طريق الهجرتين وباب السعادتين_2
طريق الهجرتين وباب السعادتين_2
http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة |
الكتاب: طريق الهجرتين وباب السعادتين المؤلف: الإمام أبي عبد اللَّه محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 – 751) حققه: محمد أجمل الإصلاحي خرج أحاديثه: زائد بن أحمد النشيري راجعه: سعود بن عبد العزيز العريفي – علي بن محمد العمران الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت) الطبعة: الرابعة، 1440 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم) عدد الأجزاء: 2 (في ترقيم واحد متسلسل) قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] |
ورحمتُه، ولكن لمَّا حُجِبوا عن معرفته، ومحبته، وتوحيده، وإثبات أسمائه الحسنى وصفاته العلى (1)، ووصفه بما يليق به، وتنزيهه عمَّا يليق به = صاروا أسوأَ حالًا من الأنعام، وضُرِبوا بالحجاب، وأُبعِدوا عنه بأقصى البعد، وأخرجوا من نوره إلى الظلمات، وغُيِّبتْ قلوبُهم من (2) الجهل به وبكماله وجلاله وعظمته في غيابات (3)، ليتمَّ عليهم أمرُه (4)، وينفذ فيهم حكمُه، واللَّه عليم حكيم (5).
فصل
واللَّه سبحانه مع كونه خالقَ كلِّ شيء، فهو موصوف بالرضا والغضب، والعطاء والمنع، والخفض والرفع، والرحمة والانتقام. فاقتضت حكمته تعالى أن خلقَ دارًا لطالبي رضاه العاملين بطاعته، المؤثرين لأمره، القائمين بمحابه، وهي الجنَّة. وجعل فيها كل شيء مرضي، وملأها من كلِّ محبوب ومرغوب ومشتهًى ولذيذ، وجعل الخيرَ بحذافيره فيها، وجعلها محلَّ كلِّ طيبٍ من الذوات والصفات والأقوال.
وخلق دارًا أخرى لطالبي أسباب غضبه وسخطه، المؤثرين لأغراضهم (6) وحظوظهم على مرضاته، العاملين بأنواع مخالفته، القائمين بما يكره من الأعمال والأقوال، الواصفين له بما لا يليق به،
__________
(1) “ط”: “العليا”.
(2) “ك، ط”: “في”، تحريف.
(3) “ب”: “غايات”. “ك، ط”: “غابات”، تحريف. وغَيابة الجُب: قعره.
(4) “ك، ط”: “أمده” تحريف.
(5) “واللَّه عليم حكيم” ساقط من “ن”. وفيها وفي “ك، ط” زيادة: “واللَّه أعلم”.
(6) “ط”: “لأغراضها”. وصحح في القطرية.
(1/296)
الجاحدين لما أخبرتْ به رسلُه من صفات كماله ونعوت جلاله، وهي جهنَّم. وأودعها كل شيء مكروه، وشحنَها (1) من كلِّ مؤذٍ (2) ومؤلم، وجعل الشرَّ بحذافيره فيها، وجعلها محلَّ كلِّ خبيث من الذوات والصفات والأقوال والأعمال.
فهاتان الداران هما دار القرار (3).
وخلق دارًا ثالثة هي كالميناء لهاتين الدارين، ومنها يتزود المسافرون إليهما، وهي دار الدنيا. ثمَّ أخرج إليها من آثار (4) الدارين بعضَ ما اقتضته أعمالُ أربابهما وما يُستدل به عليهما، حتَّى كأنَّهما رأيُ عين، ليصير للإيمان (5) بالدَّارين -وإن كان غيبًا- وجهُ (6) شهادة تستأنس (7) به النفوس، وتستدلّ به. فأخرج سبحانه إلى هذه الدار من آثار رحمته من الثمار والفواكه، والطيبات، والملابس الفاخرة، والصور الجميلة، وسائر ملاذّ النفوس ومشتهاها ما هو نفحةٌ من نفحات الدار التي جعل ذلك كله فيها على وجه الكمال. فإذا رآه المؤمنون ذكّرهم بما هناك من الحَبْرة (8) والسرور والعيش الرخي، كما قيل:
__________
(1) “ك”: “سجنها”، “ط”: “وسجنها مليءٌ”. ولعل هذه الزيادة سببها التصحيف السابق.
(2) “ب، ك”: “شيء مؤذ”.
(3) كذا في الأصل وغيره به. فراد “الدار”. وفي “ط”: “دارا القرار”.
(4) “ك، ط”: “أثمار”.
(5) “ب، ك”: في “الإيمان”.
(6) “وجه” ساقط من “ب”.
(7) “ف”: “تستأثر”. “ن”: “تستأمن”، والظاهر أنَّ كليهما تحريف.
(8) “ب، ك، ط”: “الخير”.
(1/297)
فإذا رآك المسلمون تيقَّنوا … حُورَ الجِنانِ لدى النعيم الخالدِ (1)
فشمَّروا إليه وقالوا: “اللهم لا عيش إلا عيشُ الآخرة” (2). وأحدثت لهم رؤيته عَزمات وهممًا وجدًّا وتشميرًا، لأنَّ النعيم يذكِّر بالنعيم، والشيء يذكِّر بجنسه؛ فإذا رأى أحدُهم ما يُعجبه ويروقه ولا سبيل له إليه قال: “موعدك الجنَّة، وإنَّما هي عشية أوضحاها”. فوجودُ تلك المشتهيات والملذوذات في هذه الدار رحمةٌ من اللَّه، يشوّق (3) بها عباده المؤمنين إلى تلك (4) التي هي أكملُ منها، وزاد (5) لهم من هذه الدار إليها. فهي زاد، وعبرة، ودليل، وأثرٌ من آثار (6) رحمته التي أودعها تلك الدار. فالمؤمن يهتزُّ برؤيتها إلى ما أمامه، ويثير ساكنَ عزماته إلى تلك، فنفسه ذوَّاقة توَّاقة، إذا ذاقت شيئًا منها تاقت إلى ما هو أكملُ منه حتَّى تتوقَ إلى النعيم المقيم في جوار الرب الكريم.
وأخرجَ سبحانه إلى هذه الدار أيضًا من آثار غضبه ونقمته من العقوبات والآلام والمحن والمكروهات من الأعيان والصفات ما يُستدَلُّ بجنسه على ما في دار الشقاء من ذلك، مع أنَّ ذلك من آثار النفَسين الشتائي والصيفي (7) اللذين أذِنَ اللَّه سبحانه بحكمته لجهنَّم أن تتنفَّسَ
__________
(1) لأبي إسحاق الصابئ في يتيمة الدهر (2/ 259).
(2) من قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في غزوة الخندق. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد (2961).
(3) “ب، ك، ط”: “يسوق”.
(4) “ب، ك، ط”: “تلك الدار”.
(5) في الأصل: “زادًا”، ولعله سهو، وكذا في “ف، ن”. والمثبت من “ب، ك، ط”.
(6) “من آثار” ساقط من القطرية.
(7) “ك، ط”: “الشتاء والصيف”. “ب”: “في الشتاء. . . “.
(1/298)
بهما، فاقتضت [بذنيك] النفسين (1) آثارًا ظهرت في هذه الدار كانت دليلًا وعبرة عليها (2). وقد أشار تعالى إلى هذ المعنى، ونبَّه (3) عليه بقوله فى نار الدنيا: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)} [الواقعة/ 73] تذكرةَ تُذِّكر بنار الآخرة (4)، ومنفعةً للنازلين بالقَواءِ، وهم المسافرون. يُقال: أقوى الرجلُ، إذا نزل بالقِيِّ والقَوَاءِ، وهي الأرض الخالية. وخص المقوين بالذكر (5)، وإن كانت منفعتُها عامَّةً للمسافرين والمقيمين، تنبيها لعباده -واللَّه أعلم بمراده من كلامه- على أنَّهم كلهم مسافرون، وأنَّهم في هذه الدار على جناح سفر ليسوا (6) مقيمين ولا مستوطنين، وأنَّهم عابرو سبيل وأبناء سفر.
والمقصود: أنَّهُ سبحانه أشهدَهم (7) في هذه (8) ما أعدَّ لأوليائه وأعدائه في دار القرار، وأخرج إلى هذه الدار من آثار رحمته وعقوبته ما هو عبرة ودلالة على ما هناك من خيرٍ وشرٍ. وجعل هذه العقوبات والآلام والمحن والبلايا سياطًا (9) يسوقُ بها عبادَه المؤمنين، فإذا رأوها حذِروا
__________
(1) في الأصل و”ف، ك”: “فاقتضت تلك النفسين”، وفي “ف” تحت “النفسين”: “النفس ظ”، وفي الحاشية: “النفسان صح”. وفي “ن”: “فاقتضت بذلك النفسين”. وفي “ب”: “فأفاضت بالنفسين”. وفي “ط”: “فاقتضى ذانك النفسان”.
(2) “ط”: “دليلًا عليها وعبرة”.
(3) قراءة “ف”: “ذنبه”.
(4) “ب، ك، ط”: “بها الآخرة”.
(5) “ف”: “بالدار”. خلاف الأصل وهو تحريف.
(6) “ط”: “ليسوا هم”.
(7) “هم” ساقط من “ط”.
(8) “ب”: “هذه الدار”، وزاد كلمة “الدار” في “ط” بين حاصرتين.
(9) “ف”: “سببًا لها” تحريف.
(1/299)
كلَّ الحذَر، واستدلُّوا بما رأوه منها وشاهدوه على ما في تلك الدار من المكروهات والعقوبات. وكان وجودُها في هذه الدار وإشهادُهم إياها، وامتحانُهم باليسير منها رحمةً منه بهم، وإحسانًا إليهم، وتذكرةً وتنبيهًا.
ولمَّا كانت هذه الدار ممزوجًا خيرُها بشرها، وأذاها براحتها، ونعيمُها بعذابها اقتضت حكمةُ أحكم الحاكمين أن خلَّص خيرَها من شرَّها، وخصَّه بدار أخرى هي دار الخيرات المحضة ودار الشرور (1) المحضة. فكتب على هذه الدار حُكمَ الامتزاج والاختلاط، وخلَطَ فيها بين (2) الفريقين، وابتلَى بعضهم ببعض، وجعَل بعضَهم لبعض فتنة؛ حكمةٌ بالغةٌ بهرت العقول وعزَّةٌ قاهرة. فقام بهذا الاختلاط سوقُ العبودية كما يحبه ويرضاه، ولم تكن تقوم (3) عبوديته التي يحبها ويرضاها إلا على هذا الوجه، بل العبد الواحد جمَع فيه بين أسباب الخير والشر، وسلَّط بعضَه على بعض ليستخرج منه ما يحبه من العبودية التي لا تحصل إلا بذلك.
فلمَّا حصلت الحكمة المطلوبة من هذا الامتزاج والاختلاط أعقبَه بالتمييز والتخليص، فميز بينهما بدارين ومحلين، وجعل لكلِّ دارٍ ما يناسبها، وأسكن فيها من يناسبها وخلَق المؤمنين المتقين المخلصين لرحمته، وأعداءَه الكافرين لنقمته، والمخلِّطين للأمرين معًا (4): فهؤلاء أهل الرحمة، وهؤلاء أهل النقمة، وهؤلاء أهل الرحمة
__________
(1) “ك، ط”: “السرور”، تصحيف.
(2) “ف”: “من”، تحريف.
(3) “ب”: “ولم يمكن قيام”.
(4) “معًا” ساقط من “ك، ب”.
(1/300)
والنقمة (1)، وقسمٌ آخر لا يستحقون ثوابًا ولا عقابًا. ورتَّب على كلِّ قسم من هذه الأقسام (2) حُكمَه اللائقَ به، وأظهر (3) فيه حكمتَه الباهرة (4)، ليعلمَ العبادُ كمالَ قدرته وحكمته، وأنَّه يخلق ما يشاءُ، ويختار من خلقه من يصلح للاختيار، وأنَّه يضع ثوابه موضعه، وعقابه موضعه، ويجمع بينهما في المحلِّ المقتضي لذلك، ولا يظلم (5) أحدًا، ولا يبخسه شيئًا من حقِّه، ولا يعاقبه بغير جنايته.
هذا مع ما في ضمن هذا الابتلاء والامتحان من الحِكَم الراجعة إلى العبيد أنفسهم: من استخراجِ صبرهم وشكرهم وتوكلهم وجهادهم، واستخراج (6) كمالاتهم (7) الكامنة في نفوسهم (8) من القوَّة إلى الفعل، ودفع الأسباب بعضها ببعض، وكسرِ كلِّ شيء بمقابله (9) ومصادمته بضده، ليظهر عليه آثارُ القهر وسماتُ الضعف والعجز، ويستيقنَ (10) العبد أنَّ القهَّار لا يكون إلا واحدًا، وأنَّه يستحيل أن يكون له شريك؛ بل القهر والوحدة متلازمان.
__________
(1) “ك، ط”: “النقمة والرحمة”. وقد غير بعضم “النقمة” في “ك”: “النعمة”!
(2) زاد في “ط”: “الخمسة”، مع أنَّ الأقسام المذكورة أربعة فحسب!
(3) “ب”: “فأظهر”.
(4) “ف”: “القاهرة”، تحريف. وفي “ب”: “لبالغة”.
(5) “ف”: “فلا يظلم”.
(6) هذه نهاية نسخة “ن” الناقصة.
(7) “ف”: “حالاتهم”، تحريف.
(8) “ط”: “نفسهم”.
(9) “ب”: “بمقاتلته”. تصحيف.
(10) “ب، ك، ط”: “ويتيقن”.
(1/301)
فالملك والقدرة والقوَّة والعزَّة كلها للَّه الواحد القهَّار، ومن سواه مربوب مقهور، له ضد ومناوٍ (1) ومشارك. فخلقَ الرياحَ، وسلَّطَ بعضها على بعض تُصادمها، وتكسِر سَورتَها، وتذهب بها. وخلقَ الماء، وسلَطَ عليه الرياحَ تصرّفه وتكسره. وخلق النَّار، وسلَّطَ عليها الماءَ يكسرها ويطفئها. وخلقَ الحديد، وسلَّط عليه النار تذيبه وتكسر قوته. وخلق الحجارة، وسلَّط عليه الحديد يكسرها ويفتَتها. وخلق آدم وذريته، وسلَّطَ عليهم إبليس وذريته. وخلَق إبليس وذريته، وسلَّطَ عليهم (2) الملائكة يشرّدونهم كلَّ مشرَّد ويطرّدونهم كلَّ مطرَّد. وخلق الحرَّ والبرد والشتاء والصيف، وسلَّطَ كلًّا منها على الآخر يُذهِبه ويقهره. وخلقَ الليل والنهار، وقهرَ كلًّا منهما بالآخر. وكذلك الحيوان على اختلاف ضروبه من حيوان البر والبحر، لكل منه مضاد ومغالب.
فاستبان للعقول والفطَر أنَّ القاهر الغالب لذلك كلِّه واحدٌ، وأنَّه (3) من تمام ملكه إيجادُ العالم على هذا الوجه، وربطُ بعضه ببعض (4)، وإحواجُ بعضه إلى بعض، وقهرُ بعضه ببعض، وابتلاءُ بعضه ببعض (5)، وامتحانُ (6) خيره بشرّه وجعلُ شره لغيره الفداءَ. ولهذا يُدفع إلى كلِّ مؤمن يوم القيامة كافرٌ فيقال له: “هذا فداؤكَ من النار” (7). وهكذا
__________
(1) كذا ورد في الأصل بحذف الهمزة، وهو جائز. وفي “ب، ك، ط”: “مناف”.
(2) “ب”: “وسلَّط على إبليس وذريته”.
(3) “ب، ط”: “وأن”.
(4) “ب، ط”: “على بعض”.
(5) “وإحواج. . . ” إلى هنا ساقط من “ب”.
(6) “ط”: “وامتزاج”، تحريف.
(7) أخرجه ابن ماجه (4292) عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه بإسناد ضعيف. وله =
(1/302)
المؤمن (1) في الدنيا يسلَّط عليه من الابتلاء والامتحان والمصائب ما يكون فداءَه من عذاب اللَّه، وقد تكون تلك الأسباب فداءً له من شرورِ أكبر (2) منها في العالم أيضًا. فَلْيُعطِ اللبيبُ هذا الموضع حقَّه من التدبر يتبين له حكمةُ اللطيف الخبير.
فصل
وقد تقرَّر أنَّ اللَّه سبحانه كامل الصفات، له الأسماء الحسنى، ولا يكون عن الكامل في ذاته وصفاته إلا الفعل المحكم. وهو سبحانه خلقَ عبادَه على الفطرة، وكل مولود فإنّما يولد على الفطرة التي فُطِرَ الخلائق عليها، ولكنَّ الآباء والكافلين للمولودين يخرجونهم عن الفطرة (3)، ويَعدِلون بهم عنها، ولو تركوهم لما اختاروا عليها غيرَها، ولكن أخرجوهم عن سَنَنِ الحنيفية وأفسدوا فِطَرهم وقلوبهم. وهكذا بالأضداد والأغيار يخرُج بعض المخلوقات عن سَنَن الإتقان والحكمة، ولولا تلك الأضداد والأغيار لكانت في مرتبتها كالمولود في فطرته، ولذلك أمثلة:
المثال الأوَّل: أنَّ الماءَ خلقه اللَّه في الأصل (4) طاهرًا مطهِّرًا، فلو تُرِكَ على حالته التي خُلِقَ عليها ولم يخالطه ما يزيلُ طهارته لم يكن إلا
__________
= شاهد في صحيح مسلم (2767) من حديث أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه. وانظر المسند (19485)، تعليق المحقق (32/ 230).
(1) “ف”: “يكون المؤمن”، خلاف الأصل.
(2) “ب، ك، ط”: “أكثر”.
(3) “التي فطر. . . ” إلى هنا ساقط من “ب، ط” لانتقال النظر.
(4) “في الأصل” ساقط من “ك، ط”.
(1/303)
طاهرًا، ولكن بمخالطته (1) أضدادَه من الأنجاس والأقذار تغيرت أوصافه، وخرج عن الخلقة التي خلق عليها. فكانت تلك النجاسات والقاذورات بمنزلة (2) أبوي الطفل وكافليه الذين يهودونه وينصرونه ويمجسونه ويشرِّكونه (3). وكما أنَّ الماءَ إذا فسدَ بمخالطته (4) الأنجاس والقاذورات لم يصلح للطهارة، فكذلك القلوب إذا فسدت فِطَرُها بالأغيار لم تصلح لحظيرة القدس.
المثال الثاني: الشرابُ المعتصَرُ من العنب، فإنَّه طيِّب يصلح للدواءِ ولإصلاح الغذاءِ وللمنافع (5) التي يصلح لها. ولو (6) خُلِّيَ على حاله لم يكن إلا طاهرًا طيِّبًا، ولكن أفسد بتهيئته للسكر واتخاذه مسكرًا، فخرج بذلك عن خلقته التي خُلِقَ عليها من الطهارة والطيب، فصارَ أخبثَ شيءٍ وأنجسه. فلو انقلبَ خلًّا، أو زالَ تغيُّر الماءِ، كان بمنزلة رجوع الكافر إلى فطرته الأولى، فإنَّ الحكمَ إذا ثبتَ لعلَّة زال بزوالها (7).
المثال الثالث: الأغذية الطيبة النافعة إذا خالطت باطنَ الحيوانِ واستقرَّت هناك خرجت عن حالتها التي خُلِقَتْ عليها، واكتسبَتْ بهذه المخالطة والمجاورةِ خبثًا وفسادًا لم يكن فيها، لسلوكها في غير
__________
(1) “ب، ك، ط”: “بمخالطة”.
(2) “ب، ك، ط”: “بمعنى”.
(3) الأفعال الأربعة في “ب” بالتثنية: “يهودانه. . . ” لضبط “كافلَيه” فيها بالتثنية!
(4) “ك”: “بمخالطة”.
(5) “ك، ط”: “والمنافع”.
(6) “ب، ك، ط”: “فلو”.
(7) في “ك، ط” زيادة “واللَّه أعلم”.
(1/304)
طرقها (1) التي بها كمالها.
ولمَّا أنزلَ اللَّهُ سبحانه الماءَ طاهرًا نافعًا، فمازج الأرضَ، وسالت به أوديتها، أوجدَ -جل جلالُه- بينهما بسبب هذه (2) المخالطة والممازجة أنواعَ الثمارِ والفواكه (3) والزروع والنخيل والزيتون وسائر الأغذية والأقوات، وأوجدَ (4) مع ذلك المُرَّ والشوكَ والحنظلَ وغيرَ ذلك. واللقاح واحد، ولكن الأم مختلفة. قال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)} [الرعد/ 4].
ثمَّ إنَّه سبحانه يُصرف ما أخرجه من هذا الماءِ، ويُقلِّبه، ويحيل بعضَه إلى بعض، وينقل بعضه بالمخالطة والمجاورة عن طبيعته إلى طبيعة أخرى. وهذا كما خلق كلَّ دابَّةٍ من ماءٍ، ثمَّ خالفَ بين صورها وقواها ومنافعها وأوصافها وما تصلح له (5)، وأمشى بعضها (6) على بطنه، وبعضها على رجلين، وبعضها على أربع؛ حكمة بالغة، وقدرة باهرة.
وكذلك سبحانه يقلِّب الليل والتهار، ويقلِّب ما يوجد فيهما، ويقلِّب أحوال العالم كما يشاء، ويسلك بذلك كلَّه (7) مسلك الحكمة البالغة التي
__________
(1) “ف”: “طريقها”، خلاف الأصل.
(2) “هذه” ساقط من “ب”.
(3) “والفواكه” ساقط من “ب”.
(4) “ف”: “وإن وُجِدَ” خلاف الأصل.
(5) “ك، ط”: “وما يَصلح لها”.
(6) “ك، ط”: “بعضًا” في هذه الجملة وما يليها.
(7) “كله” ساقط من “ك، ب، ط”.
(1/305)
بها يتم مراده، ويظهر ملكه: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف/ 54].
وهذا القرآن المجيد عمدتُه ومقصودُه الإخبارُ عن صفات الرب جل جلاله وأسمائه وأفعاله وأنواع حمده والثناءِ عليه، والإنباءُ عن عظمته وعلائه (1) وحكمته وإبداع (2) صَنعه، والتقدّمُ إلى عباده بأمره ونهيه على ألسنة رسله، وتصديقهم (3) بما أقامه من الشواهد والدلالات (4) على صدقهم وبراهين ذلك ودلائله، وتبيينُ مراده من ذلك كلّه. وكان من تمام ذلك الإخبارُ عن الكافرين والمكذّبين، وذكرُ ما أجابوا به رسلهم وقابلوا به رسلات ربهم، ووصفُ كفرهم وعنادهم وكيف كذَبوا على اللَّه، وكذبوا رسلَه، وردّوا أمره ونصائحه (5). وكان (6) في اجتلاب (7) ذلك من العلوم والمعارف والبيان وضوحُ شواهد الحقّ، وقيامُ أدلته، وتنوّعُها.
وكان موقع هذا من خلقه موقعَ تسبيحه تعالى وتنزيهه من الثناءِ عليه، فإن (8) أسماءَه تعالى الحسنى وصفاته العلى (9) هي موضع الحمد، ومن
__________
(1) “ب” ك، ط”: “عزَّته”.
(2) “ب، ك، ط”: “أنواع”.
(3) “ك، ط”: “تصديقه يفهم”، تحريف.
(4) “ب”: “الآيات”.
(5) “ب، ك، ط”: “ومصالحه”، تحريف.
(6) “ك، ط”: “فكان”.
(7) “ف”: “اختلاف”، تصحيف.
(8) “ب، ك، ط”: “وإن”.
(9) “ط”: “العليا”.
(1/306)
تمام حمده تسبيحُه وتنزيهُه عمّا وصفه به أعداؤه والجاهلون به مما لا يليق به. وكان في تنوع تنزيهه عن ذلك من العلوم والمعارف وتقرير صفات الكمال وتكميل أنواع الحمد ما (1) في بيان محاسن الشيء وكماله عند معرفة ما يضادّه ويخالفه. ولهذا كان تسبيحُه تعالى من تمام حمده، وحمدُه من تمام تسبيحه؛ ولهذا كان التسبيح والتحميد قرينين (2). فكان (3) ما نسبه إليه أعداؤه والمعطّلون (4) لصفات كماله -من علّوه على خلقه وإنزاله كلامه الذي تكلّم به على رسله وغير ذلك من صفات كلامه- موجبًا لتنزيه رسله له وتسبيحهم عن ذلك (5) مما نزّه عنه نفسَه وسبّح به نفسَه. وكان في ذلك ظهورُ حمده لخلقه (6)، وتنوّعُ أسبابه، وكثرةُ شواهده، وسعةُ طرق الثناءِ عليه به، وتقريرُ عظمته ومعرفته في قلوب عباده. فلولا معرفةُ الأسباب التي يسبّح وينزه ويتعالى عنها، وخَلْقُ مَن يضيفها إِليه ويصفه بها، لما قامت حقيقة التسبيح، ولا ظهر لقلوب أهل الإيمان عن أيّ شيء يسبّحونه وعمّا ذا ينزهونه. فلما رأوا في خلقه مَن قد نسبه إلى ما لا يليق به، وجحد من كماله ما هو أولى به، سبّحوه حينئذ تسبيحَ مُجِل له، مُعظِّمٍ له، منزِّهٍ له (7) عن أمرٍ قد
__________
(1) “ف”: “وما”، وكذا في الأصل، ولكن لعل الواو مضروب عليها، ولم يظهر خط الضرب لانتشار الحبر.
(2) “ط”: “قربتين”، تصحيف.
(3) “ب، ك، ط”: “وكان”.
(4) (ب): “إليه المعطلون”.
(5) “من صفات. . ” إلى هنا ساقط من “ب، ك، ط”. وقد استدرك في حاشية “ك” بخط مختلف.
(6) “ب، ط”: “بخلقه”
(7) “له” ساقط من “ط”، ومستدرك في القطرية.
(1/307)
نسبه إليه أَعداؤه والمعطّلون لصفاته.
ونظير هذا اشتمال (1) كلمة الإسلام -وهي شهادة أن لا إله إلّا اللَّه- على النفي والإثبات. فكان في الإتيان بالنفي في صدر هذه الكلمة من تقرير الإثبات، وتحقيق معنى الإلهية، وتجريد التوحيد الذي يُقصد بنفي الإلهيّة عن كلّ من (2) ادعيت فيه سوى الإله الحق تبارك وتعالى. فتجريدُ هذا التوحيد من العقد واللسان بتصوّر إثبات الإلهيّة لغير اللَّه -كما قاله أعداؤه المشركون- ونفيُه وإبطالُه من القلب واللسان من تمام التوحيد وكماله، وتقريره (3)، وظهور أعلامه، ووضوح شواهده، وصدق براهينه.
ونظير ذلك أيضًا أنّ تكذيَب أعداءِ الرسل لهم (4) وردَّهم ما جاؤوهم به كان من الأسباب الموجِبة ظهورَ براهينِ صدقِ الرسل، ودفعَ ما احتجّ به أعداؤهم عليهم من الشبه (5) الداحضة، ودحضَ حججهم الباطلة، وتقريرَ طرق الرسالة، وإيضاحَ أدلتها. فإنّ الباطل كلّما ظهر فساده وبطلانه أسفر وجهُ الحقّ، واستنارت معالمه، ووضحت سبله، وتقررت براهينه. فكسرُ الباطل ودحضُ حججه وإقامةُ الدليل على بطلانه من أدلّة الحق وبراهينه.
فتأمّلْ كيف اقتضى الحقُ وجودَ الباطل، وكيف تمّ ظهورُ الحق
__________
(1) “ف”: “استكمال”، تحريف.
(2) “ك، ط”: “ما”.
(3) “ب”: “كمال تقريره”.
(4) “لهم” ساقط من “ك، ط”.
(5) “ب، ك”: “الشبهة”.
(1/308)
بوجود الباطل، وكيف كان كفرُ أعداءِ الرسل بهم (1) وتكذيبُهم لهم ودفعهُم ماجاؤوا به هو (2) من تمام صدق الرسل، وثبوت رسالات اللَّه، وقيام حججه على العباد.
ولنضربْ لذلك مثالًا يتبيّن به، وهو: ملِكٌ له عبدٌ قد توحّد في العالم بالشجاعة والبسالة، والناس بين مصدِّق ومكذب. فمِن قائلِ: هو كذلك، ومِن قائلٍ: هو بخلاف ما يظَنّ به، فإنّه لم يقابل الشجعان، ولا واجه الأقران. ولو نازل (3) الأقران، وقابل الشجعان، لظهر أمرُه، وانكشف حالُه. فسمع به شجعانُ العالم وأبطالُهم، فقصدوه من كلّ أوب، وأمّوه (4) من كلّ قطر، فأراد الملك أن يُظهر لرعّيته ما هو عليه من الشجاعة، فمكن تلك (5) الشجعان والأبطال (6) من منازلته ومقاومته، وقال: دونكم وإيّاه، وشأنكم به. فهل تسليطُ الملِك لأولئك على عبده ومملوكه إلّا لإعلاءِ شأنه، وإظهار شجاعته في العالم، وتخويف أعدائه به، وقضاءِ الملك أوطاره به؟
وكما (7) يترتّب على هذا (8) إظهارُ شجاعة عبده وقوّته، وحصولُ مقصوده بذلك؛ فكذلك يترتَّب عليه ظهورُ كذبِ من ادعَّى مقاومته،
__________
(1) “ف”: “منهم”، خطأ.
(2) “ك، ط”: “وهو”، خطأ.
(3) “ب، ك، ط”: “بارز”.
(4) أي قصدوه. وفي “ب، ك، ط”: “أتوه”.
(5) “ط”: “أولئك”.”ب”: “الشجاعة بين تلك”.
(6) “والأبطال” ساقط من “ك، ط”.
(7) “ب”: “فكما”. “ط”: “كما”.
(8) “هذا”: ساقط من “ط” ومستدرك في القطرية.
(1/309)
وظهورُ عجزهم، وفضيحتهم وخزيهم، وأنهم ليسوا ممن يصلح لمهمّات الملِك وحوائجه. فإذا عدَل بهم عن مهمّاته وولاياته (1) وعدَل بها عنهم كان ذلك مقتضى حكمة الملك وحسن تصرّفه في ملكه، وأنّه لو استعملهم في تلك المهمّات لتشوّش أمرُ المملكة، وحصل الخلل والفساد. فاللَّه أعلم حيث يجعل رسالاته (2)، وهو أعلم بالشاكرين (3).
والمقصود أنّ خلقَ الأسباب المضادّةِ للحقّ وإظهارها في مقابلة الحق من أبيَن دلالاتِه وشواهدِه، فَكان في خلقها من الحكمة ما لو فاتت لفاتت بها (4) تلك الحكمةُ، وهي أحبُّ إلى اللَّه تعالى من تفويتها بتقدير تفويت هذه الأسباب. واللَّه أعلم.
فصل
وللنَّاس في دخولِ الشرِّ في القضاءِ الإلهي طُرُقٌ، فنذكرها ونذكر أصولَهم التي تفرَّعت عليها هذه الطرق قبل ذلك. فنقول:
الناسُ قائلان (5): أحدهما قولَ أهل الإسلام وأتباع المرسلين كلِّهم إنَّ اللَّه سبحانه فعَّالٌ لما يريد، يفعل باختياره وقدرته ومشيئته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وهو الذي يعبر عنه متأخرو المتكلمين بكونه “فاعلًا بالاختيار”.
__________
(1) “ط”: “ولايته”.
(2) “ك”: “واللَّه أعلم. . رسالته”. والعبارة ساقطة من “ط”.
(3) “ط”: “واللَّه أعلم بالشاكرين”.
(4) وضع “لفاتت” في “ط” بين حاصرتين. وقد سقط “بها” منها ومن “ك”.
(5) كذا في الأصل وغيره. وفي “ط”: “للناس قولان”.
(1/310)
والفريق (1) الثاني قولَ من نفى ذلك وقال: صدورُ العالَمِ (2) عنه تعالى صدورًا ذاتيًّا كصدور النور عن الشمس، والحرارة عن النَّار، والتبريد عن الماءِ، ويسمي المتكلمون هذا “الإيجاب الذاتي”، ومصدَره “موجبًا بالذات (3) “، وهذا قول الفلاسفة المشَّائين. وهو الذي يذكره ابن الخطَيب (4) وغيره عن الفلاسفة، ولا يحكي عنهم غيرَه، وإنَّما هو قول المشَّائين. وقرَّبه متأخرُهم وفاضلُهم ابن سينا إلى الإسلام بعضَ التقريب، مع مباينته لما جاءَت به الرسل ولِمَا دلَّ عليه صريح العقل والفطرة.
والفريقان متفقون على أنَّ مصدرَ (5) الكائنات بأسرها خيرٌ محضٌ من جميع الوجوه وكمالٌ صِرْف. ووجود الشرِّ في العالم مشهود، والخير لا يصدر عنه إلا خير، فلا جَرَمَ اختلفت طرقُهم في كيفية دخول الشر في القضاء الإلهي، وتنوعت إلى أربعة طرق (6).
الطريق الأولى (7): طريق نفاة التعليل والحكمة والأسباب، فإنَّهم سدُّوا على أنفسهم هذا الباب، وأثبتوا مشيئةً محضةً لا غاية لها ولا سبب ولا حكمة يفعل (8) لأجلها، ولا يتوقف فعلُ المختار بها على مصلحة
__________
(1) “ك، ط”: “وللفريق”.
(2) “ك”: “صدور العلم”.”ط”: “صدر العلم”، تحريف.
(3) “ك، ط”: “موجبات الذات”، تحريف.
(4) يعني الفخر الرَّازي صاحب التفسير الكبير، المتوفى سنة 656 هـ.
(5) “ف”: “ضبط”، تحريف.
(6) “ب”: “أربع طرق”.
(7) “ط”: “الأوَّل”.
(8) “ط”: “تفعل”.
(1/311)
ولا حكمة، ولا غاية لها يُفعل (1)، بل كلُّ مقدورٍ يحسن منه فعلُه، ولا حقيقة عندهم للقبيح إلا (2) المستحيل لذاته الذي لا يوصف بالقدرة عليه. وهؤلاءِ نفوا مسمَّى الرحمة والحكمة، وإن أقرُّوا بلفظ لا حقيقة له. وكان شيخهم الجهم بن صفوان يقف بأصحابه على المجذَّمين (3)، وهم يتقلَّبون في بلائهم، فيقول لهم (4): أرحمُ الرَّاحمين يفعل مثل هذا! يعني أنَّه ليس في الحقيقة رحمة، وإنَّما هو محضُ مشيئة وصِرْفُ إرادة مجرَّدةٍ عن الحكمة والرحمة.
وهؤلاء قابلوا أصحاب الطريق الثاني، وهم الذين أثبتوا له حكمة وغايةً، وقالوا: لا يفعل شيئًا إلا لحكمة وغاية مطلوبة (5)، ولكن حجروا عليه سبحانه في ذلك، وشرعوا له شريعةً وضعوها بعقولهم، وظنُّوا أنَّ ما يحسن من خلقه تعالى يحسن منه، وما يقبح منهم يقبح منه، فجعلوا ما أثبتوه له من الحكمة والرحمة من جنس ما هو للخلق. ولهذا كانوا “مشبِّهة الأفعال”، كما أنَّ من شبَّهه بخلقه في صفاته فهو “مشبِّه الصفات”، فاقتسموا التشبيه (6) نصفين: هؤلاء في أفعاله، وإخوانهم في صفاته.
وقالوا: إنَّه تعالى لو خصَّ بعض عبيده عن بعض بإعطائه توفيقًا
__________
(1) “ط”: “تفعل”.
(2) “ط”: “لولا”، خطأ.
(3) “ب، ط”: “المجذومين”.
(4) “لهم” ساقط من “ك، ط”.
(5) “ب”: “لغاية وحكمة مطلوبة”.
(6) في “ف” مكان “التشبيه”: “إلى مشبهة”، تحريف.
(1/312)
وقدرةً وإرادةً، ولم يعطها الآخرَ، لكان ظلمًا للذي منعه.
وقالوا: لو شاءَ من عباده أفعال المعاصي لكان سفهًا (1) ينزَّه عنه، كما في الشاهد (2)؛ ولو شاءَ منهم الكفر والفسوق والعصيان ثمَّ عذبهم عليه لكان ظلمًا، كما (3) في الشاهد أيضًا. فإنَّ السيد إذا أراد من عبده شيئًا، ففعل العبد ما أراد سيده، فإنَّه إذا عذبه عدَّه الناس ظالمًا له.
وجعلوا العدل في حقِّه من جنس العدل في حقِّ عباده، والظلم الذي تنزَّه (4) عنه كالظلم الذي يتنزهون (5) عنه. وجعلوا ما يحسن منه من جنس ما يحسن منهم، وما يقبح منه من جنس ما يقبح منهم. وقالوا: لو أرادَ الشرَّ لكان شرِّيرًا كما في الشاهد، فإنَّ مريدَ الشرِّ شرِّير (6).
وقالوا: لو ختم على قلوب أعدائه وأسماعهم، وحال بينهم وبين قلوبهم، وأضلهم عن الإيمان، وجعل على أبصارهم غشاوةً، وجعل من بين أيديهم سدًّا ومن خلفهم سدًّا، ثمَّ عذَّبهم، لكان ذلك ظالمًا لهم؛ لأنَّ أحدنا لو فعل ذلك بعبده، ثمَّ عذَّبه، لكان ظالمًا له.
فهؤلاءِ هم (7) المشبِّهة حقًّا في الأفعال، فعدلُهم تشبيه، وتوحيدُهم تعطيل، فجمعوا بين التشبيه والتعطيل.
__________
(1) “سفهًا” ساقط من “ط”، ومستدرك في حاشية “ك” بخط مختلف.
(2) تحرفت هذه الكلمة في “ط” هنا وفي المواضع الآتية كلها إلى “المشاهد”.
(3) سقط “كما” من “ك، ط”.
(4) “ب، ك”: “ينزه”.
(5) “ك”: “ينزهون”.
(6) في الأصل: “شريرًا”، سهو.
(7) “هم” ساقط من “ب، ك، ط”.
(1/313)
وهؤلاء قسموا الشرَّ الواقعَ في العالم إلى قسمين:
أحدهما: شرورٌ هي أفعال العباد وما تولّد منها، فهذه لا تدخل عندهم في القضاءِ الإلهي تنزيهًا للرب تعالى عن نسبتها إليه، ولا تدخل عندهم تحت قدرته ولا مشيئته (1) ولا تكوينه.
والثاني: الشرور التي لا تتعلق بأفعال العباد، كالسموم والأمراض وأنواع الآلام، وكإبليس وجنوده، وغير ذلك من شرور المخلوقات، كإيلام الأطفال وذبح الحيوان. فهذا النوع هو الذي كدَّر على القدرية أصولَهم، وشوَّش عليهم قواعدهم، وقالوا: ذلك كلُّه حسنٌ لما فيه من اللطف والمصلحة العاجلة والآجلة.
قالوا: أمَّا الآلام والأمراض فمفعولة لغرض صحيح، وهو ما ضمن الربُّ سبحانه لمن أصابه بها من العوض الوافي. قالوا: وذلك يجري مجرى استئجار أجير في فعل شاقّ، فإنَّه بغرض (2) الاستئجار أخرَجَ الاستئجار عن كونه عبثًا، وبالأجرة أخرجه (3) عن كونه ظلمًا، فكان حسنًا.
قالوا: فإن قيل: إذا كان اللَّه قادرًا على التفضل بالعوض وبأضعافه بدون توسط الألم، فأي حاجة إلى توسطه؛ وأيضًا فإذا حسُن الألمُ لأجل العوض، فهل يحسن منَّا أن نؤلم (4) أحدَنا بغير إذنه لِعوضٍ يصل إليه؟.
__________
(1) “ف”: “قدرته ومشيئته”، خلاف الأصل.
(2) “ط”: “بفرض”. “ب”: “لغرض”.
(3) “أخرجه” ساقط من “ط”.
(4) “ك، ط”: “يؤلم”، تصحيف، وزاد في “ط” بعد “أحدنا” بين حاصرتين: “غيره”.
(1/314)
فالجوابُ أنَّ اللَّه سبحانه لا يُمرِض ولا يُؤلم (1) إلا مَن يعلم من حاله أنَّه لو أطلعه على الأعواض التي تصل إليه لرضيَ بالألم، ولرغب فيه، لوفور الأعواض وعظمها، وليس كذلك في الشاهد استئجار الأجير من غير اختياره.
قالوا: وليس كذلك إيلام أحدنا لغيره لأجل التعويض، فإنَّ مَن قطَع يدَ غيرِه أو رجلَه ليعوضه عنها لم يحسن ذلك منه؛ لأنَّ العوض يصل إليه وهو مقطوع اليد والرجل، وليس من العقلاء من يختارُ مُلكَ الدنيا مع ذلك؛ واللَّه يوصل الأعواض في الآخرة إلى الأحياء، وهم أكملُ شيء خلقًا وأتمه أعضاءً، فلذلك افترق الشاهد والغائب في هذا.
قالوا: فإن فرضتموه في ضربٍ وجلدٍ مع سلامة الأعضاء قَبُح لأنَّه عبث (2)، فإن فُرِضَ فيه مصلحة، ورضي المضروبُ بذلك، وعظمت الأعواض عنه، فهو حسن في العقل لا محالة. قالوا: وسرُّ الأمرِ أنَّ بالعوض يخرج الألم عن كونه ظلمًا لأنَّه نفع عظيم (3) مُوفٍ (4) على مضرَّة الألم؛ وباعتبار كونه لطفًا في الدين يخرج عن كونه عبثًا.
قالوا: وقد رأينا في الشاهد حسنَ الألم للنفع، فإنَّه يحسن في الشاهد إيلام أنفسنا وإتعابها في طلب العلوم والأرباح التي لا يُعبر (5) إليها إلا على جسرٍ (6) من التعب والمشقة.
__________
(1) “ولا يؤلم” ساقط من “ب”.
(2) “ب، ك، ط”: “عيب” تصحيف.
(3) “عظيم” ساقطة من “ط”.
(4) “ب، ك، ط”: “موقوف”.
(5) “ب”: “نصير”. “ك”: “يصل”. “ط”: “نصل”.
(6) “ب”: “حُسْن”. “ك، ط”: “جنس”، وكلاهما تحريف. وهي عبارة مألوفة في =
(1/315)
قالوا: وهذا الوجه هو الذي (1) حسُن لأجله إيلامُ الأطفال والبهائم فإنَّه إيلامٌ للنفع، فإنَّ أبدان الأطفال لا تستقيمُ إلا على الأسباب الجالبة للآلام، وكذلك نفوسهم إنَّما تكمل بذلك، وإيلامُ الحيوان لنفع الآدمي به غير قبيح.
قالوا: وأمَّا الألمُ المستحَق للعقوبة، فإنَّه حسنٌ في الشاهد ولكنَّه غير متحقق في الغائب بالنسبة إلى الأطفال والبهائم لعدم تكليفها، ولكن لا بدَّ في إيلامها من مصلحة ترجع إليها، وهي ما يحصل لهم من العوض في الآخرة. قالوا: ويجب إعادتها لاستيفاءِ ذلك الحق الذي لها، وهو العوض على الآلام التي حصلت لها.
قالوا: وبقاؤها بعد الإعادة موقوف على مقدارٍ معلوم. . . لانقطاعه (2)، ونعيم الأطفال والمجانين دائم. واختلفوا في البهائم فقال
__________
= كتب المؤلف، منها قوله في مفتاح دار السعادة (1/ 363): “والسعادة لا يعبر إليها إلا على جسر المشقة”، وفيه أيضًا (2/ 347) “والكمالات كلها لا تنال إلا بحظٍّ من المشقة، ولا يعبر إليها إلا على جسر من التعب”. وأنشد فيه (2/ 307) قول بعضهم:
كذا المعالي إذا ما رُمْتَ تدركها … فاعبُر إليها على جسرٍ من التعب
والأصل قول أبي تمام في بائيته:
بصرتَ بالراحة الكبرى فلم ترها … تُنال إلا على جسرٍ من التعب
(1) “الذي” سقط من “ط” فاستدرك في القطرية.
(2) كتب ناسخ “ف” فوق كلمة “معلوم”: “ينظر”، وترك بياضًا بقدر نصف سطر أو يزيد. والعبارة من لحق طويل بدأ في حاشية الأصل اليمنى ثمَّ استمر إلى أعلى الصفحة ويسارها وأسفلها عائدًا إلى يمينها، ومكان البياض في السطر الأوَّل في أعلاها، وقد ذهب هذا السطر كله لتأكل الورقة، فاعتمدنا في إثبات العبارة “على مقدار. . . واختلفوا في” على “ف”. وفي “ك”: “موقوف ونعيم =
(1/316)
بعضهم: يدوم عوضهم، وقال آخرون بانقطاعه وإنَّهم (1) يصيرون ترابًا. قالوا: فإن لم يكن للبهائم عوض يجب لأجله أن تعاد لم تجب إعادتها عقلًا، وتحسن إعادتها، وما يحسن قد يفعله اللَّه وقد لا يفعله.
وهل تجوزُ الآلام للتعويض المجرَّد؟ فيه قولان لهم (2) مبنيان على أصل اختلفوا فيه، وهو أنَّه هل يحسن منه تعالى التفضل بمثل العوض ابتداءً؟ فصار بعضهم إلى امتناعه، كما يمتنع التفضل بمثل الثواب ابتداءً عندهم، وهم مجمعون على امتناعه لئلا يسوَّى بين العامل وغيره. وصارَ مَن ينتمي إلى التحصيل منهم إلى أنَّ التفضل بمقدار الأعواض ممكن غير ممتنع. فمن قال بامتناع التفضل بمقدار العوض جوَّز وقوعَ الآلام للتعويض المجرد. ومن جوَّز التفضل بأمثال الأعواض لم تحسُن عنده الآلام (3) لمجرَّد (4) التعويض، بل قالوا: إنَّما تحسن لوجهين لا بد من اقترانهما: أحدهما التزامُ التعويض، والثاني اعتبار غيرِ المؤلَم بتلك الآلام، وكونُها ألطافًا في زجرِ غاوٍ عن غوايته إذا شاهدها في غيره.
وذهب عماد الضَّيْمَري (5) … منهم إلى أنَّ الآلام تحسن
__________
= الأطفال. . . ” ولم يُترك بياض، ولكن في الحاشية: “كذا سقط من الأصل نصف سطر قطعه المجلد”، ثمَّ استدرك بعضهم الكلمات التي لم ترد في غير “ت” وهي “على مقدار معلوم. . . لانقطاعه”. وفي “ب، ط” بياض بقدر كلمتين بين “موقوف” و”نعيم”.
(1) “ب، ك، ط”: “فإنَّهم”.
(2) “لهم” ساقط من “ب”.
(3) العبارة “للتعويض المجرد. . ” إلى هنا سقطت من “ط”، واستدركت في القطرية.
(4) “ب، ك، ط”: “بمجرد”.
(5) أبو سهل عبَّاد بن سلمان، من كبار المعتزلة، كان في أيام المأمون، وكان =
(1/317)
لمجرد (1) الاعتبار من غير تعويض لمن أصابته، وردَّ عليه جماهيرُ القدَرية ذلك. قالوا: والآلام التي يفعلها سبحانه إمَّا أن تكون مستحقة كعقوبات الدنيا وعذاب الآخرة، وإمَّا للتعويض، وإمَّا للمصلحة الرَّاجحة، قالوا: وما يفعله في الآخرة منها فكله للاستحقاق (2)، وما يفعله في الدنيا فللعوض والمصلحة، وقد يفعله عقوبة، وأمَّا ما شرعه من أسباب الألم فعقوبات محضة.
وأمَّا مشايخ القوم فقالوا: إنَّما يحسن منه تبارك وتعالى الإيلام لأنَّه المنعم (3) بالصحة والحياة، ولأنَّه في حكم من أعار تلك المنفعة لمن لا يملكها، فله قطعُها إذا شاءَ، ولأنَّه قادرٌ على التعويض عالم بقدره، وليس كذلك الواحد منَّا (4). قالوا: فإذا استرجع عاريَّة الصحة والحياة خلَفَها الألم (5)، ولا بد.
وأطالوا الكلام في الآلام وأسبابها، وما يحسن منها وما يقبح، وعلى أي وجه يقع؛ وحصروا أنفسهم غاية الحصر، فاستطالت عليهم الجبرية بالأسولة والمضايقات، وألجأوهم إلى مضايق “تضايَقُ عنها أن تَوَلَّجَها الأبَرُ” (6)، وأضحكوا العقلاءَ منهم بإبداءِ تناقضهم، وألزموهم إلزاماتٍ
__________
= أبو علي الجبائي يصفه بالحذق في الكلام ثم يقول: “لولا جنونه! “. الفهرست (215)، لسان الميزان (3/ 229).
(1) “ب، ك”: “بمجرد”.
(2) “ب “: “وكل ما يفعل. . فهو للاستحقاق”.
(3) “ب”: “الآلام لأنه منعم”.
(4) “ط”: “من الخلق”.
(5) “ب”: “الألم والموت”.
(6) عجز بيت لطرفة بن العبد، وصدره: =
(1/318)
لا بدَّ من التزامها أو ترك المذهب.
وسأل أبو الحسن الأشعري أبا علي الجُبائي عن ثلاثة إخوة لأب وأم مات أحدهم صغيرًا، وبلغ الآخر فاختار الإسلام، وبلغ الآخر فاختارَ الكفر، فاجتمعوا عند ربِّ العالمين، فرفع درجة البالغ المسلم، فقال أخوه الصغير: يا ربِّ، ارفع درجتي حتى أبلغ منزلة أخي، فقال: إنَّك لا تستحق، إنَّ أخاكَ بلغ، فعمل أعمالًا استحق بها تلك الدرجة، فقال: يا ربِّ، فهلَّا أحييتني حتى أبلغ، فأعمل عمله؟ فقال: كانت المصلحة (1) تقتضي اخترامك قبل البلوغ، لأنِّي علمتُ أنَّك لو بلغتَ لاخترتَ الكفر، فكانت المصلحة في قبضك صغيرًا. قال: فصاح الثالث من أطباق النَّار (2) وقال: يا ربِّ هلَّا فعلتَ معي هذا الأصلح، وقبضتني صغيرًا، كما قبضت أخي صغيرًا؟ (3) فما جوابُ هذا أيها الشيخ؟ فلم يُحِرْ (4) إليه جوابًا (5).
قالوا: وإذا علم اللَّه سبحانه من بعض العبيد أنَّه لا يختار الإسلام وأنَّه لا يكون إلا كافرًا مفسدًا في الأرضِ، فأي مصلحةٍ لهذا العبدِ في إيجاده؟
__________
= رأيتُ القوافى يَتَّلِجْنَ مَوالجًا.
انظر: البيان والتبين (1/ 158).
(1) “ك، ط”: “تلك المصلحة”.
(2) “ك، ط”: “بين أطباق النار”. “ب”: “من بين أطباق النيران”.
(3) “ط”: “يا رب لم لم تمتني صغيرًا؟ ” مكان “هلَّا فعلت. . . أخي صغيرًا”.
(4) أحار الجوابَ: ردَّه. وفي “ط”: “فلم يرد”.
(5) أورد المؤلف هذه الحكاية في مفتاح دار السعادة (2/ 430)، وشفاء العليل (332). وذكرها شيخ الإسلام في منهاج السنة (3/ 198)، وقال إنَّها مشهورة. وانظر: سير أعلام النبلاء (15/ 88).
(1/319)
قالوا: وأي مصلحة لإبليس وذريته الكفار (1) في إيجادهم؟ فإن قلتم: عرضهم للثواب، قيل لكم: كيف يعرضهم لأمر قد علم (2) أنَّهم لا يفعلونه وأنَّه (3) لا يقع منهم البتَّة؟
ومن هنا أنكرَ غُلاتُهم العلم القديم، وكفَّرهمِ السلف على ذلك، ومن أقرَّ به منهم فإقراره به يبطل مذهبَه (4) وأصله في وجوب مراعاة الصلاح والأصلح. وهذا معنى قول السلف: ناظِروا القدَريَّةَ بالعلم، فإن جحدوه كفروا، وإن أقرُّوا به خُصِمُوا (5).
قالوا: وأمَّا حديث العوض على الآلام، فالرب تبارك وتعالى قادرٌ على إيصال تلك المنافع بدون توسط الآلام. قالوا: وهذا بخلاف المستأجر، فإنَّ له منفعةً وحاجةً في توسط تعب الأجيرِ واستيفاء منفعته. فأمَّا من يتعالى (6) عن الانتفاع بخلقه، ولا يحتاج إلى أحدٍ منهم البتة، فلا يعقل في حقِّه ذلك.
قالوا: وأمَّا وقوع الآلام على وجه العقوبات، فذلك إنَّما يحسن في الشاهد لحصول التشفي من الجناة (7) وإطفاء نار الغيظِ والغضب بالانتقام منهم، وذلك لحاجة المعاقب إلى العقاب وانتفاعه به؛ وقياس
__________
(1) “الكفار” ساقط من “ب”.
(2) “ك، ط”: “يعلم”.
(3) “أنَّهُ” ساقط من “ط”. وفي “ك”: “ولأنه”، خطأ.
(4) “ك”: “مبطل مذهبه”، “ط”: “مبطل لمذهبه”.
(5) نسبه ابن أبي العزّ في شرح الطحاوية (247) إلى الإمام الشافعي رحمه اللَّه.
(6) “ط”: “تعالى”.
(7) “ف”: “في الحياة”، تحريف.
(1/320)
الغائب على الشاهد في ذلك ممتنع.
قالوا: وأمَّا الإيلام للاعتبار بأن يعتبر الغيرُ بالألم الواقع بغيره، فيكون ذلك أدعى له إلى الإذعان والانقياد؛ فلا ريبَ أنَّ الصبي إذا شاهدَ المعلِّم يضرب غيره على لعبه وتفريطه كان ذلك مصلحةً واعتبارًا له، ولعلَّه أن ينتفع بضرب ذلك الغير أكثرَ من انتفاع المضروب، أو حيث لا ينتفع المضروب. ولكن إنَّما يحسن ذلك إذا كان المضروبُ مستحقًّا للضرب، فأين استحقاق الأطفال والبهائم؟
قالوا: وكذلك تمكينُه تعالى عبادَه أن يؤلم بعضُهم بعضًا ويضرَّ بعضهم (1) بعضًا -مع قدرته على منعِ المؤلِم المضِر- أيُّ مصلحة لمن مُكِّنَ من ذلك وأُقدر عليه؟ وهل كانت مصلحته إلا تعجيزه وأن يحالَ بينه وبين القدرة على الأذى وضرر العباد (2)؟
قالوا: فهذه الشريعةُ التي وضعتموها لربِّ العباد تعالى، وأوجبتم عليه ما أوجبتم، وحرَّمتم عليه ما حرَّمتم، وحجرتم (3) عليه في تصرفه في مُلكه بغير ما أصَّلتم وفرَّعتم بعقولكم وآرائكم، تشبيهًا له وتمثيلًا بخلقه فيما يحسن منهم ويقبح؛ مع أنَّها شريعةٌ باطلة ما أنزل اللَّه بها من سلطان، فإنَّكم لم تطردوها، بل أنتم متناقضون فيها غاية التناقض، خارجون فيها عمَّا يُوجبه كلُّ عقلٍ صحيح وفطرة سليمة. فلا للتشبيه والتمثيل طردتم، ولا بالتعويض قلتم، ولا على حقيقة الحكمة والحمدِ
__________
(1) “ويضر بعضهم بعضًا” ساقط من “ب”.
(2) “ك، ط”: “الأداء وصون العباد” تحريف.
(3) “ك، ط”: “جحدتم”، تصحيف.
(1/321)
وقفتم. بل أثبتم له تعالى نوعَ حكمةٍ لا تقوم به، ولا ترجع إليه، بل هي قائمةٌ بالخلق فقط؛ وقد حتم بها في تمام ملكه. كما أثبتَ له إخوانكم من الجبرية قدرةً مجرَّدةً عن حكمة وحمدٍ وغاية يفعل لأجلها، بل جعلوا حمده وحكمته اقتران أفعاله بما اقترنت به من المصالح عادة، ووقوعَها مطابقةً لمشيئته وعلمه فقط، فقدحوا بذلك في (1) تمام حمده.
وقامَ حزبُ اللَّهِ وحزب رسوله وأنصار الحقِّ بـ “لا إلهَ إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلِّ شيءٍ قدير” حقَّ القيام، ورَعَوا (2) هذه الكلمة (3) حقَّ رعايتها علمًا ومعرفةً وبصيرةً، ولم يُلقُوا بالحرب بين حمده ومُلكه، بل أثبتوا له الملكَ التامَّ الذي لا يخرج عنه شيء من الموجودات أعيانِها وأفعالها، والحمدَ التامَّ الذي وسع كلَّ معلوم، وشمِلَ كلَّ مقدور.
وقالوا: إنَّ له تعالى في كلِّ ما خلقه وشرعه حكمةً بالغةً ونعمةً سابغةً لأجلها خلَقَ وأمرَ، ويستحقُّ أن يُثنى عليه ويُحمد لأجلها، كما يُثنى عليه ويحمد لأسمائه الحسنى ولصفاته العلى (4). فهو المحمود على ذلك كله أتمَّ حمد وأكمله، لما اشتملت عليه صفاتُه من الكمالِ، وأسماؤه من الحسن، وأفعالُه من الحِكَم والغايات المقتضية لحمده، المطابقة لحكمته، الموافقةِ لمحابِّه. فإنَّه سبحانه كامل الذات، كامل
__________
(1) “في” سقط من “ط”، واستدرك في القطرية.
(2) “ك، ط”: “راعوا”.
(3) “الكلمة حق” تحرفت في “ف” إلى “طريق”.
(4) “ط”: “العليا”. “ب”: “وصفاته العلى”.
(1/322)
الأسماء والصفات، لا يصدر عنه إلا كلُّ فعلٍ (1) كريمٍ مطابقٍ للحكمة، موجبٍ للحمد، مرتَّبٍ (2) عليه من محابِّه ما فعل لأجله.
وهذا أمرٌ ذهب عن طائفتي الجبرية والقدرية، وحال بينهم وبينه أصول فاسدة أصَّلوها، وقواعد باطلة أسَّسوها، من تعطيل بعض صفات كماله، كما عطَّل الفريقان حقيقة محبته، وقالوا: إنَّه (3) لا يحِبُّ ولا يُحَبُّ، بل حقيقة محبته (4) عند الجبرية: مشيئته وإرادته؛ ومحبةُ العباد له: إرادتهم لما يخلقه من النعيم في دار الثواب، فالمحبة عندهم إنَّما تعلقت بمخلوقاته لا بذاته. وحقيقة محبته وكراهته عند القدرية: أمره ونهيه؛ ومحبة العباد له: محبتهم لثوابه المنفصل.
وأصَّل الفريقان أنّه لا يقوم (5) بذاته حكمة ولا غاية يفعل لأجلها، ثم اختلفوا، فقالت الجبرية: لا يفعل لغاية ولا لحكمة أصلًا. وتكايست القدريّةُ بعضَ التكايُس فقالت: يفعل لغاية وحكمة لا ترجع (6) إليه، ولا تقوم به، ولا يعود إليه منها وصف.
وأصَّل الفريقان أيضًا أنَّه لا يقوم بذاته فعلٌ البتة، بل فعلُه عينُ (7) مفعوله. فعطَّلو أفعاله القائمة به، وجعلوها نفس المخلوقات المشاهدة
__________
(1) “كل” سقط من “ط”، واستدرك في القطرية.
(2) “ب، ك، ط”: “يترتب”.
(3) “ك”: “إنَّ اللَّه”.
(4) “وقالوا. . ” إلى هنا ساقط من “ط”.
(5) “ط”: “لا تقوم”.
(6) “ف”: “لا ترفع”، تحريف.
(7) “ب”: “غير” تحريف.
(1/323)
التي لا تقوم به. فلم يقم به عندهم فعلٌ البتة.
كما عطَّل غلاةُ الجهمية صفاتِه فلم يثبتوا له صفةً تقوم به، وإن تناقضوا. وكما عطَّلت “السينائية” أتباعُ ابن سينا ذاتَه فلم يُثبتوا له ذاتًا زائدة على وجودٍ مجرَّدٍ لا يقارِنُ (1) ماهيةً ولا حقيقةً.
وأصَّلت الجبرية أنَّه تعالى لا ينزّه عن فعل مقدور يكون قبيحًا بالنسبة إليه، بل كل مقدور فهو جائزٌ عليه؟ وإن عُلِمَ عدمُ فعله فبالسمع، وإلا فالعقل يقضي بجوازه عليه. فلا ينزه عن ممكن مقدور إلا ما دلَّ عليه السمعُ (2)، فيكون تنزيهه عنه، لا لقبحه في نفسه، بل لأنَّ وقوعه يتضمن الخلفَ في خبره وخبر رسوله، ووقوع الأمر على خلاف علمه ومشيئته، فهذا (3) حقيقة التنزيه عند القوم.
وأصّلت القدرية أنَّ ما يحسن من عباده يحسن منه، وما يقبح منهم يقبح منه؛ مع تناقضهم في ذلك غاية التناقض.
فاقتضت هذه (4) الأصول الفاسدة والقواعد الباطلة فروعًا ولوازمَ كثيرٌ (5) منها مخالفٌ لصريح العقل ولسليم الفِطَر (6)، كما هو مخالف لما أخبرت به الرسلُ عن اللَّه؛ فجعل أرباب هذه القواعد والأصول قواعدهم وأصولهم محكمة، وما جاءَ به الرسول متشابهًا!
__________
(1) “ب “: “لا تقارن”.
(2) “ك، ط”: “بالسمع”.
(3) “ف”: “وهذا”، قراءة مرجوحة.
(4) “ف”: “تلك”.
(5) “ط”: “كثيرة”، خطأ.
(6) “ط”: “الفطرة”.
(1/324)
ثمَّ أصَّلوا أصلًا في ردِّ هذا المتشابه إلى المحكم، وقالوا: الواجبُ فيما خالف هذه القواطع العقلية -بزعمهم- من الظواهر الشرعية أحدُ أمرين: إمَّا تخريجها (1) على ما يعلم العقلاءُ أنَّ المتكلم لم يُرِدْه بكلامه من المجازات البعيدة، والألغاز المعقَّدة، ووحشي اللغات (2)، والمعاني المهجورة التي لا يُعرَف أحد من العرب عبَّرَ عنها بهذه العبارة، ولا تحتملها لغة القوم البتة، وإنَّما هي محامل أنشأوها هم، ثمَّ قالوا: نحمل (3) اللفظ عليها! فأنشأوا مَحاملَ من تلقاءِ أنفسهم وحكموا على اللَّه ورسوله (4) بإرادتها بكلامه، فأنشأوا منكرًا وقالوا زورًا.
فإذا ضاقَ عليهم المجالُ، وغلبتهم النصوصُ، وبهرتهم شواهدُ الحقيقة من اطِّرادهِا، وعدم فهمِ العقلاءِ سواها، ومجيئها على طريقة واحدة، وتنوع الألفاظ الدالّةَ على الحقيقة، واحتفافِها بقرائن من السياق والتأكيد وغير ذلك، يقطع (5) كل سامع بأنَّ المراد حقيقتُها وما دلَّتْ عليه = قالوا: الواجب ردُّها، وأن لا يُشتغَل (6) بها!
وإن أحسنوا العبارةَ والظن قالوا: الواجب تفويضها، وأن نكِلَ علمَها إلى اللَّه من غير أن يحصل لنا بها هدًى أو علم أو معرفة باللَّه وأسمائه
__________
(1) “ك”: “نخرجها”. “ط”: “يخرجها”.
(2) في “ب”: “واللغات”، وبعدها بياض بقدر كلمة.
(3) “ب”: “يحمل”.
(4) “ط”: “أو رسله”، وفي القطرية: “أو رسوله”.
(5) “ط”: “مما يقطع”.
(6) “ب “: “نشتغل”.
(1/325)
وصفاته، أو ننتفع (1) بها في باب واحد من أبواب الإيمان باللَّه وما يُوصَف به وما يُنزَّه عنه، بل نُجري ألفاظَها على ألسنتا، ولا نعتقد حقيقتها، لمخالفتها للقواطع العقلية!
فسمَّوا أصولهم الفاسدة وشُبَههم الباطلة التي هي كبيت العنكبوت، وكما قال فيها القائل (2):
شُبَهٌ تَهَافَتُ كالزجاج تَخالُها … حقًّا وكلٌّ كاسِرٌ مكسورُ (3)
= “قواطع عقلية”، مع اختلافهم فيها، وتناقضهم فيها، ومناقضتها لصريح المعقول وصحيح المنقول. وسمَّوا (4) كلام اللَّه ورسوله “ظواهر سمعية”
__________
(1) “ب “: “ينتفع”.
(2) “ك”: “القائل شعر”. “ط”: “القائل شعرًا”.
(3) تمثّل به المصنف في الصواعق (1277)، وقبله تمثل به شيخ الإسلام في درء التعارض (7: 314)، وبيان تلبيس الجهمية (2: 253)، وقال في مجموع الفتاوى (4: 28): “أنشده الخطّابي”. وتمثل به السمعاني في الأنساب (3/ 388) بلفظ “حجج تكاسَر”. وقد ضمّن المصنّف معظم البيت في قوله في النونية:
شُبَه تهافت كالزجاج تخالها … حقًا، وقد سقطت على صفوانِ
ونظم المعنى في بيت آخر:
شُبَهٌ يكسِّر بعضُها بعضًا كَبَيْـ … ـيْتٍ من زُجاجٍ خرَّ للأركانِ
انظر: الكافية الشافية (833، 846). ولم أعرف قائل البيت، غير أنّ ابن الرومي له أبيات في المعنى مشهورة:
لِذوي الجدال إذا غدوا لجدالهم … حُجَجٌ تضِل عن الهدى وتجورُ
وهنّ كآنية الزجاج تصادمتْ … فهوَتْ وكلٌّ كاسرٌ مكسورُ
فالقاتلُ المقتولُ ثَمّ لِضَعفِه … ولِوَهيِه والآسرُ المأسورُ
انظر: ديوانه (3/ 1139).
(4) “ط”: “فسمّوا”.
(1/326)
إزالةً لحرمته من القلوب، ومنعًا للتعلق به والتمسك بحقيقته في باب الإيمان والمعرفة باللَّه وأسمائه وصفاته. فعبَّروا عن كلامهم بأنَّه “قواطع عقلية”، فيظن الجاهل بحقيقته أنَّه إذا خالفه فقد خالف صريحَ المعقول، وخرجَ عن حدِّ العقلاءِ، وخالفَ القاطع (1)! وعبَّروا عن كلام اللَّه ورسوله بأنَّه “ظواهر”، فلا جناح على من صرفه عن ظاهره، وكذَّب بحقيقته، واعتقدَ بطلان الحقيقة؛ بل هذا عندهم هو الواجب!
وقد أشهد اللَّه سبحانه عباده الذين أوتوا العلم والإيمان أنَّ الأمر بعكس ما قالوه، وأنَّ كلامه وكلام رسوله هو الشفاء والعصمة والنور الهادي والعلم المطابق لمعلومه (2)، وأنَّه هو المشتمل على القواطع العقلية السمعية والبراهين اليقينية، وأنَّ كلامَ هؤلاء المتهوّكين الحيارى المتضمّن لخلافِ (3) ما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله هو الشبهات الفاسدة والخيالات الباطلة، وأنَّه كالسراب الذي يحسَبه الظمآنُ ماءً حتَّى إذا جاءَه لم يجده شيئًا، ووجد اللَّه عنده فوفَّاهُ حسابَه واللَّه سريع الحساب (4).
وهؤلاء هم أهلِ العلم حقًّا الذين شهد اللَّه سبحانه لهم به فقال تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)} [سبأ/ 6] (5).
__________
(1) في حاشية “ب”: “خ القواطع”.
(2) “ط”: “لعلومه”.
(3) “ط”: “خلاف”.
(4) ضمّن المؤلف هنا جزءا من الآية (39) من سورة النور.
(5) وقع سهو في نقل الآية في الأصل، فسقط “هو” ثم جاء “ويهدي إلى صراط =
(1/327)
ومَن سواهم (1) من الصم والبُكم الذين قال اللَّه فيهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)} [الملك/ 10]، وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)} [الرعد/ 19].
وكان ما شهدوه من ذلك بالعقل والفطرة، لا بمجرد الخبر؛ بل جاءَ إخبارُ الربِّ تعالى وإخبار رسوله مطابقًا لما في فطرهم السليمة وعقولهم المستقيمة. فتظافرَ (2) على إيمانهم به الشريعةُ المنزَّلة، والفطرة المكمَّلة، والعقل الصريح. فكانوا هم العقلاء حقًّا، وعقولهم هي المعيار، فمن خالفها فقد خالفَ صريحَ المعقول والقواطعَ العقلية.
ومن أراد معرفةَ صحّة (3) هذا فليقرأْ كتاب شيخنا وهو “بيان موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح (4) “، فإنّه كتاب لم يطرق العالمَ له نظيرٌ في بابه، فإنّه هدم فيه قواعدَ أهل الباطل من أُسِّها، فخرّت عليهم سقوفه من فوقهم؛ وشيّد فيه قواعدَ أهل السنّة والحديث، وأحكمها، ورفع أعلامها، وقرّرها بمجامع الطرق التي تقرّر (5) بها الحق من العقل والنقل والفطرة والاعتبار. فجاءَ كتابًا لا يستغني مَن نصح نفسَه من أهل العلم
__________
= مستقيم”، وقد صحح الخطأ في الحاشية بخط مجوّد.
(1) “ط”: “سواه”. “ب”: “ما سواه”.
(2) “ط”: “فتضافر”.
(3) “ك، ط”: “معرفة هذا”. “ب”: “أراد صحة هذا”.
(4) وهو الكتاب المطبوع بعنوان “درء تعارض العقل والنقل”.
(5) “ف”: “يقرر”، والأصل غير منقوط.
(1/328)
عنه (1)، فجزاه اللَّه عن أهل العلم والإيمان أفضل الجزاءِ، وجزى العلم والإيمان عنه كذلك.
فصل
عدنا إلى تمام الكلام في كيفية دخول الشرّ في القضاءِ الإلهي، وبيان طرق الناس في ذلك، واختلافهم في إيلام الأطفال والبهائم.
وقالت “البكريّة” وهم أتباع بكر ابن أخت عبد الواحد بن زيد البصري (2): إنّ البهائم والأطفال لا تألمُ البتّة. والذي حملهم على هذا موجَب التعليل والحكمة، ولم يرتضوا ما قالت الجبريّة من نفي ذلك، ولا ما قالت المعتزلة من حديث الأعواض وما فزعوه عليه، ولم يمكنهم القول بمذهب “التناسخية” القائلين بأنّ الأرواح الفاجرة الظالمة تُودَع في الحيوانات التي تناسبها، فينالها من ألم الضرب والعذاب بحسبها، ولا بمذاهب “المجوس” من إسناد الشرّ والخير إلى إلهين مستقلّين كلّ منهما يذهب (3) بخلقه، ولا بقول من يقول: إنّ البهائم مكلَّفة مأْمورة
__________
(1) في “ط” وضع “عنه” بعد الفعل “لا يستغني”.
(2) “ب”: “ابن أخت زيد البصري” وفيه سقط. انظر ترجمته في لسان الميزان (2/ 60). وخاله عبد الواحد المتوفى سنة 177 هـ زاهدٌ مشهور، متروك الحديث. العبر (1/ 27)، لسان الميزان (4/ 80). وقول بكر في الأطفال ذكره الأشعري في المقالات (286)، وابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (96)، ونسبه ابن حزم إلى عبد اللَّه بن عيسى تلميذ بكر. انظر: الفصل (3/ 110).
(3) “ب”: “يذهب كل منها”.
(1/329)
منهيّة مُثابة مُعاقبة، وإنّ (1) في كلّ أمّة منها رسول ونبيّ (2) منها، وهذه الآلام والعقوبات الدنياوية جزاءٌ على مخالفتها لرسولها ونبيّها = فلم يجدوا بدًّا من التزام ما ذهبوا إليه من إنكار وقوع الآلام بها ووصولها إليها.
وقد ردَّ عليهم الناس بأنّهم كابروا الحسَّ، وجحدوا الضرورة، وأنّ العلم بخلاف ما ذهبوا إليه ضروريّ. وقال من أنصف القوم: لا سبيل إلى نسبة هؤلاءِ إلى جحد الضرورة مع كثرتهم، ولكنّهم ربمّا رأوا أن الطفل والبهيمة لا تدرك الآلام حسبما يدركها العقلاءُ. فإنّ العاقل إذا أدرك تألُمَ جوارحِه وأحسَّ به تألّمَ قلبُه، وطال حزنه، وكثر همُّ روحه وغمُّها، واشتدت فكرتُه في ذلك وفي الأسباب الجالبة له والأسباب الدافعة له؛ وهذه الآلام زائدة على مجرّد ألم (3) الطبيعة، ولا ريب أنّ البهائم والأطفال لا تحصل لها تلك الآلام كما تحصل (4) للعاقل الممّيز. فإن أراد القوم هذا فهم مصيبون، وإن أرادوا أنّه (5) لا شعور لها بالآلام (6) البتة وأنَّها لا تحس بها فمكابرة ظاهرة، فإنَّ الواحد منَّا يعلم باضطرار أنَّه كان يتألَّم في طفوليته (7) بمسِّ النار له، وبالضرب، وغير ذلك.
__________
(1) “ط”: “أنَّه”.
(2) كذا بالرفع في الأصل على حذف اسم إنّ. وكذا في “ف، ك، ط”. وفي “ب”: “رسولًا ونبيًّا”.
(3) “ألم” ساقط من “ب”.
(4) “ط”: “يحصل”، وكذا في “ب، ك” هنا وقبل.
(5) “ط”: “أنها”.
(6) “ب”: “أنَّه لا يتصور لها الآلام”، تحريف.
(7) “ب”: “كان سالمًا في طفوليته من النار بمس”، تحريف.
(1/330)
وقالت طائفة: كلُّ ما يتألم به الطفل والبهيمة ليس من قِبَل اللَّه سبحانه، ولا فعَل اللَّهُ فيه الألم، لما ثبت من حكمته. وهذا يشبه (1) قولهم في أفعال الحيوان أنَّها ليست من خلقِ اللَّه، ولا كانت بمشيئته. لكن هذا أشد فسادًا من ذلك، فإنَّ هذه الآلام حوادث لا تتعلَّق باختيار من قامت به ولا بإرادته، فلا بُدَّ لها من مُحدِث، إذ وجودُ حادثٍ بلا محدث محالٌ، واللَّه سبحانه خالقها بأسبابها المفضية إليها، فخالق السبَب خالق للمسيَّب. فإن أرادَ هؤلاء نفيَ فعلها عن اللَّه مباشرةً من غيرِ توسط سبب (2) أصلًا فهذا قد يكون حقًّا، وإن أرادوا أنَّها غير منسوبة إلى قدرته ومشيئته البتَّة فباطل.
وذهبت طائفة إلى أنَّ في كلِّ نوعٍ من أنواع الحيوانات أنبياء ورسل (3)، وأنَّها مستحقة للثوابِ والعقاب، وأنَّ ما ينزل بها من الآلام فجزاءٌ لها وعقوبات على معاصيها ومخالفتها. واحتجوا بقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام/ 38]، وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)} [فاطر/ 24].
وقالت طائفة من التناسخية: إنَّ اللَّه تعالى خلق خلقَه كلَّهم جملةً واحدةً بصفة واحدة، ثمَّ أمرهم ونهاهم، فمن عصى منهم نسخ روحه في جسد بهيمة تُبتلى بالذبح والقتل كالدجاج والغنم والإبل والبقر والبراغيث والقمل، فما يُسلَّط (4) على هذه البهائم من الآلام فهو
__________
(1) “ك”: “شبه”.
(2) “ك، ط”: “بسبب”.
(3) كذا في الأصل و”ف”، وله وجه كما سبق آنفًا. وفي غيرهما: “رسلًا”.
(4) “ب، ك، ط”: “سلط”.
(1/331)
للأرواح الآدميَّة التي أودعتْ هذه الأجسادَ. فمن كان منهم زانيًا أو زانيةً كوفئ بأن جُعِل في بدن حيوان لا يمكنه (1) الجماع كالبغال، ومن كان منهم عفيفًا عن الزنا مع ظلمه وغشمه (2) كوفئ بأن جعل في بدن تيس أو عصفور أو ديك، ومن كان منهم جبَّارًا عنيدًا كوفئ بأن جعل في بدن قملة أو قُرادة (3) ونحوهما، إلى أن يُقتصَّ منهم ثم يُردّون، فمن عصى منهم بعد كرَّته (4) كُرِّر أيضًا عليه ذلك التناسخ هكذا أبدًا حتى يطيع طاعةً لا معصية بعدها أبدًا، فينتقل إلى الجنَّة من وقته؛ أو يعصي معصيةً لا طاعة معها، فينتقل إلى جهنَّم من وقته (5). وقد ذهب إلى هذا المذهب من المنتسبين إلى الإسلام رجلٌ يقال له أحمد بن حابط (6) طردًا لأصول (7) القدرية وشريعتهم التي شرعوها للَّه، فأوجبوا بها عليه وحرّموا.
وذهب المجوس إلى أنَّ هذه الآلام والشرور من الإله الشرِّير المظلم، فلا تضاف إلى الإله الخير العادل، ولا تدخل تحت قدرته. ولهذا كان أشبهَ أهلِ البدع بهم القدريةُ النفاة.
وقالت الزنادقة والدهرية: كل ذلك من تصرف الطبيعة وفعلها،
__________
(1) “ط”: “ما يمكنه”.
(2) “ف”: “طلبه وتجشمه”.
(3) “ط”: “جرادة”.
(4) “ب”: “كونه”. “ك”: “كذبه”. “ط”: “ردّه”، تحريفات.
(5) “أو يعصي. . . ” إلى هنا سقط من “ط”.
(6) معتزلي، من أصحاب النظام، وطائفته تسمى الحابطية. انظر: لسان الميزان (1/ 148)، الملل والنحل (63).
(7) “ط”: “طرد أصول”.
(1/332)
وليس لذلك فاعل مختار مدبّر بمشيئته وقدرته، ولا بدَّ في النار من إحراق ونفع، وفي الماءِ من إغراق ونفع، وليس وراء ذلك شيء.
فهذه مذاهب أهل الأرض في هذا المقام.
ولمَّا انتهى أبو عيسى الورَّاق (1) إلى حيث انتهتْ إليه أربابُ المقالات، طاش (2) عقله، ولم يتسع لحكمة إيلام الحيوان وذبحه، صنَّف (3) كتابًا سمَّاه “النوح على البهائم” (4)، فأقام عليها المآتم وناح، وباخ بالزندقة الصُّراح.
وممن كان على هذا (5) المذهب أعمى البصر والبصيرة كلبُ معرّةِ النُّعمان المكنيّ بأبي العلاء المعزي، فإنَّه امتنع من أكل الحيوان، زعمَ لظلمه بالإيلام والذبح (6).
وأمَّا ابن خطيب الرَّي (7) فإنَّه سلك في ذلك طريقة مركبةً من طريقة المتكلمين وطريقة الفلاسفة المشّائين، وهذَّبها ونقَّحها، واعترف في
__________
(1) اسمه محمد بن هارون، كان معتزليًّا ثمَّ خلَّط وانتهى به التخليط إلى أن صار يرمى بمذهب الثنوية، وعنه أخذ ابن الراوندي. توفي ببغداد سنة 247 هـ. الفهرست (216)، مروج الذهب (4/ 105)، لسان الميزان (5/ 412).
(2) “ط”: “فطاش”.
(3) في “ب”: “فصنّف”، ولعله إصلاح، كما أصلح في “ط” بإدخال الفاء على “طاش”.
(4) ذكره ابن النديم بعنوان “الغريب المشرقي في النوح على البهائم”.
(5) “هذا” سقط من “ط”، واستدرك في القطرية.
(6) انظر فصل “القول الفصل في القضية” في كتاب “أبو العلاء وما إليه” للأستاذ عبد العزيز الميمني رحمه اللَّه.
(7) هو الفخر الرازي.
(1/333)
آخرها بأنَّه لا سبيل إلى الخلاص عن المطالبات (1) التي أوردها على نفسه إلا بالتزام أنَّه تعالى موجِب بالذات، لا فاعل بالقصد والاختيار! فأقرَّ على نفسه بالعجز عن أجوبة تلك المطالبات إلا بإنكار قدرة اللَّه ومشيئته وفعله الاختياري، وذلك بجحد ربوبيته. ونحن نذكر كلامه بألفاظه. قال في مباحثه المشرقية:
“الفصل السَّادس في كيفية دخول الشر في القضاء الإلهي. وقبل الخوض فيه لا بدَّ من تقديم مقدمتين:
المقدمة الأولى: الأمور التي يُقال لها (2) إنَّها شر إمَّا أن تكون أمورًا عدمية، أو أمورًا وجودية. فإن كانت أمورًا عدمية فهي على أقسام ثلاثة، لأنَّها إمَّا أن تكون عدمًا لأمور ضرورية للشيء في وجوده مثل عدم الحياة، وإمَّا أن تكون عدمًا لأمور نافعة قريبة من الضرورة كالعمى (3)، وإمَّا أن (4) لا تكون كذلك كعدم العلم بالفلسفة والهندسة. وأمَّا الأمور الوجودية التي يُقال إنَّها شرور فهي (5) كالحرارة المفرّقة لاتصال العضو.
واعلم أنَّ الشرَّ بالذات هو عدم ضروريات الشيء وعدم منافعه مثل عدم الحياة وعدم البصر، فإن الموت والعمى لا حقيقة لهما إلا أنَّهما عدم الحياة وعدم البصر، وهما من حيث هما كذلك
__________
(1) “ك”: “عن التي”. “ط”: “من الشبه التي”.
(2) “لها” ساقط من “ك، ط”.
(3) “ك، ط”: “كالأعمى”، تحريف.
(4) “إمَّا” ساقط من “ك”، وفي “ط”: “أوأن”.
(5) “ف”: “يقال لها شرور وهي”، أخطأ في القراءة.
(1/334)
شر (1)، فإذن ليس لهما أعتبار آخر بحسبه يكونان شرين.
وأمَّا عدم الفضائل المستغنى عنها -مثل عدم العلم بالفلسفة- فظاهر أنَّ ذلك ليس بشر. وأمَّا الأمور الوجودية فإنَّها ليست شرورًا بالذات بل بالعرض، من حيث إنَّها تتضمن عدم أمور ضرورية أو نافعة، ويدل عليه أنَّا لا نجد شيئًا من الأفعال التي يُقال لها شرّ إلا وهو كمال (2) بالنسبة إلى الفاعل، وأمَّا شريته فبالقياس إلى شيء آخر.
فالظلم مثلًا يصدر عن قوَّة طلَّابة (3) للغلبة وهي القوة الغضبية، والغلبة هي كمالها وفائدة خلقتها. فهذا الفعل بالقياس إليها خير، لأنَّها إن ضعفت عنه فهو بالقياس إليها شر، وإنَّما كان شرًّا للمظلوم لفوات المال وغيره عنه. والنَّفس الناطقة (4) كمالها الاستيلاء على هذه القوَّة، فعند قهر (5) القوة الغضبية يفوت النفسَ ذلك الاستيلاء، فلا جرم (6) كان شرًّا لها. وكذلك النَّار إذا أحرقت فإنَّ الإحراق كمالها، ولكنَّه (7) شر بالنسبة إلى من زالت سلامته بسببها. وكذلك القتل وهو استعمال الآلة القطَّاعة في قطع رقبة إنسان، فإنَّ كون الإنسان قويًّا على استعمال الآلة ليس شرًّا له بل خير (8)، وكذلك كون الآلة قطَّاعةً هو خير لها، وكذلك
__________
(1) كذا في الأصل وغيره، وفي المباحث المشرقية: “شرّان”، كما جاء فيما بعد.
(2) “ب، ك، ط”: “وهو كما قال”، تحريف.
(3) “ك، ط”: “ظلَّامة”، تحريف.
(4) “ف”: “الباطنة”، تحريف.
(5) في المباحث: “فوات”، وهو الصواب.
(6) “ك، ط”: “ولا جرم”.
(7) “ك، ط”: “ولكنها”.
(8) في الأصل وغيره: “خيرًا” ولعله سهو. والمثبت من المباحث و”ط”.
(1/335)
كون الرقبة قابلة للانقطاع، كل ذلك خيرات، ولكنَّ القتل شرٌّ من حيث إنَّه متضمن لزوال الحياة. فثبت بما ذكرنا أنَّ الأمور الوجودية ليست شرورًا (1) بالذَّات بل بالعرض (2).
المقدمة الثانية (3): أنَّ الأشياء إمَّا أن تكون مادية، أو لا تكون. فإن لم تكن مادية لم يكن فيها ما بالقوَّة، فلا يكون فيها شر أصلًا. وإن كانت مادية كانت في معرض الشر، وعروض الشر لها إمَّا أن يكون في ابتداء تكونها أو بعد تكونها.
أمَّا الأوَّل فهو (4) أن تكون المادة التي يتكون منه إنسان أو فرس (5) يعرض لها من الأسباب ما يجعلها رديئة المزاج رديئة الشكل والخلقة. فرداءة مزاج ذلك الشخص ورداءة خلقه ليس لأنَّ الفاعل حرَمَ بل لأنَّ المنفعل (6) لم يقبل.
وأمَّا الثاني وهو أن يعرض الشر للشيء بطروء (7) طارئ عليه بعد تكونه، فذلك (8) الطارئ إما شيء يمنع المكمل من الإكمال مثل تراكم
__________
(1) “ب، ك، ط”: “شرًّا”.
(2) زاد في “ك، ط”: “واللَّه أعلم”.
(3) من هنا إلى آخر كلام الرازي مكتوب في الأصل بخط مغاير ضعيف.
(4) “ب، ك، ط”: “فهو إما”.
(5) “ك، ط”: “تتكون إنسانا أو فرسًا”.
(6) “ب، ك، ط”: “المنفعل له”، وكذا في المباحث.
(7) في الأصل: “يعرض الشيء للشيء وطروء” وكذا في غيره، وهو تحريف. والصواب ما أثبتنا من المباحث. وفي “ط”: “يعرض الشر” فصحح التحريف الأوَّل.
(8) في الأصل و”ف”: “فكذلك”، تحريف.
(1/336)
السحب وإظلال الجبال الشاهقات إذا صارَ مانعًا من تأثير الشمس في النبات، وإمَّا شيء مفسد مضاد (1) مثل البرد الذي يصل الى النبات فيفسد بسبب ذلك استعداده للنشوء والنمو.
وإذا عرفت ذلك فنقول: قد بيّنَّا أنَّ الشرَّ بالحقيقة إمَّا عدم ضروريات الشيء، وإمَّا عدم منافعه. فنقول: الموجود إمَّا أن يكون خيرًا من كل الوجوه، أو شرًّا من كل الوجوه، أو خيرًا من وجه وشرًّا من وجه. وهذا على ثلاثة أقسام (2): فإنَّه إمَّا أن يكون خيره غالبًا على شرِّه، أو يكون شرُّه غالبًا على خيره، أو يتساويا (3) خيره وشره، فهذه أقسامٌ خمسة.
أمَّا الذي يكون خيرًا من كلِّ الوجوه فهو موجود، وأمَّا الذي (4) يكون كذلك لذاته فهو اللَّه تبارك وتعالى. وأمَّا الذي يكون (5) لغيره فهو العقول والأفلاك، لأنَّ هذه الأمور ما فاتها شيء من ضروريات ذاتها ولا من كمالاتها.
وأمَّا (6) الذي كله شر أو الغالب فيه أوالمساوي فهو غير موجود، لأنَّ كلامنا في الشر (7) بمعنى عدم الضروريات والمنافع، لا بمعنى عدم
__________
(1) “ف، ب، ك”: “يفسد وصار”، ويشبهه رسم الأصل، وهو تحريف صوابه ما أثبتنا من المباحث.
(2) “ك، ط”: “تقدير أقسام”، تحريف.
(3) كذا في الأصل و”ف”. وفي “ب، ك”: “متساويًا”. وفي المباحث: “يتساوى”.
(4) “ط”: “وهو موجود أي الذي”، تحريف.
(5) زاد في “ط” هنا بين حاصرتين: “خيره”.
(6) “أمَّا” ساقطة من “ط”.
(7) في الأصل وغيره: “الشيء”، تحريف صوابه ما أثبتنا من المباحث.
(1/337)
الكمال الزائد. وإذا عنينا بالشر ذلك (1) فلا شكَّ أنَّ ذلك مغلوب والخير غالب. لأنَّ الأمراض وإن كثرت إلا أنَّ الصحة أكثر منها، والحرق (2) والغرق والخسف وإن كانت قد تكثر إلا أنَّ السلامة أكثر منها.
فأمَّا الذي يكون خيره غالبًا (3) على شرِّه، فالأولى فيه أن يكون موجودًا لوجهين:
الأوَّل: أنَّه إن لم يوجد فلا بدَّ وأن يفوت الخير الغالب، وفوت الخير الغالب شر غالب، فإذن في عدمه يكون الشر أغلب من الخير، وفي وجوده يكون الخير أغلب من الشر، ويكون (4) وجود هذا القسم أولى. مثاله: النار في وجودها منافع كثيرة، وأيضًا مفاسد كثيرة مثل إحراق الحيوانات، ولكنَّا إذا قابلنا منافعها (5) بمفاسدها كانت مصالحها أكثر بكثير من مفاسدها، ولو لم توجد لفاتت تلك المصالح، فكانت (6) مفاسد عدمها أكثر من مصالحه (7)، فلا جرم وجب إيجادها وخلقها.
الثاني -وهو الذي يكون خيره ممزوجًا بالشر- ليس إلا الأمور التي تحت كرة القمر، ولا شك أنَّها معلولات العلل العالية (8)، فلو لم يوجد
__________
(1) “وإذا عنينا بالشر ذلك” ساقط من “ط”.
(2) “ك، ط”: “فالحرق”.
(3) في الأصل: “غالب”، والمثبت من “ف” وغيرها.
(4) في المباحث: “فيكون”، وهو مقتضى السياق.
(5) المباحث: “مصالحها”.
(6) “ك، ط”: “وكانت”.
(7) “ط”: “مصالحها”.
(8) “ف، ب”: “الغالية”، تصحيف.
(1/338)
هذا القسم لكان يلزم من عدمها (1) عدم عللها الموجبة لها، وهي خيرات محضة، فيلزم من عدمها عدم الخيرات المحضة، وذلك شر محض، فإذن لا بدَّ من وجود هذا القسم.
فإن قيل (2): فَلِمَ لم يخلق الخالق هذه الأشياء عريَّة عن (3) كلِّ الشرور؟ فنقول: لأنَّه لو جعلها كذلك لكان هذا هو القسم الأوَّل، وذلك مما قد فرغ منه.
وبقيَ في العقل قسم آخر وهو الذي يكون خيره غالبًا على شرِّه. وقد بينَّا أنَّ الأولى بهذا القسم أن يكون موجودًا”.
قال: “وهذا الجواب لا يعجبني لأنَّ لقائل أن يقول: إنَّ جميع هذه الخيرات والشرور إنَّما توجد باختيار اللَّه تعالى وإرادته، مثلًا الاحتراق (4) الحاصل عقيب النار ليس موجَبًا عن (5) النار، بل اللَّه تعالى اختار خلقه عقيب مماسَّة النار، وإذا كان حصول الاحتراق عقيبَ مماسة النار (6) باختيار اللَّه وإرادته فكان (7) يمكنه أن يختار خلقَ الإحراق عندما يكون خيرًا ولا يختار خلقه عندما يكون شرًّا. ولا خلاص عن هذه المطالبة إلا ببيان كونه سبحانه وتعالى فاعلًا بالذات، لا بالقصد
__________
(1) “عدمها” سقط من “ط”، فاستدرك في القطرية.
(2) نقل المؤلِّف كلام الرَّازي من هنا إلى آخره في شفاء العليل (290) أيضًا وعقب عليه.
(3) “ف”: “من” خلاف الأصل.
(4) “ب”: “الإحراق”.
(5) “ك، ط”: “من”.
(6) “وإذا كان. . ” إلى هنا ساقط من “ب”.
(7) “ف، ب”: ” وكان”.
(1/339)
والاختيار. ويرجع حاصل (1) الكلام في هذه المسألة إلى مسألة القدم والحدوث”.
قلتُ: لمَّا لم يكن عند الرَّازي إلا مذهبُ الفلاسفة المشائين القائلين بالموجِب بالذات، أومذهب القدرية المعتزلة (2) القائلين بوجوب رعاية الصلاح أو الأصلح، أو مذهبُ الجبرية نفاة الأسباب والعلل والحِكَم؛ وكان الحقُّ عنده مترددًا بين هذه المذاهب الثلاثة، فتارةً يرجح مذهبَ المتكلمين، وتارةً مذهب المشائين، وتارةً يلقي الحرب بين الطائفتين ويقف في النظارة، وتارةً يتردد بين (3) الطائفتين؛ وانتهى إلى هذا المضيق ورأى أنَّه لا خلاص له منه إلا بالتزام طريقِ الجبرية -وهي غير مرضية (4) عنده، وإن كان في كتبه الكلامية يعتمد عليها ويرجع في مباحثه إليها- أو طريقِ (5) المعتزلة القائلين برعاية الصلاح وهي متناقضة غير مطردة = لم يجد بدًّا من تحيزه إلى أعداءِ الملَّة القائلين بأنَّ اللَّه لا قدرة له ولا مشيئة ولا اختيار ولا فعل يقوم به، ومعلومٌ أنَّ هذه المذاهب بأسرها باطلة متناقضة، وإن كان بعضها أبطل من بعض. وإنَّما ألجأه إلى التزام القول بإنكار الفاعل المختار في هذا المقام تسليمُه لهم الأصول الفاسدة والقواعد الباطلة التي قادت إلى التزام بعض أنواع الباطل.
__________
(1) “حاصل” ساقط من “ط”.
(2) “القائلين بالموجب. . . ” إلى هنا ساقط من “ط”.
(3) “هذه المذاهب .. . . ” إلى هنا ساقط من “ب”.
(4) “ب”: “وهي مرضية”، خطأ.
(5) “ك، ط”: “وطريق”.
(1/340)
ولو أعطى الدليل حقَّه، وضم ما مع كل طائفة من الحق إلى حق الطائفة الأخرى، وتحيز إلى ما جاءت به الرسل، على علم وبصيرةٍ، وتقريرٍ (1) لما جاؤوا به بجميع طرق الحق، لخلص (2) من تلك المطالبات مع إقراره بأنَّ ربَّ العالمين فعَّال لما يريد، يفعل بمشيئته وقدرته وحكمته (3)، وأنَّ له المشيئة النَّافذة والحكمة البالغة، وأنَّ تقدير تجريد النَّار عمَّا خُلِقَت عليه من الإحراق، والماءِ عمَّا خلق عليه، والرياح والنفوس البشرية عمَّا هُيِّئت له وخلقت عليه = منافٍ (4) للحكمة المطلوبة المحبوبة للرب سبحانه؛ وأنَّ هذا تقدير لِعَالمٍ آخر غير هذا العالم، وتعطيلٌ للأسباب التي نَصَبَهَا (5) اللَّه مقتضياتٍ لمسبَّباتها، وأنَّ
تلك الأسباب مظهر حكمته وحمده، وموضع تصرفه بخلقه (6) وأمره. فتقديرُ تعطيلها تعطيلٌ للخلق والأمر، وهو أشدُّ منافاةً للحكمة وإبطالًا لها؛ واقتضاءُ هذه الأسباب لمسبباتها كاقتضاء الغايات لأسبابها، فتعطيلُها عنها (7) قدحٌ في الحكمة، وتفويتٌ لمصلحة العالم التي عليها نظامه وبها قوامه.
ولكن الرب سبحانه قد يخرق العائدة (8)، ويعطِّلها عن مقتضياتها
__________
(1) “ط”: “وهو تقرير”، خطأ.
(2) “ك”: “تخلص”، “ط”: “التخلص”.
(3) “ف”: “كلمته”، تحريف.
(4) “ف”: “سان” كذا دون نقط، فإنَّه لم يتمكن من قراءة الأصل.
(5) “سبحانه، وأنَّ هذا. . ” إلى هنا سقط من “ط”، فاستدرك في القطرية، ولكن بقي في هذه سقط،. وهو: “غير هذا العالم”.
(6) “ك، ط”: “لخلقه”.
(7) “ك، ط”: “منها”.
(8) أي العادة كما في “ب، ط”.
(1/341)
أحيانًا إذا كان فيه مصلحة راجحة على مفسدة فوات تلك المسببات، كما عطَّل النار التي أُلقيَ فيها إبراهيم وجعلها عليه بردًا وسلامًا عن الإحراق لما في ذلك من المصالح (1) العظيمة. وكذلك تعطيلُ الماءِ عن إغراق موسى وقومه وعمَّا خُلِقَ عليه من الإسالة والتقاءِ أجزائه بعضها ببعض = هو لما فيه من المصالح العظيمة والآيات الباهرة والحكمة التَّامة التي ظهرت في الوجود، وترتَّب عليها من مصالح الدنيا والآخرة ما ترتب.
وهكذا -سبحانه- سائر أفعاله (2)، مع أنَّه شهد (3) عبادُه بذلك أنَّه هم (4) مسبِّب الأسباب، وأنَّ الأسباب خَلقُه وملكه (5)، وأنَّه يملك تعطيلها عن مقتضياتها وآثارها، وأنَّ جعلها (6) كذلك لم يكن من ذاتها وأنفسها، بل هو الذي جعلها كذلك، وأودعَ فيها من القوى والطبائع ما اقتضت به آثارها، وأنَّه إن شاءَ أن يسلبها إيَّاها سلبها، لا كما يقول أعداؤه من الفلاسفة والطبائعيين (7) وزنادقة الأطباءِ إنَّه ليس في الإمكان (8) تجريد هذه الأسباب عن آثارها وموجباتها، ويقولون:
__________
(1) “النار التي. . . ” إلى هنا سقط من “ب”.
(2) “ك، ب”: “فهكذا سائر أفعاله سبحانه”. “ب”: “فهكذا سبحانه وتعالى. . .”.
(3) “ط”: “أشهد”.
(4) “هو”: ساقط من “ب، ك، ط”.
(5) “وملكه”.
(6) كذا في الأصل وغيره. وفي حاشية “ك”: “ظ كونها”، وهو أشبه، وكذا في “ط”.
(7) “ف”: “الطبائعية”. والكلمة غير واضحة في الأصل لانشار الحبر ولكنَّها أقرب إلى ما أثبتنا، وبعد فالكلمتان كلتاهما شائعتان في كتب المصنف.
(8) “ب”: “الإنسان”، تحريف.
(1/342)
لا تعطيل في الطبيعة. وليست الطبيعة عندهم مربوبةً مقهورةً تحت قهر قاهر وتسخير مسخِّر يصرِّفها كيف يشاءُ، بل هي المتصرفة المدبِّرة. ولا كما يقول من نقص (1) علمُه ومعرفتُه بأسرار مخلوقاته وما أودعها من القوى والطبائع والغرائز، وبالأسباب التي ربط بها خلقَه وأمرَه وثوابَه وعقابَه؛ فجحد ذلك كلَّه، وردَّ الأمرَ إلى مشيئة محضة مجردة عن الحكمة والغاية وعن ارتباط العالم بعضه ببعض ارتباطَ الأسباب بمسبباتها، والقوى بمحالّها.
ثمَّ المحذورُ اللازمُ من إنكارِ الفاعل المختار الفعَّال (2) لما يريد بقدرته ومشيئته فوق كل محذور، فإنَّ القائل بذلك يجعل هذه الشرورَ بأسرها لازمةً له لزومَ الظلِّ (3) لحامله والحرارةِ للنار، لا يمكنه (4) دفعُها ولا تخليص الخيرات منها (5). فهم فرُّوا من إضافة الشر إلى خلقه ومشيئته واختياره، ثمَّ ألزموه إيَّاه، وأضافوه إليه إضافةً لا يمكن إزالتها، مع تعطيل قدرته ومشيئته وخلقه وعلمه بتفاصيل أحوال عباده؛ وفي ذلك تعطيل ربوبيته للعالمين. ففرُّوا من محذور بالتزام عدَّةِ محاذير، واستجاروا من الرَّمْضاءِ بالنَّارِ! (6)
وهذا كما نزَّهه الجهمية عن استوائه على عرشه وعلوه على مخلوقاته
__________
(1) “ب”: “يقضي”، تحريف،
(2) “ف”: “والفعال”، سهو.
(3) “ك، ب، ط”: “الطفل”، تحريف.
(4) “ك، ط”: “ولا يمكنه”.
(5) “منها” أي من الشرور. وفي “ك، ط”: “الحرارة” بدل “الخيرات”، تحريف.
(6) انظر المثل في فصل المقال (377).
(1/343)
فرارًا (1) من التحيز والجهة، ثمَّ جعلوه سبحانه في كلِّ مكان مخالطًا للقاذورات والأماكن المكروهات وكلِّ مكان يأنف العاقلُ من مجاورته. ففرُّوا من تخصصه بالعلو، فعمَّموا به كلَّ مكان!
ولمَّا علمت الفرعونيةُ بطلانَ هذا المذهبِ فرُّوا إلى شرٍّ منه، فأخلَوا داخل العالم وخارجه منه البتة، وقالوا: ليس فوق العرشِ ربٌّ يُعبَد، ولا إلهٌ يُصلَّى له ويُسجَد، ولا تُرفَع إليه الأيدي، ولا يصعَد إليه الكلِم الطيِّب والعمل الصالح، ولا عُرِجَ بمحمد -صلى اللَّه عليه وسلم- إليه بل عرج به إلى عَدَمٍ صِرْف، ولا فرق بالنسبة إليه بين العرش وبين أسفل سافلين (2). ومن المعلوم أنَّه ليس موجودًا في أسفل سافلين، فإذا لم يكن موجودًا فوق العرش فهذا إعدام له البتة وتعطيل لوجوده.
فلمَّا رأت الحلولية وإخوانهم من الاتحادية أشباه النصارى ما في ذلك من الإحالةِ قالوا: بل هو هذا الوجود الساري في الوجودات (3)، الظاهرُ فيها على اختلاف صورها وأنواعها بحسبها (4). فهو في الماءِ ماءٌ، وفي الخمر خمر، وفي النار نار، وهو حقيقة كل شيء وماهيته. فنزَّهوه عن استوائه على عرشه، وجعلوه وجودَ كلِّ موجود خسيس أو شريف، صغير أو كبير، طيِّب أو غيره، تعالى اللَّه عمَّا يقول أعداؤه علوًّا كبيرًا.
__________
(1) “ك، ط”: “فإنَّه فرار”.
(2) “ف”: “السافلين” سهو.
(3) كذا في الأصل بلا شك. وفي “ف” المنقولة عنه وغيرها: “الموجودات”. وما ورد في الأصلِ صحيح لا غبار عليه. انظر: درء التعارض (2/ 347).
(4) “ك، ط”: “بحسنها”، تصحيف.
(1/344)
وكذلك القائلون بقدم العالم نزَّهوه عن قيام الإرادات والأفعالِ المتجدِّدة به، ثمَّ جعلوا جميعَ الحوادث لازمةً له لا ينفك عنها. ونزَّهوه عن إرادته (1) لخلق العالم وأن يكون صدوره عن مشيئته وإرادته، وجعلوه لازمًا لذاته كالمضطرِّ إلى صدوره عنه.
وكذلك المعتزلة الجهمية نزَّهوه عن صفات كماله لئلا يقعوا في تشبيه (2)، ثمّ شبَّهوه بخلقه في أفعاله، وحكموا عليه بحسن ما يحسن منهم وقبح ما يقبح منهم، مع تشبيهه بها (3) في سلبِ صفات كماله بالجمادات والناقصات. فإنَّ (4) من فرَّ من إثبات السمعَ والبصرِ والكلام والحياة له (5) لئلا يشبهه، فقد شبَّهه بالأحجارِ التي لَا تسمع ولا تبصر ولا تتكلَّم. ومن عطَّله عن صفة الكلام لما يلزم من تشبيه يزعمه (6)، فقد شبَّهه بأصحاب الخرَس والآفات الممتنع منهم الكلام (7).
ومن نزّهه عن نزوله كلَّ ليلة إلى سماءِ الدنيا، ودنوّه عشيةَ عرفة من أهل الموقف، ومجيئه يوم القيامة للقضاءِ بين عباده، فرارًا من تشبيهه بالأجسام، فقد شبّهه بالجماد الذي لا يتصرّف ولا يفعل ولا يجيء
__________
(1) “ب”: “إعادته”، تحريف.
(2) “ف”: “تشبيهه”، خلاف الأصل.
(3) “بها” كذا في “ف” وغيرها، وحذفت في “ط”. ومن هنا إلى “لئلا يشبهه” لم يظهر في مصورة الأصل، وهو جزء من السطر الأوَّل من لحق طويل كتب في الحاشية اليمنى من أسفلها إلى أعلاها.
(4) “ك، ط”: “وإن”.
(5) “له” لم ترد في “ف”.
(6) “ب، ط”: “بزعمه”.
(7) “ب”: “بأصحاب الدنيا الممتنع منهم الكلام بالآفات”!
(1/345)
ولا يأتي ولا ينزل.
ومن نزّهه عن أن يفعل لغرض أو حكمة أو لداع إلى الفعل، حذرًا من تشبيهه بالفاعلين لذلك، فقد شبّهه بأهل السفه والعبث الذين لا يقصدون بأفعالهم غايةً محمودةً ولا غرضًا مطلوبًا محبوبًا.
ومن نزهه عن خلق أفعال عباده وتصرّفه فيهم بالهداية والإضلال وتخصيص من شاءَ منهم بفضله أو منعه لمن شاءَ، حذرًا من الظلم بزعمه، فقد وصفه بأقبح الظلم والجور حيث يخلّد في أطباق النيران من استنفد عمره كلّه في طاعته، إذا فعل قبل الموت كبيرة واحدة، فإنّها تُحْبِط جميع تلك الطاعات، وتجعلها هباءً منثورًا، ويخلّد في جهنّم مع الكفار ما لم يتب منها، إلى غير ذلك من أصولهم الفاسدة.
فهذا وأمثالُه فرّوا منه (1)، وهدى (2) اللَّه الذين آمنوا لما اختلفوا من الحق بإذنه، واللَّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
__________
(1) “فهذا وأمثاله” لم يظهر في مصورة الأصل لوقوع الحبر عليه، وقد أثبتناه من “ف”، هو ساقط من “ك، ب”. وفي “ب”: “فرارًا من الحقِّ”، ولعلَّه إصلاح للنص المبتور. والعبارة بكاملها حذفت من “ط”.
(2) كذا في الأصل و”ف”. ولم يقصد المؤلف نقل الآية (213) من البقرة، وإنَّما أراد الاقتباس منها في كلامه. وفي “ب، ك”: “فهدى”.
(1/346)
قاعدة كمال العبد وصلاحه يتخلّف عنه من أحد (1) جهتين:
إمّا أن تكون طبيعته يابسةً قاسيةً غيرَ ليّنة ولا منقادة ولا قابلة لما به كمالُها وفلاحُها (2).
وإمّا أن تكون ليّنة منقادة سلسة القياد، لكنّها غير ثابتة على ذلك، بل سريعة الانتقال عنه كثيرة التقلّب.
فمتى رُزق العبدُ انقيادًا للحقّ وثباتًا عليه فَلْيُبْشِرْ، فقد يُسِّر لِكلّ خير (3)، وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء.
__________
(1) كذا في الأصل وغيره. وانظر ما سبق في ص (79). وفي “ط”: “إحدى”.
(2) “ب”: “فلاحها وكمالها”.
(3) “ك، ط”: “بشر بكل خير”، تصحيف.
(1/347)
قاعدة
إذا ابتلى اللَّه عبدَه بشيء من أنواع البلايا (1) والمحن فإنْ ردّه ذلك الابتلاءُ والامتحان (2) إلى ربّه، وجمعه عليه، وطرحه ببابه، فهو علامة سعادته وإرادة الخير به. والشدّة بَتْراءُ لا دوام لها وإن طالت، فتقلع عنه حين تقلع، وقد عُوِّض منها أجل عوض وأفضلَه، وهو رجوعُه إلى اللَّه بعد أن كان شاردًا عنه، وإقبالُه عليه بعد أن كان نائيًا عنه، وانطراحُه على بابه وقد كان عنه معرضًا (3)، وللوقوف على أبواب غيره متعرّضًا.
وكانت البلية في حقّ هذا عين النعمة، وإن ساءَته، وجمرهها طبعه، ونفرت منها نفسه.
فربّما كان مكروهُ النفوسِ إلى … محبوبِها سببًا ما مثله سببُ (4)
وقوله تعالى في ذلك هو الشفاءُ والعصمة: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة/ 216].
وإن لم يردَّه ذلك البلاءُ إليه، بل شرّد قلبَه عنه، وردّه إلى الخلق، وأنساه ذكرَ ربِّه، والضراعةَ إليه، والتذلّلَ بين يديه، والتوبةَ والرجوع
__________
(1) “ب”: “عبده بأنواع البلايا”.
(2) “ك، ط”: “المحن”.
(3) “ب، ك، ط”: “بابه بعد أن كان معرضًا”.
(4) أثبت هذا البيت في “ف، ك، ط” نثرًا. وقد أنشده المؤلف في زاد المعاد (3/ 310) وإغاثة اللهفان (2/ 803)، وشفاء العليل (344)، ومدارج السالكين (1/ 501). وهو من أبيات أوردها ابن العديم في بغية الطلب (3792).
(1/348)
إليه؛ فهو علامة شقاوته وإرادة الشرّ به. فهذا إذا أقلع عنه البلاءُ ردّه إلى حكم طبيعته، وسلطان شهوته، ومرحه وفرحه؛ فجاءَت طبيعتُه عند القدرة بأنواع الأشَر والبطَر والإعراض عن شكر المنعم عليه بالسرّاء، كما أعرض عن ذكره والتضرّع إليه في الضرّاءِ. فبليةُ هذا وبالٌ عليه وعقوبة ونقص في حقّه، وبليةُ الأوّل تطهير له ورحمة وتكميل. وباللَّه التوفيق (1).
__________
(1) “ب”: “والعصمة”.
(1/349)
قاعدة في مشاهد الناس في المعاصي والذنوب (1)
الناس (2) في البلوى التي تجري عليهم أحكامُها بإراداتهم (3) وشهواتهم متفاوتون -بحسب شهودهم لأسبابها وغايتها- أعظم تفاوت. وجماع ذلك ثمانية مشاهد (4):
__________
(1) كتب في الأصل أولًا كلمة “قاعدة” فقط، ثم أضيف في الحاشية بخط مختلف هذا العنوان: “قاعدة. . . الذنوب” مع علامة “صح”. وفيه “مشاهدة” بدلًا من “مشاهد”. ولكن ناسخ “ف” نقل العنوان كما أثبتنا، وكذا في غيرها. وهو الذي يؤيده كلام المصنف في هذا الفصل، وفي مفتاح دار السعادة ومدارج السالكين.
(2) “ط”: “والناس”، وصحح في القطرية.
(3) “ب، ك، ط”: “بإرادتهم”.
(4) كتب في الأصل أوَّلًا: “ويجمع ذلك أربعة أقسام أحدها. . . القسم الثاني” ثمَّ استبدل به ما في المتن. وقد أشار المؤلف في مفتاح دار السعادة (2/ 254) إلى أنَّه ذكر في كتابه “الفتوحات القدسية” مشاهد الخلق في مواقعة الذنب وأنَّها تنتهي إلى ثمانية مشاهد ثمَّ أوردها بالاختصار، والكتابان (المفتاح والفتوحات) أُلِّفا قبل طريق الهجرتين. وقد عقد المؤلف فصلًا في كتاب مدارج السالكين (1/ 479)، وذكر فيه ثلاثة عشر مشهدًا أربعة منها للمنحرفين والبواقي لأهل الاستقامة، ثم قال: إن هذا الفصل لا تظفر به في كتاب إلا ما ذكره في كتابه “سفر الهجرتين في طريق السعادتين” يعني هذا الكتاب. وقد ذكر هنا أولًا أربعة مشاهد، وقسَّم المشهد الرابع إلى قسمين، ثمَّ زاد عليه في الحاشية: “فهذه ستة مشاهد. المشهد السابع مشهد الحكمة. . . ” وأضيفت إلى الأصل “وريقة” ليست بين أيدينا. والجدير بالذكر أنَّ المشهد الثامن لم يذكر هنا، ثمَّ المشاهد السبعة المذكورة تختلف بعض الاختلاف عما ذكر في مفتاح دار السعادة.
(1/350)
أحدها (1): شهود السبب الموصل إليها، والغاية المطلوبة منها فقط. وهو شهود الحيوانات، إذ لا تشهد إلّا طريق قضاء (2) وطَرها، وبرد النفس بعد تناولها. وهذا الضرب من الناس ليس بينه وبين الحيوان البهيم في ذلك فرق إلّا تدقيق (3) الحيلة في الوصول إليها، وربّما زاد غيره من الحيوانات عليه في تناولها ولذّته بها (4).
المشهد الثاني (5): من يشهد مع ذلك مجرّدَ الحكم القدري وجريانه عليه، ولا يتجاوز (6) شهوده ذلك. وربما رأى أنّ الحقيقة هي توفية هذا المشهد حقَّه، ولا يتمّ له ذلك إلّا بالفناءِ عن شهود فعله هو جملة، فيشهد الفاعلَ فيه غيرَه والمحرّكَ له (7) سواه، فلا ينسب إلى نفسه فعلًا، ولا يرى لها إساءَة، ويزعم أن هذا هو التحقيق والتوحيد.
وربّما زاد على ذلك أنّه يشهد نفسه مطيعًا من وجه، وإن كان عاصيًا من وجه آخر، فيقول: “أنا مطيع للإرادة (8) والمشيئة، وإن كنت عاصيًا للأمر” (9). فإن (10) كان ممَّن يرى الأمر تلبيسًا وضبطًا لِلرَّعاع عن الخبطِ
__________
(1) سقاه في المفتاح: “المشهد الحيواني البهيمي”.
(2) “قضاء” ساقط من “ك، ط”.
(3) “ك، ط”: “بدقيق”، تصحيح.
(4) “ك”: “مع تناولها ولذّتها”. “ط”: “مع. . . لذاتها”.
(5) سمّاه في المفتاح: “مشهد الجبر”. وانظر: المدارج (1/ 485).
(6) “ب، ك”: “يجاوز”. “ط”: “يجوز”.
(7) “له” ساقط من “ك، ط”.
(8) “ك، ط”: “الإرادة”.
(9) سبق في ص (55).
(10) “ك، ط”: “وإن”.
(1/351)
والجريانِ (1) مع حكم الطبيعة الحيوانية فقط (2)، رأى نفسه مطيعًا لا عاصيًا، كما قال قائلهم في هذا المعنى:
أصبحتُ منفعلًا لما يختاره … منّي ففعلي كلُّه طاعاتُ (3)
وأصحاب المشهد الأول أقرب إلى السلامة من هؤلاءِ وخير منهم. وهذا المشهد بعينه هو المشهد الذي شهده (4) المشركون عبّاد الأصنام، ووقفوا عنده، كما قالوا: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف/ 20]. وقالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} (5) [الأنعام/ 148]. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} (6) [يس/ 47] فهذا مشهد من أشرك باللَّه وردّ أمِرَه، وهو مشهد إبليس الذي انتهي إليه إذ يقول لربه: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)} [الحجر/ 39] (7).
المشهد الثالث: مشهد الفعل الكسبيّ القائم بالعبد فقط (8)،
__________
(1) “ك، ط”: “الحرمان”، تحريف.
(2) “ط”: “فقد”، تحريف.
(3) سبق في ص (55).
(4) “ط”: “يشهده”.
(5) في النسخ كلها: {وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} وهو جزء من الآية (35) من سورة النحل.
(6) في “ب” أكمل الآية: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)}.
(7) في “ك، ط” زيادة: “واللَّه أعلم”.
(8) سمّاه في المفتاح: “مشهد القدر” وفي المدارج: “مشهد القدرية النفاة”. ولكن ذكر تحت هذا المشهد هنا منكر القدر، ومن ليس منكرًا ولكنه مغلوب مع نفسه.
(1/352)
ولا يشهد إلّا صدورَه عنه وقيامه به، ولا يشهد مع ذلك مشيئةَ الربّ له، ولا جريانَ حكمه القدريّ به، ولا عزّةَ الربّ تعالى في قضائه ونفوذ أمره. بل قد فني بشهود معصيته وذنبه (1) وقبح ما اجترمه عن شهود المشيئة النافذة والقدر السابق، إمّا لعدم اتساع قلبه لشهود الأمرين، فقد امتلأ من شهود ذنبه وجرمه وفعله، مع أنّه مؤمن بقضاءِ الربّ وقدره، وأنّ العبد أقلّ قدرًا (2) من أن يُحدِث في نفسه ما لم يسبق به مشيئةُ بارئه وخالقه. وإمّا لإنكاره القضاءَ والقدر جملةَ، وتنزيهه للرب تعالى أن يُقدِّر على العبد شيئًا ثمّ يلومه عليه.
فأما الأول وإن (3) كان مشهده صحيحًا نافعًا له موجِبًا له أن لا يزال لائمًا لنفسه، مُزريًا عليها (4)، ناسبًا للذنب والعيب إليها، معترفًا بأنّه يستحقّ العقوبة والنكال، وأنّ اللَّه تعالى إن عاقبه فهو العادل فيه وأنّه هو الظالم لنفسه، وهذا كلّه حقّ لا ريب فيه؛ لكن صاحبه ضعيف مغلوب مع نفسه غيرُ مُعانٍ عليها، بل هو معها كالمقهور المخذول، فإنّه لم يشهد عزّةَ الربّ تعالى في قضائه ونفوذ أمره الكوني ومشيئته، وأنّه لو شاءَ لعصمه وحفظه، وأنّه لا معصوم إلّا من عصمه، ولا محفوظ إلّا من حفظه، وأنّه هو محلّ لجريان أقضيته وأقداره، مسوق إليها في سلسلة إرادته وشهوته، وأنَّ تلك السلسلة طرفها بيد غيره، فهو القادرُ على سَوقه بها (5) إلى ما فيه صلاحه وفلاحه، وإلى ما فيه هلاكه وشقاؤه.
__________
(1) “ط”: “بذنبه”، خطأ.
(2) “ف”: “أمرًا”، خلافًا للأصل.
(3) “ب”: “فإن”.
(4) “ب”: “لنفسه لائمًا، عليها مزريًا”.
(5) “ط”: “فيها”.
(1/353)
فهو لغَيبته عن هذا المشهد، وغلبة شهود المعصية والكسب على قلبه، لا يعطي التوحيدَ حقَّه، ولا الاستعانة (1) بربِّه والاستغاثة به واللجأ (2) إليه والافتقار والتضرع والابتهال حقَّه، بحيث يشهد سرَّ قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك” (3). فإنَّه سبحانه ربُّ كل شيء وخالقُ كل شيء، فالمستعاذُ (4) منه واقع بخلقه ومشيئته، ولو شاء لم يكن، فالفرار منه إليه، والاستعاذة منه به، ولا ملجأ منه إلا إليه، ولا مهرب منه إلا إليه، لا إله إلا هو العزيز الحكيم.
وأمَّا الثاني -وهو منكر القضاء والقدر- فمخذول، محجوب عن شهود التوحيد، مصدود عن شهود الحكمة الإلهية، موكول إلى نفسه، ممنوع عن شهود عزَّة الرب تعالى في قضائه وكمال مشيئته ونفوذ (5) حكمه، وعن شهود عجزه هو وفقره، وأنَّه لا توفيق له إلا باللَّه، وأنَّه إن لم يُعِنْه اللَّه فهو مخذول، وإن لم يوفقه ويخلقْ له عزيمة الرشد وفعله فهو عنه ممنوع. فحجابه عن اللَّه غليظ، فإنَّه “لا حجاب أغلظ من الدعوى، ولا طريقَ إلى اللَّه أقرب من دوام الافتقار إليه” (6).
__________
(1) “ط”: “الاستعاذة”.
(2) “ب، ك، ط”: “الالتجاء”.
(3) سبق تخريجه (57).
(4) في “ف” وغيرها: “والمستعاذ”، قراءة محتملة.
(5) “ب”: “نفاذ”.
(6) من كلام سهل بن عبد اللَّه التستري. انظر صفة الصفوة (2/ 234)، ومجموع الفتاوى (7/ 20). وانظر الوابل الصيب (12)، والمدارج (1/ 511). وسيأتي مرة أخرى في ص (366).
(1/354)
المشهد الرَّابع: مشهد التوحيد والأمر (1)، فيشهد انفرادَ الرب تعالى بالخلق، ونفوذَ مشيئته، وتعلقَ الموجودات (2) بأسرها بها (3)، وجريانَ حكمه على الخليقة، وانتهاءها إلى ما سبق (4) في علمه، وجرى به قلمه. ويشهد مع ذلك أمره ونهيه وثوابه وعقابه، وارتباطَ الجزاء بالأعمال واقتضاءها له، ارتباطَ المسبَّبات بأسبابها، التي جُعِلَت أسبابًا مقتضيةَ له (5) شرعًا وقدرًا وحكمة.
فشهودُه توحيدَ الرب تعالى وانفرادَه بالخلقِ ونفوذَ مشيئته وجريانَ قضائه وقدره يفتحُ له بابَ الاستعانة به (6) ودوام الالتجاء إليه والافتقار إليه. وذلك يُدنيه من عتبة العبودية، ويطرحه بالباب فقيرًا عاجزًا مسكينًا، لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا. وشهودُه أمرَه تعالى ونهيَه وثوابَه وعقابَه يُوجبُ له الجِدَّ (7) والتشمير، وبذلَ الوسع، والقيامَ بالأمر، والرجوع علَى نفسه باللّوم والاعتراف بالتقصير. فيكون سيرُه بينَ شهودِ العزَّةِ والحكمة والقدرة الكاملة والعلم السابق والمنَّة العظيمة، وبينَ شهودِ التقصير والإساءةِ منه وتطلّب عيوبِ
__________
(1) سمّى المشهد الرابع في المفتاح: “مشهد أهل العلم والايمان، وهو مشهد القدر والشرع”، ثم سمّى المشهد السادس: “مشهد التوحيد”. وانظر المدارج (1/ 491).
(2) يحتمل قراءة “الوجودات”.
(3) “بها” يعني: بمشيئته. وفي “ط”: “به”.
(4) “ط”: “سبق لها”.
(5) كذا في الأصل وغيره، والضمير راجع إلى الجزاء. وفي “ط”: “لها”.
(6) “ك، ط”: “الاستعاذة ودوام”.
(7) “ك، ط”: “الحمد”، تحريف.
(1/355)
نفسه وأعمالها. فهذا هو العبدُ الموفق المعان، الملطوف به، المصنوع له، الذي أقيم في مقام (1) العبودية، وضُمِنَ له التوفيق.
وهذا هو مشهد الرسل صلوات اللَّه وسلامه عليهم، فهو مشهد أبيهم آدم، إذ يقول: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف/ 23].
ومشهد أوَّل الرسل نوح، إذ يقول: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)} [هود/ 47].
ومشهد إمام الحنفاءِ وشيخ الأنبياء إبراهيم صلوات اللَّه وسلامه عليه وعليهم أجمعين، إذ يقول: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)} [الشعراء/ 78 – 82].
وقال في دعائه: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)} [إبراهيم/ 35] فعلِمَ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّ الذي يحول بين العبدِ وبين الشرك وعبادة الأصنام هو اللَّه لا ربَّ غيره، فسأله أن يجنِّبَه وبنيه عبادةَ الأصنام.
وهذا هو مشهد موسى إذ يقول في خطابه لربِّه: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)} [الأعراف/ 155] أي إنْ ذلك إلا امتحانُك واختبارُك، كما يقال: فتنت الذهب إذا امتحنته واختبرته، وليس من
__________
(1) “ك، ط”: “أقيم مقام”.
(1/356)
الفتنة التي هي الفعل السيء (1) كما في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج/ 10]، وكما في قوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة/ 193]، فإنَّ تلك فتنة المخلوق. وموسى (2) أعلم باللَّه تعالى أن يضيف إليه هذه الفتنة. وإنَّما هي كالفتنة في قوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه/40] أي ابتليناك، واختبرناك، وصرَّفناك في الأحوال التي قصَّها اللَّه سبحانه علينا من لدن ولادته إلى وقت خطابه له وإنزاله عليه كتابَه (3).
والمقصود أنَّ موسى -صلى اللَّه عليه وسلم- شهد توحيدَ الرب وانفرادَه بالخلق والحكم، وفعلَ السفهاء ومباشرتَهم الشرك، فتضرع إليه بعزَّته وسلطانه وأضافَ الذنب إلى فاعله وجانيه. ومن هذا قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} قال تعالى: {فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)} [القصص/ 16].
وهذا مشهد ذي النون، إذ يقول: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} [الأنبياء/ 87] فوحَّد ربَّه تعالى، ونزَّهه عن كلِّ عيبٍ، وأضافَ الظلم إلى نفسه.
وهذا مشهد صاحب سيِّد الاستغفار، حين (4) يقول في دعائه: “اللَّهم أنت ربِّي لا إلهَ إلا أنتَ، خَلَقْتَني وأنا عبدُكَ، وأنا على عَهدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذ بِكَ من شرِّ ما صنعتُ، أبوءُ لَكَ بنعمتك
__________
(1) “ط”: “المسيء”.
(2) “ك، ط”: “فإنَّ موسى”.
(3) “ف”: “كلماته”، سهو.
(4) “ك، ط”: “إذ”.
(1/357)
عليَّ، وأبوءُ بذنبي، فاغفر لي، إنَّه لا يغفرُ الذنوب إلا أنتَ” (1).
فأقرَّ بتوحيد الربوبية المتضمن لانفراده سبحانه بالخلقِ وعموم المشيئة ونفوذها، وتوحيد الإلهية المتضمن لمحبته وعبادته وحده لا شريك له، والاعتراف بالعبودية المتضمن للافتقار من جميع الوجوه إليه سبحانه.
ثمَّ قال: “وأنا على عهدك ووعدك”، فتضمن ذلك التزام شرعه وأمره ودينه -وهو العهد الذي عهِدَه إلى عباده- وتصديقَ وعده، وهو جزاؤه وثوابه (2). فتضمن التزام الأمر، والتصديق بالموعود، وهو الإيمان والاحتساب.
ثمَّ لمَّا علم أنَّ العبدَ لا يوفي هذا المقام حقَّه الذي يصلح له تعالى علَّق ذلك باستطاعته وقدرته التي لا يتعدَّاها، فقال: “ما استطعتُ” أي ملتزم (3) ذلك بحسب استطاعتي وقدرتي.
ثمَّ شهد المشهدين المذكورين، وهما مشهد القدرة والعزَّة (4). ومشهد التقصير من نفسه، فقال: “أعوذُ بكَ من شرِّ ما صنعتُ”، فهذه الكلمة تضمنت المشهدين معًا.
ثمَّ أضافَ النعم كلها إلى وليِّها وأهلها والمبتدئ بها، والذنبَ إلى نفسه وعمله، فقال: أبوءُ لك بنعمتك على، وأبوءُ بذنبي”. فأنتَ
__________
(1) تقدم تخريجه (253).
(2) “ط”: “من ثوابه”.
(3) “ط”: “ألتزم”.
(4) “ك، ط”: “القوَّة”.
(1/358)
المحمود المشكور (1) الذي له الثناءُ كلُّه، والإحسان كلّه، ومنه النعم كلّها. فلك الحمد كلّه، ولك الثناء كله، ولك الفضل كله، وأنا المذنب المسيء، المعترف بذنبه، المقِرُّ بخطائه (2)، كما قال بعض العارفين (3): “العارفُ يسير بين مشاهدة المنَّة من اللَّه، ومطالعة عيب النفس والعمل”. فشهودُ المنَّة تُوجبُ (4) له المحبة لربِّه سبحانه وحمدَه والثناء عليه، ومطالعةُ عيب النفس والعمل يوجب استغفارَه ودوامَ توبته وتضرعه واستكانته لربِّه سبحانه.
ثمَّ لمَّا قامَ هذا بقلب الداعي وتوسل إليه بهذه الوسائل قال: “فاغفر لي فإنَّه لا يغفر الذنوب إلا أنت” (5).
فصل (6)
ثمَّ أصحاب هذا المشهد فيه قسمان:
أحدهما (7): من يشهد تسلّط (8) عدوه عليه، وقياده (9) إيَّاه بسلسلة
__________
(1) “ب، ت، ط”: “والمشكور”.
(2) “ط”: “بخطئه”.
(3) هو صاحب منازل السائرين. انظر: المنازل (11)، والمدارج (1/ 296). وقد أورد المصنف قوله في الوابل الصيب (10)، وشفاء العليل (41) أيضًا.
(4) كذا في الأصل و”ف”. وفي “ك، ط”: “يوجب”.
(5) وانظر في تفسير سيد الاستغفار: ما سبق في ص (203)، والوابل الصيب (11)، والمدارج (1/ 5296).
(6) “فصل” ساقط من “ب، ط”.
(7) وهو المشهد الخامس.
(8) “ك، ط”: “تسليط”.
(9) “ك، ط”: “فساده إياه وسلسلة” تحريف.
(1/359)
الهوى، وكبحَه إيَّاه بلجام الشهوة. فهو أسير معه بحيث يسوقه إلى ضرب عنقه، وهو مع ذلك ملتفت إلى ربِّه وناصره ووليه، عالم بأنَّ نجاته في يديه، وأنَّ ناصية عدوه بيده (1)، وأنَّه لو شاءَ طرده عنه وخلّصه من يديه. فكلَّما قاده عدوه وكبحه بلجامه أكثر الالتفاتَ إلى وليِّه وناصره، والتضرع إليه، والتذلل بين يديه. وكلَّما زاد (2) اغترابُه وبعدُه عن بابه تذكر عطفَه وبره وإحسانه وجوده وكرمه وغناه وقدرته ورأفته ورحمته، فانجذبت دواعي قلبه هاربةً إليه، متراميةً (3) على بابه، منطرحةً على فنائه؛ كعبد قد شُدَّتْ يداه إلى عنقه، وقُدِّمَ لتضرب عنقُه، وقد استسلمٍ للقتل، فنظرَ إلى سيِّده أمامه، وتذكر عطفه ورأفته به، ووجدَ فُرجةً، فوثب إليه منها. فهَبْه (4) طرَحَ نفسه بين يديه، ومدّ له عنقَه، وقال: أنا عبدك ومسكينك، وهذه ناصيتي بين يديك، ولا خلاص لي من هذا العدوّ إلّا بك، وإني مغلوب فانتصر. فهذا مشهد عظيم المنفعة جليل الفائدة تحته من أسرار العبودية ما لا يناله الوصف.
وفوقه مشهد أجلُّ منه وأعظم وأخصّ (5)، تجفو (6) عنه العبارة، وإن
__________
(1) في الأصل: “به”، “مكان “بيده”، وكذا في “ف، ك”. وكتب فوقه في “ف”: “كذا”. والمثبت من “ب”. وفي “ط”: “بين يديه”. وقد كتب أوَّلًا في الأصل: “وأنَّ عدوَّه” ثم ضرب على “عدوه” فوصل خط الضرب إلى حرف النون في “أنَّ”. ومن ثم حذف “أنَّ” في “ب، ك”. وقد تحرف “عدوه” في “ك” إلى “هدوه” فكتب بعضهم فوقه: “بين يديه”، كما في “ط”.
(2) “ك، ط”: “أراد”، تحريف.
(3) “ط”: “بتراميه”، تحريف.
(4) “ب، ك، ط”: “وثبة”، ولعله تحريف.
(5) وهو المشهد السادس.
(6) “ف”: “وهو تجفو”، والظاهر أنَّ “وهو” مضروب عليه في الأصل.
(1/360)
أشارت (1) إليه بعضَ الإشارة. وتقريبه إلى الفهم بضرب مثل يعبر (2) منه إليه، وذلك مثَلُ عبدٍ أخذه سيّده بيده، وقدّمه ليضرب عنقَه بيده، فهو قد أحكم ربطَه، وشدّ عينيه، وقد أيقن العبد أنَّه في قبضته، وأنّه هو قاتله لا غيره. وقد علم مع ذلك برَّه به ولطفه، ورحمته ورأفته، وجوده وكرمه؛ فهو يناشده بأوصافه، ويدخل عليه به، قد ذهب عن وهمه وشهوده كلُّ سبب (3)، وانقطع (4) تعلّقه بشيء سواه، فهو معرِض عن عدوه الذي كان سببَ غضب سيّده عليه، قد محا شهودَه من قلبه، فهو مقصورُ النظر إلى سيّده وكونه في قبضته، ناظرٌ إلى ما يصنعه به (5)، منتظرٌ منه ما يقتضيه عطفه وبرّه وكرمه.
ومثَلُ الأوّل مثلُ عبدٍ أمسكه عدوّه وهو يخنقه للموت، وذلك العبد يشهد خنقَ (6) عدوّه له، ويستغيث بسيّده، وسيّدُه يغيثه ويرحمه.
ولكنّ ما يحصل للثاني في مشهده ذلك من الأمور العجيبة فوق ما يحصل للأول، وهو بمنزلة من قد أخذه محبوبُه، فهو يخنقه خنقةً، وهو لا يشهد إلَّا خنقه له، فهو يقول: اخنُقْ خنقَك، فأنت تعلم أنّ قلبي يحبّك!
__________
(1) “ك، ط”: “الإشارة”، تحريف.
(2) “ب، ك، ط”: “تعبر”.
(3) “ك، ط”: “نسب”، تحريف.
(4) “ط”: “فانقطع”.
(5) “به” ساقط من “ب، ك، ط”.
(6) “ب، ك، ط”: “دنوّ”، تحريف.
(1/361)
وفي هذا المثلِ إشارةٌ وكفاية، ومن غلُظَ حجابُه وكثفت طباعُه لا ينفعه التصريحُ، فضلًا عن ضرب الأمثالِ. واللَّه المستعان، وعليه التكلان، ولا قوَّة إلا باللَّهِ.
فهذه ستَّة مشاهد.
المشهد السابع: مشهد الحكمة، وهو أن يشهد حكمةَ اللَّه في تخليته بينه وبين الذنب، وإقداره عليه، وتهيئة (1) أسبابه له، وأنَّه لو شاءَ لعصمه وحالَ بينه وبينه، ولكنَّه خلَّى بينه وبينه لحِكَم عظيمة لا يعلم مجموعها إلا اللَّه (2):
أحدها: أنَّه سبحانه يحب التوابين ويفرح بتوبتهم، فلمحبته للتوبة وفرحه بها قضى على عبده بالذنب، ثمَّ إذا كان ممَّن سبقت له العنايةُ قضى له بالتوبة.
الثاني: تعريف العبد عزَّةَ الرب تعالى (3) في قضائه، ونفوذ مشيئته، وجريان حكمه.
الثالث: تعريفه حاجته إلى حفظه وصيانته، وأنَّه إن لم يحفظه ويصنه
__________
(1) “ط”: “تهيئته”.
(2) أشار المصنف في المفتاح (2/ 255) إلى أنَّه ذكر قريبًا من أربعين حكمة في كتابه الفتوحات القدسية، ثمَّ ذكر نحو (34) حكمة. أمَّا هنا فقد ذكر (31) حكمة لخصها وفرَّعها مما ذكره في المفتاح (2/ 257 – 301)، وانظر: المدارج (1/ 487).
(3) من هنا إلى آخر الفصل اعتمدنا على “ف” وغيرها، لأنَّ “الوريقة” التي أضيفت إلى الأصل وكانت مشتملة على هذه الزيادة التي بدأت في الحاشية من قوله: “فهذه ستة. . .” لم توجد في المصورة. ولعلها ضاعت من النسخة الأصلية.
(1/362)
فهو هالك ولا بد، والشياطين قد مدَّت أيديها إليه تمزّقه كلَّ ممزَّق.
الرابع: استجلابه من العبد استغاثته (1) به، واستعاذته (2) به من عدوّه وشرّ نفسه، ودعاءه، والتضرع إليه، والابتهال بين يديه.
الخامس: إرادته من عبده تكميلَ مقام الذل والانكسار، فإنَّه متى شهد صلاحه واستقامته شمَخ بأنفه، وظنَّ أنَّه. . . وأنَّه. . .! فإذا ابتلاه بالذنب تصاغرت عنده نفسُه وذلَّت، وتيقن (3) أنَّه. . . وأنَّه. . .!
السادس: تعريفه بحقيقة نفسه، وأنَّها الظالمة (4) الجاهلة، وأنَّ كلَّ ما فيها من علم أو عدلٍ (5) أو خير فمن اللَّه، منَّ به عليه، لا من نفسه.
السابع: تعريفه عبدَه سعةَ حلمه تعالى وكرمَه في ستره عليه، فإنَّه لو شاءَ لعاجله على الذنب، ولهتكه بين عباده، فلم يصفُ له معهم عيش.
الثامن: تعريفه أنَّه لا طريق إلى النجاة إلا بعفوه ومغفرته.
التاسع: تعريفه كرمَه في قبول توبته، ومغفرتَه له على ظلمه وإساءته.
العاشر: إقامة الحجة على عبده، وأنَّه (6) له عليه الحجة البالغة، فإن عذَّبه فبعدله، وببعض حقه عليه، بل اليسير منه.
__________
(1) “ب، ك، ط”: “استعانته”.
(2) “ب”: “استغاثته”.
(3) “ك، ب، ط”: “تيقن وتمنَّى”. وانظر نحو هذه العبارة في المفتاح (2/ 268).
(4) “ط”: “الخطالة”، تحريف. وانظر: المفتاح (2/ 270).
(5) “ط”: “عمل”، تحريف.
(6) “ب، ك، ط”: “فإن”.
(1/363)
الحادي عشر: أن يعامل عباده في إساءتهم إليه وزلَّاتهم معه بما يُحِب أن يعامله اللَّهُ به، فإنَّ الجزاءَ من جنس العمل؛ فيعتمد (1) في ذنوب الخلق معه ما يحب أن يصنعه اللَّه بذنوبه.
الثاني عشر: أن يقيم معاذير الخلائق، وتتسع رحمتُه لهم، مع إقامة أمر اللَّه فيهم (2). فيقيم أمر اللَّه فيهم (3) رحمةً لهم، لا قسوةً وفظاظةً عليهم.
الثالث عشر: أن يخلع صولة الطاعة والإحسان من قلبه، فتتبدَّل برقَّة (4) ورأفة ورحمة.
الرابع عشر: أن يُعرّيه من رداءِ (5) العُجْب بعمله، كما قال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لو لَمْ تُذْنِبُوا لَخِفْتُ عليكم ما هو أشدُّ منه: العُجْبَ” (6)، أو كما قال.
الخامس عشر: أن يعرِّيه من لباس الإدلال الذي يصلح (7) للملوك، ويُلبِسه لباسَ الذل الذي لا يليق بالعبد سواه.
__________
(1) كذا في “ف، ب”. أي يقصد. وفي “ك، ط”: “يعمل”.
(2) “فيهم” لم يرد في “ب”.
(3) “فيقيم أمر اللَّه فيهم” من “ب، ك، ط”، ولم يرد في “ف”.
(4) “ب”: “من قلبه رقَّةً”.
(5) “ب”: “داء”، تحريف. وانظر: المفتاح (2/ 278).
(6) أخرجه البزار كما في كشف الأستار (3633)، وابن عدي في الكامل (3/ 306)، وابن عدي في الكامل (3/ 306) من حديث أنس. قال الهيثمي: “وإسناده جيد”. والحديث جعله ابن عدي من منكرات سلَّام أبي المنذر لتفرده به عن ثابت البناني عن أنس (ز).
(7) “ف”: “التي تصلح”. ولعله سهو في النقل.
(1/364)
السادس عشر: أن يستخرج من قلبه عبوديته بالخوف والخشية وتوابعهما من البكاءِ والإشفاق والندم.
السابع عشر: أن يُعرّفه (1) مقدار نعمة معافاته (2)، وفضله في توفيقه وعصمته؛ فإنَّ من تربى في العافية لا يعرف ما يقاسيه المبتلى، ولا يعرف مقدار نعمة (3) العافية.
الثامن عشر: أن يستخرج منه محبته وشكرَه لربِّه إذا تابَ إليه ورجعَ إليه، فإنَّ اللَّه يحبه ويُوجب له بهذه التوبة مزيدَ محبَّة وشكر ورضا لا يحصل بدون التوبة، وإن كان يحصل بغيرها من الطاعات أثر آخر، لكنَّ هذا الأثر الخاص لا يحصل إلا بالتوبة.
التاسع عشر: أنَّه إذا شهد إساءَته وظلمَه، استكثر (4) القليلَ من نعمة ربِّه (5)، لِعلمه بأنَّ الواصلَ إليه منها كثيرٌ على مسيء مثله؛ واستقل (6) الكثيرَ من عمله، لعلمه بأنَّ الذي يصلح له أن يغسل به نجاسَتَه وَوضَرَ ذنوبه (7) أضعافُ أضعافِ ما يفعله، فهو دائمًا مستقل لعمله كائنًا ما كان. ولو لم يكن في فوائد الذنب وحكمه إلا هذا وحده لكان كافيًا.
__________
(1) “ك، ط”: “يعرف”.
(2) “ب”: “نعمة العافية في معافاته”. “ط”: “مقداره مع معافاته”. وانظر: المفتاح (2/ 281).
(3) “نعمة” ساقط من “ك، ط”.
(4) “ك، ط”: “واستكثر”.
(5) “ك، ط”: “نعمة اللَّه”.
(6) “ك، ط”: “فاستقل”. وانظر: المفتاح (2/ 284).
(7) “وضر” ساقط من “ب، ك، ط”. وفي “ب”: “نجاسة ذنوبه”.
(1/365)
العشرون: أنَّه يوجب له التيقظ والحذر من مصايد العدوّ ومكايده، ويُعرِّفه من أين يدخل عليه، وبماذا يحذر منه، كالطبيب الذي ذاقَ المرضَ والدواءَ.
الحادي والعشرون: أنَّ مثلَ هذا ينتفع به المرضى، لمعرفته بأمراضهم ودوائها (1).
الثاني والعشرون (2): أنَّه يرفع عنه حجابَ الدعوى، ويفتح له طريقَ الفاقة، فإنَّه لا حجابَ أغلَظ من الدعوى، ولا طريق أقرب من العبودية (3)، فإنَّ دوام الفقر إلى اللَّه مع التخليط خير من الصفاءِ مع العجب (4).
الثالث والعشرون: أن يكون (5) في القلب أمراض مُزْمنة لا يشعر بها، فيطلب دواءَها، فيمُنُّ عليه اللطيفُ الخبيرُ، ويقضي عليه بذنب ظاهر، فيجد ألم مرضه، فيحتمي، ويشرب الدواء النافع، فتزول تلك الأمراض التي لم يكن يشعر بها. ومن لم يشعر بهذه اللطيفة فَلِغلظِ (6) حجابه، كما قيل:
__________
(1) في “ف” وغيرها: “وأدوائها”، والظاهر أنَّه سهو. وانظر المفتاح (2/ 288).
(2) في الأصل (ف): “الثالث والعشرون”، ولعله سهو، وقد استمر عليه، فوصل العدد إلى الثاني والثلاثين.
(3) قوله: “لا حجاب. . .” من كلام سهل بن عبد اللَّه التستري. وقد سبق في ص (354).
(4) من كلام ذي النون المصري. وقد تقدم في ص (105).
(5) “ط”: “تكون”. “ك”: “أنَّه يكون”.
(6) “ك، ط”: “فغلظ”، تحريف.
(1/366)
لعلَّ عتبَك محمودٌ عواقبُه … وربَّما صحَّت الأجسامُ بالعِلَلِ (1)
الرابع والعشرون: أن (2) يذيقه ألم الحجاب والبعد (3) بارتكاب الذنب، ليكمل له نعمته (4) وفرحه وسروره إذا أقبل بقلبه إليه، وجمَعه عليه (5)، وأقامه في طاعته، فيكون التذاذه بذلك (6) -بعد أن صدر منه ما صدر- بمنزلة التذاذ الظمآن (7) بالماءِ العذب الزلال، والشديد الخوف بالأمن، والمحب الطويل الهجر بوصل محبوبه. وإنَّ لطفَ الربِّ تعالى وبرَّه وإحسانه ليبلغ بعبده أكثر من هذا، فيا بؤس من أعرض عن معرفة ربِّه ومحبته!
الخامس والعشرون: امتحان العبد واختباره هل يصلح لعبوديته وولايته أم لا، فإنَّه إذا واقع (8) الذنبَ، سُلِبَ حلاوةَ الطاعة والقرب، ووقع في الوحشة. فإن كان ممن يصلح اشتاقت نفسه إلى لذَّة تلك المعاملة، فحنَّت، وأنَّت، وتضرَّعت، واستغاثت (9) بربِّها، ليردَّها إلى
__________
(1) للمتنبي في ديوانه (494) وفيه: “فربّما”. وسيأتي مرَّة أخرى في ص (508، 602). وانظر: المفتاح (2/ 269)، والمدارج (1/ 370، 375)، والفوائد (67)، والوابل الصيب (25).
(2) “ب”: “أنَّه”.
(3) “ب”: “والتهديد”، تحريف. وانظر: المفتاح (2/ 290).
(4) “ب”: “نعيمه”.
(5) “ب”: “عليه وجمعه إليه”.
(6) “ك، ط”: “في ذلك”.
(7) “ب”: “الظمآن الشديد الظمأ”.
(8) “ك، ط”: “وقع”.
(9) “ك، ط”: “واستعانت”.
(1/367)
ما عوَّدها من بره ولطفه. وإن ركبتْ غيَّها (1)، واستمرَّ إعراضها، ولم تحِنَّ إلى معهدها (2) الأوَّل ومألفها، ولم تحسّ بضرورتها وفاقتها الشديدة إلى مراجعة قربها من ربها = علم أنَّها لا تصلح للَّه. وقد جاءَ هذا بعينه في أثر إلهي لا أحفظه.
السادس والعشرون: أنَّ الحكمة الإلهية اقتضت تركيبَ الشهوة والغضب في الإنسان، وفي ذلك حِكَمٌ (3) عظيمة لصانعه تبارك وتعالى. ولا ريبَ أنَّهما داعيان إلى أثريهما وموجَبيهما (4)، فلا بُدَّ من ترتب أثر داعي (5) الشهوة والغضب في الإنسان (6)، أو بعضها، ولو لم تُخلق (7) فيه هذه الدواعي لم يكن إنسانًا بل ملكًا. فالذنبُ من موجَبات البشرية، كما أنَّ النسيان من موجَباتها، كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “كلُّ بَني آدمَ خطَّاءٌ وخيرُ الخطَّائين التوابون” (8)، ولا يتم الابتلاء والاختبار إلا بذلك (9).
السابع والعشرون: أن يُنسيه رؤيةَ طاعته، ويشغله برؤية ذنبه، فلا
__________
(1) “ك، ط”: “ركنت عنها”، تصحيف.
(2) “ط”: “عهدها”.
(3) “ك”: “حكمة”.
(4) “ب، ك”: “أثرها وموجبها”.
(5) في حاشية “ك”: “دواعي”، ولعله تصحيح من قارئ لما سيأتي من قول المصنف: “أو بعضها”، و”هذه الدواعي”.
(6) “وفي ذلك حكم عظيمة. . .” إلى هنا ساقط من “ط”.
(7) “ك، ط”: “يخلق”.
(8) أخرجه أحمد (13049)، وابن ماجه (4251)، والترمذي (2499) من حديث أنس. قال الترمذي: “هذا حديث غريب لا نعرفه إلَّا من حديث علي بن مسعدة، عن قتادة”. (ز).
(9) زاد في “ك، ط”: “واللَّه أعلم”.
(1/368)
يزال نصب عينيه. فإنَّ اللَّه إذا أراد بعبدٍ خيرًا سلب رؤيةَ أعماله الحسنة من قلبه، والإخبارَ بها من لسانه، وشغله برؤية ذنبه، فلا يزالُ نصب عينيه حتَّى يدخله (1) الجنَّة. فإنَّ ما يُقبل (2) من الأعمال رُفِع من القلبِ رؤيتُه، ومن اللسان ذكرُه.
وقال بعض السلف: إنَّ العبدَ ليعمل الخطيئة فيدخل بها الجنَّة، ويعمل الحسنة فيدخل بها النار، قالوا: كيف؟ قال (3): يعمل الخطيئة، فلا تزالُ نصب عينيه: إذا ذكرها ندم، واستقال، وتضرَّع إلى اللَّهِ، وبادرَ إلى محوها، وانكسر، وذلَّ لربِّه، وزال عنه عُجبه وكِبْره. ويعملُ الحسنة فلا تزال نصب عينيه: يراها، ويمنّ بها، ويعتدُّ بها، ويتكبر بها (4)، حتَّى تدخله (5) النار (6).
الثامن والعشرون: أنَّ شهودَ ذنبه وخطيئته يُوجِب له أن لا يرى له على أحد فضلًا، ولا له على أحدٍ حقًّا؟ فإنَّه يشهد عيبَ نفسه وخطأها وذنوبها فلا يظن (7) أنَّه خير من مسلم يؤمن باللَّه واليوم الآخر. وإذا شهد ذلك من نفسه لم ير لها على النَّاس حقوقًا من الإكرام يتقاضاهم إيَّاها، ويذمهم على ترك القيام بها، فإنَّها عنده. أخسّ قدرًا وأقل قيمةً من أن
__________
(1) “ب، ك، ط”: “يدخل”.
(2) “ك، ط”: “تقبل”.
(3) “ب”: “فقال”.
(4) “ب”: “يغتر بها ويتكثر بها”.
(5) “ك، ط”: “يدخل”.
(6) أخرجه ابن المبارك في الزهد (162) مرفوعًا من طريق المبارك بن فضالة عن الحسن مرسلًا. وأخرجه فيه (164) من كلام الحسن (ز).
(7) “ط”: “إذا شهد عيب نفسه بفاحشة. . . لا يظن”!
(1/369)
يكون لها على عباد اللَّه حقوقٌ يجب مراعاتها، أو لها عليهم فضلٌ يستحق أن يكرموه (1) لأجله. فيرى أنَّ من سلَّم عليه أو لقيه (2) بوجه منبسط قد أحسن إليه، وبذل له ما لا يستحقه، فاستراح في نفسه، واستراح الناس من تعتّبه (3) وشكايته. فما أطيبَ عيشَه! وما أنعمَ بالَه! وما أقرَّ عينه!
وأين هذا ممَّن لا يزال عاتبًا على الخلق، شاكيًا ترك قيامهم بحقِّه، ساخطًا عليهم، وهم عليه أسخط؟ فسبحان ذي الحكمة الباهرة التي بهرت عقولَ العالمين (4).
التاسع والعشرون: أنَّه يُوجِب له الإمساكَ عن عيوب الناس والفكرِ فيها، فإنَّه في شغلٍ بعيبه ونفسه. و”طوبى لمن شغله عيبُه عن عيوب النَّاس” (5)، وويلٌ لمن نسيَ عيبَه وتفرَّغ لعيوب النَّاس! فالأوَّل علامة السعادة، والثاني علامة الشقاوة (6).
الثلاثون: أنَّه يُوجِب له الإحسان إلى الناس، والاستغفار لإخوانه المؤمنين الخطائين (7) فيصيرُ هِجِّيراه: “ربِّ اغفر لي ولوالديّ وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات”. فإنَّه يشهد أن إخوته
__________
(1) “ك، ط”: “يلزموه”، تحريف.
(2) “ب”: “ولقيه”.
(3) “ط”: “عتبه”.
(4) “عقول” ساقط من “ب”. وانظر: المفتاح (2/ 296).
(5) قطعة من خطبة للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، أخرجها البزار وابن عدي في الكامل (1/ 384)، والبيهقي في الشعب (10089) كلهم عن أنس مرفوعًا، وفيه النصر بن محرز وغيره من الضعفاء. قاله الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 229). (ز).
(6) وانظر المفتاح (2/ 297).
(7) “ك، ب، ط”: “الخاطئين من المؤمنين”.
(1/370)
الخطَّائين (1) مصابون (2) بمثل ما أصيبَ به، محتاجون (3) إلى مثل ما هو محتاج إليه. فكما يحب أن يستغفر له أخوه المسلم يجب (4) أن يستغفر هو لأخيه المسلم.
وقد قال بعض السلف: إنَّ اللَّه لمَّا عتَب على الملائكة في قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة/ 30] وامتحن منهم (5) هاروتَ وماروتَ جعلت الملائكةُ بعد ذلك تستغفر لبني آدم ويدعون اللَّه لهم (6).
الحادي والثلاثون: أنَّه يوجب له سعةَ بطانِه (7) وحلمه ومغفرته لمن أساءَ إليه. فإنَّه إذا شهد نفسه مع ربِّه سبحانه مسيئًا خاطئًا مذنبًا -مع فرط إحسانه إليه وبرّه به (8)، وشدَّة حاجته إلى ربِّه- فكيف يطمع أن يستقيم له
__________
(1) “ط”: “إخوانه الخاطئين”.
(2) “ك، ط”: “يصابون”.
(3) “ط”: “ويحتاجون”.
(4) كذا في “ف، ك”. وفي “ب”: “يُحَب” مضبوطًا بالمهملة المفتوحة.
(5) “منهم” ساقط من “ك، ط”.
(6) انظر نحوه في المفتاح (2/ 298). وقصة هاروت وماروت على الوجه الذي أشير إليه من امتحانهما هنا وفي المدارج (1/ 490) وشفاء العليل (340) رويت عن جماعة من التابعين، وقصّها خلق من المفسرين، وهي راجعة في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل وخرافاتهم التي لا يعوّل عليها، كما قال ابن كثير رحمه اللَّه في التفسير (1/ 135) والبداية والنهاية (1/ 84).
(7) “ب”: “عطائه”، “ك، ط”: “إبطائه” وكلاهما تحريف. والبِطان: حزام يُشد على البطن، وسعة البطان كناية عن سعة الصدر.
(8) “به”: “ساقط من “ك، ط”.
(1/371)
الخلقُ، ويعاملوه (1) بمحض الإحسان، وهو لم يعامل ربَّه بتلك المعاملة؟ وكيف يطمع أن يطيعه مملوكُه وولدُه وزوجتُه في كلِّ ما يريد، وهو مع ربِّه ليس كذلك؟ وهذا يُوجِبُ له (2) أنْ يغفرَ لهمِ، ويسامحهم، ويعفو عنهم، ويغضي عن الاستقصاءِ (3) في طلب حقه قِبَلهم (4).
__________
(1) “ف، ك”: “يعاملونه”.
(2) “له” ساقط من “ط”.
(3) “ب”: “طلب الاستقصاء”، خطأ.
(4) هذه آخر الزيادة التي كتبت في “الوريقة” الملحقة بالأصل.
(1/372)
قاعدة [في الإنابة ودرجاتها]كثيرًا ما يتكرَّر في القرآن ذكر الإنابة والأمر بها كقوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر/ 54]، وقوله حكايةً عن شعيب أنَّه قال: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود/ 88]، وقوله: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق/ 8]، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد/ 27]، وقوله عن نبيِّه داود: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص/ 24].
فالإنابة (1): الرجوع إلى اللَّه، وانصراف دواعي القلب وجواذبه (2) إليه. وهي تتضمَّن المحبَّة والخشية (3)، فإنَّ المنيب محب لمن أناب إليه، خاضع له، خاشعٌ ذليلٌ (4).
والناسُ في إناباتهم (5) على درجات متفاوتة: فمنهم المنيب إلى اللَّه بالرجوع إليه من المخالفات والمعاصي. وهذه الإنابة مصدرها: مطالعة الوعيد، والحامل عليها: العلم، والخشية، والحذر.
ومنهم المنيب إليه بالدخول في أنواع العبادات والقربات، فهو ساعٍ فيها بجهده، وقد حُبِّبَ إليه فعلُ الطاعات وأنواع القربات. وهذه الإنابة
__________
(1) “ك، ط”: “والإنابة”.
(2) “ب”: “حوادثه”، تصحيف.
(3) “ب”: “وهو يتضمن الخشية والمحبة”.
(4) وانظر تفسير الإنابة في مدارج السالكين (1/ 514).
(5) “ط”: “إنابتهم”.
(1/373)
مصدرها الرجاءُ، ومطالعةُ الوعد والثواب، ومحبَّة الكرامة من اللَّه. وهؤلاء أبسط نفوسًا من أهل القسم الأوَّل، وأشرح صدورًا، وجانبُ الرجاءِ ومطالعةِ الرحمة والمنَّة أغلبُ عليهم؛ وإلا فكلُّ واحدٍ من الفريقين منيبٌ بالأمرين جميعًا، ولكن خوفُ هؤلاء اندرج في رجائهم، فأنابوا بالعبادات. ورجاءُ الأوَّلين اندرجَ تحت خوفهم، فكانت إنابتهم بترك المخالفات.
ومنهم المنيب إلى اللَّه بالتضرع، والدعاء، والافتقار إليه، والرغبة، وسؤال الحاجات كلها منه. ومصدر هذه الإنابة: شهودُ الفضل، والمنَّة، والغنى، والكرم، والقدرة؛ فأنزلوا به حوائجهم، وعلَّقوا به آمالهم. فإنابتهم إليه من هذه الجهة، مع قيامهم بالأمر والنهي، ولكنَّ إنابتهم الخاصَّة إنَّما من هذه الجهة (1). وأمَّا الأعمال فلم يُرزَقوا فيها الإنابةَ الخاصَّة.
ومنهم (2) المنيب إليه عند الشدائد والضراء (3) فقط إنابةَ اضطرار، لا إنابةَ اختيار، كحال الذين قال اللَّه فيهم (4): {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء/ 67]، وقوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت/ 65].
وهؤلاء كلهم قد تكون نفس أرواحهم ملتفتةً عن اللَّه سبحانه، معرضةً عنه إلى مألوف طبيعي نفساني قد حال بينها وبين إنابتها
__________
(1) “مع قيامهم” إلى هنا ساقط من “ب”.
(2) “ط”: “أملهم”، تحريف.
(3) “والضراء” ساقط من “ب”.
(4) “ك، ط”: “في حقهم”.
(1/374)
بذاتها (1) إلى معبودها وإلهها الحق، فهي ملتفتة إلى غيره. ولها إليه إنابةٌ ما بحسب إيمانها به، ومعرفتها له.
فأعلى أنواع الإنابات إنابة الروح بجملتها إليه بشدة (2) المحبة الخالصة المفنية (3) لهم عمَّا سوى محبوبهم ومعبودهم. وحين أنابت إليه أرواحهم لم يتخلف منهم شيءٌ عن الإنابة، فإنَّ الأعضاء كلها رعيتها، وملكها تبع للروح، فلمَّا أنابت الروح بذاتها إليه، إنابةَ محبٍّ صادقِ المحبة ليس فيه عرق ولا مفصل إلا وفيه حبٌّ ساكن لمحبوبه، أنابت جميعُ القوى والجوارح. فأناب القلبُ أيضًا بالمحبة والتضرع والذل والانكسار، وأناب العقلُ بانفعاله لأوامر المحبوب ونواهيه، وتسليمه لها، وتحكميه إيَّاها دون غيرها، فلم يبقَ فيه منازعة شبهة معترضة دونها.
وأنابت النفسُ بالانقياد والانخلاع عن العوائد النفسانية والأخلاق الذميمة والإرادات الفاسدة. وانقادت للأمر (4) خاضعةً له، راغبةً (5) فيه، مؤثرِةً إيَّاه على غيره، فلم يبقَ فيها منازعة شهوة تعترضها دون الأمر. وخرجت عن تدبيرها واختيارها تفويضًا إلى مولاها الحق (6)، ورضًى بقضائه، وتسليمًا لحكمه. وقد قيل: إنَّ تدبيرَ العبد لنفسه هو
__________
(1) “بذاتها” سقط من “ف” سهوًا.
(2) “ك، ط”: “لشدة”.
(3) “ك، ط”: “المغنية”، تحريف.
(4) “ط”: “لأوامره”.
(5) “ك، ط”: “وداعية”، تحريف. “ب”: “خاضعة أو راغبة”.
(6) “الحق” ساقط من “ط”.
(1/375)
آخر الصفات المذمومة في النفس.
وأنابَ الجسدُ بالأعمالِ (1) والقيام بها فرضِها (2) وسننها على أكمل الوجوه. وأنابت كل جارحة وعضو إنابتها الخاصَّة (3).
فلم يبقَ من هذا العبد المنيب عرقٌ ولا مفصلٌ إلا وله إنابة ورجوع إلى الحبيب الحق الذي كلُّ محبَّةٍ سوى محبته عذاب على صاحبها، وإن كانت عَذْبَةً (4) في مبادئها، فإنَّها عذاب في عواقبها. فإنابةُ العبد -ولو ساعةً من عمره- هذه الإنابة الخالصة أنفعُ له، وأعظمُ ثمرةً من إنابة سنين كثيرة من غيره. فأين إنابة هذا من إنابة من قبله؟ وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء. بل هذا (5) روحه منيبة أبدًا، وإن توارى عنه شهودُ إنابتها باشتغالٍ، فهي كامنة فيها كمونَ النَّارِ في الزِّناد (6).
وأمَّا أصحابُ الإنابات المتقدمة، فإن أناب أحدهم ساعةً بالدعاءِ والذكر والابتهال، فلنفسه وروحه وقلبه (7) وعقله التفاتٌ عمَّن قد أنابَ إليه. فهو ينيب ببعضه ساعةً، ثمَّ يتركُ ذلك مقبلًا على دواعي نفسه وطبعه.
واللَّه الموفق المعين، لا ربَّ غيره، ولا إله سواه.
__________
(1) “ك، ط”: “في الأعمال”.
(2) “ب”: “فروضها”.
(3) “ب”: “الخاصة بها”. وقد سقط من “ك”: “فروضها وسننها. . .” إلى “الخاصة”.
(4) “ب”: “عِذابًا”.
(5) “ط”: “هذه”، خطأ.
(6) “ف”: “الرماد”، تحريف.
(7) “وقلبه” ساقط من “ف”.
(1/376)
قاعدة في ذكر طريق قريب موصِل (1) إلى الاستقامة في الأحوال والأقوال والأعمال.
وهي شيئان:
أحدهما: حراسة الخواطر وحفظها، والحذر كل الحذر (2) من إهمالها والاسترسال معها. فإنَّ أصلَ الفساد كله من قِبلها يجيء؛ لأنَّها هي بذر الشيطان والنفس في أرض القلبِ، فإذا تمكن بذرُها تعاهدها الشيطان بسقيه مرَّةً بعد أخرى حتَّى تصير إرادات، ثُمَّ يسقيها حتَّى تصير (3) عزائم، ثُمَّ لا يزال بها حتى تثمر الأعمال.
ولا ريبَ أنَّ دفعَ الخواطر أيسرُ من دفع الإرادات والعزائم، فيجد العبدُ نفسه عاجزًا أو كالعاجز عن دفعها بعد أن صارت إرادة جازمة، وهو المفرِّط إذ (4) لم يدفعها وهي خاطر ضعيف؛ كمن تهاون بشرارة من نار وقعت في حطَبٍ يابسٍ، فلمَّا تمكنت منه عجزَ عن إطفائها (5).
فإن قلتَ: فما الطريقُ إلى حفظ الخواطر؟
قلتُ: أسباب عدَّة:
__________
(1) “ك، ط”: “طريق يوصل”. وقد استدركت كلمة “قريب” في حاشية “ك”، والقطرية.
(2) “كل الحذر” ساقط من “ك، ط”.
(3) “ط”: “تكون”.
(4) “ك، ط”: “إذا”.
(5) وانظر: عدة الصابرين (96)، والداء والدواء (236).
(1/377)
أحدها: العلم الجازم باطلاع الرب تعالى، ونظره إلى قلبك، وعلمه بتفصيل خواطرك.
الثاني: حياؤك منه.
الثالث: إجلالك له أن يرى مثل تلك الخواطر في بيته الذي خلقه (1) لمعرفته ومحبته.
الرابع: خوفك منه أن تسقط من عينه بتلك الخواطر.
الخامس: إيثارك له أن يساكن (2) قلبك غير محبته.
السادس: خشيتك أن تتولَّد تلك الخواطر، ويستعر شرارُها، فتأكلَ ما في القلب من الإيمان ومحبة اللَّهِ، وتذهب (3) به جملةً (4)، وأنتَ لا تشعر.
السابع: أن تعلم أنَّ تلك الخواطر بمنزلة الحَبِّ الذي يُلقى للطائر ليصاد به، فاعلم أنَّ كلَّ خاطر منها فهو حبَّة في فخ منصوب لصيدك، وأنت لا تشعر.
الثامن: أن تعلمَ أنَّ تلك الخواطر الرديئة لا تجتمع هي وخواطر الإيمان ودواعي المحبة والإنابة أصلًا، بل هي ضدها من كل وجه، وما اجتمعا في قلبٍ إلا وغلبَ أحدُهما صاحبَه، وأخرجه، واستوطن مكانه.
__________
(1) “ط”: “خلق”.
(2) “ك، ط”: “تساكن”.
(3) “ب، ط”: “فتذهب”. “ك”: “فيذهب”.
(4) “ف”: “كله” تحريف.
(1/378)
فما الظن بقلب غلبت خواطرُ النفس والشيطان فيه خواطرَ الإيمان والمحبة والمعرفة (1) فأخرجتها، واستوطنت مكانها؟ لكن لو كان للقلب حياة لشعر بألم ذلك، وأحسَّ بمصابه.
التاسع: أن يُعلم (2) أنَّ تلك الخواطر بحر من بحور الخيال لا ساحل له، فإذا دخل القلبُ في غمراته غرق فيه، وتاه في ظلماته، فيطلب الخلاص منه، فلا يجد إليه سبيلًا. فقلبٌ تملكه الخواطر بعيدٌ من الفلاح، معذَّبٌ، مشغولٌ بما لا يفيد.
العاشر: أنَّ تلك الخواطر هي وادي الحمقى وأماني الجاهلين، فلا تثمر لصاحبها إلا الندامةَ والخزيَ. وإذا غلبت على القلب أورثته الوساوسَ، وعزلته عن سلطانه (3)، وأفسدت عليه رعيته، وألقته في الأسر الطويل.
كما أنَّ هذا معلومٌ في الخواطرِ النفسانية، فهكذا الخواطر الإيمانية الرحمانية، هي أصل الخير كلِّه. فإنَّ أرض القلب متى (4) بُذِرَ فيها خواطرُ الإيمان والخشية والمحبة والإنابة والتصديق بالوعد ورجاءِ الثوابِ، وسُقِيَت مرَّةً بعد مرَّةٍ، وتعاهدها صاحبُها بحفظها ومراعاتها والقيام عليها، أثمرت له كلَّ فعل جميل، وملأت قلبَه من الخيرات، واستعملت جوارحَه في الطاعات واستقرَّ بها الملك في سلطانه،
__________
(1) “ك، ط”: “المعرفة والمحبة”.
(2) الأصل غير منقوط، فيجوز أن يقرأ “تعلم” كما سبق في السابع والثامن. والمثبت من “ف” وغيرها، وقد ضبط في “ب” بضم أوله.
(3) “ك، ط”: “سلطانها”.
(4) “ط”: “إذا”.
(1/379)
واستقامت له رعيته.
ولهذا لما تحقَّقت طائفة من السالكين ذلك عملت على حفظ الخواطر، وكان (1) ذلك هو سيرَها وعملها (2). وهذا نافع لصاحبه بشرطين: أحدهما: أن لا يترك به واجبًا ولا سنَّة، الثاني: أن لا يجعلَ مجرَّد حفظِها هو المقصود. بل لا يتم ذلك إلا بأن يجعل موضعها خواطرَ الإيمان والمحبة والإنابة والتوكل والخشية، فيفرغ قلبه من تلك الخواطر، ويعمره بأضدادها. وإلا فمتى عمل على تفريغه منهما معًا كان خاسرًا، فلا بدَّ من التفطن لهذا.
ومن هنا غلِطَ أقوامٌ من أرباب السلوك، وعملوا على إلقاءِ الخواطرِ وإزالتها جملةً، فبذر فيها الشيطان أنواع الشبه والخيالات، فظنّوها تحقيقًا وفتحًا رحمانيًّا، وهم فيها غالطون، وإنَّما هي خيالات وفتوحات شيطانية (3). والميزان هو الكتاب الناطق، والفطرة السليمة، والعقل المؤيد بنور النبوة، واللَّه المستعان.
فصل (4)
الثاني (5): صدق التأهب للقاءِ اللَّه عزَّ وجلَّ. وهذا (6) من أنفع ما للعبدِ وأبلغِه في حصول استقامته. فإنَّ من استعدَّ للقاءِ اللَّه انقطعَ قلبه عن
__________
(1) “ك، ط”: “فكان”.
(2) “ب، ك”: “جلَّ عملها”، وهي قراءة محتملة. “ط”: “جلَّ أعمالها”.
(3) “وفتوحات” ساقط من “ط”.
(4) “فصل” ساقط من “ب”.
(5) “ب”: “والسبب الثاني”. وقد سقط “الثاني” من “ط”.
(6) “وهذا” ساقط من “ط”.
(1/380)
الدنيا (1) ومطالبها، وخمدت من نفسه نيرانُ الشهوات، وأخبتَ قلبُه إلى ربِّه تعالى (2)، وعكفت همته على اللَّه وعلى محبته وإيثار مرضاته. واستحدث (3) همَّةً أخرى وعلومًا أخر، وولد ولادةً أخرى تكون نسبةُ قلبه فيها إلى الدار الآخرة كنسبة جسمه إلى هذه الدار بعد أن كان في بطن أمِّه، فيولد قلبُه ولادةً حقيقية، كما ولد جسمه حقيقة. وكما كان بطن أمه حجابًا لجسمه عن هذه الدار، فهكذا نفسه وهواه حجاب لقلبه عن الدار الآخرة، فخروج قلبه عن نفسه بارزًا إلى الدار الآخرة كخروج جسمه عن بطن أمه بارزًا إلى هذه الدارِ. وهذا معنى ما يذكر عن المسيح -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: “يا بني إسرائيل، إنَّكم لن تلجوا ملكوتَ السماء حتَّى تولدوا مرَّتين” (4).
ولمَّا كان أكثر الناس لم يولدوا هذه الولادة الثانية ولا تصوروها -فضلًا عن أن يصدقوا بها- فيقول القائل: كيف يولد الرجل الكبير أم (5) كيف يولد القلب، لم يكن لهم إليها همَّة ولا عزيمة، إذ كيف يعزم على الشيء من لا يعرفه ولا يصدّقه؟ ولكن إذا كُشِفَ حجاب الغفلة عن القلب صدَّق بذلك وعلم أنَّه لم يولد قلبُه بعد.
والمقصود أنَّ صدق التأهّب للقاءِ اللَّهِ هو مفتاح جميع الأعمال الصالحة، والأحوال الإيمانية، ومقامات السالكين إلى اللَّه ومنازل
__________
(1) “ك، ط”: “الدنيا وما فيها ومطالبها”.
(2) “ك، ط”: “إلى اللَّه”.
(3) “ك، ط”: “واستحدثت”.
(4) تقدَّم في ص (29).
(5) “ط”: “أو”.
(1/381)
السائرين إليه، من اليقظة والتوبة والإنابة والمحبة والرجاءِ والخشية والتفويض والتسليم وسائر أعمالِ القلوب والجوارح. فمفتاحُ ذلك كلِّه صدقُ التأهب والاستعداد للقاءِ اللَّهِ، والمفتاح بيد الفتَّاحِ العليم، لا إلهَ غيره، ولا ربَّ سواه.
(1/382)
قاعدة شريفة [الطريق إلى اللَّه واحد]الناس قسمان: عِلْية، وسِفْلة، فالعلية من عرف الطريق إلى ربِّه، وسلكها قاصدًا للوصول (1) إليه، وهذا هو الكريم على ربِّه. والسفلة من لم يعرف الطريق إلى ربِّه، ولم يتعرفها، فهذا هو اللئيم الذي قال اللَّه تعالى فيه: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج/ 18].
والطريق إلى اللَّه في الحقيقة واحد لا تعدُّدَ فيه، وهو صراطه المستقيم الذي نصبه موصلًا لمن سلكه إليه (2)، قال اللَّه تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام/ 153]. فوحَّد سبيلَه لأنَّه في نفسه واحد لا تعدُّدَ فيه، وجمع السُّبُل المخالفة لأنَّها كثيرة متعدِّدة، كما ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه (3) خطَّ خطًّا، ثُمَّ قال: “هذا سبيل اللَّه”. ثُمَّ خطَّ خطوطًا عن يمينه وعن يساره، ثُمَّ قال: “هذه سُبُل، على كلِّ سبيلٍ منها شيطانٌ يدعو إليه”، ثُمَّ قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام/ 153] (4).
ومن هذا قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى
__________
(1) “ط”: “الوصول”.
(2) “إليه” ساقط من “ط”.
(3) “ب، ك، ط”: “ثبت أنَّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خط”.
(4) أخرجه أحمد (4142)، والنسائي في الكبرى (1174)، وابن حبان (6، 7)، والحاكم (2/ 239) من حديث عبد اللَّه بن مسعود. وأصله عند البخاري (6054، 6055) عن ابن مسعود وأنس دون ذكر الآية. (ز).
(1/383)
الظُّلُمَاتِ} [البقرة/ 257]. فوحَّد النورَ الذي هو سبيلُه، وجمع الظلمات التي هي سُبُل الشيطان (1).
ومن فهم هذا فَهِمَ السرَّ في إفراد النور وجمع الظلمات في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام/ 1]، مع أنَّ فيه سرًّا ألطفَ من هذا، يعرفه من عرف (2) منبع النور كلّه (3)، ومن أين فاضَ، وعمَّاذا حصل، وأنَّ أصلَه كله واحد. وأمَّا الظلمات فهي متعددة بتعدُّدِ الحُجُب المقتضية لها، وهي كثيرةٌ جدًّا، لكلِّ حجاب ظلمة خاصَّة. ولا ترجع الظلماتُ إلى النورِ الهادي جلَّ جلاله أصلًا، لا وصفًا ولا ذاتًا، ولا اسمًا ولا فعلًا، وإنَّما ترجع إلى مفعولاته سبحانه، فهو جاعلُ الظلمات، ومفعولاتُه (4) متعددة متكثرة، بخلاف النور فإنَّه يرجع إلى اسمه وصفته جلَّ جلاله، تعالى أن يكون كمثله شيءٌ، فهو (5) نور السماواتِ والأرضِ.
قال ابن مسعود: “ليس عندَ ربِّكم ليلٌ ولا نهار، نور السماوات والأرضِ من نور وجهه”. ذكره الدارمي عنه (6). وفي صحيح مسلم (7) عن أبي ذرٍّ، قلتُ: يا رسول اللَّه هل رأيت ربَّك؟ قال: “نورٌ، أنَّى أراهُ! “.
__________
(1) وانظر: بدائع الفوائد (1/ 208).
(2) “ك، ط”: “يعرف”.
(3) “كله”: ساقط من “ط”.
(4) “ط”: “مفعولاتها”.
(5) “ك، ط”: “وهو”.
(6) تقدم في ص (262).
(7) في كتاب الإيمان (178).
(1/384)
والمقصودُ أنَّ الطريقَ إلى اللَّه واحد، فإنَّه هو (1) الحقُّ المبين، والحق واحد، مرجعه إلى واحد، وأمَّا الباطل والضلال فلا ينحصر، بل كل ما سواه باطل (2)، وكل طريق إلى الباطل فهو باطل. فالباطل متعدِّد، وطرقه متعددة.
وأمَّا ما يقع في كلام بعض العلماءِ أنَّ الطرق (3) إلى اللَّهِ متعددة متنوعة، جعلها اللَّه كذلك لتنوع الاستعدادت واختلافها، رحمةً منه وفضلًا فهو صحيح لا ينافي ما ذكرناه من وحدة الطريق.
وكشف ذلك وإيضاحه أنَّ الطريقَ (4) واحدة جامعة لكلِّ ما يرضي اللَّه. وما يرضيه سبحانه متعدِّدٌ متنوعٌ، فجميعُ ما يُرضيه طريق واحد، ومراضيه متعددة متنوعة بحسب الأزمان والأماكن والأشخاص والأحوال، فكلُّها (5) طرُق مرضاته. فهذه هي (6) التي جعلها اللَّه سبحانه برحمته (7) وحكمته كثيرةً متنوعةً جدًّا لاختلاف استعدادات العباد وقوابلهم. ولو جعلها نوعًا واحدًا مع اختلاف الأذهان والعقول وقوَّة الاستعدادت وضعفها لم يسلكها إلا واحدٌ بعد واحدٍ. ولكن لمَّا اختلفت الاستعدادت تنوعت الطرق ليسلك كلّ امرئٍ إلى ربِّه طريقًا يقتضيها استعدادُه وقوتُه وقبولُه.
__________
(1) “هو” ساقط من “ك، ب، ط”.
(2) “باطل” ساقط من “ف”.
(3) “ب، ك، ط”: “الطريق”.
(4) “ب، ك، ط”: “الطريق هي”.
(5) “ب، ك، ط”: “وكلها”.
(6) “هي” ساقط من “ط”.
(7) “ط”: “لرحمته”.
(1/385)
ومن هنا يُعلَم تنوُّعُ الشرائع واختلافُها مع رجوعها كلِّها إلى دينٍ واحد، بل تنوعُ الشريعة الواحدة (1)، مع وحدة المعبود ودينه. ومنه الحديث المشهور: “الأنبياءُ أولادُ عَلَّات، دينُهم واحد” (2). فأولادُ العلَّات أن يكون الأبُ واحدًا والأُمَّهاتُ متعدِّدة، فشبَّه دينَ الأنبياءِ بالأب الواحد، وشرائعهم بالأُمَّهاتِ المتعددة. فإنَّها وإن تعددت فمرجعها كلها (3) إلى أب واحد.
وإذا عُلِمَ هذا فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي تعبَّد بسلوكه (4) إلى اللَّه طريق العلم والتعليم، وقد وفَّرَ عليه زمانَه مبتغيًا به وجه اللَّه. فلا يزال كذلك عاكفًا على طريق العلم والتعليم حتَّى يصل من تلك (5) الطريق إلى اللَّهِ، ويفتح له فيها الفتح الخاص، أو يموت في طريق طلبه، فيرجى له الوصول إلى مطلبه بعد مماته. قال تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء/ 100]. وقد حكي عن جماعة كثيرة ممَّن أدركه الأجل، وهو حريص طالب للقرآن، أنَّه رُئي بعد موته، وأخبرَ أنَّه في تكميل مطلوبه وأنَّه يتعلَّم في البرزخ؛ فإنَّ العبد يموت على ما عاش عليه.
ومن الناس من يكون سيّد عمله الذكر، وقد جعله زادَه لمعاده،
__________
(1) “بل تنوع الشريعة الواحدة” ساقط من “ط”. أمَّا في “ب” فقد سقط منها من “مع رجوعها” إلى “الواحدة”.
(2) زاد في “ب”: “وأمهاتهم شتَّى”. والحديث أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3442)، ومسلم في كتاب الفضائل (2365) عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.
(3) “ك، ط”: “فمرجعها إلى أب واحد كلها”.
(4) “ط”: “بعد سلوكه”.
(5) “ب”: “ذلك”.
(1/386)
ورأسَ ماله لمآله، فمتى فتَر عنه أو قصّر فيه (1) رأى أنَّه قد غُبِن وخَسِر.
ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة، فمتى قصّر في وِرْده (2) منها، أو مضى عليه وقت، وهو غير مشغولٍ بها أو مستعدٍّ لها، أظلم عليه وقتُه، وضاق صدُره.
ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدّي، كقضاءِ الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات (3)، وأنواع الصدقات، قد فتح له في هذا، وسلك منه طريقًا إلى ربّه.
ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن، فهي (4) الغالب على أوقاته، وهي أعظم أوراده.
ومنهم من يكون طريقه الصوم فهو متى أفطر تغيّر عليه قلبُه، وساءَت حاله (5).
ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد فُتِح (6) له فيه، ونفذ منه إلى ربّه.
ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ فيه الحجّ والاعتمار.
__________
(1) “فيه” ساقط من “ك، ط”. وفي “ب”: “عنه”.
(2) “ف”: “ورد منها”، خلافًا للأصل.
(3) “ف”: “اللهفان” خلاف الأصل.
(4) “ب، ك، ط”: “وهي”.
(5) العبارة “ومن الناس من يكون طريقه الصوم. . ساءت حاله” مقدمة على العبارة السابقة المتعلقة بالقرآن في “ك، ط”.
(6) “ك، ط”: “فتح اللَّه”.
(1/387)
ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق، وتجريد الهمّة، ودوام المراقبة، ومراعاة الخواطر، وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة.
ومنهم الجامع الفَذّ (1)، السالك إلى اللَّه في كلِّ واد، الواصل إليه من كلّ طريق. فهو قد جعل (2) وظائفَ عبوديته قِبلةَ قلبه ونصبَ عينه، يؤمّها أين كانت، ويسير معها حيث سارت، قد ضرب مع كلّ فريق بسهم. فأين كانت العبوديةُ وجدتَه هناك: إن كان علمٌ وجدتَه مع أهله، أو جهاد وجدتَه في صفّ المجاهدين، أو صلاة وجدتَه في القانتين، أو ذكر وجدتَه في الذاكرين، أو إحسان ونفع وجدتَه في زمرة المحسنين، أو مراقبة ومحبّة (3) وإنابة إلى اللَّه وجدتَه في زمرة المحبّين المنيبين. يدين بدين العبوديّة أنَّى استقلَّتْ ركائبُها، ويتوجّه إليها حيث استقرّت مضاربُها. لو قيل له: ما تريد من الأعمال؟ لقال: أريد أن أنفّذ أوامرَ ربّي حيث كانت، وأين (4) كانت، جالبةً ما جلبَتْ، مقتضيةً ما اقتضتْ، جمعتني أو فرّقتني؛ ليس لي مراد إلَّا تنفيذها والقيام بأدائها مراقبًا له فيها، عاكفًا عليه بالروح والقلب والبدن والسرّ. قد سلّمتُ إليه المبيعَ منتظرًا منه تسليمَ الثمن. {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة/ 111].
فهذا هو العبد السالك إلى ربّه، النافذ إليه حقيقة. ومعنى النفوذ إليه
__________
(1) “ط”: “جامع المنفذ”، تحريف.
(2) “ك، ط”: “فهو جعل”.
(3) “ب، ك، ط”: “محبة ومراقبة”.
(4) “ف”: “وإن”.
(1/388)
أن يتّصل به قلبه ويعلق (1) به تعلّقَ المحبِّ التامِّ المحبّة لمحبوبه (2)، فيسلو به عن جميع المطالب سواه، فلا يبقى في قلبه إلَّا اللَّه (3) وأمره وطلب التقرّب إليه. فإذا سلك العبد على هذا الطريق عطف عليه ربُّه، فقرَّبه، واصطفاه، وأخذ بقلبه إليه، وتولاه في جميع أموره في معاشه ودينه، وتولّى تربيته أحسن وأبلغ مما يربّي الوالدُ الشفيقُ ولدَه. فإنَّه سبحانه القيّوم المقيم لكل شيء من المخلوقات طائعها وعاصيها، فكيف تكون قيوميّته بمن أحبّه، وتولاه، وآثره على ما (4) سواه؛ ورضي به من الناس حبيبًا وربًّا، ووكيلًا وناصرًا ومعينًا وهاديًا؟ فلو كشف الغطاءَ عن ألطافه به (5) وبرّه وصنعه له، من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم، لذاب قلبُه حبًّا (6) له وشوقًا إليه، وتقطّع (7) شكرًا له. ولكن حجب القلوبَ عن مشاهدة ذلك إخلادُها إلى عالم الشهوات والتعلّق بالأسباب، فصُدّت عن كمال نعيمها، وذلك تقدير العزيز العلم. وإلّا فأيّ قلب يذوق حلاوةَ معرفة اللَّه ومحبّته، ثمَّ يركن إلى غيره، ويسكن إلى سواه (8)؟ هذا ما لا يكون أبدًا.
ومن ذاق شيئًا من ذلك، وعرف طريقًا (9) موصلةً إلى اللَّه، ثمّ تركها،
__________
(1) “ب”: “يتعلّق”.
(2) “ب، ك، ط”: “بمحبوبه”.
(3) “ك، ط”: “محبة اللَّه”.
(4) “ف”: “عليها”، تحريف.
(5) “به”: ساقط من “ك، ط”.
(6) “ك، ط”: “محبة”.
(7) “ف”: “يقطع”. وفي “ط”: “يقع”، تحريف.
(8) “ك، ط”: “ما سواه”.
(9) “ف”: “طريقة”، خلاف الأصل.
(1/389)
وأقبل على إراداته (1) وراحاته وشهواته ولذّاته، وقع في آبار (2) المعاطب، وأودع قلبَه سجونَ المضايق، وعُذِّب في حياته عذابًا لم يعذَّبْه (3) أحدٌ من العالمين. فحياته عجز وغمّ وحزن، وموته كمد (4) وحسرة، ومعاده أسف وندامة. قد فرط عليه أمرُه، وشُتِّت عليه شملُه، وأحضِرتْ (5) نفسُه الغمومَ والأحزان. فلا لذّة الجاهلين، ولا راحة العارفين (6). يستغيث فلا يُغاث، ويشتكي فلا يُشكَى. قد (7) ترحّلت أفراحُه وسروره مدبرةً، وأقبلت آلامُه وأحزانُه وحسراته مقبلةً (8). قد (9) أبدل بأُنسه وحشةً، وبعزّه ذلًّا، وبغناه فقرًا، وبجمعيته تشتّتًا (10).
وأبعدوه فلم يظفَرْ بقربهِمُ … وأبدلوه مكانَ الأنسِ إيحاشا (11)
ذلك بأنّه عرف طريقه إلى اللَّه، ثمّ تركها ناكبًا عنها مكِبًّا (12) على
__________
(1) “ك، ط”: “إرادته”.
(2) “ب، ك، ط”: “آثار”، تصحيف.
(3) كذا في الأصل و”ف” وهو صواب محض، وفي غيرهما: “لم يعذب به”.
(4) “ك، ط”: “كدر”، تحريف.
(5) “ط”: “أحضر”.
(6) “ف”: “الغافلين”، خلاف الأصل.
(7) “ط”: “فقد”.
(8) “مقبلة” سقط من “ب، ك، ط”. ولعله حذف لأجل الفعل “أقبلت”.
(9) “ط”: “فقد”.
(10) “ط”: ” تشتيتًا”.
(11) أثبت البيت في “ط” منثورًا. وهو من ثلاثة أبيات ذكرها المؤلف في بدائع الفوائد (3/ 847). وهي من قصيدة في ديوان الحلَّاج (50) مع خلاف في الرواية. وفي “ب”: “فكان الأنس”، تحريف.
(12) “مكبًّا” ساقط من “ك”. وفي “ب”: “منكبًّا”.
(1/390)
وجهه، فأبصر ثمّ عمي، وعرف ثمّ أنكر، وأقبل ثمّ أدبر، ودُعي فما أجاب، وفُتِح له فولّى ظهرَه الباب! قد ترك طريق مولاه، وأقبل بكلّيّته على هواه. فلو نال بعض حظوظه، وتلذّذ براحاته وشهواته (1)، فهو مقيّد القلب عن انطلاقه في فسيح التوحيد، وميادين الأُنس، ورياض المحبّة، وموائد القرب.
قد انحطّ بسبب إعراضه عن إلهه الحقّ إلى أسفل سافلين، وحصل في عداد الهالكين. فنارُ الحجاب تطّلِع كلّ وقت على فؤاده، وإعراضُ الكون عنه -إذ أعرض ربّه (2) – حائلٌ بينه وبين مراده. قبرٌ (3) يمشي على وجه الأرض، فروحُه (4) في وحشةٍ في جسمه (5)، وقلبُه في مَلالٍ (6) من حياته. يتمنّى الموت ويشتهيه، ولو كان فيه ما فيه؛ حتّى إذا جاءَه الموت على تلك الحال -والعياذ باللَّه- فلا تسأل عمّا يحِلّ به من العذاب الأليم بسبب وقوع الحجاب بينه وبين مولاه الحقّ (7)، وإحراقه بنار البعد عن قربه والإعراض عنه، وقد حيل بينه وبين سعادته وأمنيّته.
__________
(1) في “ف” وغيرها: “شؤونه”، ولا معنى له في هذا السياق. ثُمَّ رسمه في الأصل: “شووته” بواوين ونقطتي التاء. وكلمة “الشؤون” في الإملاء القديم تكتب بواو واحدة. ولعلَّ الصواب ما أثبتنا استئناسًا باقتران الشهوات بالراحات قبل أسطر.
(2) كذا في الأصل. وفي حاشية “ف”: “عنه” مع علامة لم تتضح في الصورة. وفي غيرهما: “عن ربه”.
(3) تحرف “قبر” في “ك” إلى “فهو”. وفي “ط”: “فهو قبر”.
(4) “ك، ط”: “وروحه”.
(5) “ط”: “من جسمه”. “ب”: “وجسمه”.
(6) “ب، ك”: “هلاك”، تحريف.
(7) “الحق” ساقط من “ب”.
(1/391)
فلو توهّم العبد المسكين هذه الحالَ، وصوّرَتْها له نفسُه، وأرته إيّاها على حقيقتها، لتقطع واللَّهِ قلبُه، ولم يلتذَّ بطعام ولا شراب؛ ولخرج إلى الصُّعُدات (1) يجأَر إلى اللَّه، ويستغيث به، ويستعتبه (2) في زمن الاستعتاب. هذا مع أنَّه إذا آثر شهواته ولذّاته الفانية التي هي كخيال طَيف أو مُزنة صَيف نُغِّصت عليه لذّتُها أحوجَ ما كان إليها، وحيل بينه وبينها أقدرَ ما كان عليها!
وتلك سنّة اللَّه في خلقه، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس/ 24].
وهذا هو غِبّ إعراضه وإيثاره شهوتَه (3) على مرضاة ربّه، فيعوّق (4) القدرُ عليه أسبابَ مراده، فيخسر الأمرين جميعًا. فيكون معذَّبًا في الدنيا بتنغيص شهواته وشدة اهتمامه بطلب ما لم يُقسَم له، وإن قُسِم له منه شيء فحشوه الخوفُ والحزن (5) والنكد والألم. فهمٌّ لا ينقطع، وحسرة لا تنقضي، وحرص لا ينفد، وذلّ لا ينتهي، وطمع لا يُقلِع!
__________
(1) الصعدات: الطرق أو البراري والصحاري وبكليهما فسرت الكلمة في حديث أبي ذر: “ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى اللَّه”. أخرجه الترمذي في الزهد (2414). انظر: تحفة الأحوذي (6/ 496).
(2) “ب”: “يستعينه”.
(3) “ك، ط”: “إيثار شهوته”.
(4) “ط”: “يعوق”.
(5) “ك”: “الحزن والخوف”.
(1/392)
هذا في هذه الدار، وأمَّا في البرزخ فأضعاف أضعاف ذلك! قد حيل بينه وبين ما يشتهي، وفاته ما كان يتمنّاه من قُرب ربه وكرامته ونيل ثوابه، وأحضِرَ جميعَ غمومه وأحزانه. وأمَّا في دار الجزاءِ فسجن أمثاله من المبعودين (1) المطرودين. فواغوثاه ثمّ واغوثاه بغياث المستغيثين وأرحم الراحمين!
فمن أعرض عن اللَّه بالكلّية أعرض اللَّهُ عنه بالكلّية. ومن (2) أعرض اللَّه عنه لزمه الشقاءُ والبؤس والبخس في أحواله وأعماله، وقارنه (3) سوءُ الحال وفسادُه في دينه ومآله. فإنّ الربّ تعالى إذا أعرض عن جهة دارت بها النحوس، وأظلمت أرجاؤها، وانكسفت أنوارها، وظهر (4) عليها وحشة الإعراض، وصارت مأوى للشياطين، وهدفًا للشرور، ومصبًّا للبلاءِ.
فالمحروم كلّ المحروم من عرف طريقًا إليه، ثمَّ أعرضَ عنها؛ أو وجد بارقةً من حبه ثمَّ سُلِبَها، لم ينفذ إلى ربِّه منها، خصوصًا إذا مالَ بتلك الإرادة إلى شيءٍ من اللذات، أو انصرفَ (5) بجملته إلى تحصيل الأعراض (6) والشهوات، عاكفًا على ذلك ليله ونهاره وغدوه ورواحه، هابطًا من الأوج الأعلى إلى الحضيض الأدنى.
__________
(1) كذا وردت الكلمة في الأصل وغيره، وهي من الألفاظ الدارجة في زمن المصنف وبعده. والفصيح: “المبعدون”.
(2) “ب”: “وإذا”.
(3) “ب”: “قام به”، تحريف.
(4) “ط”: “ظهرت”.
(5) “ك، ط”: “وانصرف”.
(6) “ف، ب، ط”: “الأغراض”.
(1/393)
قد مضت عليه برهةٌ من أوقاته، وكان همه اللَّه، وبغيته قربه ورضاه وإيثاره على كلِّ ما سواه، على ذلك يصبح ويمسي، ويظل ويضحي، وكان اللَّه في تلك الحال وليَّه (1)، لأنَّه وليُّ من تولاه، وحبيب من أحبَّه ووالاه. فأصبحَ في سجن الهوى ثاويًا، وفي أسر العدو مقيمًا، وفي بئر المعصية ساقطًا، وفي أودية الحيرة والتفرقة هائمًا، معرضًا عن المطالب العالية إلى الأغراض (2) الخسيسة الفانية. كان قلبه يجول (3) حول العرش، فأصبحَ محبوسًا في أسفلِ الحُشِّ.
فأصبحَ كالبازي المنتَّفِ ريشُه … يرى حسراتٍ كلَّما طارَ طائرُ
وقد كان دهرًا في الرياضِ منعَّمًا … على كلِّ ما يهوى من الصيدِ قادرُ
إلى أن أصابته من الدهرِ نَكبةٌ … إذا هو مقصوصُ الجناحين حاسِرُ (4)
فيا من ذاقَ شيئًا من معرفة ربِّه ومحبته، ثُمَّ أعرضَ عنها، واستبدل بغيرها منها، يا عجبًا له بأي شيءٍ (5) تعوَّضَ! وكيف قرَّ قرارُه، فما طلبَ الرجوعَ إلى أحبّته (6) وما تعرَّض! وكيف اتخذَ سوى أحبّته (7) سكنًا،
__________
(1) “وكان اللَّه. . .” إلى هنا ساقط من “ب”.
(2) ضبط بالغين المعجمة في الأصل خلافًا لما سبق قبل أسطر. وفي “ك”: “الأعراض”.
(3) “ط”: “يحوم”.
(4) من أربعة أبيات وردت دون عزو في المدهش (458) مفتوحة القافية، والبيت الأوَّل مع آخر أوردهما الثعالبي في ثمار القلوب (455)، والتمثيل والمحاضرة (366).
(5) “ب”: “بأي عوض”.
(6) “ط”: “أحنيته”، تصحيف، ويشبهه ما في “ك”.
(7) “ط”: “أحنيته”.
(1/394)
وجعل قلبه لمن عاداه مولاه من أجله موطنًا! أم كيف طاوعه قلبه على الاصطبار، ووافقه على مساكنة الأغيار!
فيا معرضًا عن حياته الدائمة ونعيمه المقيم، ويا بائعًا سعادته العظمى بالعذاب الأليم. ويا مُسْخِطًا مَن حياتُه وراحتُه وفوزُه في رضاه، وطالبًا رضى مَن سعادتُه في إرضاءِ سواه. إنَّما هي لذَّةٌ فانية، وشهوة منقضية، تذهب لذَّاتها، وتبقى تبعاتها. فرحُ ساعةٍ لا شهر، وغمُّ سنة بل دهر. طعامٌ لذيذ مسموم، أوَّلهُ لذَّة وآخره هلاك. فالعامل عليها والساعي في تحصيلها كدودة القزّ، يسدُّ على نفسه (1) المذاهب، بما نسجَ عليها من المعاطب. فيندم حين لا تنفع الندامة، ويستقيل حين لا تُقبَل الاستقالة.
فطوبى لمن أقبل على اللَّه بكليته، وعكف عليه بإرادته ومحبته، فإنَّ اللَّه يُقبِل عليه بتوليه ومحبته وعطفه ورحمته. وإنَّ اللَّه سبحانه إذا أقبلَ على عبدٍ (2) استنارت جهاتُه، وأشرقت ساحتُها (3)، وتنورت ظلماتُها (4)، وظهرت عليه آثار إقباله من بهجة الجلال وآثار الجمال، وتوجَّه إليه أهلُ الملأ الأعلى بالمحبة والموالاة لأنَّهم تبع لمولاهم. فإذا أحب عبدًا أحبوه، وإذا والى وليًّا والَوه. “إذا أحبَّ اللَّه العبد نادى: يا جبريلُ إنِّي أحبُّ فلانًا فأحِبَّه، فينادي جبريل في السماء: إنَّ اللَّهَ يحب فلانًا فأحِبُّوه. فيحبه أهلُ السَّماءِ ثُمَّ يحبه أهلُ الأرضِ، فيوضع له القبول
__________
(1) “ك”: “تسد على نفسها”.
(2) في حاشية “ب”: “خ العبد”.
(3) كذا في الأصل و”ب”. وفي “ف، ك”: “ساحاتها”، وفي “ط”: “ساحاته”.
(4) “ط”: “ظلماته”.
(1/395)
بينهم” (1)، ويجعل اللَّه قلوب أوليائه تفِدُ إليه بالود والمحبَّة والرحمة. وناهيك بمن يتوجَّه إليه مالك الملك ذو الجلالِ والإكرام بمحبته، ويقبل عليه بأنواع كرامته، ويلحظه الملأ الأعلى وأهل الأرضِ بالتبجيل والتكريم. وذلك فضلُ اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق (3209) وغيره، ومسلم في كتاب البر والصلة (2637) عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.
(1/396)
قاعدة (1) [السير إلى اللَّهِ لا يتمّ إلا بقوتين: علمية وعملية]السائر إلى اللَّه والدار الآخرة، بل كلُّ سائرٍ إلى مقصد، لا يتم سيرُه ولا يصلُ إلى مقصوده إلا بقوَّتين: قوَّة علمية، وقوَّة عملية (2).
فبالقوَّة العلمية يبصر منازل الطريق ومواضع السلوك، فيقصدها سائرًا فيها، ويجتنب أسبابَ الهلاكَ، ومواضعَ العطب، وطرقَ المهالك المنحرفة عن الطريق الموصل. فقوَّتُه العلمية كنورٍ عظيم بيده، يمشي به (3) في ليلة مظلمة (4) شديدة الظلمة. فهو يبصرُ بذلك النورِ ما يقع الماشي في الظلمة في مثله من الوِهاد والمتالف، ويعثر به من الأحجار والشوك وغيره. ويبصر بذلك النور أيضًا أعلامَ الطريقَ وأدلتها المنصوبة عليها، فلا يضل عنها. فيكشف له النور عن الأمرين: أعلام الطريق، ومعاطبها (5).
وبالقوَّة العملية يسير حقيقةً، بل السيرُ هو حقيقة القوَّة العملية، فإنَّ السيرَ هو عمل المسافر (6). وكذلك السائر إلى ربِّه إذا أبصرَ الطريق وأعلامَها، وأبصرَ المعاثر (7) والوهاد والطرق الناكبة عنها، فقد حصل له شطر السعادة والفلاح. وبقيَ عليه الشطر الآخر، وهو أن يضع عصاه
__________
(1) في “ب”: “قاعدة شريفة”.
(2) وانظر مفتاح دار السعادة (1/ 214).
(3) “به” ساقط من “ك، ط”.
(4) “ك، ط”: “ليلة عظيمة مظلمة”.
(5) “ب”: “معالمها”، تحريف.
(6) “ب”: “السائر”.
(7) “ك”: “المغايرة”، تصحيف.
(1/397)
على عاتقه، ويشمِّر مسافرًا في الطريق، قاطعًا منازلها منزلةً بعد منزلةٍ. فكلَّما قطع مرحلةً استعدَّ لقطع الأُخرى، واستشعر القرب من المنزل، فهان (1) عليه مشقَّةُ السفر. وكلَّما شكت (2) نفسه من كلال السير ومواصلة الشد والرحل وعَدَها قُربَ التلاقي وبردَ العيش عند الوصول، فيحدث لها ذلك نشاطًا وفرحًا وهمَّة. فهو يقول: يا نفس أبشري، فقد قرب المنزل، ودنا التلاقي، فلا تنقطعي في الطريق دون الوصول، فيحال بينك وبين منازل الأحبة، فإن صبرتِ وواصلتِ السُّرى (3) وصلتِ حميدةً مسرورةً جذِلةً، وتلقَّتك الأحبة بأنواع التحف والكرامات. وليس بينك وبين ذلك إلا صبر ساعةٍ، فإنَّ الدنيا كلها كساعة من ساعاتِ الآخرة، وعمرك درجة من درج تلك الساعة، فاللَّه اللَّه لا تنقطعي في المفازة، فهو واللَّه الهلاك والعطب لو كنت تعلمين!
فإن استصعبتْ عليه (4) فليذكِّرها ما أمامها من أحبابها، وما لديهم من الإكرام والإنعام، وما خلفها من أعدائها وما لديهم من الإهانة والعذاب وأنواع البلاءِ. فإنْ رجعت فإلى أعدائها رجوعُها، وإن تقدَّمت فإلى أحبابها مصيرُها، وإن وقفت في طريقها أدركها أعداؤها، فإنَّهم وراءَها في الطلب. فلا بدَّ (5) لها من قسم من هذه الأقسام الثلاثة فلتختر أيها شاءت.
__________
(1) “ط”: “فهانت”.
(2) “ك، ط”: “سكنت”، تحريف.
(3) “ك”: “المسير”. “ط”: “المسرى”.
(4) “عليه” ساقط من “ب”.
(5) “ب، ك، ط”: “ولا بد”.
(1/398)
وليجعلْ (1) حديث الأحبة حاديَها وسائقَها، ونورَ معرفتهم وإرشادهم هاديَها ودليلَها، وصدقَ ودادهم وحبهم غذاءَها وشرابَها ودواءَها. ولا يوحشنَّه (2) انفرادُه في طريق سفره، ولا يغترَّ بكثرة المنقطعين، فألمُ انقطاعه وبعاده واصلٌ إليه دونهم، وحظُّه من القرب والكرامة مختصٌّ به دونهم، فما معنى الاشتغال بهم والانقطاع معهم؟
وليعلمْ أنَّ هذه الوحشة لا تدوم، بل هي من عوارض الطريق، فسوف تبدو له الخيام، وسوف يخرج إليه المتلقون (3) يهنئونه بالسلام والوصول إليهم. فيا قرَّةَ عينه إذ ذاك، ويا فرحته إذ يقول: {يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس/ 26 – 27].
ولا يستوحشْ ممَّا يجده من كثافة الطبع، ودرَن (4) النفس، وبطءِ سيرها. فكلَّما أدمن السير وواظبَ عليه غدوًّا ورواحًا وسحرًا قرُبَ من المنزل (5)، وتلطفت تلك الكثافة، وذابت تلك الخبائث والأدران، وظهرت (6) عليه همَّة المسافرين وسيماهم، فتبدَّلت وحشتُه أُنسًا، وكثافتُه لطافة، ودرنُه طهارة.
__________
(1) “ب، ك”: “ولتجعل”، تصحيف.
(2) “ب، ك، ط”: “ولا يوحشه”.
(3) في الأصل: “الملتقون”، ولعله سهو، وكذا في “ف، ب”. والمثبت من “ك، ط”.
(4) “ك”: “دُؤب”، “ط”: “ذوب”، تحريف.
(5) “ك، ط”: “من الدار”.
(6) “ك، ط”: “فظهرت”.
(1/399)
فصل (1)
فمن النَّاسِ من تكون (2) له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازلها وأعلامها وعوارضها ومعاثرها، وتكون هذه القوَّة أغلبَ القوَّتين عليه، ويكون ضعيفًا في القوَّة العملية. يبصر الحقائق ولا يعمل بموجبها، ويرى المتالف والمخاوف والمعاطب ولا يتوقَّاها. فهو فقيه ما لم يحضر العمل، فإذا حضر العمل شارك الجُهَّال في التخلف، وفارقهم في العلم. وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المشتغلة بالعلم، والمعصوم من عصمه اللَّه، فلا قوَّة إلا باللَّه (3).
ومن النَّاسِ من تكون له القوة العلمية الإراديّة، وتكون أغلبَ القوتين عليه. وتقتضي هذه القوة السير والسلوك (4)، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، والجِدّ والتشمير في العمل. ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد، والانحرافات في الأعمال والأحوال (5) والمقامات، كما كان الأوَّل ضعيف العقل عند ورود الشهوات. فداءُ هذا من جهله، وداءُ الأوَّل من فساد إرادته وضعف عقله.
وهذا حال أكثر أرباب الفقر والتصوف السالكين على غير طريق العلم، بل على طريق الذوق والوجد والعادة. يُرَى (6) أحدهم أعمى عن
__________
(1) انظر: مفتاح دار السعادة (1/ 378).
(2) “ك، ط”: “يكون”. والأصل غير منقوط.
(3) “ط”: “ولا قوة”.
(4) “ب”: “السكوت”، تحريف.
(5) “ب، ك، ط”: “الأقوال”.
(6) “ب”: “ترى”.
(1/400)
مطلوبه، لا يدري من يعبد، ولا بماذا يعبده. فتارةً يعبده بذوقه ووجده، وتارةً يعبده بعادة (1) قومه وأصحابه من لبس معين، أو كشف رأس، أو حلق لحية ونحوها. وتارةً يعبده بالأوضاع التي وضعها بعضُ المتحَذْلقين وليس لها (2) أصل في الدِّين. وتارةً يعبده بما تحبه نفسُه وتهواه كائنًا ما كان. وهنا طرق ومتاهات لا يحصيها إلا ربُّ العباد (3). فهؤلاءِ كلُّهم عُمْيٌ عن ربِّهم وعن شريعته ودينه، لا يعرفون شريعته ودينه الذي بعث به رسلَه، وأنزل به كتبَه، ولا يقبل من أحدٍ دينًا سواه؛ كما أنَّهم لا يعرفون صفاتِ ربِّهم التي تعرَّف بها إلى عباده على ألسنة رسله، ودعاهم إلى معرفته ومحبته (4) من طريقها، فلا معرفة (5) بالرب ولا عبادة له.
فمن (6) كانت له هاتان القوتان استقام له سيرُه إلى اللَّه تعالى، ورجي له النفوذ، وقوي على رد القواطع والموانع بحول اللَّه وقوَّته. فإنَّ القواطع كثيرة، شأنها شديد، لا يخلص من حبائلها إلا الواحد بعد الواحد. ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورةً بالسالكين. ولو شاء اللَّه لأزالها وذهب بها، ولكن اللَّه يفعل ما يريد.
والوقت هو (7) -كما قيل- سيفٌ، فإن قطعتَه وإلا قطعك. فإذا كان
__________
(1) “ب”: “بعبادة”، تحريف.
(2) “ك، ط”: “له”، خطأ.
(3) “ب”: “اللَّه رب العباد”.
(4) “التي تعرف” إلى هنا ساقط من “ب”.
(5) “ط”: “معرفة له”.
(6) “ط”: “ومن”.
(7) “هو” ساقط من “ط”.
(1/401)
السير ضعيفًا، والهمَّة ضعيفة، والعلم بالطريق ضعيفًا (1)، والقواطع الخارجة والداخلة كثيرةً شديدة = فإنَّه جهد البلاءِ، ودرك الشقاء، وسوء القضاء (2)، وشماتة الأعداء؛ إلا أن يتدارك (3) اللَّه برحمةٍ منه من حيث لا يحتسب: يأخذ (4) بيده، ويخلصه من أيدي القواطع. واللَّه ولي التوفيق.
__________
(1) “والهمة. . .” إلى هنا ساقط من “ب”.
(2) “سوء القضاء” ساقط من “ط”.
(3) “ط”: “يتداركه”.
(4) كذا في الأصل و”ف”. وفي غيرهما: “فيأخذ”.
(1/402)
قاعدة نافعة [أقسام العباد في سفرهم إلى ربهم]العبدُ من حين استقرَّت قدمه في هذه الدار فهو مسافر إلى ربِّه، ومدَّة سفره هي عمره الذي كتب له. فالعمر هو مدَّة سفر الإنسان في هذه الدار إلى ربِّه تعالى، ثُمَّ قد جعلت الأيام والليالي مراحل لسفره، فكلُّ يوم وليلة مرحلةٌ من المراحل، فلا يزالُ يطويها مرحلةً بعد مرحلةٍ حتَّى ينتهي السفر.
فالكيّس الفطِن هو الذي يجعل كل مرحلة نصب عينيه، فيهتم بقطعها سالمًا غانمًا، فإذا قطعها جعل الأخرى نصب عينيه. ولا يطول عليه الأمد، فيقسو قلبه، ويمتد أمله، ويحضره (1) التسويفُ والوعد والتأخير والمطل؛ بل يعدّ عمرَه تلك المرحة الواحدة، فيجتهد في قطعها بخير ما بحضرته. فإنَّه إذا تيقن قِصَرَها وسرعة انقضائها هان عليه العمل، وطوَّعت (2) له نفسه الانقياد إلى التزود؛ فإذا استقبل المرحلة الأخرى من عمره استقبلها كذلك. فلا يزالُ هذا دأبه حتَّى يطوي مراحل عمره كلَّها، فيحمد سعيَه (3)، ويبتهج بما أعدَّه ليوم فاقته وحاجته. فإذا طلع صبح الآخرة، وانقشع ظلام الدنيا، فحينئذٍ يحمد سُراه، وينجلي (4) عنه كَراه. فما أحسنَ ما يستقبل يومَه، وقد لاحَ صباحُه، واستبانَ فلاحُه!
__________
(1) “ك، ط”: “يحضر بالتسويف”.
(2) “ب، ك، ط”: “فطوعت”.
(3) “ب”: “تعبه”.
(4) “ب”: “ينحل”، تحريف، وفي “ك، ط”: “ينجاب”.
(1/403)
ثمّ النَّاس في قطع هذه المراحل قسمان:
فقسم قطعوها مسافرين فيها إلى دار الشقاءِ، فكلَّما قطعوا مرحلةً منها (1) قربوا من تلك الدَّار، وبعدوا عن ربهم وعن دار كرامته. فقطعوا تلك المراحل بمساخط الرب ومعاداته، ومعاداة رسله وأوليائه ودينه، والسعي في إطفاء نوره، وإبطال دعوته -دعوة الحق (2) – وإقامة دعوة غيرها. فهؤلاءِ جعلت أيَّامهم مراحل (3) يسافرون فيها (4) إلى الدار التي خلقوا لها، واستعملوا بعملها (5)، فهم مصحوبون فيها بالشياطين الموكلة بهم حتى يسوقونهم (6) إلى منازلهم سوقًا، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم/ 83] أي تزعجهم إلى المعاصي والكفرِ إزعاجًا، وتسوقهم سوقًا.
القسم الثاني: قطعوا تلك المراحل سائرين فيها (7) إلى اللَّه وإلى دار السلام. وهم ثلاثة أقسام: ظالمٌ لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات بإذن اللَّه. وهؤلاء كلهم مستعدون للسير موقنون بالرجعى إلى اللَّه، ولكن متفاوتون في التزود وتعبئة الزاد واختياره، وفي نفسِ السير وسرعته وبطئه.
__________
(1) “ك، ط”: “منها مرحلة”.
(2) “دعوة الحق” ساقط من “ط”.
(3) “مراحل” ساقط من “ط”.
(4) “ب”: “بها”.
(5) “ك”: “بها بعملها”. “ط”: “بها”، وأسقط “بعملها”.
(6) “ب”: “يسوقوهم”. وقد أسقط “حتى” من “ط”.
(7) “فيها” ساقط من “ب”.
(1/404)
فالظالم لنفسه مقصر في الزاد غير آخذٍ منه ما يبلّغه المنزل، لا في قدره ولا في صفته؛ بل مفرِّط في زاده الذي ينبغي له أن يتزوده. ومع ذلك فهو متزوِّد ما يتأذَّى به في طريقه، ويجد غِبَّ أذاه إذا وصلَ المنزل بحسب ما تزود من ذلك المؤذي الضارّ.
والمقتصد اقتصر من الزاد على ما يبلّغه، ولم يشدَّ (1) مع ذلك أحمالَ التجارة الرَّابحة، ولم يتزود ما يضره. فهو سالم غانم، لكن فاتته المتاجر الرَّابحة، وأنواع المكاسب الفاخرة.
والسابق بالخيرات همُّه في تحصيل الأرباح، وشدِّ أحمال التجارات، لعلمه بمقدار الربح الحاصل. فيرى خسرانًا أن يدخر شيئًا ممَّا بيده، ولا يتجر فيه (2)، فيجدُ ربحَه يوم يغتبط التجار بأرباح تجارتهم. فهو كرجل قد علم أنَّ أمامه بلدةً يكسب الدرهم (3) فيها عشرةً إلى سبعمائه وأكثر، وعنده حاصل، وله خبرة بطريق ذلك البلد، وخبرة بالتجارة، فهو لو أمكنه بيعُ ثيابه وكلّ ما يملك حتَّى يهيئ به تجارةً إلى ذلك البلد لفعل. فهكذا (4) حال السابق بالخيرات بإذن ربِّه (5) يرى خسرانًا بيَّنًا أن يمرَّ عليه وقتٌ في غير متجر.
فنذكر بعون اللَّه وفضله (6) نبذةً من متاجر الأقسام الثلاثة ليعلم العبد
__________
(1) “ف”: “فشد”، خلافًا للأصل.
(2) “ب، ك، ط”: “به”.
(3) “ف”: “الدرهم يكسب”.
(4) “ف”: “فهذا”، خلاف الأصل.
(5) “ك، ط”: “بإذن اللَّه”.
(6) “ب”: “بحمد اللَّه وعونه”.
(1/405)
من أي التجار هو:
فأمَّا الظالم لنفسه فإنَّه إذا استقبل مرحلةَ يومه وليلته استقبلها وقد سبقت حظوظه وشهواته إلى قلبه، فحرَّكت جوارحَه طالبةً لها ساعيةً فيها (1). فإذا زاحمتها (2) حقوق ربِّه فتارةً وتارةً: فمرَّةً يأخذ بالرخصة، ومرَّةً بالعزيمة، ومرَّةً يقدم على الذنب وتركِ الحقِّ تهاونًا ووعدًا بالتوبة. فهذا حالُ الظالم لنفسه، مع حفظ التوحيد، والإيمان باللَّه ورسوله واليوم الآخر، والتصديق بالثواب والعقاب. فمرحلة هذا مقطوعة بالربح والخسران، وهو للأغلب (3) منهما. فإذا وردَ القيامةَ مُيِّزَ ربحُه من خسرانه، وحُصِّل ربحُه وحده، وخسرانُه وحده، وكان الحكم للرَّاجح منهما. وحكم اللَّه عزَّ وجلَّ من وراءِ ذلك، لا يعدم عباده (4) منه (5) فضلَه وعدلَه.
فصل (6)
وأمَّا المقتصدون: فأدوا وظيفةَ تلك المرحلة، ولم يزيدوا عليها، ولم ينقصوا (7) منها. فلا حصلوا على أرباح التجار، ولا بخسوا الحقَّ الذي عليهم.
__________
(1) “ساعية فيها” ساقط من “ط”.
(2) “ك، ط”: “زاحمها”.
(3) “ب، ك”: “الأغلب”، وفي حاشية “ك”: “لعله للأغلب”، وهو الثابت في الأصل و”ف”.
(4) “عباده” ساقط من “ك، ط”.
(5) “ك”: “فيه” تحريف.
(6) “فصل” ساقط من “ب، ط”.
(7) “ك، ط”: “ولا نقصوا”.
(1/406)
فإذا استقبلَ أحدهم مرحلةَ يومه استقبلها بالطهور التامّ والصلاة التامّة في وقتها، بأركانها وواجباتها وشرائطها؛ ثُمَّ ينصرف منها إلى مباحاته ومعيشته وتصرفاته التي أذنَ اللَّه له (1) فيها مشتغلًا بها، قائمًا بأعبائها (2)، مؤديًا واجبَ الربِّ فيها، غير متفرِّغ لنوافل العبادات وأوراد الأذكارِ والتوجه.
فإذا حضرت الفريضة الأخرى بادر إليها كذلك، فإذا أكملها انصرف إلى حاله الأوَّل، فهو كذلك سائر يومه.
فإذا جاء الليل فكذلك إلى حين النوم، يأخذ (3) مضجعه حتَّى ينشقّ الفجر، فيقوم إلى عَدَّانه (4) ووظيفته.
فإذا جاء الصوم الواجب قام بحقِّه، وكذلك الزكاة الواجبة، والحج الواجب.
وكذلك المعاملة مع الخلق، يقوم فيها بالقسط، لا يظلمهم، ولا يترك حقَّه لهم.
فصل (5)
وأمَّا السابقون بالخيرات فهم نوعان: أبرار ومقرَّبون. وهؤلاءِ
__________
(1) “له”: ساقط من “ط”.
(2) “ط”: “بأعيانها”، تصحيف، وسقط من “ف”: “بها قائمًا”.
(3) “ب”: “فيأخذ”.
(4) أي إلى عهده. وقد ضبط في “ب” بفتح أوله، ويجوز بكسره، وفي “ك، ط”: “غذائه”، تصحيف. وانظر ص (446).
(5) “فصل” ساقط من “ب، ط”.
(1/407)
الأصناف الثلاثة هم أهل اليمين، وهم المقتصدون، والأبرار، والمقرَّبون. وأمَّا الظالم لنفسه فليسَ من أصحاب اليمين عند الإطلاق، وإن كان مآله إلى أصحاب اليمين، كما أنَّه لا يسمَّى مؤمنًا عند الإطلاق وإن كان مصيره ومآله مصير المؤمنين بعد أخذ الحق منه.
وقد اختُلِف في قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [فاطر/ 33] الآية، هل ذلك راجعٌ إلى الأصناف الثلاثة: الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات؛ أو يختص بالقسمَين الأخيرين، وهما: المقتصد، والسابق، دون الظالم = على قولين:
فذهبت طائفة إلى أنَّ الأصناف الثلاثة كلهم في الجنَّة، وهذا يروى عن ابن مسعود، وابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وعائشة أم المؤمنين.
قال أبو إسحاق السَّبيعي: “أمَّا الذي سمعتُ مذ ستون (1) سنة فكلهم ناجٍ” (2).
قال أبو داود الطيالسي (3): حدثنا الصَّلْت بن دينار، حدثنا عُقبة بن صُهبان الهُنائي قال: سألتُ عائشة عن قول اللَّه تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر/ 32] فقالت لي: “يا بني، كلُّ هؤلاء في الجنَّة، فأمَّا السابق بالخيرات، فمن مضى على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، يشهد له رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالحياة (4) والرزق. وأمَّا
__________
(1) “ب”: “مذ ستين”، “ك، ط”: “منذ ستين”.
(2) تفسير الطبري (22/ 134).
(3) “ك، ط”: “الطائي”، تحريف.
(4) “ط”: “الخيرة”، تحريف.
(1/408)
المقتصد، فمن تبع أثره من أصحابه حتَّى لحق به. وأمَّا الظالم لنفسه، فمثلي ومثلك”. قال: فجعلت نفسها معنا (1).
وقال ابن مسعود: “هذه الأمة يوم القيامة أثلاث: ثلث يدخلون الجنَّة بغير حساب، وثلث يحاسَبون حسابًا يسيرًا، ثُمَّ يدخلون الجنَّة، وثلث يجيئون بذنوب عظام، فيقول اللَّه: ما هؤلاء؟ وهو أعلم بهم، فتقول الملائكة: هم مذنبون إلا أنَّهم لم يشركوا، فيقول عزَّ وجلَّ: أدخلوهم في سعة رحمتي” (2).
وقال كعب: “تحاكَّتْ (3) مناكبهم وربِّ الكعبة، وتفاضلوا بأعمالهم”.
وقال الحسن: “السابق من رجحت حسناته (4)، والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته، والظالم من خفَّت موازينه” (5).
واحتجت هذه الفرقة بأنَّه سبحانه سمّى الكلَّ “مصطفين”، وأخبر أنَّه
__________
(1) أخرجه الطيالسي في مسنده (1592) والحاكم (2/ 462) (3593). قال الحاكم: “صحيح الإسناد ولم يخرجاه”، فتعقبه الذهبي بقوله: “الصلت، قال النسائي: ليس بثقة، وقال أحمد: ليس بالقوي” (ز).
(2) تفسير الطبري (22/ 134).
(3) كذا في الأصل، وهو الصواب. انظر: زاد المسير (6/ 491)، وقرأ ناسخ “ف”: “تحاذت”، وهو تحريف. ومثله في “ب، ك، ط”. وفي تفسير الطبري (22/ 134): “تماسّت”. وفي المحرر الوجيز (4/ 439): “استوت”.
(4) “ك، ط”: “السابقون. . حسناتهم”.
(5) زاد المسير (6/ 489). (ص). أخرجه الطبري (22/ 135)، والبيهقيُّ في البعث (75، 76) بمعناه، وسنده صحيح. (ز).
(1/409)
اصطفاهم من جملة العباد. ومحال أن يكون الكافر والمشرك من المصطفَين؛ لأنَّ الاصطفاء هو الاختيار، وهو افتعال (1) من صفوة الشيء، وهو خياره. فعُلِمَ أنَّ هؤلاء الأصناف الثلاثة صفوة الخلق، وبعضُهم خيرٌ من بعض: فسابقُهم مصطفى عليهم، ثُمَّ مقتصدهم مصطفى على ظالمهم، ثُمَّ ظالمهم مصطفى على الكافر والمشرك.
واحتجت أيضًا بآثار روتها تؤيد ما ذهبت إليه: فمنها ما رواه سليمان (2) الشاذكوني، حدثنا حصين بن نُمير (3)، عن ابن أبي ليلى (4)، عن أخيه، عن أبيه، عن أسامة بن زيد، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذه الآية قال: “كلهم في الجنة” (5).
ومنها ما رواه الطبراني (6)، حدَّثنا أحمد بن حمَّاد ابن زُغبة (7)، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا ابن لهيعة، عن أحمد بن حازم
__________
(1) “ط”: “الافتعال”.
(2) “ف”: “سلمان”، خطأ، وقد سقط من “ب”.
(3) “ف”: “نَهْر” كذا مضبوطًا. “ك”: “بهر”، “ب، ط”: “بهز”. والصواب ما أثبتنا من الأصل وكتب الرجال. وهو حصين بن نمير الواسطي أبو محصن الضرير، كوفي الأصل. انظر: تهذيب التهذيب (2/ 391).
(4) “ط”: “عن أبي يعلى”، خطأ.
(5) أخرجه الطبراني في الكبير (410) والبيهقي في البعث (63، 64). قال الهيثمي في المجمع: “وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو سيء الحفظ”. (ز).
(6) لعله في الكبير في القسم المفقود. وسنده ضعيف. فيه ابن لهيعة. وصالح مولى التوأمة لم يسمع من أبي الدرداء. والحديث له طرق أخرى ستأتي. (ز).
(7) لم يضبط في “ب، ك”. وفي “ط”: “رعية”، تصحيف. و”زغبة” لقب حمَّاد. انظر ترجمة عيسى بن حماد في تهذيب التهذيب (8/ 209).
(1/410)
المعافري (1)، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي الدرداء قال: قرأ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- هذه الآية: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر/ 32] فقال: “أمَّا السابق فيدخل الجنَّة بغير حساب، وأمَّا المقتصد فيحاسَب حسابًا يسيرًا، وأمَّا الظالم فيُحبس (2) في طول المحبس، ثمَّ يتجاوز اللَّه عنه”.
ومنها ما رواه زكريا الساجي، عن الحسن بن علي الواسطي، عن أبي سعد (3) الخزاعي، عن الحسن بن سالم، عن سعد بن طريف، عن أبي هاشم الطائي قال: “قدمتُ المدينة، فدخلتُ مسجدها، فجلستُ إلى سارية، فجاء حذيفة فقال: لأحدثنَّك (4) بحديث سمعته من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، سمعته (5) يقول: “يبعث اللَّه تبارك وتعالى هذه الأمة -أو كما قال- ثلاثة أصناف، وذلك في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر/ 32]، فالسابق بالخيرات يدخل الجنَّة بلا حساب، والمقتصد يحاسب حسابًا يسيرًا، والظالم لنفسه يدخل الجنَّة برحمة اللَّه” (6).
__________
(1) “ط”: “المعارفي”، تحريف.
(2) “ط”: “فيجلس”، تحريف.
(3) في الأصل نقطة على الحرف الثاني، ويحتمل قراءة “سفيان”. وقراءة “ف”: “أبي نصر”. وفي “ب، ك، ط”: “أبي سعيد”. ولعلَّ الصواب ما أثبتنا.
(4) “ك”: “ألا أحدثكم”. “ط”: “ألا أحدث”.
(5) “سمعته”ساقط من “ط”.
(6) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس زهر الفردوس (466) (8774) من طريق أبي الشيخ الأصفهاني عن زكريا الساجي به مثله. وهو ضعيف جدًّا. فيه سعد ابن طريف، وهو متروك، وقد رُمي بوضع الحديث. (ز).
(1/411)
ومنها ما رواه الطبراني عن محمد بن إسحاق (1) بن راهويه، حدثنا أبي، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن رجلٍ سمَّاه، عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر/ 32] الآية، قال: “السابق بالخيرات والمقتصد يدخلان الجنَّة بغير حساب، والظالم لنفسه يحاسب حسابًا يسيرا ثمَّ يدخل الجنَّة” (2).
ومنها ما رواه ابن لهيعة عن ابن أبي جعفر (3)، عن يونس بن عبد الرحمن، عن أبي الدرداء قال: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول في (4) هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} إلى قوله: {سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر/ 32] قال: “فأمَّا السَّابقون فيدخلون الجنَّة بغير حساب، وأمَّا المقتصد فيحاسب حسابًا يسيرًا، وأمَّا الظالمون فيحاسبون، فيصيبهم عناءٌ وكرب، ثمَّ يدخلون الجنَّة، ثم يقولون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر/ 34] “.
ومنها ما رواه الحميدي، حدَّثنا سفيان، حدثنا طُعْمة (5) بن عمرو
__________
(1) “ف”: “الحسن”، تحريف.
(2) أخرجه الحاكم (2/ 462)، والبيهقي في البعث (62) من طريق جرير عن الأعمش به. وجاء هذا الحديث من طرق أخرى عن الأعمش وغيره عند أحمد (21697) والطبري في تفسيره (22/ 137)، والبخاري في تاريخه (8/ 17 – 18). ولعلَّ أصح الطرق الطريق المرسلة. انظر تفصيل الخلاف في التاريخ الكبير. فالحديث ضعيف الإسناد لجهالة حال الراوي عن أبي الدرداء. (ز).
(3) “ك، ط”: “عن أبي جعفر”.
(4) “في”: ساقطة من “ط”.
(5) “ب، ك”: “طعيمة”، تحريف.
(1/412)
الجعفري، عن رجلٍ قال: قال أبوالدرداءِ لرجل: ألا أحدثك بحديث أخصُّك به، لم أحدث به أحدًا؟ قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر/ 32]. قال: “جنَّات عدن” (1) قال: “دخلوا الجنَّة جميعًا” (2).
واحتجت أيضًا بالآيات والأحاديث التي تشهد بنجاة الموحدين من أهل الكبائر ودخولهم الجنَّة.
واحتجت أيضًا بأنَّ “ظلم النفس” إنَّما يُرادَ به (3) ظلمُها بالذنوب والمعاصي، فإن الظلم ثلاثة أنواع: ظلم في حق النفس باتباعها شهواتها وإيثارها لها على طاعة ربها، وظلم في حق الخلق بالعدوان عليهم ومنعهم حقوقهم، وظلم في حق الرب بالشرك به. فظلم النفس إنَّما هو بالمعاصي، وقد تواترت النصوص بأنَّ العصاة من الموحدين مآلهم إلى الجنّة، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} الآية (4) [آل عمران/ 135].
وقالت طائفة: بل الوعد بالجنَّات إنَّما هو للمقتصد والسابق، دون الظالم لنفسه. فإنَّ الظالم لنفسه لا يدخل تحت الوعد المطلق، والظالم لنفسه هنا هو: الكافر، والمقتصد: المؤمن العاصي، والسابق: المؤمن التقي.
__________
(1) كذا في الأصل وغيره، وقارن بما في “ط”.
(2) انظر تاريخ البخاري، الموضع السابق.
(3) “ك، ط”: “بها”.
(4) “كقوله تعالى. . . ” إلى هنا ساقط من “ب، ك، ط”، وهو ثابت في حاشية الأصل.
(1/413)
وهذا يروى عن عكرمة (1)، والحسن (2)، وقتادة (3). وهو اختيار جماعة من المفسرين منهم صاحب الكشَّاف (4)، ومنذر (5) بن سعيد في تفسيره، والرماني (6)، وغيرهم.
قالوا: وهذه الآية متناولة لجميع أقسام الخلق شقيهم وسعيدهم. وهي نظير آية: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة/ 7 – 10]. قالوا: فأصحاب الميمنة هم المقتصدون، وأصحاب المشأمة هم (7) الظالمون لأنفسهم، والسابقون (8) هم السابقون بالخيرات.
قالوا: ولم يصطفِ اللَّه من خلقه ظالمًا لنفسه، بل المصطفون من عباده هم صفوته وخيارهم، والظالمون لأنفسهم ليسوا خيار العباد بل شرارهم، فكيف يوقع عليهم اسم المصطفين ويتناولهم فعل الاصطفاء؟
__________
(1) أخرجه الطبري (22/ 125). (ز).
(2) أخرجه الطبري (22/ 135)، والبيهقي في البعث (76،75) وهو ثابت عنه (ز).
(3) أخرجه الطبري (22/ 135)، وهو ثابت عنه (ز).
(4) الكشاف (3/ 612).
(5) “ب”: “رزين”. تحريف. وهو أبو الحكم منذر بن سعيد البلوطي (355 هـ) كان فقيهًا محققًا ونحويًا وعالمًا بالتفسير. سير أعلام النبلاء (16/ 173).
(6) أبو الحسن علي بن عيسى الرماني، (384 هـ)، المعتزلي، من كبار النحاة، صاحب التصانيف في التفسير والنحو واللغة. إنباه الرواة (2/ 294)، السير (16/ 533).
(7) “هم” ساقط من “ك، ط”.
(8) “ك، ط”: “والسابقون السابقون”.
(1/414)
قالوا: وأيضًا فصفوة اللَّه (1) هم أحباؤه، واللَّه لا يحب الظالمين، فلا يكونون (2) مصطفين.
قالوا: ولأنَّ الظالم لنفسه، وإن كان ممن أُورث الكتاب، فهو بتركه العمل (3) بما فيه قد ظلم نفسَه، واللَّه سبحانه إنِّما اصطفى من عباده من أورثه كتابَه ليعمل بما فيه. فأمَّا من نبذه وراءَ ظهره فليس من المصطفين من عباده.
قالوا: ولأنَّ الاصطفاء افتعال من صفوة الشيء، وهو خلاصته ولبّه، وأصله اصتفى، فأبُدلت التاءُ طاءً لوقوعها بعد الصاد كالاصطباح والاصطلام ونحوه. والظالم لنفسه ليس صفوة العباد ولا خلاصتهم ولا لبّهم، فلا يكون مصطفى.
قالوا: ولأنَّ اللَّه سبحانه سلَّم على المصطفين من عباده فقال: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل/ 59]. وهذا يقتضي سلامتهم من كلِّ شرٍّ ومن (4) كلِّ عذاب، والظالم لنفسه غير سالم من هذا ولا هذا، فكيف يكون من المصطفين؟
قالوا: وأيضًا فطريقة القرآن أنَّ الوعدَ المطلق بالثواب إنَّما يكون للمتقين لا للظالمين، كقوله تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)} [مريم/ 63] فأين الظالم لنفسه هنا؟ وقوله: {أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ
__________
(1) “ط”: “صفوة اللَّه”.
(2) “ك”: “فلا يكونوا”.
(3) “ب”: “للعمل”.
(4) “من” ساقطة من “ك، ط”.
(1/415)
جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الفرقان/ 15]، وقوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران/ 133]، وقوله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} [النبأ/ 31 – 36]. والقرآن مملوءٌ من هذا، ولم يجئ فيه موضع واحد بإطلاق الوعد بالثواب للظالم لنفسه أصلًا.
قالوا: وأيضًا فلم يجيء في القرآن ذكر الظالم لنفسه إلا في معرض الوعيد لا الوعد، كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)} [الزخرف/ 74 – 76]، وقوله تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ/ 19] (1)، وقوله: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)} [البقرة/ 57] (2). وقوله: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} [البقرة/ 124]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)} [يونس/ 44] (3).
قالوا: وأيضًا فالظالم لنفسه هو الذي خفَّت موازينه، ورجحت سيئاته، والقرآن كلُّه يدلُّ على خساره (4) وأنَّه غير ناج، كقوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ
__________
(1) وقع في الأصل وغيره من النسخ: “قالوا ربنا. . . ” وهو سهو.
(2) “ب، ك، ط”: “وما ظلمناهم. . . “، وهي آية أخرى في سورة النحل (118).
(3) سقطت هذه الآية والتي قبلها من “ب، ك، ط”.
(4) “ب، ط”: “خسارته”.
(1/416)
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف/ 8 – 9]، وقوله: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8)} (1) [القارعة/ 8 – 9]. فكيف يذكر وعده بجنَّاته وكرامته للظالمين أنفسَهم، الخفيفة موازينُهم؟
قالوا: وأيضًا فقوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [فاطر/ 33] (2) مرفوع، لأنَّه بدل من قوله: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر/ 32]، وهو بدل نكرة من معرفة، كقوله: {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق/ 15 – 16] وحسَّن وقوعَه مجيءُ النكرة موصوفةً لِتخصُّصها (3) بالوصفِ وقربها من المعرفة. ومعلومٌ أنَّ المبدل منه وهو “الفضل الكبير” مختص بالسابقين بالخيرات، والمعنى أنَّ سبقَهم بالخيرات بإذنه (4) هو (5) الفضل الكبير، وهو جنَّات عدن يدخلونها؛ وجعل السبق بالخيرات نفسَ الجنَّات لأنَّه سببها وموجبها.
قالوا: وأيضًا فإنَّه وصفَ حليتَهم فيها بأنَّها أساور من ذهبٍ ولؤلؤ، وهذه جنَّات السابقين لا جنَّات المقتصدين. فإنَّ جنَّات الفردوس أربع، كما ثبت في الصحيح عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: “جنَّتان من ذهبٍ آنيتُهما وحِليتُهما وما فيهما. وجنَّتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما. وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربِّهم إلا رداءُ الكبرياءِ على وجهه في جنَّة
__________
(1) وقع في الأصل وغيره من النسخ: “ومن خفت. . . “، وهو سهو.
(2) “يدخلونها” ساقط من “ك، ط”.
(3) كذا في الأصلِ، وفي غيره: “لتخصيصها”.
(4) أشار في حاشية “ط” إلى أن في الأصل بياضًا بعد “بإذنه”. ولكن لا بياض في النسخ التي بين أيدينا.
(5) “ك، ط”: “ذلك هو”.
(1/417)
عدن” (1)، ومعلوم أنَّ الجنتين الذهبيتين أعلى وأفضل من الفضيتين، فإذا كانت الجنَّتان الذهبيتان للظالمين لأنفسهم، فمن يسكن الجنَّتين الفضيتين؟ فعُلِمَ أنَّ هذه الجنَّات المذكورة لا تتناول الظالمين لأنفسهم.
قالوا: وأيضًا فإنَّ أقرب المذكورات إلى ضمير الداخلين هم السابقون بالخيرات، فوجبَ اختصاصهم بالدخول إلى الجنَّاتِ المذكورة (2).
قالوا: وفي اختصاصهم -بعد ذكر الأقسام- بذكر ثوابهم، والسكوت عن الآخرين ما هو معلوم من طريقة القرآن، إذ يصرِّح بذكر ثواب الأبرار والمتقين والمخلصين والمحسنين ومن رجحت حسناتهم، وبذكر (3) عقاب الكفَّار والفجَّار والظالمين لأنفسهم ومن خفَّت موازينهم، ويسكت عن القسم الذي فيه شائبتان وله مادَّتان. هذه طريقة القرآن، كقوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار/ 13 – 14]، وقوله: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات/ 37 – 41] وهذا كثير في القرآن.
قالوا: وفي السكوت عن شأن صاحب الشائبتين تحذير عظيم وتخويف له، فإنَّ (4) أمره مرجأٌ إلى اللَّه، وليس له (5) عليه ضمان، ولا له
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير (4878) وغيره، ومسلم في الإيمان (180) عن أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه.
(2) “ب، ك، ط”: “المذكورات”.
(3) معطوف على “بذكر ثوابهم”، وفي “ف” وغيرها: “يذكر”.
(4) “ط”: “بأنَّ”.
(5) “له”: ساقط من “ك، ط”.
(1/418)
عنده وعد، فَلْيحذر (1) كلَّ الحذرِ، ولْيبادر بالتوبة النصوح التي تُلِحقُه بالمضمون لهم النجاةُ والفلاحُ.
قالوا: وأيضًا فمن المحال أن يقع على أحدٍ من المصطفين اسمُ الظلم مطلقًا، وإنَّما يقع اسم الظلم مطلقًا على الكافر، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة/ 254]. وقال تعالى: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)} [الشورى/ 8] مع قوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة/ 257]. والظالم لا ولى له فلا يكون (2) من المؤمنين.
قالوا: وأيضًا فمن تدبَّر الآيات وتأمَّل سياقها وجدها قد استوعبت جميع أقسام الخلق، ودلَّت على مراتبهم في الجزاء. فذكر سبحانه فيها (3) أنَّ النَّاس نوعان: ظالمٌ، ومحسنٌ. ثمَّ قسم المحسن إلى قسمين: مقتصد، وسابق. ثمَّ ذكر جزاءَ المحسن. فلمَّا فرغ منه ذكر جزاءَ الظالم، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر/ 36] (4).
وقد قال (5) تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)} [الأنبياء/ 29]، فذكر أنواع العباد
__________
(1) “ك، ط”: “ليحذر”.
(2) قراءة “ف”: “ولا يكون”.
(3) “فيها” ساقط من “ب، ك، ط”.
(4) في “ب” ضبطت الآية على قراءة أبي عمرو البصري، فقد قرأ: “كذلك يُجزَى كلُّ كفور”. انظر: الإقناع (2/ 741). ولم تضبط في الأصل وغيره.
(5) “ب، ك، ط”: “وقال”.
(1/419)
وجزاءهم.
وقالوا: وأيضًا فهذه طريقة القرآن في ذكر أصناف الخلق الثلاثة، كما ذكرهم تعالى في سورة الواقعة والمطففين وسورة الإنسان (1).
فأمَّا سورة الواقعة، فذكرهم في أولها وفي آخرها، فقال في أولها: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة/ 7 – 12] فأصحاب المشأمة هم الظالمون. وأمَّا أصحاب اليمين فقسمان: أبرار وهم أصحاب الميمنة، وسابقون وهم المقربون.
وقال (2) في آخرها: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)}.
فذكر حالهم في القيامة الكبرى في أوَّل السورة، ثمَّ ذكر حالهم في القيامة الصغرى في البرزخ في آخر السورة. ولهذا قدَّم قبله ذكر الموت ومفارقة الروح (3)، فقال: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)}، ثمَّ قال: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88)} إلى آخرها.
وأمَّا في أوَّلها فذكر أقسام الخلق عقب (4) قوله: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1)
__________
(1) “ب”: “الواقعة وسورة الإنسان والمطففين”.
(2) “قال” ساقط من “ك، ط”.
(3) “في آخر السورة. . . ” إلى هنا ساقط من “ب”.
(4) “ف”: “عقيب” خلاف الأصل.
(1/420)
لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7)} [الواقعة/ 2 – 7].
وأمَّا سورة الإنسان فقال تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4)}، فهؤلاء الظالمون أصحاب المشأمة. ثمَّ قال: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)}، فهؤلاء المقتصدون أصحاب اليمين. ثمَّ قال: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)}، فهؤلاء المقربون السابقون، ولهذا خصَّهم بالإضافة إليه، وأخبرَ أنَّهم يشربون بتلك العين صِرفًا محضًا (1)، وأنَّها تُمزَج للأبرار مزجًا، كما قال في سورة المطففين في شراب الأبرار: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)}.
وقال: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)} ولم يقل: “منها”، إشعارًا بأنَّ رِيَّهم (2) بالعينِ نفسِها خالصةً لا بها وبغيرها. فضمّن “يشرب” معنى “يروى”، فعدَّى بالباء. وهذا ألطف مأخذًا وأحسن معنى من أن تُجعل الباءُ بمعنى”من”، ولكن (3) يُشرَب الفعلُ معنى فعل آخرَ فيعدَّى (4) تعديته. وهذه طريقة الحذَّاق من النحاة، وهي طريقة سيبويه وأئمة أصحابه (5). وقال في الأبرار: {مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا}
__________
(1) “ب، ك”: “محضة”.
(2) “ط”: “شربهم”.
(3) “ط”: “ويضمن”، خطأ.
(4) “ك”: “فتعدَّى”، “ط”: “فيتعدى”.
(5) انظر نحو هذا الكلام في بدائع الفوائد (424)، وحادي الأرواح (264)، وانظر: مقدمة في أصول التفسير (52)، ومجموع الفتاوى (11/ 178)، والتبيان في أقسام القرآن (95)، والخصائص لابن جني (2/ 308 – 311)، =
(1/421)
[الإنسان/ 5]، لأنَّ شرب المقربين لمَّا كان أكمل استعير له الباء الدَّالّة على شرب الري بالعينِ خالصةً. ودلالة القرآن ألطف وأبلغ من أن يحيط بها البشر.
وقال تعالى في سورة المطففين: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)} إلى قوله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)}، فهؤلاء الظالمون أصحاب الشمال.
ثمَّ قال: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19)}، فهؤلاء الأبرار المقتصدون. وأخبر أنَّ المقرَّبين يشهدون كتابَهم، أو يُكتَب بحضرتهم ومشهدهم، لا يغيبون عنه، اعتناءً به وإظهارًا لكرامة صاحبه ومنزلته عند ربِّه.
ثمَّ ذكرَ سبحانه نعيم (1) الأبرار، ومجالسهم (2)، ونظرهم إلى ربِّهم، وظهورَ نضرة النعيم في وجوههم. ثمَّ ذكرَ شرابهم فقال: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)}. ثمَّ قال: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)}، والتسنيم أعلى أشربة الجنَّة. فأخبر سبحانه أنَّ مزاجَ شراب الأبرار من التسنيم، وأنَّ المقرَّبين يشربون منه بلا مزاج. ولهذا قال: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)} كما قال في سورة الإنسان سواءً.
قال ابن عباس وغيره: يشرب بها المقربون صرفًا،
__________
= وإعراب القرآن للنحاس (5/ 98).
(1) “ب”: “معين”.
(2) “ب، ك، ط”: “مجالستهم”.
(1/422)
وتمزج (1) لأصحاب اليمين مزجًا (2). وهذا لأنَّ الجزاء وفاقُ العملِ، فكما خلصت أعمالُ المقربين كلُّها للَّه، خلص شرابهم؛ وكما مزَجَ الأبرارُ الطاعاتِ بالمباحات، مُزِجَ لهم شرابُهم. فمن أخلصَ أُخلِصَ شرابُه، ومن مزَج مُزِج شرابُه.
فيا لاهيًا في غمرة الجهلِ والهوى … صريعًا على فُرْشِ الرَّدى يتقلبُ (3)
تأمَّلْ -هداك اللَّه- ما ثمَّ وانتبِهْ … فهذا شرابُ القومِ حقًّا يركَّبُ
وتركيبُه في هذه الدار إن يفُتْ … فليسَ له بعد المنية مطلبُ (4)
فيا عجبًا من مُعرضٍ عن حياته … وعن حظِّه العالي ويلهو ويلعبُ (5)
ولو علم المحرومُ أيَّ بضاعةٍ … أضاعَ لأمسى قلبُه يتلهَّبُ
فإنْ كان لا يدري فتلك مصيبةٌ … وإنْ كان يدري فالمصيبةُ أصعبُ
بلى سوف يدري حين ينكشفُ الغطا … ويصبحُ مسلوبًا ينوحُ ويندُبُ (6)
ويعجَبُ ممَّن باعَ شيئًا بدون ما … يُساوي بلا علمٍ وأمرُك أعجَبُ (7)
__________
(1) “ب، ك، ط”: “يمزج”.
(2) تفسير الطبري (30/ 109).
(3) “ب، ك”: “أيا لاهيًا”.”ط”: “يا لاهيا”.والظاهر أنَّ هذه الأبيات للمؤلف رحمه اللَّه. وقد زيدت في الأصل في حاشيته.
(4) “ط”: “إن تفت”، خطأ.
(5) “ب”: “عن جنابه”، تصحيف.
(6) “ط”: “مصلوبًا”، تحريف.
(7) “ب”: “وتعجب”.
(1/423)
لأنَّك قد بعتَ الحياة وطيبَها … بلذَّة حُلْمٍ عن قليلٍ ستذهَبُ (1)
فهلَّا عكستَ الأمر إن كنتَ حازمًا … ولكن أضعتَ الحزمَ والحكمُ يغلِبُ
تصدُّ وتنأى عن حبيبك دائمًا … فأينَ عن الأحباب ويحَكَ تذهبُ
ستعلَمُ يومَ الحشرِ أيَّ تجارةٍ … أضعتَ إذا تلك الموازينُ تُنصَبُ
قالوا: فهكذا هذه الآيات التي في سورة الملائكة، ذكر فيها الأقسام الثلاثة: الظالم لنفسه وهو من أصحاب الشمال، وذكر المقتصد وهو من أصحاب اليمين، وذكر السابقين وهم المقربون.
قالوا: وليسَ في الآيةِ ما يدلُّ على اختصاص الكتاب بالقرآن، والمصطفين بهذه الأمة، بل الكتاب اسم جنس للكتب (2) التي أنزلها على رسُله، فإنَّه أورثها المصطفَين من عباده من كل أمة، وهم (3) الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم. هم الذين أُورثوه أوَّلًا، ثمَّ أُورثَه المصطفون (4) من أممهم بعدهم. قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54)} [غافر/ 53 – 54]، فأخبرَ أنَّه إنَّما يكون هدًى وذكرى لمن له لبٌّ عقَلَ به الكتابَ وعمل بما فيه، والعامل بما فيه هو الذي أورثه اللَّه علمَه.
وتأمَّل قوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ
__________
(1) “ك، ط”: “سيذهب”.
(2) “ب”: “لكتبه”.
(3) “هم”: ساقط من “ط”.
(4) “ط”: “أورثوه المصطفين”.
(1/424)
مُرِيبٍ (14)} [الشورى/ 14] كيف حذف الفاعلَ هنا، وبنى الفعلَ للمفعول، لما كان في معرض الذمِّ لهم ونفيِ العلمِ عنهم. ولمَّا كان في سياق ذكر نعمه وآلائه ومننه (1) عليهم قال: {وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53)} [غافر/ 53]. ونظيره هذه (2) الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر/ 32].
ومن ذلك قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الأعراف/ 169] فإنَّه (3) لمَّا كان الكلام في سياق ذمّهم على اتباعهم (4) شهواتهم، وإيثارهم العرضَ الفاني على حظّهم من الآخرة، وتماديهم في ذلك؛ لم ينسب التوريثَ إليه، بل نسبه إلى المحلّ، فقال: “ورثوا الكتاب”، ولم يقل: “أورثناهم الكتاب”.
وقد ذكرتُ نظير هذا في قوله: {آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [البقرة/ 121] أنَّه للمدح، و {أُوتُوا الْكِتَابَ} (5) إمَّا في سياق الذمِّ، وإمَّا منقسم، في كتاب “التحفة المكية” (6).
__________
(1) “ط”: “منته”.
(2) “ط”: “ونظير هذه”.
(3) “ب، ك، ط”: “وأنَّه”.
(4) “ب”: “اتباع”.
(5): “أورثوا”، “ك، ط”: “أورثوا الكتاب”، تحريف.
(6) سمَّاه في بدائع الفوائد (1597) “التحفة المكية في بيان الملة الإبراهيمية”. وقد تكلَّم المؤلف في هذا الموضوع في بدائع الفوائد (725) أيضًا، ولكنَّه أحال هناك في بيان الفرق بين {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} و {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب} على كتاب “الفوائد المكية”.
(1/425)
والمقصودُ أنَّ الذين أورثهم الكتاب هم المصطفون من عباده أوَّلًا وآخرًا.
قالوا: وأمَّا (1) قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} لا يرجع إلى المصطفين، بل إمَّا أن يكون الكلام قد تمَّ عند قوله: {مِنْ عِبَادِنَا}، ثمَّ استأنف جملةً أخرى، ذكر (2) فيها أقسام العباد، وأنَّ (3) منهم ظالم، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق. ويكون الكلام جملتين مستقلتين، بيَّن في إحداهما أنَّه أورثَ كتابَه مَن اصطفاه من عباده، وبيَّن في الأُخرى أنَّ من عباده ظالم، ومقتصد، وسابق (4). وإمَّا أن يكون المعنى تقسيم المرسل إليهم بالنسبة إلى قبول الكتاب، وأنَّ منهم من لم يقبله وهو الظالم لنفسه، ومنهم من قَبِلَه مقتصدًا فيه، ومنهم من قَبِله سابقًا بالخيرات بإذن ربِّه (5).
قالوا: والذي يدل على هذا الوجه أنَّه سبحانه ذكر إرساله في كلِّ أمة نذيرًا ممَّن تقدم هذه الأمة، فقال: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)} [فاطر/ 24]. ثمَّ ذكر أنَّ رسلهم جاءَتهم بالبينات وبالزبُر وبالكتاب المنير. فالبينات (6): الآيات الدَّالّة على صدقهم وصحَّة رسالتهم (7). والزبر: الكتب (8)، واحدها زبور بمعنى مزبور أي
__________
(1) “أمَّا” ساقط من “ط”.
(2) “ب، ك، ط”: “وذكر”.
(3) كذا في الأصل وغيره على أنّ اسم أن محذوف، وفي “ط”: “أنَّهم”.
(4) كذا في الأصل وغيره، وفي “ط”: “ظالمًا ومقتصدًا وسابقًا”.
(5) “ب، ك، ط”: “بإذن اللَّه”.
(6) “فالبينات” ساقط من “ط”، وفي “ك”: “والبينات”.
(7) “ط”: “رسالاتهم”.
(8) “ط”: “الكتاب”.
(1/426)
مكتوب. و”الكتاب المنير” (1). من باب عطفِ الخاصِّ على العام، لتميزه (2) عن المسمَّى العام بفضيلة وشرف (3) امتاز بها واختص بها (4) عن غيره. وهو كعطف جبريل وميكائل على الملائكة (5)، وكعطف أولي العزم (6) على النبيين من قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب/ 7]. والكتاب المنير هاهنا هو (7) التوراة والإنجيل.
ثمَّ ذكر إهلاك المكذبين لكتابه ورسله، فقال: {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)} [فاطر/ 26]. ثمَّ ذكر التالين لكتابه، وهم المتبعون له العاملون بشرائعه، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} إلى قوله: {غَفُورٌ شَكُورٌ (30)} [فاطر/ 29 – 30] (8).
ثمَّ ذكر الكتاب الذي خصَّ به خاتمَ أنبيائه ورسله محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)} [فاطر/ 31]. ثمَّ ذكر سبحانه من أورثهم سبحانه الكتابَ بعد أولئك، وأنَّه اصطفاهم لتوريث كتابه، إذ ردَّه المكذبون ولم يقبلوا
__________
(1) “ف، ك”: “المبين”، تحريف.
(2) “ف، ك، ب”: “ليميزه”، وقد ضبط في الأصل بالتاء.
(3) “ط”: “بفضله وشرفه”.
(4) “بها” كذا هنا ومن قبل في الأصل وغيره، والضمير عائد إلى “الفضيلة”.
(5) “ميكائل”: كذا في الأصل و”ف”. وهي قراءة نافع المدني، وفي “ب”: “ميكائيل”. وفي “ك”: “ميكال”.
(6) في الأصل: “أولو العزم” بالرفع، سهو.
(7) “هو” ساقط من “ط”.
(8) كذا في الأصل وغيره. وفي “ط” أكملت الآية.
(1/427)
توريثه.
قالوا: وأمَّا قولكم إنَّ الاصطفاء افتعال من الصفوة، وهي الخيار، وهي إنَّما تكون في السعداء، فهذا بعينه حجة لنا في أنَّ الظالم لنفسه ليس ممن اصطفاه اللَّه من عباده، وقد تقدم (1) تقريره.
قالوا: وأمَّا الآثارُ التي رويتموها عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في ذلك فكلها ضعيفة الأسانيد أو منقطعة (2) لا تثبت، كيف وهي معارَضةٌ بآثار مثلها أو أقوى منها.
قال ابن مردويه في تفسيره: حدثنا الحسن بن عبيد اللَّه بن الحسن (3)، حدثنا صالح بن أحمد، حدثنا أحمد بن محمد بن المعلَّى الأدمي، حدثنا حفص بن عمار، حدثنا مبارك بن فضالة، عن عبيد اللَّه ابن عمر، عن نافع، عن ابن عمر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر/ 32] قال: “الكافر” (4).
قالوا: وأمَّا النصوص الدالّة على أنَّ أهل التوحيد يدخلون الجنَّة فصحيحة لا ننازعكم فيها، غير أنَّها مطلقة، ولها شروط وموانع. كما أنَّ النصوص الدَّالّة على عذاب أهل الكبائر (5) صحيحة متواترة، ولكن (6) لها شروط (7) وموانع يتوقف لحوق الوعيد عليها، فكذلك نصوص
__________
(1) “ب”: “سبق”.
(2) “ب، ك، ط”: “ومنقطعة”.
(3) “ط”: “الحسن بن عبد اللَّه”.
(4) سنده ضعيف فيه حفص بن عمار المعلم. قال الذهبي: “مجهول”. وله أحاديث منكرة ساقها ابن عدي في الكامل (2/ 391 – 392). (ز).
(5) “ف”: “أهل النار” تحريف.
(6) “لكن” ساقط من “ط”.
(7) “ب”: “شروطًا”.
(1/428)
الوعد يتوقف مقتضاها على شروطها وانتفاء موانعها.
قالوا: وأمَّا قولكم إنَّ “ظلم النفس” إنَّما يراد به ظلمها بالذنوب والمعاصي دون الكفر فليس بصحيح، فقد ذكرنا من (1) القرآن ما يدل على أنَّ ظلم النفس يكون بالكفر والشرك، ولو لم يكن في هذا إلا قول موسى لقومه (2): {يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} [البقرة/ 54] وقوله: {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ/ 19]، ونظائره كثيرة.
قالت الطائفة الأولى: لو تدبرتم القرآن حقَّ تدبره، وأعطيتم الآيات حقَّها من الفهم، وراعيتم وجوهَ الدلالة (3) وسياق الكلام، لعلمتم أنَّ الصوابَ معنا، وأنَّ هذه الأقسام الثلاثة هي الأقسام التي خلقت للجنَّة، وهم درجات عند اللَّه (4)؛ وأنّ هذا التقسيم الذي دلّت عليه أخصُّ من التقسيم المذكور في سورة الواقعة والإنسان والمطفّفين. فإنّ ذلك تقسيمٌ للناس إلى شقيّ وسعيد، وتقسيمٌ للسعداء (5) إلى أبرار ومقرّبين، وتلك القسمة خالية عن ذكر العاصي الظالم لنفسه. وأما هذه الآيات ففيها تقسيم الأُمّة إلى محسن ومسيء، فالمسيء (6) هو الظالم لنفسه، والمحسن نوعان: مقتصد، وسابق بالخيرات. فإنّ الوجود شامل لهذا
__________
(1) “ط”: “ذكر في”. “ك”: “ذكرنا في القرآن ما دلَّ”.
(2) “لقومه” ساقط من “ك، ط”.
(3) “ط”: “وجوهه الدالة”.
(4) “وأنَّ هذه الأقسام. . . ” إلى هنا ساقط من “ط”.
(5) “ك، ط”: “السعداء”.
(6) قراءة “ف”: “والمسيء”.
(1/429)
القسم، بل هو أغلب أقسام الأمة، فكيف يخلو القرآن عن ذكره وبيان حكمه؟ ثمّ لمّا استوفى أقسام الأُمة ذكر الخارجين عنهم، وهم الذين كفروا، فعمّت الآية أقسامَ الخلق كلِّهم. وعلى ما ذهبتم إليه تكون الآية قد أهملَتْ ذِكرَ القسمِ الأغلب الأكثر، وكرّرت ذكر حكم الكافر أوَّلًا وآخرًا. ولا ريبَ أنَّ ما ذكرناه أولى لبيان حكم (1) هذا القسم، وعموم الفائدة.
أيضًا فإنَّ قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر/ 32] صريح في أنَّ الذين أورثهم الكتاب هم المصطفون من عباده. وقوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر/ 32] إمَّا أن يرجع إلى الذين اصطفاهم، وإمَّا أن يرجع إلى العباد. ورجوعُه إلى “الذين اصطفينا” (2) أولى (3) لوجهين:
أحدهما: أنَّ قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ} (4) [فاطر/ 32] إنَّما يرجع إلى المصطفين لا إلى العباد، فكذلك قوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر/ 32]. ولا يقال: بل الضمائر كلّها تعود على العباد، لأنَّ سياق الآية والإتيان بالفاءِ والتقسيم المذكور كلَّه يدلّ على أنَّ المراد بيانُ أقسام الوارثين للكتاب لا بيان أقسام العباد، إذ لو أراد ذلك لأتى بلفظ يُزيل الوهمَ، ولا يلتبس به المراد بغيره، وكان وجهُ الكلام (5) على
__________
(1) “حكم” ساقط من “ط”.
(2) “ك”: “اصطفيناهم”. “اصطفاهم”.
(3) “أولى” ساقط من “ط”.
(4) “ف”: “سابق بالخيرات”، خلاف الأصل.
(5) “ك”: “وجه الكلام عندهم”.
(1/430)
هذا أن يقال: “ومن عبادنا ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات ثمَّ أورثنا الكتابَ الذين اصطفينا منهم”، وهذا هو (1) معنى الكلام عندكم، ولا ريب أنَّ سياق الآية لا يدلّ عليه. إنَّما يدلّ على أنَّه أورث الكتابَ طائفةً من عباده، وأنَّ تلك الطائفة ثلاثةُ أقسام. هذا وجه الكلام الذي يدلُّ عليه ظاهره.
الثاني: أنَّك إذا قلت: “أعطيتُ مالي للبالغين (2) من أولادي، فمنهم تاجرٌ (3)، ومنهم خازن، ومنهم مبذِّر مسرفٌ (4) “. هل يفهم من هذا أحد قطّ (5) هذا التقسيم لجملة أولاده؟ بل لا يفهم منه إلا أنَّ أولاده كانوا في أخذهم المال أقسامًا ثلاثةً، ولهذا أتى فيها بالفاءِ الدالّة على تفصيل ما أجمله أوَّلًا، كما إذا قلت: “خذ هذا المال فأعطِ فلانًا كذا، وأعطِ فلانًا كذا”، ونظائره متعددة. ولا وجه للإتيان بالفاءِ ههنا إلا تفصيل المذكور أولًا، لا تفصيل المسكوت عنه. والآيةُ قد سكتت عن تفصيل العباد الذين اصطفى منهم من أورثه الكتاب، فالتفصيل للمذكور (6) ليس إلا. فتأمّله فإنَّه واضح.
قالوا: وأمَّا قولكم إنَّ اللَّه لا يصطفي من عباده ظالمًا لنفسه، لأنَّ الاصطفاءَ هو الاختيار من الشيء صفوتَه وخيارَه إلى آخر ما ذكرتم،
__________
(1) “هو” ساقط من “ب، ك، ط”.
(2) كذا في “الأصل ف، ب”. وفي “ك، ط”: “البالغين”.
(3) “ب”: “فاجر”، تحريف.
(4) “ك، ط”: “مبذِّر ومسرف”.
(5) “قط” ظرف مختص بالزمان الماضي، وقد أوقعه المؤلف هنا وفي مواضع أخرى من كتبه موقع “أبدًا”. وانظر ما يأتي في ص (519، 576).
(6) “ف”: “بالتفصيل المذكور”. “ك”: “فالتفصيل المذكور”. وكلاهما خطأ.
(1/431)
فجوابُه أنّ كون العبد مصطفًى للَّه (1) وليًّا له محبوبًا له (2) ونحو ذلك من الأسماء الدالّة على شرف منزلة العبد وتقريب اللَّه له لا ينافي ظلمَ العبدِ نفسه أحيانًا بالذنوب والمعاصي. بل أبلغُ من ذلك أن صدّيقيّته لا تُنافي ظلمه لنفسه، ولهذا قال صدِّيق الأمة وخيارها للنَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: علِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي، فقال: “قل: اللَّهم إنِّي ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوبَ إلا أنت، فأغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني، إنَّك أنت الغفور الرحيم” (3).
وقد قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران/ 133 – 135]. فأخبر (4) سبحانه عن صفات المتّقين، وأنَّهم يقع منهم ظلم النفس والفاحشة، لكن لا يصرّون على ذلك.
وقال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)} [الزمر/ 33 – 35]. فهؤلاء الصدِّيقون المتّقون قد أخبر سبحانه أنَّ لهم أعمالًا
__________
(1) “ف”: “مصطفى ربّه”.
(2) “ط”: “مصطفى ووليًّا للَّه ومحبوبًا للَّه”.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان (834) وغيره، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2705).
(4) “ط”: “وأخبر”.
(1/432)
سيئة يكفِّرها، ولا ريبَ أنَّها للنفس (1).
وقال موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)} [القصص/ 16]. وقال آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف/ 23]. وقال يونس: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} [الأنبياء/ 87]. وقال تعالى: {إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)} [النمل/ 10 – 11].
وإذا كان ظلم النفس لا ينافي الصدِّيقيّة والولاية، ولا يُخرِج العبد عن كونه من المتّقين، بل يجتمع فيه الأمران: يكون وليًّا للَّه صدِّيقًا متّقيًا، وهو مسيء ظالم لنفسه = عُلِمَ أنَّ ظلمَه لنفسه لا يُخرجه عن كونه من الذين اصطفاهم اللَّه من عباده وأورثَهم كتابَه، إذ هو مصطفًى من جهة كونه من ورثة الكتاب علمًا وعملًا، ظالمٌ لنفسه من جهة تفريطه في بعض ما (2) أُمر به وتعدِّيه بعضَ ما نهي عنه. كما يكون الرجل وليًّا للَّه محبوبًا له من جهة، ومبغوضًا له من جهة أخرى. وهذا عبد اللَّه حمار (3) كان يُكثر شربَ الخمر، واللَّه يبغضه من هذه الجهة؛ ويحبُّ اللَّه ورسولَه، واللَّهُ يحبُّه ويواليه من هذه الجهة. ولهذا نهى النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- من لعنته (4)، وقال: “إنَّه يحبُّ اللَّه ورسوله” (5).
__________
(1) “ب”: “ظلم النفس”.
(2) “ط”: “ممّا”.
(3) “حمار” لقب عبد اللَّه كما في صحيح البخاري. وكان يضحك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وانظر: الإصابة (2/ 117).
(4) “ف”: “لعنه”، خلاف الأصل.
(5) من حديث عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه، أخرجه البخاري في كتاب =
(1/433)
ونكتةُ المسألة أنَّ الاصطفاء والولاية والصديقيّة وكون الرجل من الأبرار والمتّقين (1) ونحو ذلك كلها مراتب تقبل التجزّي (2) والانقسام والكمال والنقصان، كما هو ثابتٌ باتفاق السلف (3) في أصل الإيمان. وعلى هذا فيكون هذا القسم مصطفًى من وجه، ظالمًا لنفسه من وجه آخر.
وظلم النفس نوعان: نوعٌ لا يبقى معه شيء من الإيمان والولاية (4) والاصطفاء، وهو ظلمها بالشرك والكفرِ. ونوع يبقى معه حصَّةٌ (5) من الإيمان والاصطفاء والولاية، وهو ظلمها بالمعاصي، وهو درجات متفاوتة في القدرِ والوصف.
فهذا التفصيل يكشف قناع المسألة ويزيل إشكالها بحمد اللَّه.
قالوا: وأمَّا قولكم إنَّ قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} [فاطر/ 33] مرفوع، لأنَّه بدل من قوله: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر/ 32]، وهو مختصٌّ بالسابقين، وذكرُ (6) حليتِهم فيها من أساور من ذهبٍ يدلُّ
__________
= الحدود (6780).
(1) “ك، ط”: “ومن المتقين”.
(2) كذا وردَ في الأصلِ وغيره، وهو مصدر تجزّى بتسهيل الهمزة.
(3) “ك، ط”: “المسلمين”.
(4) زاد بعدها في “ب، ك، ط”: “والصديقية”.
(5) كذا في الأصل و”ف”. والحصّة: النصبب. وفي “ب، ك، ط”: “حظّه”. ولا يستبعد كتابة الظاء ضادًا، ولكنِّي رأيت ناسخ الأصل تعود العكس، فهو يكتب الضاد ظاءً، فكتب “الظن” مكان “الضن” (103/ أ)، و”الحظ” مكان. “الحض” (106/ ب).
(6) “ذكر” ساقط من “ب”.
(1/434)
على ذلك إلى آخره، فجوابه من وجهين:
أحدهما: أنَّ هذا بعينه وارد عليكم، فإنَّ المقتصد من أهل الجنَّات، ومعلوم أنَّ جنَّات السابقين بالخيرات أعلى وأفضل من جنَّاته (1). فما كان جوابكم عن المقتصد فهو الجواب بعينه عن الظالم لنفسه، فإنَّ التفاوت حاصل بين جنَّات الأصناف الثلاثة، ويختصُّ كلُّ صنفٍ بما يليق بهم (2) ويقتضيه مقامُهم وعلمهم.
الجواب الثاني: أنَّه سبحانه ذكر جزاءَ السابقين بالخيرات هنا مشوِّقًا لعباده إليه منبِّهًا لهم على مقداره وشرفه، وسكت عن جزاءِ الظالمين لأنفسهم والمقتصدين، ليحذر الظالمون ويجدَّ (3) المقتصدون.
وذكر في سورة الإنسان جزاءَ الأبرار منبِّهًا به (4) على ما هو أعلى وأجل منه، وهو جزاءُ المقرَّبين السابقين، ليدلّ على أنَّ هذا (5) إذا كان جزاء الأبرار (6) المقتصدين فما الظنّ بجزاءِ المقربين السابقين؟ فقال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)} إلى قوله: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} إلى قوله: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)} [الإنسان/ 5 – 21].
__________
(1) “ب”: “جنات الظالم”، خطأ.
(2) “ف”: “به” سهو.
(3) “ب”: “يحذر”، تحريف.
(4) “به” ساقط من “ط”.
(5) “ب”: “أنَّه”.
(6) “ط”: “للأبرار”.
(1/435)
فذكر هنا الأساور من الفضّة والأكواب من الفضّة في جزاءِ الأبرار، وذكر في سورة الملائكة (1) الأساور من الذهبِ في جزاءِ السابقين بالخيرات، فعُلِمَ جزاءُ المقتصدين من سورة الإنسان، وعلِمَ جزاءُ السابقين من سورة الملائكة، فانتظمت السورتان جزاءَ المقرَّبين على أتمّ الوجوه. واللَّه أعلم بأسرار كلامه وحكمه.
قالوا: وهذا هو الجواب عن قولكم: إنَّ الضمير يختصّ به أقربُ مذكور إليه.
قالوا: وأمَّا قولكم: إنَّ الظالم لنفسه إنَّما هو الكافر، فقد تقدَّم جوابه، وذكرنا (2) ما يُبطله.
قالوا: وأمَّا قولكم: إنَّ هذه الآيات نظير آيات الواقعة وسورة الإنسان وسورة المطففين في تقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام: أصحاب الشمال، وأصحاب اليمين، والمقرّبون؛ فلا ريب أنَّ هذه الآية وافية بالأقسام الثلاثة مع مزيد تقسيم آخر، وهو تقسيم أصحاب اليمين إلى ظالم لنفسه ومقتصد، فهي مشتملة على تلك الأقسام وزيادة.
قالوا: وأمَّا قولكم: إنَّ الآثار الدالّة على أنَّ الأصناف الثلاثة هم السعداءُ أهل الجنَّة ضعيفة لا تقوم بها حجّة، فجوابه أنَّها قد بلغت في الكثرة إلى حدّ يشدُّ بعضُها بعضًا ويشهد بعضها لبعض، ونحن نسوق منها آثارًا غيرَ ما ذكرناه (3) تعلم (4) به كثرتَها وتعدّد طرقها.
__________
(1) يعني سورة فاطر.
(2) “ط”: “وذكر”.
(3) “ب”: “ذكرنا”.
(4) “ك، ط”: “يعلم”.
(1/436)
فروى ابن مردويه في تفسيره من حديث سفيان، عن الأعمش، عن رجل، عن أبي ثابت أنَّ رجلًا دخل المسجد، فقال: اللَّهم ارحمْ غربتي، وآنسْ وحشتي، وسُقْ لي جليسًا صالحًا، فقال أبو الدرداء: إنْ كنت صادقًا أنا (1) أسعد بذلك منك، سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قرأ هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر/ 32] قال: “أمَّا السابق بالخيرات فيدخل (2) الجنَّة بغير حساب، وأمَّا المقتصد فيحاسَب حسابًا يسيرًا، وأمَّا الظالم لنفسه فيحاسب (3) في المقام حتى يدخله الهمّ والحزن، ثمَّ يدخل الجنَّة”. ثمَّ قرأ هذه الآية: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)} (4) [فاطر/ 34].
وقد ذكرنا فيما تقدّم حديث ابن أبي ليلى (5)، عن أخيه عيسى، عن أبيه، عن أسامة بن زيد في قوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [فاطر/ 32] قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “كلُّهم من هذه الأمة” (6).
وروى ابن مردويه أيضًا من حديث الفضل بن عميرة القيسي (7)، عن ميمون بن سِياه، عن أبي عثمان النهدي قال: سمعتُ عمر بن الخطاب يقول على المنبر: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “سابقنا سابقٌ،
__________
(1) “ط”: “لأنا”. “ب”: “لئن. . . لأنا”.
(2) “ك، ط”: “فيدخله”.
(3) “ب، ط”: “فيحبَس”.
(4) تفسير الطبري (22/ 137).
(5) “ط”: “حديث أبي ليلى”.
(6) تقدم في ص (410).
(7) “ب، ك، ط”: “عمرة العبسي”، تحريف.
(1/437)
ومقتصدنا ناج، وظالمُنا مغفور له” وقرأ عمر: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} (1) [فاطر/ 32].
وروى أيضًا من حديث أبي داود عن شعبة، عن الوليد بن العيزار، قال: سمعتُ رجلًا من ثقيف يحدث عن رجل من كنانة، عن أبي سعيد أنَّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال في هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر/ 32] قال: “كلُّهم في الجنَّة”. أو قال؛ “كلُّهمْ بمنزلةٍ واحدة” قال شعبة أحدهما. ورواه داود بن إبراهيم عن شعبة به، وقال (2): “دخلوا الجنَّة كلّهم”. أو “كلّهم (3) بمنزلة واحدة”. فهذا حديث صحيح إلى شعبة، وإذا كان شعبة في حديث لم يُطرَح، بل شُدَّ يديك به. ورواه يحيى بن سعيد عن الوليد بن العيزار، فذكره بمثله (4). وروى محمد بن سعد (5)، عن أبيه، عن عمِّه، حدثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ
__________
(1) أخرجه العقيلي في الضعفاء (3/ 443)، والبيهقي في البعث (65)، والواحدي في الوسيط (3/ 505). قال العقيلي: “ولا يتابع على حديثه -يعني الفضل بن عميرة”، وقال أيضًا: “وهذا يروى من غير هذا اللفظ بإسناد أصلح من هذا”. وروي موقوفًا على عمر عند البيهقي في البعث (66) وقال: غير قوي. (ز).
(2) “ك، ط”: “وقالوا”.
(3) “أو كلّهم” ساقط من “ك، ط”.
(4) أخرجه الطيالسي (2236) والطبري (22/ 137) والترمذي (3225) وقال: “هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلَّا من هذا الوجه”. والبيهقي في البعث والنشور (61) وقال ابن كثير في تفسيره (3/ 563): “هذا حديث غريب من هذا الوجه، وفي إسناده من لم يسمّ” (ز).
(5) “ف”: “ورواه محمد بن سعيد” خلاف الأصل.
(1/438)
عِبَادِنَا} [فاطر/ 32] الآية قال: “جعل اللَّه أهل الإيمان على ثلاث منازل، كقوله: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41)} [الواقعة/ 41] {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة/ 27] {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)} [الواقعة/ 10 – 11] (1)، فهم على هذا المثال” (2).
قلتُ: يريد ابن عباس أنَّ اللَّه قسم أصحاب اليمين إلى ثلاث منازل، كما قسم الخلقَ في الواقعة إلى ثلاث منازل، فإنَّ أصحاب الشمال المذكورين في الواقعة هم الكفّار المنكرون للبعث، فكيف تكون هذه منزلةً من منازل أهل الإيمان؟ ويجوزُ أن يريد أنَّ الظالمين لأنفسهم المستحقين للعذاب هم من أهل الشمال، ولكنَّ إيمانَهم يجعلهم آخرًا من أهل اليمين.
وروي من حديث معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة (3)، عن ابن عباس في هذه الآية قال: “هم أمَّة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، ورَّثهم اللَّه سبحانه كلَّ كتاب أنزله، فظالمهم يُغفَرُ له، ومقتصدهم يُحاسَب حسابًا يسيرًا، وسابقهم يدخل الجنَّة بغير حساب” (4).
وروي من حديث عثمان بن أبي شيبة، حدَّثنا الحسن بن عبد الرحمن
__________
(1) في “ب” وردت مكانها هذه الآيات: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)} [الواقعة/ 8 – 11].
(2) تفسير الطبري (22/ 135).
(3) “ب، ك، ط”: “أبي طالب”، تحريف. وقال ناشر “ط” أن في أصله بياضًا بعد “أبي طالب”. ولا بياض في أصولنا.
(4) تفسير الطبري (22/ 134).
(1/439)
ابن أبي ليلى، حدَّثنا عمران بن محمد بن أبي ليلى (1)، حدثنا أبي، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب -أو عن رجل عن البراءِ (2) – قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر/ 32]. قال: “كُلُّهُمْ نَاجٍ، وهي هذه الأُمَّة”.
ورواه الفريابي، حدثنا سفيان، عن ابن أبي ليلى (3)، عن الحكم، عن رجل، حدَّثه عن البراء قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر/ 32] قال: “كلٌّ ناجٍ” (4).
وقال آدم بن أبي إياس: حدَّثنا أبو فضالة، عن الأزهر بن عبد اللَّه الحَرَازي (5)، حدثنا من سمع عثمان بن عفَّان يقول: “ألا إنَّ سابقنا أهل جهادنا، ألا وإنَّ مقتصدنا أهل حضرنا، ألا وإنَّ ظالمنا أهل بدونا” (6).
__________
(1) “ف”: “محمد بن إسرائيل”، تحريف.
(2) “ك، ط”: “البراء بن عازب”.
(3) “ط”: “عن أبي ليلى” خطأ.
(4) أخرجهما الفريابي وابن مردويه كما في الدر المنثور (5/ 474). وسنده ضعيف. فيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو سيئ الحفظ. وقد روي موقوفًا في البعث (67) للبيهقي وسنده ضعيف (ز).
(5) “ف”: “الخرازي”، وفي “ب، ك”: “الأزهري عبد اللَّه الخراز” ومثله في “ط”، إلّا أن فيها “الخزاز” بزايين، والصواب ما أثبتنا من الأصل. وانظر: تهذيب التهذيب (1/ 204).
(6) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2308)، والبيهقي في البعث (66)، وسنده ضعيف لإبهام الرجل الذي لم يسمّ. وعزاه السيوطي في الدر المنثور (5/ 473) لابن أبي شيبة. وابن المنذر وابن مردويه.
(1/440)
وقد تقدَّم حديث عائشة وأبي الدرداء وحذيفة (1).
قالوا: فهذه الآثار يُسنِد (2) بعضُها بعضًا. فإنَّها (3) قد تعدَّدت طرقها، واختلفت مخارجها؛ وسياق الآية يشهد لها بالصحّة، فلا يُعدل عنها (4).
والمقصود الكلام على مراحل العالمين وكيفية قطعهم إيَّاها، فلنرجع إليه فنقول:
أمَّا الأشقياء فقطعوا تلك المراحل سائرين إلى دار الشقاء متزوّدين غضبَ الربّ سبحانه، ومعاداةَ كتبه ورسله وما بُعثِوا به، ومعاداةَ أوليائه والصدّ عن سبيله، ومحاربةَ من يدعو إلى دينه، ومقاتلةَ (5) الذين يأمرون بالقسط من النَّاسِ، وإقامةَ دعوةٍ غير دعوة اللَّه سبحانه التي بَعث بها رسلَه لتكون الدعوة له وحده. فقطع هؤلاء الأشقياء مراحل أعمارهم في ضدّ ما يحبّه (6) ويرضاه.
وأمَّا السائرون إليه، فظالمهم قطع مراحل عمره في غفلاته وإيثار شهواته ولذَّاته على مراضي الربّ وأوامره، مع إيمانه باللَّه وكتبه ورسله واليوم الآخر، لكن نفسه مغلوبة معه، مأسور (7) مع حظِّه وهواه،
__________
(1) انظر: ص (408، 411 – 413).
(2) “ك، ط”: “يشدّ”.
(3) “ف، ك، ط”: “وإنَّها”، قراءة محتملة.
(4) “ط”: “فلا نعدل عنها”.
(5) “ك”: “معاملة”، تحريف.
(6) “ب، ك، ط”: “يحبه اللَّه”.
(7) “ط”: “مأسورة”.
(1/441)
يعلم سوءَ حاله، ويعترف بتفريطه، ويعزم على الرجوع إلى اللَّه. فهذا حال المؤمن (1) المسلم.
وأمَّا من زُيِّن له سوءُ عمله فرآه حسنًا، وهو غير معترفٍ ولا مقرّ ولا عازم على الرجوع إلى اللَّه والإنابة إليه أصلًا، فهذا لا يكاد إسلامه أن يكون صحيحًا أبدًا، ولا يكون هذا إلا منسلخ القلب من الإيمان، ونعوذ باللَّه من الخذلان.
وأمَّا الأبرار المقتصدون فقطعوا مراحل سفرهم بالاهتمام بإقامة أمر اللَّه، وعقد القلبِ على ترك مخالفته ومعاصيه، فهممُهم مصروفة إلى القيامِ بالأعمال الصالحة واجتناب الأعمال القبيحة.
فأوَّل ما يستيقظ أحدهم من منامه يسبق إلى قلبه القيامُ إلى الوضوءِ والصلاة كما أمره اللَّه. فإذا أدَّى فرضَ وقته (2) اشتغل بالتلاوة والأذكارِ إلى حين تطلع الشمس، فركع (3) الضحى، ثمَّ ذهب إلى ما أقامه اللَّه فيه من الأسباب.
فإذا حضر فرضُ الظهر بادر إلى التطهّر (4) والسعي إلى الصفِّ الأوَّل من المسجد، فأدَّى فريضته كما أُمِر مكمِّلًا لها (5) بشرائطها وأركانها وسننها وحقائقها الباطنة من الخشوع والمراقبة والحضور بين يدي الرَّبّ.
__________
(1) “المؤمن “ساقط من “ب، ك، ط”.
(2) “ف”: “فرض اللَّه”، تحريف.
(3) “ك، ط”: “فيركع”.
(4) “ب، ك”: “التطهير”، تحريف.
(5) “ف”: “أمر بكمالها”، تحريف.
(1/442)
فينصرف من الصلاة وقد أثَّرت في قلبه وبدنه وسائر أحواله آثارًا تبدو على صفحاته ولسانه وجوراحه. ويجد ثمرتها في قلبه من الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، وقلَّة التكالب (1) والحرص على الدنيا وعاجلها. قد نهته صلاتُه عن الفحشاء والمنكر، وحبَّبتْ إليه لقاء اللَّه، ونفَّرته من كلِّ قاطع يقطعه (2) عن اللَّه. فهو مغموم مهموم، كأنَّه في سجن، حتَّى تحضر الصلاة، فإذا حضرت قام إلى نعيمه وسروره وقرَّة عينه وحياة قلبه، فهو لا تطيب له الحياة إلا بالصلاة.
هذا، وهم في ذلك كلّه مراعون لحفظ السنن لا يُخِلّون منها بشيء ما أمكنهم. فيقصدون من الوضوءِ أكمله، ومن الوقت أوَّله، ومن الصفوف أوَّلها عن يمين الإمام أو خلف ظهره.
ويأتون بعد الفريضة بالأذكار المشروعة كالاستغفار ثلاثًا، وقول: “اللَّهم أنتَ السَّلامُ، ومنكَ السَّلامُ، تباركتَ يا ذا الجلالِ والإكرامِ” (3)، وقول: “لا إلهَ إلا اللَّهُ وحده لا شريكَ له، له الملكُ، وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيءِ قدير. اللّهم لا مانِعَ لِمَا أعطيتَ، ولا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، ولا يَنْفَعُ ذا الجَدِّ منكَ الجدُّ، لا إلهَ إلا اللَّهُ، ولا نعبدُ إلا إيَّاه، له النِّعْمَةُ وله الفضلُ وله الثَّناءُ الحسَن (4)، لا إلهَ إلا اللَّهُ مخلصين له الدِّين ولو كَرِهَ الكافرونَ” (5).
__________
(1) “ك”: “التكاليف”، تحريف.
(2) “ب”: “يقطع”.
(3) أخرجه مسلم في المساجد (591) من حديث ثوبان رضي اللَّه عنه.
(4) “ف”: “الحسن الجميل”، خلاف الأصل.
(5) أخرجه مسلم في المساجد (594) من حديث عبد اللَّه بن الزبير رضي اللَّه =
(1/443)
ثمَّ يسبِّحون ويحمدون ويكبرون تسعًا وتسعين، ويختمون المائة بـ “لا إلهَ إلا اللَّهُ وحدَهُ لا شريكَ له، له الملكُ، وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيءٍ قدير” (1).
ومن أرادَ المزيدَ قرأ آية الكرسيّ والمعوّذتين عقيب كلِّ صلاة، فإنَّ فيهما (2) أحاديث رواها (3) النسائى وغيره (4)، ثمَّ يركعون السنَّة على أحسن الوجوه.
هذا دأبهم في كلِّ فريضة.
فإذا كان قبل غروب الشمس توفَّروا على أذكار المساء الواردة في السنَّة نظير أذكار الصباح الواردة في أوَّل النهار، لا يُخِلُّون بها أبدًا. فإذا جاء الليل كانوا فيه على منازلهم من مواهب الربّ تعالى التي قسمها بين عباده.
فإذا أخذوا مضاجعهم أتوا بأذكار النوم الواردة في السنّة، وهي كثيرةٌ تبلغ نحوًا من أربعين، فيأتون منها بما علموه وما يقدرون عليه من قراءة
__________
= عنهما.
(1) أخرجه مسلم في المساجد (597) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(2) “ك، ط”: “فيها”.
(3) “ف”: “الحديث رواه”، خلاف الأصل.
(4) أخرجه النسائي في الكبرى (9928) وفي عمل اليوم والليلة له (100) من حديث أبي أمامة. وأخرجه الروياني (1268) والطبراني في الكبير (7532) والأوسط (8068)، ومسند الشاميين له (824). والحديث صححه المنذري وابن عبد الهادي، وتكلم فيه الدارقطني وقال: “غريب، تفرَّد به محمد بن حميد”. وعدَّه الذهبي من غرائبه. وقال ابن حجر: “حسن غريب”. انظر: نتائج الأفكار (2/ 279 – 280). (ز).
(1/444)
سورة الإخلاص والمعوّذتين ثلاثًا، ثمَّ يمسحون (1) بها رؤوسهم ووجوههم وأجسادهم ثلاثًا، ويقرؤون آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة، ويسبِّحون ثلاثًا وثلاثين، ويحمدون ثلاثًا وثلاثين، ويكبِّرون أربعًا وثلاثين. ثمَّ يقول أحدهم: “اللَّهم إنِّي أسلمتُ نفسي إليك، ووجَّهت وجهي إليك، وفوَّضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبةَ ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك. آمنتُ بكتابك الذي أنزلتَ، ونبيّك الذي أرسلتَ” (2).
وإنْ شاءَ قال: “باسمك ربِّي وضعتُ جنبي وبك أرفعه، فإن أمسكتَ نفسي فأغفر لها، وإن أرسلتَها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين” (3).
وإنْ شاءَ قال: “اللَّهم ربَّ السَّماوات السَّبع وربَّ العرش العظيم، ربِّي وربَّ كلّ شيء، فالقَ الحبِّ والنَّوى، مُنزِلَ التوراة والإنجيل والقرآن (4)، أعوذ بك من شرِّ كلِّ دابَّة أنت آخِذٌ بناصيتها. أنت الأوَّل فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقضِ عنِّي الدَّينَ، وأغْنِني من الفقرِ” (5).
__________
(1) “ك”: “يتمسحون”.
(2) أخرجه البخاري في الدعوات (6315). وغيره، ومسلم في الذكر والدعاء (2710) عن البراء بن عازب رضي اللَّه عنه.
(3) أخرجه البخاري في الدعوات (6320) وغيره، ومسلم في الذكر والدعاء (2714) عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(4) “ك، ط”: “والفرقان”.
(5) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2713).
(1/445)
وبالجملة، فلا يزال يذكر اللَّه على فراشه حتَّى يغلبه النوم وهو يذكر اللَّه. فهذا منامُه عبادةٌ، وزيادةٌ له في قربه من اللَّه. فإذا استيقظ عاد إلى عَدَّانه الأوَّل (1). ومع هذا فهو قائمٌ بحقوق العباد من عيادة المرضى، وتشييع الجنائز، وإجابة الدعوة، والمعاونة لهم بالجاه (2) والبدن والنفس والمال، وزيارتهم، وتفقّدهم؛ وقائمٌ بحقوق أهله وعياله. فهو متنقّلٌ في منازل العبوديّة كيف نقله فيها الأمرُ. فإذا وقع منه تفريط في حقٍّ من حقوق اللَّه بادر إلى الاعتذارِ والتوبة والاستغفار، ومحوه ومداواته بعمل صالح يُزيل أثرَه. فهذا وظيفته دائمًا.
وأمَّا السابقون المقرَّبون، فنستغفر اللَّه الذي لا إله إلا هو أوَّلًا من وصف حالهم وعدم الاتّصاف به، بل ما شمِمنا له رائحةً، ولكن محبّة القوم (3) تحمل على تعرّف منزلتهم والعلم بها. وإن كانت النفوس متخلفةً (4) منقطعةَ عن اللحاق بهم، ففي معرفة حال القوم فوائد عديدة:
منها أن لا يزالُ المتخلّف المسكين مُزْرِيًا على نفسه، ذامًّا لها، لائمًا لها (5).
ومنها أنَّه (6) لا يزالُ منكسرَ القلب بين يدي ربّه، ذليلًا له حقيرًا،
__________
(1) أي إلى عهده الأوَّل. وقد سبقت هذه الكلمة في ص (407). وفي “ب، ك، ط”: “عادته الأولى”.
(2) “ب”: “بالجاه والمال والبدن والنفس”.
(3) “ف”: “العلم”، وهو سهو وخلاف الأصل. وكذا في “ك”، فكتب أحد في الحاشية: “ظ بالقوم”، يعني العلم بالقوم. والصواب ما أثبتنا من الأصل وكذا في “ب، ط”.
(4) “ب”: “مختلفة”، تحريف.
(5) “لائمًا لها” ساقط من “ب، ك، ط”.
(6) “ب، ك، ط”: “أن”.
(1/446)
ويشهد منازل السابقين وهو في زمرة المنقطعين، ويشهد بضائعَ التجّارِ وهو في رفقة المحرومين.
ومنها أنَّه عساه أن تنهض همّته يومًا ما (1) إلى التشبّث والتعلّق بساقة القوم ولو من بعيد.
ومنها أنَّه لعلَّه أن يصدُقَ في الرغبة واللّجأ إلى مَن بيده الخيرُ كلُّه أن يُلْحِقَه بالقوم ويهيّئه لأعمالهم، فيصادف ساعةَ إجابةٍ لا يسأل اللَّه فيها شيئًا إلا أعطاه.
ومنها أنَّ هذا العلم هو من أشرف علوم العباد. ليس (2) بعد علم التوحيد أشرفُ منه، وهو لا يناسب إلا النفوس الشريفة ولا يناسب النفوس الدنيئة المهينة. فإذا رأى نفسَه تناسب هذا العلم، وتشتاق إليه، وتحبّه، وتأنس بأهله (3) فَلْيُبشِرْ (4) بالخيرِ، فقد أُهِّل له، فليقل لنفسه: يا نفس قد (5) حصل لكِ شطرُ السعادة فاحرصي على الشطر الآخر، فإنَّ السعادة في العلم (6) بهذا الشأن والعمل به، فقد قطعتِ نصف المسافة، فهلَّا تقطعين باقيها فتفوزين فوزًا عظيمًا!
ومنها أنَّ العلم بكل حالٍ خيرٌ من الجهل. فإذا كان اثنان أحدهما عالمٌ بهذا الشأن غيرُ موصوفٍ به ولا قائم به، وآخر جاهل به غير متّصف
__________
(1) “ما” ساقطة من “ك، ط”.
(2) “ك، ط”: “وليس”.
(3) “ط”: “بأقلّه”، تحريف.
(4) “ب”: “فيبشر”.
(5) “ك، ط”: “فقد”.
(6) “ب”: “بالعلم”.
(1/447)
به فهو خِلْوٌ من الأمرين، فلا ريبَ أنَّ العالم به خير من الجاهل، وإن كان العالم المتّصف به خيرًا منهما، فينبغي أن يُعطى كلُّ ذي حقٍّ حقَّه، وينزَّل في مرتبته.
ومنها أنَّه إذا كان العلمُ بهذا الشأن همَّه ومطلوبَه، فلا بدَّ أن ينال منه بحسب استعداده، ولو لَمْظَةً (1)، ولو بارقةً، ولو أنَّه يحدِّث نفسَه بالنهضة إليه.
ومنها أنَّه لعله يجري منه على لسانه ما ينتفِع به غيرُه بقصده أو بغير قصده، واللَّه لا يضيع مثقال ذرَّة، فعسى أن يُرحَم بذلك العامل.
وبالجملة ففوائد العلم بهذا الشأن لا تنحصر، فلا ينبغي أن تصغي إلى من يثبّطك (2) عنه، ويقول (3): إنَّه لا ينفع. بل احذره، واستعن باللَّه، ولا تعجز، ولكن لا تغترّ، وفرِّق بين العلم والحال، وإيَّاك أن تظنّ أنَّ بمجرد علم هذا الشأن قد صرتَ من أهله. هيهات! ما أظهر الفرق بين العالم (4) بوجوه الغنى وهو فقير، وبين الغني بالفعل، وبين العالم بأسباب الصحة وحدودها وهو سقيم، وبين الصحيح بالفعل!
فاسمع الآن وصفَ القومِ، وأحضِر ذهنك لشأنهم العجيب وخطرهم
__________
(1) كذا في الأصل و”ف، ك”. وفي “ب”: “لمعة” ولكن ذكر في الحاشية أنَّ في النسخة: “لمظة”. وهي من لَمَظَ الماء: ذاقه بطرف لسانه. والُلماظة: مايبقى في الفم من طعام، وقد يستعار لبقية الشيء القليل. انظر: اللسان (لمظ) (7/ 462). وفي “ط”: “لحظة”.
(2) “ب”: “يثبط”.
(3) “ط”: “تقول”، خطأ.
(4) “ك، ط”: “العلم”.
(1/448)
الجليل. فإن وجدتَ من نفسك حركة وهمَّةً إلى التشبّه بهم فاحمد اللَّه، وادخل، فالطريق واضح، والباب مفتوح.
إذا (1) أعجبتْك خصالُ امرئٍ … فكُنْه يكنْ منك (2) ما يُعجِبُكْ
فليسَ على الجودِ والمكرماتِ … إذا جئتَها حاجبٌ يحجُبُكْ (3)
فنبأ القومِ عجيب، وحالُهم أعجَب (4)، وأمرُهم أخفى (5) إلا على من له مشاركة مع القوم، فإنَّه يطّلع من حالهم على ما يريه إيَّاه القدرُ المشترك.
وجملة أمرهم أنَّهم قوم قد امتلأت قلوبُهم من معرفة اللَّه، وعُمِرتْ (6) بمحبّته وخشيته وإجلاله ومراقبته، فسرَت المحبّة في أجزائهم، فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحبّ. قد أنساهم حبُّه ذكرَ غيره، وأوحشهم أنسُهم به ممَّن سواه. قد فَنُوا بحبّه عن حبّ مَن سواه، وبذكره عن ذكر من سواه (7)، وبخوفه، ورجائه، والرغبة إليه، والرهبة منه،
__________
(1) “ف”: “وإذا”، سهو. فقد كتب في الأصل أولًا “وإذا” ثم ضرب على الواو. وكذا في “ك”.
(2) “ك”: “مثل” تحريف. وفي “ط”: “تكن مثل”.
(3) تمثل المؤلف بالبيتين في مدارج السالكين (3/ 10) والفروسية (402) أيضًا. وذكرهما الراغب في محاضراته (1/ 310) من إنشاد أبي العيناء. وهما مع ثالث في ديوان المعاني (262).
(4) “وحالهم أخفى” ساقط من “ك، ط”.
(5) “ك، ط”: “خفي”.
(6) “ط”: “غمرت” بالمعجمة.
(7) “وبذكره” إلى هنا ساقط من “ب”.
(1/449)
والتوكل عليه، والإنابة إليه، والسكون (1) إليه، والتذلّل والانكسار بين يديه؛ عن تعلّق ذلك منهم بغيره.
فإذا وضع أحدُهم جنبَه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إلهه ومولاه، واجتمع همُّه عليه (2)، متذكِّرًا صفاته العلى وأسماءَه الحسنى، مشاهدًا له في أسمائه وصفاته، قد تجلَّت على قلبه أنوارها، فانصبغ قلبُه بمعرفته ومحبّته، فبات جسمه في فراشه يتجافى عن مضجعه، وقلبُه قد أوى إلى مولاه وحبيبه، فآواه إليه، وأسجدَه بين يديه خاضعًا خاشعًا ذليلًا منكسرًا من كلِّ جهة من جهاته. فيا لها سجدةً ما أشرفها من سجدة، لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاءِ!
وقيل لبعض العارفين: أيسجد القلب بين يدي ربِّه؟ فقال (3): “إي واللَّه، سجدةً (4) لا يرفع رأسه منها إلى القيامة! ” (5).
فشتّان بين قلبٍ يبيت عند ربِّه، قد قطع في سفره إليه بيداءَ الأكوان وخرق حُجُبَ الطبيعة، ولم يقف عند رسم، ولا سكن إلى علَم، حتَّى دخلَ على ربِّه في داره، فشاهد (6) عزَّ سلطانه، وعظمة جلاله، وعلوَّ
__________
(1) “ف”: “الشكوى”، تحريف.
(2) “ك”: “إليه”.
(3) “ط”: “قال”
(4) “ك، ط”: “بسجدة”.
(5) “ب، ك، ط”: “يوم القيامة”. وقد نقل المؤلف هذا القول في مدارج السالكين (1/ 509). وسيأتي مرة أخرى في هذا الكتاب ص (662). وهو من كلام سهل بن عبد اللَّه التستري كما في مجموع الفتاوى (21/ 287 و 23/ 138).
(6) “ف”: “مشاهدًا”، تحريف.
(1/450)
شأنه، وبهاءَ كماله، وهو مستوٍ على عرشه يدبِّر أمر (1) عباده، وتصعد إليه شؤونُ العباد، وتُعْرَض عليه حوائجُهم وأعمالُهم، فيأمر فيها بما يشاءُ، فينزل الأمر من عنده نافذًا كما أمر. فيشاهد الملك الحقَّ قيّومًا بنفسه، مقيمًا لكل ما سواهِ، غنيًّا عن كلِّ من سواه (2)، وكلُّ من سواه فقيرٌ إليه. {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن/ 29]: يغفر ذنبًا، ويفرِّج كربًا، ويفكّ عانيًا، وينصر ضعيفًا، ويجبُر كسيرًا، ويغني فقيرًا، ويميت ويحيي، ويُسعد ويشقي، ويُضِلّ ويهدي، ويُنعم على قوم، ويسلب نعمته عن آخرين، ويُعزّ أقوامًا ويذلُّ آخرين، ويرفع أقوامًا ويضع آخرين.
ويَشهده كما أخبر عنه أعلمُ الخلق به وأصدقهم في خبره، حيث يقول في الحديث الصحيح: “يمين اللَّه ملأى، لا يَغِيضُها نفقةٌ، سحَّاءُ الّليلَ والنهارَ، أرأيتم ما أنفق منذ خلقَ الخلقَ فإنَّه لم يَغِضْ ما في يمينه. وبيده الأخرى الميزانُ يخفِضُ ويرفَعُ” (3). فيشاهده (4) كذلك يقسم الأرزاق، ويجزل العطايا، ويمنّ بفضله على من يشاء من عباده بيمينه. وباليد الأخرى الميزان يخفض به من يشاءُ، ويرفع به من يشاء، عدلًا منه وحكمةً، لا إله إلا هو العزيز الحكيم.
فيَشهده وحده القيّوم بأمر السماوات والأرضِ ومن فيهنَّ، ليس له
__________
(1) “ف”: “يدنو من “، تحريف.
(2) “ب”: “ما سواه” هنا وفي الجملة التالية.
(3) أخرجه البخاري في كتاب التفسير (4684) وغيره، ومسلم في كتاب الزكاة (993) عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(4) “ب”: “ويشاهده”.
(1/451)
بوَّاب فيستأْذَن، ولا حاجب فيُدخَل عليه به (1)، ولا وزير فيؤتى، ولا ظهير فيستعان به، ولا وليّ من دونه فيتشفّع (2) به إليه، ولا نائب عنه فيعرِّفَه حوائجَ عباده، ولا معين له فيعاونه على قضائها. بل قد (3) أحاط سبحانه بها علمًا، ووَسِعها قدرةً ورحمةً، فلا تزيده كثرةُ الحاجات إلا جودًا وكرمًا. فلا (4) يشغله منها شأن عن شأن، ولا تغلّطه كثرةُ المسائل، ولا يتبرّم بإلحاح الملحّين.
لو اجتمع أوَّلُ خلقه وآخرُهم، وإنسُهم وجنّهم، وقاموا في صعيدٍ واحدٍ، ثمَّ سألوه، فأعطى كلًّا منهم مسألتَه، ما نقص ذلك ممَّا عنده ذرَّةً واحدةً إلا كما ينقص المِخْيَطُ البحرَ إذا غُمِسَ فيه. ولو أنَّ أوَّلهم وآخرهم وإنسهم وجنّهم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئًا (5). ولو أنَّ أوَّلهم وآخرهم وإنسهم وجنّهم كانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ واحدٍ منهم ما نقصَ ذلك من ملكه شيئًا (6). ذلك بأنَّه الغنيّ الجواد الماجد، فعطاؤه كلام، وعذابه كلام (7). {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس/ 82].
ويَشهده كما أخبر عنه أيضًا الصادق المصدوق حيث يقول: “إنَّ اللَّه لا ينامُ، ولا ينبغي له أن ينامَ. يخفضُ القسطَ، ويرفعُه. يُرْفَعُ إليهِ عملُ
__________
(1) “به” ساقط من “ك، ط”.
(2) “ب”: “فيستشفع”. “ف، ط”: “فيشفع”.
(3) “بل قد” ساقط من “ك، ط”. و”قد” ساقط من “ب”.
(4) “ط”: “ولا يشغله”.
(5) بعد هذا إلى قوله: “من ملكه شيئًا” ساقط من “ك، ط”.
(6) يشير إلى حديث أبي ذر الذي أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة (2577).
(7) “ط”: “من كلام وعذابه من كلام”. وصحح في القطرية.
(1/452)
الليلِ قبل النَّهارِ (1)، وعملُ النَّهارِ قبلَ الليل (2). حِجَابُه النُّور، لَوْ كَشَفَه لأحْرَقَتْ سُبُحاتُ وجهِهِ ما أدركه بصرُه من خلقِهِ” (3).
وبالجملة فيَشهده في كلامه، فقد تجلَّى سبحانه وتعالى لعباده في كلامه، وتراءى لهم فيه، وتعرَّف إليهم فيه. فبعدًا وتبًّا للجاحدين والظالمين {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم/ 10] لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
فإذا صارت صفاتُ ربِّه (4) وأسماؤه مشهدًا لقلبه أنْسَتْه ذكرَ غيره، وشغلته عن حبِّ سواه (5)، وجذبت (6) دواعي قلبه إلى حبِّه تعالى بكلِّ جزءٍ من أجزاءِ قلبه وروحه وجسمه. فحينئذٍ يكون الربُّ تعالى سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. فبه يسمع. وبه يبصر، وبه يبطش، وبه يمشي. كما أخبر عن نفسه على لسان رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- (7).
ومن غلُظ حجابُه، وكثُف طبعُه، وصلُب عوده؛ فهو عن فهم هذا بمعزل، بل لعلَّه أن يفهمَ منه ما لا يليق به تعالى من حلول أو اتحاد، أو يفهم منه غيرَ المراد منه، فيحرّف معناه ولفظه {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا
__________
(1) “ب، ك، ط”: “عمل النهار”.
(2) “ب، ك، ط”: “عمل الليل”.
(3) تقدّم تخريجه في ص (158).
(4) “ب”: “صفاته”.
(5) “ك، ط”: “من سواه”.
(6) “ط”: “حديث”، تصحيف.
(7) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق (6502) عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(1/453)
لَهُ مِنْ نُورٍ (40)} [النور/ 40]. وقد ذكرتُ معنى الحديث، والردّ على من حرَّفه وغلِط فيه في كتاب “التحفة المكّية” (1).
وبالجملة فيبقى قلب العبد الذي هذا شأنه عرشًا للمثل الأعلى، أي عرشًا (2) لمعرفة محبوبه ومحبّته وعظمته وجلاله وكبريائه، وناهيك بقلب هذا شأنه! فيا له من قلب، من ربّه ما أدناه، ومن قربه ما أحظاه! فهو ينزّه قلبَه أن يساكنِ سواه، أو يطمئنّ بغيره. فهؤلاء قلوبهم قد قطعت الأكوان، وسجدت تحت العرشِ، وأبدانُهم في فُرُشهم؛ كما قال أبو الدرداءِ: “إذا نام العبد المؤمن عُرِجَ بروحه حتّى تسجدَ تحت العرشِ، فإن كان طاهرًا أذِن لها بالسجود (3)، وإنْ كان جنُبًا لم يؤذَن لها (4) ” (5).
وهذا -واللَّه أعلم- هو السرّ الذي لأجله أمر النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الجُنُبَ إذا أرادَ النوم أن يتوضّأ (6)، وهو إمَّا واجب على أحد القولين، أو مؤكد الاستحباب (7) على القول الآخر. فإنَّ الوضوء يخفّف حدثَ الجنابة، ويجعله طاهرًا من بعض الوجوه. ولهذا روى الإمام أحمد وسعيد بن
__________
(1) انظر ما سبق من التعليق في ص (425).
(2) وقع في الأصل: “عرش” كذا في الموضعين. ولعله سهو. وكذا في “ف” وكذا في الموضع الثاني في “ب”.
(3) “ك، ط”: “في السجود”.
(4) “ك، ط”: “لها بالسجود”.
(5) أخرجه عبد اللَّه بن المبارك في الزهد (1245) وسنده ضعيف. “ز”.
(6) نصّه عند البخاري (287، 289) ومسلم (306) من حديث عمر بن الخطاب. رضي اللَّه عنه (ز).
(7) “ف”: “للاستحباب”.
(1/454)
منصور وغيرهما عن أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّهم إذا كان أحدُهم جنُبًا ثمَّ أراد أن يجلس في المسجد توضَّأ ثمَّ جلس فيه (1). وهذا مذهب الإمام أحمد وغيره، مع أنَّ المساجد لا تحلّ لجنب (2). فدلَّ (3) على أنَّ وضوءَه رفع حكمَ الجنابة المطلقة الكاملة التي تمنع الجسد (4) من الجلوس في بيت اللَّه، وتمنع الروح من السجود بين يدي اللَّه.
فتأمَّلْ هذه المسألةَ وفقهَها (5)، واعرف بها مقدار فقه الصحابة وعمق علومهم. فهل ترى أحدًا من المتأخّرين وصل إلى مبلغ هذا الفقه الذي خصَّ اللَّه به خيارَ عباده، وهم أصحاب نبيّه؟ وذلك فضل اللَّه، يؤتيه من يشاءُ، واللَّه ذو الفضل العظيم.
فإذا استيقظ هذا (6) القلب من منامه صعد إلى اللَّه بهمّه وحبّه وأشواقه (7) مشتاقًا إليه، طالبًا له، محبًّا له (8)، عاكفًا عليه. فحاله كحال المحبّ الذي غاب عن محبوبه الذي لا غنى له عنه، ولا بدَّ له منه، وضرورتُه إليه أعظم من ضرورته إلى التنفّس (9) والطعام والشراب. فإذا نامَ غاب عنه، فإذا استيقظ عاد إلى الحنين إليه، وإلى الشوق الشديد
__________
(1) أخرجه سعيد بن منصور (646) عن عطاء بن يسار (ز).
(2) انظر مجموع الفتاوى (21/ 344).
(3) “فدلّ” ساقط من “ك، ط”.
(4) “ب، ك، ط”: “الجنب”، تحريف.
(5) “ب”: “تفهمها”، تحريف.
(6) “هذا” ساقط من “ب”.
(7) “ب”: “شوقه”.
(8) “ط”: “محتاجًا إليه” مكان “محبًّا له”.
(9) “ك، ط”: “النفس”.
(1/455)
والحب المقلق، فحبيبُه آخرُ خطراته عند منامه، وأوّلُها عند استيقاظه، كما قال بعض المحبّين لمحبوبته (1):
أآخرُ شيءٍ أنتِ في كلِّ هَجْعةٍ … وأوَّلُ شيءٍ أنتِ عندَ هُبوبي؟ (2)
فقد أفصح هذا المحبُّ عن حقيقة المحبّة وشروطها. فإذا كان هذا في محبّة مخلوقٍ، فما الظنّ بمحبّة (3) المحبوب الأعلى؟ فأُفِّ لِقلبٍ لا يصلح لهذا ولا يصدّق به، لقد صُرِفَ عنه خيرُ الدنيا والآخرة!
فصل
فإذا استيقظ أحدهم، وقد بدر إلى قلبه هذا الشأن، فأوَّلُ ما يجري على لسانه ذكرُ محبوبه، والتوجّه إليه، واستعطافه، والتملق بين يديه، والاستعانة به أن يخلّي بينه وبين نفسه، وأن لا يكِلَه إليها، فيكلَه إلى ضَيْعةٍ (4) وعجز وذنب وخطيئة، بل يكلأَه كلاءَة الوليد الذي لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا.
فأوَّل ما يبدأ به قول (5): “الحمد للَّه الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشورُ” (6)، متدبِّرَا لمعناها من ذكرِ نعمةِ اللَّه عليه بأن أحياه بعد نومه
__________
(1) “ب، ك، ط”: “لمحبوبه”.
(2) ذكره المؤلف في روضة المحبّين (387). وهو من بيتين في حماسة أبي تمام (2/ 75). وقد نسبا في بلاغات النساء (119) وذيل الأمالي (70) إلى امرأة. وأنشده الراغب في محاضراته (2/ 55) لعليّ بن الجهم.
(3) “ك، ط”: “في محبة”.
(4) “ك، ط”: “ضعة”، تحريف.
(5) “قول” ساقط من “ب، ك، ط”.
(6) أخرجه البخاري في الدعوات (6312) من حديث حذيفة رضي اللَّه عنه.
(1/456)
الذي هو أخو الموت، وأعاده إلى حاله سويًّا سليمًا محفوظًا مما لا يعلمه ولا يخطر بباله من المؤذيات والمهلكات التي هو غرض وهدف لسهامها، كلُّها تقصده بالهلاك أو الأذى، والتي (1) من بعضها أرواح (2) شياطين الإنس والجنّ، فإنَّها تلتقي بروحه إذا نام، فتقصد إهلاكه وأذاه؛ فلولا أنَّ اللَّه سبحانه يدفع عنه لما سلم.
هذا، وكم يلقى (3) الروح في تلك الغَيبة من أنواع الأذى والمخاوف والمكاره والتفزيعات ومحاربة الأعداء والتشويش والتخبيط بسبب ملابستها لتلك الأرواح. فمن الناس من يشعر بذلك لرقة روحه ولطافتها، ويجد آثار ذلك فيها إذا استيقظ من الوحشة والخوف والفزع والوجع الروحي الذي ربما غلب حتَّى سرى إلى البدن. ومن النَّاس من تكون روحه أغلظ وأكثف (4) وأقسى من أن تشعر بذلك، فهي مثخَنةٌ بالجراح، مزمَنة بالأمراض، ولكن لموتها (5) لا تحسّ بذلك.
هذا، وكم من مريدٍ لإهلاك جسمه من الهوامّ وغيرها قد حفظه منه، فهي في أجحارها محبوسة عنه، لو خُلِّيتْ وطبعَها لأهلكته. فمن ذا الذي كلأَه وحرَسه، وقد غاب عنه حسُّه وعلمُه وسمعُه وبصرُه؛ فلو جاءَه البلاءُ من أي مكان جاءَ لم يشعر به. ولهذا ذكَّر سبحانه عبادَه هذه النعمة، واعتدّها (6) عليهم من جملة نعمه، فقال: {مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ
__________
(1) كذا في الأصل و”ط” مع واو العطف، وفي “ف” وغيرها دونها.
(2) “أرواح” ساقط من “ط”.
(3) “كم” ساقط من “ط”. وفي “ب”: ” تلقى”. وفي “ط”: “تلتقي”.
(4) “ب”: “أكثف وأغلظ”.
(5) “ط”: “لنومها”.
(6) “ك”: “أعدّها”، “ط”: “عدِّها”.
(1/457)
وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)} [الأنبياء/ 42].
فإذا تصوَّر العبدُ ذلك فقال: “للَّه” كان حمده أبلغ وأكمل من حمد الغافل عن ذلك. ثمَّ يُفكِّر (1) في أنَّ الذي أعاده بعد هذه الإماتة حيًّا سليمًا قادرُ (2) على أن يعيده بعد موتته الكبرى حيًّا كما كان، ولهذا يقول بعدها: “وإليه النشور”.
ثمَّ يقول: “لا إله إلا اللَّه وحدَه لا شريك له، له الملك، وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيءِ قدير. الحمد للَّه، وسبحان اللَّه (3)، واللَّه أكبر، ولا حولَ ولا قوَّة إلا باللَّه” (4). ثمَّ يدعو ويتضرّع.
ثمَّ يقوم إلى الوضوء بقلب حاضر مستصحِب لما فيه (5).
ثمَّ يصلّي ما كتب اللَّه له صلاةَ محبٍّ ناصحٍ لمحبوبه متذللٍ منكسرٍ بين يديه، لا صلاةَ مُدِلٍّ بها عليه، يرى من أعظم نعم محبوبه عليه أن أقامه وأنام غيرَه، واستزاره وطرد غيرَه، وأهَّله وحرَم غيره، فهو يزداد بذلك محبَّةً إلى محبته. يرى (6) أنَّ قرَّة عينه وحياةَ قلبه وجنَّة روحه
__________
(1) “ك، ط”: “تفكر”.
(2) “ط”: “قادرًا”، خطأ.
(3) “ك، ط”: “سبحان اللَّه والحمد للَّه”. وكذلك ورد فيها بعده “ولا إله إلا اللَّه” ولم ترد هذه الزيادة في صحيح البخاري إلّا في رواية كريمة، وكذا عند الإسماعيلي والنسائي والترمذي وابن ماجه. قاله الحافظ ابن حجر في الفتح (3/ 40). وانظر: الوابل الصيب (254).
(4) أخرجه البخاري في التهجد (1154) عن عبادة بن الصامت رضي اللَّه عنه.
(5) ما بعد “حاضر” ساقط من “ب”.
(6) “ط”: “ويرى”.
(1/458)
ونعيمَه ولذَّته وسرورَه في تلك الصلاة، فهو يتمنَّى طولَ ليله، ويهتمّ بطلوع الفجر، كما يتمنى المحب الفائز بوصل محبوبه ذلك. فهو كما قيل:
يودُّ أنَّ ظلامَ اللَّيل دامَ له (1) … وزِيدَ فيه سوادُ القلبِ والبصَرِ (2)
فهو يتملَّق فيها مولاه تملَّقَ المحب لمحبوبه العزيز الرحيم، ويناجيه بكلامه معطيًا لكلِّ آية حظّها من العبوديّة. فتجذب قلبَه وروحَه إليه آياتُ المحبّة والوداد، والآياتُ التي فيها الأسماءُ والصفات، والآياتُ التي تعرّفَ (3) بها إلى عباده بآلائه وإنعامه عليهم وإحسانه إليهم. وتطيِّبُ له السيرَ آياتُ الرجاء والرحمة وسعة البرّ والمغفرة، فتكون له بمنزلة الحادي الذي يطيّب له السيرَ ويهوّنه عليه (4). وتُقلِقُه آياتُ الخوف والعدل والانتقام وإحلال غضبه بالمعرضين عنه، العادلين به غيرَه، المائلين إلى سواه؛ فتجمعه عليه وتمنعه (5) أن يشرد قلبه عنه. فتأمَّلْ هذه النكتةَ (6)، وتفقَّهْ فيها، واللَّه المستعان، ولا حول ولا قوَّة إلا به (7).
وبالجملة فيشاهد المتكلّمَ سبحانه، وقد تجلَّى في كلامه، ويعطي كلَّ آية حظَّها من عبودية قلبه الخاصَّة الزائدة على مجرَّد تلاوتها
__________
(1) “ب”: “طوّله”.
(2) البيت لأبي العلاء المعرّي في سقط الزند (56).
(3) “ب”: “يتعرف”.
(4) “عليه” ساقط من “ط”.
(5) “ك، ط”: “فيجمعه عليه ويمنعه”.
(6) “ب، ط”: “هذه الثلاثة”، وهو تحريف طريف. وكذا كان في “ك”، ثم عدّل فيها.
(7) “ب، ك، ط”: “إلّا باللَّه”.
(1/459)
والتصديق بأنَّها كلام اللَّه، بل الزائدة على نفس فهمها ومعرفة المراد منها. بلَ (1) ثَمَّ شأن آخر لو فطن له العبد لعلِمَ أنَّه كان قبلُ يلعب، كما قيل:
وكنتُ أرى أن قد تناهَى بيَ الهوى … إلى غايةٍ ما بعدَها ليَ مذهبُ
فلَمَّا تلاقَينا وعايَنْتُ حسنَها … تيفَّنتُ أنِّي إنَّما كنتُ ألعبُ (2)
فواأسفاه! وواحسرتاه! كيف ينقضي الزمان، وينفد العمر، والقلب محجوب ما شمّ لهذا رائحة! خرج (3) من الدنيا كما دخل إليها (4)، وما ذاق أطيب ما فيها، بل عاش فيها عيش البهائم، وانتقل منها انتقال المفاليس، فكانت حياته عجزًا، وموته كمدًا، ومعاده حسرةً وأسفًا!
اللهم فلك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حولَ ولا قوَّة إلا بك.
فصل
فإذا صلَّى ما كتب اللَّه (5) جلس مطرقًا بين يدي ربِّه تعالى هيبةً له وإجلالًا، واستغفره استغفارَ من قد تيقن أنَّه هالك إن لم يغفر له
__________
(1) “بل” ساقط من “ب، ك، ط”.
(2) “ب”: “علمت يقينًا أنني كنت ألعب”. وقد ذكر المصنف البيتين في مفتاح دار السعادة (1/ 363) ومدارج السالكين (1/ 592). وأنشدهما مع بيت ثالث أبو بكر محمد بن داود الظاهري في كتاب الزهرة (274) “لبعض أهل هذا العصر”.
(3) “ب، ك، ط”: “وخرج”.
(4) “ب”: “فيها”.
(5) زاد في “ب”: “له”.
(1/460)
ويرحمه. فإذا قضى من الاستغفار وطرًا، وكان عليه بعدُ ليلٌ اضطجع على شقّه الأيمن مُجِمًّا نفسَه، مريحًا لها، مقوِّيًا لها (1) على أداء وظيفة الفرض، فيستقبله نشيطًا بجده وهمته كأنِّه لم يزل نائمًا طول ليلته لم يعمل شيئًا. فهو يريد أن يستدرك ما فاته في صلاة الفجر، فيصلِّي السنة، ويبتهل بينها وبين الفريضة، فإنَّ لذلك الوقت شأنًا (2) يعرفه من عرفه. ويكثر فيه من قول “يا حيُّ يا قيوم لا إله إلا أنت”، فلهذا الذكر في هذا الموطن تأثيرٌ عجيب (3).
ثمَّ ينهض إلى صلاة الصبح قاصدًا الصفَّ الأوَّل عن يمين الإمام أو خلف قفاه. فإن فاته ذلك قصدَ القربَ منه مهما أمكن، فإنَّ للقربِ من الإمام تأثيرًا (4) في سرّ الصلاة. ولهذا القرب تأثيرٌ في صلاة الفجر خاصَّةً يعرفه من عرف قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)} [الإسراء/ 78]. قيل: يشهده اللَّه عزَّ وجل وملائكته. وقيل: يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، فيتفق نزول هؤلاء البدل عند صعود أولئك فيجتمعون في صلاة الفجر، وذلك لأنَّها في (5) أوَّل ديوان النهار وآخر ديوان الليل فيشهدها ملائكة الليل والنهار. واحتجَّ لهذا القول بما في الصحيح من حديث الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “فَضْلُ صلاة الجميع على صلاة الواحد
__________
(1) “ب”: “متقويًّا بها”.
(2) في الأصل: “شأن” بالرفع. والمثبت من “ف” وغيرها.
(3) انظر: ما نقله في ذلك عن شيخ الإسلام ابن تيمية في مدارج السالكين (1/ 529 و 3/ 246).
(4) هنا أيضًا في الأصل: “تأثير” بالرفع. والمثبت من “ف” وغيرها.
(5) “ط”: “هي”.
(1/461)
خمسٌ وعشرون درجة، وتجتمع ملائكةُ الليل وملائكةُ النّهار في صلاة الفجر” يقول أبو هريرة (1): واقرؤوا إن شئتم: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)} رواه البخاري في الصحيح (2).
قال أصحاب القول الأوَّل: وهذا لا ينافي قولنا، وهو أن يكون اللَّه سبحانه وملائكة الليل والنهار يشهدون قرآن الفجر، وليس المراد الشهادة العامَّة، فإنَّ اللَّه على كلِّ شيءٍ شهيد، بل المراد شهادة خاصة، وهي شهادة حضور ودنوّ متصل بدنوّ الربّ تعالى ونزوله إلى سماءِ الدنيا في الشطر الأخير من الليل.
وقد روى الليث بن سعد، حدّثني زياد (3) بن محمد، عن محمد بن كعب القُرَظي (4)، عن فضالة بن عبيد الأنصاري، عن أبي الدرداء عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ ينزلُ في ثلاثِ ساعاتٍ يَبقينَ من اللَّيلِ، فيَفْتَحُ الذِّكْرَ في السَّاعةِ الأولى الذي لم يرَه غيرُه، فيمحو اللَّه ما يَشَاءُ ويُثْبِتُ. ثُمَّ يَنْزِلُ في السَّاعَةِ الثانية إلى جنَّةِ عَدْن، وهي دارُه التي لم تَرَهَا عيْنٌ ولَمْ تَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وهِيَ مَسْكَنُه لا يسكنها معه من بني آدم غير ثلاث، وهم النبيّون والصدِّيقون والشهداءُ، ثم يقول: طُوبى لمن دَخَلَكِ، ثمَّ ينزلُ في الساعة الثالثة إلى سماء الدنيا بِرُوحه وملائكته
__________
(1) “ط”: “لقول أبي هريرة”، تحريف.
(2) في كتاب الأذان (648). وانظر: صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة (649).
(3) “زياد” كذا في الأصل و”ف”، وهو تحريف، والصواب: “زيادة” كما في الإكمال لابن ماكولا (4/ 196) والمؤتلف والمختلف للدارقطني (1151). وكذا في “ك، ط”.
(4) “ك، ط”: “زيادة بن محمد بن كعب القرظي”، تحريف.
(1/462)
فتنتفضُ فيقول: قومي بعزَّتي. ثمَّ يطلع إلى عباده فيقول: هل من مستغفر فأغفرَ له؟ ألا مِن سائلٍ يسألني فأعطيَه؟ ألا من (1) داع يدعوني فأجيبَه؟ حتّى تكونَ صلاةُ الفجر. ولذلك يقول اللَّه: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)} يشهدُه اللَّه عزَّ وجلَّ وملائكتُه ملائكةُ الليل والنهار” (2).
ففي هذا الحديث أنَّ النزول يدوم إلى صلاة الفجر. وعلى هذا فيكون شهود اللَّه سبحانه لقرآن الفجر مع شهود ملائكة الليل والنهار له، وهذه خاصَّة لصلاة (3) الصبح ليست لغيرها من الصلوات (4). وهذا لا ينافي دوام النزول في سائر الأحاديث إلى طلوع الفجر، ولا سيّما وهو معلّق في بعضها على انفجار الصبح، وهو اتساع ضوئه. وفي لفظ: “حتَّى يُضِيءَ الفَجْرُ” (5) وفي لفظ: “حَتَّى يسْطَع الفجر” (6)، وذلك هو وقت قراءة الفجر. وهذا دليل على استحباب تقديمها مع مواظبة
__________
(1) “من” ساقط من “ط”.
(2) أخرجه الطبري في تفسيره (15548) والعقيلي في الضعفاء (2/ 93) وقال: “والحديث في نزول اللَّه عز وجل إلى السماء الدنيا ثابت، فيه أحاديث صحاح، إلّا أن زيادة هذا جاء في حديثه بألفاظ لم يأت بها الناس، ولا يتابعه عليها أحد” وزيادة بن محمد الأنصاري منكر الحديث، قاله البخاري والنسائي وغيرهما. (ز).
(3) “ط”: “بصلاة”، تحريف.
(4) “ط”: “الصلاة”، تحريف.
(5) أخرجه مسلم (758) – (169، 172). (ز).
(6) أخرجه أحمد (4268) مرفوعًا، والدارقطني في النزول (10) موقوفًا من حديث ابن مسعود. ومداره على إبراهيم الهجري وفيه ضعف. وهذا الاضطراب في رفعه ووقفه منه. (ز).
(1/463)
النّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وخلفائه الراشدين على تقديمها في أوَّل وقتها، فكان النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقرأ فيها بالستّين إلى المائة، ويطيل ركوعها وسجودها، وينصرف منها والنساءُ لا يُعْرَفْنَ من الغلَس (1). وهذا لا يكون إلا مع شدَّة التقديم في أوَّل الوقت، لتقع القراءَهُ في وقت النزول، فيحصل الشهود المخصوص.
هذا (2) مع أنَّه قد جاءَ في بعض الأحاديث مصرَّحًا به دوامُ ذلك (3) إلى الانصراف من صلاة الصبح، رواه الدارقطنيّ في “كتاب نزول الربّ كلَّ ليلة إلى سماءِ الدنيا” (4) من حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “ينزلُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ كلَّ ليلةٍ (5) إلى السماءِ الدنيا لنصف الليل الآخر أو الثلث الآخر يقول: مَن ذا الذي
يدعوني فأستجيبَ له؟ مَن ذا الذي يسألني فأعطيَه؟ مَن ذا الذي يستغفرني فأغفرَ له؟ حتى يطلعَ الفجر أو ينصرف القارئ من صلاة الصبح”. رواه عن محمد جماعة: منهم سليمان بن بلال، وإسماعيل بن جعفر، والدراوردي، وحفص بن غياث، ويزيد بن هارون،
وعبد الوهاب بن عطاء، ومحمد بن جعفر، والنضر بن شميل، كلّهم قال: “أو ينصرف القارئ من صلاة الفجر”.
__________
(1) كما في حديث عائشة رضي اللَّه عنها. أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (578) وغيره.
(2) “هذا” ساقط من “ك، ط”.
(3) “دوام ذلك” ساقط من “ب”.
(4) برقم (13 – 21)
(5) “كل ليلة” ساقط من “ب، ك، ط”. ثم استدرك في حاشية “ك”. وفيها جميعا: “سماء الدنيا”.
(1/464)
فإنْ كانت هذه اللفظة محفوظةً عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فهي صريحة في المعنى كاشفة للمراد. وإن لم تكن محفوظة، وكانت من شكِّ الراوي هل قال هذا أو هذا، فقد قدَّمنا أنَّه لا منافاة بين اللفظين، وأنَّ حديث الليث بن سعد عن محمد بن زياد (1) يدلُّ على دوام النزول إلى وقت صلاة الفجر، وأنَّ تعليقه بالطلوع لكونه أوَّل الوقت الذي يكون فيه الصعود. كما رواه يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن الأغرّ أبي مسلم قال: شهِدَ لي (2) على أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أنَّهما شهدا على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: “إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يُمْهِلُ حَتَّى إذا ذهبَ (3) ثلث الليل هَبَط إلى هذهِ السَّماءِ، ثمَّ أمرَ بأبواب السَّماء ففتحت، ثمَّ قال: هل من سائلٍ فأعطيَه؟ هل من داعٍ فأجيبَه؟ هل من مستغفرٍ فأغفرَ له؟ هل من مستغيث أغيثه؟ (4) هل من مضطرٍّ أكشفُ (5) عنه؟ فلا يزالُ ذلك (6) مكانه حتى يطلع الفجر في كلِّ ليلة من الدنيا، ثمَّ يصعد إلى السماء”. قال الدارقطني (7): فزاد فيه يونس بن أبي إسحاق زيادةً حسنةً.
والمقصود ذكر القرب من الإمام في صلاة الفجر وتقديمها في
__________
(1) كذا وقع في الأصل وغيره، وهو خطأ فقد مرّ آنفًا أنّ صوابه: زيادة بن محمد.
(2) كذا في الأصل و”ف”. فإنْ لم يكن خطأ فالمقصود أنَّ إسحاق قال: شهد لي أبو مسلم، وفي “ب، ك، ط”: “شهدتُ”.
(3) “ط”: “كان”.
(4) “ف”: “فأغيثه”، خلاف الأصل. وكذا في “ب، ط”.
(5) “ب”: “فأكشف”.
(6) “ب”: “كذلك”.
(7) النزول (55)، ولفظة: “ثمَّ يصعد إلى السماء” غريبة غير محفوظة لم يروها الثقات من أصحاب أبي إسحاق، ولا أحد من أصحاب الأغر أبي مسلم. راجع صحيح مسلم (758)، والنزول للدارقطني (52 – 64). (ز).
(1/465)
أوَّل وقتها (1).
فصل
فإذا فرغَ من صلاة الصبح أقبل بكلّيّته على ذكر اللَّه والتوجّه إليه بالأذكارِ التي شُرِعَت أوَّل النَّهارِ، فيجعلها وِردًا له لا يُخِلُّ به (2) أبدًا، ثمَّ يزيد عليها ما شاءَ (3) من الأذكار الفاضلة أو قراءة القرآن حتّى تطلع الشمس حسنًا (4). فإذا طلعت فإن شاء ركع ركعتي الضّحى وزاد ما شاء، وإن شاء قام من غير ركوع.
ثمَّ يذهب متضرّعًا إلى ربِّه، سائلًا له أن يكون ضامنًا عليه، متصرِّفًا في مرضاته بقيّة يومه. فلا يتقلب إلا في شيء يظهر له فيه مرضاةُ ربه، وإن كان من الأفعال العاديّة الطبيعيّة قَلَبه عبادةً بالنية، وقصَدَ الاستعانة به على مرضاة الربّ. وبالجملة فيقف عند أوَّل الداعي إلى فعله (5)، فيفتّش ويستخرج منه منفذًا ومسلكًا يسلك به إلى ربّه. فينقلب في حقّه عبادة وقربة. وشتَّان كم (6) بين هذا وبين من إذا عرض له أمر من أوامر الربّ لا بدّ له من فعلِه، وفتَّش فيه على مراد لنفسه وغرض لطبعه، ففعله (7) لأجل ذلك، وجعل الأمر طريقًا له ومنفذًا لمقصده. فسبحان من فاوت
__________
(1) زاد في “ك، ط”: “واللَّه أعلم”.
(2) “به” يعني: بالورد. وفي “ط”: “بها”.
(3) وقع “ما شاء” في “ب” بعد “الفاضلة”.
(4) “ف، ب”: “حسناء”. والكلمة ساقطة من “ط”.
(5) “إلى فعله” ساقط من “ب”.
(6) كذا وقع في الأصل وغيره، وهو أسلوب غريب.
(7) “ط”: “ففعل”.
(1/466)
بين النفوس إلى هذا الحد والغاية! فهذا عباداته عادات، والأوَّل عاداته عبادات!
فإذا جاءَ فرضُ الظهر بادرَ إليه كذلك (1) مكمِّلًا له، ناصحًا فيه لمعبوده كنصح المحبّ الصادق المحبّة لمحبوبه الذي قد طلب منه أن يعمل له شيئًا ما، فهو لا يُبقي مجهودًا، بل يبذل مقدوره كلَّه في تحسينه وتزيينه (2) وإصلاحه وإكماله، ليقع موقعًا من محبوبه، فينال به رضاه عنه وقربه منه. أفلا يستحيي العبد من ربِّه ومولاه ومعبوده أن لا يكون في عمله هكذا، وهو يرى المحبّين في أشغال محبوبيهم من الخلقِ كيف يجتهدون في إيقاعها على أحسن وجه وأكمله، بل هو يجد من نفسه ذلك مع من يحبّه من الخلق، فلا أقلَّ من أن يكون مع ربِّه بهذه المنزلة. ومن أنصف نفسه وعرف أعمالَه استحيا من اللَّه أن يواجهه بعمله أو يرضاه لربه، وهو يعلم من نفسه أنَّه لو عمل لمحبوب له من النَّاس لبذل فيه نُصْحَه، ولم يَدَعْ من حسنه شيئًا إلا فعَلَه.
وبالجملةِ، فهذا حال هذا العبد مع ربِّه في جميع أعماله، فهو يعلم أنَّه لا يوفي هذا المقام حقَّه، فهو أبدًا يستغفر اللَّه عقيب كلّ عمل. وكان النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا سلَّم من الصلاة استغفر ثلاثًا (3)، وقال تعالى: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} [الذاريات/ 18]. قال الحسن: مدّوا الصلاة إلى السحر، ثمَّ
__________
(1) “كذلك” ساقط من “ك، ط”.
(2) “ب”: “ترتيبه”، تصحيف، فإنه ضبط في الأصل بالنون.
(3) “ط”: “استغفر اللَّه. . . “، وقد أخرجه مسلم في كتاب المساجد (591) من حديث ثوبان رضي اللَّه عنه.
(1/467)
جلسوا يستغفرون ربّهم (1)، وقال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)} [البقرة/ 199] فأمر سبحانه بالاستغفار بعد الوقوف بعرفة والمزدلفة، وشرع للمتوضئ أن يقول بعد وضوئه: “اللّهُمّ اجْعَلْنِي من التَّوّابينَ واجْعَلْنِي من المتطهرين” (2). فهذه توبة بعد الوضوء، وتوبة بعد الحجِّ، وتوبة بعد الصلاة، وتوبة بعد قيام الليل. فصاحب هذا المقام مضطرٌّ إلى التوبة والاستغفار كما تبيّن، فهو لا يزال مستغفرًا تائبًا، وكلَّما كثرت طاعاتُه كثرت توبتُه واستغفارُه.
فصل
وجماع الأمر في ذلك إنَّما هو بتكميل عبوديّة اللَّه عزَّ وجلَّ في الظاهر والباطن، فتكون حركات نفسه وجسمه كلّها في محبوبات اللَّه، فكمالُ (3) عبوديّة العبد موافقتُه لربِّه في محبَّه (4) ما أحبَّه، وبذلُ الجهدِ في فعله؛ وموافقتُه في كراهة ما كرهه، وبذلُ الجهد في تركه. وهذا إنَّما يكون للنفس المطمئنّة، لا للأمَّارة ولا للّوَّامة. فهذا كمال من جهة الإرادة
__________
(1) تفسير الطبري (26/ 198).
(2) أخرجه الترمذي (55) من حديث عمر بن الخطاب وقال: “حديث عمر قد خولف زيد بن الحباب في هذا الحديث. وروى عبد اللَّه بن صالح وغيره عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس، عن عقبة بن عامر، عن عمر؛ وعن ربيعة عن أبي عثمان، عن جبير بن نفير، عن عمر. وهذا حديث في إسناده اضطراب، ولا يصح عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذا الباب كثير شيء” (ز).
(3) “ك، ط”: “وكمال”. وقد سقط ما بعد “عبودية” إلى هنا في “ف” لنزول البصر إلى السطر الثاني.
(4) “ك، ط”: “محبّته”.
(1/468)
والعمل.
وأمَّا من جهة العلم والمعرفة فأن تكون بصيرتُه منفتحةً في معرفة الأسماء والصفات والأفعال، له شهود خاصّ فيها مطابقٌ لما جاء به الرسول لا مخالفٌ له، فإنّ بحسب مخالفته له في ذلك يقع الانحراف. ويكون مع ذلك قائمًا بأحكام العبوديّة الخاصَّة التي تقتضيها كلُّ صفة بخصوصها.
وهذا سلوك الأكياس الذين هم خلاصة العالم، والسالكون على هذا الدرب أفراد من العالم. وهو (1) طريق سهل قريب مُوصِل، طريق (2) آمن، أكثر السالكين في غفلة عنه. ولكن يستدعي رسوخًا في هذا (3) العلم، ومعرفةً تامَّةً به، وإقدامًا على ردِّ الباطل المخالف له ولو قاله من قاله. وليس عند أكثر النَّاس سوى رسومٍ تلقَّوها عن قومٍ معظَّمين عندهم، فهم (4) لإحسان ظنِّهم بهم قد وقفوا عند أقوالهم، ولم يتجاوزوها إلى غيرها (5)، فصارت حجابًا لهم وأيَّ حجاب!
فمن فتح اللَّه بصيرةَ (6) قلبه وإيمانه حتَّى خرقها وجاوزها إلى مقتضى الوحي والفطرة والعقل، فقد أوتي خيرًا كثيرًا، ولا يُخاف عليه إلا مِن ضعفِ همته. فإذا انضاف إلى ذلك الفتح همَّة عالية فذاك السابق حقًّا،
__________
(1) “وهو” ساقط من “ك، ط”.
(2) “طريق” ساقط من “ب”.
(3) “هذا” ساقط من “ب، ك، ط”.
(4) “ب، ك، ط”: “ثمّ”، تحريف.
(5) “إلى غيرها” ساقط من “ك، ط”.
(6) “ك”: “على بصيرة”. “ط”: “عليه بصيرة”.
(1/469)
واحدُ النَّاس في زمانه (1)، لا يُلحَق شأْوُه، ولا يشقُّ غبارُه. فشتَّان ما بين من يتلقَّى أحواله ووارداته عن الأسماء والصفات، وبين من يتلقَّاها عن الأوضاع الاصطلاحية والرسوم أو عن مجرّد ذوقه ووجده، إذا استحسن شيئًا قال: هذا هو الحقّ.
فالسيرُ إلى اللَّه (2) من طريق الأسماء والصفات شأنه عجب، وفتحُه عجب (3). صاحبه قد سبق السُّعاة (4)، وهو مستلقٍ على فراشه، غيرُ تعب ولا مكدود، ولا مشتَّتٍ عن وطنه، ولا مشرَّدٍ عن سكنه. {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل/ 88]. وليس العجب من سائر في ليله ونهاره، وهو في السُّرى (5) لم يبرح من مكانه. وإنَّما العجب من ساكنٍ لا يُرى عليه أثرُ السفر، وقد قطع المراحل والمفاوز! فسائرٌ قد ركبتْه نفسُه، فهو حاملها سائرٌ بها، ملبوك بها (6)، يعاقبها وتعاقبه، ويجرّها وتهرب منه، ويخطو بها خطوةً إلى أمامه فتجذبه خطوتين إلى ورائه؛ فهو معها في جهد وهي معه كذلك. وسائرٌ قد ركب نفسَه، وملك عِنانَها، فهو يسوقها كيف شاءَ وأين شاءَ، لا تلتوي عليه، ولا تنجذب، ولا تهرب منه، بل هي معه كالأسير الضعيف في يد مالكه
__________
(1) “ط”: “بزمانه”.
(2) “إلى اللَّه” ساقط من “ب”.
(3) “ب”: “شأنه عجيب وفتحه غريب”.
(4) “ب”: “سيق للسعادة”، “ط”: “سيقت له السعادة”، تحريف وتغيير. وانظر نحوه في مدارج السالكين (2/ 585).
(5) “ب”: “السير”. “ط”: “الثرى”، تحريف.
(6) “بها” ساقط من “ب، ك، ط”. وفي “ب”: “مكبول”، تحريف. ويقصد المؤلف أن هذا السائر قد نشب بنفسه وتورّط بها، فيجذبها وتجذبه.
(1/470)
وآسِره، وكالدابّة الريّضة (1) المنقادة في يد سائسها وراكبها، فهي منقادة معه حيث قادها، فإذا رام التقدّم جمَزَتْ (2) به وأسرعت، فإذا (3) أرسلها سارت به وجرت في الحَلْبة إلى الغاية ولا يردّها شيء، فتسير به وهو ساكن على ظهرها؛ ليس كالذي نزل عنها فهو يجرّها بلجامها، ويشحَطها ولا تنشحط (4). فشتَّان ما بين المسافرين! فتأمَّل هذا المثل، فإنَّه مطابق لحال السائرين (5) المذكورين، واللَّه يختصّ برحمته من يشاء.
فصل
ومن شأن القوم أن تنسلخ نفوسهم من التدبير والاختيار الذي يخالف تدبير ربّهم (6) تعالى واختياره، بل قد سلَّموا إليه سبحانه التدبيرَ كلَّه، فلم يزاحم (7) تدبيرُهم تدبيرَه ولا اختيارُهم اختيارَه، لتيقنهم أنَّه الملك القاهر القابض على نواصي الخلق، المتولِّي لتدبير (8) أمر العالم كلِّه، وتيقّنِهم مع ذلك أنَّه الحكيم في أفعاله الذي لا تخرج أفعاله عن الحكمة والمصلحة والرحمة. فلم يُدخلوا أنفسهم معه في تدبيره لملكه وتصريفِه
__________
(1) “ب”: “الرضيّة”، تحريف.
(2) أي: وثبت وأسرعت. والجمزى: ضرب من السير سريع.
(3) “ب”: “وإذا”.
(4) أي: يسحبها ويمرّغها، فلا تنسحب. من كلام العامّة انظر: متن اللغة “شحط” (3: 83). وفي “ك”: “يتشحّط”.
(5) “ف”: “السالكين”، سهو.
(6) “ب، ك، ط”: “تدبيره”.
(7) “ط”: “فلا يزاحم”.
(8) “ط”: “تدبير”.
(1/471)
أمورَ عباده بـ “لو كان كذا وكذا”، ولا بـ “عسى ولعلَّ”، ولا بـ “ليتَ”؛ بل ربُّهم تعالى أجل وأعظم في قلوبهم من أن يعترضوا عليه، أو يسخطوا (1) تدبيرَه، أو يتمنّوا سواه. وهم أعلم به وأعرف بأسمائه وصفاته من أن يتّهموه في تدبيره أو يظنّوا به الإخلالَ بمقتضى حكمته وعدله، بل هو ناظرٌ بعين قلبه إلى بارئ الأشياء وفاطرها ناظرًا (2) إلى إتقان صنعه، مشاهدًا (3) لحكمته فيه، وإن لم يخرج ذلك على مكاييل عقول البشر (4) وعوائدهم ومألوفاتهم.
قال بعض السلف: “لو قُرِضَ جسمي بالمقاريض كان (5) أحبَّ إليَّ من أن أقولَ لشيء قضاه اللَّهُ: ليتَه لم يقضِه” (6).
وقال آخر: “أذنبتُ ذنبًا أبكي عليه منذ ثلاثين سنة” -وكان قد اجتهد في العبادة- فقيل (7) له: وما هو؟ قال: “قلتُ مرَّةً لشيءٍ كان: ليته لم يكن” (8).
وبعض العارفين يجعل عيب المخلوقات وتنقيصها بمنزلة العيب لصانعها وخالقها؛ لأنَّها صُنْعُه وأثرُ حكمته. وهو سبحانه أحسن كلَّ
__________
(1) “ك، ط”: “يتسخطوا”.
(2) “ف”: “ناظر”، خلاف الأصل، وكذا في “ب، ك، ط”.
(3) “ب، ط”: “مشاهد”.
(4) “عقول البشر” ساقط من “ب”.
(5) “كان” ساقط من “ط”.
(6) نقله المصنف في مدارج السالكين (2/ 259). وانظر ما سبق من أثر ابن مسعود رضي اللَّه عنه في ص (172).
(7) “ك، ط”: “قيل”.
(8) نقله في مدارج السالكين (2/ 258).
(1/472)
شيءٍ خلقه، وأتقن كلَّ شيءٍ، فهو (1) أحكمُ الحاكمين وأحسن الخالقين، له في كلِّ شيءِ حكمةٌ بالغة، وفي كلِّ مصنوعٍ صُنْعٌ متقَن. والرجلُ إذا عابَ صنعة رجل آخر وذمّها سرى ذاك (2) إلى الصانع، لأنَّه كذلك صنعَها، وعن حكمته أظهرَها، إذ كانت الصنعة مجبولةً (3) لم تصنع نفسها، ولا صنع لها في خلقها. فالعارفُ لا يعيب إلا ما عابه اللَّه، ولا يذمّ إلا ما ذمَّه.
وإذا سبقَ إلى قلبه ولسانه عيبُ ما لم يعِبْه اللَّه وذمُّ ما لم يذمّه (4)، تاب إلى اللَّه منه كما يتوب صاحبُ الذنبِ من ذنبه، فإنَّه يستحيي من اللَّه أن يكون في داره وهو يعيب آلات تلك الدار وما فيها. فهو يرى نفسه بمنزلة رجلٍ دخل إلى دار ملِك من الملوك، ورأى ما فيها من الآلات والبناءِ والترتيب، فأقبل يعيب منها بعضها ويذمّه ويقول: لو كان كذا بدل كذا لكان خيرًا، ولو كان هذا في مكان هذا لكان أولى. وشاهدَ الملِك يولِّي ويعزل، ويعطي ويحرِم (5)، فجعل يقول: لو وُلِّيَ هذا مكان فلان كان خيرًا، ولو عُزِلَ هذا المتولِّي لكان أولى، ولو عوفي (6) هذا، ولو أُغني هذا! فكيف يكون مقت الملك لهذا المعترض وإخراجه له من قربه؟ وكذلك لو أضافه صاحبٌ له فقدَّم إليه طعامًا فجعل
__________
(1) “ك، ط”: “وهو”.
(2) وردت هنا في “ك، ط” زيادة: “إلى صانعها، فمن عاب صنعة الربّ سبحانه بلا إذنه سرى ذلك”.
(3) “ب”: “مجبورة”.
(4) “ك، ط”: “يذمه اللَّه”.
(5) “ك، ط”: “يحرم ويعطي”.
(6) “ب”: “عافى”.
(1/473)
يعيب صنعته (1) ويذمّه، أكان ذلك يهون على صاحب الطعام؟ قالت عائشة (2): “ما عابَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- طعامًا قطّ، إن اشتهى شيئًا أكله وإلا تركه”.
والمقصود أنَّ من شأن القوم ترك الاهتمام بالتدبير والاختيار، بل همّهم كلّه في إقامة حقّه عليهم. وأمّا التدبير العام والخاصّ فقد سلَّموه لوليّ الأمر كلّه ومالكه الفعَّال لما يريد.
ولعلَّك تقول: ومن (3) الذي ينازع اللَّهَ في تدبيره؟ فانظر إلى نفسك -في عجزها وضعفها وجهلها- كيف هي عُرْضةٌ (4) للمنازعة، لكن (5) منازعةَ جاهل عاجز ضعيف لو قدر لظهرت منه العجائب! فسبحان من أذلَّه بعجزه وضعفه وجهله، وأراه العبر في نفسه لو كان ذا بصر! كيف هو عاجز القدرة، جبان الإرادة (6)، عبد مربوب مدين (7) مملوك، ليس له من الأمرِ شيء، وهو مع ذلك ينازع اللَّهَ ربوبيّتَه وحكمتَه وتدبيرَه، لا يرضى بما رضي اللَّه به، ولا يسكن عند مجاري أقداره. بل هو عبد
__________
(1) “ط”: “صفته”، تحريف.
(2) كذا في الأصل وغيره. والحديث معروف عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه كما ذكر المؤلف في الوابل الصيب (339). أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة (3563)، ومسلم في الأشربة (2064).
(3) “ب، ك”: “ومن ذا”. “ط”: “من ذا”.
(4) أي: تتعرَّض وتتصدَّى للمنازعة. وفي “ط”: “عرضت” بالتاء المفتوحة، تحريف.
(5) “لكن” ساقط من “ط”.
(6) في “ف” وغيرها: “جبَّار الإرادة”، ولعلَّ قراءتنا هي المناسبة للسياق.
(7) من دانه: أخضعه وساسه، وحاسبه. وفي “ب، ك، ط”: “مدبر”، تحريف.
(1/474)
ضعيف مسكين يتعاطى الربوبيّة، فقير مسكين (1) في مجموع حالاته يرى (2) نفسه غنيًّا، جاهل ظالم ويرى نفسه عارفًا محسنًا، فما أجهله بنفسه وبربِّه! وما أتركه لحقِّه، وأشده إضاعهً (3) لحظه!
ولو أُحْضِرَ رشدَه لرأى ناصيته ونواصي الخلائق بيد اللَّه يخفضها ويرفعها كيف شاء (4)، وقلوبهم بيده سبحانه وفي قبضته يقلِّبها كيف يشاءُ، يُزيغ (5) منها من يشاءُ ويقيم من يشاءُ (6)، ولكان هذا غالبًا على شهود قلبه، فيغيب به عن مشيئاته وإراداته (7) واختياره، ولعرف أنَّ التدبير والركون إلى حول العبد وقوته من الجهل بنفسه وبربّه؛ فينفي العلمُ باللَّه الجهلَ عن قلبه، فتمّحي منه الإرادات والمشيئات والتدبيرات، ويفوِّضها إلى مالك القلوب والنواصي، فيصير بذلك عبدًا لربّه تقلّبه يد القدرة، ويصير ابن وقته لا ينتظر وقتًا آخر يدبر نفسه فيه؛ لأنَّ ذلك الوقت بيد موقته، فيرى نفسه بمنزلة الميت في قبره ينتظر ما يُفعل به، مستسلمًا (8) للَّه، منقطعَ المشيئة والاختيار.
هذا فيما (9) يجري على أحدهم من فعل اللَّه وحكمه وقضائه الكوني.
__________
(1) “ب”: “ذليل”.
(2) “ط”: “ويرى”.
(3) “ط”: “وأشدّ إضاعته”.
(4) “ب، ك، ط”: “يشاء”.
(5) “ف”: “يرفع”، تحريف.
(6) “ويقيم من يشاء” ساقط من “ف”.
(7) “ك، ط”: “إرادته”.
(8) “ط”: “مستسلم”.
(9) “ط”: “ما”.
(1/475)
فإذا جاءَ الأمر جاءت الإرادة والاختيار، والسعي والجِدّ (1) واستفراغ الفكر وبذل الجهدِ. فهو قويّ حيّ فعَّال، يشاهد عبودية مولاه في أمره، فهو متحرك فيها بظاهره وباطنه، قد أخرج مقدوره من القوَّة إلى الفعل. وهو مع ذلك مستعين بربِّه، قائمٌ بحوله وقوته، ملاحظ لضعفه وعجزه، قد تحقَّق بمعنى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة/ 5]، فهو ناظرٌ بقلبه إلى مولاه الذي حرَّكه، مستعين به في أن يوفّقه لما يحبّه ويرضاه، عينُه في كلِّ لحظة شاخصةٌ إلى حقّه المتوجّه عليه لربِّه، ليؤديه في وقته على أكمل أحواله.
فإذا وردت عليهم أقدارُه التي تصيبهم بغير اختيارهم قابلوها بمقتضاها من العبودية، وهم فيها على مراتب ثلاثة:
أحدها (2): الرضا عنه فيها والمزيد من حبه والشوق إليه. وهذا ينشأ (3) من مشاهدتهم للطفه فيها وبرّه وإحسانه العاجل والآجل، ومن مشاهدتهم (4) حكمتَه فيها ونصبَها سببًا لمصالحهم، وسَوقهم (5) بها إلى حبّه (6) ورضوانه. ولهم في ذلك (7) مشاهد أُخر لا تسعها العبارة، وهي فتح من اللَّه على العبد لا يبلغه علمه ولا عمله.
__________
(1) “ط”: “الجدّ والسعي”.
(2) كذا في الأصل وغيره. وانظر ما سبق في ص (79) وفي “ط”: “إحداها”.
(3) “ط”: “نشأ”.
(4) “للطفه فيها. . . ” إلى هنا ساقط من “ب”.
(5) “ب، ك، ط”: “شوقهم”.
(6) “ب”: “فيها إلى جنته”.
(7) “ط”: “من ذلك”.
(1/476)
المرتبة الثانية: شكره عليها كشكره على النعم. وهذا فوق الرضا عنه بها. ومنه ينتقل إلى هذه المرتبة، فهذه مرتبتان لأهل هذا الشأن.
والثالثة (1): للمقتصدين وهي مرتبة الصبر التي إذا نزل منها نزل إلى نقصان الإيمان وفواته، من التسخّط والتشكّي، واستبطاء الفرج، واليأس من الرَّوح، والجزَع الذي لا يفيد إلا فواتَ الأجر وتضاعُف المصيبة. فالصبر أوَّل منازل الإيمان ودرجاته، وأوسطها، وآخرها؛ فإنَّ صاحب الرضا والشكر لا يعدم الصبرَ في مرتبته، بل الصبر معه، وبه يتحقّق الرضا والشكر، لا تصوُّرَ (2) ولا تحقّقَ لهما دونه.
وهكذا كلّ مقام مع الذي فوقه، كالتوكّل مع الرضا، وكالخوف والرجاءِ مع الحبِّ، فإنَّ المقام الأوَّل لا ينعدم بالترقّي إلى الآخر -ولو عُدِم لخلفه ضدُّه، وذلك رجوع إلى نقص الطبيعة وصفات النفس المذمومة- وإنَّما يندرج حكمُه في المقام الذي هو (3) أعلى منه، فيصير الحكم له، كما يندرج مقام التوكّل في مقام المحبّة والرضا. وليس هذا كمنازل سير الأبدان الذي إذا قطع منها منزلًا خلَّفه وراءَ ظهره، واستقبل المنزل الآخر معرضًا عن الأوَّل تاركًا له (4). بل هذا بمنزلة (5) التَّاجر الذي كلَّما باع شيئًا من ماله وربح فيه، ثمَّ باع الثاني وربح، فقد ربح بهما معًا، وهكذا أبدًا يكون ربحُه في كلِّ صفقة متضاعفًا بانضمامه إلى
__________
(1) “ب”: “المرتبة الثالثة”.
(2) “ب”: “ولا يتصوّر”.
(3) “هو” ساقط من “ب، ك، ط”.
(4) “ك، ط”: “بارتحاله”، تحريف.
(5) “ك، ط”: “كمنزلة”، تحريف.
(1/477)
ما قبله، فالربح الأوَّل اندرج في الثاني ولم يُعْدَم.
فتأمَّل هذا الموضع وأعطه حقَّه يزُلْ عنك ما يعرض من الغلط في علل المقامات، وتعلمْ (1) أنَّ دعوى المدّعي أنَّها من منازل العوامّ ودعوى أنَّها معلولة غلط من وجهين:
أحدهما: أنَّ أعلى المقامات مقرون بأدناها مصاحب له كما تقدم، متضمّن له تضمُّن الكلّ لجزئه، أو مستلزم له استلزامَ الملزوم للازمه لا ينفكّ عنه أبدًا، ولكن لاندراجه فيه وانطواءِ حكمه تحته يصير المشهد والحكم للعالي.
الوجه الثاني: أنَّ تلك المقامات والمنازل إنَّما تكون من (2) منازل العوامّ وتعرض لها العلل بحسب متعلّقاتها وغاياتها. فإن كان متعلّقها وغاياتها (3) بريئًا من شوائب العلل -وهو أجلُّ متعلَّق وأعظمه- فلا علَّة فيها بحال، وهي من منازل الخواصّ حينئذٍ، وإن كان متعلّقها حظًّا للعبد أو أمرًا مشوبًا بحظّه فهي معلولة من جهة تعلّقها بحظّه. ولنذكر لذلك أمثلة (4):
__________
(1) قراءة “ف”: “يعلم”.
(2) “ب”: “إنما هي من منازل”. “ك، ط”: “إنَّما هي منازل”، وقد صحح في حاشية “ك” بخط مختلف.
(3) “ف”: “غايتها”، خلاف الأصل.
(4) نقل المصنف هذه الأمثلة من كتاب محاسن المجالس لأبي العباس أحمد بن محمد بن موسى الصنهاجي الأندلسي المعروف بابن العريف، وقد وصفه الذهبي بالأمام الزاهد العارف، صاحب المقامات والإشارات، ولد سنة 481 هـ، وتوفي بمراكش سنة 536 هـ. سير أعلام النبلاء (20/ 111). نقلها المصنف من كتابه ثمَّ عقب عليها بالنقد وبيان الغلط فيها. وقد اعتمد ابن =
(1/478)
[أمثلة من الغلط في علل المقامات، ونقد كلام ابن العريف]
المثال الأوَّل: الإرادة، فإنَّ اللَّه جعلها من منازل صفوة عباده وأمر رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يصبر نفسَه مع أهلها، فقال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف/ 28]. وقال تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)} [الليل / 19 – 20]. وقال تعالى حكاية عن أوليائه قولهم: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان/ 9] وهذه (1) لام التعليل الداخلة على الغايات المرادة، وهي كثيرٌ في القرآن (2).
فقالت طائفة: “الإرادة حلية العوامّ، وهي تجريد القصد، وجزم النية، والجدّ في الطلب. وذلك (3) في طريق الخواصّ: نقص، وتفرُّق (4)، ورجوع إلى النفس. فإنَّ إرادة العبد عينُ حظّه، وهو رأس الدعوى. وإنَّما الجمع والوجود فيما يراد بالعبد لا فيما يريد، كقوله تعالى: {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس/ 107]، فيكون مراده ما يراد به، واختياره ما اختير له، إذ لا إرادة للعبد مع سيّده ولا نظر. كما قال:
أريدُ وصالَه ويريد هَجري … فأتركُ ما أريدُ لِما يُريد (5)
__________
= العريف في كتابه المذكور على كتاب علل المقامات للشيخ زكريا الأنصاري الهروي، كما ذكر شيخ الاسلام ابن تيمية. انظر: مجموع الفتاوى (10/ 35).
(1) “ب، ك”: “هو” تحريف “ط”: “هي”.
(2) خلافًا لمن زعم أن القرآن خلو من لام التعليل وباء التسبيب. انظر ما سبق في ص (235).
(3) زاد في “ط” بعد “ذلك”: “غيره”!
(4) “نقص و” ساقط من “ط”.
(5) البيت لابن المنجم الواعظ المعرّي المتوفى سنة 557 هـ. انظر: فوات الوفيات =
(1/479)
ومن هذا قول أبي يزيد (1): “قيل لي ما تريد؟ قلتُ: أريد أن لا أريد، لأنِّي أنا المراد وأنت المريد” (2).
فيقال: ليس المراد من “العوامّ” في كلامهم العامَّة (3) الجهال، وإنَّما مرادهم بهذه اللفظة عموم السالكين، دون أهل الخصوص الواصلين إلى (4) منازل الفناء وعين الجمع. وإذا عرف هذا فالكلام على ما ذكر في الإرادة من وجوه:
أحدها: أنَّ الإرادة هي مَركَب العبودية، وأساس بنائها الذي لا تقوم إلا عليه، فلا عبودية لمن لا إرادة له. بل أكمل الخلق (5) عبوديّةً ومحبّةً، وأصحّهم حالًا، وأقومهم معرفةً = أتمّهم إرادةً. فكيف يقال: إنَّها حِلية (6) العوامّ أو من منازل العوامّ؟
الوجه الثاني: أنَّه يلزم من هذا أن تكون المحبّة من منازل العوام، وتكون معلولةً أيضًا؛ لأنَّها إرادة تامَّة للمحبوب (7)، ووجود المحبة بلا إرادة كوجود الإنسانية من غير حيوانية، وكوجود (8) مقام الإحسان
__________
= (2/ 301).
(1) البسطامي، الزاهد المشهور.
(2) محاسن المجالس لابن العريف (76 – 77)، وسيصرَّح المؤلف بالنقل عنه بعد قليل.
(3) “ب”: “العوام”.
(4) “إلى” ساقط من “ب، ك، ط”.
(5) زاد في المطبوعة هنا: “أكملهم”، وزاد الواو قبل “أتمهم” فاختلَّ السياق.
(6) في الأصل: “حيلة”، وهو سبق قلم. وكذا في “ف، ب”.
(7) “ب”: “إرادة لمحبوبه”.
(8) “ب”: “وجود”.
(1/480)
بدون الإيمان والإسلام. فإذا كانت الإرادة معلولةً (1) وهي من منازل العوامّ لزم أن تكون المحبة كذلك.
فإن قيل: المحبة التي لا علّة فيها هي (2) تجرُّد المحبّ عن الإرادة، وفناؤه بإرادة محبوبه عن إرادته (3) قيل: هذا هو حقيقة الإرادة أن ينفي (4) مرادَه مرادُ محبوبه، فلو لم يكن مريدًا لمراد محبوبه لم يكن موافقًا له في الإرادة، والمحبّة هي موافقة المحبوب في إرادته، فعاد الأمرُ إلى ما أشرنا إليه أنَّ المعلول من ذلك ما تعلق بحظّ المريد دون حقّ (5) محبوبه. فإذا صارت إرادتُه موافِقةً لإرادة محبوبه لم تكن تلك الإرادةُ من منازل العوامّ ولا معلولةً، بل هذه أشرفُ منازل الخواصّ وغاية مطالبهم. وليس وراءها إلا التجرّد عن كلِّ إرادة، والفناء بشهوده عن إرادة ما يريد. وهذا هو الذي يشير إليه السالكون إلى منازل الفناءِ ويجعلونه غايةَ الغايات. وهذا عند الكُمَّل (6) نقص وتغبير (7) في وجه المحبة، وهضم لجانب العبودية، وفناءٌ بحظّ المحبّ من مشاهدته (8) جمالَ محبوبه (9) وفنائه فيه عن حقّ المحبوب ومراده. فهو الوقوف مع
__________
(1) في الأصلِ: “من معلولة”، ولعله سهو. وكذا في “ف”.
(2) “هي” ساقط من “ب”.
(3) “ف”: “إراداته” خلاف الأصل.
(4) “ك، ط”: “يبقى”، والأصل غير منقوط.
(5) “حق” ساقط من “ك، ط”.
(6) “ك، ط”: “أهل الكمال”.
(7) “ك، ط”: “تغيير”، تصحيف.
(8) “ب، ك”: “مشاهدة”.
(9) “ف”: “كمال محبوبه” خلاف الأصل.
(1/481)
نفس الحظّ، والهروب عن حقّ المحبوب ومراده.
وهل مثل هذا إلا كمثل رجلين ادَّعيا محبةَ ملِك، فحضرا بين يديه، فقال: ما تريدان؟ فقال أحدهما: أُريدُ أن لا أريد شيئًا، بل أفنى عن إرادتي، وأكون أنا المراد، وأنت تريد بي ما تشاء. وقال الآخر: بل (1) أريد أن أنفق أنفاسي وذرّاتي (2) في محابّك ومرضاتك منفِّذًا لأوامرك مشمِّرًا في طاعتك، أتوجّه حيث توجهني وأفعل ما تأمرني، هذا الذي أريده (3). فقال (4) للآخر: وأنا أريد منك أن تفعل مثل هذا، فإنِّي سأبعثكما في أشغالي ومهماتي. فأمَّا أحدهما فقال: لاحظ لي سوى اتباع مرضاتك والقيام بحقوقك. وقال الآخر: لا أُريد إلا مشاهدتَك، والنظر إليك، والفناءَ فيك. فهل يكونان في نظره سواءً؟ وهل تستوي منزلتهما عنده؟
ولو أنعموا النظر لعلموا أنَّ صاحبَ الفناء هو طالبُ الحظِّ الواقفُ معه، وأنّ الآخرَ وإن لم ينسلخ من الحظّ، ولكنّ حظَّه مرادُ المحبوب منه، لا مرادُه هو من المحبوب؛ وبين الأمرين من الفرق كما بين الأرض والسماءِ (5). فالعجب ممن يفضّل صاحبَ الحظّ الذي يريده من محبوبه على من صارَ حظّه مراد محبوبه منه! بل الفناء الكامل أن يفنى بإرادته عن إرادة ما سواه (6)، وبحبّه عن حبّ ما سواه، وبرجائه عن رجاءِ ما سواه،
__________
(1) “بل”: ساقط من “ط”.
(2) “ب”: “إرادتي”.
(3) “ب”: “أريد”.
(4) “ب”: “فقال الملك”.
(5) “ب”: “بين السماء والأرض”.
(6) “ب، ك، ط”: “من سواه”.
(1/482)
وبالتوكّل عليه عن التوكّل على ما سواه؛ ليس أن تفنى بحظك منه عن مراده منك. وهذا موضع يشتبه علمًا وحالًا وذوقًا إلا على من فتح اللَّه عليه بفرقانٍ (1) بين هذا وهذا.
الوجه الثالث: أنَّ الإرادة إنَّما تكون ناقصةً بحسب نقصان المراد، فإذا كان مرادها أشرف المراد (2) فإرادته أشرف الإرادات. ثمَّ إذا كانت الوسيلة إليه أجل الوسائل، وأنفعها، وأكملها، فإرادتها كذلك. فلا تخرج إرادته عن إرادةِ أشرف الغايات، وإرادةِ أقرب الوسائل إليه وأنفعها. فأي علَّة في هذه الإرادة (3)؟ وأي شيء فوقها للخواصّ؟
الوجه الرابع: أنَّ نقصان الشيء يكون من وجهين: أحدهما: أن يوجب ضررًا. والثاني: أن تكون له ثمرة نافعة لكن يشغل عمَّا هو أكمل منه. وكلاهما منتفٍ عن الإرادة، فكيف تكون ناقصة معلولة؟
فإنْ قيل: لمَّا كان الوقوف معها رجوعًا إلى النفس وتفرّقًا ووقوفًا مع حظّ المريد كانت ناقصة، قيل: هذا منشا الغلط.
وجوابه بالوجه الخامس: وهو أن يقال: قوله “إنَّ الإرادة تفرّق”. فإنْ أردتم بالتفرّق شهود المريد لإرادته ومراده (4) ولعبوديته ولمعبوده ولمحبّته ومحبوبه (5)، فلم قلتم إنَّ هذا التفرّق نقص؟ وهل هذا إلا عين الكمال؟ وهل تتمّ العبودية إلا بهذا؟ فإنَّ من شهد عبوديته وغاب بها عن
__________
(1) في “ب”: “أن يفرِّق” وفي حاشيتها: “خ بالفرقان”.
(2) “ط”: “المرادات”.
(3) “ب”: “الإرادات”، خطأ.
(4) “ك، ط”: “لمراده”.
(5) “ك، ط”: “لمحبوبه”.
(1/483)
معبوده كان محجوبًا (1)، ومن شهد المعبودَ وغابَ به عن شهود عبوديته وقيامه بما أمره به كان ناقص (2) العبودية ضعيف الشهود، وهل الكمال إلا شهود المعبود مع شهود عبادته؟ فإنَّها عين حقّه ومراده ومحبوبه من عبده. فهل يكون شهود العبد لحقّ محبوبه ومراده منه وأنَّه قائم به ممتثل له نقصًا، وتكون غيبته عن ذلك وإعراضه عنه وفناؤه عن شهوده كمالًا؟ وهل هذا إلا قلب للحقائق؟ فغاية صاحب هذا الحال والمقام أن يكون معذورًا بضيق قلبه عن شهود هذا وهذا، إمَّا لضعف المحل، أو لغلبة الوارد وعجزه عن احتمال شيء آخر معه. فأمَّا أن يكون هذا هو الكمال المطلوب والآخر نقص فكلّا. وأين مقامٍ من يشهد (3) عبوديته، ومنَّة اللَّه عليه فيها، وتوفيقَه لها، وجعلَه محلًّا وآلةً لها (4) -وهو ناظر مع ذلك إلى معبوده بقلبه، شاهدًا له، فانيًا (5) عن شهود غيره في عبوديته- من مقام من لا يتّسع لهذا وهذا؟
وتأمَّل حال أكمل الخلق وأفضلهم (6) وأشدّهم حبًّا للَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، كيف كان في عبادته جامعًا بين الشهودين، حتّى كان لا يغيب عن أحوال المأمومين، فضلًا عن شهود عبادته، فكان (7) يراعي أحوالهم وهو في ذلك المقام بين يدي ربِّه تعالى؛ فالكُمَّل (8) من أمّته على منهاجه وطريقته
__________
(1) “ط”: “محبوبًا”، تحريف شنيع.
(2) في الأصل: “ناقصًا”، سبق قلم.
(3) “ف”: “شهد”، والقراءة المثبتة أرجح.
(4) “لها” ساقط من “ك، ط”.
(5) “ب”: “شاهدٌ له فانٍ”.
(6) “ب”: “أفضل الخلق وأكملهم”.
(7) “ط”: “وكان”.
(8) “ك”: “فالكامل”. “ط”: “فالكملة”.
(1/484)
في ذلك -صلى اللَّه عليه وسلم- (1). فالواجب التمييز بين المراتب وإعطاءُ كلّ ذي حقٍّ حقَّه، فقد جعل اللَّه لكلِّ شيءٍ قدرًا.
وإن أردتم بالتفرّق شتات القلب في شعاب الحظوظ وأودية الهوى، فهذه الإرادة لا تستلزم شيئًا من ذلك، بل هي جمعيّة (2) القلب على المحبوب وعلى محابّه ومراداته. ومثل هذا التفرّق هو عين البقاءِ، ومحض العبودية، ونفس الكمال. وما عداه فمحض حظّ العبد، لاحقّ محبوبه.
الوجه السادس: أنَّ قوله: “الإرادةُ (3) رجوعٌ إلى النفس، وإنَّ إرادةَ العبد عينُ حظّه” كلام فيه إجمال وتفصيل. فيقال: ما تريدون بقولكم: إنَّ الإرادة رجوع إلى النفس؟ أتريدون (4) أنَّها رجوع عن إرادة الربّ وإرادة محابّه إلى إرادة النفس وحظوظها، أم تريدون أنَّها رجوع إلى إرادة النفس لربّها ولمرضاته؟ فإن أردتم الأوَّل عُلِمَ أنَّ هذه الإرادة معلولة ناقصة فاسدة، ولكن ليست هذه الإرادة التي نتكلم فيها، وإن أردتم المعنى الثاني فهو عين الكمال، وإنَّما النقصان خلافه.
الوجه السابع: أنَّ قولكم: “إنَّ هذه الإرادة عين حظّ العبد”، قلنا: نعم، وهي أكبر حظّ له وأجلّه وأعظمه. وهل للعبد حظّ أشرف من أن يكون اللَّه وحده إلهه ومعبودَه ومحبوبَه ومراده؟ فهذا هو الحظّ الأوفر والسعادة العظمى. ولكن لم قلتم إنَّ اشتغال العبد بهذا الحظّ
__________
(1) في “ط” قدَّم الصلاة والسلام على “في ذلك”.
(2) “ف”: “جعبه”. كذا كتب ناسخها لعدم تمكنه من قراءة الكلمة.
(3) “ك، ط”: “إنَّ الإرادة”.
(4) “أتريدون” ساقط من “ب”.
(1/485)
نقص (1) في حقِّه؟ وهل فوق هذا كمال، فيطلبه العبد؟
ثمَّ يقال: لو كان فوقه شيء أكمل منه، لكان اشتغالُ العبد به وطلبُه إيَّاه اشتغالًا بحظّه أيضًا، فيكون ناقصًا، فأين الكمال؟ فإن قلتم: في تركِه حظوظَه كلَّها، قيل لكم: وتركُه هذا الحظّ أيضًا هو من حظوظه، فإنَّه لا يبقى معطَّلًا فارغًا خِلْوًا (2) من الإرادة أصلًا، بل لا بدّ له من إرادة ومراد، وكل إرادة عندكم (3) رجوع إلى الحظّ، فأيّ شيء اشتغل (4) به وبإرادته كان وقوفًا مع حظّه (5)، فياللَّه العجب متى يكون عبدًا محضًا خالصًا لربه؟
يوضِّح هذا (6) الوجه الثامن: أنَّ الحيّ لا ينفكّ عن الإرادة ما دام شاعرًا بنفسه، وإنَّما ينفكّ عنها إذا غاب عنه شعوره بعارضٍ من العوارض، فالإرادة من لوازم الحياة، فدعوى أنَّ الكمال في التجرّد عنها دعوى باطلة مستحيلة طبعًا وحسًّا. بل الكمال في التجرّد عن الإرادة التي تُزاحِم مرادَ المحبوب، لا عن الإرادة التي توافق مرادَه.
الوجه التاسع: قوله “الجمع والوجود فيما يراد بالعبد، لا فيما يريد. . . ” إلى آخره، فيقال: هذا على نوعين:
__________
(1) كتب ناسخ “ف”: “. . . العبد به وطلبه إيَّاه نقص” لنزول بصره إلى السطر التالي من الأصل.
(2) “خلوًا” ساقط من “ط”.
(3) “ب، ك، ط”: “لكم”.
(4) سقط “شيء” من “ك”. وفي “ط”: “فأي اشتغال به”.
(5) “ب، ك، ط”: “عن حظِّه”.
(6) “ف”: “يوضحه”، خلاف الأصل.
(1/486)
أحدهما: ما يراد بالعبد (1) من المقدور الذي يجري عليه بغير اختياره، كالفقر والغنى، والصحّة والمرض، والحياة والموت، وغير ذلك. فهذا لا ريب أنَّ الكمال (2) فناءُ العبد فيه عن إرادته، ووقوفُه مع ما يراد به، لا يكون له إرادةٌ تُزاحِمُ إرادةَ اللَّه منه (3)؛ كحال الثلاثة الذين قال أحدهم: أنا أحبّ الموت للقاءِ اللَّه، وقال الآخر: أحبّ البقاء لطاعته وعبادته. فقال الثالث: غلطتما، ولكن أنا أحبّ من ذلك ما يحبّ: فإن كان يحبّ إماتتي أحببتُ الموت، وإن كان يحبّ حياتي أحببتُ الحياة، فأنا أحبّ ما يحبّه من الحياة والموت. فهذا أكمل منهما، وأصحّ حالًا. فهذا (4) فيما يراد بالعبد.
والنوع الثاني: ما يراد من العبد من الأوامر والقربات. فهذا ليس الكمال إلا في إرادته، وإن فرَّقَتْه، فهو مجموع في تفرقته، متفرّق في جمعيّته. وهذا (5) حال الكُمَّل (6) من النَّاس: متفرّق الإرادة في الأمر، مجتمع على الأمر؛ فهو مجموع عليه، متفرق فيه. ولا يكون فعل المرادات المختلفة بإرادة واحدة بالعين. وإنَّما غايتها أن تكون هنا إرادتان: أحدهما (7): إرادة واحدة للمراد المحبوب.
__________
(1) “ب”: “من العبد”، غلط.
(2) “الكمال” ساقط من “ب”.
(3) “ب”: “إرادة تزاحمه إرادة منه”.
(4) “فهذا” ساقط من “ك، ط”.
(5) “ب”: “فهذا”.
(6) “ط”: “الكملة”.
(7) كذا في الأصل و”ف، ك”. والمقصود: نوعان: أحدهما. . . والثاني. وفي “ب، ط”: “إحداهما”.
(1/487)
والثاني (1): إرادات متفرّقة لحقّه ومحابّه وما أمر به، فهي (2) وإن تعدَّدت وتكثّرت فمرجعها إلى مراد واحد بإرادة واحدة (3) كلية، وكلُّ فعل منها له إرادة جزئية تخصّه (4).
الوجه العاشر: أنَّ قول أبي يزيد: “أريد أن لا أريد” تناقض بيِّن، فإنَّه قد أراد عدم الإرادة. فإذا قال: “أريد أن لا أُريد” يقال له: فقد أردت! وأحسن من هذا أن يكون الجواب: “أُريد ما تريد، لا ما لا تريد” (5). وإذا
__________
(1) “ب، ط”: “الثانية”.
(2) في الأصل: “فهو”، سبق قلم، وكذا في “ف، ب”. والمثبت من “ك، ط”.
(3) “واحدة” ساقط من “ك، ط”.
(4) “ك، ط”: “محضة”، تحريف.
(5) “ب، ك”: “لا ما لا أريد”، وهو خلف من القول. وفي “ط”: “أريد ما يريد لا ما أريد”. وقد نقل المؤلف قول أبي يزيد في مدارج السالكين (2/ 106) وعقَّب عليه بأنَّه “في التحقيق عين المحال الممتنع عقلًا وفطرةً وحسًّا وشرعًا. فإنَّ الإرادة من لوازم الحيّ”. لكنَّه حمله من قبل في المدارج نفسه (1/ 549) على محمل حسن. وفسَّره بصون الإرادة وقبضها عمَّا سوى اللَّه سبحانه. وقد جعل شيخ الإسلام ابن تيمية هذا القول “أريد أن لا أريد” ونحوه من الكلام المجمل، فإنَّما يمدح منه سقوط إرادته التي لم يؤمر بها. وإن أريد بطلان إرادته بالكلية فهو مخالف لضرورة الحسّ والعقل. مجموع الفتاوى (3/ 117). وقول الشيخ عبد القادر “وعلامة فناء إرادتك بفعل اللَّه أنَّك لا تريد مرادًا قط، فلا يكن لك غرض، ولا تقف لك حاجة ولا مرام لأنَّك لا تريد مع إرادة اللَّه سواها. . . ” فسَّره شيخ الإسلام بأن لا تريد مرادًا لم تؤمر بإرادته. ثمَّ قال: “وهذا الموضع يلتبس على كثير من المسالكين، فيظنون أنَّ الطريقة الكاملة أن لا يكون للعبد إرادة أصلًا، وأنَّ قول أبي يزيد: “أريد أن لا أريد” -لمَّا قيل له: ماذا تريد؟ – نقص وتناقض، لأنَّه قد أراد! ويحملون كلام المشايخ الذين يمدحون بترك الإرادة على ترك الإرادة مطلقًا، وهذا غلط منهم على الشيوخ =
(1/488)
كان لا بدَّ من إرادةٍ، ففرْقٌ بين الإرادتين: إرادة سلب الإرادة، وإرادة موافقة المحبوب في مراده. واللَّه أعلم.
الوجه الحادي عشر: أنَّه فسَّر الإرادة بتجريد القصد وجزم النية، والجدّ في الطلب. وهذا هو عين كمال العبد (1)، وهو متضمّن للصدق (2) والإخلاص والقيام بالعبودية. فأيّ نقص في تجريد القصد -وهو تخليصُه من كلِّ شائبةٍ نفسانية أو طبيعية، وتجريدُه لمراد المحبوب وحدَه- والجدِّ في طلبِه وطلبِ مرضاتِه، وجزم النِّية، وهو أن لا يعتريها وقفة ولا تأخُّر (3)؟ وهذا الأَمرُ هو غاية منازل الصدِّيقين، وصدِّيقيَّةُ العبد بحسب رسوخه في هذا المقام، وكلَّما ازداد قربُه وعلا مقامُه قوي عزمُه وتجرد صدقُه. فالصادق لا نهاية لطلبه، ولا فتور لقصده، بل قصدُه أتمّ، وطلبُه أكمل، ونيته أجزم.
قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر/ 99]. و”اليقين” هنا: الموت، باتفاق أهل (4) الإسلام، فجاءَه -صلى اللَّه عليه وسلم- اليقين (5) إذ جاءَه، وإرادتُه وقصده ونيته في الذروةِ العليا ونهايةِ كمالها وتمامها. فأين العلَّة في هذه الإرادة؟ ولكنَّ العلَّة والنقص في الإرادة التي يكون
__________
= المستقيمين. وإن كان من الشيوخ من يأمر بترك الإرادة مطلقًا فإنَّ هذا غلط ممَّن قاله، فإنَّ ذلك ليس بمقدور ولا مأمور. . . ” مجموع الفتاوى (10/ 494).
(1) “ط”: “كمال العين”، تحريف.
(2) قراءة “ف”: “يتضمن الصدق”. وفي “ب”: “القصد”، تحريف.
(3) “ب، ك، ط”: “تأخير”.
(4) سقط “أهل” من “ط”.
(5) “اليقين” ساقط من “ط”.
(1/489)
مصدرُها النفس والهوى، وغايتُها نيل حظّ (1) المريد من محبوبه، وإن كان المحبوب يريد ذلك لكن غيره أحبّ إليه منه، وهو أن يكون مراده محضَ حقِّ محبوبه وحصول مرضاته، فانيًا عن حظّه هو من محبوبه (2)، بل قد صار حظّه منه نفس حقّه ومراده. فهذه هي الإرادة والمحبّة التي لا علَّة فيها ولا نقص. نسأل اللَّه تعالى أن يمنّ علينا، ويُحيِيَنا، ولو بنفَسٍ منها، كما منَّ بعلمها (3) ومعرفتها، إنَّه جوادٌ كريم.
الوجه الثاني عشر: أنَّه قال بعد هذا: “فصحّة الإرادة بذل الوسع واستفراغ الطاقة مع ترك الاختيار والسكون إلى مجاري الأقدار، فيكون كالميِّت بين يدي الغاسل، يقلِّبه كيف يشاء” (4). فأين هذا من قوله: “وذلك في طريق الخواص نقص وتفرق”؟
وهل يكون بذل الوسع واستفراغ الطاقة إلا مع تمام الإرادة؟
وإنَّما الذي يعرض (5) له النقص من الإرادة نوعان: أحدهما: إرادةٌ مصدرها طلب الحظّ، والثاني: اختياره فيما يفعل به بغير اختياره. فعن هاتين الإرادتين ينبغي الفناء، وفيهما يكون النقص. والكمال (6) ترك الاختيار فيهما، والسكون إلى مراد المحبوب وحقّه في الأولى، وإلى مجاري أقداره وحكمِه في الثانية. فيكون في الأولى حيًّا فعَّالًا منازعًا
__________
(1) “ب”: “حظوظ”.
(2) “وإن كان المحبوب يريد. . . ” إلى هنا ساقط من “ب”.
(3) “ب، ك، ط”: “بتعليمها”.
(4) محاسن المجالس (77).
(5) “ط”: “يفرض”، تحريف، وكذا كان في “ك”، فعدَّل بعضهم في متنها.
(6) “ب، ك، ط”: “فالكمال”.
(1/490)
لقواطعه عن مراد محبوبه، وفي الثانية كالميت بين يدي الغاسل يقلِّبه كيف يشاء.
وبهذا التفصيل ينكشف سرّ هذه المسألة، ويحصل التمييز بين محض العبودية وحظّ النفس. واللَّه الموفق للصواب.
(1/491)
فصل
المثال الثاني: الزهد. قال أبو العباس رحمه اللَّه (1): “هو للعوامّ أيضًا؛ لأنَّه حبسُ النفس عن الملذوذات، وإمساكها عن فضول الشهوات، ومخالفة دواعي الهوى، وترك ما لا يعني (2) من الأشياء. وهذا نقص في طريق الخاصَّة، لأنَّه تعظيم للدنيا، واحتباس عن انتقادها، وتعذيب للظاهر بتركها مع تعلّق الباطن بها. والمبالاةُ بالدنيا عين الرجوع إلى ذاتك، وتضييع الوقت في منازعة نفسك وشهودِ حِسك (3) وبقائك معك. ألا ترى إلى من أعطاه اللَّه الدنيا بحذافيرها كيف قال (4): {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)} [ص/ 39]؟ وذلك حيث عافى (5) باطنه من شهودها، وظاهره من التعلّق بها، فالزهد صرفُ الرغبة إليه، وتعلّق الهمَّة به، والاشتغال به عن كلِّ شيء يشغل عنه، ليتولَّى هو حسمَ (6) هذه الأسباب عنك. كما قيل: إنَّ بعض المريدين سأل بعض
__________
(1) هو ابن العريف صاحب محاسن المجالس. انظر ما سبق في ص (474).
(2) في الأصل: “يغني” بالغين المعجمة وكذا في “ف”. ولعله سهو، والصواب بالمهملة، كما في “ب، ك”، وفي محاسن المجالس.
(3) “ك”: “جسك”. “ط”: “جنسك”، تصحيف.
(4) كذا وقع في الأصل وغيره، وهو غير مستقيم، فإنَّ قوله تعالى: {هَذَا عَطَاؤُنَا} ليس من كلام سليمان عليه السلام. والصواب كما ورد في كتاب المحاسن: “ألا ترى إلى قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} الآية وإلى قوله لمن أعطاه الدنيا بحذافيرها. . . “.
(5) في الأصل: “غافله” بالغين المعجمة، ولا معنى له. وكذا في “ف”. وفي “ب”: “عافى له”. والمثبت من كتاب المحاسن و”ط”.
(6) كتب ناسخ “ف”: “مسم”، وقال في الحاشية: “لعله فسخ”، والصواب ما أثبتنا من الأصل وغيره.
(2/492)
المشايخ فقال: أيها الشيخ بأيّ شيء تدفع إبليسَ إذا قصَدَك بالوسوسة؟ فقال الشيخ: إنِّي لا أعرف إبليسَ فأحتاج إلى دفعه، نحن قوم صَرَفْنَا هِمَمَنا إليه، فكفانا ما دونه. وكما قيل (1):
تستَّرتُ عن دهري بظلِّ جناحِه … فعيني ترى دهري وليس يراني
فلو تسألُ الأيام ما اسميَ ما دَرَتْ … وأين مكاني ما عَرَفْنَ مكاني” (2)
فيقال: الكلام على هذا من وجوه:
أحدها: أنَّ جعلَ الزهدِ للعوامِّ لما (3) ذكره إنَّما يتمّ إذا كان الزهد ملزومًا لمنازعة النفس ومجاذبتها لدواعي الشهوة والهوى، وحينئذٍ فيكون قلبه مشغولًا بتلك الدواير والجواذب، ونفسُه تطالبُه بها، وزهدُه يأمره باجتنابها. ولا ريبَ أنَّ فوق هذا مقامًا (4) أعلى منه، وهو طمأنينة نفسه وسكونها إلى محبوبها، وانجذابُ دواعيها إلى محابِّه ومرضاته؛ وهذا للخواصّ من المؤمنين، ولكن هذه المنازعة غير لازمة للزهد، وإن كان لا بُدَّ منها في حكم الطبيعة لتحقّق الابتلاءِ والامتحان، وليتحقّق (5) تركُ العبد حظه وهواه لربّه إيثارًا له على هواه ونفسه.
الثاني: أنَّه ولو كانت هذه المنازعة وحبس النفس عن الملذوذات من
__________
(1) “ط”: “قال”. البيتان لأبي نواس في ديوانه (469). وقوله: “بظل جناحه” يعني به جناح الممدوح. وقد تمثَّل بهما المصنف في مدارج السالكين (3/ 183).
(2) محاسن المجالس (78 – 79).
(3) “ب”: “كما”. “ك”: “ما”.
(4) في الأصل و”ف”: “مقام” بالرفع. والمثبت من “ب، ك، ط”.
(5) “ف”: “ولتحقق”، خلاف الأصل.
(2/493)
لوازم الزهدِ لم يكن فيها نقص ولا علَّة، فإنَّها من لوازم الطبيعة وأحكام الجبلة، وهي كالجوع والعطش والألم والتعب. فحبسُ النفس عن إجابة دواعيها إيثارًا للَّه ومرضاته عليها (1) لا يكون نقصًا ولا مستلزمًا لنقص.
[مسألة شريفة] (2)
وقد اختلف أرباب السلوك وأهل الطريق (3) هنا في هذه المسألة، وهي أيّهما أفضل: مَن له داعية وشهوة، وهو يحبسها (4) للَّه، ولا يطيعها حبًّا له وحياءً منه وخوفًا. أو من لا داعية له تنازعه، بل نفسه خالية من تلك الدواعي والشهوة، قد اطمأنَّت إلى ربِّها واشتغلت به عن غيره، وامتلأت بحبه وإرادته، فليس فيها موضع لإرادة غيره ولا حبّه؟
فرجَّحت طائفة الأولَ، وقالت: هذا يدلُّ على قوَّة تعلّقه وشدَّة محبّته، فهو يُعاصي دواعي الطبع والشهوة، ويقهرها سلطانُ (5) محبّته وإرادته وخوفه من اللَّه. وهذا يدلّ على تمكّنه من نفسه، وتمكّن حاله مع اللَّه (6)، وغلبة داعي الحق عنده على داعي الطبع والنفس.
قالوا: وأيضًا فله مزيد في حاله وإيمانه بهذا الإيثار والترك مع حضور داعي الفعل عنده، ومزيد مجاهدة عدوّه الباطن ونفسه وهواه، كما يكون له مزيد مجاهدة عدوّه الظاهر.
__________
(1) “فحبس النفس. . . ” إلى هنا ساقط من “ب”.
(2) هذا العنوان من حاشية “ب”.
(3) “وأهل الطريق” ساقط من “ط”، ومستدرك في حاشية “ك” بخط مختلف.
(4) في “ط”: “يحبسهما. . . يطيعهما” بضمير التثنية.
(5) “ط”: “بسلطان”.
(6) “ب”: “مع حاله”، خطأ.
(2/494)
قالوا: والذوق والوجد يشهد (1) بمزيده (2) من الحبّ والأنس والسرور والفرح بربِّه عند إيثاره علي دواعي الهوى والنفس، والمطمئنُّ الذي ليس فيه هذا الداعي (3) ليس له مزيد من هذه الجهة. وإن كان مزيده من جهة أخرى، فهي مشتركة بينهما، ويختصّ هذا بمزيده من الإيثار والمجاهدة.
قالوا: وأيضًا فهذا مبتلًى بهذه الدواعي والإرادات، وذلك معافًى منها. وقد جرت سنَّة اللَّهِ في المؤمنين من عباده أن يبتليهم على حسب إيمانهم، فمن ازداد إيمانُه زيد في بلائه، كما ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: “يبتلى المرءُ على حسب دينه، فإنْ كان في دينه صلابة شُدِّدَ عليه البلاء، وإنْ كان في دينه رقَّة خفِّف عنه البلاءُ” (4) والمراد بالدين هنا: الإيمان الذي يثبت عند نوازل البلاءِ، فإنَّ المؤمن يبتلى على قدر ما يحمله إيمانه من وارد البلاءِ.
قالوا: فالبلاءُ بمخالفة دواعي النفس والطبع من أشدّ البلاءِ، فإنَّه لا يصبر عليه إلا الصدِّيقون. وأمَّا البلاءُ الذي يجري على العبد بغير اختياره كالمرض والجوع والعطش ونحوها، فالصبر عليه لا يتوقّف على الإيمان، بل يصبر عليه البرّ والفاجر، ولا سيّما إذا علم أنَّه لا معوّل له
__________
(1) “ب”: “يشهدان”، وما في الأصل وغيره صواب في العربية.
(2) “ك، ط”: “لمزيده”.
(3) “ليس فيه هذا الداعي” ساقط من “ب”.
(4) أخرجه الطيالسي (215)، وأحمد (1481)، وابن حبان (2921)، والحاكم (1/ 99) (120، 121)، والترمذي (2398) وقال: “هذا حديث حسن صحيح”، وابن ماجه (4023) من حديث سعد بن أبي وقاص، والحديث صححه ابن حبان والحاكم. (ز).
(2/495)
إلا الصبر، فإنَّه إن لم يصبر اختيارًا صبر اضطرارًا.
ولهذا كان بين ابتلاءِ يوسف الصدّيق -صلى اللَّه عليه وسلم- لما (1) فعل به إخوتُه من الأذى، والإلقاءِ في الجُبِّ، وبيعه بيع العبيد، والتفريق بينه وبين أبيه؛ وابتلائه بمراودة المرأة له (2) وهو شابّ عزب غريب بمنزلة العبد لها، وهي الداعية له (3) إلى ذلك = فرقٌ عظيم لا يعرفه إلا من عرف مراتبَ (4) البلاءِ (5). فإنَّ الشباب داعٍ إلى الشهوة، والشاب قد يستحيي بين (6) أهله ومعارفه من قضاءِ وطره، فإذا صار في دار الغربة زال ذلك الاستحياء والاحتشام، وإذا كان عزَبًا كان أشدَّ لشهوته، وإذا كانت المرأة هي الطالبة كان أشدّ، وإذا كانت جميلةً كان أعظم، فإن كانت ذات منصب كان أقوى في الشهوة، فإن كان ذلك في دارها وتحت حكمها بحيث لا يخاف الفضيحة ولا الشهرة كان أبلغ، فإن استوثقت بتغليق الأبواب والاحتفاظ (7) من الداخل كان أقوى أيضًا للطلب، فإن كان الرجل مملوكها وهي الحاكمة (8) عليه الآمرة النَّاهية له (9) كان أبلغ في الداعي،
__________
(1) كذا في الأصل وغيره. وفي “ط”: “بما”.
(2) “له” ساقط من “ك، ط”.
(3) “له” ساقط من “ك، ط”.
(4) “ب”: “نوائب”، تحريف.
(5) صرح المؤلف في مدارج السالكين (2/ 187) بأنه سمع ذلك من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه، ثم ذكر الدواعي الآتية. وقد فصّلها في كتابه الداء والدواء (319 – 322) في 13 وجهًا.
(6) “ب، ك، ط”: “من”.
(7) “ب”: “يغلق الأبواب والاحتياط”.
(8) “ك، ط”: “كمملوكها وهي كالحاكمة”.
(9) “له”: ساقط من “ط”.
(2/496)
فإذا (1) كانت المرأة شديدة العشق والمحبّة للرجل قد امتلأ قلبها من حبّه = فهذا الابتلاءُ الذي لا يصبر معه إلا مثل (2) الكريم ابن الكريم ابن الكريم (3) صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين.
ولا ريب أنَّ هذا الابتلاء أعظم من الابتلاء الأوَّل، بل هو من جنس ابتلاءِ الخليل -صلى اللَّه عليه وسلم- بذبح ولده، إذ كلاهما ابتلاءٌ بمخالفة الطبع ودواعي النفس والشهوة، ومفارقة حكم الطبع جملة (4). وهذا بخلاف البلوى التي أصابت ذا النون صلوات اللَّه وسلامه عليه، والتي أصابت أيوب صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين.
قالوا: وأيضًا فإنَّ هذه هي النكتة التي من أجلها كان صالحو البشر أفضلَ من الملائكة؛ لأنَّ الملائكة عبادتهم بريئة عن شوائب دواعي النفس (5) والشهوات البشرية، فهي صادرةٌ عن غير معارضة ولا مانع ولا عائق، وهي كالنفَس للحيّ. وأمَّا عبادات البشر، فمع منازعات النفوس، وقمع الشهوات، ومخالفة دواعي الطبع؛ فكانت أكمل. ولهذا كان أكثر النَّاس على تفضيلهم على الملائكة لهذا المعنى ولغيره، فمن لم يخلق له تلك الدواعي والشهوات فهو بمنزلة الملائكة، ومن خُلِقَت له وأعانه اللَّه على دفعها وقهرها وعصيانها كان أكمل وأفضل.
__________
(1) “ب”: “فإن”.
(2) “ك، ط”: “الَّذي صبر معه مثل”.
(3) زاد في “ب، ط”: “ابن الكريم”.
(4) “ط”: “حكم طبعه”.
(5) “ب”: “النفوس”.
(2/497)
قالوا: وأيضًا فإنَّ حقيقة المحبّة إيثار المحبوب ومرضاته على ما سواه. قالوا: وكيف (1) يصحّ الإيثار ممن لا تنازعه نفسه وطبعه إلى غير المحبوب؟
قالوا: وليس العجب من قلب خالٍ عن الشهواتِ والإرادات، قد ماتت دواعي طبعه وشهوته، إذا عكفَ على محبوبه ومعبوده، واطمأنَّ إليه، واجتمعت همّتُه عليه (2). وإنَّما العجب من قلبٍ قد ابتُليَ بما ابتُليَ (3) به من الهوى والشهوة ودواعي الطبيعة، مع قوَّة سلطانها وغلبتها، وضعفه، وكثرة الجيوش التي تُغير على قلبه كلَّ وقتٍ، إذا آثر ربَّه ومرضاتَه على هواه وشهوته ودواعي طبعه. فهو هاربٌ إلى ربِّه من بين تلك الجيوش، وعاكفٌ عليه في تلك الزعازع والأهوية التي تغشى على الأسماع والأبصار والأفئدة، يتحمَّل منها لأجل محبوبه ما لا تتحمَّله (4) الجبال الرَّاسيات!
قالوا: وأيضًا فنهيُ النفس عن الهوى عبوديّة خاصَّة لها تأثير خاصّ، وإنَّما يحصل إذا كان ثَمَّ ما ينهى عنه النفس.
قالوا: وأيضًا فالهوى عدوُّ الإنسان، فإذا قهر عدوَّه وصارت تحت قبضته وسلطانه كان أقوى وأكمل ممَّن لا عدوّ له يقهره.
قالوا: ولهذا كان حالُ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في قهره قرينَه حتَّى انقادَ وأسلم له (5)
__________
(1) “ب”: “فكيف”.
(2) “عليه” ساقط من “ك، ط”.
(3) “ب”: “قد امتلأ بما امتلأ”، تحريف.
(4) “ب”: “تحمله”.
(5) “ب”: “انقاد له وأسلم”. ويشير المؤلف إلى ما أخرجه مسلم (2814، 2815) =
(2/498)
فلم يكن يأمره إلا بخيرٍ أكملَ من حال عمر حيث كان الشيطان إذا رآه يفرّ (1) منه، وكان إذا سلكَ فجًّا سلك فجًّا (2) غير فجِّه (3).
وبهذا خرج الجواب عن السؤال المشهور وهو: كيف لا يقف الشيطان لعمر بل يفرّ منه، ومع هذا قد تفلَّت على النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وتعرَّض له وهو في الصلاة، وأراد أن يقطع عليه صلاته (4)، ومعلومٌ أنَّ حال الرسول أكمل وأقوى؟ والجوابُ ما ذكرناه أنَّ شيطان عمر كان يفرّ (5) منه، فلا يقدر أحدهما على قهر صاحبه. وأمَّا الشيطان الذي تعرَّض للنبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقد أخذه وأسره وجعله في قبضته كالأسير. وأين مَن يهرب منه عدوُّه فلا يظفر به إلى مَن يظفر بعدوّه، فيجعله في أسره وتحت قبضته (6)؟
فهذا ونحوه ممَّا احتجَّ به أرباب هذا القول.
وأحتجَّ أرباب القول الثاني -وهم الذين رجَّحوا من لا منازعة في
__________
= من حديث ابن مسعود ثمَّ عائشة رضي اللَّه عنهما. (ز).
(1) “ف، ك”: “نفَر”، تصحيف.
(2) “فجًّا” ساقط من “ط”.
(3) كما في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه. أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (6383)، ومسلم في فضائل الصحابة (2396).
(4) “ط”: “الصلاة”. والحديث في الصحيحين. أخرجه البخاري في كتاب الصلاة (461) ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (541) عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(5) “ف”: “نفر”، تصحيف.
(6) “ب”: “تحت قهره وقبضته”. “ك، ط”: “تحت يده وقبضته”.
(2/499)
طباعه، ولا هوى له يغالبه- بأن قالوا: كيف تستوي النفسُ المطمئنّة إلى ربِّها، العاكفةُ على حُبِّهِ، التي لا منازعةَ فيها أصلًا ولا داعيةَ تدعوها إلى الإعراض عنه؛ والنفسُ المشغولةُ بمحاربة هواها ودواعيها وجواذبها؟
قالوا: وأيضًا ففي الزمن الذي يشتغل هذا بنفسه ومحاربة هواه وطبعه يكون صاحبُ النفس المطمئنّة قد قطع مراحل من سيره، وفاز بقربٍ فات صاحبَ المحاربة والمنازعة (1).
قالوا: وهذا كما لو كان رجلان مسافرين في طريق، فطلع على أحدهما قاطعٌ اشتغل بدفعه عن نفسه ومحاربته ليتمكّن من سيره؛ والآخر سائرٌ لم يعرض له قاطع، بل هو على جادّة سيره، فإنَّ هذا يقطع من المسافة أكثرَ ممَّا (2) يقطع الأوَّل، ويقرب إلى الغاية أكثر من قربه.
قالوا: وأيضًا فإنَّ للقلب قوَّةً يسير بها، فإذا صرفَ تلك القوَّة في دفعِ العوارضِ والدواعي القاطعَة له عن السير اشتغلَ قلبُه بدفعها عن السيرِ في زمن المدافعة.
قالوا: ولأنَّ المقصودَ بالقصد الأوَّل إنَّما هو السيرُ إلى اللَّهِ، والاشتغال بدفع العوارض مقصود لغيره، والاشتغال (3) بالمقصود لنفسه أولى وأفضل من الاشتغال بالوسيلة.
قالوا: وأيضًا فالعوارضُ المانعة للقلب من سيره هي من باب المرض، واجتماعُ القلب على اللَّه وطمأنينتُه به وسكونُه إليه بلا
__________
(1) “ب”: “المنازعة والمحاربة”.
(2) في الأصل: “ما”، سهو. وكذا في “ك”.
(3) “ط”: “فالاشتغال”.
(2/500)
منازعٍ ولا جاذب (1) ولا معارض هو صحّتُه وحياتُه ونعيمُه. فكيف يكون القلبُ الذي يعرض له مرض فهو (2) مشغول بدوائه أفضلَ من القلب الذي لا داء به ولا علَّة؟
قالوا: وأيضًا فهذه الدواعي والميول والإرادات التي في القلب تقتضي جذبَه وتعويقه عن وجهة (3) سيره، وما فيه من داعي (4) المحبَّه والإيمان يقتضي جذبَه عن طريقها، فتتعارض الجواذب، فإنْ لم تُوقِفْه عوَّقَتْه ولا بُدَّ. فأين السيرُ بلا معوّق من السيرِ مع المعوِّق؟
قالوا: وأيضًا فالذي يُسيِّرُ العبدَ بإذن ربه إنَّما هو همَّته، والهمَّة إذا علت وارتفعت لم تلحقها (5) القواطع والآفات، كالطائر إذا علا وارتفع في الجوّ فات الرماةَ، ولم تلحقه الحصا ولا البنادق ولا السهام. وإنَّما تدرك هذه الأشياء الطائرَ (6) إذا لم يكن عاليًا، فكذلك الهمَّة (7) العالية قد فاتت الجوارحَ والكواسرَ، وإنَّما تلحق الآفاتُ والدواعي والإرادات الهمَّةَ النَّازلة، فأمَّا إذا علت فلا تلحقها الآفات.
قالوا: وأيضًا فالحسُّ والوجود شاهد بأنَّ قلبَ المحب متى خلا من
__________
(1) “ب”: “مجاذب”.
(2) “ب، ك، ط”: “وهو”.
(3) “ب، ك، ط”: “وجه”.
(4) “ف”: “دواعي”، سهو.
(5) “ك، ط”: “لم يلحقه”.
(6) رسمها في الأصل: “للطائر”، وكذا في النسخ الأخرى والمطبوعة. ولعل القراءة الصحيحة ما أثبتنا.
(7) “ولا السهام. . . ” إلى هنا ساقط من “ب”.
(2/501)
غير المحبوب، واجتمعت (1) شؤونه كلّها على محبوبه، ولم يبقَ فيه التفات إلى غيره، كان أكمل محبَّةً من القلب الملتفت إلى الرقباءِ، المهتم بمحاربتهم ومدافعتهم والهرب منهم والتواري عنهم. قالوا: فكم بين محبٍّ يجتاز على الرقَباءِ فيُطرِقون من هيبته وخشيته (2) ولا يرفع أحد منهم رأسه إليه، وبين محبٍّ إذا اجتاز بالرقباءِ هاشوا عليه (3) كالزنابير أو كالكلاب، فاشتغل بدفعهم وحرابهم، أو جدَّ في الهرب منهم؟ فكيف يسوَّى هذا بهذا، أم كيف يفضَّل عليه مع هذا التباين (4)؟
قالوا: وأيضًا فالمحبّة الخالصة الصَّادقة (5) حقيقتها أنَّها نار تُحرِق من القلب ما سوى مراد المحبوب، وإذا احترق ما سوى مراده عُدِمَ وذهب أثرُه. فإذَا بقيَ في القلب شيء من سوى مراده لم تكن المحبّة تامَّةً ولا صادقةً، بل هي محبة مشوبة بغيرها. فالمحبّ الصادق ليس في قلبه سوى مراد محبوبه حتَّى ينازعه ويدافعه، والآخر في قلبه بقيَّة لغير المحبوب فهو جاهدٌ على إخراجها وإعدامها.
قالوا: وأيضًا فالواردات الإلهيّة تَرِدُ على القلوب على قدر استعدادها وقبولها، فإذا صادفت القلبَ فارغًا خاليًا (6) من العوارض والمنازعات ودواعي الطبع والهوى ملأَتْه على قدر فراغه. وإذا امتلأ منها لم يبقَ
__________
(1) “ب”: “فاجتمعت”، قراءة محتملة.
(2) “ب”: “خشيته وهيبته”.
(3) أي: هاجوا ووثبوا عليه.
(4) “ف”: “البائن”، خطأ.
(5) “ب”: “الصادقة الخالصة”.
(6) “ك، ط”: “خاليًا فارغًا”.
(2/502)
لأضدادها وأعدائها (1) فيه مسلك (2)، وإذا صادفت فيه موضعًا مشغولًا بغيرٍ من الأغيار لم تساكن (3) ذلك الموضع، فيدخلُ الضدُّ والعدوُّ من تلك الثُّلْمة، كما قال القائل:
لا كان مَن لِسواكَ فيه بقيَّةٌ … يجدُ السبيلَ بها إليه العُذَّلُ (4)
وقال (5):
ومهما بقي لِلصَّحْو فيه بقيَّةٌ … يجد نحوَك اللاحي سبيلًا إلى العَذْلِ (6)
قالوا: وأيضًا فدواعي الطبع وإرادات النفس وشهواتها مصدرها إمَّا جهل وإمَّا ضعف. فإنَّها لا تصدر إلا من جهل العبد بآثارها وموجباتها، أو يكون عالمًا بذلك لكن فيه ضعف وعجز يمنعه عن محوها من قلبه بالكلية. وما كان سببه جهلًا أو عجزًا لا يكون كمالًا ولا مستلزمًا لكمالٍ. وأمَّا القلب الخالي منها ومن الاشتغال بدفعها، فقلب شريف قويّ علويّ رفيع.
قالوا: وأيضًا فهذه الإرادات والدواعي لا تُسيِّر العبد، بل إمَّا أن تنكّسه إن أجابها، وإمَّا أن تُعوّقه وتُوقفه إن اشتغل بمدافعتها. وأمَّا
__________
(1) “ب”: “إعدامها”، تحريف.
(2) “ف”: “ملك”، تحريف.
(3) “ط”: “لم يساكن”.
(4) سيأتي مرَّة أخرى في ص (638). وقد أنشده المؤلف في الفوائد (64). ومدارج السالكين (3/ 254) و (2/ 601) (والقافية: اللوَّم) و (2/ 615) (بعجز مختلف).
(5) “ب”: “وقال غيره”.
(6) أنشده المؤلف في مدارج السالكين (3/ 298).
(2/503)
إرادات القلب السليم منها والنفس المطمئنَّة بربّها، فكلُّ إرادة منها تسير به مراحلَ على مَهَلِه (1)، فهو يسيرُ رُويدًا، وقد سبقَ السُّعَاةَ (2)، كما قيل:
مَنْ لي بمثل سَيرِكَ المُدَلَّلِ … تمشي رُويدًا وتجي في الأوَّلِ (3)
قالوا: وأيضًا فإنَّ هذه الدواعي والإرادات إنّما تُحمَد عاقبتُها إذا ردّت صاحبَها إلى حال السليم منها، فيكون كماله في تشبّهه به وسيره معه؛ فكيف يكون أكمل ممّن كمالُه إنّما هو في تشبّهه به؟
قالوا: وأيضًا فالنفوس ثلاثة: أمّارة، ولوّامة، ومطمئنّة. والنفس الأمّارة هي المطيعة لدواعي طباعها وشهواتها، فمبادئ كونها أمّارة هي تلك الدواعي والإرادات، فتستحكم، فتصير عزَمات، ثمَّ تُوجِب الأفعال؛ فمبدأُ صفة الذم فيها تلك الدواعي. وأمَّا النفس المطمئنّة فهي التي عَدِمتْ هذه المبادئ فعدِمت غاياتها. فكيف تكون مبادئ النفس الأمَّارة ممَّا يوجب لها مزيَّةً على النَّفسِ المطمئنّة؟
فهذا ونحوه ممَّا احتجَّت به هذه الطائفة أيضًا لقولها.
__________
(1) كذا ضبطت الكلمة في “ب”. وفي “ف”: “مُهْلة”.
(2) “ط”: “السعادة”، تحريف. وقد تقدَّم قريبًا مثل هذا التحريف.
(3) تمثل به المؤلف في مفتاح دار السعادة (1/ 302) ومدارج السالكين (3/ 7). وقد أورد الميداني هذا المثل على وجه آخر؟
تسألني أمُّ الخيار جَمَلا … يمشي رويدًا ويكون أوَّلا
وقال إنَّه يضرب في طلب ما يتعذَّر. مجمع الأمثال (1/ 248)، وقال العسكري إنَّ قولهم: “تمشي رويدًا وتكون الأول” يراد به أنه يدرك حاجته في تؤدة. جمهرة الأمثال (1/ 260)، وهو المراد هنا.
(2/504)
والحقّ أنَّ كلا الطائفتين (1) على صوابٍ من القول، لكن كلّ فرقة لحظت غيرَ ملحظِ الفرقة الأخرى، فكأنَّهما لم يتواردا على محلٍّ واحدٍ. بل الفرقة الأولى نظرت إلى نهاية خير (2) المجاهدة لنفسه وإراداته (3) وما ترتَّب له عليها من الأحوالِ والمقاماتِ، فأوجب لها شهودُ نهايته رجحانَه، فحكمت بترجيحه، وأسجلَت (4) بتفضيله. والفرقة الثانية نظرت إلى بدايته في شأنه ذلك ونهاية النفس المطمئنّة، فأوجبَ لها شهودُ الأمرين الحكمَ بترجيحِ القلب الخالي من تلك الدواعي ومجاهدتها. وكلّ واحدة من الطائفتين فقد أدْلَتْ بحججٍ لا تمانَع، وأَتَتْ ببيناتٍ لا تُرَدُّ ولا تُدافَع.
[مسألة شريفة أخرى] (5)
وفصل الخطاب في هذه المسألة يظهر بمسألة ترتضع معها من
__________
(1) كذا في الأصل وغيره بتذكير “كلا”. وقد تكرَّر مثله في كتبه وكتب شيخ الإسلام. انظر مثلًا: زاد المعاد (1/ 209)، والروح (478)، ومفتاح دار السعادة (2/ 454)، ومجموع الفتاوى (4/ 467)، و (8/ 337)، و (11/ 70). وقاعدة في الاستحسان (89).
(2) “ك”: “خبر”. “ط”: “سير المجاهد”.
(3) “ب، ك، ط”: “إرادته”.
(4) “ف”: “انحلت”. “ك، ط”: “استحلت” وكلاهما تحريف. وقوله “أسجلت” يعني به أنَّها أطلقت القول بتفضيله وحكمت بذلك. ومثله قول المصنف في الصواعق (2/ 791) “أسجل عليهم بالكفر والنفاق” وقوله فيه (2/ 468)، “أسجل عليهم إسجالًا عامًّا. . . بعجزهم عن ذلك” أي: حكم عليهم بذلك حكمًا مطلقًا. وهو من قولهم: أسجل لهم الأمر: أطلقه لهم، وأسجل الكلام: أرسله. انظر: اللسان “سجل” (11/ 326).
(5) في حاشية “ب”: “مسألة شريفة أيضًا”.
(2/505)
لِبانها، وتخرج (1) من مشكاتها، وهي أنَّ العبدَ إذا كان له حال أو مقام مع اللَّه، ثمَّ نزل عنه إلى ذنب ارتكبه، ثمَّ تاب من ذنبه، هل يعود إلى مثل ماكان؟ أو لا يعود، بل إنْ رجع رجعَ إلى أنزلَ من مقامه وأنقصَ من رتبته؟ أو يعود خيرًا ممَّا كان؟
فقالت طائفة: يعود بالتوبة إلى مثل حاله الأوَّل (2)، فإنَّ “التَّائب من الذنب كمن لا ذنب له” (3)، وإذا مُحي أثرُ الذنب بالتوبة صار وجوده كعدمه، فكأنَّه لم يكن، فيعود إلى مثل حاله.
قالوا: ولأنَّ التوبة هي الرجوع إلى اللَّه بعد الإباق منه، فإنَّ المعصية إباق العبد من ربِّه، فإذا تابَ إلى اللَّه فقد رجع إليه. وإذا كان مسمَّى التوبة هو الرجوع، فلو لم يعد إلى حالته الأولى مع اللَّه لم تكن توبته تامَّة، والكلام إنَّما هو في التوبة النصوح.
قالوا: ولأنَّ التوبة كما ترفع أثرَ الذنب في الحالِ بالإقلاع عنه في المستقبل بالعزمِ على أن لا يعود، فكذلك ترفع أثره في الماضي جملةً. ومن أثره في الماضي انحطاط منزلته عند اللَّه ونقصانه عنده، فلا بدَّ من ارتفاع هذا الأثر بالتوبة، وإذا ارتفع بها عاد إلى مثل حاله.
قالوا: ولأنَّه لو بقي نازلًا من مرتبته منحطًّا عن منزلته بعد التوبة كما
__________
(1) “ط”: “يرتضع. . يخرج”، تصحيف.
(2) “ك، ط”: “الأولى”. “ب”: “إلى حاله الأول”.
(3) أخرجه ابن ماجه (4250)، والطبراني في المعجم الكبير (10281) من طريق أبي عبيدة بن عبد اللَّه بن مسعود عن أبيه مرفوعًا. قال السخاوي في المقاصد الحسنة (182): “ورجاله ثقات، بل حسنه شيخنا يعني لشواهده، وإلا فأبو عبيدة جزم غير واحد بأنه لم يسمع من أبيه”.
(2/506)
كان قبلها، لم تكن التوبة قد مَحتْ أثرَ الذنب ولا أفادت في الماضي شيئًا. وإن عاد إلى دون منزلته ولم يبلغها، فبلوغه تلك الدرجة إنَّما كان بالتوبة، فلو ضعف تأثير التوبة عن إعادته إلى منزلته الأولى لَضعُف عن تبليغه تلك المنزلة التي وصل إليها. وإن لم تكن التوبة ضعيفةَ التأثير عن تبليغه تلك المنزلة لم تكن ضعيفة التأثير عن إعادته إلى المنزلة الأولى.
قالوا: وأيضًا فاللَّه (1) سبحانه ربط (2) الجزاءَ بالأعمالِ ربطَ الأسبابِ بمسبباتها، فالجزاءُ من جنس العمل. فكما رجع التائب إلى اللَّه بقلبه رجوعًا تامًّا، رجع اللَّه عليه بمنزلته وحاله. بل ما رجع العبدُ إلى اللَّه تعالى حتى رجعَ اللَّه بقلبه إليه أوَّلًا، فرجع اللَّه إليه وتاب عليه ثانيًا. فتوبةُ العبد محفوفةٌ بتوبتين من اللَّه: توبةٍ منه إذنًا وتمكينًا، فتاب بها العبد، وتاب اللَّه عليه قبولًا ورضًى. فتوبة العبد بين توبتين من اللَّه، وهذا يدلّ على عنايته سبحانه وبرّه ولطفه بعبده التائب. فكيف يقال: إنَّه لا يعيده مع هذا اللطف والبرّ (3) إلى حاله؟
قالوا: وأيضًا فإنَّ التوبة من أجلِّ الطاعات، وأوجَبِها على المؤمنين، وأعظمها غَناءً عنهم، وهم إليها أحوج من كلِّ شيء. وهي من أحبِّ الطاعات إلى اللَّه سبحانه، فأنَّه يحب التّوابين، ويفرح بتوبة عبده إذا تابَ إليه أعظم فرح وأكمله. وإذا كانت بهذه المثابة فالآتي بها آتٍ بما هو من أفضل القربات وأجلّ الطاعات. فإذا كان قد حصل له بالمعصية انحطاطٌ ونزولُ مرتبةٍ، فبالتوبة يحصل له مزيدُ تقدمٍ وعلوُّ درجةٍ، فإن لم تكن
__________
(1) “ف”: “فإنَّ اللَّه”، خلاف الأصل. وكذا في “ك”.
(2) “ط”: “ربط سبحانه الجزاء”.
(3) “ف”: “اللطف الأكبر” تحريف.
(2/507)
درجتُه بعد التوبة أعلى فإنَّها لا تكون أنزَل.
قالوا: وأيضًا فإنَّا إذا قابلنا بين جناية المعصية والتقرب بالتوبة وجدنا الأثر (1) الحاصل من التوبة أرجَحَ من الأثرِ الحاصل من المعصية، والكلام إنَّما هو في التوبة النصوح الكاملة؛ وجانب الفضل أرجح من جانب العدل، ولهذا كان جانب (2) العدل آحادًا بآحاد، وجانب الفضل آحادًا بعشرات إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، وهذا يدلُّ على رجحان جانب الفضل وغلبته. وكذلك مصدرهما من الغضب والرحمة، فإنَّ رحمةَ الربِّ تعالى تغلب غضبَه.
قالوا: وأيضًا فالذنب بمنزلة المرض، والتوبة بمنزلة العافية. والعبد إذا مرض ثمَّ عوفي وتكاملت عافيته رجعت صحّتُه إلى ما كانت، بل ربّما ترجع (3) أقوى وأكمل ممَّا كانت عليه، لأنَّه ربّما كان معه في حال العافية آلام وأسقام كامنة، فإذا اعتلَّ ظهرت تلك الأسقام، ثمَّ زالت بالعافية جملةً، فتعودُ قوَّته خيرًا ممَّا كانت وأكمل. وفي مثل هذا قال الشاعر:
لعلَّ عتبَك محمودٌ عواقبُه … وربّما صحَّت الأجسامُ بالعِلَلِ (4)
وهذا الوجه هو أحد ما احتجَّ به من قال: إنَّه يعود (5) خيرًا ممَّا كان قبل التوبة.
__________
(1) “الأثر” ساقط من “ط”.
(2) “ك”: “إلى جانب العدل آحاد”. “ط”: “في جانب العدل آحاد”.
(3) “ب، ك”: “رجع”. “ط”: “رجعت”.
(4) للمتنبي وقد سبق في ص (367)، غير أنَّ في “ب”: “صحت الأجساد”.
(5) “ك، ط”: “يعود بالتوبة”.
(2/508)
واحتجّوا لقولهم أيضًا بأنَّ التوبة تثمر للعبد محبَّة من اللَّه خاصَّة لا تحصل بدون التوبة، بل التوبة شرط في حصولها. وإن حصل له محبّة أخرى بغيرها من الطاعات فالمحبّة الحاصلة له بالتوبة لا تنال بغيرها، فإنَّ اللَّه يحبّ التوّابين، ومن محبّته لهم فرحُه بتوبة أحدهم أعظمَ فرحٍ وأكملَه. فإذا أثمرت له التوبةُ هذه المحبّة، ورجع بها إلى طاعاته التي كان عليها أوَّلًا، انضمَّ أثرُها إلى أثر تلك الطاعات، فقوي الأثران، فحصل له المزيد من القرب والوسيلة.
وهذا بخلاف ما يظنه من نقصت معرفته بربّه من أنَّه سبحانه إذا غفر لعبده ذنبَه فإنَّه لا يعودُ (1) الودّ الذي كان له منه قبل الجناية. واحتجّوا في ذلك بأثر إسرائيليّ مكذوب أنَّ اللَّه سبحانه قال لداود: “يا داود أمَّا الذنب فقد غفرناه، وأمّا الود فلا يعود” (2). وهذا كذب قطعًا، فإنَّ الودّ يعود بعد التوبة النصوح أعظمَ ممَّا كان، فإنَّه سبحانه يحب التوابين، ولو لم يعد الود لما حصلت له محبّته. وأيضًا فإنَّه يفرح بتوبة التائب، ومحال أن يفرح بها أعظم فرح وأكمله وهو لا يحبّه.
وتأمَّلْ سرَّ اقتران هذين الاسمين في قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)} [البروج/ 13 – 14] تجِدْ فيه من الردِّ (3) والإنكار على من قال: لا يعودُ الودّ والمحبة منه لعبده أبدًا، ما هوَ من كنوز القرآن ولطائف فهمه. وفي ذلك ما يهيج القلبَ السليمَ، ويأخذ
__________
(1) “ف”: “لا يعود له الود”، خلاف الأصل.
(2) انظر: مجموع الفتاوى (10/ 304).
(3) في الأصل: “الرد على والإنكار”، سبق قلم.
(2/509)
بمجامعه، ويجعله عاكفًا على ربِّه -الذي لا إلهَ له غيره (1)، ولا ربَّ له سواه- عكوفَ المحبّ الصادق على محبوبه، الذي لا غنى له عنه، ولا بُدَّ له منه، ولا تندفع ضرورته بغيره أبدًا.
واحتجّوا أيضًا بأنَّ العبدَ قد يكون بعد التوبة خيرًا منه قبل الخطيئة، لأنَّ الذنبَ يُحدِث له من الخوف والخشية، والانكسار والتذلّل للَّه، والتضرّع بين يديه، والبكاءِ على خطيئته، والندم عليها، والأسف والإشفاق (2)، ما هو من أفضل أحوال العبدِ وأنفعها له في دنياه وآخرته. ولم تكن هذه الأمور لتحصل بدون أسبابها، إذ حصول الملزوم بدون لازمه محال. واللَّه تعالى يحبّ من عبده كسرتَه، وتضرّعه، وذلّه بين يديه، واستعطافه، وسؤاله أن يعفو عنه، ويغفر له، ويتجاوز عن جرمه وخطيئته. فإذا قضى عليه بالذنب فترتَّبت عليه هذه الآثار المحبوبة له كان ذلك القضاءُ خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن. ولهذا قال بعض السلف: “لو لم تكن التوبة أحبّ الأشياء إليه لما ابتلى (3) بالذنب أكرمَ الخلق عليه” (4).
وقيل: إنَّ في بعض الآثار يقول اللَّه تعالى لداود: “يا داود كنتَ تدخل عليَّ دخولَ الملوكِ على الملوكِ، واليوم تدخل عليَّ دخولَ العبيد على الملوك” (5). قالوا: وقد قال غير واحدٍ من السلف: كان داود بعد التوبة
__________
(1) “ب، ك”: “لا إله غيره”. “ط”: “لا إله إلَّا هو”.
(2) “ط”: “الإشفاء”، تحريف.
(3) في “ط” بياض مكان “ابتلى”.
(4) نقله شيخ الإسلام في منهاج السنة (2/ 432) و (6/ 210)، وضمّنه المؤلِّف كلامه في مدارج السالكين (1/ 373)، وشفاء العليل (341).
(5) نقله المصنف في مدارج السالكين (1/ 376) من قول اللَّه تعالى لآدم عليه =
(2/510)
خيرًا منه قبل الخطيئة (1). قالوا: ولهذا قال سبحانه: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)} [ص/ 25]، فزاده على المغفرة أمرين (2): “الزلفى”، وهي درجة القرب منه. وقد قال فيها سلف الأُمَّة وأئمّتها ما لا تحتمله عقول الجهمية وفراخهم. ومن أراد معرفتَها فعليه بتفاسير السلف. والثاني: “حسن المآب”، وهو حسن المنقلب وطيب المأوى عند اللَّه. قالوا: ومن تأمَّلَ زيادة القرب التي أعطيها داود بعد المغفرة علم صحَّة ما قلنا، وأنَّ العبدَ بعد التوبة يعود خيرًا ممَّا كان.
قالوا: وأيضًا فإنَّ للعبودية لوازم وأحكامًا وأسرارًا وكمالاتٍ لا تحصل إلا بها. ومن جملتها تكميل مقام الذلّ للعزيز الرحيم، فإنَّ اللَّه سبحانه يحبّ من (3) عبده أن يكمل مقام الذلّ له، وهذا هو (4) حقيقة العبودية. واشتقاقها (5) يدل على ذلك، فإنَّ العرب تقول: “طريق معبَّد” أي: مذلَّل بوطءِ الأقدام.
والذل أنواع: أكملها (6) ذلّ المحبّ لمحبوبه. الثاني: ذلّ المملوك لمالكه. الثالث: ذلّ (7) الجاني بين يدي المنعم عليه، المحسن إليه،
__________
= السلام. وهر من كلام طويل ذكر أنَّه “قيل بلسان الحال في قصة آدم عليه السلام وخروجه من الجنَّة بذنبه”.
(1) انظر: منهاج السنة (2/ 432).
(2) بعده في حاشية “ب”: “أحدهما” مع علامة صح.
(3) “من” ساقط من “ف”.
(4) “ط”: “هذه هي”.
(5) “ف”: “استقامتها”، تحريف.
(6) “ب”: “أحدها”، تحريف.
(7) “ذل” سقط من الأصل سهوًا، ومن “ف” أيضًا.
(2/511)
المالك له. الرابع: ذلّ العاجز عن جميع مصالحه وحاجاته بين يدي القادر عليها، التي هي في يده وبأمره. وتحت هذا قسمان: أحدهما: ذلّه (1) في أن يجلب له ما ينفعه. والثاني: ذلّه (2) في أن يدفع عنه ما يضرّه على الدوام. ويدخل في هذا ذلّ المصائب كالفقر والمرض وأنواع البلاء والمحن. فهذه خمسة أنواع من الذل إذا وفَّاها العبد حقَّها، وشهدها كما ينبغي، وعرفَ ما يراد به منه، وقام بين يدي ربّه مستصحبًا لها شاهدًا لذلِّه من كل وجه ولعز (3) ربِّه وعظمته وجلاله، كانت قليلُ أعماله قائمةً (4) مقام الكثير من أعمال غيره.
قالوا: وهذه أسرارٌ لا تدرَك بمجرّد الكلام، فمن لا نصيب له منها فلا يضرّه أن يخلّي المطيَّ وحاديها، ويعطي القوسَ باريها.
فللكثافة أقوامٌ لها خُلِقوا … وللمحبَّةِ أكبادٌ وأجفانُ
قالوا: وأيضًا فقد ثبت عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: “لَلَّهُ أشدُّ فرحًا بتوبةِ عبدِه من أحدكم أضلَّ راحلتَه” (5).
قالوا: وهذا أعظم ما يكون من الفرح وأكمله، فإنَّ صاحب هذه الراحلة كان عليها مادة حياته من الطعام والشراب، وهي مركبه الذي يقطع به مسافة سفره، فلو عَدِمَه لانقطع في طريقه، فكيف إذا عدم مع
__________
(1) “ط”: “ذلّ له”.
(2) “ط”: “ذلّ له”.
(3) “ب، ك، ط”: “لعزّة”.
(4) “ط”: “كان. . قائمًا”.
(5) أخرجه البخاري في الدعوات (6309)، ومسلم في التوبة (2747) من حديث أنس رضي اللَّه عنه وغيره.
(2/512)
مركبه طعامَه وشرابَه! ثمَّ إنَّه عدِمَها في أرض دَوِّيَّةٍ لا أنيس بها ولا معين، ولا من يأوي له ويرحمه ويحمله، ثمَّ إنَّها مَهلَكة لا ماءَ بها ولا طعام. فلمَّا أيسَ من الحياةِ بفقدها، وجلس ينتظر الموت، إذا هو براحلته قد أشرفت عليه، ودنت منه، فأيّ فرحةٍ تعدل فرحةَ هذا؟ ولو كان في الوجود فرحٌ أعظم من هذا لمثَّل به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. ومع هذا ففرَحُ اللَّه بتوبة عبده إذا تابَ إليه أعظمُ من فرحِ هذا براحلته.
[قاعدة نافعة في إثبات الصفات] (1)
وتحت هذا سرٌّ عظيمٌ يختصّ اللَّه بفهمه من يشاء، فإن كنتَ ممن غلظ حجابه، وكثفت نفسه وطباعه، فعليكَ بوادي الحمقى (2)، وهو وادي المحرّفين الكلمَ (3) عن مواضعه، الواضعين له على غير المراد منه. فهو وادٍ قد سلكه خلق، وتفرَّقوا في شِعابه وطرُقه ومتاهاته، ولم تستقرّ لهم فيه قدم، ولا لجؤوا منه إلى ركنٍ وثيق، بل هم فيه (4) كحاطب الليل وحاطم السيل (5).
وإن نجَّاك اللَّه من هذا الوادي، فتأمَّل هذه الألفاظ النبويّة المعصومة التي مقصودُ المتكلّمِ بها غايةُ البيان، مع مصدرها عن كمال العلم باللَّه
__________
(1) العنوان من حاشية “ب”.
(2) “ط”: “بوادي الخفا”!
(3) “ك، ط”: “للكلم”.
(4) “فيه”: ساقط من “ك، ط”.
(5) حَطْمة السيل وطَحمته بفتح الطاء وضمّها: دُفّاع معظمه. والسيول الطواحم: الدوافع. يقال: أشدّ من حطمة السيل تحت طحمة الليل، وهو معظم سواده. انظر: الأساس والتاج (حطم، طحم).
(2/513)
وكمال النصيحة للأمة. ومع هذه المقامات الثلاث -أعني كمالَ بيان المتكلم وفصاحته وحسن تعبيره عن المعاني، وكمالَ معرفته وعلمه بما يعبّر عنه، وكمالَ نصحه وإرادته لهداية الخلائق- يستحيل عليه أن يخاطبهم بشيءٍ، وهو لا يريد منهم ما يدلّ عليه خطابه، بل يريد منه (1) أمرًا بعيدًا عن ذلك الخطاب، إنَّما يدلُّ عليه كدلالة الألغاز والأحاجي مع قدرته على التعبير عن ذلك المعنى باحسن (2) عبارة وأوجزها. فكيف يليق به أن يعدل عن مقتضى البيان الرافع للإشكالِ المزيل للإجمال، ويوقع الأمَّة في أودية التأويلات وشعَاب الاحتمالات (3) والتجويزات؟ سبحانك هذا بهتانٌ عظيم! وهل قدَرَ الرسول حقَّ قدره أو مرسلَه حقَّ قدره مَن نسَب كلامه سبحانه أو كلام رسوله إلى مثل ذلك؟ ففصاحة الرسول وبيانه، وعلمه ومعرفته، ونصحه وشفقته = يحيل عليه (4) أن يكون مراده من كلامه ما يحمله عليه المحرّفون للكلم عن مواضعه المتأوّلون له على (5) غير تأويله، وأن يكون كلامه من جنس الألغاز والأحاجي. والحمد للَّه ربِّ العالمين.
فإنْ قلتَ: فهل من مسلك غير هذا الوادي الذي ذممته فيُسلَك (6) فيه، أو من طريق يستقيم عليه السالك؟ قلتُ: نعم، بحمد اللَّه. الطريق واضحة المنار، بيّنة الأعلام، مضيئة للسالكين. وأوَّلها أن تحذف
__________
(1) “ف”: “منهم”، سهو.
(2) “ف”: “بأيسر”، تحريف.
(3) “ف”: “الإجمالات”.
(4) “ف”: “عليهم”، سهو. “ب”: “تحيل عليه”.
(5) “على” ساقط من “ك، ط”.
(6) “ك، ط”: “فنسلك”.
(2/514)
خصائص المخلوقين عن إضافتها إلى صفاتِ ربِّ العالمين. فإنَّ هذه العقدة هي أصل بلاءِ النَّاس، فمَن حلَّها فما بعدها أيسرُ منها، ومن هلك بها فما بعدها أشدُّ منها. وهل نفى أحد ما نفى من صفات الربِّ ونعوت جلاله إلا لِسَبْقِ نظرِه الضعيف إليها واحتجابه (1) بها عن أصل الصفة وتجرّدها عن خصائص المحدَث؟ فإنَّ الصفَة يلزمها لوازمُ باختلاف محلّها، فيظنّ القاصر (2) إذا رأى ذلك اللازم (3) في المحلّ المحدَث أنَّه لازم لتلك الصفة مطلقًا، فهو يفر من إثباتها للخالق سبحانه، حيث لم يتجرّد في ظنّه عن ذلك اللازم.
وهذا كما فعل من نفى عنه سبحانه الفرحَ والمحبَّة والرضى والغضب والكراهة والمقت والبغض، وردَّها كلَّها إلى الإرادة. فإنَّه فهم فرَحًا مستلزمًا لخصائص المخلوق من انبساط دم القلب وحصول ما ينفعه، وكذلك فهم غضبًا هو غليان دم القلب طلبًا للانتقام، وكذلك فهم محبّةً ورضًى وكراهةً ورحمةً مقرونةً بخصائص المخلوقين؛ فإنَّ ذلك هو السابق إلى فهمه، وهو المشهود في علمه الذي لم تصل معرفته إلى سواه ولم يُحِطْ علمُه بغيره. ولمَّا كان ذلك (4) هو السابق إلى فهمه لم يجد بدًّا من نفيه عن الخالق تعالى، والصفة لم تتجرَّد في عقله عن هذا اللازم، فلم يجد (5) بدًّا من نفيها.
__________
(1) “ب”: “احتجاجه”، تحريف. وكذا في “ط”، وصحح في القطرية.
(2) “ف”: “العاجز”، قراءة محتملة.
(3) “اللازم” ساقط من “ب”.
(4) “ذلك” ساقط من “ب، ط”.
(5) “من نفيه. . . ” إلى هنا ساقط من “ب”.
(2/515)
ثمَّ لأصحاب هذه الطريق مسلكان:
أحدهما: مسلك التناقض البيّن. وهو إثبات كثير من الصفات، ولا يلتفِت فيها إلى هذا الخيال، بل يثبتها مجرَّدةً عن خصائص المخلوق، كالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر وغيرها. فإن كان إثبات تلك الصفات التي نفاها يستلزم المحذورَ الذي فرَّ منه، فكيف لم يستلزمه إثباتُ ما أثبته؟ وإن كان إثبات ما أثبته لا يستلزم محذورًا فكيف يستلزمه إثباتُ ما نفاهُ؟ وهل في التناقض أعجب من هذا؟
والمسلك الثاني: مسلك النفي العامّ والتعطيل المحض، هربًا من التناقض، والتزامًا لأعظم الباطل وأمحل المحال (1).
فإذن الحقّ المحض في الإثبات المحض الذي أثبته اللَّه تعالى لنفسه في كلامه وعلى لسان رسوله، من غير تشبيه ولا تمثيل، ومن غير تحريفٍ ولا تبديل. ومنشأ غلط المحرّفين إنَّما هو ظنّهم أنَّ ما يلزم الصفة في المحلّ المعيَّن يلزمها لذاتها، فينفون ذلك اللازم عن اللَّه تعالى، فيضطرّون في نفيه إلى نفي الصفة!
ولا ريبَ أنَّ الأمور ثلاثة: أمرٌ يلزم الصفة لذاتها من حيث هي، فهذا لا يجب بل لا يجوز نفيُه، كما يلزم العلمَ والسمعَ والبصرَ من تعلّقها بمعلوم ومسموع ومبصَر، فلا يجوز نفي هذه التعلّقات عن هذه
__________
(1) “المُحال” من “حول” لا من “محل”، فصياكة اسم التفضيل منه “أمحل” على التوهم. وقد تكرر “أمحل المحال” في كتب المؤلف. انظر مثلًا: زاد المعاد (1/ 36، 207، 272)، والصواعق (197، 645)، ومدارج السالكين (1/ 129)، وانظر: مجمع الأمثال (3/ 357 – 358).
(2/516)
الصفات، إذ لا تحقُّق لها بدونها. وكذلك الإرادة مثلًا تستلزم العلمَ لذاتها، فلا يجوز نفي لازمها عنها. وكذلك السمع والبصر والعلم يستلزم الحياة فلا يجوز نفي لوازمها (1). وكذلك كونُ المرئيّ مرئيًّا حقيقةً له لوازم لا ينفكّ عنها، ولا سبيل إلى نفي تلك اللوازم إلا بنفي الرؤية. وكذلك الفعل الاختياري له لوازم لا بدّ فيه منها، فمن نفى لوازمه لزمه (2) نفي الفعل (3) ولا بدَّ.
ومن هنا كان أهل الكلام أكثر النَّاس تناقضًا واضطرابًا، فإنَّهم ينفون الشيء ويثبتون ملزومه، ويُثبتون الشيء وينفون لازمه. فتتناقض أقوالهم وأدلّتهم، ويقع السالك خلفهم في الحيرة والشكّ. ولهذا يكون نهاية أمر أكثرهم الشكّ والحيرة، حاشا من هو في خُفارة بلادته منهم، أو من قد خرق تلك الخيالات، وقطع تلك الشبهات، وحكَّم الفطرةَ والشرعةَ والعقلَ المؤيّد بنور الوحي عليها، فنقَدها نقدَ الصيارف، فنفى زغَلَها، وعلم أنَّ الصحيح منها إمَّا أن يكون قد تولَّت (4) النصوص بيانَه، وإمَّا أن يكون فيها غُنْيةٌ عنه بما هو خير منه وأقرب طريقًا وأسهل تناولًا.
ولا يستفيد (5) المؤمنُ البصيرُ بما جاءَ به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، العارفُ (6) به؛ من المتكلمين سوى مناقضة بعضِهم بعضًا ومعارضته، وإبداءِ
__________
(1) “عنها وكذلك السمع. . . ” إلى هنا ساقط من “ب”.
(2) “لزمه” ساقط من “ب، ك، ط”.
(3) “ط”: “الفعل الاختياري”.
(4) “ف”: “نزلت”، تحريف.
(5) “ف”: “تناولا يستفيد”، فاسقط “ولا” قبل الفعل.
(6) “ف”: “للعارف”، خطأ.
(2/517)
بعضِهم عَوارَ بعض، ومحاربةِ بعضهم بعضًا؛ فيتولَّى (1) بعضُهم محاربةَ بعض، ويسلَمُ ما جاءَ به الرسول. فإذا رأى المؤمنُ العالمُ الناصحُ للَّه ولرسوله أحدَهم قد تعدَّى إلى ما جاءَ به الرسول يناقضه ويعارضه ويضادّه (2)، فليعلمْ أنَّهم لا طريق لهم إلى ذلك أبدًا، ولا يقع ردّهم إلا على آراء أمثالهم وأشباههم. وأمَّا ما جاءَ به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فمحفوظ محروس مصون من تطرق المعارضة والمناقضة إليه. فإن وجدتَ شيئًا من ذلك في كلامهم فبَدارِ بَدارِ إلى إبداءِ فضائحهم، وكشف تلبيسهم ومحالهم وتناقضهم، وتبيينِ كذبهم على العقل والوحي، فإنَّهم لا يردّون شيئًا ممَّا جاءَ به الرسول إلا بزخرف من القول يغترّ به ضعيفُ العقل والإيمان، فاكشفه، ولا تهَبْه (3)، تجده {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)} [النور/ 39].
ولولا أنَّ كلَّ مسائل القوم وشُبَههم التي خالفوا فيها النصوص بهذه المثابة لذكرنا من أمثلة ذلك ما تقرّ به عيون أهل الإيمان السائرين إلى اللَّه على طريق الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه. وإن وفَّق اللَّهُ سبحانه جرَّدنا لذلك كتابًا مفردًا (4). وقد كفانا شيخ الإسلام ابن تيمية -قدَّس اللَّه روحه، ونوَّر ضريحه- (5) هذا المقصد (6) في عامّة كتبه، لا سيما كتابه الذي وسمه
__________
(1) “ب”: “فيُولي بعضَهم. . . ويسلّم”.
(2) “ويضاده” ساقط من “ط”.
(3) “ط”: “لاتهن”، تحريف.
(4) انظر نحو ذلك في الصواعق المرسلة (1008).
(5) لم ترد الجملتان الدعائيتان في “ك، ط”.
(6) “ف”: “الفصل” تحريف.
(2/518)
بـ “بيان موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح” (1)، فمزَّق فيه شملَهم كلَّ ممزَّقٍ، وكشف فيه (2) أسرارهم، وهتك أستارهم، فجزاه اللَّه عن الإسلام وأهله أفضلَ الجزاءِ (3).
واعلم (4) أنَّه لا تَرِدُ شبهة صحيحة قط (5) على ما جاء به الرسول، بل الشبهة التي يوردها أهل البدع والضلال على أهل السنَّة لا تخلو من أحد (6) قسمين:
إمَّا أن يكون القول الذي أوردَت عليه ليس من أقوال الرسول بل تكون نسبته إليه غلطًا، وهذا لا يكون متّفقًا عليه بين أهل السنة أبدًا، بل يكون قد قاله بعضهم وغلِطَ فيه، فإنَّ العصمة إنَّما هي لمجموع الأمة لا لطائفة معيَّنة منها.
وإمَّا أن يكون القول الذي أُوردتْ عليه قولًا صحيخا لكن لا ترد تلك الشبهة عليه، وحينئذٍ فلا بدَّ لها (7) من أحد أمرين: إمَّا أن تكون لازمة، وإمَّا ألَّا تكون لازمة.
فإنْ كانت لازمة لما جاءَ به (8) الرسول فهي حقّ لا شبهة، إذ لازم
__________
(1) مطبوع بعنوان “درء تعارض العقل والنقل”.
(2) “فيه” ساقط من “ك، ط”.
(3) “ك، ط”: “من أفضل الجزاء”.
(4) “ف”: “وأعلمهم”، خلاف الأصل.
(5) انظر في استعمال “قطّ” ما سبق في ص (431).
(6) “أحد” ساقط من “ب، ك، ط”.
(7) “ط”: “له”، خطأ.
(8) “ط”: “بها”، خطأ.
(2/519)
الحقّ حق، ولا ينبغي الفرار منها كما يفعل الضعفاء من المنتسبين إلى السنَّة، بل كلُّ ما لزم من الحق فهو حقٌّ يتعيّن القول به، كائنًا ما كان، وهل تسلّط أهل البدع والضلال على المنتسبين للسنَّة (1) إلا بهذه الطريق؟ ألزموهم بلوازمَ تلزم الحقَّ فلم يلتزموها، ودفعوها، وأثبتوا ملزوماتها، فتسلَّطوا عليهم بما أنكروه لا بما أثبتوه. فلو أثبتوا لوازمَ الحق، ولم يفرُّوا منها، لم يجد أعداؤهم إليهم سبيلًا. وإنْ لم تكن لازمةً لهم فإلزامهم إيَّاها باطل. وعلى التقديرين (2) فلا طريق لهم إلى ردِّ أقوالهم. وحينئذٍ فلهم جوابان: مركَّب مجمَل، ومفرَد مفصَّل.
أمَّا الأوَّل فيقولون (3) لهم: هذه اللوازم التي تُلزِمونا (4) بها إمَّا أن تكون لازمةً في نفس الأمر، وإمَّا أن لا تكون لازمةً. فإن كانت لازمةً فهي حقّ (5)، إذ قد ثبت أنَّ ما جاءَ به الرسول هو (6) الحقُّ الصريح، ولازمُ الحق حقٌّ. وإنْ لم تكن لازمةً فهي مندفعة، ولا يجوز إلزامها ولا التزامها (7).
وأمَّا الجوابُ المفصَّل فيفردون كلَّ إلزام بجواب، ولا يردّونه مطلقًا، ولا يقبلونه مطلقًا (8)، بل ينظرون إلى ألفاظ ذلك الإلزام
__________
(1) “ف”: “إلى السنة”، خلاف الأصل.
(2) “ط”: “النقدين”، تحريف. وكذا كان في “ك”، فأصلحه بعضهم في متنها.
(3) “ب”: “فنقول”.
(4) كذا ورد في الأصل وغيره بحذف نون الرفع للتخفيف.
(5) “ف”: “أحقّ”، خلاف الأصل.
(6) “ب، ك، ط”: “فهو”.
(7) “ولا التزامها”، ساقط من “ط”.
(8) “ولا يقبلونه مطلقًا” ساقط من “ب، ط”.
(2/520)
ومعانيه، فإن كان لفظها موافقًا لما جاءَ به الرسول، يتضمّن إثبات ما أثبته أو نفي (1) ما نفاه، فلا يكون المعنى إلا حقًّا، فيقبلون ذلك الإلزام، وإن كان مخالفًا لما جاءَ به الرسول، متضمّنًا لنفى ما أثبته أو إثبات ما نفاه، كان باطلًا لفظًا ومعنًى، فيقابلونه بالردِّ.
وإنْ كان لفظًا مجملًا محتملًا لحق وباطل لم يقبلوه مطلقًا، ولم يردّوه مطلقًا (2)،. حتى يستفسروا قائله ماذا أراد به. فإنْ أراد معنًى صحيحًا مطابقًا لما جاءَ به الرسول قبلوه ولم يطلقوا اللفظ المحتمل (3) إطلاقًا. وإنْ أراد معنًى باطلًا ردّوه ولم يطلقوا نفيَ اللفظ المحتمل أيضًا.
فهذه قاعدتهم التي بها يعتصمون وعليها يعوّلون. وبسط هذه الكلمات يستدعي أسفارًا لا سِفرًا واحدًا، ومن لا ضياء له لا ينتفع بها ولا بغيرها. فلنقتصر عليها، ولنعد إلى المقصود، فنقول وباللَّه التوفيق:
فرَحُ الربِّ تعالى هذا الفرحَ العظيمَ بتوبة عبده إذا تاب إليه هو من ملزومات محئته ولوازمها، أعني كونَه محِبًّا لعبادته المؤمنين، محبوبًا لهم. وإنَّما خلق خلقه لعبادته المتضمّنة لكمال محبَّته والخضوع له، ولهذا خلق الجنَّة والنَّار، ولهذا أرسل الرسل وأنزل الكتب. وهذا هو الحق الذي خلق به السماوات والأرضِ، وأنزل به الكتاب.
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ}
__________
(1) “ك، ط”: “ونفي”.
(2) “ولم يردوه مطلقًا” ساقط من “ب”.
(3) “ب”: “المجمل”.
(2/521)
[الحجر/ 85]. وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)} (1) إلى قوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)} [يونس/ 5] وقوله: {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)} [آل عمران/ 1 – 3].
فهذا أمرُه وتنزيلُه مصدره الحقّ، والأوَّل خلقه وتكوينه مصدره الحقّ أيضًا. فبالحقِّ كان الخلق والأمر، وعنه صدر الخلق والأمر. وقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات/ 56]، فأخبر سبحانه أنَّ الغاية المطلوبة من خلقه هي عبادته التي أصلها كمال محبّته.
وهو سبحانه كما أنَّه يحب أن يُعبَد، يحبّ أن يُحمَد، ويُثنَى عليه، ويذكَر بأوصافه العلى وأسمائه الحسنى، كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث الصحيح: “لا أحدَ أحبُّ إليه المدحُ من اللَّه، ومن أجل ذلك أثنَى على نفسه” (2). وفي المسند من حديث الأسود بن سريع أنه قال: يا رسولَ اللَّه، إنّي حمدتُ ربّي بمحامد. فقال: “إنّ ربّك يحبّ الحمد” (3). فهو
__________
(1) في الأصل: “. . . ما شفيع إلَّا من بعد إذنه أفلا تذكّرون” كذا، وأسقط بعض الآية.
(2) تقدم تخريجه في ص (274).
(3) أخرجه أحمد (15585)، والبخاري في الأدب المفرد (342)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 46). والحديث ضعيف الأسناد لأنَّ مداره على علي بن زيد بن جدعان، وفي حفظه مقال، وأيضًا عبد الرحمن بن أبي بكر لم يسمع من الأسود. ورواه الحسن البصري عن الأسود عند أحمد (15586) والحسن لم يسمع من الأسود. (ز).
(2/522)
يحبّ نفسه، ومن أجل ذلك يثني على نفسه، ويحمد نفسه، ويقدّس نفسه، ويحبّ من يحبّه ويحمده ويثني عليه. بل كلّما كانت محبّةُ عبدِه له أقوى كانت محبّة اللَّه له أكمل وأتمّ. فلا أحدَ أحبُّ إليه ممن يحبّه، ويحمده، ويثني عليه.
ومن أجل ذلك كان الشركُ أبغضَ الأشياءِ إليه لأنّه ينقص هذه المحبّة، ويجعلها بينه وبين من أشرك به. ولهذا لا يغفر اللَّه أن يُشرَك به؛ لأنَّ الشرك يتضمّن نقصان هذه المحبّة، والتسوية فيها بينه وبين غيره. ولا ريب أنّ هذا من أعظم ذنوب المحبّ عند محبوبه التي ينقص (1) بها من عينه، وتنحطّ (2) بها مرتبتُه عنده إذا كان من المخلوقين، فكيف يحتمل ربّ العالمين أن يُشرَك بينه وبين غيره في المحبّة، والمخلوق لا يحتمل ذلك، ولا يرضى به، ولا يغفر هذا الذنب لمحبّه أبدًا. وعساه أن يتجاوز لمحبّه عن غيره من الهفوات (3) والزلّات في حقّه، ومتى علم بأنّه يحِبّ غيره كما يحبُّه لم يغتفر (4) له هذا الذنب ولم يقرِّبْه إليه. هذا مقتضى الطبيعة والفطرة. أفلا يستحيي العبد أن يسوّي بين إلهه ومعبوده وبين غيره في هذه العبوديّة والمحبّة؟
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة/ 165]. فأخبر سبحانه أنّ من أحبّ شيئًا دون اللَّه كما يحبّ اللَّهَ، فقد اتّخذه ندًّا. وهذا معنى قول المشركين
__________
(1) كذا في الأصل وغيره. وفي “ط”: “يسقط”.
(2) “ب”: “تسقط”. “ك”: “يسقط”. “ط”: “تنقص”.
(3) “ف”: “النفرات”، تحريف.
(4) “ط”: “لم يغفر”.
(2/523)
في النَّار (1) لمعبوديهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)} [الشعراء/ 97 – 98]. فهذه تسوية في المحبَّة والتألُّه (2)، لا في الذات والأفعال والصفات.
والمقصود أنَّه سبحانه يحبّ نفسَه أعظمَ محبَّة، ويحبُّ من يحبّه. وخلق خلقه لذلك، وشرع شرائعه وأنزل كتبه لأجل ذلك، وأعدَّ الثواب والعقاب لأجل ذلك. وهذا هو محض الحقِّ الذي به قامت السماوات والأرضِ، وكان الخلق والأمر. فإذا قامَ به العبدُ فقد جاء منه الأمر (3) الذي خُلِقَ له، فرضيَ عنه صانعه وبارئه وأحبَّه، إذ كان كما يحب ويرضى.
فإذا صدف عن ذلك، وأعرض عنه، وأبق عن مالكه وسيّده؛ أبغضه ومقته، لأنَّه خرج عمَّا خُلِقَ له، وصار إلى ضدِّ الحال التي هُيِّئ لها (4)، فاستوجب منه غضبه بدلًا من رضاه، وعقوبته بدلًا من رحمته. فكأنَّه استدعى من ربِّه (5) أن يعامله من نفسه بخلاف ما يحبّ، فإنَّه سبحانه عفوٌّ يحبُّ العفو، محسنٌ يحبّ الإحسان، جوادٌ يحبُّ الجود، سبقت رحمتُه غضبَه. فإذا أبقَ منه العبدُ، وخامرَ عليه (6) ذاهبًا إلى عدوِّه، فقد
__________
(1) “في النار” ساقط من “ك، ط”.
(2) “ط”: “التأليه”.
(3) كذا في الأصل وفي “ف، ب”. وفي “ك، ط”: “فقد قام بالأمر”.
(4) “ك، ط”: “التي هو لها”، تحريف.
(5) “ط”: “من رحمته”، خطأ.
(6) المخامرة على فلان: المؤامرة والمواطأة عليه. تعبير مولد لم يذكر في كتب اللغة. قال المصنّف في الداء والدواء (151): “بمخامرة بعض أمرائه وجنده عليه”، وفي بدائع الفوائد (1210): “متى خامر من جنود عزمك عليك =
(2/524)
استدعى منه أن يجعل غضبَه غالبًا على رحمته، وعقوبَته على إحسانه؛ وهو سبحانه يحبُّ من نفسه الإحسان والبر والإنعام، فقد استدعى من ربِّه فعلَ ما غيرُه أحبُّ إليه منه.
وهو بمنزلة عبد السَّوءِ (1) الذي يحمل أستاذَه من المخلوقين المحسنَ إليه، الذي طبيعتُه الإحسان والكرم، على خلاف مقتضى طبيعته وسجيّته. فأستاذه يحب بطبعه (2) الإحسان، وهو بإساءته ولؤمه يُكلِّفه ضدَّ طباعه، ويحمله على خلاف سجيته. فإذا راجع هذا العبدُ ما يحبُّ سيّدُه، ورجع إليه، وأقبل عليه، وأعرض (3) عن عدوِّه، فقد صار إلى الحالِ التي تقتضي محبَّة سيّده له وإنعامه عليه وإحسانَه إليه، فيفرح به -ولا بُدَّ- أعظمَ فرح، وهذا الفرحُ هو دليلٌ على (4) غاية الكمال والغنى والمجد.
فليتدبّر اللبيبُ وجود هذا الفرح ولوازمه وملزوماته يجدْ في طيِّه من المعارف الإلهية ما لا تتّسع له إلا القلوب المهيّأة لهذا الشأن المخلوقةُ له. وهذا فرحُ محسن برّ لطيف جواد غني حميد، لا فرَحُ محتاجٍ إلى حصول ما يفرح به (5)، مستكمل (6) به، مستفيد (7) له من غيره. فهو عين
__________
= واحد، لم تأمن قلب الهزيمة عليك”.
(1) “ب”: “العبد السوء”.
(2) “ب، ك، ط”: “لطبعه”.
(3) “ك، ط”: “رجع”.
(4) “على”: ساقط من “ب، ك، ط”.
(5) “ما يفرح به” ساقط من “ط”.
(6) “ب، ك، ط”: “متكمل”.
(7) “ط”: “مستقبل”، تحريف.
(2/525)
الكمالِ، لازم للكمال، ملزوم له.
وألطف من هذا الوجهِ أنَّ اللَّه سبحانه خلق عباده المؤمنين، وخلق كلَّ شيءٍ لأجلهم، كما قال تعالى (1) لصالحيهم وصفوتهم: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)} [آل عمران/ 33]، وقال تعالى لموسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)} [طه/ 41]. واتّخذ منهم الخليلين، والخلَّة أعلى درجات المحبة، وقد جاءَ في بعض الآثار: يقول تعالى (2): “ابنَ آدم خلقتُك لنفسي، وخلقتُ كلَّ شيءٍ لك، فبحقِّي عليك لا تشتغل بما خلقتُه لك عمَّا خلقتُك له” (3).
وفي أثر آخر يقول تعالى: “ابنَ آدم، خلقتُك لنفسي، فلا تلعبْ، وتكفَّلتُ برزقك، فلا تتعَبْ. ابنَ آدمَ اطلبني تجدْني، فإن وجدتني وجدتَ كلَّ شيءٍ، وإنْ فُتُّكَ فاتك كل شيءٍ، وأنا أحبّ إليك من كلِّ شيءٍ” (4).
فاللَّه سبحانه خلق عبادَه له، ولهذا اشترى منهم أنفسهم، وهذا عقدٌ لم يعقده مع خَلْقٍ غيرهم -فيما أخبر به على لسان رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- ليسلِّموا إليه النفوسَ التي خلقها له. وهذا الشِّرَى دليلٌ على أنَّها محبوبةٌ له
__________
(1) أثبت في “ط” هنا قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان/ 20]، وزاد: “وكرّمهم وفضلهم على كثيرٍ ممن خلق، فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} إلى آخر الآية [الإسراء/ 70]. ثمَّ أثبت “وقال” بين حاصرتين لتصحيح السياق.
(2) “ب”: “. . الآثار أنَّ اللَّه تعالى يقول”.
(3) ذكره المصنف في روضة المحبين (432) وشيخ الإسلام في الفتاوى (1/ 23) (ص). لم أقف عليه في مظانه، وذكره المناوي في فيض القدير (2/ 305) (ز).
(4) تقدم في ص (95).
(2/526)
مصطفاةٌ عنده، مرضيّةٌ لديه. وقدرُ السلعة يُعْرَفُ بجلالة قدر مشتريها وبمقدار ثمنها. هذا إذا جُهِلَ قدرُها في نفسها، فإذا عُرِفَ قدرُ السلعة، وعُرِفَ مشتريها، وعرف الثمن المبذول فيها، عُلِمَ شأنُها ومرتبتُها في الوجود. فالسلعة أنت، واللَّه المشتري، والثمنُ جنَّتُه والنظرُ إلى وجهه وسماعُ كلامه في دار الأمن والسلام. واللَّه سبحانه لا يصطفي لنفسه إلا أعزَ الأشياءِ وأشرفها وأعظمها قيمةً. وإذا كان قد اختار العبدَ لنفسه، وارتضاه لمعرفته ومحبته، وبنى له دارًا في جواره وقربه، وجعل ملائكته خدَمه يسعون في مصالحه في يقظته ومنامه وحياته وموته؛ ثمَّ إنَّ العبد أبق عن سيِّده ومالكه ذاهبًا عنه (1)، معرضًا عن رضاه؛ ثمَّ لم يكفه ذلك حتى خامر عليه (2)، وصالح عدوّه، ووالاه من دونه، وصارَ من جنده، مؤثرًا لمرضاته على مرضاة وليّه ومالكه = فقد باعَ نفسه -التي اشتراها منه إلهه ومالكه، وجعلَ ثمنها جنَّته والنظرَ إلى وجهه- من عدوِّه وأبغضِ خلقه إليه، واستبدل غضبَه برضاه، ولعنتَه برحمته ومحبّته. فأيّ مقت خلَّى هذا المخدوعُ عن نفسه لم يتعرّض له من ربِّه؟
قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)} [الكهف/ 50].
فتأمَّل ما تحت هذه المعاتبة وما في طيِّ هذا الخطاب من سوءِ حالِ (3) هذا العبد، وما تعرّض له من المقتِ والخزي والهوان؛ ومن
__________
(1) “ب”: “واستمرّ ذاهبًا عنه”. وهو ساقط من “ط”.
(2) فسّرناه آنفًا في ص (524).
(3) “حال” ساقط من “ك، ط”.
(2/527)
استعطافِ ربِّه واستعتابه ودعائه إيَّاه إلى العود إلى وليِّه ومولاه الحقّ الذي هو أولى به. فإذا عادَ إليه وتابَ إليه فهو بمثابة من أسرَ له العدوُّ محبوبًا له (1)، واستولوا عليه، وحالوا بينه وبينه، فهرب منهم ذلك المحبوب، وجاءَ إلى محبّه اختيارًا وطوعًا حتَّى توسّد عتبةَ بابه، فخرج المحِبّ من بيته، فوجد محبوبه متوسّدًا عتبة بابه واضعًا خدَّه وذقنَه عليها، فكيف يكون فرحه به؟ وللَّه المثل الأعلى. ويكفي في هذا المثلُ الذي ضربه رسوله لمن (2) فتح اللَّه عينَ قلبه، فأبصرَ ما في طيّه وما في ضمنه، وعلم أنَّه ليس كلام مجازفة (3) ولا مبالغة ولا تخييل، بل كلامُ معصومٍ في منطقه وعلمه وقصده وعمله. كلُّ كلمةٍ منه في موضعها ومنزلتهًا ومقزها، لا يتعدّى بها عنه، ولا يقصّر بها.
والذي يزيد هذا المعنى تقريرًا أنّ محبّة الرّب لعبده سبقَتْ محبّةَ العبد له سبحانه، فإنّه لولا محبّةُ اللَّه له لما جعَل محبّتَه في قلبه. فلمّا أحبّه ألهمه (4) حبَّه، وآثره به؛ فلمّا أحبّه العبدُ جازاه على تلك المحبّة محبّةً أعظمَ منها. فإنّه مَن تقرّب إليه شبرًا تقرّب إليه ذراعًا، ومن تقرّب إليه ذراعًا تقرّب إليه باعًا، ومن أتاه مشيًا أتاه هرولةً (5). وهذا دليل على أنّ محبّة اللَّه لعبده الذي يحبّه فوق محبّة العبد له. فإذا (6) تعرّض هذا
__________
(1) كذا ورد “له” مرتين في الأصل وغيره.
(2) “ب”: “فمن”.
(3) “ط”: “مجاز”.
(4) “ك، ط”: ” .. قلبه فإنَّه ألهمه”.
(5) كما في الصحيحين من حديث أنس رضي اللَّه عنه. انظر: صحيح البخاري، كتاب التوحيد (7405) وصحيح مسلم، كتاب التوبة (2675).
(6) “ك، ط”: “وإذا”.
(2/528)
المحبوب لمساخط حبيبه فهو بمنزلة المحبوب الذي فرّ من محبّه وآثر غيرَه عليه. فإذا عاوده، وأقبل إليه، وتخلّى عن غيره، فكيف لا يفرح به محبُّه أعظمَ فرح وأكملَه؟ والشاهد أقوى شاهد بهذا والفطرة (1) والعقل، فلو لم يخبِر الصادقُ المصدوقُ بما أخبر به من هذا الأمر العظيم لكان في الفطرة والعقل ما يشهد به، فإذا انضافت الشرعة المنزلة إلى الفطرة المكفلة (2) إلى العقل الصحيح (3) المنوّر، فذلك الذي لا غاية (4) بعده. وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم.
فصل
ومتى أراد العبد شاهِدَ هذا من نفسه فلينظر إلى الفرحة التي يجدها بعد التوبة النصوح، والسرور واللذّة التي تحصل له؛ والجزاءُ من جنس العمل. فلمّا تاب إلى اللَّه، ففرح اللَّه بتوبته، أعقبه فرحًا عظيمًا.
وههنا دقيقة قلّ من يتفطّن لها إلّا فقيه في هذا الشأن. وهي أنّ كلّ تائب لا بدّ له في أوّل توبته من عَصرة وضَغطة في قلبه، من همّ أو غمّ أو ضيق أو حزن، ولو لم يكن إلّا تألّم (5) بفراق (6) محبوبه، فينضغط لذلك وينعصر قلبه، ويضيق صدره؛ فأكثرُ الخلق رجعوا من التوبة ونُكِسوا
__________
(1) كذا في الأصل وغيره. وفي “ط”: “. . أقوى شاهد تؤيده الفطرة”.
(2) “إلى الفطرة المكملة” ساقط من “ط”.
(3) كلمة “الصحيح” ساقطة من “ط”.
(4) “ك، ط”: “غاية له”.
(5) “ف”: “تألمه”، خلاف الأصل. وكذا في “ك، ط”.
(6) “ب”: “لفراق”.
(2/529)
على رؤوسهم لأجل هذه المحنة (1). والعارف الموفّق يعلم أنّ الفرحة والسرور واللذّة الحاصلة (2) عقيبَ التوبة تكون على قدر هذه العصرة، فكلّما كانت (3) أقوى وأشدّ كانت الفرحة واللذّة أكمل وأتمّ. ولذلك أسباب عديدة:
منها: أنّ هذه العصرة والقبض دليل على حياة قلبه، وقوة استعداده، ولو كان قلبه ميّتا واستعداده ضعيفًا لم يحصل له ذلك.
وأيضًا: فإنّ الشيطان لصّ الإيمان، واللصّ إنّما يقصد المكان المعمور، وأمّا المكان الخراب الذي لا يرجو أن يظفر منه بشيء فلا يقصده. فإذا قويت المعارضات الشيطانية والعصرة دلّ على أنّ في قلبه من الخير ما يشتدّ حرص الشيطان على نزعه منه.
وأيضًا: فإنّ قوة المعارض والمضاذ تدلّ على قوة معارضه وضدّه (4)، ومثل هذا إمّا أنّ يكون رأسًا في الخير أو رأسًا في الشرّ. فإنّ النفوس الأبيّة القويّة إن كانت خيّرةً رأستْ في الخير (5)، وإن كانت شِرِّيرةً رأست في الشرّ.
وأيضًا: فإنّ بحسب مدافعته (6) لهذا العارض وصبره عليه يثمر له ذلك من اليقين والثبات والعزم ما يوجب زيادةَ انشراحه وطمأنينته.
__________
(1) “ط”: “المحبة”، تصحيف. وكذا كان في “ك”، ثمَّ عدّل.
(2) في الأصل: “الحاصل”، سهو. وكذا في “ف، ب”. والمثبت من “ك، ط”.
(3) “ب”: “كانت العصرة”.
(4) “ب”: “قوة معارضة ومضادّة”، خطأ.
(5) “أو رأسًا في الشرِّ. . . ” إلى هنا ساقط من “ب”.
(6) “ب، ك، ط”: “موافقته”، تحريف شنيع.
(2/530)
وأيضًا: فإنّه كلّما عظم المطلوب كثرت العوارض والموانع دونه. هذه سنّة اللَّه في الخلق. فانظر إلى الجنّة وعِظَمها، وإلى الموانع والقواطع التي حالت دونها حتّى أوجبَتْ أن ذهب من كلِّ ألف رجلٍ واحدٌ إليها. وانظر إلى محبّة اللَّه، والانقطاع إليه، والإنابة إليه (1)، والتبتّل إليه وحده، والأنس به، واتخاذه وليًّا ووكيلًا وكافيًا وحسيبًا؛ هل يكتسب العبد شيئًا أشرف منه؟ وانظر إلى القواطع والموانع الحائلة دونه، حتّى قد تعلّق كل قوم بما تعلّقوا (2) به دونه. والطالبون له منهم الواقف مع عمله (3)، والواقف مع علمه، والواقف مع حاله، والواقف مع ذوقِه وجمعيّته وحظِّه من ربّه؛ والمطلوبُ منهم وراء ذلك كلّه.
والمقصود أنَّ هذا الأمر الحاصل بالتوبة لما كان من أجلِّ الأمور وأعظمها نُصِبَتْ عليه المعارضاتُ والمحن، ليتميّز الصادق من الكاذب، وتقع الفتنة، ويحصل الابتلاءُ، ويتميّز من يصلح ممَّن لا يصلح (4). قال تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت/ 1 – 3] وقال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك/ 2]. ولكن إذا صبر على هذه العصرة قليلًا أفضَتْ به إلى رياضِ الأُنس وجنَّات الانشراح؛ وإنْ لم يصبر لها انقلب على وجهه. واللَّه الموفّق، لا إله غيره، ولا ربَّ سواه.
__________
(1) “إليه” ساقط من “ب”.
(2) “ب”: “قد تعلّقوا”.
(3) “ب”: “علّة”، تحريف.
(4) “ب”: “ويتميّز من لا يصلح”. فأسقط بعض الكلام.
(2/531)
والمقصود أنَّ هذا الفرح من اللَّه بتوبة عبده -مع أنَّه لم يأتِ نظيرُه في غيرها من الطاعات- دليلٌ على عِظَمِ قدرِ التوبة وفضلها عند اللَّه، وأنَّ التعبّد له بها من أشرف التعبّدات. وهذا يدلّ على أنَّ صاحبها يعود أكملَ ممَّا كان قبلها.
فهذا بعض ما احتُجَّ به لهذا القول.
وأمَّا الطائفة التي قالت: لا يعودُ إلى مثل ما كان، بل لا بدَّ أن ينقص عن حاله (1)، فاحتجّوا بأنّ الجناية تُوجب الوحشةَ وزوالَ المحبّة ونقصَ العبوديّه بلا ريب، فليس العَبد الموفر أوقاتَه على طاعة سيّده كالعبد المفرّط في حقوقه، وهذا ممّا لا يمكن جحده ومكابرته. فإذا تاب إلى ربّه ورجع إليه أثرت توبتُه تركَ مؤاخذته بالذنب والعفوَ عنه، وأمّا مقام القرب والمحبّة، فهيهات أن يعود!
قالوا: ولأنّ هذا في زمن اشتغاله بالمعصية قد فاته فيه السيرُ إلى اللَّه. فلو كان واقفًا في موضعه لفاته التقدّمُ، فكيف وهو في زمن المعصية (2) كان سيرُه إلى وراءَ وراءَ؟ فإذا تاب واستقبل سيره، فإنَّه يحتاج إلى سير جديد وقطع مسافةٍ حتّى يصل إلى الموضع الذي تأخّر منه.
قالوا: ونحن لا ننكر أنّه قد يأتي بطاعات وأعمال تبلّغه إلى منزلته، وإنّما أنكرنا أن يكون بمجرّد التوبة النصوح يعود إلى منزلته وحالته (3). وهذا ممّا لا يكون، فإنّه بالتوبة قد وجّه وجهَه إلى الطريق، فلا يصل إلى
__________
(1) “عن” ساقط من “ك، ط”.
(2) “فلو كان واقفًا. . ” إلى هنا ساقط من “ب”. وفيها: “وكان سيره إلى. . . “.
(3) “وإنَّما أنكرنا. . . ” إلى هنا ساقط من “ط”.
(2/532)
مكانه الذي رجع منه إلّا بسيرٍ مستأنَفٍ يُوصله إليه. ونحن لا ننكر أنّ العبد بعد التوبة يعمل أعمالًا عظيمةً لم يكن ليعملَها قبل الذنب تُوجب له التقدّم.
قالوا: وأيضًا فلو رجع إلى حاله التي كان عليها أو إلى أرفع منها لكان بمنزلة المداوم على الطاعة أو أحسن حالًا منه، فكيف يكون هذا؟ وأين سيرُ (1) صاحب الطاعة في زمن اشتغال هذا بالمعصية؟ وكيف يلتقي رجلان: أحدُهما سَائرٌ نحوَ المشرق، والآخرُ نحوَ المغرب، فإذا رجع أحدهما إلى طريق الآخر، والآخرُ مجدٌ على سيره، فإنّه لا يزال سابقَه ما لم يعرض له فتور أو توانٍ؟ هذا مما لَا يمكن جحده ودفعه.
قالوا: وأيضًا فمرضُ القلب بالذنوب على مثال مرضِ الجسم بالأسقام، والتوبة بمنزلة شرب الدواءِ. والمريض إذا شرب الدواءَ وصحّ، فإنه لا تعود (2) إليه قوّتُه قبل المرض؛ وإن عادت فبعدَ حين.
قالوا: وأيضًا فهذا في زمن معالجة التوبة ملبوك (3) في نفسه، مشغول بمداواتها ومعالجتها؛ وفي زمن الذنب مشغول بشهوتها. والسالم من ذلك مشغول بربّه، قد قرُبَ منه في سيره. فكيف يلحقه هذا؟
فهذا ونحوه مما احتجّت به هذه الطائفة لقولها.
__________
(1) “ط”: “مسير”.
(2) “ف”: “لا يعود”. والأصل غير منقوط.
(3) “ب”: “مكبول”، تحريف. وكان في “ك” على الصواب فغيره بعضهم. وانظر ما سلف في ص (470).
(2/533)
وجرت هذه المسألة بحضرة شيخ الإسلام ابن تيميّة، فسمعتُه يحكي هذه الأقوال الثلاثة حكاية مجزدة. فإمّا سألتُه، وإمّا سئل عن الصواب منها، فقال: الصواب أنّ من التائبين من يعود إلى مثل حاله، ومنهم من يعود أكمل مما كان (1)، ومنهم من يعود أنقص (2) ممّا كان. فإن كان بعد التوبة خيرًا ممّا كان قبل الخطيئة، وأشدّ حذرًا، وأعظم تشميرًا، وأعظم ذلًّا وخشيةً وإنابةً، عاد إلى أرفع ممّا كان. وإن كان قبل الخطيئة أكمل في هذه الأمور، ولم يعُدْ بعد التوبة إليها، عاد إلى أنقصَ ممّا كان عليه. وإن كان بعد التوبة مثل ما كان قبل الخطيئة رجع إلى مثل منزلته. هذا معنى كلامه رضي اللَّه عنه (3).
[مسألة أخرى]قلتُ: وههنا مسألةٌ، هذا الموضعُ أخصُّ المواضعِ ببيانها. وهي أنّ التائب إذا تاب إلى اللَّه توبةً نصوحًا، فهل تمُحى تلك السيئات، ويذهب لا له ولا عليه، أوإذا مُحِيتْ أُثبِت له مكان كلّ سيّئةٍ حسنةٌ؟ (4)
هذا مما اختلف الناس فيه من المفسّرين وغيرهم قديمًا وحديثًا. فقال الزجّاج: “ليس يُجعَل مكان السيئة الحسنة، لكن يجعل مكان السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة” (5).
__________
(1) “ب، ك، ط”: “يعود إلى أكمل منها”.
(2) “ب، ك، ط”: “إلى أنقص”.
(3) حكى المصنف كلام شيخ الإسلام في الداء والدواء (137)، ومدارج السالكين (1/ 368) أيضًا. وانظره بعينه في منهاج السنة (2/ 432).
(4) انظر في هذه المسألة أيضًا: مدارج السالكين (1/ 378).
(5) قول الزجاج بهذا اللفظ في معاني القرآن للنحاس (841)، وتفسير القرطبي =
(2/534)
قال ابن عطية: “يجعل أعمالهم بدل معاصيهم الأولى طاعة. فيكون ذلك سببًا لرحمة اللَّه إئاهم. قاله ابن عباس وابن جبير وابن زيد والحسن” وردّ على من قال: هو في يوم القيامة. قال: “وقد ورد حديث في كتاب مسلم من طريق أبي ذرّ يقتضي أنّ اللَّه سبحانه يوم القيامة يجعل لمن يريد المغفرة له من الموحّدين بدل سيئاته حسنات، وذكره الترمذي والطبري. وهذا تأويل سعيد بن المسيّب في هذه الآية”. قال ابن عطية: “وهو معنى كرم العفو” (1). هذا آخر كلامه.
قلت: سيأتي إن شاءَ اللَّه ذكرُ الحديث بلفظه، والكلام عليه.
قال المهدوي: “وروي معنى هذا القول عن سلمان الفارسي وسعيد ابن جبير وغيرهما”.
وقال الثعلبي: “قال ابن عبّاس وابن جريج والضحّاك وابن زيد: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان/ 70]: يبدّلهم اللَّه بقبائح (2) أعمالهم في الشرك محاسنَ الأعمال في الإسلام، فيبدّلهم (3) بالشرك إيمانًا، وبقتل المؤمنين قتلَ المشركين، وبالزنى عفّةً وإحصانًا. وقال الآخرون (4): يعني يبذل اللَّه سيّئاتهم التي عملوها في حال إسلامهم حسناتٍ يوم القيامة” (5).
__________
= (7/ 53). وانظر: معاني القرآن وإعرابه (4/ 76).
(1) المحرر الوجيز (4/ 221).
(2) “ك، ط”: “بقبيح”.
(3) “ب”: “فيبدلهم اللَّه”.
(4) ” ب، ك، ط”: “آخرون”.
(5) الكشف والبيان (4/ 433).
(2/535)
وأصل القولين أنّ هذا التبديل هل هو في الدنيا أو يوم القيامة؟ فمن قال إنه في الدنيا قال (1): هو تبديل الأعمال القبيحة والإرادات الفاسدة بأضدادها، وهي حسنات؛ وهذا تبديل حقيقة. والذين نصروا هذا القول احتجّوا بأنّ السيّئة لا تنقلب حسنةً، بل غايتها أن تُمْحى وتُكَفَّر ويذهب أثرها. فأما أن تنقلب حسنةً فلا، فإنّها لم تكن طاعة، وإنّما كانت بغيضة (2) مكروهة للربّ، فكيف تنقلب محبوبة له (3) مرضيّة؟
قالوا: وأيضًا فالذي دلّ عليه القرآن إنّما هو تكفير السيّئات ومغفرة الذنوب، كقوله: {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} [آل عمران/ 193]، وقوله: {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى/ 25]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر/ 53]. والقرآن مملوءٌ من ذلك.
وفي الصحيح من حديث قتادة، عن صفوان بن مُحرِز قال: قال رجل لابن عمر: كيف سمعتَ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول في النجوى؟ قال: سمعتُه يقول: “يُدنى المؤمن يوم القيامة من ربّه حتّى يضعَ عليه كنَفَه، فيقرّره بذنوبه، فيقول: هل تعرف؟ (4) فيقول: ربِّ أعرِفُ (5). قال: فإنّي قد سترتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم. فيعطَى صحيفةَ حسناتِه. وأمّا الكفّار والمنافقون فيُنادى بهم على رؤوس الأشهاد: هؤلاءِ الذين كذبوا على اللَّه عزّ وجلّ” (6). فهذا الحديث المتفَق عليه الذي
__________
(1) “ف”: “هل”، سهو.
(2) “ب”: “معصية”، تحريف.
(3) “له”: ساقط من “ط”.
(4) “ب”: “أتعرف ذنب كذا”.
(5) “ب”: “فكيف”.
(6) أخرجه البخاري في كتاب المظالم (2441) وغيره، ومسلم في كتاب التوبة =
(2/536)
يتضمّن (1) العنايةَ بهذا العبد إنّما فيه سترُ ذنوبه عليه في الدنيا ومغفرتُها له يوم القيامة، ولم يقل له: وأعطيُتك بكلّ سيّئة منها حسنة؛ فدل على أن غاية السيّئات مغفرتُها وتجاوزُ اللَّه عنها.
وقد قال تعالى في حقّ الصادقين: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)} [الزمر/ 35]. فهؤلاءِ خيار الخلق، وقد أخبر (2) أنّه يكفر عنهم سيئاتِ أعمالهم، ويجزيهم بأحسن ما عملوا (3)، وأحسن ما عملوا إنّما هو الحسنات لا السيّئات؛ فدلّ على أن الجزاء بالحسنى إنّما يكون على الحسنات وحدها. وأمّا السيّئات فحسبُها أن تلغى (4) ويبطلَ أثرها.
قالوا: وأيضًا فلو انقلبت السيّئات أنفسها حسناتِ في حق التائب لكان أحسن حالًا من الذي لم يرتكب منها شيئًا، وأكثرَ حسناتِ منه، لأنّه إذا (5) شاركه في حسناته التي فعلها، وامتاز عنه بتلك السيّئات، ثمّ انقلبت له حسناتٍ، ترجَّحَ عليه. وكيف (6) يكون صاحبُ السيّئات أرجحَ ممّن لا سيّئة له؟
قالوا: وأيضًا فكما أنّ العبد إذا فعل حسناتٍ، ثمّ أتى بما يُحبِطها،
__________
= (2768).
(1) “ب، ك، ط”: “تضمن”.
(2) “ك، ط”: “أخبر عنهم”.
(3) “ط”: “يعملون”.
(4) “ط”: “السيئات فان تلغى”.
(5) “ب”: “إذا أسيء”. “ك، ط”: “إذا أساء” وهي زيادة لا معنى لها.
(6) “ب”: “فكيف”.
(2/537)
فإنّها لا تنقلب سيّئاتِ يعاقَبُ عليها، بل يبطل أثرُها، ويكون لا له ولا عليه، وتكون عقوبتُه عدمَ ترتُّب ثوابِه عليها؛ فهكذا من فعل سيّئاتٍ ثمّ تاب منها، فإنّها لا تنقلب حسنات. فإن قلتم: وهكذا التائبُ يكون ثوابه عدمَ ترتُّب العقوبة على سيّئاته، لم نُنازِعْكم في هذا. وليس هذا معنى الحسنة، فإنّ الحسنة تقتضي ثوابًا وجوديًّا.
واحتجّت الطائفة الأخرى التي قالت: هو تبديل السيّئة بالحسنة حقيقة يوم القيامة بأن قالت: حقيقة التبديل إثبات الحسنة مكان السيّئة. وهذا إنّما يكون في السيّئة المحقّقة، وهي التي قد فُعِلتْ ووقَعتْ؛ فإذا بُدِّلت حسنةً كان معناه أنّها مُحِيت وأُثبتَ مكانها حسنةٌ.
قالوا: ولهذا قال سبحانه: {سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان/ 70]، فأضاف السيئات إليهم لكونهم باشروها واكتسبوها، ونكَّر الحسناتِ ولم يُضفها إليهم لأنَّها من غير صنعهم وكسبهم، بل هي مجرَّد فضل اللَّه وكرمه.
قالوا: وأيضًا فالتبديل في الآية إنَّما هو فعل اللَّه، لا فعلهم؛ فإنَّه أخبر أنَّه هو يُبدِّل سيّئاتِهم حسناتٍ. ولو كان المراد ما ذكرتم لأضافَ التبديل إليهم، فإنَّهم هم الذين بدَّلوا (1) سيّئاتهم حسنات. والأعمال إنَّما تضاف إلى فاعلها وكاسبها، كما قال تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة/ 59]. وأمَّا ما كان من غيِر الفاعل فإنَّه يجعله من تبديله هو، كما قال تعالى: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} [سبأ/ 16]. فلمَّا أخبر سبحانه أنَّه هو الذي يبدِّل سيئاتهم حسنات، دلَّ على أنَّه شيء فعله
__________
(1) “ك، ط”: “يبدّلون”.
(2/538)
هو سبحانه بسيّئاتهم، لا أنَّهم فعلوه من تلقاءِ أنفسهم، وإن كان سببُه منهم، وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح.
قالوا: ويدلّ عليه ما رواه مسلم في صحيحه (1) من حديث الأعمش، عن المعرور بن سُويد، عن أبي ذرّ قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنِّي لأعلم آخرَ أهلِ الجنَّة دخولًا الجنَّة، وآخِرَ أهل النَّارِ خروجًا منها: رجلٌ يُؤتَى به يومَ القيامة فيقال: اعرضُوا عليه صغارَ ذنوبه، وارفعوا عنه كبارَها. فتُعرَضُ عليه صغارُ ذنوبه فيقال: عملتَ يومَ كذا وكذا كذا وكذا، وعملتَ يومَ كذا وكذا كذا وكذا؟ فيقول: نعم. لا يستطيع أن يُنكر، وهو مشفِق من كبار ذنوبه أن تُعرَضَ عليه. فيقال له: فإنَّ لك مكانَ كلِّ سيئةٍ حسنةً. فيقول: ربِّ، قد عملتُ أشياءَ لا أراها ههنا” فلقد رأيتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ضحِكَ حتَّى بدَتْ نواجذُه.
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا وكيع، حدَّثنا الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذرّ قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “يؤتى بالرجل يومَ القيامة، فيقال: اعرِضوا عليه صغارَ ذنوبه. قال: فتُعرَض عليه، ويُخَبَّأ عنه كبارُها. فيقال: عملتَ يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ وهو مُقِرٌّ لا ينكر، وهو مشفِق من الكبار. فيقال: أعطُوه مكانَ كلِّ سيئةٍ عمِلَها حسنةً. قال: فيقول: إنَّ لي ذنوبًا ما أراها”. فلقد رأيتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ضحك حتَّى بدت نواجذُه (2).
قالوا: وأيضًا فروى أبو حفص المستملي، عن محمد بن عبد العزيز
__________
(1) في كتاب الإيمان (190).
(2) المسند (21393) وقال محققه: “إسناده صحيح على شرط الشيخين”. ومن طريقه أخرجه مسلم في الإيمان (190/ 315).
(2/539)
ابن أبي رِزْمة، حدثنا الفضل بن موسى القطيعي، عن أبي العنبَس، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لَيَتَمَنَّينَّ أقوامٌ أنَّهم أكثروا من السيّئات”. قيل: مَن هم؟ قال: “الذين بدّل اللَّهُ (1) سيّئاتِهم حسناتٍ” (2).
قالوا: وهؤلاء هم الأبدال في الحقيقة، فإنَّهم إنَّما سُمُّوا “أبدالًا” لأنهم بدَّلوا أعمالهم السيّئة بالأعمال الحسنة، فبدَّل اللَّهُ سيّئاتِهم التي عملوها حسناتٍ.
قالوا: وأيضًا فالجزاءُ من جنس العمل، فكما بدَّلوا هم أعمالهم السيئة بالحسنة، بدَّلها اللَّهُ من (3) صُحُفِ الحَفَظة حسناتٍ جزاءً وفاقًا.
قالت الطائفة الأولى: كيف يمكنكم الاحتجاجُ بحديث أبي ذرّ على صحّة قولكم، وهو صريح في أنَّ هذا الذي قد بُدِّلت سيّئاته حسنات قد عُذِّبَ عليها في النَّار حتَّى كان آخرَ أهلها خروجًا منها؟ فهذا قد عوقب على سيّئاته، فزال أثرُها بالعقوبة، فبُدِّل مكانَ كلّ سيّئة منها حسنةً. وهذا حكمُ غير (4) ما نحن فيه، فإنَّ الكلام في التائب من السيّئات، لا فيمن مات مصرًّا عليها غيرَ تائب منها (5)، فأين أحدهما من الآخر؟
__________
(1) لفظ الجلالة ساقط من “ط”.
(2) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (15429)، والحاكم (4/ 252) وقال: “أبو العنبس هذا سعيد بن كثير وإسناده صحيح ولم يخرجاه”. وأبو العنبس ثقة، لكن فيه كثير بن عبيد والد أبي العنبس، رضيع عائشة، تابعي سمع عائشة وروى عنه جماعة. وذكره ابن حبان في الثقات، ولا يبعد سماعه من أبي هريرة. (ز).
(3) “ف”: “في”، خلاف الأصل.
(4) “ب”: “على غير”.
(5) “منها” ساقط من “ب، ك، ط”.
(2/540)
وأمَّا (1) حديث الإمام أحمد فهو الحديث بعينه إسنادًا ومتنًا، إلا أنَّه مختصر.
وأمَّا حديث أبي هريرة فلا يثبت مثلُه. ومن أبو العنبس ومن أبوه حتّى يُقبَل منهما تفرّدُهما بمثل هذا الأمر الجليل؟ وكيف يصحّ مثل هذا الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مع شدَّة حرصه على التنفير من السيّئات، وتقبيح أهلها، وذفهم وعيبهم، والإخبار بأنَّها تنقص الحسنات وتضادّها؟ فكيف يصحّ عنه (2) -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه يقول: “ليتمنينَّ أقوام أنَّهم أكثروا منها”؟ ثمَّ كيف يتمنَّى المرءُ إكثاره منها، مع سوء عاقبتها، وسوءِ مغبّتها؟ وإنَّما يُتمنَّى الإكثارُ من الطاعات. وفي الترمذيّ مرفوعًا: “لَيتمنينَّ أقوامٌ يومَ القيامة أنَّ جلودَهم كانت تُقرَض بالمقاريض، لِما يَرون من ثواب أهل البلاءِ” (3). فهذا فيه تمنّي البلاءِ يوم القيامة لأجل مزيد ثواب أهله (4). وأمَّا تمنِّي الحسناتِ، فهذا لا ريب فيه؛ وأمَّا تمنِّي السيئات، فكيف يتمنَّى العبدُ أنَّه كان (5) أكثرَ من السيّئات؟ هذا ما لا يكون أبدًا. وإنَّما يتمنَّى المسيء أن لو لم يكن أساءَ، وأمَّا تمنّيه أنَّه
__________
(1) “ف”: “فأما”، خلاف الأصل.
(2) “ب”: “عن رسول اللَّه”.
(3) أخرجه الترمذي (2402) من حديث جابر وقال: “وهذا حديث غريب لا نعرفه بهذا الإسناد إلَّا من هذا الوجه، وقد روى بعضهم هذا الحديث عن الأعمش، عن طلحة بن مصرف، عن مسروق قوله شيئًا من هذالا. والصواب أنَّه من قول مسروق مقطوع كما أشار إليه الترمذي، وأخرجه ابن أبي شيبة (10829) وسنده صحيح إلى مسروق. وجاء من وجه آخر عن ابن مسعود موقوفًا عند ابن أبي شيبة (35590) وفيه جهالة الرجل من النخع. (ز).
(4) زاد في “ط”: “وهو تمني الحسنات”.
(5) “كان” ساقط من “ط”.
(2/541)
ازداد من إساءته، فكلَّا!
قالوا: وأمَّا ما ذكرتم من أنَّ التبديل هو إثبات الحسنة مكان السيّئه، فحقٌّ، وكذلك نقول إنَّ الحسنة المفعولة صارت في مكان السيّئة التي لولا الحسنة لحلَّت محلّها.
قالوا: وأمَّا احتجاجكم بإضافةِ السيّئاتِ إليهم، وذلك يقتضي أن تكون هي السيّئات الواقعة؛ وتنكير الحسنات، وهو يقتضي أن تكون حسناتٍ من فضل اللَّه = فهو حقٌّ بلا ريب، ولكن من أين يُنفَى (1) أن يكون فضلُ اللَّه بها مقارنًا لكسبهم إيَّاها بفضله؟
قالوا: وأمَّا قولكم: إنَّ التبديل مضاف إلى اللَّه لا إليهم، وذلك يقتضي أنَّه هو الذي بدَّلها سبحانه من الصحف، لا أنَّهم هم الذين بدَّلوا الأعمال بأضدادها؛ فهذا (2) لا دليلَ لكم فيه (3)، فإنَّ اللَّه تعالى خالق أفعال العباد، فهو المبدّل للسيّئات حسناتٍ خلقًا وتكوينًا، وهم المبدّلون لها فعلًا وكسبًا.
قالوا: وأمَّا احتجاجكم بأنَّ الجزاءَ من جنس العمل، فكما بدّلوا سيّئات أعمالهم بمحاسنهم (4)، بدَّلها اللَّهُ كذلك في صحف الأعمال؛ فهذا حقّ، وبه نقول، وأنَّه بُدِّلت السيّئات التي كانت مهيّأة معدَّة (5) أن تحلّ في الصحف بحسناتٍ حلَّت موضعها.
__________
(1) “ب، ط”: “يبقى”، تصحيف.
(2) “ب”: “وهذا”.
(3) “فيه”: ساقط من الأصل، “ف، ك”.
(4) “ب، ك، ط”: “بحسناتهم”.
(5) “ك، ط”: “ومعدة”.
(2/542)
فهذا منتهى إقدام الطائفتين، ومحطّ نظر الفريقين. وإليك أيّها المنصف الحكمَ بينهما، فقد أدلى كلّ منهما بحجّته، وقام ببيّنته (1)، والحقُ لا يعدوهما ولا يتجاوزهما (2). فأرشدَ اللَّهُ من أعانَ (3) على هدًى، فنال به درجةَ الدَّاعين إلى اللَّه القائمين ببيان حججه ودينه؛ أو عذَرَ طالبًا منفردًا في طريق مطلبه، قد انقطع رجاؤه من رفيق في الطريق، فغايةُ أمنيّته أن يُخلَّى بينه وبين سيره، وأن لا يُقطع عليه طريقُه. فمن رُفع له مثل هذا العَلَم، ولم يشمّر إليه، فقد رضي بالدون، وحصل على صفقة المغبون. ومن شمَّر إليه، ورامَ أن لا يعارضه معارض، ولا يتصدّى له ممانع، فقد منَّى نفسه المحال! وإن صبر على لأوائها وشدّتها، فهو -واللَّه- الفوز المبين والحظّ الجزيل. وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب.
فالصواب (4) -إن شاء اللَّه- في هذه المسألة أن يقال: لا ريب أنَّ الذنب نفسه لا ينقلب حسنة، والحسنة إنَّما هي أمرٌ وجوديّ يقتضي ثوابًا، ولهذا كان تارك المنهيّات إنَّما يثاب على كف نفسه وحبسها عن مواقعة المنهي، وذلك الكفّ والحبس أمرٌ وجوديّ هو (5) متعلَّق الثواب. وأمَّا من لم يخطر بباله الذنبُ أصلًا، ولم يحدّث به نفسَه، فهذا كيف يثاب على تركه؟ ولو أثيب مثلُ هذا على ترك هذا الذنب لكان مثابًا على ترك ذنوب العالم التي لا تخطر بباله، وذلك أضعاف حسناته بما
__________
(1) “ك، ط”: “أقام بينته”.
(2) “ب”: “لا يجاوزهما”.
(3) “ف”: “دل”، خلاف الأصل.
(4) “ب”: “والصواب”.
(5) “ط”: “وهو”.
(2/543)
لا يحصى، فإنَّ الترك مستصحَب معه، والمتروك لا ينحصر ولا ينضبط، فهل يثاب على ذلك كلّه؟ هذا ممَّا لا يُتوهَّم. وإذا كانت الحسنة لا بدّ أن تكون أمرًا وجوديًّا، فالتائب من الذنوب التي قد عملها (1) قد قارن كلَّ ذنب منها ندمًا عليه، وكفَّ نفسِه عنه، وعزمَه (2) على تركِ معاودته، وهذه حسنات بلا ريب، وقد محت التوبة أثرَ الذنب، وخلَفَه هذا الندم والعزمُ، وهو حسنة، فقد بُدِّلت (3) تلك السيّئةُ حسنةً. وهذا معنى قول بعض المفسِّرين: “يجعل مكان السيّئة التوبة، والحسنة مع التوبة” (4). فإذا كانت كلُّ سيّئةٍ من سيّئاته قد تاب منها، فتوبته منها حسنة حلَّت مكانها، فهذا معنى التبديل، لا أنَّ السيّئة نفسها تنقلب حسنة. ولهذا (5) قال بعض المفسّرين في هذه الآية: “يعطيهم بالندم على كلّ سيّئة أساؤوها حسنة”.
وعلى هذا فقد زالَ بحمد اللَّه الإشكالُ، واتَّضح الصوابُ، وظهر أنَّ كلَّ واحدة من الطائفتين ما خرجت عن موجَب العلم والحجّة.
وأمَّا حديث أبي ذرّ -وإن كان التبديل فيه في حقّ المصرّ الذي عُذِّب على سيئاته- فهو يدلّ بطريق الأولى على حصول التبديل للتائب المقلع النادم على سيّئاته. فإنَّ الذنوب التي عُذِّب عليها المصرُّ لمَّا زال أثرُها بالعقوبة بقيت كأن لم تكن، فأعطاه اللَّه مكان كلّ سيئة منها حسنةً، لأنَّ
__________
(1) “ط”: “التي عملها”، فحذف “قد”.
(2) “ب”: “وكفًّا عنه وعزمًا على”. “ط”: “وعزم”.
(3) “ك، ط”: “قد بدلت”.
(4) وهو قول الزجاج، كما سبق.
(5) “ولهذا” ساقط من “ك، ط”.
(2/544)
ما حصلَ له يوم القيامة من الندم المفرِط عليها مع العقوبة اقتضى (1) زوال أثرها وتبديلها حسناتٍ، فإنَّ النَّدم لم يكن في وقت ينفعه، فلمَّا عوقب عليها وزال أثرُها بدَّلها اللَّه له حسناتٍ، فزوالُ أثرها بالتوبة النصوح أعظمُ من زوال أثرها بالعقوبة، فإذا بدلت بعد زواله بالعقوبة حسناتٍ، فلأن تُبَدَّل بعد زوالها بالتوبة حسناتٍ أولى وأحرى. وتأثير التوبة في هذا المحو والتبديل أقوى من تأثير العقوبة، لأنَّ التوبة فعل اختياري أتى به العبدُ طوعًا ومحبَّة للَّه وفرَقًا منه. وأمَّا العقوبة فالتكفير بها من جنس التكفير بالمصائب التي تصيبه بغير اختياره (2)، بل بفعل اللَّه، ولا ريب أن تأثيرَ الأفعال الاختيارية التي يحبها اللَّه ويرضاها في محو أثر الذنوب (3) أعظمُ من تأثير المصائب التي تناله بغير اختياره.
ولنرجع الآن إلى المقصود، وهو الكلام على (4) ما ذكره أبو العبّاس ابن العريف في علل المقامات. فقد ذكرنا كلامَه في علَّة مقام الإرادة والكلامَ عليه، وذكرنا كلامه في مقام الزهد وقوله إنَّه من مقامات العامَّة (5)، وذكرنا أنَّ الكلامَ على ذلك من وجوه، هذا آخرُ الوجه الثاني منها (6).
الوجه الثالث أن يقال: قوله: “الزهد تعظيم للدنيا، واحتباس عن
__________
(1) “ط”: “لا يقتضي”، ولعلَّه تغيير من الناشر.
(2) “ب”: “بلا اختياره”.
(3) “ك، ط”: “محو الذنوب”. “ب”: “محو أثر الذنب”.
(4) “الكلام على” ساقط من “ط”.
(5) “والكلام عليه. . . ” إلى هنا ساقط من “ك، ط”.
(6) وقد سبق أوّله في ص (493).
(2/545)
انتقادها (1) ” إلى آخر الفصل، إن أراد به أنَّ زهده دليلٌ على (2) تعظيمه للدنيا (3) وأنَّ لها في قلبه من القدرِ والمنزلة ما يُكرِه لأجله نفسَه على تركها، أو مستلزم (4) لذلك؛ فالزهدُ (5) لا يدلُّ على هذا التعظيم، ولا يستلزمه، وإن كان من عوارض غلبات الطباع (6) التي تُذَمّ مساكنتُها وانحجابُ القلب بها. بل زهده فيها دليلٌ على خروج عظمتها (7) من قلبه، وقلَّة (8) مبالاته بها، وترك الاهتبال بشأنها؛ فكيفَ يكون هذا نقصًا بوجه؟ بلى (9)، النقص في الزهد يكون من أحد وجوه ثلاثة (10):
إمَّا (11) أن يزهد فيما ينفعه منها، ويكون قوَّةً له على سيره، ومعونةً له على سفره، فهذا نقص. فإن حقيقة الزهد هي أن تزهد فيما لا ينفعك. والورع أن تتجنَّب (12) ما قد يضرّك. فهذا الفرق بين الأمرين.
الثاني: أن يكون زهده مشوبًا إمَّا بنوع عجز أو ملالة وسآمة
__________
(1) “ط”: “عن الانتفاع بها”، تحريف غريب.
(2) “تعظيم للدنيا. . . ” إلى هنا ساقط من “ب”.
(3) “ب، ط”: “تعظيم الدنيا”. “ك”: “تعظيم للدنيا”.
(4) “ف”: “أن يستلزم”، تحريف.
(5) “ط”: “فإنّ الزهد”.
(6) “ب، ك، ط”: “الطبع”.
(7) في “ف” وغيرها: “عظمها”، ولعل صواب قراءة الأصل ما أثبت.
(8) “قلة” ساقط من “ط”.
(9) كذا في الأصل و”ف”. وفي غيرها: “بل”.
(10) “ثلاثة” ساقط من “ط”.
(11) “ط”: “أولها”.
(12) “ف”: “تجتنب”، خلاف الأصل. وكذا في “ك”.
(2/546)
وتأذّيه بها وباهلها، وتعَبِ قلبِه بشغله بها، ونحو هذا من المزهّدات فيها. كما قيل لبعضهم: ما الذي أوجبَ زهدَك في الدنيا؟ قال: قلَّةُ وفائها، وكثرةُ جفائها، وخِسَّةُ شركائها (1). فهذا زهد ناقص، فلو صفَتْ للزاهد من تلك العوارض لم يزهد فيها؛ بخلاف من كان زهده فيها لامتلاءِ قلبه من الآخرة، ورغبته في اللَّه وقربه؛ فهذا لا نقص في زهده، ولا علَّة من جهة كونه زهدًا.
الثالث: أن يشهد زهدَه ويلحظه، ولا يفنى عنه بما زهِد لأجله؟ فهذا نقص أيضًا. فالزهدُ كلّه أن تزهد في رؤية زهدك، وتغيب (2) برؤية الفضل ومطالعة المنَّة، وأن لا تقف عنده فتنقطع (3). بل أعرِضْ عنه جادًّا في سيرك، غيرَ ملتفتٍ إليه، مستصغرًا لحاله بالنسبة إلى مطلوبك (4). مع أنَّ هذه العلَّة مطردة في جميع المقامات على ما فيها، كما سيُنبّه (5) عليه إن شاء اللَّه. فإنَّ ربطَ هذا الشأن بالنصوص النبويّة والعقل الصريح والفطرة الكاملة من أهمِّ الأمور، فلا يحسن بالنَّاصح لنفسه أن يقنع فيه بمجرّد تقليد أهله، فما أكثرَ غلطهم فيه، وتحكيمَهم فيه (6) مجرَّدَ الذوق، وجَعْلَ حكمَ ذلك الذوقِ كلّيًّا عامًّا!
__________
(1) ذكره المصنف في مفتاح دار السعادة (1/ 429)، ومدارج السالكين (2/ 32).
(2) “ط”: “تغيب عنه”.
(3) “ف”: “فينقطع”، والصواب ما أثبتنا من “ب، ط”. وفي “ك”: “منقطع” تحريف.
(4) “إلى مطلوبك” سقط من “ف”.
(5) ضبط في الأصل بالياء، وفي “ب، ك، ط”: “سننته”.
(6) “فيه”: ساقط من “ب، ك، ط”.
(2/547)
فهذه ونحوها (1) من مثارات الغلط.
الوجه الرَّابع: أنَّ الزهد على أربعة أقسام:
أحدها: فرض على كل مسلم، وهو الزهد في الحرام. وهذا متى أخلَّ به انعقد سبب العقاب، فلا بدَّ من وجود مسبَّبه، ما لم ينعقد سبب آخر يضادّه.
الثاني: زهد مستحبّ، وهو على درجات في الاستحباب بحسب المزهود فيه. وهو الزهد في المكروه وفضول المباحات والتفنّن (2) في الشهوات المباحة.
الثالث: زهد الدَّاخلين في هذا الشأن، وهم المشمّرون في السير إلى اللَّه. وهو نوعان:
أحدهما: الزهد في الدنيا جملةً، وليس المراد تخليتها (3) من اليد ولا إخراجها وقعوده صِفْرًا منها، وإنَّما المراد إخراجها من قلبه بالكلّية، فلا يلتفت إليها، ولا يدعها تُساكِن قلبَه وإن كانت في يده. فليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك، وهي في قلبك؛ وإنَّما الزهد أن تتركها من قلبك، وهي في يدك. وهذا كحال الخلفاء الرَّاشدين، وعمر بن العزيز الذي يضرب بزهده المثل، مع أنَّ خزائن الأموال تحت يده، بل كحال سيّد ولد آدم -صلى اللَّه عليه وسلم- حين فُتِحَ عليه (4) من الدنيا ما فُتِحَ، ولا يزيده ذلك إلا
__________
(1) “ك، ط”: “فهذا ونحوه”، وقد سقط “نحوها” من “ب”.
(2) “ف”: “اليقين”، تصحيف.
(3) “ف”: “عليها”، تحريف. “ط”: “تخليها”.
(4) “ط”: “فتح اللَّه عليه”.
(2/548)
زهدًا فيها.
ومن هذا الأثر المشهور، وقد روي مرفوعًا وموقوفًا: “ليس الزهدُ في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعةِ المال، ولكنّ الزهدَ في الدنيا أن تكون بما في يد اللَّه أوثقَ منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أُصِبْتَ بها أرغبَ منك فيها لو أنَّها بقيتْ لك” (1).
والذي يصحّح هذا الزهد ثلاثةُ أشياء:
أحدها: علم العبد أَّنها ظلٌّ زائل، وخيالٌ زائر، وأنَّها كما قال تعالى فيها: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} [الحديد/ 20] (2).
وقال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)} [يونس/ 24].
وقال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ
__________
(1) أخرجه الترمذي (2340) وقال فيه: “هذا حديث غريب لا نعرفه إلآ من هذا الوجه. . . وعمرو بن واقد منكر الحديث”، وابن ماجه (4100)، وابن عدي في الكامل (6/ 208) من حديث أبي ذر مرفوعًا، وسنده ضعيف جدًّا. والصواب أنَّه من قول أبي مسلم الخولاني، أخرجه ابن أبي عاصم في الزهد (18) من حديث الخولاني موقوفًا عليه. (ز).
(2) أثبت الآية في “ط” من أولها: {اعْلَمُوا أَنَّمَا. . .}.
(2/549)
بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)} [الكهف/ 45].
وسمَّاها سبحانه “متاع الغرور” (1)، ونهى عن الاغترار بها، وأخبرنا عن سوءِ عاقبة المغترّين بها (2)، وحذَّرنا مثل مصارعهم، وذمّ من رضي بها واطمأنَّ إليها.
وقال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “ما لي وللدنيا! إنَّما أنا كراكبٍ قال في ظلّ شجرةٍ ثمَّ راحَ وتَرَكَها” (3).
وفي المسند عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- حديث معناه: أنَّ اللَّه جعل طعام ابن آدم وما يخرج منه مثلًا للدنيا، فإنَّه وإن قزَحه (4) وملَحه فلينظر إلى ماذا يصير! (5)
فما اغترَّ بها ولا سكن إليها إلا ذو همَّة دنيّة، وعقل حقير، وقدر خسيس!
__________
(1) في الآية المذكورة من سورة الحديد وفي سورة آل عمران (185).
(2) “بها” ساقط من “ط”.
(3) أخرجه أحمد (3709)، والترمذي (2377) وقال: “هذا حديث حسن صحيح”، وابن ماجه (4109) والحاكم (7858). والحديث صححه الترمذي والحاكم ووافقه الذهبي. (ز).
(4) “ك، ط”: “فوّحه”، تصحيف. وقزح الطعام وقزّحه: تَوبَلَه من القِزح، وهو التابل الذي يطرح في القدر كالكمّون والكزبرة ونحو ذلك. النهاية (4/ 58).
(5) ولفظ الحديث: “إن مطعم ابن آدم جُعِل مثلًا للدنيا، وإن قزَحه وملَحه، فانظروا إلى ما يصير” أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في زوائده (21239)، وابن حبان (702)، وابن أبي عاصم في الزهد (205) وغيرهم من حديث أبي بن كعب. والحديث اختلف في رفعه ووقفه، والموقوف هو الصواب. انظر: تحقيق المسند (35/ 162). (ز).
(2/550)
الثاني: علمُه أنَّ وراءها دارًا أعظمَ منها قدرًا وأجلّ خطرًا، وهي دار البقاء؛ وأنَّ نسبتها إليها كما قال النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-: “ما الدنيا في الآخرة إلا كما يُدخِل (1) أحدُكم إصبعَه في اليمّ، فلينظر بمَ ترجع؟ ” (2). فالزاهد فيها بمنزلة رجل في يده درهم زغَل قيل له: اطرحه ولك (3) عوضه مائة ألف دينار مثلًا، فألقاه من يده رجاءَ ذلك العوض، فالزاهد فيها لكمال رغبته فيما هو أعظم منها زَهِد فيها (4).
الثالث: معرفته أنَّ زهدَه فيها لا يمنعه شيئًا كُتِبَ له منها، وأنَّ حرصه عليها لا يجلُب له ما لم يُقضَ له منها. فمتى تيقّن ذلك، وصار له (5) علم اليقين، هان عليه الزهد فيها. فإنّه متى تيقَّن ذلك، وثلَج له صدرُه، وعلم أنَّ مضمونه منها (6) سيأتيه، بقي حرصه وتعبه وكدّه ضائعًا؛ والعاقل لا يرضى لنفسه بذلك.
فهذه الأمور الثلاثة تُسهّل على العبد الزهدَ فيها، وتُثبّت قدمَه في مقامه. واللَّه الموفّق لمن يشاء.
النوع الثاني (7): الزهد في نفسك، وهو أصعب الأقسام وأشقّها،
__________
(1) “ك، ط”: “يجعل”.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها (2858) من حديث المستورد بن شداد رضي اللَّه عنه.
(3) “ب، ك، ط”: “فلك”. والمثبت من “ف”. وهو أقرب إلى الأصل.
(4) “ط”: “فالزهد فيها لكمال الرغبة. . زهد فيها”!
(5) زاد في “ط” بعد “له “: “به”.
(6) “ف”: “فيها”، خطأ.
(7) من زهد المشمّرين في السير إلى اللَّه. والنوع الأول قد سلف في ص (548).
(2/551)
وأكثر الزاهدين إنَّما وصلوا إليه ولم يلِجوه (1)، فإنَّ الزاهد يسهِّل عليه الزهدَ في الحرام سوءُ (2) مغبّته وقبحُ ثمرته، وحمايةً لدينه، وصيانةً لإيمانه، وإيثارًا للّذة والنعيم على العذاب، وأنفةً من مشاركة الفساق والفجرة، وحميّةٌ من أن يستأسرَ (3) لعدوّه. ويسهِّل عليه الزهدَ في المكروهاتِ وفضولِ المباحات علمُه بما يفوته بإيثارها من اللذة والسرور الدائم والنعيم المقيم. ويسهّل عليه زهدَه في الدنيا معرفتُه بما وراءها وما يطلبه من العوض التامّ والمطلب الأعلى. وأمَّا الزهد في النفس فهو ذبحها بغير سكَين، وهو نوعان:
أحدهما وسيلة وبداية. وهو أن تميتَها، فلا تُبقيَ لها عندك من القدر شيئًا (4)، فلا تغضب لها، ولا ترضى لها، ولا تنتصر لها، ولا تنتقم لها. قد سبَّلتَ (5) عِرضَها ليوم فقرها وفاقتها، فهي أهوَنُ عليك من أن تنتصر لها، أو تنتقم لها، أو تجيبَها إذا دعتك، أو تكرمَها إذا عصتك، أو تغضبَ لها إذا ذُمَّتْ، بل هي عندك أنجسُ (6) ممَّا قيلَ فيها، أو ترفّهها
__________
(1) “ف”: “ولم يلحقوه”، تحريف.
(2) كذا في الأصلِ، وقد ضُبطَ فيه الفعل “يسهّل” بالتشديد، وهو موافق لصياغة الجملتين التاليتين. ولكن المشكل “إيثارًا” الذي وقع في آخر السطر في الأصل، و”للذة، في أول السطر التالي، فضبط ناسخ “ف”: “حماية” بالنصب ليكون ما بعدها معطوفًا عليه، ولعلّ المؤلف نصب “حماية” وما بعده على التوهم ناظرًا إلى المعنى. وفي “ب، ط”: “لسوء مغبته وقبح ثمرته وحمايةً”، ولا إشكال فيه.
(3) استأسر له: استسلم لأسره.
(4) “ط”: “فلا يبقى. . . شيء”.
(5) سئل الشيء: أباحه وجعله في سبيل اللَّه.
(6) كان النقطة في الأصل فوق الخاء، ووضع ناسخ “ف” تحت الحاء علامة الإهمال وكذا في “ب”. فقراءتهما: “أنحس”. وفي “ك، ط”: “أخسّ”، ولعلّه =
(2/552)
عمَّا فيه حظّك وفلاحك وإن كان صعبًا عليها.
وهذا وإن كان ذبحًا لها وإماتةً عن طباعها وأخلاقها، فهو عينُ حياتها وصحّتها، ولا حياة لها بدون هذا البتّة. وهذه العقبة هي آخر عقبة يُشرِف منها على منازل المقرّبين، وينحدر منها إلى وادي البقاء، ويشرب من عين الحياة، وتخلص (1) روحه من سجون المحن والبلاء وأسر الشهوات، وتتعلَّق بربِّها ومعبودها ومولاها الحق. فيا قرَّةَ عينها به! ويا نعيمها وسرورها بقربه! ويا بهجتها بالخلاص من عدوّها، ومصيرها إلى وليّها ومولاها (2) ومالك أمرها ومتولِّي مصالحها!
وهذا الزهد هو أوَّل نَقْدةٍ من مَهر الحبّ، فيا مفلسُ تأَخَّرْ!
والنوع الثاني: غاية وكمال. وهو أن تبذلها (3) للمحبوب جملةً بحيث لا تستبقي منها شيئًا، بل تزهد فيها زهدَ المحبّ في قدر خسيس من ماله، قد تعلَّقت رغبةُ محبوبه به، فهل يجد (4) من قلبه رغبةً في إمساك ذلك القدر وحبسه عن محبوبه؟ فهكذا زهد المحبّ الصادق في نفسه، قد خرج عنها، وسلَّمها لربّه، فهو يبذلها له دائمًا يتعرّض (5) منه لقبولها.
__________
= أنسب لكثرة دوران مادة الخشة في كلام المولف، ولكنّي أثبتّ ما هو أقرب إلى رسم الكلمة في الأصل.
(1) “ك، ط”: “يخلص”.
(2) “ط”: “من عدوّها و [اللجوء إلى] مولاها” لبياض كان -فيما يبدو- في أصل الناشر.
(3) في “ك، ط”: “يبذلها” و”يستبقي” و”يزهد” وهي في الأصل بالتاء.
(4) “ف”: “تجد”، تصحيف.
(5) “ك”: “متعرض”.”ط”: “بتعرض”.
(2/553)
وجميع مراتب الزهد المتقدّمة مبادٍ (1) ووسائل لهذه المرتبة، ولكن لا يصحّ إلا بتلك المراتب. فمن رامَ الوصول إلى هذه المرتبة بدون ما قبلها فمتعنٍّ (2) متمنٍّ، كمن رام الصعود إلى أعلى المنارة بلا سلَّم، كما (3) قال بعض السلف: “إنَّما حُرموا الوصول بتضييع الأصول” (4)، فمَن ضيَّع الأصولَ مُنِعَ (5) الوصول.
وإذا عُرِفَ هذا فكيف يُدَّعى أنَّ الزهد من منازل العوامّ وأنَّه نقص في طريق الخاصَّة؟ وهل الكمال إلا في الزهد، وما النقص إلا في نقصانه؟ واللَّه الموفق للصواب.
__________
(1) كذا في الأصل وغيره بتنوين الكسر، وأصله “مبادئ” بالهمزة، فلمّا سهّلها أجراها كمجارٍ.
(2) “ط”: “فتمعن”، تحريف.
(3) “كما” ساقط من “ب، ك، ط”.
(4) كذا نقله شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (11/ 212). وهو من كلام محمد ابن أبي الورد المتوفى سنة 263 هـ، وكان هو وأخوه أحمد من جلّة مشايخ العراقيين ومن جلساء الجنيد وأقرانه. ونصّ قوله كما نقله أبو نعيم: “آفة الخلق في حرفين: اشتغال بنافلة وتضييع فريضة، وعمل جوارح بلا مواطأة القلب. وإنّما منعوا الوصول بتضييع الأصول”. انظر: الحلية (10/ 336)، وصفة الصفوة (1/ 468)، وطبقات الصوفية (249).
(5) “ب، ك، ط”: “حرم”.
(2/554)
فصل
المثال الثالث (1): التوكّل.
قال أبو العبّاس: “هو للعوامّ أيضًا؛ لأنَّه كِلتُكَ أمرَك (2) إلى مولاك، والتجاؤكَ إلى علمه ومعرفته (3) لتدبير أمرك وكفاية همّك. وهذا في طريق الخواصّ عمًى عن الكفاية (4)، ورجوعٌ إلى الأسباب؛ لأنَّك رفضتَ الأسبابَ، ووقفتَ مع التوكّل، فصارَ بدلًا عن تلك الأسباب؛ فكأنَّك (5) معلَّق بما رفضتَه من حيث معتقدك الانفصال. وحقيقة التوكّل عند القوم: التوكّلُ في تخليص القلب من علّة التوكّل، وهو أن يعلم أنَّ اللَّه تعالى لم يترك أمرًا مهملًا، بل فرغ من الأشياء وقدرها. وإن اختلف
__________
(1) تقدّم من قبل المثال الأول للإرادة، والمثال الثاني للزهد، فهذا المثال الثالث للتوكل، ولكن المؤلف رحمه اللَّه كتب أولًا: “الثالث” ثمَّ ضرب عليه وكتب “الرابع”، ومشى على هذا الترقيم! وكذا في النسخ الأخرى و”ط”. ونته في حاشية “ب” على الخطأ. ولعلّ سبب الخطا أن التوكل هو الفصل الرابع في كتاب ابن العريف، والفصل الأوّل في المعرفة والعلم ولم يتكلّم عليه ابن القيّم. فلما كتب “الثالث ” -وكان مصيبًا في ذلك- ثم رجع إلى كتاب ابن العريف لينقل من كلامه رأى أنّ التوكل هو الفصل الرّابع، فضرب على الثالث وكتب “الرابع”، واللَّه أعلم.
(2) “ب”: “وكلك أمرك”. “ط”: “وكل أمرك”.
(3) محاسن المجالس: “رأفته”.
(4) “ب، ك، ط”: “الكفاية به”، وهو وهم فإنَّ رسم “الكفاية” في الأصل “اللفابه” والنقطة التي تحت الكلمة هي نقطة الفاء لكلمة “فكأنك” في السطر التالي. فظنها ناسخ نقطة الباء وقرأ: “به”.
(5) “ب، ك، ط”: “فإنك”. والصواب قراءة “ف”. وكذا في المجالس.
(2/555)
منها شيء في المعقول (1)، أو تشوّش في المحسوس، أو اضطرب في المعهود، فهو المدبّر له، وشأنه سَوقُ المقادير إلى المواقيت. والمتوكّل من أراح نفسه من كدِّ (2) النظر في مطالعة السبب، سكونًا إلى ما سبق من القسمة، مع استواء الحالين عنده، وهو أن يعلم أنَّ الطلبَ لا يجمع، والتوكّل لا يمنع. ومتى طالع بتوكّله عرَضًا (3) كان توكّلُه مدخولًا، وقصدُه معلولًا. فإذا خلص من رقّ هذه الأسباب، ولم يلاحظ في توكّله سوى خالص حقِّ اللَّه، كفاه اللَّه تعالى كلَّ مهمٍّ”.
ثمَّ ذكر حكايةَ عن موسى -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه في رعايته نام عن غنمه، فاستيقظ، فوجد الذئب واضعًا عصاه على عاتقه يرعاها، فعجب من ذلك، فأوحى اللَّه إليه: “يا موسى، كن لي كما أريد، أكن لك كما تريد” (4).
فيقال: الكلام على هذا من وجوه:
أحدها: أنَّ جعلَه التوكّلَ من منازل العوامّ باطلٌ كما تقدّم، بل الخاصّة أحوَج إليه من العامَّة، وتوكّل الخواصّ أعظم من توكّل العوامّ.
__________
(1) “ب، ك، ط”: “العقول”، والمثبت من “ف” والمجالس. وقد سبق أنّ رأس الميم يكاد يخفى أحيانًا في رسم الأصل.
(2) “ك، ط”: “كلّ”. وفي المجالس: “عن كد”.
(3) في المجالس: “عوضًا”.
(4) محاسن المجالس (79 – 80). وقد نقل المصنف معظم كلام ابن العريف هذا بلفظه في مدارج السالكين (3/ 471 – 472) دون نسبته إليه، ثمَّ ردّ عليه. وقال في بدائع الفوائد (767): “وقد ذكرنا حقيقة التوكل وفوائده وعظم منفعته وشدّة حاجة العبد إليه في كتاب “الفتح القدسي” وذكرنا هناك فساد من جعله من المقامات المعلولة، وأنَّه من مقامات العوام، وأبطلنا قوله من وجوه كثيرة، وبيّنا أنّه من أجلّ مقامات العارفين. . . “.
(2/556)
والتوكّلُ مصاحبٌ للصادق من أوّل قدم يضعه في الطريق إلى نهايته، وكلَّما ازداد قربُه وقوِي سيرُه ازداد توكّله. فالتوكّل مَركَبُ السائر الذي لا يتأتّى له السيرُ إلا به، ومتى نزل عنه انقطع لوقته.
وهو من لوازم الايمان ومقتضياته. قال اللَّه تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)} [المائدة/ 123]. فجعل التوكّل شرطًا في الإيمان، فدلَّ على انتفاءِ الإيمان عند انتفاء التوكّل. وفي الآية الأخرى: {وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84)} [يونس/ 84] فجعل دليل صحّة الإسلام التوكّل. وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران/ 122] فذكرُ اسم الإيمان هاهنا دون سائر أسمائهم دليلٌ على استدعاءِ الإيمان للتوكّل، وأنَّ قوَّة التوكّل وضعفه بحسب قوَّة الإيمان وضعفه. فكلَّما (1) قوي إيمان العبد كان توكّله أقوى، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكّل، وإذا كان التوكّل ضعيفًا فهو دليل على ضعف الإيمان ولا بدّ.
واللَّه تعالى يجمع بين التوكّل والعبادة، وبين التوكّل والإيمان، وبين التوكّل والتقوى (2)، وبين التوكّل والإسلام، وبين التوكّل والهداية.
فأمَّا التوكّل والعبادة، فقد جمع سبحانه بينهما في سبعة مواضع من كتابه:
__________
(1) “ب، ك، ط”: “وكلّما”.
(2) “بين التوكّل والتقوى” مؤخر في “ط” على “بين التوكّل والإسلام”، ولعلّ الناشر أو ناسخ أصله نظر إلى ترتيب الأمثلة الآتية التي قدّمت فيها أمثلة الجمع بين التوكّل والإسلام.
(2/557)
أحدها: في سورة أمّ القرآن فقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة/ 5].
الثاني: قوله حكايةً عن نبيّه (1) شعيب أنَّه قال: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} [هود/ 88].
الثالث: قوله حكاية عن أوليائه وعباده المؤمنين أنَّهم قالوا: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)} [الممتحنة/ 4].
الرابع: قوله تعالى لنبيّه محمّد -صلى اللَّه عليه وسلم-: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)} [المزمل/ 8 – 9].
الخامس: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)} (2) [هود/ 123].
السادس: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} [الحج/ 78].
السابع: قوله: {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)} [الرعد/ 30].
فهذه السبعُ مواضع (3) جمعت الأصلين: التوكّل وهو الوسيلة،
__________
(1) لفظ “نبيّه” ساقط من “ط”.
(2) ضبط “يَرجع” في “ف، ب” بالبناء للمعلوم وهي قراءة غير نافع وحفص. ثم في “ف، ك”: “يعملون” بالياء، وقرأ بها غير نافع وابن عامر وحفص. انظر: الإقناع (2/ 667).
(3) كذا في الأصل و”ف، ب”. ولعلّه ذكّر العدد لأنّ المقصود بها الآيات. وأما تحلية العدد المضاف باللام دون المضاف إليه، فعلى نحو ما جاء في حديث =
(2/558)
والإنابة وهي الغاية، فإنَّ العبد لا بدَّ له من غايةِ مطلوبة، ووسيلةٍ (1) مُوصِلة إلى تلك الغاية. فأشرفُ غاياته التي لا غاية له أجلّ منها عبادةُ ربِّه والإنابة إليه، وأعظمُ وسائله التي لا وسيلة له غيرها البتّة التوكّلُ على اللَّه والاستعانة به، ولا سبيل له إلى هذه الغاية إلا بهذه الوسيلة. فهذه أشرف الغايات، وتلك أشرف الوسائل.
وأمَّا الجمع بين الإيمان والتوكّل، ففي مثل قوله: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك/ 29]. ونظيره قوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)} [المائدة/ 23] وقوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)} [آل عمران/ 122].
وأمَّا الجمع بين التوكّل والإسلام، ففي قوله: {وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84)} [يونس/ 84].
وأمَّا الجمعُ بين التقوى والتوكّل، ففي مثل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} إلى قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)} [الأحزاب/ 1 – 3]، وقوله تعالىِ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق/ 2 – 3].
وأمَّا الجمع بين التوكّل والهداية، ففي قول (2) الرسل صلوات اللَّه وسلامه عليهم لقومهم: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا
__________
= أبي هريرة رضي اللَّه عنه: “فأتى بالألف دينارٍ”. انظر: البخاري، كتاب الكفالة (2291). وفي “ك”: “السبعة مواضع”، وفي “ط”: “السبعة المواضع”.
(1) “ف”: “فضيلة”، تحريف.
(2) “ك، ط”: “مثل قول”.
(2/559)
سُبُلَنَا} [إبراهيم/ 12]. وقال عزَّ وجلَّ لنبيّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)} [النمل/ 79]، فأمر سبحانه رسولَه (1) بالتوكّل عليه، وعقَّب هذا الأمر بما هو موجبٌ للتوكّل، مصحّحٌ له، مستدعٍ لثبوته وتحقّقه، وهو قوله: {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)}. فإنّ كون العبد على الحقِّ يقتضي تحقيق مقام التوكّل على اللَّه، والاكتفاء به، والإيواء (2) إلى ركنه الشديد. فإنَّ اللَّه هو الحقّ، وهو وليّ الحق وناصره ومؤيّده، وكافي من قام به؛ فما لصاحب الحقّ أن لا يتوكّل عليه؟ وكيف (3) يخاف وهو على الحقّ؛ كما قالت الرسل لقومهم: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [إبراهيم/ 12]، فعجبوا من تركهم التوكّلَ على اللَّه وقد هداهم، وأخبروا أنَّ ذلك لا يكون أبدًا. وهذا دليل على أنَّ الهداية والتوكّل متلازمان.
فصاحبُ الحقِّ -لعلمه بالحقّ ولِثِقته بأنَّ اللَّه وليّ الحق وناصرُه- مضطرٌّ إلى توكله على اللَّه، لا يجد بدّا من توكله. فإنَّ التوكّل يجمع أصلين: علم القلب وعمله. أمَّا علمه، فيقينه بكفايةِ وكيله، وكمال قيامه بما وكله إليه، وأنَّ غيره لا يقوم مقامه في ذلك. وأمَّا عمله، فسكونه إلى وكيله، وطمأنينته إليه، وتفويضه وتسليمه أمره إليه، ورضاه بتصرّفه له فوق رضاه بتصرّفه هو لنفسه. فبهذين الأصلين يتحقّق التوكّل، وهما جِماعه، وإن كان التوكّل أدخلَ (4) في عمل القلب من
__________
(1) “ك”: “نبيّه”، وهو ساقط من “ط”.
(2) “ب”: “والإكفاء والإيواء”. تحريف.
(3) “ب”: “فكيف”.
(4) “ك، ط”: “دخل”.
(2/560)
علمه، كما قال الإمام أحمد: “التوكّل عمل القلب” (1)؛ ولكن لا بدَّ ف يه من العلم، وهو إمَّا شرط فيه، وإمَّا جزءٌ من ماهيّته.
والمقصود أنَّ القلب متى كان على الحقِّ كان أعظمَ لطمأنينته، ووثوقه بأنَّ اللَّه وليّه وناصره، وسكونه إليه، فما له أن لا يتوكّل على ربِّه؟ وإذا كان على الباطل علمًا وعملًا أو أحدهما لم يكن مطمئنًّا واثقًا بربِّه، فإنَّه لا ضمان له عليه، ولا عهد له عنده؛ فإنَّ اللَّه سبحانه لا يتولّى الباطل ولا ينصره، ولا يُنسب إليه بوجه، فهو منقطع النسبة (2) إليه بالكليّة. فإنَّه سبحانه هو الحق (3)، وقوله الحقّ، ودينه الحقّ، ووعده حقّ، ولقاؤه حقّ، وفعله كلّه حقّ. ليس في أفعاله شيء باطل، بل أفعاله بريئة من الباطل، كما أقواله سبحانه كذلك (4). فلمَّا كان الباطل لا يتعلّق به سبحانه، بل هو مقطوع عنه (5) البتّة، كان صاحبه كذلك. ومن لم يكن له تعلّق باللَّه (6)، وكان منقطعًا عن ربّه، لم يكن اللَّه وليّه ولا ناصره ولا وكيله.
فتدبّر هذا السرّ العظيم في اقتران التوكّل والكفاية بالحقّ والهدى،
__________
(1) كذا نسبه المؤلف هنا وفي مدارج السالكين (2/ 142) إلى الإمام أحمد. وهو من كلام الجنيد فيما ذكر القشيري، قال: “وقال الجنيد في جوابات مسائل الشاميين: التوكّل عمل القلب، والتوحيد قول القلب” انظر: الرسالة (47). وقد نقله شيخ الإسلام عن القشيري في الاستقامة (1/ 209).
(2) “ك، ط”: “النسب”.
(3) “ك، ط”: “الموفق”.
(4) “ب”: “كما أقواله بريئة منه”.
(5) “عنه” ساقط من “ب، ك، ط”.
(6) “ك، ط”: “باللَّه العظيم”.
(2/561)
وارتباط أحدهما بالآخر، ولو لم يكن في هذه الرسالة إلا هذه الفائدة السَّرِيّة (1) لكانت حقيقةً أن تودَع في خزانة القلب؛ لشدَّة الحاجة إليها. واللَّه المستعان وعليه التكلان.
فظهر أنَّ التوكّل أصلٌ لجميع مقامات الإيمان والإحسان، ولجميع أعمال الإسلام، وأنَّ منزلته منها منزلة الجسد من الرأس. فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن، فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكّل. واللَّه أعلم.
الوجه الثاني: أنَّ قوله في التوكّل: “إنَّه في طريق الخواص عمًى عن الكفاية، ورجوع إلى الأسباب. . ” إلى آخر كلامه، مضمونه أنَّ التوكّل لا يتمّ إلا برفض الأسباب، والإعراض عنها جملةً؛ والتوكّل من أقوى الأسباب وأعظمها في حصول المطلوب، فكأنَّه قد رفض سببًا، وتعلق بسبب، وقد ناقض في أمره. ولهذا قال: “فصار بدلًا عن تلك الأسباب، فكأنَّك (2) تعلَّقت بما رفضتَه”. فهذه هي النكتة التي لأجلها صار التوكّل عنده من منازل العوامّ. وهذه هي عين (3) مسألة الجمع بين التوكّل والسبب، بل هذه مسألة تعليل نفس التوكّل.
فيقال: قولك: “إنَّه عمًى عن الكفاية” ليس كذلك، بل هو نظرٌ إلى نفس الكفاية وملاحظةٌ لها. ولا ريب أنَّ الكفاية من اللَّه لا تُنال إلا بأسبابها من عبوديّته، وسببُها المقتضي لها هو التوكّل، كما قال اللَّه
__________
(1) أي: الشريفة الجليلة.
(2) “ب، ك، ط”: “وكأنك”.
(3) رسمها في الأصل يشبه “غير”، وكذا في “ف” وغيرها. ولكن السياق يقتضي ما أثبتنا.
(2/562)
تعالي: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق/ 3]. أي: كافيه. فجعل التوكّل سببًا للكفاية، فربط الكفاية بالتوكل كربط سائر الأسباب بمسبباتها، فكيف يقال: “إنَّ التوكّل عمًى عن الكفاية”؟ وهل التوكّل إلا محض العبودية التي جزاؤها الكفاية، وهي لا تحصل بدونه؟ بلى (1)، العلَّة هاهنا شهود حصولها بفعلك وتوكّلك، غيرَ ناظر إلى مسبِّب الأسباب الذي أجرى عليك هذا السببَ ليوصلك به إلى الكفاية. فأولُ الأمر وآخرُه منه، فهو المنعم بالسبب والمسبَّب جميعًا؛ ولكن لا يُوجب نظرُ العبد إلى المسبِّب المنعِم بالسبب (2) قطعَ نظره عن السبب والقَيامِ به، بل الواجبُ القيامُ بالأمرين معًا.
الوجه الثالث: أنَّ قوله: “إنَّه رجوع إلى الأسباب” إن أراد به (3) أنَّه رجوع إلى سبب ينقص العبودية ويُضعِف التوكّل، فليس كذلك؛ وظاهر أنَّ الأمر ليس كذلك. وإن أراد به أنَّه رجوع إلى سبب نصبَه اللَّه مقتضيًا للكفاية منه، ورتَّب عليه جزاءً لا يحصل بدونه، فهذا حقّ؛ ولكنَّ القيام بهذا السبب محض الكمال، ونفس العبودية. وهو كجعل الإسلام والإيمان والإحسان أسبابًا مقتضيةً للفلاح والسعادة، بل كجعل سائر أعمال القلوب والجوارح أسبابًا مقتضيةً لما رُتِّب عليها من الجزاءِ، وهل الكمال إلا القيام بهذه الأسباب؟ فالأسباب التي تكون مباشرتُها نقصًا هي الأسباب التي تُضعِف التوكّل، وأمَّا أن يكون التوكّل نفسُه ناقصًا لكون التحقّق به تحقّقًا بالسبب، فقلبٌ للحقائق!
__________
(1) كذا في الأصلِ و”ف”. وفي غيرهما: “بل”. وانظر نحو ذلك في ص (546).
(2) “والمسبّب جميعًا. . . ” إلى هنا ساقط من “ب”.
(3) “به” ساقط من “ب”.
(2/563)
الوجه الرَّابع: أنَّ قوله: “لأنَّك رفضتَ الأسباب ووقفتَ مع التوكّل” إن أراد به رفض الأسباب جملةً، فهذا كما أنَّه ممتنع عقلًا وحسًّا، فهو محرَّم شرعًا ودينًا، فإنَّ رفض الأسباب بالكلية انسلاخ من العقل والدين. وإن أراد به. رفضَ الوقوف معها والوثوقِ بها، وأنَّه يقوم بها قيامَ ناظرٍ إلى مسبِّبها (1)، فهذا حقّ؛ ولكنّ النقص لا يكون في السبب ولا في القيام به، وإنَّما يكون في الإعراض عن المسبِّب تعالى، كما تقدّم. فمنعُ الأسباب أن تكون أسبابًا قدحٌ في العقل والشرع. وإثباتُها والوقوفُ معها وقطعُ النظر عن مسبِّبها قدحٌ في التوحيد والتوكّل. والقيامُ بها، وتنزيلُها منازلَها، والنظرُ إلى مسبِّبها، وتعلُّق القيام به = جمعٌ بين الأمر والتوحيد، وبين الشرع والقدر؛ وهو الكمال، واللَّه أعلم.
الوجه الخامس: قوله: “فصار التوكّل بدلًا عن تلك الأسباب”. هذا حقّ، فإنَّ التوكّل من أعظم الأسباب، ولكنَّه بدل عنها؛ كما تكون الطاعة بدلًا عن المعصية، والتوحيد بدلًا عن الشرك. فهو بدل واجب، مأمور به، مطلوب من العبد. والمذموم أن يجعل العبدُ الأسبابَ بدلًا عن التوكّل، لا أن يجعل التوكّلَ بدلًا عن الأسباب.
الوجه السادس: قوله: “فكأنَّك تعلَّقَت (2) بما رفضتَه من حيث معتقدك الانفصال” ليس كذلك، فإنَّ المرِفوض هو التعلّق بغير اللَّه والالتفات إلى سواه (3)، فهذا هو الذي رفَضه. وأمَّا الذي تعلّق به فهو
__________
(1) في “ط”: “إلى سببها”، وهو خطأ. وعطف “أنَّه يقوم” على “رفضَ”.
(2) كذا نقل هنا وفي الوجه الثاني. ولفظه في أول الفصل: “فكأنّك معلّق”.
(3) “ف”: “إلى ما سواه”، خلاف الأصل.
(2/564)
التوكّل على اللَّه، واللجأ إليه، والتفويض إليه، والاستعانة به. فقد رفَضَ المخلوقَ، وتعلَّق بالخالق، فكيف يقال: إنَّه تعلَّق بما رفضه؟
الوجه السابع: أنَّ قوله: “من حيث معتقدك الانفصال” يشير به إلى أنَّ التوكّلَ نوعُ تفرِقةٍ وانفصالٍ يشهد فيه مع اللَّه غيرَه، وهذا منافٍ للفناء في التوحيد، وأن لا يشهد مع اللَّه غيرَه أصلًا. وهذا قطب رحى السير الذي يشير إليه القوم، والعلَم الذي يشمّرون إليه، ولأجله يجعلون كلّ ما دونه من المقامات معلولًا. ولا بدَّ من فصل القول فيه بعون اللَّه وتأييده، فإنَّه نهايةُ إقدامهم وغايةُ مرماهم. فنقول وباللَّه التوفيق:
[أقسام الفناء عند السالكين]الفناء الذي يشار إليه على ألسنة السالكين ثلاثة أقسام: فناءٌ عن وجود السِّوى، وفناءٌ عن شهود السِّوى، وفناءٌ عن عبادة السِّوى وإرادته؛ وليس هنا قسم رابع (1).
فأمَّا القسم الأوَّل: فهو فناءُ القائلين بوحدة الوجود. وهو (2) فناءٌ باطل في نفسه، مستلزِم جحدَ الصانع وإنكارَ ربوبيّتِه وخلقِه وشرعِه، وهو غاية الإلحاد والزندقة. وهذا هو الذي يشير (3) إليه علماءُ الاتحادية، ويسمّونه “التحقيق”. وغاية أحدهم فيه أن لا يشهد ربًّا وعبدًا، وخالقًا ومخلوقًا، وآمرًا ومأمورًا، وطاعةً ومعصيةً؛ بل الأمرُ كلّه واحد! فيكون السالك عندهم في بدايته يشهد طاعةً ومعصيةً، ثمَّ يرتفع
__________
(1) وانظر في أقسام الفناء هذه مدارج السالكين (1/ 222).
(2) “ك، ط”: “فهو”.
(3) “ف”: “يسير”، تصحيف.
(2/565)
عن هذا الفرق الكثيف (1) عندهم (2) إلى أن يشهد الأفعال كلَّها طاعةً للَّه لا معصية فيها، وهو شهود الحكم والقدر، فيشهدها طاعةً لموافقتها الحكمَ والمشيئةَ. وهذا ناقص عندهم أيضًا إذ هو متضمن للفرق. ثمَّ يرتفع عندهم عن هذا الشهود إلى أن لا يشهد لا طاعةً ولا معصيةً، إذ الطاعة والمعصية إنَّما تكون من غيرٍ لغيرٍ، وما ثَمَّ غيرٌ. فإذا تحقَّق بشهود ذلك، وفني فيه، فقد فني عن وجود السوى. فهذا هو غاية التحقيق عندهم، ومن لم يصل إليه فهو محجوب (3)! ومن أشعارهم في هذا قول قائلهم:
وما أنت غيرُ الكون، بل أنتَ عينُه … ويَفهَم هذا السرَّ من هو ذائقُ (4)
وقولُ الآخر:
ما الأمرُ إلا نسقٌ واحدٌ … ما فيه مِن مَدحٍ ولا ذمِّ
وإنَّما العادةُ قد خصَّصَتْ … والطبعُ والشارعُ بالحُكمِ (5)
وقولُ الآخر:
__________
(1) “ك، ط”: “للكشف”، تحريف.
(2) “عندهم” ساقط من “ب”.
(3) “ب”: “محجوب عندهم”.
(4) البيت لابن إسرائيل، انظر: فوات الوفيات (3/ 383)، والفتاوى (2/ 80)، والجواب الصحيح (4/ 500). وفي الفتاوى (2/ 473): “ذائقُه”.
(5) ذكرهما المصنف في الروح (575). وقد نسبه شيخ الإسلام في الفتاوى (2/ 99) إلى القاضي تلميذ صاحب الفصوص. وقد أنشده إياه ابن عمه. وفي جامع الرسائل (1/ 105): “وكان صاحبه القاضي يقول. . . “. وانظر: الفتاوى (2/ 82، 473) و (16/ 61).
(2/566)
وما الموجُ إلا البحرُ لا شيء غيرُه … وإنْ فرَّقَتْه كثرةُ المتعدّدِ (1)
والقسم الثاني من أقسام الفناء هو الذي يشير إليه المتأخّرون من أرباب السلوك، وهو الفناءُ عن شهود السوى، مع تفريقهم بين الربّ والعبد وبين الطاعة والمعصية، وجعلِهم وجودَ الخالق غيرَ وجودِ المخلوق.
ثمَّ هم مختلفون في هذا الفناء على قولين: أحدهما: أنَّه الغاية المطلوبة من السلوك، وما دونه بالنسبة إليه ناقص، ومن هنا يجعلون المقامات والمنازل معلولة. والقول الثاني: أنَّه من لوازم الطريق لا بدّ منه للسالك، ولكنَّ البقاءَ أكمل منه. وهؤلاء يجعلونه ناقصًا ولكن لا بدَّ منه، وهذه طريقة كثير من المتقدّمين. وهؤلاء يقولون: إنَّ الكمال شهود العبودية مع شهود المعبود، فلا يغيب بعبادته عن معبوده، ولا بمعبوده عن عبادته؛ ولكن لقوَّة الوارد وضعف المحلّ وغلبة استيلاء الوارد على القلب حتَّى يملكه من جميع جهاته، يقع الفناء.
والتحقيق أنَّ هذا الفناءَ ليس بغاية، ولا هو من لوازم الطريق، بل هو عارض من عوارض الطريق يعرض لبعض السالكين دون جميعهم. وسببه أمورٌ ثلاثة:
أحدها: قصده وإرادته والعمل عليه، فإنَّه إذا علم أنَّه (2) الغاية المطلوبة شمَّر سائرًا إليه عاملًا عليه، فإذا أشرف عليه وقف معه، ونزل بِواديه، وطلَب مساكنتَه، فهؤلاء إنَّما يحصل لهم الفناءُ لأنَّ سيرَهم كان
__________
(1) ذكره شيخ الإسلام في الفتاوى (2/ 169، 372، 474) غير منسوب.
(2) “أنّه” ساقط من “ب”.
(2/567)
على (1) طلب حظّهم ومرادهم من اللَّه، وهو الفناء؛ لم يكن سيرهم على تحصيل مراد اللَّه منهم، وهو القيامُ بعبوديته والتحقّقُ بها. والسائر على طلب تحصيل مراد اللَّه منه لا يكاد الفناءُ يحلّ بساحته ولا يعتريه.
والسبب الثاني: قوَّة الوارد، بحيث يغمره، ويستولي عليه، فلا يبقى فيه متَّسَعٌ لغيره أصلًا.
السبب الثالث: ضعف المحلّ عن احتمال ما يَرِدُ عليه. فمن هذه الأسباب الثلاثة يعرض الفناء.
ولمَّا رأى الصادق (2) في طريقه السالكُ إلى ربِّه أنَّ أكثر أصحاب الفرق محجوبون عن هذا المقام، مشتَّتون في أودية الفرق؛ وشهدوا نقصهم، ورأوا ما هم فيه من الفناءِ أكملَ = ظنُّوا أنَّه لا كمال وراء ذلك، وأنَّه الغاية المطلوبة؛ فمن هنا جعلوه غاية.
ولكن أكمل من ذلك وأعلى وأجلّ هو القسم الثالث، وهو الفناءُ عن عبادةِ السوى، وإرادتِه، ومحبّتِه (3)، وخشيتِه، ورجائِه، والتوكّلِ عليهِ، والسكون إليه. فيفنى بعبادة ربِّه ومحبته وخشيته ورجائه، وبالتوكّل (4) عليه. وبالسكون إليه، عن عبادة غيره وعن محبّته ورجائه والتوكّل عليه، مع شهود الغير ومعاينته. فهذا أكمل من فنائه عن عبودية الغير ومحبته، مع عدم شهوده له وغَيبته عنه. فإنَّه إذا (5) شهد الغيرَ في مرتبته
__________
(1) “على” سقطت من “ط”، واستدركت في القطرية.
(2) “الصادق” ساقط من “ب”.
(3) “ومحبته” سقطت من “ط”، واستدركت في القطرية.
(4) “ط”: “والتوكل”.
(5) “ك، ط”: “فإذا” مكان “فإنّه إذا”.
(2/568)
أوجبَ شهودُه له زيادةً في محبّة معبوده وتعظيمًا له وهروبًا إليه وضنًّا (1) به، فإنَّ نظر المحبّ إلى مُناوئ محبوبه ومُضادّه (2) يوجب زيادَة حبّه له. وفي هذا المعنى قال القائل:
وإذا نظرتُ إلى أميري زادني … حُبًّا له نظري إلى الأُمراء (3)
وكان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول في دعائه: “اللهم لك أسلمتُ وبك آمنتُ، وعليك توكلتُ، وإليك أنبتُ، وبك خاصمتُ، وإليك حاكمتُ” (4). وفي سجوده: “اللهمّ لك سجدتُ، وبك آمنتُ” (5) وكذلك في ركوعه: “اللهمّ لك ركعتُ، وبك آمنتُ” (6). فهذا دعاءُ من قد جمع بين شهود عبوديته وشهود معبوده، ولم يغب بأحدهما عن الآخر. وهل هذا إلّا كمال العبوديّة: أن يشهد ما يأتي به من العبودية موجِّهًا لها إلى المعبود الحق، مُحْضِرًا لها بين يديه، متقرّبًا بها إليه. فأمّا الغَيبة عنها بالكلّية، بحيث تبقى الحركات كأنّها طبيعية غير واقعة بالإرادة، فهذا وإن كان أكملَ من حال الغائب بشهود عبوديّته عن معبوده، فحال الجامع بين شهود العبودية والمعبود أكملُ منهما. وإذا عرفت هذه القاعدة ظهر أنّ تعليلَه التوكّلَ بما ذكر تعليلٌ باطلٌ.
__________
(1) في الأصل والنسخ الأخرى: “ظنًّا”!
(2) “ك، ط”: “مبادي محبوبه. . “.”ب”: “مبادي محبوبه ومصادره”، تحريف.
(3) البيت لعديّ بن الرقاع العاملي في ديوانه (162). وفيه وفي التمثيل والمحاضرة (68): “ضنًّا به” مكان “حبًّا له”. وقد ذكره المؤلف في الصواعق (865) أيضًا.
(4) تقدم تخريجه (73).
(5) من حديث علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه. أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها (771).
(6) المصدر السابق.
(2/569)
الوجه الثامن: أن التوكّل على اللَّه نوعان: أحدهما: توكّلٌ عليه في تحصيل حظّ العبد من الرزق والعافية وغيرها (1). والثاني: توكّلٌ عليه في حصول (2) مرضاته سبحانه. فأمّا النوع الأول فغايته المطلوبة وإن لم تكن عبادةً -لأنّها محض حظّ العبد (3) – فالتوكّل على اللَّه في حصوله عبادة، فهو منشأٌ لمصلحة دينه ودنياه. والنوع (4) الثاني فغايته عبادة، وهو في نفسه عبادة؛ فلا علَّة فيه بوجه، فإنَّه استعانة باللَّه على ما يرضيه. فصاحبه متحقِّق بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)}، فتركُه تركٌ لشطر الإيمان، والعلَّة إنَّما هي في ضعف هذا التوكّل. فهبْ أنَّ التوكّل في حصول الحظّ معلول، أفيلزم (5) من هذا أن يكون التوكّل في حصول مراد الرب تعالى ومرضاته معلولًا؟
الوجه التاسع: قوله: “وحقيقةُ التوكّل عند القوم: التوكّلُ في تخليص القلب (6) من علّة التوكّل”. فيقال: إذا كان هذا التوكّل عندك ليس بمعلول، ولا هو عمًى عن الكفاية، ولا رجوع إلى الأسباب بعد رفضها؛ بطل تعليلك التوكّل (7) بما علَّلْته به. وإن كانت هذه العلّة بعينها موجودةً في هذا التوكّل بطل أن يكون علَّةً، فلزم بطلان (8) كونه معلولًا
__________
(1) “ط”: “غيرهما”.
(2) “ط”: “تحصيل”.
(3) “من الرزق. . . ” إلى هنا ساقط من “ب”.
(4) “ط”: “وأمّا النوع”.
(5) “ك، ط”: “فيلزم” دون همزة الاستفهام قبله.
(6) “ط”: “القلوب”، خطأ.
(7) “ب، ك، ط”: “تعليل التوكّل”.
(8) “ف”: “فيلزم”، خلاف الأصل.
(2/570)
على التقديرين. وظهر أنَّ العلَّة في التوكّل لا تخرج عن أحد شيئين: إمَّا أن يكون متعلَّقه حظًّا من حظوظك، وإمَّا وقوفك معه وركونك إليه فقط. فإذا خلص التوكّل من هذا وهذا فلا علَّةَ تلحقه، ولا نقيصةَ تدركه.
الوجه العاشر: أنَّ علَّة التوكّل عنده هي ترك التوكّل كما فسَّره، فكيف يتوكّل في ترك التوكّل؟ وهل هذا إلا جمعٌ بين متضادّين؟
الوجه الحادي عشر: قوله: “وهو أن تعلم (1) أنَّ اللَّه تبارك وتعالى لم يترك أمرًا مهملًا، بل فرغ من الأشياء وقدرها. وإن اختلف منها شيء في المعقول (2)، أو تشوّش في المحسوس، أو اضطرب في المعهود؛ فهو المدبِّر له، وشأنُه سَوقُ المقادير إلى المواقيت. والمتوكّل من أراح نفسه من كدِّ النظر في مطالعة السبب، سكونًا إلى ما سبق من القسمة، مع استواءِ الحالين عنده” إلى آخر كلامه.
فيقال: هو سبحانه فرغ من الأشياء وقدرها بأسبابها المفضية إليها (3)، فكما أنَّ المسبَّبات من قدره الذي فرغ منه، فأسبابها أيضًا من قدره الذي فرغ منه؛ فتقديره المقادير بأسبابها لا ينافي القيامَ بتلك الأسباب، بل يتوقّف حصولُها عليها. وقد سئل النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقيل له: أرأيتَ أدويةً نتداوى بها، ورُقًى نسترقي بها، هل تَرُدُّ مِن قدرِ اللَّه شيئًا؟ فقال: “هي من قدر اللَّه” (4). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَعُلِمَ أَهلُ الجنَّة والنَّار؟ فقال:
__________
(1) كذا في الأصل، “ف، ب”. وقد سبق في أول الفصل بصيغة الغائب، وكذا في “ك، ط”.
(2) “ف” وغيرها و”ط”: “العقول”. وانظر التعليق على الكلمة في أول الفصل (551).
(3) “ف”: “المقتضية لها”، خلاف الأصل.
(4) أخرجه ابن ماجه (3437)، والترمذي (2065) و (2065 – م) و (2148) من =
(2/571)
“نعم”. قالوا: ففيمَ العمل؟ قال: “اعملوا فكلٌّ مُيسَّرٌ لما خُلِقَ له” (1). فأمرهم بالأعمال، وأخبرهم أنَّ اللَّه يسَّر كلَّ عبدٍ لما خُلِقَ له، فجعل عملَه سببًا لنيل ما خُلِقَ له من الثواب والعقاب؛ فلا بدَّ من إثبات السبَب والمسبّب جميعًا.
الوجه الثاني عشر: قوله: “المتوكّل من أراح نفسه من كدِّ النظر في مطالعة السبب، سكونًا إلى ما سبق من القسمة، مع استواءِ الحالين عنده”. فهذا الكلام إن أُخِذَ على إطلاقه فهو باطل قطعًا، فإنَّ السكون إلى ما سبق من القسمة وترك السبب في أعمال البِرّ عينُ العجز وتعطيلٌ للأمر (2) والشرع؛ ولا يجوز شرعًا ولا عقلًا التسوية بين الحالين. وأمَّا السكون إلى ما سبق من القسمة في أسباب المعيشة فهو حقٌّ، ولكنّ الكمال أن يكون ساكنًا إلى ما سبق مع قيامه بالسبب (3)، وهذه حال الكُمَّل (4) من الصحابة ومَن بعدهم. فالكمال هو تنزيل الأسباب منازلَها علمًا وعملًا، لا الإعراضُ عنها ومحوُها، ولا الانتهاءُ إليها والوقوفُ عندها.
__________
= حديث أبي خزامة عن أبيه. قال الترمذي عقب (2065): “هذا حديث حسن”. وقال عقب (2065 – م): وقد روي عن ابن عيينة كلتا الروايتين وقال بعضهم: عن أبي خزامة، عن أبيه. وقال بعضهم: عن ابن أبي خزامة، عن أبيه. وقال بعضهم: عن أبي خزامة، عن أبيه. وهذا أصح، ولا نعرف لأبي خزامة عن أبيه غير هذا الحديث. (ز).
(1) سبق تخريجه (150).
(2) “ك، ط”: “الأمر”.
(3) “بالسبب” ساقط من “ك، ط”.
(4) “ط”: “الكملة”.
(2/572)
الوجه الثالث عشر: قوله: “مع استواءِ الحالين عنده، وهو أن يعلم أنَّ الطلب لا يجمع، والتوكّل لا يمنع” يشير به إلى استواءِ الحالين في مباشرة السبب وتركِه نظرًا إلى ما سبق. وهذا ليس بمأمور ولا مقدور (1)، فإنَّه لا تستوي الحالتان شرعًا ولا قدرًا، وكيف يستوي ما لم يسوِّه اللَّهُ شرعًا ولا قدرًا؟ (2)
الوجه الرَّابع عشر: قوله: “الطلب لا يجمع، والتوكّل لا يمنع”. فقد تبيّن (3) أنَّ التوكّل لا ينافي الطلب، بل حقيقةُ التوكّل وكمالُه: مقارنتُه للطلب ومصاحبتُه للسبب. وأمَّا توكُّلٌ مجرَّدٌ عن الطلب والسبب، فعجزٌ وأمانيّ! فتوكّل الحرَّاث إنَّما هو بعد شقِّ الأرض وبذرها، وحينئذٍ يصح منه التوكّل في طلوع الزرع. وأمَّا توكّلُه من غير حرث ولا بذر، فعجز وبطالة.
الوجه الخامس عشر: قوله: “ومتى طالع بتوكّله عرضًا كان توكّله مدخولًا وقصدُه معلولًا. فإذا خلص من رقّ هذه الأسباب، ولم يلاحظ في توكّله سوى خالص حقِّ اللَّه، كفاه اللَّه كلَّ مهمّ” (4). فيقال: التوكّل يكون في أحد شيئين: إمَّا في حصول حظّ العبدِ ورزقه ونصره وعافيته، وإمَّا في حصول مراد ربِّه منه، وكلاهما عبادة مأمور بها، والثاني أكمل من الأوَّل بحسب المتوكَّل فيه. ولكن توكّله في الأوَّل لا يكون معلولًا من حيث هو توكّل، وإنَّما تكون علَّته أنه صرف توكّلَه إلى ما
__________
(1) “ك، ط”: “معذور”، تحريف.
(2) “وكيف يستوي. . . ” إلى هنا ساقط من “ف”.
(3) “ك، ط”: “بيّن”.
(4) “ك، ط”: “كفاه كل مهم”.
(2/573)
غيرُه (1) أولى بالتوكّل منه. وهذا إنَّما يكون نقصًا إذا أضعَفَ توكّلَه في الأمر ومرادِ اللَّه منه. وأمَّا إن لم يُضعِفْه بل أعطى كلَّ مقام حقَّه من التوكّل، فهذا محضُ العبوديّة. واللَّه أعلم.
__________
(1) “ط”: “أن صرف توكله إلى غيره. . ” عبارة لا معنى لها.
(2/574)
فصل
المثال الرَّابع (1): الصبر.
قال أبو العباس: “وهو من منازل العوامّ أيضًا؛ لأنَّ الصبر حبسُ النفسِ على المكروه، وعقلُ اللسان عن شكوى (2)، ومكابدةُ الغصص في تحمّله، وانتظارُ الفرج عند عاقبته. وهذا في طريق الخاصَّة تجلّد ومناوأة (3) وجرأة ومنازعة. فإنَّ حاصلَه يرجع إلى كتمان الشكوى في تحمل الأذى بالبلوى. والحقيقةُ (4): الخروجُ عن الشكوى بالتلذّذ بالبلوى، والاستبشارُ باختيار المولى. وقيل: إنَّه على ثلاث مقامات مرتّبة بعضُها فوق بعض:
فالأوَّل: التصبّر. وهو تحمُّل مشقَّةٍ، وتجرُّع غصّةٍ في الثبات (5) على ما يجري من الحكم. وهذا هو التصبّر للَّه، وهو صبر العوامّ.
والثاني: الصبر، وهو نوعُ سهولةٍ تُخفِّف على (6) المبتلى بعضَ الثقل، وتسهّل عليه صعوبةَ المراد. وهو الصبر للَّه (7)، وهو صبر
__________
(1) في الأصل وغيره: “الخامس”، وهو خطأ تقدّم التنبيه عليه في أول الفصل السابق (555).
(2) محاسن المجالس: “شكواه”.
(3) في المجالس: “مقاومة”، وذكر المحقق أنّ في نسخة: “مغاواة”، ولعلّ صوابها: “مقاواة”.
(4) “ط”: “وتحقيقه”.
(5) “ط”: “والثبات”.
(6) في “ب” والقطرية: “عن”.
(7) في المجالس: “الصبر باللَّه”.
(2/575)
المريدين.
والثالث: الاصطبار. وهو التلذّذ بالبلوى، والاستبشار باختيار المولى. وهذا هو الصبر على اللَّه، وهو صبر العارفين” (1).
والكلام على هذا من وجوه:
أحدها: أن يقال: الصبر نصف الدين، فإنَّ الإيمان نصفان: نصفٌ صبر، ونصف شكرٌ. قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)} [سبأ/ 19] وقال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “والذي نفسي بيده، لا يقضي اللَّه للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له: إن أصابته سرَّاءُ شكرَ، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاءُ صبرَ، فكان خيرًا له. وليس ذِلك إلا للمؤمن ” (2) فمنازل الإيمان كلُّها بين الصبر والشكر. والذي يوضِّح هذا:
الوجه الثاني: وهو أنَّ العبد لا يخلو قطُّ (3) من أن يكون في نعمة أو بليّة. فإن كان في نعمة ففرضُها الشكر والصبر. أمَّا الشكر فهو قيدها وثباتها والكفيلُ بمزيدها. وأمَّا الصبر فعن مباشرة الأسباب التي تسلُبها، وعلى القيام بالأسباب التي تحفظُها؛ فهو أحوجُ إلى الصبرِ فيها من حاجة المبتلى.
ومن هنا يعلم سرّ مسألة الغنيّ الشاكر والفقير الصابر (4) وأنَّ كلًّا
__________
(1) محاسن المجالس (80 – 81).
(2) أخرجه مسلم في كتاب الرقائق والزهد، باب المؤمن أمره كلّه خير (2999) من حديث صهيب رضي اللَّه عنه.
(3) انظر في استعمال “قطّ” ما سلف في ص (431).
(4) عقد المؤلف بابًا كاملًا في هذه المسألة في كتابه عدة الصابرين (285).
(2/576)
منهما محتاج إلى الشكر والصبر، وأنَّه قد يكون صبرُ الغنيّ أكملَ من صبر الفقير، كما قد يكون شكر الفقير أكمل من شكر الغنيّ. فليس التفضيل بينهما بالغنى ولا بالفقر، وإنَّما هو بالأعمال (1). فأفضلهما أعظمُهما شكرًا وصبرًا، فإن فضل أحدُهما في ذلك فضل صاحبُه. فالشكر مستلزم للصبر لا يتمّ إلا به. والصبر مستلزم للشكر لا يتمّ إلا به. فمتى ذهب الشكر ذهب الصبر، ومتى ذهب الصبر ذهب الشكر.
وإن كان في بليّة ففرضها الصبر والشكر أيضًا. أمَّا الصبر فظاهر، وأمَّا الشكر فللقيام بحقّ اللَّه عليه في تلك البليّة. فإنَّ للَّه على العبد عبوديّةً في البلاء، كما له عليه عبوديةٌ في النعماءِ، وعليه أن يقوم بعبوديته في هذا وهذا، فعُلِمَ أنَّه لا انفكاك له عن الصبر ما دام سائرًا إلى اللَّه.
الوجه الثالث: أنَّ الصبر ثلاثة أقسام: إمَّا صبرٌ عن المعصية فلا يرتكبها، وإمَّا صبرٌ على الطاعة حتَّى يؤدّيها، وإمَّا صبرٌ على البليّة فلا يشكو ربَّه فيها. وإذا (2) كان العبد لابدَّ له من واحد من هذه الثلاث (3)، فالصبر لازم له أبدًا، لا خروجَ له عنه البتة.
الوجه الرَّابع: أنَّ اللَّه تعالى ذكر الصبر في كتابه في نحو تسعين موضعًا (4)، فمرَّةً أمر به، ومرَّةً أثنى على أهله، ومرَّةً أمر نبيَّه أن
__________
(1) “من شكر الغني. . ” إلى هنا ساقط من “ط”.
(2) في “ط”: “وإن”، وصحح في القطرية.
(3) كذا في الأصل وغيره. وفي “ط”: “الثلاثة”. وقد غيّر بعضهم في “ك” في النصّ ليكون “الثلاثة”.
(4) كذا نقله المؤلف في مدارج السالكين (2/ 183) عن الإمام أحمد. وعنه في المدارج أيضًا (1/ 174) قال: “أو بضعًا وتسعين”. وانظر أيضًا: عدة الصابرين (115)، والفتاوى (10/ 39). وهي ثلاثة ومائة موضع حسب المعجم =
(2/577)
يبشّرهم (1)، ومرَّةً جعله شرطًا في حصول النصر والكفاية، ومرَّةً أخبر أنَّه مع أهله. وأثنى به على صفوته من العالمين، وهم أنبياؤه ورسله، فقال عن نبيّه أيوب: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)} [ص/ 44]، وقال تعالى لخاتم أنبيائه ورسله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف/ 35]. وقال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل/ 127]، وقال يوسف الصدّيق وقد قال له إخوته: {أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)} [يوسف/ 90].
وهذا يدلُّ على أنَّ الصبر من أجلّ مقامات الإيمان، وأنَّ أخصَّ النَّاس باللَّه وأولاهم به أشدُّهم قيامًا وتحقّقًا به، وأنَّ الخاصَّة أحوج إليه من العامّة.
الوجه الخامس: أنَّ الصبر سبب في حصول كلّ كمال ممكن (2)، فأكملُ الخلقِ أصبرُهم، ولم يتخلف عن أحد كمالُه الممكن إلا من ضعف صبره. فإنَّ كمال العبد بالعزيمة والثبات، فمن لم تكن (3) له عزيمة فهو ناقص، ومن كانت له عزيمة ولكن لا ثبات له عليها فهو ناقص. فإذا انضمَّ الثبات إلى العزيمة أثمرَ كلَّ مقامٍ شريفٍ وحالٍ كاملٍ، ولهذا في دعاء النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي رواه الإمام أحمد وابن حبَّان في صحيحه: “اللهمّ إنِّي أسألك الثباتَ في الأمر، والعزيمةَ على الرشد” (4). ومعلوم
__________
= المفهرس للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي.
(1) “ط”: “أن يبشر به أهله”!
(2) “ممكن”ساقط من “ط”.
(3) “ب، ك، ط”: “يكن”.
(4) أخرجه أحمد (17114)، والترمذي (3407)، والنسائي (3/ 54)، وفي =
(2/578)
أنَّ شجرة الثبات والعزيمة لا تقوم إلا على ساق الصبر، فلو علِم العبدُ الكنزَ الذي تحت هذه الأحرف الثلاثة -أعني اسم “الصبر”- لما تخلَّف عنه. قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “ما أعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسعَ من الصبر” (1). وقال عمر بن الخطّاب رضي اللَّه عنه: “خيرُ عيشٍ (2) أدركناه بالصبر” (3). وفي مثل هذا قال القائل:
نزِّهْ فؤادَكَ عن سوانا وَالْقَنا … فجنابُنا حِلٌّ لِكلِّ منزِّهِ
والصبرُ طِلَّسْمٌ لكنزِ وصالنا … مَن حَلَّ ذا الطِّلَّسْمَ فاز بكنزِه (4)
فالصبر طلَّسم على كنز السعادة، مَن حلّه ظفِر بالكنز.
__________
= الكبرى له (1227)، وابن حبان (935) من حديث شداد بن أوس. وفيه اختلاف كثير، وصوابه أنّه منقطع. وله إسناد آخر لا بأس به عند أبي نعيم في الحلية (1/ 266 – 267). (ز).
(1) أخرجه البخاري في الزكاة (1469)، ومسلم في الزكاة (1053) من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه.
(2) “خير عيش” تحرف في “ك، ط” إلى “حين غشي عليه”!
(3) نقله المصنف بهذا اللفظ في زاد المعاد (4/ 333). ونقل في عدة الصابرين (155) أثرين عن عمر رضي اللَّه عنه: أحدهما بلفظ “وجدنا خير عيشنا بالصبر”، وهو الذي أخرجه البخاري تعليقًا في كتاب الرقاق، باب الصبر عن محارم اللَّه. والآخر: “أفضل عيش أدركناه بالصبر، ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريمًا”.
(4) الطلّسم: السرّ المكتوم، وقد كثر استعماله في كلام الصوفية. وأصله لفظ يوناني لكل ما هو غامض مبهم كالألغاز. انظر: القول الأصيل (153) والمعجم الوسيط. والبيتان أنشدهما المؤلف في الفوائد (30، 78)، ومدارج السالكين (3/ 235). وانظرهما على وجه آخر ضمن تسعة أبيات في المدارج (1/ 535)، وانظر البيت الثاني وحده في زاد المعاد (4/ 333).
(2/579)
الوجه السادس: قوله: “الصبرُ حبس النفس على مكروه، وعقل (1) اللسان عن الشكوى، ومكابدة الغصص في تحمّله، وانتظار الفرج عند عاقبته”.
فيقال: هذا أحد أقسام الصبر، وهو الصبرُ على البلاءِ. وأمَّا الصبر على الطاعة فقد يعرض فيه ذلك أو بعضه، وقد لا يعرض فيه، بل يتحلَّى بها ويأتي بها محبَّةً ورضًى، ومع هذا فالصبر واقع عليها، فإنَّه حبسِ النفس على مداومتها والقيام بها. قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الكهف/ 28]. وأمَّا الصبر عن المعصية فقد يعرض فيه ذلك أو بعضه، وقد لا يعرض فيه، لتمكّن (2) الصابر من قهر داعيها وغلبته.
وإذا كان ما ذكر من الأمور الأربعة إنَّما يعرض في الصبر على البلية، فقوله: “إنَّه في طريق الخاصّة تجلّد ومناوأة وجرأة ومنازعة” ليس كذلك، وإنَّما فيه التجلّد، فأين المناوأة والجرأة والمنازعة؟ وأمَّا لوازم الطبيعة من وجود ألم البلوى فلا تنقلب ولا تُعدَم، فلا يصحّ أن يقال: إنَّ وجود التألم والتجلد عليه وحبس النفس عن التسخّط واللسان عن الشكوى جرأة ومنازعة، بل هو محض العبوديّة والاستكانة وامتثال الأمر، وهو من عبودية اللَّه سبحانه المفروضة على عبده في البلاء، فالقيام بها عين كمال العبد. ولوازمُ الطبيعة لا بدَّ منها، ومن رامَ أن لا يجد البرد والحرّ (3) والجوع والعطش والألم عند تمام أسبابها وعللها
__________
(1) “ف”: “عقد”، خلاف الأصل.
(2) قراءة “ف”: “ليمكن”، والصواب ما أثبتنا من غيرها.
(3) “ب”: “الحرّ والبرد”.
(2/580)
فقد رام الممتنع. وهل ترتَّب (1) الأجر إلّا على وجود تلك الآلام والمشاق، والصبر عليها؟
وقد ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: “أشدّ النَّاس بلاءً الأنبياءُ، ثمَّ الأمثل فالأمثل” (2). وقيل له في مرضه: إنَّك لَتُوعَكُ وَعْكًا شديدًا، قال: “أجلْ، إن لي أجرَ رجلين منكم” (3) يعني في وعكه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا ريب أنَّ ذلك الوعك كان مؤلمًا (4) له -صلى اللَّه عليه وسلم-. وأيضًا فإنَّه (5) في مرض موته قال: “وارأساه! ” (6) وهذا إنَّما هو من وجود ألم الصداع. وكان يقول في غمرات الموت: “اللَّهم أعنِّي على سكرات الموت”. ويدخل يده في قدح الماء (7)، ويمسح بها وجهه من كرب الموت (8)، وهذا كلّه لتكميل أجره وزيادة رفعة درجاته -صلى اللَّه عليه وسلم-. وهل كان ذلك إلا محض العبوديّة وعين الكمال؟ وهل الجرأة والمناوأة والمنازعة إلا في ترك الصبر، وفي
__________
(1) “ب”: “يترتب”. “ط”: “يكون”.
(2) تقدم تخريجه في ص (495).
(3) أخرجه البخاري في كتاب المرضى (5647)، ومسلم في كتاب البرّ والصلة والآداب (2571) من حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه.
(4) “ك، ط”: “الوعك مؤلم”.
(5) “فإنّه” ساقط من.
(6) أخرجه البخاري في كتاب المرضى (5666) من حديث عائشة رضي اللَّه عنها.
(7) في الأصل: “القدح الماء”، وكذا في “ف”، ولعله سهو. والمثبت من “ب”.
(8) ويدخل يده. . . ” إلى هنا ساقط من “ك، ط”. والحديث أخرجه أحمد (24356) وابن ماجه (1623) والترمذي (978)، والحاكم (4386) والنسائي في الكبرى (7101، 10932) من حديث عائشة. والحديث صححه الحاكم ولم يتعقبه الذهبي، وضعفه الترمذي، وهو كما قال، لجهالة موسى بن سرجس. (ز).
(2/581)
التسخّط والشكوى؟
الوجه السابع: قوله: “فإنَّ حاصله (1) يرجع إلى كتمان الشكوى في تحمّل (2) الأذى بالبلوى، والاستبشار باختيار المولى”.
فيقال: الذي يمكن الخروج عنه هو الشكوى، وأمّا أن يخرج عن ذوق البلوى فلا يجدَه، أو يتلذَّذ بها (3)، فهذا غير ممكن، ولا هو في الطبيعة. وإنَّما الممكن أن يشاهد العبدُ في تضاعيف البلاءِ لطفَ صنع اللَّه به، وحسنَ اختياره له، وبرَّه به في حمله عنه فيخفّ عنه (4) مؤنة حمَله؛ وتشتغل النفس باستخراج لطائف صنعِ اللَّه به وبرِّه وحسنِ اختياره عن شهود حمله، فتحصل (5) له لذَّة بما شهده من ذلك.
وفوق هذا مرتبة أرفعُ منه، وهي أن يشهد أنَّ هذا مراد محبوبه، وأنَّه بمرأى منه ومستمع (6)، وأنَّه هديته إلى عبده، وخلعته التي خلعها عليه، ليرفُلَ له في أذيال التذلّل والمسكنة والتضزع لعزّته وجلاله؛ فيعلم العبد أن حقيقة المحبّة هي موافقة المحبوب في محابّه، فيحبّ ما يحبّه محبوبُه. فيحبّ العبد تلك الحال من حيث موافقة المحبوب (7)، وإن
__________
(1) “ك، ط”: “حامله”، تحريف.
(2) في الأصل: “تحامل”، ولعله سبق قلم. فالذي تقدم في أول الفصل: “تحمّل”. وهو الوارد في المجالس.
(3) “ط”: “به”، خطأ.
(4) “فيخفّ عنه” ساقط من “ط”.
(5) “ب، ك، ط”: “فيحصل”. والمثبت من “ف”.
(6) “ط”: “مسمع”.
(7) في الأصل: “المحبوبة”، ولعله سبق قلم، كما أشار ناسخ “ف” بكتابة “ب” فوق “به”. وفي “ب”: “المحبوبيّة”. وفي “ك، ط”: “موافقته لمحبوبه”.
(2/582)
كرهها من حيث الطبع البشري، فإنّ هذه الكراهة لا تنافي محبّتَه لها؛ كما يكره طبعُه الدواءَ الكريه، وهو يحبّه من وجه آخر. وهذا لا ينكر في المحبّة المتعلّقة بالمخلوق مع ضعفها وضعف أسبابها، كما قال القائل في ذلك:
أهوى هواه وبُعدي عنه يعجِبه … فالبعدُ قد صار لي في حُبِّه أرَبا (1)
وقال آخر (2):
أريدُ وصاله ويُريد هَجري … فأتركُ ما أُريد لما يُريدُ (3)
وقال آخر (4):
وأهَنْتِني فأهنتُ نفسي جاهدًا … ما مَن يَهونُ عليكِ ممّن أُكرِمُ (5)
وإنّه لَتبلغ المحبّة بالعبد إلى حيث يفنى بمراد محبوبه عن مراده هو منه. فإذا شهد مراد محبوبه أحبّه وإن كان كريهًا إليه. فهذا لا ينكَر ولكن (6) لا ينافي التألّمَ بمراد المحبوب المنافي للمحبّ وصبره عليه، بل يجتمع في حقّه الأمران.
__________
(1) من بيتين للقاضي أبي محمد المرتضى عبد اللَّه بن القاسم بن المظفر الشهرزوري (465 – 521 هـ) انظر: خريدة القصر – قسم شعراء الشام (2/ 310). وقد ذكرهما المؤلف في روضة المحبين (453) أيضًا.
(2) “ب، ك، ط”: “الآخر”.
(3) لابن المنجّم الواعظ. وقد سبق في ص (479).
(4) “ب، ط”: “الآخر”.
(5) لأبي الشيص الخزاعي من أبيات ستأتي في ص (659).
(6) “لكن” ساقط من “ط”.
(2/583)
وتقوى هذه المحبّة باستبشاره وعلمه بعاقبة تلك البلوى وإفضائها إلى غاية النعيم واللذة. فكلّما قوي علمُه بذلك، وقويت محنته لمن ذكره بابتلائه، ازداد تلذّذُه بها، مع الكراهية الطبيعية التي هي من لوازم الخلقة؛ ولا سيّما إذا علم المحبُّ الذي أحُّط الأشياءِ إليه أن يجري ذكرُه على بال محبوبه أنَّ محبوبَه قد ذكره بنوع من الامتحان، فإنّه يفرح بذكره له، وإن ساءَه ما ذكره به، كما قال القائل:
لئن ساءَني أن نلتني بمساءَة … لقد سرني أني خطرتُ ببالكا (1)
الوجه الثامن: قوله: “وهو على ثلاث مقامات مرتّبة بعضُها فوق بعض. فالأول: التصبر” إلى قوله: “وهو صبر العوام”.
فيقال: لا ريب أنّ التصبّرَ مُوذِن بتكلف وتحمل (2) على كره، ولكن هذا لا بدّ منه في الصبر، وهو سببُه الذي يُنال به. فالتصبّر من العبد، والصبر ثمرته التي يفرغها اللَّه عليه (3) إذا تعاطاه وتكففه، كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “ومَن يتصبِّر يُصبِّرْه اللَّه” (4). فمنزلة التصبّر من الصبر منزلة التعلّم والتفهم من العلم والفهم، فلابدّ منه في حصول الصبر.
__________
(1) كذا ورد البيت في الأصل وغيره وفي مدارج السالكين (2/ 198، 373). والصواب في روايته: “ببالكِ”، كما في روضة المحبين (164، 402، 583). وإغاثة اللهفان (921). وهو من قصيدة لابن الدمينة في ديوانه (17). وانظر: حماسة أبي تمام (2/ 61).
(2) “ب”: “بتحمل وتكلف”.
(3) “عليه” ساقط من “ك، ط”.
(4) من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه. وقد سبق تخريجه في ص (579).
(2/584)
الوجه التاسع: قوله: “والثاني: الصبر، وهو نوع سهولة تخفّف على المبتلى بعضَ الثقل، وتسهّل عليه صعوبةَ المراد، وهو الصبرُ للَّه، وهو صبرُ المريدين”.
فقد تقدّم أن الصبر ثمرة التصبّر، وكلاهما إنّما يُحمَد إذا كان للَّه. وإنما يكون إذا كان باللَّه، فما لم يكن به لا يكون، وما لم يكن له لا ينفع ولا يثمر؛ فكلاهما لا يحصل للمريد السالك مقصودُه إلّا أن يكون باللَّه وللَّه. قال تعالى في الصبر به: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل/ 127]. وقال في الصبر له: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الطور/ 48].
واختلف النَّاس أيّ الصبرَين أعلى وأفضل: الصبر له، أو به؟ فقالت طائفة منهم صاحبُ كتاب (1) منازل السائرين: “وأضعفُ الصبرِ الصبرُ للَّه، وهو صبر العامة. وفوقه الصبر باللَّه، وهو صبر المريد، وفوقهما الصبر على اللَّه، وهو صبر السالك” (2).
ووجه هذا القول أنَّ الصبر للَّه (3) هو صبر العابد الذي يُصبِّر نفسَه لأمر اللَّه طالبًا لمرضاته وثوابه، فهو صابر على العمل، صابر عن المحرمات. وأمَّا الصبر به فهو تبرّؤٌ من الحول والقوَّة، وإضافةُ ذلك إلى اللَّه عزَّ وجلّ وهو صبر المريد. وأمَّا الصبرُ على اللَّه فصبر السالك على ما تجيء به أقداره (4) وأحكامه.
والصواب أنَّ الصبرَ للَّه أكملُ من الصبر به، فإنَّ الصبر له متعلّق
__________
(1) “كتاب” ساقط من “ب، ك، ط”.
(2) انظر: منازل السائرين (39)، ومدارج السالكين (2/ 199).
(3) “وهو صبر المريد. . . ” إلى هنا ساقط من: “ط”.
(4) “ط”: “يجيء به متعلق أقداره”.
(2/585)
بإلهيته ومحبّته، والصبر به متعلق بربوبيته ومشيئته. وما له (1) أكملُ ممَّا به، فإنَّ ما له هو الغاية، وما به هو الوسيلة، فالصبر به وسيلة، والصبر له غاية، وبينهما من التفاوت ما بين الغايات والوسائل.
وأيضًا فإنَّ الصبر له متعلق بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، والصبر به متعلّق بقوله (2): {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)}. وهاتان الكلمتان منقسمتان بين العبد وبين اللَّه، كما ثبت عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فيما يروي عن ربه. و”إياك نعبد” هي التي للَّه، “وإياك نستعين” هي التي للعبد (3)؛ وما للَّه أكمل ممَّا للعبد، فما تعلّق بما هو له أفضل مما تعلق بما هو للعبد.
وأيضًا فالصبر له مصدره المحبة، والصبر به مصدره الاستعانة، والمحبّة أكمل من الاستعانة.
وأمَّا الصبر على اللَّه سبحانه فهو الصبر على أحكامه الدينية والكونية. فهو يرجع إلى الصبر (4) على أوامره، والصبر على ابتلائه، فليس في الحقيقة قسمًا ثالثًا (5)، واللَّه أعلم.
فقد تبيّن أنَّ الصبر بجميع أقسامه أصل مقامات الإيمان، وهو أصل كمال العبد (6) الذي لا كمال له بدونه. ولا يذَمّ منه إلا قسم واحد، وهو
__________
(1) “ط”: “وما هو له” وكذلك في الجمل اللاحقة زيد فيها “هو” بعد “ما”.
(2) “والصبر به متعلق بقوله” ساقط من “ب، ط”.
(3) نص الحديث في صحيح مسلم، كتاب الصلاة (395) عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(4) “ف”: “التصبر”.
(5) “ب”: “قسم ثالث”.
(6) “ك، ط”: “لكمال العبد”.
(2/586)
الصبر عن اللَّه سبحانه، فإنَّه صبر المعرضين المحجوبين. فالصبرُ عن المحبوب أقبح شيء وأسوؤه، وهو الذي يُسقط المحبَّ من عين محبوبه، فإنَّ المحبّ كلَّما كان أكمل محبه كان صبره عن محبوبه متعذرًا.
الوجه العاشر: قوله: “الثالث الاصطبار، وهو التلذّذ بالبلوى والاستبشار باختيار المولى. وهذا هو الصبر على اللَّه، وهو صبر العارفين”.
فيقال: الاصطبار افتعال من الصبر، كالاكتساب والاتخاذ، وهو مُشعِر بزيادة المعنى على الصبر، كأنَّه صار سجيّةً وملكةً، فإنَّ هذا البناء مُوذِن بالاتخاذ والاكتساب، قال تعالى: {فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} [القمر/ 27]. فالاصطبار (1) أبلغ من الصبر، كما أنَّ الاكتساب أبلغ من الكسب، ولهذا كان في العمل الذي يكون على صاحبه، والكسب (2) فيما له. قال تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة/ 286] تنبيهًا على أنَّ الثواب يحصل لها بأدنى سعي وكسب، وأنَّ العقاب إنَّما هو باكتسابها وتصرفها وما تعانيه.
وإذا عُلِمَ هذا فالتلذذ بالبلوى والاستبشار باختيار اللَّه سبحانه لا يخص الاصطبار (3)، بل يكون مع الصبر ومع التصبّر؛ ولكن لمَّا كان الاصطبار أبلغَ من الصبر وأقوى، كان بهذا التلذّذ والاستبشار أولى. واللَّه أعلم.
__________
(1) “ف”: “والاصطبار”، والمثبت من غيرها أقرب.
(2) “ف”: “وذلك” تحريف.
(3) “ب”: “لا يختص بالاصطبار”.
(2/587)
قاعدة الصبر عن المعصية ينشأ من أسباب عديدة:
أحدها: علمُ العبد بقبحها ورذالتها ودناءَتها، وأنّ اللَّه إنّما حرَّمها ونهى عنها صيانةً لعبده (1) وحمايةً عن الدنايا والرذائل، كما يحمي الوالدُ الشفيقُ ولدَه عما يضرّه. وهذا السبب يحمل العاقلَ على تركها، ولو لم يعلَّق عليها وعيدٌ بالعذاب.
السبب الثاني: الحياءُ من اللَّه عزّ وجل، فإنّ العبد متى علم بنظره إليه ومقامه عليه وأنّه بمرأى منه ومستمع (2)، وكان حَيًّا (3) حَيِيًّا، إستحيا من ربّه أن يتعرّض لمساخطه.
السبب الثالث: مراعاة نعمه عليك وإحسانه إليك، فإنّ الذنوب تزيل النعمَ ولا بدّ. فما أذنبَ عبدٌ ذنبًا إلّا زالت عنه نعمةٌ من اللَّه بحسب ذلك الذنب. فإن تاب وراجع رجعت إليه أو مثلُها، وإن أصرّ لم ترجع إليه. ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمةً نعمةً حتّى يُسلَب (4) النعمَ كلها، قال اللَّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد/ 11]. وأعظم النعم الإيمان، وذنبُ الزنا والسرقة وشرب الخمر وانتهاب النهبة تزيلها وتسلبها (5).
__________
(1) “لعبده” ساقط من “ك، ط”.
(2) “ط”: “مسمع”.
(3) “حيًّا” ساقط من “ك، ط”.
(4) “ك، ط”: “تسلب”.
(5) “ط”: “يزيلها ويسلبها”.
(2/588)
وقال بعض السلف (1): “أذنبتُ ذنبًا فحُرِمتُ قيامَ الليل سنةً”. وقال آخر: “أذنبتُ ذنبًا، فحُرِمتُ فهمَ القرآن”. وفي هذا (2) قيل:
إذا كنتَ في نعمةٍ فارْعَها … فإن المعاصي تُزيل النِّعَمْ (3)
وبالجملة فإنّ المعاصي نارُ النعم تأكلها، كما تأكل النارُ الحطبَ، عياذًا باللَّه من زوال نعمته وتحويل (4) عافيته.
السبب الرابع: خوف اللَّه وخشية عقابه. وهذا إنّما يثبت بتصديقه في وعده ووعيده، والإيمان به وبكتابه وبرسوله. وهذا السبب يقوى بالعلم واليقين، ويضعف بضعفهما. قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)} [فاطر/ 28]. وقال بعض السلف: “كفى بخشية اللَّه علمًا، وبالاغترار باللَّه جهلًا” (5).
السبب الخامس: محبة اللَّه سبحانه، وهي من أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه. فإنّ المحب لمن يحب مطيع (6)، وكلما قوي سلطانُ المحبة في القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى، وإنما تصدر المعصية والمخالفة من ضعف المحبّة وسلطانها.
__________
(1) “ب”: “بعض العارفين”.
(2) “ط”: “مثل هذا”.
(3) سبق في ص (134).
(4) “ب”: “تحول”.
(5) من كلام عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه وسيأتي جزء منه في ص (615). وانظر: مفتاح دار السعادة (1/ 225). (ص). أخرجه ابن المبارك في الزهد رقم (46) والطبراني في الكبير (8927). (ز)
(6) من قول محمود الوراق أو غيره، وسيأتي في ص (646).
(2/589)
وفَرْقٌ بين من يحمله على ترك معصية سيّده خوفُه من سوطه وعقوبته، وبين من يحمله على ذلك حبُّه لسيّده. وفي هذا قال عمر: “نعم العبد صهيب، لو لم يخَفِ اللَّهَ لم يعصِه” (1) يعني أنّه لو لم يخف من اللَّه لكان في قلبه من محبّة اللَّه وإجلاله ما يمنعه من معصيته. فالمحبّ الصادق عليه رقيبٌ من محبوبه يرعى قلبه وجوارحه، وعلامة صدق المحبّة شهودُ هذا الرقيب ودوامه.
وههنا لطيفة يجب التنبه لها، وهي أن المحبّة المجرّدة لا توجب هذا الأثَر ما لم تقترن بإجلال المحبوب وتعظيمه، فإذا قارنها الإجلالُ (2) والتعظيمُ أوجبت هذا الحياءَ والطاعة، وإلّا فالمحبة الخالية عنهما إنّما توجب نوعَ أُنس وانبساط وتذكّر واشتياق. ولهذا يتخلّف عنها أثرها وموجَبها (3)، ويفتّش العبد قلبَه فيرى نوع محبّة للَّه، ولكن لا تحمله على ترك معاصيه، وسبب ذلك تجرّدها عن الإجلال والتعظيم. فما عمر القلبَ شيءٌ كالمحبّة المقترنة بإجلال اللَّه وتعظيمه، وتلك من أفضل مواهب اللَّه لعبده أو أفضلها، وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء.
السبب السادس: شرفُ النفس وزكاؤها وفضلُها وأنَفتهُا وحميّتُها أن تختار الأسباب التي تحطّها وتضع قدرها، وتخفض منزلتها وتُحقَرها، وتسوّي بينها وبين السَّفِلة.
__________
(1) وهو أثر مشهور، ولكن لم يوقف له على أصل. انظر: المقاصد الحسنة (526). وانظر في تأويله: بدائع الفوائد (92) وجامع المسائل لشيخ الإسلام (3/ 315).
(2) “ط”: ” بالإجلال”.
(3) “وموجبها” ساقط من “ب”.
(2/590)
السبب السابع: قوة العلم بسوءِ عاقبة المعصية، وقبح أثرها، والضرر الناشئ منها (1): من سواد الوجه، وظلمة القلب، وضيقه وغمّه (2)، وحزنه وألمه، وانحصاره، وشدّة قلقه واضطرابه، وتمزق شمله، وضعفه عن مقاومة عدوه، وتعزيه من زينته بالثوب الذي جمّله اللَّه وزيّنه به، والعصرة التي تناله، والقسوة والحيرة في أمره، وتخلي وليّه وناصره عنه، وتوئي عدؤه المبين له، وتواري العلم الذي كان مستعذًا له عنه، ونسيان ما كان حاصلًا له أو ضعفه ولابدّ، ومرضه الذي إذا استحكم به فهو الموت ولابدّ، فإنّ الذنوب تميت القلوب (3).
ومنها: ذلّة بعد عزة.
ومنها: أنّه يصير أسيرًا في يد أعدائه بعد أن كان ملكًا متصرفًا يخافه أعداؤه.
ومنها: أنّه يضعف تأثيرُه، فلا يبقى له نفوذ في رعيَّته ولا في الخارج، فلا رعيّته تطيعه إذا أمرها، ولا ينفذ في غيرهم.
ومنها: زوال أمنه وتبدّله به مخافةً، فأخوفُ الناس أشدُّهم إساءَة.
ومنها: زوال الأنس والاستبدال به وحشةً، وكلَّما ازداد إساءةً ازداد وحشةً (4).
__________
(1) قد أفاض المصنف في بيان أضرار المعصية في الداء والدواء (85 – 169).
(2) “ب”: “وضيقه وهمه وغمه”.
(3) قال عبد اللَّه بن المبارك:
رأيتُ الذنوبَ تميتُ القلوبَ … وقد يورث الذلّ إدمانُها
انظر: زاد المعاد (4/ 203).
(4) هذه الفقرة ساقطة من “ب”.
(2/591)
ومنها: زوال الرضا واستبداله بالسخط.
ومنها: زوال الطمأنينةِ باللَّه والسكون إليه والإيواءِ عنده، واستبدال الطرد والبعد منه.
ومنها: وقوعه في بئر الحسرات. فلا يزال في حسرة دائمة، كلَّما نال لذَّةً نازعته نفسُه إلى نظيرها (1) إن لم يقضِ منها وطرًا، أو إلى غيرها إن قضى وطره منها، وما يعجز عنه من ذلك أضعافُ أضعافِ ما يقدر عليه، وكلَّما اشتدَّ نزوعُه وعرف عجزَه اشتدَّت حسرته وحزنه. فيا لها نارًا قد عُذبَ بها القلبُ في هذه الدار قبل نار اللَّه الموقَدة التي تطّلع على الأفئدة!
ومنها: فقره بعد غناه. فإنَّه كان غنيًّا بما معه من رأس مال الإيمان، وهو يتّجر به ويربح الأرباح الكثيرة؛ فإذا سُلِبَ رأسَ ماله أصبح فقيرًا معدِمًا. فإلى أن يسعى في تحصيل رأس مالٍ آخرَ بالتوبة النصوح والجدّ والتشمير، قد فاته (2) ربح كثير، بما أضاعه من رأس ماله.
ومنها: نقصان رزقه، فإنَّ العبد يُحرَم الرزقَ بالذنب يصيبه (3).
__________
(1) “ب”: “نظيرتها”.
(2) كتب في الأصل أولًا: “فإمّا أن يسعى. . . التشمير وإمّا أن لا يسعى في ذلك قد فاته” ثم ضرب على “وإما أن لا يسعى في ذلك” وأصلح “فإما” فقرأتها كما أثبت. وقرأ ناسخ “ف”: “فأنّى أن يسعى. . . “، وفي “ب، ك”: “فإما. . . وقد فاته”. وفي “ط”: “فإما أن يسعى بتحصيل. . . التشمير [وإلّا] فقد فاته”.
(3) يشير إلى ما أخرجه أحمد (22386)، وابن ماجه (4022)، وابن حبان (872)، والحاكم (1814) وغيرهم. والحديث صححه ابن حبان والحاكم وحسنه البوصيري، قلت: فيه عبد اللَّه بن أبي الجعد، فيه جهالة، ولا يدرى أسمع من ثوبان أم لا (ز).
(2/592)
ومنها: ضعف بدنه.
ومنها: زوال المهابة والحلاوة التي أُلْبِسَها (1) بالطاعة، فتبدَّل بها مهانةً وحقارةً.
ومنها: حصول البغضة والنفرة منه في قلوب الناس.
ومنها: ضياع أعز الأشياء عليه وأنفَسِها وأغلاها (2)، وهو الوقت الذي لا عوض منه، ولا يعود عليه (3) أبدًا.
ومنها: طمعُ عدوّه فيه، وظفرُه به. فإنَّه إذا رآه منقادًا له (4) مستجيبًا لما يأمره به (5) اشتدَّ طمعُه فيه، وحدَّث نفسه بالظفر به وجَعْلِه من حزبه، حتَّى يصير هو وليّه دون مولاه الحقّ.
ومنها: الطبع والرّيْن على قلبه. فإنَّ العبد إذا أذنب نُكِتَ في قلبه نكتةٌ سوداءُ، فإن تاب منها صُقِلَ قلبُه؛ وإن أذنب ذنبًا آخر نكِتَ فيه نكتةٌ أخرى، ولا تزال حتّى تعلو قلبَه؛ فذلك هو الران. قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين/ 14] (6).
__________
(1) “ك، ط”: “لبسها”.
(2) “ك، ط”: “أعلاها” بالمهملة.
(3) “ب، ك، ط”: “إليه”.
(4) “له” ساقط من “ط”.
(5) “به” ساقط من “ك، ط”.
(6) يشير إلى ما أخرجه الترمذي (3334)، وابن ماجه (4244)، وابن حبان (930)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (418) والحاكم (2/ 562) (3908) من حديث أبي هريرة. والحديث صححه الترمذي وابن حبان والحاكم والذهبي. (ز).
(2/593)
ومنها: أنَّه يُحرَم حلاوةَ الطاعة، فإذا فعلها لم يجد أثرها في قلبه من الحلاوة والقوَّة ومزيد الإيمان والعقل والرغبة في الآخرة، فإنَّ الطاعة تثمر هذه الثمرات ولابدَّ.
ومنها: أنَّها (1) تمنع قلبَه من ترحّله من الدنيا ونزوله بساحة القيامة. فإنَّ القلب لا يزال مشتَّتًا مضيعًا حتَّى يرحل من الدنيا وينزل في الآخرة، فإذا نزل فيها أقبلت إليه وفودُ التوفيق والعناية من كل جهة، واجتمع على جمع أطرافه وقضاءِ جهازه وتعبئة زاده ليوم معاده. وما لم يترحَّلْ إلى الآخرة ويحضُرْها فالتعبُ والعناءُ والتشتّت والكسل والبطالة لازمةٌ له لا محالة.
ومنها: إعراض اللَّه وملائكته وعباده عنه. فإنَّ العبد إذا أعرض عن طاعة اللَّه واشتغل بمعاصيه أعرض اللَّه عنه، فأعرضت عنه ملائكته وعبادُه؛ كما أنَّه إذا أقبل على اللَّه أقبل اللَّه عليه وأقبل بقلوب خلقه إليه.
ومنها: أنَّ الذنبَ يستدعي ذنبًا آخر، ثمّ يقوى أحدهما بالآخر، فيستدعيان ثالثًا، ثمَّ تجتمع الثلاثة، فتستدعي رابعًا، وهلّم جرًّا، حتَّى تغمره ذنوبه، وتحيط به خطيئته. قال بعض السلف: “إنَّ من ثواب الحسنةِ الحسنةَ بعدها، ومن عقوبة السيئةِ السيّئةَ بعدها”. (2).
ومنها: علمُه بفوات ما هو أحبّ إليه وخير له منها من جنسها وغير جنسها. فإنَّه لا يجمع اللَّه لعبده بين لذَّة المحرمات في الدنيا ولذَّة ما في الآخرة، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي
__________
(1) “ك، ط”: “أن”.
(2) نسبه شيخ الإسلام إلى سعيد بن جبير. انظر: مجموع الفتاوى (10/ 11).
(2/594)
حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف/ 20]. فالمؤمن لا يُذهِبُ طيّباته في الدنيا، بل لابدَّ أن يتركَ بعضَ طيّباته للآخرة. وأمَّا الكافر فلأنَّه (1) لا يؤمن بالآخرة، فهو حريص على تناول حظوظه كلها وطيّباته في الدنيا.
ومنها: علمه بأنَّ أعماله هي زاده ووسيلته إلى دار إقامته. فإن تزوّد من معصية اللَّه أوصله ذلك الزادُ إلى دار العصاة والجناة. وإن تزود من طاعته وصل إلى دار أهل طاعته وولايته.
ومنها: علمه بأنَّ عملَه هو وليُّه في قبره وأنيسُه فيه، وشفيعُه عند ربه، والمخاصم والمحاجّ عنه؛ فإن شاء جعله له، وإن شاءَ جعله عليه.
ومنها: علمه بأنَّ أعمال البرّ تنهض بالعبد، وتقوم به، وتصعد إلى اللَّه به؛ فبحسب قوَّة (2) تعلّقه بها يكون صعوده مع صعودها. وأعمالُ الفجور تهوي به وتجذبه إلى الهاوية، وتجرّه إلى أسفل سافلين؛ وبحسب قوَّة (3) تعلّقه بها يكون هبوطه معها ونزوله إلى حيث تستقرّ به (4). قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر/ 10]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف/ 40]. فلمَّا لم تفتَحْ أبواب السماء لأعمالهم بل أُغلِقت عنها، لم تفتح لأرواحهم عند المفارقة بل أغلقت عنها. وأهل الإيمان والعمل الصالح لمَّا كانت أبوابُ السماءِ مفتوحةً لأعمالهم حتى
__________
(1) “ب، ك، ط”: “فإنه”.
(2) “قوة” ساقط من “ب”.
(3) “قوة” ساقط من “ب”.
(4) “ك، ط”: “يستقر”، تصحيف.
(2/595)
وصلت إلى اللَّه سبحانه، فُتِحَتْ لأرواحهم حتى وصلت إليه سبحانه، وقامت بين يديه، فرحمها، وأمر بكتابة اسمها في علّيّين.
ومنها: خروجه من حصن اللَّه الذي لا ضيعة على من دخله. فيخرج بمعصيته منه إلى حيث يصير نهبًا للّصوص وقُطَّاع الطريق. فما الظنّ بمن خرج من حصن حصين لا تدركه فيه آفة، إلى خِرْبةٍ موحشةٍ (1) مأوى اللصوص وقطاع الطريق، فهل يتركون معه شيئًا من متاعه؟
ومنها: أنَّه بالمعصية قد تعرَّض لِمَحْقِ بَرَكتِه في كلِّ شيءٍ من أمر دنياه وآخرته. فإنَّ الطاعة تجلب للعبد بركاتِ كل شيء، والمعصية تمحق عنه كل بركة (2).
وبالجملة فآثار المعصية القبيحة أكثرُ من أن يحيط بها العبد علمًا، وآثارُ الطاعة الحسنة أكثرُ من أن يحيط بها علمًا. فخير الدنيا والآخرة بحذافيره في طاعة اللَّه، وشرّ الدنيا والآخرة بحذافيره في معصيته (3). وفي بعض الآثار يقول اللَّه تعالى: “من ذا الذي أطاعني، فشقِيَ بطاعتي؟ ومن ذا الذي عصاني، فسعدَ بمعصيتي؟ ” (4)
السبب الثامن: قِصَر الأمل، وعلمُه بسرعة انتقاله، وأنَّه كمسافر دخلَ قريةَ وهو مُزمِعٌ على الخروج منها، أو كراكب قال في ظل شجرة ثمَّ سار وتركها، فهو لعلمه بقلَّة مقامه وسرعة انتقاله حريص على ترك ما
__________
(1) زاد بعدها في “ط”: “هي”.
(2) “في كلِّ شيءٍ من أمر. . . ” إلى هنا ساقط من “ط”.
(3) “ب”: “معصية اللَّه”.
(4) أخرجه الطبري في تفسيره (16673) من حديث وهب بن منبه. (ز).
(2/596)
يُثقِلُه حملُه ويضرّه ولا ينفعه، حريص على الانتقال بخير ما بحضرته. فليس للقلب (1) أنفعُ من قِصَر الأمل، ولا أضرُّ من التسويف وطول الأمل.
السبب التاسع: مجانبة الفضول في مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه واجتماعه بالناس. فإنَّ قوَّة الداير إلى المعاصي إنَّما تنشأ (2) من هذه الفضلات، فإنَّها تطلب لها مصرفًا، فيضيق عليها المباحُ، فتتعدَّاه إلى الحرام، ومن أعظم الأشياء ضررًا على العبد بطالتُه وفراغه، فإنَّ النَّفس لا تقعد فارغة، بل إن لم يشغلها بما ينفعها شَغَلَتْه بما يضرّه ولابدّ.
السبب العاشر، وهو الجامع لهذه الأسباب كلّها، وهو (3): ثبات شجرة الإيمان في القلب. فصبر العبد عن المعاصي إنَّما هو بحسب قوَّة إيمانه، فكلَّما كان إيمانه أقوى كان صبره أتمّ، وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر. فإنَّ من باشر قلبَه الإيمانُ بقيام اللَّه عليه، ورؤيته له، وتحريمه لما حرَّم عليه، وبغضِه له، ومقتِه لفاعله؛ وباشر قلبَه الايمانُ بالثواب والعقاب والجنَّة والنَّار = امتنع منه (4) أن لا يعمل بموجَب هذا العلم. ومن ظنَّ أنَّه يقوى على ترك المخالفات والمعاصي بدون الإيمان الرَّاسخ الثابت (5)، فقد غلط. فإذا قوي سراج الإيمان في القلب، وأضاءَت جهاته كلها به، وأشرقَ نورُه في أرجائه؛ سرى ذلك النور إلى الأعضاء، وانبعث إليها، فأسرعت الإجابة لداير الإيمان، وانقادت له
__________
(1) “ط”: “للعبد”، تحريف.
(2) “ف، ب”: “ينشأ”.
(3) “وهو” ساقط من “ك، ط”.
(4) “ط”: “من”.
(5) “ب”: “الثابت الراسخ”.
(2/597)
طائعةً مذلَّلةً غيرَ متثاقلةٍ ولا كارهة، بل تفرح بدعوته حين يدعوها، كما يفرح الرجل بدعوة حبيبه المحسن إليه إلى محلّ كرامته. فهو كل وقت يرقب (1) داعيه، ويتأهَّب لموافاته. واللَّه يختص برحمته من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم.
فصل
والصبر على الطاعة ينشأ من معرفة هذه الأسباب ومن معرفة ما تجلبه الطاعة من العواقب الحميدة والآثار الجميلة. ومن أقوى أسبابها الإيمان والمحبّه، فكلَّما قوي داير الإيمان والمحبة في القلب كانت استجابته للطاعة بحسبه.
وههنا مسألة تكلَّم فيها النَّاس، وهي: أيّ الصبرين أفضل: صبرُ العبد عن المعصية، أم صبرُه على الطاعة؟
فطائفة رجَّحت الأوَّل، وقالت: الصبر عن المعصية من وظائف الصدِّيقين، كما قال بعض السلف: “أعمال البرّ يفعلها (2) البَرّ والفاجر، ولا يقوى على ترك المعاصي إلا صدِّيق” (3).
قالوا: ولأنَّ في داعي المعصية أشدّ من داعي ترك الطاعة، فإنَّ داعي المعصية داعٍ (4) إلى أمر وجوديّ تشتهيه النفس وتلتذّ به، والداير إلى
__________
(1) “ب، ك، ط”: “يترقب”.
(2) “ب”: “يعملها”.
(3) من كلام سهل بن عبد اللَّه التستري، كما في طبقات الصوفية (209)، ومجموع الفتاوى (17/ 24).
(4) “داعٍ” سقط من “ط”.
(2/598)
ترك الطاعة الكسل والبطالة والمهانة، ولا ريبَ أنَّ داعي المعصية أقوى.
قالوا: ولأنَّ العصيان قد اجتمع عليه داير النفس والشيطان (1) والهوى، وأسباب الدنيا، وقرناءُ الرجل، وطلب التشبه والمحاكاة، وميل الطبع. وكل واحد من هذه الدواعي يجذب العبد إلى المعصية، ويطلب (2) أثره؛ فكيف إذا اجتمعت وتظاهرت على القلب؟ فأيّ صبر أقوى من صبره (3) عن إجابتها؟ ولولا انَّ اللَّه يُصبّره لما تأتَّى منه الصبر. وهذا القول -كما ترى- حجَّته في غاية الظهور.
ورجّحت طائفةٌ الصبرَ على الطاعة بناءً منها على أنَّ فعل المأمورات (4) أفضل من ترك المنهيّات، واحتجّت على ذلك بنحو من عشرين حُجَّة (5). ولا ريب أن فعل المأمورات إنَّما يتم بالصبر عليها، فإذا كان فعلها أفضل كان الصبر عليها أفضل.
وفصل النزاع في ذلك أن هذا يختلف باختلاف الطاعة والمعصية، فالصبر على الطاعة العظيمة (6) الكبيرة أفضل من الصبر عن المعصية
__________
(1) “ط”: “والهوى والشيطان”.
(2) “ط”: “صبر”.
(3) “ف”: “تجذب. . . تطلب”. والأصل غير منقوط.
(4) “ك، ط”: “المأمور”.
(5) ذكر المصنف في مدارج السالكين (2/ 188) أن شيخ الإسلام كان يقول: الصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرمات وأفضل، وأن له في ذلك مصنّفًا قرره فيه بنحوِ من عشرين وجهًا. وقد ذكر في عدة الصابرين (68 – 75) عشرين وجهًا، ولكن لم يشر إلى أنّه قول شيخ الإسلام. وهكذا ذكر في الفوائد (119 – 128) قول سهل بن عبد اللَّه التستري: “إن ترك الأمر عند اللَّه أعظم من ارتكاب النهي”، ونصره بثلاثة وعشرين وجهًا.
(6) “ك، ط”: “المعظمة”.
(2/599)
الصغيرة الدنيّة، والصبر عن المعصية الكبيرة أفضل من الصبر على الطاعة الصغيرة. فصبر (1) العبد على الجهاد مثلًا أفضل وأعظم من صبره عن كثير من الصغائر، وصبره عن كبائر الإثم والفواحش أعظم من صبره على صلاة الضحى (2) وصوم يوم تطوعًا ونحوه. فهذا فصل النزاع في المسألة. واللَّه أعلم.
فصل
والصبر على البلاءِ ينشأ (3) من أسباب عديدة:
أحدها: شهود جزائها وثوابها.
الثاني: شهود تكفيرها للسّيئات ومحوها لها.
الثالث: شهود القدر السابق الجاري بها، وأنَّها مقدّرة في أمّ الكتاب قبل أن تخلق، فلابد منها؛ فجزعه لا يزيده إلا بلاءً.
الرابع: شهوده حقَّ اللَّه عليه في تلك البلوى، وواجبه فيها، وهو (4) الصبرُ بلا خلاف بين الأمّة، أو الصبر والرضا على أحد القولين. فهو مأمورٌ بأداء حقّ اللَّه وعبوديته عليه في تلك البلوى، فلابدَّ له منه، وإلا تضاعفت عليه.
الخامس: شهود ترتبها عليه بذنبه، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ
__________
(1) “ط”: “وصبر”.
(2) “ط”: “الصبح”.
(3) “ف”: “نشأ”.
(4) “وهو”: ساقط من “ط”.
(2/600)
مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى/ 30].
وهذا (1) عام في كل مصيبة دقيقة وجليلة، فيشغله (2) شهود هذا السبب بالاستغفار الذي هو أعظم الأسباب في رفع (3) تلك المصيبة. قال علي بن أبي طالب: “ما نزل بلاءٌ إلّا بذنب، ولا رُفِع بلاءٌ إلّا بتوبة” (4).
السادس: أن يعلم أنّ اللَّه قد ارتضاها له واختارها وقسَمها، وأنّ العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سندُه ومولاه. فإن لم يُوفِ هذا المقام (5) حقَّه، فهو لضعفه؛ فلينزل إلى مقام الصبر عليها. فإن نزل عنه نزل إلى مقام الظلم وتعدَّي الحق.
السابع: أن يعلم أنّ هذه المصيبة هي دواءٌ نافع ساقه إليه الطبيبُ العليمُ بمصلحته الرحيمُ به، فليصبر على تجرّعه، ولا يتقيّأْه بتسخطه وشكواه، فيذهبَ نفعه باطلًا.
الثامن: أن يعلم أنّ في عُقبى هذا الدواءِ من الشفاءِ والعافية والصحّة وزوال الألم ما لا يحصل (6) بدونه. فإذا طالعت نفسه
__________
(1) “ط”: “فهذا”.
(2) “ط”: “فشغله”.
(3) “ك، ط”: “دفع”.
(4) نقله المصنّف في كتاب الداء والدواء (118) أيضًا عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، ولكن نقله شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (8/ 163) عن عمر بن عبد العزيز.
(5) “ك، ط”: “قدر المقام”، خطأ.
(6) “ط”: “لم يحصل”، خطأ.
(2/601)
كراهية (1) هذا الدواءِ ومرارته فلينظر إلى عاقبته وحسن تأثيره. قال اللَّه تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة/ 216]. وقال: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)} [النساء/ 19]. وفي مثل هذا قال القائل:
لعلَ عتَبك محمودٌ عواقبُه … وربّما صحّت الأجسامُ بالعِلَلِ (2)
التاسع: أن يعلم أنّ المصيبة ما جاءَت لِتُهلِكَه وتقتلَه، وإنّما جاءَت لتمتحن صبره وتبتليه، فيتبيّن حينئذ هل يصلح لاستخدامه وجعله من أوليائه وحزبه (3) أم لا؟ فإن ثبت اصطفاه واجتباه، وخلع عليه خِلَع الإكرام، وألبسه ملابس الفضل، وجعل أولياءَه وحزبه خدَمًا له وعونًا له. وإن انقلب على وجهه ونكص على عقبيه طُرِدَ، وصُفِع قفاه، وأُقصي، وتضاعفت عليه المصيبة. وهو لا يشعر في الحال بتضاعفها (4) وزيادتها، ولكن سيعلم بعد ذلك بأنّ المصيبة في حقّه صارت (5) مصائب، كما يعلم الصابر أن المصيبة في حقّه صارت نعمًا عديدة. وما بين هاتين المنزلتين المتباينتين إلّا صبر ساعة، وتشجيع القلب في تلك الساعة. والمصيبة لا بدّ أن تقلع عن هذا وهذا، ولكن تقلع عن هذا بأنواع الكرامات والخيرات، وعن الآخر بالحرمان والخذلان.
__________
(1) “ب، ك، ط”: “كراهة”.
(2) “ب”: “الأجساد بالعلل”. والبيت لأبي الطيب، وقد سبق (367، 508).
(3) “وحزبه” ساقط من “ب”.
(4) “ف”: “بتضاعيفها”، خطأ
(5) “ب”: “صارت في حقه”.
(2/602)
ذلك (1) تقدير العزيز العليم، وفضل اللَّه يؤتيه من يشاءُ، واللَّه ذو الفضل العظيم.
العاشر: أن يعلم أنّ اللَّه سبحانه يربّي عبده على السرّاءِ والضرّاءِ، والنعمة والبلاءِ؛ فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال، فإنّ العبد على الحقيقة من قام بعبودية اللَّه على اختلاف الأحوال. وأمّا عبد (2) السرّاءِ والعافية الذي يعبد اللَّه على حرف، فإن أصابه خير اطمأنّ به، وإن أصابته فتنةٌ انقلب على وجهه (3)؛ فليس من عَبيده الذين اختارهم لعبوديته. ولا (4) ريب أنّ الإيمان الذي يثبت على محكّ (5) الابتلاءِ والعافية هو الإيمان النافع وقت الحاجة، وأمّا إيمان العافية فلا يكاد يصحب العبدَ ويبلّغه منازلَ المؤمنين، وإنّما يصحبه إيمانٌ يثبت على البلاء والعافية.
فالابتلاءُ كِيرُ العبد ومحكّ إيمانه: فأمَّا أن يخرج تِبرًا أحمر، وإمَّا أن يخرج زَغَلًا محضًا، وإما أن يخرج فيه مادّتان ذهبية ونحاسية، فلا يزال به البلاءُ حتَّى يخرج المادّة النحاسية من ذهبه (6)، ويبقى ذهبًا خالصًا.
فلو علم العبد أنَّ نعمة اللَّه عليه في البلاء ليست بدون نعمته (7) عليه
__________
(1) “ط”: “لأن ذلك”.
(2) “ف”: “عند”، تصحيف.
(3) اقتباس من الآية (11) من سورة الحج.
(4) “ك، ط”: “فلا ريب”.
(5) “ط”: “محل”، تحريف.
(6) “ب”: “الذهبية”.
(7) “ك، ط”: “نعمة اللَّه”.
(2/603)
في العافية لشغلَ قلبَه بشكره ولسانه بقوله (1): “اللّهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك”. وكيف لا يشكر مَن قيَّضَ له ما يستخرج به (2) خَبَثه ونحاسه، ويُصيّره (3) تِبرًا خالصًا يصلح لمجاورته والنظر إليه في داره؟
فهذه الأسباب ونحوها تثمر الصبرَ على البلاءِ، فإنْ قويت أثمرت الرضا والشكر. فنسأل اللَّه أن يسترنا بعافيته، ولا يفضحنا بابتلائه بمنّه وكرمه.
__________
(1) “بقوله” ساقط من “ك، ط”. وهو من حديث معاذ بن جبل، أخرجه أحمد (22119)، وأبو داود (1522)، والنسائي (3/ 53)، وفي الكبرى له (2226) و (9937)، وابن خزيمة (751)، وابن حبان (2020)، والحاكم (1010) وغيرهم. وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، ووافقه الذهبي. (ز).
(2) “به” ساقط من “ط”، ومستدرك في “ك”.
(3) “ط”: “وصيّره”.
(2/604)
فصل
المثال الخامس: الحزن.
قال أبو العبّاس: “وهو من منازل العوامّ. وهو انخلاعٌ عن السرور وملازمةُ الكآبة لتأسُّفٍ عن (1) فائت، أو توجُّع لممتنع، وإنَّما كان من منازل العامَّة (2) لأنَّ فيه نسيانَ المنّة، والبقاءَ في رِقِّ الطبع. وهو في مسالك الخواصّ حجاب؛ لأنَّ معرفةَ اللَّه جلا نورُها كلَّ ظلمة، وكشف سرورُها كلَّ غُمَّة؛ فبذلك فليفرحوا. وقيل: أوحى اللَّه تعالى إلى داود: بي (3) فافرَحْ، وبذكري فتلذَّذْ، وبمعرفتي فافتخِرْ. فعمَّا قليل أفرِغُ الدار من الفاسقين، وأنزِلُ نقمتي على الظالمين” (4).
اعلم أنَّ الحزن من عوارض الطريق، ليس من مقامات الإيمان ولا من منازل السائرين. ولهذا لم يأمر اللَّه به في موضع قطّ، ولا أثنى عليه (5)، ولا رتَّب عليه جزاءً وثوابًا (6). بل نهى سبحانه عنه في غير موضع (7)، كقوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [آل عمران/ 139]. وقال تعالى: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)} [النحل/ 127]. وقال تعالى: {فَلَا تَأْسَ عَلَى
__________
(1) كذا في الأصل وغيره. وفي محاسن المجالس: “على”.
(2) “ط”: “العوام”.
(3) “ك، ط”: “يا داود بي. . . “.
(4) محاسن المجالس (82).
(5) “ب”: “على أهله”.
(6) “ك، ط”: “ولا ثوابًا”.
(7) وانظر: مدارج السالكين (1/ 598)، ومجموع الفتاوى (10/ 16).
(2/605)
الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)} [المائدة/ 26]. وقال تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة/ 40]. فالحزن هو بليَّة من البلايا التي نسأل اللَّه دفعها وكشفها، ولهذا يقول أهل الجنَّة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر/ 34] فحمدوه سبحانه (1) على أن أذهب عنهم تلك البلية ونجَّاهم منها.
وفي الصحيح عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه كان يقول في دعائه: “اللّهم إنِّي أعوذُ بك من الهمِّ والحزَن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلَع الدَّيْن وغلبة الرِّجال” (2). فاستعاذَ -صلى اللَّه عليه وسلم- من ثمانية أشياءَ كلُّ شيئين منها قرينان.
فالهمُّ والحزن قرينان، وهما الألم الوارد على القلب، فإن كان على ما مضى فهو الحزن، وإن كان على ما يستقبل فهو الهمّ. فالألم الوارد إن كان مصدره فوت الماضي أثَّرَ الحزنَ، وإن كان مصدره خوف الآتي أثَّر الهمَّ.
والعجز والكسل قرينان، فإن تخلّف مصلحةِ العبد وكماله عنه (3) إن كان من عدم القدرة فهو عجز. وإن كان من عدم الإرادة فهو كسل.
والجبن والبخل قرينان، فإنَّ الإحسان يفرح القلب، ويشرح الصدر، ويجلب النعم، ويدفع النقم. وتركه يوجب الغمّ (4) والضيق، ويمنع
__________
(1) “ط”: “فحمده على”.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير (2893) وغيره، ومسلم في الذكر والدعاء (2706) من حديث أنس بن مالك رضي اللَّه عنه. وضلع الدين: ثقله.
(3) “ط”: “مصلحة العبد وبعدها عنه”.
(4) “ط”: “الضيم”، تحريف.
(2/606)
وصول النعم إليه. فالجبن ترك الإحسان بالبدن، والبخل ترك الإحسان بالمال.
وضلع الدَّين وغلبة الرجال (1) قرينان، فإنَّ القهر والغلبة الحاصلة للعبد إمَّا منه، وإمَّا من غيره. وإن شئت قلت: إمَّا بحقٍّ، وإمَّا بباطل. فضلعُ الدين غلبةٌ سببها منه، وهي غلبة (2) بحقٍّ. وغلبةُ الرجال قهرٌ بباطل (3) من غيره (4).
والمقصود أنَّ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جعل الحزن مما يستعاذ منه. وذلك لأنَّ الحزن يُضعِف القلب، ويُوهِن العزم، ويغيّر (5) الإرادة؛ ولا شيء أحبُّ إلى الشيطان من حزن المؤمن، قال تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة/ 10].
فالحزن مرض من أمراض القلب يمنعه من نهوضه وسيره وتشميره، والثواب عليه ثواب (6) على المصائب التي يُبتلى العبدُ بها بغير اختياره، كالمرض والألم ونحوهما. وأمَّا أن يكون عبادةً مأمورًا بتحصيلها وطلبها فلا. فَفرْقٌ [بين] (7) ما يثاب عليه العبد من المأمورات، وما يثاب عليه
__________
(1) “ك، ط”: “وغلبة الدَّين وقهر الرِّجال”. وهي رواية أخرى في الحديث. ومن هنا قال المؤلف في الجملة التالية: “فإنَّ القهر والغلبة”.
(2) “ف”: “عليه”، تصحيف.
(3) “فضلع الدين. . . ” إلى هنا ساقط من “ط”.
(4) وانظر في شرح الحديث أيضًا: مفتاح دار السعادة (1/ 375)، وبدائع الفوائد (714).
(5) “ب”: “يفتر”، قراءة محتملة. وفي “ك، ط”: “يضر”.
(6) “ثواب” ساقط من “ك، ط”.
(7) ما بين الحاصرتين من “ف” وغيرها، ولعله سقط من الأصل سهوًا. وفي =
(2/607)
من البليَّات.
ولكن يُحمَد في الحزن سببُه ومصدرُه ولازمُه، لا لذاته. فإنَّ المؤمن إمَّا أن يحزنَ على تفريطه وتقصيره في خدمة ربه وعبوديته، وإمَّا أن يحزن على تورّطه في مخالفته ومعصيته وضياع أيامه وأوقاته. وهذا يدلُّ على صحّة الإيمان في قلبه وعلى حياته، حيث شعر (1) قلبُه بمثل هذا الألم، فحزن عليه. ولو كان قلبه ميّتًا لم يحسّ بذلك، ولم يحزن، ولم يتألَّم، فما لِجُرحٍ بميّتٍ إيلام (2). وكلَّما كان قلبُه أشدَّ حياةً كان شعوره بهذا الألم أقوى، ولكنَّ الحزن لا يجدي عليه، فإنَّه يُضعِفه، كما تقدّم. بل الذي ينفعه أن يستقبل السيرَ، ويجدّ، ويشمِّر، ويبذل جهده.
وهذا نظيرُ من انقطع عن رُفْقتِه في السفر، فجلس في الطريق حزينًا كئيبًا يشهد انقطاعَه وسبقَ رفقته، فقعودُه لا يجدي شيئًا. بل إذا عرف الطريق فالأولى له أن ينهض، ويجدّ في السير (3)، ويحدّث نفسَه باللَّحاق بالقوم. وكلَّما (4) فترَ وحزِن حدّث نفسَه باللحاق برفقته، ووعدها -إن صبرَتْ- أن تلحق بهم، وتزول عنها وحشةُ الانقطاع. فهكذا السالك إلى منازل الأبرار، وديار المقرَّبين.
__________
= “ب”: “فقرن بين”، تحريف.
(1) “ك، ط”: “شغل”، تحريف.
(2) من قول المتنبي (ديوانه 245):
من يَهُنْ يسهلِ الهوانُ عليه … ما لجُرْحٍ بميِّتٍ إيلَامُ
(3) “وسبق رفقته. . . ” إلى هنا ساقط من “ب، ك، ط”. وقد استدركها بعضهم في حاشية “ك”.
(4) “ك، ط”: “فكلّما”.
(2/608)
وأخمصُّ من هذا الحزنُ (1) على قطع الوقت بالتفرقة المضعِفة للقلب عن تمام سيره وجدّه في سلوكه، فإنَّ التفرقة من أعظم البلاءِ على السالك، ولا سيما في ابتداءِ أمره. فالأول حزن على التفريط (2) في الأعمال، وهذا حزن على نقص حاله مع اللَّه، وتفرقة قلبه عنه (3)، وكيف صار ظرفًا لتفرقة حاله، واشتغال قلبه بغير معبوده؟
وأخصُّ من هذا الحزنِ حزنُه على جزءٍ من أجزاءِ قلبه كيف هو خالٍ من محبة اللَّه؟ وعلى جزءٍ من أجزاءِ بدنه كيف هو متصرّف (4) في غير محابّ اللَّه؟ فهذا حزن الخاصَّة. ويدخل في هذا حزنهم على كلِّ معارض يشغلهم عمَّا هم بصدده، من خاطر أو إرادة أو شاغل من خارج.
فهذه المراتب من الحزن لا بدَّ منها في الطريق، ولكن الكيِّس من (5) لا يدعها تملكه وتُقعِده، بل يجعل عوضَ فكرتَه فيها فكرتَه فيما يدفعها به. فإنَّ المكروه إذا وردَ على النفس، فإن كانت صغيرةً اشتغلت بفكرها فيه وفي حصوله عن الفكرة في الأسباب التي تدفعها (6) به، فأورثَها الحزن. وإن كانت نفسًا كبيرةً شريفةً لم تفكّر فيه، بل تصرف فكرَها إلى ما ينفعها. فإن علمتْ منه مخرجًا فكّرتْ في طريق ذلك المخرج وأسبابه، وإن علمتْ أنه لا مخرجَ منه، فكَّرت في عبودية اللَّه فيه،
__________
(1) “ك، ط”: “من هذا الحزن حزنُه”.
(2) “ف”: “التوسط”، تحريف.
(3) “عنه” ساقط من “ك، ط”.
(4) “ط”: “منصرف”.
(5) “من” ساقط من “ك، ط”.
(6) في “ف” وغيرها: “يدفعها” والأصل غير منقوط. والسياق يقتضي قراءتنا.
(2/609)
فكان (1) ذلك عوضًا لها من الحزن. فعلى كلّ حالٍ لا فائدة لها في الحزن أصلًا. واللَّه أعلم.
وقال بعض العارفين: “ليست الخاصَّة من الحزن في شيءٍ” (2).
وقوله رحمه اللَّه: “معرفة اللَّه جلا نورُها كلّ ظلمة، وكشف سرورُها كلَّ غمَّة” كلام في غاية الحسن. فإنَّ من عرف اللَّه أحبَّه ولا بدَّ، ومن أحبَّه انقشعتْ عنه سحائبُ الظلمات، وانكشفتْ عن قلبه الهمومُ والغمومُ والأحزان، وعمر قلبه بالسرور والأفراح، وأقبلت إليه وفودُ التهاني والبشائر من كلِّ جانب، فإنَّه لا حزن مع اللَّه أبدًا.
ولهذا قال تعالى حكايةً عن نبيّه أنَّه قال لصاحبه (3): {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة/ 40]. فدلَّ على (4) أنَّه لا حزنَ مع اللَّه، وأنَّ من كان اللَّه معه فما له وللحزن؟ وإنَّما الحزن كلّ الحزن لمن فاته اللَّه، فمن حصل اللَّهُ له، فعلى أيّ شيءٍ يحزَن؟ ومن فاته اللَّه، فبأيّ شيءٍ يفرح؟ قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس/ 58].
فالفرحُ بفضله وبرحمته (5) تبعٌ للفرح به سبحانه، فالمؤمن يفرح بربّه أعظمَ من فرح كلّ أحد بما يفرح به، من حبيب أو جاه (6) أو مال أو نعمة
__________
(1) “ط”: “وكان”.
(2) من كلام الهروي في منازل السائرين (20). وانظر: مدارج السالكين (1/ 603).
(3) “ط”: “لصاحبه أبي بكر”.
(4) “على” ساقط من “ك، ط”.
(5) “ك، ط”: “ورحمته”.
(6) “ك، ط”: “حياة”، تحريف.
(2/610)
أو مُلك، ففرحُ (1) المؤمن بربِّه أعظمُ من هذا كلّه. ولا ينال القلبُ حقيقةَ الحياة حتّى يجدَ طعمَ هذه الفرحة والبهجة، فيظهرَ سرورُها في قلبه ونضرتُها (2) في وجهه، فيصير له حال من حال أهل الجنة حيث لقَّاهم اللَّه نضرةً وسرورًا. فلمثل هذا فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون! فهذا هو العلَم الذي شمَّر إليه أولو الهمم والعزائم، واستبق إليه أصحاب الخصائص والمكارم.
تلك المكارمُ لا قَعْبان من لبَنٍ … شِيبا بماءٍ فعادا بعدُ أبوالا (3)
__________
(1) “ك، ط”: “يفرح”.
(2) “ط”: “مضرّتها”، تحريف.
(3) البيت لأميّة بن أبي الصلت في ديوانه (459).
(2/611)
فصل
والمثال السادس: الخوف.
قال أبو العبّاس: “هو الانخلاعُ عن طمأنينة الأمن، والتيقّظُ لنداءِ الوعيد، والحذرُ من سطوة العقاب. وهو من منازل العوامّ أيضًا. وليس في منازل الخواصّ خوف، لأنَّه لا أمان للغافل، إنَّما يعبد (1) مولاه على وحشة من نظره، ونفرة من الأنس به عند ذكره. {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الشورى/ 22]. وأمَّا الخواصّ أهل الاختصاص (2)، فإنَّهم جعلوا الوعيد منه وعدًا، والعذابَ فيه عَذْبًا، لأنَّهم شاهدوا المبتلي في البلاءِ، والمعذِّب في العذاب، فاستعذبوا ما وجدوا في جنب ما شاهدوا. وفي ذلك (3) قال قائلهم:
سَقَمي في الحبِّ عافيتي … ووجودي في الهوى عدَمي
وعذابٌ ترتضون به … في فمي أحلى من النِّعم (4)
ومن كان مستغرقًا في المشاهدة حلَّ (5) في بساط الأنس، فلا يبقى للخوف بساحته ألم (6)؛ لأنَّ المشاهدة تُوجِب الأنس، والخوف يُوجِبُ
__________
(1) في محاسن المجالس: “. . خوف؛ لأنه لا يليق للعبد أن يعبد”.
(2) “ف”: “وأهل الاختصاص”، سهو.
(3) “ك، ط”: “شاهدوا في ذلك”.
(4) البيتان مع ثالث في المدهش (451). وذكر في نفح الطيب (5/ 598) أنَّها تنسب إلى الحلّاج.
(5) في المجالس: “حالّ” وفي نسخة منه: “جائلًا”.
(6) كذا في الأصل وغيره. وفي المجالس: “إلمام”. وهو الصواب الظاهر.
(2/612)
القبض”.
ثمَّ ذكر حكاية المضروب الذي ضُرِب مائةَ سوط فلم يتألّم لأجب نظرِ محبوبه إليه، ثمَّ ضُرِبَ سوطًا، فصاحَ لمَّا توارى عنه محبوبُه. قال: “وقد قيل في قوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى/ 26]: دليلُ خطابه أنَّ المؤمنين لهم عذاب، ولكن ليس بشديد. وإنَّما كان عذاب الكافرين شديدًا لأنّهم لا يشاهدون المعذِّب لهم. والعذابُ على شهود المعذِّب عَذْبٌ، والثوابُ على الغفلة من المعطي صَعْبٌ. فالخوفُ إذًا من منازل العوامّ” (1).
والكلام على ما ذكره من وجوه:
أحدها: أنَّ الخوف أحد أركان الإيمان والإحسان الثلاثة التي عليها مدار مقامات السالكين جميعها، وهي: الخوف، والرجاءُ، والمحبَّة. وقد ذكره سبحانه في قوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء/ 56 – 57]. فجمع بين المقامات الثلاثة، فإنَّ ابتغاءَ الوسيلة إليه هو التقرّب إليه بحبّه وفعلِ ما يحبّه. ثمَّ قال (2): {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}، فذكر الحبّ، والخوف، والرجاءَ. والمعنى أنَّ هؤلاء (3) الذين تدعونهم من دون اللَّه من الملائكة والأنبياء والصالحين يتقرّبون إلى ربّهم ويخافونه ويرجونه، فهم عبيده، كما أنكم عبيده، فلماذا تعبدونهم من دونه،
__________
(1) محاسن المجالس (83 – 84).
(2) “ط”: “يقول”.
(3) “هؤلاء” ساقط من “ط”.
(2/613)
وأنتم وهم عبيد له؟
وقد أمر سبحانه بالخوف منه في قوله: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} (1) [آل عمران/ 175]، فجعل الخوف منه شرطًا في تحقّق الإيمان، وإن كان الشرط داخلًا في الصيغة على الإيمان فهو المشروط في المعنى، والخوف شرط في حصوله وتحقّقه. وذلك لأنَّ الإيمان سبب الخوف الحامل (2) عليه، فحصول (3) المسبَّب شرط في تحقّق السبب، كما أنَّ حصول السبب موجب لحصول مسبَّبه. فانتفاءُ الإيمان عند انتفاءِ الخوف انتفاءٌ للمشروط عَند انتفاء شرطه، وانتفاءُ الخوف عند انتفاءِ الإيمان انتفاءٌ للمعلول عند انتفاء علَّته. فتدبَّره! والمعنى: إن كنتم مؤمنين فخافوني. والجزاءُ محذوف مدلولٌ عليه بالأوَّل عند سيبويه وأصحابه، أو هو المتقدّم نفسه، وهو جزاءٌ وإن تقدّم كما هو مذهب الكوفيين. وعلى التقديرين فأداة الشرط قد دخلت على السبب المقتضي للخوف وهو الإيمان. وكل منهما مستلزمٌ للآخر، لكنَّ الاستلزام مختلف؛ وكلٌّ منهما منتفٍ عند انتفاء الآخر، لكن جهة الانتفاءِ مختلفة، كما تقدّم. والمقصود: أنَّ الخوف من لوازم الإيمان وموجباته، فلا يتخلَّف (4) عنه.
وقال تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة/ 44]. وقد
__________
(1) في الأصل و”ف”: “وخافوني” على قراءة أبي عمرو في الأصل. انظر: الإقناع (626).
(2) “ك، ط”: “الحاصل”، تحريف.
(3) “ط”: “وحصول”.
(4) “ط”: “يختلف”، تحريف.
(2/614)
أثنى سبحانه على أقرب عباده إليه بالخوف منه، فقال تعالى عن أنبيائه بعد أن أثنى عليهم ومدحهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء/ 90]. فالرغَب: الرجاءُ والرغبة، والرهب: الخوف والخشية. وقال عن ملائكته الذين قد آمنهم من عذابه: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)} [النحل/ 50].
وفي الصحيح عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: “إنِّي أعلمُكم باللَّه وأشدُّكم له خشيةً” (1). وفي لفظ آخر: “إنِّي أخوَفُكم للَّه وأعلمُكم بما أتَّقِي” (2). وكان -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلِّي ولصدره أزيزٌ كأزيز المِرجَل من البكاءِ (3). وقد قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)} [فاطر/ 28] فكلَّما كان العبد باللَّه أعلَم كان له أخوفَ. قال ابن مسعود: “كفى بخشية اللَّه علمًا” (4). ونقصان الخوف من اللَّه إنَّما هو لنقصان معرفة العبد به، فأعرف الناس أخشاهم للَّه. ومن عرف اللَّه اشتدَّ حياؤه منه وخوفه له وحبّه له، وكلَّما ازداد معرفةً ازداد حياءً وخوفًا وحبًّا.
فالخوف من أجلّ منازل الطريق، وخوفُ الخاصّة أعظم من خوف
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأدب (6101) وغيره، ومسلم في الفضائل (2356) عن عائشة رضي اللَّه عنها.
(2) أخرجه مسلم في الصيام (1110) عن عائشة رضي اللَّه عنها. ولفظه: “وإنّي لأرجو أن أكون أخشاكم للَّه وأعلمكم بما أتَّقي”.
(3) أخرجه أبو داود (904)، والنسائي (3/ 13)، وفي الكبرى له (544، 545)، وابن خزيمة (900)، وابن حبان (655، 753)، والحاكم (971) وغيرهم من حديث عبد اللَّه بن الشخير. وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، ووافقه الذهبي. (ز).
(4) تقدم تخريجه في ص (589).
(2/615)
العامة، وهم إليه أحوج، وهو بهم ألصق (1)، ولهم ألزم. فإنَّ العبد إمَّا أن يكون مستقيمًا، أو مائلًا عن الاستقامة. فإن كان مائلًا عن الاستقامة فخوفه من العقوبة على مَيله، ولا يصحّ الإيمان إلا بهذا الخوف. وهو ينشأ من ثلاثة أمور:
أحدها: معرفته بالجناية وقبحها.
والثاني: تصديق الوعيد وأنَّ اللَّه رتَّب على المعصية عقوبَتها.
والثالث: أنَّه لا يعلم لعلّه يُمنَع من التوبة ويُحال بينه وبينها إذا ارتكبَ الذنبَ.
فبهذه الأمور الثلاثة يتم له الخوف، وبحسب قوتها وضعفها تكون قوة الخوف وضعفه. فإنَّ الحامل على الذنب إمَّا أن يكون عدم علمه بقبحه، وإمَّا عدم علمه بسوءِ عاقبته، وإمَّا أن يجتمع له الأمران لكن يحمله عليه اتّكاله على التوبة، وهو الغالب من ذنوب أهل الإيمان. فإذا علم قبحَ الذنب، وعلم سوءَ مغبّته، وخاف أن لا يُفتح له بابُ التوبة بل يُمنعها ويحال بينه وبينها = اشتدَّ خوفُه. هذا قبل الذنب، فإذا عمله كان خوفه أشدّ. وبالجملة، فمن استقرَّ في قلبه ذكرُ الدار الآخرة وجزائها، وذكرُ المعصية والتوعّد عليها، وعدمُ الوثوق بإتيانه بالتوبة النصوح = هاج من (2) قلبه من الخوف ما لا يملكه ولا يفارقه حتَّى ينجو.
وأمَّا إن كان مستقيمًا مع اللَّه، فخوفه يكون مع جرَيان الأنفاس، لِعلمه بانَّ اللَّه مقلب القلوب، وما من قلب إلا وهو بين إصبَعين من
__________
(1) “ك، ط”: “أليق”.
(2) كذا في الأصل وغيره. وفي “ط”: “في”.
(2/616)
أصابع الرحمن عزَّ وجلَّ، فإن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاءَ أن يُزيغه أزاغه، كما ثبت عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (1). وكانت أكثر يمينه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لا ومقلِّب القلوب، لا ومقلِّب القلوب” (2). وقال بعض السلف: “القلبُ أشدّ تقلُّبًا من القِدْر إذا استجمعتْ غلَيانًا” (3). وقال بعضهم: “مثل القلب في سرعة تقلّبه كريشةٍ مُلقاةٍ بأرض فلاة تقلبها الرياحُ ظهرًا لبطن” (4). ويكفي في هذا قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال/ 24].
فأيّ قرار لمن هذه حاله؟ ومن أحقّ بالخوف منه؟ بل خوفه لازم له في كلِّ حال، وإن توارى عنه بغلبة حالةٍ أخرى عليه. فالخوف حشو قلبه، لكن توارى عنه بغلبة (5) غيره، فوجود الشيء غير العلم به.
فالخوف الأوَّل ثمرة العلم بالوعد والوعيد، وهذا الخوف ثمرة العلم بقدرة اللَّه وعزَّته وجلاله، وأنَّه الفعَّال لما يريد، وأنَّه المحرّك للقلب، المصرِّف له، المقلب له كيف يشاء، لا إله إلا هو.
الوجه الثاني: قوله: “ليس في منازل الخواصّ خوف” قد تبيّن
__________
(1) تقدّم تخريجه في ص (17).
(2) تقدّم تخريجه في ص (137).
(3) حديث مرفوع أخرجه أحمد (23816)، والطبراني في الكبير (599)، والحاكم (2/ 289) من طريقين عن المقداد بن الأسود أحدهما منقطع، والآخر لا بأس به. قال الحاكم: “هذا حديث على شرط البخاري ولم يخرِّجاه”، وقال الهيثمي: “رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها ثقات”.
(4) تقدّم تخريجه في ص (138).
(5) “ف”: “لغلبة”، خلاف الأصل.
(2/617)
فساده، وأنَّ الخاصَّة أشدّ خوفًا للَّه (1) من العامَّة.
الوجه الثالث: قوله: “الغافلُ (2) يعبد ربَّه على وحشةٍ من نظره ونفرةٍ من الأنس به عند ذكره {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ} الآية [الشورى/ 22] “.
فهذا إنَّما هو وحشة ونَفار، وهو غير الخوف، فإنَّ الوحشة إنَّما تنشأ من عدم الخوف. وأمَّا الخوف فإنَّه يوجب هروبًا إلى اللَّه، وجمعيّةً عليه، وسكونًا إليه؛ فهي مخافة مقرونة بحلاوة وطمأنينة وسكينة ومحبَّة، بخلاف خوف المسيء الهارب من اللَّه، فإنَّه خوف مقرون بوحشة ونفرة. فخوفُ الهارب إليه سبحانه محشوٌّ بالحلاوة والسكينة والأنس، لا وحشة معه، وإنَّما يجد الوحشة من نفسه. فله نظران: نظرٌ إلى نفسه وجنايته، فيُوجب له وحشةً؛ ونظر إلى ربِّه وقدرته عليه وعزّه وجلاله، فيوجب له خوفًا مقرونًا بأنس وحلاوة وطمأنينة.
الوجه الرابع (3): أنَّ استشهاده بقوله: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الشورى/ 22] ليس استشهادًا صحيحًا، فإنَّ هذا وصفٌ لحالهم في الآخرة عند معاينة العذاب أو عند الموت. فهذا إشفاقٌ مقرونٌ بالاستيحاش؛ لأنَّه قد علم أنَّه سائر إليه، كمن قُدِّم إلى العقوبة، ورأى أسبابها، فهو مشفق منها إذا رآها، لعلمه بأنَّه صائر إليها.
__________
(1) كلمة “للَّه” ساقطة من “ب، ك، ط”.
(2) “ط”: “العاقل”، تصحيف.
(3) وقع في الأصل: “الثالث” سهوًا، ثمَّ استمرَّ الخطأ فيه إلى آخر الوجوه، وهو “الثاني عشر” وصوابه: الثالث عشر. وقد صحح الترقيم هنا وفي الوجه التالي في “ف، ب، ك”. ولكن لما وصل الكلام -بعد طول الفصل- إلى الوجه السادس تابعت كلُّها الأصلَ في سهوه، فأثبتت: “الخامس”، وهلُمّ جرًّا.
(2/618)
فليست الآية من الخوف المأمور به في شيءٍ.
الوجه الخامس: أنَّ الخوف يتعلَّق بالأفعال، وأمَّا الحبّ فإنَّه يتعلَّق بالذات والصفات. ولهذا يزول الخوف في الجنَّة، وأمَّا الحبّ فيزداد. ولمَّا كان الحبّ يتعلق بالذات كان من أسمائه سبحانه: “الودود”. قال البخاري في صحيحه: “الحبيب” (1). وأمَّا الخوف فإنَّ متعلّقه أفعال الربّ سبحانه، ولا يخرج عن كون سببه جناية العبد، وإن كانت جنايتُه من قدر اللَّه. ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه: “لا يرجونَّ عبدٌ إلا ربَّه، ولا يخافنَّ عبد إلا ذنبه” (2). فمتعلَّق الخوف ذنبُ العبد وعاقبته، وهي مفعولات للربّ، فليس الخوف عائدًا إلى نفس الذات. والفرق بينه وبين الحبّ أنَّ الحبَّ سببه الكمال، وذاته تعالى لها الكمال المطلق، وهو متعلّق الحبّ التام. وأمَّا الخوف فسببه توقّع المكروه، وهذا إنَّما يكون في الأفعال والمفعولات.
وبهذا يعلم بطلان قول من زعم أنَّه سبحانه يُخاف لا لعلَّة ولا لسبب، بل كما يُخاف السيلُ الذي لا يدري العبد من أين يأتيه. وهذا بناءٌ من هؤلاءِ على نفي محبّته سبحانه وحكمته، وأنَّه ليس إلا محض المشيئة والإرادة التي تُرجح مِثْلًا على مِثْلٍ بلا مرجِّح،
__________
(1) يعني تفسير “الودود”: نقله البخاري عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما. انظر: كتاب التفسير، سورة البروج (ص). ووصله الطبري في تفسيره (30/ 138)، وسنده حسن. (ز).
(2) نقله المصنّف ضمن كلام طويل لعلي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه في مفتاح دار السعادة (1/ 509). وقد سُئل شيخ الإسلام عن معنى قوله هذا. وجوابه في مجموع الفتاوى (8/ 161 – 180).
(2/619)
ولا يراعى فيها حكمة ولا مصلحة. وهؤلاء عندهم الخوف يتعلَّق بنفس الذات من غير نظر إلى فعل العبد وأنَّه سبب المخافة، إذ ليس عندهم سبب ولا حكمة، بل إرادة محضة يفعل بها ما يشاء من تنعيم وتعذيب. وعند هؤلاء فالخوف (1) لازم للعبد في كلِّ حال، أحسنَ أم أساءَ، وليس لأفعالهم (2) تأثير في الخوف. وهذا من قلَّة نصيبهم من المعرفة باللَّه وكماله وحكمته. وأين هذا من قول أمير المؤمنين عليّ: “لا يرجونّ عبد إلا ربه، ولا يخافنَّ إلا ذنبَه”؟ فجعل الرجاءَ متعلِّقًا بالربِّ سبحانه وتعالى، لأنَّ رحمته من لوازم ذاته، وهي سبقت غضبَه. وأمَّا الخوف فمتعلق بالذنب، فهو سبب المخافة، حتَّى لو قُدِّرَ عدمُ الذنب بالكليّة لم تكن مخافة.
[مسألة]فإن قيل: فما وجه خوفِ الملائكة، وهم معصومون من الذنوب التي هي أسباب المخافة. وشدَّة خوف النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، مع علمه بأنَّ اللَّه قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وأنَّه أقرب الخلق إلى اللَّه وسيلة (3)؟
قبل: عن هذا أربعة أجوبة (4):
الجواب الأوَّل: أنَّ هذا الخوف على حسب القرب من اللَّه والمنزلة عنده. وكلَّما كان العبد أقرب إلى اللَّه كان خوفه منه أشدّ؛ لأنَّه يطالَب
__________
(1) “ب”: “الخوف”.
(2) كذا في الأصل وغيره. وفي “ط”: “لأفعال”، فصححت في القطرية: “لأفعاله”.
(3) “وسيلة” ساقط من “ك، ط”.
(4) وسترى أنّه لم يجب إلّا ثلاثة أجوبة، وسقط الثاني لسهو في الترقيم كما سيأتي (625).
(2/620)
بما لا يطالَب به غيره، ويجب عليه من رعاية تلك المنزلة وحقوقها ما لا يجب على غيره. ونظير هذا في الشاهد (1) أنَّ الماثلَ بين يدي أحد الملوك المشاهِدَ له أشدُّ خوفًا منه من البعيد عنه، بحسب قربه منه ومنزلته عنده ومعرفته به وبحقوقه، وأنَّه يطالَب من حقوق الخدمة وآدابها (2) بما لا يطالَب به غيرُه، فهو أحقّ بالخوف من البعيد.
ومَن تصوَّر هذا حقّ تصوُّره فَهِمَ قولَه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنِّي أعلمكم باللَّه وأشدكم له خشية” (3)، وفهمَ قولَه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره من حديث زيد بن ثابت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: “إنَّ اللَّه تعالى لو عذَّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذَّبهم وهو غير ظالم لهم. ولو رحمهم كانت رحمتُه لهم خيرًا من أعمالهم” (4).
وليس المراد أنَّه (5) لو عذبهم لتصرف في ملكه، والمتصرف في ملكه غير ظالم، كما يظنّه كثير من النَّاس؛ فإنَّ هذا لا يتضمَّن (6) مدحًا، والحديث إنَّما سيق للمدح وبيان عِظَم حقّ اللَّه على عباده، وأنَّه لو عذَّبهم لعذّبهم بحقّه عليهم، ولم يكن تعذيبه ظلمًا لهم (7) بغير استحقاق، فإنَّ حقَّه سبحانه عليهم أضعافُ أضعافِ ما أتوا. ولهذا قال
__________
(1) “ط”: “المشاهد”، تحريف.
(2) نقطة الباء واضحة في الأصل، ولكن قرأها ناسخ “ف”: “أدائها”. وكذا في “ب، ك، ط”.
(3) تقدّم تخريجه قريبًا.
(4) تقدم تخريجه في ص (164).
(5) في “ف” مكان “أنّه”: “به”، خلاف الأصل. وكذا في “ب، ك، ط”.
(6) “ط”: “هذا يتضمن”. وكذا في “ك”، واستدرك بعضهم في الحاشية.
(7) “وبيان عظم حق اللَّه. . .” إلى هنا ساقط من “ط”.
(2/621)
بعده: “ولو رحمهم كانت رحمتُه خيرًا لهم من أعمالهم” يعني أنَّ رحمته لهم ليست ثمنًا لأعمالهم، ولا تبلغ أعمالهم رحمته، فرحمته لهم ليست (1) على قدر أعمالهم، إذ أعمالهم لا تستقلّ باقتضاءِ الرحمة، وحقوق عبوديته وشكره التي يستحقّها عليهم لم يقوموا بها. فلو عذَّبهم -والحالة هذه- لكان تعذيبًا لحقّه، وهو غيرُ ظالم لهم فيه، ولا سيّما فإنَّ أعمالهم لا توازي القليل من نِعَمه عليهم، فتبقى نِعمُه الكثيرة لا مقابل لها من شكرهم، فإذا عذَّبهم على ترك شكرهم وأداءِ حقّه الذي ينبغي له سبحانه، عذّبهم بحقّه (2) ولم يكن ظالمًا لهم.
فإن قيل: فهم إذا فعلوا مقدورهم من شكره وعبوديته لم يكن ما عداه مما ينبغي له سبحانه مقدورًا لهم، فكيف يحسن العذاب عليه؟
قيل: الجواب من وجهين:
أحدهما: أنَّ المقدور للعبد لا يأتي به كلّه، بل لا بدَّ من فتور وإعراض وغفلة وتوانٍ، وأيضًا ففي نفس قيامه بالعبودية لا يوفّيها حقَّها الواجبَ لها من كمال المراقبة والإجلال والتعظيم والنصيحة التامَّة للَّه فيها، بحيث يبذل مقدوره كلّه في تحسينها وتكميلها ظاهرًا وباطنًا، فالتقصير لازم في حال الترك وفي حال الفعل.
ولهذا لمّا (3) سأل الصدّيقُ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- دعاءً يدعو به في صلاته، قال (4)
__________
(1) “ثمنًا لأعمالهم. . .” إلى هنا ساقط من “ك، ط”.
(2) “بحقه” ساقط من “ك، ط”. والجملة: “عذَّبهم بحقه” وقعت في “ف” بعد “ترك شكرهم”، وهو خطأ من الناسخ.
(3) “لمّا” ساقط من “ط”.
(4) “ط”: “فقال”.
(2/622)
له: “قل اللهمَّ إنِّي ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوبَ إلا أنتَ، فاغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني، إنَّك أنت الغفور الرحيم” (1). فأخبر عن ظلمه لنفسه مؤكِّدًا له بـ “إنَّ” المقتضيةِ ثبوتَ الخبر وتحقّقه، ثمَّ أكدَّه بالمصدر النافي للتجوُّز والاستعارة، ثمَّ وصفه بالكثرة المتقضية لتعدّده وتكثّره. ثم قال: “فاغفر لي مغفرةً من عندك” أي: لا ينالها عملي ولا سعيي، بل عملي يقصر عنها، وإنَّما هي من فضلك وإحسانك، لا بكسبي ولا باستغفاري وتوبتي. ثمَّ قال: “وارحمني” أي: ليس معوّلي إلا على مجرد رحمتك، فإن رحمتَني وإلا فالهلاك لازم لي. فليتدبّر اللبيب هذا الدعاءَ وما فيه من المعارف والعبودية، وفي ضمنه: إنَّك (2) لو عذَّبتني لعدلتَ فيَّ ولم تظلمني، وإنِّي لا أنجو إلا بمغفرتك ورحمتك (3).
ومن هذا قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لن يُنجيَ أحدًا منكم عملُه” قالوا: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: “ولا أنا إلا أن يتغمّدني اللَّهُ برحمةِ منه وفضل” (4). فإذا كان عملُ العبد لا يستقلّ بالنجاة، فلو لم يُنجه اللَّه لم يكن (5) قد بخسه شيئًا من حقّه ولا ظَلَمه، فإنَّه ليس معه مَا يقتضي نجاتَه، وعملُه ليس وافيًا بشكر القليل من نِعَمه، فهل يكون ظالمًا له لو
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان (834) وغيره، ومسلم في الذكر والدعاء (2705).
(2) “ط”: “أنّه”.
(3) “ط”: “برحمتك ومغفرتك”. ولشيخ الإسلام رسالة في شرح هذا الحديث ضمن “جامع المسائل” (4/ 23 – 69).
(4) أخرجه البخاري في كتاب الرفاق (6463) وغيره، ومسلم في صفات المنافقين (2816) عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(5) “ط”: “فلم يكن”، خطأ.
(2/623)
عذَّبه؟ وهل تكون رحمتُه له جزاءً لعمله، ويكون العمل ثمنًا لها مع تقصيره فيه وعدم توفيته ما ينبغي له من بذل النصيحة فيه، وكمال العبودية من الحياء والمراقبة، والمحبّة والخشوع وحضور القلب بين يدي اللَّه في العمل كله (1)؟
ومَن علِمَ هذا عَلِمَ السرَّ في كون أعمال الطاعات تُختَم بالاستغفار، ففي صحيح مسلم عن ثوبان قال: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا سلَّم من صلاته استغفر ثلاثًا. وقال: “اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام” (2).
قال تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} [الذاريات/ 17 – 18]. فأخبر عن استغفارهم عقيبَ صلاة الليل. قال الحسن: “مدّوا الصلاة إلى السحرِ، فلما كان السحر جلسوا يستغفرون اللَّه” (3).
وأمر تعالى عبادَه بالاستغفار عقيب الإفاضة في الحجّ فقال: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)} [البقرة/ 199].
وشرع (4) -صلى اللَّه عليه وسلم- للمتوضئ أن يختم وضوءَه بالتوحيد والاستغفار فيقول: “أشهدُ أنْ لا إِلهَ إلا اللَّهُ وأشْهَدُ أنَّ محمدًا عَبْدُهُ وَرسولُه. اللَّهم
__________
(1) “ك، ط”: “له”.
(2) تقدّم تخريجه في ص (443).
(3) تفسير الطبري (26/ 200)، تفسير القرطبي (17/ 26).
(4) “ط”: “شرع رسول اللَّه”.
(2/624)
اجْعَلْنِي من التَّوابِين واجْعَلْنِي من المُتَطَهِّرين” (1).
فهذا ونحوه ممَّا يبيّن حقيقة الأمر، وأنَّ كل أحد محتاج إلى مغفرة اللَّه ورحمته، وأنَّه لا سبيل إلى النجاة بدون مغفرته ورحمته أصلًا.
الجواب الثاني: أنَّه لو فرض أنَّ العبد يأتي بمقدوره (2) كلّه من الطاعة ظاهرًا وباطنًا، فالذي ينبغي لربّه تعالى فوق ذلك وأضعاف أضعافه. فإذا عجز العبد عنه لم يستحقّ ما يترتب عليه من الجزاءِ. والذي أتى به لا يقابل أقلَّ النعم، فإذا حرم جزاءَ العمل الذي ينبغي للربِّ من عبده كان ذلك تعذيبًا له، ولم يكن الربّ تعالى ظالمًا له في هذا الحرمان. ولو كان عاجزًا عن أسبابه فإنَّه لم يمنعه حقًّا يستحقّه عليه فيكون ظالمًا بمنعه. فإذا أعطاه الثواب كان مجرّد صدقة منه وفضل تصدَّق بها عليه، لا ينالها عملُه، بل هي خير من عمله وأفضل وأكثر، ليست معاوضة عليه. واللَّه أعلم.
الجواب الثالث (3) عن السؤال الأوَّل: أنَّ العبد إذا علم أنَّ اللَّه سبحانه هو مقلِّب القلوب، وأنَّه يحول بين المرءِ وقلبِه، وأنَّه سبحانه كلّ يوم هو في شأن، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأنَّه يهدي من يشاء، ويضلّ من
__________
(1) تقدّم تخريجه في ص (468).
(2) “ف”: “فرض العبد يأتي مقدوره”، خلاف الأصل.
(3) كذا في الأصل وغيره، وهو سهو. وقد كتب المصنف رحمه اللَّه أولًا: “الوجه الخامس: قوله: وأما الخواص أهل الاختصاص”، ثم تذكر أن عليه ثلاثة أجوبة قد وعد بها من قبل (620)، فضرب على العبارة السابقة، وكتب: “الجواب الثالث”. ثم وضع علامة اللحق وأضاف في الحاشية: “عن السؤال الأول”. وذهب عليه أنه لم يسبق إلّا جواب واحد عنه، فهذا الجواب هو الثاني لا الثالث.
(2/625)
يشاء، ويرفع من يشاء، ويخفض من يشاء؛ فما يؤمنه أن يقلب اللَّه قلبه، ويحول بينه وبينه، ويزيغه بعد إقامته؟ وقد أثنى اللَّه سبحانه على عباده المؤمنين بقولهم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران/ 8]، فلولا خوف الإزاغة لما سألوه أن لا يُزيغ قلوبَهم.
وكان من دعاء النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “اللهم مصرّف القلوب، صرّفْ قلوبَنا على طاعتك” (1). و”مثبّتَ القلوب، ثبِّتْ قلوبَنا على دينك” (2).
وفي الترمذي (3) عنه مسلم أنَّه كان يدعو: “أعوذ بعزَتك أن تُضِلَّني، أنت الحيّ الذي لا يموت (4) “.
وكان من دعائه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “اللّهُمَّ إِنِّي أَعوذُ برضاكَ من سَخطِك، وأعوذُ بمعافاتِكَ من عقوبتك، وأعوذُ بِكَ مِنكَ” (5).
فاستعاذ -صلى اللَّه عليه وسلم- بصفة الرضا من صفة الغضب، وبفعل العافية من فعل العقوبة، واستعاذ به منه باعتبارين. وكان استعاذته به (6) منه جمعًا لما فصَّله في الجملتين قبله، فإنَّ الاستعاذة به سبحانه منه ترجع إلى معنى لكلام قبلها، مع تضمّنها فائدةً شريفةً وهي كمال التوحيد وأنَّ الذي يستعيذ به العائذ ويهرب منه إنَّما هو فعل اللَّه ومشيئته وقدره، فهو وحده
__________
(1) سبق تخريجه في ص (57).
(2) سبق تخريجه في ص (17).
(3) كذا في الأصل وغيره. والحديث في الصحيحين كما في مدارج السالكين (2/ 140). أخرجه البخاري في كتاب التوحيد (7383)، ومسلم في الذكر والدعاء (2717) عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما.
(4) “ك، ط”: “لا تموت”، والأصل غير منقوط، وكلاهما ورد في الحديث.
(5) تقدّم تخريجه في ص (57).
(6) “به” ساقط من “ط”.
(2/626)
المنفرد بالحكم، فإذا أراد بعبده سوءًا لم يُعِذْه منه إلا هو. فهو الذي يريد به ما يسوؤه، وهو الذي يريد دفعه عنه. فصارَ سبحانه مستعاذًا به منه باعتبار الإرادتين. {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [الأنعام/ 17] فهو الذي يمسن بالضرّ، وهو الذي يكشفه، لا إله إلا هو. فالمهرب منه إليه، والفرار منه إليه، واللجأ منه إليه، كما أنَّ الاستعاذة منه به (1)، فإنَّه لا ربَّ غيره، ولا مدبِّر للعبد سواه، فهو الذي يحرِّكه ويقلْبه ويصرِّفه كيف يشاء.
الجواب الرابع: أنَّ اللَّه سبحانه هو الذي يخلق أفعال العبد الظاهرة والباطنة، فهو الذي يجعل الإيمان والهدى في القلب، ويجعل فيه التوبة والإنابة والإقبال والمحبَّة والتفويض وأضدادها. والعبدُ في كلِّ لحظةٍ مفتقرٌ إلى هداية يجعلها اللَّه في قلبه، وحركاتٍ يحرِّكه بها (2) في طاعته. وهذا إلى اللَّه سبحانه، فهو خَلَقه (3) وقدَّره.
وكان من دعاءِ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “اللهمَّ آتِ نفسي تقواها، وزَكِّها أنتَ خيرُ من زكَّاها، أنتَ وليُّها ومولاها” (4). وعلَّم حصين بن المنذر (5) أن
__________
(1) “به” ساقط من “ط”.
(2) “ف”: “يحرّكها به”، سهو.
(3) “ب”: “في خلقه”.
(4) تقدّم تخريجه في ص (170).
(5) كذا قال المصنف هنا، وفي الوابل الصيب (410)، ومدارج السالكين (1/ 108، 294). وقال في نونيته:
واذكر حديثَ حُصَينٍ بنِ المنذر الثّـ … ـقةِ الرضا أعني أبا عمران
الكافية الشافية (455). والظاهر أنَّه وهم، فإنَّ حصينًا ابن عُبيد بن خلف الغاضري الخزاعي. انظر: الإصابة (2/ 86) وغيره.
(2/627)
يقول: “اللّهمَّ أَلهِمْني رشدي، وقِني شرَّ نفسي” (1). وعامَّة أدعيته -صلى اللَّه عليه وسلم- متضمِّنة لطلب توفيق ربّه وتزكيته له واستعماله في محابِّه.
فمَن هُداه وصلاحُه وأسبابُ نجاته بيد غيره، وهو المالك له ولها، المتصرِّف فيه بما يشاء، ليس له (2) من أمره شيء، مَن أحقّ بالخوف منه؛ وهَبْ أنَّه قد خلق له في الحال الهداية، فهل هو على يقينٍ وعلمٍ (3) أنَّ اللَّه سبحانه يخلقها له في المستقبل ويُلهِمه رُشدَه أبدًا؟ فعلم أنَّ خوف المقرَّبين عند ربِّهم أعظمُ من خوف غيرهم، واللَّه المستعان.
ومن ههنا كان خوف السابقين من فوات الإيمان، كما قال بعض السلف: “أنتم تخافون الذنب، وأنا أخاف الكفر” (4). وكان عمر ابن الخطاب رضي اللَّه عنه يقول لحذيفة: “نشدُتك اللَّهَ هل سمَّاني لك رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ ” يعني في المنافقين، فيقول: “لا، ولا أزكِّي بعدك أحدًا” (5) يعني: لا أفتح عليَّ هذا الباب في سؤال الناس لي، وليس مراده أنَّه لم يخلُصْ من النفاق غيرُك.
الوجه السادس: “وأمَّا الخواصّ فإنَّهم جعلوا الوعيد منه وعدًا، والعذابَ فيه عَذْبًا؛ لأنَّهم شاهدوا المبتليَ والمعذِّب، فاستعذبوا ما
__________
(1) تقدّم تخريجه في ص (170).
(2) “له” ساقط من “ط”.
(3) “ب”: “علم من أن”.
(4) نقله المصنف في الداء والدواء (117).
(5) زاد هنا في “ط” بين القوسين: “رواه البخاري” وهو غير صحيح (ص). وفي مسند البزار (2885) نحوه، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 42) وقال: “رواهُ البزار ورجاله ثقات”. وقال ابن حجر: “إسناده صحيح”. انظر: مختصر زوائد البزار (590). (ز).
(2/628)
وجدوا في جنب ما شاهدوا. . .” إلى آخر كلامه.
فيقال: هذا الكلام ونحوه من رعونات النفس، ومن الشطحات التي يجب إنكارها. فمن الذي جعل وعبد اللَّه وعدًا، وعقابه ثوابًا، وعَذابه عَذْبًا؟ وهل هذا إلا إنكار لوعيده وعذابه في الحقيقة؟ وأيّ عذاب أشدّ من عذابه، نعوذ باللَّه منه؟ قال تعالى: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} [الحج/ 2]. وقال: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)} [الفجر/ 25 – 26]. وهذا أظهر في كلِّ ملَّة من أن يحتاج إلى الاستدلال عليه. وإنَّما ينسب هذا المذهب للملاحدة (1) من القائلين بوحدة الوجود، كما قال قائلهم:
ولم يبق إلا صادقُ الوعد وحدَه … فما لوعيد الحقّ عينٌ تُعاينُ
وإن دخلوا دارَ الشقاءِ فإنَّهم … على لذَّةٍ فيها نعيمٌ مُباينُ
نعيمُ جِنان الخلد والأمر واحد … وبينهما عند التجلِّي تبايُنُ (2)
يسمَّى عذابًا من عُذوبة طعمه … وذاك له كالقشر، والقشر صائنُ (3)
فهذا القائل خطّ على تلك النقطة التي نقطها أبو العبَّاس، ولعلَّ الكلامين من مشكاة واحدة. وهذا مباين للمعلوم بالاضطرار من دين الرسل، وما أخبرت به عن اللَّه، وأخبر به على لسان
__________
(1) “ب، ك، ط”: “إلى الملاحدة”.
(2) هذا البيت في “ط” آخر الأبيات.
(3) أنشدها ابن عربي في فصوص الحكم. انظر: شرحه لصائن الدين (396 – 399). ومن الفصوص نقلها شيخ الإسلام في الصفدية (246) والمؤلِّف في حادي الأرواح (489).
(2/629)
رُسُله (1).
فإن قيل: ليس مراده ما ذكرتم وفهمتم من كلامه، وإنَّما مراده أنَّه سبحانه إذا ابتلى عبده في الدنيا فهو لكمال محبّته له يتلذَّذ بتلك البلوى ويعدّها نعمةً، وليس مراده عذاب الآخرة (2).
قيل: قوله عن الخواصّ: “أنَّهم جعلوا الوعيد منه وعدًا” ينفي ما ذكرتم من التأويل، فإنَّ ابتلاءَ الدنيا غيرُ الوعيد. وأيضا فإنَّه في مقام الخوف ونفيه عن الخاصَّة محتجًّا عليه بأنَّهم يرون العذاب عذبًا والوعيد وعدًا، فما لهم وللخوف؟ هذا مقصوده من سياق كلامه واحتجاجه عليه بهذا الهذيان الذي يسخر (3) منه العقلاء. بل نحن لا ننكر أنَّ العبد إذا تمكَّن حبّ اللَّه في قلبه حتَّى ملك جميعَ أجزائه فإنَّه يتلذَّذ بالبلوى أحيانًا. وليس ذلك دائمًا ولا أكثريًّا، ولكنَّه يعرض عند (4) هيجان الحبّ وغلبة الشوق، فيقهر شهود الألم، ثمَّ يراجع طبيعته فيذوق الألم. ولكن أين هذا مِن جعلِ الوعيد وعدًا، والعذاب عَذبًا؟
وإن أُحسِن الظنُّ بصاحب هذا الكلام ظُنَّ به أنَّه ورد عليه وارد من الحبّ يُخيِّل في نفسه أنَّ محبوبه إذا تواعده (5) كان ذلك منه وعدًا، وإن عذَّبه كان عذابُه عنده عذبًا، لموافقته مراد محبوبه. وهذا خيالٌ فاسد
__________
(1) “ط”: “رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-“.
(2) “ب”: “نعيم الآخرة”.
(3) “ف”: “سخر”، خلاف الأصل.
(4) “ف”: “عن”، خلاف الأصل.
(5) كذا في الأصل وغيره. ولم أجد “تواعده” بمعنى توعّده وتهدّده. وفي “ط”: “توعده”.
(2/630)
وتقدير في النفس، وإلا فالحقيقة الخارجية تكذِّب هذا الخيال الباطل. بل لو صُبَّ عليه أدنى شيء من عذابه لصاح واستغاث وطلب العفو والعافية. وحكمة اللَّه سبحانه تقتضي تعجيز هذه النفوس الجاهلة الرعِنة الحمِقة (1) بأدنى شيء يكون من الألم والوجع، حتَّى يتبين لها دعاويها الكاذبة، وشطحها الباطل.
وهذا سيّد المحبّين وسيّد ولد آدم، استعاذتُه باللَّه (2) من عذابه وبلائه، وسؤالُه عافيتَه ومعافاتَه معلومةٌ في أدعيته وتضرّعه إلى ربه وابتهاله إليه في ذلك، وهي أكثر وأشهر من أن تذكر ههنا. أفما (3) في سيّد المحبّين أسوة وقدوة؛ ولكن قد ابتلي كثير من أهل الإرادة بالشطح، كما ابتلي كثيرٌ من أهل الكلام بالشكّ. والمعافى مَن عافاه اللَّه من هذا وهذا، فنسأل اللَّه عافيتَه ومعافاتَه.
الوجه السابع: قوله: “إنَّ عذاب الكافرين إنَّما كان شديدًا لأنَّهم لا يشاهدون المعذِّب لهم، والمؤمنون يشاهدونه فلم يكن عذابهم شديدًا” ليس كذلك، فإنَّ عذاب الكافرين شديد في نفسه لِغلَظِ جُرمهم وهو الكفر، وهو دائم لا انقطاع له. وأمَّا المؤمنون الذين يعذَّبون بذنوبهم فعذابهم أضعف من عذاب الكافرين؛ لأنَّ عذابهم على الذنوب وهي دون الكفر، وهو منقطع. والآية لم يُرَدْ بها إثباتُ عذاب المؤمنين دون عذاب (4) الكافرين، وإنَّما سيقت لبيان عذاب الكافرين حسبُ،
__________
(1) كذا في الأصل وغيره. ولم تذكر كتب اللغة وصفًا من الرعونة إلّا “الأرعن” ومؤنثه “الرعناء”. وفي “ط”: “الرعناء والحمقاء”.
(2) “ف”: “استعاذ باللَّه”، سهو.
(3) “ط”: “وإنَّ”.
(4) “عذاب” ساقط من “ف”.
(2/631)
فمفهومها نفي العذاب عن المؤمنين، لا إثبات عذاب غير شديد. واللَّه أعلم.
الوجه الثامن: قوله: “وللخواصّ الهيبة، وهي أقصى درجة يشار إليها في غاية الخوف. والخوف يزول بالأمن وينتهي به خوف الشخص على نفسه من العقاب، فإذا أمن العقابَ زال الخوف. والهيبة لا تزول أبدًا لأنَّها مستَحقَّة للربّ بوصف التعظيم والإجلال، وذلك الوصف مستحق على الدوام، وهذه المعارضة والهيبة (1) تُعارض المكاشِفَ أوقات المناجاة، وتصونُ (2) المشاهِد أحيانَ المشاهدة وتعصم (3) المعاين (4) بصدمة العزَّة، ومنه (5) قال قائلهم:
أشتاقه، فإذا بدا … أطرقتُ مِن إجلالِه
لا خِيفَةً، بل هيبةً … وصيانةً لجماله
وأصُدُّ عنه تجلُّدًا … وأرومُ طيفَ خَيالِه” (6)
فيقال: من العجائب أنَّ المعنى الذي أمر اللَّهُ به في كتابه،
__________
(1) في المجالس: “وهذه الهيبة”.
(2) “ط”: “تصدم”!
(3) كذا في الأصل وغيره. وفي المجالس: “تقصم”. وفي منازل السائرين الذي اعتمد عليه ابن العريف في كلامهم هذا: “تفصم” بالفاء، وعليه فسّره ابن القيم في مدارج السالكين (1/ 612).
(4) “ك، ط”: “العاين”، تحريف.
(5) “المجالس”: “فيه”.
(6) محاسن المجالس (84).
(2/632)
وأثنى به على خاصَّة عباده وأقربهم إليه -وهم أنبياؤه ورسلُه وملائكتُه- يُجعل ناقصًا من منازل العوامّ، ويُعمَد إلى معنًى لم يذكره اللَّه ولا رسوله، ولا عُلِّق به المدحُ (1) والثناءُ في موضع واحد، فيُجعَل هو الكمال، وهو للخواصّ من العباد! فأين في القرآن والسنَّة ذكرُ الهيبة والأمرُ بها ووصفُ خاصَّته بها؟ ونحن لا ننكر أنَّ الهيبة من لوازم الإيمان وموجباته، ولكنَّ المنكَر أن يكون الوصفُ الذي وصف به أنبياءَه وملائكته ناقصًا، والوصف الذي لم يذكره هو الكامل التامّ!
وهذا المعنى المعبَّر عنه بالهيبة حقٌّ، ولكن لم تجئ العبارة عنه في القرآن والسنَّة بلفظ “الهيبة”، وإنَّما جاءت بلفظ “الإجلال” كقول النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إن من إجلال اللَّه إجلالَ ذي الشيبة المسلم، وحاملِ القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، والإمام العادل” (2). فالإجلال هو التعظيم، وكذلك الهيبة. يوضح هذا:
الوجه التاسع: وهو أنَّ الهيبة والإجلال يجوز تعلُّقها (3) بالمخلوق، كما قال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ من إجلال اللَّه إجلالَ ذي الشيبة المسلم” الحديث. وقال ابن عباس عن عمر: “هِبْتُه وكان مَهيبًا” (4). وأمَّا الخشية
__________
(1) “ط”: “على المدح”، خطأ.
(2) أخرجه أبو داود (4843)، والبيهقي في سننه (8/ 162)، والمدخل (662) وغيرهما من حديث أبي موسى الأشعري. وجاءَ موقوفًا وهو الصواب. أخرجه ابن المبارك في الزهد (388 – زوائد المروزي) وابن أبي شيبة (21916)، والبخاري في الأدب المفرد (357) وغيرهم، وهو مع وقفه فيه أبو كنانة تابعي مجهول. (ز).
(3) “ط”: “تعلّقهما”.
(4) أخرجه البخاري (4629)، ومسلم (1479) بلفظ: “مكثت سنة أريد أن أسأل =
(2/633)
والمخافة فلا تصلح إلا للَّه وحده. قال تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة/ 44]. وقال: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) [آل عمران/ 175]. وقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} [التوبة/ 18].
فالخوف عبودية القلب فلا يصلح إلا للَّه وحده (2)، كالذلّ والمحبّة والإنابة والتوكّل والرجاء وغيرها من عبودية القلب. فكيف تُجعل (3) المهابةُ المشتركةُ أفضلَ منه وأعلى؟
وتأمَّل قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)} (4) [النور/ 52] كيف جعل الطاعة له (5) ولرسوله، والخشية والتقوى له وحده. وقال: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} (6) [الفتح/ 9] كيف جعل التعزير والتوقير (7) للرسول وحده. و”التوقير” هو
__________
= عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له. . .”. (ز).
(1) في الأصل وغيره: “خافوني” على قراءة أبي عمرو في الوصل. وقد تقدم مثله في ص (614).
(2) “وحده” ساقط من “ك، ط”.
(3) “ك، ط”: “وكيف يجعل”.
(4) ضبط “ب”: “ويتّقِهْ” بكسر القاف وسكون الهاء، على قراءة أبي عمرو وعاصم في رواية أبي بكر. انظر: الإقناع (501).
(5) “ك، ط”: “للَّه”.
(6) ضبطت الأفعال الثلاثة في “ف، ب” بالياء على قراءة ابن كثير وأبي عمرو. والأصل غير منقوط. انظر: الإقناع (769).
(7) “ك، ط”: “التوقير والتعزير”.
(2/634)
التعظيم الصادر عن الهيبة والإجلال. هذا (1) حقيقته، فَعُلِمَ أنَّ الخوف من أجلّ مقامات الخواص، وأنَّهم إليه أحوج، وبه أقوم من غيرهم.
الوجه العاشر: قوله: “الخوف يزول بالأمن، والهيبة لا تزول أبدًا” إلى آخره. فيقال: هذا حق، فإنَّ الخوف إنَّما يكون قبل دخول الجنَّة، فإذا دخلوها زال عنهم الخوف الذي كان يصحبهم في الدنيا وفي عرصات القيامة، وبُدِّلوا به أمنًا؛ لأنَّهم قد أمنوا العذاب، فزايلهم الخوفُ منه. ولكن لا يدلّ هذا على أنَّه كان مقامًا ناقصًا في الدنيا، كما أنَّ الجهاد من أشرف المقامات، وقد زالَ عنهم في الآخرة. وكذلك الإيمان بالغيب أجل المقامات على الإطلاق، وقد زال في الآخرة، وصار الأمر شهادة. وكذلك الصلاة والحجّ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل النفس للَّه، وهي من أشرف الأعمال، وكلّها تزول في الجنَّة. وهذا لا يدل على نقصانها، فإنَّ الجنة ليست دار سعي وعمل، إنَّما هي دار نعيم وثواب.
الوجه الحادي عشر: أنَّ الخوف إنَّما زال في الجنَّة لأنَّ تعلّقه إنَّما هو بالأفعال لا بالذَّات -كما تقدّم- وقد آمنهم ما كانوا يخافون منه. فقد أمنوا أن يفعلوا (2) ما يخافون منه، وأن يفعل بهم ربُّهم ما يُخيفهم. ولكن كان الخوف في الدنيا أنفع شيء (3) لهم، فيه وصلوا إلى الأمن التامّ. فإنَّ اللَّه سبحانه لا يجمع على عبده مخافتَين ولا أمنَين (4)، فمن خافه في
__________
(1) “ط”: “هذه”.
(2) “ك، ط”: “أن لا يفعلوا”.
(3) “شيء” ساقط من “ك، ط”.
(4) “ك، ط”: “مخافتين اثنتين”، تحريف.
(2/635)
الدنيا أمنه يوم القيامة، ومن آمنه في الدنيا ولم يُخِفْه أخافه في الآخرة. وناهيك شرفًا وفضلًا بمقامٍ ثمرتُه الأمنُ الدائمُ المطلَق.
الوجه الثاني عشر: أنَّ الإجلال والمهابة والتعظيم إنَّما لم تزُلْ لأنَّها متعلِّقة بنفس الذات، وهي موجودة في دار النعيم. وأمَّا الخوف فإنَّه إنَّما زال لأنَّه وسيلة إلى توفية العبودية والقيام بالأمر. والوسيلة تزول عند حصول الغاية، ولكنَّ زوالَ الوسيلة عند حصول الغاية لا يدلّ على أنَّها ناقصة. وإذا كانت تلك الغايةُ لا كمال للعبد بدونها، فالوسيلة إليها كذلك.
الوجه الثالث عشر: قوله: “وهذه المعارضة والهيبة تعارض المكاشف أوقات المناجاة، وتصون المشاهد أحيان المشاهدة، وتعصم المعاين (1) بصدمة العزَّة”.
فيقال: لا ريب أنَّ الحبّ والأنس المجرَّد عن الإجلال والتعظيم (2) يبسط النفس، ويحملها على بعض الدعاوى والرعونات والأماني الباطلة، وإساءَة الأدب، والجناية على حقّ المحبَّة. فإذا قارن المحبَّةَ مهابةُ المحبوب، وإجلالُه وتعظيمُه، وشهودُ عزِّ جلاله وعظيمِ سلطانه = انكسرت نفسُه له، وذلَّت لعظمته، واستكانت لعزَّته، وتصاغرت لجلاله، وصَفَتْ من رعونات النفس وحماقاتها، ودعاويها الباطلة، وأمانيها الكاذبة.
ولهذا في الحديث: “يقول اللَّه عزَّ وجلَّ: أين المتحابُّون بجلالي؟
__________
(1) “ط”: “المعاني”، تحريف.
(2) “ط”: “التعظيم والإجلال”.
(2/636)
اليوم أظِلُّهم في ظلِّي يومَ لا ظلِّ إلا ظلِّي” (1). فقال: “أين المتحابُّون بجلالي”، فهو حبّ بجلاله سبحانه وتعظيمه ومهابته، ليس حبًّا لمجرَّد جماله، فإنَّه سبحانه الجليل الجميل. والحبّ الناشئ عن شهود هذين الوصفين هو الحبّ النافع الموجِب لكونهم في ظلّ عرشه يوم القيامة. فشهود الجلال وحده يُوجِبُ خوفًا وخشية وانكسارًا، وشهودُ الجمال وحده يُوجِب حبًّا بانبسَاط وإدلال ورعونة. وشهود الوصفين معًا يوجب حبًّا مقرونًا (2) بتعظيم وإجلال ومهابة، وهذا هو غاية كمال العبد. واللَّه أعلم.
وإنشاده هذه الأبيات الثلاثة في هذا المقام في غاية القبح، فإنَّ هذا المحِبِّ نَفَى (3) خوفَه من محبوبه، وأخبر أنَّه يصدّ عن محبوبه (4) ويُعرض عنه إظهارًا للتجلّد إمَّا على محبوبه (5)، وذلك قبيح في حكم المحبّة، فإنَّ التذلّل للمحبوب وتملّقه واستعطافه والانكسار له أولى بالمحبّ من تجلّده وتعزّزه، كما قيل:
اخْضَعْ وذِلَّ لمن تُحِبُّ فليس في … شَرعِ الهوى أنفٌ يُشالُ ويُعقدُ (6)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة (2566) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(2) في الأصل: “مقرون”. وهو سهو.
(3) “ط”: “ينفي”.
(4) “وأخبر أنَّه. . .” إلى هنا ساقط من “ط”.
(5) “ط”: “للتجلّد أمام رقيبه”، وهو غلط، فإنّ الكلام الآتي في التجلّد على المحبوب. أما التجلّد على الرقيب فسيذكره بعد قليل.
(6) أنشده المصنف في مدارج السالكين (1/ 281)، وروضة المحبين (290)، والبيت في بدائع البدائه (17).
(2/637)
ثمّ أخبر أنه يروم طيفَ خياله، فهو طالب لحظِّه من محبوبه، لا لمراد محبوبه منه. فهذا محِبّ لنفسه، وقد جعل طيفَ محبوبه وسيلةً إلى حصول مراده، فأحبّه حبَّ الوسائل، بخلاف من قد أحبّ محبوبَه لذات المحبوب، ففني عن مراده هو منه بمراد محبوبه، فصار مرادُه مرادَ محبوبه، فحصل الاتحاد في المراد، لا في الإرادة، ولا في المريد.
هذا إن كان صدّ (1) عنه تجلّدًا عليه. وإن كان تجلُّدًا على الرقيب خوفًا منه فهو ضعيف المحبّة، لأنَّ فيه بقيَّةً ليست مع محبوبه بل مع رقيبه، فهلًا ملأ الحبُّ قلبَه، فلم يبق فيه بقيَّة يلاحظ بها الرقيب والعاذل (2)؟ كما قيل:
لا كانَ مَن لِسواكَ فيه بقيّةٌ … يجِدُ السبيلَ بها إليه العُذَّلُ (3)
وبالجملة فهذه أبيات ناقصة المعنى لا يصلح الاستشهاد (4) بها في هذا المقام (5). واللَّه أعلم.
__________
(1) “ط”: “صبره”، تحريف.
(2) “ف”: “الغافل”. قراءة محتملة.
(3) تقدّم في ص (503).
(4) “ب”: “الاحتجاج”.
(5) “في هذا المقام” ساقط من “ب، ك، ط”.
(2/638)
فصل [في المحبّة]والمقصود الكلام على علل المقامات وبيان ما فيها من خطأ وصواب؛ ولمّا كان أبو العبّاس بن العريف رحمه اللَّه قد تعرَّض لذلك في كتابه “محاسن المجالس”، ذكرنا كلامه فيه، وما له وما عليه. ثمَّ ذكر بعد هذا فصلًا في المحبّة، وفصلًا في الشوق، فنذكر كلامه في ذلك وما يفتح اللَّه به، تتميمًا للفائدة، ورجاءً للمنفعة، وأن يمنَّ اللَّه العزيز الوهَّاب بفضله ورحمته، فيرقّي عبدَه (1) من العلم إلى الحال، ومن الوصف إلى الاتصاف. إنَّه قريب مجيب.
قال أبو العباس: “وأمَّا المحبّة فقد كثرت إشارة (2) أهل التحقيق في العبارة عنها، وكلٌّ (3) نطقَ بحسب ذوقه، وانفسح بمقدار شوقه” (4).
قلتُ: الشيء إذا كان من (5) الأمور الوجدانيّة الذوقيّة التي إنَّما تعلم بآثارها وعلاماتها، وكان ممَّا يقع فيه التفاوت بالشدَّة والضعف، وكان له لوازم وآثار وعلامات متعددة = اختلفت العباراتُ عنه بحسب اختلاف هذه الأشياء. وهذا شأن المحبّة، فإنَّها ليست بحقيقةٍ معايَنةٍ (6) تُرى
__________
(1) كذا ضبط في “ف، ب”. وفي “ك، ط”: “ويرقى”.
(2) كذا في الأصل. وفي المجالس: “فقد اختلفت إشارات”، وفي “ك، ط”: “فقد أشار”، خطأ.
(3) “ف”: “فكلّ”.
(4) محاسن المجالس (90 – 91).
(5) “ط”: “في”، تحريف.
(6) “ط”: “معانيها”، تحريف.
(2/639)
بالأبصار، فيشترك الواصفون لها في الصفة. وهي في نفسها متفاوتة أعظمَ تفاوت، ما (1) بين العلاقة التي هي تعلّق القلب بالمحبوب، والخُلّة التي هي أعلى مراتب الحبّ؛ وبينهما درجات متفاوتة تفاوتًا لا ينحصر. ولها آثار تُوجِبها، وعلاماتٌ تدل عليها، فكلٌّ أدرك بعض آثارها أو (2) بعض علاماتَها، فعبّر بحسب ما أدركه. وهي وراءَ ذلك كلّه: ليس اسمها كمسمَّاها، ولا لفظها مبينٌ لمعناها.
وكذلك اسم المصيبة والبليّة والشدَّة والألم إنَّما تدلّ أسماؤها عليها نوعَ دلالةٍ لا تكشف حقيقتها، ولا تُعلم حقيقتُها إلا بذوقها ووجودها. وفرق بين الذوق والوجود، وبين التصوّر والعلم. فالحدود والرسوم التي قيلت في المحبّة صحيحة غيرُ وافية بحقيقتها، بل هي إشارات وعلامات وتنبيهات.
فصل [حدّ للمحبَّة والكلام عليه]قال: “وهي -على الإجمال قبل أن ننتهي إلى التفصيل- وجودُ تعظيمٍ في القلب يمنع الانقيادَ لغير محبوبه” (3).
فيقال: التعظيم (4) المانع من الانقياد لغير المحبوب هو أثر من آثار
__________
(1) “ط”: “كما”، تحريف.
(2) “آثارها أو بعض” ساقط من “ط”. وكذا من “ك”، ثم استدركه بعضهم في الحاشية.
(3) محاسن المجالس (90 – 91).
(4) “ب، ك، ط”: “هذا التعظيم”، والمثبت من “ف”. وكأنّ كلمة “هذا” في الأصل مضروب عليها.
(2/640)
المحبّة وموجَب من موجَباتها، لا أنَّه نفس المحبّة، فإنَّ المحبّة إذا كانت صادقة أوجبَتْ للمحِبّ تعظيمًا لمحبوبه يمنعه من انقياده إلى غيره. وليس مجرَّد التعظيم هو المانع له من الانقياد إلى غيره، بل التعظيم المقارن للحبّ هو الذي يمنع من الانقياد إلى غير المحبوب. فإنّ التعظيم إذا كان مجرَّدًا عن الحبّ لم يمنع انقياد القلب إلى غير المعظّم. وكذلك إذا كان الحبّ خاليًا عن التعظيم لم يمنع المحِبَّ أن ينقاد إلى غير محبوبه. فإذا اقترن الحبّ بالتعظيم، وامتلأ القلب بهما، امتنع انقياده إلى غير المحبوب.
والمحبّة المشتركة ثلاثة أنواع:
أحدها: محبّة طبيعية مشتركة، كمحبّة الجائع للطعام، والظمآن للماءِ، وغير ذلك. وهذه لا تستلزم التعظيم.
والنوع الثاني: محبّةُ رحمةٍ وإشفاقٍ، كمحبّة الوالد لولده الطفل، ونحوها. وهذه أيضًا لا تستلزم التعظيم.
والنوع الثالث: محبّة أنسٍ وإلفٍ، وهي محبّة المشتركين في صناعة أو علم أو مرافقة أو تجارة أو سفر لبعضهم (1) بعضًا، وكمحبّة الإخوة بعضهم بعضًا.
فهذه الأنواع الثلاثة هي المحبّة التي تصلح للخلق بعضهم من بعض، ووجودها فيهم لا يكون شركًا في محبَّة اللَّه. ولهذا كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-
__________
(1) كذا في الأصل وغيره. وفي “ط”: “بعضهم”.
(2/641)
يحبّ الحلواءَ والعسل (1)، وكان أحبّ الشراب إليه الحلو البارد (2)، وكان أحبّ اللحم إليه الذراع (3). وكان يحبّ نساءَه، وكانت عائشة رضي اللَّه عنها أحبَّهنَّ إليه (4). وكان يحبّ أصحابه، وأحبُّهم إليه الصدِّيق (5) رضي اللَّه عنه.
وأمَّا المحبَّة الخاصَّة التي لا تصلح إلا للَّه وحده، ومتى أحبّ العبدُ بها غيرَه كان شركًا لا يغفره اللَّه، فهي محبّة العبودية المستلزمة للذلّ والخضوع، والتعظيم، وكمال الطاعة، وإيثاره على غيره. فهذه المحبّة لا يجوز تعلقها بغير اللَّه أصلًا، وهي التي سوّى المشركون بين آلهتهم وبين اللَّه فيها، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة/ 165]. وأصحّ القولين أنَّ المعنى: يحبّونهم كما يحبّون اللَّه، فيسوّون (6) بين اللَّه وبين أندادهم
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة (5431) وغيره من حديث عائشة رضي اللَّه عنها.
(2) أخرجه أحمد (24100، 24129)، والترمذي (1895)، والنسائي في الكبرى (6844) من حديث عائشة مرفوعًا. وأخرجه الترمذي (1896) من حديث الزهري مرسلًا وقال: “والصحيح ما روي عن الزهرى عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا”. (ز).
(3) أخرجه البخاري في كتاب التفسير (4712) وغيره، ومسلم في كتاب الإيمان (194) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(4) نصه في صحيح البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (6362)، وصحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة (2384) من حديث عمرو بن العاص رضي اللَّه عنه.
(5) يشهد له حديث الصحيحين المشار إليه آنفًا.
(6) قراءة “ف”: “ويسؤون”، وهي محتملة. وفي “ب، ك، ط”: “وسوّوا”.
(2/642)
في الحبّ. ثمَّ نفى ذلك عن المؤمنين فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة/ 165]، فإنَّ الذين آمنوا أخلصوا حبّهم للَّه لم يشركوا به معه غيره، وأمَّا المشركون فلم يخلصوه للَّه.
والمقصود من الخلق والأمر إنَّما هو هذه المحبّة، وهي أوَّل دعوة الرسل. وآخرُ كلام العبد المؤمن الذي إذا مات عليه دخل الجنَّة اعترافُه وإقرارُه بهذه المحبّة، وإفرادُ الربّ تعالى بها. فهو أول ما يدخل به في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا (1) إلى اللَّه. وجميع الأعمال كالأدوات والآلات لها، وجميع المقامات وسائل إليها، وأسبابٌ لتحصيلها وتكميلها وتحصينها (2) من الشوائب والعلل. فهي قطب رحى السعادة، وروح الإيمان، وساق شجرة الإسلام. ولأجلها أنزل اللَّه الكتاب والحديد: فالكتاب هادٍ إليها، ودالّ عليها، ومفصِّل لها. والحديد لمن خرج عنها، وأشرك فيها مع اللَّه غيره. ولأجلها خلقت الجنة والنار: فالجنة دار أهلها الذين أخلصوها للَّه وحده، فأخلصهم لها؛ والنار دار من أشرك فيها مع اللَّه غيره، وسوَّى بينه وبين اللَّه فيها، كما أخبر تعالى عن أهلها أنَّهم يقولون في النار لآلهتهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)} [الشعراء/ 97 – 98].
وهذه التسوية لم تكن منهم في الأفعال والصفات بحيث اعتقدوا أنَّها مساوية للَّه في أفعاله وصفاته، وإنَّما كانت تسويةً منهم بين اللَّه وبينها في المحبّة والعبودية فقط (3)، مع إقرارهم بالفرق بين اللَّه وبينها، فتصحيح
__________
(1) ” ف”: “الذنب”، تحريف.
(2) “ف”: “تخليصها”، خلاف الأصل.
(3) “فقط” ساقط من “ط”. وفي “ك”: “فقطع” تحريف.
(2/643)
هذه المسألة (1) هو تصحيح شهادة أن لا إله إلا اللَّه.
فحقيقٌ بمن (2) نصح نفسه وأحبّ سعادتها ونجاتها أن يتيقّظ لهذه المسألة علمًا وعملًا وحالًا، وتكون أهمّ الأشياء عنده، وأجلّ علومه وأعماله؛ فإنَّ الشأن كلّه فيها، والمدار عليها، والسؤال يوم القيامة عنها. قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)} [الحجر/ 92 – 93]. قال غير واحد من السلف: هو عن قول: “لا إله إلا اللَّه” (3). وهذا حقّ، فإنَّ السؤال كلّه عنها وعن أحكامها وحقوقها وواجباتها ولوازمها، فلا يسأل أحدٌ قطُّ إلا عنها وعن واجباتها ولوازمها وحقوقها.
قال أبو العالية: كلمتان يُسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ (4) فالسؤال عمَّاذا كانوا يعبدون هو السؤال عنها نفسها، والسؤالُ عمَّاذا أجابوا المرسلين سؤالٌ عن الوسيلة والطريق المؤدية إليها: هل سلكوها وأجابوا الرسل لما دعوهم إليها؟ فعاد الأمر كلّه إليها.
وأمرٌ هذا شأنه حقيقٌ بأن تُثنى (5) عليه الخناصر، ويُعَضَّ عليه بالنواجذ، ويُقبضَ فيه على الجمر. ولا يؤخذ بأطراف الأنامل،
__________
(1) “المسألة” ساقط من “ك، ط”.
(2) “ك، ط”: “لمن”.
(3) تفسير الطبري (14/ 139 – 141).
(4) تفسير الطبري (14/ 141)، المحرر الوجيز (3/ 375)، زاد المسير (4/ 419).
(5) “ط”: “تنعقد”.
(2/644)
ولا يُطلب على فضلة؛ بل يُجعل هو المطلب الأعظم، وما سواه إنَّما يطلب على الفضلة. واللَّه الموفق لا إله غيره، ولا ربّ سواه.
فصل [حدّ آخر للمحبة]قال: “وقيل: المحبة إيثار المحبوب على غيره” (1).
وهذا الحدُّ أيضًا من جنس ما قبله، فإنَّ إيثار المحبوب على غيره موجَب المحبة ومقتضاها (2)، فإذا استقرَّت المحبَّة في القلب استدعت من المحبّ إيثارَ محبوبه على غيره، وهذا الإيثار علامة ثبوتها وصحتها (3). فإذا آثر غير المحبوب عليه لم يكن محبَّا له، وإن زعم أنَّه محبّ، فإنَّما هو محبّ لنفسه ولحظّه ممن يحبه، فإذا رأى حظًّا آخرَ هو أحبُّ إليه من حظّه الذي يريده من محبوبه آثرَ ذلك الحظَّ المحبوبَ إليه.
فهذا موضع يغلط فيه الناسُ كثيرًا، إذ أكثرهم إنَّما هو محبٌّ (4) لحظِّه ومراده، فإذا علم أنَّه عند غيره أحبَّ ذلك الغيرَ حبَّ الوسائل لا حبًّا له لذاته. ويظهر هذا عند حالتين: إحداهما: أن (5) يرى حظًا له آخرَ عند غيره، فيؤثر ذلك الحط، ويترك محبوبه. الثانية: أنَّه إذا نال ذلك
__________
(1) محاسن المجالس (90).
(2) “ب”: “ومقتضٍ لها”، وأخشى أن يكون تغييرًا من ناسخ قرأ “موجب” بكسر الجيم، وهو خطأ.
(3) “ب”: “علامة صحّتها وقبولها”!
(4) “ك، ط”: “يحبّ”.
(5) “ك، ط”: “أنّه”.
(2/645)
الحظَّ من محبوبه فترت محبّتُه، وسكن قلبُه، وترحّل قاطنُ المحبّة من قلبه؛ كما قيل: “من ودَّك لأمرٍ ولَّى (1) عند انقضائه”. فهذه محبّة مشوبة بالعلل.
بل المحبّه الخالصة أن تحبّ المحبوبَ لكماله، وأنَّه أهل أن يُحَبَّ كمحبّته (2) لذاته وصفاته. وإنَّ الذي توجبه (3) هذه المحبة فناءُ العبد عن إرادته بمراد (4) محبوبه، فيكون عاملًا على مراد محبوبه منه، لا على مراده هو من محبوبه (5). فهذه هي المحبّة الخالصة من درن العلل وشوائب النفس، وهي التي تستلزم (6) إيثار المحبوب على غيره ولا بدّ. وكلَّما كان سلطان هذه (7) المحبّة أقوى كان هذا الإيثار أتمّ (8). وفي مثل هذا قيل:
تعصي الإلهَ وأنت تزعم حبَّه … هذا محال في القياس شنيعُ (9)
لو كان حبّك صادقًا لأطعتَه … إنَّ المحبّ لمن يحبّ مطيعُ (10)
__________
(1) في مفتاح دار السعادة (1/ 437): “مَلَّكَ”، واللفظ المشهور كما هنا. انظر: زاد المعاد (4/ 271)، والبصائر والذخائر (1/ 127). وسيأتي مرة أخرى في ص (696).
(2) “كمحبّته”ساقط من “ب، ك، ط”.
(3) “ط”: “وأنّ الذي يوجب”، وهو خطأ.
(4) “ط”: “لمراد”، خطأ.
(5) “وإن الذي توجبه. . .” إلى هنا ساقط من “ب، ك”. واستدركه بعضهم في حاشية “ك”.
(6) “ط”: “تتزايد”، تحريف.
(7) “هذه” ساقط من “ب”.
(8) “إيثار المحبوب. . .” إلى هنا ساقط من “ط”.
(9) “ب”: “لعمري في الفعال”. “ط”: “لعمرك”.
(10) البيتان لمحمود الورّاق في الكامل (513) والزهرة (59) والعقد (3/ 215). =
(2/646)
وههنا دقيقة ينبغي التفطّن لها، وهي أنَّ إيثار المحبوب نوعان: إيثار معاوضة ومتاجرة، وإيثار حبّ وإرادة. فالأوَّل يؤثر محبوبَه على غيره طلبًا لحظّه منه. فهو (1) يبذل ما يؤثره به (2) ليعاوضه بخير منه. والثاني يؤثره إجابةً لداعي محبته. فإنَّ المحبة الصادقة تدعوه دائمًا إلى إيثار محبوبه، فإيثارُه هو أجلّ حظوظه. فحظّه في نفس الإيثار، لا في العوض المطلوب بالإيثار. وهذا لا يفهمه إلا النفس اللطيفة الوادعة (3) المشرقة. وأمَّا النفس الكثيفة فلا خبر عندها من هذا، وما هو بعُشّها فَلْتَدْرُجْ (4)!
فصل (5)
والدين كلّه والمعاملة في الإيثار، فإنَّه تقديم وتخصيص لمن تؤثره بما تؤثره به على نفسك، حتى قيل (6): إنَّ من شرطه الاحتياج من جهة المؤثر، إذ لو لم يكن محتاجًا إليه لكان بذله سخاءً وكرمًا. وهذا إنَّما يصح في إيثار المخلوق، واللَّه سبحانه يؤثر عبدَه على غيره، من غير احتياج منه سبحانه، فإنَّه الغني الحميد.
وفي الدعاء المرفوع: “اللّهم زِدْنَا ولا تنقصْنا، وأعْطِنا ولا تحرِمْنا،
__________
= وينسبان إلى الشافعي. انظر: ديوان الوراق (139).
(1) في الأصل: “فهي”، سهو. وكذا في “ف”.
(2) “به” ساقط من “ب، ك، ط”.
(3) أي: الهائة المطمئنة. وفي “ط”: “الورعة”، تحريف.
(4) انظر المثل “ليس هذا بعُشِّكِ فادرُجي” في معجم الأمثال للميداني (3/ 93).
(5) كلمة “فصل” ساقطة من “ط”.
(6) “قيل” ساقطة من “ك، ط”.
(2/647)
وأكرِمْنا ولا تُهِنَّا، وآثِرْنا ولا تُؤثر علينا، وأرضِنا وارضَ عنَّا” (1).
وقيل: من آثر اللَّه على غيره آثره اللَّه على غيره.
والفرق بين الإيثار والأثرة أنَّ “الإيثار” تخصيص الغير بما تريده لنفسك. و”الأثرة” اختصاصك به على الغير. وفي الحديث: “بايعنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على السمع والطاعة في عُسْرنا ويُسْرنا، ومَنشَطنا ومَكْرَهِنا، وأثَرةٍ علينا” (2).
إذا (3) عرف هذا، فالإيثار إمَّا أن يتعلَّق بالخلق، وإمَّا أن يتعلّق بالخالق. فإن (4) تعلّق بالخلق، فكماله أن تؤثرهم على نفسك بما لا يضيع عليك وقتًا، ولا يفسد عليك حالًا، ولا يهضِم لك دينًا، ولا يسدّ عليك طريقًا، ولا يمنع لك واردًا. فإن كان في إيثارهم شيء من ذلك، فإيثارُ نفسك عليهم أولى، فإن الرجلَ مَن لا يؤثر بنصيبه من اللَّه أحدًا كائنًا من كان.
وهذا في غاية الصعوبة على السالك، والأول أسهل منه. فإنَّ الإيثار المحمود الذي أثنى اللَّه على فاعله الإيثار بالدنيا، لا بالوقت والدين وما يعود بصلاح القلب. قال اللَّه تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ
__________
(1) أخرجه الترمذي (3173) و (3173)، والنسائي في الكبرى (1348) من حديث عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه. قلت: فيه يونس بن سليم: مجهول، فالإسناد ضعيف. (ز).
(2) أخرجه البخاري في كتاب الفتن (7056) ومسلم في الإمارة (1709) من حديث عبادة بن الصامت رضي اللَّه عنه.
(3) “ط”: “فإذا”.
(4) “ط”: “وإن”.
(2/648)
بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر/ 9]. فأخبر تعالى أنَّ إيثارهم إنَّما هو بالشيء الذي إذا وُقِي الرجلُ الشحَّ به كان من المفلحين. وهذا إنَّما هو فضول الدنيا (1)، لا الأوقات المصروفة في الطاعات؛ فإنَّ الفلاح كلّ الفلاح في الشحّ بها، فمن لم يكن شحيحًا بوقته تركه الناس على الأرض عريانا (2) مفلسًا؛ فالشح بالوقت هو عمارة القلب وحفظ رأس ماله.
وممَّا يدلُّ على هذا أنَّه سبحانه أمر بالمسابقة في أعمال البرّ، والتنافس فيها، والمبادرة إليها؛ وهذا ضدّ الإيثار بها. قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران/ 133] وقال: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة/ 148] وقال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [المطففين/ 26]. وقال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لو يعلمُ الناسُ ما في النداء والصفّ الأوَّل لكانت قُرْعةً” (3). والقرعة إنَّما تكون عند التزاحم والتنافس، لا عند الإيثار. فلم يجعل الشارع الطاعات والقربات محلًّا للإيثار، بل محلًّا للتنافس والمسابقة، ولهذا قال الفقهاء: “لا يستحبّ الإيثار بالقربات”.
__________
(1) “ف”: “من فضول الدنيا”، خلاف الأصل. وفي حاشية “ب”: “لعله: في” يعني: “في فضول. . .”.
(2) “ك، ط”: “عِيانًا”.
(3) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة (439) عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه. وليس فيه ذكر النداء ولفظه: “لو تعلمون -أو يعلمون- ما في الصفّ المقدم لكانت قرعة”. والنداء في حديثه الآخر الذي أخرجه البخاري في الأذان (615) وغيره ومسلم في الصلاة (437) ولفظه: “لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلّا أن يستهموا عليه لاستهموا”.
(2/649)
والسرّ فيه -واللَّه أعلم- أنَّ الإيثار إنَّما يكون بالشيء الذي يضيق عن الاشتراك فيه، فلا يسع المؤثِر والمؤثَر، بل لا يسع إلا أحدَهما. وأمَّا أعمال البرّ والطاعات فلا ضيق على العباد فيها، فلو اشترك الألوف المؤلّفة في الطاعة الواحدة لم يكن عليهم فيها ضيق ولا تزاحم، ووَسِعَتْهم كلَّهم. وإن قُدِّر التزاحمُ في عمل واحد أو مكان لا يمكن أن يفعله الجميع، بحيث إذا فعله واحد فات على غيره؛ فإنَّ في العزم والنية الجازمة على فعله من الثواب ما لفاعله، كما ثبت عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في غير حديث. فإذا قُدِّرَ فوتُ مباشرته له، فلا يفوت عليه عزمُه ونيَّتُه لفعله.
وأيضًا فإنَّه إذا فات عليه كان في غيره من الطاعات والقربات عوضٌ (1) منه: إمَّا مساوٍ له، وإمَّا أزيد (2)، وإمَّا دونه. فمتى أتى بالعوض، وعلِم اللَّه من نيته وعزيمته الصادقة إرادته لذلك العمل الفائت، أعطاه (3) ثوابَه وثوابَ ما تعوّض به عنه؛ فجمع له الأمرين. وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم.
وأيضًا فإنَّ المقصود رغبة العبد في التقرّب إلى اللَّه، وابتغاء الوسيلة إليه، والمنافسة في محابّه؛ والإيثار بهذا التقرّب يدل على رغبته عنه وتركه له، وعدم المنافسة فيه. وهذا بخلاف ما يحتاج إليه العبد من طعامه وشرابه ولباسه، إذا كان أخوه محتاجًا إليه، فإذا اختصّ به أحدهما فات الآخر، فندب اللَّه سبحانه عبده إذا وجد من نفسه قوَّةً وصبرًا على
__________
(1) في الأصل: “عوضًا”، سهو. وكذا في النسخ الأخرى.
(2) “ب”: “زائد عليه”.
(3) “ك، ط”: “أعطاه اللَّه”.
(2/650)
الإيثار به، ما لم يخرِمْ عليه دينًا، أو يجلبْ له مفسدةً، أو يقطعْ عليه طريقًا عزم على سلوكه إلى ربّه، أو (1) يشوّشْ (2) عليه قلبه بحيث يجعله متعلِّقًا بالخلق؛ فمفسدة الإيثار هنا (3) أرجح من مصلحته. فإذا ترجَّحت مصلحة الإيثار، بحيث تتضمَّن إنقاذَ نفسٍ (4) من هلكة أو عطب أو شدَّة ضرورة -وليس بالمؤثَر (5) نظيرها- تعيَّن عليه الإيثار. فإن كان به (6) نظيرها لم يتعيَّن عليه الإيثار، ولكن لو فعله لكان غاية الكرم والسخاءِ والإحسان؛ فإنَّه من آثر حياةَ غيره على حياته وضرورتَه على ضرورته، فقد استولى على أمد الكرم والسخاء، وحاز قصباته (7)، وضرب فيه بأوفر الحظّ. وفي هذا الموضع مسائل فقهية (8) ليس هذا موضع ذكرها.
فإن قيل: فما الذي يُسهّل على النفس هذا الإيثار، فإنَّ النفس مجبولة على الأثَرة، لا على الإيثار؟
قيل: يسهّله أمور:
أحدها: رغبة العبد في مكارم الأخلاق ومعاليها، فإنَّ من أفضل أخلاق الرجل وأشرفها وأعلاها: الإيثار. وقد جبل اللَّه القلوبَ على تعظيم صاحبه ومحبّته، كما جبلها على بغض المستأثر ومقته، لا تبديل
__________
(1) “ب”: “إذا”.
(2) “ك، ط”: “شوّش”.
(3) “ط”: “إيثار هذا”، تحريف.
(4) “ك، ط”: “نفسه”، خطأ.
(5) “ك، ب، ط”: “للمؤثر”.
(6) “ب”: “له”.
(7) “ط”: “جاوز أقصاه”، تحريف.
(8) “ف”: “متفرقة”، تحريف.
(2/651)
لخلق اللَّه.
والأخلاق ثلاثة: خلق الإيثار، وهو خلق الفضل. وخلق القسمة والتسوية (1)، وهو خلق العدل. وخلق الاستئثار والاستبداد، وهو خلق الظلم. فصاحب الإيثار محبوب مطاع مهيب. وصاحب العدل لا سبيل للنفوس إلى أذاه والتسلّط عليه، ولكنها لاتنقاد إليه انقيادَها لمن يؤثرها. وصاحب الاستئثار، النفوسُ إلى أذاه والتسلّط عليه أسرعُ من السيل في حَدوره (2). وهل أزال الممالك وقلَعَها إلا الاستئثار؟ فإنَّ النفوس لا صبر لها عليه. ولهذا أمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أصحابه بالسمع والطاعة لولاة الأمر، وإن استأثروا عليهم (3)؛ لما في طاعة المستأثر من المشقّة والكره (4).
الثاني: النفرة من أخلاق اللئام، ومقت الشحّ وكراهته له.
الثالث: تعظيم الحقوق التي جعلها اللَّه للمسلمين بعضهم على بعض، فهو يرعاها حقّ رعايتها، ويخاف من تضييعها، ويعلم أنَّه إن لم يبذل فوق العدل لم يمكنه الوقوف مع حدّه، فإنَّ ذلك عسِر جدًّا، بل لا بدّ من مجاوزته إلى الفضل أو التقصير عنه إلى الظلم. فهو لخوفه من تضييع الحقِّ والدخول في الظلم يختار الإيثار بما لا ينقصه ولا يضرّه، ويكتسب به جميل الذكر في الدنيا، وجزيل الأجر في الآخرة، مع ما يجلبه له الإيثار من البركة وفيضان الخير عليه، فيعود عليه من إيثاره
__________
(1) “والتسوية” ساقط من “ب”.
(2) الحَدور: الأرض المنحدرة، وقد سبق المثل في ص (229).
(3) تقدّم تخريجه في ص (648).
(4) “ك، ط”: “أو لكره الاستئثار”!
(2/652)
أفضل مما بذله. ومن جرَّب هذا عرَفه، ومن لم يجرّبه فَلْيستقرِ أحوال العالم. والموفَّق من وفَّقه اللَّه.
فصل
والإيثار المتعلِّق بالخالق أجل من هذا وأفضل، وهو إيثار رضاه على رضى غيره، وإيثار حبّه على حبّ غيره، وإيثار خوفه ورجائه على خوف غيره ورجائه، وإيثار الذلّ له والخضوع والاستكانة والضراعة والتملّق على بذل ذلك لغيره. وكذلك إيثار الطلب منه (1) والسؤال وإنزال الفاقات به على تعلّق ذلك بغيره.
فالأوَّل آثر بعضَ العبيد على نفسه فيما هو محبوب له، وهذا آثر اللَّهَ على غيره. ونفسُه من أعظم الأغيار، فآثر اللَّه عليها، فترك محبوبَها لمحبوب اللَّه.
وعلامة صحّة (2) هذا الإيثار شيئان: أحدهما: فعلُ ما يحبّه (3) اللَّه إذا كانت النفسُ تكرهه وتهرب منه. والثاني (4): ترك ما يكرهه إذا كانت النفس تحبّه وتهواه. فبهذين الأمرين يصحّ مقام الإيثار.
ومؤنة هذا الإيثار شديدة لغلبة الأغيار وقوة داعي العادة والطبع. فالمحنة فيه عظيمة، والمؤنة فيه شديدة، والنفس عنه ضعيفة، ولا يتمّ
__________
(1) “ف”: “له”، خطأ.
(2) “صحة” ساقط من “ط”.
(3) “ك، ط”: “يحب”.
(4) “ب، ك، ط”: “الثاني” دون الواو.
(2/653)
صلاح (1) العبد وسعادته إلا به، وإنَّه ليسيرٌ على من يسّره اللَّه عليه. فحقيق بالعبد أن يتسنّم (2) إليه وإن صعب المرتقى، وأن يشمّر إليه وإن عظمت فيه المحنة (3)، ويحتمل (4) فيه خطرًا يسيرًا لملك عظيم وفوز كبير؛ فإنَّ ثمرة هذا في العاجل والآجل ليست تشبه ثمرة شيء من الأعمال، واليسير (5) منه يُرقّي العبد ويسيِّره ما لا (6) يرقى غيره إليه في المدد المتطاولة. وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء (7).
ولا تتحقَّق المحبَّة إلا بهذا الإيثار. والذي يسهّله على العبد أمور: أحدها: أن تكون طبيعته ليّنة منقادة سلسة، ليست بجافية ولا قاسية، بل تنقاد معه بسهولة. الثاني: أن يكون إيمانه راسخًا ويقينه قويّا، فإنَّ هذا ثمرة الإيمان ونتيجته. الثالث: قوة صبره وثباته. فبهذه الأمور (8) الثلاثة ينهض إلى هذا المقام، ويسهل عليه دركه.
والنقص والتخلّف في النفس عن هذا يكون من أمرين: أن تكون جامدةً غير سريعة الإدراك، بل بطيئة. فلا يكاد يرى (9) حقيقة الشيء إلا بعد عسر، وإن رآها (10) اقترنت به الأوهام والشكوك والشبهات
__________
(1) “ك، ط”: “فلاح”.
(2) “ط”: “يسمو”.
(3) “ب”: “المحنة فيه”.
(4) “ك، ط”: “يحمل”، تحريف.
(5) “ك، ط”: “ويسير”.
(6) “ب”: “إلى ما”.
(7) زاد في “ف”: “واللَّه ذو الفضل العظيم”.
(8) “ك، ط”: “الثلاثة الأمور”.
(9) “ب، ك، ط”: “ولا تكاد ترى”.
(10) “ط”: “رأتها”.
(2/654)