “به أي بالأربعين المراد به الأربعين الأولى حقيقة”.
(4) “ط”: “يتعين”.
(5) “ك، ط”: “القدر”.
(1/160)
واللحم إنَّما يكون بعد الأربعين الثالثة. والمقصود أنَّ كتابة الشقاوة والسعادة وما هو لاقٍ، عند أوَّل تخليقه.
ويحتمل وجهًا رابعًا وهو أنَّ النطفة في الأربعين الأولى لا يُتعرَّض إليها ولا يُعتنى بشأنها (1)، فإذا جاوزتها وقعتْ في أطوار التخليق طَورًا بعد طَور، ووقع حينئذٍ التقدير والكتابة. فحديث ابن مسعود صريحٌ بأن وقوع ذلك بعد الطور الثالث عند تمام كونها مضغة، وحديث حذيفة بن أُسَيد وغيره من الأحاديث المذكورة إنَّما فيه وقوع ذلك بعد الأربعين، ولم يوقِّت فيها البَعدية (2) بل أطلقها، وقد قيدها ووقَّتها في حديث ابن مسعود، والمطلق في مثل هذا يحمل على المقيد بلا ريب. فأخبر بما يكون للنطفة (3) بعد الطور الأوَّل من تفاصيل شأنها وتخليقها، وما يقدر لها وعليها، وذلك يقع في أوقات متعددة، وكلّه بعد الأربعين الأولى، وبعضه متقدم على بعض؛ كما أنَّ كونها علقةً متقدم (4) على كونها مضغةً، وكونها مضغة متقدِّم (5) على تصويرها، والتصوير متقدم على نفخ الروح، ومع (6) ذلك فيصح أن يقال: إنَّ النطفة بعد الأربعين تكون علقة ومضغة، ويصوَّر خلقُها، وتركَّب فيها العظام والجلد، ويشق لها السمع والبصر، وينفخ فيها الروح، ويكتب شقاوتها وسعادتها. وهذا لا يقتضي وقوع ذلك كله عقيب الأربعين الأولى من غير فصل.
__________
(1) قراءة “ف”: “ولا يعتبر شأنها”.
(2) “ف”: “التعدية” تصحيف.
(3) “ف، ط”: “تكون النطفة”، “ك”: “يكون بالنطفة”.
(4) “ف، ك، ط”: “يتقدم”، والصوابُ ما أثبتنا، وهي قراءة “ن”.
(5) “وكونها مضغة” ساقط من “ن، ك”. وفي “ن” هنا: “يتقدم”.
(6) سقطت الواو من “ك، ط”.
(1/161)
وهذا وجه حسن جدًّا (1).
والمقصود: أنَّ تقدير الشقاوة والسعادة والخلق والرزق سبق خروج العبد إلى دار الدنيا، فأسكنه الجنة والنار وهو في بطن أمه.
[أحاديث أخرى في إثبات القدر]وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ اللَّه كتبَ على ابن آدم حظَّه من الزِّنى أدْرَكَ ذلك لا محالةَ” الحديث (2).
وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: ما بعثَ اللَّه من نبيٍّ ولا استخلف من خليفة إلا كانَ له بطانتان: بطانة تأمرُه بالخيرِ وتحضُّه عليه، وبطَانةٌ تأمرُه بالشرِّ، وتحضُّه عليه. والمعصومُ من عَصَمَ (3) اللَّه” (4).
وفي سنن ابن ماجه عن عدي بن حاتم أنَّه قال: أتيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: “يا عُدَيُّ أسلِمْ تَسْلَمْ، قلتُ: وما الإسلام؟ قال: “تشهد أن لا إله إلا اللَّه وأنِّي رسول اللَّه، وتؤمن بالأقدار كلها خيرها وشرها، وحلوها ومرّها” (5).
__________
(1) وانظر: شفاء العليل (46)، والتبيان (219).
(2) أخرجه البخاري في القدر (6612) وغيره، ومسلم في القدر (2657).
(3) “ط”: “عصمه”.
(4) أخرجه البخاري في الأحكام (7198).
(5) أخرجه ابن ماجه (87)، وهو حديث ضعيف جدًّا، ضعَّفه البوصيري لاتفاقهم على ضعف عبد الأعلى بن أبي المساور الزهري، كذبه ابن معين، وكذلك في سنده يحيى بن عيسى الجرَّار، ضعيف. (ز).
(1/162)
وفي صحيح البخاري من حديث الحسن عن (1) عمرو بن تغلب قال: أتى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مالٌ، فأعطى قومًا ومنع آخرين، فبلغه أنَّهم عتبوا، فقال: “إني أعطي الرجل وأدَع الرجل، والذي أدعِ أحبُّ إليَّ من الذي أُعطي. أُعطي أقوامًا لما في قلوبهم من الجزع والهَلع، وأكِلُ أقوامًا إلى ما جعلَ اللَّهُ في قلوبهم من الغِنى (2) والخيرِ” الحديث (3).
وفي الصحيحين (4) من حديث عمران بن حصين عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “كان اللَّه، ولم يكن شيءٌ قبله، وكان عرشه على الماءِ، ثمَّ خلقَ (5) السماوات والأرض، وكتب في الذكر كلَّ شيء”.
وفي الصحيح عن ابن عباس أنَّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لأشجِّ عبد القيس: “إنَّ فيك لَخُلُقَيْنِ يُحِبُّهما اللَّه: الحِلم والأناة”. قال: يا رسول اللَّه خُلقَين تخلَّقْتُ بهما، أم جُبلتُ عليهما؟ قال: “بل جبلتَ عليهما”. قال: الحمد للَّه الذي جَبَلني عَلى خلقين يحبهما اللَّه (6).
وقال أبو هريرة: قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “جفَّ القلمُ بما أنت لاقٍ”. رواه البخاري تعليقًا (7).
__________
(1) “الحسن عن” ساقط من “ط”.
(2) “ك، ط”: “القناعة”.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة (923) وغيره.
(4) وكذا في تهذيب السنن (12/ 315)، وهو سهو. وإنَّما أخرجه البخاري في بدء الخلق (3191).
(5) “ط”: “وخلق”. وهو لفظ الحديث في الصحيح.
(6) أخرجه مسلم في الإيمان (17).
(7) في النكاح (5076)، وانظر: كتاب القدر، باب جف القلم على اللَّه. وقد وصله الإسماعيلي في المستخرج، والفريابي في القدر (437)، وابن وهب في =
(1/163)
وذكر البخاري أيضًا (1) عن ابن عباس في قوله عزَّ وجلَّ: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ في الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون/ 61] قال: سبقت لهم السعادة.
وفي سنن أبي داود وابن ماجه من حديث عبد اللَّه بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت: “أنَّ اللَّه لو عذَّب أهلَ سماواته وأهلَ أرضه لعذَّبهم وهو غير ظالمٍ لهم، ولو رحمهم كانت رحمته (2) خيرًا لهم من أعمالهم، ولو أنفقتَ مثل أحدٍ ذهبًا في سبيل اللَّه ما قبله اللَّه منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو متَّ على غير هذا لدخلتَ النَّار”. وقاله زيد بن ثابت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (3).
وفي سنن أبي داود عن أبي حفص الشامي قال: قال عبادة بن الصامت: يا بنيّ إنَّك لن تجد (4) طعمَ الإيمان حتَّى تعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “إنَّ أوَّل ما خلقَ اللَّه القلم فقال له: اكتب، قال:
__________
= القدر (16)، والجوزقي في الجمع بين الصحيحين، كما في تغليق التعليق (4/ 396) والتعليق عليه، وسنده صحيح. (ز).
(1) في كتاب القدر، باب جف القلم على علم اللَّه.
(2) “ط”: “رحمته لهم”.
(3) أخرجه أبو داود (4699)، وابن ماجه (77)، وأحمد (21589)، وابن حبان (727) من حديث زيد بن ثابت. وظاهر سنده حسن، ولكن وقع فيه اختلاف، وأنَّه موقوف على أبي بن كعب. انظر: القدر للفريابي (150)، والقضاء والقدر للبيهقي (199، 482، 483). (ز).
(4) “ك، ط”: “لم تجد”.
(1/164)
ربِّ (1) وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة”. يا بني، سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “من مات على غير هذا فليس منِّي” (2).
وفي الصحيحين عن علي رضي اللَّه عنه قال: كنا في جنازة فيها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ببقيع الغرقد، فجاءَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فجلس ومعه مِخصرة، فجعل ينكُت بالمِخصَرة في الأرض، ثمَّ رفع رأسه فقال: “ما منكم من أحد من نفس منفوسة إلا قد كُتِبَ مكانُها من النار أو الجنَّة (3)، إلا قد كُتِبَت: شقيَّة أو سعيدة، قال: فقال رجل من القوم: يا نبيّ اللَّه أو لا نمكث (4) على كتابنا، وندع العمل، فمن كان من أهل السعادة ليكونَّن إلى السعادة، ومن كان من أهل الشقوة (5) لَيكوننّ إلى الشقاوة؟ قال: اعملوا، فكل مُيسَّرٌ، أمَّا أهل السعادة فَيُيَسَّرون لِلسَّعَادة، وأمَّا أهل الشقاوة فيُيسَّرون لِلشَّقَاوة”. ثمَّ قرأ نبيُّ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل/ 5 – 10] (6).
وفي السنن الأربعة عن مسلم بن يسار الجهني أنَّ عمر بن الخطاب سُئِلَ عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ
__________
(1) “ك، ط”: “يا رب”.
(2) أخرجه أبو داود (4700)، وفي سنده جهالة، وقد وقع فيه اختلاف، وروي من غير وجه عن عبادة، وفيها نظر. انظر: القدر للفريابي (31 – 33). (ز).
(3) “ك، ط”: “في النار أو في الجنة”.
(4) “ط”: “نتّكل”.
(5) “ط”: “الشقاوة”.
(6) تقدم تخريجه في ص (149).
(1/165)
ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف/ 172] (1)، فقال: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سئل (2) عنها، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “خلقَ آدمَ (3)، ثمَّ مسحَ ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذريَّة، فقال: خلقت هؤلاء للجنَّة، وبعمل أهل الجنَّة يعملون. ثمَّ مسحَ ظهره، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقتُ هؤلاء للنَّار، وبعمل أهل النَّار يعملون”. قال رجل: يا رسول اللَّه، ففيم العملُ؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ اللَّهَ إذا خلقَ العبدَ للجنَّة استعمله بعمل أهل الجنَّة حتَّى يموت على عمل من أعمال أهل الجنَّة، فيُدخله به الجنَّة. وإذا خلقَ العبد للنَّارِ استعمله بعمل أهل النَّار حتَّى يموت على عمل من أعمال أهل النَّارِ، فيدخله به النَّار” (4).
وفي الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ اللَّه خلقَ آدمَ من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاءَ بنو آدمَ على قدر الأرض، جاء منهم الأحمرُ والأبيض والأسود وبين ذلك، والسَّهْل والحَزْن، والخبيث والطيب”. قال الترمذي: حديث حسن
__________
(1) وردت الآية في الأصل والنسخ الأخرى على قراءة نافع وابن عامر وأبي عمرو: “ذرِّياتهم”. انظر: الإقناع (2/ 651).
(2) كذا في الأصل و”ن”. وفي “ف” وغيرها: “قد سئل”.
(3) “ك، ط”: “خلق اللَّه آدم”.
(4) قول المصنف: “في السنن الأربعة” سهو، فإنَّ الحديث أخرجه أبو داود (4703)، والترمذي (3075)، والنسائي في الكبرى (1190)، قال الترمذي: “هذا حديث حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وبين عمر رجلًا”. وقال ابن عبد البر في التمهيد (6/ 6): “وجملة القول في هذا الحديث أنَّه حديث ليس إسناده بالقائم لأنَّ مسلم بن يسار ونعيم بن ربيعة جميعًا غير معروفين بحمل العلم، ولكن معنى هذا الحديث قد صحَّ عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من وجوه كثيرة ثابتة. . . ” (ز).
(1/166)
صحيح (1).
وذكر الطبري من حديث مالك بن عبد أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لابن مسعود: “لا تُكْثِرْ (2) همَّكَ، ما يُقدَّرْ يَكُنْ، وما تُرْزَقْ يأتِك” (3).
وذكر عن طارق بن شهاب عن عمر قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “بُعِثْتُ داعيًا ومبلِّغًا، وليس إليِّ من الهدى شيءٌ، وخُلقَ إبليس مُزَيِّنًا، وليس إليه من الضلالة شيء” (4).
وقال ابن وهب: أخبرنا عبد الرحمن بن سلمان (5)، عن عقيل، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خرج النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فسمع ناسًا من أصحابه يذكرون (6) فقال: “إنَّكم قد أخذتم في شعبتين بعيدتي الغَور (7)، فيهما هلك أهل الكتاب من قبلكم”. ولقد أخرج يومًا كتابًا، فقال: “هذا كتابٌ من اللَّه الرحمن الرحيم فيه تسمية أهل الجنَّة بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم وعشائرهم، مجمَلٌ (8) على آخرهم لا يُنقصُ منهم أحدٌ: فريقٌ
__________
(1) الترمذي (2955)، وأخرجه أبو داود (4693)، وابن حبان (6160) وغيرهما.
(2) “ط”: “لا يكثر”.
(3) أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2806)، واللالكائي في أصول الاعتقاد (1080). والحديث فيه إرسال مع الاختلاف في أسانيده، وقد ضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير (6264) (ز).
(4) أخرجه ابن عدي في الكامل (3/ 471 – 472)، وابن حبان في المجروحين (1/ 281)، وهو حديث ضعيف كما في تنزيه الشريعة (1/ 315) لابن عراق. (ز).
(5) “ف، ك، ط”: “سليمان” تحريف.
(6) زاد في “ط”: “القدر”.
(7) “ف”: “شعبين بعيدي الغور”.
(8) “ف، ك”: “فجمل”. وفي “ط” بالحاء، تصحيف. وانظر ما سلف في =
(1/167)
في الجنَّة وفريقٌ في السَّعير” (1).
وفي الترمذي عن ابن عباس قال: ردِفتُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يومًا فقال: يا غلامُ، ألَا أعلِّمُكَ كلماتٍ ينفعك اللَّه بهنَّ؟ احفظ اللَّه يحفظْك، احفظ اللَّه تجده أمامك. تعرَّفْ على اللَّه في الرَّخاءِ يعرفْك في الشدَّة. إذا سألتَ فاسأل اللَّه، وإذا استعنت فاستعن باللَّه. رُفِعَت الأقلامُ، وجفَّت الصحف. لَوْ جَهَدت الأُمَّة على أنْ ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه اللَّه لك، ولو جهدت الأمة على أن يضرّوك بشيءٍ لم يضرّوك إلا بشيءٍ قد كتبه اللَّه عليك. واعلم أنَّ النصر مع الصبر، وأنَّ الفرَج مع الكرْبِ، وأنَّ مع العسر يُسْرًا” (2).
وفي بعض روايات الحديث في غير الترمذي: “فلو أنَّ النَّاس اجتمعوا على أن يعطوك شيئًا لم يُعْطِه اللَّه لم يقدروا عليه، ولو أنَّ الناس اجتمعوا على أن يمنعوك شيئًا قدَّره اللَّه لك وكتبه لك (3) ما استطَاعُوا، فاعبُدِ اللَّه بالصَّبْرِ مع اليقين” (4).
__________
= ص (145).
(1) تقدم من طريق آخر في ص (145).
(2) تقدم في ص (132).
(3) “وكتبه لك” ساقط من “ط”.
(4) “ك، ط”: “مع الصبر على اليقين”.
والحديث أخرجه الطبراني في الكبير (1/ 1231) (11243)، والحاكم (3/ 624) (6304) من طريق ابن أبي مليكة عن ابن عباس. وقد ضعفه الذهبي من هذا الطريق فقال: “عيسى -يعني ابن محمد القرشي- ليس بمعتمد”. وتقدم الحديث من طريق حنش عن ابن عباس، وهو أصح الطرق عن ابن عباس كما قاله ابن منده وغيره. انظر: جامع العلوم والحكم (1/ 461) (ز).
(1/168)
وقال علي بن الجعد: حدثنا (1) عبد الواحد بن سليم (2) البصري، عن عطاء بن أبي رباح قال: سألتُ (3) ابن (4) عبادة بن الصامت: كيفَ كانت وصية أبيك حين حضره الموت؟ قال: جعل يقول: “يا بنيّ اتّقِ اللَّه، واعلم أنَّك لن تتقيَ اللَّه ولن تبلغ العلم حتَّى تعبد اللَّه وحدَه، وتؤمنَ بالقدر خيره وشرِّه”. قلت: يا أبتِ كيف لي أن أؤمن بالقدر خيره وشره؟ قال: “تعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأنَّ ما أخطأك لم يكن ليصيبك؛ فإنْ متَّ على غير هذا دخلت النَّار. سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “إنَّ أوَّل ما خلقَ اللَّه القلم، فقال له: اكتُبْ، فقال: ما أكتبُ؟ فجرى تلك الساعة بما كان وما هو كائن إلى الأبد” (5).
وذكر الطبري من حديث بقية حدثنا (6) أبو بكر العنسي (7) عن يزيد بن أبي حبيب (8) ومحمد بن يزيد قالا: حدثنا نافع، عن ابن عمر قال: قالت أم سلمة: يا رسول اللَّه لا تزال نفسك في كل عام وَجِعَةً من تلك الشاة المسمومة التي أكلتها، قال: “ما أصابني من (9) شَيءٍ منها إلا وهو
__________
(1) “ط”: “أنبأنا”.
(2) “بن سليم” لم يرد في “ك، ط”.
(3) “سألت” سقط من “ط”، واستدرك في القطرية.
(4) سقطت كلمة “ابن” من “ط”، فزاد بين حاصرتين: “الوليد بن”.
(5) أخرجه علي بن الجعد في مسنده (3444)، وفيه عبد الواحد بن سليم، ضعيف، وقد تقدم الحديث في ص (164) من طريق آخر.
(6) “ط”: “أنبأنا”.
(7) “ن، ط”: “العبسي”، تصحيف. انظر: تهذيب التهذيب (12/ 44).
(8) “ك، ط”: “زيد بن أم حبيب”، تحريف. انظر: تهذيب التهذيب (11/ 318).
(9) “من” ساقط من “ط”.
(1/169)
مكتوبٌ على، وآدم في طينته” (1).
وفي صحيح مسلم (2) من حديث ابن عباس في خطبة النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “الحمدُ للَّه نحمدُهُ ونستعينه، من يهده اللَّه فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله”.
وفي صحيحه (3) أيضًا عن زيد بن أرقم: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “اللَّهُمَّ آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها”.
وفي صحيحه (4) أيضًا عن علي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في دعاء الاستفتاح: “اللهم اهدني لأحسن الأخلاقِ، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرِفْ عنِّي سيِّىَءَ الأخلاق، لا يصرفُ عنِّي سيِّئَها إلا أنت”.
وفي الترمذي والمسند من حديث عمران بن حصين أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- علَّم أباه هذا الدعاء: “اللَّهمَّ ألْهِمْني رُشدي، وقنِي شرَّ نفسي” (5).
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (3546)، والفريابي في القدر (418). قال البوصيري: هذا إسناد فيه أبو بكر العنسي وهو ضعيف. مصباح الزجاجة (3/ 142) (ز).
(2) كتاب الجمعة (868).
(3) كتاب الذكر والدعاء (2722).
(4) كتاب صلاة المسافرين وقصرها (771).
(5) أخرجه أحمد (19992) والبخاري في التاريخ الكبير (3/ 3)، والترمذي (3483)، والطبراني في الكبير (18/ 396)، والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 165)، وقال الترمذي: “هذا حديث غريب”. وفي سنده شبيب بن شيبة، وهو ضعيف، والحديث ضعفه الألباني في ضعيف الترمذي (690). (ز).
(1/170)
وروى سفيان الثوري عن خالد الحذَّاء، عن عبد اللَّه بن الحارث قال: قام عمر بن الخطاب بالجابية (1) خطيبًا فقال في خطبته: “من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له” وعنده الجاثَليقُ (2) يسمع ما يقول، قال: فنفَضَ ثوبَه كهيئة المنكِر، فقال عمر: ما يقول؟ (3) قالوا: يا أمير المؤمنين، يزعمُ أنَّ اللَّه لا يضل أحدًا، قال: “كذبتَ يا عدوَّ اللَّه، بل اللَّه خلقك وهو أضلَّكَ، وهو يُدخِلُك النَّارَ إن شاء اللَّه. أما واللَّه، لولا وَلْثُ عهدٍ (4) لك لضربتُ عنقك، إنَّ اللَّه خلقَ الخلقَ فخلَق أهل الجنَّة وما هم عاملون، وخلَقَ أهل النارِ وما هم عاملون، قال: هؤلاء لهذه، وهؤلاء لهذه” (5).
وذكر الطبري عن أبي بكر الصديق قال: “خلق اللَّه الخلقَ فكانوا في قبضته، فقال لمن في يمينه: ادخلوا الجنَّة بسلام، وقال لمن في يده الأخرى: ادخلوا النَّار ولا أبالي، فذهَبتْ إلى يوم القيامة” (6).
وقال ابن عمر: جاء رجل إلى أبي بكر فقال: أرأيتَ الزنى بقدَر اللَّه؟ فقال: نعم. قال: فإنَّ اللَّه قدَّره على ثمَّ يعذبني؟ قال: “نعم يا ابن اللَّخْناءِ، أما واللَّه لو كان عندي إنسان أمرتُ أن يجَأ
__________
(1) “الجابية” ساقط من “ك، ط”.
(2) رئيس الأساقفة عند النصارى. انظر: القول الأصيل (74).
(3) “ط”: “تقولون”.
(4) “ولث” ساقط من “طـ”. والوَلْث: بقية العهد، وقيل: الضعيف من العهد. اللسان (ولث).
(5) أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في السنة (929)، والآجري في الشريعة (417)، واللالكائي (1197) وغيرهم (ز).
(6) أخرجه الآجري في الشريعة (415)، واللالكائي (1204)، وفي سنده انقطاع.
(1/171)
أنفَك” (1).
وذكر عن علي رضي اللَّه عنه أنَّه ذُكِرَ عنده القدرُ يومًا، فأدخلَ إصبعيه السبابة والوسطى في فيه، فرقَم بهما باطنَ يده، فقال: أشهد أنَّ هاتين الرقمتين كانتا في أم الكتاب (2).
وذكر عنه أيضًا أنَّه قال: “إنَّ أحدكم لن يخلُص الإيمانُ إلى قلبه حتى يستيقن يقينًا غيرَ ظن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأنَّ (3) ما أخطأه لم يكن ليصيبه، ويُقِرَّ بالقدَر كله” (4).
وذكر البخاري (5) عن ابن مسعود أنَّه قال في خطبته: “الشقي من شَقِيَ في بطن أمه، والسعيد من وُعِظَ بغيره”.
وقال ابن مسعود: “لأنْ أعضَّ على جمرٍ (6) أو أقبضَ (7) عليها حتى تبرُدَ في يدي أحبُّ إليَّ من أن أقول لشيءِ قضاه اللَّه: ليته لم يكن” (8).
__________
(1) أخرجه اللالكائي (1205)، وسنده ضعيف، وفيه اختلاف. انظر: اللالكائي (1293).
(2) أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في السنة (955)، واللالكائي (1213) وغيرهما، وفي سنده ضعف (ز).
(3) “أن” ساقطة من “ك، ط”.
(4) أخرجه اللالكائي (1214)، وفي سنده انقطاع، ميسرة لم يدرك عليًّا، قاله الإمام أحمد، جامع التحصيل (816). (ز).
(5) كذا قال هنا، والصواب أنَّه في صحيح مسلم (2645)، كما ذكر المصنف في ص (148).
(6) “ن، ط”: “جمرة”.
(7) “ك، ط”: “أو أن أقبض”.
(8) أخرجه الطبراني في الكبير (9171)، واللالكائي (1217) من طريقين عن ابن =
(1/172)
وقال: “لا يطعم رجل طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر ويعلم أنَّه ميت، وأنَّه مبعوث من بعد الموت” (1).
وقال الأعمش، عن خيثمة (2)، عن ابن مسعود: “إنَّ العبدَ لَيهُمُّ بالأمرِ من التجارة والإمارة، حتى يتيسَّر له نظرُ اللَّه إليه من فوق سبع سماوات، فيقول للملائكة: اصرفوه عنه، فإنِّي إن يسرتُه له أدخلته النار. قال: فيصرفه اللَّهُ عنه. قال: فيقول: من أين دُهيتُ؟ أو نحو هذا، وما هو إلا فضلُ اللَّه عزَّ وجلَّ” (3).
وذكر الزهري عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنَّ عبد الرحمن بن عوف مرض مرضًا شديدًا، أغمي عليه فأفاق (4) فقال: أُغمي علي؟ قالوا: نعم، قال: إنَّه أتاني رجلان غليظان، فأخذا بيدي، فقالا: انطلِقْ نحاكِمْك إلى العزيز الأمين. فانطلقا بي، فتلقَّاهما رجل، فقال: أين تريدان به؟ قالا: نحاكِمُه إلى العزيز الأمين. فقال: دعاه فإنَّ هذا ممن سبقت له السعادةُ وهو في بطن أمه (5).
وقال ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: أشهد لَسمِعتُ ابن
__________
= مسعود رضي اللَّه عنه (ز).
(1) أخرجه معمر في جامعه (20081)، والفريابي في القدر (195، 196) وغيرهما. وهو لا يثبت، فيه الحارث الأعور. متهم بالكذب، وقد اختلف عليه. (ز).
(2) عن “خيثمة” ساقط من “ك، ط”.
(3) أخرجه اللالكائي (1219)، وفي سنده انقطاع.
(4) “ك، طـ”: “وأفاق”.
(5) أخرجه عبد الرزاق (20065)، والآجري (436)، واللالكائي (1220) وغيرهم، والأثر صحيح. (ز).
(1/173)
عباس يقول: “العجز والكَيْس بقدر” (1).
وقال مجاهد: قيل لابن عباس: إنَّ ناسًا يقولون في القدر. قال: “يكذِّبون بالكتاب، لئن أخذتُ بشَعرِ أحدِهم لأنضُوَنَّه (2). إنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ كان على عرشه قبل أن يخلق شيئًا، فخلَقَ القلِمَ، فكتَب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فإنَّما يجري النَّاسُ على أمرِ قد فُرِغ منه” (3).
وقال ابن عباس أيضًا: “القدَرُ نظامُ التوحيد، فمن وحَّد اللَّه ولم يؤمن بالقدر كان كفره بالقضاءِ نقضًا (4) للتوحيد، ومن وحَّد اللَّه وآمن بالقدر كانت العروة الوثقى لا انفصام لها” (5).
وقال عطاء بن أبي رباح: كنتُ عند ابن عباس، فجاءَه رجل، فقال: “يا ابن عباس (6)، أرأيت من صدَّني عن الهدى، وأوردني دارَ الضلالة والردى (7)، ألا تراهُ قد ظلمني؟ فقال: “إن كان الهدى شيئًا كان لك عنده فمنَعَكَه فقد ظلمك، وإن كان الهدى هو له يؤتيه من يشاء فلم
__________
(1) تقدم تخريجه في ص (147).
(2) وردت هذه الجملة في “ط” محرَّفة، وقال في الحاشية: “بياض في الأصل، وفي الجملة تحريف،، ولا بياض في أصولنا. وقوله “لأنضونه” أي: لأنزعنَّه وأخلعنَّه.
(3) أخرجه اللالكائي (1223). (ز).
(4) “ط”: “نقصًا” بالصاد المهملة.
(5) أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في السنة (925)، والآجري (456)، واللالكائي (1224)، وفي سنده ضعف (ز).
(6) في الأصل: “يا با عباس” سهو، وكذا في “ف”.
(7) “ط”: “الضلالة واردًا” تحريف.
(1/174)
يظلمك (1). قُمْ، لا تجالسْني (2) ” (3).
وقال عكرمة عن ابن عباس: “كان الهدهد يدلُّ سليمان على الماء”. فقلتُ له: وكيف ذاك والهدهدُ (4) يُنصَب له الفخُّ عليه التراب؟ فقال: “أَعضك اللَّهُ بِهَن أبيك، إذا جاء القضاءُ ذهبَ البصرُ” (5).
وقال الإمام أحمد: حدثنا (6) إسماعيل، أنبأنا أبو هارون (7) الغنوي، حدثنا (8) أبو سليمان (9) الأزدي، عن أبي يحيى مولى بني عفراء (10) قال: أتيتُ ابن عباس، ومعي رجلان من الذين يذكرون القدر، أو ينكرونه، فقلتُ: يا ابن عباس، ما تقول في القدر؟ فإنَّ هؤلاء يسألونك عن القدر، إن زنَى وإن سرق (11) وإن شرب، قال (12): فحسَرَ قميصَه حتى أخرج منكبيه وقال: “يا أبا يحيى (13) لعلَّك من الذين ينكرون
__________
(1) “ط”: “فلا يظلمك”.
(2) “ك، ط”: “فلا تجالسني”.
(3) أخرجه اللالكائي (1227). (ز).
(4) “ك، ط”: “فكيف ذاك؟ الهدهد”.
(5) أخرجه اللالكائي (1228) وسنده صحيح (ز).
(6) “ط”: “أنبأنا”.
(7) “ن”: “أبو إبراهيم”، خطأ.
(8) “ط”: “أنبأنا”.
(9) سقط “أبو” من “ط”.
(10) في الأصل: “غفراء” بالمعجمة، ولعله سهو، وكذا في “ف”.
(11) “ك، ط”: “وإن شرب وان سرق”.
(12) “قال” ساقط من “ك، ط”.
(13) “ك، ط”: “يايحي”.
(1/175)
القدر (1) ويكذِّبون به. واللَّه لو أعلم أنَّك منهم أو (2) هذين معك لجاهدكم. إن زنَى فبقدَر، وإن سرقَ فبقدَر، وإن شرِب الخمرَ فبقدَر” (3).
وصحَّ عن ابن عمر أنَّ يحيى بن يعمر قال له: إنَّ ناسًا يقولون: لا قدر، وإنَّ الأمر أُنُف (4). فقال: “إذا لقيتَ أولئك فأخبرهم أنَّ ابن عمر منهم بريء (5)، وأنَّهم بُرَآءُ منه” (6).
وقد تقدم قول أبيّ بن كعب، وحذيفة، وابن مسعود، وزيد بن ثابت: “لو أنفقت مثلَ أحُد (7) ذهبًا في سبيل اللَّه ما قُبلَ منك حتَّى تؤمنَ بالقدر، وتعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأنَّ (8) ما أخطاك لم يكن ليصيبك، وإن متَّ على غير ذلك دخلت النار” (9).
وتقدَّم قول عبادة بن الصامت: “لن تؤمن حتَّى تؤمنَ بالقدرِ خيرِه وشرِّه، وتعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطاك لم يكن ليصيبك” (10).
__________
(1) “القدر” سقط من “ك”، وزيد في “ط” بين حاصرتين.
(2) “ط”: “وهذين”.
(3) أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في السنة (937)، واللالكائي (1230). (ز).
(4) أي مستأنف، من غير أن يكون سبق به قضاء. النهاية (1/ 7).
(5) “ك، ط”: “بريء منهم”.
(6) أخرجه مسلم في الإيمان (8).
(7) “ط”: “مثل جبل أحد”.
(8) “أن” ساقطة من “ط”.
(9) انظر: ص (164).
(10) انظر: ص (164، 169).
(1/176)
وقال قتادة، عن أبي السوَّار، عن الحسن بن علي قال: “قُضي القضاءُ، وجفَّ القلم، وأمور تُقْضى (1) في كتابٍ قد خَلا” (2).
وقال عمرو بن العاص: “انتهى عجبي إلى ثلاث: المرءُ يفِرُّ من القدَر وهو لاقيه. ويرى في عين أخيه القذاة فيعيبُها، ويكون في عينه مثلُ الجذع فلا يعيبها. ويكون في دابته الضِّغْنُ (3) فيقوِّمها جهدَه، ويكون في نفسَه الضِّغْن فلا يقوِّمها” (4).
وقال أبو الدرداء: “ذروة الإيمان أربع: الصبر للحكم، والرضا بالقدر، والإخلاص للتوكل، والاستسلام للرب” (5).
وقال الحجَّاج الأزدي: سألنا سلمانَ ما الإيمان بالقدر؟ فقال: “أن تعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأنَّ ما أخطاكَ لم يكن ليصيبك” (6).
وقال سلمان أيضًا: “إنَّ اللَّه لمَّا خلقَ آدم مسح ظهره فأخرج منه ما هو
__________
(1) “ن، ك، ط”: “بقضاء”، تصحيف.
(2) أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في السنة (875، 881)، واللالكائي (1234) (ز).
(3) رسمها في الأصل بالظاء (انظر ما سبق في رسم “أضالع” في 131) والغين مع إهمالهما، فتقرأ: “الطعن”، كما في “ف، ن”. وكذا في “ط” وفسّرت فيها بالوثوب والاندفاع. وفي كتاب اللالكائي: “الصعر”. والصواب ما أثبتنا. و”الضغن” في الدابّة أن تكون عسرة الانقياد. قاله الخطابي في غريب الحديث (2/ 482). وانظر: الفائق (2/ 342). والنهاية (3/ 92).
(4) أخرجه اللالكائي (1235)، والبيهقي في القضاء والقدر (501). (ز).
(5) أخرجه اللالكائي (1238)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 216). (ز).
(6) أخرجه معمر في جامعه (20083)، وعبد اللَّه بن أحمد في السنة (923)، وسنده لا بأس به. (ز).
(1/177)
ذارئٌ (1) إلى يوم القيامة، فكتب الآجال والأرزاق والأعمال (2) والشقوة (3) والسعادة. فمِن علَمِ السعادة فعل الخير ومجالس الخير، ومِن علَمِ الشقاوة فعلُ الشر (4) ومجالس الشر” (5).
وقال جابر بن عبد اللَّه: “لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر كلِّه خيره وشرّه (6)، ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبَه” (7).
وقال هشام (8) عن أبيه عن عائشة: “إنَّ العبدَ ليعمل الزمانَ بعمل أهل الجنَّة، وإنَّهُ عند اللَّه لمكتوبٌ من أهل النَّار” (9).
والآثار في ذلك أكثر من أن تذكر، وإنَّما أشرنا إلى بعضها إشارة.
فصل
فالجوابُ (10) أنَّ ههنا مقامَين: مقامَ إيمان وهدى ونجاة، ومقامَ ضلال وردى وهلاك، زلَّت فيه أقدام، فهوَتْ بأصحابها إلى دار الشقاء.
__________
(1) “ك، ط”: “منه ذراري إلى”.
(2) “ك، ط”: “وكتب الآجال والأعمال والأرزاق”.
(3) “ط”: “الشقاوة”.
(4) “ك، ط”: “عمل الشر”.
(5) أخرجه اللالكائي (1241)، وسنده صحيح (ز).
(6) زاد في “ط” بعده بين حاصرتين: “وأن”.
(7) أخرجه اللالكائي (1242)، وسنده ضعيف (ز).
(8) زاد في “ط” بين حاصرتين: “بن عروة بن الزبير”.
(9) أخرجه اللالكائي (1243)، وسنده ضعيف. (ز).
(10) وهو جواب قوله: “فإن أصررت على اتهام القدر. . . ” الذي سبق في ص (137). وبدأ المؤلف من هذا الفصل بالرد على الاحتجاج بالقدر، والإجابة عن الإشكال الوارد بسببه.
(1/178)
فأمَّا مقام الإيمان والهدى والنجاة فمقام إثبات القدر والإيمان به، وإسناد جميع الكائنات إلى مشيئة ربها وبارئها وفاطرها، وأنَّه (1) ما شاء كان وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه (2) الناس. وهذه الآثار التي ذكرت (3) كلها تُحقِّق هذا المقام، وتبيِّن أن من لم يؤمن بالقدر فقد أنسلخ من التوحيد، ولبس جلباب الشرك، بل لم يؤمن باللَّه ولم يعرفه، وهذا في كل كتابِ أنزله اللَّه على كلِّ رسولٍ أرسله (4).
وأمَّا المقام الثاني -وهو مقام الضلال والردى والهلاك- فهو الاحتجاجُ به على اللَّه (5)، وحملُ العبدِ ذنبَه على ربه، وتنزيهُ نفسه الجاهلة الظالمة الأمَّارة بالسوء، وجعلُ أرحمِ الراحمين وأعدلِ العادلين وأحكمِ الحاكمين وأغنى الأغنياء أضرَّ على العباد من إبليس؛ كما صرَّح به بعضهم، واحتجَّ عليه بما خصَمه فيه من لا تدحَض حجَّتُه ولا تطاق مغالبتُه، حتَّى يقول قائلُ هؤلاء:
ألقاه في اليمِّ مكتوفًا وقال له … إيَّاكَ إيَّاكَ أن تبتلَّ بالماءِ (6)
__________
(1) “ك، ط”: “وأنّ”.
(2) “ك، ط”: “شاء”.
(3) “التي ذكرت”: ساقط من “ط”.
(4) “ط”: “على رسله”.
(5) “ط”: “على ذنبه على اللَّه”.
(6) أنشده المؤلف في مدارج السالكين (1/ 262)، وشفاء العليل (20)، وهو منسوب إلى الحلاج في وفيات الأعيان (2/ 143). وأثبت في “طـ” بيتًا آخر قبله:
ما حيلة العبد والأقدارُ جاريةٌ … عليه في كلِّ حال أيها الرائي
وهما في ديوانه (26).
(1/179)
ويقول قائلهم:
دعَاني وسدّ البابَ دوني فهل إلى … دخولي سبيلٌ؟ بيِّنوا لِيَ قِصَّتي (1)
ويقول الآخر:
وضعوا اللحمَ لِلبُزا … ةِ على ذِروتَي عَدَنْ
ثُمَّ لاموا البُزاة إذ … خلَعوا عنهم الرَّسَنْ
لو أرادوا صِيانتي … سَتروا وَجْهَك الحسَنْ (2)
وقال بعضهم -وقد ذكر له مَن (3) يخاف من إفساده- فقال: لي خمس بنات لا أخاف على إفسادهِنّ غيره!
وصعد رجل يومًا على سطح دار له، فأشرف على غلام له يفجُر بجاريته، فنزل، وأخذهما ليعاقبهما، فقال الغلام: إن القضاء والقدر لم يدَعانا حتى فعلنا ذلك. فقال: لَعِلمُك بالقضاء والقدر أحبُّ إليَّ من كلِّ
__________
(1) أنشده المؤلف في المدارج (1/ 264). “قصتي”: كذا في الأصول. وفي أعيان العصر (3/ 292) وفي المدارج وغيره: “قضيتي”. والبيت من قصيدة شاعت في الشام في ذلك العهد، وذكر ابن حجر أن محمد بن أبي بكر السكاكيني عملها على لسان ذمي (الدرر الكامنة 1/ 156). ويقال إن ناظمها ابن البقَقي المتهم بالزندقة، فانبرى للرد عليها نظفا كبار علماء مصر والشام. منهم شيخ الإسلام ابن تيمية (الفتاوى 8/ 245 – 255) والعلاء الباجي، والعلاء القونوي وغيرهم. انظر قصائدهم في طبقات الشافعية (10/ 352 – 366).
(2) ذكرها المؤلف في المدارج (1/ 262)، وهي للشبلي في تاريخ بغداد (12/ 95)، مع اختلاف في بعض الألفاظ.
(3) “ط”: “ما”.
(1/180)
شيء، أنت حرٌّ لوجه اللَّه (1).
ورأى آخر رجلًا (2) يفجر بامرأته، فبادر ليأخذه فهرَب، فأقبل يضرب المرأة، وهي تقول: القضاءُ والقدر. فقال: يا عدوّةَ اللَّه أتزني وتعتذري (3) بمثل هذا؟ فقالت: أوَّهْ تركتَ السنّة، وأخذت بمذهب ابن عبَّاد (4)! فتنبَّهَ ورمى السوط (5) من يده، واعتذر إليها، وقال: لولاكِ لَضلَلْتُ!
ورأى آخر رجلًا آخر يفجر بامرأته فقال: ما هذا؟ فقالت: هذا قضاءُ اللَّه وقدره. فقال: الخِيرة فيما قضى اللَّه! فلُقِّب بـ “الخيرة فيما قضى اللَّه”، وكان إذا دعي به غضب!
وقيل لبعض هؤلاء: أليس اللَّه عزَّ وجلّ (6) يقول: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر/ 7] فقال: دعنا من هذا، رضيَه وأحبه وأراده، وما أفسدنا غيرُه!
__________
(1) نقل ابن النديم حكاية تشبه هذه عن سلام القارئ من متكلمة الجبرية. انظر الفهرست (235).
(2) “رجلًا” ساقط من “ك، ط”.
(3) كذا في الأصل و”ف، ن”. وفي “ك، ط”: “تزنين وتعتذرين” حسب القاعدة.
(4) كذا في الأصل و”ف، ن”. وفي “ك، ط”: “ابن عباس”، وهو خطأ، فإن المقصود بمذهب ابن عباد هنا إنكار القدر. والمشهور بابن عباد هو الصاحب المتوفى سنة 325. وقد يكون المراد محمد بن عباد بن كاسب صديق ثمامة بن الأشرس (213 هـ). ذكره الجاحظ في البيان (1/ 44) والحيوان (1/ 265).
(5) “ط”: “بالسوط”.
(6) “ك، ط”: “أليس هو يقول”.
(1/181)
ولقد بالغَ بعضهم في ذلك حتى قال: القدرُ عذر لجميع العصاة، وإنَّما مثلنا في ذلك كما قيل:
إذا مرِضنا أتيناكم نعودُكُمُ … وتُذنبون فنأتيكم فنعتذرُ (1)
وبلغ بعضَ هؤلاء أنَّ عليًّا مرَّ بقتلى النهروان فقال: “بؤسًا لكم، لقد ضرَّكم من غرَّكم”. فقيل: من غرَّهم؟ فقال: “الشيطان، والنَّفس الأمَّارة بالسوء، والأماني”. فقال هذا القائل: كان علي قدريًّا، وإلا فاللَّهُ غرَّهم، وفعل بهم ما فعل، وأوردَهم تلك الموارد.
واجتمع جماعة من هؤلاء يومًا، فتذاكروا القدر، فجرى ذكرُ الهدهد وقولِهِ: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [النمل/ 24] (2)، فقال: كان الهدهد قدريًّا، أضاف العملَ إليهم والتزيينَ إلى الشيطان، وجميعُ ذلك فعلُ اللَّه (3).
وسئل بعض هؤلاء عن قوله تعالى لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص/ 75]: أيمنعه، ثمَّ يسأله ما منعَه؟ فقال (4): نعم، قضَى عليه في السرِّ ما منعه منه (5) في العلانية، ولعَنه عليه! قال له: فما معنى قوله:
__________
(1) أنشده المؤلف في المدارج (2/ 396)، وهو من قصيدة مشهورة للمؤمَّل بن أمَيل المحاربي من مخضرمي شعراء الدولتين، توفي نحو 190 هـ. معجم المرزباني (298)، معجم الأدباء (2733).
(2) في الأصل و”ف”: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)} وهو جزء من الآية (43) من سورة الأنعام، ولكن المقصود هنا آية النمل كما أثبتنا من “ك، ط”.
(3) “ف”: “قول اللَّه”، غلط من الناسخ.
(4) “ط”: “قال”.
(5) “منه” ساقط من “ك، ط”.
(1/182)
{وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا} [النساء/ 39] (1) إذا كان هو الذي منعهم؟ قال: استهزاءً بهم! قال: فما معنى قوله: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء/ 147] قال: قد فعل ذلك بهم من غير ذنب جَنَوه، بل ابتدأهم بالكفر ثمَّ عذبهم عليه، وليس للآية معنى!
وقال بعض هؤلاء -وقد عوتب على ارتكابه معاصي اللَّه فقال-: إن كنتُ عاصيًا لأمره فأنا مطيع لإرادته (2).
وجرى عند بعض هؤلاء ذكرُ إبليس وإبائه وامتناعه من السجود لآدم، فأخذ الجماعةُ يلعنونه ويذمّونه، فقال: إلى متى هذا (3) اللّوم؟ ولو خُلِّيَ لَسَجَدَ، ولكن مُنِعَ. وأخذ يقيم عذره، فقال له (4) بعض الحاضرين: تبَّا لك سائر اليوم، أتذبُّ عن الشيطان، وتلوم الرحمن؟
وجاءَ جماعة إلى منزل رجل من هؤلاء، فلم يجدوه، فلمَّا رجع قال: كنتُ أصلح بين قوم. فقيل له: وأصلحتَ بينهم؟ قال: أصلحتُ، إن لم يُفسِد اللَّه. فقيل له: بؤسًا لك، أتُحسِن الثناء على نفسك، وتسيء الثناء على ربِّك؟ (5)
ومُرَّ بلصٍّ مقطوع اليد على بعض هؤلاء فقال: مسكين، مظلوم، أجبرَه على السرقة، ثمَّ قطع يده عليها!
__________
(1) “ك، ط”: {. . . آمنوا باللَّه}.
(2) سبق في ص (55).
(3) سقط “هذا” من “ط”، واستدرك في القطرية.
(4) “له” سقط من “ك، طـ”.
(5) انظر ترجمة عبد اللَّه بن داود من المجبرة في الفهرست (230).
(1/183)
وقيل لبعضهم: أترى اللَّهَ كلَّف عبادَه ما لا يطيقون، ثمَّ يعذبهم عليه؟ قال: واللَّهِ قد فعل ذلك، ولكن لا نجسر أن نتكلم! (1)
وأراد رجل من هؤلاء السفر، فودَّع أهلَه وبكى. فقيل له (2): استودِعْهم اللَّه، واستحفظهم إيَّاه. فقال: ما أخاف عليهم غيرَه!
وقال بعض هؤلاء: زَنيةٌ أزنيها (3) أحبُّ إليَّ من عبادة الملائكة. قيل؟ ولم؟ قال: لعلمي بأنَّ اللَّه قضاها عليَّ وقدَّرها، ولم يقضها إلا والخِيرةُ لي فيها.
وقال بعضُ هؤلاء: العارف لا ينكر منكرًا، لاستبصاره بسرِّ اللَّهِ في القدر (4).
ولقد دخل شيخ من هؤلاء بلدًا، فأوَّلُ ما بدأ به من المزارات (5) زيارة المواخير المشتملة على البغايا والخمور، فجعل يقول: كيف أنتم في قدر اللَّه؟ كيف أنتم في قدر اللَّه؟ (6)
وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: عاتبتُ بعضَ شيوخ هؤلاءِ فقال لي: المحبة نارٌ تُحرِق من القلب ما سوى مراد المحبوب، والكونُ
__________
(1) نقل ابن قتيبة نحوه عن هشام بن الحكم شيخ الإمامية. انظر: تأويل مختلف الحديث (98).
(2) “له” ساقط من “ك، ط”.
(3) “ك، ط”: “ذنبة أذنبها”، تصحيف.
(4) نقله المصنف في شفاء العليل (39) من إشارات ابن سينا، وسيأتي مرَّة أخرى في ص (735).
(5) “ط”: “الزيارات”.
(6) وردت هذه الجملة في “ك، ط” مرَّة واحدة.
(1/184)
كله مراد، فأيِّ شيءٍ أُبغِضُ منه؟ قال: فقلت له: إذا كان المحبوب قد أبغضَ بعضَ من في الكون وعاداهم ولعنهم، فأحببتَهم أنت وواليتهم، أكنتَ وليًّا للمحبوب أو عدوًا له؟ قال: فكأنَّما أُلْقِمَ حجَرًا (1).
وقرأ قارئ بحضرة بعض هؤلاء: {قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص/ 75] فقال: هو واللَّهِ منعه! ولو قال إبليس ذلك كان (2) صادقًا، وقد أخطأ إبليس الحجَّة، ولو كنتُ حاضرًا لقلتُ (3): أنتَ منعته!
وسمع بعض هؤلاء قارئًا يقرأ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت/ 17] فقال: ليس من هذا شيء، بل أضلَّهم وأعماهم. قالوا: فما معنى الآية؟ قال: مَخْرَقةٌ يُمَخْرِقُ بها (4).
فيقال: اللَّه أكبر على هؤلاء الملاحدة أعداء اللَّه حقًّا الذين ما قدروا اللَّه حقَّ قدره، ولا عرفوه حقَّ معرفته، ولا عظَّموه حقَّ تعظيمه، ولا نزِّهوه عمَّا يليق به، وبغِّضوه إلى عباده وبغِّضوهم إليه سبحانه، وأساؤوا الثناءَ عليه جهدَهم وطاقتهم.
وهؤلاء خصماءُ اللَّه حقًّا الذين جاءَ فيهم الحديثُ: “يُقال يومَ القيامة: أين خصماء اللَّه؟ فيؤمرُ بهم إلى النَّارِ” (5).
__________
(1) نقله المؤلف عن شيخ الإسلام في المدارج (2/ 594)، وشفاء العليل (19)، وسينقله مرَّة أخرى في هذا الكتاب (658)، وانظر مجموع الفتاوى (10/ 210، 486).
(2) “ط”: “لكان”.
(3) “ك، ط”: “لقلت له”.
(4) المخرقة: الخداع، والشعوذة.
(5) أخرجه اللالكائي (1232) من حديث عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما.
(1/185)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تائيته: (1)
ويُدعَى خصومُ اللَّه يومَ معادِهم … إلى النَّارِ طُرًّا فرقةُ القدريةِ
سواءٌ نفَوه أو سعَوا لِيخاصِمُوا … به اللَّهَ أو مارَوا به للشريعةِ (2)
وسمعته يقول: القدرية المذمومون في السنة، وعلى لسان السلف هم هؤلاء الفرق الثلاثة (3): نفاته، وهم القدرية المجوسية. والمعارضون به للشريعة الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام/ 148] وهم القدرية المشركية (4). والمخاصمون به للربِّ، وهم أعداءُ اللَّه وخصومه، وهم القدرية الإبليسية، وشيخهم إبليس، وهو أوَّل من احتجَّ على اللَّه بالقدر فقال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الأعراف/ 16] ولم يعترف بالذنب وَيُبؤْ به، كما اعترف به آدم. فمن أقرَّ بالذنب، وباءَ به، ونزِّه ربَّه، فقد أشبه أباه آدم، ومن أشبه أباه فما ظلم (5). ومن برَّأ نفسَه واحتجَّ على ربِّه بالقدر فقد أشبَه إبليس (6).
ولا ريبَ أنَّ هؤلاء القدريِّة الإبليسية والمشركية (7) شرٌّ من القدريَّة
__________
(1) وهي التي ردَّ بها على أبيات “الذمي” التي سبق ذكرها في ص (178).
(2) مجموع الفتاوى (8/ 246).
(3) “ط”: “الثلاث”. والذي في الأصل وغيره صحيح لا غبار عليه.
(4) “ط”: “الشركية”. والصواب ما في الأصل وغيره. وسماهم “المشركية” لكونهم قد تشبهوا بالمشركين في قولهم. انظر: مجموع الفتاوى (3/ 111)، (8/ 256).
(5) انظر: المثل في مجمع الأمثال (3/ 312).
(6) انظر: مجموع الفتاوى (8/ 256 – 261).
(7) “ط”: “الشركية” هنا وفيما يأتي، تحريف. وانظر ما سلف آنفًا في الحاشية الرابعة.
(1/186)
النفاة، لأنَّ النفاة إنَّما نفوه تنزيهًا للرب تعالى وتعظيمًا له أن يقدّر الذنب ثمَّ يلوم عليه ويعاقب، ونزهوه أن يعاقِبَ العبد على ما لا صُنعَ للعبد فيه البتة، بل هو بمنزلة طوله وقصره وسواده وبياضه وحوَله (1) ونحو ذلك. كما يحكى عن بعض الجبرية أنَّه حضرَ مجلسَ بعض الولاة فأتيَ بطرَّار (2) أحوَل، فقال له الوالي: ما ترى فيه؟ فقال: اضربه خمسة عشر سوطًا (3). فقال له بعض الحاضرين ممن ينفي الجبر: بل ينبغي أن يُضْرَب ثلاثين سوطًا: خمسة عشر لِطرِّه، ومثلها لِحَوَله. فقال الجبري: كيف يُضْرَب على الحَوَل، ولا صنع له فيه؟ فقال: كما يضرب على الطرّ، ولا صنع له فيه عندك، فبُهِتَ الجبري.
وأمَّا القدرية الإبليسية والمشركية فكثيرٌ منهم منسلخ من (4) الشرع، عدوٌّ للَّه ورسله، لا يُقِرّ بأمرٍ ولا نهي. وتلك وراثة عن شيوخه (5) الذين قال اللَّه فيهم: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)} [الأنعام/ 148].
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى
__________
(1) “وحوله” لم يرد في: “ك، ط”.
(2) الطرّار: النشّال يشن ثوب الرجل ويسُلّ ما فيه.
(3) “ك، ط”: “يعني سوطًا”.
(4) “ك، ط”: “عن”.
(5) “ك، ط”: “شيوخهم”.
(1/187)
الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)} [النحل/ 35].
وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)} [الزخرف/ 20].
وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا في ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)} [يس/ 47].
فهذه أربعة مواضع في القرآن بيّن سبحانه فيها أنَّ الاحتجاج بالقدر من فعل المشركين المكذبين للرسل.
وقد افترق النَّاسُ في الكلام على هذه الآيات أربعَ (1) فرق:
الفرقة الأولى: جعلت هذه الحجَّة حجة صحيحة، وأنَّ للمحتجِّ بها الحجَّةَ على اللَّه. ثمَّ افترق هؤلاء فرقتين:
فرقةً كذَّبتْ بالأمرِ والوعد والوعيد، وزعمت أنَّ الأمرَ والنهي والوعد والوعيد بعد هذا يكون ظلمًا، واللَّه لا يظلم من خلقه أحدًا.
وفرقةً صدَّقت بالأمر والنَّهي والوعد والوعيد، وقالت: ليس ذلك بظلم، واللَّه يتصرَّف في ملكه كما (2) يشاء، ويعذِّب (3) العبدَ على ما لا صنع له فيه، بل يعذِّبه على فعله هو سبحانه لا على فعل عبده، إذ
__________
(1) في الأصل و”ف”: “أربعة”، ولعله سهو. وذلك أنّ المؤلف كتب في الأصل أوّلًا: “فرقًا أربعة”، ثم ضرب على “فرقًا”، وترك العدد على حاله، وكتب بعده: “فرق”. والمثبت من “ك، ط”.
(2) “ك، ط”: “كيف”.
(3) “ف”: “تعذيب”، تحريف.
(1/188)
العبد لا فعلَ له، والملكُ ملكُه، ولا يُسأل عمَّا يفعل وهم يُسألون. فإنَّ هؤلاء الكفَّار إنَّما قالوا هذه المقالة التي حكاها اللَّه عنهم استهزاءً منهم، ولو قالوها اعتقادًا للقضاء والقدر وإسنادًا لجميع الكائنات إلى مشيئته وقدرته لم يُنكَر ذلك (1) عليهم! ومضمون قول هذه الفرقة أنَّ هذه حجة صحيحة إذا قالوها على وجه الاعتقاد لا على جهة الاستهزاء، فيكون للمشركين على اللَّه الحجة. وكفى بهذا القول فسادًا وبطلانًا.
الفرقة الثانية: جعلت هذه الآيات حجَّةً لها في إبطال القضاء والقدر والمشيئة العامة، إذ لو صحَّت المشيئة العامة، وكان اللَّه عزَّ وجلَّ قد شاء منهم الشرك والكفر وعبادة الأوثان، لكانوا قد قالوا الحقَّ، وكان اللَّه عزَّ وجلَّ يصدِّقهم عليه، ولم ينكر عليهم. فحيث وصفهم بالخرص الذي هو الكذب، ونفى عنهم العلم، دلَّ على أنَّ هذا الذي قالوه ليس بصحيح، وأنَّهم كاذبون فيه. إذ لو كان علمًا لكانوا صادقين في الإخبار به، ولم يقل لهم: {هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ} [الأنعام/ 148].
وجعلت هذه الفرقة هذه الآيات حجَّةً لها على التكذيب بالقضاءِ والقدر، وزعمت بها أنَّه (2) يكون في ملكه ما لا يشاء، ويشاءُ ما لا يكون، وأنَّه لا قدرة له على أفعال عباده من الإنس والجن والملائكة، بل (3) ولا على أفعال الحيوانات، وأنَّه لا يقدر أن يُضلَّ أحدًا ولا يهديه، ولا يوفقه (4) أكثر مما فعل به، ولا يعصمه من الذنوب والكفر،
__________
(1) “ذلك” ساقط من “ط”.
(2) “ك، ط”: “أن”.
(3) “بل” لم يرد في “ك، ط”.
(4) “ف”: “يؤتيه”. تحريف.
(1/189)
ولا يُلهِمه رُشْدَه، ولا يجعل في قلبه الإيمان، ولا هو الذي جعل المصلي مصلّيًا، والبر برًّا، والفاجر فاجرًا، والمؤمن مؤمنًا، والكافر كافرًا، بل هم الذين جعلوا أنفسهم كذلك.
فهذه الفرقة شاركت الفرقة التي قبلها في إلقاء الحرب والعداوة بين الشرع والقدر: فالأولى تحيَّزت إلى القدر، وحاربت الشرع. والثانية تحيَّزت إلى الشرع، وكذَّبت بالقدر.
والطائفتان ضالَّتان، وإحداهما أضلّ من الأُخرى.
الفرقة (1) الثالثة: آمنت بالقضاء والقدر، وأقرَّت بالأمر والنَّهي، ونزَّلوا كلَّ واحدٍ منزلته. فالقضاءُ والقدرُ يؤمَن به ولا يُحْتَجّ به، والأمر والنهي يُمتثل ويُطاع. فالإيمان بالقضاء والقدر عندهم من تمام التوحيد وشهادةِ أن لا إله إلا اللَّه، والقيامُ بالأمر والنهي موجَبُ شهادةِ أن محمدًا رسول اللَّه. وقالوا: من لم يُقِرَّ بالقضاء والقدر ويَقُمْ (2) بالأمر والنهي فقد كذَّب بالشهادتين، وإن نطق بهما بلسانه.
ثمَّ افترقوا في وجه هذه الآيات فرقَتين:
فرقة قالت: إنَّما أنكر عليهم استدلالهم بالمشيئة العامة والقضاء والقدر على رضاه ومحبته لذلك. فجعلوا مشيئته له وتقديره له دليلًا على رضاه به ومحبته له، إذ لو كرهه وأبغضه لحال بينهم وبينه (3)، فإنَّ الحكيم إذا كان قادرًا على دفع ما يكرهه ويبغضه دفَعه ومنَع من وقوعه.
__________
(1) “ك، ط”: “والفرقة”.
(2) في الأصل: “ويقوم”، وكذا في “ف، ن”، والصواب ما أثبتنا من “ك، ط”.
(3) “ك، ط”: “بينه وبينهم”.
(1/190)
وإذا (1) لم يمنع من وقوعه لزم إمَّا عدم قدرته وإمَّا عدم حكمته، وكلاهما ممتنع في حقِّ اللَّه، فعُلِم محبتُه لما نحن عليه من عبادة غيره ومن الشرك به!
وقد وافق هؤلاء من قال: إنَّ اللَّه يحب الكفر والفسوق والعصيان ويرضى بها، ولكن خالفهم في أنَّه نهى عنها وأمر بأضدادها ويعاقب عليها، فوافقهم في نصف قولهم، وخالفهم في الشطر الآخر.
وهذه الآيات من أكبر الحجج على بطلان قول الطائفتين، وأنَّ مشيئة اللَّه تعالى العامة وقضاءَه وقدره لا تستلزم محبته ورضاه لكل ما شاءَه وقدَّره. وهؤلاء المشركون لما استدلُّوا بمشيئته على محبته ورضاه كذَّبهم، وأنكر عليهم، وأخبر أنَّه لا علم لهم بذلك وأنَّهم خارصون مفترون، فإنَّ محبة اللَّه تعالى للشيء ورضاه به إنَّما يُعلَم بأمره به على لسان رسوله لا بمجرَّد خلقِه له (2). فإنَّه خلق إبليسَ وجنودَه، وهم أعداؤه، وهو تعالى يبغضهم ويلعنهم، وهم خَلْقُه. فهكذا في الأفعال خلَق خيرَها وشرَّها، وهو يُحبُّ خيرَها ويأمر به ويثيب عليه، ويبغض شرَّها وينهى عنه ويعاقب عليه، وكلاهما خلقُه. وللَّه تعالى الحكمة البالغة التامة في خلقه ما يبغضه ويكرهه من الذوات والصفات والأفعال، كلٌّ صادرٌ عن حكمته وعلمه، كما هو صادر عن قدرته ومشيئته.
وقالت الفرقة الثانية: إنَّما أنكر عليهم معارضةَ الشرع بالقدر، ودفعَ الأمر بالمشيئة. فلما قامت عليهم حجةُ اللَّه، ولزمهم أمرُه ونهيُه دفعوه
__________
(1) “ك”: “وإذ”.
(2) “له” ساقط من “ك، ط”.
(1/191)
بقضائه وقدره، فجعلوا القضاءَ والقدر إبطالًا لدعوة الرسل ودفعًا لما جاؤوا به. وشاركهم في ذلك إخوانهم وورثتهم (1) الذين يحتجون بالقضاء والقدر على المعاصي والذنوب في نصف أقوالهم، وخالفوهم في النصف الآخر، وهو إقرارهم بالأمر والنهي.
فانظر كيف انقسمت هذه المواريث على هذه السهام، وورث كل قوم أئمتهم وأسلافهم إمَّا في جميع تركتهم، وإمَّا في كثير منها، وإمَّا في جزءٍ منها.
وهدى اللَّه بفضله ورثة أنبيائه ورسله لميراث نبيهم وأصحابه، فلم يؤمنوا ببعض الكتاب ويكفروا ببعض، بل آمنوا بقضاء اللَّه وقدره ومشيئته العامة النافذة، وأنَّه ما شاء اللَّه كان وما لم يشأ لم يكن، وأنَّه مقلِّب القلوب ومصرّفها كيف أراد. وأنَّه هو الذي جعل المؤمن مؤمنًا، والمصلي مصلِّيًا، والمتقي متقيًا. وجعل أئمة الهدى يهدون بأمره، وأئمة الضلالة يدعون إلى النار. وأنَّه ألهمَ كلَّ نفس فجورها وتقواها، وأنَّه يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته. وأنَّه هو الذي وفَّق أهل الطاعة لطاعته فأطاعوه، ولو شاءَ لخذلَهم فعصَوه؛ وأنَّهُ حال بين الكفار وقلوبهم، فإنَّه يحول بين المرءِ وقلبه، فكفروا به، ولو شاءَ لوفَّقهم فآمنوا به وأطاعوه، وأنَّه من يهده (2) اللَّه فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له. وأنَّهُ لو شاءَ لآمن من في الأرضِ كلهم جميعًا إيمانًا يُثابون عليه، ويقبل منهم، ويرضى به عنهم. وأنَّه لو شاء ما اقتتلوا، ولكنَّ اللَّه يفعل ما يريد: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ
__________
(1) “ك، ط”: “ذريتهم”.
(2) “ط”: “يهد اللَّه”.
(1/192)
فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} [الأنعام/ 112].
والقضاء والقدر عندهم أربع مراتب (1) جاء بها نبيهم، وأخبربها عن ربه:
الأولى: علمه السابق بما هم عاملوه قبل إيجادهم.
الثانية: كتابة ذلك في الذكر عنده قبل خلق السماوات والأرض.
الثالثة: مشيئته المتناولة لكل موجود، فلا خروج لكائن عن مشيئته، كما لا خروج له عن علمه.
الرابعة: خلقه له وإيجاده وتكوينه، فإنَّه لا خالق إلا اللَّه، واللَّه خالق كل شيء، فالخالق عندهم واحد، وما سواه فمخلوق، ولا واسطة عندهم بين الخالق والمخلوق.
ويؤمنون مع ذلك بحكمته، وأنَّه حكيم في كل ما فعَله وخلَقه، وأن مصدر ذلك جميعه عن حكمة تامَّة هي التي اقتضت صدورَ ذلك وخلقَه، وأنَّ حكمته حكمةُ حقٍّ عائدة إليه قائمة به كسائر صفاته، وليست عبارةً عن مطابقة علمه لمعلومه وقدرته لمقدوره، كما يقوله نفاة الحكمة الذين يقرّون بلفظها دون حقيقتها، بل هي أمر وراء ذلك. وهي الغاية المحبوبة له المطلوبة التي هي متعلَّق محبته وحمدِه، ولأجلها خلَق فسوَّى، وقدَّر فهدى، وأماتَ فأحيا، وأسعد وأشقى، وأضلَّ وهدى، ومنع وأعطى.
وهذه الحكمة هي الغاية، والفعل وسيلة إليها، فإثباتُ الفعل مع نفيها إثباتٌ للوسائل ونفيٌ للغايات وهو محال، إذ نفيُ الغاية مستلزِم
__________
(1) انظر: شفاء العليل (65).
(1/193)
لنفي الوسيلة، فنفيُ الوسيلة -وهي الفعل- لازم لنفي الغاية وهي الحكمة. ونفيُ قيام الفعل والحكمة به نفيٌ لهما في الحقيقة، إذ فعلٌ لا يقوم بفاعله وحكمةٌ لا تقوم بالحكيم شيء لا يُعقل. وذلك يستلزم إنكارَ ربوبيته وإلهيته. وهذا لازمٌ لمن نفى ذلك، لا محيدَ (1) له عنه وإن أبى التزامَه.
وأمَّا من أثبت حكمته وأفعاله على الوجه المطابق للعقل والفطرة وما جاءت به الرسل لم يلزم من قوله محذور البتة، بل قوله حقٌّ، ولازم الحق حق كائنًا ما كان.
والمقصود: أنَّ ورثة الرسل وخلفاءهم -لكمال ميراثهم لنبيهم- آمنوا بالقضاءِ والقدر والحِكَمِ والغايات المحمودة في أفعال الرب وأوامره، وقاموا مع ذلك بالأمرِ والنهي، وصدَّقوا بالوعد والوعيد. فآمنوا بالخلق الذي من تمام الإيمان به إثباتُ القدر والحكمة، وبالأمر الذي من تمام الإيمان به الإيمانُ بالوعد (2) والوعيد وحشر الأجساد والثواب والعقاب. فصدَّقوا بالخلق والأمر، ولم ينفوهما بنفي لوازمهما -كما فعلت القدرية المجوسية والقدرية المعارضة للأمر بالقدر (3) فكانوا (4) أسعدَ النَّاس بالحقِّ (5) وأقربَهم عصبةً في هذا الميراث النبوي. وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل
__________
(1) “ك، ط”: “ولا محيد”.
(2) “ن”: “إثبات الوعد”.
(3) “وبالقدر” سقط من “ط”، واستدرك في القطرية.
(4) “ك، ط”: “وكانوا”.
(5) “ط”: “بالخلق”، تحريف.
(1/194)
العظيم.
واعلم أنَّ الإيمان بحقيقة القدر والشرع والحكمة لا يجتمع إلا في قلوب خواصّ الخلق ولبّ العالم. وليس الشأن في الإيمان بألفاظ هذه المسمّيات وجحدِ حقائقها كما يفعل كثير من طوائف الضلال، فإنَّ القدرية تؤمن بلفظ القدر، ومنهم من يرده إلى العلم، ومنهم من يرده إلى الأمر الديني (1)، ويجعل قضاءَه وقدرَه هو نفسَ أمره ونهيه، ويفسر (2) مشيئة اللَّه لأفعال عباده بأمره لهم بها، وهذا حقيقة إنكار القضاء والقدر. وكذلك الحكمة، فإنَّ الجبرية تؤمن بلفظها وتجحد (3) حقيقتها، فإنَّهم يجعلونها مطابقةَ علمه تعالى لمعلومه، وإرادته لمراده. فهي عندهم وقوع الكائنات على وفق علمه وإرادته. والقدرية النفاة لا يرضون بهذا، بل يرتفعون عنه طبقةً، ويثبتون حكمةً زائدةً على ذلك، لكنَّهم ينفون قيامها بالفاعل الحكيم، ويجعلونها مخلوقًا من مخلوقاته، كما قالوا في كلامه وإرادته. فهؤلاء كلهم أقرُّوا بلفظ الحكمة، وجحدوا معناها وحقيقتها.
وكذلك الأمرُ والشرع، فإنَّ من أنكر كلام اللَّه وقال: إنَّ اللَّه لم يتكلَّم ولا يتكلَّم، ولا قال ولا يقول، ولا يحبُّ شيئًا ولا يبغض شيئًا؛ وجميعُ الكائنات محبوبةٌ له، وما لم يكن فهو مكروه له، ولا يحِبّ، ولا يحَبّ (4)، ولا يرضى، ولا يغضب؛ ولا فرق في نفس الأمر بين
__________
(1) “ف”: “والنهي”، تحريف.
(2) “ط”: “نفس”، تحريف.
(3) “ك، ط”: “يجحدون”.
(4) “ولا يحَبّ” ساقط من “ك، ط”.
(1/195)
الصدق والكذب، والبرّ والفجور (1)، والسجود للأصنام والشمس والقمر والنجوم وبين (2) السجود له. ولم يكلف أحدًا ما يقدر عليه، بل كلُّ تكاليفه (3) تكليفُ ما لا يطاق، ولا قدرة للمكلَّف عليه البتة. ويجوز أن يعذِّب رجالًا إذ لم يكونوا نساء، ويعذب نساءً إذ لم يكونوا رجالًا، وسودًا حيث لم يكونوا بيضًا، وعكسه (4). ويجوزُ أن يُظهر المعجزةَ على أيدي الكذَّابين، ويُرسل رسولًا يدعو إلى الباطل وعبادة الأوثان، ويأمر بقتل النفوس وأنواع الفجور.
ولا ريبَ (5) أنَّ هذا يرفع الشرائع والأمر والنهي بالكلية، ولو لا تناقض القائلين به لكانوا منسلخين من دين الرسل، ولكن مشى الحالُ بعضَ المشي بتناقضهم، وهو خير لهم من طرد أصولهم والقولِ بموجبها.
والمقصود: أنَّه لم يؤمن بالقضاء والقدر والحكمة والأمر والنهي والوعد والوعيد حقيقةَ الإيمان إلا أتباع الرسل وورثتُهم.
والقضاء والقدر منشؤه عن علم الرب وقدرته، ولهذا قال الإمام أحمد: “القدر قدرة اللَّه” (6). واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من أحمد
__________
(1) “ط”: “الصدق والفجور والكذب والفجور”، وحذفت “الفجور” الأولى من القطرية، والصواب ما أثبتنا من الأصل وغيره.
(2) “النجوم وبين” ساقط من “ط”.
(3) “ط”: “تكليفه”.
(4) مكان “عكسه” في “ط”: “وبيضًا حيث لم يكونوا سودًا”.
(5) كذا في الأصل وغيره، وهو في المعنى خبر “فإنّ” الواردة في أول الفقرة السابقة.
(6) مسائل ابن هانئ (2/ 155)، مجموع الفتاوى (8/ 308).
(1/196)
غايةَ الاستحسان، وقال: إنَّه شفى بهذه الكلمة وأفصح بها عن حقيقة القدر (1).
ولهذا كان المنكرون للقدر فرقتين: فرقة كذَّبت بالعلم السابق ونفَتْه، وهم غلاتهم الذين كفِّرهم السلف والأئمة وتبرأ منهم الصحابة. وفرقة جحدت كمال القدرة، وأنكرت أن تكون أفعال العباد مقدورةً للَّه تعالى، وصرَّحت بأنَّ اللَّه لا يقدر عليها. فأنكر هؤلاء كمالَ قدرة الرب تعالى، وأنكرت الأخرى كمالَ علمه. وقابلتهم الجبرية، فحافظت (2) على إثبات القدرة والعلم، وأنكرت الحكمة والرحمة.
ولهذا كان مصدر الخلق والأمر والقضاء والشرع عن علم الرب وعزته وحكمته، ولهذا يقرن تعالى بين الاسمين والصفتين (3) من هذه الثلاث (4) كثيرًا كقوله: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)} [النمل/ 6]، وقال: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)} [الزمر/ 1]. وقال: {حمَ} [غافر/ 1 – 2].
وقال في حم فصلت (5) بعد ذكر تخليق العالم: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)} [فصلت/ 12]. وذكر نظير هذا في الأنعام، فقال: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ
__________
(1) وانظر شفاء العليل (63).
(2) “ط”: “فجاءت”.
(3) “والصفتين” ساقط من القطرية.
(4) “ك، ط”: “الثلاثة”. وانظر في افتران الأسماء المذكورة ما سيأتي في ص (230).
(5) “فصلت” ساقط من القطربة.
(1/197)
الْعَلِيمِ (96)} [الأنعام/ 96] (1).
فارتباطُ الخلق بقدرته التامَّة يقتضي أن لا يخرج موجودٌ عن قدرته، وارتباطُه بعلمه التام يقتضي إحاطته به وتقدمه عليه، وارتباطُه بحكمته يقتضي وقوعه على أكمل الوجوه وأحسنها، واشتماله على الغاية المحمودة المطلوبة للرب تعالى. وكذلك ارتباط (2) أمره بعلمه وحكمته وعزَّته، فهو عليمٌ بخلقه وأمره، حكيمٌ في خلقه (3) وأمره، عزيزٌ في خلقه وأمره (4).
ولهذا كان الحكيم من أسمائه الحسنى، والحكمة (5) من صفاته العلى. والشريعة الصادرة عن أمره مبناها على الحكمة، والرسول المبعوث بها مبعوث بالكتاب والحكمة. والحكمة هي سنة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهي تتضمن العلم بالحق، والعمل به، والخبر عنه، والأمر به؛ فكل (6) هذا يسمَّى “حكمة”. وفي الأثر: “الحكمة ضالة المؤمن” (7). وفي
__________
(1) هذه قراءة عاصم وغيره من الكوفيين، والوارد في الأصل وغيره قراءة الباقين، ومنهم أبو عمرو، ويظهر أنَّ قراءته هي المعتمدة فيها، وهي: “وجاعلُ الليلِ”. انظر: الإقناع (2/ 641).
(2) سقط “ارتباط” من “ط”.
(3) “ف”: “بخلقه”، سهو.
(4) “عزيز في خلقه وأمره” سقط من “ط”. وأمَّا القطرية فأسقطت ما قبله أيضًا، وهو: “حكيم في خلقه وأمره”.
(5) “ف”: “فالحكمة”، خلافًا للأصل. وكذا في “ك، ط”.
(6) “ف”: “وكل”، وهي قراءة محتملة.
(7) أخرجه الترمذي (2687)، وابن ماجه (4169) من حديث أبي هريرة. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإبراهيم بن الفضل المدني المخزومي يضعف في الحديث من قبل حفظه. وأخرجه البيهقي في =
(1/198)
الحديث: “إنَّ من الشعر حكمة” (1).
فكما لا يخرج مقدور عن علمه وقدرته ومشيئته، فهكذا لا يخرج عن حكمته وحمده. وهو (2) محمود على جميع ما في الكون من خيرٍ وشر حمدًا استحقه لذاته، وصدر عنه خلقُه وأمرُه. فمصدرُ ذلك كله عن الحكمة، فإنكارُ الحكمة إنكارٌ لحمده في الحقيقة (3).
فصل
وإنَّما يتبين هذا ببيان وجود الحكمة في كلِّ ما خلقه اللَّه وأمرَ به، وبيان أنَّه كلّه خير من جهة إضافته إليه سبحانه، وأنَّه من تلك الإضافة خير وحكمة، وأنَّ جهة الشر منه من جهة إضافته إلى العبد، كما قال النبيّ (4) -صلى اللَّه عليه وسلم- في دعاءِ الاستفتاح: “لبَّيك وسعديك، الخيرُ في يديك، والشرُّ ليس إليك” (5).
فهذا النفي يقتضي امتناعَ إضافةِ الشر إليه تعالى بوجه، فلا يضافُ إلى ذاته ولا صفاته ولا أسمائه ولا أفعاله. فإنَّ ذاته تعالى منزَّهة عن كلِّ شرٍّ، وصفاته كذلك، إذ كلّها صفات كمال ونعوتُ جلال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، وأسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم ذم ولا عيب،
__________
= المدخل (844) عن أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه. وجاء عن معاوية، وزيد بن أسلم، وعبد اللَّه بن عبيد بن عمير. انظر: تبييض الصحيفة لمحمد عمرو عبد اللطيف (1/ 67). (ز).
(1) أخرجه البخاري عن أُبيّ بن كعب رضي اللَّه عنه في كتاب الأدب (6145).
(2) “ف”: “فهو” خلافًا للأصل.
(3) زاد في “ك، ط”: “واللَّه أعلم”.
(4) “النبي” لم يرد في “ك، ط”.
(5) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها (771) من حديث علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه.
(1/199)
وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وإحسان وعدل لا تخرج عن ذلك البتة؛ وهو المحمود على ذلك كله، فيستحيل إضافة الشر إليه.
وتحقيق ذلك أنَّ الشرَّ ليس هو إلا الذنوب وعقوبتها، كما في خطبته -صلى اللَّه عليه وسلم-: “الحمدُ للَّه، نستعينه، ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا” (1). فتضمّن ذلك الاستعاذةَ من شرور النفوس، ومن سيئات الأعمال وهي عقوباتها. وعلى هذا فالإضافة على معنى “اللام” من باب (2) إضافة المتغايرين. أو يقال: المرادُ السيئاتُ من الأعمال، فعلى هذا الإضافةُ بمعنى “من”، وهي من باب إضافة النوع إلى جنسه.
ويدلُّ على الأوَّل قوله تعالى: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} [غافر/ 9]. قال شيخنا رحمه اللَّه (3): وهذا أشبه، لأنَّه (4) إذا أريد السيئات من الأعمال، فإن أريد ما وقع منها فالاستعاذة إنَّما تكون من عقوباتها، إذ الواقع لا يمكن رفعُه؛ وإن استعاذ منها قبل وقوعها لئلا يقع، فهذا هو الاستعاذة (5) من شرِّ النفس.
وأيضًا فلا يقال في هذه التي لم توجد بعدُ: “سيئات أعمالنا”، فإنها
__________
(1) أخرجه أحمد (3721، 4116)، وأبو داود (2118)، والترمذي (1105)، وابن ماجه (1892) بإسناد صحيح.
(2) “ن”: “وهي من باب”.
(3) يعني شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه. وانظر قوله في مجموع الفتاوى (18/ 289).
(4) “لأنَّه” ساقط من “ط”.
(5) “لا يمكن رفعه. . . الاستعاذة” ساقط من “ط”.
(1/200)
لم تكن بعدُ أعمالًا فضلًا عن أن تكون سيئات، وإضافة الأعمال إلينا تقتضي وجودها، إذ ما (1) لم يوجد بعدُ ليس هو من أعمالنا، إلا أن يقال: من سيئات الأعمال التي إذا عملناها كانت سيئات.
ولمن رجَّح التقدير الثاني أن يقول: العقوبات ليست لجميع الأعمال، بل للمحرَّمات منها، والأعمال أعم، وحملُها على المحرمات خاضَةً خلافُ ظاهر اللفظ. بخلاف ما إذا كانت الإضافة على معنى “من”، فتكون الأعمال على عمومها، والسيئات بعضها، فتكون السيئات على عمومها، والأعمال على عمومها (2).
ويترجَّح أيضًا بأن (3) الاستعاذة تكون قد اشتملت على أصول الشرّ كله، وهي (4) شرّ النفس الكامن فيها الذي لم يخرج إلى العمل، وشرّ العمل الخارج الذي سوَّلته النفس. فالأوَّل شر الطبيعة والصفة التي في النفس، والثاني شر العمل المتعلق بالكسب والإرادة. ويلزم من المعافاة من هذين الشرين المعافاةُ من موجَبهما، وهو العقوبة؛ فتكون الاستعاذة قد شملت جميع أنواع الشر بالمطابقة واللزوم. وهذا هو اللائق بمن أوتي جوامع الكلم، فإنَّ هذا من جوامع كلمه البديعة العظيمة الشأن التي لا يعرف قدرَها إلا أهلُ العلم والإيمان (5).
__________
(1) “ما” سقط من “ط” واستدرك في القطرية.
(2) “والأعمال على عمومها” ساقط من “ط”.
(3) “ك، ط”: “أنَّ”.
(4) “ط”: “هو”.
(5) وانظر: إغاثة اللهفان (1/ 151)، وبدائع الفوائد (716)، والداء والدواء (178).
(1/201)
وإذا عُرِفَ هذا، وأنَّه (1) ليس في الوجود شرٌّ إلا الذنوب وموجباتها، وكونُها ذنوبا ناشئ (2) من نفس العبد، فإنَّ سبَب الذنب الظلمُ والجهلُ، وهما من نفس العبد؛ كما أنَّ سببَ الخير والحمَدِ العلم (3) والحكمة والغنى، وهي أمور ذاتية للرب تعالى.
فذاتُ (4) الرب تعالى مستلزمة للحكمة والخير والجود، وذاتُ العبد مستلزمة للجهل والظلم، وما فيه من العلم والعدل فإنَّما حصل له بفضل اللَّه عليه، وهو أمرٌ خارجٌ عن نفسه. فمن أراد اللَّه به خيرًا أعطاه هذا الفضل، فصدرَ منه موجَبه (5) من الإحسان والبر والطاعة. ومن أراد به شرًا أمسكه عنه، وخلَّاه ودواعي نفسه وطبعه وموجبها، فصدر منه موجبُ الجهل والظلم من كلِّ شرٍّ وقبيح. وليس منعه لذلك ظلمًا منه تعالى، فإنَّه فضلُه، وليس من منع فضله ظالمًا، لا سيما إذا منعه عن محل لا يستحقه ولا يليق به.
وأيضًا فإنَّ هذا الفضل هو توفيقه وإرادته من نفسه أن يلطف بعبده، ويوفقَه، ويعينَه، ولا يخليَ بينه وبين نفسه؛ وهذا محض فعله وفضله، وهو سبحانه أعلمُ بالمحلِّ الذي يصلح لهذا الفضل، ويليق به، ويثمر فيه (6)، ويزكو به.
__________
(1) قراءة “ف”: “فإنَّه”.
(2) “ك، ط”: “تأتي”، ولعله تصحيف.
(3) “ط”: “الخير الحمد والعلم”.
(4) “ك، ط”: “وذات”.
(5) “موجبه من” ساقط من “ط”.
(6) “ك، ط”: “به”.
(1/202)
وقد أشارَ تعالى إلى هذا المعنى بقوله: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام/ 53] فأخبر سبحانه أنَّه أعلمُ بمن يعرف قدرَ هذه النعمة ويشكره عليها. فإنَّ أصلَ الشكر هو الاعترافُ بإنعام المنعم على وجه الخضوع له والذل والمحبة، فمن لم يعرف النعمة بل كان جاهلًا بها لم يشكرها؛ ومن عرفها ولم يعرف (1) المنعمَ بها لم يشكرها أيضًا؛ ومن عرفَ النعمة والمنعم لكن جحَدها كما يجحد المنكِر لنعمة المنعِم عليه (2) فقد كفرها. ومن عرف النعمةَ والمنعِمَ، وأقرَّ بها ولم يجحدها، ولكن لم يخضع له، ويحبَّه، ويرضَ به (3) وعنه، لم يشكرها أيضًا. ومن عرفها، وعرف المنعِم بها، وأقرّ بها (4)، وخضعَ للمنعم بها، وأحبه ورضي به وعنه، واستعملها في محابه وطاعته فهذا هو الشاكر لها.
فلا بُدَّ في الشكر من علم القلب، وعمل يتبع العلم، وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له، كما في صحيح البخاري (5) عن شدَّاد بن أوس قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “سيِّدُ الاستغفار أن يقول العبد: اللَّهم أنت ربِّي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذُ بك من شر ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتك عليَّ، وأبوءُ بذنبي، فاغفر لي فإنَّه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها إذا أصبح موقنًا
__________
(1) قوله: “النعمة بل” إلى هنا سقط من “ك” لانتقال النظر.
(2) “ك، ط”: “عليه بها”.
(3) “ف”: “يرضى”. قراءة محتملة. وإثبات حرف العلّة في موقع الجزم لغة لبعض العرب. انظر: شواهد التوضيح (21).
(4) “وأقرَّ بها” ساقط من “ط”.
(5) كتاب الدعوات (6306، 6323)، وسيأتي مرة أخرى مع تفسيره في (352).
(1/203)
بها فماتَ من يومه دخل الجنَّة، ومن قالها إذا أمسى موقنا بها فمات من ليلته دخل الجنَّة”.
فقوله: “أبوءُ لك بنعمتك عليَّ” يتضمن الإقرار والإنابة إلى اللَّه بعبوديته، فإنَّ المباءة هي التي يبوء إليها الشخص، أي يرجع إليها رجوع استقرار، والمباءَة هي المستقر. ومنه قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “من كذبَ عليَّ متعمِّدًا فلْيتبوَّأ مقعدَه من النَّار” (1) أي لِيتَّخِذْ مقعدَه من النَّار مباءَةً يلزمه ويستقر فيه، لا كالمنزل الذي ينزله ثم يرحل عنه.
فالعبدُ يبوءُ إلى اللَّه عزَّ وجلَّ بنعمته عليه، ويبوءُ بذنبه، فيرجع (2) إليه بالاعتراف بهذا وبهذا، رجوعَ مطمئن إلى ربَّه منيبٍ إليه، ليس رجوعَ من أقبل عليه ثم أعرض عنه، بل رجوعَ من لا يُعرض عن ربه، بل لا يزال مقبلًا عليه، إذ (3) كان لا بد له منه (4). فهو معبوده، وهو مستعانه (5)، لا صلاح له إلا بعبادته، فإن لم يكن معبودَه هلك وفسد، ولا يمكن أن يعبده إلا بإعانته. وفي الحديث: “مثل المؤمن مثل الفرس في آخيّته (6): يجولُ ثمَّ يرجع إلى آخيته. كذلك المؤمن يجولُ ثمَّ يرجع
__________
(1) أخرجه البخاري في العلم (110) وغيره، ومسلم في المقدمة (3) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(2) “ن”: “فرجع”. “ك، ط”: “ويرجع”.
(3) “ط”: “إذا”، خطأ.
(4) “ليس رجوع من أقبل. . . ” إلى هنا ساقط من “ن”.
(5) “ك، ط”: “مستغاثه”، تصحيف.
(6) الآخيَّة بالمد والتشديد، ويجوز بالتخفيف: العروة تشد بها الدابة مثنية في الأرضِ. قاله أبو عبيد. اللسان (أخا).
(1/204)
إلى الإيمان” (1).
فقوله: “أبوءُ” يتضمن أني وإن جُلْتُ كما يجول الفرس -إمَّا بالذنب وإمَّا بالتقصير في الشكر- فإنِّي راجع منيب أوَّاب إليك، رجوعَ من لا غنى له عنك.
وذكر النعمةَ والذنبَ لأنَّ (2) العبد دائمًا يتقلب بينهما، فهو بين نعمةٍ من ربِّه وذنبٍ منه هو، كما في الأثر الإلهي: “ابنَ آدم خيري إليك نازل، وشرُّك إليَّ صاعد. كم أتحبَّب إليك بالنعم، وأنا غني عنك! وكم تتبغض إليَّ بالمعاصي، وأنت فقير إلي! ولا يزال الملك الكريم يعرُج إليَّ منك بعمل قبيح” (3).
وكان في زمن الحسن البصري شابّ لا يُرى إلا وحده، فسأله الحسن عن ذلك فقال: إنِّي أجدني بين نعمةٍ في اللَّه وذنبٍ منِّي، فأريد أن أحدِثَ
__________
(1) أخرجه أحمد (1526)، وابن حبان (616)، وأبو الشيخ في الأمثال (352) وغيرهم. وفي سنده ضعف. تفرَّد به أبو سليمان الليثي عن أبي سعيد الخدري. وأبو سليمان مجهول. وفيه عبد اللَّه بن الوليد، فيه ضعف. قال ابن طاهر المقدسي: حديث غريب لا يذكر إلا بهذا الإسناد. انظر: تعجيل المنفعة (2/ 473). (ز).
(2) “ف”: “أنّ”، خلافًا للأصل.
(3) نقله المصنف في المدارج (1/ 545)، والزاد (2/ 409)، وشفاء العليل (364)، وسيأتي مرّة أخرى في ص (687). أخرجه نعيم في الحلية (4/ 31) عن وهب بن منبه قال: قرأت في بعض الكتب فوجدت اللَّه تعالى يقول. . . (ص).
وقد أخرجه ابن أبي الدنيا في الشكر (43) عن مالك بن دينار قال: قرأت في بعض الكتب: إن اللَّه عزّ وجّل يقول. . . فذكره. (ز).
(1/205)
للنعمة شكرًا وللذنب استغفارًا، فذلك الذي شغلني عن النَّاس، أو كما قال. فقال له: “أنت أفقه عندي (1) من الحسن” (2).
فالخيرُ كله من اللَّه كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل/ 53]. وقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ} [الحجرات/ 7 – 8].
وقال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)} [الحجرات/ 17].
وقال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة/ 6 – 7]. وهؤلاء المنعَم عليهم هم المذكورون في قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} [النساء/ 69].
فالنعم كلُّها -من (3) نعم الدِّين والدنيا، وثواب الأعمال في الدنيا والآخرة (4) – من نِعَمِ اللَّه ومنِّه (5) وفضله على عبده. وهو تعالى، وإن
__________
(1) لم يرد “عندي”، في “ك، ط”.
(2) نقله المصنف في عدة الصابرين (243)، وقد أخرجه ابن أبي الدنيا في الشكر (196).
(3) “من” ساقط من “ك”.
(4) قوله “من نعم الدين. . . ” إلى هنا ساقط من “ط”.
(5) “ومنّه” ساقط من “ط”.
(1/206)
كان أجودَ الأجودين وأرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، فإنَّه أحكم الحاكمين وأعدل العادلين، لا يضع الأشياءَ إلا في مواضعها اللائقة بها، ولا يناقض جودُه ورحمتُه وفضلُه حكمتَه وعدلَه.
ولو رأى العقلاءُ أحدًا منهم قد وضع المِسك في الحشوش والأخلية، ووضَع النجاسات والقاذورات في مواضع الطيب والنظافة لاشتدَّ نكيرهم عليه والقدحُ في عقله، ونسبوه إلى السفَه وخلاف الحكمة. وكذلك لو وضع العقوبة موضع الإحسان، والإحسانَ موضع العقوبة لسفَّهوه، وقدحوا في عقله، كما قال القائل:
ووضعُ النَّدى في موضع السَّيف بالعلا … مُضِرٌّ كوضع السَّيفِ في موضعِ النَّدى (1)
وكذلك لو وضع الدواءَ موضع الغذاء، والغذاءَ موضع الدواء، والاستفراغ حيث يكون اللائق به عدمه، والإمساكَ حيث يليق الاستفراغ. وكذلك وضع الماء موضعَ الطعام، ووضع (2) الطعام موضعَ الماء، وأمثال ذلك مما يخل بالحكمة، بل لو أقبل على الحيوان البهيم يريد تعليمه ما لم يُخلق له من العلوم والصنائع. فمن بهرت حكمتُه العقول والألباب كيف ينبغي له أن يضع الأشياء في غير مواضعها اللائقة بها؟
ومن المعلوم أنَّ أجلَّ نعمِه على عبده نعمةُ الإيمان به، ومعرفته، ومحبته، وطاعته، والرضا به، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والتزام عبوديته. ومن المعلوم أيضًا أنَّ الأرواح منها الخبيث الذي لا أخبث
__________
(1) للمتنبي في ديوانه (533).
(2) “وضع” ساقط من “ط”.
(1/207)
منه، ومنها الطيب، وبين ذلك؛ وكذلك القلوب منها القلب الشريف الزكي، والقلب الخسيس الخبيث. وهو سبحانه خلق الأضداد كما خلق الليل والنهار، والبر والبحر (1)، والحر والبرد (2)، والداءَ والدواء، والعلو والسفل؛ وهو أعلمُ بالقلوب الزاكية والأرواح الطيبة التي تصلح لاستقرار هذه النعم فيها، وإيداعها عندها، ويزكو بذرها (3) فيها، فيكون تخصيصه لها بهذه النعم (4) كتخصيص الأرض الطيبة القابلة للبذرِ بالبذرِ. فليس من الحكمة أن يبذرَ البُرُّ في الصخور والرمال والسِّباخ (5)، وفاعل ذلك غير حكيم، فما الظنُّ ببذر الإيمان والقرآن والحكمة ونور المعرفة والبصيرة في المحالّ التي هي أخبث المحالّ.
فاللَّه عزَّ وجلَّ أعلم حيث يجعل رسالاته أصلًا وميراثًا، فهو أعلمُ بمن يصلح لتحمّلِ رسالته فيؤديها إلى عباده بالأمانة، والنصيحة، وتعظيم المرسِل، والقيامِ بحقه، والصبر على أوامره، والشكر لنعمه، والتقرب إليه؛ ومن لا يصلح لذلك. وكذلك هو سبحانه أعلم بمن يصلح من الأمم لوراثة رُسله، والقيام بخلافتهم، وحمل ما بلَّغوه عن ربِّهم.
قال عبد اللَّه بن مسعود: “إنَّ اللَّه تعالى نظر في قلوب العباد، فرأى قلب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- خيرَ قلوب أهل الأرض، فاختصه برسالته. ثمَّ نظر في
__________
(1) “والبر والبحر” ساقط من “ك، ط”.
(2) “ك، ط”: “البرد والحر”.
(3) “ط”: “بذورها”، وصحح في القطرية.
(4) “ط”: “النعمة”.
(5) جمع سَبَخَة، وهي الأرض التي تعلوها الملوحة، ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر.
(1/208)
قلوب العباد، فرأى قلوبَ أصحابه خيرَ قلوب العباد، فاختارهم لصحبته” (1). وفي أثر إسرائيلي (2): أنَّ اللَّه تعالى قال لموسى: أتدري لمَ اخترتُك لكلامي؟ قال: لا يا رب. قال: لأنِّي (3) نظرتُ في قلوب العباد، فلم أرَ فيها أخضعَ من قلبك لي. أو نحو هذا (4).
فالربُّ سبحانه إذا علمَ من المحلّ (5) أهليَّةً لفضله ومحبته ومعرفته وتوحيده حبَّبَ إليه ذلك، ووضعه فيه، وكتبه في قلبه، ووفَّقه له، وأعانه عليه، ويسَّرَ له طرقَه، وأغلق دونه الأبوابَ التي تحول بينه وبين ذلك. ثمَّ تولاه بلطفه وتدبيره وتيسيره وتربيته أعظمَ (6) من تربية الوالد الشفيق الرحيم المحسِن لولده الذي هو أحب شيء إليه. فلا يزال يعامله بلطفه، ويختصه بفضله، ويؤثره برحمته، ويمده بمعونته، ويؤيده بتوفيقه، ويُريه مواقع إحسانه إليه وبرّه به؛ فيزداد العبدُ به معرفةً، وله محبَّةً، وإليه إنابةً، وعليه توكلًا؛ ولا يتولى معه غيره، ولا يعبد (7) سواه. وهذا هو الذي عرفَ قدرَ النعمة، وعرف المنعم، وأقرَّ بنعمته، وصرفها في مرضاته؛ فاقتضت (8) حكمة الرب تعالى وجوده وكرمه وإحسانه أن بذر
__________
(1) أخرجه أحمد (3600)، والبزار كما في كشف الأستار (130)، وسنده حسن. (ز).
(2) “ط”: “أثر بني إسرائيل”. وكذا كان في “ك” ثمَّ عدّل في المتن.
(3) “ط”: “إني”.
(4) نقل الذهبي نحو هذا عن وهب بن منبه في سير أعلام النبلاء (15/ 498).
(5) “ك، ط”: “محل”.
(6) “ط”: “أحسن”.
(7) “ك، ط”: “ولا يعبد معه”.
(8) “ك، ط”: “واقتضت”.
(1/209)
في هذا القلب بذر الإيمان والمعرفة، وسقاه ماءَ العلم النافع والعمل الصالح، وأطَلع عليه من نوره شمسَ الهداية، وصرف عنه الآفاتِ المانعة من حصولِ الثمرة، فأنبتت أرضُه الزاكية من كل زوجٍ كريم، كما في الصحيح من حديث أبي موسى عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال:
“مثلُ ما بعثني اللَّه به (1) من الهدى والعلم كمثل غيثٍ أصابَ أرضًا، فكان منها طائفةٌ طيبةٌ قبلت الماءَ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير. وكان منها طائفة أجادبُ أمسكت الماء، فسقى الناس وزرعوا. وأصاب منها طائفةً أخرى إنَّما هي قِيعانٌ لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقُه في دين اللَّه ونفعه بما بعثني اللَّه به، ومثل من لم يرفع في بذلك رأسًا ولم يقبل هدى اللَّه الذي أُرسِلتُ به” (2).
فمثَّل القلوب بالأرضِ التي هي محل النبات والثمار، ومثَّل الوحيَ الذي وصل إليها من بارئها وفاطرها بالماءِ الذي ينزله على الأرضِ. فمن الأرضِ أرضٌ طيبة قابلةٌ للماءِ والنبات، فلمَّا أصابها الماءُ أنبتت ما انتفع به الآدميون والبهائم: أقواتَ (3) المكلفين وغيرهم. وهذه بمنزلة القلبِ القابل لهدى اللَّه ووحيه، المستعدّ لزكائه (4) وثمرته ونمائه، وهذا خير قلوب العالمين.
ومن الأرضِ أرضٌ صلبةٌ منخفضةٌ غيرُ مرتفعة ولا رابية، قابلةٌ لحفظ الماءِ واستقراره فيها، ففيها قوَّة الحفظ وليس فيها قوَّة النبات؛ فلمَّا
__________
(1) لم يرد “به” في “ك، ط”.
(2) أخرجه البخاري في كتاب العلم (79)، ومسلم في كتاب الفضائل (2282).
(3) “ط”: “وأقوات” بزيادة الواو.
(4) “ف”: “لزكاته”.
(1/210)
حصلَ فيها الماءُ أمسكته وحفظته، فورده الناس لشربهم وشرب مواشيهم، وسقوا منه زروعهم (1). وهذا بمنزلة القلب الَّذي حفظ الوحيَ، وضبَطَه، وأدَّاه إلى من هو أفهمُ له منه، وأفقه منه فيه (2)، وأعرف بمراده؛ وهذا في الدرجة الثانية.
ومن الأرضِ أرضٌ قيعانٌ -وهي المستوية التي لا تنبت إمَّا لكونها سَبَخةً (3) أو رمالًا، ولا يستقر فيها الماء- فإذا وقع عليها الماءُ ذهبَ ضائعًا لم تمسكه لشرب الناس، ولم تُنبت به كلأ، لأنَّها غير قابلة لحفظ الماءِ ولا لنبات الكلأ والعشب. وهذَا حال أكثر الخلق، وهم الأشقياء الذين لم يقبلوا هدى اللَّه ولم يرفعوا به رأسًا، ومن كان بهذه المثابة فليس من المسلمين. بل لابد لكلِّ مسلم أن يزكو الوحيُ في قلبه، فينبت من العمل الصالح، والكلم الطيب، ونفع نفسه وغيره بحسب قدرته. فمن لم ينبت قلبُه شيئًا من الخيرِ البتة، فهذا من أشقى الأشقياء. فصلوات اللَّه وسلامه على مَن الهدى والبيانُ والشفاءُ والعصمةُ في كلامه وفي أمثاله (4).
والمقصود: أنَّ اللَّه سبحانه أعلم بمواقع فضله ورحمته وتوفيقه، ومن يصلح لها ممن (5) لا يصلح، وأنَّ حكمته تأبى أن تضع (6) ذلك عند
__________
(1) “ك”: “زرعهم”.
(2) “فيه” ساقط من “ك، ط”.
(3) في الأصل: “صبخة”، ولعله سبق قلم، وكذا في “ف، ن”.
(4) وانظر شرح الحديث المذكور في مفتاح دار السعادة (1/ 246)، والرسالة التبوكية (61).
(5) “ط”: “ومن”.
(6) “ط”: “يضع”.
(1/211)
غير أهله، كما تأبى أن تمنعه (1) من يصلح له. وهو سبحانه الَّذي جعل المحلّ صالحًا وجعله أهلًا وقابلًا، فمنه الإعداد والإمداد، ومنه السبب والمسبَّب.
ومن اعترض بقوله: فهلَّا جعل المحالّ كلها كذلك، وجعل القلوب على قلب واحد! فهو من أجهل الناس وأضلهم وأسفههم، وهو بمنزلة من يقول: لم خلق الأضداد، وهلَّا جعلها كلَّها شيئًا (2) واحدًا! فلم خلق الليل والنهار، والفوق والتحت، والحر والبرد، والداءَ والدواء (3)، والشياطين والملائكة، والروائح الطيبة والكريهة، والحلو والمر، والحسن والقبيح؟ وهل يسمح خاطرُ من له أدنى مُسْكةٍ من عقل بمثل هذا السؤال الدَّال على حمق سائله وفساد عقله؟ وهل ذلك إلا موجَب (4) ربوبيته وإلهيته وملكه وقدرته ومشيئته وحكمته، ويستحيل أن يتخلف موجب صفات كماله عنها.
وهل حقيقة الملك إلا بإكرام الأولياء وإهانة الأَعداءِ؟ وهل تمام الحكمة وكمال القدرة إلا بخلق المتضادات والمختلفات، وترتيب آثارها عليها، وإيصال ما يليق بكل منها إليه؛ وهل ظهور آثار أسمائه وصفاته في العالمِ إلا من لوازم ربوبيته وملكه؛ فهل يكون رزَّاقًا وغفَّارًا وعفوًّا (5) ورحيمًا وحليمًا (6)، ولم يوجد من يرزقه، ولا من يغفر له،
__________
(1) “ط”: “يمنعه”.
(2) “ط”: “سببًا”، تصحيف.
(3) “ك، ط”: “الداء والدواء”.
(4) “ط”: “بموجب”، وصحح في القطرية.
(5) “ك”: “غفورًا”، تحريف.
(6) “ط”: “حليمًا رحيمًا”، وسقط “رحيمًا” من القطرية.
(1/212)
ويعفو عنه، ويحلم عنه، ويرحمه؟ وهل انتقامه إلا من لوازم ربوبيته وملكه؟ فممن ينتقم إن لم يكن له أعداء ينتقم منهم، ويُري أولياءَه كمال نعمتِه واختصاصه إيَّاهم دون غيرهم بكرامته وثوابه؟
وهل في الحكمة الإلهية تعطيلُ الخير الكثير لأجل شرٍّ جزئي يكون من لوازمه؟ فهذا الغيث الَّذي يحيى اللَّه به (1) البلاد والعباد والشجر والدواب، كم يحبس من مسافر، ويمنع من قصَّار (2)، ويهدم من بناء، ويعوق عن مصلحة (3)؟ ولكن أين هذا مما يحصل به من المصالح؟ وهل (4) هذه المفاسد في جنب مصالحه إلا كتَفلةٍ في بحر؟ وهل تعطيلُه لئلا تحصل به هذه المفاسد إلا موجِبًا (5) لأعظم المفاسد والهلاكِ؟
وهذه الشمس التي سخَّرها اللَّه لمنافع عباده (6) وإنضاج ثمارهم وأقواتهم وتربية أبدانهم وأبدان الحيوانات والطير، وفيها من المنافع والمصالح ما فيها = كم تؤذي مسافرًا وغيره بحرّها، وكم تجفف رطوبةً وكم تُعطِش حيوانًا، وكم تحبس عن مصلحة، وكم تنشِف من مورد، وتحرق من زرع! ولكن أين يقع هذا في جنبِ ما فيها من المنافع والمصالح الضرورية، والمُكملة؟ فتعطيل الخير الكثير لأجلِ الشر
__________
(1) “ك، ط”: “يحيى به اللَّه”.
(2) “ط”: “قصاد” بالدال، تحريف. والقصار: الَّذي يدُق الثياب بالقَصَرة -قطعة من الخشب- ويبيضها.
(3) “ك، ط”: “من مصلحة”.
(4) في “ن”: “فهل”.
(5) كذا بالنصب في الأصل وغيره، وموضعه الرفع لكونه خبر المبتدأ.
(6) “ك”: “العباد”.
(1/213)
اليسير شرٌّ كبير (1)، وهو خلافُ موجب الحكمة الَّذي تنزَّه اللَّه سبحانه عنه.
قلتُ لشيخ الإسلام (2): فقد كان من الممكن خلق هذه الأمور مجرَّدةً عن المفاسد، مشتملةً على المصلحة الخالصة. فقال: خلق هذه الطبيعة بدون لوازمها ممتنع، فإنَّ وجود الملزوم بدون لازمه محال، ولو خُلِقت على غير هذا الوجه لكانت غير هذه، ولكان عالمًا آخر غير هذا.
قال: ومن الأشياء ما تكون ذاته مستلزمةً لنوع من الأمور لا ينفك عنه، كالحركة مثلًا المستلزمة لكونها لا تبقى. فإذا قيل: لم لم تخلق الحركةُ المعيّنةُ باقيةً؟ قيل: لأنَّ ذات الحركة تتضمن النقلة من مكان إلى مكان والتحول من حال إلى حال، فإذا قدر ما ليس كذلك لم يكن حركة. ونفس الإنسان هي في ذاتها جاهلة عاجزة فقيرة كما قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل/ 78] وإنَّما يأتيها العلم والقدرة والغنى من اللَّه بفضله ورحمته، فما حصل لها من كمال وخير فمن اللَّه، وماحصلَ لها من عجز وفقر وجهل يوجب الظلم والشر فهو منها ومن حقيقتها. وهذه أمور عدمية، وليس لها من نفسها وجود ولا كمال. والأمور العدمية من لوازم وجودها، ولو خلقت (3) على غير ذلك لم تكن هي هذه النفس الإنسانية بل مخلوقًا آخر.
فحقيقة نفس الإنسان جاهلة ظالمة فقيرة محتاجة، والشرُّ الَّذي يحصل لها نوعان: عدم، ووجود.
__________
(1) هذه قراءة “ف، ن”. وفي “ك، ط”: “كثير”.
(2) يعني شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه، كما في نسخة “ف” تحت السطر.
(3) “ك، ط”: “جعلت”.
(1/214)
فالأَوَّل كعدم العلم والإيمان والصبر وإرادة الخيرات، وعدم العمل بها. وهذا العدم ليس له فاعل، إذ العدم المحض لا يكون له فاعل؛ لأنَّ تأثير الفاعل إنَّما هو في أمر وجودي. وكذلك عدم استعدادها للخيرات والكمالات هو عدم محض ليس له فاعل، فإنَّ العدم ليس بشيءٍ (1) أصلًا، وما ليس بشيءٍ لا يقال إنَّه مفعول لفاعل، فلا يقال إنَّه من اللَّه، إنَّما يحتاج إلى الفاعل الأمور الوجودية. ولهذا من قول المسلمين كلهم: “ما شاءَ اللَّهُ كان، وما لم يشأ لم يكن”، فكلُّ كائن فبمشيئته كان، وما لم يكن فلعدم مشيئته (2).
والعدمُ يعلَّل بعدم السبب أو الشرط تارة، وبوجود المانع أخرى. وقد يقال: علَّة العدم عدمُ العلة. وبعضُ الناسِ يقول: الممكن لا يترجح أحدُ طرفيه على الآخر (3) إلا بمرجِّح، فلا يوجد إلا بسبب، ولا يعدم إلا بسبب. قال (4): والتحقيق في هذا أنَّ العدم ليس له فاعل ولا علَّة فاعلة أصلًا، بل (5) إذا أضيف إلى عدم السبب أو عدم الشرط فمعناه الملازمة، أي عدمُ العلة استلزمَ عدمَ المعلول، وعدمُ الشرط استلزم عدمَ المشروط، فإذا قيل: عُدِمَ لِعدم علَّته (6)، أي عدمُ علَّته (7)
__________
(1) في الأصل: “لشيء” باللام هنا وفي الجملة التالية. وكذا في “ف”، ولعله سهو.
(2) انظر: مجموع الفتاوى (14/ 16).
(3) “على الآخر” ساقط من “ط”.
(4) يعني شيخ الإسلام
(5) “بل” ساقطة من “ك”. وفي “ط”: “أصلا وإذا”.
(6) “ط”: “علَّة”.
(7) “أي عدم علَّته” ساقط من “ف، ط”.
(1/215)
مستلزم (1) لعدمه. والنفس تطلب سببَ العدم، فتقول: لِمَ لَمْ يوجَد كذا؟ فيقال: لعدم كذا، فيضاف عدم المعلول (2) إلى عدم علَّته، لا إضافة تأثير، ولكن إضافة استلزام وتعريف. وأمَّا التعليل بالمانع فلا يكون إلا مع قيام السبب إذا جعل المانع مقتضيًا للعدم، وأمَّا إذا أُريد قياس الدلالة فوجود المانع يستلزم عدمَ الحكم سواءٌ كان المقتضى موجودًا أو لم يكن.
والمقصود أنَّ ما عدمته النفس من كمالها فمنها، فإنَّها لا تقتضي إلا العدم، أي عدمُ استعداد نفسه (3) وقوَّتَها هو السبب في عدم هذا الكمال. فإنَّه كما يكون أحد الوجودين سببًا للآخر، فكذلك أحد العدمين يكون سببًا لعدم الآخر. والموجود الحادث يضاف إلى السبب المقتضي لإيجاده، وأمَّا المعدوم فلا يحتاج استمراره على العدم إلى فاعل يُحدث العدم، بل يكفي في استمراره عدمُ مشيئة الفاعل المختار له. فما شاء اللَّه كان، وما لم يشأ لم يكن لانتفاء مشيئته، فانتفاءُ مشيئةِ كونه سببُ عدمه.
وهذا معنى قولهم: “عدمُ علَّة الوجود علَّةُ العدم”. وبهذا الاعتبار الممكنُ القابلُ للوجود والعدم لا يترجَّح أحدُ طرفيه (4) إلا بمرجِّح، فمرجِّح عدمه عدمُ مرجِّحه، ومعنى الترجيح والسببية ههنا الاستلزام لا التأثير، كما تقدم. فظهر استحالة إضافة هذا الشر إلى اللَّه عزَّ وجلَّ.
__________
(1) في الأصل: “مستلزمة” ولعله سهو، وكذا في “ف، ك، ط”، والصواب ما أثبتنا من “ن”؛ لأنَّ الخبر للعدم لا للعلَّة.
(2) “ط”: ” المعلوم”، تحريف.
(3) “ط”: “نفسها”، خطأ.
(4) زاد في “ك، ط”: “على الآخر”.
(1/216)
وأمَّا الشر الثاني، وهو الشر الوجودي -كالعقائد الباطلة والإرادات الفاسدة- فهو من لوازم ذلك العدم. فإنَّه متى عُدِمَ العلم (1) النافع والعمل الصالح من النفس لزم أن يخلفه الشرُّ والجهلُ وموجبُهما، ولا بدَّ، لأنَّ النفس لا بدَّ لها من أحد الضدين، فإذا لم تشتغل بالضد النافع الصالح اشتغلت بالضد الضار الفاسد.
وهذا الشرُّ الوجودي هو من خلقه تعالى، إذ لا خالق سواه، وهو خالق كل شيء، لكن كلُّ ما خلقه اللَّه فلا بد أن يكون له في خلقه حكمةٌ لأجلها خلَقَه، فلو لم يخلقه فاتت تلك الحكمة.
وليس في الحكمة تفويتُ هذه الحكمة التي هي أحبُّ إليه سبحانه من الخير الحاصل بعدمها، فإنَّ في وجودها من الحكمة (2) والغايات التي يُحمد عليها سبحانه أضعافَ ما في عدمها من ذلك، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع. وليس في الحكمة تفويتُ هذه الحكمة العظيمة لأجل ما يحصل للنفس من الشر، مع ما حصل من الخيرات التي لم تكن تحصل بدون هذا الشر، ووجود الشيء (3) لا يكون إلا مع وجود لوازمه وأنتفاءِ أضداده، فانتفاء لوازمه يكون ممتنعًا لغيره، وحينئذٍ فقد يكون هدي هذه النفوس الفاجرة وسعادتها (4) مشروطًا بلوازم لم تحصل، أو بانتفاء أضدادٍ لم تنتفِ.
فإن قيل: فهلَّا حصلت تلك اللوازم وانتفت تلك الأضداد؟ فهذا هو
__________
(1) “ك”: “ذلك العلم”.
(2) “ن”: “الحكم”.
(3) “ووجود الشيء” ساقط من “ف”.
(4) “ك، ط”: “شهادتها، تحريف.
(1/217)
السؤال الأوَّل، وقد بينَّا أنَّ لوازم هذا الخلق وهذه النشأة وهذا العالَم لا بدَّ منها، فلو قُدِّرَ عدمُها لم يكن هذا العالم بل عالمًا آخر ونشأةً أخرى وخلقًا آخر.
وبينَّا أنَّ هذا السؤال بمنزلة أن يقال: هلَّا تجرد الغيث والأنهار عمَّا يحصل به من تغريق وتعويق (1) وتخريب وأذى؟ وهلَّا تجردت الشمس عمَّا يحصل منها من حرّ وسموم وأذى؟ وهلا تجردت طبيعة الحيوان عمَّا يحصل له من ألم وموت وغير ذلك؟ وهلَّا تجردت الولادة عن (2) مشقة الحمل والطلق وألم الوضع؟ وهلَّا تجرَّد بدن الإنسان (3) عن قبوله للآلام والأوجاع واختلاف الطبائع الموجبة لتغيّر أحواله؟ وهلَّا تجردت فصول العام عمَّا يحدث (4) فيها من البرد الشديد القاتل، والحر الشديد المؤذي؟
فهل يقبل عاقل هذا السؤال أو يورده؟ وهل هذا إلا بمنزلة أن يقال: لمَ كان المخلوق فقيرًا محتاجًا، والفقرُ والحاجةُ صفةُ نقص، فهلَّا تجرد منها وخُلِعت عليه خلعةُ الغنى المطلق والكمال المطلق؟ فهل يكون مخلوقًا إذا كان غنيًّا غنًى مطلقًا، ومعلوم أنَّ لوازم الخلق لا بدَّ منها فيه؟
ولا بدَّ للعلو من سفل، وللسفل (5) من مركز. ولوازمُ العلو من السعة والإضاءة والبهجة والخيرات، وما هناك من الأرواح العلوية النيرة المناسبة لمحلها، وما يليق بها ويناسبها من الابتهاج والسرور والفرح والقوَّة
__________
(1) “وتعويق” ساقط من “ط”.
(2) “ط”: “من”، وأصلح في القطرية.
(3) “ك”: “الحيوان”.
(4) “يحدث” ساقط من “ك، ط”. وفي “ن”: “يحصل”.
(5) “ط”: “والسفل”.
(1/218)
والتجرد من علائق المواد السفلية (1) لا بدَّ منها. ولوازم السفل والمركز من الضيق والحصر، ولوازم ذلك من الظلمة والغلظ والشر، وما هنالك من الأرواح السفلية المظلمة الشرِّيرة وأعمالها وآثارها لا بدَّ منها (2).
فهما عالمان علوي وسفلي، ومحلَّان وساكنان تناسبهما مساكنهما وأعمالهما وطبائعهما، وقد خُلِقَ كلٌّ (3) من المحلّين معمورًا بأهليه وساكنيه، حكمةً بالغةً وقدرةً قاهرةً. وكلٌّ من هذه الأرواح لا يليق بها غيرُ ما خُلِقَتْ له ممَّا يناسبها ويشاكلها. قال تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء/ 84] أي على ما يشاكله ويناسبه ويليق به، كما يقول النَّاس: “كل إناءٍ بالذي فيه ينضَح” (4).
فمن أرادَ (5) من الأرواح الخبيثة السفلية أن تكون مجاورةً للأرواح الطيبة العلوية في مقام الصدق بين الملأ الأَعلى فقد أراد ما تأباه حكمةُ أحكم الحاكمين. ولو أنَّ ملِكًا من ملوك الدنيا جعل خاصَّته وحاشيته سِفْلةَ النَّاس وسَقَطَهم وغَرَثَهم (6) الذين
__________
(1) “ط”: “العلية”، تحريف، وكذا كان في “ك”، فأصلح في المتن.
(2) “ك”: “منه”.
(3) “ك، ط”: “كلًّا”.
(4) ويروى “يرشح”. انظر: مجمع الأمثال (3/ 58)، وعلى الوجهين روي قول كشاجم (ديوانه: 92):
ويأبى الذي في القلب إلّا تبيّنًا … وكلُّ إناءٍ بالَّذي فيه ينضَحُ
(5) “ط”: “أرادت”.
(6) كذا في الأصل وغيره. وفي ط: “غِرَّتهم”. لم تثبت كتب اللغة ما ورد في الأصل، وقد اقتبسه المؤلف من قول الجنّة في حديث المحاجّة بينها وبين النار: “ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وغرثهم وسقطهم”. أخرجه مسلم (2846). وضبطه القاضي عياض في إكمال المعلم (8/ 377) بفتح الغين =
(1/219)
تناسبت (1) أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم في القبح والرداءة والدناءة لقدَحَ النَّاسُ في ملكه وقالوا: لا يصلُح للمُلك. فما الظن بمجاوري الملك الأعظم مالكِ الملوك في داره وتمتُّعِهم برؤية وجهه وسماع كلامه ومرافقتهم للملأ الأعلى الذين هم أطيبُ خلقه وأزكاهم وأشرفهم؟
أفَيليق بذلك الرفيق الأعلى والمحل الأسنى والدرجات العلى روحٌ سفليةٌ أرضيةٌ قد أخلدت إلى الأرضِ، وعكفت على ما تقتضيه طباعها (2) مما يشاركها (3) فيه بل قد يزيد عليها (4) الحيوانُ البهيم، وقصرت همتها عليه، وأقبلت بكليتها عليه، لا ترى نعيمًا (5) ولا لذَّة ولا سرورًا إلا ما وافق طباعها من مأكل (6) ومشربٍ ومنكح من أين كان وكيف اتَّفق. فالفرق بينها وبين الحمير والكلاب والبقر بانتصاب القامة ونطق اللسان والأكل باليد، وإلا فالقلبُ والطبعُ على قلوب (7) هذه الحيوانات
__________
= المعجمة وفتح الراء وثاء بعدها مثلّثة، وقال: هذه رواية الأكثرين من شيوخنا، وفسّرها بمعنى أهل الفاقة والجوع. وقال في مشارق الأنوار (2/ 130): “كذا في حديث عبد الرزاق عند كافة الرواة”. وقد رويت الكلمة على وجهين آخرين: “عجزتهم” جمع عاجز، و”غِرّتهم” أي البله الغافلون. قال النووي: وهو الأشهر في نسخ بلادنا. انظر شرحه لصحيح مسلم (17/ 187 – 188).
(1) “ك، ط”: “تتناسب”.
(2) “ك، ط”: “طبائعها”.
(3) “ط”: “تشارك فيه”.
(4) “ك، ط”: “تزيد على الحيوان”.
(5) “ن”: “مغنما”، تحريف.
(6) “ط”: “كل مأكل”.
(7) “ط”: “على [شاكلة] قلوب” والزيادة التي بين الحاصرتين لا حاجة إليها. انظر ما سبق في ص (212): “وجعل القلوب على قلب واحد”.
(1/220)
وطباعها، وربما كانت طباعُ الحيوانات خيرًا من طباع هؤلاء وأسلمَ وأقبلَ للخير. ولهذا جعلهم سبحانه شرَّ الدواب، فقال: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال/ 22، 23].
فهل يليق بحكمة العزيز الحكيم أن يجمع بين خير البرية وأزكى الخلق وبين شرِّ البرية وشر الدواب في دار واحدة، يكونون فيها على حالٍ واحدة من النعيم أو العذاب؛ قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} [القلم/ 35 – 36]. فأنكر عليهم الحكم بهذا، وأخرجه مخرجَ الإنكارِ لا مخرجَ الإخبار، لينبه العقول على أنَّ هذا ممَّا تحيله الفطَر وتأباه العقول السليمة. وقال تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)} [الحشر/ 20]. وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} [ص/ 28]. وقال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)} [الزمر/ 9].
بل الواحد من الخلق لا تستوي أعاليه وأسافله، فلا يستوي عقِبُه وعينُه، ولا رأسه ورجلاه، ولا يصلح أحدهما لما يصلح له الآخر. واللَّه (1) عَزَّ وَجَلَّ قد خلق الخبيث والطيب، والسهل والحزن، والضار والنافع. وهذه أجزء الأرض: منها ما يصلح جلاءً للعين، ومنها ما يصلح للأتُّون (2) والنار.
وبهذا ونحوه يُعرَف كمال القدرة وكمال الحكمة. فكمال القدرة
__________
(1) “ك، ط”: “فاللَّه”.
(2) وهو الموقد الكبير.
(1/221)
بخلق الأضداد، وكمالُ الحكمة بتنزيلها (1) منازلها ووضع كلٍّ منها في موضعه. والعالِمُ من لا يُلقي الحربَ بين قدرة اللَّه وحكمَته، فإن آمن بالقدرة قدَحَ في الحكمة وعطَّلها، وإن آمن بالحكمة قدَح في القدرة ونقَضها (2)؛ بل يربط القدرة بالحكمة، ويعلم شمولهما لجميع ما خلقه اللَّه ويخلقه، فكما أنَّه لا يكون إلا بقدرته ومشيئته، فكذلك لا يكون إلا بحكمته.
وإذا كان لا سبيل للعقول البشرية إلى الإحاطة بهذا تفصيلًا، فيكفيها الإيمانُ بما تعلَم وتشاهد منه، ثمَّ تستدل على الغائب بالشاهد، وتعتبر ما علمت بما لم تعلم (3). وقد ضربَ اللَّه سبحانه الأمثال لعباده في كتابه، وبيَّن لهم ما في لوازم ما خلقه لهم وأنزله عليهم من الغيث الَّذي به حياتهم وأقواتهم وحياةُ الأرضِ والدوابّ، وما خلقه لهم من النار (4) التي بها صلاحُ أبدانِهم وأقواتِهم وصنائعهم، من الشر الجزِئي (5) المغمور بالإضافة إلى الخير الحاصل بذلك، فقال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)} [الرعد/ 17].
فأخبر سبحانه أنَّ الماءَ بسبب مخالطته الأرض (6) إذا سال فلا بد من
__________
(1) “ك، ط”: “تنزيلها”.
(2) الأصل غير منقوط، والمثبت من “ف” وغيرها.
(3) كذا في الأصل وغيره، ولعل الصواب: “وتعتبر بما علمت ما لم تعلم”.
(4) في الأصل: “النار” وهو الصواب هنا، ولكن كأنَّه مضروب عليه، وفي “ف”: “المعارف”، وفي “ك، ط”: “المعادن “ويشبهه رسمه في “ن”.
(5) “ك، ط”: “الشر والخير وبين المغمور”، تحريف.
(6) “ك”: “الأرض”. “ط”: “الماء بمخالطته سبسب الأرض”، تحريف.
(1/222)
أن يحمل السيل من الغثاء والوسخ وغيره زبدًا عاليًا على وجه السيل. فالذي لا يعرف ما تحت الزبد يقصرُ نظرَه عليه، ولا يرى إلا غثاءً ووسخًا ونحو ذلك، ولا يرى ما تحته من مادة الحياة. وكذلك ما يستخرج من المعادن من الذهب والفضة والحديد والنحاس (1) وغيرها، إذا أُوقِد عليها في النار لتتهيأ للانتفاع (2) بها خرَج منها خَبَثٌ ليس من جوهرها ولا يُنتفَع به. وهذا لا بدَّ منه في هذا وهذا (3).
وقد ذمّ تعالى من ضعفت بصيرتُه من المنافقين، وعميَ عمّا في القرآن ممّا به يُنال كل سعادة وعلم وهدىً وصلاح وخير في الدنيا والآخرة، ولم يجاوز (4) بصرُه وسمعُه رعودَ وعيده وبروقَها وصواعقَها، وما أعدّ اللَّه لأعدائه من عذابه ونكاله وخزيه وعقابه، الَّذي هو -بالإضافة إلى ما فيه من حياة القلوب والأرواح، ومن (5) المعارف الإلهية، وتبيين (6) طريق العبودية التي هي غاية كمال العبد- يسيرٌ (7)، وهو مقصود لتكميل ذلك وتمامه.
قال تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ
__________
(1) “ف”: “النحاس والحديد” خلافًا للأصل وغيره.
(2) “ك، ط”: “ليتهيأ الانتفاع”.
(3) في “ط” زيادة: “يجاوزه بصره”، ولعلها من آثار مجاوزة البصر!
(4) “ط”: “لمن لم يجاوز”.
(5) “من” ساقط من “ك”.
(6) ك”: “وتبين”، “ط”: “يبين”.
(7) “يسير” سقط من “ك، ط”، فاختلَّ معنى الجملة مع إصلاحها في “ط”.
(1/223)
حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} [البقرة/ 17 – 20]. فهكذا حال كل من قصَر نظرَه في بعض مخلوقات الربِّ تعالى على ما لابدّ منه من شرٍّ جزئيّ جدًّا بالإضافة إلى الخير الكثير.
ولو لم يكن (1) في هذه النشأة الإنسانية إلا خاصّته وأولياؤه من رسله وأنبيائه وأتباعهم لكفى بها خيرًا ومصلحة، ومَن عداهم (2) -وإن كانوا أضعافَ أضعافِهم- فهم كالقَشّ والزبالة وغثاء السيل، لا يُعْبَأ بكثرتهم، ولا يقدح في الحكمة الإلهية، بل وجود الواحد الكامل من هذا النوع يغتفَر معه آلاف (3) مؤلَّفة من النوع الآخر. فإنّه إذا وُجد واحدٌ يوازن البريّةَ ويرجَح عليها كان الخيرُ الحاصلُ بوجوده والحكَمة والمصلحة أضعافَ الشرّ الحاصل من وجود أضداده، وأثبتَ وأنفعَ وأحبَّ إلى اللَّه من فواته (4)، بتفويت ذلك الشرِّ المقابل له.
وهذا كالشمس، فإنّ الخير الحاصل بها أنفع للخلق وأكثر وأثبت وأصلح من تفويته بتفويت الشرّ المقابل له بها. وأين نفعُ الشمس وصلاحُ النبات والحيوان بها مِن نفع الرسلِ وصلاحِ الوجود بهم؟ بل أين ذلك من نفعِ سيّدِ ولدِ آدم، وصلاحِ القلوب و (5) الأبدان والدنيا والآخرة به؟
وقد ضُرب للنفس الإنسانية وما فيها من الخير والشرّ مثَلٌ بدولاب أو
__________
(1) “ط”: “تكن”.
(2) “ط”: “عاداهم”، وكذا كان في “ك” ثمَّ أصلح في المتن.
(3) “ك، ط”: “لآلاف”.
(4) “ط”: “فوته”، وأصلح في القطرية.
(5) “ك، ط”: “صلاح الأبدان والدين والدنيا”.
(1/224)
طاحونٍ شديدِ الدوران، أيّ شيء خطَفه ألقاه تحتَه وأفسده، وعنده قيِّمُه الَّذي يديره (1)، وقد أحكمَ أمرَه لينتفع به ولا يضرَّ أحدًا. فربّما جاءَ الغِرّ الَّذي لا يعرف فيتقرّب منه (2)، فيخرق ثوبه أو بدنه، أو يؤذيه. فإذا قيل لصاحبه: لِمَ لَمْ تجعله ساكنًا لا يؤذي من اقترب منه؟ قال: هذه صفته اللازمة التي كان بها دولابًا وطاحونًا، ولو جُعِلَ (3) على غير هذه الصفة لم تحصل به الحكمة المطلوبة منه.
وكذلك إذا قدَّرنا (4) نار الأتُّون التي تُحرق ما وقع فيها، وعندها وقَّاد حاذق يحُشها (5)، فإذا غفل عنها أفسدت. وإذا أرادَ أحد أن يقرب منها نهاه وحذَّره، فإذا استغفله مَن قرب منها حتَّى أحرقته لم يقل لصاحب النَّار: هلَّا قلَّلتَ حرَّها لئلا تفسد من يقرب (6) منها وتُحرقه؟ فإنَّه يقول: هذه صفتها التي لا يحصل المقصود منها إلا بها، ولو جعلتها دون ذلك لم تُحرق أحجارَ الكِلْس (7)، ولم تطبخ الآجُرّ، ولم تُنضِج الأطعمة الغليظة ونحو ذلك.
فما يحصل من الدولاب والطاحون ومن النَّارِ من نفعها هو من فضل اللَّه ورحمته، وما يحصل بها من شر هو من طبيعتها التي خُلِقَت عليها، التي (8) لا تكون نارًا إلا بها، فلو خرجت عن تلك الطبيعة لم تكن نارًا،
__________
(1) “ك”: ” يدبره”.
(2) “ك، ط”: “فيقترب”، وأصلح في القطرية.
(3) “جعل” سقط من القطرية.
(4) كذا في الأصل و”ف”. وفي “ك”: “أوقد”. وفي “ط”: “أوقدنا”.
(5) أي يوقدها. وفي “ك”: “يحشيها”، تحريف، وفي “ط”: “يحشوها”.
(6) قراءة: “ف”: “تقرب”، وهي غير منقوطة في الأصل.
(7) الكِلس: الجير.
(8) “ط”: “والتي”.
(1/225)
وكذلك النفس، ما (1) يحصل لها من شرٍّ فهو منها ومن طبيعتها ولوازم نقصها وعدمها، وما حصل لها من خيرٍ فهو من فضل اللَّه ورحمته. واللَّه خالقها وخالق كل شيء قام بها من قدرة وإرادة وعلم وعمل وغير ذلك.
فأمَّا (2) الأمور العدمية فهي باقية على ما كانت عليه من العدم، والإنسان جاهل ظالم بالضرورة، كما قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب/ 72]، فإنَّ اللَّه أخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئًا. والظلم هو النقص، كما قال تعالى: {آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف/ 33]، أي لم تنقص منه شيئًا (3)، وهي ظالمة نفسها فهي الظالمة المظلومة، إذ كانت منقوصةً من كمالها بعدم بعض الكمالات أو أكثرها منها (4). وتلك الكمالات التي عدمت كان وجودها سببًا لكمالات أخر، فصار عدمها مستلزمًا لعدم تلك الكمالات، فعَظُمَ النقص، واشتدَّ العيب بحسبه، وفقدت من لذَّاتها وسرورها ونعيمها (5) وبهجتها وروحها بحسب ما فقدت من تلك الكمالات (6) التي لا سعادة لها بدونها، فإنَّ أحد الموجودين قد يكون مشروطًا بالآخر فيستحيلُ وجوده بدونه، لأنَّ عدم الشرط يستلزمُ عدمَ المشروط. فإذا عدمت النفسُ هذا الكمالَ المستلزم لكمالٍ آخر مثلِه أو أعلى منه، وهي موصوفة بالنقص الَّذي هو
__________
(1) “ك، ط”: “فما”.
(2) “ك”: “وأمَّا”.
(3) العبارة “والظلم هو النقص” إلى هنا ساقطة من “ط”.
(4) “ك، ط”: “بها”.
(5) “ف”: “ونعيمها وسرورها” خلافًا للأصل.
(6) العبارة “فعظم النقص. . . ” إلى هنا ساقطة من “ك، ط” لانتقال النظر، وقد استدركت فيما بعد في حاشية “ك”.
(1/226)
الظلم والجهل ولوازمها من أصل الخلقة = صارت مستلزمة للشر، وقوَّةُ شرها وضعفُه بحسب قوتها وضعفها في ذاتها.
وتأمَّلْ أَوَّلَ نقص دخَلَ على أبي البشر وسرى إلى أولاده كيف كان من عدم العلم والعزمِ. قال تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)} [طه/ 115]. والنسيان سواءٌ كان عدم العلم أو عدم الصبر كما فُسِّر بهما ههنا فهو أمر عدمي، ولهذا قال آدم لما رأى ما دخل عليه من ذلك: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف/ 23]. فإنه (1) اعترف بنقص حظِّ نفسِه (2) -بما حصل لها من عدم العلم والصبر- بالنسيان الَّذي أوجبَ فواتَ حظِّه من الجنَّة. ثمّ قال: {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف/ 23] فإنّه سبحانه إن لم يغفر السيئات الوجودية، فيمنعْ أثرها وعقابها، ويقي (3) العبدَ ذلك (4) وإلّا ضرَّتْه آثارُها ولا بدّ، كآثار الطعام المسموم إن لم يتداركه المداوي بشرب التِّرياق ونحوه وإلّا (5) ضرّه ولا بدّ. وإن لم يرحمه سبحانه بإيجاد ما به تصلُح (6) النفس وتصير عالمة بالحق عاملة به وإلَّا خسِر، فالمغفرةُ (7) تمنع الشرّ، والرحمةُ توجب الخير، والربّ
__________
(1) “ك، ط”: “فإنَّه إذا”.
(2) “ط”: “بنقصه خص نفسه” تحريف.
(3) كذا في الأصل وغيره، وهي لغة، انظر ما سبق في ص (203). وفي “ط” “يقِ” على الجادة.
(4) كذا في الأصل. وفي “ف” فوق العبد: “صح”. وفي “ك، ط”: “من ذلك”.
(5) “إلَّا” في هذه الجملة، وفي الجملة السابقة وفي الجمل الآتية واقعة في غير موقعها. انظر ما سلف في ص (44).
(6) “ك، ط”: “يصلح به”.
(7) “ط”: “والمغفرة”.
(1/227)
سبحانه إن لم يغفره للإنسان فيقيه السيئاتِ، ويرحمْه فيؤتيه (1) الحسناتِ وإلّا هلك ولا بدّ، إذ كان ظالمًا لنفسه ظلومًا بنفسه. فإنّ نفسه ليس عندها خير يحصل لها منها، وهي متحرّكة بالذات، فإن لم تتحرّك إلى الخير تحرّكت إلى الشرّ فضرّت صاحبَها. وكونُها متحرّكةً بالذات من لوازم كونها نفسًا لأنّ ما ليس حسّاسًا متحرّكًا بالإرادة فليس نفسًا.
وفي (2) الصحيح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أصدق الأسماء حارث وهمام” (3) فالحارث: الكاسب العامل، والهمّام: الكثير الهمّ، والهمّ مبدأ الإرادة، فالنفس لا تكون إلّا مريدةً عاملةً؛ فإن لم توفَّق للإرادة الصالحة وإلَّا وقعت في الإرادة الفاسدة والعمل الضارّ (4).
وقد قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)} [المعارج/ 19 – 22] فأخبر تعالى أنّ الإنسان خُلِق على هذه الصفة، وإنّ من كان على غيرها فلأجل ما زكّاه اللَّه به من فضله وإحسانه.
وقال تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النساء/ 28] قال طاووس ومقاتل وغيرهما: لا يصبر عن النساءِ (5). وقال الحسن: هو خلقه من
__________
(1) “فيقيه. . فيؤتيه” كذا ورد الفعلان بثبوت حرف العلة، انظر ما علقناه آنفًا.
(2) “ط”: “ففي”، “ك”: “في”.
(3) أخرجه أحمد (19032)، وأبو داود (4950)، والبخاري في الأدب المفرد (814) وغيرهم عن أبي وهب الجشمي. وهو معلول. أعلَّه أبو حاتم الرازي بالإرسال. انظر: علل ابن أبي حاتم (2/ 312 – 313). (ز).
(4) وانظر إغاثة اللهفان (69)، ومجموع الفتاوى (14/ 294)، (20/ 122).
(5) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 926) (5176، 5177). (ز)، وانظر: معالم التنزيل (2/ 199)، زاد المسير (2/ 60).
(1/228)
ماءٍ مهينٍ (1). وقال الزجّاج: ضعف عزمه عن قهر الهوى (2). والصواب أنّ ضعفه يعمُّ هذا كلّه، وضعفه أعظم من هذا وأكثر، فإنّه ضعيف البنية، ضعيف القوة، ضعيف الإرادة، ضعيف العلم، ضعيف الصبر. والآفات إليه مع هذا الضعف أسرعُ من السيل في الحَدور (3). فبالاضطرار لا بدّ له من حافظ معين يقوّيه ويعينه وينصره ويساعده، فإن تخفى عنه هذا المسعِد (4) المعين فالهلاكُ أقرب إليه من نفسه.
وخلقُه على هذه الصفة هو من الأمور التي يحمد عليها الربُّ جلَّ جلاله ويثنى عليه بها، وهو موجَب حكمته وعزَّته. فكل ما يحدث من هذه الخلقة وما (5) يلزمُ عنها فهو بالنسبة إلى الخالق سبحانه خيرٌ وعدلٌ وحكمة، إذ مصدر هذه الخلقة عن صفات كماله من غناه وعلمه وعزته وحكمته ورحمته. وبالنسبة إلى العبدِ ينقسمُ (6) إلى خير وشر وحسن
__________
(1) معالم التنزيل (2/ 199)، زاد المسير (2/ 60).
(2) زاد المسير (2/ 60). وفي معاني الزجاج (2/ 44): “أي يستميله هواه”.
(3) الحَدور: الموضع المنحدر. وفي “ك، ط”: “صيب الحدور” وهو تصحيف وغلط. وصواب الكلمة الأُولى: “صَبَب” وهو بمعنى الحدور. ولعلّ سبب الغلط أن في الأصل: “الصبب الحدور” وضرب على الكلمة الأُولى، ولكن خط الضرب لم يشملها كفها، فظن بعض الناسخين أن المضروب عليه لام التعريف فقط. وأنّ المقصود: “صبب الحدور”، ثم صحفت الموحدة بالمثناة. وسيأتي المثل مرة أخرى في ص (644) وقد ذكره حمزة الأصفهاني في أمثاله (189) بلفظ “. . . إلى الحدور”
(4) من أسعَدَ: أعانَ. وكتب فوقه في (ك): “صح”. وفي الحاشية: “ظ المساعد”. وفي “ط”: “المساعد”، ولعلّه تغيير من الناشر.
(5) “ما” ساقط من “ك، ط”. وفي “ن”: “أو يلزم”.
(6) “ك، ط”: “تنقسم”، والمثبت من “ف”.
(1/229)
وقبيح، كما يكون (1) بالنسبة إليه طاعةً ومعصيةً وبرًّا وفجورًا، بل أخص من ذلك، مثل كونه (2) صلاةً وصيامًا وحجًّا وزنًى وسرقةً وأكلًا وشربًا، إذ ذلك موجب حاجته وظلمه وجهله وفقره وضعفه، وموجَب أمر اللَّه له ونهيه. فللَّه (3) سبحانه الحكمة البالغة والنعمة السابغة والحمد المطلق على جميع ما خلقه وأمر به، وعلى ما لم يخلقه ممَّا لو شاء (4) لخلقه، وعلى توفيقه الموجِب لطاعته، وعلى خِذلانَّه الموقع في معصيته.
وهو سبحانه سبقت رحمتُه غضبَه، وكتب على نفسه الرحمة، وأحسنَ كل شيء خلقه، وأتقن كل ما صنع، وما يحصل للنفوس البشرية من الضرر والأذى فله سبحانه في ذلك أعظم حكمة مطلوبة، وتلك الحكمة إنَّما تحصل على الوجه الواقع المقدر بما خلق لها من الأسباب التي لا تُنال غاياتُها إلا بها، فوجود هذه الأسباب بالنسبة إلى الخالق الحكيم سبحانه هو من الحكمة.
ولهذا يقرُن سبحانه في كتابه بين اسمه “الحكيم” واسمه “العليم” تارةً، وبينه (5) وبين اسمه “العزيز” تارةُ (6)، كقوله: {وَاللَّهُ عَلِيْمٌ حَكِيمٌ} [النساء/ 26، الأنفال/ 71]، {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة/ 245، المائدة/ 38]، وقوله: {وكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء/ 158، 165، الفتح/ 7، 19]، {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح/ 4]، {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ
__________
(1) “ط”: “تكون”.
(2) “ط”: “كونها”.
(3) “ك، ط”: “وللَّه”.
(4) “ك، ط”: “شاءه”.
(5) “وبينه” ساقط من “ط”.
(6) انظر ما سبق في ص (197).
(1/230)
مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)} [النمل/ 6]، فإنَّ العزَّة تتضمَّن القوَّة، وللَّه القوَّة جميعًا.
يقال: عزَّ يعَزّ -بفتح العين- إذا اشتدَّ وقوي، ومنه الأرض العَزاز للصلبة (1) الشديدة؛ وعزَّ يعِزّ -بكسر العين- إذا امتنع ممن يرومه، وعزَّ يعُز -بضم العين- إذا غلب وقهر. فأعطوا أقوى الحركات -وهي الضمة- لأقوى المعاني وهو الغلبة والقهر للغير، وأضعفَها -وهي الفتحة- لأضعف هذه المعاني وهو كون الشيء في نفسه صلبًا، ولا يلزمُ من ذلك أن يمتنع عمَّن يرومه؛ والحركة المتوسطة -وهي الكسرة- للمعنى المتوسط وهو القوي الممتنع عن غيره، ولا يلزمُ منه أن يقهر غيرَه ويغلبه. فأعطوا الأقوى للأقوى، والأضعف للأضعف، والمتوسط للمتوسط (2).
ولا ريبَ أنَّ قهر المريد (3) عمَّا يريده من أقوى أوصاف القادر، فإنَّ قهرَه عن إرادته وجعله غيرَ مريد كان أقوى أنواع القهر، والعز ضد الذل، والذل أصله الضعف والعجز، فالعز يقتضي كمال القدرة والعزَّة (4)، ولهذا يوصف به المؤمن، ولا يكون ذمًّا له، بخلاف الكبر. قال رجلٌ للحسن البصري: إنَّك متكبر. فقال: “لستُ بمتكبر، ولكنِّي عزيز”.
__________
(1) “ك، ط”: “الصلبة”.
(2) انظر نحو هذا الكلام على “عز” في جلاء الأفهام: (147) ومدارج السالكين (3/ 238) ويظهر من سياقه في جلاء الأفهام أنَّه أفاد ذلك من شيخ الإسلام وانظر: منهاج السنة (3/ 325) والفتاوى (14/ 180).
(3) “ط”: “المربوب”، تحريف.
(4) “العزّة” ساقطة من “ك، ط”.
(1/231)
وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون/ 8].
وقال ابن مسعود: “ما زلنا أعزَّةً منذ أسلم عمر” (1). وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “اللَّهم أعِزَّ الإسلامَ بأحد هذين الرجلين: عمرَ بن الخطاب، أو أبي جهل ابن هشام” (2).
وفي بعض الآثار: إنَّ النَّاس يطلبون العزَّة في أبواب الملوك، ولا يجدونها إلا في طاعة اللَّه (3).
وفي الحديث: “اللَّهم أعِزَّنا بطاعتك ولا تذلّنا بمعصيتك” (4).
وقال بعضهم: من أراد عزًّا بلا سلطان، وكثرةً بلا عشيرة، وغنًى بلا مال، فلينتقل من ذل المعصية إلى عز الطاعة.
فالعزَّة من جنس القدرة والقوَّة. وقد ثبت في الصحيح عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّهُ قال: “المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى اللَّه من المؤمن الضعيف؛ وفي
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، باب مناقب عمر بن الخطاب (3884).
(2) أخرجه الترمذي (3681) وأحمد (5696) وابن حبان (6881) وابن عدي في الكامل (3/ 51) وغيرهم من طريق خارجة بن عبد اللَّه الأنصاري عن نافع عن ابن عمر. قال الترمذي: “حسن صحيح غريب من حديث ابن عمر”. قلت: خارجة الأنصاري فيه ضعف، وقد تفرد بهذا عن نافع. (ز).
(3) ذكره المؤلف في إغاثة اللهفان (106).
(4) ذكره المؤلف في الداء والدواء: (94) “من دعاء بعض السلف”. وقد أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 228) من دعاء جعفر الصادق. وكان عامة دعاء إبراهيم بن أدهم: “اللهم انقلني من ذل معصيتك إلى عزّ طاعتك”، انظر: الحلية (8/ 32).
(1/232)
كلٍّ خير” (1).
فالقدرةُ إن لم تكن معها حكمة، بل كان القادر يفعل ما يريده، بلا نظر في العاقبة، ولا حكمة محمودة يطلبها بإرادته ويقصدها بفعله، كان فعله (2) فسادًا، كصاحب شهوات الغي والظلم، الَّذي يفعل بقوّته ما يريده من شهوات الغي في بطنه وفرجه ومن ظلم الناس، فإنَّ هذا وإن كان له قوَّة وعزَّة لكن لما لم يقترن بها حكمة كان ذلك معونةً على شرِّه وفساده.
وكذلك العلمُ كمالُه أن يقترن به الحكمة، وإلا فالعالم الَّذي لا يريد ما تقتضيه الحكمة وتوجبه، بل يريد ما يهواه = سفيهٌ غاوٍ، وعلمه عون له على الشرِّ والفساد.
هذا إذا كان عالمًا قادرًا مريدًا له إرادة من غير حكمة. وإن قدَّر أنَّه لا إرادة له بحال فهذا أوَّلًا ممتنع من الحي، فإنَّ وجود الشعور بدون حب ولا بغض ولا إرادة ممتنعٌ كوجود إرادةٍ بدون الشعور. وأمَّا القدرة والقوَّة إذا قدّر وجودها بدون إرادة فهي كقوة الجماد، فإنَّ القوَّة الطبيعية: التي هي مبدأ الفعل والحركة (3)، وقد قال بعض النَّاس: إنَّ لمحلِّها (4) شعورًا يليق به، واحتجَّ بقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا
__________
(1) سبق تخريجه في ص (147).
(2) “ك، ط”: “فعلها”.
(3) زاد هنا في “ط” بين حاصرتين: “لا إرادة لها” ليكون خبرًا لإنّ، وقال في الحاشية إن في الأصل بياضًا! ولا بياض في أصولنا.
(4) في “ط”: “إن [للجماد] ” وذكر في الحاشية أن في الأصل (تحملها) وهو تحريف”. والصواب ما أثبتنا.
(1/233)
يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (1) [البقرة/ 74]، وبقوله تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف/ 77]. وهذه مسألة كبيرة تحتاج إلى كلامٍ لا يليق بهذا الوضع.
والمقصود أنَّ العلم والقدرة المجردين عن الحكمة لا يحصل بهما الكمال والصلاح، وإنَّما يحصل ذلك بالحكمة معهما. واسمه سبحانه “الحكيم” يتضمن حكمته في خلقه وأمره في إرادته الدينية والكونية، وهو حكيم في كلِّ ما خلقه، حكيمٌ في كلِّ ما (2) أمر به.
والنَّاس في هذا المقام أربع طوائف:
الطائفة الأُولى: الجاحدة لقدرته وحكمته، فلا يثبتون له تعالى قدرة ولا حكمة، كما يقوله من ينفي كونه تعالى فاعلًا مختارًا، وأن صدور العالم عنه بالإيجاب الذاتي لا بالقدرة والاختيار. وهؤلاء يثبتون حكمة يسمونها “عناية إلهية”. وهم من أشد النَّاس تناقضًا، إذْ لا يُعقَل حكيمٌ لا قدرة له ولا اختيار، وإنَّما يسمون ما في العالم من المصالح والمنافع “عناية إلهية” من غير أن يرجع منها إلى الرب تعالى إرادة ولا حكمة.
وهؤلاءِ كما أنَّهم مكذبون لجميع الرسل والكتب، فهم مخالفون لصريح العقل والفطرة، قد نسبوا الرب تعالى إلى أعظم (3) النقص،
__________
(1) وردت الآية في الأصل هكذا: “وإنّ من الحجارة لما يشقق. . . ” فسقط جزء منها، وكذا في “ف، ن”.
(2) “ك”: “خلقه وما أمر به”. “ط”: “خلقه وأمر به”.
(3) “ط”: “للربّ سبحانه أعظم”، وصحّح في القطرية.
(1/234)
وجعلوا كل قادر مريد مختار أكمكَ منه، وإن كان من كان. بل سلبُهم القدرةَ والاختيارَ والفعلَ عن رب العالمين شرٌّ من شرك عبَّاد الأصنام به بكثير، وشرٌّ من قول النصارى إنَّه -تعالى عن قولهم- ثالث ثلاثة وإن له صاحبةً وولدًا، فإنَّ هؤلاء أثبتوا له قدرةً وإرادةً وفعلًا اختياريًّا (1) وحكمةً، ووصفوه مع ذلك بما لا يليق به، وأمَّا أولئك فنفوا ربوبيته وقدرته بالكلية، وأثبتوا له أسماءً لا حقائق لها ولا معنى.
والطائفة الثانية: أقرَّت بقدرته وعموم مشيئته للكائنات، وجحدت حكمته وما له في خلقه من الغايات المحمودة المطلوبة له -سبحانه- التي يفعل لأجلها ويأمر لأجلها، فحافظت على القدر وجحدت الحكمة. وهؤلاء هم النفاة للتعليل والأسباب والقوى والطبائع في المخلوقات، فعندهم لا يفعل لشيء ولا لأجل شيء. وليس في القرآن عندهم لام تعليل ولا باء تسبيب (2)، وكلُّ لامٍ تُوهِم التعليل فهي عندهم لام العاقبة، وكلُّ باءٍ تُشعِر بالتسبيب (3) فهي عندهم باء المصاحبة (4).
وهؤلاء سلَّطوا نُفاة القدر عليهم بما نفَوه من الحكمة والتعليل والأسباب، فاستطالوا عليهم بذلك، ووجدوا (5) مقالًا واسعًا بالشناعة، فقالوا، وشنعوا. ولعمر اللَّه إنَّهم لمحقّون في أكثر ما شنّعوا عليهم به، إذ نفيُ الحكمة والتعليل والأسباب له لوازم في غاية الشناعة،
__________
(1) “ك، ط”: “إرادة واختيارًا وحكمة”.
(2) “ك، ط”: “تسبّب”.
(3) “ك، ط”: “بالتسبّب”.
(4) وانظر: مفتاح دار السعادة (2: 256) وشفاء العليل: (298).
(5) “ط”: “فوجدوا”، وأصلح في القطرية.
(1/235)
والتزامها مكابرة ظاهرة عند عامَّة العقلاءِ.
والطائفة الثالثة: أقرَّت بحكمته، وأثبتت الأسباب والعلل والغايات في أفعاله وأحكامه، وجحدت بكمال (1) قدرته، فنفت قدرتَه على شطر العالم، وهو أشرف ما فيه من أفعال الملائكة والجن والإنس وطاعاتهم. بل عندهم هذه (2) كلها لا تدخل تحت مقدوره تعالى، ولا يوصف بالقدرة عليها، ولا هي داخلة تحت مشيئته ولا ملكه. وليس في مقدوره عندهم أن يجعل المؤمن مؤمنًا والمصلي مصليا والموفق موفقًا، بل هو الَّذي جعل نفسه كذلك. وعندهم أنَّ أفعال العباد من الملائكة والجن والإنس كانت بغير مشيئته واختياره، تعالى (3) اللَّه عن قولهم.
وهؤلاء سلَّطوا عليهم نفاةَ الحكمة والتعليل والأسباب، فمزقوهم كلَّ ممزَّق، ووجدوا طريقًا مَهْيعًا (4) إلى الشناعة عليهم، وإبداء (5) تناقضهم، فقالوا، وشنَّعوا، ورموهم بكلِّ داهية. إذ نفيُ (6) قدرة الربِّ تعالى على شطر المملكة له لوازم في غاية الشناعة والقبح والفساد، والتزامها مكابرة ظاهرة عند عامة العقلاء، ونفيُ التزامها تناقضٌ بيِّن. فصاروا مذبذين (7) بين التناقض -وهو أحسن
__________
(1) ما عدا الأصل: “كمال”.
(2) “هذه” سقطت من القطرية.
(3) “ك، ط”: “فتعالى”.
(4) طريق مهيَع: واضح واسع بين. وقد أشكلت الكلمة على ناسخ “ف”، فحاكى رسمها في الأصل، وأثبت فوقها: “ظ”. وتحرفت في “ك، ط” إلى “وسيعًا”.
(5) “ك، ط”: “وأبدوا”.
(6) “ك، ط”: “ونفي”، وصحح بعضهم في متن “ك”.
(7) “ك، ط”: “فصاروا بذلك بين”، تحريف.
(1/236)
حاليهم- (1) وبين التزام تلك العظائم التي تُخرِج عن الإيمان، كما كان نفاة الحكمة والأسباب والغايات كذلك.
فهدى اللَّه الطائفة الرابعة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)} [البقرة/ 213]، فآمنوا بالكتاب كلُّه، وأقرّوا بالحق جميعه، ووافقوا كلَّ واحدة من الطائفتين على ما معها من الحقِّ، وخالفوهم فيما قالوه من الباطل. فآمنوا بخلق اللَّه وأمره بقدره وشرعه، وأنَّه سبحانه المحمود على خلقه وأمره، وأنَّ (2) له الحكمة البالغة والنعمة السابغة، وأنَّه على كلِّ شيء قدير. فلا يخرج عن مقدوره (3) شيء من الموجودات أعيانِها وأفعالِها وصفاتِها، كما لا يخرج عن علمه؛ فكل ما تعلَّق به علمُه من العالم تعلَّقت به قدرته ومشيئته.
وآمنوا (4) مع ذلك بأنَّ له الحجة على خلقه، وأنَّه لا حجَّة لأحدٍ عليه بل للَّه الحجة البالغة، وأنَّه لو عذب أهل سماواته وأهلَ أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، بل كان تعذيبهم (5) عدلًا منه وحكمة، لا بمحض المشيئة المجرَّدة عن السبب والحكمة، كما يقوله الجبرية.
ولا يجعلون القدرَ حجَّةً لأنفسهم ولا لغيرهم، بل يؤمنون به ولا يحتجون به، ويعلمون أن اللَّه سبحانه أنعم عليهم بالطاعات وأنَّها من نعمته عليهم وفضله وإحسانه، وأنَّ المعاصي من نفوسهم الظالمة
__________
(1) “ك، ط”: “حالهم”.
(2) “ك، ط”: “وأنَّه”.
(3) “ن”: “قدرته”.
(4) “ك”: “فآمنوا”.
(5) “ف”: “يعذبهم”، أخطأ في قراءة الأصل. وفي “ك، ط”: “تعذيبهم منه”.
(1/237)
الجاهلة، وأنَّهم هم جُناتها وهم الذين اجترحوها، ولا يحملونها على القضاءِ والقدر، مع علمهم بشمول قضائه وقدره لما في العالم من خيرٍ وشرٍّ وطاعة وعصيان وكفر وإيمان؛ وأنَّ مشيئة اللَّه سبحانه محيطةٌ بذلك كإحاطة علمه به، وأنَّهُ لو شاءَ أَلَّا يُعصى لما عُصِيَ، وأنَّه سبحانه (1) أعزّ وأجلّ من أن يعصى قسرًا، والعباد أقل من ذلك وأهون؛ وأنَّه ما شاء اللَّه كان، وكلُّ كائن فهو بمشيئته، وما لم يشأ لم يكن، وما (2) لم يكن فلعدم مشيئته، فله الخلق والأمر، وله الملك والحمد، وله القدرة التامة والحكمة البالغة (3).
فهذه الطائفة هم (4) أهل البصر التام، والأُولى لهم العمى المطلق، والثانية والثالثة عُورٌ (5)، كلُّ طائفة منهما لهم (6) عين عين (7)، ومع هذا فسرى العمى من العين العمياء إلى العين الصحيحة فأعماها أو كاد (8). ولا يستنكِر (9) تكرارَ هذه الكلمات من يعلم شدَّة الحاجة إليها
__________
(1) “ف”: “واللَّه سبحانه”، خلافًا للأصل.
(2) “ط”: “من”، وأصلح في القطرية.
(3) “ط”: “الحكمة الشاملة البالغة”. وقد اضطربت نسخة “ك” لدخول حاشية (كانت في أصلها) في النص.
(4) وقع في الأصل: “هل” سهوًا، فترك ناسخ “ف” مكانها بياضًا. والصواب ما أثبتنا من “ك، ط”.
(5) “عور” سقط من “ك، ط”، وهو جمع أعوَر وعوراء.
(6) “ط”: “له”، خطأ.
(7) “ط”: “عمياء”. ورسم الكلمة في الأصل يشبه “عيره” أو “عائرة”. وأثبت ناسخ “ف”: “عميى”، ولا يقصد تأنيث أعمى، فإنَّ رسمها المعهود في الأصل: “عميا”. والمثبت من “ن، ك” مع شك في صحته.
(8) “أو كاد” ساقط من “ط”.
(9) “ك، ط”: “يستكثر”، تصحيف.
(1/238)
وضرورة النفوس إليها، فلو تكررت ما تكررت فالحاجة إليها في محل الضرورة، واللَّه المستعان.
فصل
ويجمع هذين الأصلين العظيمين أصلٌ ثالثٌ هو عقد نظامهما وجامع شملهما، وبتحقيقه وإثباته (1) على وجهه يتم بناءُ هذين الأصلين، وهو: إثبات الحمد كلُّه للَّه رب العالمين. فإنَّه المحمود على كل (2) ما خلقه، وأمر به، ونهى عنه. فهو المحمود على طاعات العباد ومعاصيهم، وايمانهم وكفرهم. وهو المحمود على خلق الأبرار والفجار، والملائكة والشياطين، وعلى خلق الرسل وأعدائهم. وهو المحمود على عدله في أعدائه، كما هو المحمود على فضله وإنعامه على أوليائه.
فكل ذرّة من ذرَّات الكون شاهدة بحمده، ولهذا سبَّح (3) بحمده السماوات السبع والأرض ومن فيهنَّ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء/ 144]. وكان من (4) قول النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عند الاعتدال من الركوع: “ربَّنا ولك الحمد، مِلْءَ السماوات (5) وملءَ الأرضِ، وملءَ ما بينهما، وملءَ ما شئت من شيءٍ بعد” (6). فله سبحانه الحمد حمدًا يملأ المخلوقات والفضاءَ الَّذي بين الأرض والسماوات (7)، ويملأ ما يقدَّر بعد ذلك ممَّا
__________
(1) “ف”: “إبانته”، تصحيف.
(2) “كل” ساقط من “ك، ط”.
(3) “ن”: “يسبح”.
(4) “ك، ط”: “في”.
(5) “ك، ط”: “السماء”.
(6) أخرجه مسلم في الصلاة (476، 477، 478) عن ابن أبي أوفى وغيره.
(7) “ك، ط”: “السماوات والأرض”.
(1/239)
يشاء اللَّه أن يملأ بحمده.
وذاك يحتمل أمرين: أحدهما أن يملأ ما يخلقه اللَّه بعد السماوات والأرض، والمعنى: لك الحمد (1) ملء ما خلقتَه وملء ما تخلقه بعدَ ذلك. الثاني: أن يكون المعنى: ملء ما شئتَ من شيء (2) يملؤه حمدك، أي يقدَّر مملوءًا بحمدك، وإن لم يكن موجودًا.
لكن قد (3) يقال: المعنى الأوَّل أقوى، لأنَّ قوله: “ما شئتَ من شيءٍ بعد” يقتضي أنَّه شيء يشاؤه، وما شاءَ كان، فالمشيئة (4) متعلقة بعينه لا بمجرد ملء الحمد له، فتأملْه. لكنَّه إذا شاءَ كونَه فله الحمد ملؤه، فالمشيئة راجعة إلى المملوء بالحمد، فلا بدَّ أن يكون شيئًا موجودًا يملؤه حمدُه.
وأيضًا فإنَّ قوله: “من شيء بعد” يقتضي أنَّه شيء يشاؤه سبحانه بعد هذه المخلوقات، كما يخلقه بعد ذلك من مخلوقاته من القيامة وما بعدها. ولو أريد تقديرُ خلقه لقيل: “وملء ما شئت من شيء مع ذلك”، لأنَّ المقدَّر يكون مع المحقَّق (5).
وأيضًا. فإنَّه لم يقل: “ملء ما شئت أن يملأه الحمد”. بل قال: “ما
__________
(1) “ك، ط”: “أنَّ الحمد” تحريف.
(2) “ك، ط”: “شيء بعد”.
(3) “ك، ط”: “ولكن يقال”. “ف”: “يمكن قد” تحريف.
(4) “ك، ط”: “والمشيئة”.
(5) وردت هنا في الأصل عبارة ضرب عليها، أثبتها للفائدة: “هذا تقرير شيخنا. قلت: وفيه نظر، إذ قوله: “وملء ما شئت من شيء بعد” يحتمل بعدية الزمان، ويحتمل بعدية المكان المغايرة، أي ما شئت غير ذلك. والبعدية مستعملة فيهما”.
(1/240)
شئت”. والعبد قد حمد حمدًا أخبر به، وأنشأه، (1) ووصفه بأنَّه يملأ ما خلقه الربُّ، وما يشاؤه (2) بعد ذلك.
وأيضًا فقوله: “وملء ما شئت من شيءٍ بعد” يقتضي إثباتَ مشيئة تتعلَّق بشيءٍ بعد ذلك. وعلى الوجه الثاني قد تتعلَّق المشيئة بملء المقدَّر، وقد لا تتعلَّق.
وأيضًا فإذا قيل: “ما شئتَ من شيء بعد ذلك” كان الحمد مالئًا لما هو موجود يشاؤه الربُّ دائمًا، ولا ريبَ أنَّ له الحمد دائمًا في الأُولى والآخرة. وأمَّا إذا قدّر ما يملؤه الحمد، وهو غير موجود، فالمقدَّرات لا حدَّ لها، وما من شيء منها إلا يمكن تقدير شيء بعده، وتقدير ما لا نهاية له، كتقدير الأعداد. ولو أُريد هذا المعنى لم يحتج إلى تعليقه بالمشيئة، بل قيل: “ملء ما لا يتناهى”. فأَمَّا ما شاءه (3) الربّ تعالى فلا يكون إلا موجودًا مقدَّرًا، وإن كان لا آخرَ لنوع الحوادث وبقاءِ (4) ما يبقى منها، فهذا كلُّه ممَّا يشاؤه بعد.
وأيضًا فالحمدُ هو الإخبار بمحاسن المحمود على وجه الحب له، ومحاسنُ المحمود تعالى إمَّا قائمة بذاته، وإمَّا ظاهرة في مخلوقاته. فأمَّا المعدوم المحض الَّذي لم يخلق ولا خلق قط فذاك ليس فيه محاسن ولا غيرها، فلا محامد فيه البتة. فالحمدُ للَّه الَّذي يملأ المخلوقات ما
__________
(1) “ط”: “وإن ثناءه”، تحريف.
(2) “ك”: “شاءه”. “ط”: “يشاء”.
(3) “ك، ط”: “يشاؤه”.
(4) “ك”: “وبقي”.”ط”: “أو بقاء”.
(1/241)
وُجِدَ منها وما (1) يوجَد هو حمدٌ يتضمن الثَّناءَ عليه بكماله القائم بذاته والمحاسن الظاهرة في مخلوقاته. وأمَّا ما لا وجود له فلا محامد فيه (2) ولا مذامّ، فجعلُ الحمدِ مالئًا له جعلُه مالئًا (3) لما لا حقيقة له.
وقد اختلف النَّاس في معنى كون حمده يملأ السماوات والأرض وما بينهما، فقالت طائفة: هذا (4) على جهة التمثيل، أي لو كان أجسامًا لملأ السماوات والأرضِ وما بينهما (5). قالوا: فإنَّ الحمد من قبيل المعاني والأعراض التي لا تُملأ بها الأجسام، ولا تُملأ الأجسام إلا بالأجسام.
والصواب أنَّه لا يحتاج إلى هذا التكلف البارد، فإنَّ ملء كل شيء يكون بحسب المالئ والمملوءِ، فإذا قيل: امتلأ الإناءُ ماءً، وامتلأت الجفنةُ طعامًا، فهذا الامتلاء نوع. وإذا قيل: امتلأت الدَّارُ رجالًا، وامتلأت المدينةُ خيلًا ورجالًا، فهذا نوع آخر. وإذا قيل: امتلأَ الكتابُ سطورًا، فهذا نوع آخر.
وإذا قيل: امتلأت مسامع الناس حمدًا أو ذمًّا لفلان، فهذا نوع آخر، كما في أثر معروف (6): “أهل الجنَّة من امتلأت مسامعه من ثناء الناس
__________
(1) “ما” ساقطة من “ط”.
(2) “فيه” سقط من “ط”، واستدرك في القطرية.
(3) “جعله مالئا” سقط من “ط”، واستدرك في القطرية.
(4) لم يرد “هذا” في “ك، ط”.
(5) هنا عبارة مضروب عليها، نثبتها للفائدة: “وكان شيخنا رحمه اللَّه يرى أنَّه لا يحتاج إلى هذا التكلف، بل الحمد يملؤها حقيقة”.
(6) أخرجه ابن ماجة (4224) من حديث ابن عباس مرفوعًا. قال البوصيري: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. (ز).
(1/242)
عليه، وأهل النَّارِ من امتلأت مسامعه من ذمِّ النَّاس له”.
وقال عمر بن الخطاب في عبد اللَّه بن مسعود: “كُنَيفٌ مُلئ عِلمًا” (1). ويقال: فلان علمه قد ملأ الدنيا، وكان يقال: “ملأ ابنُ أبي الدنيا الدنيا علمًا” (2). ويقال: صيتُ فلانٍ قد ملأ الدنيا فطبق (3) الآفاقَ، وحبُّه قد ملأ القلوب، وبغضُ فلانٍ قد ملأ القلوب، وامتلأ قلبُه رعبًا.
وهذا أكثر من أن تستوعب شواهدُه، وهو حقيقة في بابه. وجعلُ الملء والامتلاء حقيقةً للأجسام خاصَّة تحكمٌ باطلٌ ودعوى لا دليل عليها البتة. والأصلُ الحقيقة الواحدة، والاشتراك المعنوي هو الغالب على اللغة والأفهام والاستعمال، فالمصير إليه أولى من المجاز والاشتراك اللفظي (4).
وليس هذا موضع تقرير هذه المسألة (5)، إذ (6) المقصود أنَّ الرب تعالى أسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم سوء، وأوصافه كلها كمال ليس فيها صفة نقص، وأفعاله كلها حكمة ليس فيها فعل خالٍ عن الحكمة والمصلحة، وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز
__________
(1) أخرجه ابن سعد في الطبقات (2/ 297)، وسنده صحيح. (ز)، والكُنَيف تصغير تعظيم للكِنْف، وهو الوعاء الَّذي يضع فيه الراعي أداته ومتاعه. انظر: اللسان (كنف).
(2) “ن”: “ابن أبي الدنيا ملأ الدنيا علمًا”.
(3) “ك، ط”: “وضيق”، تحريف.
(4) “اللفظي”: ساقط من “ط”.
(5) “ك، ط”: “تقرير المسألة”.
(6) “ك، ط”: “والمقصود”.
(1/243)
الحكيم. موصوف بصفات (1) الكمال، مذكور بنعوت الجلال، منزَّه عن الشبيه والمثال، ومنزَّه عمَّا يضاد صفاتِ كماله: فمنزَّه عن الموت المضاد للحياة، وعن السِّنة والنوم والسهو والغفلة المضاد للقيومية. وموصوف بالعلم، منزَه عن أضداده كلها من النسيان والذهول وعزوب شيءٍ عن علمه. موصوف بالقدرة التامة، منزَّه عن ضدها من العجز واللغوب والإعياء. موصوف بالعدل، منزَّه عن الظلم. موصوف بالحكمة، منزَّه عن العبث والسفه (2). موصوف بالسمع والبصر، منزَّه عن أضدادهما من الصمَم والبكَم. موصوف بالعلو والفوقية، منزَّه عن ضد (3) ذلك. موصوف بالغنى التام، منزَّه عمَّا يضاده بوجه من الوجوه. ومستحق للحمد كلُّه، فيستحيل أن يكون غيرَ محمود، كما يستحيل أن يكون غير قادر ولا خالق ولا حي. بل (4) الحمد كلُّه واجب له (5) لذاته، فلا يكون إلا محمودًا، كما لا يكون إلا إلهًا وربًّا وقادرًا.
فإذا قيل: “الحمدُ كلُّه للَّه”، فهذا له معنيان:
أحدهما: أنَّه محمود على كل شيء، وبكلِّ ما يُحمَد به المحمودُ الحمدَ (6) التامّ. وإن كان بعضُ خلقه يُحمَد أيضًا، كما تُحمَد (7) رسلُه وأنبياؤه وأتباعهم، فذلك من حمده تبارك وتعالى، بل هو المحمود
__________
(1) “ك، ط”: “بصفة”.
(2) “والسفه” ساقط من “ك، ط”.
(3) “ط”: “أضداد”.
(4) “ك، ط”: “وله” مكان “بل”.
(5) “له” ساقط من “ك، ط”.
(6) “الحمد” ساقط من “ط”.
(7) “ك، ط”: “يحمد”.
(1/244)
بالقصد الأوَّل وبالذَّات، وما نالوه من الحمد فإنَّما نالوه بحمده، فهو المحمود أَوَّلًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا. وهذا كما أنَّه بكلِّ شيءٍ عليم، وقد علم غيرُه من علمه ما لم يكن يعلَمه بدون تعليمه.
وفي الدعاء المأثور: “اللَّهم لك الحمدُ كلُه، ولك الملكُ كلُّه، وبيدك الخير كلُّه، وإليك يرجع الأمر كلُّه، أسألك من الخير كلِّه وأعوذُ بك من الشرِّ كلِّه” (1).
وهو سبحانه له المُلك، وقد آتى من مُلكه (2) بعضَ خلقه؛ وله الحمد، وقد آتى غيره من الحمد ما شاءَ. وكما أنَّ مُلك المخلوق داخلٌ في ملكه، فحمدُه أيضًا داخلٌ في حمده، فما من محمود يحمَد على شيء ما (3) -دقَّ أو جلَّ- إلا واللَّه المحمودُ عليه بالذَّات، والأولية (4)، والأولوية أيضًا. وإذا قال الحامد (5): “اللهم لك الحمد” فالمراد به: أنت المستحقُّ لكلِّ حمد، ليس المراد به الحمد الخارجي فقط.
المعنى الثاني: أن يقال: “لك الحمد كلُّه” أي الحمد التام الكامل، فهذا مختص باللَّه عَزَّ وَجَلَّ، ليس لغيره فيه شركة.
__________
(1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4088). وفي سنده خالد بن يزيد العمري المكي. قال البخاري فيه: ذاهب الحديث. التاريخ الكبير (3/ 184). وجاء أوله عن حذيفة في مسند أحمد (23355) وسنده ضعيف. (ز).
(2) “ك”: “المملكة”، “ط”: “الملكة”.
(3) “ط”: “ممَّا”
(4) “والأولية” ساقط من “ك، ط”.
(5) “الحامد، ساقط من “ط”.
(1/245)
والتحقيق أنَّ له الحمد بالمعنيين جميعًا، فله عموم الحمد وكماله، وهذا من خصائصه سبحانه. فهو المحمود على كل حال، وعلى كلِّ شيء، أكملَ حمدٍ وأعظمه؛ كما أنَّ له الملك التامّ العامّ، فلا يملك كلَّ شيء إلا هو، وليس الملك التام الكامل إلا له. وأتباع الرسل صلوات اللَّه وسلامه عليهم يثبتون له كمال الملك وكمال الحمد، فإنَّهم يقولون: إنَّه خالق كلِّ شيء وربّه ومليكه، لا يخرج عن خلقه وقدرته ومشيئته شيء البتة، فله الملك كلُّه.
والقدرية المجوسية يُخرجون من ملكه (1) أفعالَ العباد، فيخرجون طاعات الأنبياء والمرسلين والملائكة والمؤمنين من ملكه، كما (2) يخرجون سائر حركات الملائكة والجن والإنس عن ملكه. وأتباعُ الرسل يجعلون ذلك كلَّه داخلًا تحت (3) ملكه وقدرته، ويثبتون له (4) كمال الحمد أيضًا، وأنَّه المحمود على جميع ذلك، وعلى كلِّ ما خلقه ويخلقه، لما له فيه من الحِكَم والغايات المحمودة المقصودة بالفعل.
وأمَّا نفاةُ الحكمة والأسباب من مثبتي القدر، فهم في الحقيقة لا يثبتون له حمدًا، كما لا يثبتون له الحكمة؛ فإنَّ الحمد من لوازم الحكمة، والحكمة إنَّما تكون في حقِّ من يفعل شيئًا لشيء، فيريد بما يفعله الحكمة الناشئة من فعله. فأمَّا من لا يفعل شيئًا لشيء البتة،
__________
(1) في “ف” هنا وفي السطر التالي: “عن ملكه”، خلافًا لأصلها.
(2) العبارة “فيخرجون. . . ” إلى هنا ساقطة من “ط”، ومستدركة في حاشية “ك”، بخط متأخر.
(3) “ك، ط”: “في ملكه”.
(4) “له” سقط من “ط”، وكتب في “ك” فوق السطر بخط مختلف.
(1/246)
فلا يُتصوَّر في حقه الحكمة. وهؤلاء يقولون: ليس في أفعاله وأحكامه لام تعليل، وما اقترن بالمفعولات من قوى وطبائع ومصالح فإنَّما اقترنت بها اقترانًا عاديًّا، لا أنَّ هذا كان لأجل هذا؛ ولا شاءَ (1) السببَ لأجل المسبَّب، بل لا سببَ عندهم ولا مسببَ البتة، إنْ هو إلا محض المشيئة وصِرف الإرادة التي ترجِّح مِثلًا على مِثلٍ، بلا مرجِّح (2) أصلًا. وليس عندهم في الأجسام طبائع وقوًى تكون أسبابًا لحركاتها، ولا في العين قوَّةٌ امتازت بها على الرِّجْل تبصر بها (3)، ولا في القلب قوَّة يعقل بها امتاز بها على الظهر (4)؛ بل خصَّ سبحانه أحد الجسمَين بالرؤية والعقل والذوق تخصيصًا لمثل على مثل، بلا سبب أصلًا ولا حكمة.
فهؤلاء لم يُثبِتوا له كمال الحمد، كما لم يُثبِت له أولئك كمالَ الملك، وكلا القولين منكَر عند السلف وجمهور الأُمَّة. ولهذا كان منكرو الأسباب والقوى والطبائع يقولون: العقل نوع من العلوم الضرورية، كما قاله القاضيان أبو بكر بن الطيب وأبو يعلى بن الفرَّاء وأتباعهما. وقد نصَّ أحمدُ على أنَّه غريزة، وكذلك الحارث المحاسِبي وغيرهما (5). وأولئك (6) لا يثبتون غريزةً ولا قوَّة ولا طبيعةً ولا سببًا،
__________
(1) “ك، ط”: “نشأ”، تحريف.
(2) “ك، ط”: “بل لا مرجح”.
(3) “ط”: “يبصر بها”. وفي “ف”: “بصيرتها” كذا، وهو تصحيف.
(4) “ك، ط”: “عن الظهر”.
(5) انظر: ذم الهوى (5). والعقل غريزة، أو نوع من العلوم الضرورية، كلا القولين حكاهما شيخ الإسلام وصوّبهما في الاستقامة (2/ 161)، ومجموع الفتاوى (9/ 287).
(6) “ط”: “فأولئك”، خطأ.
(1/247)
وأبطلوا مسمَّيات هذه الأسماء جملةً، وقالوا: إنَّ ما في الشريعة من المصالح والحِكَم لم يشرع الربُّ سبحانه ما شرع من الأحكام لأجلها، بل اتفق اقترانُها بها أمرًا اتفاقيًّا، كما قالوا نظيرَ ذلك في المخلوقات سواءً، والعلل عندهم أمارات محضة لمجرد الاقتران الاتفاقي.
وهم فريقان: أحدهما لا يعرّجون على المناسبات ولا يثبتون العلل بها البتة، وإنَّما يعتمدون على تأثير العلة بنص أو إجماع، فإن فقدوا فزِعوا إلى الأقيسة الشبَهية.
والفريق الثاني أصلحوا المذهبَ بعض الإصلاح، وقرّبوه بعض الشيء، وأزالوا تلك النفرة عنه، فأثبتوا الأحكامَ بالعلل، والعللَ بالمناسبات والمصالح، ولم يمكنهم (1) الكلامُ في الفقه إلا بذلك، ولكن جعلوا اقترانَ أحكام تلك العلل والمناسبات بها اقترانًا عاديًّا غيرَ مقصود في نفسه، والعللَ وَالمناسبات أماراتِ ذلك الاقتران.
وهؤلاء يستدلون على إثبات علم الرب تعالى بما في مخلوقاته من الإحكام والإتقان والمصالح، وهذا تناقضٌ بيِّن (2) منهم، فإنَّ ذلك إنَّما يدلُّ إذا كان الفاعل يقصد أن يفعلَ الفعلَ على وجهٍ مخصوص لأجل الحكمة المطلوبة منه. وأمَّا من لم يفعل لأجل ذلك الإحكام والإتقان، وإنَّما اتفق اقترانُه بمفعولاته عادةً، فإنَّ ذلك الفعل لا يدلُّ على العلم. ففي أفعال الحيوانات من الإحكام والإتقانِ والحِكَم ما هو معروفٌ لمن تأمله، ولكن لمَّا لم تكن تلك الحكم والمصالح مقصودةً لها لم تدل على
__________
(1) “ن”: “لم يلتئم”، تحريف.
(2) “ف”: “من مذهبهم”، كذا، وهو تحريف.
(1/248)
علمها. والمقصود أنَّ هؤلاء إذا قالوا: إنَّه تعالى لا يفعل لحكمةٍ امتنع عندهم أن يكون الإحكام دليلًا على العلم.
وأيضًا فعلى قولهم يمتنع أن يُحمَد على ما فعله؛ لأنَّ (1) ما حصل للعباد من نفع، فهو سبحانه لم يقصد بما خلقه نفعهم، ولا خلقه لنفعهم ومصالحهم، بل إنَّما أرادَ مجرد وجوده، لا لأجل كذا، ولا لنفع أحد ولا لضره؛ فكيف يتصوَّر في حق من يكون فعله كذلك (2) حَمْدٌ؟ فلا يُحمَد على فعل عدلٍ، ولا على ترك ظلم؛ لأنَّ الظلم عندهم هو الممتنع الَّذي لا يدخل في المقدور، وذلك لا يُمدَح أحدٌ على تركه. وكل ما أمكن وجودُه فهو عندهم عدل، فالظلم (3) مستحيل عندهم، إذ هو عبارة عن الممتنع المستحيل لذاته الَّذي لا يدخل تحت المقدور، ولا يتصوَّر فيه ترك اختياري، فلا يتعلَّق به حمدٌ. وإخباره تعالى عن نفسه بقيامه بالقسط حقيقتُه عندهم مجرَّد كونِه فاعلًا لا أنَّ هناكَ شيئًا هو قسط في نفسه يمكن وجودُ ضدِّه.
وكذلك قولُه: {وَمَا رَبُّك بِظَلَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46)} [فصلت/ 46] نفيٌ عندهم لما هو مستحيل في نفسه لا حقيقه له، كجعل الجسم في مكانين في آنٍ واحدٍ، وجعله موجودًا معدومًا في آنٍ واحدٍ، فهذا ونحوه عندهم هو الظلم الَّذي تنزَّه (4) عنه. وكذلك قوله: “يا عِبَادِي، إنِّي حرَّمتُ الظلمَ
__________
(1) “ك، ط”: “لأمر”، تحريف.
(2) “ك”: “ذلك حمدًا”، “ط”: “ذلك حمد”.
(3) “ف”: “والظلم”، قراءة محتملة.
(4) “ن، ك”: “ينزه”.
(1/249)
على نفسي، وجعلتُه محرَّمًا بينكم (1)، فلا تظالموا” (2)، فالذي حرَّمه على نفسه هو المستحيل الممتنع لذاته كالجمع بين النقيضين، وليس هناك ممكن يكون ظلمًا في نفسه وقد حرَّمه على نفسه، ومعلومٌ أنَّه لا يُمدح الممدوحُ بترك ما لو أراده لم يقدر عليه، وأيضًا فإنّه قال: “وجعلته محرَّمًا بينكم”، فالذي حرَّمه على نفسه هو الَّذي جعله محرَّمًا بين عباده، وهو الظلم المقدور الَّذي يستحق تاركُه الحمدَ والثَّناءَ.
والذي أوجبَ لهم هذا مناقضةُ القدرية المجوسية وردُّ أصولهم وهدمُ قواعدِهم، ولكن ردُّوا باطلًا بباطل، وقابلوا بدعةً ببدعة، وسلَّطوا عليهم خصومَهم بما التزموه من الباطل. فصارت الغلبة بينهم وبين خصومهم سِجَالًا: مرَّة يغلِبون، ومرَّةً يُغلَبون، لم تستقر (3) لهم نصرة. وإنَّما النصرة التامَّة (4) لأهل السنَّة المحضة الذين لم يتحيزوا إلى فئةٍ غير رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولم يلتزموا شيئًا (5) غير ما جاءَ به، ولم يؤصِّلوا أصلًا ببدعة يسلطون عليهم به خصومهم، بل أصلُهم ما دلَّ عليه كتابُ اللَّه، وكلامُ رسوله، وشهدت به الفِطرَ والعقول.
فصل
والمقصودُ بيانُ شمولِ حمدِه تعالى وحكمتِه لكلِّ ما يحدثه من
__________
(1) “ك، ط”: “بينكم محرَّمًا”.
(2) من الحديث القدسي الَّذي أخرجه مسلم عن أبي ذر رضي اللَّه عنه في كتاب البر والصلة والآداب (2577).
(3) “ط”: “لم يستقر”.
(4) “ك، ط”: “الثابتة”.
(5) “شيئا”: ساقط من “ك، ط”.
(1/250)
إحسانٍ ونعمة، وامتحانٍ وبلية، وما يقضيه من طاعة ومعصية، وأنَّه سبحانه (1) محمودٌ على ذلك مشكور حمدَ المدح وحمدَ الشكر. أمَّا حمد المدح فإنَّه محمود (2) على كلِّ ما خلق، إذ هو رب العالمين، والحمدُ للَّه ربِّ العالمين. وأمَّا حمد الشكر فلأنَّ (3) ذلك كلَّه نعمة في حقِّ المؤمن إذا اقترن بواجبه.
والإحسانُ (4) والنعمةُ إذا اقترنت بالشكر صارت نعمة، والامتحان والبليةُ إذا اقترن (5) بالصبر كان (6) نعمة. والطاعةُ فمن (7) أجلّ نعمه، وأمَّا المعصيةُ فإذا اقترنت بواجبها من التوبة والاستغفار والإنابة والذل والخضوع، فقد ترتَّب عليها من الآثار المحمودة والغايات المطلوبة ما هو نعمة أيضًا، وإن كان سببُها مسخوطًا مبغوضًا للربِّ تعالى، ولكنَّه يحب ما ترتب (8) عليها من التوبة والاستغفار.
وهو سبحانه أفرَح بتوبة عبده من الرجل إذا أضلَّ راحلته بأرضٍ
__________
(1) “ط”: “واللَّه تعالى”.
(2) “ط”: “فاللَّه محمود”.
(3) “ف”: “فإنَّ”، خلاف الأصل.
(4) “ك، ط”: “من الإحسان”، كأنَّهُ كان للواجب، والصواب ما ورد في الأصل. وقراءة “ن”: “فالإحسان”.
(5) كذا في الأصلِ بصيغة الإفراد، والضمير راجع إلى الامتحان دون البلية، كما رجع الضمير في “اقترنت” في الجملة السابقة إلى النعمة، وكان الأُولى أن يرجع إلى الإحسان. وفي “ك، ط”: “اقترنا”. ولعلَّه مغير في “ك” لأنَّ الجواب فيها “كان” بالإفراد كما في الأصل.
(6) “ط”: “كان”. “ف”: “صار”، خلاف الأصل.
(7) “ط”: “من”.
(8) “ط”: “يترتب”.
(1/251)
دوِّيَّةٍ (1) مهلكةٍ عليها طعامه وشرابه، فأيس منها ومن الحياة، فنام، ثمَّ استيقظ، فإذا بها قد تعلَّق خطامُها في أصلِ شجرةٍ، فجاءَ حتَّى أخذها = فاللَّهُ أفرحُ بتوبة العبد حين يتوب إليه من هذا براحلته (2).
فهذا الفرحُ العظيم الَّذي لا يشبهه شيء أحبُّ إليه سبحانه من عدمه، وله أسباب ولوازم لا بدَّ منها. وما يحصل بتقدير عدمه من الطاعات وإن كان محبوبًا له، فهذا الفرح أحبُّ إليه بكثير، ووجوده بدون لازمه ممتنع. فله من الحكمة في تقدير أسبابه وموجباته حكمة بالغة ونعمة سابغة.
هذا بالإضافة إلى الرب جلَّ جلاله، وأمَّا بالإضافة إلى العبد فإنَّه قد يكون كمالُ عبوديته وخضوعه موقوفًا على أسباب لا يحصل (3) بدونها. فتقديرُ الذنب عليه إذا اتصل به التوبةُ والإنابة والخضوع والذل والانكسار ودوام الافتقار كان من النعم باعتبار غايته وما يُعقِبه، وإن كان من الابتلاء والامتحان باعتبار صورته ونفسه؛ والربُّ تعالى محمود على الأمرين. فإن اتصل بالذنب الآثارُ المحبوبةُ (4) للرب سبحانه من التوبة والإنابة والذل والانكسار فهو عين مصلحة العبد، والاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية.
وإن لم يتصل به ذلك فهذا لا يكون إلا من خُبث نفسه، وشرّه، وعدم استعداده لمجاورة ربه بين الأرواح الزكية الطاهرة في الملأ
__________
(1) الدوية: الصحراء الواسعة التي لا نبات فيها.
(2) يشير إلى حديث الصحيحين، وسيأتي في ص (512).
(3) “ط”: “تحصل”، خطأ.
(4) “ف”: “المحمودة”، خلاف الأصل.
(1/252)
الأعلى. ومعلوم أنَّ هذه النفس فيها من الشرِّ والخبث ما فيها، فلا بدَّ من خروج ذلك منها من القوَّة إلى الفعل، ليترتَّب على ذلك الآثارُ المناسبة لها ومساكنةُ من تليق مساكنتُه ومجاورة الأرواح الخبيثة في المحلِّ الأسفل. فإنَّ هذه النفوس إذا كانت مهيَّأةً لذلك فمن الحكمة أن تُستخرَج منها الأسبابُ التي تُوصِلها إلى ما هي مهيأة له، ولا يليق بها سواه.
والرب تعالى محمود على ذلك أيضًا، كما هو محمود على إنعامه وإحسانه على أهل الإحسان والإنعام القابلين له، فما كل أحد قابلًا لنعمته تعالى، فحمده وحكمته يقتضي (1) أن لا يُودِعَ نعمَه وإحسانَه وكنوزَه في محل غير قابل لها.
ولا يبقى إلا أن يقال: فما الحكمة في خلق هذه الأرواح التي هي غيرُ قابلةٍ لنعمته؟ فقد تقدَّم من الجوابِ عن ذلك ما فيه كفاية (2)، وأنَّ خلق الأضداد والمتقابلات (3) وترتيب آثارها عليها هو (4) موجَب ربوبيته وحكمته وعلمه وعزَّته، وأنَّ تقدير عدمِ ذلك هضمٌ من جانب الربوبية.
وأيضًا فإنَّ هذه الحوادث نعمة في حق المؤمن، فإنَّها إذا وقعت فهو مأمور أن يُنكِرَها بقلبه ويده ولسانه، أو بقلبه ولسانه فقط، أو بقلبه فقط؛
__________
(1) لم ينقط حرف المضارعة في الأصل، ولا في “ف، ن”. وفي “ط”: “تقتضي” أي الحكمة، ولعل الأُولى ما أثبتناه من “ك”، ليرجع الضمير إلى الأول وهو الحمد.
(2) انظر ما سلف في ص (212).
(3) “ك، ط”: “المقابلات”.
(4) “هو” ساقط من “ك، ط”. وفي “ف، ن”: “من” تحريف.
(1/253)
ومأمور أن يجاهد أربابَها بحسب الإمكان، فيترتَّبُ له على الإنكار والجهاد من مصالح قلبه ونفسه وبدنه ومصالح دنياه وآخرته ما لم يكن ينال بدون ذلك.
والمقصود بالقصد الأَوَّل إتمام نعمته تعالى على أوليائه ورسله وخاصته، فاستعمالُ أعدائه فيما تكمل به النعمة على أوليائه غايةُ الحكمة، وكان في تمكين أهل الكفر والفسوق والعصيان من ذلك إيصالُ أوليائه (1) إلى الكمال الَّذي يحصل لهم بمعاداة هؤلاء، وجهادِهم، والإنكار عليهم، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، وبذل نفوسهم وأموالهم وقواهم له. فإنَّ تمام العبودية لا يحصل إلا بالمحبة الصادقة، وإنَّما تكون المحبة صادقةً إذا بذل فيها المحبُّ ما يملكه من مال ورئاسة وقوَّة في مرضاة محبوبه والتقرب إليه، فإن بذل له روحَه كان هذا أعلى درجات المحبة.
ومن المعلوم أنَّ من لوازم ذلك التي لا يحصل إلا بها أن يخلق ذواتٍ (2) وأسبابًا وأعمالًا وأخلاقًا وطبائع تقتضي معاداةَ من يحبه ويؤثر مرضاته لها، وعند ذلك تتحقق المحبة الصادقة من غيرها. فكل أحد يحبُّ الإحسان والرَّاحة والدَّعَة واللذّة، ويحب من يوصل إليه ذلك ويُحصّله له، ولكن الشأن في أمرٍ وراءَ هذا، وهو محبتُه سبحانه ومحبةُ ما يحبه ممَّا هو أكرهُ شيءٍ إلى النفوس، وأشقُّ شيء عليها ممَّا لا يلائمها. فعند حصول أسباب ذلك يتبين من يحب اللَّه لذاته ويحب ما يحب، ممن يحبُّه لأجل مخلوقاته فقط من المأكل والمشرب والمنكح
__________
(1) “أوليائه” ساقط من “ك، ط”.
(2) في الأصل: “ذواتًا”، ولعله سهو. وكذا في غيره.
(1/254)
والرئاسة، فإن أعطي منها رضي، كان مُنِعها سخط، وعتب على ربه، وربما شكاه، وربما ترك عبادته.
فلولا خلقُ الأضداد، وتسليط أعدائه، وامتحان أوليائه بهم (1) لم يستخرَج خالصُ (2) العبودية من عَبيده الذين هم عَبيدُه، ولم يحصل لهم عبوديةُ الموالاة فيه، والمعاداة فيهَ، والحب فيه، وَالبغض فيه، والعطاء له، والمنع له؛ ولا عبوديةُ بذلِ الأرواح والأموال والأولاد والقوى في جهاد (3) أعدائه ونصرته (4)، ولا عبودية مفارقة الناس أحوجَ ما يكون إليهم عبده (5) لأجله و (6) في مرضاته. فلا يتحيز (7) إليهم، وهو يرى محابَّ نفسه وملاذَّها بأيديهم، فيرضى بمفارقتهم، ومشاققتهم (8)، وإيثار موالاة الحق عليهم. فلولا الأضداد والأسباب التي توجب ذلك لم تحصل هذه الآثار.
وأيضًا فلولا تسليطُ الشهوة والغضب ودواعيهما على العبد لم تحصل له فضيلة الصبر، وجهاد النفس، ومنعها من حظوظها (9) وشهواتها محبَّةً للَّه، وإيثارًا لمرضاته، وطلبًا للزلفى لديه والقرب منه.
__________
(1) “بهم” ساقط من “ك، ط”.
(2) “ك، ط”: “خاص”، تحريف.
(3) “ك”: “وجهاد”.
(4) ” ط”: “مضرته” تحريف.
(5) “ك، ط”: “عنده”، تصحيف.
(6) الواو ساقطة من “ك، ط”.
(7) “ك، ط”: “ولا يتحيز”.
(8) كذا في الأصل وغيره بفكّ الإدغام.
(9) “ك، ط”: “خوضها”، تحريف.
(1/255)
وأيضًا فلولا ذلك لم تكن هذه النشأة الإنسانية إنسانيَّةً، بل كانت ملكيةً، فإنَّ اللَّه سبحانه خلق خلقَه أطوارًا فخلق الملائكة عقولًا لا شهوات لها ولا طبيعة تتقاضى منها خلافَ ما يراد منها (1)، من مادة نورية لا تقتضي شيئًا من الآثار والطبائع المذمومة. وخلق الحيوانات ذوات شهوات لا عقول لها. وخلق الثقلين -الجن والإنس- وركَّب فيهم العقول والشهوات والطبائع المختلفة المقتضية (2) لآثار مختلفة بحسب موادها وصورها وتركيبها. وهؤلاءِ هم أهل الامتحان والابتلاء، وهم (3) المعرضون للثواب والعقاب. ولو شاءَ سبحانه لجعل خلقه على طبيعة واحدة (4) وخلق واحد، ولم يُفاوت بينهم، لكن ما فعله سبحانه هو محض الحكمة وموجب الربوبية ومقتضى الإلهية.
ولو كان الخلق كله طبيعةً واحدةً ونمطًا واحدًا لوجد الملحد مقالًا وقال: هذا مقتضى الطبيعة، ولو كان فاعلًا بالاختيار لتنوعت أفعالُه ومفعولاتُه، ولفَعَل الشيءَ وضدَّه، والشيء وخلافه. وكذلك لولا شهودُ هذه الحوادث المشهودة لوجد الملحد أيضًا مقالًا وقال: لو كان لهذا العالم خالق مختار (5) لوجدت فيه الحوادثُ على حسب إرادته واختياره، كما رُوِي عن (6) الحسن أو غيره قال: “كان أصحاب محمد
__________
(1) سقط “منها” من “ط”.
(2) “المقتضية” ساقط من “ط”، ومستدرك في حاشية “ك”.
(3) “وهم” ساقط من “ك”.
(4) “واحدة” ساقط من “ك، ط”.
(5) في الأصل: “خالقًا مختارًا”، وكذا في “ف، ك، ط”. ولعله سهو، والمثبت من “ن”.
(6) “عن” ساقط من “ك، ط”.
(1/256)
-صلى اللَّه عليه وسلم- يقولون: جلَّ ربنا القديم، [لو] (1) لم يتغيَّر هذا الخلق لقال الشاكُّ في اللَّه (2): لو كان لهذا العالم خالق لَحادثَه (3): بينا هو ليل إذ جاء نهار، وبينا (4) هو نهارٌ إذ جاء ليل، وبينا هو صحو إذا جاء غيم، وبينا هو غيم إذ جاءَ صحو” (5) أو نحو (6) هذا من الكلام (7).
ولهذا يستدل سبحانه في كتابه بالحوادث تارةً وباختلافها تارةً، إذ هذا وهذا مستلزمٌ لربوبيته (8)، وقدرته، واختياره، ووقوع الكائنات (9) على وفق مشيئته؛ فتنوعُ أفعالهِ ومفعولاته من أعظم الأدلةَ على ربوبيته وحكمته وعلمه.
ولهذا -سبحانه- خلق (10) النوع الإنساني أربعةَ أقسام: أحدها: لا من ذكر ولا أنثى، وهو خلق أبيهم وأصلهم آدم. الثاني: خلَقه من ذكر بلا أنثى، كخلق أمهم حواء من ضلع من أضلاع آدم من غير أن تحمل بها أنثى أو يشتمل عليها بطن. الثالث: خلقَه من أنثى بلا ذكر، كخلق المسيح
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق، وقد أثبتناها من “ف، ن”. وفي “ك، ط”: “إنَّه لو”.
(2) “ط”: “الشاك فيه إنَّه”.
(3) أي لم يتركه على صفة واحدة، بل تعاهده بالتغيير والإصلاح، من حادث السيفَ: تعاهده بالجلاء والصقال. وفي “ط”: “لأحدثه”، ولعلَّه تغيير في النص.
(4) في هذه الجملة والتي بعدها في “ط”: “بينا” دون الواو.
(5) لم أجده.
(6) “ك، ط”: “ونحو”.
(7) “ط”: “هذا الكلام”، واستدركت “من” في القطرية.
(8) “ك، ط”: “يستلزم ربوبيته”.
(9) “ك، ط”: “كل الكائنات”.
(10) “ك، ط”: “خلق سبحانه”.
(1/257)
عيسى ابن مريم صلى اللَّه على نبينا وعليه. الرابع: خلق سائر النوع الإنساني من ذكر وأنثى.
وكلُّ هذا ليدلَّ عباده على كمال قدرته، ونفوذ مشيئته، وكمال حكمته، وأنَّ الأمرَ ليس كما يظنه أعداؤه الجاحدون له الكافرون به من أن ذلك أمرٌ طبيعي لم يزل هكذا ولا يزال، وأنَّه ليس للنوع أبٌ ولا أمٌّ، وأنَّه ليس إلا أرحامٌ تدفَع، وأرضٌ تبلع، وطبيعةٌ تفعل ما يُرى ويشاهَد. ولم يعلم هؤلاء الجهَّال الضلَّال أنَّ الطبيعة قوَّة وصفة فقيرة إلى محلها، محتاجة إلى حامل لها، وأنَّها من أدل الدلائل على وجود من (1) طبَعها، وخلَقَها، وأودعها الأجسامَ، وجعل فيها هذه الأسرار العجيبة. فالطبيعةُ مخلوقٌ من مخلوقاته، ومملوكٌ من مماليكه وعبيده، مسخَّرةٌ لأمره، منقادةٌ لمشيئته. ودلائلُ الصنعة، وأماراتُ الخلق والحدوث، وشواهدُ الفقر والحاجة شاهدٌ (2) عليها بأنّها مخلوقة مصنوعة، لا تخلق، ولا تفعل، ولا تتصرّف في ذاتها ونفسها، فضلًا عن إسناد الكائنات إليها.
والمقصود أن تنويع المخلوقات واختلافها من لوازم الحكمة والربوبيّة والملك، وهو أيضًا من موجبات الحمد، فله الحمد على ذلك كلُّه أكمل حمد وأتمّه.
وأيضًا (3) فإنَّ مخلوقاته هي موجَباتُ أسمائه وصفاته، فلكلِّ اسمٍ وصفةٍ أثرٌ لا بُدَّ من ظهوره فيه (4) واقتضائه له، فيمتنع تعطيلُ
__________
(1) “ط”: “وجود أمره”!.
(2) كذا في الأصل وغيره. وفي ط: “شاهدة”.
(3) “ط”: “وأتمه أيضًا”، فاختل السياق.
(4) “فيه” سقط من “ف”.
(1/258)
آثار أسمائه وصفاته، كما يمتنع تعطيلُ ذاته عنها. وهذه الآثار لها متعلقات ولوازم يمتنع أن لا توجد، كما تقدم التنبيه عليه.
وأيضًا فإن تنويع أسباب الحمد أمرٌ مطلوب للرب محبوب له، فكلما (1) تنوعت أسبابُ الحمد تنوع الحمدُ بتنوعها، وكثر بكثرتها. ومعلومٌ أنَّه سبحانه محمود على انتقامه من أهل الإجرام والإساءة، كما هو محمود على إكرامه لأهل العدل والإحسان. فهو محمود (2) على هذا وعلى هذا، مع ما يتبع ذلك من حمدِه على حلمه وعفوه ومغفرته، وترك حقوقه ومسامحة خلقه بها، والعفو عن كثير من جنايات العبيد. فنبّهَهم باليسير من عقابه وانتقامه على الكثيرِ الَّذي عفا عنه، وأنَّه لو عاجلهم بعقوبته، وأخذهم بحقه، لقُضِيَ إليهم أجلُهم، ولما ترك على ظهرها من دابة. ولكنَّه سبقت رحمتُه غضبَه، وعفوُه انتقامَه، ومغفرته عقابَه. فله الحمد على عفوه وانتقامه، وعلى عدله وإحسانه، ولا سبيل إلى تعطيل أسباب حمده ولا بعضها. فليتدبر اللبيبُ هذا الموضع حقَّ التدبر، وليعطه حقَّه يُطْلِعْه على أبوابٍ عظيمةٍ من أسرار القدر، ويهبطْ به (3) على رياضِ منه مُعْشِبةٍ وحدائقَ مُؤْنِقة، واللَّه الموفِّق الهادي للصواب.
وأيضًا فإنَّ اللَّه سبحانه نوَّع الأدلَّة الدَّالّة عليه والتي تعرّف عباده به غاية التنوع، وصرَّف الآيات، وضرب الأمثال، ليقيمَ عليهم حجَّته البالغة، ويتمَّ بذلك عليهم (4) نعمته السابغة، ولا يكون لأحدٍ بعد ذلك
__________
(1) “ط”: “فكما”.
(2) “ط”: “محمول”، خطأ.
(3) “ن”: “يهبطه”.
(4) “ك، ط”: “عليهم بذلك”.
(1/259)
حجةٌ عليه سبحانه، بل الحجَّةُ كلها له، والنعمةُ كلها له (1)، والقدرةُ كلها له. فأقام عليهم حجته، ولو شاء لسوَّى بينهم في الهداية، كما قال تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} [الأنعام/ 149]، فأخبر أنَّ له الحجَّة البالغة، وهي التي بلغت إلى صميم القلب، وخالطت العقل، واتحدت به، فلا يمكن العقلَ دفعُها ولا جحدُها. ثمَّ أخبر أنَّه سبحانه قادر على هداية خلقه كلِّهم، ولو شاء ذلك لفعله لكمال قدرته ونفوذ مشيئته، ولكنَّ حكمته تأبى ذلك وعدله يأبى تعذيب أحد وأخذه بلا حجة، فأقام الحجة، وصرف الآيات، وضرب الأمثال، ونوَّع الأدلة. ولو كان الخلقُ كلهم على طريقة واحدة من الهداية لما حصلت هذه الأمور، ولا تنوعت هذه الأدلة والأمثال، ولا ظهرت عزَّتُه سبحانه في انتقامه من أعدائه ونصر أوليائه عليهم، ولا حججه التي أقامها على صدق أنبيائه ورسله، ولا كان للناس {آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} [آل عمران/ 13]، ولا كان للخق آيةٌ باقيةٌ (2) ما بقيت الدنيا في شأن موسى وقومه، وفرعون وقومه، وفلقِ البحر لهم، ودخولهم جميعًا فيه. ثم أنجى (3) موسى وقومه لم يغرَق منهم أحد (4)، وأغرقَ فرعونَ وقومَه لم ينجُ منهم أحد. فهذا التعرف إلى عباده، وهذه الآيات، وهذه العزَّة والحكمة لا سبيل إلى تعطيلها البتة، ولا توجد بدون لوازمها.
__________
(1) “والنعمة كلها له” ساقط من “ط”.
(2) من هنا تبدأ المقابلة على النسخة “ب” أيضًا.
(3) “ط”: “إنجاء”.
(4) “ط”: “ولم يغرق أحد منهم”.
(1/260)
وأيضًا فإنَّ حقيقة المُلْك إنَّما تتم (1) بالعطاء والمنع، والإكرام والإهانة، والإثابة والعقوبة، والغضب والرضا، والتولية والعزل، وإعزاز من يليق به العز (2) وإذلال من يليق به الذل. قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران/ 26، 27].
وقال تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن/ 29]، يغفر ذنبًا، ويفرِّج كَرْبًا، ويكشف غمًّا، وينصر مظلومًا، ويأخذ ظالمًا، ويفُكّ عانيًا، ويُغني فقيرًا، ويجبُر كسيرًا، ويشفي مريضًا، ويُقيل عَثرةً، ويستر عورةً، ويُعزّ ذليلًا، ويُذلّ عزيزًا، ويعطي سائلًا، ويذهب بدولة، ويأتي بأخرى، ويداول الأيّامَ بين الناس، ويرفع أقوامًا، ويضع آخرين. يسوق (3) المقادير التي قدّرها قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام إلى مواقيتها، فلا يتقدّم شيء منها عن وقته (4) ولا يتأخّر، بل كلّ منها قد أحصاه كتابه (5)، وجرى به قلمُه، ونفذ فيه حكمُه، وسبق به علمُه. فهو المتصرّف في الممالك كلّها وحده تصرُّفَ ملكٍ قادر قاهر عادل رحيم تامّ الملك، لا ينازعه في ملكه منازع، ولا يعارضه فيه معارض. فتصرّفُه في المملكة دائرٌ بين العدل والإحسان
__________
(1) الأصل غير منقوط، وفي غيره: “يتم”، وهو جائز، ولكن رجحت قراءة “ط”.
(2) “ب”: “تليق به العزة”.
(3) “ن”: “فيسوق”.
(4) “ب”: “على وقته”.
(5) “ب، ك، ط”: “قد أحصاه كما أحصاه كتابه”.
(1/261)
والحكمة والمصلحة والرحمة، فلا يخرج تصرُّفه عن ذلك.
وفي تفسير الحافظ أبي بكر أحمد بن موسى بن مردويه من حديث الحِمّاني: حدّثنا إسحاق بن سليمان، عن معاوية بن يحيى، عن يونس بن ميسرة، عن أبي أدريس، عن أبي الدرداءِ أنّه (1) سئل عن قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن/ 29]، فقال: سئل عنها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: “من شأنه أن يغفر ذنبًا، ويفرج كربًا، ويرفع قومًا، ويضع آخرين” (2).
وفيه أيضًا من حديث حمّاد بن سلمة، حدثنا الزبير أبو عبد السلام، عن أيوب بن عبد اللَّه بن مكرز، عن أبيه قال: قال عبد اللَّه بن مسعود: “إنّ ربّكم عزّ وجلّ ليس عنده ليل ولا نهار، نور السماوات من نور وجهه، أيّامكم عنده ثنتا عشرةَ ساعةً: تُعرض عليه أعمالُكم بالأمس ثلاثَ ساعاتٍ من أوّل النهار، فيطّلع منها على ما يكره، فيغضب، فيكون أول من يعلم بغضبه حملة العرش، فتسبِّح (3) حمَلةُ العرش وسُرادقاتُ العرش والملائكةُ المقرّبون وسائرُ الملائكة، وينفخ جبريل في القَرْن، فلا يبقى خلقٌ للَّه في السماوات ولا في الأرض إلّا سمعه إلّا الثقلين؛ ويسبّحونه ثلاثَ ساعات (4) حتى يمتلئ الرحمن رحمةً، فتلك
__________
(1) “ب”: “حديث الحماني أنَّه سئل”، فسقط سند الحديث.
(2) أخرجه ابن ماجه (202)، وابن حبان (689) من حديث أبي الدرداء مرفوعًا. وقد حسَّنه البوصيري في مصباح الزجاجة. وذكر محقق صحيح ابن حبان شواهد للحديث، على أنَّ الحديث روي موقوفًا. (ز).
(3) “ب، ك”: “فيسبح”.
(4) في “ط”: “ويسبحون لذلك” ثمَّ أثبت “ثلاث ساعات” بين حاصرتين.
(1/262)
ستُّ ساعات (1). ثم يدعو بالأرحام، فينظر فيها ثلاثَ ساعات {يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران/ 6] {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49)} [الشورى/ 49] فتلك تسعُ ساعات. ثم يدعو بالأرزاق، فينظر فيها ثلاث ساعات فيبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، فتلك ثنتا عشرة ساعة. ثم قرأ عبد اللَّه: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن/ 29] ثم قال: هذا شأنكم وشأن ربّكم عزّ وجلّ” (2).
وذكره الطبراني في المعجم الكبير من وجه آخر (3).
وهذا من تمام تصرّفه في ملكه سبحانه، فلو قصر تصرّفه على وجه واحد ونمط واحد لم يكن تصرّفًا تامًّا.
والمقصود أنّ الملك والحمد في حقّه متلازمان، فكلّ ما شمِله ملكُه وقدرتُه شمِله (4) حمدُه، فهو محمود في ملكه، وله الملك والقدرة مع حمده. فكما يستحيل خروج شيء من الموجودات عن ملكه وقدرته، يستحيل خروجُها عن حمده وحكمته. ولهذا يحمد سبحانه نفسَه عند خلقه وأمره، لينبِّه عبادَه على أنّ مصدر خلقه وأمره عن حمده. فهو محمود على كلّ ما خلقه وأمر به (5) حمدَين (6): حمدَ شكر وعبودية،
__________
(1) ذكر ناشر ط أن هنا بياضًا في أصله، ولا بياض في أصولنا.
(2) أخرجه الطبراني في الكبير (8886)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 137). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 85): “فيه أبو عبد السلام، قال أبو حاتم: مجهول”. انظر نقض الدارمي على بشر المريسي (266 – 268) (ز).
(3) انظر: التعليق السابق.
(4) “ط”: “شمل”.
(5) “ف”: “وأمره” خلاف الأصل.
(6) “حمدين” ساقط من “ك، ط”. وفي “ب”: “أمر به من حمد شكر”، سقط =
(1/263)
وحمدَ ثناءٍ ومدح، ويجمعهما “التبارُك”، فتبارك اللَّه يشمل ذلك كلَّه، ولهذا ذكر هذه الكلمة عقيب قوله: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف/ 54].
فالحمد أوسع الصفات وأعم المدائح، والطرقُ إلى العلم به في غاية الكثرة، والسُّبُل (1) إلى اعتباره في ذرات العالم (2) وجزئياته وتفاصيل الأمر والنهي واسعة جدًّا، لأنَّ جميع أسمائه تبارك وتعالى حمد، وصفاته حمد، وأفعاله حمد، وأحكامه حمد، وعدله في انتقامه (3) من أعدائه حمد، وفضله في إحسانه (4) إلى أوليائه حمد. والخلق والأمر إنَّما قام بحمده، ووجد بحمده، وظهر بحمده، وكان لغاية (5) هي حمده. فحمده سبب ذلك، وغايته، ومظهره، وحامله؛ فحمده روح كل شيء، وقيام كل شيء بحمده. وسريانُ حمده في الوجودات (6) وظهورُ آثاره فيه (7) أمرٌ مشهود بالأبصار والبصائر.
فمن الطرق الدالّة على شمول معنى الحمد وانبساطه على جميع المعلومات (8) معرفةُ أسمائه وصفاته، وإقرار العبد بأنَّ للعالم إلهًا حيًّا
__________
= وتحريف.
(1) “ك، ط”: “السبيل”.
(2) “ب”: “كليات العالم”.
(3) “ك”: “وعدله وانتقامه”. “ط”: “وعدله حمد وانتقامه”.
(4) “ك”: “فضله وإحسانه”.
(5) “ط”: “الغاية”.
(6) كذا في الأصل و”ن”. وفي “ف” وغيرها: “الموجودات”.
(7) كذا في الأصل وغيره بإفراد الضمير المذكر، ولعله يقصد الوجود.
(8) “ب”: “المخلوقات”.
(1/264)
جامعًا (1) لكل صفة كمال، واسم حسن، وثناء جميل، وفعل كريم؛ وأنَّه سبحانه له القدرة التامة، والمشيئة النافذة، والعلم المحيط، والسمع الذي وسمع الأصوات، والبصر الذي أحاط بجميع المبصرات، والرحمة التي وسعت جميع المخلوقات، والملك الأعلى الذي لا يخرج (2) عنه ذرَّة من الذرَّات، والغنى التام المطلق من جميع الجهات، والحكمة البالغة المشهودُ أثرُها (3) في الكائنات، والعزَّة العالية (4) بجميع الوجوه والاعتبارات، والكلماتُ التامَّات النافذات التي لا يجاوزهنَّ برٌّ ولا فاجر من جميع البريّات (5).
واحدٌ لا شريك له في ربوبيته، ولا في إلهيته. ولا شبيه له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. وليس له من يَشرَكه في ذرَّة من ذرَّات ملكه، أو يخلُفه في تدبير خلقه، أو يحجبه عن داعيه ومؤمليه (6) وسائليه (7)، أو يتوسط بينهم وبينه بتلبيس أو فِرية أو كذب، كما يكون
__________
(1) في الأصل: “إله حي جامع”، وفي حاشيته: “صوابه إلهًا حيًّا جامعًا”، وكذا نقل الأصل مع حاشيته في “ف”. وفي “ن” كما في الأصل. وفي “ب، ك، ط” كما أثبتنا.
(2) “ب”: “لا تخرج”، والأصل غير منقوط.
(3) “ف”: “المشهودة الرعاية”، وكلمة “الرعاية” تحريف غريب لكلمة “أثرها” المكتوبة في الأصل فوق السطر مع علامة “صح”. وفي “ك”: “المشهودة آثارها”، وفي “ب”: “المشهورة. . . “، وفي “ط”: “المشهود. . . “.
(4) كذا في الأصل و”ف” بالياء المثناة. وفي “ك، ط”: “الغالبة”. وفي “ب”: “العالمية” وهو تحريف ما في الأصل.
(5) “ن”: “المخلوقات”.
(6) “ك، ط”: “أو مؤمليه”.
(7) “ط”: “أو سائليه”.
(1/265)
بين الرعايا وبين الملوك. ولو كان كذلك لفسد نظام الوجود، وفسد العالم بأسره فَـ (1) {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء/ 22]، فلو كان (2) معه آلهة أخرى -كما يقوله أعداؤه المبطلون- لوقع من النقص في التدبير وفساد الأمر كله ما لا يثبتُ معه حال، ولا يصلح معه (3) وجود.
ومن أعظم نعمه علينا وما استوجب به (4) حمدَ عباده له أن جعلنا (5) عبيدًا له خاصَّةً، ولم يجعلنا نَهْبًا (6) منقسمين بين شركاء متشاكسين، ولم يجعلنا عبيدًا لإلهٍ نحتَتْه الأفكار، لا يسمع أصواتنا (7)، ولا يبصر أفعالنا، ولا يعلم أحوالنا، ولا يملك لعابديه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا (8)، ولا تكلَّم قط ولا يتكلم، ولا يأمر ولا ينهى، ولا تُرفع إليه الأيدي، ولا تعرج الملائكة والروح إليه، ولا يصعد إليه (9) الكلمُ الطيب، ولا يُرفع إليه العمل الصالح.
وإنَّه ليسَ داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه، ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا خلفه ولا أمامه، ولا متصلًا به ولا منفصلًا
__________
(1) حذفت الفاء في “ط”.
(2) “ك، ط”: “ولو كان”.
(3) ما عدا الأصل و”ف”: “عليه”.
(4) “ب، ك”: “استوجبه حمد”، “ط”: “استوجب حمد”.
(5) “ك، ط”: “يجعلنا”.
(6) “ب، ك، ط”: “ربنا”، تحريف. و”النهب” هنا بمعنى المنهوب.
(7) “ب”: “أقوالنا”.
(8) من هنا إلى “ترك ما نهوا عنه” في ص (267) سقط من “ب”.
(9) “إليه” ساقط من “ك”.
(1/266)
عنه (1)، ولا مماسًّا (2) له ولا بائنًا (3) ولا مستويًا (4) على عرشه، ولا هو فوق عباده ولا عاليًا عليهم، (5) وحظ العرش منه حظُّ الحُشوش والأخلية. ولا تنزل الملائكة من عنده، بل لا ينزل من عنده شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا يقرب منه شيء، ولا يقرب من شيء (6). ولا يُحِبُّ ولا يُحَب، ولا يلتذ المؤمنون بالنظر إلى وجهه الكريم في دار الثواب، بل ليس له وجه يُرَى، ولا له يدٌ يقبض بها (7) السماوات وأخرى يقبِض بها الأرض. ولا له (8) فعل يقوم به، ولا حكمة تقوم به، ولا كلَّم موسى تكليمًا، ولا تجلَّى للجبل فجعله دكًّا هشيمًا. ولا يجيء يوم القيامة لفصل القضاء، ولا ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، فيقول: “لا أسأل (9) عن عبادي غيري” (10)، ولا يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه.
ويجوز في حكمته تعذيبُ أنبيائه ورسله وملائكته وأهل طاعته
__________
(1) من هنا إلى “عاليًا عليهم” لم يظهر في مصورة الأصل، وهو مما ألحق في أعلى الورقة، فاعتمدنا على “ف”.
(2) كذا في ف. وفي “ك”: “مجانبًا”، وفي “ط”: “محاذيًا”، ولعلَّ صواب ما فيهما: “محايثا”، كما ورد فيما بعد. وهو ساقط من “ن”.
(3) كذا في “ف”. وفي “ك، ط”: “مباينًا”. وهو ساقط من “ن”.
(4) “ن، ك، ط”: “ولا هو مستوٍ”.
(5) “ولا عاليًا عليهم” لم يرد في “ن، ك، ط”. ومكانه في “ن”: “ولا يرى من فوق سبع ويسمع”!
(6) “ولا يقرب من شيء” ساقط من “ك، ط”.
(7) في الأصل: “به” سهو.
(8) “له” ساقط من “ط”.
(9) “لا” ساقط من “ط”.
(10) كما جاء في حديث رفاعة الجهني في مسند أحمد 26/ 152، 157 (16215، 16218).
(1/267)
أجمعين من أهل السماوات والأرضين، وتنعيمُ أعدائه من الكفَّار به والمحاربين له والمكذبين له ولرسله. والكلُّ بالنسبة إليه سواءٌ، ولا فرق البتة إلا أنَّه أخبر أنه لا يفعل ذلك، فامتنع للخبر بأنَّه لا يفعله، لا لأنَّه في نفسه منافٍ لحكمته.
ومع ذلك فرضاه عينُ غضبه، وغضبُه عينُ رضاه، ومحبته كراهته، وكراهته محبته، إن هو (1) إلا إرادة محضة ومشيئة صرفة يشاء بها، لا لحكمة ولا لغاية ولا لأجل مصلحة. ومع ذلك يعذِّب عباده على ما لم يعملوه ولا قدرة لهم عليه، بل يعذبهم على نفس فعله الذي فعله هو وينسبه إليهم، ويعذبهم إذ لم يفعلوا فعله ويلومهم عليه. ويجوز في حكمته أن يعذب رجالًا إذ (2) لم يكونوا نساءً، ونساءً حيث (3) لم يكونوا رجالًا، وطِوالًا إذ (4) لم يكونوا قصارًا وبالعكس، وسودًا إذ (5) لم يكونوا بيضًا وبالعكس. بل تعذيبُه لهم على مخالفته هو من هذا الجنس، إذ لا قدرة لهم البتة على فعل ما أُمروا به، ولا ترك ما نُهوا عنه.
فله الحمدُ والمنَّة والثناءُ الحسن الجميل، إذ (6) لم يجعلنا عبيدًا لمن هذا شأنُه، فنكون مضيعين، ليس لنا ربٌّ نقصده، ولا صمدٌ نتوجه إليه ونعبده (7)، ولا إله نعول عليه، ولا رب نرجع إليه، بل قلوبنا تنادي في
__________
(1) “ط”: “هي”.
(2) “ط”: “إذا”، خطأ.
(3) “ف”: “إذ” خلاف الأصل.
(4) “ك، ط”: “حيث”.
(5) “ط”: “إذا”، وصحح في القطرية.
(6) “ط”: “إذا”، خطأ.
(7) “ونعبده” ساقط من “ب”.
(1/268)
طرق الحيرة: من دلَّنا وجمع علينا ربًّا ضائعًا، لا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا مباين له ولا محايث (1) له، ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولا ينزل من عنده شيء ولا يصعد إليه شيء، ولا كلَّم أحدًا ولا يكلمه أحد. ولا ينبغي لأحد أن يذكر صفاته، ولا يعرّفه بها، بل يهجرها بلسانه فلا يتكلم بها، وبقلبه فلا يعقلها. وينبغي (2) له أن يعاقب بالقتل أو الضرب والحبس من ذكرها، أو أخبر عنه بها، أو أثبتها له، أو نسبها إليه، أو عرَّفه بها. بل التوحيد الصرف (3) جحدُها، وتعطيله عنها، ونفي قيامها به واتصافه بها. وما لم تدركه عقولنا من ذلك فالواجب نفيُه، وجحده، وتكفير من أثبته، واستحلال دمه وماله، أو تبديعه وتضليله وتفسيقه. وكلَّما كان النفيُ أبلغَ كان التوحيدُ أتم، فليس كذا وليس كذا أبلغ في التوحيد من قولنا هو كذا وهو كذا.
فللّه العظيم أعظمُ حمدٍ وأتمُّه وأكملُه (4) على ما منَّ به (5) من معرفته وتوحيده، والإقرار بصفاته العُلى وأسمائه الحسنى، وإقرار قلوبنا بأنَّه اللَّه الذي لا إله إلا هو، عالمُ الغيب والشهادة، ربِّ العالمين، قيومُ السماوات والأرضين، إلهُ الأولين والآخرين، لم يزل (6) ولا يزال موصوفًا بصفات الجلال، منعوتًا بنعوت الكمال، منزهًا عن أضدادها من
__________
(1) “ن”: “مجانب”، “ط”: “محاذٍ”. وهو ساقط من “ب”.
(2) النص من “لأحد أن يذكر” إلى هنا ساقط من “ب، ط”، ومستدرك في حاشية “ك” بخط متأخر.
(3) زاد في “ب”: “عندهم”.
(4) “ب”: “أكمل حمد وأتمه وأعظمه”.
(5) “ب”: “منَّ به علينا”.
(6) “لم يزل” ساقط من “ب، ك، ط”.
(1/269)
النقائص والتشبيه والمثال.
فهو الحيُّ القيُّوم الذي لكمال حياته، وقيوميته لا تأخذه سنةٌ ولا نوم. مالك السماوات والأرض الذي لكمال ملكه لا يشفع عنده أحدٌ إلا بإذنه.
والعالمُ بكل شيء، الذي لكمال علمه يعلم ما بين أيدي الخلائق وما خلفهم، فلا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا تتحرَّك ذرَّة إلا بإذنه. يعلم دبيبَ الخواطر في القلوب حيث لا يطلع عليها الملَك، ويعلم ما سيكون منها حيث لا يطلع عليها (1) القلب.
البصير الذي لكمال بصره يرى تفاصيل خلقِ الذرَّة الصغيرة وأعضائها ولحمها ودمها ومخها وعروقها، ويرى دبيبَها على الصخرة الصمَّاء في الليلة الظلماء، ويرى ما تحت الأرضين السبع كما يرى ما فوق السماوات السبع.
السميع الذي قد استوى في سمعه سرُّ القول وجهرُه، وسع سمعُه الأصوات، فلا تختلف عليه أصوات الخلق ولا تشتبه عليه، ولا يشغله منها سمع عن سمع، ولا تغلّطه المسائل، ولا تُبرمه (2) كثرةُ سؤالِ (3) السائلين. قالت عائشة: الحمد للَّه الذي وسع سمعُه الأصوات، لقد جاءت المجادلةُ تشكو إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإنَّه (4) لَيَخفى عليَّ بعض كلامها، فأنزل اللَّه عزَّ وجلَّ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)} [المجادلة/ 1] (5).
__________
(1) “ب، ك، ط”: “عليه”.
(2) هذه قراءة “ف”. وفي غيرها: “يبرمه”.
(3) “سؤال” ساقط من “ب، ك، ط”.
(4) “ب، ك، ط”: “وإنِّي”.
(5) أخرجه ابن ماجه (188)، والنسائي (6/ 168)، وفي الكبرى له (2654). =
(1/270)
القدير الذي لكمال قدرته يهدي من يشاء ويُضِلُّ من يشاء، ويجعل المؤمن مؤمنًا والكافر كافرًا، والبر برًّا والفاجر فاجرًا. وهو الذي جعل إبراهيم وآله أئمةً يدعون إليه ويهدون بأمره، وجعل فرعون وقومَه أئمةً يدعون إلى النَّارِ. ولكمال قدرته لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء سبحانه أن يُعلِّمه إيَّاه. ولكمال قدرته خلَقَ السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وما مسَّه من لغوب. ولا يُعجِزه أحدٌ من خلقه، ولا يفوته، بل هو في قبضته أين كان، وإن (1) فرَّ منه فإنَّما يطوي المراحلَ في يديه، كما قيل:
وكيف يفِرُّ المرءُ عنك بذنبه … إذا كان يطوي في يديك المراحلا؟ (2)
ولكمال غناه استحال إضافةُ الولد والصاحبة والشريك والظهير (3) والشفيع بدون إذنه إليه. ولكمال عظمته وعلوه (4) وسِع كرسيُّه السمواتِ والأرضِ، ولم تسعه أرضُه ولا سماواته، ولم تُحِطْ به مخلوقاته، بل هو العالي على كلِّ شيء، الظاهر فوق كل شيء (5)، وهو بكلِّ شيء محيط.
__________
= وأحمد (24195). والحديث صححه الحاكم ولم يتعقبه الذهبي. (ز)
(1) هذه قراءة “ف”. وفي غيرها: “فإن”.
(2) البيت لأبي العرب مصعب بن عبد اللَّه بن أبي الفرات القرشي العبدري الصقلي المتوفى بميورقة سنة (506 هـ). انظر فوات الوفيات (4/ 145). وفيه: “فأين يفر. . . بجرمه”.
(3) “والظهير” ساقط من “ب، ك، ط”.
(4) “ك”: “ولعلوه”.
(5) “الظاهر فوق كل شيء” من الأصل و”ف”.
(1/271)
لا تنفد (1) كلماته ولا تبيد، بل (2) لو أنَّ البحر يمده من بعده سبعةُ أبحر مدادٌ، وأشجارُ الأرض أقلامٌ (3)، فكتب بذلك المداد وتلك (4) الأقلام، لَنَفِد المداد (5)، وفنيت الأقلام؛ ولم تنفد كلماته، إذ هي غير مخلوقة، ويستحيل أن يفنى غيرُ المخلوق بالمخلوق. ولو كان كلامه مخلوقًا -كما قاله (6) من لم يقدُره حقَّ قدره، ولا أثنى عليه بما هو أهلُه- لكان أحقَّ بالفناءِ (7) من هذا المداد وهذه الأقلام، لأنَّه إذا كان مخلوقًا فهو نوعٌ من أنواع مخلوقاته، ولا يحتمل المخلوق إفناءَ هذا المداد وهذه الأقلام، وهو باقٍ غيرُ فانٍ.
وهو سبحانه يحب رسله وعباده المؤمنين، ويحبونه (8)، بل لا شيء أحبّ إليهم منه، ولا أشوق إليهم من لقائه، ولا أقرَّ لعيونهم من رؤيته، ولا أحظى عندهم من قربه.
وإنَّه سبحانه له الحكمة البالغة في خلقه وأمره، وله النعمة السابغة على خلقه، وكلُّ نعمةٍ منه فضلٌ، وكلُّ نقمةٍ منه عدل.
وإنَّه أرحمُ بعباده من الوالدة بولدها، وأفرحُ (9) بتوبة عبده من واجد
__________
(1) “ك، ط”: “ولا تنفد”.
(2) “ط”: “ولا تبدل” مكان “ولا تبيد، بل”، تحريف.
(3) “ب، ك، ط”: “مدادًا. . . أقلامًا” خطأ. و”مداد” ساقط من “ن”.
(4) “ب، ك، ط”: “بتلك”.
(5) “ب”: “لفني المداد”.
(6) “ب”: “قال”.
(7) “ب”: “بهذا الفناء”.
(8) في الأصل: “ويحبونهم” سبق قلم.
(9) كذا في “ف، ن”. وفي غيرها: “وإنَّه أفرح”، والظاهر أنَّ “إنَّه” مع كلمة أخرى =
(1/272)
راحلته التي عليها طعامُه وشرابُه في الأرضِ المهلكة بعد فقدها واليأس منها.
وإنَّه سبحانه لم يكلِّف عبادَه إلا وسعهم، وهو دون طاقتهم، فقد يطيقون الشيء ويضيق عليهم، بخلاف وسعهم، فإنَّه (1) ما يسعونه، ويسهل عليهم، وتفضُل (2) قُدَرُهم عنه، كما هو الواقع.
وإنَّه سبحانه لا يعاقب أحدًا بغير فعله، ولا يعاقبه على فعل غيره، ولا يعاقبه بترك ما لا يقدِر على فعله، ولا على فعل (3) ما لا قدرةَ له على تركه.
وإنَّهُ سبحانه حليم (4) كريم جواد ماجد محسن ودود صبور شكور، يُطاع فيشكر، ويُعصَى فيغفِر. لا أحدَ أصبرُ على أذى سمعه منه، ولا (5) أحبُّ إليه المدحُ منه، ولا أحب إليه العذرُ منه. ولا أحدَ (6) أحبُّ إليه الإحسانُ منه، فهو محسن يحب المحسنين، شكورٌ يحب الشاكرين.
جميلٌ يحب الجمال، طيِّبٌ يحب كلَّ طيب، نظيفٌ يحب النظافة، عليمٌ يحب العلماء من عباده، كريمٌ يحب الكرماء، قويٌّ والمؤمن القوي
__________
= مضروب عليها في الأصل.
(1) “ف”: “فإنَّهم” سهو.
(2) “ك، ط”: “يفضل”.
(3) “فعل” سقط من “ط” واستدرك في القطرية.
(4) “ب، ك، ط”: “حكيم”.
(5) “ف”: “ولا أحد” خلاف الأصل.
(6) “أحد” ساقط من “ب”.
(1/273)
أحب إليه من المؤمن الضعيف، برٌّ يحب الأبرار، عدلٌ يحب أهل العدل، حييٌّ سِتِّيرٌ يحب أهل الحياء والستر، عفوٌّ غفورٌ يحب مَن يعفو عن عباده ويغفر لهم، صادقٌ يحب الصادقين، رفيقٌ يحب الرفق، جوادٌ يحب الجود وأهله، رحيمٌ يحب الرحماء، وترٌ يحب الوتر.
يحبُّ (1) أسماءَه وصفاتِه، ويحبُّ المتعبدين له بها، ويحب من يسأله بها (2) ويدعوه بها، ويحب من يعرفها ويعقلها، ويثني عليه بها، ويحمده ويمدحه بها، كما في الصحيح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لا أحد أحبُّ إليه المدحُ من اللَّه، من أجلِ ذلك أثنى على نفسه. ولا أحدَ أغيرُ من اللَّه، من أجلِ ذلك حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحدَ أحب إليه العذرُ من اللَّهِ، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشِّرين ومنذرين” (3).
وفي حديثٍ آخر صحيح: “لا أحدَ أصبرُ على أذى يسمعُه (4) من اللَّه، يجعلون له ولدًا وهو يرزقهم ويعافيهم” (5).
ولمحبته لأسمائه وصفاته أمر عباده بموجبها ومقتضاها، فأمرهم (6) بالعدل والإحسان والبر والعفو والجود والصبر والمغفرة
__________
(1) “ط”: “ويحب”.
(2) “بها” ساقط من “ط”.
(3) أخرجه البخاري في التفسير (4634) وغيره، ومسلم في التوبة (2760) عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه.
(4) هذا في الأصل و”ف”، وهو لفظ مسلم. وفي غيرها: “سمعه”، وهو لفظ البخاري.
(5) أخرجه البخاري في الأدب (6099) وغيره، ومسلم في صفات المنافقين (2804) من حديث أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه.
(6) “ف”: “وأمرهم”.
(1/274)
والرحمة والصدق والعلم والشكر والحلم والأناة والتثبت. ولمَّا كان سبحانه يحب أسماءَه وصفاته كان أحب خلقه (1) إليه من اتصف بالصفات التي يحبها، وأبغضهم (2) إليه من اتصفَ بالصفاتِ التي يكرهها. فإنَّما أبغضَ من اتصف بالكبر والعظمة والجبروت؛ لأنَّ اتصافه بها ظلم، إذ لا تليق به هذه الصفات ولا تحسن منه، لمنافاتها لصفات العبيد، وخروجِ من اتَّصف بها من رِبقة العبودية، ومفارقته لمنصبه ومرتبته، وتعدّيه طورَه وحدّه. وهذا بخلافِ (3) ما تقدم من الصفات كالعلمِ والعدلِ والرحمة والإحسان والصبر والشكر، فإنَّها لا تنافي العبودية، بل اتصافُ العبد بها من كمال عبوديته، إذ المتصف بها من العبيد لم يتعدَّ طورَه ولم يخرج بها من دائرة العبودية.
والمقصود أنَّه سبحانه لكمال أسمائه وصفاته موصوفٌ بكلِّ صفة كمال، منزَّهٌ عن كلِّ نقص، له كلُّ ثناءٍ حسن، ولا يصدر عنه إلا كلُّ فعلٍ جميل، ولا يُسمَّى إلا بأحسن الأسماءِ، ولا يُثنَى عليه إلا بأكمل الثناءِ. وهو المحمود المحبوب المعظم ذو الجلال والإكرام على كلِّ ما خلقه وقدَّره (4)، وعلى كلِّ ما أمر به وشرعه.
ومن كان له نصيبٌ من معرفة أسمائه الحسنى واستقرى (5) آثارها في الخلقِ والأمر، رأى الخلق والأمر منتظمَين بها أكمل انتظام، ورأى
__________
(1) “ك، ط”: “الخلق”.
(2) “ب”: “وأبغض خلقه”.
(3) “ك، ط”: “خلاف”.
(4) “ك، ط”: “قدره وخلقه”.
(5) “ب”: “واستقراء”، وهي قراءة محتملة.
(1/275)
سَريان آثارها فيهما، وعلم -بحسب معرفته- ما يليق بكماله وجلاله أن يفعله وما لا يليق، فاستدلَّ بأسمائه على ما يفعله وما لا يفعله، فإنَّه لا يفعل خلافَ موجَب حمده وحكمته. وكذلك يعلم ما يليق به أن يأمر به ويشرعه ممَّا لا يليق به. فيعلم أنِّه لا يأمر بخلاف موجَب حمده وحكمته.
فإذا رأى في بعض الأحكام جورًا وظلمًا أو سفهًا وعبثًا أو مفسدة (1) أو ما لا يُوجِب حمدًا وثناءً فَلْيعلَمْ أنَّه ليس من أحكامه ولا دينه، وأنَّه بريء منه ورسولُه، فإنَّه إنَّما يأمرُ بالعدل لا بالظلم، وبالمصلحة لا بالمفسدة، وبالحكمة لا بالعبث والسفَه. وإنَّما بعث رسوله بالحنيفية السمحة لا بالغلظة والشدة، وبعثه بالرحمة لا بالقسوة، فإنَّه أرحم الرَّاحمين، ورسولُه رحمةٌ مهداةٌ إلى العالمين، ودينُه كلُّه رحمة، وهو نبي الرحمة، وأمتُه الأمة المرحومة. وذلك كله موجَب أسمائه الحسنى وصفاته العلى (2) وأفعاله الحميدة، فلا يُخبَر عنه إلا بحمده، ولا يثنى عليه إلا بأحسن الثناءِ، كما لا يسمَّى إلا بأحسن الأسماء.
وقد نبَّه سبحانه على شمول حمده لخلقِه (3) وأمرِه بأن حمِد نفسَه في أوَّل الخلق وآخره، وعند الأمر والشرع؛ وحمد نفسَه على ربوبيته للعالمين، وحمد نفسَه على تفرده بالإلهية وعلى حياته. وحمد نفسَه على امتناع اتصافه بما لا يليق بكماله من اتخاذ الولد والشريك وموالاةِ أحد من خلقه لحاجة (4) إليه. وحمد نفسَه على علوه وكبريائه، وحمد
__________
(1) “ك، ط”: “ومفسدة”.
(2) “ط”: “العليا”.
(3) “ب”: “خلقه لحمده”، خطأ.
(4) “ب، ك، ط”: “لحاجته”.
(1/276)
نفسَه في الأولى والآخرة. وأخبر عن سَرَيان حمدِه في العالم العلوي والسفلي. ونبَّه على هذا كلِّه في كتابه، وحمد نفسَه عليه؛ فنوّع (1) حمدَه وأسبابَ حمده، وجمعها تارةً، وفرَّقها أخرى، ليتعرَّف إلى عباده، ويعرِّفهم كيف يحمدونه وكيف يثنون عليه، وليتحبَّب إليهم بذلك، ويحبهم إذا عرفوه وأحبوه وحمدوه.
قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة/ 2 – 4].
وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) [الأنعام/ 1].
وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)} [الكهف/ 1 – 2].
وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)} [سبأ/ 1].
وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر/ 1].
وقال: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)} [القصص/ 70].
وقال: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ
__________
(1) “ك، ط”: “فتنوع”.
(1/277)
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)} [غافر/ 65].
وقال: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)} [الروم/ 17 – 18].
وأخبر عن حمدِ خلقِه له بعد فصلِه بينهم، والحكم لأهل طاعته بثوابه وكرامته، والحكم لأهل معصيته بعقابه وإهانته: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)} [الزمر/ 75].
وأخبر عن حمد أهل الجنَّة له وأنَّهم لم يدخلوها إلا بحمده، كما أنَّ أهل النَّارِ لم يدخلوها إلا بحمده، فقال أهل الجنَّة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا} [الأعراف/ 43] و {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس/ 10].
وقال عن أهل النَّار: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [القصص/ 74 – 75].
وقال تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} [الملك/ 11].
وشهدوا على أنفسهم بالكفر والظلم، وعلموا أنَّهم كانوا كاذبين في الدنيا، مكذبين بآيات ربهم، مشركين به، جاحدين لإلهيته، مفترين عليه. وهذا اعتراف منهم بعدله فيهم، وأخذهم ببعض حقه عليهم، وأنَّه غيرُ ظالمٍ لهم، وأنَّهم إنَّما دخلوا النَّارَ بعدله وحمده، وإنَّما عوقبوا بأفعالهم وبما كانوا قادرين على فعله وتركه، لا كما يقول الجبرية.
(1/278)
وتفصيل هذه الجملة (1) ممَّا لا سبيل للعقول البشرية إلى الإحاطة به، ولا إلى التعبير عنه، ولكن بالجملة فكلُّ صفة عليا واسم حسن وثناءٍ جميل وكلُّ حمد ومدح وتسبيح وتنزيه وتقديس وجلال وإكرام فهو للَّه عزَّ وجلَّ على أكمل الوجوه وأتمها وأدومها، وجميعُ ما يوصف به ويُذكر به ويُخبر عنه به فهو محامدُ له وثناءٌ وتسبيح وتقديس. فسبحانه وبحمده، لا يحصي أحدٌ من خلقه ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني به عليه (2) خلقُه، فله الحمدُ أوَّلًا وآخرًا حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه، كما ينبغي لكرم وجهه، وعز جلاله، ورفيع مجده، وعلو جده.
فهذا تنبيه على أحد نوعَي حمده، وهو حمد الصفات والأسماء.
والنوع الثاني: حمد النعم والآلاء، وهذا مشهود للخليقة: برِّها وفاجرِها، مؤمِنها وكافرها؛ من جزيل مواهبه، وسعة عطاياه، وكريم أياديه، وجميل صنائعه، وحسن معاملته لعباده، وسعة رحمته بهم (3)، وبره ولطفه وحنانه، وإجابته لدعوات المضطرين، وكشف كُرُبات المكروبين (4)، وإغاثة (5) الملهوفين، ورحمة العالمين (6)، وابتدائه بالنعم قبل السؤال ومن غير استحقاق، بل ابتداءً منه بمجرد فضله وكرمه
__________
(1) “ب، ك، ط”: “الحكمة”، والظاهر أنَّه تحريف.
(2) “ف”: “عليه به”، خلاف الأصل.
(3) “ك، ط”: “لهم”.
(4) “ف”: “المحزونين”، تصحيف.
(5) “ف”: “إعانة”.
(6) “ب، ك، ط”: “رحمته للعالمين”.
(1/279)
وإحسانه، ودفعِ المحن والبلايا بعد انعقاد أسبابها، وصرفِها بعد وقوعها، ولطفِه تعالى في ذلك بإيصاله (1) إلى من أراده بأحسن الألطاف، وتبليغه من ذلك إلى ما لا تبلغه الآمال، وهدايته خاصَّته وعبادَه (2) إلى سُبُل السلام (3)، ومدافعته عنهم أحسن الدفاع، وحمايتهم عن مراتع الآثام.
وحبَّبَ إليهم الإيمان، وزيَّنه في قلوبهم، وكرَّه إليهم الكفرَ والفسوق والعصيان، وجعلهم من الرَّاشدين. وكتب في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، وسمَّاهم المسلمين قبل أن يخلقهم، وذكرهم قبل أن يذكروه، وأعطاهم قبل أن يسألوه، وتحبَّب إليهم بنعمه، مع غناه عنهم (4)، وتبغُّضهم إليه بالمعاصي، وفقرهم إليه.
ومع هذا كله فاتخذَ لهم دارًا، وأعدَّ لهم فيها من كلِّ ما تشتهيه الأنفس وتلذُّه الأعين (5)، وملأها من جميع الخيرات، وأودعها من النعيم والحَبْرَة والسرور والبهجة ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلب بشر.
ثمَّ أرسلَ إليهم الرسل يدعونهم إليها، ثمَّ يسَّرَ لهم الأسباب التي توصلهم إليها وأعانهم عليها، ورضيَ منهم باليسير في هذه المدَّة القصيرة جدًا بالإضافة إلى بقاء دار النعيم، وضَمِنَ لهم إن أحسنوا أن
__________
(1) “ب، ك”: “باتصاله”.
(2) “ب”: “خاصة عباده”.
(3) “ك، ط”: “سبيل دار السلام”.
(4) “عنهم” ساقط من “ط”.
(5) “ب، ط”: “تلذ الأعين”.
(1/280)
يُثيبهم بالحسنة عشرًا، وإن أساؤوا واستغفروه (1) أن يغفر لهم، ووعَدهم أن يمحو ما جنَوه من السيئاتِ بما يفعلونه بعدها من الحسنات.
وذكّرهم بآلائه، وتعرف إليهم بأسمائه، وأمرهم بما أمرهم به رحمةً منه بهم واحسانًا، لا حاجةً منه إليهم، ونهاهم عمَّا نهاهم عنه حمايةً وصيانةً (2) لهم، لا بخلًا منه عليهم. وخاطبهم بألطف الخطاب وأحلاه، ونصحهم بأحسن النصائح، ووصَّاهم بأكمل الوصايا، وأمرهم بأشرف الخصال، ونهاهم عن أقبح الأقوال والأعمال، وصرَّف لهم الآيات، وضرب لهم الأمثال، ووسَّع لهم طرُقَ العلم به ومعرفته، وفتح لهم أبوابَ الهداية، وعرَّفهم الأسبابَ التي تُدنيهم من رضاه وتُبعِدهم من غضبه (3).
ويخاطبهم بألطف الخطاب، ويسميهم (4) بأحسن أسمائهم كقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} [النور/ 31]، {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر/ 53]، {قُلْ لِعِبَادِيَ} [إبراهيم/ 31]، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} [البقرة/ 186].
فيخاطبهم بخطاب الوداد والمحبة والتلطف (5) كقوله:
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ
__________
(1) “ب”: “استغفروا”.
(2) “ب”: “نهاهم صيانة وحماية”.
(3) “ك، ط”: “عن غضبه”. “ن”: “من سخطه”.
(4) “ب”: “وسماهم”، وما قبله ساقط منها.
(5) “ف”: “والتعطف”، خلاف الأصل.
(1/281)
الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} [البقرة/ 22].
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)} [فاطر/ 3].
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)} [فاطر/ 5].
{يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)} [الانفطار/ 6 – 7].
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103} [آل عمران/ 102 – 103].
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)} [آل عمران/ 118].
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)} [الممتحنة/ 1].
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا
(1/282)
تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)} [الأنفال/ 25 – 26].
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)} [الحج/ 73 – 74].
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)} [الكهف/ 50].
فتحتَ هذا الخطاب: إنِّي عاديتُ إبليسَ، وطردتُه من سمائي، وباعدتُه من قربي، إذ لم يسجد لأبيكم آدم، ثمَّ أنتم يابنيه توالونه وذريته من دوني، وهم أعداءٌ لكم (1)! فليتأمَّل اللبيبُ مواقع هذا الخطاب، وشدَّة لصوقه بالقلوب، والتباسه بالأرواح. وأكثرُ القرآن جاءَ على هذا النمط من خطابه لعباده بالتودد والتحنن واللطف والنصيحة البالغة.
وأعلم عباده -سبحانه- أنَّه لا يرضى لهم إلا أكرمَ الوسائل، وأفضل المنازل، وأجل العلوم والمعارف. قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر/ 7].
__________
(1) “ب”: “لكم أعداء”.
(1/283)
وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة/ 3].
وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة/ 185] (1).
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النساء / 26 – 28] (2).
ويتنضَّل سبحانه إلى عباده من مواضع الظنّة والتهمة التي ينسبها (3) إليه مَن لم يعرفه حقَّ معرفته ولا قدَره حقَّ قدره، من تكليفِ عباده ما لا يقدِرون عليه ولا طاقة لهم بفعله البتَّة، وتعذيبهم إن شكروه وآمنوا به، وخلقِ السماوات والأرضِ وما بينهما لا لحكمةٍ ولا لغاية؛ وأنَّه (4) لم يخلق خلقَه لحاجةٍ منه إليهم، ولا ليتكثَر بهم من قلَّة، ولا ليتعززَ بهم من ذلَّة، ولا ليستعينَ بهم (5)، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)} [الذاريات/ 56 – 57].
__________
(1) بعد هذه الآية وقع في الأصل: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ}، وكذا في “ف، ن”. وهو جزء من الآية التالية، فحذف فى “ط”. وزاد فى “ك، ط”: “وقال”.
(2) حذفت الآية الأولى في “ك”.
(3) “ب، ك، ط”: “نسبها”.
(4) يعني: ويتنصل من أنه. . . وفي “ب”: “لغاية، تعالى اللَّه عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا. إنَّه جل جلاله لم يخلق”.
(5) “من ذلة، ولا ليستعين بهم” ساقط من “ك، ط”.
(1/284)
فأخبرَ أنَّهُ لم يخلق الجنَّ والإنسَ لحاجةٍ منه إليهم، ولا ليربح عليهم، لكن خلقهم جودًا وإحسانًا ليعبدوه فيربَحوا هم عليه كلّ الأرباح كقوله: {أنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} [الإسراء/ 7]، {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)} [الروم/ 44].
ولمَّا أمرهم بالوضوء والغسل (1) من الجنابة الذي يحطّ عنهم أوزارهم، ويدخلون به عليه، ويرفع به درجاتهم، قال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)} [المائدة/ 6].
وقال في الأضاحي والهدايا: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج/ 37].
وقال عقيب أمرهم بالصدقة ونهيهم عن إخراج الرديء من المال: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)} [البقرة/ 267]. يقول سبحانه: إنِّي غني عمَّا تنفقون أن ينالني منه شيء، حميد مستحق للمحامد (2) كلِّها. فإنفاقكم لا يسدُّ منه حاجةً، ولا يوجب له حمدًا، بل هو الغني بنفسه، الحميد بنفسه وأسمائه وصفاته، وإنفاقُكم إنَّما نفعُه لكم وعائدته عليكم.
ومن المتعين على من لم يباشر قلبَه حلاوةُ هذا الخطاب، وجلالتُه، ولطفُ موقعه، وجذبُه للقلوب والأرواح، ومخالطتُه لها = أن يعالجَ قلبَه بالتقوى، وأن يستفرغ منه المواد الفاسدة التي حالت بينه وبين حظه من
__________
(1) “ب، ط”: “بالغسل”.
(2) “ك، ط”: “المحامد”.
(1/285)
ذلك، ويتعرَّضَ إلى الأسباب التي يناله بها، من صدق الرغبة، واللجأ إلى اللَّه أن يحيى قلبَه، ويزكيَه، ويجعل فيه الإيمان والحكمة. فالقلب المثت لا يذوق طعمَ الإيمان، ولا يجد حلاوته، ولا يتمتع بالحياة الطيبة لا في الدنيا ولا في الآخرة.
ومن أراد مطالعة أصولِ النِّعَم فَلْيُسم سرحَ الفكر (1) في رياض القرآن، ولْيتأمل ما عدَّد اللَّه فيه من نعَمِه، وتعرَّف بها إلى عباده من أوَّل القرآن إلى اخره، حتَّى خلقَ النَّارِ (2)، وابتلاءَهم بإبليس وحزبِه، وتسليطَ أعدائهم عليهم، وامتحانَهم بالشهوات والإرادات والهوى، لِتعظُمَ النعمةُ عليهم بمخالفتها ومحاربة أعدائه (3). فللَّه على أوليائه وعباده أتمُّ نعمة وأكملها في كل ما خلقه من محبوب ومكروه، ونعمة ومحنة، وفي كلِّ ما أحدثه في الأرض من وقائعه (4) بأعدائه وإكرامه لأوليائه، وفي كل ما قضاه وقدَّره. وتفصيلُ ذلك لا تفي به أقلامُ الدنيا وأوراقُها، ولا قوى العباد، وإنَّما هو التنبيه والإشارة.
ومن استقرى الأسماء الحسنى وجدها مدائحَ وثناءً تقصر بلاغاتُ الواصفين عن بلوغ كنهها، وتعجز الأوهامُ عن الإحاطة بالواحد منها. ومع ذلك فللَّه سبحانه محامد ومدائح وأنواع من الثناءِ لم تتحرَّك بها
__________
(1) “ط”: “الذكر”. تحريف.
(2) “ب”: “حين خلق النار”. “ك، ط”: “حين خلق أهل النار”، والصواب ما أثبتنا من الأصل و”ف”. و”خلق النار” معطوف على “ما عدَّد”، فجعل خلق النار وما بعده من النعم التي دعا إلى تأملها.
(3) “أعدائه” ساقط من “ك”. “ط”: “محاربته”.
(4) “ب”: “إيقاع”. “ك”: “الأرض ووقائعه”.
(1/286)
الخواطر، ولا هجست في الضمائر، ولا لاحت لمتوسم، ولا سنحت في فكر. ففي دعاء أعرفِ الخلق بربه تعالى وأعلمِهم بأسمائه وصفاته ومحامده: “أسألك بكلِّ اسم هو لك، سميتَ به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علَّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن (1) ربيع قلبي، ونورَ صدري، وجلاءَ حُزني، وذهابَ همِّي وغمِّي” (2).
وفي الصحيح عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديث الشفاعة لمَّا يسجدُ (3) بين يدى ربِّه، قال: “فيفتح عليَّ من محامده بشيء لا أحسنه الآن” (4).
وكان يقول في سجوده: “أعوذ برضاك من سَخَطك، وبعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ
__________
(1) “ب”: “القرآن العظيم”.
(2) أخرجه أحمد (3712)، وابن حبان (972)، والحاكم (1/ 509) من حديث عبد اللَّه بن مسعود. قال الحاكم: “هذا حديث صحيح على شرط مسلم، إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد اللَّه عن أبيه فإنَّه مختلف في سماعه من أبيه”. (ز).
(3) “لما يسجد” كذا في الأصل وغيره. و”لما” الحينية مختصة بالماضي، فلا يجوز دخولها على المضارع. وقد أدخلها المصنف على المضارع في نونيته في ثلاثة مواضع، منها قوله في السياق نفسه:
ولذاك يثني في القيامة ساجدًا … لمَّا يراهُ المصطفى بعيانِ
بثناء حمدٍ لم يكن في هذه الد … نيا ليحصيَه مدى الأزمان
الكافية الشافية (685). وفي “ك”: “لما سجد”، لكنَّه غير مناسب للسياق.
(4) أخرجه البخاري في التفسير (4712) وغيره، ومسلم في الايمان (194) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(1/287)
على نفسك” (1).
فلا يحصي أحد من خلقه ثناءً عليه البتة، وله أسماء وأوصاف وحمد وثناءٌ (2) لا يعلمه ملَك مقرَّب، ولا نبي مرسَل. ونسبة ما يعلم العبادُ من ذلك إلى ما لا يعلمونه كنَقْرَةِ عصفورٍ في بحر.
فإن قيل: فكيف تصنعون بما يشاهد من أنواع الابتلاء والامتحان والآلام للأطفال والحيوانات ومن هو خارج عن التكليف ومن لا ثواب ولا عقاب عليه؟ وما تقولون في الأسماء الدَّالّة على ذلك من المنتقم والقابض والخافض ونحوها؟
قيل: قد تقدَّم من الكلام في ذلك ما يكفي بعضه لذي الفطرة السليمة والعقل المستقيم. وأمَّا من فسدت فطرته، وانتكس قلبه، وضعفت بصيرة عقله، فلو ضُرب له من الأمثال ما ضُرب فإنَّه لا يزيده إلا عمًى وتحيرًا. ونحن نزيد ما تقدم إيضاحًا وبيانًا، إذ بسطُ هذا المقام (3) أولى من اختصاره، فنقول:
قد علمتَ أنَّ جميع أسماءِ الربِّ جلَّ جلاله حسنى، وصفاته كمال، وأفعاله حكمة ومصلحة؛ وله كل ثناءٍ وكلُّ حمدٍ ومدحة (4)، وكلُّ خير فمنه وله وبيده (5)، والشرُّ ليس إليه بوجه من الوجوه: لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا في أسمائه. وإن كان في مفعولاته
__________
(1) تقدم تخريجه في ص (56).
(2) “ب”: “ثناء وحمد وأسماء وأوصاف”.
(3) “ب”: “بسط الكلام في هذا المقام”.
(4) “ب”: “وكل مدحة وكل حمد”.
(5) “ب”: “وله وبه وبيده”.
(1/288)
فهو خيرٌ بإضافته إليه، وشرٌّ بإضافته إلى من صدر عنه ووقع به. فتمسَّك بهذا الأصل ولا تُفارِقْه في كلِّ دقيق وجليل، وحكِّمه على كلِّ (1) ما يرد عليك، وحاكِمْ إليه واجعله آخيتك التي ترجع إليها وتعتمد عليها.
واعلم أنَّ للَّه خصائصَ في خلقه، ورحمةً وفضلًا يختص به من يشاءُ، وذلك موجَب ربوبيته وإلهيته وحمده وحكمته، فإياك ثمَّ إيَّاكَ أن تُصغي إلى وسوسِة شياطين الإنس والجنّ والنفس الجاهلة الظالمة أنَّه هلَّا سوَّى بين عباده في تلك الخصائص، وقسَّمها بينهم على السواء؟ فإنَّ هذا عين الجهلِ والسفَه من المعترض به. وقد بيّنَّا فيما تقدم أنَّ حكمته تأبى ذلك وتمنع منه (2).
ولكن اعلم أنَّ الأمرَ قسمةٌ بين فضله وعدله، فيختص برحمته من يشاء، ويقصد بعذابه من يشاء، وهو المحمود على هذا وهذا (3). فالطيبون من خلقه مخصوصون بفضله ورحمته، والخبيثون مقصودون بعذابه، ولِكلِّ واحدٍ قسطُه من الحكمة والابتلاء والامتحان، وكلٌّ مستعملٌ فيما هو له مهيَّأ وله مخلوق.
وكلُّ ذلك خير ونفع ورحمة للمؤمنين، فإنَّه تعالى خلقهم للخيرات فهم لها عاملون، واستعملهم فيها فلم يدركوا ذلك إلا به، ولا استحقوه إلا بما سبق لهم من مشيئته وقَسْمه (4)، فلذلك (5) لا تضرهم الأدواءُ
__________
(1) “كل”: ساقط من “ب”.
(2) انظر ما سلف في ص (212، 217).
(3) “وهذا” ساقط من “ط”.
(4) “ب، ط”: “قسمته”، وقد سقطت من “ف” سهوًا.
(5) “ك، ط”: “فكذلك”.
(1/289)
ولا السُّموم، بل متى وسوس لهم العدو، أو اغتالهم (1) بشيءٍ من كيده، أو مسَّهم بشيء من طيفه {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)} [الأعراف/ 201 – 202].
وإذا واقعوا معصيةً صغيرةً أو كبيرةً عاد (2) ذلك عليهم رحمةً، وانقلب في حقهم دواءً، وبُدِّلَ حسنةً بالتوبة النصوح والحسنات الماحية؛ لأنَّه سبحانه عرَّفهم بنفسه وبفضله، وبأنَّ قلوبهم بيده وعصمتهم إليه، حيث نقض عزماتهم، وقد عزموا أن لا يعصوه، وأراهم عزَّتَه في قضائه، وبرَّه وإحسانه في عفوه ومغفرته، وأشهدهم نفوسهم وما فيها من النقص والظلم والجهل، وأشهدهم حاجَتهم إليه وافتقارَهم وذلَّهم، وأنَّه إن لم يعفُ عنهم ويغفر لهم فليس لهم سبيل إلى النجاة أبدًا.
فإنهم لمَّا أعطوه (3) من أنفسهم العزمَ أن لا يعصوه، وعقدوا عليه قلوبَهم، ثمَّ عصوه بمشيئته وقدرته، عرفوا بذلك عظيمَ اقتداره، وجميلَ ستره إيَّاهم، وكريم حلمه عنهم، وسعة مغفرته لهم، وبردَ عفوه (4) وحنانه وعطفه ورأفته، وأنه حليم ذو أناة لا يعجل، ورحيم سبقت رحمتُه غضبَه، وأنهم متى رجعوا بالتوبة إليه (5) وجدوه غفورًا (6) رحيمًا
__________
(1) “ن، ك، ط”: “واغتالهم”.
(2) “ن”: “رد”.
(3) “ك، ط”: “أعطوا”.
(4) “ب”: “وبره وعفوه”. “ك، ط”: “لهم برد عفوه”.
(5) ما عدا الأصل و”ف”: “إليه بالتوبة”.
(6) “ب”: “عفوًّا”.
(1/290)
حليمًا كريمًا، يغفر لهم السيئات، ويُقيلهم العثرات، ويودهم بعد التوبة ويحبهم.
فتضرعوا إليه حينئذ بالدعاءِ، وتوسلوا إليه بذلّ العبيد (1) وعزّ الربوبيّة. فتعرّف سبحانه إليهم بحسن إجابته وجميل عطفه وحسن امتنانه في أن ألهمهم دعاءَه، ويسّرهم للتوبة والإنابة، وأقبل بقلوبهم إليه بعد إعراضها عنه. ولم تمنعه معاصيهم وجناياتُهم من عطفه عليهم وبره لهم وإحسانه إليهم، فتابَ قبل أن يتوبوا إليه، وأعطاهم قبل أن يسألوه.
فلمَّا تابوا إليه واستغفروه وأنابوا إليه تعرَّف إليهم تعرُّفًا آخر: فعرَّفهم رحمتَه، وحسنَ عائدته، وسعةَ مغفرته، وكريمَ عفوه، وجميلَ صفحه، وبرَّه وامتنانَه وكرمَه، وسرعةَ مبادرته (2) قبولَهم بعد أن كان منهم ما كان من طول الشرود (3)، وشدَّة النفور، والإيضاع في طرق معاصيه (4).
وأشهدَهم مع ذلك حمدَه العظيم، وبرَّه العميم، وكرمَه في أن خلَى بينهم وبين المعصية، فنالوها بنعمته واعانته، ثمَّ لم يُخل بينهم وبين ما توجبه من الهلاكِ والفسادِ الذي لا يرجى معه صلاح (5)، بل تداركهم بالدواءَ الشافي (6)، فاستخرج منهم داءَ لو استمرَّ معه لأفضى (7) إلى الهلاك.
__________
(1) “ك، ط”: “العبودية”.
(2) “ط”: “وشرعه، ومبادرته”، تحريف.
(3) “ك، ط”: “شرور”، تحريف.
(4) “طرق” ساقط من “ب”. والإيضاع: الإسراع.
(5) “ب، ك، ط”: “فلاح”.
(6) “ك”: “النائي الشافي”، “ط”: “الثاني الشافي”.
(7) “ك”: “لأخرجهم”.
(1/291)
ثمَّ تداركهم بروحِ الرجاءِ، فقدفه في قلوبهم، وأخبر أنَّه عند ظنونهم به. ولو أشهدهم عظيمَ الجناية (1)، وقبحَ المعصية، وغضبه ومقته على من عصاه فقط، لأورثهم ذلك المرضَ (2) القاتل والداءَ العضال من الياس من رَوحه والقنوط من رحمته، وكان ذلك عين هلاكهم. ولكن رحمهم قبل البلاء، وفي حَشْو البلاء، وبعد البلاء (3). وجعل تلك الآثار التي تُوجبها معصيتُه (4) من المحن والبلاءِ والشدائد رحمةً لهم وسببًا إلى علوِّ درجاتهم ونيل الزلفى والكرامة عنده. فأشهدهم بالجناية (5) عزَّةَ الربوبية وذلَّ العبيد (6)، ورقَّاهم بآثارها إلى منازل قربه ونيل كرامته؛ فهم على كلِّ حال يربحون عليه، ويتقلبون في كرمه وإحسانه، فكلُّ (7) قضاءٍ يقضيه للمؤمن فهو خير له، يسوقه به (8) إلى كرامته وثوابه.
وكذلك عطاياه الدنيوية نعمٌ منه عليهم، فإذا استرجعها أيضًا منهم وسلبَهم إيَّاها انقلبت من عطايا الآخرة، كما قيل: إنَّ اللَّه يُنعِم على عباده بالعطايا الفاخرة، فإذا استرجعها كانت من (9) عطايا الآخرة.
__________
(1) “ك، ط”: “عظم الجناية”.
(2) “ف”: “بالمرض”، خلاف الأصل.
(3) “وفي حشو البلاء وبعد البلاء” ساقط من “ط”.
(4) “ك، ط”: “المعصية”.
(5) “بالجناية” ساقط من “ب”.
(6) “ط”: “العبودية”.
(7) “ك، ط”: “وكل”.
(8) “به” ساقط من “ب، ك، ط”.
(9) “من” ساقطة من “ك، ط”.
(1/292)
والربُّ سبحانه قد تجلَّى لقلوب المؤمنين العارفين، وظهر لها بقدرته وجلاله وكبريائه، ومضاء (1) مشيئته، وعظيم سلطانه، وعليّ شأنه (2)، وكرمه وبره وإحسانه، وسعة مغفرته ورحمته، وما ألقاه في قلوبهم من الإيمان بأسمائه وصفاته إلى حيث احتملته القوى البشرية من ذلك (3)، ووراءَه -ممَّا لم تحتمله قواهم، ولا يخطر ببال، ولا يدخل في خلَد- ما (4) لا نسبةَ لما عرفوه إليه. فاعلم أنَّ الذين كان قِسْمُهم أنواع المعاصي والفجور، وفنون الكفر (5) والشرك، والتقلب في غضبه وسخطه = قلوبُهم (6) وأرواحهم شاهدةٌ عليهم بالمعاصي والكفر، مُقِرَّةٌ بأنَّ له الحجَّة عليهم وأنَّ حقَّه قِبَلهم. ولا يدخل (7) النارَ منهم أحدٌ (8) إلا وهو شاهدٌ بذلك، مقِرٌّ به، معترفٌ اعتراف طائع مختار (9) لا مُكرَه مضطهد. فهذه شهادتُهم على أنفسهم وشهادةُ أوليائه عليهم.
والمؤمنون يشهدون له (10) فيهم بشهادة أخرى لا يشهد بها أعداؤه، ولو شهدوا بها وباؤوا بها لكانت رحمتُه أقربَ إليهم من عقوبته.
__________
(1) “ط”: “مضي”.
(2) “ك، ب، ط”: “علو شأنه”.
(3) “من ذلك” ساقط من “ط”.
(4) ما عدا الأصل: “مما”.
(5) “وفنون الكفر” ساقط من “ب”.
(6) “ك، ط”: “وقلوبهم”، خطأ.
(7) “ك، ط”: “يذكر” تحريف.
(8) “ب، ك، ط”: “أحد منهم النار”.
(9) “مختار” ساقط من “ك، ط”.
(10) “له” ساقط من “ب، ك، ط”.
(1/293)
فيشهدون بأنَّهم (1) عبِيده ومِلكه، وأنَّه أوجدهم ليظهر بهم مجدُه، وينفذَ فيهم حُكمُه، ويمضي فيهم عدلُه، ويحقَّ عليهم كلمتُه، ويصدقَ فيهم وعيدُه، ويبين (2) فيهم سابقُ علمه، ويعمر بها (3) ديارهم ومساكنهم التي هي محل عدله وحكمته.
وشهد (4) أولياؤه عظيم ملكه، وعز سلطانه، وصدق رسله، وكمال حكمته، وتمام نعمته عليهم، وقدرَ ما اختصّهم به، ومن أي شيء حماهم وصانهم، وأيَّ شيء صرَف عنهم؛ وأنَّه لم يكن لهم إليه وسيلة قبل وجودهم يتوسلون بها إليه أن لا يجعلهم من أصحاب الشمال وأن يجعلهم من أصحاب اليمين.
وشهدوا له سبحانه بأنَّ ما كان منه إليهم وفيهم -ممَّا يقتضيه إتمامُ كلماته (5) الصدق والعدل (6)، وصدقُ قوله، وتحقيقُ (7) مقتضى أسمائه- فهو محضُ حقَّه. وكل ذلك منه حسن جميل، له عليه أتمُّ حمدٍ وأكمله وأفضلُه. وهو حُكمٌ عدلٌ، وقضاءٌ فصل. وأنَّه المحمود على ذلك كلَّه فلا يلحقه منه ظلم ولا جور ولا عبث، بل ذلك عين الحكمة، ومحض الحمد، وكمالٌ أظهره في حقه، وعزٌّ أبداه، وملكٌ أعلنه، ومرادٌ له أنفذه؛ كما فعل بالبُدن وضروب الأنعام: أتمَّ بها مناسكَ أوليائه
__________
(1) “ن، ك، ط”: “أنَّهم”.
(2) كذا في “ف” وغيرها. ويحتمل قراءة “يتبين”.
(3) كذا في الأصل وغيره، ولعلَّ الصواب “بهم” كما في “ط”.
(4) “ف”: “ويشهد”، قراءة محتملة.
(5) “ب”: “كلمته”.
(6) في حاشية “ب”: “لعله: حكمه” يعني: كلمته الصدق، وحكمه العدل.
(7) “ك، ط”: “تحقق”.
(1/294)
وقرابين عباده، وإن كان ذلك بالنسبة إلى الأنعام إهلاكًا (1) وإتلافًا. فأعداؤه الكفَّار المشركون به الجاحدون به (2) أولى أن تكون دماؤهم قرابينَ أوليائه وضحايا المجاهدين في سبيله، كما قال حسَّان بن ثابت (3):
يتطهَّرون، يَرونَه قُربانَهم … بدماءِ مَن عَلِقوا من الكفَّار (4)
وكذلك لمَّا ضحَّى خالد بن عبد اللَّه القَسْري (5) بشيخ المعطِّلة الفرعونية الجعد بن درهم، فإنَّه خطبهم في يوم أضحى، فلمَّا أكمل خطبته قال: “أيّها النَّاسُ ضَحُّوا، تقبَّل اللَّه ضحاياكم، فإنِّي مُضَحٍّ بالجعد بن درهم، إنَّه زعمَ أنَّ اللَّه لم يكلِّم موسى تكليمًا، ولم يتخذ إبراهيمَ خليلًا، تعالى عمَّا يقول الجعدُ علوًّا كبيرًا. ثمَّ نزل، فذبحه، وكان (6) ضحيته. ذكر ذلك البخاري في كتاب خلق الأفعال (7).
فهذا شهود أوليائه من شان أعدائه، ولكن أعداؤه في غفلة عن هذا لا يشهدونه ولا يقرون به، ولو شهدوه وأقروا به لأدركهم حنانُه
__________
(1) “ب، ك، ط”: “هلاكًا”.
(2) “به” ساقط من “ب، ك، ط”.
(3) كذا وقع في الأصل وغيره، وهو سهو، فالبيت من الأبيات المشهورة التي قالها كعب بن زهير في الأنصار. انظر: ديوانه (35)، ورواية صدر البيت فيه وفي السيرة وغيرها:
يتطهرون كأنَّه نُسُكٌ لهم
(4) في الأصل والنسخ الأخرى: “علقوا به”، وهو خطأ يخلّ بالوزن.
(5) “القسري” ساقط من “ب”.
(6) “ب، ك، ط”: “فكان”.
(7) ص (29). وانظر الفتاوى (8/ 357).
(1/295)