عطاءات العلمكتب ابن القيمكتب ابن القيم- شاملة - txt

طريق الهجرتين وباب السعادتين_3

طريق الهجرتين وباب السعادتين_3

http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
  الكتاب: طريق الهجرتين وباب السعادتين
المؤلف: الإمام أبي عبد اللَّه محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 – 751)
حققه: محمد أجمل الإصلاحي
خرج أحاديثه: زائد بن أحمد النشيري
راجعه: سعود بن عبد العزيز العريفي – علي بن محمد العمران
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الرابعة، 1440 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الأجزاء: 2 (في ترقيم واحد متسلسل)
قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

والاحتمالات، فلا يتخلّص له رؤيتها وعيانها.
الثاني: أن تكون القريحة وفَّادة درَّاكة، لكن النفس ضعيفة مهينة، إذا أبصرت الحقّ والرشد ضعفت عن إيثاره. فصاحبها يسوقها سوق العليل المريض، كلَّما ساقه خطوة وقف خطوة؛ أو كسَوق الطفل الصغير الذي قد (1) تعلَّقت نفسه بشهواته ومألوفاته، فهو يسوقه إلى رشده، وهو ملتفت إلى لهوه ولعبه لا ينساق معه إلا كرهًا. فإذا رُزِق العبد قريحةً وفَّادةً، وطبيعةً منقادةً: إذا زجرها انزجرت، وإذا قادها انقادت بسهولة وسرعة ولين؛ وأُيِّدَ (2) مع ذلك بعلم نافع وإيمان راسخ، أقبلت إليه وفود السعادة من كلِّ جانب.
ولمَّا كانت هذه القرائح والطبائع ثابتةً للصحابة رضي اللَّه عنهم، وكمَّلها اللَّه لهم بنور الإسلام وقوَّة اليقين ومباشرة الإيمان. لقلوبهم، كانوا أفضل العالمين بعد الأنبياء والمرسلين. وكان مَن بعدهم لو أنفق مثل جبل أحد ذهبًا (3) ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفَه (4).
ومن تصوَّر هذا الموضع حقّ تصوره علِمَ من أين يلزمه النقص والتأخّر، ومن أين يتقدم ويترقّى في درجات السعادة. وباللَّه التوفيق (5).
__________
(1) “قد” ساقط من “ك، ط”.
(2) “ط”: “وارتدى”.
(3) “ذهبًا” ساقط من “ك، ط”.
(4) يشهد له ما أخرجه البخاري (3673) ومسلم (2541) من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه.
(5) زاد في “ك، ط”: “واللَّه أعلم”.

(2/655)


فصل [حدّ آخر للمحبة]قال (1): “وقيل: المحبّة موافقة المحبوب فيما ساءَ وسرّ، ونفع وضرّ، كما قيل:
وأهنتِني فأهنتُ نفسي صاغرًا … ما مَن يهون عليكِ ممَّن أُكرِمُ (2) “
فيقال: وهذا الحدّ أيضًا من جنس ما قبله، فإنَّ موافقة المحبوب من موجَبات المحبة وثمراتها، وليست نفس المحبّة؛ بل المحبَّة تستدعي الموافقة، وكلَّما كانت المحبة أقوى كانت الموافقة أتمّ. قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} [آل عمران/ 31].
قال الحسن: قال قوم على عهد النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: إنَّا نحبّ ربنا، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (3).
وقال الجنيد: ادَّعى قوم محبة اللَّه، فأنزل اللَّه آية المحبة وهي قوله (4): {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}. يعني أنَّ متابعة الرسول هي موافقة حبيبكم، فإنَّه المبلّغ عنه ما يحبه وما يكرهه، فمتابعته موافقة اللَّه في فعل ما يحبّ وترك ما يكره (5).
__________
(1) محاسن المجالس (90).
(2) في “ب” والمجالس: “يكرم”. والبيت لأبي الشيص وقد سبق في ص (583)، وسيأتي مرّة أخرى ضمن أبيات في ص (659).
(3) تفسير الطبري (6/ 322 – 323).
(4) “وهي قوله” ساقط من “ك، ط”.
(5) “فمتابعته. . .” إلى هنا ساقط من “ط”. وفي “ك”: “يحبّه وترك ما يكرهه”.

(2/656)


قال (1) مالك رحمه اللَّه في هذه الآية: “من أحبَّ طاعةَ اللَّه أحبَّه اللَّهُ وحبّبه إلى خلقه”.
وإنَّما كانت موافقة المحبوب دليلًا على محبّته لأنَّ من أحبَّ حبيبًا فلا بدَّ أن يحبّ ما يحبّه ويبغض ما يبغضه، وإلا لم يكن محبًّا له محبة صادقة. بل إن تخلّف ذلك عنه لم يكن محبًّا له، بل يكون محبًّا لمراده منه، أحبَّه محبوبُه أم كرهه، ومحبوبه عنده وسيلة إلى ذلك المراد، فلو حصل له حظّه من غيره لترحّل عن حبّه (2). فهذه المحبة المدخولة الفاسدة. وإذا كانت المحبة الصحيحة تستدعي حبّ ما يحبّه المحبوب وبغض ما يبغضه، فلا بدّ أن يوافقه فيه.
ولكن ههنا مسألة يغلط فيها كثير من المدّعين للحبّ (3). وهي أنَّ موافقة المحبوب في مراده ليس المعنيُّ بها مرادَه الخَلقي الكوني، فإنَّ كلَّ الكون مراده، وكلَّ ما يفعله الخلائق فهو موجَب مشيئته وإرادته الكونية. فلو كانت موافقته في هذا المراد هي محبته لم يكن له عدوّ أصلًا، وكانت الشياطين والكفَّار والمشركون عبَّاد الأوثان والشمس والقمر أولياءَه وأحبابه، تعالى (4) عن ذلك علوًّا كبيرًا.
وإنَّما يظنّ ذلك من يظنّه من أعدائه الجاحدين لإلهيته (5) ودينه،
__________
(1) “ط”: “وقال مالك”.
(2) هكذا قرأتُ، ويحتمل: “لرحل”. وفي “ف، ب”: “لرحل غرضه”. وفي “ك”: الرحل عوضه”. وفي “ط”: “ترحّل عوضه”.
(3) “ك، ط”: “للمحبة”.
(4) “ب”: “تعالى اللَّه”.
(5) “ك، ط”: “لمحبته”.

(2/657)


الذين يسوّون بين أوليائه وأعدائه. قال اللَّه تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} (1) [ص/ 28]. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية/ 21]. وقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} [القلم/ 35 – 36]. فأنكر سبحانه على من سوَّى بين المسلمين والمجرمين (2) وبين المطيعين والمفسدين مع أنَّ الكلَّ تحت المراد الكوني والمشيئة العامَّة.
وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية -قدَّس اللَّه روحه (3) – يقول: قال لي بعض شيوخ هؤلاء: المحبَّة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب، والكون كلّه مراده، فأيّ شيء أُبغِضُ منه؟ قال: فقلت له: فإذا كان المحبوب قد أبغضَ بعضَ ما في الكون، فأبغضَ قومًا ولعنَهم ومقَتَهم (4) وعاداهم؛ فأحببتَهم أنتَ وواليتَهم، تكون مواليًا للمحبوب موافقًا له، أو مخالفًا له معاديًا له؛ قال: فكأنَّما أُلقِمَ حَجرًا (5).
ويبلغ الجهل والكفر ببعض هؤلاء إلى حدّ بحيث إذا فعل محظورًا يزعم أنَّه مطيع للَّه فيه (6)، ويقول: أنا مطيع لإرادته، وينشد في ذلك:
__________
(1) في الأصل: “أفنجعل الذين” وكذا في “ف”. وهو سهو.
(2) “فأنكر سبحانه. . .” إلى هنا ساقط من “ط”. وكذا من “ك”. ثمّ استدركه بعضهم في الحاشية.
(3) “قدّس اللَّه روحه” ساقط من “ك، ط”. وفي “ب”: “رحمه اللَّه”.
(4) “ب”: “فلعنهم ومقتهم”. “ك، ط”: “ومقتهم ولعنهم”.
(5) سبقت الحكاية في ص (185).
(6) “فيه” ساقط من “ك، ط”. وفي “ب”: “به”.

(2/658)


أصبحتُ منفعلًا لما تختاره … منِّي ففعلي كلُّه طاعاتُ! (1)
ويقول أحدهم: إبليس وإن عصى الأمر، لكنَّه أطاع الإرادة! يعني أنَّ فعله طاعة للَّه من حيث موافقة إرادته. وهذا انسلاخ من ربقة العقل والدين، وخروج عن الشرائع كلّها؛ فإنَّ الطاعة إنَّما هي موافقة الأمر الديني الذي يحبّه اللَّه ويرضاه. وأمَّا دخوله تحت القدر الكوني الذي يبغضه ويسخطه ويكفّر فاعلَه ويعاقبه، فهي المعصية والكفر ومعاداته ومعاداة دينه. ولا ريب أنَّ المسرفين على أنفسهم، المنهمكين في الذنوب والمعاصي، المعترفين بأنَّهم عصاة مذنبون = أقربُ إلى اللَّه من هؤلاء العارفين المنسلخين عن دين الأنبياء كلّهم، الذين لا عقل لهم ولا دين! فنسأل اللَّه أن يثبِّت قلوبنا على دينه.
أمَّا البيت الذي استشهد به فهو من أبياب لأبي الشِّيص (2) يقول (3) فيها:
وقفَ الهوى بي حيثُ أنتِ فليس لي … متأخَّرٌ عنه ولا متقدَّمُ
وأهنتِني فأهنتُ نفسي جاهدًا … ما مَن يهون عليك ممن يُكرَمُ (4)
أشبهتِ أعدائي فصِرتُ أحبُّهم … إذ كان حظِّي منك حظِّي منهمُ
أجدُ الملامَةَ في هواكِ لذيذةً … حُبًّا لذكركِ فَلْيَلُمْني اللُّوَّمُ
__________
(1) “تختاره” كذا في الأصل هنا، وفي غيره: “يختاره”، والبيت للنجم ابن إسرائيل، وقد سبق في ص (55).
(2) الخزاعي، من طبقة أبي نواس ومسلم بن الوليد. والأبيات المذكورة من مشهور شعره. وقد أوردها المصنّف في روضة المحبّين (402) أيضًا. وانظر: ديوانه (101).
(3) “ط”: “من قصيدة يقول”.
(4) “ب”: “أكرِم”.

(2/659)


وقد ناقض فيها في دعواه مناقضةً بيِّنةً، فإنَّه أخبرَ أنَّ هواه قد صار وقفًا عليها، لا يزول عنها ولا يتحوَّل بتقدّم ولا تأخّر؛ ثمَّ أخبرَ أنَّه قد بلغ به حبُّها وهواها إلى أن صار مرادُها من نفسه عينَ (1) مراده هو. فلمَّا أرادت إهانته بالصدّ والهجران والبعد سعى هو في إهانة نفسه بجهده موافَقةً لها في إرادتها، فصارت إهانتُه لنفسه مرادةً محبوبةً له من حيث هي مرادةٌ محبوبةٌ لها. وزعم أنَّه لو أكرم نفسَه لكان مخالفًا لمحبوبته مكرِمًا (2) لمن أهانته. ثمَّ نقض هذا الغرض من حيث شبَّهها بأعدائه الذين هم أبغض شيءٍ إليه. ووجه هذا التشبيه أنَّه لم يحصل منها من حطه ومراده على شيء، بل الذي يحصل له منها مثلُ ما يحصل له من أعدائه من إهانتهم له وأذاه، فصار حطه منها ومن أعدائه واحدًا، فصارت شبيهةً بهم، فأين هذا من الموافقة التامَّة (3) لها في مرادها، بحيث يهين (4) نفسه لمحبتها في إهانته؟
ثمَّ أخبر أنَّ له منها حظًّا مرادًا، وأنَّ ذلك الحظّ الذي يريده لم يحصل له، وإنَّما حصل له منه نظير ما يحصل له من أعدائه. وهذه شكاية في الحقيقة وإخبار عن محبّة معلولة (5) بالحظّ، وشكاية للحبيب بتفويته عليه.
ثمَّ إنَّه أخبر عن جناية أخرى، وهي أنَّه شرَّكَ بينها وبين أعدائه في حبّه
__________
(1) “ك، ط”: “غير”، تحريف.
(2) في الأصل: “مكرم”، سهو.
(3) “ف”: “الثانية”، تحريف.
(4) “ف”: “يهنى”، تحريف.
(5) “ط”: “محبه ببخله”، تحريف.

(2/660)


لها، فصار حبُّه منقسمًا: بعضُه لها (1)، وبعضُه لأعدائه لشبههم إياها.
ثُمَّ إنَّ في الشعر جنايةً أخرى عليها، وهو أنَّه شبَّهها بمن جبلت القلوب على بغضه، وهو العدوّ. واللائق تشبيه الحبيب بما هو أحبّ الأشياء إلى النفس كالسمع والبصر والحياة والروح والعافية، كما هو عادة الشعراء والناس في نظمهم ونثرهم، كما هو معروف بينهم، وهو جادة كلامهم.
ثمَّ أخبر بمحبته لأعدائه لشبههم بها، فتضمَّن كلامُه معاداة من يحبه، ومحبة من يعاديه. فإنَّها إذا أشبهت أعداءَه لزم أن يحصل لها نصيب من معاداته، وإذا أشبهها أعداؤه لزم أن يحصل لهم نصيب من محبته، كما صرَّح به في جانبهم، وترك التصريح به (2) في جانبها، وهو مفهوم من كلامه.
ثُمَّ أخبر أنه يلتذّ بملامة اللوَّام في هواها لما يتضمَّن من ذكراها. وهذا يدلُّ على قوة محبتها وسماع ذكرها. وهذا غرض صحيح، مع أنَّه مدخول أيضًا، فإنَّ محبوبته قد تكره ذلك لما يتضمَّن من فضيحتها به وجعلِها مضغةً للماضغين، فيكون محبًا لنفس ما تكرهه. وهذه محبة فاسدة معلولة، ناقضة لدعواه موافقتَها في محابّها.
__________
(1) “ط”: “له”، خطأ.
(2) “به” ساقط من “ك، ط”.

(2/661)


فصل [حدّ آخر]قال (1): “وقيل: المحبة: القيام بين يديه وأنت قاعد، ومفارقةُ المضجع وأنت راقد، والسكوت وأنت ناطق، ومفارقة المألوف والوطن وأنت مستوطن”.
فيقال: وهذا أيضًا أثر من آثار المحبة، وموجَب من موجباتها، وحكم من أحكامها. وهو صحيح، فإنَّ المحبة تُوجِبُ سفرَ القلب نحو المحبوب دائمًا. والمحِبُّ في وطنه قاطن (2)، وتوجب مثولَه وقيامَه بين يدي محبوبه وهو قاعد، وتجافيَه عن مضجعه ومَفارقتَه إيَّاه وهو فيه راقد، وفراغَه لمحبوبه بكلّه (3) وهو مشغول في الظاهر (4) بغيره. كما قال بعضهم:
وأُدِيمُ نحوَ محدِّثي لِيرَى … أن قد عقلتُ وعندكم عقلي (5)
وقال بعض المريدين لشيخه: أيسجد القلب بين يدي اللَّه؟ فقال: نعم، سجدةً لا يرفع رأسه منها إلى يوم القيامة! (6) فهذه سجدة متّصلة بقيامه وقعوده وذهابه ومجيئه وحركته وسكونه. وكذلك يكون جسده في
__________
(1) محاسن المجالس (91).
(2) “قاطن” ساقط من “ك”. وفي “ط”: “والمحبة وطنه”!
(3) “ب, ك، ط”: “كله”.
(4) “ف”: “الطاعة”، تحريف.
(5) لمجنون ليلى في ديوانه (182). وقد أنشده المصنف في روضة المحبين (390) أيضًا.
(6) من كلام سهل التستري. وقد تقدّم في ص (451).

(2/662)


مضجعه، وقلبُه قد قطع المراحل مسافرًا إلى حبيبه. فإذا أخذ مضجعه اجتمع عليه حبُّه وشوقه، فيهزه المضجعُ إلى سَكَنِه. كما قال اللَّه تعالى في حقِّ المحبين: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة/ 16]. فلمَّا تجافت قلوبهم (1) عن المضاجع جافت الجُنوبَ عنها واستخدمتها، وأمرتها فأطاعتها. وقال القائل:
نهاري نهارُ الناس، حتَّى إذا بدا … ليَ الليلُ هزَّتْني إليكِ المضاجعُ (2)
ويحكى أنَّ بعض الصالحين اجتاز بمسجد، فرأى الشيطانَ واقفًا ببابه لا يستطيع دخوله. فنظر فهذا فيه رجل نائم، وآخر قائم يصلي. فقال له: أيمنعك هذا المصلي من دخوله؟ فقال: كلا، إنَّما يمنعني ذلك الأسد الرابض, ولولا مكانه لدخلتُ!
وبالجملة فقلبُ المحبّ دائمًا في سفر لا ينقضي نحو محبوبه، كلَّما قطع مرحلة (3) ومنزلة تبدَّتْ له أخرى، كما قيل:
إذَا قطعنَ عَلَمًا يدا عَلَمْ (4)
فهو مسافر بين أهله (5)، وظاعن وهو في داره، وغريب
__________
(1) “ط”: “جنوبهم”، خطأ.
(2) البيت لابن الدمينة، وقد دخل مع بيتين آخرين في عينية قيس بن ذريح. قاله صاحب الأغاني (9/ 210)، وانظر: ديوان ابن الدمينة (17)، وقيس ولبنى (107).
(3) “ك، ط”: “مرحلة له”.
(4) “ب”: “قطعنا”، “ط”: “قطعت”، تحريف. والبيت من أرجوزة لجرير في ديوانه (512). “قطعنَ”: يعني النوق.
(5) “ب”: “وهو بين أهله”.

(2/663)


وهو (1) بين إخوانه وعشيرته؛ يرى كلَّ أحد عنده، ولا يرى نفسَه عند أحد. فقوةُ تعلّق المحبّ بمحبوبه تُوجِب له أن لا يستقرّ قلبه دون الوصول إليه، وكلّما هدأت حركاته وقلّت شواغله اجتمعت عليه شؤون قلبه، وقوي (2) سيره إلى محبوبه.
ومحك هذه (3) الحال يظهر في مواطن أربعة:
أحدها: عند أخذ مضجعه وتفرغّ حواسه (4) وجوارحه من الشواغل، واجتماع قلبه على ما يحبه. فإنَّه لا ينام إلا على ذكر من يحبّه وشغل قلبه به.
الموطن الثاني: عند انتباهه من النوم. فأول شيء يسبق إلى قلبه ذكر محبوبه. فإنَّه إذا استيقظ ورُدَّتْ إليه روحُه رُدَّ معها إليه ذكرُ محبوبه الذي كان قد غاب عنه في النوم، ولكن كان قد خالط روحه وقلبه، فلمَّا ردّت إليه الروح أسرَعَ من الطرف رُدَّ إليه ذكرُ محبوبه متصلًا بها، مصاحبًا لها، فورد عليه قبل كلّ وارد، وهجم عليه قبل كلّ طارق. فإذا وردَتْ عليه الشواغل والقواطع وردَتْ على محلّ ممتلئ بمحبّة ما يحبه، فوردت على ساحته من ظاهرها. فإذا قضى وطره منها قضاه بمصاحبته لما في قلبه من الحبّ، فإنه قد لزمه كملازمة الغريم (5) لغريمه لذلك يسمَّى “غرامًا”، وهو الحبّ اللازم الذي لا يفارق فسمع بمحبوبه، وأبصر به،
__________
(1) “وهو”: ساقط من “ف”.
(2) “ب”: “ويرى”. “ك”: “فله قوى”. “ط”: “بله قوى”، وكله تحريف.
(3) “ك، ط”: “هذا”.
(4) “ف”: “حواشيه”، تحريف.
(5) “ط”: “ملازمة الغريم”.

(2/664)


وبطَش به، ومشى به. فصار محبوبه في وجوده في محلّ سمعه الذي يسمَع به، وبصرِه الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها.
هذا مثل محبوبه في وجوده، وهو غير متّحد به، بل هو قائم بذاته مباين له. وهذا المعنى مفهوم بين الناس لا ينكره منهم إلا غليظ الحجاب، أو قليل العلم، ضعيف العقل، يجد محبوبَه قد استولى على قلبه وذكره، فيظن أنه هو نفس ذاته الخارجة قد اتّحدتْ به أو (1) حلَّت فيه. فينشأ من قسوة الأوَّل وكثافته وغِلَظ حجابه (2)، ومن قلَّة علم الثاني ومعرفته وضعف تمييزه ضلالُ الحلول والاتحاد، وضلالُ الإنكار والتعطيل والحرمان. ويخرج (3) من بين فَرْثِ هذا ودمِ هذا لبنُ الفطرة الأولى خالصًا سائغًا للشاربين.
الموطن الثالث: عند دخوله في الصلاة. فإنَّها محكّ الأحوال وميزان الإيمان, بها يوزن إيمان الرجل، ويتحفق حاله ومقامه ومقدار قربه من اللَّه ونصيبه منه، فإنَّها محلّ المناجاة والقربة، ولا واسطة فيها بين العبد وبين ربِّه. فلا شيء أقرّ لعين المحبّ ولا ألذ لقلبه ولا أنعم لعيشه منها إن (4) كان محبًّا، فإنه لا شيء آثر عند المحبّ ولا أطيب له من خلوته بمحبوبه، ومناجاته له، ومثوله بين يديه، وقد أقبل بقلبه على محبوبه، وقد أقبل (5) محبوبه عليه. وكان قبل ذلك معذَّبًا بمقاساة
__________
(1) “ف”: “إذ”، تحريف.
(2) “ك”: “وغلظ حجاب”. “ط”: “غلظ حجاب”.
(3) زاد في “ط” بين حاصرتين: “للبصير”.
(4) “ك، ط”: “إذا”.
(5) “بقلبه. . . ” إلى هنا ساقط من “ط”.

(2/665)


الأغيار ومواصلة الخلق والاشتغال بهم، فإذا قام إلى الصلاة هرب من سوى اللَّه إليه، وأوى عنده، واطمأنَّ بذكره، وقرَّت عينُه بالمثول بين يديه ومناجاته. فلا شيء أهم إليه (1) من الصلاة، كأنَّه في سجن وضيق وغمّ حتَّى تحضر الصلاة، فيجد قلبه قد انفسح وانشرح واستراح، كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لبلال: “يا بلال، أرِحْنا بالصلاة” (2) ولم يقل: أَرِحْنا منها، كما يقول المبطلون الغافلون.
وقال بعض السلف: ليس بمستكمل الإيمان من لم يزل في همّ وغمّ حتى تحضر الصلاة، فيزول همّه وغمّه (3)، أو كما قال. فالصلاة قرَّة عيون المحبين، وسرور أرواحهم، ولذَّة قلوبهم، وبهجة نفوسهم، يحملون همّ الفراغ منها إذا دخلوا فيها، كما يحمل الفارغ البطَّال همّها حتَّى يقضيها بسرعة، فلهم فيها شأن وللنقَّارين شأن! يشكون إلى اللَّه سوءَ صنيعهم بهم (4) إذا ائتمّوا بهم، كما يشكو الغافل المعرض تطويلَ إمامه. فسبحانه من فاضَلَ بين النفوس، وفاوتَ بينها هذا التفاوت العظيم!
وبالجملة فمن كانت (5) قرَّة عينه في الصلاة فلا شيء أحبّ إليه وأنعم (6) عنده منها، وبودّه (7) أن لو قطع عمرَه بها غيرَ مشتغل بغيرها،
__________
(1) كذا قال: “أهمّ إليه” مثل “أحب إليه”.
(2) سبق تخريجه في ص (81).
(3) كذا وردت العبارة في الأصل وغيره. وأراها تدلّ على ضدّ المقصود، فلينظر.
(4) “ط”: “بها”.
(5) “ط”: “كان”.
(6) “ب, ك، ط”: “ولا أنعم”.
(7) “ك، ط”: “ويود”.

(2/666)


وإنَّما يسلّي نفسه إذا فارقها بأنّه سيعود إليها عن قرب. فهو دائمًا يثوب إليها, ولا يقضي منها وطرًا. فلا يزنُ العبد إيمانه ومحبّته للَّه بمثل ميزان الصلاة، فإنّها الميزان العادل، الذي وزنه غير عائل.
الموطن الرابع: عند الشدائد والأهوال. فإن القلب في هذا الموطن لا يذكر إلّا أحبّ الأشياءِ إليه، ولا يهرب إلّا إلى محبوبه الأعظم عنده. ولهذا كانوا يفتخرون بذكرهم من يحبّونهم (1) عند الحرب واللقاء، وهو كثير في أشعارهم، كما قال (2):
ذكرتُكِ والخطّيُّ يخطِر بيننا … وقد نهِلَتْ منَّا المثقَّفةُ السُّمْرُ (3)
وقال غيره:
ولقد ذكرتُكِ والرماحُ كأنَّها … أشطانُ بئرٍ في لَبان الأدهَمِ (4)
__________
(1) “ب”: “يحبونه”.
(2) “ب”: “قال القائل”.
(3) لابن عطاء السندي. انظر: الحماسة (1/ 66). وقد ذكره المصنف في مدارج السالكين (2/ 479)، وروضة المحبّين (386). وفي “ط”: “متي”.
(4) كذا ورد البيت هنا، وفي روضة المحبين (386)، ومدارج السالكين (2/ 479)، ونسبه فيه إلى عنترة. وروايته في الديوان وشروح المعلّقات:
يدعون عنترَ والرماح كأنّها … أشطان بئر في لبان الأدهم
وقد ذكر المصنف في الروضة بيتًا آخر بعده:
فودِدتُ تقبيلَ السيوف لأنّها … برقت كبارقِ ثغرِك المتبسّمِ
والبيت الذي ذكر قبل هذا البيت في ديوان الصبابة (221) وغيره منسوبَين إلى عنترة:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل … مني وبيضُ الهند تقطر من دمي
وهذا الصواب، وذكرُ بيض الهند في آخر هذا البيت هو الذي حسّن قوله =

(2/667)


وقد جاء في بعض الآثار (1): “يقول تبارك وتعالى: إنَّ عبدي كل عبدي الذي يذكرُني وهو ملاقٍ قِرنَه” (2).
والسرّ في هذا -واللَّه أعلم- أنْ عند معاينة الشدائد (3) والأهوال يشتدّ خوف القلب من ذوات أحبّ الأشياء إليه، وهي حياته التي لم يكن يؤثرها إلا لقربه من محبوبه، فهو إنَّما يحبّ حياته لتنغمه بمحبوبه، فإذا خاف فوتها بدر إلى قلبه ذكرُ المحبوب الذي يفوت بفوات حياته. ولهذا -واللَّه أعلم- كثيرًا ما يعرض للعبد عند موته لهَجُه بما يحبّه وكثرةُ ذكره له، وربما خرجت روحه، وهو يلهج به.
__________
= “فوددت تقبيل السيوف” في البيت التالي. وأنشد المؤلف بيتًا آخر في المدارج يشبه هذا البيت:
ولقد ذكرتك والرماح شواجر … نحوي وبيض الهند تقطر من دمي
هذا والبيتان المذكوران في ديوان الصبابة وغيره لم يروهما الثقات، ولم يردا في الديوان وشروح المعلقات. ولا يشبه البيت الثاني شعر الجاهليين. وفات محقق الديوان إثباتهما في ذيل الديوان.
(1) أخرجه الترمذي (3580)، وأبو نعيم في المعرفة (5238). قال الترمذي: “هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوي، ولا نعرف لعمارة بن زعكرة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا هذا الحديث الواحد. ومعنى قوله: “وهو ملاق قرنه” إنَّما يعني عند القتال يعني أن يذكر اللَّه في تلك الساعة”. وقال البخاري في تاريخه (6/ 454): “عمارة بن زعكرة له صحبة، لم يصح حديثه”. وقال ابن حجر في الإصابة (4/ 276): “قلت: فيه عفير بن معدان، وهو ضعيف. . . “. (ز).
(2) ذكره المصنف في مدارج السالكين (2/ 478) وقال: “سمعت شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه اللَّه يستشهد به، وسمعته يقول: المحبّون يفتخرون بذكر من يحبونه في هذه الحال”.
(3) “ك، ط”: “مصائب الشدائد”، تحريف.

(2/668)


وقد (1) ذكر ابن أبي الدنيا في “كتاب المحتضرين” (2) عن زُفَر رحمه اللَّه (3) أنَّه جعل يقول عند موته: “لها ثلاثة أخماس الصداق، لها ربع الصداق، لها كذا. . . ” حتَّى (4) مات؛ لامتلاءِ قلبه رحمه اللَّه من محبّة (5) الفقه والعلم.
وأيضًا فإنه عند الموت تنقطع شواغله، وتتعطَّل (6) حواسّه، فيظهر ما في القلب، ويقوى سلطانه، فيبدر ما فيه من غير حاجب ولا مدافع. وكثيرًا ما سُمِعَ من بعض المحتضرين عند الموت: “شاه مات” (7). وسُمِعَ من آخر بيتُ شعر لم يزل يغنِّي به، حتَّى مات، وكان مغنِّيًا. وأخبرني رجل عن قرابة له أنه حضره عند الموت -وكان تاجرًا يبيع القماش- قال فجعل يقول: “هذه قطعة جيدة، هذه على قدرك، هذه مشتراها رخيص تساوي كذا وكذا. . . ” حتى مات. والحكايات (8) في هذا كثيرة جدًا.
فمن كان مشغولًا باللَّه وبذكره ومحبته في حال (9) حياته وجد ذلك
__________
(1) “قد” ساقط من “ك، ط”.
(2) ص (178) مع اختلاف يسير في اللفظ.
(3) زفر بن الهذيل العنبري (110 – 158 هـ) من تلامذة أبي حنيفة. قال الذهبي: “من بحور الفقه وأذكياء الوقت. . . وكان ممن جمع بين العلم والعمل، وكان يدري الحديث ويتقنه”. سير أعلام النبلاء (8/ 39).
(4) “حتى” ساقط من “ط”.
(5) “محبة” ساقط من “ف”.
(6) “ك، ط”: “تبطل”.
(7) انظر: محاضرات الأدباء (2/ 502). و”شاه” من أحجار الشطرنج.
(8) “ط”: “الحكاية”، خطأ.
(9) “ف”: “كلّ”، تحريف.

(2/669)


أحوجَ ما هو إليه عند خروج روحه إلى اللَّه. ومن كان مشغولًا بغيره في حال حياته وصحّته فيعسر (1) عليه اشتغاله باللَّه وحضوره معه عند الموت، ما لم تدركه عناية من ربّه. ولأجل هذا كان جديرًا بالعاقل أن يُلزِم قلبَه ولسانه ذكرَ اللَّه حيثما كان، لأجل تلك اللحظة التي إن فاتته (2) شقي شقاوة الأبد. فنسأل اللَّه أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

فصل [حدود أخرى للمحبَّة]وقد قيل في المحبة حدود كثيرة غير ما ذكره أبو العبّاس.
فقيل: “المحبة ميل القلب إلى محبوبه”. وهذا الحدّ لا يعطي تصوّر حقيقة المحبة، فإنَّ المحبة أعرف عند القلب من الميل. وأيضًا فإنَّ الميل لا يدلّ على حقيقة المحبة، فإنَّها أخصّ من مجرَّد ميل القلب، إذ قد يميل قلب العبد إلى الشيء ولا يكون محبًّا له لمعرفته بمضرته له؛ فإن سمّي هذا الميل (3) محبة فهو اختلاف عبارة.
وقيل: “المحبة علم المحبّ بجمال المحبوب ومحاسنه”. وهذا حدّ قاصر، فإن العلم بجماله ومحاسنه هو السبب الداعي إلى محبته، فعبر عن المحبة بسببها.
وقيل: المحبة تعلّق القلب بالمحبوب.
__________
(1) كذا بالفاء في الأصل وغيره.
(2) “ط”: “فاتت”.
(3) “ف”: “الدليل”، تحريف.

(2/670)


وقيل: انصباب القلب إلى المحبوب.
وقيل: سكون القلب إليه.
وقيل: اشتغال القلب بالمحبوب بحيث لا يتفرغ قلبه لغيره.
وقيل: المحبة بذل المجهود في معرفة محبوبك، وبذل المجهود في مرضاته.
وقيل: هيجان القلب عند ذكر المحبوب.
وقيل: شجرة تنبت في القلب تسقَى بماء المراقبة، وإيثار رضي المحبوب.
وقيل: المحبة حفظ الحدود، فليس بصادق من ادَّعى محبة اللَّه ولم يحفظ حدوده (1).
وقيل: المحبة إرادة لا تنقص بالجفاء ولا تزيد بالبرّ (2).
وقيل: فطام الجوارح عن استعمالها في غير مرضاة المحبوب.
وقيل: المحبة هي السخاء بالنفس للمحبوب.
وقيل: المحبة أن لا يزال على قلبك (3) رقيب من المحبوب لا يمكنك من الانصراف عنه أبدًا. وأنشد في ذلك:
__________
(1) روضة المحبّين (99). وهو من كلام يحكى بن معاذ، انظر: القشيرية (322).
(2) نسبه في مدارج السالكين (2/ 595) إلى يحيى بن معاذ، وعقّب عليه. وانظر: القشيرية (322).
(3) “ب، ك، ط”: “عليك”.

(2/671)


أبتْ غلَباتُ الشوق إلا تقرُّبا … إليك، ويأبى العذلُ إلا تجنُّبا
وما كان صدِّي عنك صدَّ ملالةٍ (1) … ولا ذلك الإعراض إلا تقرُّبا
وما كان ذاك العذلُ إلا نصيحةً … ولا ذلك الإغضاءُ إلا تهيُّبا
عليَّ رقيبٌ منك حلَّ بمهجتي … إذا رُمتُ تسهيلًا على تصعَّبا (2)
وقيل: المحبة سقوط كلّ محبة من القلب سوى محبة حبيبك (3).
وقيل: المحبة صدق المجاهدة في أوامر اللَّه، وتجريد المتابعة لسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-.
وقيل: المحبة أن لا تفتُر من ذكره، ولا تملّ من حقّه (4)، ولا تأنس بغيره.
وقال أبو يزيد: المحبة استقلال الكثير من نفسك واستكثار القليل من حبيبك (5).
وقيل: المحبة أن يميتك حبيبُك، وتحيا به.
وقال أبو عبد اللَّه القرشي: المحبة أن تهبَ كلَّك لمن أحببتَ، فلا يبقى لك منك شيءٌ (6).
__________
(1) “ط”: “ملامة”، تحريف.
(2) أنشدها محمد بن داود في الزهرة (245) لبعض أهل عصره.
(3) القشيرية (323) لمحمد بن الفضل الفراوي.
(4) “ولا تملّ من حقه” ساقط من “ط”. والأفعال الثلاثة في “ك، ط” بصيغة الغائب.
(5) مدارج السالكين (2/ 591)، روضة المحبين (99)، القشيرية (321).
(6) مدارج السالكين (2/ 592)، القشيرية (321)، روضة المحبين (99).

(2/672)


وقيل: أن تمحو من قلبك ما سوى المحبوب (1).
وقيل: المحبة نسيان حظّك من محبوبك، وفقرك بكلّك إليه.
وقال النصراباذي (2): المحبة مجانبة السلوّ على كلِّ حال (3).
وقال الحارث بن أسد (4): المحبَّة ميلك إلى المحبوب بكلّيتك، ثُمَّ إيثارك له على نفسك وروحك ومالك، ثمَّ موافقتك له سرَّا وجهرًا، ثُمَّ علمك بتقصيرك في حبّه.
وقيل: المحبة سكر لا يصحو إلا بمشاهدة المحبوب (5).
وقيل: المحبة إقامتك بالباب على الدوام (6).
وقيل: “الحبّ (7) حرفان: حاءٌ وباءٌ. فالحاءُ: الخروج عن الروح وبذلها للمحبوب. والباءُ: الخروج عن البدن وصرفه في طاعة المحبوب (8).
__________
(1) في المدارج (2/ 592) نسبه إلى الشبلي وانظر: الروضة (99).
(2) أبو القاسم إبراهيم بن محمد، شيخ خراسان في وقته، توفي سنة 367 هـ. طبقات الصوفية (484).
(3) المدارج (2/ 592)، الروضة (99)، القشيرية (323).
(4) المحاسبي. نقله عنه الجنيد كما في المدارج (2/ 594). وانظر: الروضة (100)، القشيرية (324).
(5) المدارج (2/ 594)، القشيرية (325).
(6) نقل في المدارج (2/ 592) قولًا لابن عطاء -وهو في القشيرية (326) – بلفظ: “إقامة العتاب على الدوام”، وفسّره.
(7) “ك، ط”: “المحبة”، خطأ.
(8) وانظر: القشيرية (328).

(2/673)


وقال أبو عمرو الزُّجَاجي (1): سألت الجنيد عن المحبة فقال: تريد الإشارة؟ قلت: لا. قال (2): تريد الدعوى؟ قلت: لا. قال: فأيشٍ تريد؟ قلت: عينَ المحبة. فقال: “أن تحبّ ما يحب اللَّه في عباده، وتكره ما يكره (3) اللَّه في عباده”.
وقيل: المحبة معيَّة القلب والروح مع المحبوب معيَّةً لا تفارقه، فإنَّ المرءَ مع من أحبّ.
وقد قيل فيها (4) حدود أكثر من هذا، وكلّ هذا تعنّ. ولا توصف المحبة ولا تحدّ بحدّ أوضح من المحبة، ولا أقرب إلى الفهم من لفظها. وأمَّا ذكر الحدود والتعريفات، فإنَّما يكون عند حصول الإشكال والاستعجام على الفهم، فإذا زال الإشكال وعُدِمَ الاستعجام فلا حاجة إلى ذكر الحدود والتعريفات (5)، كما قال بعض العارفين (6): إنَّ كلَّ لفظ يعبر به عن الشيء فلا بدَّ أن يكون ألطفَ وأرقَّ منه. والمحبَّة ألطف وأرقّ من كلِّ ما يعبّر به عنها.
__________
(1) “ك، ط”: “أبو عمر”، خطأ، وهو محمد بن إبراهيم النيسابوري، توفي في مكة سنة 348 هـ. طبقات الصوفية (431).
(2) “ف”: “فقال”، خلاف الأصل.
(3) “ط”: “يكرهه”، وصحح في القطرية.
(4) “ك، ط”: “في المحبة”. وانظر أقوالًا أخرى في المحبة في: مدارج السالكين (2/ 590 – 595)، وروضة المحبين (98 – 101).
(5) قارن هذا الكلام بما ورد في القشيرية (319).
(6) هو سمنون المحبّ صاحب السريّ السقطي. انظر: طبقات الصوفية (196).

(2/674)


فصل
قال أبو العبّاس (1): “وقال قوم: ليس للمحبَّة صيغة يعبّر بها عن حقيقتها. فإنَّ الغيرة من أوصاف المحبة، والغيرة تأبى إلا التستّر والاختفاء (2). وكلُّ من بسط لسانه بالعبارة (3) عنها والكشف عن سرّها، فليس له منها ذوق، وإنَّما حرَّكه وجدانُ الرائحة، ولو ذاقَ منها (4) شيئًا لغاب عن الشرح والوصف. فالمحبة (5) لا تظهر على المحبّ بلفظه، وإنَّما تظهر عليه بشمائله ونحوله (6). ولا يفهم حقيقتها من المحبّ سوى المحبوب، لموضع امتزاج (7) الأسرار من القلوب، كما قيل:
تُشير فأدري ما تقول بطرفها … وأُطرِقُ طرفي عند ذاك فتعلَمُ
تكلَّمُ منَّا في الوجوه عيونُنا … فنحن سكوتٌ والهوى يتكلَّمُ (8) “
__________
(1) محاسن المجالس (91).
(2) المجالس: “الستر والإخفاء”.
(3) رسم الأصل يشبه “فالعبارة”. وكذا قرأها ناسخ “ف”. وقال في الحاشية: العله في العبارة”. والصواب ما أثبتنا من “ب” وغيرها. وستأتي الكلمة مرة أخرى في ص (681).
(4) سقط “منها” من “ط”، واستدرك في القطرية.
(5) “ك، ط”: “فإن المحبة”.
(6) المجالس: “لحظه”.
(7) رسمها في الأصلِ يشبه “اقتراح”. وأثبت ناسخ “ف”: “إقراح”. وفي المجالس: “امتزاج الأسرار والقلوب”. وأشار محققه إلى أن في نسخة: “اقتراح”، وهي أقرب إلى أصلنا لولا نقطة الزاي. وفي “ب”: “امتزاج” كما أثبتنا. وفي “ك، ط”: “اقتداح”. وستأتي الكلمة مرة أخرى.
(8) هذا البيت للعباس بن الأحنف في ديوانه (273)، وهو مضمّن هنا.

(2/675)


قلتُ: كلّ معنى فله صيغة يعبّر به (1) عنه، ولا سيما إذا كان (2) من المعاني المعروفة للخاصّ والعامّ. ولكن العبارة قد تكون كاشفةً للمعنى مطابقةً له، كلفظ الدراهم والخبر والماء واللبن ونحوها، وهي أكثر الألفاظ. وقد يكون المعنى فوق ما يشير إليه اللفظ ويعبّر عنه، وهو أجلّ من أن يدلّ لفظه على كمال ماهيته. وهذا كأسماءِ الربِّ تعالى وأسماءِ كتابه. وكذلك اسم الحبّ، فإنَّه لا يكشف اسمه مسماه، بل مسمَّاه فوق لفظه، وكذلك اسم الشوق والعشق والموت والبلاء ونحوها. وقد يكون المعنى دون اللفظ بكثير، واللفظ أجل منه وأعظم. وهذا كلفظ “الجوهر الفرد” الذي هو عبارة عن أقلّ شيءٍ وأصغره وأدقّه وأحقره، فليس معناه على قدر لفظه. وإذا عرف هذا فقولهم: “ليس للمحبة صيغة يعبّر بها عن حقيقتها” المراد به أنَّ لفظها لا يُفهِم حقيقةَ معناها، ومعناها فوق ما يفهم من لفظها.
وقوله: “الغيرة من أوصاف المحبة، وهي تأبى إلَّا التستر والاختفاء”. هذا كلام في حكم المحبة ومقتضاها, لا في حقيقتها ومعناها. والمحبّون متباينون في هذا الحكم، فمنهم من يجعل الغيرة من لوازمِ المحبّة وعلامة ثبوتها وتمكّنها، ويجعل نداءَ المرءِ عليها وبسط لسانه بالإخبار بها دليلًا على أنَّه دعي فيها، وأن ما معه منها رائحتها لا حقيقتها، وحقيقتها تأبى إلا التستّر والكتمان. وهذه طريقة الملامتية (3)، كما قيل:
__________
(1) كذا في الأصل وغيره. ولعلّ المؤلف ذكّر الضمير لأنّ المقصود هو اللفظ. وفي “ك، ط”: “تعتر به”، وهو خطأ.
(2) “ك، ط”: “كانت”، خطأ.
(3) “ط”: “الملاميين”!

(2/676)


لا تُنكري جحدي هواك، فإنَّما … ذاك الجحودُ عليه سِتْرٌ مسبَلُ
ولهذا قيل: “المحبة: كتمان (1) الإرادة، وإظهار الموافقة”. وهذه الطائفة رأت أنَّ كمال المحبة بكتمانها لأسباب عديدة:
أحدها: أنَّ الحبّ كلَّما كان مكتومًا كان أشدَّ وأعظم سريانًا وسكونًا في أجزاء القلب كلها، كما قيل: “الحبّ أقتَلُه أكتَمُه”. فإذا أفشاه المحبّ، وأظهره، وباح به، ونادى عليه؛ ضعف أثره، وصار عرضةً للزوال.
الثاني: أنَّ الحبَّ كنز من الكنوز، بل هو أعظم الكنوز المودعة في سرّ العبد وقلبه، فلا طريق للصوص إليه. فإذا باح به ونادى عليه فقد دلَّ قطَّاع الطريق واللصوص على موضع كنزه، وعرَّضهم (2) لسلبه منه. فإنَّ النفوس غيَّارة مغيرة، تغار على المحبوب أن يشاركها في حبه أحد، فإذا غارت عليه أغارت على القلوب التي فيها حبُّه، فانتزعته منه.
وهذه الآفة قد ابتلي بها كثير من السالكين الذين هم في الحقيقة قطَاع الطريق على السالكين إلى اللَّه. وسولت لهم أنفسهم أنَّ هذه غيرةٌ منهم على محبوبهم أن يحبّه (3) مثل هذه النفوس المتلوثة بالدنيا، وغرَّتهم أنفسُهم ومنَّتْهم أنَّهم يغارون على اللَّه، ويحولون بين تلك النفوس وبين محبّته (4)، فغاروا، وأغاروا، ونهبوا، واستلبوا.
__________
(1) “ف”: “كمال”، تحريف.
(2) كذا في الأصل وغيره. وفي “ط”: “عرضه”.
(3) “ك، ط”: “أن يحب”.
(4) “ك، ط”: “المحبة”.

(2/677)


وهذه الطريقة عند المحبين المخلصين أولياءِ اللَّه الداعين إلى اللَّه عداوةٌ للَّه في الحقيقة، ومعاونةٌ للشيطان، وقعود على طريق اللَّه المستقيم الذي خلق عباده لأجله وأمرهم به. فالحذرُ من هؤلاء القطَّاع اللصوص (1) حمَلَ أهلَ المحبة على المبالغة في كتمانها، وإظهار التخلي منها بأسباب يُلامون عليها ظاهرًا، وقلوبهم معمورة بالمحبة مأهولة بها.

وهذا الذي ظنّوه غيرةً هو من تلبيس الشيطان، وخدعه لهم، ومكره بهم. وإنَّما هو حسدٌ حمَلَهم على أن تعدوه (2) وصالوا به وسموه غيرة. وإنَّما غيرة المحبين للَّه أن يغار أحدهم لمحارم اللَّه إذا انتهكت، فيغار للَّه لا على اللَّه، كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ اللَّه يغارُ، وإنَّ المؤمن يغارُ. وغيرةُ اللَّه أن يأتي العبدُ ما حرَّم عليه” (3). فغيرة المحبّ هي الموافقة لغيرة محبوبه، وهي أن يغار مما يغار منه المحبوب. وأمَّا (4) إذا كان المحبوب يحب من يحبّه (5)، وهذا يغار ممن يحبه (6)، فهو في الحقيقة ساعٍ في خلاف مراد محبوبه وفي إعدام ما يحبّه محبوبُه. فأين هذا من الغيرة المحبوبة للَّه؟ وإنَّما هذه غيرة من أخيه المسلم كيف خصَّه اللَّه بعطائه، وألبسَه ثوبَ نعمائه، فهي غيرة منه لا غيرة على اللَّه؛ فإنَّ اللَّه لا يُغار عليه
__________
(1) “ب”: “اللصوص القطاع”.
(2) كذا في الأصل و”ف”. وضبط في “ك” بتشديد الدال. وفي “ب”: “يفدوه”. وفي “ط”: “يردوه”.
(3) أخرجه البخاري في كتاب النكاح (5223)، ومسلم في التوبة (2761) عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(4) “أما” ساقط من “ط”.
(5) “ط”: “المحبوب ممن يحبه”، سقط وغلط.
(6) “ك، ط”: “يحبه اللَّه”.

(2/678)


بل يُغار له.
وسنفرد إن شاء اللَّه للغيرة فصلًا نذكر فيه أقسامها وحقيقتها (1).
الثالث: أنَّ المحبة التامَّة تستدعي شغلَ القلب بالمحبوب وعدمَ تفرّغه للشرح والوصف، فلو صدقت محبته لاستغرق فيها عن شرح حاله ووصفه. فهذه طريقة هؤلاء.
ومنهم من يجعل تهتكه وبَوحه بها وإعلانه (2) لها من تمامها وقوتها، ومن علامات قهرها له وأنَّها غلبت على سرّه حتى لم يُطِق صبرُه كتمانها، كما قال النوري (3): “المحبّه هتكُ الأستار، وكشف الأسرار” (4). فهذا حال (5) النوري وأضرابه.
وعند هؤلاء التكتُّم ضعفٌ في المحبة وخوَرٌ (6) فيها، وحقيقتها أن يُخلِّيها ومقتضاها من ظهور آثارها على الجوارح والبدن، فإن أثَّرت حركةً لم يسكِّنها، وإن أثَّرت دمعةً لم يمسكها (7)، وإن أثَّرت تنفّسًا لم
__________
(1) لا يوجد فصل في الغيرة في هذا الكتاب. ولكنه تكلم عليها في مدارج السالكين (3/ 5 – 14) وروضة المحبين (399، 422).
(2) “ك، ط”: “إعلامه”.
(3) أبو الحسين أحمد بن محمد النوري، خراساني الأصل، بغدادي المولد والمنشأ، من أصحاب السري السقطي وجلَّة مشايخ القوم، توفي سنة 295 هـ. طبقات الصوفية (164).
(4) الرسالة القشيرية (324).
(5) “ف”: “كلام”، خلاف الأصل.
(6) “ك، ط”: “جور”، تصحيف.
(7) في الأصل: “لم يرسلها”، وهو سبق قلم وكذا في “ف، ب”. والمثبت من =

(2/679)


يكظمه، وإن أثَّرت بذلا وإيثارًا لم يمسكه. وكمال المحبة عندهم أن تنادي عليه أعضاؤه وألفاظه وألحاظه وحركاته وسكناته بالحبّ نداءً لا يملك إنكاره.
وقال علي بن عبيد: كتب يحيى بن معاذ إلى أبي يزيد: سكرتُ من كثرة ما شربتُ من كأس محبته. فكتب إليه أبو يزيد: “غيرك شرب بحورَ السماوات والأرض وما (1) رويَ بعدُ، ولسانه خارج وهو يقول: هل من مزيد” (2). فلم ير هذان العارفان التكتّم بها وإخفاءَها وجحدها وهما هما! وكان الأستاذ أبو علي الدقَّاق (3) ينشد كثيرًا:
لي سَكْرتان ولِلنُّدمان واحدةٌ … شيءٌ خُصِصتُ به من بينهم وحدي (4)
وجاءَ رجلٌ (5) إلى عبد اللَّه بن منازل (6) فقال: رأيتُ في المنام كأنَّك تموت إلى سنة، فقال عبد اللَّه: لقد أجَّلتني إلى أجل بعيد، أعيش
__________
= “ك، ط”.
(1) “ك، ط”: “والأرض ما”.
(2) حلية الأولياء (10/ 41)، الرسالة القشيرية (325).
(3) شيخ أبي القاسم القشيري. توفي سنة 405 هـ. طبقات الشافعية (4/ 329).
(4) لأبي نواس في ديوانه (27)، وفيه: “لي نشوتان”. وقد أنشده المؤلف مع بيت آخر في مدارج السالكين (3/ 290). وانظر: القشيرية (71).
(5) هو أحمد بن حامد الأسود، كما في القشيرية (335).
(6) “ب, ك”: “المبارك”، تحريف. وهو عبد اللَّه بن محمد بن منازل الضبيّ، شيخ الملامتية، توفي سنة 329 هـ. طبقات الصوفية (366)، الإكمال (7/ 204). وقد ضبط “منازل” في أصلنا وفي الطبقات بضم الميم، والصواب بفتحها كما في الإكمال وغيره من كتب المشتبه.

(2/680)


إلى سنة! لقد كان لي أنس ببيت سمعتُه من أبي علي (1):
يا من شكا شوقه من طول فرقته … اصبِرْ لعلَّك تلقى من تحبُّ غدا (2)
وقال الشبلي: “المحبّ إذا سكت هلك، والعارف إن لم يسكت هلك” (3). والتحقيق: أنَّ هذا هو حال المتمكِّن في حبُّه، الذي:
تزول الجبالُ الراسياتُ، وقلبُه … على الودّ لا يُلوي ولا يتغيَّرُ (4)
والأوَّل حال المزيد المبتدئ الذي قد علِقت نارُ المحبة في قلبه، ولم يتمكّن اشتعالها، فهو يخاف عليها عواصفَ الرياح أن تطفئها، فهو يخبئها ويكتمها ويسترها من الرياح جهدَه، فإذا اشتعلت وتمكن وقودها في القلب لم تزدها كثرةُ الرياح إلا وقودًا واشتعالًا. فهذا يختلف باختلاف الناس وتفاوتهم في قوَّة المحبة وضعفها.
والمقصود أنَّ من بسط لسانه بالعبارة عنها والكشف عن سرّها وأحكامها لن يؤمَن أن يكون من أهل العلم بالمحبة لا من المتّصفين بها حالًا، فكم بين العلم بالشيء والاتّصاف به ذوقًا وحالًا! فعلم المحبة شيء، ووجودها في القلب شيء. وكثير من المحبين الذين
__________
(1) زاد في “ط” بين حاصرتين: “الثقفي”. وهو محمد بن عبد الوهاب الثقفي النيسابوري الشافعي، المحدث الفقيه العلّامة، شيخ خراسان. وهو من ولد الحجّاج، توفي سنة 328 هـ. سير أعلام النبلاء (15/ 280)، طبقات الصوفية (361).
(2) الحكاية في القشيرية (330). والبيت أنشده المؤلف في مدارج السالكين (3/ 18)، ومع بيت آخر في روضة المحبين (581).
(3) القشيرية (324).
(4) في النسخ الخطية -ما عدا الأصل- والمطبوعة أثبت هذا البيت نثرًا. وقد أنشده المؤلف في بدائع الفوائد (527) أيضًا.

(2/681)


امتلأت (1) قلوبهم محبةً لو سئل عن حدّها وأحكامها وحقيقتها لم يُطِق أن يعبر عنها, ولا يتهيّأ له أن يصفها ويصف أحكامها، وأكثر المتكلِّمين فيها إنَّما تكلموا فيها بلسان العلم لا بلسان الحال. وهذا -واللَّه أعلم- هو معنى قول بعض المشايخ (2): “أعظمُ الناس حجابًا عن اللَّه أكثرُهم إليه إشارة”، فإنه إنَّما حظّه منه الإشارة إليه لا عكوف (3) القلب عليه، كالفقير الذي دأبه وصف الأغنياء وأموالهم، ووصف الدنيا وممالكها، وهو خِلْو من ذلك.
ولا ريب أنَّ وجودَ الحبّ في القلب وتركَ الكلام فيه (4) علمًا خير من كثرة الكلام في هذه المسألة وخلوّ القلب منها. وخير من الرجلين من امتلأ قلبه منها حالًا وذوقًا، وفاضت على لسانه إرشادًا وتعليمًا ونصيحةً للأمة. فهذا حال الكُمَّل (5) من الناس. واللَّه المسؤول من فضله وكرمه.
قوله: “المحبة لا تظهر على المحبّ بلفظه، وإنَّما تظهر عليه بشمائله ونحوله”. هذا حقّ، فإنَّ دلالة الحال على المحبة أعظم من دلالة القال عليها، بل الدلالة عليها في الحقيقة هو شاهد الحال لا صريح المقال. ففرق بين من يقول لك بلسانه: إنِّي أحبك، ولا شاهد عليه من حاله، وبين من هو ساكت لا يتكلَّم، وأنت ترى شواهد أحواله
__________
(1) “قد” ساقط من “ك، ط”.
(2) هو أبو يزيد البسطامي، ونصّ قوله في طبقات الصوفية (74): “أبعد الخلق من اللَّه أكثرهم إشارة إليه”. ونحوه في صفة الصفوة (2/ 263).
(3) “ط”: “علوق”، تحريف.
(4) “فيه” ساقط من “ك، ط”.
(5) “ط”: “الكملة”، وقد مر مثل هذا التحريف من قبل.

(2/682)


كلها ناطقة بحبه لك. قال جعفر (1): قال الجنيد: دفع السريّ إليَّ رقعةً وقال: هذه خير لك من سبعمائة قصَّة وكذا وكذا. فهذا فيها:
ولمَّا ادعيتُ الحبَّ قالت كذبتَني … فما لي أرى الأعضاءَ منكَ كواسيا
فما الحب حتَّى يلصَق القلبُ بالحشا … وتذبُلَ حتَّى لا تجيبَ المناديا
وتنحَلَ حتى لا يُبقّي لك الهوى … سوى مقلةٍ تبكي بها وتُناجيا (2)
وبالجملة، فشاهد المحبة (3) الذي لا يكذب هو شاهد الحال، وأمَّا شاهد المقال فصادق وكاذب.
قوله: “ولا يفهم حقيقتها من المحبّ سوى المحبوب، لموضع امتزاج (4) الأسرار من القلوب” يعني أنَّ حقيقة المحبة وسرها لا يفهمه من المحبّ إلا محبوبه. وذلك لشدَّة الاتصال الذي بينه وبين محبوبه في الباطن، فروحه أقرب شيء إليه، وأمَّا (5) الغير وإن علم أنه محبّ بظهور أثر المحبة عليه وقيام شاهدها لكن لا يدرك (6) تلك اللطيفة والحقيقة
__________
(1) جعفر بن محمد بن نصير الخُلدي، صحب الجنيد وعرف بصحبته، توفي سنة 348 هـ. طبقات الصوفية (434).
(2) في “ط”: “وتبخل حتى ليس” خطأ. والحكاية في القشيرية (324)، ومصارع العشاق (1/ 109). وقد ضمن المؤلف الأبيات في قصيدة أوردها في مدارج السالكين (2/ 610).
(3) “ط”: “الحب”.
(4) رسم الكلمة في الأصل هنا أقرب إلى “اقتراح”، فإن الراء لم تنقط هنا، وكذا في “ب، ك”. ولكن قول المؤلف في تفسيره: “لموضع اتصال سرّه به” يؤيد ما أثبتنا هنا وفي أول الفصل. وفي “ف”: “إخراج”، خطأ. وفي “ط”: “اقتداح”.
(5) “أما” ساقط من “ط”.
(6) “ف”: “لا يدري”، تحريف.

(2/683)


التي يدركها المحبوبُ من محبّه، لموضع اتصال سرّه به (1)، وقرب ما بين الروحين، ولا سيَّما إذا كانت المحبة من الطرفين، فهناك العجب والمناجاة والملاطفة والإشارة والعتاب والشكوى، وهما ساكتان (2) لا يدري جليسهما بعجيب شأنهما (3).

فصل
قال: “وأمَّا محبَّة العوام فهي محبة تنبُت من مطالعة المنَّة، وتثبتُ باتباع السنَّة، وتنمو على الإجابة للغاية (4). وهي محبة تقطع الوسواس، وتُلذّذ الخدمة، وتسلِّي عن المصائب. وهي في طريق العوامّ عمدة الإيمان” (5).
فيقال: لا ريب أنَّ المحبة درجات متفاوتة، بعضها أكمل من بعض، وكلّ درجة خاصَّة بالنسبة إلى ما تحتها، عامَّة بالنسبة إلى ما فوقها، فليس انقسامها إلى خاصّ وعامّ انقسامًا حقيقيًّا متميّزًا (6) بفصل يميّز أحدَ النوعين عن الآخر. وإنَّما تنقسم باعتبار الباعث عليها وسببها، وتنقسم بذلك إلى قسمين:
__________
(1) “به” ساقط من “ط”.
(2) كذا في “ب، ك”. وفي “ط”: “ساكنان”، وأهمل النقط في الأصل و”ف”.
(3) “ك، ط”: “جليسهما بشأنهما”.
(4) كذا في الأصل والنسخ الأخرى ومطبوعة المجالس. ولعل الصواب: “الفاقة”، فإنّ ابن التعريف اعتمد على الهروي، وفي منازله: “الفاقة”. وكذا في مدارج السالكين (2/ 617)، وعليه فسره ابن القيم في المدارج، وهنا أيضًا كما سيأتي في ص (695).
(5) محاسن المجالس (91).
(6) “ف”: “مستمرًّا”، ولعله خطأ، وزاد بعدها في “ك، ط”: “بالنسبة”.

(2/684)


أحد[هما] (1): محبة تنشأ من الإحسان, ومطالعة الآلاء والنعم، فإنَّ القلوب جُبلت على حبّ من أحسن إليها. وبغض من أساء إليها, ولا أحد أعظم إحسانًا من اللَّه سبحانه، فإنَّ إحسانه على عبده في كلِّ نفَس ولحظة، وهو يتقلب في إحسانه في جميع أحواله، ولا سبيل له إلى ضبط أجناس هذا الإحسان فضلًا عن أنواعه أو عن أفراده. ويكفي أنَّ من بعض أنواعه نعمةَ النفَس التي لا تكاد تخطر ببال العبد، وله عليه في كل يوم وليلة فيه أربعة وعشرون ألف نعمة، فإنَّه يتنفَّس في اليوم والليلة أربعة وعشرين ألف نفَس، وكلّ نفَس نعمة منه سبحانه. فإذا كان أدنى نعمة عليه في كل يوم وليلة أربعة وعشرون (2) ألف نعمة، فما الظنّ بما فوق ذلك وأعظم منه؟ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم/ 34، النحل/ 18].
هذا إلى ما يصرف عنه من المضرّات وأنواع الأذى التي تقصده، ولعلّها توازن النعم في الكثرة، والعبد لا شعور له بأكثرها أصلًا، واللَّه سبحانه يكلؤه منها بالليل والنهار، كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء/ 42]. وسواء كان المعنى: مَن يكلؤكم ويحفظكم منه إذا أراد بكم سوءًا، ويكون “يكلؤكم” مضمَّنًا معنى “يجيركم وينجيكم من بأسه”؛ أو كانت “من” للبدلية (3) أي: من يكلؤكم بدل الرحمن سبحانه، أي: هو الذي يكلؤكم وحده، لا كالئ لكم غيره.
__________
(1) “هما” سقط من الأصل سهوًا. وانظر القسم الثاني في ص (690).
(2) كذا في الأصل وغيره. وفي “ط”: “عشرين”.
(3) “ك، ط”: “البدلية”.

(2/685)


ونظير “مِن” هذه قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)} [الزخرف/ 60] على أحد القولين، أي: عوضكم وبدلكم. واستشُهِد (1) على ذلك يقول الشاعر:
جاريةٌ لم تأكلِ المرفَّقا … ولم تذُقْ من البقول الفُسْتُقا (2)
أي: لم تأكل الفستق بدل البقول (3).
وعلى كلا القولين فهو سبحانه منعِم عليهم بكلاءَتهم وحفظهم وحراستهم مما يؤذيهم بالليل والنهار وحده، لا حافظ لهم غيره. هذا مع غناه التامّ عنهم وفقرهم التامّ إليه، فإنه سبحانه غَنيّ عن خلقه من كلّ وجه، وهم فقراءُ محتاجون إليه من كلّ وجه.
وفي بعض الآثار يقول تعالى: “أنا الجواد، ومَن أعظم منّي جودًا وكرمًا؟ أبيت أكلأ عبادي في مضاجعهم وهم يبارزوني (4) بالعظائم” (5).
وفي الترمذي (6) أنّ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لمّا رأى السحاب قال: “هذه روايا
__________
(1) “ك، ط”: “واستشهدوا”.
(2) هذا الرجز لأبي نُخيلة، من شعراء الدولتين. الشعر والشعراء (602). والمرفّق: الرغيف الواسع الرقيق.
(3) وإليه ذهب ابن مالك. وقال غيره إن الراجز لم يعرف الفستق، فظنه من البقول. مغني اللبيب (422). وزعم الغندجاني أنَّ “البقول” بالباء تصحيف البقول. بالنون. فرحة الأديب (185). وانظر: الصحاح “بقل”.
(4) كذا في الأصل بحذف نون الرفع للتخفيف، وفي “ط”: “يبارزونني”. وفي “ف”: “يبادروني”، تحريف.
(5) انظر نحوه في الحلية (8/ 95 – 96) (11476 – 11477) عن الفضيل بن عياض.
(6) رقم (3298). وأخرجه أحمد (8827) وابن أبي عاصم في السنة (578) =

(2/686)


الأرض يسوقها اللَّه إلى قوم لا يذكرونه، ولا يعبدونه” (1).
وفي الصحيحين عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنّه قال: “لا أحد أصبَر على أذى يسمعه من اللَّه، إنّهم ليجعلون له الولد، وهو يرزقهم ويعافيهم” (2).
وفي بعض الآثار: “يقول تعالى: ابنَ آدم، خيري إليك نازل، وشرّك إليّ صاعد. كم أتحبب إليك بالنعم، وأنا غنيّ عنك! وكم تتبغّض إليّ بالمعاصي، وأنت فقير إليّ! ولا يزال الملَك الكريم يعرج إليّ منك بعمل قبيح” (3).
ولو لم يكن من تحبّبه إلى عباده وإحسانه إليهم وبرّه بهم إلّا أنّه سبحانه خلق لهم ما في السماوات والأرض وما في الدنيا والآخرة، ثمّ أقلهم وكرّمهم، وأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وشرع لهم شرائعه، وأذِن لهم في مناجاته كلّ وقت أرادوا. وكتب لهم بكلّ حسنة يعملونها عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضِعف إلى أضعاف كثيرة، وكتب لهم بالسيّئة واحدةً، فإن تابوا منها محاها وأثبت مكانها حسنةً. وإذا بلغت ذنوبُ أحدهم عَنان السماء ثمّ استغفره غَفَر له. ولو لقيه بقُراب الأرض خطايا، ثمّ لقيه بالتوحيد لا يشرك به شيئًا، لأتاه بقُرابها مغفرة (4).
__________
= وغيرهم من حديث أبي هريرة. قال الترمذي: “هذا حديث غريب من هذا الوجه. ويروى عن أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد، قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة”. وسماع الحسن من أبي هريرة فيه خلاف. وأخرج البخاري (287)، ومسلم (348) حديثًا عن الحسن عن أبي هريرة. (ز).
(1) الروايا من الإبل: التي يستقى عليها، شبّه بها السحاب.
(2) تقدّم تخريجه في ص (274).
(3) سبق تخريجه في ص (205).
(4) قول المصنف “وإذا بلغت ذنوب أحدهم. . . بقرابها مغفرةً” حديثٌ رواه =

(2/687)


وشرع لهم التوبة الهادمة للذنوب، فوفّقهم لفعلها، ثمّ قبِلها منهم. وشرع لهم الحجّ الذي يهدم ما قبله، فوفّقهم لفعله، وكفّر عنهم سيئاتهم به. وكذلك ما شرعه لهم من الطاعات والقربات، هو الذي أمدّهم (1) بها، وخلقها لهم، وأعطاهم إيّاها، ورتّب عليها جزاءَها. فمنه السبب، ومنه الجزاءُ، ومنه التوفيق، ومنه العطاءُ أولًا وآخرًا. وهم محلّ إحسانه فقط، ليس منهم شيء، إنّما الفضل كلّه والنعمة كلّها والإحسان كلّه منه أولًا وآخرًا. أعطى عبده ماله، وقال: تقرَّبْ بهذا إليّ أقبلْه منك. فالعبد له، والمال له، والثواب منه، فهو المعطي أولًا وآخرًا.
فكيف لا يحَبّ من هذا شأنه؟ وكيف لا يستحيي العبد (2) أن يصرف شيئًا من محبته إلى غيره؟ ومن أولى بالحمد والثناءِ والمحبة منه سبحانه؟ ومن أولى بالكرم والجود والإحسان منه؟ فسبحانه وبحمده، لا إله إلا هو العزيز الحكيم.
ويفرح سبحانه بتوبة أحدهم إذا تاب إليه أعظم فرح وأكمله، ويكفّر عنه ذنوبه، ويُوجِب له محبّته بالتوبة. وهو الذي ألهمه إيّاها، ووفّقه لها، وأعانه عليها. وملأ سبحانه سماواته من ملائكته، واستعملهم في الاستغفار لأهل الأرض. واستعمل حمَلةَ العرش منهم في الدعاءِ لعباده المؤمنين، والاستغفار لذنوبهم ووقايتهم عذابَ الجحيم، والشفاعة إليه بإذنه أن يدخلهم جنّاته. فانظر إلى هذه العناية،
__________
= أنس بن مالك. أخرجه الترمذي (3540) وقال: “هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلَّا من هذا الوجه” قلت: في سنده كثير بن فائد، فيه جهالة. (ز).
(1) “ك، ط”: “أمرهم”.
(2) “ب”: “كيف يليق بالعبد”.

(2/688)


وهذا الإحسان, وهذا التحنّن والعطف (1) والتحبّب إلى العباد، واللطف التامّ بهم!
ومع هذا كلّه بعد أن أرسل (2) إليهم رسُله، وأنزل عليهم كتُبه، وتعرف إليهم بأسمائه وصفاته وآلائه؛ ينزل كلّ ليلة إلى سماء الدنيا يسأل عنهم (3)، ويستعرض حوائجهم بنفسه، ويدعوهم إلى سؤاله، فيدعو مسيئَهم إلى التوبة، ومريضهم إلى أن يسأله أن يشفيه، وفقيرهم إلى أن يسأله غناه، وذا حاجتهم يسأله (4) قضاءها كلّ ليلة. ويدعوهم سبحانه إلى التوبة، وقد حاربوه، وعذَّبوا أولياءه، وأحرقوهم بالنار. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)} [البروج/ 10]. قال بعض السلف: انظروا إلى كرمه، كيف عذبوا أولياءَه، وحرَّقوهم بالنار؛ ثُمَّ هو يدعوهم إلى التوبة!
فهذا الباب يدخل منه كلّ أحد إلى محبته سبحانه، فإنَّ نعمه (5) على عباده مشهودة لهم، يتقلَّبون فيها على عدد الأنفاس واللحظات. وقد روي في بعض الأحاديث مرفوعًا: “أحبوا اللَّه لما يغذوكم به من نعمه، وأحِبّوني بحبّ اللَّه” (6). فهذه محبة تنَشأ من مطالعة المنن والإحسان
__________
(1) “ب”: “التعطف”.
(2) “ف”: “ومع هذا فقد أرسل”، خلاف الأصل.
(3) سبق حديث النزول في ص (464).
(4) “ب”: “أن يسأله”.
(5) “ك، ط”: “نعمته”.
(6) أخرجه الترمذي (3789)، والبخاري في تاريخه (1/ 83)، والطبراني في الكبير (2639)، والحاكم (4716). قال الترمذي: “هذا حديث حسن غريب، إنَّما نعرفه من هذا الوجه” وقال الحاكم: “هذا حديث صحيح الإسناد ولم =

(2/689)


ورؤية النعم والآلاء، وكلَّما سافر القلب بفكره (1) فيها ازدادت محبته وتأكَّدت. ولا نهاية لها، فيقفَ سفر القلب عندها، بل كلَّما ازداد فيها نظرًا ازداد فيها اعتبارًا وعجزًا (2) عن ضبط القليل منها، فيستدلّ بما عرفه على ما لم يعرفه.
واللَّه سبحانه دعا عباده إليه من هذا الباب، حتّى إذا دخلوا منه دُعُوا من الباب الآخر، وهو باب الأسماء والصفات (3) الذي إنَّما يدخل منه إليه خواصّ عباده وأوليائه، وهو باب المحبين حقًّا الذي لا يدخل منه غيرهم، ولا يشبَع من معرفته أحد منهم، بل كلَّما بدا له منه عَلَمٌ ازداد شوقًا ومحبَّةً وظمأ.
فإذا انضمَّ داعي الإحسان والإنعام إلى داعي الكمال والجمال لم يتخلَّف عن محبّة مَن هذا شأنه إلا أردأ القلوب وأخبثها وأشدّها نقصًا وأبعدها من كلِّ خيرٍ. فإنَّ اللَّه فطر القلوب على محبَّة المحسن الكامل في أوصافه وأخلاقه، وإذا كانت هذه فطرة اللَّه التي فطَر عليها قلوبَ عباده، فمن المعلوم أنَّه لا أحد أعظم إحسانًا منه سبحانه، ولا شيء أكمل منه ولا أجمل؛ فكل كمال وجمال في المخلوق من آثار صُنْعه سبحانه، وهو الذي لا يُحَد كمالُه، ولا يوصَف جلالُه وجمالُه، ولا يحيى أحد من خلقه ثناءً عليه بجميل صفاته وعظيم إحسانه وبديع أفعاله، بل هو كما أثنى على نفسه. وإذ (4) كان الكمال محبوبًا لذاته ونفسه وجَبَ أن يكون
__________
= يخرجاه”. وسنده ضعيف لجهالة عبد اللَّه بن سليمان النوفلي. (ز).
(1) “بفكره” ساقط من “ط”.
(2) “ف، ب”: “وعجَز”، خلاف الأصل.
(3) وهذا هو القسم الثاني من المحبة، الذي ينشأ من مطالعة الأسماء والصفات.
(4) “ك، ط”: “إذا”.

(2/690)


اللَّه هو المحبوب لذاته وصفاته، إذ لا شيء أكمل منه.
وكل اسم من أسمائه وصفة من صفاته تستدعي محبَّةً خاصَّةً، فإنَّ أسماءَه كلّها حسنى، وهي مشتمة من صفاته، وأفعاله دالَّة عليها، فهو المحبوب المحمود لذاته ولصفاته وأفعاله وأسمائه، فهو المحبوب المحمود (1) على كلِّ ما فعل، وعلى كل ما أمر؛ إذ ليس في أفعاله عبث، ولا في أوامره سَفَه. بل أفعاله كلّها لا تخرج عن الحكمة والمصلحة والعدل والفضل والرحمة، وكلّ واحد من ذلك يستوجب الحمد والثناء والمحبة عليه. وأوامره كلها مصلحة تستوجب الحمد والثناء والمحبة عليها (2). وكلامه كله صدق وعدل، وجزاؤه كلّه فضل وعدل؛ فإنَّه إن أعطى فبفضله ورحمته ونعمته، وإن منع أو عاقبَ فبعدله وحكمته.
ما للعباد عليه حقٌّ واجبٌ … كلَّا ولا سعيٌ لديه ضائعُ
إن عُذبوا فبعدله، أو نُعِّموا … فبفضله، وهو الكريم الواسعُ (3)
(4) ولا يتصوَّر بشَرٌ (5) هذا المقامَ حق تصوّره فضلًا عن أن يوفّيه (6) حقَّه. فأعرَفُ خلقِه به وأحبُّهم له يقول: “لا أحصي ثناءً عليك، أنتَ كما
__________
(1) “لذاته. . . ” إلى هنا ساقط من “ط”.
(2) “وأوامره كلها. . . ” إلى هنا ساقط من “ط”.
(3) ذكرهما المؤلف في مدارج السالكين (2/ 389)، وبدائع الفوائد (645)، والتبيان (33)، والوابل الصيب (153).
(4) في “ك، ط” هنا عنوان “فصل”.
(5) “ك، ط”: “نشر”، تصحيف.
(6) “ك، ط”: “يوفَّاه”، خطأ.

(2/691)


أثنيتَ على نفسك” (1). ولو شهد العبد (2) بقلبه صفة واحدة من أوصاف كماله لاستدعت منه المحبّةَ التامّةَ عليها. وهل مع المحبّين محبة إلا من آثار صفات كماله؟ فإنَّهم لم يروه في هذه الدار، وإنَّما وصل إليهم العلم بآثار صفاته وآثار صنعه، فاستدلّوا بما علموه على ما غاب عنهم، وإلا (3) فلو شاهدوه ورأوا جلاله وكماله وجماله (4) سبحانه لكان لهم في حبّه شأنٌ آخر.
وإنَّما تفاوتت مراتبهم (5) في محبته على حسب تفاوت مراتبهم في معرفته والعلم به، فأعرفهم له (6) أشدّهم حبًّا له. ولهذا كانت رسله صلوات اللَّه وسلامه عليهم أعظمَ الناس حبًّا له، والخليلان من بينهم أعظمهم حبًّا، وأعرف الأمة به أشدّ له حبًّا من غيره (7).
ولهذا كان المنكرون لحبّه سبحانه من أجهل الخلق به، فإنَّهم منكرون لحقيقة إلهيته، ولملَّة (8) الخليلين صلَّى اللَّه عليهما وسلَّم، ولفطرة اللَّه التي فطر اللَّه عبادَه عليها. ولو رجعوا إلى قلوبهم لوجدوا حبّه فيها، ووجدوا معتقدهم وبحثهم (9) يكذّب فِطَرهم. وإنَّما بُعثت الرسل
__________
(1) تقدّم تخريجه في ص (57).
(2) “العبد” ساقط من “ب, ك، ط”.
(3) “وإلَّا” ساقط من “ك، ط”.
(4) “ب, ك، ط”: “جماله وكماله”.
(5) “ط”: “منازلهم ومراتبهم”. وفي “ك” ضرب على “منازلهم” وليس بعدها واو العطف.
(6) “ب”: “به”. “ط”: “باللَّه”.
(7) “ك، ط”: “. . الأمة أشدهم له حبًّا”.
(8) “ب, ك، ط”: “لخلَّة”.
(9) “ط”: “معتقدهم نفي محبتهم”.

(2/692)


بتكميل هذه الفطر (1) وإعادة ما فسد منها إلى الحالة الأولى التي فطرت عليها، وإنَّما دعَوا إلى القيام بحقوقها ومراعاتها لئلَّا تفسد وتنتقل عمَّا خُلقت له. وهل الأوامر والنواهي إلا خدَم وتوابع ومكملات ومصلحات لهذه الفطرة؟ وهل خلق (2) سبحانه خلقَه إلا لعبادته التي هي غايةُ محبته والذلِّ له؟ وهل هُيِّئ الإنسان إلا لها؟ كما قيل:
قد هيّؤوك لأمرٍ لو فطِنتَ له … فاربَأ بنفسك أن ترعَى مع الهَمَلِ (3)
وهل في الوجود محبَّةٌ حقٌّ غير باطلة إلا محبته سبحانه؟ فإنَّ كلَّ محبَّةٍ متعلِّقةٍ بغيره فباطلة زائلة ببطلان متعلقها، وأمَّا محبته سبحانه فهي الحقّ التي لا تزول ولا تبطل (4)، كما لا يزول متعلقها ولا يفنى. فكلّ (5) ما سوى اللَّه باطل، ومحبّة الباطل كلها (6) باطل. فسبحان اللَّه كيف تُنكر المحبَّةُ الحقُّ التي لا محبَّة أحقّ منها، ويُعترَفُ بوجود المحبَّة الباطلة المتلاشية؟ وهل تعلَّقت المحبة بوجود محدَث إلا لكمالٍ في وجوده بالنسبة إلى غيره؟ وهل ذلك الكمالُ إلا من آثار صنع اللَّه الذي أتقن كل شيء؟ وهل الكمال كلّه إلا له؟ فكل من أحبَّ شيئًا لكمالٍ ما
__________
(1) “ك، ط”: “الفطرة”.
(2) “ط”: “خلق اللَّه”.
(3) للطغرائي. وهو آخر بيت من لامية العجم. انظر: الغيث المسجم (2/ 438) وفيه: “قد رشَّحوك”. وقد ذكره المؤلف في زاد المعاد (3/ 73)، وروضة المحبين (619)، ومفتاح دار السعادة (1/ 431)، (2/ 113).
(4) “ك، ط”: “فهو الحق الذي لا يزول ولا يبطل”.
(5) “ب، ك، ط”: “وكلّ”. والمثبت من “ف”.
(6) في الأصل: “ومحبّة الباطلها” كذا، فقرأتها كما أثبت، ويؤيد ذلك تذكير الخبر، ولم يثبت “كلها” في النسخ الأخرى. وفي “ب”: “ومحبّة الباطل باطلة”.

(2/693)


يدعوه إلى محبته فهو دليل وعبرة على محبة اللَّه، وأنَّه أولى بكمال الحبّ من كلِّ شيء. ولكن إذا كانت النفوس صغارًا كانت محبوباتها على قدرها، وأمَّا النفوس الكبار الشريفة فإنَّها إنَّما (1) تبذل حبها لأجلّ الأشياء وأشرفها.
والمقصود أنَّ العبد إذا اعتبر كلَّ كمال في الوجود وجده من آثار كماله سبحانه، فهو دالّ على كمال مبدعه؛ كما أنَّ كل علم في الوجود فمن آثار علمه، وكلّ قدرة فمن آثار قدرته. ونسبة الكمالات الموجودة في العالم العلوي والسفلي إلى كماله كنسبة علوم الخلق وقُدَرهم وقواهم وحياتهم إلى علمه سبحانه وقدرته (2) وقوته وحياته. فإذن لا نسبة أصلًا بين كمالات العالم وكمال اللَّه جلَّ جلاله، فيجب أن لا يكون بين محبته تعالى ومحبة غيره من الموجودات نسبة (3)، بل يكون حبّ العبد له أعظم من حبّه لكل شيء بما لا نسبة بينهما. ولهذا قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة/ 165]. فالمؤمنون أشدّ حبًّا لربهم ومعبودهم تعالى من كلّ محِبّ لكلِّ محبوب. هذا مقتضى عقد الإيمان الذي لا يتمّ إلا به.
وليست هذه المسألة من المسائل التي للعبد عنها غنًى أو منها بدّ، كدقائق العلم والمسائل التي يختصّ بها بعض الناس دون بعض. بل هذه أفرضُ مسألةٍ (4) على العبد، وهي أصل عقد الإيمان الذي لا يدخل فيه الداخل إلا بها, ولا فلاح للعبد ولا نجاة له من عذاب اللَّه إلا بها،
__________
(1) “إنما” ساقط من “ك، ط”.
(2) سقطت “قدرته” من “ف” سهوًا.
(3) مكانها في “ط”: “له”.
(4) “ط”: “هذه مسألة تفرض”.

(2/694)


فلْيشتغل بها العبد أو ليُعرض عنها.
ومن لم يتحقق بها علمًا وحالًا وعملًا لم يتحقَّق بشهادة أن لا إله إلا اللَّه، فإنَّها سرّها وحقيقتها ومعناها، وإن أبي ذلك الجاحدون، وقصَّر عن علمه الجاهلون. فإنَّ الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهُه (1) القلوب بحبها، وتخضع له، وتذِلّ له، وتخافه، وترجوه، وتنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهمَّاتها، وتتوكَّل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه، وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبّه. وليس ذلك إلا اللَّه (2) وحده. ولهذا كانت (3) أصدقَ الكلام، وكان أهلُها أهلَ اللَّه وحزبَه، والمنكرون لها أعداءه وأهل غضبه ونقمته.
فهذه المسألة قطب رحى الدين الذي عليه مداره، وإذا صحَّت صحَّ بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه، وأعماله، وأحواله، وأقواله. ولا حولَ ولا قوَّة إلا باللَّه.
فلنرجع إلى شرح كلامه.
فقوله: “وأمَّا محبة العوام فهي محبة تنبُت من مطالعة المنَّة” يعني أنَّ لهذه المحبة منشأ وثبوتًا (4) ونموًّا. فمنشؤها الإحسان ورؤية فضل اللَّه ومنته على عبده. وثبوتها باتباع أوامره التي شرعها على لسان رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-. ونموها وزيادتها يكون بإجابة العبد لدواعي فقره وفاقته إلى ربّه، فكلَّما (5) دعاه فقره وفاقته إلى ربّه أجاب هذا الداعي. وهو فقير بالذات،
__________
(1) “ف”: “تأله”، سهو، وفي “ط”: “تؤلّهه”.
(2) “ب”: “للَّه”.
(3) يعني كلمة لا إله إلَّا اللَّه. وقد وضعت في “ط” بين حاصرتين.
(4) “ب”: إثباتًا”.
(5) “ف”: “وكلّما”.

(2/695)


فلا يزال فقره يدعوه إليه، فإذا دام (1) استجابتُه له بدوام الداعي لم تزل المحبة تنمو وتتزايد، فكلما أخطر الربّ تعالى في قلبه خواطرَ الفقر والفاقة إليه (2) بادر قلبه بالإجابة والانكسار بين يديه ذلًّا وفاقةً وحبًّا وخضوعًا.
وإنّما كانت هذه محبّة العوام عنده لأنّ منشأها من الأفعال، لا من الصفات والجمال. ولو قطع الإحسانُ عن هذه القلوب لتغيّرتْ وذهبت محبّتها، أو ضعفت، فإنّ باعثها إنّما هو الإحسان, و”من ودَّك لأمرٍ ولَّى عند إنقضائه” (3)، فهو برؤية الإحسان مشغول، وبتوالي النعَم عليه محمول.
قوله: “وهي محبة تقطع الوسواس، وتلذّذ الخدمة، وتسلّي عن (4) المصائب. وهي في طريق العوام عمدة الإيمان (5) “. إنّما كانت هذه المحبة قاطعةً للوسواس لإحضار المحبّ قلبَه بين يدي محبوبه. والوسواس إنّما ينشأ من الغَيبة والبعد، وأمّا الحاضر المشاهد فما له وللوسواس؟ فالموسوس يجاهد نفسه وقلبه ليحضره (6) بين يدي معبوده، والمحبّ لم يغب قلبُه عن محبوبه فيجاهدَه على إحضاره، فالوسواس والمحبة متنافيان.
__________
(1) “ب، ط”: “دامت”.
(2) “إليه” ساقط من “ك، ط”.
(3) سبق المثل والتعليق عليه في ص (646).
(4) في الأصل: “على”، وكذا في غيره. وهو سهو. انظر ما سبق في أول الفصل. وسيأتي مرة أخرى على الصواب.
(5) “ب، ك، ط”: “للإيمان”.
(6) “ط”: “ليحضر”.

(2/696)


ومن وجه آخر أنّ المحبّ قد انقطعت عن قلبه وساوس الأطماع، لامتلاءِ قلبه من محبة حبيبه، فلا تتوارد على قلبه جوانب الأطماع والأماني لاشتغاله بما هو فيه.
وأيضًا فإن الوسواس والأماني إنّما تنشأ من حاجته وفاقته إلى ما تعلّق طمعه به، وهذا عبد قد جنى من الإحسان, وأُعطي من النعم ما سدّ حاجته وأغنى فاقته، فلم يبق له طمع ولا وسواس. بل بقي حبُّه للمنعِم عليه، وشكرُه له، وذكرُه إيّاه في محل وساوسه وخواطره، لمطالعته (1) نعمَ اللَّه عليه، وشهوده (2) منها ما لم يشهد غيره.
وقوله: “وتلذّذ الخدمة” هو صحيح، فإنّ المحبّ يتلذّذ بخدمة محبوبه وتصرفه في طاعته، وكلّما كانت المحبة أقوى كانت لذة الطاعة والخدمة أكمل. فليزِنْ العبد إيمانه ومحبّته للَّه بهذا الميزان, ولينظرْ هل هو ملتذّ بخدمته كالتذاذ المحبّ (3) بخدمة محبوبه، أو متكرّه لها يأتي بها على السآمة والملل والكراهة؟ فهذا محكّ إيمان العبد ومحبته للَّه.
قال بعض السلف: إنِّي أدخل في الصلاة، فأحمل همَّ خروجي منها، ويضيق صدري إذا عرفتُ (4) أني خارج منها.
ولهذا قال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “جعلت قرَّة عيني في الصلاة” (5). ومن كانت قرَّة عينه في شيء فإنَّه يودّ أن لا يفارقه ولا يخرج منه، فإن قرة عين العبد
__________
(1) “ف، ب”: “لطاعة”، غلط.
(2) في الأصل: “شهودها”، وهو سهو، وكذا في “ك”. والمثبت من “ف، ب، ط”.
(3) “بخدمته كالتذاذ المحبّ” ساقط من “ك، ط”.
(4) “ك، ط”: “فرغت”، تحريف.
(5) تقدّم تخريجه في ص (81).

(2/697)


بالشيء (1) نعيمه وطيب حياته به.
وقال بعض السلف: “إنِّي لأفرح بالليل حين يُقبل، لما يلَذّ (2) به عيشي وتقَرّ به عيني من مناجاة من أحب، وخلوّي (3) بخدمته، والتذلل بين يديه. وأغتمّ للفجر إذا طلع، لما أشتغل به بالنهار عن ذلك”. فلا شيء ألذّ للمحب من خدمة محبوبه وطاعته.
وقال بعضهم: تعذَّبتُ بالصلاة عشرين سنة، ثُمَّ تنعّمتُ بها عشرين سنة (4).
وهذه اللذّة والتنعّم بالخدمة إنَّما تحصل بالمصابرة على التكرّه والتعب أوَّلًا، فإذا صبر عليه وصدق في صبره أفضى به إلى هذه اللذّة. قال أبو يزيد: سُقْتُ نفسي إلى اللَّه وهي تبكي، فما زلت أسوقها حتَّى انساقت إليه وهي تضحك (5).
ولا يزال السالك عرضةَ الآفات (6) والفتور والانتكاس حتى يصل إلى هذه الحال (7). فحينئذٍ يصير نعيمُه في سيره، ولذّتُه في اجتهاده،
__________
(1) “بالشيء” ساقط من “ك، ط”.
(2) “ك، ط”: “يلتذ”. “ب”: “تلذبه عيشتي”.
(3) “ك، ط”: “خلوتي”.
(4) “ف”: “تغذيت”، تصحيف. وهو من كلام عتبة الغلام ابن أبيان البصري. حلية الأولياء (10/ 9). وفيه: “كابدت الصلاة. . “، وانظر: عدة الصابرين (84).
(5) ذكره المصنف في بدائع الفوائد (1181) ضمن ما انتقاه من المدهش لابن الجوزي (463).
(6) “ط”: “للآفات”.
(7) “ط”: “الحالة”.

(2/698)


وعذابُه في فتوره ووقوفه. فيرى (1) أشدّ الأشياء عليه ضياعَ شيء من وقته ووقوفَه عن سيره، ولا سبيل إلى هذا إلا بالحبّ المزعِج.
وقوله: “وتسلّي (2) عن المصائب” صحيح، فإنَّ المحبّ يتسلَّى بمحبوبه عن كلّ مصيبة يصاب بها دونه، فإذا سلم له محبوبه لم يُبالِ بما فاته، ولا يجزع (3) على ما ناله، فإنَّه يرى في محبوبه عوضًا عن كلّ شيء، ولا يرى في شيء غيره عوضًا منه أصلًا، فكل مصيبة عنده هينة إذا أبقَتْ عليه محبوبه.
ولهذا لما خرجت تلك المرأة الأنصارية يوم أحد تنظر ما فعل رسولُ اللَّه (4) -صلى اللَّه عليه وسلم- مرت بأبيها وأخيها مقتولَين (5)، فلم تقِفْ عندهما، وجاوزتهما تقول: ما فعل رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ فقيل لها: ها هو ذا حيّ، فلما نظرت إليه قالت (6): ما أُبالي إذ (7) سلمتَ هلك مَن هلك (8).
ولو لم يكن في المحبة من الفوائد إلا هذه الفائدة وحدَها لكفى بها
__________
(1) “ك، ط”: “فترى”.
(2) “ك”: “سلى”. (ط): “سلا”، خطأ.
(3) في الأصل: “ولا يجرح” بالجيم والحاء، ولعله سهو وكذا في “ف”. وفي “ب”: “ولم يجزع”. وفي “ك، ط”: “فلا يجزع”.
(4) “ك، ط”: “برسول اللَّه”.
(5) في السيرة أنها أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بأحد. انظر: سيرة ابن هشام (2/ 99).
(6) في الأصل: “قال”، سهو.
(7) “ك، ط”: “إذا”، خطأ.
(8) أخرجه ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام (2/ 99)، والبيهقي في دلائل النبوة (3/ 302)، وسنده ضعيف للانقطاع. (ز).

(2/699)


شرفًا، فإنَّ المصائب لازمة للعبد لا محيدَ له عنها, ولا يمكن دفعها وحملها (1) بمثل المحبة. وهكذا مصائب الموت وما بعده (2) إنَّما تسهل وتهون بالمحبة. وكذلك مصائب يوم القيامة، وأعظم المصائب مصيبة النار، ولا يدفعها إلا محبَّة اللَّه وحده، ومتابعة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-.
فالمحبَّة أصل كلّ خيرِ في الدنيا والآخرة، كما قال سَمنون (3): ذهب المحبّون للَّه بشرف الدنيا والآخرة، فإنَّ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “المرءُ مع من أحبّ” (4)، فهم مع اللَّه تعالى.
وقوله: “وهي في طريق العوامّ عمدة الإيمان” كلام قاصر، فإنَّها عمود الإيمان وعمدته وساقه الذي لا يقوم إلا عليه، فلا إيمان بدونها البتة، وإنَّما مراده أنَّ (5) هذه المحبة الخاصة التي تنشأ من رؤية النعم هي عمدة إيمان العوامّ، وأمَّا الخواصّ فعمدة إيمانهم محبة تنشأ من معرفة الكمال ومطالعة الأسماء والصفات (6).

فصل
قال أبو العباس (7): “وأمَّا محبَّة الخواصّ فهي محبة خاطفة: تقطع
__________
(1) “وحملها” ساقط من “ك، ط”.
(2) “ك، ط”: “بعدها”.
(3) من أصحاب السري السقطي. ترجمته في طبقات الصوفية (193) وحلية الأولياء (10/ 329). ونقل المصنف قوله في روضة المحبين (553).
(4) أخرجه البخاري في كتاب الأدب (6168)، ومسلم في البر والصلة (2640) عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه.
(5) “أنَّ” ساقط من “ك، ط”.
(6) زاد في “ك، ط”: “واللَّه أعلم”.
(7) محاسن المجالس (91 – 92).

(2/700)


العبارة، وتدقِّق الإشارة، ولا تنتهي بالنعوت، ولا تُعرف إلا بالحيرة والسكوت، وقال بعضهم:
تقول وقد أُلبِستُ وجدًا وحيرةً … وقد ضمَّنا بعد التفرُّق محضرُ (1)
ألستَ الذي كنّا نحدث أنه … وَلوع بذكرانا، فأين التذكّرُ؟ (2)
فرد عليها الوجدُ: أفنيتِ ذكرَه … فلم يبقَ إلا زفرة وتحيّرُ (3) “
فيقال: ههنا مرتبتان من المحبة مختلَف في أيّتهما أكمل من الأخرى: إحداهما هذه المرتبة التي أشار إليها المصنف، وهي الدرجة الثالثة التي ذكرها شيخ الإِسلام في منازله (4) فقال: “والدرجة الثالثة محبة خاطفة تقطع العبارة، وتدفق الإشارة، ولا تنتهي بالنعوت. وهذه المحبة قطب هذا الشأن، وما دونها محالّ (5) تنادي عليها الألسن، وادعتها الخليقة، وأوجبتها العقول”.
والمرتبة الثانية عند صاحب المنازل ومن تبعه دون هذه المرتبة، وهي المحبة التي تنشأ من مطالعة الصفات، فقال في منازله: “والدرجة الثانية محبة تبعث على إيثار الحقّ على غيره، وتُلهِجُ اللسان بذكره،
__________
(1) “ك، ط”: “يقول”، تصحيف.
(2) “ب، ك، ط”: “بذكراها”.
(3) “ف”: “فكرة وتحير”، خلاف الأصل. “ب”: “حسرة وتحسر”.
(4) يعني شيخ الإِسلام زكريا الأنصاري في كتابه منازل السائرين (72)، وانظر: مدارج السالكين (2/ 618، 620).
(5) كذا في الأصل وغيره. وفي المنازل: “محاب”، ولم يشر محققه إلى نسخة أخرى، وكذا في المدارج. فأخشى أن يكون ما هنا سهوًا.

(2/701)


وتعلق (1) القلبَ بشهوده، وهي محبة تظهر من مطالعة الصفات، والنظر في الآيات، والارتياض بالمقامات” (2).
وإنَّما جعل هؤلاء هذه المحبة أنقصَ من المحبة الثالثة بناءً على أصولهم في أنَّ (3) الفناءَ هو غاية المسالك التي لا غاية له وراءَها. فهذه المحبة لما أفنَت المحبّ، واستغرقت روحه، بحيث غيبته عن شهوده، وفني فيها المحبّ، وانمحت رسومه بالكلّية، ولم يبق هناك إلا محبوبه وحده، فكأنَّه هو المحبّ لنفسه بنفسه، إذ فني من لم يكن، وبقي من لم يزل.
ولمَّا ضاق نطاق النطق بهم عن التعبير عنها عدلوا إلى التعبير عنها بكونها قاطعةً للعبارة، مدقّقةً للإشارة، يعني تدِقّ عنها الإشارة؛ لأنَّ (4) الإشارة تتناول محبًّا ومحبوبًا، وفي هذه المحبة قد فني المحبّ، فانقطع تعلُّق الإشارة به، إذ الإشارة لا تتعلّق بمعدوم.
وسر هذا المقام عندهم هو الفناءُ في الحبّ، بحيث لا يشاهد له رسمًا ولا محبَّةً ولا سببًا. ولهذا كانت الدرجتان اللتان قبله عنده (5) معلولتين، لأنَّهما مصحوبتان (6) بالبقاء وشهود الأسباب، بخلاف الثالثة. ولهذا قال: “ولا تنتهي بالنعوت” يعني أنَّ النعت لا يصل إليها
__________
(1) “ك، ط”: “يلهج. . . يعلق”، تصحيف.
(2) منازل السائرين (72). وانظر: المدارج (617).
(3) “ط”: “فإنَّ”، تحريف.
(4) “ك، ط”: “ولأنَّ”، خطأ.
(5) “ط”: “عنه”، تحريف.
(6) في الأصل و”ف”: “مصحوبان”، ولعله سهو. والمثبت مما عداهما.

(2/702)


ولا يدركها. وهذ ابناءً على قاعدته في كلِّ باب من أبواب كتابه بجعل (1) الدرجة الثالثة (2) التي تتضمن الفناءَ أكمل ممَّا قبلها.
والصواب أنَّ الدرجة الثانية أكمل من هذه وأتمّ، وهي درجة الكمَّل (3) من المحبين. ولهذا كان إمامهم وسيدهم وأعظمهم حبًّا -صلى اللَّه عليه وسلم- في الذروة العليا من المحبة، وهو مراع لجزئيات الأمر ولجزئيات الأمة (4)، مثل سماعِه بكاءَ الصبيّ في الصلاة فيخفّفها لأجله (5)، ومثل التفاته في صلاته إلى الشعب الذي بعث منه العينَ يتعرَّف له أمر العدوّ (6)، هذا وهو في أعلى درجات (7) المحبة.
ولهذا رأى ما رأى ليلة الإسراء (8)، وهو ثابت الجأش، حاضر القلب، لم يفنَ عن تلقّي خطاب ربه وأوامره، ومراجعته في أمر الصلاة مرارا. ولا ريب أنَّ هذه (9) الحال أكمل من حال موسى الكليم صلوات اللَّه وسلامه عليهما وعلى جميع النبيين، فإنَّ موسى خرَّ صعقًا وهو في
__________
(1) كذا في “ك”. وفي “ط”: “يجعل” ولم ينقط أوله في الأصل وغيره.
(2) “ك، ط”: “العالية”، تحريف.
(3) “ط”: “الكملة”، وقد مرّت أمثلة من هذا التغيير في “ط”.
(4) في “ب” تحرفت كلمة “الجزئيات” في الموضعين إلى “حرمات”. وفي “ك”: “لجريان الأمور”. وفي “ط”: “لجريان الأمور وجريان الأمة”.
(5) كما في حديث أبي قتادة الذي أخرجه البخاري في كتاب الأذان (707)، وحديث أنس الذي أخرجه مسلم في كتاب الصلاة (470).
(6) أخرجه أبو داود (2501)، وابن خز يمة (487)، وأبو عوانة (5/ 98)، والحاكم (865). والحديث صححه ابن خزيمة والحاكم. (ز).
(7) “ك، ط”: “درجة”.
(8) “ك، ط”: “في ليلة الإسراء”.
(9) “ك، ط”: “هذا”.

(2/703)


مقامه في الأرض لمَّا تجلَّى ربُّه للجبل، والنبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قطع تلك المسافات، وخرق تلك الحجب، ورأى ما رأى، وما زاغ بصره ولا طغى (1)، ولا اضطرب فؤاده ولا صعق، فصلوات اللَّه وسلامه عليه. ولا ريب أنَّ الوراثة المحمّدية أكمل من الوراثة الموسويّة.
وتأمَّل شأن النسوة اللاتي رأين يوسف، كيف أدهشهنَّ حسنُه وتعلّق (2) قلوبهنَّ به، وأفناهنَّ عن أنفسهنَّ حتَّى قطَّعن أيديهنَّ. وامرأةُ العزيز أكملُ حبًّا منهنَّ له وأشدّ، ولم يعرض لها ذلك، مع أنَّ حبها أقوى وأتمّ؛ لأنَّ حبّها كان مع البقاءِ، وحبّهن كان مع الفناءِ. فالنسوة غيَّبهنّ حسنُه وحبُّه (3) عن أنفسهنَّ، فبلغن من تقطيع أيديهنَّ ما بلغن؛ وامرأة العزيز لم يغيّبها حبُّها له (4) عن نفسها، بل كانت حاضرةَ القلب متمكّنةً في حبّها، فحالها حال الأقوياء من المحبين، وحال النسوة حال أصحاب الفناءِ.
ومما يدلّ على أنَّ حال البقاءِ في الحبّ أكمل من حال الفناء أنَّ الفناءَ إنَّما يعرض لضعف النفس عن حمل (5) وارد المحبة، فتمتلئ به، وتضعف عن حمله، فيفنيها ويغيّبها عن تمييزها وشهودها، فيورثها الحيرة والسكوت. وأمَّا حال البقاء فيدلّ على ثبات النفس وتمكّنها، وأنَّها حملت من الحبّ ما لم يطلق حملَه صاحبُ الفناءِ، فتصرَّفتْ في
__________
(1) “ب, ك، ط”: “ما طغى”.
(2) “ب, ط”: “تعلَّقت”.
(3) “ف”: “حسن وجهه”، خلاف الأصل.
(4) “ط”: “حبه لها”، غلط.
(5) “حمل” ساقط من “ك، ط”.

(2/704)


حبّها, ولم يتصرّف فيها. والكامل (1) من إذا ورد عليه الحال تصرف هو فيه، ولا يدع حاله يتصرّف فيه.
وأيضًا فإنَّ البقاء متضمن لشهود كمال المحبوب (2)، ولشهود ذلّ عبوديته في محبته (3)، ولشهود مراضيه وأوامره، والتمييز بين ما يحبه ويكرهه، والتمييز بين المحبوب إليه والأحبّ، والعزم على إيثار الأحبّ إليه. فكيف يكون الفاني عن شهود هذا بتغييب (4) الحبّ له أكملَ وأقوى؟ وأي عبودية للمحبوب في فناءِ المحبّ في محبته؟ وهل العبودية كلّ العبودية إلا في البقاءِ والصحوِ، وكمالِ التمييز، وشهود عزّة محبوبه، وذلّه هو (5) في حبّه واستكانته فيه، واجتماع إرادته كلها في تنفيذ مراد محبوبه؟
فهذا وأمثاله مما يدلّ على أنَّ الدرجة الثانية التي أشار إليها أكملُ من الثالثة وأتم. وهكذا في جميع أبواب الكتاب. واللَّه أعلم.
وكأنِّي بك تقول: لا يُقبَل (6) في هذا إلا كلامُ مَن قطَع هذه المفاوِزَ حالًا وذوقًا، وأمَّا الكلام فيها بلسان العلم المجرد فغير مقبول، والمحبون أصحاب الحال والذوق في المحبة، لهم شأن وراءَ الأدلة والحجَج!
__________
(1) “ك، ط”: “الكمال”.
(2) “ب”: “متضمن لكمال المحبوب”.
(3) “ك، ط”: “عبوديته ومحبته”.
(4) “ط”: “التغييب”.
(5) “ك، ط”: “وذله وهو”.
(6) “ب”: “لا نقبل”، والأصل غير منقوط.

(2/705)


فاعلم أوَّلًا أنَّ كلَّ حال وذوق ووجد وشهود لا يُشرِق عليه نورُ العلم المؤيَّد بالدليل، فهو من عيش (1) النفس وحظوظها. فلو قُدِّرَ أنَّ المتكلّم إنَّما تكلَّم بلسان العلم المجرَّد، فلا ريبَ أنَّ ما كشفه العلم الصحيح المؤيَّد بالحجَّة أنفعُ من حالٍ يخالف العلمَ و [العلمُ] (2) يخالفه. وليس من الإنصاف ردّ العلم الصحيح بمجرَّد الذوق والحال، وهذا أصل الضلالة، ومنه دخل الداخل على كثير من السالكين في تحكيم أذواقهم ومواجيدهم على العلم، فكانت فتنةٌ في الأرض وفساد كبير. وكم قد ضلَّ وأضلَّ محكِّم الحال على العلم! بل الواجب تحكيمُ العلم على الحال، وردُّ الحال إليه، فما زكَّاه شاهدُ العلم فهو المقبول، وما جرحه شاهد العلم فهو المردود. وهذه وصية أرباب الاستقامة من مشايخ الطريق رضي اللَّه عنهم، كلّهم (3) يوصون بذلك، ويخبرون أنَّ كلّ ذوق ووجد لا يقوم عليه شاهدان اثنان من العلم فهو باطل.
ويقال ثانيًا: ليس من شرط قبول العلم بالشيء من العالم به أن يكون ذائقًا له. أفتراك لا تقبل معرفة الآلام والأوجاع وأدويتها إلا ممَّن قد مرض وتداوى بها (4)؟ أفيقول هذا عاقل؟
ويقال ثالثًا: أتريد بالذوق أن يكون القائل قد بلغ الغاية القصوى في
__________
(1) “ط”: “عبث”، تحريف.
(2) ما بين الحاصرتين زيادة من “ط”.
(3) “كلهم” ساقط من “ب”. وسقطت معه كلمة الترضي أيضًا من “ك، ط”.
(4) “وتداوى” مكتوب في حاشية الأصل، والإشارة تدلّ على أن مكانها قبل “بها” كما أثبتنا، وفي “ف”: “مرض بها وتداوى”، وفي “ب، ك، ط”: “مرض بها وتداوى بها”.

(2/706)


هذه المرتبة، فلا تقبل إلا ممَّن هذا شأنه، أو تريد به (1) أنه لا بدَّ أن يكون له أذواق أهله من حيث الجملة (2)؟ فإن أردتَ الأوَّل لزمك أن لا تقبل (3) من أحد، إذ ما من ذوق إلا وفوقه أكمل منه. وإن أردت الثاني، فمن أين لك نفيُه عن صاحب العلم؟ ولكن لإعراضك عن العلم وأهله صرتَ تظنّ أنّ أهل العلم لهم العلم والكلام والوصف، وللمعرضين عنه الذوق والحال والاتصاف.
والظنُّ يخطئ تارةً ويُصيبُ (4)
واللَّه أعلم.

فصل
قال أبو العباس: “فعند القوم كلّ ما هو من العبد فهو علَّة تليق بعجز العبد وفاقته. وإنَّما عين الحقيقة عندهم أن يكون قائمًا بإقامته له، محبًّا بمحبَّته له، ناظرًا بنظره له (5)، من غير أن يبقى معه بقيَّةٌ تُناط باسم، أو تقف على رسم، أو تتعلَّق بأثر (6)، أو تُنعَت بنعت، أو تُوصف
__________
(1) “به” ساقط من “ب، ك، ط”.
(2) “ك، ط”: “يحمله”، تحريف.
(3) “ك”: “لا يقبل”، ولم ينقط حرف المضارع في غيرها. وزاد في “ط” بعده: “أحد”.
(4) صدر بيت لأبي العتاهية في ديوانه (29). وهو:
الظن يخطئ تارةً ويصيبُ … وجميعُ ما هو كائن فقريبُ
وقال الطغرائي من قصيدة في ديوانه (63):
غُرّتْ بترجيم الظنون فأخطأت … والظنّ يخطئ مرَّةً ويصيبُ
(5) “له” تحرفت في “ك، ط” إلى “لا”.
(6) “ط”: “بنظر”.

(2/707)


بوصف، أو تنسَب إلى وقت. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ، لدينا محضَرون” (1).
فيقال: هذا هو مقام الفناءِ الذي يشير إليه كثيرٌ من المتأخرين، ويجعلونه غاية الغايات ونهاية النهايات، وكلُّ ما دونه فمِرقاةٌ إليه وعَيلةٌ عليه. ولهذا كانت المحبة عندهم آخرَ منازل الطريق، وأوَّلَ أودية الفناءِ، والعقبةَ التي يُنحدَر منها على منازل المحو، وهي آخر منزل يلقَى فيه مقدّمة العامَة ساقةَ الخاصَّة، وما دونها أغراض لأعواض (2). فجعلوا المحبة منزلةً (3) من المنازل ليست غاية، وجعلوها أوَّل الأودية التي يسلك (4) فيها أصحاب الفناءِ، فهي أوَّل أوديتهم والعقبة التي ينحدرون منها إلى منازل الفناء والمحو. فليست هي الغاية عندهم، وأصحابها عندهم مقدّمة العامَّة، وساقةُ إصحاب الفناء عندهم متقدّمون (5) عليهم سابقون لهم، فإنَّهم ساقة الخاصّة، وهؤلاء مقدّمة العامّة. وهذا (6) كلّه بناءً على أنَّ الفناء هو الغاية التي لا غاية للعبد وراءَها, ولا كمال له يطلبه فوقها. وقد تبيّن ما في ذلك، وما هو الصواب، بحمد للَّه.
__________
(1) محاسن المجالس (92).
(2) “لأعواض” بالواو. كذا في الأصل، وفي منازل السائرين الذي أخذ منه المؤلف هذه العبارة ولم يشر محققه إلى قراءة أخرى. انظر: المنازل (71)، ومدارج السالكين (2/ 614)، وفسر المؤلف فيه معنى الأعواض هنا. وفي النسخ الأخرى وفي المجالس (95): “لأعراض” بالراء. هذا، وقد كتب في الأصل بعد هذه العبارة: “هذا كلام صاحب المنازل” ثم ضرب عليه.
(3) “ط”: “منزلا”.
(4) “ك، ط”: “سلك”.
(5) “ب, ك، ط”: “مقدّمون”.
(6) “ك، ط”: “فهذا”.

(2/708)


فقوله رحمه اللَّه: “كلّ ما هو من العبد فهو علَّة تليق بعجز العبد وفاقته”. يقال (1): إذا كان إنَّما منه (2) العبودية التي يحبّها اللَّه كسبًا ومباشرةً، فهو قائم بها، شاهد لمقيمه فيها، مطالع لمنّه وفضله؛ فأيّ علَّة هنا سوى وقوفه مع شهود ما (3) منه، وغيبته عن شهود إقامة اللَّه له (4)، وتحريكه إيَّاه، وتوفيقه له؟ فالعلَّة هي هذا (5) الشهود وهذه الغيبة المنافية لكمال الافتقار والفاقة إلى اللَّه. وأمَّا شهود فقره وفاقته في مجموع (6) حالاته وحركاته وسكناته إلى وليّه وبارئه مستعينًا به أن يقيمه في عبوديته (7) خالصةً له، فلا علَّة هناك.
قوله: “وإنَّما عين الحقيقة أن يكون قائمًا بإقامته له” إلى آخر كلامه. يقال: إن أردتَ أنَّه يشهد إقامة اللَّه له حتَّى قام، ومحبَّته له حتَّى أحبّه، ونظره إلى عبده حتَّى أقبل عبدُه عليه ناظرًا إليه بقلبه، فهذا حقّ. فإنَّ ما مِنَ اللَّه سبق ما من العبد، فهو الذي أحب عبدَه أوَّلًا فأحبه العبدُ، وأقام عبدَه (8) في طاعته فقام بإقامته، ونظر إليه فأقبل العبد عليه، وتاب عليه أوَّلًا فتاب إليه العبد.
وإن أردتَ أنَّه لا يشهد فعلَه البتَّة، بل يفنى عنه جملةً، ويشهد أنَّ اللَّه
__________
(1) زاد في (ط): “له”.
(2) “ط”: “منته”.
(3) “ط”: “شهودها” تحريف.
(4) “له” ساقط من “ط”.
(5) “ك، ط”: “بهذا”.
(6) “ك، ط”: “فاقته ومجموع”.
(7) “ط”: “عبودية”.
(8) “ك، ط”: “العبد”.

(2/709)


وحده هو الذاكر لنفسه، الموحّد لنفسه، المحبّ لنفسه؛ وأنَّ هذه الأسباب والرسوم تصير عدمًا صِرفًا (1) في شهوده، وإن لم تفنَ وتُعدَمْ في الخارج -وهذا هو مراد القوم- فدعوى أنَّ هذا هو الكمال الذي لا كمال فوقه ولا غاية وراءَه دعوى مجرَّدةٌ لا يستدِل عليها مدعيها بأكثر من الذوق والوجد. وقد تقدَّم أنَّ هذا ليس بغاية، وإنَّما غايته أن يكون من عوارض الطريق، وأنَّ شهود الأشياءِ في مراتبها ومنازلها التي أنزلها اللَّه (2) سبحانه إياها أكمل وأتم.
ويكفي في نقض (3) هذا الاحتجاجُ عليه بصفات الكفَّار، فإنَّ اللَّه تعالى ذمهم بأنَّهم صمّ بكم عمي، فهذه صفات نقص وذمّ، لا صفات كمال ومدحة. وهل الكمال إلا في حضور السمع والبصر والعقل (4)، وكمال التمييز، وتنزيل الخلق والأمر منازلهما، والتفريق بين ما فرَّق اللَّه بينه؟ فالأمر كله فرقان وتمييز وتبيين، وكلَّما (5) كان تمييز العبد وفرقانه (6) أتمّ، كان حاله أكملَ، وسيره أصحّ، وطريقه أقوم وأقرب. والحمد للَّه ربِّ العالمين.
__________
(1) “صرفًا”: ساقط من “ط”.
(2) سقط لفظ الجلالة من “ك، ط”.
(3) “ب, ك، ط”: “بعض”، تصحيف.
(4) “ف”: “القول” وهو يشبه رسم الكلمة في الأصل.
(5) “ك، ط”: “فكلما”.
(6) “ف”: “فرقان العبد وتمييزه”، خلاف الأصل.

(2/710)


فصل [في الشوق]قال أبو العبّاس: “وأمَّا الشوق فهو هبوب القلب إلى غائب، وإعواز الصبر عن فقده، وارتياح السرّ إلى طلبه؛ وهو من مقامات العوامّ. فأمَّا (1) الخواصّ فهو عندهم علَّة (2) عظيمة؛ لأنَّ الشوق إنَّما يكون إلى غائب. ومذهب هذه الطائفة إنَّما قام على المشاهدة، والطريق عندهم أن يكون العبد غائبًا، والحقّ ظاهرًا. ولهذا المعنى لم ينطق بالشوق كتابٌ ولا سنَّةٌ صحيحة، لأنَّ (3) الشوق مخبر عن بُعد، ومشير إلى غائب، وهو يطّلع إلى إدراك {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد/ 4]. وقيل:
ولا معنى لشكوى الشوق يومًا … إلى مَن لا يزولُ عن العيانِ” (4)
اختلف النَّاس في الشوق والمحبَّة أيّهما أعلى؟ فقالت طائفة: المحبَّة أعلى من الشوق. هذا قول ابن عطاء (5) وغيره. واحتجُّوا بأنَّ
__________
(1) “ك، ط”: “وأما”.
(2) “ط”: “مخلّة”، تحريف.
(3) “ب، ك، ط”: “إلّا أنّ”.
(4) محاسن المجالس (93 – 94)، وانظر: منازل السائرين (73).
(5) “ط”: “ابن عطاء اللَّه”. وهو غلط، فإنّه أحمد بن محمد بن عبد الكريم تاج الدين الشاذلي، المعروف بابن عطاء اللَّه الإسكندري المتوفى 709 هـ صاحب الحكم العطائية. وكان من أشد خصوم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه. الأعلام (1/ 221). والمذكور هنا أبو عبد اللَّه أحمد بن عطاء الرُّوذباري المتوفى في صور سنة 369 هـ. كان شيخ الشام في وقته، وهو ابن أخت أبي علي الرُّوذباري. انظر: طبقات الصوفية (497). وقوله الذي أشار إليه المؤلف هنا مذكور في الرسالة القشيرية (330).

(2/711)


الشوق غايته أن يكون أثرًا من آثار المحبة، ويتولَّد (1) عنها: فهي أصله، وهو فرعها. قالوا: والمحبة توجِب آثارًا كثيرةً، فمن آثارها الشوق.
وقالت طائفة منهم سريّ السقَطي وغيره: الشوق أعلى. قال الجنيد: سمعت السريّ يقول: الشوق أجلّ مقامات العارف إذا تحقَّق فيه. وإذا تحقَّق (2) في الشوق لها عن كلِّ شيء يشغله عمَّن يشتاق إليه (3).
وإنَّما يظهر سرّ المسالة بذكر فصلين: الفصل الأوَّل في حقيقة الشوق، والثاني في الفرق بينه وبين المحبة. ويتبع ذلك خمس مسائل:
إحداها: هل يجوز إطلاقه على اللَّه كما يطلق عليه أنَّه يحبّ عباده أم لا؟
الثانية: هل يجوز إطلاقه على العبد، فيقال: يشتاق إلى اللَّه، كما يقال: يحبّه؟
الثالثة: أنَّه هل يقوى بالوصول والقرب، أم يضعف بهما؟ فأي الشوقين أعلى: شوق القريب الداني، أم شوق البعيد الطالب؟
الرابعة: ما الفرق بينه وبين الاشتياق، فهل هما بمعنى واحد أم بينهما فرق؟
الخامسة: في بيان مراتبه وأقسامها ومنازل أهله فيه.
__________
(1) “ب، ك، ط”: “متولّدًا”.
(2) “فيه وإذا تحقّق” ساقط من “ب، ك، ط”.
(3) الرسالة القشيرية (332).

(2/712)


الفصل الأوَّل في حقيقته
الشوقُ هو سفرُ القلب في طلب محبوبه، بحيث لا يقرّ قراره حتّى يظفر به ويحصل له (1).
وقيل: هو لهيب ينشأ بين أثناء الحشا، سببه الفرقة. فإذا وقع اللقاءُ أطفأ ذلك اللهيب (2).
وقيل: الشوق هبوب القلب إلى محبوب غائب عنه (3).
وقال ابن خفيف: الشوق أرتياح القلوب بالوجد، ومحبَّة اللقاءِ والقرب (4).
وقيل: الشوق نزوع (5) القلب نحو المحبوب من غير منازع.
ويقال: الشوق انتظار اللقاءِ بعد البعاد.
فهذه الحدود ونحوها مشتركة في أنَّ الشوق إنَّما يكون مع الغيبة من المحبوب، وأمَّا مع حضوره ولقائه فلا شوق. وهذه حجة من جعل
__________
(1) وانظر: مدارج السالكين (3/ 15)، روضة المحبين (112).
(2) القشيرية (330)، مدارج السالكين (3/ 16).
(3) قد انتشر الحبر على “عنه” في الأصل، ولا يبعد أن تكون مضروبًا عليها، وقد أثبتناها تبعًا لناسخ “ف”، ولم يثبتها غيره. والقول لصاحب منازل السائرين (73)، وانظر المدارج (3/ 18).
(4) “ط”: “بالقرب”. وانظر: القشيرية (331)، المدارج (3/ 16). وابن خفيف: أبو عبد اللَّه محمد بن خفيف المتوفى سنة 371 هـ. كان مقيمًا بشيراز وكان شيخ المشايخ في وقته. طبقات الصوفية (462).
(5) “ك”: “نزوح”. “ط”: “تروح”، وكلاهما تحريف.

(2/713)


المحبة أعلى منه، فإنَّ المحبة لا تزول باللقاءِ. وبهذا يتبين الكلام في:

الفصل الثاني، وهو الفرق بينه وبين المحبة
والفرق (1) بينهما فرق ما بين الشيء وأثره. فإنَّ الحامل على الشوق هو المحبة، ولهذا يقال: لمحبتي له اشتقتُ إليه، وأحببتُه فاشتقتُ إلى لقائه. ولا يقال: لشوقي إليه أحببتُه، ولا: اشتقتُ إلى لقائه فأحببتُه. فالمحبَّة بَذْرٌ في القلب. والشوق بعض ثمرات ذلك البذر.
وكذلك من ثمراتها: حمدُ المحبوب، والرضا عنه، وشكره، وخوفه، ورجاؤه، والتنعّم بذكره، والسكون إليه، والأنس به، والوحشة بغيره. وكلّ هذه من أحكام المحبة، وثمراتها، وموجباتها (2).
فمنزلة الشوق من المحبة منزلة الهرب من البغضاء والكراهة. فإنَّ القلب إذا أبغض الشيء وكرهه جدّ في الهرب منه، وإذا أحبّه جدّ في الهرب إليه وطلبه؛ فهو حركة القلب في الظفر بمحبوبه.
ولشدَّة ارتباط الشوق بالمحبّة يقع كلُّ واحد منهما موقعَ صاحبه، ويُفهَم منه، ويُعبَّر به عنه.

فصل وأمَّا المسائل فإحداها: هل يجوز إطلاقه على اللَّه تعالى؟
فهذا ممَّا لم يرد به القرآن ولا السنَّة بصريح لفظه. قال صاحب “منازل السائرين” وغيره: وسبب ذلك أنَّ الشوق إنَّما يكون لغائب.
__________
(1) حذف الواو في “ط”، وزاد بين حاصرتين: “الفصل الثاني”.
(2) “ط”: “وهو حياتها”، تحريف طريف!

(2/714)


ومذهب هذه الطائفة إنَّما قام على المشاهدة، ولهذا السبب عندهم لم يجئ في حقِّ اللَّه ولا في حقِّ العبد (1).
وجوّزت طائفةٌ إطلاقَه كما يطلَق عليه سبحانه المحبَّة (2)، ورووا في أثر أنَّه تعالى يقول: “طال شوق الأبرار إلى لقائي، وأنا إلى لقائهم أشوَق” (3).
وفي أثر آخر (4): أنَّ اللَّه تعالى أوحى إلى داود: قل لشبّان بني إسرائيل: لِمَ تشغلوا (5) أنفسكم بغيري، وأنا مشتاق إليكم؟ ما هذا الجفاء؟ (6).
وفي أثر آخر: أوحى اللَّه إلى داود: لو يعلم المدبرون عنِّي كيف انتظاري لهم، ورفقي بهم، وشوقي إلى ترك معاصيهم؛ لماتوا شوقًا
__________
(1) انظر: منازل السائرين (73).
(2) “المحبة” ساقط من “ب، ك، ط”.
(3) ذكره المؤلف في روضة المحبين (113). وقال: “جاء في أثر إسرائيليّ”. وفي إحياء العلوم (4/ 324) “قال أبو الدرداء لكعب: أخبرني عن أخص آية -يعني في التوراة- فقال: يقول اللَّه تعالى: طال شوق الأبرار إلى لقائي وإنّي إلى لقائهم لأشدّ شوقًا. قال: ومكتوب إلى جانبها: من طلبني وجدني، ومن طلب غيري لم يجدني. فقال أبو الدرداء: أشهد أنِّي لسمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول هذا. وأخرجه صاحب الفردوس (5/ 240) (8067) عن أبي الدرداء.
(4) أضيف هذا الأثر وكذلك الأثر التالي في حاشية الأصل، ولم أجد علامة اللحق. وقد أثبتهما ناسخ “ف” بعد قول المؤلف فيما يأتي “لا يغيب العبد عنه”، والظاهر أن مكانهما هنا. وكلاهما ساقط من “ب، ك، ط”.
(5) كذا في الأصل و”ف” بحذف نون الرفع.
(6) الرسالة القشيرية (332).

(2/715)


إليَّ، وانقطعت أوصالهم من محبَّتي. يا داود، هذه إرادتي في المدبرين عنِّي، فكيف إرادتي في المقبلين عليّ؟ (1)
قالوا: وهذا الذي تقتضيه الحقيقة، وإن لم يرد به لفظ صريح، فالمعنى حقّ (2)، فإنَّ كلَّ محبّ فهو مشتاق إلى لقاءِ محبوبه.
قالوا: وأمَّا قولكم إنَّ الشوق إنَّما يكون إلى غائب، وهو سبحانه لا يغيب عن عبده، ولا يغيب العبد عنه؛ فهذا حضور العلم. وأمَّا اللقاء والقرب فأمرٌ آخر. فالشوق يقع بالاعتبار الثاني، وهو قرب الحبيب ولقاؤه، والدنو منه، وهذا له أجل مضروب لا ينال قبله. قال تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت/ 5]. قال أبو عثمان الحيري (3): هذا تعزية للمشتاقين، معناه: إنِّي أعلم أن اشتياقكم إليَّ غالب، وأنا أجّلتُ للقائكم أجلًا، وعن قريب يكون وصولكم إلى من تشتاقون إليه (4).
والصواب أن يقال: إطلاق اللفظ (5) متوقّف على السمع، ولم يَرِدْ به، فلا ينبغي إطلاقه. وهذا كلفظ “العشق” أيضًا، فإنَّه لمَّا لم يرِدْ به سمعٌ فإنَّه يمتنع إطلاقه عليه سبحانه. واللفظ الذي أطلقه سبحانه على
__________
(1) القشيرية (332)، إحياء علوم الدين (4/ 326).
(2) “ب”: “ظاهر”.
(3) أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الحيري -نسبة إلى الحيرة، قرية من قرى نيسابور- وأصله من الري. صحب أبا حفص النيسابوري وأخذ عنه طريقته. ومنه انتشرت طريقة التصوف في نيسابور. مات سنة 298 هـ. طبقات الصوفية (170).
(4) القشيرية (332).
(5) “ك، ط”: “إطلاقه”.

(2/716)


نفسه وأخبر به عنها أتمُّ من هذا وأجلُّ شأنًا، وهو لفظ “المحبة”. فإنَّه سبحانه يوصف من كلِّ صفةِ كمالٍ بأكملها وأجلّها وأعلاها، فيوصف من الإرادة بأكملها، وهو الحكمة وحصول كلّ ما يريد بإرادته كما قال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)} [البروج/ 16] وبإرادة اليسر لا العسر، كما قال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة/ 185]، وبإرادة الإحسان وإتمام النعمة على عباده، كقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)} [النساء/ 27]. فإرادة التوبة له (1)، وإرادة الميل لمتَّبعي (2) الشهوات. وقوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة/ 6].
وكذلك الكلام، يصف نفسه منه بأعلى أنواعه، كالصدق والعدل والحقّ. وكذلك الفعل، يصف نفسه منه بأكمله وهو العدل والحكمة والمصلحة والنعمة.
وهكذا المحبة، وصف نفسه منها بأعلاها وأشرفها، فقال تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة/ 54]، {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} [البقرة/ 222] و {يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)} [البقرة/ 195] و {يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (3) [آل عمران/ 146]. ولم يصِفْ نفسه بغيرها من العلاقة والميل والصبابة والعشق والغرام ونحوها، فإنَّ مسمَّى المحبَّة أشرف وأكمل من هذه المسمّيات، فجاءَ في حقّه إطلاقُه دونها، وهذه المسمّيات لا تنفكّ عن
__________
(1) “ط”: “اللَّه”.
(2) “ب، ك، ط”: “لمبتغي”، تصحيف.
(3) في “ف” تقدّمت هذه الآية على الآية السابقة.

(2/717)


لوازم ومعانٍ تنزّه تعالى عن الاتّصاف بها.
وهكذا جميع ما أطلقه على نفسه من صفاته العلى أكمل معنًى ولفظًا ممَّا لم يطلقه. فالعليم الخبير أكمل من الفقيه والعارف، والكريم الجواد أكمل من السخيّ. والخالق البارئ المصوّر أكمل من الصانع الفاعل، ولهذا لم تجئ هذه في أسمائه الحسنى. والرحيم والرؤوف أكمل من الشفيق والمشفق (1). فعليك بمراعاة ما أطلقه سبحانه على نفسه من الأسماء والصفات والوقوف معها، وعدم إطلاق ما لم يطلقه على نفسه ما لم يكن مطابقًا لمعنى أسمائه وصفاته؛ وحينئذ فيطلق المعنى لمطابقته لها (2) دون اللفظ، ولا سيَّما إذا كان مجملًا أو منقسمًا إلى ما يمدح به وغيره، فإنَّه لا يجوز إطلاقه إلا مقيّدًا.
وهذا كلفظ الفاعل والصانع فإنَّه لا يطلق عليه في أسمائه الحسنى إلا إطلاقًا مقيّدًا، كما (3) أطلقه على نفسه، كقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)} [البروج/ 16]، {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} [إبراهيم/ 27]، وقوله: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل/ 88]، فإنَّ اسم الفاعل والصانع منقسم المعنى إلى ما يمدح عليه ويذَمّ (4).
ولهذا المعنى -واللَّه أعلم- لم يجئ في الأسماء الحسنى “المريد”، كما جاء فيها “السميع البصير”، ولا “المتكلم”، ولا “الآمر الناهي”، لانقسام مسمَّى هذه الأسماء؛ بل وصَفَ نفسَه بكمالاتها وأشرف
__________
(1) “والمشفق” ساقط من “ك، ط”.
(2) “ك، ط”: “له”.
(3) “كما” ساقط من “ط”.
(4) وانظر: شفاء العليل (218).

(2/718)


أنواعها.
ومن هنا يُعلَم غلطُ بعض المتأخرين وزلَقُه الفاحش في اشتقاقه له سبحانه من كلِّ فعل أخبر به عن نفسه اسمًا مطلقًا، وأدخله (1) في أسمائه الحسنى! فاشتقَّ له اسم الماكر، والخادع، والفاتن، والمضلّ، والكاتب، ونحوها من قوله: {وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال/ 30]، ومن قوله: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء/ 142] ومن قوله: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه/ 131] ومن قوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} [الرعد/ 27]، وقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ} [المجادلة/ 21]. وهذا خطأ من وجوه:
أحدها: أنَّه سبحانه لم يطلق على نفسه هذه الأسماء، فإطلاقها عليه لا يجوز.
الثاني: أنَّه سبحانه إنَّما (2) أخبر عن نفسه بأفعال مختصَّة مقيَّدة، فلا يجوز أن ينسب إليه مسمَّى الاسم عند الإطلاق.
الثالث: أنَّ مسمَّى هذه الأسماء منقسم إلى ما يمدَح عليه المسمَّى به، وإلى ما يذَمّ. فيحسن في موضع، ويقبح في موضع. فيمتنع إطلاقه عليه سبحانه من غير تفصيل.
الرَّابع: أنَّ هذه ليست من الأسماء الحسنى التي تَسمّى (3) بها سبحانه، فلا يجوز أن يسمَّى بها، فإنَّ أسماء الربّ تعالى كلَّها حسنى. كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف/ 180]. وهي التي يُحَبُّ
__________
(1) “ط”: “فأدخله”.
(2) “إنما” ساقط من “ط”.
(3) “ك، ط”: “يسمى”، تصحيف.

(2/719)


سبحانه ويُثنى (1) عليه ويحمَد (2) ويمجَّد بها دون غيرها.
الخامس: أنَّ هذا القائل لو سُفي بهذه الأسماء، وقيل له: هذه مدحتك وثناءٌ عليك، فأنتَ الماكر الفاتن المخادع المضلّ اللاعن (3) الفاعل الصانع ونحوها، أكان (4) يرضى بإطلاق هذه الأسماء عليه ويعدّها مدحة؟ وللَّه المثل الأعلى سبحانه وتعالى عمَّا يقول الجاهلون (5) به علوًّا كبيرًا.
السادس: أنَّ هذا القائل يلزمه أن يجعل من أسمائه: اللاعن، والجائي، والآتي، والذاهب، والتارك، والمقاتل، والصارف (6)، والمنزل، والنازل، والمدمدم، والمدمِّر، وأضعاف أضعاف ذلك؛ فيشتقّ له اسمًا من كلِّ فعل أخبر به عن نفسه، وإلا تناقض تناقضًا بيِّنًا، ولا يمكنه ولا أحدًا من العقلاء (7) طردُ ذلك. فعُلِمَ بطلان قوله، والحمد للَّه ربِّ العالمين.

فصل
وأمَّا المسألة الثانية وهي: هل يطلق على العبد أنَّه يشتاق إلى اللَّه
__________
(1) كذا في الأصلِ وغيره وضبط في “ف” بفتح الحاء. وفي “ط”: “. . سبحانه أن يُثنَى”.
(2) “ب”: “يحمد بها”.
(3) تحرفت “اللاعن” في “ف” هنا وفيما بعد إلى “الاعز”.
(4) “ك، ط”: “لما كان”.
(5) “ب”: “الجاحدون”.
(6) “ب، ط”: “الصادق”.
(7) “ك، ط”: “بينًا ولا أحد من العقلاء”.

(2/720)


وإلى لقائه؟
فهذا غير ممتنع، فقد روى الإمام أحمد في مسنده والنسائي وغيرهما من حديث حمَّاد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبيه قال: صلَّى بنا عمَّار بن ياسر صلاةً فأوجز فيها، فقلتُ: خفَّفتَ يا أبا اليقظان، فقال: وما عليَّ من ذلك، ولقد دعوتُ اللَّه بدعواتٍ سمعتُها من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. فلمَّا قام تبعه رجل من القوم فسأله عن الدعوات فقال: “اللّهم بعلمك الغيبَ وقدرتِك على الخلق أحْيِني ما علمتَ الحياةَ خيرًا لي، وتوفّني إذا علمتَ الوفاةَ خيرًا لي. اللّهم إنِّي أسألك خشيتَك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحقّ في الغضب والرضا، وأسألك القصدَ في الغنى والفقر (1)، وأسألك نعيمًا لا ينفَد، وقرَّة عين لا تنقطع. وأسألك الرضا. بعد القضاءِ، وبردَ العيشِ بعد الموت. وأسألك لذَّةَ النظر إلى وجهك، والشوقَ إلى لقائك، في غير ضرَّاء مُضِرَّة ولا فتنة مضلَّة. اللهم زيِّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هُداةً مهتدين” (2).
فهذا فيه إثباتُ لذَّة النظر إلى وجهه الكريم، وشوق أحبابه إليه وإلى لقائه (3). فإنَّ حقيقة الشوق إليه هو الشوق إلى لقائه.
قال أبو القاسم القشيري: سمعتُ الأستاذ أبا علي (4) يقول في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أسألك الشوق إلى لقائك” قال: كان الشوق مائة جزءٍ، فتسعة (5)
__________
(1) “ب، ك، ط”: “الفقر والغنى”.
(2) تقدّم تخريجه في ص (124).
(3) “ب، ك، ط”: “أحبابه إلى لقائه”.
(4) يعني الدقّاق شيخه.
(5) “ف”: “وتسعة”، خلاف الأصل.

(2/721)


وتسعون له، وجزءٌ متفرِّقٌ في الناس. فأراد أن يكون ذلك الجزءُ أيضًا له (1)، فغار أن تكون شظيّة من الشوق لغيره (2). قال: وسمعته يقول في قول موسى: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه/ 84] قال: معناه شوقًا إليك، فستَره بلفظ الرضا (3). وهذا أكثر مشايخ الطريق يطلقونه ولا يمتنعون منه.
وقيل: إنَّ شعيبًا بكى حتّى عمي بصره، فأوحى اللَّه إليه: إن كان هذا لأجل الجنَّة فقد أبَحْتُها لك، وإن كان لأجل النار فقد أجرتُك منها. فقال: لا بل شوقًا إليك (4).
وقال بعض العارفين: من اشتاق إلى اللَّه اشتاق إليه كلُّ شيء (5).
وقال بعضهم: قلوب المشتاقين (6) منوَّرة بنور اللَّه عزَّ وجلَّ، فإذا تحرَّك اشتياقهم أضاءَ النورُ ما بين السماء والأرض، فيعرضهم اللَّه على الملائكة فيقول: هؤلاء المشتاقون إليَّ (7)، أُشهِدكم أنِّي إليهم أشوَق (8).
__________
(1) “ك، ط”: “له أيضًا”.
(2) “ط”: “في غيره”. وانظر: القشيرية (332).
(3) ردّ عليه المصنّف في مدارج السالكين (3/ 24) بقوله: “وظاهر الآية أنّ الحامل لموسى على العجلة طلبُ رضى ربّه، وأنّ رضاه في المبادرة إلى أوامره والعجلة إليها. . . “.
(4) هذه الحكاية أيضًا مما نقله القشيري عن أبي علي. انظر: القشيرية (333).
(5) القشيرية (333).
(6) “ك، ط”: “العاشقين”.
(7) “ب”: “إليّ، إني” وإحدى الكلمتين مضروب عليها في الأصل.
(8) القشيرية: (331)، ونقله عن فارس. ولعله فارس بن عيسى -وقيل: ابن =

(2/722)


وإذا كان الشوق هو سفر القلب في طلب محبوبه ونزوعه إليه، فهو من أشرف مقامات العبد (1) وأجلّها وأعلاها. ومن أنكر شوقَ العبد إلى ربِّه فقد أنكر محبته له؛ لأنَّ المحبَّة تستلزم (2) الشوق. فالمحبّ دائمًا مشتاق إلى لقاء حبيبه (3)، لا يهدأ قلبه، ولا يقرّ قراره إلا بالوصول إليه.
وأمَّا (4) قوله: “إنَّ الشوق عند الخواصّ علَّة عظيمة؛ لأنَّ الشوق إنَّما يكون إلى غائب، ومذهب هذه الطائفة إنَّما قام على المشاهدة”.
فيقال: المشاهدة نوعان: مشاهدة عرفان، ومشاهدة عيان، وبينهما من التفاوت ما بين اليقين والعيان. ولا ريب أنَّ مشاهدة العرفان متفاوتة بحسب تفاوت الناس في المعرفة (5)، ورسوخهم فيها، وليس للمعرفة نهاية تنتهي إليها بحيث إذا وصل إليها العارف سكن قلبه عن الطلب، بل كلَّما وصل منها إلى معلَم ومنزلة اشتدَّ شوقه إلى ما وراءه. فكلَّما (6) ازداد معرفةً ازداد شوقًا. فشوق العارف أعظم الشوق، فلا يزال في مزيد من الشوق ما دام في مزيد من المعرفة، فكيف يكون الشوق عنده علَّةً عظيمةً؟ هذا من المحال البيِّن. بل من عرف اللَّه اشتاق إليه، وإذا كانت المعرفة لا نهاية لها، فشوق العارف لا نهاية له.
__________
= محمد- أبو الطيب الصوفي، جالس الجنيد وأقرانه. وروى عنه الحاكم وغيره. تاريخ بغداد (12/ 390).
(1) “ط”: “العبيد”.
(2) “ط”: “تستلذ”، تحريف.
(3) “ط”: “محبوبه”.
(4) “ك، ط”: “فأما”.
(5) “ط”: “بالمعرفة”.
(6) “ط”: “وكلما”.

(2/723)


هذا مع الشوق الناشئ عن طلب اللقاء والرؤية والمعرفة العيانية، فإذا كان القلبُ (1) حاضرًا عند ربِّه، وهو غير غائب عنه، لم يوجب له هذا أن لا يكون مشتاقًا إلى لقائه ورؤيته، بل هذا يكون أتمّ لشوقه وأعظم.
فظهر أنَّ قوله “إنَّ الشوق علَّة عظيمة في طريق الخواصّ” كلام باطل على كلِّ تقدير، وأنَّ الشوق بالحقيقة إنَّما هو شوق الخواصّ العارفين باللَّه. والعبد إذا كان له مع اللَّه حال أو مقام، وكُشِفَ له عمَّا هو أفضل منه وأجلّ؛ اشتاق إليه بالضرورة، ولم يكن شوقه علَّةً له ونقصًا في حاله، بل زيادةً وكمالًا؛ ويكون ترك الشوق هو العلَّة. وقد تقدَّم أنه (2) لا غاية للمعرفة تنتهي إليها، فيبطلَ الشوق بنهايتها؛ بل لا يزال العارف في مزيد من معرفته وشوقه. واللَّه المستعان.

فصل وأمَّا المسألة الثالثة وهي: هل يزول الشوق باللقاء أم يقوى؟ (3)
فقالت طائفة: الشوق يزول باللقاء، لأنَّه طلب، فإذا حصل المطلوب زال الطلب؛ لأنَّ تحصيل الحاصل محال، ولا معنى للشوق إلى شيء حاصل، وإنَّما يكون الشوق إلى شيء مراد الحصول محبوب الإدراك.
__________
(1) “ب”: “العبد”.
(2) “ك، ط”: “أن”.
(3) ذكر المؤلف في مدارج السالكين (2/ 74) أنه استوعب الكلام على هذه المسألة في كتابه الكبير في المحبة، وفي “سفر الهجرتين”. يعني هذا الكتاب. وانظر: المدارج أيضًا (3/ 16).

(2/724)


وقالت طائفة أخرى: ليس كذلك، بل الشوق يزيد بالوصل واللقاء، ويتضاعف بالدنوّ. ولهذا قال القائل:
وأعظمُ ما يكون الشوقُ يومًا … إذا دنت الدِّيارُ من الدِّيارِ (1)
ولهذا قال بعضهم: شوق أهل القرب أتمّ من شوق المحجوبين (2). واحتجَّت هذه الطائفة بأنَّ الشوق من آثار الحبّ ولوازمه، وكما (3) أنَّ الحبَّ لا يزول باللقاءِ، فهكذا الشوق الذي لا يفارقه. قالوا: ولهذا لا يزول الرضا والحمد والإجلال والمهابة التي هي من آثار المحبَّة باللقاء، فهكذا الشوق يتضاعف ولا يزول. والقولان حق.
وفصل الخطاب في المسألة أنَّ المحبَّ إذا اشتاق إلى لقاء محبوبه، فإذا حصل له اللقاءُ زال ذلك الشوق الذي كان متعلِّقًا بلقائه، وخلفه شوق آخر أعظم منه وأبلغ إلى ما يزيد قربَه والحظوةَ عنده. وأمَّا إذا قدر أنه لقيه ثمَّ احتجب عنه ازداد شوقه إلى لقاءٍ آخر، ولا يزال يحصل له الشوق كلَّما حُجب (4) عنه، فهذا لا ينقطع شوقه أبدًا، فهو إذا رآه بلّ شوقَه برؤيته، وإذا زال عنه الطرفُ عاوده الشوق، كما قيل:
__________
(1) من بيتين أنشدهما إسحاق الموصلي (235 هـ)، والرواية: “أبرح ما يكون”. الأغاني (2/ 605). وقد ذكره المؤلف في روضة المحبين (234). وذكره أيضًا فيه وفي مدارج السالكين (2/ 74) و (3/ 16) باختلاف الشطر الثاني، وهو: “إذا دنت الخيام من الخيام”. وكذا في القشيرية (332).
(2) “ط”: “المحبوبين”، تحريف.
(3) “ك، ط”: “فكما”.
(4) “ك، ط”: “احتجب”.

(2/725)


ما يرجع الطرف عنه عند رؤيته … حتَّى يعود إليه الطرفُ مشتاقا (1)
وإنَّما الشأن في دوام الشوق حال الوصول واللقاء. فاعلم أنَّ الشوق نوعان: شوق إلى اللقاء، فهذا يزول باللقاء. وشوق في حال اللقاء، وهو تعلّق الروح بالفحبوب تعلُّقًا لا ينقطع أبدًا، فلا تزال الروح مشتاقةً إلى مزيد هذا التعلّق وقوَّتة اشتياقًا لا يهدأ. وقد أفصح بعض المحبِّين للمخلوق عن هذا المعنى بقوله:
أعانقُها والنفسُ بعدُ مَشوقةٌ … إليها وهل بعد العناق تداني
وألثمُ فاها كي تزول صَبابتي … فيشتدُّ ما ألقَى من الهيَمانِ (2)
فالشوق في حال الوصل والقرب إلى مزيد النعيم واللذة لا ينقطع، والشوق في حال السير إلى اللقاءِ ينقطع. ونستغفر اللَّه من الكلام فيما لسنا بأهل [له] (3).
فالخوف أولى بالمسيءِ … إذا تألَّهَ والحزَنْ
والحبُّ يجمُل بالتقيّ … وبالنقيّ من الدَّرَنْ
لكن إذا ما لم يُحِبّـ … ـــكم المسيء إذن فَمَنْ
__________
(1) كذا ورد البيت في القشيرية (329)، وقد ذكره المصنف في مدارج السالكين (3/ 17)، وروضة المحبين (582)، وهو لإبراهيم بن العباس الصولي في ديوانه (147). والرواية: “عنها حين يبصرها. . . إليها”. ونسبه في ديوان المعاني (449) إلى أبي نواس. وانظر: ديوانه (257).
(2) لابن الرومي فى ديوانه (2475)، وانظر: روضة المحبين (115، 178).
(3) “له” لم يرد في الأصل و”ف”. وهي زيادة عما عداهما.

(2/726)


وإذا تخوَّن فعلُنا … فعلى المحبّة مؤتمَنْ (1)
أيحبُّ شيئًا غيرَكم … وحياتِكم كلّا ولَنْ
أيحِبُّ من تأتي محبَّـ … ــــتُه بأنواع المحَنْ
والسعدُ فيها ذابحٌ … والقلبُ فيها ممتحَنْ
دونَ الذي في حبّه … نيلُ السعادة والمِنَنْ
ومحلُّ بدرِ كمالِها … سعدُ السعود هو الوطنْ
والقلبُ حين يحُلُّ في … تلك المنازل والدِّمَنْ
يمسي ويصبح من رضا … ه ومن مُناه في وطَنْ
أيحبّهم قلبٌ ويخـ … ـــشى أن يُضامَ؟ فلا إذَنْ (2)

فصل وأمّا المسألة الرابعة وهي: الفرق بين الشوق والاشتياق.
فقال أبو عبد الرحمن السلمي: سمعتُ النصراباذيّ يقول: للخلق كلّهم مقام الشوق، وليس لهم مقام الاشتياق. ومن دخل في حال الاشتياق هام فيه حتى لا يرى له أثر ولا قرار (3). وهدا يدلّ على أن الاشتياق عنده غير الشوق.
__________
(1) “ب”: “لعلمنا”.
(2) ورد البيتان الأول والثاني في القشيرية (327) لذي النون. وكذا في روضة المحبين (553)، ولم أجد سائرها.
(3) القشيرية (329)، مدارج السالكين (3/ 17).

(2/727)


ولا ريب أنّ “الاشتياق” مصدر اشتاق يشتاق اشتياقًا، كما أنّ “التشوّق” مصدر تشوَّقَ تشوُّقًا. و”الشوق” في الأصل مصدر (1) شاقه يشوقه شَوقًا -مثل ساقه سوقًا- إذا دعاه إلى الاشتياق. فالاشتياق (2) مطاوع شاقه، يقال: شاقني فاشتقتُ إليه. ثمّ صار الشوق اسمَ مصدر الاشتياق، وغلب عليه، حتّى لا يفهم منه (3) عند الإطلاق إلّا الاشتياق القائم بالمشوق. والمشوق هو الصبّ المشتاق، والشائق هو الذي قام به داعي (4) الشوق.
فههنا ألفاظ: الشوق، والاشتياق، والتشوّق، والشائق، والمشوق، والشيّق. فهذه ستة ألفاظ:
أحدها: “الشوق”، وهو في الأصل مصدر الفعل المتعدّي شاقه يشوقه، ثمّ صار اسم مصدر الاشتياق.
اللفظ الثاني: “الاشتياق”، وهو مصدر اشتاق اشتياقًا. والفرق بينه وبين الشوق هو الفرق بين المصدر واسم المصدر.
اللفظ الثالث: “التشوّق”، وهو مصدر تشوّقَ، إذا اشتاق مرّةً بعد مرّةٍ، كما يقال: تجرعّ، وتعلّم، وتفهّم. وهذا البناءُ يُشعِر (5) بالتكلّف وتناول الشيء على مهلة.
__________
(1) “ك، ط”: “اسم مصدر”، خطأ.
(2) قراءة “ف”: “والاشتياق”.
(3) “منه” ساقط من “ب، ك، ط”.
(4) “ك، ط”: “وادعى” تحريف. وفي “ب”: “من قام به. . . “.
(5) “ط”: “مشعر”.

(2/728)


اللفظ الرابع: “الشائق”، وهو الداعي للمشوق إلى الاشتياق.
اللفظ الخامس: “المشُوق”، وهو المشتاق الذي قد حصل له الشوق.
اللفظ السادس: “الشيِّق”، وهو فيعل بمنزلة هيّن وليّن، وهو المشتاق.
فهذه فروق ما بين هذه الألفاظ.
وأمّا كون الاشتياق أبلغ من الشوق، فهذا قد يقال فيه إنّه الأصل، وهو أكثر حروفًا من الشوق، وهو يدل على المصدر والفاعل. وأمّا “الشوق” (1) ففرع عليه، لأنه اسم مصدر، وأقلّ حروفًا، وهو إنّما يدلّ على المصدر المجرّد. فهذه ثلاثة (2) فروق بينهما. واللَّه أعلم.

فصل وأما المسألة الخامسة وهي: في مراتب الشوق ومنازله
فقال صاحب منازل السائرين: “هو على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: شوق العابد إلى الجنة ليأمن الخائف، ويفرح الحزين، ويظفر الآمل.
والدرجة الثانية: شوق إلى اللَّه عزّ وجلّ، زرعه الحبّ الذي نبَتَ (3)
__________
(1) “ك، ط”: “المشوق”، تحريف.
(2) رسم الأصل يحتمل ما أثبتنا، وفي غيره: “ثلاث”.
(3) “ك، ط”: “ينبت”.

(2/729)


على حافات المنَن، فعلِقَ (1) قلبُه بصفاته المقدّسة، واشتاق إلى معاينة لطائف كرمه وآيات برّه وعلامة (2) فضله. وهذا شوق تغشاه (3) المبارّ، وتخالجه المسارّ، ويقارنه (4) الاصطبار.
والدرجة الثالثة: نار أضرمها صفوُ المحبّة، فنغّصت العيشَ، وسلبت السلوةَ (5)، ولم يُنَهنهها مغزًى (6) دون اللقاءِ” (7).
قلت: الدرجة الأولى هي شوق إلى فضل اللَّه وثوابه. والثانية شوق إلى لقائه ورؤيته. والثالثة شوق إليه لا لعلّة ولا لسبب، لا يلاحِظُ (8) فيه غيرَ ذاته. فالأول حظّ المشتاق من إفضاله وإنعامه، والثاني حظّه من لقائه ورؤيته، والثالث قد فنيت فيه الحظوظ، واضمخلّت فيه الأقسام.
وقوله في الدرجة الأولى: “ليأمن الخائف، ويفرح الحزين، ويظفر الآمل”. هذه ثلاث فوائد ذكرها في هذا الشوق: أمن الخائف، وفرح الحزين، والظفر بالأمل. فهذه المقاصد لمّا كانت حاصلة بدخول الجنة وكانت متصوّرة للنفس اشتد الشوقُ إليها لحصول هذه المطالب وهي
__________
(1) “ط”: “تعلّق”.
(2) في المنازل والمدارج: “أعلام”، وهو أولى.
(3) في المنازل: “تفثَؤُه”.
(4) في المنازل: “يقاويه”. وفي المدارج: “يقاومه”.
(5) “ط”: “السلو”.
(6) أي: مطلب، كما فسّرها المؤلف فيما بعد. وفي المنازل “معزٍّ”، وفي المدارج “مَقرّ”، وعليه فسّره المؤلف هناك. وكذا في “ط”، وظنَّ النَّاشر ما هنا خطأ فغيّر.
(7) منازل السائرين (73 – 74). وانظر: المدارج (3/ 21).
(8) “ك، ط”: “ولا ملاحظ”.

(2/730)


معنى الفوز والفلاح (1). وجماع ذلك أمران: أحدهما: النجاة من كلّ مكروه، والثاني: الظفر بكلّ محبوب. فهذان هما المشوّقان إلى الجنّة.
وقوله في الثانية: “شوق إلى اللَّه زرعه الحبّ”. قد تقدّم أنّ الشوق ثمرة الحبّ. وقوله: “الذي نبت (2) على حافات المنن”. أي: أنشأه الفكرُ في منن اللَّه تعالى وأياديه وأنعامه المتواترة. وفيه إشارة إلى أنّ هذا الحبّ الذي هو نابت على الحافات والجوانب بعدَه حُبٌّ أكملُ منه، وهو الحبّ الناشئ من شهود كمال الأسماءِ والصفات. وذلك ليس من نبات الحافات، ولكن من الحبّ الأول يُدخَل إلى هذا (3)، كما تقدّم، ولهذا قال: “فعلِق (4) قلبُه بصفاته المقدّسة”.
وقوله: “واشتاق إلى معاينة لطائف كرمه وآيات برّه وعلامة فضله”. يشير به إلى ما يكرم اللَّه به عبدَه من أنواع كراماته التي يستدلّ بها على أنّه مقبول عند ربّه مُلاحَظٌ بعنايته، وأنّه قد استخدمه وكتَبه في ديوان أوليائه وخواصّه. ولا ريب أنّ العبد متى شاهد تلك العلامات والآيات (5) قوي قلبُه وفرح بفضل ربّه، وعلم أنه قد أُهِّل، فطاب له السير، ودام اشتياقه، وزاحت (6) عنه العلل. وما لم يُنعَم عليه بشيء من ذلك لم يزل كئيبًا حزينًا خائفًا أن يكون ممّن لا يصلح لذلك الجناب، ولم يؤهَّل (7) لتلك المنزلة.
__________
(1) وقعت عدة تحريفات وسقط في هذه الجملة في “ك، ط”.
(2) “ط”: “ينبت”.
(3) “ك، ط”: “في هذا”.
(4) “ط”: “تعلق”.
(5) “ب”: “الآيات والعلامات”.
(6) “ك، ط”: “زالت”.
(7) “ط”: “ولم يصل”، وكذا كان في “ك” ثم غُيّر.

(2/731)


وقوله: “وهذا شوق تغشاه المبار”. هي جمع مبرَّة، وهي البِرّ، أي: أنَّ هذ الشوق مشحونٌ بالبِرّ مغشيٌّ به. وهو إمَّا بِرّ القلب وهو كثرة خيره؛ فهذا القلب أكثر القلوب خيرًا، يغلي (1) بالبرّ تقرّبًا إلى من هو مشتاق إليه، فهو يجيش بأنواع البرّ. وهذه من فوائد المحبة أنَّ قلب صاحبها تنبع (2) منه عيونُ الخير، وتتفجَّر منه ينابيع البِرّ. أو (3) يريد به أنَّ مبارّ اللَّه ونعَمه تغشاه على الدوام.
وقوله: “وتخالجه المسارّ”. أي: يخالطه السرور في غضون أشواقه، فإنَّها أشواق لا وحشة معها ولا ألم، بل هي محشوّة بالمسرَّات.
وقوله: “ويقارنه الاصطبار”. أي: صاحبه له قوة على اصطباره على مرضاة حبيبه لشدَّة شوقه (4) إليه، وإنَّما يضعف الصبر لضعف المحبة. والمحبّ من أصبَر الخلق كما قيل:
نفسُ المحبِّ على الآلام صابرةٌ … لعلَّ مُسْقِمَها يومًا يُداويها (5)
__________
(1) رسم الكلمة في الأصل يشبه: “يغل”، وأثبت ناسخ “ف”: “يعل” وكتب في الحاشية: “كذا”. وفي “ب، ك”: “فعل”. وفي “ط”: “فيفعل البرّ”. وهذا تغيير في النصّ فإنّ في النسخ كلها: “بالبرّ”. والصواب -إن شاء اللَّه- ما أثبتّ. والتعبير مأخوذ من قول بعض السلف: “قلوب الأبرار تغلي بالبرّ، وقلوب الفجَّار تغلي بالفجور”، نقله المصنف في مفتاح دار السعادة (1/ 407).
(2) “ك، ط”: “ينبع”، والمثبت من “ب”.
(3) “أو” ساقطة من “ك، ط”.
(4) “ب، ك، ط”: “لشوقه”.
(5) أنشده يحيى بن معاذ الرازي (258 هـ). انظر: طبقات الأولياء: (240) وهو من قصيدة في ديوان الحلّاج (309 هـ): (104)، وليست له.

(2/732)


وقوله في الدرجة الثالثة إنَّها “نار (1) أضرمها صفوُ المحبة”. يعني أنَّ هذا الشوق يتوقَّد من خالص المحبة التي لا تشوبها علَّة، فهو أشدّ أنواع الشوق. ولهذا “نغَّصت العيش” أي: كدَّرته ونغَّصت المشتاق فيه لأنَّه لا يصل إلى محبوبه ما دام فيه، فهو يترقَّب (2) مفارقته.
وقوله: “وسلبت السلوة (3) ” يعني أنَّ صاحبه لم يبق له مطمع في سلوّه (4) أبدًا. وهذا أعظم ما يكون من الحبّ والشوق: أنَّ المحبّ ييأس من السلوّ، وينقطع طمعه منه، كما ييأس (5) من الأمور الممتنعة، كرجوع أيَّام الشباب عليه، وعَوده طفلًا، ونحو ذلك.
وقوله: “ولم ينهنهها مغزًى (6) دون اللقاء”. أي: أنَّ هذه النار لا يبرِّدها ولا يفتّر حرَّها مقصودٌ ولا مطلبٌ ولا مرادٌ دون لقاء محبوبه، فليس له سبيل إلى تبريدها وتسكينها إلا بلقاءِ محبوبه.
__________
(1) في الأصل: “الثالثة انهار”، سبق قلم.
(2) “ف”: “يرقب”.
(3) “ط”: “السلو”.
(4) “ب”: “سلوة”.
(5) “ط”: ” أيس. . انقطع. . أيس”.
(6) “ط”: “مقرّ”، ويخالفه تفسير المؤلف.

(2/733)


فصل [في نقد كلام أبي العبّاس في منازل الخواصّ]قال أبو العباس: “فهذه كلّها عِلَلٌ أنِفَ الخواصّ منها، وأسباب انفطموا عنها. فلم يبق لهم مع الحقِّ إرادة، ولا في عطائه تشوُّف (1) إلى استزادة. فهو منتهى زادهم (2) وغايةُ رغبتهم، فيعتقدون أنَّ ما دونه قاطع عنه. {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} (3) [الأنعام/ 19]. وإنَّما زهدُهم جمعُ الهمة عن تفريقات (4) الكون؛ لأنَّ الحقَّ عافاهم بنور الكشف عن التعلّق بالأحوال. {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)} [ص/ 46 – 47] ” (5).
قلت: يشير بذلك إلى المحو ومقام الفناء الذي هو غاية الغايات عنده، وقد تقدّم الكلام عليه وأن مقام الصحو والبقاء أفضل منه وأتمّ عبودية.
وينبغي أنَّ يعرف أنَّ مراعاة مقام الفناء الذي جعلوه غايةً آل بكثير من
__________
(1) “ك، ط”: “تشوّق”. وفي المجالس: “شوق”.
(2) كذا في الأصل وغيره. وفي المجالس: “مرادهم”، وهو أصحّ.
(3) كذا وردت الآية في الأصل و”ف، ب”، وفي “ك، ط” مع تكملة “شهيد”. ثم لم ترد في مطبوعة المجالس هذه الآية. وسيأتي في شرح المصنف أن معناها أجنبي عن موضع الاستدلال. وذكر أن نظير هذا استشهادهم بقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ} [الأنعام/ 91]. وهذه الآية هي التي وردت هنا في مطبوعة المجالس!
(4) “ك”: “تعريفات”. “ط”: “تعرفات”، تحريف. وفي المجالس: “تفرّقات”.
(5) محاسن المجالس (95).

(2/734)


طالبيه إلى ترك القيام بالأعمال جملةً، ورأوا أنَّها علل قاطعة عنه! واشتدَّ نكير الشيوخ والأئمة عليهم حتَّى قال شيخ الطائفة الجنيد (1) رحمه اللَّه: إنَّ الذي يزني ويسرق خيرٌ من هؤلاء (2).
وهم نوعان: نوعٌ جرَّدوا (3) الفناء في شهود الحكم وهو الحكم القدري، ورأوا أنَّه نهاية التوحيد، فآل بهم استغراقهم فيه إلى اطّراح الأسباب، حتى قال قائلهم: العارف لا يعرف معروفًا ولا ينكِر منكرًا لا ستبصاره بسرّ اللَّه في القدر (4). والنوع الثاني أصحاب تجريد الفناء في الإرادة (5). فجرَّدوا الفناءَ في الإرادة تجريدًا آل بهم إلى ترك الأسباب جملةً.
والطائفتان منحرفتان ضالَّتان خارجتان عن العلم والدين. ولهذا قال لهم شيخ القوم الجنيد: “عليكم بالفرق الثاني”. (6) يعني أنَّ الفرق فرقان: فوق بالطبع والهوى، وهو الفرق الذي شهدوه وفرُّوا منه إلى معنى الجمع. ولكن بعد الجمع فرق ثانٍ، وهو الفرق بالأمر والمحبة، لا بالشهوة والطبع. وهو دين الرسل صلوات اللَّه عليهم وسلامه، فإنَّ
__________
(1) “ب”: “الجنيد شيخ الطائفة”.
(2) ذكره السلمي في طبقات الصوفية (159) وعنه أبو نعيم في الحلية (10/ 296). وانظر: مدارج السالكين (2/ 125).
(3) “ف”: “شهود الفناء”. والظاهر أنّ كلمة “شهود” في الأصل مضروب عليها.
(4) سبق في ص (184).
(5) “ط”: “والإرادة”، وكذا فيما بعد. وهو خطأ.
(6) وانظر: مدارج السالكين (1/ 323) و (2/ 136)، وقد تكلَّم شيخ الإسلام على هذا الفرق في عدة مواضع من كتبه. انظر مثلًا: الرد على البكري (2/ 746، 754)، منهاج السنة (5/ 369)، الرد على المنطقيين (519).

(2/735)


دينهم مبناه على الفرق الأمري الشرعي (1) بين محبوب الربّ ومأموره وبين مسخوطه ومنهيّه، فمن لم يشهد هذا الفرق ولم يكن من أهله لم يكن من أتباع الرسل. والكمال (2) شهود الجمع في هذا الفرق، فيشهد انفراد اللَّه وحده بالخلق والأمر، ويشهد الفرق بين ما يحبه فيؤثره ويقدّمه، وبين ما يبغضه فيتركه ويتجنّبه؛ فيصير له هذا الفرق في محل فرقه الطبعي الحسّي بين ما يلائمه وينافره. ومن المعلوم أنَّ صاحب الجمع لا بدّ أن يفرّق بطبعه وحسّه، وإن ادَّعى عدمَ التفريق طبعًا فإنَّه كاذب مفتَرٍ. وإذا كان لا بدَّ من الفرق فالفرق الشرعي الإيماني الذي بعث اللَّه به رسله أولى به من الفرق الطبعي الحيواني الذي يشاركه (3) فيه سائر البهائم.
وأبطَلُ من هذا الجمعِ الجمعُ في الوجود. وهو أن يرى الوجود كلَّه واحدًا لا فرق فيه أصلًا, وإنَّما التفريق بالعادة والوهم فقط، كما يقوله زنادقة القائلين بوحدة الوجود الذين لا يفرّقون بين الخالق والمخلوق، بل يجعلون وجود أحدهما وجود الآخر، بل ليس عندهم أحدهما والآخر (4)، إذ ما ثَمَّ غيرٌ. فهذا جمع في الوجود، وجمع أولئك جمع في الشهود.
وهدى (5) اللَّه الذين آمنوا لِمَا اختلفوا فيه من الحقّ بإذنه، فكانوا أصحاب الجمع في الفرق، ففرَّقوا بين ما فرَّق اللَّه بينه بإذنه،
__________
(1) “ب”: “الشرعي الأمري”.
(2) “ك، ط”: “فإن الكمال”.
(3) “ك، ط”: “شاركه”.
(4) “ب، ك”: “فرق بين أحدهما والآخر”، وكذا في “ط”.
(5) كذا في الأصل وغيره. وأراد المصنّف الاقتباس من الآية. وغيّره الناشر في “ط”: “فهدى”، وأثبت الآية هنا وفيما بعد.

(2/736)


وجمعوا الأشياءَ كلَّها في خلقه وأمره، وجمعوا إرادتهم (1) ومحبَّتهم وشهودهم فيه، فكانوا أصحاب جمعٍ في فرق، وفرقٍ في جمع. فهؤلاء خواصّ الخلق، فنسأل اللَّه العظيم من فضله وكرمه (2). فهؤلاء هم الذين لم يبق لهم مع الحقِّ إرادة، بل صارت إراداتهم (3) تابعةً لإرادته، فحصل الاتحاد في المراد فقط، لا في الإرادة ولا في المريد.
فأصحاب الوحدة ظنّوا الاتحاد في المريد، وأصحاب الحلول توهّموا الاتحاد في الإرادة. وهدى اللَّه الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فعلموا أنَّ المراد واحد. فالاتّحاد وقع في المراد فقط، لا في الإرادة ولا في المريد.
وقوله: “فيعتقدون أنَّ ما دونه قاطع عنه”. إنَّما يكون ما دونه قاطعًا عنه إذا وقف العبدُ معه، وتعلَّقت إرادتُه به، وانصرف طلبه إليه. وأمَّا إذا جعله وسيلةً إلى اللَّه وطريقًا يصل بها إليه لم يكن قاطعًا ولا حجابًا، بل يكون حاجبًا موصلًا إليه!
وقوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام/ 19] المراد بالآية شهادته سبحانه لرسوله بتصديقه على رسالته، فإنَّ المشركين قالوا لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: من يشهد لك على ما تقول؟ فأنزل اللَّه تعالى آيات شهادته له وشهادة ملائكته وشهادة علماءِ أهل الكتاب له (4)، فقال تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ
__________
(1) “ك، ط”: “إرادتهم”.
(2) زاد في “ط”: “أن يجعلنا منهم”.
(3) “ك، ط”: “إرادتهم”.
(4) “ط”: “به”.

(2/737)


الْكِتَابِ} [الرعد/ 43]. أي: ومن عنده علمُ الكتاب يشهد لي، وشهادته (1) مقبولة لأنَّها شهادة بعلم. وقال تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)} [النساء/ 166]. وقال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام/ 19]. فأخبر سبحانه في هذه المواضع بشهادته لرسوله، وكفى بشهادته إثباتًا لصدقه وكفى به شهيدًا.
فإن قيل: وما شهادته سبحانه لرسوله؟
قيل: هي ما أقام على صدقه من الدلالات والآيات المستلزمة لصدقه بعد العلم بها ضرورة، فدلالتها على صدقه أعظمُ من دلالة كلّ بينة وشاهد على حقّ. فشهادته سبحانه لرسوله أصدَقُ شهادة وأعظمُها (2) وأدَلُّها على ثبوت المشهود به. فهذا وجه. ووجه آخر أنَّه صدَّقه بقوله وأقام الأدلّة القاطعة على صدقه فيما يُخبِر به عنه. فإذا أخبر عنه أنَّه شهد له قولًا لزم ضرورةُ صدقه في ذلك الخبر، وصحَّت الشهادة له به قطعًا. فهذا معنى الآية، وكأنَّه (3) أجنبيّ عمَّا استشهد (4) به المصنّف.
ونظير هذا استشهادهم بقوله تعالى: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ} [الأنعام/ 91] حتَّى رتَّب على ذلك بعضُهم أنَّ الذكر بالاسم المفرد وهو “اللَّه، اللَّه” أفضل من الذكر بالجملة المركّبة كقوله: سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر!
__________
(1) “ف”: “فشهادته”، والراجح ما أثبتنا من “ب” وغيرها.
(2) “ف”: “أعظم شهادة وأصدقها”، خلاف الأصل.
(3) “ك”: “كان”. “ط”: “كان أجنبيًّا”، خطأ.
(4) “ب، ك، ط”: “استدلّ”.

(2/738)


وهذا فاسد مبنيّ على فاسد. فإنَّ الذكر بالاسم المفرد غير مشروع أصلًا، ولا مفيد شيئًا، ولا هو كلام أصلًا، ولا يدلُّ على مدح ولا تعظيم، ولا يتعلق به إيمان، ولا ثواب، ولا يدخل به الذاكر في عقد الإسلام جملةً. فلو قال الكافر “اللَّه، اللَّه” من أوَّل عمره إلى آخره لم يصِرْ بذلك مسلمًا، فضلًا عن أن يكون من جملة الذكر، أو يكون أفضل الأذكار. وبالغ بعضهم في ذلك حتى قال: الذكر بالاسم المضمر أفضل من الذكر بالاسم الظاهر! فالذكر بقوله: “هو هو” أفضل من الذكر بقولهم (1): “اللَّه، اللَّه”. وكلُّ هذا من أنواع الهوَس والخيالات الباطلة المفضية بأهلها إلى أنواع من الضلالات. فهذا فساد هذا البناءِ الهائر.
وأمَّا فساد المبنيّ عليه فإنَّهم ظنّوا أنَّ قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ} أي: قل هذا الاسم، فقل: اللَّه اللَّه. وهذا من عدم فهم القوم لكتاب اللَّه، فإنَّ اسم اللَّه هنا جواب لقوله: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الأنعام/ 91] إلى أن قال: {قُلِ اللَّهُ} أي: قل: اللَّه أنزَلَه، فإنَّ السؤال يُعاد (2) في الجواب فيتضمّنه فيُحذَف اختصارًا، كما تقوِل: من خلق السماء (3) والأرض؟ فيقال: اللَّه. أي: اللَّهُ خلَقهما، فيحذف الفعل لدلالة السؤال عليه. فهذا معنى الآية الذي لا تحتمل غيرَه (4).
__________
(1) “ف”: “بقوله”، خلاف الأصل مع مناسبته للسياق.
(2) “ب، ك، ط”: “معاد”.
(3) “ب، ك، ط”: “السماوات”.
(4) وانظر: مجموع الفتاوى (10/ 226 – 228).

(2/739)


[زهد الخاصّة]قوله: “وإنّما زهدُهم (1): جمعُ الهمة عن تفريقات (2) الكون؛ لأنَّ الحقَّ عافاهم بنور الكشف عن التعلّق بالأحوال”.
فيقال: الكشف الذي أوجب لهم هذا الجمع وقطعَ هذا التعلّق هو الكشف الإيماني القرآني. فهو في الحقيقة الكشف النافع الجاذب لصاحبه إلى سلوك منازل الأبرار والوصول إلى مقام (3) القرب، ولا سيّما إذا قارنه الكشف عن عيوب النفس وعلل الأعمال (4)، فناهيك به من كشف! والكرامة المرتّبة عليه هي لزوم الاستقامة ودوام العبودية، فهذا أفضل كشفٍ يُعطاه العبد، وهذه أفضل كرامة يُكرَم بها الوليّ. رزقنا (5) اللَّه من فضله وبرّه.
وأمَّا استشهاده بقوله تعالى: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46)} [ص/ 46] فهذه الآية يخبر فيها سبحانه عمَّا أخلص له أنبياءه ورُسُله من اختصاصهم بالآخرة. وفيها قولان: أحدهما أنَّ المعنى: نزعنا من قلوبهم حبَّ الدنيا وذكرَها وإيثارَها والعملَ بها. والقول الثاني: إنَّا أخلصناهم بأفضل ما في الدار الآخرة، واختصصناهم به عن العالمين.
__________
(1) ضبط في “ف، ب”: “زهَّدهم”، وهو خطأ.
(2) “ط”: “تعريفات”، تحريف.
(3) “ب، ك، ط”: “مقامات”. وكذا كتب في الأصل أولًا، ثم ضرب عليه وكتب “مقام”.
(4) “ط”: “على الأعمال” تحريف.
(5) “ف”: “ورزقنا”، خلاف الأصل.

(2/740)


[توكّلهم]قوله: “وتوكّلهم: رضاهم بتدبير الحقّ، وتخلُّصُهم من تدبيرهم، وفراغُ هممهم من إجالتها (1) في إصلاح شؤونهم (2)، بوقوفهم على فراغ المدبِّر منها، ومرِّها على علمه بمصالحهم فيها. ونفوسُهم مطمئنَّةٌ بذلك {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)} الآية [الفجر/ 27] ” (3).
قد تقدَّم الكلام على التوكّل وبيانُ أنَّه من مقامات العارفين، وأنَّه لا انفكاك للمؤمن منه، وذكر العلَّة فيه ما هي.
وقوله: “وتوكلّهم رضاهم بتدبير الحقِّ”. الرضا بالتدبير ثمرةُ التوكّل وموجَبُه، لا أنَّه نفسُ التوكّل. فالمقدور يكتنفه (4) أمران: التوكّل قبل وقوعه، والرضا به بعد وقوعه. ومن هنا قال بعضهم: “حقيقة التوكّل الرضا”، لأنَّه لما كان ثمرتَه وموجَبَه استدلّ به عليه استدلالًا بالأثر على المؤثِّر، وبالمعلول على العلّة.
ولهذا قال في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي وغيرهما عن النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال في دعائه: “اللّهم إنِّي أسألك بعلمك الغيبَ وقدرتك على الخلق، أحْيِني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفَّني إذا كانت الوفاةُ خيرًا لي. اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمةَ الحقِّ في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك
__________
(1) “ب، ك، ط”: “احتيالها”، تحريف. وستأتي مرَّة أخرى على الصواب.
(2) “ط”: “شؤونها”.
(3) محاسن المجالس (95).
(4) “ك، ط”: “في المقدور يكشفه”، تحريف.

(2/741)


نعيمًا لا ينفد، وأسألك قرَّةَ عينٍ لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاءِ، وأسألك بردَ العيشِ بعد الموت” الحديث، وقد تقدَّم (1). فقال: “أسألك الرضا بعد القضاء”. وأمَّا التوكّل فإنَّما يكون قبله.
وقوله: “وتخلّصهم (2) من تدبيرهم”. هذا مقام كثيرًا ما يشير إليه السالكون، وهو ترك التدبير. وينبغي أن لا يؤخذ على إطلاقه، بل لا بدَّ فيه من التفصيل. فيقال: العبد دائرٌ بين مأمورٍ يفعله، ومحظورٍ يتركه، وقدرٍ يجري (3) عليه بلا إرادةٍ منه ولا كسبٍ. فوظيفته في المأمور كمالُ التدبير والجدّ والتشمير، وأن يدبر (4) الحيلة في تنفيذه بكل ما يمكنه، فتركُ التدبير هنا تعطيلٌ للأمر. بل يدبِّر فعلَه ناظرًا إلى تدبير الحقِّ له، وأنَّ تدبيره إنَّما يتمّ بتدبير اللَّه له، فلا يكون هنا قدريًّا مجوسيًّا ناظرًا إلى فعله، جاحدًا لتدبير اللَّه وتقديره ومعونته، ولا قدريًّا مُجبِرًا واقفًا (5) مع القدر، جاحدًا لفعله وتدبيره ومحلّ (6) أمر اللَّه ونهيه منه (7)، فإنَّ فعله الاختياري هو محلّ الأمر والنهي، فمن جحد فعلَ نفسه فقد عطَّل الأمر والنَّهي، وجحد محلَّهما.
ووظيفته في المحظور الفناءُ عن إرادته وفعله، فإن عارضته أسبابُ الفعل فالواجب عليه الجدّ في الهرب والتشمير في الكفّ والبعد. وهذا
__________
(1) في ص (124، 721).
(2) في الأصل: “تخليصهم”، سهو، وكذا في غيره، وقد مرّ على الصواب آنفًا.
(3) “ط”: “وقد يجري”، تحريف اختلّ به الكلام.
(4) “ف”: “يدير”.
(5) “ط”: “ولا واقفًا”.
(6) “ط”: “مجلى”، تحريف.
(7) “منه” ساقط من “ك، ط”.

(2/742)


تدبيره (1) للنهي.
وأمَّا القدر الذي يصيبه بغير إرادته، فهذا الذي يحسن فيه إسقاطُ التدبير جملةً، وصبره ورضاه بما قُسِمَ له من محبوب ومكروه.
فعلى هذا التفصيل ينبغي أن يوضع إسقاطُ التدبير. وجماعُ ذلك أنَّك تُسقِط التدبيرَ في حظك، وتكون قائمًا بالتدبير في حقِّ ربّك. وهكذا ينبغي أن تفرغ الهمَّة من إجالتها في إصلاح شأنك، فإنَّ إصلاح شأنك بحصول حظوظك يحسن (2) فيه فراغُ الهمة وترك التدبير. وأمَّا إصلاح شأنك بأداءِ حقِّ اللَّه فالواجب شَغلُ الهمة وإجالتها في القيام به.
وقوله: “بوقوفهم على فراغ المدبّر منها، ومرّها على علمه بمصالحهم فيها”. فلا ريبَ أنَّ اللَّه سبحانه قضى القضية، وفرغ من تقدير (3) أمور الخلائق، ولكن قدَّرها بأسبابها المفضية إليها، فلا يكون وقوف العبد على فراغه سبحانه من أقضيته في خلقه وتدبيره مانعًا له من قيامه بالأسباب التي جعلها طرقًا لحصول ما قضاه منها. وكذلك يباشر العبد الأسباب التي بها حفظ حياته من الطعام والشراب واللباس والمسكن، ولا يكون وقوفه مع فراغ المدبِّر منها مانعًا له من تعاطيها. وكذلك يباشر الأسبابَ الموجِبةَ لبقاءِ النوع من النكاح والتسرّي، ولا يكون وقوفه مع فراغ اللَّه من خلقه مانعًا له من ذلك (4). وهكذا جميع مصالح الدنيا والآخرة وإن كانت مفروغًا منها قضاءً وقدرًا، فهي منوطة
__________
(1) “ك، ط”: “تدبير”.
(2) “ف”: “يحصل” سهو، وكذا في “ط”.
(3) “ك، ط”: “تدبير”.
(4) “من ذلك” ساقط من “ب، ك، ط”.

(2/743)


بأسبابها التي يتوقّف حصولُها عليها شرعًا وخَلْقًا (1).
وأمَّا استدلاله بقوله تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28} [الفجر/ 27، 28]، فالنفس المطمئنّة هي التي اطمأنَّت إلى ربِّها، وسكنت إلى حبّه، واطمأنّت بذكره، وأيقنت بوعده، ورضيَت بقضائه. وهي ضدّ النفس الأمَّارة بالسوءِ، فلم تكن طمأنينتُها بمجرَّد إسقاط تدبيرها، بل بالقيام بحقِّه والطمأنينة بحبه وبذكره.

فصل [صبرهم]قال: “وصبرُهم: صونُهم قلوبَهم عن خواطر (2) السوءِ بأنَّ اللَّه تعالى قضى قضاءً عاريًا عن الرأفة (3) خارجًا عن الخيرة (4). قال اللَّه تعالى: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا} [الأنفال/ 17] ” (5).
قد تقدَّم الكلام في الصبر وأقسامه وبيان مرتبته من الإيمان (6). وما ذكره في تفسيره ههنا غير مطابق لمعناه، وهو تفسير بعيد جدًّا، فإنَّ الصبر من أعمال القلوب، وهو حبس النفس وكفّها عن التسخّط (7). وأمَّا صون القلب عن اعتقاد ما لا يليق باللَّه سبحانه فلا يقال له “صبر”،
__________
(1) “ب”: “خلقًا وشرعًا”.
(2) “ك، ط”: “خاطر”.
(3) “ك، ط”: “المرافقة”، تحريف.
(4) “ب”: “الخير”. وفي مطبوعة المجالس: “الرحمة”.
(5) محاسن المجالس (96).
(6) في ص (575) وما بعدها.
(7) “ط”: “السخط”.

(2/744)


بل (1) هذا من لوازم الإيمان. وهو كاعتقاد أنَّه سبحانه حكيم رحيم عليم سميع بصير، إلى غير ذلك من صفات كماله. فلا يقال: الصبر صونُ المْلب عن اعتقاد أضدادها. هذا بعيدٌ جدًّا، وتكلُّفٌ زائد لتفسير الصبر.
وهل فهِم أحد قطّ هذا المعنى من قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران/ 200] وقوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الطور/ 48] وقوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل/ 127] وقوله: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [طه/ 130] وقوله (2): {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)} [الأنفال/ 46] وسائر نصوص الصبر؟
ومن العجب جعلُ الصبر الذي هو نصف الإيمان من منازل العوام، وتفسيرُه بهذا التفسير!
نعم، يجب على كلِّ مسلم أن ينزّه ربّه (3) سبحانه عن أن يقضي قضاءً يُنافي حكمتَه وعدلَه وفضلَه وبرَّه وإحسانه، بل كلُّ أقضيته لا تخرج عن الحكمة والرحمة والعدل والمصلحة؛ وإن كان كثير من المتكلمين ينازع في هذا الأصل ويقول: الذي ينزّه اللَّهُ عنه من الأقضية هو المستحيل الممتنع، وأمَّا الممكن فلا يقبح منه شيء. وهؤلاء لا معنى لصون القلوب (4) عن خواطر السوءِ المتعلّقة بما يقضيه اللَّه -عندهم- إلا صونُها عن خواطر الممتنعات والمستحيلات فقط. وبالجملة هذا مقام آخر غير مقام الصبر، بل هذا باب من أبواب المعرفة والعلم، ولكلّ مقام مقال.
__________
(1) “ف”: “إنما”، خلاف الأصل. وهو ساقط من “ب”.
(2) “وقوله” ساقط من “ك، ط”.
(3) “ب، ك، ط”: “ينزه اللَّه”.
(4) “ط”: “لا يمكن صون القلب”، تحريف.

(2/745)


وأمَّا استشهاده بقوله تعالى: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا} [الأنفال/ 17]. فالبلاءُ الحسن هنا هو النعمة بالظفر والغنيمة والنصر على الأعداء، وليس من الابتلاء الذي هو الامتحان بالمكروه، بل مِن أبلاه بلاءً حسنًا (1)، إذا أنعمَ عليك (2). يقال: “أبلاك اللَّه، ولا ابتلاك”. فـ “بلاه” في الخير (3)، و”ابتلاه” بالمكاره غالبًا، كما في الحديث: “إنِّي مبتليك ومبتلٍ بك” (4).

فصل [حزنهم]قال: “وحزنُهم: يأسُهم عن أنفسهم الأمَّارة بالسوء. {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)} [العاديات/ 6] ” (5).
وقد تقدَّم أيضًا الكلامُ على ما ذكره في الحزن. وأمَّا تفسيره إيَّاه بأنَّه “يأسهم عن أنفسهم الأمارة بالسوء”، فليس بالبيّن، فإنَّ الحزن هو الأسف على فوت محبوب أو حصول مكروه. وإن تعلَّق ذلك بالماضي كان حزنًا، وإن تعلَّق بالمستقبل كان خوفًا وهمًّا.
وأمَّا اليأس عن النفس الأمارة بالسوء، فليس بحزن؛
__________
(1) “فالبلاء الحسن هنا. . . ” إلى هنا سقط من “ف” لانتقال النظر ولم يستدرك في المقابلة!
(2) كذا في الأصل و”ف، ك”. وفي “ب، ط”: “عليه” وهو أنسب للسياق.
(3) “ك، ط”: “بالخير”.
(4) من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي اللَّه عنه. أخرجه مسلم (2865) في كتاب الجنة، ولفظه: “إنّما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك”.
(5) محاسن المجالس (96).

(2/746)


إلا (1) أن يكون مراده أنَّ حزنهم ينشأ عن النفس الأمَّارة بالسوء لا عن المطمئنّة، فإنَّ النَّفس (2) المطمئنّة لا تحزن، وإنَّما تحزن الأمَّارة لفوات محبوبها. وهذا ليس (3) كما قال، فإنَّ المطمئنّة (4) تحزن على تقصيرها في أداء الحقِّ، وعلى تضييعها الوقتَ وإيثارها غير اللَّه عليه في الأحيان، وهذا الحزن لا بدَّ منه لها (5)، إذ التقصير والتضييع لازم.
وأمَّا استشهاده بقوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)} [العاديات/ 6] على ذلك (6)، فوجهه أنَّ “الكنود” هو الكَفور، وهو الذي يذكر المصائب وينسى النعم. ولا ريب أنَّ الحزن ينشأ عن هذين، ولا ريبَ أنَّ الحزن الناشئ عن الكنود حزن ناشئ عن النفس الأمَّارة بالسوء. وأمَّا الحزن على تقصيره وتضييع وقته فليس من هذا. وقد تقدَّم ذلك وذكر أقسام الحزن ومتعلّقاته (7).

فصل [خوفهم]قال: “وخوفُهم: هيبة الجلال، لا خوفُ العذاب. فإنَّ خوفه (8)
__________
(1) مكانها في “ط”: “ويمكن”.
(2) “النفس” ساقط من “ط”.
(3) “ك، ط”: “ليس هذا”.
(4) “ك، ط”: “النفس المطمئنة”.
(5) “لها” ساقط من “ك، ط”.
(6) “على ذلك” مقدّم في “ط” على “بقوله تعالى”.
(7) زاد في “ك، ط”: “واللَّه أعلم”. وقد تقدّم فصل الحزن في ص (605).
(8) يعني “خوف العذاب” كما في محاسن المجالس، وعليه يستقيم المعنى. وفي الأصل: “خوفهم”، وهو سهو، وكذا في النسخ الأخرى و”ط”.

(2/747)


مناضلةٌ عن النفسِ وضَنٌّ بها، وهيبة الجلال تعظيمُ الحقِّ ونسيانُ النَّفس، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل/ 50]. وقال في حقِّ العوامّ: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)} [النور/ 37] ” (1).
وقد تقدَّم الكلام أيضًا (2) على ما ذكره في الخوف (3) وعلَّته (4).
وقوله: هو هيبة الجلال لا خوف العذاب، تقدَّم بيان بطلانه، وأنَّ اللَّه سبحانه أثنى على خاصَّة أوليائه من الملائكة والأنبياء وغيرهم ممن عبدهم المشركون بأنَّهم {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء/ 57]. فكيف يقال: إنَّ خوف العذاب نقص ومناضلة عن النفس؟ هذا من الترّهات، والرعونات (5)، ودعاوى الأنفس.
وقوله: إنَّ الخوف مناضلة عن النفس (6). فسبحان اللَّه! هل يقال لمن خاف اللَّه وخاف عقوبته إنَّه يناضل ربّه عن نفسه؟ (7) ولو كان مناضلة فهو مناضلة للعدو وللهوى وللشهوة (8). وهذه المناضلة من أعظم أنواع العبودية، فإنَّ من خاف شيئًا ناضل عنه، فهو مناضلة عن العذاب وأسبابه. وما ثمّ إلا مناضلة، أو إلقاء (9) باليد إلى التهلكة، ولولا هذه
__________
(1) محاسن المجالس (96).
(2) “ب، ك، ط”: “أيضًا الكلام”.
(3) “ط”: “الحديث”، تحريف غريب. وكذا كان في “ك” ثم غيّر.
(4) انظر فصل الخوف في ص (612).
(5) “ط”: “الزعوم”، تحريف.
(6) “هذا من الترهات. . . ” إلى هنا ساقط من “ب، ك”.
(7) “ط”: “مناضل ربّه”. وسقط عنها وعن “ب، ك”: “عن نفسه”.
(8) “ب”: “والهوى والشهوة”. “ك، ط”: “العدو والهوى والشهوة”.
(9) “ط”: “وإلقاء” تحريف يقلب المعنى.

(2/748)


المناضلة لحصل الاستسلام للعقوبة. والمناضلة المحذورة: المناضلة عن محبوبات الرب وأوامره. وليس الضنُّ بالنفس عن عذاب اللَّه بنقصٍ (1)، بل الكمال والفوز والنعيم في ضنّ العبد بنفسه عن أن يسلمها لعذاب اللَّه، ومن لم يضنّ بنفسه فليس فيه خير البتّة. والضنّ بالنفس إنَّما يُذَمّ إذا ضنّ بها عن بذلها في محبوب الربّ تعالى وأوامره، وأمَّا إذا ضنَّ بها عن عذابه فهل يكون هذا علّةً؟ وهل العلّة كلُّها إلا في عدم هذه المناضلة والضنّ؟
قوله: “وهيبة الجلال تعظيم الحقّ ونسيان النفس”. قد تقدَّم الكلام في الهيبة والتعظيم، وأنَّهما غير الخوف والخشية (2). ولا تستلزم هذه الهيبة أيضًا نسيانَ النفس، ولا يكون شعور العبد بنفسه في هذا المقام نقصًا ولا علّةً، كما تقدَّم، بل هو أكمل لاستلزامه البقاء الذي هو أقوى وأكمل من الفناءِ.
وأمَّا قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} فهو حجّة عليه، كما تقدَّم. ولا يصحّ تفسير الخوف هنا بالهيبة لوجهين: أحدهما: أنَّه خروج عن حقيقة اللفظ ووضعه الأصلي بلا موجب، الثاني: أنَّ هذا وصفٌ للملائكة، وقد وصفهم سبحانه بخوفه وخشيته. فالخوف في هذه الآية، والخشية في قوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)} [الأنبياء/ 28]. فوَصَفهم بالخشية والإشفاق. ووصَفَهم بخوف العذاب في قوله: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء/ 57]، وهم
__________
(1) “ب، ك”: “نقص”، وهو خطأ، لأنّه خبر ليس، فنصبه الناشر في “ط”.
(2) انظر: ص (632).

(2/749)


خواصّ خلقه (1).
فإيَّاك ورعونات النفوس (2) وحماقاتها وجهالاتها، ولا تكن ممَّن لا يقدر اللَّه حقَّ قدره. وقد قال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ اللَّه لو عذَّب أهلَ سماواته وأرضه لعذَّبهم، وهو غيرُ ظالمٍ لهم” (3). فإذا علم المقرّب العارف أنَّ اللَّه لو عذَّبه لم يظلمه، فمن أحقّ بالخوف منه؟
قوله: “وقال في حقِّ العوامّ: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)} [النور/ 37] “. هذا من الشطحات القبيحة الباطلة، فإنَّ هذا صفة خواصّ عباده وعارفيهم، وهم الذين قال فيهم: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور/ 38 – 37]. فهؤلاء خواصّ الخلق، وهم أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ومن تبعهم بإحسانٍ، أفلا يستحيي من جعل هذا الوصف للعوامّ؟
ولا ريبَ أنَّ هذا مصدره إمَّا جهل مفرط، وإمَّا تقليد لقائل لا يدري لازمَ قوله. هذا إن أُحسِن الظن بقائله. وإن كان مصدره غيرَ ذلك فأدهى وأمرّ. ولولا أنَّ هذه الكلمات ونحوها مهاوٍ ومعاطبُ في الطريق لكان الإعراض عنها إلى ما هو أهمُّ منها أولى. واللَّه المستعان.

فصل [رجاؤهم]قال: “ورجاؤهم ظمؤهم إلى الشراب الذي هم فيه غَرْقَى، وبه
__________
(1) “ب”: “من خواص خلقه”.
(2) “ك، ط”: “النفس”.
(3) تقدّم تخريجه في ص (164).

(2/750)


سَكْرى، {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان/ 45] ” (1).
وهذا أيضًا من ذلك النمط، ورجاءُ الأنبياء والرسل فمن دونهم إنَّما هو طمعهم في رحمته ومغفرته. وانظر إلى دعوى هؤلاء، وإلى قول إمام الحنفاء (2) خليل الرحمن -صلى اللَّه عليه وسلم-: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)} [الشعراء/ 82] كيف علَّق رجاءَه وطمعَه (3) بمغفرة اللَّه له؟ وقال تعالى عن خاصَّة خلقه وأعلمهم به إنّهم {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الاسراء/ 57].
ومن العجب استدلاله بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان/ 45]. فما لهذه الآية وما للرجاء، ولا سيَّما ما ذكره المصنف من (4) تفسيره رجاءَ القوم؟ والاستشهاد بهذا من جنس الألغاز!
ومعنى الآية التنبيهُ على هذه الدلالة الباهرة على قدرة الربِّ تعالى وعجائب (5) مخلوقاته الدّالة عليه. والمعنى: انظر كيف بسط ربّك الظلّ، و”الظلّ” ما قبل الزوال، و”الفيء” بعده، فمدَّه سبحانه وبسطه عند طلوع الشمس، فإنَّه يكون مديدًا أطولَ ما يكون، وجعل الشمس دليلًا عليه، فإنَّها هي التي تظهره وتبيّنه. ثمَّ كلَّما ارتفعت الشمس شيئًا انقبض من الظلّ جزءٌ، فلا يزال ينقبض (6) يسيرًا يسيرًا (7) حتى ينتهي إلى
__________
(1) محاسن المجالس (96).
(2) “ب”: “أبي الحنفاء”.
(3) “ب”: “طمعه ورجاءه”.
(4) “ب، ك، ط”: “في”.
(5) “ب”: “عجيب”.
(6) “ك، ط”: “ينقص”، تحريف.
(7) في “ط”: “يسيرًا” مرة واحدة.

(2/751)


غايته. فإذا أخذت الشمس في الجانب الغربيّ انبسط بعد انقباضه شيئًا فشيئًا حتَّى يصير كهيئته عند طلوعها. ولهذا كان الزوال يعرف بانتهاء الظلّ في قصره، فإذا أخذ في الزيادة بعد تناهي القِصَر (1) فقد تحقَّق الزوال. ولو شاءَ اللَّه سبحانه لجعله ساكنًا دائمًا على حالة واحدة فلا يتحرَّك بالزيادة والنقصان، فالظلّ أحد الأدلّة الدالّة على الخالق سبحانه وتعالى.
وأمَّا دلالة هذه الآية على الرجاء فيحتاج إلى إشارة وتكلّف غير مقصود بها. وآيات الرجاءِ في القرآن أكثر وأظهر وأصرح في المقصود ظاهرةً (2) واستنباطًا. فالظاهرة كقوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف/ 110] وقوله: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ} [الإسراء/ 57] وقوله: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ} [العنكبوت/ 5]. والمستنبطة كآيات البشارة كلّها كقوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة/ 223]. {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)} [البقرة/ 155] {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر/ 17 – 18]، {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشورى/ 23].

فصل [شكرهم]قال: “وشكرُهم: سرورُهم بموجودهم، واستبشارهم بلقائه. {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة/ 111] ” (3).
وهذا أيضًا من النمط المتقدِّم. وشكر القوم هو عملُهم بطاعة اللَّه،
__________
(1) “ك”: “قصره القصر”، “ط”: “قصره”.
(2) “ب”: “ظهورًا”. وما ورد في الأصل وغيره صحيح.
(3) محاسن المجالس (96).

(2/752)


واستعانتهم بنعمه على محابّه. قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ/ 13]. وقال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لما قيل له: أتفعل هذا وقد غفر اللَّه لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخَّر؟ قال: “أفلا أكونُ عبدًا شكورًا؟ ” (1). فسمَّى الأعمال شكرًا، وأخبر أنَّ شكرَه قيامُه بها ومحافظتُه عليها. فحقيقة الشكر هو الثناء على المنعم، ومحبّتُه، والعملُ بطاعته، كما قال:
أفادتكم النعماءُ عندي ثلاثةً … يدي ولساني والضميرَ المحجَّبا (2)
فاليد للطاعة، واللسان للثناءِ، والضمير (3) للحبّ والتعظيم. وأمَّا السرور به وإن كان من أجلّ المقامات، فإنَّ العبد إنَّما يُسَرُّ بمن هو أحبّ الأشياء إليه؛ وعلى قدر حبّه له يكون سرورُه به (4). فهذا (5) السرور ثمرة الشكر، لا أنَّه نفس الشكر. وكذلك (6) الاستبشار والفرح بلقائه إنَّما هو ثمرة الشكر وموجَبه. وهو كالرضا من التوكّل، وكالشوق من المحبة، وكالأنس من الذكر، وكالخشية من العلم، وكالطمأنينة من اليقين؛ فإنَّها ثمرات لها وآثار وموجَبات. فعلى قدر شكره للَّه بالأعمال الظاهرة والباطنة وتصحيح العبودية، يكون سروره به (7) واستبشاره بلقائه.
__________
(1) أخرجه البخاري (4836) في التفسير وغيره، ومسلم (2821) في كتاب صفات المنافقين، عن المغيرة بن شعبة رضي اللَّه عنه.
(2) “عندي” كذا في الأصل و”ف”. والمشهور “منّي” كما في “ب، ك”، وعدة الصابرين (252)، وقد أنشده الزمخشري في الكشاف (1/ 8)، وربيع الأبرار (4/ 318).
(3) “ف”: “القلب”، خلاف الأصل.
(4) “به”: ساقط من “ك، ط”.
(5) “ب، ك، ط”: “وهذا”.
(6) “ك، ط”: “فكذلك”.
(7) “به” ساقط من “ك، ط”.

(2/753)


وأمَّا قوله تعالى: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة/ 111] فهذا إنَّما قاله للشاكرين الذين يقاتلون في سبيله فيَقتُلون ويُقتَلون. ثمَّ وصفهم بعد ذلك بقيامهم بأعمال الشكر فقال: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)} [التوبة/ 112] فهؤلاء هم (1) المستبشرون ببيعهم. جعلنا اللَّه منهم بمنِّه وكرمه.

فصل [محبتهم]قال: “ومحبتهم فناؤهم في محبَّة الحقِّ، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ}؟ ” (2).
وقد تقدَّم الكلام على هذا بما فيه كفاية (3). وبيّنَّا أنَّ البقاء في المحبة أفضل وأكمل من الفناء فيها من وجوه متعدّدة، وأنَّ الفناء إنَّما هو لضعف المحِبّ عمَّا حمل. وأمَّا الأقوياءُ فهم -مع شدَّة محبتهم- في مقام البقاءِ والتمييز.
وأمَّا استدلاله بقوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس/ 32]، فالآية إنَّما سيقت في الإنكار (4) على من يعبد غير اللَّه ويشرك به. قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ
__________
(1) “هم” ساقط من “ك، ط”. وفي “ط”: “المستبشرين”، خطأ.
(2) محاسن المجالس (96).
(3) انظر: ص (703 – 705).
(4) “ط”: “في الكلام”، تحريف.

(2/754)


الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)} [يونس/ 31 – 32] فمن (1) عبد غيرَ اللَّه فما عبد إلا الضلال المحض والباطل البحت. وأمَّا من عبد اللَّه بأمره، وكان في مقام التمييز بين محابه ومساخطه، مفرِّقًا بينهما، يحبّ هذا ويبغض هذا، ناظرًا بقلبه إلى ربِّه، عاكفًا بهمَّته عليه، منفِّذًا لأوامره = فهو مع الحقِّ المحض (2).

فصل [شوقهم]قال: “وشوقُهم: هربهُم (3) من رسمهم وسماتهم استعجالًا للوصول الى غاية المنى. {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)} [طه/ 84] ” (4).
وقد تقدَّم الكلام في الشوق مستوفًى (5)، وليس الهرب من الغير والضدّ هو الشوق، بل هنا مهروب منه ومهروب إليه. فالشوق هو سفر القلب نحو المحبوب، وهذا لا يتمّ إلا بالهرب من ضدّه، فليس الشوق هو نفس الهرب من الرسوم والسِّمات.
__________
(1) “فمن” وضع في “ط” بين حاصرتين، ولعله كان ساقطًا من النسخة التي كانت بين يدي الناشر.
(2) زاد في “ك، ط”: “واللَّه أعلم”.
(3) “ط”: “هزمهم”، تحريف.
(4) محاسن المجالس (96).
(5) انظر: ص (710 – 733).

(2/755)


فصل
قال: “فالإرادة (1) والزهد والتوكل والصبر والحزن والخوف والرجاء والشكر والمحبة والشوق من منازل أهل الشرع السائرين إلى عين الحقيقة، فإذا شاهدوا عين الحقيقة اضمحلَّت فيها أحوال المشاهدين (2) حتَّى يفنى ما لم يكن، ويبقى ما لم يزل” (3).
قلت: الحقائق التي يشار (4) إليها على لسان أهل السلوك ثلاثة (5):

حقيقة إيمانية نبوية: وهي حقيقة العبودية التي هي كمال الحبّ وكمال الذلّ. وسير أهل الاستقامة إنَّما هو إلى هذه الحقيقة، ومنازل السير التي ينزلون فيها هي منازل الإيمان الموصلة إليها. والمنحرفون لا يرضون بهذه الحقيقة، ولا يقفون معها، ويرونها منزلةً من منازل العامَّة!
الحقيقة الثانية: حقيقة كونية قدرية. يشاهدون فيها انفرادَ (6) الربّ سبحانه بالتكوين والإيجاد وحده، وأنَّ العالم كالمَوَات (7) يقلِّبه ويصرِّفه كيف شاء (8). وهم يعظِّمون هذا المشهد ويرون الفناءَ فيه غايةً ما بعدها
__________
(1) “ب، ط”: “والإرادة”.
(2) محاسن المجالس (96).
(3) قراءة “ف” وغيرها: “الشاهدين”. وفي المجالس: “السائرين”.
(4) “ك، ط”: “أشار”.
(5) كذا في الأصل والنسخ الأخرى. وفي “ط”: “ثلاث”.
(6) “ف”: “أنوار”، تحريف.
(7) في “ك” أقحمت كلمة “كانوا” قبل “كالموات”. وفي “ط”: “كالميت”.
(8) “ط”: “يشاء”.

(2/756)


شيء. وهذا من أغلاطهم في المعرفة والسلوك، فإنَّ هذا المشهد لا يدخل صاحبه في الإيمان فضلًا عن أن يكون أفضلَ مشاهد أولياء اللَّه المقرَّبين، فإنَّ عُبّاد الأصنام شهدوا هذا المشهد، ولم ينفعهم وحده.
قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)} (1) [المؤمنون/ 84 – 89].
وقال تعالى (2): {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف/ 87]. {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف/ 20]. {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} (3) [الأنعام/ 148].
وهذا كثير من القرآن.
فالفناءُ في هذا المشهد لا يُدخِل العبدَ في دائرة الإسلام، فكيف يُجعَل (4) هو الحقيقةَ التي ينتهي إليها سيرُ السالكين، وتُجعَل حقيقةُ الإيمان ودعوةُ الرسل منزلًا (5) من منازل العامَّة! وهل هذا إلا غاية الانحراف والبعد (6) عن الصراط المستقيم، وقلب للحقائق؟ وكم قد
__________
(1) وقع في الأصل و”ف، ب”: “اللَّه” في الموضعين الأخيرين من الآية، سهو.
(2) “وقال تعالى” ساقط من “ط”.
(3) وقع في الأصل والنسخ الأخرى سهوًا: “وقال الذين أشركوا”!
(4) “ط”: “يجعله”.
(5) “ف”: “منزل”. وهي مشبوكة في الأصل بالكلمة التالية. وفي “ط”: “منزلة”.
(6) “ب”: “البعد والانحراف”.

(2/757)


هلك في هذه الحقيقة من أمم لا يُحصيهم إلا اللَّه! وكم عطَّل (1) الواقفون معها من الشرائع، وخرَّبوا من المنازل! وما نجا من معاطبها إلا من شملته العنايةُ الربانيَّةُ، ونفذ ببصره من هذه الحقيقة إلى الحقيقة الإيمانية النبوية: حقيقةِ رسل اللَّه وأنبيائه وأتباعهم. وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء.

والحقيقة الثالثة: حقيقة اتحادية، بل وَحْدية (2). لا يفرَّق فيها بين الربّ والعبد، ولا بين القديم والمحدَث، ولا بين صانع ومصنوع، بل الأمر كلّه واحد، والأمر المخلوق هو عين الأمر الخالق. وهذه الحقيقة التي يشير إلى عينها طائفةُ الاتحادية، ويعدّون من لم يكن من أهلها محجوبًا! وهذه حقيقة كفرية إلحادية (3)، وهي مع ذلك خيال فاسد، وعقل منكوس، وذوق من عين منتنة. وكفرُ أهلها أعظمُ من كفر كل أمة، فإنَّهم جحدوا الصانعَ حقًّا، وإن أثبتوه جعلوا وجودَه وجودَ كل موجود، والذين أثبتوا الصانع سبحانه، وعدلوا به غيرَه، وسوّوا بينه وبين غيره في العبادة = مقالتُهم خيرٌ من مقالة هؤلاء الذين جعلوه وجودَ كلِّ موجود. وعين كل شيء (4). تعالى اللَّه عمَّا يقول الكاذبون المفترون علوًّا كبيرًا.
__________
(1) “ب، ك، ط”: “عطل لأجلها”، وقد انتشر الحبر في الأصل على الكلمتين وما بعدهما، فلا يدرى أكلمة “لأجلها” مضروب عليها أم لا. وقد اعتمدنا على “ف”.
(2) “ط”: “واحدية”، تحريف.
(3) “ب، ك، ط”: “اتحادية”. رسمها في الأصل يحتمل هذه القراءة، ولكن الصواب ما أثبتنا من “ف”.
(4) “ف”: “كل موجود”، خلاف الأصل.

(2/758)


فعليك بالفرق بين السائرين إلى عين (1) هذه الحقيقة، والسائرين إلى عين الحقيقة الكونية الحكمية، والسائرين إلى عين الحقيقة المحمَّدية الإبراهيمية الحنيفيّة التي هي حقيقة جميع الأنبياء والمرسلين. وفيها تفاوتت مراتب السالكين ومنازلهم من القرب من ربّ العالمين. قال شيخ هذه الحقيقة (2) لما تحقَّق فناءَ تلك (3) الرسوم وأُفولَها (4) {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)} [الأنعام/ 79]. وهذا التوجّه يتضمَّن محبته دون غيره، وعبادته وطاعته دون غيره. فهذه هي الحقيقة حقًّا، وما سواها باطل حقيقةً.
قال (5) تعالى لأكرم خلقه عليه: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)} [النحل/ 123] فأمره تعالى أن يقتدي بأبيه إبراهيم في هذه الحقيقة. وكان -صلى اللَّه عليه وسلم- يعلِّم أصحابه إذا أصبحوا وإذا أمسوا أن يقولوا: “أصبحنا على فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، ودين نبيّنا محمد، وملَّة أبينا إبراهيم حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين” (6).
__________
(1) “عين” ساقط من “ك، ط”.
(2) في حاشية “ك”: “هو إبراهيم عليه السلام”. وأدخلت هذه الحاشية في “ط” بعد حذف “هو”.
(3) ف: “هذه”، قراءة محتملة.
(4) “ب”: “أقر لها”، تحريف.
(5) “ك، ط”: “قال” دون واو العطف.
(6) أخرجه أحمد (15363)، والنسائي في الكبرى (9831, 10177) من حديث عبد الرحمن بن أبزى، وهو حديث ثابت إلّا لفظة: “وإذا أمسوا”، تفرّد بها وكيع عن الثوري، ولم يروها أحد من أصحاب الثوري، ورواه شعبة فلم يذكرها. (ز).

(2/759)


فنسأل اللَّه العظيم أن يهبَ لنا هذه الحقيقة، ويثبِّتنا عليها، ويُعيذَنا ممَّا سواها، إنَّه قريب مجيب (1).
__________
(1) زاد في “ك، ط”: “بمنه وكرمه. واللَّه أعلم”.

(2/760)


فصل في مراتب المكلَّفين في الدار الآخرة وطبقاتهم فيها. وهم ثمانِ عشرةَ طبقةً (1)
الطبقة الأولى وهي العليا على الإطلاق: مرتبة الرسالة. فأكرمُ الخلق على اللَّه وأخصُّهم بالزلفى لديه رسلُه، وهم المصطفون من عباده الذين سلَّم عليهم في العالمين، كما قال تعالى: {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)} [الصافات/ 181]. وقال: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)} [الصافات/ 79] (2)، {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات/ 109 – 110]، {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)} [الصافات/ 130].
وقال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل/ 59] وكلمة السلام هنا تحتمل أن تكون داخلةً في حيّز القول، فتكون معطوفة على الجملة الخبرية، وهي “الحمد للَّه”، ويكون الأمر بالقول متناولًا للجملتين معًا، وعلى هذا فيكون الوقف على الجملة الأخيرة، ويكون محلّها النصب محكيَّةً بالقول.
ويحتمل أن تكون جملةً مستأنفةً مستقِلَّةً معطوفةً على جملة الطلب. وعلى هذا فلا محلَّ لها من الإعراب. وهذا التقدير أرجح، وعليه يكون
__________
(1) لابن حزم فصل موجز في هذا الموضوع، ذكر فيه عشر طبقات، وهي المذكورة هنا برقم (4 – 6) و (8 – 13) والعاشرة: من مات كافرًا. انظر: التلخيص لوجوه التخليص (107 – 118). ولعلّ المؤلف صدر عن هذا الفصل، ثم بنى بناءه مع إضافاته.
(2) في “ك، ط” زيادة: “وقال”.

(2/761)


السلام من اللَّه عليهم، وهو المطابق لما تقدَّم من سلامه سبحانه على رسله.
وعلى التقدير الأوَّل يكون أمرًا بالسلام عليهم، ولكن يقال على هذا: كيف يُعطَف الخبرُ على الطلب مع تنافر ما بينهما؟ فلا يحسن أن يقال: “قُمْ وذهَبَ زيد”، ولا: “اخرُجْ وقعدَ عمرو”، ويجاب (1) عن هذا (2) بأنَّ جملة الطلب قد حكيت بجملة خبرية، ومثل هذا (3) لا يمتنع العطف فيه بالخبر على الجملة الطلبية لعدم تنافر الكلام فيه وتباينه.
ونظير هذا (4) قوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)} [يونس/ 101]. فقوله: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ} ليس معطوفًا على المحكي بالقول وهو “انظروا” بل معطوف على الجملة الكبرى.
على أنَّ عطف الخبر على الطلب كثير، كقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)} [الأنبياء/ 112]. وقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)} [المؤمنون/ 118] (5).
والمقصود أنَّه على هذا القول يكون اللَّه سبحانه قد سلَّم على المصطفين من عباده، والرسل أفضلهم. وقد أخبر سبحانه أنَّه أخلصهم بخالصةٍ ذكرى الدار، وأنَّهم عنده من المصطفَين الأخيار (6). ويكفي في
__________
(1) “ط”: “أو يجاب”، خطأ.
(2) “ط”: “على هذا”، تحريف.
(3) “ط”: “مع هذا”.
(4) “ط”: “وهذا نظير”.
(5) وانظر: بدائع الفوائد (656 – 659).
(6) يشير المؤلف إلى الآية (46) من سورة ص. وقد غيّر النصّ في “ط” وجعل =

(2/762)


فضلهم وشرفهم أنَّ اللَّه سبحانه اختصَّهم بوحيه، وجعلهم أُمَناءَ على رسالته، ووسائط (1) بينه وبين عباده، وخصَّهم بأنواع كرامته (2): فمنهم من اتخذه خليلًا، ومنهم من كلَّمه تكليمًا، ومنهم من رفعه (3) على سائرهم درجات. ولم يجعل لعباده وصولًا إليه إلا من طريقهم، ولا دخولًا إلى جنته إلا من خلفهم، ولم يكرم أحدًا منهم بكرامة إلا على أيديهم؛ فهم أقرب الخلق إليه وسيلة، وأرفعهم عنده درجة، وأحبهم إليه وأكرمهم عليه.
وبالجملة فخير الدنيا والآخرة إنَّما ناله العباد على أيديهم. وبهم عُرِفَ اللَّهُ، وبهم عُبدَ وأُطيع، وبهم حصلت محابّه تعالى في الأرض، وأعلاهم منزلةً أولوَ العزم منهم المذكورون في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى/ 13]. وفي قوله تعالى {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب/ 7] (4). وهؤلاء هم الطبقة العليا من الخلائق، وعليهم تدور الشفاعة حتى يردّوها إلى خاتمهم وأفضلهم -صلى اللَّه عليه وسلم-.

الطبقة الثانية: من عداهم من الرسل على مراتبهم من تفضيلهم بعضهم على بعض.
__________
= بلفظ الآية.
(1) “ط”: “واسطة”.
(2) “ك، ط”: “كراماته”.
(3) زاد بعده في “ط”: “مكانًا عليًّا”.
(4) “وفي قوله تعالى. . . ” إلى هنا ساقط من “ط”.

(2/763)


الطبقة الثالثة: الأنبياء (1) الذين لم يُرسَلوا إلى أُممهم، وإنَّما كانت لهم النبوة دون الرسالة، فاختُصُّوا عن الأمة بإيحاءِ اللَّه إليهم، وإرساله ملائكته إليهم، واختصَّت الرسلُ عنهم بإرسالهم إلى الأمة يدعونهم (2) إلى اللَّه بشريعته وأمره، واشتركوا في الوحي ونزول الملائكة عليهم.

الطبقة الرَّابعة: ورثة الرسل وخلفاؤهم في أممهم، وهم القائمون بما بُعثوا به علمًا وعملًا ودعوةً للخلق إلى اللَّه على طريقهم ومنهاجهم. وهذه أفضل مراتب الخلق بعد الرسالة والنبوة، وهي مرتبة الصدِّيقية.
ولهذا قرنهم اللَّه تعالى في كتابه بالأنبياء فقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} [النساء/ 69]، فجعل درجةَ الصدّيقية تلي (3) درجةَ النبوة. وهؤلاء هم الربَّانيون، وهم الراسخون في العلم، وهم الوسائط بين الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وأمته. فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبُه وخاصَّتُه وحَمَلةُ دينه، وهم المضمون لهم أنَّهم لا يزالون على الحقِّ، لا يضرُّهم من خذلهم ولا من خالفهم (4) حتَّى يأتي أمر اللَّه وهم على ذلك.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد/ 19]. وقد (5) قيل: إنَّ الوقف على قوله: {هُمُ الصِّدِّيقُونَ} (6) ثمَّ يبتدئ {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} فيكون الكلام
__________
(1) “الأنبياء” ساقط من “ط”.
(2) “ط”: “بدعوتهم”، تصحيف.
(3) “ك، ط”: “الصديقية معطوفة على درجة”.
(4) “ف”: “لا يضرّهم من خالفهم” فأسقط جزءًا من الكلام.
(5) “قد”ساقط من “ط”.
(6) من قوله تعالى في الآية السابقة: “والشهداء عند ربهم. . . ” إلى هنا ساقط من =

(2/764)


جملتين: أخبر في إحداهما عن المؤمنين باللَّه ورسله أنَّهم هم الصدِّيقون، والإيمان التامّ يستلزم العلمَ والعملَ والدعوةَ إلى اللَّه سبحانه بالتعليم والصبرَ عليه، وأخبر في الثانية أنّ الشهداءَ عند ربّهم، لهم أجرهم ونورهم (1).
ومرتبة الصدّيقين فوق مرتبة الشهداءِ، ولهذا قدّمهم عليهم في الآيتين: هنا وفي سورة النساءِ. وهكذا جاءَ ذكرُهم مقدّمًا على الشهداءِ في كلام النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله: “اثبُتْ أُحدُ، فإنّما عليك نبي وصدّيق وشهيدان” (2). ولهذا كان ندت الصدّيقية وصفًا لأفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين، وهو أبو بكر الصدّيق رضي اللَّه عنه (3). ولو كان بعد النبوة درجة أفضل من الصدّيقية لكانت لقبًا (4) له رضي اللَّه عنه.
وقيل (5): إنّ الكلام كلّه جملة واحدة، وأخبر عن المؤمنين بأنّهم هم الصدّيقون والشهداءُ عند ربّهم، وعلى هذا فالشهداءُ هم الذين يستشهدهم اللَّه على الناس يوم القيامة، وهو قوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة/ 143] وهم المؤمنون. فوصَفَهم بأنَّهم صدِّيقون في الدنيا
__________
= “ف” لانتقال النظر.
(1) هذا قول ابن عباس ومسروق والضحاك، وهو اختيار ابن جرير رحمه اللَّه. انظر تفسيره (27/ 230).
(2) “ك، ط”: “شهيد”، خطأ. والحديث أخرجه البخاري (3675) في فضائل الصحابة عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه.
(3) “ط”: “. . المرسلين أبي بكر الصديق”.
(4) “ك، ط”: “نعتًا”.
(5) وهو مروي عن ابن مسعود ومجاهد. انظر: تفسير الطبري (27/ 231).

(2/765)


شهداءُ (1) على الناس يوم القيامة، ويكون الشهداءُ وصفًا لجملة المؤمنين الصدِّيقين.
وقيل: الشهداءُ هم الذين قُتِلوا في سبيل اللَّه، وعلى هذا القول يترجَّح أن يكون الكلام جملتين، ويكون قولُه “والشهداء” مبتدأً خبره ما بعده؛ لأنَّه ليس كلُّ مؤمن صدِّيقٍ شهيدًا في سبيل اللَّه.
ويرجِّحه أيضًا أنَّه لو كان “الشهداء” داخلًا في جملة الخبر عن المؤمنين (2) لكان قوله: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد/ 19] داخلًا أيضًا في جملة الخبر عنهم، ويكون قد أخبر عنهم بثلاثة أشياء: أحدها: أنَّهم هم الصدِّيقون، والثاني: أنَّهم الشهداء، والثالث: أنَّهم (3) لهم أجرهم ونورهم. وذلك يتضمَّن عطف الخبر الثاني على الأوَّل، ثمَّ ذِكرَ الخبر الثالث مجرَّدًا عن العطف. وهذا كما تقول: “زيد كريم وعالم له مال”. والأحسن في هذا تناسبُ الأخبار بأنَّ تُجرِّدها كلَّها من العطف، أو تعطفها جميعًا، فتقول: “زيد كريم عالم له مال”. أو “كريم وعالم وله مال”. فتأمَّله.
ويرجِّحه أيضًا أنَّ الكلام يصير جملًا مستقلَّة قد ذكر فيها أصناف خلقه السعداء، وهم: الصدِّيقون، والشهداءُ، والصالحون وهم المذكورون في أوَّل الآية (4)، وهم المتصدِّقون الذين أقرضوا اللَّه قرضًا حسنًا، فهؤلاء ثلاثة أصناف. ثمَّ ذكرَ الرسُلَ في قوله تعالى: {لقَدْ أَرْسَلْنَا
__________
(1) “ط”: “وشهداء”.
(2) “عن المؤمنين” ساقط من “ك، ط”.
(3) “ك، ط”: “أنهم هم الشهداء، والثالث أن”.
(4) “ك، ط”: “في الآية”.

(2/766)


رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد/ 25] فتناول (1) ذلك الأصناف الأربعة المذكورة في سورة النساء، فهؤلاء هم السعداء. ثمَّ ذكر الأشقياء وهم نوعان: كفار، ومنافقون؛ فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)} [الحديد/ 19]. وذَكَر المنافقين (2) في قوله: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا} (3) [الحديد/ 13].
فهؤلاء أصناف العالم كلّهم. وترك سبحانه ذكرَ المخلِّط صاحب الشائبتين على طريقة القرآن في ذكر السعداء والأشقياء دون المخلِّطين غالبًا لسرٍّ اقتضته حكمته سبحانه وتعالي. فليحذَرْ صاحب التخليط، فإنَّه لا ضمان له على اللَّه، ولا هو من أهل وعده المطلق. ولا ييأس من رَوح اللَّه، فإنَّه ليس من الكفار الذين قد (4) قطع لهم بالعذاب، ولكنَّه بين الجنَّة والنَّار، واقف بين الوعد والوعيد، كلٌّ منهما يدعوه الي موجبه لأنَّه أتي بسببه. وهذا هو الذي لحظه القائلون بالمنزلة بين المنزلتين، ولكن غلطوا في تخليده في النار. ولو نزّلوه منزلةً بين المنزلين، ووكلوه إلى المشيئة، وقالوا بأنَّه يخرج من النار بتوحيده وإيمانه، لأصابوا. ولكن “منزلةٌ بين منزلتين وصاحبُها (5) مخلَّدٌ في النَّار” ممَّا لا يقتضيه عقل ولا سمع، بل النصوص الصريحة المعلومة الصحَّة تشهد ببطلان قولهم، واللَّه أعلم.
__________
(1) “ط”: “فيتناول”.
(2) “ط”: “المنافقون”.
(3) كذا في الأصل و”ف” ونقلت الآية في “ب، ك، ط” إلى “نقتبس من نوركم”.
(4) “قد” ساقط من “ك، ط”.
(5) “ط”: “صاحبهما”، خطأ.

(2/767)


وأيضًا فصاحب الشائبتين يُعلَم حكمُه من نصوص الوعد والوعيد، فإنَّ اللَّه سبحانه رتَّب على كلِّ عملٍ جزاءً في الخير والشرِّ، فإذا أتى العبد بهما كان فيه سبب الجزائين، واللَّه لا يضيّع مثقال ذرَّة. فإن كان عمل الشرّ ممَّا يوجب سقوط أثر الحسنة كالكفر كان التأثير له (1)، وإن لم يُسقطه كالمعصية ترتَّب في حقه الأثران، ما لم يسقط أحدُهما بسبب من الأسباب التي سنذكرها (2) إن شاء اللَّه فيما بعد (3).
والمقصود أنَّ درجة الصدِّيقية والرَّبانية، ووراثة النبوة وخلافة الرسالة هي أفضل درجات الأُمة. ولو لم يكن من فضلها وشرفها إلّا أنّ كلّ من علم. بتعليمهم وإرشادهم أو علّم غيرَه شيئًا من ذلك كان لهم (4) مثل أجره ما دام ذلك جاريًا في الأمة على آباد الدهور. وقد صحّ عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنّه قال لعليّ بن أبي طالب: “واللَّهِ لأن يهدي اللَّه بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حُمْر النَّعم” (5).
وصحّ عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنّه قال: “من سنّ في الإسلام سنّةً حسنةً فعُمِل بها بعدَه كان له مثلُ أجر مَن عمل بها، لا ينقص ذلك (6) من أجورهم شيئًا” (7).
__________
(1) “له” ساقط من “ط”.
(2) “ك، ط”: “نذكرها”.
(3) “ب”: “فيما بعد إن شاء اللَّه”.
(4) “ب، ك، ط”: “له”، خطأ.
(5) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير (2942) وغيره، ومسلم في فضائل الصحابة (2406).
(6) “ذلك” ساقط من “ك، ط”.
(7) أخرجه مسلم في الزكاة (1017) عن جرير بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه.

(2/768)


وصحّ عنه أنّه قال: “إذا مات العبد انقطع عملُه إلّا من ثلاث: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتفَع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له” (1).
وصحَّ عنه أنَّه قال: “مَن يُردِ اللَّهُ به خيرًا يُفقِّهْه في الدِّين” (2).
وفي السنن عنه أنَّه قال: “إنَّ العالم يَسْتغفِر له مَن في السماوات ومَن في الأرضِ حتَّي النملة في جُحرِها” (3).
وعنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: “إنَّ اللَّه وملائكته يصلّون على معلِّم الناسِ الخيرَ” (4).
وعنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: “إنَّ العلماء وَرثَة الأنبياء، وإنَّ الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا وإنَّما ورِّثوا العلمَ، فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافر” (5).
__________
(1) أخرجه مسلم في الوصية (1631) عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(2) أخرجه البخاري في العلم (71) وغيره، ومسلم في الزكاة (1037) عن معاوية رضي اللَّه عنه.
(3) أخرجه الترمذي (2685)، والطبراني في الكبير (7912)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (183) عن أبي أمامة. قال الترمذي: “هذا حديث حسن صحيح غريب”. وفي نسخة: “هذا حديث غريب”. قلت: فيه الوليد بن جميل يروي عن القاسم أحاديث منكرة ويخشي أن هذا منها. وأيضًا هذا أخطأ في رفعه، صوابه أنه مرسل عن مكحول كما عند الدارمي (297). وثبت عن ابن عباس قال: “معلم الخير يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر” أخرجه ابن أبي شيبة (26104)، والدارمي (355) وغيرهما، وسنده صحيح. (ز).
(4) انظر: الحديث السابق.
(5) “ك، ط”: “عظيم وافر”. والحديث أخرجه أحمد (21715)، وأبو داود (3641)، والترمذي (682)، وابن ماجه (223)، وابن حبان (88) وغيرهم عن أبي الدرداء. وقد وقع فيه اختلاف في أسانيده. والحديث صححه ابن حبان والحاكم. وقال حمزة الكناني: حسن غريب، وضعفه الترمذي والبغوي =

(2/769)


وعنه: “العالم والمتعلِّم شريكان في الأجر، ولا خيرَ في سائر الناس بعدُ” (1).
وعنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: “نضَّر اللَّه امرأً سمع مقالتي فوعاها فأدَّاها إلى من سمعها” (2).
والأحاديث في هذا كثيرة جدًّا (3)، وقد ذكرنا مائتي دليل على فضل العلم وأهله في كتاب مفرد (4). فيا لها من مرتبةٍ ما أعلاها، ومنقبةٍ ما أجلّها وأسناها، أن يكون المرءُ في حياته مشغولًا ببعض أشغاله، أو في قبره قد صار أشلاءً متمزِّقة وأوصالًا متفرِّقة، وصحفُ حسناته متزايدةٌ تملى فيها الحسنات كلَّ وقت، وأعمال الخير مهداة إليه من حيث لا يحتسب. تلك -واللَّه- المكارم والغنائم! وفي ذلك فليتنافس
__________
= وابن عبد البر. انظر: جامع بيان العلم وفضله (1/ 162، 164)، وفتح الباري (1/ 160)، وتحقيق المسند (36/ 46 – 47). (ز).
(1) أخرجه ابن ماجه (228) من طريق على بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة. وقال البوصيري: “هذا إسناد فيه على بن يزيد بن جدعان، والجمهور على تضعيفه”. (ز).
(2) “ب”: “كما سمعها”. “ك”: “وأداها”. “ط”: “وأداها كما سمعها”. (ص). والحديث أخرجه أحمد (4157)، وأبو داود (3660)، والترمذي (2657، 2658)، وابن ماجه (232) من حديث عبد اللَّه بن مسعود. وقد صححه الترمذي وابن حبان وأبو نعيم وابن حجر. (ز).
(3) “جدًّا” ساقط من “ك، ط”.
(4) سمّاه ابن رجب في ترجمة المؤلف “فضل العلماء”. انظر: ذيل طبقات الحنابلة (5/ 175). ولكن الداودي الذي اعتمد على ابن رجب ذكره في طبقات المفسرين (2/ 93) باسم “فضل العلم”. وقد ذكر المؤلف في مفتاح دار السعادة أيضًا ثلاثة وخمسين وجهًا ومائة وجه في فضل العلم.

(2/770)


المتنافسون، وعليه يحسد الحاسدون! وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم.
وحقيق بمرتبةٍ هذا شأنُها أن تُنفَق نفائس الأنفاس عليها، ويستبق (1) السابقون إليها، وتوفَّر (2) عليها الأوقات، وتتوجَّه نحوها الطلِبات. فنسأل اللَّه الذي بيده مفاتيح كلّ خير أن يفتح علينا خزائن رحمته، ويجعلنا من أهل هذه الصفة بمنِّه وكرمه.
وأصحاب هذه المرتبة يُدعَون عظماء في ملكوت السماءِ، كما قال بعض السلف: “مَن عَلِم وعمِل وعلَّم فذلك يُدعي عظيمًا في ملكوت السماء” (3). وهؤلاء هم العدول حقًّا بتعديل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لهم، إذ يقول فيما رُوي (4) عنه من وجوه يُسنِد (5) بعضها بعضًا: “يحمل هذا العلمَ من كلِّ خلَفٍ عدوله (6)، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين” (7).
__________
(1) “ط”: “يسبق”.
(2) “ت”: “تتوفر”، خلاف الأصل.
(3) حكاه ثور بن يزيد وبشر الحافي من كلام المسيح عليه السلام. انظر: حلية الأولياء (6/ 97) و (8/ 380).
(4) “ب، ك، ط”: “يروي”.
(5) “ك، ط”: “شدّ”.
(6) “ك، ط”: “عدول”.
(7) أخرجه ابن عدي في الكامل (1/ 146 – 147)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (7/ 38 – 39) من حديث إبراهيم بن عبد الرحمن العذري عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وهو حديث مرسل. وقد روي مرفوعًا ولا يثبت. وجاء الحديث عن جماعة من الصحابة ولا يثبت شيء منها. (ز).

(2/771)


وما أحسن ما قال فيهم الإمام أحمد في خطبة كتابه (1) “الردّ على الجهمية”: “الحمد للَّه الذي جعل في كلِّ زمانِ فترةٍ من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضلَّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويبصّرون بنور اللَّه أهلَ العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيَوه (2)، ومن ضالٍّ جاهلٍ قد هدَوه. فما أحسن أثرهم على النَّاس، وأقبح أثر الناس عليهم! ينفُون عن كتاب اللَّه تأويل الجاهلين، وتحريفَ الغالين، وانتحالَ المبطلِين” (3).
وذكر ابن وضَّاح هذا الكلام عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه (4).

الطبقة الخامسة: أئمة العدل وولاته الذين تأمَنُ (5) بهم السبُل، ويستقيم بهم العالم، ويستنصر بهم الضعيف، ويذِلّ بهم الظالم، ويأمن بهم الخائف، وتُقام بهم الحدود، ويُدفع بهم الفساد، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقام بهم حكمُ الكتاب والسنَّة، وتُطفأ بهم نيران البدع والضلالة.
وهؤلاء هم (6) الذين تُنصَب لهم المنابر من النور عن يمين الرحمن عزَّ وجلَّ يوم القيامة فيكونون عليها. والولاةُ الظلَمة قد صهرهم حرُّ الشمس، وقد بلغ منهم العرَقُ مبلغه، وهم يحملون أثقال مظالمهم
__________
(1) زاد بعده في “ك، ط”: “في”.
(2) “ط”: “أجبروه”، تحريف.
(3) الردّ على الجهمية (85).
(4) البدع والنهي عنها (3).
(5) “ط”: “تؤمن”.
(6) “هم” ساقط من “ط”.

(2/772)


العظيمة على ظهورهم الضعيفة في يومٍ كان مقدارُه خمسين ألف سنةٍ، ثمَّ يُرى (1) سبيل أحدهم إمَّا إلى الجنَّة وإمَّا إلى النَّار.
قال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “المقسطون عند اللَّه (2) على منابر من نور يوم القيامة عن يمين الرحمن تبارك وتعالى، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما وَلُوا” (3).
وعنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ أحبَّ الخلق إلى اللَّه وأقربَهم منزلةً منه (4) يوم القيامة إمامٌ عادل، وإنَّ أبغض الخلق إلى اللَّه وأبعدَهم منه منزلةً يوم القيامة إمامٌ جائر” (5) أو كما قال.
وهم أحد السبعة الأصناف الذين يظلّهم اللَّه في ظل عرشه يوم لا ظلَّ إلا ظلّه. وكما كان الناس في ظلّ عدلهم في الدنيا، كانوا هم (6) في ظل عرش الرحمن يوم القيامة ظلًّا بظلٍّ جزاءً وِفاقًا.
ولو لم يكن من فضلهم وشرفهم إلا أنَّ أهل السماوات والأرض والطيرَ في الهواءِ يصلّون عليهم ويستغفرون لهم ويدعون لهم، وولاة
__________
(1) قراءة “ف”: “ترى”.
(2) “عند اللَّه” ساقط من “ط”.
(3) أخرجه مسلم في الإمارة (1827) عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما.
(4) “ط”: “منه منزلة”.
(5) أخرجه أحمد (11525)، والترمذي (1329) والبيهقي في السنن (10/ 88) وغيرهم. قال الترمذي: “حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه”. قال السخاوي في تخريج أحاديث العادلين (127): “ومدار طرقه كلها على عطية العوفي، وهو ضعيف”. وضعفه أيضًا العراقي، وحسّنه ابن القطان. انظر: نصب الراية (4/ 68). (ز).
(6) “هم” ساقط من “ك، ط”.

(2/773)


الظلم يلعنهم مَن بين السماء (1) والأرض حتَّى الدوابّ (2) والطير. كما أنَّ معلِّم الناسِ الخيرَ يصلّي عليه اللَّه وملائكته، وكاتمُ العلم والهدى الذي أنزله اللَّه وحاملُ أهله على كتمانه يلعنه اللَّه وملائكته ويلعنه اللاعنون.
فيا لها من منقبة ومرتبة ما أجلّها وأشرفها: أن يكون الوالي والإمام على فراشه، وغيرُه (3) يعمل بالخير، وتكتَب الحسناتُ في صحائفه! فهي متزايدة ما دام يعمل بعدله، ولساعة واحدة منه خير من عبادة أعوام من غيره! فأين هذا من صفة (4) الغاشّ لرعيته، الظالم لهم، الذي (5) قد حرَّم اللَّه عليه الجنَّة وأوجب له النار!
ويكفي في فضله وشرفه أنَّه يكفّ عن اللَّه دعوة المظلوم، كما في الآثار: “أيها الملِك المسلَّط المغرور، إنِّي لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكن بعثتك لتكفّ عنِّي دعوةَ المظلوم، فإنِّي لا أحجبُها ولو كانت من كافر” (6). فأين من هو نائم، وأعينُ العباد ساهرةٌ تدعو اللَّه له؛ وآخرُ أعينُهم ساهرةٌ تدعو عليه؟
__________
(1) “ك، ط”: “السماوات”.
(2) “ف”: “الذباب”، تحريف.
(3) “غيره” ساقط من “ط”.
(4) “صفة” ساقط من “ط”.
(5) “الذي” ساقط من “ك، ط”.
(6) أخرجه ابن حبان (361)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 222) من حديث أبي ذر مطولًا. وفيه إبراهيم بن هشام الغساني. قال أبو حاتم: كذاب. الجرح والتعديل (2/ 143). وجاء من طرق أخرى عن أبي ذر مختصرًا، وكلها لا تثبت. راجع تحقيق المسند (35/ 432 – 433)، والإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (2/ 79 – 81). (ز).

(2/774)


الطبقة السادسة: المجاهدون في سبيل اللَّه، وهم جند اللَّه الذين يقيم بهم دينه (1)، ويدفع بهم بأس أعدائه، ويحفظ بهم بيضة الإسلام، ويحمي بهم حوزة الدين. وهم الذين يقاتلون أعداءَ اللَّه ليكون الدين كله للَّه، وتكون كلمة اللَّه هي العليا، قد بذلوا أنفسهم في محبَّةِ اللَّه ونصرِ دينه وإعلاء كلمته ودفع أعدائه. وهم شركاءُ لكل من يحمونه بسيوفهم، في أعمالهم التي يعلَمونها، وإن تناءتْ ديارهم (2)، ولهم مثل أجور مَن عَبَد اللَّه (3) بسبب جهادهم وفتوحهم، فإنَّهم كانوا هم السبب فيه. والشارع قد نزَّل المتسبّبَ منزلةَ الفاعل التامّ في الأجر والوزر، ولهذا كان الداعي إلى الهدى والداعي إلى الضلال لكلّ منهما بتسبّبه مثلُ أجر من اتَّبعه (4).
وقد تظافرت (5) آيات الكتاب وتواترت نصوص السنَّة على الترغيب في الجهاد، والحضِّ عليه، ومدحِ أهله، والإخبار عمَّا لهم عند ربِّهم من أنواع الكرامات والعطايا الجزيلات. ويكفي في ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَي تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)} [الصف/ 10] فتشوفت (6) النفوس إلى هذه التجارة الرابحة التي الدالُّ عليها ربُّ العالمين العليم الحكيم، فقال: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}. فكأنَّ النفوس ضنَّت بحياتها وبقائها، فقال: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
__________
(1) “ف”: “يقيم بهم اللَّه دينه”، خلاف الأصل.
(2) “ط”: “باتوا في ديارهم”، تحريف.
(3) “ب”: “أجورهم من عند اللَّه”، تحريف.
(4) “ك، ط”: “تبعه”.
(5) “ك، ط”: “تظاهرت”.
(6) ضبطت في الأصل بالفاء، وكذا في “ب”. وفي “ف، ك، ط”: “فتشوّقت” بالقاف.

(2/775)


تَعْلَمُونَ (11)} يعني أنَّ الجهاد خير لكم من قعودكم طلبًا (1) للحياة والسلامة. فكأنَّها (2) قالت: فما لنا في هذا (3) الجهاد من الحظّ؟ فقال: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} مع المغفرة {وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. فكأنّها (4) قالت: هذا في الآخرة فماذا لنا (5) في الدنيا؟ فقال: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}.
فلله ما أحلى هذه الألفاظ وما ألصقها بالقلوب وما أعظمها جذبًا لها وتسييرًا إلى ربِّها، وما ألطف موقعها من قلب كلّ محبّ! وما أعظم غنى القلب وأطيب عيشَه (6) حين تباشره معانيها! فنسأل اللَّه من فضله إنَّه جوادٌ كريم.
ومن هذا قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)} [التوبة/ 19 – 22]. فأخبر سبحانه أنَّه لا يستوي عنده عُمَّار المسجد الحرام -وهم عُمَّاره بالاعتكاف والطواف والصلاة، هذه هي عمارة مساجده المذكورة في القرآن- وأهلُ سقاية الحاج، لا يستوون
__________
(1) “طلبًا” ساقط من “ط”.
(2) “ف”: “وكأنها”، قراءة محتملة.
(3) “هذا” ساقط من “ط”.
(4) “ف”: “وكأنها”، قراءة محتملة.
(5) “ب، ك، ط”: “فما لنا”.
(6) “ف”: “عيشته”، خلاف الأصل.

(2/776)


هم وأهل الجهاد في سبيله (1). وأخبر أنَّ المؤمنين المجاهدين أعظم درجة عنده وأنَّهم هم الفائزون، وأنَّهم أهل البشارة بالرحمة والرضوان والجنَّات. فنفي التسوية بين المجاهدين وعمَّار المسجد الحرام بأنواع العبادة (2)، مع ثنائه على عُمَّاره بقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} [التوبة/ 18]. فهؤلاء هم عمَّار المساجد، ومع هذا فأهل الجهاد أرفع درجة عند اللَّه منهم.
وقال تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)} [النساء/ 95 – 96]. فنفى سبحانه التسويةَ بين المؤمنين القاعدين عن الجهاد وبين المجاهدين، ثمَّ أخبر عن تفضيل المجاهدين على القاعدين درجة، ثمَّ أخبر عن تفضيلهم عليهم درجات.
وقد أشكل فهم هذه الآية على طائفة من النَّاس، من جهة أنَّ القاعدين الذين فُضِّل عليهم المجاهدون بدرجة إن كانوا هم أولي الضرر، والقاعدون الذين فُضِّل عليهم المجاهدون (3) بدرجات هم غير أُولي الضرر؛ فيكون (4) المجاهدون أفضل من القاعدين مطلقًا، وعلى
__________
(1) “ك، ط”: “في سبيل اللَّه”.
(2) “ط”: “مع أنواع العبادة”.
(3) “بدرجة إن كانوا. . .” إلى هنا ساقط من “ب”.
(4) سياق الكلام في “ط”: “من جهة أن القاعدين الذين فضل عليهم المجاهدون =

(2/777)


هذا فما وجه استثناء أولي الضرر من القاعدين، وهم لا يستوون هم (1) والمجاهدون أصلًا؟ فيكون حكم المستثنى والمستثنى منه واحدًا. فهذا وجه الإشكال، ونحن نذكر ما قاله هؤلاء في الآية، ثمَّ نذكر (2) ما يزيل الإشكال بحمد اللَّه.
فاختلف القرَّاء في إعراب “غير”، فقرئ رفعًا ونصبًا، وهما في السبعة (3). وقرئ بالجرّ في غير السبعة، وهي قراءة أبي حيوة (4).
فأمَّا قراءة النصب فعلى الاستثناء؛ لأنّ “غيرًا” تعرب في الاستثناء إعرابَ الاسم الواقع بعد إلا، وهو النصب هنا (5)، هذا هو الصحيح. وقالت طائفة: إعرابها نصب على الحال، أي: لا يستوي القاعدون غيرَ مضرورين، أي: لا يستوون في حال صحَّتهم هم والمجاهدون (6).
__________
= بدرجات إن كانوا هم القاعدين الذين فضل عليهم أولو الضرر فيكون. . . “.
(1) “هم” ساقط من “ك، ط”.
(2) “ما قاله هؤلاء. . . ” إلى هنا ساقط من “ط”.
(3) قرأ نافع وابن عامر والكسائي بالنصب. والباقون بالرفع. انظر: الاقناع (631).
(4) إعراب القرآن للنحاس (1/ 483). وأبو حيوة: شريح بن يزيد الحضرمي الحمصي المؤذن المقرئ. توفي سنة 203 هـ. تهذيب التهذيب (4/ 331). وقال الزجاج: “والجرّ وجه جيّد إلّا أنّ أهل الأمصار لم يقرأوا به وإن كان وجهًا، لأنّ القراءة سنة متبعة”. معاني القرآن (93/ 2). وذكر ابن عطية أنها قراءة الأعمش أيضًا. المحرّر الوجيز (2/ 97).
(5) “هنا” ساقط من “ط”. والنصب على الاستثناء قول الأخفش. انظر: معاني القرآن له (1/ 245).
(6) انظر: معاني الفرّاء (1/ 283)، ومعاني الزجّاج (2/ 93)، وقد ذكرا جواز الوجهين.

(2/778)


والاستثناء أصحّ، فإنَّ “غيرًا” (1) لا تكاد تقع حالًا في كلامهم إلا مضافةً إلى نكرة، كقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ} [البقرة/ 173]، الأنعام/ 145، النحل/ 115]، وقوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} [المائدة/ 1]، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “مرحبًا بالوفد غيرَ خزايا ولا ندامى” (2). فإن أضيفت إلى معرفة كانت تابعةً لما قبلها، كقوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة/ 7]. ولو قلت: “مرحبًا بالوفد غيرِ الخزايا ولا الندامى”. لجررتَ “غيرًا” (3). هذا هو المعروف من كلامهم. والكلام في عدم تعرّف “غير” بالإضافة وحسنِ وقوعها إذ ذاك حالًا، له مقام آخر.
وأمَّا الرفع فعلى النعت للقاعدين، هذا هو الصحيح. وقال أبو إسحاق وغيره: هو خبر مبتدأ محذوف، تقديرُه: الذين هم غير أولي الضرر (4). والذي حمله على هذا ظنُّه أنَّ غيرًا لا تقبل التعريف بالإضافة، فلا تجري صفةً للمعرفة. وليس مع من ادَّعى ذلك حجَّةٌ يعتمد عليها سوى قولهم (5): إنَّ غيرًا توغَّلت في الإبهام فلا تتعرَّف بما تضاف إليه. وجواب هذا: أنَّها إذا دخلت بين متقابلين لم يكن فيها إبهام
__________
(1) “ط”: “غير”.
(2) من حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما، أخرجه البخاري في كتاب الايمان (53) وغيره. ومسلم في الايمان (17).
(3) “ط”: “غير”.
(4) لا أدري من أين نقل المؤلف قول أبي إسحاق هذا، فإنه لم يذهب إليه في كتابه، بل أعرب على النعت، وفسّر معنى الآية هذا التفسير، وهذا أحد الوجهين عنده في الرفع والوجه الثاني هو الاستثناء. انظر: معاني القرآن له (2/ 92).
(5) “قولهم” ساقط من “ط”.

(2/779)


لتعيينها ما تضاف إليه (1).
وأمَّا قراءَة الجرّ ففيها وجهان أيضًا، أحدهما -وهو الصحيح- أنَّه نعت للمؤمنين. والثاني -وهو قول المبرّد- أنَّه بدل منه، بناءً على أنَّه نكرة فلا تُنعت به المعرفة (2).
وعلى الأقوال كلّها فهو مُفهِم (3) معني الاستثناءِ، وأنَّ نفيَ التسوية غيرُ مسلَّط على ما أضيف إليه “غير” (4). وقوله: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} (5) هو مبيّن لمعني نفي المساواة. قالوا: والمعنى فضَّل اللَّه المجاهدين على القاعدين (6) من أولي الضرر درجةً واحدةً لامتيازه عنه (7) بالجهاد بنفسه وماله. ثمَّ أخبر سبحانه أنَّ الفريقين كليهما موعود بالحسنى فقال: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} أي: المجاهد والقاعد المضرور، لاشتراكهم (8) في الإيمان.
__________
(1) انظر: بدائع الفوائد (432).
(2) “البدليّةِ” أحد الوجوه التي ذكرها المبرّد في قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة/ 7]. وذكر منها أيضًا أنها نعت “للذين، لأنّها مضافة إلى معرفة” المقتضب (4/ 423). هذا مع قوله في ص (288) بأن غيرًا لا تتعرّف بالإضافة. وانظر في الردّ على كون “غير” بدلًا: بدائع الفوائد (429).
(3) “ط”: “مفهوم”، تحريف.
(4) “ط”: “غيره”، خطأ.
(5) “بأموالهم وأنفسهم” ساقط من الأصل وغيره.
(6) كذا في الأصل وغيره. وفي “ط”: “المجاهد على القاعد”. غيّره لأجل الضمائر الآتية المفردة.
(7) أي: لامتياز الفريق الأول عن الفريق الثاني.
(8) كذا في الأصل وغيره. وفي “ط”: “لاشتراكهما”.

(2/780)


قالوا: وفي هذا دليل على تفضيل الغنيّ المنفِق على الفقير، لأنَّ اللَّه سبحانه أخبر أنَّ المجاهد بماله ونفسه أفضل من القاعد، وقدَّم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس. وأمَّا الفقير فنفى عنه الحرَجَ بقوله: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة/ 92] فأين مقام من حَكمَ له بالتفضيل إلى مقام من نفى عنه الحرَج!
قالوا: فهذا حكم القاعد من أولي الضرر والمجاهد. وأمَّا القاعد من غير أولي الضرر فقال تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء/ 95 – 96].
وقوله {دَرَجَاتٍ} قيل: هو نصب على البدل من قوله {أَجْرًا عَظِيمًا} (1) وقيل: تأكيد له وإن كان بغير لفظه؛ لأنَّه هو في المعنى (2). قال قتادة: كان يقال: الإسلام درجة، والهجرة في الإسلام درجة، والجهاد في الهجرة درجة، والقتل في الجهاد درجة (3).
وقال ابن زيد: الدرجات التي فُضِّل بها المجاهدُ على القاعد سبع، وهي التي ذكرها اللَّه تعالى في براءة إذ يقول سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} فهذه خمس. ثمَّ قال {وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ} [التوبة/ 120 – 121]،
__________
(1) من قوله تعالى: {وَكاَنَ اللَّهُ غَفُورا رًحِيمًا} إلى هنا سقط من “ف”.
(2) انظر: معاني الزجاج (2/ 92).
(3) تفسير الطبري (9/ 97).

(2/781)


فهاتان اثنتان (1).
وقيل: الدرجات سبعون درجة، ما بين الدرجتين حُضْرُ الفرَس الجواد المضمَّر سبعين سنة (2).
والصحيح أنَّ الدرجات هي المذكورة في حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري (3) في صحيحه عنه (4) عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: “من آمن باللَّه ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان فإنَّ حقًّا على اللَّه أن يُدخله الجنَّة، هاجر في سبيل اللَّه أو جلس في أرضه التي ولد فيها” قالوا: يا رسول اللَّه، أفلا نخبر الناس بذلك؟ قال: “إنَّ في الجنة مائة درجة أعدَّها اللَّهُ للمجاهدين في سبيله، كلّ درجتين كما بين السماء والأرض. فإذا سألتم اللَّه فاسألوه الفردوس فإنَّه أوسط الجنَّة وأعلى الجنَّة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تَفَجَّرُ أنهار الجنة”.
قالوا: وجعل سبحانه التفضيل الأوَّل بدرجةٍ فقط، وجعله ههنا بدرجاتٍ ومغفرة ورحمة، وهذا يدلّ على أنَّه تفضيل (5) على غير أولي الضرر. فهذا تقرير هذا القول وإيضاحه.
ولكن يبقى (6) أن يقال: إذا كان المجاهدون أفضل من القاعدين مطلقًا لزم أن لا يستوي مجاهد وقاعد مطلقًا، فلا يبقى في تقييد
__________
(1) تفسير الطبري (9/ 98). وحُضْر الفرس: عَدْوه.
(2) المصدر السابق (9/ 98).
(3) في كتاب الجهاد (2790).
(4) “عنه” ساقط من “ك، ط”.
(5) “ك، ط”: “يفضل”.
(6) “ك، ط”: “بقي”.

(2/782)


القاعدين بكونهم من غير أولي الضرر فائدة، فإنَّه لا يستوي المجاهدون والقاعدن من أولي الضرر أيضًا.
وأيضًا فإنَّ القاعدين المذكورين في الآية الذين وقع التفضيل عليهم هم غير أولي الضرر، لا القاعدون الذين هم أولو الضرر. فإنَّهم لم يذكر حكمهم في الآية، بل استثناهم، وبيَّن أنَّ التفضيل على غيرهم. فاللام في “القاعدين” للعهد، والمعهود هم غير أولي الضرر لا المضرورون.
وأيضًا فالقاعد من المجاهدين لضرورة تمنعه من الجهاد له مثل أجر المجاهد، كما ثبت (1) عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: “إذا مرض العبدُ أو سافر كُتِبَ له من العمل ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا” (2)، وقال: “إنَّ بالمدينة أقوامًا ما سِرْتُم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا وهم معكم” قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: “وهم بالمدينة، حَبَسهم العذرُ” (3).
وعلى هذا فالصواب أن يقال: الآية دلَّت على أنَّ القاعدين من غير أولي الضرر عن الجهاد (4) لا يستوون هم والمجاهدون، وسكتت عن القاعدين من أولي الضرر، فلم تدل على (5) حكمهم بطريق منطوقها. ولا يدلّ مفهومها على مساواتهم للمجاهدين، بل هذا النوع منقسم إلى
__________
(1) زاد في “ب”: “في الصحيح”.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد (2996) عن أبي موسي الأشعري رضي اللَّه عنه.
(3) أخرجه البخاري في الجهاد (4423)، ومسلم في الإمارة (1911) عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه.
(4) “عن الجهاد” مقدّم في “ط” على “من غير أولي الضرر”.
(5) “القاعدين من. . . ” إلى هنا ساقط من “ك، ط”.

(2/783)


معذور من أهل الجهاد غلَبَه عذرُه وأقعده عنه، ونيته جازمةٌ لم يتخلّف عنها مقدورُها، وإنَّما أقعده العجزُ، فهذا الذي تقتضيه أدلَّة الشرع أنَّ له مثل أجر المجاهد. وهذا القسم لا يتناوله الحكم بنفي التسوية، وهذا لأنَّ قاعدة الشريعة: أنَّ العزم التامّ إذا اقترن به ما يمكن من القول (1) أو مقدّمات الفعل نزِّل صاحبُه في الثواب والعقاب منزلةَ الفاعل التامّ، كما دلَّ عليه قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار” قالوا: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: “إنَّه كان حريصًا على قتل صاحبه” (2).
وفي الترمذي ومسند الإمام أحمد من حديث أبي كبشة الأنماري عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: “إنَّما الدنيا لأربعة نفر: عبدٌ رزقه اللَّه مالًا وعلمًا، فهو يتّقي في ماله ربّه، ويصِلُ به رحمه، ويعلم للَّه فيه حقًّا؛ فهذا بأحسن المنازل عند اللَّه (3). وعبدٌ رزقه اللَّه علمًا ولم يرزقه مالًا، فهو يقول: لو أنَّ لي مالًا لعملتُ فيه بعمل فلان؛ فهو بنيّته، وهما في الأجر سواءٌ، وعبدٌ رزقه اللَّه مالًا ولم يرزقه علمًا، فهو لا يتّقي في ماله ربّه، ولا يصل به رحمه، ولا يعلم للَّه فيه حقًّا؛ فهذا بأسوأ المنازل عند اللَّه. وعبدٌ لم يرزقه اللَّه مالًا ولا علمًا فهو يقول: لو أنَّ لي مالًا لعملتُ بعمل فلان، فهو بنيّته، وهما في الوزر سواء” (4). فأخبر – صلي اللَّه عليه وسلم – أنَّ وزر الفاعل والناوي
__________
(1) “ط”: “الفعل”.
(2) أخرجه البخاري في الإيمان (31) وغيره، ومسلم في الفتن (2888) عن أبي بكرة رضي اللَّه عنه.
(3) “عند اللَّه” ساقط من “ب، ك، ط”.
(4) أخرجه أحمد (18031)، والترمذي (2325) وقال: “هذا حديث حسن صحيح”. وانظر: تحقيق المسند (29/ 562 – 563). (ز).

(2/784)


الذي ليس مقدوره إلا بقوله دون فعله سواءٌ؛ لأنَّه أتي بالنية ومقدوره التامّ. وكذلك أجر الفاعل والناوي الذي اقترن قوله بنيته (1). وكذلك المقتول الذي سلَّ السيفَ، وإرادتُه (2) قتلُ أخيه المسلم، فقُتِل، نُزِّل منزلةَ القاتل لنيّته التامَّة التي اقترن بها مقدورُها من السعي والحركة.
ومثل هذا قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “من دلَّ على خير فله مثلُ أجر فاعله” (3) فإنَّه بدلالته ونيّته نزل منزلة الفاعل. ومثله من دعا إلى هدًى فله مثلُ أجور من اتَّبعه، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثلُ آثام من اتَّبعه (4)؛ لأجل نيَّته واقتران مقدورها بها من الدعوة.
ومثله إذا جاء المصلِّي إلى المسجد ليصلِّي جماعةً، فأدركهم وقد صلَّوا، فصلَّى وحده، كُتِبَ له مثلُ أجر صلاة الجماعة بنيّته وسعيه، كما قد جاءَ مصرَّحًا به في حديث مروي (5).
ومثل هذا مَن كان له وردٌ يصليه من الليل فنام، ومن نيَّته أن يقوم إليه فغلبه عنه (6) نومٌ، كُتِبَ له أجرُ وردِه، وكان نومُه عليه صدقةً (7).
__________
(1) بعدها في “ك، ط”: “وكذلك المقتول الذي اقترن قوله بنيته” خلط وتكرار.
(2) هذه قراءة “ف، ب”. وفي “ك، ط”: “أراد به”، والأصل غير منقوط.
(3) أخرجه مسلم في الإمارة (1893) عن أبي مسعود الأنصاري رضي اللَّه عنه.
(4) كما في حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه الذي سيأتي في ص (899).
(5) أخرجه أحمد (8947)، وأبو داود (564)، والنسائي (2/ 111)، والحاكم (1/ 327) (754) من حديث أبي هريرة، والحديث صححه الحاكم، ولم يتعقبه الذهبي. (ز).
(6) “ك، ط”: “فغلب عينه”.
(7) نص الحديث في صحيح مسلم (747) عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه.

(2/785)


ومثله المريض والمسافر إذا كان له عمل يعمله، فشغل عنه بالمرض والسفر، كتب له مثلُ يمله وهو صحيح مقيم (1). ومثله: “من سأل اللَّه الشهادة بصدقٍ بلَّغه اللَّه منازلَ الشهداء، ولو مات على فراشه” (2). ونظائر ذلك كثيرة.
والقسم الثاني معذور ليس من نيته الجهاد، ولا هو عازمٌ عليه عزمًا تامًّا. فهذا لا يستوي هو والمجاهد في سبيل اللَّه، بل قد فضّل اللَّه المجاهد (3) عليه وإن كان معذورًا، لأنَّه (4) لا نية له تُلحِقه بالفاعل التامّ، كنية أصحاب القسم الأوَّل. وقد قال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديث عثمان بن مظعون (5): “إنَّ اللَّه قد أوقع أجرَه على قدر نيّته” (6).
فلمَّا كان القسم المعذور فيه هذا التفصيل لم يجز أن يساوي بالمجاهد مطلقًا، ولا ينفي عنه المساواة مطلقًا. ودلالةُ المفهوم لا عمومَ لها، فإنَّ العموم إنَّما هو من أحكام الصيغ العامة وعوارض
__________
(1) نص الحديث في صحيح البخاري (2996) عن أبي موسي الأشعري رضي اللَّه عنه.
(2) أخرجه مسلم في الإمارة (1909) عن سهل بن حنيف رضي اللَّه عنه.
(3) “ك، ط”: “المجاهدين”.
(4) “لأنه” سقط من “ف”.
(5) كذا وقع في الأصل وغيره، وهو سهو، فإنها قصة عبد اللَّه بن ثابت الأنصاري رضي اللَّه عنه. انظر: المصادر المذكورة في الحاشية الآتية.
(6) أخرجه مالك برواية الليثي (935 – 996)، وأبو داود (3111)، والنسائي (4/ 13 – 14) وأحمد (23753)، وابن حبان (3189)، والحاكم (1/ 503) (1300)، من حديث جابر بن عتيك. والحديث صححه ابن حبان والحاكم ولم يتعقبه الذهبي. (ز).

(2/786)


الألفاظ. والدليلُ الموجِب للقول بالمفهوم لا يدلّ على أنَّ له عمومًا يجب اعتباره، فإنَّ أدلَّة المفهوم ترجع إلى شيئين: أحدهما التخصيص، والآخر التعليل.
فأمَّا التخصيص فهو أنَّ تخصيص الحكم بالمذكور يقتضي نفيَ الحكم عمَّا عداه وإلا بطلت فائدة التخصيص. وهذا لا يقتضي العمومَ وسلبَ حكمِ المنطوق عن جميع صور المفهوم، لأنَّ فائدة التخصيص قد تحصل بانقسام صور المفهوم إلى ما يسلب الحكمَ عن بعضها، ويثبته لبعضها، وبثبوت تفصيل (1) فيه فيثبت له حكم المنطوق على وجه دون وجه، إمَّا بشرط لا تجب مراعاته في المنطوق، وإمَّا في وقت دون وقت. بخلاف حكم المنطوق فإنَّه ثابت أبدًا؛ ونحو ذلك من فوائد التخصيص. وإذا كانت فائدة التخصيص حاصلة بالتفصيل والانقسام، فدعوى لزوم العموم من التخصيص دعوى باطلة، فإثباته مجرد التحكم.
وأمَّا التعليل فإنَّهم قالوا: ترتيب الحكم على هذا الوصف المناسب له يقتضي نفيَ الحكم عمَّا عداه، وإلا لم يكن الوصف المذكور علَّة. وهذا أيضًا لا يستلزم عموم النفي عن كلِّ ما عداه، وإنَّما غايته اقتضاؤه نفيَ الحكم المترتّب (2) على ذلك الوصف عن الصور المنتفي (3) عنها الوصفُ. وأمَّا نفيُ الحكم جملةً فلا، لجواز (4) ثبوته بوصف آخر وعلَّة
__________
(1) “ف”: “وبثبوت يفصل”. “ب”: “وثبوت تفضيل”. “ك، ط”: “ثبوت تفصيل” بحذف الواو.
(2) “ك، ط”: “المرتب”.
(3) “ك، ط”: “المنفي”.
(4) “ب، ك، ط”: “فلا يجوز”، تحريف جعل الكلام لا معني له.

(2/787)


أخرى، فإنَّ الحكم الواحد بالنوع يجوز تعليله بعلل مختلفة. وفي الواحد بالعين كلام ليس هذا موضعه. ومثال هذا ما نحن فيه فإنَّ (1) قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ} [النساء/ 95] لا يدلّ على مساواة المضرورين للمجاهدين (2) مطلقًا من حيث الضرورة، بل إن ثبتت المساواة فإنَّها معلَّلة بوصف آخر، وهي النية الجازمة والعزم التامّ؛ والضرر المانع من الجهاد في تلك (3) الحال لا يكون مانعًا من المساواة في الأجر، واللَّه أعلم.
والمقصود الكلام على طبقات الناس في الآخرة. وأمَّا النصوص والأدلّة الدّالّة على فضل الجهاد وأهله، فأكثر من أن تُذكرَ هنا. ولعلَّها (4) أن تفرد في كتاب على هذا النمط إن شاء اللَّه.
فهذه الدرجات الثلاث هي درجات السبق، أعني درجة العلم والعدل والجهاد. وبها سبق الصحابة رضي اللَّه عنهم، وأدركوا مَن قبلهم، وفاتوا مَن بعدهم، واستولوا على الأمد البعيد، وحازوا قصَبات العلى. وهم (5) كانوا السبب في بلوغ (6) الإسلام إلينا وفي تعليم كلّ خير وهدى وسبب تُنال به السعادة والنجاة. وهم أعدل الأمّة فيما وَلُوه، وأعظمُها جهادًا في سبيل اللَّه. والأمة في آثار علمهم وعدلهم وجهادهم إلى يوم القيامة،
__________
(1) “ط”: “لأن”.
(2) “ك، ط”: “المجاهدين”.
(3) “ط”: “ذلك”.
(4) كتب في الأصل أولًا بعد “ولعلها”: “تزيد على المأتين”، ثم ضرب عليها.
(5) أسقطها ناسخ “ف” لظنّه أنّها مضروب عليها، وذلك محتمل.
(6) “ك، ط”: “وصول”.

(2/788)


فلا ينال أحد منهم مسألةَ علمٍ نافعٍ إلا على أيديهم ومن طريقهم ينالها، ولا يسكن بقعةً من الأرضِ آمنًا إلا بسبب جهادهم وفتوحهم، ولا يحكم إمام ولا حاكم بعدل وهدًى إلا كانوا هم السبب في وصوله (1) إليه. فهم الذين فتحوا البلاد بالسيف، والقلوب بالإيمان، وعمروا البلاد بالعدل، والقلوب بالعلم والهدي؛ فلهم من الأجر بقدر أجور الأمة إلى يوم القيامة مضافًا إلى أجر أعمالهم التي اختصُّوا بها، فسبحان من يختص بفضله ورحمته من يشاء. وإنَّما نالوا هذا بالعلم، والجهاد، والحكم بالعدل؛ وهذه مراتب السبق التي يهبها اللَّه لمن يشاء من عباده.

الطبقة السابعة: أهل الإيثار والصدقة والإحسان إلى النَّاس بأموالهم على اختلاف حاجاتهم ومصالحهم، من تفريج كرباتهم، ودفع ضروراتهم، وكفايتهم في مهمَّاتهم. وهم أحد الصنفين اللذين قال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فيهم: “لا حسد إلا في اثنتين (2): رجلٌ آتاه اللَّه الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها الناس، ورجلٌ آتاهُ اللَّه مالًا وسلَّطه على هَلَكتِه في الحقِّ” (3). يعني أنَّه لا ينبغي لأحد أن يغبط أحدًا على نعمة ويتمنَّى مثلها إلا أحد هذين. وذلك لما فيهما من النفع العام (4) والإحسان المتعدِّي إلى الخلق: فهذا ينفعهم بعلمه (5)، وهذا ينفعهم بماله. “والخلق كلّهم
__________
(1) “ك، ط”: “وصولهم”.
(2) “ك، ط”: “اثنين”.
(3) أخرجه البخاري في العلم (73) وغيره، ومسلم في صلاة المسافرين (816) عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه.
(4) “ك، ط”: “منافع النفع العام”.
(5) “ف”: “بفعله”، تحريف.

(2/789)


عيال اللَّه، وأحبُّهم إليه أنفعهم لعياله” (1). ولا ريبَ أنَّ هذين الصنفين من أنفع النَّاس لعيال اللَّه، ولا يقوم أمر النَّاسِ إلا بهذين الصنفين، ولا يعمر العالم إلا بهما.
قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)} [البقرة/ 262].
وقال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)} [البقرة/ 274].
وقال تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)} [الحديد/ 18].
وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)} [البقرة/ 245].
وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)} [الحديد/ 11].
فصدَّر سبحانه الآية بألطف أنواع الخطاب، وهو الاستفهام المتضمّن لمعنى الطلب، وهو أبلغ في اللطف (2) من صيغة الأمر. والمعنى: هل أحد يبذل هذا القرض الحسن، فيجازي عليه أضعافًا مضاعفَة؟
__________
(1) لفظ حديث جاء عن ابن مسعود وأنس، وأسانيدهما ضعيفة. انظر: المقاصد الحسنة (200 – 201).
(2) “ك، ط”: “الطلب”، تحريف.

(2/790)


وسمَّى ذلك الإنفاقَ قرضًا (1) حثًّا للنفوس وبعثًا لها على البذل، لأنَّ الباذل متى علم أنَّ عين ماله يعود إليه ولا بدَّ، طوَّعت له نفسُه بذلَه، وسهُل عليه إخراجُه. فإن علم أنَّ المستقرض مليٌّ وفيٌّ محسنٌ كان أبلغ في طيب قلبه وسماحة نفسه. فإن علم أنَّ المستقرض يتَّجر له بما أقرضه (2)، وينمّيه له، ويثمِّره حتى يصير أضعاف ما بذله، كان بالقرض أسمحَ وأسمحَ. فإن علم أنَّه مع ذلك كلّه يزيده من فضله وعطائه أجرًا آخرَ من غير جنس القرض، وأنَّ ذلك الأجر حظٌّ عظيم وعطاءٌ كريم، فإنَّه لا يتخلَّف عن قرضه إلا لآفة في نفسه من البخل والشحّ أو عدم الثقة بالضمان، وذلك من ضعف إيمانه؛ ولهذا كانت الصدقة برهانًا لصاحبها.
وهذه الأمور كلّها تحت هذه الألفاظ التي تضمّنتها الآية، فإنَّه سبحانه سمَّاه قرضًا، وأخبر أنَّه هو المقترض لا قرضَ حاجةٍ ولكن قرضَ إحسانٍ إلى المقرض، واستدعاءً لمعاملته ليعرف (3) مقدار الربح، فهو الذي أعطاه ماله، واستدعى منه معاملته به. ثمَّ أخبر عمَّا يرجع إليه بالقرض وهو الأضعاف المضاعفة. ثمَّ أخبر عما يعطيه فوق ذلك من الزيادة، وهو الأجر الكريم.
وحيث جاءَ هذا الإقراض (4) في القرآن قيَّده بكونه حسنًا، وذلك يجمع أمورًا ثلاثة: أحدها: أن يكون من طيِّب ماله، لا من رديئه
__________
(1) “ب، ك، ط”: “قرضًا حسنًا”.
(2) “ك، ط”: “اقترضه”.
(3) “ك، ط”: “وليعرف”.
(4) “ط”: “القرض”.

(2/791)


وخبيثه. الثاني: أن يخرجه طيبةً به نفسُه، ثابتةً عند بذله، ابتغاءَ مرضاة اللَّه. الثالث: أن لا يمنّ به ولا يؤذي. فالأوَّل يتعلَّق بالمال، والثاني يتعلَّق بالمنفِق بينه وبين اللَّه، والثالث بينه وبين الآخذ.
وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)} [البقرة/ 261].
وهذه الآية كأنَّها كالتفسير والبيان لمقدار الأضعاف التي يضاعفها للمقرِض، ومثَّله (1) سبحانه بهذا المثل إحضارًا لصورة التضعيف في الأذهان بهذه الحبّة التي غُيِّبت في الأرض، فأنبتت سبع سنابل، في كلِّ سنبلة مائة حبة، حتَّى كأنَّ القلب ينظر إلى هذا التضعيف ببصيرته، كما تنظر العين إلى هذه السنابل التي هي (2) من الحبّة الواحدة. فينضاف الشاهد العِياني إلى الشاهد الإيماني القرآني، فيقوي إيمانُ المنفِق، وتسخو نفسه بالإنفاق.
وتأمَّلْ كيف جمع السنبلة في هذه الآية على سنابل، وهي من جموع الكثرة، إذ المقام مقام تكثير وتضعيف؛ وجمعها على سنبلات في قوله: {وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} [يوسف/ 43] فجاءَ بها على جمع القلَّة، لأنَّ السبعة قليلة، ولا مقتضى للتكثير.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ}. قيل: المعنى واللَّه يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء، لا لكل منفق، بل يختص برحمته من يشاء.
__________
(1) “ط”: “مثّل”.
(2) “هي” ساقط من “ب، ك، ط”.

(2/792)


وذلك لتفاوت أحوال الإنفاق في نفسه، وفي صفات المنفِق وأحواله، وفي (1) شدَّة الحاجة وعظم النفع (2) وحسن الموقع. وقيل: واللَّه يضاعف لمن يشاء فوق ذلك، فلا يقتصر به على السبعمائة، بل يجاوز في المضاعفة هذا المقدار إلى أضعاف كثيرة (3).
واختلف في تقدير (4) الآية فقيل: مثل نفقة الذين ينفقون في سبيل اللَّه كمثل حبَّة. وقيل: مثل الذين ينفقون في سبيل [اللَّه] (5) كمثل باذر حبَّه، ليطابق الممثَّلُ الممثَّلَ به (6). فهنا أربعة أمور: منفِق، ونفقة، وباذر، وبَذْر، فذكر سبحانه من كلِّ شقٍّ أهمَّ قسميه، فذكر من شقّ الممثّل المنفِق، إذ المقصود ذكر حاله وشأنه؛ وسكت عن ذكر النفقة لدلالة اللفظ عليها. وذكر من شقّ الممثَّل به البَذْرَ إذ هو المحلّ الذي حصلت فيه المضاعفة، وترك ذكر الباذر لأنَّ الغرض (7) لا يتعلَّق بذكره. فتأمَّل هذه البلاغة والفصاحة والإيجاز المتضمّن لغاية البيان. وهذا كثير في أمثال القرآن، بل عامتها ترد على هذا النمط.
ثمَّ ختم الآية باسمين من أسمائه الحسنى مطابقَين لسياقها، وهما “الواسع العليم”. فلا يستبعدْ العبد هذه المضاعفة، ولا يضِق (8) عنها
__________
(1) “ط”: “ولصفات المنفق وأحواله في. . . “، خطأ.
(2) “ف، ك، ط”: “عظيم النفع”.
(3) انظر: تفسير الطبري (5/ 515)، والكشاف (1/ 311).
(4) “ط”: “تفسير”، خطأ.
(5) سقط لفظ الجلالة من الأصل سهوًا.
(6) هذه قراءة “ف”، وفي “ب، ك، ط”: “للممثّل به”.
(7) “ك، ط”: “القرض”، تصحيف.
(8) “ف، ك، ط”: “يضيق”، قراءة محتملة.

(2/793)


عَطَنُه, فإنَّ المضاعِف سبحانه واسع العطاء، واسع الغني، واسع الفضل. ومع ذلك فلا يظنَّ أنَّ سعة عطائه تقتضي حصولها لكلِّ منفِق، فإنَّه عليم بمن تصلح له هذه المضاعفة وهو أهل لها، ومن لا يستحقّها ولا هو أهل لها؛ فإنَّ كرمه -سبحانه- وفضله لا يناقض حكمتَه، بل يضع فضله مواضعه بسعته (1) ورحمته، ويمنعه من ليس من أهله بحكمته وعلمه.
ثمَّ قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)} [البقرة/ 262].
هذا بيان للقرض الحسن ما هو؟ وهو أن يكون في سبيله، أي: في مرضاته والطريق الموصلة إليه، ومن أهمّها (2) سبيل الجهاد. فـ “سبيل اللَّه” (3) خاصّ وعامّ، والخاصّ جزءٌ من السبيل (4) العامّ. وأن لا يتبع صدقتَه بمن ولا أذى، فالمنّ نوعان:
أحدهما: مَنٌّ بقلبه من غير أن يصرّح به بلسانه. وهذا وإن لم يُبطل الصدقة فهو يمنعه شهودَ (5) منَّة اللَّه عليه في إعطائه المال وحرمان غيره، وتوفيقه للبذل ومنع غيره منه؛ فللّه المنَّة عليه من كلِّ وجه، فكيف يشهد قلبُه منَّةً لغيره؟
__________
(1) “ك، ط”: “لسعته”.
(2) “ط”: “أنفعها”، تحريف.
(3) “ط”: “وسبيل اللَّه”.
(4) “السبيل” سقط من “ف” سهوًا.
(5) “ك”: “فهو من نقصان شهود”. وكذا في “ط”. وفيها: “وهذا إن لم يبطل. . . “!

(2/794)


والنوع الثاني: أن يمنّ عليه بلسانه، فيعتدَّ (1) على من أحسن إليه بإحسانه، ويُريَه أنَّه اصطنعه وأنَّه أوجب عليه حقًّا، وطوَّقه (2) منَّةً في عنقه، ويقول (3): أما أعطيتُك كذا وكذا؟ ويعدّ (4) أياديه عنده. قال سفيان: يقول: أعطيتك وأعطيتك (5)، فما شكرتَ! وقال عبد الرحمن بن زيد (6): كان أبي يقول: إذا أعطيتَ رجلًا شيئًا، ورأيتَ أنَّ سلامك يثقل عليه، فكُفَّ سلامَك عنه. وكانوا يقولون: إذا صنعتم (7) صنيعةً فانْسَوها، وإذا أُسدِي (8) إليكم صنيعةٌ فلا تنسَوها. وفي ذلك قيل:
وإنَّ امرأ أسدَى إليَّ صنيعةً … وذَكَرنيها مرَّةً لَبخيلُ (9)
وقيل: “صنوانِ: مَن منَحَ سائلَه ومَنّ، ومن منع نائلَه وضَنَّ” (10).
وحظر اللَّه سبحانه على عباده المنّ بالصنيعة واختصَّ به صفة لنفسه؛
__________
(1) “ك”: “فيعيد”. “ط”: “فيعتدي”. تحريف. وقارن بكلام صاحب الكشاف (1/ 311).
(2) “ف”: “فطوّقه”. والراجح ما أثبتنا من غيرها.
(3) “ط”: “فيقول”.
(4) “ك”: “يعيد”، “ط”: “يعدّد”.
(5) “وأعطيتك” ساقطة من “ك”، ولعل ناسخها ظنّها مكررة. وكذا في “ط”. وفي “ب” وردت ثلاث مرات، وفي الثالثة كتب ناسخها علامة “صح”. وانظر قول سفيان في تفسير البغوي (1/ 326).
(6) “ك، ط”: “زياد”، تحريف. وهو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وانظر قول أبيه هذا في: تفسير الطبري (5/ 518)، والمحرر الوجيز (1/ 356).
(7) “ط”: “اصطنعتم”. وانظر جزءًا من هذا القول في: الكشاف (1/ 310).
(8) “ط”: “أسديت”.
(9) “ب، ك، ط”: “أهدى إليّ”. وقد أنشده الزمخشري دون عزو في: الكشاف (1/ 310)، وربيع الأبرار (4/ 359)، والقافية فيهما: “للئيم”.
(10) الكشاف (1/ 311).

(2/795)


لأنَّ منَّ العباد تكدير وتعيير، ومنَّ اللَّه سبحانه إفضال وتذكير.
وأيضًا: فإنَّه هو المنعِم في نفس الأمر، والعباد وسائط، فهو المنعِم على عبده في الحقيقة. وأيضًا: فالامتنان استعباد وكسر وإذلال لمن تَمُنّ عليه، ولا تصلح العبودية والذلّ إلا للَّه. وأيضًا: فالمنَّة أن يشهد المعطي أنَّه هو ربّ الفضل والإنعام وأنَّه وليّ النعمة ومُسديها، وليس ذلك في الحقيقة إلا اللَّه. وأيضًا: فالمانُّ بعطائه يشهد نفسه مترفِّعًا على الآخذ، مستعليًا عليه، غنيًّا عنه، عزيزًا؛ ويشهد ذلَّة الآخذ (1) وحاجته إليه وفاقته، ولا ينبغي ذلك للعبد.
وأيضًا: فإنَّ المعطي قد تولَّى اللَّهُ ثوابَه، وردَّ عليه أضعافَ ما أعطى، فبقي عوضُ ما أعطى عند اللَّه، فأيّ حقٍّ بقيَ له قِبَلَ الآخذ؟ فإذا امتنَّ عليه فقد ظلمه ظلمًا بيِّنًا، وادَّعى أنَّ حقَّه في قِبَله (2). ومن هنا -واللَّه أعلم- بطلت صدقته بالمنّ، فإنَّه لما كانت معاوضته ومعاملته مع اللَّه، وعوضُ تلك الصدقة عنده، فلم يرض به، ولاحظ العوضَ من الآخذ والمعاملة عنده، فمنَّ عليه بما أعطاه = أبطل معاوضته مع اللَّه ومعاملته له.
فتأمَّلْ هذه النصائح من اللَّه لعباده، ودلالتها (3) على ربوبيته وإلهيته وحده، وأنَّه يبطل عمل من نازعه في شيء من ربوبيته وإلهيته، لا إله غيره ولا ربَّ سواه.
ونبَّه بقوله: {ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى} [البقرة/ 262] على
__________
(1) “ك، ط”: “ذلّ الآخذ”.
(2) “ط”: “قلبه” تحريف.
(3) “ط”: “دلالته”.

(2/796)


أنَّ المنَّ والأذى -ولو تراخى عن الصدقة، وطال زمنه- ضرَّ بصاحبه، ولم يحصل له مقصود الإنفاق. ولو أتى بالواو وقال: ولا يُتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذًى، لأوهمت تقييد ذلك بالحال. وإذا كان المنّ والأذى المتراخي مبطلًا لأثر الإنفاق مانعًا (1) من الثواب، فالمقارن أولى وأحرى.
وتأمَّل كيف جرَّد الخبرَ هنا عن الفاءِ فقال: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [البقرة/ 262]، وقرنه بالفاءِ في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [البقرة/ 274]. فإنَّ الفاءَ الداخلة على خبر المبتدأ الموصول أو الموصوف تُفهِم معنى الشرط والجزاءِ وأنَّ الخبر (2) مستحَقّ بما تضمّنه المبتدأ من الصلة أو الصفة. فلمَّا كان المقام (3) هنا يقتضي بيان حصر المستحِقّ للجزاءِ دون غيره جرّد الخبرَ عن الفاءِ، فإنَّ المعنى أنَّ الذي ينفق ماله للَّه، ولا يمنّ ولا يؤذي، هو الذي يستحقّ الأجر المذكور، لا الذي ينفق لغير اللَّه، ولا من يمنّ (4) ويؤذي بنفقته. فليس المقام مقامَ شرط وجزاءٍ، بل مقام بيان للمستحِقّ من غيره (5).
وفي الآية الأخرى ذكر الإنفاق بالليل والنهار سرًّا وعلانيةً، فذكر عمومَ الأوقات وعموم الأحوال (6)، فأتى بالفاءِ في الخبر ليدلّ على أنَّ
__________
(1) في الأصل: “مانع” بالرفع.
(2) “ط”: “وأنّه”.
(3) “المقام” ساقط من “ط”.
(4) “ك، ط”: “ويمن” بإسقاط “لا من”.
(5) “ب”: “المستحق دون غيره”. “ك، ط”: “دون غيره”.
(6) “ف”: “الأقوال”، سهو.

(2/797)


الإنفاق في أيّ وقت وُجِدَ من ليل أو نهار، وعلى أيّ حالةٍ وُجِد من سرّ أو علانية (1)، فإنَّه سبب للجزاءِ على كل حالِّ. فلْيبادر إليه العبدُ، ولا ينتظر به غيرَ وقته وحاله، فلا يؤخّر (2) نفقة الليل إذا حضر إلى النهار، ولا نفقة النهار إلى الليل، ولا ينتظر بنفقة العلانية وقتَ السرّ، ولا بنفقة السرّ وقت العلانية؛ فإنَّ نفقته في أيّ وقت وعلى أيّ حال وُجِدتْ سببٌ لأجره وثوابه.
فتدبَّر هذه الأسرار في القرآن، فلعلَّك لا تظفر بها فيما يمر بك من التفاسير (3). والمنَّة والفضل للَّه وحده لا شريك له.
ثمَّ قال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)} [البقرة/ 263].
فأخبر سبحانه أنَّ القولَ المعروفَ -وهو الذي تعرفه القلوب ولا تنكره- والمغفرة -وهي (4) العفو عمَّن أساءَ إليك- خيرٌ من الصدقة المقرونة (5) بالأذى. فالقول المعروف إحسان وصدقة بالقول، والمغفرة إحسان بترك المؤاخذة والمقابلة؛ فهما نوعان من أنواع الإحسان، والصدقة المقرونة بالأذى حسنة مقترنة (6) بما يبطلها، ولا ريب أنّ حسنتين خير من حسنة باطلة.
__________
(1) “ب، ك، ط”: “وعلانية”.
(2) “ك، ط”: “ولا يؤخر”.
(3) “ك”: “بها تمرّ. . . “. “ط”: “بها تمرّ بك في التفاسير”.
(4) “ف”: “هو”، سهو.
(5) “المقرونة” ساقط من “ك، ط”.
(6) “ب، ك، ط”: “مقرونة”.

(2/798)


ويدخل في هذا القول المعروف الردُّ الجميلُ على السائل، والعِدة الحسنة، والدعاءُ الصالح له (1). ويدخل في المغفرة مغفرته للسائل إذا وجد منه بعضَ الجفوة والأذى (2) بسبب ردّه، فيكون عفوه عنه خيرًا (3) من أن يتصدّق عليه ويؤذيه.
هذا على المشهور من القولين في الآية. والقول الثاني: أنَّ المغفرة من اللَّه، أي: مغفرةٌ لكم من اللَّه بسبب القول المعروف والردّ الجميل خيرٌ من صدقة يتبعها أذى. وفيها قول ثالث. أي: مغفرةٌ وعفوٌ من السائل إذا رُدَّ وتعذَّر المسؤول خيرٌ من أن ينال منه (4) صدقةً يتبعها أذى (5).
وأصح (6) الأقوال هو الأوَّل، ويليه الثاني. والثالث ضعيف جدًّا، لأنَّ الخطاب إنَّما هو للمنفِق المسؤول، لا للسائل الآخذ. والمعنى أنَّ قول المعروف له والتجاوز والعفو خيرٌ لك من أن تَصدَّقَ (7) عليه وتؤذيَه.
ثمَّ ختمَ الآية بصفتين مناسبتين لما تضمّنته، فقال: {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة/ 263].
__________
(1) “ويدخل في هذا. . . ” إلى هنا ساقط من “ط”.
(2) زاد في “ط”: “له”.
(3) وقع في الأصل: “خير” بالرفع، وهو سهو، وكذا في “ف، ك”.
(4) “ك، ط”: “بنفسه”، تحريف.
(5) انظر الأقوال الثلاثة في الكشاف (1/ 312).
(6) “ب، ك، ط”: “أوضح”، تحريف.
(7) “ط”: “تتصدق”.

(2/799)


فيه معنيان: أحدهما: أنَّ اللَّه غنيٌّ عنكم، لن يناله شيء من صدقاتكم، وإنَّما الحظّ الأوفر لكم في الصدقة، فنفعُها عائدٌ إليكم (1)، لا إليه سبحانه. فكيف بمنفقٍ (2) يمنُّ بنفقته ويؤذي بها (3) مع غنى اللَّه التام عنها وعن كلِّ ما سواه؟ ومع هذا فهو حليمٌ، إذ لم يعاجل المانَّ المؤذيَ (4) بالعقوبة. وفي ضمن هذا الوعيدُ له (5) والتحذيرُ.
والمعنى الثاني: أنَّه سبحانه مع غناه التامّ من كلِّ وجه، فهو الموصوف بالحلم والتجاوز والصفح، مع عطائه الواسع وصدقاته العميمة؛ فكيف يؤذي أحدكم بمنّه وأذاه، مع قلَّة ما يعطي ونزارتِه وفقرِه؟
ثمَّ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)} [البقرة/ 264].
فتضمَّنت هذه الآية الإخبار بأنَّ المنّ والأذى يحبط (6) الصدقة، وهذا دليل على أنَّ الحسنة قد تُحبَط بالسيّئة، مع قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ
__________
(1) “ب، ك، ط”: “عليكم”.
(2) محرّف في “ك” وساقط من “ط”.
(3) “بها” ساقط من “ك، ط”.
(4) “المؤذي” ساقط من “ب، ك، ط”.
(5) “له” ساقط من “ك، ط”.
(6) “ف”: “محبط”. وفي الأصل كما أثبتنا، وكذا في “ب، ك، ط”.

(2/800)


بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} [الحجرات/ 2]. وقد تقدَّم الكلام على هذه المسألة في أوَّل هذه الرسالة، فلا حاجة إلى إعادته (1).
وقد يقال: إنَّ المنَّ والأذى المقارن للصدقة هو الذي يبطلها دون ما يلحقها بعدها، إلا أنَّه ليس في اللفظ ما يدلّ على هذا التقييد، والسياقُ يدلّ على إبطالها (2) به مطلقًا. وقد يقال: تمثيله بالمرائي الذي لا يؤمن باللَّه واليوم الآخر يدل على أنَّ المنَّ والأذى المبطِل هو المقارِن كالرياءِ وعدم الإيمان، فإنَّ الرياءَ لو تأخَّر عن العمل لم يُبطله.
ويجابُ عن هذا بجوابين: أحدهما: أنَّ التشبيه وقع في الحال التي يُحبَط بها العمل، وهي حال المرائي والمانّ المؤذي في أنَّ كل واحدٍ منهما يُحبط العمل. الثاني: أنَّ الرِّياء لا يكون إلا مقارنًا للعمل؛ لأنَّه “فِعال” منَ الرؤية. أي: صاحبُه (3) يعمل ليرى النَّاسُ عملَه فلا يكون متراخيًا. وهذا بخلاف المنّ والأذى فإنَّه يكون مقارنًا ومتراخيًا، وتراخيه أكثر من مقارنته.
وقوله: {كَالَّذِي يُنْفِقُ} إمَّا أن يكون المعني: كإبطال الذي ينفق، فيكون شبَّه الإبطال بالإبطال؛ أو المعنى: لا تكونوا كالذي ينفق ماله رئاءَ النَّاس، فيكون تشبيهًا للمنفِق بالمنفِق.
وقوله: {فَمَثَلُهُ} أي: مثل (4) هذا المنفق الذي قد بطل ثوابُ نفقته
__________
(1) انظر ما سبق في ص (537).
(2) “ف”: “إبطاله”، سهو.
(3) “ك”: “التي صاحبه”. “ط”: “التي صاحبها”، تحريف.
(4) “ف”: “فمثل”، سهو.

(2/801)


{كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} وهو الحجر الأملس. وفيه قولان: أحدهما: أنَّه واحد، والثاني: جمع صفوانة (1). {عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} وهو المطر الشديد {فَتَرَكَهُ صَلْدًا} وهو الأملس الذي لا شيء عليه من نبات ولا غيره.
وهذا من أبلغ الأمثال وأحسنها، فإنَّه تضمّن (2) تشبيه قلب هذا المنفِق للرياء (3) الذي لم يصدر إنفاقُه عن إيمانٍ باللَّه واليوم الآخر بالحجر لشدَّته وصلابته وعدم الانتفاع به. وتضمَّن تشبيه ما علِق به من أثر الصدقة بالغبار الذي علِق بذلك الحجر. والوابل الذي أزال ذلك الترابَ عن الحجر وأذهبه (4) بالمانع الذي أبطل صدقَة هذا (5) وأزالها، كما يُذهب الوابلُ الترابَ الذي على الحجر فيتركه صلدًا؛ فلا يقدر المنفق على شيءٍ من ثوابه لبطلانه وزواله.
وفيه معني آخر، وهو أنَّ المنفِق لغير اللَّه هو في الظاهر عامل عملًا يترتَّب عليه الأجر، ويزكو له كما تزكو الحبَّة التي إذا بُذرت في التراب الطيِّب أنبتت سبعَ سنابل، في كلِّ سنبلة مائة حبَّة. ولكن وراء هذا الإنفاق مانع يمنع من نموّه وزكائه، كما أنَّ تحت التراب حجرًا (6) يمنع من نبات ما يبذَر من الحبّ فيه، فلا يُنبت ولا يُخرج شيئًا.
__________
(1) “ك، ط”: “صفوة”، تحريف. وانظر: تفسير الطبري (5/ 523).
(2) “ك، ط”: “يتضمن”.
(3) “ك، ط”: “المنفق المرائي”.
(4) هذه قراءة “ف”. وفي غيرها: “فأذهبه”.
(5) “ك، ط”: “صدقته”.
(6) في الأصل: “حجر” بالرفع، وهو سهو. وكذا في النسخ الأخري. وفي “ط” كما أثبتنا.

(2/802)


ثمَّ قال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)} [البقرة/ 265].
وهذا مثل الذي مصدر نفقته عن الإخلاص والصدق، فإنَّ ابتغاء مرضاته هو غاية الإخلاص (1)، والتثبيت من النفس هو الصدق في البذل. فإنَّ المنفِق تعترضه (2) عند إنفاقه آفتان إن نجا منهما كان مَثلُه ما ذكر (3) في هذه الآية:
إحداهما: طلبُه بنفقته محمدةً أو ثناءً أو غرضًا من أغراضه الدنيوية، وهذا حال أكثر من المنفقين.
والآفة الثانية: ضعفُ نفسه بالبذل (4) وتقاعسها وتردّدها: هل تفعل أم لا؟
فالآفة الأولى تزول بابتغاء مرضاة اللَّه، والآفة الثانية تزول بالتثبيت، فإنَّ تثبيتَ النفس تشجيعُها وتقويتها والإقدام بها على البذل، وهذا هو صدقها. وطلب مرضاة اللَّه إرادة وجهه وحده، وهذا (5) إخلاصها.
فإذا كان مصدر الإنفاق عن ذلك كان مثله كجنَّة، وهي: البستان الكثير الأشجار، فهو مجتنّ بها أي: مستتر، ليس قاعًا فارغًا. والجنَّة
__________
(1) “غاية” ساقط من “ب، ك، ط”.
(2) هذه قراءة “ف”. وفي “ك، ط”: “يعترضه”.
(3) “ك، ط”: “ذكره”.
(4) “بالبذل” ساقط من “ك، ط”.
(5) “ف”: “وفي هذا”، سهو الناسخ.

(2/803)


بربوة -وهو المكان المرتفع- لأنَّها (1) أكمل من الجنَّة المستفلة (2) التي بالوِهاد (3) والحضيض، لأنَّها إذا ارتفعت كانت بمدرجة الأهوية والرياح، وكانت ضاحيةً للشمس وقت طلوعها واستوائها وغروبها، فكانت أنضجَ ثمرًا وأطيبه وأحسنه وأكثره. فإنَّ الثمار تزداد طيبًا وزكاءً بالرياح (4) والشمس، بخلاف الثمار التي تنشأ في الظلال. وإذا كانت الجنَّة بمكان مرتفع لم يُخشَ عليها إلا من قلَّة الشُّرب (5)، فقال تعالى: {أَصَابَهَا وَابِلٌ} [البقرة/ 265]، وهو المطر الشديد العظيم القطر (6)، فأدَّت ثمرتها، وأعطت بركتها، فأخرجت ضعفَي ما يثمر غيرُها، أو ضعفَي ما كانت تثمر، بسبب ذلك الوابل. فهذا حال السابقين المقرَّبين.
{فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} [البقرة/ 265] وهو (7) دون الوابل، فإنَّه (8) يكفيها، لكرم منبتها وطيب مغرسها، تكتفي (9) في إخراج بركتها بالطلّ. وهذا حال الأبرار المقتصدين في النفقة، وهم درجات عند اللَّه.
فأصحاب الوابل أعلاهم درجة، وهم الذين ينفقون أموالهم بالليل
__________
(1) “ط”: “فإنها”.
(2) “ب، ك”: “المستقلة”، تصحيف. وهو ساقط من “ط”.
(3) “ف”: “كالوهاد” ورسمها في الأصل يشبه ذلك، ولكن الصواب ما أثبتنا من غيرها. وفي “ب”: “هي بالوهاد”.
(4) “بالرياح” سقطت من “ف” سهوًا.
(5) “ك، ط”: “قلة الماء والشراب”!
(6) “ك، ط”: “القدر”، تحريف.
(7) “ط”: “فهو”، خطأ.
(8) “ك، ط”: “فهو”.
(9) كذا في الأصل وغيره. وفي “ط”: “فتكتفي”.

(2/804)


والنهار سرًّا وعلانية، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. وأصحاب الطلّ مقتصدوهم. فمثَّل حال القسمين وأعمالهم بالجنَّة على الربوة، ونفقتهم الكثيرة والقليلة (1) بالوابل والطلّ. وكما أنَّ كلّ واحد من المطرين يوجب زكاءَ أُكُل الجنَّة ونموّه (2) بالأضعاف، فكذلك نفقتهم -كثيرة كانت أو قليلة- بعد أن صدرت عن ابتغاء مرضاة اللَّه والتثبيت (3) من نفوسهم، فهي زاكية عند اللَّه نامية مضاعفة.
واختلف في الضعفين، فقيل: ضعفا الشيء مثلاه زائدًا عليه، وضعفه مثله. وقيل: ضعفه مثلاه، وضعفاه ثلاثة أمثاله، وثلاثة أضعافه أربعة أمثاله، كلَّما زاد ضعفًا زاد مثلًا. والذي حمل هذا القائلَ على ذلك فرارُه من استواء دلالة المفرد والتثنية. فإنَّه رأى ضعف الشيء هو مثله الزائد عليه، فإذا ضُمَّ (4) إلى المثل صار مثلين، وهما الضعف. فلو قيل لهما “ضعفان” لم يكن فرق بين المفرد والمثنى؛ فالضعفان عنده مثلان مضافان إلى الأصل. ويلزم من هذا أن يكون ثلاثة أضعافه ثلاثة أمثال مضافة إلى الأصل، وهكذا أبدًا.
والصواب أنَّ الضعفين هما المثلان فقط: الأصل ومثله. وعليه يدلّ قوله تعالى: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} [البقرة/ 265] أي: مثلين، وقوله: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} (5) [الأحزاب/ 30] أي: مثلين.
__________
(1) “والقليلة” ساقط من “ط”.
(2) “ك، ط”: “ونحوه”، تحريف. وفي “ط”: “زكاء ثمر الجنة. . . “.
(3) كلمة “والتثبيت” كأنها مضروب عليها، ولذلك أسقطها ناسخ “ف”. ولكن يبدو أنّ المؤلف كتب كلمة ثم أصلحها، وقد انتشر الحبر أيضًا.
(4) “ط”: “زاد”!
(5) رسم الآية في “ف”: “يُضعَّف”، وهي قراءة أبي عمرو. انظر: الإقناع (737) =

(2/805)


ولهذا قال في المحسنات (1) {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب/ 31]. وأمَّا ما توهّموه من استواء دلالة المفرد والتثنية، فوهم منشؤه ظنُّ أنَّ الضعف هو المثل مع الأصل، وليس كذلك. بل المثل له اعتباران: إن اعتبر وحده فهو ضعف، وإن اعتبر مع نظيره فهما ضعفان (2). واللَّه أعلم.
واختلف في رفع (3) قوله: {فَطَلٌّ}. فقيل: مبتدأ (4) خبره محذوف، أي: فطلٌّ (5) يكفيها، وقيل: خبر مبتدؤه محذوف، فالذي يُرويها ويُصيبها طلّ (6). والضمير في {أَصَابَهَا} إمَّا أن يرجع إلى الجنَّة أو إلى الربوة، وهما متلازمان.
ثمَّ قال تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)} [البقرة/ 266].
قال الحسن: “هذا مثلٌ قلَّ -واللَّه- من يعقله من الناس. شيخ كبير ضعُفَ جسمُه، وكثُر (7) صبيانُه، أفقرُ ما كان إلى جنَّته، وإنَّ أحدكم
__________
= ولم ينقط حرف المضارع في الأصل. وهذه الآية ساقطة من “ب”.
(1) “ك، ط”: “الحسنات”، تحريف.
(2) وانظر: اللسان (ضعف 9/ 204 – 206).
(3) “ط”: “رافع”.
(4) “ك، ط”: “هو مبتدأ”.
(5) ط: “وطلّه”، تحريف.
(6) الأول قول المبرد، والثاني قول الزجاج. انظر: معاني الزجاج (1/ 348) والمحرر الوجيز (1/ 360).
(7) “ب”: “كثير”.

(2/806)


-واللَّه- أفقرُ ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا (1).
وفي صحيح البخاري (2) عن عبيد بن عمير قال: قال عمر يومًا لأصحاب النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: فيم ترون (3) هذه الآية نزلت: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} (4) [البقرة/ 266]؟ قالوا: اللَّه أعلم. فغضب عمر، فقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين. قال عمر: قل يا ابن أخي ولا تحقِرْ بنفسِك (5). قال ابن عباس: ضُرِبت مثلًا لعمل. قال عمر: أيّ عمل؟ قال ابن عباس: لعمل. قال عمر: لرجل عمل بطاعة اللَّه، ثمَّ بعث اللَّه له الشيطان فعمل بالمعاصي حتَّى أغرق أعماله.
فقوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} أخرجه مخرج الاستفهام الإنكاري، وهو أبلغ من النفي والنهي، وألطف موقعًا؛ كما ترى غيرك يفعل فعلًا قبيحًا فتقول: أيفعل هذا عاقل؟ أيفعل (6) هذا من يخاف اللَّه والدار الآخرة؟
وقال: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} بلفظ الواحد لتضمّنه معنى الإنكار العامّ، كما تقول: أيفعل هذا أحد فيه خير؟ وهو أبلغ في الإنكار من أن يقال:
__________
(1) الكشاف (1/ 314).
(2) كتاب التفسير (4538).
(3) “ك”: “هم يرون” وصحح في الحاشية. وكذا كان في نسخة الناشر فغيّر ما قبله: “سأل عمر يومًا أصحاب. . . “.
(4) “ك، ط”: “. . . من نخيل”.
(5) كذا في الأصل مضبوطًا بكسر السين، وكذا في “ف، ك”. وفي “ب”: “نفسَك”، وكذا في الصحيح.
(6) “ك، ط”: “لا يفعل” في هذه الجملة والجملة السابقة، وهو خطأ.

(2/807)


أتودّون (1). وقوله تعالى: {أَيَوَدُّ} أبلغ في هذا (2) الإنكار من لو قيل: أيريد، لأنَّ محبَّة هذه الحال (3) المذكورة وتمنِّيها أقبح وأنكر من مجرَّد إرادتها.
وقوله: {أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} خصَّ هذين النوعين من الثمار بالذكر، لأنِّهما أشرف أنواع الثمار، وأكثرها منافع (4). فإنَّ منهما القوت والغذاء والدواءَ والشراب والفاكهة والحلو والحامض، ويؤكلان رطبًا ويابسًا، ومنافعهما كثيرة جدًّا.
وقد اختلف في الأنفع والأفضل منهما فرجَّحت طائفة النخيلَ، ورجَّحت طائفة العنبَ. وذكرت كلُّ طائفة حججًا لقولها قد ذكرناها (5) في غير هذا الموضع (6).
وفصل الخطاب أنَّ هذا يختلف باختلاف البلاد، فإنَّ اللَّه سبحانه أجرى العادة بأنَّ سلطان أحدهما لا يحُلُّ حيث (7) سلطانُ الآخر. فالأرضُ التي يكون فيها سلطان النخل (8) لا يكون العنب بها طائلًا ولا كثيرًا (9)، لأنَّه إنَّما يخرج في الأرض الرخوة اللينة المعتدلة غير
__________
(1) “ك، ط”: “يقول: أيودون”.
(2) “هذا” ساقط من “ط”.
(3) “ك، ط”: “هذا الحال”.
(4) “ك، ط”: “نفعًا”.
(5) “ك، ط”: “فذكرناها”.
(6) انظر: مفتاح دار السعادة (2/ 117).
(7) “ف”: “حيث يحلّ”. ولا توجد “يحل” هنا في الأصل ولا في حاشيته، فأخشى أن يكون من سهو الناسخ. وكذا في “ك، ط”. وفي “ب”: “حيث حلّ”.
(8) “ك، ط”: “النخيل”.
(9) “ب”: “كثيرًا ولا طائلًا”.

(2/808)


السبخة، فينمو فيها ويكثر (1). وأمَّا النخيل فنموّه وكثرته في الأرض الحارَّة السبخة، وهي لا تناسب شجر (2) العنب. فالنخل في أرضه وموضعه أنفع وأفضل من العنب فيها، والعنب في أرضه ومعدنه أفضل من النخل فيها. واللَّه أعلم.
والمقصود أنَّ هذين النوعين هما أفضل أنواع الثمار وأكرمها وأنفعها (3)، فالجنَّة المشتملة عليهما من أفضل الجنان. ومع هذا فالأنهار تجري من (4) تحت هذه الجنَّة، وذلك أكمل لها وأعظم في قدرها. ومع ذلك فلم تَعدَمْ شيئًا من أنواع الثمار المشتهاة، بل فيها من كلِّ الثمرات، ولكن معظمها ومقصودها النخيل والأعناب. فلا تنافي بين كونها من نخيل وأعناب، و {فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}.
ونظير هذا قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} إلى قوله: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} [الكهف/ 32 – 34]. وقد قيل: إنَّ الثمار هنا وفي آية البقرة المراد بها المنافع والأموال (5)، والسياق يدلّ على أنَّها الثمار المعروفة لا غيرها، لقوله هنا: {لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} (6)، ثمَّ قال: {فَأَصَابَهَا} أي: الجنَّة (7) {إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ}، وفي الكهف: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ
__________
(1) “ط”: “فيكثر”.
(2) “شجر” ساقط.
(3) “أنفعها” ساقط من “ك، ط”.
(4) “من” ساقط من “ك، ط”.
(5) انظر: الكشاف (1/ 314).
(6) وقع في الأصل: “وله فيها. . . ” بالواو سهوًا، وكذا في النسخ الأخرى.
(7) “أي الجنة” ساقط من “ب”.

(2/809)


كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}. وما ذلك إلا ثمار الجنَّة.
ثمَّ قال تعالى: {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ}. هذا إشارة إلى شدَّة حاجته إلى جنَّته، وتعلُّق قلبه بها من وجوه: أحدها: أنَّه قد كبرت (1) سنّه عن الكسب والتجارة ونحوها. الثاني: أنَّ ابن آدم عند كبره (2) يشتدّ حرصه. الثالث: أنّ له ذرية، فهو حريص على بقاء جنّته لحاجته وحاجة ذرِّيته. الرابع: أنَّهم ضعفاء، فهم كَلٌّ عليه، لا ينفعونه بقوتهم وتصرّفهم (3). الخامس: أنَّ نفقتهم عليه، لضعفهم وعجزهم. وهذا نهاية ما يكون من تعلّق القلب بهذه الجنَّة: لخطرها في نفسها، وشدَّة حاجته وحاجة ذريته إليها (4).
فإذا تصوّرت هذه الحال وهذه الحاجة، فكيف تكون مصيبة هذا الرجل إذا أصاب جنَّتَه إعصار، وهو (5) الريح التي تستدير في الأرض، ثمَّ ترتفع في طبقات الجوّ كالعمود، وفيها (6) نارٌ مرَّت بتلك الجنَّة، فأحرقتها، وصيرتها رمادًا؟ فصدق واللَّه الحسن: “هذا مثلٌ قلَّ من يعقله من الناس” (7).
ولهذا نبَّه سبحانه على عظم هذا المثل، وحدا (8) القلوب إلى التفكر فيه لشدَّة حاجتها إليه فقال: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ
__________
(1) “ط”: “كبر”.
(2) “ك، ط”: “كبر سنه”.
(3) قراءة “ف”: “يقوتهم ويصرفهم”.
(4) “إليها” سقط سهوًا من “ف”. وفي “ط”: “شدة حاجته وذريته”.
(5) “ط”: “هي”.
(6) “ط”: “وفيه”.
(7) كما سبق في ص (806).
(8) في الأصل: “حدى”، فقرأ ناسخ “ف”: “جذب”.

(2/810)


تَتَفَكَّرُونَ (266)}. فلو فكر العاقل في هذا المثل وجعله قبلة قلبه لكفاه وشفاه. فهكذا العبد إذا عمل طاعةً للَّه (1)، ثمَّ أتبعها بما يبطلها ويفرّقها من معاصي اللَّه، كانت كالإعصار ذي النَّار المحرق للجنة التي غرسها بطاعته وعمله الصالح.
ولولا أنَّ هذه (2) المواضع أهمّ ممَّا كلامنا بصدده -من ذكر مجرَّد الطبقات- لم نذكرها، ولكنَّها من أهمّ المهمّ. واللَّه المستعان الموفق لمرضاته.
فلو تصوَّر العامل بمعصية اللَّه بعد طاعته هذا المعنى حقَّ تصوره، وتأمَّله كما ينبغي، لما سوَّلت له نفسُه -واللَّهِ- إحراقَ أعماله الصالحة وإضاعتها. ولكن لا بدَّ أن يغيب عنه علمُه بذلك (3) عند المعصية، ولهذا يستحق (4) اسمَ الجهل، فكلّ من عصى اللَّه فهو جاهل.
فإن قيل: الواو في قوله: {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} واو الحال، أم واو العطف؟ وإذا كانت للعطف فعلام عطفَتْ ما بعدها؟ قلتُ: فيه وجهان (5):
أحدهما: أنَّه واو الحال، اختاره الزمخشري. والمعنى: أيودّ (6) أن تكون له جنَّة شأنها كذا وكذا في حال كبره وضعف ذريته؟
__________
(1) “ط”: “بطاعة اللَّه”.
(2) في الأصل: “هذا”، سهو.
(3) “بذلك” ساقط من “ك، طـ”.
(4) “ط”: “استحق”.
(5) ذكرهما صاحب الكشاف (1/ 314).
(6) زاد في “ب، ك، ط”: “أحدكم”.

(2/811)


والثاني: أن تكون للعطف على المعنى، فإنَّ فعل التمني وهو قوله: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} لطلب الماضي كثيرًا، فكأنَّ المعنى: أيودّ لو كانت له جنَّة من نخيل وأعناب، وأصابه الكبر، فجرى عليها ما ذكر؟.
وتأمَّل كيف ضرب سبحانه المثل للمنفق المرائي -الذي لم يصدر إنفاقه عن الإيمان- بالصفوان الذي عليه التراب، فإنَّه لم يُنبت شيئًا أصلًا، بل ذهب بذره ضائعًا، لعدم إيمانه وإخلاصه. ثمَّ ضرب المثل لمن عمل بطاعة اللَّه مخلصًا نيَّتَه (1) للَّه، ثمَّ عرض له ما أبطل ثوابه، بالجنَّة التي هي من أحسن الجنان وأطيبها وأزهاها (2)، ثمَّ سلّط عليها الإعصار النَّاريّ فأحرقها. فإنَّ هذا نبت له شيء وأثمر له عمله ثمَّ احترق، والأوَّل (3) لم يحصل له شيء يدركه الحريق. فتبارك من جعل كلامه حياةً للقلوب وشفاءً للصدور وهدًى ورحمةً.
ثمَّ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة/ 267].
أضاف سبحانه الكسب إليهم، وإن كان هو الخالق لأفعالهم، لأنَّه فعلهم القائم بهم. وأسند الإخراج إليه لأنَّه ليس فعلًا لهم، ولا هو مقدور (4) لهم. فأضاف مقدورهم إليهم، وأضاف مفعوله الذي لا قدرة لهم عليه إليه، ففي ضمنه الردّ على من سوَّى بين النوعين، وسلب قدرَةَ العبد وفعلَه وتأثيرَه عنهما (5) بالكلّية.
__________
(1) “ك، ط”: “بنيته”.
(2) “ك”: “أزكاها”. “ط”: “أزهرها”. تحريف.
(3) “ف”: “للأول”، خطأ.
(4) “ب، ك”: “مقدورًا”.
(5) “ط”: “عنها”، خطأ.

(2/812)


وخصَّ سبحانه هذين النوعين -وهما الخارج من الأرض، والحاصل بكسب التجارة، دون غيرهما من المواشي- إمَّا بحسب الواقع، فإنَّهما كانا أغلب أموال القوم إذ ذاك، فإنَّ المهاجرين كانوا أصحاب تجارة وكسب، والأنصار كانوا أصحاب حرث وزرع؛ فخصَّ هذين النوعين بالذكر لحاجتهم إلى بيان حكمهما وعموم وجودهما. وإمَّا لأنَّهما أصول الأموال، وما عداهما فعنهما يكون، ومنهما ينشأ؛ فإن الكسب تدخل فيه التجارات كلّها على اختلاف أصنافها وأنواعها من الملابس والمطاعم والرقيق والحيوانات والآلات والأمتعة وسائر ما تتعلَّق به التجارة، والخارج من الأرض يتناول حبَّها وثمارها وركازها ومعدنها. وهذان هما أصول الأموال وأغلبها على أهل الأرض، فكان ذكرهما أهمّ.
ثمَّ قاله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}، فنهى سبحانه عن قصد إخراج الرديء، كما هو عادة أكثر النفوس: تمسك الجيّد لها، وتخرج الرديء للفقير. ونهيُه سبحانه عن قصد ذلك وتيمّمِه فيه ما يشبه العذر لمن فعل ذلك لا عن قصد وتيمّم بل إمَّا عن اتفاق، أو (1) كان هو الحاضر إذ ذاك، أو كان مالُه من جنسه، فإنَّ هذا لم يتيمَّم الخبيث، بل تيمَّم إخراج بعض ما منَّ اللَّه به (2) عليه. وموقع قوله: {مِنْهُ تُنْفِقُونَ} موقع الحال، أي: لا تقصدوه منفقين منه.
ثمَّ قال تعالى: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} أي: لو كنتم أنتم المستحقّين له وبُذِلَ لكم لم تأخذوه في حقوقكم إلا بأن تتسامحوا في
__________
(1) “ك، ط”: “بل عن اتفاق إذا”. سقط وتحريف.
(2) “به” ساقط من “ك، ط”.

(2/813)


أخذه وتترخَّصوا فيه، من قولهم: أغمض فلان عن بعض حقّه. ويقال للبائع: أغمِضْ، أي: لا تستقص كأنَّك لا تبصر (1). وحقيقته من إغماض الجفن، فكأنَّ الرَّائي لكراهته له لا يملأ عينه منه، بل يغُضّ (2) من بصره، ويغمض عنه بعض نظره بغضًا له (3).
ومنه قول الشاعر:
لم يفُتْنا بالوِتْرِ قومٌ ولِلضَّيْـ … ـمِ رجالٌ يرضَون بالإغماض (4)
وفيه معنيان: أحدهما: كيف تبذلون للَّه وتهدون له ما لا ترضون ببذله لكم، ولا يرضى أحدكم من صاحبه أن يُهديه له، واللَّه أحقّ مَن تُخُيِّرَ (5) له خيارُ الأشياء وأنفسُها؟ والثاني: كيف تجعلون له ما تكرهون لأنفسكم، وهو سبحانه طيِّب لا يقبل إلا طيبًا؟
ثمَّ ختم الآية (6) بصفتين يقتضيهما سياقهما، فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)}. فغناه وحمده يأبى قبوله (7) الرديء، فإنَّ قابل الرديء الخبيث إمَّا أن يقبله لحاجته إليه، وإمَّا أنَّ نفسه لا تأباه لعدم كمالها وشرفها. وأمَّا الغنيّ عنه، الشريف القدر، الكامل الأوصاف، فإنَّه لا يقبله.
ثمَّ قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ
__________
(1) انظر: الكشاف (1/ 315).
(2) “ط”: “يغمض”، تحريف.
(3) “له” ساقط من “ك، ط”.
(4) من ضاديّة الطرمّاح المشهورة في ديوانه (176).
(5) “ك، ط”: “يخير”.
(6) “ط”: “الآيتين”.
(7) “ط”: “قبول”.

(2/814)


يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)} [البقرة/ 268].
هذه الآية تتضمَّن الحضّ على الإنفاق والحثّ عليه بأبلغ الألفاظ وأحسن المعاني. فإنَّها اشتملت على بيان الداعي إلى البخل، والداعي إلى البذل والإنفاق؛ وبيان ما يدعوه إليه داعي البخل، وما يدعو إليه داعي الإنفاق، وبيان ما يدعو به داعي الأمرين.
فأخبر تعالى أنَّ الذي يدعوهم إلى البخل والشحّ هو الشيطان، وأخبر أنَّ دعوته هي بما يعدهم به ويخوِّفهم من الفقر إن أنفقوا أموالهم. وهذا هو الداعي الغالب على الخَلق، فإنّه يهمّ بالصدقة والبذل، فيجد في قلبه داعيًا يقول له: متى أخرجتَ هذا دعتك الحاجةُ إليه وافتقرت إليه بعد إخراجه، وإمساكُه خير لك حتَّى لا تبقى مثل الفقير، فغناك خير لك من غناه. فإذا صوَّر له هذه الصورة أمره بالفحشاء، وهي البخل الذي هو من أقبح الفواحش. وهذا إجماع من المفسرين أنَّ الفحشاء هنا: البخل (1). فهذا وعده، وهذا أمره، وهو الكاذب في وعده، الغارّ الفاجر في أمره. فالمستجيب لدعوته مغرور مخدوع مغبون (2)، فإنَّه يدلِّي من يدعوه بغروره، ثمَّ يورده شرَّ الموارد. كما قال:
دلَّاهمُ بغُرورٍ ثمَّ أوردَهم … إنَّ الخبيثَ لمن والاه غرَّارُ (3)
__________
(1) في دعوى الإجماع نظر. فالطبري لم يشر في تفسيره (5/ 571) إلى هذا القول البتة، وإنما فسر الفحشاء هنا بالمعاصي. وانظر القولين في زاد المسير (1/ 242).
(2) “ف”: “مفتون”، خلاف الأصل.
(3) البيت لحسان بن ثابت رضي اللَّه عنه كما في إغاثة اللهفان (208)، والرواية: “ثم أسلمهم” كما في الإغاثة والديوان (476)، وسيرة ابن هشام (1/ 664).

(2/815)


هذا وإنَّ وعده له بالفقر (1) ليس شفقةً عليه ولا نصيحةً له كما ينصح الرجل أخاه، ولا محبةً في بقائه غنيًّا، بل لا شيء أحبَّ إليه من فقره وحاجته؛ وإنَّما وعدُه له بالفقر وأمرُه إيَّاه بالبخل ليُسيءَ ظنّه بربّه، ويتركَ ما يحبّه من الإنفاق لوجهه، فيستوجب منه الحرمان. وأمَّا اللَّه سبحانه وتعالى فإنَّه يعِد عبده على إنفاقه (2) مغفرةً منه لذنوبه، وفضلًا بأن يخلف عليه أخيرَ (3) ممَّا أنفق وأضعافه إمَّا في الآخرة (4) أو في الدنيا والآخرة. فهذا وعدُ اللَّه، وذاك وعدُ الشيطان. فلينظر البخيل والمنفق بأيّ الوعدين (5) هو أوثق، وإلى أيّهما يطمئنّ قلبه وتسكن نفسه؟ واللَّه يوفِّق من يشاء، ويخذل من يشاء، وهو الواسع العليم.
وتأمَّل كيف ختم هذه الآية بهذين الاسمين، فإنَّه واسع الفضل (6)، واسع العطاء، عليمٌ بمن يستحقُّ فضله، ومن يستحقّ عدله، فيعطي هذا بفضله، ويمنع هذا بعدله، وهو بكلِّ شيءٍ عليم.
فتأمَّل هذه الآيات ولا تستطِلْ بسطَ الكلام فيها، فإنَّ لها شأنًا لا يعقله إلا من عقل عن اللَّه خطابَه، وفهم مرادَه {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} [العنكبوت/ 43].
وتأمَّل ختم هذه السورة التي هي سنام القرآن بأحكام الأموال وأقسام
__________
(1) “ك، ط”: “الفقر”.
(2) “على إنفاقه” ساقط من “ك، ط”.
(3) هذه قراءة “ف”. ورسم الكلمة في الأصل يشبه “أكبر”. وفي “ب، ك، ط”: “أكثر”.
(4) “ك، ط”: “في الدنيا”.
(5) “ك، ط”: “أي الوعدين”.
(6) “واسع الفضل” ساقط من “ك، ط”.

(2/816)


الأغنياء وأحوالهم، وكيف قسمهم إلى ثلاثة أقسام:
محسنٌ: وهم المتصدّقون، فذكر جزاءَهم ومضاعفته، وما لهم في قرض أموالهم للمليّ الوفيّ. ثمَّ حذَّرهم مما يُبطل ثواب صدقاتهم ويُحرقها بعد استوائها وكمالها من المنّ والأذى، وحذَّرهم مما يمنع ترتّبَ أثرها عليها ابتداءً من الرياءِ. ثمَّ أمرهم بأن يتقرَّبوا (1) إليه بأطيبها، ولا يتيمّموا رديئها (2) وخبيثها. ثمَّ حذَّرهم من الاستجابة لداعي البخل والفحش، وأخبر أنَّ استجابتهم (3) لدعوته وثقتهم بوعده أولى بهم.
ثمَّ أخبر (4) أنَّ هذا من حكمته التي يؤتيها من يشاء من عباده، وأن من أوتيَها فقد أوتي (5) ما هو خير وأفضل من الدنيا كلّها؛ لأنَّه سبحانه وصف الدنيا بالقلَّة فقال: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء/ 77]، وقال: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة/ 269]، فدلَّ على أنَّ ما يؤتيه عبده من حكمته خيرٌ من الدنيا وما عليها. ولا يعقل هذا كلّ أحد، بل لا يعقله إلا من له لبّ وعقل زكي، فقال: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)} [البقرة/ 269].
ثمَّ أخبر سبحانه أنَّ كل ما أنفقوه من نفقة أو تقرَّبوا به إليه من نذر فإنَّه يعلمه، فلا يضيع (6) لديه، بل يعلم ما كان لوجهه منه، مما كان لغيره؛
__________
(1) “ك، ط”: “أن يتقربوا”.
(2) “ك”: “أردها”. “ط”: “أردأها”.
(3) في الأصل: “استجابته”، سهو.
(4) “ك، ط”: “وأخبر”.
(5) زاد في “ب، ك، ط”: “خيرًا كثيرًا: أوتي”، سهوًا أو لعدم التفطن لسياق الكلام.
(6) قراءة “ف”: “ولا يضيع”.

(2/817)


فيجازي بالمضاعفة ما كان لوجهه (1)، ويكِل جزاءَ من عمل لغيره إلى من عمل له، فإنَّه ظالمٌ لنفسه، وما له من نصير.
ثمَّ أخبر سبحانه عن أحوال المتصدقين لوجهه في صدقاتهم، وأنَّه يثيبهم عليها إن أبدوها أو كتموها بعد أن تكون خالصةً لوجهه فقال: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة/ 271] أي: فنعم شيئًا (2) هي، وهذا مدحٌ لها (3) موصوفةً بكونها ظاهرةً باديةً. فلا يتوهَّم مبديها بطلان أجره (4) وثوابه، فيمنعه ذلك من إخراجها، وينتظر بها زمن (5) الإخفاء فيفوت (6)، وتعترضه الموانع، ويحال بينه وبين قلبه، أو بينه وبين إخراجها. فلا يؤخّرْ صدقة العلانية بعد حضور وقتها إلى وقت السرّ، وهذه كانت حال الصحابة رضي اللَّه عنهم.
ثمَّ قال: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة/ 271]. فأخبر أنَّ إعطاءَها الفقير (7) في خفية خير للمنفق من إظهارها وإعلانها. وتأمَّل تقييده تعالى الإخفاءَ بإيتاء الفقراء خاصَّة. ولم يقل: وإن تخفوها فهو خير لكم، فإنَّ من الصدقة ما لا يمكن إخفاؤها (8)، كتجهيز جيش وبناءِ قنطرة وإجراء نهر أو غير ذلك. وأمَّا إيتاؤها الفقراء،
__________
(1) “منه مما كان. . . ” إلى هنا ساقط من “ك، ط”.
(2) “ب، ك، ط”: “شيء”.
(3) زاد في “ب”: “لأنها”.
(4) “ك، ط”: “أثره”، تحريف.
(5) “زمن” ساقط من “ط”. وفي “ب”: “زمنًا يفوت”.
(6) هذه قراءة “ف”. وفي “ك، ط”: “تفوت”. وبعدها فيهما: “أو”.
(7) “ك، ط”: “للفقير”.
(8) “ط”: “إخفاؤه”.

(2/818)


ففي إخفائها من الفوائد: الستر عليه، وعدم تخجيله بين الناس وإقامته مقام الفضيحة، وأن يرى الناس أنَّ يده هي اليد السفلى، وأنَّه فقير (1) لا شيء له، فيزهدون في معاملته ومعاوضته. وهذا قدرٌ زائد من الإحسان إليه بمجرَّد الصدقة، مع تضمّنه الإخلاصَ وعدمَ المراياة (2) وطلب (3) المحمدة من الناس. فكان (4) إخفاؤها للفقير خيرًا (5) من إظهارها بين الناس.
ومن هذا (6) مدح النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صدقة السرّ، وأثنى على فاعلها، وأخبر أنَّه أحد السبعة الذين هم في ظلِّ عرش الرحمن يوم القيامة (7). ولهذا جعله سبحانه خيرًا للمنفق، وأخبر أنَّه يكفر عنه بذلك الإنفاق من سيئاته. ولا يخفى عليه سبحانه أعمالكم ولا نياتكم، فإنَّه بما تعملون خبير.
ثمَّ أخبر أنَّ هذا الإنفاق إنَّما نفعه لأنفسهم، يعود عليهم أحوجَ ما كانوا إليه، فكيف يبخل أحدكم عن نفسه بما نفعه مختصٌّ بها عائد إليها (8)؟ وأنَّ نفقة المؤمنين إنَّما تكون ابتغاءَ وجهه خالصًا لأنَّها صادرة
__________
(1) “فقير” ساقط من “ك، ط”.
(2) انظر ما سلف في ص (67).
(3) “ك، ط”: “وطلبهم”.
(4) “ك، ط”: “وكان”.
(5) في الأصل: “خير” بالرفع، وهو سهو، وكذا في “ف”. والمثبت من غيرهما.
(6) “ب”: “ولهذا”.
(7) “ب”: “الذين يظلّهم اللَّه في ظلّه يوم القيامة”. والإشارة إلى حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه، أخرجه البخاري في كتاب الأذان (660) وغيره، ومسلم في الزكاة (1031).
(8) “ف”: “عليها”، خلاف الأصل.

(2/819)


عن إيمانهم، وأنَّ نفقتهم ترجع إليهم وافيةً كاملةً، ولا يظلم منها مثقال ذرَّة. وصدَّر هذا الكلام بأنَّ اللَّه سبحانه هو الهادي الموفق لمعاملته وإيثار مرضاته، وأنَّه ليس على رسوله هداهم، بل عليه إبلاغهم، وهو سبحانه (1) الذي يوفّق من يشاء لمرضاته.
ثمَّ ذكر سبحانه المصرف الذي توضع فيه الصدقة، فقال: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة/ 273]، فوصفهم بستّ صفات:
أحدها (2): الفقر.
الثانية: حبسُهم أنفسَهم في سبيله تعالى، وجهادِ أعدائه، ونصرِ دينه. وأصل “الحصر”: المنع، فمنعوا أنفسهم من تصرّفها في أشغال الدنيا، وقصَروها على بذلها للَّه وفي سبيله.
الثالثة: عجزهم عن الأسفار للتكسُّب. والضرب في الأرض هو: السفر، قال تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل/ 20] وقال: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء/ 101].
الرابعة: شدة تعففهم. وهو حسن صبرهم وإظهارهم الغنى حتى يحسبهم الجاهل لحالهم أغنياء (3) من تعففهم، وعدم تعرّضهم،
__________
(1) “هو الهادي الموفق. . . ” إلى هنا سقط من “ف” سهوًا.
(2) كذا في الأصل و”ف، ك”. وانظر ما سبق في (79). وفي “ب”: “إحداها”.
(3) “ك، ط”: “الغنى يحسبهم الجاهل أغنياء”، فسقطت منهما كلمتان.

(2/820)


وكتمانهم حاجتَهم (1).
الخامسة: أنَّهم يُعرفون بسيماهم، وهي العلامة الدالّة على حالتهم التي وصفهم اللَّه بها. وهذا لا ينافي حسبان الجاهل أنَّهم أغنياء، لأنَّ الجاهل له ظاهر الأمر، والعارف هو المتوسّم المتفرِّس الذي يعرف الناسَ بسيماهم. ولهذا وصف الجاهلَ بكونه (2) يظنهم أغنياء، وقال: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ}، ولم يقل: “يعرفون بسيماهم” (3). فالمتوسّمون خواصّ المؤمنين، كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)} [الحجر/ 75].
السادسة: تركُهم مسألة الناس، فلا يسألونهم شيئًا (4). والإلحاف هو الإلحاح. والنفي متسقط عليهما معًا، أي: لا يسألون، ولا يُلحِفون، فليس يقع منهم سؤال يكون بسببه إلحاف. وهذا كقوله:
على لا حبٍ لا يُهتدى بمناره (5)
أي: ليس فيه منار فيهتدى به. وفيه كالتنبيه على أنّ المذموم من
__________
(1) “وعدم تعرضهم” مكتوبة في الأصل فوق “وكتمانهم حاجتهم”، فأخرها ناسخ “ف”.
(2) في الأصل: “بكونهم”، سهو. والمثبت من “ف”.
(3) “ولهذا وصف. . . ” إلى هنا ساقط من “ب، ك، ط”.
(4) “شيئًا” ساقط من “ك، ط”.
(5) صدر بيت لامرئ القيس، وعجزه:
إذا سافَه العَودُ النَّباطيُّ جَرجَرا
ديوانه (66). وفي الأصل: “لمناره”، وكذا في “ف” وغيرها. وهو سهو بلا ريب.

(2/821)


السؤال هو سؤال الإلحاف، فأمّا السؤال بقدر الضرورة من غير إلحاف، فالأفضل تركُه، ولا يحرم.
فهذه ستّ صفات للمستحقّين للصدقة، فألغاها أكثرُ الناس، ولحظوا منها ظاهر الفقر وزيّه من غير حقيقته. وأمّا سائر الصفات المذكورة، فعزيز أهلها، ومن يعرفهم أعزّ. واللَّه يختص بتوفيقه من يشاء.
فهؤلاءِ هم المحسنون في أموالهم.
القسم الثاني: الظالمون. وهم ضدّ هؤلاءِ، وهم الذين يذبحون المحتاج المضطرّ. فإذا دعته الحاجة إليهم لم ينفّسوا كربته إلّا بزيادة على ما يبذلونه له، وهم أهل الربا. فذكرهم تعالى بعد هذا (1) فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)} [البقرة/ 278]. فصدَّر الآية بالأمر بتقواه المضادّة للربا، وأمر بترك ما بقي من الربا بعد نزول الآية، وعفا لهم عما قبضوه به قبل التحريم، ولولا ذلك لردّوا ما قبضوه به قبل التحريم. وعلّق هذا الامتثال على وجود الإيمان منهم، والمعلّق على الشرط (2) منتفٍ عند انتفائه.
ثم أكّد عليهم التحريم بأغلظ شيء وأشدّه، وهي محاربة المرابي للَّه ورسوله، فقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة/ 279]. ففي ضمن هذا الوعيد أنّ المرابي محارب للَّه ورسوله، قد آذنه اللَّه بحربه. ولم يجئ هذا الوعيد في كبيرة سوى الربا، وقطع الطريق، والسعي في الأرض بالفساد؛ لأنّ كلّ واحد منهما مفسد في الأرض،
__________
(1) “بعد هذا” سقط من “ف” سهوًا.
(2) “ك، ط”: “شرط”.

(2/822)


قاطع الطريق على الناس: هذا بقهره لهم وتسلّطه عليهم، وهذا بامتناعه من تفريج كُرباتهم إلّا بتحميلها (1) كُرباتٍ أشدّ منها. فأخبر عن قطّاع الطريق بأنّهم يحاربون اللَّه ورسوله، وآذَنَ هؤلاءِ إن لم يتركوا الربا بحربه وحرب رسوله.
ثم قال: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة/ 280]. يعني إن تركتم الربا وتبتم إلى اللَّه منه وقد عاقدتم عليه، فإنَّما لكم رؤوس أموالكم، لا تزدادون عليها، فتظلِمون (2) الآخذ؛ ولا تُنقَصون منها، فيظلمكم من أخذها. فإن كان هذا القابض معسرًا فالواجب إنظاره إلى مَيسرة، وإن تصدّقتم عليه وأبرأتموه فهو أفضل لكم وخير لكم. فإن أبت نفوسكم وشحَّت بالعدل الواجب أو الفضل (3) المندوب، فذكّروها يومًا ترجعون فيه إلى اللَّه وتلقَون ربَّكم فيوفّيكم جزاء أعمالكم أحوجَ ما أنتم إليه.
فذكر سبحانه المحسِن وهو المتصدّق، ثمَّ عقَّبه بالظالم وهو المرابي.
ثمَّ ذكر “العادل” في آية التداين، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} الآية [البقرة/ 282]. ولولا أنَّ هذه الآية تستدعي سِفرًا وحدها لذكرت بعض تفسيرها. والغرض إنَّما هو التنبيه والإشارة. وقد
__________
(1) كذا في الأصل و”ف”. وفي “ب”: “بتحملها”، وفي “ك”: “بتحميله”. وفي ط: “بتحميلهم”.
(2) في الأصل: “ولا فتظلمون”، والظاهر أن “ولا” سهو. وكتب ناسخ “ف”: “ولا تظلمون”. والصواب ما أثبتنا من “ب” وغيرها.
(3) “ف”: “الفعل”، تحريف.

(2/823)


ذكر أيضًا العادل، وهو آخذ رأس ماله من غريمه لا بزيادة ولا نقصان.
ثمَّ ختم السورة بهذه الخاتمة العظيمة التي هي من كنز من (1) تحت عرشه (2)، والشيطان يفرّ من البيت الذي تُقرأ فيه (3). وفيها من العلوم والمعارف وقواعد الإسلام وأصول الإيمان ومقامات الإحسان ما يستدعي بيانه كتابًا مفردًا.
والمقصود الكلام على طبقات (4) الخلائق في الدار الآخرة. ولنعُدْ (5) إلى المقصود، فإنَّ هذا من سعي القلم (6)، ولعلَّه أهمّ ممَّا نحن بصدده.
فهذه الطبقات الأربعة (7) من طبقات الأمة هم أهل الإحسان والنفع المتعدِّي وهم: العلماءُ، وأئمة العدل، وأهل الجهاد، وأهل الصدقة وبذل الأموال في مرضاة اللَّه. فهؤلاء ملوك الآخرة، وصحائف حسناتهم متزايدة، تملى فيها الحسنات وهم في بطون الأرض، ما دامت آثارهم في الدنيا. فيا لها من نعمة ما أجلَّها، وكرامة ما أعظمها! يختصُّ اللَّه بها
__________
(1) “من” هذه ساقطة من “ك، ط”.
(2) كما ورد في حديث أبي ذر في مسند أحمد (5/ 151). وقد ثبت في صحيح مسلم (173) من حديث مرّة بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أعطي خواتيم البقرة ليلة أسري به عند سدرة المنتهى.
(3) ثبت في صحيح مسلم (780) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان.
(4) “ط”: “والمقصود ذكر الخلائق”!
(5) “ف”: “ولنعدل” سبق قلم من الناسخ.
(6) “ف”: “العلم”، رسم الكلمة يحتمل هذه القراءة، ولكن الصواب ما أثبتنا. وكذا في “ب” وغيرها.
(7) كذا في الأصل وغيره، وهو صحيح في العربية. وفي “ط”: “الأربع”.

(2/824)


من يشاء من عباده.

الطبقة الثامنة: طبقة (1) من فتح اللَّه له (2) بابًا من أبواب الخير القاصر على نفسه كالصلاة، والحجّ، والعمرة، وقراءة القرآن، والصوم، والاعتكاف، والذكر ونحوها، مضافًا إلى أداء فرائض اللَّه عليه. فهو جاهدٌ في تكثير حسناته، وملء (3) صحيفته بها (4)، وإذا عمل خطيئة تاب إلى اللَّه منها. فهذا على خير عظيم، وله ثواب أمثاله من عُمَّال الآخرة (5). ولكن ليس له إلا عمله، فإذا مات طويت صحيفته بموته (6). فهذه طبقة أهل الربح والحظوة أيضًا عند اللَّه.

الطبقة التاسعة: طبقة أهل النجاة. وهي طبقة من يؤدِّي فرائض اللَّه، ويترك محارمه (7)، مقتصرًا على ذلك، لا يزيد عليه ولا ينقص منه. فلا يتعدَّى إلى ما حرَّم اللَّه عليه، ولا يزيد على ما فرَضَ عليه (8). وهذا من المفلحين بضمان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لمن أخبره بشرائع الإسلام، فقال: واللَّه لا أزيد على هذا، ولا أنقص منه. فقال: “أفلح إن صدق” (9).
__________
(1) “طبقة” ساقط من “ك، ط”.
(2) “له” ساقط من “ف”.
(3) “ط”: “إملاءً”، خطأ.
(4) “بها” ساقط من “ب، ط”.
(5) “ك، ط”: “أعمال الآخرة”، تحريف.
(6) “بموته” ساقط من “ك، ط”.
(7) “ف”: “وترك محارمه”، خلاف الأصل. “ك”: “بترك محارم اللَّه”. “ط”: “ويترك محارم اللَّه”.
(8) “ب”: “فرض اللَّه عليه”.
(9) أخرجه البخاري في الإيمان (46) وغيره، ومسلم في الإيمان (11) من حديث =

(2/825)


وأصحاب هذه الطبقة مضمون لهم على اللَّه تكفيرُ سيئاتهم، إذا أدّوا فرائضه واجتنبوا كبائر ما نهاهم عنه. قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء/ 31]. وصحَّ عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: ” [الصلواتُ الخمسُ] (1) ورمضان إلى رمضانَ والجمعةُ إلى الجمعةِ مكفِّراتٌ لما بينهنَّ ما لم تُغْشَ كبيرةٌ” (2).
فإن غشي أهلُ هذه الطبقة كبيرةً، وتابوا منها توبةً نصوحًا، لم يخرجوا من طبقتهم، وكانوا (3) بمنزلة من لا ذنب له. فتكفير الصغائر يقع بشيئين: أحدهما: الحسنات الماحية، والثاني (4): اجتناب الكبائر. وقد نصَّ عليهما سبحانه في كتابه، فقال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود/ 114]. وقال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء/ 31].

الطبقة العاشرة: طبقة قوم أسرفوا على أنفسهم، وغَشُوا كبائرَ ما نهى اللَّه عنه، لكن رُزِقُوا (5) التوبة النصوحَ قبل الموت، فماتوا على توبة صحيحة. فهؤلاء ناجون من عذاب اللَّه إمَّا قطعًا عند قوم، وإمَّا ظنًّا ورجاءً (6)
__________
= طلحة بن عبيد اللَّه رضي اللَّه عنه.
(1) مكان ما بين الحاصرتين بياض في الأصل و”ف”. وهو مثبت في “ب، ك” دون إشارة إلى بياض في أصليهما.
(2) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة (233). وفي “ب”: “والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان”، وهو الوارد في مسلم.
(3) “ك، ط”: “فكانوا”.
(4) “الثاني” سقط من “ف” سهوًا.
(5) “ك، ط”: “ولكن رزقهم اللَّه”.
(6) “ك، ط”: “رجاءً وظنًّا”.

(2/826)


عند آخرين. وهم موكولون (1) إلى المشيئة، ولكن نصوص القرآن والسنَّة تدلُّ على نجاتهم وقبول توبتهم، وهو وعد وعدهم اللَّه إيَّاه، واللَّه لا يخلف الميعاد.
فإن قيل: فما الفرقُ بين أهل هذه الطبقة والتي قبلها؟ فإنَّ اللَّه إذا كفَّر عنهم سيّئاتهم، وأثبت لهم بكلِّ سيئة حسنةً، كانوا كمن قبلهم أو أرجح.
قيل: قد تقدَّم الكلام على هذه المسألة بما فيه كفاية (2)، فعليك بمعاودته هناك. وكيف يستوي عند اللَّه من أنفق عمره في طاعته ولم يغشَ كبيرةً، ومن لم يدَع كبيرةً إلا ارتكبها، وفرَّط في أوامره، ثمَّ تاب؟ فهذا غايته أن تُمْحَى سيئاتُه، ويكون لا له ولا عليه. وأمَّا أن يكون هو ومَن قبله سواءً أو أرجح منه فكلّا!

الطبقة الحادية عشرة: طبقة أقوام خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيّئًا، فعملوا حسنات وكبائر، ولقوا اللَّه مُصرِّين عليها غير تائبين منها، لكن حسناتهم أغلب من سيّئاتهم، فإذا وُزِنتْ بها رجَحتْ كِفَّةُ الحسنات، فهؤلاء أيضًا ناجون فائزون. قال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)} [الأعراف/ 8 – 9].
قال حذيفة وعبد اللَّه بن مسعود وغيرهما من الصحابة: يُحشَر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: فمن رجحت حسناته على سيئاته بواحدة دخل الجنَّة، ومن رجحت سيئاته على حسناته بواحدة دخل النار، ومن
__________
(1) “ف”: “موكلون”، سهوًا.
(2) انظر: ص (505) وما بعدها.

(2/827)


استوت حسناته وسيئاته فهو من أهل الأعراف (1).
وهذه الموازنة تكون بعد القصاص، واستيفاء المظلومين حقوقهم من حسناته. فإذا بقي له (2) شيء منها وزن هو وسيئاته.
لكن (3) هنا مسألة، وهي: إذا وزنت السيئات بالحسنات فرجحت الحسنات، هل يُلغَى المرجوحُ جملةً، ويصير الأثر للراجح، فيثاب على حسناته كلّها؛ أو يسقَط من الحسنات ما قابلها من السيئات المرجوحة، ويبقى التأثير للرجحان، فيثاب عليه وحده؟ فيه قولان. هذا عند من يقول بالموازنة والحكمة، وأمَّا من ينفي ذلك فلا عبرة عنده بهذا، وإنَّما هو موكول إلى محض المشيئة. وعلى القول الأوَّل فيذهب أثر السيئات جملةً بالحسنات الرَّاجحة. وعلى القول الثاني يكون تأثيرها في نقصان ثوابه، لا في حصول العقاب له.
ويترجَّح هذا القول الثاني بأنَّ السيئات لو لم تحبط ما قبلها من الحسنات، وكان العمل والتأثير للحسنات كلّها، لم يكن فرقٌ بين وجودها وعدمها، ولكان لا فرق بين المحسن الذي تمحّضَ (4) عملُه حسناتٍ، وبين من خلط عملًا صالحًا وآخر سيِّئًا.
وقد يُجاب عن هذا بأنَّها أثَّرت في نقصان ثوابه ولا بدّ، فإنَّه لو اشتغل في زمن إيقاعها بالحسنات لكان أرفع لدرجته وأعظم لثوابه.
__________
(1) تفسير الطبري (12/ 453).
(2) “له” ساقط من “ب، ك، ط”.
(3) “ك، ط”: “ولكن”.
(4) لم ينقط أول الكلمة في الأصل، ولكن هكذا ضبطها وضبط ما بعدها في “ب”. وفي “ف”: “محض”، وهو خلاف الأصل. وكذا في “ك، ط”.

(2/828)


وإذا كان كذلك فقد ترجَّح القول الأوَّل بأنَّ الحسنات لمَّا غلبت السيئات ضعف تأثير المغلوب المرجوح، وصار الحكم للغالب دونه، لاستهلاكه في جنبه؛ كما يُستهلك يسيرُ النجاسة في الماءِ الكثير، والماءُ إذا بلغ قُلَّتين لم يحمِل الخَبَث (1). واللَّه أعلم.

الطبقة الثانية عشرة (2): قومٌ تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فتقابل أثراهما فتقاوما، فمنعتهم حسناتهم المساوية من دخول النَّار، وسيئاتهم المساوية من دخول الجنَّة. فهؤلاء من أهل الأعراف، لم يفضل لأحدهم حسنة يستحقّ بها الرحمة من ربّه، ولم يفضل عليه سيئة يستحقّ بها العذاب.
وقد وصف اللَّه سبحانه أهل هذه الطبقة في سورة الأعراف -بعد أن ذكر دخولَ أهل النارِ النارَ (3)، وتلاعنَهم فيها، ومخاطبةَ أتباعهم لرؤسائهم، وردَّهم عليهم؛ ثمَّ مناداة أهل الجنَّة أهلَ النار- فقال تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)} [الأعراف/ 46 – 47].
فقوله تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} أي: بين أهل الجنَّة والنار حجاب. قيل: هو السور الذي ضُرِب (4) بينهم، له باب باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قِبَله العذاب. باطنه الذي يلي المؤمنين فيه الرحمة، وظاهره الذي
__________
(1) يشير إلى حديث عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما. أخرجه أبو داود (63)، والترمذي (67).
(2) في الأصل: “عشر”. وكذا في “ف، ك”. والمثبت من “ب، ط”.
(3) “النار” ساقط من “ط”.
(4) “ب، ك، ط”: “يضرب”.

(2/829)


يلي الكفار من جهته (1) العذاب. و”الأعراف” جمع عُرْف، وهو المكان المرتفع، وهي (2) سور عال بين الجنَّة والنار. قيل: هو هذا السور الذي يضرب بينهم.
وقيل: جبال بين الجنَّة والنَّار (3) عليها (4) أهل الأعراف. قال حذيفة وعبد اللَّه بن عباس: هم قومٌ استوت حسناتهم وسيئاتهم، فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتُهم عن النار. فوقفوا هناك حتى يقضي اللَّه فيهم ما يشاء، ثمَّ يدخلهم الجنَّة بفضل رحمته (5).
قال عبد اللَّه بن المبارك: أخبرنا أبو بكر الهذلي قال: كان سعيد بن جبير (6) يحدِّث عن ابن مسعود، قال: يحاسَب الناسُ (7) يوم القيامة، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنَّة، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته (8) بواحدة دخل النَّار. ثمَّ قرأ قوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا
__________
(1) “ط”: “جهتهم”.
(2) “ك، ط”: “وهو”.
(3) “قيل: هو هذا. . . ” إلى هنا ساقط من “ط”.
(4) “ط”: “عليه”.
(5) أما أثر حذيفة فأخرجه المروزي في زوائد الزهد (483)، وابن أبي حاتم في تفسيره (8499)، والطبري (8/ 190)، وهو صحيح عن حذيفة. وأما أثر ابن عباس فأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (8501) وسنده ضعيف جدًّا. وأخرجه الطبري (8/ 191، 192) بسندٍ فيه انقطاع. (ز).
(6) “ف”: “كثير”، ورسم الجيم والحاء في الأصل يشبه أحيانًا رسم الكاف. انظر ما سلف في ص (815).
(7) “ك، ط”: “يحاسب اللَّه الناس”.
(8) “من حسناته” ساقط من “ط”.

(2/830)


أَنْفُسَهُمْ} [الأعراف/ 8، 9] ثمَّ قال: إنَّ الميزان يخِفّ بمثقال حبَّة أو يرجح. قال: ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف. فوقفوا على الصراط ثمَّ عرفوا أهل الجنَّة وأهل النَّار، فإذا نظروا إلى الجنة (1) نادوا: سلام عليكم، وإذا صرفوا أبصارهم إلى أصحاب النار قالوا: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)} [الأعراف/ 47]. فأمَّا أصحاب الحسنات فإنَّهم يُعطَون نورًا يمشون به بين أيديهم وبأيمانهم، ويعطى كلّ عبد يومئذ نورًا. فإذا أتوا على الصراط (2) سلب اللَّه نور كل منافق ومنافقة. فلمَّا رأى أهل الجنَّة ما لقي المنافقون قالوا: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم/ 8]. وأمَّا أصحاب الأعراف فإنَّ النور لم ينزع الطمع إذ لم ينزع من أيديهم، ومنعتهم سيئاتهم أن يمضوا، وبقي في قلوبهم الطمع إذ لم ينزع النور من أيديهم (3). يقول (4) اللَّه: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)} [الأعراف/ 46] فكان الطمع للنور الذي في أيديهم. ثمَّ أدخلوا الجنَّة، وكانوا آخر أهل الجنَّة دخولًا (5). يريد: آخر أهل الجنَّة دخولًا ممَّن لم يدخل النَّار.
وقيل: هم قوم خرجوا في الغزو بغير إذن آبائهم، فقُتِلوا، فأعتقوا من النار لقتلهم في سبيل اللَّه، وحبسوا عن الجنَّة لمعصية آبائهم (6). وهذا
__________
(1) “ط”: “أهل الجنة”.
(2) “ف”: “السراط”، خلاف الأصل.
(3) “ومنعتهم سيئاتهم. . . ” إلى هنا ساقط من “ط”.
(4) “ك، ط”: “فيقول”.
(5) أخرجه ابن المبارك في الزهد (411). وانظر: تفسير الطبري (12/ 453). وسنده ضعيف جدًّا، فيه أبو بكر الهذلي، متروك. (ز).
(6) تفسير الطبري (12/ 457).

(2/831)


من جنس القول الأوَّل.
وقيل: هم قوم رضي عنهم أحدُ الأبوين دون الآخر؛ يُحبَسُون على الأعراف حتى يقضي اللَّه بين الناس، ثمَّ يدخلهم الجنة (1). وهو (2) من جنس ما قبله، فلا تناقض بينهما.
وقيل: هم أصحاب الفترة وأطفال المشركين (3).
وقيل: هم أولو الفضل من المؤمنين علَوا على الأعراف، فيطَّلعون على أهل النار وأهل الجنَّة جميعًا (4).
وقيل: هم ملائكة (5) لا من بني آدم (6).
والثابت عن الصحابة هو القول الأوَّل. وقد رويت فيه آثار كثيرة مرفوعة لا تكاد تثبت أسانيدها. وآثار الصحابة في ذلك المعتمدة. وقد اختلف في تفسير الصحابي هل له حكم المرفوع أو الموقوف، على قولين. الأوَّل اختيار أبي عبد اللَّه الحاكم (7)، والثاني هو الصواب ولا نقوِّل (8) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما لم نعلم أنَّه قاله.
__________
(1) تفسير البغوي (3/ 232) عن مجاهد.
(2) “ط”: “هي”.
(3) تفسير البغوي (3/ 233). وانظر ما يأتي في ص (858).
(4) وهو قول الحسن. انظر: تفسير البغوي (3/ 233).
(5) “ك، ط”: “الملائكة”.
(6) تفسير الطبري (12/ 459).
(7) انظر: المستدرك (1/ 726)، (2/ 283) وقد عزاه إلى الشيخين. وقيّده في معرفة علوم الحديث (20) بكونه في أسباب النزول.
(8) “ك، ط”: “ولا نقول على رسول اللَّه اللَّه”. “ب”: “ولا يقول. . . ما لم يعلم”.

(2/832)


وقوله تعالى: {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ} صريح في أنَّهم من بني آدم، ليسوا من الملائكة.
وقوله: {يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ} يعني: يعرفون الفريقين بسيماهم. {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} أي: نادى أهلُ الأعراف أهلَ الجنَّة بالسلام.
وقوله: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)} الضميران في الجملتين لأصحاب الأعراف. لم يدخلوا الجنَّة بعد، وهم يطمعون في دخولها. قال أبو العالية: ما جعل اللَّه ذلك الطمع فيهم إلا كرامةً يريدها بهم (1). وقال الحسن: الذي جعل (2) الطمع في قلوبهم يوصلهم إلى ما يطمعون (3). وفي هذا ردّ على قول من قال: إنَّهم أفاضل المؤمنين عَلَوا على الأعراف يطالعون أحوالَ الفريقين. فعاد الصواب إلى تفسير الصحابة، وهم أعلم الأمة بكتاب اللَّه ومراده منه.
ثمَّ قال تعالى: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)} هذا دليل على أنَّهم (4) بمكان مرتفع بين الجنَّة والنار، فإذا أشرفوا على أهل الجنَّة نادوهم بالسلام وطمعوا في الدخول إليها. وإذا أشرفوا على أهل النار سألوا اللَّه أن لا يجعلهم معهم.
__________
(1) انظر: تفسير البغوي (3/ 233). وهذا اللفظ أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (907)، وابن أبي حاتم (8517)، والطبري (8/ 196) عن الحسن، وسنده صحيح. (ز).
(2) “ط”: “جمع”.
(3) تفسير البغوي (3/ 233).
(4) “ك، ط”: “أنه”، تحريف.

(2/833)


ثمَّ قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} يعني من الكفار الذين في النار. فقالوا لهم: {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)} يعني ما نفعكم جمعكم وعشيرتكم وتحزّبكم (1) على أهل (2) الحقِّ ولا استكباركم. وهذا إمَّا نفي، وإمَّا استفهام توبيخ (3)، وهو أبلغ وأفخم.
ثمَّ نظروا إلى الجنَّة فرأوا من فيها (4) من الضعفاء الذين كان الكفار يسترذلونهم في الدنيا ويزعمون أنَّ اللَّه لا يختصّهم دونهم بفضله، كما لم يختصّهم دونهم في الدنيا، فيقول لهم أهل الأعراف: {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ} أيها المشركون أنَّ اللَّه تعالى لا ينالهم برحمة، فها هم في الجنَّة يتمتَّعون ويتنعّمون، وفي رياضها يُحبَرون، ثمَّ يقال لأهل الأعراف: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)} [الأعراف/ 49].
وقيل: إنَّ أصحاب الأعراف إذا عيّروا الكفار، وأخبروهم أنَّهم لم تُغنِ عنهم جموعهم (5) واستكبارهم، عيّرهم الكفار بتخلّفهم عن الجنة، وأقسموا أنَّ اللَّه لا ينالهم برحمة، لما رأوا من تخلّفهم عن الجنة، وأنَّهم يصيرون إلى النار، فتقول لهم الملائكة حينئذ: {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)} (6).
__________
(1) قرأ ناسخ “ف”: “تجرّيكم”. وكذا في غيرها. ولكن نقطة الزاي واضحة في الأصل. وتحت الحاء نقطة أيضًا ولكنها للفاء في كلمة “فيها” الواردة في السطر التالي.
(2) “أهل” ساقط من “ك، ط”.
(3) “ك، ط”: “وتوبيخ”.
(4) “من فيها” ساقط من “ك، ط”.
(5) “ط”: “لم يغن عنهم جمعهم”.
(6) ذكر القولين الطبري في تفسيره (12/ 471 – 472). وانظر: تفسير البغوي =

(2/834)


والقولان قويان محتملان، واللَّه أعلم.
فهؤلاء الطبقات هم أهل الجنَّة الذين لم تمسّهم النار.

الطبقة الثالثة عشرة (1): طبقة أهل المحنة والبلية، نعوذ باللَّه، وإن كانت آخرتهم إلى عفو وخير. وهم قوم مسلمون خفَّت موازينهم، ورجححت سيئاتهم على حسناتهم، فغلبتها السيئات. فهذه الطبقة هي (2) التي اختلفت فيها أقاويل الناس، وكثُر فيها خوضهم، وتشعَّبت مذاهبهم، وتشتّتت آراؤهم.
فطائفة كفَّرتهم، وأوجبت لهم الخلود في النار. وهذا مذهب أكثر الخوارج، بل يكفّرون من هو أحسن حالًا منهم، وهو مرتكب الكبيرة الذي لم يتب منها، ولو استغرقتها حسناتُه.
وطائفة أوجبت لهم الخلود في النار، ولم تُطْلِقْ عليهم اسمَ الكفر، بل سمّوهم منافقين. وهذا المذهب ينسب إلى البكرية أتباع بكر ابن أخت عبد الواحد (3).
وطائفة نزَّلتهم منزلةً بين منزلتي (4) الكفار والمؤمنين، فجعلوا أقسام
__________
= (3/ 233 – 234).
(1) في الأصل: “عشر”. وكذا في “ف، ك”. والمثبت من “ب، ط”.
(2) “هي”: ساقط من “ك، ط”.
(3) انظر: مقالات الإسلاميين (1/ 317). ونحوه في تأويل مختلف الحديث (96). وذكر ابن حزم أن المذنب من أهل ملتنا عند بكر ابن أخت عبد الواحد كافر مشرك كعابد الوثن، صغيرًا كان ذنبه أو كبيرًا، ولو فعله على سبيل المزاح؛ إلّا أن يكون بدريًّا فهو كافر من أهل الجنة! انظر: الفصل (2/ 217، 291).
(4) “ك، ط”: “منزلة”.

(2/835)


الخلق ثلاثةً: مؤمنين، وكفَّارًا، وقسمًا لا مؤمنين ولا كفَّارًا بل بينهما، وأوجبت لهم الخلود في النَّار. وهذا هو الرَّأي الذي أصفَقَ (1) عليه أهلُ الاعتزال، وهو أحد أصولهم الخمس (2) التي هي قواعد مذهبهم، وهي: “التوحيد” الذي مضمونه جحدُ صفاتِ الخالق ونعوتِ كماله، والتعطيل المحض. و”العدل” الذي مضمونه نفي عموم قدرة اللَّه، وأنَّه لا قدرة له على أفعال الحيوانات، بل هي خارجة عن ملكه وخلقه وقدرته، وأنَّه يريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد، وأنَّه (3) لا يقدر أن يهدي ضالًّا، ولا يُضِلّ (4) مهتديًا، ولا يجعل المصلِّي مصلِّيًا والذاكر ذاكرًا والطائف (5) طائفًا. تعالى اللَّه عن إفكهم وشركهم علوًّا كبيرًا. و”المنزلة بين المنزلتين” التي مضمونها إيجاب الخلود في النار (6) للمسلم المبالِغ في طاعة ربه الذي أفنى عمره في عبادته وطاعته، ومات مُصِرًّا على كبيرة واحدة. تعالى اللَّه عمَّا نسبوه إليه من ذلك وجلَّ عن هذا الافتراء. و”الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” الذي مضمونه الخروج على أئمة الجور بالسيف، وخلع اليد من طاعتهم، ومفارقة جماعة المسلمين. والأصل الخامس: “النبوة” (7)، مع أنَّهم لم يوفّوها حقَّها، بل هضموها
__________
(1) أصفق القوم على الأمر: أطبقوا عليه. وفي “ب”: “اتفق”. والكلمة ساقطة من “ك، ط”.
(2) كذا في الأصل وغيره، وهو جائز في العربية. وفي “ط”: “الخمسة”.
(3) “ك، ط”: “فإنّه”، خطأ.
(4) “ط”: “ولا أن يضل”.
(5) “ط”: “ولا الذاكر ذاكرًا ولا الطائف” بزيادة “لا” في الموضعين.
(6) “ط”: “إيجاب القول بالنار”، تصرّف غريب!
(7) كذا ذكر المؤلف هنا “النبوّة” من الأصول الخمسة للمعتزلة، والمشهور مكانها: إنفاذ الوعيد، أو الوعد والوعيد. انظر: مقالات الإسلاميين (1/ 311)، =

(2/836)


غاية الهضم من وجوه كثيرة ليس هذا موضعها.
والمقصود أنَّ مذهبهم تخليد هذه الطبقة في النار، وإن لم يسمّوهم كفَّارًا، فوافقوا الخوارج في الحكم، وخالفوهم في الاسم. ولهذا تسمّى هذه المسألة من مسائل الأسماءِ والأحكام.
فهذه ثلاث فرق توجب لهذه الطبقة (1) الخلود في النار.
وقالت المرجئة على اختلاف آرائهم: لا ندري (2) ما يفعل اللَّه بهم. فيجوز أن يعذِّبهم كلّهم، وأن يعفو عنهم كلّهم، وأن يعذّب بعضهم ويعفو عن بعضهم، غير أنَّهم لا يخلد أحد منهم في النار. فجوَّزوا أن يلحق بعضهم بمن ترجَّحت حسناته على سيئاته، بل جوَّزوا أن يرفع عليه في الدرجة، فهم موكولون عندهم إلى محض المشيئة لا يُدرَى ما يفعل اللَّه بهم، بل يُرجأ أمرهم إلى اللَّه وحكمه. وهذا قول كثير من المتكلِّمين والفقهاء والصوفية وغيرهم.
فهذه الأقوال هي (3) التي يعرفها أكثر الناس، ولا يحكي أهل الكلام غيرها. وقول الصحابة والتابعين وأئمة الحديث لا يعرفونه ولا يحكونه، وهو الذي ذكرناه عن ابن عبَّاس وحذيفة وابن مسعود رضي اللَّه عنهم أنَّ من ترجَّحت سيئاته بواحدة دخل النَّار.
__________
= ومجموع الفتاوى (12/ 480)، وبيان تلبيس الجهمية (465)، ومنهاج السنة (1/ 120).
(1) “ك, ط”: “أوجبت لهذه الطائفة”.
(2) “ك، ط”: “لا يدرى”. والمثبت من “ف، ب”.
(3) “هي” ساقط من “ك، ط”.

(2/837)


وهؤلاء هم القسم الذين جاءت فيهم الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنَّهم (1) يدخلون النَّار، فيكونون فيها على مقدار أعمالهم: فمنهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه (2) إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من تأخذه (3) إلى ركبتيه. ويلبثون فيها على قدر أعمالهم، ثمَّ يخرجون منها، فينبتون على أنهار الجنَّة، فيُفيض عليهم أهل الجنَّة من الماءِ حتَّى تنبت أجسادهم، ثمَّ يدخلون الجنة (4). وهم الطبقة الذين يخرجون من النَّار بشفاعة الشافعين، وهم الذين يأمر اللَّه تعالى سيِّد الشفعاء مرارًا أن يخرجهم من النار بما معهم من الإيمان (5).
وإخبار النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّهم يكونون فيها على قدر أعمالهم، مع قوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)} (6) [الأحقاف/ 14] و {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)} [النمل/ 90] وقوله: {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)} (7) [النحل/ 111] وأضعاف ذلك من نصوص القرآن
__________
(1) “ب، ك، ط”: “فإنّهم”، تحريف.
(2) “ب، ك، ط”: “تأخذه النار”.
(3) “ك، ط”: “تأخذه النار”.
(4) يشهد له ما أخرجه مسلم في كتاب الجنة ونعيمها (2845) من حديث سمرة رضي اللَّه عنه.
(5) يشهد له ما أخرجه البخاري في التوحيد (7440) ومسلم في الإيمان (193) من حديث أنس رضي اللَّه عنه.
(6) ورد في الأصل: “جزاء بما كنتم تعملون”، وكذا في النسخ الأخرى، ولم يرد هذا اللفظ في القرآن الكريم، فحذف في “ط” “جزاءً”. ولعل المقصود ما أثبتنا.
(7) أثبت في “ط” جزءًا من آية أخرى وردت في البقرة (281)، وآل عمران (171).

(2/838)


والسنَّة يدلّ على ما قاله أفضلُ الأمة وأعلمُها باللَّه وكتابه وأحكامِ الدارين أصحابُ محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-. والعقل والفطرة تشهد له، وهو مقتضى حكمة العزيز الحكيم الذي بهرت حِكَمه (1) العقول. فليس الأمر مسيَّبًا (2) خارجًا عن الضبط والحكمة، بل مربوط بالأسباب، والحكمُ مرتَّب عليها أكملَ ترتيب، جارٍ على نظام اقتضاه السبب واستدعته الحكمة.
وأيّ طريقٍ (3) سلكها سالك غير هذه الطريق من الطرق المتقدِّمة أفضت به إلى ترك بعض النصوص ولا بدّ، فإنَّها تتناقض في حقِّه، لما أصَّله من الأصل الذي لا يلتئم عليه جميع النصوص (4). فلا بدَّ أن يردّ بعضَها ببعض، أو يستشكلها، أو يتطلَّب لها مستنكرَ التأويلات ووجوه التحريفات؛ كما ردَّ الخوارج والمعتزلة النصوص المتواترة الدالَّة على خروج أهل الكبائر من النَّار بالشفاعة، فكذَّبوا (5) بها، وقالوا: لا سبيل لمن دخل النَّار إلى الخروج منها بشفاعة ولا غيرها. ولما بهرتهم نصوصُ الشفاعة، وصاح بهم أهلُ السنَّة وأئمة الإسلام من كل قطر وجانب، ورموهم بسهام الردّ عليهم، أحالوا بالشفاعة على زيادة الثواب فقط، لا على الخروج من النار. فردّوا السنَّة المتواترة قطعًا، وصاروا مضغة في أفواه الأمة وعارًا في فِرَقها. فإنَّ أمر الشفاعة أظهر عند الأمة من أن يقبل شكًّا أو نزاعًا، وهو عندهم مثل الصراط والحساب ونحوهما مما يُعلَم إخبار الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- به قطعًا. ولكن إنَّما أُتِيَ القومُ لأنَّهم في غاية
__________
(1) “ب، ك، ط”: “حكمته”.
(2) “ك، ط”: “سببًا”، تحريف.
(3) “ك، ط”: “الطريق”، خطأ.
(4) “ط”: “جمع النصوص”، تحريف.
(5) “ط”: “وكذّبوا”.

(2/839)


البعد عمَّا جاءَ به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، أجانبُ منه (1)، ليسوا من الورثة.
وأمَّا الخوارج فكذَّبوا الصحابةَ صريحًا. وأمَّا المرجئة فإنَّهم يجوّزون أن لا يدخل النار أحد من أهل التوحيد. وهذا خلاف (2) المعلوم المتواتر من نصوص السنَّة بدخول بعض أهل الكبائر النار ثم خروجهم منها بالشفاعة. ومع هذا التواتر الذي لا يمكن دفعه، لا يجوز أن يقال بجواز أن لا يدخل أحد منهم النار، بل لا بدَّ من دخول بعضهم، وذلك البعض هو الذي خفَّت موازينه ورجحت سيئاته، كما قاله (3) الصحابة رضي اللَّه عنهم. وحكى أبو محمد بن حزم هذا إجماعًا من أهل السنة (4).
ولولا أنَّ المقصود ذكر الطبقات لذكرنا ما لهذه المذاهب وما عليها، وبيّنَّا تناقض أهلها، وما وافقوا فيه الحقّ وما خالفوه بالعلم والعدل لا بالجهل والظلم. فإنَّ كل طائفة منها معها حقّ وباطل، فالواجب موافقتهم فيما قالوه من الحقّ، وردّ ما قالوه من الباطل. ومن فتح اللَّه له بهذه الطريق فقد فتح له من العلم والذين كل باب، ويسَّر عليه فيهما الأسباب. وباللَّه (5) المستعان.

الطبقة الرَّابعة عشرة (6): قوم لا طاعة لهم ولا معصية، ولا كفر ولا إيمان، وهؤلاء أصناف: منهم من لم تبلغه الدعوة بحال ولا سمع
__________
(1) “ط”: “عنه”.
(2) “ط”: “بخلاف”.
(3) “ك، ط”: “قال”.
(4) في كتابه: الدرّة فيما يجب اعتقاده (340).
(5) “ط”: “واللَّه”.
(6) في الأصل: “عشر”. وكذا في “ف، ك”. والمثبت من “ب، ط”.

(2/840)


لها بخبر. ومنهم المجنون الذي لا يعقل شيئًا ولا يميّز. ومنهم الأصمّ الذي لا يسمع شيئًا أبدًا. ومنهم أطفال المشركين الذين ماتوا قبل أن يميّزوا شيئًا، فاختلفت الأمة في حكم هذه الطبقة اختلافًا كثيرًا. والمسألة التي وسَّعوا فيها الكلام هي مسألة أطفال المشركين.
وأمَّا أطفال المسلمين، فقال الإمام أحمد: لا يختلف فيهم أحد. يعني أنَّهم في الجنَّة (1). [وحكى ابن عبد البرّ عن جماعة أنَّهم توقَّفوا فيهم، وأنَّ جميع الولدان تحت المشيئة قال: وذهب إلى هذا القول جماعة كثيرة من أهل الفقه والحديث منهم حمَّاد بن زيد] (2) وحمَّاد بن سلمة، وابن المبارك، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم. قال (3): وهو يشبه (4) ما رسم مالك في موطّئه في أبواب القدر وما أورده من الأحاديث في ذلك، وعلى ذلك أكثر أصحابه. وليس عن مالك فيه شيء منصوص إلا أنَّ المتأخرين من أصحابه ذهبوا إلى أن أطفال المسلمين في الجنَّة، وأطفال المشركين خاصَّة في المشيئة (5).
__________
(1) نحوه في أحكام أهل الذمة (610). وانظر قول الإمام أحمد في المغني (13/ 254).
(2) مكان ما بين الحاصرتين بياض في “ف”. وقال ناسخها: “وفي حاشية الأصل بخطّ المؤلف رحمه اللَّه أسطار مصحح على آخرها، ذهب الأول منها تأكّلًا على طرف الورقة. أخلى الكاتب له تحت هذا السطر موضعًا وكتب ما وجد بعده”. وهو كما قال. والمثبت من “ب، ك، ط”.
(3) “ب، ك، ط”: “قالوا”. وسقط “وغيرهم” من “ك، ط”.
(4) “ك، ط”: “شبه”، تحريف.
(5) التمهيد (18/ 112). ونبّه المصنِّف في أحكام أهل الذمة (618) على أنّ ابن عبد البر اضطرب في النقل في هذه المسألة، فإنه قال في موضعٍ آخر في التمهيد نفسه (6/ 348 – 349): “قد أجمع العلماء على أن أطفال المسلمين في =

(2/841)


وأمَّا أطفال المشركين فللنَّاس فيهم ثمانية مذاهب (1):

أحدها: الوقف فيهم، وترك الشهادة بأنَّهم في الجنَّة أو في النار، بل يوكل علمهم إلى اللَّه تعالى، ويقال: اللَّه أعلم بما (2) كانوا عاملين. واحتجّ هؤلاء بحجج:
منها ما خرَّجا (3) في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه وينصّرانه (4)، كما تنتج البهيمة من بهيمة جمعاءَ، هل تحسّ (5) فيها من جدعاء؟ “. قالوا: يا رسول اللَّه، أفرأيتَ من يموت وهو صغير؟ قال: “اللَّه أعلم بما كانوا عاملين” (6).
ومنها ما في الصحيحين أيضًا عن ابن عباس أنَّ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سُئِلَ عن
__________
= الجنة، ولا أعلم عن جماعتهم في ذلك خلافًا إلّا فرقة شذت من المجبرة فجعلتهم في التيه، وهو قول شاذ مهجور مردود بإجماع أهل الحجة الَّذين لا يجوز مخالفتهم، ولا يجوز على مثلهم الغلط في مثل هذا، إلى ما روي عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- من أخبار الآحاد الثقات”. عقب ابن القيم على ذلك، ومما قال: “وهذا من السهو الذي هو عرضة للإنسان، وربّ العالمين هو الذي لا يضلّ ولا ينسى”.
(1) عقد المؤلف فصلًا طويلًا في هذا الموضوع في كتابه أحكام أهل الذمة (1086 – 1130) أيضًا. وانظر: حاشيته على السنن (ذيل عون المعبود 12/ 320) ودرء التعارض لشيخه (8/ 435 – 438).
(2) “ك، ط”: “ما”.
(3) “ب”: “خرجه البخاري ومسلم في صحيحهما”. “ط”: “أخرجاه”.
(4) “ط”: “أو ينصّرانه”.
(5) “ط”: “يحس”.
(6) البخاري في القدر (6599) وغيره، ومسلم في القدر (2658).

(2/842)


أولاد المشركين، فقال: “اللَّه أعلم بما كانوا عاملين” (1).
وفي صحيح أبي حاتم ابن حبان من حديث جرير بن حازم قال: سمعت أبا رجاء العُطاردي، قال: سمعت ابن عبَّاس (2) يقول وهو على المنبر: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لا يزال أمر هذه الأمة مُؤامًّا (3) -أو مقاربًا- ما لم يتكلَّموا في الولدان والقدر”. قال أبو حاتم: “الولدان” أراد به أطفال المشركين (4).
وفي استدلال هذه الفرقة على ما ذهبت إليه من الوقف بهذه النصوص نظر. فإنَّ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُجِبْ فيهم بالوقف، وإنَّما وكل علمَ ما كانوا يعملون لو عاشوا إلى اللَّه. والمعنى: اللَّه أعلم بما كانوا يعملون لو عاشوا. فهو سبحانه يعلم القابلَ منهم للهدى العاملَ به لو عاش، والقابلَ منهم للكفر المؤثرَ له لو عاش. لكن لا يدلّ هذا على أنَّه سبحانه يجزيهم بمجرَّد علمه فيهم بلا عمل يعملونه، وإنَّما يدلّ على أنَّه يعلم منهم ما هم عاملون بتقدير حياتهم. وهذا الجواب خرج من النبيّ (5) -صلى اللَّه عليه وسلم- على وجهين:
__________
(1) البخاري (6597)، ومسلم (2659) في القدر.
(2) “العطاردي. . . ” إلى هنا ساقط من “ط”. وكذا من “ك” إلّا “العطاردي”.
(3) أي: مقاربًا. وفي “ك، ط”: “قوامًا”، ولعله تحريف.
(4) أخرجه ابن حبان (6724)، والحاكم (1/ 33) من حديث ابن عباس مرفوعًا.
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولا نعلم له علّة”. وسيأتي قول المصنف إن الناس رووه موقوفًا على ابن عباس، وهو الأشبه. انظر: القدر للفريابي (258، 259) والسنة لعبد اللَّه (870) واللالكائي (1127) وغيره. (ز).
(5) “ك، ط”: “عن النبي”.

(2/843)


أحدهما: جواب لهم إذ سألوه عنهم: ما حكمهم؟ فقال: “اللَّه أعلم بما كانوا عاملين”. وهو في هذا الوجه يتضمَّن أنَّ اللَّه سبحانه يعلم من يؤمن منهم ومن يكفر، بتقدير الحياة. وأمَّا المجازاة على العلم، فلم يتضمّنها جوابُه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وفي صحيح أبي عوانة الإسفراييني عن هلال بن خبَّاب (1) عن عكرمة عن ابن عباس: كان النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في بعض مغازيه، فسأله رجل: ما تقول في اللاهين؟ فسكت عنه. فلمَّا فرغ من غزوة الطائف إذا هو بصبيّ يبحث في الأرض، فأمر مناديه فنادى: أين السائل عن اللاهين؟ فأقبل الرجل. فنهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قتل الأطفال، وقال: “اللَّه أعلم بما كانوا عاملين” (2).
والوجه الثاني: جواب لهم حين أخبرهم أنَّهم من آبائهم، فقالوا: بلا عمل؟ فقال: “اللَّه أعلم بما كانوا عاملين”. كما روى أبو داود (3) عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: قلت: يا رسول اللَّه، ذراريّ المؤمنين؟ فقال (4): “من آبائهم”. فقلت (5): يا رسول اللَّه، بلا عمل؟ قال: “اللَّه أعلم بما كانوا عاملين”. قلت: يا رسول اللَّه، فذراريّ المشركين؟ قال:
__________
(1) “ب”: “حيان”. “ك”: “حبان”، وكلاهما تحريف.
(2) أخرجه الفريابي في القدر (175)، والطبراني في الأوسط (2018)، والكبير (11906). قال الهيثمي: “وفيه هلال بن خباب وهو ثقة، وفيه خلاف، وبقية رجاله رجال الصحيح”. (ز).
(3) في السنن (4712)، وأحمد (24545)، والفريابي في القدر (168)، والطبراني في مسند الشاميين (843)، واللالكائي (1091) وغيرهم. وسنده حسن. (ز).
(4) “ك، ط”: “قال”.
(5) “ك، ط”: “قلت”.

(2/844)


“هم من آبائهم”. فقلت: يا رسول اللَّه، بلا عمل؟ قال: “اللَّه أعلم بما كانوا عاملين” (1). ففي هذا الحديث ما يدلّ على أنَّ الذين يلحقون بآبائهم منهم هم الذين علم اللَّه أنَّهم لو عاشوا لاختاروا الكفر وعملوا به، فهؤلاء مع آبائهم. ولا يقتضي أنَّ كلّ واحدٍ من الذرية مع أبيه في النَّار، فإنَّ الكلام في هذا الجنس سؤالًا وجوابًا، والجواب يدل على التفصيل. فإنَّ قوله: “اللَّه أعلم بما كانوا عاملين” يدلّ على أنَّهم متباينون في التبعية، بحسب تباينهم (2) في معلومِ اللَّه فيهم.
يبقى (3) أن يقال: فالحديث يدل على أنَّهم يلحقون بآبائهم من غير عمل، ولهذا فهمت ذلك منه عائشة فقالت: بلا عمل؟ فأقرَّها عليه، وقال (4): “اللَّه أعلم بما كانوا عاملين”.
ويجاب عن هذا بأنَّ الحديث إنَّما دل على أنَّهم يلحقون بهم بلا عمل عملوه (5) في الدنيا، وهو الذي فهمته عائشة. ولا ينفي هذا أن يلحقوا بهم بأسباب أُخر يمتحنهم بها في عرصات القيامة، كما سيأتي بيانه إن شاء اللَّه. فحينئذٍ يلحقون بآبائهم ويكونون منهم بلا عمل عملوه في الدنيا. وعائشة رضي اللَّه عنها إنَّما استشكلت لحاقهم بهم بلا عمل عملوه مع الآباء، وأجابها النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنَّ اللَّه سبحانه يعلم منهم ما هم عاملوه. ولم يقل لها: إنَّه يعذِّبهم بمجرَّد علمه فيهم. وهذا ظاهر بحمد
__________
(1) “قلت: يا رسول اللَّه، فذراري المشركين. . . ” إلى هنا ساقط من “ط”.
(2) “ب، ك”: “نياتهم”. “ط”: “نياتهم ومعلوم اللَّه”، تحريف.
(3) “ب، ط”: “بقي”.
(4) “ط”: “فقال”.
(5) “عملوه” سقط من “ف” سهوًا.

(2/845)


اللَّه لا إشكال فيه.
وأمَّا حديث أبي رجاء العطاردي عن ابن عباس، ففي القلب من رفعه شيء، وإن أخرجه ابن حبَّان في صحيحه (1). وهو يدلّ على ذمِّ من تكلَّم فيهم بغير علم، أو ضرَبَ النصوص بعضها ببعض فيهم، كما ذمَّ من تكلَّم في القدر بمثل ذلك. وأمَّا من تكلَّم فيهم بعلم وحقٍّ فلا.

المذهب الثاني: أنَّهم في النَّار. وهذا قول جماعة من المتكلّمين وأهل التفسير، وأحد الوجهين لأصحاب أحمد، وحكاه القاضي نصًّا عن أحمد (2).
واحتجَّ هؤلاء بحديث عائشة المتقدّم، واحتجُّوا بما رواه أبو عقيل يحيى بن المتوكِّل، عن بُهَيَّة، عن عائشة: سألت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أولاد
__________
(1) زاد المصنف في أحكام أهل الذمة: “والناس إنما رووه موقوفًا عليه وهو الأشبه، وابن حبان كثيرًا ما يرفع في كتابه ما يعلم أئمة الحديث أنَّه موقوف، كما رفع قول أبي بن كعب: “كل حرف في القرآن في القنوت فهو الطاعة”. وهذا لا يشبه كلام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وغايته أن يكون كلام أبي. . . “.
(2) قال المصنف في حاشيته على السنن (12/ 32): “حكاه القاضي أبو يعلى رواية عن أحمد. قال شيخنا: هو غلط منه على أحمد، وسبب غلطه أن أحمد سئل عنهم، فقال: هم على الحديث. قال القاضي: أراد حديث خديجة إذ سألت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أولادها الَّذين ماتوا قبل الإسلام فقال: “إن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار”. قال شيخنا: وهذا حديث موضوع، وأحمد أجلّ من أن يحتج بمثله. وإنما أراد حديث عائشة: “واللَّه أعلم بما كانوا يعملون”. ولفظ شيخ الإسلام في درء التعارض (8/ 398): “هذا حديث موضوع كذب، لا يحتج بمثله أقل من صحب أحمد، فضلًا عن الإمام أحمد”. وانظر: المغني (13/ 254)، ومجموع الفتاوى (24/ 372)، ومنهاج السنة (2/ 306)، والردّ على الشاذلي (80 – 81)، وأحكام أهل الذمة (626).

(2/846)


المسلمين أين هم؟ قال: “في الجنة”. وسألته عن أولاد المشركين أين هم يوم القيامة؟ قال: “في النار”. فقلت: لم يدركوا الأعمال ولم تَجْرِ عليهم الأقلام؟ قال: “ربك أعلم بما كانوا عاملين” (1).
قلت: يحيى بن المتوكل لا يُحتجُّ بحديثه، فإنَّه في غاية من الضعف. وأمَّا حديث عائشة المتقدّم فهو من حديث عمر بن ذرّ، وتفرَّد به عن يزيد بن أبي أميّة (2) أنَّ البراءَ بن عازب أرسل إلى عائشة يسألها عن الأطفال، فذكرت الحديث. هكذا قال سلم (3) بن قتيبة عنه (4). وقال غيره: عن عمر بن ذرّ عن يزيد عن رجل عن البراءِ (5).
ورواه الإمام أحمد في مسنده (6) من حديث عتبة بن ضمرة بن
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند (25743) مختصرًا، والطيالسي في مسنده (1681)، وابن عدي في الكامل (207) وغيرهم. والحديث باطل منكر، وهو من منكرات يحيى بن المتوكل أبي عقيل قال أحمد فيه: “أحاديثه عن بهية عن عائشة منكرة، لم يرد ما روى عنها إلّا وهو واهي الحديث”. والحديث تكلم فيه ابن عدي وابن الجوزي والذهبي وابن حجر والسيوطي وغيرهم. انظر: العلل المتناهية (1541) والبدور السافرة للسيوطي (1263) والفتح (3/ 426) والتمهيد (18/ 122). (ز).
(2) كذا في الأصل وغيره. وكذا في حاشيته على السنن (12/ 316)، وأحكام أهل الذمة (624). والصواب: يزيد بن أمية. انظر لسان الميزان (7/ 439). وفي “ط”: “يزيد عن أبي أمية”، غلط.
(3) “ف، ب”: “مسلم”، وكذا في “ط” وأحكام أهل الذمة (624). والصواب ما أثبتنا من الأصل. وكذا في “ك”. وهو سلم بن قتيبة الشعيري أبو قتيبة الخراساني الفريابي، نزيل البصرة. انظر: تهذيب التهذيب (4/ 133).
(4) “عنه” ساقط من “ك، ط”.
(5) أخرجه البخاري في تاريخه (8/ 319 – 320).
(6) (41/ 95) (24545).

(2/847)


حبيب، حدَّثني عبد اللَّه بن أبي قيس مولى غُطَيف أنَّه سأل عائشة، فذكر الحديث. وعبد اللَّه هذا يُنظر في حاله، وليس بالمشهور (1).
واحتجُّوا بما (2) رواه عبد اللَّه بن أحمد في مسند أبيه (3)، حدَّثنا عثمان ابن أبي شيبة، عن محمد بن فضيل بن غزوان، عن محمد بن عثمان، عن زاذان، عن عليّ قال: سألت خديجةُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ولدين لها ماتا في الجاهلية فقال: “هما في النَّار”. فلمَّا رأى الكراهية في وجهها قال: “لو رأيتِ مكانهما لأبغضتِهما”. قالت: يا رسول اللَّه، فولدي منك؟ قال: “إنَّ المؤمنين وأولادهم في الجنَّة، وإنَّ المشركين وأولادهم في النَّار”. ثمَّ قرأ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} (4). وهذا معلول من وجهين: أحدهما: أنَّ محمد بن عثمان مجهول، الثاني: أنَّ زاذان لم يدرك عليًّا (5).
وقال جماعة عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة، عن [سلمة بن يزيد] الأشجعي (6) قال: أتيت أنا وأخي النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقلنا: إنَّ
__________
(1) ذكره ابن حبان في الثقات. وقال العجلي والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. تهذيب التهذيب (5/ 366).
(2) من هنا إلى قوله “وبحديث خديجة” ألحقه المصنف في حاشية النسخة. وهي ثلاثة أسطر في طول الصفحة. وقد ذهب أكثر السطر الأخير منها عندما نقلت نسخة “ف” منها، كما يظهر من البياض الآتي فيها. أما الآن فلا يظهر في المصورة إلا كلمات من أول هذا السطر.
(3) (2/ 348) (1131).
(4) كذا رسمت الآية هنا في الأصل و”ف” على قراءة الجمهور. وستأتي مرة أخرى على قراءة أبي عمرو، وعليها ضبطت هنا في “ب”.
(5) والحديث تكلم فيه ابن الجوزي والذهبي والهيثمي. انظر: تحقيق المسند. (ز).
(6) ما بين الحاصرتين مكانه بياض في “ف”. ولعله كان في الأصل: “سلمة بن =

(2/848)


أمّنا ماتت في الجاهلية [وكانت تقري الضيف، وتصل الرحم، فهل ينفعها من عملها ذلك شيء؟ قال: “لا”. قلنا له: فإنّ أمّنا وأدَتْ أختًا لنا] (1) في الجاهلية لم تبلغ الحِنْث؟ فقال: “الوائدة والموؤودة في النَّار، إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم” (2). وهذا إسنادٌ لا بأس به.
واحتجُّوا (3) بحديث خديجة أنَّها سألت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أولادها الذين ماتوا في الشرك فقال: “إن شئتِ أسمعتُكِ تضاغيَهم في النار” (4). قال شيخنا: وهذا حديث باطل موضوع (5).
__________
= يزيد الأشجعي” كما في مخطوطة أحكام أهل الذمة. والصواب: “سلمة بن يزيد الجعفي”، كما في المسند (25/ 268). وفي “ب، ك، ط”: “سلمة بن قيس”، ولعله من تصرف بعض النسّاخ إذ رأى “الأشجعي” فكتب قبله في مكان البياض: “سلمة بن قيس”، لأنَّه هو الأشجعي، لا سلمة بن يزيد.
(1) ما بين الحاصرتين من أحكام أهل الذمة (627). ومكانه بياض في “ف”. وفي “ك”: بياض بعد “الضيف” وقبل “لنا”. ولفظ الحديث في “ب”: “. . . الرحم وتفعل وتفعل، فهل ينفعها. . . قلنا: إن أمنا وأدت. . . الحنث، فهل ذلك نافع أختنا؟ فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . “. ولم نأخذ بهذا اللفظ لعدم ملاءمته لسياق الأصل. وذكر ناشر (ط) الحديث بلفظ مختلف ولم يشر إلى بياض في أصله.
(2) أخرجه أحمد (15923)، والنسائي في الكبرى (11649)، والبخاري في تاريخه (4/ 72) وغيرهم. والحديث فيه اختلاف طويل. انظر: التاريخ الكبير وعلل الدارقطني (5/ 160 – 163) (ز).
(3) “احتجوا” ساقط من “ك، ط”.
(4) أخرجه البيهقي في القضاء والقدر (625) بمعناه، وفيه: “قلت يا رسول اللَّه، فأولادي من غيرك؟ قال: في النار، قلت: بلا عمل؟ قال: اللَّه أعلم بما كانوا عاملين”. قال البيهقي: هذا إسناده منقطع. (ز).
(5) انظر ما سبق من تعليقنا في ص (846).

(2/849)


واحتجوا أيضًا بما روى البخاري في صحيحه (1) في حديث احتجاج الجنَّة والنار عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: “وأمَّا النَّار فينشئ اللَّه لها خلقًا يُسكنهم إيَّاها” قالوا: فهؤلاء ينشَؤون للنَّار بغير عمل، فلأنْ يدخلها مَن وُلِد في الدنيا بين كافرين أولى. وهذه حجّة باطلة (2)، فإنَّ هذه اللفظة وقعت غلطًا من بعض الرواة، وبيَّنها البخاري رحمه اللَّه في الحديث الآخر -وهو الصواب- فقال في صحيحه (3): حدَّثني عبد اللَّه بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، حدئنا معمر، عن همَّام، عن أبي هريرة، قال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “تحاجَّت الجنَّة والنَّار، فقالت النَّار: أُوثرت بالمتكبّرين والمتجبّرين. وقالت الجنَّة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاءُ النَّاس وسَقَطُهم؟ قال اللَّه عزَّ وجلَّ للجنَّة: أنتِ رحمتي أرحم بكِ من أشاءُ من عبادي. وقال للنَّار: أنتِ عذابي أُعذِّبُ بكِ من أشاء من عبادي، ولكلّ واحدة منكما ملؤها. فأمَّا النَّار فلا تمتلئ حتَّى يضع (4) رِجلَه، فتقول: قطْ، قطْ. فهنالك تمتلئ، ويُزوَى بعضُها إلى بعض، ولا يظلم اللَّه من خلقه أحدًا. وأمَّا الجنَّة فإنَّ اللَّه ينشئ لها خلقًا”. فهذا هو الذي قاله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بلا ريب، وهو الذي ذكره في التفسير.
وقال (5) في باب ما جاء في قول اللَّه تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف/ 56]: حدثنا عبيد اللَّه (6) بن سعد، حدَّثنا
__________
(1) في كتاب التوحيد (7449)، وسيأتي نصّ الحديث بتمامه.
(2) وهذا الردّ أيضًا نقله المؤلف في أحكام أهل الذمة (629) عن شيخه.
(3) في كتاب التفسير (4850).
(4) “ك، ط”: “يضع الجبار عزّ وجلّ”.
(5) “قال” ساقط من “ط”.
(6) في الأصل وغيره: “عبد اللَّه”، وكذا في أحكام أهل الذمة (630). والصواب ما =

(2/850)


يعقوب، حدثنا أبي، عن صالح بن كيسان، عن الأعرج, عن أبي هريرة، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “اختصمت الجنَّة والنَّار إلى ربهما، فقالت الجنَّة: يا ربّ ما لها لا يدخلها إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ وقالت النار (1)، فقال للجنَّة: أنتِ رحمتي، وقال للنار: أنتِ عذابي أصيب بكِ من أشاءُ، ولكلِّ واحدة منكما ملؤها. قال: فأمَّا الجنَّة فإنَّ اللَّه تعالى لا يظلم من خلقه أحدًا، وإنَّه ينشئ للنار مَن يشاء فيُلْقَون فيها، فتقول: هل من مزيد؟ ويلقون فيها، وتقول: هل من مزيد (2) -ثلاثًا- حتى يضع قدمه فيها، فتمتلئ، ويُرَدّ بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط قط” (3). فهذا غير محفوظ، وهو مما انقلب لفظه على بعض الرواة قطعًا (4). كما انقلب على بعضهم قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنَّ بلالًا يؤذّن بليل، فكلوا واشربوا حتَّى يؤذِّن ابنُ أُمِّ مكتوم” (5). فقال: “إنَّ ابن أمّ مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتَّى يؤذن بلال” (6)،
__________
= أثبتنا من الصحيح. وفي “ب”: “عبيد اللَّه بن سعيد”، وهو أيضًا خطأ.
(1) كذا في الأصلِ، وكتب بعده: “صح”، حتى لا يظن أنه أسقط شيئًا، وكذا في “ف”. وفي حاشية “ك”: “كذا وجد”. قال ابن بطال: سقط قول النار هنا من جميع النسخ -يعني نسخ الصحيح- وهو محفوظ في الحديث. رواه ابن وهب عن مالك بلفظ: “أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين”. قال ابن حجر: هو في غرائب مالك للدارقطني، وكذا هو عند مسلم من رواية ورقاء عن أبي الزناد. انظر: الفتح (13/ 436). وفي “ب”: “يعني أوثرت. . . “.
(2) “ويلقون فيها. . . ” إلى هنا ساقط من “ك، ط”.
(3) كتاب التوحيد (7449).
(4) وانظر: حاشيته على السنن (12/ 322)، وحادي الأرواح (536). ونقل ذلك في الزاد (1/ 439) عن شيخه. وانظر قوله في منهاج السنة (5/ 101).
(5) من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما، أخرجه البخاري في الأذان (617) وغيره؛ ومسلم في الصيام (1092).
(6) أخرجه ابن خزيمة (406) ومن طريقه ابن حبان (3473) من حديث عائشة =

(2/851)


وله نظائر. وحديث الأعرج عن أبي هريرة هذا (1) لم يُحفَظ كما ينبغي، وسياقه يدل على أنَّ راويه لم يُقِمْ متنه، بخلاف حديث همام عن أبي هريرة.
واحتجُّوا بما رواه أبو داود (2) عن عامر الشعبي قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “الوائدةُ (3) والموؤودة في النار”. قال يحيى بن زكريا: [قال أبي] (4): فحدَّثني أبو إسحاق السبيعي أنَّ عامرًا حدَّثه بذلك عن علقمة، عن ابن مسعود، عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وسيأتي (5) الجواب عن هذا الحديث إن شاء اللَّه (6).

المذهب الثالث: أنَّهم في الجنَّة، وهذا قول طائفة من المفسِّرين والمتكلمين وغيرهم (7). واحتجَّ هؤلاء بما رواه البخاري في صحيحه (8) عن سمرة بن جندب قال: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يعنى (9) ممَّا يكثر أن يقول لأصحابه: “هل رأى أحد منك رؤيا؟ ” قال: فيَقُصُّ عليه من شاءَ (10) اللَّه
__________
= (ز). وانظر: تعليق المحققين على المسند (9/ 312) (5424).
(1) “ط”: “. . . هذا عن أبي هريرة”.
(2) في كتاب السنة (4717).
(3) من قوله “واحتجوا بما رواه” إلى هنا جزء من لحق في الأصل ذهب به التصوير أو تأكل الورقة، فأثبته من “ف” وغيرها.
(4) ما بين الحاصرتين زدناه من السنن. وقد سقط من الأصل وغيره.
(5) “ك، ط”: “يأتي”.
(6) زاد في “ك، ط”: “واللَّه أعلم”.
(7) ذكر المصنف في أحكام أهل الذمة (632) أنه من اختيار أبي محمد ابن حزم وغيره، ونقل من دلائله المذكورة في كتابه الفصل (2/ 324)، وردّ عليها.
(8) في كتاب التعبير (7047).
(9) حذف “يعنى” في “ط”.
(10) “ط”: “ما شاء”.

(2/852)


أن يَقُصّ. وإنَّه قال لنا ذات غداة: “إنَّه (1) أتاني الليلة آتيان” فذكر الحديث وفيه: “فأتينا على روضة معتمَّة فيها من كل لون الربيع، وإذا بين ظهرَي الروضة رجلٌ طويل لا أكاد أرى رأسه طولًا في السماء. وإذا حول الرجل من أكثر ولدانٍ رأيتهم قطّ” وفيه: “وأمَّا الولدان الذين حوله فكلّ مولود مات على الفطرة” فقال بعض المسلمين: يا رسول اللَّه وأولاد المشركين؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “وأولاد المشركين”. فهذا الحديث الصحيح صريح في أنهَّم في الجنَّة، ورؤيا الأنبياء وحي.
وفي مستخرج البَرْقاني على البخاري من حديث عوف الأعرابي، عن أبي رجاء العطاردي، عن سمرة، عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “كلُّ مولودٍ يولد على الفطرة” فناداه (2) الناس: يا رسول اللَّه، وأولاد المشركين؟ قال: “وأولاد المشركين” (3).
وقال أبو بكر بن حمدان القطيعي: حدثنا بشر بن موسى، حدثنا هوذة بن خليفة، حدثنا عوف، عن خنساء (4) بنت معاوية، قالت: حدّثتني عمَّتي (5) قلتُ (6): يا رسول اللَّه، من في الجنَّة؟ قال: “النبيّ في الجنّة،
__________
(1) “ك، ط”: “إني”.
(2) “ك، ط”: “فقال”.
(3) وأخرجه البيهقي في “القضاء والقدر” رقم (6052).
(4) كذا في الأصل وغيره. وفي المسند والسنن وغيرهما: “حسناء”، وذكر الوجهان في ترجمتها في تهذيب التهذيب (12/ 409).
(5) كذا في الأصل وغيره وأحكام أهل الذمة (633). وفيه نظر، فإن الوارد في كتب الحديث والرجال أنها تروي عن عمّها. وذكر بعضهم أن اسمه أسلم بن سليم. انظر: تهذيب التهذيب والمصادر المذكورة في تخريج الحديث.
(6) “ك، ط”: “قالت”.

(2/853)


والشهيد في الجنَّة، والمولود في الجنَّة (1)، والموؤودة في الجنَّة” (2). وكذلك رواه بندار، عن غندر، عن عوف.
واحتجُّوا بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف/ 172]، وبقوله تعالى: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15)} [الليل/ 15]، وبقوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)} [البقرة/ 24] (3).
واحتجّوا (4) بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء/ 15]. وهؤلاء لم تقم عليهم حجَّة اللَّه بالرسل فلا يعذِّبهم.
واحتجّوا بقوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء/ 165] (5).
واحتجّوا بقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)} [القصص/ 59]. فإذا كان سبحانه لا يهلك القرى في الدنيا ويعذِّب أهلها إلا بظلمهم، فكيف يعذِّب في الآخرة العذاب الدائم من لم
__________
(1) “والمولود في الجنة” ساقط من “ب، ك، ط”.
(2) أخرجه أبو داود (2521) وأحمد (20583) والبيهقي (9/ 163) وغيرهم. وفيه: حسناء بنت معاوية، فيها جهالة. (ز).
(3) قوله: “واحتجّوا بقوله تعالى” إلى هنا مثبت من “ب، ك، ط”. ومكانه بياض في “ف”. وهو الجزء الأخير من لحق بدأ في الأصل من قوله: “وفي مستخرج البرقاني” من وسط حاشية الصفحة اليسرى في طولها، وتمّ في ثلاثة أسطر في أعلاها. والسطر الأخير قد ذهب به تأكل الورقة، ولا يظهر منه الآن في المصورة إلّا: “وكذلك رواه بندار”.
(4) “واحتجوا” ساقط من “ك، ط”.
(5) هذه الآية مع ما قبلها “واحتجوا” ساقطة من “ك، ط”.

(2/854)


يصدر منه ظلم؟
ولا يقال: كما أهلكه في الدنيا تبعًا لأبويه وغيرهم، فكذلك يدخله النار تبعًا لهم. لأنَّ مصائب الدنيا إذا وردت لا تخصّ الظالم وحده بل تصيب الظالم وغيره، ويبعثون على نيَّاتهم وأعمالهم، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال/ 25] وكالجيش الذين يخسف بهم جميعهم، وفيهم المكره والمستبصر وغيره. فأمَّا عذاب الآخرة فلا يكون إلا للظالمين خاصَّة، ولا يتبعهم فيه من لا ذنب له أصلًا.
قال تعالى في حقِّ النار (1): {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك/ 8 – 9] وقال تعالى لإبليس: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)} [ص/ 85]. وإذا امتلأت بإبليس وأتباعه، فأين يستقرّ فيها من لم يتبعه؟
قالوا: وأيضًا فالقرآن مملوءٌ (2) من الأخبار بأنَّ دخول النَّار إنَّما يكون بالأعمال، كقوله: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)} [النمل/ 90] وقوله: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف/ 49] وقوله (3): {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)} [البقرة/ 281] وقوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ
__________
(1) كذا في “ف”. وفي “ب، ك، ط”: “في النار”. ولا يبعد أن تكون كلمة “الحق” مضروبًا عليها، ولكن ليس ذلك بيّنًا لانتشار الحبر.
(2) “ف”: “ضمن”، خلاف الأصل.
(3) “وقوله” ساقط من “ط”.

(2/855)


الظَّالِمِينَ (76)} [الزخرف/ 76] إلى غير ذلك من النصوص.
قالوا: وقد أخبر النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّ كلَّ مولود يولد على الفطرة، وإنَّما يهوّده وينصّره أبواه، فإذا مات قبل التهويد والتنصير مات على الفطرة، فكيف يستحقّ النار؟ وفي صحيح مسلم (1) من حديث عياض بن حمار (2) عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “يقول اللَّه تعالى: إنِّي خلقتُ عبادي حُنفاء، فأتتهم (3) الشياطينُ، فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمت عليهم ما أحللتُ لهم”.
وقال محمد بن إسحاق، عن ثور بن يزيد، عن يحيى بن جابر، عن عبد الرحمن بن عائذ، عن عياض، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إنَّ اللَّه خلق آدم وبنيه حنفاءَ مسلمين، وأعطاهم المال حلالًا لا حرامًا”، فزاد “مسلمين” (4).
قالوا: وأيضًا فإنَّ النَّار دار عدله تعالى، والجنَّة دار فضله، ولهذا (5) ينشئ للجنَّة من لم يعمل عملًا قطّ. وأمَّا النار فإنَّه لا يعذّب بها إلا من
__________
(1) في كتاب الجنة (2865).
(2) “ف”: “حديث أبي هريرة”، وهو غير صحيح، ولكن لا ندري أكان هذا السهو في الأصل، أم ناسخ “ف” هو الذي سها، لأن قوله: “وفي صحيح مسلم. . . دينهم” جزء من لحق، ووقع في طرف الورقة، فضاع أو لم يظهر في الصورة. والمثبت من “ب، ك، ط”.
(3) “ب، ك، ط”: “فجاءتهم”.
(4) أخرجه الطبراني في الكبير (17/ 997)، وسنده ضعيف، فيه عبد الرحمن بن عائذ، تابعي لا يدرى أسمع من عياض أم لا. وأيضًا فيه ابن إسحاق مدلس ولم يصرح بالتحديث. (ز).
(5) “ب، ك، ط”: “فلهذا”، قراءة محتملة.

(2/856)


عمل بعمل أهلها.
قالوا: وأيضًا فإنَّ النَّار دار جزاءٍ، فمن لم يعص اللَّه طرفةَ عين كيف يُجازى بالنَّار خالدًا مخلَّدًا أبد الآباد؟
قالوا: وأيضًا فلو عذّب هؤلاء لكان تعذيبهم إمَّا مع تكليفهم بالإيمان أو بدون التكليف، والقسمان ممتنعان: أمَّا الأوَّل فلاستحالة تكليف من لا تمييز له ولا عقل أصلًا. وأمَّا الثاني فممتنع (1) أيضًا بالنصوص التي ذكرناها وأمثالها من أنَّ اللَّه لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام (2) الحجَّة عليه.
قالوا: وأيضًا فلو كان تعذيب هؤلاء لأجل عدم الإيمان المانع من العذاب لاشتركوا هم وأطفال المسلمين في ذلك، لاشتراكهم في عدم الإيمان الفعلي علمًا وعملًا. فإن قلتم: أطفال المسلمين منعهم تبعهم لآبائهم من العذاب، بخلاف أطفال المشركين. قلنا: اللَّه تعالى لا يعذِّب أحدًا بذنب غيره. قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام/ 164] وقال: {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس/ 54].
وهذه حجج كما ترى قوَّةً وكثرةً، ولا سبيل إلى دفعها. وسيأتي إن شاء اللَّه فصلُ النزاع في المسألة، والقولُ بموجَب (3) الحجج الصحيحة
__________
(1) “ك، ط”: “فيمتنع”.
(2) “ف”: “إقامة”، خلاف الأصل.
(3) “ك، ط”: “في هذه المسألة والقول بموجب هذه. . . “.

(2/857)


كلّها، على عادتنا (1) في مسائل الدين كلّها دِقّها وجِلّها أن نقول بموجَبها، ولا نضربَ بعضها ببعض؛ ولا نتعصَّب لطائفة على طائفة، بل نوافق كلّ طائفة على ما معها من الحقّ، ونخالفها فيما معها من خلاف الحقّ. لا نستثني من ذلك طائفةً ولا مقالةً، ونرجو من اللَّه أن نحيا على ذلك، ونموت عليه، ونلقَى اللَّه به، ولا قوَّة إلا باللَّه.

المذهب الرابع: أنَّهم في منزلة بين المنزلتين بين الجنَّة والنَّار، فإنَّهم ليس لهم إيمان يدخلون به الجنَّة، ولا لآبائهم فوز يلحق بهم أطفالهم تكميلًا لثوابهم وزيادةً في نعيمهم، وليس لهم من الأعمال ما يستحقون به دخول النار.
وهذا قول طائفة من المفسّرين. قالوا: وهم أهل الأعراف. وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني: “هم الذين ماتوا في الفترة [وأطفال المشركين] ” (2).
والقائلون بهذا إن أرادوا أنَّ هذا المنزل مستقرّهم أبدًا فباطل، فإنَّه لا دار للقرار إلا الجنَّة أو النَّار. وإن أرادوا أنَّهم يكونون فيه مدَّةً، ثمَّ يصيرون إلى دار القرار، فهذا ليس بممتنع.

المذهب الخامس: أنَّهم تحت مشيئة اللَّه تعالى، يجوز أن يعمّهم بعذابه، وأن يعمّهم برحمته، وأن يرحم بعضًا ويعذِّب بعضًا، بمحض
__________
(1) “ط”: “على أن عادتنا”.
(2) ما بين الحاصرتين زدناه من أحكام أهل الذمة (641). وهي زيادة لا بدّ منها ليتصل كلامه بالسياق. وعبد العزيز بن يحيى الكناني من أصحاب الشافعي، ينسب إليه كتاب الحيدة. وقد جرت بينه وبين بشر المريسيّ مناظرة في القرآن. طبقات السبكي (2/ 144).

(2/858)


الإرادة والمشيئة. ولا سبيل إلى إثبات شيء من هذه الأقسام إلا بخبر يجب المصير إليه، ولا حكم فيهم إلا بمحض المشيئة.
وهذا قول الجبرية نفاة الحكمة والتعليل، وقول كثير من مثبتي القدر غيرهم (1).

المذهب السادس: أنَّهم خدم أهل الجنَّة ومماليكهم، وهم معهم بمنزلة أرقَّائهم ومماليكهم في الدنيا.
واحتجّ هؤلاء بما رواه يعقوب بن عبد الرحمن القاريّ، عن أبي حازم المديني، عن يزيد الرقاشي، عن أنس؛ قال الدارقطني: ورواه عبد العزيز الماجشون، عن ابن المنكدر، عن يزيد الرقاشي، عن أنس، عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “سألتُ ربِّي اللاهين من ذرّية البشر أن لا يعذّبهم، فأعطانيهم، فهم خُدّام أهل الجنَّة” (2) يعني الصبيان. فهذه (3) طريقان، وله طريق ثالث عن فضيل بن سليمان (4)، عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري، عن أنس (5). قال ابن قتيبة: “اللاهون” من لهِيتُ عن الشيء إذا غفلت عنه. وليس هو من لهوت.
__________
(1) كذا في الأصل و”ف”. ولعله يعني غير نفاة الحكمة. وفي “ك، ط”: “وغيرهم” بواو العطف. وهو ساقط من “ب”.
(2) أخرجه ابن الجعد (2906) وأبو يعلى (205، 4101). والحديث ضعفه الهيثمي والمؤلف. (ز).
(3) كذا في الأصل و”ف، ب”. وكذا في مخطوطة أحكام أهل الذمة (643). وفي “ط”: “فهذان”. وفي “ك”: “فهذه طريقة”.
(4) في “ف، ب”: “سلمان” هنا وفيما يأتي. والصواب ما أثبتنا من “ك، ط”.
(5) أخرجه أبو يعلى (3570) والطبراني في الأوسط (957). (ز).

(2/859)


وهذه الطرق ضعيفة. فإنَّ يزيد الرقاشي واهٍ، وفضيل بن سليمان متكلَّم فيه (1)، وعبد الرحمن بن إسحاق ضعيف.

المذهب السابع: أنَّ حكمهم حكم آبائهم في الدنيا والآخرة، فلا يفرَدون عنهم بحكم في الدارين. فكما هم منهم في الدنيا، فهم منهم في الآخرة.
والفرق بين هذا المذهب وبين (2) مذهب من يقول: هم في النَّار، أن صاحب هذا المذهب يجعلهم معهم تبعًا لهم، حتَّى لو أسلم الأبوان بعد موت أطفالهما لم يحكم لأفراطهما بالنَّار. وصاحب القول الآخر يقول: هم في النَّار لكونهم ليسوا بمسلمين، ولم يدخلوها تبعًا.
وهؤلاء يحتجّون بحديث عائشة الذي تقدَّم ذكره، واحتجّوا بما في الصحيحين (3) عن الصعب بن جثَّامة قال: سئل رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أهل الدار من المشركين يُبيَّتون (4) فيصيبون من نسائهم وذراريهم، فقال: “هم منهم” (5). ومثله من حديث الأسود بن سريع. وقد تقدَّم حديث أبي وائل عن ابن مسعود يرفعه: “الوائدة والموؤودة في النار”. وهذا يدلّ على أنَّها إنَّما (6) كانت في النار تبعًا لها.
__________
(1) في أحكام أهل الذمة: “وفضيل بن سليمان فينظر فيه”. ولا يبعد أن يكون “فينظر” تحريفًا لما هنا.
(2) “بين” ساقط من “ط”.
(3) البخاري (13012) ومسلم (1745) في الجهاد والسير.
(4) “ف”: “يثبتون”، تصحيف.
(5) أسقط ناسخ “ف” “هم”، ولعله ظن الكلمة مضروبًا عليها.
(6) “إنّما” ساقطة من “ط”.

(2/860)


قالوا: ويدلّ عليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)} (1) [الطور/ 21]. فهذا يدلّ على أنَّ إتباع الذرية لآبائهم ونجاتَهم إنَّما كان إكرامًا لآبائهم وزيادةً في ثوابهم، وأنَّ الإتباع إنَّما استُحِق (2) بإيمان الآباء. وإذا (3) انتفى إيمان الآباء انتفى إتباعُ النجاة، وبقي إتباعُ العذاب. ويفسّره قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “هم منهم”.
وأجيب عن حجج هؤلاء: أمَّا حديث عائشة الذي فيه أنَّهم في النار، فقد تقدّم ضعفه. وأمَّا حديثها الآخر: “هم من آبائهم” فمثل حديث الصعب والأسود بن سريع، وليس فيه تعرُّضٌ للعذاب بنفي ولا إثبات. وإنَّما فيه أنهم تَبَعٌ لآبائهم في الحكم، وأنَّهم إذا أصيبوا في الجهاد والبَيات لم يُضمَنوا بدية ولا كفَّارة. وهذا مصرَّح به في حديث الصعب والأسود أنَّه في الجهاد.
وأمَّا حديث عائشة الآخر فضعَّفه غيرُ واحد. قالوا: وعبد اللَّه بن أبي قيس مولى غُطَيف راويه عنها ليس بالمعروف فيُقْبلَ حديثُه. وعلى تقدير ثبوته، فليس فيه تصريح بأنَّ السؤال وقع عن الثواب والعقاب. والنبى -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “هم من آبائهم”. ولم يقل: “هم معهم”، وفرقٌ بين الحرفين. وكونهم منهم لا يقتضي أن يكونوا معهم في أحكام الآخرة، بخلاف
__________
(1) وردت الآية في الأصل و”ف، ب” على قراءة أبي عمرو: “وأتبعناهم ذريّاتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم”. وفي “ك”: “واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم” على قراءة نافع. انظر: الإقناع (773).
(2) “ط”: “يستحق”.
(3) “ك، ط”: “فإذا”.

(2/861)


كونهم منهم (1)، فإنَّه يقتضي أن تثبت لهم أحكام الآباء في الدنيا من التوارث والحضانة والنسب وغير ذلك من أحكام الإيلاد. واللَّه تعالى يُخرج الطيبَ من الخبيث، والمؤمن من الكافر.
وأمَّا حديث ابن مسعود فليس فيه أنَّ هذا حكم كلّ واحد من أطفال المشركين. وإنَّما يدلّ على أنَّ بعض أطفالهم في النَّار، وأنَّ من هذا الجنس -وهن الموؤودات- مَن يدخل النَّار، وكونُها موؤودة لا يمنع من دخولها النَّار بسبب آخر، وليس المراد أنَّ كونها موؤودة هو السبب الموجب لدخول النَّار، حتى يكون اللفظ عامًّا في كلِّ موؤودة. وهذا ظاهر، ولكن كونها موؤودة لا يودّ عنها النار إذا استحقَّتها بسبب، كما سيأتي بيانه بعد هذا إن شاء اللَّه. وأحسن من هذا أن يقال: هي في النار ما لم يوجَد سببٌ يمنع من دخولها النَّار، كما سنذكره إن شاء اللَّه. ففرق بين أن تكون جهةُ كونها موؤودةُ هي التي استحقَّت بها دخول النَّار، وبين كونها غيرَ مانعة من دخول النار بسبب آخر. وإذا كان تعالى يسأل الوائدة عن وأد ولدها بغير استحقاق، ويعذِّبها على وأدها، كما قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8)} [التكوير/ 8]، فكيف يعذّب الموؤودة بغير ذنب، وهو سبحانه (2) لا يعذَب من وأَدها بغير ذنب؟
وأمَّا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (3) [الطور/ 21] فهذه الآية تدلّ على أنَّ اللَّه سبحانه يُلحِق ذرّيةَ المؤمنين بهم
__________
(1) كذا في الأصل وغيره، وأحكام أهل الذمة (647).
(2) “ك، ط”: “واللَّه سبحانه”.
(3) هنا أيضًا وردت الآية في الأصل و”ف، ب” على قراءة أبي عمرو. وفي “ك” على قراءة نافع.

(2/862)


في الجنَّة، وأنَّهم يكونون معهم في درجتهم. ومع هذا فلا يتوهّم نزول الآباء إلى درجة الذرية، فإنَّ اللَّه لم يَلِتْهُمْ -أي: لم ينقصهم- من أعمالهم شيئًا، بل رفع ذرّيتهم (1) إلى درجاتهم مع توفير أجور الآباء عليهم. لما كان إلحاق الذرّية بالآباء في الدرجة إنَّما هو بحكم التبعية لا بالأعمال، ربما توهَّم متوهّم أنَّ ذرّية الكفار يلحقون بهم في العذاب تبعًا وإن لم يكن لهم أعمال الآباء، فقطع تعالى هذا التوفم بقوله: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)}.
وتأمَّل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} (2) [الطور/ 21]، كيف أتى بالواو العاطفة في إتباع الذرية، وجَعَلَ الخبر (3) عن المؤمنين الذين هذا شأنهم، فجعل الخبر مستحَقًّا بأمرين: أحدهما: إيمان الآباء، والثاني: إتباع اللَّه ذريتَهم إيَّاهم. وذلك لا يقتضي أنَّ كل مؤمن يَتبعه كلُّ ذرية له، ولو أريد هذا المعنى لقيل: والذين آمنوا تتبعهم ذرّياتُهم. فعطفُ الإتباع بالواو يقتضي أن يكون المعطوف بها قيدًا وشرطًا في ثبوت الخبر، لا حصوله لكلِّ أفراد المبتدأ.
وعلى هذا يخرَّج ما رواه مسلم في صحيحه (4) عن عائشة قالت: أُتي النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بصبي من الأنصار يصلّي عليه: فقلت: يا رسول اللَّه، طوبى لهذا، لم يعمل شرًّا، ولم يدرِ به (5). قال: “أوَ غير ذلك يا عائشة، إنَّ اللَّه
__________
(1) “ك، ط”: “ذرياتهم”.
(2) انظر: التعليق السابق على الآية.
(3) “ف”: “وبعد الخبر”، تحريف.
(4) “ط”: “ولم يدره”.
(5) كتاب القدر (2662) وقد سبق في ص (150). ولفظ الحديث هنا من سنن =

(2/863)


خلق الجنَّة، وخلق لها أهلًا، وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم. وخلق النار، وخلق لها أهلًا، وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم”. فهذا الحديث يدلّ على أنَّه لا يشهد لكلِّ طفل من أطفال المؤمنين بالجنَّة، وإن أُطلق على أطفال المؤمنين في الجملة أنَّهم في الجنَّة، لكنَّ الشهادة للمعيَّن ممتنعة؛ كما يشهد للمؤمنين مطلقًا أنَّهم في الجنَّة، ولا يشهد لمعيَّن بذلك إلا من شهد له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. فهذا وجه الحديث الذي أشكل (1) على كثيرٍ من النَّاس، وردَّه الإمام أحمد وقال: لا يصحّ، ومن يشكّ أنَّ أولاد المسلمين في الجنَّة؛ (2) وتأوّله قومٌ تأويلات بعيدة.

المذهب الثامن: أنَّهم يمتحنون في عرصة (3) القيامة، ويرسل إليهم هناك رسول وإلى كلِّ من لم تبلغه الدعوة، فمن أطاع الرسول دخل الجنَّة، ومن عصاه أدخله النَّار. وعلى هذا فيكون بعضهم في الجنَّة وبعضهم في النَّار. وبهذا يتألَّف شمل الأدلّة كلَّها، وتتوافق الأحاديث، ويكون معلومُ اللَّه -عزَّ وجلَّ- الذي أحال عليه النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حيث يقول: “اللَّه أعلم بما كانوا عاملين” يظهر حينئذٍ، ويقع الثواب والعقاب عليه حال كونه معلومًا خارجيًّا (4) لا علمًا مجرَّدًا، ويكون النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قد ردَّ جوابهم إلى علم اللَّه فيهم، واللَّه تعالى يردّ ثوابهم وعقابهم إلى معلومه منهم. فالخبرُ عنهم مردودٌ إلى علمه، ومصيرُهم مردودٌ إلى معلومه.
__________
= أبي داود (4713).
(1) “ك، ط”: “يشكل”.
(2) انظر: حاشية المؤلف على السنن (12/ 318).
(3) “ب، ك، ط”: “عرصات”.
(4) “ط”: “معلومًا علمًا خارجيًا”!

(2/864)


وقد جاءت بذلك آثار كثيرة يؤيد بعضها بعضًا. فمنها: ما رواه أحمد في مسنده والبزار أيضًا بإسنادٍ صحيح، فقال أحمد (1): حدثنا معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن الأحنف بن قيس، عن الأسود بن سريع أنَّ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “أربعة يحتجّون يوم القيامة: رجلٌ أصمّ لا يسمع، ورجل أحمق، ورجل هرِم (2)، ورجل مات في الفترة. أمَّا الأصمّ فيقول: ربّ لقد جاء الإسلام، وأنا ما أسمع شيئًا. وأمَّا الأحمق فيقول: ربّ لقد جاءَ الإسلام، والصبيان يحذفوني (3) بالبعر. وأمَّا الهرم فيقول: لقد (4) جاءَ الإسلام، وما أعِقل. وأمّا الذي مات (5) في الفترة فيقول: ربِّ ما أتاني رسول. فيأخذ مواثيقهم لَيُطيعُنَّه، فيرسل إليهم رسولًا أن ادخلوا النَّار. فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا” (6). قال معاذ: وحدثني أبي، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة بمثل هذا الحديث، وقال في آخره: “فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن لم يدخلها رُدَّ إليها” (7).
__________
(1) “ب، ك، ط”: “الإمام أحمد”، هنا وكذا في الموضع السابق في “ك، ط”.
(2) متقدم في “ك، ط” على سابقه.
(3) بحذف نون الرفع. وفي “ط”: “يحذفونني”.
(4) “ب، ك، ط”: “رب لقد”.
(5) “مات” ساقط من “ك، ط”.
(6) أخرجه أحمد (16301)، وإسحاق في مسنده (41)، وابن حبان (7356)، والطبراني في الكبير (841)، وغيرهم من حديث الأسود بن سريع. وفي سنده انقطاع، قتادة لم يسمع من الأحنف بن قبس، لأنه ولد سنة 60 هـ، وتوفي الأحنف سنة 67 هـ، فسماعه بعيد جدًّا. (ز).
(7) لفظ المسند: “من لم يدخلها يُسْحَبْ عليها”.

(2/865)


وهو في مسند إسحاق عن معاذ بن هشام أيضًا (1).
ورواه البزَّار، ولفظه: عن الأسود بن سريع عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “يعرض على اللَّه تبارك وتعالى الأصمّ الذي لا يسمع شيئًا، والأحمق، والهرم، ورجل مات في الفترة. فيقول الأصمّ: ربّ جاء الإسلام وما أسمع شيئًا. ويقول الأحمق (2): ربّ جاء الإسلام وما أعقل شيئًا. ويقول الذي مات في الفترة: ربّ ما أتاني لك رسول”. وذكر الهرم وما يقول. قال: “فيأخذ مواثيقهم لَيطيعُنّه. فيرسِل إليهم: ادخلوا النار. فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا” (3) قال الحافظ عبد الحقّ في حديث الأسود: قد جاءَ هذا الحديث، وهو صحيح فيما أعلم. والآخرة ليست دار تكليف ولا عمل، ولكنَّ اللَّه يخصّ من شاء بما شاء (4)، ويكلِّف من شاء ما شاءَ، وحيثما شاءَ. لا يُسأل عمَّا يفعل وهم يُسألون (5).
قلتُ: وسيأتي الكلام على وقوع التكليف في الدار الآخرة وامتناعه، عن قُربٍ (6) إن شاء اللَّه.
__________
(1) أخرجه أحمد (16302)، وإسحاق (41)، والبزار كما في كشف الأستار (2175) وغيرهم من حديث الأسود. قلت: وقد وقع اختلاف في رفعه ووقفه. وقال البيهقي في الحديث: هذا إسناد صحيح. القضاء والقدر (645). (ز).
(2) “ك، ط”: “والأحمق يقول”.
(3) أخرجه البزار كما في كشف الأستار (2174) من حديث الحسن البصري عن الأسود. وفي سماع الحسن من الأسود خلاف، وانظر: جامع التحصيل (165). (ز).
(4) “ك، ط”: “من يشاء بما يشاء”.
(5) العاقبة (317).
(6) “ط”: “عن قريب”.

(2/866)


ورواه على بن المديني عن معاذ بنحوه. قال البيهقي: حدثنا على بن محمد بن بشران، أنبأنا أَبو جعفر الرزَّاز (1)، حدثنا حنبل بن إسحاق (2)، حدثنا على بن عبد اللَّه. وقال: هذا إسناد صحيح. وأمَّا حديث [. . .] (3) علي بن زيد بن جدعان عن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نحوه (4). ورواه معمر عن عبد اللَّه بن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة قوله (5).
وروى محمد بن المبارك الصوري -ثقة- حدثنا عمرو بن واقد -ضعيف- حدثنا يونس بن ميسرة -ثقة- عن إبي إدريس الخولاني عن معاذ يرفعه: “يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلًا، وبالهالك في الفترة، وبالهالك صغيرًا. فيقول الممسوخ عقلًا: يا ربّ لو آتيتني عقلًا ما كان مَن آتيته عقلًا بأسعد منِّي. ويقول الهالك في الفترة: يا ربِّ لو أتاني منك
__________
(1) “ط”: “الرازي” تحريف.
(2) في “ف” وغيرها: “حنبل بن الحسين”، ولكن الصواب ما قرأت. وكذا في الاعتقاد (169).
(3) في “ف” بياض هنا بقدر تسع كلمات أو نحوها. وهو جزء من لحق طويل. ولم يظهر في المصورة بعد كلمة “حديث” إلى “عن أبي هريرة”. ولا يوجد بياض في النسخ الأخرى، كان الكلام متصل.
(4) أخرجه إسحاق في مسنده (514) وابن أبي عاصم في السنة (413)، وأسد بن موسى في الزهد (97) وغيرهم. وفيه على بن زيد بن جدعان، فيه ضعف. وقد تابعه الحسن إن كان محفوظًا. والحديث أشار إليه البيهقي في القضاء والقدر (645) وقال: فيه ضعف. (ز).
(5) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 318) (1545)، ورواه معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة موقوفًا. ورواه معمر عن قتادة عن أبي هريرة موقوفًا. أخرجهما الطبري في تفسيره (15/ 54). (ز).

(2/867)


عهدٌ ما كان من أتاه منك عهد بأسعد بعهده منِّي. ويقول الهالك صغيرًا: يا ربِّ لو آتيتَني عمرًا ما كان من آتيتَه عمرًا بأسعد منِّي. فيقول الربّ سبحانه: لئن (1) آمرْكم بأمرٍ أفتطيعوني (2)؟ فيقولون: نعم وعزَّتك، فيقول: اذهبوا فادخلوا النَّار. فلو دخلوها ما ضرَّهم (3). قال: فيخرج عليهم قوابسُ (4) [يظنّون أنَّها قد أهلكت ما خلق اللَّه من شيء، فيرجعون سراعًا فيقولون: خرجنا -وعزَّتك- نريد دخولها، فخرجت علينا قوابسُ، (5) ظننَّا أنَّها قد أهلكت ما خلق اللَّه من شيء. فيأمرهم الثانية، فيرجعون كذلك، ويقولون مثل قولهم. فيقول اللَّه سبحانه: قبل أن تُخلَقوا علمتُ ما أنتم عاملون، وعلى علمي خلقتُكم، وإلى علمي تصيرون. فتأخذهم النار” (6). فهذا وإن كان فيه (7) عمرو بن واقد ولا يحتجّ به، فله أصل وشواهد، والأصول تشهد له.
__________
(1) “ف”: “إنّي”، أخطأ في القراءة. “ج، ك، ط”: “لئن أمرتكم”.
(2) “ب”: “أتطيعوني”. “ك، ط”: “فتطيعوني”.
(3) “ط”: “ضرّتهم”.
(4) كذا في الأصل وغيره بالسين. وفي حاشية “ف” بإزائها: “من شعل النار”. ويروى: “قوابص” و”قوانص”. انظر: النهاية (4/ 5، 112).
(5) ما بين الحاصرتين قد سقط من الأصل لانتقال النظر، وكذا في النسخ الأخرى. وقد استدركناه من أحكام أهل الذمة (652) ومصادر التخريج الآتية. وهو مستدرك أيضًا في “ط” دون إشارة إلى سقط في أصلها.
(6) أخرجه الطبراني في الكبير (20/ 158)، والأوسط (7955)، وابن عدي في الكامل (5/ 117)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1545) وغيرهم من حديث معاذ. قال الطبراني: “لا يروى عن معاذ إلَّا بهذا الإسناد”. وقال الهيثمي في المجمع (7/ 216): “وفيه عمرو بن واقد وهو متروك”. والحديث باطل، تكلّم فيه ابن عدي وأَبو نعيم وابن الجوزي والهيثمي وغيرهم. (ز).
(7) “فيه” ساقط من “ك، ط”.

(2/868)


وفي الباب أحاديث غير هذا. (1) وقد رويت أحاديث الامتحان في الآخرة من حديث الأسود بن سريع -وصحَّحه عبد الحق والبيهقي (2) – و (3) من حديث أبي هريرة وأنس ومعاذ وأبي سعيد.
فأَمَّا حديث الأسود فرواه معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن الأحنف بن قيس، عن الأسود بن سريع أنَّ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (4).
قال معاذ: وحدَّثني أبي، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة. رواه (5) أحمد وإسحاق عن معاذ.
ورواه حمَّاد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبي رافع، عن أبي هريرة. ورواه معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة موقوفًا عليه. وهذا لا يضرّ الحديث، فإنَّه إن سلك طريق ترجيح الزائد لزيادته فواضح، وإن سلك طريق المعارضة فغايتها تحقُّق الوقف، ومثل هذا لا يُقدَم عليه بالرَّأي. إذ لا مجال له فيه، بل يجزم (6) بأنَّ هذا توقيف لا عن رأي.
__________
(1) كتب المؤلف أولًا: “وفي الباب أحاديث غير هذا لا تحضرني الآن. وعلى هذا فتوافق النصوص والأدلة. وشواهد العقل والفطرة تسبق الأدلة السمعية والعقلية، ويزول الاختلاف والاضطراب فيها، والحمد للَّه”. ثم ضرب على قوله: “لا تحضرني. . . ” إلى آخره، وكتب استدراكًا طويلًا في عرض النصف الأسفل من ق (116/ أ) مع إضافات جانبية، ثم رجع الكلام إلى (115/ ب).
(2) الاعتقاد (169).
(3) سقطت الواو من “ك، ط”، ففسد المعنى.
(4) كذا في الأصل وغيره. وقد تقدم الحديث قريبًا.
(5) “ط”: “ورواه”.
(6) “ك، ط”: “له فيقبل بجزم”، تحريف طريف!

(2/869)


وأمَّا حديث أَنس فرواه جرير بن عبد الحميد، عن ليث بن أبي سليم، عن عبد الوارث، عن أَنس، قال: قال رسول اللَّه (1) -صلى اللَّه عليه وسلم-: “يؤتى يوم القيامة بأربعة: بالمولود، وبالمعتوه، وبمن مات في الفترة، وبالشيخ الفاني: كلّهم يتكلَّم بحجّته. فيقول الربّ تعالى لعنُقٍ من جهنَّم: ابرُزي. ويقول لهم: إنِّي كنت أبعث إلى عبادي رسولًا من أنفسهم وإنِّي رسول نفسي إليكم. قال: ويقول لهم: ادخلوا هذه. ويقول من كتب عليه الشقاء: أنَّى ندخلها، ومنها كنَّا نفرّ؟ فيقول اللَّه: فأنتم لرسلي أشدّ تكذيبًا. قال: وأمَّا من كتب عليه السعادة فيمضي فيقتحم فيها. فيدخل هؤلاء إلى الجنَّة، وهؤلاء إلى النَّار” (2).
وهذا وإن لم يعتمد عليه بمجرَّده لمكان ليث بن أبي سليم، وتضعيف الدارقطني لعبد الوارث (3)، فهو مما يعتضَد به.
وقال البيهقي (4): أنبأنا أَبو عبد اللَّه الحافظ، أنبأنا أَبو العباس [هو
__________
(1) “ك، ط”: “عن أَنس عن النبي”.
(2) أخرجه أَبو يعلى في مسنده (4224)، والبزار كما في كشف الأستار (2177)، وابن عبد البر في التمهيد (18/ 128)، والبيهقي في الاعتقاد (169) من حديث أَنس. وهو ضعيف جدًّا. فيه ليث بن أبي سليم، لا يحتج به. وفيه عبد الوارث، قال البخاري: منكر الحديث. وقال ابن معين: مجهول. وقال أَبو حاتم: شيخ. (ز). قوله: “عنق من جهنم” أي: طائفة منها.
(3) لسان الميزان (4/ 85).
(4) في الاعتقاد (170). والعبارة: “وقال البيهقي. . . شيبان” جزء من لحق وقع في طرف الورقة فلم يظهر في مصورة الأصل.

(2/870)


الأصم قال: نا العباس] (1) بن الوليد، أنبأنا أَبو شعيب (2)، حدثني شيبان (3) عن ليث بن أبي سليم (4)، عن عبد الوارث (5)، عن أَنس، عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-.
وأمَّا حديث معاذ، فقد تقدَّم (6) الكلام عليه.
وأمَّا حديث أبي سعيد، فرواه محمد بن يحيى الذهلي، حدثنا سعيد ابن سليمان، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “الهالك في الفترة والمعتوه والمولود. يقول الهالك في الفترة: لم يأتني كتاب. ويقول المعتوه: ربّ لم تجعل لي عقلًا أعقل به خيرًا ولا شرًّا. ويقول المولود: ربِّ لم أدرك العقل. فتُرفع لهم نارُ (7) فيقول: رِدوها. قال: فيرِدها مَن كان في علم اللَّه سعيدًا لو أدرك العمل، ويمسك عنها من كان في علم اللَّه شقيًّا لو أدرك العمل. فيقول: إيَّاي
__________
(1) ما بين الحاصرتين زدناه من كتاب الاعتقاد. وأَبو العباس الأصم هو الحافظ محمد بن يعقوب النيسابوري المتوفى سنه 346 هـ. انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ (3/ 865). والعباس بن الوليد بن مزيد أَبو الفضل البيروتي المتوفى سنة 270 هـ. ترجمته في تهذيب التهذيب (5/ 131).
(2) في “ف” وغيرها: “ابن شعيب”، خطأ. وهو أَبو شعيب عبد اللَّه بن الحسن الحزاني المتوفى سنة 292 هـ. ترجمته في لسان الميزان (3/ 271).
(3) في “ف”: “الشيباني”، وفي “ب”: “سفيان”. والصواب ما أثبتنا. وهو شيبان ابن عبد الرحمن التميمي مولاهم النحوي، أَبو معاوية البصري. توفي سنة 164 هـ ترجمته في تهذيب التهذيب (4/ 374).
(4) “وتضعيف الدارقطني. . . ” إلى هنا سقط من “ط”، واستدرك في حاشية “ك”، ولكن لم يظهر منه في الصورة إلا إلى قوله: “الوليد”.
(5) “ب، ك، ط”: “عبد الرزاق”، تحريف.
(6) “ك، ط”: “فتقدم”.
(7) “ط”: “فيرفع لهم نارًا”.

(2/871)


عصيتم، فكيف لو رُسُلي أتتكم” (1). تابعه الحسن بن موسى عن فضيل. ورواه أَبو نعيم عن فضيل بن مرزوق فوقفه (2). فهذا وإن كان فيه عطية فهو ممن يعتبر بحديثه ويستشهد به، وإن لم يكن حجة. وأمَّا الوقف فقد تقدم نظيره في (3) حديث أبي هريرة.
فهذه الأحاديث يشدّ بعضها بعضًا، ويشهد لها أصول الشرع وقواعده. والقول بمضمونها هو مذهب السلف والسنّة، نقله عنهم الأشعري رحمه اللَّه في “المقالات” وغيرها (4).
فإن قيل: قد أنكر ابن عبد البرّ هذه الأحاديث وقال: أهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب، لأنّ الآخرة ليست دار عمل ولا ابتلاء. وكيف يكلَّفون دخولَ النار، وليس ذلك في وسع المخلوقين، واللَّه لا يكلّف نفسًا إلَّا وسعها (5)؟
فالجواب من وجوه (6):
أحدها: أنّ أهل العلم لم يتفقوا على إنكارها، بل ولا أكثرهم. وإن
__________
(1) أخرجه ابن عبد البر في التمهيد (18/ 127)، وابن الجعد في مسنده (2038)، والبزار كما في كشف الأستار (2176) من حديث أبي سعيد. قال الهيثمي في المجمع: “رواه البزار، وفيه عطية، وهو ضعيف”.
(2) ذكره ابن عبد البر في التمهيد (18/ 128).
(3) “ك، ط”: “من”.
(4) انظر: مقالات الإسلاميين (296)، والإبانة (33).
(5) الاستذكار (3/ 114). وقد صرّح بالنقل عنه في أحكام أهل الذمة (654). وانظر: التمهيد (18/ 130).
(6) اقتصر المؤلف هنا على تسعة وجوه، وذكر في أحكام أهل الذمة (654 – 656/ 5) تسعة عشر وجهًا.

(2/872)


أنكرها بعضهم فقد صحّح غيرُه بعضَها، كما تقدّم.
الثاني: أنّ أبا الحسن الأشعري حكى هذا المذهب عن أهل السنة والحديث، فدلّ على أنّهم ذهبوا إلى موجب هذه الأحاديث.
الثالث: أنّ إِسناد حديث الأسود أجود من كثير من الأحاديث التي يحتجّ بها في الأحكام، ولهذا رواه الأئمّة: أحمد وإسحاق وعليّ بن المديني.
الرابع: أنّه قد نصّ جماعة من الأئمة على وقوع الامتحان في الدار الآخرة، وقالوا: لا ينقطع التكليف إلَّا بدخول دار القرار. ذكره البيهقي عن غير واحد من السلف.
الخامس: ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد في الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولًا إليها: أنّ اللَّه تعالى يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأله غيرَ الذي يعطيه، وأنّه يخالفه ويسأله غيره، فيقول اللَّه له (1): “ما أغدرك! ” (2). وهذا الغدر منه هو لمخالفته العهد (3) الذي عاهد اللَّه عليه.
السادس: قوله: “وليس ذلك في وسع المخلوقين” جوابه من وجهين: أحدهما: أنَّ ذلك ليس تكليفًا بما ليس في الوسع، وإنَّما هو تكليف بما فيه مشقَّة شديدة، وهو كتكليف بني إسرائيل قتلَ أولادِهم وأزواجِهم وآبائهم حين عبدوا العجل، وكتكليف المؤمنين إذا رأوا
__________
(1) “له” ساقط من “ك، ط”.
(2) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد (7437، 7439) وغيره. ومسلم في كتاب الإيمان (182).
(3) “ك، ط”: “للعهد”.

(2/873)


الدجّال ومعه مثال الجنة والنار أن يقعوا في الذي يرونه نارًا (1). الثاني: أنَّهم لو أطاعوه ودخلوها لم يضرّهم، وكانت بردًا وسلامًا، فلم يكلَّفوا بممتنع ولا بما يشقّ (2).
السابع: أنَّه قد ثبت أنَّه سبحانه يأمرهم في القيامة بالسجود ويحول بين المنافقين وبينه (3)، وهذا تكليف بما ليس في الوسع قطعًا، فكيف ينكر التكليف بدخول النَّار في رأي العين إذا كان سببًا (4) للنجاة؟ كما (5) جعل قطع الصراط الذي هو أدقّ من الشعرة وأحدّ من السيف سببًا للنجاة (6)، كما قال أَبو سعيد الخدري: “بلغني أنَّه أدقّ من الشعرة وأحدّ من السيف” رواه مسلم (7). فركوب هذا الصراط الذي هو في غاية المشقة كالنّار، ولهذا كلاهما يفضى منه إلى النجاة. واللَّه أعلم (8).
__________
(1) كما في حديث حذيفة رضي اللَّه عنه. أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3450) ومسلم في الفتن (2934).
(2) “ط”: “بما لم يستطع”.
(3) يشهد له ما أخرجه مسلم (185) من حديث أبي هريرة. (ز).
(4) في “ف”: “إذا سببًا”، وفوقها: “ينظر”. ومعنى ذلك أنه كذا في الأصل. والمثبت من “ب”. وفي “ك، ط”: “كانت”.
(5) من قوله “فكيف ينكر” إلى هنا لم يظهر في مصورة الأصل.
(6) “سببًا للنجاة” مكتوب في الأصل فوق السطر، وقد انتشر الحبر أيضًا، فسقط من “ف”. وقوله: “سببًا. . . ” إلى “من السيف” ساقط من “ب”. و”للنجاة” ساقط من “ط”.
(7) في كتاب الإيمان (183).
(8) كتب هنا في الأصل: “تمت”. ولعل المؤلف أراد أن يختم هنا وجوه الردّ على كلام ابن عبد البر، وأن يكون ذلك آخر اللحق الطويل الذي بدأ من قوله “فإن قيل، قد أنكر ابن عبد البر”، ثمَّ بدا له أن يضيف الثامن والتاسع.

(2/874)


الثامن: أنَّ هذا استبعاد مجرَّد لا تُرَدّ بمثله الأحاديث. والنَّاس لهم طريقان: فمن سلك طريق المشيئة المجرَّدة (1) لم يمكنه أن يستبعد هذا التكليف، ومن سلك طريق الحكمة والتعليل لم يكن معه حجَّة تنفي أن يكون هذا التكليف موافقًا للحكمة (2)؛ بل الأدلَّة الصحيحة تدلّ على أنَّه مقتضى الحكمة كما ذكرناه.
التاسع: أنَّ في أصحّ هذه الأحاديث -وهو حديث الأسود- أنَّهم يعطُون ربّهم المواثيقَ ليُطيعُنَّه فيما يأمرهم به، فيأمرهم أن يدخلوا نار الامتحان، فيتركون (3) الدخول معصيةً لأمره، لا لعجزهم عنه. فكيف يقال إنَّه ليس في الوسع؟ (4).
فإن قيل: فالآخرة دار جزاءٍ، وليست دار تكليف، فكيف يمتحنون في غير دار التكليف؟
فالجواب: أنَّ التكليف إنَّما ينقطع بعد دخول دار القرار، وأمَّا في البرزخ وعرصات القيامة فلا ينقطع. وهذا معلوم بالضرورة من الدين من وقوع التكليف بمسألة الملكين في البرزخ، وهي تكليف. وأمَّا في عرصة
__________
(1) بين كلمة “المجرّدة” و”لم يمكنه” بياض في “ف” بقدر ستّ كلمات، ولعل ناسخها ظنّ أن هذه الكلمات ذهب بها تأكّل الورقة من أسفلها، فترك بياضًا في نسخته. و”لم يمكنه. . . ” إلى آخره مكتوب في طرف الحاشية اليسرى من الأصل، والظاهر أن الكلام متصل ولم يسقط منه شيء. ولا يوجد بياض في “ب، ك”.
(2) “ك، ط”: “للحكم”.
(3) في الأصل: “فيتركوا”، وكذا في “ف، ك”، وهو سهو، والمثبت من “ب، ط”.
(4) هنا انتهى الاستدراك الطويل الذي بدأ في ص (859) من قوله: “وقد رويت له أحاديث”، مع إضافات أخرى.

(2/875)


القيامة فقد قال (1) تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)} [القلم/ 42]. فهذا صريح في أنَّ اللَّه تعالى يدعو الخلائق إلى السجود يوم القيامة، وأنَّ الكفار يحال بينهم وبين السجود إذ ذاك، ويكون هذا التكليف بما لا يطاق حينئذٍ حسنًا (2) عقوبةً لهم؛ لأنَّهم كُلِّفوا به في الدنيا وهم يطيقونه، فلما امتنعوا منه وهو مقدور لهم، كُلِّفوا به وهم لا يقدرون عليه (3) حسرةً عليهم وعقوبةً لهم. ولهذا قال تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)} [القلم/ 43] يعني أصحاء، لا آفةَ تمنعهم منه. فلمَّا تركوه وهم سالمون (4) دُعوا إليه في وقت حيل بينهم وبينه، كما في الصحيح من حديث زيد بن أسلم، عن عطاء، عن أبي سعيد: “إنَّ ناسًا قالوا: يا رسول اللَّه، هل نرى ربّنا”. فذكر الحديث بطوله. إلى أن قال: “فيقول: تتبع كلّ أمَّةٍ ما كانت تعبد، فيقول المؤمنون: فارقنا الناس في الدنيا أفقرَ ما كنَّا إليهم، ولم نصاحبهم. فيقول: أنا ربّكم. فيقولون: نعوذ باللَّه منك، لا نشرك باللَّه شيئًا -مرَّتين أو ثلاثًا- حتَّى إنَّ بعضهم ليكاد أن ينقلب، فيقول: هل بينكم وبينه آيةٌ تعرفونه بها؟ فيقولون: نعم. فيكشف عن ساقٍ، فلا يبقى من كان يسجد للَّه من تلقاءِ نفسه إلا أذن اللَّه له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاءً ورياءً إلا جعل اللَّه ظهره طبقةً واحدةً كلَّما أراد أن يسجد خرَّ على قفاه، ثمَّ يرفعون رؤوسهم”. وذكر الحديث (5).
__________
(1) “ط”: “فقال”.
(2) “ج، ك، ط”: “حسًّا”، تصحيف.
(3) “ف”: “وهم لا يطيقونه”، خلاف الأصل.
(4) “يعني أصحاء. . . ” إلى هنا ساقط من “ج، ط”.
(5) أخرجه البخاري (7439)، ومسلم (183)، وقد سبق في ص (873).

(2/876)


وهذا التكليف نظير التكليف في البرزخ (1) بالمسألة، فمن أجاب في الدنيا طوعًا واختيارًا أجاب في البرزخ، ومن امتنع من الإجابة في الدنيا مُنِع منها في البرزخ. ولم يكن تكليفه في تلك الحال (2) -وهو غير قادر- قبيحًا؛ بل هو مقتضى الحكمة الإلهية؛ لأنَّه كُلِّف وقتَ القدرة فأبى (3)، فإذا كُلِّف وقت العجز وقد حيل بينه وبين الفعل، كان عقوبة له وحسرة.
والمقصود أنَّ التكليف لا ينقطع إلا بعد دخول الجنَّة أو النَّار. وقد تقدَّم أنَّ حديث الأسود بن سريع صحيح، وفيه التكليف في عرصة القيامة. فهو مطابق لما ذكرنا من النصوص الصحيحة الصريحة. فعلم أنَّ الذي تدلّ عليه الأدلّة الصحيحة، وتأتلف به النصوص، وهو (4) مقتضى الحكمة = هو هذا القول، واللَّه أعلم.
وقد حكى بعض أهل المقالات عن ثمامة (5) بن أشرس أنَّه ذهب إلى أنَّ الأطفال يصيرون يوم القيامة (6) ترابًا.
وقد نقل عن ابن عباس ومحمد ابن الحنفية والقاسم بن محمد وغيرهم أنَّهم كرهوا الكلام في هذه المسألة جملةً (7).
__________
(1) “ك، ط”: “تكليف البرزخ”.
(2) “ك، ط”: “في الحال”.
(3) “ك، ط”: “مكلف. . . وأبى”.
(4) “هو” هنا وفيما بعد ساقط من “ب، ك، ط”.
(5) “ب، ك، ط”: “عامر”، تحريف. وثمامة متكلّم بصري من رؤوس المعتزلة. انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (10/ 203)، وقد نقل قوله البغدادي في الفرق بين الفرق (157).
(6) “ك، ط”: “في يوم القيامة”.
(7) انظر: التمهيد (18/ 124 – 126، 132). وقد ذكر المؤلف في أحكام أهل =

(2/877)


الطبقة الخامسة عشرة (1): طبقة الزنادقة. وهم قومٌ أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة اللَّه ورسله. وهؤلاء هم (2) المنافقون، وهم في الدرك الأسفل من النَّار. قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء/ 145]. فالكفَّار المجاهرون بكفرهم أخفّ (3)، وهم فوقهم في دركات النَّار؛ لأنَّ الطائفتين اشتركتا في الكفر ومعاداة اللَّه ورسله، وزادت (4) المنافقون عليهم بالكذب والنفاق. وبليّة المسلمين بهم أعظم منن بليَّتهم بالكفَّار المجاهرين، ولهذا قال تعالى في حقّهم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون/ 4].
ومثل (5) هذا اللفظ يقتضي الحصر، أي: لا عدوّ إلا هم. ولكن لم يرد ههنا حصر العداوة فيهم (6) وأنَّهم لا عدوّ للمسلمين سواهم، بل هذا من باب (7) إثبات الأولوية والأحقّية لهم في هذا الوصف، وأنَّه لا يتوهّم بانتسابهم إلى المسلمين ظاهرًا وموالاتهم لهم ومخالطتهم إيَّاهم أنَّهم
__________
= الذمة (647 – 648) قول ثمامة وما نقل عن ابن عباس على أنهما مذهبان مستقلَّان، فصارت في المسألة عشرة مذاهب.
(1) في الأصل: “عشر” بالتذكير، ولعله سهو. وكذا في غيره إلَّا “ط”.
(2) “هم” ساقط من “ط”.
(3) أي: أخف عذابًا. وفي “ف”: “أخفّ فوقهم”، فاسقط ناسخها “وهم”، وكتب فوق “أخف” علامة “ظ” أي: انظر. وكذا في “ك” لأنها لانتشار الحبر تبدو كأنها مضروب عليها. وفي “ب”: “أخفت عذابًا منهم لكونهم فوقهم” وكأنها إصلاح لما في الأصل.
(4) “ط”: “زاد”.
(5) قراءة “ف”: “وقيل”. ولعل الصواب ما أثبتنا من غيرها.
(6) “ف”: “منهم”، خطأ.
(7) “باب” ساقط من “ك، ط”.

(2/878)


ليسوا بأعدائهم، بل هم أحقّ بالعداوة ممن باينهم في الدار، ونصب لهم العداوة وجاهرهم بها. فإنَّ ضرر هؤلاء المخالطين لهم المعاشرين (1) لهم -وهم في الباطن على خلاف دينهم- أشدّ عليهم من ضرر من جاهرهم بالعداوة وألزم وأدوم، لأنَّ الحرب مع أولئك ساعة أو أيامًا ثمَّ ينقضي، ويعقبه النصر والظفر؛ وهؤلاء معهم في الديار والمنازل صباحًا ومساءً، يدلّون العدوَّ على عوراتهم، ويتربَّصون بهم الدوائر، ولا يمكنهم مناجزتهم. فهم أحقّ بالعداوة من المباين المجاهر، فلهذا قيل: {هُمُ الْعَدُوُّ} لا على معنى أنَّه لا عدوّ لكم سواهم، بل على معنى أنَّهم أحقّ بأن يكونوا لكم عدوًّا من الكفَّار المجاهرين.
ونظير ذلك قول النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- “ليس المسكين بهذا (2) الطوَّاف الذي ترذه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يسأل النَّاس، ولا يُفطَنُ له فيُتصدّق عليه” (3). فليس هذا نفيًا لاسم المسكين عن الطوَّاف، بل إخبارٌ بأنَّ هذا القانع الذي لا يسمّونه مسكينًا أحقّ بهذا الاسم من الطوَّاف الذي يسمّونه مسكينًا.
ونظيره قوله: “ليس الشديد بالصُّرَعة، ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب” (4). ليس نفيًا للاسم عن الصرعة، ولكن إخبار بأنَّ من يملك
__________
(1) “ف”: “المباشرين”، سهو، فإنّ الأصل واضح.
(2) “بهذا” ساقط من “ب، ك، ط”.
(3) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه. أخرجه البخاري (1479)، ومسلم في الزكاة (1039).
(4) أخرجه البخاري في الأدب (6114)، ومسلم في البرّ والصلة (2609) عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

(2/879)


نفسه عند الغضب أحقّ منه بهذا الاسم.
ونظيره قوله: “ما تعدّون المفلسَ فيكم؟ ” قالوا: من لا درهم له ولا متاع. قال: “المفلس من يأتي يوم القيامة بحسناتٍ أمثال الجبال، ويأتي قد لطَمَ هذا، وضرب هذا، وأخذ مال هذا؛ فيقتصّ هذا من حسناته، وهذا من حسناته. فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخِذَ من سيئاتهم ثمَّ طُرِحَ عليه فأُلقيَ في النار” (1).
ونظيره قوله: “ما تعدّون الرَّقوب فيكم؟ ” قالوا: من لا يولد له. قال: “الرقوب من لم يقدّم من ولده شيئًا” (2).
ومنه عندي قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “الرِّبَا في النسيئة”، وفي لفظ: “إنَّما الرِّبَا في النسيئة” (3). هو إثبات لأن هذا النوع هو أحقّ باسم الرِّبَا من ربا الفضل، وليس فيه نفي اسم الرِّبَا عن ربا الفضل. فتأمله.
والمقصود أنَّ هذه الطبقة أشقى الأشقياء، ولهذا يستهزأ بهم في الآخرة، ويُعطَون (4) نورَا يتوسَّطون به على الصراط، ثمَّ يطفئ اللَّه نورهم، ويقال لهم: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد/ 13]. ويضرب بينهم وبين المؤمنين {بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)} [الحديد/ 13 – 14]. وهذا أشدّ
__________
(1) أخرجه مسلم في البرّ والصلة (2581) عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(2) أخرجه مسلم في البرّ والصلة (2608) عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه.
(3) من حديث أسامة بن زيد رضي اللَّه عنهما. واللفظان عند مسلم (1596)، وفي صحيح البخاري (2179): “لا ربا إلَّا في النسيئة”.
(4) “ك”: “يعطى”. “ط”: “تعطى”.

(2/880)


ما يكون من الحسرة والبلاءِ أن يُفتَح للعبد طريق (1) النجاة والفلاح، حتَّى إذا ظنَّ أنَّه ناجٍ ورأى منازل السعداء اقتطِع عنهم وضُربت عليه الشقوة. ونعوذ باللَّه من غضبه وعقابه.
وإنَّما كانت هذه الطبقة في الدرك الأسفل لغلظ كفرهم، فإنَّهم خالطوا المسلمين وعاشروهم، وباشروا من أعلام الرسالة وشواهد الإيمان ما لم يباشره البعداءُ، ووصل إليهم من معرفته وصحته ما لم يصل إلى المنابذين بالعداوة؛ فإذا كفروا مع هذه المعرفة والعلم كانوا أغلظ كفرًا، وأخبث قلوبًا، وأشدّ عداوة للَّه ولرسوله وللمؤمنين من البعداء عنهم، وإن كان البعداء متصدّين لحرب المسلمين. ولهذا قال تعالى في المنافقين: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)} [المنافقون/ 3]، وقال فيهم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)} [البقرة/ 18]. وقال في الكفار: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة/ 171]. فالكافر لم يعقل، والمنافق أبصر ثمَّ عمي، وعرف ثمَّ تجاهل، وأقرَّ ثمَّ أنكر، وآمن ثمَّ كفر. ومن كان هكذا فهو أشدّ (2) كفرًا، وأخبث قلبًا، وأعتى على اللَّه ورسله؛ فاستحق الدرك الأسفل.
وفيه معنى آخر أيضًا. وهو أنَّ الحامل لهم على النفاق طلب العزّ والجاه بين الطائفتين. فيُرضون (3) المؤمنين ليُعِزوهم (4)، ويُرضون
__________
(1) “ف”: “لطريق”، تحريف. وفي “ب”: “باب النجاة”.
(2) “ط”: “هكذا كان أشد”.
(3) في الأصل وغيره بحذف نون الرفع، في هذه الجملة والجملة التالية، ولعله سهو.
(4) ك: “ليغرّوهم” من الغرور، تصحيف.

(2/881)


الكفار ليُعِزّوهم أيضًا. ومن ههنا دخل عليهم البلاءُ، فإنَّهم أرادوا العزّ بين (1) الطائفتين، ولم يكن لهمِ غرض في إيمان ولا إسلام (2) ولا طاعةٍ للَّه ورسوله، بل كان ميلهم وصغوهم ووجهتهم (3) إلى الكفَّار. فقوبلوا على ذلك بأعظم الذلّ، وهو أن جُعِلَ مستقرّهم في أسفل سافلين (4) تحت الكفار. فما اتصف به المنافقون من مخادعةِ اللَّه ورسوله والذين آمنوا، والاستهزاء باهل الإيمان، والكذب، والتلاعب بالدين، وإظهار أنَّهم من المؤمنين، وانطواءِ (5) قلوبهم علَى الكفر والشرك وعداوة اللَّه ورسوله = أمرٌ اختصّوا به عن الكفار، فتغلَّظ (6) كفرُهم به، فاستحقّوا الدرك الأسفل من النار.
ولهذا لمَّا ذكر تعالى أقسام الخلق في أوَّل (7) سورة البقرة، فقسمهم إلى مؤمنٍ ظاهرًا وباطنًا، وكافرٍ ظاهرًا وباطنًا، ومؤمن في الظاهر كافرٍ في الباطن وهم المنافقون = ذكر في حقِّ المؤمنين ثلاث آيات، وفي حقِّ الكفار آيتين. فلما انتهى إلى ذكر المنافقين ذكر فيهم بضع عشرة آية. ذمَّهم فيها غاية الذمّ، وكشَفَ عوراتهم (8)، وفضحهم، وأخبر بأنَّهم (9)
__________
(1) “ب”: “من بين”. “ك، ط”: “العزتين من”، وكلاهما تحريف.
(2) “ف”: “إسلام ولا إيمان”، خلاف الأصل. وفي “ك”: “الإيمان ولا إسلام. . . “. وفي “ط”: “الإيمان والإسلام ولا طاعة اللَّه”.
(3) “ك، ط”: “صغوهم وجهتهم”.
(4) “ب، ك، ط”: “السافلين”.
(5) “ك، ط”: “وأبطنوا”، تحريف!
(6) “ف”: “فيغلظ”، تصحيف.
(7) “أول” سقط من “ف” سهوآ.
(8) زاد بعدها في “ط”: “وقبّحهم”.
(9) “ط”: “أنهم”.

(2/882)


هم السفهاء، المفسدون في الأرض المخادعون، المستهزئون، المغبونون في اشترائهم الضلالة بالهدى؛ وأنَّهم صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون، وأنَّهم مرضى القلوب وأنّ اللَّه يزيدهم مرضًا إلى مرضهم؛ فلم يدع ذمًّا ولا عيبًا إلَّا ذمّهم به. وهذا يدلّ على شدّة مقته سبحانه لهم، وبغضه إيَّاهم، وعداوته لهم، وأنّهم أبغض أعدائه إليه. فظهرت حكمته الباهرة في تخصيص هذه الطبقة بالدرك الأسفل من النار. نعوذ باللَّه من مثل حالهم، ونسأله معافاته ورحمته.
ومن تأمّل ما وصف اللَّه به المنافقين في القرآن من صفات الذمّ، علم أنّهم أحقّ بالدرك الأسفل. فإنّه وصفهم بمخادعته ومخادعة عباده. ووصف قلوبهم بالمرض، وهو مرض الشبهات والشكوك. ووصفهم بالإفساد في الأرض وبالاستهزاءِ بدينه وعباده، والطغيان (1)، واشتراءِ الضلالة بالهدى، والصمم والبكم والعمى، والحيرة، والكسل عند عبادته، والرياء (2)، وقفة ذكره، والتردُّد -وهو التذبذب- بين المؤمنين والكفار، فلا إلى هؤلاءِ ولا إلى هؤلاءِ، والحلف باسمه تعالى كذبًا وباطلًا، وبالكذب، وبغاية الجبن، وبعدم الفقه في الدين، وبعدم العلم، وبالبخل، وبعدم الإيمان باللَّه وباليوم الآخر، وبالريب (3)، وبأنهم مضرّة على المؤمنين، لا يحصل لهم بصحبتهم (4) إلَّا الشرّ من الخبال، والإسراع بينهم بالشرّ وإلقاءِ الفتنة، وكراهتهم لظهور أمر اللَّه
__________
(1) “ك”: “بالطغيان”. “ط”: “بعباده وبالطغيان”.
(2) “ك، ط”: “والزنا”، تصحيف.
(3) “ك، ط”: “وبالرب”، تحريف.
(4) “ك، ط”: “ولا يحصل لهم بنصيحتهم”، تحريف.

(2/883)


ومجيء الحقّ (1)، وأنّهم يحزنون بما يحصل للمؤمنين من الخير والنصر، ويفرحون بما يحصل لهم من المحنة والابتلاءِ، وأنَّهم يتربّصون الدوائر بالمسلمين، وبكراهتهم الإنفاق في مرضاة اللَّه وسبيله، وبعيب المؤمنين ورميهم بما ليس فيهم، فيلمزون المتصدّقين، ويعيبون مُزْهِدَهم (2)، ويرمون مُكْثِرَهم (3) بالرياءِ وإرادة الثناءِ (4) في الناس، وأنّهم عبيد الدنيا، إن أُعطوا منها رضوا، وإن مُنعوها (5) سخطوا، وبأنهم يؤذون رسول اللَّه وينسبونه إلى ما برّأه اللَّه منه أو يعيبونه (6) بما هو من كماله وفضله، وبأنّهم (7) يقصدون إرضاءَ المخلوقين ولا يطلبون إرضاءَ ربّ العالمين، وأنّهم يسخرون من المؤمنين، وأنّهم يفرحون إذا تخلّفوا عن رسول اللَّه، ويكرهون الجهاد في سبيل اللَّه، وأنهم يتحيّلون على تعطيل فرائض اللَّه عليهم بأنواع الحيل، وأنّهم يرضون بالتخلّف عن طاعة اللَّه ورسوله، وأنّهم مطبوع على قلوبهم، وأنهم يتركون ما أوجب اللَّه عليهم مع قدرتهم عليه، وأنّهم أحلفُ الناس باللَّه قد اتخذوا أيمانهم جُنَّةً تقيهم من إنكار المسلمين عليهم. وهذا شأن المنافق أحلف الناس باللَّه كاذبًا، قد اتخذ يمينه جُنَّةً ووقايةً يتّقي بها إنكارَ المسلمين عليه.
__________
(1) “ط”: “ومحو الحق”، تحريف.
(2) مِنْ أزهد الرجلُ: قلّ ماله.
(3) وضع “مكثرهم” في “ط” في آخر الجملة بعد “في الناس”.
(4) “ك، ط”: “إراءة الثناء”، تحريف.
(5) الضمير ساقط من “ك، ط”.
(6) “ط”: “ويعيبونه”.
(7) “ك، ط”: “وأنَّهم”.

(2/884)


ووصفهم بأنّهم رجس -والرجس من كلّ جنس: أخبثُه وأقذرُه، فهم أخبث بني آدم وأقذرهم وأرذلهم- وبأنهم فاسقون، وبأنَّهم مضرّة على أهل الإيمان يقصدون التفريق بينهم، ويؤوون من حاربهم وحارب اللَّه ورسوله، وأنّهم يتشبّهون بهم ويضاهونهم في أعمالهم ليتوصّلوا منها إلى الإضرار بهم وتفريق كلمتهم، وهذا شأن المنافقين أبدًا. وبأنّهم فتَنوا أنفسهم بكفرهم باللَّه ورسوله، وتربّصوا بالمسلمين دوائر السوءِ، وهذا (1) عادتهم في كل زمان. وارتابوا في الدين فلم يصدّقوا به، وغرّتهم الأماني الباطلة وغرّهم الشيطان، وأنهم أحسن الناس أجسامًا تُعجِب الرائيَ أجسامُهم، والسامعَ منطقُهم، فإذا جاوزتَ أجسامهم وقولَهم رأيتَ خُشبًا مسنّدة، لا إيمان ولا فقه، ولا علم ولا صدق، بل خشُب قد كُسِيتْ كسوةً تروق الناظر، وليس وراءَ ذلك شيء (2). وإذا عرض عليهم التوبة والاستغفار أبَوها وزعموا أنَّهم لا حاجة لهم إليها، إمّا لأنّ ما عندهم من الزندقة والجهل المركّب مغنٍ عنها وعن الطاعات جملةً -كحال كثير من الزنادقة- وإمَّا احتقارًا وازدراء بمن يدعوهم إلى ذلك.
ووصفهم تعالى بالاستهزاءِ به وبآياته وبرسوله، وبأنهم مجرمون، وبأنّهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ويقبضون أيديهم عن الإنفاق في مرضاته، وبنسيانهم (3) ذكرَه، وبأنّهم يتولّون الكفار ويدَعون المؤمنين، وبأن الشيطان قد استحوذ عليهم وغلب عليهم حتى أنساهم
__________
(1) “ط”: “وهذه”.
(2) “ط”: “ولبسوا وراء ذلك شيئًا”.
(3) “ك، ط”: “ونسيان”.

(2/885)


ذكر اللَّه فلا يذكرونه إلَّا قليلًا، وأنّهم حزب الشيطان، وأنّهم يوادّون من حادّ اللَّه ورسوله، وبأنّهم يتمنّون ما يُحنِت المؤمنين ويشقّ عليهم، وأن البغضاءَ تبدو لهم من أفواههم وعلى فلتات ألسنتهم، وأَنّهم (1) يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
ومن صفاتهم التي وصفهم بها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: الكذب في الحديث، والخيانة في الأمانة، والغدر عند العهد، والفجور عند الخصام، والخلف عند الوعد (2)؛ وتأخير الصلاة إلى آخر وقتها، ونَقْرُها عجلةً وإسراعًا، وترك حضورها جماعةً، وأن أثقل الصلوات عليهم الصبح والعشاءُ (3).
ومن صفاتهم التي وصفهم اللَّه بها: الشحّ على المؤمنين بالخير، والجبن عند الخوف، فإذا ذهب الخوف وجاءَ الأمن سلقوا المؤمنين بألسنة حداد، فهم أحدّ الناس ألسنةً عليهم، كما قيل:
جهلًا علينا وجبنًا عن عدوّكمُ … لبئست الخَلّتان الجهلُ والجبنُ (4)
وأنّهم عند المخاوف تظهر كمائن صدورهم ومُخبّآتها. وأمّا عند
__________
(1) “ك، ط”: “وبأنهم”.
(2) يشير إلى ما أخرجه البخاري (33، 34) ومسلم (58، 59) في كتاب الإيمان من حديث أبي هريرة وعبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهم.
(3) يشير إلى ما أخرجه البخاري في كتاب الأذان (657) ومسلم في كتاب المساجد (651) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(4) من قصيدة لقعنب بن أمّ صاحب -من شعراء الدولة الأموية- أوردها ابن الشجري في مختاراته (50)، والرواية: “عن عدوّهم”. وفي الزهرة (628) وأمثال العسكري (1/ 104): “عدوّكم” كما هنا.

(2/886)


الأمن فيجب ستره، فإذ الحق المسلمين خوفٌ دبّت عقارب قلوبهم، وظهرت المخبّآت، وبدت الأسرار.
ومن صفاتهم: أنّهم أعذبُ الناس ألسنةً، وأمرُّهم قلوبًا، وأعظم الناس مخالفةً (1) بين أعمالهم وأقوالهم. ومن صفاتهم أنّه (2) لا يجتمع فيهم حُسن سمت (3) وفقه في دين أبدًا. ومن صفاتهم أنّ أعمالهم تكذب أقوالهم، وباطنهم يكذّب ظاهرهم، وسرائرهم تناقض علانيتهم.
ومن صفاتهم: أنّ المؤمن لا يثق بهم (4) في شيء، فإتهم قد أعدّوا لكلّ أمر مخرجًا منه، بحقّ أو بباطل، بصدق أو بكذب، ولهذا سُمِّي “منافقًا” أخذًا من نافقاءِ اليربوع. وهو بيت يحفره، ويجعل له أسرابًا مختلفة، وكلَّما (5) طُلِبَ من سَرَبٍ خرج من سَرَبٍ آخر، فلا يتمكَّن طالبُه مِن حصره في سرب واحد. قال الشاعر:
ويُستخرجَ اليربوعُ من نافقائه … ومن بيته ذو الشِّيحة اليتقَصَّعُ (6)
فأنت منه كقبضٍ (7) على الماءِ، ليس معك منه شيء.
__________
(1) “ط”: “خلفًا”.
(2) “ك، ط”: “أنهم”.
(3) “ك، ط”: “صمت” تحريف.
(4) “ف”: “منهم”، سهو.
(5) “ك، ط”: “فكلما”.
(6) “ط”: “ومن جحره بالشيحة”. والبيت لذي الخِرَق الطُّهَوي -جاهلي- من أبيات أوردها أَبو زيد في نوادره. والرواية: “ومن جحره”. انظر: النوادر (276 – 278) وخزانة الأدب (1/ 35).
(7) “ط”: “كقابض”، ولعله إصلاح من الناشر!

(2/887)


ومن صفاتهم: كثرة التلوّن، وسرعة التقلُّب، وعدم الثبات على حال واحد. بينا تراه على حال تعجبك من دين أو عبادة أو هدي صالح أو صدق، إذ انقلب إلى ضدِّ ذلك كأنَّه لم يعرف غيره. فهو أشدّ الناس تلوّنًا وتقلُّبًا وتنفُّلًا، جيفةً بالليل قُطْرُبًا (1) بالنَّهار.
ومن صفاتهم: أنَّك إذا دعوتهم عند المنازعة إلى التحاكم (2) إلى القرآن والسنَّة أَبوا ذلك وأعرضوا عنه، ودعوك إلى التحاكم إلى طواغيتهم. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)} [النساء/ 60 – 63].
ومن صفاتهم: معارضة ما جاءَ به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بعقول الرجال
__________
(1) “ب”: “بطالًا”!. وفي “ط”: “قطرب” بالرفع. جاء عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه: “لا أعرفنّ أحدكم جيفةَ ليل قطربَ نهار”. قال أَبو عبيد: “يقال إن القطرب لا تستريح نهارها سعيًا. فشبّه عبد اللَّه الرجل يسعى نهاره في حوائج دنياه، فإذا أمسى أمسى كالًّا تعِبًا، فينام ليلته حتى يصبح كالجيفة لا يتحرّك. فهذا جيفة ليل، قطرب نهار”. انظر: اللسان (قطرب 1/ 683). وقد وردت في طرة “ف” حاشية بالخط الفارسي تقول: “وله أربعة عشر معنى منها أنه دويبة” ثم نقلت الحديث وتفسيره من الراموز، وهو معجم مخطوط لمحمد بن حسن الأدرنوي المتوفى 866 هـ.
(2) سقط ” إلى” من “ك”. وفي “ط”: “للتحاكم”.

(2/888)


وآرائهم، ثمَّ تقديمها على ما جاءَ به. فهم معرضون عنه معارضون له، زاعمون أنَّ الهدى في آراء الرجال وعقولهم، دون ما جاءَ به. فلو أعرضوا عنه وتعوّضوا بغيره لكانوا منافقين، فكيف إذا جمعوا إلى ذلك (1) معارضتَه وزعمَهم (2) أنَّه لا يستفاد منه هدى!
ومن صفاتهم: كتمان الحقِّ، والتلبيس على أهله، ورميهم لهم (3) بادوائهم هم (4). فيرمونهم -إذا أمروا بالمعروف، ونهَوا عن المنكر، ودعَوا إلى اللَّه ورسوله- بأنَّهم أهل فتن مفسدون في الأرض. وقد علم اللَّه ورسوله والمؤمنون أهلَ الفتن المفسدين (5) في الأرض. وإذا دعا (6) ورثة الرسول إلى كتاب اللَّه وسنَّة رسوله خالصة غيرَ مشوبة، رموهم بالبدع والضلال. وإذا رأوهم زاهدين في الدنيا راغبين في الآخرة متمسّكين بطاعة اللَّه ورسوله، رموهم بالزوكرة (7) والتلبيس والمِحال. وإذا رأوا معهم حقًّا ألبسوه لباسَ الباطل، وأخرجوه لضعفاءِ العقول في
__________
(1) “ك، ط”: “مع ذلك”.
(2) “ط”: “وزعموا”.
(3) “ب، ك، ط”: “له”، خطأ.
(4) “هم” ساقط من “ب، ك، ط”.
(5) في الأصل: “المفسدون”، سبق قلم والمثبت من “ف، ب”. وفي “ك”: “بأنهم أهل الفتن المفسدون”، فأبق ما في الأصل وزاد “بأنهم”. وكذا في “ط”.
(6) “ك”: “دعاه”. “ط”: “دعاهم”.
(7) وردت كلمة “الزواكرة” في كلام للسان الدين ابن الخطيب، ففسّره المقّري بقوله: “الزواكرة: لفظ يستعمله المغاربة، ومعناه عندهم المتلبّس الذي يظهر النسك والعبادة، ويبطن الفسق والفساد” نفح الطيب (6/ 12). والزوكرة: مصدر منه بمعنى التلبيس والرياء. قال الشيخ أحمد رضا: العامة تقول: زوكره إذا لبّس عليه. معجم متن اللغة (3/ 45).

(2/889)


قالبه (1) لينفروهم عنه، وإذا كان معهم باطل ألبسوه لباس الحقِّ وأخرجوه في قالبه ليقبل منهم.
وجملة أمرهم أنَّهم في المسلمين كالزغَل في النقود، يروج على أكثر النَّاس لعدم بصيرتهم بالنقد، ويعرف حاله الناقد البصير من النَّاس، وقليل ما هم! وليس على الأديان أضرّ من هذا الضرب من النَّاس، وإنَّما تفسد الأديان من قِبَلهم. ولهذا جلا اللَّه أمرهم في القرآن، وأوضح أوصافهم، وبيَّن أحوالهم، وكرَّر ذكرهم؛ لشدَّة المؤنة على الأمَّة بهم، وعِظَم البليَّة عليهم بوجودهم بين أظهرهم، وفرط حاجتهم إلى معرفتهم والتحرُّز من مشابهتهم أو الإصغاءِ (2) إليهم.
فكم قطعوا على السالكين إلى اللَّه طريقَ الهدى، وسلكوا بهم سُبل الردى (3)! ووعدوهم (4) ومنَّوهم، ولكن وعدوهم الغرور، ومنَّوهم الويل والثبور!
فكم لهم من قتيل ولكن في سبيل الشيطان، وسليبٍ ولكن للباس التقوى والإيمان. وأسيرٍ لا يُرجى له الخلاص، وفارٍّ من اللَّه لا إليه، وهيهات، لات (5) حين مناص!
صحبتُهم توجِب العار والشنار، ومودّتهم تُحِلُّ غضب الجبَّار،
__________
(1) يعني في قالب الباطل. وفي “ط”: “قالب شنيع”!.
(2) “ك، ط”: “والإصغاء”.
(3) “ك، ط”: “طرق الهدى. . سبيل الردى”!
(4) “ك، ط”: “وعدوهم” دون واو العطف.
(5) “ك، ط”: “ولات”.

(2/890)


وتوجب دخول النَّار. من علِقت به كلاليبُ كلَبِهم ومخاليبُ دائهم (1) مزّقت منه ثياب الدِّين والإيمان، وقُطعت له مقطَّعاتُ البلاءِ (2) والخذلان. فهو يسحب من الحرمان والشقاوة أذيالًا، ويمشي على عقبيه القهقرى إدبارًا منه، وهو يحسب ذلك إقبالًا!
فهم واللَّه قُطَّاع الطريق حقًّا (3)! فيا أيها الركب المسافرون إلى منازل السعداءِ، حِذارًا منهم (4) حِذارًا. وهم (5) الجزَّارون، ألسنتُهم شِفَارُ البلايا، ففرارًا منهم أيَّها الغنم فرارًا!
ومن البليَّة أنَّهم الأعداءُ حقًّا، وليس لنا بدّ من مصاحبتهم. وخلطتُهم (6) أعظم الداءِ، وليس بدّ من مخالطتهم. قد جعلوا على أَبواب جهنَّم دعاةً إليها، فبعدًا للمستجيبين! ونصبوا شباكهم حواليها على ما حفت به من الشهوات، فويل للمغترِّين!
نصبوا الشباك، ومدُّوا الأشراك، وأذَّن مؤذّنهم بأشباه الأنعام (7): حيَّ على الهلاك، حيَّ على التباب! فاستبقوا يُهرَعون إليه (8)، فأوردهم
__________
(1) “ط”: “رأيهم”، تحريف.
(2) “ب، ك، ط”: “من البلاء”.
(3) “حقًّا” ساقط من “ط”.
(4) “ف”: “منه”، سهو. وفي “ط”: “حذار منهم حذار”! خطأ.
(5) “ط”: “إنهم”، خطأ.
(6) قراءة “ف”: “خلطهم”.
(7) “ب”: “تأذّن مؤذنهم يا أشباه. . . “. وفي “ط”: “يا شياه. . . “. والصواب ما أثبتنا من الأصل و”ف، ك”. وباء الجرّ مضبوطة في الأصل.
(8) الضمير المفرد راجع إلى مؤذنهم. وفي “ط”: “إليهم”، ولعله تغيير من الناشر، وقد اضطر بعد ذلك إلى تغيير الضمائر التالية: “فأوردوهم”، =

(2/891)


حياضَ العذابَ، لا المواردَ العَذاب. وأسامهم (1) من الخسفِ والبلاءِ أعظم خِطَّةٍ (2)، وقال: ادخلوا باب الهوان صاغرين، ولا تقولوا حِطَّة، فليس بيوم حطَّة. فواعجبا لمن نجا من شِراكهم، لا لمن (3) علِق! وأنِّى ينجو منها (4) من غلبت عليه شقاوتُه ولها خُلِقَ!
فحقيق بأهل هذه الطبقة أن يحلّوا بالمحلِّ الذي أحلّهم اللَّه من دار الهوان، وأن ينزلوا في أردأ منازل أهل العناد والكفران.
وبحسب إيمان العبد ومعرفته، يكون خوفه أن يكون من أهل هذه الطبقة. ولهذا اشتدَّ خوف سادة الأمة وسابقيها (5) على أنفسهم أن يكونوا منهم، فكان عمر بن الخطاب يقول: يا حذيفة نشدتك (6) اللَّهَ، هل سمَّاني رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مع القوم؟ فيقول: لا، ولا أزكّي بعدك أحدًا (7). يعني لا أفتح عليَّ هذا الباب في تزكية الناس. ليس (8) معناه أنَّه لم يبرأ
__________
= “وساموهم”، “قالوا”.
(1) كذا في الأصل وغيره، وهو الصواب. وفي “ط”: “ساموهم” من سامه الذلّ: أولاه إيّاه. وانظر التعليق الآتي.
(2) ضبطت في “ب” بضم الخاء، وهو خطأ في هذا السياق، لأن أسام الماشية: خلَّاها ترعى. والخطة بالضم: الأمر والحال. وبالكسر: المكان المختطّ، وهذا هو المراد، فإنّه شبَّههم بالأنعام، وأوردهم “المؤذن” الحياض فسقاهم منها، ثم خرج بهم إلى مرعى السوء. وقرينة السجع الآتية “حِطة” أيضًا بالكسر لا بالضمِّ.
(3) “ط”: “من”.
(4) “منها” ساقط من “ك، ط”.
(5) في الأصل: “سابقوها”، سهو، وكذا في “ب، ك، ط”. والمثبت من “ف”.
(6) “ك، ط”: “ناشدتك”.
(7) تقدّم تخريجه في ص (628).
(8) “ط”: “وليس”.

(2/892)


من النفاق غيرك.
وقال ابن أبي مليكة: أدركتُ ثلاثين من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كلّهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنَّه على إيمان جبريل وميكائيل (1).

الطبقة السادسة عشرة (2): طبقة (3) رؤساءِ الكفر وأئمته ودعاته الذين كفروا وصدّوا عباد اللَّه عن الإيمان وعن الدخول في دينه رغبةً ورهبةً. فهؤلاء عذابهم مضاعَف، ولهم عذابان: عذاب الكفر، وعذاب بصدِّ النَّاس عن الدخول في الإيمان. قال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} [النحل/ 88]. فأحد العذابين بكفرهم، والعذاب الآخر بصدّهم عن سبيل اللَّه.
وقد استقرَّت حكمة اللَّه وعدله أن يجعل على الداعي إلى الضلال مثل آثام من اتبعه واستجاب له. ولا ريبَ أنَّ عذاب هذا يتضاعف ويتزايد بحسب من اتَّبعه وضلَّ به. وهذا النوع في الأشقياء مقابل دعاة الهدى في السعداء، فأولئك يتضاعف ثوابهم وتعلو درجاتهم بحسب من اتَّبعهم واهتدى بهم، وهؤلاء عكسهم.
ولهذا كان فرعون وقومه في أشدِّ العذاب، قال تعالى في حقهم: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ
__________
(1) “وقال ابن أبي مليكة. . . ” إلى هنا سقط من “ف”. وقول ابن أبي مليكة هذا ذكره البخاري تعليقًا في كتاب الايمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر.
(2) في الأصل: “عشر”، وكذا في غيره. والمثبت من “ط”.
(3) “طبقة” ساقط من “ك، ط”.

(2/893)


الْعَذَابِ} [غافر/ 46]. وهذا تنبيه على أنَّ فرعون نفسه في الأشدّ من ذلك؛ لأنَّهم إنَّما دخلوا أشدَّ العذاب تبعًا له، فإنَّه هو الذي استخفّهم فأطاعوه، وغرَّهم فاتَّبعوه. ولهذا يكون يوم القيامة إمامهم وفرَطهم في هذا الوِرد. قال تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود/ 98].
والمقصود: أنَّهم إنَّما (1) استحقُّوا أشدَّ العذاب لتغلُّظ كفرهم (2)، وصدّهم عن سبيل اللَّه وعقوبتهم من آمن باللَّه. فليس عذاب الرؤساء في النار كعذاب أتباعهم. ولهذا كان في كتاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لهرقل: “فإن تولّيتَ فإنَّ عليك إثمَ الأرِيسِيِّين” (3). والصحيح في اللفظة (4) أنَّهم الأتباع. ولهذا كان عدو اللَّه إبليس أشدَّ أهل النار عذابًا، وهو أوَّل من يُكسى حُلَّة من النَّار؛ لأنَّه إمام كلّ كفر وشرك وشرّ. فما عصي اللَّه إلا على يديه وبسببه، ثمَّ الأمثل فالأمثل من نوَّابه في الأرض ودعاته.
ولا ريب أنَّ الكفر يتفاوت، فكفر أغلظ من كفر. كما أنَّ الإيمان يتفاوت فإيمان أفضل من إيمان. فكما أنَّ المؤمنين ليسوا في درجة واحدة بل هم درجات عند اللَّه، فكذلك الكفار ليسوا في طبقة واحدة ودرك واحد، بل النار دركات كما أنَّ الجنَّة درجات. ولا يظلم اللَّه من خلقه أحدًا. وهو الغني الحميد.
__________
(1) “إنما” ساقط من “ك، ط”.
(2) “ب، ط”: “لغلظ كفرهم”.
(3) من حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما. أخرجه البخاري في بدء الوحي (7) وغيره. ومسلم في الجهاد والسير (1773).
(4) يعني في تفسيرها. وفي “ط”: “اللفظ”.

(2/894)


فصل
وتغلّظُ (1) الكفر الموجبُ لتغلّظ العذاب يكون من ثلاثة أوجه:
أحدها: من خبث (2) العقيدة الكافرة في نفسها، كمن جحد ربَّ العالمين بالكلّية، وعطَّل العالم عن الربِّ الخالق المدبّر له، فلم يؤمن باللَّه وملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا اليوم الآخر. ولهذا لا يُقَرّ أربابُ هذا الكفر بالجزية عند كثيرٍ من العلماء، ولا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم اتّفاقًا، لِتغلّظ كفرهم. وهؤلاء هم المعطّلة والدهرية وكثير من الفلاسفة وأهل الوحدة القائلين بأنَّه لا وجود للربّ تعالى غير وجود هذا العالم.
الجهة الثانية: تغلّظه بالعناد والضلال عمدًا على بصيرة، ككفر من شهد قلبُه أنَّ الرسول حقٌّ لما رآه من آيات صدقه، وكفَرَ عنادًا وبغيًا، كقوم ثمود، وقوم فرعون، واليهود الذين (3) عرفوا الرسول كما عرفوا أبناءهم، وكفر أبي جهل وأمية بن أبي الصلت وأمثال هؤلاء.
الجهة الثالثة: السعي في إطفاءِ نور اللَّه وصدّ عباده عن دينه بما تصل إليه قدرتهم. فهؤلاءِ أشدُّ الكفّار عذابًا بحسب تغلّظ كفرهم.
ومنهم من يجتمع في حقِّه الجهات الثلاث، ومنهم من يكون فيه ثنتان (4) منها أو واحدة. فليس عذاب هؤلاءِ كعذاب من هو (5) دونهم في
__________
(1) في “ط”: “غلظ” هنا وفي الموضع التالي.
(2) “ب، ك، ط”: “حيث”، تصحيف. والكلمة منقوطة في الأصل.
(3) “ف”: “والذين”، سهو.
(4) “ك، ط”: “جهتان”.
(5) “هو” سقط من “ف” سهوًا.

(2/895)


الكفر ممن هو ملبوس عليه لجهله، والمؤمنون من أذاه في سلامة لا ينالهم منه أذى، ولم يتغلّظ كفره كتغلّظ كفر (1) هؤلاء، بل هو مقرّ باللَّه ووحدانيته وملائكته وجنس الكتب والرسل واليوم الآخر، وإن شارك أُولئك في كفرهم بالرسول فقد زادوا عليه أنواعًا من الكفر. وهل يستوي فى النار عذاب أبي طالب وأبي لهب وأبي جهل وعُقبة بن أبي مُعَيط وأبيّ بن خلَف وأضرابهم؟
والمقصود أنّ هذه الطبقة -وهي طبقة الرؤساءِ الدعاة الصادّين عن دين اللَّه- ليست كطبقة مَن دونهم. وقد ثبت عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنّه قال: “أهونُ أهلِ النار عذابًا أَبو طالب” (2)، ومعلوم أنّ كفر أبي طالب لى يكن مثل كفر أبي جهل وأمثاله.

الطبقة السابعة عشرة (3): طبقة المقلّدين. وهم (4) جهال الكفرة وأتباعهم وحميرهم الذين هم معهم تبع (5)، يقولون: إنا وجدنا آباءَنا على أُمّة، ولنا أُسوة (6) بهم. ومع هذا فهم متاركون لأهل الإسلام غيرُ محاربين لهم، كنساءِ المحاربين وخدَمهم وتُبّاعهم (7) الذين لم ينصبوا أنفسهم لما نصب له أولئك أنفسهم من السعي في إطفاءِ نور اللَّه وهدم
__________
(1) “كفر” ساقط من “ك، ط”.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (212) عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما.
(3) في الأصل وغيره: “عشر”، ولعله سهو. والمثبت من “ط”.
(4) “هم” ساقط من “ب، ك، ط”.
(5) “ك”: “تبع لهم”. “ط”: “تبعًا لهم”.
(6) “ك، ط”: “وإنّا على أسوة”، تحريف.
(7) جمع تابع. وفي “ط”: “أتباعهم”.

(2/896)


دينه وإخماد كلماته، بل هم معهم (1) بمنزلة الدوابّ.
وقد اتفقت الأُمّة على أنّ هذه الطبقة كفّار وإن كانوا جهّالًا مقلّدين لرؤسائهم وأئمتهم، إلَّا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنّه لم يحكم لهؤلاءِ بالنار وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة. وهذا مذهب لم يقل به أحد من أئمة المسلمين لا الصحابة ولا التابعين ولا مَن بعدهم، وإنّما يعرف عن بعض أهل الكلام المحدَث في الإسلام.
وقد صحّ عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: “ما من مولود إلَّا وهو يولد على الفطرة فأَبواه يهوّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه” (2). فأخبر أن أَبويه ينقلانه عن الفطرة إلى اليهودية والنصرانية والمجوسية، ولم يعتبر في ذلك غير المربى والمنشأ على ما عليه الأَبوان. وصحَّ عنه أنه قال: “إنّ الجنّة لا يدخلها إلَّا نفس مسلمة” (3).
وهذا المقلّد ليس بمسلم، وهو عاقل مكلّف، والعاقل المكلّف لا يخرج عن الإسلام أو الكفر. وأمّا من لم تبلغه الدعوة فليس بمكلّف في تلك الحال، وهو بمنزلة الأطفال والمجانين، وقد تقدَّم الكلام عليهم (4). والإسلام هو توحيد اللَّه وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان باللَّه وبرسوله (5) واتّباعه فيما جاءَ به. فما لم يأت العبد بهذا فليس
__________
(1) “معهم” ساقط من “ك، ط”.
(2) سبق تخريجه في ص (842).
(3) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه. أخرجه البخاري في الجهاد والسير (3062) وغيره، ومسلم في الإيمان (111).
(4) انظر: ص (841).
(5) “باللَّه و” سقط من “ف” سهوًا.

(2/897)


بمسلم، وإن لم يكن كافرًا معاندًا، فهو كافر جاهل.
فغاية هذه الطبقة أنّهم كفّار جهّال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفّارًا. فإنّ الكافر من جحد توحيدَ اللَّه وكذّب رسولَه إمّا عنادًا وإمّا جهلًا (1) وتقليدًا لأهل العناد. فهذا وإن كان غايته أنّه غير معاند، فهو متّبع لأهل العناد.
وقد أخبر اللَّه تعالى في القرآن في غير موضع بعذاب المقلّدين لأسلافهم من الكفار، وأنّ الأتباع مع متبوعهم، وأنّهم يتحاجّون في النار، وأنّ الأتباع يقولون: {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)} [الأعراف/ 38].
وقال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) [غافر/ 47 – 48].
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا} [سبأ/ 31 – 33].
فهذا إخبار من اللَّه وتحذير بأنّ المتبوعين والتابعين اشتركوا في
__________
(1) “ط”: “أو جهلًا”.

(2/898)


العذاب ولم يُغنِ عنهم تقليدُهم شيئًا. وأصرح من هذا قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)} [البقرة/ 166 – 167].
وصحّ عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنّه قال: “من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثلُ أوزار مَن اتّبعه. لا ينقص من أوزارهم شيئًا” (1). وهذا يدل على أنَّ كفر من اتبعهم إنّما هو بمجرّد اتباعهم وتقليدهم.
نعيم، لا بدَّ في هذا المقام من تفصيل به يزول الإشكال، وهو الفرق بين مقلّد تمكن من العلم ومعرفة الحق فأعرض عنه، ومقلّد لم يتمكن من ذلك بوجه، والقسمان واقعان في الوجود. فالمتمكن المعرض مفرِّط تارك للواجب عليه، لا عذر له عند اللَّه. وأمّا العاجز عن السؤال والعلم الذي لا يتمكن من العلم بوجه، فهم قسمان (2) أيضًا:
أحدهما: مريد للهدى مؤثر له محبٌّ له، غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم من يرشده، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات، ومن لم تبلغه الدعوة.
الثاني: معرِض لا إرادة له، ولا يحدِّث نفسه بغير ما هو عليه.
فالأول يقول: يا ربّ لو أعلم لك دينًا خيرًا مما أنا عليه لَدِنْتُ به وتركت ما أنا عليه، ولكن لا أعرف غير (3) ما أنا عليه ولا أقدر على
__________
(1) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه. أخرجه مسلم في كتاب العلم (2674).
(2) “ف”: “نوعان”، سهو.
(3) “ك، ط”: “سوى”.

(2/899)


غيره، فهو غاية جهدي ونهاية معرفتي. والثاني راضٍ بما هو عليه، لا يؤثر غيره عليه، ولا تطلب نفسه سواه؛ ولا فرق عنده بين حال عجزه وقدرته، وكلاهما عاجز. وهذا لا يجب أن يلحق بالأول لما بينهما من الفرق. فالأول كمن طلب الدين في الفترة ولم يظفر به، فعدل عنه بعد استفراغه الوسعَ (1) في طلبه عجزًا وجهلًا. والثاني كمن لم يطلبه، بل مات على شركه، وإن كان لو طلبه لَعَجز عنه. ففرق بين عجز الطالب وعجز المعرض. فتأمّل هذا الموضع.
واللَّه يقضي بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله، ولا يعذّب إلَّا من قامت عليه حجته بالرسل، فهذا مقطوع به في جملة الخلق. وأمّا كون زيد بعينه وعمرو بعينه (2) قامت عليه الحجة أم لا، فذلك مما لا يمكن الدخول بين اللَّه وبين عباده فيه. بل الواجب على العبد أن يعتقد أنّ كلّ من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن اللَّه سبحانه لا يعذّب أحدًا إلَّا بعد قيام الحجة عليه بالرسول. هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم اللَّه عزّ وجلّ وحكمه.
هذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر. فأطفال الكفّار ومجانينهم كفّار في أحكام الدنيا، لهم حكم أوليائهم.
وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة. وهو مبنيّ على أربعة أصول:
__________
(1) “ط”: “استفراغ الوسع”.
(2) “بعينه” ساقط من “ك، ط”.

(2/900)


أحدها: أن اللَّه سبحانه لا يعذب أحدًا إلَّا بعد قيام الحجة عليه، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء/ 15]. وقال: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء/ 165]. وقال: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك/ 8 – 9]. وقال تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} [الملك/ 11]. وقال تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)} [الأنعام/ 130]. وهذا كثير في القرآن، يخبر أنَّه إنَّما يعذب من جاءَه الرسول وقامت عليه الحجة، وهو المذنب الذي يعترف بذنبه.
وقال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)} [الزخرف/ 76]. والظالم من عرف ما جاءَ به الرسول أو تمكن من معرفته، ثمَّ خالفه وأعرض عنه. وأمَّا من لم يكن عنده من الرسول خبر أصلًا، ولا تمكن من معرفته (1) بوجه، وعجز عن ذلك، فكيف يقال إنَّه ظالم؟
الأصل الثاني: أنَّ العذاب يُستَحَق بشيئين (2): أحدهما: الإعراضُ عن الحجة، وعدمُ إرادة العلم بها (3) وبموجَبها. الثاني: العنادُ لها بعد قيامها، وترك إرادة موجبها. فالأَوَّل كفر إعراض، والثاني كفر عناد.
__________
(1) “ثم خالفه. . . ” إلى هنا سقط من “ط” أو أصلها لانتقال النظر، فزاد بعد “بوجه”: “وأما من لم يعرف ما جاء به الرسول”!
(2) هذه قراءة “ف، ب”. وفي “ك، ط”: “بسببين”.
(3) “العلم” ساقط من “ك”. وفي “ط”: “إرادتها والعمل بها”.

(2/901)


وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها، فهذا الذي نفى اللَّه التعذيب عليه (1) حتَّى تقوم حجَّته بالرسل (2).
الأصل الثالث: أنَّ قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فقد تقوم حجة اللَّه على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أخرى. كما أنَّها تقوم على شخص دون آخر، إمَّا لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإمَّا لعدم فهمه كمن (3) لا يفهم الخطاب، ولم يحضر ترجمان يُترجِم له، فهذا بمنزلة الأصمّ الذي لا يسمع شيئًا ولا يتمكّن من الفهم. وهو أحد الأربعة الذين يُدْلُون على اللَّه بالحجَّة يوم القيامة، كما تقدَّم في حديث الأسود وأبي هريرة وغيرهما (4).
الأصل الرَّابع: أنَّ أفعال اللَّه عزَّ وجلَّ تابعة لحكمته التي لا يخلّ بها سبحانه، وأنَّها مقصودة لغاياتها المحبوبة (5) وعواقبها الحميدة. وهذا الأصل هو أساس الكلام في هذه الطبقات الذي عليه ينبني (6)، مع تلقّي أحكامها من نصوص الكتاب والسنَّة، لا من آراء الرجال وعقولهم. ولا يدري قدر الكلام في هذه الطبقات (7) إلا من عرف ما في كتب
__________
(1) “ط”: “عنه”.
(2) “ك، ط”: “حجة الرسل”.
(3) “ط”: “كالذي”.
(4) انظر: ص (865 – 869).
(5) “ك، ط”: “لغايتها المحمودة”.
(6) رسم الكلمة في الأصل و”ف، ب” يقتضي هذه القراءة، وإن كان يعجبني أن تقرأ “نبني”.
(7) “الذي عليه ينبني. . . ” إلى هنا ساقط من “ك” لانتقال النظر، وكذا في “ط”.

(2/902)


الناس، ووقف على أقوال الطوائف في هذا الباب، وانتهى إلى غاية مرامهم (1) ونهاية إقدامهم. واللَّه سبحانه الموفّق للسَّداد، الهادي إلى الرشاد.
وأمَّا من لم يُثبِت حكمةً ولا تعليلًا، وردّ الأمر إلى محض المشيئة التي ترجحَ أحد المثلين على الآخر بلا مرجّح، فقد أراح نفسه من هذا المقام الضنك واقتحام عقبات هذه المسائل العظيمة، وأدخلها كلَّها تحت قوله: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء/ 23] وهو الفعَّال لما يريد. وصدق اللَّه وهو أصدق القائلين: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} لكمال حكمته وعلمه ووضعه الأشياء مواضعها، وأنَّه ليس في أفعاله خلل ولا عبث ولا فساد يُسأل عنه كما يُسال المخلوق. وهو الفعَّال لما يريد، ولكن لا يريد أن يفعل إلا ما هو خير ومصلحة ورحمة وحكمة. فلا يفعل الشر ولا الفساد ولا الجور ولا خلاف مقتضى حكمته، لكمال أسمائه وصفاته، وهو الغني الحميد، العليم الحكيم.

فصل
الطبقة الثامنة عشرة (2): طبقة الجنّ. وقد اتفق المسلمون على أنَّ منهم المؤمن والكافر والبرّ والفاجر. قال تعالى إخبارًا عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)} [الجن/ 11] قال مجاهد: يعنُون: مسلمين وكافرين (3). وقال الحسن والسدّي: أمثالكم، فمنهم
__________
(1) “ك، ط”: “مراتبهم” تحريف.
(2) في الأصل وغيره: “عشر”. والمثبت من “ط”.
(3) تفسير الطبري (29/ 112)، معالم التنزيل (8/ 240).

(2/903)


قدرية ومرجئة ورافضة (1). وقال سعيد بن جبير: ألوانًا شتَّى (2). وقال ابن كيسان: شِيَعًا وفِرَقًا (3). ومعنى الكلام: أصنافًا مختلفةً ومذاهب متفرِّقة.
ثمَّ قيل في إعراب الآية: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أي: ومنَّا (4) قوم دون ذلك، فحذف الموصوف، وأقام صفته مقامه. كقوله: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)} [الصافات/ 164] أي: إلا من له مقام (5). وكقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة/ 41] أي: فريق سمَّاعون. وكقوله: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء/ 46] أي: فريق يحرِّفون. وكقوله على أظهر القولين: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} [البقرة/ 96] أي: فريق يودّ أحدهم. وقال الشاعر:
فظلُّوا ومنهم دمعُه سابقٌ له … وآخَرُ يُذري دمعةَ العين بالهَمْلِ (6)
__________
(1) معالم التنزيل (8/ 240) زاد المسير (8/ 380).
(2) معالم التنزيل (8/ 240).
(3) المصدر السابق.
(4) “أي ومنّا” ساقط من “ك، ط”.
(5) “ك، ط”: “مقام معلوم”.
(6) في الأصل: “سايق لهم” وكذا في “ف”. وفي “ب، ك، ط”: “سابق لهم” وفي “ك، ط”: “بالمهل”. والبيت لذي الرمّة في ديوانه (1/ 141). وروايته فيه مع سياقه:
بكيتُ على مىٍّ بها إذ عرفتُها … وهِجتُ البكا حتى بكى القوم من أجلي
فظلّوا ومنهم دمعه غالب له … وآخرُ يَثني عبرةَ العينِ بالمَهْل
وهل هَمَلانُ العين راجعُ ما مضى … من الدهر أو مُدنيكِ ياميُّ من أهلي
وذكر الشارح أنه يروى “سابق له” و”دمعة العين”. وفي تفسير الطبري (8/ 431): “يثني. . . بالهمل”. وفي القرطبي (5/ 157): “يُذري. . . بالهمل”. =

(2/904)


أي ومنهم من دمعه.
وقوله: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)} [الجن/ 11] بيان لقولهم: {مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أي: كنَّا ذوي طرائق. وهي المذاهب، واحدها طريقة، وهي المذهب. والقِدَد جمع قِذَة، كقطعة وقِطَع وزنًا ومعنًى. وهي من القَدّ، وهو القطع.
وقيل: المعنى (1) كُنَّا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة في اختلافها، وعلى هذا فالمعنى: كُنَّا كطرائق (2) قددًا. وليس بشيء.
وأضعفُ منه قول من قال: إنَّ “طرائق” منصوب على الظرف، أي: كُنَّا في طرائق (3) مختلفة كقوله:
كما عَسَل الطريقَ الثعلبُ (4)
وهذا ممَّا لا يحمل عليه أفصح الكلام.
وقيل: المعنى كانت طرائقنا طرائق قددًا فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه (5).
__________
= ونصّ البيت فيه أقرب شيء إلى ما هنا. أما “سائق لهم” كما في الأصل، فلعله سهو.
(1) “المعنى” ساقط من “ط”.
(2) “ك، ط”: “طرائق”.
(3) “ك”: “طريق”. “ط”: “طرق”.
(4) “كما” ساقط من “ط”. والشاهد من قول ساعدة بن جُؤيّة الهذلي:
لَدْنٌ بِهَزّ الكفِّ يعسِلُ متنُه … فيه كما عَسَل الطريقَ الثعلبُ
شرح أشعار الهذليين (1120).
(5) انظر الأقوال الأربعة مع الشاهد في: الكشاف (4/ 627).

(2/905)


وقال تعالى إخبارًا عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} [الجن/ 14]. فالمسلمون: الذين آمنوا باللَّه ورسوله منهم. والقاسطون: الجائرون العادلون عن الحقِّ. قال ابن عباس: هم الذين جعلوا للَّه أندادًا (1). يقال: “أقسط الرجل” إذا عدل، فهو مقسط. ومنه: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)} [الحجرات/ 9]. “قَسَط” إذا جار فهو قاسط {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} [الجن/ 15].
وقد (2) تضمَّنت هذه الآيات انقسامهم إلى ثلاث طبقات: صالحين، ودون الصالحين، وكفَّار. وهذه الطبقات بإزاء طبقات بني آدم، فإنَّها ثلاثة: أبرار، ومقتصدون وكفار. فالصالحون بإزاء الأبرار، ومن دونهم بإزاء المقتصدين، والقاسطون بإزاء الكفار.
وهذا كما قسم سبحانه بني إسرائيل إلى هذه الأقسام الثلاثة في قوله: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} [الأعراف/ 168]. فهؤلاء الناجون منهم. ثمَّ ذكر الظالمين، وهم خَلْف السوء الذين خلفوا بعدهم.
ولمَّا كان الإنس أكمل من الجنّ وأتمّ عقولًا ازدادوا عليهم بثلاثة أصناف أخر ليس شيء منها للجنّ، وهم: الرسل، والأنبياء، والمقرَّبون. فليس في الجنّ صنف من هؤلاء، بل غايتهم (3) الصلاح.
وذهب شُذوذ (4) من النَّاس إلى أنَّ فيهم الرسل والأنبياء
__________
(1) تفسير البغدي (8/ 241).
(2) “ك، ط”: “قد” دون واو العطف.
(3) “ط”: “حليتهم”، تحريف.
(4) “ط”: “شذّاذ”.

(2/906)


محتجًّا (1) على ذلك بقوله تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام/ 130]، وبقوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)} (2) [الأحقاف/ 29]. وقد قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [النساء/ 165]. وهذا قولٌ شاذٌ لا يُلتفت إليه ولا يُعرَف به سلف من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام.
وقوله سبحانه: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام/ 130]، لا يدلّ على أنَّ الرسل من كلِّ واحدة من الطائفتين، بل إذا كانت الرسل من الإنس وقد أمرت الجنُّ باتباعهم صحَّ أن يقال للإنس والجنّ: ألم يأتكم رسل منكم؟ ونظير هذا أن يقال للعرب والعجم: ألم يجئكم رسل منكم يا معشر العرب والعجم؟ فهذا لا يقتضي أن يكون من هؤلاء رسل (3)، ومن هؤلاء. وقال تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح/ 16]، وليس في كلِّ سماءٍ سماءٍ (4).
وأمَّا (5) قوله تعالى: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)} [الأحقاف/ 29] فالإنذار أعمّ من الرِّسالة، والأعمّ لا يستلزم الأخصّ. قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة/ 122] فهؤلاء نُذُر، وليسوا
__________
(1) “ط”: “محتجِّين”.
(2) في “ك، ط” لم تثبت الآية كاملة، بل قال بعد “من الجنّ”: إلى قوله “منذرين”.
(3) “ف”: “الرسل”، سهو.
(4) “ط”: “قمرٌ”.
(5) “أما” ساقطة من “ك، ط”.

(2/907)


برُسُل. قال غير واحد من السلف: الرسل من الإنس، وأمَّا (1) الجنّ ففيهم النذر (2).
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} (3) [يوسف/ 109] فهذا يدلّ على أَنَّه لم يرسل جنيًّا ولا امرأةً ولا بدويًّا. وأمَّا تسميته تعالى الجنّ رجالًا في قوله: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الجن/ 6] فلم يطلق عليهم الرجال، بل هي تسمية مقيَّدة بقوله: {مِنَ الْجِنِّ}، فهم رجال من الجنّ، ولا يستلزم (4) ذلك دخولهم في الرجال عند الإطلاق، كما تقول: رجال من حجارة، ورجال من خشب، ونحوه.

فصل
وقد اتفق المسلمون على أنَّ كفَّار الجنّ في النَّار. وقد دلَّ على ذلك القرآن في غير موضع كقوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)} [السجدة/ 13]، وقوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)} [ص/ 85] فملؤها به منه وبكفار ذريته. وقال تعالى: {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ} [الأعراف/ 38]. وقال تعالى في حكاية عن مؤمنيهم (5):
__________
(1) “ف”: “فأما”، خلاف الأصل.
(2) وهو قول مجاهد. انظر: زاد المسير (3/ 125) وقال شيخ الإسلام إن جمهور العلماء على هذا. مجموع الفتاوى (11/ 307).
(3) “نُوحي” قراءة حفص. وهي مضبوطة في “ف، ب” على قراءة غيره: “يُوحَى”.
(4) “ف”: “ولم يستلزم”، سهو.
(5) “ك، ط”: “مؤمنهم”.

(2/908)


{وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} (1) [الجن/ 14 – 15]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأعراف/ 179]. وقال تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95)} الشعراء/ 94 – 95]. وجنوده إن لم تختصّ (2) بالشياطين فهم داخلون في عمومه.
وبالجملة فهذا أمرٌ معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وهو يستلزم تكليف الجنّ بشرائع الأنبياء ووجوب اتباعهم لهم. فأمَّا شريعتنا فأجمع المسلمون على أنَّ محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- بعث إلى الجنّ والإنس، وأنَّه يجب على الجنّ طاعته، كما تجب (3) على الإنس. وأمَّا قبل نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- فقوله تعالى: {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ} [الأعراف/ 38] يدلّ على أنَّ الأمم الخالية من كفَّار الجنّ في النَّار، وذلك إنَّما يكون بعد إقامة الحجَّة عليهم بالرسالة.
وقد دلَّت سورة الرحمن على تكليفهم بالشرائع كما كلّف الإنس، ولهذا يقول سبحانه في إثر كلِّ آية: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)}، فدلَّ ذلك على أنَّ السورة خطاب للثقلين معًا. ولهذا قرأها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على الجنّ قراءةَ تبليغ، وأخبر أصحابه أنَّهم كانوا أحسن ردًّا منهم، فإنَّهم جعلوا يقولون كلَّما قرأ عليهم {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)}: لا نكذِّب بشيءٍ من آلائك ربَّنا فلك الحمد (4).
__________
(1) أثبت الآية في “ك، ط” باختصار.
(2) “ك، ط”: “يختص”.
(3) “ك، ط”: “يجب”.
(4) أخرجه الترمذي (3291)، والحاكم (2/ 473)، وأبو الشيخ في العظمة =

(2/909)


ولمَّا كان أَبوهم هو أَوَّل من دعا إلى معصية اللَّه، وعلى يده حصل كلّ كفر وفسوق وعصيان فهو الداعي إلى النَّار؛ كان (1) أول من يُكسى حُلَّةً من النَّار يوم القيامة، يسحبها وينادي: “واثبوراه! “. وأتباعه (2) من أولاده وغيرهم خلفه ينادون: “واثبورهم” (3)، حتَّى قيل: إنَّ كلَّ عذاب يُقسَم على أهل النَّار يُبدأ به فيه، ثمَّ يصير إليهم.

فصل
وأمَّا حكم مؤمنيهم في الدَّار الآخرة، فجمهور السلف والخلف على أنَّهم في الجنَّة. وترجم على ذلك البخاري رحمه اللَّه في صحيحه (4) فقال: “باب ثواب الجنّ وعقابهم لقوله تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} [الأنعام/ 130] بَخْسًا: نقصانًا (5). قال مجاهد: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات/ 158]. قال
__________
= (1106)، والبيهقي في الدلائل (2/ 232) من حديث جابر. قال الترمذي: “هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد. قال ابن حنبل: كأن زهير بن محمد الذي وقع بالشام ليس هو الذي يروي عنه بالعراق، كأنه رجل آخر قلبوا اسمه، يعني: لما يروون عنه من المناكير. وسمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: أهل الشام يروون عن زهير بن محمد مناكير، وأهل العراق يروون عنه أحاديث مقاربة”. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. (ز).
(1) “ك، ط”: “وكان”، خطأ، فإنه جواب لمّا.
(2) “ط”: “فأتباعه”.
(3) “ط”: “واثبوراهم”.
(4) في كتاب بدء الخلق، الباب (12).
(5) يعني تفسير قوله تعالى حكاية عن الجن: {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)} [الجن/ 13]. وفي “ط”: “نقصًا”. ولعله تغيير من الناشر. والوارد =

(2/910)


كفار قريش: الملائكة بنات اللَّه، وأمهاتهم بنات سَرَوات الجنّ. قال اللَّه: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)} [الصافات/ 158] ستُحضَر (1) للحساب”.
ثمَّ ذكر حديث أبي سعيد (2): “إذا كنتَ في غنمك وباديتك (3)، فأذَّنتَ بالصلاة، فارفع صوتَك بالنِّداءِ (4)؛ فإنَّه لا يسمع مدى صوت المؤذِّن جنّ ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة” سمعته من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. هذا ما ذكره في الباب.
وقد ذهب جمهور النَّاس إلى أنَّ مؤمنيهم في الجنَّة. وحكي عن أبي حنيفة وغيره أنَّ ثوابهم نجاتهم من النَّار. واحتُجَّ لهذا القول (5) بقوله تعالى حكايةً عنهم: {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)} (6) [الأحقاف/ 31] فجعل غاية ثوابهم إجارتَهم من العذاب الأليم. وأمَّا الجمهور فقالوا: مؤمنهم في الجنَّة، كما أنَّ كافرهم في النَّار (7). ثمَّ اختلفوا فأطلق أكثر النَّاس دخولَ الجنَّة ولم يقيِّدوه. وقال سهل بن عبد اللَّه: يكونون في رَبَض الجنَّة،
__________
= هنا موافق لمتن الصحيح في الفتح (6/ 346).
(1) “ب”: “سيحضرون”.
(2) برقم (3296).
(3) “ط”: “أو باديتك”.
(4) “بالنداء” سقط من “ف” سهوًا.
(5) “القول” ساقط من “ط”.
(6) لم يثبت الآية كاملة في “ك”. وكذا في “ط”.
(7) ذكر المؤلف في مفتاح دار السعادة (1/ 189 – 194) عشرة دلائل على قول الجمهور.

(2/911)


يراهم المؤمنون من حيث لا يرونهم (1).
فهذه مذاهب النَّاس في أحكامهم في الآخرة.
وأمَّا أحكامهم في الدنيا فاختلف النَّاس: هل هم مكلَّفون بالأمر والنَّهي، أم مضطرُّون إلى أفعالهم؟ (2) على قولين حكاهما أبو الحسن الأشعري في كتاب “المقالات” له فقال: واختلف النَّاس في الجنّ، هل هم مكلَّفون، أم مضطرّون؟ فقال (3) قائلون من المعتزلة وغيرهم: هم مأمورون منهِيُّون، وقد أمروا ونُهوا، وهم مختارون. وزعم زاعمون أنَّهم مضطرُّون (4).
قلت: الصواب الذي عليه جمهور أهل الإسلام أنَّهم مأمورون منهيُّون مكلَّفون بالشريعة الإسلامية. وأدلَّة القرآن والسنَّة على ذلك أكثر من أن تحصر. فإضافة هذا القول إلى المعتزلة بمنزلة أن يقال: ذهبت المعتزلة إلى القول بمعاد الأبدان ونحو ذلك ممَّا هو من أقوال سائر أهل الإسلام.
وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ
__________
(1) في مجموع الفتاوى (4/ 233) أنه حديث رواه الطبراني، وقال في (19/ 39): “وقد روي” من غير عزو. ولم أجده في معاجم الطبراني وغيرها. وذكر الحافظ في الفتح (6/ 346) أن هذا القول منقول عن مالك وطائفة. وأن بعضهم قال إنهم من أصحاب الأعراف. وبعضهم رأى التوقف. فهي أربعة أقوال.
(2) “ك”: “هم مضطرون”. “ط”: “هم مضطرون على. . . “.
(3) “ف”: “قال”، سهو.
(4) مقالات الإسلاميين. (440).

(2/912)


الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)} (1) [الأحقاف/ 18] فأخبر أنَّ منهم من حقَّ عليه القول، أي: وجب عليه العذاب، وأنَّه خاسر، ولا يكون ذلك إلا في أهل التكليف المستوجبين للعقاب (2) بأعمالهم. ثمَّ قال بعد ذلك {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف/ 19] أي: في الخير والشرّ يُوفَّونها ولا يُظلمون شيئًا من أعمالهم. وهذا ظاهر جدًّا في ثوابهم وعقابهم، وأنَّ مسيئهم كما يستحقّ العذاب بإساءته، فمحسنهم يستحقّ الدرجات بإحسانه، فلكلٍّ (3) درجاتٌ ممَّا عملوا. فدلّ ذلك لا محالة أنَّهم كانوا مأمورين بالشرائع، متعبِّدين بها في الدنيا، ولذلك استحقُّوا الدرجات بأعمالهم في الآخرة في الخير والشرّ.
وقال تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)} (4) [فصلت/25].
ومعنى الآية: أنَّ اللَّه قيَّض للمشركين -أي: سبَّب لهم- قرناءَ من الشياطين يزيّنون لهم ما بين أيديهم من اللذات في الدنيا (5)، وما خلفهم من التكذيب بالآخرة وما فيها من الثواب والعقاب.
وقيل عكس هذا، وأنَّ ما بين أيديهم هو التكذيب بالآخرة، وما
__________
(1) لم يثبت في “ك”: “كانوا خاسرين”، وكتب مكانها “الآية”، وكذا في “ط”.
(2) “ك، ط”: “العقاب”.
(3) “ك، ط”: “ولكل”.
(4) هنا أيضًا نقل الآية في “ك” إلى “والإنس” ثم كتب: “الآية”. وكذا في “ط”.
(5) “من اللذات في الدنيا” ساقطة من “ك، ط”.

(2/913)


خلفهم (1) هو رغبتهم (2) في الدنيا وحرصهم عليها (3). وقال الحسن: ما بين أيديهم هو حبّ ما كان عليه آباؤهم من الشرك وتكذيب الرسل، وما خلفهم تكذيبهم بالبعث وما بعده.
وفي الآية قولٌ رابع، وهو أنَّ التزيين كلّه راجع إلى أعمالهم، فزيَّنوا لهم ما بين أيديهم: أعمالَهم التي عملوها، وما خلفهم: الأعمال التي هم عازمون عليها ولمَّا يعملوها بعد، وكأنَّ لفظ التزيين بهذا القول أليق.
ومن جعل ما خلفهم هو الآخرة لم يستقم قوله إلا بإضمار، أي: زيّنوا لهم التكذيب بالآخرة. ومع هذا فهو قول مستقيم ظاهر، فإنَّهم زيّنوا لهم ترك العمل لها والاستعداد للقائها.
ولهذا كان عليه جمهور أهل التفسير حتَّى لم يذكر البغوي غيره (4). وحكاه عن الزجّاج فقال: وقال الزجاج: سبَّبنا لهم قرناءَ نظراء من الشياطين حتَّى أضلّوهم، فزيّنوا لهم ما بين أيديهم من أمر الدنيا حتَّى آثروه على الآخرة وما خلفهم من أمر الآخرة، فدعوهم إلى التكذيب به وإنكار البعث (5).
__________
(1) “هو التكذيب. . . ” إلى هنا ساقط من “ط”.
(2) “ط”: “ترغيبهم”.
(3) زاد هنا في “ط”: “وما خلفهم هو التكذيب بالآخرة”، وهو تكرار، وفي القطرية سقط هنا بعض الكلام.
(4) معالم التنزيل (7/ 171).
(5) ليس في هذا النقل من قول الزجّاج إلّا “سبّبنا” تفسير “قيّضنا”. ونص قوله: “يقول: زينوا لهم أعمالهم التي يعملونها ويشاهدونها، و”ما خلفهم”: وما يعزمون أن يعملوه” وهذا هو القول الرابع الذي ذكره المؤلف من قبل، وكذا نقله القرطبي (15/ 231) عن الزجّاج. أما تفسير البغوي فهو قول مجاهد =

(2/914)


والمقصود أنَّ قوله تعالى: {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)} [فصلت/ 25] أي: وجب عليهم العذاب مع أمم قد مضت من قبلهم من الجنّ والإنس. ففي هذا أبين دليل على تكليف الثقلين وتعلّق الأمر والنهي بهم، ولذلك (1) تعلّق بهم الثواب والعقاب.
وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} (2) [الأنعام/ 128].
وهذا صريح في تكليفهم، فإنَّ هذا القول يقال للجنّ في القيامة، فيذكر الإنس استمتاعَ بعضهم ببعض في الدنيا، وذلك الاستمتاع هو ما بين الجنّ والإنس من طاعتهم إيَّاهم في معصية اللَّه، وعبادتهم لهم دون اللَّه، ليستعينوا بهم على شهواتهم وأغراضهم. فإنَّهم كانوا يستوحونهم، ويعوذون بهم (3)، ويذبحون لهم وبأسمائهم، ويوالونهم من دون اللَّه، كما هو شأن أكثر المشركين من أولياءِ الشيطان (4). فهذا استمتاع بعضهم ببعض.
ولهذا يقول تعالى للملائكة يوم القيامة -وقد جمع العابدين والمعبودين (5) -: {أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا
__________
= كما في تفسير القرطبي.
(1) وكذا “ك، ط”: “كذلك”. “ط”: “تعلّق الثواب والعقاب بهم”.
(2) اختصرت الآية في “ك، ط”.
(3) “ف”: “ويغرّونهم”، تحريف.
(4) “ف”: “الشياطين”، خلاف الأصل.
(5) “ف”: “العابدون والمعبودون”، سهو.

(2/915)


مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)} [سبأ/ 40 – 41] فهؤلاء عُبَّاد الجنّ وأولياء الشيطان (1).
وأكثرهم يعلم ذلك ويرضى به لما ينال به من المتعة بمعبوده. وكثير منهم ملبوس عليه، فهو يعبد الشيطان ولا يشعر. وقد أشار زيد بن عمرو ابن نفيل في شعره إلى هذا الشرك بالجنّ فقال:
حنانَيك إنَّ الجنّ كانت رجاءَهم … وأنتَ إلهي ربَّنا ورجائيا (2)
ولهذا يقولون في القيامة: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام/ 128] قال اللَّه تعالى: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام/ 128] فهذا خطاب للصنفين، وهو صريح في اشتراكهم في التكليف، كما هو صريح في اشتراكهم في العذاب. وهذا كثير (3) في القرآن.
وممَّا يدلّ على تكليفهم أيضًا قوله تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} (4) [الأنعام/ 130]. فلمَّا اعترفوا بأنهم كانوا كافرين، وشهدوا على أنفسهم بالكفر، دلَّ ذلك على تكليفهم وتوجّه الخطاب إليهم.
__________
(1) “ف”: “الشياطين”، خلاف الأصل. وكذا في “ك، ط”.
(2) “ك، ط”: “رجاؤنا”، وهو تحريف. والبيت لزيد في السيرة (1/ 227) ولورقة ابن نوفل في الأغاني (3/ 119). وفي السيرة: “الحن” بالمهملة.
(3) “ط”: “وهو كثير”.
(4) اختصرت الآية في “ك، ط”.

(2/916)


وقال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)} (1) [الأحقاف/ 29 – 32].
فهذا يدلّ على تكليفهم من وجوه متعددة:
أحدها: أنَّ اللَّه سبحانه صرفهم إلى رسوله يستمعون القرآن، ليؤمنوا به، ويأتمروا بأوامره، وينتهوا عن نواهيه.
الثاني: أنَّهم ولَّوا إلى قومهم منذرين. والإنذار هو الإعلام بالمخوف (2) بعد انعقاد أسبابه، فعلم أنَّهم منذرون لهم بالنَّار إن عصوا الرسول.
الثالث: أنَّهم أخبروا أنَّهم سمعوا القرآن، وعقلوه وفهموه، وأنَّه يهدي إلى الحقِّ. وهذا القول منهم يدل على أنَّهم عالمون بموسى وبالكتاب المنزّل (3) عليه، وأنَّ القرآن مصدّق له، وأنَّه هادٍ إلى صراط مستقيم. وهذا يدل على تمكّنهم من العلم الذي تقوم به الحجة، وهم قادرون على امتثال ما فيه. والتكليف إنَّما يستلزم العلم والقدرة.
الرابع: أنَّهم قالوا لقومهم: {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ}.
__________
(1) اختصر في نقل الآيات في “ك، ط”.
(2) “ك، ط”: “بالخوف”.
(3) “ف”: “الذي أنزل”، خلاف الأصل.

(2/917)


وهذا صريح في أنَّهم مكلَّفون مأمورون بإجابة الرسول، وهي تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر.
الخامس: أنَّهم قالوا: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}. والمغفرة لا تكون إلا عن ذنب، وهو مخالفة الأمر.
السادس: أنَّهم قالوا: {مِنْ ذُنُوبِكُمْ}. والذنب: مخالفة الأمر.
السابع: أنَّهم قالوا: {وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)}. وهذا يدلّ على أنَّ من لم يستجب منهم لداعي اللَّه لم يُجِرْه من العذاب الأليم. وهذا صريح في تعلق الشريعة الإسلامية بهم.
الثامن: أنَّهم قالوا: {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ}. وهذا تهديد شديد لمن تخلَّف عن إجابة داعي اللَّه منهم. وقد استدلّ بهذا (1) أنَّهم كانوا متعبدين بشريعة موسى، كما هم متعبَّدون بشريعة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-. وهذا ممكن، والآية لا تستلزمه، ولكن قوله تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ} الآية [الأنعام/ 130] يدلّ على أنَّ الجنّ كانوا متعبّدين بشرائع الرسل قبل محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، والآيات المتقدِّمة تدلّ على ذلك أيضًا. وعلى هذا فيكون اختصاص النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالبعثة إلى الثقلين هو اختصاصه بالبعثة إلى جميعهم لا إلى بعضهم، ومن قبله كان يبعث إلى طائفة مخصوصة.
وأيضًا فقد قال تعالى عن نبيّه سليمان: {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ/ 12]. وهذا
__________
(1) “ط”: “بها على”.

(2/918)


محض التكليف.
وقد تقدَّم قوله تعالى حكاية عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} (1) [الجن/ 14 – 15].
وقد صحَّ أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قرأ عليهم القرآن، وأنَّهم سألوه الزاد لهم ولدوابّهم، فجعل لهم كلَّ عظم ذُكِرَ اسمُ اللَّه عليه، وكلُّ بعرة علفٌ لدوابّهم. ونهانا عن الاستنجاء بهما (2).
ولو لم يكن في هذا إلا قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء/ 15] -وقد أخبر أنَّه يعذّب كفرةَ الجنّ- لكفى به حجةً على أنَّهم مكلَّفون باتباع الرسل.
وممَّا يدلّ على أنَّهم مأمورون منهيُّون بشريعة الإسلام ما تضمّنته سورة الرحمن. فإنَّه سبحانه ذكر خلق النوعين في قوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15)}. ثمَّ خاطب النوعين بالخطاب المتضمّن لاستدعاءِ الإيمان منهم، وإنكار تكذيبهم بالآية، وترغيبهم في وعده، وتخويفهم من وعيده، وتهديدهم بقوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)}، وتخويفهم من عواقب ذنوبهم، وأنَّه لعلمه بها لا يحتاج أن يسألهم عنها سؤال استعلام، بل يعرف
__________
(1) اختصر في نقل الآية في “ك، ط”.
(2) كما في حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه، أخرجه البخاري في مناقب الأنصار (3860) وغيره؛ وحديث ابن مسعود رضي اللَّه عنه، أخرجه مسلم في كتاب الصلاة (450).

(2/919)


المجرمون منهم بسيماهم فيؤخذ بنواصيهم وأقدامهم (1). ثمَّ ذكر عقاب الصنفين وثوابهم. وهذا كلّه صريح في أنَّهم هم المكلّفون المأمورون المنهيّون المثابون المعاقبون.
وفي الترمذي من حديث محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد اللَّه قال: خرج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها، فسكتوا، فقال: “لقد قرأتها على الجنّ ليلة الجنّ فكانوا (2) أحسن مردودًا منكم، كنتُ كلَّما أتيتُ على قوله (3) {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32)} قالوا: لا شيء من نعمك ربَّنا نكذّب، فلك الحمد” (4). وهذا يدل على ذكائهم وفطنتهم ومعرفتهم بمواقع (5) الخطاب، وعلمهم أنَّهم مقصودون به.
وقوله في هذه السورة: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)} وعيد للصنفين المكلّفين بالشرائع. قال قتادة: معناه فراغ الدنيا وانقضاؤها، ومجيء الآخرة والجزاء فيها، واللَّه تعالى لا يشغله شيءٌ عن شيء (6). والفراغ في اللغة يكون (7) على وجهين: فراغ من الشغل، وفراغ بمعنى القصد (8). وهو في هذا الموضع بالمعنى الثاني، وهو
__________
(1) “ك، ط”: “والأقدام”.
(2) “ك، ط”: “وكانوا”.
(3) “ك، ط”: “آية”.
(4) تقدّم تخريجه في ص (909).
(5) “ط”: “بمؤنة”، تحريف.
(6) لفظ قتادة في تفسير الطبري (27/ 136): “دنا من اللَّه فراغ لخلقه”.
(7) “يكون” ساقط من “ط”.
(8) معاني القرآن للزجاج (5/ 99).

(2/920)


قصده (1) لمجازاتهم بأعمالهم (2) يوم الجزاء.
وقوله: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)}. فيها قولان:
أحدهما: إن استطعتم أن تنفذوا ما في السماوات والأرض علمًا -أي: أن تعلموا ما فيهما- فاعلموه، ولن تعلموه إلا بسلطان، أي (3): ببينة من اللَّه. وعلى هذا فالنفوذ ههنا نفوذ علم الثقلين في السماوات والأرض.
والثاني (4): إن استطعتم أن تخرجوا (5) عن قهر اللَّه ومحلّ سلطانه ومملكته بنفوذكم من أقطار السماوات والأرض وخروجكم عن محل ملك اللَّه (6) وسلطانه، فافعلوا. ومعلوم أنَّ هذا من الممتنع عليكم، فإنَّكم تحت سلطاني وفي محلّ ملكي وقدرتي أين كنتم.
وقال الضحاك: معنى الآية إن استطعتم أن تهربوا عند الموت فاهربوا، فإنَّه مدرككم (7).
وهذه الأقوال على تقدير (8) أن يكون الخطاب لهم بهذا القول في الدنيا.
__________
(1) “ك”: “قصد”. “ط”: “وقد قصد”.
(2) لم تنقل الآية كاملة في “ك، ط”.
(3) “ك، ط”: “أي إلّا”.
(4) “ك، ط”: “الثاني” دون واو العطف.
(5) في الأصل: “تخرجون”، سهو. وكذا نقل ناسخ “ف”، ثم ضرب على النون.
(6) “ك، ط”: “حكم اللَّه”.
(7) تفسير الطبري (27/ 137).
(8) “تقدير” ساقط من “ك، ط”.

(2/921)


وفي الآية تقدير (1) آخر، وهو أن يكون هذا الخطاب في الآخرة إذا أحاطت الملائكة بأقطار الأرض، وأحاطَ سُرادق النار بالآفاق، فهرب الخلائق، فلا يجدون مهربًا ولا منفذًا، كما قال تعالى: {وَيَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} [غافر/ 32 – 33]. قال مجاهد: فارّين غير معجزين (2). وقال الضحاك: إذا سمعوا زفير النار نَدّوا هُرَّابًا (3)، فلا يأتون قطرًا من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفًا، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه. فذلك (4) قوله: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة/ 17]، وقوله: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا} (5) [الرحمن/ 33].
وهذا القول أظهر، واللَّه أعلم. فإذا نَدّ (6) الخلائق وولَّوا مدبرين يقال لهم: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا} أي: إن قدرتم أن تتجاوزوا أقطار السماوات والأرض، فتعجزوا ربّكم حتّى لا يقدرَ على عذابكم، فافعلوا.
وكأنّ ما قبل هذه الآية وما بعدها يدلّ (7) على هذا القول، فإنّ قبلها {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)} (8) وهذا في الآخرة. وما
__________
(1) “ط”: “تقرير”، تحريف.
(2) تفسير الطبري (24/ 62).
(3) “ب، ك، ط”: “هربًا”.
(4) “ف”: “وذلك”، قراءة محتملة.
(5) معالم التنزيل (7/ 148)، وانظر: تفسير الطبري (27/ 137).
(6) “ط”: “بده”، تحريف. وقد سقطت واو العطف منها قبل “ولّوا”.
(7) سقط “يدل” من “ط”، واستدرك في القطرية.
(8) لم تنقل الآية كاملة في “ك، ط”.

(2/922)


بعدها (1) {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37)}، وهذا في الآخرة.
وأيضًا فإنَّ هذا خطاب لجميع الإنس والجنّ، فإنَّه أتى فيه بصيغة العموم، وهي قوله: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}. فلا بدَّ أن يشترك الكلّ في سماع هذا الخطاب ومضمونه. وهذا إنَّما يكون إذا جمعهم اللَّه في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر.
وقال تعالى: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} ولم يقل: “إن استطعتما”، لإرادة الجماعة، كما قال (2) في آية أخرى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ} [الأنعام/ 130].
وقال: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا} ولم يقل: “عليكم” على إرادة (3) الصنفين. أي: لا يختص به صنف عن صنف، بل يرسل ذلك على الصنفين معًا. وهذا وإن كان مرادًا بقوله: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ}، فخطاب الجماعة في ذلك بلفظ الجمع أحسن، أي: من استطاع منكم. وحَسَّن الخطابَ بالتثنية في قوله: {عَلَيْكُمَا} أمرٌ آخر، وهو موافقة رؤوس الآي، فاتصلت التثنية بالتثنية. وفيه التسوية بين الصنفين في العذاب بالتنصيص عليهما، فلا يحتمل اللفظ إرادة أحدهما. واللَّه أعلم. قال ابن عباس: “الشواظ”: اللهب الذي لا دخان فيه. و”النحاس”: الدخان الذي
__________
(1) “ب، ك، ط”: “وبعدها”.
(2) “قال” ساقط من “ك، ط”.
(3) “ك، ط”: “يرسل عليكم لإرادة”.

(2/923)


لا لهب فيه (1).
وقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39)}، فأضاف الذنوب إلى الثقلين، وهذا دليل على أنَّهما سواء (2) في التكليف. واختلف في هذا السؤال المنفي، فقيل: هو وقت البعث والمصير إلى الموقف، لا يُسألون حينئذٍ. ويُسألون بعد إطالة الوقوف واستشفاعهم إلى اللَّه أن يحاسبهم ويُريحهم من مقامهم ذلك. وقيل: المنفي سؤال الاستعلام والاستخبار، لا سؤال المحاسبة والمجازاة. أي: قد علم اللَّه ذنوبهم، فلا يسألهم عنها سؤالَ من يريد علمها، وإنَّما يحاسبهم عليها.

فصل
فإذا عُلِمَ تكليفُهم بشرائع الأنبياء ومطالبتهم بها، وحشرهم يوم القيامة للثواب والعقاب، عُلِمَ أنَّ محسنهم في الجنَّة كما أنَّ مسيئهم في النَّار.
وقد دلَّ على ذلك قوله تعالى حكاية عن مؤمنيهم (3): {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا} (4) [الجن/ 13]، وبهذه الحجَّة احتجَّ البخاري (5). ووجه الاحتجاج بها أنَّ البخس المنفيّ هو: نقصان الثواب، والرهق: الزيادة في العقوبة على ما
__________
(1) انظر: مسائل نافع بن الأزرق في الإتقان (2/ 60)، وتفسير الطبري (17/ 111).
(2) “ط”: “سويًّا”.
(3) “ك، ط”: “مؤمنهم”.
(4) نقلت الآية مختصرة في “ك، ط”.
(5) في ترجمة الباب (12) من كتاب بدء الخلق، كما سبق.

(2/924)


عمل، فلا يُنقص من ثواب حسناته ولا يُزاد (1) في سيئاته. ونظير هذا قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)} [طه/ 112] أي: لا يخاف زيادة في سيئاته ولا نقصًا في حسناته (2).
وأيضًا فقد قال تعالى في سورة الرحمن: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47)} وذكر ما في الجنَّتين إلى قوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56)}. وهذا يدلّ على أنَّ ثواب محسنهم الجنَّة من وجوه:
أحدها: أنَّ “مَنْ” من صيغ العموم، فتتناول كلّ خائف.
الثاني: أنَّه رتَّب الجزاءَ المذكور على خوف مقامه، فدلّ على استحقاقه به.
وقد اختلف في إضافة المقام إلى الربّ: هل هي من إضافة المصدر إلى فاعله، أو إلى مفعوله؟ على قولين (3): أحدهما: أنَّ المعنى: ولمن خاف مقامه بين يدي ربه. فعلى هذا هو من إضافة المصدر إلى المفعول. والثاني: أنَّ المعنى: ولمن خاف مقام ربه عليه واطلاعه عليه. فهو من باب إضافة المصدر إلى فاعله. وكذلك القولان في قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)} [النازعات/ 40]. ونظيره قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)} [إبراهيم/ 14] فهذه ثلاثة مواضع.
__________
(1) “ك، ط”: “يزداد”.
(2) “ك”: “زيادة سيئاته ولا نقصان من حسناته”! وكذا في “ط” بحذف “من”.
(3) انظر: تفسير البغوي (7/ 451)، والكشاف (4/ 451).

(2/925)


وقد يقال: الراجح هو الأوَّل، وأنَّ المعنى: خاف مقامه بين يدي ربّه، لوجوه:
أحدها: أنَّ طريقة القرآن في التخويف أن يخوّفهم باللَّه وباليوم الآخر، فإذا خوّفهم به علَّق الخوفَ به، لا بقيامه عليهم، كقوله تعالى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران/ 175] وقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة/ 8] وقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل/ 50] وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)} [الملك/ 12]. ففي هذا كلّه لم يذكر خشية مقامه عليهم، وإنَّما مدحهم بخوفه وخشيته. وقد يذكر الخوف متعلِّقًا بعذابه، كقوله تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء/ 57]. وأمَّا خوف مقامه عليهم، فهو وإن كان كذلك، فليس طريقة القرآن.
الثاني: أنَّ هذا نظير قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام/ 51]. فخوفهم أن يحشروا إليه هو خوفهم من مقامهم بين يديه، والقرآن يفسّر بعضه بعضًا.
الثالث: أنَّ خوف مقام العبد بين يدي ربّه تعالى في الآخرة لا يكون إلا ممن يؤمن بلقائه وباليوم الآخر والبعث (1) بعد الموت. وهذا هو الذي يستحقّ الجنَّتين المذكورتين، فإنَّه لا يؤمن بذلك حق الإيمان إلا من آمن بالرسل، وهو من الإيمان بالغيب الذي جاءَت به الرسل. وأمَّا مقام اللَّه على عبده في الدنيا واطلاعه عليه وقدرته عليه، فهذا يُقرّ به المؤمن والكافر والبرّ والفاجر. وأكثر الكفار يخافون جزاءَ اللَّه
__________
(1) “ب، ك، ط”: “بالبعث”.

(2/926)


لهم في الدنيا، لما عاينوه من مجازاة الظالم بظلمه، والمحسن بإحسانه. وأمَّا مقام العبد بين يدي ربّه في الآخرة، فلا يؤمن به إلا المؤمن بالرسل.
فإن قيل: إذا كان المعنى أنَّه خاف مقام ربّه عليه في الآخرة بالجزاءِ فقد استوى التقديران، فمن أين رجَّحتم أحدهما؟
قيل: التخويف بمقام العبد بين يدي ربّه أبلغ من التخويف بمقام اللَّه (1) على العبد. ولهذا خوَّفنا سبحانه به (2) في قوله: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين/ 6]، ولأنَّه مقام مخصوص مضاف إلى اللَّه تعالى، وذلك في يوم القيامة، بخلاف مقام اللَّه على العبد فإنَّه كل وقت.
وأيضًا فإنَّه لا يقال لقدرة اللَّه على العبد واطلاعه عليه وعلمه به: مقام اللَّه، ولا هذا من المألوف إطلاقُه على الربِّ تعالى.
وأيضًا فإنَّ المقام في القرآن والسنَّة إنَّما يطلق على المكان، كقوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)} [الإسراء/ 79]، وقوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26)} (3) [الدخان/ 25 – 26]، {خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)} [مريم/ 73].
والمقصود أنَّ قوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن/ 46] يتناول الصنفين، من وجوه تقدَّم منها وجهان.
الثالث: قوله عقيب هذا الوعد: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن/ 47].
__________
(1) “ك، ط”: “بمقام الرب”.
(2) “به” ساقط من “ك، ط”.
(3) زاد في “ط” هنا: “وقوله تعالى”.

(2/927)


الرَّابع: أنَّه ذكر في وصف نسائهم أنَّهنَّ {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56)} [الرحمن/ 56]. وهذا -واللَّه أعلم- معناه أنَّه لم يطمث نساءَ الإنس إنسٌ قبلهم، ولا نساءَ الجنّ جنٌّ قبلهم.
وممَّا يدلّ على أنَّ ثوابهم الجنَّة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} [الكهف/ 30 – 31] وأمثال هذه من العمومات. وقد ثبت أنَّ منهم المؤمنين (1)، فيدخلون (2) في العموم، كما أنَّ كافرهم يدخل في الكافرين المستحقّين للوعيد، ولا فرق. بل (3) دخول مؤمنهم في آيات الوعد أولى من دخول كافرهم في آيات الوعيد، فإنَّ الوعد فضله، والوعيد عدله، وفضله من رحمته وهي تغلب غضبَه.
وأيضًا فإنَّ دخول عاصيهم النَّار إنَّما كان لمخالفته أمر اللَّه، فإذا أطاع اللَّه أدخله (4) الجنَّة.
وأيضًا فإنَّه لا دار للمكلّفين سوى الجنَّة والنَّار، فكلّ (5) من لم يدخل
__________
(1) “ط”: “المؤمنون”، وهو خطأ صحح في القطرية.
(2) في الأصل: “فيدخلوا”، ولعله سهو. وكذا في “ف، ك”. وفي “ب”: “فيدخل”. والمثبت من “ط”.
(3) كأنّ الكلمة في الأصل: “بين”، وكذا في “ف، ب”. ولعله سبق قلم. والصواب ما أثبتّ. وكتب ناسخ “ف” في الحاشية “أنّ” وأشار إلى أن مكانها بعد “بين”، وهو خطأ. وفي “ك”: “بل بين”. ولعل “بل” كان تصحيحًا في حاشية النسخة، فجمع بينهما ناسخ “ك”. وفي “ط”: “للوعيد ودخول”، فتصرّف في النص كما شاء!
(4) “ك، ط”: “أدخل”.
(5) “ب، ك، ط”: “وكل”، قراءة محتملة.

(2/928)


النَّار من المكلَّفين فالجنَّة مثواه.
وأيضًا فقد ثبت (1) أنَّهم إذا أجابوا داعي اللَّه غفَر لهم وأجارهم من عذابه، وكلّ من غفر اللَّه (2) له دخل الجنة ولا بدّ، وليس فائدة المغفرة إلا الفوز بالجنَّة والنجاة من النَّار.
وأيضًا فإنَّه إذا ثبت (3) أنَّ الرسول مبعوث إليهم وأنَّهم مكلَّفون باتباعه كان (4) مطيعهم للَّه ورسوله مع الذين أنعم اللَّه عليهم، لقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} الآية (5) [النساء/ 69].
وأيضًا فقد أخبر (6) سبحانه عن ملائكته حملةِ العرشِ ومَن حولهم أنَّهم يستغفرون للذين آمنوا وأنَّهم يقولون: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ} [غافر/ 7 – 8]، فدلَّ على أنَّ كلّ مؤمن غفر اللَّه له ووقاه عذاب الجحيم فقد وعده الجنَّة. وقد ثبت في حق مؤمنهم الإيمان ومغفرة الذنب ووقاية النَّار -كما تقدَّم- فتعيَّن دخولُهم الجنَّة، واللَّه أعلم.
وإذا ثبت تكليفُهم وانقسامهم (7) إلى المسلمين والكفار والصالحين
__________
(1) “ف”: “فإنه قد ثبت”، خلاف الأصل، وكذا في “ب”!
(2) “ك، ط”: “غفر له”.
(3) “ب”: “وأيضًا فإذا ثبت”. “ط”: “وأيضًا فقد ثبت”.
(4) “ط”: “باتباعه وأنّ”.
(5) هنا أثبت الآية كاملة في “ط”.
(6) سقط “وأيضًا” من “ك”، فأثبت ناشر “ط”: “وقد أخبر”.
(7) “ط”: “بانقسامهم”، تحريف.

(2/929)


ودون ذلك، فهم في الموازنة على نحو طبقات الإنس المتقدِّمة، إلا أنَّهم ليس فيهم رسول. وأفضل درجاتهم درجة الصالحين، ولو كان لهم درجة أفضل منها لذكروها. فقد دلَّ القرآن على انقسامهم إلى ثلاثة أقسام: صالحين، ودونهم، وكفار. وزاد عليهم الإنس بدرجة الرسالة والنبوة ودرجة المقرَّبين. واللَّه تعالى أعلم.
فهذا ما وصل إليه الإحصاءُ من طبقات المكلّفين في الدار الآخرة، وهي ثمان عشرة طبقة، وكلّ طبقة منها لها أعلى وأدنى ووسط، وهم درجات عند اللَّه. واللَّه تعالى يحشر الشكل مع شكله والنظير مع نظيره، ويقرن (1) بينهما في الدرجة.
قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الصافات/ 22 – 23]. قال الإمام أحمد وقبله عمر بن الخطاب: “أزواجهم”: أشباههم ونظراؤهم (2).
وقال تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)} [التكوير/ 7]. روى النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب أنَّه سئل عن هذه الآية فقال: يُقرَن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنَّة، ويُقرَن بين الرجل السَّوء مع الرجل السَّوء في النَّار (3). وقال الحسن وقتادة: يلحق كل امرئ بشيعته، اليهودي باليهودي، والنصراني بالنصراني (4). وقال الربيع بن خُثيَم:
__________
(1) “ف، ب”: “يفرق”، تحريف.
(2) تفسير الطبري (23/ 46)، زاد المسير (7/ 52). وانظر الكافية الشافية (21).
(3) تفسير الطبري (30/ 69). وكذا النصّ “بين الرجل. . مع. . . ” في الموضعين في الأصل وغيره، وفي التفسير. وحذفت كلمة “بين” في “ط”.
(4) المصدر السابق (30/ 70).

(2/930)


يحشر الرجل مع صاحب عمله (1). وفي الآية ثلاثة أقوال أخر أحدها: أنَّ تزويجَ النفوس اقترانها بأجسادها وردّها إليها. الثاني: أنَّ (2) تزويجها اقترانها بأعمالها. الثالث: أنَّ (3) تزويج المؤمنين بالحور (4) العين، وتزويج الكفار بالشياطين.
والقول الأوَّل أظهر الأقوال. واللَّه أعلم.
والحمد للَّه ربِّ العالمين. وصلَّى اللَّه على محمد وآله (5).
__________
(1) المصدر السابق.
(2) “أنَّ” ساقطة من “ك، ط”.
(3) “ك، ط”: “أنه”.
(4) “ك، ط”: “الحور”.
(5) خاتمة “ف” المنقولة من الأصل: “كمل الكتاب بحمد اللَّه تعالى ومنّه وحسن توفيقه. فرغ من كتابته من نسخة المصنف المسودّة العبدُ محمد بن عيسى بن عبد اللَّه بن سليمان البعلي الحنبلي غفر اللَّه له ولوالديه وللمصنّف ولجميع المسلمين. ووافق الفراغ يوم الأربعاء المبارك تاسع عشري شهر رمضان المعظم من عام اثنين وسبعين وسبع مائة ببعلبك. والحمدُ للَّه وصلَّى اللَّه على سيدنا محمد وآله وصحبه.
قابله كاتبُه بأصل مصنفه رحمه اللَّه المنقول منه، فصحّ بحمد اللَّه. غفر اللَّه له، ولمن قابل معه، وللمصنف، والمالك، ولمن نظر فيه ودعا لهم. آمين. وفيه تبييضات أكلها الزمان من أطراف الأصل قصرت العبارة عن معرفة مضمونها، فبيّضها، كما تراها في القريب من آخره. واللَّه المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل”.

(2/931)


ثبت المصادر والمراجع
– الآحاد والمثاني، لابن أبي عاصم، تحقيق باسم الجوابرة، دار الراية، الرياض، 1411.
– الإبانة عن أصول الديانة، للأشعري، تحقيق فوقية حسين محمود، دار الأنصار، القاهرة، 1397.
– الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت، 1408.
– الأحاديث المختارة، للضياء المقدسي، تحقيق عبد الملك بن دهيش، مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، 1410.
– الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، لابن بلبان الفارسي، تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1408.
– أحكام أهل الذمة، لابن القيم، تحقيق صبحي الصالح، دار العلم للملايين، بيروت، 1983 م.
– الأدب المفرد، للبخاري، تخريج وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، ط 3، تصوير دار البشائر الإسلامية.
– أساس البلاغة، للزمخشري، تحقيق عبد الرحيم محمود، دار المعرفة، بيروت، 1399.
– الاستذكار، لابن عبد البر، دار الكتب العلمية، بيروت، 1421.
– الاستقامة، لابن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، 1403.

(2/933)


– الأسماء والصفات، للبيهقي، تحقيق عبد اللَّه الحاشدي، مكتبة السوادي، جدة، 1413.
– الأسماء والصفات، للبيهقي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405.
– الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر، تحقيق علي البجاوي، تصوير دار الجيل، بيروت، 1412.
– أطراف الغرائب والأفراد للدارقطني، لمحمد بن طاهر المقدسي، تحقيق محمود محمد نصار والسيد يوسف، دار الكتب العلمية، بيروت، 1419.
– الاعتقاد على مذهب السلف، للبيهقي، مطبعة الشركة المصرية، القاهرة، 1380.
– إعراب القرآن، للنحّاس، تحقيق زهير غازي زاهد، الطبعة الثالثة، عالم الكتب، بيروت، 1409.
– أعيان العصر وأعوان النصر، للصفدي، تحقيق علي أبو زيد وجماعة، دار الفكر، دمشق، ودار الفكر المعاصر، بيروت، 1418.
– إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان، لابن القيم، تحقيق علي الحلبي، دار ابن البرزي، الدمام، 1424.
– الأغاني، للأصفهاني، دار الثقافة، بيروت، 1401.
– الإقناع في القراءات السبع، لابن الباذش، تحقيق عبد المجيد قطامش، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1403.
– الإكمال، لابن ماكولا، تحقيق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة.
– إكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض، تحقيق يحيى إسماعيل، دار الوفاء، القاهرة، 1419.

(2/934)


– الأمالي، للشجري، عالم الكتب، بيروت، 1403.
– أمالي المرتضى، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، 1988 م.
– الأمثال، لأبي الشيخ الأصبهاني، تحقيق عبد العلي عبد الحميد حامد، الدار السلفية، بومباي، الهند، 1408.
– الأمثال على أفعل (المطبوع بعنوان سوائر الأمثال على أفعل) تحقيق فهمي سعد، عالم الكتب، بيروت، 1409.
– أمراض القلوب وشفاؤها، لابن تيمية، المطبعة السلفية، القاهرة، 1399.
– إنباه الرواة على أنباه النحاة، للوزير القفطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، ومؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، 1406.
– الأنساب، للسمعاني، تحقيق عبد اللَّه البارودي، دار الجنان، بيروت، 1408.
– بدائع البدائه، لعلي بن ظافر الأزدي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت، 1413.
– بدائع الفوائد، لابن القيم، تحقيق علي العمران، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، 1425.
– البداية والنهاية، لابن كثير، تحقيق عبد اللَّه التركي، دار هجر، جيزة، 1417.
– البدع والنهي عنها، لابن وضاح القرطبي، دار الرائد العربي، بيروت، 1402.
– البدور السافرة في أمور الآخرة، للسيوطي، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، 1411.
– البصائر والذخائر، لأبي حيان التوحيدي، تحقيق وداد القاضي، ط 1، دار صادر، بيروت.
– البعث والنشور، للبيهقي، تحقيق أبى هاجر بسيوني زغلول، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت.

(2/935)


– بلاغات النساء، لأبي الفضل طيفور، اعتناء بركات يوسف هبود، المكتبة العصرية، بيروت، 1421.
– بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، لابن تيمية، تحقيق محمد عبد الرحمن قاسم، مطبعة الحكومة، مكة المكرمة، 1392.
– البيان والتبين، للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1405.
– تاج العروس، للزبيدي، مصورة من طبعة الخيرية، القاهرة.
– التاريخ الكبير، للبخاري، تحقيق عبد الرحمن المعلمي، دائرة المعارف العثمانية، حيدراباد، الهند، تصوير دار الكتب العلمية، بيروت.
– تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1417.
– تاريخ دمشق، لابن عساكر، تحقيق عمرو غرامة العمروي، دار الفكر، بيروت، 1415.
– تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة، تحقيق محمد محيي الدين الأصفر، المكتب الإسلامي، بيروت، ودار الإشراق، الدوحة، 1419.
– التبيان في أقسام القرآن، لابن القيم، دار الفكر.
– تبييض الصحيفة بأصول الأحاديث الضعيفة، لمحمد عمرو عبد اللطيف، مكتبة التوعية الإسلامية، القاهرة، 1409 – 1410.
– تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، للمباركفوري، دار الكتب العلمية، بيروت، 1410.
– تخريج أحاديث العادلين، لأبي نعيم، تخريج السخاوي، تحقيق مشهور حسن سلمان، دار عمار، عمان، ودار البشائر الإسلامية، بيروت، 1408.

(2/936)


– تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة، لابن حجر، تحقيق إكرام اللَّه إمداد الحق، دار البشائر الإسلامية، بيروت، 1416.
– تغليق التعليق، لابن حجر، تحقيق سعيد القزقي، المكتب الإسلامي، بيروت، دار عمار، الأردن، 1405.
– تفسير الطبري، تحقيق عبد اللَّه بن عبد المحسن التركي، دار هجر، جيزة، 1422.
– تفسير الطبري، تحقيق محمود محمد شاكر، مكتبة ابن تيمية، القاهرة.
– تفسير القرآن العزيز، لعبد الرزاق بن همام الصنعاني، تحقيق عبد المعطي قلعجي، دار المعرفة، بيروت، 1411.
– تفسير القرآن العظيم، لابن أبي حاتم الرازي، تحقيق أسعد محمد الطيب، مكتبة نزار الباز، مكة المكرمة، 1417.
– تفسير ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1407.
– تقييد المهمل وتمييز المشكل، للجياني، تحقيق علي العمران ومحمد عزير شمس، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، 1421.
– التلخيص لوجوه التخليص، لابن حزم الأندلسي، تحقيق عبد الحق التركماني، دار ابن حزم، بيروت.
– التمثيل والمحاضرة، للثعالبي، تحقيق عبد الفتاح الحلو، الدار العربية للكتاب، 1983 م.
– التمهيد، لابن عبد البر، تحقيق مصطفى العلوي ومحمد البكري، وزارة عموم الأوقاف، المغرب، 1387.
– تنزيه الشريعة المرفوعة، لابن عراق الكناني، دار الكتب العلمية، بيروت، 1401.

(2/937)


– تهذيب التهذيب، لابن حجر، اعتناء إبراهيم الزيبق وعادل مرشد، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1416.
– تهذيب التهذيب، لابن حجر، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة.
– تهذيب الكمال، لأبي الحجاج المزي، تحقيق بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1415.
– التوحيد، لابن منده، تحقيق علي بن ناصر الفقيهي، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة.
– توضيح المشتبه، لابن ناصر الدين الدمشقي، تحقيق محمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1414.
– ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، لأبي منصور الثعالبي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة.
– الجامع، للترمذي، تحقيق عادل مرشد، مكتبة دار البيان الحديثة، ودار الأعلام، 1422.
– الجامع، لمعمر بن راشد، ملحق بمصنف عبد الرزاق، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1403.
– جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، تحقيق أبي الإشبال الزهيري، دار ابن الجوزي، الدمام، 1414.
– جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لابن جرير الطبري، دار الفكر، بيروت.
– جامع التحصيل في أحكام المراسيل، للعلائي، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، عالم الكتب، مكتبة النهضة العربية، بيروت، 1407.
– جامع العلوم والحكم، لابن رجب الحنبلي، تحقيق شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1411.

(2/938)


– الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408.
– الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون. إعداد محمد عزير شمس وعلي بن محمد العمران، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، 1422.
– جامع المسائل، لابن تيمية، تحقيق محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، 1422.
– جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام، لابن القيم، تحقيق زائد النشيري، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، 1425.
– الجمع بين الصحيحين، لعبد الحق الأشبيلي، اعتناء حمد بن محمد الغماس، دار المحقق للنشر والتوزيع، الرياض، 1419.
– جمهرة الأمثال، لأبي هلال العسكري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعبد المجيد قطامش، المؤسسة العربية الحديثة، القاهرة، 1384.
– الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لابن تيمية، تحقيق علي حسن ناصر وآخرين، دار العاصمة، الرياض، 1414.
– حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، لابن القيم، تحقيق يوسف بديوي، دار ابن كثير، دمشق، 1413.
– حاشية ابن القيم على سنن أبي داود، في ذيل عون المعبود شرح سنن أبي داود، دار الكتب العلمية، بيروت، 1410.
– حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم الأصفهاني، تحقيق مصطفى عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1423.
– حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم، دار الريان ودار الكتاب العربي، بيروت، 1407.
– الحماسة، لأبي تمام، تحقيق عبد اللَّه عسيلان، جامعة الإمام محمد بن سعود،

(2/939)


الرياض، 1401.
– الحماسة البصرية، لصدر الدين علي البصري، تحقيق عادل سليمان جمال، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1420.
– الحيوان، للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
– خريدة القصر وجريدة العصر، للأصفهاني – قسم شعراء الشام، تحقيق شكري فيصل، المجمع العلمي العربي بدمشق، 1955 – 1964 م.
– خريدة القصر وجريدة العصر، للأصفهاني – قسم شعراء فارس، تحقيق عدنان آل طعمة، آينه ميراث، طهران، 1419.
– خزانة الأدب وغاية الأرب، لابن حجة الحموي، تحقيق كوكب دياب، دار صادر، بيروت، 1421.
– الخصائص، لابن جنّي، تحقيق محمد علي النجار، مصوّرة عن طبعة دار الكتب.
– الداء والدواء، لابن القيم، تحقيق علي الحلبي، دار ابن الجوزي، الدمام، 1425.
– درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم، دار الكنوز الأدبية، الرياض، 1391.
– الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للسيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1411.
– الدرّة فيما يجب اعتقاده، لابن حزم، تحقيق أحمد بن ناصر الحمد، وسعيد القزقي، مطبعة المدني، القاهرة، 1408.
– الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، ابن حجر، مصور من طبعة دائرة المعارف

(2/940)


العثمانية، حيدرآباد الدكن.
– دلائل النبوة، للبيهقي، تحقيق عبد المعطي قلعجي، دار الريان للتراث، القاهرة، 1408.
– ديوان إبراهيم بن العباس الصولي، ضمن الطرائف الأدبية، تحقيق عبد العزيز الميمني، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1937.
– ديوان الأعشى، تحقيق محمد محمد حسين، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1403.
– ديوان امرئ القيس، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، مصر، 1984 م.
– ديوان أمية بن أبي الصلت، صنعة عبد الحفيظ السطلي، مكتبة أطلس دمشق، 1977 م.
– ديوان جرير بشرح محمد بن حبيب، تحقيق نعمان محمد أمين طه، دار المعارف، القاهرة، 1986 م.
– ديوان حسان بن ثابت، تحقيق وليد عرفات، دار صادر، بيروت، 1974 م.
– ديوان الحلاج، جمع وتحقيق سعدي ضناوي، دار صادر، بيروت، 1424.
– ديوان ابن الدمينة، تحقيق أحمد راتب النفاخ، دار العروبة، القاهرة، 1959 م.
– ديوان ذي الرمة، تحقيق عبد القدوس أبو صالح، مؤسسة الإيمان، بيروت، 1402.
– ديوان الشافعي، تحقيق مجاهد مصطفى بهجت، دار القلم، دمشق، 1420.
– ديوان الشافعي، تصحيح إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1996 م.
– ديوان شعر عدي بن الرقاع العاملي، عن ثعلب، تحقيق نوري القيسي وحاتم الضامن، المجمع العلمي العراقي، بغداد، 1407.

(2/941)


– ديوان أبي الشيص الخزاعي وأخباره، صنعه عبد اللَّه الجبوري، المكتب الإسلامي، بيروت، 1404.
– ديوان الصبابة، لابن أبي حجلة، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1999 م.
– ديوان الطرماح، تحقيق عزة حسن، دار الشرق العربي، بيروت، 1414.
– ديوان الطغرائي، تحقيق علي جواد الطاهر ويحيى الجبوري، وزارة الإعلام، بغداد، 1976 م.
– ديوان العباس بن الأحنف، دار بيروت للطباعة والنشر، 1402.
– ديوان أبي العتاهية، تحقيق شكري فيصل، دار الملاح، دمشق.
– ديوان عدي بن الرقاع العاملي، تحقيق نوري حمودي القيسي وحاتم صالح الضامن، المجمع العلمي العراقي ببغداد، 1407.
– ديوان عنترة، تحقيق ودراسة محمد سعيد مولوي، المكتب الإسلامي، بيروت 1403.
– ديوان كشاجم، تحقيق، النبوي عبد الواحد شعلان، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1417.
– ديوان المتنبي بشرح الواحدي، نشرة فريدريخ ديتريصي، تصوير دار الكتاب الإسلامي، القاهرة.
– ديوان مجنون ليلى، جمع وتحقيق عبد الستار أحمد فراج، مكتبة مصر، القاهرة، 1979 م.
– ديوان محمود الوراق، تحقيق وليد قصاب، دار صادر، بيروت، 1422.
– ديوان المعاني، لأبي هلال العسكري، تحقيق أحمد سليم غانم، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1424.

(2/942)


– ديوان أبي نواس، تحقيق أحمد الغزالي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1404.
– الذرية الطاهرة، للدولابي، تحقيق سعد المبارك الحسن، الدار السلفية، الكويت، 1407.
– ذمّ الهوى، لابن الجوزي، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار الكتب الحديثة، القاهرة، 1962 م.
– ذيل الأمالي، لأبي علي القالي، طبعة مصورة من طبعة دار الكتب المصرية.
– ذيل الدرر الكامنة، لابن حجر، تحقيق عدنان درويش، معهد المخطوطات العربية، القاهرة، 1412.
– الذيل على طبقات الحنابلة، لابن رجب، تحقيق عبد الرحمن العثيمين، مكتبة العبيكان، الرياض، 1425.
– ذيل مرآة الزمان، لليونيني، المجلد الثالث، دائرة المعارف العثمانية، حيدراباد الدكن، 1380.
– ربيع الأبرار ونصوص الأخبار، للزمخشري، تحقيق سليم النعيمي، بغداد، 1976 – 1982 م.
– الرد على البكري (تلخيص كتاب الاستغاثة)، لابن تيمية، تحقيق محمد علي عجال، مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة المنورة 1417.
– الرد على الجهمية، للإمام أحمد بن حنبل، تحقيق عبد الرحمن عميرة، دار اللواء، الرياض، 1402.
– الردّ على الشاذلي، لابن تيمية، تحقيق علي العمران، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، 1429.
– الرد على المنطقيين، لابن تيمية، دار المعرفة، بيروت.

(2/943)


– الرسالة التبوكية، لابن القيم، تحقيق محمد عزير شمس، ضمن “مجموع الرسائل” لابن القيم، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، 1425.
– الرسالة القشيرية في علم التصوف، لأبي القاسم القشيري، تحقيق معروف مصطفى زريق، المكتبة العصرية، بيروت، 1421.
– الروح، لابن القيم، تحقيق يوسف بديوي، دار ابن كثير، دمشق، 1422.
– روضة المحبين ونزهة المشتاقين، لابن القيم، تحقيق أحمد خليل جمعة، اليمامة، دمشق، 1423.
– زاد المسير في علم التفسير، لابن الجوزي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1407.
– زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم، تحقيق شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ومكتبة المنار الإسلامية، الكويت، 1407.
– الزهد، لأسد بن موسى، تحقيق أبي إسحاق الحويني، مكتبة التوعية الإسلامية، القاهرة 1413.
– الزهد، لابن أبي عاصم، تحقيق عبد العلي عبد الحميد، الدار السلفية، بومباي، الهند، 1408.
– الزهد، لعبد اللَّه بن المبارك، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، تصوير دار الكتب العلمية، بيروت.
– الزهرة، لابن داود الأصبهاني، تحقيق إبراهيم السامرائي، مكتبة المنار، الزرقاء، 1406.
– سقط الزند، لأبي العلاء المعري، دار بيروت، بيروت، 1400.
– السنة، لابن أبي عاصم، تحقيق باسم فيصل الجوابرة، دار الصميعي للنشر والتوزيع، الرياض، 1423.

(2/944)


– السنة، لعبد اللَّه بن الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق محمد سعيد القحطاني، دار ابن القيم، الدمام، 1406.
– السنن الكبرى، للبيهقي، مجلس دائرة المعارف، الهند، تصوير دار المعرفة، بيروت، 1344.
– السنن الكبرى، للنسائي، تحقيق عبد الغفار البنداري وسيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية، بيروت، 1411.
– السنن، لأبي داود، إعداد فريق بيت الأفكار الدولية.
– السنن، لابن ماجه، إعداد فريق بيت الأفكار الدولية.
– سير أعلام النبلاء، للذهبي، تحقيق شعيب الأرنؤوط وجماعة، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1410.
– السيرة النبوية، لابن هشام، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، مؤسسة علوم القرآن.
– شرح أشعار الهذليين، للسكري، تحقيق عبد الستار فراج، مكتبة دار العروبة، القاهرة.
– شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للالكائي، تحقيق أحمد سعيد الغامدي، دار طيبة، الرياض، 1415.
– شرح ديوان كعب بن زهير، للسكري، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، 1385.
– شرح صحيح مسلم، للنووي، دار القلم بيروت، 1407.
– شرح الطحاوية، لابن أبي العزّ الحنفي، تحقيق أحمد محمد شاكر، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، 1413.

(2/945)


– شرح فصوص الحكم، لصائن الدين، تحقيق محسن بيدارفر، قم، 1420.
– الشريعة، للآجري، تحقيق عبد اللَّه الدميجي، دار الوطن، الرياض، 1420.
– شعب الإيمان، للبيهقي، تحقيق عبد العلي عبد الحميد، الدار السلفية، بومباي، الهند، 1406.
– شعر عمرو بن معد يكرب، جمع وتحقيق مطاع الطرابيشي، مجمع اللغة العربية، دمشق، 1405.
– الشعر والشعراء، لابن قتيبة، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، 1982 م.
– شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن القيم، تحقيق خالد السبع العلمي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1424.
– الشكر، لابن أبي الدنيا، تحقيق بدر البدر، المكتب الإسلامي، الكويت، 1400.
– الشكر، لابن أبي الدنيا، تحقيق طارق الطنطاوي، مكتبة القرآن، القاهرة.
– شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح، لابن مالك، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار الكتب العلمية، بيروت.
– الصحاح، للجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، 1402.
– صحيح ابن حبان: الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، لابن بلبان، تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة بيروت، 1408.
– صحيح ابن خزيمة، تحقيق محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1412.
– صحيح البخاري، دار السلام، الرياض، 1417.

(2/946)


– صفة الجنة، لابن أبي الدنيا، تحقيق عمرو عبد المنعم سليم، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، 1417.
– صفة الصفوة، لابن الجوزي، تحقيق عبد الحميد هنداوي، المكتبة العصرية، بيروت، 1423.
– الصفدية، لابن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم، 1406.
– الصواعق المرسلة على الجهمية المعطلة، لابن القيم، تحقيق علي محمد الدخيل اللَّه، دار العاصمة، الرياض، 1418.
– الضعفاء الكبير، للعقيلي، تحقيق عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1404.
– ضعيف الترمذي، للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، 1412.
– ضعيف الجامع الصغير، للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، 1410.
– طبقات الأولياء، لابن الملقن، تحقيق مصطفى عبد القادر عطاء، دار الكتب العلمية، بيروت، 1427.
– طبقات الشافعية الكبرى، للسبكي، تحقيق محمود الطناحي وعبد الفتاح الحلو، دار هجر، جيزة، 1413.
– طبقات الصوفية، للسلمي، تحقيق نور الدين شريبة، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1406.
– الطبقات الكبرى، لابن سعد، دار الفكر، بيروت.
– العبر في خبر من غبر، للذهبي، تحقيق صلاح الدين المنجد، مطبعة حكومة الكويت، الكويت، 1948 م.
– عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، لابن القيم، تحقيق سليم الهلالي، دار ابن

(2/947)


الجوزي، الدمام، 1424.
– العظمة، لأبي الشيخ الأصبهاني، تحقيق رضاء اللَّه المباركفوري، دار العاصمة، الرياض، 1408.
– العقد الفريد، لابن عبد ربه الأندلسي، تحقيق أحمد أمين وآخرين، دار الكتاب العربي، بيروت، 1406.
– أبو العلاء وما إليه، لعبد العزيز الميمني، دار الكتب العلمية، بيروت، 1424.
– العلل، لابن أبي حاتم، تحقيق محب الدين الخطيب، تصوير دار المعرفة، بيروت.
– العلل، للدارقطني، تحقيق محفوظ الرحمن السلفي، دار طيبة، الرياض.
– العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، لابن الجوزي، تحقيق خليل الميس، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403.
– عمل اليوم والليلة، للنسائي، تحقيق فاروق حمادة، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1406.
– عوارف المعارف، للسهروردي، في آخر إحياء علوم الدين، دار المعرفة، بيروت.
– عيون الأخبار، لابن قتيبة، مصورة عن دار الكتب المصرية، القاهرة.
– غريب الحديث، للخطّابي، تحقيق عبد الكريم العزباوي، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1402.
– الفائق في غريب الحديث، للزمخشري، تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر، بيروت، 1399.
– فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر، قراءة عبد العزيز بن باز، دار

(2/948)


الفكر.
– فتوى في العشق منسوبة إلى ابن تيمية كذبًا، طبعت ضمن المجموعة الأولى من جامع المسائل الطبعة الأولى، ثم حذفت من الطبعة الثانية.
– فرحة الأديب، للغندجاني، تحقيق محمد علي سلطاني، دار قتيبة، 1401.
– الفردوس بمأثور الخطاب، لأبي شجاع شيرويه بن شهردار الديلمي الهمذاني، تحقيق السعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية بيروت، 1986 م.
– الفروسية المحمدية، لابن القيم، تحقيق زائد بن أحمد النشيري، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، 1428.
– الفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم، تحقيق يوسف البقاعي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1422.
– الفهرست، للنديم، تحقيق رضا تجدد، مطبعة دانشكاه، مكتبة الأسدي، طهران، 1971 م.
– الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، للشوكاني، تحقيق عبد الرحمن المعلمي، تصوير دار الكتب العلمية، بيروت.
– الفوائد، لابن القيم، دار الكتب العلمية، بيروت، 1393.
– فوات الوفيات، لابن شاكر الكتبي، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت.
– فيض القدير، لعبد الرؤوف المناوي، المكتبة التجارية، مصر، 1356.
– قاعدة في الاستحسان، لابن تيمية، تحقيق محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، 1419.
– القدر، لابن وهب، تحقيق عبد العزيز العثيم، دار السلطان، مكة المكرمة، 1406.

(2/949)


– القدر، للفريابي، تحقيق عمرو عبد المنعم سليم، دار ابن حزم، بيروت، 1421.
– القضاء والقدر، للبيهقي، تحقيق محمد بن عبد اللَّه آل عامر، مكتبة العبيكان، الرياض 1421.
– القول الأصيل فيما في العربية من الدخيل، تأليف: ف عبد الرحيم، مكتبة لينة، دمنهور، 1411.
– قيس ولبنى – شعر ودراسة، جمع وتحقيق حسين نصار، مكتبة مصر، 1979.
– ابن قيم الجوزية، حياته، آثاره، موارده، لبكر أبو زيد، دار العاصمة، الرياض 1423.
– الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية، لابن القيم، تحقيق محمد بن عبد الرحمن العريفي وزملائه، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، 1428.
– الكامل في ضعفاء الرجال، لابن عدي، تحقيق سهيل زكار، دار الفكر، بيروت، 1409.
– الكامل، للمبرد، تحقيق محمد الدالي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1406.
– الكشاف، للزمخشري، ترتيب وضبط مصطفى حسين أحمد، دار الريان للتراث، القاهرة، دار الكتاب العربي، 1407.
– كشف الأستار عن زوائد البزار، لنور الدين الهيثمي، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1404.
– الكشف والبيان، للثعلبي، دار الكتب العلمية، بيروت، 2004 م.
– الكشكول، للعاملي، تحقيق الطاهر أحمد الزاوي، عيسى البابي الحلبي، القاهرة.
– لسان العرب، لابن منظور، دار صادر، بيروت.

(2/950)


– لسان الميزان، لابن حجر، مصور من طبعة دائرة المعارف العثمانية، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة.
– المجروحين، لابن حبان تحقيق محمود إبراهيم زايد، تصوير دار الواعي، حلب، 1402.
– مجمع الأمثال، للميداني، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1977 م.
– مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، لنور الدين الهيثمي، نشره حسام الدين القدسي، تصوير دار الكتاب العربي، بيروت.
– مجموع الفتاوى، لابن تيمية، جمع عبد الرحمن بن قاسم، دار عالم الكتب، الرياض، 1412.
– محاسن المجالس، لابن العريف، تحقيق بلاثيوس، باريس، 1933 م.
– محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، لأبي القاسم حسين بن محمد الراغب الأصبهاني، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت.
– المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية الاندلسي، تحقيق عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1413.
– مختارات شعراء العرب، لابن الشجري، تحقيق نعمان طه، دار التوفيقية للطباعة بالأزهر، القاهرة، 1399.
– مختصر الصواعق المرسلة، لابن القيم، اختصار الموصلي، مصور من طبعة السلفية.
– مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن القيم، تحقيق عامر علي ياسين، دار ابن خزيمة، الرياض، 1424.
– المدخل إلى السنن الكبرى، للبيهقي، تحقيق محمد ضياء الرحمن الأعظمي، دار

(2/951)


الخلفاء للكتاب الإسلامي، الكويت.
– المدهش، لابن الجوزي، تحقيق مروان قباني، دار الكتب العلمية، بيروت، 1985 م.
– مروج الذهب ومعادن الجوهر، للمسعودي، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، 1393.
– مسألة {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} للشيخين مجد الدين الرُّوذراوري، وابن مالك؛ تحقيق سليمان بن إبراهيم العايد، ضمن “بحوث ودراسات في اللغة العربية وآدابها”، الجزء الثالث، ص (111 – 171)، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، 1413.
– مسألة الحكمة في تذكير “قريب” في قوله {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)}، لابن هشام، تحقيق عبد الفتاح الحموز، دار عمار، عمّان، 1405.
– المستدرك، للحاكم، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1411.
– المستطرف في كل فن مستظرف، للأبشيهي، دار الندوة الجديدة، بيروت.
– المسند، لابن الجعد (الجعديات)، تحقيق عبد المهدي عبد الهادي، مكتبة الفلاح، الكويت، 1405.
– مسند أحمد، تحقيق شعيب الأرنؤوط وجماعة، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1420.
– مسند إسحاق بن راهويه، تحقيق عبد الغفور البلوشي، مكتبة الإيمان، المدينة المنورة، 1410.
– مسند البزار (البحر الزخار)، تحقيق محفوظ الرحمن السلفي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، 1409.

(2/952)


– مسند الدارمي، تحقيق حسين سليم أسد، دار المغني، الرياض، 1421.
– مسند الشاميين، للطبراني، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1419.
– مسند الطيالسي، تحقيق محمد التركي، دار هجر، القاهرة، 1419.
– مسند عبد بن حميد الكشّي (المنتخب)، تحقيق مصطفى العدوي، دار الأرقم، الكويت، 1405.
– مسند أبي عوانة: المستخرج على صحيح مسلم، تحقيق أيمن بن عارف الدمشقي، دار المعرفة، بيروت، 1419.
– مسند مسدد (المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية لابن حجر)، تحقيق مجموعة من الباحثين، تنسيق سعد بن ناصر الشثري، دار العاصمة ودار الغيث، الرياض، 1419.
– مسند أبي يعلى الموصلي، تحقيق حسين سليم اسد، دار الثقافة العربية، دمشق، 1412.
– مشارق الأنوار على صحاح الآثار، للقاضي عياض، المكتبة العتيقة، تونس.
– مصارع العشاق، للسراج، دار بيروت، بيروت، 1400.
– مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه، للبوصيري، تحقيق موسى محمد علي وعزت علي عطية، مطبعة حسان، دار الكتب الحديثة، القاهرة.
– المصنف، لابن أبي شيبة، ضبطه وصححه محمد عبد السلام شاهين، دار الكتب العلمية، بيروت، 1416.
– معالم التنزيل، للبغوي، تحقيق محمد النمر وعثمان ضميرية وسليمان الحرش، دار طيبة، الرياض، 1409.

(2/953)


– معاني القرآن وإعرابه، للزجاج، تحقيق عبد الجليل شلبي، عالم الكتب، بيروت، 1408.
– معاني القرآن، للأخفش الأوسط، تحقيق فائز فارس، 1401.
– معاني القرآن، للفراء، عالم الكتب، بيروت، 1403.
– معاني القرآن، للنحاس، تحقيق يحيى مراد، دار الحديث، القاهرة، 1425.
– معجم الأدباء، لياقوت الحموي، تحقيق إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، بيروت.
– المعجم الأوسط، للطبراني، تحقيق محمد حسن محمد الشافعي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1420.
– معجم الشعراء، للمرزباني، تحقيق عبد الستار فراج، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة.
– المعجم الكبير، للطبراني، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، تصوير مكتبة ابن تيمية، مصر.
– معجم متن اللغة، للشيخ أحمد رضا، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1377.
– معرفة الصحابة، لأبي نعيم الأصبهاني، تحقيق عادل العزازي، دار الوطن، الرياض 1419.
– معرفة علوم الحديث، للحاكم النيسابوري، تحقيق السيد معظم حسين، دار الكتب العلمية، بيروت، 1397.
– المغني، لابن قدامة، تحقيق عبد اللَّه بن عبد المحسن التركي وعبد الفتاح محمد الحلو، هجر للطباعة والنشر، القاهرة 1412.
– مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، لابن هشام، تحقيق مازن المبارك ومحمد علي، دار الفكر 1979 م.

(2/954)


– مفتاح دار السعادة، لابن القيم، تحقيق علي الحلبي، دار ابن القيم، الرياض، 1425.
– مفتاح دار السعادة، لابن القيم، دار الكتب العلمية، بيروت.
– المقاصد الحسنة، للسخاوي، تحقيق محمد عثمان الخشت، دار الكتاب العربي، بيروت، 1414.
– مقالات الإسلاميين، للأشعري، تصحيح هلموت ريتر، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
– مقدمة في أصول التفسير، لابن تيمية، تحقيق عدنان زرزور، دار القرآن الكريم، بيروت، 1399.
– المقتضب، للمبرد، تحقيق محمد عبد الخالق عضيمة، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 1399.
– الملل والنحل، للشهرستاني، تحقيق عبد العزيز الوكيل، دار الفكر، بيروت.
– منازل السائرين، للهروي، تحقيق دي لوجييه دي بروكي، المعهد الفرنسي للآثار الشرقية، القاهرة، 1962 م.
– المنتخل، للميكالي، تحقيق يحيى الجبوري، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 2000 م.
– منهاج السنة النبوية، لابن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، 1406.
– المؤتلف والمختلف، للدارقطني، تحقيق موفق عبد القادر، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1986.
– الموطأ، للإمام مالك بن أنس، رواية يحيى بن يحيى الليثي، تحقيق بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1417.

(2/955)


– نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار، لابن حجر، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، دار ابن كثير، دمشق، 1421.
– النزول، للدارقطني، تحقيق علي بن ناصر الفقيهي، 1403.
– نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية، للزيلعي، تحقيق المجلس العلمي بالهند، تصوير دار الحديث، مصر.
– نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، للمقري، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1408.
– نقض الدارمي على بشر المريسي، تحقيق منصور السماري، أضواء السلف، الرياض، 1419.
– النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، تحقيق طاهر الزاوي ومحمود الطناحي، المكتبة العلمية، بيروت.
– النوادر في اللغة، لأبي زيد الأنصاري، تحقيق محمد عبد القادر أحمد، دار الشروق، بيروت، 1401.
– الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب، لابن القيم، تحقيق عبد الرحمن بن حسن بن قائد، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، 1425.
– وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لابن خلكان، تحقيق إحسان عباس دار الثقافة، بيروت.
– الوسيط في تفسير القرآن المجيد، للواحدي، تحقيق عادل عبد الموجود وآخرين، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415.
– يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، لأبي منصور الثعالبي، دار الفكر، بيروت، 1392.

(2/956)